مقدمة فى زحمة الأفكار والمناهج الوافدة من الخارج، وفى ركام الهزائم والمصائب التى رانت على المسلمين فى الداخل، لم يكن أمام الدعاة إلى الله إلا مسلك واحد، أن يبرزوا الجوانب المستخفية من تعاليم الإسلام حتى يستبين لكل ذى عينين أنه دين يجعل السيادة للأمة لا لفرد مملك حمل على رأسه التاج أم لم يحمله، وأنه يشيع خير الله بين عباده فلا يجعل المال دولة بين طائفة من المترفين ورثوا أملاكهم أم جمعوها فى نهزة من تفاوت الفرص. وكان حقا على هؤلاء الدعاة أن يدفعوا بمقترحات الإصلاح الإسلامى إلى الأمام، وأن يكونوا أشد جرءا من غيرهم بمحاربة الإلحاد الاجتماعى والسياسى الذى يتمثل فى عسف الحكام أو سيطرة الإقطاع.. ذلك أن النكوص أمام هذه الواجبات ليس خيانة للإسلام فقط بل هو فسح للمجال أمام ضروب أخرى من الإصلاح المدني التى لا تخضع لدين، ولا يضبطها إيمان. والعجب أن موكب الدعوة الإسلامية كان ضعيف الإحساس بهذه الحقائق الخطيرة. كان يشبه مواكب المتصوفة ذات الرايات والطبول والصيحات والمخاريق ومن اليسير فى مثل هذه المواكب أن يستولى على الطليعة بعض الشطار والدهاة. وقد كنت بين الحين والحين أتبين الوجهة التى نسير إليها، وأتحسس الوسائل التى نتذرع بها فتملكنى الحيرة! إن إنتاجنا للإسلام ضعيف جدا برغم هذه الجعجعة الهائلة. والرجال الذين يملكون حق التوجيه كأنما هم "طابور خامس" للنهضات الأخرى. فآراؤهم وأحكامهم وظواهرهم وبواطنهم تؤدى حتما إلى تأخير الإسلام وإساءة الظن بقدرته على صنع خير للناس.. فهل يؤدى هذا إلا إلى الفشل؟
ص _004(1/1)
إنني أتوجس خيفة على مستقبل الدعوة الإسلامية، ولذلك لن أنئ أكتب، وأنصح، وأحذر. * * * وهذه مقالات كتبتها أستثير بها مشاعر، واستنهض همما، وأستصلح أوضاعا.. ولم أكتبها لأعبر عن مذهب خاص بى فى الحياة، وإنما كتبتها لأبرز رأى الإسلام فيما اعترضه من شئون شتى. وكنت أعتقد أنى أصبت بها صميم الحق، وأحسنت خدمة الدين، بيد أن الجفوة التى وجدتها حين أرسلتها منعت عموم النفع بها، وجعلتها أقرب إلى آراء شخص منها إلى أحكام شريعة..!! والله يعلم أنها موقف الإسلام الصحيح من فساد الحاكمين فى أقاليمه والجاهلين أو الجاحدين لتعاليمه. وقد انشرحت بها صدور كثيرة، واستجاب لها جمهور غفير من الشباب المؤمن البرىء. ولو احتشدت الجهود حولها، وانتفت من الصفوف فتن القيادات العليلة لكان للجهاد الإسلامى الخالص شأن أى شأن، لكن: من البلاء أن يكون الرأى لمن يملكه لا لمن يبصره. * * * ثم تغيرت الحياة فى مصر تغيرا صدق كثيرا مما هديت إليه، فأحببت أن أذكر الناس بأحاديث طالما صرخت بها، علهم يدركون أن الإسلام أشرف من أن يؤخذ عن أفواه الحمقى، وأن الدين الذى قام على البصر السديد، والعقل الرشيد، والعزم الشديد، لن يصلح للقيام عليه رجال واهون مهازيل.. رجال يرون المنكر فلا تتمعر وجوههم، ويبصرون الفساد فلا يسمع لهم فى الشغب عليه صوت. أجل.. هناك رجال لا يشعرون بما فى الشر من قبح، ولا بما فى الخير من جمال، يسعون بالعدالة فلا يحنون إليها، ويبصرون الظلم فلا يشمئزون منه. أولئك قوم ماتت قلوبهم، والقلوب الميتة لا يسكنها إيمان، ولا ينبثق منها جهاد.. وأرجو الله أن يبقى على حياة قلبى فلا أبرد لمعصية تقع، ولا أجمد لطاعة تقام.. * * * فى هذا الكتاب مقالات أحارب بها الوهن. الوهن الذى أطمع الأعداء فى استذلالنا، وجرأ الخالية والعاطلة أن تلطمنا، وقد كتبتها أشعل بها الحماس ضد ص _005(1/2)
المغيرين على تراث الإسلام فى كل مكان، وأغرى الأمة أن تواصل كفاحها الواجب حتى يخرجوا.. ولما كانت الوثنيات السياسية فى ربوع الإسلام تكأة خبيثة لهذا العدوان الكافر، فإنى لم أهادنها طرفة عين، وقد كان كتابى "الإسلام والاستبداد السياسى" حلقة من سلسلة كتب هتكت فيها أستار "الإقطاع" المدبر وحذرت الشعوب مغبة الاستسلام له فى أحوال المجتمع والدولة. ولست أزعم أن هناك مسلما يطلب دخول المستعمرين فى بلادنا، أو يرضى بقاءهم بين أظهرنا، إن ذلك- لو جال بخاطر أحد- فهو لا يعنى إلا الارتداد عن الدين والالتحاق بالكافرين. ولكنى أعرف أن هناك أقواما يؤثر فى أعصابهم وأفكارهم الأمر الواقع، فهم يعيشون محصورين داخل حدوده، سواء عرفوا ذلك أم جهلوه، وقد يسمون ذلك حصافة فى الفكر واتزانا فى الحكم. نعم هناك رجال يبنون وجاهتهم فى المجتمع العام على الارتباط بتقاليده كلها أو جلها، فلو نشئوا فى بلد يعبد الأصنام لحسبوا من متممات كرامتهم الخاصة أن يسارعوا إلى تقديم القرابين لها. وهذا الصنف من الناس سدنة كل عرف شائع، أو قانون قائم فهم يحترمون الأوضاع المقررة من قبل، لأنها مقررة من قبل فحسب.. وهناك رجال من لون آخر، لا يعنيهم تملق الجماعة أو استرضاؤها، لأنهم يهنون مجادتهم على الحق الذى عرفوه، وعلى إلزام العامة به رضيت أم كرهت. والصنف الأول لا يصلحون للسير فى موكب الإصلاح أبدا، بل هم عقبات كل إصلاح.. أما الذين يرمقون المجتمع بنظرات ناقدة، ثم يرسلون نقدهم سهاما تصيب الضالين، أو وقدات تلذع الغافلين، فأولئك وحدهم هم أهل الخير. وقد بلينا فى ميدان الجهاد بنفر يتهيبون الأوضاع الباطلة كما يتهيب العميان المسير على شاطئ البحر ويتهربون من مغارم البطولة كما يتهرب الأطفال من المناظر المهولة..؟ فما الذى أقحمكم إذن فى ساحة لستم لها؟ وما تعنيكم أمرا فوق ما تطيقون؟ ص _006(1/3)
غير أن هؤلاء الخوارين- الذين وقع فى أيديهم زمامنا- تعقبوا جهادنا ضد الفساد يريدون أن نرجع فيه بخفى حنين. فلا هم عملوا، ولا هم تركوا غيرهم يعمل، ولا هم رضوا بمنزلة القاعدين التى استحقوها بتراخيهم. لقد استحبوا أن يعيشوا لصوص أمجاد فى ميدان الجهاد.. وسرقة المجد كسرقة المال، أمر تستنكره الشرائع، وتأباه الطباع السليمة.. ولئن أسفت على شيء إننى لمحزون لأن تخلف هؤلاء القادة واضطراب أقدامهم فى ميدان الواجب بعثر القوى الإسلامية بعثرة مربكة، وأتاح للتافهين والماجنين أن يستعلنوا بمخازيهم، لا، بل أن يملئوا الآفاق بدعاويهم العريضة، ويتناولوا حقائق الدين والدنيا بالمحو والإثبات كما يشتهون.. وإذا جار المنتسبون إلى الدين فهل تنتظر النصفة ممن لم يحمل شارة تقوى أو ينتم يوما إلى إسلام؟ * * * وفي المقالات التى أثبتها فى هذا الكتاب جملة من حقائق الإسلام التى لا ريب فيها، سبقت فى مناسبات لا تخفى على قارئها. ولن يعدم المسلم فيها حكما صائبا أو حكمة سديدة، وإن طالعها بعد انقضاء الوقائع التى قيلت بصددها. وقد تكون امتدادا لما سبق أن أخرجته من كتب، وقصصته من نصائح ونذر، على أنى لم أرع فى تدوينها نظاما خاصا، ولا تاريخا رتيبا، وإن أدرك القارئ فى جملتها طابعا شائعا، هو طابع النقد لسياسة الجبهة الإسلامية عندنا، وهى سياسة أعتقد أن تراخيها واعوجاجها هو السبب الأصيل. فى التمكين للدجالين والمنافقين. وأيا ما كانت، فهى إحصاء أمين لكلمات رجل رأى أن يصدق الله فى كلامه عن الإسلام وسط قوم من أهل الدنيا يجهلون الإسلام، وقوم من المنتسبين للدين أساءوا العلم والعمل، وحملوا الإسلام أثقالا من أهوائهم. محمد الغزالى ص _007(1/4)
تاريخ قريب نحن الآن فى الثلث الأخير من القرن الرابع عشر للهجرة... ما أحوالنا؟ وما أحوال غيرنا فى هذه الآونة؟ إن هناك تقدما كبيرا فى أقطار الغرب ما يستطيع عاقل نكرانه، وهو تقدم أحرزته هذه الأقطار رويدا رويدا، لم تبلغه طفرة، بل لم تكسبه إلا ثمرة جهد شاق، وقد بدأت كفاحها لتحصيله منذ خمسة قرون تقريبا. ومهما عبنا الحضارة التى أثمرها عصر النهضة الحديثة فى بلاد الغرب- لأن ما أصابنا من شرها سبق ما لنا من خيرها- فإننا لن ننكر الأصول العقلية الجليلة التى مهدت لهذه الحضارة، ومشت معها شوطا بعد شوط. وقد تكون حضارة الغرب فقدت فى هذه الأيام عناصر كثيرة من أسباب نموها وازدهارها، إلا أنها- والحق يقال- ما تزال سيدة الموقف، لا لشىء إلا لأنه لم يوجد بعد من ينافسها على قيادة العالم، ومن يثبت جدارته على أخذ الزمام منها، والسير بالقافلة المعناة فى سبيل أقوم، وإلى غاية أسلم... ويوم يوجد هذا العوض الطيب، فإن الحياة سوف تتحول إليه طوعا أو كرها، أما قبل ذلك، فإن الطامحين إلى القيادة دون حمل مؤهلاتها لن يجدوا مكانهم إلا فى المؤخرة..!! إننا- نحن مسلمى هذا العصر- قد برزنا إلى الوجود لنجد أمامنا تركة مثقلة. طويت راية الدولة الكبرى، وقسم ميراث الرجل المريض بعد موته على الغزاة، فأمست أمة الإسلام مزقا مفرقة، يتشبع كل فاتح من استغلال نصيبه فيها. فلما حز الألم فى نفوس المأكولين، ورأوا أن يتخلصوا من هذا الموت البطىء المقنط، إما بموت مجهز، أو حياة صحيحة، شبت ثورات التحرر فى أنحاء الشرق ص _008(1/5)
المهزوم، وكانت ثورات شجاعة محنقة لا ترهب قوى العدو، ولا يردها عن التمرد الدائم ما تعلمه عن نفسها من ضعف الجانب، وقلة الناصر، وتفاهة السلاح. وشاء القدر أن يكافئ هذه الشعوب الساعية لكسر قيودها، فأعان بعضها على تحقيق أمله، وأعان بعضا آخر على الفكاك من قيده، وهو فى طريقه، لطرح ما بقى. وظلت شعوب أخرى داخل جدران المصيدة تلعن العبودية، وتطوى الجوانح على غل مكين للغرب الذى قدر فقهر، وملك فسفك. * * * أما عمل الإيمان الصحيح وراء المقاومة المستميتة ضد عدوان الغرب المسلح، فأمر لا مرية فيه، هى ثورات قومية فى عنوانها، وطنية بحتة فى شكلها البارز. لكن الحقيقة أن بقايا ضخمة من مواريث الإسلام فى العزة والإباء والتضحية والفداء، هى التى ساقت الجماهير الغفيرة إلى مقاتلة المحتلين الغاصبين وزودتهم بطاقات هائلة من المصابرة والثبات كانت وحدها مناط الأمل، وطريق النصر... وثورات التحرر التى أشعلها الشعب التركى من نيف وثلاثين عاما واستغلها مصطفى كمال استغلالا سيئا، أو التى أشعلها الشعب المصرى فى ذلك الحين واتجه بها سعد زغلول اتجاهه المعروف.. هذه الثورات كان الإسلام مهادها وبناءها، بيد أنه حرم ثمارها حرمانا مؤسفا، ولعلنا نقرر الواقع الأليم حين نذكر أنها استحالت بلاء عليه.!! وقد تتساءل: ما سر هذا الانقلاب؟ والجواب أن الصورة التى ارتسمت فى أذهان بعض القادة عن الإسلام وتعاليمه، وعن الحضارة الغربية وأساليبها الجديدة خيلت لهم أن نبذ الماضى بما يحمل فى أطوائه أجدى عليهم، وأن تقليد الحضارة الجديدة والأخذ عنها جملة وتفصيلا هو النهج الفذ للرقى والنجاح. وهم- وإن جاروا- ضحايا خدعة مظلمة ظالمة. فقد قلنا: إن النهضة الحديثة فى الغرب بدأت سيرها من خمسة قرون كان ص _009(1/6)
الشرق الإسلامى إبانها يتدحرج هابطا من مكانة إلى أخرى دونها حتى كأنه ينزلق من درج سلم... فلما كانت مطالع هذا القرن، بلغت حركات الصعود والنزول مداها، واستوى الغرب فى القمة، واستقر الشرق فى السفوح وأنشب الغالب أظافره فى عنق المغلوب، يريد إما أن يفترسه، وإما أن يهبه حياة الرقيق الذليل... إلا أن عناصر الشر فى دم الغالب أخذت تنزل به عن القمة التى بلغها، وعناصر الخير فى دم المغلوب أخذت ترفعه من وهدته قليلا قليلا. وليس بمستغرب أن يشرد قوم فى أثناء محنتهم فيطلبوا النجاة من مواطن العطب. يقضى على المرء فى أيام محنته حتى يرى حسنا ما ليس بالحسن وذاك شأن نفر من القادة، هرعوا إلى الغرب يلتمسون من ربوعه الخير والبركة!! وليت الأيام صدقت ظنونهم! فنحن نحب النفع من أيسر سبله.. إن الغرب يأخذ كثيرا ويعطى قليلا، يأخذ راغبا ويعطى كارها، وعطاؤه الممنون ممزوج بالسم، قلما يفيد منه إلا رجل حاذق يمسك ما يجديه ويدع ما يضيره.. والحضارة التى تسود العالم اليوم اعتمدت فى منطقها العلمى على الخلاصات الصحيحة من الفكر الإسلامي الناضج، وهو فكر انفرد بزمام العالم دهرا طويلا كما تنفرد حضارة أوروبا اليوم بتوجيه الناس. والعلم لا وطن له ولا جنس، وهو يتنقل بين الأوطان والأجناس تنقلا مطردا، وهيهات أن يخلد فى بقعة من الأرض، أو يحتكره قبيل من الناس. وربما استغلت النصرانية غلب أوروبا، فاندفعت وراء جيوشها الغازية، وربما أوهمت أن هذا التفوق صنع يدها، وقطاف غرسها، غير أن شيئا من هذا لا ينطلى على أحد، فإن أقطار الغرب لم تحسن المسير فى مضمار الحضارة حتى فصلت العلم والاقتصاد والحكم عن الكنيسة، ولو بقيت مرتبطة بها لظلت أوروبا على أحوالها القديمة التى لازمتها خمسة عشر قرنا، وهى أحوال لا يحمدها ذو حجا، ولا يطلب العودة إليها أحد. * * * ص _010(1/7)
وأشهد أن العقل الغربى أنظف جدا من الضمير الغربى، لقد اقتبس فأحسن، وقلد فأجاد، ثم أنمى وابتكر، واستكشف فبهر. وفتوحه فى استخدام قوى الكون لا تقل عنها براعته فى تنظيم شئون العمران. والمشدوهون لهذا التفوق لا ينتظر منهم غير التسليم لنتائجه، فلا جرم أنهم مولعون باتباعها، مغرون بالانقياد لها، وكما يمدون قضبان السكك الحديدية ويركبون عرباتها من مصاغ الغرب، ينقلون مناهج السياسة وأنظمة المجتمع وطرائق الحكم من تفكير الغرب أيضا. وأعان على ذلك، القصور الشائن الذى ران على الجبهة الإسلامية، فإن الرجال المتحدثين عن الإسلام فى القرن الماضى، وحين اندلاع ثورات التحرر من أربعين عاما لم يكونوا على فهم يذكر بالكتاب والسنة، أهملوا خدمة الشريعة فهزمتها القوانين الموضوعة، وظل الإسلام يتقهقر فى ميدان الحياة العامة، حتى كاد يقضى عليه بالموت. ولولا رجال قلائل من الملهمين الأحرار لدرست معالم الدين، نذكر منهم جمال الدين الأفغانى، ومحمد عبده، وعبد الرحمن الكواكبى، وحسن البنا. وقد أسائل نفسى: لو أن جمال الدين عاصر مصطفى كمال فى تركيا، أكانت نهضة القائد المنتصر تميل عن الإسلام هذا الميل؟ أو لو كان "محمد عبده" العالم الثائر أو حسن البنا المربي النابه، لو أن أحدهما صاحب الثورة الكبرى سنة 1919، أكانت تأخذ اتجاهها المدنى المحض مبتوتة الصلة بآلام الإسلام وآماله؟ إن القصور الشنيع فى أفكار علماء الدين ورؤساء الجماعات الإسلامية يومئذ جر على الإسلام هزائم متلاحقة، وجعل بضاعته أمام الأبصار المتطلعة مزهودة كاسدة. ولم تقف الحياة حتى يستخلص الكسالى من تعاليم الإسلام تشريعا جنائيا، أو تجاريا، ونظاما اجتماعيا أوسياسيا، كلا. لقد تطلعت إلى المورد المتاح حين عز عليها المورد الأصيل، ومن ثم تأخر الإسلام وتقدمت قوانين وتقاليد وأنظمة أخرى. * * * ص _011(1/8)
وظهر حسن البنا فى الثلاثين سنة الأخيرة يقود بعثا إسلاميا ناجحا، واستطاع الرجل الكبير أن يسد مسد جيش من الدعاة الأذكياء والمربين المخلصين الأوفياء. وقد أفلح فى تبديد الغيوم الكثيفة التى تراكمت حول صلاحية الدين لقيادة الحياة، وكون جيلا من الرجال الذين يؤمنون بهذه الحقيقة. وقد قتل الرجل وهو- إلى الرمق الأخير- ينفخ فى المسلمين روح الحياة ويجدد فى نفوسهم عنوان الأمل والكفاح. وإنى أعترف- رادا الفضل لأهله- بأنى واحد من التلامذة الذين جلسوا إلى حسن البنا، وانتصحوا بأدبه، واستقاموا بتوجيهه، واستفادوا من يقظاته ولمحاته. ولكنى- وهذه طبيعتى- كنت آخذ منه وأدع، وأتبعه وأجادله، ويرى منى الرضا والنقد، على أنى يوم قتل كنت أعنف الناس غضبا لمصرعه، حملة على خصومه، وسعيا وراء القود الواجب، بينما كانت الأصلاب التى طال انحناؤها وتردادها على تقبيل يديه لا تكرم ذكراه، ولا تصون رسالته ولا تهتم بأمره. إن الذباب الذى يطن حول العظماء كثير، أما الرجال الذين يقدرون رسالاتهم نفسها فما تراهم إلا على ندرة. وتهمة القصور التى رمى بها الإسلام احترقت فى حرارة الجهاد الذى تجشمه هذا القائد الجليل وهو يكتب ويخطب، ويعلم ويؤدب.. ثم وقر فى الأذهان أن الإسلام ليس فقط صالحا كغيره لقياد الحياة، بل إنه أصلح وأحق من سائر المذاهب. والفلسفات الأخرى. * * * وأجدنى مسوقا إلى الكلام عن نفسى فى هذا الموضع، لا لأنوه بجهد، أو أفخر بإنتاج فأحسبنى- أمام الله- آخر من تنهض لهم حجة فى خدمة الإسلام ولعلى فى مقتبل عمرى أقوم بالعمل الذى أدخره ليوم حسابى، وأنا راج له حسن القبول. إننى سأتكلم فى شئون عالجتها مع من حولى من الدعاة المسلمين، أعتقد أن الإبانة عنها واجبة . ص _012(1/9)
إننى أكره أن أسود أحدا من الناس، لأني أوثر أن يكون صاحبى ندا لا تابعا، أتمنى أن أجد الرجل الذى أرى منه عقله الكبير، وفؤاده الكبير فأعامله غير متكلف له شيئا، تشغله عنى رسالته فى الحياة، فأصحبه أو أتركه، وليس بيننا ما يريب أو يغيظ!!. وأكره كذلك أن يسودنى أحد، لا لكبر فىّ، بل لأن أغلب الذين يحرصون على السيادة نفر من العبيد، يوارون صغارهم بالكبرياء المفتعلة. وقد تقول: إن الحياة لابد فيها من قيادة تأمر، وجند ينفذون، وهذا حق ولا اعتراض على هذا الوضع فى نفسى لو أن نظام الحياة كنظام الفلك، تدور الكواكب الصغيرة حول أكبرها جرما، فهو محورها العتيد وهى خاضعة طوعا أو كرها لرباطها به. لكن الطبيعة العظيمة لم تكلف الكواكب أن تدور حول حصاة.. ثم إن السيادة المفروضة شىء آخر غير القيادة الطبيعية القائمة بين الرأس والأطراف. إن الناس ينجذبون حول الكفايات الكبيرة من تلقاء أنفسهم يوم يسيرون مع طبائع الأشياء، فإذا اختلت النظم وطلب للصغار أن يكبروا وللكبار أن يصغروا، فيجب أن تتوقع كل شىء إلا استقامة الأمور وضمان النجاح. ولست أشغب على شىء، كما أشغب على هذا الخلل، وكم أضيق بالغباء المسلط والذكاء المضيم. ذلك، وتجاربى فى الجبهة التى أعمل بها تركت على نفسى ظلالا قابضة، فأنا من علماء الأزهر الذين عملوا فى صفوف الإخوان قرابة عشرين سنة، ولست أعتز بنسبة إلى هذا أو إلى ذاك، فنسبتى إلى الإسلام المجرد أحظى لدي من معهد تخرجت فيه، أو جماعة انضممت إليها. وقد لحظت أن الأوضاع التى تسود كلتا الطائفتين بها عوج بين، وأن مقاييس الإسلام لا يسمح لها أن تعمل حرة فى ترتيب الأشخاص والأشياء. ومن أسمج الأوصاف أن تتدخل نوازع الهوى فى تنظيم عمل يحمل طابع الدين. ص _013(1/10)
ومن المضحك أن تنظر إلى شيوخ الأزهر، ورؤساء الجماعات الإسلامية فلا ترى إلا رجالا أدبرت عنهم الحياة، وقلت حظوظهم من خلال القوة، وعناصر الكفاح، تمر بهم الفرص الرائعة لكسب شىء يدعمون به جانب الحق فلا يتحركون.. ولا يدعون من معهم يتحرك، لأنهم قادة، لهم على الأتباع حق السمع والطاعة! وجمهور المسلمين جند من خيرة الجند، لكنهم مع هذه القيادات العاجزة لا يكسبون لا لأنفسهم ولا لدينهم خيرا. ما قيمة السيارة القوية إذا كان سائقها قليل الخبرة بآلاتها، ثم هو قليل الخبرة بمعالم الطريق؟ إن راكب الأتان يسبقه! وقد قامت فى مصر سوق دنسة كان الملك المخلوع "فاروق" يبيع فيها الشرف والدين، ويتوقح فيها على الله والناس. كدت أجن وأنا أدفع القادة العجزة إلى الحد من آثامه، فيتخاذلون ويتصاغرون. ورمقت الرجال الذين يتصدرون الجبهة الإسلامية، وطويت لهم فى صدرى الاحتقار والمقت، ورمقت جمهور المسلمين وهو يتململ لما يعرف من فسوق فرعونه ويترصد له الحتوف، وأنا أتساءل: حتى متى ينتظرون...؟ ثم جاءت ضربة الجيش المعروفة، فكانت ختاما عادلا لحياة ماجنة، وكانت آية على أن الله يبارك المغامرة فى سبيل الحق، ويسخط على القاعدين ولو كانوا الجبهة الإسلامية يتصدرونها بالبرود والمهزلة. * * * كان قصور الدعاة أول هذا القرن سببا فى انهيار السدود أمام امتداد الغرب ثم كان تقصير العارفين وانكسار هممهم سببا فى تخلف الإسلام، وتقدم نهضات أخرى، وليس فى شىء من هذا ما يدعو إلى اليأس، فإن تاريخ الأديان والأم لا يحسب بأيام أو أعوام. وقد قلت: إن الغرب لم يبلغ الدرجة التى بلغها إلا بعد مسيرة خمسة قرون ص _014(1/11)
ناوشته فيها أعراض شتى كاد بعضها يقضى عليه، ومع ذلك فقد عاش، وطغى واستكبر..! على أن النهضة الإسلامية الجديدة إذا كانت تراجعت فى ميدان السياسة فإنها نجحت نجاحا محمودا فى ميادين أخرى، وأستطيع القول: إن بذورها العقلية والعاطفية قد أثمرت وازدهرت فى جولات كثيرة صنعت بجهدها الفردى شيئا طائلا بما يرضى الله وينفع العباد. ومن المؤكد أن حشدا كبيرا من المؤمنين الصالحين الفاقهين قد أعدته الدراسات الإسلامية الجديدة إعدادا حسنا، وأنه يوم يرزق القيادة الموفقة سوف يأتي بالعجائب فى حرب العدوان الأجنبى، وتطهير الأرض من الفساد والمفسدين. ولست أزعم هذا عن وهم غالب، فإن التجاوب القائم بيننا وبين ألوف المسلمين الذين يقرءون لنا ويسمعون منا يجعلنا نوقن بهذه الحقيقة.. على أننا إذا نوهنا بقيمة التوجيه الإسلامى الصحيح فى تكوين الأجيال الجديدة، فيجب أن نكشف الغطاء عن فريق من الدعاة الذين تكلموا عن الإسلام، واشتغلوا بعرض تعاليمه، فكان أسلوبهم فى الفهم والعرض عونا على إنجاح - الحركات المناوئة له، و إمدادها بقوى دفعتها إلى الأمام! هذا الفريق إن كان مخلصا فيما صنع فهو يعيد إلى الأذهان قصة الدبة التى قتلت صاحبها وهى تدفع عنه! وإن كان مغرضا يبطن للإسلام غير ما يظهر، أو يضمر لدعاته الأوفياء غير ما يجب، فالويل له من الله ومن الناس. * * * ص _015(1/12)
فتح.. وفتح الأمم كالأفراد، إذا أحست فى كيانها فضلا من قوة ومزيدا من نشاط، اتسع مجال حركتها، وامتد نطاق عملها. وكما أن المرء الواسع الطاقة لا يهدأ، بل يصرف الكامن من قواه فى أى عمل يواتيه، وقد يبحث عن المشاق إذا لم يلقها فى طريقه، فكذلك الشعوب التى تضاعفت أنصبتها المادية أو الأدبية. إنها لا تنحسر وراء حدودها إلا ريثما تتجمع فى فيضان دافق، يكتسح السدود، ويطم الآفاق. وتاريخ العالم يسجل ضروبا من المد والجزر لهذا الجهد البشرى المذخور، زحف بعد زحف، وفتح بعد فتح، يقوم بعضه على التفوق العسكرى المحض، ويقوم البعض الآخر على الرجحان الأدبى الخالص، وقد يمتزج المعنيان بنسب متفاوتة فيكون اتصال الأمم القوية بغيرها على حساب الفضائل حينا، وعلى أساس المنفعة المشروعة حينا آخر. ولن نستقرئ فى هذه الكلمة أنواع الفتوح التى تركت أثرا ذا بال فى تاريخ العالم، بل سنقارن فحسب، بين الفتح الإسلامى الأول، والاستعمار الغربى الأخير. بدأت موجة المد الإسلامى من قلب جزيرة العرب، فى بقعة من أرض الله لم تكن قبل الإسلام شيئا مذكورا، والعرب جنس له مزاياه النفسية وخصائصه العقلية، وما من جنس إلا وله محامد تذكر له، إلا أننا نستطيع الجزم بأن العرب- لولا الإسلام- ما كانوا ليقوموا بذرة من هذا الذى صنعوه للعالم بعد ما أصبحوا حملة رسالة وصناع حضارة.. والحق أن هذا الانبعاث الخطير جاء فوق سنن الحياة المألوفة. ففى هذا المكان الصامت الموحش، المعزول عن المدنيات الصاخبة ومواكب العمران المائجة، فى هذا المكان شاءت العناية العليا أن تظل ربع قرن تربى القبيل الذى سيوجه الأجيال، وتعبئ الجيش الذى سيهزم الأفيال. ص _016(1/13)
وقد بوغتت الدنيا بأولئك العرب يخرجون من أعماق الصحراء فى إعداد محكم متتابع أخذ يمتد حتى استوعب المعمور من الدنيا يومئذ، والعرب المنطلقون من صحرائهم لبثوا مع رسول الله نحو ربع قرن، لقنهم فيها دروس السماء النازلة مع الوحى، وزودهم بطاقات فكرية وعاطفية جبارة، سمت بمستواهم المادى والأدبى حتى أصبحوا أعز جانبا وأصح تفكيرا، وأنقى قلوبا من جماهير الروم والفرس. ومن الغفلة أن تحسب انتصار المسلمين الأوائل ضربا من التفوق العسكرى المفاجئ، فإن الذى يدرس كيف صاغ الإسلام العرب وكيف استهلكت الأنظمة الفاسدة غيرهم من الأحياء، يدرك أن كفة العرب كان يجب أن ترجح، وأن هذا الرجحان مظهر لتطور العالم نحو حياة أرقى، أو قل: إنه عمر جديد لدنيا أشرفت على الاحتضار والانهيار. وثمة ظاهرتان يلمحهما المرء فى سير الفتح الإسلامى: أولاهما: أنه مثالى مبرأ من المطامع، فإن روح النبوة التى دفعته اشترطت أن يكون بعيدا عن مفاتن النفس وأدران الشهوات. روى أبو داود عن أبى هريرة أن رجلا قال:يا رسول الله، رجل يريد الجهاد وهو يريد عرضا من الدنيا! فقال رسول الله: "لا أجر له". فأعظم ذلك الناس وقالوا للرجل: عد إلى رسول الله فلعلك لم تفهمه، فقال الرجل: يا رسول الله.. رجل يريد الجهاد فى سبيل الله وهو يبتغى عرضا من الدنيا قال: "لا أجر له". فأعظم ذلك الناس وقالوا: عد لرسول الله، فقال له الثالثة: رجل يريد الجهاد وهو يبتغى عرضا من الدنيا، فقال: "لا أجر له"!. وروى مسلم عن عبد الله بن عمرو قال رسول الله: "ما من غازية أو سرية تغزو فى سبيل الله فيسلمون ويصيبون إلا تعجلوا ثلثى أجرهم، وما من غازية أو سرية تخفق وتخوف وتصاب إلا تم أجرهم". وفى رواية: "ما من غازية أو سرية تغزو فى سبيل الله فيصيبون الغنيمة إلا تعجلوا ثلثى أجرهم من الآخرة، وببقى لهم الثلث، وإن لم يصيبوا غنيمة تم لهم أجرهم". ص _017(1/14)
هذه التعاليم جعلت صلة الفاتحين بالبلاد التى دخلوها منزهة عن نيات الاستغلال، بله أعمال السلب والنهب، التى عرفت فى شتى الفتوح. والظاهرة الثانية: أن الفاتحين بذلوا جهودا متواصلة لرفع الشعوب التى اتصلوا بها إلى مستواهم المادى والأدبى، فمحوا الأنظمة الملكية الفاسدة التى سخرت الجماهير دهرا طويلا، وأقاموا قواعد المعاملة على أساس المساواة المطلقة، وأصبح الإسلام والعمل به محور التفاضل والتقديم من غير نظر إلى أجناس أو ألوان. بل إن عواصم الإسلام نفسه انتقلت من البلاد التى نبت فيها إلى البلاد التى استقبلته محررا ثم اعتنقته بعدئذ دينا، وأضحى أهلها أعطف على الإسلام وألصق به من العرب أنفسهم، ولا بأس أن ننقل هذه الفقرات للمؤرخ الإنجليزى "ويلز".. تحدث " ويلز" عن الإسلام فى كتابه "معالم تاريخ الإنسانية"، فقال: " كان مليئا بروح الرفق والسماحة والأخوة، وكان عقيدة سهلة يسيرة الفهم!! كان غريزة مجسدة تحوى عواطف الفروسية فى الصحراء، وكان يستهوى الغرائز الغالبة فى تركيب الرجال المعتادين. وقد وقفت ضده اليهودية- وهى التى اتخذت من الرب كنزا تدخره لجنسها- ثم المسيحية، وهى تتكلم وتبشر آنذاك وبلا نهاية بالتثاليث والمبادئ والهرطقات التى لم يكن ليستطيع أى رجل عادى أن يميز فيها الرأس من الذنب. لم يكن الناس الذين جاءتهم دعوة الإسلام يهتمون إلا بشىء واحد، هو أن ذلك الرب الذى يبشر به الرسول كان- بشهادة ضمائرهم- رب صلاح و بر، و أن القبول الشريف لمبادئه وطريقته، يفتح الباب على مصراعيه على أخوة عظيمة متزايدة من رجال جديرين بالثقة، وسط عالم ملىء بالتقلقل و الخيانة والانقسامات الناضبة من التسامح. وقد أوصل محمد هذه المبادئ الجذابة إلى سويداء قلوب البشرية دون أى رمزية مبهمة، ودون أى تعتيم للهياكل، ولا ترتيل للقساوسة". وفى حديثه عن الفاتحين يقول: "التقوا بجيوش كبيرة منظمة، ولكنها جيوش جوفاء لا روح فيها ولم يحدث فى أى(1/15)
مكان ما يسمى بالمقاوهة الشعبية، فإن سكان الأراضى الآهلة لم يكن ليعنيهم قلامة ظفر أن يدفعوا الضرائب إلى "بيزنطة" أو"برسيبوليس" أو "المدينة". ص _018
فإذا فاضل الناس بين البلاط الفارسى والعرب- يعنى السلف الأول- كان العرب أنظف الطرفين وأطهرهما، كانوا أكثر عدالة وأوسع رحمة. وقد انضم العرب المسيحيون دون تردد إلى الغزاة، وكذلك اليهود وكما كان الحال فى الغرب- يعنى جبهة الروم- كان كذلك فى الشرق، إذ تحول الغزو إلى ثورة اجتماعية، ولكنها كانت هنا ثورة دينية لها حيوية ذهنية جديدة متميزة" ا. هـ ثم عدت الليالى على الإسلام! فانكمش بعد امتداد، وأمسى أهله قليلى الفقه فيه، ضعفاء الأخذ به، فتراجعوا عن مراكز التوجيه التى احتلوها آنفا، وفقدوا المزايا التى رجحت كفتهم على غيرهم من الدول الكبرى. والصلاحية لقياد الأرض لا تنال بزعم ولا وهم، فهى- قبل كل شراء- قدرة ذاتية على السبق تدعمها ميزات فريدة عقلية وعاطفية. وقد انتقلت هذه الصلاحية عن المسلمين منذ فترت علائقهم بدينهم، وبعد أن كانت الحياة تندفق من بلادهم فتهب العافية للمرضى، أصبحوا هم أنفسهم فقراء إلى من يأخذ بأيديهم نحو القوة والعلم والثراء! وامتلك الغرب الزمام المهمل، وتهيأت له الأسباب، فبسط سيطرته على العالم ووقع المسلمون بقضهم وقضيضهم كما وقع سائر أقطار الدنيا فى براثن الاستعمار الغربي الجديد. وهناك ظاهرتان بارزتان فى صلة هذا الاستعمار بالأمم التى دانت له: أولاهما: أن دواعى الفتح والإخضاع والاستكشاف كانت مادية بحتة، لا مكان فيها إلا للنفع الشخصى أو الدولى، أو الباعث المثالى الذى اقترن به الفتح الإسلامى الأول فلا أثر له البتة فى هذا الغزو الحديث. البحث عن الثروة، أو الأمجاد الخاصة، أو بسط النفوذ المجرد على أوسع مساحة من الممتلكات، والعمل على تحويل البلاد المفتوحة أو المكتشفة إلى مزارع غاصة بالعبيد المسخرين لتصدير المواد الخام، تلك كلها طابع(1/16)
الفتح الأوروبى الذى نجح فى إخضاع العالم له، ونجح فى التهام خيراته، ونجح فى تحويل الجهد البشرى المبعثر فى القارات الكبرى إلى أداة تصدر له المغانم وهو هادئ ناعم! ص _019
وقد تطاحن الفاتحون فيما بينهم على الاستئثار بهذه الأسلاب، ثم تهادنوا على اقتسامها، ثم هاجت بينهم المطامع فعاودوا الحرب. ولا تزال دوافع الشر تثير الحروب العالمية بين المستعمرين، ما إن تهدأ حتى تندلع، وسرها ما علمت، هو عراك الوحوش على أشلاء الفريسة! والظاهرة الثانية فى الفتح الأوروبى: أنه إذا دخل بلدا ما فوجد فيه شعبا مظلوما، ونظامال فاسدا، وطبقة حاكمة باغية، دعم جانب البغاة وأبقى أسباب الفساد، وأوصد الأبواب على الجماهير المضطهدة، على عكس السيرة التى انتهجها الفتح الإسلامى الذى كان يقصى الطغاة أول ما يدخل، ويزيح العوائق أمام الشعوب لتتحرك وتتنفس وتنتعش، ويضع الخطة ليكون الفاتح أخا فى الحقوق والواجبات مع صنوه الرومى أو الفارسى. والنزاع العنيف القائم بين البلاد المحتلة والمستعمرين الأجانب يرجع إلى نزعات الأثرة الفاحشة التى يصدر عنها أولئك المستعمرون. فالشعوب تريد أن تصلح شأنها وتستعيد حرياتها، وتنتفع من خيراتها، إنها تتلوى وتتأبى على القيود التى كبلت بها، وتحاول بشق الأنفس أن تنال قسطا أكبر من الكرامة والهناءة التى حرمتها. بيد أن الفاتحين الأوروبيين حرصوا كل الحرص على تأخير البلاد، وتحقير أهلها وإبقائها أبدا فى منزلة التابع الذليل المحتاج من سيده المعتز بقوته، المدل بجاهه ومعرفته! ولو ألقينا نظرة عجلى على الأحوال التى تسود العالم اليوم لرأينا الدول المستعمرة والدول الضالعة معها تحارب طلائع التحرر فى كل مكان، وتتضافر على إبقاء نصف العالم أو أكثر فى منزلة مهينة.. والغريب أنه إذا علت صيحات المعذبين تحت وطأة الحكم الفرنسى فتساءل الناس عن علة هذا الصراخ، قالت فرنسا: إن هذه مسألة داخلية تخصها وحدها ولا شأن للآخرين(1/17)
بها. وكذلك حال الأمم التى سقطت فى براثن إنجلترا، وإن كانت الأخيرة أكثر احتيالا على الوصول إلى أغراضها وتسميم فرائسها. ص _020
ولا ينبغى أن ننسى أنها دخلت وادى النيل لتطفئ حركة الإصلاح الشعبى التى قام بها أحمد عرابى، وتمكن للفساد السياسى والاجتماعى المنبعث من القصر الملكى يومئذ. ولا ننكر أن الاستعمار الأوروبى أدخل على البلاد المفتوحة بعض الإصلاحات العمرانية، لكن دوافع هذا العمل لا تعدو زيادة طرق الاستغلال والامتصاص لحساب المنتصر قبل غيره. إن الحضارة الأوروبية فى ميدان الكشوف المادية، والبحوث العقلية، وصلت إلى حد لا يتجاهل خطره، ولا يغمط قدره، وهى من هذه الناحية تعتبر ارتقاء إنسانيا كبيرا، ويجب أن نسجل لها هذا التقدم الذى برزت به القرون الأولى قاطبة. لكن أتراها بلغت عشر هذه المنزلة فى صلاح الضمير ونصاعة الحلق؟ كلا كلا. إن الوحشية والقساوة التى اقتربت بزحف التتار والرومان لم تفارق الاستعمار الغربى الجديد، غاية ما تبدل أن الغزاة المحدثين نظموا وسائل السطو وزينوها وخدروا مواضع الألم بقدر كبير من المباذل والشهوات الوضيعة. ولم يعرف العالم فتحا أنظف يدا وأنبل سلوكا، وأسلم عقبى من الفتح الإسلامى القديم. إن الاستعمار الحديث بدأ سطوا واسع النطاق على بلادنا، واللص الصغير إذا ضبط متلبسا بجريمته لم يجد بدا من الاعتراف بها، والانتظار- فى خزى- للعقوبة المترتبة عليها. أما دول الغرب التى دفعت بعصاباتها لاحتلال أرضنا، واستلاب حقنا، فهى تجد من القحة ما يجعلها تمارى فيما اقترفت من نكر، بل إنها قد تبرر فعلتها بما يقلب الأخذ عطاء، والباطل حقا، ولا عجب فكلمة الاستعمار نفسها لا تعنى إلا التخريب والدمار، و إن كان بناء الكلمة على نقيض مدلولها الذى نكبت به أقطار شتى. وقد نشأ عن ذلك أن الدول الغالبة بنت سياستها على التدليس والنفاق، وأقامت علائقها- بين بعضها والبعض الآخر، ثم بينها جميعا وبيننا نحن(1/18)
المكافحين ضد العدوان- أقامتها على أسلوب طويل مما من التصنع والتمويه والدجل، يريد ليلبس مخالب الوحش قفازا من الحرير الناعم!. ص _021
ثم سخرت لبلوغ هذه المآرب جيشا من المستشرقين والمبشرين ورجال القلم واللسان، مكن للغزو العسكرى بالغزو العلمى، ومن ثم استطاع الغرب القاهر أن يحتل البلاد والأجساد والأفكار. والغزو العلمى أخطر من الغزو العسكرى. فإن الغزو العسكرى يقيد جسمك وأنت ساخط تحتال للخلاص! أما الغزو العلمى فهو يملك البدن، ويجتاح الروح، ويجعل المهزوم عبدا ودودا للمنتصر الماكر. إنه يخلعه عن الإعجاب ببلاده ودينها وتقاليدها، إلى الإعجاب بالفاتح ودينه وتقاليده. إنه يزلزل الثقة فى حاضر الوطن ومستقبله، ويغرى بالركون إلى الغاصبين والارتباط بهم فى حاضرهم ومستقبلهم. ودول الغرب دائبة على هذا الغزو اللئيم تبريرا لآثامها وتمكينا لأقدامها، وقد أغراها النجاح الذى استحوذت به على بعض الهمل، فمضت فى خطتها تحاول أن تجعل من وجودها فى بلادنا أمرا مألوفا، وكأنها بهذه اللجاجة تظن أن جرائمها الفاحشة نسيت أو يمكن أن تنسى. منذ أيام سمعت رجلا ممن تعلموا فى معاهد إنجلترا وفرنسا يتحدث عن القوم حديثا يستحق التأمل، والإشادة بفضل أهل الفضل شيء لا يستغرب، ولكن الذوبان فى محيط الغزو الثقافى شيء لا يحتمل. وينبغي أن نضع أمام أعيننا صورا كئيبة دامية للطريقة القذرة التى سار عليها الإنجليز والفرنسيون وغيرهم فى استعمار لنصف العالم أو يزيد، وكيف يصرون إلى هذه الساعة على استئناف ما بدءوا به من سلب ونهب. ذكر الدكتور محمد عوض فى كتابه "الاستعمار" كلمة للكاتب الفرنسى الشهير "مونتسكيو" جاء فيها: "ذا طلب منى أن أدافع عن حقنا المكتسب لاتخاذ الزنوج عبيدا فإنى أقول: إن شعوب أوروبا- بعد أن أفنت سكان أمريكا الأصليين- لم تر بدا من أن تستعبد شعوب "إفريقيا" لكى تستخدمها فى استغلال هذه الأقطار الفسيحة كلها!. ص _022(1/19)
والشعوب المذكورة ما هى إلا جماعات سوداء البشرة من أخمص القدم إلى قمة الرأس، وأنفها أفطس فطسا شنيعا. وبكاد يكون من المستحيل أن ترثى لها فإنه لا يمكن المرء أن يتصور أن الله سبحانه وتعالى- وهو ذو الحكمة السامية- قد وضع روحا أو على الأخص روحا طيبة داخل جسم حالك السواد"!. ثم يقول الدكتور: "ومن المفيد ألا نمر بعبارة "مونتسكيو" هذه دون أن نشير إلى أنها ليست مبنية على السخرية المجردة فإن الإشارة إلى أن الشعوب السوداء أو الحمراء لا روح لها كانت مظهرا من مظاهر الاستعمار الأوروبى الحديث فى أوائل عهده. ورجال الدين أنفسهم لم يتورعوا عن مثل هذه النزعات، بل لقد كان قادة الدين فى مراحل الاستعمار الأولى بأمريكا الشمالية يشيرون إلى الهنود الحمر بأنهم من سلالة الشيطان، وكانوا يأمرون بالقضاء عليهم بمختلف الوسائل. وكان من هذه الوسائل أن تنشر بينهم الأمراض الجديدة التى ليس للأمريكيين الأصليين مناعة منها، ومن أهمها مرض الحصباء، فكانوا يوصون بأن يمكن الهنود الأمريكيون من الاستيلاء على الأغطية التى كان يستعملها المرضى بهذه الحمى، ويرون هذا الإجراء متفقا كل الاتفاق مع الدين"!!. ولا ريب أن عيسى بن مريم وأمه بريئان من هذا العمل الدنيء، وأن الله لم ينزل فى دين من الأديان وصاة بإهلاك الحيوان بله الإنسان على هذا النحو السافل!. ولكن "أوروبا" تستغل النصرانية ورجالها فى محاربة الشعوب وتجريعها الغصص". ومن ضروب هذا الاستغلال ما سجله الدكتور محمد عوض أيضا وهو يستعرض فصولا من حرب الأفيون التى شنتها إنجلترا لاستعمار الصين، واستطاعت بتفوقها العسكرى أن تقهر هذه الأمة الكثيفة، وأن ترغمها على فتح بلادها لاستقبال الأفيون الإنجليزى، ينقله القراصنة الحمر إلى المستضعفين المنكوبين من أهل تلك البلاد.. قال: (.. وقد أتاح امتلاك جزيرة "هونج كونج" للبريطانيين مركزا ملائما لجمع ص _023(1/20)
الأفيون وتهريبه تحت الراية الإنجليزية، وبذلت جهود فى الوقت نفسه لكى توافق حكومة الصين على أن يكون استيراد الأفيون عملا تجاريا مشروعا، فكتب "لورد بالمرستون" إلى المندوب البريطانى فى الصين يأمره بالسعى إلى عقد اتفاق مع السلطات الصينية تسمح بدخول الأفيون إلى البلاد كسلعة من السلع التجارية! وعرض هذا الاقتراح فعلا على الإمبراطور وطلب منه- على سبيل الإغراء- أن يفرض رسوما جمركية عالية على الأفيون المستورد. فرد الإمبراطور بقوله: " لقد أكون عاجزا عن منع هذه السموم أن تدخل بلادى بالرغم منى، لأن فى الناس من تدفعهم شهواتهم وحبهم للمال الحرام إلى عصيان أمرى، ولكن ليس فى العالم قوة تستطيع أن تغرينى بأن أستمد للدولة إيرادا من تسميم شعبى ونشر الرذيلة فيه " ا.هـ.. هذا هو الرد النبيل الحاسم الذى أدلى به إمبراطور الصين، وما على القارئ إلا أن يقارن بين كلمات "لورد بالمرستون" الوزير المسيحى المتمدن وبين كلمات الحاكم الصينى المتأخر عن ركب الحضارة، لكى يدرك إلى أى درك ينزل الاستعمار بالنفوس التى تدعى النبل والصلاح. ولماذا نذهب إلى تاريخ قديم ننبش فى رماده عن مآسي إنجلترا وفرنسا وغيرهما من الدول التى بطرت فى الأرض من طول ما تشبعت وتوسعت؟ إن الصحائف التى سودها الماضى الغابر لا يزال الحاضر القابض يشيع فى جوانبها الحداد والمأتم. بيد أن المزاعم الموغلة فى الافتراء هى التى تستثيرنا، أو ليس مما يحملك على أن تقلب أيديك عجبا أن تسمع مع هذا التاريخ الملوث أن أوروبا تنشئ الحريات وتنشرها حيث ذهبت؟ ذلكم ما يثرثر به الساسة الإنجليز والفرنسيون!! ثم يجىء دور الغزو العلمى بعد الغزو الحربى، فلا يكتفى بنشر هذه الخرافة، بل يعمد إلى تاريخنا نحن المسلمين يبغى أن ينال منه! ونحن بعد أن سقنا نتفا من المثل الرفيعة التى نادى بها "مونتسكيو" فى استعمار إفريقيا و"لورد بالمرستون" فى استعمار آسيا لا نرى بأسا من أن ننقل نبذا من(1/21)
المثل "الوضيعة" التى صاحبت الفاتح الإسلامى وهو يستعمر الدنيا بالسيف- كما يقولون! ص _024
دع جانبا ما يدعيه "مونتسكيو" من أن السود لا أرواح لهم، وما يبتغيه "بالمرستون" من تصميم جماهير هائلة وإفناء أجيال بأسرها فدى لبريطانيا العظمى، أجل دع هذا جانبا، واصعد بنا إلى أفق آخر بعيد بعيد! عندما ذهب "سعد بن أبى وقاص" ليقود المسلمين وهم يغزون بلاد كسرى أوصاه "عمر بن الخطاب" أمير المؤمنين فقال: "يا سعد بن وهيب، لا يغرنك من الله أن قيل: خال رسول الله وصاحبه! فإن الله لا يمحو السيئ بالسيئ، ولكن يمحو السيئ بالحسن، وأن الله ليس بينه وبين أحد نسب إلا بطاعته، فالناس شريفهم ووضيعهم فى ذات الله سواء، الله ربهم وهم عباده، يتفاضلون بالعافية، ويدركون ما عند الله بالطاعة، فانظر الأمر الذى رأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- منذ بعث إلى أن فارقنا عليه فالزمه، فإنه الآمر. هذه عظتى إياك، إن تركتها ورغبت عنها حبط عملك وكنت من الخاسرين". ولما اشتبك سعد بجحافل الفرس وتكالبوا عليه وخشى بطشهم أرسل إليه عمر يقول: "لا يهولنك كثرة عَددهم وعُددهم فإنهم قوم خدعة مكرة، وإن أنتم صبرتم وأحسنتم ونويتم الأمانة رجوت أن تنصروا عليهم، ثم لم يجتمع لهم شملهم أبدا.. إلا أن يجتمعوا وليست معهم قلوبهم". فالأمر ليس أمر جيش يريد نشر الأفيون ليمرض به أمة، فيتمكن من احتلال أرضها ومالها، بل إنه أمر قبيل من الناس لهم حظ من الخلق الرفيع لن ينزلوا عنه أبدا، همهم الأول والأخير أن يؤسسوا حضارة تحفظ بها الأمانات تكفل الحقوق وتتكافأ الدماء والألوان، فلا يفضل أحد أحدا إلا بالتقوى، ولو كان الفاضل زنجيا والمفضول أمس الناس رحما بصاحب الرسالة نفسه..! ويفسر هذا ما روى من أن قائد الفرس بعث إلى "سعد" يطلب منه رجلا عاقلا ليفاوضه فى مطالب العرب. فبعث إليه "المغيرة بن شعبة"، فلما قدم عليه قال رستم: "إنكم جيراننا، وكنا نحسن إليكم، ونكف الأذى(1/22)
عنكم، فارجعوا إلى بلادكم ولا نمنع تجارتكم من الدخول فى بلادنا". فقال المغيرة: "إنا ليس طلبنا الدنيا! وإنما همنا وطلبنا الآخرة، وقد بعث الله ص _025
إلينا رسولا قال له: إنى قد سلطت هذه الطائفة على من لم يدن بدينى فأنا منتقم بهم منهم، واجعل لهم الغلبة ما داموا مقرين به، وهو دين الحق لا يرغب عنه أحد إلا ذل، ولا يعتصم به إلا عز.." فقال له رستم: "فما هو"؟ فقال المغيرة: "أما عموده الذى لا يصلح شىء منه إلا به فشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، والإقرار بما جاء من عند الله". فقال: "ما أحسن هذا.. وأى شىء أيضا "؟ قال: "وإخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله!". قال: "وحسن أيضا، وأى شيء بعد "؟ قال: "والناس بنو آدم فهم إخوة لأب وأم". قال: "وحسن أيضا"، ثم استأنف رستم: "أرأيت إن دخلنا فى دينكم أترجعون عن بلادنا؟". قال: "أى والله، ثم لا نقرب بلادكم إلا فى تجارة أو حاجة." قال: "وحسن أيضا.." ويبدو أن الإسلام ومبادئه الجميلة وجدت قبولا من نفس القائد الفارسى إلا أن رؤساء الدولة أنفوا من متابعة هذه الدعوة وهم الملوك المترفون والسادة المرموقون، فكانت الأخرى.. وكتب الله النصر للمؤمنين والحرية للمستضعفين والخزى على الجبارين. سل ملوك الأرض عن دنيا الغرور فى الملاهى خلف أستار الحرير! زلزلتهم بين أبراج القصور ضربة من سهم عريان فقير! أين هذه الصحائف المشرقة بالمبادئ، والتجرد والإخلاص لله، مما صنع ويصنع المستعمرون الغربيون؟ * * * ص _026(1/23)
موت الأبطال فى الطريق مما رمتنا به عصور الطراوة والانحلال، هذه الفكرة السخيفة عن طرائق الموت!! فالميتة بين جدران البيت وأحضان الأهل، من دلائل ستر الله، والميتة على قارعة الطريق أو فى حادثة دامية، من مظاهر سخط الله. ومن أيام، قتل عالم كبير تحت عجلات قطار، فسمعت رجلا من الدهماء يقول: "الله يرحمه! كان شيخا صالحا! وما كان أهلا لهذا المصير المحزن..". فنظرت إلى القائل- فى استنكار- وأسفت لأن هذه السوءة الخلقية والعقلية تشيع فى زماننا هذا، وتنطق بأننا أجهل الناس فى فقه الرجولة، وفقه الإيمان معا!! ولو درينا لعلمنا أن مصرع المؤمن فى أى صدام، مع الأشخاص أو مع الأشياء من آيات القبول وأمارات الصلاح. وإن سلفنا الصالحين كانوا يتمنون من أعماق قلوبهم أن تثوى جثثهم ممزقة فى حواصل الطير وأجواف الوحوش، وهم هلكى، لا بين أحضان الأهل الباكين والأحباب المواسين، ولكن فى وحشة الصحراء ورحاب الميادين، أو فى أى أفق مبهم من أعماء الدنيا، وعلى شفة أحدهم وهو يجود بروحه قول الشاعر: وذلك فى ذات الإله وإن يشأ يباركْ على أوصال شلو ممزع هكذا مضت سنة الإيمان منذ أبرم عقد الجنة ووصف الله من وقعوا عليه بأنهم (يَقتلون ويُقتلون). وهكذا مضت سنة الرجولة من قديم الزمان، فاعتبرت موت الرجل بين أهله معرة، لأن هذا شأن النساء والعبيد. أما الأحرار وحملة العقائد وأصحاب المثل وسدنة الشرف والمكرمات فمصارعهم ص _027(1/24)
تحمر بها صحائف التاريخ، ويلبس الشفق القاني ثوبه الأرجوانى منها! وبذلك المعنى هتف الشاعر القديم: وإنا لقوم ما نرى القتل سبة إذا ما رأته عامر وسلول تسيل على جد الظبات نفوسنا وليست على غير الظبات تسيل وما مات منا سيد حتف أنفه ولا طل منا حيث كان قتيل أجل هذه شارات السيادة! لا يموت الرجل حتف أنفه، ولكن يموت فى عرصات الوغى. لما قتل الأمويون مصعب بن الزبير، قام أخوه عبد الله فخطب الناس فكانت خطبته تعييرا لبنى أمية أنهم يموتون على فرشهم! أما آل الزبير فقد كفنوا فى دمائهم بطلا من بعد بطل. وخطب أبو حمزة الخارجى يصف رجاله، وكيف جندلتهم المنايا واستهلكهم صدق الجهاد، فكان من كلامه فى لقائهم الحتوف: "استخفوا بوعيد الكتيبة لوعيد الله، ومضى الشباب منهم قدما حتى اختلفت رجلاه على عنق فرسه، وتخضبت بالدماء محاسن وجهه، فأسرعت إليه سباع الأرض وانحطت إليه طير السماء. فكم من عين فى مناقير طائر طالما بكى صاحبها فى جوف الليل من خوف الله! وكم من كف زالت عن معصمها طالما اعتمد عليها صاحبها فى جوف الليل بالسجود لله.." فانظر مصاير أولئك الشباب كيف خطها القدر؟ وكيف تذكر فى سياق الدلالة على حب الله، والتفانى فيه؟ إن أولئك الشهداء المستميتين فى محاربة البغى، الذين رضوا أن تدق أعناقهم قبل أن تدق على أبواب الإسلام يد آثمة، وأن تمزق أعضاؤهم قبل أن يتمكن من الكيد لدين الله كافر سافر أو منافق خناس. ص _028(1/25)
إن أولئك الشباب الهلكى، المبعثرة أحشاؤهم ومشاعرهم هنا وهناك، سوف تجمعهم القدرة العليا بكلمة واحدة، فإذا الجبين المشجوج ناصع مشرق، وإذا العين المفقودة حوراء مبصرة، وإذا الجثة الممزعة بشر سوى يقول لله: "آمنت بك وتحملت فيك ما ترى". وفى الجاهلية- قبل الإسلام- كان "دريد بن الصمة" يفخر بأن لحم أسرته طعام السيوف! وأن القتل استهدفهم لأنهم استهدفوه، وتلك شيمة العظماء.. أبى القتل إلا آل صمة إنهم أبوا غيره، والقدر يجرى إلى القدر فإنا للحم السيف غير نكيرة!! ونلحمه حينا وليس بذى نكر قسمنا بذاك الدهر شطرين بيننا فما ينقضى إلا ونحن على شطر! أرأيت سيماء للرجولة كيف برزت ملامحها المصقولة فى عهود الجاهلية؟ ثم كيف هيمن الإسلام على هذه الخلال القوية فجعل العقيدة سنادها، والإخلاص شعارها حتى استحالت تحت لوائه قذائف تنطلق من مكامنها لتنفجر فى مستقرها، فإذا هى تهد ما تعالى من حصون الكفر والطغيان، وتقر ما طورد من عناصر الحق والإيمان؟! أما اليوم، بعد قرن أو قرنين من ضعف الدولة الإسلامية الكبرى واختفائها فقد اختلت مقاييس الدين والدنيا. وبعد أن كان الموت فى الميدان أمنية تستشرف لها الهمم العالية، وبعد أن كانت المصارع القاسية تنزل بالمصطفين لها، فتشير إلى ما سبق لهم عند الله من مثوبة، وما سيفدون عليه من كرامة، أضحينا نرى جيلا من أشباه الرجال يغمغمون بألفاظ الحسرة والأسف، لأن فلانا خر صريعا ولم يمت فى سريره. شاهت الوجوه!! هذا عرض من أعراض الداء الخبيث الذى أطمع شتى الأمم فى بلاد الإسلام وأغرى من لا يدفع عن نفسه بالاندفاع فى أحشائنا يعربد ويغتال. ص _029(1/26)
وذلك أن هناك قلوبا تطرق إليها الوهن، أتدرون ما الوهن؟ حب الدنيا، وكراهية الموت. إن كنا مسلمين فما هذا الوهن بإسلام! أو كنا رجالا فما هو برجولة!! حيث يكون العسف والخسف لا بد أن يكون الإسلام دينا ثائرا يطلب النصفة والرحمة. وحيث يكون الاستعلاء والاستعباد لابد أن يكون المسلمون ثوارا ينشدون العزة والكرامة. وقد تكون عقبى الجهاد موتا فى غربة، أو قتلا فى معركة، والثائرون ضد الباطل أدنى الناس إلى البلاء والعطب. وماذا فى هذا أن ما يحذره غيرهم هو الذى ينشدون لأنفسهم! وتلك طبيعة الثائرين، إما أن يحيوا كما يريدون، أو يموتوا كما يريدون. إنهم عزيمة تؤثر فى الحياة سلبا وإيجابا، وليسوا عربات تشد إلى جياد الآخرين. ويعجبنى قول الطرماح بن حكيم، وهو يسعى إلى الغنى حتى لا يحتاج إلى فسقة الأمراء فى عهده أو إلى عداة الخلفاء- كما سماهم-: وإنى لمقتاد جوادى وقاذف به وبنفسى العام إحدى المقاذف لأكسب مالا، أو أءول إلى غنى من الله يكفينى عداة الخلائف ثم اسمع إلى هذا الثائر الضارب فى مناكب الأرض طلبا للعزة يقول: فيا رب إن حانت وفاتى فلا تكن على ترجع يعلى بخضر المطارف أى على نعش ملفوف بالأقمشة المطرزة: ولكن قبرى بطن فسر مقيلة بجو السماء فى نسور عواكف وأمسى شهيدا ثاوبا فى عصابة يصابون فى فج من الأرض خائف ص _030(1/27)
والمسلمون اليوم لن ينجحوا فى حرب الاستعمار إلا إذا استهتروا بالموت وأحبوه فى ذات الله. فى هذه الأيام يحاربنا الإنكليز، ويشنون غارات شعواء على إخواننا فى منطقة القناة، والذى أفهمه كمسلم أن الرجال يجب أن يسافروا إلى منطقة القناة لا أن يهجروها، وأن يقاتلوا الإنجليز على كل شبر من أرضها، فإذا ألجئوا إلى القتال فى المدن فليدافعوا عن أحيائها حيا حيا، فإذا سقط حى ما، فليدافعوا عن البيوت بيتا بيتا، فإذا أحيط ببيت فليدفع عنه سكانه حجرة حجرة. ولنأخذ أسلحتنا من الشيطان، فإذا أعوزتنا الأسلحة، فإن روح المقاومة والتحدى إذا ملأت نفوسنا جعلتنا نفعل المستحيل. يجب على الهيئات الحرة أن تستورد الأسلحة على عجل، ولتعلم الحكومة التى تمالئ الإنجليز على حساب الشعب، أو التى تمنع تسلحه، وتقل مقاومته أنها ذيل للأعداء يجب سحقه. ونحن نسأل حكومتنا الرشيدة وقد لغت المعاهدة: لماذا لا تسارع إلى توزيع السلاح على الشعب بأقصى ما يمكنها من سرعة؟ وإلى متى يظل حمل السلاح محظورا بل طريقا إلى السجن..؟ إن الإنكليز قوم معروفون بالغدر والخسة.. وقد يزحفون بين عشية وضحاها على عواصم القطر، فهل سنفرش لهم الطريق بالورود؟ أم نقاومهم بقذف الأحجار؟ إن القاهرة أو الإسكندرية أو الزقازيق يجب أن تتحول إلى " ستالينجراد" أخرى، فإذا دخلها إنجليزى لم يخرج منها إلا جثة هامدة. نريد السلاح.. نريد السلاح.. وأن نموت أبطالا فى مقارعة الحديد لا ناعمين فى فراشنا وبين ذوينا!! ص _031(1/28)
من صور القوة فى القرآن ما أعذب الماء البارد على شدة الظمأ، وما أجمل القوة العادلة عندما تنساب بردا وسلاما فتحسم المظالم النازلة على الأفئدة الكسيرة، وتطفئ الآلام التى برحت بالمظلومين والمستضعفين. إنه لا يعرف فضل القوة المؤيدة للحق إلا من شقى تحت وطأة الطغيان دهرا طويلا، إنه يستقبل طلائعها استقبال المقرور للدفء، واستقبال الهيمان للإلف، إنه يعتبر زحفها بوارق الصبح تشق جنح الظلام، ومعالم اليقظة تغزو البصائر والأبصار. وسلنا نحن الذين طالما ناشدنا المستكبرين أن يتواضعوا، والغاوين أن يرشدوا.. سلنا نحن الذين طالما ناشدنا الظالمين أن يعدلوا، والعابدين لأنفسهم وهواها أن يوقروا ربهم ودينه.. سلنا نحن الذين بحت أصواتنا فى التذكير بآيات الله والحكمة، فلم نجد إلا صدا وعلوا، وحمقا وعتوا. سلنا: كم تكون الفرحة ملء جوانحنا حينما نجد السيف قد قوم الصعر، وأدب البطر. وأكره الطاغوت أن يتضاءل ويتطامن، ويستمع للحق الذى كان يصم أذنيه عنه، ويستسلم للقصاص الذى كان فى منجاة منه. ما أنبل القوة العادلة عندما تحقق الحق وتبطل الباطل، بعد ما كادت النفوس تزهق من باطل لبس مسوح الحق، ومشى فى الأرض مطمئنا، ومن حق علته زراية الباطل فتوارى عن الأعين مخذولا ضائعا. إن القوة التى تقيم بين الناس الموازين القسط هى ما أمر الإسلام بإعداده وحض على بذل النفس والنفيس فيه. وفى القرآن سورة يصح أن توضع آياتها فى إطار المدافع المتشابكة والقذائف ص _032(1/29)
الملتهبة، لأنك تلمح فى كلمها القوى صورة الصراع الدامى بين جند الرحمن، وجند الطغيان، وترى الفريقين قد ارتجت من تحتهما الأرض، وثار من فوقهما النقع، ثم انجلى القتال بعد ما كتب النصر لأهدى الفئتين وأرضاهما لله، فتذكر قول الشاعر: فتقت لكم ريح الجلاد بعنبر وأمدكم فلق الصباح المسفرِ! وجنيتمُ ثمر الوقائع يانعا بالنصر من ورق الحديد الأخضرِ! أما هذه السورة فهى سورة "العاديات". بدأت بوصف رائق لخيل المجاهدين وهى تنطلق بأصحابها إلى الميدان، إنها تركض حثيثا إلى غايتها، تنهب البر وتخرق الريح، ولصدورها علو وهبوط من تتابع الأنفاس واطراد العدو، وفوقها فرسانها المغاوير يتسابقون إلى لقاء العدو.. كأنهم فى ظهور الخيل نبت ربا من شدة الحزم لا من شدة الحزم ذاك ما أخذت السورة تصفه، فجاءت آياتها على هذا النسق: (والعاديات ضبحا * فالموريات قدحا * فالمغيرات صبحا * فأثرن به نقعا * فوسطن به جمعا) فإذا أحسست ضبح الخيل من طول لهثها، أحسست كذلك انقداح الشرر تحت سنابكها، وهى تضرب الصخور فى طريقها إلى ضرب المبطلين، وتورى النار التى سوف تحرق وتضىء، تحرق جلود الطغاة، وتضىء سبل المعذبين المقهورين. ثم تجىء بعد ذلك غارة الصباح، وما غارة الصباح؟ إنها الضربة المفاجئة تنزل بالغاوين على حين غرة، فيستيقظون من غفلتهم على مس العقاب، ولات حين مناص. إنهم ظنوا أن الدنيا دانت لهم، وأن الأوضاع استقرت تحت أقدامهم، وأن الفضائل التى طاردوها لن تجد من يحميها، وأن الرذائل التى ألفوها لن تجد من يدوسها فناموا، وهم آمنون! ص _033(1/30)
بيد أن للحق حراسا تسهدهم الآلام، ويؤرقهم ما تلقاه الحياة من عبث الطواغيت بأقدار العباد والبلاد، إنهم يتحينون الفرص، حتى إذا سنحت انقضوا على المجرمين انقضاض الصواعق، فإذا الليالى تتمخض عن المغيرات صبحا يطالع الناس أنباءها مع مطالع الفجر. حدث قديما قتال بين المسلمين واليهود، فزحف النبى- صلى الله عليه وسلم- ليلا بجيشه على حصون خيبر فصحا اليهود مع الفجر ورأوا الصحابة محيطين بهم فقالوا: محمد والخميس!. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "الله أكبر.. هلكت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين!" وحدث فى أيامنا هذه أن دخلت مصر فى فترة حالكة من تاريخها، إذ طغى عليها فرعونها الغر "فاروق" ونشر المفاسد فى طول البلاد وعرضها، وأذل الأحرار من بنيها، وعد نفسه إلها على أرض يخدمه عبيدها، وتسخر له خيراتها، وتشبع شهواته المسعورة رجالها ونساؤها. وفى ليلة نام فيها المظلومون مسهدين، ونام الظالم آمنا من مكر الله وعقاب القدر، صحت الدنيا على معاول الثائرين وهى تنقض دعائم الفسق، ورأت مصر جيشها مع بشائر الفجر، يقلم أظفار الطاغية، ويذل كبرياءه. وأسفرت غارة الجيش الموفق عن تحرير أمة وإقامة عدل. إن العاديات المغيرات مع الصباح ليست جيوش استغلال ونهب! إنها القوة جاءت مع موكب النور لتحرير العبيد من أوهام الظلام، ولتحقيق الهدف الأسمى من نزول القرآن. (المر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد * الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض). ص _0 ص(1/31)
ذلك أن الباطل المستعلن بفجوره المستغرق فى غروره، لا يتخلى عن ضلاله القديم بسهولة، وربما تفانى فى التشبث بآثامه وأوزاره! ومن ثم فلن يستطيع تأديبه إلا رجال لهم جرأة فى الحق، تربو على جرأة عدوهم فى الباطل، ولديهم حرص التضحية فى سبيل الله أشد من حرص أعدائهم على المغامرة والسطو، والاحتفاظ بالمكاسب الحرام. ونحن إذا راقبنا سير الطغاة فى الأرض، وجدنا السيادة التى يظفرون بها أول أمرهم لا تعود إلى خصائص القوة فى أنفسهم قدر ما تعود إلى آثار الوهن فى صفوف غيرهم. حتى إذا رزقت المثل العليا بأتباع من أولى النجدة والفداء لم تلبث الحياة أن تعود إلى رشدها، ولم تلبث الأصنام المقدسة أن تستحيل إلى أنقاض مبعثرة فى الرغام!! وكيف تتم هذه الآيات الباهرة؟ تتم بالقوة وحدها حين تنجد الحق المهزوم والخير المكلوم. فلا عجب إذا أقسم القرآن بأدوات هذه القوة، ومجد طريقة عملها: (والعاديات ضبحا * فالموريات قدحا * فالمغيرات صبحا * فأثرن به نقعا * فوسطن به جمعا) إنه أقسم بصرامة الدواء على شدة الداء.. أجل، فربما كان استخدام القوة عملا ينطوى فى ظاهره على خشونة وقسوة، لكن هذه الخشونة وتلك القسوة تعتبران برا كريما وفضلا عظيما، وله تكونان علاجا للكنود والعدوان والتبجح. وكم ابتليت الحياة بمن ملأ فجاجها بهذه الخلال الخسيسة فحولها جحيما تشقى فيها الأفراد والجماعات. فكيف النجاة من هذه الكروب إلا بالقوة العادلة، القوة التى تجعل الشاعر يقول: إذا الملك الجبار صعر خده مشينا إليه بالسيوف نعاتبه! وعلاج الجبروت بالسيف عدالة تحمد لأصحابها فى الأرض والسماء. ص _035(1/32)
وقد أقسم الله بالعاديات وما وراءها على هذا المعنى إذ قال: (إن الإنسان لربه لكنود * وإنه على ذلك لشهيد * وإنه لحب الخير لشديد). جحود حق الله، والمعالنة بذلك، والاستئثار دون الناس بالخير.. هذه هى أسباب الفساد التى يجب أن تستأصل بالنصح والإرشاد إذا كانت رذائل فردية هينة، أما إذا قام لها ملك، وشرعت لتدعيمها رماح، فلا يفل الحديد إلا الحديد. وكان الإسلام يود لو أنصف الناس من أنفسهم بالعقل والحكمة، بدل أن يلتزموا الإنصاف بالقهر والعنف، غير أن غرائز السوء غلبت فلم يبق من قمعها بد. والأديان لا تحمل السلاح إلا مكرهة، وأنبياء الله كافة كانوا يتمنون لو استمسك الناس بفضائلهم، وتعرفوا إلى ربهم، وكرسوا حياتهم فى شكر أنعمه، وأحيوا ضمائرهم بمراقبته، وأحسنوا الاستعداد للقائه. فلا غرو إذا اختتمت هذه الصورة العسكرية بمناشدة الإنسان أن يلتزم هذه المعانى الطيبة النبيلة: (أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور* و حصل ما في الصدور* إن ربهم بهم يومئذ لخبير) والحق أنه إذا توافرت بين الناس الصدور السليمة، وتركزت فى قرارة أفئدتهم حدود الثواب والعقاب إنه لن يكون ثم مكان للحرب والضرب. أما مع طغيان الأثرة وانفلات الزمام، فسيبقى العالم محتاجا إلى القوة التى تقر العدالة، والنظام، مثل حاجته إلى الشراب والطعام!! وسنرى أنفسنا منساقين إلى تمجيد هذه القوة الكريمة. * * * ص _036(1/33)
التضحية بين الشباب والشيوخ..!! قالوا: إن فترة الشباب أخصب مراحل العمر، وأجدرها بحسن الإفادة وعظم الإجادة. فهى القوة الظاهرة بين ضعف الطفولة وضعف الشيخوخة. وقد قرر القرآن الكريم ذلك فى قوله تعالى: (الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة يخلق ما يشاء وهو العليم القدير) ومن ثم كان على المرء أن يقدم حسابا عاما عن حياته كلها، وحسابا خاصا عن طور الشباب وحده، فهو طور له خطره وأثره "لا تزول قدما عبد حتى يسأل: عن عمره فيم أفناه؟ وعن شبابه فيم أبلاه؟"!. والحق أن أمجاد المتفوقين، وأشواط الصاعدين إنما تستمد حركتها وبركتها من جهودهم أيام الشباب، واستغلالهم عرامة إقدامه فى السبق والانطلاق. على أن الشباب وإن اكتنفته من طرفيه المتباعدين الطفولة والشيخوخة إلا أنه يصعب وضع حدود زمنية لعهده السعيد!! فهناك رجال تظل وقدة الشباب حارة فى دمهم وإن أنافوا على الستين، لا تنطفئ لهم بشاشة ولا يكبو لهم أمل، ولا تفتر لهم همة. وهناك شباب يحبون حبوا على أوائل الطريق لا ترى فى عيونهم بريقا ولا فى خطاهم عزما، شاخت أفئدتهم فى مقتبل العمر، وعاشوا فى ربيع الحياة لا زهر ولا ثمر!. ومن الأخطاء تصور الشباب قدرة جسد وفناء غريزة إن الشباب توثب روح واستنارة فكر وطفرة أمل وصلابة عزيمة. ص _037(1/34)
فترة الشباب فى حياة الإنسان هى أحفل أطوار العمر بالمشاعر الحارة، والعواطف الفائرة، لكنها ليست عهد العافية المكتملة فى البدن الناضج فقط، بل إنها- كذلك- عهد النزعات النفسية الجياشة، يمدها الخيال الخصب، والرجاء البعيد. والأمم تستغل فى شبانها هذه القوى المذخورة، وتجندها فى ميادين الحرب والسلم، لتذلل بها الصعب، وتقرب البعيد. ونجاح النهضات الكبيرة يرجع إلى مقدار ما بذل فيها من جهود الشباب وهممهم، وإلى مقدار ما ارتبط بها من آمالهم وأعمالهم. وقد راقبنا الثورات التى اشتعلت فى أرجاء الشرق ضد الغزاة المغيرين على بلاد الإسلام، فوجدنا جماهير الشباب هم الذين صلوا حرها، وحملوا عبئها، واندفعوا بحماستهم الملتهبة وإقدامهم الرائع يخطون مصارع الأعداء، ويرسمون لأمتهم صور التضحية والفداء. ولا يزال الشباب من طلاب وعمال وقود الحركات الحرة، وطليعة الثائرين على الفساد والاستبداد وقبلة المربين والمرشدين، والزعماء الذين ينشدون مستقبلا أزكى لهذه الحياة. ونحن إذ نقرر هذه الحقائق ننوه بما تنطوى عليه من دلائل الإيثار والتفانى ونرجو أن يكون حظ أمتنا من هذه الثروة الحية كفاء ما رميت به من أحداث جسام، وما فقدت من أمجاد عظام. فلا ينتهى هذا العصر حتى نكون قد غسلنا بلادنا من أدران الاحتلال الأجنبي الذى أخزانا فى ديننا ودنيانا. بيد أن هناك رجالا تأخرت بهم السن، وذهبت عنهم صورة الشباب، وتكاثرت الصلات التى تربطهم بالدنيا، ومع ذلك فإن جذوة اليقين المتقد فى قلوبهم تمسك بالشباب عن جلودهم وعظامهم، وتبقيه، بل تضاعفه، فى قلوب تنبض بالحق وتدفعه فى العروق مع الدم، فإذا أنت ترى منها بأس الحديد وجرأة الأسود، وترى رجالا تستهويهم المغامرة، ويطيرون إلى التضحية فى سبيل الله أخف من الشباب الغض.. ص _038(1/35)
قد يقبل الشباب على المخاطرة وسبل البذل أمامه ميسرة، فهو إن سجن لم يجزع على أسرة يعولها، وإن قتل لم تبكه امرأة أيم؟ ولا ولد يتيم! وخفة حمله من هذه الناحية تجعله سريع الاستجابة لنداء الواجب، أو تزيح العوائق من أمامه إذا ثارت فى دمه نوازع النجدة. أما البطولة الفارعة فهى أن يكون المرء رب أسرة كبيرة يضرب فى مناكب الأرض لرعايتها، ويسير فى الحياة وهو موقر بأثقالها، غير أنه- وهو الزوج المحب والأب الرحيم، والراعى المسئول- مؤمن قبل ذلك كله بالله ورسوله، مخلص للدين الذى اعتنقه، مقدر للحقوق التى ارتبطت به. فإذا أحس للإسلام طلبا سارع إليه ولباه بروحه وماله ولم تشغله أعباء الحياة التى يكدح فيها عن مطالب المثل العالية التى آمن بها. والإنسان عندما يقرأ استشهاد "عبد الله بن حرام"، يرى فى قصته جلالا تنحنى له الحياة، إعزازا للأبوة الرقيقة التى جادت بنفسها، واستودعت الله أسرة من غلام واحد وست بنات! روى أبو داود والنسائي عن جابر بن عبد الله قال: خرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من المدينة إلى المشركين يقاتلهم، وقال لى أبى: يا جابر عليك أن تكون فى نظارى أهل المدينة حتى تعلم إلام يصير أمرنا؟ فإنى والله لولا أنى أترك بنات لى بعدى، لأحببت أن تقتل بين يدى. قال: فبينا أنا فى الناظرين! جاءت عمتى بأبي وخالى، عادلتهما على ناضح! فدخلت بهما المدينة لتدفنهما فى مقابرنا، إذ لحق رجل ينادى: ألا إن النبى- صلى الله عليه وسلم- يأمركم أن ترجعوا بالقتلى فتدفنوهم فى مصارعهم، فرجعنا بهما فدفناهما حيث قتلا. وروى البخارى عن جابر أيضا: لما حضر أحد- يعنى القتال عند الجبل وفوقه- دعانى أبي من الليل فقال لى: ما أرانى إلا مقتولا فى أول من يفتل من أصحاب النبى- صلى الله عليه وسلم- وإنى لا أترك بعدى أعز على منك غير نفس رسول الله، و إن على دينا، فاقضه واستوص بأخواتك خيرا، فأصبحنا.. وكان أول قتيل!. ص _039(1/36)
هذا الصاحب الجليل خرج مع رسول الله ليصد هجوم المشركين على المدينة تاركا وراءه هذه الأسرة الكبيرة، وقوامها كما رأيت بنات يحتجن إلى الكافل الحاني، ولم يكن أبوهن ذا بسطة فى المال ينفق منه عن سعة ويترك لعقبه من بعده ما يغنى ويصون، بل كان الرجل مهموما بشئون الرزق، ينصب فيه ويستدين. وغلام فرد إلى جوار ست بنات يكون غالبا قرة عين الوالد وموضع حبه العميق. لكن عبد الله يقسم أنه يود لو قدم ابنه ليستشهد فى سبيل الله، وأنه إنما يعجل بنفسه حتى يبقى الابن للبنات يخدمهن، فإن ابنه لو قتل قبله، فلن تطول بالأب حياة. إنه لابد مقتول فى أقرب معركة. إن أصحاب المبادئ سراع إلى تلبية مبادئهم عندما يقرع باب الكريم ينهض وهو يقول: فقمت ولم أجثم مكانى ولم تقم مع النفس علات البخيل الفواضح وعندما يطلب الشجاع إلى ساحة الوغى يذهل عن الحياة وأواصره بها، وينطلق وهو يقول: (وعجلت إليك رب لترضى) . وقد خرج أبو جابر إلى أحد ليلقى مصيره مع أبر شهداء الإسلام. وروى الشيخان عن جابر قال: أصيب أبى يوم أحد، فجعلت أكشف عن وجهه وأبكى! وجعلوا ينهوننى، والنبى- صلى الله عليه وسلم- لا ينهانى، وجعلت فاطمة بنت عمرو- رضي الله عنه- تبكيه فقال- صلى الله عليه وسلم-: "تبكينه أو لا تبكينه، مازالت الملائكة تظلله بأجنحتها حتى رفعتموه". وروى الترمذى عن جابر قال: لقينى رسول الله مرة وأنا مهتم، فقال: "ما لى ص _040(1/37)
أراك منكسرا؟" فقلت: استشهد أبى يوم أحد، وترك عيالا ودينا، فقال: "ألا أبشرك بما لقى الله به أباك؟!" قلت: بلى! قال: "ما كلم الله أحدا قط إلا من وراء حجاب، وأنه أحيا أباك فكلمه كفاحا فقال: يا عبدى، تمنَّّ على أعطِكَ! قال: يا رب تحيينى فأقتل ثانية، فقال سبحانه وتعالى: إنه قد سبق منى أنهم لا يرجعون.. فنزلت: (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا). والمرء يحار، أيعجب من كرامة الشهيد على الله؟ أم حلاوة الفناء فى الله التى ذاقها أولئك الشهداء؟ إن أبا جابر لم يستشعر وحشة لفراق أولاده، ولم تستشرف نفسه للاطمئنان على فلذات كبده، بل تطلع للعودة إلى الدنيا كيما يذهل مرة أخرى عن أحب شىء فيها، ويتمشى بخطى ثابتة إلى ساحة القتال. ولقد كفل الله أولاد الشهيد، وقضى عنه دينه، فى حديث يطول. ولندع حديث الصدر الأول، ونستأنف حديث الأشياخ المجاهدين فى عصرنا هذا. إننا واجدون رجالا من طراز رائع، صنعهم الإسلام القوى فأحكم صناعتهم وقذف بهم على جند الباطل فجددوا سير السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار. من أولئك النفر الغر: عمر المختار، البطل الذى بلغ التسعين من عمره وهو يجوب الصحراء مطاردا "الطليان" الذين أغاروا على طرابلس، وعملوا على تنصيرها بالحديد والنار، وفيه يقول شوقى: بطل البداوة لم يكن يغزو على "تنك" ولم يك يركب الأجواء لكن أخو خيل حمى صهواتها وأدار من أعراقها الهيجاء وقد وقع الشيخ المهيب فى أسر الأعداء، فألفوا محكمة قضت بقتله شنقا!! ص _041(1/38)
والطليان قوم لا ينتظر منهم شرف المعاملة لا مع صديق ولا مع خصم، وقد ندد شوقى بهذا الحكم الشائن فقال: خفيت على القاضى، وفات نصيبها من رفق جند قادة نبلاء تسعون لو ركبت مناكب شاهق لترجلت هضباته إعياء ويقول: شيخ تمالك سنه، لم ينفجر كالطفل من خوف العقاب بكاء؟ الأسد تزأر فى الحديد ولن ترى فى السجن ضرغاما بكى استخذاء ثم يخاطب الشعب طالبا منه تجنيد الشباب وإعفاء الشيوخ فيقول: فأرح شيوخك من تكاليف الوغى واحمل على شبانك الأعباء على أن منطق اليقين لا يكترث بفوارق السن، فإن العقيدة المتفجرة فى القلوب الكبيرة ترد الكهول الوانين فتيانا نشطين، أما إذا تخلخل الإيمان فإن الشاب الجلد يمسى حلس منفعة تافهة مهينة. والدعوات العظيمة لا تضار بشىء مثلما تضار بهذا الصنف من المتلونين المتطلعين، الصنف الذى يحاذر أن يمسه سوء، ويسارع إلى إحراز الغنائم، ويشارك بجسمه أصحاب الرسالات، أما قلبه فهو بعيد بعيد. الصنف الذى صور القرآن موقفه النابى المريب فى هذه الآيات: وإن منكم لمن ليبطئن فإن أصابتكم مصيبة قال قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدا * ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن كأن لم تكن بينكم وبينه مودة يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظي والمرء لا يصلح أن يكون رجل دعوة وصاحب رسالة إذا بنى حياته فى حساب الأرباح والخسائر على هذا النحو المنكر. ص _042(1/39)
ربما كان الرجل خالى البال لا يتبع أهلا ولا مالا، فهو يهز كتفيه لما تفد به الليالى من أحداث، أفإذا بلى بأثقال الفضائل، لقى بها فى عرض الطريق، وأضحى لا يهدأ أو لا يهيج إلا لمنافعه الخاصة؟ كذلك فعل المنافقون قديما! فعندما ندبوا للجهاد قعدوا واعتذروا: سيقول لك المخلفون من الأعراب شغلتنا أموالنا وأهلونا فاستغفر لنا يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم قل فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضرا أو أراد بكم نفعا كان الله بما تعملون خبيرا * بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا إنهم توهموا الخروج مغامرة مخوفة العاقبة، أو مقامرة بعيدة الربح، فنكصوا، وأفئدتهم صفر من معاني اليقين والتضحية التى تجعل الشهيد يقبل على الموت، ويود لو يرد إلى الحياة ليموت مرة أخرى. ولو كان الخروج لنفعٍ يسير لكان لهم مع القافلة سواد كثيف. (سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم يريدون أن يبدلوا كلام الله قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل). وقد حذر الله المؤمنين أن تسيطر على أفكارهم هذه المآرب، أو تتدخل فى نياتهم هذه المنافع. (يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون). فلتكن لنا من حياة المجاهدين عظة، ومن مماتهم عبرة، ومن مسلكهم مع أهليهم وأموالهم أسوة حسنة. ص _043(1/40)
العالم الإسلامى يجب أن يصحو.. وإلا فسيموت لا أدرى كيف نبتت فكرة نقل القوات الإنجليزية من القناة إلى غزة؟ لماذا لم يكن الأساس الذى تبدأ عليه المفاوضة رد هذه القوات إلى البلاد التى قذفت بها، أى إلى إنجلترا نفسها؟ إن فلسطين لو كانت تضم جيرانا غرباء لكان من قلة الذوق والأدب أن يهاجمك فى بيتك لص فتهب لمقاومته، ثم تغريه بالانصراف عنك ليوجه عدوانه إلى جارك الملاصق، موهما إياه أن الصيد هناك دسم، والغرض أقرب! إن الاستيلاء على غزة معناه الاستيلاء على طور سيناء، معناه إبقاء مصر فى مهب العواصف المجتاحة، معناه تمهيد العودة إليها من أيسر السبل. وتلك كلها فروض تذكر لو كانت فلسطين أرضا غريبة عنا، أو كان أهلوها جيرانا أباعد لا يربطنا بهم إلا قرب الدار فحسب. أما فلسطين من الوطن الإسلامى الكبير فجزء يعتبر من صميم كيانه، ومن دعائم عمرانه، أما والسيطرة على فلسطين تفتح الطريق إلى القاهرة ودمشق وبغداد بل إلى مكة والمدينة، فإن التفكير فى ترك شبر منها لإنجلترا أو لليهود لا نسميه إلا كفرا بالإسلام، وجهلا فاحشا بطبيعة الكفاح بيننا وبين الاستعمار الغربى. إن تشبث الإنجليز بالبقاء حول مدننا فى منطقة قناة السويس ليس زهادة منهم فى منطقة غزة أو شكا فى قيمتها العسكرية، فهم يعرفون خطورة هذا القطاع من فلسطين، ويوقنون بجدواه على جيوشهم. ولكنهم لا يجدون من أسباب الحرج ما يعكر عليهم صفوهم، ويثير الرعب فى ص _044(1/41)
قلوبهم، والخسائر التى تلحقهم من كتائب التحرير قد تخدش جلودهم، ولكنهم لن يفكروا فى الجلاء إلا إذا أصيبت مقاتلهم فاختاروا بين الموت أو النجاة!!. وهم على تفاهة ما يلقون يعرفون أن أحرار مصر إن اضطروهم إلى الخروج من مصر، فإن هؤلاء- الأحرار- يرتضون لهم البقاء فى فلسطين! فأى قلق يعترى الإنجليز من هذا الوضع الذى لا يزعج مستقبلهم فى شىء؟ إنهم فى القناة يهيمنون على غزة- لو طردوا من القناة- يهددون الشرق الأوسط كله.. العلاج الفذ أن يطارد أولئك اللصوص الحمر فى كل مكان، وأن تعلن عليهم حرب شعواء فى كل ميدان، وأن يضع المجاهدون سياسة ثابتة لحسم العرق الإنجليزى النجس من بلاد الإسلام كافة حتى تشفى الإنسانية من القروح التى خلفتها فى جسمها هذه الإمبراطورية الملعونة. ولو قرعت آذان الإنجليز هذه الصيحة من جنبات العالم الإسلامى الفسيح تعلن بداية الجهاد المقدس، الجهاد الذى يستنفد موارد لا تحصى من الرجال والأموال حتى يصل إلى غايته المقررة وهى تطهير الوطن الإسلامى الكبير من آخر جندى. لو أنصت الإنجليز إلى تنادى المجاهدين فى مصر وفلسطين والعراق وباكستان وليبيا والسودان بضرورة محو الاستعمار الإنجليزى ودك معالمه القائمة، لعلموا أن فلكهم قد أوشك على الانهيار، وأن ليلهم الطويل قد طلع عليه النهار. بيد أن الإنجليز لم يستمعوا لهذه الصيحات الصادقة المجدية فقرروا أن يجربوا مع مجاهدى مصر، ما جربوه قبلا مع مجاهدى فلسطين الجريح، فاستأنفوا أسلوب الفتك والهدم والإرهاب الذى أذلوا به القطر الشقيق. كان هؤلاء الأوغاد إذا أصيب لهم جندى بجوار قرية نسفوها دارا دارا بعد أن يفرضوا عليها غرامة تلتهم ثروات الرجال وحلى النساء، فكان أهل فلسطين المعذبون يفقدون فى جهادهم المضنى دورهم وأموالهم، والمسلمون يمدون أبصار المتفرج الأسيف فحسب!! واليوم تتكرر المأساة نفسها وتتكرر كذلك الغفلة السائدة فى ربوع العالم الإسلامى. فقد بدا للقائد(1/42)
الإنجليزى أن ينسف قرية كاملة لأنه تخيل أن المجاهدين قد ينسابون منها، أو يأوون إليها، وجرد لذلك حملة من عشرة آلاف جندى، وعدد ضخم من الدبابات والكاسحات، طوت بين عشية وضحاها بلدا عامرا، ومسجدا طالما انبعثت منه كلمات الأذان، وطالما تردد عليه الركع السجود. واحتبس الألم لهذا الرزء فى منطقة محدودة من العالم الإسلامى لأن أوصاله مقطعة فى عشرين دويلة. ص _045
ولو كان جسما واحدا يسرى فيه تيار الألم لما يصيب بعضه، لما ارتفعت العقائر بصراخ الألم فحسب، بل لتحركت الأيدى تثأر من أعناق الإنجليز فى كل بلد. وأنا- شخصيا- جازع للطريقة التى تمت بها مأساة "كفر عبده"، وليس جزعى من هدمها، فتكاليف الجهاد قد تتطلب دك العواصم الكبرى، لا القرى الصغيرة. وإنما كنت أود أن تستميت كتائب التحرير فى الدفاع عنها حتى يختلط دماؤهم جميعا بأنقاضها المهدومة وأثاثها المبعثر. وفى كل حرب تدور تعرف أن هناك فرقا قد تشتبك فى- قتال المؤخرة- أى أنه قد توضع خطة لسحب الجيش من ميدان إلى آخر، فيشغل العدو بنفر من الجنود ليس لهم إلا أن يستميتوا فى تعويقه ولو فقدوا حياتهم لإنقاذ كتلة الجيش الكبرى. ليس الأمر موقوفا على حساب الأرباح والخسائر فى معركة صغيرة بل الأمر يتعلق بأهدافنا العليا، والذين يوكل إليهم أمر الدفاع عن- كفر عبده- سيستشهدون جميعا، بيد أن تضحياتهم ستكون ضياء النصر لكل أمة صممت على الكفاح الطويل. على أن القتال بيننا وبين الإنجليز، لن ينتهى ما داموا فى بلد مسلم، وما فاتنا من ضروب البسالة الواجبة فى الماضى، فلن يفوتنا فى المستقبل إن شاء الله. * * * ونريد أن ننبه إلى أن الاستكانة وراء الحدود التى رسمها الاستعمار لتمزيق الإسلام، وأذكى من أجلها النزعات القومية الضيقة، هذه الاستكانة خطر بالغ على المسلمين كأمة كبرى، أو أمة ممزعة موزعة تحت ألوان شتى من الحكومات. وليس أسهل على أوروبا من افتراسنا قطرا قطرا، حتى إذا جاء دورنا(1/43)
وأعمل الوحش فينا أظفاره وأسنانه صحنا نادمين: ألا إنما أكلت يوم أكل الثور الأبيض! ولات ساعة مندم. على المسلمين من كل جنس، ومن كل لغة، أن يعلنوا على الاستعمار الحرب، وأن يناوشوا بكل ما يقع فى أيديهم من أسلحة. وليضعوا نصب أعينهم أنهم قاتلوا مرتين فى حربين عالميتين، إلى جانب حلفاء مخادعين من هؤلاء الإنجليز والفرنسيين، فلم يظفروا من قتالهم إلا بالغدر والخزى، وعادوا إلى أوطانهم المغلوبة صفر الأيدى من أى خير. على المسلمين أن يختاروا بين أمرين لا ثالث لهما: إما الصحو، وإما الموت.. ص _046
ميراث منهوب تقبل ذكرى الميلاد الكريم- ميلاد صاحب الرسالة العظمى- على البلاد التى تنتسب لدينه وتتلو كتابه وتتعلق بآثاره. تقبل وهى تتعثر بين الحزن والحياء من سوء ما ينتظرها فى بلاد الإسلام من أحداث وأوضاع. أما وادى النيل فالإنجليز يعتصرون عنقه ويغمزون مقاتله، وليس أمامهم إلا حفنة من الأحرار يستقبلون عدوان الإنجليز بسلاحهم القليل، ويتحسسون ظهورهم مخافة أن تنغرس فيها خناجر الغادرين من أعداء الشعوب وأعوان الاستعمار. فإذا أصاخوا بآذانهم يرتقبون النجدات المقبلة لشد أزرهم سمعوا الأغانى الطروب من بواكير الصباح إلى سهرات المساء، وسمعوا فى فرح أو فى ترح أن دخلها سيرصد لأولاد الشهداء، أى لأولادهم يوم يفنون فى هذا الصراع. وأما العرب فجامعتهم تعرض محاولة الشيوعية، ولكنها تساوم على الثمن، لأنها لا تحارب الشيوعية خدمة للإسلام، بل زلفى إلى الصهيونية الأمريكية، والصليبية الأوروبية. والإسلام نفسه- عدو أولئك جميعا- ليس له فى ذاكرة الجامعة الموفقة حساب. والأمم العربية ثملة تترنح من طول ما خدرتها عقاقير الجهالة والمذلة التى تصنعها الطبقات الحاكمة. وليست فى الدنيا الطويلة العريضة طبقات تجيد جعل الحكم قتلا للجماهير، ووأدا لحقوقها مثل الطبقات الحاكمة فى الشرق. قصم الله ظهرها.. وطمس وجوهها فردها على أدبارها. ص _047(1/44)
وسط هذه المآسى تقبل ذكرى الميلاد الكريم، ثم تسمع أن المسلمين سوف يحتفلون بها على العهد بهم كل عام، وسيتغنى المنشد فى سوامر العامة مناجيا الرسول: وأجمل منك لم تر قط عينى وأحسن منك لم تلد النساء! وسيخطب الزعماء ويتبارى الشعراء، وتسمع عظماءهم ومهازيلهم يناشدون الرسول أن يدعو الله لهم، وأن يطلب- بمنزلته من ربه- أن يبدل فقرهم غنى، وهزيمتهم نصرا! وستمتلئ المتاجر بعرائس الحلوى، وربما حشدت مشيخة الطرق الصوفية فُلولا من رجالها يتراقصون ويتواثبون وينشرون ألوانا من طقوس الذكر الشرقى الجديد ويسيرون تحت أعلام لم ترفع يوما فى ميدان جِد. ولنذكر أن الحانات ستغلق فى يوم الذكرى وتحرم الخمر على السكارى أربعا وعشرين ساعة، ثم تعود ميسرة من جديد، ولمن فاته الانتشاء فى اليوم السابق أن يطلب المزيد. إن المسلمين حكومة وشعبا فى مصرنا العزيزة سوف يحتفلون بذكرى الميلاد المبارك، على العهد بهم فى كل عام. عجبا لا ينتهى هن عجب وفتونا ليس يبلى من فتون ما تبغى أمتنا عفا الله عنها؟ إنها إن حوكمت إلى نواميس الدنيا دانتها، وإن حوكمت إلى نواميس الدين أخزتها، ومع ذلك ترقب من الظلمات التى تخبط فيها تباشير النصر القريب. إن احتفال أمتنا بذكريات الرسول على هذا النحو الطائش لا ضرورة لها، وخير منها أن نتبع هذا الرسول إن كنا حقا نحبه. منذ أربعة عشر قرنا حكوا، أن أبا هريرة نادى الناس فى السوق: "أنتم هنا وميراث محمد يقسم فى المسجد"!. ص _048(1/45)
فذهب الناس إلى المسجد، ثم عادوا يقولون: "ما رأينا إلا أناسا يقرءون القرآن". قال: "ويحكم! وهل ترك محمد ميراثا إلا هذا.."؟! إذا كان القراء قديما يتقاسمون تراث محمد فى المسجد، ففى هذا العصر نجد تراث محمد من هداية وملك تتقاسمه قوى الشر، وترصد جهدها كله لهدمه وامتهانه. ليست دلالة الحب لرسول الله أن يصيح رجل من فوق مئذنة: يا مليح الوجه! فإذا جاءت ذكرى مولده جاء المسلمون به ليتلو القصة الشريفة فى ليلة مائجة. يا غوثاه! أصار محمد قصة تسرد فصولها فى جزء من الليل. وصارت سمة التقدير له أنه مليح الوجه، ثم يقال: إن المسلمين يحتفلون بنبيهم؟ إنهم لا يعرفونه، ولا يتبعونه، وفى خلال الحفلات التى تقام اليوم لمولده يخلى الطريق فى بلاد محمد لأعداء الله وخصوم الإسلام. * * * ص _049(1/46)
الوطنية الضيقة والوطنية الواسعة المسلم عبد للإله الواحد، الذى خلقه ورزقه، وجعل له الأرض فراشا والسماء بناء، ورسم له غايته من محياه، وعقباه بعد مماته، ثم قال له ولإخوانه المؤمنين: (يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ). وليست بقعة الأرض أحق من أخرى برسالة المسلم؟ ولن يكون المسلم عبدا لمكان ما فى هذه الدنيا يعلق بترابه ويرتبط بأسبابه!! إنما هو ابن رسالته الكبرى، وهذه الرسالة الكبرى تربط فؤاده بالناس ورب الناس، وتوسع أفقه حتى يتسع للعالمين ورب العالمين. إنه يحب وطنه الذى ولد فيه، واستمتع بخيره وعاش قطعة من تاريخه، وهو يؤدى حقوق هذا الوطن ويستشعرها أكثر مما يستشعرها غلاة المتعصبين للنزعات القومية المحدودة. لكنه- مع ذلك- يخدم حقيقة أكبر من أقطار الأرض وآفاق السماء، لأنه يصل قلبه ولبه برب الأرض والسماء، ومن ثم انداحت الدائرة التى يعمل فيها، وذابت الحدود التى تحصرها. وقد عرف سلفنا الأولون هذه الحقيقة وبنوا عليها سلوكهم الاجتماعى والسياسى، فكان علم "الجغرافيا" يسمى فى مصطلحهم "علم تقويم البلدان" كأن الغاية من دراسته هى الغاية التى تقصدها من مطالعة "دليل" تشتريه من محطة السكة الحديد لمعرفة المحطات المختلفة، ومواعيد وقوف القطار بها، وكان المسافر ينزح من المغرب ليصل إلى الصين فلا يحمل معه لا "جواز سفر" ولا يلقى أمامه "حرس حدود"، وكان نصف الدنيا مفتوحا له ينتقل فى مشارقه ومغاربه كيف شاء، ص _050(1/47)
وكانت نظرته للعالم تجرئه على التسرب فى مجاهيله والتغلل فى أعماقه، فإذا اطمأن به المقام فى ناحية حط بها رحاله وفى نفسه قول الشاعر: وكل امرئ يولى الجميل محبب وكل مكان ينبت العز طيب ولاشك أن هذه الحياة المتحركة كانت استجابة لتعاليم الإسلام وفهما لسنة رسوله الكريم. روى عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال: مات رجل بالمدينة- من ولد بها- فصلى عليه رسول الله، ثم قال: "يا ليته مات بغير مولده!!" قالوا: ولمَ ذاك يا رسول الله؟ قال: "إن الرجل إذا مات بغير مولده قيس بين مولده إلى منقطع أثره فى الجنة". فانظر إلى هذا التحريض على الهجرة والضرب فى الأرض، من الذى استجاب له واستمسك به؟ أنحن الذين صنعنا ذلك؟ كلا! إن المقامرين من طلاب الحياة وصناع المجد، هم الذين طوفوا فى البلاد، وتركوا طابعهم عليها. أما القاعدون خلف أسوار بلادهم، فقد استكانوا للدعة والخمول، ومرت عليهم القرون متهالكة مريضة.. ثم استيقظوا فجأة فإذا هم أسارى فى أيدى الأقوياء، الأقوياء الذين تركوا بلادهم إلى بلادنا مستعمرين ينشدون الثروة والجاه. نظرت لبنى وطنى فى هذه الأيام، فهززت رأسى أسفا! ما دهاهم حتى قبعوا فى أماكنهم لا يفكرون فى هجرة ولا رحلة؟ بل يحسبون الانتقال من بلد إلى بلد غربة يستحب البكاء معها!! وتجاوز الأمر إلى أن المواطن أصبح يحب أن يبقى مواطنه إلى جواره حيا، فإذا مات أحب أن ينقل رفاته إلى جانبه!! لأنه يعز بعاده و لو صار من الهالكين..! أسمعت إلى بكاء الأهلين على شهدائهم فى فلسطين! أسمعت إلى جؤارهم بالشكوى وهم يصيحون لكى تنقل جثث أحبائهم إليهم، من غزة إلى مصر؟ ما هذا يا قوم؟ ص _051(1/48)
إن وحشتكم لرحيل المجاهدين، وحسرتكم لوفاتهم وتلهفكم على استرجاع ما بقى من عظامهم، إن دل على شىء فعلى قصور الهمة وهوان التفكير، وإن إبداء هذه المشاعر الضعيفة عمل شنيع يكشف عن قلوب هواء، وإيمان هباء. وإنه لمن الموجع أن أقول: إن هذا الجزع لم تنفعل به قلوب الكافرين وإن هذا الطلب لم يجر له على ألسنتهم ذكر قط! فى الطريق إلى مشارف غزة مقبرة تضم جثث الجنود الإنجليز الذين قتلوا فى الحرب العالمية الأولى، عندما اشتبك الغزاة الصليبيون بالجيش التركى المدافع عن مواقعه فى فلسطين. رأيت المقبرة تحتل مساحة فسيحة من الأرض، وترتفع فوقها الصلبان، ويلفها سوار من الأشجار النامية، ويتعهدها حارس وظفته الحكومة الإنجليزية للعناية بأبنائها، الذين ذهبوا فداء الإمبراطورية الضخمة. وما لنا نذهب إلى غزة؟ إن مقابر الجنود الإنجليز بشواهدها ودلائلها، لا تزال فى أماكنها العتيدة من أرضنا، فى التل الكبير، وفى القاهرة، وفى الخرطوم، ما فكرت أم ولا طالب أب بمفاتحة الحكومة الإنجليزية فى لندن أن تجمع عظام الغرباء المبعثرة فى شتى البلاد لكى يحج إلى مزارها القريب أب محزون أو أم ثكلى!! أما نحن المسلمون فلا نستحى من المطالبة برد قتلانا فى الأرض المقدسة ليدفنوا فى مقابر أسرهم بقرى مصر أو مدنها!! ولا تستحى بعض الصحف من ترديد التأوهات الباكية للنسوة الضعيفات الساعيات وراء هذه الغاية. يجب أن تبقى قبور الشهداء حيث حفرت، وأن تظل أجسادهم الكريمة حيث استقرت. إن صلاتنا لم تنقطع، ولن تنقطع أبدا بالأرض التى قاتلوا فوق ثراها، والمبادئ التى استشهدوا لإعلائها. ص _052(1/49)
يا أصحاب الهمم الساقطة، ابكوا وحدكم فلن نرثى لحالكم. والله.. ما ترقى بكم بلد، ولا يثبت حق، ولا يرحم ضعيف، ولا ينصر مظلوم. ابكوا وحدكم.. أو موتوا بحزنكم، فلن تبكى الدنيا عليكم، ولن يأسف الدين لفقدكم. إن مقابر الإنجليز الموزعة على أرجاء ملكهم العريض لا يزال ينبعث منها صدى يصيح بسكان الجزر المختفية فى شمال العالم: أن ابحثوا عن مجدكم وراء البحار! واحكموا بسفنكم الأمواج! وسيستمع الإنجليز فى جزائرهم بأقصى الشمال إلى هذا الصوت فيواصلون توغلهم فى بلادنا المهيضة، المهيضة بأقوام لا يحبون أن يفارقهم أحباؤهم- وهم أحياء- فإذا حدث أن ارتحلوا، فماتوا سعوا حثيثا ليقربوا مقابرهم منهم حتى يطيب إلى جوارها العويل! يا قوم: دعوا الشهداء مستقرين حيث سقطوا فى ساحة الوغى. وتعلموا منطق الإيمان فى مجابهة الشدائد، وأعدوا أنفسكم لدنيا لا تهدأ ميادينها، ولا تنقطع مغارمها، وربوا الأجيال الجديدة على روعة الفداء. حتى إذا شب طفل فسأل: أين أبى؟ فقيل له: إن قبره فى فلسطين! شب وبينه وبين المثل العليا نسب وثقته الدماء المبذولة والتضحيات الجسام. *** ص _053(1/50)
التل الكبير أمس واليوم كنت عندما أمر على الصفحات المنطفئة التى تروى قصة دخول الإنجليز مصر، وعندما أغمض العين على القذى وهى تدور بين صور متلاحقة من مشاهد الهزيمة الرخيصة، والخيانة الداعرة، وعندما أطوى الجوانح على حسرات مكظومة للبطولة المضرجة بالدم، والمروءة الممرغة فى التراب، ثم أطويها مرة أخرى على سخائم سود للأنذال الذين ضحكوا فى مأتم البلاد وبنوا مجدهم الدنس على أنقاضها. وكنت عندما تغمرنى الذكريات الكئيبة، وتبسط أمامى رقعة الصحراء، وخيام الجيوش، وهمس المتأمرين، وذهب الإنجليز، ومطامع الوثنيات السياسية وآمال الطليعة الحرة، وعندما تجيش بالنفس مشاعر الثبات والوفاء، فتبقى- مع الخيالى- لتبيد مع الفرقة التى فنيت عن آخرها وهى ترد العدوان، وعندما أصحو على الواقع الخزى فألمح اللصوص الحمر يتواكبون سراغا إلى القاهرة المقهورة، بعدما ذبح جيشها وسقط علمها. كنت عندما أستعرض تاريخنا فى هذه المعركة وما أدى إليها، وما تمخض عنها، أنفض يدى منه وأشيح بوجهى عنه، لا لشىء، إلا لأنى أنوء برؤية الرجولة تصرع، ثم تلطخ ملامحها النبيلة بالأوحال، كما أنوء برؤية الخيانة تسمو، ويتوج رأسها بالأ كاليل والأزهار. ألا لعنة الله على هؤلاء الإنجليز، ومن أتى بهم إلينا، ومن مكن لهم بين ظهرا نينا. لو كانت الجبهة المصرية وراء الجيش المصرى بالتل الكبير متماسكة لاتنقضها فرقة، نظيفة لا تلوثها خيانة، لاندحر الإنجليز وردمت قناة السويس بجثثهم، وخرج جيشنا من هذه المعركة رافع الرأس منير الجبين. ص _054(1/51)
ولكن الإنجليز مهدوا لاحتلال الوادى بما يجعل الغنم كله لهم، والغرم كله على أهله فحسب، وأعانهم الحكام المنافقون على إحكام خطتهم، فظفروا بمصر من غير أن يضحوا فى الاستيلاء عليها تضحية تذكر، ووقع مفتاح العالم الإسلامى غنيمة باردة فى أيدى الصليبيين الجدد بعد ما أعيى أسلافهم مناله، وبعد ما انهزم ملكهم "ريتشارد" هزيمة نكراء وهو يحبو على يديه وقدميه يبغى الوصول إليه. لم يخسروا من جنودهم أحدا، وهم أمام جيش هزمهم قبلا فى كفر الدوار ورشيد، وردهم على أعقابهم خاسئين. أما اليوم وبعد سبعين عاما من المعركة الأولى فإن الإنجليز العتاة يختبئون فى أبراج الدبابات، وينقضون بالطائرات النفاثة، ويطلقون مدافع الميدان الضخمة على من؟! على بضع مئات من أولى الفداء والنجدة، هبوا يقاتلون الألوف المسلحة بأحدث ما أنتج العلم، ويبثون فى صفوفهم الرعب والفزع. وتأتي الأنباء تترى، فإذا خسائر الإنجليز اليوم أضعاف خسائرهم فى موقعة التل الكبير التى جرت قبل سبعين سنة!! بين جيش وجيش. إن السلاح الفذ الذى أظفرهم علينا، بل الذى أظفرهم فى حروبهم كلها هو الخيانة والدسيسة والمكر السيئ. فلما فقدوا هذا السلاح فى المراحل الأولى للمعركة الحالية، ظهروا على طبيعتهم العارية جبناء كأخس ما يكون الجندى الجزوع الهلوع، واستبان للناس أن الإنجليزى لا يواجه المصرى فى ميدان مكشوف إلا إذا كانت من فوقه طائرة تحرسه، ومن أمامه دبابة تحميه، وإلا إذا كان مجهزا بأثقال من الذخائر، وكان خصمه مع هذا كله أعزل إلا من خنجر، أو بندقية قليلة الطلقات!! وضربة الجبان شديدة، لأن فرقه على حياته يركز قوته فيها، ولأنه لا يطمع أن يضرب غيرها! وقد كانت ضربات الإنجليز فى منطقة القناة من هذا النوع. ص _055(1/52)
تنطلق جيوش كثيفة العدد، كاملة العدة لهدم أحياء معزولة، أو مهاجمة قوم عزل. ومع هذا التفاوت بين قوى اللصوص الحمر، وبين قوى الكتائب المنتصبة لكفاحهم، فإن ضحايا الإنجليز أربت مائة مرة على خسائرهم فى معركة التل الكبير قبل سبعين سنة. وعاد الإنجليز إلى طبيعتهم الملتوية ليقابلوا المجاهدين بالسلاح السرى الوحيد الذى ينتصرون به. لقد ضاقوا بقتال الأبطال وجها لوجه، فليبحثوا عمن يطعن المجاهدين فى ظهورهم، وليجربوا خطتهم التى أكسبتهم معركة التل الكبير قديما. والخيانة فى ميدان الكفاح كالزنا فى ميدان الفحش، تحتاج إلى أطراف آثمة لتتم كما يحتاج الوقاع الحيوانى إلى فاعل ومفعول. والوقيعة السياسية التى تستهدف قتل أمة تتطلب الأمرين كذلك، وقد مد الإنجليز حبائلهم وبدءوا دسائسهم، هم الآن ينتظرون، ونحن أيضا ننتظر. وهم ينتظرون من يبيع الوطن ليلتقى بهم على جثث الشهداء، ونحن ننتظره لنسم وجهه بالعار! ونسلمه إلى زبانية النار وبئس القرار. (قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم). ونحن ننذر "الباشوات" الحاكمين والمرشحين للحكم، وأن أدنى تعاون مع هؤلاء الإنجليز المعتدين، سيكون وخيم العاقبة عليهم وعلى ذراريهم إلى يوم الدين. إن أمتنا صبت اللعنة على المعاهدة التى تبرر بوجه ما بقاء الإنجليز فى بلادنا، وأعلنت أنها لن ترضى بغير الجلاء الناجز بديلا، وكان على الحكومة أن تتحول إلى منظم فعال للثورة المصلحة ضد المجرمين الغاصبين، وأن تعبئ ما تملك من مال وقوة للوصول بالشعب المكافح إلى غايته الواضحة. ص _056(1/53)
غير أن الحكومات سارت على مبدأ "أبغض بغيضك هونا مَّا عسى أن يكون حبيبك يوما مَّا". ومن ثمّ فهى تخاصم الإنجليز خصام من يبقى للصلح موضعا، واكتفت من فروض الكفاح الواجب عليها، بأن غضت الطرف عن المجاهدين وهم يخرجون إلى ضفاف القناة، ليدفعوا هنالك ضريبة الدم. والغريب أننا لما نقمنا على الحكومة هذا الموقف، وجدنا فجأة أن هناك من يحقد على الحكومة لا سكوتها على إمداد المجاهدين، بل سكوتها على إرسال المجاهدين. كأن الأنذال كانوا يتوقعون أن توضع القيود فى أيدى الأبطال المناضلين ثم يزج بهم فى أعماق السجون. إننا إن نقدنا الحكومة على تراخيها، فلن نترك دعاة الهزيمة من غير أن نكشف سوءتهم، ونفضح عورتهم. ونحن نعلم أن الإنجليز يمدون شباكهم فى هذا الجو طامعين أن يعودوا بصيد ملىء، فإذا أحرزوا ما أملوا، فسيديرون المعركة الجديدة، كما أداروا معركة التل الكبير من سبعين سنة، ويومئذ يقع على رءوسنا الغرم كله، ويستريح الإنجليز من تبعات القتال الذى يذوقون ويلاته من شهور. إن الحديث الدائر على أفواه الناس اليوم هو وجوب تأمين ظهور المناضلين وتوسيع الدائرة التى يعملون فيها حتى تشمل الوادى كله. ونحن إن كنا نهدد الخونة بقطع أعناقهم إذا خانوا البلاد التى يحيون فيها آمنين، فإننا نطالب الحكومة أن تقوم بواجبها كاملا فى هذه المعركة الخطيرة: ا- فتغلق أندية اللهو، وتدع ظاهر الإثم وباطنه، وتضرب بقسوة على أسباب الفتنة والخلاعة والميوعة. وتسوق الجمهور إلى المعسكرات ليتدرب، ويستعد، وتصبغ الحياة العامة بصبغة جديدة من الجد والمرارة والمصابرة والرباط. ص _057(1/54)
2- تلغى حالا قوانين حمل السلاح التى وضعها العهد البائد ويترك تدريبه حرا فى أنحاء البلاد، وتستورد الحكومة المزيد منه لمواجهة المستقبل المبهم. 3- تقطع العلاقات السياسية فورا بإنجلترا وتوقف مع أمريكا، ويصارح مندوبنا فى هيئة الأمم العالم كله بأننا سئمنا أساليب اللصوصية الغربية، وأننا قررنا أن نعيش أحرارا، وليكن ما يكون. 4- يصدر فورا قانون بإعدام كل متعاون مع الإنجليز، متآمر على مصير البلاد مهما كان شأنه. 5- تشترك الحكومة فى تقوية الكتائب، وتدعيم صفوفها، و إمدادها بالمؤن والذخائر. 6- يجب تأمين الكفاح الشعبى، وصرف أعطيات سخية لأسر الجرحى والشهداء، وتأبيد هذه الأعطيات حتى لا يهون بيت من بيوت الأبطال. هذه مطالب نلح على الحكومة أن تنفذها، ونلومها أشد اللوم على تباطُئِها فى إقرارها. وفى الوقت نفسه، نرمق فى حذر أصابع الإنجليز وهى تغمز الخونة أن يثبطوا الهمم، ويطفئوا حماسة الثائرين.. *** ص _058(1/55)
حول فلسطين والمشوهين فى هذا الأسبوع تجمع الصدقات لمشوهي فلسطين- كما يسمونهم- فتمتد الأكف لما تجود به الأنفس، ثم ترصد هذه التبرعات للإنفاق على أولاد الشهداء، وعلى الأبطال الذين فقدوا أعضاءهم أو حواسهم فى حرب فلسطين، فأصبحوا عاجزين عن العمل! قد يكون أكل الصدقات المبذولة أفضل من الجوع، وقبول المعاونات الطارئة أفضل من الانقطاع فى مجتمع ممزق الأوصال، ومع ذلك فإنى أحس غضاضة شديدة من هذه الحال، وأرى حق الشهداء والمنكوبين على أمتهم أكبر من أن يؤدى على هذا النحو. إنني أسأل الله شرف الموت فى سبيله، وودت لو كنت لذلك أهلا غير أنى أتالم فى حياتى الآخرة، إذا رأيت أمتى تتنكر لأسرتى، وتعولها من استجداء المحسنين! فكيف إذا كان قسط كبير من المال المجموع للضحايا والمشوهين سيأتى من رواد اللهو- الحلال أو الحرام- ثمن ساعات يقضونها فى السرور واللذة. وسيتنازل بائعو المتع عن حقهم فى الثمن الكبير(!) إلى أولاد الشهداء، وإلى الرجال الذين عادوا من الحرب تاركين أجزاء من أبدانهم فى ساحتها. ستغنى الآنسة "أم كلثوم" بصوتها الساحر، وستصحبها موسيقاها العذبة! وستبح الحناجر من الهتاف لها، وتتعب الأيدى من قوة التصفيق!.. ثم تنقضى الليلة الساهرة، ويؤخذ الثمن المعلوم، ويتقدم به الرجال الطيبون إلى الأرامل اليتامى والمصابين فى حرب فلسطين، وستمثل كذلك "دور السينما" عدة روايات للغرض نفسه، وتمنح أجورها للضحايا وأبناء الضحايا وبناتهم. ص _059(1/56)
هذا لاشك خير من الفاقة والضياع، خير من الإهمال القاتل الذى تعرض له القتلى والجرحى فى محنة فلسطين، إنني- كغيرى- أعرف الحقيقة المرة. أعرف أن فاروقا وثلة من رجاله استغلوا هذه الحرب أسوأ استغلال، وأنهم جمعوا من ورائها القناطير المقنطرة من الذهب والفضة، وأنهم هزئوا بفضائل الأمة ووجودها، وتضحيات الشباب وتفانيهم! وفى غمرة العاطفة الفائرة لنصرة الحق وإغاثة المظلوم، راحت هذه الخنازير القذرة تتاجر بالأشلاء والدماء، وتسرق المال بألف أسلوب، تنفقه على القمار والنساء، أو لتدخره دعامة لطغيانها، وجبروتها فى أنحاء البلاد. فلما عاد الجيش كسير القلب والجناح، وجد الملك المجرم يلف نفسه بالخونة والسرقة، ويتجهم للأشراف والأبطال، ويذهل عن الشهداء والمنكوبين. فطوى الجيش- على غل- أحزانه، وتذكر بحسرة مضاعفة خسائره فى الرجال والأموال، حتى واتته فرصة الانتقام آخر الأمر، فركل الملك الخليع، وأرهن السجون أعوانه الخونة ثم بدأ- فى سورة الغضب على ما كان- يستعرض أحداث فلسطين ويداوى ما عراه من جراحاتها، وهو معذور إذا ذهب به الغضب كل مذهب. لكننا نرفض أن ينتهز بعض الناس هذه الغضبة ليصوروا مأساة فلسطين تصويرا خاطئا، وليلقوا فى الأوهام أننا دخلنا فى حرب لا ناقة لنا فيها ولا جمل، لم نستفد منها إلا الخيانات والمتاعب، ثم يخلط هؤلاء المبطلون كلامهم الزور بدموع يذرفونها على الشهداء، وأحزان يظهرونها على المنكوبين. وبهذه السياسة الملتوية، والمشاعر المفتعلة يكلف المسلمون فى مصر أن ينسوا إخوانهم فى فلسطين، وأن يتركوا الأرض المقدسة لليهود، وحسب الشهداء والجرحى والمشوهين أن تجمع لهم دريهمات يطعمون منها. وأخف ما نشر فى هذا ما كتبته جريدة المصرى لمناسبة أسبوع المشوهين: وأدرك المشوهون أنهم لم يدفعوا أشلاءهم ثمنا لمصر، و إلا لكرمتهم مصر، أدركوا أنهم ص _060(1/57)
سيقوا إلى حرب فلسطين، لأن دولة الفساد شاءت أن تصنع من فلسطين ميدانا يستنزف الطاقة الثورية الهائلة التى توشك أن تنقض على أعداء الشعب. أدركوا أن الذى أعلن حرب فلسطين ليس هو شعب مصر، و إنما هو الملك الذى استنزف دم مصر... إن هذا أخف ما نشر فى تحويل التيار العاطفى الباقى نحو فلسطين وقضيتها، أما أشد ما سمعته فهو حوار من رواية أذاعتها محطة الإذاعة الرسمية فى 29/10/1950 لكاتب يدعى "الحبروك" جاء فيها على لسان البطل: "ماذا تعلمت من فلسطين؟ لقد تعلمت السطو على قوافل اليهود، فهاأنذا أطبق فى مصر ما تعلمته هناك!. هذا كلام يدل على خلل فى التفكير، ولن يطلب اليهود شرا منه لخدمة مأربهم. أيسمى الذهاب لرد عصابات اليهود عن اغتيال العرب، وغصب أرضهم ومالهم سطوا على قوافل اليهود؟ إن العداوة التى بيننا وبين اليهود لا يعود وزرها إلينا، إنها فرضت علينا فحملناها كرها، وماذا عسانا نصنع مع قوم أبوا إلا تدميرنا، وبناء ملكهم على ركام مهشوم من أنقاضنا وأشلائنا؟ إننا حاربناهم ولا تزال "حالة الحرب" قائمة بيننا وبينهم، ولئن ندمنا على شىء إنما نندم لأن قياد جنودنا، وخطط حربنا كانت بين الأيدى الملوثة والطباع الدنيئة! فقاتل المجاهدون فى جبهتين: اليهود أمام وجوههم، والحكومات المجرمة من وراء ظهورهم، فلا عجب إذا أحيط بهم وحاقت الرزايا بصفهم. وشريعة الله فى هذا أن المنافق الخائن أخو الكافر الجائر، كلاهما يجب أن يلقى أشد العقاب. ص _061(1/58)
وكان أولى بالمتألمين من حرب فلسطين أن يصبوا جام نقمتهم على الذين رسموا الخطط لإفناء العرب وتبديد قواهم هباء، وعلى الذين وضعوا الأسلحة فى أيدى المقاتلين الأبرياء، فنالت منهم قبل أن تنال من خصومهم. أما أن يتألموا من حرب فلسطين، لأن نجدة الحق تتطلب البذل والفداء فهذا والله هو المنكر!! أما أسر الشهداء، وضحايا الجهاد، فأنا محنق قبل غيرى لإهمالها، وإلجائها إلى انتظار الصدقات قفت أو كثرت. والواجب أن يبقى مرتب المجاهد الشهيد تحريه الدولة على أسرته لا تنقص منه ذرة، حتى يشب البنون ويستغنوا، وتكبر البنات ويتزوجن. إن الشهيد حي عند الله، فليبق فيما بيننا حيا، ولا يجوز أن تكون عقبى موته فى سبيل ربه أن ينقطع أول الشهر المرتب الذى كان يأخذه رب الأسرة لينفق منه على أهله. وكذلك ينبغى أن نعامل كل مصاب فى هذه الحروب النبيلة. فإن من النذالة أن يفقد الرجل ذراعه أو عينه فى الميدان، فيكون أول ما يتوقعه بعد العاهة التى آذته أن يفصل من العمل لعدم لياقته، ثم يشرع الرحماء فى تصيد الهبات له!! سأتبرع مع الألوف لمشوهى فلسطين، وسأظل ألح فى ضرورة إلحاق الشهداء بالوظائف التى ماتوا وهم يملئونها، على أن تصرف رواتبهم لأسرهم. وسألح كذلك فى إعادة الجرحى والمنكوبين إلى وظائفهم حتى يلقوا ربهم وهم فى أمة تقدر فضلهم، وتكرم شجاعتهم، وتربأ بهم عن أكل الصدقات!! ص _062(1/59)
للذكرى والعبرة شهداء الجامعة فى معركة التحرير عندما استطاع الملك السابق فاروق إطفاء معركة القناة، وأمكن رجال قصره إقصاء الشباب الذين بثوا الذعر فى معسكرات الإنجليز، تحدث الجبناء فيما بينهم حديثا له دلالته، قالوا- لا أغمض الله لهم جفنا-: كم نتنبأ بهذا المصير؟ ونحذر الفتيان الأغرار من خوض هذه المعارك؟ إن هذا بلد لا يخدم! ولا يستحق أن تراق من أجله قطرة دم. وأقبل الذين نكصوا عن الجهاد بالأمس يهنئ بعضهم بعضا بالراحة من أعبائه، أعبائه التى رفضوا حملها! ومشى فريق منهم إلى آباء الشهداء، يواسونهم بألفاظ يائسة، ألفاظ تخفى وراءها مقابح الكفران بكل شيء، فلو جلتها الصراحة المرة لكان عزاؤهم لأسر الشهداء أنكم أنتم الجانون على أنفسكم(!) غامر بنوكم بمستقبلهم، فضاعوا وضاع عليهم! وسيسحب عليهم النسيان ذيله الطويل، ثم ينتهى كل شىء. وكنت أجيل الطرف فى أعقاب المعركة التى أحبطها "فاروق" وحاشيته، وأشعر غصة مروعة وحزنا عظيما. وقفت بها أبكى وأشعر سخنة كما اعتاد محموما بخيبر صالبُ وقلت أجادل الجبناء: أما زعمكم بأن هذه الدماء ذهبت هدرا فى غمرة من الحماسة الطائشة فكذب ثم كذب. ص _063(1/60)
إن كل قطرة منها وقعت فى يد الله قبل أن يبلل بها الثرى، والذين انتدبوا لجهاد اللصوص الحمر كانوا يبصرون قصدهم، ويعرفون اليقين ماذا سيلقون من أعدائهم، ومدى ما يفيدون به دينهم وأمتهم. ذلك. والجهاد الذى فرضه الله لا يقوم المؤمن به لوطن يستحق أو لا يستحق إنه يقوم به لله، أداء للواجب وفراغا للذمة، وخروجا به من تبعه التخلف. فأما تقدير الناس لهذا الجهاد، أو استخفافهم به فأمر ليس له فى حساب المجاهدين وزن. إن المجاهد المخلص لم يخرج لترى مكانته، ولم يضح ليقبض من الناس أجره، ولم يتقدم ليقول الجبناء عنه: متهور!! أو ليقول الشجعان عنه: جرىء! كلا.. كلا.. ثم ما هذا المستقبل الذى يزعم السفهاء أنه ضاع على الطلاب المقتولين فى معركة الشرف! إن هؤلاء القتلى أحرزوا مستقبل الحياة كلها، أحرزوا الخلود أبد الآبدين فى جوار أكرم الأكرمين. لقد كسبوا كل شىء يحرص الراشدون على اكتسابه، فى حين ضاع على أغيارهم من القاعدين كل شىء، فهم فى ساحة الحياة الدنيا يتراكضون خلف سراب يعجز طالبه عن إدراكه، ولو أدركه ما امتلأت يداه منه إلا فقرا! هب الشهداء ظلوا أحياء فى معاهدهم، ونالوا الدرجات العلمية التى يصبون إليها، وتسلموا فى الدولة والمجتمع أعلى المناصب، ثم ماذا بعد؟ ماذا بعد طول المكث فى الأرض؟ وجمع الحطام من أسواقها الحاشدة.؟ ماذا إلا التأخر عن مواطن الكرامة التى تعجل للشهداء؟ والتعرض لمتاعب العيش التى تفرض على الأحياء. (ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون * ولئن متم أو قتلتم لإلى الله تحشرون). وَلَوَ انَّ الحياةَ تبقى لحىٍّ لعددنا أضلَّنا الشجعانَا؟ وإذا لم يكن من الموت بدٌّ فمن العجز أن تكون جبانَا ص _064(1/61)
لقد كنت جهير الصوت فى استنفار الشباب لملاقاة الإنجليز، وإشعارهم أن للإسلام رجالا يكرهون الدنية، ويؤثرون ما عند الله على الدنيا وما تضم. وقد أفلح هذا الشباب الحر فى أداء رسالته على نحو أثبت للعالمين أن الإسلام قادر فى كل عصر ومصر على خلق البطولات التى تتحدى الفيالق المدرعة وهى لا تحمل فى أكفها إلا السلاح. وقد انطفأت النار التى اشتعلت حينا على ضفاف القناة، وخاضها شباب الإخوان المسلمين ببسالة رائعة. أجل انطفأت ولم تنضج ثمارها، وقصة هذا الختام المؤسف مثل فريد لشذوذ الأوضاع فى بلادنا، ومثل فريد كذلك لأخذات القدر العادل حين يمهل المجرمين ثم يسوقهم إلى مصرعهم سوقا. كان الجندى البريطانى المغير على وادى النيل يقاتل الشباب المجاهد، وعدته فى قتاله من الوفرة والكثرة بحيث تجعله فى حرز حريز، ومن ورائه بعد ذلك الإمبراطورية كلها ملكا وحكومة وشعبا، إنهم جميعا يشدون أزره، ويحمون ظهره، ويبررون عذره. أما مجاهدونا فكنا نتسول الأسلحة لهم بشتى الحيل، ومع ذلك فقد كان وراءهم ملك يحمل رتبة قائد فى الجيش الإنجليزى، وكان- لعنة اللة عليه- يبيت ويصحو وهو مشغول بتدبير الكيد للمجاهدين الأبرار، وكان يرسل مندوبيه ليشهدوا جنازة ممثلة ميتة، ويأبى إرسال من يمثله فى جنائز الشهداء.!! هذا هو الملك الذى كان يحكم برغم الدساتير فى طول البلاد وعرضها، أما الحكومة فقد أعلنت سخطها على الإنجليز، ثم وجلت من عواقب هذه الخصومة، فوقفت تحصى على الإنجليز أعمالهم الهمجية، وسكتت كأنها ترقب صلحا يسوى الموقف كله، إنها أعلنت العداء ولم تقاتل، ولم تمد المقاتلين بسلاح! وأما الشعب فكان مسرحا لدسائس الملك الخائن، تنشرها له الصحف المأجورة ص _065(1/62)
ولدعايات الحكومة المترنحة تحت أعباء أعجزت همتها الضعيفة، وكان إلى جانب ذلك يستمع مشبوب الأمل إلى أبناء المجاهدين وهم ينسفون مستودعات الذخائر، ويرمون بجثث الإنجليز فى ترعة الإسماعيلية. لكن شتان بين جندى مسلح من ذؤابة رأسه إلى أخمص قدمه، تقويه حكومته وأمته وملكه، ومجاهد متوجس يحمل قطعة تافهة من السلاح، ويخشى أن تطبق عليه قوانين بلاده فيدخل بها السجن ويعتبر مجرما.!! ومع هذا البون الشاسع فإن الشباب المجاهد حافظ على شرف الإسلام وخرج من المعمعة بطلا كما دخلها بطلا، وقد خلف بين يديه طليعة من الشهداء، ليسبقوه إلى الفردوس الأعلى. لم يكن أغيظ لنفسى من نجاح "فاروق" وحاشيته فى، إحباط حركة القناة، ومن رجوع المجاهدين يتوارون تحت أستار الليل بعد ما انتصرت عليهم الدولة الاستعمارية العجوز بسلاحها الفذ، سلاح الحيلة والخبث! ووضح للأمة جمعاء أن ملكها هزأ بها، وأنه بين عشية وضحاها حبسها فى سجن الأحكام العرفية، فأمسى الرجل لا يملك حق الخروج من داره أعزل بعد أن كان يسير فى الطريق مسلحا، وأخذت محطة الإذاعة ترسل الأغانى الخنثة فحسب، وهى التى كانت منذ ساعات تنشر بالفخر أخبار الكفاح الدامى، وتقرع الآذان بطبول المعارك وهمهمة الكتائب فى جوف الليل! وأقفرت الصحف إلا من لغو القول، فقد صدر الأمر ألا تكتب آية من القرآن توصى بجهاد، وإذا عدا قلم "الرقيب" على آيات الله يمحوها، أفكانت تنبت فكرة مشرقة، أو عاطفة حارة؟ وتساءل الناس: أهذه نهاية الرواية الموجعة التى بدأها أصحاب اليقين والفداء ص _066(1/63)
وختمها أصحاب اللهو والأثرة؟ حتى أهل الإيمان الراسخ بدأ القلق يساور أفئدتهم؟ أتسفك أغلى الدماء، ويقتل أزكى الرجال، ليجيء ملك وغد آخر الأمر فيطمس بقدمه معالم الخير التى خطت، ومسارب النور التى شقت؟! وأطرقنا جميعا إلى الأرض، وبين الحين والحين نرسل البصر الضارع إلى السماء! وجاءت عدالة ربك، فطاح العرش المستكبر، وانزاح صاحبه المفتون.. (فصب عليهم ربك سوط عذاب * إن ربك لبالمرصاد). وتكلم بعض الناس أن الله ثأر للشهداء ممن استهان بدمائهم الغالية وهم واهمون. فإن الملك المخلوع، وما سطا عليه من مال وجاه لا يساوى شسع نعل شهيد، وليس للشهداء دية فى الإسلام ولا ثأر، إنهم حملة رسالة عاشوا وماتوا فيها. أما الذين كادوا لهم وتآمروا عليهم فقد حق فيهم قول الله عز وجل: (ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون * فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم وقومهم أجمعين * فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا إن في ذلك لآية لقوم يعلمون * وأنجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون).. ص _067(1/64)
النبى النور... عندما تتحول أقطار شتى من الأرض إلى سجون كبيرة ومحابس خانقة فإن حاجة الشعوب إلى استرداد حرياتها والتقاط أنفاسها لا تقدر. وعندما يتحول العالم إلى ليل ضرير طامس لا تلوح فيه نجمة هادية ولا تسمع فيه كلمة مؤنسة فإن حاجة الناس فيه إلى الدليل الخبير، والرائد البصير لا تقدر. وعندما تشيع الخرافات وتستقر الأوهام وتركض الجماهير إلى غير هدف، أو إلى هدف باطل فإن حاجتها إلى الغاية الصادقة والطريق المستقيم لا تقدر. وعندما يستحكم الهوى، وتكمن مآربه فى المسالك المعتادة، أو فى بعض صور العبادة، وتنفرد الشهوات المادية والنفسية بزمام البشر فإن الحاجة إلى القلب النقى، والباعث الشريف لا تقدر. قبل الشروق المحمدى كان كل شيء يرقب الرحمة المهداة والنعمة المسداة، وكانت المظالم والخرافات والأهواء قد أضنت الركب السائر، وجعلته يدور حول نفسه فى طريق مسدود، وبدأ الصباح الإسلامى مده العريض من فلك النبوة الخاتمة، وقيل فى الأرض والسماء نعم المجيء جاء. للجهل ظلام لا يمحقه إلا ضياء العلم، وللرذيلة سواد لا يمحوه إلا سناء الفضيلة، وللريبة ظلال لا تنسخها إلا أشعة الحقيقة، وللبغى غشاوة لا يحرقها إلا وهج العدل، ولنسيان الله ثم نسيان النفس ليل معتكر داكن طويل، لا يشقه إلا صبح الإيمان ولا يمزق حجبه إلا ضحاه الممتد العريض. وقد كان محمد نورا يتألق سراجه فى آفاق البشر مثلما تتألق الشمس فى كبد السماء، وكانت أقباس هذا النور تخامر الأفئدة، وتنساب إلى العقول، لتخلص المؤمنين من ظلمات الحيرة والطيش والتخبط. (الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات).. ص _068(1/65)
ومن ثم تميز المؤمنون الذين يتبعون محمدا بأنهم قوم مستنيرون! يعلمون حين يجهل غيرهم، ويكملون حين ينقص، ويطمئنون حين يرتاب، ويعدلون حين يظلم، ويحيون بحق الله وحق أنفسهم حين ينسى غيرهم ربه فينسيه نفسه. ذلك بأنهم خرجوا- من يوم أسلموا- من ظلمات الجهل والرذيلة والريبة والبغى والضلال، ومشوا فى أنوار الحياة الصحيحة. (أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها). إن الإسلام نور يستهدى به الأفراد والشعوب، واسمع إلى توكيد هذا المعنى فيما نسوقه إليك من آيات. (يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا). (قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين) (يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا * وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا).. (ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا).. (فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا). (قد أنزل الله إليكم ذكرا * رسولا يتلو عليكم آيات الله مبينات ليخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات). وبقدر ما يستبطن المؤمن فى نفسه من أضواء الحق وأنوار الخير، بقدر ما تسبح فيه مشاعره وأفكاره من وضوح وجلاء، وبقدر ما يسدد خطاه فى هذه الدنيا من بصر وضياء، بقدر ذلك يتلمس طريقه فى الدار الآخرة إلى مصيره الخالد. ص _069(1/66)
فالمشرقون الأخيار يسعون إلى غايتهم واثقين. (يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أما الخبثاء الأشرار الذين قضوا أعمارهم فى سجون قائمة من أهوائهم ودناياهم، فستهبط عليهم غيوم راعدة بالويل، وتنطبق عليهم جوانب ليل أى ليل، عندئذ يصرخون بالمؤمنين طالبين النجدة. (انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُم فَالْتَمِسُوا نُورًا) إن محمدا نبى النور، ولست أدرى كيف ينتسب إليه شخص مظلم أو أمة مظلمة؟ هناك عقول تأوي إليها الخرافة وتسكنها الأباطيل!! ما صلتها بالإسلام إذا كان كتاب محمد مبنيا على الحقائق، معنيا بها وحدها؟ (إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ). هناك نفوس لا ترى إلا مدى شهوتها، ولا تقف إلا عند حدود أثرتها. فإذا كان اتباع الهوى- كما أنبأنا الله- يفسد السماوات والأرض فكيف تفسد بالأهواء المطاعة شئون قبيل من الناس قلوا أو كثروا؟ إن الذين يفقدون أنوار العلم والفضيلة والحق والعدل والإيمان ليسوا من محمد فى قليل ولا كثير، ولا تغنى عنهم مزاعمهم فى هذا الصدد شيئا. سمعت أحد الناس يذكر ما روى عن الرسول الكريم: " تناكحوا تناسلوا تكثروا فإنى مباهٍ بكم الأمم يوم القيامة" فقلت: وددت والله لو كنا أهلا لهذه المباهاة! إن ظلمات الفوضى والمذلة والجهالة التى تلف جماهير المسلمين اليوم تجعل نبيهم ينظر إليهم فيأسى، أليس نبى النور؟ فما للنور، وأهل القبور؟ ص _070(1/67)
والله ما يبالى بكم محمد، وما يتوانى عن البراءة منكم، إلا تكونوا كما عنت الآية الكريمة: (أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها). فإذا عاد المسلمون إلى الحياة الصحيحة، وانطلقوا على الأرض تحف بهم أنوار الهدى والسداد، كانوا أهلا لأن تباهى بهم الأمم. إن محمدا- صلى الله عليه وسلم- يحب النور، ويسأل الله فى أحواله كلها مزيدا منه، وهو يكره الظلام وينأى بقلبه ولبه عنه، لا ظلام الليل ولكن ظلام الجاهلية، ظلام النفاق، ظلام الانقطاع عن الله، ظلام الرثوب مع الأثرة الجياشة الطافحة. وهو لذلك يدعو الله أن يغمره من جهاته جميعا بالنور، حتى لا تعمى عليه سبيل، وحتى لا يطمئن به نزوع، أو يلتوى به هدف، إنه يدعو الله أن يشع من حوله هالة لا تنطفئ أبدا، بل إنه يدعو أن يغلغل هذا النور كيانه حتى يمتزج بجلده وعصبه. عن ابن عباس أن النبى خرج إلى الصلاة وهو يقول: "اللهم اجعل فى قلبى نورا، وفى بصرى نورا، وفى سمعى نورا، وعن يمينى نورا، وخلفى نورا، وفى عصبى نورا، وفى دمى نورا، وفى شعرى نورا، وفى بشرى نورا". وفى رواية أخرى: "اللهم اجعل فى قلبى نورا، وفى لسانى نورا، واجعل فى سمعى نورا، وفى بصرى نورا، واجعل من خلفى نورا، ومن أمامى نورا، واجعل من فوقى نورا، ومن تحتى نورا، اللهم أعطنى نورا". * * * يا من يريد الإسلام لله رب العالمين، التمس شعاعا من المعرفة يضيء عقلك ص _071(1/68)
ويصلك بحقائق الكون، وشعاعا من الفضيلة ينير قلبك، ويصلك بما وراء الكون، فإذا فقدت هذا الشعاع الهادى، فازعم كل شىء إلا الإسلام. إن الحجب المركبة، والغشاوات المضاعفة، هى طبقات عازلة تمنع التيار من المرور، وإذا انقطع التيار واحتبست قواه المحركة والمبصرة فلن يكون، ثم إلا الظلام والموت، ولذلك وصف القرآن شئون الكافرين بقوله: (أو كظلمات في بحر لجى يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور). أيها المسلمون، أجلوا الظلام الذى حط بنفوسكم وبلادكم، تنشئوا صلة جديدة بنبى النور. * * * ص _072(1/69)
من أخلاق النبوة من الناس من يظهر على صفحة الحياة، ثم يختفى كالرغوة التى تصنعها الأمواج فى عراكها الدائم مع الرياح. ومنهم من يزود بقوى أكبر، ومواهب أبرز، فيمر بالدنيا ثم ينسلخ عنها وقد ترك آثارا تدل عليه وتحمل طابعه، تبقى بعده حينا، ثم تدركها طبيعة الفناء بعد أيام أو أعوام أو أجيال، فتتلاشى وتبيد!! تتخلف الآثار عن أصحابها حينا ويدركها الفناء فتتبعُ وهناك طائفة أخرى من الناس طرقت أبواب الوجود، وانسابت مع تيار الحياة المتجدد، ولاحقت موكب الزمن المنطلق فبقيت على حين فنى غيرها. ومازالت بعد قرون متطاولة على موتها المادى تعيش بيننا، توجه الأحياء إلى الخير، وترسم للحائرين المنهج، وكأن فكرها الثاقب، وقلبها الخافق، وصوتها الجهير، لم يعد عليه البلى، وتطوه جنادل القبور. أحق الناس بالذكر من هؤلاء رسل الله الذين يبلغون رسالات الله، ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله، وأحق أولئك جميعا بأن تدرس حياته وتترسم خطاه وتتعلم عنه وتتبع هداه، صاحب المجد وجماع عرا المجد محمد بن عبد الله! إن هذا الاسم الكريم "محمدا" لم يصبح علما على شخص ولد فى سنة معينة ودرج فى بلد معين، بل أصبح حقيقة من حقائق الخير السارية فى الأزمنة على تواليها، والأمكنة على تغايرها فما يختص به عصر دون عصر، وما تنفرد به عاصمة دون عاصمة. لقد أصبح عنوانا على المثل التى تصنعها الخيالات، ويستهدفها كل سائر إلى الكمال. ولئن كان علماء الأخلاق يرون "المثل الأعلى" الذى يجرى الإنسان نحوه وهو ص _073(1/70)
يبتغى العلو... وهما، نحن ندعو صانعي الأوهام لأنفسهم أن يرمقوا سيرة هذا الإنسان الجليل "محمد بن عبد الله" ليروا كيف تجمعت المثل العليا للشجاعة، والكرم، والبر، والإخلاص، والصبر، والكفاح... كيف تجمعت هذه المثل فى مثال واحد، نفخ الله فيه من روحه، فجعله بشرا سويا، ورسولا نبيا. ويوم تتعلق العيون بهذا المثل، وتحاول التأسى به، والنسج على منواله فإنا موقنون بأن العالم يكون قد اكتشف فى عالم الأخلاق قوة أفعل وأزكى أثرا من قوة الكهرباء فى عالم الطبيعة. وعندى أن العنصر الأصيل فى عظمة "محمد" هو الرحمة، الرحمة التى تجعل الإنسان يرق للناس أجمعين، بل يرق لكل ذى كبد رطبة، والتى تجعله يتصل بالحياة وفى نفسه عواطف غامرة من الشوق والرغبة والسلام. فهو لين الجانب لمن حوله، سليم الصدر لمن خاصمه، يتمنى عودته وأوبته أكثر مما يرجو تأنيبه وعقوبته، وقد مضت سنة العظمة خلال الكرام على هذا النسق السمح وقديما قال عنترة: لا يحمل الحق من تعلو به الرتبُ ولا ينال العلا من طبعُه الغضبُ وقد كان محمد رسول الله جياش الفؤاد بهذه الرحمة السامية النبيلة، فكان إذا عرض الهداية على رجل فرفضها، ثم تجهم لصاحبها وأدبر معرضا عنها، كان النبى الكريم ينظر إلى هذا الشقى الفار عن الخير، نظرة الوالد الرقيق إلى ابنه العاق، الذى آثر العوج على الاستقامة، أى أن أساه لغباوة ابنه أكثر من غضبه لصدوده عن الحق. وقد طالت أحزان الرسول لجهالات الناس حتى خشى منها على نفسه وعلى رقة فؤاده، وإرهاف حسه فقال الله له: (فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا). ومع أن القرآن تهدد هؤلاء الأجلاف العاقين لأبر الناس بهم. (طسم * تلك آيات الكتاب المبين * لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين * إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين). ص _074(1/71)
لكن هذا التهديد لما أوشك أن يتحول إلى لعنة ماحقة بعد ما آذى المشركون نبيهم، واستباحوا دمه، وقتلوا أصحابه فى غزوة أحد، وعرض على النبى أن ينتقم منهم قال: "اللهم اهد قومى فإنهم لايعلمون"!. وقد أشاد القرآن بهذا الخلق العظيم فى شمائل صاحب الرسالة، فأبان للناس كيف أن عنتهم يعز عليه، وكيف أنه متشبث بهم، حريص عليهم، بالمؤمنين رءوف رحيم. وهذا المعين الذى لا ينضب من الرحمة المطبوعة والبر العميق بالناس، هو الذى جعل الرسول موطأ الأكناف لصنوف من الأتباع تتباين أمزجتهم وخلائقهم، وتتفاوت طباعهم ومسالكهم، فهو يهش لحاضرهم، ويتفقد غائبهم، ويفرح لسرورهم، ويبكى لأحزانهم، ويعيش مع كل امرئ منهم، وكأنه له صديق العمر. وهذه الدعامة المكينة لا بد منها فى بناء كل عظمة إنسانية صحيحة. ولذلك يقول الله: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ). وعنصر الرحمة الغالبة لا يعني أن صاحب الرسالة لا يغضب ويقاتل. كلا... فإن أحوال الدنيا وأغلاط الناس، توجب على الإنسان أن يقف أحيانا مواقف لا بد منها لحماية مثله وفضائله. ولا خير فى حلم إذا لم تكن له بوادر تحمى صفوه أن يكدرا والرحيم حين يقسو كالمحب حين يغضب، فغيرته على عاطفته، وتوجسه ممن يريدون مصادرته ومصادرتها ذاك هو الذى يجعله يتوجس ويهتاج. وفارق كبير بين هذه النفوس الخيرة، وبين ذوى الطبائع الشرسة الحقودة التى تسعى وراء الشر، وتتوق إلى حوك المكايد، وتأجيج العداوات، وترى لذاذتها فى الدم المسفوح، والعبرات المراقة، والوجوه الساهمة . ص _075(1/72)
وكم فى الدنيا من مساعر حروب، ومشاعل فتنة، ولكن رسل الله أجمعين، وحوارييهم الأمناء، أبعد الناس عن هذه الميادين الخسيسة. إنهم إذا أبغضوا لله ولدينهم، فهم يكرهون الجريمة فى المجرم، والكفر فى الكافر، وما يقاتلون هذا وذاك إلا باعتبارهم ممثلين للجريمة والكفر، فليست كراهة شخصية. وهذا هو الفارق بين الحرب التى يوقدها المسلمون لله وبين الحرب التى يشنها غيرهم جهالة وعمى، لا لشىء، إلا لأنهم (خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله). والشدة على الكفر مصدرها حينئذ الغيرة على الإيمان، والسعى لصيانته من العابثين والملحدين، ولذلك وصف الله النبى وصحابته بالوصفين معا فقال: (محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم). وقال:(فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم). فعلى المدافعين عن الإسلام فى هذا العصر أن يشيدوا أخلاقهم أول الأمر على الرحمة الشاملة. فإذا ألجأتهم سيئات الناس إلى النفير فآخر الدواء الكى. وقد كان رسول الله يقول:"لا تتمنوا لقاء العدو، فإذا لقيتم فاثبتوا". ولى فرس للحلم بالحلم ملجم ولى فرس للجهل بالجهل مسرج فمن شاء تقويمى فإنى مقوم ومن شاء تعويجى فإنى معوج * * * ص _076(1/73)
ملام وكلام " نشكرك اللهم، ولا نكفرك، ونخلع ونترك من يفجرك". هذه كلمات يتلوها المصلون فى قنوتهم، ويتوجهون بها إلى الله عز وجل. قد يناجون ربهم فى صلاة الصبح ليستقبلوا النهار بعهد موثق، أن يخلعوا الفجار وأن ينبذوا السفلة، وقد يناجون ربهم فى صلاة الوتر، ليختموا المطاف- بعد جهاد اليوم الطويل- مؤكدين العهد أن يخلعوا الفجار وأن ينبذوا السفلة. وسواء قالوها أول النهار أو آخره، فإن العهد مأخوذ على كل موحد أن يضاد المجرمين، وأن يوهن كيدهم، وأن يجعل عواطفه وأفكاره حربا عليهم. أجل، يجب أن تبغض الظالم من أعماق قلبك إن كنت لله موحدا، وأن تؤيد المصلح كذلك، وتمنحه محض ودك. روى الحاكم عن عائشة: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "الشرك أخفى من دبيب الذر على الصفا فى الليلة الظلماء، وأدناه أن تحب على شىء من الجور، وتبغض على شىء من العدل!!". وهل الدين إلا الحب والبغض؟! قال الله عز وجل: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله و يغفر لكم ذنوبكم). هل الدين إلا الحب والبغض؟ إن الدين هو هذه العاطفة المشبوبة بمحبة الخير، ص _077(1/74)
وكراهة الشر وأحزابه، وهو هذه العاطفة الدافقة المنسابة كالفيضان الموار، لا تجد مستقرها إلا حيث تبلغ أهدافها، لا يهمها أن تغمر سفحا أو تطوق قمة. إن الدين هو هذه العاطفة الحرة اليسيرة، اشمئزاز من مسالك الفسقة، يقبض يدك عن مصافحتهم، ويجعل جمرة الغضب، تصبغ وجهك لجرأتهم على ربهم، فإما استطعت أن تخسف الأرض من تحتهم، أو تقيم الدنيا وتقعدها من حولهم.. وإلا فإن أقعدك العجز سكنت سكون المقهور على ما يلسعه من عار، لا سكون البليد على ما وصل إليه من قرار. أعرف قوما فقدوا هذه العواطف الملتهبة، أى فقدوا الخصائص الأولى لدينهم فهم أكوام من التراب البارد، أولئك قوم ليسوا من الله فى شىء. وأعرف آخرين أرهبهم جبروت الفساق، وسلطان الظلمة، فلاذوا بأضعف الإيمان، ورأوا أن يغيروا المنكر بقلوبهم فحسب!! ونحن لا نخرج الجبناء من حظيرة المؤمنين، ولكننا نستغرب ثم نستغرب أن يكون عمل الكثير من المشتغلين بالدعوة إلى الله هو هذا الإنكار القلبى!! فما بقاؤهم فى ميدان الدعوة؟ وما تقدمهم فيه؟ وبأى حق حمله هذا الوصف العالى وسموا أنفسهم دعاة؟ لقد علم الغبى والذكى، والقاصى والدانى، أن بلاد الإسلام سقطت فريسة وثنيات سياسية مدمرة، وأن الإسلام نفسه ضاع فى حريق الشهوات التى تتطلبها هذه الوثنيات المجنونة، وأن مراكب الحضارة التى تتراكض وثبا إلى الأمام فى سائر الدنيا تتراجع متقهقرة فى بلادنا وحدها، وأن جماهير العمال تضرب فى أمريكا، طالبة المزيد من فنون الراحة والدعة، على حين تكلف الجماهير الفقيرة عندنا بأن تجوع وتعرى لإبطار فرد سادر فى غلوائه! فرد مستطار الشر خبيث الشره! إن هذه الوثنيات المسعورة لم يبق معها دين ولا سلمت دنيا. فماذا صنع المشتغلون فى ميدان الدعوة إلى الله "كذا" لمكافحتها؟ وأعنى بالمشتغلين الهواة والمحترفين جميعا.. وأين جهودهم لإنقاذ البلاد والعباد من ويلاتها؟ ص _078(1/75)
إننى سأنفى من ميدان الدعوة أولا هذا النفر من الرجال الذين يعيشون على تملق الظلمة، وستر مساوئهم، واختلاق المحامد لهم، وإرسال الدعاء الحار بحفظهم وتأييدهم. هذا النفر ليس دخيلا على ميدان الدعوة فقط، بل هو لصيق بالإسلام نفسه. فإني أحسب عقولهم أغبى من أن تفهم الأشياء والأشخاص، على حقيقتها!! وإلا فإن القصد إلى تدعيم هذه الوثنيات الطائشة وإقرار بطشها وفسقها، وزناها وسكرها وسفكها، هو كفر صميم. لندع هذا النفر الصغير- وإن كبرت مناصبهم الدينية- ولننظر إلى ما تموج به ميادين الدعوة الإسلامية من مناظر مؤذية. لقد قتل الداعية الكبير " حسن البنا" فى الطريق، وقتل الضابط الشاب عبد القادر طه، وقتل من قبل "أحمد شرف" وقتل آخرون ممن بذلوا دماءهم ثمنا لشرفهم ودينهم، وشرف أمتهم ودينها. وعرف الصغار والكبار أن دماء الأبطال ذهبت فوق تراب فلسطين سدى، وأن أموال الأمة سرقت جهارا، وأن معركة القناة فشلت برغم احتشاد الأمة لها، واندفاع الشباب الحر إليها. غير أن قصة الدماء المراقة والأموال المسروقة، والحريات المغتصبة، لم تلق من عناية الهيئات الإسلامية الكثيرة، ما لقيته قصة امرأة تافهة تريد إعطاء النساء حق الانتخاب. تكلمت جماعة كبار العلماء، وثارت جبهة الأزهر، والتقى عدد من ممثلى "الجمعيات" حول جملة أحكام استخلصوها من الإسلام، وشمروا عن سيقانهم للتبشير بها!! هذا الاهتمام البالغ من هنا ومن هناك سره أنه لا يكلف أصحابه جهدا ولا يجر عليهم عنتا. ص _079(1/76)
أما جرائم الاغتيال الكبرى التى هلكت فيها أبطال، وجرائم الغش والاحتيال التى محقت فيها أموال، فإن الجهال التى تلاقت عند قتال المرأة تفرقت بددا عند بحثها! إن قول الحق هنا فادح التبعات، أليس يعرض ذويه لبطش الوثنيات السياسية المحذورة؟ إننى لا أزعم هذه الجماعات المشتغلة بالدعوة الإسلامية سكتت كلها على هذه الفضائح، كيف؟ وقد خاض فيها المؤمن والكافر، والفصيح والبكىء، ربما أصابت المجرمين وخزات طائشة من المتكلمين باسم الإسلام، ولكنّ مجرمي الحرب فى فلسطين، وخونة الوطن فى القناة، وقتلة الأحرار فى الميادين العامة، هان عليهم أمر الجبهة الإسلامية كلها. ونستطيع الجزم بأنهم اطمأنوا أخيرا إلى أن هذه الجبهة آخر ما يتوقعون خطره على حياتهم الآثمة وأعمالهم الغاشمة، بل لقد طمعوا فى الاستعانة بها على محاربة الأحرار، وتلويث الوطن بالعار. ولم ذلك؟ ذلك لأن الذين تصدروا هذه الجبهة هم غالبا من طبقة الفيئران، ومشكلة فيئران الكبرى هى: كيف يعلقون الجرس فى عنق القط الفاتك؟ إن سقوط الهمة سيئة فاضحة أصابت الملتصقين بالدين قديما وحديثا، وقد نعى رسول الله على أولئك الساقطين أنهم كانوا إذا سرق الشريف تركوه، وإذا يسرق الضعيف حدّوه، وهل هذا التصرف إلا مظهر الجبن أمام الكبار والتطاول على الصغار أى: مظهر سقوط الهمة؟ إن هذه الجبهة كانت أحوج ما تكون إلى رجال من الصنف الذى يفهم قول الشاعر: ولا تحسبن المجد زقا وقينة فما المجد إلا السيف والفتكة البكر وتضريب أعناق الملوك وأن ترى لك الهبوات السود والعسكر المجر وتركك فى الدنيا دويا كأنما تداول سمع المرء أنمله العشر ص _080(1/77)
واعلم أن محمدا رسول الله كان ينفخ فى أصحابه هذه الهمة القعساء، الهمة التى تسمو على أقدار الملوك بسطوة الحق وحده، الهمة التى تجعل الداعية المسلم ينظر إلى الملوك نظرة الأسد إلى الهر، لأن هذا يعمل لله، وأولئك يعملون للطاغوت. روى البخارى أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: "إن أخنع اسم عند الله رجل تسمى ملك الأملاك، لا ملك إلا الله". قال أحمد بن حنبل: سألت أبا عمرو الشيبانى عن "أخنع" فقال: أوضع. وروى مسلم عن النبى العظيم: "أغيظ رجل على الله يوم القيامة وأخبثه، رجل كان تسمى ملك الأملاك، لا ملك إلا الله". وللإخوان وضع متميز فى ميدان الجبهة الإسلامية، فقد بهر يقينهم البالغ، وتفانيهم الجليل، أنظار المراقبين من أجانب ومواطنين! فدبرت خطة محكمة للتنكيل بهم والخلاص من قيادتهم. وكان أن صرع "حسن البنا" الإمام الأعزل بالرصاص فى أعقاب عيد ميلاد الملك السابق "فاروق" 1949م، ثم رمي بأكثر أتباعه فى السجون والمعتقلات. والذين يحسبون الجهاد لتحقيق المثل العليا عملا يسيرا هم قوم مغرقون فى الوهم. لولا المشقة ساد الناس كلهمُ الجود يُفقر والإقدام قَتَّالُ وحملة الدعوات ألا يتزحزحوا عن منهاجهم مهما اشتد كلب الأحداث عليهم، والمرء قد تحدثه نفسه إذا انهزم وأهين أن يستسلم ويستكين. لكن الله لما وصف الأخيار من عباده، نبأ أن النوائب الدهم لا تليِّن قناتهم، ولا تثبط عزماتهم، وأنهم يخرجون من المحن خروج البدر من وراء الغيوم، لم تنقص صفحته، ولم تكسف أشعته. (وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين). ص _081(1/78)
وإنى أدرك أن جمهور الإخوان المسلمين خرج من المحنة الأولى صلب العود، ناصع الجبين، ولا أنكر أن البعض يميل بتفكيره إلى أسلوب المسالمة والتحايل، ونحن لا نأبى المسالمة، نرضاها ونؤثرها، ولكن مع من؟ وإلى متى؟ مع الفساق والظلمة؟ وإلى أن يستمكن شرهم، ويعم ويطم، ويهلك الحرث والنسل؟ الحق أن طبيعة الدعوة إلى الله تجافى هذا المسلك، إنها قد تتريث فى مقاتلة المجرمين، بيد أنها لا تتريث أبدا فى مخاصمتهم ومصارحتهم بالعداوة!! وربما كانت نتائج ذلك صعبة. وعندى أن الأمر لا يعدو واحدة من اثنتين: إما الانسحاب من الميدان والاعتراف بأن أثقاله تبهظ الكواهل الضعيفة، وتئود قوما يحبون الحياة الرتيبة. وإما الأخرى وهى البقاء فى الميدان، وأداء الضريبة المفروضة على الدم والمال، مهما فدحت. ولأعترف بأن هذه الضريبة شديدة!! أجل إنها شديدة. ومتى كانت نصرة الإسلام تعتمد على الخطب المطولة فى الأحفال التى يعلم الطواغيت بها، ويشعرون بأن الصياح فيها ضرب من الإسهال العقلى مأمون النتائج؟ روى الإمام أحمد عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "ما خالط قلب امرئ رهج فى سبيل الله إلا حرم الله عليه النار!" أى: قلق وفزع. ولعمرى أن برنامج الجهاد الحق- خصوصا فى هذا العصر الكالح- ليحتاج إلى ألوف مؤلفة ممن يعافون حياة الدعة، ويعشقون حياة الخاطر والمجازفات. وروى النسائى وابن حبان والبيهقى عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الشيطان قعد لابن آدم بطريق الإسلام فقال: تسلم وتدع دينك ودين آبائك؟! فعصاه، فأسلم فغفر له. فقعد له بطريق الهجرة فقال له: تهاجر وتذر دارك وأرضك وسماءك؟! فعصاه، فهاجر . ص _082(1/79)
فقعد له بطريق الجهاد، فقال: تجاهد فتقاتل، فتنكح المرأة، ويقسم المال؟ فعصاه فجاهد" قال رسول الله: "من فعل ذلك فمات كان حقا على الله أن يدخله الجنة، وإن غرق كان حقا على الله أن يدخله الجنة، وإن وقصته دابته كان حقا على الله أن يدخله الجنة هذا المرء الذى تغلب على وساوس الدنيا وروابط الحرص عليها، هو المثل للرجال الذين انتصر الإسلام بهم قديما، ولا ينتصر حديثا إلا إذا وجدهم. أما أن ترسل الطرف فى الميدان الإسلامى فترى "الجمعيات" تتلاقى وتنتفض حمية ضد امرأة سفهت نفسها إذا طلبت الوزارة والقضاء، ولا تسمع لهذه الجمعيات ركزا يوم مقتل "حسن البنا" و"عبد القادر طه" وأضرابهم من خصوم الوثنية السياسية العمياء، فهذا جهاد لا شوكة فيه، ولا خطر عليه، إنه جهاد النساء، الخضبات بالحناء لا الدماء. أشهد أن هذا النفر الحريص على الإسلام من رجال الثورة قد شفى نفسى، وكشف عن فؤادى غطاء ثقيلا، وغسل عن مصر أقذارا، ومحا عارا. وأحسب أن جهاده وجرأته ومخاطرته مثل يضرب للمسلم التقى الذى عرف الله فهان فى عينيه ما سواه. *** ص _083(1/80)
رجال الحق (وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَّهْدُونَ بِالحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) فى هذه الآية دلالة على أن الله عز وجل اختص نفوسا معينة بمعرفة الحق على وجه كامل مثمر، فهى لا تضاء به من داخل فحسب بل تبسط أشعته أمام الناس عامة ليسيروا علي هداه ويطمئنوا إلى سناه. وهم كذلك يحكمون بالحق، فإذا اختلطت الأمور، وخيفت المظالم، قضوا بين الناس بالعدل، فجاء قضاؤهم العادل نورا يمحو الظلم والظلام. أولئك هم المصطفون الأخيار من عباد الله. وأولئك هم أمل الدعوات الكبرى، والنهضات العظمى، حين تبدأ مسيرها فى الأرض فتعترضها السدود والهضاب، وتردها العوائق والصعاب. كنت أعجب أول أمرى لماذا وصف الحق بالمرارة، وغصت به حلوق كثيرة؟! حتى سرت فى موكب الدعوة إلى الله، ورأيت أن قول الحق جهاد ثقيل الأعباء شاق التكاليف، جهاد قد يكلف المرء دق عنقه إذا اصطدم بفرعون جبار!!. وربما كان أيسر البذل أن يتقهقر المرء فى مجتمع يتصدره المهرجون والكذبة. والذين يهدون بالحق فى هذه الأحوال يجب أن يكون لهم من اليقين ما يزهدهم فى الجاه الذى حصل عليه المبطلون، وما يحقر أمام أعينهم البقاء فى الدنيا، إذا لم يقدروا على قول الحق والهداية به. ما أجل الحق وما أجل رجاله! بنفسى أولئك الأبطال الذين داسوا وساوس الضعف، وكبروا على فنون الإغراء، ص _084(1/81)
وتألقوا بين ركام العوام، وتنكروا للحاضر الذى يكرهونه، وتفانوا فى الغد الذى يتمثلونه، ومضوا قدما إلى غايتهم فإما نجحوا وإما فشلوا! إن النجاح والفشل لا يحكم على النيات، ولا ينقص الأجور! "فحمزة" الصريع المهزوم فى "أحد" ليس دون"خالد" القائد المنتصر فى عشرات المعارك، بل ربما كان خيرا منه. وكم فى عصرنا هذا من نهضات كبت أن تبلغ هدفها، وطوى تاريخها طيا محزنا، ذلك أن التاريخ يكتبه غالبا المنتصرون، وما أكثر ما يأفكون ويزورون. لكننا- ونحن أصحاب المبادئ ورجال المثل!- نريد أن نهتك هذا الزور، وأن نحيى أصحاب الحق سواء قتلوا فى الطريق، أم وصلوا إلى القمة. إن الجماهير الغفيرة لها منطق تافه صوره الشاعر فى هذا البيت: والناس من يلق خيرا قائلون له ما يشتهى ولأم المخطئ الهبل! أما أصحاب الحق وأنصاره فهم فوق هذا المستوى، بل هم لا يتدلون إلى هذا الحضيض. وفى العرس الضاحك البهج الذى يغمر وادى النيل بعدما أعان الله على طرد الملك فاروق وتطهير البلاد من أقذاره، فى هذا العرس المائج لابد أن نتحدث قليلا عن الحق المجرد، وعن الرجال الذين أوذوا فى سبيله، وماتوا قبل أن يدعموا بناءه. إن الساعة التى تنجح فيها المغامرة، ويوفق فيها الناقمون على الطواغيت هى أجدر الساعات بتعليم الناس قيمة اليقين، ومعنى التضحية بالمثل التى نسوها فى عهد الظلام الطويل! أجل، إننا نريد رجالا يعشقون الحق، ويعيشون به وله، صرحاء، ولو غضب لصراحتهم ألف ملك ووزير! حنفاء، ولو أطبق الجهال على تسجيد الأوثان، وحرق البخور بين يديها، أعزة بأنفسهم لا يبالون أن تصدر الأوامر "العليا" بإقصائهم من ص _085(1/82)
المحافل الرسمية والمناصب الضخمة! غاضبين لله عنادا وإصرارا وحاقدين على الباطل مع ترفع واحتقار. نريد رجالا لو حدث- لا قدر الله- أن فشل القائد الثائر "محمد نجيب" فى غضبته الكريمة ضد الملك المطرود لأحسوا بتصدع أكبادهم وتريع حاضرهم، ومستقبلهم، ولوقفوا بقلوبهم وألسنتهم وجسومهم إلى جانبه يواسونه ويشجعونه لا رجالا يهرعون إلى "سجل التشريفات" كيما يقيدوا أسماءهم ولاء وخنوعا للوثنية السياسية التى طغت فى البلاد فأكثرت فيها الفساد. نريد رجال الحق فى عالم عز فيه نصراء الحق، وفى بلاد سخر فيها الدين كما سخرت الدنيا لحراسة أمراء الجور، وتمجيد العيال الفسقة، لأن السلطان فى أيديهم وتحت أقدامهم. نريد رجالا لا يدوسون المثل العليا باسم المرونة السياسية، ولا يأمنون أولا على أنفسهم وأموالهم وأنصارهم ثم يعلنون بعد ذلك الجهاد لنصرة الإسلام، كأن نصرة الإسلام سمن وعسل!! نريد رجالا يأنفون- وهم شيوخ كبار- أن يقولوا لشاب خليع معروف بالعربدة والخنا والقتل: مولانا صاحب الجلالة. لقد تركت القاهرة والحيرة البالغة تهز أركانى هزا، لقلة الرجال الذين انتصروا للحق المجرد، يوم كان الحق المجرد أحوج ما يكون إلى صوت يعضده، ونصير يسنده، ولكثرة الرجال الذين أقبلوا مهنئين يوم تطايرت أشلاء الصنم، وبطل سحر فرعون.. ما هذا؟ هذه صحافة احترفت الدعارة السياسية منذ ظهرت لأنها ولدت فى حجر الملك الطريد، وعملت منذ وجدت على تحطيم الشعب وتبديد قواه، إنها الآن أكثر الصحف ضجيجا فى استقبال العهد الجديد، والزراية على الدولة البائدة! وهذا زعيم حملته أكتاف الجماهير حتى كلت، فلما سئم الكفاح، مع المظلومين، ولى وجهه شطر الظالم يهادنه ويداهنه، ثم يخطب الناس فى مصر فيسبح بينهم بحمد الصنم الذى يتقلب فى مواخير أوروبا، ولا يستحى من أن يجعله قبلته فى خطبته. ص _086(1/83)
وهؤلاء رؤساء أحزاب ووزارات كفروا بالله واليوم الآخر من طول تزلفهم للتاج الهاوى، فقتلوا رجال الحق علانية، ومنعوا أن يقام لدمائهم قضاء، وفتحوا المنافى والمعتقلات والسجون، وزحموها بحشود الأشراف الأنقياء وفعلوا.. وفعلوا.. أما الجبهة الدينية(!) فلنا معها حساب قريب، وإنه لحساب عصيب، وإنى أحمد الله إذ ألهمنى مهاجمة الصنم المهشوم فى كل كتاب أخرجته. ولئن سكت اليوم بعد ما تجرأ الجبناء، حسبى أنى تحركت يوم سكنوا، وتكلمت يوم قبعوا. إن ترك الباطل- يمر دون نكير- أمر خطير جد خطير، وليس المهم أن تكسر شوكته بحولك، فقد تكون ضعيف الحول، ولكن المهم إذا رأيت المبطلين صادرين فى جرائمهم متجاهرين بمناكرهم أن تقول- عند ظهور عجزك واستحالة مقاومتك- مقالة العبد الصالح- لوط لقومه لما: (قَالُوا لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ المُخْرَجِينَ * قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُم مِّنَ القَالِينَ * رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي ِممَّا يَعْمَلُونَ) أما الذهاب إلى فاعل المنكر، وإبداء الاحترام له فلا.. أما مشاركة الهمل فى الهتاف للمجرم.. فلا.. وما أكثر الذين أسرفوا وهتفوا: هتفوا لمن شرب الطلا فى تاجهم وأحال عرشهمو فراش غرام ومشى على تاريخهم مستهزئا ولو استطاع مشى على الأهرام والأمم التى يخرس صوت الحق بين كبارها وصغارها، والتى تتوارث هذا الصمت المعيب، تمشى حثيثا فى طريق الانقراض. ومن حق الحياة النظيفة أن تخلو منها. ولقد كانت مصر تنحدر إلى هذا المصير الحالك فى العهد البائد، بل كانت تطوى مراحله في جنون لولا بقية من رعاية القدر الحانى تداركتها لترد شعاعها الغارب، ورشادها العازب. ص _087(1/84)
وأحسب أن الله ادخر هذا القائد الثائر- على الوثنية السياسية- "محمد نجيب" ليحقق به الآمال التى جاشت فى صدور المصلحين ممن اغتيلوا أو حبسوا أن يبلغوا ما أرادوا. أما الذين اغتيلوا فقد ذهبوا إلى الله بعد ما جادوا بأنفسهم فى ذاته. ولا تزال تعليقات السفهاء على قتل "حسن البنا" ترن فى أذنى. كان الكبراء والوضعاء يقولون لنا مبررين قتله: إن شيخكم يريد منازعة "الملك الصالح" ليكون ملكا مكانه!! انظر كيف يستعذبون الخضوع للأوهام، ويستنكرون الإجلال للعباقرة؟ كأن "حسن البنا" تطاول على الله يوم زهد فى إرضاء ملك صغير!. وكنا نُجيب عباد الطاغوت: أن الشيخ القتيل وجماعته "المحظورة" لم ينازعوا الملك الصالح إلا هذا الصلاح المزعوم. أما الملك فهو لله الواحد القهار. وكان دوى المحافل يصم الآذان ضدنا، لأن الأحزاب جميعا تكاتفت على النيل منا، ومما قيل لنا يومئذ: إنكم قتلتم ملك اليمن، وقمتم بثورة مسلحة ضده لإقامة دستور، وتجديد حياة، لولا أنكم فشلتم، واستقرت بحمد الله (!) الأوضاع! إن من شكر الله على نعمائه- إذ خر من بين ملوك الشرق صنم- أن نزيل من صفوفنا المنطق اللولبى فى علاج المشكلات، وأن نتحسس الحق المجرد، حتى إذا عرفناه تمسكنا به، ونافحنا دونه أهل الأرض أجمعين. وعلى الرجال الذين يدعون لفضائل معينة أن يحمدوا على هذه الفضائل، ولو وصفوا بقصر النظر، أو غلظ الطبع، أو ما شابه ذلك من النعوت التى يخلعها المترفون على خصومهم فى الإيمان الواضح، العمل الصالح. وأى حرج فى أن نموت أو نسجن فدى مبادئنا؟ أوَلسنا الذين نقول: الجهاد سبيلنا، والموت فى سبيل الله أسمى أمانينا؟ ص _088(1/85)
الجبهة الدينية تعارف الناس أن للأديان رجالا يعتبرون أقرب إليها من غيرهم، كالرهبان والكهان فى النصرانية، وكالفقهاء والمدرسين والدعاة فى الإسلام، وهم يتوقعون أن يكون مسلك هؤلاء وأولئك أدل على حقيقة الدين، وأدنى إلى رضوان الله من مسالك الرجال الذين استغرقت جل أفكارهم ومشاعرهم أعمال الدنيا! وهذا الذى تعارف الناس عليه لا يصح على إطلاقه أو أستطيع- كرجل اشتغل بدراسة الإسلام ودعايته أمدا طويلا- أن أجزم بأنه لا توجد طائفة تضاف إلى الإسلام أو يضاف الإسلام إليها، هذا من ناحية الشكل، أما من ناحية الموضوع فيؤسفنى أن أذكر حقيقة أخرى، هى أن أكثر الطوائف المنتسبة للإسلام فى معاهد رسمية، أو هيئات شعبية، لا تشرف الإسلام، ولا تستقيم مع هديه الدقيق. إن التدين الصحيح عاطفة وفكرة والعاطفة الطيبة لا وزن لها إن خلت من النظر الذكى إلى الأمور، والفكرة الحصيفة، كذلك لا وزن لها إن لم يصحبها ضمير حارس وقلب شهيد.!! وعوام المتدينين قوم على جانب ملحوظ من سلامة النفس، ونقاوة الصحيفة، ولكن بساطتهم أغرت الماكرين باقتيادهم إلى حيث يشاءون. وأخطر ما فى الجبهة الدينية كلها هم المحترفون والمتصدرون وذووا المكانة والمناصب وهؤلاء هم الذين يحملون أوزار الفساد الذى طم وادينا أخيرا، فقد داهنوا المبطلين، وشلوا قوى الخير التى يملكون زمامها أن تقيم اعوجاجهم. ولئن كنا نؤاخذ الوزراء- دستوريا- على إملائهم للملك المخلوع فى غيه، إننا لنؤاخذ علماء "الأزهر" ورؤساء الجمعيات الدينية على سكوتهم. لا.. بل على مدائحهم للملك الفاسق، وإرخائهم العنان لنزواته الطائشة حتى وصلت البلاد إلى الحضيض. ص _089(1/86)
وقد جاء الغوث من حيث لا نحتسب جاء الانتصار لمبادئ الإسلام على أيدى أقوام لم يلبسوا يوما عمائم التقى والورع! ولم يسمعوا فى الأندية الغاصة يخطبون الجماهير ساعتين وثلاثا وأربعا. جاء الانتصار على أيدى رجال عاديين وكأن الله رأى أن يحرم غيرهم "الشرف" شرف هدم الطاغوت وطرد فرعون! (لئلا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شيء من فضل الله وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم). وصح ما قلناه من أن المثل العليا لا تزدهر فى نطاق معين، وأن الدين- وهو ملتقى هذه المثل- ليس له سدنة معينون، رسميون أو شعبيون. وهناك سيئات خاصة تنتشر بين محترفى التدين، فالمعروف عند حكماء الإسلام أن المعاصى نوعان: معاصى قلوب، ومعاصى جوارح، وقد تجتمع هذه الأنواع فى نفس واحدة، والله أعلم بعباده. وقد قرر العلماء الراسخون أن معاصى الجوارح أخف جرما وأيسر دواء من معاصى القلوب. ولئن كان الكل معصية إلا أن شهوة الزنا عند شاب طائش أهون من شهوة الكبر عند شيخ جليل، وانفعال الغضب عند عامى صغير أيسر من انفعال الحقد عند فيلسوف كبير، وتفاوت الذنوب فى مقدار ما يقارنها من إثم، ثابت فى الشريعة. روى أحمد فى مسنده، وأيده غيره، أن النبى- صلى الله عليه وسلم- قال: "ربا يأكله الرجل- وهو يعلم- أشد من ست وثلاثين زنية". ص _090(1/87)
والمؤسف أن المعاصى التى تشيع بين محترفى التدين هى من اللون الأسود إنهم لا يشربون خمرا، ولا يلعبون قمارا، ولا يضربون إنسانا ولا حيوانا، ولكن ما يستكن في قلوبهم من شهوات الظهور والجدل، والأثرة والحسد والاستعلاء والالتواء يجعل ضرهم أقرب من نفعهم للإسلام وأهله. وذلك كله لو كانوا علماء حقا بالإسلام! فكيف وفقههم فيه قليل، وحظهم منه ضئيل؟ وهذه الحقيقة تفسر لنا: لماذا ذهب "حسن البنا" أول أمره يجمع أنصاره من رواد القهوات وأشباههم بعيدا عن الطرق ورجالها، وعن مدمنى القعود فى المساجد، وعشاق الدروس والمناظرات الدينية، إن هذه الطوائف حسبت الجنة تحت أقدامها. ومن أخطر أمراض المحترفين أنهم يسمون العجز عن الحياة زهدا، والجبن عن أعبائها قصدا، والتفريط فى أسبابها توكلا !! وهم يبتعدون عن المخاطر، ويسمون ذلك حكمة! ويجاملون الحكام العتاة الأدنياء، ثم يعييهم الفتاوى لتبرير نفاقهم وسكوتهم عن تغيير المنكر! وقد لاحظت أن العوار الذى ظهر فى الجبهة الدينية كان قريب النتائج من الانهيار الذى أصاب الأحزاب المدنية، فلما قرر الملك فاروق إطفاء الثورة ضد الإنجليز فى القناة، مضى الوغد فى خطته الخائنة، وفعل فعلته المنكرة دون محاذرة أحد، أو تخوف عاقبة. وكأنما كانت نارا بال عليها فانطفأت!! ثم خيم الصمت على الوادى المشدوه، وسكتت الصحف الثائرة، والإذاعات المائجة، وهرع المستوزرون إلى القصر يقبلون اليد التى صفعت مصر. أما أهل الدين فقد آثروا العودة من هذه الرحلة دون تعليق، وفى الاشتغال بالصلاة متسع لمن أراد عبادة الله. لقد عقد الحزن لساني، وكسر قلمى وأنا أنظر إلى فرد شرير يمتلك سلطات خرافية خطيرة تمكنه من بيع الأمة لأعدائها، وأحزاب الأمة وهيئاتها تنظر إلى سوء صنيعه وهى بين مداهن خوان، أو مهادن جبان. ص _091(1/88)
و إنى لأوقن بأن موكب الأحرار الذى جارت عليه الليالى ما كان ليستسلم مهما تتابعت عليه الكوارث، غير أني كنت أخشى على الإسلام أن ينهزم فى هذه المعركة، ومعنى انهزام الإسلام فى نظرى أن تخفت الأصوات التى تعقب على خيانات الملك السابق (فاروق) بما تستحقه من لعن وطعن. ولكن الله سلم، وجاءت النجدة كما قلت من حيث لا تحتسب. وأحمد الله لأن "محمد نجيب" قائد مسلم، وأنه ليس على غرار مصطفى كمال القائد التركى الكفور، وهذا من فضل الله عليه، ومن دلائل الخير التى كتبها الله لأمته. وثم أمر آخر فإن رعاية الله التى أدركت هذا القائد ورفاقه هى عندى آية حاسمة على أن صناعة التدين قد تقرر فشلها، وأن احتراف الإسلام، واحتراف الجهاد، واحتراف الكلام باسمه، واحتراف الغيرة على شعائره، إلى آخر ما يشيع فى الجبهة الدينية، كل ذلك لم تبال به السماء ولم تكترث لذويه، ولم ينطل عليها جمالهم، ولا استجابت قليلا أو كثيرا لمزاعمهم. وقد تسأل عن هذا الكلام، وتحسبه تحاملا شديدا، والجواب كلا. إن محترفى التدين طلبوا السلامة من مجابهة الملك الطاغية بما يكره، فاستكانوا. لطغيانه واستسلموا لمخازيه! أما القائد المسلم، فقد خاطر برأسه ليقول الحق، بل ليفعل الحق، فهو أولى بالله منهم!! هو أحق بنسب الإسلام من ألوف المحترفين الدجالين. إذا كانت كلمة حق عند سلطان جائر ترفع صاحبها إلى عليين، فإن كلمة باطل عند ملك ملتاث تهوى بقائلها إلى الحضيض. وما أكثر الذين كذبوا على الله عند الملك السابق- وهم من رجال الدين (كذا)- وما أكثر الذين غضوا الطرف عن شناعاته، وكلفونا نحن كذلك بغض الطرف عنه وإلا فصلونا، وهم من محترفى التدين.!! ص _092(1/89)
قد ينكل المرء عن قول الحق، فهو- كما يقول الرسول- شيطان أخرس، أما تشجيع الملك السابق على المضى فى غوايته فهو كفران مبين، فكيف بمن يعوق محاربيه، ويسكت مهاجميه؟ إن الكلمات التى كان يقولها وكيل الأزهر بين يدى الملك الخليع المخلوع، تزال ترن فى آذانى كمثل سوء لتشهى الدنيا، وطلب المناصب بأخس الأساليب فى العام السابق، تلا هذا الوكيل درسا فى تفسير القرآن(!) كان "فاروق" يستمع فى نهايته إلى الوكيل الذى يلبس عمامة الصدق والورع وهو يقول: "اللهم إنك تعلم أن جلالة الملك فاروق بذل ماله فى سبيلك، ولم يدخر وسعا فى خدمة دينك"!!.. إلى آخر ما قال الوكيل مفسر القرآن!! ولما كان أهل الأرض والسماء يعلمون أن الملك فاروق لم يبذل قرشا من ماله فى سبيل الله، بل إنه كان أجرأ لص فى العصر الحاضر على سرقة سبل الله بما فيها ومن فيها، فقد نظر بعضهم إلى بعض دهشا، وصوت الراديو ينقل هذا الإفك السافر، ويدخله إلى أسماع الناس قسرا، واستغرب المؤمنون والكافرون هذا الدجل "اللهم إنك تعلم"!؟ إن الله لا يعلم إلا الحق وقد قال للمشركين الذين يزعمون أن معه إلها: (أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض). وقال كذلك موبخا المفترين- ويصح توجيهه إلى كل كذوب- (أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض أم بظاهر من القول بل زين للذين كفروا مكرهم وصدوا عن السبيل ومن يضلل الله فما له من هاد). والغريب أن سطوة "فاروق" جعلت أصحاب المبادئ- كما يقولون- ينسون مبادئهم! فالمعروف أن الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر أصدر فتوى بأن بناء الأضرحة ص _093(1/90)
حرام، ومع ذلك ما إن تولى المشيخة حتى سارع إلى زيارة ضريح الملك فؤاد- لأنه طبعا أبو الصنم الحاكم! وفى مؤتمر صحفى كبير صرح الأستاذ الأكبر: بأن الملك "فاروق" يعلم من شئون الأزهر وأحوال المسلمين الكثير المعجب! وهذا غريب ففاروق شخص لا تزيد معلوماته عن الحلاق الإيطالى "بوللى" الذى جعله "بك" والعامل الميكانيكى "حلمى" الذى جعله "أميرالاى". إن ثقافة الملك السابق لا ترشحه لشغل وظيفة فى الدرجة الثامنة، فضلا عن أن ينوه بها شيخ الأزهر فى مؤتمر للصحافيين، ولا يزال الناس يضربون كفا على كف للتهنئة التى أرسلها فضيلته إلى عصابة "بوللى" وشركاه ! لما أخرجهم الملك المجرم من قائمة المتهمين فى قضية الذخيرة الفاسدة. هذا مثل لما ساد الجبهة الدينية من مهازل على العهد البائد، وقد ذكرت طائفة من تصرفات الرجال الرسميين. أما الرجال الشعبيون من رؤساء الجماعات الدينية فنحن فى حيرة بين أن نكشف أمرهم، أو نرحم ضعفهم، وقانا الله ووقى الإسلام شرورهم. *** الإنسان السليم لا تغتاله الأعراض الطارئة مهما اشتدت وطأتها، قد يسقط فى الطريق فينكسر عظمه، ثم لا يلبث أن ينجبر! وقد يصاب بجرح نافذ، ثم لا يلبث أن يندمل! ذلك أن قوة المقاومة فى بدنه، ووفرة الحياة المذخورة عنده تجعلانه يتحمل الطعنات والصدمات، فإن استكان لها حينا لم تمر عليه أيام حتى ينتفض من وعكتها، ويستفيق من شدتها، ثم يستأنف سيره فى الحياة كأن لم يمسسه سوء. وهناك جسم كمن فيه الداء واستشرت فيه العلة، يمشى الهوينى على ظهر ص _094(1/91)
الأرض وهو يكاد يتهالك وحده! إنه يوشك أن يخر صريعا قبل أن تنوشه ضربة، أو تلقاه صدمة، فكيف إذا اعترضه خصم لدود يبغي له الأذى؟ إن الأمم كالأفراد فى هذه الأحوال، وقدرتها على تحمل الهزائم المرة والآلام المبرحة ترجع قبل كل شيء إلى ما يستكن فى أعصابهم من طاقة، وما يتدافع فى كيانها من حياة. عندما انهزم المسلمون فى معركة (أحد) لم تكن هزيمتهم ختام رسالة ومصرع إيمان، بل اعتبرت الهزيمة جرحا عارضا يجب أن يتحمله الأقوياء فى غير ما ضجة! ونزل قول الله: (ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين * إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس). وما لنا نطلع المسلمين اليوم على تاريخهم القديم؟ فلينظروا إلى "ألمانيا" فى الغرب و"اليابان" فى الشرق، كلتا الدولتين تلقت فى الحرب الأخيرة ضربة هائلة، وتحملت فى الأنفس والأموال خسائر طاحنة. ومع ذلك لم تمض أعوام قلائل حتى بدأ العمالقة يخرجون من خلال الأنقاض، وعلى شفاههم ابتسامة الرجولة والمصابرة، وعادوا يديرون مصانعهم ومدارسهم ويمدون حضارة العالم، بإنتاج كثيف، جعل الأعداء قبل الأصدقاء يخطبون ودهم ويقدرون صلحهم! لكن أمتنا الإسلامية أصيبت منذ قرن بسلسلة من الانكسارات العسكرية دوختها، وهدت قواها، ولا تزال حتى الآن تضطرب فى عقابيلها، وتترنح مكانها. ذلك أن الداهية لم تأتها من انهزام حربى طارئ، بل من داء متغلغل سرت جراثيمه فى دمها سريانا خبيثا، فلو لم تسقط أمام خصومها الذين يناوشونها لسقطت وحدها مغشيا عليها، كما يسقط المنهوك أو المحموم! ص _095(1/92)
كانت الوثنيات السياسية والاجتماعية والعقيدية تنخر فى عظامها، وتنشر ضباب الحرافة فى آفاقها ويعزلها عن قافلة العالم المائج بالاكتشافات الباهرة وتستهلك آخر ما تبقى لديها من مواريث الحضارة التى آلت إليها عن الأسلاف الصالحين. كانت الخلافة الإسلامية فى ملكها العريض تسمى حكومة الرجل المريض، وكانت "أوروبا" تعد الساعات القلائل الباقية فى أجل المحتضر الهالك، لتقتسم تركته، وتتوزع بينها ثروته. لم تكن مصائبنا إذن من اندحار عسكرى مفاجئ بل من مرض متغلغل قديم، ومن هنا هب المصلحون فى بقاع شتى من الوطن الإسلامى الكبير يعالجون العلة الدفينة ويستنفذون عقيدة التوحيد من ضروب الوثنيات التى أوشكت على إتلافها، سياسية كانت أو مادية، ويحاولون بناء الحضارة الإسلامية على أصولها الأولى، من حرية العقل والضمير. وقد كان محمد بن عبد الوهاب، وجمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، وحسن البنا- كان هؤلاء الأئمة الأبطال يحترقون دأبا فى تعريف الجماهير الغافلة بالله وحده ويمسحون عن قلوبها الذليلة أرجاس العبودية للأوهام والأسماء. بيد أن الوثنية السياسية لاحقتهم بأذاها فقتل محمد على باشا دعوة ابن عبد الوهاب وقدم رجالها قرابين لسيده فى "الآستانة" وقتل "فاروق"- حفيد محمد على- دعوة حسن البنا واغتال الرجل الكبير بعد ما أرسل وزراءه إليه يستدرجونه إلى مصرعه! وأمل الوثنية السياسية من وراء هذه المذابح أن تبقى على تألهها وسط قطعان من الخدم والسدنة والعبيد، لولا أن الله لم يخيب جهود المصلحين من عباده، فإن الزعماء القتلى لم يتركوا الحياة حتى خلفوا من ورائهم من يحمل اللواء، ومن يعاهد الله على تحطيم الأصنام ما بقى حيا. قرأت وصفا دقيقا للحال التى انحدر إليها المسلمون فى ظل هذه الوثنيات الجائرة، ص _096(1/93)
نشرته جريدة "المصرى" أخيرا تحت عنوان "أمراء ومشايخ أوائل لا يحصون، وعهد إقطاع لا مثيل له". والواصف يروى قصة عجيبة لألوف مؤلفة من السكان الذين يتضورون جوعا ويعيشون فى أغلال الاستعباد المطلق دون أن ينقذهم صريخ، أو يرثى لهم حى، وأين يقع ذلك؟ جنوبى جزيرة العرب حيث تقطن الشعوب ويقوم أمراء، يقال عنهم: إنهم مسلمون(!) قالت الجريدة على لسان وفد من إمارة ا لحج: "فى جنوب بلاد العرب تقع المحميات التسع التى تبسط إنجلترا عليها سلطانها، وهى: بيحان- يافع العليا- يافع السفلى- عواتق العليا- عواتق السفلى- الواحدى- حضرموت- مهرة- لحج. وقد احتل الإنجليز هذه البلاد سنة 1838م واحتلوا كذلك عدن، واستخدموا فى هذا الغزو جنودا من الهند ونفرا من ضباطهم، ثم سيطروا على البلاد كعادتهم، بمعاهدات أبرموها مع أمراء القبائل وشيوخ العربان. معاهدات تضمن لهم ولاء الشعوب المقهورة، نظير ماذا؟ نظير حماية الولايات من عدوان المعتدين، أى أن اللصوص الحمر بعد أن سرقوا البلاد لأنفسهم قرروا ألا يسرقها منهم أحد! وأعطوا بذلك عهدا حتم الوفاء! وقد شرعوا لفورهم يستغلون مياه بحر العرب، ويستخرجون الملح واليود وبعض المعادن لقاء ريالات معدودة. قالت الصحيفة: ويبلغ السكان مليونا ونصف مليون، ومع أن المحميات تسع- عدا عدن- فإن أهلها مبعثرون على سلطنات وإمارات لا حصر لها، ثم إلى مشيخات صغيرة، وإلى جانب كل سلطان أو أمير "مستشار بريطانى" يتلقى تعليماته من حاكم عدن الإنجليزى، ولهؤلاء الأمراء والسلاطين والمشايخ امتيازات خطيرة وإقطاعات ضخمة. وكان من حق سلطان "لحج" السابق وغيره من الأمراء أن يزجوا بأفراد الشعب ص _097(1/94)
فى السجون من غير محاكمة، وكانت رياسة الإدارات العامة مقصورة عليهم، وكانت مياه الرى تمر بأرضهم أولا فإن بقى منها فضل سمح بمروره للأهلين، أما التجارة مع الخارج فهى احتكار على السادة الحكام فحسب. * * * هذه حال فريق من الأمة الإسلامية التعيسة، وإلقاء اللوم على الإنجليز حماقة، فهذه القطعان المسخرة لحكامها- الوطنيين أو الأجانب- ليسوا أسوأ عيشا من القطعان التى تحيا على الطوى فى اليمن ونجد والحجاز حيث لا يوجد إنجليز بل ملوك مسلمون- كما يقولون-: إن اليمن لا تزال تعيش فى عهد عاد وثمود. أما الحجاز فأذكر أني سألت فى مكة رجلا من سراتها: أما لكم هنا نشاط؟ فقال: طلبنا من الحاكم أن يبيح لنا فتح ناد يضم شبابنا فأبى ذلك علينا!! فقلت فى نفسى: لقد كان بمكة فى الجاهلية الأولى ناد، ألم يقل الله تعالى فى شأن أبى جهل (فليدع ناديه) أما مكة فى عهد الإسلام اليوم فمحرم أن يكون بها ناد! قد كان"فاروق" يريد الرجوع بمصر إلى نكسة الحكم المطلق، ألم يحكم على القاهرة أن تبيت بعد العشاء داخل الدور الموصدة كما يبيت الدجاج فى القفص. إن الأسر المقدسة فى مصر واليمن وإيران والعراق وليبيا والحجاز، لها من صفات الله أنها لا تسأل عما تفعل، ونحن نجتهد أن نغير من دستورنا هذا القانون الوثنى!! ولعلنا ننجح فى التفصى من دنيا العبيد. والغريب أن الوظيفة تخلق العضو- فى قوانين الحياة العامة- أما فى منطق الوثنية السياسية، فالعضو يخلق الوظيفة. يوجد الملك أولا ثم يبحث- بعد- عن البلاد التى يحكمها والرقيق الذين يسودهم! ص _098(1/95)
فعل هذا فى الأردن، ويراد فعله فى السودان!! وسيظل يفعل فى بلاد الإسلام، ما نسيت دينها، وآمنت بغير الله، وامتلأت أفئدتها رغبة ورهبة للأصنام الحديثة. والسؤال الفذ الذى أريد إلقاءه، ما هى المعارف الدينية التى تدرس فى ظل الوثنيات السياسية؟ ما هى الدعايات الدينية التى يسمح بانتشارها؟ ما هى الجماعات التى يسمح بقيامها ونشاطها؟ القرآن الكريم: يقول: (إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون). ففساد القرى، وذلة الجماهير من لوازم الوثنية السياسية، وهذه الوثنية لا تأذن لعلم ما أن يتعرض ألبتة لهذه اللوازم، فإذا أراد دين ما أن يعيش، فليبتعد أولا عن لوازم الوثنية السياسية، فساد القرى وذلة الأهلين. وقد استطاع المرتزقة والمحترفون أن يصنعوا جملة من الطقوس والأدعية أسموها الإسلام، لا تعترض على فساد يقع، أو إذلال ينزل، وهذا الإسلام المدعى الملفق هو الذى أسست له مدارس، وقامت بنشره جمعيات، ورضيت عن رجاله الملوك!! ولكنه إسلام لا يعرفه القرآن الكريم، ولا السنة المطهرة، ولا الرجال المجاهدون، هو الإسلام الذى طوح بأهله وراء وراء بعد أن كانوا طليعة العالم أجمع. ووالله ما أدرى أية وظيفة لدين يسكت عن الفساد والمذلة، وأية رسالة لمتدينين يعيشون فى حواشى الملوك المسلطين على العباد بالجبروت والفسق؟ * * * إن العالم خضع قديما لوثنيات شتى، وقد جرت علية سنة التطور فتخلص من عبوديات كثيرة، وكما أن البشر الذين سخروا قوى الكون لهم يستحيون اليوم من ص _099(1/96)
عبادة حجر. فهم كذلك يستنكرون أن يخضعوا خضوع الرقيق لبشر، وهم يبتكرون من الأنظمة والضمانات ما يوطد الحقوق ويمنع المظالم. وقد كانت ثورات الحرية فى الغرب لا دين لها، أما ثورات الحرية فى الشرق الإسلامى فإن الإسلام الحق كان ملهب نيرانها، وموقف جمال الدين ومحمد عبده من تحقير الملوك وتجريء الشعوب عليهم، وتزكية الثورات على الطغيان فى كل قطر إسلامى، ذلك كله معروف ومدروس. إلا أن الاستعمار الغربى- بما يكنه من حقد على الإسلام- آزر ملوك الشرق ضد هياج الشعوب المستيقظة، وعمل على إبقاء الأوضاع المعوجة، لتزيد المسلمين مرضا على مرض. ومن ثم انضم الإنجليز إلى "توفيق" ملك مصر فى مقاتلة المصريين الثائرين على الوثنية السياسية بقيادة الزعيم العسكرى "أحمد عرابى" والزعيم الدينى "محمد عبده". وانهزم الإسلام فى المعركة لأن أمته المهيضة لم تطق الكفاح الطويل، وعادت الوثنية السياسية مرة أخرى تعربد وتغتال، وتهلك الحرث والنسل، لكن قوى الإسلام ما لبثت أن تجددت على يدى "حسن البنا". ولما كان الإسلام يحرر البشر من أغلال الوثنية ليردهم إلى عبادة الله وحده، فقد قدم "حسن البنا" منهاجا للإصلاح العام يشمل الناحيتين الروحية والمادية، وفى الوقت نفسه وجدت هيئات أخرى تحارب المظالم والعبودية ببرنامج مدني بحت لا صلة له بالدين. وقد استبق الفريقان فى الميدان العام، كل يبغى السيطرة عليه، غير أن الملك فاروق استطاع أن ينكل بالطلائع الحرة كلها، وكان قتله لحسن البنا على النحو المشهور مثيرا لمخاوف الجبناء، ومغريا للملك المجرم بالمزيد من الضحايا والسلطات. إننى أقرر آسفا أن الرجال المدنيين استكانوا وذلوا، وأن الأحزاب المصرية سقطت فى امتحان الرجولة، وأن أحدا لم يجرؤ أن يقول للملك اللص الزنيم: قف مكانك! ص _100(1/97)
وأقرر كذلك محزونا أن الجبهة الدينية سادها بعد مصرع "البنا" اضطراب شامل لم ينج منه إلا من عصم الله. وقد حاول بعض رجالها أن يصنعوا لونا من التدين يصمت على إفساد الأرض، وإذلال البشر، لأن الوثنية السياسية تريد هذا!! ولكن الله أذن بطرد فرعون قبل أن يفسد الدين كما أفسد الدنيا. فهل يرجع المشتغلون بالتدين إلى أنفسهم ليروا من آيات الله فى قصم الجبارين ما يثبتهم على الحق؟ هل يرجعون إلى أنفسهم ليعترفوا أنهم لم يعطوا الله حقه حين خشوا غيره ورهبوا جانبه؟! إن هناك رجالا منذ قتل "حسن البنا" لم ينطقوا بحرف فيه رائحة من التحدى للملك السفاك، ولم يلمحوا ولو من بعيد إلى ما اقترفه الرجل المجبول على الشر من آثام فى حق البلاد والعباد، ومع هذا كله فهم معروفون بين الناس بأنهم رجال الإسلام. كأن الإسلام هو الخضوع والاستسلام! *** ص _101(1/98)
خطر التدين المعتل.. إن البون شاسع بين الإسلام الذى انتصر قديما، وصبغ العالم كله بحضارة كريمة مثمرة، وبين الإسلام الذى يتعثر اليوم وينكمش داخل حدوده، يستجدى الحياة بعد أن كان يهبها، وينتظر المنافع من أيدى الآخرين بعد أن كان يسدى الإحسان إلى الناس أجمعين. ولما كانت الأصول العلمية لهذا الدين لم تتغير فى القرون الأخيرة عنها فى القرون الأولى- إذ القرآن هو القرآن، والسنة هى السنة- فإن السؤال الطبيعى الحائر على الشفاه هو: ما السر إذن فى هذه النقائض الصارخة بالعجب؟ وما الذى يجعل أمة ذات كتاب واحد، تتقدم حتى تمسك بالزمام، وتتأخر حتى تدوسها الأقدام؟؟ إن نفرا من الأئمة ألف كتبا قيمة فى الإجابة عن هذا السؤال، وقد التقت آراؤهم عند اتهام المسلمين المتخلفين بأنهم عصاة لا ينفذون وصايا دينهم فى مناحى الحياة المختلفة. والعليل الذى يرفض تناول الدواء لو قتلته العلة فلا لوم على طب ولا عقار، بل اللوم على من ظلم نفسه وآثر الانتحار: (وننزل من القرآن ما هو شفاء و رحمة للمؤمنين و لا يزيد الظالمين إلا خسارا). وهذا كلام صحيح فى جملته. ولكن ما هى المعصية؟ قد يأمر الله بالصلاة أو الصيام فيتهاون المرء فى أمر الله، ويدع هذه الفرائض المطلوبة، أو يؤديها على نحو سيئ قليل الجدوى. وبهذا العوج مع النصوص المحددة يعتبر عاصيا. ص _102(1/99)
أليست هذه صورة العصيان كما نفهمها؟ إنها كذلك!! ولا مراء فى أن هذا الضرب من مخالفة الشريعة المرسومة إثم يستتبع عقابه فى الدنيا والآخرة، وتتحمل الأمة أوزاره فى حاضرها وغدها. غير أن هذا النوع من العصيان ليس أخطر ما تجنى الأمة ثماره، فهناك معاصى أخرى أساسها عدم فهم القانون- لا فهمه ومخالفته- ويجب أن نقف طويلا عند هذا النوع الأخير لأن علاجه أشد عناء من غيره. إن الدين قبل كل شيء يصوغ القلب الذى يستوعب اليقين والإخلاص، ويتوجه إلى الله كما تتوجه الإبرة المغناطيسية فى البوصلة إلى قطبها الدائم فهى مهما اهتزت تستقر عنده.. وصلاح القلب يتطلب كذلك صلاحية الوسائل التى تبلغه أهدافه، فالرجل المؤمن حقا يجب أن ينبعث فى مشاعره كلها عن قلب سليم، حتى ينفذ التعاليم الجزئية فى الشريعة بدقة. وحتى ينفذ التعاليم الكلية ببصر سديد، وإدراك جيد.. وعمل القلب المدخول فى الحياة هو عمل "البوصلة" الفاسدة فى هداية الطريق!!.. إن الطاعة والمعصية ليست خطرات عابرة تعرض للقلب على عجل ثم تنفك كذلك على عجل، كلا، إنها آثار لانطباع القلب نفسه بالخير والشر، ومظاهر لتوجهه إلى رب العالمين، أو انقطاعه عنه. وأكثر المسلمين يحسب الانقياد أو التمرد حالة للجسم لا حالة للنفس. وهم- لذلك- يظنون الحسنات والسيئات أمورا تعد على الأصابع، قبل أن يظنوها صورة للروابط الحقيقية بين الإنسان وخالقه، وهذا سر فساد كثير من المتدينين، وسر الضعف الشنيع البادى فى أخلاقهم ومسالكهم. وصلاح النفس لا يغنى عن صلاحية الوسائل التى تصل بها إلى ما تريد، ص _103(1/100)
فالسيارة المعدة لقطع المراحل الشاسعة مهما جادت آلاتها، وضخم استعدادها، لابد لها من طريق ممهدة، ومن خبير بهذه الطرق!! وإلا.. فلا جدوى لقوتها وعدتها. والمؤمن الطيب القلب لن يقوم بوظيفته فى الحياة إلا إذا عرف الحياة نفسها، واتسعت إحاطته بدروبها ومتاهاتها وأسرارها، فإن كان ساذجا أو مغفلا أو قاصر النظر، أو قليل الفطنة، فسوف يقف مكانه محسورا، بل ربما اجتاحه من مكانه الآخرون. والجهل بالحياة مرض شاع بين المتدينين، وهم يعتمدون على سلامة طويتهم أكثر مما يعتمدون على عمق فهمهم، ودقة فقههم، ولذلك يفشلون حيث ينجح غيرهم..!! لابد لنجاح النهضة الدينية من سلامة النفس والعقل، لأنه لا دين، ولا نهضة به، مع مرض النفس والعقل. والرجل الصوام القوام، المتخلف بفكره عن فهم العالم الكبير وما يدور فيه، المتخلف بنفسه عن تذوق الحق والإخلاص له- رجل ساقط فى موازين الإسلام، وهو- بالتالى- فاشل فى ميادين الحياة.. وإلى هذا النوع من العصيان يعود تأخر المسلمين فى بلادهم، وسقوط خلافتهم الكبرى فى أرض الله.. إن شرب الخمر معصية قد تنتشر وقد تنكمش، بيد أن هذه المعصية لا تطوى ألوية الأمة طيا سريعا كما يطويها قصور العقل وفساد الأفئدة. ولست أهون بهذا من شأن جريمة السكر ولا من ضرر حسمها. ولكنى ألفت النظر إلى أن الأمة المخمورة بالقصور النفسى والعقلى، لا تفيق من غفلتها، ولا تقوم من عثرتها، على حين أن الأمم التى تنتشى بالأشربة المسكرة تغيب وتصحو، وتكبو وتقوم!!. ص _104(1/101)
ومن هنا حكم الأوروبيون بلادنا- والخمر حلال بينهم- مح أنها محذورة الشر عندنا، إلا أن لدينا شرا أنكى منها يأكل الأفكار والمشاعر، هو هذا التبلد العقلى، والموات العاطفى!!.. ولو أن المرء التافه فى قلبه ولبه يلقى عواقب عجزه فى خاصة نفسه لهان على الدنيا أمره.. هب أن رجلا دخل ميدان التجارة وهو لا يعرف عن طبيعة السوق شيئا، أو دخل وهو ينوى اتباع وسائل اللصوص فى الكسب والغش، إنه لا يلبث طويلا حتى ينسحب من السوق وقد أضاع ماله، وخرج صفر اليدين. ولن تعدو القصة أن رجلا جاهلا فتح دكانا ثم أقفله، وانتهى الآمر.. لكن النكبة أن يدخل فرد، أو تدخل جماعة ميدان الجهاد الرحب، فإذا جئت تبحث عن هذا المجاهد ووسائل نجاحه التى أعدها، وجف قلبك من تفاهة ما ترى.. قلب تغلفه نزغات الحمأ المسنون، ففيه من شهوات الدنيا نتن، وعقل تثبت فيه الأشياء مقلوبة، فلا تكاد ترى له حكما صائبا على شىء أبدا.. فى هذا الميدان يخسر الدين كل شيء، لأنه لا يملك من أسباب الغلب شيئا ورجاله كما ترى.. فإذا ظفرت الدعوات الأخرى برجال كبار القلوب والعقول، فإن المستقبل يتمحض لها وحدها!! والدين قد ينفرد بالعبادات التى يلزم بها المرء من صلاة وصيام مثلا ولكنه فى ميدان الإصلاح العام يزاحم ببرامج شتى، فإن حارب الفقر أو الاستبداد بمناهج معينة، فإن هناك مبادئ وفلسفات أخرى تحارب الفقر والاستبداد كذلك ببرامج معروفة. ولن ترجح كفة الدين على غيره، وتنطبع الحياة بتعاليمه إلا إذا كان العلاج الذى ص _105(1/102)
يتقدم به رجاله أسرع وأقطع، وأصرح وأوضح، و إلا فلابد أن يتقهقر الدين وتتقدم هذه البرامج..! خذ مثلا مشكلة "الإقطاع" وما تتركه فى جسم الأمة من علل سياسية واقتصادية واجتماعية ونفسية.. كان الملك، والنظام الذى يقوم عليه جرثومة هذا الفساد العريض. فإذا رأيت أهل الدين ضعفاء الإحساس بهذه العقيدة، خافتى الصوت باستنكارها، على حين يصرخ غيرهم بلعن الملك ونظامه، وينعى بقوة على عهد الإقطاع الذى يلابسه، فهل يضار من ذلك إلا الدين نفسه؟ وإذا ولى الملك الفاسق فشيعه المتدينون بتعليقات فاترة، بينما تعقبه الآخرون بالزمجرة والويل، فهل تنجح برامج الإصلاح الدينى بهذا الموقف المتهافت؟ ربما قال لى القارئ: إنك صاحب كتب تعتبر الطليعة العقلية للزلزال الذى هدم الطاغوت، وهى كتب داعية مسلم فى جماعة تكافح للإسلام، ولغيرك كذلك هذا الجهد المذكور. وهذا الاعتراض لا يغير شيئا مما قلت، فإن صلة المؤلف الحر بالقراء الأحرار لا ترسم سياسة تسأل عنها هيئة. وقد رمقت الملك المطرود وأمواج البحر تحمل سفينته إلى حيث ألقت... ثم أمسكت بعدئذ بصحيفة يومية نشرت حديثا لرجل سموه قديما "الباشا الأحمر" قرأته ثم طويته وأنا أتنهد، يقول الرجل التقدمى تحت عنوان: (نهاية نظام): "إن إخراج الملك السابق قهرا من الحكم، و إبعاده عن البلاد ليس كما يتوهم البعض فى الداخل وفى الخارج، واستبدال شخص بشخص، أو بأشخاص، بل هو حادث تاريخى له آثار بعيدة المدى فى كياننا القومى، بل الحياة الدولية العامة، إنه نهاية عهد وانهيار نظام، وبداية عهد جديد، تسود فيه إرادة الشعب المصرى. متحررا من الاستعباد والاستغلال الذى أرهقه وأشقاه. ولن أبعد عن الحقيقة إذا ذكرت لمواطنى وللناس جميعا أن المدافع التى أطلقت ص _106(1/103)
حين غادر الملك السابق أرض الوطن لم تكن تحية، بل كانت إيذانا بدفن هذا العهد الذى كان يمثله الملك السابق بأوضاعه، وإدخال هذا العهد ونظامه فى ذمة التاريخ، وفى طيات الماضى. ما هو هذا العهد، الذى كان يمثله الملك السابق؟. إنه كان نظاما يقوم على الطبقات، جهاز الحكم وأوضاعه نسقت لتأييد هذه الطبقات، والطبقة العليا منها هى التى تتصل بالملك. فالحكومة التى كان يرأسها، كانت من المصريين، لكنها مع هذا، كانت تعتبر نفسها منفصلة عن المصريين بل فوق المصريين، وسيدة عليهم، لها قداسة تشمل حتى أصغر عمالها. هذه القداسة مفروضة بقوة السلاح وبالسجون. يرى مواطنىّ أثر هذا فى أن أصغر جندى من جنود الشرطة له بحكم القوانين صفة التعالى على الشعب، هناك فى تلك القوانين مادة لمن ينتقص من الجندى بالقول أو بالإشارة! وهذه القداسة تسمو وترتقى فى طبقات الموظفين الذين يتكون منهم جهاز الحكم، فإذا وصلت إلى الملك أو لعائلته كانت ذاته مصونة لا تمس، وكان نقده محرما. بل يعتبر جناية كبرى. ويرى مواطنىّ هذا المعنى ماثلا فى أشخاص الوزراء إذ يتمتعون بامتيازات خاصة. بل تفتح لهم أبواب يمرون منها حين سفرهم. لا يدخلها الشعب. تحوطهم هالة هن السلطة والقداسة والحراسة. كل هذه المعانى قد اندثرت وزالت أو هى فى سبيلها إلى ذلك". هذه الكلمات الصريحة على بساطتها فى توديع عهد الاستبداد واستقبال عهد الحرية لم نسمعها- للأسف البالغ- من رجال الجبهة الإسلامية من هواة ومحترفين، أفهذا الصمت مما يخدم به الإسلام؟ أم أن هذا الصمت ذريعة إلى اتهامهم بأنهم غير مكترثين- على الأقل- بما كان ويكون؟ *** كان الرسول معلما ومربيا، لأن الإسلام يقوم على الأمرين جميعا. ص _107(1/104)
التعليم يتجه إلى العقل فيملؤه بأشتات من المعارف الصحيحة عن الحياة ورب الحياة. والتربية تتجه إلى النفس، فتتعهد غرائزها بالتقويم والتهذيب، فما كان من خير أبقته ونمته، وما كان من شر بترته أو حكمته. ولم تكن وظيفة الرسول أن يتلو على الناس كتابه فحسب، فإن رسالته يستحيل أن تتم بجملة من الأحكام والعلوم يشحن بها عقول السامعين، كما أن البشر لا يبلغون كمالهم بالمعرفة المجردة، بل لابد من تعهد الأجيال بالتمحيص والتجارب والابتلاء حتى يتربوا وينتجوا ويطيبوا، وذاك معنى التزكية التى قرن الله بها التلاوة فى قوله: (لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين). والرسالات الكبرى إذا تطلعت إلى الحكم وسلطانه فلكى تضمن تنشئة الجماهير على ما تقر من مبادئ، ومن ثم فالحكم فى الإسلام وسيلة لا غاية. إنه وسيلة إلى إقرار الفضائل وإقصاء الرذائل، وتربية النفوس على الحق والخير والنظر إلى الأفراد والشعوب على ضوء هذه الحقيقة وحدها، وليس يتصور فى دعوة الله ورسوله أن تفصل بين العلم والتربية فى منهاجها، ولا أن تتخلى عن هذا الميزان الحساس فى تقديرها لأصناف الناس. * * * إن التربية ليست أمرا سهلا حلو المذاق خفيف المؤنة. ذلك أن المرء قلما يتخلص من نزعاته الرديئة إلا بعد جهد جهيد وزمن مديد.. ونحن إذا دققنا النظر فى الفرائض التى أوجبها الله على عباده وجدناها مدارج للكمال المنشود، ولعل من أعظم وسائل التربية تعبئة الأمة فى جهاد نظيف الغرض طويل المدى، فإن ما يكتنف حياة الجهاد من قسوة ومصابرة يتسلط على النفس كما ص _108(1/105)
تتسلط أشعة الصيف على السنابل الطرية فتنضجها، أو كما يتسلط لهب المواقد على الأطعمة الفجة فيطيبها. والمرء لا تطيب نفسه إلا على هذا النحو، إنه يظل فى عراك مع الأيام، ترميه بأغراضها، ويلقاها بفضائله، لا يسقط ولا يتعثر، حتى ينتهى أجله فى الحياة وهو ممن قال الله فيهم: (ولنعم دار المتقين * جنات عدن يدخلونها تجري من تحتها الأنهار لهم فيها ما يشاءون كذلك يجزي الله المتقين * الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون). وفقدان التربية الصحيحة من أسوأ علل الشرق الإسلامى، فإن كثيرين من المسلمين يلصقون عنوان الإسلام على أنفسهم كما تلصق الورقة المزوقة على حائط مثقوب أو جدار مشوه! وهذا عبث، إن تجاوز عنه الناس فلن يرضى عنه رب الناس. إن الإسلام لا يستر بلى البناء بطلاء كاذب، ولكنه يهدم ويحفر ليضع الركائن المتينة، ثم يشيد بعد ذلك الشرفات السامقة.. إن الإسلام يعرف الخير حقيقة متغلغلة فى النفس، ولا يعرفه مظهرا تافها. وإنك لترى فكرته عن الخير فى وصفه الأجواد الأخيار بقوله: (ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله وتثبيتا من أنفسهم كمثل جنة بربوة أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابل فطل والله بما تعملون بصير). والفرق بين التدين المصنوع، والتدين المطبوع كالفرق بين وجه دميم يختفى تحت مساحيق حمراء وبيضاء، ووجه نقى أغر لا تفارقه ملاحته فى ليل أو نهار.. والفرق بين الرجلين كالفرق بين ممثل يؤدى دوره على المسرح، فهو يتكلف له ص _109(1/106)
ريثما ينتهى منه.. ورجل يواجه الحياة بصميم نفسه، وحقيقة حسه!. *** لكن الله لا يدع الجوهر يخفى والمظهر يطغى إلى آخر العمر، فإن الناس على مر الأيام وأنواع البلاء يتكشفون على ما بين جوانحهم وحده. ومهما تكن عند امرئ من خليقة وإن خالها تخفى على الناس تعلم وعندئذ يكون الحساب الدقيق على خلائق الإنسان الغالبة. ويرى المحققون من العلماء أن هذا معنى ما ثبت عن النبى صلى الله عليه وسلم : "إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يبقى بينه وبينها ذراع فيسبق عليه الكتاب فيصير إلى أهل النار. وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يبقى بينه وبينها ذراع فيسبق عليه الكتاب فيصير إلى أهل الجنة". فليس القصد من الحديث أن رجلا صالحا يرتكب آخر عمره خطأ فيذهب إلى الجحيم، أو العكس! كلا. إن موازين العدل الإلهى أحكم وأدق مما يظن الجاهلون. بل الحديث يصف ضروبا من الناس تخالف ظواهر أحوالهم خفايا نفوسهم يبقون سنين طوالا على هذا التناقض، ثم ترسو سفنهم آخر الأمر على ما يؤثرون ويستحبون. إنك قد تلمح فى أهل الدنيا رجالا تحسبهم مغرقين فى حبها، فإذا غلغلت النظر فى طويتهم، رأيت انعطافا نحو الله، وشوقا إلى عبادته. وقد تلمح فى أهل الدين رجالا عليهم سيما الصالحين، وإخبات المنيبين، فإذا رجعت الطرف وجدت رغبة فى الحياة، وحرصا على زخرفها. إن هؤلاء وأولئك تناقض ظواهرهم بواطنهم، لهؤلاء باطن أهل الجنة وإن ظهرت على جوارحهم أعمال أهل النار. ولأولئك باطن أهل النار وإن ظهرت على جوارحهم أعمال أهل الجنة. وهذا التناقض لا يطول أمده؛ فإن الله ينهيه على ص _110(1/107)
النحو الذى ذكره الكريم وما أصدق قولهم "العبرة بالخواتيم". * * * وقبل أن تتمخض الأيام والليالى عن أقدار الناس نرى الأعاجيب. ومن الأعاجيب التى تبرق أمام أعيننا فى هذه الأيام قوما ما ظلوا فى موكب الحق سنين يحاربون عنه ويهتفون له. ثم بدا لهم أن الشقة بعيدة، والتكاليف باهظة، فسكنوا، فلما سكنوا شاء الله أن يهزم الباطل بأيدى غيرهم. ولو أنهم صبروا قليلا لأحرزوا الشرف أولا وآخرا. أما سمعت عن قوم ظلوا معتبرين أعداء الملك، وأصدقاء الدستور ثلاثين عاما، ثم إن أعداء الطاغية فكروا قليلا، فسالموه. وما إن سالموه حتى سقط وهم اليوم يحاسبون على سلمهم له فحسب، أما خصامهم له ربع قرن فقد أضاعته هفوتهم الأخيرة..؟ كذلك صنع الوفد المصرى مع القصر! إننى أريد من الإخوان المسلمين أن يذكروا، وأن يتعظوا. أن الحياة للمبادئ المجردة قد تتطلب خصاما لا يدرى له آخر. خصاما لا تلطف حدته ولا يجدى فيه إلا الرباط بعد الرباط. * * * ص _111(1/108)
الأمة والفساد الملكى (1) الحاكم- فى نظر الإسلام- رجل تختاره الأمة، لأنها تراه أجدر بقيادتها وزعامتها، ولأنها ترى فى صفاته الموهوبة والمكتسبة ضمانا لولاية أمرها، على وجه يحقق مصالحها فى الدين والدنيا.. والحكم- كأى وظيفة- لا يرشح لها نسب خاص ولا لون معين. إنما يرشح لها من يسد فراغها ويحمل أمانتها.. وقد يتساهل الناس فى ملء الوظائف الصغرى بمن يفقدون بعض شرائط الاستحقاق، ولكن هذا التساهل إن قبل ضرره فى الأعمال التافهة فإن وزره فى إفساد المناصب الكبرى لا يطاق. ومن ثم فإن مناصب الإمارة والوزارة وأشباهها يجب أن ينتقى لها العمالقة والأبطال، والويل لأمة تسلم زمامها للسفهاء والضعفاء. وقد جعل الله أمر المسلمين شورى بينهم، ليبحثوا فى صفوفهم كلها عن الكفء لإمامتهم، فإذا وجدوه بايعوه عن رضا ومحبة، حتى إذا أصبح أميرا فيهم وجب عليه ألا يقطع دونهم أمرا، ووجب عليهم ألا يحجبوا عنه نصحا وبذلك تسير القافلة. وقد قامت دولة الخلافة الراشدة على هذه الأسس، وكان نظامها فريدا فى العالم يومئذ، إذ كان الروم والفرس وأمثالهم من الأمم يسودون أسرا تتوارث الحكم بين أفرادها، كلما هلك ملك ورثه على نواصي العباد ملك آخر. وتوريث الملك - والملك والحكم سواء- من أبرز مآثر الجاهلية الأولى. ص _112(1/109)
بيد أن الإسلام- وهو دين الفطرة النظيفة، والعقل الرشيد- شرع لأمته معالم الشورى، ورد إلى الشعوب حقها الكامل فى اختيار حكامها، وأسقط قيم الدماء والعناصر فى موازين التفاضل، فلم يبق فى أرضه مكان لمن يزعم مجدا، ويستحق بهذا الزعم ملكا!! وهذا الذى قرره الإسلام قديما.. هو ما قامت من أجله ثورات الحرية فى المشرق والمغرب. فأصبح رؤساء الدول يختارون من صميم الشعب. فى صورة مكبرة للبيعة التى جاءت بالخليفة الأول فى الإسلام. غير أن طبيعة الحياة الدنيا غلبت طبيعة المثل العليا التى قررها الدين. فقد استطاع معاوية بعد ثلاثين عاما أن يلتوى بنظم الحكم الأولى، وأن ينقل عن الروم والفرس بدعة النظام الملكى إلا أنه واءم بين البدعة التى استجلبها وبين ما استقر فى نفوس الناس من أن الأمر شورى وأن الخلافة أو أن الأمة- كما نقول- مصدر السلطة. فاحتال لنقل الملك إلى ابنه يزيد. بأن دعا الناس فى حياته إلى عقد البيعة له فأصبح يزيد ملكا بالبيعة التى اصطنعت له وإن شعر الناس بأن النظام الإسلامى قد عراه تغير خطير وأن هذه البيعة المفتعلة ستار لعودة الجاهلية الأولى فى توريث الملك.. ولم يحتج الملوك المسلمون- بعد استقرار النظام الملكى- إلى هذه المبايعات الصورية، فأصبحت ولاية العهد قانونا مرعى الجانب، مرهوب السلطان. وهكذا تدرج الفساد فى أصول الحكم. أتى بالملوك عن طريق البيعة، احتراما لرأى الإسلام فى تحكيم الجمهور ثم أهملت مشاعر الجماهير، وفرض عليهم وراث المجد المؤثل! ثم أصبح التفكير فى تحكيم الجمهور جريمة يعاقب عليها القانون...! وهذا مصداق الأثر الكريم: "كيف بكم إذا تركتم الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر؟!. كيف بكم إذا رأيتم المنكر معروفا والمعروف منكرا؟!. كيف بكم إذا أمرتم بالمنكر ونهيتم عن المعروف؟!" ص _113(1/110)
وامتلاك معاوية للأمر، واستطاعته تحويل مجرى الإسلام على هذا النحو، يرجع إلى أن البشر عادة يخضعون للكبراء وأبناء الكبراء، إذا احترموا الدين، وكانوا أصحاب تلطف وسماحة. وقد كانت أسرة عبد شمس صاحبة الحكم والسلطان فى الجاهلية. فلما دخلت الإسلام أخيرا لم تلبث طويلا حتى استطاعت بماضيها العريق، وسياستها اللبقة أن تسترجع سيادتها الأولى. ثم تسخر الدين والدنيا لتدعيم مكانتها.. وتصور مثلا أن الأمير "محمد على" وبعض النبلاء انضموا إلى الإخوان المسلمين قبل وفاة "حسن البنا" بسنوات قلائل انضماما صحيحا، أفترى أن قيادة الإخوان ومناصب الدعوة والدولة كانت تتجاوزهم إلا قليلا؟. إن كرم محتدهم- كما يؤكد الناس- يغالب السبق والبلاء والتضحية. ولذلك لا أعجب إذا كان "على" وصحبه من أولى السبق فى الإسلام يلعنون على المنابر فى ظل الحكم الأموى الوراثى الجديد. إنها طبيعة الحياة الدنيا غلبت ثم وجدت من الكتاب والشعراء والعلماء من يمشى فى الركاب، ويرضى بالواقع، ويستكين لسير الأمور، بل لعله يبررها ويتصيد لها الفتوى. ونحن لم نعدم- من فقهاء الدنيا- من كان يثنى على الملك "فاروق" خيرا، ومع معرفتهم بأنه من أحط ملوك الأرض، وأغلظهم كبدا، وأقذرهم يدا. فقد أصدروا الأمر لأئمة المساجد أن يدعوا له على المنابر قائلين "اللهم إنا نسألك أن تنصر عبدك المخلص فى طاعتك فاروقا الأول" وكان كثير من الناس يؤمن على الدعاء وهو لا يدرى ما يقول ولا ما يقال!!. إنه من فضل الله علينا أن رفضنا السير فى موكب العبيد، وأننا شننا حربا ص _114(1/111)
ضارية على الفساد الملكى وحواشيه وذيوله وظاهره وباطنه، وجرأنا العامة على النيل منه والتهجم عليه. ولئن كانت ثورة الجيش قد أفلحت فى اكتساح هذه المساخر فإن ذلك بتوفيق الله، ثم بما نشرنا فى طول البلاد وعرضها من أفكار حرة ضد الاستبداد والفوضى!! على أنى أوجه هنا شيئا من اللوم للأدباء- الذين لم يكتفوا بسكوتهم فى معركة الحق بين الأمة وجزاريها، وبين الدين ومضيعيه- بل كانوا بين الحين والحين يعرضون لدعوتنا بالنقد والرد، والغمز واللمز. ويريدون- تحت عنوان الدفاع عن الصحابة- أن يوهموا الناس بأن للوثنية السياسية أصلا مشروعا، وأن توارث الملك قد سبقت به الأسوة الحسنة فيما صنعه معاوية باستخلاف يزيد!! ومع أن جمهور المسلمين يخطئ معاوية فيما صنع، ومع أن العالم الإسلامى قد أمسك بالفأس فى يده يريد أن يجتث من ربوعه المنهوكة آخر ما أبقت الوثنية السياسية من مآثر منكرة. ومع ذلك فقد فوجئت بكتاب للقاضى أبى بكر بن العربى يجدد فى هذه الأيام نشره، وأحر ما فيه دفاع عن يزيد بن معاوية، وعن تقاليد الحكم الملكى المطلق، وإليك عبارات مما حوى الكتاب ص 22: (إن معاوية ترك الأفضل فى أن يجعلها شورى، وألا يخص بها أحدا من ص _115(1/112)
قرابته.. فعدل إلى ولاية ابنه وعقد له البيعة.. فانعقدت له البيعة شرعا لأنها تنعقد بواحد وقيل باثنين)!. هذا الكلام الذى يقوله ابن العربى فارغ لا وزن له فى الإسلام، فالعدول عن الشورى ليس عدولا عن الأفضل بل عدولا عن الواجب، وما يطلب الساسة المستبدون أكثر مما قاله ابن العربى ويكرر فى هذا الزمان الأسود. ومن غرائب ابن العربي هذا تعليقه على مقتل حجر بن عدى بقوله: (فإن قيل: الأصل قتله ظلما إلا إذا ثبت عليه ما يوجب قتله، قلنا: الأصل أن قتل الإمام يكون بالحق فمن ادعى أنه بالظلم فعليه الدليل"!! (ص 212) أى الأصل فى تصرف الحكام الصحة ولو كان سفك الدم. والخطأ يعرض لهم من بعيد!!.. وهذا قول منكر فالأصل فى الدماء أن تصان وما تستباح إلا بالدليل القاطع وكان ينبغى أن يظل كلام "ابن عربى" مطمورا فما يساء إلى الإسلام بنشره فى أيام توضع فيها الشرائع لقمع الحكام وإلزامهم حدود الأدب.. ولكن الإسلام المتعب من كيد أعدائه، يقوم فريق من بنيه بنشر هذه السخافات دعاية له. إننا سنفرد فصلا خاصا بما فى هذا الكتاب من أخطاء. ونحذر الإخوان المسلمين من أخذ دينهم إلا عن من يوثق بعلمهم وفقههم.. فما كل قديم له قداسة، ولا كل جديد يقابل بريبة. وقد بسطنا لهم فى كتبنا سياسة الإسلام فى الحكم وفى المال. فإن كان هذا رد المعترضين علينا فما أهون الرد، وأوهن النقد.. *** ص _116(1/113)
هل الحكم الشرعى كلام فارغ؟ .. 2 .. لو سألنى سائل عن الصحف الدورية الحبيبة إلىّ، الأثيرة عندى، لكان أول ما يخطر ببالى فى الجواب عليه أنها صحيفة "الدعوة" و"المسلمون". ولو سألنى أن أُسمى له عشرة من الكُتاب هم فى طليعة من أحبهم، وأحترم إخلاصهم، وأكبر جهادهم. لكان من هؤلاء العشرة- الذين أرجو الله أن يكونوا من أهل الجنة- الأستاذ محمد الغزالى، والأستاذ سيد قطب. وأعترف بأنى إذا وصلتنى "الدعوة" فأول ما أقرؤه من فصولها مقالتا هذين الأخوين الفاضلين. وقد صدمت فى هذا الأسبوع صدمة آلمتنى فى أمتع ناحية من عواطفى. وأدناها من قرارة المحبة والطمأنينة والسعادة. عندما قرأت لأخى الشيخ الغزالى مقاله الأخير "الأمة.. والفساد الملكى". ولو غيره قالها ممن يسفهون أحكام الإسلام. ويتعمدون تشويه جمال ماضيه. لأدرت القول معه من ناحية "حق الله" وما يجب على المسلم من الدفاع عنه والمحافظة عليه. ولكن الشيخ الغزالى- فيما قرأت له من نفثات قلمه- أرعى منى لحق الله، وأشجع منى فى الدفاع عنه، وأيقظ منى فى المحافظة عليه. ثم إنه رجاع إلى الحق. قوام بأحكام الشرع- يسره أن يكون تاريخ المسلمين ولاسيما فى صدره الأول- نقيا فى الواقع مما يصمه به المغرضون. ص _117(1/114)
لذلك أصبح من الواجب على أن أدير القول مع الأخ الحبيب من ناحية "حق المسلم على أخيه المسلم" لتكون يدى بيده، وهما فى طريقهما إلى الهدى إن شاء الله. يقول أخى الشيخ الغزالى: (فوجئت بكتاب للقاضى أبي بكر بن العربي، يجدد فى هذه الأيام نشره، وأحر ما فيه دفاع عن "يزيد بن معاوية"، وعن تقاليد الحكم الملكى المطلق. وإليك عبارات مما حوى الكتاب: (إن معاوية ترك الأفضل فى أن يجعلها شورى، وألا يخص بها أحدا من قرابته، فعدل إلى ولاية ابنة وعقد له البيعة.. فانعقدت له البيعة شرعا، لأنها تنعقد بواحد، وقيل باثنين). قال الشيخ الغزالى: (وهذا الكلام الذى يقوله "ابن العربى" فارغ لا وزن له فى الإسلام. فالعدول عن الشورى ليس عدولا عن الأفضل، بل عدولا عن الواجب، وانعقاد البيعة بواحد أو اثنين فهم منكر لدين الله). وكنت أتمنى أن يكون ما قاله الأستاذ الغزالى عن إمام فقهاء أهل الأندلس والمغرب فى عصرهما الذهبى القاضى "ابن العربي" قد قاله لى أنا، ولتعليقاتى على (العواصم من القواصم) إذن لكان قوله أهون على، ولكان وقعه فى صدرى أرحب وأوسع. أما أن يقول ذلك فى إمام فقهاء عصره، وهو الذى لو أدركه كل الذين يحترمهم الشيخ الغزالى من زعماء الإسلام وعظمائه فى هذا العصر، لجلسوا فى حلقته فى مجلس تلاميذ تلامذته، وأن كتابا واحدا من مؤلفاته وهو: (أنوار الفجر) لو عشت أنا وأخى الشيخ الغزالى مائة وخمسين سنة ما بلغ بنا العلم أن نترك للمسلمين ص _118(1/115)
كتابا- عن كتاب الله- فى حجمه وجودته، وغزارة مادته، وسداد فهمه فيه للإسلام وتشريعاته. فهل هذا الإمام- حتى على فرض أنه يتكلم من رأيه واجتهاده- يتناول وهكذا. كان ينبغى لنا أن نتأنى كثيرا، وأن نفكر طويلا، وأن نبحث وندرس، قبل أن نصف قوله بأنه "كلام فارغ" فكيف به وهو يقرر لنا حكما شرعيا من أحكام الفقه الإسلامى استمده المجتهدون من الينابيع التى استمدوا منها سائر فروع الفقه وأحكامه، وهو يقول لنا صراحة ونصا: "فانعقدت له البيعة (شرعا) لأنها تنعقد بواحد، وقيل باثنين". إن هذا الذى يقرره هذا الإمام من أئمة المسلمين هو الحكم الشرعى، قرره الذين سبقوه أو عاصروه أو جاءوا بعده من الأئمة، وليس رأيا له ولا اجتهادا. ومن الكتب القريبة التداول فى أيدى الناس، والمطبوعة غير مرة، التى لم يتخلف عن دراستها والاعتماد عليها أحد من المشتغلين بعلوم الإسلام، أو المستشرقين، كتاب (الأحكام السلطانية) لقاضى قضاة الشافعية فى البصرة والعراق، الإمام أبى الحسن الماوردى، فقد قال فى ص 4 من الطبعة المصرية سنة 1327 هـ ما نصه بالحرف الواحد: "فصل- والإمامة تنعقد من وجهين: أحدهما باختيار أهل الحل والعقد والثانى بعهد الإمام من قبل. فأما انعقادها باختيار أهل الحل والعقد، فقد اختلف العلماء فى عدد من تنعقد به الإمامة على مذاهب شتى: فقالت طائفة: لا تنعقد إلا بجمهور أهل الحل والعقد من كل بلد، ليكون الرضا به عاما، والتسليم لإمامته إجماعا. وهذا مذهب مدفوع ببيعة أبى بكر رضى الله عنه على الخلافة باختيار من حضرها، ولم ينتظر لبيعته قدوم غائب عنها. ص _119(1/116)
وقالت طائفة أخرى: أقل من تنعقد به منهم الإمامة خمسة، ويجتمعون على عقدها. أو يعقدها أحدهم برضا الأربعة. استدلالا بأمرين: أحدهما: أن بيعة أبى بكر الصديق- رضى الله عنه- انعقدت بخمسة اجتمعوا عليها، ثم تابعهم الناس فيها وهم: عمر بن الخطاب، وأبو عبيدة بن الجراح، وأسيد بن حضير، وبشير بن سعد، وسالم مولى أبى حذيفة، رضى الله عنهم. والثانى: أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه جعل الشورى فى ستة، ليعقد لأحدهم برضا الخمسة. وهذا قول أكثر الفقهاء والمتكلمين من أهل البصرة. وقال آخرون من علماء الكوفة: تنعقد بثلاثة يتولاها أحدهم برضا الاثنين ليكونوا حكاما وشاهدين، كما يصح عقد النكاح بولى وشاهدين. وقالت طائفة أخرى: تنعقد بواحد، لأن العباس قال لعلى رضوان الله عليهما: امدد يدك أبايعك فيقول الناس: عم رسول الله ! بايع ابن عمه فلا يختلف عليك اثنان. ولأنه حكم، وحكم الواحد نافذ. وقد بسط القول فى هذه الوجوه ومصادر استنباطها، وناقشها، ونصر أقواها إمام آخر من أئمة الفقه والعلم، وهو الإمام "أبو محمد بن حزم" فى كتابه: (الإمامة والمفاضلة) المدمج فى الجزء الرابع من كتابه: (الفصل فى الملل والنحل) ص 167 عن طبعة مصر سنة 1321 هـ قال: "قال أبو محمد: أما من قال: إن الإمامة لا تصح إلا بعقد فضلاء الأمة فى أقطار البلاد، فباطل، لأنه تكليف ما لا يطاق، وما ليس فى الوسع، وما هو أعظم الحرج، والله تعالى قال: "لا يكلف الله نفسا إلا وسعها". ولا حرج ولا تعجيز أكثر من تعرف إجماع فضلاء من المولتان والمنصورة إلى ص _120(1/117)
بلاد مهرة، إلى عدن، إلى أقاصى المصامدة، إلى طنجة، إلى لشبونة، إلى جزائر البحر، إلى سواحل الشام، إلى أرمينية وجبل القبج، إلى أسبنجاب وفرغانة وأسروشنة، إلى أقاصى خراسان، إلى المجورجا، إلى كابل فما بين ذلك من المدن والقرى. ولابد من ضياع أمور المسلمين قبل أن يجمع جزء من مائة جزء من فضلاء أهل هذه البلاد. فبطل هذا القول الفاسد، مع أنه لو كان ممكنا لما لزم، لأنه دعوى بلا برهان. وأما قول من قال: إن عقد الإمامة لا يصح إلا بعقد أهل حضرة الإمام.. فهو قول فاسد لا حجة لأهله، وهو قول فى الدين عرى عن ذلك- من القرآن أو من سنة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أو من إجماع الأمة المتقدمة- فهو باطل بيقين. قال الله تعالى: (قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين). وأما قول الجبائى (إنها تنعقد بخمسة) فإنه تعلق فيه بفعل "عمر" رضى الله عنه فى الشورى إذ قلدها ستة رجال، وأمرهم أن يختاروا واحدا منهم، فصار الاختيار منهم بخمسة فقط. قال أبو محمد: "وهذا ليس بشىء، لوجوه: أولها: أن عمر لم يقل: إن تقليد الاختيار لأقل من خمسة لا يجوز بل جاء عنه أنه قال: إن مال ثلاثة منهم إلى واحد، وثلاثة إلى واحد، فاتبعوا الثلاثة الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف، فقد أجاز عقد ثلاثة. ووجه ثان: وهو أن فعل عمر رضى الله عنه لا يلزم الأمة حتى يوافق نص قرآن أو سنة، وعمر كسائر الصحابة رضى الله عنهم لا يجوز أن نخصه بوجوب اتباعه دون غيره من الصحابة رضى الله عنهم. والثالث: أن أولئك الخمسة رضى الله عنهم قد تبرءوا من الاختيار وجعلوه إلى واحد منهم يختار لهم وللمسلمين من رآه أهلا للأمانة، وهو عبد الرحمن بن عوف، ص _121(1/118)
وما أنكر ذلك أحد من الصحابة الحاضرين ولا الغائبين إذ بلغهم ذلك فقد صح (إجماعهم) على: أن الإمامة تنعقد بواحد. فإن قال قائل: إنما جاز ذلك لأن خمسة من فضلاء المسلمين قلدوه، قيل له: إن كان هذا عندك اعتراضا فالتزم مثله سواء بسواء ممن قال لك: إنما صح أولئك الخمسة لأن الإمام الميت قلدهم ذلك، ولولا ذلك لم يجز عقدهم. وبرهان ذلك أنه إنما عقد لهم الاختيار منهم لا من غيرهم فلو اختاروا من غيرهم لما لزم الانقياد لهم فلا يجوز عقد خمسة أو أكثر إلا إذا قلدهم الإمام ذلك. أو ممن قال لك: إنما صح عقد أولئك الخمسة لإجماع فضلاء أهل ذلك العصر على الرضا بمن اختاروه، ولو لم يجمعوا على الرضا به لما جاز عقدهم. وهذا مما لا مخلص منه أصلا. فبطل هذا القول بيقين، ولا إشكال فيه والحمد لله رب العالمين. فإذا قد بطلت هذه الأقوال كلها، فالواجب النظر فى ذلك إلى ما أوجبه الله تعالى فى القرآن والسنة وإجماع المسلمين، كما افترض علينا عز وجل إذ يقول: (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر) فوجدنا عقد الإمامة يصح بوجوه. أولها وأفضلها وأصحها: أن يعهد الإمام الميت إلى إنسان يختاره إماما بعد موته وسواء فعل ذلك فى صحته أو فى مرضه أو عند موته، إذ لا نص ولا إجماع على المنع من أحد هذه الوجوه كما فعل النبى- صلى الله عليه وسلم- بأبى بكر، وكما فعل أبو بكر بعمر، وكما فعل سليمان بن عبد الملك بعمر بن عبد العزيز. وهذا هو الوجه الذى نختاره ونكره غيره، لما فى هذا الوجه من اتصال الإمامة، وانتظام أمر الإسلام وأهله، ورفع ما يتخوف من الاختلاف والشغب مما يتوقع فى غيره من بقاء الأمة فوضى، ومن انتشار الإمرة، وارتفاع النفوس، وحدوث الأطماع".ا.هـ. ص _122(1/119)
فهذا البحث الفقهى عليه مدار الحكم الشرعى مؤيدا بالتطبيق التاريخى فى أزهى عصور الإسلام، وأعظمها بركة، وألصقها بالينبوع الأول. أما سائر ما ورد فى أجزاء مقال أخى الأستاذ الغزالى فكان يجد عليه الجواب المقنع، والنص الدامغ، والاتجاه السديد، لو أنه استوفى قراءة كتاب (العواصم من القواصم) تقربت إلى ربي عز وجل بكل فقرة وبكل سطر وبكل كلمة مما علقت به عليه، لتصحيح ما تعمده المبطلون الذين شوهوا تاريخ الإسلام، وقلبوا الأوضاع فجعلوا ما سماه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- "خير القرون" شر القرون وعطلوا ثناءه صلى الله عليه وسلم فأحالوه ذما وتشويها وافتراء. وما كنت لأكلف أخى الأستاذ الغزالى بقراءة الكتاب كله لولا أنه تصدى للكتابة عنه، وعلى أنه لم يكن ينوى الكتابة عنه وضحى ببعض وقته لقراءته مرة أو أكثر لما ندم على ذلك. وكان قلبه الطيب يمتلئ بالراحة والطمأنينة والابتهاج. لأن ما فيه من الحقائق المؤيدة بأصدق البراهين تزيل ما فى قلوب كثير من إخوانه المسلمين من الغل للذين آمنوا. ووثقوا إيمانهم بما امتاز به أطهر العصور فى تاريخ الإنسانية. وأقتصر الآن على ما بادرت بتصحيحه وتحقيقه مما ذكره ابن العربي عن نصاب البيعة مستكفيا بذلك لأنه قد طال به المقال، وأعتقد أن رجوع الأستاذ الغزالى إلى كتاب (العواصم من القواصم) سيغنيه عن مواصلتى للكتابة فى سائر ما تعرض له من بحوث. ومع ذلك فإنى مستعد للإفاضة فى كل ما يطلبه منى هو أو غيره لإثبات أن ماضى المسلمين كان أنصع وأطهر وأجمل مما أراد أعداؤه أن يوهموه للناس. *** ص _123(1/120)
حول مقال الأمة والفساد الملكى: هل هو حكم شرعى..؟ .. 3 .. عن حق أستاذنا الجليل السيد "محب الدين الخطيب" أن نقرأ ما يكتبه بعناية وتدقيق، وأن نتلقى رأيه باحترام وتقدير، فإن له من دراسته الطويلة، وسبقه البعيد ما يجعله إماما فى الأدب والنقد.. وسوف أذكر له بالإكبار أنه- من قبل أن أولد- حمل قلمه، ودافع عن بيضة الإسلام ضد هجوم الملاحدة من أذناب الغرب المستعمر.. مثلى لا يجحد حق الذين شاخوا فى خدمة الإسلام، ولا يزالون قدوة للشباب فى الدأب على الدرس والتوجيه! والأستاذ محب- إن أصاب- فهو أهل الصواب، ومنه نستزيد علما بديننا وتاريخنا.. وإذا خالفته فى فهم- وقلما يحدث ذلك- فكما ذكر "ابن القيم" أن الهدهد قال لسليمان: (أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبإ بنبإ يقين). وسليمان هو سليمان النبى الحكيم، والهدهد هو الطائر التافه الضعيف. ولن أزال- بعد أن أعود إلى شرح موضوع البحث- فى وضعى من الأستاذ محب، أى فى موضع الطالب للعلم من شيخه الكريم! وأربد قبل الخوض فى صلب البحث، أن أعلن انسحابى من ميدان الكلام فى ص _124(1/121)
أحداث الفتنة الأولى. فلأدع الكلام عن عثمان، وعلى، ومعاوية ويزيد. فإن إصلاح حاضرنا المعوج ممكن من غير نظر إلى ذلكم الماضى البعيد.! ولنتحدث الآن عن المبادئ التى نستهديها فى إقامة الحكم الإسلامى المنشود. كيف ينصب رئيس الدولة؟ بالملك المتوارث أم بالاختيار الحر؟ أتستشار الأمة فى تنصيب رئيسها وجوبا أم نافلة؟ من الذى يختار الحاكم المسئول؟ وكم..؟ إذا اتضحت لنا الإجابات على هذه الأسئلة انتهينا إلى أمر نافع، وقدمنا إلى الإسلام، و إلى أمته فى هذه الأيام خدمة جلى. إن رياسة الدولة تعني- فى الفقه الإسلامى- الإشراف الدقيق على مصالح الدين وشئون الدنيا، والإسهام بنصيب كبير فى توجيه الأمة إلى تحقيق رسالتها- إن كانت لها رسالة- ثم تحمل تبعات ذلكم الإشراف والتوجيه أمام الله والناس! وفقهاء المسلمين يعدون الرياسة للأمة والدولة أو ما سموه الخلافة العظمى، أخطر المناصب وأشرفها، ومن البديهى أن يختار لهذا المنصب الضخم أليق الناس له، ومن البديهى كذلك أن يعتبر حصره فى سلالة رجل معين خرافة ضخمة، خرافة تصادم الفطرة والعقل، وأصول الإسلام وفروعه، ومصالح الجماعات والأفراد. فإن توريث الزعامة أو الخلافة أو القيادة أو الحكم أو الملك، إن ذلك كله جرى على عادة المخرفين فى تقديس الأساطير، وكما كان المغفلون يصنعون بأيديهم صنما ثم يعبدونه من دون الله- وهذه هى الوثنية الدينية- كذلك صنع المغفلون رجلا أو طفلا اعتبروه فوق الخطأ، وقدسوه وهو يبول فى لفائفه- وهذه هى الوثنية السياسية. وليس يهمنا أن نعرف متى ولا على يد من؟ تسربت جراثيم هذه السياسية إلى بلاد الإسلام، وإنما يهمنا إنقاذ الدين ومثله الفاضلة وأمته المنهوكة من سيطرة هذه الوثنيات التى لا يزال لها سدنة ومريدون وأتباع. إن العالم يحترم "بانديت نهرو" الزعيم البرهمى الذى اختاره الهنود رئيسا لهم، ص _125(1/122)
ويستمع إلى كلماته باهتمام وبصر. ولكنه إذا نظر إلى أمراء العرب والمسلمين- وهم السلالات التى تتوارث المال والحكم- رمقهم بازدراء وسخرية، وازدرى معهم مقومات الإسلام والعروبة كلها. وقصة الملك فاروق مثل لا شذوذ فيه، وكذلك أضرابه من وُرَّاث الحكم فى بلاد الإسلام المنكوب. وما بد من إقصاء هذه الوثنيات السياسية، ورد الأمر إلى جمهور المسلمين ليختار الأرشد لقيادته، بعيدا عن هذه الأسر المتنبلة الدعية الكذوب..... * * * ورد الأمر إلى جمهور المسلمين ليس نافلة يتبرع بأدائها، إذ الشورى ودساتيرها الواضحة، ليست منحة من حاكم ما، يهبها إذا شاء بل هى حكم الله ومنطق الفطرة، ونحن لا نفهم أبدا سلطانا لبشر- حاشا أنبياء الله- يفرض به إرادته على الناس، والأنبياء أنفسهم خارج دائرة الوحى لا سلطان لهم على غيرهم إلا بالعقل والإقناع. فمن هذا الذى يعطى نفسه حق المضى بأمور الناس دون الرجوع إليهم؟ ومن أولئك الذين يذلون لهذا الوهم؟ أعرف أن هناك فقهاء أفتوا بأن الشورى لا تلزم، ودسوا فتاويهم هذه فى كتب الدين. بيد أننا فى حل من أن ننبذ هذه الفتاوى المغرضة. لأنها كتبت زلفى إلى الملوك وحملت على الإسلام عملا. والإسلام منها برىء..!! إننا- نحن الذين اكتوينا بنيران الاستبداد فى دمائنا وأموالنا- نكره هذه الفتاوى ونتهم أصحابها. ولا يستغربن أستاذنا "محب الدين الخطيب" أن ننكر على! ابن العربى، قوله بأن العدول عن الشورى عدول عن الأفضل!! وكذلك نظرته إلى توريث الخلافة على أنها مسألة لا ريبة فيها!!! مع أنها خروج على سنة الخلافة الراشدة يندرج فى ص _126(1/123)
تحذير الرسول "إياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة فى النار". *** وإذا رفضنا مبدأ توريث الحكم، وأوجبنا أن يكون أمر المسلمين شورى بينهم، فهل يتصور عاقل أن يتم تنصيب الخليفة الأعظم ببيعة رجل أو رجلين؟! إننا لو سايرنا هذا الفرض لوجدنا أنفسنا- فى الأمة الإسلامية التى تبلغ ستمائة ألف ألف، أمام ألف ألف خليفة تتم البيعة لهم فى وقت واحد. وبطريقة مشروعة. وهذا ما اعتبرناه كلاما فارغا!! والصورة التى تتجه إليها الفطرة ابتداء أن جمهور المسلمين ينتخب رئيسه إما عن طريق الاختيار المباشر كما يحدث الآن فى الولايات المتحدة، أو عن طريق الهيئات التشريعية المنتخبة كما يحدث فى فرنسا مثلا.. وما حدث فى الصدر الأول لا ينقض هذه القاعدة. وقبل أن نبين هذه الأحداث نلفت النظر إلى ما يقع فى عصرنا هذا من شئون تبدو- إذا لم تعرف ملابساتها- غامضة متناقضة. خذ مثلا أحوال إنجلترا وأمريكا وألمانيا فى الحرب الأخيرة: إن "هتلر" الذى انتخب رئيسا لألمانيا عن طريق الشعب استخلف بعده "جورنج"!! و"روزفلت" الذى اختاره الأمريكان رئيسا لهم جاء بعده "ترومان" بالطريق الآلى و"تشرشل" ظل حاكما إنجلترا دورتين برلمانيتين وعطل- فى أثناء حكمه- الانتخابات العامة. هل السبب فى ذلك أن مبدأ الشورى فى تنصيب الحاكم أهدر، وأن هذه الدول خرجت على دساتيرها المعروفة؟؟ كلا كلا. ولكن هذه الدول كانت تخوض حروبا طاحنة، عبأت لها كافة ما تملك من أنفس وأموال، فمن السفه أن تنشغل بإجراء انتخابات، وتجديد حكومات، وهى مشتبكة فى حرب حياة أو فناء... ص _127(1/124)
وعلى ضوء الملابسات التى أحاطت دولة الخلافة ننظر إلى سلوك الحكام الأولين. لقد اختير "أبو بكر" صاحب رسول الله خليفة له، وبدأ إعطاء الأصوات له فى السقيفة على نحو كريم واضح لا إكراه فيه ولا احتيال، ولم يقم أمامه منافس تلتف حوله الجموع وينخرق به الإجماع فصح استخلاف "أبى بكر"، وتضافرت كفايته الخاصة، وإيثار الأمة له على السير بالإسلام قدما، فكان عصره امتدادا لشعاع النبوة. ثم اندلعت الحرب بين المسلمين وبين الروم والفرس جميعا. أى: بين المسلمين وحدهم، وبين قوى الدنيا كلها، ففعل "أبو بكر" ما فعلته الدول العظمى فى عصرنا هذا إذ جمع الأمة على رجل معروف، بتولى قيادها فى أعقد الأزمات، وأخطر الجبهات، وصدف عن إنشاء بيعة عامة للخليفة الثانى، لا ليهدم مبدأ الشورى ولا ليضع قاعدة تقول: إن اختيار الخليفة يمكن أن يتم بصوت واحد!! كما يقول بعض الناس ويسمون بقولهم هذا فقهاء!! وأبو بكر لم يختر ابنه، ولم يمل إلى رجل مغموص، ولم يفاجئ المسلمين بمن يرشحه، و إنما وطأ له الأكناف، ويسر له القبول.. وما صنعه "عمر" فى استخلاف من بعده قريب من صنيع "أبى بكر" فقد ترك أمانة الحكم فى وصاية ستة نفر- هم خيرة أصحاب رسول الله- وهؤلاء الأوصياء على الخلافة، المسئولون عن توجيهها إلى أهلها ليسوا جماعة من سواد الناس، حتى يقال إن اجتماع خمسة أصوات على واحد يرشحه للخلافة العظمى، أئذا تم اختيار عميد كلية بخمسة أصوات نفهم منه أن عماده كلية ما تتم بخمسة رجال ولو من عرض الطريق؟؟.. أئذا تم انتخاب البابا بعشرين كردينالا يفهم منه أن عشرين نصرانيا ينتخبون رئيسهم؟؟ إن هذا باطل. ولا ينبغى أن ننسى أن "عمر" لم يدع العامة إلى انتخاب رئيس لهم للملابسات التى ذكرناها لك، وهى اشتباك الجيوش الإسلامية فى قتال اتسعت ساحته حتى ص _128(1/125)
شمل المشرق والمغرب. ومع ذلك فهو لم يتجه إلى توريث ابنه حكما، ولم يصنع إلا ما تصنع الدول العريقة فى ديمقراطيتها حين تواجه أمثال هذه الأزمات. ولنعد إلى أحداث التاريخ الصحيح نستنبئها الحق!، وسنرى أن سوقنا نحن للوقائع والأحكام أدنى إلى روح الإسلام ونصوصه، وسيرة الراشدين من خلفائه. وأنه سياق غيرنا ليس كذلك...!! روى ابن عباس عن عمر بن الخطاب أنه قال: لا كان من خبرنا حين توفى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن الأنصار خالفونا، واجتمعوا بأسرهم فى سقيفة بني ساعدة. واجتمع المهاجرون إلى أبى بكر. فقلت: يا أبا بكر انطلق بنا إلى إخواننا الأنصار، فانطلقنا حتى أتيناهم فى سقيفة بنى ساعدة، فلما جلسنا قام خطيبهم فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: أما بعد فنحن أنصار الله، وكتيبة الإسلام، وأنتم معشر المهاجرين رهط. فى كلام يرشح به الأنصار للخلافة. قال عمر: فلما سكت. أردت أن أتكلم وكنت زورت فى نفسى مقالة أعجبتنى، أريد أن أقدمها بين يدى أبي بكر، وكنت أدارى منه بعض الحدة، فلما أردت أن أتكلم قال: على رسلك، فكرهت أن أغضبه. فتكلم أبو بكر، فكان هو أحلم منى وأوقر، ووالله ما ترك من كلمة أعجبتنى فى تزويرى إلا قال فى بديهته مثلها أو أفضل، حتى سكت. فقال للأنصار. ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم له أهل، ولن يعرف هذا الأمر إلا لهذا الحى من قريش، هم أوسط العرب نسبا ودارا. وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين، فبايعوا أيهما شئتم فأخذ بيدى وبيد أبى عبيدة بن الجراح، وهو جالس بيننا. فلم أكره مما قال غيرها: ص _129(1/126)
فقال قائل من الأنصار: أنا جذيلها المحكك، وعذيقها المرجب، منا أمير ومنكم أمير، يا معشر قريش. فكثر اللغط، وارتفعت الأصوات، حتى فرقت من الاختلاف فقلت: ابسط يدك يا أبا بكر فبسط يده، فبايعته وبايعه المهاجرون، ثم بايعته الأنصار. قال عمر: وإنا والله ما وجدنا فيما حضرنا من أمر أقوى من مبايعة أبي بكر، خشينا أن فارقنا القوم ولم تكن بيعة أن يبايعوا رجلا منهم بعدنا. فإما بايعناهم على ما لا نرضى، وإما أن نخالفهم فيكون فساد. فمن بايع رجلا على غير مشورة من المسلمين فلا يتابع هو والذى بايعه تغرة أن يقتلا"!!. ومعنى هذا الكلام أن الافتئات على جماعة الأمة لا يسوغ. فإذا تأمر عليها رجلان فبايع أحدهما الآخر فذلك تظاهر منهما بشق العصا واطراح الجماعة. فإن عقد لأحد من الناس بيعة، فلا يكون المعقود له واحدا منهما، وليكونا معزولين عن الطائفة التى يتفق على تمييز الإمام منها. لأنه لو عقد لواحد منهما وقد ارتكبا تلك الفعلة الشنيعة التى أحفظت الجماعة من التهاون بها، والاستغناء عن رأيها، لم يؤمن أن يقتلا. هذا قول ابن الأثير وهو مختصر قول الأزهرى فإنه يقول: لا يبايع الرجل إلا بعد مشاورة الملأ من أشراف الناس واتفاقهم. قال ابن منظور: ومعنى الحديث أن البيعة حقها أن تقع صادرة عن المشورة والاتفاق، فإذا استبد رجلان دون الجماعة. رفض رأيهما، واستبعدا جميعا من الترشيح لهذا الأمر ومكنت الأمة من إمضاء رأيها دون عائق. ومن بايع رجلا من غير اتفاق من الملأ لم يؤمر واحد منهما تغرة بمكر منهما لئلا يقتلا أو أحدهما. وأما استخلاف أبى بكر لعمر، فلم يكن ابتداعا لخرافة "ولى العهد" التى شاعت- بعد- بين المسلمين، وساروا فيها على سنن الملوك الظالمين، كلا. ص _130(1/127)
فالظروف الدقيقة التى أوحت بمجىء "عمر"- كما شرحناها آنفا- لم يخدش مبدأ الشورى، ولم تهدم حق السيادة المفروض للأمة، ولم يمنح الحاكم تفويضا مطلقا أن يصنع بالناس ما يشاء. وإليك ما قصه المؤرخون فى أسلوب هذا الاستخلاف: لما ثقل أبو بكر، واشتد عليه المرض، واستبان له من نفسه، جمع الناس إليه فقال: "إنه قد نزل بى ما قد ترون، ولا أظننى إلا ميتا، لما بي، وقد أطلق الله إيمانكم من بيعتى، وحل عنكم عقدتى، ورد عليكم أمركم. فأمروا عليكم من أحببتم، فإنكم إن أمرتم فى حياة مني كان أجدر ألا تختلفوا بعدى. فقاموا فى ذلك فلم يستقم لهم أمر، ورجعوا إليه فقالوا: رأينا يا خليفة رسول الله رأيك. قال: أمهلوني حتى أنظر لله ولدينه ولعباده. ثم استخبر الأجلاء من الصحابة عن رأيهم فى عمر، فأجمعوا على أنه خيرهم وأفضلهم. ثم دعا بعثمان فقال: "اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما عهد به أبو بكر بن أبي قحافة، فى آخر عهده بالدنيا خارجا منها، وأول عهده بالآخرة داخلا فيها، حيث يؤمن الكافر ويوقن الفاجر ويصدق الكاذب، إني استخلفت عليكم بعدى..) وأخذته غشية، فذهب به قبل أن يسمى أحدا. فكتب عثمان اسم عمر بن الخطاب. ثم أفاق أبو بكر من غشيته، فقال لعثمان: أراك خفت أن تذهب نفسى فى غشيتى تلك، فيختلف الناس. فجزاك الله عن الإسلام خيرا، والله إن كنت لها لأهلا ثم أملى عليه، فاسمعوا له وأطيعوا له. وإنى لم آل الله ورسوله ودينه ونفسى وإياكم خيرا. فإن عدل فذلك ظنى وعلمى فيه، وإن بدل فلكل امرئ ما اكتسب والخير أردت. ولا أعلم الغيب (وسيعلم الذين ظلموا أى منقلب ينقلبون) والسلام عليكم ورحمة الله". ص _131(1/128)
ثم أمر "عثمان" فختم الكتاب، وخرج به إلى الناس ومعه "عمر"، وأسيد بن حضير القرظى فقال عثمان للناس: أتبايعون لمن فى هذا الكتاب؟ قالوا: نعم. وفى رواية أخرى أن أبا بكر أشرف على الناس من كوة فقال: أيها الناس قد عهدت عهدا أفترضونه؟ فقال الناس: رضينا يا خليفة رسول الله ! فقال على بن أبى طالب : لا نرضى إلا أن يكون عمر. فقال أبو بكر: إنه عمر!! فأقروا ذلك جميعا ورضوا به، ثم بايعوا لعمر بيعة عامة.. ". ا.هـ وقد نقل الأستاذ محب عن ابن حزم هذا الكلام "..أما من قال إن الإمامة لا تصح إلا بعقد فضلاء الأمة فى أقطار البلاد فباطل، لأنه تكليف بما لا يطاق، وما ليس فى الوسع وما هو أعظم الحرج. والله يقول: (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها).. وهذا كلام لا نسلمه لصاحبه..!! وهذا الكلام إن صح النظر فيه قديما فلا يجوز النظر فيه الآن. فإن الولايات المتحدة وروسيا والصين تقيم نظمها على انتخاب رئيس الدولة، وهى تضم أعدادا من السكان مثل العرب والمسلمين أو أكثر. وإذا كان "ابن حزم" يريد بهذا الحرج المتوهم تسويغ قيام النظام الملكى باسم الإسلام فكلامه باطل، ونحن لا نترك قاعدة الشورى فى اختيار الحكام لأمثال هذه التمحلات، وليس من الشورى ألبتة أن يختار الخليفة الأعظم بصوت واحد أو بصوتين، فما يكون الاستبداد إذن؟!! إن ابن حزم يقرر فى كلامه الحكيم الفقهى المعروف من أن عمل الصحابى ليس حجة حتى يؤيده نص من كتاب أو سنة. ونحن نقول: إن رأى " ابن حزم" كذلك لا حجة فيه لأحد ما لم يؤيد بنص من كتاب أو سنة، فليس رأيه أرجح من الصحابة. ص _132(1/129)
وما ادعاه من الإجماع على انعقاد الإمامة العظمى بصوت واحد، وما رتبه على ذلك من أن الخليفة الحى يعهد بعد موته إلى إنسان يختاره هو نفسه إماما للناس... هذا كله ليس حكما شرعيا يجب علينا قبوله وتوقيره، بل هو فهم لمجتهد غير معصوم. وابن حزم له صواب كثير وله خطأ كثير، وهذا الكلام له مما نرفضه من آرائه، بل إننا نحسب أنه فاته التوفيق فى تصوير الإسلام هذه المرة! ولماذا لا نكون أكثر صراحة؟ فنقول: إن عرض الحكم الإسلامى فى هذه الصورة القائمة، صورة حاكم يفرض إرادته على اليوم والغد، هى خطأ مزدوج فى فهم الإسلام والدعاية له، وهى انقلاب من قاعدة الشورى التى شرعها الله، وفزع إليها العالم بعد ما آذته كوارث الماضى البعيد والقريب. وخير للإسلام وأهله أن تدفن هذه الآراء الشاردة. *** سرنى بعد إثبات هذه الأحداث والتعليقات أن أقرأ لابن تيمية كلاما قريبا من وجهة نظرنا وبعيدا كل البعد عن رأى "ابن حزم" وغيره ممن نقل عنهم الأستاذ محب الدين الخطيب. يرى "ابن تيمية" أن تعيين الإمام يكون بالاختيار لا بالنص أو العهد ممن قبله وأهل الاختيار لم يحددهم "ابن تيمية" تحديدا واضحا فى كتابه "منهاج السنة" كما حددهم "أبو يعلى" وغيره ولعل ذلك لأن موطن الخلاف إنما يدور حول النص أو الاختيار فحسب لا فيمن هم أهل للاختيار وهم عنده أهل الشوكة والجمهور والسواد الأعظم. قال فى المنتقى: "ومذهب أهل السنة أن الإمامة تنعقد عندهم بموافقة أهل الشوكة... الذين يحصل بهم مقصود الإمامة وهو القدرة والتمكن". ص _133(1/130)
وقال أيضا: "فلا يشترط فى صحة الخلافة إلا اتفاق أهل الشوكة والجمهور"، قال عليه السلام: "عليكم بالجماعة فإن يد الله على الجماعة"، وقال: "عليكم بالسواد الأعظم ومن شذ شذ فى النار". ثم قال: "لا ريب أن الإجماع المعتبر فى الإمامة لا يضر فيه تخلف الواحد والاثنين ولو اعتبر ذلك لم تنعقد إمامة" وقال: "ولا يقدح فى اتفاق أهل الحل والعقد شذوذ من خالف، حتى أن خلافة أبي بكر فى رأيه لم تثبت بنص خلافا لرأى ابن حزم وفريق من أهل السنة ممن قالوا: إن خلافته كانت بنص جلى أو خفى على اختلاف بينهم، وإنما صار إماما عنده بمبايعة الناس ورضاهم به قال: "فالصديق مستحق الإمامة لإجماعهم عليه وإمامته مما رضى الله بها ورسوله ثم صار إماما بمبايعة أهل القدرة". وخلافة " عمر" كذلك لم تتم بعهد أبى بكر وإنما بمبايعة الناس له قال: "وكذلك عمر صار إماما لما بايعوه وأطاعوه ولو قدر أنهم لم ينفذوا عهد أبى بكر فى عمر لم يصر إماما سواء كان ذلك جائزا أو غير جائز فالحل والحرمة متعلق بالأفعال، وأما نفس الولاية والسلطنة فعبارة عن القدرة الحاصلة. ولو قدر أن أبا بكر بايعه عمر وطائفة وامتنع سائر الصحابة من بيعته لم يصر إماما بذلك وإنما صار إماما بمبايعة جمهور الناس ولهذا لم يضر تخلف "سعد" لأنه لم يقدح فى مقصود الولاية، وأما كون عمر بادر إلى بيعته فلابد فى كل بيعة من سابق، وأما عهده إلى عمر فتم بمبايعة المسلمين له بعد موت أبى بكر فصار إماما"، وقال بعد أن أورد كلاما طويلا لابن حزم يحتج فيه لثبوت خلافة أبي بكر بالنص: "والتحقيق أن النبى- صلى الله عليه وسلم- لم يستخلف وإنما دل المسلمين وأرشدهم إلى أبى بكر بعدة أمور ورضى به وعزم أن يكتب له بالخلافة عهدا ثم علم أن المسلمين يجتمعون عليه". وواضح من كلام ابن تيمية أن مصدر سلطة الإمام مبايعة الجمهور له ورضاهم ص _1 ص(1/131)
وأن حب الرعية والشعب له دليل صلاحه ويستشهد على ذلك بحديث يصفه بالثبوت والصحة: "خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم وتصلون عليهم ويصلون عليكم وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم". ويبنى على ذلك أن الأمة هى الحافظة للشرع، وليس هو الإمام رادا فى ذلك على الحِلى الذى يقول: إنه لابد من إمام معصوم بعد انقطاع الوحى ليحفظ الشرع. وقد أوجب ابن تيمية على أولى الأمر عامة المشاورة. كما أوجب على الرعية مناصحتهم. وعلى هذا فحكم الإمام وإرادته ليست مطلقة وليس هو مشروعا يشرع للناس كما يشاء ولكن الحكم الفصل بينه وبين الرعية الكتاب والسنة "فإن تنازعتم فى شىء فردوه إلى الله والرسول" وليس هو إلا منفذا لما تضمنه الكتاب والسنة من أحكام ومبادئ و الأحكام كلها تلقتها الأمة عن نبيها لا تحتاج فيها إلى الإمام وإنما الإمام منفذ لما شرعه الرسول. * * * ص _135(1/132)
الشورى ركيزة الحكم الصالح (4) الشورى ركيزة الحكم الصالح فى أى عهد، وفى كل بلد، وقد تقرر هذا المعنى فى أذهان الناس من فجر الخليقة إلى عصرنا هذا. وقد احترم الإسلام الشورى، وما كان له أن يفعل غير هذا، وبنى عليها النبى العظيم حكمه، وكذلك فعل الراشدون من خلفائه. ولما رأى الرجل الصالح " عمر بن عبد العزيز " أن الحكم صار إليه بعيدا عن رأى المسلمين، كره أن يفتات على جمهورهم، فخلع البيعة التى ورثها ورد إلى الأمة خيارها، فرمت الأمة بزمامها بين يديه عن طواعية، ومشت خلفه راغبة لا راهبة. ثم مرت على المسلمين وعلى غيرهم أعصار درست فيها معالم الشورى! وانهدمت قواعدها، والتوى المستبدون بمصاير الشعوب المستضعفة، وأكرهوها على الخنوع وحملوها أثقالا من أطماعهم الآثمة، وقد ظلت الأرض تميد قرونا طوالا تحت وطأة ذلك النفر الغاشم، حتى شرعت تتخلص منهم فى العصور الحديثة. وإنى أعترف بأن الغرب كان أسبق منا فى نهضته وأسرع فى يقظته. وأنه تمكن من إزاحة الحاكمين بأمرهم عن طريقه. ثم رد إلى الشورى قيمتها المسلوبة ووضع لذلك دساتير حسنة.. وها نحن أولاء نقتبس عنه نظم الحياة النيابية، ونعيد للأمة سلطانها فى توجيه الحكم، ورقابة الحاكمين. ومن أيام قلائل كانت ليبيا " المستقلة" تجرى انتخابات عامة لدعم كيانها الجديد على نحو من كفالة الحريات، وإقرار الحقوق. ص _136(1/133)
ومع ما يشوب الأحوال هنالك من غموض وريبة، فإن حظ هذا القطر الشقيق أفضل من أقطار إسلامية أخرى لم يعرف لها بعد دستور، ولم تجر فيها إلى اليوم انتخابات. وليس على المسلمين حرج فى أن ينقلوا من أنظمة الحياة عند غيرهم ما يتلاءم مع المبادئ التى تمهدت فى دينهم، والشورى عندنا حقيقة مجملة، فإذا وجدنا من الأساليب ما يضبط اتجاهاتها، ويدنى ثمراتها، فلنحرص عليه سواء أكان من نتائج أفكارنا، أم كان من أفكار الآخرين. فالحكمة ضالة المؤمن يلتقطها حيث تقع له لا يبالى من أى وعاء خرجت. غير أن هناك ملاحظات لابد من ذكرها حتى لا يكون تقليدنا لغيرنا تقليدا أعمى، فإن الرأى العام فى إنجلترا مثلا قد بلغ من النضج العقلى والمرونة النفسية ما يتيح له خوض سلسلة من المعارك الانتخابية، دون أن تصاب عواطف العامة فيه بأذى يذكر، ودون أن تصاب صفوفهم بأدنى تصدع. وتضافر الدولة والأمة على جعل الانتخابات صورة صادقة لآراء الجمهور. بلغ حدا من الكمال يغبط عليه هؤلاء القوم. أما الأمور فى الشرق العربي فعلى العكس، إذ توجد لدينا جماهير غفيرة تحتاج إلى جهد مضاعف من التربية والتعليم، حتى تحسن فهم واجبها، وتحسن أداءه على وجهه الصحيح. وهذا العيب ليس خطرا بالغا. ولا داء عياء، وليس هو- لو أنصفنا- مثار الشكوى من الاضطرابات التى تعصف أحيانا بالأوضاع المستقرة. ففى مصر دستور يعد من خيرة دساتير العالم، لو أحسن استغلاله، حصلت عليه الأمة فى أعقاب ثورتها من ثلاثين عاما، وكان من الممكن أن يكون هذا الدستور محور حياة آمنة عزيزة- لو خلصت النيات فى إبقائه وصيانته. ص _137(1/134)
ولو أن الذين فشلوا فى إقناع الرأى العام باحترامهم، وإعطاء زمامه لهم، صابروا الأيام، وعادوا الكرة ونزلوا على حكم الأمة أولا، لنزلت الأمة عند رغبتهم أخيرا، ولملكتهم أمرها عن إجلال وإعزاز. ولكن النفر الذين انصرفت عنهم الأمم فى انتخابات حرة قرروا أن يغتصبوا مشيئتها، وأن يشقوا كلمتها، وجاء وزير فألغى الدستور القائم واستبدل به دستورا شائها، ومجلسا مزيفا منذ ريع قرن، وتألفت من قبل ومن بعد أحزاب تبنى وصولها إلى الحكم على تزوير الانتخابات، وتحقير الأمة أمام نفسها، وأمام العالم أجمع.. وهى لا تعرف الدستور القائم إلا قصاصة ورق، وقد جربناها فى الحكم، وبلونا أعمال رجالها فما زادتهم الأيام فى أعيننا إلا ضعة: (وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين). إن المهم فى الدساتير، وفى توزيع السلطات وتحديدها، وفى إحكام الشورى وضبط موازينها، هو منع الحاكم من أن يستبد برأيه، أو يقيم من نفسه جبارا على الناس، يقرب من يقترب منه، ويبعد من يبتعد عنه، بل يروعه فى نفسه وأهله. وأغلب الجبابرة يسمون أنفسهم مصلحين! ويزيفون! إرادة الشعب ثم يزعمون أنهم برغبته يحكمون ولصالحه يخدمون!! إن الشورى مبدأ فوق المجالات. وإذا لم تكفلها المواد الصريحة والتطبيقات الصحيحة، فليست هناك شورى ولا دساتير، وإن زعم الزاعمون. واليوم تستيقظ هذه الأحزاب من خمول، وتتنادى بضرورة انتخابات جديدة لأن الأحزاب التى حرمت لذة الحكم- يسيل لعابها إليه شوقا- والانتخاب الذى يريدون، وبه وحده يعترفون، هو الذى يجىء بالنتيجة التى يرغبون: أى يجىء بهم وبأنصارهم إلى الحكم. ص _138(1/135)
والحكم فى الشرق لذة لا لذعة. ونحن نعرف خبيئة هذه الدعوة، فإن القلة التى لم تتول الحكم يوما إلا بالحديد والنار، والتى لا تذكر الأمة لها إلا إقامة المنافى واختطاف الأحرار تريد أن تكرر المهازل القديمة، وأن تعود إلى الحكم من الأبواب الخلفية التى يدلف منها اللصوص. وهذه الصيحة النابية تحدث فى الوقت الذى اجتمعت فيه الكلمة على مطالب محددة وأهداف واضحة... ونحن ننصح الهازلين أن عقبى اللعب بالشعوب ستقع على أم رأسهم، وأن جرأتهم على أمتهم إن نجوا من عقابها أولا فسيؤخذون بها أولا وآخرا. (فأخذه الله نكال الآخرة و الأولى * إن في ذلك لعبرة لمن يخشى). * * * ص _139
فى أطوار الدعوات أرأيت إلى هذه المبادئ المنتشرة يحتشد حولها معتنقوها. وهذه المذاهب الحاكمة تمسك بالسلطة فى أيديها، وتنفذ بالقوة ما تريد؟ إنها لم تولد فى ميدان الحياة العامة على هذا النحو المكتمل، بل وصلت إلى أوضاعها الأخيرة بعد مراحل متناسقة، وأطوار متلاحقة. لقد بدأت فكرة، ثم ارتقت إلى عقيدة، ثم استحالت إلى نظام وهذه السلسلة- من فكرة إلى عقيدة إلى نظام- قريبة الشبه بمظاهر الشعور التى قررها علماء النفس: وهى الإدراك، والوجدان، والنزوع. وينبغى لمؤرخى الرسالات، وحملة الدعوات أن يلاحظوا هذه الأدوار التى تجتازها المبادئ والمذاهب، حتى يواجهوا كل دور بما يستلزمه من إعداد خاص. وعلى ضوء هذه الملاحظات سننظر إلى جملة من النصوص والأحكام جاءت فى القرآن الكريم، وهو الدستور الأول للرسالة العظمى التى اضطلع بأدائها خاتم الأنبياء محمد بن عبد الله. * * * واضح أن الإنسان إذا عرض عليه اعتناق منهاج ما، فإن أول ما يفعله، أو ما يجب أن يفعله، هو أن يستقبل هذا العرض بعقله، ويجيل فيه فكره، فإما قبله وإما رفضه. وهذا ما طلبه القرآن الكريم من المشركين: (قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا). ص _140(1/136)
والتفكير المطلوب، هو تفكير الدارس الممحص الذى يقلب ما أمامه على وجوهه الممكنة ليكتشف الحق من الباطل، وليميز الخبيث من الطيب، ومن ثم استنكر القرآن على جمهور المشركين أن يجنحوا إلى الخرافات فى تدينهم، وأن يبتعدوا عن مناهج المعرفة الصحيحة. (قل أرأيتم ما تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين). ومرحلة التفكير هذه تعتمد على التأمل طال أو قصر، وعلى افتراض الصدق والكذب، ولما كانت النفس خالية- قبلا- من الحكم على ما ترى، فإن تشككها فيه حتى تستبينه أمر طبيعى. والأصول التى قامت عليها الدعاية للإسلام لم تتجاهل هذا الواقع بل توقعته ولذلك قامت على هذه الآية المحكمة: (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين). وختام هذه الآية يشير إلى أن الله وحده هو العليم بأهل الهدى وأهل الضلال فهو توكيد لإحسان الدعوة، وإحسان الجدال عنها والجدال مع خصومها، إذ إن تحويل الناس عما ورثوا أو ألفوا يحتاج إلى قدر كبير من الحكمة والخبرة بطبائع النفوس. وليس معنى خطأ الإنسان فى رأى، أو اختلاط الأمور عليه أنه شخص فاسد يستحق المطاردة والتحامل والعنف أول ما يستحق!. وقد قرر الإسلام مبدأ الحرية العقلية لتكون لكل امرئ الخيرة فيما يأخذ ويدع، الإيمان الذى يولد فى هذا الجو يولد سليما كريما لا غبار عليه ولا حرج فيه. ودعوة القرآن إلى التفكير والنظر كما شرعت لتكون أساس اليقين، فهى كذلك مشروعة لتكون سياج اليقين وسر بقائه على تطاول الأيام. ص _141(1/137)
إنها توقظ الغافل حتى يذكر، وتصون الذاكر حتى لا يغلبه النسيان فيرجع إلى غفلته الأولى. كالرجل يتناول الدواء إن كان عليلا ليصح، وإن كان صحيحا ليقوى؟ وقد أمر الله المشركين أن يفكروا وينظروا ويتدبروا ليتكون لهم من هذا كله إيمان حق: (انظروا ماذا في السماوات والأرض). (أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم). (أو لم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى). وكما توجهت هذه الآيات إلى المشركين لتكشف الغطاء عن قلوبهم، وتزيح الغشاوة عن عيونهم، وتثير لديهم مشاعر التيقظ حتى يعرفوا ربهم ورب العالمين، توجهت أيضا آيات مشابهة إلى المؤمنين لتزيد دلائل الحق فى نفوسهم، وتوثق صلات المعرفة والتوجيه إلى الله: (إن في اختلاف الليل والنهار وما خلق الله في السماوات والأرض لآيات لقوم يتقون). * * * إن الأخذ والرد والبحث والنقد من سمات هذه المرحلة الأولى، مرحلة التفكير. يبدأ هذا التفكير القلق لابد أن يصل إلى نهاية يستقر عندها، ويهدأ العقل بعدها، إذ من الحمق أن نضع الحقائق جميعا موضع شك وبحث إلى آخر الدهر. خذ مثلا مبدأى التوحيد والتثليث- فى الألوهية- إن الرجل الخالى الذهن قد يفكر فيها حينا، وقد يفاضل بينهما فى نفسه، ومهما طالت أو قصرت المدة التى ص _142(1/138)
يستغرقها هذا التدبر، فهو لا محالة منته إلى أحد الأمرين، إما الإشراك أو التوحيد. أى أن التفكير العائم سيرسو فى القلب عقيدة راسخة كفرا كانت أم إيمانا. وعندما تتحول الفكرة إلى إيمان لا يكون عند صاحبها مجال للشك فيها، أو لإعادة النظر فى بحثها، وهذا لا يعنى استغلاق الفكر دون أى جديد، وانتهاء الحرية العقلية. وانسداد باب النقاش أبدا. كلا غاية ما هنالك أن المرء عندما تشرب روحه عقيدة ما، تصطبغ نفسه بلونها، وتمتزج مشاعره بمعناها ويقيس صلاته بالأشخاص والأشياء على ضوئها، ويمتد به العمر فيكبر وتكبر عقيدته معه، ثم تدعمها التجارب وتصقلها السنون، فإذا تكلم عنها فليس كلام المحايد عن أمر لا يأبه له، بل كلام المعنى بما يشغله. وهو قد يناقش غيره، فيشرح بوضوح ما عنده، ويبسط الدلائل التى عمرت باليقين قلبه، ويفند الشبه التى قد توجه إليه. يستمع إلى الاعتراضات والافتراضات ليدحض ويشرح، كالمدرس الذى يفهم تلامذته حقيقة علمية مشرقة فى رأسه، فهو يتلقى أسئلتهم وحدسهم بثقة العالم ليكشف العماء، ويزيل الخفاء. بيد أنه لا ينسى- وهو يحاور- أنه يحمل حقيقة راسخة لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها. ولهذا المعنى ظواهر يجب إثباتها، ونسوق هنا مثلا لها، فالقرآن الكريم يوجب- وقد تحولت الفكرة إلى عقيدة- أن يعتز بها صاحبها، وأن يتعصب لها وأن يرفض النيل منها، والزراية عليها من الساخرين والمتهكمين. (وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا). ص _143(1/139)
ولئن كانت هذه حقوق العقيدة المرتبطة بأعلى المبادئ. إنك لتجد المسوغ لهذا المسلك من طبيعة الاعتقاد الخاطئ فى الجانب الآخر. ذلك أن الكفر الذى بدأ رأيا عارضا. ثم تحول عقيدة جازمة قد حلا فى عيون أصحابه، وقامت عليه حياتهم، وتوثقت به صلاتهم، حتى أصبح فى عيونهم كل شىء. وانظر إلى تصوير القرآن لحياة أولئك المبطلين وأمالهم: (زين للذين كفروا الحياة الدنيا ويسخرون من الذين آمنوا والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة). (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم كذلك زينا لكل أمة عملهم). (أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا). (قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا * الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا * أولئك الذين كفروا بآيات ربهم و لقائه). والواقع أن الرأى الذى تحسبه خطلا وتأبى القول به، قد يجعله غيرك دعامة تفكيره، ومحور أعماله، ثم لا يعتنقه فحسب، بل يدعو إليه فى حرارة ويستميت فى الدفاع عنه، ويرى أنه هو وحده الحق المبين، وأن ماعداه هو الضلال الشنيع! إن المبدأ الشيوعى الذى كان- من سنوات- فكرة تستقتل فى سبيل الحياة. وتسعى جاهدة لإثبات جدارتها بالبقاء، قد أضحى- فى بعض الأمم- عقيدة يرتكز فوقها نظام، وتحمل رسالتها دولة. فإذا تركت هذا الجانب من الأرض- حيث لقيت الشيوعية نجاحا- وجدت الشيوعية فى أرجاء العالم الرأسمالى وهما تطارده التقاليد والقوانين، وتعده رذيلة أو ص _144(1/140)
خيانة أو ارتدادا، وهذا الذى تراه فى الفلسفات المدنية البحتة نرى مثله بين أتباع الديانات السماوية المختلفة. فاليهود يصرون فى أنفسهم على أن "عيسى" لقيط زنيم، ويرمقون مؤلهيه ومكرميه كليهما بنظرة ملؤها السخرية، ولا تزيدهم الأيام إلا بقاء على ما ادعوه واعتمدوه.. وعندما يتحول الخطأ إلى عقيدة ضاربة الجذور فى أعماق النفس، وعندما تتحول هذه العقيدة إلى أساس متين لنظام يفرض تعاليمه على المجتمع، وعندما يكون التعرض لهذه العقيدة تعديا على النظام، وتحديا للسلطة القائمة: عندئذ يتوسل الحق إلى بلوغ أغراضه بطرق أخرى إلى جانب الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، وهذه الطرق ليست عدوانا، بل حدا لعدوان، وكسرا لطغيان.. فالرجل الذى شاخ وهو يدرس الخطأ ويدعو إليه، ويريد أن يستمد من شيخوخته وقارا يدعم به الباطل، ومن علو منصبه فى المجتمع هالة يحيط بها الأكاذيب- هذا الرجل لا يرى الإسلام حرجا من تجريح مكانته وخدش منزلته، لا إهانة لشخصه، بل إهانة للضلال الذى يمثله، ويجتهد فى الإبقاء عليه. وهذا هو سر تعنيف القرآن الكريم لبعض الطوائف والأشخاص، وحملته القاسية عليهم. (تبت يدا أبي لهب وتب * ما أغنى عنه ماله و ما كسب * سيصلى نارا ذات لهب * وامرأته حمالة الحطب * في جيدها حبل من مسد). (كلا لئن لم ينته لنسفعن بالناصية * ناصية كاذبة خاطئة * فليدع ناديه * سندع الزبانية). (مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا). ص _145(1/141)
(واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين * ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث). وهذه الآيات كما أنها قمع للباطل فى أشخاص الكبار من ممثليه، هى كذلك تجرىء للناشئة من المؤمنين، حتى يشبوا وليس فى نفوسهم إلا إجلال الحق مهما هانت منزلة أصحابه، وازدراء الضلال مهما علت مكانة ذويه. وهذا أسلوب من التربية والتوجيه تنهجه الدعوات فى كل زمان ومكان. فلا غرو إذا اتبعته رسالة القرآن، والله عز وجل، أعرف بعباده وما يخاطبون به. (والله يعلم المفسد من المصلح ولو شاء الله لأعنتكم إن الله عزيز حكيم). إن انتهاء الفكرة العارضة إلى نظام راسخ يتيح لها فى الحياة العامة حقوقا شتى، فالبرامج التى توضع للتلامذة فى مدارسهم تقوم على تثقيف الطلاب بأصول هذا النظام وفروعه، وتتعهدهم وهم ناشئة غضة حتى يكبروا وهذا النظام جزء من نفوسهم وعقولهم! والتقاليد التى تسود المجتمع وتتحكم فى سلوك الأفراد تلزمهم مقاييس خاصة فى فهم التقدم والتأخر، والرفعة والضعة، والاستقامة والشر، وهذه التقاليد تقوم هى الأخرى على احترام النظام السائد، وتوجيه الجمهور إلى الاستكانة إليه، بل إلى التسابق فى تقديسه!!! ولو أن رجلا من غمار الناس سرق أمة من الأمم- كما فعل محمد على باشا حين سرق مصر، وكما يفعل غيره من الملوك الذين يسرقون أقطارا شاسعة وخلائق غفيرة- ثم استقر الأمر للسارق، لأمسى بين عشية وضحاها صاحب جاه عريض وجلالة كبرى، ولأمسى أهله أمراء ونبلاء تنحنى لهم الهامات!!! ص _146(1/142)
فلا عجب إذا كانت الدعوات المعارضة- لمثل هذه الأوضاع المستقرة- تقرن بين النصح والوخز، وبين الهدى والإيجاع. وعذرها فى ذلك بين. فالفرق كبير بين خطأ تافه، وبين خطيئة مبسوطة السلطان. ونحن نرى القرآن الكريم يشرح الأدلة على البعث مثلا بأسلوب هادئ فى سور كثيرة، بيد أن ذلك لا يمنع من تجريح مجتمع أقام كيانه على الكفران باليوم الآخر، وأشاع فى نواحيه الإباحة والإلحاد. (إن الذين لا يؤمنون بالآخرة زينا لهم أعمالهم فهم يعمهون * أولئك الذين لهم سوء العذاب وهم في الآخرة هم الأخسرون * وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم). * * * على هذا النحو ينبغى أن نفهم أسلوب القرآن الكريم فى العنف واللطف وخطابه المنوع لصنوف الناس. * * * ص _147(1/143)
دواء مسموم من المؤسف أن تشفى الأمة المصرية من علة لتقع فى علة أخرى. كأن إصلاح شئونها أمر عز على الأساة والرحماء!! إننا صحونا على هذا العصر من أعصار الإسلام فوجدنا أمره عجبا. حكم نقضت عراه، فالرجال الذين يجلسون فى دسته ليسوا ولاة رشد، بل هم نفر من الأفاكين لو نكبت بلاد الكفر بأمثالهم لضجت من مآسيهم ومعاصيهم، ولكنهم مع ذلك حكام الإسلام، ومسيرو دفته!!. وجماهير غريقة فى الجهالة السائدة، تعيش على الخرافة، وتتعلق بقشور من الدين لا تزن عند الله شيئا، وتنقاد مع الحبال التى وضعها الحكام الفسقة فى أعناقها فهى تجر إلى مصارعها دون وعى!! وبلغ السوء مداه عندما أطبق الظلام على الإسلام وأهله فسقطت خلافته الكبرى- أو ما يسمى فى العرف خلافة- وهجمت الصليبية الغربية على أرجاء الوطن الإسلامى الكبير، فسارت فيه كما تسير الحربة المسنونة فى العجين الرخو، ما لقيت عائقا يردها عن نفاذ، ولا مرارة تمنعها من الازدراد. ولم تخل البلاد البائسة من رجال لهم دين وخلق و إباء، كرهوا هذا المصير القاتم، ورفضوا التسليم به، وشرعوا ينفثون روح المقاومة فى كل قطر، ويؤثرون نار الجهاد لاستنقاذ أنفسهم وأمتهم من هذه الوهدة الشائنة. وقد نجحت الثورات التى اشتعلت ضد الاحتلال الأجنبى، وضد الفساد الداخلى وأحرزت نصرا كبيرا فى ميادين شتى. ونستطيع القول بأن عصر التراجع والانهيار قد انتهى، وأن المسلمين- و إن لم يستردوا كثيرا من خسائرهم الفادحة- إلا أنهم أفلحوا فى وقف هذا الخسار المتلاحق، أو تخفيف ويلاته. ونريد أن نؤكد حقيقة خطيرة فى هذا المجال: إن هذا التحول الحسن يعود قبل كل شىء إلى يقظة الإيمان الصحيح فى القلوب، وعودة هذا الإيمان إلى صفوف ص _148(1/144)
الجماعة فى صورة الاتحاد الذى يربط الصفوف والتضحية التى تساند الحق، والإخلاص الذى ينزه الغاية. ولولا لهفة المسلمين على استنقاذ بلادهم فى تركيا، وسيل المساعدات التى تقدم بها الأخيار مدفوعين بحب الله ورسوله إلى معاونة الجيش التركى فى قتاله المرير - للحلفاء المغيرين- لولا ذلك لما استطاع "مصطفى كمال" أن يفلح فى هزم اليونان وأنصارهم، ولا أن يطهر الأناضول من وبائهم. ولكن القائد التركى نسي أو تناسى فضل القوى التى أمكنته من الفوز فى أعصب الأزمات، فما لبث أن تنكر للإسلام، وخان الأمة التى التفت حوله، فصنع بها وبدينها ما نعلم. أنا لا أنكر أن الخلافة كانت فاسدة، وأنها ارتكبت فى حق المسلمين أجمعين ما تستحق به الشنق، ولكن الذين حاربوها وأعانوا مصطفى كمال على إسقاطها لم يفعلوا ذلك ليذهب الفساد، ويجىء بعده إلحاد!، بل هدموها ليمحو عن الإسلام وصمة حكم جائر قام باسمه، ولينشئوا دولة أرضى لله، وأخشى لعقابه، وأرجى لثوابه من الدولة التى بادت. إن عناصر السخط على الحكومة الفاسقة والملك العضوض، لم تتوفر فى بلادنا ثم تتحول إلى عراك رهيب إلا بين الغاضبين لله الآسفين على دينه وعباده. ولم يحدث فى أرجاء الشرق الإسلامى أن استطاعت الفلسفات المجردة، والمبادىء الخاصة إسقاط وزير واحد بله حكم ضخم، إنما كان تفجير الوعى الإسلامى الحر هو الزلزال الذى طاح بالظالمين، وثل عروشهم مهما كسى هذا الوعى من ألبسة ساترة، ولقب بأسماء مستعارة. والملك فاروق ظل يبسط يديه بالأذى لأهل هذا الوادى طرا، فما خشى منهم شيوعيا ولا قوميا، ولا اكترث لهتاف هؤلاء وصياح أولئك. لقد خشى لونا واحدا من التفكير، وصنفا خاصا من الناس. خشى موجة من الإيمان الحق ترتفع إليه ثم تطويه فى ثبجها، فلا تبقى له رسما ولا وسما. ص _149(1/145)
والواقع أن كبار الملاك، ومحترفى السياسة، وصناع الاحتلال، ومعتادى الظلم، لم يجدوا مذاق الحرب المرة إلا فى صراعهم مع الإخوان المسلمين. وقد قتل فى هذا الصراع نفر من قادتنا وإخواننا وذهبوا ضحايا البطش والإرهاب. إلا أن وطأة الإخوان لم تخف، وظلت الحرب دائرة الرحى يصلاها الجبارون يوما بعد يوم، حتى تجرأ عليهم العامة فأطلقوا ألسنتهم فيهم، إذ عجزوا عن منالهم بأيديهم. ولعل من آثار هذه الجرأة أن الملك الذى كان يدعى أنه هو وآباؤه أصحاب جلالة انطلقت الجماهير فى أيام معلومات تذكره وأمه، فترتفع صيحاتها بلعن البغاة والبغايا، ومن ذلك اليوم عرف أن نار الطاغوت إلى رماد. وقد آتت اليقظة الجديدة أولى ثمارها بطرد الملك الداعر، وشفيت صدور قوم مؤمنين بهذا المصير العادل. ولله وحده المنة، فلولا عونه الأعم لبقينا فى عهد سفه وعهر ليس لليلة صبح... على أننا فى أوائل الطريق لما نزل نتحسس خطانا، وأحب أن أذكر بأن القوى التى انتصرنا بها يجب أن نستصحبها فى سيرنا، أعنى قوى الإيمان بالله، والاستمداد منه، والاستنارة بتعاليمه. فذاك وحده ضمان النجاح المطرد... إن بعض السفهاء يحسب أو يود أن تنتهى الثورة المصرية بما انتهت به الثورة التركية، وهيهات هيهات!! فإن هذا الصف الثائر لا يخون بلاده وتاريخها ورسالتها كما فعل ذلك مصطفى كمال، عندما تنكر للإسلام، وكفر بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر. ونحن الذين انتصبنا للذود عن حياض ديننا لن نأذن بذلك وسوف نتفانى رجلا رجلا قبل أن يغتال الإلحاد أرضنا، ويحقر مقدساتنا. وقد يكون الكائدون للإسلام مخدوعين فى تقدير مقاومته لما يراد به فإن يكن ص _150(1/146)
القوم قد أصابهم مس فتشهوا أن تكفر مصر كما كفرت حكومة تركيا فإن البون بعيد، ودون ذلك خرط القتاد، وسيصحو المخدوعون على الويل: (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم). * * * إننا قبل غيرنا نستنكر الصور الموهومة للإسلام الحاكم بشرائع الله، صورة التعصب والرجعية، و إثارة الفتن ومحاربة الارتقاء. ذلك أننا ألد أعداء هذه الخصال المستقبحة، ولو كان ديننا على هذا الغرار الشائن لكفرنا به و تبرأنا منه.. إننا نحن الذين محقنا هذه الصفات. وقاتلنا الملك السابق وحاشيته وأحزابه لأنهم مظهرها وجوهرها، وعندما حاربنا هذه الصفات كنا نستوحى كراهيتها والهجوم عليها من كتاب الله وسنة رسوله، أى من صميم الإسلام!. فكيف يرمى هذا الدين الكريم بأضداده؟ وكيف يصور حكمه المنشود على أنه تزمت وركود. غير أن الحاقدين على الإسلام يلجئون إلى التزوير فى محاربته، وهم يطلبون لكل حكم ماعداه، ويودون أن تنتقل الأمة من فساد الحاكمين بأهوائهم إلى فساد الحاكمين بأهواء غيرهم، أى من فساد الحكم الشرقى البعيد عن الإسلام إلى فساد الحكم الغربى الناقم على الإسلام، وأعنى بالغرب الأوروبي سواء كان شيوعيا أم رأسماليا... وهذا هو علاج المحموم بدواء مسموم. ولن نقبل أن يكون العهد الجديد كما يبتغون. * * * ص _151(1/147)
نعم.. دين الدولة الإسلام لو كان الإسلام دينا لا يقوم إلا على أنقاض غيره، أو كان يستمد حياته وازدهاره من إماتة الآخرين وترويعهم، لكان من حق الدنيا كلها أن تقف فى وجهه، وتمتنع من شره، لكن الأمر على عكس ما يتصور الجاهلون، وعلى عكس ما يشيع الناقمون والمغرضون، فالإسلام يحيا ويعطى غيره حق الحياة إلى جواره. والمسلمون يؤدون حقوق دينهم فى الوقت الذى يعاملون فيه غيرهم معاملة باردة مقسطة معقولة. وقد مات نبى الإسلام ودرعه مرهونة عند يهودى، مرعى الجانب، محترم الدم، محفوظ الحق، كثير المال. فى دولة يعتبر الإسلام دينها ودولتها وشعبها وحكومتها. فلماذا يراد إقصاء الإسلام عن مكانته، وبتر تعاليمه شقين، يشل أحدهما ويهمل الآخر؟؟ إن المادة الثالثة من الدستور المصرى تنص على أن المصريين لدى القانون سواء، وهم متساوون فى التمتع بالحقوق المدنية والسياسية، وفيما عليهم من الواجبات والتكاليف العامة دون تمييز بينهم فى ذلك بسبب الأصل أو اللغة أو الدين. وتنص المادة عشرة على أن حرية الاعتقاد مطلقة. والمادة (159) تنص على أن الإسلام هو دين الدولة الرسمى... وهذه المواد جميعا يصدق بعضها بعضا وتسير فى اتجاه واحد. ذلك أن تأمين الحرية الدينية، والتسوية فى الحقوق والواجبات بين المسلمين وأهل الذمة من مبادئ الإسلام المقررة. وقد عرفتها بلاد الإسلام قبل أن تعرفها أقطار الغرب بألف عام أو يزيد!!! ص _152(1/148)
فلماذا يراد إقصاء الإسلام عن الحكم؟ وما هى العلة الدفينة وراء الجماعة عليه؟ ولحساب من تؤخذ الدولة منه؟ وما معنى أن ينادى كاتب ما فى مجلة "روزاليوسف" بفصل الدين عن الدولة قائلا: (إن تطهير الدستور من نص المادة 159 هو خطوة يجب أن نقوم بها فى شجاعة، حتى نمحو من مجتمعنا كلمات الطائفية والتعصب " الحق أن البغض العميق للإسلام بسبب الطائفية والتعصب هو سر هذه الصيحات النابية ضد الدين الرسمى للدولة.. وليس تقديس حقوق الإنسان وضمان حرية الطوائف هو مبعث هذا التهجم على الإسلام الخفيف فإن هذا الدين مصدر الشرائع التى صانت حرية العقل والضمير، ورفعت قدر البشر فى كل مكان. الحق أن جحود الألوهية واحتقار الأديان كلها. والإصرار على تعطيل الأحكام السماوية التى أنزلها الله فى كل كتاب سبق، و إقامة حكومة تحترم الكفر والإلحاد، وتستسيغ الفسوق والعصيان... هذه الدوافع كلها هى التى تتحرك وراء محاربة الإسلام، مطالبة بإقصاء الدين عن الدولة، ومنادية بإلغاء النص الدال على ذلك فى مواد الدستور.... إن الحرية بريئة من هذا العمل المنكر، فإن الإسلام لم يسئ إليها حتى تسيء إليه، وإن الوطنية بريئة كذلك من هذا العمل. فإن الإسلام لم يحقر مواطنا لدينه أو لونه مثل ما تفعل ذلك اليوم دول كبرى أبرمت ميثاق حقوق الإنسان، ثم هزأت نصوصه عند التطبيق. إن الرجعية الحاقدة على الإسلام فحسب هى التى تغرى بعض السفهاء بالتطاول على دين الكثرة متسترة وراء كلمات جوفاء من العدالة والحرية والمساواة. كأن العدالة والحرية والمساواة أصابها ضير من وجود مادة فى دستور الدولة تنص على أن الإسلام ديننا الرسمي...!! ثم، ما معنى هذه الجملة التى يلوكونها ولا يفقهونها: "الدين لله والوطن للجميع" إن الدين لله حقا. بل ذلك ما يجاهد الإسلام له، قال تعالى: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله). وإن الوطن للجميع حقا. ألم يسع الإسلام الزوجين المختلفين دينا فى(1/149)
بيت واحد، فكيف لا يسع فريقين كبيرين من أمة فى وطن واحد؟. ص _153
إن الإسلام منذ أربعة عشر قرنا يرى الوطن للجميع، وقد سمح أتم السماحة لأبناء الديانات الأخرى أن يعيشوا معه أحبة متوادين، وإخوة متعاونين، لكن المؤسف أن الآخرين لم يكنوا له هذه المشاعر الخالصة. وذلك سر نكبة المسلمين فى الأندلس وغيرها من بقاع " أوروبا". ومع ذلك فإن كلمة "الدين لله والوطن للجميع " يراد اليوم استغلالها لحرمان الإسلام حقه البديهى فى الحكم بما أنزل الله وفقا لتعاليم التوراة والإنجيل والقرآن.. ومن تافه القول أن يطالب بفصل الدين عن الدولة لأن "المقصود بالدولة المصرية مجموع الأجهزة التى تقوم بتسيير شئون المجتمع، وتوجيه نشاطه وطاقات إنتاجه. وصبغ هذه الأجهزة رسميا بالديانة الإسلامية معناه أن تقوم فى البلاد حكومة دينية تطبق الشريعة السماوية، وتقيم الحدود كحد السرقة الذى يقتضى قطع اليد، وحد الخمر والزنا، وهذه يتعذر تطبيقها..... وهذا ما يسوقه الكاتب المخدوع من حجج لإبعاد الإسلام عن الدولة، ونحن نعجب كيف يسيغ عقل هذا اللغو!! على الحكومة المسلمة أن تشيع العفاف واليقظة فى المجتمع، فهى بداهة لن تبيح فتح ماخور للفسق ولا حانة للخمر. وهذا نصف عملها أو أكثر فى هذا الباب. ثم عليها من بعد أن تعاقب الزناة والسكارى إذا وقعوا فى أيديها. كما تعاقب تجار المخدرات ومتعاطيها الآن. وكما تعاقب غيرهم من مثيرى الفتن ومبتغى الشر فأى تعذر فى هذا وأى صعوبة؟!!. أم أن المراد لتكون الحكومة تقدمية أن تدع طلاب الآثام من غير وازع ولا رادع؟ يبدو أن هذا ما يريده الراغبون فى إقصاء الدين عن الدولة. لأن هدفهم الأكبر أن يكون الكفر دين الدولة!!! *** ص _154(1/150)
أيها الشعب.. تعلم الحقد المقدس وتعلم صناعة الموت قلنا: إن سياسة الجهاد لا تكترث لحساب الأرباح والخسائر، ولكنها تهتم بمدى وفائها أو إخلالها بحقوق العقيدة التى تحملها... ولتكن العاقبة ما تكون.... وإذا كنا أمة مجاهدة تريد أن تحفر فى بلادها لحد الاستعمار، وأن تكسر عموده الفقرى بإعلان حرب دائمة على الإنجليز، فيجب علينا أن نتبع الخطوات الصحيحة الجادة التى تبلغ بنا هذا الهدف العظيم. على كل مسلم أن يكتب وصيته، وأن يستعد للكفاح فوق أنقاض بيته، ويجب أن تتحول المدائن والقرى إلى ساحات للقتال، فيعرف الإنجليز أنهم لن يدخلوا بلدا إلا وهو أكوام من التراب، وسحب من الحريق والدخان! وقد نفقد فى هذه المعركة مليون نفس، ولا يفقد الإنجليز إلا نصف هذا العدد أو ربعه أو عشره، ليكن!! فإن الخسائر لا تضير الأحرار قدر ما يضيرهم الخنوع للضيم وتحمل العار. ولنبدأ من الآن حرب الحقد، لنذكر حكم الإسلام الصريح، إن موادة أولئك المعتدين ردة، ومهادنتهم كفر. وإن من لم يكن معنا فى خصومتهم فهو علينا، نقاتلهم جميعا بسلاح واحد، فالمنافقة فى حقنا تساوى جحوده. إن الحروب الأولى بين المسلمين والفاجرين لم تبلغ ذروتها، وتؤد نتيجتها إلا يوم اضطرمت الجوانح بالبغضاء لمن آذوا الله ورسوله، فكان من وراء كل سيف يهوى قلب مقروح، وفؤاد ثائر. (قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين * ويذهب غيظ قلوبهم). ص _155(1/151)
ولنبدأ من الآن حرب الجد، فطبيعة موقفنا تفرض العبوس على الوجوه والعزوف عن اللهو، والترفع عن الصغائر، والتنزه عن الدنايا. يجب أن تخرس من الآن الأصوات الخنثة، والألحان المهتاجة بالشر والفسوق وأن تغلق الحانات وتراق دنانها، وأن توصد المراقص والملاعب، ويشرد أحلاسها وروادها، وأن تتواصى الأمة جمعاء بالعكوف على العمل ومضاعفة الإنتاج، ومواصلة السعى فى كل ناحية، ولنضع سياسة طويلة المدى لحرب طويلة الأجل. فإن من الغفلات أن نظن حقوقنا تنال فى حرب خاطفة، أو تدرك فى ساعة من نهار. يجب أن تطوى على عجل سياسة جمع التبرعات لأسر الشهداء. أو لتمويل الجهاد العام. فإن الأمم التى تدير حرب التحرير على ما يتجمع لديها من الصدقات المستجداة، أمة لا تستحق الحياة، ولا مكان لها بين الأمم الكريمة. يجب أن ترصد الثروات الكبرى لهذا الغرض، وأن تحبس أموال المترفين على حرب المستعمرين، فتتخلص بهذا من شرين: شر الاستعمار الداخلى، وشر الاستعمار الخارجى على سواء. إن الشعب دفع من أقواته ما كفل به امتداد الجهاد إلى ضفاف القناة، وهو مستعد أن يدفع أكثر من ذلك لو خلت الجيوب المنتفخة، وأقفرت الخزائن المفعمة، جيوب وخزائن السادة والكبراء. ومن الآن يجب أن ننذر... ننذر الباشوات الذين قد يتاجرون بمستقبل البلد فى السوق الصفراء، ويساومون على حقوقها حاسبين أنهم سيعيشون حتى يستمتعوا بثمن خيانتهم. لقد انتهى العهد الذى يعتبر مخالفة الإنجليز أمرا مباحا، وبدأ العهد الذى يعتبر إلقاء السلم لهم جريمة نكراء، لا تكفر عنها الدموع... بل تكفر عنها الدماء... أيها الشعب.. تعلم الحقد المقدس.. وتعلم صناعة الموت.. هيهات حال الموت دو ن الفوت وانتضى السلاح؟ كيف الحياة إذا خلت منا الظواهر والبطاح؟ أين الأعزة والأسنـ ـة عند ذلك والسماح؟ ص _156(1/152)
فرنسا فى بلدين فى الوقت الذى تزأر فيه فرنسا زئير الأسود الكاسرة وسط إخواننا من مسلمى المغرب، وفى الوقت الذى تغتال فيه الأحرار، وتشنق الأبطال، وتنسف الدور الآهلة، وتكظم على صيحات الغضاب المكلومين من أبناء هذا البلد المقهور... فى هذا الوقت تلقى فرنسا نفسها حظا أشأم نكدا فى بلد آخر. ففى الهند الصينية تتحول الآساد الكاسرة إلى حمر مستنفرة، والإقدام الرهيب إلى تقهقر معيب، فى هذا الوقت تجىء الأنباء بأن الوطنيين الحمر يطاردون الغزاة من قرية إلى قرية، ويكتسحونهم فى كل ميدان، ويكسون وجوههم الكالحة حللا مضاعفة من الخزى والهوان... قلت لنفسى: أليس فى الدنيا مستضعفون غيرنا نحن المسلمين؟ إن البغاث يستنسر بأرضنا، والتافهين العجزة يصولون ويجولون فى ربوعنا حتى إذا تخطوها إلى أقطار أخرى استقام ميلهم، وساروا وهم حذرون أن يخطئوا أو يجوروا... إن القوميات الوثنية مرهوبة الجانب، وحسبك أن فرنسا التى خرجت من المغرب مزهوة بما نالت من نصر، لم تمكث غير قليل حتى أحنت رأسها أمام الثوار المظفرين فى الهند الصينية، وهاهى ذى تجمع فلولها المدحورة لتختار بين التسليم أو الغرق! أما على ظهر الأرض أسوأ منا حالا؟ ما هذه الاستكانة المخزية؟ قد يعتذر لها بأن الوطنيين الحمر يملكون من صنوف السلاح الحديث ما يبلغهم أبعد الآمال، ويخلق منهم أجرأ الأبطال، وأن وراءهم دولا كبرى تمدهم بالعون وتحمى ظهورهم إذا تكالب الباغون على الكيد لهم. لكن الشعوب المسلمة فقيرة فى هذه الأدوات، فريدة فى دنيا عاثت فيها الذئاب، وضاعت العدالة!.. وهذا عذر- فى رأيي مردود- فليست قلة السلاح آفتنا، ولا ضعف الوسائل المادية. فما يجدى السلاح مع القلب المرعوب، والبدن المنهوك؟! والأمم الحريصة على الحياة فى أى وضع وعلى أية صورة؟! ص _157(1/153)
من قديم قرر المتنبى هذه الحقيقة المرة فى بيته الحكيم: إن السلاح جميع الناس تحمله وليس كل ذوات المخلب السبع أعتقد أن المسلمين لو أرادوا التحرر من إسار قاهريهم ما أعجزهم الأمر. فإن القيود تتكسر على معاصم الأحرار. والأمم الأبية لن يخضد شوكتها الحديد والنار. إن الأزمة التى يعانيها كثير من بلدان الشرق أزمة رجولة قبل أن تكون أزمة أسلحة عتيقة أو مستحدثة. هذه "ألمانيا" التى هدت الهزيمة قواها، وخربت الحرب الجائحة مدائنها وقراها! ما إن سقطت حتى نهضت. وما مرت سنون على تخريبها الشامل حتى ازدهرت جنباتها بكل شىء فإذا عداتها يتقربون منها ليستعينوا بكفايتها على أخطار الغد المبهم.... أخشى أن أقول: إن قيودنا من أنفسنا لا من غيرنا... وإن الغرب لم يسبقنا باكتشاف البخار والكهرباء، وأخيرا باكتشاف ما فى الذرة من أهوال كامنة. إنما سبقنا باكتشاف ما فى النفس البشرية من طاقات كبيرة لو سخرت لأتت بالعجب العجاب... أجل، إنه كما يمشى العرب فقراء على أرض من الذهب، يعيشون غرباء بين ما أودع الله فى نفوسهم من ملكات مهدرة، وقوى مبعثرة، وما ورثهم من رسالات كبيرة، وصحائف مطهرة. وإصلاحنا لنفوسنا أو صفوفنا ليس ضربا من المحال إن أردنا... واستنقاذنا لبلادنا ومقدساتنا أيسر شيء علينا، يوم تزكو أنفسنا، وتنسق جهودنا.. ولئن كانت الشقة بعيدة، إن اجتيازها سهل لمن شاء. ومن سار على الدرب وصل. وقبل أن نجمع على هذا المسير فإن فرنسا المهزومة فى كل ميدان، ستسترد خسائرها منا وحدنا نحن المسلمين... وليست فرنسا وحدها التى تصنع ذلك، بل الدول المستعمرة كلها وفى طليعتها البغى العجوز إنجلترا. إن تطهير الأوطان من أدران الذل نتيجة تخلص القادة والجماهير من آصار الجهالة والخرافة، وسائر أمراض النفوس والعقول.. * * * ص _158(1/154)
الإسلام جامعة قرأت أنباء المحاضرة التى ألقاها الدكتور راشد البراوى فى جمعية الشبان المسيحيين عن الجامعة الإسلامية المقترح إنشاؤها، وعن الريب والظنون التى تكتنف مولدها.. وليس يهمنى أن أتتبع المحاضر فى عودته إلى التاريخ القديم للإسلام، ولا فى فهمه للحركات التى حدثت مؤخرا فى بعض بلاده، فإن القليل الذى طالعته يغني عن الكثير الذى لم أسمعه، إذ إن هذا القليل يدل على أن المحاضر لا يعرف الإسلام معرفة جيدة، ولا يدرك الفروق الضخمة بينه وبين ما سبقه من أديان ولا يقدر ما يفيده العالم من الإسلام، لو أنه أخذ به، واستقام على صراطه. ويبدو أن الفكرة المسيطرة على المحاضر هى أن الإسلام كان خيرا بالنسبة إلى الجاهلية التى سبقته فحسب!، وأن تطور الزمن وتقدم العالم فى ميادين الكشوف العلمية الواسعة يفقد الإسلام- والأديان الأخرى طبعا- حق التوجيه والقيادة البشرية السائرة إلى الأمام. ونحن المسلمين مستعدون أن نترك هذا لو وجدنا أفضل منه فى قيادة الدنيا ورعاية مثلها، وكفالة نشاطها العام. فإن كان المحاضر ومن على شاكلته يريدون أن نتركه، وأن نهجر تعاليمه لنعيش بلا دين ألبتة فليقترح ذلك، و إن كان يريد أن نعتنق دينا آخر من الأديان السابقة، أو التى اخترعها البشر فليقترح ذلك أيضا، وأظن أنه من حقنا أن نرفض.. لأن أحدا لن يستطيع إرغامنا على نبذ إسلامنا الذى آثرناه عن فهم واقتناع.. وإسلامنا الذى نحرص على التمسك به يوجب علينا أن نتآخى مع المسلمين فى كل مكان، وأن نأسى لآلامهم، ونفرح لخيراتهم، بل هو يوجب علينا أن نتواصى ص _159(1/155)
معهم بالحق والصبر، وأن نتعاون على البر والتقوى، وأن نتساند فى دفع العدوان ومحق الطغيان. والمسلم الذى ينقطع عن إخوانه- مهما بعدوا- وتجف من قلبه عواطف الحنو لأحزانهم، والابتهاج بأفراحهم يعتبر منسلخا عن هذا الدين، وخائنا لأمته الكبرى. فالمسلمون وحدة و إن اختلفت أجناسهم وأقطارهم.. وتجاهل هذه الوحدة أو النيل من خطرها والتهوين من رسالتها، عمل تكرس له الآن جهود شتى، سوف ينكشف اللثام قريبا عن وجوه أصحابها وأغراضهم. وبداهة نحن لا نفكر فى تكوين جامعة إسلامية لتكون هذه الجامعة ذيلا لإحدى الجبهات المصطرعة فى العالم، ولا أن تكون هذه الجامعة المقترحة عقدا مزيفا يضم فى خيطه الطويل دويلات مسخرة وحكومات مستأجرة! كلا.. فالمسلمون الذين هم أمة مناضلة فى سبيل الحق والحرية، هم دعامة هذه الجامعة، وكل عدوان على هذه الأمة، أو انتقاص من حقها وحريتها فهو وأد للجامعة الإسلامية، وقتل لها فى المهد. إن التفكير فى محاربة الجامعة الإسلامية- للأسف الشديد- ينبع من جهات كثيرة، عربية وغربية وشرقية تكيد للإسلام، وتتمنى الخبال لأهله، والانطفاء لمناره. والغل الكامن فى طوايا بعض الأفراد والهيئات ضد الإسلام هو بقية من تعصب أعمى".. لو أتيح له أن يتنفس لقتل النهضة العلمية التى وصل إليها العالم أخيرا بعد كفاح دام ضد الجمود الذى لم يعرفه تاريخ الإسلام يوما ما، لأن هذا الدين لم يعلن حربا مقدسة على العلماء والمفكرين والمخترعين. ألا فلينعم بالا من ينوهون بالتقدم المادى الذى أحرزه العالم، فإن الجامعة الإسلامية يوم تقوم فلن تعوق سيره، ولكنها ستدفع به إلى المنهج القويم.. حيث لا عدوان ولا استعمار ولا تعصب. *** ص _160(1/156)
النزعة القومية عندما احتفل باستقلال باكستان، وازدانت الدور بالأنوار المتألقة، ودوت فيها الخطب الرنانة، نظرت من خلال هذه المظاهرة الفرحة إلى الماضى القريب أتأمله وأغلغل البصر فى أعماقه وجوانبه. ثم عدت إلى نفسى وقد شابها كدر خفيف! إن باكستان هى إنقاذ ما أمكن إنقاذه من الحكم الإسلامى فى الهند الكبرى أجل: فقد كان الحكم فى الهند إسلاميا، وكانت الوثنية الهندوكية المخرفة قابعة مستكينة، لا تطمع إلا فى النجاة بتقاليدها البالية. كانت العقلية الإسلامية تقتعد مكانها الصحيح فى بلاد لا تزال بدائية فى طقوسها وكهانتها. وكان المسلمون قلة نسبية ولكنهم كانوا كثرة ذاتية. ومهما أصابهم من انحلال وتأخر، فهم على كل حال أكرم مرتبة، وأسلم كيانا من عبدة البقر.! حتى جاء الإنجليز واستعمروا الهند. ومعنى الاستعمار الإنجليزى أن الحقد الكامن على الإسلام، والغيظ الدفين على أهله، ومحاولة إلحاق الأذى بهم فى كل مكان، واستنزاف قواهم فى كل قطر. إن ذلك كله وجد متنفسه العميق فى ظلال الاحتلال البريطانى. وبدأ الإنجليز يحيون القومية الهندية بعد غزو الهند، ويستخدمون الهندوك فى الأعمال الكبرى، ويجلون المسلمين رويدا رويدا عن المناصب التى ظلوا قرونا طويلة يملئونها. وفى الوقت الذى كان الإنجليز فيه يحيون العصبية الهندية للقضاء على الإسلام ص _161(1/157)
فى القارة الهندية، لأن المسلمين هناك قلة، كانوا هنا فى مصر يحيون العصبية المصرية والنعرة الفرعونية للقضاء على الإسلام كذلك، وإن كان المسلمون هنا كثرة! إن المهم هو إزاحة الإسلام من الطريق الإمبراطورى، ولا بأس من استخدام الشىء وضده للوصول إلى هذه النتيجة المنشودة. فلما شبت الثورة الاستقلالية فى الهند، وأحس المسلمون بالخطر على حياتهم ودمائهم وأعراضهم، وأدرك الإنجليز أن بقاءهم فى الهند أصبح مستحيلا، قرروا أن يخرجوا بعد أن يتركوا الأمور بعدهم مثار فتن وقلاقل لا تنتهى، فوضع مشروع التقسيم فى أسلوب يغرى الهند بالعدوان، ويضعف فى المسلمين روح المقاومة!. وفى هذه الظروف الكئيبة ولدت باكستان، ولولا أن الرجال الذين احتضنوا نشأة الحكم الإسلامى فى وطنه الجديد كانوا ذوى يقين وصلابة، لماتت الدولة الإسلامية فى مهدها.. ولكن الله سلم.! إن الروح الأوروبية متشبعة بالحقد الأعمى على ديننا العظيم. وقد عاد الزحف الصليبى مرة أخرى يحاول بكل قواه أن يجتث جذور الإيمان من قلوبنا وبلادنا، وهو فى هذه المرة يتستر وراء النزعة القومية، ليسلخ المسلمين أنفسهم عن الإسلام. *** ص _162(1/158)
من ينصره هل جلست يوما تستمع إلى (الراديو) يذيع على الناس اللهو والشجو والحق والباطل؟ لقد ضبطت أزراره على المصدر الذى يرسل ذلك بحيث يخرج الصوت سليما واضحا. ثم تركت الآلة المضبوطة تستقبل ما يصل إليها، وتملأ به الآذان الواعية أو الغافلة.. لو أنك أدرت بعض المفاتيح فى هذه الآلة العجيبة وملت بها يمينا أو يسارا فإنك إما تسمع صوتا أجش منحرفا مزعجا، وإما أن يختفى الصوت وتنقطع أنفاسه فلا تسمع لا همسا ولا صياحا. وسيبقى الصوت أجش غليظا ما بقيت الأزرار مائلة عن وضعها الصحيح، وسيبقى خامدا صامتا ما ظلت مفاتيحه موصدة. ولن تعود إلى السماع الهادئ الرتيب حتى تعيد الجهاز إلى ما كان عليه من ضبط متقن دقيق... إن قلوب البشر فى التقاط الحقائق كبراها وصغراها كهذه الأجهزة الحساسة وهى كذلك فى أدائها وقرع الآذان بها. يوجد أقوام تنطبع فى نفوسهم الحقيقة كاملة. فإذا تحدثوا كان كلامهم مصداقا لها، وإذا عرضت لهم قضية كان فصلهم فيها تجاوبا تاما مع الحقيقة السارية فى الكون. وقد أنصف القرآن اليهود بأنفسهم إذ أبان أن منهم ذوى قلوب تنجذب إليها الحقيقة، فهم يتحدثون بها ويحكمون: قال عز وجل: (ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون). ص _163(1/159)
وهناك أقوام تصل الحقيقة إلى أفئدتهم محرفة منقوصة. فهم يتحدثون ويخبطون كهذا (الراديو) المعوج الأزرار، تسمع منه فرقعة وفرقعة، وقد تعى منه شيئا ولا تعى منه شيئا أبدا، ومهما أنصت إليه فلن تخرج إلا بصداع فى رأسك. ذلك أن الآفة تجىء من داخله، ولن يصفو لك سماعه إلا إذا غمزت يدك أزراره المائلة، فأصلحتها أو أخمدتها!!.. وهناك أقوام لا تصيب الحقيقة من قلوبهم هدفا، ولا تجد بها مقرا، فهم: (أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون). وقيمة الإنسان فى الدنيا وفى الآخرة ترتبط بمدى صلاحية قلبه للإدراك الناضج والحكم الصحيح، لا فى قضية فرد بعينه، أو حالة بعينها، بل فى شئون الحياة كلها، ومع أهل الأرض أجمعين.... ولعل ذلك ما عناه النبى الكريم وهو يقول: "ألا وإن فى الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله. ألا وهى القلب".. وما قررته الآية الكريمة: (ولا تخزني يوم يبعثون * يوم لا ينفع مال ولا بنون * إلا من أتى الله بقلب سليم). وأستطيع أن أؤكد بقوة أن تقدم جماعة أو تأخرها منوط بمدى ما لديها من أصحاب هذه القلوب الواعية. القلوب التى تتصل بالعالم وأحداثه اتصالا فاقهًا نظيفا، فهى لا تنخدع فى إدراك مسألة. لأنها تلتقط لها صورا صحيحة، ولا تزيغ فى إصدار حكم لأن وسائلها فى الأداء والبلاغ لم يدركها عوج. ولم يصبها عطل. * * * ومن تجاربى مع الناس والأيام، رأيت أن الإسلام لن يفهمه ولن يخدمه امرؤ حرم هذا القلب. ولو استجمع شارات التدين من قلبه إلى رأسه أو من رأسه إلى ص _164(1/160)
قدمه... وأن قضاياه لن تنجح إلا إذا حملها أصحاب القلوب الكبيرة وتوفروا على نصرتها بفهم حصيف. وبصر عفيف. ولن يعارض هذا الكلام ما جاء فى الحديث عن رسول الله: "لن تدخل الجنة إلا نفس مؤمنة، وقد ينصر الله هذا الدين بالرجل الفاجر". فإن الرجل الفاجر قد تستغل قواه فى سبيل الحق عندما يكون فردا خبيثا وسط جماعة طيبة، تضع هى نفسها الخطط، وتملك القياد، وتوجه الأمور!!. أجل، فإن الجندى المرائى قد يؤدى عملا ما وسط الجيش المخلص، فرياؤه على نفسه، وسلاحه لمن معه. لكن النصر يكون أبعد ما يكون عندما يستبد ذوو القلوب المدخولة برسم الخطة وإدارة المعركة.. عندئذ يرفع الله يده، ويدع الناس وشأنهم... والخسائر التى أصابت الإسلام فى العصر الحديث، ومكنت لنزعات أخرى أن تسود وتبرز، سرها أن زمام الإسلام وقع فى أيدى رجال لهم قلوب لا يفقهون بها. ومنذ سنين بح صوتى وأنا أرى حكام الشرق يأكلون شعوبه، ويتركونها فضلات محطة للمحتلين الأجانب. فإذا أنا أطعن من ظهرى، أو ألطم على فمى، من رجال يقال: إنهم قادة الإسلام. أفكذلك يجزى العاملون للإسلام؟ *** ص _165(1/161)
عندما يفسد ضمير أمة.. قد يرتكب الفرد هفوة يسيرة، ثم يقلع عنها وينجو من عقابها، وقد يقع فى ورطة تفسد عليه حاضره ومستقبله جميعا..! والجماعات فى ذلك كالأفراد قد ترتكب إثما خفيفا فتمر به، وتتلخص من آثاره، وقد تقع فى ورطات عسرة تفسد عليها يومها وغدها وتحبط عملها فى الدنيا والآخرة. إن الشر مراتب وآثاره متفاوتة، وأقل الأخطاء نكرا ما لحقته يقظة الضمير وسرعة الندم، وما أعقبته توبة ترقع الخرق وتداوى الجرح، وأشدها سوءا ما صحبه الإصرار العنيد وانضم إليه إخراس الأصوات الناصحة، وإخماد أنفاسها، ثم المضى فى طريق الغواية دون الاستماع إلى واعظ يردع أو ناقد يجأر، وقد كان ذلك دأب اليهود قديما فقال الله فيهم: (إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم * أولئك الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين). وبذور الشر تنبت فى أكناف المجتمع أول الأمر مخالفات محدودة الخطر محصورة الشأن، ولكنها مع الإهمال والاستهانة لا تزال تنمو وتغلظ حتى تفسد ما حولها، كالنبات الشيطانى عندما يترك فيكثر فيلتهم ما حوله، وملاحظة تاريخ الأفراد والمجتمعات تنطق بهذه الحقيقة. وذلك هو السر فى أن النبى- صلى الله عليه وسلم- يوصى بوأد الشر فى مهده عندما يقول: "أتبع السيئة الحسنة تمحها" أى: لا تنتظر ولا تتمهل بعد وقوع الخطأ بل أسرع إلى مداواته قبل أن يستفحل ضرره. ومع هذا الإرشاد الواعى نجد إنذارا آخر لمن يؤثرون الاسترخاء والتباطؤ، فإنهم قد يغترون بالإمهال الإلهى فلا يفكرون فى متاب أبدا، وهنا نسمع قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: ص _166(1/162)
"إن الله ليملى للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته" وتلا قوله تعالى: (وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد). أجل فإن القدر الذى يرقب المجرمين ويحصى عليهم أنفاسهم قد يمهلهم حتى يرتكبوا الإثم الذى يطفح به الكيل فيأخذهم أخذة أسف لا تبقى منهم رطبا ولا يابسا: (ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين). ونريد من هذا العرض التاريخى أن نعرف سنة اجتماعية خالدة، هى أن مساوئ الأمور يسلم بعضها إلى بعض، وتتوارد نتائجها الوخيمة على الأمم متلاحقة متماسكة حتى تنتهى بها إلى سوء المصير..! ذكر القرآن الكريم أن الله حكم على اليهود بالخزى وبين أن هذا الحكم وقع عليهم جزاء منكرات ارتكبوها، وأن هذه المنكرات التى واقعوها بدأت أول أمرها عصيانا عاديا ثم اشتد عودها وتكاثر شوكها. وقال تعالى: (ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وباءوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة). وما سبب هذه العقوبة؟! (ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق). وكيف تجرءوا على هذه العظائم، واستباحوا الكفر والقتل؟ (ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون). فكأنهم استحقوا الذل لما استهتروا بالكفر والقتل، وكأنهم وقعوا فى هذا الاستهتار لما ألفوا العصيان والعدوان، وهذا ترتيب دقيق فالمعصية تقع أولا على استحياء ثم تقترف على توقح، ثم تصبح تقليدا هاما وعرفا شائعا. ويظل المجتمع ص _167(1/163)
يتطور إلى أسفل على هذا النحو، فيصم أذنيه أولا عن دعوات المصلحين، ثم يضع يده فى أفواههم يبغي إسكاتهم، ثم يقرر آخر الشوط إخماد أنفاسهم. ووجد اليهود الأقدمون جزاءهم العدل على إسفافهم ودناياهم فبطش بهم الأقوياء وملئوا ديارهم رعبا وهوانا. ذكر "ابن كثير" فى تاريخه "أن الله أوحى إلى نبى من أنبياء بنى إسرائيل يقال له "أدميا" حين ظهرت فيهم المعاصى: أن قم بين ظهرانى قومك فأخبرهم أن لهم قلوبا ولا يفقهون، وأعينا ولا يبصرون وآذانا ولا يسمعون، وإنى تذكرت صلاح آبائهم فعطفنى ذلك على أبنائهم. فسلهم كيف وجدوا غب طاعتى، وهل سعد أحد ممن عصانى بمعصيتى، وهل شقى أحد ممن أطاعنى بطاعتى؟ إن الدواب تذكر أوطانها فتنزع إليها! إن هؤلاء القوم تركوا الأمر الذى أكرمت عليه آباءهم والتمسوا الكرامة من غير وجهها، أما أحبارهم فأنكروا حقى وأما قراؤهم فعبدوا غيرى، وأما نساكهم فلم ينتفعوا بما علموا، وأما ولاتهم فكذبوا على وعلى رسلى، خزنوا المكر فى قلوبهم وعودوا الكذب ألسنتهم! وإنى أقسم بجلالى وعزتى لأهيجن عليهم جيوشا لا يفقهون ألسنتهم ولا يعرفون وجوههم ولا يرحمون بكاءهم، ولأبعثن فيهم ملكا جبارا قاسيا له عساكر كقطع السحاب ومواكب كأمثال الفجاج كأن خفقان راياته طيران النسور وكأن حمل فرسانه كر العقبان يعيدون العمران خرابا ويتركون القرى موحشة". وقد حاول اليهود أن يخدعوا الله ببعض الطاعات المغشوشة، وأن يتخلصوا من الهوان الذى نزل بهم باصطناع توبة سهلة، توبة تجعلهم يلبسون ثياب التقوى على كيان من الكنود والتحلل!! والمنافق يستطيع أن يقوم ببعض الصلوات، والمرائى يستطيع أن يؤتى بعض الصدقات ولكن قلبهما بعيد عن اليقين، وفكرهما غريب عن الحق ولذلك جاء- فيما أوحى الله لعيسى بن مريم- على ما روى ابن كثير-: "... وسيقول لك بنو إسرائيل: صمنا فلم يتقبل صيامنا وصلينا فلم تقبل صلاتنا، وتصدقنا فلم تقبل صدقاتنا، وبكينا بمثل حنين الجمال فلم(1/164)
يرحم بكاؤنا. فقل لهم: ولم ذاك وما الذى يمنعنى؟ ص _168
أن ذات يدى قلت؟ أو ليس خزائن السموات والأرض بيدى أنفق منها كيف أشاء؟!. أو أن البخل يعترينى، أو لست أجود من سئل وأوسع من أعطى. أو أن رحمتى ضاقت؟ وإنما يتراحم المتراحمون بفضل رحمتى. ولولا أن هؤلاء القوم يا عيسى بن مريم غروا أنفسهم بالحكمة التى تورث قلوبهم استحباب الدنيا على الآخرة لعرفوا من أين أتوا. وإذًا لأيقنوا أن أنفسهم هى أعدى الأعداء لهم، كيف أقبل صيامهم وهم يتقوون عليه بالأطعمة الحرام؟ وكيف أقبل صلاتهم وقلوبهم تركن إلى الذين يحاربونى ويستحلون محارمى؟ وكيف أقبل صدقاتهم وهم يغصبون الناس عليها فيأخذونها من غير حلها؟ يا عيسى إنما أجزى عليها أهلها. وكيف أرحم بكاءهم وأيديهم تقطر من دماء الأنبياء! ازددت عليهم غضبا!. إن تاريخ هؤلاء الناس ملآن بالعبر والمثلات، وجدير بنا أن نتدارسه ونستفيد منه.. فنحن العرب الأمة الوارثة للوحى الإلهى الأخير، كلفنا أن نعمل به وأن ندعو غيرنا إليه أو بتعبير آخر كلفنا أن نصوغ أنفسنا فى قالبه صياغة جميلة معجبة، وأن نغرى الآخرين باتباعنا واقتفاء آثارنا والنسج على منوالنا... وقد نجح آباؤنا الأوائل فى ذلك المضمار فكانوا فى العالم الذى لما تنقض ذكرياته طليعة حضارية رائعة.. ثم تسللت إلينا علل الأمم البائدة، فطوت راياتنا بعد ما ازدان بها الأفق دهرا طويلا، وانسحبنا من الميدان بغير نظام، وخيم على العالم الإسلامي أجمع سكون البلى والضياع.. ثم بدأت طلائع دورة تاريخية أخرى شق طريقها رجال من أمثال جمال الدين الأفغاني أرادوا أن ينفخوا الحياة فى الأمة الهامدة، وأن يذكروها برسالتها الخالدة، ص _169(1/165)
وليس عجيبا أن تكثر العوائق أمام هذا النهوض الواجب، فإن عداوة الحق قديمة قدم الشيطان نفسه ومذ خلق الله آدم ومكن فى الأرض ذريته قال إبليس لله: (قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم * ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين). وهذه الخصومة الأزلية للحق هى التى جعلت أعداء الإسلام يكنون له الحقد الدفين ويثيرون عليه الشر المستطير وقد أنبأنا الله تبارك اسمه بحقيقة هذا الموقف حتى نحسن الإعداد له ولا نؤخذ على غرة من قبله فقال: (ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون). والارتداد الشامل قد يكون سوءة مخزية لا يرضاها لنفسه إلا امرؤ مهين يقبل الانسلاخ عن دينه جملة وتفصيلا، ولا حديث لنا مع هؤلاء..!! إنما الحديث مع نفر آخر من المسلمين تعرف منهم وتنكر! يخلطون البدع بالسنن والحسنات بالسيئات والمعاصى بالطاعات، يأخذون من الدين ما يعجب، ويتركون ما ينبو عن أذواقهم المريضة... مع أصحاب هذه السيرة المضطربة نريد أن نقف طويلا لنقول للقوم إن الله جل جلاله لا يعامل بهذه الطريقة، ولا يؤوى أمة تعبث بوحيه هذا العبث... وقد روي لنا ابن كثير كيف دعا اليهود وبكوا!! وهيهات (فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين). المجتمع المؤمن يعرف معرفة جيدة مثله العليا، ويسير نحوها بثبات، وقد يفرط بعض أفراده فى واجباتهم بيد أن هذا التفريط الفردى لا يعدو أن يكون على جزئية لا تظهر حتى تخفى، ثم سرعان ما تغلب روح المجتمع الجاد روح الفرد الماجن فتمضى القافلة كلها إلى غايتها المرسومة. ص _170(1/166)
إن أجود البيئات صحة لا تخلوا من أفراد قد يصابون بالحميات المهلكة، وهذه الإصابة لا ينكر وقوعها، بل تسجل فى إحصاءات متداولة، وتسجل معها كذلك كيف عالجت البيئة السليمة بعض أجزائها حتى صح أو هلك، ليحل محله أقوى وأفضل. إننا نريد أن ندفق فى حماية الكيان العام للمجتمع، وأن نجعل الضمير العام للأمة حساسا بما يؤثر فى صفاته من خير أو شر. وقد سقنا من أحوال بنى إسرائيل القدامى ما يستحق التقليب والاستنباط، والعبرة المستفادة من هذا التاريخ أن يتيقظ الدعاة والمرشدون إلى بذور الفتنة ومغارس الجريمة، يقتلونها فى مهدها حتى لا تقتلهم عند اشتدادها. إن الحرص على النوافل قد يكون سياجا للحفاظ على الفرائض. وفى ذلك يروى أبو داود عن ابن مسعود: "إن رسول الله علمنا سنن الهدى، وإن من سنن الهدى الصلاة فى المسجد الذى يؤذن فيه. وما منكم عن أحد إلا له مسجد فى بيت، ولو صليتم فى بيوتكم وتركتم مساجدكم تركتم سنة نبيكم ولو تركتم سنة نبيكم لكفرتم". وشرح هذا الكلام أن ابن مسعود يخشى أن نتعود ترك الجماعة فيجر هذا إلى ترك الصلاة نفسها، ثم ينتهى الأمر بالنكوص عن متابعة النبى- صلى الله عليه وسلم- وعن الانسلاخ من الإسلام جملة. والذى يلاحظ سير الآداب العامة، وأسلوب الخروج على الفرائض والآداب يتأكد من صدق هذه الملاحظة. إن المرض المجهز قد يبدأ صداعا تافها، نسأل الله المعافاة. *** ص _171(1/167)
الإيمان شرف فى الوسيلة والهدف يروى المؤرخون أن عبد الله بن أبى السرح ارتد بعد إيمان والتحق بمشركى مكة يزعم لهم أنه كان يفتعل الوحى مع محمد، وأن القرآن كتاب من عند الناس لا من عند الله. وظاهر أن الرجل بهذه الفرية المهينة يسىء إلى الإسلام وأهله ويشن على الله ورسوله حربا آثمة، فلا جرم أن يحكم النبى عليه بالموت، وأن يهدر دمه عام الفتح مع أمثاله من المجرمين الذين لا يستحقون شرف الحياة فى مجتمع نقى. وشاع نبأ هذا الحكم الواجب النفاذ، والذى لا يجوز أن يتراجع أمامه أحد. إلا أن عثمان بن عفان- وكان أخا لعبد الله من الرضاع- طمع فى استصدار عفو من رسول الله عن قريبه المخطئ، فاقتاده إلى مجلس النبى يعتذر ويستأمن. وسكت الرسول وهو يتذكر عظم ما اقترف هذا الكذوب فى جنب الله: (ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا). ولم يجب عثمان إلى ما طلب من عفو عنه. بيد أن عثمان عاود الرجاء حتى استحيا الرسول من رده خائبا فعفا عن عبد الله وآمنه. وبدا من حاله ومقاله- صلى الله عليه وسلم- أن الرجل كان أهلا للعقوبة جديرا بالقتل، فقال له بعض أصحابه: هلا أومأت إلينا بعينك فعاجلناه بالقصاص؟ فقال النبى- صلى الله عليه وسلم- هذه الكلمة النبيلة: "ما كان لنبى أن تكون له خائنة الأعين"..!! إن أصحاب النفوس الشريفة لا يحسنون أعمال الظلام، ولا تتفاوت مسالكهم الجلية والخفية، ولا يلجئون إلى الغمز بالعين تسترا على نية يخشون اكتشافها، أو يؤثرون كتمانها. ص _172(1/168)
والدعاة إلى الله ليس أمامهم إلا نهج واحد، المصارحة بالحق، والمسالمة فيه أو المخاصمة عليه. وهم فى هذا المنهج علماء يدرسون الحقائق الدينية والاجتماعية أو السماوية والأرضية فلا يقصرون فى بيانها ولا يجاملون فى تقريرها، ولا يخفون بعضا ويظهرون بعضا آخر، كلا، إنهم يكشفون كل ما لديهم دون مواربة أو محاذرة. وفى هذا يقول الله جل شأنه: ( ودوا لو تدهن فيدهنون ). والمداهنة التى يودها المشركون لون من الهدنة على حساب المبادئ المقررة والمثل المنشودة، وهى هدنة تقوم على تملق المجتمع أو الحرص على المنافع الخاصة أو النكوص عن التضحيات اللازمة. والأنبياء ومن على قدمهم من الدعاة يرفضون رفضا حاسما هذا المسلك القريب من النفاق والأثرة. "إنهم صور حية لرسالاتهم، وحراس منتصبون للدفاع عنها، والحياة بها أو الموت دونها، لا يميلون عنها يمنة أو يسرة قيد أنملة. وتأمل توجيهات القرآن الكريم لسيد الدعاة: (وادع إلى ربك إنك لعلى هدى مستقيم * وإن جادلوك فقل الله أعلم بما تعملون * الله يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون). وقوله جل شأنه: (فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم). وقوله: (إن ربي على صراط مستقيم * فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم). إن للطبائع الملتوية أسلوبا قد تنجح به فى ميادين شتى، فإذا تعلق الأمر بالعقائد والفضائل والمبادئ لم تصب من النجاح سهما، ذلك أن طريق أصحاب المثل غير طريق أصحاب المصالح، وسياسة الدعوات القائمة على الشرف والمرتبطة بالسماء غير سياسة التطلع والتصد. ص _173(1/169)
ويجب أن نوقن بأن أهل الإيمان يرفضون السير بعيدا عن منطق الأمر والنهى والحلال والحرام، وما يجوز وما لا يجوز، أما الزعم بأن الغاية تبرر الوسيلة فهذا ما لا يقبلون. عن ابن إسحاق أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أتى قبيلة بنى عامر بن صعصعة، وعرض عليهم نفسه- وذلك بعد ما كذبه قومه وتجهمت الأرض له- فقال رجل منهم: والله لو أخذنا هذا الفتى من قريش لأكلتنا العرب!! ثم جاء النبى فقال له: أرأيت إن تابعناك على أمرك ثم أظهرك الله على من خالفك أيكون لنا الأمر من بعدك؟ قال: الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء!! قال: أفنهدف نحورنا للعرب دونك، فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا؟ لا حاجة لنا بدينك!؟ إن هؤلاء قوم ينشدون الرياسة من وراء الإيمان الذى يساومون عليه، فهم لا يطلبون وجه الله ولا يفكرون فى ثواب الآخرة!! والذين يصلون لغرض ويصومون لغرض ليسوا أصحاب صلاة ولا صيام!! والذين يشترطون على الله- لكى يؤمنوا به- أن يأخذوا كذا وكذا ليسوا أهل إيمان.. ومن هنا انصرف نبي الله عنهم لأنه لا يعرف سياسة خذ وهات، ولا يقود البشر عن طريق شهواتهم القريبة أو البعيدة إنما يقودهم عن طريق اليقين المحض، والإخلاص المبرأ، والعمل الصالح المبرور... والمسلم امرؤ يحيا وفق تعاليم دين، وهو ينتصر لدينه بالطرق التى يقرها وحدها، وينأى عما عداها. إن طبيعة الطير أن تسبح فى الجو، وأن تطوى المسافات صافة أجنحتها، وطبيعة الثعبان أن يزحف على الثرى، وتتدافع أجزاؤه فوق التراب كى ينتقل من مكان إلى مكان. والإيمان نقلة هائلة من طبع إلى طبع ومن سلوك إلى سلوك، وهو يكلف صاحبه أن يترفع لا أن يسف وأن يشق طريقه محلقا فى الجو لا مخلدا إلى الأرض. ص _174(1/170)
والمشكلة أن بعض الناس يتصور أنه باسم الإيمان يستطيع أن يتحرك بخطى الثعبان، وهيهات!!. تأملت فى وصف القرآن لأولى الألباب فوجدتنى أمام مجموعتين من الخلال الزاكية تكمل إحداهما الأخرى، المجموعة الأولى فى سورة آل عمران والثانية فى سورة الرعد. فأما التى فى سورة الرعد فقد أحصت الآثار العملية فى الأخلاق والسير وعدتها الامتداد الطبيعى للعقل المؤمن: (إنما يتذكر أولو الألباب * الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق * والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب * والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم...) إلخ. وأما التى فى سورة آل عمران فقد تعرضت لمنابع الإيمان من ذكر وفكر ودعاء وبضوابطه من جهاد وهجرة وتضحية: (إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب * الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض) إلى أن قال: (فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم) إلخ. والآيات الكريمة فى كلتا السورتين تصف ناسا معينين، وإنما تختلف الأوصاف باختلاف المواقف والمناسبات، وما يستغنى مؤمن فى حياته الخاصة والعامة عن كل ما ذكر الله جل شأنه هنا وهناك. قد تقول: لكن هذا الالتزام الدقيق سيجعل أصحابه غرباء مستوحشين، بل قد يجعلهم ضعفاء مغلوبين.! فإن القافلة البشرية تسير تحت رايات وشارات غير ما تقرر هنا، وإذا لم يتهاون أهل الإيمان فى بعض مواريثهم هانوا وتنكرت لهم الدنيا..!!. ص _175(1/171)
وأقول: هذا هو الهراء الذى لا يثمر إلا خزى الحياتين، والذى أنطق المفرط القديم بهذا البيت النادم: بعت دينى لهم بدنياى حتى سلبونى دنياى من بعد دينى!! وإنى أحذر العرب والمسلمين فى كل قطر من مثل هذا المنطق الكفور الضعيف إنهم يجب أن يتشبثوا بأرضهم شبرا شبرا وبدينهم حكما حكما. وليعلموا أن نية التفريط أول بوادر الهزيمة، وأن النزول عن جزء من الحق إيذان بضياع الحق كله. لقد بدأ الإسلام غريبا مستضعفا، فلما ثبت عليه أهله أصبح قطب الوجود ومنارة الدهور، وما كلفهم ذلك إلا شيئا واحدا هو صدق الإيمان، وإن خفق القلب، واضطرب القدم، وقل الناصر، وفجر الباغى، وعمت الأفق الغيوم..! يقول سبحانه: (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا). والشرط الفذ الذى نوه به القرآن ليتحقق هذا الرجاء هو قوله سبحانه (يعبدونني لا يشركون بي شيئا ). وبعد أن ألمع إلى أركان هذه العبارة المفروضة أومأ إلى قوى المبطلين بازدراء، وبين أنها ستذوب فى حرارة الإيمان المنتصر آخر الأمر (لا تحسبن الذين كفروا معجزين في الأرض ومأواهم النار ولبئس المصير ). إن النصر حليف دائم للإيمان الحق لا يمكن أن يتخلف عنه أبدا، ولقد ذاق المسلمون فى تاريخهم المديد حلاوة النصر، وآلام الهزيمة، فهل كانت انكساراتهم لمتخلف فى مواعيد الله؟ كلا، إنهم هم الذين أوهنوا علاقتهم بالله، فلما ارتابت قلوبهم، وضعف إيمانهم تخلت عنهم العناية العليا. ص _176(1/172)
قرأت هذا التعليق على جهاد نور الدين زنكى ضد الصليبيين القدامى أنقله بحروفه لعل فيه عبرة: "كان الإفرنج قد ملكوا أكثر البلاد منذ خمسين سنة، وكانوا أعداد الرمال تمدهم أوروبة كلها بما يشد أزرهم ويضمن غلبهم، وحسب الناس أن هذه الغمة لن تزول، فما هى إلا أن ظهر الرجل الذى نشر راية القرآن وضرب بسيف محمد حتى عاد النصر يمشى فى ركاب المسلمين وعاد أمرهم إلى الزيادة، وأمر الصليبيين إلى النقص، وبذلك يكون لنا كلما شئنا النصر". إن راية القرآن لم تهزم قط، ومن هزم من أمراء المسلمين فى هذا التاريخ الطويل، إنما هزموا لأنهم كانوا يستظلون برايات المطامع والأهواء والعصيان والأحقاد، ما استظلوا براية محمد. وكانوا يضربون بسيف البغى والإثم والعدوان، ما ضربوا بسيف محمد. إنه ما ضرب أحد بسيف محمد ونبا فى يده سيف محمد!!" ا.هـ. وهذا حق سجلته القرون، وشهدت به الأرض والسماء، وعندما ينتضد العرب هذا السيف فستكون من ورائه قوة الله التى تدك العدوان، وتؤدب المجرمين، إسرائيل ومن وراء إسرائيل. المهم أن نوفى لله فيوفى الله لنا، وأن نذكره فيذكرنا، وأن نلوذ به فيكمل جهدنا ويسدد خطونا. *** ص _177(1/173)
التدين بين صدق العاطفة وزيفها من السمات الأولى للتدين المنحرف إتقان الصور الظاهرة وإهمال الحقائق الباطنة. وإحداث جدال طويل حول التكاليف الفرعية والتعاليم القانونية واللياذ بالصمت أو الهمس عندما يتعلق الأمر بأركان الحق وآداب النفس.! ذلك أن بعض الناس يعقد صلحا حقيقيا مع هواه، ثم يقبل على الدين بعد ذلك ليأخذ منه ما يعجبه نظريا أو ما يريحه عمليا، ولعله يتحمس له أشد الحماس، ويخاصم الآخرين عليه أشد الخصام. فإذا انتقل الوضع إلى جوهر العلاقة بالله، وإعلاء كلماته على الأرض، وإحكام السدود أمام النزوات الفردية والاجتماعية، وجعل الوحى الإلهى هو القائد لهذا النشاط الخاص والعام، رأيت بدل الحماس فتورا، وبدل الخصام ودادا!. وقد كان اليهود أمام البعثة النبوية يتقنون هذا الفن من التدين الرخيص، فعندما تحولت القبلة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام ظنوا الفرصة سانحة للتشنيع على المسلمين وتسوىء سمعتهم. وإظهارهم أمام العرب كأنهم ينقلبون على أعقابهم. فنزل القرآن الكريم يطفئ هذا الضجيج المفتعل ويكشف لبنى إسرائيل وغيرهم أن السمو النفسى لا يصنعه اتجاه إلى شمال أو جنوب، ولكنه عمل حقيقى مرهق لطلاب الكمال لن يصلوا إليه إلا بعد استكمال عناصر معينة هى: اليقين الراسخ، والبذل الواسع، والصلاة الجامعة؟ والوفاء الشريف، والصبر الطويل. وقد أودع الله جل جلاله هذه المعانى فى مبادئ ستة، ذكرها بعد أن نفى وساوس اليهود أن استقبال جهة ما أساس البر والتقوى فقال: (ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر): (من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين). ص _178(1/174)
2- (وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب). 3- (وأقام الصلاة). 4- (وآتى الزكاة). 5- (والموفون بعهدهم إذا عاهدوا). 6- (والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس). (أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون). وظاهر من هذا الرد أن القرآن يلفت الأبصار إلى أسس التسامى الحق، وأن الله لا يروج عنده خداع، ولا يقبل من عباده إلا من أسلم له وجهه وقلبه، وأحسن عمله وخلقه، وتحمل المشاق فى ذلك دون ضجر أو خور. ومن التعلق الغريب بالشكليات والذهول عن العظام موقف العرب الجاهليين من المسلمين عندما أخطأ فريق منهم فقاتل فى الشهر الحرام.. لقد سارع المشركون إلى رمى المسلمين بالمروق عن الإيمان وحاولوا إظهارهم لسكان الجزيرة وكأنهم لا يرعون حرمة ولا تقفهم حدود. والسبب أن السرية المقاتلة التبس عليها آخر جمادى بأول رجب فلما غم عليها الهلال واتت الفرصة قريشا لتجأر بالشكوى وتنذر بالويل، حتى أن بعض المسلمين ساء ظنه بنفسه وموقفه.. غير أن العلى الحكيم بت فى هذه القضية بما يخزى المشركين ويرد عليهم: (يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير). نعم إن استباحة الشهر الحرام لا تليق، فهل تدرون ما فعلتم أنتم؟ فقد اقترفتم ما يربو عليه إثما ونكرا قال تعالى: (وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل) وهكذا يوازن القرآن الكريم بين الأطراف المتقابلة ثم يرجح ما يستحق الترجيح، فيرفض التعليق بالأشكال، والتعصب لها ويوجه الهم إلى اللب الذى تزكو به الأنفس، وتطيب به عافيتها. ص _179(1/175)
والمسلمون اليوم أقوام يحرصون على مظاهر كثيرة من دينهم، وفيهم طوائف قد تتقاتل على أخف قضاياه وزنا، فإذا اتصل الأمر بعمود الدين وذروة سنامه خفتت أصوات وبردت مشاعر. وقد شاع الإعزاز لما يسهل أداؤه، ولما يمر فى الحياة، فلا يغير منها شرا ولا يدعم فيها خيرا.. والذين يفعلون ذلك يحسبون أنهم قد أفرغوا ذمتهم فى مرضاة الله وأبلوا بلاء حسنا فى نصرة دينه، وهيهات..!! إن المصحف كله يقرأ مرتلا كل أربع وعشرين ساعة، ولكن أحكامه معطلة فما جدوى ذلك على الإسلام وأمته؟! وقد انتشرت أحفال القراءة اللاغية، ومجالس الذكر اللاهية، فكان موقف المسلمين من كتاب الله مثار دهشة، يقول تعالى: (الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون) فماذا كان موقفنا من هذه الآية..؟ لو أن المسلمين لما اتخذوا هذا القرآن مهجورا ابتعدوا به عن مواطن اللهو، ومجالس العبث، لكان ذلك أدنى إلى الجد وأقرب إلى توقير كلام الله عز وجل. ولكنك تعجب لصورة التلاوة الشائعة، والسماع المعروف، وتجزم بأن الأمر خرج من حدود العبادة المرجوة القبول. وأصبح هزلا لا يستساغ ألبتة. لقد جاء فى الحديث: "إن هذا القرآن نزل بحزن. فإذا قرأتموه فابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا"، ليس المعنى ادعاء التأثير، وتصنع الخشوع، وإنما القصد إشراب القلب خشية الله، واستحضار هيبة صاحب الكلام، والمقارنة بين النصائح المبذولة فى تضاعيف هذا الوحى الكريم، وبين صدود البشر عنها وجماح الشهوات دونها، مما يؤذن البشرية جمعاء بشر مستطير.. أما أن تتحول مجالس القرآن إلى حفلات صاخبة. يرسل القارئ نغما فيتبعه السامعون "بتأليهات" وتأوهات، وإعجاب وطرب، وتمايل ص _180(1/176)
ونشوة، واستفادة واستجادة- فذلك كله دجل صغير، ومسلك ناب سقيم، وجرم يستحق مقترفوه التأديب. فضلا عن أن تصايح هؤلاء المعجبين لا دلالة فيه على فقه ولا يقين. فلو كلفوا بجهاد فى سبيل الله، أو بذل لإعزاز هذا القرآن، أو تضحية لإنقاذ أحكامه، لخرست الألسنة الصياحة، وانقطت الجموع الملتاعة. إنى أكره من أعماق قلبى اختلاط الطاعة بالمعصية، وتنفيس الإنسان عن شهواته باسم أنه يعبد الله. ماذا على من يعجبهم التلحين والتطريب أن يستمعوا لذلك فى قصيدة غزل، وأن يبتعدوا به عن كتاب الله؟؟. وإذا كان الناس يحبون أن يزينوا القرآن بأصواتهم، فما غناء هذه الزينة فى عصر عطلت فيه أحكام القرآن. وأصبحنا نجد أمما لا تسقط من القرآن حرفا وقد أسقطت العمل به كله؟؟ إن آيات الإنذار تنطق أحسب أنها غارات ورجوم تنزل على الأهواء والوساوس فتحطمها. فإذا أنا أسمع صوتا خفتا ينبعث بالاستحسان الطائش ويطلب الإعادة فى ابتسام يكاد يتحول ضحكا. فأذكر قول الرحمن فى وصف عباده: (والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا). بيد أن هؤلاء عموا وصموا.. إنهم لا يعقلون حرفا مما يسمعون! يا أمة القرآن. ما هكذا يعبث بكتاب الله: إن هذا الموقف المستغرب من كتاب الله يرجع إلى العلة التى شرحناها صدر هذا الكلام، علة التعلق بالظاهر التى لا تجشم مشقة، ولا تزعج كسولا. ولا تعجم عودا، ولا تدل على شىء طائل. وقديما حسب الجاهليون من سدنة الكعبة أن خدمتهم لبيت الله وبذلهم المعروف لوفود الحجيج يرجح مكانتهم على أتباع محمد ويجعلهم أمام الناس موضع تكريم ص _181(1/177)
واحترام، فنزل القرآن الكريم يرد هذا الوهم ويكشف عمن هم أجدر بالتكريم والحرمة: (أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين * الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون). وبذلك الحكم الحاسم بين الله جل شأنه أن الإيمان الذى يصعد إليه ليس إيمان الدعوى والخرافة والبلادة. إنما هو إيمان الصدق والحقيقة والكفاح. وأن أصحابه وحدهم هم الذين ينالون خيرى الدنيا والآخرة. * * * ص _182(1/178)
مزيدا من الثبات على الحق... تشريف الإسلام للعرب حقيقة تاريخية وحضارية لا يمارى فيها عاقل، فقد كانوا قبل امتنان الله عليهم برسالته أمة منقوصة القدر، مهيضة الجناح، ليس لها فى مجال التفوق العالمى أثر يذكر. فلما قادها محمد على الطريق المستقيم، ورفع مستواها الروحى والعقلى وعرفها : ما الكتاب والإيمان ؟ تحولت برسالته الكبرى إلى أمة أخرى، تقود ولا تقاد، وتعطى ولا تأخذ . وارتقت من مكانة التابع الذى يتلقى فضلات الآخرين إلى مكان المتبوع الذى يرجى خيره، ويلتمس رضاه . ! ولسنا نزعم أن الإسلام ثورة عربية أو نهضة قومية، كلا، فهو رسالة عالمية شاملة يتآخى فيها أبناء آدم قاطبة، وتيسر لكل إنسان فى القارات المعمورة زكاة نفسه، وسمو خلقه، واستقامة فكره، فى ظل علاقة وطيدة بالله وتعاليمه ! ولكن لا ريب أن العرب باصطفائهم لهذه الرسالة، وتشرف لسانهم بآيات الكتاب، ومنطق النبوة... ثم بجهاد الأصحاب والتابعين من أسلافهم لنشر الدين ودفع العدوان عنه، لاشك أن الإسلام يبوئهم مكانة ممتازة، ويوفر لهم أستاذية مرموقة يجب أن يكونوا أهلا لها، وأن يستعدوا ماديا وأدبيا لحمل أعبائها... فهل وعى العرب كلهم هذه الحقيقة الاجتماعية ؟ لا للأسف فإن منهم فى القديم والحديث من انتصب سدا منيعا أمام سير الإسلام، وزحف قافلته إلى الأمام !! وإن منهم من بذل النفس والنفيس ليطفئ نور الله ويحول بين العرب وبين اعتناق هذه الرسالة والتجارب مع أهدافها . . ص _183(1/179)
وما درى أولئك الغافلون أنهم بذلك يهدمون مجدهم، ويضللون قومهم، ويغضبون ربهم، ويخسرون دنياهم وآخرتهم . وفى محاولة هؤلاء ثنى الرسول عن أداء واجبه يقول الله تعالى : (فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم * وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون) . وكم بسط هؤلاء الناس ألسنتهم وأيديهم بالأذى ضد الإسلام ومعتنقيه يريدون فضهم عنه وتنفيرهم منه . . وما كان تهجمهم عليهم وليد فكر ثاقب ولا رأى ناقد ، إنه التقليد الأعمى، والعداء للجديد مهما تضمن من حق وخير . ثم يأخذ هذا الصدود طريقه فى الحياة همزا واستهانة . والواقع أن الطعن فى قيم الدعوات عند نشأتها، وبعد مسيرتها، دأب عداتها والمعارضين لها فى كل زمان ومكان، وربما نما هذا الخصام فأمسى تهجما يحرج الصدور، ويجعل أتباع الحق يشقون بتكاليفه ويئودهم حمله . ولا سبيل أمام المؤمنين إلا الاعتصام بحبل الله والتشبث بحقائق الرسالة والاستجابة المطلقة الواثقة لقوله جل شأنه (فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم * وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون) . وأحب أن أقف وقفة قصيرة عند هاتين الآيتين . لقد كان عبدة الأصنام فى مكة وما حولها يحسبون أن إتباع الإسلام سوف يفقد "أم القرى" مكانتها، وماذا يبقى لها بعد أن تهدم الأصنام وتنقطع القرابين والنذور، وتتلاشى الرياسة الدينية المنوطة ببقاء الجاهلية ؟؟ (وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا..) . وما درى أولئك القاصرون أن دخولهم فى الإسلام سيتيح لهم مكانة أسمى، وأن مجدهم فى خدمة الحق أفضل من السراب الذى يلحقهم من خدمة الباطل ! ص _184(1/180)
وأين مكة عاصمة الوثنية المخرفة من مكة منارة الهدى، ومنبع الوحى، وقبلة الأمم فى المشارق والمغارب ؟ وأين مكانة العرب السارحين وراء قطعان الجمال، الحمالين لألوان السلع والبضائع ، من مكانة العرب الذين صوروا للناس مثلهم العليا، وصدروا لهم عقائد الحق والخير، وتفجرت تحت أقدامهم ينابيع الرزق ؟ . إن الإسلام للعرب شرف ونعمة . . والغريب أن الوساوس التى هجست فى أفئدة الجاهليين الأقدمين لا تزال تتردد فى بعض الأفئدة الشاكة، وتسطرها دون حياء أقلام ارتدت عن الإسلام وكفرت بشرائعه . وماذا يبغى هؤلاء ؟ إنهم يريدون أن يخلع العرب لباس التقوى، ويرفضوا البقاء على الدين الذى أتم الله به النعمة وكفل حربه النصر والمنعة. وتدبر قول السيد محمود الشرقاوى فى عرض تعليقه على سيرة المجاهد الإسلامى الضخم " جمال الدين الأفغانى " : "… كانت دعوة جمال الدين لإحياء دولة الخلافة دعوة ساذجة بعيدة عن إدراك سير التاريخ ! وكان إصراره على إقامة دولة إسلامية دعوة عاطفية ممعنة فى الخطأ والضلال (كذا) وإدراك مغزى الثورات الكبرى وأمانى الحياة الإنسانية (!) فالدولة الدينية- هكذا يقول الكاتب أين ومتى كانت لا يمكن أن يقول بها إنسان عنده إدراك، وسداد، وفهم وحرية وضمير !!- الله الله- ولسنا بذلك نعيب جمال الدين إننا نزن آراءه وأعماله ونقومها التقويم العلمى والتاريخى !… " ولكن لماذا أمعن جمال الدين فى الخطأ والضلال- حسب تعبير الكاتب العظيم؟ يقول حضرته: " مرد هذه الأخطاء، فى إحياء الخلافة الإسلامية، هو عمق إيمانه بالإسلام، وحرصه على أمجاد الخلافة العريقة .. ". هذا هو الدافع لاقتراف ذلكم المنكر الكبير!! إن عمق الإيمان بالإسلام جرم شنيع!! ص _185(1/181)
والغريب أن الشيخ محمود الشرقاوى مؤلف هذا المقال من علماء الأزهر!! والأغرب أن الأزهر يعجز عجزا تاما عن مؤاخذة أى مرتد من حملة إجازاته العلمية . . والأشد غرابة أن كل معلول فى فكره، مختل فى وزنه للأمور وحكمه على الأشياء، لا يجد مسرحا لعلله وخلله إلا الإسلام ينال منه كيف شاء !!. ولو كان هذا الكلام والعرب فى إقبال من أمرهم وانتصار على عدوهم لقلنا فى صاحبه : مفتون فاته التأديب، أما والعرب فى معركة بقاء أو فناء وخصومهم يستظهرون بأديانهم فى كسر شوكتنا وضرب أمتنا، فإن تلك المقالات قرة عين لبنى إسرائيل الذين أقاموا دولة دينية تستهدف محق رسالتنا ووجودنا وتاريخنا الماضى والآتى على سواء . إن العرب لا يستغنون عن آية واحدة من كتاب ربهم، وهم فى الآونة العصيبة التى يجتازونها أحوج أهل الأرض لمن يربطهم بكل دقيق جليل من رسالتهم، وإنى إذ أسمع طنين الباطل هنا وهناك- أهيب بكل مسلم أن يعد هذا الأمر الإلهى خطابا خاصا به، وهو قوله جل جلاله (فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم) . لقد كان "جمال الدين الأفغانى" و "تيودور هرتزل" متعاصرين، فأما الأول فجاهد ليدعم بتعليم الإسلام الصحيح دولة مريضة رأى ذئاب الأرض تتهيأ لنهش لحمها، وابتلاع كيانها، وأما الآخر فقد رأى الفرصة سانحة ليخلق من العدم دولة، ومن الوهم كيانا، وكانت اليهودية ورؤى العهد القديم هى الدعائم التى بنى عليها أمله الهائل . . فأما "جمال الدين " فقد قتل دون غرضه وأما "هوتزل" فنحن اليوم نعانى المر من غرسه . والسبب فى فشل جمال الدين وعجزه عن بلوغ غايته أن الاستعمار الفكرى ص _186(1/182)
استطاع خلق عدد كبير من أمثال هذا الشرقاوى التافه يكره الإسلام، يرى عمق الإيمان به تهمة تشين صاحبها!! ولو كان جمال الدين من دعاة اليهودية أو النصرانية ما جرؤ أحد على تناوله بهذا الأسلوب ! ولكنة من دعاة الإسلام المهيض الجناح، الذى يستنسر بأرضه البغاث !! ولقد وصف لنا القرآن الكريم أعداء الحق وصفا يستحق التدبر، فهناك ناس يسخطون على الله، ويمقتون وحيه، ويأبون رؤيته نافذا على الأرض حيث قالوا أو فعلوا شؤم على أنفسهم وعلى الناس كافة (والذين كفروا فتعسا لهم وأضل أعمالهم * ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم) . وهناك أذناب لهؤلاء، أو أبواق تردد دعاواهم وتصدق إفكهم ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر والله يعلم إسرارهم * فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم * ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم. وزبانية الغزو الثقافى من وراء الحدود وسماسرته الصغار بين ظهرانى العرب، هم أول من ينطبق عليهم هذا الهدى القرآنى المبين...... !! وآثام الفراغ الروحى والضياع الخلقى التى يشكو منها المصلحون هى النتيجة الحتم لهذا الغزو الخبيث، وهى كذلك العلة الأولى لما أصاب العرب من هزائم متتابعة . ومن هنا كانت نقمتنا على الأقلام التى توهن علاقتنا بالإسلام، وتهاجمه عقيدة تارة وشريعة تارة أخرى . . ومن هنا انبعثت صيحاتنا تنبه المؤمنين إلى ما يبيت لهم . إذا احتوت قبضتك على شىء نفيس فحاول اللصوص انتزاعه منك قسرا ثم ص _187(1/183)
أصخت الى صوت الحارس المؤنس يهتف بك، استمسك بما معك فمعنى ذلك شدد قبضتك، وركز قوتك، وقاوم عداتك، واياك أن تتراخى أو تفرط . وكذلك تنطلق آيات الله إلى أفئدة عبادة، ففى ضمير كل مؤمن هاتف يصرخ فى أعماقه كلما تكاثرت الفتن وحيكت المؤامرات وانتشر لصوص العقائد وسراقو المبادئ يقول: " فاستمسك بالذى أوحى إليك إنك على صراط مستقيم . " . نعم، نحن على الصراط المستقيم " ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى.. " والعرب الذين يحملون رسالة الإسلام، وتتعلق بها جمهرتهم العظمى، لا يحملون خرافات ولا أوهاما كما يزعم الأفاكون، وإنما يحملون من فى لغتهم خلاصات الوحى الإلهى من الأزل إلى الأبد . فإذا ضاع هذا التراث بقى العالم كيانا فاقد الرشد ضائع الخير، وسارت الإنسانية، وهى قطعان عاوية جافية مهما تقدمت معارفها وتطورت علومها... !! ومهما بذل العملاء لتسويىء سمعة الإسلام وتجريح حقائقه فلن ينالوا خيرا، لن يدركوا هدفا والله غالب على أمره . * * * ص _188(1/184)
معادن الرجال نحن المسلمين- فى هذه الفترة من تاريخنا- نحتاج إلى استجلاء صور من أدب القوة، وفن المقاومة، وشرف الحفاظ على الدين والعرض، والتشبث بأداء الواجب إلى آخر رمق..! القرآن الكريم مصدر لدروس نافعة فى هذا المجال..! قرأت هذا الدعاء الشاكر يصدر من فؤاد "موسى" عليه السلام: (رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين) ثم وقفت عنده أتأمل فى دلالته القريبة والبعيدة، وما سبق هذا الدعاء أو لحقه من جهاد للمبطلين، ومساندة للمضعفين، ثم أيقنت أن علو الهمة ميزة تختص بها النفوس الكبيرة، وليس خلقا يستطيعه سواد الناس .! وعندما يعتنق الرجل مبدأ كريما ثم يسير فى الحياة على ضوئه تلقاه عقبات جمة، وتعترضه صعاب كثيرة فإن كان واهن العزم قريب القاع فت ذلك فى عضده، وثناه عن غرضه، أما إن كان عالى الهمة، صلب الإرادة فإن احتكاك الشدائد بنفسه الكبيرة لا يزيده إلا رغبة فى الانطلاق وأملا فى الوصول... أجل قد تتكون بعض النفوس عن عناصر هشة، سرعان ما تنكسر عند أول صدام، ثم تؤثر الانسحاب والتوارى . . وقد يتكون بعضها من عناصر ذات بأس واقتدار، إذا التقت بالأحداث العاتية قدحت الشرور، وتألق جوهرها على مس الشدائد . . ومن الغلط الكبير حسبان الحياة امتحانا واحدا، إذا اجتزناه بنجاح لم نتعرض لأمثاله بعد، كلا، إن الحياة جملة اختبارات متعاقبة، ما يكاد المرء يخلص من عقبة إلا ليواجه عقبة أخرى مثلها أو أشد منها . ص _189(1/185)
والبطولة الصحيحة ألا يفقد المرء قدرته على النضال ما بقيت فيه عين تطرف. أعجبنى فى تاريخ الأستاذ العقاد موقفه يوم خرج من السجن بعد ما قضى فيه تسعة أشهر، لأنه تحدى النظام الملكى السابق، وانضم إلى الأمة فى مطالبتها بالدستور، ومحافظتها على حقوقها . لقد خرج يقول- من قصيدة حسنة : وكنت جنين السجن تسعة أشهر فها أنذا فى ساحة الخلد أولد ! عداتى وصحبى، لا اختلاف عليهما سيعهدنى كل كما كان يعهد ! إن الرجل الحر لم يهن للضربة التى نزلت به، ولم يضرع لها ويقول كما قال شاعر آخر واهى البناء : وحملت زفرات الضحى فأطقتها ومالى بزفرات العشى يدان !! إن بعض الناس قد يسأم تكاليف الإيهان، ويستغلى نفقات الجهاد فينكص على عقبيه بعد أن سار فى الطريق خطوات، وقطع منه شوطا أو أشواطا.....! ومن أيام سمعت نادما من هؤلاء يقول: لقد مضى على ضياع فلسطين عشرون عاما، وحاولنا استعادتها فعجزنا، فماذا نصنع ؟! وشعرت باليأس يتساقط من كلماته المنكرة فقلت له: إن اليهود تحملوا تشريد ثلاثة آلاف عام ولم ينسوا مزاعمهم الباطلة فى الأرض المقدسة، فهل نضطرب نحن لمتاعب عشرين أو تسعين عاما، ونفرط فى حقوقنا ؟ ذلك والله مالا يكون !!. إن الركون إلى الراحة بعد جهاد قصير أو طويل آفة خطيرة، ترجع إلى سوء التربية وضعيف التوجيه، وما أحوج المسلمين إلى دعاة ومدرسين يصبون الأجيال الوافدة فى قوالب الإيمان، ويبذرون فى سلوكهم معانى المثابرة وطول الكفاح . . وقد حمانا القرآن الكريم علل الضعف والخمول بما يسرد على أسماعنا من قصص مثيرة .. !! ص _190(1/186)
أنه أكد لنا أن ملاقاة العنت فى زحام الحياة حقيقة لابد أن يستعد لها المجاهدون، وألا يحاولون الزيغ منها، قال تعالى : (وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون وكان ربك بصيرا) . ألا ما أكثر صور هذه الفتنة المفروضة على الحياة والأحياء، وما أسرع تصديها لرجال العقائد وحملة الدعوات !! لكنهم يطوونها واحدة بعد أخرى، وكأنما ترتفع أقدارهم بمقدار ما يتراكم تحت أقدامهم من سهام تكسرت، ومحن تطامنت واستسلمت . إن العظمة الإنسانية لا تعرف فى الرخاء قدر ما تعرف فى الشدة، والرجال الكبار هم الذين يملكون أنفسهم عند الردع، وتتحرك خصائصهم العليا عند التحدى والإنكار . لما انهزم المسلمون فى معركة "حنين" أول الأمر، وانكشفوا عن قائدهم العظيم فرأى نفسه فى موقف محاط بالريبة والحرج، لم يكن لهذه الهزيمة أثر من الضعف أو التخاذل لدى النبى -صلى الله عليه وسلم- ، بل صاح فى ثقة ورسوخ : أنا النبى لا كذب أنا ابن عبد المطلب أنه فى موقف التواضع وتطمين رجل يرتعش من مهابته ينسب نفسه لأمه فيقول: أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد فى مكة . أما هنا فى مواجهة الشك والشماتة فإنه يملأ فمه، بوصفه، وعمله، والمنصب الذى شرفه الله به، واختاره له ومن هنا ثاب الناس إلى رشدهم، وجرف تيار الثقة والصدق المنبعث من قلب رسولهم كل أثارة للقلق، فجاء النصر والفتح . لقد شرحنا كيف يثبت الإنسان لأول مخاطرة تعرض له، حتى إذا نجا من عواقبها قرر ألا يتعرض مرة أخرى لمثلها، ومر بذهنه المثل الذى يردده الجبناء من العوام ما كل مرة تسلم الجرة ص _191(1/187)
ولكن شأن النفوس العظيمة أكبر من هذا، فالنجاة من الأخطار التى يتعرضون لها فى سبيل مثلهم العليا لا تعلمهم الحرص على الحياة، ولا تثير فيهم غرائز النهيب والتوجس، بل تزيدهم وفاء لما يعتقدون . كان موسى عليه الصلاة والسلام يكره الظلم والجبروت، مثل أنبياء الله كلهم، وقد جملته الأقدار أن يحارب نوازع الأجرام التى خضع لها قومه حينا من الدهر.. حكى القرآن عنة أنه : (دخل المدينة على حين غفلة من أهلها فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوه فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه فوكزه موسى فقضى عليه ..) . ورأى موسى أن هذه العاطفة الحرة قد تأدت به إلى غير ما يبغى، وأنه- وهو الذى يحارب العدوان- قد زاد فى الانتصاف لقومه، وخشى أن يكون قد تعرض بذلك لسخط ربه فهتف: (قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم) . فماذا كان من موسرا بعد ظفره بالعفو الأعلى ؟ كان يستطيع أن يقول: لا أعود لمثلها !، ولكن هذه الكلمة لو قالها قد تفيد أنه تخلى عن مبدئه، وزهد فى مساندة الضعفاء. ونكل عن مقاومة الطغاة، فآثر ألا يقول هذه الكلمة، وفضل أن يجدد العهد على أن يظل حرا ينافح عن الأحرار، وعلى أن يظل ثائر المشاعر ضد الفساد والاستعلاء، ثم ترجم شكره للصفح الإلهى بهذه الكلمة : (رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين) . هذا شأن النفوس الكبيرة لا يصرفها عن غايتها العظمى صارف من عنت تلقاه أو خطأ تقع فيه، بل تبقى نماذج حية لعلو الهمة والإفادة من التجارب فى نصرة الإيمان . ودعم منطقه، وتمهيد طريقه . ص _192(1/188)
(قال رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين) . إن هذه الكلمة تتضح بما فى قلب موسى من بغضاء للباطل، ومقت للعدوان، ورغبة أصيلة فى حماية الجماعات البشرية من المستبدين بآرائهم، المفتاتين على غيرهم . وما يصدر مثلها إلا من رجل اختبر لتحرير العبيد، وهدم القداسات الزائفة ! وقد كان يستطيع إفراغ هذه المعانى فى صيغة تدل على الإصرار والتشبث، لولا أنه فى مقام الضراعة لربه، والاعتذار عما فرط منه . ومن ثم اكتفى بتوثيق العهد على نفسه، فى الصورة التى لا يمكن أن يكتنفها خطأ، والتى يبدأ حدها الأدنى بمقاطعة المجرمين، والنفور من تأييدهم، وينتهى حدها الأعلى بتطهير الحياة منهم وتخليص الشعوب من آصارهم . أى أن كلمة : (رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين) تعنى مراتب الجهاد كلها، من كراهيتهم، إلى الخلاص منهم !! وهذا العهد كلف موسى الكثير، ولذلك جاء فى الحديث الشريف أنه كلما بهظه الحمل وآلمه الكفاح قال : " اللهم لك الحمد، وإليك المشتكى، وأنت المستعان " . * * * ص _193(1/189)
أهواء العوام لا تهادن عادت محطة الإذاعة إلى عادتها القديمة فى تلحين الأذان، وإخراجه للناس غناء مائعا كريه الأداء سيئ الوقع . ونحن ننظر إلى هذه النكسة لنستفيد منها عبرا شتى. ولا يهمنا أن نسجل النتيجة القريبة لما حدث كله، من انتصار البدعة وانهزام السنة، وغلبة المجون على الجد والصواب، وتمكن المتسولين بالعبادات من تحويل الدين إلى لهو ولعب ! تلك كلها نتائج ملموسة لا يهمنا هنا إثباتها . إنما يهمنا أن نبرز الوسائل التى أدت إلى هذه النهاية، لنعرف منها حقيقة الأساليب التى يطارد بها الإسلام، وتستغرب بها فكرته. وتستبعد بها دولته . وأول ما ننبه إليه من هذه الأساليب هو نجاح الغزو العقلى فى إفساد تفكيرنا ، و إضلال تصورنا لمبادئ ديننا الحنيف !. ولا أدل على ذلك من أن وزيرا كبيرا يكتب فى صحيفة سيارة فيعترض على الأذان المشروع بحجة أن الكنيسة أدخلت الموسيقى فى محرابها لتغرى الجماهير بالتردد عليها . فلماذا لا نسمح لمؤذنى المساجد بأن ينهجوا نهج الكنيسة فى إغراء الناس بالإقبال على بيوت الله ؟!. ومن هذا القبيل أن صحافيا من هواة النشر والتعليق كتب يقول إن الأذان فن، و إن الأداء الفنى تتحكم فيه الأذواق، ولا يسمع فيه رأى الفقهاء، أو يلتفت فيه لقواعد الشرع ! وكتب أزهرى يمنح نفسه لقب دكتور: إن التغنى بالأذان، والإضافة إليه لا شىء فيهما . وساق كلاما ملأ به صفحة كاملة يدلل به على أن الابتداع من هذه الناحية مستحب !!. ص _194(1/190)
وأخيرا التقت عدة آراء على أن الفن يجب أن يسود، وأن الخبراء بالفن أولى بالتقديم من العلماء بالفقه، ومن ثم صح النزول على توجيههم والانصراف عن غيرهم . ومضى هذا الغزو العقلى فى طريقه فإذا رجال الفن "!" يفتحون بابا آخر من أبواب الفتن التى شوهت الإسلام ومسخت تعاليمه مسخا شائنا، إذ كتب أحدهم عن "حلقات الرقص الدينى " التى يسميها السفهاء ذكر الله !. كتب يشرح بواعثها النفسية ومدى ما تتضمنه من أصول فنية تستحق الرعاية والإشادة، بغض النظر عن أحكام الشريعة فى هذه السماجات . وذلك ما نشرته "الجمهورية" فى ملحقها الصادر فى 12/ 3/ 1954 تحت عنوان "رقصة الذكر" قالت : " تقام فى مناسبات (موالد الأولياء والصالحين) حلقات تجمع حشدا من الرجال يسيطر عليهم إلى جانب العاطفة الدينية نوع من الولاء الخاص لهؤلاء الأولياء، ويتوسط كل حلقة من هذه الحلقات التى تعرف باسم " الذكر" أو " الحضرة " منشد أو أكثر من منشد . ومهمة المنشدين ترديد بعض قصائد المديح، أو القصائد الشعبية التى تقوم على تمجيد بعض الصفات الأخلاقية والجمالية فى غناء يقوم على إيقاع رتيب، أما الحشد الذى يلتفت فى الحلقة فلا يلبث أن يستجيب لغناء المنشد ولأنغام الصفارات ودقات الدفوف الرتيبة المصاحبة للإنشاد ويأخذ كل واحد فى تحريك رأسه ثم الجزء الأعلى من جسمه حركات ثنائية الاتجاه تماشى فى سرعتها وقوتها درجة دقات الدفوف . وليس من شك أن هذه الحلقات الشائعة فى المدن والأرياف تتضمن نوعا من الرقص البدائى الساذج الذى يرضى فطرة أصيلة فى النفس البشرية.. فإن الجسد يستجيب بطبيعته للنغم، كما أن الميل للرقص والحركة طاقة غريزية . وبالرغم من معارضة وكراهية بعض رجال الدين لهذا اللون من الرقص، فإن الذين يمارسونه يعتقدون اعتقادا راسخا أنهم يمارسون طقسا من طقوس الدين والعبادة . وبالطبع من الضرورى أن نواجه هذا اللون من الرقص باعتباره ظاهرة اجتماعية لها صلة بالفن . ص(1/191)
_195
حقا قد روى علماء النفس وعلماء الاجتماع فى هذا النشاط حقائق نفسية، أو عادات اجتماعية تحتاج إلى دراسة وعلاج، ولكن مواجهة هذا النشاط بعين الفنان تثير فى الذهن أسئلة تتعلق بالمجال الفنى وحده . ما قيمة هذا الرقص. وما هى العناصر الفنية التى يتضمنها. وما مستواه الفنى.. وهل يمكن تطويره بحيث يجرى وفق نظام معين، وقواعد محدودة من حيث الحركة والموسيقى والأزياء ؟ " . * * * وهكذا تجحد حقائق الإسلام، بل تجهل وتغفل، ويتناول الخرافات الزرية بعض الحمقى فيحاول إلباسها مسوح الدين، ثم ينقلها بعد ذلك إلى الدائرة المبهمة التى لا حدود لها.. دائرة الفن !! ومن الميسور على أولى العلم أن يكشفوا النقاب عن كثير من البدع والخرافات، وأن يصارحوا العامة بما يقعون فيه من أخطاء. ولكن المؤسف أن تملق الجمهور وترضيه يغلبان على بعض العارفين. بل قد رأيت الحق يخفى ويوغل فى الخفاء لأن نقرأ من الحراص على عواطف العامة كره مصادمتهم وآثر الاعتذار لهم والتعمية عليهم . ولو أن أدنى جور عن طريق وجد من يصرخ عنده منذرا، لا من يسكت عليه متأولا، أو مترخصا، ما أطبق على مجتمعنا هذا السواد الكثيف من الجهالة والوهم.. وقد كان سلفنا الصالح يرى شرطا فى رسوخ الرجل واستقامة إيمانه " أن يكون حامده وذامه فى الحق سواء" كما قال أمير المؤمنين "عمر بن الخطاب" فلا حمد الناس يغريه بإقدام ولا ذمهم يوسوس له بنكوص مادام يعمل وقد أسلم لله وجهه، وابتغى ما لديه وحده " . وأمتنا فقيرة إلى الرجال الصرحاء الرجال الذين يجابهونها بالحق ولو فقدوا تأييدها لهم فى معركة انتخاب قريب أو بعيد . ص _196(1/192)
وإذا كانت جملة من تعاليم الإسلام قد ضاعت وجملة أخرى توشك أن تضيع بسبب تملق العامة والسكوت عن باطلهم، فإن جملة كذلك من دعائم الحياة الصحيحة ضاعت، أو هى فى طريقها، بسبب هذا الإغراق البارد فى استرضاء الجمهور، بدلا من تعليمه ولو بالوخز والوكز . ولعل هذا هو السر فيما كتبه الأستاذ "على أمين" أخيرا تحت عنوان "فكرة" إذ قال : " الشعب المصرى شعب مظلوم ! و يظلمه الذين يحترفون الدفاع عنه و إيهامه إذا مرض بأنه فى تمام صحته، و إقناعه إذا ضعف بأنه فى أعلى مراتب القوة، وإفهامه إذا أفلس بأن تحت أقدامه مئات الملايين من الجنيهات . وإذا أخطأ أقسموا له أنة فى عدالة الآلهة، وحكمة الأنبياء وخيرة أساتذة جامعات موسكو وستالينجراد. . وإذا انهزم فى معركة أكدوا له أنه انتصر، وذكروه بأنه من أحفاد الفراعنة الذين بنوا الأهرام، والهكسوس الذين طردوا الفراعنة، والرومان الذين طردوا الهكسوس، والعرب الذين طردوا الرومان . وبهذا بقى الشعب فى فقره وحرمانه وجهله، واستطاع المحترفون أن يتاجروا ويكسبوا على حساب الجهل والفقر والحرمان . ونحن نقول إن هذا الشعب غير معصوم من الخطأ وإنه فى بعض الأحيان يفكر بقلبه وعواطفه، وإنه فى بعض الأحيان يغمض عينيه ليرى، ويغلق أذنيه ليسمع، وإن من واجبنا أن- نقول له: أنت أخطأت لا أن نصور له الخطأ على أنه صواب، ليتمادى فى أخطائه . وإن علينا أن نفتح له العيون إذا أغمضها، والآذان إذا أغلقها. وأن ننير له الطريق حتى يرى أين اللصوص وأين الأشراف، وأين الحرية وأين الفوضى، وأين الديمقراطية، وأين الطغيان.. وأين الرخاء، وأين الرشوة واستغلال النفوذ ؟. ص _197(1/193)
ونحن غير راضين عن مستوى هذا الشعب. ونريد أن نرفع هذا المستوى ماليا وعقليا وأدبيا.. ولا يمكن أن يرتفع الشعب إذا قلنا له . إن جلبابه الأزرق أجمل من بنطلونات الشعب السويسرى، وحكمه على ساسته أنضج من حكم الشعب البريطانى، ومستواه الأدبى أرقى من مستوى الشعب السويدى ! إن من . واجبنا أن نصارحه بالحقيقة . وقد يغضب اليوم وقد يصم أذنيه ويغمض عينيه . . ولكنه سيرى ويسمع غدا . . ويقتنع بعد غد ! " . * * * ص _198(1/194)
نذير أظن أننا- بعيدا عن مراسيم الحكم، وسلطان الحاكمين- نستطيع أن نصنع الكثير لديننا. ففى ميدان الثقافة والتربية، وبين أرجاء المجتمع الرحب، وفى ميدان المال والاقتصاد، بل فى دولاب العمل الحكومى القائم، والتشريع الوضعى السائد يجد الرجل المخلص لدينه مجالا واسعا لتحقيق رسالته وأداء أمانته . ومن عجز عن إسداء خير لأمته فى هذه الأنحاء فهو فى غيرها أعجز ! كيف يدرك الكل من فشل فى تحصيل البعض ؟ كيف يصلح أمة من أعياه إصلاح أسرة ؟. إن المنى بضائع الحمقى. والشباب الدين يحلمون بالأمة الإسلامية فى حين أن واقع حياتهم مليء بالخدوش، ولا أقول منخور بالفراغ، هم شباب هازلون . إذا لم يكن الطالب المسلم مبرزا فى علومه، وإذا لم يكن التاجر المسلم مكينا فى ثروته، وإذا لم يكن الموظف المسلم أمينا فى ديوانه، وإذا لم يكن الجندى المسلم آية فى شجاعته، وإذا لم يكن المهندس نابغة فى فنه،. وإذا.. وإذا.. وإذا لم يكن أولئك جميعا صورا طيبة شائقة اليقين الحق، والأدب الجم، والمعاملة القائمة على التوقير والرحمة والنقاء.. أفترى أحدا من هؤلاء المقصرين يحسن به ادعاء الإسلام فضلا عن ادعاء الصدارة فيه والقيادة له ؟؟. * * * إن جلد الزناة والمفترين، وقطع يد السراق والمفسدين، مواد من فروع الفقه تنضاف من تلقاء نفسها إلى قانون العقوبات يوم تريد الأمة باسم الإسلام إصلاح قوانينها.. والقعود عن العمل فى انتظار ذلك، أو اعتبار المطالبة بهذا الإصلاح عملا هائلا . ص _199(1/195)
وجهادا مضنيا. هذا- فى نظرى- ضرب من الكسل أو لون من الفرار دون أداء الواجب الأصيل الذى يفرضه الوقت . وهو- كما أسلفت- خدمة للإسلام فى ميادين الثقافة والتربية والاجتماع والاقتصاد الخ . وهى خدمة تفرض على راغبيها يقظة مرهقة ونشاطا عظيما. حتى تنفسح الميادين الكبرى لعمل آخر تتحقق به رسالة الإسلام . وأؤكد لإخوانى أن الميادين الكبرى لا ينجح فيها العلم القليل ولا الخلق الضعيف، ولا يتقدم فيها العرج من ذوى الهمم المشلولة والأنفاس الباردة، ولا يوفق فيها المشغولون بأنفسهم . ثم هى لا يؤذن فى دخولها- ابتداء- لمن يجهل قيم الرجال ويستمرئ قلب الأوضاع ممن يصغر الكبار ويكبر الصغار، ويتلمس للأبرياء العيوب، ويخفى عيوب الشائهين . ذلك أن الذى يفقد ملكة التقدير، وفضيلة النزاهة أبعد الناس عن الحكم بما أنزل الله . * * * إننى أخشى أن يكون الكلام فى الإسلام أصبح عملا لجمهور كبير من الناس كان ينبغى أن يعقلوا ألسنتهم، ويطلقوا أيديهم حتى يتركوا الضمائر تشهد بنبل سلوكهم، وجلال إنتاجهم خصوصا فى عصرنا هذا . فإن الثغرات التى يُهَدد الإسلام منها كثيرة مخوفة، وما لم يستيقظ الحراس فالويل للغفاة، ولمن وثقوا فيهم من العامة . فليؤد كل مسلم واجبه لدينه حيث كان، قبل أن يفوت الأوان . إنه كما تعجز العصا- مهما اشتد الساعد الذى يحملها- عن مواجهة دبابة زاحفة أو طائرة منقضة، تعجز الوسائل التافهة عن تحقيق أى كسب فى ميدان الأدب والثقافة، وميدان العلم والصناعة، وميدان السلم والحرب . ص _200(1/196)
إنها لا تعجز فحسب ! بلى ترتد وبالا على أصحابها، ومثارا للسخرية منهم أمام خصوم أتقنوا وسائل الغلب واستكملوا أسباب النجاح. والإسلام فى هذا العصر يعانى هجوما منظما ماكرا، رسم فى أناة ودقة سياسة بعيدة المدى، طويلة الأجل تنتهى حتما بالقضاء عليه وعلى أمته الكبرى، ما لم تقفها مقاومة مستميتة صادقة، وما لم تحتشد لردها كل الوسائل الصحيحة والقوى المتفوقة أو- على القليل- القوى المكافئة التى يجمعها أنصار هذا الدين والآخذون به . ولن أسام من التنبيه مرة أخرى إلى أن الرجال الذين التصقوا بالإسلام، ونصبوا أنفسهم لحمايته مازالوا يحملون (العصا) القديم فى ملاقاة أحدث الأسلحة ! بل أستطيع الذهاب فى اتهامهم إلى أبعد من ذلك . إنهم قبعوا فى أماكنهم يتحدثون ويتحمسون، ولم تحدثهم أنفسهم، أو يوحى إليهم حماسهم أن يدعوا أماكنهم العتيدة ويبرزوا إلى عمل رائع، كأن الدعوة إلى الإسلام قطار يسير على شريط من القضبان الممتدة الممهدة، فليس يخشى عليه عثار أو اعتراض . وهذا جهل بالإسلام كبير وبالحياة أكبر . . إن الجندى الذى يكلف بحراسة الأمن لقاء جنيهات قليلات قد يفقد حياته وهو يؤدى واجبه فى مطاردة لص آبق أر معتد أثيم . . فما بال الذين نصبوا أنفسهم حراسا على الإيمان، واقتطع لهم من الدنيا المال الجم والجاه الواسع لقاء هذه المناصب. ما بالهم يبنون خططهم على كل شىء إلا التعرض للحتوف، والاستهداف للنوائب ؟!! كيف يقوم دين بهذه الخطة ؟ وكيف تنكسر شوكة الماكرين به، وبين جوانحهم روح الهجوم، وبين جوانحنا روح التوجس والمحاذرة ؟ إن لواء المشركين فى معركة "أحد" فنى تحته قبيل من بنى عبد الدار وهم يذودون عنه أفتحسب أن هذا ص _201(1/197)
الإستقتال فى صفوف المشركين كتب علية الفشل آخر الأمر إلا لأنه وجد تجاهه استقتالا أشد، وإقداما أقسى وأحد، ورغبة فى التضحية أقوى وآكد ؟.. إنه لولا رجحان المسلمين- فى خلال القوة- ما كتب لهم على عدوهم نصر، ذاك من الناحية النفسية . أما من الناحية المادية والعقلية، فإن جمهور المسلمين الأولين ما كانوا قط أنزل رتبة من غيرهم ولا أدنى مكانا.. لم يكن المسلمون أميين وخصومهم أذكياء مخترعين. لم يكونوا أقزاما أو أصفارا فى شئون التجارة والصناعة، وخصومهم عمالقة جبارين . . كانوا فى هذه النواحى الخطيرة سواء . وبذلك أخذ الإسلام طريقه فى الحياة بوسائل لا افتعال فيها ولا افتيات وأى نقص يعترى الإسلام- فى مقدار هذه الوسائل- فالعمل الأول والأخير يجب أن يقوم على سده . لأنه لن يبلغ غاية قريبة أو بعيدة عن طريق القفز فى الهواء والسير على الماء ! * * * فى هذه الفترة الصعبة من تاريخ الإسلام يجب أن نعقل ما نحن عليه وما عليه غيرنا . ويجب أن نزيح من طريق العمل للإسلام الأشخاص الملتاثين العاجزين عن إدراك الوسائل الحقة وعن توفيرها . إنهم عوائق وحجب لا أنصار وأعوان . انظر بعينيك اليوم كيف أقام اليهود إسرائيل، وأى الأسباب جمعوها حتى وصلوا إلى هذه النتائج السريعة ؟ وانظر إلى ساسة الشرق وحدثنى عما ترى : إن ساسة الشرق الإسلامى من أبرع الناس فى صوغ الخطب الرنانة . ولكن الخطبة البليغة من الطبيب هى إقامة مستشفى كبير، والخطبة البليغة من ص _202(1/198)
المهندس هى مد طريق أو تشييد جسر، والخطبة البليغة من الضابط هى إجادة صناعة الموت، والخطبة البليغة من الوزير هى إتقان فن الحكم . والجماعة التى تزعم العمل للإسلام ثم لا تحول أعضاءها على عجل إلى رجال مبرزين فى شئون الحياة، وقادة مرموقين فى ركب الحضارة، هى لا ريب جماعة فاشلة . من أيام استقبل المسلمون ذكرى ميلاد نبيهم استقبالا يدلك على مبلغ فقههم فى الإسلام، وإعدادهم لتحرير أرضه وإنقاذ تراثه . أنشئت سرادقات تعد بالألوف لبيع الحلوى! وكان ينبغى أن تحرم أفواه الجماهير من هذه الحلوى لينفق ثمنها فى إرسال الأقوات للاجئين المطرودين من أرض فلسطين ! كيف نسينا هزيمتنا هناك؟ وكيف نسينا إخواننا الذين يعانون ذل الحاجة والخوف والضياع ؟ وهناك سرادقات أخرى تسمع فيها الخطب الطوال. هناك خطب أنا أسميها خطب السكر الإلهى، أو على حد تعبير المتصوفة خطب الخمر الإلهية، لأن موضوعها يقوم على إسقاء السامعين معانى تثير فى أبدانهم نشوة دينية مبهمة لا صلة لها بحقيقة الإسلام، ولا بحاضر المسلمين المر . وفى نفسى سخط كبير على أولئك الخطباء السحرة إنهم لم يغضبوا لله يوما، ولا ناصبوا العداء ملكا ظالما، أو حاكما مجرما، أو محتلا غاشما! ولا تمعرت وجوههم لإثم شقى به الناس، وسخطه رب الناس، ولا عناهم البحث عن أجدى الطرق لإنقاذ ديننا وبلادنا وأنفسنا من النكبة التى حلت بنا ! . ذلك أن خطباء السكر الإلهى لهم أسلوب انفردوا به للتحدث عن الإسلام جعل العوام وأنصاف المتعلمين وأشباه المثقفين يلتفون بهم ويهتزون لكلامهم اهتزاز السكران المخبول . ومن البديهى أن الإسلام يتأخر بهؤلاء ولا يتقدم، وأن قضايانا المعقدة لن تزيد فى أيديهم إلا خبالا، وأن الجمهور الساذج الحائر لن يهتدى إلى طريق العمل الصالح والإنتاج السليم لا بإلقاء هذه الخطب، ولا بالإنصات إلى أصحابها . ص _203(1/199)
انظر إلى ميدان العلم فى بلادنا إن بعثات التبشير وما إليها أسست عشرات المدارس المبتوتة الصلة بالإسلام حتى إن الإسلام فى ميدان التعليم الحر غريب . وانظر إلى ميدان الصحة. إن مصانع الأدوية ومتاجرها الكبرى والصغرى قلما اهتم المسلمون بها ونبغوا فيها . ولو ذهبنا نستنبئ شتى الميادين عن جهد المخلصين لله. الهاتفين بالقرآن والسنة، لوجدنا قصورا مخزيا . ومرد ذلك إلى غباوة الخطباء المتحدثين عن الإسلام، والرؤساء الممسكين بزمام التوجيه العام، وغلبة المحترفين والهواة على الفاقهين والمبصرين . إذا سبقت فى ميدان السياسة لأنك جبان ! أو سبقت فى ميدان البر والإحسان لأنك كسول. وإذا انهزم دينك بين يديك فلم تمسح عنة غبارا، وأقبل عليك الجمهور، فكان قصاراك أن تبدأ معه حديث ألف ليلة وليلة ، لا ينتهى كلام حتى يتبعه كلام . . فكن ما تريد أو من تريد . ولكن احذر أن تحسب نفسك رجل الإسلام. أو حامل لوائه. أو ترجمان دعوته . * * * ص _204(1/200)
الروح... الروح تبعت السباق الذى جرى هذه الأيام فى نهر النيل. وأحصيت السباحين المهرة وهم يغالبون الموج، ويجالدون التيار، ويحاولون شق طريقهم فى حماسة وعلى عجلة ليبلغوا الغاية البعيدة. كم يقاسون من سبرات البرد، واتصال العوم، وطول الشقة !! إن بعضهم هزمه الإعياء فانسحب، وبعضهم كابر المتاعب الباهظة حتى أخرج من الميدان إخراجا، وبعضهم كبت الضنى فى أعصابه وظل يرمى بصدره إلي الأمام حتى وصل إلى شاطئ النجاح وهو يلهث وينوء . هذا السباق فى نهر النيل ذكرنى بالحياة نفسها، وما يتمخض عنه الليل والنهار من سباق هائل بين جماهير البشر . . بين الأفراد سباق على أهداف محدودة. وبين الأمم والمذاهب سباق على أهداف أكبر وأهم . وفى المجرى الدائم لهذه الحياة المصطخبة المائجة قد يلفظ اليم بعض الناس غرقى، وبعضهم منسحبا قد غلبه الروع أول الطريق، وبعضهم متهالكا والغاية منه على مدى سهم، وبعضهم ناجيا يطلب مكافأته وهو باسم قرير . ومن قديم وأولو الألباب يعرفون هذه الحقيقة، فإذا شاركوا فى هذا السباق القائم أعدوا له عدته، واستكملوا أهبته، ثم رموا بأنفسهم فى العباب الزاخر، وملء قلوبهم الأمل فى إدراك قصب السبق . وقد سخر شاعر حكيم من متسابق فى هذه المباراة وهو واهن خائر فقال له : دببت للمجد والساعون قد بلغوا جهد النفوس وألقوا دونه الأزرا فكابروا المجد حتى مل أكثرهم وعانق المجد من أوفى ومن صبرا لا تحسب المجد تمرا أنت آكله لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا ولكن لعق الصبر، وتحمل مرارته، لا يستطيعه ولا يستسيغه كل إنسان . ص _205(1/201)
والإنسان. الذى يعالج الشدائد وهو باسم، لا يهش إلا لمعنى أضمره فى فؤاده وقبل من أجله الإرهاق. فهو فى الحقيقة يوازن بين ألمين. ألم التعب والكفاح، وكم الهزيمة والسقوط، فيختار أخفهما على رجولته، ثم يمضى إلى هدفة- وحلاوة الرجاء الذى يملأ روحه أشهى عنده من كل شىء، وأغلب على فؤاده من لذع الألم الذى يعانيه . إن الإنسان يحمل الكثير فى بدنه يوم يطوى قلبه على الكثير من المعانى، وذاك قول البوصيرى : وإذا حلت الهداية روحا نشطت للعبادة الأعضاء !! والرسالة الكبرى هى التى تتعهد النفوس بالإذكاء والإعلاء، والتى تشحنها شحنا بفضائل القوة وخلال الكفاح . والإسلام أغنى حركة ظهرت فى الحياة بهذه المعانى الحية، إنه وجود جديد يسطع على الإنسان بغاية مجلوة وصراط مستقيم. فإذا دوافع الخير المؤكد تسوقه وأمانى المستقبل الكريم تحدوه، ذلك لأن الوحى الذى يوجه روح دافع: (ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون) . والروح الدافع عاطفة حارة وهمة بعيدة ومن ثم فالمؤمن الكامل لا يعرف انكسار الهمة، ولا سورات الخمول ولا استسلام الخور . . إنه يعمل إلى آخر جهد فى نفسه، وإلى آخر رمق فى حياته . إن التعبئة الروحية للفرد والجماعة ألزم للسير الدائب من البترول للسيارات والطائرات- ويوم ينضب المعين الروحى لإنسان أو أمة، فلن تقف فى الطريق فحسب، بل سيدفعها إلى الوراء زحام المتسابقين، وربما ذهبت بددا تحت أقدامها الراكضة . . والقدرة على التغلغل فى النفوس، ومزج أعماقها بتعاليم الدين، لا يمتلكها كل إنسان . والقادة الذين مدوا رواق الإسلام فى هذا العصر وربوا جيلا يتعشقه ويفنى فيه. كانوا طرازا خاصا من أصحاب القلوب الكبيرة والمشاعر المشبوبة، ما إن تتصل بهم ص _206(1/202)
حتى تحس إيحاء دافقا يتغلغل فيك ويخلعك عن حاضرك وماضيك، ويسيرك مع القافلة الهاتفة لله العاملة لله . وكما توصل نور الكهرباء إلى بيتك فيندفع التيار إلى أسلاك لم يمر بها قبلا، كذلك يطويك شعور من الإيمان والإخلاص والثقة عندما تتصل بهؤلاء القادة وتسير معهم إلى الله . إن الجندية للإسلام ليست احترافا ولا ارتزاقا، ولكنها تطوع وافتداء، أساسها العلاقة الموطدة بعالم الغيب والشهادة. ورجال الإسلام هم الذين يفلحون فى إقامة هذه العلاقة وصيانتها . كنت طالبا بمعهد "الإسكندرية" عندما اتصلت بحسن البنا، كان ذلك من عشرين عاما تقريبا ، بيد أن الأمسية الرفافة العذبة التى وصلتنى به لا تزال محفورة فى ذاكرتى ولست أنسى طريقة هذا الرجل فى صقل الأرواح ووصلها بينابيع الحياة والحركة من كتاب الله وسنة رسوله . . والتربية الروحية فن دقيق . إن النار على مسافة محدودة تدفئ، وعلى مسافة أقل تحرق. وكذلك تحديث الناس عن الدنيا والآخرة . . إن هذا الحديث قد يخلق الفدائيين، وقد يخلق الانطوائيين المتواكلين . وأشهد أن حسن البنا عرف كيف ينقل الإسلام إلى قلوب واعية فإذا هى تتحدى الحتوف فى ميادين البطولة، وتكسب الحياة فى ميادين العمل الدنيا . إن خدمة الإنسان لا تصح خبط عشواء. وإنما تصح كما رسم القرآن : (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ) . والفتيان الأخيار الذين شرفوا الإسلام فى هذا العصر هم ثمار ناضجة لهذه التربية الروحية الموفقة. فروسيتهم بالنهار وليدة رهبانيتهم بالليل. ونجاح خطاهم فى الحياة أثر صلتهم الموثقة بالله . ترى هل تعود الليالى المباركات التى كنا نصفى فيها قلوبنا، ثم نصف أقدامنا ونصلى لله ؟ ليتها تعود ؟ ومن أيام كنت أتصفح مختارات من الشعر ردت على ذكريات الماضى البعيد . ذكريات الكتائب التى جمعتنا على التهجد، وبنتنا على بيات الخير . . ص _207(1/203)
لله ما كان أجلها من ليلات، برما كان أنور الأصباح التى أعقبتها. إن الأحداث بلبلت نفوسنا منذ هجرنا هذه المناهج الساهرة . . أما الأبيات التى أثارت لواعج الشوق، فهى ما قال ابن الرومى فى وصف العباد من قوام الليل : تتجافى جنوبهم عن وطىء المضاجع كلهم بين خائف مستجير وطامع تركوا لذة الكرى للعيون الهواجع لوتراهم إذا هموا خطروا بالأصابع وإذا هم تأولوا عند مر القوارع وإذا باشروا الثرى بالخدود الضوارع واستهلت عيونهم فائضات المدامع ودعوا: يا مليكنا يا جميل الصنائع اعف عنا ذنوبنا للعيون الدوامع أنت- إن لم يكن لنا شافع- خير شافع فأجيبوا إجابة لم تقع فى المسامع ليس ما تصنعونه أوليائى بضائع وابذلوا لى نفوسكم إنها فى ودائع * * * ونعود مرة أخرى إلى سباق النيل الكبير . كان الجو باردا قارس البرد. لكن السابحين والسابحات أعانهم دفء الأمل على البقاء فى الماء الصقيع أمدا طويلا. بل إن طلاب المجد كلفوا أجسامهم فوق ما تطيق . إن أحدهم نقل من المباراة وعضلاته منهوكة. وصدره ملتهب يوشك على الهلاك أثر ما بذل من جهد . ألا يصنع الإيمان النابع من الروح الحى هذا الصنيع الرائع فى ميدان الحياة نفسها ؟. إن البعث الإسلامى الجديد يجب أن يقوم، بل لا قيام له إلا بهذا الروح المتفانى الصبور . ص _208(1/204)
حسن البنا .. 1 .. المؤمن المخلص لا يصنع شيئا ابتغاء أن يذكره الناس فى محياه أو فى مماته، وإن كان حسن الذكر جائزة معجلة لمن يقومون بالحق، ويقيمون الناس عليه . إنهم قد يلقون العنت والإنكار أول أمرهم، ثم لا يلبث الغبار المثار أن ينجاب والفضل المنكور أن يثبت، ثم تثوب الحياة إلى رشدها وترد الحقوق إلى آلها . روى أحمد ومسلم عن أبى ذر أنه قال: يا رسول الله، الرجل يعمل العمل ويحمده الناس عليه، ويثنون عليه به ؟. فقال: " تلك عاجل بشرى المؤمن". وقيل : إن هذا تفسير الآية الكريمة: (الذين آمنوا وكانوا يتقون * لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم) . وقد كان "حسن البنا" من أولئك الرجال الذين يظهرون فى التاريخ على ندرة . ويحدثون بمسلكهم الفذ موجات جارفة من الحركة والتجديد والمغامرة، فيضيق به من يضيق، ويهش له من يهش، ثم يميز الله الخبيث من الطيب، ويستخلص الحق من الشوائب العالقة به، فيعرف البشر جهد الجاهدين لهم، والعاملين لخيرهم، وتلهج ألسنتهم ثناء وتنويها بأمرهم . ولحسن البنا- كغيره من قادة الدعوات- مادحون وقادحون، بيد أن أشد الناس له بغضا لا ينكر المواهب الجليلة التى أضفاها القدر عليه . وأنت قد تخاصم شخصا فتحتقره لتفاهته، وقد تخاصم آخر فلا تملك إلا الاعتراف بميزاته، والإكبار لخصائصه، مهما اختلفت معه فى تقويم الأشياء وتقدير الأشخاص. ص _209(1/205)
ونحن بعد بضع سنين من مقتل "حسن البنا" نسائل أنفسنا: هل اعتبرنا بمصرعه؟ وهل تدبرنا أحوالنا وأحوال الشرق كله على بصر بالظروف الغامضة التى اكتنفتا مصرع هذا العملاق المخوف ؟. المخوف من الملوك الفسقة، والحكام الفجرة ؟! أعرف رجلا قُتل ابنة فلم ير حرجا من تقبيل اليد التى تلوثت بدمه، إن الجبان الذى انحنى ليفعل هذه الفعلة لا يقل إثما- فى نظرى- عن القاتل نفسه . والناس قد يحزنون للجراح الجديدة، ويستشعرون ألمها، ولكنهم على مر الأيام ينسون ويذهلون . كما قال الشاعر : على أنها تشفى الكلام وإنما نوكل بالأدنى، وإن جل ما يمضى ولسنا عباد أشخاص، وإنما نكرم المبادئ فحسب فى الرجال الذين يحيون لها، ويتجردون إلا منها . . كان "حسن البنا" رجلا واسعا، فى نفسه مجالات شتى للأمزجة المتباينة والبطولات المنوعة، وذاك سر نجاحه فى التجميع الغريب الذى قام به . لقد التف حوله ألوف وألوف، فأحسن توجيههم، وأمكنهم من العمل للإسلام، فأفادوا واستفادوا . وإنى أعترف بأن أحسن أصدقائى ما عرفتهم إلا فى ميدان الدعوة، ومازال رباط الحب الوثيق يجمعنا بهم، ويدفع بقلوبنا وصفوفنا إلى خدمة الإسلام ونصرة أمته . وإنى لأرجع خواطرى التى كتبتها فى السنين السابقة، فأجد فيها كلاما عن القيادات المختلفة، وقيمها الخاصة، يستحق أن يذكر هنا. ومنه تعرف مكان "حسن البنا" فى المصلحين . * * * للقيادات الناجحة صور تتفاوت مجادة وعظمة . يعتبر قائدا عظيما، هذا الذى يستغل ما تحت يده من قوى معدة، فيدرك بها نصرا كبيرا، أو يحقق مأربا خطيرا، أو يحرز نجاحا واضحا . ص _210(1/206)
وعنصر الخير فى هذه القيادة، أنها لم تجهل ما لديها من وسائل العمل ولم تسئ استخدامه، وليس يغمط من حقها أنها وجدت فى مكان مهيأ،، من الواجب عليها أن تستفيد منه، فإن الناظر فى أمم الشرق، وفى أحوال قادتها وحاكميها يجزم بحاجتها إلى هذا النوع من القيادات . فكم من رؤساء وزعماء جهلوا مدى ما معهم من قوى. بل ليتهم جهلوا وسكتوا !! لكأنما كان أكثرهم موكلا بشعل الإيمان يطفئها. وجذوات النشاط يخمدها. وحبال الأمل يقطعها. وسبل النجاح يسدها . فجزاهم الله عن أممهم شر الجزاء . وإذا كان القائد الذى يحسن الانتفاع مما معه عظيما، فأعظم منه ولاشك هذا الذى يوجد فى بيئة لا تعطيه شيئا البتة، ثم هو مع ذلك الفراغ يخلق خلقا الوسائل التى يدرك بها غايته ويحقق رسالته . وعليه- فى سبيل ذلك- أن يوجد الجند، وأن يمهد الميدان، وأن يبتدع الأساليب، وأن يكافح الزمن، وأن تكون نفسه الكبيرة ينبوعا دافقا بالحياة والنشاط، ليمد هذه النواحى جميعا بما يصل بها إلى نهايتها المنشودة . وهذا الطراز من القادة يظهر فى الحياة على ندرة كما قلنا، ومنهم الشهيد حسن البنا . ولا شك أن الأنبياء، وزعماء الإصلاح الدينى، هم الطليعة الكريمة فى هذا الضرب من القيادات المجيدة . . والنهضة الإسلامية التى انفجر نبعها فى هذا العصر إنما أفلحت فى خلق جيل جديد عندما استطاعت ربط القلوب بربها، فكان هذا الرباط الساحر مصدر القوة العارمة التى جمعت الشتات، وأحيت الموات، وأنارت الظلمات . بلى، فالرجل الذى ينيب إلى إلهه يدوس آلهة الأرض، وينفسح صدره بجلال اليقين، وينتظر المستقبل بثقة مهما كان الحاضر غائما حافلا بأسباب العجز والعسر. عالما أنه له لا عليه وأن الله سيرسل السماء مدرارا، ويزيده قوة على قوته . وقد تسرى طبيعة القيادة العظيمة- تلك التى تكلف بخلق السبب والنتيجة معا- ص _211(1/207)
إلى الأجناد الذين يعتنقون الفكرة نفسها، فيجدون أنفسهم فى عالم موحش ومناوئ. فعليهم أن يستمسكوا بحبل الله، ويسلموا وجوههم إليه، فيزدادوا بالاستغفار والإنابة استمدادا للقوة، واستعدادا للفلاح، واقترابا من النصر . * * * .. 2 .. كان حسن البنا- حيث حل- يترك وراءه أثرا صالحا . وما لقيه امرؤ فى نفسه استعداد لقبول الخير إلا وأفاد منه ما يزيده صلة بربه وفقها فى دينه، وشعورا بتبعته نحو الإسلام والمسلمين . والرجل الذى يشتغل بتعليم الناس لا يستطيع فى أحيانه كلها أن يرسل النفع فيضا غدقا. فله ساعات يخمد فيها، وساعات يتألق وينير . إن الإشعاع الدائم طبيعة الكواكب وحدها . وقد كان حسن البنا، فى أفقه الدانى البعيد، من هذا الطراز الهادى بطبيعته، لأن جوهر نفسه لا يتوقف عن الإشعاع . سل الألوف المؤلفة التى التقت به.. أو التى أشرق عليها الرجل فى مداره العتيد. ما من أحد منهم إلا وفى حياته ومشاعره وأفكاره أثر من توجيهات حسن البنا، أثر يعتز به، ويغالى بقيمته، ويعتبره أثمن ما أحرز فى دنياه . التقيت بالإمام الشهيد لأول مرة وأنا طالب فى معهد الإسكندرية كما قلت، وكنت شابا تجتذبنى دواعى التقى والعفاف، وتناوشنى مفاتن الحضارة الوافدة من وراء البحار، فكانت الغرائز المستثارة تدخل فى مضطرب مائج مع إيحاء الإيمان الموروث، واتجاهات الدراسة التى نتلقاها فى علوم الدين . ونحن جيل مخضرم تلتقى فى حياتنا تيارات متعارضة، وما كان يعلم إلا الله ما يجول فى قلوبنا وألبابنا من أسى وتعقيد . وقد أورثتنى معاناتى السابقة لهذه الأحوال، تقديرا لمشاكل الشباب ورقة شديدة لما يمرون به من أطوار . ص _212(1/208)
ومن ثم أدركت أن الوعظ المجرد، والتعليم العابر لا يجديان كثيرا فى حل مشكلاتهم، وعندما استمعت إلى "حسن البنا" لأول لقاء بيننا تكشفت لى أمور كثيرة لابد منها فى صحة إبلاغ الرسالة، وإمكان النفع الكامل بها . ليس الداعية إلى الله، أداة ناقلة، كالآلة التى تحمل سلعة ما من مكان إلى مكان، وليست وظيفته أن ينقل النصوص من الكتاب والسنة إلى آذان الناس، ثم تنتهى بعد ذلك مهمته!!. كانت لدى "حسن البنا" ثروة طائلة من علم النفسى، وفن التربية، وقواعد الاجتماع، وكان له بصر نافذ بطبائع الجماهير، وقيم الأفراد، وميزان المواهب . وهذه بعض الوسائل التى تعين على الدعوة، وليست كلها . والوسيلة التى تعتبر طليعة غيرها، ولا تؤتى الدعوة إلى الله ثمارها كاملة إذا لم تتوافر لها هى إلهام الله للداعية أن يتخير موضوعه المناسب وأن يصوغه فى الأسلوب الذى يلتقى هوى فى أفئدة السامعين، ويترك أثره المنشود فى نفوسهم وأفكارهم . إن القذيفة قد تنطلق كاملة العناصر، تامة القوة، ولكنها تقع بعيدة عن مرماها، فتذهب هدرا . وما أكثر الخطباء الذين يرسلون من أفواههم حكما بالغة، تنطلق هنا وهناك كما ينطلق الرصاص الطائش، لا يصيب هدفا، ولا يدرك غرضا . وحسن البنا كان موفقا فى انتقاء الرجال وكانت كلماته البارعة تأخذ طريقها المستقيم إلى عقولهم فتأسرها . وذلك أمر يرجع إلى فضل الله أكثر مما يرجع إلى المهارة الخاصة، واقتياد الكلمة من فم القائل إلى شغاف قلب السامع، يمكن أن يقال فيه: (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى) . وقد سمعت بعض تلامذة الإمام الشهيد يرددون المعانى نفسها التى كانت تجرى على لسان الرجل، ويستحيل أن تجد فى كلامهم عوجا، ومع ذلك فإن الفتح بها محدود . ص _213(1/209)
إن السماء وحدها التى تضع للإنسان القبول فى الأرض . وقد كان "حسن البنا" ملاحظا بعناية الله من هذه الناحية الهامة . ويوجد فى العالم الإسلامى رجال فى مثل علم الإمام الشهيد، وربما كان لهم قلمه وأداؤه، ولكن التوفيق الذى صاحب دعوة "حسن البنا" والنجاح الباهر الذى صادفه، لم يلقه غيره مع تشابه الأداة ! وقد بدأ "حسن البنا" يربى الجيل الجديد للإسلام، على الأساس الذى وضعه للنهوض به، إنه يريد تكوين دولة إسلامية، و إقامة حكم شرعى رشيد فسلك إلى هذه الغاية الطريق الوحيد الذى ينتهى بها و إن طال المدى، وتراخت الأيام، وكثرت التكاليف، طريق التربية الإسلامية . وكان الساسة فى ميدانهم قد هجروا القرآن، فما تدور على ألسنتهم آية، وما تعرف فى أعمالهم توجيهاته، فإذا هم يسمعون فى ميدان السياسة واعظا يقرأ القرآن، ويستهدى بمنار السنة . وكان الطيبون من أهل الخير قد نسوا- فى العزلة التى رمتهم الحضارة الغربية فيها- أن للإسلام شريعة تحكم، ودولة تسود.، فإذا هم يسمعون فى الصوامع والمساجد رجلا يحدثهم عن سياسة الدنيا باسم الله، ويسوق حشدا من النصوص الحاسمة تدفع الصالحين إلى إصلاح ما فسد حولهم من شئون الأمة ومراسيم الدولة. وحسن البنا يعلم أن المسلمين هُزموا فى مواقع شتى، كسرت شوكتهم فى القرن الأخير، ومكنت الغرب الكافر من ملاحقتهم فى عقر دارهم بالإهانة والتسخير. وعرف الرجل أسباب الهزيمة معرفة دقيقة، إن النفوس قد تحللت بالمعاصى، والجماعة قد انحلت بالإسراف، والدولة قد تهدمت بحب الدنيا وكراهية الموت. ومن ثم انتصر الكافرون . فيجب أن تقوم النفوس بالطاعة، وأن يحارب السرف والترف بالاقتصاد والاجتهاد، وأن تعلم الأمة الإقبال على الخاطر لتسلم لها الحياة، وأن يتم ذلك كله على دعامة موطدة من قوة الصلة بالله، تشق الحناجر بهذا الدعاء : (ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين) .. ومن ثم(1/210)
ينتصر المؤمنون . ص _214
وقد حار أصدقاء حسن البنا وأعداؤه فى فهم هذه السياسة الجديدة، وتضاحك أهل الدين وأهل الدنيا ممن يبنى الانتصار على هذه الوسائل . وحق لهم أن يضحكوا ساخرين . أما الماديون من أهل الدنيا فهم يحسبون ذلك دجلا لا طائل تحته . وأما غيرهم فقد وقر فى نفوسهم أن الملجأ إلى الله لا يكون إلا قرين العجز، وأثر السلبية المطلقة فى علاج الأمور، وقلما يسأل أحدهم ربه إلا وهو محسور . إن هؤلاء يحسبون الإنسانية مع خالقها كالابن العاق مع أبيه الغنى، لا يرجع إليه إلا مضطرا، عندما تفرغ يداه من النقود . ولو فقهوا الآية السالفة: (ربنا اغفر لنا ذنوبنا ..) لعرفوا أن قائليها كانوا صفا مناضلا فى حومة الوغى، تصرع من حولهم رسل الحق انتصارا للحق، وتفانيا فى حمايته . ومع شدة ما يلقون- فى ذات الله- من محن، يثبتون ويؤدون واجبهم على خير الوجوه (وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا) . * * * على هذه الصخرة من علاقة الفرد بربه علاقة إنتاج وإقبال واستغفار لا علاقة كسل وإدبار وانهيار- كان حسن البنا يجمع اللبنات الجديدة لإعادة ما انهدم من أركان الحكم الإسلامى النظيف . وما صدق الناس سلامة هذا الاتجاه فى التربية، حتى شهدت بادية الشام، وشطآن القناة أحفاد خالد وأبى عبيدة وابن العوام وابن الصامت صورا متشابهة تتكرر بها معجزة رسول الله فى الآخرين، كما بدأت فى الأولين . * * * منذ أيام مشيت فى جنازة الشهيد "عمر شاهين"، ثم سبحت بى الذكريات ص _215(1/211)
إلى أيامنا الماضية، وارتسمت أمام عينى صورة الإمام الشهيد "حسن البنا" فقلت لنفسى : إن الذى علم هذا الشباب كيف يستشهد فى سبيل الله هو "حسن البنا"، وقد سبقهم الرجل فى سلوك الطريق التى رسمها فما كذبهم . . ولا كذبوه . وأعدت النظر إلى الشباب الناصع الجبين من حول الجنازة المتهادية إلى الجنة، ثم تلوت قول الله : (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر) . * * * - 3 - العلم المسطور فى الكتب كنوز مودعة فى محالها ليس لها أكثر من قيمتها الذاتية، بل هى كنوز ميسورة المنال بخسة الثمن، يستطيع القارئ أن يقتنى منها ما يشاء ليطالعها متى أراد ثم يردها إلى خزانتها . . والعلم المبذول فى الخطب معرفة سيالة، ينقلها الصوت الجهير إلى المسامع الواعية أو الغافلة فتستقر بها حينا، ثم يطويها النسيان أو الإهمال فتذهب كما يذهب الصدى. إن انتفاع الناس بالعلم- وخصوصا ما يتصل منه بالدين- لا تغنى فيه قراءة عجلة، ولا سماع عابر، لا الجماهير يزكيها هذا النوع. ولا العلماء أنفسهم يرتفعون بهذه الحصيلة المذخورة من الكتب والمحاضرات . لقد كان حسن البنا واحدا من علماء كثيرين ظهروا فى العصر الأخير، علماء لهم فقه جيد فى الإسلام ودروس رائعة . بيد أن "حسن البنا" يمتاز عن أولئك بخاصة أتيحت له وحده ولم يرزق غيره منها إلا القليل، خاصة تأليف الرجال، والاستيلاء على أفئدتهم، وغرس علمه فى شغاف قلوبهم، وأخذهم بآداب الإسلام، فى تلطف وإحسان ساحرين . ص _216(1/212)
فى حديث- لم يصح- نسب إلى رسول الله أنه قال: الحب أساسى، والشوق مركبى. ويظهر أن واضع الحديث أراد أن يصور بعض دعائم العظمة فى نفوس الرجال الكبار، فأتى بهذين الانفعالين من اهتزازات القلوب ونسبها إلى رسول الله، فأصاب فى الوصف وأخطأ فى النسبة . نعم أصاب فى الوصف، لأن قادة الأمم، وزعماء الجماعات- وأعنى من هؤلاء أصحاب الرسالات وحدهم- لابد أن تكون لديهم ثروات طائلة من المشاعر الجياشة، والعواطف الواسعة . إن الموظف الكبير- بما أوتى من سلطة- قد يستطيع الاستحواذ على ألوف الرجال، وقد يملك ألسنتهم وأبدانهم، وقلوبهم أحيانا.. لكنه عندما يفقد هذه السلطة ربما لا يجد عينا ترمقه باحترام، بله فؤاد يخفق له بود . أما قادة الأمم فلهم على الناس دالة صنعوها بمواهبهم، ومكانة استحقوها بفضائلهم، فإذا لقوا حفاوة فهى حفاوة الإجلال لا الرهبة، وإذا تطامنت لهم النفوس فعن إعزاز لا عن سطوة، كما قال الشاعر : كأنه وهو فرد من جلالته فى عسكر حين تلقاه وفى حشم الحب لا الحقد، والشوق لا الوحشة، والعفو لا العقوبة، هى العناصر التى توجد مبعثرة لكثرتها فى حياة كل رجل عظيم . وقد كان "حسن البنا" مثلا كريما لهذه العناصر الكريمة . عندما كنا نتعلم فى مدرسة "حسن البنا" كانت هذه الخلال تتقد فى نظراته وفى كلماته، فتدع طابعها يمزج العلم بالعطف، والتربية بالرغبة لا الكره. والفارق بين المعلم والمربى، كالفرق بين الشركات التى تحضر العقاقير الطبية وتغمر بها الأسواق لمن شاء تناولها، وبين الطبيب الذى يشرف على مريضه، ويتعرف ما عنده تعرف الخبير الماهر، ثم يسهر على معالجته حتى يبرأ، لا لأجر يرقبه، بل ابتغاء وجه الله . ومازلت أذكر أول درس سمعته من "حسن البنا" . كان ذلك من عشرين سنة تقريبا . ص _217(1/213)
وجلس المرشد المجاهد فى مسجد "عبد الرحمن بن هرمز" بالإسكندرية يقرأ لنا الحديث المشهور "اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها. وخالق الناس بخلق حسن" وكيف أن الجمل الثلاث التى تضمنها الحديث، توضح صلة الإنسان بربه، وصلته بنفسه، وصلته بالناس . وكانت المعانى التى ساقها وهو يشرح تجدد حياة سامعيه، وتهيئهم لمستقبل أزكى، كأنما كان يوقظهم وهو ينساب فى عظته الرقيقة من سبات طويل . وتركنا المرشد السائح فى الإسكندرية ليتحدث إلى غيرنا فى بلد آخر. لقد جاب الآفاق وهو يذكر بالله ويعرف بدينه . وأحسبه قضى تسعة أعشار عمره مسافرا يضرب في مناكب الأرض لا يقصد من حله وترحاله إلا بعث أمة، وإحياء تاريخ، وأحسبه أولى الناس بقول الشاعر: يقولون لى: ما أنت فى كل بلدة وما تبتغى؟ ما أبتغى جل أن يسمى إن التربية الإسلامية الصحيحة ضرورة لتكوين أجيال قوية أمينة . وإنه من الخير لمصر. بل للعالم أجمع أن تتاح للدعاة الراشدين فرص واسعة لتعهد الناشئة النابتة بما يجعلها تشب أنضر عودا، وأطيب ثمرا . إن الحياة بتدين مريض، كالحياة بلا دين، شر منكور محقور . ولا سبيل إلى إسعاد الأمم فى معاشها ومعادها إلا بإيمان قوى، وخلق سليم، أى بالإسلام من منابعه المصفاه، وبرجاله الفاقهين . * * * .. 4 .. عندما مات " كليب " وكان رجلا مهيبا فى قومه سيدا فى قبيلته، جزع أخوه مهلهل على مصرعه، وألجأه الحزن إلى أن يجأر بالألم، وأن يبلل ثرى الصحراء بالقصائد الباكية المولولة . . وزاد فى قلق الشاعر المفجوع، أن الدنيا تغيرت بعد " كليب " واضطربت أوضاعها، فقد تصدر الناس من ليس للسيادة أهلا، وأكثر اللغط من كان يحبس لسانه فى فمه وجلا . . ص _218(1/214)
وابتذلت القضايا الكبرى فخاض فيها السوقة ومن إليهم ممن يحلون مشكلاتهم بالسباب والوقاحة . فإذا " مهلهل " ينظر إلى هذه الحال بعد فقد أخيه ثم يقول : نبئت أن النار بعدك أوقدت واستب بعدك يا كليب المجلس وتحدثوا فى أمر كل عظيم لو كنت حاضرهم بها لم ينبسوا ولا أدرى: ما الذى جعلنى أردد هذين البيتين بعد بضع سنين من اغتيال "حسن البنا" ؟ لقد بكيت مصرعه يوم قتل . . وكنت بعد وفاته ألصق به منى فى أثناء حياته . . ولم أذكر من علاقتى به إلا أنه رجل مات فى سبيل الله، أى فى السبيل التى أظننى أمشى فيها وأدعو إليها . . لا أدرى: ما الذى استوقفنى فى هذين البيتين ؟ لا. بل إننى أدرى !!! وإن بعد المدى بين رجل من صميم الجاهلية ورجل من ألوية الإسلام . . لكأن موت حسن البنا كان إيذانا للصوص بأن الحارس اليقظ قد قضى فلا عليهم أن يختلسوا وأن يغتصبوا فى طمأنينة من أية مؤاخذة !!! لكأن الرجل كان سدا تحتبس وراء أسواره العالية أمواج الفوضى والعصيان والفسوق، بل تنحسر وتتقهقر . فلما ولى تحرك الطوفان الأعمى ليدمر الإيمان والفضيلة، وليجتاح سيله المجنون كل ما شد الخير والبر من شعائر ومآثر !!! كان المستشرقون والأدباء الكبار وأساطين التبشير فى الشرق المهضوم يبذلون جهود الجبابرة ليبذروا بذور الإلحاد فى الأوساط الجامعية . . وكانت السياسات الاستعمارية من ورائهم، والأموال الغزيرة فى أيديهم والحكومات الضعيفة فى ركابهم، ومع حدة هذا الهجوم وسطوة أصحابه، فقد استطاع "حسن البنا" أن يكسر شوكته وأن ينكس رايته، وأن يجعل طبول الإيمان تدق بقوة، والشباب الجديد يعرف ربه، ويتعصب لدينه، فإذا أمل الاستعمار يخبو، وجيشه الزاحف يكبو . ص _219(1/215)
ولن أنسى أبدا يوم هاجمت الجامعة وتطاير الشرر من عيون بنيها لأن كتابا يدرس فى إحدى الكليات تناول رسول الله بألفاظ لا تليق بمكانته الموقرة . . وبرغم دفاع المستغرب المعروف الدكتور طه حسين عن تدريس الكتاب بحجة حرية الرأى، فإن قوة الإيمان عصفت بالكتاب والمدافعين عنه . . ثم مرت الأيام، وضاع الجد، وولى "حسن البنا"، فإذا الإسلام لا يهاجم من كبار الأدباء فحسب بل من كل صعلوك حمل القلم ومكن من أن يضع الحبر على الورق!!! وإذا الجامعات تغمرها موجة مفتعلة من الإلحاد والشرود والعوج، يحاول تضخيمها صحافيون يبيعون الحب، ويدغدغون الغرائز الهاجعة، ويشتتون عناصر الرجولة والشرف التى تعتمد عليها بلادنا فى كفاحها الطويل القاسى ضد الاستعمار المزدوج: الاستعمار الصهيونى والصليبى . إننى لألتفت يمنة ويسرة وقد أخذتنى الدهشة لكثرة الكلاب التى تنبح الإسلام، وتتحرش برجاله وتكشر عن أنيابها، وكأنها تريد قضم أبدانهم، أو على الأقل تمزيق ثيابهم، وخمش وجوههم، وردهم عن طريقهم . ما هذا كله ؟ ما معنى أن ترى إنسانا لا يحسن قراءة بيت من الشعر، ولا سطر من النثر قراءة صحيحة يحاول أن يكون مفسرا للقرآن، ومجتهدا فى تقرير أحكامه ؟ ما معنى أن يستميت أديب مشهور فى تغيير الهجاء العربى تمهيدا لقبر الحروف العربية، وإماتة لغة القرآن ؟!! ما معنى الجراءة المستغربة فى الدعوة إلى إباحة الزنا، وتيسير الدعارة فى الصحيفة نفسها التى تدعو إلى تحريم الطلاق وتقييد تعدد الزوجات ؟!! ما معنى الإلحاح على الشباب أن ينسى الألوهية، وأن يفك من سلوكه قيود الإيمان ..؟؟ ما هذا الإلحاح على الأمة كى تتبرأ من تاريخها وتتسول أسباب نجاحها من تحت أقدام الغزاة ؟!. ما سر هذه البغضاء الحالكة على الإسلام وأهله ..؟! أكل امرئ نبت فى بيت لا يعرف له أبا، أو يعرف أباه خادما للاستعمار يريد أن يطفح بسوئه على هذه الأمة لترضى الرذيلة شريعة، واتباع الأجانب دينا ؟!! ص(1/216)
_220
إذا كنا نأسى على قتل "حسن البنا" ، فلأن هذا الداعية الكبير قلم أظافر هؤلاء جميعا فجعلهم يحسبون ألف حساب قبل أن يفكروا فى لمز الإسلام أو استهجان شىء منه ..؟!! لقد قلت غير مرة. إن هؤلاء الخونة لدين الله ومصالح عباده لم يكونوا يوما ثوارا، ولم تعرفهم هذه الديار أحرارا، وما ينبغى أن يترك لهم الحبل على الغارب فى وقت لا نحتاج فيه إلا إلى صوت الإيمان الخالص المجرد . . إننى أرمق الماضى- وهو ليس ببعيد- فأجدنى ما توانيت ساعة فى خصومة الاستعمار الداخلى والخارجى، ولقد عرضت نفسى وتعرض مثلى كثير من رجال الإسلام لعنت الطغاة وكرههم، وما يجرء امرؤ على تهوين آثارنا فى إخراج هذه النهضة التى نرتجى من ورائها الخير . فكيف بالله ينطلق مرتزقة العهود الماضية ليعيثوا فى الأرض فسادا، ولا نأخذ طريقنا لكبح جماحهم وحماية الدين والدنيا من شرورهم !!!. أيا ما كان الأمر فنحن لا يعنينا إلا شىء واحد: هو ما عرفنا به "حسن البنا"، وهو ما نذكره به الآن، وهو ما تصادق عليه كل إنسان، ذلك الشىء هو مستقبل الإيمان فى هذه الحياة، وحرية الرسالة التى بعث الله بها محمدا عليه الصلاة والسلام، إن هذه الحرية الآن فى محنة أى محنة !!!. والله يعلم، أن فؤادى غمرته نشوة من الفرح يوم قرأت تصريح رئيس الحكومة وقد سئل: من مثلك الأعلى؟ فأجاب: محمد الرجل الكامل العظيم..!! نعم هو مثل أعلى فليكن قدوة طيبة !! وفى هذه السبيل يجب أن نندفع ومن تلك الأسوة يجب أن نقتبس، وتحت هذه الراية ينبغى أن تحشد الجماهير، وأن يذاد عنها السفهاء والمحترفون من حملة الأقلام المسخرة للإثم والعدوان . ص _221(1/217)
جهاد وتربية هل التربية التى يأخذ الإسلام أتباعه بها تتطلب مرحلة من الإعداد والتكوين تشبه المراحل التى يجتازها الطلاب فى معاهد التعليم قبل أن يتولوا وظائفهم فى الحياة ؟ أظن أن هذه التربية لن تبلغ تمامها، ولن تستقيم على نهجها، إلا إذا خرجت بأصحابها من الصومعة التى يتحنثون فيها، والتقت بهم وجها لوجه مع مشكلات المجتمع ومفاتن الدنيا !! أعنى أننى إذا أردت تكليف أمة ما أن تجاهد لنيل حق، وأن تلتزم جادة الصدق، ومشاعر الإخلاص فى جهادها فالطريقة المثلى، أن تخوض مع أعدائها حومة الكفاح المر . وفى الساحة الواسعة يمكننا أن نغرس فى النفوس ما نطلبه من إخلاص وصدق، لا أن نؤخر التقاء الجمعين حتى تنضج الأخلاق التى نصبوا إلى تكوينها بأسلوب مدرسى رياضى، يشبه مسالك القدامى من المتصوفين ! كان النبى -صلى الله عليه وسلم-يتبع الطريقة الأولى، فهو يجعل من القيام بأعباء الرسالة وسيلة فهمها وخدمتها وإنجاحها، فإذا علم الناس الوضوء أو الصلاة، لم يفتح لذلك مدرسة تنظم حصصها، وتلقى فيها المحاضرات الطوال، بل كان توضؤه وإقامة الصلاة والأسلوب لجمع الناس على الوضوء والصلاة، وعلى هدى المنهج العملى تصحح الأفكار الخاطئة، وتكمل المعلومات الناقصة . وإذا أراد نصرة دعوته لم يحدثهم طويلا عن أساليب الجهاد الناجح وشرائط إحراز الثواب المأمول، بل قادهم فعلا إلى الساحات الحامية . وعلى حرارة ما يعالجون من أحداثها، ويقاسون من كربها كان يقول لهم : "رباط يوم فى سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل" . ص _222(1/218)
فإذا وجد فى بعضهم تطلعا إلى الظهور أو الغنيمة علمهم عقبى هذه الآفات سُئل رسول الله عن الرجل يُقاتل شجاعة ! ويقاتل حمية، ويقاتل رياء . أى ذلك فى سبيل الله ؟ فقال: "من قاتل لتكون كلمة الله هى العليا فهو فى سبيل الله " . ومن المفيد أن نعرف أن أحاديث الرسول فى القتال وشرائط خوضه لم تبدأ إلا فى المدينة، أى بعد مواجهته فعلا ! وقد تجد بعض الناس يقول لك: إن المرء لا يجاهد فى سبيل الله حتى يطهر نفسه، وينقى قلبه، ليكون أدنى إلى نصر الله، وأحق بتأييده . وهذا كلام يجد الشيطان منه مدخلا لتعطيل شعيرة الجهاد، وتعويق الإقبال عليها. فإن المرء لن يصل يوما إلى مرحلة يزعم فيها أنه اكتمل وطهر . وإدراك الكمال- كما يقولون- هو فى السعى الدائم إليه، ومن أسباب نيله أن تجاهد ولو كنت مرتكب الموبقات، فإن هذا باب تطهر ورضوان . وقد روى أبو هريرة عن رسول الله : : " الجهاد واجب عليكم مع كل امرئ بر أو فاجر، والصلاة واجبة عليكم خلف كل مسلم بر أو فاجر، لان عمل الكبائر، والصلاة واجبة على كل مسلم، برا كان أو فاجرا، وإن عمل الكبائر " . إن أساليب التربية الحديثة تتفق مع هذه السنة النبوية فى تكوين الأتباع وخدمة المبادئ، وحبذا لو فقهنا حقيقتها . * * * ص _223(1/219)
استغلال لا يجوز أن تستخدم فضائل الإنسان ضده، وعلى المرء أن يتحرى الأوضاع التى يقف فيها، أو ينساق إليها. حتى لا يأتيه الشر من حيث يتوقع الخير . إن الكرم فضيلة يحمد الإنسان بها.، ولكن الكرم إذا كان بابا يأكل منه الكسالى والقاعدون . فيجب أن يراجع الإنسان نفسه قبل البذل والعطاء . وإن الوفاء خليقة يمدح الرجل عليها، فإذا كان الوفاء وسيلة لانتصار اللئام، وانتفاع الخبثاء، فيجب أن يحاسب الرجل نفسه قبل إنفاذ كلمته، وإمضاء العهد إلى مدته . ولا أعنى بذلك التخلص من قوانين الأخلاق- معاذ الله- وإنما أريد لأحرم الأوغاد ثمرات المحامد التى يكفرون بها، أو لعلهم يظنون الغفلة بأصحابها،أن أعمل بالأثر الكريم " لست بخب ولا الخب يخدعنى " . فى الجهاد اليائس الذى قام به البطل المصرى الفلاح " أحمد عرابى " ضد الإنجليز، انتهى الأمر بهزيمة ساحقة، ماذا كان سببها ؟ سببها أن "عرابى" وثق بكلمة الأفاق الفرنسى "دى لسبس" وترك القناة مفتوحة، فبعد أن دحر الإنجليز فى كفر الدوار، وولوا مدبرين، جاءوا عن طريق القناة، وألحقوا بنا شر الهزائم، ولا يزالون معسكرين حول التل الكبير منذ هزمونا إلى اليوم . وقد اعتبرنا وفاء "عرابى" لدى لسبس غفلة يلام عليها أشد اللوم. وأجمع النقاد على أن وفاءه هنا كان خطأ كبيرا . ومع ذلك فالخطأ الذى وقع فيه "عرابى" مع "دى لسبس" هو نفسه الخطأ الذى وقع فيه العرب مع الأفاك السويدى "كونت برنادوت" . ص _224(1/220)
فقد فرض عليهم الهدنة بعدما كادوا يدكون أسوار "تل أبيب" ، فقبلوها، ووضعوا السيف فى قرابه، وعادوا من الميدان إلى أهليهم ليستجموا، فى الوقت الذى كان اليهود فيه يستغلون دقائق الهدنة لا ساعاتها فى إكمال استعدادهم لسحق العرب، والتنكيل بهم . كان قبول العرب للهدنة ووفاؤهم لها كقبول "عرابى" لكلمة "دى لسبس" واحترامه لها . والواقع أن فى طبائع رجالنا أثرا من الوفاء الذى يأمر به الإسلام . ففى أى عقد أو عهد يكونون طرفا فيه لا يفكرون إلا فيما للعهود والعقود من حرمة . ولو أدى ذلك إلى أفدح المغارم، وأثقل التبعات . أما رجال أوروبا فهم يحالفون الشيطان للمصلحة، ويبقون العهود للمصلحة، فإذا كانت المصلحة تقتضى غير هذا فالمعاهدات قصاصات ورق . وقد اطردت هذه القاعدة حتى فى المعاهدات التجارية القصيرة الأجل فنلتزم نحن نصوصها، ويعبث هؤلاء بها عبثا يثير الاشمئزاز . والأمر خطير وهو يستدعى النظر فى مبدأ التعاهد مع قوم هذا مبلغ فهمهم للمعاهدات المبرمة . (وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين) . وبيننا الآن وبين إنجلترا معاهدة مفروضة ، وقد سكنت هذه المعاهدة شعور العداء للخصوم الذين احتلوا ديارنا غدرا. وأفاد الإنجليز من ذلك سلامة خطوطهم، وهدوء الجبهة خلفهم فى أحلك الأزمات . فلو أننا قمنا بثورة أيام (العلمين) ، لكانت إنجلترا محتلة الساعة بجنود ألمان . ولتغيرت معالم الدنيا . ص _225(1/221)
وقد نكثت إنجلترا بتعهداتها معنا. وهى تضع فى أرضنا نحو نصف مليون جندى، وتقيم مصانع ومستودعات هائلة للعتاد الحربى، مع أن هذه المعاهدة القائمة لا تعطيهم أكثر من عشرة آلاف جندى لعدة سنوات يجلون بعدها . وأعتقد لو أن الأحزاب المتناحرة على الحكم فى مصر تعاهدت فيما بينها على إنقاذ البلاد، ورعاية المصلحة العامة، لكان ذلك أصح وأجدى . أما التعلق بإيجاد معاهدة أخرى، وانتظار الوفاء بها من الإنجليز الغاصبين فعبث مكرر . إن رجالات الشرق لا تزال فيهم بقية من احترام الكلمة، سرت من تعاليم الإسلام القائمة على الوفاء . أما زعماء الغرب فهم يمثلون دولا نهمة قلما تكترث لقواعد الشرف، أو تهتم بإنجاز الوعود . * * * ص _226(1/222)
ذل لا تزال هذه الصورة تلاحقنى، وتنشر ظلا من الكآبة على نفسى! صورة الخواجة (...؟) وهو ينتقل بين ربوع الريف، مراقبا أمواله التى أخرجها بالربا، ومراقبا ما يضمن هذه الأموال من أطيان وأعيان . وليس ذلك ما آلمنى ! وإنما الذى ضقت به أشد الضيق منظر "على" خادم الخواجة، وهو يتبع سيده الأجنبى هنا وهناك وكان آخر مناظر هذه الخدمة المهينة منظر "الخواجة" السيد ! وهو يمتطى حماره الفاره، يسير عليه بهمة وقوة، ومن خلفهما "على" الخادم ! يجرى حافى القدمين، غارق الرأس فى لبدته القذرة، لاهث الأنفاس من ملاحقته للحمار النشيط ولصاحبه المستعلى المنتفخ المنطلق !! مسلم مستعبد يجرى وراء أجنبى سيد ! شعرت بأن كسفا من حقارة هذه الصورة قد سقط فوق رأسى، وجللنى بخزيه أنا الآخر وقلت: ليت- لو نفعت ليت- ليت تشريعا يصدر فيمنع بنصوصه ما يحط بكرامة الوطنيين. وما يمكن الأجانب من هذه السيادة المباشرة الفاضحة . إن من المناظر التى تأكل قلبى أن أرى مصريا يمسح حذاء أوروبى، أو ما يشبه ذلك ويقاربه من الأعمال الوضيعة . . ثم بقى هذا الملق المركوز فى بعض النفوس للأجانب . يجب أن نعمل على محوه بالتعليم والتربية. فإن من السخف أن يكتب الرجل بطاقته بالعربية وغيرها، وهو لن يقدمها أبدأ لغير المصريين. وإن من السخف أن يكتب البقال فى بولاق اسمه بالفرنسوية لزبائنه الذين لن يكونوا أبدا من باريس ! ص _227(1/223)
ومن حوادث هذا الملق التى يجب أن تعالج بالتربية القاسية، أنى وقفت أمام أحد الموظفين لعمل ما، فكان الموظف يرمقنى ويرمق غيرى من أفراد الجمهور بعبوسة وتقطيب، وفجأة جاء أجنبى لعمل مثل أعمالنا، فإذا أسارير الموظف تنبسط، وفمه يبتسم، ولسانه يجرى بحديث أجنبى طويل مع صاحبنا الطارئ . فقلت فى نفسى: هذا رجل كلبى المزاج، يسره أن يجد صاحبا له، يظهر عنده ذلته ويجثو عند قدميه . ومثل ذلك الموظف وليد الفترات السود التى تعاقبت على هذه البلاد، ونريد بشق الأنفس أن نمحوها محوا . . * * * ص _228(1/224)
صور كان يمشى وئيد الخطا، يهز عصاه بيمناه، ويقذفها أمامه بحركة رشيقة، ويقذف قدمه خلفها فى توقيع موزون متسق، وعلى عينيه منظار أزرق، يخفى بلونه الزاهر ما وراءه من ذبول وعلى جانب فمه سيجار أنيق، لا تعرف كيف يتكلم وهو باق فى وضعه هذا . وحدث عن معالم الكبر التى تتدفق من شعره المصفف إلى حذائيه اللامعين ! كأن ما على جانبى الشارع من قصور شاهقات هى ملك يده، أو ميراث أجداده الأمجاد .. سرت قريبا منه وأنا أحاول إطالة النظر إلى هذا الشاب الذى يمثل الآلاف من الشباب المفتون! وحاولت أن أتعرف دخيلة نفسه خلال هذه الحجب المصنوعة التى اختبأ بينها ونظرت إليه وأنا أتصنع البلاهة والتجاهل! ولكنى لم أجد شيئا فى هذه الدمية المتحركة يستحق الاحترام . ماذا وراء هذه الجبهة المتألقة من تفكير وفهم ؟ لا شىء . ماذا وراء هذا الصدر المزدان من إيمان ويقين ؟ لا شىء . ما الذى يكسبه الوطن الفقير إلى الرجال من هذا الرجل الذى صنعت أكثره الزينات المتكلفة ؟ إن المضحك فى أمر الكثيرين عندنا أنهم أخذوا من الحضارة الأوروبية أتفه ما فيها وجعلوه أخطر ما عندهم . السيجار الإنكليزى يأخذ طريقه إليهم قبل الخلق الإنجليزى، والمنظار الأمريكى الأزرق هو كل ما خلب ألبابهم من الإنتاج الأمريكى و.... و... نعومة المظهر الوادع هى كل ما يدركونه من دماثة الحضارة ورقتها . . ص _229
فهل هذا الشاب هو عدة الغد المأمول ؟ إن للحياة صورا ساخرة تنعكس على مرآة الواقع، فتلمح النفوس فى صفحته عجبا . ومن العجائب أن تقل صلتنا بالحقائق، ويزداد تعلقنا بالقشور، وتنقلب فى أوهامنا معالم الأمور إلى هذا الحد المزرى ! أغاية الرجولة فى عرف الشاب المريض سيجار ومنظار، وميوعة ومرونة، ودلال واختيال ؟ رحم الله الرجل الدميم الذى نظر فى المرأة ثم قال : فإن لم تك المرأة أبدت وسامة فقد أبدت المرآة جبهة ضيغم ! * * * ص _230(1/225)
كيف نحيا مع مستوى المعركة ؟ عندما استنكرت ترحيب الشباب بالعبث، وإقبالهم على اللهو، ظن بعض الناس أن الدين يفرض على أتباعه العبوس، ويصرفهم عن المرح، ويشيع فى جنبات الدنيا الكآبة والحرج.. وهذا ظن باطل منكور . فإن الدين يصنع مجتمعا متوازن المشاعر، حسن التوزيع لمطالب المعاش والمعاد، يجيد فهم الدنيا، ويجيد جعلها مهادا حسنا لليوم والغد . لقد قيل: إن من لا راحة له لا عمل له ! ولقد أدركت أن التعب الموصول يمنع الإتقان ويشل المواهب، وأنه لابد من قدر من المرح والبشاشة كى يقبل المرء على واجباته ناشطا متجددا . وأكاد أحكم بأن الراحة فريضة حتى يؤدى بعدها الواجب على خير وجه، وأن اللهو الذى يعين على الحق ليس من الباطل المستهجن، بل هو وسيلة محتومة للعدل والإحسان . وعندما أسمع وصف الشعوب فى أوروبا وأمريكا أرى أن القوم فى أيام عملهم لا يضيعون لحظة فى لغو، وأنهم يتجهون بطاقتهم كلها إلى الإنتاج ويتصبب جبينهم عرقا وهم مستغرقون فى أداء ما عليهم كأنما خلقوا من مارج من نار.. فإذا انتهى وقت العمل استسلموا لما ألفوا من لهو، ثم عادوا إلى عملهم.. وهكذا دواليك... أما الأمر فى الشعوب المختلفة فعلى العكس، ليست الراحة وسيلة العمل والكدح، بل هى تطلع نفس فارغة إلى مزيد من اللذة والخمول . وليس العمل لحظة استغراق فى الجد، ولكنه وجه آخر من الفراغ تنشطر فيه النفس البشرية انشطارا غريبا لتقوم بالعمل على نحو صورى لا روح فيه ولا إخلاص ولا ابتكار.. والشعوب عندما تنحدر إلى هذا المستوى تخلط خلطا معيبا بين جدها وهزلها أو بين راحتها وشغلها ..!! ثم هى فيما تحرص عليه من لهو لا تقف عند حد معقول، ولا تحجزها تعاليم الدين عن طلب الحرام والتوسع فيه . ص _231(1/226)
بل قد تزداد العلة جسامة، فتدهم الأمة مصائب وهيبة، وبدلا من أن يصدها ذلك عما تعشق من متع توغل فى طلب اللهو، كما ينشد الخمور المزيد من النشوة حتى يفقد وعيه وينفذ فيه قدر الحكيم الخبير . وقد مرت بالمسلمين الأولين أعصار من هذا اللون الزرى، فقدوا فيها رشدهم، وأترفوا فى عيشهم، وناموا فى فراش اللهو على حين استيقظ عدوهم يكدح ويعرف وجاءت نتيجة هذا التناقض صارمة، كأنما نزل فيهم قول الله عز وجل : (ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون * وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم * ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون) . ومعنى الآيتين الأخيرتين واضح، فإن العلل الاجتماعية قد تكمن فى بناء الأمم كمون الجراثيم فى أجسام الأفراد، وذلك إلى أجل محدد تضعف فيه المقاومة ويستفحل فيه الشر، وعندئذ تدق الساعة مؤذنة بالانهيار ! وهل سقطت الدولة الإسلامية مرارا إلا بهذا البلاء المبين ؟ ومن هنا، كان جوار المصلحين بمراقبة تيارات اللذة، والحيلولة دون تحولها إلى سيل عارم يأتى على الأخضر واليابس، بيد أن دعوات المصلحين قد تضيع فى جنون الانحلال، وسعار الشهوة . من ربع قرن تقريبا سجلت هذه الخاطرة أعيدها إلى الأذهان . علم العرب والعجم والإنس والجن أنه كان للمسلمين ملك طويل عريض فى ديار الأندلس! عمرت به حينا، ثم حرمت منه وحرم منها، وانطوت بطون التاريخ على ذكرياته الحلوة والمرة ! وقد يحدث أن ينبش المسلم الثرى عن رفات هذا التاريخ المدفون فإذا هو يطالع من أنبائه ما يذكر بقول القائل : ابك مثل النساء ملكا تولى لم تحافظ عليه مثل الرجال ص _232(1/227)
ولكن الأستاذ الأديب محمد أسعاف النشاشيبى- جزاه الله- لا يرى بعد أن يطالع التاريخ الأندلسى البكاء مع النساء، بل يرى الرقص مع النساء ! ويقول : " الرقص شىء حسن لا يجادل فى حسناته وفضائله مؤمن " . وطبيعى أنه يقصد بالإيمان شيئا آخر غير الإيمان بالله ورسوله، أى غير الإيمان بالإسلام وفضائله وحسناته . فلما أعوزته الشواهد على صدق رأيه، ذهب إلى كتاب " نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب " لينقل لنا صورة من صور الخلاعة والتهتك الذى جنح إليه بعض الأمراء والوزراء الأندلسيين فى عصور انحطاطهم وتحللهم الذى لم يزل بهم حتى أحلهم دار الهوان . ذهب الأستاذ الأديب إلى كتاب نفح الطيب فأخرج منه القصة الآتية : " كان المنصور بن أبى عامر (سلطان الأندلس) قد عزم فى يوم على الانفراد، فأمر بإحضار من جرى رسمه من الأدباء والندماء، وأحضر الوزير "أحمد بن شهيد" فى محفة لنقرس كان يعتاده وأخذوا فى شأنهم . فمر لهم يوم لم يشهدوا مثله، وطما الطرب، وسما بهم حتى تهايج القوم ورقصوا، وجعلوا يرقصون بالنوبة حتى انتهى الدور إلى ابن شهيد . فأقامه الوزير أبو عبد الله ابن عباس، فجعل يرقص وهو متوكىء عليه، ويرتجل، ويومىء إلى المنصور وقد غلبه السكر : هاك شيخا قاده عذر لكا قام فى رقصته مستهلكا لم يطق يرقصها مستثبتا فانثنى يرقصها مستمسكا عافه عن هزها منفردا نقرس أخنى عليه فاتكا من وزير فيهم رقاصة قام للسكر يناغى ملكا ؟ أنا لو كنت كما تعرفنى قمت إجلالا على رأسى لكا قهقه الأبريق منى ضاحكا ورأى رعشة رجلى فبكى " . ونحن نذكر القصة آسفين، ليرى القارئ فى ثناياها أطراف مأساة كابية، تصرخ بأسرار الانهيار الذى أصاب بناءنا، وتفصح عن أسباب الهزيمة التى طوت عن هذه البقاع أعلامنا . ص _233(1/228)
وقد كان المظنون بكل مؤرخ مسلم إذا عرض لهذه المخازى أن يثير بها شتى العبر، وأن يجعل من توجيهها دروسا تنفع الأمة فى حاضرها ومستقبلها، لا أن يذكرها على سبيل الاحتجاج لمحاسن الرقص وفضائله، ثم يدعو الناس إلى الاقتداء الأثيم بملوك ذلك مسلكهم، ووزراء هذا عملهم! يعاقرون الخمر ويهيجون للرقص، ولا يجوز أن يشيع المسلمون سيرتهم إلا بالأسى واللعن . . ثم هم لم يكونوا- بعد- شيئا طائلا فى المحافظة على دينهم، أو المحافظة على دنياهم، حتى سئم المتنبى أبهتهم الكاذبة، وألقابهم الفارغة، وصد عن الذهاب إليهم قائلا أبياته المشهورة : مما يزهدنى فى أرض أندلس ألقاب معتصم فيها ومعتضد ألقاب مملكة فى غير موضعها كالهر يحكى انتفاخا صولة الأسد والعجيب فى أمر كاتب مقال الرقص، أن يذهب إلى كتب السيرة، ليروى منها كيف أن الأحباش رقصوا فى المسجد . كأن المساجد صالات تتلوى فيها البطون والظهور، فيسوغ لنا أن نذكر ما حدث بين الرقص الأندلسى المخمور!! أو كأن الألفاظ وسيلة التلبيس على العقول، وتضليل الناس، عن الرقص الذى شهده الرسول، والذى لم يكن فى الحقيقة غير عرض عسكرى طريف . ماذا على الناس لو أراحوا الدين من عنت الأهواء الجامحة؟ فإذا أرادوا العصيان لم يلجأوا إليه بفتوى تشرعه . ثم لنا أن نتساءل: هل الجو الذى يعيش المسلمون الآن فى غيومه ورجومه يتحمل هذا اللغو من الكلام ؟ ألا فليطمئن الكاتب الراقص! فإن المسلمين جميعا يرقصون ولكن كما يقول القائل: لا تحسبوا أن رقصى بينكم فرح فالطير يرقص مذبوحا من الألم ذلك ما كتبته من ربع قرن، ولما كان الرأى لمن يملكه لا لمن يبصره، فقد ذهب هذا النصح مع الريح، وضاع سدى . ص _2 ص(1/229)
ورجفت بالمسلمين زلازل دكت كيانهم ومزقت شملهم وأغرت الاستعمار والصهيونية بهم . وصحونا على حاضر كئيب مفزع انتهكت فيه الحرمات واستبيحت المقدسات . وأعداء الإسلام يرضعون أولادهم كراهيته، ويتواصون بتنمية الضغائن ضده، وعندما تختبئ وراء الشر عقائد مدمرة، فإن الهمجية تسود الدنيا، وقضايا الحق تتلاشى دون حياء . وكان ينبغى أن يطير النوم من عيون الهاجعين، بعدما اقترب الويل من ديارهم، غير أن العاكفين على المجون واللذات مازالوا فى سكرتهم يعمون، والباحثين عن الشهوات يجرون وراءها ما يفرقون بين حلال وحرام . ومن بين المباذل المتاحة، والتى لا حصر لها، رأيت فى عدة ميادين إعلانا داعرا لرجل فوق امرأة، تنبيها لرواية اسمها زوجة لخمسة رجال!! سيعرض فى السينما . هل هناك شك فى مصير هذه الخسائس ؟ إن آداب الإسلام وحدوده تمر بمحنة ما أظن لها نظيرا فيما مضى من تاريخنا، بل إن النساء فى أغلب الأقطار بلغن حدا رهيبا من التبذل والإثارة يجعل الأخلاق الدينية والمدنية مهددة بالتلاشى . . فالملابس ليست لكسوة الأجسام وستر العورات بل هى لإبراز المفاتن ومضاعفة المحاسن واستفزاز الشهوات الهاجعة، وتحريك الشهية الجنسية لدى كل إنسان، الشباب الأعزب يطير لبه لما يرى، والمتزوج يقلب العين فى معارض لا حصر لها من الأجساد المغرية، فلا يكتفى بما لديه !! وكأنما وضعت ألف حيلة ووسيلة لتيسير الزنا ودفع الجماهير إليه دفعا، وجعله ضرورة حيوانية يأتيها القادر. ويأسى لفواتها المحروم!! ويستحيل أن يقبل مؤمن هذه الأوضاع، بل أن يرضى بوقوعها ويستكين لشيوعها . وما أشك أبدا فى أن الذين سنوا هذه التقاليد- من أهل أوروبا وأمريكا-. لا دين لهم، فإن الزنا محرم فى اليهودية والمسيحية وما يؤدى إليه أو يغرى به لا يسوغ إقراره. والملابس القصيرة التى شاعت أخيرا، والتى تكشف عن أفخاذ النساء وهن واقفات وتضاعف الفضيحة وهن جالسات، هذه الملابس دعوة إلى الدعارة بلا(1/230)
ريب، وزلزلة لبقايا العفة فى قلوب أهل الإيمان، وما يمكن أن ترتديها حرة، أو يرضى بها امرؤ شريف . ص _235
وبديهى أن الإسلام يعد هذا التبرج منكرا غليظا . وانتشاره فى بلادنا يرجع إلى أمرين، أولهما: موت الأحكام الشرعية وسيادة قوانين مجلوبة من بلاد تكفر بالكتاب والسنة، بل لست أبعد إذا قلت: إنها تكفر بالله والمرسلين . والأمر الآخر، انحلال الشخصية الإسلامية وذوبان تقاليدها فى حرارة الغزو الأجنبى ورغبة الشعوب المهزومة فى تقليد الشعوب الغالبة، وهى- لغبائها- تحسب هذا التقليد ما يكون إلا فى الأزياء وأسلوب تفصيلها!! وقد ترك المسلمون عشرات من شُعب الإيمان، وأشبهت هذه التعاليم المهدرة عقدا انقطع خيطه وتبعثرت حباته هنا وهناك، فما يمكن البكاء على حبة واحدة منها وتتأسى زميلاتها المطروحات فى التراب ومن هنا فلا أستطيع أن أصف علاجا جزئيا لعلة خاصة إذا كان الكيان كله مهددا بما يعصف به!! هل يغنى فى دفع التبرج والقضاء عليه بين النساء أن أذكر قوله تعالى: (يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين) . أو يغنى فى منع الشباب عن تعليق السلاسل الذهبية أن أذكر نهى الرسول-صلى الله عليه وسلم- للرجال عن التحلى بالذهب؟ لا هذا ولا ذاك يغنى وحده، لأن من نخاطبهم قد تفلتوا من قيود الإيمان، وتركوا الأركان الأساسية فى الدين، وربما كان بعضهم يحمل بين جوانحه إيمانا مخدرا لا حراك به، فهو إمعة تضمه القوافل السائرة إليها وتكثر به سوادها، والامعات يعيشون مع التيارات السائدة، ولا يتركونها إلا إذا ركدت ريحها . ولست أدعو إلى مهادنة هذه المناكر البتة، بل أريد لفت النظر إلى حقيقة الداء حتى نستطيع تقريب الدواء، إن أمسى لا يمثل فى عينى معصية فردية، منظر الشاب المائع، أو الفتاة الخليعة، أو انحرافا جزئيا، بل يمثل أمة نسيت دينها وتاريخها وجهادها، وعاشت الدنايا الميسورة، فهى(1/231)
تمرح اليوم لتذبح غدا، وجزارها الاستعمار ص _236
العالمى وربيبته الصهيونية المحتلة.. فإن لم نسارع إلى وقف هذه المخازى ومحوها أخزتنا هى ومحتنا لا محالة وأصبحت أمتنا كلها خبرا يروى . . ويتقاضانا العلاج العاجل لهذه الحال المزعجة ألا نسأم من المطالبة بعودة لتحل الحلال وتحرم الحرام، وتمنع الانحراف وتزيح العوائق أمام الخير، وليست هذه العودة المنشودة فى مجال الأزياء وحده، فهذا المجال محدود جدا، وإنما المقصود أن يشعر الخاص والعام بأن الدين قد رجعت له الحياة والكرامة والشريعة الإسلامية إلى ميدان القانون، وأن آدابه وحدوده أضحت تحكم المجتمع وتفرض عليه سلطانها، وأن الذين يصمون آذانهم عن نداء الضمير سوف تتناولها سياط الدولة . وشراء ثان أقرره، وهو أن هناك طبقات فى المجتمع متبوعة لا تابعة، قد يكون ذلك لأنها تملك الثروة، أو لأنها تملك السلطة، والأغنياء والحكام فى مختلف البلاد الإسلامية لهم أثرهم غير المنكور، ومن ثم استهدفهم الغزو الأوروبى والأمريكى رجالا ونساء، حتى فسدت طبائع أغلبهم، ومرقوا من تقاليد العروبة والإسلام وغلبوا عليها كل بدعة أجنبية وكل سماجة خارجية . إن الجهاد أصبح فرض عين على أمتنا جمعاء رجالا كانوا أم نساء، والعدو الذى نحاربه طليعة خبيئة لشرور مستطيرة تتهيأ للفتك بنا . . وذلك يتقاضانا أن نحيا حياة أخرى أشرف وأعف مما ألفنا من قديم . لقد قال امرؤ القيس لما بلغه مقتل أبيه . اليوم خمر وغدا أمر، وكان ذلك فى الجاهلية الأولى، وكان يطلب ثأر أبيه . فلما اقترب الشر ليطلب نفس الابن بعد الأب، لم يبق للخمر معنى ولا للذة مجال، الأمر- والحمالة هذه- كما قيل : أخى أيها العربى الأبى أرى اليوم موعدنا لا الغدا !! أظن العرب سيدركون ذلك قبل فوات الأوان ..!! * * * ص _237(1/232)
فدائيون برغبات النفس قبل النفس منذ أعوام دونت هذه الكلمات فى مذكراتى . " المؤمن يستهدف لنقمة الله قبل أن يكرس حياته لنيل السعادة فى هذه الدنيا! ألم يسلبه إيمانه النفس والمال؟ ألم يرخص علية الوالدين والأولاد والأهل؟ لم يحرمه لذة الوداعة فى نيته، والاطمئنان إلى رزقه؟ إنما يجب على المؤمن أن يحرص على سعادته فى الدار الآخرة وهو- رضى أم كره- لن يظفر بسعادته المنشودة إلا فى جوار الله وحده " . وقد عدت الآن إلى مطالعة هذه الكلمات . وتبينت أنى سطرتها فى ساعة من ضغط الحوادث ومعاركة الآلام، و لكن بها حقائق ثابتة على كل حال، حقائق مستوحاه من لب القرآن وهدى آياته، حقائق لا ينبغى إهمالها، ولا يجوز أن تكون حياة المسلم بمعزل عنها . وقد سكت نفسى بعد قراءة ما كتبت من أعوام، هل كنت وقافا عند حدود ما كتبت؟ وهل جافيت متع الحياة، وحاذرت دسائس الجاه والمال وخاصمت رغائب العيش الرغيد؟ وهل وطنت النفس على تحمل الآلام، والاستعداد للتضحية والرغبة فيما هو خير وأبقى مما نواجه ونعالج من آمال ومطامع ؟ ولم أكن متحمسا فى الرد بالإيجاب على كل هذه الأسئلة، بلى شعرت بالخلل والتقصير فى غير ناحية من نواحى حياتى، وأدركت بنفسى حرصا خفيا على أشياء كثيرة، إن جاز التطلع إليها فليس يجوز الحرص عليها . وعدت إلى نفسى أسائلها عن السر فى هذا المسلك حتى اهتديت !! إن حرص الإنسان على استشعار السعادة والاستقرار أمر لابد منه، ونحن إذا كلفناه بأن يتعالى على لذائذ الدنيا، وألا يهش لها، فيجب أن يكون لدينا تعويض كامل نقدمه له، ليشعر نفسه بالسعادة والاستقرار، حتى إذا فاتته اللذة المادية، لم ص _238(1/233)
تفته اللذة المعنوية، وإذا فاته الاستقرار فى حياته العامة، فلن يفوته الاستقرار فى داخل نفسه، والهدوء فى راحة ضميره . يجب أن يكون هناك شراء ما يملأ قلب الإنسان وعقله، فلا يجعله يأبه للدنيا لو انقلبت من حوله رأسا على عقب، هذا الشىء ليس عسير التحقيق . وقد رأينا أمما يفقد المرء فيها آباءه وأبناءه، ويقف أمام أنقاض بيته المهدم وأمواله الضائعة. ومع ذلك يبقى فى عينيه بريق يدل على الكفاح والعزم والقدرة، فعلام يدل هذا ؟ إنه يدل على أن النفس الإنسانية تستطيع أن ترخص أعز ما لديها، وأحب ما إليها إذا أرادت ذلك، على أنها لا تفقد بذلك لذة المحبة والإعزاز ولكنها تستعيض بذلك شعورا آخر وحالا أخرى يغنيانها عما فقدت!! فما هو هذا العوض المطلوب ؟؟ أهو انتظار الثواب الأخروى المؤجل؟ قد يكون! غير أنى أظن ذلك عاملا مساعدا فقط . فإن الطبع البشرى يرضى بل يهوى أن يأخذ القليل اليوم، على أن الكثير غدا . فما هو ذاك إذن العوض، إنه ليس إلا تحول الإيمان إلى شعور ممتع مؤنس . فياض بالرغبة، مستهين بالصعاب . . إن المرء قد يحرم لذة الشهوة، لكنه لن يصير على ذلك حتى يذوق لذة العفاف . وقد يستشعر ألم المصيبة، ولكنه لن يهدأ حتى يجنح إلى ثبات اليقين . أما الحرمان من لذة الشهوة. ولذة العفاف، ومن راحة الحياة، وراحة النفس، فذلك مطلب لا يحققه جهاد. ولا تقوم معه طمأنينة . هذا الإيمان وحده هو مصدر ما نسمع به من التضحيات،. وهو روح الفدائية برغبات النفس من راحة واستقرار . * * * ص _239(1/234)
فتنة لا تعليم من أشد المشكلات التى أواجهها فى عقليات العامة، ما هبط إليها على مر القرون من المسائل الخلافية الشائكة، ومن الحقائق الفلسفية الخطيرة . فعن طريق جهلة المتصوفة، عرف هؤلاء العوام شيئا من مشكلة وحدة الوجود . وربما رأيت الرجل منهم يضيف إلى القليل الذى يعرفه عن نواقض الوضوء قليلا آخر من الأقاصيص التى وضعها القائلون بالحلول، أو الخابطون فى فلسفة الإغريق. ونتيجة هذا الخلط أنك ترى رجلا شديد الغباء،- شديد الادعاء، سيئ الفهم والتصرف كالطفل الذى لا يخرجه عن طور الطفولة ما قرأه من روايات وحكايات. وجدت مرة أني كنت أحذر الناس من جريمة القتل، وذكرت عقاب من يرتكبها (فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا) فإذا رجل: يصيح: هل الخلود على جهة التأبيد؟ فعرفت أن فى دماغ الرجل كلاما من علم " الكلام "، وأنه وصل إليه طرف مما دار من جدال بين كبار العلماء فى هذا الموضوع . فتألمت فإن ما أودع الله فى آياته من تربية وتوجيه، سوف تصد عنه النفوس بما تطاير إليها وبما يضرها ولا ينفعها من تأويل وتفسير !! فقلت للرجل، لا عليك! إن القرآن حكم بالتخليد، ولست أعرف ولا يهمك أن تعرف، أهو تهديد أم تأبيد . ؟ ورجعت إلى نفسى- وأنا محنق- أتساءل: ماذا لو حددنا المعارف التى تلقى إلى الجماهير ؟ وحصرنا الدائرة التى يفهمون فيها الكتاب والسُّنة، وتركنا الترف العقلى يأخذ مجراه بين المتعطلين والمتبطلين؟ ص _240(1/235)
إن بعض الحقائق يكون سوقها إلى من ليسوا أهلا لها فتنة واضطرابا، وجمهور المسلمين يلقى الكثير من العناء لشيوع هذا الوباء . . إن الواعظ الشعبى طبيب وصيدلى! يشخص الداء ويركب الدواء . وأى خطأ فى التشخيص، أو خلط فى التركيب، لا ينتج إلا مضاعفات خطرة . فمن الحمق- فى صدد تعليم العامة- الإشارة إلى الموضوعات الحساسة أو مواضع الخلاف الكبرى بين الأقدمين . ومن الخير أن نفيض بدلا من ذلك فى أمور الأخلاق، ومناهج الآداب العامة، غير خاشين من ورائها عواقب التفصيل والاستطراد . . * * * ص _241
تحريف الكلم عن مواضعه .. ومن العقبات الكئود التى اعترضت مسير الإسلام فى هذا العصر، وأزرت بنهضته الجديدة، وأعانت عليه إعانة ظاهرة، صنف من الدعاة أوتوا لسنا، ورزقوا جدلا . واتتهم فرص الكلام فأسهبوا، وازدهاهم إطراء الناس فأطالوا وأغربوا . ولكن الإسلام رجع بفصاحتهم القهقرى، فما كسب منهم فى ميدان السياسة والاجتماع شيئا، بل إنه خسر كثيرا، وأصابه من ثرثرتهم شر أى شر . . ولك أن تسأل مستغربا: كيف هذا..؟ وإليك البيان . إن القرآن لم ينزل من السماء جملة واحدة، لقد نزل نجوما مرتلة، ترتبط بالأحداث المتجددة ارتباطا كبيرا . ومن حكمة الله فى سوق آياته على هذا النحو أن تنمو بفقهها ضمائر المؤمنين، كما تنمو الأبدان الفتية على الأطعمة الزكية، ذاك من الناحية الخاصة التى يقول الله فيها: (كذلك لنثبت به فؤادك) . أما من الناحية العامة، فلكى ترتبط أحكام السماء بشئون الأرض، وتجىء إجاباتها شافية كافية لما يقع من مسائل، ويجد من أقضية ومعضلات، فلا يكون الوحى فى ناحية وتكون أحوال الناس فى ناحية أخرى، وذاك ما تشير إليه الآية: (ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا) . والعلماء الذين ورثوا النبوة وراثة صادقة، وأدوا رسالة الله أداء متقنا، هم الذين ص _242(1/236)
يعرفون كيف يعالجون أحوال الأمم وأدواء النفوس بما أنزل الله، فلا يخلطون فى وصف دواء، ولا يضلون فى تشخيص علة . وأحسب أن سوق النص فى ألصق الأمور مساسا به، هو حقيقة الحكمة التى قال الله فيها: (يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولو الألباب) . أى أن الدعوة إلى الله علم وفن. والداعية مع الثروة الكبيرة من النصوص التى انتهت إليه ينبغى أن يكون طبيبا وصيدليا . وأنت خبير بأن اليد الجاهلة قد تمتد إلى قوارير الدواء فربما وقعت على سم يؤدى بها، أو على مزيج لا يزيدها إلا سقاما.. كذلك يصنع السفهاء مع كلمات الله حين يميلون بها عن سياقها، وحين يحرفون الكلم عن مواضعه تحريفا يسىء إلى الآيات، وإلى من نزلت لإرشادهم هذه الآيات . أجل فليس من الإسلام أن تجىء فى حفل عرس لتقرأ: (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين) أو فى إعلان قتال لتقرأ: (وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما) . أو لقوم جحدوا الفرائض، وتجرءوا على الله وعلى حدوده فتتلو: (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله) . أو لقوم يحترمون الفكر، ويخضعون للبرهان، فتقول: (يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أن الله مع المتقين) وهكذا . وسوق النصوص فى طريق الهدية التى أرادها الله ليس فلسفة معقدة، إنه لا يتطلب إلا فطرة مستقيمة، وعقلا نظيفا . ص _243(1/237)
وأى امرئ يؤتى نصيبه من سلامة الفطرة، واستقامة الفكرة لن يعجزه أن يسرد الآى الحكيم فى موضعه الذى يحتاجه، فيقول الحق، ويقرأ الحق . أما إذا التاثت النفوس، واستحكم الهوى، فإن تعاليم الدين تذكر ليقرر من ورائها شىء آخر . . وهذا ما أدركه "على بن أبى طالب" عندما سمع الخوارج يقولون: لا حكم إلا لله. فقال : كلمة حق يراد بها باطل . إن مواد القانون توضع لإقامة العدل بين الناس، ولكن العدل لا يقوم بكتابتها، إنما يقوم بالقاضى الذى يحسن تطبيقها على الأحداث التى تعرض عليه، فإذا كان غبيا فى فهم الوقائع، أو غبيا فى تنزيل هذه على تلك.. فلا عدالة ولا قضاء . ولهذا حارب "عمار بن ياسر" فى صفين وهو يقول : نحن قتلناكم على تأويله كما قتلناكم على تنزيله ! ضربا يزيل الهام عن مقيله ويذهل الخليل عن خليله ! * * * من ثلاثة أعوام كانت منطقة قناة السويس تنزف دما، وكان اللصوص الحمر يعبثون بشرف الإسلام، وكرامة أمته، فى البقعة التى ظلوا يحتلونها من وادينا . . ولم أكن فيلسوفا ولا متكلفا عندما جعلت كتابتى وخطابتى يومئذ تحريضا للأمة على الثبات، وإمساكا لحماستها أن تبرد أمام مؤتمرات القصر الملكى، وأشياعه من الخونة البارزين أو الأخفياء . . بل كنت بهذا المسلك القريب مستجيبا لتعاليم الدين، ونازلا على منطق الواقع، وخادما- فحسب- للنهضة التى تبغى مجد الإسلام، وتود إعلاء كلمته، وبناء دولته.. وليت قومى تابعونى فى هذا المسلك، إذا لكان للإسلام صوت مسموع فى المحو ص _244(1/238)
والإثبات، والهدم والبناء، بعدما انزاح الملك العابث، وسقط الإقطاع الملتف به، وأخذ الشعب يتنفس الصعداء . . لكن نفرا من الناكصين على أعقابهم فى الميادين الراكضة، أبوا إلا أن يدعوا هذا المجال كله، وأن يفيضوا فى حديث آخر، هو فى ظنهم الخاطئ ما يقوله الإسلام، أو ما يخدم به الإسلام فى هذه الأيام . . ووجد "الأذكياء" عوضا عن الحقيقة التى يجب أن يواجهوها! فإذا جهاد النفس يحل محل جهاد العدو، ودروس التصوف العالى تسد مسد الهجوم على الخونة والمغيرين . وظلم الإسلام بهذا الكلام مرتين . ظلم الحقيقة التى طمست، وكان ينبغى أن يعرفها الناس . وظلم الحقيقة التى حملت من مكانها، ورميت فى غير موضعها، فلم تبق لها طبيعتها، كدواء، ولم تبق لها كرامتها، كنص من السماء . . * * * إن الإطناب فى الثناء على الله جميل . والمطالبة بإصلاح النفوس فريضة . ومن ذا الذى ينكر أن معرفة الله أساس الدين، وأن صلاح القلب ملاك الأدب؟ ولكن إذا كنت مدينا وجاءك الغريم يتقاضاك حقه، فما معنى أن تلويه عن غرضه بمحاضرة مسهبة فى الزهد والتجرد ؟. إذا كانت للباطل صورة سمجة، أفتظن للحق الذى يراد به باطل صورة مستحبة..؟ * * * ص _245(1/239)
وقريب من عرض الدين على هذا النحو، أن يستفتى الإسلام فى جزء تافه من كل خطير، فيسارع رجال الفتوى إلى الاحتشاد لبيان حكم الإسلام فيما سئلوا عنه، ساكتين سكوتا مريرا عما لم يعرض عليهم. وقد يكون فى طياته ما يعد السكوت عليه كفرا ..!! والحقيقة أن موقف الدين فى هذه الاستفتاءات كالشاهد المأجور فى القضايا الزور! يطلب لأداء معنى معين، ثم يصرف غير مشكور ولا مقدور . وكان حقيقا بالعلماء أن يصدفوا عن الإجابات الصغيرة، أو يبسطوا رأى الإسلام فى " الموضوع" كله ، ما طوى عنهم، وما كشف لهم . أعجبنى موقف الأستاذ "أحمد شاكر" من مسألة "ولاية المرأة القضاء" وعتبه على المفتين شغلهم بهذا الأمر على نحو قاصر عجيب . قال- من حديث نثبته هنا :- "سألت وزارة العدل العلماء فأجابوا. ولست أدرى لم أجابوا؟ وكيف رضوا أن يجيبوا فى مسألة فرعية، مبنية على أصلين خطيرين من الإسلام، هدمهما أهل العصر أو كادوا ؟! ولو كنت ممن يسأل فى مثل هذا، لأوضحت الأصول، ثم بنيت عليها الجواب عن الفرع أو الفروع . فإن ولاية المرأة القضاء، فى بلدنا هذا، فى عصرنا هذا يجب أن يسبقها بيان حكم الله فى أمرين بنيت عليهما بداهة :. أولا: أيجوز فى شرع الله أن يحكم المسلمون فى بلادهم بتشريع مقتبس عن تشريعات أوروبة الوثنية الملحدة، بل بتشريع لا يبالى واضعه أوافق شرعة الإسلام أم خالفها ؟ إن المسلمين لم يبلوا بهذا قط، فيما نعلم من تاريخهم، إلا فى عهد من أسوأ عهود الظلم والظلام، عهد التتار، ومع هذا فإنهم لم يخضعوا له، بل غلب الإسلام ص _246(1/240)
التتار، ثم مزجهم فأدخلهم فى شرعته، وزال أثر ما صنعوا من سوء، بثبات المسلمين على دينهم وشريعتهم، وبأن هذا الحكم السيئ الجائر كان مصدره الفريق الحاكم إذ ذاك . لم يندمج فيه أحد من أفراد الأمم الإسلامية المحكومة، ولم يتعلموه، ولم يعلموه أبناءهم، فما أسرع مازال أثره، ولذلك لا نجد له فى التاريخ الإسلامى- فيما أعلم أنا- أثرا مفصلا واضحا . إلا إشارة عالية محكمة دقيقة، من العلامة الحافظ ابن كثير المتوفى سنة 774 . والحافظ ابن كثير من أجل تلاميذ شيخ الإسلام ابن تيمية ومن أعظمهم. وقد ذكرها عند تفسير قوله تعالى: (أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون) . وأرى أن أذكر هنا الآيتين اللتين قبل هذه الآية، وهى كلها متصلة فى السياق . (وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون * وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيرا من الناس لفاسقون * أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون) . فقال الحافظ ابن كثير: " ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله المشتمل على كل خير، الناهى عن كل شر، وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التى وضعها الرجل بلا مستند من شريعة الله كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات، مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم وكما يحكم به ص _247(1/241)
التتار من السياسات الملكية، المأخوذة عن ملكهم " جنكيزخان " الذى وضع لهم "الياسق" وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها عن شرائع شتى، من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية وغيرها، وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه. فصارت فى بنيه شرعا متبعا، يقدمونها على الحكم بكتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- . فمن فعل ذلك فهو كافر، يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله فلا يحكم سواه فى قليل ولا كثير. قال تعالى : "أفحكم الجاهلية يبغون؟" أى يبتغون ويريدون، وعن حكم الله يعدلون ؟ "ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون!" أى ومن أعدل من الله فى حكمه لمن عقل عن الله شرعه، وآمن به، وعلم أن الله أحكم الحاكمين وأرحم بخلقه من الوالدة بولدها . فإنه تعالى هو العالم بكل شىء، الحاكم على كل شىء العادل فى كل شىء" أ. هـ . أرأيتم هذا الوصف القوى من " ابن كثير " فى القرن الثامن؟ ألستم ترونه يصف حال المسلمين فى هذا العصر فى القرن الرابع عشر؟ إلا فى فرق واحد، أشرنا إليه: أن ذلك كان فى طبقة الحكام، وأتى عليها الزمن سريعا، فاندمجت فى الأمة الإسلامية، وزال أثر ما صنعت . ثم كان المسلمون الآن أسوأ حالا منهم، لأن الأمة كلها الآن تكاد تندمج فى هذه القوانين المخالفة للشريعة . التى هى أشبه شىء بالياسق الذى اصطنعه جنكيزخان، يتعلمها أبناؤها، ويفخرون بذلك آباء وأبناء، ثم يجعلون مرد أمرهم إلى معتنق هذا الياسق "الياسق العصرى" ويشجبون من عارضهم فى ذلك . حتى لقد أدخلوا أيديهم فى التشريع الإسلامى، يريدون تحويله إلى "ياسقهم الجديد" بالهوينى واللين تارة، والمكر والخدع تارة، وبما ملكت أيديهم من السلطان فى الدولة تارات. ويصرحون- ولا يستحيون- أنهم يعملون على فصل الدولة عن الدين ! وأنتم ترون ذلك وتعلمون . أفيجوز مع هذا المسلم أن يعتنق هذا الدين الجديد ؟ أعنى التشريع الجديد ؟ ص _248(1/242)
أو يجوز لأب أن يرسل أبناءه لتعليم هذا واعتناقه واعتقاده والعمل به، وذكرا كان الابن أو أنثى، عالما كان الأب أو جاهلا ؟. هذه أسئلة فى صميم الموضوع وأصله، يجب الجواب عنها إثباتا أو نفيا أولا، حتى إذا ما تحقق الجواب بالأدلة الشرعية الصحيحة التى لا يستطيع مسلم أن يخالفها أو ينفيها أو يخرج عليها، استتبع ذلك- بالضرورة- سؤالا محدودا واضحا. أيجوز حينئذ لرجل مسلم أن يلى القضاء فى ظل هذا "الياسق العصرى" وأن يعمل به ويعرض عن شريعته البينة ؟! ما أظن أن رجلا مسلما يعرف دينه ويؤمن به جملة وتفصيلا، ويؤمن بأن هذا القرآن أنزله الله على رسوله كتابا محكما، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفة، وبأن طاعته وطاعة الرسول الذى جاء به واجبة، قطعية الوجوب فى كل حال . ما أظنه يستطيع إلا أن يفتى فتوى صريحة، بأن ولاية الرجال القضاء فى هذه الحال باطلة بطلانا أصليا لا يلحقه التصحيح ولا الإجازة !! ثم يسقط السؤال عن ولاية المرأة هذا القضاء من تلقاء نفسه . وثانيا: أيجوز فى شرع الله أن تذهب الفتيات فى فورة الشباب إلى المدارس والجامعات، لتدرس القانون أو غيره، سواء مما يجوز تعلمه ومما لا يجوز ؟! وأن يختلط الفتيان والفتيات هذا الاختلاط المعيب، الذى نراه ونسمع أخباره ونعرف أحواله ؟ أيجوز فى شرع الله هذا الاختلاط الفاجر الداعر، الذى تأباه الفطرة السليمة والخلق القويم، والذى ترفضه الأديان كافة، على الرغم مما يظن الأغرار وعباد الشهوات ؟!. يجب أن نجيب عن هذا أولا، ثم نبحث بعد فيما وراءه . ثم يسقط السؤال عن ولاية المرأة القضاء من تلقاء نفسه . ألا فليجب العلماء وليقولوا ما يعرفون، وليبلغوا ما أمروا بتبليغه، غير متوانين ولا مقصرين . " . ص _249(1/243)
ذكرى تفد علينا ذكرى الإسراء فى هذا العام، وقد أحاط بها إطار كثيب من الأحزان والآلام . . أحزان اللاجئين من الأرض المقدسة بعد ما شردهم عدوان اليهود واستباح حماهم، وأكل حقوقهم . وآلام إخوانهم من العرب والمسلمين الذين يكابدون الأمرين من مؤامرات السياسة العالمية، وتجاهلها لأوضح القواعد، ونكوصها عن أول الواجبات . . إن ذكرى الإسراء إذ تعيد المسلمين المكانة التاريخية لأولى القبلتين،ثالث الحرمين، تعكر على النوام أحلامهم عندما تعيد لهم هذه الذكرى مخضبة بالدماء . فالقدس الجديد عاصمة لإسرائيل.. والقدس القديمة على مرمى الرصاص من بنادقهم، والدولة اليهودية التى ولدت فى ميادين السياسة كما يولد اللقيط.. تدفعها الأغراض الاستعمارية الخبيثة، فهى تجمح شرقا وغربا، وتحاول الاتساع طولا وعرضأ !! فماذا يقول المسلمون فى حفلات الإسراء ؟!. إن هذه الذكرى يجب أن تكون حافزا دائما يستصرخ الهمم القاعدة لتسترجع ما فقدت، وتحفظ ما ورثت، وإلا فالويل للمغلوب . ألا ما أصدق قول الشاعر : تبينت أن الحق إن لم تتح له بواسل- يخشى ظلمها- فهو باطل ! لعمرك لو أغنى عن الحق أنه - هو الحق- ما قام الرسول يقاتل ! فلا تحسبن الحق ينهض وحده إذا ملت عنه فهو- لاشك- مائل ! أقمه، وأسنده، ودعم بناءه وذد عنه ذود الليث والليث صائل ! ص _250(1/244)
ولا تسندن الحق بالقول وحده فإن عماد الحق ما أنت فاعل ! من العدل أن لا يطلب الحق عاجز فليس على وجه البسيطة عادل . . ولكن قوى يشرب الدم سائغا إذا خضبت يوم الورود المناهل . لقد استطاع اليهود- بعد الجولة الأولى- فى حرب فلسطين، أن يضعوا قدما على الأرض المقدسة، وهم الآن يبذلون الجهود المريرة ليضعوا القدم الأخرى، ثم يستأنفون- بعد تثبيت أقدامهم- مراحل العدوان على ما وراء فلسطين من أرض العروبة والإسلام !. والظفر الذى ناله اليهود فى أول صدام معنا قد يغريهم باستعجال النتائج وكيل الضربات . وما عرف به اليهود من غدر وخسة، سيجعل عيونهم مفتحة لأحوالنا العامة، وسيتربصون بنا الدوائر، فإذا سنحت فرصة للنيل منا فلن يضيعوها . ولهذا الوضع القلق دلالته الصارخة!! فلا شر اليهود بمأمون، ولا سكوتنا على العدوان بممكن . وعلينا أن نرسم خطط المستقبل وهذه الحقائق ماثلة أمامنا . إن قضية فلسطين لن تتحول إلى قضية لاجئين ومشردين، وإن شرف الإسلام أرفع عن أن يعدو عليه إخوان القردة، ثم يرتدوا سالمين موفورين . وقد ترامت إلينا الأنبياء بأن حشودا للأعداء تجمعت على حدودنا، وليس هذا بعجيب، وإن لم يصح اليوم فإننا نتوقعه غدا . وأحمق الناس من يؤخذ على غرة فى مثل هذا الصراع الدامى الطويل . فعلى مصر أن تأخذ أهبتها وأن تستيقظ لأداء واجبها . وعلينا نحن- حملة الإسلام وحماة دعوته- أن ننتبه إلى كل ما يدبره لنا خصوم بلادنا، وخصوم العروبة من مكايد ومؤامرات ! . * * * ص _251(1/245)
أحسب أنه لا ضرورة للمداهنة والمواربة، فالأمر أخطر مما يتصوره الواهمون. لقد رأينا بأعيننا، وسمعنا بآذاننا ما يصرخ بالهول، وما يؤذن بالشرر، ولطالما فكرت أن أعترض مسير الناس فى أحد الميادين الكبرى ثم أصيح بأعلى صوتى: أنا النذير العريان! يا قوم: إن اليهود يبيتون للإسلام الويلات، وتوشك حشودهم المعدة، وجنودهم المدربة، أن تسيل بها الصحراء. ونحن غارون ذاهلون .! ولكن ما جدوى صوت يضيع صداه بين أبواق السيارات المنطلقة، وضوضاء الجماهير الهائمة ..؟ وصحفنا؟ إنها تؤثر نشر صورة عارية على نشر غضبة محترقة لواعظ ذهب إلى "جنوب فلسطين" ثم عاد محنقا مما رأى !! لقد اتصلت بكبريات الصحف لأحدثها عن منطقة "غزة" وعن مجرى الأمور فيها، فلما لمست فى حديثى روح المسلم الذى ينظر إلى الأمور على ضوء القرآن والسنة، انصرفت عنى فى لطف أو فى عنف!. ولكنى جازم بأن هؤلاء الذين ينامون الآن فى ظلال الأوهام الوادعة، سيستيقظون قريبا على مس الحوادث الفاجعة . إن اليهودية قد قامت إلى جوارنا دينا ودولة، وهى ماضية فى خطتها التى نشأت عليها، تشعل جذوة العقيدة فى القلوب، لتحيط حكومة "إسرائيل" بسياج من الحديد والنار . . وقد آخت العقيدة "اليهودية" تحت علم "التوراة" بين الوافدين من اليمن والعراق، وبين الوافدين من ألمانيا وبولندا، فأصبحوا صفا واحدا يحركه هدف واحد . وقد نرى المشاة فى جيش إسرائيل من يهود الشرق، وبحارة الأسطول من فنلندا، وأستونيا، والطيارين من أمريكا وإنجلترا . ربط هؤلاء وأولئك ما وقر فى نفوسهم من أن اليهودية دين ودولة ..! فإذا جئت إلينا وجدت عجبا ! إن نصف الدين مهدوم فى المجتمع، لأن تعاليمه معزولة عن الحكم، ونصفه الآخر مهدوم فى القلوب، لأن الشهوات الرخيصة عصفت بمثله العليا عصفا . ص _252(1/246)
ولأمر ما- خفى علينا سره !- اعتبرت قضية فلسطين فى الميدان السياسى قضية العروبة وجامعتها. فتركيا وإيران تعترفان بإسرائيل رسميا، وتتمنيان لها الخير، وهما دولتان مسلمتان ؟، وفى الوقت الذى يلف العلم اليهودى- باسم الدين وحده- أتباع التوراة، من إفريقيا وأوروبا، تهون فيه آصرة الإسلام على كثير من الدول المنتمية للإسلام كما ترى . . ثم يجب أن نعلم وأن نعترف بأن العقيدة لا تهزمها إلا العقيدة، وأن التحلل الخلقى، والانهيار الاجتماعى، ليسا من وسائل النصر أبدا . إن انعطاف المسلمين الشديد إلى القرآن وتعاليمه وأحكامه . وترابطهم باسمه، ومصارحتهم العدو والصديق بهذه الحقيقة الواضحة هو وحده طريق التحول فى هذه الحرب بيننا وبين اليهود . وهى حرب لمسنا أن اليهود قد أعدوا لها أولا ففازوا فى جولتها الأولى، وكسبوا كثيرا جدا، وخسروا قليلا جدا، وانجلى غبار هذه الجولة، فإذا أهل فلسطين جميعا مشردون، وإذا الجامعة التى قامت باسم العرب، قد تراخت عقدتها، ووهن أمرها . واليهود يستعدون أوسع استعداد للجولة الثانية . ووالله ما يحز فى نفسى شىء مثل أن أرى الذين خاضوا المعركة أول الأمر لم يغيروا إلا قليلا- أو لم يغيروا شيئا- من أحوالهم النفسية والخلقية. وأن منزلة الدين الإسلامى- فى حرب دينية- لا ترضى مخلصا ولا عاقلا من أتباع هذا الدين . لقد علمت علم اليقين- بعد دراسة دقيقة- أن الضعف المعنوى لا المادى كان سبب الكارثة الأولى . وإنها لجريمة فى حق الإسلام، أن نسكت عن هذا البيان فى وقت يتهيأ فيه اليهود لمهاجمة بلادنا كرة أخرى ..!! ص _253(1/247)
خاتمة حسبى تدوين هذا القدر من الكتابات التى جرى بها القلم فى الأحداث الأخيرة . . إنها صورة لآرائى فيما أصابته الدعوة الإسلامية من نجاح، أو توقف، وسط الدعوات المدنية التى تزاحمها فى ديارها. وتحاول إزالتها، أو تسخيرها، أو تحويرها . . وقد رأيت أن أهمل بعض المقالات التى رددت بها عن نفسى يوم استصدار قرار بفصلى من هيئة الإخوان المسلمين . إن ميدان العمل لله ورسوله أرحب من أن يحتك فيه متنافسون وأسمى من أن يشتبك فيه متشاكسون . وقد كنت حريصا على الصمت الجميل يوم عرفت أنى سأعمل للإسلام وحدى . بيد أن أحدا من خلق الله اعترضنى ليقول لى: إن تكلمت قتلت (!) فكان ذلك التهديد هو الحافز الفذ على أن أتكلم وأطنب . إن اللفظة الرقيقة تطو عنقى فأستسلم، أما التحدى فإنه يهيج فى طبيعتى غرائز الخصام . وقد يرى القارئ فيما كتبته هنا، أو فيما كتبته من قبل، خطأ فى فكرة، أو جورا فى عاطفة، يجب ألا تغالى !! ليكن ذلك كله أو شىء منه . فهذه نفسى، وهذه صحائفى، وأرجو ألا أتملق إلا ربى، وألا أهتم لأحكام الناس.. على أنى أسلط أشعة الحق على نوع من الناس طالما أفاد من قلمى، ومن لسانى وطالما اقتبس من رأيى، ومن بيانى... ثم... ثم هو حرب على لا تنتهى، وذاك من تعاجيب الأيام ! إننى قد أعذر الذين كرهونى عن جهالة . أما الذين أبغضونى لغير الله . فجزاهم الله .. * * *(1/248)