في مرآة الشعر الإسلامي المعاصر
عبد القادر عبار
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم
مقدمة
(1)
من الحقائق التي لا يملك أحد طمسها و نكرانها- إذ هي أقوى من أن تطمس واظهر من أن تنكر- أن الإسلام منذ بواكير شروقه على العالم قد صبغ الحياة بصبغته التوحيدية البارزة وترك بصماته على كل شيء لمسه ووقع تحت تأثيره ? في النفس والمجتمع ... وفي الحياة والكون ... كما أن تأثير الانقلاب الجذري الذي صاحب الدعوة المحمّدية منذ إشراقه " اقرأ باسم ربّك الذي خلق" الأبجدية الأولى للعمل الإسلامي- لم يقف مدّه عند مساحة المفاهيم العقيدية والمسألة الاجتماعية والأعراف والخلق ... وإنما امتد قدما ليلمس أيضا الخطاب الثقافي السائد في المجتمع العربي حينذاك فيبعث فيه روحا إبداعيا جديدا.
(2)
وإذا كانت الظاهرة القرآنية قد شغلت- بإبداعية خطابها المؤثر وعمق مضامينها وجدّة أسلوبها- العرب عن قول الشعر والانبهار به وأخرست بإعجاز بيانها السنة الفحول عن النطق به فإن ذلك لا يعني أبدا كون الإسلام جاء ليحطّ من قيمة الشعر ويلغي دوره في الحياة ويعلم حربه على الشعراء ... وإنما الذي يجب أن يقر في الذهن- كما يقول الدكتور? يوسف خليف- هو أن القرآن قد اضعف من سيطرته ( أي الشعر) على المجتمع الأدبي الإسلامي بعد أن كان هو اللون الأساسي في الحياة الأدبية الجاهلية. وإذا كان لبيد بن ربيعة قد فكّر في أن يحطّم قيتارته - بعد أن اسلم وملك عليه الإسلام كيانه- فقد كان هناك غيره- مع دخولهم حظيرة الإيمان والإسلام- قد احتفظوا بقيثاراتهم دون أن يحطموها ... إن الرجّة الدينية والأدبية التي أثارها القرآن في نفوسهم وفي المجتمع الإسلامي من حولهم كادت تزلزل الأوتار في أيديهم وتجد الناس لا يجدون في فنّهم تلك المتعة الآسرة التي كان القدماء يجدونها في الشعر القديم. (1)
(3)(1/1)
وإذا كانت الآراء قد اختلفت حول تقييم الشعر الإسلامي- قديمه وحديثه- فمنها ما يلحّ على صفة الضعف فيه ومنها ما يجزم بقوّته وازدهاره... فنحن مع الرأي الذي يرى أن الشعر- في ظلال الحياة الإسلامية- قد شهد أزهى فترات تقدمه وإبداعه وذلك بما تهيأ له في المناخ الإسلامي من أسباب القوة والتقدم والنهوض ? كالمصداقية وحرية التعبير والالتزام المسؤول إذ يكفي أن نعرف أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يمّد شاعر الإسلام الأول حسّان بن ثابت رضي الله تعالى عنه- بالأسباب المشجعة على القول والإفصاح من مثل قوله له ?
" لندرك مدى المصداقية والمكانة التي يتبوؤها الشاعر- والشعر- في المجتمع الإسلامي".
(4)
وقد فهم الشعراء هذا الدور الذي أولاه لهم هذا الدين ووعوا أبعاده... فكرّسوا قرائحهم في خدمة الدعوة وشحذوها لتحصين القيم والمثل السامية وترشيد الحياة الإسلامية والتغني بجمال الكون وإبداع الخالق... والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر....
كما انهم وطّنوا أنفسهم على الالتزام بقضايا الأمة وترجمة هموم المسلمين والإفصاح الصادق عن المعاناة الإسلامية .... ونظرة منصفة للتراث الشعري القيّم الذي تمخّضت عنه القريحة الإسلامية تشهد بصدق ما نقول...
ولعل في مقالات هذا الكتاب بعض الشواهد التي تكشف بوضوح عن ثراء ديوان الشعر الإسلامي وتنوع موضوعاته وعمق مضامينه وصدق التزام الشعراء الإسلاميين برسالتهم الثقافية ودورهم في الحياة.
عبد القادر عبار
القوة والوضوح في الشعر الإسلامي
حول ظاهرة الرمز والوضوح في الشعر الحديث ...
يلاحظ القارئ في جل الكتابات الشعرية الحديثة- الشبابية منها خاصة- المبثوث منها في الدواوين والمبعثر في الجرائد والمجلات والنشرات يلاحظ أنها تتسم بالرمزية المفرطة أحيانا والمحتشمة أحيانا أخرى.(1/2)
وكتاّب الشعر- حسب رأيي ولا أقول الشعراء- عندما يصرون على انتهاج هذا المنحى في انتهاجهم يحدثون- علموا أم لم يعلموا- فجوة عميقة بين الجمهور وكتاباتهم. فكم من عاشق للقوافي يمني النفس بقراءة لديوان ما ثم لا يلبث أن يجد نفسه مرغما على طرح ذلك الديوان جانبا نتيجة الملل السريع الحاصل من عدم فهم أي معنى للكلمات المرصوفة بتكلّف بليد وعدم تحسس أي تسلسل فني عفوي للجمل الشعرية المهندسة وفق بناء فوضوي للقصيد وكذلك عدم الفوز بأي نغم شعري هفهاف يروّح عن الخاطر وينعم الوجدان رغم ما يبذل القارئ من جهد ومصابرة.
ويعجبني تعليق للشيخ محمد الغزالي في صراحته العفوية ? " .... وإذا كان الأدب مرآة أمة ودقات قلبها فإن المتفرّس في أدب هذه الأيام العجاف لا يرى فيه بتة ملامح الإسلام ولا العروبة ولا أشواق أمة تكافح عن رسالتها وسياستها الوطنية وثقافتها الذاتية ... ما الذي يراه في صحائف هذا الأدب؟ لا شيء إلا انعدام الأصل وانعدام الهدف والتسوّل من شتى الموائد الأجنبية وحيرة اللقيط الذي لا أبوة له . والشعر ؟ لا موضوع له ... وإذا لمحت عيني ما يسمى بالشعر المنثور تجاوزته على عجل. لأني من طول ما بلوته يئست أن أجد فيه معنى جادا أو شعورا صادقا أو فكرة واضحة ... " (2)
شواهد ...
ولن اذهب بك بعيدا فأمامي الآن نموذجان شاهدان أولهما من المغرب العربي وثانيهما? من المشرق.
هذا المقطع الأول من قصيدة بعنوان ? أنت انت عروس البر والبحر- جاء فيه ?
" ت . ش . م .
تتشمسين في القيلولة يبلّلك العطش
تفلتين من اللفح.. تهربين من النعاس.. تغالبين الإغماء..
ترشين الوجه بماء الزهر
تدخلين في الظل
تحملين الوزر على الظهر..تختفين في الشعاب..
يجرّب الوطن في أبعاد عينيك دفء الولوج
وحفيف الانسياب " (3)
وهذا مقطع من قصيدة بعنوان ? " محاولة في تأويل عيني حبيبتي " ?
" آخذ قبلة عينيك واقرأ ?
خيزران ويعافير وبقل ونخيل أنثوي
ومهاتان وينبوع ورمل(1/3)
وغزال يستحم
آخذا كنت و أكتب ?
سيسبان فرعوني وغيد يتهادين
وولدان ينادون ?تعالين إلينا
ومواعيد هوى تمّت ? وأخرى ستتم " (4)
فهل بمثل هذا الكلام الذي يدعي أصحابه مصرّين على أنه شعر(؟؟)يمكن تبليغ قضية ما إلى الجمهور لتحريك عواطفه وكسب تأييده ونصرته ؟ وهل بمثل هذه الرمزية المبهمة التي لا يكاد يفهمها حتى أصحابها يفرض الشعر سلطانه على الوجدان؟ والجواب كما جاء على لسان الشاعر كمال رشيد ?
وكما يموت الصديق في زمني مات القصيد ولامس الوحلا
تجري الأمور كما لو انطفأت عين البصيرة ورأيه اعتلاّ
إلا أن أمانة البحث وموضوعية التحليل تفرض علينا أن نبحث عن الأسباب الكامنة وراء هذه الظاهرة . فنجد أن هناك أسباب ذاتية وأخرى خارجية ?
الأسباب الذاتية ...
ونرجعها أساسا إلى ?
* هزال الثقافة الشعرية المتينة والأصيلة والواسعة لدى الشاعر.
* عجز فني مفاده الضعف التكاملي لدى الفنان الذي ستتحول المعاني على يديه إلى سحب ضبابية وممارسات غيبية لا يعرف حتى قلبه معناها. (5)
الأسباب الخارجية ...
من يتابع شعراء الغموض يجد أن معظمهم أبتدأ"كلاسيكيا" ثم مال إلى الحداثة والتجديد فالغموض بالنسبة لهم لا يعدو أن يكون مسايرة للموضة الجديدة وتقليدا لثورات شكلية في أدب الغرب . وهذا ما يبرر سقوط العديد من شعراء الغموض والتجديد على دروب الحداثة الأصيلة التي يجب أن تنبع من واقع عربي إسلامي وليس مجاراة لصراعات غربية لا تمت لواقعنا بأي صلة. (6).
ثم هناك عوامل الواقع الموضوعي المعاش الذي يرتكس فيه الشاعر والمتسم عموما بالتخلف الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والتسلط السياسي .. هذه العوامل تصطدم بحساسية الفنان فتجبره على اللجوء إلى الرمز والإيحاء هروبا من المباشرة.
وههنا أقف لأطرح سؤالا يشكل صلب البحث ? هل سلك الشعراء الإسلاميون هذا المنحى في كتاباتهم ؟(1/4)
ميزة الشعر الإسلامي ... لقد تميز الشعر الإسلامي منذ العهود الأولى بسمو الموضوعات التي عالجها ونبل الغاية التي قصد إليها ? فموضوعاته هي الإسلام ودعوته. وغايته إخراج الناس من الظلمات إلى النور ومن ضيق الكفر إلى سعة الإسلام (7).
وكان الشعر عبر رحلته الإسلامية يقود معارك الحرية ضد الاحتلال الأجنبي ويوقد نيران الحماس في الجماهير التي تنطلق بين الحين والحين لتدافع عن وجودها المادي والأدبي.(8).
ولا ننسى هنا شهادة العلامة بن خلدون في مقدمته الرائعة حول الشعر الإسلامي عموما حيث يقول? " إن كلام الإسلاميين من العرب أعلى طبقة في البلاغة وأذواقها من كلام الجاهليين في منثورهم ومنظومهم ... والسبب في ذلك أن هؤلاء الذين أدركوا الإسلام سمعوا الطبقة العالية من الكلام من القرآن والحديث اللذين عجز البشر عن الإتيان بمثلهما فنهضت طباعهم وارتقت ملكاتهم في البلاغة على ملكات من قبلهم من أهل الجاهلية ممن لم يسمع هذه الطبقة ولا نشأ عليها. فكان كلامهم في نظمهم ومنثورهم احسن ديباجة وأصفى رونقا من أولئك وارصف مبنى واعدل تثقيفا بما استفادوه من الكلام العالي."
القوة والوضوح في الشعر الإسلامي ...
إن المتصفح للشعر الإسلامي القديم منه والحديث يلمس فيه القوة والوضوح في المبنى والمعنى ... بعيدا عن كل إبهام وغموض وذلك راجع- في تقديري- إلى اعتبارين ?
كونه ? من باب العمل الصالح
ذلك أن الذين رضوا الحق والصدق بتبنيهم الفكرة الإسلامية لم يرضوا أبدا أن يغطوا أفكارهم أو يصبغوا أشعارهم برمزية معقدة بل اتخذوا الوضوح منهاجا في كل ما يكتبون يقينا منهم أن ما يفعلونه هو من "العبادة" ومن باب العمل الصالح الذي يتقربون به إلى الله مولاهم الحق. والعبادة في إسلامنا الحنيف- كما نعلم- بعيدة عن الطلاسم والرموز والتعقيد بل هي في غاية الوضوح والجلاء.(1/5)
والشعراء الإسلاميون- من هذا المنطلق- هم الذين يحيون تحت مظلة الاستثناء في القرآن الكريم ? "... إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا..." ( الشعراء 227)
ولنا في أقوال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم لحسّان بن ثابت شاعر الإسلام الأول الأسوة الحسنة ? "نافح عنا وروح القدس يؤيدك " " اهجم وجبريل معك" (9) .
كونه ? دعوة ...
لقد اهتمت الدعوة الإسلامية منذ أيامها الأولى بالشعر والشعراء و أحلّ الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم الشعراء مكانا بارزا في الإعلام الإسلامي فأدّى الشعراء الرسالة التي أنيطت بهم وتصدوا لشعراء المعسكرات المناوئة للدعوة آنذاك ?للمشركين واليهود والمنافقين فأبطلوا باطلهم وردوا افتراءهم ووفّقوا في ذلك التوفيق كله. (10).
وقد واكب الشعر الإسلامي مراحل الفتوحات والحرب والجهاد منذ بدايتها وعاش معها في كل مراحلها وتطوراتها المختلفة وحمل الشعراء على عواتقهم عبء الدعوة ومقاومة المحتلين وتوحيد الجهود الإسلامية المشتتة (11).
وكذلك استمر شعراء الإسلام على مر العصور هداة وجنودا حماة يرفعون صوتهم بالدعوة إلى الله ويرمون بشعرهم أعداء الإسلام (12). وكيف لا يفعلون والرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يقول ? "ما يمنع القوم الذين نصروا رسول الله بسلاحهم أن ينصروه بألسنتهم" .
ومن هنا أصر الشعراء الإسلاميون على أن يكون شعرهم قذائف حقّ تطيح بالأعداء ودعوة ناصعة تبلغ إلى الجماهير العريضة على مختلف مستوياتها وأصواتا تسمع وألحانا تفهم دون ترجمان . وهذا لا يمكن أن يتيسر إلا متى كانت نفثات الشاعر واضحة المعنى قوية المبنى موسيقية النفس.
وعموما فالشعر الدعوي في معظمه كان صادرا عن عاطفة جياشة ودافع إيماني ولهذا كان طبيعيا أن يفرغ الشعراء مضمون قصائدهم في صور فنية جميلة تبرز روعة المعاني وتصوغ الأفكار صياغة محسوسة دقيقة (13).(1/6)
وسأستعرض نماذج من الشعر الإسلامي الحديث تبيانا لما أوضحنا.
نماذج من الشعر الإسلامي الحديث ...
فهذا الشاعر جمال فوزي وهو في غياهب السجن يعلن للعالمين عن منهجه في الحياة ?
سأظلّ حراّ ما حييت مندّدا بالبطش بالجبروت والطغيان
روحي على كفّي فداء عقيدة في ظلّها الوافي اتخذت مكاني
ويظلّ صوتي ما حييت مجلجلا ذوق المهانة ليس في إمكاني (14)
وهذا الشاعر احمد فرح يرسم خيوط الهزيمة وينبش عن أسباب الارتكاس ?
لهفي على العرب أعلاما ممزقة وراءها كل طبّال و زمّار
تقسّمتنا شعارات يروّجها في شعبنا كل طاغوت وغدّار
و صوّروه عدوا متّهما وسلّطوا كل هتّاف و ثرثار
إن الشعوب إذا ضلّت حقيقتها أمسى بها العبد نخّاسا لأحرار
والجيش من دون إيمان ومعتقد ظأن يساق إلى حانوت جزّار (15).
وهذا الشاعر محمد محمود الزبيري قد تغلغلت في أعماقه هموم شعب مهدد بالإعدام والتمزق وجرحته مأساة الجماهير المحطمة تحت سندان الظلم والبغي فلم يهنأ حتى صرخ مزمجرا كالليث بصوت مدوّ مفهوم لا التواء في كلماته ولا غموض في معانيه ?
علت بروحي هموم الشعب وارتفعت بها إلى فوق ما كنت ابغيه
وخوّلتني الملايين التي قتلت حق القصاص على الجلاّد أمضيه
أحارب الظلم مهما كان طابعه البرّاق أو كيفما كانت أساميه
سيّان من جاء باسم الشعب يظلمه أو جاء من- لندن- بالبغي يبغيه (16).
وبعد...
إن الشاعر الذي يعيش قضايا أمته ويتخذ من الكلمة الشاعرة سلاحه في الميدان ?يحمي بها عقيدته ويلوذ بها عن دعوته يتحتّم عليه الابتعاد عن أي طلسم أو غموض حتى تكون كلمته حيّة نابضة فاعلة ومؤثّرة ذلك أن الكلمة الغامضة والمبهمة هي- في تقديري- كلمة ميتة لا حسّ لها إذ حياة الكلمة بمدى تأثيرها وصدقها وشفافيتها وتغلغلها العفوي في الرأي العام.(1/7)
ومن هنا أعيب على الشعر الفلسطيني المشبع بالرمز المعقّد والغموض الجامح توخّيه هذا المنحى فأولى بشعراء القضية- أي قضية- أن تكون كتاباتهم متسمة بالقوة والوضوح والشفافية.. إذا أرادوا من كلماتهم أن تكون رسلا وقذائف.
هموم المسلمين في الشعر الإسلامي المعاصر
كثيرة هي هموم المسلمين في هذا العصر.. ومتشعّبة ومحزنة ... ولا أخال مسلما صادق الإيمان صالح القلب مهتما بأمر المسلمين- ومن لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم - ... ينفي عن نفسه الإحساس بضغط هذه الهموم على شعوره ووجدانه.
وإذا كان التاريخ- وهو وعاء الأحداث والتجارب- يحدثنا? انه لا تكاد تخلو سجلات عصر من العصور المنصرمة دون تسجيل اضطهادات في صفوف المسلمين وجراحات وآلام قد تحملها الجسد الإسلامي وقاسى من ويلاتها ...
فإن هذا العصر- رغم الشعارات الحضارية البراقة التي يرفعها ? كاحترام الحريات وحقوق الإنسان والإخاء البشري والسلام العالمي والديمقراطية - قد فاضت دفاتره بما سجلت من معاناة أمة الإسلام دون غيرها من أمم الأرض وما يلقاه اتباع عقيدة التوحيد وأحباب محمد صلى الله عليه وسلم من التنكيل والتآمر ومن سموم مخططات الإفناء الأدبي والمادي ومن الاستفزاز الحضاري بوجهيه ? الثقافي والتقني ... على طول خارطة الوجود الإسلامي.
ذلك أن القوى العالمية الغاضبة والحاقدة في صميمها على دعوة الحق قد رمت المسلمين عن قوس واحدة وكالبتهم من كل جانب حتى أصبح تدمير الإسلام وتصفية أهله هدفا استراتيجيا في سياسة اليمين واليسار تخطط له أمريكا كما تخطط له روسيا إذ ليست الرأسمالية بأرحم بالمسلمين من الشيوعية ولا أتباع بوذا وعبّاد البقر بأشفق عليهم من عبّاد الصليب وأولاد الأفاعي.(1/8)
فكل ملل الكفر والإلحاد والشرك رغم التناقضات الصارخة بينها والصراعات الموهومة الحاصلة بين صفوفها... فهي تلتقي يدا واحدة وفكرا واحدا وصفا واحدا عند الكيد للإسلام والتآمر على أنصاره وهذه حقيقة لم تغب ولن تغيب عن وعي الإسلاميين ما لم تفتر علاقتهم بكتاب الله الخالد وما لم يتلبّد فهمهم لمحكم آياته وصريح توجيهاته? ذلك أن القرآن الكريم قد نبّههم إلى استمرارية الكيد العالمي لأصحاب الحق والى ضراوة التآمر الدولي على المؤمنين الصادقين .. قال تعالى (( ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردّوكم عن دينكم إن استطاعوا )) ( البقرة 217) وهذا التقرير الصادق من العليم الخبير كما يقول سيد قطب رحمه الله - ?
" ... يكشف الإصرار الخبيث على الشر وعلى فتنة المسلمين عن دينهم بوصفها الهدف الثابت المستقر لأعدائهم وهو الهدف الذي لا يتغير لأعداء الجماعة الإسلامية في كل ارض وفي كل جيل ... وتتنوع وسائل قتال هؤلاء الأعداء للمسلمين وأدواته ولكن الهدف يظل ثابتا ? أن يردوا المسلمين الصادقين عن دينهم إن استطاعوا وكلما انكسر في يدهم سلاح اتخذوا سلاحا غيره وكلما كلّت في أيديهم أداة شحذوا غيرها ... والخبر الصادق من العليم الخبير قائم يحذر الجماعة المسلمة من الاستسلام ... " (17) .
موقف الشعر الإسلامي المعاصر من معاناة الأمة
إذا كانت هناك مرآة- في وقنتا الحاضر على الأقل- تعكس بصدق هذه الهموم وتعبر بعمق عن مشاعر هذه الأمة وأحاسيسها وتجلو أحزانها وترسم بواقعية مبدعة ملامح معاناة ملايين المسلمين واهتماماتهم وطموحاتهم ... فلن تكون هذه المرآة غير الشعر الإسلامي الملتزم ? ذلك أن لهذا الشعر رسالة تملي عليه خدمة الإسلام والذود عن حمى عقيدته والإفصاح عن هموم المسلمين حيثما كانوا ... وهو متى تخلّى عن هذه المهمة وفاته أن يكون سلاحا من أسلحة الدعوة ومنبرا من منابرها ... فهو باطل من القول وزور.
ما هو المطلوب من الشاعر الإسلامي ؟(1/9)
إن المطلوب من الشاعر الإسلامي المعاصر هو أن يشارك في رسم صورة لحياة المسلمين بكل ما تحويه هذه الحياة من آمال وطموحات وآلام وأفراح وأحزان وهجرة وجهاد ونصر وفتح وسيادة وتمكين ... وهذا ليس تكليفا عصريا جديدا بقدر ما هو استئناف لرسالته الشعرية الخالدة منذ فجر العصر الإسلامي الأول وعلى طول مسار الدعوة المباركة ? ذلك أن من ميزة الشعر الملتزم- والشعر الإسلامي هو الذي اعنيه في هذا المقام- كان ولا يزال دائم الحضور في المحن والملمات.. في الكرّ والفرّ..في المنشط والمكره ... حتى لكأنه - في حسي - ? ذلك القمر الاصطناعي الاستكشافي الذي يلتقط بعدساته الحساسة كل سكينة وحركة كل دمعة وابتسامة ... بل كل مدّ وجزر في حياة الأمة وهذا ما يجعل منظومات الشعراء الإسلاميين وقوافيهم تتسم بالشفافية والصدق والواقعية.
فلننظر إذن في وجه هذه المرآة . ولنتأمل صفحتها النابضة والمفعمة بالصور الحية والرسوم الناطقة والمشاهد المعبرة ولنعش بعض الوقت في ظلال القافية المجاهدة والكلمة الداعية نستوحي منها بعض ملامح هموم أمتنا الإسلامية ومعاناتها.
الشعر الإسلامي ... وهموم العقيدة والدعوة.(1/10)
إذا كان لكل عقيدة من عقائد العصر شعرها وأدبها وفنّها وإعلامها الذي يعمل على نشرها والتعريف بها والدفاع عنها ... فهل يعاب على الإسلام وهو الدين الحق والخالد والمهيمن أن يكون له شعراء يدافعون عنه ويجاهدون بالكلمة الصادقة القوية ويتغنون بمحاسنه ويمجدون فضائله ... ويترجمون هموم أهله واتباعه ويرسمون بالقافية النابضة معاناتهم وآمالهم ؟؟ ... خاصة إذا علمنا بأن نموّ العقائد المعاصرة وتكاثر المنهجيات وتراكم الأيدلوجيات في هذا العصر إنما جاءت بغرض التضييق على عقيدتنا ومحاصرة إسلامنا وتشويه واستفزاز أنصاره وطرحها- أي هذه العقائد - ... كبدائل حضارية عصرية أمام الناس وأمام أبناء المسلمين خصوصا حتى يتركوا دين آبائهم الخالد وينسلخوا من أصالتهم ويعقّوا عقيدتهم السمحة الخالصة تحت غطاء الشعارات الفخمة المزيفة والتبريرات الواهية.
فتارة يستفزهم عواء الملحد ولسان حاله يقول ?
دولة الإلحاد معبودي وأمي وأبي
وزعيمي ماركس عقل عظيم المأرب
بطل أحيا عصور الغاب في ذي الحقب
أنكر الله و لم يؤمن بدين أو نبي
إن في مبدئه تأمنوا فيه شرور النّوب (18)
وطورا يعكّر صفاء ساحتهم ? صفير جاهلي يهمهم ?
هذه قوميتي ? ديني وأهدافي السنيّة
إنها فلسفة تصنع للشعب رقيّه
فانصروها تبلغوا الغاية من كل قضية
ويتّحد الإلحاد الماركسي مع الصفير الجاهلي ليثيروا إعصارا وقحا يعصف بالمسلمين في محاولة لإحباط حركة الدعوة وتشويه نضارة البديل الإسلامي ?
لو أقاموا دولة الإسلام مات الناس جوعا
حرّموا الخمرة والرّشوة والفنّ الرفيعا
كيف نجني بعدها الربح ؟ ألا ماتوا جميعا (19)
وهنا يأتي دور الشاعر الإسلامي الذي لا يرضيه هذا التحدي الماجن... فيبادر بترجمة غضب الرأي العام الإسلامي ورفضه لمثل هذا الاستفزاز الحاقد ?
تارة بحدّة الثائر لكرامته المعتزّ بدينه ?
يا دعوة الحقّ سيري رغم أنفهم وجلجلي في الورى فخرا وإيمانا(1/11)
لن نستكين لمغرور يحاربنا مهما تطاول إلحادا و نكرانا(20)
وتارة وفق التوجيه القرآني ? (( بالحكمة والموعظة الحسنة)) ?
أيها الناس أجيبوا دعوة الحق المبين
إنها دعوة إيمان برب العالمين
شرعت ما يسعد الإنسان في دنيا ودين
أطلقت فيه قوى الخير وروح الطامحين
ارجعوا لله للحق ... وكونوا مسلمين (21)
... ثم بلهجة المتحدّي الواثق ?
قالوا? العروبة. قلت ? دين محمد إنّا به لا بالعروبة نهتدي
هي قالب الإسلام إمّا أفرغت منه فقد صارت مطيّة ملحد
يا من يريد الجاهلية منهجا يدعو إليه ويا لسوء المورد
أيقال إنّك نابه متقدّم كذبوا عليك ... لقد نصحتك فاقعد
بل أنت في رجعية مذمومة وتقهقر نحو المتاه الأبعد (22)
ثم يلتفت الشاعر إلى الدعوة ليجدد لها وفاء الأنصار على العهد وبقائهم على الود وإصرارهم على النصرة وإفرادها بالولاء ?
يا دعوة الحق إنّا لا نزال على درب العقيدة لم نحجم ولم نخب
نغدو على ساحة الإسلام عن ثقة ولو صلبنا على الأعواد والقصب(23)
وهذا الجزم والإصرار والثبات على المبدأ قد كلّف المؤمنين الصادقين ثمنا باهظا وذاقوا في سبيله شتّى ألوان التنكيل والتآمر ... بل قد مسّهم البأساء والضرّاء من أعدائهم بمجرد إعلان الانتماء الواعي للإسلام.
نجد هذا في شكوى الشاعر المسلم الذي يرسم في هذه الأبيات النابضة الصارخة معاناة ملايين المسلمين الذين زجّ بهم في السجون وذاقوا ألوانا من العذاب البربري الحاقد لا لشيء إلا لأنهم اختاروا الإسلام عقيدة ومنهاجا ?
الهي قد غدوت هنا سجينا لأني انشد الإسلام دينا
وحولي اخوة بالحق نادوا أراهم بالقيود مكبّلينا
فطورا مزّقوا الأجسام منّا وطورا بالسّياط معذّبينا(24)
هكذا يتضح لنا من خلال ما عرضنا من أمثلة مختارة ومختصرة بأن هموم العقيدة قد تبوأت مكانا بارزا في الشعر الإسلامي المعاصر وأولاها الشاعر المسلم اهتماما رئيسا لائقا بمقامها حتى جعل الروح لها فداء ?(1/12)
روحي على كفّي فداء عقيدة في ظلّها الوافي اتخذت مكاني (25)
الشعر الإسلامي .... وهموم الأرض المحتلة
إن هموم الأرض المحتلة سواء أكانت هذه الأرض فلسطين أو لبنان أو أفغانستان أو غيرها من التراب الإسلامي الممتد شرقا وغربا ... وما تحويه من تشريد وتقتيل وتدمير وجراح وآلام ودماء وجوع وعطش وفقر وحرمان ... لم تهملها القريحة الإسلامية ولم تسقطها من اهتماماتها فقد رسمتها ريشة الألم وصورت عذاب اليتامى ودموع الثكالى وغصص المشردين وشكاوى المظلومين المهجّرين من ديارهم وأوطانهم ?
كل ما أدريه أني ذات ليلة
كان لي طفل صغير ... ذبحوه
كان لي بيت جميل ... دمّروه
وخرجنا ...
وعبرنا النهر في جنح الظلام ...
ونساء الحي تمضي ذاهله ...
تتهاوى كالورود الذابله
ومتاعي ذكريات حائله (26)
كما ترجمت في الوقت نفسه معاناة الأمهات المسلمات في الأرض المغصوبة ? ذلك أن المتمعّن في صفحات الشعر الإسلامي المعاصر يجد لوحات حية تنبض بالصدق والشاعرية في رسمها لخلجات الأمومة المكابدة وتصويرها لكثير من أشكال معاناتها وآلامها ? فكم من أم مؤمنة سهرت على تربية وليدها ومنحته كل عطفها الصادق وحنانها الواعي وأولته رعايتها الحانية من أجل أن يشبّ مؤمنا مسلما ملتزما مجاهدا فتساهم به في تعزيز الصف الإسلامي وتقوية كتائب الإيمان ?
حملته في أحشائها ربّته في أحضانها
ودعت اله الكون أن يرعاه من أعماقها ...
وتفتّحت آفاقه ... وتحققت آمالها (27)
ولكن ما إن تحلو الحياة في عين مثل هذه الأم ? إذ ترى الأمل يزهر وثمرة الرعاية تنضج والرجاء يتحقق ... حتى تمتد يد البغي وقحة لتخطف الأمل الزاهر من أمام العين التي طالما سهرت على رعايته وحمايته لترمي به في زنزانات الظلام ومقابر العذاب ?
... وانقضّ أعوان الطغاة يكبّلون حبيبها
... وطوته جدران السجون لكي يرى أهوالها
كم مزّقته سياطهم وتلقّفته كلابها ... (28)(1/13)
وفي الزاوية المقابلة ? ارتعاشة الأمومة ولوعة القلب الحاني في الأم الواجمة وهي ترى فلذة كبدها تنهشه الظلمة وتنغرس فيه أظافر البغي والعدوان فماذا يمون جوابها يا ترى ?
صرخت وقالت ? ويحكم
ماذا جنى أطهارها ؟
همّت بلثم جبينه
فيزدّها أشرارها (29)
إنها هموم آلاف الأمهات المسلمات في فلسطين ولبنان وأفغانستان ? ... إنها معاناة الأمومة الصادقة المفجوعة في أكبادها والملوعة في أحبابها تترجمها القوافي الغاضبة والكلمات النابضة بالألم والاحتجاج ... والتحدّي ...
وإذا كانت القرارات الدولية الصادرة عن الأمم المتحدة أو القوى العالمية الأخرى تحت الضغط الصهيوني ومن خلال تأثير الجذور الصهيونية والصليبية الممتدّة في مؤسساتها وهياكلها تصرح - بين الحين والآخر- بحقّ اليهود في فلسطين ... فإن ما يؤمن به المسلمون أنه لا مكان لليهود في أرضهم مهما كانت الدعاوي والشكاوي والأضاليل ... وهذا لا يفصح عنه الخطاب السياسي المعلن في المحافل الدولية ولكن الشاعر الإسلامي الملتزم يترجم بشعره هذا الإيمان ويصدع بهذا اليقين ?
أمّا اليهود فليس في أرضي مكان لليهود
وليعطهم بلفور من إنجلترا بدل الوعود
وبذكر بلفور أقول لكل ذي كرم و جود
أنا ما رأيت كمثل بلفور صفيقا في الوجود
يعطي اللصوص على هواه من الوعود بلا حدود
وبرغم ذلك فما البليّة عند بلفور الحقود
بل عند من يتجاهلون بأنها أرض الجدود ...(30)
وبالمناسبة نقف هنا لنسأل متى استطاع المقص الصهيوني والصليبي أن يقضم أطرافا من الجسد الإسلامي ؟ ... هل عندما " احتمينا بالنصوص جاء اللصوص " كما أكّد على ذلك جهرة على مسامع المسلمين ودون حياء من يسمونه بشاعر الأرض المحتلّة ؟؟ ... أم أن المخلب الصهيوني توغّل في أرضنا الإسلامية عندما تخلّينا عن النصوص ? قرآنا وسنّة وتلبّد فهم الرأي العام لصريح الأمر والنهي فيهما وتهنا بين عقائد الشرق والغرب ؟؟
إن لدى الشاعر الإسلامي الجواب الفصل ?(1/14)
فلسطين ضاعت يوم ضاعت عقيدة وبات فساد الحال اقبح مقتنى
أيجحد دين العرب سؤددا وينقض ما شاد النبي وما بنى ؟؟
ليرضى علينا الغرب حينا ويحتفي بنا الشرق أحيانا ... ونفقد ذاتنا
و ما زادنا هذا التذبذب عزّة ولكن حصدنا دونه الشوك والعنا .. (31)
بينما- وهذا يشهد به التاريخ - يوم كنا على ميراث الدعوة محتمين بالنصوص ومقتفين آثار الصالحين ومتخذين القرآن دستورا والله غاية ومحمد صلى الله عليه وسلم أسوة وقائدا ... يومها حزنا المجد كله والنصر كله ... ?
حين كنّا ...
نتغذّى من عقول الفضلاء
وتربّينا شريفات النساء
آلت الأرض إلينا ...
والسّماء
اشرق النور فينا ...
وتباهينا ...
بجيل العظماء
***
وسقطنا ...
إذ رضعنا كلمات الآخرين
وطعمنا من فتات الغالبين
أوهمونا
أننا نطفو
بإغراق السّفين
أننا نحيا
بدفن السّابقين
فتسابقنا
لسبّ العلماء
وتندّرنا بقول الأنبياء... (32)
وبعد ...
هذه إذن بعض الهموم الإسلامية المعاصرة التي شغلت مساحة محترمة من شعر الإسلاميين وأولاها هؤلاء اهتماما خاصا فجاء تصويرها إبداعيا واقعيا شفافا يأخذ القلوب وينم عم صدق الإحساس وعمق الشاعرية.
ثم إن هموم العقيدة والدعوة وهموم الأرض المحتلة ليست هي كل ما تمخّضت عنه معاناة الأمة الإسلامية في عصرنا الحاضر ... بل هناك هموم أخرى لا تقل أهمية قد ترجمها الشاعر المسلم في قوافيه ورسم ظلالها في منظوماته كالهموم الثقافية والهموم السياسية والهموم الاجتماعية ... وهي موجودة في مكانها من الدواوين والمجلات.
وما هذا الذي نقدمه هنا إلا إضاءة على الطريق ... ويوما بعد يوم سنشهد للشعر الإسلامي صولات وجولات ... في ميادين الجهاد ... وكلّما تمرّس في العطاء .. وتقدّمت به الخبرة والمعاناة ... واستكمل أدواته ... انطلق في آفاق أوسع من المعاني والأخيلة وعمق التعبير ... وارتفع إلى مستوى الأحداث بصدق وجدارة.
أسباب السقوط وشروط النهضة في مرآة الشعر الإسلامي المعاصر(1/15)
لقد كان الشاعر المسلم ولا يزال منذ بواكير الفتح الإسلامي المبارك ملتزما التزاما واعيا وصادقا بقضايا أمته ومسخّرا- في إطار هذا الالتزام وتحقيقا لدوره ورسالته في المجتمع - كل مواهبه وإبداعاته.
ذلك أنه منذ أن رسم شاعر الإسلام الأول حسّان بن ثابت رضي الله تعالى عنه مستنيرا ومسترشدا بالتوجيه النبوي الشريف معالم رسالة الشعر الإسلامي ومهمّة الشاعر المؤمن والرسالي في الحياة ودوره في المجتمع ... ظلّ الشعراء المسلمون أوفياء لهذا الدور وملتزمين بهذه الرسالة ? فكانت مشاركتهم في ترشيد المجتمع الإسلامي وتحصين الحياة الإسلامية ... صادقة وواعية وفاعلة.
شعراؤنا المعاصرون ... وواقع العالم الإسلامي
إن المتأمل بعمق في واقع العالم الإسلامي المعاصر- والعالم العربي جزء منه- يحزنه ما يرى من أسباب السقوط ومظاهر التخلف السائد في شتى المجالات الحياتية ? السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية ... ويؤسفه ما يلاحظ من غياب المشاركة الإسلامية في مختلف مناحي الإبداعات الحضارية الحديثة العلمية منها والتقنية والفكرية ...
وتزداد وطأة هذا الإحساس بسوء هذا الحال لدى الشاعر المسلم بحكم وعيه ورقّة شعوره إذ تصطدم بتلك الصورة الرائعة التي يحتفظ بها في أعماق فكره ووجدانه عن الإسلام والمسلمين حتى أن الشاعر محمود مفلح تتملكه الحيرة مما يرى من تناقض بين انتماء هذه الأمة وبين واقعها الحاضر ?
ما هم بأمة أحمد ... لا والذي فطر السماءا
ما هم بأمة خير خلق الله بدعا و انتهاءا
ما هم بأمة سيدي ... حاشا.. فليسوا الاكفياءا
ما هم بأمة على الأفلاك قد ركزوا اللواءا
من حطّم الأصنام من أرسى العدالة والاخاءا
من قال أن الله رب ّ الناس خالقهم سواءا
لا فضل إلا للصلاح فلا انتساب و لا ادعاءا(33)
كما يعجّ الأسى بأعماق شاعرنا محمود غنيم ويعصره الأليم كلما جال ببصره في أرجاء العالم الإسلامي ?(1/16)
ويح العروبة كان الكون مسرحها فأصبحت تتوارى في زواياه
أنّى اتجهت إلى الإسلام في بلد تجده كالطير مقصوصا جناحاه
كم صرّفتنا يد كنّا نصرّفها وبات يحكمنا شعب ملكناه (34)
كما يتساءل الشاعر الملهم محمود صيام بمرارة عن الأسباب التي اختصّت امتنا دون سواها بالمعاناة والسقوط ?
فما لهذا الزمان اختصّ امتنا بالحادثات و غطّتها بلاويه ؟
وما لها ما رأت من قبله زمنا نكراء أيامه سوء لياليه
أمن قليل عتاد أم ترى سبب غير العتاده تعاني من تفشّيه (35)
ويبقى أن نسأل الآن عن موقف الشاعر الإسلامي الملتزم من هذا الواقع ?
* هل كان بكائيا هروبيّا ؟
* أم كان موقفا نقديا بنّاء ؟
في الحقيقة إن موقف الشعر الإسلامي المعاصر من الواقع الإسلامي من خلال استقرائنا لمختلف الدواوين الشعرية لم يكن انهزاميّا بل كان نقديا فاعلا ? فقد سطّر الشاعر المسلم أسباب السقوط وكشف عن علل التخلّف وعرّى عن مكامن الانحطاط كما رسم في نفس الوقت شروط نهضة أمته وانبعاثها . وكان في كلتا الحالتين موضوعيا لم يجنح به خيال الشعراء ولم تبطره مثالية الفلاسفة.
* فماهي أسباب السقوط وشروط الانبعاث ؟
1) أسباب السقوط كما يراها الشاعر ....
إذا كانت أدبيات التغريبيّين في تحليلها لواقع العالم العربي والإسلامي ومعاينتها لأسباب التخلف عوامل الانحطاط تحصر الاتّهام في "الدين والتراث" ? إذ ترى في تمسّك الأمة بدينها وحرصها على تحكيمه في شؤون حياتها ضربا من "الرجعية" المعيقة للتقّدم والتجديد كما ترى في حرص المسلمين على الاقتفاء الواعي المبصر لأثر السلف الصالح والاسترشاد بالماضي ... قفزا على الواقع وإلغاء لمفهوم الزمن وإنكارا لعوامل التغيير والتطور في المجتمع الإسلامي وإرادة الوقوف عند نموذج واحد من النماذج التطبيقية للإسلام وهو نموذج مجتمع الصحابة والسلف الصالح ...(1/17)
وإذا كان الخطاب السياسي للأنظمة الحاكمة يركّز في تحليله لهذه الأسباب على عامل الاستعمار الذي ابتليت به الأمة ردحا من الزمن ...
فإن الشاعر المسلم نجده يتجاوز هذه التفسيرات التبريرية والسطحية ليرسم بكل صدق وموضوعية وشجاعة الأسباب الحقيقية العميقة التي ساهمت ولا تزال تساهم في تعميق التخلف في ربوع العالم الإسلامي ?
فهو لا ينفي دور الغرب المستعمر في دعمه لكل ما يساعد على تخلف المسلمين وسقوطهم سواء عن طريق استعماره المباشر عسكريا وثقافيا أم عن طريق زرع الجرثومة الصهيونية في الجسد الإسلامي ... وقد صدع الشاعر المسلم مبكّرا بهذا محذّرا أولي الأمر وأصحاب القرار ?
يا قادة الشرق المهيض استيقظوا فالغرب أعلن حربه شعواء
حربا تمسّ الدين في تقديسه وتبيد أطفالا لكم و نساء
وتزعّمتها إنجلترا و هي التي عقدت لحرب المسلمين لواء
بالأمس مكّنت اليهود فأنشأوا وسط المهازل دولة عرجاء (36)
... وكان اشد ما حرص عليه الغرب الصليبي في عدوانه على العالم الإسلامي هو نسف الفاعل الديني وتقليص تأثيره في الحياة الإسلامية وذلك ليقينه بأنه يشكّل الروح التي يحيا بها الشرق الإسلامي ومن ثمّ سعى جادا إلى تقويض هذه الروح بأساليب شتّى ?
يا قادة الأمة الغرّاء ... أمتكم إذا رمت بسوى الإسلام لم تصب
لما رأى خصمنا في الدين قوتنا مضى يضللنا بالهدم و الكذب
ويوهم النشء أن الدين ليس سوى رجعيّة تركس الإنسان في النصب (37)
إلا أن شعراءنا لم يحمّلوا الغرب كل الأسباب بقدر ما حمّلوها المسلمين أنفسهم قادة وشعوبا مستأنسين بالتوجيه القرآني ? (( قل هو من عند أنفسكم)) ذلك أن العوامل المباشرة كانت ذاتية قبل أن تكون موضوعية ( وهذا لا يعني التقليل من قيمة هذه الأخيرة) .
فالشاعر الفيلسوف محمد إقبال رحمه الله نجده في تحليله لواقع المسلمين في الهند يحصر علل التخلّف في أربعة عناصر ذاتية وهي ?(1/18)
1- فساد العقيدة وتحوّل التوحيد الإسلامي إلى وثنية متسترة ... مع انجذاب للأوهام.
2 - الجهل المطبق بأساليب الحياة الناجحة والعلوم العملية وأساليب المدنية والتنظيم الاجتماعي.
3 - الزهد في الحياة وانتشار الطريقة بانتشار الروح الجبرية والتواكلية.
4 - التهافت لدى الشباب المتوثب على الحضارة الغربية والانبهار بقوتها ومفاتنها.
هذه الأدواء أو الأمراض تشكل في رأي إقبال عوائق نفسية تحول دون الانبعاث والتجديد . (38).
وإذا تعدّينا إقبال والهند إلى شعراء آخرين في أرجاء أخرى من عالمنا الإسلامي واستقرانا الإنتاج الشعري الغزير الذي وضعوه بين أيدينا وجدناهم يرجعون الأسباب إلى ?
أ- فساد السلطة السياسية ? التي وجد فيها الغرب خير معين وخير خلف له . والمتسمة عموما بالتبعيّة في خياراتها وتوجّهاتها وبالاستبداد في تعاملها مع رعاياها وبالخلاف فيما بينها ... والتي نبذت بأسلوب أو بآخر شرع الله وراء ظهورها وعملت على تعطيل أحكامه في القضايا المصيرية للامة وتقليص تأثيره في الحياة الإسلامية ?
ساسة الحكم نابذوا شرعة الله فحفّت ديارنا البأساء
كم أضاعوا باسم الشعوب شعوبا طحنتها المكائد الهوجاء (39)
... واحتضنت النموذج الغربي مسترشدة باختياراته وتوجهاته دون مراعاة لخصوصيات الواقع الإسلامي ودون اعتبار لمشاعر المسلمين الذين هم تحت سلطتها حتى أن الشاعر ليحتار في هؤلاء شكلا وانتماء ?
كم من زعيم في الشكل من صنع باريس وفي العقل من عصور الجليد
... " وارتبطت بمراكز القوى الكبيرة في توجيه السياسة العالمية العلنية منها والسريّة بدعوى الانسجام في المبدأ والتخطيط في السياسة المشتركة والاعتماد على قوة أخرى وانتهت إلى التمزّق بين أجزاء الأمة الإسلامية لا سيما الأمة العربية الواحدة وأدت هذه الكارثة التاريخية الكبيرة إلى ضياع وحدة الأمة عقيدة وحضارة وهدفا ومصيرا " ... (40)(1/19)
وهذه السلطة برموزها السياسية الهشّة وأشكالها المستغربة وانتماءاتها المتباينة قد خيّبت أمل المسلمين في أن يجدوا فيها الأسوة القيادية الصالحة والقدوة المشرّفة وخيّبت ظنّهم في أن يروا ظلال لعمر وخالد وصلاح الدين ... يثأرون لكرامة الأمة المجروحة ويعيدون إليها اعتبارها كأمّة شاهدة ورائدة لها مجدها وشرفها وحضارتها, وهذه رسالة كل من يتولّى أمر هذه الأمة ويتربّع على سدّة الحكم فيها, إلاّ أن رموز السياسة في عالمنا العربي والإسلامي كانت همومها وطموحاتها متناقضة ومتضاربة مع رسالة الأمة وتوجّهاتها, ومع تطلّعات شعوبها ومعاناتها, إذ لم تذق هذه الأخيرة في ظلال حكمها وولايتها غير الأزمات الحادّة والنكبات المرّة والهزائم المشينة, ولم تجن من وراءها إلا مزيد الحرمان والتخلّف والضياع . فبينما يحدّثنا التاريخ أننا شعب :
نرث البطولة عن جدود حطّموا كل الطغاة
ومضوا لإصلاح الحياة يرونهم هدي الإله
سقياً لعهد أولئك الغر ّ الميامين الأباه
كم أدّبوا دولا وكم في الله قد داسوا جباه (41)
نجد الواقع المعاصر يصدمنا بنماذج مغايرة وصور باهتة :
واليوم تخلفهم زعانف ما لها في الأمر حيلة
رتب و تيجان و سلطان و أخبار طويلة
وتخيفهم يا للفضائح والأسى عصب دخيلة (42)
ولكي تمدّ في أنفاسها وتركّز وجودها, عملت هذه القيادات منذ انتصابها على خلق وترسيخ واقع متخلّف ومائع ومنبتّ عن أصالته وتراثه, له معاييره الخاصة وموازينه العجيبة وقيمه الغريبة وقد أبدع الشاعر أحمد فرح في رسم ملامحه النّكدة :
كل الرذائل ليست عندنا خطرا أماّ الفضائل فهي البعبع الضّاري
إذا رأوا حانة قرّت بلابلهم و إن رأوا مسجدا ثاروا بإنذار
ذو الدين في عرفهم تخشى غوائله فما يقرّب إلا كل خمّار
إذا سكرت ففي أمن و في دعة و إن تصلّ فمحفوف بأخطار
حريّة الشعب في أبواق دعوتهم حكم المباحث و الإرهاب و النار (43)(1/20)
هذا إذن السبب الأول والرئيسي كما يبرزه الشعر المعاصر والذي يرى الشاعر المسلم أنه المسؤول المباشر عن مآسينا وتخلّفنا وهزائمنا والذي كان وراء انحراف الأمة عن صراط الله المستقيم, وسقوطها في مهاوي التبعيّة والذلّ والهوان.
ب- ضعف الإيمان وفساد الأخلاق : الذي استشرى في عالمنا الإسلامي عندما ضعف فينا الوازع الإيماني وتخلّينا عن تعاليم ديننا وعققنا بشكل أو بآخر عقيدتنا وزيّنا لأنفسنا الهروب من الحياة في ظلال القرآن :
لماّ تركنا الهدى حلّت بنا محن وهاج للظلم والإفساد طوفان
ومن ثمّ بهتت في نفس المسلم مقوّمات الخلق القويم وانقلبت موازين الحق والخير والعدل وزعزعت مقاييس الشرق والرجولة والبطولة وأبح المجتمع يعجّ بأنماط شاذة من السلوك ونماذج بشرية غريبة في أشكالها وانتماءاتها وهمومها :
هذا إلى صنم يطيف به وذا عبد النّساءا
وهذا من ظنّ الرّياء براعة فغلى رياءا
والمال آلهة فقدّسه .... وكان له فداءا
والموبقات العاشقات ضربن بينهم النّجاءا (44)
ويبيّن الشاعر وليد الأعظمي ما آلت إليه حالنا عند هجرنا للدين وما أثمر هذا الهجر من مآسي :
فمن هجرنا للدين صرنا بحالة يكاد لها قلب الحليم يقطع
وقد أصبحت كل المدارس عندنا تصدّ عن الدّين الشباب و تمنع
وقد طبعتنا كل طبع مدنّس وللمرء من دنياه ما يتطبّع
فمنها سرت روح التفرنج بيننا وما زال فينا عقرب الجهل يلسع
وقد عمّت الفوضى البلاد بأسرها فلم ينج بيت من أذاها ومجمع
وكم من سجايا حلوة قد تبدّلت بأنفسنا ممّا نراه و نسمع
فحلّ محلّ الاحترام تذبذب و حل ّ محلّ الاتّزان تنطّع (45)(1/21)
ج - الاغتراب الثقافي وموضة الشعارات : التي انتشرت في ديارنا وصارت لها متاجر تروّجها هنا وهناك وأبواق تسبّح بحمدها ليل نهار وسياسات تتبنّاها وتدعّمها ومؤسسات تسهر على تنفيذها وتسخّر لها كل ما من شأنه أن يمدّها بأسباب البقاء والاستمرار وقد أشار الشاعر أحمد فرح إلى النكبات التي جرّها هذا الاغتراب وخلّفتها هذه الشعارات :
أتتركون كتابا فيه ذكركم وتشترون به مسموم أفكار
مبادئ الكفر قد جرّت هزائمنا وصيّرت عارنا نشرات أخبار
تقسّمتنا شعارات يروّجها في شعبنا كل طاغوت وغدّار (46)
ويبيّن منذر الشعار بعض ملامح هذا الاغتراب في خطاب تهكّمي يقرع به آذان أنصاره وجنوده ومروّجيه :
تبعتم درونا ً في كل واد وقول الله فوقكم سنيّ
وما يهدر فرويد فهو حقّ و يترك للغبار الشافعيّ
وحتّى الشعر احضر من علوج وأسكت ذو البيان اليعربيّ
وصوّر بعضكم صورا وأرخى سوالفه فقيل الألمعيّ
لحقتكم كل زي من فرنج وغيّبت العمائم و اللّحيّ(47)
وهكذا اجتاحت بلاد الإسلام على طول رقعتها مفاهيم هجينة وظواهر مستحدثة تحت اسم الفنّ والعلم (؟؟) وتحت شعار الحريّة والتقدميّة ... إلى آخر القائمة ... تستهدف نسف مقوّمات أخلاقية عريقة في علاقاتنا الاجتماعية, وتقوم على دعاوي مدمّرة تسخر من أصولنا الفكرية والعقائدية :
و إن لبسوا مرقّعة لبستم و مزّق ثوب خزّ أتحميّ
وإن ركبوا الجرائم فهو فنّ وإن نشروا الرذائل فهو طيّ
وإن كفروا بربّ العرش قلتم علوم حجّا رآها المعيّ
وإن رفعوا لكم صنما سجدتم فأين محمد يا جاهلي ّ؟؟ (48)
وهكذا ساهمت الفنون والثقافة المستهجنة التي غزت ربوعنا في تخلّفنا :
وسقطنا...
إذ رضعنا كلمات الآخرين
... قد دحرنا.
يوم صار الفنّ مأخوذا كبيرا
يوم أضحى الشعر كأسا ...
وسريرا
لقّنونا :
لا يكون الحبّ حبّا
دون عري الركبتين
فسمعنا
وأطعنا
... ما قتلنا
أو سبينا
بصواريخ الفنا
حقنونا
فانتحرنا
بمزامير صنعنا لحنها ...
كالبلهاء .. (49)(1/22)
" فقد تكّشف من خلال كلمات الأغنية ومن خلال حوار المسرحيات ومن خلال أهداف القصة أن الغرض إنّما يرمي إلى القضاء على الطبيعة الإسلامية في النفس البشريّة وتحويلها إلى نفس أخرى وثنيّة إباحية لا هدف لها إلا المطامع والأهواء والاستجابة للغرائز ... وقد استشرى هذا الخطر فأصبحت تلك المفاهيم وكأنها مسلّمات تجري على الألسنة وتحاكم بها الأمور والعلاقات وأخذت تحلّ شيئا فشيئا مكان القيم الأساسية التي رسمتها العقيدة والأخلاق " ... (50)
هذه إذن أهم الأسباب المباشرة التي جرّت هزائمنا وكانت وراء تخلّفنا ومآسينا وقد عرّى عنها الشعر الإسلامي المعاصر ورسمها بكل وضوح وصدع بها محذّرا ومنبّها دون تزييف أو تعتيم .
إلا أن الشاعر المسلم لم يقف عند حدّ كشف العلّة بل نراه يتعدّى إلى رسم شروط النهضة والانبعاث وتبيان سبيل النجاة وطريق النصر.
2) شروط النهضة في مرآة الشعر الإسلامي :
عند استقرائنا لديوان الشعر الإسلامي المعاصر نجد أن الشاعر يشترط للنّهوض بالأمة والقيام بالدور الحضاري لتغيير مجرى الحياة الإسلامية من دور الركود إلى دور الفعالية والتأثير ثلاث شروط :
أولا : الرجوع الصادق إلى الله تعالى : وتجديد الإيمان والعيش في ظلال القرآن الكريم والعمل الحازم والملتزم بتعاليم الدين الحنيف : لأنّ في الرجوع إلى المولى سبحانه, رجوع إلى الرشاد, رجوع إلى العزّة والقوّة والهدى :
للشرق داء لا يرجى برؤه إلا إذا أخذ الكتاب دواء
والله جلّ الله أخبر أن في آياته للمؤمنين شفاء (51)
ورجوع أيضا إلى الرعاية الحانية المقتدرة, ورجوع إلى مصدر الفاعلية والتشريع الشامل :
يا سادة الحقل للإسلام قاعدة إذا رعينا حقوق الله يرعانا
شتّان ما بين تشريع السماء لنا وبين تشريع أهل الأرض شتّانا
روّضوا على منهج القرآن أنفسكم يمدد لكم ربّكم عزا و سلطانا(52)(1/23)
ويرى الشاعر محمد صيام في العودة الواعية إلى الله سبحانه نجاة من الشقاء وإنقاذا من الضلال :
يا أيها الناس فلتنجوا بأنفسكم ولا تكونوا كمن ضلّت مساعيه
عودوا إلى الله ينقذكم برحمته من الشقاء الذي بتنا نعانيه
ولتستقوا من كتاب الله منهجكم فليس في الأرض منهاج يدانيه (53)
خاصة وقد جرّبنا كل المناهج الأرضية وبلونا كل النظم الوضعية واسترشدنا بشتّى الشعارات الشرقية منها والغربية, اليمينية واليسارية فما جنينا غير الخسران والانحطاط :
بلونا كل أنظمة البرايا نروم العدل للدنيا و نقفو
و جربنا دساتيرا كثارا مهلهلة عن البلوى تشفّ
متى رمنا الصّلاح بها فسدنا ومن خزي إلى أخرى نسفّ
وقد ذقنا التوى منها إلى أن جزمنا أنها ظلم و زيف (54)
ذلك أن الذي يوقن به كل مسلم صادق وكل مؤمن واع أنه لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها :
العقل والحق والتاريخ أعلنها ما في سوى دينكم حظّ لمختار
كما أن سيرنا إلى المجد والريادة يأخذ منطلقه من مدرسة المسجد:
من جانب المحراب يبدأ سيرنا للمجد لا من جانب الماخور
ثانيا : بناء الذات المبدعة: وبعث الشخصية الإسلامية الفذّة والفاعلة, التي تحذق أساليب الحياة الناجحة وتأخذ بوعي وعلم وحزم بأسباب النهوض والتقدم وتسخّر كل طاقاتها ومواهبها وإبداعاتها في سبيل التجاوز بالأمة من رصيف التخلّف إلى قمم المجد والقيادة : زادها الإيمان والعلم واليقين ورائدها الجهاد والإصلاح وقدوتها محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وغايتها الله جلّ في علاه, لا تعرف الخمول والتواكل بل تتسم بالمبادرة والفاعلية والجدّ والحزم :
قوم إذا داعي الجهاد دعاهم هبّوا إلى الداعي بغير توان
وبنعمة الإسلام عاشوا إخوة شركاء في الأفراح والأحزان
... محرابهم بالليل معمور بهم يتضرّعون تضرّع الرهبان
وإذا انقضى الليل البهيم وجدتهم بنهارهم يا صاح كالفرسان
و هتافهم الله أكبر إنهم لم يهتفوا بحياة شخص فان (55)(1/24)
وحول أهمية الدور الذي تلعبه الذات المسلمة في البناء والتغيير والإصلاح يقول الدكتور عبد الحليم عويس : إن عودة هذه " الذات المسلمة " بكلّ شروطها الإيجابية وبكل تفاعلها مع الرسالة وبكل التزامها بالدور الإنساني العام ... والتي تتصدّى لحمل الأمانة ودور القيادة أمر ضروري ... ليس للذات المسلمة وحدها ولا للأمة المسلمة وحدها, بل من أجل جميع الإنسانية الضّالة ...
ولكي تستمرّ حضارة الإنسان على هذه الأرض إذا ما كان مقدّرا لها في علم الله أن تسير آمادا أخرى في التاريخ.... (56) .
ثالثا : إعادة دور الأمومة الواعية: إن بناء الذات المسلمة وبعث الشخصية الفاعلة وتخريج نشء إسلامي قادر على الجهاد والإبداع والتغيير, يستوجب توفير المحضن النظيف والخصب, الممثل في الأسرة الملتزمة بالكتاب والسنّة , كما يستوجب إعادة دور الأمومة الواعية التي باستطاعتها تربية جيل مؤمن بربّه , متأسّ برسوله ومقدّس لكتابه , يجاهد في سبيل تقدّم الأمة بفكره وساعده ويصون دينه بروحه ودمه . ذلك أن الأمومة مدرسة وحضن يرتبط صلاح الأمة بصلاحها ويرتبط سقوطها بفسادها : ألم يعلنها شوقي من زمان :
من لي بتربية البنات فإنها في الشّرق علّة ذلك الإخفاق
الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعبا طيّب الأعراق
ولهذا نرى الشاعر الإسلامي المعاصر يولي اهتماما خاصا بالأم المسلمة ويلمح في صلاحها واستقامتها وإيمانها والتزامها شارة النصر والنهوض ويرى في أدائها لدورها الرئيس : دور الأمومة - مسؤوليتها الكبرى وأمانتها العظمى, لذا يلفت نظرها إلى الجزم في أداء هذا الدور الجليل وتحقيق هذه الرسالة , حتى نقترب من النصر ونحقق الانبعاث والسيادة :
يا أخت أنت رعاك الله عدّتنا لخلق جيل قويّ غير مشبوه
فلقّني طفلك الإسلام فهو له كالمنهل العذب ما ينفكّ يرويه
وأبعديه عن الشيطان يفتنه بجنده الكثر في الدنيا ويغويه
وسلّحيه بما في الدين من أدب ومن محبّته البيضاء فاسقيه(1/25)
ونشئيه على هدى الكتاب ومن آياته الغرّ يا أختاه غذّيه (57)
وهكذا يكون الشاعر المسلم قد ساهم في موقعه , في دفع الأمة نحو التقدم والنهوض بما كشف من علل التخلّف وأسباب السقوط وبما رسم من شروط يرى فيها سبيل النجاة والانبعاث .
وهذا دليل بيّن في كون الشاعر الإسلامي كان ولا يزال صادقا في التزامه بقضايا أمّته ومتفهّما لدوره ورسالته الشعرية وواعيا بمهمته كمجاهد بالقافية الصادقة وبالكلمة الحيّة في الساحة الثقافية ... وأن معاناة الأمة الشاهدة تسري في عقله ووجدانه.
صلاح الدين الأيوبي في ذاكرة الشعر الإسلامي
الأمة الإسلامية هي أمة جهاد ومجاهدة : على مستوى النفس والميدان . وتاريخها تاريخ جهاد بما فيه من عدّة وعتاد وكرّ وفرّ ونصر وفتوحات وبطولات وملاحم ومرابطة ....
وقائمة الخالدين من عظمائها وأعلامها وقادتها , تتصدّر مراتب الشرف فيها أسماء المجاهدين والشهداء ثم الذين يلونهم من العلماء والصالحين.
ومن هنا كانت أفراح النصر وأخبار الفتح وآيات البطولات الرائعة وأحاديث الملاحم النادرة وهموم الجهاد ... تشغل مساحة هائلة من ديوان الشعر الإسلامي - إلى جانب غيرها من المواضيع الاجتماعية والإنسانية والحضارية -... ومع الاهتمام طبعا بالشخصيات التي كانت وراء تلك الانتصارات والفتوحات والبطولات التي زيّنت واجهة التاريخ ... وتركت بصمات مشرقة وشاهدة في سجلات الإصلاح والتغيير ..
فمما يلفت النظر عند دراسة التراث الشعري القيّم الذي تمخضّت عنه القريحة الإسلامية على مدى قرون من التاريخ الإسلامي, تردد بعض الأسماء الكبيرة لأقطاب العلم والتقوى وأعلام الجهاد والإصلاح : مدحا ورثاء وتمجيدا وتخليدا ... ولعل اسم صلاح الدين الأيوبي هو أكثرها ورودا خاصة في منظومات الشعر المعاصر. فلأي ميزة في شخصية هذا القائد المجاهد تنشغل ذاكرة الشعر الإسلامي بترديد اسمه وذكر أخباره وأحواله في قصائد يتغنّى بها القاصي والداني ؟؟(1/26)
صلاح الدين .... في شعر معاصريه :
لعل أبسط تعريف لصلاح الدين رضي الله تعالى عنه, أو بعبارة أخرى : إن التعريف التاريخي والشعبي لصلاح الدين هو أنه بطل الحروب الصليبية ... إلا أن شخصية هذا القائد المجاهد في تقدير الشاعر هي أعمق وأبعد وأحب من أن يحصرها ويفي بحقها هذا التعريف العادي والمحدود . ومن ثم تراه يضفي عليه من جوامع الأوصاف وكبير الألقاب وبديع الكنى كل ما من شأنه أن يبرز هذا البطل الفذّ في صورة الذات المسلمة المبدعة في مواقفها, النادرة في جهادها والفريدة في أخلاقها, مما ينمّ - في نظري- عن مدى التقدير والتوقير والإعجاب الذي يكنّه الشاعر إزاء هذه الشخصية من جهة, وعن مدى التأثير العميق والجاذبيّة القوية التي يتميّز بها صلاح الدين ... من جهة أخرى .
فهذا الشاعر أبو علي الحسن الجويني يعرّفه بقوله :
الهمام الغضفر الملك النّـ اصر مولى الورى صلاح الدين
يا مليكا أضحى الزمان ينا جيه بلفظ المذلّل المسكين
يا مليكا يلقى الحروب بحول الله مستعصما و صدق اليقين (58)
وهذا الشاعر يوسف بم حسين المجاور يعرّفه قائلا :
ملك إذا أم ّ الملوك جنابه لاذوا بأكرم من يؤم ّ وأشرف
وإذا أتوا أسرى على أبوابه وقفوا بأعظم من يصول وأرأف
مولى غدا للدين أكرم والد حدب على أبنائه مترفرف (59)
و أما أسامة بن منقذ فيلقبه بناصر الإسلام ومظهر الإيمان (60) :
يا ناصر الإسلام حين تخاذلت عنه الملوك ومظهر الإيمان(1/27)
ولن نستنجد بالخيال لنصور المكانة العالية التي تنفرد بها شخصية صلاح الدين العظيمة في وجدان معاصريها . إذ في مصادر التاريخ الصحيحة والموثوقة ما يغني عن ذلك : إذ تنقل لنا هذه المصادر لوحات حيّة نابضة ومشاهد واقعية صريحة , تعبّر بحق وبصدق عن القيمة النفسية والبطولية التي حازتها شخصية هذا القائد الرسالي في قلوب معاصريه , وتترجم بعمق مدى الإجلال والتوقير المبصر والإكبار والإعجاب الواعي الذي يكنّه المسلمون للمجاهد الربّاني الذي ردّ النصارى على أعقابهم وأعاد- بما حقق على أرض الواقع من بطولات وانتصارات ومروءة وشهامة...- الاعتبار إلى أمة الإسلام كأمة شاهدة ذات عزّة وسلطان ... حتى أن موت صلاح الدين- في إطار هذا الإعجاب والحب والإكبار- لا يعني عند شاعر كعماد الأصفهاني, موت شخص واحد بل يعني عنده موت أمة بأكملها وسبب ذلك راجع إلى المكانة المعنوية التي كان يمثّلها هذا القائد وهو أنه كان رمز قوة هذه الأمة ورمز وحدتها , والذي حققّ لها الحياة بشكلها الإسلامي الصحيح والفاعل : حياة العزّة والوحدة والقوة والنصر :
بالله أين النّاصر الملك الذي لله خالصة صفت نيّاته
أين الذي مازال سلطانا لنا يرجى نداءه و تتّقى سطواته
في نصرة الإسلام يسهر دائما لتطول في روض الجنان سناته
لا تحسبوه ممات شخص واحد فممات كل العالمين مماته (61)(1/28)
وفي اللوحة النابضة التي ينقلها لنا أبو شامة في الروضتين عن يوم فاجعة الأمة بموت قائدها المجاهد, دليل واضح عن علوّ المكانة وسموّ المقام الذي يتبوّؤه هذا الرجل العظيم (رضي الله عنه) في ضمير الأمة الإسلامية . يقول أبو شامة (62) : كان يوما لم يصب الإسلام والمسلمين بمثله منذ فقد الخلفاء الراشدين, وغشي القلع والبلاد والدنيا من الوحشة ما لا يعلمه إلا الله تعالى . وتاالله لقد كنت أسمع من بعض الناس أنهم يتمنون فداء من يعزّ عليهم بنفوسهم فكنت أحمل ذلك على ضرب من التجوّز والرخص, إلا ذلك اليوم فإني علمت من نفسي ومن غيري أنه لو قبل الفداء لفدى بالنفس ... ثم يسترسل مبيّنا حالة الناس عند توديع الجثمان : ... حتى أن العاقل يتخيّل أن الدنيا كلها تصبح صوتا واحدا, وغشى الناس من البكاء والعويل ما شغلهم عن الصلاة, وصلى الناس عليه أرسالا.
الشاعر يرثي صلاح الدين :
وإزاء هذا الموقف الجليل, ما كان للشاعر المسلم, المتميز بشفافية الحسّ ورقّة الوجدان وسرعة التأثر ... أن يلزم الصمت ويلوذ باللامبالاة, مع العلم وأن الموت نهاية كل حيّ ولا مفقود أعز من رسول الله صلى الله عليه وسلم .
إلا أن الشاعر ينبري بحساسية الشاعر الملهم والتزام الجندي المخلص ووفاء المواطن الصالح ... ليملأ أذان الدهر بقصائد تسيل رقة وشفافية وصدقا, مترجما انفعال الشعور العام الإسلامي وتأثر ضمير الأمة بموت قاهر الصليبيين وناصر الإسلام .
من للعلا من للذّرى من للهدى يحميه من للنّاس من للنّائل ؟
طلب البقاء بملكه في آجل إذ لم يثق بقاء ملك عاجل
بحرّ أعاد البرّ بحرا برّه وبسيفه فتحت بلاد الساحل (63)
أو بمثل :
شمل الهدى والملك عمّ شتاته والدهر ساء وأقلعت حسناته
أين الذي من لم يزل مخشيّة مرجوّة رهباته وهبّاته
أين الذي كانت له طاعاتنا مبذولة ولربّه طاعاته (64)(1/29)
بمثل هذه الأبيات الصارخة والصادقة بكى الشعراء قائدهم ... وقد يرى البعض أن فيها شيئا من التهويل والمبالغة ... إلا أن مكانة الرجل قلوب مواطنيه تعذر للشعراء شدة تأثرهم وعمق تحسّرهم وطول بكائهم ... وكما يقول الدكتور محمد عي الهرفي (65) : قد كانت وفاة صلاح الدين كارثة عظيمة على الأمة الإسلامية كلها, وترك خلفه فراغا هائلا يصعب ملؤه ولذا كان من الطبيعي أن يبكيه الشعراء ويحزنوا لوفاته وكان من الطبيعي أيضا أن يعبّروا عن آلام الأمة الإسلامية التي أصابتها في الصميم .
وفي الحقيقة , أن المكانة التي يحظى بها صلاح الدين في قلوب المسلمين والإكبار الذي يوليه هؤلاء لهذا البطل القائد , مردّه - في تقديري - إلى سببين هما : الجاذبية الخلقية والجاذبية العملية اللذان انفرد بهما صلاح الدين عن باقي معاصريه من الملوك والأمراء.
الجاذبية الخلقية :
فقد لمس الشعراء في هذا القائد جماع الخصال العالية والخلق السامي من تقوى وورع وإخلاص وتجرّد وسماحة ومروءة وعفو وجود وإحسان ورجولة وشهامة وبطولة وهي من مقوّمات الأسوة الحسنة ومستلزمات القدوة الصالحة التي يحنّ إليها وينجذب إليها الضمير المسلم ..
حتى قال أحدهم :
رأيت صلاح الدين أفضل من غدا وأشرف من أضحى وأكرم من أمسى
وقيل لنا في البحر الأرض سبعة أبحر ولسنا نرى إلا أنامله الخمسا
سجيّته الحسنى وشيمته الرّضى وبطشته الكبرى وعزّته القعسا (66)
وقال آخر :
ملك إذا علقت يد بزمامه علقت بحبل في الحفاظ متين
والبحر لو مزجت به أخلاقه لغدت مياه البحر غير أجون
والأرض لو شيبت بطيب ثناه لم تنبت سوى الخيريّ والنسرين (67)
الجاذبية العملية :(1/30)
ولعل أهم ما رفع من قيمة صلاح الدين وأعظم قدره عند المسلمين إلى جانب ما ذكرنا من خلقه وسلوكه, هو جهاده الخالص الصادق في سبيل الله وعزمه وحرصه على نصرة الدين وتحرير القدس : فقد رأى فيه المسلمون منقذا للدّيلى الإسلامية وثائرا لكرامة الأمة وقائدا شهما لكتائب الجهاد , في وقت تخاذل فيه الكثيرون عن الحركة والجهاد وأحدقت بالمسلمين جيوش الصليبين وشرار النصارى فما كان من صلاح الدين إلا أن ردّهم على أدبارهم ولم ينالوا خير ولقّنهم درسا في القتال لم يعهدوا مثله ... وبذلك أعاد الثقة والعزّة والقوة إلى المسلمين .وإلى أمة الإسلام المجد والنصر والتمكين .
وفي الشعر الإسلامي إشارات واقعية صادقة لأعمال القائد العملاق وجهاده :
يا ناصر الإسلام حين تخاذلت عنه الملوك ومظهر الإيمان
بك قد أعزّ الله حزب جنوده وأذلّ حزب الكفر والطغيان
وغضبت لله الذي أعطاك فصل الحكم غضبة ثائر حرّان (68)
أو مثل :
ملك إذا علقت يد بزمامه علقت بحبل من الحفاظ متين
قاد الجياد معاقلا وأن اكتفى بمعاقل من رأيه وحصون
وأعدّ للأعداء مهنّد ومثقّف ومضاعف موضون (69)
وفي ظلال جهاده الطويل المبارك وفتوحاته المبينة استعاد المسلمون مكانتهم وقرّت أعينهم بما رأوا من إعزاز لدين الله ونصر لشريعته وتطهير لقدسه من روث الكفّار وحقد الصليبين :
فلا يستحقّ القدس غيرك في الورى فأنت الذي من دونهم فتح القدسا
ومن قبل فتح القدس كنت مقدّسا فلا عدمت أخلاقك الطهر والقدسا
وطهّرته من رجمهم بدمائهم فأذهبت بالرجس الذي ذهب الرجس
وبذلك استعاد القدس ذاتيته الإسلامية وملامحه الإيمانية , وارتفع به الأذان عاليا بعد أن جلجلت فيه نواقيس النصارى :
نزعت لباس الكفر عن قدس أرضها وألبستها الدين الذي كشف اللّبسا
وعادت لبيت الله أحكام دينه فلا بطرقا أبقيت فيه لا قسّا
وقد شاع في الآفاق عنك بشارة بأن أذان القدس قد بطل النّقسا (70)(1/31)
وهكذا بتلك الأعمال الصادقة والخالصة وبذلك الجهاد الطويل المضني وبتلك الغضبات الربانية والبطولات الرائعة وبذلك الخلق السّامي والسلوك العالي ... حبّب الله تعالى عبده صلاح الدين إلى قلوب عباده المؤمنين ومكّن له في وجدان المسلمين أيّما تمكين وكما يقول الدكتور الهرفي : لقد حظي صلاح الدين الأيوبي بعناية فائقة من الشعراء والأدباء لم يحظ بها أحد غيره من أبطال الحروب الصليبية على الإطلاق وما كان له أن يحصل على هذا لولا فتحه القدس .
صلاح الدين .... في ذاكرة الشعر الإسلامي المعاصر
إذا كان صلاح الدين هذه الشخصية التاريخية الفذّة النادرة قد نالت مكانة تحسد عليها في وجدان العالمين , واعتنى بمدحه ورثائه وتمجيده وتخليده كثير من شعراء عصره فذلك أمر طبيعي , نظرا لما لمسوا من عظيم جهاده وما عاينوا من جليل أعماله وما علموا من كريم خصاله ... أمّا أن يشغل اسمه ذاكرة الشعر المعاصر على عمق المسافة الزمنية الفاصلة فهذا أمر يستدعي البحث.
وفي تقديري, هناك سببان رئيسيان وراء هذا الإهتمام من طرف شعرائنا المعاصرين بشخصية صلاح الدين وإدراج اسمه في كثير من قصائدهم .
أما السبب الأول : فمردّه إلى طبيعة حاضر الواقع العربي والإسلامي الذي يعيش في ظلاله الشاعر والمتّسم بالتخلّف والسقوط والذي يعيش منذ بداية القرن مرحلة القصعة إن صحّ التعبير : حيث تتربص القوى العالمية الملحدة على اختلاف توجّهاتها وانتماءاتها بالمسلمين , لترميهم عن قوس واحد , مسخّرة في سبيل ذلك كلّ آلياتها وعلومها ... في محاولات متكررة ومتجدّدة ومدروسة لدحر الإسلام وذبح المسلمين وافنائهم : فمن محاولات الاستعمار العسكري إلى محاولات الاستيلاء الاقتصادي إلى الاستعمار الثقافي ... إلى الجرثوم الصهيوني في الجسد الإسلامي .(1/32)
وهكذا نرى التاريخ يعيد نفسه كما يقال وتعود هذه المرّة دبابات اليهود ومصفّحاتهم , بدل خيول النصارى ... لتعربد فوق الأرض المقدسة وتذبّح وتدمّر وتشرّد...
حتى إذا حانت من الشاعر التفاتة واعية إلى هذه الجهة أو تلك من الوطن الإسلامي الذبيح ... صدمته مشاهد الذلّ والهوان وعصره الألم والحزن لما يرى من تغيّر الحال بهذا المكان المقدّس , خاصة , وما لحقه من مظاهر الإذلال والهزيمة ....
وفي كل يوم له صرخة وفي كل يوم يقاسي العذاب
يعيث بساحته المفسدون ولا من حساب ولا من عقاب
وكم مرّة حاولوا نسفه ولكن تخيب مساعي الذئاب (71)
ويمتد الحزن عمقا في وجدان الشاعر وتزداد وطأة الإحساس بمرارة الواقع على القلب المرهف ... كلما حاول تقليب صفحات من دفتر المعاناة الإسلامية والمعاناة الفلسطينية بصفة خاصة إذ تروّعه مشاهد اللاجئين والمشرّدين وصورة الطفولة المحرومة الضائعة واليتم المبكّر الذليل والعرض المهتوك ...
... أما فلسطين فسيل دمائها لم ينقطع وعيونها لم ترقد
اللاجئون وهذه أكواخهم كالعار عن أنظارنا لم يبعد
في كل كوخ لوعة ومناحة من طفلة تبكي وشيخ مقعد
ويتيمة تلوي إليك بجيدها تشكو الهوان بحسرة وتنهّد
وكريمة لعب اليهود بطهرها وبها تمتّع رائح أو معتد (72)
إنها هموم الوطن الذبيح ومعاناة الأمة المجروحة تعصف بوجدان الشاعر عصفا مبرحا فتؤرقه وتذهله عن نفسه وأهله وخلاّنه ... وكيف لا ؟؟ وفي كل ناحية من وطنه بيت يقوّض وأرواح تزهق ودماء تسيل وأعراض تدمى...
وجع ألم فغبت في أحزاني وذهلت عن أهلي وعن خلاّني
يا أيها الذبيح وأنّها لخناجر الأحبار والرهبان
في كل ناحية دماء ضحية وركام بيت غاب بين دخان
ماذا أقول عن الجريمة إنّها فوق الحروف وفوق كل بيان
ماذا أقول وكل حرف في فمي حجر فهلاّ تنطق الشفتان
من ثلث قرن والعذاب يسوطني وأنا أجالدهم على الغدران (73)(1/33)
هذا الوضع القاتم المضطرب بكل ملامحه المحزنة, والذي يعيش في أحضانه الشاعر ... يذكّر المسلمين اليوم بأيام سلفهم إبّان الغزو الصليبي الحاقد عندما وطئت خيل النصارى رحاب الأقصى وتوزّع البغاة الأشرار بين الدّيار الإسلامية ينشرون الرعب والدمار ...
كما يتذكّرون معه ذلك الفجر الساطع الذي أعقب ذلك الليل البهيم وطلعة ذلك القائد المنقذ - صلاح الدين - الذي دحر العدو الكائد واستردّ راية النصر ليرفعها عالية في الفضاء الإسلامية.
وأما السبب الثاني : فهو راجع إلى خلوّ الساحة الإسلامية من قدوة جهاديّة قياديّة فذّة في مستوى متطلبات المرحلة ... تعيد ماء الوجه إلى الأمة المجروحة , وترفع الغبن عن الذات الإسلامية : فكلما تأملنا في واقعنا العربي والإسلامي المعاصر وبحثنا عن نماذج حيّة لتلك القيادات الرائعة التي نحتفظ بصورها في وجداننا, تثأر للشرف الإسلامي وترفع راية الدين, وتجمع شتاتنا وتوحّد طاقاتنا وقوانا ... اصطدمت أنظارنا بصور باهتة وأنماط هشّة من زعامات لا تملك من مواصفات القيادة وفاعليتها وخصائصها شيئا ... إنمّا هي :
رتب وتيجان وسلطان وأخبار طويله
وتخيفهم يا للفضائح والأسى عصب دخيله ...
وقد اختارت موقف " الجلوس على الربوة " رغم حساسية الوضع وخطورة المرحلة ... لاهية بما توفّر لها من أسباب الخمول والقعود ... عن اقتحام الميدان وخوض وطيس المعركة :
والقدس في أسر اليهود وهم على دنّ وراح
والمسجد الأقصى غدا في الأرض مغلول السّراح
لندائه في كل قلب مؤمن وخز الرماح
أين الذين يقودهم للبذل ذبحي واجتياحي
ويقول هل من ضمضم عن طهر أمته يلاحي
وتلفّت الميدان هل من طارق هل من صلاح ؟؟ (74)(1/34)
إذن في غياب هذه القيادة الجهادية الميدانية المنشودة ... وفي قتامة هذا الوضع العربي الإسلامي الراهن ... ومع تحدّيات العصر الضاغطة ... يجد الشاعر الإسلامي المعاصر نفسه مدفوعا إلى ابتعاث صورة ذلك القائد الهمام , بطل المواقف : صلاح الدين الأيوبي رضي الله تعالى عنه , ومناجاته وترديد ذكره في كثير من القصائد التي ترسم معاناة الأمة الإسلامية وتترجم هموم المسلمين ... كمحاولة لملأ الفراغ القيادي الحاصل واستفزاز المسلمين وتحريضهم وحثّهم على التأسّي والإعتبار ...
شواهد شعرية :
إن اسم صلاح الدين يرتبط ارتباطا وثيقا بالقدس : فهو الذي حرّرها من أسر الصليبيين وكيدهم ... وردّها إلى حظيرة المسلمين بعد جهاد طويل .... واليوم القدس في أسر اليهود ترنو إلى من ينقذها ويفكّ أسرها من مخالب الصهيونية الحاقدة . ويطرد عنها جيوش الغاصبين , إنها تتطلّع إلى صلاح الدين كي يحرّرها مرّة أخرى من براثن الأعداء :
فالمسجد الأقصى المبارك يستغيث أتسمعون
والناس كل الناس في أوطاننا يتصايحون
قم يا صلاح الدين إذ بني العروبة نائمون
قم فالصليبين عادوا كالأفاعي ينهشون
فاخلع نيوبهم التي بسمومها يتحرّكون (75)
وكأني بصلاح الدين يسمع الشكوى وتحزّ في نفسه البلوى ... فيمتطي صهوة جواده مدجّجا بسلاحه وعتاده ... ويشرف على الأقصى يناجيه :
ولست أنسى صلاح الدين وهو على مشارف المسجد الأقصى يناجيه :
جئنا إليك فصبرا إن أمتنا رأت لعمرك رأيا سوف تمضيه
جئنا إليك نردّ الغاصبين وما قد هدّموا منك بالأرواح نبنيه
فشعبنا في سبيل الله قد غضبت منه الحواضر واهتزّت بواديه
والشرق ثار فلا عرب ولا عجم بل مسلم واضح من غير تمويه
فازينّت أرضنا من بعد غصّتها وهللّ المسجد الأقصى ومن فيه ...(76)(1/35)
هكذا سيظل صلاح الدين : القائد الإسلامي الفذ يعيش في وجدان الشاعر ويتردّد ذكره في أشعاره لمّا غنّى عن المعاناة الإسلامية في فلسطين المغتصبة ... إلى أن يأتي من يحتلّ مكانه ... وما ذلك على الله بعزيز ....
(1) …انظر لمزيد الاطّلاع ? الإسلام والشعر? للدكتور سامي مكّي العافي ص 21 و 22.
(2) …مشكلات في طريق الحياة الإسلامية.- ص 99 و 100 -محمد الغزالي . ط 3
(3) …مجلة الثقافة العربية - ص 119- العدد 1- السنة 4
(4) …مجلة الدوحة- ص 71- السنة ذو القعدة 1402 هجري
(5) …الثقافة العربية- ص 35- العدد 1- السنة 4
(6) …المصدر السابق نفسه ص 34
(7) …الإسلام والشعر- ص 36- بتصرف- د. سامي مكي العاني.
(8) …مشكلات في طريق الحياة الإسلامية- محمد الغزالي- ص 99 -ط 3
(9) …فتح الباري شرح صحيح البخاري- ص 546 -المجلد 10
(10) …شعراء الدعوة الإسلامية ج1 ص 5 -احمد عبد اللطيف الجدع وحسني ادهم جرار
(11) …شعر الجهاد في الحروب الصليبية- ص 131 -بتصرف- من تأليف الدكتور محمد علي الهرفي.
(12) …شعراء الدعوة الإسلامية -ج1- ص 5
(13) …شعر الجهاد في الحروب الصليبية - ص 209 - بتصرف.
(14) …قصيدة - قطتي- لجمال فوزي- شعراء الدعوة- ج 1- ص 106.
(15) …قصيد- صرخة- أحمد فرح- شعراء الدعوة - ج5 ص 74.
(16) …قصيد- رثاء شعب- محمد محمود الزيري- شعراء الدعوة- ج1 ص 43 .
(17) …في ظلال القرآن - المجلد الأول- ص 227
(18) …من قصيدة - مجمع القرود - احمد محمد الصديق . مجموعة شعراء الدعوة- ج1 ص 60
(19) …من قصيدة - مجمع القرود - احمد محمد الصديق . مجموعة شعراء الدعوة- ج1 ص 60
(20) …من قصيدة - مجمع القرود - احمد محمد الصديق . مجموعة شعراء الدعوة- ج1 ص 60
(21) …من قصيد - يا دهر عفوا- جمال فوزي- مجلة الدعوة- عدد 12 -السنة26 ص 53
(22) …من قصيد - قالوا العروبة- احمد محمد الصديق - مجلة الإصلاح - عدد 61 سنة 6 ص 32
(23) …عصام العطار- شعراء الدعوة- ج1 ص 78.(1/36)
(24) …جمال فوزي- شعراء الدعوة- ج 1 ص 94 و 90 و 106 .
(25) …جمال فوزي- شعراء الدعوة- ج 1 ص 94 و 90 و 106 .
(26) …محي الدين عطية - شعراء الدعوة- ج 2 ص10.
(27) …قصيدة - شهيد - جمال فوزي- شعراء الدعوة- ج1 ص 97 إلى 101 مختارات.
(28) …قصيدة - شهيد - جمال فوزي- شعراء الدعوة- ج1 ص 97 إلى 101 مختارات.
(29) …قصيدة - شهيد - جمال فوزي- شعراء الدعوة- ج1 ص 97 إلى 101 مختارات.
(30) …قصيدة - وعد بلفور- محمد صيام- شعراء الدعوة -ج2 ص 79.
(31) …شعراء الدعوة- ج1 ص 57.
(32) …محي الدين عطية - شعراء الدعوة- ج6 ص 26 و 27.
(33) …من قصيد : يا سيدي عذرا- للشاعر محمود مفلح . شعراء الدعوة - ج 2 ص 97
(34) …وقفة على طلل - للشاعر محمود غنيم - شعراء الدعوة - ج 2 ص 64
(35) …إلى الأمهات المسلمات - الشاعر محمد صيام - شعراء الدعوة- ج 2 ص 76
(36) …تحية الشعر - محمود أبو النجاة - شعراء الدعوة - ج 6 ص 60
(37) …إلى مؤتمر القمة الإسلامية في الرباط - أحمد فرح - شعراء الدعوة- ج 5 ص 71
(38) …محمد إقبال مفكرا إسلاميا - للأستاذ محمد الكتاني - ص 35
(39) …شكاة وأمل - عمر بهاء الدين الأميري - شعراء الدعوة- ج 2 ص 22
(40) …المذهبية الإسلامية والتغير الحضاري - الدكتور محسن عبد الحميد - كتاب الأمة- 6 ص 22
(41) …وعد بلفور- محمد صيام - شعراء الدعوة- ج 2 ص 81
(42) …وعد بلفور- محمد صيام - شعراء الدعوة- ج 2 ص 81
(43) …صرخة - جمال فوزي - شعراء الدعوة- ج 5 ص 74
(44) …يا سيدي عذرا - محمود مفلح - شعراء الدعوة- ج 2 ص 98
(45) …نتيجة ولد الأعظمي- ديوان الزوابع - ص 131 , 139
(46) …صرخة - جمال فوزي - شعراء الدعوة- ج 5 ص 75
(47) …موعظة لغير متّعظ - منذر الشعار- ج 5 ص 107 , 108
(48) …موعظة لغير متّعظ - منذر الشعار- ج 5 ص 107 , 108
(49) …الحقيقة - محي الدين عطية - شعراء الدعوة- ج 6 ص 26, 27(1/37)
(50) …منار الإسلام - عدد 3 سنة خامسة - مقال : الفنون والمسرح - ص 115
(51) …تحية الشعر- محمود أبو النجاة - شعراء الدعوة- ج 6 ص 60
(52) …الرسول في مولده الكريم - محمود أبو النجاة - شعراء الدعوة- ج 6 ص 54
(53) …إلى الأمهات المسلمات - محمد صيام - شعراء الدعوة - ج 2 ص 77
(54) …أنوار تموز - وليد الأعظمي- ديوان الزوابع - ص 40
(55) …لينام أصحاب الكروش - وليد الأعظمي- الزوابع - ص 92
(56) …الوعي الإسلامي- العدد 194 ديسمبر 1981 - مقال : الذات المسلمة والإبداع الحضاري - للدكتور عبد الحليم عويس- ص 59
(57) …إلى الأمهات المسلمات - محمد صيام - شعراء الدعوة- ج 2 ص 72 .
(58) …شعر الجهاد في الحروب الصليبية- الدكتور محمد علي الهرفي- ص 159
(59) …المصدر نفسه- ص 162
(60) …المصدر نفسه -ص 163
(61) …شعر الجهاد في الحروب الصليبية- الدكتور الهرفي- ص 183
(62) …الروضتين للمقدسي- ج 2 ص 213 و 214
(63) …شعر الجهاد في الحروب الصليبية- الدكتور الهرفي- ص 181
(64) …المصدر نفسه- ص 182
(65) …شعر الجهاد في الحروب الصليبية- الدكتور محمد علي الهرفي- ص 164
(66) …شعر الجهاد في الحروب الصليبية -للدكتور محمد علي الهرفي -ص 164
(67) …المصدر نفسه -ص 161
(68) …شعر الجهاد في الحروب الصليبية- ص 163
(69) …المصدر نفسه- ص 161
(70) …المصدر نفسه - ص 165
(71) …مجلة الأمة- عدد 43 - ص 64
(72) …ديوان الزوابع لوليد الأعظمي- ص 58
(73) …مجلة الأمة- عدد 38- ص 32 - من قصيد: الوطن الذبيح
(74) …شعراء الدعوة في العصر الحديث- ج 6- ص 106
(75) …شعراء الدعوة- ج 2 - قصيد : وعد بلفور
(76) …شعراء الدعوة -ج 2- قصيد: إلى الأمهات المسلمات- للشاعر: محمد صيام
??
??
??
??(1/38)