في فقه التدين فهما وتنزيلا
(1)
الدكتور عبد المجيد النجار
تقديم
بقلم : عمر عبيد حسنة
الحمد لله الذي بعث في الأميين رسولاً منهم، يتلو عليهم آياته، ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين.
والصلاة والسلام على محمد، الذي ابتعث من قومه، ليكون بصيراً بواقع أمته، محل دعوته، والذي كانت الغاية من إرساله إلحاق الرحمة بالناس، وإخراجهم من الظلمات إلى النور، قال تعالى: ((وَما أَرسَلْناك إلاَّ رحمةً للعالمين )) وبعد:
فهذا كتاب الأمة الثاني والعشرون، (في فقه التدين فهماً وتنزيلاً ) للدكتور عبد المجيد النجار، في سلسلة الكتب التي يصدرها مركز البحوث والمعلومات، برئاسة المحاكم الشرعية والشؤون الدينية، في دولة قطر، مساهمة في تحقيق الوعي الحضاري، والتحصين الثقافي، وإعادة بناء الشخصية المسلمة، بعد أن افتقدت كثيراً من فعاليتها، ومنهجيتها، وصوابها، ومسئوليتها في الشهادة على الناس، والقيادة لهم، وتقويم حياتهم بشرع الله، وانحسر شهودها الحضاري المعاصر، إلى درجة كادت تضيع معها معالم الشخصية الحضارية التاريخية للأمة.
والغياب الحضاري، الذي نحن بصدده، قد لا يكون بسبب نضوب منابع الدين في حياتها، بقدر ما هو خطأ في منهج ووسائل الوصول إلى هذه المنابع، وحسن التعامل معها وترجمتها إلى لغة الواقع، وإثارة الاقتداء بها عند الناس.
فإصابة الأمة اليوم، تكاد تنحصر في منهج ووسائل التدين، خاصة بعد أن تكفل الله بحفظ الدين، الذي يعني فيما يعني: خاتميته وخلوده. ويبقى الأمر المطروح بإلحاح، في كل زمان ومكان: الكيفية التي بها تكون إثارة النزوع إلى التدين، وتفجير ينابيعه، في النفس البشرية، ومن ثم تقويم السلوك الفردي والاجتماعي بنهج الدين القويم.(1/1)
ذلك أن قضية التدين، أو تقويم الحياة بنهج الدين، هي قضية ملازمة لوجود الإنسان؛ فطالما أن هناك إنساناً، يمتلك أهلية الاختيار، فلا بد له من منظومة قيم، يؤمن بها، ويصدر عنها في القبول والرفض، والإقدام والإحجام، هذه المنظومة هي مجموعة معارف وقناعات، إما أن يختارها بنفسه، أو يرثها عن مجتمعه، أو ينقلها عن مجتمعات أخرى، وقد يتجاوز عالم حواسه، وترقى في النظر العقلي، إلى آفاق واستفهامات لا يمتلك الإجابة الشافية عليها، فينتهي إلى ضرورة التلقي عن النبوة، فتكون ضميمة الوحي، التي لا تخرج في الاهتداء إليها عن العقل.
فالإنسان مخلوق متدين، والتدين نزعة فطرية، لا يمكن تصور إنسان بدونها، مهما كانت صورة ذلك التدين، والاستقراء يؤكد أنه وجدت في التاريخ مدن ليس فيها مصانع، ولا معامل، ولا مدارس، ولا نواد، لكن لم توجد في تاريخ الإنسان الطويل مدينة بلا معابد، وكثير من المفكرين وفلاسفة المادة الذين يقولون: على الرغم من انشغالنا طيلة النهار بضجيج الآلات، وزيادةالإنتاج، وتحسينه، إلا أننا عندما نأوي إلى مضاجعنا تؤرقنا مجموعة أسئلة، لا نجد لها جواباً شافياً، كيف بدأ الخلق؟ وكيف سينتهي؟ وهل الموت يعني الانطفاء النهائي؟!
فالنزوع إلى التدين ملازم للإنسان كما أسلفنا، لكنه قد يلتقي بهداية السماء، ويستقيم بشرع الله، وقد يضل طريقه، متخذاً أرباباً من دون الله، ومن لم يكن عبداً لله فهو عبد لسواه، والذين يظنون أنهم تمردوا على دين الله، وخرجوا عليه لم يدركوا أنهم سقطوا في عبودية الأشخاص والأهواء والشهوات قال تعالى: ((أفَرأيْت مَن اتّخذ إلهه هَواه )).(1/2)
وقد لا يكون المجال هنا مجال مناقشة وموازنة، بين هدي الله وما يمنحه للإنسان من الحرية والعدالة والكرامة والمساواة؛ وألوان التدين الأخرى، لكن لا بد لنا من التأكيد أن الذين حاربوا هداية الله إنما حاربوها لأنها تسويهم بغيرهم من الخلق، وهم يريدون لأنفسهم أن يكونوا آلهة وأرباباً، لهم حق السيادة والأمر والنهي، وأن الصراع، والحوار، والمواجهة. . إنما هو في الحقيقة صراع بين ألوان من التدين، أو من الدين - إن صح التعبير - .
هذا النزوع المفطور في الإنسان، هو الذي يشكل القابلية والتهيؤ لاستقبال الهدي الإلهي، وبقدر ما يكون جهاز التوصيل سليماً ، والإرسال صحيحاً، ويكون المرسل بصيراً وفقيهاً بأساليب الخطاب، وأحوال المخاطبين، وكيفية إثارة كوامن هذا النزوع بالاتجاه الصحيح، بقدر ما يكون الكسب الديني متعاظماً وممتداً، وبقدر ما تصاب أجهزة الدعوة إلى الدين، بقدر ما يكون التأثير محدوداً، فالعلّة ليست دائماً في المخاطَب، فقد تكون العلّة كلها في المخاطب الذي يريد توصيل الدين إلى الآخرين.
لذلك نرى أكثر الفترات تألقاً وامتداداً فترة النبوة والصحبة، والمراحل التاريخية التي استطاعت استصحاب روح تلك الفترة. لقد استطاعت تلك المراحل التاريخية إثارة كوامن التدين، وأحسنت في إيصال الإسلام إلى الناس، وتقويم واقعهم بهديه، فالقرآن هو القرآن كما أنزل، والسنة بيانه، محفوظان بحفظ الله الذي أثمر جهود العلماء، أوعية الحفظ وأدواته، لكن المشكلة اليوم ليست فقط في إتقان وإدراك الخطاب الديني المحفوظ، أي ليست في معرفة نصوص الدين، وإنما بإصابة أجهزة الدعوة بالعطب، ولا نعني بأجهزة الدعوة الوعظ والإرشاد، بقدر ما نعني امتلاك القدرة على فقه الإنسان، وفقه المجتمعات، والتبصر بكيفية خطابها، وطرائق بسط الدين على حياتها لتستقيم بنهجه.(1/3)
ومن الأمور التي تدعو للاعتزاز والإعجاب - والتي جاءت ثمرة حفظ الله لهذا الدين - الجهود العلمية التي بذلت لحماية نصوصه وتنقيتها، ومن ثم وضع الأصول والقواعد لمعرفة المراد الإلهي.
فلقد تطورت العلوم التي تخدم هذا المقصد في مجال مناهج التفسير، وعلوم القرآن، ومصطلح الحديث، وأصول الفقه، ومناهج الاستنباط، وعلوم اللغة، ودلالات الألفاظ، وهو ما يسمى علوم الآلة، تطوراً كبيراً، وكلها تشكل في نهاية المطاف وسيلة لفهم الدين، لكنها انقلبت في عصور التقليد والركود والتخلف إلى غاية بحد ذاتها، معطلة بيد أصحابها يصعب إعمالها، وتعديتها إلى مجرد مثال آخر، غير مثال الأقدمين، وغاية ما استطاعت فعله، هو المحافظة على الصورة واستبقائها، ونقلها إلى الجيل التالي، أما تشغيل هذه الآليات، وتطويرها لتحقيق المقاصد منها، والإفادة مما قدمه العصر من تقنيات للحفظ والتيسير فلم يحظ بالحد الأدنى، كما أن التعامل مع الصورة الجديدة للواقع بظروفه وشروطه، من وجهة نظر إسلامية يكاد يكون توقف تماماً من خال تلك الآليات التي تعطلت منذ زمن.
ونستطيع القول: إن هذه الآليات (آليات الفهم ) للمراد الإلهي في المراحل المتأخرة - حيث أصبحت تجريدات ذهنية بعيدة عن الواقع - بدل أن تكون أداة تيسير وفهم، انقلبت إلى حواجز ومعوقات تحول دون القدرة على الاغتراف من مصادر المراد الإلهي - الكتاب والسنة - للتعامل مع العصر، وأصبح التدين مقتصراً على مجرد حفظها وترديدها، وليس القدرة على إعمالها، ولو أحسنّا إدراكها - إلى جانب حفظها - لتمت النقلة المطلوبة في بيان المراد الإلهي لمشكلات الأمة وقضايا الواقع، وبسط الدين سلطانه على الفعاليات المختلفة.(1/4)
لقد دوِّن الوحي ليحفظ، وجُمع لئلا يضيع، ودوّن الحديث، وصُنِّف لتنقيته من الدخيل على الوحي، ونشأت دواعي علم النحو والصرف ودلالات الألفاظ لحماية النص وعدم الخروج بالمعنى عما وضع له اللفظ، لكن إلى أي مدى وخاصة في عصور الركود والتقليد استطعنا تجاوز أسوار الحماية هذه إلى الانتفاع بما في داخلها، لحاضرنا ومستقبلنا؟!
لقد بدأت القدسية للنص القرآني والحديث النبوي وهما مقدسان بلا شك لأنهما وحي يوحى، وكان لهذه القدسية معنى حياتي، وبعد حضاري، ثم انتهى القرآن إلى لون من التراتيل، يتلى للتبرك، بعيداً عن دوره في بناء العقل، وتعمير الأرض، والقيام بأعباء الاستخلاف الإنساني، وأصبح صحيح البخاري، وموطأ مالك، وكتب السنة الشهيرة، تقرأ في النوازل، ثم انتقلت القدسية إلى فهوم البشر واجتهاداتهم في عصر معين، وأصبح المراد الإلهي وقفاً على فهمهم وعصرهم ومشكلاتهم وكادت هذه الفهوم تحل محل الكتاب والسنة، وبذلك افتقدا بهذه الصورة التي صارا إليها صفة الخلود والقدرة على العطاء المتجدد.
صحيح أن أصول المشكلات الإنسانية وثوابتها، يمكن أن تكون واحدة في العصور كلها، وأن مظاهرها وأشكالها، هي التي تتعدد، وتتنوع، وتختلف، ولو لا هذا التجدد لاكتفت البشرية بالنبوة الأولى، ولما جُعل الاجتهاد المستمر مصدراً للتشريع في النبوة الآخرة، ولما جاءت معظم نصوص المراد الإلهي، عامة ومرنة، لتكون قادرة على استيعاب العصر وتصريف شؤون الناس وفق الهدي الديني، فيما وراء الثوابت، الأمر الذي لا بد له من الاجتهاد لكل عصر.(1/5)
وإذا سلّمنا بأن المجتهد هو ابن عصره وبيئته، وأن الاجتهاد لبسط الدين على واقع الناس، وتقويم مسالكهم بنهجه يجب أن يأخذ بعين الاعتبار معطيات العصر، ومشكلات الناس، الذين هم محل الحكم الشرعي، فلا بد لنا من القول: بأن هذه المسلمة لحقت بها إصابات بالغة وقد نقول: قاتلة، من خلال ما نلاحظه من انفصال المجتهدين والمفكرين عن همّ أمتهم وقضايا عصرهم ومشكلاته، والدوران في فلك الاجتهاد والأفكار البشرية السابقة، التي على الرغم من دقتها وتميزها وإبداعها، إلا أنها إنما جاءت ثمرة لعصر معين، بقضاياه ومشكلاته. وأقل ما يقال فيها: إنها لم تكن محصلة لهذا العصر، وإن الالتجاء إليها، والاحتماء بها، قد يحافظ عليها حفاظاً تاريخيًّا، لكن الاقتصار على ذلك، دون القدرة على الإفادة منها، كمعين للفهم والنقل الثقافي، والشهود الحضاري، يفقدها قيمتها، ويبعد بها عن إغناء حياة المسلمين، فتنقلب معوقاً، ومانعاً حضاريًّا، بدل أن تكون دافعاً ومشروع نهوض.
ولعل الأخطر من ذلك - وارتباط الأمرين ببعضهما ارتباط سبب ونتيجة - التوقف المذهل في إطار العلوم الاجتماعية والإنسانية، وهي الأدوات والآليات الضرورية لفهم الواقع، وإدراك أبعاد الإنسان، والتعرف على مفاتيح شخصيته، وطرائق تفكيره، والأسباب الحقيقية الكامنة وراء مشكلاته، وهو محل الحكم الشرعي.(1/6)
إن هذه المعرفة بما تقدمه من نتائج تصبح ضرورة شرعية، وأعتقد أنها تقع ضمن إطار الفروض العينية للذي يتصدى لعملية الاجتهاد وبيان المراد الإلهي، وبسطه على واقع الناس، والحكم على مسالكهم، لتتم عملية الموافقة والتكيّف بين الحكم ومحله بدقة، ولا بد أن نذكر هنا تنبه بعض المؤسسات العلمية الإسلامية - كلية الشريعة بجامعة دمشق - إلى أهمية العلوم الاجتماعية والإنسانية بقدر أهمية العلوم الشرعية نفسها، فكانت لها أسبقية في هذا المجال، حيث اعتمدت دراسة علم النفس، وعلم الاجتماع، وحاضر العالم الإسلامي مواد أساسية في منهجها.
ولعل خطورة توقف العلوم الاجتماعية والإنسانية، في أنه حرم المفكر والمجتهد من التعرف إلى ساحة عمله، وأضاع عليه خارطة الطريق ، التي يحاول أن يسلكها، لتنزيل المراد الإلهي على واقع الناس، وتحقيق تقويم سلوكهم بدين الله، وامتلاك شروط التغيير السليمة؛ ولا مناص من الاعتراف اليوم بأن آليات العلوم الاجتماعية تطورت تطوراً كبيراً على أيدي غير المسلمين، وبلغت شأوًا واسعاً، في معرفة الإنسان، الأمر الذي لا مندوحة منه لبسط الإسلام على حياة الناس، وإلا كان التعامل مع مجهول. لقد توقف العقل المسلم عن السير في الأرض، والتعرف على تاريخ الأمم في النهوض والسقوط، واكتشاف آيات الله في الأنفس والآفاق، وآليات التغيير الاجتماعي، التي وردت في القرآن بشكل لافت للنظر، وهي أشبه ما تكون بالمعادلات الرياضية بعد أن أصبح القرآن مجرد تراتيل للتبرك. . . فظن كثير من المجتهدين، أن العملية الاجتهادية، تكفي لها الرؤية النصفية، وهي الوصول إلى معرفة الحكم الشرعي، أما دراسة محل الحكم، والكيفية التي يتم بها بسطه على الواقع، وطبيعة هذا الواقع، بتركيبه المعقد، وأسبابه القريبة والبعيدة، فلم تأخذ الاهتمام المطلوب، فانفصل الدين عن الحياة، وانتهى الفقه إلى تجريدات ذهنية وأراجيز حفظية لا نصيب لها من الواقع.(1/7)
والذي يحاول التعرف على شروط الاجتهاد التي وضعها العلماء يجد أن من جملة هذه الشروط معرفة أعراف الناس ومألوفهم، إلا أن هذا الشرط لم يحظ بشيء من الدراسة الجادة، والبيان الشافي والتأصيل العلمي، على عكس الشروط الأخرى كلها التي يمكن أن نقول: إنها درست وأنضجت حتى كادت تحترق، لأنها أدخلت في طور استحالة التحقق، أما هذا الشرط، وهو معرفة الواقع، فاكتفي فيه بإشارات بسيطة وساذجة في كثير من الأحيان، هي أقرب للملاحظات والمشاهدات، منها للمناهج والدراسات، اللهم إلا الجانب القليل من مباحث الاستحسان والمصالح المرسلة، وسد الذرائع، والعرف، أو ما يمكن أن نسميه بالمصادر التبعية، ذلك أن النظر الاجتهادي في هذه المصادر اعتبره بعضهم ملحقاً إلى حد بعيد بالقياس - القياس الخفي - لبيان المراد الإلهي، أكثر منه تعلقاً في معرفة واقع الناس محل التنزيل؛ أما مكونات الإنسان، وعوامل تشكيل شخصيته، وبناء علاقاته الاجتماعية، والقوانين التي تحكمها فلم يكن له النصيب المطلوب، إلا من بعض البوارق التي لم يكتب لها الاستمرار.(1/8)
لقد كان المجتهد جزءاً من الحياة يتعامل معها ويحترف بحرفها ويخوض معاركها ويكون لمشاهداته ومعاناته الميدانية نصيب كبير من فقهه، أما عندما انفصل المجتهد عن مجتمعه، وابتعد عن همومه فقد فاته الإدراك الواعي لمشكلاته، فجاءت اجتهاداته اجتهادات نظرية مجردة، تنطلق من فراغ، وتسير في فراغ، مما جعل بعض المفكرين يطلقون عليها مصطلح "فقه الأوراق" لأنها تكونت بعيداً عن واقع الناس وميدان نشاطهم. فأية قيمة للحكم تبقى إذا لم ينزل على محله وكيف يعرف محله دون دراسة وعلم؟! لذلك نرى من لوازم الاجتهاد اليوم، الاستيعاب المعرفي الشامل للواقع الإنساني، وهذا لا يتأتى كله من مجرد المعايشة، والنزول إلى الساحة - الأمر الذي لا بد منه - وإنما النزول، والتزود قبله، بآليات فهم هذا الواقع، من العلوم الاجتماعية التي توقفت في حياة المسلمين منذ زمن ، ذلك أن عدم الاستيعاب والتحقق بهذه الشروط اللازمة لعملية الاجتهاد، أدى إلى انفصال أصحاب المشروع الإسلامي، عن واقع الحياة، وإن لم ينفصلوا عن ضمير الأمة، التي لا تزال ترى في المشروع الإسلامي بوارق الأمل للإنقاذ والتغيير.
والتغيير لا بد له من إدراك المراد الإلهي أولاً ومن ثم آليات فهم المجتمع بالمستوى نفسه،، حتى يتم الإنجاز، وقد تكون مشكلة الحضارة اليوم أن الذين أدركوا آليات فهم الواقع لم يؤمنوا بالخطاب الإلهي، وكثير من الذين آمنوا بالخطاب الإلهي لم يدركوا آليات فهم الواقع.(1/9)
فالاجتهاد الفردي في هذا العصر يكاد يكون مستحيلاً، بعد هذا التوسع، والتبحر في الاختصاص، والتعقيد في تركيب المجتمعات، والتشابك في العلاقات الاجتماعية، والتأثر والتأثير بين الأمم من جهة، وبين جوانب الحياة المتعددة، لذلك لا يتسع عمر الفرد ولا علمه - مهما بلغ من النبوغ - لهذا النوع المطلوب من الاجتهاد، فلا مندوحة والحالة هذه من التقدم باتجاه المؤسسات ومراكز البحوث والدراسات، وبناء العقل الجماعي المؤسسي، الذي يمتلك نوافذ الرؤية من الجهات كلها وفي العلوم كلها.
لقد حفل العصر السابق بإنجازات فردية هامة جاءت ثمرة لمقتضيات العصر نفسه، أما بعد أن توسعت الأمور وأصبحت الدنيا كلها محل رؤية الإنسان وخطابه، فلا بد من إعادة النظر في عملية الاجتهاد. حتى يمكن تحويل الإسلام من قيم ومبادئ ومواثيق أخلاقية وإرشادات عامة توجه مسيرة الحياة إلى برامج وأحكام تصوغ الواقع وتضع الأوعية الشرعية الصحيحة لحركته.(1/10)
فالإيمان بخلود هذا الدين، وصلاحيته لكل زمان ومكان وقدرته على النهوض بالأمة إلى مرتبة الشهود الحضاري، أصبح مسلمة لا تحتمل شكًّا، ولا استزادة لمستزيد، وتعاظم المد الإسلامي إلى آفاق لم تكن بالحسبان، لكن لا بد من الاعتراف بأن حركة الاجتهاد لترشيد تدين هذا المد، ووضع البرامج والأوعية الشرعية لحركته، لم تكن بالمستوى المطلوب، ولا الموازي لحركة المد الإسلامي، ذلك أن الجماهير المسلمة آمنت بالإسلام، لكنها لم تبصّر بالواقع وكيفية التعامل معه، وتقويمه بنهج الدين، لقد امتلكت القاعدة الإسلامية العريضة وافتقدت القيادة الواعية الرشيدة الفقيهة، فلحقت بها إصابات بالغة ليست كلها بسبب أعدائها، وهذا يقتضي ديمومة النظر وبذل الجهد والاجتهاد في كل وقت وعصر للإفادة من الخطاب الإلهي في تقويم مسالك الناس ومعالجة مشكلاتهم وفق الهدي الديني، ذلك الاجتهاد (الفقه ) الذي يمكن أن نمثل له بدور الطبيب، الذي يدرس حالة المريض، ويحدد أسباب المرض وآثاره، ويختار له من مجموعة الأدوية المحفوظة في الصيدلية، ما يناسبه ويعالج حالته، دون أن يكون لذلك آثار جانبية قد تعيق شفاء المريض، أو تضاعف مرضه، أو تفضي إلى الإصابة بمرض آخر. فالصيدلي الذي يحفظ الدواء ويعرف مركباته يبقى عاجزاً عن المعالجة لأن المعالجة لا تكفي فيها معرفة الدواء، وإنما تتطلب المعرفة الدقيقة بحالة المريض وما يناسبه وما لا يناسبه من الدواء، والمقادير المطلوبة، والزمن المقدر، والتوازن بين أكثر من دواء إلخ. فمنهج النقل والحفظ للخطاب الإلهي أقرب ما يكون إلى عمل الصيدلي، ومنهج الفهم والفقه من هذا المنقول أقرب ما يكون شبهاً بعمل الطبيب، وقد لا تفيد كثيراً كثرة الصيادلة، ومعامل الدواء، إذا انعدم وجود الأطباء، لأن ذلك قد يؤدي إلى وضع الدواء في غير محله، فيهلك المريض من حيث يراد له الشفاء والنجاة.(1/11)
فالمشكلة اليوم ليست في عدم وجود العلاج، وإنما هي في عدم وجود المعالج، فالإسلام هو الدواء، والشفاء، ولكن كيف نستعمل هذا الدواء ولمن نستعمله؟ ومتى؟ هذه هي المشكلة اليوم التي يعاني منها الواقع الإسلامي، وهي مؤشر مؤرق بسبب غياب فقهاء المجتمعات، وفقهاء التربية، وفقهاء التخطيط، وفقهاء استشراف آفاق المستقبل، وفقهاء علوم الإنسان، فقهاء الحضارة عامة، الذين يشكلون عقل الأمة، ويعرفون كيف يغترفون من هذا الإسلام، لمصلحة الأمة في واقعها المعاصر، وكيف يتعاملون مع هذا الإسلام، ويعودون بالأمة إليه.
ويصير الأمر أكثر لزوماً بعد الإحباطات الكثيرة التي تعرض لها العمل للإسلام، بسبب العجز الواضح في فقه الحركة والميدان، وإبداع البرامج العملية التي تترجم القيم والمبادئ الإسلامية وتنزلها على واقع الناس المعاصر، في ضوء رؤية ذات دراية وفقه، وتتأكد وتتعاظم مسؤولية المشتغلين بالقضية الإسلامية في أن يطرحوا الأمر بجدية وموضوعية، بعيداً عن الحماس والتوثب، وخروجاً على الأسوار الحزبية وممالأة الجماهير، وردود الأفعال، والأساليب التعبوية، التي أدت دورها كاملاً في مرحلة إعادة الانتماء للإسلام والتي باتت لا تفيد كثيراً في مرحلة الانطلاق إلى الأمام.
لقد بقي شعار ترشيد الصحوة نظريًّا، ونستطيع أن نقول: إن أعداء الإسلام أفادوا من رصد حركة الصحوة، ووضع استراتيجيات المواجهة، على المستوى السياسي، والثقافي، والأمني، أكثر من أصحاب الصحوة أنفسهم، الذين عجزوا حتى الآن عن اغتنام الفرصة وحسن الإفادة منها.(1/12)
لقد كانت الصحوة من بعض الوجوه فرصة لانكشاف مواقع العجز، أكثر من أن تكون زخماً عاقلاً لعملية النهوض، من هنا نرى أنه لا بد من العمليات الجراحية الجذرية لاستئصال العجز، والعدول عن المهدئات والمسكنات، التي توهم العافية ولا تقدم العلاج، والعلاج إنما يكون بالاستيعاب المعرفي للعلوم الاجتماعية والإنسانية كما أسلفنا لأن استيعابها أصبح ضرورة شرعية لازمة، لتحقيق المناط، كما يقول علماء الأصول، ولامتلاك صفة الاجتهاد، في تنزيل شرع الله على الواقع البشري، فالاجتهاد اليوم يقتضي فقهاء في الاختصاصات كلها، وإن الاقتصار على فقهاء معرفة الحكم الشرعي، دون فقهاء معرفة محل الحكم، سوف لا يحقق إلا نصف المطلوب.(1/13)
إن فتح أبواب الاجتهاد، على مصراعيها، لا شك أنه سوف يأتي بالغث والسمين، لكن عصمة الأمة بعمومها عن الخطأ، وتواتر الوحي في الثوابت، التي تحمي كيان المجتمع من العبث. وطبيعة التعدد والتباين بوجهات النظر، والتدافع، يبدد الخوف، ويبقي الأصلح، وقد يكون من أهم عوامل تبديد الخوف الإدراك بأن الاجتهاد الفكري أو الفقهي هو كسب بشري، قابل للفحص والاختبار، والتصويب والتخطيء، والحوار والجدل، وليس له صفة القدسية، أو على الأقل ليس هو الدين، وإنما هو فهم الإنسان للدين، وخطأ هذا الفهم لا يعني بحال من الأحوال خطأ الدين المعصوم، لذلك قد يكون لنا بعض التحفظ على كثير من المصطلحات الموهمة أن اجتهاد فلان هو الدين، فلا قدسية لرأي ولا اجتهاد، ولا كهانة في الإسلام، ولا حملة كتاب مقدس، ينطقون باسم الله. وإنما هي فهوم بشرية لتنزيل الإسلام على واقع الناس، معرضة للخطأ كما هي معرضة للصواب. وكل إنسان يؤخذ من كلامه ويرد إلا صاحب هذا القبر، كما يقول الإمام مالك رحمه الله، لأنه مسدد بالوحي ومؤيد به، ولا شك أن كثرة الحوار حول الأمور الفكرية والفقهية المطروحة، يبلور الصواب، ويسدد الوجهة، ومن هنا نقول: إن ما ورد في الكتاب من اجتهادات فكرية أو فقهية تبقى قابلة للفحص والاختبار، والتحاور والتفاكر، والتناظر والتشاور، ذلك أن فهم الإسلام ليس حكراً على إنسان أو جماعة أو مؤسسة أو منظمة أو طائفة، أو عصر، عدا عصر النبوة، ولعل الكتاب الذي نقدمه بجزئيه يطرح مجموعة من القضايا الهامة للمناقشة التي تثير الجدل وتستدعي الحوار، وتحرك العقول، وتشحذ الفاعلية، وعلى الرغم من أن بعض الرواد، وفقهاء الدعوة المعاصرين، طرحوا موضوع فقه التدين، ووضعوا له بعض المعالم والملامح، وفتحوا للعقل المسلم أكثر من نافذة، ليطل منها المهتمون بالقضية الإسلامية. ولسوف يبقى لهم أجر السبق والدلالة على الخير، إلا أن الكتاب الذي نقدمه قد توفر على القضية، وأصلها(1/14)
بشكل منهجي، وأحاط بها من جميع جوانبها، إحاطة واعية.
فالكتاب محتاج إلى دراسة وتأمل وتدبر، أكثر من كونه كتاباً للقراءة، لأنه كتاب في منهج الفهم، في وقت عزت فيه الدراسات المنهجية، ذلك أن مشكلة المسلمين اليوم تكاد تتحدد في منهج الفهم، أو منهج التناول والتعامل مع المصادر الأساسية، من الكتاب والسنة، ومنهج التعامل مع التراث، وإعادة طرح كثير من المسلمات وتحرير القول فيها.
فلقد حمل سوق الصحوة التجاري الغث والسمين مما أطلق عليه فكر إسلامي، ودخل ساحة الكتابة والتأليف من يحسن ومن يسيء تحت وطأة رواج الكتاب الإسلامي، ولا شك أن بعض تلك الكتب والكتابات ساهمت سلبيًّا في التبعثر والإنهاك الفكري. وأثرى كثير من الكتّاب ماليًّا، لكنه لم يثر العقل المسلم بفكر فاعل، ونخشى أن نقول: إن بعض الكتابات كرست العلل والأمراض والتخلف وعجزت عن التبصير بعوامل النهوض.
والله نسأل أن يلهمنا الإخلاص في القصد والصواب في العمل إنه نعم المولى ونعم النصير.
المقدمة
إنّ المتتبع لحركة الصحوة الإسلامية، التي تسعى منذ بعض العقود إلى أن يعاود الإسلام بسط سلطانه على جوانب الحياة كلها، يلحظ أنّ هذه الحركة لم تحقّق من الثّمار، في أن تصير أحكام الإسلام واقعًا في الحياة العملية للفرد والمجتمع، مثلما حقّقت من ثمار، في عودة الكثير من المسلمين إلى الوعي الصّحيح بدينهم، وإلى فهمه الفهم الشمولي المُوحِّد.(1/15)
وليس من شكّ في أنّ مرحلة التّنبيه تسبق منطقيًّا وزمنيًّا مرحلة التطبيق، في هذه الصحوة الإسلامية، كما في كلّ دعوة مذهبية، ممّا يُكسب الوعي والفهم فرصًا للنضج أكثر من فُرص التّطبيق العملي. وليس من شكّ أيضاً، أنّ تطبيق الأحكام الإسلامية في واقع الحياة الاجتماعية يُواجه بصعوبات جمّة، في أنماط الأنظمة القائمة في أغلب مناطق العالم الإسلامي، لا على المستوى السياسي فحسب، بل على المستوى الاجتماعي أيضاً، حيث استحكمت عادات وتقاليد وطرائق عيش، بعضها موروث من عهود الانحطاط، وبعضها وافد بالتقليد من حضارة الغرب، وكلّها تصرّ الإصرار الشّديد على البقاء.
ولكنّ هذه الأسباب الموضوعية لا نراها الأسباب الوحيدة، ولا حتّى الأسباب الأقوى فعالية في تأخّر الصحوة الإسلامية عن أن تُثمر من الانفعال الاجتماعي العملي بأحكام الإسلام أكثر ممّا أثمرت إلى حدّ الآن، ونحسب أنّ من الأسباب الأقوى التي أدّت إلى ذلك ما يرجع إلى طبيعة المنهج الذي تنتهجه الصّحوة في العمل على بسط سلطان الإسلام في الواقع العملي للحياة.
إنّنا نرى منهج الإيقاظ والتّوعية لغاية أن يعاود المسلمون الإيمان بدينهم والاعتزاز به كمنهج وحيد للحياة، هو ذاته المنهج الذي يُستعمل في كثير من الأحيان، في الدّعوة لأن ينخرط المسلمون عمليًّا في حياتهم الثقافية والاقتصادية والاجتماعية العامّة، في نماذج محكومة بأحكام الإسلام، ينسلخون بها من الأنظمة غير الإسلامية الضّاربة عليهم، وهو منهج ينحو منحى التعميم والتجريد، وقد استحدث أصلاً للتّوعية والإقناع.(1/16)
والحال أنّ العمل على تطبيق الأحكام الإسلامية في الواقع يحتاج إلى منهج آخر مختلف، يكون مبنيًّا على فقه تطبيقي، ليست غايته بسط حقائق الدين للإقناع، وإنّما غايته تسهيل الطريق لتلك الحقائق لكي تصبح جارية في حياة النّاس. ويبدأ هذا الفقه من مرحلة الفهم، حيث ينبني بمقتضاه فهم الدين عقيدة وشريعة على أنه حقائق، ليست غايتها في ذاتها، وإنما غايتها في صيرورتها واقعاً سلوكياًّ، ثم يتمّ بذلك الفقه صياغة الأحكام الإسلامية صياغة تناسب معطيات الواقع المشخّص، الذي يعيشه المسلمون في ظرفهم الزّماني والمكاني، ثم يتمّ به بعد ذلك الإنجاز الفعلي لتلك الصّياغة في شعاب الحياة المختلفة.
إنّ افتقار الصّحوة الإسلامية إلى فقه منهجي ناضج لتوقيع الدّين بحسب هذه المراحل هو الذي نراه سببًا مهمًّا في تأخّر إثمارها في مجال التطبيق، ولذلك فإن الضّرورة ملحة في سبيل ترشيد الصّحوة ودفعها إلى غايتها، لقيام فقه منهجي ناضج تمارس به دعوتها العملية لبسط سلطان الدّين في مختلف مظاهر الحياة.
ولسنا ندّعي أنّ في هذا الكتاب عرضاً مستوفى لهذا الفقه المنهجي المرشّد للصّحوة عمليًّا، فذلك لا يتمّ إلا بتضافر جهود مخلصة من ذوي الكفاءة، الذين يحملون همّ الصحوة الإسلامية، ويتحمّلون واجب ترشيدها، بل كلّ ما فيه إثارة للمشكل، وتحسيس به، ولفت الانتباه إليه، عسى أن يكون مدعاة للاهتمام بفقه التّدين، والتّفكير فيه، من قبل من لم يكن على وعي به، أو من لم يكن على اقتناع بجدواه، حتى يصبح بذلك هذا الفقه موضوعاً للمطارحة التي تتقدم به في طريق النضج والإثمار.
هذا وإنّي لأدعو الله أن يجعل من صدق النية فيما أبديت من آراء ما يكون به التجاوز عمّا أكون قد وقعت فيه من خطأ، وأدعو المخلصين من أهل الدّين والعلم إلى تصويب ذلك الخطأ والتّنبيه إليه فالمؤمن مرآة المؤمن، وفوق كلّ ذي علم عليم. وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.
الدكتور عبد المجيد النجار(1/17)
تمهيد
جاءت الرّسل وحياً من الله تعالى بجملة من التعاليم التي تهدي حياة الإنسان في تصوّره للوجود، وفي تصريف سلوكه الفردي والجماعي، فبيّنت له حقيقة ما هو كائن في عالم الغيب، وبيّنت ما ينبغي أن يكون من سيرةٍ له في عالم الشّهادة. وذلك هو الدين الذي جاءت به الرسالات تترى، حتّى انتهت بالرسالة الخاتمة، رسالة الإسلام التي ختمت الرسالات، ومثلت الصورة النهائية الكاملة لها، حتى كان الدين هو الإسلام، كما جاء في القرآن الكريم على صيغة الحصر: ((إنّ الدّين عند الله الإسلام )) [آل عمران:89 ].
وقد خوطِب الإنسان بالدّين لينفعل به في حياته انفعالاً إراديًّا، فيصدّق بما جاء به من بيان في شرح حقيقة الوجود، ومن ذلك يكون معتقده، ويُجرى سلوكه على حسب ما جاءت به تعاليمه العملية، ومن ذلك يكون شرعُه في واقع حياته. وهذا الانفعال بالدّين تصديقاً عقليًّا وسلوكاً عمليًّا هو التدين، على معنى أنه تحمّل الدين واتخاذه شِرعة ومنهاجاً. فالدين إذن هو التعاليم الإلهية التي خوطب بها الإنسان على وجه التكليف، والتدين هو الكسب الإنساني في الاستجابة لتلك التعاليم،وتكييف الحياة بحسبها في التصوّر والسّلوك.
وبحسب هذا التعريف فإن حقيقة الدين تختلف عن حقيقة التدين؛ إذ الدين هو ذات التعاليم التي هي شَرْع إلهي، والتدين هو التشرع بتلك التعاليم، فهو كسب إنساني. وهذا الفارق في الحقيقة بينهما يفضي إلى فارق في الخصائص، واختلاف في الأحكام بالنسبة لكلّ منهما.(1/18)
فالدّين بما هو هدي إلهي، يتصف بالمثالية والكمال، فهو تعاليم يتمثّل فيها الحقّ المطلق بناء على الكمال الإلهي في العلم الشّامل بأحوال الوجود، والمحيط بمصلحة الإنسان في مختلف منقلبات حياته. كما أنّ الدين - والحديث عن الدين الإسلامي - حقيقةٌ مصوغة لهدي لإنسان مطلقاً عن مقيّدات وجوده الزمانية والمكانية، فهي في أوامرها ونواهيها تخاطب بالتكليف الناس كلهم على اختلاف أوضاعهم الذّاتية من التفرّد والاجتماع، والقوة والضعف، والبداوة والتحضّر، وعلى اختلاف مواقفهم في المكان والزمان. إنها حقيقة تكليفية عامة للناس، ليس فيها تخصيص عيني ولا ظرفي إلا مستثنيات نادرة منصوص على التخصيص فيها. (1)
وكما أنّ تعاليم الدّين عامة للناس فهي كلية في ذاتها، تنزع منزع التقعيد العام في الهدي، ولا تقصد إلى ضبط الإرشاد في جزئيات الأفعال الإنسانية في أنواعها التفصيلية، بلْه في أحادها العينية باستثناء بعض النوادر التي اتُّخِذ منها في الغالب مقصدٌ كلّي عامّ، وقد كان ذلك ملحظا مهمًّا للإمام الشاطبي إذ يقول: "تعريف القرآن بالأحكام الشرعية أكثره كلّي لا جزئي، وحيث جاء جزئيًا فمأخذه على الكلية إمّا بالاعتبار أو بمعنى الأصل إلا ما خصّه الدليل مثل خصائص النبي صلى الله عليه وسلم ". (2 )(1/19)
أما التدين فإنه بما هو كسب إنساني في تكييف الحياة بتعاليم الدين يتصف بالمحدودية والنسبية؛ ذلك لأن الإنسان في كسبه الديني يغالب عوائق الواقع المادية، متمثلة في شهوات النفس من جهة، وفي عناد البيئة الكونية في الاستجابة لمطالبه من جهة أخرى، فإذا هو يحقق في التدين قدراً من مطلوبات الدين، يتناسب مع ما يمضي فيه من الجهاد لترقية الذات، وتزكية المجتمع، واستثمار الكون اقتراباً في ذلك من الله تعالى بما يبلغ من رضاه، ولكنه على أية حال لا يبلغ في تدينه تحقيق الدين الكامل، فإن طبيعته الذاتية وواقعه البيئي لا يسمحان ببلوغ تلك الدرجة، وقدره أن يكون كادحاً إلى ربه بالتنامي في التدين حتى يلاقيه في الدار الآخرة دون أن يبلغ من الدين مطلق الكمال. (3 )
وليست المعاناة في التدين بناشئة عن مغالبة الواقع النفسي والمادي فحسب، ولكنها مترتبة أيضاً على ما صيغ به الدين من الكلية التي لا تعتبر فيها مشخصات الأفعال العينية والظرفية، فذلك كان داعيًا لكي يحقق الإنسان التدين بحسب التعاليم الكلية، من خلال ما يتخذ لنفسه من أوضاع جزئية مشخصة في الواقع، ينبغي أن تكون مندرجة في تحقيق المقصد الشرعي، ضمن التعاليم الكلية، بمعاناة من الاجتهاد الدّائب الذي لا تضمن الطبيعة البشرية أن يكون قطعي الإصابة، بل هو عرضة للخطأ، ولكن قدر الإنسان في التدين أن يكون كادحًا إلى الله فيه كما هو كادح في مغالبة العوائق النفسية والمادية.(1/20)
فالتدين إذن هو جهاد لإنجاز الدين، فيه معاناة يكابدها الإنسان عبر واقعه الذاتي والموضوعي، وفي ذلك الجهاد يصوغ من تصرفاته الفردية والاجتماعية والكونية، في مكابدته لواقع النفس والمجتمع والكون أفعالاً جزئية غير منحصرة يحقق بها كليات الدين، ويقترب بها قدماً من المثال الكامل، على قدر ما يصيب في اجتهاده، وما يخلص في جهاده، في حركة لا تستنفد أغراضها بتحقيق الكمال، ولكن يتجدد زخمها ويشتد بما يُحسن الإنسان من أساليب التدين في تزكية النفس وتعمير الأرض.
وللدين فقه خاص، لا يتحصل إلا به، وهو تلك القواعد والطرائق التي بها يقع فهم المراد الإلهي في هدي الإنسان، كما جاء به القرآن الكريم والسنة المطهرة. فالله تعالى خاطب العباد بالتكليف بطريق الوحي، الذي كانت خاتمة حلقاته الوحي المحمدي. ولهذا الوحي المحمدي خصائص ومواصفات، بعضها يرجع إلى صفة الخاتمية، التي منها انبثقت صفة العموم والكلّية، وبعضها يرجع إلى طبيعة اللسان العربي، الذي كان لساناً للوحي الخاتم. وتقتضي هذه الخصائص والمواصفات آداباً معيّنة في فهم خطاب الله تعالى لعباده فما كان مقصودا صريحا للشريعة، وما كان غير صريح، وفيما كان منصوصاً عليه أو غير منصوص عليه. وهي آداب تستمد قوامها من قانون لسان العرب، ومن المقاصد الكلية للشارع، ومن ظروف نزول الوحي، بناء في ذلك كله على قانون العقل في الإدراك. ومن ذلك كله يتكون فقه الدين، الذي به يتمّ فهم المراد الإلهي في خطاب الشريعة.(1/21)
لكنّ فقه الدين ليس بكاف في تحقيق الغاية التي من أجلها نزل هديًا للناس؛ إذ الغاية منه تكييف الحياة، في التصور والسلوك، في واقعها الزمني، في الاتجاه الذي يحقق الخلافة في الأرض، وليس فهم التعاليم الدينية إلا المرحلة الضرورية، التي تسبق منطقيًّا تكييف الحياة، إلا أنها ليست بالضرورة مؤدية إليها باعتبار ذاتها، فقد يحصل فهم الدين، ولكن لا يحصل تطبيق الدين (أي التدين ) على وجه قويم يؤدي إلى الغرض من الدين؛ وذلك لأن التدين يستلزم هو أيضاً لكي يكون قويماً فقهاً خاصًّا، هو فقه التدين، كما أنّ فهم الدين يستلزم فقهًا خاصًّا هو فقه الدين.
إن التعاليم الدينية هي تعاليم مجرّدة كما ذكرناه آنفاً، فهي تهدي أفعال الإنسان على مستوى نوعها المجرّد عن عناصر التشخص، ولكن التدين يقتضي أن يُنزّل المكلف تلك التعاليم المجرّدة على أفعاله العينية، بمعطياتها الزمانية والمكانية، وبحيثياتها التشخيصية، وهو ما يستلزم جملة من الآداب التي تيسر ذلك التنزيل، وتجعل الفعل المشخص منفعلاً بالمبدأ الكلي المجرّد، وتلك الآداب هي التي نعنيها بفقه التدين.
وقد يبدو لبعضهم أنه إذا حصل فقه الدين وإيمان به، كان ذلك كافياً بذاته لأن ينصلح به واقع الأفعال الإنسانية بصفة آلية، فلا تكون لذلك حاجة لفقه غير فقه الدين، ولا يخلو خطاب بعض الدعاة اليوم من أثرٍ لهذه الوجهة، في دعوتهم إلى الإصلاح الديني، إلا أن التعمق في فهم طبيعة الحياة الإنسانية، وعلاقتها بالمبادئ والمثل، والتعمق في فهم آداب الفقه الإسلامي في عهود نضجه وازدهاره، يفضي إلى الاقتناع بأن إنجاز التدين في الواقع الزمني يحتاج إلى فقه خاص زائد عن فقه الدين، وهو فقه التدين.(1/22)
ولعل هذا الفقه أشد تعقيداً، وأكثر صعوبة من فقه الدين؛ لأن هذا الأخير يكون دائرًا على العلاقة بين مصدر الدين قرآناً وحديثاً ، وهو منضبط في خصائصه ومواصفاته وبين العقل المدرك، وهو منضبط في قانونه الإدراكي. أما فقه التدين فإنه يدور على العلاقة بين عناصر ثلاثة، تضم إلى جانب العنصرين السابقين عنصر واقع الحياة الإنسانية، وهو عنصر شديد التعقيد في أسبابه وتفاعلاته وملابساته، فكان بذلك متأبّيًا عن الانضباط المنطقي المطرد، نزاعاً إلى الخصوصيات المستأنفة بحسب تغاير الظروف والأفعال. وهذا ما يجعل فقه التدين أقل حظًّا في الاطراد المنضبط من فقه الدين، وبذلك يكون أكثر صعوبة وتعقيداً.
وقد أشار الإمام الشاطبي إلى هذا المعنى فيما سمّاه بالاجتهاد المتعلق بتحقيق المناط، وقال فيه: إنه اجتهاد لا يمكن أن ينقطع حتى ينقطع أصل التكليف، وذلك عند قيام الساعة، كما قال فيه: إن "معناه أن يثبت الحكم بمدركه الشرعي، لكن يبقى النظر في تعيين محلّه... ويكفيك من ذلك أن الشريعة لم تنص على حكم كل جزئية على حدتها، وإنما أتت بأمور كلية وعبارات مطلقة تتناول أعدادًا لا تنحصر، ومع ذلك فلكل معيّن خصوصية ليست في غيره ولو في التعيين نفسه، وليس ما به الامتياز معتبراً في الحكم بإطلاق، ولا هو طردي بإطلاق، بل ذلك منقسم إلى الضربين، وبينهما قسم ثالث يأخذ بجهة من الطرفين، فلا يبقى صورة من الصور الوجودية المعينة، إلا وللعالم فيها نظر سهل أو صعب، حتى يحقق تحت أي دليل تدخل، فإن أخذت بشبه من الطرفين فالأمر أصعب ". (4 )(1/23)
والاجتهاد المتعلق بتحقيق المناط، كما شرحه الشاطبي، هو ما يساوي تقريباً فقه التدين؛ إذ هو الذي يكون به تكييف الأفعال والأحداث الجزئية على حسب مقتضيات أحكام الدين الكلية. وقد بين الشاطبي أيضاً أهمية هذا الفقه في حركة الحياة الإنسانية، وفق التعاليم الإسلامية فقال: "لو فُرض ارتفاع هذا الاجتهاد لم تتنزل الأحكام الشرعية على أفعال المكلفين إلا في الذهن؛ لأنها مطلقات وعمومات، وما يرجع إلى ذلك منزلات على أفعال مطلقات كذلك، والأفعال لا تقع في الوجود مطلقة، وإنما تقع معينة مشخصة، فلا يكون الحكم واقعاً عليها إلا بعد المعرفة بأن هذه المعين يشمله ذلك المطلق أو ذلك العام ". (5 )
ولو عدنا إلى التراث الفقهي الإسلامي، في عهد ازدهاره خاصة، لوجدنا فيه صورة ناضجة لفقه التدين؛ إذ المذاهب الفقهية في نشأتها وفي تطورها، ليست إلا اجتهادات الأئمة في تنزيل الدين على واقع الحياة، بما تقتضيه الظروف المختلفة، زماناً ومكاناً، ولذلك تلونت هذه المذاهب بألوان الأوضاع البشرية في ا لمناطق التي نشأت فيها، رغم أنها تقوم كلها على تنزيل الأوامر الإلهية الثابتة. ويظهر هذا المعنى جليًا في كتب الفقه للأئمة المجتهدين، وكتب تلاميذهم، قبل القرن الرابع خاصة، كما يظهر أيضاً في كتب النوازل والفتاوى، حيث تنطق هذه الكتب بالكيفية التي جرت عليها الملاءمة بين أحكام الدين، وبين أحداث الحياة.
وعلى مستوى التنظير لفقه التدين زخر الأدب الأصولي الفقهي بجهود وضيئة، في ضبط قواعد لهذا الفقه، يعتبرها الفقيه عند تنزيله الأحكام على الواقع، موازية لتلك القواعد، التي يعتبرها عند فهمه للدين من أصوله. ولعل من أبرز الأبواب الأصولية التي كرست لفقه التدين هو باب مقاصد الشريعة، الذي أصل البحث فيه وأنضجه الإمام الشاطبي في كتابه "الموافقات "، ثم استأنف فيه التأصيل والإنضاج الإمام محمد الطاهر بن عاشور في كتابه "مقاصد الشريعة الإسلامية ".(1/24)
ولا يخفى أن الفقه الإسلامي لم تدم جولة مدّه الحيّ طويلاً، إذ سُرعان ما آل أمره إلى التقليد، والاكتفاء بما اجتهد فيه كبار الأئمة في التنزيل، كما أن علم أصول الفقه تكاد تكون حركته الإنتاجية قد توقفت مع الإمام الشاطبي، وهو ما كان سبباً في ضعف فقه التدين عند المسلمين، إذ انحسر رافده التطبيقي المتمثل في الفقه المتنامي، كما انحسر رافده التنظيري المتمثل في الحركة التطورية لأصول الفقه. ودام ذلك في واقع الفكر الإسلامي زمناً طويلاً، كان فيه قاصراً عن أن يصوغ من الأوامر الإلهية مشروعاً واقعيًا، يصوّب حياة المسلمين إلى الوجهة الصحيحة في الاستخلاف والتعمير، وذلك بما فقد من الآداب في فقه التدين، الذي به يكون مثل ذلك العمل.
وفي هذا العصر وجد المسلمون حياتهم تجري في كثير من مجالاتها على غير هدي من الدين، بما كسبوا من تخلف حضاري أبعدهم بذاته عن الأخذ ببعض التعاليم، في جوانب من حياتهم ودفعهم بما أحدث فيهم من انهزامٍ في الإرادة، إلى إحلال توجيهات من الثقافة الغربية، محل التوجيه الديني في جوانب أخرى، حتى أصبح سلوكهم الفردي والجماعي مخلوطاً فيه الحق بالباطل، والباطل فيه أظهر، سواء في مجال التزكية للذات أو في مجال التعمير في الأرض.
وقد قامت الحركات الإصلاحية الدينية، تبشر بالعودة إلى قيومية التعاليم الدينية على سلوك المسلمين. وحققت نتائج هامة في الإقناع بذلك؛ إذ حركت النفوس الكثيرة إلى أن تجعل من الدين السلطان الهادي في كل عمل، وأصبح ذلك ظاهرة متنامية في العالم الإسلامي، متمثلة فيما اصطلح عليه بالصحوة الإسلامية.(1/25)
ولكن لما رجع المصلحون، ومن استجاب إليهم، إلى ما به يكون استئناف الحياة الإسلامية وفق تعاليم الدين في ساحة الواقع الراهن لم يجدوا من أدب التنزيل، وفقه التدين، ما يحقق الإصلاح المنشود، لا على مستوى القواعد والمناهج في ذاتها، بل على مستوى الإمكانية الفكرية للوعي بها، واستئناف إنتاجها أيضاً. ولا غرو فإن سند هذا الفقه انقطع في الأمة أو كاد طيلة عهود الانحطاط، التي تعطل فيها الاجتهاد.
وقد كان هذا الأمر بمنزلة الإحباط المضمر، الذي شعّب مواقف المنخرطين في الصحوة لإسلامية، شعباً مترددة بين اليأس والرجاء، وبين السطحية المتعجلة، والوعي المتأني، إلى ما يقارب التردّد. فسقط بعضهم في الرّفض لواقع المسلمين، والانسحاب منه، وحلموا ببناء مستقل لواقع جديد، خالص من أدران الجهالة، متمحّض لتنزيل الدين في صورة الكمال. واستيسر آخرون الحلّ، فرأوا أنه لو أزيلت عقاباتٌ سياسية، لأمكن تحويل المجتمع الإسلامي طرفة عين، إلى مجتمع متدين، على درجة عالية من التدين. وأدرك آخرون ما عليه الأمر من تعقيد، يستلزم فقهاً عميقاً شاملاً في تنزيل الدين على واقع المسلمين، ولكن إنجاز هذا الفقه لم يتم بعد، ولعل طلائعه الأولى بدأت تلوح في جهاد بعض الحركات الإسلامية.
والمتأمل في واقع المسلمين اليوم يجده واقعًا في غاية التعقيد، فقد اختلط فيه الحق بالباطل، في صورة التدين التي هو عليها، إذ استصحب جوانب من الحياة خاضعة لسلطان الدين، ولكن جوانب أخرى غشيتها الجهالة، فندّت عن ذلك السلطان، واندرجت تحت سلطان الهوى، أو سلطان الثقافات الوافدة، الشديدة الوطأة بثقل الحضارة الغربية الغالبة، وقد تشابكت في إنتاج هذا الواقع عوامل نفسية واجتماعية وحضارية وتاريخية متداخلة، صنعت كلها ظرف تشديد في التأبّي على إرادة الإصلاح.(1/26)
وبالنظر إلى هذا التشابك المعقد في واقع المسلمين، فإن الواجب يبدو أكيدًا إلى نفير المفكرين الإسلاميين، للنظر المجدّد في فقه منهجي، يهدف إلى المساعدة على تخليص الواقع الإسلامي في مجالاته المختلفة، من مظاهر الزيغ عن السلطان الديني، ودفعه إلى وضع من التدين الشامل، يزكو به المجتمع، في سيرورته الخلافية في خطّيها: ترقية الدّات، وتعمير الأرض. وإن في الأدب الفقهي والأصولي للمسلمين لمصدراً ثرًّا، في استلهام هذا الفقه المنهجي للتدين، بل هو في الحقيقة ليس إلا نفساً مستجدًّا لذلك الأدب، يتجاوب مع مستجدّات الواقع الراهن. كما أن في الكسب الإنساني من العلوم المختلفة معيناً على التقدّم في هذا العمل المأمول العظيم الشأن، وليست التجربة التي اكتسبها العاملون الإسلام فكراً وحركة خلال قرن مضى، بأقل أهمية من العاملين السابقين، في النهوض بهذا المشروع المطروح على الفكر الإسلامي.
وليس ما سأطرحه تاليًا في هذا البحث سوى إثارة لقضية فقه التدين، التي ظلت تشغل الذهن، وتشكل همًّا من همومه، انعكس من التأمل في واقع الدعوة الإسلامية، فيما تلاقيه من عوامل النجاح وعوائقه، وهو همّ يسعى إلى أن يجد له متنفساً في حل نضيج، ولكنّ ضعف المُنّة في هذا المجال، يجعله لا يظفر إلا بما يشبه الخواطر المثيرة، التي تفيد في إبراء الذمة، أكثر مما تفيد في الدفع إلى إنجاز هذا المشروع الكبير، ولا شك أن فقهاء الصحوة الإسلامية، على وعي عميق بأهمية هذا المشروع، وأن كثيراً منهم يتوفر على كفاءة عالية للنظر المستجد في فقه التدين، بل بعضهم قد شرع في ذلك عملياً، فهذه صيحة حادية للمضي في إنجاز هذا الفقه وإنضاجه، فإن عليه يتوقف إلى دّ كبير تغيير الواقع الإسلامي، نحو الاندراج المتنامي في سلطان الدين الحنيف.
وأحسب أن فقه التدين، بما هو منهج لتنزيل الدين على الواقع، ينبغي أن يتأسس على محاور ثلاثة رئيسة هي: الفهم، والصياغة، والإنجاز.(1/27)
أما الفهم، فهو فهم الدين، باعتباره تعاليم هادية إلى الحقّ. وفهم الواقع الإسلامي، الذي يراد إصلاحه. فلما كان هذا الفهم شرطاً ضروريًّا للتدين وجب أن يؤصل فيه البحث من جهة كونه فهماً لأجل التنزيل، وما يقتضيه ذلك من أسس للفهم ومن قواعد فيه، سواء فيما يتعلق بفهم تعاليم الدين من أصولها، أو بفهم واقع المسلمين في مكوّناته المتشابكة وأبعاده المختلفة.
وأما الصياغة، فهي إعداد التعاليم الدينية في هديها المطلق لتكون مشروعاً مقدّراً على قدر الواقع الزمني، الذي يراد إصلاحه، بحيث يكون مؤسساً على الهدي الديني، ومعتبراً فيه خصائص الواقع، حتى يكون قابلاً للتنزل عليه، والفعل الإيجابي فيه، وذلك ما يشبه عمل المهندس المعماري، حينما يصوغ مشروعاً معماريًّا يبنيه على أصول من حقيقة العلم الرياضي والفيزيائي، ويعتبر فيه خصائص البيئة التي سيُقام فيها المشروع.
وأما الإنجاز، فهو التنزيل الفعلي للمشروع، الذي وقعت صياغته من حيث الكيفية التي يكون عليها ذلك التنزيل، والوسائل التي يتم بها، والمسالك التي ينبغي أن يسلكها، والآداب التي تضمن حسن الأداء، وتفضي بالتالي إلى أن يؤتي المشروع أكله، في اندراج السلوك الفردي والاجتماعي في الهدي الديني.
تلك محاور ثلاثة سنحاول فيما يلي شرحها بما يتيسّر من معُونة الهادي المبصّر بالحقّ، ومن لم يهد الله فلا هادي له.
في فقه الفهم
التدين كما ذكرنا سابقاً، هو انفعال الواقع الإنساني بالتعاليم الإسلامية انفعالاً مقصوداً، تحدثه إرادة الإنسان على سبيل التكليف الملزم. فعناصره المتفاعلة إذاً هي: واقع الحياة الإنسانية المتمثلة في تصوّراته الذهنية، وفي سلوكه، ونظم حياته، وسعيه في تدبير معاشه. ومنظومة متكاملة من التعاليم الموجّهة للتصوّر والسلوك معاً وإرادة إنسانية تكيف التصور والسلوك بحسب تلك التعاليم.(1/28)
ومن السّنن الجارية في العمل الإرادي للإنسان، أن تقويم أي موضوع واقعي، مادي كان أو معنوي، بحسب مبدأ نظري، لا يتم على الوجه المطلوب، المفضي إلى الانفعال المبتغى، إلا إذا انبنى ذلك التقويم على العلم بطبيعة وخصائص الموضوع الواقعي، والمبدأ النظري معاً، وكلما كان ذلك العلم دقيقًا وشاملاً، كلما كان انفعال الموضوع بالمبدأ أوفق وأكمل؛ وذلك لأن العلم بحقيقة كل منهما وخصائصه هو الذي تبنى عليه الخطّة العملية في المعالجة، وفيما يقع بمقتضى ذلك العلم المزاوجة بين المتناسب من العناصر في الطرفين فيتم الانفعال المطلوب.
وهذه السّنة ماضية في قضية الحال، قضية التدين في طرفيها الرئيسين: تعاليم الدين،وواقع الإنسان. فلا حظّ للتدين في أن يكون قويما مصلحاً للإنسان، إلا إذا انبنى على فهم عميق لتعاليم الدين من جهة. ولواقع الإنسان من جهة أخرى؛ وذلك لأن هذا الفهم هو الذي سيكون أساساً للخطة التي تعالج واقع الإنسان ليتكيف بالتعاليم الدينية. ومثال ذلك أن من التعاليم الإسلامية أن يكون أمر المسلمين شورى بينهم في شؤون الحكم، فالتدين بهذا الأمر الإلهي يقتضي أولاً: فهم حقيقة الشورى المطلوبة، وتحديد عناصرها وأبعادها، ثم يقتضي ثانياً: فهم واقع المسلمين من حيث وضعهم الاجتماعي، وحظهم من البداوة والتحضر، ومن الأمية والتعلم، ومن التقارب والتفرق في المنازل. وعلى ضوء ذلك كله يقع ضبط الشكل الملائم للتدين بواجب الشورى، ولو فهمت الشورى على غير حقيقتها، أو أهملت بعض عناصر الواقع في وضع المسلمين، لجرى التدين بالشورى على نحو لا يؤدّي إلى المصلحة المقصودة منها.(1/29)
وفهم الدين هو الأصل في التدين، وعليه يتوقف إنجازه، ولذلك كان ركناً قائماً بنفسه، له فقهه الخاصّ به،وقد أفاض الأصوليون في بيانه وتبويبه وتنظيره، حتى غدا منضبط القواعد أو يكاد. ولما كان الدين محرّرًا في أصول ثابتة هي القرآن والحديث، وكلاهما يختص بخصائص، ويتصف بصفات، من حيث حملهما لتعاليمه، كما أن الدين غايته الفعل في الواقع، لإجرائه على ما يحقق المصلحة، فإن ذلك يقتضي أن يكون فهم المراد الإلهي بأوامره ونواهيه مبنيًّا على أساسين اثنين: أولهما خصائص الأصول في الدلالة على الأوامر والنواهي، وثانيهما اعتبار الغاية التطبيقية فيهما. وكلما اختل في الفهم أحد هذين الأساسين، أو كلاهما أدى ذلك إلى الخطأ في إدراك المراد الإلهي من تعاليمه، فصير إلى أفهام غريبة عن الأصول، التي يزعم أنها أُخذت منها، أو غريبة عن الواقع الذي يزعم أنها لغاية إصلاحه، أو غريبة عنهما معاً، فلا يحصل بها لذلك تديّنُ.(1/30)
ولسنا في هذا الباب سنعمد إلى بحث تفصيلي، في القواعد الجزئية لفهم الدين من أصوله، على نحو ما بينته كتب أصول الفقه، ولا إلى بحث تفصيلي في واقع المسلمين اليوم، من حيث ذاته ومن حيث محيطه العالمي، ولكننا تناسباً مع الغرض من هذا البحث، سنكتفي بتناول الأسس الكلية لفهم الدين، وذلك من حيث يراد لحقائقه أن تغشى الواقع لتصويبه؛ لا من حيث البحث النظري المجرد الذي قد يقوم به من لا هم له في التطبيق، من مختلف الدارسين ولو من غير المسلمين. كما سنكتفي بتناول الأسس الكلية لفهم الواقع الإسلامي، من حيث يراد أن ينزل عليه الدين ليصلحه، ويدفعه إلى تحقيق الخير. ولا شك أن هذين الاعتبارين اعتبار الفعل في فهم الدين، واعتبار الانفعال في فهم الواقع، سيكونان المحددين للمنهج الذي سنعتمده في هذا الباب، ولنوعية النتائج التي نروم الوصول إليها. وبين يدي ذلك سنمهد بحديث عن مصدر الدين الذي هو موضوع الفهم، لتحديد حقيقته والوقوف على خصائصه وطبيعته، وتمييزه، مما قد يظن مصدراً للدين،وهو في الحقيقة ليس كذلك، فذلك منطلق ضروري لضبط أسس الفهم وضوابطه.
مصدر الدين
إن من أسس العقيدة الإسلامية أن المصدر الوحيد للدين هو الوحي. والوحي منضبط مُحدّد في أصلين، هما القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف. وكلّ من هذين الأصلين منحصر في نصّ محدد، تناقلته أجيال الأمة في المصحف الشريف بالنسبة للقرآن،وفي دواوين السنة بالنسبة للحديث. ولهذا النص المستوعب للوحي خصائص وأحكام، سواء في طبيعته من حيث هو وحي إلهي، أو من حيث تحمله لتعاليم الهدي، أو من حيث طريقة عرضه إياها على الناس، لتتمثلها العقول على سبيل التكليف.(1/31)
ويتوقف فهم الدين إلى حد كبير على معرفة تلك الخصائص والأحكام، وقد أدى الجهل بها أو تجاهلها قديماً وحديثاً إلى انحراف في الفهم، بلغ أحياناً إلى ما يهدم الدين نفسه، وينقضه في أساسه وسنعرض فيما يلي الأصول الكبرى لخصائص النص في طبيعته، وفي طريقة عرضه للدين تلخيصاً في الأكثر لما أفاض في بيانه تفصيلاً علماء أصول الفقه. ونلحق ذلك بحديث عن دور التراث الإسلامي في فهم الدين، وبيان طبيعة ذلك الدور، وما إذا كان فيه مجال للإلزام بوجه من الوجوه.
1 - خصائص الوحي.
للوحي قرآناً وحديثاً خصائص أصلية، تعتبر معرفتها قاعدة ضرورية في فهم ما فيهما من التعاليم. ونورد فيما يلي أهم هذه الخصائص:
( أ ) الوحي قرآناً وحديثاً إلهي المصدر كله. وشخص النبي صلى الله عليه وسلم المبلغ، دوره تبليغ معاني الوحي، كما نزلت عليه دون تدخل فيها بوجه من الوجوه. أما القرآن فهو إلهي المصدر معنى ولفظاً، وأما الحديث فإلهي المصدر في معناه دون لفظه،(1 ) قال تعالى: ((وَما ينْطِقُ عن الهوى إن هُو إلاّ وحيٌ يوحى )) [النجم:3 ].
هذه خاصية الوحي في ذاته. أما بالنسبة للنظر فيه من حيث وثوقه بالمصدرية الإلهية للقرآن والحديث، فإن تلك المصدرية قطعية الثبوت في القرآن كله، وفي الحديث المتواتر، وظنية في حديث الآحاد (1 ). ويترتب على هذا الأمر، حجية ما هو قطعي الثبوت، حجية مطلقة، فيما يشتمل عليه من التعاليم كلها. أما الظني الثبوت فحجيته مقصورة على التعاليم المتعلقة بالسلوك دون المتعلقة بالاعتقاد (2 ).(1/32)
وسواء أكان الوحي قطعيًّا أم ظنيًّا في ثبوته، فإن تعاليمه في ذاته مطلقة القيومية على الإنسان، غير خاضعة بحال لتعقيبه، ودوره إزاءها إنما هو دور الاستجلاء فحسب، قال تعالى: ((وما كان لمؤمنٍ ولا مؤمنةٍ إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرةُ من أمرهم )) [الأحزاب:36 ]. وأما التعقيب على أحاديث الآحاد في مجال العقيدة، فليس تعقيباً على الأحكام الواردة فيها، بل هو تعقيب على الظنية في ثبوتها، دون أن يكون تعقيباً عليها في ذاتها.
( ب ) الوحي قرآنا وحديثاً خطابُ عام للناس كافة، دون قيد ظرفي بالزمان أو المكان، وذلك سواء كان في صيغته اللفظية عاماً أو كان جزئيًا، إلا ما جاء دليل على تخصيصه، كقوله تعالى في تخصيص النبي الكريم في بعض أحكام النكاح: ((خالصة لك مِنْ دون المُؤمنِين )) [الأحزاب:50 ]. ومرجع هذا العموم في الخطاب إلى أصل عقائدي، هو أن الإسلام دين عام للبشرية كما يفيده قوله تعالى: ((وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً )) [سبأ:28 ]، وقوله: ((يا أيُّها النّاسُ إنّي رسول الله إليكم جميعا ً)) [الأعراف:158 ] (4 ) .
( جـ ) الوحي منحصر في نصوص جارية على لسان العرب بحسب أساليبهم في القول. وقد كانت للعرب قواعد في الكلام، من حيث دلالة الألفاظ على المعاني، ومن حيث ما يفيده النظم من معان غير معاني الألفاظ في ذلك، وأدبهم في ذلك أدب ثري، فهم من بين الأمم أهل البيان، الذين بلغوا فيه الدرجات العلى. وقد جاء الوحي على هذا اللسان في قواعده مرتقيًا إلى أعلى قمة فيه، حتى كان القرآن الكريم بالغاص درجة الإعجاز في ذلك. قال تعالى: ((نَزَلَ بِه الروحُ الأمين. على قَلْبِك لِتكون مِنَ المنذِرين. بِلسانٍ عربيٍّ مُّبينٍ )) [الشعراء: 193-194 ].(1/33)
( د ) ما جاء به الوحي، ليس فيه ما يناقض العقل، بل هو جار كله على مقتضى مبادئه: فقد جاء في هذا الوحي، أن العقل هو أساس التكليف، فلو كان فيه ما يناقض العقل لكان فيه تكليف بما لا يُطابق، والحال أنه يعلن أن ((لا يُكلّفُ الله نفساً إلا وسْعها )) [البقرة:286 ]. وأما ما يبدو في الظاهر أنه مناقضٌ للعقل، مما جاء في القرآن والحديث، فهو إما أن يكون مما يعلو على فهم العقل دون أن يكون مناقضاً له، أو يكون مما يبدو في ظاهره كذلك، ويسع التأويل أن يخرجه من ذلك الظاهر، أو يكون العقل مخطئاً فيما توصل إليه من نتيجة، تبدو مناقضة لما جاء به الوحي، لعدم انتهاجه النهج الصحيح في البحث والنظر، أو يكون ما ظُنّ وحياً من آحاد الحديث ليس في الحقيقة وحيًا. وفي هذه الأحوال كلها لا يكون ما جاء به الوحي مناقضاً للعقل في حقيقة أمره (5 ).
(هـ ) الوحي وحدة متكاملة، وليس وحدات مستقلة، ومن مظاهر وحدته أنه يفسر بعضه بعضاً، وينسخ بعضه بعضاً، فالقرآن يفسر القرآن، والسنة تفسر القرآن. والقرآن قد ينسخ القرآن والحديث قد ينسخ الحديث. وكل ذلك معروفة مواطنه، مقرّرة عند العلماء؛ ولذلك فإن فهم الدين منه لا يتحقق على وجه صحيح إلا في ضوء وحدته وردّ بعضه إلى بعض (6 ).(1/34)
( و ) الوحي ممحّض للحكم في أجناس الأفعال الإنسانية المجردة، من حيث إن الأمر والنهي فيه يتعلقان في الخطاب بصفة مباشرة بجنس الفعل، كأن يتعلق النهي بالسرقة، والأمر بالأمانة. أما الأفعال الجزئية المشخصة بظروف المكان والزمان، مما قام به زيد من سرقة، أو عمرو من أمانة، فإن الوحي يتعلق بها بواسطة النظر العقلي، حيث يتم إرجاعها إلى أجناسها التي تعلق بها الوحي مباشرة، لمّا يقع التحقق من أنها مناطة بالجنس المعين، الذي شمله الحكم المعين، كأن يقع النظر العقلي في معاملة مالية قامت بها أطراف معينة، في زمن ما وبأوصاف معلومة، فيظهر بذلك النظر أن تلك المعاملة من جنس الربا، فيتعلق بها إذاً حكم المنع، وإنما تعلق بها ذلك الحكم بواسطة نظر العقل، لا بصفة مباشرة، كما تعلق بالربا الذي هو جنس عام (7 ).
وتعلق الوحي في أحكامه بأجناس الأفعال، قد يكون على وجه قطعي في الدلالة، بحيث لا يمكن أن يشتمل النص عند تقليبه على وجوهه، إلا على ذلك الحكم، ولا يمكن أن يفهم منه إلا هو، وقد يكون ظني الدلالة، بحيث يكون النص محتملاً لأكثر من حكم،ويكون ترجيح أحدها بنظر عقلي، في نطاق ما يسمح به قانون الّسان العربي.
( ز ) إن الوحي قرآناً وحديثاً نزل منجماً على زمن متطاول، وكان نزوله بحسب مناسبات، من أحداث ووقائع زمنية، في البيئة التي نزل فيها. وأحكام الوحي وإن كانت عامة كما ذكرناه آنفاً إلا أن الاعتبارات الواقعية لنزولها عنصر مهم في فهمها؛ إذ هي في منزلة القرائن والأحوال، التي يتعين بها المعنى، ويترجح بها الحكم فيما هو ظني الدلالة. فيكون الوحي إذن، يحمل في ذاته فيما اشتمل عليه من المعاني والأحكام، شيئاً من اعتبارات الواقع الذي نزل فيه متمثلاً في مناسبات نزوله، مما يجعل الوقوف على ذلك الواقع في أحداثه وملابساته أمراً ضروريًّا في فهم الدين من الوحي (8 ).(1/35)
لقد أوردنا هذه الخصائص مرتبة بحسب طبيعتها، فقدمنا ما كان منها ذو صبغة عقائدية، وأتبعنا ذلك بالخصائص المعتبر فيها الجانب الخطابي في الوحي، ثم أوردنا بعض الخصائص الدلالية، ومن جملة هذه الخصائص الأساسية تتكون قاعدة ضرورية لفهم الدين، بحيث لا يكون هذا الفهم متيسراً دون الوقوف عليها. وهي خصائص موضوعية، ادعاها الوحي ذاته لنفسه،وانبنى عليها واقعه بالفعل، فلا مجال لذلك لأن يفهم خارجها حتى بالنسبة لمن لا يؤمنون بالوحي أصلاً. أما إذا فهم خارجها فإن الناتج من الفهم لا يكون الدين الإسلامي كما عرض نفسه، وإنما يكون شيئاً آخر مخلوطاً فيه شيءُ مما جاء به الوحي، بشيء مما ينشئه العقل من نفسه، وقد وقع من ذلك نماذج عدة في القديم والحديث يُدعى أنها الإسلام، وهي في الحقيقة ليست كذلك.
2 - أساليب الوحي في الهدي.
ذكرنا سابقاً أن الدين هو جملة ما أتى به الوحي من تعاليم، تبين حقيقة ما هو كائن في الوجود، وما ينبغي أن يكون في حياة الإنسان. وإنما جاء الوحي بهذه التعاليم ليفقهها الناس، فكان بيانه متأسسا على هذا المعنى، واتخذ من أساليب البيان في هدي الإنسان إلى معرفة التعاليم الإلهية ما يناسب تمام المناسبة الغاية من الدين، وهي اهتداء الإنسان به في التصور والسلوك.
والمتأمل في الأساليب التي استعملها القرآن والحديث، في عرض الحقيقة الدينية على الإنسان، يلفيها مبنية على اعتبارين أساسين: أولهما أن الله تعالى حكماً في كل ما يتعلق بحياة الإنسان التصوّرية والسلوكية "فلا عمل يُفرض، ولا حركة ولا سكون يدّعى، إلا والشريعة عليه حاكمة إفراداً وتركيباً " (9 )، بحيث لا يخرج عملٌ إنساني وقع في الماضي، أو يقع في المستقبل، إلا وهو مأمور به أو منهي عنه (10 ).(1/36)
وثانيهما أن للإنسان قدرة على إدراك الحقيقة ذات حدود معينة، ومجالات محدودة، كما أنه في حياته عرضة لمنقلبات في الزمان والمكان، تجعله لا يثبت في تحقيق مصلحته على نمط معين من السلوك، في مواصفات مشخصة، وإن كان يثبت في ذلك على الأجناس العليا، كالعدل والأمانة، وما كان في حكمها على هذين الاعتبارين: شمول الحكم الإلهي لأفعال الإنسان كلها، وواقع الإنسان في قردته الإدراكية، وظروف حياته المتغيرة، انبنت أساليب الوحي في الهدي إلى المراد الإلهي، فيما ينبغي أن تكون عليه حياة الإنسان.
وتتنوّع هذه الأساليب إلى ثلاثة أنواع أساسية مترددة في الإرشاد إلى الحقيقة، بين التفصيل، وبين الكلية والتعميم، حتى ليمكن أن نرتبها على النحو التالي: الهدي التفصيلي، والهدي الكلي، والهدي المقصدي.
إن هذه الأساليب الثلاثة تنتظم في دوائر متواسعة، يندرج الأصغر منها في الأكبر. فثمة أحكام نُزع فيها إلى التفصيل في البيان، والضبط المقيد لكيفية الفعل، حتى يكون جارياً بحسب الهدي الديني. وثمة أحكام أخرى نُزع فيها إلى التعميم فتناولت بالأمر والنهي أجناس الأعمال دون تفاصيلها وكيفياتها، وهي بصفة جملية، تشمل النوع الأول، وتنفسح لغيره مما لم يقع تفصيله. وثمة أحكام ثالثة، بلغت من التعميم بحيث أنها لا تتناول أفعالاً بأعيانها ولو في مستوى أجناسها، وإنما هي تحدد المقاصد العامة، لما ينبغي أن تكون عليه أعمال الإنسان عامة، وهي بذلك تعم النوعين الأولين من الأفعال، وتنفسح إلى غيرها مما لم يرد فيه حكم لا على سبيل الضبط ولا على سبيل التعميم.
وعلى سبيل التمثيل، فإن من أسلوب الضبط والتحديد ما جاء في تحديد الميراث في قوله تعالى: ((للذَّكَرِ مثل حظِّ الأنثيين )) [النساء:11 ]، فهو بيان مفصل لكيفية ميراث الأبناء.(1/37)
ومن أسلوب التعميم، ما جاء من أمر بالعدل في التعامل بين الناس، إذ يقول تعالى: ((إنّ الله يأمُرُ بالعدلِ والإحسان وإيتاء ذي القربى )) [النحل:90 ]. فالعدل المأمور به هو وصف ضابط لجنس واسع من أعمال الإنسان، وهو يشمل الميراث الذي فصلت كيفيته في الأسلوب الأول. ويشمل غيره من سائر الأعمال التي يكون فيها تعاملٌ بين الناس.
ومن أسلوب البيان المقصدي قوله صلى الله عليه وسلم : "لا ضرر ولا ضِرار " (11 )، فإنه بيان لمقصد من مقاصد الشريعة التي تندرج تحتها كلُّ الأفعال أعياناً وأنواعاً وأجناساً، ما كان منها مبيّناً بأسلوب التفصيل، مثل ميراث الأبناء، أو مبيّناً بأسلوب التعميم، كالأعمال التي تحقق العدل، أو ما لم يتناوله بيان بذينك الأسلوبين مما يمكن أن يستجد في حياة الإنسان عبر الزمان.
ولهذه الأساليب الثلاثة، التي ورد بها الوحي في بيان الدين قواعد وضوابط في ذاتها، كما أنها تنطوي على حكم عظيمة، في مراوحتها بين التحديد والتوسيع، مما يفسح المجال للإنسان ليمارس التدين في مختلف ظروفة وأوضاعه، فهي لذلك أصل من الأصول التي يتوقف عليها الفهم ا لموفّق لأحكام الدين، وهو ما يدعونا إلى أن نتناولها فيما يلي بشيء من التفصيل على النحو التالي:
( أ ) الهدي التفصيلي: ورد هذا الأسلوب في كل من القرآن والحديث، ولكن وروده في الحديث أكثر؛ وذلك لأن الحديث مفسر للقرآن فيما جاء من كلياته، كما أنه ألصق بأحداث الواقع وحيثياته، فكانت لذلك طبيعته قابلة لأن يكون أكثر تفصيلاً. ولكن في القرآن والحديث معاً لا يشمل ما ورد فيهما من الأحكام التفصيلية إلا قدراً قليلاً من أعمال الإنسان، أما أكثرها فلم يتناوله التفصيل بل تُرك للتعميم.(1/38)
وتناول البيان التفصيلي أكثر ما تناول أعمال الإنسان القلبية والسلوكية، التي يقلّ فيها حظ العقل من التقدير المفضي إلى معرفة الحق، لما هي منتسبة إليه من مجال، ليس من طبيعة العقل البحث فيه، وخاصة على سبيل التفصيل. ويتعلق الأمر في هذا بأعمال القلوب في الاعتقاد بالغيبيات، وأعمال الجوارح في السلوك التعبدي، فقد جاء بيان الوحي فيهما على درجة من الضبط والتفصيل؛ وهو ما أشار إليه الإمام الشاطبي في قوله: "كلّ دليل ثبت فيها (أي في نصوص الوحي ) مقيداً غير مُطلق وجٌعِل له قانون وضابط فهو راجع إلى معنى تعبدي، لا يهتدي إليه نظر المكلف لو وكل إلى نظره؛ إذ العبادات لا مجال للعقول في أصلها، فضلاً عن كيفياتها، وكذلك في العوارض الطارئة عليها، لأنها من جنسها، وأكثر ما يوجد في الأمور العبادية " (12 ).
ومن أسباب شيوع التفصيل في المجال التعبدي، ما ذكره ابن عاشور من "أن العبادات مبنية على مقاصد قارّة، فلا حرج في دوامها ولزومها للأمم والعصور، إلا في أحوال نادرة تدخل تحت حكم الرخصة " (13 ). ولعل هذا السبب نفسه كان به للبيان التفصيلي حظ في أحوال الأسرة، إذ هي مُرشّحة بحكم الفطرة الإنسانية العامة المستقرة لأن تجري فيها أساليب التعامل على قدر من الدّوام، الذي يستلزم أحكاماً دينية تنزع إلى الضبط والتفصيل.(1/39)
وللبيان التفصيلي للأحكام طرق متنوعة، في تحديد الأفعال وضبطها. فقد يكون التحديد بضبط الكيفية التي ينبغي أن يجري عليها الفعل، وذلك مثل تحديد كيفية القسمة في المواريث، وكيفية العقوبات الجنائية. وقد يكون بالتقدير الكمي للفعل، مثل تقدير مبالغ القصاص، وعدد الزوجات في النكاح. وقد يكون بالتقدير الزّمني، مثل الآجال المضروبة في كثير من العبادات، وبعض من المعاملات. وقد يكون بالتقدير المكاني، مثل تحديد الأفعال في منطقة الحرم، في وقت الحج وفي غيره. وقد يكون تعيين الموضوع الذي يجري عليه الفعل، مثل تعيين المحارم في النكاح والقرابة في التوريث (14 ).
وهذه التحديدات المختلفة، هي تحديدات، تشمل فيها الأحكام مجالاً ضيقًا من الأفعال، بفعل القيود المختلفة التي تقيد بها، إلا أنها مع ذلك تبقى الأحكام فيها متناولة لها في مستوى الأنواع، التي تندرج فيها عيناتٌ غير منحصرة، من الأفعال الواقعية المتجددة بمشخصاتها عبر الزمن، فتكون تلك العيّنات خاضعة لتلك الأحكام في الحدود التي حدد بها نوعها.
ولكن ثمة ضرب آخر من التفصيل في أحكام الوحي، يكون فيه التحديد للحكم ليس متناولاً لأنواع من الأفعال، بل هو منصب على فعل بعينه، مما وقع في عهد نزول الوحي، مثل تلك الأحكام التي كان نزولها بأسباب من أحداث معينة، فإنها في الظاهر أحكام محصورة فيها، إلا أنها في الحقيقة ليست كذلك، بل هي أحكام شاملة للنوع، الذي يندرج فيه ذلك الفعل المعين، الذي كان سبب النزول، وذلك اعتباراً لمبدأ عقدي هو عموم التشريع الإسلامي للناس جميعاً، ويستثنى من ذلك ما وقع البيان بتخصيصه كما مرّ ذكره (15 ).
( ب ) الهدي الكلّي: ورد هذا الأسلوب في القرآن والحديث، ولكنه في القرآن أغلب، إذ "تعريف القرآن بالأحكام الشرعية أكثره كلّ لا جزئي، وحيث جاء جزئيا فمأخذه على الكلية، إما بالاعتبار أو بمعنى الأصل، إلا ما خصه الدليل مثل خصائص النبي صلى الله عليه وسلم (16 ).(1/40)
وفي هذا الهدي تتسع الأحكام الشرعية، فيما تشمله من أفعال الإنسان، بما يكون الحكم موجهًا لها في مستوى أجناسها العالية المشتملة على صور وأنواع عديدة من أفعال، تندرج كلها تحت الحكم، باندراجها في الجنس الذي جاء يهديه. وباتساع الأحكام بمقتضى هذا الأسلوب، تنفسح مجالات تطبيقها لتغطي القدر الكبير من تصرفات الإنسان، في النطاق الفردي والاجتماعي والزمني. ومثال ذلك أن تحريم الظلم حكم شرعي، يتسع ليشمل في هدي الإنسان كل أنواع الظلم، التي تصدر من الفرد، أو من المجموعة، وفي كل زمان ومكان، مهما تغيرت أشكالها وتبدلت مظاهرها.
وأكثر ما يكون هذا الهدي الكلي في أحوال المعاملات بين الناس، وفي تصرفات الإنسان العمرانية، وهو ما قرره الشاطبي في قوله: "كل دليل شرعي ثبت في الناس مطلقاً غير مقيّد، ولم يجعل له قانون ولا ضابط مخصوص فهو راجع إلى معنى معقول وُكِل إلى نظر المكلّف، وهذا القسم أكثر ما تجده في الأمور العادية التي هي معقولة المعنى، كالعدل والإحسان والعفو والصبر والشكر في المأمورات، والظلم والفحشاء المنكر والبغي ونقض العهد في المنهيات " (17 ).(1/41)
وإنما كان الهدي كليًّا في أكثر هذه الأحوال، لتكون الأحكام متسعة لصور متعددة من الأفعال، تكون ملائمة لمصلحة الإنسان في مختلف منقلبات حياته، فيتخذ منها ما يحقق المصلحة بحسب الظروف، وتكون كلها جارية على أساس من التدين لاندراجها ضمن الحكم الإلهي؛ وذلك لأن الإنسان إذا كان في سلوكه التعبدي، وفي شطر كبير من حياته الأسرية، ينزع إلى الثبات والاستمرارية، استجابةً لثبات فطرته واستمراريتها، فكانت أحكام الدين المتعلقة بها يغلب عليها الضبط والتحديد، فإنه في تصرفه الاجتماعي، وفي مناشطه التعميرية، تطوح به الظروف المتغيرة إلى أوضاع مختلفة، يحتاج لها إلى التغيير في نمط الاستجابة، لتحقيق مصلحته في كل تلك الأوضاع؛ ولذلك كان التشريع المتعلق بتلك التصرفات والمناشط مصوغاً على هيئة من الكلية تسع ذلك التغيير، وهذا أحد المعاني الأساسية، لمقولة إن شريعة الإسلام صالحة لكل زمان، فمقتضاه "أن تكون أحكامها كليات ومعاني مشتملة على حكم ومصالح صالحة لأن تتفرع منها أحكام مختلفة الصور متحدة المقاصد " (18 ).
ومما يتناسب مع هذا الهدي الكلي، ويدعم أن يكون هو الأسلوب الغالب في البيان الديني، ما جاء في السّنة النبوية من تجنب للتفريع في الأحكام، ونزوع إلى التعميم فيها. فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يكره المسائل في الأحداث الجزئية بحثاً عن الحكم الشرعي فيها، حتى إنه قال في ذلك: "أعظم المسلمين جرماً من سأل عن شيء لم يحرّم فحُرِّم من أجل مسألته " (19 )، كما قال أيضاً: "إن الله فرض فرائض فلا تضيّعوها، وحدّد حدوداً فلا تعتدوها، وحرّم أشياء فلا تقربوها، وترك أشياء عن غير نسيان فلا تبحثوا عنها " (20 ). وهذا يدل على أن التشريع النبوي منصرف عن التضييق في الأحكام، حتى تصبح متناولة للجزئيات من الأفعال، إلى البيان الكلي الذي يكون فيه فسحة للتلاؤم مع متغيرات الظروف.(1/42)
وقد كانت هذه السنة منهجاً مرعيّ من قِبل فقهاء الصحابة، والمجتهدين من الأئمة، فعمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يتشدّد في أن تروى الأحاديث النبوية، حتى تقع الحاجة إليها في مُستجدات النّوازل، مع الحرص على أن يكون ما يروى منها مؤدىً كما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم ، مبيّناً فيه الحال الذي صدرت فيه، وذلك حتى يتبيّن ما هو جزئي، ممّا هو عام، فلا تحمل أحوال الناس العامة على ما هو جزئي محدّد. وقد كان الإمام مالك رضي الله عنه يكره أن تُكتب عنه الفتاوى، كما يكره أن تفترض ا لنوازل افتراضاً لتطبق عليها أحكام قد لا تكون مناسبة لها من حيث الجزئية والكلية وذلك كله لغرض أن لا يقع تقييد تصرفات الإنسان، التي من شأنها التغيّر، بأحكام وضعت في أصلها لما هو ثابت مستقر من أحواله، فينشأ الحرج الذي يُعيق سعيه في النمو الحضاري (21 ).
( جـ ) الهدي المقصدي: قد لا يكون الهدي الديني متمثلاً في إرشاد مباشر، يتناول بالبيان ما ينبغي أن يُفعل، وما ينبغي أن يُترك، من الأفعال الجزئية أو الكلية، وإنما يكون توجيهاً عاماً يرشد إلى ما يريده الله تعالى، من قانون عام ينبغي أن تنتظم عليه أفعال الإنسان كلها، وذلك من حيث إنّ الشريعة الإلهية مبنيّة في أوامرها ونواهيها للإنسان على مقاصد تهدف إلى تحقيقها في حياته. فهذا الهدي هو إرشاد إلى تلك المقصاد، لا إرشاد إلى كيفية جريان الأفعال في ذاتها.
ومن البيّن أنّ هذا الأسلوب في الهدي أعم من الأسلوبين السابقين، إذ هو مشتمل عليهما بجريانهما على أساسه، من حيث إنّ كلّ حكم جزئي أو كلّي جار على أساس من مقاصد الشارع، كما أنّه مستقلّ دونهما بالإرشاد فيما لم يرد فيه حكم من أفعال الإنسان المستجدّة، فإنها ينبغي أن توجّه بمقتضى مقاصد التشريع، التي جاءت في هذا الأسلوب في الهدي الإلهي.(1/43)
والمراد الإلهي فيما ينبغي أن تكون عليه أفعال الإنسان، وهو المعبر عنه بمقاصد الشريعة، هو تحقيق مصلحة الإنسان، فأيما حكم من أحكام التشريع إنما مقصده أن يحقق مصلحة الإنسان، وأيما فعل من أفعال الإنسان إنّما يكون شرعيًّا إذا كان فيه تحقيق لمصلحته المنضبطة وفق المراد الإلهي والمقصد العام للدين الذي تنضبط به مصلحة الإنسان هو "حفظ نظام الأمة، واستدامة صلاحه، بصلاح المهيمن عليه، وهو نوع الإنسان، ويشمل صلاحه صلاح عقله، وصلاح عمله ، وصلاح ما بين يديه، من موجودات العالم الذي يعيش فيه " (22 )، وتندرج ضمن هذا المقصد العام مقاصد جزئية تؤدي كلها إليه وتنتهي إلى تحقيقه.(1/44)
وقد جاء البيان الإلهي في الإرشاد إلى المقاصد الشرعية، على أنحاء متفاوتة، في وضوح العرض لتلك المقاصد. فقد تُعْرَض تلك المقاصد مستقلّةً بذاتها، في وضوح وجلاء، كما في قوله تعلى: ((يريد الله بِكُم اليُسر ولا يُريد بِكم العُسر )) [البقرة: 185 ]، في الدّلالة على مقصد التيسير ورفع الحرج، وكما في قوله صلى الله عليه وسلم : "لا ضَرر ولا ضِرار " (23 ). في الدّلالة على مقصد رفع الضّرر عن الإنسان. وقد تُعرض مُضمّنةً في الأحكام، بالإشارة إلى عِلل المر والنّهي فيها، كما في قوله تعالى: ((ولكن في القِصاص حياةٌ يا أولى الألباب )) [البقرة: 179 ] في الدلالة على مقصد حفظ الحياة، الذي جٌعل علّة لحكم القِصاص، وكما في قوله تعالى: ((إنّما يريدُ الشيطان أن يُوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخَمْرِ والمَيْسِر ِ)) [المائدة:91 ] في الدّلالة على مقصد التآلف والتآخي، الذي جعل علّة لتحريم الخمر والميسر. وقد تُعرض بطريقة غير مباشرة، بأن تكون علّة مبنيّة عليها الأحكام في غير تصريح بها، وإنّما تُعرف بملاحظة ذلك الأنبياء ، عبر الاستقراء للعديد من الأحكام، فيحصل اليقين بأنهما قائمة على علّة واحدة هي مقصد الشارع، وذلك مثل ما جاء من النهي عن بيع الطعام قبل قبضه، والنهي عن بيع الطعام بالطعام نسيئة، والنهي عن الاحتكار، فاستقراؤها يفضي إلى أنها دالة على علّة مشتركة هي رواج الطعام، وتيسير تناوله، وهو مقصد للشارع (24 ).(1/45)
إنّ هذه الأساليب الثلاثة في ع رض الحقيقة الدينية تقوم في أدائها للمعروض على قواعد وضوابط، بعضها يرجع إلى قانون اللسان العربي في الدلالة، وبعضها يرجع إلى العلاقة بين النصوص قرآناً وحديثاً، وبعضها يرجع إلى العلاقة المنطقية بين الكلّ والجزء، والعام والخاصّ، واللازم والملزوم، من الحقائق المعروضة. وهي بضوابطها وقواعدها المختلفة في الأداء تتضافر على تبليغ الدين إلى الإنسان، وهو في تحمل هذا المضمون فهماً واستيعاباً لا بدّ أن يكون على بيّنة من تلك القواعد والضوابط، حتى يتم له فهم الدين على أساس متين.
3- قيمة التراث في فهم الدين.
ليس في النظام الإسلامي طبقة كهنوت، يعهد إليها على وجه التخصيص بفهم الدين وتفسيره، كما في أغلب الأديان، بل فهم الدين من مصادره قدر مشترك بين المسلمين جميعاً، لا يشترط فيه إلا تحصيل الوسائل الموضوعية اللازمة للفهم. وقد كان هذا المبدأ مُفضياً إلى نشوء ثروة عظيمة، من الشروح والتفاسير لحقيقة الدين، تنامت عبر الزمن، وأصبحت تُراثًا يتناقله المسلمون جيلاً عن جيل، ويُسهم في إثرائه العلماء والباحثون على اختلاف وجهاتهم ومذاهبهم دون تحديد. ومن المسائل التي ينبغي طرحها في قضية فهم الدين، دور هذا التراث في الفهم، فهل أفهام السابقين وتفاسيرهم ضرورية في مساعي اللاحقين للفهم؟ وإذا كانت ضرورية، فهل هي ضرورة استئناس أو هي ضرورة إلزام؟ ذلك ما سنحاول طرقه فيما يلي، بعد التحقيق في مدلول التراث الذي سيكون موضوع البحث.
( أ ) مدلول التراث:(1/46)
إن مصدر الدين كما ذكرناه سابقاً هو نصوص القرآن والحديث. وهذا المصدر بما هو دلالات لغوية على المراد الإلهي الموجه لحياة الإنسان بصفة قطعية أو ظنّية، فإن فهم الدين منه، يحتاج إلى عمل اجتهادي، لتعيين المراد الإلهي من خلال الدلالة، وباعتبار المقاصد العامّة التي تتحقق بها مصلحة الإنسان. وقد انكب المسلمون على مصدر دينهم، لفهمه عبر الزمن، منذ عهد الصحابة، ومن اجتهاداتهم المتتالية نشأت أفهام دونوها في علومهم، وتفاسيرهم، وشروحهم، فقهاً وعقيدة وتفسيراً وأمثالها من العلوم، وهي أفهام لئن كانت تشترك في الأسس الكلّية للدين، إلا أنها تفترق في كثير من الفروع والتفاصيل، ومن جملتها تتكوّن المدوّنة الكبرى التي أصبحت تُسمّى تُراثاً، باعتبار أنها يتوارثها المسلمون في علومهم الدينية، التي تتناقلها الأجيال وتتعهدها بالنظر والتنمية.
وبهذا المعنى يخرج من مدلول التراث مصدر الدين من نصوص القرآن والحديث، إذ هما من الوحي الإلهي الملزم، في حين أن التراث هو أفهام بشرية ظنية في أكثرها. وإنما دعانا إلى هذا ا لإيضاح ما درج عليه بعض المتناولين لقضية التراث والموقف منه من إدراج للقرآن والحديث ضمن مدلول التراث، مع الإفهام البشرية، وإجراء الأحكام عليها في السّياق نفسه، وذلك انطلاقاً من إنكار صفة الوحي فيها، وانطلاقاً من اعتبار تعاليمها خاضعة للتغيّر بتغيّر الزمان.(1/47)
وممّا نخرجه من مدلول التّراث بالمعنى الذي سيكون محل درسنا في هذا البحث تلك الإفهام التي وقع عليها إجماع من المسلمين، وخاصّة تلك التي وقع عليها إجماع من الصحابة، فإن إجماعهم على فهم معيّن لمدلول قرآني أو حديثي (25 ) يجعل ذلك الفهم بالغاً من القطيعة مبلغاً يخرج به من الدّائرة التي تمكن فيها المراجعة البشرية اللاحقة، ويلتحق بالقرآن والحديث في تنزههما عن الاعتراض والتعقيب. ومبرّر ذلك أن الصحابة رضي الله عنهم قد شهدوا نزول الوحي، وحضروا ظروفه وأحواله، ورافقوا أسبابه ومناسباته، وتوفّر لهم من التمكن، في لسان العرب وأساليبه، ما لم يتوفر لغيرهم، فإجماعهم على فهم معيّن، وهم على هذه الحال، يرقى بذلك الفهم إلى درجة من اليقين، بأنه هو المراد الإلهي، لا تحتمل المراجعة، ولذلك أجمع المسلمون على أنّ الإجماع هو المصدر الثالث للتشريع. وبهذا المعنى نخرجه من دائرة التراث، في سياق حديثنا عن التراث وفهم الدين.
( ب ) ضرورة التراث في فهم الدين:
إذا كان القطعي في دلالته وثبوته من الدين، يمثل القدر الثابت الذي لا تختلف فيه الأفهام على مرّ الزمن، فإن الظّنّي منه - وهو متّسع المجال - ينفسح فيه النظر، ليرجع باجتهادات قابلة لأن تختلف فيها الأفهام، بمقتضى الظنية. وليست المذاهب الإسلامية المختلفة إلاّ مظهراً لاختلاف الأفهام، فيما هو ظنّي من نصوص الدين. ويضاف إلى ذلك مجال أوسع للاختلاف، حينما يكون الاجتهاد متجهاً للبحث فيما لا نصّ فيه من المُراد الإلهي، فحينئذ تكون وجهات النظر، أكثر عرضة للتباين، لتوسع مجال التقدير وإطلاق معطياته.(1/48)
وبهذا الاعتبار فإنّ فهم الدين جهد متواصل، من قِبل أجيال الأمة لا يتوقف، ولا يمكن أن يُدّعى في زمن من الأزمان أن تعاليم الدين قد استنفدت جهود الفهم، فليس للأحق أن يضيف اجتهاداً جديداً فيه؛ وذلك لأنّ الاجتهاد في فهم الظّنّي يقوم على معطيات وقرائن يرجع بعضها إلى ذات البنية النّصية، ويرجع بعضُها الآخر إلى ما هو خارج عنها، من مكشوفات الحقائق في الكون والحياة، وهي معطيات متجدّدة متنامية، ممّا يجعل الاجتهاد في الفهم، وما ينشأ عنه من نتائج متجددة متنامية أيضاً.
ومن المعطيات الأساسية في الفهم، الاجتهادات السابقة فيه، فإن تلك الاجتهادات، فيما اعتمدته من منهج، وفيما توصّلت إليه من نتيجة، تعتبر من الناحية الموضوعية أساساً ضرورياّ لمعاودة النظر المستجد من أجل الفهم، كما يعتبر إلغاؤها بصفة مبدئية واستبعادها كأداة من أدوات الاجتهاد المتجدد إخلالاً بشرط أساسي من شروط البحث عن الحقيقة، وهذا المعنى تؤيده وتؤكده في موضوع الحال مؤيّدات ومبرّرات عديدة.
ومن هذه المؤيدات أن الأجيال الإسلامية الأولى كانت أقرب إلى الظروف التي نزل فيها الدّين، وأقرب إلى اللسان الذي نزل به، فتوفرت بذلك على حظوظ للفهم لم تتوفّر عليها الأجيال التي جاءت بعدها، مما يعتبر عاملاً يدعو على وجه الضرورة المنهجية إلى الوقوف على ما توصلوا إليه من أفهام.
ومنها أن أفهام السابقين قد تعرضت عبر الزّمن للاختبار، إما بما يصيبها من النقد والتصويب والتعديل من قبل العلماء والباحثين، وإما بما تمر عليه من محك الواقع، عند أيلولتها إلى التطبيق، فيؤدي ذلك في كثير من الأحيان إلى إظهار مدى صوابها في موافقة المراد الإلهي ، ومن ثمة يكون الرجوع إليها ضروريًّا في كل اجتهاد لاحق.(1/49)
ومنها أن الجهود التي تبذلها الأمة على مر الزمن في تفهم دينها تمثل وحدة مترابطة الحلقات، فموضوع البحث واحد في ثبات وهو نصوص الدين والاجتهادات في فهمه ينبني بعضها على بعض إما بالتكميل وإما بالتعديل، وهكذا بنيت العلوم الإسلامية كلها من فقه وتفسير وتوحيد وغيرها، فهي ليست إلا أفهاماً للدين، تنامت بمرور الأيام، ونضجت على محك النقد والتجربة، فأصبحت رصيداً للأمة في مسيرتها الدينية إلى آخر الزّمن.
وبناء على هذه الاعتبارات، فإن الدعوة إلى إسقاط التراث كله بصفة مبدئية، والتوجه مباشرة إلى مصدر الدين من نصوص القرآن والحديث لبناء فهم ابتدائي منهما لا علاقة له بالتراث هي دعوة تُلغي شطراً كبيراً من الشروط الموضوعية، التي يتوقف عليها فهم حقيقة الدين الفهم الصحيح، من حيث إنها تستبعد من العمل الاجتهادي في الفهم تجربة ثرية في ذلك، تنامت طيلة قرون، وخبرتها العقول والتطبيقات الواقعية جيلاً بعد جيل.
وقد قامت في تاريخ الفكر الإسلامي حركات عدة تدعو إلى الاجتهاد ونبذ التقليد بالرجوع المباشر إلى مصدر الدين في استنباط الحلول لمستجدات الأحداث (26 )، ولكنها لم تكن حركات داعية إلى قطع الصلة بالتراث وإسقاطه من الاجتهاد في الفهم، كما تدعو إليه اليوم بعض الاتجاهات المعاصرة، بل هي حركات تصحيحية، تهدف إلى إصلاح ما وقع أحياناً، من إغراق في العكوف على التراث والاقتصار عليه في فهم الدين، انقطاعاً في ذلك عن النظر في الأصل الذي هو نصوص القرآن والحديث. وتصويب مسيرة الاجتهاد في الفهم، التي يقتضي وضعها الصحيح أن يكون الأصل هو المنطلق في الفهم، ويكون التراث هو المساعد على ذلك، وهو مساعد ضروري من ا لناحية المنهجية الموضوعية.
( ج ) هل التراث ملزم في فهم الدين؟:(1/50)
هل يعني ما قلناه سابقاً، من أنّ الوقوف على التراث ضروري في فهم الدين، أن هذا التراث بما وردت فيه من أفهام يمثل إلزاما للاّحقين، بحيث لا تجوز مخالفته بأفهام مناقضة أو موازية أو معدلة؟ إننا لم نقصد بالضرورة التي حددناها آنفاً إلا المقتضى المنهجي في البحث عن الحقيقة، وهو ما يقصر معنى الضرورة على الاسترشاد بالتراث، والاستنارة به عند الاجتهاد في فهم الدين، وهذا يعني أن إلزامية التراث على معنى وجوب التزام اللاحقين، بما توصل إليه السابقون من الأفهام، كليًّا أو جزئيًّا هي قضية أخرى غير قضية الضرورة السابقة الذكر.
وقد أثيرت قضية إلزامية التراث هذه فيما عرف في تاريخ الفكر الإسلامي، بقضية الاجتهاد والتقليد. فالنزعة التي ظهرت منادية بغلق باب الاجتهاد، والتزام التقليد، هي نزعة ترى أن التراث ملزم في فهم الدين، والقائلون بالاجتهاد المتجدد لا يرون إلزامية التراث في ذلك، إذا اللاحقون غير مقيدين بأفهام السابقين وآرائهم.
ومن البين أن الحديث في هذا الموضوع لا يشمل تلك الأفهام الثابتة، التي التزمها المسلمون على تعاقب أجيالهم، مما دلت عليه النصوص الدينية بطريق القطع، فإن توافق اللاحقين فيها مع السابقين ليس توافقًا مبنيًا على الالتزام بأفهامهم، وإنما هو توافق أدت إليه الدلالة القطعية، التي لا يرتد النظر الاجتهادي منها إلا بوجه واحد من الفهم، على اختلاف المجتهدين وتباين العصور.(1/51)
وفيما عدا هذه الأفهام الثابتة، من سائر ما هو ظني من التعاليم الدينية، فإنه يمكن القول: إن التراث فيها - أي أفهام السابقين - غير ملزم للاحقين في اجتهاداتهم لفهم الدين، بل لهؤلاء حق النقض والتعديل والترجيح، فيما ورد في التراث، من اجتهادات سواء الاجتهادات المتعلقة بالاستنباط الفقهي، أو المتعلقة بتأويل مفاهيم العقيدة، أو المتعلقة بشروح النصوص القرآنية والحديثية أصلاً، بل لهم حق الابتكار لأفهام لم ترد على أذهان السابقين، والاستعاضة بها عما أثر عنهم من تفاسير واستنباطات وتأويل. وقد أفاض المنتصرون للاجتهاد الرافضون للتقليد في الاستدلال على هذا الموقف المعارض لإلزامية التراث في الفهم الديني (27 )، ونؤكده في هذا المقام بدليلين، يتعلق أحدهما بأصل التكليف، ويتعلق الثاني بالوضع الحالي للمسلمين، مقارنا بالصورة التي وصل عليها التراث إليهم، عبر أطوار صياغته المختلفة، وما حف بها من ظروف وملابسات.
أما ما يتعلق بأصل التكليف فإن الخطاب الديني هو خطاب تكليفي مباشر لكل إنسان، وهذا ما يقتضي أن يتحمل كل إنسان مسئوليته الفردية، في تحمله للدين، الذي ينطلق ابتداء من فهمه، فيكون الفهم مسؤولية فردية على هذا المعنى، والوضع الأصلي هو أن يكسب الإنسان معدات الفهم لهذا التكليف الفردي، فإذا لم يكن متمكناً من ذلك واحتاج إلى أن يتذرع بأفهام آخرين، فذلك وضع استثنائي، لا ينبغي أن يتحول إلى معنى من الالتزام بأفهام أولئك الآخرين، وهو في موضوع الحال الالتزام بالتراث. وعلى هذا الأساس، فإن مقتضى الخطاب التكليفي يمنع من أن يكون التراث ملزماً في فهم الدين، كمبدأ عام، ولا نظر هنا إلى الحالات التي لا تتوفر فيها قدرات الفهم، فهي الحالات العارضة التي تعالج بقدرها ولا ينبني عليها أصل عام.(1/52)
ويتبين من هذا أن إلزامية التراث في فهم الدين ليس لها سند شرعي، بل إن الأصل الشرعي هو الفهم المباشر، دون واسطة من أفهام أخرى، إلا عند الضرورة إلى ذلك، فيما يشبه الرخصة المستثناة من أصل العزيمة. ولا يخفى أن كلامنا هذا منصب على أصل الفهم، فيما لكل إنسان أن يصدر به بعد التروي في أصول الدين، وأن يعلن عنه في حرية رأي، أما التطبيق السلوكي لذلك الفهم فهو أمر آخر، غير هذا الأمر، تنضبط مسالكه بحسب طبيعة الأفهام، فيما إذا كانت فردية فتخضع لمشيئة الفرد، أو جماعية فتخضع للتنظيم الجماعي، فإذا كان للمجتهد أن يصدر بالفهم الذي يرتئيه في كل من أحكام الصوم، وشؤون السياسة والحكم، وأن يعلن عنه في حرية، فإنه ليس له أن يتصرف في الثاني منهما، بمقتضى فهمه الخاص، مثلما يفعل في الأول لما له من علاقة بالأمة جمعاء.
وأما فيما يتعلق بالوضع الحالي للمسلمين، مقارناً بالصورة التي وصل عليها التراث. فإنه لا يخفى أن المسلمين في الأجيال الأولى عكفوا على أصول الدين بالنظر الاجتهادي، لفهم مدلولاتها في مختلف مناحي الحياة، وصدروا من ذلك النظر أفهام متفاعلة مع واقع الحياة، التي كانوا يعيشونها، فطوروا من ذلك الواقع بما نشأت منه الحضارة الإسلامية العظيمة في وجهيها المادي والمعنوي. وظلت الأفهام الدينية الناشئة من النظر الاجتهادي موصولة بالواقع، متفاعلة معه، مطورة له، على نحو ما نقف عليه في مؤلفات الأئمة من أهل القرون الأربعة أو الخمسة الأولى في الفقه خاصة، وفي التفسير والفكر العقدي، تلك التي إذا ما وضعناها في إطارها الزمني ألفيناها تنبض حياة، وتزخر بقوة الدفع إلى الأفضل، بما تحل من مشاكل الواقع، وتقترح من صور التطوير والتجاوز نحو الأفضل.(1/53)
ولكن هذا المسار الاجتهادي الواقعي الحي أصابه بعد حين من الزمن انتكاسٌ، أخل بخاصية الواقعية والحيوية فيه، وذلك حينما آل النظر في الدين لفهمه، إلى الاقتصار على التوسط بالأفهام السابقة، وهو ما يطلق عليه اسم التقليد، وانكفأ بمرور الزمن التعامل المباشر مع أصول الدين، من القرآن والحديث، ليصبح التعامل منصبًّا على التراث اقتصاراً عليه في فهم الدين من خلاله.
واقتضى هذا الوضع الجديد، الذي استقر عليه المسلمون، في أحوال غالبة، بعد القرن الخامس، أن يعمد المهتمون بالفكر الإسلامي المفسر للدين، إلى أقوال السابقين وأفهامهم واجتهاداتهم، التي صاغوها ضمن سياقها الواقعي الحي، كما تبدو في مؤلفاتهم، فجردوها من ذلك السياق، وأخضعوها للعقل المجرد، ترتيباً وتبويبًا وتفصيلاً، تهيئة لها بذلك لغاية مدرسية، يسهل بها التصور والاستيعاب، يساعدهم في هذا التجريد ما غلب على الفكر الإسلامي بعد القرن الخامس من منهجية المنطق الأرسطي الصوري، حتى غدا الناظر في كتب الفقه، وعلم الكلام خاصة، وما يتعلق بالشروح الدينية عامة، يلفي هذا التراث قد صيغ في مجمله صياغة تعليمية مجردة، تقدم فيها أفهام الدين بصفة يتعامل فيها العقل مع الحقيقة الدينية المطلقة، دون مراعاة للواقع البشري، الذي سيكون مسرحا للتأثير الحي فيه، ودون توجيه لها نحو غايتها التي هي غاية الدين أصلاً، وهي توجيه الحياة في ظروفها وملابساتها المختلفة نحو الأصلح والأفضل. وتتبدى هذه ا لصورة في وضوح وجلاء في تلك الشروح والمختصرات الفقهية وتلك التقريرات الكلامية، التي سادت في القرن الثامن وما بعده، والتي آل كثير منها إلى ما يشبه الرموز والإشارات، من فرط النزعة التجريدية فيه.(1/54)
وقد أصبحت هذه الصورة للتراث هي السائدة في ساحة الفكر الإسلامي، طيلة القرون الماضية، وتُنوسي أو كاد ذلك الوجه الأول، الذي كان عليه في حال واقعيته وحيويته، في مجاله الزمني وظروفه وملابساته الخاصة، مما كان يُمكن أن يمثل عامل توجيه واقعي، بذكر الذهن الإسلامي بالواقعية في غمرة تجريده، كما أصيب بالإهمال شق من التراث الفقهي، ظل على مر الأيام أكثر التصاقا بالواقع ، حتى في عهود التقليد والجمود، وهو لمتمثل في مدونات النوازل والفتاوى، التي كانت معبرة عن هموم واقعية، وأصلة في فهم الدين بين الأصل المجرد وبين الواقع المعاش، ولكنها لم تجد مكانتها إلى جانب الفقه المدرسي المجرد.
وقد ازدادت هذه الوضعية للتراث تجريداً وانقطاعاً عن الواقع لما قٌدِّر للعالم الإسلامي أن تغزوه الثقافة الغربية، فتنأى بكثير من مظاهر حياته عن مقتضيات الفهم الديني المسجل في التراث، ليس على مستوى التأثر السلوكي فقط، بل على مستوى التقنين التشريعي في مجالات كثيرة من التعامل الاجتماعي والاقتصادي، فأصبح التراث بذلك لا ينأى عن لواقع في مستوى تطويره وحل مشاكله فحسب، بل يقصر عن الفعل فيه، ولو في صورته التجريدية القائمة على التقليد.(1/55)
ورغم ما وقع منذ بداية النهضة الإسلامية الحديثة من محاولات لتحريك التراث، ودفعه إلى الفعالية الواقعية، فإن المتأمل اليوم في واقع المسلمين، في ملابساته المعقدة، المتطلع إلى التحول به نحو التدين الحق يُلفي أن هذا العمل الجلل لا يستطيع أن ينهض به فهم للدين، هو ذلك الفهم الذي يتضمنه التراث على الوضع الذي هو عليه الآن، في صيغته المدرسية المجردة، وأنه لا بد من نظر اجتهادي مستأنف، لفهم الدين فهماً يُراد به معالجة الواقع، وهو نظر يلتزم ضرورة فحص التراث، واستيعاب ما ورد من أفهام ثرية، ولكنه التزام استفادة واسترشاد واهتداء، وليس التزام اتباع وتقليد لأفهام السابقين على سبيل الحتم المفروض، فإن ذلك لا يبرره شرعٌ، ولا ينصلح به واقع.
لقد عرضنا فيما تقدم، ملاحظات تتعلق بمصدر الدين الذي منه يُفهم، ومنه تؤخذ تعاليمه، متمثلاً في الوحي الإلهي، بصورتيه القرآن والحديث، مبينين خصائص هذا المصدر وأساليبه في عرض الحقيقة الدينية، ومعقبين بدور التراث في فهم الدين من مصدره، من حيث إن هذا التراث قد اعتبره بعضهم وسيطاً محتوماً، بين المجتهد في الفهم، وبين المصدر المجتهد فيه، فيما يشبه في ظاهره مشاركة للوحي في مصدرية الدين. وإنما عرضنا هذه الملاحظات لأننا اعتبرنا ما جاء فيها أساسيًّا في عملية الفهم نفسها، فكيف يتم فهم الدين من مصدره إذا لم يسبق العلم بخصائص هذا المصدر وأساليبه، وإذا لم يتم تمييزه مما اشتبه به، ولو في الظاهر عند بعض الناس؟
فهم الدين
تقرر لدينا أن مصدر الدين هو القرآن الكريم، والحديث النبوي الشريف. وإذا كانت السنة تشمل البيانات السلوكية العملية للنبي صلى الله عليه وسلم وإقراراته للأعمال التي يشهدها، فإن الأصل في الدين يبقى هو القرآن الكريم والسنة القولية، فهما المرجع الأول لكل من رام فهم الدين، والسنة الفعلية والاقرارية إنما هي تطبيقات مساعدة على الفهم.(1/56)
والقرآن والسنة القولية هما بيانات نصّيّة، جملت فيهما المعاني المعبرة عن المراد الإلهي، في وعاء من اللغة على اللسان العربي. وليست اللغة إلا رموزاً، تحمل المعاني من القائل إلى السامع، وهي رموز تشتمل على عمليتين معقدتين:
الأولى إفراغ المعاني في رموز اللغة من تلقاء القائل.
والثانية تحليل الرموز إلى المعاني المشتملة عليها من تلقاء السامع.وحينما تكون اللغة بشرية، فإن انتقال المعاني من القائل إلى السمع، عبر تينك العمليتين، من شأنه أن يصيب تلك المعاني بشيء من التفاوت، بين حقيقتها لدى قائلها، وبين صورتها التي تحصل عند سامعها. أو يجعلها على الأقل قابلة لأن تصاب بذلك التفاوت، وذلك لأن اللغة في حقيقتها الرمزية لا تحمل المعاني ولا تؤديها في كثير من الأحوال، إلا على سبيل الظن، مما يفسح المجال للاحتمال، والتأويل في المعاني المحمولة، وهو ما يكون به التفاوت المشار إليه آنفاً.
ولغة القرآن والحديث بلغت من حيث حملها المعاني، وتعبيرها عن المراد الإلهي، الحد الأقصى في الكمال، وهو ما بلغ في القرآن الكريم درجة الإعجاز، وبلغ في الحديث النبوي درجة عليا من البلاغة، إلا أنه مع ذلك تبقى العملية الثانية وهي تحويل معاني القرآن والحديث إلى أذهان القارئين والدارسين لهما عملية تحمل إمكان التفاوت بين المراد وبين الحاصل، وعلى الأخص في الشطر الذي يُعرف بظني الدلالة فيهما.(1/57)
ولهذا الاعتبار فإن فهم الدين من أصله النصي ليس بالأمر الهيّن الذي يحصل على نحو أقرب إلى التلقائية، كما يظن بعض الناس، بل هو أمر خطير الشأن، وخاصة إذا لا بسته ظروف من الضعف، في فقه اللغة العربية، وقوانينها في التعبير، أو من الميل إلى التعسف في استخراج المعاني من وعائها اللغوي، وقد وقعت من ذلك نماذج كثيرة في التاريخ الإسلامي، ويكفي أن نتبين في خطورة هذا الأمر أن الانحراف في الفهم يؤدي إلى التشرع بما لم يرده الله، مع ما قد يجره ذلك من ضلال وخسران، وخاصة إذا كان نتيجة تعجّل، لم يستفرغ معه الوسع في التبيّن والاجتهاد.
وليس فهم الدين من أصله النصي عملية آلية، يكفي فيها التحري في ملازمة ظاهر القوانين اللغوية، بل هي أعقد من ذلك بكثير. فالنص الديني نفسه، ورد يحمل من المعنى ما يناسب البشر جميعاً في كل مكان وزمان، باعتبار خاتمية الوحي فيه، وهذا ما يجعل المجموع النصي يحمل من كنوز المعاني، ما لا يستنفده فهماً جيلٌ واحد من المسلمين، بل يمكن أن يكتشف فيه كل جيل ما لم يكتشفه الذي قبله، وذلك وجه من وجود إعجازه. كما أن لعملية الفهم علاقة بكسب العقل البشري من العلوم والمعارف، التي يكسبها من خارج دائرة النص، بل إن لها علاقة بذات الواقع الزمني في أحداثه وتفاعلاته، سواء ما كان منها من نزول الوحي، أو زمن عملية الفهم.(1/58)
وسنحاول فيما يلي أن نرسم ملامح أساسية لضوابط وقواعد عامة من شأنها أن تسدد عملية فهم الدين من النص، والملاحظ أن علماء أصول الفقه قد فصلوا القول في ضوابط الفهم وأسسه، ولكننا في هذا المقام سنعمد إلى عرض أسس كلية لا جزئية تفصيلية، وذلك لأن هذه الأسس الكلية هي التي دار عليها عبر تاريخ الفكر الإسلامي تضارب الأفهام، إلى ما يصل إلى التناقض أحياناً، ولا يزال الأمر كذلك إلى يوم الناس هذا. وسنقدم بين يدي هذه الأسس مقارنة بين المراد الحقيقي من النص، وبين محصول الفهم البشري منه، فيما إذا كان هذا الفهم يعتبر ديناً، إذا كان متفاوتاً مع المراد الإلهي، ففي هذه المقارنة ما يساعد على بسط القول في ضوابط الفهم وأسسه.
1 - الدين بين المراد الإلهي وبين الفهم البشري:
لقد تضمنت نصوص الوحي الهدي الديني على مستويات مختلفة، فبعضها تضمن هذا الهدي بصفة قطعية في الدلالة، بحيث لا يمكن أن يفهم منها إلا وجهٌ واحد، هو المراد الإلهي على وجه اليقين. وبعضُها تضمن معاني بصفة ظنية في الدلالة، بحيث يمكن أن يُفهم منها أكثر من وجه واحد من الوجوه المحتملة. وبعضها لم يتضمن إلا إرشاداً عاماً مقصديًّا، ينير السبيل في المجالات، التي لم ترد فيها هداية نصية مباشرة.(1/59)
ومن البيّن أن النوع الأول تعيّن فيه المُراد الإلهي، فليس للعقل البشري إلا أن يكون محصوله في الفهم مطابقاً لذلك المراد، أي مطابقاً لما تضمنه النص القطعي من دين. ولكن النوع الثاني والثالث على وجه الخصوص، بما بُنيا عليه من ظنية في حمل معاني الدين، فإن العقل لما يتوجه إليهما بغية الفهم للمراد الإلهي، حتى يُتخذ ديناً، قد يصيب ذلك المراد، وقد يُخطئه، بمقتضى الظنية، وحينئذ فأيهما يُعتبر ديناً، هل هو المراد الإلهي في حقيقته، أو هو المحصول الاجتهادي من الفهم، حتى وإن أخطأ ذلك المراد؟ أو أن ذلك المراد لا يكون في بعض الحالات محدداً سلفاً، وإنما يكون تبعاً للفهم الاجتهادي، فيصبح ذلك الفهم ديناً في أي صورة انتهى إليها الاجتهاد؟
وقد تبدو هذه المسألة غير ذات أهمية عملية، تتناسب مع الغرض الذي التزمناه من هذا البحث. ولكنها في الحقيقة ليست كذلك، نظراً للمساحة المتسعة لما هو ظني من الدين، حيث تشمل أكثر الأحكام المصرِّفة لشؤون التعامل بين الناس، وضمنها تندرج الاجتهادات التي تبغي حلولا دينية لمستجدات الأوضاع في حياة الفرد والمجتمع، وهي في حال المسلمين اليوم متراكمة أشد ما يكون التراكم، تنتظر أفهاماً دينية، تجد على أساسها طريقها إلى الحل. إن هذه الحيثيات كلها تشدد من وجوب التحري في الاجتهاد لفهم الدين إلى حدوده القصوى، حتى لا يؤول أمر المسلمين إلى أن يتخذوا من خطرات العقل، وبنات الوهم، وثمرات الهوى، ما يحسبونه ديناً يبغون به الفلاح في مسيرة التحضر. وإننا لنرى اليوم من بين المنتمين إلى الإسلام من يتجاوز ما هو ظني من الدين، إلى ما هو قطعي منه، يبغي له تأويلاً عقليًّا بعيداً عن حقيقته، ويحسب ذلك التأويل ديناً بل هو الدين، وفي هذا تندرج الدعوة إلى العلمانية، وإبطال الحدود، وإجازة الربا، في نطاق تفسير الإسلام بما يلائم العصر، وهذا إهدار للحقيقة الدينية من أساسها.(1/60)
وبهذا الاعتبار فإنه يصبح من المهم في فهم الدين، أن تُعلم أولاً حقيقة الدين، في تراوحها بين المراد الإلهي في ذاته، وبين ما يحصله العقل بعد اجتهاده في فهم ذلك المراد، وذلك من خلال النص في مستوياته الثلاثة، الآنفة الذكر، فمعرفة هذا الأمر من شأنها أن تُسدد عملية الفهم، وأن تفصل بين ما هو دين، وبين ما هو خواطر إنسانية ذاتية.
وقد كان الفكر الأصولي الفقهي على وعي عميق بهذا الأمر، فخصص من بين مباحث الاجتهاد مبحثاً، ناقش فيه حقيقة الدين، هل هي حقيقة ثابتة معينة سلفاً، ومستقلة عن الفهم البشري، أو هي ثابتة في بعض القضايا، وتابعة للفهم الاجتهادي، بحيث يكون هذا الفهم هو المعين لها في بعض القضايا الأخرى؟ وعلى الرغم مما تفرعت إليه الأقوال في هذا المبحث، مما قد يبدو أوْغَلَ في التجريد، فإننا نحسب أن تناول أصل القضية بالمطارحة مُفيد في تسديد الفهم، الذي يؤدي إليه الاجتهاد، ولذلك تُرجم هذا المبحث في كثير من الكتب الأصولية بمبحث "الإصابة والخطأ في الاجتهاد ".
وخلاصة آراء الأصوليين في هذه القضية، أن أحكام الله منها القطعي، مثل أصول العقيدة، وما علم من الدين بالضرورة، من أحكام الشريعة المنصوص عليها على وجه يقيني الدلالة، ومنها الظني، الذي يشمل الأحكام الشرعية المنصوص عليها على وجه يحتمل أكثر من معنى واحد، والأحكام التي يرد فيها نص ولكنها تندرج ضمن أصول الهدي العام.(1/61)
والأحكام القطعية هي أحكام معيّنة ثابتة، ينحصر الدين فيها في وجهها اليقيني الوحيد، فالناظر فيها لفهم الدين منها إن أصاب فهمه ذلك الوجه الوحيد فقد أصاب الدين، وإن أخطأه فقد أخطأ الدين وانحرف عنه وهو آثم بذلك. وعلى هذا المعنى فليس لأحد أن يتأول في الفهم، ما جاء في النصوص، من أحكام التعبد، أو أنصبة الميراث، أو أنواع الحدود ومقاديرها، فيصدر بمحصول مخالف لها في ثبوتها أو في كيفيتها، ثم يدعي أن محصوله ذاك من الفهم يندرج ضمن الدين الإلهي، ويبشر به ويجري حياته عليه على ذلك الأساس.
وهذا الرأي الذي يكاد يجمع عليه الفكر الإسلامي الأصولي، يجد مبرره في المحافظة على الثبات في أصول الدين، حتى لا تصبح الحقيقة الدينية عرضة للنسخ، بحجة الاجتهاد العقلي، الذي تهدر فيه الدلالة اللغوية أصلاً بتأول اليقيني منها، فلا يبقى إذًا للدين الإلهي رسم ثابت، ويمكن أن تحل محله شريعة عقلية خالصة، مع الادعاء بأنها إلهية. ولا يخفى أن هذا الأمر وقع شيء منه في تاريخ الفكر الإسلامي، متمثلاً على وجه الخصوص في تأولات الباطنية، التي أتت على كل حقيقة ثابتة في الوحي، واستعاضت عنها بأوهام إنسانية، ويقع شيء منه في التاريخ المعاصر، متمثلاً في باطنية جديدة تُسقط من الدين أحكاماً يقينية، بحجة التقادم الزمني، وتستعيض عنها بأحكام وضعية، على أنها مُرادٌ إلهي، توصل العقل إلى فهمه بالاجتهاد.(1/62)
أما الأحكام الظنية المنصوص عليها، أو الموجه إليها بالمقاصد العامة، فإن الأصوليين اختلفوا حيالها فرقتين "فقال قوم: كل مُجتهد فيها مصيب، وإن حكم الله فيها لا يكون واحداً، بل هو تابع لظن المجتهد، فحكم الله في حق كل مجتهد ما أدى إليه اجتهاده، وغلب عليه ظنه "(1 ). وعُرف هؤلاء بالمصوّبة لقولهم: بأن كل مجتهد مُصيب لحقيقة الدين باجتهاده، ومن بينهم الإمام الغزالي الذي يقول في تبني هذا الرأي: "والمختار عندنا وهو الذي نقطع به، ونخطئ المخالف فيه، أن كل مجتهد في الظنيات مصيب، وأنها ليس فيها حكم معين لله تعالى "(2 ). وذهب آخرون إلى أن: "المُصيب فيها واحد، ومن عداه مخطئ ؛ لأن الحكم في كل واقعة لا يكون إلا معيّنا؛ لأن الطالب يستدعي مطلوباً، وذلك المطلوب هو الأشبه عند الله في نفس الأمر "(3 ). وعُرف هؤلاء بالمُخطِّئة لقولهم : بأن المجتهد الذي لا يصيب مُراد الله الثابت، فهمه خاطئ ولا يعتبر ديناً(4 ).
وهذا الخلاف بين الوجهتين هو خلاف على مستوى نظري، يمكن أن يتحول على المستوى الفعلي إلى تضافر لترشيد الاجتهاد في الفهم، فيؤدي رأي المخطئة إلى التذرع بالمزيد من أسباب الحيطة وإفراغ الوسع في النظر، ويؤدي رأي المصوبة إلى رفع التهيب من الاجتهاد في الفهم، والركون إلى أفهام من سلف، ليتخذها الخلف ديناً، يجرون عليها حياتهم، من حيث قد لا تكون مناسبة لأوضاعها وملابساتها.(1/63)
وربما يكون رأي المصوبة أجدى عمليًّا، في تطوير حياة الإنسان وإخصابها بما يعود عليه بالنفع؛ ذلك لأنه رأي ينفسح فيه المجال، لأن تتحصل لدى المجتهدين عبر الأجيال أفهامٌ تتغاير في نوع القضية الواحدة من قضايا الحياة، ويكون كل فهمٍ منها محققاً لمصلحة المسلمين في تلك القضية، بحسب تغاير أعيانها عبر الزمن، لتغاير ظروفها وملابساتها الشخصية، فإذا ما اطمأن المسلم إلى أن المراد الإلهي في الظنيات قد يكون مختلفاً باختلاف الظروف العينية، وأن الأفهام قد تختلف تبعاً لذلك، ولكنها لا تخرج عن أن تكون ديناً إلهيًّا، فإنه حينئذ سيكون أكثر اندفاعاً إلى معالجة أوضاع حياته المنقلبة بالزمن، بحلول تؤدي إلى تحقيق صلاحه. وهي في ذات الحين مشتقة من دين الله، الذي هو ما يتوصل إليه العقل بالاجتهاد. إلا أن هذا الموقف يستلزم قدراً كبيراً من الاعتصام بالإخلاص والتحري، دفعا لخاطرات الهوى الملحاحة في مثل هذا المقام، والتي إذا ما وجدت منفذاً إلى المجتهد صيرت أهواء الناس وأوهامهم ديناً إلهيًّا، يتدينون به في حياتهم.
وكأني بفكرة التصويب كانت الأكثر رواجا بين الأصوليين والفقهاء الأقدم زمناً، فقد كانت تتلاءم مع الحركة الاجتهادية الفقهية، التي شهدت الازدهار، قبل القرن الخامس، لما في طبيعتها من دافعية للاجتهاد. وفي المصادر الأصولية، أن من المصوبة القاضي الباقلاني (ت 403هـ )وأبا حامد الغزالي (تـ505هـ )، ومن قبلهما أغلب أصحاب لإمام الشافعي (تـ 204هـ ) وأبا الهذيل العلاف (تـ 235هـ ) وأبا علي الجبائي (تـ303هـ ) وابنه أبا هاشم (تـ 321هـ ). فلما مال أمر الفقه إلى التقليد، أصبحت فكرة التخطئة أكثر رواجاً بين الأصوليين، لأنها أكثر تلاؤماً في طبيعتها مع التقليد(5 ).(1/64)
وبالنظر إلى وضع المسلمين اليوم، فإن مذهب التصويب أنسب لمعالجة عللهم، إذ هو يدفع إلى أن يجتهد العلماء في فهم الظنيات من الأحكام، ليصدروا منها بأفهام تسدد الأوضاع الكثيرة المائلة عن سمت الدين، وتكون هذه الأفهام مبنية على ما فيه صلاح هذه الأوضاع، اعتباراً بمستجدات عناصرها، ومتشابك ملابساتها، ومتحررة من أفهام اجتهادية، قد تكون صدرت عن مجتهدين قدامى في ذات النوع من القضايا، ولكنها كانت مبنية على أوضاع وملابسات طواها الزمن، وبسط أوضاعا وملابسات جديدة، ثم تؤخذ هذه الأفهام الاجتهادية الجديدة على أنها مراد إلهي، لتكون لها بذلك قوة النفاذ، وفعالية الإصلاح، وتعبئة النفوس للإنجاز، وعلى هذا الأساس فإننا نعتبر الاجتهاد في الفهم يناسبه في واقع المسلمين اليوم أن يقوم على خلفية تصويبية، تنأى به عن التقليد، وتدفعه إلى التجديد مع استصحاب التحري، الذي يعصم من مدخلات الهوى ومفاتن الشيطان.
2 - الضوابط النصية في فهم الدين:
إن أحكام الدين يحملها وعاء من اللغة، هي اللغة العربية، وقد اختارها الله تعالى لتحمل الدين الأبدي، لحكمة لعل منها ما لها من مقام في كفاءة الأداء لم تبلغه لغة غيرها. وقد كان لها في ذلك المقام أدب رفيع وثري، من القوانين في حمل المعاني وأدائها. كما أن المجموع النصي قرآناً وحديثاً، يمثل في مختلف عناصره وحدة متكاملة في الهداية، متأتية من وحدة المصدر ووحدة الغاية. وليس النص الديني منبتاً عن واقع الأحداث والنوازل، على العهد الذي نزل فيه من الله على نبيه. بل هو وثيق الصلة بها، رغم مغازيه الأبدية وأحكامه المطلقة، تلك اعتبارات ثلاثة، تتعلق بنص الوحي، من حيث حمله للهدي الديني، لا يتأتى للمجتهد فهمٌ لأحكام الدين من خلاله إلا بمراعاتها، وذلك ما عنيناه بالضوابط النصية، ونجملها في ثلاثة، ضابط لغوي، وضابط تكاملي، وضابط ظرفي.
1- الضابط اللغوي:(1/65)
لقد ذكرنا آنفاً، أن للّغة العربية على عهد نزول الوحي أدباً متفرّداً يتصف بالعمق والثراء، وعلى حسب هذا الأدب وقوانينه جاءت لغة الوحي تخاطب الناس. ويتبع ذلك بالضرورة، أن يكون فهم مدلولات النص الديني منضبطاً بقوانين ذلك الأدب وقواعده، فيما فُطرت عليه اللغة العربية من اللسان، حيث "تخاطب بالعام يُراد به ظاهره، وبالعام يراد به العام في وجه، والخاص في وجه، وبالعام يُراد به الخاص، وظاهر يُراد به غير الظاهر، وكل ذلك يُعرف من أول الكلام أو وسطه أو آخره، وتتكلم بالكلام ينبني أوله عن آخره، أو آخره عن أوله، وتتكلم بالشيء يعرف بالمعنى، كما يعرف بالإشارة، وتسمي الشيء الواحد بأسماء كثيرة، والأسماء الكثيرة باسم واحد، وكل هذا معروف عندها لا ترتاب في شيء منه "(6 ).
وإذا كانت اللغة كائناً حيًّا، يأتي عليه التطور، سواء في مدلول الألفاظ، أو في مدلول نظمها، فإن فهم أحكام الدين من نصوص الوحي، ينبغي أن يكون على بينة من هذا الأمر، حتى لا تسقط معانٍ ومدلولاتٌ لاحقة في حدوثها عن عهد نزول الوحي على النص الديني، فيحمل من المعنى ما لا يمكن أن يحمله، وتحصل من ذلك أفهام زائغة عن المراد الإلهي(7 ).
ولا يعني هذا الاحتراز العزوف عن كل مستجدات فقه اللغة وعلم الألسنية في فهم النصوص الدينية، بل إنه من المفيد استثمار ما وصلت إليه هذه المعلوم من نتائج علمية، والاستعانة بها على الفهم، ولكن ذلك ينبغي أن يكون في نطاق أدب اللغة العربية على عهد نزول الوحي، دون الانزلاق في تأولات إسقاطية تحدث في الدين ما ليس فيه، بتحميل اللغة ما لم تحمله من المراد الإلهي.(1/66)
وقد نشأت في تاريخ الفكر الإسلامي، من عدم التقيد بأدب اللغة العربية، أفهام للدين، غريبة عن حقيقته، بل مُهدرة لتلك الحقيقة أحياناً، ويكفي في ذلك مثالاً، ما آل إليه غُلاة المتأولة من الباطنية، من تفسيرات لنصوص القرآن والحديث، تكاد تؤلف ديناً آخر، غير دين الإسلام، مما هو موروث من الأديان والفلسفات القديمة، ويقابل هؤلاء المتأولة قوم من الظاهرية، الذين قصروا دلالات اللغة على ظواهر اللفظ، وتحللوا من قانون اللسان العربي، في المجاز الذي هو ركن عظيم في الدلالة على المعاني.
وكأن هاتين النزعتين: الباطنية والظاهرية، ظلتا تتدافعان في حلقات متلاحقة من ردود الأفعال، مع التجديد في الشكل الظاهري، بحسب الظروف الزمنية، مع الإبقاء دوماً على إهدار قانون اللسان العربي، مهما كان السبب المذهبي، الذي جرّ إلى ذلك الإهدار تأويلاً أو حرفية ظاهرية؛ وفي ساحة الفكر الإسلامي اليوم مشهد من ذلك التاريخ السجالي، حيث نجد نزعة باطنية جديدة، تبحث عن معان دينية من خارج المقتضيات اللغوية للنص، في إيهام بأنها مدلولات لذلك النص، وخذ مثالاً لذلك مُعطِّلة الحدود، وأنصبة الميراث، بادعاء أن هذا التعطيل مُراد إلهي، يلتمس في النص الديني نفسه. كما نجد أيضاً نزعة حرفية في الفهم، تُصر المعاني الدينية على ظواهر الألفاظ، فتضفي على الحقيقة الدينية العميقة ثوباً من الشكلية، تعطل دافعيتها في تحريك حياة الإنسان نحو الغاية المرجوة.
وإلى جانب هاتين النزعتين اللتين تتجاوزان الضابط اللغوي، بسبب مذهبي في الغالب، فإن الجهل المحض بقانون اللغة العربية يمثل عاملاً خطيراً في الزيغ، بفهم الدين عن سمته الصحيح، ودواعي هذا الجهل هي اليوم أكثر توافراً، بما يفشو من الزهد في التفقه في اللغة العربية وآدابها، ومن الأسباب التي ينبغي التذرع بها اليوم للفهم السديد لأحكام الدين تنشيط فقه اللغة وحذق آدابها.
ب - الضابط التكاملي:(1/67)
إن نصوص الوحي قرآناً وحديثاً وحدة متكاملة المعنى، تتضافر مختلف المقامات فيها على بيان الحقيقة الدينية. ولكن هذه المقامات ربما كانت مختلفة في طريقة البيان تبعاً لاختلاف مناسبات النزول، ومقتضيات أحواله، فقد يكون حكم ما ثابتاً في موضع من الوحي ويكون منسوخاً في موضع آخر، وقد يكون المعنى مجملاً في موضع، ومبيناً في موضع آخر، أو عاماً في موضع ومخصصاً في موضع آخر.
وباعتبار هذه الطبيعة في النص الديني، يكون من الضروري في فهم الأحكام الدينية، النظر في النص نظراً متكاملاً، بحيث تُستقصى المواضع كلها التي عرضت بالبيان للقضية المعينة، والمقارنة بينها، واستيفاء بعضها من بعض، وفك ما يبدو أحياناً في ظاهرها من تعارض ليستبين من ذلك كله المراد الإلهي في تلك القضية. وقد بين الإمام الشاطبي هذا المعنى في قوله: "إن القضية وإن اشتملت على جُمل، فبعضها متعلق ببعض؛ لأنها قضية واحدة نازلة في شيء واحد، فلا محيص للمتفهم عن رد آخر الكلام على أوله، وأوله على أخره، وإذ ذلك يحصل مقصود الشارع في فهم المكلف، فإن فرق النظر في أجزائه فلا يتوصل به إلى مراده، فلا يصح الاقتصار في النظر على بعض أجزاء الكلام دون بعض "(8 ).(1/68)
إن النظر الجزئي في النص الديني، اقتصاراً على موضع من مواضع البيان، يؤدي إلى فهم خاطئ في أغلب الأحيان، بل قد يؤدي إلى ما يخالف المراد الإلهي، كأن يقتصر على النظر في المنسوخ، وقد رفع الحكم الذي يحمله. وقد شهد تاريخ الفكر الإسلامي نماذج عدة من نزعات الفهم الجزئي، التي قصرت عن النظر الكلي المتكامل، وخذ مثالاً على ذلك نزعة الخوارج في الفهم، فقد كان مأخذهم الأصلي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، أنه رضي بتحكيم الرجال في موقعة صفين، والحال أن لا حكم إلا الله، ولو ردوا قضية التحكيم إلى ما ورد فيها في جملة القرآن والحديث، لتبين لهم أن في الدين سعة لما فعل علي رضي الله عنه ؛ ونزعة الخوارج الجزئية تتكرر عند كثير من الجماعات عبر تاريخ المسلمين، بدرجات مختلفة، ولا يخلو منها عهدنا الراهن، وثمرتها في الغالب فهم ناشز عن الحق، رغم توفر صدق النية في أغلب الأحوال.
وقد تكون الطريقة التي شاعت في الثقافة الإسلامية في تفسير القرآن والحديث ساهمت في شيوع الفهم الجزئي، أو على الأقل هي قابلة لأن تساهم في ذلك، وهي طريقة الشرح التحليلي للنص الديني، الذي يغلب عليه المنهج التجزيئي، حيث يُرتب الشرح بحسب المواضع منفردة، فتضعف فيه النظرة التكاملية، مهما حاول الشارحون أن يقارنوا الموضع المعين، بما يماثله من المواضع الأخرى.
ولهذا الاعتبار فإنه يكون من عوامل الترشيد المهمة لفهم الدين شيوع منهج في تفسير القرآن والحديث يقوم على الشرح الموضوعي، الذي تتخذ فيه القضايا محاور للبحث، فتُستقطب كل البيانات الواردة فيها، لتتوفر فرصة للمقارنة، تفضي إلى فهم أكثر إحاطة بالمراد الإلهي، وأكثر رشداً في إصابة الحق. وإذا كان ثمة اليوم اهتمام متزايد بالتفسير الموضوعي، فإن هذا المنهج لم يصبح بعد منهجاً شائعاً في الثقافة الإسلامية.
جـ - الضابط الظرفي:(1/69)
لقد كان الوحي هداية واقعية للناس، ولذلك كان تنزله تنجيماً بحسب نوازل تقع بالفعل، ليعالج من خلالها القضايا العامة، التي تتعلق بالإنسان المطلق، لما في ذلك من شدة الوقع في المعالجة، ومن ثمة اقترنت النصوص الدينية قرآناً وحديثاً بمناسبات وأسباب في نزولها، متمثلة في وقائع وأحداث، عُرفت في الثقافة الإسلامية بأسباب النزول(9 ).
وهذه الوقائع والأحداث، التي كانت أسباباً لنزول الوحي، تحمل من القرائن ومن مقتضيات الأحوال ما يكون ضروريًّا في فهم المراد الإلهي، من النصوص التي نزلت في شأنها، والتغافل عنها، قد يكون مدعاة إلى صرف المعنى عن حقيقة المراد، إلى ما يخالفه أو يناقضه، كأن يحمل حكم ما على المؤمنين، وقد نزل في الكفار أو العكس(10 ). وقد كان عبد الله بن مسعود يعرِض اعتزازه بمعاشرة القرآن الكريم، وحذقه لمعانيه، فيقول في مقام الاستدلال على ذلك: "والذي لا إله غيره، ما أنزلت سورة من كتاب الله، إلا أنا أعلم أين أنزلت، ولا أنزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيم أنزلت "(11 ). ولعل هذه المعرفة بأسباب النزول من ابن مسعود هي أحد الأسباب في التزكية النبوية لعلمه القرآني من النبي صلى الله عليه وسلم ، حيث أمر بأن يؤخذ القرآن من أربعة أحدهم ابن مسعود(12 ).
ويتبع المعرفة بأسباب النزول أحداثاً في الزمان والمكان، معرفة أحوال العرب وعاداتها حال نزول النص، فإن النصوص نزلت تخاطب الناس على مقتضى هذه العادات والأحوال، فيتوقف فهم مرادها على فهمها، وقد بين الإمام الشاطبي هذا المعنى بقوله: "ليس كل حال ينقل، ولا كل قرينة تقترن بنفس الكلام المنقول، وإذا فات نقل بعض القرائن الدالة، فات فهم الكلام جملة، أو فهم شيء منه، ومعرفة الأسباب رافعة لكل مشكل في هذا النمط. ومن ذلك معرفة عادات العرب، في أقوالها وأفعالها، ومجاري أحوالها، حالة التنزيل "(13 ).(1/70)
وقد يشكل على بعضهم علاقة المعنى الذي يتضمنه النص بالسبب الذي نزل فيه، فيقع الميل إلى تخصيص الحكم بذلك السبب أحداثاً وأشخاصاً، وفهمه على أنه مقصور عليه، وهذه نزعة نلحظ فيها اليوم رواجاً، لدى من يرومون المروق من مبدأ الاستمرارية في الهدي الديني، حيث جنحوا إلى تخصيص الكثير من أحكام الوحي بأسبابها الظرفية، وجعلوا ذلك مبرر الاستعاضة عنها بأحكام وضعية. ومن البيّن أن هذه النزعة كفيلة بأن تهدم الدين أصلاً، حيث تنتهي به إلى وضع من التاريخية ينقطع به عن الحياة، ويؤول به إلى العطالة الكاملة.
ولعل من مظاهر الحكمة الإلهية، أن كانت الأسباب التي فيها نزل الوحي، غير مضمنة في النص الديني، القرآني منه على وجه الخصوص، بل ظل هذا النص مصوغاً في صيغة كلية عامة، حتى يبقى ذلك العموم في البيان، مفيداً للعموم في الأحكام، مطلقاً من قيود التشخيص في الزمان والمكان، وهو ما تعارف عليه الأصوليون بأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. وقد جعلت الأسباب مأثورات تروى خارج النص، حتى يكون لها دور التجلية لمعناه، دون أن تميل به لو تضمنها في صلبه، إلى التخصيص، الذي يذهب بعمومية الأحكام.
3 - دور المعرفة العقلية في فهم الدين:
نقصد بالمعرفة العقلية ما يكسبه العقل بنظره الذاتي، من معارف وعلوم، تتعلق بالكون أو بالإنسان، فهل من دور للعلوم العقلية في فهم الهدي الديني؟ وما هي طبيعة ذلك الدور ومظاهره؟(1/71)
إن العقل لما يباشر النص الديني لاستجلاء معانيه، فإنه سيعتمد المبادئ المنطقية العامة للفكر، التي بُني عليها النص الديني نفسه، وهي القاسم المشترك الأصلي، بين الخطاب الديني، وبين المخاطب بالتكليف. ولكن عقل الإنسان معمور أيضاً، بحصيلة من المعارف المكتسبة عن الكون والإنسان، وهذه المعارف تتدخل حتما عند مباشرة النص الديني، أو أي نص غيره بالفهم، وذلك من طبيعة عملية الإدراك العقلي نفسها، إذ ليس من الممكن التخلي عن المكتسبات المعرفية للعقل عند فهم الخطاب.
وإذن فإنه يكون من الضروري، ومن المشروع، أن يكون للمعارف العقلية دور في فهم الدين، إلا أنه من الضروري أيضاً، أن يكون ذلك الدور سالكاً مسلك الرشد في استخدام هذه المعارف، في تحديد المُراد الإلهي، وذلك بأن يُفرّق بين نوعين من المعارف العقلية: نوع يكون الحقّ فيه يقينيًّا أو قريباً من اليقيني، ونوع يكون الحق فيه مظنوناً ظنًّا ضعيفاً أو موهوماً، فيعتمد الأول في الفهم، ويترك الثاني فلا يكون له مدخل فيه، حتى لا يفضي إلى تحصيل أفهام دينية موهومة أو مظنونة ظنًّا ضعيفاً، وحينما تترشّد المعارف العقلية على هذا النحو فإن دورها في فهم الدّين يمكن أن يكون بالطريقتين التاليتين:
(أ ) تعيين المدلول النصّي:(1/72)
لقد أودع الله تعالى في وحيه علماً محيطًا، فكان ما يشتمل عليه من الحقائق كنزاً لا يحيط الإنسان بآخره. وكأنما شاءت الإرادة الإلهية، أن يكون الهدي المرشد للحياة في كلّ ظروفها وأوضاعها مُودعاً في النصّ الديني بصفة جلية، بحيث يحصّله العقل بالنظر الأولي، مهما كان حظّه من كسبه الذاتي للمعرفة، وأن تكون جملة أخرى من الحقائق مودعة فيه، بحيث لا يحصّلها العقل إلا على ضوء ما يبلغه من المعارف الذّاتية، بحسب ما يترقّى الإنسان في ذلك ترقّياً يفضي به إلى أوضاع من الحياة، يكون في سبيل تقويمها في حاجة إلى تلك الحقائق المودعة في النّص بصفة غير جلية فيحصّلها بالنظر الاجتهادي، تدفعه إليها حاجة الظروف المستجدة، وتهديه إليها معارفه المكتسبة. ولهذا السبب كان القرآن والحديث معيناً لا ينضب للمفسرين والمحلّلين، يتوالون على مر الزمن على الغوص فيه، ويصدر كلٌّ منهم بحصيلة من الكنوز، بعضها مشتركٌ بينهم جميعاً، وبعضها يختص به بعضهم دون الآخرين، استجابة للنوازل المستجدّة، واستهداء بعلوم الإنسان، وسيبقى الأمر كذلك، ما بقي القرآن، وما بقيت الأمة الإسلامية.
وفي نطاق هذا الدور يكتشف الناظر في النص الديني حقائق كونية وإنسانية، بما وصل إليه العقل من معارف في هذا المجال. ولدى العلماء اليوم حصيلة ثرية من هذه الحقائق مترجم لها في الغالب بالإعجاز العلمي في القرآن والحديث(14 ). وقد يتبادر إلى الذهن أن هذه الأفهام الجديدة للدين لا دور لها في هدى الحياة، من حيث هي دين، باعتبار أنها كانت حاصلة في العقل أولاً، باعتبارها كسباً ذاتيّاً له، والحقيقة أنها لما غدت أفهاماً دينية، فإنها سيصبح لها وضع آخر، غير الوضع الذي كانت عليه قبل ذلك، وسيؤسّس عليها المسلم حلولاً للنوازل العارضة، باعتبارها هدياً دينيًّا، ممّا يكسب تلك الحلول الصبغة الدينية الشاملة، ويرفع من كفاءتها في تحقيق المصلحة.(1/73)
وفي نطاق هذا الدور أيضاً، يتمكن المسلم من أن يستخدم المعارف العقلية في الترجيح بين الاحتمالات ا لمختلفة، في مدلولات النصوص الظنّية، فإن في العلوم الاقتصادية والاجتماعية والنفسية وغيرها، مما يتعلق بحياة الإنسان من الحقائق التي اكتشفها العقل، ما يعين على تحديد وجه المراد الإلهي، من بين احتمالات عدّة، فيسدد الاجتهاد في الفهم، ويفضي تبعاً لذلك إلى ترشيد التدين بتحكيم الأفهام السديدة في شؤون الحياة(15).
ومن البين أن المعارف العقلية التي تستخدم في فهم المراد الإلهي، ينبغي أن تكون على درجة من الوثوق، تنأى بها عن الفرضيات الاحتمالية الضعيفة، فإن إقحام هذه الفرضيات الضعيفة في تحديد المراد الإلهي يسيء إلى النص الديني، حينما يظهر خطؤها، وقد عدّت مدلولات له، كما أنه يجرّ إرهاقاً وحرجاً في شؤون الحياة، لما تصبح جارية على أساسها، وهذا ما يدعو إلى الاقتصاد في استخدام المعارف العقلية في فهم الدين، بما يضمن إصابة الحق في أقصى درجات الإمكان. وهذا موقف وسط بين تطرفين:
أحدهما : المبالغة في التحوّط بالنأي عن تأويل النص الديني بالمعرفة العقلية النسبية.
وثانيهما: الإسراف في بسط مدلولاته على الكم الكبير من هذه المعرفة، الذي يختلط فيه اليقيني بالظني بالموهوم، إسرافاً يوقع في التعسّف، وتحريف الكلم عن مراده. وممّا قاله الإمام ابن عاشور في هذا المعنى: لا شك أن الكلام الصادر عن علام الغيوب تعالى وتقدّس، لا تبنى معانيه على فهم طائفة واحدة، ولكن معانيه تطابق الحقائق، وكلّ ما كان من الحقيقة في علم من العلوم، وكانت الآية لها اعتلاق بذلك، فالحقيقة العلمية مرادة بقدر ما بلغت إليه أفهام البشر، وبمقدار ما ستبلغ إليه. وذلك يختلف باختلاف المقامات، ويبنى على توفر الفهم، وشرطه أن لا يخرج عمّا يصلح له اللفظ عربية، ولا يبعد عن الظاهر إلا بدليل (16 ).(1/74)
وقد تحرّج بعض العلماء من المسلمين، من هذا الدّور للمعرفة العقلية، في فهم النص الديني، بحسبان أن يفضي إلى أن يصبح الخالفون أعمق فهماً له، وأوسع إدراكاً من السلف الصالح، بما فيهم الصحابة والتابعون. وقد ساور هذا الحرج الإمام الشاطبي فقال في حديث عن القرآن الكريم:" إنّما يصحّ في مسلك الإفهام والفهم ما يكون عاماً لجميع العرب، فلا يُتكلّف فيه فوق ما يقدرون عليه "(17 ) ، ثم علّل هذا الرّأي في معرض نقده، لمن فسر القرآن على ضوء العلوم العقلية، فقال:" إنّ السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن يليهم كانوا أعرف بالقرآن وبعلومه، وما أودع فيه، ولم يبلغنا أنه تكلم أحد منهم في شيء من هذا المُدعى.... وذلك دليل على أن القرآن لم يقصد فيه تقرير لشيء مما زعموا "(18 ).
وليس لهذا التحرج من سبب وجيه، فالسلف الصالح كانوا أعلم بالنص الديني في هديه العام، وبحسب ظروفهم الثقافية، وذلك كاف في إثبات أفضليتهم، ولكنهم هم أنفسهم كانوا يقولون: إن القرآن لا تنقضي عجائبه، تقريراً منهم لكونه ينفسح أفقه، وتتسع مدلولاته، بحسب تطور الإنسان في ثقافته، فيكشف فيه باطراد الحقائق، التي تهديه في مستجدات أوضاع حياته، وذلك مظهر من مظاهر إعجازه، فإن الحق الذي يشتمل عليه: "ينبلج للناس شيئاً فشيئاً ، انبلاج أضواء الفجر، على حسب مبالغ الفهوم وتطورات العلوم "(19 ).
( ب ) تقدير المقاصد:
إن الدين كله مبني على مقاصد، تنتظم جميع أحكامه وإرشاداته، وهذه المقاصد هي مصالح، تحقق للإنسان الخير والسعادة.(1/75)
ومن هذه المصالح، ما هو منصوص عليه على وجه الوضوح: إمّا نصًّا يشمل به كل أفعال الإنسان، بحيث يكون أصلاً لها تنبني عليه جميعاً، مثل رفع الضرر في قوله صلى الله عليه وسلم : "لا ضرر ولا ضرار "(20 ). وإمّا نصًّا يجمع به نوعاً معيّناً من الأفعال، مثل رفع الغرر في قوله صلى الله عليه وسلم : لرجل يخادع في البيوع: "إذا بايعت فقل لا خلابة "(21 )، فهو مصلحة، تتحقق في نوع المعاوضات من الأفعال.
ومنها ما هو غير منصوص عليه، ولكنه مبثوث في واقع تصرفات الدين، في صياغته للأحكام، بحيث يمكن أن يستنتج بالتتبع، والاستقراء، مثل مصلحة رواج الطعام في الأسواق، وتيسير تناوله، المستنتج من النهي عن بيع الطعام قبل قبضه، والنهي عن الاحتكار فيه(22 ).
وهذان النّوعان من المصالح تفهم من خلال النصوص، إمّا بصفة مباشرة، أو بصفة الاستنتاج، لتُجرى عليها الأفعال المتعلقة بها، تعلقًا مباشراً. أو ضمنيًّا، فتحصيل أفهامها، يكون باجتهاد ميسّر، لما هي منضبطة به، من بيانات نصّية واضحة، أو قريبة من الوضوح. وللعلماء اجتهادات مفيدة، في بيان المسالك، التي يتوصّل منها إلى فهم هذه المصالح المقصودة للشارع، تقوم في أغلبها على قواعد الفهم النصّي، أو قواعد الاستقراء، لما ورد منها ضمنيًّا في ثنايا الأحكام الشرعية(23 ).(1/76)
وما يعرض للإنسان من أوضاع جديدة في حياته، لم يبينها نصّ ديني، ينبغي على المسلم أن يجتهد في إجرائها على صيغة دينية، يشتقّها بالنظر العقلي، المستنير بهداية الشّرع. وهذه الصيغة الدينية، تنضبط بمقصد شرعي، يمثّل المصلحة المرجو تحقيقها للإنسان، بإجراء الأوضاع الجديدة عليها. ولئن كانت المقاصد العامّة للدين، التي تحدد المسار العام للحياة، معلومة من التنصيص الصريح عليها، فإن المصالح الجزئية المندرجة في تلك المقاصد العامة، والتي ينبغي أن تؤسّس عليها الصيغ الدينية المتوصل إليها بالاجتهاد، تبقى هي أيضاً متوقفاً تحصيلها، على اجتهاد عقلي، يسبق أو يقارن الاجتهاد في صياغة الحلّ الديني، ومثاله الموضح أنه يعرض للمسلمين اليوم وضع اقتصادي، يستدعي وفرة في الإنتاج، لتغطية المتطلبات المستحدثة للاستهلاك. وللاستقلال الغذائي، خاصة عن القوى العالمية المهيمنة المستغلة، ووفرة الإنتاج قد تستدعي مساهمة المرأة في المجهود الإنتاجي بشكل مكثّف، إلاّ أنّ هذه المساهمة قد تكون لها نتائج سلبية في مجال الأسرة والدّور التربوي فيها، وفي مجال الأخلاق العامة أيضاً، يفشوّ الاختلاط، والتفلت من ضوابط الرّشد، فما هو الحلّ الديني لهذا الوضع المستجد؟ إنّ المجتهد مدعوّ لأن يتحرّى المقصد الشرعي، الذي تتحقق به مصلحة الأمة، موازنة بين التربية الأسرية، وبين وفرة الإنتاج، وبين حفظ الأخلاق العامّة، فإذا ما انضبطت تلك المصلحة، صاغ على أساسها حلاًّ دينيًّا لهذا الوضع الجديد. وموضوع بحثنا في هذا الصدد هو: كيف يمكن تحرّي تلك المصلحة، التي هي مقصد ديني، ليس عليه تنصيص مباشر؟ وما هو دور المعرفة العقلية في ذلك؟
لا شك أنّ للمعارف العقلية دوراً مهمًّا في تعيين المصلحة، التي هي مقصد الدين، في مثل هذه الأوضاع الطارئة على حياة المسلمين، فما هي مبرّرات هذا الدّور؟ وما هي ضوابطه؟ وما هي التحدّيات المتربّصة به في الوضع الرّاهن للمسلمين؟(1/77)
إنّ الأحكام الدينية أغلبها كلية عامة، وصور الحياة الإنسانية جزئية متغيرة، وهي كلها ينبغي أن تجري على ما فيه مصلحة للإنسان مقصودة للشرع. ولعل عصر المسلمين هذا أكثر عصورهم تقلّباً في صور الأوضاع المستجدة، ليس لتسارع نسق الحياة الإنسانية عموماً فحسب، بل لأن ما عهدوه من صور للحياة، ظلّ زمناً طويلاً في طور ركود، فلم يشهد التغيّر المتئد الموزون، فلما انفتحوا على الوضع الحضاري لهذا العهد، حدث في حياتهم ما يشبه الطفرة الإنقلابية، التي عصفت بوضع معهود، وأفضت إلى وضع جديد متداخل الصور، معقد العناصر، وهم مدعوّون فيه إلى أن يؤسسوه على مقاصد للشريعة، يملكون أصولها الكلية، وعليهم أن يفرّعوا منها فروعاً تكون أساساً لحلولهم الدينية لهذا الوضع الجديد.
ومن الحصيلة البشرية من العلوم والمعارف، ما فيه عون على تبين ما فيه مصلحة، من أوضاع المسلمين المستجدة؛ فعلم الاقتصاد، وعلم الاجتماع، وعلم النفس، وغيرها من العلوم الإنسانية، تشتمل على قوانين هي أقرب إلى الحقيقة العلمية الموضوعية، وهو ما يرشحها لأن تكون وسيلة صالحة لتحديد ما فيه خير الإنسان ونفعه. ومن ثمة فإنها تصبح أداة مهمة للمسلم في اجتهاده، لتقدير مصلحة الإنسان في خضم الأوضاع التي انقلبت إليها حياته اليوم. وإذا عدنا إلى المثال الآنف الذّكر؛ فإن علم النفس التربوي، بيّن ما ينشأ من مضار، تتعلق بالأطفال، حينما يفقدون حدب الأمومة، في طور نشأتهم الأولى. وعلم الاجتماع بين نتائج الاختلاط الأهوج، وأثره على الترابط الأسري، والاجتماعي عموماً. وعلم الاقتصاد بين أهمية تضافر المجهود الوطني على الإنتاج، وأثر العطالة في انخرام التوازن بين الإنتاج والاستهلاك. ومن كل هذه المعطيات العقلية من العلوم الإنسانية، يمكن بل يتعيّن على المجتهد، أن يتخذ سبيلاً لفهم المقصد الشرعي، الذي يبني عليه صيغة دينية لحل هذه المشكلة.(1/78)
وإذا كان في هذه المعارف العقلية عون، في تقدير مقاصد الشارع، فإنها أيضا محفوفة بالعديد من المزالق، التي قد تحيد بالباحث عن مقصد الشريعة، عن جادّة الحقّ، وتوقعه في تقدير مصالح موهومة، ليست من الدين في شيء. ولعل من أبرز تلك المزالق أن العلوم العقلية، بما فيها العلوم الإنسانية، هي في يومنا هذا إنتاج لثقافة غربية، ذات منطلقات إيديولوجية مادية في أغلبها، وهي إيديولوجية سيكون لها أثر، إن كبيراً أو صغيراً، في النتائج العلمية في المجال ا لإنساني، باعتبار أن هذا المجال ليست الحقائق فيه منضبطة موضوعيًّا مثل مجال العلوم الصحيحة، وبذلك يكون اعتماد العلوم الإنسانية في تقدير مقاصد الشريعة على علاتها، غير خلي من مخاطر الوقوع في خطأ التقدير.
وغير خفي ما يبدو اليوم، من مظاهر تتصل بهذا المزلق، نراها فيما ينادي به بعضهم، من اعتماد آراء ونظريات في العلوم الإنسانية في تقدير مصلحة الإنسان، باعتبارها مقاصد شرعية. ومثال ذلك، ما يتوهمه بعضهم من أن الرّبا ينشط الحركة الاقتصادية، وينهض بها، أو أن الاختلاط غير الرشيد، يهذّب من الخلق، ويخفف من شره الميل الجنسي، فيقدّر أن هاتين النتيجتين الاقتصادية والنفسية التربوية تحددان مصلحة الإنسان، وبالتالي مقصد الشريعة في هذين الأمرين(24 ). وفي هذا النطاق تندرج كثير من الدّعوات، التي تلهث وراء مذاهب وآراء تتزيّي بزيّ العلم، وتريد أن تجر الأفهام الدينية إليها، في تعسف جليّ ليس فيه للاجتهاد النّزيه أثر.(1/79)
ولهذا السّبب فإنه من الضروري، أن يكون الدّور، الذي تقوم به المعارف العقلية، في تقدير المصلحة، محاط بضوابط تعصم من الوقوع في الفهم الخاطئ، لمقصد الدين. ولعل من أهم تلك الضوابط التقيد بالإطار العام للمقاصد الشرعية، المنصوص عليها بجلاء، أو المستخلصة بالاستقراء والتتبع، واتخاذها مصدراً تحاكم إليه كل الأفعال المتعلقة بمقاصد جزئية، تختصّ بأوضاع جزئية، فذلك يضمن عصمة من تبنّي مصالح قد تكون مخالفتة لصريح النصوص. وتبدو في ظاهرها مصالح، وهي في الحقيقة موهومة. ومن أهم الضوابط أيضاً: التحري في المعارف العقلية، والتمييز بين ما هو منها حقيقة يقينية، أو ظنية راجحة، وبين ما هو نظريات احتمالية مظنونة، وكذلك تنقيتها مما هو ناشئ عن دافع إيديولوجي، يحيد بها عن الموضوعية العلمية، وبذلك لا يُعتمد في تقدير المصلحة، التي هي مقصد الشرع، إلا المعارف العقلية الصحيحة المورثة لليقين أو للظّن الرّاجح.
4 - دور الواقع في فهم الدّين:
نعني بالواقع: ما تجري عليه حياة الناس، في مجالاتها المختلفة، من أنماط في المعيشة، وما تستقر عليه من عادات وتقاليد وأعراف، وما يستجدّ فيها من نوازل وأحداث، فهل للواقع بهذا المفهوم دور في فهم الدين، الذي جاءت به نصوص الوحي، وإن كان ذلك، فما هي طبيعة هذا الدّور؟
يمكن أن نلاحظ مبدئيًا أن الدين خطاب معبّر عن حقائق أزلية، تتسع لتعالج أوضاع واقعية متغيرة، ولكنها لا تتبدل في ذاتها بتبدّل الواقع. ومن جهة أخرى فإن واقع الحياة الإنسانية، هو واقع مخلوط فيه الحقّ بالباطل، بل لعل الباطل فيه أغلب، فكيف يمكن أن يكون له مدخل في فهم الدين، الذي حقائقه أزلية؟(1/80)
إن فهم الدين من نصوصه، يتم بالنظر العقلي، والعقل الإنساني مهما كان مبنيًّا على المنطق الصحيح في أصل فطرته، فإنه يتأثر في بنائه التكميلي بواقع الحياة وأوضاعها؛ إذ هو ينمو ويتكامل في خضم ذلك الواقع، وهو ما يمثل تدخلاً غير مباشر للواقع في الفهم عامة ، بما في ذلك فهم الدين، إلا أن هذا التدخل لا تنشأ منه حتمية الخطأ، إذا كان الواقع منحرفاً، بل إنه يكون تبعاً في الرشد وعدمه للمنهج العام، الذي يتبعه العقل في التفكير.
والبيان الديني للأحكام، بيان ظنّي في كثير منه، كما مرّ بيانه، يحتمل وجوهاً متعدده من المعاني، يمكن أن يؤخذ ببعضها دون الآخر، بحسب المرجحات، وبعض المراد الإلهي ليس مناطاً لبيان مباشر، وإنما هو موكول لبيانات كلّية، موجّهة للمقاصد العامة، بحيث ينفسح فيها المجال أكثر من النوع السابق، لطرح الاحتمالات المختلفة، والموازنة بينها، بما يفضي إلى اعتماد أحدها.
وما يجري به واقع الحياة من نظم وأعراف، منه ما هو مبني على أصول من الحقّ، قتتحقق به المصلحة والنفع، وذلك بناء على حكم صائب للعقل، أو تجربة عملية أفضت إلى ثبوت النفع والنجاعة، وذلك كله معهود في حياة المجتمعات المختلفة.
وهذه المعطيات الثلاثة: صلة الواقع بالبناء العقلي، وظنية بعض البيانات الدينية، وحقّانية بعض مظاهر الواقع، هي التي يمكن أن ينبني عليها تقدير الدور، الذي يكون للواقع في فهم الدين تحديداً لطبيعته ومجاله؛ وتنبيهاً لما يحفّه من إمكانات الانزلاق، التي تخرج به عن جادة الرّشد وتوقعه في الانحراف.(1/81)
ويتبين مبدئيًّا أن فهم الدين لا يمكن أن يتم بصفة تجريدية، مفصولة عن خضم الواقع الحياتي، بل يتم من خلال حوار متفاعل بين عناصر ثلاثة: النص الديني، والعقل المدرك، ونوازل الواقع وأحداثه. وفي هذا التفاعل يتأمل العقل في مدلولات النص الديني، من حيث هي أحكام مقصدها تقويم واقع الحياة وترشيده، فيكون إذاً لهذا الواقع، الذي هو موضوع التقويم، اعتبار في عملية الفهم على النحو الذي سنبيّنه تاليًا.
ويضيق هذا التفاعل إلى درجة قصوى، في فهم النصوص القطعية، في ورودها ودلالتها؛ ذلك أنّ هذه النصوص هي في عمومها موجهة لحياة الإنسان المطلقة، التي لا يُنظر فيها إلى الظرف الزماني والمكاني، باعتبارها المحور الثابت، الذي تدور عليه الحياة، فيحفظ سمتها الأصلي المتقوّم بالحق الدائم، ويحفظ بالتالي ثبات الحقيقة الدينية واستمراريتها. ومن أمثلة هذه النصوص، التي يضيق فيها دور الواقع في فهمها، ما يتعلق بالعقيدة، والعبادات، وأحكام الحدود، فهي نصوص قطعية في أغلبها تحمل معاني يقينية ثابتة، متعالية عن أحداث الواقع المتغيرة من حيث الفهم.ويتّسع دور الواقع في فهم النصوص الظنية، وفي استنباط الأحكام، ممّا لا نصّ فيه حيث يكون للعقل مجال للترجيح بين الاحتمالات، أو الاجتهاد وفقاً للمقاصد العامة، وحينئذ فإنه يمكن أن يستخدم مجريات الواقع، في ذلك الترجيح والاجتهاد، على أنحاء مختلفة.
فقد يكون في واقع حياة الناس عادات وأعراف، جارية على أصول من الحق، تظهر ثمرتها الخيّرة في تحقيق المنافع المختلفة لهم. وقد تكون هذه العادات والأعراف متعلقة بما كان مناطاً لبيان نصّي ظنّي، وحينئذ فإنها تكون مرجّحاً قويًّا، ليُصرف ذلك البيان إلى الاحتمال الذي ينطبق عليها، فيصبح ذلك الاحتمال هو المفهوم الديني، الذي يحصله العقل، على أنه مراد إلهي، تحكيماً في ذلك للواقع الذي جرت به تلك العادات والأعراف (25 ).(1/82)
وقد يكون من العادات والأعراف، ما يتحقق به الخير، في جانب من جوانب الحياة، ممّا لم يرد فيه نص ديني، سوى الإرشاد المقصدي العام، وحينئذ فإن العقل في اجتهاده بحثًا عن المراد الإلهي، في كل شأن من شؤون الحياة، يمكن أن يحكم بأن ما أثبت العرف صلاحه هو المراد الإلهي، ويتبنّاه على أنه حكم ديني، ينضاف إلى المنظومة الدينية المتكاملة، التي تغطي أوجه الحياة كلها، ويكون بذلك للواقع دور في فهم الدين، باعتماد العرف الصالح، على أنه جزء من الدين، حينما لا يرد فيه نصّ، ولا يكون معارضاً لنصّ(26) .
وقد يكون في واقع الحياة أوضاع فاسدة، وعادات زائغة عن الحق، مفضية إلى المفسدة، وتكون تلك الأوضاع والعادات مما يتعلق بها نص ديني بحكم ظنّي، وحينئذ فإنه يمكن للعقل أن يوازن بين احتمالات النص الظني، فيختار منها ما يكون فيه علاج أبين، لما فسد من الأوضاع والعادات، فيصبح ذلك الاحتمال محمولا على أنه هو الدين، ويعتمد مرادًا إلهيًّا، بناء على تلك المشاهد، من الواقع(27 ).
وهذا الدور الذي يؤديه الواقع في فهم الدين، أسس عليه بعض أئمة الفقه، وعلماء الأصول، قواعد تشريعية، اعتمدوها في تقرير أحكام الدين، والاجتهاد في معرفة المراد الإلهي. ومن أهم تلك القواعد ما عرف في الأدب الأصولي، بأدلّة المصلحة المرسلة، والعرف، والاستصحاب، ومعناها أن يتخذ مصدراً للتشريع كلٌّ من الوقائع التي لم يشهد لها دليل معيّن من الشرع، بالاعتبار والإلغاء وفيها تحقيقٌ لمصلحة، والعادات التي يعتادها الناس في حياتهم غير مخالفة لحكم شرعي، وما يفعله الناس مطلقًا في تصرفاتهم، ممّا لم يرد فيه منع(28 )، بحيث يتخذ العقل بالاجتهاد من هذه المشاهد الواقعة أحكاماً دينية، معبّرة عن المراد الإلهي، فتصبح تلك المصالح والأعراف والتصرفات العفو، مادّة لصياغة فهم ديني، يكون جزءًا من دين الله المتوجّب على النّاس تطبيقه.(1/83)
وقد شهد هذا الدور، الذي يمكن أن يؤديه الواقع في فهم الدين، تجاذبًا بين طرفين متناقضين، في تاريخ الفكر الإسلامي قديمه وحديثه. فقد كان أكثر الأئمة الأوائل يولون أهمية لهذا الواقع، في فهم الدين، وخاصة منهم الإمام مالك، الذي توسّع فيه توسعاً مشهوراً. ولكن بمرور الزمن، وتناقص الثراء، في الواقع الحضاري للمسلمين، والميل إلى التمسّك بالفقه النظري، الذي هو أقل عرضة للاختلاف، تناقص الاهتمام بأصول الواقع في فهم الدين، وأسقط من الاعتبار في هذا المجال، في جملة ما أصاب الفكر الديني عامة، من بُعدٍ عن التفاعل مع واقع الحياة الإسلامية.
وفي مقابل ذلك، ظهرت منذ القديم نزعة تنحو منحى المبالغة في دور الواقع في فهم الدين، حتى اتخذ من أعرافه وأوضاعه، التي يظن أن فيها مصلحة للناس سلطان على الأحكام الشرعية المنصوص عليها. فأصبح الدين يفهم مما يجري به الواقع، وإن يكن مخالفاً لما جاءت به نصوص الوحي. وممّن وقع في هذه المبالغة في تحكيم الواقع في فهم الدين، أبو الربيع سليمان بن عبد القوي الطّوفي (ت 716هـ ) الذي قال بتقديم المصلحة الواقعية، على النص في المعاملات، سواء كان ظنيّا أو قطعيًّا(29).(1/84)
وفي هذا العهد نشطت هذه النزعة المحكمة للواقع، يدفعها الانهزام الحضاري، الذي يعيشه المسلمون، وينبهرون فيه بالنمط الواقعي للحضارة الغربية، مما جعل بعض الباحثين يقيمون من هذا النمط في وجوه مختلفة أصلاً لتقرير أحكام الدين، صرفًا للنظر عن النصوص اليقينية الدلالة والثبوت، باعتبار أن ما تحمله من الأحكام محدود بالزمان والمكان، خاضع لاعتبارات الظروف التي نزل فيها، فيكون معناه قد انقضى بانقضاء زمنه وأسباب نزوله. ذلك ما يراه حسن حنفي، من بين روّاد هذه الوجهة حيث يقول: "أصول التراث نفسه- وهو الوحي - مبنية على الواقع، وتغيرت وتكيفت طبقًا له، وأصول التشريع كلها تعقيل للواقع، وتنظير له، ولكن الواقع القديم تخطته الشريعة، وجاوزه التشريع، إلى واقع أكثر تقدماً، في حين أن واقعنا الحالي الذي يُقام التجديد عليه، لم يتخطه أي تشريع بعد، وتظلّ كل التشريعات أقل مما يحتاجه، ويظل هو متطلبًا لأكثر مما تعطيه التشريعات "(30 ).
وبين هذين التطرفين، اللذين يقطع أولهما صلة الاجتهاد في فهم الدين بالواقع، ويهدر ثانيها ثوابت الدين بمجريات الأحداث، يبقى الموقف الوسط هو الموقف المشروع، متمثلاً في الاستنارة بواقع الحياة الإنسانية، في تأسيس الأفهام الدينية تحديداً للمراد من مظنون النص، واستحداثاً لما ليس فيه نص، فيصير بالاجتهاد حكماً دينيًّا تقيّداً في كلّ ذلك بالضوابط المقصدية العامة، التي تضمن وحدة الدين وثباته واستمراريته على السمت الصحيح.
فهم الواقع(1/85)
نزل الدين لمعالجة واقع الإنسان، بحيث يتكيّف هذا الواقع بالصياغة التي تحقق المصلحة، اهتداء بتعليمات الوحي، ولكن انصلاح الواقع الإنساني، فيما تجري عليه الحياة الفردية والاجتماعية، لا يتم بصفة آلية، بمجرد استبانة الحق المتمثل في الوحي، مثلما تنصلح مشاهد الواقع المادي حينما تواتيها الظروف المناسبة لها؛ ذلك لأن إرادة الإنسان تتوسط بين الوحي، وبين الواقع الإنساني، فتصبح هي الفاعلة فيه، ويكون حينئذ انصلاح الواقع بحسب ما تنفعل الإرادة بالوحي، وذلك هو معنى الأمانة التي عُرضت على السماوات والأرض، فأبين أن يحملنها، وحملها الإنسان.
ولما كانت إرادة الإنسان، تتوسط تعاليم الوحي ومشاهد الواقع، فإن انفعال هذا الواقع بتلك التعاليم أصبح خاضعاً لشروط تتعلق بها. ومن أهم تلك الشروط فهم الواقع الإنساني، واستيعاب حقيقته، والوقوف على طبيعته، وعناصر تكوينه.
ومن السّنة الماضية، أن أي موضوع وإن يكن ماديًّا، يراد أن يعالج معالجة ما لصياغته على نحو معين، يكون من الشروط الأساسية في نجاح تلك المعالجة، الانطلاق فيها من المعرفة بحقيقته، والوقوف على طبيعته وخصائصه؛ ذلك لأن تلك المعرفة يتوقف عليها رسم الخطة للمعالجة، كاتخاذ الأساليب والوسائل المتناسبة مع طبيعة الموضوع وخصائصه، فيكون الفعل فيه مجديا، ويكون انفعاله أيسر على جهد الإنسان. ولو وقعت المعالجة على غير هدى من تلك المعرفة، لآل الأمر إلى سلسلة من التجارب المرهقة، التي قد تبوء بالفشل كلها.
وحينما يكون الواقع الإنساني موضوعاً للمعالجة، فإن هذا الشرط يصبح شرطاً مشدداً، وذلك باعتبار أن موضوع الواقع الإنساني موضوع بالغ التعقيد، لما تتفاعل فيه من عناصر وأسباب، بعضها ظاهر، وبعضها خفي، ولما تتجمع فيه من عوامل ذات طبائع مختلفة، منها المادي، ومنها الروحي، ومنها الآني الحادث، ومنها الضارب في أعماق التاريخ.(1/86)
إن الإنسان لما يتحمل حقيقة الوحي، ويقصد بإرادته الحرّة إلى أن يجعله جاريًا في واقع الحياة، فإن ذلك يتطلب منه كشرط مبدئي، أن يفهم الواقع الإنساني، الذي يريد أن يجريه على أساس من الوحي، وأن يتعمق في فهمه، ويبذل الجهد الكبير في ذلك، نظراً لطبيعته المعقدة، وكلّما كان فهمه أشمل وأعمق، كانت قدرته على تكييفه بحسب مقتضيات الوحي أكبر، بما يستكشف من المفاصل التي يسهل منها تطويعه لينفعل بحقيقة الدين.
وقد شهد التاريخ الإسلامي العديد من الحركات الإصلاحية، ومن المذاهب الهادفة إلى تغيير الأوضاع المنحرفة عن مقتضيات الدين، لتكون متوافقة معه، وهي حركات ومذاهب لا ينقصها في أغلب الأحوال الإخلاص في القصد، والانبناء على أصول من الحق النظري، ولكن أكثر ما كان يأتيها من فشل في النتائج، أو من ضمور فيها، كان يأتيها من قصور في تمثل الواقع الإنساني، الذي تهدف إلى إصلاحه، وفي امتلاك تصور عميق لطبيعته، ولعناصر تكوينه، وعوامل تفاعلاته، فإذا ما اتجهت الإرادة إلى الإصلاح مع هذا القصور، ارتدت في كثير من الأحيان بالخسران، فتفشل في تغيير الواقع وإصلاحه(1 ).
وعلى هذا الاعتبار، فإن فهم الواقع الإنساني يغدو عاملاً بالغ الأهمية في التدين، ولا يقل أهمية عن فهم الدين نفسه، فهما الشرطان المتلازمان في مرحلة الفهم، اللذان يعتبران الخطوة الأولى في سبيل تحقيق الدين في الواقع، أي في سبيل تحقق التديّن.(1/87)
والأمة الإسلامية تشهد على هذا العهد فصولاً من واقع حياتها، لعلها لم تشهد مثلها من قبل، من حيث تشابك الخيوط. واختلاط العوامل والأسباب، وتعقد الملابسات والمظاهر. وهذا ما يدعو المجتهدين اليوم في إعادة الحياة الإسلامية إلى منهج التدين، إلى بذل جهد مضاعف في فهم واقع الأمة، وتمثل طبيعته وعوامل الفعل فيه. فما هي عناصر الواقع وآليات فهمه عموماً؟ وكيف كانت التجربة الإسلامية في الاجتهاد لفهم الواقع؟ وما هي العناصر الأساسية التي تحكم واقع المسلمين اليوم، وتوجّه الاجتهاد في فهمه؟
1 - الواقع وآلات فهمه:
نعني بالواقع الإنساني ما تجري عليه الحياة في مجتمع ما من أسلوب في تحقيق أغراض ذلك المجتمع، ويدخل في ذلك مجموع الأعراف والتقاليد والنّظم، التي تتفاعل فينشأ منها الأسلوب في تحقيق الأغراض.
وأسلوب تحقيق الأغراض الحياتية يشتمل على عنصر اجتماعي، متمثل في بنية الترابط الاجتماعي، وطبيعة التنظيمات الاجتماعية التي يمارس من خلالها الأسلوب الحياتي، كما يشتمل على عنصر اقتصادي، متمثل في نظام الإنتاج والتوزيع والاستهلاك، وما يجري عليه من قواعد، كما يشمل عنصراً سياسيًّا، يتمثل في طبيعة الحكم القائم في المجتمع ونظامه، وعنصراً ثقافيًّا، متمثلاً في أنماط التعبير الفني التي ينتهجها الناس في تصوير آمالهم وآلامهم وأفراحهم وأتراحهم.
وإذا كانت هذه العناصر كلّها تعود في معرض تنوعها في شكلها العملي إلى أرضية مشتركة من الرؤى الإيديولوجية، التي تنضبط فيها تصورات الوجود، وغاية الحياة، ومصير الإنسان، فإن هذا العنصر الإيديولوجي يكون العنصر المهم في الواقع الإنساني، باعتبار ما يتفرع عنه من أنماط السلوك التي تشكل أسلوب الحياة.(1/88)
ويتصل بهذا كله، اتصال سبب ونتيجة في آن واحد، ما يكون عليه الإنسان من بناء فكري، بمعنى منهجي يكون له دور في تحصيل الرؤى الأيديولوجية، وفي إجراء الأنماط السلوكية، كما يكون له انفعال بها أيضاً، وكذلك ما يكون عليه من وضع نفسي، يتعلق خاصة بالإرادة التي بها تكون فعالية الإنجاز، وبها يكون التفاعل مع الكون استكانةً له، أو اقتحاماً لاستثمار مرافقه. فكل من ذلك الوضع الفكري والنفسي يعد من عناصر الواقع الإنساني، الذي نحن بصدد الحديث عنه.
والواقع الإنساني بالعناصر التي حددناها آنفاً، يختلف لا محالة في طبيعته عن الواقع الكوني، من حيث السنن والقوانين، التي بها يكون انضباط سيرورته. فالواقع الكوني يجري على قانون ثابت، في تحول أوضاعه، وفي تفاعلاته المفضية إلى حركة التغيّر فيه، ولذلك فإن الاجتهاد في فهم حقيقته يثمر المعرفة اليقينية بتلك الحقيقة، لما بنيت عليه من اطراد في سننها، وعلى أساس تلك المعرفة اليقينية، يتعامل الإنسان مع الكون في جهوده التي يبذلها في تكييفه لمصلحته، تعاملاً مبنيًّا على ذلك الاطراد الذي لا يتخلف.
ولكن الواقع الإنساني ليس منضبطاً كواقع الكون، فالعنصر الروحي في تكوين الإنسان والإرادة الحرة التي يختص بها، جعلا هذا الواقع يتصف بقدر كبير من الخفاء في العوامل والأسباب، التي تنشأ عنها الظواهر والأحداث، كما يتصف بقدر كبير من الخصوصية في التفاعل، كان بها غير واضح في انضباطه واطراده. وبهذا كله يكتسب الواقع الإنساني صفة من الغموض من جهة، وصفة من عدم الاطراد في السيرورة من جهة أخرى. وهما صفتان تجعلان منه موضوعاً عصيًّا عن الفهم اليقيني، مقارنة بالمواضيع الكونية، وقد سجل هذا المعنى أحد الفلاسفة المهتمين بالإنسان وهو الكسيس كاريل في كتابه الشهير "الإنسان ذلك المجهول(2 ).(1/89)
ويقتضي هذا الوضع لواقع الإنسان، أن يكون الاجتهاد في فهمه واستيعاب حقيقته مبنيًّا على أدب خاص، وقواعد تتناسب مع طبيعته، وأن تستخدم فيه وسائط آلية للتحليل والتصنيف والرصد قائمة على أسس علمية، غير متروكة للتلقائية والعفوية.
والمنطلق الأول لفهم الإنسان وواقعه هو الانخراط الفعلي في هذا الواقع: معايشةً للناس، وتعاملاً معهم، في تصرفات الحياة المختلفة، ووقوفاً على مشاكلهم عن كثب، ومساهمة واقعية في مناشطهم المتنوعة، تعميماً لذلك كله على أوسع نطاق ممكن، من الطبقات، ومن الفئات، ومن أنماط المجتمعات. إن هذا الانخراط الفعلي في الواقع الإنساني، قدر ضروري لا غنى عنه لمن يريد فهمه، سواء كان فقيهاً مشرعاً أو فيلسوفاً مصلحاً أو أديباً معبراً عن الطموح الإنساني. وكل من رام غرضاً من هذه الأغراض، في عزلة عن خضم الواقع الإنساني، في مظاهره الفردية والاجتماعية، لا يكون منه إلا مقولات مبنية على المثالية والخيال، فلا تثمر تغييراً فاعلاً نحو الأصلح، ولنا في ذلك مثال، في المدن الفاضلة التي تصورتها عقول بعض الفلاسفة ومنهم بعض الإسلاميين مثل أبي نصر الفارابي (ت 339هـ ). ولا تخلو كثير من الآراء الإصلاحية، التي ينادي بها اليوم، بعض المخلصين في الحركة الإسلامية، من خيالية ومثالية، نتيجة التنكب عن ممارسة واقع المشاكل التي يعانيها المسلمون.
ولكن الانخراط الفعلي في واقع الناس لئن كان منطلقاً ضروريًّا لفهم هذا الواقع، فإنه غير موفٍ بالفهم العلمي العميق، الذي ينفذ إلى الخفي من العوامل والأسباب، في تكوين الواقع الفكري والنفسي، وفي تفاعلات الواقع الاجتماعي والاقتصادي والثقافي.(1/90)
إن هذا الفهم العميق لا يتم إلا باستخدام أدوات للرصد والتحليل، تتجاوز الملاحظة الظاهرة، وهي الأدوات المتمثلة أساساً في العلوم الإنسانية، فيما توصلت إليه من نتائج تقرب من اليقين، في مجال النفس الإنسانية، وفي المجال الاجتماعي والاقتصادي. فهذه العلوم بطرق بحثها وقوانينها أدوات ضرورية للكشف عن التركيبة النفسية الفردية والاجتماعية، التي تشكل الواقع النفسي للفرد وللأمة، فيما تشتمل عليه من مركبات أو أمراض أو عوائق، يكون من الضروري أخذها بعين الاعتبار، حينما يراد تنزيل الدين في واقع الحياة الفردية والاجتماعية. وكذلك الأمر بالنسبة للتركيبة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية فيما تعانيه من مشاكل، وفيما ترسب فيها من عقد عبر التاريخ، أو عبر التفاعل بين الحضارات والثقافات، فإن علوم الاجتماع والاقتصاد والإحصاء، وما يتعلق بها من علوم، أدوات ضرورية في الكشف عن هذه المعطيات، التي لا غنى عنها في إقامة الدين لتجري عليه الحياة الاجتماعية الشاملة.
يتبين إذاً أن فهم الواقع الإسلامي يستلزم أدباً كاملاً يوازي ذلك ا لأدب الذي يستلزم فهم الدين. والحق أن الدارسين الإسلاميين لم يولوا هذا الأدب العناية الكافية، كما أولوا من عناية بالفقه الديني، وربما كانت جهود القدامى في هذا الصدد أزكى من جهود المحدثين، فقد كانت المذاهب الفقهية في طور تأسيسها خاصة تقوم على فهم لأحوال المسلمين على عهدها، ومن ثمة انطبع كل مذهب بطابع البلاد التي نشأ فيها، ومن شواهد ذلك أيضاً ما كان للإمام الشافعي من مذهب قديم لما كان بالعراق، وآخر جديد لمّا انتقل إلى مصر.(1/91)
والواقع الإسلامي على هذا العهد، يبدو على درجة من التعقيد، وتداخل الخيوط، تدعو بإلحاح إلى أن يخصص من جهد الدعاة والمصلحين قدر كبير في سبيل فهمه، واستيعاب حقيقته، بعد تفكيك عناصره وسبر أغواره بالانخراط الواعي فيه أولاً، ثم باستعمال الأدوات العلمية ذاتياً، وأن يكون ذلك محوراً مهما من محاور السعي في الترشيد الديني لحياة المسلمين. وربما كان التقصير في هذا الأمر من قبل الكثير ممن يحملون هذا الهم سبباً أساسيًّا من أسباب النتائج الضعيفة، التي تبوء بها جهود الدعوة في كثير من الأحيان. إنه شرط موضوعي من شروط النجاح لترقية التدين في حياة الإنسان.
2 - التّجربة التاريخية في فهم الواقع :
كان جيل الصحابة رضي الله عنهم ، وجيل التابعين من بعدهم، هما الجيلان المؤسسان للواقع الإسلامي الأول، فقد بنوا هذا الواقع بناءً مباشراً بأيديهم، بما مارسوا من الفتوح، وبما أسسوا من هياكل الإدارة والحكم، وبما باشروا من نشر الدعوة الدينية في كل الأرض التي دخلها الإسلام، فكان لهم بذلك كله فقه شامل بواقع المسلمين، الذي بنته أيديهم، وكان ذلك الفقه أساسًا لاجتهاداتهم في فقه الدين وتنزيله، كما بدا جليًّا في اجتهادات عمر بن الخطاب وعبد الله بن عباس وأمثالهما من فقهاء الصحابة والتابعين.
ثم جاء بعدهم جيل المدارس الفقهية والعقدية في القرن الثاني والثالث، فكان أئمة الفقه المؤسسون لهذه المدارس يتقدمون في إرساء مبادئهم الفقهية أصولاً وفروعاً بقدر ما يتبيّنون من أوضاع المسلمين الواقعية، في عادتهم وأعرافهم ومستجدات ما حدث من مشاكلهم، لما انقلبت حياتهم من الجاهلية بوجوهها المختلفة إلى الإسلام.(1/92)
لقد كان الإمام أبو حنيفة يعيش حياة السوق في العراق، بل كان يتعاطى بنفسه التجارة. ومما تثمره التجارة من فقه واقعي علماً بطبائع الناس، وأحوال المعاملات، كان يجتهد في فقه الدين كما كان إلى جانب ذلك يجتهد في الشطر الأول من حياته على الأخص في تبين الواقع الثقافي والعقدي في المجتمع الإسلامي، بما كان يشد لأجله الرحال في مجادلة الفرق المختلفة، وأهل الأديان في البصرة على وجه الخصوص، وهي ملتقى الثقافات والفرق والأديان(3 ) ولم يكن هذا التفقه في الواقع أمراً عارضاً أو شأناً عفويًّا عند الإمام أبي حنيفة، بل كان مبدأ ثابتًا لديه، يعتبره أساساً من أسس الاجتهاد، يعلمه لتلاميذه من بين ما يعلمهم من أصول التفقه، وهو يبدو في وصيته لتلميذه أبي يوسف، وهو يتجه إلى البصرة ليعلم الناس، حيث قال له: "إذا دخلت البصرة استقبلك الناس، وزاروك وعرفوا حقك، فأنزل كل رجل منزلته، وأكرم أهل الشرف وعظّم أهل العلم، ووقّر الشيوخ، ولاطف الأحداث، وتقرب من العامة، ودار الفجار، واصحب الأخيار ولا تتهاون بسلطان "(4 ). وفي هذه الوصية ما يشير إلى أن الفقيه لا يكون الفقيه الحق إلا متى انخرط في واقع الناس، بجميع فئاتهم، وفقه أحوالهم، في نفوسهم وتصرفاتهم، وقد كان أبو يوسف مستوعباً لهذا المبدأ مبدأ فقه الواقع، وهو الذي أثمر به اجتهاداته الثرية وخاصة كتابه في الخراج.
وقد كان الإمام مالك يرقب واقع المسلمين في المدينة، ويتعمق في فهمه، ليتخذ منه أصلاً من أصول التشريع، وهو ما عرف بعمل أهل المدينة. كما كان الإمام الشافعي ينطلق في اجتهاده الفقهي من فهم واقع الناس، في معاملاتهم وأعرافهم وعاداتهم، ولذلك كان له مذهبان، كما مرّت الإشارة إليه. وعلى غرار هؤلاء الأئمة كان المجتهدون من هذا الجيل في فقههم للواقع، حتى كانت أدلّة عدّة من أدلة الأحكام تشتق من الواقع، مثل المصلحة المرسلة، والعرف، وعمل أهل المدينة.(1/93)
وعلى هذا النحو أيضاً كان علماء العقيدة الكبار، فقد انطلقوا في الفقه الأكبر، من رصدٍ دقيق لما كان يروج في الواقع الفكري والثقافي والعقدي، من آراء ومذاهب وتصوّرات، ثم قاموا باجتهاد معياري لإثبات العقيدة الإسلامية، وتزييف المقولات التي تعارضها من المعتقدات الدينية، والآراء الفلسفية. وقد كانت الأئمة الكبار كلهم من علماء العقيدة يتصدّون قبل بناء مذاهبهم العقدية إلى تمثل المذاهب والأديان، التي لها صلة قريبة أو بعيدة بساحة الفكر الإسلامي، وعرضها وتصنيفها في أصل بنيتها، وفي تسرباتها في الثقافة الإسلامية، ذلك ما يبدو جليًّا في كتاب الأشعري (ت 324هـ ) مقالات الإسلاميين، وكتاب الغزالي (ت 505هـ ) تهافت الفلاسفة، والملل والنحل للشهرستاني (ت548هـ ) وغيرها كثير مما هو في موضوعها نفسه، وهو ما يدلّ على رصد مُستقص، وتحليل شامل للواقع الثقافي والعقدي في المجتمع الإسلامي.
وبعد الأجيال الأولى، جرى التاريخ الإسلامي بما هو معلوم من انفصال، بين أهل العلم من رجال الفقه والعقيدة، وبين أهل الحكم والسياسية، ومن استفحال للاستبداد السياسي، الذي تجاوز قمع المعارضات السياسية، إلى قمع كل ما فيه مساس بشؤون الحكم، من الرأي العلمي، المتعلق بشؤون الاعتقاد، والمعاملات العامة. وقد كان هذا أحد أهمّ العوامل في ضعف الصلة بين أهل الفكر الإسلامي، وبين واقع المسلمين، نشأ عنه زُهدٌ في هذا الواقع سواء من حيث الانخراط فيه، أو من حيث دراسته وتحليله.(1/94)
وقد بدا ذلك الزهد، في العناية بالواقع جليًّا في نزعة التصوّف، التي كادت تعم بعد إجازتها من قبل الإمام الغزالي في القرن الخامس، حيث تروم هذه النزعة الخلاص الفردي، بترويض النفس على العبادة بعيداً عن عالم الناس، وخضم حياتهم الواقعية، فكأن فيها إعلاناً عن الاستقالة من واقع المسلمين العام، والانكفاء إلى عالم الذّات، لممارسة الدين في رحابه: تريّضاً نفسيًّا، وإقبالاً على الله، من خلال العبادة الفردية، بعيداً عن مكابدة الواقع الاجتماعي العريض.
وعلى هذا النحو أيضاً كانت سيرة علماء الفقه وأئمته، فقد ابتعدوا عن المشاكل الواقعية للحياة الإسلامية العامة، بدافع من التوجس من سطوة السلاطين من جهة، ومن خفوت الزخم الحضاري الحي، وسيرورة الحياة إلى نمطٍ رتيب غير مثير من جهة أخرى، وعكفوا على ما بين أيديهم من موروث فقهي ثرى، يعملون فيه بالترتيب والشرح والتفصيل، صياغة في ذلك على مقتضى المنطق العقلي المجرّد، وتضخيماً للفقه التعبدي الخاص، الذي لا علاقة له بمجريات الأحداث الاجتماعية، وجرى ذلك كله في معزل عن الواقع، الذي أخْضِعت نوازله لما هو مقرّرٌ قبل من الأحكام الفقهية، وانقطع بذلك أو كاد الاجتهاد في فهم الواقع في أسبابه وعلله، لينزّل الدين عليه، بما تقتضيه مستأنفات أوضاعه كما كان الأمر في الأجيال الأولى.واقتفى هذا الأثر علماء العقيدة، فعكفوا على مدوّنات السابقين، التي نشأت من التفاعل مع الواقع الثقافي، يعملون فيها بالترتيب والتنظيم، في غير اهتمام يُذكر بمستجدات ما يتفاعل في الواقع الثقافي والعقدي، رصداً ودراسة وتقويماً على نحو ما كان الأئمة القُدامى يفعلون في انطلاق آرائهم العقدية من ملاحظة سيرورة العقيدة الإسلامية في واقع الناس، وما يعتورها من ثبات وصفاء، ومن دخائل أجنبية عنها تسعى بها إلى الانحراف.(1/95)
وقد بدأ هذا ا لنكوص من قبل ا لفكر الإسلامي عن فهم ا لواقع والتفاعل معه بوجه جلي، في القرن الخامس ، ثم استشرى أمره بمرور الأيّام باطراد إلى عصر النهضة الحديثة. إلاّ أنّ تاريخ الفكر في هذه المدة الطويلة لم يعدم نماذج مستثناة من الخط العام، فقد وجد علماء شهدوا الحياة العامة للمسلمين، وانخرطوا فيها بعمق، واتخذوا من أحداثها مادّة للدرس والتحليل، فكان لتلك السيرة مردودٌ ثري على آرائهم ومؤلفاتهم، جعلتها تنتمي في طبيعتها إلى المأثور عن الأجيال الإسلامية الأولى، من علوم متأصلة على فهم الواقع، مما يبين بشكل جلي أن فهم الواقع عنصر أساسي في نضج التدين فهماً وتنزيلاً.(1/96)
ولعل من أبرز هذه النماذج ابن حزم الظاهري (ت 456هـ ) الذي انخرط في الواقع السياسي والاجتماعي، وأصبح وزير الأمويين بالأندلس، كما عاين عن كثب الواقع الثقافي والعقدي، وتعمق في درسه، وأثمر ذلك كله اجتهاداً فقهيًّا ثريًّا، يتراءى في كتابه "المحلّي"، وفكراً عقديًّا حيًّا، يتراءى في كتابه "الفصل في الملل والأهواء والنحل". ومنهم العز بن عبد السلام (ت 660هـ ) الذي ساهم في الأحداث السياسية والاجتماعية بمصر، مقاومة لظلم السلاطين، وانتصاراً للعامة من المسلمين، فتراءى ذلك في تنظيره الفقهي المتميز، الذي دونه في كتاب "القواعد". ومنهم الإمام ابن تيمية (ت 728هـ ) الذي خبر واقع المسلمين بالخوض في مختلف مجالاته بالشام ومصر، حيث خاض غمار السلم، كما خاض غمار الحرب في جهاد التتار، والذي رصد الواقع الثقافي، وتعمق في فهم ونقد المذاهب والملل والنحل المتسربة إليه والمتفاعلة فيه، وكان لذلك كله الأثر البين في اجتهاده الفقهي والعقدي المتصف بالحيوية والواقعية، كما يبدو في مصنفاته المختلفة. ومنهم ابن خلدون (ت 808 هـ ) الذي وقف بالمعايشة والدرس على واقع المسلمين مغربًا ومشرقاً، كما لم يقف غيره من العلماء، وركب الأحداث السياسية والاجتماعية، وساهم في صنعها، من سفارته للحفصيين إلى الأندلس، إلى توليه المناصب المختلفة بتونس، إلى توليه القضاء بمصر، إلى وفادته إلى المغول بالشام، وكانت ثمرة ذلك كله رائعته الاجتماعية الفريدة مقدمة كتاب العبر. وتشهد هذه النماذج كلها على أنّ التمرس بالواقع الإسلامي، والتعمق في دراسته وفهمه يثمر نضجاً في فهم الدين، وفي معالجة مشاكل المسلمين بهدي من الدين.(1/97)
وقد آل أمر العلاقة بين الفكر الإسلامي، وبين واقع المسلمين في العصر الحديث إلى ذات الوضع، الذي كان انتهى إليه عهد الانحطاط، والذي سِمَتهُ العامة كما ذكرناه الجفاء بين الفكر، وبين الواقع. فلما نشأت الصحوة الإسلامية الحديثة، منذ أواخر القرن الماضي، اجتهد المصلحون في وصل ما كاد ينقطع بينهما، وفي اتخاذ دراسة الواقع الإسلامي المتردّي منطلقاً لتوجيه الحياة وجهة التدين، وقد أخطأتها في عدة مجالات من حياة الفرد والجماعة.
ذاك ما فعل جمال الدين الأفغاني حينما طوف بالعالم الإسلامي يختبر علله وأدواءه، ثم اقترح منهجه الإصلاحي السياسي، وما فعل الإمام محمد عبده في درسه للعلل الاجتماعية، ثم اقتراح منهجه الإصلاحي الاجتماعي وما فعل الإمام حسن البنّا حينما خبر دخائل المجتمع المصري، ومن خلاله المجتمع الإسلامي، ثم اقترح منهجه الإصلاحي الشامل المتقوم أساسًا بإصلاح عقدي ثقافي.
وكان من المنتظر بحسب تنامي الصحوة الإسلامية، أن يتقدم هذا الوصل بين الفكر والواقع، في حلقات متتابعة من النضج، يفضي الأعم منها إلى الأخص، وتُستخدم فيه الوسائل العلمية المساعدة على تحليل الواقع، وفهم ملابساته وأسبابه، تمهيداً في ذلك لتنزيل الدين عليه، حتى ينصلح بحسبه فيما زاغ منه عنه.ولكن عوامل عطلت حركة التقدم في هذا الوصل، لعل من أهمها ما بلغه الواقع الإسلامي في ذاته من تعقّد شديد. وما قوبلت به الصحوة الإسلامية من صدّ عنيف، ومن قمع وتنكيل، شغلها عن التطور الطبيعي في معالجة الواقع، ودفع بفصائل منها إلى نزعة مثالية كثيراً ما تؤول إليها حركات الإصلاح لمّا تقابل بالتنكيل.(1/98)
والحاصل اليوم أن الفكر الإسلامي عموماً، والفكر الحركي منه خصوصاً يواجه واقعاً إسلاميًّا اختلط فيه الحق بالباطل، وحاد في كثير من وجوهه عن الهدي الديني، وهو يروم أن ينزع منه الباطل ويمحض فيه الحق، ويسعى إلى أن يطابقه بقيم الدين، حتى يتم فيه التدين. ولكن هذا الفكر وإن مهد لذلك باجتهاد ثري في فهم الدين وتقرير حقائقه، التي غاب كثير منها، في عهود الانحطاط، فإن التحدي الكبير، الذي نرى أنه يواجهه الآن هو الاجتهاد في فهم الواقع الإسلامي المعقّد الخطوط. المتشابك الأسباب، حتى يعدّ حقيقة الدين في صياغة عملية تناسب العلل والأمراض، التي يشكو منها واقع المسلمين، وتنفذ إليها في مكامنها، التي كثيراً ما تكون خفية، لا تستبين إلاّ باجتهاد مُضْنٍ لفهمها، فيكون بذلك المثاب إلى الدين، وتحقيق التدين الشامل. وما أبعد أن يكون الأمر كما يظن بعض العاملين المخلصين للإسلام، مختزلاً في أن الاهتداء إلى حقيقة الدين كفيل وحده بحصول التدين، وإنما هو قدر المجتهد في التدين أن يخوض جهادين: جهاداً لفهم الدين فهماً صحيحاً. وجهاداً لفهم الواقع فهماً صحيحاً أيضاً، كي يمكن تطويعه لحقيقة الدين.
3 - العناصر الأساسية في الواقع الإسلامي الرّاهن:(1/99)
لقد انتهينا آنفاً، إلى أن من مهام الفكر الإسلامي الإصلاحي اليوم، قراءة واقع المسلمين، قراءة عميقة، وأن هذه القراءة لا تكون موفية بالغرض إلاّ إذا كانت قراءة مفصّلة، تتناول الأوضاع، والمشاكل، مجزأة في المجالات المختلفة، فيما يشبه الفحص الطبي الشامل لجسم المريض، للوقوف على العلل في مواضعها التفصيلية. إلا أن هذه القراءة الشاملة المفصلة لا تكون مجدية، إلا إذا تمت على أساس من المعرفة بالعناصر الأساسية، التي تحكم الواقع الإسلامي، والتي تدخل في تكوين جزئياته وفصوله كلها، وتسيّر تفاعلاته كلها فالمعرفة بهذه العناصر الأساسية العامة من حيث مدخليتها في تكوين الواقع الإسلامي، تعتبر كالمفتاح الذي لا تتم معرفة التفاصيل إلا به، ولا تفهم إلا على أساسه، كما أنها تقوم مقام العاصم، الذي يعصم من الوقوع في أحكام جزئية، مفصولة عن سياقها الكلي العام، فتكون عرضة بذلك للخطأ.
هذا وإن المتأمل في الواقع الإسلامي اليوم من حيث العوامل المؤثرة فيه، تصوراتٍ ثقافية عقدية، وسلوكاً عمليًّا، يجد أن عوامل أساسية ثلاثة هي التي تفعل فيه، وعنها تصدر أحداثه، وبها تتوجه مناشطه، وذلك عن تفاوت بينها في درجة الفعل والتوجيه، ولكن بتشارك متدافع في الغالب، لا يغيب فيه واحد منها. وهذه العناصر الثلاثة هي: العنصر الديني، والعنصر التاريخي، والعنصر الحضاري الغربي. وفيما يلي بيان موجز لهذه العوامل.
أ - العامل الديني:
من المفروض نظريًّا أن التسمية بالواقع الإسلامي، تكون دالة على أن هذا الواقع موضوع بحثنا، واقعٌ محكوم بالحقيقة الدينية الإسلامية، دون غيرها حتى يكون جديراً بهذه التسمية.(1/100)
ولكن الحقيقة أن واقع المسلمين آل منذ زمن إلى وضع، لم تصبح فيه القيم الدينية هي الحاكم الأوحد، ولا الحاكم الأغلب، في كثير من المجالات ولقد انحسر السلطان الشامل للدين على مناشط الحياة، بالنسبة لما كان عليه الأمر في العهود الإسلامية الأولى انحساراً تمثل في بهوت بعض التصورات العقدية، وتراخ في فعالية الدفع إلى التعمير في الأرض، طيلة عهود الانحطاط، كما تمثل في انسحاب كامل من بعض ميادين الحياة الاجتماعية، بفعل من الغزو الثقافي المعاصر.
ومع هذا الانحسار لسلطان الدين على واقع المسلمين، فإن العامل الديني بقي المشكِّل الأساسي لوجدان الأمة الإسلامية، فهو الذي يقوّم التصوّر العقدي العام لمجموع الأمة، مع ما يشوبه في بعض المفاهيم من بهوت، وهو الذي ينشط حياة الفرد في محيطه الفردي، ومحيطه الأسري على وجه الخصوص، مع ما يعتري ذلك من فتور في الفعالية. وإذا كانت الحياة الاجتماعية في وجوهها السياسية والاقتصادية والقانونية العامة قد انسحب منها إلى حدٍّ كبير العامل الديني، فإن بقية من الإيقاع العام في التعامل الأخلاقي والسلوك الثقافي، بقيت محكومة بهذا العامل، وهو ما يلمسه بوضوح من يقارن بين مجتمع إسلامي، ومجتمع غربي، بناءً على خبرة عملية ومعايشة فعلية.(1/101)
وإذا كان الواقع الإسلامي على النحو الذي ذكرناه من حيث فعالية العامل الديني فيه، كما تبدو في ظاهر الحياة، فمن المهم جدًّا أن نلاحظ أن الضمير الجمعي العام للأمة الإسلامية، لم يفقد من الانفعال بالدين، ما فقد الواقع الخارجي الظاهر، وكأن حقيقة الدين ظلت قوة مختزنة في هذا الضمير، افتقدت من قوة الدفع ما قصرت به عن أن تفيض سلوكاً متدفقاً في مناشط الحياة كلها ولكنها لم تفقد من حضورها في الضمير ما يحبط قوتها الكامنة، بل ظلت تلك القوة مستكنّة بضغوط التراكمات التاريخية، والغزوات الثقافية، مع الاستعداد للظهور الفاعل، إذا ما توفرت شروط لذلك، وقد صور هذا المعنى أدق تصوير أحد الدعاة المعاصرين فقال في المجتمع الإسلامي بعد خبرة عميقة به: "لا تزال في كوامن فطرته أقدار من التدين، ولذلك بالتذكير القليل تستيقظ هذه الأقدار كلها، وتكاد تحدث معجزة في دفع التحول. وتشاهد أحياناً في الفرد الواحد كيف يحدث الانقلاب فيه من حادث يطرأ عليه، أو موقف يصدمه، فيذكره بالله، فيحدث انقلاب هائل في حياته كلها، ويحدث مثل ذلك على صعيد المجتمع "(5 ).
ومن شواهد هذه القوة للعامل الديني في وجهه الكامن في الأمة، ما حدث في العالم الإسلامي، من طفرة دينية عرفت اصطلاحاً بالصحوة الإسلامية، حينما انقلبت محافل الشباب الإسلامي خاصة منذ عقدين أو ثلاثة، بشكل يشبه أن يكون فجئيًّا، من محافل تكاد تخلو من أقدار التدين، فكراً وسلوكاً، إلى جحافل تكاد تكون غالبة من الساجدين لله بالفكر والسلوك. وما تفسير ذلك إلا بتوفر شروط موضوعية في واقع الأمة الإسلامية، انطلق بها ضميرها الديني المستكن، يعبّر عن نفسه في توجيه الحياة الظاهرة قبلة الدين، فكانت الصحوة الإسلامية المتجاوبة في أنحاء العالم الإسلامي.(1/102)
وكثير من المهتمين بواقع المسلمين، على اختلاف مشاربهم، لم يقدروا هذا العامل الديني حق قدره. فسقطوا في خطأ شنيع في فهمه، وبنوا على ذلك الفهم الخاطئ تصرفات، ظنوا أنها طريقة تقويم، فلم تغن شيئاً، وربما أدت إلى عكس المرغوب. ولعل أوضح مثال لذلك، أولئك الذين هالهم ما في الواقع الإسلامي من انحراف عن الدين، فقدروا أنه ما دام الدين لا يطبق جملة في واقع المجتمع، فإن هذا المجتمع مجتمع جاهلي، مسلوبة عنه صفة الإسلام، وترتب على ذلك هجران هذا المجتمع من جهة، والعمل على مقاومة ما فيه من جهالة بوسائل مختلفة، لا يستثنى منها العنف من جهة أخرى. وكانت النتيجة أن هؤلاء لا ظهراً أبقوا ولا أرضاً قطعوا، وما كان لتصرفاتهم أثر يذكر في تقويم الواقع.
وفي مقابل هؤلاء الذين لا يعدمون إخلاصاً، وإن عدموا الفهم الصائب، ظنّ بعض المتربصين بالمجتمع الإسلامي أن مظاهر الخلل في فعالية العامل الديني، في بعض نواحي الحياة ترسباً لمخلفات الانحطاط الحضاري، وتأثراً بالغزو الثقافي، هي أعراض حقيقية لتحوّل نحو تصرّم العامل الديني أصلاً، وصيرورة المجتمع إلى اللائكية والإلحاد، فتداعوا بهذا الظن في تقدير الواقع إلى تكريس كل ما فيه إضعاف لعامل الدين وإحباط له، فكانت السياسة العلمانية الشاملة، التي شهدتها مناطق كثيرة من العالم الإسلامي، وقد أغفل هذا التقدير تلك الفطرة الدينية الكامنة في الأمة، والتي كانت تصرفاتهم العلمانية أحد أهم العوامل في إيقاظها، متمثلة في الصحوة الإسلامية على سبيل رد الفعل والدفاع عن الذات.
هذان المثالان على اختلاف طبيعتهما يدلان على أن العنصر الديني عامل فاعل في الواقع الإسلامي، فالخطأ في تقديره وفهمه في ظاهره وباطنه، باديه ومكنونه، يفضي لا محالة إلى قصور في فهم ذلك الواقع، ويؤدي بالتالي إلى الخسران في توجيهه ليطابق هدي الدين الذي فيه خيره وصلاحه.
ب - العامل التاريخي :(1/103)
نعني بالعامل التاريخي ما تراكم عبر تاريخ الأمة الإسلامية من معطيات إيجابية أو سلبية، استصحبها المجتمع الإسلامي، لتصبح عناصر مؤثرة في واقعه الحالي، بمقتضى ذلك الاستصحاب التاريخي.
ولا يخفى على المتأمل في واقع المسلمين أنه واقع للماضي دور كبير في تفاعلاته، وتوجيه أحداثه، على خلاف بعض المجتمعات الأخرى، التي خفت صلتها بالتاريخ، حتى كاد لا يبقى منه إلا ذكريات، لا فعل لها في الأحداث، وأصبح واقعها لا يخضع إلا للعوامل المستأنفة، ولعل من أوضع الأمثلة على ذلك المجتمع الأمريكي، الذي يشبه أن يكون قد انسلخ من تاريخ العالم القديم، فلم يعد له فعل يذكر فيه.
ويفعل التاريخ في واقع المسلمين، عبر جملة من المعطيات المستصحبة ذات الصبغة الكلية ا لعامة، وهي معطيات تكونت وترسخت بمرور الزمن، حتى أصبحت تجري من تصرفات المسلمين على المستوى الفردي والجماعي مجرى الموجه للمواقف والأفعال، إن بصفة شعورية أو لا شعورية.
ومن أهم هذه العناصر التاريخية وحدة الأمة الإسلامية؛ فإن التاريخ قد كرس في الأمة الإسلامية وحدة تنتظمها على امتداد أطرافها، وإذا لم تكن تلك الوحدة مستصحبة عبر التاريخ باستمرار على المستوى السياسي، وخاصة بعد سقوط الخلافة الإسلامية أوائل هذا القرن، فإنها ظلت مستصحبة باستمرار على المستوى ا لثقافي والعاطفي، فإنك لو حللت نمط الحياة: آداباً وفنوناً وعادات وأساليب تفكير، من أدنى العالم الإسلامي إلى أقصاه، لوجدت ذلك النمط يتقوم بقاسم مشترك في جوهره، وإن تمايزت ألوانه بين قطر وآخر. وكذلك فإن التجاوب الشعوري قائم بين المسلمين، تهزهم الأفراح والأتراح، هزًّا مشتركاً، وتسري المؤثرات بينهم دون تخطيط مسبق، ولا جهد مبذول.(1/104)
إن عنصر الوحدة هذا في مظهره الثقافي والنفسي، يعتبر أحد العناصر المؤثرة في الواقع الحالي للمسلمين، ويتمثل ذلك بالأخص في التداعي الفكري والإيديولوجي بينهم، وهو ما بدا جليًّا في الأثر الذي سرى في معظم البلاد الإسلامية من حركة الإخوان المسلمين التي نشأت بمصر، وحركة أبي الأعلى المودودي بباكستان، للحركات الإسلامية في أكثر من بلد إسلامي. وفي الأثر السلبي الذي امتد إلى أكثر البلاد الإسلامية من سقوط الخلافة الإسلامية بتركيا، وقيام الدولة العلمانية المتغربة بها. ولا يفهم الواقع الإسلامي الفهم الصحيح بإسقاط هذا العنصر أو التغافل عنه، لأن في ذلك إسقاطاً لعامل من عوامل الأحداث في انتقالها وتفاعلها.
ومن تلك العناصر أيضاً الحس الحضاري للأمة الإسلامية. فالمسلمون ينتمون تاريخيا إلى حضارة كان لها ذات يوم شأن عالمي، طورت به المسيرة الحضارية للإنسان في شتى المجالات. وهي حضارة ذات خصوصيات متميزة، مستمدة من خصوصيات العقيدة الإسلامية، وبهذا التميّز انطبعت الحضارة الإسلامية بعمق في حياة المسلمين، حتى إنها لما آلت دورتها إلى التناهي في العطاء العلمي والمادي، بقيت حاضرة في مستوى الوجدان الجمعي للمسلمين. فالمسلمون ا ليوم وإن كانوا تبعاً للحضارة السائدة، وهي الحضارة الغربية، إلا أن في نفوسهم وعقولهم أيضاً يقوم حسّ حضاري، يمتد إلى حضارتهم السالفة المتميزة.(1/105)
ويمثل هذا الحس الحضاري عنصرا مهماًّ في الواقع الإسلامي؛ ذلك لأنه يمثل قوة مخزونة للتقبل الحضاري على الأسس الإسلامية، وهي قوة يكون لها بالتأكيد دور مهم في تنزيل صيغ لمشاريع حضارية إسلامية، حيث تصادف هذه الصيغ مناخاً نفسيًّا يتلاءم معها لعهد سابق بصيغ من جنسها، فيسهل تقبلها وإنجازها. وعلى العكس من ذلك فإن أية صيغ حضارية، تتقوم بإيديولوجية غير إسلامية، يكون موقعها من النفوس موقع الغربة في الحقيقة، وإن فرض التيار الحضاري العام تبنّيها في الظاهر. ولعل هذا الأمر من أهم الأسباب في فشل المسلمين إلى حد الآن في أن يبرزّوا في جانب من جوانب الحضارة الغربية السائدة؛ إنها حضارة مخالفة في روحها العامة للروح الحضارية المستكنة في نفوسهم.
ولا يخفى أن هذا التقبل الحضاري، الذي يصاحب المسلمين بترسب الإحساس الحضاري في نفوسهم، يمثل عاملاً نفسيًّا مهماًّ في تقويم ما انحرف من حياتهم عن سمت الدين، حيث يستغل ذلك التقبل في صياغة النمط المواتي له، تأصيلاً على الحقيقة الدينية، فيأخذ طريقه إلى الإنجاز بيسر، وذلك يصحّ في المظاهر المادية، كما يصحّ في المظاهر المعنوية، على حد سواء، ومن ثمة يكون الوقوف على هذا العنصر في سبيل فهم الواقع الإسلامي أمراً ضروريًّا لتسديد ذلك الفهم، وتسديد ما ينبني عليه من خطط التدين.
وكما جرّ التاريخ من ا لعناصر الفاعلة في واقع الأمة الإسلامية ما هو إيجابي كالمثالين الآنفين، فإنه جرّ أيضاً عناصر أخرى سلبية، تولدت في عهود الإنحطاط، واستصحبها المسلمون إلى هذا العهد، ولا تزال تفعل في تصاريف حياتهم فكراً وسلوكاً، وتؤثر في واقعهم الجاري.(1/106)
ولعل من أبرز هذه العناصر السلبية، التي جرها التاريخ، ضعف التمثل لقانون السببية، في الثقافة العامة للمسلمين. فقد فشا في الأمة الإسلامية، منذ بداية عهد الانحطاط، اختلال في الإيمان بمبدأ السببية، الذي به الترابط العلي بين الموجودات، وانعكس هذا الاختلال على أسلوب التفكير، فداخلته الأوهام، وقصر عن استكشاف الحقيقة الكونية، المبنية على سنة السببية، كما انعكس على السلوك، فداخله التواكل، وقصُر عن ا لتعمير في الأرض. ومهما كانت الأسباب في هذا الاختلال، من حيث يذكر أن شيوع التصوف يعد أهمها، فإنه ظل مُسْتصحبًا ليشكل اليوم عنصراً من عناصر الواقع الإسلامي، يسهم إلى حد كبير في تكريس مظاهر كثيرة من الحياد عن القبلة الإسلامية، في أغراض التعمير المادي على وجه الخصوص.
وكذلك فقد جرّ التاريخ منذ بداية الانحطاط كلالة، استصحبها المسلمون تمثلت في فتور الفعالية، والقصور عن استثمار الإمكانات المتاحة، إلى آخر مداها في الإنجاز: إما عجزاً عن الأداء أو ركوناً إلى الدعة. ولعلّ من أهم أسباب هذا العنصر ضمور عامل التعبئة النفسية للفعل الحضاري، فقد ظلت حرارة الإيمان، واستشعار الرسالة الملقاة على عاتق المسلم إزاء البشرية، تصنع عامل تعبئة قويًّا للمسلمين، يحفّز قواهم، ليدفعها إلى أقصى طاقتها في الفعالية، فانطلقوا ينجزون الكثير في الوقت القليل. فلما تراخى الزمن، وغشيت أسباب أخرى، ضمر عامل التعبئة، فضعفت الفعالية إلى حد كبير، وهو الوضع الواقع الآن، سواء نظرت إلى المسلمين أفراداً، أو نظرت إليهم جماعات ودولاً، فقد أوقعتهم الكلالة في الكثير من المواقع الضالة الفاسقة عن الدين. وإن فهم هذا العنصر يعتبر أساسًا من أسس الفهم الشامل للواقع الإسلامي.(1/107)
لقد عرضنا مثالين إيجابيين، وآخرين سلبيين، من العناصر الفاعلة في الواقع الإسلامي، مما جرّه التاريخ في تراكم أحداثه، وهذه العناصر وغيرها مما لم نذكره من نوعها تعبّر عن الجذور التاريخية لواقع المسلمين، فلا يمكن استيعاب هذا ا لواقع والنفاذ إلى حقيقته، إلاّ باستيعاب جذوره، التي لها دور الفعل فيه، كالشجرة لا يمكن فهم ما يظهر على أوراقها وثمارها من عوارض النضارة أو الاعتلال، إلاّ باستيعاب ما يعتري جذورها من الأغذية والآفات، فترسم على أساسها خطّة علاجها وتزكية ثمارها.
ج - عامل الحضارة الغربية:
لقد سادت الحضارة الغربية اليوم، حتى لم يبق مجتمع من المجتمعات الإنسانية إلا لها عليه سلطان بوجه من الوجوه. وثمة مجتمعات لم تكن في التاريخ ذات حضارة نامية متميزة، فتلك تقبلت الحضارة الغربية ابتداء، وانساقت في دائرتها دونما صراع بين كسبها القديم وبين الحضارة الوافدة، إذ لم يكن ذلك الكسب على قدر ا لصراع. إلاّ أن المجتمع الإسلامي وهو سليل حضارة تليدة متميزة، كانت ذات يوم حضارة عالمية، لما وفدت عليه الحضارة الغربية، حدث فيه صراع بين الحضارة الغربية وبين مستصحبات حضارته الآفلة. وقد كان لهذا الصراع آثار فاعلة في واقع المسلمين الراهن، وهي آثار متأتية من لقاء صدامي بين حضارة شاملة، تنبثق من خلفية إيديولوجية مادية وبين بقايا من حضارة شاملة أيضاً تنبثق من خلفية إيديولوجية عقدية دينية. فنشأ من ذلك اللقاء الصدامي غلبةٌ من قبل الحضارة الغربية الأقوى، وردّ فعل متوتر من قبل بقايا الحضارة الإسلامية الآفلة، ومن تلك الغلبة وردّ الفعل المتوتر نشأ عامل من العوامل المهمة المؤثرة في الواقع الإسلامي، الفاعلة في أحداثه.(1/108)
ويتفرع هذا العامل إلى عدة فروع، تعدّ كلها آثاراً لهجمة الحضارة الغربية على العالم الإسلامي. ولعل من أهم تلك الفروع فعالية في توجيه الواقع وصنع الأحداث شيوع روح الانهزامية في نفوس المسلمين، وفشوّ النزعة الاستهلاكية فيهم، والرفض المتوتر لجملة الحضارة الغربية من قبل بعض المسلمين.
أما روح الانهزامية فإنها شاعت في نفوس الكثير من المسلمين، لما بهرتهم المنجزات الحضارية الغربية في وجهها المادي على وجه الخصوص، فوقع في النفوس أن مفتاح الخير، ومفتاح الحق، بيد هذه الحضارة وأهلها، بما كسبوا من حقائق العلم، ومن وسائل الرّفاه، ومن أسباب الغلبة. ولما قورن ذلك كله بوضع المسلمين في تخلفه العلمي والمادي، أفرزت تلك المقارنة شعوراً بالانهزام والمغلوبية، وسرى هذا الشعور في الناس بوعي، وبغير وعي، حتى أصبح حالاً من أحوال المسلمين، يوجّه الكثير من مواقفهم وتصرفاتهم، ويكيّف الكثير من نظمهم وأوضاعهم.
وظهر ذلك الشعور الانهزامي، في التقليد لأهل حضارة الغرب تقليداً تجاوز محاولات التشبه بهم في استثمار منجزاتهم المادية، إلى التشبه بهم في حياتهم الثقافية العامة: أساليب تفكير، وروابط اجتماعية، وعادات وتقاليد، وقوانين وتشريعات، حتى غدا المجتمع الإسلامي في كثير من جوانبه كالنسخة الرديئة من المجتمع الغربي. ولما كانت الحضارة الغربية المقلدة تنبثق من فلسفة مادية مناقضة للعقيدة الإسلامية، التي لا تزال تعمر أذهان المسلمين على نحو من الأنحاء، فإن هذا التقليد اتصف أيضاً بالقلق والاضطراب والتوتر، لتمزقه بين إيديولوجيتين متناقضتين: مادية ينبني عليها الأنموذج المقلّد، وإسلامية تعمر ذهن المسلم المقلِّد. وهذا التقليد المتوتر الناشئ عن روح الانهزامية، كان مؤدياً لانحرافات كثيرة عن الدين في مظاهر مختلفة من الحياة.(1/109)
وأما النزعة الاستهلاكية فإنها ناشئة عن الإغراءات الأخّاذة التي تمارسها وسائل الإنتاج الصناعي الغربي، فيما تصنعه من معدات الرفاه المتنوعة، وما تبذله من جهود في الدعاية لها انطلاقاً في ذلك كله من فلسفة الربح والمتعة، التي بنيت عليها العقلية الغربية بأكملها.
لقد أدّت هذه السياسة الاستهلاكية، التي تغلغلت في العالم الإسلامي، إلى نشوء شراهة فظيعة للاستهلاك الشامل في جميع مرافق الحياة، وصارت النفوس لاهثة وراء رفاهية المأكل والملبس والمسكن والمركب، وأصبح ذلك حالاً للمسلمين من أهل المدن، ومن الطبقات الثرية والمتوسطة، حتى غدت النفوس ضعيفة بشراهة الاستهلاك، وأضحى لديها استعداد لركوب كل المراكب في سبيل إشباع تلك الشراهة، ومن ثمة انزلق كثير إلى مخالفات لمقتضيات الدين، ليس على سبيل مخالفة السلوك فحسب، ولكن بالإتيان على أصل التعاليم بالنقض، والتنظير لذلك مذهبيًّا، استجابة لدواعي الاستهلاك المستفحلة.
وقد أدت هذه النزعة الاستهلاكية إلى صفة من الميوعة، المتمثلة في الركون إلى الانقياد، لمن بيدهم ضمانات لتوفير المستهلكات في رتابة واستمرار. فورّث ذلك ضعفاً في الشخصية، وغدت المواقف في الأقوال والأفعال لا توزن بميزان الحق، الذي يجب أن يكون، بل بميزان ما يضمن استمرارية الاستهلاك، إرضاءً لمن يوفرها، وسرى ذلك في أحوال الأفراد، كما سرى في أحوال الأنظمة الحاكمة في علاقاتها الدولية.(1/110)
على أن الحضارة الغربية التي صدمت العالم الإسلامي بمنطلقاتها الإيديولوجية المخالفة لعقيدته، قد كان لها وقع آخر، غير الوقع الذي كان به الانسياق والانهزام؛ ذلك أن شقًّا من المسلمين هالهم التناقض بين هذه الحضارة في كسبها الثقافي خاصة، وبين الروح الإسلامية، وصدم كبرياءهم الديني النزعة ا لتسلطية لحملة هذه الحضارة استعماراً واستكباراً (وإمبرياليةً ). فوقفوا من هذه الحضارة بسبب ذلك موقف الرفض المبدئي المتوتر، الذي تجاوز الجوانب الثقافية والفكرية والأدبية، مما تبرز فيه بوضوح النزعة الإيديولوجية، إلى غيرها من الكسب العلمي والتقني المتمثل في العلوم التجريبية، وفي المرافق المدنية، التي تتصف بالموضوعية إلى حد كبير، والتي تعتبر كسباً إنسانيًّا عاماً في جانب اكتشاف الحقيقة الكونية تتداوله الحضارات والمجتمعات، وتتعهده بالتنمية على مر العصور.(1/111)
ومن هذا الموقف الرافض وجدت جماعات إسلامية منتظمة، كما وُجدت تيارات، تجمع العديد من الأفراد، تقف كلها موقف المجانبة لاستخدام المنجزات الحضارية ذات الطابع المدني، في صياغة الحلول الإسلامية لمعالجة الأوضاع المستجدة في حياة المسلمين، وتقويم ما اعوج منها عن السمت الديني المستقيم. وإذا تجاوزنا في التمثيل لذلك ما يروّج على سبيل الدعاية المغرضة من رفض بعض المسلمين لوسائل في الإعلام الحديث، ووسائل في النقل، وغيرها من مكتسبات الحضارة، فإننا نجد بعض المسلمين يتحرزون شديد التحرز من استخدام وسائل التنظيم والإدارة، ووسائل التطبيب والصيدلة، وطرق الاستحضار والاستحفاظ في الأطعمة والأشربة، وغير ذلك مما يمكن أن تتبين فيه المصلحة، وفق الشروط الإسلامية، ولكنه يجري على أساس مكتسبات الحضارة الغربية. وهذا التحرّز الذي يتراوح بين الرفض الجلي، وبين الحذر المفرط، يفوّت في كثير من الأحيان فرصاً مهمة في تنزيل الحقيقة الدينية على الواقع الراهن للمسلمين، ومن ثمّة فإنه يمثل أحد العناصر الفاعلة في هذا الواقع.
إن العوامل الثلاثة التي ذكرناها آنفاً تعتبر من أهم العوامل الفاعلة في واقع المسلمين اليوم، تشكيلاً للبنية الفكرية والنفسية، ودفعاً للأحداث الفردية والاجتماعية ولذلك فإنه لا مناص للناظر في الواقع الإسلامي نظر تفهم واستيعاب من أن تكون هذه العوامل من أدوات الرصد والتحليل لأجل الفهم، وإسقاطها والاستهانة بها يوقع لا محالة في فهم سطحي، لا ينفذ إلى علل الأحداث وأسبابها، ويكون بالتالي مزلقاً في سبيل التقويم الديني لواقع المسلمين، لأن هذا التقويم يرتكز، من بين ما يرتكز على فهم الواقع بصفة أساسية كما بيناه.(1/112)
في فقه التدين فهما وتنزيلا
(2)
الدكتور عبد المجيد النجار
تقديم
بقلم: عمر عبيد حسنة
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وجعل الأمة المسلمة - أمة الوسط - خير أمة أخرجت للناس، بما تمتلك من مقومات الشهود الحضاري؛ قال تعالى: ((وكذلك جعلناكم أمّةً وسطاً لتكونوا شُهداء على الناس )) [البقرة:143]، وبما تحتفظ به من خصائص الإمكان الحضاري ((ولا تَهِنوا ولا تحزنوا وأنْتم الأعلون إن كنتم مؤمنين. إن يمْسسكم قرحُ فقد مسّ القوم قرحٌ مثله وتِلك الأيّام نُداولها بين الناس )) [آل عمران: 139-140]. فالإيمان هو خميرة النهوض، وشرطه اللازم لعودة الدورة الحضارية، إذا استطاع المسلمون امتلاك المقومات، واستعادة الفاعلية.
والصلاة والسلام على الرسول الخاتم، تركنا على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك. وبعد:
فهذا الجزء الثاني من كتاب الأمة: "في فقه التدين فهماً وتنزيلا ً " للدكتور عبد المجيد النجار؛ يأتي مكملاً للمشروع الفقهي الفكري، الذي بدأ طرحه في الجزء الأول.
ونسارع إلى القول: بأن هذا المشروع المنهجي يحتاج إلى مزيد بحث، وإثراء، وإنضاج من قبل المفكرين، والمهتمين بتنزيل الدين في حياة المسلمين، لترشيد السير، وتسديد الخطو، وأن ما عرض في جزأي هذا الكتاب إنما هو دعوة للنظر والحوار، والتفاكر، والتشاور، وإغناء الرؤية، في هذا الجانب الهام، الذي لم يأخذ حقه من العقل المسلم، خاصة في عصور التقليد والتخلف والغياب الحضاري، الذي جعل المسلم بعيداً عن قيمه الخالدة، وميراثه الثقافي، وتجربته التاريخية، وتحديات عصره الماثلة، بل المستفزة.(2/1)
وبما أنّا اخترنا أن يكون اهتمامنا بالأسباب الذاتية التي هيأت القابلية للإصابة، التي لحقت بالعقل المسلم، ولم نرتض منهج الإلقاء بالتبعة على العوامل الخارجية لإعفاء النفس من مسؤولية التقصير، والتستر على الأخطاء، وتكريس حالات العجز والغياب الحضاري، فإننا نرى أن القضية التي عبرنا عنها بالغياب الحضاري، ليست بسبب افتقاد القيم، أو فقر الميراث الثقافي، أو عجز وقصور التجربة الحضارية التاريخية، وإنما هي بسبب خمود الفاعلية، وانطفاء شعلة الإيمان، وضلال منهج الفهم، وعدم القدرة على التعامل مع القيم الثابتة، والإفادة من الميراث الثقافي، والتجربة الحضارية التاريخية، والتحقق بـ (الشهود التاريخي ) الذي يقود حكماً إلى الشهود الحضاري لتنزيل الإسلام على واقع الناس، وإيجاد الأوعية الشرعية لحركة المجتمع، من خلال فقه الدين وبصارة الواقع (فقه التدين ).
فالقرآن والسنة مصدرا القيم الثابتة للحياة الإسلامية، محفوظان بعهد الله ومواثيقه، وقد بذل المسلمون من الجهود في وسائل الحفظ ما لا يدع استزادة لمستزيد، حتى وصلنا النص القرآني، والبيان النبوي كما هو، وكأننا نعيش عصر النبوة، ونشهد نزول الوحي. ولعل من لوازم وشروط الرسالة الخاتمة: أن يكون الخطاب الإلهي والبيان النبوي سليماً، وإلا لما صح تكليف، ولما ترتبت مسؤولية.
فالمشكلة إذن بالنسبة لمسلم اليوم ليست في نص الدين، أو في عدم وجود المنهج، وإنما المشكلة هي في عدم فقه الخطاب، وتأصيل منهج التعامل معه، وكيفية تنزيله على الواقع البشري، الأمر الذي يقتضي فقه الخطاب وفقه الواقع في آن واحد، كما أسلفنا في تقديم الجزء الأول. لأن الرؤية النصيفية بفهم الخطاب الإلهي دون فهم الواقع، وعدم حل المعادلة الغائبة، بين الخطاب الإلهي، والواقع البشري، سوف يبقي المسلمين في حالة الغياب الحضاري المؤرق.(2/2)
ومهما كان الإسلام عظيماً ونفيساً إذا لم يتقدم به أهله لمعالجة المشكلات البشرية الواقعية، وتقديم الحل الأفضل، الذي يغري به الناس، وينقذ حياتهم، فسوف لا يكون أدى رسالته وحقق مقصده؛ فإلى أي مدى يحسن المسلمون اليوم التعامل مع الإسلام بمصدريه، ويعيدون صياغته من خلال لغة العصر؟، وإلى أي مدى يأخذون بالاعتبار إدراك الواقع المتغير والمعقد بآلات فهم علمية ليكونوا قادرين على بسط الإسلام على حياة الناس، وتقويم سلوكهم بشرع الله؟ تلك هي المعادلة المطلوبة والمفقودة في الوقت نفسه عند مسلمي اليوم، وبدونها لا تتحقق القيادة للناس والشهادة عليهم، التي هي من وظائف وخصائص الأمة الوسط ((وكذلك جعلناكم أمّةً وسطاً لِتكونوا شُهداء على الناس )) [البقرة:143].
وقد يكون من المفيد الإشارة إلى بعض الأبعاد التي يمكن أن تسهم بإلقاء أضواء ولو بسيطة على طريق حل المعادلة (فقه التدين )؛ وفي كل الأحوال يبقى الأمر مطروحاً، والحوار مفتوحاً ومباحاً لكل القادرين عليه، لا يجوز إغلاقه، لأنه مرهون بتجدد الزمن، والى أن يرث الله الأرض ومن عليها.(2/3)
ولعل من القضايا التي تستحق النظر، وإعادة الطرح والتفاكر والتي لا يزال العقل المسلم يخضع فيها لعملية رد الفعل والضغط الخارجي: أن كثيراً من الحلول والطروحات الفكرية، التي نشأت في تاريخ الفكر الإسلامي، من خلال موقف الدفاع عن الإسلام، وما تعرض له من تحديات، لم تستطع أن تحتفظ بخاصية التوازن، وضبط النسب إن صح التعبير، وإنما تجاوزت ذلك - وهذا من طبيعة رد الفعل وإصابات الفكر الدفاعي - إلى جعل العدو في كثير من الأحيان متحكماً بالنشاط الفكري للعقل المسلم ومحدداً لأبعاده، بما يلقي إليه من مشكلات ، قد تحوّله عن رسالته الأصلية ومساره السليم، أو أولوياته المطلوبة؛ بل قد تضغط عليه فتخرجه عن منطقة ومنطلقة. ففي سبيل تأكيد دور العقل في الإسلام كاد أن يلغي الوحي، أو يحاصره بشتى السبل، ويعطل منهج النقل كليًّا، وإن لم يجاهر بذلك؛ وفي سبيل تأكيد حرية الإرادة والمسؤولية، أو شكنا على إلغاء القدر؛ وحتى نرد على موجة تأليه العقل انتهينا إلى فكر الجبر، وإسقاط العقل نهائيًّا، والانتهاء إلى لون من الانتحار الروحي، والخروج من الحياة وتكاليفها إلى مذهب التصوف السلبي، والقول بالإرجاء؛ وفي سبيل ردّ شبه اليهود في التجسيم، والنصارى في التثليث، تعسفنا في تفسير الآيات حتى انتهت فرقة إلى القول: بخلق القرآن، وهذا قد يصدق إلى حد بعيد على علم الكلام الذي امتد وتجاوز حتى كاد يغدر أصوله ومنطلقاته الإسلامية. وهكذا نرى أنه لا بد ونحن بسبيل تنزيل الإسلام على الواقع، ومواجهة التحديات، أن يبقى العقل المسلم متوازناً ومراعيًا لعملية ضبط النسب واعتماد أساليب المواجهة المشروعة المتسقة مع العقيدة كما وردت في الكتاب والسنة كضمانات لعدم الخروج باسم التعامل مع الواقع.(2/4)
صحيح أن القرآن إنما جاء بإرساء القيم الأساسية، والمبادئ العامة للحياة الإسلامية، وترك أمر الخطط والبرامج، والصياغة والتنزيل، للفكر البشري (الاجتهاد ) لكن لا بد أيضاً لهذا الاجتهاد أن يبقى محكوماً بأبعاد العقيدة كما وردت في الكتاب والسنة، والقيم الضابطة لمسيرة العقل، والحياة الإسلامية، لا يخرج عنها، فالقيم والمبادئ وحي من الله، ومن هنا فهي ثوابت وأسس، أما البرامج فهي اجتهادات بشرية ومتغيرات في ضوء الواقع وحاجاته، لكن الحركة الاجتهادية يجب أن تبقى ضمن إطار القيم الثابتة.
وقد تكون المشكلة التي يعاني منها العقل المسلم اليوم في اختلاط بعض الأمور أثناء التعامل مع الإسلام، وبسطه على واقع الناس؛ فآيات القرآن، ونصوص السنة الصحيحة لا شك أن لها ثباتها وقدسيتها لأنها وحي معصوم - كما أسلفنا- وبالتالي فدور العقل يتحدد في إدراك أبعادها، والاجتهاد في تحديد مدلولاتها، ومقاصدها، أما إخضاعها لوسائل الفحص والاختبار التي تخضع لها المعارف العقلية القابلة للخطأ والصواب، فقضية خطيرة؛ ومن جانب آخر فإننا نرى المشكلة تتمثل في أن العقل المسلم في عصوره المتخلفة لم يقتصر في إعطاء صفة القدسية لنصوص الكتاب والسنة، وهما مصدرا القيم وإنما تجاوز ذلك إلى إعطاء صفة القدسية للاجتهاد البشري غير المعصوم (الخطط والبرامج التي وضعت لنوازل المشكلات في عصور تاريخية في ضوء الكتاب والسنة ) فوقع في خطأ التقليد والتجمد، وعدم القدرة على الامتداد الإسلامي، وتعدية الرؤية والاعتبار.(2/5)
أما الوجه الآخر للمشكلة فهو في أن بعض أبناء المسلمين ممن فتنوا بالمذاهب العلمانية، كردّ فعل على الواقع الإسلامي البئيس وضعوا الكتاب والسنة وهما وحي معصوم في خانة التراث، والإنتاج العقلي، القابل للفحص والاختبار، ومن ثم الانتقاء والإلغاء باسم المعاصرة، لذا نرى أنه لا بد من إصلاح الخلل في هذه القضية، ونحن نحاول التفقه والتأصيل لمنهج التدين، وتصويب الخطأ الذي لحق بالعقل المسلم سواء بالنسبة لبعض من رغبوا في الإسلام أو من رغبوا عنه.
وقضية أخرى: لعل من أهم مرتكزات فقه التدين، الذي يعني فيما يعني التخطيط والبرمجة لبسط الدين على واقع الحياة، وتقويم سلوك الناس بنهج الدين بعد رحلة الانسلاخ التي لا نزال نعاني من آثارها: أن العودة إلى الالتزام بالإسلام وتكييف سلوك الناس بنهجه لا يمكن أن يتم دفعة واحدة، خاصة وأن عملية الانسلاخ استغرقت زمناً طويلاً فلا بد من اعتماد سنة التدرج؛ وعملية التدرج التي تقتضي التحقق بالرؤية الإسلامية الشاملة، التي أسماها الدكتور عبد المجيد فهم الدين، كما تقتضي أيضاً التحقق برؤية عصرية للواقع وفهمه من خلال وسائل علمية، وتجاوز الأبنية الفكرية الجاهزة من عصر سابق، ثم تحديد الموقع بدقة، والقدر الذي يجب تنزيله في هذه المرحلة ومن ثم يكون تنزيله في هذه المرحلة مقدمة وتمهيداً لتنزيل القدر التالي في مرحلة أخرى، وهكذا.
وهنا نقطة قد يكون من المفيد إيضاحها:
ونحن نتدرج بالتنزيل لا بد لنا أن نستصحب الرؤية الشاملة والأبعاد الكاملة والشاملة التي يجب أن نبلغها، ونستشعر المسؤولية عن عدم بلوغها، وأن التدرج المطروح هو التدرج في التطبيق، والتنزيل على الواقع، وليس التدرج في التشريع، لأن التشريع اكتمل، إلا إذا أردنا بالتشريع وضع النظم والقوانين والبرامج فذلك أمر من طبيعته عدم الثبات وإنما محاكاة العصر.(2/6)
وفي ظننا أن التدرج في التطبيق ليس أمراً خارجاً عن الدين، كما يتوهم بعضهم، ذلك أن أمر الشارع منوط بالاستطاعة، والتكليف منوط بالطاقة قال تعالى: (( لا يُكلّف الله نفساً إلاّ وُسعها )) [البقرة:286] ((فاتّقُوا الله ماستطَعتم )) [التغابن:16]؛ فإلى جانب الفوائد التربوية لعملية التدرج المطلوب استحضارها، لا بد أن ندرك أن التدرج هو من الدين، فالعدول عن العزيمة إلى الرخصة في حالات قد تؤدي العزيمة فيها إلى تفويت مقصد الدين، وإيقاع المكلّف في الحرج، هو الحكم الشرعي، الذي يلائم المكلّف في حالته التي هو عليها، "فالمشقة تجلب التيسير " "وإذا ضاق الأمر اتسع ".
لذلك فليس من فقه التدين وليس من الدين أيضاً مطالبة المكلّف بالحد الأقصى للتكليف، وهو لا يطيق إلا الحد الأدنى. والمدى المطروح للتدين يتلاءم بحسب الواقع، والحال التي عليها المكلف ابتداءً من قوله تعالى: ((إلاّ مَنْ أكرِه وقلبه مطمئنٌّ بالإيمان )) [النحل:106] إلى قوله تعالى: ((وقاتلوهم حتّى لا تكون فتنةٌ ويكون الدّينُ لله )) [البقرة:193]، تخليصاً للناس من العبودية وإزالة العوائق، وتحقيق حرية الاعتقاد، والارتقاء بالإنسان إلى مستلزمات الحد الأعلى للتكليف.(2/7)
وهذا الأمر يطرح قضية أخرى لا بد أن نعرض لها: وهي أن الإسلام دين واقعي، إذ لا يمكن عقلاً وبداهة إلا أن يكون واقعيًّا، ذلك أن الله الذي خلق الإنسان أعلم بظروفه وطاقاته التكليفية، وقدرته على الاحتمال في كل ظرف وحال، لذلك فمن العبث الاعتقاد بأن الله يكلفه بما لا يطيق، أو يشرع ما لم يكن قابلاً للتطبيق ((ألا يعلمُ من خلقَ وهُو اللّطيف الخبير )) [الملك:14]، وأن الحد الأعلى للتكليف لا يصنف في إطار المثالية واستحالة التطبيق وإنما هو بمقدور المكلّف في أحسن حالات الترقي التي يمكن الانتهاء إليها؛ واستقراء التجربة التاريخية الإسلامية يؤكد أن الإسلام، دين واقعي جسد في حياة بشر، وأثرى حضارة، وأقام أمة بمؤسساتها ووظائفها، وأن من واقعيته مراعاة حالة المكلّف وظرفه وطاقته. وما يلاحظ من نزعات مثالية تبدو مستحيلة التطبيق عند بعض المفكرين المسلمين يمكن تصنيفه ضمن إطار الأغراض التربوية، وذلك لحماية الناس من السقوط في فساط النظام الحاكم أو فساد الزمان، أما فترة النبوة مرحلة التطبيق الأمثل، ففيها الرخصة والعزيمة، والخطأ والصواب، والتدرج والتأجيل والاستثناء الخ؛ والأمة لا يزال فيها السابق في الخيرات والمقتصد والظالم لنفسه.(2/8)
وقد يؤدي عدم فقه التدين إلى لون من العبث في التعامل مع الأحكام الشرعية، وذلك بتنزيلها على غير محالِّهَا فيلحق العنت بالفرد والأمة على حد سواء، فمن المعلوم أن من أحكام التكليف ما يقع ضمن استطاعة الفرد و في حدود مسئوليته، ومنها ما يناط بوجود الجماعة، ويقع ضمن إطار مسئوليتها، كما أن هناك بعض الأحكام التكليفية محل إنفاذها وجود الحكم والقضاء الإسلامي، والحاكم المسلم، كقضايا العقوبات من حدود وتعزيرات، وعقد المعاهدات، وقضايا السلم والحرب، وسائر السياسات العامة ، التي ترتبط بوجود السلطة. والأمر المطروح بإلحاح ولا بد من تحرير القول فيه ونحن بسبيل إنضاح منهج لفقه التدين: هل يصير الفرد المسلم محلاً لبعض الأحكام المنوطة بالجماعة والسلطان في حال غيابهما، يمارس المسؤولية دون أن يمتلك السلطة، وما يمكن أن يترتب على ذلك من المخاطر والفوضى؟ أو هل يعفي نفسه كليًّا من خطاب التكليف، ويدخل غرفة الانتظار حتى تتشكل السلطة المسلمة من تلقاء نفسها؟ الأمر الذي يستحيل معه أن يكون ذلك مقصد الدين وهدفه.
لذلك نرى أن المشكلة قد تكون كلها في عدم فهم أبعاد الخطاب، وفهم محله معاً ذلك أن التكليف يتحدد أصلاً ضمن ما يقع تحت مقدور المكلّف، ومقدور المكلّف هنا ليس القيام بإنفاذ الأحكام المرتبطة بوجود السلطان والجماعة، وإنما بالقيام بالمسؤولية المنوطة به كفرد، ومن مسئوليته الفردية أيضاً العمل على وجود السلطان الذي يناط به إنفاذ الأحكام المرتبطة به، وبذلك يكون الفرد مشمولاً بخطاب التكليف فلا يعفي نفسه من المسؤولية ويدخل ملاجئ المرجئة أو يخرج بلا فهم ولا فقه لدينه وعصره فيسيء من حيث أراد أن يحسن.
والله الهادي إلى سواء السبيل.
تمهيد(2/9)
إن فهم الدين، وتمثل حقائقه، هي المرحلة الأولى من مراحل التدين؛ ذلك لأن هذا الفهم بالنسبة للمسلم يفضي إلى تبنى المفهوم على سبيل التصديق والاقتناع، وهو من جهة أخرى فهم وقع تحصيله من أجل أن يكون المفهوم واقعاً في السلوك، يوجّهه ويهديه. وبهذين الاعتبارين بحثنا في الجزء الأول من الكتاب فهم الدين على أنّه جزء من التدين، وحاولنا بيان بعض قواعده الفقهية المنهجية.
وتعتبر مرحلة الفهم المرحلة الأساسية في التدين، باعتبار أنها يتوقف عليها تمثل حقيقة الدين، التي ستصبح عقيدة وسلوكاً، فالخلل الذي يطرأ فيها، يفضي إلى أن التدين سيكون جاريًا على باطل، غير مراد لله تعالى، بقدر ذلك الخلل الطارئ في الفهم، وهو ما يؤدي حتماً إلى بوار في حياة الإنسان، بحسب الباطل الذي يجري عليه التدين، والحال أن التدين غايته تسديد الحياة بحقيقة الدين، وتحقيق مصلحة الإنسان، التي هي الغرض الأعلى لأصل الدين. وباعتبار هذه الأهمية لفهم الدين خصصنا له الجزء الأول من هذا البحث.
والمرحلة الثانية من التدين، هي مرحلة التنزيل، ونعني بالتنزيل صيرورة الحقيقة الدينية، التي وقع تمثّلها في مرحلة الفهم، إلى نمط عملي، تجري عليه حياة الإنسان في الواقع، عقيدةً موجهة لجميع مناشط الإنسان، في وحدة وتناسق، وسلوكاً فرديًّا واجتماعيًّا، ينبثق من تلك العقيدة، ليوجه حياة الإنسان في جميع شعابها، وجهة تكون فيها جارية وفق حقيقة الدين وهدايته.(2/10)
وإذا كان فهم الدين هو الأساس في التدين، فإن تنزيله في واقع الحياة هو الثمرة المبتغاة من أصل الدين، وهو لذلك يمثل في التدين المرحلة التي تكمل مرحلة الفهم، وتبلغ بالدين إلى الغاية من نزوله. ولعلّ المنزلة التي يتبوّؤها التنزيل في الدين الإسلامي لا تدانيها في الأهمية منزلة في أي دين، أو مذهب فلسفي آخر، سواء من حيث القيمة المعيارية، أو من حيث الشمول في مجالات التنزيل. ولذلك فإن الخلل الذي يطرأ في تنزيل الدين على واقع الحياة، يؤدي من طرف قريب في عصيان الأحكام، إلى المروق من الإسلام، كما رآه بعض المسلمين مثل المعتزلة والخوارج، وهو يؤدي عند سائر المسلمين إلى وضع إيماني شديد الضعف يكاد لا يغني في ميزان الدين شيئاً.
ويحتاج تنزيل الدين في واقع الحياة إلى فقه منهجي، يوازي ذلك الفقه الذي يكون به الفهم، ولكنه يختلف عنه في الطبيعة، لاختلاف الخصوصيات بين الفهم، وبين التنزيل، من حيث إن الفهم تكون فيه العلاقة الأساسية بين العقل وبين المصدر النصي للدين، في حين تكون العلاقة في التنزيل جدلية، بين العقل والمصدر النصي، وبين واقع الحياة، كعنصر أساسي في هذه العلاقة.
ويتميز في تنزيل الدين في واقع الحياة، كمرحلة موازية لمرحلة الفهم، مرحلتان فرعيتان في نطاقها: مرحلة الصياغة، ومرحلة الإنجاز. أمّا الصياغة فهي تهيئة خطة شرعية، تنبني على ما حصل من فهم لحقيقة الدين، في هيأتها المجردة، تهيئة تكون بها صالحة لمعالجة الأوضاع من حياة الإنسان، ذات الخصوصيات المكانية والزمانية، لمراعاة تلك الخصوصيات في تهيئة الخطّة. وأما الإنجاز فهو العمل على إجراء تلك الخطة الشرعية إجراءً عمليًّا على الواقع، بتكييف ذلك الواقع في مختلف مناحيه، بحسب ما تقتضيه ما انتظمته من الأحكام.(2/11)
ولما كانت الأحكام الدينية تتنوع إلى أحكام عقدية، تتعلق بالإيمان القلبي، وأحكام شرعية، تتعلق بالسلوك العملي، مع ما ينشأ عن ذلك من اختلاف في كيفية التحمل الإنجازي بينهما، فإن كلا منهما يكون له نمط في الصياغة، يختلف عن الآخر، ولذلك فإننا في هذا الباب سنفرّع البحث إلى ثلاثة فصول: فصل في فقه الصياغة في العقيدة، وثان في فقه الصياغة في الشريعة، وثالث في فقه الإنجاز.
فقه الصّياغة في العقيدة
التدين بالإسلام يكون بكيفيتين متلازمتين: أولاهما، الإيمان بحقّانية المنظومة النظرية، التي جاء بها البيان الديني، في شرحه للوجود القائم على إقرار توحيد الألوهية، وفي إخباره بالرسل الهداة، وإخباره بالحياة الأخرى، التي يتم فيها حساب الإنسان وجزاؤه. والإيمان كذلك بحقانية جملة التعاليم، التي بشر بها الوحي المحمدي، كما جاءت في القرآن الكريم وفي السنة الثابتة. والثانية التطبيق العملي لما جاء في هدي الدين، من الأوامر والنواهي، المتعلقة بالسلوك في معناه الشامل. وقد وقع الاصطلاح على تسمية ما يُتديّن به بالكيفية الأولى بالعقيدة، وتسمية ما يُتديّن به بالكيفية الثانية بالشريعة.
والتدين بالعقيدة هو الأصل، الذي ينبني عليه التدين بالشريعة؛ إذ الإيمان بالله وبالنبي صلى الله عليه وسلم الذي حمّله الرسالة المشتملة على الشريعة هو المبرر لأصل التدين بالشريعة أساساً؛ ولذلك فإن العلاقة بينهما علاقة تلازم، يفضي انفصالها إلى انخرام في التدين، كما أشرنا إليه آنفاً.(2/12)
وإذا كان التدين بالشريعة يتمثل في إجراء السلوك الفردي والاجتماعي، على حسب مقتضيات الوحي، في الأمر والنهي، كما هو ظاهر، فإن التدين بالعقيدة يكون بالاستيقان الثابت بحقانية التعاليم العقدية، استيقاناً لا يراوده الشك بأي حال، ثم اتخاذ تلك التعاليم المستيقنة مرجعاً في التصرفات السلوكية كلها، سواء من حيث صياغتها أحكاماً شرعية، أو من حيث تنزيلها في واقع الحياة. فالتدين بالعقيدة يشمل إذن التحمل التصديقي لها بالإيمان، والصدور عنها في كل تفكير وسلوك، وأيّما قصور في هذين الوجهين، يعتبر إخلالاً بالتدين في جانب العقيدة.
وصياغة الشريعة، بالمعنى الذي حدّدناه في هذا البحث، يبرره أن الأحكام الشرعية، فيها مجال واسع للاجتهاد العقلي، بالترجيح بين الاحتمالات، فيما هو ظني من نصوص الأحكام، وباستحداث أحكام شرعية، فيما لم يرد فيه حكم ، من مستحدثات النوازل، في حياة الإنسان، فبهذا الاجتهاد، يمكن صياغة الحلول الشرعية للأوضاع الواقعية، بحسب ظروفها الزمنية، ترجيحاً واستثناءً واستحداثاً، بحيث تحصل من الأحكام المجردة خطة واقعية للتدين. أما العقيدة فهي حقائق مكتملة، لأنها تبين ما هو واقع من حقيقة الوجود، فلا مجال فيها لاستحداث أحكام بالعقل، كما أنها وردت في النصوص على سبيل القطع، فلا مجال فيها للترجيح. إنها منظومة مكتملة ثابتة مهما تغيّرت أوضاع الحياة الواقعية، فكيف يمكن أن تكون فيها صياغة تهدف إلى ترقية التدين في مجالها؟ وما هي طبيعة تلك الصياغة؟
إن الصياغة في مجال العقيدة تتناسب في طبيعتها مع طبيعة العقيدة نفسها. فلما كانت العقيدة الإسلامية مكتملة ثابتة في ذاتها، والتدين بها يكون باستيقانها في التصور الذهني، والصدور عنها في التفكير والسلوك، فإن الاجتهاد في صياغتها يكون هادفاً إلى تحقيق هذه الغاية، وذلك يتم بوجهين اثنين:(2/13)
الأول: تقديم العقيدة للناس بطريقة من شأنها أن تقنع من لا يكون مقتنعاً بها، وأن تعمّ الفهم والاقتناع، بالنسبة لمن يكون موقفه منها موقف القبول الجملي، الذي ينقصه الوعي بأبعادها الحقيقية لسبب أو لآخر من الأسباب. فطريقة التقديم هي ضرب من الصياغة، التي نقصدها في بحثنا، لأنها تمثل خطة تشتق من واقع العقول المخاطبة، في كيفيات اقتناعها المتغيرة بتغير الثقافات، وتهدف إلى أن تصيّر أحكام العقيدة المجردة واقعاً تصديقيًّا في أذهان المخاطبين.
والثاني: تقديم العقيدة للناس بحيث تكون - بعد الاقتناع بحقانيتها - مرجعاً أصليّا يصدرون عنه في الفكر والسلوك، وموجهاً للحياة في مظاهرها كلها، وذلك بترتيب قضاياها بحسب ما يتطلبه مجرى الأحداث في حياة الأمة، وإبراز الأبعاد العملية لحقائقها مهما كانت نظرية مجردة، وربطها بالمشاكل الواقعية الناجمة في الحياة، بما يظهر أنها الفرقان المصحح لكل انحراف، في سير الحياة عن وجهة الدين. وتقديم العقيدة على هذا النحو، يحتاج إلى صياغة تُعدّ المنظومة العقدية، بما يناسب الظروف الواقعية المتغيرة، ليقع التدين بها على الوجه المطلوب.
وللفكر الإسلامي تجربة ثرية في صياغة العقيدة مثل تجربته في صياغة الشريعة، وهي تجربة تراوحت بين ازدهار ناجع، وبين ضعف مخلّ. وسنحاول في هذا الفصل أن نستعرض هذه التجربة مستفيدين من ازدهارها، ومعتبرين بضعفها، في سبيل تبيّن أسس فقهية في صياغة العقيدة، يمكن أن تؤسس عليها في الواقع الراهن للمسلمين صياغة للعقيدة، تساعد على ترقية تدينهم، في الاستيقان بحقيقتها، والوعي بأبعادها، وفي الصدور عنها مرجعاً أساسيًّا في كل فكر وسلوك. كما يمكن أن تؤسس عليها صياغة للعقيدة، تساعد في إقناع الجاهلين بها، والمتشككين فيها.
1- تجربة الفكر الإسلامي في صياغة العقيدة:(2/14)
أولى الفكر الإسلامي عناية كبيرة لصياغة العقيدة، بقصد الإقناع بها في مضمار الدعوة إلى التدين، والمحافظة عليها قواماً صحيحًا صافيًا يضمن استمرارية الدين، دون أن يصيبه انحراف كما أصاب أديانًا قبله، والمحافظة عليها أيضاً إطاراً مرجعيًّا، يتم فيه كل اجتهاد ديني في توجيه الحياة. وقد خصص لهذه الصياغة علم بأكمله هو علم العقيدة، الذي سمي أيضاً بعلم الكلام، كما سمي بعلم التوحيد.
إن العقيدة الإسلامية لمّا جاءت أحكامها في نصوص الوحي قطعية في أكثرها، فإن البحث الاجتهادي فيها، لم يغلب عليه طابع الاجتهاد الفهمي، لضيق مجال العمل العقلي، بسبب قطعية النصوص، وإنما غلب عليه طابع الاجتهاد الصياغي، عملاً على حفظ العقيدة، صافية في الأذهان، مؤثرة في توجيه السلوك، ومن ثمّة فقد كان علم العقيدة يغلب عليه طابع الصياغة، على عكس علم الفقه الذي غلب عليه طابع التقرير للأحكام الشرعية، كحصيلة للفهم المتأتي من المجال الواسع لاستعمال العقل في الفهم المجرد، نتيجة لظنّية كثير من النصوص المتعلقة بالشريعة من جهة، ولانفساح المجال لما لم تنله النصوص بالبيان من جهة أخرى.
وقد كان علم القعيدة من حيث هو صياغة لها، عرضة لتقويم صارم فيما سلكه من طرق، وما توصل إليه من نتائج، في تحقيق غايته في التدين بالعقيدة، وهو تقويم واكب هذا العلم منذ نشأته إلى هذا العهد، دون انقطاع عبر مراحله المختلفة، وتراوحت المواقف فيه بين اتهام بالعقم والإفلاس، في التأدية إلى الغرض الذي من أجله وضع، وبين التزكية والثناء، على ما قام به من دور، في حفظ العقيدة واستمرارية سلامتها وفعاليتها.(1)
والمتأمل في تجربة الفكر العقدي، بصفة موضوعية، بحيث يقع تنزيلها في ظروفها الزمنية، ومحاكمتها على أساس تنوّع المراحل التي انقلبت فيها، وما حققته في كل مرحلة منها، يجد أن هذه التجربة تتمايز فيها مرحلتان أساسيتان:(2/15)
مرحلة اتصفت فيها بالنضج والعطاء، فأدت فيها شطراً كبيراً من مهمة الدفع إلى التدين، بما قدمت من صياغة ناجعة في ذلك، ولكنها لم تخل من بعض العيوب، التي كانت لها آثارها السلبية على كفاءة الأداء لتلك المهمة.
ومرحلة أصيبت فيها بالانتكاس تجاوباً مع الانحدار العام للفكر الإسلامي بعد القرن الخامس، فانكفأت عن أداء مهمتها في ترشيد التدين، بما سقطت فيه، من تجريد وحرفية وابتعاد عن الواقع، ولكنها لم تخل أيضاً من بعض الومضات، التي كان لها أثرها الإيجابي في سياق السلبية العامة، التي سقطت فيها. وسنحاول فيما يلي تبيّن الفقه الذي كانت به ناجعة في مرحلة النضج، والأسباب التي آلت بها إلى العقم في مرحلة الضعف.
( أ ) فقه الصياغة في مرحلة النضج:
يمكن أن نحدد هذه المرحلة على وجه العموم، بما قبل القرن الخامس للهجرة. ففي هذه المرحلة كان الفكر العقدي يقدّم صياغة للعقيدة، ترشّد التدين بها: محافظة عليها من عاديات الثقافات الغازية، واتخاذاً لها موجّهاً إيديولوجيًّا، يرشد المسيرة السلوكية، ويصحح الأخطاء الناجمة فيها.(2/16)
والمبدأ الأساسي الذي بني عليه فقه الصياغة في هذه المرحلة، والذي كان سبباً رئيساً في نجاحها في ترشيد التدين، هو مبدأ الواقعية. فقد ظل الفكر العقدي طيلة هذه المرحلة يصوغ العقيدة على ضوء الواقع، الذي يعيشه المسلمون، فيما يتعرّضون له من تحديات، دينية وفلسفية، وفيما ينجم بين أيديهم من مشاكل ذاتية، نتيجة النمو الحضاري المتسارع. فكلٌّ من هذه التحديات الواردة من أهل الفلسفات والأديان، وهذه المشاكل الناجمة في المجتمع الإسلامي، أحدثت فيه توتراً، على نحو أو على أخر، وهو توتر نشأ من المفارقة، بين إفرازات الثقافات الوافدة، والمشاكل الناجمة في الداخل، وبين مثالية المرجعية الشاملة، التي اتخذها المجتمع الإسلامي، وهي مرجعية الوحي، فنشأ الفكر العقدي يعالج ذلك التوتر في حياة المسلمين، ويهدف إلى توجيه الحياة بحسب ما يلائم مرجعية الوحي المثالية.
والمتتبع للفكر العقدي في هذا الطور يقف على خاصية الواقعية، فيما صاغه من مسائل العقيدة، على مستويات مختلفة، فيجدها في نشأة الصياغة وتطورها، كما يجدها في المواضيع العقدية نفسها، وفي المنهج الذي قدمت به، لأداء غرضها في علاج الوقائع.
أولاً- واقعية النشأة والتطور في صياغة العقيدة.
لقد ظلت أجيال القرن الأول من المسلمين، تتحمل العقيدة الإسلامية، بأثر من التربية النبوية، التي جعلتهم يستيقنون حقائقها، ويتصرفون بحسبها، بصفة تلقائية، دون حاجة إلى صياغتها في مرجع نظري، كعلم متميز. ولم تنشأ هذه الصياغة النظرية في صفة علم مستقل، إلاّ أوائل القرن الثاني، مع نشوء الفكر الاعتزالي، وإن كانت المطارحة العقلية، في مسائل ذات صبغة عقدية، مثل القدر والإيمان، قد ظهرت قبل ذلك ببعض العقود، ولكنها لم ترق إلى درجة التنظير المتميز.(2/17)
ولم تكن هذه النشأة إلا استجابة لضرورة واقعية ملحة، تمثلت في مشكلات سياسية واجتماعية، نجمت في حياة المسلمين، وباتت تهدد باستفحالها المطرد البناء الديني، الذي قام عليه المجتمع الإسلامي، كما تمثلت في تحديات دينية وفلسفية من أهل الأديان والفلسفات القديمة، باتت تروج بين المسلمين، وتعدد بنية العقيدة الإسلامية. فهذه المشكلات والتحديات، دفعت الفكر الإسلامي، في سبيل الدفاع عن مرجعيته العقدية، إلى أن يتجه إلى معالجتها معالجة تنظيرية، فكانت نشأة علم العقيدة، بمنزلة الاستجابة، لتحديات ناجمة من صميم واقع المسلمين.
وإذا كنا سنتعرض بعد حين إلى شرح أمثلة، للتناسب بين القضايا الكلامية، وبين منابتها الواقعية، فإننا في هذا الموطن نود أن ندعم واقعية النشأة بحادثة لها دلالة عميقة في هذا الشأن، وهي الحادثة التي تناقلتها كتب الفرق الإسلامية، على أنها تمثل المنطلق الأول لنشأة فرقة المعتزلة.
وإذا كنا نعتبر أن الجذور الأساسية لنشأة هذه الفرقة تضرب بأسبابها إلى ما هو أعمق من هذه الحادثة(2)، إلاّ أنه يمكن حسبانها النقطة الأخيرة، التي لخصت تلك الأسباب الماضية، وأفاضت الكأس، فأفرزت تيّاراً فكريًّا هو التيار الاعتزالي، الذي يمثل نشأة علم العقيدة، ومن ثمّة اعتبرناها ذات دلالة عميقة، في هذه النشأة من حيث صلتها بالواقع.(2/18)
وهذه الحادثة كما رواها الشهرستاني هي أنه : "دخل واحد على الحسن البصري فقال له: يا إمام الدين، لقد ظهرت في زماننا جماعة يكفّرون أصحاب الكبائر، والكبيرة عندهم كفر يخرج به عن الملة، وهم وعيدية الخوارج. وجماعة يرجئون أصحاب الكبائر، والكبيرة عندهم لا تضر مع الإيمان… وهم مرجئة الأمة، فكيف تحكم لنا في ذلك اعتقاداً؟ فتفكر الحسن في ذلك، وقبل أن يجيب قال واصل بن عطاء: أنا لا أقول: إنّ صاحب الكبيرة مؤمن مطلقاً، ولا كافر مطلقاً، بل هو في منزلة بين المنزلتين، لا مؤمن، ولا كافر. ثم قام واعتزل إلى اسطوانة من اسطوانات المسجد، يقرّر ما أجاب به على جماعة من أصحاب الحسن، فقال الحسن: اعتزل عنّا واصل، فسمّي هو وأصحابه معتزلة ".(3)
ويبدو من هذه الحادثة، أن نشوء المعتزلة، كان بسبب حل مشكلة عملية، تتعلق بتحديد حقيقة الإيمان، وتعيين منزلة مرتكب الكبيرة منه، وقد كان هذا الأمر منشأً لفتنة كبيرة في المجتمع الإسلامي، اتخذت لها وجهين: التذرع بالإرجاء في إتيان الآثام والمعاصي، حيث لا تضر مع الإيمان معصية، والتذرع بتكفير المذنبين لإعمال القتل فيهم، كما فعل الأزارقة من الخوارج. وقد ربط البغدادي بين هذا الواقع، وبين خروج واصل بن عطاء، بقوله بالمنزلة بين المنزلتين ربطاً سببيًّا حيث يقول: "فلما ظهرت فتنة الأزارقة، بالبصرة والأهواز، واختلف الناس عند ذلك في أصحاب الذنوب، على الوجه الخمسة التي ذكرناها، خرج واصل بن عطاء عن قول جميع الفرق المتقدمة، وزعم أن الفاسق من هذه الأمة لا مؤمن ولا كافر، وجعل الفسق منزلة بين منزلتي الكفر والإيمان".(4) وبذلك يتأكد أن ظهور علم الكلام مترافقاً مع الاعتزال كان معالجة تنظيرية عقدية لمشاكل واقعية سياسية واجتماعية.(5)(2/19)
وكما كان الفكر العقدي واقعيًّا في نشأته، كان أيضاً واقعيًّا في تطوره، فقد كان تناميه، في الموضوع وفي المنهج، محكوماً بمقتضيات الأحوال الاجتماعية والثقافية، كما كان ترتيب مسائله في الظهور، بحسب ذلك أيضًا، وهو ما تعكسه الكتب العقدية الأولى التي وصلتنا، رغم أنها تعود إلى القرن الثالث، مثل مؤلفات الأشعري والماتريدي، فقد كانت المسائل تعرض فيها عرضاً أقرب إلى نسقها التاريخي، وليس الترتيب الذي نجده في الكتب المتأخرة بعد القرن الخامس، إلا صنعة عقلية منطقية، لنظم المحصول الكلامي، في سياق مدرسي.
وإذا أردنا التمثيل لذلك، فإننا نجد أول ا لمسائل الكلامية ظهوراً، هي تلك المسائل، ذات الصلة الوطيدة بالواقع الاجتماعي، وعلى رأس هذه المسائل مسألتا "الفعل الإنساني " "ومرتكب الكبيرة "، فقد كانت لهما جذور في أحداث الفتنة منتصف القرن الأول، ثم آل البحث فيهما إلى التنظير العقدي، أواخر القرن، من قبل القدرية، والمرجئة، والخوارج، لتصبحا النواة الأولى في الفكر الكلامي لدى المعتزلة.
ومسألة الألوهية المتقوّمة بما عرف بقضية "الذات والصفات" لم ينشأ البحث فيها إلا في القرن الثاني، حينما طرحها واصل بن عطاء رأس المعتزلة، طرحاً غير نضيج، كما وصفه الشهرستاني، وإنما أصبحت مسألة مهمة في المداولة، أواخر القرن الثاني، وكان نشوؤها مُتأخراً نسبيًّا، بسبب أن القرن الأول لم يظهر فيه التحدي لعقيدة الألوهية، في المنظور الإسلامي، مثلما ظهر في القرن الثاني، متمثلاً في عمل اليهود على نشر تجسيمهم، والنصارى على إشاعة تثليثهم، والمجوس على تسريب ثنائيتهم.(2/20)
وقد كانت قضية النبوة أكثر تأخراً في ظهورها قضية كلامية، وذلك لأن التحدي الوارد فيها، إنما جاء من أصحاب ديانات الهند، في الأكثر، وخاصة السُّمنية والبراهمية، ولم يكن لهذه الأديان رواج ظاهر بالبلاد الإسلامية، إلا أواخر القرن الثاني؛ إذ أن "يحيى بن خالد البرمكي [ت 190هـ] بعث برجل إلى الهند، ليأتيه بعقاقير موجودة ببلادهم، وأن يكتب له أديانهم في كتاب، فكتب له " (6) في ذلك كتاب؛ ولذلك فإن القرن الثالث، شهد البحث المستفيض في قضية النبوة، من قبل المتكلمين، دفعاً لما روجه منكرو النبوة وخاصة منهم ابن الروندي (ت 298هـ) وأبو بكر الرازي ـ 311هـ .
والمسائل الطبيعية، التي أصبحت جزءاً من الفكر الكلامي، لم ينشأ البحث فيها، إلا حينما تفشت الفلسفة اليونانية، في المجال الثقافي الإسلامي، من قبل الفلاسفة الإسلاميين، وخاصة منهم الفارابي (ت 339هـ)، فحينئذ أصبح علماء العقيدة يبحثون المسائل الطبيعية، لاستخدامها مقدمات في إثبات العقيدة، ردًّا على المقولات الفلسفية اليونانية، المخالفة للعقيدة الإسلامية. وهكذا يبدو أن الفكر الكلامي كان ينمو ويتطور بالمعالجة المستجدة، لما يطرأ من مشكلات واقعية بتنظير عقدي، ولم يكن متولدا من فكر فلسفي مجرد.
ثانيًا: واقعية الصياغة في الموضوع
نعني بها أن الموضوعات التي بحثها الفكر العقدي، كانت موضوعات ذات صلة متينة بما يجري في واقع الحياة الإسلامية، وليس شأنها في ذلك شأن الموضوعات الفلسفية، التي كانت تطرح على المنهج اليوناني، فليس من مسألة من المسائل العقدية إلاّ تمثل رد فعل دفاعيًّ على حادثة ناشبة في الحياة الاجتماعية، تخل بأغراض الدين فيها، أو مقولة طارئة من أهل المذاهب والأديان، تنال بصفة مباشرة من العقيدة الإسلامية، ولا يند عن ذلك ما يبدو لنا اليوم من مسائل موغلة في التجريد، لا تمت إلى الواقع بصلة.(2/21)
ولو أردنا تأييد ذلك، ببعض الشواهد من المسائل العقدية، التي تبدو أكثر تجرّداً من غيرها، لرأينا على سبيل المثال، أن قضية "الفعل الإنساني بين الحرية والجبرية" قد أصبحت قضية كلامية، لمّا تفشى في المجتمع الإسلامي، أواخر القرن الأول، التعلل بالقدر المقدور، في إتيان المعاصي، واقتراف الآثام، من قبل كثير من المتحللين من قيود الشريعة، وهو ما جاء يشكوه أحد المخلصين من المسلمين لعبد الله بن عمر قائلاً : "ظهر في زماننا رجال يزنون، ويسرقون، ويشربون الخمر، التي حرم الله، ثم يحتجون علينا ويقولون: كان ذلك في علم الله ".(7) وكذلك لما أصبح بعض حكام بني أمية يتعللون بالقدر، في تبرير ظلمهم وبغيهم على الناس، مثلما ذكر، من أنه لما قتل عمرو بن سعيد بن العاص، على عهد عبد الملك بن مروان، طرحت رأسه من أعلى القصر بين يدي جمع من أصحابه، كانوا يترقبونه، وقال الذي طرحها لمترقبين: إن أمير المؤمنين قد قتل صاحبكم بما كان من القضاء السابق والأمر النافذ.(8) فهذه الظاهرة الخطيرة في سلوك الناس نشأت لمعالجتها مسألة "الفعل الإنساني" متمثلة في القول بحرية الإنسان، في فعله ومسئوليته عليه، وهو ما ابتدأه القرية الأوائل: معبد الجهني، وغيلان الدمشقي، ثم طوره المعتزلة، فأصبح أصلاً من أصولهم الخمسة، سموه بأصل العدل.
ولو انتقلنا إلى قضيتي "الذات والصفات "، "وخلق القرآن "، لوجدنا أنهما على ما يبدو في الظاهر، من افتقادهما للمبرر الواقعي، قد كان البحث فيهما ردًّا على محاولات مسيحية ومجوسية، كانت غايتها التشويش على التوحيد الإسلامي الخالص، وجره إلى ضرب من التعددية، التي قد تؤول به بمرور الزمن، إلى عقيدة تعدد الإله.(2/22)
وهكذا يبدو أن موضوعات الفكر الكلامي، مهما بدت في ظاهرها عقلية مجردة، فإنها في حقيقة نشأتها، وفي سيرورتها طيلة قرون ثلاثة على الأقل، كانت تعالج مشاكل واقعية حية، تروم حلها على أساس عقدي، بقطع النظر عما حف بتلك المعالجة من ملابسات. وعما شابها أحياناً من مغالاة وشطط.
ثالثاً: واقعية الصياغة في المنهج
كما كان الفكر العقدي واقعيًّا في نشأته وتطوره وموضوعه، كان أيضاً واقعيًا في منهجه، فقد كان يستعمل الأساليب الاستدلالية، التي تناسب التحديات المطروحة، ويطور من تلك الأساليب بحسب تطور التحديات.
وقد كان الاستدلال النقلي أول الأساليب، التي استعملت في الفكر الكلامي، حيث يتخذ من نصوص القرآن والحديث شواهد على الآراء العقدية، في الحوار الدائر بين الفرق الإسلامية، تأصيلاً لهذه الآراء في أصول الوحي، بطريق التأويل، أو ردًّا للشواهد المخالفة لها، بطريق النقد، لما هو ضعيف منها أو منحول. وقد ظل هذا الاستدلال النقلي مواكباً للفكر الكلامي طيلة مسيرته في الحوار الداخلي بين المسلمين.(9)
ولما نجمت تحدّيات أهل الأديان والمذاهب، في القرن الثاني، نشأ لدى المتكلمين الأسلوب العقلي في الاحتجاج؛ ذلك أن هذه التحديات كان أهلها من النصارى والمجوس، متمرسين بالفلسفة اليونانية، ومنطقها الصوري، فاستخدموا آليات هذه الفلسفة للاحتجاج، نصرةً لمعتقداتهم، ونقداً للعقيدة الإسلامية، ولذلك بادر الفكر العقدي باستعمال الحجة العقلية، في مقابلة هذا التحدي، وأصبح هذا الأسلوب هو الأسلوب الغالب على الفكر ا لكلامي.(2/23)
ولما استفحلت الفلسفة اليونانية، في الساحة الإسلامية، في القرن الثالث، وانتشرت مقولاتها مختلطة فيها المسائل الميتافيزيقية بالمسائل الطبيعية، في تفاعل تناصري بينهما، طور الفكر العقدي من منهجه، فأدخل في دائرة اهتمامه المسائل الفلسفية والطبيعية، مثل قضايا "العلة والمعلول " و "الجوهر والعرض " و "الجوهر الفرد " وأمثالها، واستخدمها مقدمات، في الاستدلال على العقيدة الإسلامية، ورد الشبه الواردة عليها، وأصبح ذلك سنة ماضية في هذا الفكر ، بعد القرن الثالث.
إن هذه الصياغة الواقعية، للعقيدة في الموضوع والمنهج، كان لها دور مهم، في معالجة حادثات المشاكل الاجتماعية والثقافية، في المجتمع الإسلامي، كما كان لها دور مهم في رد الغزو العقدي والفلسفي، وهي بهذا وذاك حافظت على درجة عالية من التدين بالعقيدة، في زمن تعرضت فيه الأمة لعاديات قاطعة، من مشاكل النمو الحضاري الداخلية، وغازيات الأديان والفلسفات الخارجية.
ولكن هذه الصياغة لم تخل من عيوب، تمثلت بالأخص في جموح عقلي، في التنظير للعقيدة، صبغها بشيء غير قليل من الجفاف المنطقي الصارم، والحال أنها كما وردت في القرآن والحديث، كانت لينة سهلة، تخاطب مجامع الإنسان، من عقل وضمير وعاطفة، فتفعل أثرها فيه، على نحو شامل مؤثر. وقد كانت هذه العيوب سبباً في أحكام نقدية قاسية، من قبل كثيرين في القديم والحديث، إلا أن هذه الأحكام كانت في الغالب لا تنزل الصياغة المنتقدة في ظروفها التاريخية، وأسبابها الموضوعية، من واقع التحديات الداخلية والخارجية التي واجهتها، فكانت في كثير منها أحكاماً مسقطة من مواقع مثالية في التقدير.
[ ب ] صياغة العقيدة في مرحلة الضعف:(2/24)
إن الانحدار العام الذي أصاب الفكر الإسلامي بعد القرن الخامس، أصاب أيضاً الفكر العقدي في صياغته للعقيدة، فقد آل هذا الفكر إلى نزوع تجريدي في مباحث العقيدة، انشغل به عن مجريات الواقائع، المتعلقة بالأصول العقدية بصفة مباشرة أو غير مباشرة، وسقط في مجالات نظرية في المسائل القديمة. واحتجاجات تتعلق بتحديات ماضية، وميل إلى التأليف والترتيب للآراء والمقولات السابقة، في نسق منطقي مدرسي. حتى إنه ليمكن القول: إن الصلة كادت تفقد بين هذا الفكر، وبين واقع المسلمين، فيما يواجه تدينهم بالعقيدة من تحديات.
وكلما تقدم الزمن بعد القرن الخامس، كلما فقدت صياغة العقيدة من نجاعتها في ترقية التدين، أو المحافظة على ما كان عليه من قبل، بما تبتعد عن واقع المشكلات، فلم تعد توجه الحلول فيها توجيهاً عقديًّ، بما تُدرج فيه من إطار مرجعي، محكوم بأصول العقيدة. وبهذا الابتعاد عن واقع المشكلات، أصبح الفكر العقيدي تجريديًّا اجتراريًّا، يكتفي أو يكاد بالتعقيب على فوائت الآراء، في مناظرات غير منتجة، لما فيه معالجة لواقع التدين، وهو ما وصفه الإمام محمد عبده في قوله: "لم يعد بين الناظرين في كتب السابقين إلا تحاور في الألفاظ، أو تناظر في الأساليب. على أن ذلك في قليل من الكتب اختارها الضعف، وفضلها القصور ".(10)
وإننا لنرى ابن خلدون قد جانب الصواب، لما توهم أن الفكر العقدي قد استنفد أغراضه، فلم تعد للأمة حاجة فيه: إذ العقيدة قد وقعت صياغتها بصفة دائمة، غير قابلة للتجديد، لانتهاء عوامل التجديد في عرض العقيدة، والاستدلال عليها. إنه على رأيه "الملحدة والمبتدعة قد انقرضوا، والأئمة من أهل السنة كفونا شأنهم، فيما كتبوا ودونوا، والأدلة العقلية إنما احتاجوا إليها حين دافعوا ونصروا، وأما الآن فلم يبق منها إلا كلام تنزه الباري عن كثير من إيهاماته وإطلاقه ".(11)(2/25)
لقد كان حكم ابن خلدون على دور الفكر العقدي بالانتهاء على عهده، من خلال ما آل إليه من وضع الجمود في الصياغة، ولكنه لم يتنبه، إلى أن الواقع الجاري يستلزم إحياء ذلك الفكر، ليستأنف الصياغة الفاعلة، بالمناهج الملائمة لمستجدات التحديات المخلة بالتدين، تلك التحديات التي لم يكن العصر الذي عاش فيه ابن خلدون خلواً منها، بل كان المد النصراني مستفحلاً بالأندلس، والمد الصوفي الباطني مستفحلاً بالمشرق والمغرب، إضافة إلى الأمراض الداخلية، التي كانت تعاني منها الأمة الإسلامية، بسبب من خلل عقدي مثل التواكل، ومظاهر الشرك، وأفكار الإلحاد، والحلول، وما ما ثلها. وقد وجدت هذه الأمراض طريقها إلى المسلمين، بأسباب تعود في أكثرها إلى الفشل في صياغة العقيدة، الصياغة الملائمة، التي تزكي التدين بها، وتحول دون طروء الإخلال عليها.
2- نحو فقه جديد في صياغة العقيدة.
لقد ورث المسلمون اليوم خصائص الضعف، في صياغة العقيدة. ورغم المحاولات الجادة، التي قام بها أعلام مصلحون لتجديد هذه الصياغة منذ ما كتب الإمام محمد عبده في رسالة التوحيد، فإن النهضة الحقيقية في هذا الصدد لم تتم بعد. وفيما يلي، نحاول تصور الأسس الفقهية، التي من شأنها أن تساعد على التقدم في إنضاج صياغة عقدية، تعمل على ترقية التدين في واقع التحديات الراهنة، استنارة في ذلك بفقه الصياغة عهد الازدهار، واستفادة من المحاولات الجادة، التي وقعت في هذا الصدد،(12) وسنمهد بتبين واقع المشاكل العقيدية الراهنة، ونبني على ذلك تصورات في فقه الصياغة موضوعاً ومنهجاً.
[ أ ] المشاكل العقدية الراهنة في الواقع الإسلامي:(2/26)
المطلوب من الفكر العقدي أن يعالج المشاكل، التي تحدث في الأمة، متعلقة بالأسس العقدية العامة، وذلك بصياغة عقدية من شأنها أن تؤكد مرجعية العقيدة لكل سلوك، فتكون حلوله في إطارها وبترشيد منها. وتتوقف هذه الصياغة في نجاعتها على الوعي العميق بطبيعة المشاكل المراد علاجها، والجذور والخلفيات، التي انبعثت منها. والمتأمل في الوضع العقدي الراهن للمسلمين، يجد أن المشاكل التي تنتابه تجرح في معرض . .دها وتنوعها إلى مشكلتين رئيستين، تولدتا من عهد الانحطاط، الذي تجمد فيه الفكر الإسلامي، وانفصل عن مجريات الواقع، ومن التحدي الثقافي والحضاري الغربي، الذي واجه الأمة الإسلامية منذ قرنين من الزمن.
أما المشكلة الأولى، فهي الانفصال أو شبه الانفصال، الذي وقع بين المرجعية العقدية، وبين المظاهر التطبيقية، في مختلف وجوه الحياة. فالدين الإسلامي، هو عقيدة تتفرع عنها شريعة، تشمل كل أوجه التصرف الإنساني، بحيث يكون كل حكم من أحكام السلوك متفرعاً من أصل من أصول العقيدة، التي تستجمعها حقائق أساسية ثلاث: الألوهية، والنبوة، والبعث، بحيث يكون كل منشط من مناشط المسلم، وكل اجتهاد من اجتهاداته في شؤون الحياة، مستمدًا من أصول العقيدة، جارياً بحسب مقتضياتها.(2/27)
ولكن مجريات الواقع الإسلامي، خلال عهد التراجع الحضاري، أفضت إلى تراخ في الصلة بين أصول العقيدة، وبين مناشط الحياة المختلفة، فلم تعد مظاهر السلوك المختلفة تندفع في تلقائية ووضوح، من مرجعيتها العقدية، وغدت حقائق العقيدة تشبه أن تكون تصديقات ذهنية، غايتها في ذاتها، وضعف الشعور بغايتها السلوكية، وقد أدى هذا الوضع إلى ما يشبه الانفصال، بين الاجتهادات الفرعية، وبين مرجعيتها العقدية. وخذ إليك مثلاً في ذلك، حقيقة التوحيد، التي كانت في عهود الازدهار الإسلامي، تطبع حياة المسلمين كلها، تشريعاً وآداباً وفنوناً وعمارةً، ثم أصبحت بعد ذلك منحسرة في أذهان المسلمين، إلى بُعْدٍ واحدٍ تجريدي، هو وحدانية الذات الإلهية، وتقلص أثرها في مناحي الحياة العملية.
وقد استفحل هذا الوضع، لما انفتح المسلمون على الحضارة الغربية، بمنجزاتها الباهرة، وجعلوا يقتبسون منها، ويقلدون فيها خبط عشواء، على غير هدي من مرجعية عقدية، تُرشِّد ذلك الاقتباس، وتجعله في إطار من الدين. وقد ظهر ذلك فيما اقتبس المسلمون من آداب وفنون وعلوم إنسانية وطُرُز عمرانية، حتى إنه ليمكن القول: إن الواقع الإسلامي في كثير من جوانبه اليوم يجري على غير هدي عقدي، ويصدر على غير قاعدة إيديولوجية إسلامية واضحة.
وأما ا لمشكلة الثانية فهي الغزو الإيديولوجي الغربي، الذي استهدف منذ زمن العقيدة الإسلامية أساساً، ومظاهرها السلوكية في مختلف مظاهر الحياة، وقد كان هذا الغزو الإيديولوجي، شبيهاً بالغزو الإيديولوجي، الذي حدث في القرن الثاني، من قبل أهل المذاهب والأديان، إلا أنه صادف من المسلمين ضعفاً حضاريًّا وفكريًّا، واستعدى عليهم بمنجزات العلم، وقوة الحضارة، فإذا به غزو شامل للمنظومة الإسلامية كلها، تُسخًّر فيه الفلسفة والعلم والإعلام جميعاً، بل والتكنولوجيا المادية أيضاً.(2/28)
وقد أحدث هذا الغزو الإيديولوجي أثره البيّن، في حياة المسلمين، ليس على مستوى السلوك فحسب، ولكن على مستوى الاعتقاد أيضاً، وهو ما يبدو في المذهبية المادية، التي تسربت إلى الشباب الإسلامي، وفي العلمانية، التي أصبحت مذهبًا لكثير من النخب المثقفة في العالم الإسلامي، وهي التي تسيطر على الحظوظ التربية والاقتصادية والثقافية والسياسية للأمة، فانطبعت هذه المظاهر كلها بطابع الإيديولوجيا الغربية إن قليلاً أو كثيراً.
وبين هاتين المشكلتين، تضافر وتآزر، بحيث يهيئ ضعف الرابطة، بين الحياة العملية للمسلمين، وبين مرجعيتهم العقدية، للتأثير الإيديولوجي الغربي، كما أن هذا التأثير الإيديولوجي يوسع الشقة، بين تلك الحياة ومرجعيتها العقدية، سواء على المستوى الفكري الثقافي، أو على المستوى السلوكي العام، فإذا بواقع المسلمين يجري على غير إيديولوجية إسلامية بينة، بل إن تلك الإيديولوجية في صياغتها الفلسفية، التي تستطيع بها أن تواجه التحدي، وتهدي الحياة تكاد تكون غائبة.
أما البنية الفكرية الثقافية السائدة اليوم بين الناس، فقد تغيرت كثيراً بالنسبة لتلك التي كانت سائدة في عهود ماضية، حيث أحدثت الثورة العلمية الصناعية انقلاباً ثقافيًّا، يكاد يكون عالميًّا؛ ذلك أن العقلية الصورية، التي كانت سائدة قديماً، حلت محلها منذ بداية عهد النهضة، عقلية علمية، تخضع في الفهم والاقتناع للبرهان، المبني على معطيات العلوم الثابتة، رياضية وطبيعية. كما اكتسبت العقلية أيضًا صفة العملية، فأصبحت تنفتح في الفهم والقبول للخطاب الذي ينطلق من معالجة المشاكل العملية اليومية، أكثر من انفتاحها للخطاب الفلسفي المجرد. لقد أصبحت هذه الخصائص سائدة في العالم الغربي، وهي في طريق السيادة في العالم الإسلامي، الذي كانت له خصائص في عهد ازدهاره الفكري، في القرون الأولى، بتكوين من القرآن الكريم، الذي يجعل النظر في الكون، مدخلاً للاقتناع العقلي.(2/29)
وإنما أبرزنا هذه الخصائص، في بنية العقلية الحديثة، إشارة إلى أن المنهج الذي استخدمه الفكر الكلامي بعد القرن الخامس أصبح منهجاً لا يلائم عقلية اليوم؛ إذ هو منهج مبني على المنطق الصوري في أساسه، وهو منطق لا يهتم بالواقع، وإنما ترتبط الحقيقة فيه بتناسق المعطيات المجردة فيما بينها، وإن خالفت الواقع. ولا تزال آثار هذا المنهج باقية عند شق من المنتسبين إلى الفكر الإسلامي، إما بصفته الأصلية، أو بصفة جديدة، حافظ فيها على الطابع التجريدي العام، ويكاد يكون الخطاب الفكري الإسلامي اليوم محكوماً بهذه التجريدية في الخطاب.
[ ب ] الأسس الفقهية للفكر العقدي الحديث:
إن المشاكل الإيديولوجية للأمة الإسلامية، التي ألمحنا إليها آنفاً بصورة موجزة، تتطلب لمعالجتها فكراً عقديًا ذا خصائص واقعية، تتناسب معها، استهداء في ذلك بالفكر الإسلامي، في طور نضجه وحيويته، حينما كان يجابه الواقع العقدي الثقافي بما يناسبه من الأساليب. ويمكن أن تكون الخصائص المطلوبة لمعالجة واقع اليوم متركزة في محورين أساسين، يستقطب كل منهما جملة من الفروع المتعلقة بالفكر العقدي، وهما: واقعية الموضوع، وواقعية المنهج.
أولاً - واقعية الموضوع:
نعني بها أن يكون الفكر العقدي الحديث يطرح القضايا والموضوعات، التي تمثل مشاكل حقيقية، تعيشها الأمة على المستوى الإيديولوجي، وأن يكون ترتيبها في الطرح، من حيث الأهمية، بحسب أهميتها الواقعية، من حيث حجمها في الإشكال وإلحاحها فيه.
إن البنية المأثورة في الفكر الكلامي تشتمل على مقدمات، وثلاثة محاور أساسية، أما المقدمات فهي مسائل فلسفية وطبيعية، تستخدم في الاستدلال على المسائل العقدية. وأما المحاور الثلاثة فهي الألوهية والنبوة والبعث، وتحت كل واحد منها فروع تتعلق به. وفي بعض مدونات علم الكلام تقسم هذه المواضيع إلى محورين: إلهيات وسمعيات، إضافة إلى المقدمات الفلسفية والطبيعية.(2/30)
وقد ألمحنا سابقاً، إلى أن هذه البنية لعلم الكلام، تشكلت موضوعاتها بحسب الواقع القديم، الذي يعود إلى ما قبل القرن الخامس، وأن ترتيبها أفرزته بعد ذلك عقلية مدرسية، لا عقلية واقعية، وهي لذلك لا تتلاءم بالتأكيد مع متطلبات الواقع الراهن، لا من حيث طبيعة المسائل، لا من حيث ترتيبها.
فمن حيث القضايا والمسائل ثمة ثوابت، لا يقوم الفكر العقدي بدونها، وهي أساسيات العقيدة الإسلامية، فيما تقوم عليه، من إيمان بالله ورسله وكتبه واليوم الآخر والقدر الإلهي خيره وشره، فهذه ستظل باقية ركناً ثابتاً في الفكر العقدي، على مر العصور؛ لأنها من جهة تمثل ركائز الإيديولوجية الإسلامية، التي تتفرع منها وجوه المنظومة الفكرية والسلوكية كلها، وهي من جهة ثانية عرضة للتحدي الإيديولوجي في كل زمان، مما يجعل الدفاع عنها أمراً سارياً بسريان ذلك التحدي.
إلا أن المنظومة المأثورة في الفكر العقدي، اشتملت على العديد من المسائل والقضايا، ذات الصلة بالعقيدة الإسلامية، أفرزتها ظروف واقعية، انقرضت بانقضاء زمنها، فلم يبق اليوم مبرر لبحثها في الفكر العقدي الحديث، إلا أن يكون ذلك باعتبارها جزء من تاريخ الفكر الإسلامي، فقيمة البحث فيها قيمة تاريخية، وليست قيمة واقعية، تسهم في حل المشاكل الراهنة، ومن الأمثلة التي يمكن أن نذكرها في هذا الصدد، قضية الذات الإلهية، في علاقتها بالصفات، وقضية خلق القرآن، وتأويل الصفات الخبرية، والمفاضلة بين الأنبياء وبين الملائكة، والمعاد هل هو جسماني أو روحاني، وأشباهها من المسائل، التي لا تمثل اليوم إشكالات عقدية ولا عملية في حياة المسلمين، ولكنك تجد بعض الطوائف الإسلامية، ما زالت تتشبث ببعضها، متخذة منها محوراً للجدل، ومنشطاً للفكر العقدي، يلهي عن المشاكل الحقيقية، التي ترهق الواقع الإسلامي.(2/31)
وفي مقابل هذه القضايا، التي يقتضي الواقع الجديد أن تطرح من مجال الاهتمام الآني، فإن قضايا كثيرة لم تكن مطروحة من قبل، في الفكر الموروث، ويفرض الوضع الراهن أن تطرح مجدداً، ضمن دائرة المنظومة العقدية الإسلامية، فيتناولها الفكر العقدي بالبحث، وذلك يقتضي توسعة في مجال البحث في العقيدة، بالنسبة لما استقر عليه الفهم في علم الكلام في عهوده ا لأخيرة.
إن المفهوم الذي أصبح سائداً لموضوع العقيدة هو أن هذا الموضوع يشمل القضايا الصورية، التي جاء بها الإسلام، من حيث إن المسلم ملزم بأن يتحملها بالتصديق القلبي بها. أما ما يتحمله المسلم بالسلوك فإنه غير داخل في اهتمام الفكر العقدي، وقد خلت مدونات علم الكلام في صورتها الأخيرة منه بصفة كلية تقريباً. وهذا معناه أن القضايا العملية للمسلمين غير داخلة في مجال البحث العقدي، الذي تمحض للقضايا النظرية.
ولكن رغم هذا الفهم، الذي ساد في الفكر العقدي المأثور، فإننا نجد أيضاً في مفهوم بعض القدامى من المفكرين الإسلاميين من ذوي الصلة بهذا المجال نطاقاً لمواضع علم العقيدة أرحب بكثير من النطاق الضيق الذي ساد، بل إننا نجد منهم، من وسع بحوثه العملية في العقيدة، بما شمل القضايا ذات الخصوصية النظرية، وقضايا أخرى ذات خصوصية عملية، وأدرجها كلها في صعيد البحث العقدي، وأجرى عليها المقياس نفسه.(2/32)
ومما يلفت الانتباه في هذا الصدد تعريفٌ لعلم الكلام، لم يورده أحد من المتكلمين، ولكن أورده أحد الفلاسفة الإسلاميين وهو أبو نصر الفارابي (ت 339هـ ) في كتابه إحصاء العلوم يقول فيه: صناعة الكلام ملكة،يقتدر بها ا لإنسان على نصرة الآراء والأفعال المحدودة، التي صرح بها واضع الملة، وتزييف كل ما خالفها بالأقاويل".(13) وهو يقصد بالآراء مسائل العقيدة النظرية، ويقصد بالأفعال مسائل الشريعة العملية، فالفكر الكلامي يشمل عند الفارابي النصرة الاستدلالية، لكل من القضايا التي جاء بها الوحي، نظرية أو عملية، في حين اقتصر الفهم السائد على القضايا النظرية .
وعندما نعود إلى بواكير ما وصلنا من مدونات علم الكلام، ومقالات الفرق، فإننا نجد في بعضها مصداقاً لهذا التعميم في موضوع علم الكلام، كما حدده الفارابي، حيث نجد بحوثاً في العديد من المسائل الشرعية العملية، إلى جانب المسائل العقدية النظرية، لا من وجه فقهي فرعي، ولكن من وجه أصولي عقدي، وخذ إليك في ذلك مثلاً كتاب "مقالات الإسلاميين " للإمام الأشعري، في الجزء الذي رتبه على المقالات خاصة، فقد بحث فيه بنظر أصولي كما هائلاً من القضايا النظرية والعملية.(2/33)
ومن هذه السابقة في توسيع موضوع الفكر العقدي يمكن أن نتخذ مستأنساً، لتوسيعه اليوم، حتى يغطي الحاجة الأيديولوجية للمسلمين. فيصبح من مهام الفكر العقدي الاستدلال على قضايا تشريعية عملية، كالانتصار لحرمة الربا، ببيان ما يؤدي إليه من الدمار الاقتصادي، ولحرمة الخمر والزنا، ببيان ما يجر عنهما من الدمار الصحي والاجتماعي، وكالانتصار لحلّية التعدد في الزواج ومقدرات الشريعة في الحدود، ببيان الفوائد، التي تعود بها على الفرد والمجتمع. وكذلك الأمر في القضايا التشريعية الأساسية كلها، من حيث نصرتها والاستدلال عليها، لا من حيث تفاصيلها الفقهية. ويستطيع الفكر العقدي الحديث، بهذا الاهتمام، أن يطاول فلسفة القانون الوضعي، التي تعتبر رابطة بين القوانين الوضعية في فصولها التطبيقية، وبين خلفياتها الإيديولوجية، وتبريراً لها على أساس تلك الخلفيات، فهو يشبه أن يكون فلسفة تشريعية، تؤصل القانون الشرعي في منطلقه العقدي.
ويتصل بهذا الاهتمام لنصرة التشريعات العملية، الاهتمام بأصول الاجتهاد، لصياغة الحلول الشرعية، لمشاكل الحياة المستجدة، فإن هذا الاجتهاد يحتاج إلى أن يؤصل على فقه بالواقع من جهة، وعلى أساس من الالتزام بقواعد العقيدة الإسلامية من جهة أخرى، تحرّياً في ذلك كله لما يحقق المصلحة للأمة، وهو ما يتوقف على نظر استدلالي، هدفه الجمع بين الأصول العقدية الإسلامية، وبين الحلول التشريعية الاجتهادية كلها المتعلقة بالحياة العملية، ضمانا في ذلك للالتزام بالمرجعية العليا، في كل تطور تنقلب فيه حياة المسلمين. وبهذا الاعتبار فإن مواضيع كانت تدرج سابقاً ضمن علم أصول الفقه، قد تصبح من مشمولات الفكر العقدي الحديث.(2/34)
ومن المواضيع المهمة، التي يمكن أن تدرج في نطاق الفكر العقدي الحديث، موضوع الإنسان من منظور كلي عام وهو الموضوع الذي يتناول بالبحث مبدأ الإنسان، وقيمته الذاتية، ومنزلته في الكون، وغاية وجوده، ومصيره، فهذه المسائل لم تنل الاهتمام في الفكر الكلامي الموروث، إلا أن تكون جزئيات متفرقة في ثنايا موضوعات أخرى،(14) وهي اليوم تمثل مطلباً أساسياً في ا لتأصيل العقدي: وذلك بالنظر إلى ما يشكوه العالم الإسلامي من مظاهر عديدة لامتهان الإنسان، وإهانة لكرامته، وإهدار لقيمته، وبالنظر إلى ما تنقلب فيه حياة المسلمين، على غير وعي بالمهمة، التي من أجلها خُلق الإنسان، وعليه أن يسعى في تحقيقها، وذلك إما غفلة عن التعاليم الإسلامية، التي جاءت في ذلك، أو انسياقاً بفعل التأثير الفلسفي الغربي في هذا الخصوص.
ولا يخفى أن تأصيل إيديولوجية واضحة، في قضية الإنسان، على أسس عقدية إسلامية، أمر بالغ الأهمية، باعتبار أن التشريعات كلها، التي تصرف شؤون الحياة العملية، تتوقف في روحها، وفي صياغتها، على مقتضايات تلك الإيديولوجية، فإن لم تكن مؤصلة على أساس عقدي سليم جرت التشريعات على غير هدي من الدين. وهذا ما دعا إلى أن أصبح مبحث الإنسان في الفلسفة الحديثة مبحثاً مستقلاً وأساسيًا من بين مباحثها، وعلى أساسه تنبني المنظومات المذهبية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية كلها، وهو ما يؤكد ضرورة نشوء مبحث عقدي إسلامي في الإنسان، يطاول مبحث الإنسان في الفلسفة، وتتأسس عليه التشاريع العملية.(2/35)
وإذا كانت القضايا العقدية النظرية: الألوهية والنبوة والبعث، لا تفقد أهميتها، في منظومة المواضيع العقدية الموسعة، فإن المواضيع التي ذكرناها آنفاً ينبغي أن تحتل موقعاً متميزاً في اهتمام الفكر العقدي الحديث، وذلك لأنها تقوم بالدور المهم، في حل المشكلة الإيديولوجية بالنسبة للمسلمين، كما تقوم بالدور المهم في الاقتناع بالإسلام، بالنسبة لغير المسلمين، والمتشككين من المسلمين.
أما دورها في حل المشكلة الإيديولوجية فهو يتمثل كما أشرنا إليه، في أنها تصل بين السلوك، وبين العقيدة، وتجعل الاجتهادات في تطوير حياة المسلمين مستندة إلى سند متين، من أصول الدين ، فلا تتفرق بها السبل، وإنما تكون صادرة في شتى مظاهرها، عن وحدة إيديولوجية، متقومة بعقيدة التوحيد الشاملة، فتصطبغ الحياة كلها بصبغتها، ذلك ما تحققه فلسفة الشريعة، التي تنصر التشريعات الإسلامية عقديًّا، وتضمنه أصول الاجتهاد، على الوجه الذي بيناه، وتفضي إليه قضية الإنسان، في بعدها ا لقيمي والغائي والكوني: إذ يقع في إطارها تأصيل العديد من القضايا المطروحة على الساحة الإسلامية والإنسانية عامة، تأصيلاً عقديًّا، ومثل قضية مستقبل الإنسانية، والسلام عالمي، والتلوث البيئي وغيرها. وبصفة جملية، فإن هذه المواضيع الجديدة في الفكر العقدي، من شأنها أن توطد مرجعية عقدية ثابتة، تصدر عنها تصرفات المسلمين كلها، وتحل في ضوئها مشاكلهم كلها.(2/36)
أما دورها في إقناع غير المسلمين بالإسلام، وتبديد شبه المترددين من المسلمين، فهو دور تقتضيه طبيعة البنية العقلية الحديثة، المتصفة بالعلمية والعملية، فهذه العقلية لا تقتنع باستدلالات نظرية على وجود الله، وصدق النبوة، وحقانية البعث، بقدر ما تقتنع باستدلالات علمية وعملية واقعية، على حرمة الربا والخمر والخنزير، وحقانية التشريع الأسري والجنائي الإسلامي، فإذا ما كانت الاستدلالات على هذه القضايا مبنية على معطيات العلم الكوني والإحصائي والاجتماعي، ومنطلقة من واقع المعاناة الإنسانية في غياب هذه التشريعات، فإن العقول تنفتح للقبول والاقتناع. وإذا ما حصل الاقتناع بها، باعتبارها تصلح حلولاً للمعاناة الواقعية، المتأتية من النظام الربوي، ومن التحلل الأسري، والإباحية الجنسية، فإن ذلك يكون المدخل الحقيقي للإيمان بمصدر هذه التشريعات، من نبوة وألوهية، وما يقتضيانه من عقيدة البعث، فيتحقق إذا بالاستدلال على القضايا العملية، ما يعجز الاستدلال التجريدي عن تحقيقه، من إيمان بأصول العقيدة. وإن المد الإسلامي الحديث في أوساط المثقفين من أهل الغرب تأتي في أكثره من هذا الباب، لا من باب الاستدلال النظري المجرد.
ثانياً- واقعية المنهج:
نعني بأنها تكون الطريقة، التي تقدم بها الموضوعات العقدية، المستصحبة والمستجدة، طريقة مبنية على المعطيات الواقعية لعقليات المخاطبين، ضماناً في ذلك ليكون الخطاب نافذاً إليهم، مقنعاً لهم، لا على أساس من أن الغاية هي الإقناع، شأن المنهج الخطابي، في المنطق اليوناني القديم، ولكن على أساس أن الغاية هي الإقناع بالحق.(2/37)
وقد ذكرنا آنفاً ، أن العقلية التي أصبحت سائدة، هي العقلية العلمية، أي العقلية التي تقتنع بالأسلوب الذي يستخدم معطيات العلم التجريبي، والذي يستخدم أيضاً معطيات الواقع الإنساني، فيما يزخر به من تجارب نفسية واجتماعية، وفيما تنجم فيه من مشاغل ومشكلات، وفيما يثمره التاريخ من العبر والعظات. فالواقع الكوني، والواقع الإنساني، هما المادة الصالحة، لأن تتخذ منهما مقدمات استدلالية مقنعة للعقلية الراهنة.
وليس هذا المنهج بدعاً في الثقافة الإسلامية، بل هو منهج قديم فيها، فالقرآن الكريم بُني خطابُه الإقتناعي على أصول الواقع الكوني والإنساني. وهو ما يبدو في استخدام الآيات الكونية مقدمات في الاستدلال على حقائق العقيدة، واستخدام العبر التاريخية ، باعتبارها وقائع إنسانية، في الإقناع بما يبشر به من تعاليم، تتعلق بمصير الإنسان، وغاية وجوده، والانطلاق من المصلحة العملية للإنسان في حمله على التسليم بأسس العقيدة الإسلامية.(15)
ويمكن أن نعتبر مما يندرج في هذا المنهج من جانبه العلمي ما أدخل في علم الكلام من مسائل طبيعية، تمثل في الزمن القديم معطيات علمية، حيث استخدمت هذه المعطيات في الاستدلال على مسائل العقيدة، وذلك مثل مسائل الخلاء، والمكان، والجوهر الفرد، والحركة، والجوهر والعرض، وما شابهها، وإن يكن البحث فيها في ذلك الزمن يكتسي صبغة إيديولوجية، إلا أن أصل استخدامها كمسائل طبيعية يشير إلى منهج علمي في الاستدلال على العقيدة، يمكن استثماره في بعث المنهج الجديد.(2/38)
ويقتضي هذا المنهج الواقعي في جانبه العلمي رصد نتائج العلم التجريبي، في دائرته الكونية، ودائرته الإنسانية، واستخلاص تلك الحقائق، التي تنطوي على دلالة واضحة على مسائل العقيدة، ثم بناء أدلة عقلية منها على تلك المسائل، ومن البين أن الحقائق العلمية بلغت من الثراء في العلم الحديث ما تكون به مصدراً لا ينفد للاستدلال على حقائق العقيدة، وهو مصدر متجدد بنمو الاكتشافات لقوانين العلوم، ففي كل قانون جديد دليل جديد، على تلك الحقائق، وتبقى صياغته المنطقية للاستدلال والاقتناع من مهمة الفكر العقدي. وهذا القول يصدق في حق المسائل العقدية النظرية، كما يصدق في حق المسائل التشريعية العملية، من جهة إثبات حقانيتها، كما بيناه آنفاً، وربما قيل: إن قوانين العلم ليست قطعية كلها، بل بعضها قابل للتعديل بين الحين والآخر، فكيف تتخذ منها أدلة على حقائق ثابتة؟ والجواب أن الاستدلال بما قد يثبت خطؤه لا ضير فيه، بحسب قاعدة أن بطلان الدليل لا يؤذن ببطلان المدلول، وإنما يُستأنف الاستدلال عليه، بما هو أقوى وأثبت، من حقائق العلم.
كما يقتضي هذا المنهج في جانبه الواقعي، رصد مجريات الأحداث في واقع الإنسان، من حيث ما يعانيه من الإحباط النفسي والاجتماعي والاقتصادي، وما هو سائر إليه من مصائر مظلمة، بسبب مناهج يتبعها في حياته، ناشزةً عن الهدي الديني، في توجيه السلوك البشري، وكذلك بيان الوجه المعاكس لها، متمثلاً في المغانم الروحية والمادية، التي يثمرها ذلك الهدي، وإبراز ذلك كله في استطلاعات ميدانية إحصائية، ثم صياغتها في استدلالات عقلية، على حقانية القانون الإسلامي، وبطلان مناقضاته من القوانين الوضعية، بما يبرز أن حلول المشاكل، التي يعاني منها إنسان اليوم، في المجال النفسي والاجتماعي والاقتصادي، تمر عبر التشريع الإسلامي في أسسه الأصلية الثابتة.(2/39)
وليس من شأن هذا المنهج الواقعي، الاقتصار على هذه الاستدلالات ذات الطابع الجزئي، في استخدام حقائق العلم الكوني، ومجريات الأوضاع الإنسانية، بل من شأنه أيضاً، أن يؤسس فلسفة توقيعٍ لحقائق الدين المجردة. على معنى أن يقوم الفكر العقدي الحديث بتأصيل قواعد، تساعد في صياغة الحقائق الدينية المجردة، صياغة تتقوم بمعطيات الواقع الجاري في حياة المسلمين، حتى يتسنى بها تنزيل الدين تنزيلاً زمنيًّا على هذا الواقع، فيما يشبه العمل الذي يقوم به المهندسون المعماريون، حينما يرسمون أمثلة عمرانية، يصوغون فيها من مطلوبات الناس ما يقوم على أساس من القانون الرياضي والفيزيائي في علم العمران ، وما يستجيب في الآن نفسه لطبيعة الأرض، التي يُراد أن يقام عليها العمران.
إن حقائق الدين حقائق مجردة وثابتة، وظروف الحياة الواقعية منقلبة متغيرة، وهي في كل منقلباتها ينبغي أن تكون محققة لأغراض الدين المجردة، ولا يكون تحقيق هذه الأغراض، إلا بصياغة مشاريع عملية، من تلك الحقائق المجردة، تتوجه بها الحياة الواقعية وجهة دينية، فيحقق الدين أغراضه في توجيه الحياة. والأدب المنهجي الذي تتم به تلك الصياغة هو مهمة الفكر العقدي، وهي مهمة لا يمكن أن تتم بغير الإلمام الوافي بواقع الإنسان، في طبيعته وخفاياه، والعوامل المؤثرة فيه، ولذلك عددناها عنصرا من المنهجية الواقعية المطلوبة من هذا الفكر في الزمن الراهن.(2/40)
على أن المنهجية الواقعية، التي نتحدث عنها، لا تنفي أن يبقى الفكر العقدي على صلة بالمنهجية الفلسفية العقلية المجردة؛ ذلك أن هذه المنهجية لئن تراجعت اليوم لفائدة المنهجية الواقعية، فإنها لم تنقطع، وهو ما يبرر استعمالها في المجالات والأحيان التي تكون فيها مفيدة، وتصل فيها إلى تحقيق الغرض. وكذلك الأمر بالنسبة للأسلوب العاطفي الروحي، فقد يفيد مع بعض الناس، وفي بعض الأحيان، فلا ينبغي إهماله فيما قد يفيد فيه، ولكن تبقى الصبغة العامة للمنهجية العقدية، منهجية علمية عملية، فإنها أنفذ في واقع اليوم إلى العقول، وأدعى إلى الاقتناع، وأصلح في تسديد الواقع الإنساني بالهدي الديني.
إن الفكر العقدي الحديث إذا ما اقتبس من التراث الكلامي السابق في عهد حيويته، ونضج تجربته، في التعامل الواقعي مع المشكلات، التي واجهت المسلمين إيديولوجيًّا، وتمثل تلك التجربة في أصولها الفلسفية دون جزئياتها الفرعية، فإنه يمكن أن يقوم اليوم بدور مهم في البناء الإيديولوجي للمسلمين، فيؤسس مرجعية مذهبية تقوم على العقيدة الإسلامية، تندرج تحت سلطانها مشاريع الحياة السلوكية كلها في مختلف المجالات، فتستعيد حياة المسلمين وحدتها وانسجامها، وقد تمزقت اليوم شرّ تمزق بين أنموذج الانحطاط، وأنموذج الحياة الغربية، فنبتت فيها المشاكل المعيقة عن تحقيق الخلافة، غاية الوجود الإنساني.
فقه الصياغة في الشريعة(2/41)
ألمحنا سابقاً إلى أن المقصود بالشريعة هو الأحكام الدينية، التي تتعلق بضبط السلوك الفردي والاجتماعي للإنسان، ضبطاً شاملاً لكل أنواعه ومناحيه، والشريعة تقابل العقيدة، التي هي أحكام تتعلق بما ينبغي الإيمان به من حقائق تصوريّة، من طبيعتها أن تتحمل بالتصديق العقلي، وإذا كانت العقيدة تمثل الأصل المبدئي للدين، فإن الشريعة تمثل الوجه التطبيقي له في واقع الحياة اليومية، وهي لذلك أحكام ذات صلة مباشرة بالمظاهر الواقعية للحياة، إذ هي توجيه لتلك المظاهر وجهة ما يحقق مصلحة الإنسان.
ولما كانت أحكام العقيدة تهدف إلى الإيمان العقلي بجملة حقائق، تخبر بما هو كائن، في مجال الألوهية والنبوة والبعث، وما يتعلق بها، فإنها جاءت أحكاماً متصفة بالقطعية والثبات، بحيث لا ينالها في ذاتها، الاحتمال، أو التأجيل، أو الاستحداث، ومن دواعي ثباتها أيضاً، أن تحملها يكون بالتصديق العقلي، الذي يخضع لمنطقية ثابتة منضبطة، هي منطقية العقل في قوانينه الإدراكية، وأما أحكام الشريعة فإنها لما كانت متعلقة تعلقاً مباشراً بالحياة في واقعها، وهو واقع يجري على منطق غير منضبط ولا مطرد تماماً، فإنها كانت أحكاماً تحمل من المرونة ما يتسع لاجتهاد عقلي في الترجيح والاستثناء والاستحداث، ليقع بذلك كله مداورة منقلبات الواقع، في طوارئه غير المنضبطة، ومداورة تهدف إلى تحقيق مصلحة الإنسان، من خلال تلك الأحكام، مهما كانت الظروف والأوضاع، التي تنقلب إليها الأوضاع.(2/42)
وتتمثل هذه المرونة في الأحكام الشرعية، في أن أكثر هذه ا لأحكام أحكام كلية، تنفسح لصور تطبيقية عدة، ومثال ذلك حكم الشورى، الذي هو حكم ديني واجب، وهو يتسع في تطبيقاته الواقعية لكيفيات متعددة، يحقق بكل واحدة منها التدين بهذا الحكم الواجب، وبالإضافة إلى ذلك، فإن الحكم الديني الواحد في مجال العادات، وهي أكثر أحوال الحياة، يدور مع الجنس الواحد من فعل الإنسان، بحسب ما تتحقق في أفراده العينية من مصلحة ، فقد يكون الفعل الواحد في جنسه مأموراً به في فرد من أفراده إذا حقق مصلحة بحسب ظرفه، ومنهيًّا عنه في فرد آخر، يجر مضرة بحسب ظرفه أيضاً، وقد قرر الإمام الشاطبي هذا المعنى في قوله: إنّا وجدنا الشارع قاصداً لمصالح العباد، والأحكام العادية تدور معه حيثما دار، فترى الشيء الواحد يمنع في حال لا تكون فيه مصلحة، فإذا كان فيه مصلحة جاز (1). وفسر هذا الدوران في الحكم مع دوران المصلحة، بطروء العوارض والملابسات الظرفية، التي تجعل الفعل الواحد صالحاً في حال، وضاراً في حال، فيتغير حكمه الديني بحسب ذلك، وفي ذلك يقول: "اقتضاء الأدلة للأحكام بالنسبة لمحالّها على وجهين:
أحدهما: الاقتضاء الأصلي قبل طروء العوارض، وهو الواقع على العمل مجرداً عن التوابع والإضافات، كالحكم بإباحة الصيد، والبيع، والإجارة، وسنّ النكاح، وندب الصدقات غير الزكاة، وما أشبه ذلك.
والثاني: الاقتضاء التبعي، وهو الواقع على المحل، مع اعتبار التوابع الإضافات، كالحكم بإباحة النكاح لمن لا أرب له في النساء، ووجوبه على من خشي العنت، وكراهية الصيد لمن قصد فيه اللهو، وكراهية الصلاة لمن حضره الطعام، أو لمن يدافعه الأخبثان، وبالجملة كل ما اختلف حكمه الأصلي لاقتران أمر خارجي ".(2)(2/43)
وإذا نظرنا في حياة الإنسان الفردية والاجتماعية ألفيناها كثيرة التغير في مجرياتها، حتى إن الإنسان لا يستمر على حال في مزاولة حياته، بل هو متحول أبداً، من نمط إلى نمط، ومن وضع إلى وضع، بحسب ما تطرأ عليه من ملابسات، وما يكسب من معارف بحقيقة الكون، وما يجدد من وسائل لاستثماره، وما ينتج عن كل ذلك م أنماط في التعامل الاجتماعي، وأشكال في التنظيم السياسي، فكيف يمكن للمسلم في هذه الأحوال المتغيرة من حياته أن يلائمها جميعاً مع أحكام الدين، التي لا تنصّ إلا على كليات الأفعال؟
إن ذلك يتم بعمل اجتهادي مستمر، هو أقرب في طبيعته إلى اجتهاد الفتوى، ولكنها فتوى في أوضاع عامة، لا في أحداث شخصية جزئية، وفي هذا الاجتهاد تصاغ من أحكام الدين العامة منظومة من وجوه تلك الأحكام وكيفياتها ومقاصدها، من شأنها أن توجه الأوضاع المستجدة بما يحقق المصلحة، وهي غاية الدين،وليست هذه الصياغة أمراً هيِّناً، بل هي على درجة كبيرة من الخطورة، باعتبار أنها اجتهاد دائم لجعل الحياة تتحقق على سمت ديني، مع تغاير أنماطها وملابساتها، وبقدر ما تكون هذه الصياغة مترشّدة، بقدر ما يكون في ذلك ضمان لجريان الحياة على سمت الدين المحقق للمصلحة، ومن أهم الأسباب المرشدة لها أن تكون محكومة بمبادئ عامة تجري بحسبها، وتكون لها عاصماً من الزيغ بسبب من الهوى، أو الوهم، أو التقليد، ونحسب أن من أهم تلك المبادئ المرشّدة للصياغة مبادئ ثلاثة: الواقعية، والتكامل، وتحري المقاصد، وفيما يلي بيان لها بعد ما نقدم بين يديها مزيد شرحٍ لمدلول صياغة الشريعة، ولمحة عن تطبيقاتها في التراث الفقهي.
1- صياغة الشريعة وتطبيقاتها في التراث.(2/44)
ليست الأحكام الشرعية في تجريدها المطلق عن قيود التشخص بكافية في حال تجردها لأن تعالج وقائع الحياة وأوضاعها المشخصة، وأن تقوم هذه الوقائع، وهي كما حصلت في الأفهام في صورتها التقريرية المستخلصة من نصوص الوحي؛ وذلك لأن وقائع الحياة تحمل كل منها عناصر ذاتية متأتية من ظروف الزمان والمكان التي لا تتكرر، وهي عناصر تجعلها متفاوتة، وإن كانت متشابهة، ومن هذا التفاوت يحصل تفرد في أوضاع الحياة الفردية والاجتماعية، بحسب الزمان والمكان، مع الحفاظ على أسس عامة لتلك الأوضاع، يتقوم بها الوجود الإنساني الفردي، والاجتماعي في نطاق الدائرة الإنسانية عامة، وفي نطاق طبيعة المجتمع الإسلامي خاصة.
وإذا كانت أحكام الدين المجردة ترشد إلى تقويم الوجود الإنساني في أسسه المشتركة، المتعلقة بمطلق الوجود، بصفة أصلية مباشرة، فإن ما تتفرد به الأوضاع من خصوصيات زائدة عن الأسس المشتركة تستلزم نظراً اجتهاديًّا في الأحكام ا لمجردة، بعدما استقامت في الأفهام بالنظر الاجتهادي للفهم، ليصاغ منها ما يغطّي بالمعالجة تلك الفوارق بين الأوضاع، وينشأ من ذلك لكل وضع مشخّص حلٌّ شرعي معين، يناسبه ويرتقي به إلى التدين المطلوب، ويكون هذا الحل الشرعي مشتقًّا من الحكم المجرد، ولكنه مصوغ بحسب ما تتطلبه الملابسات الواقعية لكل صورة من صور الحياة الواقعة. وهذا العمل الفقهي، الذي يشتق من الحكم المجرد حلاًّ شرعيًّا يعالج صور الحياة الواقعية، هو الذي سنعبر عنه في هذا البحث بالصياغة، على معنى أن به تكون صياغة الحلول الشرعية الواقعية، من الأحكام الشرعية المجردة.(2/45)
ومن البيّن أن هذا المعنى للصياغة، كما نقصده في هذا البحث، يختلف عما قد يتبادر إلى الذهن من معنى العرض المرتب للأحكام الشرعية، بعد استنباطها من مصادرها، في نسق فقهي منضبط بقواعد العرض المدرسي، مثلما هو معهود في مدونات الفقه الإسلامي المعروفة؛ فالصياغة التي نعنيها هي تهيئة الأحكام الشرعية، لتطبيقها على الواقع، فتتحول من إرشادات كلية عامة، إلى مشاريع مصوغة صياغة عملية لتنزل على الواقع، وتصبح الحلقة الواصلة بين الحكم الشرعي العام، بما هي متأسسة على حقيقته، وبين الواقع الجاري، بما هي مراعية لخصائص التشخّص فيه. ويمكن أن نزيد هذا المعنى توضيحاً بالمثالين التاليين.
المثال الأول، العمل الذي يقوم به المهندس المعماري، حينما يصمم مثالاً لعمارة ما، فإن تصميمه ينبني من جهة على الحقائق النظرية العامة لعلم العمارة، ويستجيب من جهة أخرى للخصائص الواقعية للعمارة المطلوب تصميمها، مثل طبيعة الأرض التي ستقام عليها، وطبيعة المناخ الذي ستنشأ فيه، وبذلك يجيء التصميم يمثل صياغة لأحكام علم العمارة المجردة، بما يناسب العناصر التشخيصية، لعين العمارة المطلوب إنشاؤها، فهذه الصياغة المتمثلة في تصميم المهندس تشبه الصياغة الفقهية، التي نحن بصدد شرحها في انبنائها على أحكام الدين المجردة من جهة، ومراعاتها لظروف الواقع من جهة أخرى.(2/46)
والمثال الثاني، عمل الصيدلاني صانع الأدوية، حينما يصنع دواء لمرض من الأمراض، فإن صنعه لذلك الدواء ينبني من جهة على القواعد الطبية العامة، التي تصف أدوية معينة لأمراض معينة بصفة تجريدية، ولكنه يخضع من جهة أخرى للحالات العينية للمرضى، فيكون في شكله سيولة وصلابة، وفي طعمه حلاوة ومرارةً، وفي كثافته ثقلاً وخفة، متناسباً مع تلك الحالات ا لعينية للمرضى، وبذلك يجيء ذلك الصنع يمثل صياغة لقوانين الطب المجردة، بما يستجيب للعناصر المشخصة للأمراض، بحسب حالات المرضى، فيما يشبه الصياغة الفقهية، التي نروم شرحها، واصلةً بين أحكام الدين المجردة وبين الوقائع الجارية.
وعندما نرجع إلى التراث الفقهي الإسلامي، نستجلي مصداق هذه الصياغة التي نعنيها فيه، فإننا نلفاها واضحة في فقه الأئمة المجتهدين في العصر الذهبي الأول للفقه الإسلامي، حينما كان فقهاً اجتهاديًا واقعيًا حيًا، فهؤلاء الأئمة رغم أنهم كانت مطروحة عليهم بأولوية وإلحاح مهمة تقنين الأحكام الدينية، باستخلاصها من أصول الوحي، فإنهم كانوا يقومون بالإضافة إلى ذلك في ذات الوقت بمهمة صياغة الأحكام، بما يعالج مجريات الوقائع، في البيئات التي كانوا يعيشون فيها، وتبدّى ذلك في بعض لأصول الواقعية، التي وضعوها قواعد للاجتها، مثل أصول المصالح المرسلة، والاستحسان، والعرف، وعمل أهل المدينة، وما شابهها.(2/47)
ومن المظاهر الدالة على الاجتهاد في الصياغة تعدد المذاهب الفقهية، بين الأئمة المجتهدين، فإن أحد أهم أسباب هذا الاختلاف بين المذاهب اختلاف الظروف البيئية، التي نبتت فيها، فكان مذهب الإمام مالك بالمدينة، ومذهب الإمام أبي حنيفة بالعراق، ومذهب الإمام الأوزاعي بالشام، بل إن الإمام الشافعي كان له مذهب بالعراق، فلما انتقل إلى مصر عالجه بالتعدين، فأصبحت له أقوال جديدة، أوشكت أن تصبح مذهباً جديداً، فهذا الاختلاف بين المذاهب، بل بين أقوال الإمام الواحد بتغير البيئة يشير إلى أن الأئمة المجتهدين كان نظرهم الاجتهادي يتجه إلى تقرير الأحكام الشرعية المجردة من أصول الوحي، كما يتجه إلى صياغتها بما يلائم الظروف الواقعية للبيئات، التي يعيشون فيها، لتكون لها علاجاً بحسب خصوصياتها.
وربما كان الاجتهاد في الصياغة أبين في فقه الفتاوى، منه في فقه الأحكام، فهذا الفقه عند الأئمة المجتهدين خاصة يمثل قمة الاجتهاد في الصياغة، بما هو تنزيل للحكم الشرعي المجرد على نوازل عينية مشخصة، تنزيلا يُصاغ فيه من تلك الأحكام ما يعالج تلك النوازل العينية، فيتحقق التدين المطلوب.
ومما تقدم يبدو الفرق بيّنًا، بين العمل الذي يقوم به المجتهد في فهم الأحكام من أصولها، وتقريرها في صورتها المجردة، وبين العمل الذي يقوم به في صياغتها، تهيئة لتطبيقها على أوضاع واقعية معينة، فالأول يقع التعامل فيه مع الأصول وحدها، مع اعتبار القاسم المشترك لواقع الحياة الإنسانية، في ثباته عبر الزمان والمكان، وأما الثاني فإنه يقع التعامل فيه مع الأحكام المقررة من جهة، ومع حيثيات الواقع المشخّص من جهة أخرى.(2/48)
وهذا الاختلاف في طبيعة العمل الاجتهادي، بين الفهم، وبين الصياغة، يستلزم اختلافاً في الأدب المنهجي ، الذي يتطلبه كل منهما ليصل إلى غايته، التي هي تقرير الأحكام الدينية ا لمجردة بالنسبة للأول، وصياغة حلول واقعية من تلك الأحكام، تنزل على الوقائع المشخصة، بالنسبة للثاني، فكما أن فهم الأحكام من أصولها يتم بقواعد وقوانين، يتشكل من مجموعها ما يمكن أن يسمى بفقه الفهم، فإن صياغتها للتنزيل تتم بقواعد وقوانين، يتشكل من مجموعها ما يمكن أن يسمى بفقه الصياغة.
ونحسب أن التراث الفقهي الإسلامي، المتأخر منه خصوصاً، كانت عنايته بفقه الفهم، أكثر بكثير من عنايته بفقه الصياغة، وذلك سواء بالنسبة للشق التطبيقي في هذا التراث وهو الفقه، أو الشق التنظيري فيه وهو أصول الفقه.
أما الفقه فإنه بعد عهدٍ من الحيوية والواقعية على يد الأئمة المجتهدين، آل أمره إلى شيء من الجمود، الذي تضخم فيه الجانب التقريري للأحكام المجردة، وضمرت فيه إلى حد بعيد الصلة بالواقع المعاش في ملابساته العينية، فلم يكتب لتلك الصياغة الواقعية، التي انتهجها الأئمة المؤسسون للمذاهب، أن تأخذ مداها التاريخي، الكفيل فإنضاجها وتميزها، كما كان الأمر بالنسبة للتقرير المجرد، الذي استمر منهجاً للفقه، طيلة القرون اللاحقة، وكذلك فإن فقه الفتاوى وهو الذي تتجلى فيه الصياغة بوضوح أكثر كما ذكرناه، لم يلق من العناية ما لقيه الفقه التقريري المجرد، فظلت الفتاوى تنحو منحى ا لفردية في موضوعاتها، فتعالج النوازل ا لشخصية، أكثر مما تعالج الأوضاع الاجتماعية العامة، بل حتى في منحاها ذلك كثيراً ما طالها الإهمال والنسيان، فأين اليوم المدونات الفقهية المجردة في العناية بها بحثاً وإحياء وتداولاً من مدونات فقه الفتاوى؟(2/49)
وأما أصول الفقه فقد توجهت العناية فيه إلى استنباط الأحكام من أدلتها، كما يشير إلى ذلك تعريفه، الذي اشتهر بين الأصوليين، وهو أنه "القواعد التي يُوصِّل البحث فيها إلى استنباط الأحكام من أدلتها التفصيلية، أو هو علم بهذا القواعد".(3) وهذا التعريف لا يتضمن القواعد التي بها يكون تنزيل الأحكام على الواقع، وهو يعكس حاصل ما انتهى إليه علم أصول ا لفقه بصفة عامة، حيث نجد الأبواب ا لتي أشبعت بحثاً، هي تلك التي تخص الاستنباط، وأما ما كان يمكن أن يدفع إلى إنضاج فقه الصياغة، فقد كان البحث فيه خفيفاً، مثل الاستحسان، والمصلحة المرسلة، والعرف، بل كانت هذه محل إنكار من قبل كثير من الأصوليين، وقد كان يمكن لمبحث المقاصد من مباحث أصول الفقه أن يقوم بدور مهم في فقه الصياغة، ولكن هذا المبحث آل إلى ضمور شديد بعد الإمام الشاطبي (ت 790هـ) حتى كان ينقرض من كتب أصول الفقه، بل إن ما كتبه الشاطبي نفسه في كتابه الموافقات يكاد يكون طفرة بالنسبة لما قبله، كما هو بالنسبة لما بعده.
ونحسب أن من أهم الأسباب في تعثر النهضة التشريعية في العالم الإسلامي اليوم، والقصور الظاهر في تغطية مستجدات النوازل في حياة المسلمين - وهي تكاد تأتي على حياتهم كلها - بحلول مصوغة من أحكام الدين، نحسب أن من أهم أسباب ذلك افتقار التراث الفقهي المتأخر إلى أدب منهجي، في صياغة الأحكام صياغة واقعية، يساعد القيمين على التشريع، على أن يشتقوا من أحكام الدين مشاريع عملية تكون بديلاً لما هو سائد من أوضاع، قائمة في كثير منها على التشريع الوضعي الوافد.(2/50)
وتعاني حركات الدعوة الإسلامية اليوم هذا المشكل نفسه، في تبشيرها بالمشروع الإسلامي الشامل، فهي إذ تبشر بهذا المشروع على مستوى عقدي عام، تقصُر عن أن ترتقي بهذا التبشير إلى مستوى فقهي، تقدم فيه البديل الإسلامي، في الثقافة، والاجتماع، والاقتصاد، وغيرها من المجالات، والحال أنها تواجه في ساحة الدعوة مشاريع علمانية، ويسارية، مكينة في الواقع، قوية في أبعادها العملية، ويبدو أن من أهم أسباب هذا القصور في الدعوة الإسلامية الافتقار إلى مرجعية منهجية، في اشتقاق المشاريع العملية المناسبة للأوضاع الراهنة، من الهدي الديني، المتمثل في الأحكام العامة المجردة.
ولما كان من أكبر التحديات التي تواجهها الدعوة الإسلامية اليوم - على ما نراه - هو تحدّي ا لمشروع الإسلامي العملي، فإن الضرورة ملحة في سبيل التقدم في صياغة هذا المشروع، والتبشير به، لأن تتوفر مرجعية منهجية تساعد على ذلك، وهذه المرجعية المنهجية هي التي عنيناها في هذا الباب بفقه الصياغة، وعلى الرغم من أن التراث الفقهي والأصولي لم يعتن كبير عناية بهذا اللون من الفقه، إلا أن الناظر فيه بعين واعية لهذا الغرض لا يعدم ظفراً بمادة صالحة في هذا الباب، وإن تكن في الغالب ضمنية ومتفرقة، غير مرتبة ولا معروضة عرضاً تقريريًّا مباشراً.
وسنحاول فيما يلي لفت الانتباه إلى بعض القضايا المتعلقة بفقه الصياغة، استخلاصاً من التراث الفقهي والأصولي، ومحاولة لتوجيهها وجهة الغرض الذي نرومه في هذا البحث، عسى أن يكون في ذلك إسهام في توجيه أنظار الباحثين الإسلاميين المختصين لإثراء هذا الباب البالغ الأهمية، في تنزيل الإسلام على واقع الحياة، ضمن مشروع عملي، يغطي مختلف جوانب تلك الحياة، التي تحكمها اليوم مشروعات وضعية، تبتعد في أغلبها عن الهدي الديني.
2- مبدأ الواقعية في صياغة الشريعة.(2/51)
نقصد بالواقعية نظم الأحكام الدينية نظماً يتكون منه نسقٌ مخصوص، يُقدّر لمعالجة وضع واقعي من أوضاع المسلمين، فتراعى فيه خصوصياته وملابساته، بحيث يكون ذلك النسق منصبًّا على ذلك الوضع بذاته، يقوّم وجهته وفق هدي الدين، هوهو بذلك يشبه أن يكون فتوى في شكل موسع، متعدد العناصر، تتعلق بواقع معين، وتبني بحسبه، وقد لا تصبح صالحة إذا ما تغيرت معطيات ذلك الواقع وأسبابه.
ويظهر مفهوم الواقعية هذا بيّناً إذا ما قورن بضده متمثلاً في العمل على معالجة وضع واقعي من الأوضاع، باقتطاع جملة من الأحكام المتعلقة به، من سياقها المجرد، المقرر في المدونات الفقهية، أو استحضار فتاوى في نوازل قديمة مشابهة، ثم الاكتفاء بذلك النسق في أحكامه المجردة، أو فتاواه القديمة، ليقدم علاجاً للوضع الواقعي، إن هذا العمل في معالجة الواقع، لا يتصف بالواقعية بل هو "اجتهاد " يقفز على الواقع، ويفصل بينه وبين أحكام الدين، وقد كان هذا أسلوباً رائجاً في عهد الجمود الفقهي، وهو الجمود الذي ورثته أجيال اليوم، ولا تزال محكومة بالكثير من آثاره.
ولا يتحقق مبدأ الواقعية، إلا بجملة من الإجراءات، يرجع بعضها إلى التعامل مع الواقع المراد ترقية التدين فيه، ويرجع بعضها الآخر إلى التعامل مع الأحكام نفسها، المراد صياغتها صياغة واقعية.
(أ ) تمثل الواقع:
ونعني به الاستيعاب المعرفي الشامل والمفصل للصورة الواقعية من الحياة، التي يراد معالجتها بالهدي الديني، ولا يتم هذا الاستيعاب إلا بالكشف عن حقيقة تلك الصورة، في عناصرها الظاهرة والخفية، وفي علاقتها بالصور الأخرى، التي لها بها علاقة، وفي أبعادها الفردية والاجتماعية والدولية، وفي مظاهر الخلل، التي تتأتى الأضرار منها، فتفوت مصالح الأفراد والجماعة، وكل ذلك يراعى فيه عناصر التشخيص التي تتعلق بالظرف المكاني والزماني للصورة المدروسة بعيداً عن التعميم، الذي لا يقوم على أساس من ا لاشتراك في تلك العناصر.(2/52)
وعند ما يتعلق الأمر بواقع المسلمين اليوم من حيث يراد صياغة منظومة أحكام ترتقي بتدينه إلى الدرجة الأفضل، فإنه يكون من المطلوب تقسيم هذا الواقع إلى صور متعددة، تتنوع بحسب تنوع مجالات الحياة من جهة، وبحسب تنوع البيئات من جهة أخرى، تم تدرس كل صورة من الوجوه التي ذكرناها آنفاً، باستعمال الآلات التي بيّنّاها في الباب السابق. فإذا بالصورة الاقتصادية من واقع المسلمين على سبيل المثال جلية للمجتهد في دقائق خيوطها، ومتشابك أسبابها، ومختلف علاقاتها بالصورة الاجتماعية والسياسية والثقافية، وفي الإخلال الطارئة عليها مسببة الإضرار بالناس أفراداً أو فئات، وعياً في ذلك كله بما هو مشترك في الصورة الكبرى لواقع المسلمين، وبين ما قد يكون خاصًّا بجزء من تلك الصورة دون آخر، بحسب اختلاف البيئات.
وبهذا الاعتبار، فإنه من البيّن، أنه لا يجدي نفعاً ما يسلكه بعض العاملين للإسلام، ف مضمار اقتراحات يقدمونها لإصلاح الواقع الإسلامي، ينطلقون فيها من تصورات غائمة لهذا الواقع، محكومة بنظرة جملية تُلمّح إلى مظاهر الخلل، فتبني منها تقويماً يكون أميل إلى المعيارية، منه إلى الوصفية الكاشفة، فتغلب بذلك نزعة الرفض والإلغاء، ولا يكون للفهم الموضوعي إلاّ حظّ ضئيل، وقد لا يكون له حظّ في كثير من الأحيان؛ ذلك لأن هذا الحكم الجملي المعياري على الواقع لا يمكِّن من صياغة العلاج المناسب له في خصوصياته الشخصية، وإنما هو يضطر إلى اقتطاع جملة من الأحكام الشرعية في صيغتها المجرّدة، التي تستهدف الوقائع الإنسانية المطلقة، فلا يكون ذلك المجرد العام صالحاً لعلاج المشخص المخصوص، وكثير من مآلات الفشل، التي تبوء بها حركات الإصلاح الديني، ترجع إلى هذا السبب.(2/53)
إنّ واقع المسلمين هما شطّ به الانحراف في مجال من مجالاته، أو في أكثر من مجال، فإنه لا يخرج عن أن يكون واقعاً تختلط فيه عناصر من الباطل، بعناصر من الحق، تبقى مستصحبة في ضمير الأمة، وفي جوانب من حياتها، وذلك أحد معاني الوعد النبوي، بأن هذه الأمة لا تجتمع على الضلال.(4) وعلى هذا الاعتبار، فإنّ كل خطة شرعية لتقويم الحياة الإسلامية وفق الهدي الديني، ينبغي أن يؤخذ فيها بعين الاعتبار ما استصحب من عناصر الحق، وما طرأ من عناصر الباطل، وهو ما يدعو إلى كشف موضوعي علمي على الصور الواقعية لتلك الحياة، لتأليف خطّة تُبْقي على عناصر الحق فيها، وتغيّر من عناصر الباطل، ارتقاء في ذلك بالصورة الواقعية إلى مقتضيات التدين الحق. أما الإلغاء الجملي للواقع بقصد تأسيس واقع جديد مثالي فإنه لا يدفع إلى صياغة واقعية للأحكام، بل يؤدي إلى استحضارٍ لأحكام الشرع في نظمها المجرّد، لتكون منها خطة الإصلاح خطّة مثالية غير واقعية.
(ب) نظم الأحكام:
ونعني به الإجراءات العملية في التعامل مع الأحكام الدينية نفسها، في سبيل بناء خطة الترقية الدينية، وهي إجراءات يُعمد فيها إلى الأحكام الدينية فتؤلّف منها منظومة في شكل خطة منصبة على الصورة الواقعية، التي وقع استيعابها بالكشف العلمي عن حقيقتها، وبهذا الاعتبار فإنها تكون إجراءات قائمة على المراوحة بين الحكم الديني من جهة، وبين الصورة الواقعية من جهة أخرى، فيوجّه الحكم توجيهاً يناسب تلك الصورة، من حيث تحقيق المصلحة فيها. وربما يكون من أهم مظاهر تلك الإجراءات ما نذكره تالياً.
أولاً: إدراج الصور الواقعية الحاصلة في مجال الحياة ناشئة بالتقليد أو بالاقتباس أو بالاستحداث، إدراجها ضمن نوعها الذي ورد فيه حكم شرعي، حتى يعرف بذلك حكمها، فيقع على أساسه إقرارها ضمن الخطة الشرعية المراد بها الإصلاح، أو إخراجها منها تبعاً لما جاء في نوعها من ا لمنع الشرعي.(2/54)
ومثال ذلك أن يقع في سبيل خطة اقتصادية شرعية تتبع أنواع المعاملات المالية الواقعية، فيميّز بين ما كان منها مندرجاً ضمن نوع الرّبا، وما كان منها غير مندرج، أو تتبع وجوه الاستهلاك السائدة عند الناس، فيُميّز بين ما كان مندرجاً ضمن ا لإسراف، وما كان غير مندرج، فتعتمد الصور التي لا تكون رباً، ولا تكون إسرافاً في الخطة الاقتصادية الشرعية، لما انطبق عليها من وصف الجواز الشرعي.
وقد بيّن الإمام الشاطبي هذا الإجراء الاجتهادي الواقعي وسمّاه بتحقيق المَناط، وقال في شرحه: "معناه أن يَثْبت الحكم بمدركه الشرعي، لكن يبقى النظر في تعين محلّه... ذلك أن الشريعة لم تنص على حكم كل جزئية على حِدتها، وإنما أتت بأمور كلية، وعبارات مطلقة، تتناول أعداداً لا تنحصر، ومع ذلك فلكل معيّن خصوصية ليست في غيره، ولو في التعيين نفسه، وليس ما به الامتياز معتبراً في الحكم بإطلاق.. . فلا يكون الحكم واقعاً عليها إلاّ بعد المعرفة بأن هذا المعيّن، يشمله ذلك المطلق، أو ذلك العام، وقد يكون ذلك سهلاً وقد لا يكون".(5) ويشير الشاطبي بهذا البيان إلى أن استيعاب الأحكام الدينية بالفهم لا يكفي بذاته في معالجة الوقائع بها، بل لا بد من اجتهاد تقع به المواءمة، بين كل واقعة، وبين الحكم الذي يخصها، فتنشأ من ذلك مجموعة من الأحكام المتخيّرة توجّه الأوضاع الواقعة، بمنع بعضها، وإقرار بعضها الآخر، بحسب اندراجها في تلك الأحكام، حلّية وحرمة. وهذا ضرب من صياغة الأحكام (أي تهيئتها للتطبيق ) على أساس واقعي.
ثانياً: الموازنة بين الاحتمالات الممكنة، فيما مأخذه من الوحي ظنّي من الأحكام، وذلك باعتبار ما تحققه هذه الاحتمالات من المصلحة في الظرف الواقعي المعيّن، ثم اعتماد الاحتمال الذي يُرجّح أنه أكثر تحقيقاً للمصلحة، واعتباره هو الحكم الشرعي، وإدراجه ضمن خطّة الإصلاح.(2/55)
وقد كانت هذه الموازنة معتمداً للإمام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيّم، فيما ذهبا إليه من ترجيح احتمال أن يكون حكم التطليق ثلاثاً بلفظ واحد طلقةً واحدة، على احتمال أن يكون طلاقاً بائناً، مع أن الدليل الظني يتسع لهما جميعاً، وذلك باعتبار ما يحققه هذا الاحتمال من مصلحة، وما يدرأ من مفسدة، في ظروف ذلك الزمن الذي وُجدا فيه، وهو ما بيّنه ابن القيّم في قوله: " ... فلما تغير الزمان، وبعد العهد بالسنة ولآثار القوم، وقامت سوق التحليل (6) ونفقت في الناس، فالواجب أن يردّ الأمر إلى ما كان عليه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وخليفته، من الإفتاء بما يعطل سوق التحليل، أو يقللها، ويخفف شرّها، وإذا عُرض على من وفقه الله وبصّره بالهدى، ووفقه في دينه، مسألة كون الثلاث واحدة، ومسألة التحليل، ووازن بينهما تبيّن له التفاوت، وعلم أيّ المسألتين أولى بالدين، وأصلح للمسلمين ".(7) فقد كان تفشي التحليل، وما يسببه من ضرر بالغ بالأسرة والمجتمع(8) عاملاً واقعيًّا في ترجيح الحكم، باعتبار التطليق بالثلاث في لفظ طلقةً واحدة، واختياره احكم الشرعي المناسب للظرف الواقعي.
ولا تكون الأوضاع الواقعية مرجحة للاحتمال الذي يكون راجحاً في ميزان الحجة العقلية المجرّدة فحسب، بل قد تكون مرجحة للاحتمال المرجوح في ذلك الميزان؛ إذ تقتضي تلك الأوضاع أن ينتخب المرجوح فيتخذ حكماً شرعيًّا يعمل به، لما يرى من تحقيقه للمصلحة دون الرّاجح، وبهذا الاعتبار فإن الإفهام المرجوحة من دلالات الأحكام لا ينبغي أن تُسقط في التراث الفقهي، كما جرى عليه الحال في عهود الجمود؛ إذ هي ذخيرة اجتهادية، قد تتكشف الأيام في حياة الأمة عن أوضاع تصلح لها تلك الإفهام علاجاً، فتدرج ضمن ما يُراد من خطط الإصلاح المتجددة. وهذا أيضاً ضرب من تحكيم الواقع في صياغة الحكم الديني.(9)(2/56)
ثالثاً: استحداث أحكام شرعية للوقائع المستجدة، التي لم ترد فيها أحكام دينية مباشرة. وهذا الاستحداث ينبني على أسس الدين ومقاصده العامة، ولكنه يكون محكوماً بخصائص الوقائع المستجدة وعناصرها العينية، فيما تنبني عليه من صورة، وفيما تؤدي إليه من أثر فيه صلاح أو فساد. ويدخل في ذلك كله ما تنتهي إليه حياة الناس من عادات وأعراف، وتقاليد ذاتية وخارجية، فتدرس جميعاً دراسة مستقصية، تفضي إلى صدور أحكام شرعية، تتناولها بالإباحة أو المنع، وتصبح تلك الأحكام من ضمن ما يواجه به الواقع من مشروع ديني لتوجيه الحياة نحو الخير.
ولا يجدي في هذا الباب إسقاط الفتاوى المستحدثة لوقائع وأوضاع سابقة، بل ولا الفتاوى المستحدثة لوقائع وأوضاع راهنة ولكنها تتلف في بعض معطياتها عمّا يراد علاجه من وضع معيّن، بل تستحدث لكل ظاهرة متميزة أحكامها الخاصة بها، بناءً على تميزها؛ وذلك لأن الواقع "كل صورة من صوره النازلة نازلة مُستأنفة في نفسها لم يتقدّم لها نظير، وإن تقدم لها في الأمر نفسه فلم يتقدم لنا، فلا بد من النظر فيها بالاجتهاد"(10) لاستحداث الحكم الشرعي الذي يناسبها.(11)
وكلما تعقد واقع الحياة، وتشعبت علاقات الناس ببعضهم، وعلاقاته ببيئاتهم، كلما تكاثرت النوازل المستأنفة، والصور الجديدة، إما تولّدًا من ذات المجتمع المعيّن، أو انفعالاً بمجتمعات أخرى، وهو ما يكون مدعاة لتكثيف النظر الاجتهادي، بقصد تغطية كل صورة مستجدة بحكم شرعي يناسبها، في سبيل أن تنمو الحياة الإسلامية على هدي من الدين، دون أن يؤدي زخم التنامي المتسارع في شعب الحياة إلى الانفلات عن أحكام الشرع، كما نراه يحدث في حياة الأمة الإسلامية منذ بدأت نهضتها الحديثة، حيث لم تجد لمستأنفات نوازلها في اتصالها بحضارة الغرب ما يرشدّها من أحكام شرعية، تكون مستهدية بأصول الدين ومقاصده، ولكنها مبنيّة على ما تضمره تلك المستأنفات من مصالح ومن مفاسد.(2/57)
رابعاً: العدول عن أحكام جلية وقطعية إلى أحكام أخرى، تعتمد في معالجة نازل واقعية، بسبب أن هذه النوازل لم تتوفر فيها الشروط، التي تجعل إجراء أحكامها عليها مفضية إلى مصلحة، بل يكون اعتماد تلك الأحكام فيها، مؤديًا إلى مشاق تضرّ بالأمة، مما يستلزم تأجيلها، فلا تعتمد في خطط الإصلاح حتى تتوفر في الواقع شروط إثمارها للمصلحة.
وهذه الطريقة في الاجتهاد من أدق الطرق وأكثرها عرضة للزلل؛ ذلك لأن نوازل الواقع قد تكون مندرجة ضمن حكم شرعي جليّ اندراجاً واضحاً، ولكنها في مجرى حدوثها، أو في مآلها، قد تكون مفضية إلى غير المصلحة، التي يبتغيها ذلك الحكم، فيكون اعتماد الحكم فيها مخلاًّ بمقصد الدين في نفع الناس. ومن جهة أخرى فإن العدول عن الحكم في إجرائه عليها قد يكون للهوى والتشهي مدخل فيه، بدعوى أن في هذا العدول تحقيقاً لمصالح قد تكون في كثير من الأحيان موهومة. وكم من حرج لحق الناس بسبب الاعتماد الآلي للأحكام، على كل ما يندرج تحتها من نوازل جزئية، تحرّزاً من تعطيل الحكم الإلهي. وكم من إهدار للأحكام الشرعية، بدعوى أن اعتمادها في بعض النوازل يؤدي إلى مفسدة، وهذا كله يجري اليوم في العالم الإسلامي، من قِبَل من يعتمد حرفية التطبيق الشرعي بصفة آلية، ومن قِبل من يعتمد تعطيل الأحكام الشرعية بصفة مطلقة، بدعوى أنها لم تعد تؤدي في واقع اليوم إلى مصلحة.(2/58)
وقد استحدث الأصوليون ضوابط في هذه الطريقة، كي لا تحيد إلى الطرفين المرذولين. ومن أهم هذه الضوابط مراعاة مآلات الأفعال، التي يقول الشاطبي في شرحها: "إن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلا بعد نظرة إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل مشروعاً لمصلحة فيه تُستجلب، أو لمفسدة تُدرأ، ولكن له مآل على خلاف ما قصد فيه، وقد يكون غير مشروع لمفسدة تنشأ عنه أو لمصلحة تندفع به، ولكن له مآل على خلاف ذلك. فإذا أطلق القول في الأول بالمشروعية، فربما أدّى استجلاب المصلحة فيه إلى مفسدة، تساوي المصلحة، أو تزيد عليها، فيكون هذا مانعاً من إطلاق القول بالمشروعية، وكذلك إذا أطلق القول في الثاني بعدم المشروعية، ربما أدى استدفاع المفسدة إلى مفسدة تساوي أو تزيد، فلا يصح إطلاق القول بعدم المشروعية، وهو مجال للاجتهاد صعب المورد ".(12)
والاستحسان من ضوابط هذه الطريقة، إذ هو عند المالكية المتوسعين في استعماله "الأخذ بمصلحة جزئية في مقابلة دليل كلّي، ومقتضاه الرجوع إلى تقديم الاستدلال المرسل على القياس ".(13) ويكون ذلك بأن يستثنى وضع خاص، أو نازلة معينة، من الحكم الذي ينطبق عليها، لدرء مفسدة تحصل بإجرائه عليها وجلب مصلحة بذلك الاستثناء. وقد عدّ صنيع عمر بن الخطاب رضي الله عنه في تأجيل حدّ السرقة عام المجاعة عملاً بالاستحسان.(14)
هذه بعض الإجراءات الاجتهادية، التي يتكون من مجملها مبدأ الواقعية في صياغة أحكام الشريعة، وتهيئتها لترشيد الواقع، سواء في التحقّق من المناط، أو في الترجيح، أو في الاستحداث، أو في الاستثناء، بحيث تتوفر من ذلك كله قاعدة في الصياغة بالمعنى الذي حدّدناه لها، يكون فيها واقع الأحداث في حياة المسلمين عنصراً أساسيًّا في بنية هذه الصياغة وانتظامها.(2/59)
والتراث الفقهي للسلف من الصحابة، وأئمة الفقه من بعدهم إلى بعض القرون، مشبع بهذا المبدأ الواقعي، وخذ إليك مثالاً بارزاً فقه عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، الذي واجه به التحولات الكبرى في حياة الأمة الإسلامية، من جميع جوانبها، بواقعية سددت مسيرتها على هدي الدين،(15) وفقه مالك بن أنس، الذي بناه على قواعد واقعية، كعمل أهل المدينة والاستحسان والمصلحة المرسلة وسدّ الذرائع.
3- مبدأ التّكامل.
-إن واقع الحياة من طبيعته التفاعل ا لمستمر بين عناصره المختلفة، فما هو اقتصادي، يؤثر فيما هو اجتماعي، ويتأثر به، وكذلك الأمر بالنسبة لكل المجالات الأخرى. وقد تحصل للإنسان مصلحة في جانب من جوانب حياته، إلا أنها تكون مجحفة بجانب آخر، فتؤدي فيه إلى ضرر؛ ولذلك فإن المعيار النهائي للمصلحة هو غلبة النفع على الضرر، بعد التقويم العام، لما يؤول إليه فعل ما من أثر فيهما معاً. وليس للآثار التي تحدثها الأفعال من مضار ومنافع ضوابط قارّة، تتطرد في كل حال، بل هي منضبطة في مستوى الأجناس الكليّة العامة فحسب، مثل انضباط ما يؤدي إليه الرّبا من ضرر، وما يؤدي إليه الصدق من نفع، وفيما تجري به وقائع الأفعال العينية قد تطرأ من الملابسات ما يخلّ بذلك الانضباط، فإذا بالفعل الذي من شأنه النفع تترتب عليه مضارّ في مجالات أخرى، وقد يكون العكس صحيحاً.(2/60)
إن هذه المنطقية الواقعية، غير المطّردة في انضباطها، تقابلها في أحكام الدين المجردة منطقية هي أقرب إلى انضباط المطّرد، فهذه الأحكام متناولة بالإلزام والمنع والإباحة لأجناس الأفعال في مفاهيمها المجردة، ولذلك فإنها تقنّن لتلك الأجناس بحسب ما يغلب عليها في آثارها، من تحقيق مصلحة أو درء مفسدة، وذلك هو ما يحصل في الأذهان عن الاجتهاد في تفهّم الأحكام من أدلتها، إذ تنتظم هذه الأحكام متكاملة غير متناقضة لما تجري عليه من منطقية تجريدية، محكومة أساساً بعصمة الوحي، من أن يكون بين أوامره تضارب أو تناقض، وقد دوّن فقه الأحكام في كتب الفروع على هذا النحو من الاتساق، لما كان فقهاً مجرّدً في عهوده الأخيرة على الأخص، وأما الاختلافات بين المذاهب فإن أكثرها حصلت في الطور الأول من عهد الأئمة المؤسسين، لما كان للواقع دور في تقرير أحكام الفقه.
وحينما يراد تطبيق الأحكام الدينية على الأوضاع الواقعية العينية، تواجه المسلم مشكلة التوفيق بين منطقية الفقه المجرد، وبين منطقية الواقع الجاري؛ إذ هذا الواقع قد تطرأ على عناصره من الملابسات، ما تصير به بعض أفعال الإنسان مؤدية لو أجريت بحسب الحكم الديني المجرد إلى إلحاق ضرر به، في ناحية أخرى من نواحي حياته، قد يكون أبلغ من النفع الذي يحصل بذلك الإجراء، بسبب من ملابسات يقتضيها المنطق الذاتي لمجريات الأحداث الواقعية. ومثال ذلك أن حكم الإباحة حكم مطلق في الملكية الفردية، وهو حكم يثمر مصالح جمّة، تتمثل بالأخص في التشجيع على الإنتاج، حتى يكثر الخير ويزدهر الاقتصاد، ولكنّ هذا الحكم قد يؤدي إجراؤه في بعض الأحوال إلى أضرار اجتماعية جسيمة، مثل ملكية أماكن تتعيّن فيها مصلحة جماعية مؤكدة، أو ملكية سلع ضرورية للحياة بقصد الاحتكار.(2/61)
وفي سبيل التوفيق بين الأحكام المجردة، وبين الوقائع الجارية، بما يدفع حياة المسلم إلى ما يحقق المصلحة ويدرأ المفسدة، ينبغي صياغة الأحكام، بالنسبة لكل وضع واقعي مخصوص صياغة يؤخذ فيها بعين الاعتبار انعكاساته على مختلف جوانب ذلك الوضع، بحيث تتكامل المصلحة فيها، ولا يؤدي تحقيق نفع في بعضها إلى حصول ضرر في بعضها الآخر قد يفوق ذلك النفع، فيما يشبه تحوّط الصيدلاني في صناعة الدواء من أن تكون لدوائه مضاعفات تلحق ببعض أجهزة الجسم ضرراً، قد يفوق ما يحققه من شفاء، من الداء المراد علاجه، بحيث يجعله ذلك التحوط يعمل على تحقيق التكامل الإيجابي لآثار الدواء في جسم المريض. وهذه القاعدة في صياغة الأحكام الدينية هي التي نعنيها بمبدأ التكامل الذي نحن بصدد شرحه.
ويتم التكامل الذي نعنيه بمراعاة جملة من القواعد يقع على أساسها صياغة الأحكام لمعالجة واقع معيّن، سواء بالترجيح أو الاستثناء أو الاستحداث، تضمن كلها توافق الآثار التي تؤدي إليها تلك الأحكام في تصرفات الناس، بما يحقق وجهتها نحو الله، ويعصمها من التناقض، الذي يثنيها عن تلك الوجهة. ونورد فيما يلي بعضاً من تلك القواعد المحققة للتكامل.
أولاً : فهم التشابك في الصورة الواقعية بين عناصرها المختلفة: النفسية والثقافية والاقتصادية والسياسية؛ وذلك لإدراك علاقات التفاعل بينها في اتجاهي الفعل والانفعال، فإدراك هذه العلاقات في شبكتها الفردية والاجتماعية الواسعة أمر ضروري في سبيل تقدير الآثار التي تصيب سائر العناصر، حينما ينزّل حكم ما على عنصر معين منها بمقتضى طبيعة العلاقة الرابطية بينها.(2/62)
وضرورة هذا الفهم تزداد تأكّداً في واقع المسلمين اليوم، بالنظر إلى ما آلت إليه حياتهم من تشابك وتعقد، وما أضحت عليه مصالحهم من تداخل، على بعد المسافات بينهم. وهو ما أحدثه تفنن الاختصاصات في مرافق الحياة، وتفرعها باطراد، حتى أصبحت المصالح في غاية الترابط بين أفراد الناس ومجموعاتهم. وقد وطّد ذلك الترابط ما أصبح للدولة الحديثة من سلطة شاملة على المجتمع، حيث أصبحت قيّمة على شؤونه كلها، ولم تكن كذلك في التاريخ الإسلامي طيلة قرون. فهذه السلطة الشاملة للدولة جعلت من التركيب الاجتماعي وحدة تتماسك من بين ما تتماسك بما تشده به من حبل النفوذ، وهو الحبل الذي يكون به التأثير سريع الانتقال بين مجالات الحياة المختلفة. ووسائل الإعلام الحديثة، ومسالك الاتصال، التي جعلت العالم المترامي كالمدينة الصغيرة ساهما بحظ وافر في تنمية قابلية التفاعل بين الجوانب المختلفة من الحياة.
إن هذا الموضوع الذي أصبح عليه واقع الحياة الإسلامية اليوم، في وثوق الصلة الانفعالية بين أطرافها يجعل الوقوف عليه بالفهم الدقيق من هذا الوجه أمر بالغ الضرورة، في سبيل صياغة الحلول الشرعية لعلاج مشاكله. ولم يكن التراث الفقهي مبنيًّا على قدر كبير من الفقه الواقعي، من جهة الترابط الانفعالي؛ إذ بساطة الحياة والاستقلالية النسبية لمسالكها لم يضطره إلى ذلك، إلا بقدر ما يفي بالوقوف على الأسس العامة لطبيعة الحياة الإنسانية، في وحدتها الفردية والاجتماعية؛ ولذلك فإن هذه القاعدة في متابعة التشابك الفاعل بين أوجه الحياة تظل قاعدة تكتسب من الأهمية باطراد بقدر ما تتشعب حياة المسلمين، وتتشابك عناصرها، وتتعقد أسبابها. وهذا أمر يغفل عنه كثير من الدُّعاة اليوم، حيث يظنون أن أحكام الدين في منطقيتها المجردة كفيلة بأن تصلح من أحوال المسلمين، دون صياغة واقعية لها تتكامل بها آثارها في الإصلاح.(2/63)
ثانياً: صياغة الأحكام السلوكية في إطار المبادئ العقدية. ولا نقصد المبادئ العقدية الأسس الأصلية للعقيدة الإسلامية فحسب، فذلك أمر بدهي في هذا المقام، ولكننا نقصد المبادئ العقدية الخاصة بكل مجال من مجالات السلوك المختلفة، فإن لكل منها إطارا عقدي يفضي به إلى المرجعية العقدية العليا للدين. وخذ إليك مثالا في ذلك أن السلوك الاقتصادي إطاره العقدي الإيمان بأن الملكية الحقيقية لكل شيء إنما هي ملكية الله تعالى، والإنسان ليس إلا مستخلفاً على كل ما بين يديه من مقدرات، وفي هذا الإطار ينبغي أن يتنزل سلوكه في المجال الاقتصادي، إنتاجاً وتوزيعاً واستهلاكاً، وأن السلوك الاجتماعي بمعناه العام إطاره العقدي الإيمان بكرامة الإنسان، وعلو قيمته، بمقتضى إنسانيته، وفي هذا الإطار ينبغي أن تندرج جميع التصرفات الاجتماعية، وهكذا الأمر في كل وجه من وجوه النشاط الإنساني.
إن صياغة الأحكام المتعلقة بالتصرفات السلوكية على اختلافها ينبغي أن تقوم على الالتزام الواعي بهذه الأسس العدية، ومحاكمة كل حكم عند الترجيح أو الاستحداث إليها؛ إذ هي بحكم مبدئيتها وتكاملها فيما بينها تقوم مقام العاصم، حينما يُحتكم إليها، من أن تكون للأحكام آثار متناقضة مخلة بالمصلحة، فهي تقوم مقام المرجع الكلي، الذي ينسّق الأحكام الجزئية، ويسوقها إلى التكامل، في توجيه الحياة إلى التدين الأكمل.
وتبدو الحاجة إلى هذه القاعدة أشد، في تلك الأحكام التي يستحدثها لفقيه المجتهد، في طارئات النوازل، التي ليس فيها حكم سابق، فإن هذه الأحكام إذا لم تكن ناشئة عن مرجعية عقدية، داخلها التعارض، فباءت آثارها بالضرر على المسلمين. هذا وإن زحمة الطوارئ في واقع الحياة، لطبيعتها المنقلبة كثيرا ما تغري في سبيل استعجال الحلول الشرعية المناسبة لها بتناسي الإطار العقدي، الذي يجب أن تتنزل فيه تلك الحلول، فيأتي بعضها مناقضاً للمصلحة من جوانب أخرى.(2/64)
والمتأمل في التراث الفقهي كما انتهى إليه في عهود ضعفه يجد أن كثافة التفريعات فيه، وما استلزمته من بسط منطقي مجرد تنتظم فيه فقهاً تعليميًّا مدرسيًّا، أدت في بعض الأحيان إلى غفلة عن المرجعية العقدية، التي ينبغي أن تستند إليها جزئيات الأحكام الفقهية، فكان ذلك من أسباب التعارض المخلّة بالمصلحة. وخذ مثالاً في ذلك من فقه السياسة الشرعية، حيث أجاز بعض الفقهاء ولاية السلطان المستبد، ومنعوا عزله إذا كان مقيما لشعائره الدينية، مع استبداده وظلمه، وهو ما يتناقض مع الأحكام التي جاء بها الذين لغرض تحقيق الأمن والعدل، ودفع الناس للتعمير في الأرض، وهي من غايات قيام الإمامة في الأمة. وإنما نشأ هذا التضارب، من الغفلة عن تنزيل هذا الحكم، الذي يشبه أن يكون إباحةً للاستبداد في الإطار العقدي للسياسة الشرعية، وهو الإطار المحكوم بأن الإمام إنما هو نائب عن الأمة، مفوّض من قبلها، ليسوسها بحسب ما جاءت به الشريعة من العدل والشورى، واحترام الإنسان.
وفي هذا العهد من حياة المسلمين ، تعقدت مسالك الحياة، وتكثفت طارئات الأحداث، بما يدعو إلى المزيد من الاعتصام بالمبادئ العقدية، في سبيل مواجهة هذا الوضع الواقعي المعقد بحلول دينية ترشّد الحياة في غير تناقض. وهذا ما يستلزم من بين ما يستلزم إحياء البحث في المبادئ العقدية، في أبعادها العملية المتعلقة بالإنسان، من حيث مركزه في العقيدة الإسلامية خاصة، وتخليص هذا البحث مما سقط فيه من تجريدية مجافية للواقع، ومن تضييق لمفهوم العقيدة، انفصلت فيه التصديقات القلبية بالألوهية، والنبوة، والبعث، عن أبعادها في الحياة الاجتماعية، ثم جعل مباحث العقيدة على هذا الوجه لازمةً للبحث الاجتهادي في تصويب السلوك، حتى يكون له سند حاضر في الوعي، فتصاغ الأحكام المعالجة للواقع في إطارها المرجعي القريب، فتخلو بذلك من التناقض فيما تحدثه من آثار، وتتكامل في ترشيدها للحياة.(2/65)
ثالثاً: اعتبار مآلات الأحكام، فالأحكام المجردة التي تستفاد من أدلتها أو تستحدث بالاجتهاد تكون ضابطة للحق في جنس ما تمنع، أو تبيح من أفعال الناس، ولكنها عندما تحاكم إلى الأفعال العينية بظروفها الخاصة فغن بعض الأحكام قد لا تكون مؤدية إلى غايتها التي وضعت لها، بل قد تفضي إلى عكس تلك الغاية، وليس ذلك بسبب من الحكم ذاته، إذ هو متمخض للحق، معصوم من الخطأ، ولكنه بسبب من الخصائص الواقعية للفعل، الذي طبق عليه جعلته يؤول بالحكم إلى غ ير ما وضع له. ولهذا الأمر، فإن النظر الاجتهادي في الأحكام عند صياغتها لمعالجة واقع ما، ينبغي أن يأخذ بعين الاعتبار مآل الحكم، حينما يراد به تقويم فعل مخصوص من الأفعال بناء على الخصائص الظرفية لذلك الفعل، ولا يكفي فيه اعتبار المطابقة، بين الحكم، وبين الفعل من حيث جنسه. وهذا المعنى هو الذي بيّنه الإمام الشاطبي في قوله الآنف الذكر، حينما قرر (أن اقتضاء الأدلة للأحكام بالنسبة إلى محالها على وجهين أحدهما الاقتضاء الأصلي قبل طروء العوارض، والثاني الاقتضاء التبعي، وهو الواقع على العمل مع اعتبار التوابع والإضافات ).(16) فهذا الوجه الثاني يدخل فيه اعتبار مآل الحكم في الواقع عند تقديره من دليله، فقد يفضي ذلك الاعتبار إلى العدول عن الحكم الأصلي إلى حكم غيره تقتضيه خصوصيات الواقع.(2/66)
واعتبار مآلات الأحكام ينبغي أن ينبني على علم دقيق بأسباب التفاعل بين مجريات الأحداث في الواقع الذي يراد علاجه، بحيث يعرف بتلك الأسباب ما ينتج عن تطبيق حكم معين، على سلوك معين، من آثار صالحة أو ضارة، وعلى ذلك الأساس يقع إقرار ذلك الحكم، أو العدول عنه إلى غيره، بحسب ما يغلب على الظن أن تتحقق به المصلحة ويدرأ الضرر. ومن البيّن أن تقدير مآل الحكم في الواقع المعين يحتاج إلى استخدام الوسائل العلمية في التحليل، كما بيناه في الباب السابق، عند الحديث عن آليات فهم الواقع، وهو نوع من الاجتهاد الدقيق، الذي يحتاج إلى الكثير من الصبر في مغالبة الهوى، والإخلاص في النية لله تعالى.
ويتحقق التكامل باعتبار مآلات الأحكام بصور متعددة، تتلافى كلها التضارب بين ما يراد من الأحكام الشرعية من تحقيق مصلحة، وبين ما قد يفضي إليه اعتمادها في ظرف معين من مضرة.
ومن هذه الصور، أن يكون حكم ما مؤديا حينما يعتمد في مواجهة الواقع، إلى تحقيق خير في مجال. ولكن يؤدي في الوقت نفسه باعتبار خصوصيات ذلك الواقع، إلى ضرر قد يفوق ذلك الخير، ويأتي عليه بالنقض، فيعدل عنه إلى حكم آخر يتفادى به هذا التناقض، ومثاله أن الحكم بإطلاق الإباحة في الملكية الفردية من شأنه أن يكون دافعاً إلى غزارة الإنتاج، الذي يزدهر به الجانب الاقتصادي من حيات الأمة، ولكن في الظرف الذي تصير فيه الحاجات الضرورية للكافة غير مكفولة، بسبب قحط أو حرب أو غيرها، فإن هذا الحكم بإطلاق الإباحة في الملكية الفردية قد يفضي إلى ضرر اجتماعي كبير بتفاقم الحاجات الضرورية، وما يؤدي إليه ذلك من اضطراب اجتماعي، قد يكون مدمراً لوحدة الأمة، ففي هذا الظرف يعدل عن الحكم بإطلاق الإباحة في الملكية الفردية، إلى الحكم بتقييدها بما يدرأ المفسدة الإجماعية.(2/67)
ومنها أن تكون أحكام جزئية، مؤدية في ظروف خاصة إلى آثار تناقض ما تؤدي إليه أحكام كلية أساسية، ومثال ذلك ما نراه حاصلاً في واقع المسلمين اليوم، لظروف تباعد المسلمين عن أخلاق الإسلام وعاداه، من أن الحكم الشرعي في بعض الأخلاق الاجتماعية، والعادات الشخصية، حينما اعتمده بعض الدعاة فيما أرادوا من إصلاح اجتماعي، أدى ذلك إلى نفور من قبل كثير من أفراد المجتمع، مما يبشر به هؤلاء الدعاة، من دعوة إلى الإسلام أصلاً، وكان ذك مفضياً إلى ضرر كبير بأصل الدعوة، بسبب من اعتماد هذه الأحكام الجزئية،ولو عدل عنها بالتأجيل اعتبارًا لمآلها لكان خيراً لانتشار الدعوة، بتمكن أصول العقيدة التي هي الأساس الأول.
ومن التطبيقات ذات العبرة لهذه القاعدة، ما أثّر في الفقه الجهادي من أن أحكام الحدود لا تعتبر بالتطبيق عند الجهاد، تقديراً في ذلك لمآلها في ظروف الجهاد، من انكسار في النفوس ، وتشبيط للهمم، يفضيان إلى مفسدة الهزيمة، التي تفوق أضعافاً المصلحة المقدرة من تطبيق الحدود في الارتداء والردع. فهذا الحكم بعدم اعتماد الحدود أزال تناقضاً محققًا، كان يحصل بين الحكم بإمضاء الجهاد، وبين الحكم بإمضاء الحدود، وأفضى إلى التكامل المحقق للمصلحة العامة.
وليس من شك في أن قاعدة اعتبار مآلات الأحكام هذه، يحتاج إليها المجتهد في حل مشاكل المسلمين اليوم احتياجاً ملحًّا ، وذلك باعتبار الوضع الإسلامي المنبت في كثير من جوانبه عن المقتضيات الإسلامية، المتأثر في مجالات عدة بأحكام وافدة، من غير القانوني الإسلامي، فذلك يجعل الكثير من الأحكام المجردة، التي حملها التراث الفقهي، من عهود كان فيها المجتمع أكثر إسلامية من مجتمع اليوم، ذلك يجعل الكثير منها، لو اعتمد في خطة الإصلاح، مع هذه الظروف، لأفضى إلى تناقضات، تخل بإنجاز ذلك الإصلاح، فلا تتم الترقية المنشودة للتدين.
4- مبدأ اعتبار المقاصد.(2/68)
لكل حكم من الأحكام الدينية مقصد يهدف إلى تحقيقه في حياة الناس، وبتحققه في الواقع تتحقق للإنسان منفعة، أو تُدرأ عنه مفسدة.
والرابطة بين الحكم، وبين مقصده، رابطة تلازم على مستوى التجريد، فما من حكم إلا له مقصد إليه يفضي، ومن أجله وضع، والكشف على هذا المقصد يكون بالاجتهاد في الفهم، وقد يكون سهلاً وقد يكون صعباً، بحسب درجة وضوحه في ليل الحكم، إلا أن مقاصد الأحكام وإن كانت لازمة لها في ذاتها لزوماً منطقيًّا مجرداً، فإن وقوع الأحكام على عين الأفعال في الواقع لا يلازمه بالضرورة المطردة حصول المقاصد منها؛ وذلك لأن أفعال الإنسان العينية في واقعها الزمني، قد تحف بها أعراض وملابسات تحول دون تحقيقها للمقاصد، من الأحكام التي أجريت عليها، فتطبق إذن الأحكام على مجريات الأحداث وتتخلف المقاصد التي من أجلها وضعت، ومثال ذلك أن حكم وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مقصده حفظ المجتمع، وتحقيق سلامته وأمنه، وإحقاق الحق فيه، إلا أنه قد يأتي على جماعة ما ظرف يبلغون فيه من قساوة القلوب ما يجعلهم يقابلون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالعناد والإصرار، ويقابلون القائم بهذا الواجب بالأذى، فلا يتحقق إذن المقصد من هذا الحكم بإجرائه في الواقع، وإن كان لازماً له في الأصل.(2/69)
ولذلك فإن اعتبار المقاصد في الأحكام لا يكفي فيه الاجتهاد النظري، الذي يهدف إلى الكشف عن مقاصد الأحكام، في منطقيتها التجريدية، فتلك مرحلة ضرورية أولى، تم ضمن ما سميناه بالاجتهاد في الفهم، ولا بد من مرحلة اجتهادية ثانية، عند صياغة الأحكام، بقصد تهيئتها لمعالجة الواقع، وهي مرحلة يتم فيها اعتبار المقاصد في الأحكام، من حيث حصولها في الواقع، عندما تطبق تلك الأحكام على مشخصات الأحداث، فيكون رجحان الظن بحصولها أو تخلفها، ميزاناً في صياغة الأحكام، بقصد إدراجها في خطة المعالجة الإصلاحية، اعتماداً لما يرجح الظن بتحقيقه مقصده، في الواقع من الأحكام، وعدولاً بوجه من وجوه العدول عما يرجح الظن أنه لا يحقق مقصده، لأعراض تلم بالوقائع المراد إجراء الأحكام عليها.
وكما أن للكشف الاجتهادي عن مقاصد الأحكام في مستوى تبريدها مسالك وطرقاً يتم بها الوقوف عليها يقيناً أو ظنًّا راجحاً.(17) فإن الوقوف على تحقق المقاصد من أحكامها في الواقع، أو عدم تحققها، يكون بطرق ومسالك خاصة به، مغايرة للأولى لاختلاف طبيعة النظر الاجتهادي، بين النظر لكشف مقاصد الأحكام مطلقاً، وبين النظر للتحقق من ملازمتها لها، عند تنزيلها على واقعات الأحداث.(2/70)
ولسنا نجد في الأدب الأصولي الفقهي ما ينير سبيل المجتهد في هذا الباب، من بيان تنظيري، ينحو منحى التقعيد المرشد، لمن يريد أن يركب هذا الصعب من الاجتهاد، إلا أن تكون إشارات مبثوثة في دواوين من أولى عناية لموضوع المقاصد، تنحو أكثرها منحى التمثيل العملي المتوارث لا التقعيد المؤصل للبحث، وإذا كان ما بذله الإمامان الشاطبي، وابن عاشور، من جهد في تقعيد مسالك الكشف عن مقاصد الأحكام الشرعية قد أنار السبيل على قدْرٍ للمجتهد في تبيّن مقاصد الأحكام المجردة، فإننا نحسب أن خلو الأدب الأصولي من بيانٍ واف لقواعد تعرّف بالمصير الواقعي لعلاقة الحكم بمقصده يعتبر إحدى أكبر الثغرات في هذا الأدب، وربما عادت كثير من المزالق في الاجتهادات الفقهية قديماً وحديثاً إلى هذه الثغرة في أسباب وقوعها.(2/71)
والمنهجية العامة التي يقوم عليها النظر الاجتهادي في تبيّن حصول المقاصد من الأحكام، تقوم على تحليل الواقع المراد علاجه تحليلاً علميًّ، ثم مناظرة مقصد الحكم، بعد ما يكون قد حصل، بالفهم بعناصر ذلك الواقع، في عوارضه التشخيصية الناشئة من خصوصيات ظروفه، وبناء على تلك المناظرة يقع تقدير ما إذا كان المقصد من شأنه الحصول في الواقع بخصوصياته ، أو ليس من شأنه ذلك، ولا يخفى أن هذا التقدير يحتاج إلى قدر كبير من الفقه بالواقع، ومن استنارة البصيرة بنور الإخلاص والصدق. وإننا لنرى اليوم، في خصوص هذا النظر الاجتهادي فئتين متناقضتين، ممن ينشغلون بتوجيه حياة المسلمين، وجهة الدين القيم: إحداهما لا ينقصها الإخلاص والصدق، ولكن ينقصها الفقه بالواقع وملابساته، فإذ بها تدعو إلى تطبيق الأحكام دون علم بمآلات مقاصدها، وتصوغ من ذلك خطط إصلاحها، وتشرع في تنفيذ ما تقدر على تنفيذه، فتسقط دعوتها أحياناً كثيرة في نقيض ما رامته من إصلاح، والثانية لا ينقصها العلم بالواقع، ولكن ينقصها الإخلاص والصدق، فإذا بها تدعي أن الواقع "المعاصر " لا يتحمل كثيرا من الأحكام والشرعية، لعدم تحقق مقاصدها فيه، وهي بذلك تؤول إلى ضرب إهدارٍ للدين من أساسه، بنقضه عروة. وبين خطأ أولئك وهؤلاء تبقى الضرورة قائمة لتنظير أصولي متين في هذه القضية، يقطع مسالك الخطأ، ويسدد النظر الاجتهادي في صياغة أحكام الدين بقصد التنزيل.(2/72)
ومن المهم أن نلاحظ في خاتمة هذا الفصل، أن كلامنا في هذه المبادئ، التي تتأسس عليها صياغة الشريعة، بما اشتمل عليه من أمثلة جزئية، وما مال إليه من تركيز على إصلاح الواقع الموجود بالفعل في أنماطه القائمة، لا ينبغي أن يفهم منه أن هذه ا لمبادئ لا تصلح إلا في اجتهادات جزئية متفاصلة، تهدف إلى ترقيع ما يقع في حياة المسلمين من نوازل ذات طابع فردي جزئي، وحقيقة قصدنا بهذه المبادئ أن تكون مبادئ للتفكير الفقهي، من حيث إعداد الأحكام للتطبيق، سواء بترشيد ما يقع، أو بالتخطيط لما ينبغي أن يقع، فيتجه هذا التفكير إلى إحداث أنساق فقهية شرعية، تدرج فيها الأحكام ترجيحاً وتحقيقاً واستثناء واستحداثاً، بحسب ما يقتضيه علاج الوضاع القائمة في حياة المسلمين، وتطويرها إلى ما يرقّي التدين فيها، ولا يكون محكوماً في منهجيته بالنسق الذي بني عليه التراث الفقهي المتأخر، بناءً مدرسيًّا تجريديًّا . وهذا المعنى هو الذي عبر عله أحد فقهاء الدعوة المعاصرين بقوله: لو كان لنا أن نبدأ من حيث انتهينا لعرضنا كذلك فقه الإسلام عرضاً دقيقاً، يركز على مقاصد الدين، وضرورة الترجيح دائماً بين تلك المقاصد وترتيبها، حتى إذا نشأت حاجات العمل، تزود الناس بفقه لتصريف الأحكام وترتيبها، ولم نبسطها بسطاً أفقيًّا تترتب فيه كلها كأنها سواء.(18)
فقه الإنجاز
نقصد بالإنجاز التطبيق الفعلي للأحكام الدينية على واقع الحياة، وهو المرحلة الثالثة من مراحل التدين، ففهم أحكام الدين في حقيقتها الكلية المجردة مرحلة أولى، وصياغة خطة واقعية من تلك الأحكام مرحلة ثانية، وتنزيل تلك الخطة على الواقع بالممارسة الفعلية مرحلة ثالثة، وهي مرحلة الإنجاز.(2/73)
وتختلف هذه المراحل الثلاث، عن بعضها في طبيعتها. وقد بيّنّا سابقاً وجه الاختلاف بين الفهم، وبين الصياغة، من حيث إن الفهم استيعاب لحقيقة الحكم الديني، والصياغة تهيئة لذلك الحكم ليطبق في واقع معين بمواصفاته المشخّصة، وكذلك الأمر بالنسبة للإنجاز، فإنه يختلف عن كل من الفهم والصياغة، من حيث إنه الممارسة الفعلية في السلوك للأحكام، التي وقع فهمها، ثم وقعت صياغتها للتطبيق.
إن الإنجاز هو العملية الألصق بالواقع في مشخّصاته، والأكثر اتصالاً بتفاصيله وجزئياته، وإذا كانت الصياغة كما مر بيانه تنبني على تقدير الواقع وتشخيصه لتكون الأحكام ناجحة فيه، فإن الإنجاز هو الاحتكاك الفعلي بذلك الواقع، وهن غير التقدير الذهني، الذي تنبني عليه الصياغة، وإن يكن تقديراً مستخلصاً من تمثل عياني للحياة الواقعية، وبهذا الاعتبار فإن الاحتكاك الفعلي بواقع الحياة لتطبيق الحكام قد يكشف في كثير من الأحيان عن مشاكل لم يقع تقديرها من قبل عند الصياغة، أو هي من جنس مالا يمكن تقديره عندها.
إن صياغة الأحكام تأخذ بعين الاعتبار القدر المشترك بين أفراد عديدين من الناس، أو بين عيّنات مختلفة من الحالات، فتبنى على واقعية ذلك القدر المشترك، ولا يمكن أن تستحدث صياغةٌ لكل فرد بعينه من الناس، أو كل عيّنة مخصوصة من الحالات، فذلك ليس من غرض الدين، ولا هو في إمكان المجتهد. ولكن الإنجاز يتعلق بصفة مباشرة بكل فرد مخصوص، وبكل حالة بعينها، وحينئذ فإن بعض الأفراد والحالات قد يند لخصوصية فيه، عن أن تحقق الصياغة المقدرة لنوعه مقصد الدين فيه.(2/74)
وكذلك فإن للواقع الإنساني منطقاً في الحركة والتغير لا ينضبط بصفة قطعية، فالمعطيات الخفية في الإنسان تتدخل أحياناً في مجريات الواقع، لتغيّرها إلى ما هو غير متوقع، ولتحدث عناصر كميّة أو كيفيّة في نسق الواقع، لم تؤخذ بعين الاعتبار عند تقدير الصياغة، وتصبح هذه العناصر تمثل مشكلات ينبغي أخذها بعين الاعتبار عند الإنجاز.
وإذا عدنا إلى المثال الذي أوردناه سابقاً لتوضيح العلاقة بين الفهم وبين الصياغة، فإننا نجد فيه ما يوضع العلاقة بين الصياغة وبين الإنجاز أيضاً، فالمثال الواقعي الذي يصوغه المهندس المعماري لعمارة ما قد تعترضه عند الإنجاز مُشكلاتُ، من خصوصيات المناخ، أو آلات العمل، أو مواد البناء، ما يكون له أثر في عملية الإنجاز نفسها، مما يستلزم أخذها بعين الاعتبار فيها، وكذلك الأمر بالنسبة للدواء، الذي يعد لمريض ما، بحسب خصوصيات مرضه، فإن المريض قد تطرأ عليه من الأحوال الذاتي أو الخارجية ما يمثل مشكلاً في سبيل إنجاز العلاج بذلك الدواء، وهو ما ينبغي أخذه بعين الاعتبار في عملية الإنجاز.
إن هذه الخصوصية في مرحلة الإنجاز، من مراحل التدين ، تستلزم فقهاً خاصًّا بها، يتميز عن فقه الفهم، وعن فقه الصياغة، وهو فقه يهدف إلى أن يتم تطبيق الأحكام الدينية تطبيقاً تتحقق به المصلحة، التي تعد عموداً للفهم، وعموداً للصياغة، ويقوم هذا الفقه على مراقبة الأحكام في تطبيقها على الأعيان، من حيث ما تثمر من نفع مقصود لها، أو ما يبور من ثمرها، وعلى ضوء ذلك يقع التصرف بما يضمن ثمرة المصلحة، وما يحول دون بوارها.(2/75)
ولعل فقه الفتاوى من بين التراث الفقهي الإسلامي، هو الفقه الذي تبرز فيه جلية القواعد الفقهية للإنجاز، باعتبار أنه فقه يعالج العينات الواقعية للأفراد والحالات، من حيث تطبيق الأحكام الفقهية عليها، وتتناول الفتاوى غالباً حالات تظهر فيها إشكالات في انطباق الصياغة الواقعية عليها عند التطبيق الفعلي، فيتولى المفتي معالجة تلك الإشكالات، بما يمكن أن نسميه بفقه الإنجاز، ونحسب أن فقه الإنجاز الذي جرت عليه الفتاوى لم يحظ بالقدر الكافي من الدراسة والتوضيح والتنظير، ولو وقع ذلك لكان فيه خير كبير لفقه التدين عامة.
ولو تأملنا في واقع المسلمين اليوم، وما تسعى إليه الصحوة الإسلامية من إنجاز للدين في واقع الحياة، لرأينا فقه الإنجاز لا يحظى باهتمام مكافئ لخطره، بل لا يحظى أحيانا حتى بقدر من الوعي بأهميته في ترشيد التدين، وفي غياب الاهتمام الكافي بفقه الإنجاز، والوعي بخطورته تحدث تصرفات كثيرة يحسب أنها إنجازات دينية، تهدف إلى ترقية التدين، ولكنها عند محاكمتها إلى ما تحققه من المصلحة، يتبين أنها لا تحقق من ذلك شيئاً، وهي بالتالي لا تسهم في ترقية التدين، وخذ إليك مثلاً في ذلك عمل بعض الجماعات الإسلامية على التطبيق الآلي الفوري للأنموذج الإسلامي، في الحياة، في كل ميدان من ميادينها، رفضاً لكل تأجيل أو مرحلية في الإنجاز، وكذلك عمل بعضٍ آخر على التطبيق المصرّ لبعض الجزئيات والسنن الشخصية، دون أن تتوفر لها الشروط المعنوية والمادية للتطبيق، وذلك مع التغافل عما هو أكثر أهمية منها من الأحكام الأساسية الواجبة.
إن الحاجة تدعو في الظرف الراهن للمسلمين إلى تنشيط البحث في فقه الإنجاز، بعثاً لما في التراث الفقهي الأصولي من ذلك ، وإضافة إليه، وإثراء له، بما يتاح من معطيات جديدة، ولعله من المفيد أن ينشط هذا البحث في المحورين التاليين: شروط الإنجاز، وآداب الإنجاز.
1- شروط الإنجاز(2/76)
إن تطبيق الأحكام الدينية يهدف إلى تكييف واقع إنساني نفسي وسلوكي ليتجه الوجهة المرسومة في الدين، وهو بذلك يلاقي عوامل مضادة في واقع التركيب الإرادي النفسي للإنسان، وفي واقع المعهود الاجتماعي النزاع إلى المحافظة على نفسه، والتأبّي على التكيف الجديد، وعلى هذا الاعتبار فإن تطبيق الأحكام الدينية يستلزم التمهيد له لكي يتم بنجاعة، وذلك بتوفير جملة من الشروط الضرورية، التي تهيئ الظرف النفسي والمادي، لتجد الأحكام طريقها إلى تكييف الحياة، بما تحرز تلك التهيئة من مغالبة عوامل الإباء النفسية والاجتماعية.
والتغاضي عن هذه الشروط المهيأة للتطبيق، وإهمال العمل على توفيها يفضي لا محالة إلى أيلولة ذلك التطبيق إلى التعثر والاضطراب، بل إلى الفشل في كثير من الأحيان، وفي تاريخ الدعوة الإسلامية قديماً وحديثاً شواهد عديدة على هذا الأمر، ومن ذلك ما نراه اليوم من محاولات تطبيق بعض الأحكام الشرعية بصفة جزئية، في ظروف غير مهيأة نفسيًّا وماديًّا، فلا تؤتي تلك المحاولات أكلها، وكثيراً ما تنكفئ خاسرة، وقد نبه إلى ذلك أبو الأعلى المودودي رحمه الله حيث قال: "إنه لو خُوّل المسلمين اليوم أن يؤسسوا دولة في بقعة من بقاع الأرض لما استطاعوا أن يقوموا بإدارة شؤونها، وتسيير دفتها وفق المبادئ الإسلامية ولا ليوم واحد، فإنكم معشر المسلمين لم تعدوا المعدات اللازمة، ولا هيأتم العوامل الكافية ".(1) ثم يضرب عدة أمثلة تاريخية تبين فيها فشل التطبيق لأحكام الشريعة، بسبب من غياب المعدات والشروط الضرورية لذلك.(2)(2/77)
ويجدر التنبيه إلى أنه ينبغي الاحتراز من المبالغة في التذرع بعدم توفر الشروط، لتأجيل الإنجاز للأحكام الدينية، وهي مبالغة قد تفضي إلى تعطيل دائم لا يعرف له حد، بدعوى أن الظروف لم تهيأ بعد، وهو ما يراه اليوم بعض الدعاة، من أنه لا يمكن تنزيل الأحكام الدينية في واقع المجتمع، حتى ينصلح أمر الحكم بميزان الدين تمام الانصلاح، فتجري الأمور كلها بذلك على وزّان واحد من الشرع، ويشبه هذا ما رآهن بعض الخوارج قديماً، من أن صلاة الجمعة لا ينبغي أن تنعقد إلا في ظل السلطان القائم بالدين، وإنما المقصود بتوفير الشروط، العمل على تهيئة الظروف الملائمة لإنجاز الأحكام، بما هو متاح من الوسائل القريبة، التي تضمن قدراً أدنى من نجاح الإنجاز وبلوغه غايته، مع اعتبار الاختلاف في طبيعة الأحكام، مما يستلزم اختلافاً في الشروط بالنوع أحياناً، وبالكيفية أحياناً أخرى.
وليست الشروط التي نقصدها في هذا المقام فرصاً تتاح بصفة تلقائية، ويكون الموقف منها موقف التحين لوقوعها، فيقع اهتبالها لإنجاز أحكام الشريعة بمناسبات حصولها، وإنما هي شروطٌ تُجْعَلُ جعلاً، ويسعى في توفيرها سعياً، فهي من صميم الفقه الإنجازي بما هي مرحلة أولى من مراحل الإنجاز تتوقف عليها مرحلة الإنجاز، الفعلي، ونحسب أن هذه الشروط ترجع إلى شرطين أساسيين: الوعي والاقتناع، ثم التأطّر الاجتماعي.
أ : الوعي والاقتناع:
لكي تأخذ الأحكام الدينية طريقها إلى الإنجاز الصحيح، كمشروع إصلاحي متكامل، لا بد أن يتوفر لدى الناس المراد تطبيقها فيهم قدرٌ أدنى من الوعي، والاقتناع بها، أما الوعي فهو الفهم الجملي لمجموع ا لتشريع، من حيث حقيقته وطبيعته، ومن حيث أهدافه، وأما الاقتناع فهو التصديق بأحقيته، واليقين من نجاعته في الإصلاح.(2/78)
وقد كان السعي في تحقيق هذا الشرط سنة نبوية، حيث ظل النبي صلى الله عليه وسلم سنوات طوالاً يبشر الناس بالشريعة الإسلامية، ابتداءً بالأسس العقدية، ثم بيانا للتكاليف السلوكية، ولم يقدم على تنزيل الشرع الإسلامي تنزيلاً شاملاً، إلا لما حصل قدر كاف من فهمه والاقتناع به، في البيئة التي طبقه فيها، رغم أن آحاد الأفراد من أتباعه كان حصل لديهم هذا الشرط منذ الأيام الأولى للدعوة، ولكن إرادة الله في تنجيم التشاريع كأنما كانت تعليماً للإنسان كي يكسب الوعي والاقتناع أولاً، ثم ينفذ بعد ذلك ما يعيه ويقتنع به من تشريع.
وإذا كانت الأمة الإسلامية بعد عهد النبوة قد شاع فيها الشرع السلوكي، بالفهم والاقتناع والتنزيل في أغلب الأحوال، فإن الظرف الذي تعيشه الآن وآل إليه أمرها من بعض الزمن يشبه من بعض الوجوه الظرف الذي عاشه الإسلام في أول عهده، فيحتاج فيه المسلمون لذلك إلى فقه تنزيلي، من جنس فقه التنزيل الذي أنجز به الدين في ذلك الظرف.
إن المسلمين اليوم لا يعيشون عهد جاهلية كما يظنه بعض الناس، بل هم يعيشون حياة طابعها العام إسلامي، ولكن مظاهر جاهلية تغشى بعض جوانبها، وتختلف ضيقاً واتساعاً بحسب المجالات، حتى لتبلغ في المجال الاجتماعي والاقتصادي من السعة ما يكاد ينحسر به الشرع تمام الانحسار، وليست هذه العطالة في تطبيق الشريعة في مجالات عدة من حياة المسلمين بسبب من كسل أو جهل فحسب، ولكن أيضاً بسبب من اقتناع مذهبي بأن الدين ينحصر سلطانه في دائرة الفرد الذاتية، ولا أمر له ولا نهي، في مجال العلاقات الاجتماعية العامة، بأنواعها المختلفة، وتلك هي العلمانية التي يعتنقها في العالم الإسلامي كثير، بين مبيت لهدم الدين أصلاً من خلالها، وبين غافل عن حقيقة الشمول في طبيعة الدين الإسلامي، متوهم أن العلمانية وجه من وجوه التفسير لهذا الدين.(2/79)
هذا الوضع الذي تعطل فيه إنجاز القسم الكبير من تعاليم الشريعة الإسلامية بسبب تداخل فيه الكسل والجهل وانحراف الفهم، لا يمكن أن تقوم فيه دعوة إلى الإنجاز إلى بالعمل أولاً على توفير المناخ النفسي والثقافي، الذي يتم فيه الإنجاز، وإلا فإنه سيكون كالنبتة التي تزرع في أرض غير ملائمة، فلا تلبث أن تؤول إلى الذّبول.
ولا شك أن التجربة النبوية في توفير عامل الوعي والاقتناع لإنجاز الدين، ستكون معيناً للاستهداء في الظرف الراهن لتشابه الحالين، إلا أن عناصر التميز في هذا الظرف ينبغي أن تعتبر في إثراء الفقه الإنجازي في توفير هذا العامل؛ ولذلك فإنه ليس يكفي في حصول الوعي والاقتناع أن يعتمد التبشير بالأساس العقدي للدين، وتعميق الوعي به باعتبار أن الإيمان بالعقيدة الإسلامية إيماناً واعياً صحيحاً يثمر في النفس إقبالاً تلقائيًّا على إنجاز الشريعة العملية، وهو ما كان يحصل في العهد الإسلامي الأول.(2/80)
وإنما كان التبشير بالأساس العقدي غير كاف في ظروف المسلمين الراهنة، لحصول الوعي والاقتناع بنظام الشريعة، وإن يكن الخطوة الضرورية الأولى، التي لا غنى عنها، لما يشهده حاضر المسلمين اليوم من غزو رهيب، استهدف بصفة مباشرة نظام التشريع بوجوه عديدة، تتراوح بين التسلط النفسي المورّث للشعور بالهزيمة الحضارية المؤدية إلى الافتتان بالنظام القانوني الاجتماعي لأهل الحضارة الغالبة، وبين الإغواء المادي الرهيب، الذي تنفثه حضارة الاستهلاك والإباحية، فتميّع به الإرادة، فإذا بها في موقع النكول عن سمت الشريعة، فيما يشبه المرضى النفسي، الذي صوّره الإمام محمد عبده في حق بعض الناس، ممن يوجد أضرابهم اليوم، من المنتسبين للإسلام، إذ قال فيهم: "جعلوا أصابعهم في آذانهم حذر أن يخالط الدليل أذهانهم، فيلزمهم العقيدة تتبعها الشريعة، فيحرموا لذّة ما ذاقوا وما يحبّون أن يذوقوا ، وهو مرض في النفس والقلوب".(3) كما كان لهذا الغزو صَوْلةٌ فكرية، استهدفت نظام التشريع الإسلامي بالهدم المنظّر المتمسح بمسوح العقلانية والعلم.(2/81)
وقد استطاعت هذه الأساليب المتراوحة، من التأثير على الأمة الإسلامية في الارتخاء عن إنجاز الشريعة ارتخاء أصاب منها الإرادة والفكر جميعاً. ولم يكن الأمر كذلك في العهد الإسلامي الأول حيث كان الناس في جاهلية مطبقة، فجاء الدين فُرقاناً قاطعاً بين كفر مظلم للنفس فيما يكون عليه الرجل في جاهليته، وبين هداية مشرقة فيما يصبح عليه بعد الإيمان، فإذا بهذا الانقلاب يحدث في الإرادة استسلاماً لكل ما يأتي به الدين من تشريع، فلا تبقى حاجة إلا للعلم بكيفيات ذلك التشريع وتفاصيله، حتى يصبح واقعاً تجري به الحياة، ولم يكن ثمة إذن مجال لوضعٍ من "التمارض" الذي يختلط فيه تصديق بأصول الدين، بتراخٍ إرادي عن إنجاز مقتضياتها السلوكية، كما يختلط فيه الإيمان ببعض الكتاب، مع الكفر ببعضٍ آخر كما هو الحال بالنسبة لواقع المسلمين اليوم.وإذ نحسب أن السعي لإيقاظ العقيدة في نفوس المسلمين، وتعميق الوعي بها، قد تم على أيدي رواد الصحوة الإسلامية، منذ أوائل هذا القرن، وأنه حقق قدراً كبيراً من ثماره في تحقيق عامل الوعي والاقتناع، كشرط ضروري للإنجاز، فإننا نرى أن المرحلة الراهنة تستلزم تكثيف الجهود في سبيل التوعية والإقناع بالمنظومة التشريعية في نفسها، ليقع وقوف الناس عياناً على حقّانية هذه المنظومة ونجاعتها، من خلال ذاتها، لا من خلال مبادئها العقدية فحسب، وأن يُتجه بذلك للناس على اختلاف أوضاعهم الآنفة الذكر، حتى يعم فيهم تحقق شرط الوعي والاقتناع، فيكون عاملاً حقيقيًّا لنجاح الإنجاز.(2/82)
ولم يخل السعي إلى الإقناع بالشريعة من محاولات منذ بعض السنوات، إلى جانب السعي في الإقناع بالعقيدة، إلا أن هذا السعي لم يتخذ على ما نراه من المنهج الصحيح ما يحقق الغاية منه، وظل ينزع منزع التعميم، حبيساً في بعض مقولات، ذات طابع شعاري، هو أقرب إلى الدعوة العقدية، منه إلى التبشير بالمنهج السلوكي العملي، وذلك مثل مقولة أن الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان، ومقولة فطرية الشريعة، وما شابهها من مقولات عامة، على أنه لم تُعدم مع هذا التعميم محاولات ناجحة في البرهان العملي على بعض التشريعات الإسلامية في المجال الاقتصادي على وجه الخصوص.
ومما نحسبه فقهاً إنجازيًّا ناجحاً في الإقناع بالشريعة الإسلامية والتوعية بها، أن تؤخذ بالبرهان في موضوعها على درجتين متكاملتين: درجة تعالج فيها بالتبشير منظومةً متكاملة، ودرجة تعالج فيها أنظمة جزئية بحسب مجالات الحياة، وأحكاماً تفصيلية بحسب ما تثيره من توتر تطبيقي في ساحة الواقع.(2/83)
ففي الدرجة الأولى من المفيد أن تقدم الشريعة الإسلامية منظومةً متكاملةً لهداية الحياة، معارضةً لما وقر في نفوس كثير، من أن تطبيق الشريعة يعني تطبيق بعض الحدود في الجنايات، وبعض الأحكام في مجال لأحوال الشخصية، وهو المفهوم الذي يدور عليه الجدل اليوم في قضية تطبيق الشريعة الإسلامية، فمن مستلزمات التصحيح لهذا المفهوم الخاطئ، الذي يحمله الكثير أن يقع التركيز على عنصر التكامل في المنظومة الشرعية، من حيث ما يحققه ذلك التكامل من توازن في حياة الإنسان، وأن تعرض هذه المنظومة في تكافؤ بين أبعادها ا لتعبدية والأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية دون تضخيم لبعضها على حساب بعض، كما حصل في التراث الفقهي، الذي تضخم فيه الجانب التعبدي الفردي، على البعد الاجتماعي السياسي، حتى جاء هذا البعد فقيراً من عناصر الإقناع حيثما استيقظ المسلمون على عالم يحتل فيه هذا البعد ركناً أساسيًّا من الحياة.(2/84)
ولو تأملنا اليوم المذاهب والفلسفات المتصارعة في الساحة العالمية ممتدة إلى الرقعة الإسلامية نفسها، لألفيناها تعرض تشريعها العملي منظومة مترابطة الحلقات، مستوفية الأبعاد، مدعومةً بفقه فلسفي، يهدف على اختلاف وجوهه إلى البرهان على صحة هذه المنظومة في جملتها، وإقناع الناس بتبنيها. فإذا بالتشريعات القانونية تدعمها فلسفة القانون، والتشريعات السياسية تدعمها فلسفة السياسة، والتشريعات الثقافية تدعمها فلسفة الثقافة، وكل ذلك في سبيل إبراز مذهبية سلوكية إبرازاً شاملاً، يسعى إلى سيادتها علميًا، ويتنافس في هذا المسعى الأنموذج الشيوعي والأنموذج الليبرالي الغربي، ولا نرى الشريعة الإسلامية تحظى من قبل أهلها بمثل هذا الدعم، الذي يبرزها مذهبية تطاول المذهبيتين المذكورتين، وإنما هي معروضة للناس كأنما هي مفكوكة الأوصال، مفتقرة إلى البرهان الفلسفي، الذي يقدمها مذهبية متكاملة قوية، وربما كان علم أصول الفقه العلم المهيّأ لأن يكون السند الفلسفي للمنظومة الشرعية، لولا أنه تجمد منذ زمان، ولما تدبّ فيه الحياة من جديد بعد.(2/85)
وفي الدرجة الثانية، فإنه من لمفيد أن تؤخذ الشريعة أجزاء، بحسب الأنظمة التي تتعلق بكل جانب من جوانب الحياة، كالنظام: الاقتصادي، والسياسي ، والأسري، وغيرها، فيقع التبشير بها في تفاصيلها، وبيان عناصر القوة فيها، وإظهار نجاعتها في حل المشاكل الراهنة للمسلمين. وربما وقع التركيز على تلك الأحكام التي تثير اليوم جدلاً واسعاً، فأصبح الكثير من المسلمين يتنحون منها بوجوه مختلفة من التنحي لشدة الضغوط المسلطة عليها، وعنف الهجوم الموجه إليها، فتشرح تلك الأحكام على وجهها الصحيح، مع بيان شروطها في الإيقاع، وغاياتها البعيدة والقريبة في هداية السلوك إلى تحقيق المصلحة. ومن ذلك كله يتكون فقه استدلالي على أحكام الشريعة، يوازي الفقه التقريري البياني، من شأنه أن يدعم هذه الأحكام، فتستعيد النفوس الواهية الثقة بها، بما تستيقن من حقانيتها ونجاعتها في ميزان المصلحة.
وسواء في البرهان الجملي على الشريعة عامة، أو في البرهان الجزئي على تفاصيلها، ينبغي أن يتخذ الأسلوب المناسب في الاستدلال على النمو، الذي مر تفصيله في حديثنا عن صياغة العقيدة مراعاة لطبيعة العقلية الراهنة في طرائق فهمها واقتناعها. وإن في المقارنة بين التشريع الإسلامي وبين التشريعات الغربية السائدة مجالاً ثريًّا لنصرة الشريعة الإسلامية، بإبراز مواطن الفشل التي آل إليها التشريع الغربي في حياة الأسرة والروابط الاجتماعية على سبيل المثال، واهتبال هذه المقارنة، لبيان أن البديل لهذه التشريعات الفاشلة، إنما هو الشريعة الإسلامية، بيانا يعتمد الاستدلال العلمي المحسوب، على ما تحققه هذه الشريعة من منافع للإنسان، وحلول لمشاكله المستعصية، بتعقد الحياة تعقداً متسارعاً بمرور الأيام.(2/86)
ولا شك أنه متى بذل الجهد في سبيل الإقناع بالشريعة الإسلامية في هذا الزمن، الذي تنكب فيه كثيرٌ من المسلمين عنها، تراخياً وانهزاماً أو انحراف فهم، وكان ذلك الجهد موجهاً بفقه مناسب في التوعية والإقناع، فإن الأمة في مجملها تستجيب لنداء الإنجاز، فتحمله بإرادة قوية، وتمضي فيه بدافع الاستيقان بما يكون ضامناً لنجاحه، فيتوفر بذلك شرط أساسي من شروط إنجاز الشريعة، وهو شرط نفسي إرادي يفشل في غيابه كل نظام، حينما يوضع موضع الإنجاز.
وليس توفير هذا الشرط بعزيز المنال، رغم ما يساور المتأمل في أحوال الأمة من شعور بالاستصعاب قد يشرف به أحياناً على اليأس؛ ذلك لأن هذه الأمة تشبه أن تكون قد استصحبت في كوامنها من عرفان الله، والتسليم بشريعته، ما ظل ثابتاً مستوراً، لم تستطع أن تطاله فتنة هذا العصر وغوايته، مثلما استطاعت أن تطال من ظواهر الأفعال والتصرفات؛ ولذلك يكون التبشير بالشريعة الإلهية بإيقاظ تلك الكوامن المستورة مؤذناً باستجابة قريبة، من حيث ظُنّت لأول الأمر أنها بعيدة، وذلك ما وصفه أحد فقهاء الدعوة المعاصرين في قوله: "لا تزال في كوامن فطرة المجتمع أقداراً من التدين، ولذلك بالتذكير القليل تستيقظ هذه الأقدار كلها، وتكاد تحدث معجزة في دفع التحول... وإننا نشاهد اليوم كيف تتم المعجزات الحقيقية في الانتقال، وكيف نتصور المعضلة الكبيرة، التي نقدر أنها ستكلفنا التكاليف، كيف ييسرها الله سبحانه وتعالى، إذ يستيقظ الإيمان، فيتصل بقوة الله سبحانه وتعالى ذي الحول والطول."(4) وليس هذا القول إلا مشيراً إلى يسر الاستجابة، عند العمل على تحصيل شرط الاقتناع لإنجاز الشريعة، دونما إهمال لهذا الشرط، أو اعتباره حاصلاً بالفعل، بمقتضى إسلامية الأمة، كما يظنه بعض الدعاة المتحمسين، الذين يغفلون عن الشروط والأسباب.
[ ب ] التأطّر الاجتماعي:(2/87)
إن الإسلام دين اجتماعي، غايته أن يؤدي الإنسان مهمة الخلافة في إطار إجتماعي، ومن ثمة كانت العقيدة الإسلامية نفسها، وهي التعاليم التصديقية، ذات بعد اجتماعي، كما يبدو في عقيدة التوحيد، التي لا تنعقد خالصة ، إلا بوحدة اجتماعية، يتعامل فيها الناس على أساس من التوجه بالخضوع للإله الواحد، وذلك أحد معاني قوله تعالى: "ومن لّم يَحْكُم بما أنزَل اللهُ فأُلئك هم الكافِرُون " [المائدة:44]. وكذلك مناسك التعبد، فإنها تنطوي على بعد اجتماعي، لا تكون خالصة إلا بتحقيقه، لا يخلو من ذلك شيء منها. مهما بدا في الظاهر شأناً فرديًّا خاصًّا.(5) أما تشاريع المعاملات فهي في بعدها الاجتماعي أظهر، وإذا ما قارنا الحجم الكبير لهذه التشاريع، بجملة التعاليم الإسلامية، تبين لنا عمق البعد الاجتماعي في الدين الإسلامي.
وبناءً على هذه الحقيقة ا لأساسية في الإسلام، فإن هذا ا لدين لا يكون له قيام تنجز فيه تعاليمه إلا في إطار اجتماعي، يحقق الإنسان بإنجازها في هذا الإطار مهمَّة الخلافة: ترقيةً للذات، وتعميراً في الأرض. وهذه خاصية لهذا الدين من بين الأديان، فإن الديانات الأخرى يضمر فيها البعد الاجتماعي، ويتضخم فيها البعد الذاتي، القائم على خلاص الفرد، حتى ليمكن أن يكون لها نوع تحقق في إطار فردي، في غياب الإطار الاجتماعي، أو في وجوده على نحو لا يختلف كثيراً بين الوضعين.(2/88)
ومن دلالات توقف الإنجاز الديني، على توفر الإطار الاجتماعي، أن الدعوة الإسلامية في عهد النبوة لم يفرض فيها من التشريعات شيء يذكر في العقد المكي، بما في ذلك التشريعات التعبدية؛ لأن المسلمين كانوا في هذا الطور أفراداً، وحينما تكوّن في المدينة إطار اجتماعي، تكثفت فروض التشريعات، معاملات وعبادات، فتوفر الإطار الذي يتم فيه إنجازها، وتؤدي فيه غرضها، ولهذا الأمر فرضت على المسلمين الهجرة، من حين يكونون فرادى، إلى حيث يكون مجتمع إسلامي، يسهمون فيه في إقامة الدين وإجراء أحكامه، وقعودهم عن الهجرة يكون سبباً في خسرانهم، لما سببه من تعطيل لإنجاز الدين، كما جاء في قوله تعالى: ((إن الذين توفّاهُم الملائكة ظالِمي أنفسهم قالوا فيمَ كُنتم قالوا كُنّا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكُن أرض الله واسعةً فتهاجروا فيها. فأولئك مأواهم جهنَّم وسادت مصيرا )) [النساء:97].(6)(2/89)
يصبح إذن من شروط إنجاز التعاليم الإسلامية توفر مناخ اجتماعي، يكون إطاراً صالحاً للإنجاز، والمقصود بالمناخ الاجتماعي الصالح، توفر حد أدنى من الترابط الاجتماعي، بين الأفراد المتعايشين في رقعة مشتركة تنظمه سلطة سياسية جامعة، ويكون بذلك ضماناً لأن يجد الحكم الشرعي عند الإنجاز سرياناً في أثره الصالح، بين الجم الغفير من الناس، دون أن يموت في موطن قيامه إذا صح أن يكون له قيام. ويمكن أن نمثل لهذا المناخ الاجتماعي بترابط الجسم الحي، عبر أوعية دموية ترابطاً يضمن أن ينفعل سائر الجسم، بما يجري بواسطة أي عضو من أغراض غذائية أو علاجية أو رياضية، فيكون بذلك إنجاز مخططات التنمية، والاستشفاء للجسم متوقفاً في فعاليته، وتحقيق أغراضه، على ما بين الأعضاء من الترابط الظاهر والباطن، وهذا المعنى هو الذي صوره الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله: "مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم مثل الجسم، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى".(7) فهو تعبير عن الترابط الاجتماعي، الذي به يؤدي تطبيق الأحكام الدينية غرضه الإصلاحي.
وكما يصاب الجسم بأدواء تخل بالترابط بين أعضائه، وتؤدي إلى ضياع الأغراض التي يقوم بها كل عضو؛ حيث إنها لا تنفذ إلى سائر الجسم، فكذلك يصاب المجتمع بمثل هذه الأدواء، فتتفكك الرابطة الاجتماعية، وتتراخى الأوصال بين الناس، ولا تكون للشريعة ذات الغرض الاجتماعي فعالية تذكر في تحقيق أهدافها.(2/90)
والأدواء التي تصيب المجتمع، فتقعد به عن قابلية الانصلاح بالتشاريع، أدواء متنوعة، فقد تكون الفتن والاضطرابات الناشئة عن الصراع بين الأفراد والفئات، وقد تكون انحلال السلطة السياسية الجامعة، أو ضعفها وانحرافها عن غاياتها وأهدافها. وقد تكون ضعف الشعور بالانتماء إلى الأمة، فيكون الناس ركاماً تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى، لا يربطهم خيط جامع من انتماء موحد لكيان الأمة، وكأنما هو ركاب سفينة جمعتهم الأقدار، ولكل مشربه فلا يلتقي مع الآخرين إلا بالأجسام.
وكيف لمجتمع إذا أصابه داء من هذه الأدواء، بَلْهَ إذا أصابته مجتمعة، أن يتم فيه بنجاح تنفيذ خطة إصلاحية، تهدف إلى ترقية كفاءة الإنسان في الإنجاز الحضاري، هل تنجح فيه تشريعات ثقافية، أو اقتصادية، أو اجتماعية، أو غيرها، وكلها تتطلب التداعي بين الأفراد، والتواصل بينهم، لينفعل بعضهم ببعض، وليظاهر بعضهم بعضاً؟! إن الشرط في إنجاز هذه التشريعات أن تكون القنوات الاجتماعية سالكة، وأن يكون الترابط الاجتماعي قائماً، وهو ما ينبغي أن يكون مطلباً أوليًّا، يسعى في تحقيقه حَمَلةُ التشاريع، حتى يمكنهم إنجاز تشاريعهم من خلاله، فإذا ما تغاضوا عنه، وخفوا إلى الإنجاز بدونه، صادفوا أرضاً بوراً لا ينفذ فيها ماء، وآل ما أرادوا من إنجاز إلى الفشل.(2/91)
ويصدق هذا الأمر بصفة أخص على التشريع الإسلامي لخصوصيته الاجتماعية، فالتشريعات الإسلامية على اختلافها، لا يكون لها تطبيق مثمر، إذا ما كان المجتمع مصاباً بالتدابر والانفصال، فحينئذ لا يكون للعبادات وقعها الاجتماعي، ولا يكون للمعاملات وأحكام الجنايات نَفاقٌ بين الناس، لضعف الحس الاجتماعي الدافع إلى إجراء ما فيه قوام المجتمع، أو لتراخي السلطة التنفيذية عن الإيفاء بما هو من مهامها، من إجراء الأحكام. والمتأمل في تاريخ المجتمع الإسلامي، يجد أنه كلما تراخت الروابط الاجتماعية بالفتن الداخلية، أو بتوتر العلاقة بين الحكام والرعية، أو بغير ذلك من الأسباب، كلما تعثر إنجاز الشريعة في مختلف ميادين الحياة، إما تعطلاً عن الوقوع أصلاً، أو قصوراً عن أداء الغرض الاجتماعي المرجو منها، وقد بين ابن خلدون أن فشو الظلم مؤذن بخراب العمران،(8) والظلم هو مظهر من مظاهر الخلل في الروابط الاجتماعية، كما أن خراب العمران يكون بتعطل أحكام الشريعة، القاضية بالسعي في الأرض، لتوفير الخير وكسب المعاش.
وبناء على ما تقدم، فإنه يكون من الفقه، الذي ينبغي أن يقوم عليه إنجاز الأحكام الدينية، النظر بعين الاعتبار للمناخ الاجتماعي، في البيئة التي يراد إنجاز تلك الأحكام فيها: وعياً بأن هذا المناخ الاجتماعي يتوقف عليه إلى حد كبير إنجاز الشريعة، بحسب ما يتوفر فيه من ترابط، أو ما يسوده من انحلال، ثم عملاً على تهيئة المجتمع بما يولّد فيه قابلية الإنجاز الناجح لأحكام الدين.(2/92)
وربما قيل: إن الترابط الاجتماعي بين الأفراد والفئات، وعمق الشعور بالانتماء للأمة، هو نفسه رهين لإنجاز تعاليم دينية، وأحكام شرعية، تتعلق بالتضامن الاجتماعي، وسياسة الحكم، وأخلاق المعاشرة، فكيف إذن نطلب في فعالية إنجاز الشريعة توفير شرط هو نفسه الأمر المشروط، وهو دور بين؟ إلا أنه بالتأمل في الأمر يتبين لنا أن تهيئة المجتمع، حتى يصبح على قابلية للانفعال المثمر بأحكام الشريعة، يمكن أن تتم بإجراءات تمهيدية، ليست بخارجة عن أحكام الدين، ولكنها تكون بأحكام، ذات أغراض إعدادية، تهدف إلى صنع الإطار الاجتماعي، الذي سيكون الوعاء الصالح لتنزيل الدين في أحكامه الشاملة.
وهذه الإجراءات التمهيدية، منها ما يكون إجراءات تأطيرية غرضها تكوين الهيكل الاجتماعي، المتمثل في تيسير التعايش المادي، بين أفراد المسلمين، على صعيد مكاني موحد، وفي بناء السلطة السياسية الجامعة، في مؤسساتها المختلفة، وفي تأطير الأفراد والفئات، في أطر اجتماعية، كالهيئات والجمعيات والأحزاب وما شابهها. ومنها ما يكون إجراءات تعبوية، غرضها تعميق الوعي بمفهوم الأمة، وترسيخ الشعور بالانتماء إليها، وأخذ الناس بتربية مدنية، تقوّي اللحمة بينهم، وتمد قنوات التواصل، التي يتم عبرها التفاعل البناء. ولو تدبرنا السيرة النبوية، لألفيناها أحاطت بهذه الأسباب، لتكوين مجتمع المدينة: جمعاً لمؤمنين، وتكويناً للمؤسسات، وأغلبها المساجد، وتقويةً للحمة بالمؤاخاة، وإرساءً للحياة المدنية بالمواثيق، كل ذلك تهيئة لمناخ اجتماعي تُنزّل في أحكام ا لدين، فهو فقهٌ نبوي خالد في الإنجاز، ينبغي أن يكون معيناً لكل من يدعو إلى تطبيق الدين.(2/93)
وفي الأوضاع الراهنة للمسلمين، نلفي أوضاعاً اجتماعية، ليست المجتمعات فيها بالمتماسكة المتواصلة، وليست بالمتدابرة المتفاصلة، بل هي قائمة على شيء من هذا، وشيء من ذاك، إنك تشهد مجتمعات إسلامية متفاصلة لا أمة موحدة، وهو وضع انعكس على الشعور بالانتماء إلى الأمة، فإذا هو شعور مذبذب، بين انتماء للأمة الكبرى، وبين الانتماء للمجتمعات الوطنية. وتشهد سلطات سياسية قائمة في المجتمعات الوطنية، ولكن كثيراً ما تنبني هذه السلطات على توتر بين الحاكمين والمحكومين. وتشهد تعايشاً بين الناس، تحسبه في الظاهر قائماً على تجانس اجتماعي، ولكن كثيراً ما تجده يخفي في حقيقته تدابراً ثقافيًا، فإذا كل فريق له وجهة، شرقية أو غربية هو موليها. وتشهد ظاهراً من اللحمة الاجتماعية، ولكنها لحمة هشة، كثيرا ما تراها تنخرم بصراعات قبلية، أو حزبية، قد تبلغ أحياناً درجة الفتنة، التي يفتقد معها الأمن والاستقرار.
هذا الوضع الاجتماعي الراهن للأمة الإسلامية، في تردد بين مواصفات التواصل، ومواصفات التفاصل، جعل كثيراً من الدعاة إلى تطبيق الشريعة الإسلامية، يقفون بسبب ذلك التردد، موقفين مختلفين في كيفية ذلك التطبيق: ففريق نظر إلى المجتمع من جهة التواصل فنادى بالتطبيق الشامل لأحكام الشريعة، دون تحسب لما يقتضيه ذلك من إعداد اجتماعي، كشرط يتوقف عليه إنجاز التطبيق، فكان بذلك في غفلة عن فقه الإنجاز، فيما يتعلق بالتأطير الاجتماعي، وفريق نظر إليه من جهة التفاصل، فعلق كل تطبيق للشريعة غير العبادات، في انتظار أن يقوم المجتمع الإسلامي المتكامل، الذي ينجح فيه تطبيق الشريعة، وهو موقف يقوم على شيء من المثالية في التفكير الفقهي، ولذلك فإنه لا يسهم بشيء مذكور في تقدم الإنجاز الفعلي للأحكام الدينية.(2/94)
ونرى أنه من الأوفق في ضوء الواقع الإسلامي الراهن، أن تراعى الوضعية الاجتماعية المزدوجة، في العمل على تنزيل الأحكام الشرعية في واقع المسلمين، فيعتمد هذا التنزيل فقهاً إنجازيًّا، يتيح استثمار ما يبدو من مظاهر إيجابية في المجتمع، فيطبق بحسبها ما يمكن تطبيقه من أحكام الدين، باعتبارها مكسباً لشطر من المناخ الاجتماعي المطلوب لإنجاز الدين، ليس من الحكمة و إهداره دون استثمار، ويدفع في الوقت نفسه إلى عمل تأطيري وتعبوي في المجتمع: بناء للمؤسسات، واستحداثاً للهيئات، وترشيداً للسلطة، وتعميقاً للشعور بالانتماء للأمة، وغير ذلك مما من شأنه أن ييسر مسالك التفاعل والتنافع بين الناس، باعتبار ذلك كله عملاً تهييئيًا للمناخ الاجتماعي الصالح، لتنزيل الخطة الشرعية الكاملة المتكاملة.(2/95)
وعلى هذا الاعتبار، يفضي فقه التنزيل إلى مراعاة شرط التأطر الاجتماعي، استثماراً لما هو حاصل منه، وعملاً على استكمال ما لم يكن حاصلاً، وعلى قدر ذلك تتنزل الأحكام على حياة الناس، بحسب ما يتوفر من هذا الشرط، فتنحسر دوائر الباطل شيئاً فشيئاً، وتحل محلها دوائر الحق، كلما توفرت الأسباب المسعيّ في توفيرها، وعلى سبيل المثال، فإن الخطة الشرعية الاقتصادية مهيأ لها أن ينجز منها دون تأخير أحكام منع الاحتكار، وترشيد الاستهلاك بمنع الإسراف التبذير، وإتاحة حرية الملكية الفردية، لنماء الإنتاج، وفي الوقت نفسه، يعمل على استحداث المؤسسات والهياكل والإطارات التي تعوض بكفاءة المؤسسات الربوية، فيقع التدرج في استبدال نظام يخلو من الربا بالنظام الربوي الضارب في المعاملات بين الناس، ويعمل كذلك على تعبئة الناس لتقبل نظام يقوم على عدالة التوزيع في الثروة، يرد فيه فضل الغني على الفقير، وتكفل فيه الحاجة لجميع أفراد المجتمع، ويتاح فيه تكافؤ الفرص بين الناس، مع استحداث الطرق والمسالك الكفيلة بتحقيق ذلك، فإذا ما تهيأت الشروط المادية والمعنوية، نزلت الأحكام المتعلقة بهذا المبدأ، وقد غابت عن المجتمع الإسلامي زمناً طويلاً صار فيه إلى الحيف، وأصبحت فيه الثروة دولة بين الأغنياء مع تفشي الحاجة في طبقات من الناس بأكملها.(2/96)
وعلى الجملة، يمكن القول: إن من الفقه الضروري في إنجاز أحكام الدين، مراعاة الشروط اللازمة، لينجح ذلك الإنجاز، ويوافي أغراضه، سواء ما كان من تلك الشروط متعلقاً بالتقبل النفسي وعياً واقتناعاً، وما كان متعلّقاً بالتأطر الاجتماعي، تماسكاً وترابطاً ونفاذ مسالك، وقيام مؤسساتٍ فاعلية فهذه الشروط يستثمر منها ما كان متوفراً في الوضع الراهن للمسلمين، فتنزل الأحكام المتوقفة عليها، ويعمل باستمرار على تعهدها، لتواصل قيامها، مع العمل الدائم على استكمال ما هو غير متوفر منها، وكلما تهيأ ظرف مناسب أنجز ما يقتضيه من الأحكام، في حركة اجتهادية واعية، توفر الشروط وتنزل الأحكام، بالتدريج، حتى تأخذ الخطة الشرعية، التي وقعت صياغتها بفقه الصياغة، طريقها إلى الإنجاز، بفقهٍ للإنجاز تعتبر مراعاة الشروط عنصراً أساسيًّا فيه. وإغفال هذا العنصر المهم يفضي لا محالة إلى فشل في الإنجاز، يعود على المشروع الديني كله بضرر بالغ، إذ يضعه في نفوس الكثير موضع الريبة، التي تجد في الوضع الراهن للمسلمين كثيرا من المبررات.
2- آداب الإنجاز:
نعني بالآداب: المعنى المنهجي فيها. ونريد أن نتبين فيما يلي بعض الأسس المنهجية التي ينبغي مراعاتها في إنجاز الشريعة، والتي يتكون منها فقه إنجازي، يقضي إهماله إلى حرج، قد يكون شديداً، وينتهي بالتالي إلى إعاقة الشريعة عن أن تؤدي أغراضها في الإصلاح.(2/97)
وهذه الآداب تقتضيها في أكثرها - كما أشرنا إليه سابقاً - طبيعة الواقع الإنساني، الذي يراد فيه الإنجاز؛ فإن واقع الحياة الإنسانية ينطوي على خفايا، قد لا يدركها الدارس، حينما يكون بصدد صياغة الأحكام في خطة واقعية، فإذا ما وضعت تلك الصياغة موضع الإنجاز ظهرت تلك الخفايا، فيكون من الفقه أخذها بعين الاعتبار، لتكون معطيات، تضاف إلى المعطيات التي كانت علمت من قبل، ويكون لها بالتالي دور في كيفية الإنجاز، بل قد يكون لها دور في تعديل الصياغة نفسها، لتكون متلائمة مع المقتضيات الحقيقة للواقع.
ومن هذه الآداب ما هو قواعد عامة، تتعلق بالإنجاز في الظروف كلها، فتراعى منهجاً في إجراء الأحكام، ينبني على ما هو ثابت من العناصر في حياة الإنسان الواقعية، ومنها ما هو قواعد تتعلق بكل وضع بحسب خصوصياته الذاتية، ومعطياته الشخصية، ومن مجمل هذه القواعد يتكون فقه في الإنجاز، بعضه فقه عام، وبعضه فقه خاص، ونورد فيما يلي جملة من هذه الآداب، نذكرها عامة، ثم نحاول أن نوجهها توجيهاً خاصًا، على حسب معطيات الواقع الراهن للحياة الإسلامية.
( أ ) المرحلية والتدرج:
قد يأتي على المسلمين وضع في حياتهم يكون فيه للباطل صولةً عليهم، فيتعطل العمل بكثير من الأحكام الدينية، وتغشى الجاهلية الكثير من أحوال التعامل بينهم، وقد يكونون على سمت من الدين، ولكن أضاعاً من حياتهم طالها تغيير عريض، اقتضى أن يعالج بصياغة دينية جديدة، تحافظ على السمت الديني في التوجه الجديد، وقد يهتدي إنسان، أو مجموعة من الناس إلى الإسلام، فيقتضي ذلك أن ينسلخوا من حياة إلى حياة، ويتحولوا من أسلوب إلى أسلوب.(2/98)
في هذه الحالات كلها يكون حجم التغيير المطلوب في أسلوب الحياة حجماً كبيراً، ترفع فيه قيم وأحكام جاهلية، وتنزل أحكام دينية تهدي الحياة سواء السبيل، ومن الفقه الصالح لنجاح هذا التغيير أن يتم التحول من الباطل إلى الحق على مراحل متدرجة، فيتم الانسلاخ من الأوضاع المعهودة شيئاً فشيئاً، وتتنزّل الأحكام الدينية لتوجيه الأوضاع الجديدة شيئاً فشيئاً، وذلك ضمن خطة محسوبة، تتدرج مراحلها، بما يضمن متاباً صادقاً عما يقع الانسلاخ منه من أحكام الباطل، وإقبالاً راسخاً على ما يقع الانخراط فيه من أحكام الدين.
وقد كانت هذه المرحلية المتدرجة في تنزيل أحكام الدين سنة نبوية، في التبشير بالإسلام، حيث كانت الأحكام التعبدية والأحكام المنظمة للحياة تنزل في الوحي منجمة، ويربى عليها المسلمون منجمة كذلك، وعلى مدى ثلاثة وعشرين عاماً خلصت الحياة بالتدرج من الجاهلية إلى الرشد، وأنجزت أحكام الدين في واقع الحياة، وكما كان التدرج في تنزيل الأحكام كميًّا بتواليها أحكاماً بعد أخرى، فقد كان كيفيًّا أيضاً بتصاعد الحكم الواحد من الأخف إلى الأشد في التكليف إيجاباً وتحريماً كما هو معلوم في إيجاب الصلاة وتحريم الخمر.
وإذا كان هذا التدرج في إنجاز الأحكام، رافق نزول الدين ابتداءً لتحويل الجاهلية الجهلاء إلى اهتداء مبين، فإن فيه تعليماً للمسلمين ليقتبسوا منه فقهاً في الإنجاز، كلما وجدوا أنفسهم في وضع فيه شبهٌ وإن يكن قريباً من ذلك الوضع، الذي نزل فيه الدين، من حيث يتوجب عليهم مغادرة وضع باطل، إلى وضع صحيح، يهتدي بأحكام الشريعة، ففي ذلك الفقه صلاح دائم، في تسهيل النقلة من الضلال إلى الهدى ، وفي التثبيت على الهدى، بعد النقلة إليه، وهو غرض دائم من أغراض الدين، فالفقه الموصل إليه دائم مثله.(2/99)
وليست وجوه الحكمة في التدرج بخافية، بل هي جلية ظاهرة، سواء في مبدأ نزل الدين، أو في الأوضاع المشابهة، التي قد تطرأ على المسلمين في كل زمان، ومن تلك الوجوه رفع الحرج، الذي يكون بالانتقال الفاجائي من حال إلى حال، فإن للإلف والعادة تمكناً في النفس، يصعب معها الانقلاب منها إلى ما يضادها مرة واحدة، ويكون في انتزاعها شيئاً فشيئاً، ما يسهل الخروج منها كليًّا إلى وضع جديد، ومنها أن في التدرج تمرساً وخبرة بما يقع إنجازه، يساعد كثيراً على إنجاح ما ينتظر أن ينجز، فيكون في التوالي اكتساباً لحكمةٍ تطبيقية، تفيد أيما إفادة في إنضاج التطبيق في الأحكام، لتبلغ أقصى آمادها في الإصلاح، ومنها أن ظهور الآثار النافعة لتطبيق بعض الأحكام يدعو إلى الانخراط في خطة الإصلاح الشاملة، فتكون مسيرة الإنجاز المتتابع مجلبة للمهتدين باطرد، وبذلك يعم النفع، وهو غاية الدين.
والمتأمل في الوضع الراهن للمسلمين اليوم، يجد أن إنجاز أحكام الدين، يحتاج إلى فقه، يقوم على التدرج، كأشد ما تكون الحاجة، ويتبين أن الحكمة، التي انطوى عليها هذا الفقه، لها مصداق بيّن في معالجة هذا الواقع الراهن، فقد تقدم لنا سابقاً أن أوضاع المسلمين اليوم تجري في أبواب المعاملات بين ا لناس على غير أحكام الشريعة في كثير منها، وهي متأثرة في السياسة والاقتصاد والثقافة بالقوانين الغربية، وكذلك الأمر في أحكام الجنايات والأحوال الشخصية، وليس هذا الباطل مستحكما على مستوى السلوك فحسب، بل هو مستحكم أيضاً على مستوى التنظير المذهبي، متمثل في العلمانية، التي تفصل الدين عن شؤون الحياة، وتجعله شأناً فرديًّا من شؤون الفرد، إنه وضع فيه شبهٌ من الجاهلية الأولى، إذا نظرنا إلى الجانب العملي من حياة المسلمين، لولا أن الأمة خالصة في جملتها من عقيدة الجاهلية، منطوية على قدر كبير من الإيمان المستور المؤمل في انصلاح قريب.(2/100)
هذا الوضع الذي تمكنت فيه أحكام الباطل في كثير من نواحي حياة الإنسان يحتاج علاجه إلى عمل تدرجي، في إحلال الأحكام الشرعية محل الانحرافات السائدة، فبعد صياغة الخطة الشرعية بحسب مقتضيات الواقع يكون تنفيذ هذه الخطة على مراحل متدرجة ينبني بعضها على بعض، فكلما استقر منها قسط في أعمال الناس، واستقامت به الحياة في تلك الأعمال، ينزل قسط آخر، وهكذا حتى تنجز الخطة كاملة فستقيم بها الحياة بالتدريج.
ولهذا التدرج صور متعددة، تتحدد في كل بيئة بحسب معطياتها الواقعية، فربما كان بحسب مجالات الحياة، كأن تطبق أحكام الشريعة في مجال الأسرة، ثم في مجال القوانين الاجتماعية، ثم في مجال المعاملات الاقتصادية، وهكذا تنجز الشريعة في مجالٍ بعد آخر، مع مراعاة ما هو ممهد لغيره فيقدم عليه، وربما كان التدرج في نطاق المجال الواحد، كأن يعمد مثلا إلى المجال الاقتصادي فيبدأ بتطبيق بعض الأحكام الشرعية المتعلقة بالإنتاج ووسائله، ثم يصار منها إلى تطبيق أحكام أخرى متعلقة بتوزيع الثروة ومسالكها، وهكذا حتى ينتظم هذا القطاع على أحكام الشرع بالتدرج، الذي تقتضيه طبيعة الأركان الاقتصادية، وطبيعة علاقاتها ببعضها، ويقع مثل ذلك في سائر القطاعات الأخرى على هيئة متوازية، يتنامى فيها تطبيق الشريعة أفقيًّا بما يخدم بعضه بعضاً في مسيرة هدفها بلوغ الاكتمال في انخراط سائر وجوه الحياة ضمن الخطة الشرعية.(2/101)
ويحتاج إحكام هذا التدرج، إلى فقه عميق بالعلوم الإنسانية الاجتماعية والاقتصادية، ليكون ترتيب المراحل في إنجاز أحكام الشريعة مبنيًّا على الحكمة في تداعي الانصلاح، مرحلة بعد مرحلة دون أن ينجد الانتكاس مدخلاً في ذلك الترتيب، بتقديم ما يجب أن يتأخر، وتأخير ما يجب أن يتقدم، كما يحتاج إلى فقه عميق بالمعطيات الواقعية لكل بيئة من البيئات الإسلامية، حتى تترتب المراحل بحسب تلك ا لمعطيات، التي قد تنطوي على عناصر شخصية مختلفة، تستدعى اختلافاً في الترتيب المتدرج بينها، فرب بيئة استفحل فيها الإخلال بالشريعة في مجال الأسرة، أكثر من أي مجال آخر، ورب بيئة أخرى حافظت فيها الأسرة على أحكام الشرع، ولكنها شهدت فساداً في قوانين التعامل الاجتماعي، فيكون التدرج في تطبيق الشريعة مختلفاً بين هذه وتلك، بحسب اختلاف الأحوال.
وكثير من الدعاة إلى تنزيل الشريعة الإسلامية في واقع اليوم تراهم يعارضون أسلوب التدرج في التنزيل ، ويدعون إلى تطبيق شامل ومكتمل للأحكام الدينية، في جميع مجالات الحياة، ويرون أن التدرج الذي كان في مبدأ نزول الدين يبرره النقلة الصعبة من جاهلية مطبقة إلى دين جديد مناقض لها، أما وقد انتشر الدين وعم عبر قرون، فإن الانحراف الذي آل إليه وضع الأمة لا يبرر معالجته بالتدرج، لسابقية سيادة أحكام الدين في حياتها، فتطبيق أحكام الشريعة هو عملية تصحيح لا مبرر فيه للتدرج، ثم انهم يرون أن من المحرج شديد الحرج أن تشتمل خطة الإصلاح على العمل بتطبيق بعض الأحكام، وترك بعض المجالات تجري على باطلها بقصدٍ إلى ذلك، فهو يشبه أن يكون إقراراً لذلك الباطل، ولو لمرحلة زمنية معينة؛ ولذلك فإنهم يرفضون أن تنزل الشريعة أبعاضاً، ويهدرون كل فرصة تسنح في ذلك، مترقبين الظرف الملائم لتنزيلها جملة، وتحقيق الدين في حياة المسلمين كاملاً غير منقوص.(2/102)
والحقيقة أن هذا الموقف محكوم بنظرة مثالية، يغذيها حب الإسلام أن يُرى قيماً على الحياة كلها، وهو بذلك يفتقر إلى أدب الواقعية، الذي يعتمد الأسباب، ويستثمر ما هو متاح في سبيل التقوّي به لتذليل ما ليس متاحاً ليصبح متاحاً فيستثمر أيضاً، حتى يتم البلوغ إلى الهدف النهائي في مغالبة للواقع، وترشيدٍ له بشرع الله شيئاً فشيئاً.
وواقع المسلمين اليوم واقع بلغ من التعقيد درجة لا يجدي معها إلا المعالجة المتأنية المتدرجة، التي تمهد كل درجة منها إلى ما بعدها، فتترشد وجوه الحياة تباعاً، بما ينجز فها من أحكام الشرع إنجازاً مرحليًّا، وليست العوائق السياسية المتمثلة في أن كثيراً من القيّمين على حظوظ الحكم في العالم الإسلامي لا يؤمنون بسيادة الشريعة في قطاعات عريضة من الحياة، ليست هذه العوائق هي الحائل الوحيد، دون التنزيل الكامل للدين على شعاب الحياة كلها كما يظن بعض الدعاة ، وأنه لو أزيل هذا العائق بوجه من الوجوه، تم الفتح الأكبر، وانخرطت حياة المسلمين جملةً في خطة الشريعة، بل إن ثمة عوائق غير ذلك تكمن في ذات الواقع النفسي والاجتماعي والثقافي للمسلمين، تراكمت عبر تاريخ الانحطاط، وعبر مضاعفات الانهزام الحضاري للحضارة السائدة.(2/103)
كيف يمكن أن تنجز أحكام الحدود في مجتمع إسلامي لا تكفى فيه حاجات الناس الضرورية، بل تعيش فيه طبقات كثيرة في فقر مدقع، يصل درجة المجاعة أو ما يشبه المجاعة، وفي مجتمع إسلامي استشرى فيه التبرج والاختلاط الفظيع، حتى باتت غواية الشيطان تراود ذوي الأحلام من الناس؟ وكيف يمكن أن تنجز أحكام العدالة في توزيع الثروة في مجتمع إسلامي ليس فيه من الإنتاج ما يدعو إلى التوزيع أصلاً؟ إن هذه الأمثلة وغيرها كثير تقوم مبررا حقيقيا، لأن تقدم في الإنجاز تلك الأحكام الدينية التي تعتبر أسباباً ومقدمات، وأن تؤخر إلى مرحلة ثانية تلك الأحكام التي تعتبر نتائج ومسببات، فتنمو بذلك مسيرة الإسلام في المجتمع قدماً، منهجها" بدلاً من أن تنتظر الفتح الأكبر، الذي يقوم فيه المجتمع كله بالإسلام، أن تحاول في جوانب الحياة المختلفة أن تقيم نماذج جزئية في جانب من الاقتصاد، وفي جانب من السياسة، وفي جانب من الفكرة، وفي جانب من المجتمع".(9) وليس في ذلك إقرار للباطل، الذي يؤخر العمل على دحضه بتأجيل إنجاز الشريعة فيه، ولكنه فقه في الإنجاز تَعْلم به مسيرة الإسلام "أنه لبلوغ الكل لا بد من البدء بالجزء، فهي لا تؤمن ببعض وتكفر ببعض، بل تؤمن بالإسلام كله، ولكنها تحاول أن تطبق منه ما تيسر، ولا تقدر أنه لا بد من انتظار مرحلة الدولة حتى يتمكن الدين بكل جوانبه ".(10)(2/104)
ومن المهم أن نلاحظ أن التدرج الذي تحدثنا عنه فقهاً في الإنجاز إنما هو التدرج الكمي، الذي تقدم فيه بالتطبيق بعض الأحكام وتؤخر أخرى، إلى أجل لاحق، وليس هو التدرج ا لكيفي الذي ينمو فيه الإيجاب والمنع، من الأخف إلى الأشد، كما كان في مبدأ نزول الدين. فذلك إنما كان خاصاً بتلك المرحلة، أما وقد اكتملت أحكام الدين في صورتها النهائية فلا مجال للتصرف في كيفياتها من قبل الإنسان بالزيادة والنقصان، وإنما هو إنجاز للحكم مكتملاً حينما يحقق الإنجاز مقصده، أو تأخير لإنجازه مكتملاً حينما تدعو الضرورة لتأخيره.
[ ب ] التأجيل والاستثناء:
إن قاعدة المرحلية والتدرج، التي تحدثنا عنها آنفاً، تشبه أن تكون قاعدة للتحولات الكبرى في الأمة الإسلامية، من وضع تضرب فيه الجهالة، إلى وضع تسود فيه الهداية، ونحسب أن الوضع الراهن للمسلمين هو وضع يتحفّز إلى واحد من تلك التحولات الكبرى، فيما يشهده العالم الإسلامي من صحوة إسلامية، وإذا كانت قاعدة التدرج تنطوي على ضرب من التأجيل في تطبيق بعض الأحكام، التي ترجأ إلى مراحل لاحقة، فإننا التأجيل في هذه ا لقاعدة من قواعد فقه الإنجاز، كقاعدة مستقلة بذاتها، لا تقتصر صلاحيتها على ترتيب المراحل عند التحولات الكبرى، بل تتجاوز ذلك لتكون صالحة في تنزيل الأحكام الشرعية في الأحوال كلها، وتلحق بها قادة الاستثناء لمشابهتها إياها وشدة صلتها بها.
والمقصود بالتأجيل، هو العدول عن تطبيق الحكم الشرعي في ظرف معين، وإسقاط العمل به في ذلك الظرف، حتى يحين ظرف آخر مناسب، يعاد فيه ذلك الحكم إلى التطبيق، والمقصود بالاستثناء إسقاط تطبيق الحكم الشرعي في حق عيّنة من عينات الأفراد أو الحالات، في حين يطبق على سائر العينات الأخرى المشابهة لها.(2/105)
وكل من التأجيل والاستثناء قاعدة فقهية في تطبيق الشريعة، يؤدي التغافل عنها عند إجراء الأحكام على واقع الحياة إلى حرج شديد، قد يذهب بالمقصد، الذي من أجله وضعت تلك الأحكام، وقد ذكرنا سابقاً أن الأحكام الدينية وضعت كلية عامة، كما ذكرنا أن الصياغة التي توضع بحسب واقع معين تنبني على المعطيات العامة لذلك الواقع، ولذلك فإنه عند تطبيق الأحكام على مشخصات الأفراد والحالات، قد يتبين أن حكماً ما لا تتوفر في مشخصات الأفراد، أو الحالات أو الشروط، التي تجعل تطبيقه مؤدياً لغرضه، فيؤجل تطبيقه إلى حين آخر، تتوفر فيه تلك الشروط، كما قد يتبين أن حكماً ما إذا ما طبق على فرد معين أو حالة معينة، قد يفضي تطبيقه إلى مفسدة، من حيث وضع ليحقق مصلحة، وذلك باعتبار خصوصية في ذات الفرد أو الحالة انفردت بها، دون سائر الأفراد والحالات، فيسقط إذن تطبيقه، وتستثنى تلك العينة من هذا الحكم الموضوع ليطبق على نوعها.(2/106)
وبهذا الاعتبار يكون المبرر الأساسي للتأجيل والاستثناء هو وجود موانع فيما يراد أن يطبق عليه الحكم، تجعل تطبيق الحكم عليه لا يؤدي مقصود الشارع من وضعه، بل قد يؤدي ذلك التطبيق إلى ما يناقض المصلحة المقصودة، وهذا الفقه هو الذي اعتمده عمر بن الخطاب رضي الله عنه في تأجيل تطبيق حكم الحد في السرقة عام المجاعة، وتأجيل حصة المؤلفة قلوبهم لما عزّ الإسلام، وقوى المسلمون، فقد رأى أن إجراء هذين الحكمين في هذين الظرفين لا يؤدي المقصود منهما؛ إذ المجاعة شبهة في الإلجاء إلى السرقة، فيكون في الحد حرج وحيف، والمؤلفة قلوبهم انتفت فيهم صفة التأليف لعزة الإسلام، ولذلك أجل إنجاز الحكمين إلى حين تزول هذه الأسباب المانعة من حصول المقصود من إنجازها، كما اعتمد عمر هذا الفقه أيضاً في منع توزيع أرض العراق على الجنود الفاتحين، فقد استثنى هذه الأرض، من أن يجري عليها الحكم الشرعي في تقسيم الفيء، على مستحقيه ومنهم الجند، من بين الأموال الأخرى، لما رأى من أن ذلك يؤدي إلى حرج عظيم يصيب الأمة في مستقبلها، حينما يتقاسم الأرض الواسعة عدد محدود من الناس، فأسقط إنجاز الحكم الشرعي في هذه الحالة.(11)(2/107)
إن هذا الفقه القائم على التأجيل والاستثناء في الإنجاز، فقه ضروري لضمان تحقيق المقاصد الشرعية من تطبيق الأحكام في واقع الحياة، حيث يجري هذا الواقع في بعض وقائعه، بما يخالف النسق العام، الذي تجري عليه سائر الوقائع، متأبيًا على التقنين المجرد الصارم، الذي ينتهجه العقل في تقرير الأحكام من مصادرها، فيكون هذا الفقه راصداً للوقائع العينية، من حيث ما يكون فيها من الموانع الحائلة دون تحقيق المصلحة من إجراء الأحكام عليها، فيؤول بها إلى التأجيل، أو الاستثناء في ذلك الإجراء. وهذا ما بينه ابن راشد في شرحه للاستحسان، الذي هو قاعدة أساسية من قواعد التأجيل والاستثناء حيث يقول: "الاستحسان الذي يكثر استعماله حتى يكون أعم من القياس، هو أن يكون طرحاً للقياس، يؤدّي إلى غلوّ في الحكم ومبالغة فيه، فعدل عنه في بعض المواضع، لمعنى يؤثر في الحكم، يختص به ذلك الموضع".(12) فهذا القول يشير إلى أن الاستحسان هو حجب لإجراء الحكم على بعض المواضع، منعاً لحرجٍ ينشأ عن ذلك الإجراء، إذا ما وقع بحسب التقنين المجرد.(2/108)
وتحدث الخصوصيات في الواقع والأحوال من حياة الأمة أكثر ما تحدث حينما تمر هذه الحياة بمراحل توتر، ينخرم فيها النسق المألوف في النظام الاجتماعي والثقافي، ويتمزق فيها التجانس بين التصرفات بمقتضى الوحدات الثقافية والاجتماعية، فتكثر لذلك شواذّ العينات في الطبيعة الفكرية والنفسية للأفراد، وفي الأوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، ويبدو في المجتمع الإسلامي تفاوتٌ كيفي في كثير من أفراده، من الناس ومن الأحداث، وحينئذ فإن إجراء أحكام الشريعة في شعاب الحياة المختلفة يصبح أحوج ما يكون إلى قاعدة التأجيل والاستثناء في أدب الإنجاز حيث يكون ذلك التفاوت الكيفي بسبب شذوذ بعض العينات مانعاً من أن يطرد فيها حصول المصلحة، إذا ما أجريت عليها الأحكام، كما تجري على سائر العينات، والأمثلة المأثورة من فقه الصحابة وتابعيهم في هذا الباب أغلبها تصف تأجيل واستثناءات في زمن من أزمان التوتر، مثل زمن المجاعة، الذي أجل فيه حد السرقة، وزمن الحرب جهاداً حيث تسقط الحدود.(2/109)
ولا شك أن الظرف الراهن الذي تعيشه الأمة الإسلامية اليوم هو ظرف تصاب فيه حياتها بتوتر شديد على مستويات مختلفة، نتيجة للوضع الحضاري الذي آلت إليه بعد اضمحلال حضارتها الإسلامية، وسقوطها في عهود من الانحطاط، فحينما همت بالنهوض حاضراً، تفرقت بها السبل، وتعددت النماذج المحتذاة، واختلفت إيديولوجية النهضة المبتغاة، فإذا بها على ما نراه اليوم في تشتت ثقافي، وتناقض اجتماعي، واضطراب في سبل العيش وأنماطه، وهو ما أجدى إلى تفاوت كبير بين الناس والوقائع والأحوال، في الطبائع والأنماط والأسباب، ولكي يعالج هذا الوضع بخطة شرعية شاملة توحد المشارب، وتسلك الحياة كلها في سلك الدين، لا بد من التدرج في المعالجة، تدرجاً يقتضي التأجيل في إنجاز بعض الأحكام، والاستثناء في بعض العينات، قصداً في ذلك إلى الترقي بحياة المسلمين، ترقيًّا متأنياً ثابتاً، لتكون معتصمة بالدين على قدر موحد مطرد.
وربما وقع الظن بأن التأجيل والاستثناء مظهر من مظاهر التعطيل للأحكام الإلهية، قد يكون مدخلاً خطيراً لإهدار تدريجي للدين أصلاً، إلا أن هذا الظن لا يصبح له مبرر، حينما تمارس هذه القاعدة في الإنجاز بوعي فقهي يرافقه الإخلاص، بل تكون قاعدة مساعدة على إقامة الدين، ضامنة لأن يؤدي أغراضه في غير حرج، فهي إذن إذا استعملت بحقها أدت إلى سيادة الدين لا إلى تعطيله.(2/110)
وقد كان هذا الظن سبباً في مطالبة بعض الدعاة بالتطبيق الآلي لأحكام الشريعة، بحيث تجري الأحكام في جميع مظاهر الحياة، دون نظر إلى خصوصيات بعض الحالات والوضاع من جهة التوتر، الذي يغشى حياة المسلمين، وآثاره في تلك الحالات والأوضاع، ولو طبقت أحكام الشريعة الإسلامية في واقع المسلمين اليوم تطبيقاً آلياً، دون مراعاة شروط التطبيق، والعمل على توفيرها أولاً، لأصاب كثيراً من المسلمين حرجٌ عظيم بسبب هذا التطبيق الآلي، سواء كان ذلك في أحكام الحدود، أو في كثير غيرها من الأحكام، وبهذا تكون الغفلة عن التأجيل والاستثناء حتى تستكمل الشروط الضرورية، والدعوة إلى التطبيق الآلي، مما قد يفضي إلى نكسة في الدعوة الدينية أصلاً زيادة عما يسببه ذلك من الحرج.(13)
وفي مقابل هذا الموقف المطالب للتطبيق الآلي للشريعة الإسلامية، نشأ موقف آخر مناقض له، نحسبه هو أيضاً موقفًا فادح الخطأ بسبب من الغفلة عن قاعدة التأجيل والاستثناء، وقد كان منطلق هذا الموقف من تحليل الواقع الذي يعيشه المسلمون في المجالات المختلفة، إذ تبين لبعض الناس (14) أنّ بعض هذه المجالات في عيّنات منها خاصة، تحمل من التعقيدات الناشئة بسبب تبدل الزمان، وتغير الأوضاع، ما يبرر سقوط الأحكام الشرعية، في شأنها على وجه الإلغاء الدائم، وجعلوا يقيمون على ذلك الحجج، التي من أهمها أن الأحكام الشرعية كانت مرتبطة بالأحوال والأحداث التي نزلت بشأنها أول عهد الإسلام، أما الآن فإن الظروف والأحوال تغيرت، والمبررات الزمنية للأحكام زالت، ولذلك فإنها أحكام انقضت بانقضاء أسبابها، ولم يبق لها سلطان على أوضاع المسلمين في هذا العهد وبعده.(15)(2/111)
وبقطع النظر عن الخلفية الانهزامية التي نشأ عنها هذا الموقف، حيث كانت للواقع المثقل بنظم وتقاليد غريبة عن الإسلام سطوةٌ قاهرة على نفوس أصحاب هذه الوجهة، فإن ما وجدوه من مفارقة بين بعض أحكام الشريعة، وبين بعض عيّنات الواقع، مما يبدو على وجه الحق أن تطبيقها عليها قد يفضي إلى حرج كبير، فإن ما وجدوه من ذلك تتسع قاعدة التأجيل والاستثناء لحله، عوضاً عن السقوط في موقف الإلغاء للأحكام الإلهية الثابتة، فحينما تختل شروط التطبيق في ظروف ما مما يعطل مقاصده إذا ما أوقع، يكون في تأجيله إلى حيث تحقيق تلك الشروط مندوحة عن القول بالإلغاء.
وبهذا يتبين أن القصور عن فقه الإنجاز فيما يتعلق بقاعدة التأجيل والاستثناء، يفضي إلى تطرف في التطبيق الآلي، وما يسببه من حرج، أو إلى تطرف يتمثل في الإلغاء، وما يؤدي إليه من هدم الشريعة.(16)
(ج) جماعية الإنجاز:
إن الطابع الاجتماعي للدين الإسلامي يجعل المسؤولية في تطبيق أحكامه مسؤولية جماعية، في أغلب تلك الأحكام. وإذا استثنينا بعض الواجبات التعبدية، التي يتحمل المسلم مسئوليته فردية في أدائها، فإننا نلفي سائر الأحكام الأخرى، لا يتم إنجازها على الوجه المطلوب إلا بمسؤولية جماعية من قبل عموم الأمة، أو من قبل المجموعات المختلفة من الأمة. ولنا أن نتصور ما يصيب الدين من تعطيل، لو تخلت مجموعة الأمة عن إنجاز الفروض الكفائية، التي تنتظم أكثر ما تقوم به الحياة، في المجال الاقتصادي والثقافي والاجتماعي.(2/112)
وقد شرع في الإسلام مبدآن أساسيان لضمان هذه المسؤولية الجماعية في تطبيق الأحكام الدينية: مبدأ الخلافة التي هي جمع بين الدين والدولة، على معنى أنها سلطان سياسي غايته تطبيق الشريعة في حياة الناس، كما عرفها ابن خلدون بقوله: "الخلافة هي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها، إذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة، فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا".(17) وبما أن الخلافة مظهر للإرادة الجماعية للأمة، إذ هي إنابة من قبلها بالاختيار الحر، فإنها تمثل بذلك المسؤولية الجماعية على تطبيق الأحكام الشرعية.
والثاني مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي نيط بعهدة مجموع الأمة كما جاء في قوله تعالى: ((وَلتكُن منكم أمّةُ يدعون إلى الخير ويأمُرون بالمعروف وينهون عن المُنكر وأولئك هم المُفلحون)) [آل عمران: 104] وهي مسؤولية مباشرة للجماعة الإسلامية، في إنجاز التشاريع الإسلامية، تكمّل سلطان الخلافة في إنفاذ ما يتعلق بها من المهام التطبيقية، وليست أية واحدة من هاتين المسئوليتين للأمة: المباشرة بطريق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغير المباشرة بطريق سلطان الخلافة، بكافية عن الأخرى في إنجاز الأحكام الدينية، وإنما هما متكاملتان في أداء هذه المهمة توزُّعاً لهذه الأحكام بحسب طبيعتها.(2/113)
وإذا كانت الخلافة هي حمل الكافة، على مقتضى النظر الشرعي، كما جاء في تعريف ابن خلدون، فإن دولة الخلافة الإسلامية كانت في الواقع تشرف إشرافاً عاماً على تطبيق الشريعة في الأمة، من خلال وظائف محدودة، سماها ابن خلدون بالخطط الدينية الشرعية وحصرها في: الصلاة والفتيا والقضاء والجهاد والحسبة.(18) وهذا ما أفسح المال للأمة كي تشرف بذاتها على كثير من المهام التفصيلية، تتحمل فيها إنجاز الشريعة، في مجالات مختلفة، عبر مؤسسات شعبية تلقائية، أو عبر مؤسسات اجتماعية علمية، وكثيراً ما كان العلماء يقومون بدور المحرك الأساسي، في إنجاز هذه الأعمال، التي تقوم بها الأمة، والتي منها التعليم والتربية، وقد تمتد إلى الإفتاء والتنظيم الاقتصادي، وغيرها من المجالات، حينما تخف سلطة الدولة، أو حينما تتسع الفجوة بين الأمة وبين السلطان الحاكم. ففي هذه الظروف تضطلع الأمة بالإنجاز الجماعي لأحكام الشريعة في أغلب ميادين الحياة.
يمكن القول إذاً: إن الأمة الإسلامية عبر تاريخها كانت تمارس صلاحية شعبية جماعية، في الإشراف على إنجاز الأحكام الشرعية، في كثير من ميادين الحياة، وإنها لم تكن تعتمد على الدولة إلا في ما هو مظهر للسيادة الجامعة، وقد كان لهذه الجماعية الشعبية في الإنجاز رغم تلقائيتها وبساطة مؤسساتها أثرها الإيجابي في المحافظة على سريان الشريعة في حياة المجتمع، وهو ما يفسر لنا ضعف التأثير السلبي، لفساد بعض الحكام السلاطين، في العمق الشعبي للأمة، فكثيراً ما رأينا عصوراً اتصفت بالاضطراب السياسي، والتوتر في الحكم انحرافًا وطغياناً، ولكن أحوال الأمة الثقافية العلمية، والاقتصادية والحضارية عامة، تكون في ازدهار؛ وفق خط الشريعة بصفة عامة،(19) وليس ذلك إلا لأن المسؤولية الجماعية للأمة تقوم بدور إيجابي في تدبير الأمور وفق أحكام الدين.(2/114)
ولكن هذا الوضع اختلف كثيراً في الدولة الحديثة، فهذه الدول أحكمت سيطرتها على مجالات الحياة العامة كلها، فتقلصت المهام التي كانت تقوم بها الأمة إلى حد كبير، وبمرور الزمن نشأت في عموم المسلمين صفة من الاتكال على الدولة، وانسحبوا انسحاباً يكاد أن يكون كاملاً من العمل الجماعي الشعبي، معتقدين أن كل شيء يهم الحياة الاجتماعية، هو من مشمولات الدولة وحدها، وهي المطالبة بإنجازه.
ولما كانت الدولة الحديثة متأثرة في كثير من مناطق العالم الإسلامي بالدولة الغربية في انبنائها على العلمانية، الفاصلة بين الدين والدولة، فإن ما نشأ عن ذلك من تقصير الدولة في رعاية الشريعة الإسلامية، بالإنجاز في كثير من مجالات الحياة، أوقع في النفوس أن التقصير في إنجاز الشريعة جملةً هو من مسؤولية الدولة وحدها، وظل كثير من الأفراد والجماعات ينتقصون من مسؤولياتهم الفردية والجماعية في تطبيق الشريعة، فيما هو منوط بعهدتهم من الأحكام، ظانين أن الدولة لو تبنت القيام على إنجاز الشريعة لتم ذلك الإنجاز دفعة واحدة، ولأصبح المجتمع كله على صراط الدين المستقيم طرفة عين.
والحقيقة أن إنجاز الشريعة في الحياة الاجتماعية، لا يتم إلا بمجهود جماعي، تقوم فيه الأمة بدور هام، كما كانت تقوم به في السابق، وإذا كانت الدولة الحديثة مسيطرة على مساحة أوسع بكثير مما كانت تسطير عليه الدولة الإسلامية القديمة، فإن الأمة قد أتيحت لها اليوم وسائل للعمل الإنجازي، لم تكن متاحة لها بالمس، وهو ما يمكنها من القيام بدورها الهام، في إنجاز خطة الشريعة إنجازاً جمعيًّا مثمراً.(2/115)
لقد أتيحت في العصر الحديث أشكال من التنظيمات الشعبية، لم تكن متاحة من قبل، مثل الأحزاب والجمعيات والهيئات، والمؤسسات الاقتصادية والثقافية والاجتماعية، وإذا كان في بعض البلاد الإسلامي يصعب قيام مثل هذه المؤسسات الشعبية لعوائق ترجع إلى سطوة الدولة وتعسفها في المنع، فإنها متاحة في بعض البلاد الأخرى على أقدار مختلفة.
تمثل هذه المؤسسات الشعبية وسيلة هامة للنهوض بإنجاز جماعي للأحكام الشرعية في مختلف المجالات، حيث يمكن أن تتبنى كل مؤسسة خطة شرعية في مجال تخصصها، وتتحرك بإنجازه في الواقع، لتصنع منه أنموذجاً "حيًّا " لتطبيق الإسلام في واقع الحياة، فيكون في ذلك الإنجاز تجربة تثري الفقه التطبيقي، بما يتوافر من خبرة التطبيق في قطاعات مختلفة، كما يضرب المثال لتطبيق الدين بما يفسر عنه من مصالح، يقف الناس عليها عياناً، فيكون مركز استقطاب للمزيد من المؤمنين بالشريعة الإسلامية، والعاملين على تنزيلها في الواقع، وشيئاً فشيئاً تمهد هذه المؤسسات الشعبية بما تنجز من دين، لتطبيق شامل في المجتمع بأكمله، حينما يصبح الإسلام هو شرعة المجتمع كله، فتكون هذه النماذج خير ما يعين حركة الإسلام، وفكر الإسلام، على أن يستوعب حركة المجتمع بأكمله، بتوسيع النماذج وتطبيقها.(20)(2/116)
وإن ثمة بعض الدعاة المعاصرين يعتبرون هذا العمل الجماعي الشعبي عملاً ترقيعيًّا، لا يغني من التطبيق الشامل للإسلام شيئاً، ولذلك فإنك تراهم يظلون ينادون بالمثل الأعلى للإسلام، الذي لا يتنزل على الواقع تنزّلاً حقًّا، إلا حين قيام الدولة الإسلامية الكاملة، التي يتنزل بها الدين على واقع المجتمع مرة واحدة، وأما في غياب هذا الظرف الضروري لتنزيل الدين كاملاً، فلا يعدو التدين عند هؤلاء الدعاة أن يتجاوز الالتزام الفردي بالفرائض التعبدية، أو ما قاربها من الالتزامات الأسرية، أو الأخلاق الإسلامية العامة،أما سائر التعاليم الشرعية ، ذات الصبغة الاجتماعية، فإنها لا تنجز في الواقع إلا بقيام الدولة الإسلامية الكاملة.
والمتأمل في هذه الوجهة في إنجاز الشريعة يجدها تفتقر إلى فقه ناضج في الإنجاز؛ ذلك لأن مشكلة إنجاز الشريعة في الواقع ليست مشكلة دولة فحسب، بل هي أيضاً وبقدر كبير مشكلة أمة، فإذا لم تكن الأمة متمثلة اليوم في المنظمات والهيئات والمؤسسات واعية بتنزيل الشريعة، ومتبنية له، حتى يكون لها هما يوميًّا، تمارسه بالتدرج، وتنتقل فيه شيئاً فشيئاً، من حياة جاهلية في كثير من جوانبها إلى حياة اجتماعية إسلامية، إذا لم يكن ذلك، فإن الدولة التي تتبنى الإسلام كاملاً قد تبوء بالفشل، إذا ما أتيح لها التنزيل الفوقي لأحكام الدين، حينما لا تكون الأمة مهيأة لذلك.(2/117)
إن الوعي الجماعي إذاً بإنجاز الدين، وصياغة ذلك الوعي في مؤسسات شعبية، بحسب ما هو متاح ضمن الظروف القائمة، ثم تبني تلك المؤسسات للخطة الشرعية في مختلف شعاب الحياة، والعمل على إنجازها، إن ذلك يعتبر في الظرف الراهن للمسلمين قاعدة هامة في فقه الإنجاز، فهذه المؤسسات الشعبية الاجتماعية، التي لم تكن معروفة في المجتمع الإسلامي القديم، أصبح لها اليوم دور هام في دفع الحياة الاجتماعية، وفي صياغة نمطها، وهي إذا كانت اليوم في العالم الإسلامي غير مطردة ولا هي في مرحلة متقدمة من النضج، لأسباب بعضها سياسي، وبعضها ثقافي علمي، إلا أنها تنمو بمرور الزمن نحو التمكن والنضج، مما يهيئها لأن يكون لها الدور الهام في الحياة الاجتماعية.
وبهذا الاعتبار فإن هذه التنظيمات أصبحت تمثل مظهراً من مظاهر الإرادة الجماعية للأمة، وهي بذلك تعد وسيلة ذات فعالية في تطبيق المشروع الإسلامي، إذ هي تضمن من جهة السند الجماعي في تطبيق المشروع، وتضمن من جهة أخرى أكبر قدر من تعميمه وسريانه بين الناس، بما تمثل من الإرادة الجماعية، وإذا كان المتحملون لهم تطبيق الشريعة اليوم، في كثير من البلاد الإسلامية لا يتمكنون من إنشاء المؤسسات الاجتماعية، بالكيفية التي يرونها صالحة لإنجاز ما يريدون، فإن المهم أن يحصل الوعي بقيمة هذه القاعدة في فقه الإنجاز، وحينئذ فإن هذا الوعي سيكون دافعاً لاستثمار ما هو متاح في مجال المؤسسات، وللسعي في سبيل إتاحة الظروف لتنظيم الإرادة الجماعية، في مؤسسات اجتماعية، أكثر كفاءة للقيام بدورها المنشود في إنجاز الشريعة.(2/118)
هذا وإن البوادر التي نشاهدها اليوم في بعض البلاد الإسلامية قائمة على هذه القاعدة في فقه الإنجاز، لتشهد نجاحاً باهراً في تطبيق المشروع الإسلامي، حتى أصبحت البنوك الإسلامية ومؤسسات الاستثمار، نماذج حية لاقتصاد إسلامي، تطاول المؤسسات الاقتصادية القائمة، وتمتد في العمق الشعبي الاجتماعي على حسابها، ومثل ذلك المؤسسات الاجتماعية، في مجال التأمين والخدمة الاجتماعية والصحة العامة، ورغم قصر التجربة العملية لهذه المؤسسات، ورغم المناخ العدائي من قبل بعض الأنظمة القائمة في مجالها، فإنها أصبحت بما تحقق من النجاح مصداقاً لفقه إنجازي، يقوم على الإرادة الجماعية، وذلك فقه تفرضه طبيعة الواقع الاجتماعي في هذا العصر.
خاتمة
القضية التي عالجناها في هذا البحث، هي أن التدين بمعنى تحمل الدين إيماناً قلبيًّا بحقائقه، وتكيّفاً عمليا بها في السلوك الفردي والاجتماعي، يحتاج لكي يتم على الوجه المطلوب، الذي يحقق غرض الدين، إلى فقه بمعنى منهجي، به يتم التحمل الإيماني، وبه يتم التطبيق الواقعي، وهذا الفقه يختلف في طبيعته وخصائصه عن الفقه الذي به يكون التمثل المعرفي المجرد لحقائق الدين من مصادرها.
وقد بينا أن فقه التدين يحتاج إليه المسلم في مراحل ثلاث، يفضي بعضها إلى بعض، لتنتهي بتكييف الحياة في مسالكها كلها بالأحكام الدينية، وتلك هي غاية الدين في تحقيق صالح الإنسان وخيره، وهذه المراحل الثلاث هي: فهم الدين من أجل تطبيقه، وصياغة أحكام الدين بما يلائم مشخصات الواقع الزمانية والمكانية، والإجراء الفعلي لأحكام الدين في واقع الحياة.(2/119)
ففي المرحلة الأولى بينا أن فهم الدين فهماً يهدف إلى الالتزام به إيماناً وعملاً، يحتاج إلى فقه ينبني على الوقوف أولاً على مصدر الدين (وهو نصوص الوحي ) في طبيعته وخصائصة وطرائقة في الهدي، وتمييزه مما قد يلتبس به، وينبني أيضاً على آداب وضوابط في فهم الأحكام من مصدرها، منها ما يرجع إلى ضوابط وأحكام تتعلق بالنص نفسه، ومنها ما يتعلق بالعقل في طرائق الفهم، ومنها ما يتعلق بدور الواقع في ذلك الفهم، وينبني أخيراً على آداب وضوابط في فهم الواقع الإنساني، الذي يراد تنزيل الدين عليه، وتطبيقه فيه.
وفي المرحلة الثانية، بينا أن صياغة أحكام الدين، لتصبح خطة للإصلاح، ومراعية لمقتضيات الزمان والمكان، يحتاج إلى فقه في صياغة العقيدة، يقوم على قواعد تضمن الاقتناع بها، كما تضمن صيرورتها مرجعيةً إيديولوجية في كل تفكير وسلوك، وهي قواعد تشتق من الطبيعة المتغيرة للعقول، في طرق الاقتناع بتغير الأنماط الثقافية السائدة، كما تحتاج إلى فقه في صياغة الشريعة، يقوم على قواعد من الواقعية والتكامل، واعتبار المقاصد في نظم الأحكام الشرعية في خطة الإصلاح.
وفي المرحلة الثالثة، بينا أن إنجاز الأحكام الشرعية في الواقع العياني للحياة، يحتاج إلى فقه يقوم على توفير شروط ضرورية، لا يتم بدونها إنجاز ناجح، ومن أهمها الوعي والاقتناع بالشريعة أساساً، والتأطر الاجتماعي، الذي من خلاله يتم الإنجاز، كما يقوم على آداب إنجازية، تعتمد المرحلية والتدرج، والتأجيل والاستثناء، وجماعية الإنجاز، وهي آداب يفضي إهمالها والتغاضي عنها إلى تعثر شديد، واضطراب مخل، في إنجاز أحكام الدين في الواقع، مهما كان الفهم سديداً والصياغة محكمة.(2/120)
وقد رأينا أن هذا الفقه الضروري للتدين يحتاج إلى بحث وإثراء وإنضاج من قبل المفكرين المهتمين بتنزيل الدين في حياة المسلمين، في سبيل ترشيد الصحوة الإسلامية، وتسديد خطاها، وأن ما عرضناه في هذا البحث لا يعدو أن يكون دعوة للنظر من قبل ذوي الكفاءة في هذا المجال.(2/121)