.
تمهيد:
بالرغم من أن قضية التنمية تعتبر مسألة مطروحة منذ مدة طويلة، إذ شغلت الفكر الاقتصادي منذ القديم، ولو أن ذلك تم تحت تسميات متعددة أو في إطار تناول مختلف المفاهيم الاقتصادية أو الاجتماعية الأخرى، ثم نالت بعد الحرب العالمية الثانية اهتمامات مختلف المؤسسات ـ محلية وإقليمية ودولية ـ باعتبارها المشكلة الأساسية التي تواجه البلدان المتخلفة(1)؛
__________
(1) ـ سنعمد إلى استعمال هذا اللفظ للدلالة على مجموعة البلدان التي يطلق عليها البعض: بلدان العالم الثالث، أو البلدان السائرة في طريق النمو، أو البلدان النامية.... أو غير ذلك من التسميات المتعددة والتي قد تعبر عن دلالات وأغراض مبيتة، إذ مهما اختلفت التسميات فإننا يمكن أن نتفق على أن هذه البلدان هي تلك المثخنة بجراح الفقر والجهل والأمراض والديون والحروب والمنهكة من ملاحقة تطورات الحضارة المادية التي تفصلها عن الزمن الذي تعيشه شعوبها، والتي تعانى من التأخر الاقتصادي والاجتماعي والسياسي قياسا بالبلدان الأخرى المتطورة، وعليه اعتمدنا هذه التسمية التي تعكس واقع وحقيقة هذه المجموعة. أما تسمية البلدان المتقدمة (أو الاقتصاديات الرأسمالية أو الصناعية المتقدمة) فإننا نقصد بها بلدان منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية (دون المكسيك وكوريا، وتركيا) وأما تسمية الاقتصاديات المتحولة فنطلقها على بلدان جنوب شرق أوروبا وبلدان رابطة الدول المستقلة عن الاتحاد السوفياتي السابق، وهي التسميات التي تعبر في رأينا عن مرحلة التنمية وواقعها التي بلغها كل بلد في عملية التنمية..(1/1)
فإن تحديد مفهوم دقيق للتنمية الاقتصادية يبقى أمرا عسيرا بالنظر للتطورات التي حصلت في الفكر التنموي، ولتعقيد عملية التنمية في حد ذاتها؛ ذلك أن الاهتمام بمشكلات النمو في الاقتصاديات الرأسمالية المتقدمة، ومحاولات الخروج من التخلف في الاقتصاديات المتخلفة، والمشاكل التي كان يطرحها أداء الاقتصاد الاشتراكي المخطط، أدت كلها إلى زيادة تركيز اهتمام الفكر الاقتصادي بمشكلات النمو والتنمية(1)، الأمر الذي أدى إلى تبلور مفهوم التنمية على مراحل، تشهد على تطوره في الفكر الاقتصادي من جهة، وتعكس واقع واتجاهات الأنظمة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المتعاقبة من جهة أخرى، لذلك رأينا محاولة الإلمام بأهم المساهمات الفكرية التي تمت في ذلك ضمن محتويات مبحث أول من هذا الفصل التمهيدي.
__________
(1) ـ نرى من الموضوعية التسليم بوجهة النظر القائلة، بان اصطلاح النمو ينطبق على الدول المتقدمة اقتصاديا والتي تتميز بان معظم مواردها معروفة ومستغلة بالفعل، في حين أن مفهوم التنمية يرتبط بالدول المتخلفة التي تملك إمكانيات التقدم واستغلال الموارد التي لم تستغل بعد، وهو ما تذكره الأستاذة: ) أرسولا هيكس (Ursula Hicks أنظر في هذا ولمزيد من التفاصيل، حول مفهومي التنمية الاقتصادية والنمو الاقتصادي، العديد من الكتابات، منها مثلا:
ـ د. عمرو محي الدين: التخلف الاقتصادي، دار النهضة العربية، 1975، الفصل الرابع.
ـ د. عبد الحميد القاضي: مقدمة في التنمية والتخطيط الاقتصادي، دار الجامعات المصرية1975، ص80 وما بعدها.
ـ محمود يونس محمد/ عبد النعيم محمد مبارك: في اقتصاديات التنمية والتخطيط، دار النهضة العربية، بيروت1985، ص93-98.
ـ د محمد عبد العزيز عجمية/ د.إيمان عطية ناصف: التنمية الاقتصادية، دراسات نظرية وتطبيقية، قسم الاقتصاد، كلية التجارة، جامعة الإسكندرية2003، الفصل الثاني، ص69- 126.(1/2)
وحيث أن أغلب البلدان المتخلفة كانت قد تبنت أسلوب التخطيط الاقتصادي كأداة للتنمية، ولتوجيه اقتصادها نحو تحقيق أهداف مرغوبة طرحت بحدة عقب انتهاء الاستدمار العسكري، وكانت قد ساعدت على تبني ذلك الأسلوب عوامل عديدة، لذلك فإن استعراضنا لمفهوم التخطيط والتعرف إليه باعتباره أسلوبا اقتصاديا عاما أولا، ثم تناول طابعه السياسي والاقتصادي والاجتماعي والفني ثانيا، يمكن أن يكشف عن طبيعة الأزمة التي أصابت تجاربه المختلفة، وعن طبيعة المشاكل التي تواجهها البلدان المتخلفة في محاولاتها لتحقيق أهداف التنمية المنشودة، وعليه كان المبحث الثاني متعلقا بالتخطيط الاقتصادي؛ الذي امتدت ممارسته لفترة تتراوح بين الثلاثة والأربعة عقود في بعضها، وإلى أن برزت منذ بدايات الثمانينيات النتائج المخيبة للآمال، فانعكس ذلك على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وتحت ضغط عوامل عديدة تفاقمت الاختلالات، وكان أن ترافقت تلك الأوضاع مع تسارع التحولات التي بدأ العالم يشهدها ـ من اشتداد ضغوط الطلب على المواد الأولية مع الانتعاش الاقتصادي العالمي في1984 إلى حدوث تحول في ميزان القوي الدولية، وصولا إلى تصاعد الثورة التكنولوجية إعلاما واتصالا ـ مما وضع البلدان المتخلفة في مواجهة واقع جديد ليس لها دور فيه، مما يضعف من قدراتها في مواجهة متطلبات التنمية الاقتصادية والاجتماعية، لذلك كان من الضروري أيضا تناول مفهومي الأزمة والتحولات في مبحث ثالث من هذا الفصل، آملين أن نوفق في تقديم خلفيةٍ مُمَهدةٍ لفهم أزمة التنمية بالبلدان المتخلفة بأبعادها المختلفة.
المبحث الأول
مفهوم التنمية الاقتصادية(1/3)
يبدو لنا من الأهمية وقبل تناول موضوع التخطيط الاقتصادي بمختلف الأنظمة الاقتصادية والسياسية، أن نتعرض إلى تطور مفهوم التنمية الاقتصادية الذي أولاه المفكرون والاقتصاديون اهتماما متزايدا عبر الزمن، ولازالت تبرز حول مضمونه اختلافات بينهم إلى اليوم، بسبب اختلاف المعايير والرؤى التي ينظر من خلالها للتنمية؛ لقد كانت المسالة الأساسية لمفكري الأنظمة ما قبل الماركسية تتمثل في كيفية زيادة ثروة الأمة، ولذلك فقد كان مفهوم التنمية يندرج ضمن بنائهم النظري ككل، أما ماركس فقد تركز تحليله حول الكشف عن القوانين التي تحكم تطور النظام الرأسمالي، ثم اختفى بعد ذلك الاهتمام بالتنمية الاقتصادية في تحليل الاقتصاديين الحديين، الذين ركزوا اهتمامهم حول مسائل الوحدات الاقتصادية الجزئية، ليظهر من جديد هذا الاهتمام في إطار اقتصاديات السوق والتخطيط معا.
وحتى لا يبعدنا الإطناب والإلمام بكل ذلك التراث الفكري، عن جوهر اهتمامنا في هذا العمل فإننا سنحاول تتبع تلك الاتجاهات إلى مر بها مفهوم التنمية الاقتصادية والتعرف ـ ولو بصورة موجزة(1)ـ عن ذلك التطور في المفهوم كما جرى عبر الفكر الاقتصادي، وهو الأمر الذي يعد في نظرنا ضروريا، حتى ندرك بدقة ومن منظور شامل عملية التنمية، عسى أن يسمح لنا ذلك أيضا بإدراك مغزى التطورات التي طرأت على مفهومها ومضمونها منذ أواخر القرن العشرين، مما سيساعدنا بدوره في تحديد تعريف أكثر دقة للتنمية الاقتصادية يتناسب والأوضاع الراهنة بالبلدان المتخلفة.
الفرع الأول
المفكرون التجاريون
__________
(1) ـ لمزيد من التفاصيل راجع:
Abdelkader Sid Ahmed : croissance et développement, théories et politiques Tome1,
2ème édition, opu 1981, pp 1_333(1/4)
شهدت الفترة الممتدة بين القرنين الخامس عشر إلى السابع عشر على صعيد الفكر الاقتصادي، ظهور الأفكار "الميركانتيلية"(1)التي عبرت عن نموذج توسع رأس المال التجاري(2)الذي مكن من اكتشاف السوق العالمية التي ستلزم لنمو الرأسمالية الصناعية في مرحلة لاحقة.
__________
(1) ـ التجاريون أو المركانتيليون يطلق على أنصار ومفكري تلك الإيديولوجية التي سادت الدول الأوروبية مدة ثلاثة قرون كاملة من 1450 الى1750، والتي كانت تعمل على تركيز السلطة الملكية وقوة الدولة، وقد عرفت المركانتيلية عدة اتجاهات فكرية تعبر كل منها عن فترة تاريخية وبنية اقتصادية وآفاق تنمية اقتصادية معينة، أكثر مما تعبر عن نظرية ومذهب بالمعنى الصحيح لكل منهما، حيث تقوم أفكار التجاريين علي بعض التعليمات العملية التي وضع أسسها "أنطوان دي مونكريتيان". وكان من أهم مفكري هذا الاتجاه كل من:Ortiz ,Olivarez ,Duc Cafra ,Louis Bodin ,A.De Monchretien, Tomas Man, William Petty.
(2) ـ حول مفهوم وتطور رأس المال التجاري، أنظر، محمد دويدار: مبادئ الاقتصاد السياسي، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر 1981 ص121 وما بعدها.(1/5)
كان التجاريون يعتقدون أن أساس الثروة يتمثل في تحصيل الموارد الاقتصادية المتوفرة، والتي تتجسد في المعادن النفيسة(1)ـ أي الثروة في مظهرها النقدي ـ وحيث أن الفكرة التي كانت رائجة آنذاك تتمثل في أن الموارد الإجمالية للثروة هي معطاة علي الصعيد العالمي، فإن اغتناء أمة ما لا يمكن أن يتم سوى على حساب أخرى ، فقد شهدت المرحلة التجارية تنافسا وحشيا وحروبا ضارية بين الدول الأوروبية من أجل المغانم عبر البحار والمزيد من الاستيلاء علي المستعمرات.(2)ولذلك كان الفكر التجاري براجماتيا في تبرير كافة الوسائل التي يمكن أن تلجأ إليها الدولة لفرض السيطرة علي البلدان الأقل قوة وهو ما يجسد برأينا العلاقة بين الفكر التجاري والسياسة الاستعمارية.
وهكذا يمكن القول بأن مفهوم التنمية عند التجاريين يتمثل في نظرتهم إلى خلق فائض في الإنتاج من خلال التركيز على التداول الذي يحقق ذلك والمرتبط بمجموعة من السياسات والإجراءات من أهمها:
أ- تدَخُل الدولة اقتصاديا وسياسيا في تحقيق عملية التنمية من خلال تشجيعها للأنشطة الاقتصادية المشتغلة بالتصدير وترسيخ قوة ونفوذها السياسي.
ب- إن نمو السكان يعتبر عامل مساعد للنمو ومصدر قوة اقتصادية ومن هنا يعتقد التجاريون أن نمو الإنتاج يتوقف على القوة العاملة في الدولة.
__________
(1) ـ هذه الفكرة وجدت في كتابات الأوائل من التجاريين،أما الأواخر فيقولون أن الثروة تتمثل في إنتاج الأرض والعمل والصناعة، أنظر في هذا: محمد دويدار ، ع.س، ص144 ـ147.
(2) ـ لمزيد من التفاصيل أنظر: د. رمزي زكي/التاريخ النقدي للتخلف.دراسة في أثر نظام النقد الدولي علي التكون التاريخي للتخلف بدول العالم الثالث. سلسلة كتب عالم المعرفة، إصدار المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، أكتوبر1987، ص39 ـ 48.(1/6)
ج- العمل على توفير الظروف الملائمة لإنجاح التصنيع وازدهار التجارة باعتباريهما قطاعان محركان للاقتصاد الوطني وذلك من خلال التبادل التجاري والاهتمام بالعلاقات الاقتصادية الدولية وتحفيز رجال الأعمال والصناعيين.
والواقع أننا لا نجد في "الميركانتيلية "مفهوما محددا ومتكاملا للتنمية بالرغم من أنها ولدت (سيلا مستمرا من المعارف...سمح لها أن تتجاوز الظروف السياسية التي أنشأتها ...وبشرت بالنظرية الاقتصادية في جميع مظاهرها من مبدأ حرية العمل إلى الاشتراكية)(1).
ولذلك فانه من الصعب تجاهل بعض آراء التجاريين، التي تلتقي مع ما ينادى به بعض المعاصرين، فيما يتعلق بقضايا التنمية الاقتصادية.(2)
الفرع الثاني
المفكرون الطبيعيون
لقد كانت المسألة الأساسية التي طرحها الطبيعيون(3)فيما يتعلق بالبنيان الاقتصادي، تتمثل ـ في زمانهم ـ في كيفية زيادة الدخل الوطني في بلد متخلف مثل فرنسا آنذاك.
ودون إطناب في عرض تشكيل بذور نظرية للتنمية عند الطبيعيين، فانه يمكننا القول بان إشكالية التنمية عندهم تقوم على فكرتين:
__________
(1) ـ دافيدس لاند/ في:التاريخ النقدي للتخلف، رمزي زكي، م,ن،ص39.
(2) ـ لتفاصيل أكثر، أنظر: سعيد النجار: تاريخ الفكر الاقتصادي من التجاريين إلى نهاية التقليديين، دار النهضة العربية، بيروت
1973، ص52 وما بعدها.
(3) ـ الطبيعيون أو الفيزيوقراطيون، يطلق على أتباع دلك التيار الفكري الليبرالي الذي ظهر كرد فعل ضد أفكار المدرسة الرأسمالية التجارية، وسيطر على الأفكار الاقتصادية منذ صدور كتاب " الجداول الاقتصادية " للطبيب الفرنسي فرنسوا كيني سنة1758 والى غاية الثورة الفرنسيةسنة1789 ويعتبر الطبيعيون أن الأرض والطبيعة مصدر التقدم البشري، وقد نادوا بعدم تقييد حرية التجارة والعمل، ومن أهم منظريهم: F.Quesnay, Pierre Dupont de Nemours.(1/7)
أ ـ فكرة الناتج الصافي أو الفائض في كميات الإنتاج عن تلك التي تكون قد استخدمت في عملية الإنتاج، فقد قام تحليلهم على أساس أن ذلك هو قوام الثروة ومنبع الرفاهية الاقتصادية، ولذلك بحثوا في الشروط والأوضاع التي تحقق أقصى ناتج صافي ممكن.
ب ـ فكرة دورية عملية الإنتاج التي يتم من خلالها إعادة إنتاج الفائض، بحيث يمكن استمرارية العملية لفترات متوالية.
ونجد عند "فرنسوا كيني. François Quesnay"(1)معالجة لمختلف أوجه وأساليب الإنتاج، فالجدول الاقتصادي عنده يمثل أداة تسمح بتقدير سياسة تهدف إلى تغيير وضع اقتصادي قائم ، حيث كان هدف الطبيعيين تحقيق تنمية اقتصادية من خلال تحويل الاقتصاد الزراعي لفرنسا آنذاك ليس إلى اقتصاد صناعي،بل إلى اقتصاد تعوض فيه المساحات الزراعية الكبيرة ـ التي تتطلب رؤوس أموال ضخمة، وتدفع نحو التطور التقني ـ المساحات الصغيرة القليلة الإنتاجية.
وبالنسبة "لكينى" فان التنمية الاقتصادية لا تتم طبيعيا وبوتيرة سريعة نسبيا، إلا إذا كان التوسع في القطاع غير الزراعي يستجيب لتوسع سابق عليه في القطاع الزراعي " المصدر الوحيد للثروة".
__________
(1) ـ فر انسوا كيني (1691-1771) طبيب وجراح أول لملك فرنسا لويس 15 ومع أنه لم يهتم إلا استثنائيا بالاقتصاد السياسي، إلا أن وضعه لأول محاولة لحصر النشاط الاقتصادي الوطني، من خلال جدوله الاقتصادي الشهير ( Tableau Economique) سنة 1758، مكنه من زعامة المدرسة الفلسفية والاقتصادية للطبيعيين، وهو صاحب القول الشهير " دعه يفعل، دعه يمر ".(1/8)
أما عن دور الدولة في عملية التنمية ـ وهي التي يجب أن تتمثل في سلطة عليا واحدة ولا تعاني من انقسام المجتمع(1)فيجب أن يقتصر دورها على تشجيع كل ما من شأنه أن يؤدي إلى زيادة الناتج الصافي ـ أي العمل على حماية النظام الطبيعي(2)مثل توفير الظروف الملائمة لتحقيق وفورات في عملية الإنتاج، وحرية الفلاح في الاستثمار، وحرية تصدير المواد الأولية، وبصفة عامة أن تعمل على تراكم ونشر المعارف العلمية المناسبة وتوفير ظروف مناسبة للعمل.
الفرع الثالث
الاقتصاديون التقليديون
لقد كان الهدف الأساسي للتقليديين(3)هو البحث عن أسباب نمو الدخل الوطني على المدى البعيد وآليات عملية النمو.
__________
(1) ـ لمزيد من التفاصيل راجع :Abdelkader Sid Ahmed ,op.cit ,p14 .
(2) ـ حول الناتج الصافي ومفهوم النظام الطبيعي راجع: سعيد النجار، ع.س، ص57 ـ 70.
(3) ـ إن اصطلاح النظرية التقليدية " أو الكلاسيكية " ينصرف إلى مجموعة الأفكار الاقتصادية التي وضع أسسها وساهم في تطويرها "آدم سميث" .ويعتبر " كارل ماركس " أول من جمعهم على مستوى صعيد فكري واحد وأطلق عليهم اسم " المدرسة التقليدية " بالرغم من أنهم لم يكونوا على رأي واحد في المسائل التي تصدوا لها، ولكن تبقى مع ذلك بدايتهم وطريقتهم في تناول الأمور وفلسفتهم السياسية متفقة إلى حد كبير.
وقد سيطرت على تاريخ الفكر الاقتصادي لمدة ثلاثة أرباع قرن، يعتبر آدم سميث مؤسسها بدون منازع ومن رعيلها الأول، أما الجيل الثاني الأكثر ثراء فيضم: جان باتست سايJean Baptiste Say ، ومالتس Robert Malthus، ودافيد ريكاردوDavid Ricardo، وأما جون ستيوارت ميل JOHN Stuart Mill فيعتبر من بين جيلها الثالث الذي عرف بتحليله الفكري الجامعي.
ويؤكد أنصار هذه المدرسة على المصلحة الشخصية وحرية المؤسسات والصفقات التجارية باعتبار ذلك هو المحرك لمجمل الحياة الاقتصادية في المجتمع.(1/9)
ويمكن القول أن مؤلف (آدم سميث Adam Smith)(1)المعنون "دراسة في طبيعة وأسباب ثراء الأمم" هو تعبير عن الاهتمام بمشكلة التنمية الاقتصادية، إذ أنه يبحث في التعرف على أسباب تحقيق النمو الاقتصادي والعوامل التي تعوقه. وتحليل التقليديين تم إثراؤه انطلاقا من فكرة مركزية وجدت لأول مرة في المؤلف المذكور وتتلخص في أن النظام الاقتصادي متذبذب، وأن القرارات الفردية تتخذ طبقا لمعطيات السوق وتتوافق بالتقارب التدريجي، فإذا كان كل شخص يخضع في اتخاذ قراره إلى مصالحه الشخصية فإنه يساهم دون علمه في تحقيق (إنجاز) حل فيما يتعلق بصنف وكمية السلع التي من المناسب إنتاجها، وكأن هناك " يدا خفية " توجه قراراته الفردية.
__________
(1) ـ آدم سميث (1723_1790) فيلسوف واقتصادي إنجليزي، درس في "غلاسكو و إكسفورد"، التي أصبح فيها أستاذا، عاصر" فرانسوا كيني" واتصل بالطبيعيين عندما زار فرنسا 1765، ويعتبر مؤلفه ثروة الأمم حدث كبير في مطلع الفكر الاقتصادي.(1/10)
فعند "سميث " نجد أن تقسيم العمل وتراكم رأس المال وحجم السوق، تشكل الأسس الأساسية في مفهوم النمو،(1)بحيث يرى أن أساس التنمية الاقتصادية هو تراكم "رؤوس الأموال " الناتجة عن فائض الإنتاج ،أي الفارق بين الدخل الناتج والتكاليف الأولية ، على أساس أن يستعمل هذا التراكم في استثمارات جديدة. فإذا ما توفر السوق الكافي، فإن تقسيم العمل والتخصص يأخذان مكانتهما مما يتمخض عن تزايد في الدخول، ويترتب علي ذلك توسيع حجم السوق، فضلا عن تزايد الادخار والاستثمار، ومن أجل ذلك فإن " سميث " يشجع المبادلات التجارية ويري أن التجارة الخارجية تعد مصدرا مهما للتقدم الاقتصادي. كل ذلك يمهد لتقسيم أكبر للعمل وكذلك لنمو الدخل، أي أن عملية التنمية تصبح متجددة ذاتيا. أما عندما يصل الاقتصاد إلى الحدود التي يسمح بها الاستخدام الكامل للأرض المتوفرة فإن هذا النمو ينتهي إلى حالة من الركود. وحيث أن الوصول إلى حالة الركود تلك، لم يكن واضحا عند "سميث"، فقد ظهر بعده ( دافيد ريكاردوDavid Ricardo )(2)ليوضح بموجب نظرية بسيطة وشاملة كيف يتم الوصول إلي حالة الركود أو الاستقرار تلك.
__________
(1) ـ لمزيد من التفاصيل، راجع: محمد عبد العزيز عجمية / محمد علي الليثي: التنمية الاقتصادية، مفهومها، نظرياتها، سياساتها مؤسسة شباب الجامعة، الإسكندرية، 1996.ص52-53 .
(2) ـ دافيد ريكاردو (1772-1825) من أصل هولندي، كان مصرفيا ناجحا، عمل بالبورصة، وكان عضوا بمجلس العموم، من أهم مؤلفاته "مبادئ الاقتصاد السياسي والضرائب" سنة 1817، أوضح فيه كيفية توزيع الإنتاج الوطني بين الملاكين العقاريين وأصحاب رؤوس الأموال والعمال، وقد قاده ذلك إلى وضع نظرية في التنمية الاقتصادية.(1/11)
أوضح ريكاردو أن الرأسماليون(1)الذين يوجهون عملية التنمية عن طريق الادخار من أرباحهم ، يقومون بذلك طالما زادت معدلات الربح حدودا معينة، ويستمرون في توسيع الإنتاج من خلال استخدام أرصدتهم الرأسمالية في استخدام أراضي أجود وبتشغيل عدد أكبر من العمال وبشراء معدات إضافية ، وذلك طالما أن معدلات الأرباح لم تقترب من الصفر ، غير أن عدم توفر الأراضي الخصبة يصبح عائقا أمام استمرار هذه العملية ، وعندما تنعدم الأرباح ـ أو تقترب من الصفر ـ تسود حالة الركود .
وللحيلولة دون الوصول إلى حالة الركود هذه ـ أو تأجيلها علي الأقل ـ فإنه يرى تفادي قيد ندرة الموارد الطبيعية في إطار التجارة الخارجية، إضافة إلى أنه حينما يأخذ الرأسماليون فرصا كاملة للبحث عن الأرباح فإن اليد الخفية لجهاز الثمن ـ في ظل غياب أية أوضاع احتكارية ـ تعمل على توزيع الموارد المتاحة بكفاءة ومن ثم فإنها تؤخر الوصول إلى حالة الركود إلى أقصى حد ممكن.
__________
(1) ـ تجدر الإشارة إلى أن المجتمع في نموذج "ريكاردو" يتشكل من ثلاث فئات رئيسية هي:الرأسماليون ،العمال ،أصحاب الأراضي(1/12)
أما ( جون ستيوارت مل.John Stuart Mill )(1)فيرى أن الاقتصاد عندما يصل إلى حالة السكون أو الركود، فانه يكون في وضع ينطوي بصفة عامة على تقدم كبير، بالنسبة للأحوال التي سادت في عصره. وبالرغم من أن الاقتصاديين التقليديين، كانوا دائما يقترحون وسائل هامة لتأخير الوصول إلى حالة الركود، فإنهم لم يستطيعوا التنبؤ بالثورة التكنولوجية التي ظهرت في أواخر القرن 18 وخلال القرن 19 في البلدان الأكثر تقدما، وتم التمكن بفضلها من التغلب على ندرة الموارد الطبيعية وآثار تناقص الغلة(2)، التي أثارت اهتماما واسعا في فكر التقليديين، مما أصبحت معه النظرية التقليدية في التنمية الاقتصادية غير منطقية في تحليل النمو في الدول المتقدمة(3).
الفرع الرابع
المفهوم الماركسي
يمكننا القول بان كتابات كارل ماركس(4)ـ منذ إصداره للبيان الشيوعي سنة 1848 ـ الفلسفية والاقتصادية تشكل بناءا عرف بالماركسية، يتكون من ثلاثة أجزاء رئيسية هي:
أ ـ الفلسفة الجدلية ( الديالكتيك ).
ب ـ العلوم الاجتماعية( الاقتصاد السياسي ) من خلال المادية التاريخية.
__________
(1) ـ جون ستيوارت مل (1806 -1873 ) ابن الفيلسوف والاقتصادي " جيمس ميل "، كان عضوا في مجلس العموم البريطاني، له كتاب في " الاقتصاد السياسي " سنة 1848، قدم فيه أفكاره وأفكار التقليديين.
(2) ـ حول قانون تزايد وتناقص الغلة طالع: صبحي تادرس قريصة / مدحت محمد العقاد: مقدمة في علم الاقتصاد، دار النهضة العربية، بيروت 1983، ص150ـ169.
(3) ـ لتفاصيل أكثر حول مفهوم وآراء المفكرين التقليديين في التنمية، مثل: مالتس، ريكاردو، سيسمو ندى، راجع:
Abdelkader Sid Ahmed, op .cit. Chapitre2, pp. 35-79.
(4) ـ كارل ماركس Karl Marx 1818ـ1883 من عائلة برجوازية ألمانية وكان من النشطين سياسيا، فطرد إلى إنجلترا، حيث لعب دورا مهما في الحرية العمالية والثورية في عصره، ويحتل ماركس مكانة هامة في تاريخ الفكر الاقتصادي.(1/13)
ج ـ التحليل المتعلق بالنظام الرأسمالي.
والجدير بالملاحظة، أنه من غير الممكن عرض أية قضية من القضايا الاقتصادية والاجتماعية التي تناولها " ماركس" دون أن توضع في إطارها التحليلي الواسع الذي يراعي هذه الأجزاء الثلاثة.
لقد استخدم ماركس الديالكتيك والمادية التاريخية والاقتصاد السياسي، في تحليل قوانين النمو والحركة للمجتمعات البشرية مع التركيز بصفة أساسية على النظام الرأسمالي.
تقوم النظرية الماركسية في النمو الاقتصادي على فكرة التفسير المادي للتاريخ التي تتلخص في أن النظام الاقتصادي هو أساس النظم الاجتماعية التي مرت على العالم منذ بدايته. فلقد تعاقبت على الإنسانية عدة نظم اقتصادية لها خصائص متميزة تختلف عن بعضها البعض وتعكس مراحل التطور الاقتصادي(1).
أما النظام الاجتماعي الذي ركز ماركس اهتمامه عليه فهو النظام الرأسمالي، الذي يرى أنه يحتوي على كل أنواع المتناقضات الداخلية والتي تَحُولُ ـ في ظله ـ دون تحقيق عملية تنمية ناجحة ، بل تجعل عملية التنمية ذاتها مستحيلة ، ومن هنا تظهر نظرية في التطور الرأسمالي عند ماركس تقوم على تحليل انتقادي لعملية الإنتاج والتراكم في هذا النظام؛(2)فهذه المتناقضات تعمل على طي النظام الرأسمالي وانهياره، ليحل محله النظام الاشتراكي وفي ظل هذا النظام الجديد اللاطبقي سوف تستخدم القوى الاقتصادية التي تعزز النمو، استخداما كاملا، وسوف يستفيد كل أفراد المجتمع من عملية التنمية المترتبة على ذلك.
__________
(1) ـ وهي:العصر البدائي- العصور القديمة – الإقطاع – الرأسمالية - الاشتراكية وهذا طبقا للنظرية الماركسية .
(2) ـ لمزيد من التفاصيل أنظر، محمد دويدار: مبادئ الاقتصاد السياسي، ص212.(1/14)
ومن ناحية أخرى فقد اعتبر كارل ماركس وأتباعه(1)أن النظرية التقليدية في النمو ضحلة وتافهة، بحيث أن العوامل التي قدمتها لتفسير أسباب المشاكل التي تواجهها عملية التنمية ـ مثل انخفاض معدل التقدم التكنولوجي أو انعدامه، أو الافتقار إلى الموارد الطبيعية ـ ما هي لا الأسباب الظاهرية لهذه المشاكل، ومن أجل التعرف على العوامل الأساسية التي تشكل التنمية وتحركها يؤكد ماركس والماركسيون على ضرورة دراسة طبيعة النظام الاقتصادي الذي يأخذ النتاج في ظله.
__________
(1) ـ يمكن القول أن نموذج التبعية للاستعمار الجديد، ونموذج المفهوم الخاطئ للتنمية يمثلان الاتجاه الماركسي الجديد, ومحاولة بناء نظرية للتنمية تعبر عن آرائهم، لمزيد من التفاصيل حول هذا الموضوع راجع: عبد الوهاب الأمين/ التنمية الاقتصادية، المشكلات والسياسات المقترحة، مع إشارة للبلدان العربية، دار حافظ للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 2000، ص68-70.(1/15)
وحيث أثبت التاريخ عدم تحقيق تنبؤات ماركس المتعلقة بانهيار النظام الرأسمالي، إضافة إلى أن المنطق الاقتصادي أثبت أن نموذج ماركس في النمو يحتوي على العديد من النقائص والتناقضات(1)فإننا لا نتبين نظرية للتنمية الاقتصادية متسقة منطقيا في الفكر الماركسي بالرغم من ثرائه بنفاذ البصيرة لطبيعة عملية النمو في ظل النظام الرأسمالي، وتعتبر تلك الكتابات التي ظهرت إبان السبعينيات لدى أمثال" سمير أمين وبول باران PAUL Baran ودوس سانتوسDos Santos وسويزي Paul Sweezy " تعبيرا عن نهج ماركسي جديد في تحليل إشكالية التخلف من حيث أنه نتيجة لاستمرار علاقات التبعية للنظام الرأسمالي العالمي وخضوع تلك البلدان لسيطرة المؤسسات الاقتصادية والسياسية المحلية التقليدية الموروثة عن الاستعمار والمرتبطة المصالح به، وعليه فإن التنمية في نظر أولئك لا يمكن أن تتحقق دون إحداث تغيرات جذرية في العلاقات الاقتصادية العالمية.
الفرع الخامس
المدرسة التقليدية الجديدة
__________
(1) ـ أنظر في ذلك : محمد عبد العزيز عجمية/ محمد علي الليثي، التنمية الاقتصادية، م. س، ص70ـ71.(1/16)
تقرر هذه المدرسة(1)أن النمو الاقتصادي يتحقق من خلال نمو عناصر الإنتاج متمثلة في العمل ورأس المال والتكنولوجيا كما أن السوق الحر قادر على توجيه هذه العناصر لاستخداماتها المثلى دون تدخل من قبل الحكومة.
__________
(1) ـ المدرسة التقليدية الجديدة أو النيوكلاسيكية وتعرف أيضا تحت مصطلح المدرسة الحدية، وكان ظهورها نتاجا للصراع الاجتماعي والفكري المرير الذي شهدته دول القارة الأوروبية بعد دخولها مرحلة الثورة الصناعية، وخصوصا عقب الأزمات المتكررة، ولقد ظهرت هذه المدرسة على الخصوص في ثلاث جامعات في آن واحد سنة 1871عن طريق ثلاثة من الاقتصاديين: كارل منجر (KARL MANGER)(1921ـ1840) في النمسا، وستانلي جيفنز (STANLY JEVONS)(1835ـ1882) بكامبردج بإنجلترا ، وفالراس في لوزان بسويسرا (LEON WALRAS)(1834ـ1910) ويعتبر الفريد مارشال (A.MARSHALL) (1842ـ1924) أنضج الحديين على الإطلاق ، إذ استطاع أن يجمع في بوتقة واحدة ما جاء به الكلاسيكيون والحديون.(1/17)
(1)
وإن التنمية تأخذ مكانها في خطوات بسيطة مستمرة ومترابطة في غالب الأحيان. وتدعمها الوفورات الخارجية والداخلية التي تتحقق من عمليات التوسع المستمرة داخل المؤسسة وخارجها وهي الوفورات التي تتمثل في الزيادة التي تحدث في الإنتاجية أو الانخفاض الذي يحدث في متوسط تكاليف الإنتاج.
وقد اهتموا وركزوا دراساتهم على العلاقات المتشابكة بين الوحدات الصغيرة التي تنطوي عليها عملية التنمية وإن كل نمو في مشروع أو في صناعة مهما كان صغيرا يتمخض عن سلسلة من ردود الأفعال والتي تؤثر بدورها على العديد من المشروعات والصناعات وقد يتحقق ذلك في حدوث نمو إضافي هام في الاقتصاد الوطني ككل.
__________
(1) ـ تتألف نظرية النمو في النموذج الكلاسيكي الحديث بصورة أساسية من النموذج الذي تم توضيحه وتطويره من قبل سوان (SWAN)سنة(1956) وسولو(SOLOW)(1956) ورامسي(RAMSY)(1962) وكوبمانس(KOOPMANS)(1965) وكاس (CASS)(1965) وقد تم توسيع النموذج ليشمل ضمن مفهوم رأس المال، رأس المال البشري متمثلا في التعليم والخبرة والصحة، ورغم إدراك منظرو النمو أن النموذج الكلاسيكي الحديث يفتقد أمرا جوهريا وهو التقدم التكنولوجي، حيث تنبئوا أنه في حالة غياب تحسينات مستمرة في التكنولوجيا، فلابد أن يتوقف النمو للفرد الواحد في نهاية المطاف فظهرت توسيعات في النظريات الجديدة لتشمل انتشار التكنولوجيا: ليكاس(LUCAS)(1988)، سيرجيو (SERGIO REBELO)(1991) بارو وسالا (BARRO et SALA) (1997) ولمزيد من التفاصيل راجع: روبرت بارو/ النمو الاقتصادي، دراسة تجريبية عبر البلدان، ترجمة/ نادر إدريس التل، دار الكتاب الحديث للنشر والتوزيع، عمان، الأردن 1998، الفصل الأول، ص1- 7.(1/18)
وأما المنافسة الحرة ـ بصفة عامة ـ فهي السياسة الأكثر كفاءة لدعم عملية التنمية ويلاحظ أن هذا التأييد القوي لسياسة الحرية ـ والتي أوصى بها من قبلهم التقليديون ـ كان حائلا دون قبولهم حقيقة أن تشابك الاستثمارات يتطلب إدارة مركزية إذا ما أريد الاستغلال الأمثل للفرص الأكثر ربحية، ذلك أن التقليديون الجدد ـ وبالأساس منهم بيتر باور، هاري جونسون، بلا بالاسا ـ يرون أن من نتائج التدخل الحكومي الواسع سوء تخصيص الموارد وخطأ سياسات التسعير وانعدام الحوافز الاقتصادية وتدنى مستوى الأداء الاقتصادي وانتشار الفساد الإداري. لذلك فإن التخطيط الاقتصادي في رأيهم لا يقدم حلا لمعضلة التخلف الاقتصادي بالبلدان المتخلفة، بل أن التنمية تتحقق فيها من خلال التحول الجاد نحو اقتصاد السوق وترك آلياته لتقوم بعملية تخصيص الموارد وتحديد الأسعار في سوق المنافسة تبعا لحافز الربح، مشيرين في ذلك إلى تجربة النمور الآسيوية(1).
لقد أيد التقليديون الجدد "الفريد مارشال (2)Alfred Marshallفي تفاؤله بأنه لا يوجد سبب جوهري يؤدي إلى الاعتقاد باقتراب حالة الركود، واستندوا في تفاؤلهم هذا على عاملين هامين:
الأول: يتعلق بالتقدم التكنولوجي الذي يأخذ مكانه بسرعة كافية للقضاء على أية ضغوط قد تفرضها ندرة الموارد الطبيعية.
__________
(1) ـ د. عبد الوهاب الأمين: التنمية الاقتصادية، المشكلات والسياسات المقترحة مع إشارة إلى البلدان العربية، دار حافظ للنشر والتوزيع، جدة العربية السعودية، الطبعة الأولى2000 ص71-72.
(2) ـ الفريد مارشال(18421924): اقتصادي إنجليزي، صاحب المِؤلف الشهير ًمبادئ الاقتصاد السياسي ً سنة1890، يعتبر زعيم مدرسة كامبردج أو نظرية التوازن الجزئي.(1/19)
الثاني: يتعلق بمرونة الطلب، إذ اعتبروا أن مرونة الطلب على الأرصدة الاستثمارية كبيرة بحيث أن أي انخفاض ضئيل في معدل الفائدة يتمخض عن جعل عدد كبير جدا من الفرص الاستثمارية كبيرة مربحة وهذا كله يجعل الوصول إلى حالة الركود يتطلب وقتا طويلا وحتى في غياب أي تقدم تكنولوجي.
ولعل أفضل من صاغ رؤية التقليديين الجدد في مجال التراكم والنمو والتغيير التكنولوجي هو الاقتصادي الأمريكي الشهير "روبرت سولو R.Sollow " في نموذجه الذي نشره سنة 1956 تحت عنوان "مساهمة في نظرية النمو الاقتصادي" ، وهو النموذج الذي أصبح لدى الكثيرين مفتاحا لفهم عمليات النمو في كثير من الاقتصاديات الصناعية المتقدمة،(1)وتم تطبيقه عمليا في كثير من الدراسات لتحديد وقياس عوامل النمو في هذه الاقتصاديات.
وفي عملية النمو الاقتصادي يؤكد التقليديون الجدد على أهمية كثافة رأس المال لتحقيق النمو. والمقصود هنا، زيادة متوسط رأس المال لكل عامل على مدار الزمن ويتحقق هذا حينما يتزايد رأس المال بمعدل أكبر من معدل زيادة عنصر العمل، بحيث تؤدي تلك الزيادة إلى ارتفاع إنتاجية العامل بشكل واضح.
الفرع السادس
المفهوم الكينزي
__________
(1) ـ لمزيد من التفاصيل راجع: Abdelkader Sid Ahmed: Croissance et développement, Tome1, p279-287(1/20)
لقد شكل التحليل الكينزي(1)ظهور قطيعة مع مرحلة سيطرت خلالها الأفكار الليبرالية التي تقول بأن آليات الأسعار تعمل على توجيه الموارد الإنتاجية للأمة، بحيث تستخدم وفقا لأكثر مثلوية ممكنة، وأن التنمية هي تغيرات تتم فجأة حيثما تسمح الهياكل بأكبر قدر من المبادرة الفردية؛ هذه المبادرة الفردية التي لا تتعارض عند " كينز" مع الدور الحاسم الذي تلعبه الدولة لتحقيق الاستخدام الكامل، من خلال التركيز على الاستثمار، فتنتعش المؤسسات ويتحقق الازدهار الاقتصادي.
لذلك فإن " كينز " رأى في الدولة عاملا اقتصاديا لا يمكن التغاضي عنه، إذ بإمكانها الاستثمار حيث يقل الحافز والتفاؤل لدى الأفراد، كما أنها تحصل على دخل وتقوم بالإنفاق وتمارس الادخار والاستثمار، ومن ثم فإنه عليها مواجهة مشكل البطالة وقلة الطلب ولذلك لابد أن تستعمل الوسائل والتدابير اللازمة للزيادة من الإنفاق حتى يزيد الطلب الفعال ويرتفع مستوى الاستخدام .(2)
__________
(1) ـ نسبة إلى "جون ماينر كينزJohn Maynard Keynes (1883-1946) إبن أخد صغار الفلاحين من أتباع المدرسة التقليدية، وهو جون نيفل كينز، درس الاقتصاد في جامعة كمبردج على يد أستاذه مارشال، ثم حقق أمله في التدريس، اهتم كثيرا بدراسة نظرية النقود، ترأس وفد بلاده في المؤتمر المالي والنقدي للأمم المتحدة الذي انعقد في 01/07/1944، وحضره ممثلو 44 دولة في "بريتون وودز" والذي أسفر عن اتفاقيتين دوليتين، اختصتا بإنشاء صندوق النقد الدولي والبنك الدولي للإنشاء والتعمير.أحدث كينز ثورة في الدراسات الاقتصادية عندما أصدر كتابه الشهير "النظرية العامة للعمالة والفائدة والنقود"سنة1936.
(2) ـ حول مجموعة التدابير التي تمارسها الدولة على المستوى الوطني والتي تتعلق بالسياسة النقدية والاستثمار العام وإعادة توزيع الدخول، راجع: عادل أحمد حشيش:تاريخ الفكر الاقتصادي، دار النهضة العربية ـ بيروت 1974، ص 583 ـ 592.(1/21)
وهكذا يمكننا القول أن " كينز " رسَم الطريق لتدخل الدولة في توجيه النشاط الاقتصادي، دون أن يقوم بهدم الأسس الجوهرية التي يقوم عليها النظام الرأسمالي؛ وأن مفهوم التنمية الاقتصادية عنده يمكن النظر إليه من خلال حالة الاستخدام الكامل.
إذ أن نظرية الاستخدام تحلل الكيفية التي يؤدي بها ارتفاع الاستثمار أو الاستهلاك أو أي جزء آخر من مكونات الإنفاق إلى مستوى الناتج الوطني وذلك من خلال تشغيل الطاقة الإنتاجية المتاحة بدرجة أعلى، ودون ريب فإن حدوث هذه التطورات تعد إذا ما تحققت تجسيدا للتنمية.
لكننا يجب أن نشير هنا بأن النطاق والظروف التي ظهر فيها التحليل الكينزي "تقييم تطبيقه على الاقتصاديات الرأسمالية الصناعية المتقدمة، ولا يستوعب اقتصاديات الدول المتخلفة أو تلك التي لا تزال في طريق التنمية الاقتصادية "(1)فهذه الأخيرة لا تتوافر لديها نفس العوامل ولا توجد في نفس الظروف التي توفرت لتلك الاقتصاديات الأولى؛ ويبدو أن إدراك هذا الواقع أدى إلى إحداث تغير جذري في الأفكار الكينزية، استند إلى مبادئ ريكاردية، حيث رأى الكينزيون الجدد أن الثورة الكينزية فشلت، فعملوا على توسيع تحليل النظرية العامة ليشمل نطاقا اقتصاديا منفتحا تبعا للظروف التاريخية وليس تماشيا مع المبادئ النظرية للتوازن.
الفرع السابع
المفكرون الكينزيون الجدد
إن مسألة النمو على الأمد الطويل كما هي في النظرية الاقتصادية حاليا لم يتم تطويرها من قبل كينز نفسه، بل تمت من قبل المنظرين الكينزيين الجدد(المحدثين) الذين واصلوا أفكاره وحاولوا تطبيقها على وضعيات اقتصادية مختلفة، وقد وُفِّقُوا خلافا لموقف الكلاسيكيين الجدد (سولو R.M.Solowمثلا) الذين يميلون إلى التأكيد على إمكانية ثنائية من النمو المتوازن والاستخدام التام، من خلال تعديل الأسعار النسبية وذلك تطابقا مع التحليل الكلاسيكي.
__________
(1) ـ عادل أحمد حشيش : ع.س ـ بيروت 1974 ص613.(1/22)
ويعتبر مفكري مدرسة كمبردج الجديدة حاملي لواء تلك الثورة في الأفكار الكينزية، حيث حاولوا زرع بعض عناصر التحليل الكينزي ضمن نظريات النمو والتوزيع عند: ريكاردو وماركس وكاليشكيKalicki ؛ ويعد كل من "كالدورN. Kaldor وجوان روبنسون J. Robinson وسرافا P. Sraffa وباسينيتي L. Passinetti روّاد هذه المدرسة التي عملت بأمل على تطوير مسائل النمو والتوزيع على الأمد البعيد، وذلك ما أهمله كينز، وهو في نفس الوقت ما يبرر التصنيف النوعي للاقتصاديين الكينزيين المجددين، ونشير هنا إلى إنجازهم نماذج للنمو تأخذ بأولوية الاستثمار كينزيا، وباختيار دالة ادخار للرأسماليين وأخرى للعمال(نظرية باسينيتي)(1).
لقد تجسدت آراؤهم بشأن النمو في ما يسمى بـ "نماذج النمو الداخلي، (أو من الداخل) التي ينتمي بعض روادها للفكر الكلاسيكي الجديد مثل (لوكاس Lucas) وبعضهم للفكر النيوكينزي كَـ (رومرRomer) وقد حاول "هارود Harrod" مثلا تحديد الشروط التي يتحقق ضمنها النمو المتوازن وذلك في إطار من المعطيات الكينزية ( الفرضيتان الأولى والثانية في نموذجه ) ، أما جوان روبنسونJ.Robinson فقد عملت على إدماج الأهم من التحليل الكينزي والتحليل الماركسي(2)؛
__________
(1) ـ طالع ما يلي: Alain Samuelson: Les grands courants de la pensée économique, concepts de base et questions essentielles, quatrième édition, presses universitaires de grenoble1995, p508-510.
كما نجد كذلك تعريفا بـ" لويغي باسينيتي" ونظريته للنمو المتوازن والتوزيع، ونموذج المجموعتين الاجتماعيتين، على الموقع:
http:// decitre.Fr/search/ fiche détaillée.
(2) ـ حول المفاهيم والنماذج ما بعد الكينزية المتعلقة بالنمو والتنمية راجع: Dominique Guellec/ Pierre Ralle: Le nouvelles théories de la croissance, éditions la découverte, nouvelle édition, Paris1997.
كذلك: محمد مدحت مصطفى/ سهير عبد الظاهر أحمد: النماذج الرياضية للتخطيط والتنمية الاقتصادية، مكتبة ومطبعة الإشعاع الفنية، مصر1999، ص131 وما بعدها.(1/23)
ويمكن أن نعتبر نموذج "باروBarro" في 1990 والذي استكمله فيما بعد مع "سالا Sala" 1992، ثم مع " ليLee " في 1993و2000 هو الإطار الأساسي لهذه النظرية التي تتمحور حول فكرة أساسية مضمونها "أن توفير البني الأساسية من شأنه الرفع من الإنتاجية الحدية لرأس المال الخاص"(1)، وعليه فإنها تعزو معدل النمو الحقيقي /للفرد، إلى نوعية من التغيرات :
أولها: المستويات الأولية للمتغيرات العامة مثل حجم رأس المال الطبيعي، وحجم رأس المال البشري ( يتجسد في مستويي التعليم والصحة).
وثانيتها: التغيرات الرقابية أو البيئية، والتي يمكن أن تنقسم بدورها إلى متغيرات ناتجة عن السياسات المحلية: مثل الاختلال في سعر الصرف الحقيقي أو التضخم أو الاستهلاك الحكومي أو تخفيض التمويل أو الانفتاح التجاري أو الاستثمار المحلي. أو نتيجة العوامل الخارجية: مثل الصدمات الخارجية، أو الصدمات المناخية أو الحروب أو القلاقل السياسية.
__________
(1) ـ للاطلاع على تفاصيل أكثر راجع: مقالة الأستاذ زكان أحمد، ضمن فعاليات الملتقى العلمي الدولي الثاني حول إشكالية النمو الاقتصادي في بلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، الذي نظمته كلية العلوم الاقتصادية وعلوم التسيير، جامعة الجزائر في الفترة 14و15 نوفمبر2005، والمقالة بعنوان: Dépenses publiques productivités et dynamique de croissance, Approches théorique et empirique appliqué au cas de l’Algérie.(1/24)
وعموما فقد تشكلت النماذج الكينزية الحديثة في إطار تفسير العوامل الكامنة وراء الأداء الناجح لاقتصاديات دول جنوب – شرق آسيا خلال الفترة الممتدة منذ منتصف الستينيات وحتى أواخر الثمانينيات من ناحية ولتفسير عدم قدرة دول أخرى (في إفريقيا وأمريكا اللاتينية) على تحقيق نفس الأداء، ووفقا لرواد هذا الاتجاه فإن النمو يتحدد بمجموعة عوامل ( رصيد لرأس المال المادي، والبشري، والبحوث والتطوير، ورصيد الدولة من المعارف والأفكار "التقدم الفني") التي تتحدد بدورها بالعوامل الاقتصادية التي تؤثر على هيكل الحوافز، وحيث أن بعض هذه العوامل يتميز بخصائص السلعة العامة (منها على سبيل المثال: عدم قابلية تجزئة المعارف والأفكار وصعوبة احتكارها أو حفظها سِرًّا) فإن القطاع الخاص لن يقبل الاستثمار فيها، الأمر الذي يتطلب تدخل الدولة لقيامها بدور ملائم للتحولات الاقتصادية على الصعيد الدولي(1). ولكن الدولة في نظر البعض، "لا تستطيع خلق بيئة مواتية للقطاع الخاص دون وجود جهاز إداري مؤهل وفعال ومتأهب للاضطلاع برسالته،وأن يكون محصنا كذلك من السيطرة السياسية المباشرة عليه"(2)
__________
(1) ـ نيفين محمد طريح: أثر حجم وكفاءة الدولة على النمو الاقتصادي ( دراسة مقارنة)، أطروحة دكتوراه في فلسفة الاقتصاد، كلية التجارة وإدارة الأعمال، قسم الاقتصاد والتجارة الخارجية، جامعة حلوان، مصر2005، ص42-43.
(2) ـ إبراهيم أحمد البدوي: فعالية الإصلاح الهيكلي كإستراتيجية لنمو الصادرات، في "الندوة" نشرة منتدى البحوث الاقتصادية للدول العربية وإيران وتركيا، العدد الرابع، ديسمبر1994ـ فبراير1995 القاهرة ج. م. ع، ص14..(1/25)
وهو أمر في رأينا يعدُّ ضروريا أكثر بالنسبة للبلدان المتخلفة حتى يكتمل التحول إلى اقتصاد السوق ولكي يعمل جيدا، وذلك يتطلب إلزام كل الأطراف بمراعاة قواعد السوق، خصوصا وأن المبدأ الموجه في اقتصاد السوق ـ كما يذكر دعاته ـ هو ' كل شيء مسموح به ما لم يتم منعه صراحة'.
لا شك وأن هذه المراحل في تطور مفهوم التنمية كانت الأساس الذي أقيمت عليه نظريات التنمية الاقتصادية خلال المنتصف الثاني من القرن الماضي ـ العشرين ـ والتي احتلت مكانا بارزا في الدراسات الاقتصادية.(1)فقد بدأ يتبلور مفهوم التنمية عقب استقلال مجموعة كبيرة من الدول المتخلفة خلال عقدي الخمسينات والستينات من خلال مشروع حكوماتها في اتخاذ ما يلزم لتغيير واقعها الاقتصادي والاجتماعي، مما أفرز على الصعيد الفكري مجموعة تصورات لمفهوم التنمية يمكننا تصنيفها ضمن ثلاث فئات:
الفئة الأولى: تصور مفهوما للتنمية استنادا إلى التجربة التاريخية.
الفئة الثانية: تصيغ مفهوما للتنمية يعتبر التصنيع أساسا لتحقيقها.
الفئة الثالثة: وتتناول مفهوما للتنمية يتحدد من خلال التأثير على المؤشرات المختلفة أو إحداث تغيير في الهياكل.
__________
(1) ـ من أشهر تلك الدراسات ما قام به كل من "راجنار نيركس" من خلال إستراتيجية النمو المتوازن التي تعتبر امتدادا وتطورا طبيعيا لنظرية الدفعة القوية لـ "روزنتشاين رودان " و "فرانسوا بيرو" استراتيجية النمو غير المتوازن، ودراسات الاقتصادي الأمريكي " ألبرت هيرشمان " ومن أشهر الاقتصاديين الذين قدموا إنتاجا علميا في النمو الاقتصادي والتنمية الاقتصادية والتخطيط الاقتصادي "بالدوين " و " شارل بتلهايم" و " موريس دوب "، و"بنت هانسن " و "كانتر" و "كنتروفتش " و" كند لبجر" و " وليام آرثر لويس "، و "والت وايتمان روستو " و "جان تنبرجن" وغيرهم من كتاب النمو الاقتصادي.(1/26)
الفئة الأولى: وتصور مفهوم التنمية استنادا إلى التجربة التاريخية التي سارت عليها الدول المتقدمة باعتبارها النموذج المثالي والوحيد للقضاء على التخلف وتحقيق مستوى تقدم الغرب من خلال إعادة إنتاج تجربته، ومن هنا تبرز" نظرية والت روستو القائلة بأنه على درب النمو الاقتصادي تمر كل المجتمعات بإحدى المراحل الخمس التالية":(1)
ـ المجتمع التقليدي. ـ شروط الإقلاع. ـ الإقلاع.
ـ التطور نحو النضج. ـ مرحلة الاستهلاك.
مما لاشك فيه وأن هذا المفهوم يحتوي على مغالطات كثيرة أهمها: "أن اللحاق بركب الحضارة الغربية يفترض أن الدول المتخلفة توجد حاليا في وضعية مماثلة للتي كانت عليها الدول المتقدمة اليوم عشية انطلاق التصنيع في ربوعها".(2)
إن الأخذ بهذا المفهوم يخلط بين كل من مفهومي النمو والتنمية ويركز على الأول منهما، مما يفرز مفارقات و تناقضات تنكشف عند الفهم السليم لكل منهما، إذ مما لاشك فيه هو وجود اختلاف بين المفهومين،(3)
__________
(1) Walt. W.Rostow : les étapes de la croissance économique, Paris ; Seuil, p13. -
عن المستقبل العربي، إصدار مركز دراسات الوحدة العربية، العدد 151، تموز يوليو 1992 مقالة لـ عبد السلام الطرابلسي تحت عنوان التصنيع العربي والمفهوم التغريبي للتنمية، ص71.
(2) ـ ديستان دي برنيس G.D.Bernis ، م.ن، ص 68.
(3) ـ يمكن الرجوع إلى كثير من المؤلفات التي عالجت مفهومي النمو والتنمية من بينها:
أ ـ محمود يونس محمد/ عبد النعيم محمد مبارك: في اقتصاديات التنمية والتخطيط، دار النهضة العربية، بيروت1985 ص93 ـ 98.
ب ـ محمد عبد العزيز عجمية/ عبد الرحمن يسري أحمد: التنمية الاقتصادية والاجتماعية ومشكلاتها، الدار الجامعية1999، ص48ـ 56؛ كذلك:
ج ـ A. Cohen & P. Combemale / Croissance & crises : éléments d’analyse, P10.(1/27)
ذلك "أن المسلم به عموما هو أن التنمية ليست مرادفة لمجرد النمو، ولكنها تتضمن اعتبارات أخرى عديدة تتعلق أساسا برفاهية الإنسان، ومن هذه الاعتبارات ما هو ثقافي وما هو روحي وما هو مادي"(1)
الفئة الثانية: وتشمل التصور الذي يرى أن التخلف ليس سوى تأخرا في التصنيع ولذلك يصيغ مفهوما للتنمية يعتبر التصنيع أساسا لها، ويرى في التنمية عملا اقتصاديا بحتا ويعرفها من خلال التركيز على التصنيع باعتباره محركا لها، معتبرا أن ما تحقق في الدول المتقدمة تم بفضل اعتماد التصنيع كمحرك وحيد لتقدمها، وأنه يمكن إعادة العملية التاريخية، إذ ما توفر حد أدنى من رأس المال "بقدر أول من تراكم رأس المال تبدأ عملية التنمية التي تتلخص في تطوير تقسيم العمل الاجتماعي، وخلق سلع معدة للبيع مما يمهد الطريق لخلق السوق الداخلية وقد تحقق ذلك كله تاريخيا في مجرى عملية التصنيع الطويلة الأمد التي مازالت صالحة لتحقيق نفس العملية التاريخية ... فالتصنيع هو جوهر عملية التنمية".(2)
__________
(1) ـ تقرير اللجنة التحضيرية لمؤتمر الأمم المتحدة للعلوم والتكنولوجيا من أجل التنمية (ماي 1978).
(2) ـ د. فؤاد مرسي: التخلف والتنمية، دراسة في التطور الاقتصادي، دار الوحدة العربية، الطبعة الأولى 1982 ص98.(1/28)
وهكذا اتجهت العديد من الدول المتخلفة إلى إقامة المشروعات الصناعية متبعة في ذلك سياسات وأساليب مختلفة.(1)
__________
(1) ـ توضح التجربة التي تمت بالدول المتخلفة أن هناك من اتبع أسلوب الرأسمالية في التنمية التلقائية متمثلا في أسلوب التصنيع الخفيف وهناك من اعتمد الأسلوب الاشتراكي في التنمية المخططة، متجسدا في أسلوب التصنيع الثقيل.أما عمليا وأمام قسمة العمل الدولية فقد نهج التصنيع سياستين: الأولى انطلقت منذ أوائل الخمسينيات وترتكز على سياسة التصنيع لإحلال الواردات، في حين انطلقت منذ بداية السبعينيات سياسة تصنيع موجهة للخارج، عرفت بسياسة التصنيع لتنمية أو إحلال الصادرات: للاطلاع على هذه الأساليب والسياسات: محمد عبد العزيز عجمية / عبد الرحمن يسري أحمد: ع.س ، ص285-306. كذلك:
- Sid Ahmed Abdelkader, croissance et développement, op.cit, tome2, p7.
- Sid Ahmed Abdelkader, développement sans croissance, l’expérience des économies pétrolières du tiers- -monde, o.p.u1983, p437.(1/29)
والواقع أن هذا المفهوم للتنمية لا يخرج عن إطار المفهوم السابق المتمثل في تكرار التجربة الغربية، دون الأخذ بعين الاعتبار الظروف التاريخية التي تحقق بمقتضاها ذلك التصنيع، إضافة إلى أنه يربط التنمية في الدول المتخلفة باللجوء إلى الغرب وتكريس التبعية له ولذلك فإن التنمية التي تجري وفق هذا المفهوم "قد تهدم التبعية القديمة، لكنها تعيد بناء هيكل جديد للتبعية، لعل أخطر ما فيه أنه هيكل جديد للظلم الاجتماعي"(1)في حين أن "التنمية بمفهومها الحضاري تتضمن القدرة الذاتية على التحكم والتطور والابتعاد عن المحاكاة والتقليد وخصوصا التحرر من التبعية الخارجية."(2)
__________
(1) ـ فؤاد مرسي: مأزق التنمية من خلال التكامل الدولي، في: دراسات عربية، مجلة فكرية اقتصادية اجتماعية، تصدر عن دار الطليعة، بيروت، العدد 4 فبراير 1978، ص42.
(2) ـ س، ف جلباوي / عبد الحميد خرابشة: نحو فهم أفضل للتنمية الحديثة، في: صالحي صالح: ع.س ، ص76.(1/30)
الفئة الثالثة: وتتمثل في مجموعة المفاهيم التي تنظر إلى التنمية من خلال التأثير على الواقع الاقتصادي والاجتماعي وقياسه بمجموعة من المؤشرات المختلفة؛(1)أو من خلال إحداث تغيرات في البنيان والهيكل الاقتصادي والاجتماعي وقد تشمل هذه التغيرات النظم والأفكار والمؤسسات الاجتماعية؛ من ذلك أن بعض المفكرين ينظر إلى التنمية من خلال ما تحققه من زيادة في الدخل الوطني أو من خلال تحقيق تغيرات في الهياكل الاقتصادية والاجتماعية.
وضمن هذه الفئة يمكننا أن نسوق تعريف "مائير و بالدوين " (Meir & Baldwin)، اللذان يعتبران التنمية " كسياسة اقتصادية طويلة الأجل لتحقيق النمو الاقتصادي، بأنها عملية يزداد بواسطتها الدخل القومي الحقيقي للاقتصاد خلال فترة زمنية طويلة، وإذا كان معدل التنمية أكثر من معدل نمو السكان، فإن متوسط دخل الفرد الحقيقي سيرتفع"(2)وضمن نفس المنظور يمكننا إدراج مفهوم (كند لبرجر Kindle Berger) الذي يؤكد على أن التنمية هي عبارة عن "الزيادة التي تطرأ على الناتج القومي في فترة معينة مع ضرورة توفر تغيرات تكنولوجية وفنية وتنظيمه في المؤسسات الفنية القائمة أو التي ينتظر إنشاؤها."(3)
__________
(1) ـ والمقصود هنا طبعا مؤشرات أو أدلة للتنمية والتي تتمثل في مجموعة من الكميات الاقتصادية المجمعة "agrégats " ووسائل كمية ونوعية تسمح بقياس التنمية؛ نذكر من أبرز هذه المؤشرات متوسط الناتج الداخلي الخام (P.I.B) / فرد، أو معدل النمو الطبيعي وقد تم أخيرا استحداث مؤشرات نوعية مثل دليل التنمية البشرية 1990 (I.D.H) والذي طور منذ 1995 إلى دليل للتنمية البشرية استنادا إلى الجنس (I.S.D.H).
(2) ـ د. كامل بكري: التنمية الاقتصادية، دار النهضة العربية، بيروت 1986، ص63.
(3) ـ حربي موسى عريقات: التنمية والتخطيط الاقتصادي، دار الكرمل، الطبعة الأولى 1993 عمان، الأردن، ص50.(1/31)
أما الدكتور محمد زكي شافعي فيتصور التنمية الاقتصادية في "عملية تحول من أوضاع اقتصادية واجتماعية قائمة وموروثة وغير مرغوب فيها، إلى أوضاع أخرى مستهدفة وأفضل منها قبل حدوث التنمية."(1)في حين يتصور البعض الآخر أن " التنمية الاقتصادية هي العملية التي من خلالها تتحقق زيادة في متوسط نصيب الفرد من الدخل الحقيقي على مدار الزمن والتي تحدث من خلال تغييرات في كل من هيكل الإنتاج ونوعية السلع والخدمات المنتجة، إضافة إلى إحداث تغيير في هيكل توزيع الدخل لصالح الفقراء."(2)
على الرغم ما يبدو من منظور شمولي ضمن بعض من المفاهيم السابقة، فإنها تبقى غير معبرة عن مفهوم التنمية المنشودة في الدول المتخلفة، تنمية لا تتمثل في مجرد تحقيق تغيير هيكلي في البنيان الاقتصادي أو زيادة مستوى الرفاه الاجتماعي والاقتصادي للفرد، بل هي تلك التي تبنى الإنسان من خلال القضاء على الأمية وسوء التغذية وعلى الأمراض والبطالة وتلحق الأوطان بركب الحضارة المعاصرة ومن تم فإن تحقيق الإعمار المادي وبناء القاعدة الإنتاجية تبقى وسائل مستهدفة لتوضع ضمن مناخ سياسي واجتماعي وثقافي يخدم الإنسان تربويا ومهنيا واجتماعيا باعتباره المحرك الأساسي لعملية التنمية، فهو الهدف وهو الوسيلة لتحقيق كل ذلك.
__________
(1) ـ م. ن ، ص51.
(2) ـ محمد عبد العزيز عجمية / عبد الرحمن يسري أحمد، ع.س، ص52.(1/32)
إضافة إلى ذلك فإن كل المفاهيم السابقة لا تعكس التطور الذي طرأ على مفهوم التنمية وممارستها عند نهاية القرن العشرين والذي يأخذ بمضامين جديدة من شأنها أن تعيد النظر في الاهتمامات الإنمائية مما طرح على الصعيد المؤسساتي والفكري مفهوما لنموذج إنمائي جديد.(1)
المبحث الثاني
مفهوم التخطيط الاقتصادي
لقد كان التخطيط الاقتصادي ـ حتى نهاية السبعينيات من القرن العشرين ـ يكاد يشكل ظاهرة مشتركة بين قسم كبير من الدول المتخلفة، باعتباره أسلوب وأداة للتنمية أملته الظروف التاريخية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية الخاصة بها؛ وكان للسرعة التي تقدم بها في الاتحاد السوفيتي ـ السابق ـ باعتباره أول دولة بدأت في تطبيقه، وللنتائج التي حققها، وكذلك لتلك التي ظهرت فيما بعد في بلدان ما كان يسمى بالكتلة الشرقية، الأثر القوي في إقبال كثير من البلدان المتخلفة على اعتماد التخطيط كأسلوب ضروري وحديث للتعجيل بنموها وإحداث التغيرات الجذرية الضرورية في الهياكل الاقتصادية والاجتماعية.
__________
(1) ـ يجب أن نلاحظ هنا أنه بالرغم من إخفاء الاهتمام بهذا المفهوم تقريبا منذ نهاية الثمانينات من القرن العشرين وإثر الحرب العالمية، فإن هناك جهودا تبذل لمحاولة صياغته كمفهوم قابل للقياس، إلا أنها تبقى جهودا قليلة وتنقصها الفعالية، وعليه سنتناول المفاهيم المستحدثة للتنمية ضمن محتويات الفصل الرابع وفي إطار التحول في مفهوم التنمية ثم نلحق ذلك بتحليل لدور الدولة في إطار التحولات الاقتصادية الراهنة ضمن محتويات الفصل الخامس.(1/33)
وبالرغم من أن علم الاقتصاد لم يكن فيه مكان لنظرية التخطيط(1)ـ على الأقل حتى الحرب العالمية الثانية ـ فإن مفهوم التخطيط حظي بأهمية استثنائية حتى وقت قريب، كونه اقترن بالعديد من التحولات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية البارزة خلال القرن العشرين.
ورغم ما حدث من تحولات اقتصادية وسياسية على الصعيد الدولي فانه لا يمكن إنكار أهمية التخطيط الاقتصادي في عملية التنمية خصوصا بالبلدان المتخلفة.(2)
وإذا فما هو التخطيط ؟
وما هي التطورات التي مرّ بها مفهومه ؟
وهل من مفهوم محايد يمكن أن نقدمه للتخطيط الاقتصادي بالبلدان المتخلفة ؟أي غير مرتبط إيديولوجيا.
يقول المفكر اليوناني أرسطو "أن الإنسان كائن مخطط"(3)فالإنسان يلجأ إلى التخطيط باعتباره أسلوب في التفكير والتدبير وتنظيم التصرفات والتوفيق بين الموارد والاحتياجات، فهو يحتاج إليه في الإدراك المسبق للأهداف التي يرغب، وفي الغاية من الجهود التي يبذل، وعند اختياره للوسائل الملائمة لتحقيق ذلك.
__________
(1) ـ قام علم الاقتصاد في المدرسة الكلاسيكية على فرضية أساسية، تتمثل في أن« قوى السوق كفيلة بضمان سير أي اقتصاد وطني قدما نحو الازدهار والتطور المطرد، برغم مظاهر المعاناة والتقلبات والأزمات الاقتصادية» عن: د. مجيد مسعود، في التخطيط الاقتصادي، د. عصام رضوان خوري، موسى ياسين الضرير، منشورات جامعة دمشق، 1995 ـ 1996، ص12.
(2) ـ حول أهمية التخطيط في عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية بالبلدان المتخلفة، راجع:
رابح حمدي باشا: التخطيط وتوجهاته الجديدة بالجزائر، رسالة ماجستير في العلوم الاقتصادية، جامعة الجزائر1991/1992 ص30ـ 44. سنقوم بتناول ضرورة التخطيط في ظل التحولات الراهنة ضمن محتويات الفصل الخامس من بحثنا هذا.
(3) ـ د.عصام رضوان خوري/ موسى ياسين الضرير: ع.س ، ص11.(1/34)
أما لفظ التخطيط الاقتصادي، فيبدو أنه أستخدم لأول مرة من قبل الاقتصادي النمساوي كريستان شويندر(Christain Schonheyder ) في مقال له عن النشاط الاقتصادي(1)نشر سنة 1910 وقد تم فيما بعد، خلال الحرب العالمية الأولى، تطوير الفكرة لإدارة الأوضاع الاقتصادية وتنظيمها وتوجيهها من ظروف السلم إلى ظروف الحرب.
والواقع أن الحافز علي التخطيط الاقتصادي يبرز كقاعدة عامة في الأوقات الصعبة، ذلك أنه " كلما كان المستقبل غائما زادت الحاجة للتخطيط(2)، ففي سنوات الكساد خلال الثلاثينيات والأربعينيات حضي التخطيط وأنصاره باهتمام وتقدير عظيمين ،وخلال الحرب العالمية الثانية كان الاقتصاد الأمريكي أكثر الاقتصاديات المشتركة في الحرب تخطيطاً(3). ويبدو أن التخطيط يصبح أكثر ضرورة كلما تعقدت أو تطورت الأوضاع، فالاقتصادي الأمريكي جون كينيث جالبرايت "John Kenneth Galbraith" أوضح "أن التطور التكنولوجي في الدولة الصناعية الحديثة يجعل التخطيط شرطا أساسيا من شروط نجاح الإدارة الاقتصادية، وكلما حدث تقدم تكنولوجي استلزم هذا تخطيطا أبعد وأبعد للمستقبل."(4)
__________
(1) ـ محمود يونس محمد/عبد النعيم محمد مبارك: ع. س، ص219.
(2) ـ عن: الخطة الوطنية الفرنسية الثانية، في: محمد البنا، التنمية والتخطيط الاقتصادي بين النظرية والتطبيق، مكتبة زهراء الشرق، القاهرة 1996 ص41.
(3) ـ روبرت كارسون: ماذا يعرف الاقتصاديون عن التسعينات وما بعدها، ترجمة: دانيال رزق، الدار الدولية للنشر والتوزيع، مصرـ كندا، الطبعة الاولى1994، ص245.
(4) ـ د. جلال أمين ، في : مستقبل التخطيط في الأقطار العربية ، بحوث ومناقشات ندوة عقدت في تونس 20 ـ 22 أفريل 1993 ، تحرير: جميل طاهر/ صالح العصفور ، منشورات المعهد العربي للتخطيط ـ الكويت ص150.(1/35)
أما من حيث تزايد الحاجة إلى التخطيط ومجالات استخدامه وبالتالي تزايد أهميته وتأثيره المرغوب على اقتصاديات البلدان المتخلفة، فإن اقتصاديا بارزا مثل جان تنبرجن" J.Tunbergen" يرى أن : "التخطيط يصبح مرغوبا فيه كلما كانت آثاره مرغوبا فيها، فإذا تذكرنا الملامح الأساسية للتخطيط أمكن القول بأن التخطيط ستزيد آثاره المرغوب فيها على الاقتصاد الوطني :
أ ـ كلما زادت الحاجة إلى التنبؤ.
ب ـ كلما زادت الحاجة إلى الالتزام بأهداف ما.
ج ـ كلما زادت الحاجة إلى تنسيق العمل.
ومدى الحاجة إلى كل من هذه العناصر الثلاثة سيتوقف على نوع البنيان الاقتصادي للدولة وعلى ظروفها بوجه عام." ويلاحظ "أن عددا كبيرا من هذه الخصائص متوافر في البلاد النامية التي تشعر برغبة قوية في الإسراع بالتنمية."(1)
الواقع أن الحاجة إلى التخطيط بالبلدان المتخلفة تبدو ضرورية، تعبيرا عن الحاجة إلى أسلوب لتوجيه التنمية الاقتصادية توجيها واعيا نحو أهداف محددة مسبقا، فالتخطيط ضروري بالنظر لكل ما سبق، أو على الأقل للأسباب التالية:(2)
1 ـ بهدف الاستغلال العقلاني للموارد الاقتصادية.
2 ـ لتحقيق أهداف المجتمع.
3 ـ لإقامة المشروعات الإستراتيجية.
4 ـ لأن الميل للتخطيط له ما يبرره تاريخيا.
إن محاولة التعرف إلى التخطيط تسوقنا بالضرورة إلى استعراض أهم وجهات نظر العديد من الاقتصاديين عند تحديدهم لمفهومه "فالخلاف والجدل دائمين حول مفهوم التخطيط، وتعريف التخطيط هو الذي يميز المدارس الاقتصادية التي تناولت مشكلة التخطيط والتنمية"(3)
__________
(1) ـ كاظم حبيب: مفهوم التنمية الاقتصادية، دار الفارابي، الطبعة الأولى، 1980، ص58.
(2) ـ للإطلاع ولمزيد من التفاصيل حول ضرورة التخطيط الاقتصادي، راجع: رابح حمدي باشا، م. س، ص30ـ37.
(3) ـ محمد الأخضر بن حسين: في تعقيب علي هامش ندوة: مستقبل التخطيط قي الأقطار العربية، م.س، ص209.(1/36)
فهناك اتجاه أول يرى في التخطيط أسلوب فني حيادي يمكن استخدامه في أي بلد وإن اختلفت الظروف وأشكال السلطة السياسية.
كما هناك اتجاه ثاني، يرى فيه طابعا سياسيا واقتصاديا واجتماعيا بالإضافة إلي طابعه الفني.
المطلب الأول
مفهوم التخطيط باعتباره أسلوب اقتصادي عام
بالرغم من أن الاقتصاديين البرجوازيين لم يتفقوا على تعريف واحد للتخطيط، فان تباين آرائهم تعكس اتفاقا على اعتباره أسلوبا اقتصاديا عاما، أيا كان النظام الاجتماعي السائد، أي عزل التخطيط الاقتصادي عن طبيعة النظام الاقتصادي والاجتماعي السائد.
وبهذا المعنى فان التخطيط يمكن اعتباره "نشاط إنساني عام يمارسه الأفراد والجماعات في كل شئون حياتهم"(1)وفى هذا يرى بنتون "BENTON" التخطيط كمفهوم عام "على أنه تحضير وإعداد ذهني للنشاط من أجل العمل أي بناء خارطة ذهنية "أي أن التخطيط وفقا لهذا المعنى" هو كل فعل مقصود، يُتَصوَّرُ ويُثَبَّتُ في الخيال قبل أن يأخذ مكانه في الحقيقة، أي يجب أن يُخْلَقَ قبل أن يُعْمَلَ، وهذه هي قاعدة التفكير قبل العمل"(2).
وإذا ما سلمنا بهذا المعنى فان فكرة الربط بين التخطيط والاشتراكية تصبح غير ذات معنى فالاقتصادي الأمريكي جورج كالوي. "GEORGE.K" يرى في التخطيط الحياد من الوجهة السياسية شأنه شأن التكنولوجيا.
__________
(1) ـ للاطلاع ولمزيد من التفاصيل حول نشأة وتطور مراحل التخطيط، راجع: د/ عثمان محمد غنيم: التخطيط أسس ومبادئ عامة دار صفاء للنشر والتوزيع، عمان، الأردن، الطبعة الأولى 1999، ص29.
(2) ـ عثمان محمد غنيم: م.ن ، ص26 .(1/37)
ويرى الاقتصادي الفرنسي "جان روميف" أن التخطيط كفن ليس مرتبط بالبنية السياسية، بل بالأهداف التي تطرحها عليها الحكومة. وأما الاقتصادي الانجليزي ديكنسن"DICKINSON " فيرى أن التخطيط" هو عملية اتخاذ القرارات الاقتصادية الإجمالية المتعلقة، بماذا وكيف ومتى سينتج ولمن سيوزع الإنتاج ؟ على أساس مسح اقتصادي شامل وتقرير واع من سلطة حازمة"(1)؛ وهو كذلك "قيام سلطة مركزية باتخاذ قرارات فيما يتعلق بما ذا وكيف ننتج ومتى وأين يتم الإنتاج والى من يتم التوزيع"(2).
ويعرف الاقتصادي "جيمس ميد J.MEADE" التخطيط ،"بأنه العملية التي تقوم الدولة بمقتضاها بوضع قطاعات الاقتصاد الوطني في صورة متكاملة لفترة زمنية مستقبلة بصرف النظر عما إذا قامت بتنفيذ هذه العملية بذاتها أو أوكلتها إلى القطاع الخاص "(3).
وضمن هذا المنظور يمكن أن يندرج فهم باربارا واتن، للتخطيط باعتباره " الاختيار الواعي المقصود من جانب سلطة عامة، للأمور ذات الأولوية من الناحية الاقتصادية"(4)
__________
(1) ـ حول الآراء السابقة وانتقاداتها راجع: النفط والتنمية، مجلة شهرية تعني بشؤون النفط والتنمية في الوطن العربي والعالم، العدد الأول، السنة الثالثة، تشرين الأول،1977 ،دار الثورة للصحافة والنشر بغداد العراق، ص37 وما بعدها.
(2) ـ محمد البنا : م. س، ص138 .
(3) ـ محمود يونس محمد / عبد النعيم محمد مبارك؛ م . س، ص .220 .
(4) حسين عمر: مبادئ التخطيط الاقتصادي والتخطيط التأشيري في نظام الاقتصاد الحر، دار الفكر العربي، القاهرة 1998، ص19.(1/38)
يتضح مما سبق أن التخطيط وفقا لهذا المفهوم لا يمس البنية الأساسية للنظام الاجتماعي السائد، كالملكية الخاصة، وهو وإن كان يسند مهمة اتخاذ القرار في بعض الأمور للدولة أو لسلطة مركزية إلا أن التدخل من قبل الدولة يكون بالنسبة للمجالات التي لا يعمل فيها السوق بسلاسة ويسر، أي أنه يقتصر علي الحالات التي يفشل فيها السوق، وكما يقرر آرثر لويس "ARTHER.L " : "فإن الدولة تستطيع أن تخطط كيفما تشاء، بيد أنه ينبغي عليها أن تخطط عن طريق السوق، لا عن طريق التوجيه المركزي بعيدا عن جهاز الأسعار"(1). ... ...
المطلب الثاني
مفهوم التخطيط باعتباره ذا طابع سياسي واقتصادي واجتماعي وفني
إذا كان البعض يرى أن "التنمية غير المخططة لا تقوم على دراسات اقتصادية وفنية سليمة"(2)والبعض الآخر يرى" أن توفر قسط من التماسك الاجتماعي والرضا السياسي اللازم لحفظ الأمن والنظام بصورة فعالة، يعتبران عادة من الشروط الضرورية للنمو الاقتصادي"(3)، فان شارل بتلهايم يرى بأن التخطيط يمكن أن يقوم بهذا الدور، ذلك أن التخطيط في نظره هو "عملية يمكن لها أن تنظم جميع مجالات التنمية الاقتصادية والاجتماعية وتستلزم ترابطا وتنسيقا بين قطاعات الاقتصاد القومي، مما يستدعي دراسة على نطاق عام وشامل للتأكد من أن المجتمع سوف ينمو بصورة منتظمة ومنسقة وبأقصى سرعة ممكنة، وذلك مع التبصير بالموارد الموجودة وبالأحوال والظروف الاجتماعية والاقتصادية السائدة، بحيث يمكن السيطرة عليها، وذلك ضمانا للنتائج المستهدفة من الخطة "(4).
__________
(1) ـ حسين عمر: م . س، ص 257.
(2) ـ حسين عمر : م، ن ، ص 52.
(3) ـ إدوارد . س . ماسون: التخطيط الاقتصادي، ترجمة: عبد الغني الدلي، مكتبة المعارف ، بيروت 1981، ص34.
(4) ـ حربي محمد موسى عريقات: م.س، ص137.(1/39)
إن هذا المفهوم يعكس طابعا اقتصاديا واجتماعيا للتخطيط، بل يمكن فهم عملية التنظيم والتنسيق والسرعة في تحقيق الأهداف أنها عملية فنية؛ هذه العملية التي تتعلق "بتخصيص الموارد المتاحة بكفاءة مثلى تحقيقا لخيارات سياسية في التوجه الإنمائي"(1)؛ وهي العملية التي تجسد مفهوم التخطيط، كما يشير هذا التعريف إلى أن الخيارات السياسية هي القناة الأساسية في إحداث تغيرات في التوجه الإنمائي، كما يعتبرها مرتكزات الإطار العام للتخطيط وضمن هذا الاتجاه يعتبر التخطيط عملية مستمرة تتضمن قرارات واختيارات بين أهداف تبادلية في استخدام الموارد المتاحة بهدف تحقيق أهداف خاصة خلال فترة ما، فهو أداة للسياسة الاقتصادية تستهدف تحديد الاختيارات الإستراتيجية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية وتحسب الوسائل اللازمة لتمويلها(2)وهو المفهوم الذي يربط التخطيط بطابع سياسي واقتصادي معين ولا يرى فيه فقط إطارا عاما لتحقيق أهداف اقتصادية واجتماعية لا ترتبط بالإطار السياسي والاقتصادي، بل أن التخطيط وفقا لهذا المنظور " أصبح أسلوبا علميا ومنهاجا وفنّا، ويتضمن في حقيقته عمليات تهدف إلى إحداث تغيرات اجتماعية واقتصادية مقصودة، وذلك بتعبئة الموارد لمقابلة الاحتياجات المختلفة"(3).
__________
(1) ـ يرى د.علي توفيق صادق: أن تلك الخيارات السياسية في التوجه الإنمائي تتأثر بمفهوم دور الدولة وطبيعتها ووظائفها، وأنها تشمل العديد من العناصر نذكر من بينها تحديد غايات المجتمع واختيار الأدوار والنظام الاقتصادي، ولمزيد من التفاصيل، راجع تدخله، في: مستقبل التخطيط في الأقطار العربية، ع. س، ص87 وما بعدها.
(2) ـ لمزيد من التفاصيل راجع: Louis Dupont: La planification du développement à l’épreuve des faits, éditions Publisud Paris,1995,p2.
(3) ـ أحمد كمال أحمد: التخطيط الاجتماعي، الجهاز المركزي للكتب الجامعية والمدرسية، ج. م.ع ،1976 ، ص39.(1/40)
وإذا كان هذا المفهوم يمنح التخطيط طابعا سياسيا(1)فإن كل من "بيل ولا ثروب Lathrop Beyle& " يقرران بأن " كنه التخطيط هو رسم السياسة"(2)؛ وهكذا فإننا نفهم مما سبق بأن التخطيط أداة فنية تعمل في سياق اجتماعي وسياسي محدد للتنسيق بين القرارات الاقتصادية، ولكنّ بالرغم من ذلك يجب عدم الخلط بين التخطيط الاقتصادي والاشتراكية فالتخطيط "عمليّة فنّية تقوم على أسس معرفيّة خاصة لتحقيق أهداف معروفة مسبقا "(3)، وهو ما يعني أن التخطيط لا يسقط بسقوط الاشتراكية كنظام بل "هو أداة يمكن استخدامها من قبل أنظمة اجتماعية متفاوتة"(4).
.
المبحث الثالث
مفهوم الأزمة والتحولات العالمية
__________
(1) ـ طبعا يجب أن نفرق هنا بين تخطيط التنمية وسياسات التنمية: فعبارة تخطيط التنمية تشير بصورة خاصة إلى تخطيط العلاقة بين كميات مختلف أنواع السلع والخدمات التي يمكن إنتاجها في البلاد والكمية الواجب إنتاجها من كل من هذه السلع والخدمات للوفاء باحتياجات البلاد الاقتصادية؛ وحسبما نستعمل هذه العبارة فهي لا تشمل بعض نواحي التخطيط كتخطيط سياسة التعريفة الجمركية والسياسة التعليمية وما شابه ذلك، راجع في هذا الخصوص: د. إفريت هاجن: اقتصاديات التنمية، ترجمة: جورج خوري، مركز الكتب الأردني1988، ص357.
(2) ـ فيصل فخري مرار : العلاقة بين التخطيط والموازنة العامة، دار مجدلاوى للنشر والتوزيع، عمّان الأردن 1995، ص50.
(3) ـ عثمان محمد غنيم: مقدمة في التخطيط التنموي الإقليمي، الطبعة الأولى1998، دار صفاء للنشر والتوزيع، عمّان، ص22.
(4) ـ عثمان محمد غنيم: في تعقيب بندوة مستقبل التخطيط في الأقطار العربية، انعقدت في تونس 20 ـ 22 أفريل 1993، المعهد العربي للتخطيط بالكويت، ع. س، ص 572.(1/41)
إذا كانت الألفية الثانية قد انتهت بهيمنة أحادية للغرب بعد تفكك الاتحاد السوفيتي وكتلة البلدان الاشتراكية، فإن ذلك جاء أيضا تتويجا لسلسلة من الأزمات شهدها العالم على امتداد العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين، فبعد الحرب العالمية الثانية وما أعقبها من معدلات نمو عالية وغير مسبوقة في تاريخ البشرية مسّت مختلف أجزاء العالم، وإن كانت بنسب متفاوتة، تعاقبت الأزمات الواحدة تلو الأخرى(1)، منذ مطلع السبعينيات: من أزمة الغذاء سنة 1970 مرورا بأزمة النظام النقدي وأسعار الصرف في عام 1971، وأزمة الطاقة سنة 1973، وأزمة الانكماش الاقتصادي التي ترافقت مع أزمة التضخم النقدي خلال السبعينيات، ثم أزمة المديونية سنة1982، وصولا إلي أزمة التنمية وأزمة البلدان الاشتراكية وانهيار الأسواق المالية في جنوب شرق آسيا في سنة 1997، والتي امتدت حتى المكسيك وروسيا.
__________
(1) ـ ابتدأ القرن العشرين بأزمة اقتصادية سنة1900، التي مهدت لأزمة أكثر عنفا سنة 1907، وانتهى بأزمات متعددة منها: دخوله في أزمة هيكلية منذ الأعوام 1968-1971 وهي الأزمة التي لم تخرج الرأسمالية منها نهائيا بعد مرور أكثر من ربع قرن من الزمن ثم الأزمة العالمية منذ1986 فالأزمة الاقتصادية الرأسمالية التي بدأت من المكسيك1994، فشرق آسيا1997، فالبرازيل 1999...وما إلي ذلك.(1/42)
وهكذا فإنه إذا كانت الحقائق تجعلنا نقرّ بأن القرن العشرين، كان دون ريب عصرا لتقدم الإنسانية، بحيث شهد العالم سلسة ثورات علمية عديدة لا سابق لها وذات مضامين اجتماعية واقتصادية وحضارية، وعلى صعيد ميادين عديدة أهمها التطور التقني والتنظيمي الذي شمل جميع النشاطات البشرية؛ فإن الأحداث الاقتصادية ومنطق الأشياء تدفعنا إلى التأكيد من ناحية أخرى، أن العصر كان عصر الأزمات بجميع مظاهرها؛ وما يهمنا في هذا الإطار تلك الاقتصادية(1)التي تعمقت وتطورت باطراد، فأفرزت انحلالا خلقيا واجتماعيا وظلما اقتصاديا وتدميرا بيئيا.
__________
(1) ـ تهمنا هذه الصفة المضافة للأزمة من حيث تحديد طابع الأزمة وهيمنة المجال الاقتصادي على جميع المجالات الأخرى.(1/43)
إن المظهر الاقتصادي للأزمة يتجلى في فشل السياسات الليبرالية الاقتصادية التي صاغها الصندوق والبنك الدوليين في ثمانينيات القرن الماضي، والتي عرفت باسم برامج التثبيت والتكيف الهيكلي أو ما يسمى ببرامج التصحيح، بسبب أن هذه البرامج أو التوجهات الليبرالية الجديدة التي أُخضعت لتطبيقها غالبية الدول المتخلفة، طمست أو غيبت بشكل مرسوم ومتعمد، كل مصطلحات "التنمية" و"التحرر الاقتصادي" و"التقدم الاجتماعي" و"العدالة الاجتماعية"، إذ أنه بعد مرور ما يقرب من ثلاثة عقود من الزمن، على استجابة البلدان المتخلفة، لتطبيق السياسات، تحصد هذه البلدان، مع بداية القرن الحادي والعشرين، النتائج الوخيمة التي لم تتوقف عند العجز عن مواجهة تحديات التنمية فحسب، بل أدت إلى تفاقم المديونية الخارجية والداخلية، وعجز بعض الدول عن سداد فوائد هذه الديون إلى البنك الدولي صاحب تلك السياسات والبرامج، كما أدت أيضا إلى تباطؤ وتراجع حركة النمو الاقتصادي. وعلى الصعيد الاجتماعي تتجلى انعكاسات المخاطر الاقتصادية الناجمة عن تزايد أشكال تراكم الثروات، في هذا الاتساع المتزايد للفجوة بين القلة من الأثرياء والأغلبية الساحقة من الجماهير الفقيرة التي يزداد وضعها فقرا وتخلفا وتهميشا.
المطلب الأول
الأزمة في الفكر الاقتصادي
إن الأزمة في اللغة تعنى الشدّة والقحط، وقيل تعنى السّنة المجدبة.(1)
__________
(1) ـ أصلها الفعل تأزّم ، وجمعها إزم ، وأزم ، أزم عليهم العام : إشتدّ قحطه ، أنظر : لسان العرب ، قرص مضغوط ، إنتاج المستقبل للإنتاج الإلكتروني ، بيروت ، الإصدار1،0 ـ 1995.
وقد جاء القرآن الكريم في سورة يوسف عليه السلام ما يفيد بحلول سنوات الجدب، وهنّ السبع بقرات عجاف اللاتي تأكل السبع السّمان ، وهو تعبير عن الأزمة والقحط الذي يأتي بعد سنوات الغيث والخصب ، اقرأ وتدبّر الآيات 43 إلى 49 من سورة يوسف عليه السلام.(1/44)
في المزاج الاجتماعي العربي العام، فإن كلمة أزمة تشير إلى "حدث عصيب يهدد كيان الوجود الإنساني أو الجماعة البشرية، وبالتالي فإنها لا تعكس تغيٌرا نحو الأفضل.(1)
وتُعَرَّفُ في معجم ويبسترWebster على أنها " نقطة تحول إلى الأفضل أو الأسوأ " وأنها "لحظة حاسمة أو وقت حرج.(2)“A turning point for better or worse, a decisive moment, or a crucial time”
أما اقتصاديا فليس هناك وجهة نظر واحدة في تعريفها وتفسير أسبابها "ذلك أن لكل أزمة من الأزمات الماضية ظواهرها وخصائصها التي تتباين بدرجة تجعل من العسير الاتفاق على أساس نظري يمكن أن يستند إليه في تعليل تعاقب فترات الرواج والكساد".(3)
ويعتبر المقريزي أول من قام بالتنظير للدورات الاقتصادية(4)، في عهد سلاطين المماليك في مصر، حيث قام بتحليل أسباب الأزمات والتقلبات الاقتصادية في مجتمع سابق على المجتمع الرأسمالي، وذلك من خلال تحليله للأزمة الاقتصادية التي حلت بمصر سنة 806 هجرية، ويرجع المقريزي أسباب الأزمة إلي ثلاث عوامل رئيسية هي :
__________
(1) ـ د. سيد الهواري :الموجز في إدارة الأزمات، توزيع مكتبة عين شمس، الطبعة الأولى، 1998، القاهرة، ص3.
(2) ـ د.عبد الرحمن توفيق: إدارة الأزمات، التخطيط لما قد لا يحدث، تعريب: علا أحمد أصلاح، مركز الخبرات المهنية للإدارة (بميك) القاهرة2004، ص17.
(3) ـ معجم العلوم الاقتصادية، إعداد نخبة من الأساتذة، تصدير ومراجعة الدكتور إبراهيم مدكور، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1975، ص28.
(4) ـ هو تقي الدين أحمد بن علي المقريزي (1364-1442) ولد وعاش بالقاهرة وكان واحدا من تلاميذ ابن خلدون، المتأثر بآرائه وأفكاره، ويعتبر عميد مؤرخي مصر، له مؤلفات اقتصادية أشهرها " إغاثة الأمة بكشف الغمة " سنة1404، عمل محتسبا للقاهرة أي مشرفا على الشؤون الاقتصادية والاجتماعية للسكان.(1/45)
1 ـ العامل الأول: متمثلا في: "ولاية الخطط السلطانية والمناصب العامة بالرشوة لكل جاهل ومفسد وظالم وباغ "وهو في نظره " أصل الفساد "
2 ـ العامل الثاني: ويرجعه إلى غلاء قيمة إيجارات الأراضي مما ضاعف من تكاليف الزراعة، فأدى إلى تعطيل ثم قلة وشح الإنتاج الزراعي.
3 ـ العامل الثالث: ويراه في كثرة الفلوس ("نحاسية" على حساب الدنانير والدراهم "ذهبية وفضية على التوالي") بأيدي الناس مما أدى إلى تضخم وغلاء فاحش واختلال غير عادل بين الدخول والأثمان لعامة الشعب(1).
إضافة إلى ذلك فقد أشار المقريزي إلى أن الأسباب الخارجية للأزمة متمثلة بالسبب الطبيعي قصور النيل أو وفائه تظل أسبابا طارئة ومؤقتة، رغم ما تحدثه من تقلبات اقتصادية في مستوى النشاط الاقتصادي؛ أما لمعالجة الأزمة فقد اقترح على السلطان آنذاك إصلاح النقد.
في حين أننا لا نلحظ عند التقليديين مفهوما نظريا للأزمة رغم اهتمامات بعضهم بالتغيرات الحادة في التجارة ريكاردو سنة 1817 وبالأزمات الاقتصادية جون ستيوارت مل سنة 1848، وذلك خلال المرحلة الأولى لتطور مدرستهم.
أما ما كان يحدث في الواقع من تقلبات اقتصادية؛ فيرون أنه يرجع إلى عوامل وصدمات خارجية، ويحدث نتيجة لتدخل الإنسان في المجرى الطبيعي للحركة الاقتصادية(2)ولذلك فقد اعتقدوا أن الاقتصاد يكون دائما في حالة توازن، أي في حالة استخدام كامل على المدى البعيد، وأنه إذا اختل ذلك التوازن لسبب ما، فإن هناك قوى ضمن النظام الاقتصادي باستطاعتها إعادته إلى وضع التوازن؛ أما النظام نفسه فلا وجود فيه لقوى من شأنها أن توجهه أو توقعه في التقلبات الاقتصادية.
__________
(1) ـ بتصرف عن، ولمزيد من التفاصيل أنظر: محمد رضا علي العدل: الاقتصاد الكلي: كلية التجارة، جامعة عين شمس، دون سنة نشر، ص265-271.
(2) ـ محمد بشير علية: القاموس الاقتصادي، المؤسسة العربية؛ الطبعة الاولى1985، ص30.(1/46)
وأما فكر المدرسة التقليدية الجديدة، فقد وضعته بوادر أزمة 1929 في محنة شديدة، فقدّم صورة مشرقة للنظام الرأسمالي ولقدرته على تحقيق الاستخدام الكامل "وظل عدد كبير من أنصار هذه المدرسة يردد أن أحداث الكساد الكبير، التي كادت أن تدمّر النظام الرأسمالي، هي مجرّد قلاقل عابرة لم تنتج من طبيعة النظام وإنّما من فعل السياسة الاقتصادية ومن مظاهر عدم كمال السوق وجمود الأجور وعدم استجابتها للانخفاض المطلوب لعلاج أزمة البطالة، واستمروا ينددون بالتدخل الحكومي في النشاط الاقتصادي"(1). وبذلك يؤكد التقليديون الجدد ما قاله أسلافهم من قبلهم، وهو ما ليس له علاقة بالواقع وبالمشاكل التي كان يتخبط فيها النظام الرأسمالي آنذاك "فكان الاقتصاديون النيوكلاسيك في وادٍ، والواقع الذي يمور بالتناقضات في وادٍ آخر"(2). فلا نجد عند "فالراس Walras " أو "باريتو Pareto" أو أتباعهم اهتماما بآليات الأزمة. ثم جاء "كينز" متأثرا بالصورة الكئيبة لأسوأ أزمة عرفها النظام الرأسمالي(1929) لتشكل أفكاره موقف المعارضة لمن سبقوه من الاقتصاديين التقليديين وأتباعهم المحدثين، وذلك بالرغم من تأثّره بتعاليم هؤلاء، وخصوصا بأفكار أستاذه "ألفريد مارشال(3)"، والذي لم يتردد في معارضته هو و"جان باتيست سايJ.B.Say " و "بيجوA.C.
__________
(1) ـ د . رمزي زكي: الاقتصاد السياسي للبطالة، سلسلة كتب عالم المعرفة، إصدار المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت أكتوبر1997، ص325.
(2) ـ م. ن، ص326.
(3) ـ الهامش رقم 19، م. ن، ص 342.(1/47)
Pigou " فقد رفض "كينز" قانون "ساي" للأسواق، وأوضح أن حالة الاستخدام الكامل ما هي سوى حالة خاصة جدًّا، وأن التوازن يمكن أن يتحقق عند مستويات مختلفة تقلّ عن مستوى الاستخدام الكامل، بل أن الطلب الكلي الفعّال(1)هو الذي يحدد حجم العرض الكلي وبالتالي حجم الناتج والدخل والتشغيل؛ ومن هنا فإن الأزمة عند "كينز" تتولّد من عدم كفاية الطّلب الفعّال، (أنظر الشكل رقم 1) ومنه تنبع ضرورة تدخل الدولة لمعالجة الأزمة الاقتصادية ولتنظيم النّشاط الاقتصادي، وأن تستعمل كل الوسائل للزيادة من النّفقات ليزيد الطلب ويرتفع مستوى الاستخدام.
ويبدو لنا أنه بالرغم من أهمية الآراء والأفكار المتعلقة بمفهوم الأزمة والتي وردت في سياق النظرية العامة لكينز، خصوصا إذا ما وضعت في إطار الظروف التاريخية التي مرّت بها الدول الرأسمالية، فإن تطبيق المفاهيم والنماذج الكينزية لا تنطبق ولا تتوفر شروطها بالبلدان المتخلفة(2).
شكل رقم (1)
الأزمة والطلب الفعال عند كينز
المصدر:Janine Bremond &Autres:Sciences économiques et Sociales, Hatier1986, p154 ...
وفي ظل ظروف البلدان المتخلفة، وأساسا ما تعلق بقلة الموارد فانخفاض المداخيل، يمكننا أن نستنتج من الشكل(1) أن عدم كفاية الطلب تحدث اختلالات ( قلة استثمار، بطالة، ضعف الادخار...) وهي مصاعب تواجه التنمية، لا يمكن معالجتها دون تدخل الدولة.
__________
(1) ـ الطلب الفعال هو طلب متوقع من طرف المنظمين، ويتكون من: الطلب علي مواد وخدمات الاستهلاك وهو طلب مدعّم بقدرة شرائية، والطلب علي مواد وخدمات الاستثمار.
(2) ـ حول هذا الموضوع: راجع، فتح الله ولعلو: الاقتصاد السياسي، مدخل للدراسات الاقتصادية، دار الحداثة بيروت، الطبعة الثانية1982، ص145.(1/48)
أما في ما يتعلق بالفكر الماركسي الذي أولى اهتماما كبيرا للأزمات(1)،
__________
(1) ـ للإطلاع علي النظرية الماركسية في الأزمات الاقتصادية راجع: ـ اوتورا ينهولد: الأزمات الاقتصادية، ترجمة: بوعلي ياسين، دار الفارابي بيروت1980.
ـ وحول الأزمات الاقتصادية الرأسمالية لفترة ما بعد الحرب العالمية الثانية وحتى أواسط السبعينيات من القرن العشرين؛ مرورا بالأزمات الدورية والوسيطة والهيكلية وأزمات المواد الأساسية والطاقة والغذاء، راجع: أ.إ. بلجوك: الأزمات الاقتصادية للرأسمالية المعاصرة، تعريب علي محمد تقي عبد الحسين القزويني، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر1989.
ـ أما حول أزمات القرن الواحد والعشرين التي تفاقمت وتعددت نتيجة لتيار العولمة: بلدان آسيا1997، البرازيل1998، تركيا 2001 الأرجنتين2001 - 2002 ، طالع الفصل الثامن من: الدول النامية والعولمة للدكتور/ محمد صفوت قابل، الدار الجامعية، الإسكندرية مصر 2003/2004 ، ص265- 292. ـ كذلك مجلة التمويل والتنمية، الصادرة عن صندوق النقد الدولي، العدد3 ، سبتمبر1999.(1/49)
تعبيرا عن عيوب ونمط تناقضات النظام الرأسمالي، فالأزمة العامة للرأسمالية تمثل أزمة للنظام وتشمل مختلف ميادين الحياة الاجتماعية، ويمكن أن تكون أنماطا شتّى، وهي تعرّف على أنها فترات اضطرابات عنيفة واختلالات اقتصادية حادة تقطع سير عملية إعادة الإنتاج الرأسمالي الموسّع التي تبين الفرق الكبير بين مستوى الإنتاج ومستوى الطلب المحقق؛ فكارل ماركس عندما تناول تحليل الأزمة ربطها بالدورة الاقتصادية، واعتبرها جزءا من سلسلة الأزمات التي ستتكرّر لتفضي في النهاية إلى المصير المحتوم للرأسمالية وهو الانهيار(1)، وحتى وإن أمكن للرأسمالية أن تحل تناقضاتها لفترة مؤقتة، فإن قانون اتجاه معدل الربح للتدهور على المدى البعيد يعدّ سببا جوهريا للوقوع في الأزمات الاقتصادية بمظاهرها المختلفة: تراكم السلع في المخازن، وجود طاقات عاطلة، تنافس وحشي بين المنتجين لتصريف المخزون غير المرغوب فيه، تزايد البطالة فتدهور الأجور...وما إلى ذلك.
فَـ "الأزمة الاقتصادية هي المرحلة الرئيسية، نقطة البداية ونقطة الانطلاق لدورة إعادة الإنتاج الرأسمالية "(2).
__________
(1) ـ رمزي زكي: م. ن، ص229.
(2) ـ أتوراينهولد: م. س، ص32.(1/50)
ومما لاشك فيه أن الأزمات الاقتصادية على صلة وثيقة بالأزمات السياسية والاجتماعية، فقد تحولت التناقضات المرتبطة بها إلى عوائق يزداد ضررها التدميري على كل تنمية أو معالجة أو علاقات اقتصادية وعلى جميع المستويات المحلية والإقليمية أو الدولية، " ففي ظل هذه الأوضاع المتدهورة، الناتجة عن أزمة التطور السياسي الاقتصادي والاجتماعي، المستفحلة في بلدان العالم الثالث عموماً، التي أدت بها إلى مزيد من الإلحاق والتبعية في علاقتها بالشروط الرأسمالية الجديدة، كان لا بد لإستراتيجية رأس المال المعولم، انسجاماً مع نزوعه الدائم نحو التوسع والامتداد، أن تسعى إلى إخضاع الجميع لمقتضيات مشروع الهيمنة الأمريكي المعولم ـ وقد ازداد هذا الأمر توحشا بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 ـ وهي مقتضيات إستراتيجية تستهدف هدفين اثنين متكاملين هما: " تعميق العولمة الاقتصادية، أي سيادة السوق عالميا، وتدمير قدرة الدول والقوميات والشعوب على المقاومة السياسية"(1).
__________
(1) ـ غازي الصوراني: العولمة وطبيعة الأزمات السياسية الاقتصادية الاجتماعية في الوطن العربي وآفاق المستقبل www.rezgar.com تم التصفح في28/08/2003.(1/51)
والواقع أنه في ظل تزايد الاعتماد الاقتصادي المتبادل ازدادت احتمالات تعرض الاقتصاديات الوطنية للصدمات الخارجية وما يترتب على ذلك من الأزمات المالية التي يؤدي انتشارها إلى آثار اقتصادية وسياسية واجتماعية غير مقبولة؛ لقد أصبح انتشار آثار الصدمات المالية إحدى ملامح النظام المالي الدولي الجديد بالرغم من زيادة حجم التدفقات الدولية، فقد شهد عقد الثمانينيات أزمات مالية في الشيلي والأرجنتين وكذلك في الدول الصناعية، مثل أزمة المدخرات والقروض في أواخر الثمانينات في أمريكا والتي كان من نتائجها تراجع الناتج المحلي الإجمالي؛ إن الأسباب الرئيسية التي تقف وراء الأزمات المالية هي إتباع سياسات اقتصادية عامة غير سليمة وعدم كفاية البنية التشريعية وضعف الرقابة الحكومية والتدخل غير المبرر في الأسواق المالية؛ ويمكن القول أيضا بأن التحرير المالي ضاعف من حدة المصاعب التي تعترض القطاع المالي، حيث أوضحت أزمة المكسيك خلال 1994 هذه الحقيقة التي باتت واضحة للجميع وكذلك الأزمة الآسيوية خلال العام 1997، لذلك لا يمكن اعتبار أي بلد محصنا مما قد يحدث من متغيرات دولية في ظل تزايد الاندماج في الاقتصاد العالمي بما في ذلك البلدان المتخلفة.
وقد تجلت مظاهر الأزمة التي تمر بها البلدان المتخلفة في العديد من المظاهر من بينها: سوء التخطيط، قلة الاهتمام بالقطاع الزراعي، انخفاض مستوى المعيشة وتردي الأحوال الاجتماعية، البطالة، الكساد الاقتصادي، والعجز المتزايد في الموازين المالية والاقتصادية والإختلالات في مكونات المنظومة الضريبية والنقدية؛ وهي المظاهر التي لا يمكن وصفها سوى بأنها تشكل أزمة تنمية والتي طرأت عليها التحولات لتزيدها تعقيدا.
المطلب الثاني
التحوّلات العالمية(1/52)
ما من شك بأن بدايات القرن الواحد والعشرين تحمل متغيرات دولية كثيرة، هذه المتغيرات بدأت إرهاصاتها منذ العقدين الأخيرين من القرن العشرين، ومنذ بداية العقد الحالي شهد النظام الدولي المعاصر تحولات جوهرية في هيكليه وكان لها أبلغ الأثر على طبيعة وأشكال التفاعلات الدولية، فالعالم اليوم هو "عالم منفلت Runaway world" على حدّ قول أنطونى غيدنز "Anthony Giddens " " حيث تموج الحركة فيه بكل الاتجاهات، ومن دون أن تخضع لسيطرة البشر بشكل تام، فيبدو العالم أمامنا جامحا ومنطلقا بسرعة هائلة، فيما نحن نلهث خلفه"(1)وانسجاما مع سمة العصر فان هذه التحولات قد جاءت سريعة وشاملة وعميقة:
سريعة بمعنى أنها تداهم المجتمعات والدول دون أن تترك لها مجالا للتفكير أو للمواجهة. وشاملة كونها تؤثر على البنى الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية.
وعميقة فذلك نابع من تأثيراتها على مضمون العلاقات الإنسانية لتعيد في النهاية صياغتها على أسس مختلفة عما سبق؛ وبالنّظر لذلك فإنه من المتعذر إجراء مسح شامل لكل هذه التحولات المتعاقبة والسريعة، ولكي تقف على أهم معالمها سنعرض لها ضمن مجموعات من المعالم الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية والتقنية، ولعله من المفيد قبل استعراض ذلك أن نحاول تحديد مفهوم للتحولات.
الفرع الأول
مفهوم التحولات العالمية
__________
(1) ـ أنطوني غيدنز هو أحد كبار سيسيولوجي العلاقات الدولية ورئيس كلية لندن للعلوم الاقتصادية والسياسية، راجع عرضا لكتابه المعنون: "عالم منفلت، كيف تشكل العولمة حياتنا " على موقع الجزيرة نت www.Aljazeera.net/books تم التصفح في 25/02/2001. ...(1/53)
بالرغم من أن دراسة التحولات العالمية تندرج تحت فئة الدراسات الخاصة بالتغير الدولي، فإن إطار الدراسة يتطلب منا التوقف عند المعنى الذي تنطوي عليه من ناحية، وتحديد مواطن التحول التي نضعها ضمنها من ناحية أخرى، ذلك أن الاختلاف في تعريف التحول يمكن أن يقع، تبعا للمنظور الذي تنتمي أليه أدبيات الدراسات الجاري القيام بها، لذلك نشير إلى أن إطار التحولات المقصود في هذه الدراسة هي تلك التي حدثت أو هذه الجارية على الصعيد العالمي ، وتحديدا تلك الاقتصادية منها، دون إغفال الترابط والتأثير المتبادل لتجليات التغير أو التحول المتعددة، سواء كانت اقتصادية أو سياسية أو ثقافية أو إعلامية اتصالية أو تقنية، إذ لا ريب في أن تناول الجانب الاقتصادي لأي تحول يبرز ويعكس الجوانب الأخرى المتعددة.(1/54)
وبالنظر للاختلاف الذي يثيره تعريف وتحديد معنى التحول (أو التغير)(1)
__________
(1) ـ نشير إلى أهمية التمييز بين مصطلحي التحولTransformation والتغيرChangement، وأن موضوع بحثنا نراه يندرج ضمن مفهوم التحولات العالمية وليس التغيرات، خصوصا وأن هناك عدم تمييز بين اللفظين، وقد يستعملهما البعض بشكل مترادف، فالتغير يمكن أن يحدث داخل نظام قائم( كالتغير الذي يحدث داخل نظام توازن القوى) ويمكن أن يتحول النظام (من هيكل قائم على الثنائية القطبية إلى هيكل أحادي أو متعدد الأقطاب)، فالتحول هو أعلى مراحل التغير، ويعني أن هناك شيئا ما يحدث على مدار الزمن داخل النظام ذاته، وأما التحول فهو النقطة الفاصلة بين نظام وآخر بما يترتب عليه من تداعيات مختلفة، فكل نظام متحول يكون قد شهد تغيرا، ولكن العكس ليس صحيحا في كل الحالات. لمزيد من التفاصيل حول معنى التحولات العلمية،ومؤشراتها والأدبيات السياسية المفسرة للتحولات العالمية، راجع: مروة محمود فكري: أثر التحولات العالمية على الدولة القومية خلال التسعينيات، دراسة نظرية، رسالة ماجستير في العلوم السياسية، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، قسم الاقتصاد، جامعة القاهرة، يونيو2004 من ص18 إلى 35..(1/55)
عند دراسة أي منظومة خصوصا وأن منه ما لا يمكن الوقوف على أثره ونتائجه أو ملاحظته بوضوح، فقد أتجه البعض في دراسة مفهوم التحولات إلى التركيز على العمليات التي يرتبط بها والسياقات التي تتم من خلالها، فركزت الدراسات على مستويات أو أبعاد التغيرات، ليتسنى فهمها، ويلخصون تلك الأبعاد في عدة مستويات: المستوى الجزئي الخاص بالدول، والمستوى الوسيط الذي يضم الفواعل من غير الدول، ثم المستوى الكلي الذي يتشكل من النظام الدولي، بمستوييه:الأول خاص بالعمليات والقضايا( كالتغير البيئي أو الديموغرافي مثلا) والثاني متعلق بالقوى المحركة( كالتغير التكنولوجي أو الاتصالي أو الاقتصادي)(1).
__________
(1) ـ لمزيد من التفاصيل، راجع: مروة محمود فكري، م. ن، ص 18 وما بعدها.(1/56)
لعل محاولة تحديد مفهوم للتحولات التي حدثت على الصعيد الدولي، تدفعنا بالضرورة إلي القول بأن أهم ملامح النظام الدولي بدأت في التشكل منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، و امتدت حتى النصف الثاني من التسعينيات(1)،
__________
(1) ـ يمكن القول بأن تكوين الإطار الاقتصادي بشكله الحالي بدأ تقريبا منذ قيام الثورة الصناعية، وقد تحددت ملامح الاقتصاد الدولي على شكل إطار شامل في منتصف القرن التاسع عشر تقريبا. إذ أنه منذ بداية القرن التاسع عشر أحدث التطور الرأسمالي تطورا هائلا في العلاقات الدولية، ويشكل الإطار الذي يرتبط به هيكل توزيع القوة الاقتصادية والسياسية، بحيث تم إرساء تشكيل معين لأوضاع العالم الاقتصادية تبعا لمجموعتين: 1) مجموعة الدول المتخلفة، 2) مجموعة الدول المتقدمة، بحيث يكرس للدول الرأسمالية القدرة على استغلال الدول الفقيرة، ولقد تم هذا الترتيب في الإطار المتعلق بالتجارة الدولية ونظام النقد الدولي..(1/57)
حيث تراكمت مجموعة من العوامل على امتداد تلك الفترة، دفعت بالنظام الدولي إلي التغيّر جذريا وجوهريا، مما رتّب أوضاعا اقتصادية واجتماعية وسياسية جديدة ومختلفة تماما، تجسّدت في تحولات وتغيرات اقتصادية وسياسية بالأساس، منذ النصف الثاني من التسعينيات من القرن العشرين، لتشكّل نواة نظام اقتصادي عالمي جديد يختلف عن النظام السابق من حيث عوامل ومكونات ومظاهر القوى والأساليب والأدوات المستخدمة، بل من حيث جميع جوانبه(1)؛ ولذلك لا يجب إغفال المنظور التاريخي التحليلي الديناميكي الذي يمكننا من القول: بأن النظام العالمي الذي يتبلور اليوم ما هو سوى نتيجة طبيعية لتطور النظام الدولي الذي تم إرساؤه منذ الحرب العالمية الثانية.
وعليه فإن التحولات ـ التي نشهدها ـ في العلاقات الدولية وعلاقات الإنتاج والنقل والانتقال والتطورات العلمية والتقنية في مختلف الميادين، تعبِّر عن التحولات العالمية.
الفرع الثاني
__________
(1) ـ تجدر الإشارة هنا إلى ضرورة التمييز بين النظام الدولي والنظام العالمي، إذ نقصد بالنظام الدولي انتظام وتفاعل دول العالم في نظام شامل ووفقا لنمط معين من تقسيم العمل الدولي والخضوع لبعض التنظيمات والمنظمات الدولية وهو ذلك النظام الذي أعقب الحرب العالمية الثانية، أما النظام العالمي فقد بدأت ملامحه تتبلور وتتحدد بوضوح مع بداية التسعينيات ونعني به مجموعة الحقائق والمكونات التي تحكم المجتمع العالمي وتنظم علاقات الدول بعضها بالبعض من خلال آليات مؤسسية تشمل إلى جانب الدول، المؤسسات الدولية أو العالمية والشركات المتعددة الجنسيات والتكتلات الاقتصادية العالمية وما إلي ذلك من الفاعلين والمؤثرين في العالم؛ لذلك استخدمنا أعلاه لفظ النظام العالمي تعبيرا عمّا يحدث في المرحلة الراهنة من تطورات على صعيد العالم، ومنه يمكننا اعتبار النظام الاقتصادي الدولي جزءا من النظام الاقتصادي العالمي .(1/58)
المعالم الاقتصادية والسياسية والاجتماعية للتحولات
مع بداية عام 1989هبّت رياح الديمقراطية والتعددية على أوروبا الشرقية، وظهرت بوادر انتصار الرأسمالية على الاشتراكية، وتحطّم جدار برلين رمز الحرب الباردة، ثم توحدّت ألمانيا في أكتوبر 1990 وجاء مؤتمر مدريد الذي عقد في اكتوبر1991 ليفتح الأبواب أمام إسرائيل(1)في محاولة أن تكون إحدى دول المنطقة سواء في الشرق الأوسط أو في أو في حوض المتوسط، تمهيدا لقبولها ـ بل فرضها ـ كطرف لحل مشاكل المنطقة بعد أن كانت تعتبر المشكلة الرئيسية في المنطقة، أما انهيار الاتحاد السوفيتي رسميا في ديسمبر 1991 فقد ساهم دون ريب في وضع النهاية لصراع القطبين في العالم وفي حوض المتوسط، مما فسح المجال أمام أوروبا لتطلق مبادرات ما يسمى بالتعاون بينها وبين دول الضفة الجنوبية منه، وبذلك برز وتعزّز وتأَكّد مبدأ القطب الواحد على الأصعدة السياسية والاقتصادية والفكرية؛ وسيطر الفكر الليبرالي الاقتصادي على المؤسسات والاتفاقيات الدولية، كما يبدو أيضا في تكييف السياسات الاقتصادية والمالية والنقدية تماشيا مع مستلزمات العولمة، المحكومة بأيديولوجية اقتصاد السوق والانفتاح وتخصيص المؤسسات العامة، وتقليص دور الدولة باتجاه إعادة النظر جذريًا بوظائفها العامة، وخصوصا فيما يتعلق بوظيفتها الاجتماعية.
__________
(1) ـ نقصد مؤتمر مدريد للسلام في الشرق الأوسط الذي عقد يومي 30/10و 01/11/1991.(1/59)
لقد استطاعت الولايات المتحدة الأمريكية تأكيد زعامتها العسكرية والسياسية بحيث أصبح النظام الدولي خاضعا لممارستها لدور "شرطي العالم"، فبعد أن كرّست هيمنتها المطلقة على مجلس الأمن استطاعت أن توظفه بالشكل الذي تريد، وحينما تريد، ونحن نشهد كيف توظف الأمم المتحدة لأغراض نظامها العالمي الجديد، كما حصل في أزمة الخليج الثانية؛ ولكنها استبعدته بشكل كامل من عملية السلام التي ابتدأت في مدريد، وبشكل مطلق وبتحدّ للرأي العام الدولي في غزوها للعراق.
إذا أردنا أن نلخص أهم المعالم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لهذه التحولات، فإن صعوبة مواكبة تسارعها وتلاحقها، تواجهنا في ذلك، ولعلنا تنمكن من ذكر أهمها في ما يلي:
ـ تراجع وتحول وظائف الدولة اقتصاديا وسياسيا، لتفسح للقطاع الخاص الوطني والأجنبي، ولمنظمات المجتمع المدني وشبه الحكومي القيام بأدوار أكبر وأكثر تزايدا بمرور الزمن.
ـ تزايد دور الشركات العالمية، بحيث فاقت القدرة المالية والسياسية لبعضها، قدرة كثير من الدول، بل قدرة وسلطة البلدان المتخلفة مجتمعة؛ إذ أن ثلث التجارة العالمية يتم بين هذه الشركات وفروعها في البلدان الأخرى، وتستأثر حوالى350 منها على 40% من التجارة العالمية(1).
ـ الزيادة الكبيرة في انتقال رؤوس الأموال والتدفقات المالية، والتي يتم من خلالها التأثير على المكونات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية لمختلف الدول والشعوب، وتفاقم تكسير الحدود الجبائية والجمركية، وإعادة ترسيم الحدود السياسية والجغرافية لكثير من المناطق والبلدان.
__________
(1) ـ الأرقام واردة بملف الأهرام الاستراتيجي، العدد61، يناير2000، ص3، ضمن مقال بعنوان: مؤتمر سياتل وتحديات العولمة لعبد الفتاح الجبالي.(1/60)
ـ ازدياد النزعة إلى الاندماج والتكتل أكثر منذ بداية التسعينيات، إذ تم سنة1998 مثلا إبرام89 صفقة اندماج تزيد قيمة كل منها عن المليار دولار،قيمتها إجماليا544 مليار دولار، مقابل35 صفقة فقط سنة1995، وقد شملت تلك الصفقات أهم القطاعات كالخدمات المالية والتأمين والاتصالات والتكنولوجيا الحيوية(1).
ـ ثم أنه من بين أهم التحولات تلك التي يشهدها النظام الرأسمالي ذاته (التحول من رأسمالية تنافسية تعدد المؤسسات إلى رأسمالية تساهمية أي "تشاركية المؤسسات" « un capitalisme actionnarial » والتحول في علاقات العمل وكذلك التحول على صعيد التنافسية الدولية).
الفرع الثالث
المعالم الثقافية والتقنية للتحولات
من التحولات الرئيسية المتسارعة منذ نهايات القرن العشرين ما يسمى بالثورة الصناعية الثالثة التي تعتمد على التطور الهائل في تقنيات المعلومات والاتصالات(2)،
__________
(1) ـ م. ن، ص3.
(2) ـ تُعرِّفُ منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية، تكنولوجيا المعلومات: بأنها « نموذج تقني اقتصادي جديد يؤثر على تسيير ومراقبة أنظمة الإنتاج والخدمات في الاقتصاد، يعتمد على مجموعة مترابطة من الاكتشافات المعمقة في ميدان الحاسبات، الإلكترونيك، هندسة البرمجيات نظم المراقبة والاتصالات البعدية، مما سمح من تخفيض تكاليف التخزين، المعالجة، تبادل وتوزيع المعلومات بشكل كبير»:
Freeman et Soete ; Technologie d’Information et domaine de croissance, éd OCDE ; 1989 ; P148.
في مداخلة للأستاذ: بوتين محمد/ بعنوان: أثر تكنولوجيا المعلومات على عملية اتخاذ القرارات والأداء، واقع المؤسسة الجزائرية، ضمن: مداخلات الملتقى الدولي حول " أهمية الشفافية ونجاعة الأداء للاندماج الفعلي في الاقتصاد العالمي" ع. س.(1/61)
وعلى النمط الإنتاجي الكثيف المعرفة وهو مما يزيد من الفجوة بين الدول المتقدمة وتلك المتخلفة؛ فالمجتمعات بالعالم تتحول من الاقتصاد الذي يعتمد على الصناعة حيث يلعب رأس المال دورا أساسيا، إلى الاقتصاد المعلوماتي الذي تشكل ضمنه المعلومات المورد الاستراتيجي والحاسم.
ولذلك نجد ضمن رؤية البلدان الثماني الكبرى، إيلاء أهمية لهذا الجانب، حيث أقرت قمة "أوكيناوا" لهذه الدول، في وثيقة تحت عنوان:"ميثاق أوكيناوا حول مجتمع المعلومات العالمي"، وذلك في النصف الثاني من جويلية2000 باليابان ما يلي:
" تشكل تكنولوجيا المعلومات والاتصالات إحدى أعظم القوى الكامنة التي تساهم في تشكيل ملامح القرن الحادي والعشرين، وينعكس تأثيرها الثوري على طريقة حياة الناس وتعليمها وعملهم، وعلى طريقة تفاعل الحكومات مع المجتمع المدني، وبسرعة تغدو تكنولوجيا المعلومات والاتصالات محركاً حيوياً للنمو في الاقتصاد العالمي".(1/62)
وإدراكا لأهمية هذا التطور في عملية التنمية الشاملة، فقد تم مناقشة بعض الجوانب ـ التي تضمنها الإعلان العالمي الصادر عن الأمم المتحدة في عام 2000 والذي عرف باسم "إعلان القرن" ـ خلال قمة المعلوماتية الأولى(1)، وهي الجوانب التي رأى المخططون أنه من المناسب إضافتها إلى النقاط الرئيسية للقمة، وتمثلت في الموضوعات التالية:
«تخفيض عدد السكان الذين يعيشون تحت مستوى خط الفقر إلى النصف بحلول عام 2015، وفى هذا المجال ناقشت القمة كيف يمكن أن تقوم تكنولوجيا المعلومات والاتصالات بالوصول إلى سوق المعلومات وتخفيض تكاليف إجراء المعاملات المختلفة على المزارعين والتجار الفقراء، وزيادة الكفاءة والتنافسية والوصول إلى المؤسسات المختلفة في الدول"النامية"، وتعزيز قدرة "الدول النامية" على المشاركة في الاقتصاد العالمي واستكشاف الفوائد المقارنة من حيث عامل التكاليف، خاصة العمالة الماهرة.
__________
(1) ـ جاءت فكرة القمة العالمية لمجتمع المعلومات من خلال اقتراح تقدمت به تونس للاتحاد الدولي للاتصالات، الذي وافق على الاقتراح، فانعقدت القمة العالمية لمجتمع المعلومات بدورتيها ( جنيف ديسمبر 2003، تونس نوفمبر 2005) وقد شاركت فيهما كل دول العالم تقريبا والمؤسسات التابعة للأمم المتحدة والمنظمات الحكومية الإقليمية والدولية وكذلك المنظمات غير الحكومية والمجتمع المدني، والقطاع الخاص وشركات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات؛ ونظرا لبروز قضايا اختلف في شأنها فقد قامت الدورة الأولى بتأجيلها جميعا لحسمها في الدورة الثانية (تونس 2005) التي أطلق عليها قمة الحلول والانتقال من التشخيص إلى العمل، وهي القمة التي ركزت على ثلاث قضايا رئيسية تبلورت خلال المرحلة الأولى، وفترة التحضير للمرحلة الثانية، وهى: ـ أ ـ إدارة الانترنت. ـ ب ـ الفجوة الرقمية بين الدول المتقدمة والنامية. ـ ج ـ وآليات التمويل المطلوبة لدعم الدول النامية.(1/63)
تخفيض معدلات وفيات الأطفال والرضع بمقدار الثلثين بحلول عام2015 وتوفير الوصول إلى الخدمات الصحية الأساسية للجميع بحلول عام 2015؛ وناقشت القمة في هذا المجال كيفية توظيف تكنولوجيا المعلومات في تعزيز نشر الخدمات الأساسية للعاملين في مجال الصحة، وخدمات التدريب أثناء تقديم الخدمات، وزيادة المراقبة والمشاركة في المعلومات الخاصة بالأمراض والوصول بالخدمات الصحية إلى المناطق النائية والمعزولة، وزيادة الوصول إلى المعلومات الصحية بما فيها المعلومات المتعلقة بالصحة الإنجابية ومنع انتشار الإيدز من خلال محتوى مناسب مقدم باللغات المحلية»(1).
لكن بالرغم من الطموحات فإن المؤشرات تدل على توجه نحو أحادية ثقافية، نتيجة التركز والتمركز في الإنتاج الثقافي والإعلامي، حيث أن أكثر من 80% من مواقع الانترنيت باللغة الإنكليزية كما أن صناعة السينما الأمريكية تسيطر على نحو 70% من سوق الأفلام في أوروبا عام 1996 وعلى أكثر من 83% في أمريكا اللاتينية وعلى 50% في اليابان؛ في حين أن الأفلام الأجنبية لا تمثل سوى نحو 3% فقط من السوق الأمريكي، وهذا ما يفرض ثقافتها وفكرها إضافة إلى احتكار التكنولوجيا الحديثة من قبل الدول الصناعية الكبرى وشركاتها عابرة القومية والتمركز في وسائل الإعلام والاتصالات؛ مما ساهم في نشر ثقافة هذه التكنولوجيا(2).
__________
(1) ـ عن: جمال محمد غيطاس: العرب والقمة العالمية لمجتمع المعلومات، تعقيدات التعامل مع الفجوة الرقمية، كراسات إستراتيجية، السنة السادسة عشرة، العدد رقم (159) مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية، الأهرام مصر، يناير 2006.
(2) ـ التكنولوجيا هي أيضا التطبيقات العملية لما تفرزه النظريات العلمية وتطبيق الخبرات المكتسبة في تطوير عمليات الإنتاج والتسويق والخدمات.(1/64)
لذلك نعتقد أن الاهتمام بالأبعاد الثقافية بالدول المتخلفة من قبل الدول المتقدمة، ليس منفصلا عن الأبعاد السياسية والاقتصادية، فإثارة مسائل محو الأمية أو رفع مستوى التعليم والتكوين والديموقراطية وحقوق الانسان، ودفع البلدان المتخلفة للتكيف والتحول نحو اقتصاد السوق كلها مسائل مترابطة؛ أي تأثير على أحدها يؤثر على الأخرى.
خاتمة:(1/65)
حاولنا ضمن محتويات هذا الفصل توضيح المفاهيم الأساسية الواردة على عنوان بحثنا، وذلك قصد تحديد الإطار النظري للدراسة موضوع الأطروحة،بحيث يمكننا القول أن مفهوم التنمية لم يتبلور في نظرية متكاملة مستقرة في الفكر الاقتصادي، وذلك بعد استعراضنا لتلك الاهتمامات بالموضوع منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وعقب الاستقلال هزيمة الاستعمار العسكري في أغلب البلدان المتخلفة حاليا، وهو ما جعل الأفكار التي طرحت بشأن التنمية والتخطيط ترد متأثرة بالصراعات الإيديولوجية وقد توصلنا إلى أن مفهوم التنمية عرف مَنْهَجٍيًّا فٍكرًا جديدًا منذ بداية التسعينيات من القرن المنصرم، ليأخذ بمضامين جديدة من شأنها أن تعيد النظر في الاهتمامات الإنمائية التي كانت تعتمد قبل نهاية القرن العشرين، ونتيجة للتحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتقنية التي تعصف بالعالم وتمر بها البلدان المتخلفة، مما انعكس في الحكم على التخطيط المركزي و/أو الشامل، على أنه لم يعد يفي بتحقيق أهداف التنمية الشاملة، وفرض ضرورة البحث عن أسلوب ومنهج تخطيط كفيل بمواجهة متغيرات العصر، حيث لم تعد الدولة بمفردها المسؤولة عن تحقيق التنمية، بل برزت أدوار فواعل آخرين إلى جانبها، وهو ما يسمح بالقول: أن التخطيط بدوره أصبح أداة فنية لا ترتبط بنظام سياسي، أو هو أسلوب علمي يُمَكننا من إحداث تغيرات في التوجه الإنمائي، وقد توصلنا ضمن محتويات هذا الفصل أيضا إلى أن ما نريد تحديد إطاره ضمن مفهوم الأزمة هو ذلك الذي يسمح للسياسة التنموية أن تتحول عنه نحو الأفضل، فالأزمة ليست قدرا محتوما على البلدان المتخلفة، بل أنها يمكن أن تمثل نقطة التحول في التفاعل مع التحولات العالمية والوعي بحقيقة أننا نعيش عالما جديدا يفرض تحديات خارجية ومحلية ذات طبيعة مختلفة جذريا عما قبل وَعْيًا يُمَكّن من وضع الخطط التنموية التي تتوافق مع التطورات المحلية والدولية والعالمية،(1/66)
وحيث أن تناول التحولات العالمية ينطوي على مناهج ومعاني مختلفة تبعا للرؤى التي تنتمي إليها الدراسة، فقد فضلنا أن نتناولها من حيث العمليات والآثار التي ترتبط بها والتغيرات التي تحدثها على صعيد التنمية والتخطيط الاقتصاديين، فالتحولات والتغيرات في العلاقات الدولية وعلاقات الإنتاج والنقل والتطورات العلمية والتقنية في مختلف الميادين، تعبِّر عن التحولات العالمية وهي كلها مؤثرات حاسمة على مسيرة ومستقبل التنمية والتخطيط بالبلدان المتخلفة.(1/67)
الفصل الثاني
التخطيط في الأنظمة الاقتصادية والسياسية
تمهيد
لقد شكل موضوع التخطيط في الماضي اهتماما متزايدا في الأدبيات الاقتصادية، وكان ذلك بارزا خصوصا في البلدان الاشتراكية، وقد اعتمد فيما بعد الحرب من قبل عدد كبير من الدول المتطورة والمتخلفة.
فقد استخدم التخطيط كأسلوب لحل المشكلة الاقتصادية في الاتحاد السوفياتي عام 1928، وانتشر منهج التخطيط الشامل بعد ذلك في الدول الاشتراكية في أوروبا الشرقية، واعتبر التخطيط آنذاك كنظام بديل ونقيض لليد الخفية في النظام الرأسمالي الذي اعتمد آلية السوق وجهاز الأسعار.(1/1)
وقد طبق التخطيط عمليا في العديد من الدول على اختلاف أنظمتها السياسية والاقتصادية باعتباره منهجا علميا لإدارة الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية على كافة المستويات، فقد طبقته الدول المتخلفة، بما فيها دول تنتهج مبدأ الحرية الاقتصادية مثلما هو الحال في كوريا الجنوبية التي انتهجت التخطيط مع مطلع الستينات، وحققت التنمية المخططة بها نجاحا لم تصل إليه كوريا الشمالية ذات النظام الشمولي والنهج الإلزامي في التخطيط، وذلك بالرغم من أن التخطيط عادة ينسب للنظم السياسية والاقتصادية الشمولية، باعتبار أنها تُسيِّر مجتمعاتها وفق خطط شامة تلزم بها كافة المِؤسسات بمختلف الأنشطة(1)، وإذا كان هذا صحيحا، فإنه من الخطأ ربط التخطيط بالنظم الشمولية إذ أن المؤسسات الخاصة تقوم بالتخطيط لأنشطتها أيضا، كما أن العديد من الدول التي تعتمد اقتصاد السوق وآلياته تنتهج أسلوب التخطيط كأساس لإدارة اقتصادها الوطني، وتحقيق أهداف النمو والاستقرار الاقتصادي والاجتماعي.
إن ذلك الخلط بين مفهوم التخطيط كوسيلة علمية لإدارة الحياة الاقتصادية والاجتماعية، وبين مفهوم النظام الاجتماعي الاقتصادي كان ولا يزال السبب الرئيسي في عدم إتباع عدد كبير من الدول الغربية (دول اقتصاد السوق) وبعض الدول المتخلفة لأسلوب التخطيط للتنمية.
__________
(1) ـ وقد يكون ذلك بسبب عدم التمييز عند البعض بين مفهوم التخطيط كوسيلة علمية لإدارة الحياة الاقتصادية والاجتماعية وبين مفهوم النظام الاجتماعي والاقتصادي، الذي يعبر عن مجموعة القواعد التي تحكم ظاهرة أو مجموعة من الظواهر الاجتماعية أو السياسية أو الاقتصادية أو الثقافية، لمزيد من التفاصيل حول مفهوم النظام، راجع ميلود المهذبي، في المستقبل العربي، مجلة فكرية شهرية، يصدرها مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، تموز/يوليو1992(1/2)
و"للأسف، إن التقسيم المعتاد للأنظمة الاقتصادية إلى أنظمة اقتصاد السوق واقتصاديات مخططة، يمكن أن يكون مضللا عندما تعالج ضمن منظور شامل، ففي الحقيقة الواقعة لا يوجد اقتصاد مخطط جزئيا أو كليا ( كامل أو ناقص التخطيط) ويبدو أن الأمر يتعلق بدرجة التخطيط"(1). ولذلك فإننا نرى أن الأنظمة الرأسمالية، وبالأحرى أنظمة الدول المتخلفة، في حاجة ملحّة وأكثر من أي وقت مضى إلى التخطيط في عصر يتسم بالاضطراب، فلم يعد السؤال نخطط أولا نخطط؟ ولكن كيف نخطط؟
__________
(1) - Michael. P. Todaro: La Planification du développement « modèles et méthodes »; traduit par M.E.Benissad, O.P.U.Alger1984, p8.(1/3)
ولكن وكأي أسلوب تطبيقي من المنطقي أن يعرف التطبيق العلمي للتخطيط بعض التعديلات أو مراجعات لبعض المبادئ الأساسية التي يقوم عليها والتي تقتضيها ضرورة التطبيق والمشاكل العملية للممارسة؛ وقد كانت أولى المراجعات لهذا الأسلوب في أوروبا الشرقية حيث كانت تستهدف البحث عن إطار تنظيمي آخر لماهية القرارات التي يجب أن تظل من مسؤولية السلطة المركزية للتخطيط وما هي القرارات التي يجب أن تسند إلى المسؤوليات الدنيا سواء عند صياغة الخطة أو عند تنفيذها ومتابعتها؛ ثم جاء عقد الثمانينيات مخيبا للآمال بسبب الأداء الاقتصادي الضعيف مقارنة بعقد السبعينيات، بحيث كان النمو الاقتصادي أقل،وازدادت أسعار السلع الاستهلاكية بسرعة أكبر، وزاد الدين الخارجي، وتباين الأداء بصورة بارزة فيما بين الدول المتخلفة، إذ حققت النظم الاقتصادية في آسيا الجنوبية نتائج أفضل مما حققته نظم أخرى في إفريقيا وأمريكا اللاتينية، فبدأت تطرح بكل وضوح محدودية التخطيط الاقتصادي، والتحول من تخطيط الإنتاج الشامل إلى تخطيط السياسة الإستراتيجية، والتركيز أكثر علي نظام الحوافز بدلا من التركيز علي وضع نماذج طويلة للتنمية؛ فأصبح من الضروري الاستجابة بسرعة للظروف المتغيرة، خصوصا وأن الظروف الدولية تشهد العديد من التحولات العميقة علي جميع الأصعدة.
ويبدو من المفيد قبل تناول توجّهات السياسة الاقتصادية الجارية بالبلدان المتخلفة في إطار التحولات الاقتصادية العالمية، أن نتعرض ضمن مباحث هذا الفصل إلى التطور التاريخي لممارسة التخطيط في ضوء مختلف الأنظمة الاقتصادية والسياسية التي عرفها العالم، مشيرين للخصائص والظروف التي ميزت الممارسة في كل نظام منها، على أن نتناول الأسباب التي أدت إلى اختلالات التنمية وتراجع التخطيط في البلدان المتخلفة بالخصوص.
المبحث الأول
التخطيط في المنظومة الاشتراكية(سابقا)(1/4)
في أكتوبر 1917، قامت أول دولة اشتراكية في العالم على أرض روسيا، وانفصل سدس الكرة الأرضية عن السوق الرأسمالية العالمية، وبدأت لأول مرة في التاريخ تجربة جديدة لإدارة الاقتصاد الوطني عن طريق التخطيط الاشتراكي. والمقصود هنا التخطيط الاقتصادي في الاتحاد السوفياتي (سابقا) والاقتصاديات الشبيهة به في شرق أوروبا وآسيا، حيث تراقب الدولة بحدة ومباشرة النشاط الاقتصادي من خلال عملية مركزية لاتخاذ القرار، حيث يشكل مجموعة أهداف محددة مسبقا من قبل المخططين المركزيين، القاعدة التي يبنى عليها مخطط وطني اقتصادي كامل وشامل، ومن ثمّ تخصص الموارد المادية والمالية للمخطط بمجمله، ليس استنادا إلى أسعار السوق وظروف العرض والطلب مثلما هو الحال في اقتصاد السوق، ولكن تطابقا مع المتطلبات من المواد الأولية ومن العمل ومن رأس المال.
المطلب الأول
التخطيط قبل مرحلة التحولات
الفرع الأول
أسس التخطيط في الاتحاد السوفيتي
1 ـ مركز التخطيط: ويشمل جميع مؤسسات التخطيط ويقع في أعلى مستوى للهيئات العليا للدولة والحزب، أما المجلس الأعلى للاتحاد السوفيتي والجمهوريات الاتحادية فهي بدورها تملك "نظريا" السلطات السيادية فيما يتعلق بالتخطيط، ولكنها في الواقع لم تمارس سلطاتها سوى بصفة محدودة؛ وأما الحزب فهو في الواقع المستوى القيادي الأعلى " لمركز التخطيط" إذ تملك اللجنة المركزية المكاتب والأقسام التي لها كفاءات فيما يتعلق ببعض الفروع الاقتصادية.
وذلك بالرغم من اقتصاد الاتحاد السوفياتي لم يكن مخططا مركزيا (100%) فمثلا تبدو مظاهر السوق للعيان أكثر فأكثر في إنتاج وتوزيع وتحديد أسعار حلقة واسعة من أموال الاستهلاك(1).
__________
(1) - Todaro, op.cit, p9.(1/5)
وفي نهاية 1965 وتبعا للإصلاح الاقتصادي فقد تم تعديل تنظيم الهيئات المكلفة بتهيئة المخططات: وهو ما أفرز نظاما شبه هرمي يوجد في قمته مجلس الدولة للتخطيط للاتحاد السوفيتي، وهي هيئة فيدرالية تتبع مباشرة مجلس وزراء الاتحاد السوفياتى "gosplan" وهو الجهاز الذي تلتقي عنده كل المخططات الفرعية حتى يتم تعديلها وتنسيقها، فهو المسؤول عن دراسة التوجهات الأساسية للاقتصاد ومشاكل تطوره: إذ يحدد وتائر التنمية الاقتصادية، ويدرس التوزيع الإقليمي للوسائل وقوى الإنتاج فهيئات التخطيط هي منفذة مكلفة بمهام تقنية واقتصادية طبقا للأوامر الصادرة عن السلطات السياسية.
2 ـ إنجاز المخطط: يمكن توضيح المراحل التي يمر بها إنجاز المخطط في الشكل الموالي:
.
الشكل (2)
المراحل التي كان يمر بها إنجاز المخطط في الإتحاد السوفياتي – السابق-
انجاز المخطط ... الإعلام و الاقتراح ... الانجاز ... التنفيذ
السلطة السياسية ... الحزب الشيوعي والسلطة السياسية تقوم بالاختيارات الأساسية ... مجلس الوزراء يعتمد المشروع النهائي (تحديد نوعي) ... مجلس السوفيات الأعلى يقر نفس المشروع الذي يصبح قابلا للتنفيذ
الغوسبلان يعتمد التوصيات و يحدد الأهداف(بعد تحليل الاقتراحات)
كل وزارة تحول التوجيهات المفصلة إلى مؤسسات قطاعها
الغوسبلان (لجنة الدولة للمخطط)
الغوسبلان ينجز مشروع المخطط، يحدد التوازنات الرئيسية و يبحث عن الانسجام(أسلوب الموازنات)
الوزارات
كل وزارة تضع مشروع مخطط قطاعها ... الغوسبلان يعمل على تطبيق المخطط بواسطة الوزارات
الرقابة على التنفيذ استنادا إلى المؤشرات
المؤسسات ... المؤسسات توضح مشروع مخططها، و يمكن لها تقديم اقتراحات تحدد حاجاتها ... من بينها مؤشرات الناتج الصافي لقياس القيمة المضافة
المصدر: Régis Benichi / Marc Nouschi : Histoire Economique Contemporaine, La Croissance de 19ème siècle, 15ème thèmes, Ellipses1987, p212
.(1/6)
3. طرق التخطيط : وتستند إلى اعتماد المراحل التالية:
1.3 ـ مختلف المخططات: خضع الاقتصاد الشيوعي عبر مختلف الفترات لثلاثة أنظمة من المخططات في آن واحد:
أ ـ المخطط الإستشرافي: ويمثل بقدر كبير الأهداف العامة، وقد بدأ خطة 15 سنة في عام1976 مستهدفا تهيئة سيبيريا الغربية والشرقية، وهو وإن كان يحدد الأهداف بدقة، فإن ذلك لا يعني سوى بعض القطاعات الإنتاجية القائدة، أو بالأحرى ذات الإنتاج الإستراتيجي الهام.
ب ـ المخطط الخماسي: ويمثل جزءا من المخطط الاستشرافي ويهتم أساسا بتحديد التوجهات الكبرى، بحيث لا يقتصر على تحديد الأهداف على امتداد خمس سنوات فقط، بل يتوقع كذلك كيف يمكن تطور ذلك بالنسبة لكل سنة.ومن جهة أخرى ولكي لا يقع الاقتصاد مجمدا في وضع ما، فإن المخطط الخماسي يمكن أن يخضع للتعديل.
ج ـ المخطط السنوي: وهي ليست مخططات تستهدف سنويا مجددا، بل تأخذ المهام المعبر عنها من خلال المؤشرات في المخطط الخماسي بالنسبة للسنة المعنية، وتصلحها وتعدّلها تبعا لنتائج السنة المنصرمة.
2.3 ـ الأهداف والموازين: إن تحديد الأهداف يتحقق من خلال العديد من المراحل:
ـ تحديد الوضع الاقتصادي عند الانطلاق.
ـ تحديد المعدّلات ونسب التطور.
ـ وأخيرا الانجاز المفصل للمخطط.
3.3 ـ تحديد المعدلات والنسب: وتستند إلى التوجهات المتعلقة بالأمد الطويل المحدد بالمخطط الإستشرافي أو/والخماسي، وتعريف النسب يحدد التوازنات التنموية، مثلا بين القطاع الفلاحي والصناعة أو بين الإنتاج والنقل.
إن ميزان التخطيط هو استشرافي، بحيث يوضع المخطط في مراحل لاحقة، بينما يوّضح الميزان الموارد التي يجب أن توضع لتنفيذ المخطط، وكذلك الاحتياجات والاستخدامات المعنية بتنفيذ أهدافه.
.
4 ـ المشاكل والإصلاحات:
1.4 ـ إصلاحات سنوات الستينيات: كان"ستالين" قد وضع نظام تخطيط مركزي وسلطوي من أهم خصائصه:(1/7)
ـ الرقابة المستمرة للجهاز وعلى جميع المستويات، من قبل الحزب.
ـ نظام تسيير اقتصادي تدرّجي بالأساس.
ـ اقتصار أجهزة التخطيط عبر كل المستويات على أجهزة التسيير.
ـ التوزيع المركزي (الآمر) للأهداف المفروضة على المؤسسات.
ـ تجنيد الجماهير حول المخططات الإجبارية والاعتقاد في يقينية نجاحها، حيث وضعت استنادا إلى الماركسية البينينية ، واستمر هذا النظام لمدة عشر سنين، ثم تبين ضرورة إدخال إصلاح عميق، وقد تم حينها تقديم اقتراحات من قبل العديد مكن الاقتصاديين (ليبرمان مثلا) وكانت تلك الأفكار تتمحور حول فكرتين:
ـ استقلالية المؤسسات، وإشراكها في الاستفادة: وهو ما يحفز على التنفيذ التلقائي للمخطط، حيث يوجد حافز مادي بالنظر لأهمية الربح والمردودية، ويستخدم جزء من الأرباح في المكافأة الصناعية والنشاطات ذات الطابع الاجتماعي واستثمارات التحديث الصغيرة؛ وهذا بافتراض أن المؤسسات تملك هامشا من الصرف في تنفيذ المخطط: ولذلك يتم تقليل عدد المؤشرات الواجب التقيد بها.
وهكذا تمّ في أكتوبر 1965 إدخال الإصلاح، ولكن وإن تم تقليص عدد المؤشرات فإنها بقيت تغطى كل ميادين النشاط بالمؤسسة، التي يجب كان من الواجب عليها إضافة غالى ذلك احترام اعتبارين أساسيين: الأسعار ومعدلات الأجور التي يتم تحديدها من قبل الدولة. ولكنت نتائج الإصلاحات كانت مخيبة للآمال.
2.4 ـ التنفيذ السيئ للمخططات: كانت الصحافة في الإتحاد السوفيتي السابق كثيرا ما تشير، وبانتظام إلى التنفيذ السيئ للمخططات، خصوصا على مستوى الاستثمارات والمخزونات حيث تتفاقم المشاكل:
أ ـ التشتت الكبير للاستثمارات خصوصا مع عدد كبير من الورشات غبر المنتهية.
ب ـ الاختلال القطاعي: حيث كان يتم التجاوز في قطاع وسائل الإنتاج في الغالب في حين يحدث العجز في التنفيذ في صناعات وسائل الاستهلاك والقطاع الفلاحي.(1/8)
ج ـ تشكيل المخزون: بحيث كان يحدث التخزين المفرط على مستوى الجهاز الإنتاجي للمواد الأولية ومواد التجهيز، وذلك قصد ضمان التموين أو للإصلاحات الكبرى.
الفرع الثاني
المخططات من 1928الى1980
المخطط الأول 1928- 1932: ويتعلق الأمر بالتعديل الجذري للهياكل الاقتصادية والاجتماعية من أجل تكوين صناعة صلبة كفيلة لوحدها بضمان الاستقلالية عن الكتلة الرأسمالية، ولتقديم مناصب شغل حقيقية للسكان الذين كانوا يتطورون بمعدل سنوي مقداره2%. وقد تم خلال هذا المخطط التقيد بالصناعات الثقيلة وخصوصا الطاقوية منها، وأما في ميدان الفلاحة فقد كان هناك إلزاما للنظام التعاوني والكولخوزي( وقد من نتيجة ذلك المجاعة في أوكرانيا).
المخطط الثاني 1933 - 1937:واختص بالدرجة الأولى بالحديد والصلب، حيث كان قد خصص ما يقارب 25% من الاستثمارات إلى بناء مركب الحديد بالأورال، الذي ربطت مناطق استغلاله بسكة حديدية طولها 2000 كلم، ولكن هذا المخطط واجه صعوبات سنة 1937.
لقد عرف المخططان الأولان تطورا في مستوى الإنتاج الإجمالي، في حين بقيت الحياة اليومية تتميز بالتقشف والإملاق.
المخطط الثالث 1938-1942: وكان قد توقف بسبب الحرب العالمية الثانية، وكان مفترضا أن يكون منفّذا للبناءات الميكانيكية.
المخطط الرابع 1946-1950: وقد حدد أهداف ووسائل إعادة البناء الاقتصادي.
المخطط الخامس1951 - 1955: وتميز بسعة آفاقه، وبرمجة بناء المراكز الكهربائية الكبرى بالشطر الأوروبي من روسيا وكذلك بسيبيريا وإقامة قاعدة جديدة للصلب بسيبيريا، ولكن هذا المخطط تعطّل جزئيا بسبب موت "ستالين" سنة 1953.
المخطط السادس1956 - 1960: وقد تم في ثلاث مخططات ، وتعتبر معطياته ضيقة جدًا.
المخطط السابع1959 - 1965: وهو المخطط السباعي الوحيد ويتمحور حول تنوع الأهداف وحضيت صناعات وسائل الاستهلاك ضمنه بمكانة واسعة.(1/9)
المخططات: الثامن1966-1970، والتاسع1971-1975، والعاشر1976-1980 وكانت أهدافها تتمثل على العموم في المحافظة على وتيرة التنمية الصناعية( نمو بمعدل يتراوح بين6 و 8% سنويا، مع تدعيم تنمية الإنتاج الفلاحي دون وهم كبير (+4%).
المطلب الثاني
مرحلة الانتقال وواقع التخطيط في روسيا
لقد تحطم سور برلين، وأعيد توجبه ألمانيا الشرقية وألمانيا الغربية، ودخلت الديمقراطية والرأسمالية إلى بلدان وسط أوروبا التي كانت شيوعية فيما سبق، وانسحب الجيش الأحمر إلى الشرق، وألغي حلف وارسو، وتحقق النصر للديمقراطية والرأسمالية، فقد تمكنتا معا من دحر الدكتاتورية والشيوعية(1). وقد جسد ذلك انهيار آليات التخطيط، وأجهزة صنع السياسات الاقتصادية، كما أدى اعتماد إستراتيجية التنمية المعتمدة على مبدأ فك الارتباط بالسوق الرأسمالي العالمي إلى صعوبة إعادة بناء العلاقات الاقتصادية بين روسيا وباقي دول العالم.
__________
(1) ـ لستر ثارو: الصراع على القمة مستقبل المنافسة الاقتصادية بين أمريكا واليابان، ترجمة/أحمد فؤاد بلبع، سلسلة كتب عالم المعرفة، الكويت 1995، ص8.(1/10)
وبعد أن كان ينظر إلى التخطيط والتجربة التي خاضها ـ الاتحاد السوفياتي سابقا ـ منذ العشرينات من القرن الماضي على انه مثل يحتذي به خصوصا بعد النجاحات التي حققها أثناء فترة الكساد الكبير (1929 ـ 1933) التي تعرض لها العالم كله، تغيرت الأوضاع منذ 1989 أي منذ بيروسترويكا (غورباتشوف). فاتجهت دول المعسكر الاشتراكي كلها تقريبا إلى الأخذ بمزيد من الحرية الاقتصادية والتخلي عن الاقتصاد المخطط مركزيا، أي التخلي عن مبدأ ملكية الدولة لكافة وسائل الإنتاج وإعطاء فرصة أكبر للأفراد والقطاع الخاص في التملك والإنتاج، فقد ركزت خطة الإصلاح على خفض معدل الضريبة على الدخل إلى13% بعدما كانت تتراوح بين 12 و22%والإعلان عن حوافز جديدة لتسديد الضرائب وإعفاءات ضريبية لتشجيع الاستثمار(1).
__________
(1) ـ التقرير الاستراتيجي العربي: روسيا بوتين..السعي وراء المكانة المفقودة، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية ص9.(1/11)
أثناء سنوات الانتقال الأولى عكس الافتقار إلى البنية السليمة للسياسة النقدية الفعّالة ذلك التحدي الذي تمثل في إنشاء مؤسسات جديدة ووضع تنظيمات جديدة، علاوة على صعوبة التغلب على تراث التخطيط المركزي الذي جعل من التمييز بين الميزانية وتمويل الائتمان أمراً متعذراً، حيث كان البنك المركزي الروسي يعمل في بعض الأحيان كممول للحكومة، يزودها بالسيولة النقدية دون اعتبار لأسواق التمويل؛ وفي أحيان أخرى كان يركز على الأسواق المالية، فيزود البنوك بالسيولة النقدية. وفي أي من الحالتين لن نجد صلة بين التضخم وأسعار الفائدة؛ وكان من الضروري أن تتجه دول الكومنولث المستقلة عن الاتحاد السوفياتي "السابق" وروسيا أيضا إلى تبني سلسلة من السياسات الاقتصادية التي استهدفت التحول نحو اقتصاد السوق، بحيث طبقت تلك البلدان في إطار اتفاقيات مع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي الإجراءات المملاة لتحقيق الاستقرار ولتصحيح الاختلالات الداخلية مثل العجز في الميزانية والدين العام الداخلي والحد من التضخم، والاختلالات الخارجية مثل العجز في الميزان التجاري وفي موازين المدفوعات والمديونية الخارجية، كم طبقت سياسات استهدفت التصحيح الهيكلي مثل تحرير الأسعار وإخضاعها لآليات السوق ترشيدا لاستخدام الموارد وتخصيصها، وتقليص دور القطاع العام في الاقتصاد وتوفير الحوافز للاستثمار والمبادرة الفردية إضافة إلى اعتماد سياسات تدفع نحو تحرير القطاع الخارجي مثل تحرير الواردات والصرف الأجنبي تشجيع الاستثمار الأجنبي.
وقد كان تأثير سياسات إحلال الاستقرار، سلبيا على النشاط الاقتصادي، بحيث انخفض الإنتاج الحربي بين عامي 1990و1993 ، كما انخفضت قيمة الروبل بشكل كبيرسنة1992 ،وعليه يبدو الارتباط بين الانكماش في الناتج المحلي الإجمالي الذي اتضح فيما ببن جانفي1993 ونوفمبر1996 وبين تطورات سعر الصرف الحقيقي.(1/12)
وقد تسببت الفترة التي أعقبت الأزمة المالية التي شهدها عام 1998 في توليد عدد من المشاكل الخطيرة فيما يتصل بالسياسات النقدية وسياسات أسعار الصرف، فقد أدى تخلف روسيا عن تسديد ديونها ثم تخفيض قيمة عملتها في عام 1998 إلى تقويض التقدم الذي تم إحرازه ـ بداية من عام 1996 ـ في قطاع البنوك وأسواق رأس المال على وجه العموم، ولذلك فقد أثار البرنامج انتقادات داخلية من حيث أنه يمثل انصياعا لشروط المؤسسات الدولية، بل "إن التغيرات التي طرأت على الاقتصاد الشامل في روسيا لم تسر حسب التوقعات التي صاحبت عوامل العلاج المذكورة"(1).
... المبحث الثاني
بدايات وتطور التخطيط بالبلدان الرأسمالية المتطورة
لقد كانت هناك عوامل داخلية وأخرى خارجية دفعت بالدولة في النظام الرأسمالي إلى التدخل اقتصاديا واجتماعيا، ومن ثم ممارستها للتخطيط الاقتصادي، فقد تم في بريطانيا مثلا، عقب الحرب العالمية الثانية ومن أجل تدعيم الوحدة الوطنية، توجيه "الاقتصاد المخطط للحرب" نحو تحقيق المساواة والعدالة الاجتماعية، حيث كان قد تقدّم اللورد "وليام هنري William Henry Beveridge " وفي أوج الحرب بمخطط له حول الضمان الاجتماعي، ثم استكمله خلال سنة 1944 بكتابه: "العمل للجميع ضمن مجتمع حرٍّ " وهو المخطط الذي اعتمدته الحكومة البريطانية في مواجهة البؤس والبطالة والأمراض، وهي الأهداف التي تبقى نفسها في نظرنا إلى اليوم تشكل محورا لمختلف تجارب التنمية بالبلدان المتخلفة؛ وأما إذا أردنا التعرف على أهم العوامل التي كانت دافعا للبلدان الرأسمالية لاستخدام التخطيط الاقتصادي فيمكن أن نذكر من بين أهمها ما يلي:
__________
(1) ـ جاك سابير Jaques Sapir: إجماع واشنطن ومرحلة الانتقال في روسيا: قصة فشل، في: المجلة الدولية للعلوم الاجتماعية العدد166، ديسمبر2000، ربع سنوية تصدر عن اليونسكو، النسخة العربية صادرة عن مركز مطبوعات اليونسكو بالقاهرة، ص49.(1/13)
1. ـ حركة تركز المؤسسات الصناعية والتجارية والمالية مما أدى إلى خلق أشكال احتكار ثنائي ومتعدد بحيث لم يعد السوق تنافسيا.
2. ـ الأزمات المتعاقبة في الاقتصاديات الرأسمالية، ثم البؤس الاجتماعي والبطالة...مما فاقم من مشاكل المسالة الاجتماعية، وبالتالي تزايد نشاطات الحركات العمالية والنقابية.
3. ـ تطور النظريات الاشتراكية ما قبل الماركسية والماركسية، التي كانت تبحث عن أسس لإرساء نظام اقتصادي واجتماعي جديد.
4. ـ حجم الدمار الذي لحق بأوروبا بعد الحرب العالمية الثانية وضرورة تنظيم إعادة الأعمار من 1945 – 1950 أظهر أهمية التخطيط.
5. ـ حجم التيار التقنوقراطي( مثلا في فرنسا دَعَّمَ من الأفكار التي ترجع إلى كولبير وتدخل الدولة) إضافة إلى الإلهام الكينزي.
6. ـ ترسيخ أفكار التيار اليساري: الذي يرى أن التنظيم الجذري للاقتصاد كفيل بضمان المصالح الخاصة ضمن المصالح العامة.
7. ـ إرادة وضع قطيعة نهائية مع الفكر الاقتصادي لمالتس لسنوات الثلاثينيات.
8. ـ استخدام مخطط مارشال.
لقد تم بمرور الزمن تطور استخدام التخطيط الاقتصادي بالبلدان الرأسمالية، إلي أسلوب في تحقيق الأهداف ومنهج ملائم للشركات المتعددة الجنسيات في التعرف على ما ترغب أن تكون عليه في المستقبل وكيفية مواجهتها للتغيرات التي تحدث في البيئة العالمية التي تعمل فيها، واختيار أفضل البدائل الممكنة وعُرٍف هذا النوع من التخطيط بـ " التخطيط الاستراتيجي" الذي نجحت تلك الشركات في تطوير أدواته بحيث أصبح يشكل عملا محوريا في اتخاذ القرارت التي تستهدف تحقيق أقصى كفاءة ممكنة في تخصيص الموارد وتحقيق الأهداف المنشودة(1).
__________
(1) ـ للمزيد من الاطلاع حول التخطيط الاستراتيجي، راجع:
ـ د. أحمد سيد مصطفى، تحديات العولمة والتخطيط الاستراتيجي، الناشر غير مذكور، الطبعة الثالثة2000، الفصل الثالث، ص 87-151.
ـ أ.د. سعد طه علام: التخطيط مع حرية السوق دار طيبة للنشر والتوزيع والتجهيزات العلمية 2003، الفصل السادس، ص 149-166.(1/14)
المطلب الأول
التخطيط التأشيري في فرنسا
تميز الأوضاع في فرنسا عشية انتهاء الحرب العالمية الثانية بالتدمير شبه الكلي للبنى القاعدية، وفقدان للعملات الأجنبية، وأوضاع اجتماعية مأسوية، مما مهد للاتفاق في الرأي بأن الجهود اللازمة لإعادة البناء لا يمكن تركها للقطاع الخاص والاعتماد في تحقيقها على الحوافز الفردية، بل أنه من الضروري تدخل الدولة بالمشاركة في الانجاز،والاستفادة من التجربة السوفياتية في التخطيط، وعليه تم إنشاء الهيئة العامة للتخطيط، لتدفع بالاقتصاد والمجتمع الفرنسي إلى الأمام.
الفرع الأول
بدايات التخطيط
قامت فرنسا بخطتها الأولى (مشروع جوان1947-1953 ) قصد إعادة بناء فرنسا ووضعت هذه الخطة هيئة التخطيط العامة التي أنشئت سنة1944 وقامت أيضا بالإشراف على متابعتها، وقد عرفت الخطة باسم "خطة مونيه" وركزت بالأساس على المحاور التالية:
أ - استغلال المعونة الأمريكية استغلال سليم ومدروس بهدف إعادة تعمير وتجديد المنشآت التي خربتها الحرب العالمية الثانية.
ب - اتخاذ الخطوات الإيجابية للتنمية في إطار خطة منسقة.
ج - إستغلال الإمكانيات المحلية استغلال كامل.
د – تنمية موارد الدولة إلى أقصى حد.
هـ – إعطاء الأولوية للمشروعات ذات الآثار العاجلة.
كما اهتمت الخطة الفرنسية الأولى بالصناعات الأساسية مثل الفحم والكهرباء والصلب والنقل وقضايا الزراعة حتى تتمكن الدولة من النهوض بهذه القطاعات التي تخلفت بسبب الحرب.
ورغم أن الخطة الأولى لم تكن ملزمة للقطاع الخاص ولم تكن مقيِّدة أيضا لقطاعات العمالة أو للمشروعات الخاصة الجديدة وإدارتها، إلا أنها نجحت في إحكام الرقابة المباشرة على الاقتصاد؛ حيث تميزت بقدر كبير من تدخل الدولة في التنفيذ المباشر للمشروعات، وقد تمكنت هيئة التخطيط الفرنسية من تحقيق نجاحها من خلال إتباع الإجراءات التالية:
أ – التمويل المباشر لبغض المشروعات الإنتاجية والاجتماعية.(1/15)
ب – تقديم معونات مالية للقطاع الخاص ليقوم بتنفيذ مشروعات أخرى، رأت الخطة أهميتها للدولة وذلك بتقديم قروض طويلة الأجل بفائدة مخفضة.
ج – تشجيع إنشاء بعض المشروعات بواسطة منح إعفاءات ضريبية للقطاع الخاص.
أما الخطة الثانية (1954-1961) فقد اهتمت بالإنتاج الزراعي وتجديد معدات الصناعات التحويلية، وتحسين مستوى الإسكان وتشجيع البحث العلمي في قطاعي الزراعة والصناعة.
وتميزت الخطة الثالثة (1958-1961) بأنها خطة تمويلية أكثر من استثنائية ولم تعتمد الخطة على المعونات الأمريكية.
الفرع الثاني
مخططات النمو
في بداية الستينيات اتضح تماما للفرنسيين أن اقتصادهم يسير نحو نظام نمو مستمر، وإن الاقتصاد انتقل من وضع القحط إلى الوفرة النسبية، فبدأت تظهر حالة الميل نحو "الاستهلاك الجماعي".
وضمن هذا الإطار الجديد بدأت المبادئ الأساسية للتخطيط تأخذ أبعادها، فلم يعد الأمر يتعلق بتوجيه الإنتاج نحو القطاعات ذات الأولوية فقط، ولكن ليتعلق بضمان أفضل (الشروط) والظروف الممكنة للتطور الاقتصادي والاجتماعي للأمة، فأصبح التخطيط تأشيرتا أكثر، إذ يحدد الأهداف التي لم يعد إشباعها يتبع الدولة بمفردها، وبالرغم من أخذ الجانب الاجتماعي في الاعتبار فإن المضمون أصبح أكثر فأكثر اقتصاديا كليا.
وقد حدد القانون المتعلق بإقرار "مخطط التنمية الاقتصادية والاجتماعية" والمؤرخ في 04 أوت 1962 لأول مرة كيفيات الموافقة من قبل البرلمان على مشروع قانون المخطط. وجاءت الخطة الرابعة لتحقيق رفاهية المواطن وتشجيع العوامل الثقافية والاجتماعية أكثر من أي خطة سابقة.(1/16)
- وهكذا شكّلت الخطة الرابعة(1962-1965) مرحلة مثالية لتاريخ التخطيط في فرنسا، إذ أن انجازها استفاد من ظروف مشجعة: شخصية المحافظ العام الجديد للمخطط "بيار ماسيه" "Pierre Massé " ومرحلة السنوات 1960-1962، وانتظام النمو الاقتصادي على الصعيد الدولي، وكذلك حرص الجنرال ديغول والحكومة على " شدة الالتزام "المتعلقة بالتخطيط، باعتباره وسيلة مفضلة للحكومة للإعلان وللتأكيد على اختيارات السياسة الاقتصادية. وتم تأكيد مناخ التشاور حول المخطط من خلال تحديث الإجراءات:
- إنشاء المجلس الأعلى للمخطط.
- استشارة المجلس الاقتصادي والاجتماعي حول التوجهات الكبرى.
- إدماج (C.G.T) المجلس العام للعمران ضمن لجان التحديث.
وتمحور المخطط الرابع حول النمو المرتفع في إطار احترام التوازنات الكبرى، وتطوُّرٍ في التجهيزات الجماعية أسرع بمرتين من الناتج الداخلي الخام (P.I.B)، ومجهود في تقليل الفوارق الاجتماعية والجهوية، وتركز الاهتمام حول مسألة توزيع ثمار التوسع، أي باستعمال تعبير " بيار ماسيه " تقسيم أي توزيع الفائض "Le partage du surplus" وأساسا ذلك القسم المخصص للخدمات الجماعية ضمن مجموع مصاريف الاستهلاك.
وكان تنفيذ المخطط الرابع من أفضل ما نفذ بالنسبة لكل المخططات السابقة، وتجدر الإشارة خلال هذه الفترة إلى حدثين هما: فشل "مؤتمر المداخيل" سنة1964conférence des revenus" وخلال نفس السنة تفجَّر انخفاض معدل الخصوبة في فرنسا.(1/17)
وفي عام 1965 بدأت الخطة الخامسة لمدة عشر سنوات لتنتهي سنة1975 بعد أن أصبح لدى فرنسا رصيد كاف من الخبرات في التخطيط يسمح لها بإعداد خطة متكاملة ذات أهداف قومية طموحة، فكانت المهمة الموكلة إلى المخطط الخامس تتمثل في البحث عن معالجة مخرج صناعي سريع وتطور اجتماعي من خلال تنمية التجهيزات الجماعية؛ وهذا ضمن منافسة متزايدة مرتبطة بفتح الحدود؛ إذ حدَّدَ معايير تأشيرية للأسعار وللأجور بهدف إيقاف الميول التضخمية؛ وتم ترجمة الحرص على حماية الاقتصاد الوطني من التوتر من خلال:
ـ هدف النمو الذي تراجع قليلا عما كان بالمخطط الرابع.
ـ تطوير تنافسية الجهاز الإنتاجي، ومراقبة تطور المداخل والأسعار التي شكلت الاهتمامات الأولى.
وهكذا نسَّق المخطط السادس التوجهات الكبرى المرغوبة من قبل الرئيس "جورج بومبيدو": نمو مرتفع، التزام صناعي، مع معدل تضخم ضعيف، معدل نمو محقق من قبل التجهيزات الجماعية يكون أسرع من ذلك المحقق في الإنتاج، وتحسين ظروف المعيشة؛ ولكن صدمتهم البترولية الأولى سنة 1973، انعكست في صورة تقسيم معدل النمو على اثنين داخل بلدان منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية. وبالتوازي مع ذلك فإنه كان على المخطط أن يأخذ في الاعتبار العوامل الهيكلية التي تَحدُّ من النتائج المرغوبة من الاقتصاد الفرنسي:
ـ الأهمية النسبية للسكان الزراعيين.
ـ ضورة تحسين التسيير والعلاقات الاجتماعية بالمؤسسات.
ـ لعجز في السكن الذي يشكل كابحا للتحرك المهني.
ولأول مرة ظهر مفهوم الوظيفة العمومية، الذي وسع من ميدان التخطيط للتجهيزات الجماعية.(1/18)
ومنذ المخطط السابع (1976-1980) شهد التخطيط في فرنسا تحولات عميقة إذ قامت السلطات بإصلاح التخطيط الذي كان هدفه منح صرامة لأسلوب معياري بدا يهمل تطبيقه: إذ فقد المخطط السابع الطابع المعياري الذي كانت تمثله المخططات السابقة، بحيث أن الفروق بين التوقعات والإنجازات أثارت حذرا أكبر، وقادت إلى تحديد أهداف أقل ترقيما.
فالإصلاحات المتخذة تستهدف إنعاش التخطيط من خلال توسيع التشاور داخل اللجنة الوطنية للتخطيط (la commission nationale de planification) ومتابعة اللامركزية، مع تحضير المخططات الجهوية والتهيئة للتحولات الكبرى الجارية للمجتمع.
بموجب المخطط الفرنسي التاسع (1984-1988 ) تم تحديد وسائل عمل جديدة، خصوصا مثل ما تم بالمخطط السابق استخدام " برامج عمل أولوية " ( P.A.P) تختار تبعا لطاقاتها في المساعدة على تحقيق الأهداف المحددة، وهي بذلك تشكل عودة للبرمجة الانتقائية، ولكن بالمقابل مع التزام مالي من قبل الدولة، استكمالا لذلك المخصص من قبل الجماعات المحلية (عقد المخطط) والتي هي العمالات والجهات والبلديات.(1)
لقد تناسب التخطيط التأشيري بشكل خاص مع طبيعة الاقتصاد الفرنسي المختلط، فقد غلب عليه طابع التحفيز، بالرغم من أنه كان أحيانا أوامر إلزامية(قترة ديغول)، وقد تم تطبيقه على مرحلتين:
الأولى:وكانت تتجسد في تحديد معدل النمو الاقتصادي المنظور للاقتصاد ككل.
__________
(1) ـ راجع في هذا: Louis Dupont : Le planification du développement, op.cit, p V11(1/19)
أما الثانية:فقد انصبت على تحليل لأوضاع القطاعات ومعدلات النمو المطلوبة في ضوء الهدف العام وضمان تحقيق الاتساق فيما بينها؛ وشمل هذا التحليل مزجا لأنشطة القطاع العام والخاص، ومن ثم أطلق عليه تعبير الاقتصاد المتناسق(l’économie concertée) ؛ حيث أن تنفيذ المخطط يفرض مساهمة الجميع، فإنه كان من الضروري مساهمة كل القوى الحية في إنجازه، مما يكسب عملية الانجاز طابعا ديمقراطيا، تبعا للطريقة الموضحة بالشكل الموالي، في حين يبقى التنفيذ اختياريا، إذ أن المخطط تحفيزي وتأشيري لا يحذف السوق، بل يتكاملان، فالأول يوضح المستقبل على المدى البعيد أما الثاني فيضمن التعديلات يوما بيوم بواسطة مجموعة من المؤشرات(1)تم اعتمادها منذ المخطط الخامس ثم عوضت بمحددات مشتركة أكثر حدة تسمح بالأخذ في الاعتبار أهداف وخصائص الاقتصاد الفرنسي والمحيط الدولي.
لقد أظهرت التجربة الفرنسية أن بعض المنشآت الخاصة لا تلتزم بقواعد النظام عندما لا تتطابق برامج التنمية مع توقعاتها للأرباح، كما أن المؤسسات الاحتكارية في حالة وجودها لا تمنح اهتماما كافيا لسياسات الدخل التي تضعها الحكومة وتستخدم نفوذها وقوتها لتحقيق منافعها الخاصة كذلك فإنه في ظروف التضخم مثلا تتدخل الحكومة في آلية السوق وتلجأ إلى وسائل الرقابة المباشرة عوضا عن السياسات النقدية؛ وبالتالي يمكننا القول أن التجربة الفرنسية رغم ما تقدمه من حل أمثل للمزج بين آلية السوق والتخطيط إلا أنها لا تمثل القاعدة الذهبية والتي لا جدوى من البحث عنها في الاقتصاديات المعاصرة.(2)
الشكل رقم (3)
ديمقراطية إنجاز وتنفيذ المخططات في فرنسا
رئيس المجلس
المحافظ العام للمخطط
مجلس الوزراء
مجلس المخطط
اللجان18 للعصرنة
__________
(1) ـ المؤشرات هن: الأسعار، المبادلات الخارجية، الإنتاج الصناعي، العمالة، وأما المحددات فعددها ثلاثة عشر.
(2) ـ محمد البنا: م.س، ص 152.(1/20)
* كل لجنة تتشكل من ممثلين عن الإدارة وخبراء الأكثر كفاءة وممثلين عن النقابات المهنية.
تلعب لجان العصرنة دورًا أساسيا، إذ تعمل كل منها على التوافق مع الأخرى دون ضغط.
المصدر: p217. op.cit, Régis Benichi / Marc Nouschi,
المطلب الثاني
التخطيط في اليابان
خلفية تاريخية:
يمكن القول أن نهضة اليابان الصناعية بدأت بصورة ايجابية بعد استقرار حكم بيت المايجي(1)Meiji في عام 8281 ويبدو واضحا أن التوفيرات بلغت نسبة عالية من مجموع الدخل الوطني في أوائل عهد النمو الاقتصادي، وقد نشأ ذلك إلى حد ما عن التفاوت الكبير في توزيع الدخل مصحوبا بانخفاض النفقات الاستهلاكية لدى ذوي المداخيل الكبيرة. ولكن التوفيرات الطوعية كانت تكمل بالتوفيرات الحكومية المحصلة من إيرادات الضرائب وخاصة ضرائب الأرض والضرائب الزراعية الأخرى.
وبنهاية الحرب العالمية الثانية في أواخر أوت1945 استسلمت اليابان دون شروط وكان حوالي ربع أصول البلاد (ماعدا الصناعات الحربية) التي كانت موجودة قبل الحرب قد هدمت، وخلال السنوات اللاحقة تم تجريد العسكريين ودخل المهاجرون من الحيازات الاستعمارية القديمة وكذلك التحق بصفوف طالبي العمل، العمال الذين كانوا يستخدمون في الصناعات الحربية قبل ذلك؛ وهؤلاء كانوا يشكلون خلال السنوات الأولى بعد الحرب ما يقرب من ربع الأيدي العاملة الإجمالية. وفي سنة 1946 انخفض حجم الإنتاج إلى حوالي 40% بالنسبة لذلك الذي كان خلال الفترة(1934 ـ 1936).
__________
(1) ـ كان المايجي meiji أي الإمبراطور موتسوـ هيتو mutso-hito هو الذي وطد البيت المالك ونقل العاصمة إلى "يدو" التي أصبحت تدعى طوكيو، وهو الذي أنهى الإقطاع وأوصل الحضارة الغربية إلى بلاده وأعلن أول دستور في اليابان عام 1889.(1/21)
وبالنسبة لأغلب اليابانيين فإن سنوات الأربعينات ليست سوى مواصلة للصراع من أجل البقاء؛ فالأمة بأكملها اهتزت تحت تأثير اهتزازات اجتماعية خطيرة وبالتحولات الهيكلية الهامة.
ولذلك فإنه خلال الفترة الحرجة التي أعقبت هزيمتها في الحرب كانت تظهر مؤسسات جديدة، حيث بدأ محرك النمو في الدوران خلال سنوات الخمسينيات، وتمَّ إبان العشرية اللاحقة تسجيل معدل نمو لم يسبق أن سجل من قبل( يزيد عن 10% )، وكان يتم توزيع ثمار ذلك النُمُّو بين مختلف الفئات الاجتماعية؛ و"تاريخ اليابان يثبت بأن الرابطة الروحية وما يتبعها من تلاحم وتماسك اجتماعي على النطاق الوطني، تعد من الأمور الأساسية في انتهاج طريق الاستقلال الذاتي".(1)
وبالرغم من أن اليابان كانت لا تزال تعتبر "كوردة سهلة العطب" بسبب الغياب شبه الكلي للموارد الطبيعية. وبعد أن تعرضت البلاد خلال فترة السبعينيات من القرن الماضي لسلسلة من الصدمات:
__________
(1) ـ أدريانو بينايون: العولمة نقيض التنمية، دور الشركات عبر الوطنية في تهميش البلدان النامية من خلال الاستثمارات الأجنبية المباشرة، ترجمة جعفر علي حسين السوداني، بيت الحكمة بغداد2002، ص114. في الواقع أن التكافل الاجتماعي والوحدة الوطنية تعد من الشروط الحتمية في تحقيق أي تطور، وقد أثبت هذا أيضا عبر تاريخ الولايات المتحدة وألمانيا، بل وكل الأمم التي حققت رقيا، يضاف إلى ذلك التفاف أفراد المجتمع حول مشروع تنموي استراتيجي يجمعهم ويوحد رؤيتهم، خصوصا وأن حماس الجماهير هو على حد قول آرثر لويس "زيت التشحيم للتخطيط ووقود التنمية الاقتصادية... قوة اقتصادية تجعل كل الأمور ممكنة التنفيذ"، أنظر في هذا وأهميته في تجسيد الأهداف التنموية المنشودة، رسالتنا لنيل شهادة الماجستير، ع. س، ص52.(1/22)
ـ تلوث المحيط ، ارتفاع أسعار الطاقة، الانتقال إلى أسعار الصرف المرنة "taux de change flexibles"، والموجات التكنولوجية الجديدة ـ فقد عرفت دائما كيفية الخروج من صعوباتها، لتظهر في كل مرة أن اقتصادها قوي جدا؛ فقد كان للعوامل الثقافية والفلسفية الدور الحاسم في مواجهة التحديات واكتساب المعرفة الآتية من الخارج وتحقيق النجاحات التالية(1):
1 ـ ثقافة تميزت بالترابط الاجتماعي، بحيث يعمل الفرد لصالح المجموع من العائلة وحتى للأمة.
2 ـ شعور ديني وأخلاقي، يستند إلى فكرة الشرف الذي يفضل على غريزة البقاء على قيد الحياة، وذلك من أجل الثبات على الموقف أمام المجموع.
3 ـ تسامح ديني، بشرط أن لا يقود إلى تفكك الاتجاهات الأساسية، فالمسيحية التي لم تقبل سوى في القرنيين السادس عشر والسابع عشر، قُمِعت بمجرد الشك بأنها أصبحت معبرا لدخول المصالح الغربية.
4 ـ النظام والاجتهاد في الحياة اليومية، من خلال العناية بالصحة والفنون القتالية.
الفرع الأول
دور الدولة التنموي
إن الأسس التي استندت عليها الدولة اليابانية منذ 1868/1869 تسمى بثورة إصلاحات "ميجي"، تتلخص في ما يلي(2):
1 ـ قيام الدولة باستثمارات مباشرة في مشاريع البنية التحتية وفي مشاريع الإنتاج الصناعي.
2 ـ سياسة المشتريات الحكومية من الصناعات المحلية وتقديم المساعدات إلى الشركات الخاصة في البلاد.
3 ـ اعتماد الحمائية المعتدلة في الاستيرادات.
4 ـ إعاقة الاستثمارات الأجنبية.
5 ـ قيام المصارف الوطنية بتمويل الإنتاج، بفوائد قليلة إضافة إلى مساهمتها بأسهم رأسمال الشركات.
6 ـ تقليد المؤسسات والأنظمة ومعاهد البحوث والدراسات على وفق النموذج الألماني.
__________
(1) ـ حول المزيد من التفاصيل لهذه النجاحات راجع: أدريانو بينايون: العولمة نقيض التنمية، ع. س91- 93.
(2) ـ م. ن، ص88 و 89.(1/23)
7 ـ التأكيد على الارتقاء بمستوى القوة العسكرية، إذ أنه يعد من التوصيات الأساسية الملزمة للقطاع الصناعي، وخلق فرص عمل مباشرة في القوات المسلحة.
وبنهاية الحرب وُجد الاقتصاد الياباني في مواجهة مشاكل كبرى منها المالية والنقدية، وخلال سنوات الخمسينات وبعد "مخطط الإنعاش والاستقلالية المالية" وضع التخطيط الاقتصادي تحت إدارة وكالة التخطيط الاقتصادي.
وهناك أيضا مجلس استشاري لدى الوزير الأول يتشكل من رجال أعمال وخبراء وممثلي النقابات، ينعقد بالتنسيق التام مع وكالة التخطيط الاقتصادي، وحوالي عشرين لجنة تعالج مختلف الجوانب القطاعية والشاملة للاقتصاد، ويقوم هذا المجلس الاستشاري عقب انجاز كل مخطط بنشر تقرير حوله. ولقد كان للحكومة دور فعال في تهيئة رؤوس الأموال، وفي تخصيصها للمشاريع المختلفة في استثمار الموارد منذ بداية التطور الاقتصادي في اليابان، ولم تكتف الحكومة اليابانية بالقيام بدور فعال في تهيئة الموارد الاقتصادية، بل مارست سلطة واسعة في توجيه الاستثمارات بحيث تميز التطور الاقتصادي في اليابان بامتلاك الدولة وإدارتها للمشاريع التي قامت في النهاية بتسليمها للأفراد.(1/24)
إن الحكومة اليابانية لم تكتف بالقيام بدور فعال في تهيئة الموارد الاقتصادية بل مارست سلطة واسعة على توجيه الاستثمارات نحو الصناعة عن طريق تأسيس مشاريع صناعية تملكها الدولة والإسهام في المشاريع مع أصحاب رؤوس الأموال الخاصة، وبتقديم الإعانات وضمان الأرباح للمشاريع الفردية وكذلك بوساطة المشتريات لحساب الدوائر العسكرية والمدنية. إن تعداد فعاليات الحكومة ونشاطها في تشجيع النمو الاقتصادي قد يؤدي إلى التقليل من الدور الذي قام به أصحاب المشاريع الخاصة في نهضة اليابان الاقتصادية. إلا أن المشاريع الحكومية في كثير من الصناعات كانت عبارة عن نماذج تبين ما يمكن عمله أما الجزء الأعظم من النمو الصناعي فقد تم على يد أصحاب المشاريع الفردية. وبالإضافة إلى ذلك فإن ملكية معظم المشاريع الحكومية حولت إلى أيدي المستثمرين من الأفراد منذ عام 1882. ويعتقد الكثيرون في الغرب أن التوسع الاقتصادي في اليابان يرجع في جانب كبير منه إلى الحكومة، إذ يرون في إدارتها كجهاز للتخطيط مزوَّدٍ بالتماسك cohésion والمقدرة على النظر إلى الأمد البعيد، والتي بالتعاون مع الحزب الليبرالي الديمقراطي (LDP)، تمنح لاقتصاد السوق دفعا يتجه شيئا ما نحو النمو، وذلك بفضل سياستها الصناعية (المحفزة) والحمائية، والتخطيط التأشيري، والحوافز الجبائية والسياسية النقدية المستقرة...الخ.(1)
__________
(1) ـ حول دور الدولة اليابانية في التنمية راجع "Chalmer Johnson " في نظريته حول "دور الدولة في التنمية"، الوارد ذكره في مرجعنا السابق: Masahiko Aoki :Economie Japonaise, p283(1/25)
وإذا كانت الدولة قد اضطلعت بدور هام في بداية النمو الاقتصادي فإن التوسع الصناعي الذي جاء بعد ذلك واختيار أساليب الإنتاج كان في معظمه تقريبا بمجهود الأفراد(1)؛ ولذلك فان مباشرة الحكومة في اليابان للتنمية الاقتصادية، رافقها ونشأ عنها ظهور سريع لطبقة من رجال الأعمال سيطرت منذ ذلك الحين على النمو الاقتصادي ووجهته.
الفرع الثاني
المخططات الاقتصادية
لقد استهدف المخطط الاقتصادي لسنوات (1965-1960) بالأساس، رفع الاستهلاك والتشغيل التام وتوازن ميزان المدفوعات.أما المخطط المتوسط المدى (1958-1962) ـ الصادر في 1957 ـ ثم المخطط العشري (1961- 1970) المعروف تحت اسم "مخطط مضاعفة الدخل الوطني" والذي أعيد فيه النظر سنة1965، فحدّدَا أهدافا عامة ضمن المنظور الجديد للعلاقات بين الاستهلاك والاستثمار، وكذلك كان التخطيط الياباني يستهدف المتابعة(المواصلة) دون توقف أشغال الانجاز؛ إلا ما تعلق بالمخطط المتوسط المدى(1965- 1968) ـ الصادر في 1964 ـ الذي استخدم نموذجا اقتصاديا قياسيا.
وخلال الثمانينات مثَّل الناتج الوطني الياباني أكثر من 10% من الناتج العالمي الخام وأصبحت اليابان الدائن للخارج الذي لم يعرف قبل ذلك. والتي اعتبرت قديما أنها بإمكانها الاستخدام بمهارة التكنولوجيات المستوردة من البلدان الأخرى، تبدو اليوم في مواجهة قواها الصناعية وهي تمر لتصبح قوى تكنولوجية عظمى على صعيد كثير من الأسواق الدولية. واليوم نجد مؤسسات يابانية في جميع بقاع العالم، وتستقبل بازدواجية متناقضة، لأنها ينظر إليها كغزاة غير مرغوب فيها وفي نفس الوقت خالقة لمناصب عمل مرغوبة.(2)
__________
(1) ـ عن ادوارد ماسون: التخطيط الاقتصادي، ع. س، ص 75- 76- 77.
(2) ـMasahiko Aoki :Economie Japonaise ,economica 1991 .p1-2(1/26)
ـ إن الطابع "الإزدواجي" للاقتصاد الياباني يتضمن عددا قليلا من المؤسسات الكبرى المندمجة، ومجموعة كبيرة من المؤسسات الصغرى المتوسطة ذات الكثافة القليلة من رأس المال، أدت إلى التأكيد أساسا على ظروف التنمية الصناعية وتحويل قوة العمل من القطاعات الأقل تطورا إلى الصناعات ذات المردودية المرتفعة. ولذلك فإن التوجه الممنوح للتخطيط يتمثل أساسا في (تحديد) رسم آفاق نمو القطاعات العصرية الكبرى، بفضل المساعدة المتزايدة للدولة لتطوير العلم والتقنية.
ـ إن تأثير التجارة الخارجية على توازن ميزان الممنوعات شكّلَ انشغالا مستمرًا يلزم البحث عن توجيه الادخار نحو الاستثمارات العمومية والخاصة ذات الإنتاجية المرتفعة؛ وأما المستوى المنخفض للواردات والذي أُخذ في الاعتبار بالمخططات فيبدو مرغم على التناقض مع أهداف التنمية المتبعة.
ـ إن مشاكل التحول في الفلاحة التقليدية شدت انتباه المخططين اليابانيين. أما وسائل التدخل فكانت تتمثل أساسا في البنوك المتخصصة بالتنمية الفلاحية.
المطلب الثالث
التوقعات والبرمجة في الولايات المتحدة
ترجع بدايات التخطيط الاقتصادي في الولايات المتحدة الأمريكية إلى السنوات الأولى من القرن الماضي على الأقل، فقد تبنت المؤسسات العملاقة عددا من مفاهيم التخطيط في ممارسة الإدارة كإستراتجية للبقاء. أما الآن فإن نظرية الإدارة الحديثة تعتبر التخطيط إجراءا أوليا وأساسيا في إدارة المؤسسات ذات التنظيم العقلاني. حتى وصل ابتكار واستخدام استراتيجيات التخطيط مستوى كبيرا من النجاح حدا بستالين إلى الاستعانة بالمخططين الأمريكيين في إعداد خطة للسنوات الخمس الأولى.
((1/27)
كان النهوض والتراجع المفاجئان لفكرة تبنى الولايات المتحدة للسياسة الصناعية وتنفيذها مثالا آخر على تحرك الرمال الأيديولوجية في السبعينيات والثمانينيات ولم تكن "السياسة الصناعية" مفهوما محددا على نحو دقيق، وقد وصل كل من المؤيدين والمعارضين إلى هذا الاقتراح من مناخات متباينة، وبما أن تقديم تعريف واحد لن يرضي جميع الأطراف، إلا أننا سنخاطر بتقديم تعريف واسع إلى حد كبير: "السياسة الصناعية هي التنظيم المتماسك لأنشطة القطاعين العام والخاص، ذات الأثر في اتخاذ قرارات تنمية الإنتاج والاستثمار، والبنية الأساسية ورأس المال البشري والتجارة الدولية لحفز الناتج القومي من حيث الكم والنوع. ومزيج المنتجات والخدمات."
"وهي بصورة أساسية شكل من أشكال التخطيط الاقتصادي القومي، وتبدو هذه السياسة ـ في ظروف بعث نظريات اقتصاد السوق بالنسبة لكثير من المفكرين الاقتصاديين ـ خطوة غريبة خارج سياق الفكر الاقتصادي الأمريكي. غير أن هذا المنظور يخفي حقيقة اختيار الأمريكيين لأشكال التخطيط الاقتصادي لفترة طويلة من الزمن")(1).
__________
(1) ـ حرفيا عن: ماذا يعرف الاقتصاديون عن التسعينات وما بعدها ، روبرت كارسون، ترجمة: دانيال رزق، الدار الدولية للنشر والتوزيع، مصرـ وكندا، الطبعة الاولى1994، ص244- 245 .(1/28)
وفي رأي "روبرت كارسون" فإنه رغم ثراء التجربة الأمريكية وخبرتها بمختلف أنواع التخطيط الاقتصادي فإنها ابتعدت عن فكرة التخطيط القومي المركزي على الأقل بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية. ومع وفرة رخاء الخمسينيات والستينيات أصبحت جهود التخطيط غير مهمة وربما خطِرَةً من وجهة نظر الاقتصاد القومي. "لقد جربنا ـ بالتأكيد ـ تخطيط الطلب ووضع سياسة الاقتصاد الكلي، ولكن هذا النوع من التخطيط لم يصل إلى حد التوجيه المفصل للأنشطة الاقتصادية ذات التأثير على التاريخ. ويرى كثيرون من الأمريكيين أن التخطيط القومي غير كفء، ويهدد المبادرة الفردية، ويعطل القوى الطبيعية للسوق"(1).
ولكن تلك الآراء لا يجب أن تخفي حقيقة ممارسة التخطيط الاقتصادي في الولايات المتحدة، وأساسا إبان الأزمات، كما لا يجب أن تحجب عَنَّا وُجهات النظر الأخرى، فـ "كارل مانهايم Karl Mannheim " مثلا يعتقد ( أن المجتمع الليبرالي الكبير قد وصل إلى نقطة معينة في مراحل تطوره، بحيث يؤدى الانحراف المستمر إلى الكارثة. ومن المستحيل إحراز أي تقدم دون التخطيط حتى في المجال الثقافي والحضاري)(2).
__________
(1) ـ روبرت كارسون: م.ن، ص 245- 246.
(2) ـ فيصل فخري مرار: العلاقة بين التخطيط والموازنة العامة، دار مجدلاوى للنشر والتوزيع، عمّان، الأردن، 1995،
ص125.(1/29)
إضافة إلى أنه خلال السبعينيات من القرن الماضي وخلال تلك الأوقات الصعبة على الولايات المتحدة الأمريكية نادي بعض الاقتصاديين، بل كانوا يضغطون من أجل تبنى التخطيط الطويل الأجل، والاهتمام بعملية تنسيق اتخاذ القرارات، وتبني سياسات أوضح لتشجيع الاستثمار في البحث والتطوير،وبسبب الركود الاقتصادي الذي كان ينوء به الاقتصاد الأمريكي وعدم قدرته على المنافسة الفعالة مع المنافسين في الأسواق العالمية، بحيث ظهرت محدودية "العلاجات الكينزية" فقد كان من الطبيعي أن يزداد عدد مؤيدي التخطيط الاقتصادي القومي، والذي يسمى الآن عند بعضهم بالسياسة الصناعية.(1)
ولعل أكثر المقترحات فعالية للسياسة الصناعية هي تلك التي تبناها مؤتمر ممثلي الحزب الديمقراطي في مجلس النواب الأمريكي خلال سبتمبر 1982 والتي كانت عبارة عن محاولة لمعالجة الركود الاقتصادي، وطالبت الوثيقة من الكونجرس، خلق مجلس للتعاون الاقتصادي، ودعت إلى "تحقيق النمو من خلال مشاركة العمال ومشروعات الأعمال الصغيرة والمؤسسات الكبيرة والحكومة والجامعات " على أن تلعب الحكومة "دورا قياديا خلاقا".
وطبعا فإن ذلك الاقتراح لم يكن سيئا في نظر دعاة التخطيط الاقتصادي، خصوصا وأنه كان بالنسبة لمعارضي التخطيط خطيرا ويهدد القيم الاقتصادية التقليدية الأمريكية ، بحيث كان معارضو السياسة الصناعية ـ أي التخطيط في تعبيرنا ـ أن الأمة تنحدر إلى طريق الاشتراكية المغلق مع تزايد التخطيط القومي.(2)
المبحث الثالث
__________
(1) ـ كان من أبرز هؤلاء: لستر ثارو Laster Thurowمن معهد ما ساتوسيتش للتكنولوجيا، روبرت ريتش Robert Reich من جامعة هارفارد، فيليكس روهاتين Eelix Rohatyn الشريك في بنك لازارد للاستثمار والذي كان مسئولا تنفيذيا كبيرا في شركة ITT...وغيرهم لمزيد من التفاصيل راجع في ذلك: روبرت كارسون، م. ن، ص246 وما بعدها.
(2) ـ لمزيد من التفاصيل حول هذا الموضوع راجع: م. ن ص247 وما بعدها.(1/30)
التخطيط للتنمية بالبلدان المتخلفة
إذا كانت الدول الصناعية المتقدمة من أولوياتها توفير وتأمين البنى التحتية الملائمة لحركة رأس المال الخاص، وهي معنية بحركة النمو الاقتصادي المحكوم بقوانين السوق، وليس بالتخطيط الإنمائي فإن المطلوب في الدول المتخلفة، هو تحقيق أهداف معينة ذات أبعاد سياسية واقتصادية واجتماعية، وعلى امتداد مرحلة زمنية معينة، باستخدام الوسائل الملائمة وهو ما لا يمكن أن يتحقق تلقائياً واستنادا إلى قوانين السوق بمفردها، ذلك أن قوانين السوق في الدول المتخلفة (الفقيرة)، لن تستطيع لوحدها تحقيق المطلوب، ولابد من تدخل الدولة من خلال آليات وسياسات قوة تدخل من خارج السوق، هذه القوة تتمثل في الخطة والتخطيط.(1/31)
في ديسمبر1989 صدر تقرير عن منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية(1)
__________
(1) ـ هي منظمة دولية تم إنشاؤها خلفا للمنظمة الأوروبية للتعاون الاقتصاديO.E.C.E ، حيث شملت دولا غير أوروبية، (مثلا : الولايات المتحدة، كندا واليابان، زيلندا الجديدة، أستراليا) بموجب اتفاق باريس في14/01/1960 الذي دخل حيز التطبيق في30/09/1960 ويمكن حصر أهم أهداف المنظمة في : ـ 1ـ تحقيق أكبر قدر من توسيع الاقتصاد والعمالة ومن رفع مستوى المعيشة في الدول الأعضاء مع المحافظة على الاستقرار المالي والمساهمة من خلال ذلك في تنمية الاقتصاد العالمي. ـ 2ـ المساهمة في التوسع الاقتصادي في بلدان الدول الأعضاء، وكذلك لغير الأعضاء، "السائرة في طريق التنمية الاقتصادية". ـ 3ـ المساهمة في توسيع التجارة الدولية بالاعتماد على مذهب حرية التجارة، وتماشيا مع الالتزامات الدولية..(1/32)
لاحظ أن الأوضاع في بلدان أفريقيا جنوب الصحراء تعاني من شبكة من العراقيل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والمؤسساتية والبيئية، التي حالت دون نجاح مبادرات التنمية التي قامت بها الدول الإفريقية وجهود الإعانات التي قامت بها الأطراف الأخرى، بحيث بقيت معدلات التنمية محدودة، نتيجة التداخل السلبي وبقوة للعديد من العوامل التي رأى التقرير حصرها في: تلك العوامل المرتبطة بضعف المؤسسات واعتماد سياسات فاشلة، غياب قطاع خاص ديناميكي، المبالغة في الرقابة الحكومية، عدم الاستقرار السياسي والأزمات العرقية والاثنية، الزيادة السكانية المرتفعة التي تشكل ضغطا على الموارد الطبيعية وكبحا لنمو الدخل بالنسبة للفرد؛ كما يشكل مرض السيدا مشكلة مثيرة للاهتمام في بعض المناطق ولكن رغم ذلك فإن التقرير يقر بالجهود التي بذلت خلال مدة وجيزة نسبيا، منذ حصول هذه البلدان على استقلالها السياسي(1)،
__________
(1) ـ يلاحظ أن التقرير لم يذكر دور العوامل الخارجية في خلق وتثبيت وتجديد كل تلك العراقيل، وأساسا المسؤولية التاريخية للاستدمار (ما يدعى بالاستعمار)، رغم أن التقرير جاء بعنوان: التعاون لأجل التنمية خلال سنوات السبعينيات، راجع:
O.C.D.E : Rapport 1989, Coopération pour le développement, dans les années1990, publications OCDE, décembre1989, p79.(1/33)
فيذكر الجهود الضخمة التي سمحت بوضع الأسس البشرية والمؤسساتية للتنمية والزيادة في عدد الإطارات المؤهلة والمتفانية بالوظيف العمومي، والإرادة المشهودة والمتزايدة في تفضيل أساليب تنمية أكثر ديناميكية ومزايا، مرتكزة على الاستقلالية، وإقامة تشاور وطني أكثر نشاط وتفتح على الانتقاد الذاتي، فهل يمكن في هذا الظرف العالمي الذي يتميز بالتحولات المتسارعة أن تتمكن البلدان المتخلفة من تحقيق التنمية ؟ حيث تعكس هذه الصورة حصيلة لمحاولات التنمية في أغلبها، خلال عقدين وقد كانت الظروف الدولية والعالمية ملائمة أكثر، للخروج من التخلف وتحقيق الطموحات؛ ذلك ما سيتضح من سياق الفصول الموالية، وأما فيما يلي يجدر بنا أن نتناول ولو بشيء من الإيجاز تجربة التخطيط ونتائج التنمية في البلدان المتخلفة.
المطلب الأول
ظهور وتطور التخطيط
لقد كان وراء ظهور التخطيط بالبلدان المتخلفة ولدورها في النشاط الاقتصادي خاصة خلال الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي عوامل موضوعية وتاريخية وأخرى نظرية وإيديولوجية، وترابطت هذه العوامل فيما بينها في كثير من الحالات لتكون الإطار المنظم لهذا التدخل ولمدى الاتساع أوالضيق في نطاقه.
1 ـ بالنسبة للفئة الأولى من العوامل، التي تكتسي صيغة موضوعية وتاريخية فهي تتمثل في:
ـ أن تغيرات ما بعد الحرب العالمية الثانية أدت إلى بروز قضيتي التنمية الاقتصادية والاجتماعية والتغيير الاجتماعي في معظم البلدان المتخلفة، ولقد جاء ذلك الاهتمام على إثر تحقيق الاستقلال لكثير منها، والبحث عن طريق ونموذج للتنمية والتحديث، وتوَاكَبَ ذلك مع اهتمامٍ من قبل الأمم المتحدة ومنظماتها بقضايا التنمية في الدول الفقيرة، وأصبح خطاب التنمية والتغيير هو الخطاب الأكاديمي والاجتماعي على جميع الأصعدة الوطنية والدولية.(1/34)
ـ كما أن ضرورة تلبية الحاجات المتنامية للسكان الذين تتزايد أعدادهم؛ والرغبة في التخلص من التخلف، بعد حصول تلك البلدان على استقلالها السياسي، حيث كان من الأولويات أن تأخذ الدولة على عاتقها القيام بمهام اقتصادية ضخمة إلى جانب إقامة بنية تحتية وتقديم الخدمات العامة الضرورية للسكان ( التعليم ، الصحة ، المياه ...وما إلى ذلك ) كانت دوافع حاسمة في أن تتخذ الدولة دورا أساسيا في الحياة الاقتصادية، وهو ما تجسد في صيغة وضع وتنفيذ الخطط الدورية.
ـ كذلك كانت النتائج الايجابية والنجاح الذي حققه تدخل الدولة في المجال الاقتصادي إبان الأزمة الاقتصادية العالمية لسنة 1929 (النظرية الكينزية) وبعد الحرب العالمية الثانية، الشيء الذي أعطى مصداقية أكثر لدور الدولة في الاقتصاد، وزكى توسع نطاق ودور القطاع العام.
2 ـ أما بالنسبة للفئة الثانية من العوامل، التي تكتسي صيغة نظرية وإيديولوجية، فتكمن في تأثير النظرية الاشتراكية، وبروز عدة أنظمة تعتمد على ملكية الدولة، والقطاع العام، وتنتهج سياسة التخطيط المركزي في مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية.
ولذلك فإن تطور دور التخطيط في الدول المتخلفة كان وليد اعتبارات تاريخية موضوعية أو إيديولوجية أو كلتيهما معا؛ وكان المخططون الأوائل يتصورون اتجاها للتخطيط يتطور" وفق مراحل طبيعية تعكس مراحل التنمية ـ فأولا ستركز الخطط على إعداد المشاريع في المراحل المبكرة من التنمية، ثم تضع برامج استثمار عامة مع تطور القطاع الحكومي، وأخيرا تصبح شاملة لتحوي القطاع الخاص الناشئ"(1).
المطلب الثاني
اختلالات التنمية وتراجع التخطيط
__________
(1) حول استخدام دروس الخبرة في وضع نهج عملي للتخطيط في البلدان 'النامية'، طالع مقالة: رامجو بال إجروالا، في التمويل والتنمية الصادرة عن صندوق النقد الدولي والبنك الدولي للإنشاء والتعمير، العدد1 مارس 1985، من ص13 إلى ص16.(1/35)
في نهاية سنوات السبعينات كتب العديد من الاقتصاديين بكل وضوح عن فشل التخطيط، وفي سنة 1991 استخلص تقرير التنمية في العالم، أن التنمية هي أكبر تحد تواجهه البشرية، فبالرغم من الفرص الواسعة التي أحدثتها الثورة التكنولوجية في القرن العشرين فإن أكثر من مليار إنسان (حوالي 1/5 سكان العالم) يعيش على أقل من دولار في اليوم، وهذا مستوى معيشة وصلت إليه كل من أوروبا وأمريكا قبل مائتي عام(1).
ومن المعروف أن منهج التخطيط المركزي الشامل قد انتهى به المطاف إلى القضاء على الاقتصاديات المركزية نفسها، وقد كانت خيبة الأمل المتعلقة بالتخطيط للتنمية ملحوظة ومرتبطة بثلاث عوامل:
- أولا: أن تحقيق الأهداف المحددة بموجب المخططات الأولى للتنمية الاقتصادية كان يتم قليلا. إضافة إلى ملاحظة غياب أهداف متعلقة بامتصاص الفقر أو إعادة توزيع الدخل.
- ثانيا : محدودية تقنيات ونماذج التخطيط، والتي برزت واضحة بمرور الزمن. (حيث كان التركيز حول الاستثمار باعتباره محددا وحيدا للنمو، في حين تم تجاهل الرأسمال البشري ونمو الإنتاجية، وكانت النماذج مغلقة نسبيا).
- وأخيرا فإن البعض يرى أن الاقتصاديات الدينامكية في آسيا الشرقية أكدت تفوق المضمون غير التدخلي، والموجه نحو السوق، بالنسبة لذلك المتضمن تدخلا أكبر للدولة في عملية التخطيط.
لقد ساهم وضع الدول الصناعية الحديثة في آسيا في انبثاق (انبعاث) الجذور النيوكلاسيكية، وأكد آلية الأسعار كعامل مدعم للتخصيص الأفضل للموارد.(2)
إن نموذج التنمية المستند إلى التخطيط قد تم صياغته تحت تأثيرات تاريخية معينة مصدرها الرئيسي النموذج السوفيتي الذي تشكل بدوره ضمن ظروف تاريخية صعبة مختلفة تجاوزها الزمن.
__________
(1) ـ تقرير التنمية في العالم1991، ص1.
(2) ـ Louis Dupont, La planification du développement à l’épreuve des faits, éditions, Publisud Paris, 1995, p5.(1/36)
لقد ساد نظام التخطيط التقليدي في دول شرق أوروبا، ومع الإقرار بأن ذلك النظام المعتمد على الأوامر الإدارية الصادرة من المركز كانت له قدرة ملحوظة على الانجاز السريع في الظروف غير العادية (كظروف الاستعداد للحرب أو لإعادة التعمير بعد الحرب ) حيث يكون عدد الأهداف، وربما عدد الوسائل أيضا محددا، إلا أن قدرة هذا النظام على النجاح مع تزايد درجة تعقد الحياة الاقتصادية والاجتماعية ومع تعدد الأهداف والوسائل تتضاءل بل أنه عندما يسمح لهذا النظام بالاستمرار خارج تلك الفترات غير العادية فان عيوبه تتضخم وتكاليفه ترتفع ليصبح قوة معرقلة للتقدم ومن أهم هذه العيوب التضخم في الأجهزة الإدارية والتسلط البيروقراطي كنتيجة لمحاولة التحكم في كل شيء، وتكون مراكز القوى تسعى إلى خدمة مصالحها وتحتكر السلطة والثروة معا، وإهمال اعتبارات الكفاءة الاقتصادية، بل وتتجاهل اعتبارات العدالة الاجتماعية في كثير من الحالات.
كما يرى الدكتور إسماعيل صبري عبد الله فإنه: "في تسيير التنمية لابد من تخطيط على آجال طويلة ومتوسطة وقصيرة . ولا يجدي التخطيط كثيرا ، بل يمكن أن يضر إذا لم يكن مستنيرا بجهازه وما يحيط به من مراكز الفكر والإبداع أو ما يسمي عند الأمريكيين " think tanks " لأن المعرفة الدقيقة بالواقع والإمكان وابتكار الحلول المتكاملة ضرورة للتخطيط الرشيد "(1)
__________
(1) ـ د . إسماعيل صبري عبد الله، نشأة وتطور الرأسمالية، وهم التكرار وضرورة الابتكار، قضايا و آراء، العدد: 42698، 17 نوفمبر2003(1/37)
إن نمط التخطيط المتمركز حول أولويات اجتماعية واقتصادية وسياسات إعادة توزيع للدخل في ظل حكومات قوية حقق نتائج إيجابية في مرحلة مبكرة بفضل النفط والعائدات الأخرى المتعلقة بإنتاجه، إلا أن هذا النمط دفع الثمن بتورطه على صعيد التوجه الاقتصادي للدول المتخلفة وإيجاد فرص العمل في المجال الاقتصادي وولدت الحماية المكثفة للصناعة وتنظيمها ـ كذلك المبالغة في تقدير العمالة ومعدلات الصرف غير التنافسية ـ تأثيراً سلبياً على التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
إن هذا الواقع يلخصه الاقتصادي البارز "إبراهيم العيسوي" بقوله: "يبدو أن التخطيط في حالة أزمة مركبة تتألف من ثلاث أزمات متشابكة ومتداخلة:
? أولا: أزمة شك في جدوى التخطيط وفعاليته ومصداقيته، في ضوء التجارب السابقة التي جرت في الشرق الذي كان اشتراكيا وفي الجنوب الذي مازال يبحث عن التنمية.
? ثانيا: أزمة في الطلب على التخطيط تتمثل في الإعراض عن التخطيط سواء بفعل أزمة الشك التي سبق ذكرها، أو بفعل حملات التشكيك في مبدأ التخطيط وضرورته التي تشنها جهات عديدة في سياق الدعوة إلى الخصخصة واقتصاد السوق.
? ثالثا: أزمة تأتي من جانب العرض، أي عرض الخدمة التخطيطية إن جاز التعبير، وهي تتمثل في أن المخططين الممارسين ومفكري التخطيط لم يطوروا بضاعتهم ولم يجددوا طرائفهم بما يتلاءم مع المستجدات التي طرأت على الساحات المحلية والإقليمية والدولية، وربما كان ذلك أحد أسباب أزمة الطلب على التخطيط المذكورة سابقا.(1/38)
وهذه الأزمات الثلاث المتداخلة تطرح تحديات قوية أمام المهتمين بدفع جهود التنمية، وتضع علامات استفهام كثيرة أمام مستقبل التخطيط في عالم شديد التغير والاضطراب(1).
إن النماذج التنموية المستندة إلى التخطيط أهملت الجانب الاقتصادي الإنتاجي(أو كان من نتائجها) وبالغت في الجانب الاجتماعي والسياسي مما أدى إلى تضخم أجهزة الدولة وارتفاع تكاليفها وحمّلها أعباء مادية وقيودا إدارية وأضعفت من القدرة الإنتاجية وكبّلتها؛ "بحيث لم تكن السياسات الاقتصادية منسجمة مع روح السياسة التنموية حتى تحقق توسعا في الطاقات الإنتاجية وتخلق آثارا ايجابية مرافقة لعملية التنمية ككل من الناحية الاقتصادية والاجتماعية، بحيث أدى التنافر الذي حدث بين روح السياسة التنموية وإجراءات السياسة الاقتصادية إلى اختلال التوازن في المتغيرات الاقتصادية الكلية"(2).
ومن هنا يمكنا إبراز العديد من الإشكاليات المتعلّقة بالجانب الاقتصادي، والتي تتمثّل في:
- تبعية اقتصاديات البلدان المتخلفة للاقتصاد العالمي.
- بطء عملية التنمية الاقتصادية وغياب التنمية الشاملة والتنسيق بين البلدان المتخلفة واتخاذها طابعاً قطرياً.
__________
(1) ـ من كلمة الدكتور إبراهيم العيسوي وكيل المعهد العربي للتخطيط بالكويت في ندوة تونس حول "مستقبل التخطيط في الأقطار العربية في ضوء المتغيرات المحلية والإقليمية والدولية، المصدر مستقبل التخطيط في الأقطار العربية-المعهد العربي للتخطيط، الكويت، ص17-18.
(2) ـ راجع في هذا المضمون: سعدون بوكبوس: الاقتصاد الجزائري: محاولتين من أجل التنمية(1962 ـ 1989 ، 1990 ـ 2005) أطروحة دكتوراه دولة في العلوم الاقتصادية، كلية العلوم الاقتصادية وعلوم التسيير، جامعة الجزائر، جانفي 1999.ص284 وما قبلها.(1/39)
- توظيف رؤوس الأموال الوطنية وتهريبها إلى الخارج ، إذ تشير بعض الإحصاءات إلى أنّ ما يزيد عن 800 مليار دولار (من أموال العرب على سبيل المثال) موظفة في الخارج، وأنه مقابل كل دولار عربي يستثمر داخل الوطن العربي، يُستثمر 75 دولار عربي في الخارج، وهو ما يؤدي إلى حرمان الاقتصاد العربي من أموال هائلة يمكن الاستفادة منها لتدعيم البُنية الاقتصادية(1).
- انتشار الفساد على نطاق واسع في معظم الدول المتخلفة ولا تخفى آثار ذلك على العمل التنموي بجميع أوجهها ـ الأخلاقية والاقتصادية والسياسية ـ وخير مثال لهذا القارة الإفريقية التي يعيش سكانها أوضاعا غير إنسانية بالرغم من أنها تعدّ من أغنى قارات العالم(2).
لقد رافق تدهور الأوضاع الاقتصادية وانتكاسة التنمية في البلدان المتخلفة مجموعة من العوامل أثرت سلبا على قدرات تنميتها وحالت دون انطلاقة اقتصادها يمكننا أن نلخص أهمها فيما يلي:
1. مواجهة البلدان المتخلفة لمشاكل اقتصادية متعددة حادة داخلية وخارجية.
2. الحيلولة دون ظهور المشاريع الحضارية الرامية إلى إتباع نهج التنمية المستقلة في البلدان المتخلفة وإجهاض مثل هذه المشاريع.
3. التدهور السريع للمبادئ والقواعد التي تحكم التعاون الاقتصادي الدولي المتعدد الأطراف.
4. شق وحدة الجنوب والحيلولة دون تماسكه كقوة تفاوضية.
5. تزايد محاولات الدول الصناعية للجوء على الإجراءات الثنائية لتقويض مبدأ التعددية.
__________
(1) ـ د. عصام الزعيم، حوارات حول اقتصاد السوق/ ثامر قرقوط، على الموقع: www.an-nour.com، رقم.18بتاريخ 23/02/2005
(2) ـ حول الجوانب المتعلقة بالفساد وآثاره على التنمية، راجع: مقالة منير الحمش، الاقتصاد السياسي للفساد، في المستقبل العربي، العدد328، يونيو2006 مركز دراسات الوحدة العربية لبنان، ص60- 86.(1/40)
6. استمرار عدم تنسيق السياسات الاقتصادية الكلية للبلدان المتقدمة ـ قصيرة الأجل ضيقة الأفق ـ والتي تتناقض وأهداف التنمية الاقتصادية والاجتماعية في البلدان المتخلفة.
7. تفتيت توافق الآراء الدولية من أجل إنعاش التنمية العالمية بصورة عامة وبخاصة في البلدان المتخلفة.
8. عدم الالتزام بالمواثيق والاتفاقات الدولية.
9. خلق مزيد من العوائق أمام تنمية البلدان المتخلفة مثل:
? الإجراءات الحمائية وعدم تمكين صادرات البلدان النامية من الوصول إلى الأسواق العالمية.
? التخفيض المتعمد في أسعار السلع الأساسية.
? مشروطية صندوق النقد الدولي.
? المشروطية الجديدة في التجارة الدولية.
? الزيادة غير المبررة في أسعار الفائدة على القروض.
? الزيادة المتعمدة والمبالغ فيها في أسعار السلع المصنعة.
? التراجع عن منح النسب المقررة للمساعدات الإنمائية الرسمية للبلدان المتخلفة.
? تهميش اقتصاديات الجنوب وعدم مشاركتها في صنع القرار الاقتصادي الدولي، والحيلولة دون منح اقتصاد الجنوب وزنه الحقيقي في الاقتصاد العالمي.
ولذلك فقد بدأت سياسات التقويم الهيكلي تدخل بحدة حيز التطبيق، وهي السياسات التي تقوم على تراجع دور الدولة في النشاط الاقتصادي، وتراجع دور التخطيط الاقتصادي والقطاع العام وتعتمد على آليات السوق، وتمنح القطاع الخاص مكانة القطاع العام، وترحب بالاستثمار الأجنبي في ضوء ما تقرر له من مزايا وضمانات وحوافز.
خاتمة(1/41)
إذا كان أي مشروع تنموي يستهدف تحقيق مجموعة من الأهداف، فإن تجسيد هذه الأخيرة يتطلب إتباع سياسات وخطوات وإجراءات معينة، وهو ما لا يمكن أن يتحقق سوى في إطار آلية معينة تحدد الأهداف وتجند الوسائل الكفيلة بتحقيق تلك ضمن منظور زمني محدد؛ أي إتباع منهج علمي في تحقيق أهداف المجتمع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية عن طريق الاستخدام الأمثل للموارد المتوفرة، وهنا يبرز دور التخطيط الاقتصادي باعتباره الأسلوب العلمي لتسيير عملية التنمية، والذي قد تختلف أدواته من نظام اقتصادي و/أو سياسي لآخر، في حين أن النجاح في استخدام تلك الأدوات يبقى مرتبط بطبيعة المجتمع ومرحلة النمو وكثير من المتغيرات الأخرى محليا ودوليا.(1/42)
وقد أثبتت التجارب التي أتينا على تناول بعضها في هذا الفصل أن هناك إمكانية للفصل بين مفهوم الأنظمة السياسية والتخطيط للتنمية (التجارب في أوروبا الغربية واليابان والولايات المتحدة، على اختلاف الأوضاع والفترات) وبالرغم من نهاية منهج التخطيط المركزي الشامل وفشل الاقتصاديات المركزية في تحقيق التنمية،فإن ذلك لا يعني في نظرنا نهاية التخطيط للتنمية كأسلوب علمي محايد، لأن الأمر يرتبط بأسلوب ممارسة التخطيط الاقتصادي في أي نظام سياسي واقتصادي مهما كانت توجهاته الإيديولوجية، خصوصا وأن التوجهات الحديثة في حقل التنمية تزيد من الحاجة للتخطيط فالتحولات المتزايدة في جميع الميادين وأساسا ما يتعلق بالمقاييس الكمية وبمؤثرات النمو الاقتصادي، كلها عوامل تدفع للتمسك بالتخطيط، مع ضرورة الأخذ في الاعتبار الاختلافات بين طبيعة الأنظمة التي يمارس فيها نمط التخطيط؛ وهنا لابد أن يبرز الاختلاف الأساسي بين الاقتصاديات الرأسمالية والتخطيط الذي كان يمارس في الاقتصاديات المركزية السابقة، إذ كان هناك الإجبار، أما هنا فيمكن أن يكون التحفيز، فإذا كان الأول يعمل من خلال وضع مجموعة أهداف محددة تمثل مسارا مرغوبا لتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية، ويحاول إضافة إلى ذلك انجاز مخططه من خلال المراقبة المباشرة للأنشطة شبه الكلية للوحدات الإنتاجية بالاقتصاد الوطني، فإن الأسلوب الثاني يتبع إجراءات فعالة ولكنها غير مباشرة.
وعليه يمكننا القول أنه بالرغم مما طرأ على المفاهيم والتوجهات السياسية والاقتصادية والثقافية بالبلدان المتخلفة، منذ نهاية القرن العشرين، فإن التخطيط يبقى هو الأسلوب الأمثل لإدارة عملية التنمية فيها ، ومهما اختلفت النظم والمفاهيم الممنوحة للتنمية، وتبقى مشكلة البلدان المتخلفة هي البحث عن أسلوب يأخذ بمزايا كل من الأسلوبين تماشيا مع أوضاعها ومع ما تفرزه التحولات الراهنة أو الجارية.(1/43)
الفصل الثالث
التحولات الاقتصادية العالمية
تمهيد:
في هذه الحقبة التي انتقل فيها العالم من مرحلة تاريخية سابقة إلى مرحلة جديدة، بتسارع غير مسبوق، وبمتغيرات نوعية تحمل في طياتها، حاضرا ومستقبلا تحديات غير اعتيادية، إذ أنه من أبرز سمات العالم المعاصر أنه عالم يموج بالتغيرات المتلاحقة في شتى ميادين العلم والتكنولوجيا والاقتصاد والاجتماع والسياسة والثقافة، وضمن هذا المناخ السريع التقلبات يقوم البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية بدور رئيسي فيه، إضافة إلى بعض المؤسسات الدولية الأخرى كبرنامج الأمم المتحدة للتنميةPNUD ومؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية CNUCED والهدف المعلن لهذه المؤسسات هو تحقيق الاستقرار الاقتصادي العالمي من خلال مساعدة البلدان التي تعاني أزمات اقتصادية، فتقدم لها هذه المؤسسات الدراسات والحلول والقروض من خلال مفهوم يدعى" إجماع أو توافق واشنطن"(1).
__________
(1) ـ كان " جون وليامصن John Williamson " أول من صاغ مجموعة من التوجيهات لإصلاح السياسة الاقتصادية، ويقدم إجماع واشنطن مجموعة من الإجراءات المعيارية للسياسة الاقتصادية تستند إلى النظرية النقدية، وكان موجها في بادئ الأمر إلى الدول "النامية" التي تستند إلى حد كبير على نظام السوق ـ دول أمريكا اللاتينية بالأساس ـ وبعد التحولات التي عصفت بدول المعسكر الشرقي السابق، تم تطبيق بنود التوافق آليا عليها، ولازالت المنظمات الدوليةـ البنك والصندوق الدوليان والمؤسسات الأخرى العاملة في واشنطن خصوصا ـ تستلهم منه وتحاول تطبيقه ـ بطريقة أو بأخرى ـ في علاقاتها مع البلدان المتخلفة، في حين أن هذه الأخيرة تختلف عن البلدان الرأسمالية على الأقل من حيث: أنها اقتصاديات لا ترتبط في مراحلها الأولى بالسوق، وتحرير الأسعار، والتخلي عن التخطيط هنا لا يمكن أن يكون ذا جدوى في تقديم حلول لمشاكلها المطروحة، كذلك أن الواقع الاقتصادي والاجتماعي بالبلدان المتخلفة لا يمكن في ظله أن يتم توزيع الموارد استنادا إلى قواعد اقتصاد السوق بمفردها مع إزالة للحواجز كليا أمام المنافسة الحرة.(1/1)
ذلك أنه مع انهيار الاتحاد السوفيتي في ديسمبر 1991 والغزو الأمريكي للعراق في بداية السنة نفسها، بدأت ملامح نظام دولي جديد بالتكوّن، هذا التحول السياسي رافقه تغير نوعي واسع في العلوم والتكنولوجيا ووسائل الاتصال، وأدى هذان العاملان (التحول السياسي والتطور العلمي) إلى انخفاض تدريجي في درجة سيادة جميع الدول بمستويات مختلفة.
والواقع أن موقف الدول المتخلفة ذاتها قد تحول في الثمانينيات إلى تقبل السياسات الاقتصادية الليبرالية، ومن بينها سياسات تحرير التجارة والانفتاح على اقتصاد السوق وذلك بمقتضى برامج الاستقرار والتكيف الهيكلي المفروضة، وقد كان هذا التحول نتيجة للعديد من العوامل من أهمها:
أ ـ التدهور في أحوال الاتحاد السوفياتي والكتلة الاشتراكية ثم انهيارهما بعد ذلك والتي كانت تقدم للدول المتخلفة الدعم والمنفذ التجاري البديل عن أسواق الدول الصناعية.
ب ـ تفاقم مشكلة الديون الخارجية و تدهور الأداء التنموي في الكثير من الدول المتخلفة مع عجزها على تحديد وتحقيق سياسات وطنية لمواجهة هذه المشاكل.
ج ـ تراجع حجم الدولة لمصلحة دور أشمل للقطاع الخاص وظهور أفكار جديدة منذ السبعينيات تنادى بـ"دولة الحد الأدنى".
د ـ تزايد الدور الذي أصبحت تلعبه الشركات المتعدية الجنسيات، واعتمادها النهب المفرط لخيرات وموارد البلدان المتخلفة.
هـ ـ عدم التكافؤ في العلاقات التجارية الدولية بين الدول الصناعية المتقدمة والبلدان المتخلفة، مما سبب عجزا مستمرا في موازين مدفوعات هذه الأخيرة، خصوصا مع حاجة البلدان المتخلفة إلى استيراد المواد الغذائية من تلك الأولى.
ز ـ التدخل السياسي في شؤون البلدان المتخلفة من قبل بلدان العالم المتقدم، تحت مبررات واهية من حقوق الإنسان، إلى حماية الأقليات والديمقراطية، مما تحول إلى تهديد ثم انتهاكات متوالية للسيادة الوطنية لتلك البلدان.(1/2)
ومسايرة أيضا لهذه التحولات يصبح من المنطقي طرح مجموعة من التساؤلات حول ماهية التحولات على الصعيد الدولي التي أدت إلى تغير الظروف الدولية التي من خلالها تتم التنمية؟ ثم هل وكيف يمكن للبلدان المتخلفة أن تحقق التنمية، في هذا العالم المتغير؟ ذلك ما سنحاول تناوله ضمن محتويات هذا الفصل، الذي سنخصص المبحث الأول منه لتناول انهيار وتفكك الكتلة الاشتراكية بالنظر لما لهذا التحول من آثار على الاختيارات التنموية بالبلدان المتخلفة ألتي وجدت واقعا جديدا يدفع بها نحو اعتماد أيديولوجية اقتصاد السوق، أما المبحث الثاني فيتناول الثورة العلمية التكنولوجية التي أدت إل تعميق الهوة بين البلدان المتخلفة والأخرى المتقدمة، وحيث أن التحولات العالمية تميزت بتزايد تكوين التكتلات الاقتصادية بين مجموعات من الدول التي تربط بينها مصالح اقتصادية مشتركة، فقد رأينا التعرف على أهم التكتلات والأهداف الكامنة خلف التكتل، من خلال مبحث ثالث، وكان المبحث الرابع متعلقا بتلك الظاهرة الشاملة للاقتصاد والمال والسياسة والثقافة، وهي التطورات التي مسّت مجالات الحياة المختلفة والتي تجسدت في مصطلح العولمة، أما المبحث الأخير من هذا الفصل فيتناول موضوع التجارة الدولية والمنظمة العالمية للتجارة التي تعتبر مع البنك وصندوق النقد الدوليان المؤسسات العالمية المشرفة على إقامة نظام اقتصادي عالمي جديد، ليس أمام البلدان المتخلفة إلا أن تحسن إدارة اقتصادياتها في ظله، ثم ننهي الفصل بخاتمة نضمنها أهم ما ورد ضمنه من الأفكار والاستنتاجات.
المبحث الأول
تفكك الكتلة الاشتراكية(1/3)
كان على الاتحاد السوفياتي( السابق) الذي حقق انتصارات سياسية هامة في أوروبا أن يواجه التهديد الأمريكي، فقد استطاع أن يحقق نجاحات كبيرة في مجالات العلم والتكنولوجيا، التي لعبت دورا حاسما في وضع حد للتفرد الأمريكي في امتلاك الطاقة النووية؛ والتي كانت أمريكا تترجمها على شكل سياسة الدبلوماسية الذرية، وحافة الهاوية، وسياسة القوة، وقد واجه الاتحاد السوفياتي سياسة الغطرسة والهيمنة الامبريالية باتخاذه موقفا داعما لحركات التحرر في العالم، ووقف بحزم ضد سياسة الأحلاف العسكرية التي بدأت أمريكا تتفنن في إنشائها، وتشكل حلف وارسو ردا على حلف شمال الأطلسي.
وقد ازداد ازدهار التفوق السوفياتي بنجاح تجربة إطلاق أول صاروخ في تاريخ البشرية، يحمل إلى الفضاء الكوني أول قمر صناعي، وذلك في الرابع من أكتوبر عام 1957. و لكن هذا الباب الذي فتحه السوفييت في سباق حرب الفضاء، كان هو الباب الذي خرج منه الاتحاد السوفيتي عام1991، لعدم قدرته على مضاهاة أمريكا في الثورة الصناعية الثالثة، الثورة العلمية التكنولوجية، التي كانت من أبرز معالم المتغيرات، التي قضت على القديم، والتي سمحت لأمريكا أن تحقق بموجب حرب النجوم انتصاراً حاسما على الاتحاد السوفياتي.
"إذا أخدنا بتقديرات وكالة المخابرات المركزية الأمريكية فإن الاتحاد السوفياتي ظل ينمو بمعدل (21%) في الفترة من 1975 إلى عام 1985، وهو معدل أبطأ قليلا من مثيله الأمريكي على امتداد الفترة نفسها ومقداره (2.9%) ولم يكن ما يلزمه بإجراء إصلاحات جذرية، وفي أواسط الثمانينات كان يحقق نجاحا أكبر ففي عام 1983 سجل معدل نمو مقداره( 3.3%) وفي عام 1986 كان أداؤه أفضل من ذلك (4.3%)، ولم يكن هناك أية علامات على الانهيار"(1)
__________
(1) ـ لستر ثارو: الصراع على القمة، ع. س، ص9.(1/4)
ولكن"غورباتشوف" استلم في عام 1985 تركة مثقلة بالمشاكل واقتصادا يعاني من التأخر وإهدارا للموارد وتراجعا واضحا في معدلات النمو الاقتصادي وإنتاجية العمل منذ منتصف السبعينيات تقريبا، وازداد النظام تمزّقا، عندما أضعف سلطة الجهاز القديم للتخطيط المركزي،فخلق أوضاعا استحال معها العودة إلى الماضي، وأدرك الجميع في الإتحاد السوفياتي من أقصى اليمين إلى أقصر اليسار، أن النظام القديم قد وصل إلى نهايته(1)
ـ ويمكن إيجاز المؤثرات الخارجية والتغييرات التي أدت إلى انهيار الاتحاد السوفياتي وتفكك الكتلة الاشتراكية، وانتصار أمريكا المطلق في الحرب الباردة، بالمتغيرات التالية:
أ ـ الثورة العلمية والتكنولوجية.
ب ـ التغيير في النظام العالمي.
ج ـ بروز التكتلات الاقتصادية العالمية.
د ـ تفتت العالم الثالث وانقسامه.
هـ ـ التحولات في قائمة أولويات العالم.
__________
(1) ـ لستر ثارو، م. ن ص9 ، 10.(1/5)
ويمكن اعتبار انهيار الاتحاد السوفياتي، بداية التغيير الذي ولّد الظروف الدولية الجديدة،من غياب نظام القطبية الثنائية، وانتهاء الحرب الباردة، إلى اختفاء ما كان يُعرف بالكتلة الاشتراكية،والتي كانت في البداية تعمل علي إبراز الوجه الإنساني للاشتراكية ودفعها إلى الأمام، ثم حاولت القيام بتعجيل النمو الاقتصادي بالاعتماد على آخر إنجازات الثورة العلمية التكنولوجية، ووصولا إلى وضع المقدمات لإصلاحات السوق الراديكالية التي بدأت على يد "يلتسين" في جانفي1992. ولعل ذلك يعدّ من أبرز التحولات العالمية المعاصرة والعوامل الخارجية، التي دفعت بالبلدان المتخلفة نحو المزيد من التراجع عن التخطيط للتنمية، حيث فقدت البلدان المتخلفة نتيجة ذلك، نصيراً هاماً لها، ووُضعت مباشرةً في مواجهة الدول الصناعية المتقدّمة (الغنيّة)، بعد أن كان الاتحاد السوفييتي مصدراً لمعونات الدول الفقيرة وأصبحت روسيا تبحث عن المعونات،بحيث وصلت التزامات روسيا وتعهداتها ـ غير المدفوعة ـ في منتصف عام 1999 في مجموعها إلى 12.4 مليار دولار من وحدات السحب الخاصة (17 مليار دولار) أي ما يعادل 22 %من كل الالتزامات تجاه صندوق النقد الدولي.(1)
__________
(1) ـ التمويل والتنمية: الصادرة عن صندوق النقد الدولي العدد1، مارس 2000 ص5.(1/6)
وبتفكك الاتحاد السوفياتي أيضا انضمت كل الدول الخمسة عشرة التي خلفته إلى صندوق النقد الدولي الذي دعا إلى اجتماع مجموعة من المؤسسات المتعددة ضمَّت عاملين من البنك الدولي ومنظمة التعاون والتنمية الاقتصادية والبنك الأوروبي للإنشاء والتعمير، وفي خلال ستة أشهر خرجت هذه المجموعة بخطة للمساعدات التقنية تستهدف إدماج الدول المستقلة حديثا في الاقتصاد العالمي، وتم إقرار التسهيل المنتظم كنافذة مؤقتة للإقراض والصرف السريع للدول التي تمر بمرحلة انتقال إلى اقتصاد السوق(1)، وبذلك لم تعد أسواق الدول الاشتراكية السابقة، مفتوحة لمنتجات الدول النامية، كما كانت في السابق، بل أصبح على هذه المنتجات مواجهة منافسة منتجات الدول الصناعية في تلك الأسواق وغيرها.
ومن جهة أخرى فإن انهيار الاتحاد السوفياتي خلق عواقب سلبية، بحيث ترك مناطق شاسعة للارتباك وعدم الاستقرار السياسي، وللحروب الأهلية ،وأساسا أدي إلى انهيار نظام عالمي، أحدث غيابه عدم استقرار في الأنظمة السياسية الوطنية، التي كانت تستند إلى استقرار نظام القطبين(2).
__________
(1) ـ م. ن، ص5.
(2) ـ Claude Julien : Une histoire qui modelé notre monde désorienté ; le siècle des extrêmes, Le Monde Diplomatique, mars1995,pp16et17.(1/7)
إن الفراغ الإيديولوجي الذي خلفه انهيار الكتلة الاشتراكية منح الفرصة للمعسكر الرأسمالي للإنفراد باتخاذ القرارات الدولية، وضمان انتشاره وسيادته على كل الأنظمة والتيارات، وتم إعادة ترتيب الأولويات، وابتداع ما يؤمن للرأسمالية الانتشار والاستمرار أكثر، من خلال الترويج لمفاهيم عالمية جديدة، بل وأحيانا قديمة في نمط جديد، من قبيل اقتصاد السوق وتحرير التجارة والحرية والديمقراطية وحقوق الانسان وقد ساعد على ذلك التطور الكبير في وسائل الإعلام والاتصال التي تلعب دورا محوريا في تشكيل وترسيخ النظام العالمي الجديد، ونظرا للدور المتزايد الذي أصبحت تلعبه في جميع المجالات فقد انعكس كل ذلك على عملية التنمية بالبلدان المتخلفة، وهو ما يدفعنا لتناول الثورة العلمية والتكنولوجية في المبحث الموالي.
المبحث الثاني
الثورة العلمية والتكنولوجية
بدأت وتطورت الثورة العلمية- التكنولوجية التي أحدثتها الرأسمالية المعاصرة في نفس الفترة التي شهدت التغيرات الكبيرة التي طرأت على الأوضاع الدولية أثناء وبعد الحرب العالمية الثانية، ومنذ نهاية هذه الحرب توجه الرأسمالية أفضل إمكانياتها لتحقيق الثورة العلمية- التكنولوجية وتتحمل القسط الأكبر في تطوير منجزاتها، واستخدامها في العمليات الاقتصادية والاجتماعية والعسكرية.(1/8)
وقد أسماها البعض بالثورة التقنية الثالثة(1)«تمييزا لها عن الثورة الصناعية- الأولى- أوائل القرن التاسع عشر والثورة العلمية التكنولوجية- الثانية- بعيد انتهاء الحرب العالمية الثانية». لقد اعتمدت هذه الثورة أساسا على العقل البشري وما وصل إليه من علوم في جميع الفروع وأسا ما تعلق منها بالالكترونيات الدقيقة وعلوم الحسابات والذكاء الاصطناعي، وتوليد وتخزين واسترداد المعلومات مع توصيلها بسرعة متناهية.
وخلال الربع الأخير من القرن العشرين ساهمت تكنولوجيا المعلومات والاتصالات وتطورهما في إحداث تغييرات جذرية في المجتمعات مسّت جميع الأصعدة: ثقافيا وسياسيا واقتصاديا، بحيث قامت بدور ضخم في نقل الأفكار والتجارب والخبرات من مجتمع للآخر وكان لها الدور المعتبر في تغيير أساليب الإنتاج والتبادل بل والحياة في المجتمعات المعاصرة، هذه التغيرات دفعت البعض إلى القول " بأن ثورة الاتصال حوّلت العالم إلى قرية معولمة Global Village"(2)فقد أصبح العلم والتقنية اليوم أساس الإنتاج المادي، ونتيجة للثورة العلمية – التكنولوجية، أصبحت الوسائل التقنية تقوم بانجاز مهام الإنسان الوظيفية.
__________
(1) ـ حول الفرق بين التكنولوجيا والتقنية طالع مداخلة الأستاذة : بعداش مسيكة/ المعنونة: الأداء الفعال لدراسة الجدوى الفنية أحد مقومات نجاح المشروع الاستثماري، ضمن: مداخلات الملتقى الدولي حول " أهمية الشفافية ونجاعة الأداء للاندماج الفعلي في الاقتصاد العالمي" كلية العلوم الاقتصادية وعلوم التسيير، جامعة الجزائر، 28- 30 جوان 2003.
(2) ـ القول للمفكر "مارشال ماكلاهان" Marshall McLuhun ، راجع مقالة بعنوان "المجتمع العربي بين مخاطر العولمة وتحديات ثقافة العولمة" للدكتور خلاف خلف الشاذلي، في شؤون عربية، مجلة فصلية تصدرها الأمانة العامة لجامعة الدول العربية، العدد107، سبتمبر 2001 ص93.(1/9)
تعد تقنيات المعلومات في العصر الحاضر من أهم ركائز تقدم الدول وتطورها؛ والتخطيط الوطني لتقنية المعلومات في هذا العصر هو اللبنة الأساس في تطور الدول ورقيها وتأكيد هويتها وحضارتها ومواصلة تقدمها والنهوض باقتصادياتها ومجتمعاتها، ونتيجة لذلك طورت العديد من الدول خططاً وطنية لتقنية المعلومات؛ وأما أهداف تلك الخطط فإنها تتفاوت من دولة لأخرى حسب تقدم هذه الدول وبيئاتها الاجتماعية ومميزاتها الإستراتيجية ومدى تطلعاتها، والجدير بالذكر أن تبني الخطط الوطنية يمكن أن يدعم الاقتصاد الوطني بشكل كبير؛ فقد استطاعت الهند، على سبيل المثال، أن تزيد صادراتها البرمجية بنسبة 50% كل سنة، لأربع سنوات متتالية من خلال تبني خطة وطنية لتقنية المعلوماتية.(1/10)
وكانت اليابان أول دولة في العالم تضع خطة وطنية لتقنية المعلومات، حيث صدرت الخطة الوطنية للمعلوماتية في اليابان عن "المعهد الياباني لتطوير استخدام الحاسب" عام 1972م. وتضمنت استثمار حوالي 65 بليون دولار في مشاريع معلوماتية فيما بين 1972م و1985م، وكان ذلك بدعم من وزارة الصناعة والتجارة الدولية اليابانية، وتوالت بعد ذلك كثير من الدول السباقة إلى وضع خطط وطنية لتقنية المعلومات، منها: فرنسا (1978) وماليزيا (1996) والجدول بالصفحة الموالية يوضح تاريخ بدء أول خطة لتقنية المعلومات في بعض الدول، تعبيرا عن الاهتمام الذي أولته دول متقدمة وأمم متحضرة منذ سنوات لهذه الثورة التي أصبحت البلدان بموجب خصائصها تنقسم إلى بلدان غنية بالمعلومات وأخرى تفتقر إليها، بل أن البعض أصبح يصنفها من الموارد الاقتصادية الاستراتيجية في الحياة للاقتصادية، ويعتبرها مكملة للموارد الطبيعية، وهي شأنها شأن هذه الأخيرة "تخضع لقانون العرض والطلب، ولاعتبارات السوق، كما يمكن تصديرها واستيرادها".(1)وتعبيرا عن الأهمية المستقبلية لتكنولوجيا المعلومات في زيادة ثراء الأمم أو فقرها يتصور الخبير"مايكل فلاهوس" (أن المجتمع الأمريكي سيكون في العام2020على شكل طبقات معلوماتية يدعى« مدينة البايت».
__________
(1) ـ كليب سعد كليب: اقتصاد المعرفة والأمن الاقتصادي العربي ، في المستقبل العربي ،رقم293 مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت لبنان، جويلية2003، ص28. ولمزيد من التفاصيل حول أوجه الشبه والاختلاف بين الموردين، وأهمية ثورة المعلومات، ونتائج ومضاعفات التحول نحو الثورة الصناعية الثالثة، طالع نص المقالة ابتداء من ص22 إلى ص34.(1/11)
ففي القمة هناك سادة العقل « من طراز الملياردير بيل جيتس أحد أقطاب تكنولوجيا المعلومات» يليهم في المرتبة عمال الخدمات الراقية أو العاملون في تكنولوجيا المعلومات، ثم العمال اليدويون « العبيد السيبرانيون»، وفي الدرك الأسفل من المجتمع هناك الناس الضائعون، وهم الذين تجاوزتهم ثورة الكومبيوتر تماما)(1).
ويعد الأخذ بالعلم والمعرفة وتزايد دوره من المستجدات الهامة التي أصبحت دول العالم لا تنقسم إلى دول غنية ودول فقيرة بقدر ما تنقسم إلى دول تملك العلم والمعرفة وأخرى لا تملكها، لقد أصبح العلم والمعرفة يشكل الأساس القوي لبناء القوة التكنولوجية التي تعد العنصر الفاعل في عملية المنافسة الدولية ومحاولة التفوق حتى يمكن أن يكون للدولة نصيب في المكاسب الاقتصادية المتوقعة، حيث أن المنافسة لا تركز فقط على الأسعار بل تعتمد بالأساس على مدى ما تتمتع به السلع المنتجة من الجودة ومدى تشجيع وتفعيل الابتكار والتميز الإنتاجي.
جدول رقم (1)
بداية خطط تقنية المعلومات في بعض الدول
الدولة ... تاريخ أول خطة ... الدولة ... تاريخ أول خطة
اليابان ... السوق الأوروبية المشتركة
فرنسا ... استراليا
تايوان ... البرازيل
سنغافورة ... اسرائيل
كوريا الجنوبية ... الهند
بريطانيا ... مصر
__________
(1) ـ مايكل فلاهوس هو خبير في أحد أشهر بيوت الخبرة العالمية "بروقرس آند فريدوم"، راجع في ذلك: ميتشيو كاكو: رؤى مستقبلية، كيف سيغير العلم حياتنا في القرن الواحد والعشرين، ترجمة: د. سعد الدين خرفان، سلسلة كتب عالم المعرفة رقم 270، إصدار المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت يونيو 2001، ص168- 169.(1/12)
ولكن وإن رأى البعض أن تكنولوجيا المعلومات والاتصالات قد "تحولت خلال السنوات الأخيرة إلى ما يشبه الجواد الجامح الذي ينطلق بأقصى سرعة في أي اتجاه يريد دون توجيه من أحد، فقد تغلغلت هذه الثورة بمنتهى القوة إلى مستويات عميقة في كل المجالات وغيرت الكثير مما يجرى داخل المجتمع الإنساني وجعلته يعيش حياة فوارة تتغير فيها الطريقة التي يحيا بها البشر ويمارسون بها أعمالهم ويشكلون بها أفكارهم"(1)؛ فإنها أتاحت، من جهة أخرى، لأعداد غفيرة من البشر أن يشاركوا في المعرفة دون الحاجة لأن يكونوا في نفس المكان.
وفي نفس الوقت فإن تكنولوجيا المعلومات والاتصالات ـ خاصة في العقدين الأخيرين ـ أصبحت تمثل قوة دفع قوية للعولمة وقد ترتب عليها إعادة تأسيس لتقسيم العمل الدولي بالتوازي مع اتساع المبادلات الدولية وتدفقات التجارة والاستثمار والتكنولوجيا والعمل، فالأسواق العالمية أصبحت أسرع وأقوى تأثرا بالأحداث والتحولات السياسية والاقتصادية والتقنية والثقافية.
__________
(1) ـ جمال محمد غيطاس: العرب والقمة العالمية لمجتمع المعلومات، تعقيدات التعامل مع الفجوة الرقمية، كراسات إستراتيجية، العدد رقم (159) يناير 2006، ع. س.(1/13)
وبذلك فإنه من المفروض أن يؤدى كل ذلك إلى انتشار أسرع للمعلومات والمعرفة العلمية والتكنولوجية في مجالات كثيرة، مما يتيح للدول المتخلفة أن تستغل هذه التحولات وتعمل على تحقيق مستويات أعلى في المجالات العلمية والثقافية، فمن خلال شبكة الانترنيت مثلا تستطيع البلدان المتخلفة أن تستفيد بسهولة غير معهودة من قبل، من قواعد البيانات والمعلومات، ومن إمكانيات التدريب ومن المقررات الدراسية المتاحة على الشبكة، وهذه جميعها سوف تساعد على تيسير الوصول إلى مجتمع المعرفة، مما يسمح لهذه البلدان بالالتحاق على نحو متواصل بالبلدان المتقدمة، غير أن استخدام التكنولوجيات الجديدة في معظم الدول المتخلفة لا يزال محدودا، وذلك بسبب أن الحكومات فيها ظلت لفترات طويلة غير مكترثة بتكنولوجيا المعلومات والاتصالات، سواء كآلية لتحسين وتغيير ظروف المجتمع أو كصناعة في حد ذاتها، من ناحية إضافة إلى سلوك الشركات المتعدية الجنسيات الذي يطبع في هذا المجال بثلاث سمات رئيسية(1):
أ . ـ أن تلك الشركات عازفة عن توطين الأنشطة التكنولوجية في البلاد المضيفة، وخاصة في بلدان الجنوب. فلا تزال مواقع القدرة التكنولوجية الرئيسية متمركزة في الدول الأم لهذه الشركات نفسها.
ب . ـ إن أكثر الصناعات انتشارا في ميدان التكنولوجيا المنقولة هي الصناعاتات ذات التكنولوجيات البسيطة والتقليدية، وليس صناعات التكنولوجيا العالية.
ت . ـ إن الشركات الدولية غالبا ما تعتمد على المواقع العلمية والتكنولوجية في البلدان المضيفة للاستثمار نفسها، أكثر مما تنقل إليها قدرات إضافية.
لقد قسمت تطورات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات العالم إلى قسمين:
__________
(1) ـ العولمة وتداعياتها على الوطن العربي، سلسلة كتب المستقبل العربي، رقم24 ، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الأولى، يناير2003 بيروت، ص114.(1/14)
في القسم الأول توجد الدول المتقدمة والغنية المالكة للأموال والنفوذ والسيطرة والمعلومات والتكنولوجيا. وأما القسم الثاني فيضم الدول المتخلفة والفقيرة الأقل نفوذا وقوة وأكثر ضعفا وفقرا في المعلومات وفى التكنولوجيا أيضا، حيث تؤكد الدراسات على أن تخلف كثير من البلدان يرجع إلى تخلفها في مجال المعلومات وتكنولوجيا الاتصالات "ويتوقع الكثير من المفكرين والمختصين أن وضع الدول 'النامية' قد يزداد تخلفا وسوءا إذا ما استمر إهمال قطاع المعلومات فيها"(1).
لقد ترتب على هذه الثورة الصناعية الثالثة العديد من النتائج، لعل من أبرزها:(2)
أ ـ ثورة في الإنتاج تمثلت في احتلال المعرفة والمعلومات الأهمية النسبية الأولى في عملية الإنتاج
ب ـ ثورة في التسويق نتيجة لعجز الأسواق المحلية عن استيعاب إنتاج المشروعات العملاقة، ونتيجة للثورة في عالم الاتصال والمواصلات، فقد أصبح الصراع على الأسواق العالمية أمرا حتميا لضمان الاستمرار.
ج ـ النمو الكبير والمتعاظم في التجارة الدولية والتدفقات المالية، وتحرير التجارة الدولية.
د ـ تزايد الاتجاه نحو المزيد من الاعتماد الاقتصادي المتبادل، حيث ارتبط النظام الاقتصادي العالمي الجديد بشبكة من العلاقات التجارية والمالية.
إذا فالتطور التكنولوجي يعتبر من بين الأسباب التي تساهم في رقي الأمم، إذ يتضح تأثير التكنولوجيا على تحقيق التنمية من خلال:
1( تحسين وسائل الاتصال ومعالجة المعلومات للتحكم في الموارد والعمليات في أماكن مختلفة من العالم.
__________
(1) ـ د. محمد علي حوات: العرب والعولمة، شون الحاضر وغموض المستقبل، مكتبة مدبولي، الطبعة الأولى2002 القاهرة، ص63.
(2) ـ د. سميحة فوزي: النظام العالمي الجديد وانعكاساته الاقتصادية على الوطن العربي، مجلة البحوث والدراسات العربية، العدد22 معهد البحوث والدراسات العربية، القاهرة1994، ص43-44.(1/15)
2( ابتداع طرق إنتاج جديدة تساهم في إشباع حاجات الأفراد محليا وإنتاج فائض يوجه للتصدير.
3( تطوير طرق النقل والمواصلات لنقل السلع والخدمات لمناطق بعيدة وبتكاليف زهيدة.
نظرا لتلك الاعتبارات فقد بذلت بعض من الدول المتخلفة (دول شرق آسيا خصوصا) جهودا كبيرة لتوطين التقنية من خلال دعم الأبحاث وكل ما يساهم في التطور والابتكار العلمي والتقني، حتى أصبحت صناعة التقنية أحد أهم مقومات الاقتصاد الوطني في تلك الدول، ولكن الدول الصناعية الكبرى بدأت في استثمار هذه التوجه لمصلحتها وذلك من خلال إنشاء مقرات لشركاتها في الدول المتخلفة التي أثبتت جودة صناعاتها التقنية لتوظيف العقول وتقليل تكاليف التصنيع؛ وإن كانت هذه الخطوة من ناحية أخرى تعتبر عاملا مساعداً ومهماً من عوامل نقل التقنية إلى تلك الدول المتخلفة وتحقيق الرفاهية الاقتصادية لمواطنيها؛ وهكذا فإن عددا من الدول المتقدمة والمتخلفة تعتمد على تقنية المعلومات لمواصلة تقدمها وللنهوض باقتصادياتها ومجتمعاتها، إذ ترى أن العصر الحالي هو عصر المعلومات، في حين تبقى دول أخرى وخاصة الإفريقية والعربية على هامش هذا التطور العلمي والتقني الذي أصبح يشكل أحد السمات الأساسية للتقدم في شتى الميادين، في حين أن "الفجوة الرقمية ـ وهذا هو المصطلح الذي يستخدم لوصف الفجوة التكنولوجية بين الشمال والجنوب ـ قد اتسعت وثمة أرقام قليلة تكفى لإثبات هذا الزعم المؤكد: ففي الدول الغنية واحد من ثلاثة أشخاص( بمعنى ثلث الأفراد) يمتلك جهاز الحاسوب، مقارنة بواحد من بين مائة وثلاثين في إفريقيا"(1)
__________
(1) ـ سامي موهوبي: تضييق الفجوة بين الشمال والجنوب، في مجلة الرسالة الجديدة ، تصدر عن منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم "اليونسكو" نوفمبر2005، ص61..(1/16)
وأما الدول العربية فتصنّف في المستوى ما قبل الأخير في مجال تقنية المعلومات بالنظر لنقص البنى التحتية لشبكات الاتصال وعجز السياسات والتشريعات عن مواكبة متطلبات هذه الصناعة، حيث لا تتعدى نسبة مشتركي الانترنت 2% ولا يتعدى المحتوى العربي للشبكة العنكبوتية 0.1% وإن أعلنت بعض الدول العربية خططا لتطوير صناعة المعلومات وإنشاء قرى رقمية(1)، فإن الواقع يبقى يطرح معالم مستقبل كئيب، بالرغم من أن تقرير برنامج الأمم المتحدة للتنمية سنة 2001 كان قد ذَكَر، وذَكَّرَ مسؤولي شعوب هذه البلدان "أن الشبكات التكنولوجية تعمل على «تغيير الخريطة التقليدية للتنمية» ، و«خلق الإمكانيات والطاقات» التي تحقق ـ في عقد من الزمان ـ تقدما كان يتطلب في الماضي عقودا أو أجيالا عديدة "(2).
المبحث الثالث
تطور التكتلات الاقتصادية
__________
(1) ـ التقرير الاقتصادي العربي الموحد، جامعة الدول العربية، سبتمبر2003، ص80.
(2) ـ عن سامي موهوبي: م. ن، ص 61.(1/17)
لقد بدأت بوادر التكتل منذ أواخر الخمسينيات بظهور السوق الأوروبية المشتركة سنة 1959 أما الفترة الحالية فتتميز باتجاه العديد من الدول إلى الدخول في اتفاقيات اقتصادية وتكتلات لزيادة قوتها التنافسية، ويعد ذلك من أهم المستجدات الدولية، فقيام السوق الأوروبية الموحدة ومن ثم تطورها إلى اتحاد أوروبي، أغرى العديد من الدول إلى الدخول في تكتلات لمواجهة الكيانات الاقتصادية الجديدة، وأما خلال التسعينيات فقد أصبح من الواضح أن أبرز ملامح النظام الاقتصادي العالمي الجديد هو تضاؤل أهمية الاقتصاديات الفردية في التعامل مع العالم الخارجي، لتحل محلها الاقتصاديات الجماعية للحصول على مكاسب أكبر، في ظل ارتباط النظام الاقتصادي العالمي بالنظام الرأسمالي واقتصاد السوق، وقد برزت أيضا بوضوح العلاقة بين الاقتصاد والسياسة، وبين الإصلاح السياسي الذي يطالب به والتنمية الاقتصادية، فقد تحولت الدول نحو المزيد من التكتلات الاقتصادية والتجارية والتكامل الإقليمي وحتى التحالفات السياسية بين الدول المتقدمة، ولا يخفى أن كل ذلك يتم "في إطار سياسة تركز على الإصلاحات الهيكلية الشاملة الرامية إلى جعل الاقتصاديات أكثر ارتباطا بالأسواق وأوسع انفتاحا على الاقتصاد العالمي، وهي جزء من إستراتيجية أوسع نطاقا لتحرير التجارة شرع فيها منذ الثمانينيات"(1)، ويرى البعض في التكامل الجهوي بديلا للعولمة، و هو الذي يمكن أن يتم ضمن أشكال: إنشاء مناطق للتبادل الحر، أو اتحادات جمركية أو إقامة أسواق مشتركة أو وحدة اقتصادية(2).
__________
(1) ـ التمويل والتنمية، ع. س، العدد1، مارس2000، ص8.
(2) ـ لمزيد من التفاصيل حول بعض أهم الاتفاقيات الجهوية للتكامل والعلاقة بينها وبين العولمة راجع:
Frédérique Sachwald : La régionalisation contre la mondialisation, in Mondialisation au-déla des mythes, éditions casbah, novembre1997 Alger, pp133-146.(1/18)
يمكننا أن نذكر من أهم تلك التكتلات القائمة فعلا: الاتحاد الأوربي، ورابطة جنوب شرق آسيا (الآسيان) ومنطقة التجارة الحرة لأمريكا الشمالية (النافتا) وتجمع السوق المشتركة للشرق والجنوب الأفريقي (دول الكوميسا)(1)... ولكن قبل استعراض أهم هذه التكتلات، يمكن أن تطرح التساؤلات التالية:
ما المقصود بالتكتلات؟ وما هي المكاسب التي تحققها؟ وما هي عوامل نجاحها؟
يمكننا اعتبار التكتلات الاقتصادية نماذج تنموية تتخذها مجموعة من الدول بموجب اتفاق بيني يهدف إلى تنسيق مختلف سياساتها الاقتصادية، وإلغاء مختلف القيود والحواجز الجمركية وغير الجمركية المفروضة على تجارتها البينية بهدف تحقيق التكامل الاقتصادي بين الدول المُْنظَمّة للاتفاق وإنجاز معدلات نمو أعلى مما كانت تحققه كل منها قبل تكتلها.
يُعرَّف التكتل على أنه: "عملية إحداث تقارب بصورة تدريجية بين الدول ذات الأنظمة السياسية والاقتصادية المتجانسة، ويعمل على تسهيل عملية التنمية الاقتصادية في تلك الدول" ومنه فإن التكتل يمثل ـ إحداث تقارب بصورة تدريجية بين الدول، مما يسمح بتوفير مجموعة من عوامل نجاحه.
ـ عملية سياسية وعملية اقتصادية، والتناقضات السياسية تؤثر اقتصاديا، ومنه ضرورة تجانس الأنظمة. ـ أن التكتل الاقتصادي يجب أن يسهل عملية التنمية الاقتصادية بين الدول
__________
(1) ـ بالإضافة إلى ما ذكرنا أعلاه يمكن تعداد ما يلي: السوق الجنوبية المشتركة في أمريكا اللاتينية، منطقة الكاريبي للتجارة الحرة(الأندين)، الجماعة الاقتصادية لغرب أفريقيا، وبعض المحاولات العربية كالتجمعات الإقليمية، الإتحاد المغاربي، ومجلس التعاون لدول الخليج، وما إلى ذلك من تكتلات قائمة فعليا وأخرى مازالت في طور التحقيق.(1/19)
ـ أن التكتل الاقتصادي يتطلب وجود خطط للتنمية الاقتصادية في دول التكتل دون استثناء.(1)
كما يمكن أن يعرف التكتل أيضا انطلاقا من زاويتين:(2)
ـ الأولى: باعتباره عملية مستقبلية، حيث تتجه الجهود نحو تنفيذ مجموعة إجراءات، تستهدف إلغاء التمايز بين الوحدات الاقتصادية التي تنتمي إلى مجموعة دول مختلفة.
ـ الثانية: باعتباره حالة قائمة حيث يستدل عليه بغياب أشكال التمييز المختلفة بين الاقتصاديات الوطنية للدول أعضاء هذا التكامل.
__________
(1) ـ لمزيد من التفاصيل راجع: أحمد علي حسن محمد/مستقبل التعاون الاقتصادي العربي في مواجهة المتغيرات الاقتصادية العالمية والإقليمية، رسالة ماجستير في الاقتصاد، كلية التجارة قسم الاقتصاد، جامعة عين شمس، سنة2000،ص88- 89.
(2) ـ أماني أحمد علي زعرب: التغيرات الاقتصادية الدولية المعاصرة وآثارها على مستقبل الاستثمارات الصناعية في مصر(في إطار برنامج الإصلاح الاقتصادي) رسالة ماجستير في الاقتصاد، كلية التجارة قسم الاقتصاد، جامعة عين شمس، دون سنة نشر، ص116.(1/20)
إن قيام التكتلات ظهر بفضل عوامل عديدة منها تشابه النظم والتشريعات الاقتصادية، وقد تكون هناك أسباب عديدة تدفع الدول إلى تشكيل ترتيبات للتكامل أو التعاون الإقليمي، "ومن الواضح أن البعض قد يكون مدفوعا باعتبارات سياسية واجتماعية، بينما البعض الآخر قد يكون مدفوعا أساسا بأسباب اقتصادية"(1)، والتكتلات عادة تمر بمراحل معينة تبدأ بمنطقة التجارة الحرة وتنتهي فيما يعرف بالوحدة الاقتصادية، وإذا تم توحيد السياسات فإن التكتل يصل إلى أعلى مراحله وهي مرحلة الاندماج الاقتصادي التي تقود إلى الوحدة السياسية؛ لقد أوضحت الآراء الجديدة حول النمو الاقتصادي، المكاسب الحيوية التي تعود من التكامل الاقتصادي، ومن بين أهم ما يستهدف البلد المتكتل إقليميا:(2)
ـ ضمان النفاذ للأسواق، والالتزام أمام القطاع الخاص بتحرير الاقتصاد.
ـ مواجهة الحماية والجمود الاقتصادي الكلي.
ـ الاستفادة من اقتصاديات النطاق عن طريق التعلم من خلال العمل.
__________
(1) ـ إدوين كوامي كاسي: ما الذي يمكن للتكتلات الاقتصادية أن تحققه لدول الإسكوا في ظل الاتفاقية التجارية الجديدة، أوراق موجزة تم إعدادها للمؤتمر الوزاري الرابع لمنظمة التجارة العالمية بالدوحة، قطر9 - 13 نوقمبر2001، الورقة رقم11، منشورات اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا، الأمم المتحدة، نيويورك،2001، ص15.
(2) ـ استفدنا في إعداد هذه الفقرة من ملخص لورقة أعدتها الدكتورة: نعمت شفيق، الخبيرة في مكتب رئيس الاقتصاديين لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في البنك الدولي، والأستاذة المساعدة بجامعة "جورج تاون"، والورقة بعنوان: التعلم من أصحاب التجربة، دروس في التكامل الإقليمي للشرق الأوسط؛ قدمتها المعنية لمؤتمر عقد في جامعة القاهرة، عن التعاون الاقتصادي في الشرق الأوسط، والملخص على نشرة منتدى البحوث الاقتصادية للدول العربية وإيران وتركيا، ع. س، ص 8و9.(1/21)
ـ التوفيق على تحقيق المصالح الحيوية لأي دولة عضو.
كما يمكن أن يعتبر من بين الفوائد الكامنة للتكتلات ما يلي(1):
ـ بناء الثقة وحسن الجوار اللذين لا غنى عنهما للنمو الاقتصادي.
ـ توسيع نطاق التجارة والانفتاح على الخارج، مما يحقق مكاسب ويشجع المنافسة.
ـ تزايد عوائد الاستثمار وزيادة المنافسة.
ـ وجود الأسواق المتكاملة يساهم في جذب الاستثمار الأجنبي المباشر.
وتوضح التجارب أن النجاح قد تحقق للدول التي تتوفر على صناعات ذات قدرة تنافسية ولتلك التي تركّز على الأهداف الاقتصادية لتحقيق الغايات السياسية وليس العكس، كما هو الشأن بالنسبة لأغلب تجارب التكامل بين مجموعات من الدول المتخلفة، التي منيت تجاربها بالفشل ـ الإتحاد المغاربي، دول مجلس التعاون الخليجي ـ مما يعبر عن تجاهل الاستفادة من الدروس في التجارب الناجحة في مناطق أخرى الاتحاد الأوروبي مثلا؛ ويعدُّ ذلك أيضا ترجمة لفشل استراتيجيات التنمية في تلك البلدان.
أهم التكتلات الاقتصادية الراهنة: لا نستطيع القول أن التكتلات المعاصرة تجمع بين دول ذات مستوى تنمية اقتصادية من مستوى واحد، إذ يمكن أن تجمع بين دول متقدمة مثل تكتل دول الاتحاد الأوروبي، ويمكن أن تجمع بين دول متقدمة وأخرى من مستوى اقتصادي أقل مثل تجمع الدول المتفقة على إجراءات التجارة الحرة لأمريكا الشمالية، كما يمكن أن يجمع التكتل بين دول متخلفة مثل رابطة أمم جنوب شرق آسيا، أو الاتحاد الجمركي والاقتصادي لوسط إفريقيا، وأما إذا أردنا التوقف عند أهم التكتلات فيمكننا أن نذكر ما يلي:
__________
(1) ـ لمزيد من التفاصيل راجع: إدوين كوامي كاسي، م. س، ص15 -18.(1/22)
1 ـ الاتحاد الأوروبي: وهو الذي تكون من 12 دولة أوروبية غربية سنة1959 ويعدّ من أكبر التكتلات الاقتصادية والسياسية في عالمنا الراهن إذ يضم في عضويته أكثر من450 مليون نسمة وأكثر من 25 بلدا. وقد تجاوز هذا التكتل الاقتصادي مرحلة التجارة الحرة والإتحاد الجمركي والسوق المشتركة ووصل إلى مرحلة الإتحاد الاقتصادي(1)الذي يعتبر مرحلة متقدمة جدا من التكامل الاقتصادي، وقد شهد النصف الأول من سنة2004 انضمام عشرة دول جديدة للإتحاد الأوروبي(2)، ليصل عدد أعضائه إلى خمسة وعشرين دولة عضو، وهو الأمر الذي جعل الإتحاد الأوروبي أكبر كتلة تجارية على مستوى العالم من حيث السكان. ولذلك فإن القرن الواحد والعشرين سيشهد تصاعدا وتزايدا في قوة هذا التكتل ليكون من أهم التكتلات الاقتصادية التي سوف تلعب دورا رئيسيا في النظام الاقتصادي العالمي.
__________
(1) ـ تم قيام الاتحاد الأوروبي في01/01/1993 ، وفي نوفمبر من نفس السنة بدأ العمل باتفاقية"ماستريخت" بعد مصادقة برلمانات الدول الأوروبية عليها؛ وهي اتفاقية تتجاوز التعاون الاقتصادي إلى اتحاد اندماجي في شؤون الأمن والدفاع والعدل والطاقة والتشريع فضلا عن السياسات المالية والنقدية، وقد وضعت اللبنات الأولى لدستور الاتحاد الأوروبي. كان الإتحاد الأوروبي آنذاك يتشكل من 15 دولة أوروبية غربية هي: فرنسا، بريطانيا، إسبانيا، البرتغال، ايرلندا، بلجيكا، هولندا، لوكسمبورج، الدانمارك، ألمانيا، إيطاليا، اليونان، السويد، فنلندا، التمسا.
(2) ـ الدول المنضمة في 01/05/2004 هي: المجر، جمهورية التشيك، سلوفاكيا، بولندا، ليتوانيا، لاتفيا، أستونيا، سلوفينيا، مالطا، والجزء اليوناني من قبرص.(1/23)
2 ـ اتفاقية التجارة الحرة لدول أمريكا الشمالية: والمعروف بـ"النافتاN.A.F.T.A."(1)وتضم كل من المكسيك والولايات المتحدة وكندا، ومن الواضح أن هيمنة الولايات المتحدة على هذه المجموعة تشكل مصدر خوف دائم بالنسبة لكندا على سيادتها القومية، ولكن رغم ذلك فقد تحقق التفاهم بين البلدين بعد مفاوضات استمرت عامين، تم التوصل بعدها إلى إقامة منطقة تجارية حرة عام 1988.
وتتبع المجموعة تبادلا تجاريا حرًّا بين أعضائها وقيودا نسبية على الصادرات الأجنبية لها؛ وقد قدر الناتج المحلي الإجمالي لمجموع الدول الأعضاء حوالي 6770 مليار دولار عام 1991، أما حجم التجارة الخارجية فقد وصل إلى 1017 مليار دولار من نفس العام، كما وصل عدد السكان إلى 367.5 مليون نسمة،ناهيك عن القوة الاقتصادية للولايات المتحدة الأمريكية.
3 ـ منتدى التعاون الاقتصادي لدول آسيا والمحيط الهادي: والمعروف بـ" الآبك APEC"(2)ويضم هذا التجمع في عضويته 21 دولة تنتمي جغرافيا إلى أربع قارات هي أمريكا الشمالية وأمريكا الجنوبية وآسيا وأستراليا، ومن أهمها الولايات المتحدة الأمريكية، اليابان، كندا(أعضاء تكتل النافتا) وسنغافورة، إندونيسيا، تايلندا، الفلبين وبروناي (أعضاء تكتل الآسيان) الصين، استراليا، كوريا الجنوبية، تايوان،هونج كونج و يشمل 38% من إجمالي سكان العالم، ليشكل بذلك أكبر منطقة للتجارة الحرة في العالم، وتسيطر مجموع دوله على 55%من الناتج المحلي الإجمالي العالمي وهو ما يعادل 16800 مليار دولار سنويا، ومن بين أهم أهدافه دعم التنمية والتطور في المنطقة.
ومن أهم التكتلات بين الدول المتخلفة: الآسيان، السوق الجنوبية المشتركة Mercosur، منطقة الكاريبي للتجارة الحرة، جماعة الأندين، ورابطة أمريكا اللاتينية للتجارة الحرة.
__________
(1) ـ North American Free Trade Agreement
(2) ـ Asian-Pacific Economic Corporation Forum(1/24)
4 ـ رابطة دول جنوب شرق آسيا: والمعروف بـ"آسيان ASEAN" وتشكلت كحلف سياسي في1967 بين تسع دول بهدف مواجهة المد الشيوعي في جنوب شرق آسيا، ولذلك فقد تركز نشاطها في البداية على تنسيق الشؤون السياسية، ثم تحول منذ1991 نحو إقامة سوق مشتركة وتحقيق مزايا تنسيقية متكاملة، قصد تعزيز القدرات التنافسية لشركات هذه الدول بالأسواق العالمية، وقد كانت للرابطة قدرة على المساومة الجماعية؛ مما منحها وضعا مميزا في مفاوضات منظمة التجارة العالمية، وتضم في عضويتها كل من: تايلندا، سنغافورة، ماليزيا، بروناي، أندونيسا، الفلبين وفيتنام، وتعتبر الرابطة من بين أهم التكتلات التي تحقق أعلى معدلات النمو في العالم.
5 ـ السوق المشتركة للشرق والجنوب الأفريقي(تجمع دول الكوميسا): هو تجمع إقتصادى تكتلت أعضاؤه من دول شرق وجنوب شرق أفريقيا منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي على طريق الأسواق المشتركة ويضم هذا التجمع أكثر من عشرين دولة أفريقية يزيد عدد سكانه عن 359 مليون نسمة، ويقترب الناتج المحلى لأعضاء التكتل من مائة مليار دولار وتتميز دول التكتل المذكور بثرواتها الطبيعية من المعادن النفيسة والنفط ومشتقاته وغيرها من البيئات الزراعية الخصبة وتهدف الدول الأعضاء في التكتل إلى توسيع رقعة التعاون التجاري والاقتصادي فيما بينها وكذلك إنشاء مناطق للتجارة الحرة ومحاولة تحقيق التوحيد الجمركي والنقدي.(1/25)
6 ـ منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى(بافتا): وقد تم الإعلان عنها في19فيفري1997 لتضم الدول العربية الأعضاء في الجامعة العربية، ولتنشأ ابتداء من أول جانفي1998 وفقا لجدول زمني وبرنامج عمل يتم تنفيذه خلال عشر سنوات، يتضمن تخفيض الرسوم الجمركية بتدرج على مدار هذه الفترة، وذلك في إطار مسايرة العمل الاقتصادي العربي المشترك للتحولات الإقليمية والدولية(1)، وقد استقر رأي الدول العربية على تطوير اتفاقية لتسيير وتنمية التبادل التجاري بينها، لتصل عند نهاية الفترة إلى إقامة منطقة تجارة حرة عربية كبرى، وقد بلغ التخفيض من الرسوم الجمركية والرسوم والضرائب ذات الأثر المتبادل على السلع ذات المنشأ العربي ـ بنهاية سنة2002 ـ 50%من تلك التي كانت مطبقة في نهاية ديسمبر1997.(2)
__________
(1) ـ الواقع أن العمل الاقتصادي العربي المشترك، مرَّ بالعديد من المحاولات منذ1953، لم يكلل معظمها بالنجاح، بالنظر للإختلافات في السياسة والاقتصاد، نذكر من بين تلك المحاولات: ـ الاتفاقية العربية لتسهيل التجارة وتنظيم تجارة الترانزيت1953. ـ قرار إنشاء السوق العربية المشتركة1964. ـ اتفاقية الوحدة الاقتصادية العربية1957. ـ اتفاقية تسيير وتنمية التبادل التجاري بين الدول العربية1981.
(2) ـ التقرير الاقتصادي العربي الموحد، 2003، م.س، ص201.(1/26)
لقد حققت التكتلات العديد من الإنجازات سواء على مستوى التجارة البينية أو التمويل التجاري وكذلك تطوير وتسهيل الاتصالات والتعاون والتنسيق في تطبيق السياسات الاقتصادية والتجارية وتحرير الصناعة والتجارة لأكثر من نشاط، فيما بين الدول، كما وفرت أنماطا أوسع من التسهيل الائتماني ودعم العملية التنموية لأعضائها؛ وتعكس التكتلات درجة عالية من الاعتماد المتبادل، تاركة نطاقا ضيقا لعمل الدول منفردة في رسم سياساتها، وذلك في الوقت الذي تتجسد فيه العولمة بوضع مؤسساتها العالمية، التي تسمح بقيام التكتلات الاقتصادية الإقليمية، ولذلك فإنه حَرٍيٌّ بالبلدان المتخلفة أن تسعى إلى إقامة تكتلات من أجل تدعيم قوتها الاقتصادية،(1)
__________
(1) ـ وإن كنا نؤمن بأن العبرة ليست بإقامة هياكل من التكتلات والاتحادات، بقدر ما هي في الديناميكية التي يجب أن تكون عليها، وضرورة تفاعل جوانبها السياسية والاقتصادية، كما أثبتته العديد من الأمثلة الناجحة للتكتلات بين البلدان المتقدمة كالاتحاد الأوروبي مثلا، أما البلدان المتخلفة فكثيرا ما كانت العوامل السياسية العائق الحاسم في فشل تجاربها ، إتحاد البلدان المغاربية مثلا، إضافة إلى ضعف البنيان الاقتصادي، وتخوف النخب السياسية من فقدان امتيازاتها وتفردها بشعوبها، وعموما نستطيع أن نسرد فيما يلي كثيرا من محاولات التكتلات بين البلدان المتخلفة، والتي لم يصل أغلبها إلى مستوى النضج: في إفريقيا كانت محاولات: الاتحاد الجمركي الاقتصادي في إفريقيا الوسطى1964، التجمع الاقتصادي لجنوب إفريقيا1965، مجموعة دول شرق إفريقيا1967، المجموعة الاقتصادية لجنوب إفريقيا1973، مؤتمر تنسيق التنمية لدول شرق إفريقيا1980، منطقة التجارة التفضيلية لشرق وجنوب إفريقيا1981 المجموعة الاقتصادية لوسط افريقيا1983، منطقة التجارة الحرة بين الشرق والجنوب الإفريقي1994، وفي أمريكا اللاتينية وآسيا كانت أيضا المحاولات منذ الستينيات، من بينها نذكر: مجموعة أمريكا اللاتينية للتكامل1960، مجموعة التعاون لدول جنوب شرق آسيا1967، وجماعة التعاون الاقتصادي لآسيا الباسيفكية...وغيرها.(1/27)
وحتى تحصل على أكبر قدر من المكاسب في ظل التحولات العالمية المعاصرة، ولكي تضمن انتعاش التجارة البينية، وتقدم عملية التنمية وزيادة معدلات النمو فيها.
المبحث الرابع
ظهور العولمة الاقتصادية
لقد أصبحت العولمة من المفاهيم الأكثر انتشارا في كل العلوم الاجتماعية، وتكاد تكون الكلمة التي ترد في معظم الكتابات العلمية، بل أن "هناك إدعاءً بأن اقتصادا عالميا حقيقيا قد بزغ أو في طريقه للظهور، ليحل محل الاقتصاديات القومية أو المحلية، وفي ظل هذا النظام العالمي الجديد فإنه ليس من المناسب وجود اقتصاديات قومية مميزة، وبالتالي ليس من المناسب وجود استراتيجيات لإدارة الاقتصاديات القومية."(1)،إذ أنه إذا كانت الفترات السابقة تسمح بوجود نظم اقتصادية وسياسية مختلفة فان العولمة بصيغتها الحالية وتزايد أهمية أدوات النظام الرأسمالي والمؤسسات الدولية التي تروج لهذا النظام لن تسمح بوجود أنظمة مختلفة بحيث تتحول أوضاع الدول وأنظمتها السياسية والاقتصادية من الاختيار إلى القبول بالواقع الذي تطرحه التحولات المعاصرة.
__________
(1) ـ د. جمال الدين محمد المرسي / د. مصطفي محمود أبو بكر / د. طارق رشدي جبة: التفكير الاستراتيجي والإدارة الإستراتيجية، منهج تطبيقي، الدار الجامعية، الإسكندرية 2002، ص527.(1/28)
وبالرغم من أن البعض يرى "أن العولمة لا يمكن فهمها بشكل أحادي، سواء أكان ذلك من زاوية اقتصادية صرفة، أم سياسية محددة، أم اجتماعية مبتسرة، أم ثقافية حصرية"، ويستخدم لفظ "العولمات" بدل العولمة، في إشارة إلى الجوانب التي تنسب للعولمة في العادة، وإلى عمق التغير الذي شهده ويشهده عالم اليوم، مما أحدث عولمات في كل مجالات الحياة الإنسانية(1)؛ وحيث أن البعد الاقتصادي للعولمة يبرز كتحدّ رئيسي من بين تحدياتها، وذلك لما له من انعكاسات وآثار شديدة على مختلف الجوانب بالبلدان المتخلفة، فإننا سنركّز في هذا المبحث على البعد الاقتصادي للعولمة،على أن نتعرض في بدايته إلى مجموعة من المفاهيم المتعلقة بالعولمة، ثم نلقى الضوء على الأحداث والمستجدات التي دفعت بها للبروز وعجّلت من تسارعها، ثمّ نشير إلى أهم أشكالها التنظيمية والمؤسسات التي تكرّست لخدمة نظام العولمة الرأسمالي الراهن.
غير أننا يجب أن نلاحظ هنا أن اهتمامنا بالبعد الاقتصادي للعولمة لا يعني إغفالا لعمق الترابط بينه وبين أبعادها الأخرى السياسية والثقافية والاجتماعية، وهي الأبعاد التي سيتم تناولها ضمن هذا الإطار.
المطلب الأول
العولمة مفهوم وواقع
منذ ظهور مؤشرات انهيار إمبراطورية الاتحاد السوفياتي،انهمكت الدبلوماسية الأمريكية في البحث عن مذهب كبير، حيث اقترح "Anthony Lake" المدير السابق لمجلس الأمن القومي بالبيت الأبيض سياسة توسع "enlargement" تعرف بإستراتيجية تشجيع الانتشار على كافة أرجاء المعمورة لنموذج من الديمقراطية واقتصاد السوق.
__________
(1) ـ بريت أولاخ/ مايكل شيشتر: إعادة التفكير في العولمة(العولمات)، باللغة الإنجليزيةRethinking Globalizations(s)، نشر دار مايكلمان لندن2000، عرض الجزيرة نت في 04/02/2001.(1/29)
وفي هذا السياق يرى البعض أن العولمة ظاهرة حديثة ظهرت كنتيجة لما يسمى "اتفاقية واشنطن" التي صاغ بنودها العشرة الاقتصادي الأمريكي "جون وليماصن "سنة 1989 بالتعاون مع معهد الاقتصاد العالمي، وتبنتها الإدارة ومجلس الشيوخ الأمريكيين وبعض مسؤولى البنك وصندوق النقد الدوليين، وتم اختيارها بغرض تطبيقها كمرحلة أولى لإصلاح الأنظمة الاقتصادية في دول المعسكر الشيوعي سابقا(1).
__________
(1) ـ من أهم تلك المبادئ: التقيد التام بالميزانيات لقليل العجز المالي، الإصلاح الضريبي، تحرير التجارة، تشجيع الاستثمارات الأجنبية، ضمان حقوق الملكية....وما إلى ذلك، لمزيد من التفاصيل أنظر في ذلك: د.وداد أحمد كيكسو: العولمة والتنمية الاقتصادية نشأتها تأثيرها تطورها، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الأولى2002 بيروت، ص19 وما بعدها.(1/30)
وإن كان البعض يعتقد بأن لهذه الظاهرة جذور تاريخية تعود إلى منتصف القرن الثامن عشر، وهي فترة ظهور الدولة القومية الموحدة التي تعتبر التجانس الثقافي والعرقي تشكيلا لنمط محدد من الحياة البشرية، فإن البعض الآخر يعتبرها ظاهرة جديدة وليدة التطورات الاقتصادية والسياسية والتقنية السريعة التي ظهرت خلال عقد التسعينات ثم تعمقت آثارها من خلال التطورات الكبيرة التي حصلت في عالم الاتصالات؛ ويعتبر آخرون أن أولى موجات العولمة الجارية بدأت في منتصف الثمانينات و بدأت الثانية في أوائل التسعينات و يمكن اعتبارهما استمرارا لتطور ظاهرة الاندماج الاقتصادي العالمي، أما "سمير أمين" فيرى أن العولمة ليست كلمة حديثة بل كانت هناك عولمة في الماضي، فهي في رأيه كلمة تعنى كل شيء ولا تعني أي شيء، ولكن العولمة الجديدة دخلت منذ بداية الثمانينيات بظروف قاسية جدًّا( الديون ، التكيف في إطار العولمة،" الذي أفهم منه أن يكون من جميع الأطراف: الأغنياء والفقراء" ولكن المطلوب الآن هو التكيف من طرف واحد: الفقراء)(1).
والواقع أن هناك العديد من التعريفات المتعددة للعولمة، يمكن أن نذكر من بينها: تعريف "لستر ثارو"الذي يقول: « إن العولمة هي تفضيل الـ ( أنا) الاستهلاكية على الـ ( نحن) الاستثمارية» ويختصرها "صادق جلال العظم"، بقوله:« إن العولمة هي تسليع كل شيء » وهناك من يعرفها انطلاقا من تفاصيلها فيذكر أن العولمة هي اختراق للسيادة، والآخر يرى أنها تمييع الدولة الوطنية في الكيان العالمي(2)
__________
(1) ـ سمير أمين أستاذ الاقتصاد في منتدى العالم الثالث، داكار، في برنامج وراء الأحداث الذي قدم على الفضائية المصرية الأولى يوم03/04/2000.
(2) ـ عن محمود خالد المسافر: العولمة وواقع الفقير في الوطن العربي، في شؤون عربية، العدد ،107 ، م. س، ص 113و114.(1/31)
ومن هنا يمكننا القول بداية بأن الاختلاف حول مفهوم العولمة يعود في جزء منه إلى الاختلاف حول نشأتها أو النظر إلى نتائجها أو انطلاقا من رفضها أو تقبله والترويج لها(1).
لقد كان احتدام المنافسة بين الدول المتقدمة للاستحواذ على حصص أكبر في الأسواق العالمية والدعوة إلى تحرير اقتصادياتها وتخفيف قواعد الضبط"dérégulation" فيها، إضافة إلى انخفاض تكلفة الاتصال والمواصلات، من بين أهم الأسباب الرئيسية التي أدت إلى تسارع عملية التدويل والعولمة. إذ مع ازدياد المنافسة العالمية وحرية التجارة اتسعت آفاق البيئة المحيطة بالمؤسسات لتشمل البيئة الدولية أيضا، ولم تعد المنافسة محلية فقط ولم تعد الشركات الكبرى قاصرة على تلك الأمريكية والأوروبية واليابانية، بل دخلت العديد من الشركات الأخرى كالصينية والكورية و الهندية ميدان السباق.
__________
(1) ـ ولذلك نجد تعاريف مختلفة للعولمة انطلاقا من اعتبارها: ظاهرة كونية، حقبة تاريخية، مجموعة ظواهر اقتصادية، هيمنة للقيم الأمريكية، ثورة تكنولوجية،راجع في هذا، د. محي الدين محمد مسعد: ظاهرة العولمة الأوهام والحقائق، مكتبة الإشعاع، الطبعة الأولى1999، ج. م. ع، ص41-48.
وحول الإطار النظري والتاريخي للعولمة يرجى الإطلاع أيضا على:
ـ جوزيف رامز أمين: العولمة وآثارها على إفريقيا، في آفاق إفريقية، مجلة فصلية تعني بالقضايا الإفريقية، العدد14، صيف 2003، ص57-60.
ـ د. محمد صفوت قابل: الدول النامية والعولمة، الدار الجامعية الإسكندرية،2003/2004، ص15-25.(1/32)
وأدت هذه التغيرات إلى جعل العالم قرية صغيرة تتلاشى فيها المسافات جغرافيا وحضاريا خاصة مع ازدياد حركة التنقل واستخدام أجهزة الاتصالات الحديثة، مما شجَّعَ العديد من المؤسسات على زيادة نشاطها الخارجي سواء في البيع أو الشراء، ونظرا لاختلاف البيئة الدولية لجأت العديد منها إلى ما يعرف بالتحالفات الإستراتيجية مع الموردين والعملاء والمنافسين أحيانا؛ ولعل من أبرز الأمثلة على تلك التحالفات: الإستراتيجية القائمة بين الشركات الأمريكية والشركات اليابانية والتي ساعدت كل منها على دخول السوق الآخر وعلى التعاون في مجال البحوث والتطوير وتقديم المنتجات الجديدة(1).
وبذلك أصبحت العولمة من أهم العوامل المؤثرة على مستقبل الاقتصاديات، بما تتسم به من زيادة في نسبة تبادل السلع والخدمات، وتزايد في عدد الاتفاقيات التجارية الإقليمية والمتعددة الأطراف، وسرعة تحرك رؤوس الأموال، وتدويل عملية الإنتاج وارتفاع معدل التغيير التقني وسرعة تنقل التقنيات وعلى رأسها تقنيات المعلومات؛ كما أدى احتدام المنافسة أيضا إلى ظهور تحالفات وتكتلات إقليمية جديدة على غرار منطقة التجارة الحرة لأقطار أمريكا الشمالية(نافتا) والى تعزيز موقف التكتلات الموجودة على غرار الاتحاد الأوروبي(2).
إن العولمة في المفهوم البسيط تعني زوال الحدود وتحول العالم إلى كتلة واحدة، دعما لذلك التطور الهائل في الاتصالات والمعلومات، ولتتحرك السلع والخدمات بحرية وبدون معوقات. لقد تطور مفهوم العولمة عبر سنوات مروراً بانهيار الاتحاد السوفيتي إلى أن وصل ما نحن عليه الآن، حيث أصبحت القطبية الواحدة هي الحاكمة، أو أنها تسعي إلى ذلك.
__________
(1) ـ محمد صالح الحناوي/ وآخرون : مقدمة في إدارة الأعمال، الدار الجامعية1999 ، ص144.
(2) ـ عن مجلة التنمية والسياسات الاقتصادية، تصدر عن المعهد العربي للتخطيط، نصف سنوية، العدد الأول، ديسمبر1998، الكويت، ص5.(1/33)
لقد أمست العولمة أمرا واقعا في القرن الحادي والعشرين، فالمناقشة حول العولمة اليوم "ليست حول قضية قبولها أو رفضها، وإنما هي حول التعامل معها ومناقشة ما إذا كان في الوسع إدارة نتائجها لتكون في مصلحة الجميع، بعدما أدت إلي أن يكون عدد الخاسرين منها اكبر من عدد المستفيدين؛ إذ أن عدد الفقراء في تزايد حيث يعيش أكثر من نصف سكان العالم علي اقل من دولارين في اليوم، و80 % من سكان العالم لا يحصلون إلا على 20 % من إجمالي الناتج العالمي الإجمالي، وفي معظم الدول هناك انحراف في النمو لصالح الأغنياء، حيث ساهمت عوامل محلية وأخري دولية في زيادة الفقر كانتشار الأمراض المعدية والنزاعات المسلحة والمخدرات"(1).
العولمة على الصعيد الاقتصادي تظهر في سهولة انسياب السلع والخدمات وعناصر الإنتاج المتمثلة بالأفراد ورؤوس الأموال وسرعة انتشار المعلومات بدون حساب للحدود الوطنية . فالعولمة مصطلح يعبر في الحقيقة عن ظاهرة اتساع وعمق التدفقات الدولية في مجالات التجارة والمال والمعلومات في سوق عالمية متكاملة .
__________
(1) ـ الأستاذة ريما خلف مساعد الأمين العام للأمم المتحدة : ورد ذلك في مداخلتها بمؤتمر منظمة التنمية العالمية السنوي الرابع المنعقد بالقاهرة حول موضوع "العولمة والعدالة" في الفترة من 19-21 يناير 2003، أنظر في ذلك:ملفات وتقارير، http://www.egypt-facts.org ، ملف: العولمة والعدالة... صدام أم وئام؟! تمّ التصفح في 18/04/2003.(1/34)
وعلى هذا الأساس تتمثل العولمة الاقتصادية في تحليلها النهائي لأي عمليتين مرتبطتين معا بشكل وهما عملية التخطي الاقتصادي للحدود الوطنية والتخطي المعلوماتي لهذه الحدود. وهذه العمليات تقوم في أساسها ومحورها على اتساع قدرة الشركات متعددة الجنسيات وتغلغلها في الاقتصاد العالمي. وبالتوازي مع ذلك فقد أدى النمو السريع لتكنولوجيا المعلومات ووسائل الإيصال إلى سقوط الحواجز المعلوماتية بين المجتمعات إضافة إلى التوسع في تطبيق سياسات التحرر الاقتصادي وما أدى إليه قيام منظمة التجارة العالمية و مفاوضات تحرير التجارة عبر اتفاقية " الجات " من خفض الحواجز الجمركية وغير الجمركية وسهولة تدفق السلع والخدمات عبر الحدود الأمر الذي تمخض عن التفاعل والتكامل المتزايد للأنشطة الاقتصادية على المستوى العالمي والتوسع في تطبيق المعايير والأسس المشتركة للمؤسسات والأنشطة الاقتصادية والبيئية .
وإذا نظرنا إلى العولمة كواحدة من حقائق الحياة المعاصرة التي تندمج فيها أمور الثقافة والسياسة والاقتصاد وأمور أخرى وأنها تعكس حال مجتمع شديد التعقيد له تطور تكنولوجي متعدد الأبعاد ومنافسة كبيرة على الفرص المتاحة في الأسواق العالمية، أمكننا أن نستخلص أن العولمة ليست خيارا مطروحا بل هو أمر واقع ويجب التعامل معها أيا كان الموقف منها لأن تجاهلها لن ينهيها كعملية تاريخية فضلا أنها أصبحت تستوعب دولا تملك النصيب النسبي الأكبر لغالبية أنشطة الاقتصاد العالمي .(1/35)
فـ "العولمة بما تعنيه من تزايد التداخل عبر الحدود الوطنية في المسائل الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية والبيئية، وبما تعنيه من تحول في سلطات اتخاذ القرارات في بعض الأمور من النطاق القطري إلى النطاق الإقليمي أو العالمي، تفرض على دارس المستقبل ضرورة أكبر لتفهم المحيط العالمي، والإحاطة جيداً بالقوى الفاعلة فيه، والتعرف على طبيعة الالتزامات المفروضة على الدول بمقتضى اتفاقات دولية؛ حيث تشكل الأخيرة نوعاً من القيود على الحركة المتاحة لمتخذ القرار القطري. وإجمالاً، فإن العولمة تقوى من أسباب الأخذ بمنهجيات أكثر تعقيداً في استشراف المستقبل"(1). ومن هنا فإنها تفرض على البلدان المتخلفة مزيدا من التحديات والمسؤوليات لتحقيق عملية التنمية المنشودة. خصوصا وأنها لا تزل تسعى إلى تنمية اقتصادها والعثور على موقع أفضل لها على خريطة تقسيم العمل الدولي، وقد برهنت أحداث مؤتمر منظمة التجارة العالمية بسياتل الأمريكية في 30/11/1999 عن تكاتف وإمكانية توحيد جهود ومواقف حكومات البلدان المتخلفة(2)، عندما وقفت مدافعة عن حقوقها في إنجاز الطفرة الاقتصادية المنشودة، فقاومت مطالب العولمة المتعلقة بالبيئة والعمالة، باعتبارها مطالب مشبوهة تفرضها الدول المتقدمة على غيرها، بينما لم تلزم نفسها بها عندما كانت تسعى لتحقيق ما تسعى لتحقيقه البلدان المتخلفة اليوم.
المطلب الثاني
__________
(1) ـ د. إبراهيم العيسوي: الدراسات المستقبلية ومشروع مصر 2020، منتدى العالم الثالث بالقاهرة ، سبتمبر 2000، ص21.
(2) ـ طالع حول مؤتمر منظمة التجارة العالمية في سياتل: ـ تفاصيل ندوة المستقبل العربي، التي أقامها مركز دراسات الوحدة العربية يوم 5/01/2000 بالقاهرة، في مجلة المستقبل العربي رقم 256يونيو2000 الصادرة عن مركز دراسات الوحدة العربية بيروت لبنان،ص109- 142. ـ وأيضا الأهرام الدولي ليوم 24/12/1999 الصادرة عن مؤسسة الأهرام بالقاهرة.(1/36)
مؤسسات وأشكال العولمة
إن ما يلاحظ اليوم أن العولمة تدعم نفسها بمنظومة جديدة من المؤسسات الدولية والتشريعات الاقتصادية التي تقر فتح الحدود وحرية التجارة وإضعاف الحماية الجمركية وكل ما يمكن أن يسمح لدولة ما ببسط سيادتها، وكذلك باستثمار ثورة المعلومات والتقنية للسيطرة على معطيات الأحداث الاقتصادية والسياسية والثقافية وتسويقها، وقياس ردود الفعل حولها ويقف وراء كل هذا احتكارات عالمية كبيرة كالشبكات الإخبارية ووكالات الأخبار التلفزيونية الفضائية التي تمتلك استثمارات مالية ضخمة وتسعى للبحث عن أسواق إعلانية مستقرة وتتبنى اتجاهات سياسية معروفة؛ غير أن ما يهمنا في هذا الموضوع هي تلك المؤسسات القائمة على تطبيق العولمة والمتمثلة في: صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والمنظمة العالمية للتجارة ومجموعة الدول الصناعية الكبرى( 7+1) والشركات العالمية :
1 ـ صندوق النقد الدولي: الذي يشرف على إدارة النظام النقدي العالمي ويقوم بوضع سياساته وقواعده الأساسية، وذلك بالتنسيق الكامل مع البنك الدولي، سواء في تطبيق برامج الخصخصة والتكيف الهيكلي أو في إدارة القروض والفوائد والإشراف على فتح أسواق البلدان النامية أمام حركة بضائع ورؤوس أموال بلدان المراكز الصناعية.(1/37)
2 ـ البنك الدولي: ويعتبر فاعلا رئيسيا من فواعل العولمة، باعتباره المشرف على النظام المالي العالمي، والمؤسسة المالية العالمية التي تقدم قروضا طويلة الأجل لعملية التنمية، وقد استحدث البنك نوعا من القروض المشروطة بالتزام البلد المدين بإجراء التصحيحات الهيكلية ـ قروض التصحيحات الهيكلية ـ من تطبيق الخوصصة، وتحرير التجارة الخارجية، وإعادة نظر في أولويات الاستثمار وما إلى ذلك من الشوط التي قد لا تتفق وظروف البلدان المتخلفة، التي قد تواجه بالإضافة إلى مشاكلها التنموية مسائل الاختلافات التي قد تبرز"إذا لم يكن الصندوق والبنك من رأي واحد أو إذا برز خلاف كبير في الرأي بين أحدهما أوكليهما والبلد المعني فيما يتعلق بتشخيص المشكلات الاقتصادية ووضع الحلول اللازمة لها"(1).
__________
(1) ـ عزيز محمد علي: دور صندوق النقد الدولي والبنك الدولي في سياسات التصحيح والتنمية، في التصحيح والتنمية في البلدان العربية، تحرير سعيد النجار، ندوة مشتركة تحت إشراف صندوق النقد العربي وصندوق النقد الدولي، أبو ظبي 16-18 فيفري1978 ص 106.(1/38)
3 ـ منظمة التجارة العالمية : لقد أصبح تحرير التجارة العالمية من أهم التوجهات التي ظهرت في الاقتصاد العالمي منذ أواخر القرن الماضي بحيث اتجهت معظم دول العالم إلى تحرير تجارتها وفتح أسواقها تبعا للتحولات التي طرأت على النظام الاقتصادي العالمي، وتزايد هذا الاتجاه بصورة مضطردة بعد توقيع اتفاقية تأسيس منظمة التجارة العالمية سنة 1994 وانتهاء بتوقيع اتفاقيات عديدة لتحرير التجارة بين الدول والتكتلات الإقليمية والدولية، فتحرير التجارة وفتح الأسواق أصبحت عملية متسارعة تشترك فيها دول العالم لتحقيق العولمة بجميع أشكالها وبمعناها الحقيقي. وتعتبر المنظمة العالمية للتجارة هي أهم وأخطر مؤسسة من مؤسسات العولمة الاقتصادية، إذ تقوم الآن بالإشراف على إدارة النظام التجاري العالمي الهادف إلى تحرير التجارة الدولية(1)وكان يؤمل منذ إنشائها سنة1995 أن تحقق إزالة العوائق الجمركية، وتؤمن حرية السوق وتنقل البضائع في مدى زمني لا يتجاوز عام 2005 بالتنسيق المباشر وعبر دور مركزي للشركات المتعددة الجنسية، ولكن هذه الآمال تبدو لحد الآن عسيرة التحقيق أمام الصعوبات التي تواجهها المفاوضات بين الدول وفي مقدمتها تعنت مواقف الدول المتقدمة، ولإعطاء هذا الموضوع حقه نفضل تناوله ضمن محتوى المبحث الموالي بمزيد من التفاصيل.
__________
(1) ـ سيتم تناول المنظمة العالمية للتجارة بشيء من التفصيل المرتبط بموضوعنا في المبحث الموالي من هذا الفصل.(1/39)
4 ـ مجموعة الدول الصناعية الكبرى: وهي عبارة عن قمة اقتصادية وسياسية تجمع بانتظام (سنويا عادة) الرؤساء التنفيذيين للدول الأكثر تصنيعا في العالم،(1)ويجتمع قادة الدول المذكورة (طالع التهميش 1 أسفل هذه الصفحة) بهدف تبادل الآراء والأفكار حول الميدان الاقتصادي بالخصوص،(2)والتحاور حول مسائل النظام الدولي، ولتصور الاستراتيجيات المحتملة، ويتم تنظيم القمم من قبل موظفين، حيث لا تملك المجموعة مقرًّا أو هيكلا تنظيميا.
لقد أدت سياسات وبرامج التثبيت والتكيف الهيكلي التي تشرف عليها دول هذه المجموعة، ومن خلال إخضاع المؤسسات الدولية لتوجهاتها إلى نتائج أقل ما توصف به أنها تجسد تبديدا للموارد والطاقات ووقتا ضائعا في مسيرة التنمية بالبلدان المتخلفة، يمكن أن نذكر من أهمها:(3)
__________
(1) ـ وهي كندا، فرنسا، ألمانيا، إيطاليا، اليابان، بريطانيا، الولايات المتحدة، التي كانت تدعى بـ" G7" وقد تحولت المجموعة إلى ما يعرف الآن باسم بلدان مجموعة(7+1) ، أو"G8" ، بعد انضمام روسيا منتصف التسعينيات إلى الجانب الاقتصادي من أشغال المجموعة.
(2) ـ خلال الاجتماع الأخير لقمة الثمانية التي انعقدت بمدينة"بطرسبرغ" تبادل رؤساؤها الرأي حول وصول برميل البترول إلى 78 دولار آنذاك ،وخرجوا بنتيجة أن ذلك يشكل تهديدا للنمو الاقتصادي العالمي، ومن هنا ألا يحق لنا التساؤل حول مصداقية قانون السوق الذي تفرضه هذه الدول ومؤسساتها الدولية على البلدان المتخلفة؟ أم أن سوق الطاقة لا يجب أن يخضع لقوانين العرض والطلب، كالديموقراطية تماما تصبح "إرهابا وأنظمة شرٍّ" عند وصول القوى الوطنية للسلطة من خلالها "في فلسطين وإيران وبعض دول أمريكا اللاتينية"
(3) ـ نتوقف هنا فقط عند بعض الآثار التي توصلت إليها المحكمة الدولية للشعوب التي انعقدت في طوكيو1993 لمحاكمة مجموعة الدول السبع، أنظر في هذا: د. محمد علي حوات: م.س، ص117.(1/40)
أ ـ تزايد التبعية الغذائية وظروف البيئة تفاقما خطيرا على الصعيد العالمي.
ب ـ تفكك نظم الإنتاجية في العديد من البلدان.
ج ـ استمرار تضخم عبء الديون الخارجية.
د ـ تدهور النظم الصحية والتعليمية.
هـ ـ إرتفاع نسبة البطالة في العالم مع انخفاض عوائد العمل.
لا شك في أن كل هذه المشاكل تعتبر إضافات لأزمة التنمية التي تعاني منها البلدان المتخلفة، والتي لا يوجد أمامها سوى التكيف والتفاعل مع التحولات المفروضة، حتى تتمكن من تفادي سلبياتها والاستفادة أكثر من جوانبها الإيجابية على قلتها.(1/41)
5 ـ الشركات العالمية: وتتمثل في الشركات: المتعددة الجنسيات وتلك الأخرى العابرة للقارات(1)و يمثل كل منها التجسيد العملي للعولمة نظرا للدور الذي تلعبه في السيطرة على عمليات نقل التكنولوجيا ومؤسسات التمويل ومنافذ التسويق، والعمل على تحقيق أقصى الأرباح من خلال توسيع مجالات استثماراتها وأنشطتها، ولو على حساب أولويات مصالح الدول المستقبلة لأنشطتها؛ولذلك فإن الشركات العالمية تعتبر أهم فواعل العولمة وتحد بتصرفاتها من فرص البلدان المتخلفة في التنمية، ذلك أنها ـ في ظل مناخ دولي ينادي بتحرير القيود التجارية ويعلن عداوة للاحتكار ـ تحتكر إنتاج الكثير من محاصيل التصدير في الدول النامية وتتحكم في إنتاجها وفي أسعارها، بحيث تسيطر6 شركات على85%من تجارة الحبوب و8 شركات على80% من البن و7شركات على 90% من تجارة الشاي و3 شركات تسيطر على83% من تجارة الكاكاو(2)، "ولا تزال تهيمن على عالم الشركات عبر الوطنية شركات الثلاثي ـ الإتحاد الأوروبي والولايات المتحدة واليابان ـ التي هي موطن 85 شركة من الشركات عبر الوطنية المائة الرائدة في العالم في عام 2004...
__________
(1) ـ الأولىMulti- nationales هي التي تقوم بعملياتها في أكثر من دولة " تنتج وتبيع منتجاتها في عدد من الدول"، في وقت واحد وتدار استراتيجيا من المركز الرئيسي في الدولة الأم، أما العابرة للقارات Transnationales فهي أيضا تدير عملياتها في أكثر من دولة بنفس الوقت، لكنها تتخذ قراراتها لا مركزيا بالنسبة لكل فرع منها، تبعا لطبيعة السوق الذي تعمل فيه.
(2) ـ الأرقام عن مقالة: جوزيف رامز أمين: العولمة وآثارها على إفريقيا، ع.س، ص 60.(1/42)
وهناك خمسة بلدان: ألمانيا وفرنسا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة واليابان هي موطن 73 شركة من الشركات المائة الرائدة في حين أن 53 شركة منها هي من الاتحاد الأوروبي"(1)ولا ريب في أن ذلك يحرم هذه البلدان المتخلفة من بعض مقوماتها الاقتصادية وينعكس سلبا على التنمية فيها، إضافة إلى أن سلوك الشركات العالمية، فيما يتعلق بالنقل الدولي للتكنولوجيا يتصف تجاه البلدان المتخلفة بثلاث سمات أساسية(2):
1 ـ إن الشركات المتعددة الجنسيات تمتنع عن توطين الأنشطة التكنولوجية في البلاد المضيفة وخاصة في بلدان (الجنوب). فلا تزال مواقع القدرة التكنولوجية الرئيسية متمركزة بدرجة عالية في الدول الأم لهذه الشركات نفسها.
2 ـ أن أكثر الصناعات انتشارا في ميدان التكنولوجيا المنقولة هي الصناعات ذات البسيطة والتقليدية، وليس صناعات التكنولوجيا العالية.
3 ـ إن الشركات الدولية غالبا ما تعتمد على المواقع العلمية والتكنولوجية في البلدان المستضيفة للاستثمار نفسها، أكثر مما تنقل إليها قدرات إضافية.
__________
(1) ـ عن تقرير الاستثمار العالمي2006: الاستثمار الأجنبي المباشر الوارد من الاقتصادات النامية والانتقالية وآثاره على التنمية، الاستعراض العام، مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية، الأمم المتحدة، نيويورك وجنيف2006، ص9.
(2) ـ وهي السمات التي يحددها أحد المراجع المحايدة ، أنظر في هذا: العولمة وتداعياتها على الوطن العربي، سلسلة كتب المستقبل العربي، رقم24 مركز دراسات الوحدة العربية،الطبعة الأولى، يناير 2003 .بيروت لبنان، ص114.(1/43)
فإذا أراد المشرفون على إدارة مؤسسات العولمة أن تكون هذه أكثر قبولا لدى شعوب البلدان المتخلفة عليهم أن يعملوا على الحد من الدور المتعاظم للشركات المتعددة الجنسيات التي تتحول بفضل العولمة إلى شركات عابرة للقارات وكثيرا ما تؤدى قراراتها إلى تجاوز سلطات واقتصاديات تلك البلدان، بل أنها أحيانا تنزع من السلطات القرار الوطني.
إن من أبرز ما يتضح أثرًا، من العولمة هو شكلها الاقتصادي، حيث يراه البعض الأوضح على الإطلاق والأكثر قابلية للملاحظة والمتابعة والقياس(1)، إلا أنها واقعا تشمل كافة جوانب الحياة الاقتصادية والسياسية والعسكرية والثقافية والاتصالية والمعلوماتية، ولذلك فإن هناك من يرى أن للعولمة أشكال مختلفة، وبالرغم من اقتناعنا بأن كل تلك الجوانب متداخلة وما هي سوى آليات لعمليات السيطرة والاحتواء للقوى المعاصرة؛ لهذا رأينا أنه من الجدير بنا، التوقف عند معانيها المختلفة، التي يمكن أن تلعب دورا كبيرا سلبا أو إيجابا في عملية التنمية بالبلدان المتخلفة.
__________
(1) ـ ذلك ما يراه الدكتور جلال الشافعي، ويضيف حيث أن البعد الاقتصادي هو الأكثر وضوحا فإن بعض المفكرين يعرفون العولمة من منظور اقتصادي فقط، أنظر في هذا: د. جلال الشافعي: العولمة الاقتصادية، الأثر على الضرائب في مصر، كتاب الأهرام الاقتصادي، رقم 179أول نوفمبر2002، ص7.(1/44)
1) العولمة الاقتصادية: وتعني «اندماج أسواق العالم في حقول انتقال السلع والخدمات والرساميل والقوى العاملة ضمن إطار من رأسمالية حرية الأسواق بحيث تصبح هذه الأسواق سوقا واحدة كالسوق القومية»(1)فالعولمة إذا تدفع لتبني سياسات اقتصاد السوق التي تقوم على أساس تحرير التجارة وتغليب انتشار القطاع الخاص وتنفيذ برامج الخوصصة وإلغاء التخطيط الاقتصادي، فهي وفقا لهذا المفهوم تضع البلدان المتخلفة في إطار سوق عالمية تسودها منافسة غير متكافئة الأطراف، إذ لم يتوفر لهذه البلدان المكونات الأساسية لعملية العولمة، والبلدان الرأسمالية المتقدمة تتحمل مسؤولية تاريخية في هذا الوضع، بسبب الاستعمار التقليدي، ويبدو أن الاستعمار المعاصر جاء بأسلحة أكثر لباقة فقط.
من جهة أخرى يذكر تقرير التنمية البشريةلسنة2005 أن هناك 500 شخص الأكثر ثراء في عالمنا اليوم لهم من المداخيل المركبة أكثر أهمية مما يملكه416 مليون الأكثر فقرا، وإلى جانب هذا التناقض فإن 2.5 مليار شخص الذين يعيشون على أقل من 2 دولار يوميا ـ 40%من سكان العالم ـ يمثلون 5% من الدخل العالمي، وأن 10%الأكثر ثراءً والذين يعيشون تقريبا كلهم في البلدان ذات الدخل المرتفع، يعدون54% منه(2)، إذا فالظاهرة تبين أن هناك تحدي تواجهه العولمة متمثلا في تقليل نفوذ أولئك الأثرياء ومنح هؤلاء الفقراء حق الحصول على لقمة العيش.
__________
(1) ـ محمد الأطرش: حول تحديات الاتجاه نحو العولمة الاقتصادية، في المستقبل العربي، رقم260 أكتوبر2000، يصدرها مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت لبنان، ص9.
(2) ـ Rapport Mondial sur le Développement Humain2005 p4.(1/45)
2) العولمة الثقافية: كما أشرنا أعلاه، إلى أن جوانب العولمة متداخلة،فإن «إنجاح السياسة الاقتصادية للتنمية الطويلة الأمد، يفترض الإمساك بالمعايير الثقافية السائدة... ويدرك أصحاب القرار السياسي والاقتصادي أكثر فأكثر أن المشاريع الصائبة تقنيا في سياسات التنمية لا تحقق جميع أهدافها أو أنها تبقى دون فعالية تذكر. وحدها الدراسات الهادفة للبيئة الثقافية قادرة على ضمان مشاريع التنمية الاقتصادية... فهناك علاقة سبب ونتيجة بين الثقافة ومستوى التنمية الاقتصادية(1)
__________
(1) ـ قنسطنطين فون برلوفنConstantin Von Barloewen : الثقافة والريلبوليتيك ، في صحيفة العالم الدبلوماسي" الترجمة العربية للصحيفة الفرنسية لوموند ديبلوماتيك"، الترجمة العربية على الموقع:www.mondipolar.com ، تم التصفح في 15/03/2006..(1/46)
» فالثقافة إذا متداخلة مع الاقتصاد، ولا يمكن أن تتم التنمية دون الأخذ في الاعتبار المعطيات الثقافية للمجتمعات فالتقدم الهائل في تقنيات الإعلام والاتصال سمح من ناحية بنقل المعلومات والمعارف بسرعة مذهلة ولكنه في نفس الوقت أيضا سمح للأطراف الفاعلة بأن تدفع جميع البلدان الأخرى إلى اعتماد أسلوب تنمية وحداثة يؤدى في أغلب الأحيان إلى تغيير في القيم والعادات والأخلاق، بحيث باتت قيم المجتمعات والهويات الوطنية مهددة بالمسخ والتشويه مما يؤدي إلى تصدع ثقافي وصراع بين المائلين إلى الحداثة مهما كانت والأصالة وإن تَبسَطَّت، أو بين أحد هذين والجمود تمسكا بكل قديم موروث، ولذلك يحاول بعض الكتاب تفسير سيطرة الثقافة الغربية والأمريكية بالخصوص على باقي الثقافات الأخرى بما يوجد في هذه الأخيرة من عوامل سلبية، من حيث هي ثقافات مكبلة بالقيود، ذات توجهات دينية، هي ثقافة الصفوة أو القلة من رجال الدين، " ومن ثم فهي لا تلبي احتياجات الإنسان المعاصر الذي يبحث عنها في الثقافات الوافدة إليه أو الغازية لمجتمعه"، ومن وجه لآخر فإن البعض ينظر لثقافة العولمة على أنها:« فعل اغتصابي ثقافي وعدواني رمزي على سائر الثقافات ، أنها رديف الاختراق الذي يجرى بالعنف ـ المسلح بالتقانة ـ فيهدد سيادة الثقافة في سائر المجتمعات التي تبلغها عملية العولمة»(1).
__________
(1) ـ التعريف الأخير لعبد الإله بلقزيز، الوارد في بحثه" العولمة والهوية الثقافية: عولمة الثقافة أم ثقافة العولمة؟ " أنظر في هذا ولمزيد من التفاصيل حول العولمة الثقافية، والصور الأخرى للعولمة، دراسة الأستاذ عبد الجليل كاظم الوالي، بعنوان: جدلية العولمة بين الاختيار والرفض، في المستقبل العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، السنة24،العدد275 ، يناير 2002 ، ص58 ـ 79.(1/47)
3) العولمة السياسية والعسكرية:لا شك في أن النظام الدولي تغير منذ بداية التسعينيات، إذ بدأ في خضم التحولات الدولية بأحداث سياسية تؤرخ للقرن الواحد والعشرين من انهيار الاتحاد السوفياتي وسقوط جدار برلين الفصل بين الشرق والغرب فَتَفَتُُّت الكتلة الاشتراكية، ثم كانت حرب الخليج الثانية وما نتج عنها من تغيرات إستراتيجية ليس في المنطقة العربية فقط بل في العالم كله، وجاءت الحرب في البوسنة والهرسك لتكشف عن الوجه القبيح في طبيعة الإنسان، إنسان الحضارة المادية، وتبع كل ذلك بأحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 وما ترتب عنها من تداعيات خطيرة على جميع الأصعدة، وقيام تحالف دولي عسكري بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية لتحتل أفغانستان ولتضع قواتها في قلب آسيا المليئة بمصادر الطاقة، وفي 2003 قامت الولايات المتحدة باحتلال بلد عربي مؤسس للأمم المتحدة وعضو في كثير من المنظمات الدولية والعالمية، وقد تم ذلك بدعم عسكري دولي وبتأييد من بعض البلدان العربية، بدعوى امتلاك العراق لأسلحة محظورة دوليا، تبين للمجتمع الدولي الآن أنها كذبة القوى العظمى وقبل كل تلك الأحداث كانت أزمة المديونية سببا في تقليص سلطة وفاعلية كثير من الدول في مختلف القارات. وهكذا وقعت كل تلك الأحداث لتزيد أزمات البلدان المتخلفة وتعقد من حلولها، والاقتصاد والمجتمع العالمي يعاني من الآثار السلبية للعولمة الاقتصادية، وما يبرز على الواقع السياسي الدولي في وقتنا الحاضر هو أن القوة العسكرية والضغوط السياسية هي الضامن لاستمرار القوة الاقتصادية للبلدان الرأسمالية ولحرية التجارة الدولية وفقا لمصالح هذه القوى؛ التي جعلت من المنظمة العالمية للتجارة الأداة الرئيسية لتحقيق سياساتها، وحيث أن التجارة الدولية لها من الأهمية في التنمية ما لا يمكن تجاهله، رأينا تناول هذين الجانبين في المبحث الموالي.
المبحث الخامس(1/48)
التجارة الدولية والمنظمة العالمية للتجارة
لاشك في أن التجارة الدولية تؤدى دوراً أساسياً في تعزيز التنمية الاقتصادية وتخفيض حدة الفقر ولذلك فقد اتسعت بسرعة منذ الحرب العالمية الثانية في ظل إطار "بريتون وودز"(1)، وقد لعب التحرير التدريجي للنظم التجارية وترتيبات المدفوعات الخارجية دورا هاما في ذلك، وقد تزايدت الروابط التجارية العالمية بصورة ملحوظة منذ السبعينيات، والواقع أن نمو التجارة فاق باطراد نمو الناتج في كل بلد تقريبا من بلدان العالم وأثبت بدرجة ملحوظة مرونته بالارتباط بأحداث سياسية أو اقتصادية مثل استقلال بعض البلدان عن الحكم الاستعماري، أو ارتفاع أسعار النفط في السبعينيات، أو التحول من أسعار الصرف الثابتة إلى الأسعار المعوّمة في 1973 ، أو أزمة الديون في الثمانينيات التي كانت هي العقد الذي اضطلعت فيه غالبية البلدان المتخلفة بعملية تحرير تجاري كبير وأصبح التوسع التجاري أكثر عالمية، حيث بدأت آنذاك العديد من الدول المتخلفة باتخاذ إجراءات أحادية لتحرير إقتصاداتها وعلى الأخص فيما يتعلق بتحرير قطاع التجارة الخارجية وقد مثل ذلك نقلة نوعية في استراتيجيات التنمية من سياسات موجهة نحو تعويض الواردات وتقليص الاعتماد على الأسواق الخارجية والتوجه لتشجيع الصادرات، وذلك لتحقيق تسريع معدلات النمو والاندماج بالاقتصاد العالمي.
__________
(1) ـ المقصود إطار تلك الاتفاقيات التي أبرمت في22/07/1944 بين ألـ 44 دولة الأعضاء في منظمة الأمم المتحدة "ماعدا ألمانيا واليابان"، تلك الاتفاقيات التي وضعت قواعد الأنظمة النقدية الدولية والتي عمل بها حتى سنة1973.(1/49)
وهكذا فقد تخلت العديد من الدول عن القيود المفروضة على تدفق رؤوس الأموال عبر حدودها، مما ساهم في تدفق رؤوس الأموال إلي البلدان المتخلفة وزاد في حجم التجارة العالمية، "حيث ارتفعت نسبة الصادرات والواردات العالمية إلي الناتج المحلي الإجمالي العالمي من 75 في المائة في منتصف الثمانينيات إلي أكثر من 150 في المائة في نهاية التسعينيات، كذلك زادت تدفقات رأس المال الخاص من الاقتصاديات الصناعية إلي الاقتصاديات النامية بصورة مثيرة منذ منتصف الثمانينيات "(1).وهكذا فإنه مع الأخذ في الاعتبار التباطؤ الاقتصادي الذي حدث في السبعينيات في الدول الصناعية، وتراجع إيرادات الدول المتخلفة المصدرة للطاقة والمواد الخام خلال الثمانينيات، فإنه في كل البلدان تقريبا كان معدل النمو السنوي لنصيب الفرد من الناتج الحقيقي أكثر ارتفاعا خلال النصف الثاني من القرن الماضي منه خلال فترتي العمل بقاعدة الذهب وحقبة مابين الحربين العالميتين (أنظر ما ارتبط بهذه الفترة بالجدول الموالي).
الجدول رقم (2)
نمو نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في بلدان مختارة (1880-1990)
(تغير بالنسبة المئوية سنويا في المتوسط)
بلدان صناعية ... قاعدة الذهب ... فترة فيما بين الحربين ... بعد الحرب العالمية الثانية
مختارة ... 1880 – 1913 ... 19- 1938 ... 50- 1990
المانيا ... 1.9 ... .2 ... .7
ايطاليا ... 1.6 ... .9 ... .9
فرنسا ... 1.3 ... .7 ... .1
المملكة المتحدة ... 1.1 ... .1 ... .4
الولايات المتحدة ... 1.6 ... .6 ... .9
اليابان ... 1.9* ... .7 ... .0
بلدان نامية مختارة ... قاعدة الذهب ... فترة فيما بين الحربين ... بعد الحرب العالمية الثانية
1900- 1913 ... 13- 1950 ... 50- 1987
اندونيسا ... 0.5 ... .2 ... .6
البرازيل ... 1.4 ... .0 ... .0
روسيا ... 1.6 ... .3 ... .4
الصين ... 0.3 ... .3 ... .9
الهند ... 0.5 ... .3 ... .9
* (1885 – 1913).
__________
(1) ـ ام.أيهان كوزي، وآخرون: الإقدام علي العمل الحاسم دون التعرض للضرر، في التمويل والتنمية، الصادرة عن صندوق النقد الدولي، عدد ديسمبر 2004.(1/50)
المصدر: التمويل والتنميةالعدد2 ـ يونية1995، ص49.
وتعرف اتفاقية "الجات GATT" بأنها الاتفاقية العامة للتعريفات والتجارةGeneral Agreement on Tariffs and trade وهي معاهدة دولية بين عدد من الدول تضمن حقوقا والتزامات بين الأطراف المتعاقدة بهدف تحرير التجارة الدولية، وقد تم الاتفاق على توقيع اتفاقية الجات يوم 3 أكتوبر1947م، بهدف إيجاد أسواق متعددة الأطراف للتجارة وقد وقع الأتفاق23 دولة وكان من أهم أهدافه:
1 ـ العمل على رفع مستوى المعيشة والسعي نحو تحقيق التوظف الكامل.
2 ـ العمل على رفع مستوى الدخل القومي وتنشيط الطلب الفعال.
3 ـ الاستغلال الكامل للموارد الاقتصادية والتوسع في الإنتاج والمبادلات التجارية..
4 ـ تشجيع انتقال رؤوس الأموال بين الدول وما تؤدي إليه من زيادة الاستثمارات العالمية.
5 ـ الوصول الإقطاعية الأسواق ومصادر المواد الأولية.
6 ـ ضمان زيادة حجم التجارة الدولية وإزالة القيود المحلية بتخفيض القيود الكمية والجمركية.
7 ـ أتباع المفاوضات كوسيلة لحل المشكلات المتعلقة بالتجارة الدولية.
لقد أدت اتفاقية الجات دورا بارزا في مجال التنمية الدولية تجسد من خلال ما يلي:
أ ( أن الاتفاقية أعتبرت منبرا للتفاوض فيما تعلق بخفض التعريفات الجمركية وغيرها من الحوافز التجارية.
ب( كما تعتبر الاتفاقية بمثابة مجموعة من القواعد التي تحكم السياسات التجارية وسلوكها.
ج( يمكن اعتبار الاتفاقية أداة لتفسير هذه القواعد وتسوية خلافات الأعضاء.
د( تعتبر الاتفاقية أداة للتطور ووضع سياسة تجارية جديدة.(1/51)
ومنذ سنة1995 ونتيجة للتطور السريع في حركة المبادلات التجارية العالمية وكثرة الضغوط من قبل مختلف القوى الاقتصادية وبالذات من الدول المتخلفة ودول المعسكر الشرقي (سابقا) وارتباطا مع الدعوة العالمية للانفتاح وتحرير التجارة تم الانتهاء من الجولة الثامنة لمفاوضات منظمة الغات التي تمخضت عنها نشأة منظمة التجارة العالمية والتي أصبحت المسؤول عن الإشراف على وضع وتنفيذ الاتفاقيات التجارية متعددة الأطراف. وقد أدت هذه المفاوضات أساسا إلى دعم قدرة الدول على اقتحام الأسواق من خلال تخفيض شتى أنواع الحماية بالإضافة إلى إيجاد آليات لفض المنازعات التجارية بين الدول وتضمين جوانب تجارية جديدة متعلقة بالخدمات وأخرى بحقوق الملكية الفكرية.
بدأ العمل بالمسمى الجديد (منظمة التجارة الدولية ) وتغير اسم منظمة الجات إلى منظمة التجارة العالمية، منظمة التجارة العالمية (WTO)(1)، الوريث الذي جاء بعد الاتفاقية العامة للتعريفات والتجارة، وهي منظمة دولية حكومية توضع قواعدها في صلب معاهدات ملزمة تبرم بين الدول، حيث تتولى الإشراف على إدارة النظام التجاري العالمي الهادف إلى تحرير التجارة الدولية وإزالة العوائق الجمركية، وتأمين حرية السوق وتنقل البضائع في مدى زمني كان مقررا له أن لا يتجاوز عام 2005، بالتنسيق المباشر وعبر دور مركزي للشركات المتعددة الجنسية؛ ويعني ذلك أن الدول الأعضاء أصبح عليها أن تبني اقتصادها على أساس التعامل في أسواق مفتوحة مما يقلل من مساحة الحرية التي كانت الدول تتمتع بها في إقامة أسوار من الحماية الجمركية لصناعتها وزراعتها وخدماتها، وحيث أن التنافس التجاري العالمي تسيطر عليه الدول المتقدمة نظرا لما لها من قدرات في زيادة إنتاجها وتحسين جودته مع تخفيض في تكاليفه، فإن الميزة التنافسية تكون بالتأكيد لها على حساب البلدان المتخلفة.
__________
(1) ـ موقع منظمة التجارة العالمية على شبكة الإنترنت هو: www.wto.org(1/52)
لمنظمة التجارة العالمية موظفوها وينبثق من بينهم عدد من فرق العمل، وتشتمل المنظمة على ثلاث مجالس هي: أ ـ مجلس التجارة للسلع. ب ـ مجلس التجارة للخدمات.
ج ـ مجلس التجارة لحقوق الملكية الفكرية.
ويضاف إلى المجالس الثلاثة: ـ جهاز لتسوية المنازعات.
ـ نظام لمراجعة السياسات التجارية للدول الأعضاء.
وقد تضمنت اتفاقيات منظمة التجارة العالمية حول تحرير التجارة الدولية للسلع الزراعية مجموعة من الأحكام متعلقة بتخفيض القيود الجمركية من جهة وفتح الأسواق أمام الواردات من جهة أخرى.
ولكن هذه المنظمة تبقى تفتقر إلى سلطة فرض تنفيذ القرارات التي تتخذها فرق التحكيم التي تشكلها، إذ يتعين اتخاذ القرارات في هذا الشأن بتوافق الآراء بين حكومات الدول الأعضاء؛ وذلك في إطار الندوة الوزارية للمنظمة التي تنعقد مرة كل سنتين والتي تعتبر بمثابة الهيئة العليا للمنظمة العالمية للتجارة وتعكف على اتخاذ القرارات المرتبطة بالسياسات التجارية المتفق عليها في مختلف جولات المفاوضات المتعددة الأطراف.(1)
__________
(1) ـ نشير هنا أنه منذ أن حلّت المنظمة، محل الاتفاقية العامة للتعريفات والتجارة انعقد ست اجتماعات على مستوى الوزراء هي كالتوالي: 9ـ 13 ديسمبر1996 بسنغافورة، 18ـ 20 ماي1998 بجينيف"الذكرى الخمسين لتأسيس الغات"، 30ـ 3ديسمبر1999 بسياتل" دورة انتهت بالفشل "، 10ـ 14نوفمبر2001 بالدوحة ، 10ـ 14 سبتمبر2003 بكانكون13ـ 18 ديسمبر2005 بهونغ كونغ بالصين.(1/53)
إن تاريخ المنظمة العالمية للتجارة الذي بدأ سنة 1995، هو تاريخ حافل على الرغم من قصره، فقد عملت هذه الهيئة المتخصصة على تنظيم التجارة الدولية، إلى تحقيق الشمولية المطلوبة والتي تهدف إليها، على غرار منظمة الأمم المتحدة وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي، بيد أنها فشلت، فقد فشل اجتماع هذه المنظمة سنة1999 بمدينة سياتل الأمريكية بسبب الفوارق الملحوظة بين الدول الفقيرة المتخلفة والدول الغنية المتقدمة اقتصاديا وصناعيا(1)؛ ومساء الجمعة 19 نوفمبر2001م وفي الدوحة بقطر بدأت اجتماعات الدورة الرابعة لمنظمة التجارة العالمية بعد أن كانت أعمال هذا المؤتمر مهددة بنقلها إلى بلد آخر بسبب الأحداث الدامية في 11/09/2001م(2)، وقد انتهت الدورة بدورها إلى الفشل أيضا.
__________
(1) ـ عن صحيفة الجزيرة، الأحد18/11/2001 (أحمد محمد طاشكندي) سعودية تصدر على شبكة الانترنيت العدد10643 الطبعة الأولى.
(2) ـ تقع سياتل في الشمال الغربي للولايات المتحدة، وتعتبر رمزا لتألق الاقتصاد الأمريكي، حيث تضم مَقَرَّيْ شركتي بوينج ومايكروسوفت وقد أطلق على دورتها "دورة الألفية" وكان يؤمل منها تكريس مبدأ الاقتصاد الليبرالي تحت هيمنة الدول والشركات العظمى، ولكنها انتهت بالفشل في جوٍّ مشحون بالسخط وعواصف الغضب من قبل آلاف المتظاهرين من مختلف بقاع العالم وأغلبهم من الدول المتقدمة، ومشاعر إحباط حاصرت طموحات التنمية بالبلدان المتخلفة؛ وأما المؤتمر الرابع لمنظمة التجارة العالمية الذي انعقد في الدوحة بقطر بداية من نوفمبر 2001م فقد تناول وضع الدول الأقل نمواً والصعوبات الهيكلية الخاصة التي تواجهها في الاقتصاد العالمي، ومنيت هذه الدورة أيضا بالفشل بسبب تعنت الدول المتقدمة وعلى رأسها الولايات المتحدة التي رفضت التخلي عن دعمها لمزارعيها.(1/54)
لكن المنظمة تبقى رغم ذلك أهم وأخطر مؤسسة من المؤسسات الفعالة للعولمة والمجسدة للتحولات الاقتصادية على الصعيدين الدولي والعالمي.
وفي ضوء هذه السياسات والشروط (المحددة من قبل الصندوق والبنك الدوليان من جهة، ومنظمة التجارة العالمية من جهة ثانية)، أصبحت السياسة التجارية للدول المستقلة، ولأول مرة في التاريخ الاقتصادي للأمم، شأنا دوليا أو معولما، وليس عملا من أعمال السيادة الوطنية.
وهكذا وجدت الدول المتخلفة، نفسها في أوضاع تواجه فيها بيئة عالمية سريعة التغير وتحديات متعددة لا يمكن معالجتها بإجراءات تعتمد على الميدان التجاري فقط، بل يتطلب منها مواصلة العمل مع المؤسسات الدولية الأخرى لتحقيق المزيد من التماسك في صياغة سياساتها الاقتصادية، خصوصا وأن النظام التجاري المتعدد الأطراف، هو التطلع الأكثر جاذبية في دول العالم اليوم، وهو النظام الذي تتبناه منظمة التجارة العالمية.
خاتمة:
يتضح لنا مما سبق أن التحولات تضع البلدان المتخلفة ضمن إطار نظام اقتصادي عالمي لازالت بعض أركانه في طور التشكيل، التي تتضح من خلال معالم: الأحادية القطبية والثورة التكنولوجية والتكتل الاقتصادي، والتحلي بالديمقراطية والتخلي عن التخطيط، واعتماد اقتصاد السوق وحرية التبادل التجاري كما تقوم على إدارة هذا النظام منظمات عالمية وقوى سياسية محددة، والبلدان المتخلفة لا تملك إمكانية الخروج عن هذا الإطار، ولا حتى مقومات التلاؤم معه، وهو موقف يزيد صعوبة ممارسة عملية التنمية، ويُعقِّدُ من أزمتها أكثر.(1/55)
إن التحولات التي ألمت بعالمنا اليوم، أدت إلى عديد من المتغيرات شملت جميع نواحي الحياة اقتصادية، اجتماعية، تكنولوجية، سياسية، ثقافية، وتشريعية، هذه المتغيرات العالمية تتسم بأنها سريعة ولم تعد تشمل مجالات بعينها ولكنها أصبحت تتسم باتساع النطاق والمجال، ولذلك فان آثار تلك المتغيرات على التنمية عموما والتخطيط أساسا أصبحت اليوم تتبلور إما في تحقيق نتائج أفضل أو العكس.
فتزايد عدد التكتلات على الصعيد العالمي يمكن أن يطرح العديد من المصاعب أمام اقتصاديات الدول المتخلفة، فهي قد تزيد من عمليات الاندماج والاستحواذ، مما يؤثر على شكل الملكية وطبيعة ومجال نشاط الحكومات والمنظمات بالبلدان المتخلفة؛ وعليه إذا كانت الولايات المتحدة بقوتها وإمكاناتها عملت علي إيجاد تكتل إقليمي اكبر بانضمام كندا والمكسيك، بهدف تحقيق مصالح أفضل، وإذا كان ذلك حال دول الاتحاد الأوربي، فإننا نجد حينئذٍ أن منطق الأمور يفرض علي الدول الصغيرة والضعيفة حتمية التكتل، ذلك أن ربط المصالح دائماً هو أفضل الوسائل لحمايتها وتنميتها وتطويرها كما هو المطلوب من الدول المتخلفة.
لذلك كان لابد أن تتلاءم البلدان المتخلفة مع هذه التحولات التي طرحت المزيد من التحديات أمام تحقيق عملية التنمية، وأن تتبنى خطوات إصلاحية بهدف خلق البيئة المناسبة لتحقيق آمال شعوبها، وبما يمكنها من التلاؤم مع متطلبات الاقتصاد العالمي، أما إذا بقيت هذه البلدان تواجه هذه التحديات التي أفرزتها التطورات الاقتصادية العالمية، بصفة منفردة، ودون استخدام مبتكرات العلم والتكنولوجيا فإنها ستبقى عاجزة عن تحقيق التنمية التي تنشدها شعوبها، بل سيتعمق تأخرها أكثر مما هي عليه، وحتى نتعرف على انعكاسات بعض التحولات الجارية على البلدان المتخلفة، خصصنا لهذا الفصل الموالى.(1/56)
الفصل الرابع
انعكاسات التحولات الاقتصادية العالمية
على
البلدان المتخلفة
تمهيد:
لاشك وأن السياسات والأساليب الإنمائية، في أي بلد كان، لا تجري في الفراغ، بل هي تستلهم، علناً أو ضمناً، من الأجواء الدولية والإقليمية الاقتصادية والمالية السائدة والمهيمنة، وهو الأمر الذي يجعل الدول المتخلفة تتأثر أكثر من غيرها بالتيارات والمفاهيم السائدة في الساحة الدولية.
كما أن فشل الأنظمة الاقتصادية القائمة وعدم صلاحية سياساتها الاقتصادية في تحقيق التنمية فرض ضرورة تغييرها، فالتركيب الهيكلي لأغلب الاقتصاديات بالبلدان المتخلفة لم يكن يساعد على النمو الاقتصادي والاجتماعي المستمر كما حمل بداخله عوامل الركود، وهكذا واجهت الدول المتخلفة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي والمعسكر الاشتراكي وتوحيد العالم بإطار السوق ، واقعاً جديداً يتميز بأن النظام الاقتصادي السابق لم يتمكن من تحقيق ما كان مأمولاً منه تحقيقاً كاملاً، وأصبح على الدول المتخلفة أن تندمج باقتصاد السوق.
ولكن هل أن اقتصاد السوق الليبرالي بخطوطه العامة المعروفة اليوم، بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، وكما تدعو لها وسائل الإعلام والجامعات والشركات الاستشارية ومراكز البحوث، وكما تروج لها، بل وتنطق باسمها المؤسسات الليبرالية الكبرى في العالم مثل البنك الدولي وصندوق النقد ومنظمة التجارة العالمية، يقدم حلولا نهائية لفشل تلك الأنظمة ؟ أم يمثل مجرد موجة من التيارات السياسية والاقتصادية التي تعصف بالدول المتخلفة كنتيجة للتحولات العالمية.(1/1)
تتباين الآراء حول الآثار المتوقعة مستقبلا، للتحولات الاقتصادية العالمية على البلدان المتخلفة، إذ هناك من المتفائلين من يرى مثلا أن تحرير التجارة بين الدول المتقدمة وتلك المتخلفة سيكون له من الآثار الإيجابية ما يساعد على تنشيط الاستثمار وتحديث أساليب الإنتاج من خلال استخدام التكنولوجيا الحديثة مما يمّكّن الدول المتخلفة من منافسة منتجات الدول المتقدمة؛ في حين أن المتشائمين يرون في نفس الموضوع أن ذلك سيجعل من تلك الأخيرة مجرّد سوق لمنتجات الدول المتقدمة، كما أن الخضوع لإتباع المعايير والمواصفات الدولية سيضعف القدرات التنافسية للدول المتخلفة ويقيّد حركتها التجارية.(1)
ولكننا نرى أن التحولات العالمية المتعاقبة إلى جانب ما تحمله من مخاطر شديدة وتحديات كبرى خاصة على البلدان المتخلفة، فإنها تحمل أيضاً كثيراً من الفرص وحوافز الصحوة والنهوض لمن يمتلكون الإرادة، إذ لا يمكن الجزع والهلع من المخاطر فقط دون استنفار الطاقات والنظر إلى فرص النهوض التي يمكن تتوفر في إطار هذه التحولات، فالأزمة يجب أن تكون خَلاَّقةً للهِمَّةِ.
__________
(1) 1 ـ حول أهم التكتلات الاقتصادية العالمية، وانعكاساتها علي الوطن العربي، والمحاولات العربية لإقامة التكتلات، راجع:
ـ أ ـ معلومات دولية، مجلة فصلية تصدر عن مركز المعلومات القومي في الجمهورية العربية السورية، العدد64، ربيع2000، الملف من ص4 إلى ص128.
ـ ب ـ وصاف سعيدي: أثر تنمية الصادرات غير النفطية علي النمو الاقتصادي في البلدان النامية، الحوافز والعوائق ـ فيما يتعلق بانعكاسات التكتلات على عينة من الدول المتخلفة( تونس والجزائر والسعودية) ـ أطروحة دكتوراه دولة في العلوم الاقتصادية، كلية العلوم الاقتصادية وعلوم التسيير، جامعة الجزائر، جوان 2003، ص249 وما بعدها.(1/2)
لإيضاح كل هذا قمنا بتقسيم هذا الفصل إلى أربعة مباحث لنتناول في أولها تلك الموجة التي عمت أغلب البلدان المتخلفة لتأخذ بها نحو "التحرر من سلطة الدولة" والانفتاح على الأسواق، والميل للعمل بقوانين السوق الرأسمالية، ونسوق آراء كل من المؤيدين والمعارضين لذلك التحول؛ وضمن محتويات المبحث الثاني نتعرف على انعكاسات الأزمة على البلدان المتخلفة، وما أدت إليه من تحول في مفهوم التنمية، كما يبدو من وجهة نظر البعض الذين اجتهدوا في محاولات إيجاد حلول لأزمة النظام الرأسمالي وأزمة التنمية مما أفرز اتجاها جديدا في التنظير للتنمية، وهذا ما سنتناوله بالمبحث الثالث لنتوقف عند دور المؤسسات الدولية في التنمية، ثم عند أهم المفاهيم التي تسوقها؛ وأما في المبحث الأخير من هذا الفصل فقد رأينا أن نقف من خلاله على أهم آثار التحولات على التنمية والتخطيط بالبلدان المتخلفة، وأساسا عند آثار العولمة الاقتصادية ومعالمها المختلفة،إضافة إلى آثار سياسات تحرير التجارة، وننهي الفصل بخاتمة ضمّناها خلاصة بأهم الأفكار وبما تم التوصل إليه من استنتاجات.
المبحث الأول
موجة الانفتاح والتحول إلى اقتصاد السوق
قد بدأت موجة الانفتاح والتحول نحو اقتصاد السوق الليبرالي بالصعود منذ مطلع الثمانينيات وتسارعت بعد سقوط الاتحاد السوفيتي والمعسكر الاشتراكي، ذلك التحول الذي يقوم على انفتاح الأسواق وحرية انتقال السلع والخدمات ورأس المال ومنح القطاع الخاص والمبادرة الفردية الدور القيادي في الاستثمار وعملية التنمية، وبالمقابل تراجع دور الدولة الاقتصادي والاجتماعي وتقليص وحتى إلغاء تدخلها في مسألة توزيع الناتج وترك مساحة واسعة لآلية العرض والطلب، وتحديد نطاق دورها ضمن النطاق الليبرالي التقليدي أي وضع الإطار التشريعي والتنظيمي وضمان عمل آليات السوق بحرية وضمان المنافسة ولعب دور الحكم.(1/3)
فالبعض يعتقد أن "التوجه نحو اقتصاد السوق الحر والتكيف معه هو سبيل الخروج من الركود الاقتصادي وتحقيق النمو، وأن الانفتاح التجاري والاستثماري وثورة الاتصالات قد خلقا فرصاً للقادرين على المنافسة وهددا غير القادرين بالتهميش وهذا ينطبق على الدول والشركات والأفراد"(1).
في حين يعتقد البعض الآخر أن اقتصاد السوق الحر لا يخلق التنمية وان سياسات العولمة مزدوجة المعايير وتسلب البلدان المتخلفة سيادتها على مصادرها الطبيعية وان برامج إعادة الهيكلة والخصخصة تؤدي لتدهور أوضاع الفئات المتوسطة والفقيرة وتوزيع الثروة لصالح الفئات الغنية، وانسحاب الدولة يحرم فئات واسعة من الشعب من التعليم والصحة(2)
لهذا يبدو لنا من الأفضل استعراض آراء كل من المنادين المناصرين والمعارضين للتحول نحو اقتصاد السوق فيما يلي:
المطلب الأول
آراء المؤيدين للتحول نحو اقتصاد السوق
إن الذين يرفعون راية التحرر والتحول إلى اقتصاد السوق يسوقون مجموعة مبررات من بينها:
__________
(1) ـ طالع مقال الدكتور نبيل سكر (الاقتصاد الجديد) المنشور في جريدة تشرين السورية، 28حزيران2003، http://www.teshreen.com
(2) ـ مقالين للدكتور منير الحمش (احد أفراد العولمة يدعو إلى الاقتصاد الجديد) جريدة تشرين 28 تموز، 2003 (ضد اقتصاد السوق لماذا) في نفس الجريدة 23 تموز 2003،(1/4)
1 ـ ضرورة البحث عن بديل، بسبب عجز النمط الاقتصادي الذي اتبعته معظم البلدان المتخلفة خلال العقود السابقة، والذي يقوم على التدخل الواسع للدولة وتقليص دور القطاع الخاص والتضييق على المبادرة الفردية وتعطيل جزئي لآليات اقتصاد السوق ومؤسساته على امتداد فترات طويلة من الزمن، وعجزه عن تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية، خصوصا وأن البعض يرى " أن اقتصاد السوق قد انتصر على اقتصاد الأوامر في المباراة الاقتصادية للإنتاجية والتحديث، وأثمرت عولمة اقتصاد السوق وظائف أفضل وأعلى إنتاجية، وأسهمت في تقليل الفقر العالمي"(1).
2 ـ لقد أوضحت التجربة وأثبتت أن البلدان التي نجحت في تحقيق التنمية هي تلك الي اعتمدت على قوى السوق والقطاع الخاص وحدَّت من سيطرة وحجم القطاع العام، ومن تلك الدول كوريا الجنوبية وماليزيا وسنغافورة(2).
__________
(1) ـ طه عبد العليم، مستشار مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية بالأهرام، التقرير الإستراتيجي العربي: (3) الاقتصاد المصري في عصر العولمة : رؤية إستراتيجية، مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية، تقرير 2004/2005، مؤسسة الأهرام القاهرة مصر، 10 يوليه 2005.
(2) ـ أ.د سعد طه علام: التنمية ...والدولة، دار طيبة للنشر والتوزيع والتجهيزات العلمية، القاهرة 2003، ص38.(1/5)
3 ـ أن المناخ السياسي العالمي الذي أنتج نموذج التنمية السابق قد تغير كليا، وأصبح من غير الممكن أن يستمر هذا النظام في مناخ يفتقد لشروط استمراره، وقد "حلت اقتصاديات السوق محل اقتصاديات الأوامر والتوجيه في معظم البلاد، وهناك احتمال ضئيل ـ مع بداية القرن الحادي والعشرين ـ في أن يحل محلها( أي اقتصاديات السوق) نمط آخر في النظم الاقتصادية(1)
4 ـ سيادة نظام اقتصاد السوق الحر وتوسع رقعته العالمية يجعلانه واقعا لا يمكن التصادم معه لكون هذا التصادم يخلق من النتائج السلبية أكثر مما يخلق من الفوائد خاصة وان القوى المسيطرة عالميا تنهج هذا النهج، ولا يوجد توجه عالمي آخر مختلف يتيح أية بدائل أخرى.
5 ـ أن اقتصاد السوق يحمل بدائل ويتيح خيارات ويخلق إمكانيات تحقيق التنمية، كما يسمح بالاستفادة الواسعة من الظروف الدولية الجديدة، إذا تمكّنا من دراسة أوضاعنا وتعرّفنا إلى قدراتنا وأحسنا إدارتها.
6 ـ أن السوق هو الوسيلة الطبيعية لتحديد الأرباح والفوائد التي يتوقعها المتعاملون في السوق منتجين أو مستهلكين، مقابل تصرفاتهم دون الحاجة إلى تدخل أو توجيه من أي جهة خاصة الدولة.
المطلب الثاني
آراء المعارضين للتحول نحو اقتصاد السوق
__________
(1) ـ فريديريك سي. تيرنر Frederick C.Turner، الأدوار المتغيرة للدولة : المقياس والفرص والمشكلات، في المجلة الدولية للعلوم الاجتماعية، العدد163 مارس2000، مجلة ربع سنوية تصدر عن اليونسكو، النسخة العربية صادرة عن مركز مطبوعات اليونسكو بالقاهرة ، ص19ـ 20.(1/6)
لا نختلف في الاعتراف بضرورة الإصلاحات الهيكلية في اقتصاديات البلدان المتخلفة، وبما يمكن أن ينعكس نتيجة لها من مكاسب فعلية أو احتمالية، غير أن الواقع والتجارب تفرض علينا إبداء بعض الملاحظات التي يعمل وفقا لها اقتصاد السوق من قيم وآليات ونتائج أداءٍ، خصوصا وأن اعتماد اقتصاد السوق تم في معظم البلدان المتخلفة تقريبا دون اهتمام أو/ واختيار واع تحت ضغط الظروف المحلية والتحولات العالمية.
ينقل عن الفكر الكلاسيكي "أن ما هو مفيد أو ملائم للفرد هو مفيد أو ملائم للمجتمع" غير أن الواقع يثبت أن اقتصاد السوق يخضع بالدرجة الأولى على الأقل لحوافز وأفضليات وقرارات المنظمين الذين يسيطر عليهم حافز الربح، ولذلك فإن الإنتاج يخضع إلى حدٍّ كبير إلى الطلب الفعال في السوق، داخليا وخارجيا، وعليه فإنه ليس هناك من ضمان بأن قوى السوق يمكن أن تميل لمنح أولوية لمصالح جموع الشعوب بالبلدان المتخلفة أو لحماية قوّتها الشرائية، حيث لا تحظى هنا إلا بوزن ضئيل عند وضع وتنفيذ برامج الإنتاج وفي حساب الموازين الاقتصادية.
يمكننا الوقوف عند بعض الآراء التي يسوقها أولئك الذين يقفون في مواجهة التحول نحو اقتصاد السوق من خلال استعراض أهمها في ما يلي:
1 ـ أن آلية السوق في تخصيص الموارد بكفاءة يتطلب درجة عالية من المرونة في الاستجابة لمؤشرات الأسعار، إذ أنه حتى مع التغير المناسب في الأسعار فإن المنتجين يجدون حافزا في تعديل إنتاجهم، وهو ما يؤدى إلى هدر للموارد، مما يستلزم تدخلا لمواجهة تقلبات الأسعار.
2 ـ أن اقتصاد السوق يطرح في مرحلة التحول مهاما صعبة أمام الدولة، إذ لا يجب أن نتوقع بعد مسيرة طويلة من القيود المفروضة على القطاع الخاص وممارسات تقييد التجارة ـ في أغلب الدول المتخلفة ـ أن تتحقق فجأة سوقا تعمل وفقا لآليات النمط النظري لاقتصاد السوق.(1/7)
3 ـ أن "نظام السوق يركز على خوصصة المؤسسات العامة وتحويلها إلى وتحويلها إلى شركات خاصة، بقصد فتح المجال أمام الاستثمارات الأجنبية وتوسيعها لكي تكون مدخلا لتشويه وإضعاف قدرة الدول على السيطرة على قدرات اقتصادها القومي"(1)
4 ـ أن نظام السوق يؤدى إلى سوء توزيع كبير في الثروات والمداخيل على المستوى الوطني وعلى المستوى العالمي، والواقع أن لهذا التفاوت آثار اقتصادية وسياسية، إذ وكما يذكر "داهل"Dahl (فأن اقتصاديات السوق تؤدى إلى«التفاوت في الموارد الاجتماعية » حتى ليصبح المواطنون ـ في الحقيقة ـ غير متساوين سياسيا ـ وهذا ـ بجانب افتقاد الاهتمام بالسياسة فيما بين الشباب، وأيضا المستويات المنخفضة من الثقة في المؤسسات السياسية والاجتماعية في كثير من الدول... وهكذا فإن إيجاد السبل لتحقيق أقصى درجة من المساواة الاجتماعية والسياسية، مع عدم فقد أو تقليل بدرجة خطيرة إتجاهات خلق الثروة التي يحدثها اقتصاد السوق، يعتبر في الحقيقة واحدا من أكبر التحديات الأساسية في العقود القادمة)(2)
5 ـ أن أغلب البلدان المتخلفة تعانى من ضعف وخلل أجهزتها المصرفية، وهو الأمر الذي يتطلب تغيير الذهنيات قبل تغيير الهياكل، وهذا أمر إنساني لن يتم دون قلاقل اجتماعية والبلدان المتخلفة ليست في حاجة لإثارتها.
6 ـ أنه من الخطأ الركون إلى آليات السوق بمفردها دون تدخل الدولة، لأن تلك الآليات لا تخلو من جوانب القصور في توجيه النشاط الاقتصادي، مما قد يدفعه في اتجاهات لا تتلاءم والمصلحة العامة.
__________
(1) ـ د. عبد الفتاح علي الرشدان: العولمة واتجاهات سيادة الدولة القطرية في الوطن العربي، في مجلة شؤون عربية، الصادرة عن الأمانة العامة لجامعة الدول العربية، القاهرة، العدد107، سبتمبر2001،ص77.
(2) ـ عن: فريديريك سي. تيرنر Frederick C.Turner، الأدوار المتغيرة للدولة : المقياس والفرص والمشكلات، ع.س ، ص20.(1/8)
7 ـ أن القول بأن المصالح الخاصة تقود إلى المصالح العامة هو أمر يفتقر إلى الدقة، فالمصالح العامة لا تتوافق في كل الحالات مع تلك الخاصة.
8 ـ يؤكد بعض هذه الآراء على "أن السوق الطليق غير قادر على إنجاز تنمية حق في البلدان المتخلفة، خاصة، في منظور التنمية البشرية، بل أن إطلاق قوى السوق دون رادع، مع تخلي الدولة عن مهامها الجوهرية في التنمية، لابد سيؤدى إلى تفاقم التخلف وتدهور الرفاه الإنساني في غالبية بلدان العالم الثالث"(1).
9 ـ أن الأشكال المرتبطة بـ(اقتصاد السوق) وفقاً للوصفة (الليبرالية الجديدة)، أي الاقتصاد المُدار ذاتياً، من دون تدخل الدولة، ليس له أي رصيد في الواقع(2).
10 ـ "من الانتقادات التي توجه لتحرير التجارة والتحول لاقتصاد السوق، أن التركيز والاهتمام ينصب على جانب التجارة في المقام الأول قبل التنمية والتي يجب أن يوجه لها الاهتمام ...وتَعَّمُدَ عدم التمييز بين أثر تحرير التجارة الدولية والاستثمارات الأجنبية في رفع معدل النمو، وأثره في تغيير هيكل الإنتاج القومي، إذ من الممكن جدًّا أن يكون أثر هذا التحرير إيجابيا فيما يتعلق بمعدل النمو وسلبيا فيما يتعلق بالتنمية...لأن الزيادة الحاصلة في نمو الناتج القومي إثر تحرير التجارة قد تكون مؤقتة ولا تؤدى إلى تغيير الهيكل الإنتاجي"(3).
__________
(1) ـ د .نادر فرجاني : آثار إعادة الهيكلة الرأسمالية على البشر في البلدان العربية ، مركز المشكاة للبحث مصر، أغسطس1989 www. Almishkat.org.
(2) ـ د. مجيد مسعود www.an-nour.com تم التصفح في 16/10/2006.
(3) ـ د. محمد صفوت قابل: م. س ، ص77-78.(1/9)
يجب أن نشير إلى أنه ليس من السهولة تجاهل تلك المشكلات المرتبطة بالتحول من الاقتصاد المخطط إلى اقتصاد السوق، حيث يتطلب أداء اقتصاد السوق بصورة فاعلة توفر بعض الشروط الأساسية، فالتحول إلى اقتصاد السوق لا يمكن أن يقدم جميع الحلول ولجميع المشكلات التي تواجه تحقيق التنمية، إذا لم يتم توفير الحد الأدنى الضروري من الشروط المؤسساتية والقانونية والتي نادرا ما تكون متوفرة في كثير من البلدان المتخلفة، ومن أهمها:
أ ـ وجود نظام كفء للخدمة العمومية لا يعاني من الفساد.
ب ـ توفر الثقة والأمان والكفاءة بالجهاز المصرفي الوطني وبالعملة المحلية.
ج ـ سيادة القانون في المجتمع لضمان تنفيذ العقود ولحماية حقوق الأفراد والمؤسسات.
د ـ حرية الحصول على المعلومات الضرورية لإقامة المشروعات.
لذلك يمكننا القول أن إخضاع عملية التنمية لآليات السوق بمفردها يتعارض وواقع الأحوال الاقتصادية والاجتماعية والسياسية بالبلدان المتخلفة، بل ويتناقض حتى مع آراء التجديد التي يحاول أنصار النظام الرأسمالي بعثها فيه، فالمضارب والمستثمر الأمريكي "جورج سوروس Georges Soros" يقول: "إذا أردنا للنظام أن ينجو من مشكلاته الكثيرة، علينا أن نؤمن بالخطيئة، أي بقابليتنا والسوق والمبادئ الرأسمالية على الخطأ أيضا، ثم يقول علينا أن نترك وإلى الأبد فكرة عظمة السوق، فالسوق ليس المكان المثالي للعلاقات بين البائع والمشتري، وإنما تحكمه وتقرره جملة من أمور كثيرة غير ذات علاقة مباشرة بالسعر والكلفة والعرض والطلب"(1)، ثم يؤكد على أن " تعميم آليات السوق على جميع الميادين يُعَدُّ، بكل تأكيد تدميرا للمجتمع" ويقول أيضا " إذا ما أعطيت لقوى السوق سلطة تامة، لاسيما في الميادين الاقتصادية والمالية البحتة سينتج عن ذلك فوضى قد تقود في النهاية إلى انهيار النظام الرأسمالي العالمي"(2).
المبحث الثاني
__________
(1) ـ عن: محمود خالد المسافر، م. س، ص67.
(2) ـ م. ن، ص79.(1/10)
انعكاسات الأزمة على البلدان المتخلفة
إن التحديات التي تواجه الدول المتخلفة اليوم هي أيضا متشابهة،كما كانت في الماضي حيث عانت معظم هذه الدول من الصراعات وعدم الاستقرار بشكل مباشر بسبب الاستعمار، أما اليوم فكان لا بد لمجرى الأزمة الاقتصادية العالمية أن يشق طريقه في صلب اقتصاديات البلدان المتخلفة ليفرز مزيدا من التراجع في الاقتصاد والتنمية، بحيث كان من آثار الأزمة والتحولات الاقتصادية العالمية أن تم تكييف وإعادة هيكلة معظم البلدان المتخلفة وفق شروط النظام الرأسمالي، بحيث أصبحت أوضاعها الداخلية كلها رهينة للصندوق والبنك الدوليين ومنظمة التجارة العالمية وشروطها السياسية والاقتصادية.
إن الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الخطيرة للتحولات المعاصرة غنية عن التعريف بحيث لا يمكن التهوين من شأنها والقول بأنها نتيجة مؤقتة لسياسات تدبير أزمة التنمية في البلدان المتخلفة منذ بداية عقد الثمانينات كما تحاول أن تقنعنا بذلك المؤسسات المالية الدولية، أو على اعتبار أن العالم كله يعاني من مشكلة تنموية، وأننا لا نمثل استثناءً في هذا الخصوص؛ فرغم توفر جذور عميقة لأزمة التنمية في الاقتصاد العالمي، إلا أن هناك عوامل جديدة ساهمت في تفاقمها في معظم البلدان المتخلفة خلال السنوات الأخيرة، وأهم هذه العوامل:(1/11)
1 ـ تفاقم المديونية الداخلية والخارجية، وعجز الموارد المتاحة عن الوفاء بهذه الالتزامات؛ كما أن "مشكلة المديونية هذه لا تكمن في الاقتطاعات المتزايدة من الموارد لسداد أقساط الدين وخدمته فحسب ولكن تكمن في البرامج التي تفرضها المؤسسات المالية الدولية، وما ينجم عنها من إجراءات مثل برامج التكييف الهيكلي بما يتضمن ذلك من شروط وقيود تؤدى إلى تقليص دور الدولة الاقتصادي وإرخاء قبضتها على الاقتصاد وفتح أسواقها للتجارة الخارجية والسلع المستوردة وسحب الدعم المقدم للفقراء وبيع المؤسسات العامة، ولذلك فإن الديون حتى في حالات تسديدها تشكل عبئا معرقلا لتحقيق التنمية فـ "لستر ثارو" يرى أنها إذا ما سددت ستعني أن الموارد الحقيقية اللازمة للاستثمار محليا سترسل إلى الخارج، وأما إذا لم تسدد، فلن يقبل مستثمرون جدد لاحتمالهم عدم إمكانية إعادة تحويل الأرباح أو رأس المال(1).
وهو ما يشكل هدفا رئيسيا للعولمة، لأنه يؤدى إلى إعادة هيكلة الإنتاج على الصعيد العالمي وخاصة في مجال الخدمات العامة ومشروعات البنية التحتية، ومن الجدير بالذكر أن معظم المشروعات المطروحة للبيع للقطاع الخاص لا تجد المستثمرين المحليين القادرين على إدارتها وتطويرها مثل قطاع الاتصالات والطاقة والنقل، وبالتالي فإن رأس المال الأجنبي هو الذي سيكون قادرا على الاستثمار في هذه المشروعات"(2)،ومعني ذلك عدم قدرة الدول في ظل هذا الوضع على القيام بدور تنموي ديناميكي من شأنه ضمان استخدام كامل وأمثل للموارد.
__________
(1) ـ لستر ثارو: م. س ، ص115.
(2) ـ د. عبد الفتاح علي الرشدان، في مجلة شؤون عربية، العدد107، م.س، ص 83-84.(1/12)
2 ـ الطبيعة الانكماشية لبرنامج التثبيت والتقويم الهيكلي التي فرضت على أغلب البلدان المتخلفة ـ في إطار تدبير الأزمة ـ من قبل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومن ورائهما مجموع الدائنين ابتداء من سنوات السبعينيات، وقد كان من بين النتائج المباشرة لذلك: التراجع الحاد في مستوى التشغيل سواء في القطاع العمومي أو الخاص، وحركة تحول جذري في طبيعة الشكل الإنتاجي المسيطر الذي تقوده الدولة، وقد تمثل ذلك التحول في تغيّر الوزن النسبي للإدارة العمومية والقطاع العام والاستثمار العمومي، لصالح القطاع الخاص الوطني والأجنبي المرتكز إلى قواعد الربح وآليات السوق، والذي بدأت سيطرته تتوسع إلى سائر التشكيلات الاجتماعية الأخرى إنتاجا وتشغيلا منذ بداية الثمانينيات من القرن العشرين(1).
__________
(1) ـ نقرأ من خلال تجارب مؤسستي الصندوق والبنك العالميين مع كثير من البلدان المتخلفة وفي جميع القارات ما يمكن إيجازه في الآتي ذكره: أن المؤسستين تمنح تلك البلدان قروضا هامة في إطار برامج التعديل الهيكلي، ولكن ضمن شروط: تخفيض دعم المواد الأساسية والتعليم والصحة خوصصة أو تصفية المؤسسات الوطنية تحرير التجارة بإنهاء تعريفات الحماية؛ إنهاء القيود المرتبطة بتمليك الأجانب لرأس المال والأراضي؛ تخفيض قيمة العملة المحلية؛ تنمية الصادرات تعديل المنظومة القانونية، وقد أدت تلك الإجراءات عبر العديد من البلدان بالقارات المختلفة إلى اضطرابات اجتماعية وحالات للطوارئ السياسية وأحداث مأسوية، مما جسِّد رفضا لتلك السياسات ويعبِّر في رأينا عن عدم جدواها؛ ويمكن أن نستعرض من بين أمثلة تلك الاضطرابات والأحداث ما يلي:
في سنة 1985 وقعت الأحداث في كل من بوليفيا وجامايكا وزائير التي سقط فيها العديد مواجهة لرفضهم تعديل نظام التعليم، سنة 1986في نيجيريا، 1987 أحداث في كل من زامبيا وسيراليون، وفي سنة 1988 في كل من غانا والجزائر التي سقط خلال أحداثها أكثر من 200 شخص تعبيرا عن رفضهم للاحتقار والبطالة ورفع الأسعار، وتجمع في برلين أكثر من000 20 متظاهر رفضا لاجتماع للمؤسستين؛ 1989 في بينين والأردن وفنزويلا؛ 1990 أحداث في المغرب سقوط 33 متظاهر يطالبون برفع الحد الأدنى للأجر وإيقاف العمل بإجراءات التعديل الهيكلي التي شرع فيها منذ1983 ؛1991في نيجيريا ،وفنزويلا سنة1992 ، وفي روسيا سنة 1993 وعندما رفض البرلمانيون المصادقة على برنامج التعديل الهيكلي قصفهم الرئيس" إلتسين" بالدبابات الذي منيت حكومته بالفشل في الانتخابات الموالية لتلك الأحداث والتي فازت فيها بالأغلبية الأحزاب المناهضة لتلك البرامج ؛ وهكذا توالت الاضطرابات على امتداد سنوات التسعينيات في كل من المكسيك والغابون وكوريا الجنوبية وتايلندا وزيمبابوي ورومانيا وحتى ألمانيا؛ وشهدت بداية الألفية الجديدة بداية للانتفاضات الشعبية من الإكوادور التي غزا فيها الأهالي والفلاحين خلال جانفي العاصمة واستولوا على السلطة سلميا لبعض الساعات رفضا لتطبيق توصيات صندوق النقد الدولي التي أدت إلى انهيار مالي وتوالت الأحداث بعدها في بلدان عديدة من بوليفيا والصين وإفريقيا الجنوبية وحتى إلى اندونيسيا، فهل يمكن أن نتساءل عن إمكانية تحقيق التنمية ضمن هذا المحيط العالمي المضطرب، والمحلي الذي لا يتمتع بالسيادة والاستقرار؟(1/13)
3 ـ مساهمة الصدمات الخارجية والعوامل الداخلية في ضعف الأداء الاقتصادي الكلي خلال العقدين الأخيرين من القرن العشرين بسبب تزايد أسعار الواردات وتناقص أسعار الصادرات، وبالنظر أيضا لخطأ بعض السياسات الاقتصادية التي طبقتها بعض الدول المتخلفة من مغالاة في قيمة أسعار الصرف، وتزايد الضغوط التضخمية، والتدهور في التنظيم والإدارة،وضعف النظام القضائي،إضافة إلى تفجر الصراعات العرقية وعدم الاستقرار السياسي؛ ففي منطقة أفريقيا جنوب الصحراء كان الأداء الاقتصادي ضعيف بسبب ما أصابه نتيجة للآثار المعاكسة للأزمة الآسيوية 1998على الصعيد العالمي خصوصا ما تعلق منها بالأسعار العالمية لكثير من السلع الأساسية التي تصدرها البلدان المتخلفة ( النفط والقطن والأخشاب والفانيليا والسكر والألمونيوم والتبغ والذهب ...وما إلى ذلك)(1).
__________
(1) ـ اخترنا هذه المجموعة للدلالة على البلدان المتخلفة، حيث نجد أن اغلب البلدان ذات الدخل المنخفض( 36 بلد من بين 44 بلد نصيب الفرد فيها من الناتج الوطني الإجمالي ?765$ تقع ضمن هذه المجموعة، والثمانية الباقية تقع ضمن مجموعة الدول متوسطة الدخل التي يتراوح متوسط نصيب الفرد فيها من الناتج الوطني الإجمالي بين 766 $ و9385$ بأسعار سنة2003) فهي مجرد منطقة على هامش النمو والتحضر في ظل الصراعات الأهلية وافتقاد الأمن وانتشار الفساد بجميع أنواعه وتردى البنية التحتية... وما إلى ذلك من الخصائص التي تدفعنا إلى تأكيد إطلاقنا عليها تسمية البلدان المتخلفة واختيارنا لها عينة لهذه الأخيرة.(1/14)
إذا وكما تشير معطيات الجدول الموالي الذي يتضمن ملخصا لقياس الآثار المباشرة لتغير أسعار السلع الأساسية، وكذلك للآثار الأخرى للأزمة العالمية على مجموعة بلدان إفريقيا جنوب الصحراء، فإن إجمالي آثار الأزمة كان ملحوظا، حيث كان نمو الدخل الحقيقي أقل بنسبة 2.1%، كما عانى ميزان التبادل التجاري من عجز قدّر بـ7.7%، ورغم بعض الاختلافات بين البلدان المصدرة وتلك المستوردة للنفط من بين المجموعة، والتي ترجع إلى تأخر بعض البلدان في الاندماج بالاقتصاد العالمي ولقلة انفتاحها على أسواق التجارة العالمية ولضعف تدفق رأس المال الخاص إليها، إلا أن الدخل الحقيقي في البلدان المصدرة للنفط انخفض بمقدار7.2% كما انخفض النمو الحقيقي للناتج المحلي الإجمالي بمقدار0.3%، وانخفض الميزان المالي التجاري، وتدهورت معدلات التبادل التجاري بنسبة -29%، وازداد عجز الحساب الجاري ليحقق أثرا إجماليا قدر بـ-15.3%. وهكذا يتضح أن صدمات الأسعار التي تتعرض لها البلدان المتخلفة، خصوصا مع تزايد تفتحها على الأسواق العالمية، يكون لها بالتأكيد آثار عميقة على خطط وسياسات التنمية فيها بسبب تأثيرها على موازين المدفوعات والميزانيات الوطنية؛ ولذلك لجأت كثير من البلدان إلى اعتماد سياسات ووضع مخططات للتخفيف من تقلبات الأسعار وقصد تثبيتها(1)(
__________
(1) ـ تعمل الدول في مواجهة تقلبات الأسعار العالمية لصادراتها من السلع من خلال وسيلة أو أكثر من بين ما يلي: ( تثبيت الأسعار العالمية للسلع من خلال ممارسة سلطة سوقية بواسطة منتج احتكاري أو كارتل إنتاجي أو من خلال اتفاقيات دولية سلعية ( تثبيت إيرادات المنتجين من خلال استخدام أدوات إدارة المخاطر( تثبيت إيرادات الحكومة من خلال صناديق الادخار التحوطية ( التمويل التعويضي( وتثبيث الأسعار المحلية للمنتج والمستهلك من خلال الضرائب والرسوم الجمركية المتغيرة للصادرات، أو إنشاء مخزونات محلية وصناديق لتثبيت الأسعار.." عن التمويل والتنمية، الصادرة عن صندوق النقد الدولي ، العدد3، سبتمبر 1999، ص 36، ولمزيد من التفاصيل حول مخططات تثبيت الأسعار وتداعيات ذلك، راجع نفس المصدر ص34- 37.(1/15)
أساسا ما تعلق بأسعار المواد الأساسية في البلدان المتخلفة) غير أن فترة الثمانينيات والتسعينيات عرفت " إنهاء الكثير من المخططات الوطنية لتثبيت أسعار السلع الأساسية، التي شملت بلدانا لها من القوة ما يتيح لها التأثير على الأسعار العالمية لسلع معينة، لأنها لم تكن قادرة على الاستمرار ماليا، وثمة مثال بارز على ذلك، هو انهيار المخطط الأسترالي لتثبيت الأسعار".(1)
جدول رقم (3)
تأثير الأزمة العالمية وتغيرات أسعار السلع الأساسية على الأوضاع الاقتصادية بمنطقة إفريقيا جنوب الصحراء (1998)
آثار التغيرات في أسعار النفط ... آثار التغيرات في أسعار السلع غير النفطية ... الآثار الأخرى للأزمة ... إجمالي آثار الأزمة
النمو الحقيقي للناتج المحلي الإجمالي: ( نسب مئوية)
إفريقيا جنوب الصحراء صفر -0.1 -0.3 -0.3
البلدان المصدرة للنفط 0.3 - صفر -0.2 -0.5
البلدان المستوردة للنفط 0.2 -0.1 -0.3 -0.3
التأثير على الدخل الحقيقي:
إفريقيا جنوب الصحراء -1.7 -0.2 -0.2 2.1
البلدان المصدرة للنفط -1.7 - 0.1 -صفر -7.2
البلدان المستوردة للنفط 0.4 -0.2 -0.3 -0.1
(التغير في النسبة المئوية للناتج المحلي الإجمالي)
الحساب الجاري الخارجي:
إفريقيا جنوب الصحراء -2.6 -0.1 0.1 2.6
البلدان المصدرة للنفط -10.3 - 0.1 -0.1 10.5
البلدان المستوردة للنفط 0.5 -0.2 0.2 0.5
الميزان المالي الإجمالي:
إفريقيا جنوب الصحراء -1.9 صفر -0.1 -2.0
البلدان المصدرة للنفط -6.9 - 0.1 -صفر -6.9
البلدان المستوردة للنفط صفر صفر -0.1 -0.1
مؤشر معدلات التبادل التجاري: (النسبة المئوية للتغير)
إفريقيا جنوب الصحراء -7.4 -0.5 -0.2 -7.7
البلدان المصدرة للنفط -28.4 - 0.6 صفر -29
البلدان المستوردة للنفط 0.9 -0.5 0.3 0.7
المصدر: التمويل والتنمية، صندوق النقد الدولي، مارس1999 ص15.
__________
(1) ـ التمويل والتنمية: م.ن، سبتمبر1999، ص37.(1/16)
ملحوظة: يشمل ذلك جميع البلدان الواقعة جنوب الصحراء باستثناء جيبوتي والصومال وموريتانيا، وقد تم تقريب النتائج إلى أقرب كسر عشري، والأرقام الواردة على أنها صفر لا تعنى بالضرورة القيمة صفر.
الأول : تمثل في تيار " نادي روما" الذي أصدر تقريره الشهير المعنون" حدود النمو " سنة 1972 والذي رأى فيه أن العالم مقدم على كارثة عالمية ما لم يوقف النمو، وذلك للخروج من المأزق الذي يواجه النظام الرأسمالي في مجالات الطاقة والبيئة واستنزاف الموارد غير المتجددة ، والواقع أن التقرير لم يقدم حلا لمسألة التنمية بالدول المتخلفة بل كان محاولة لتحميلها أعباء لم تكن مسؤولة عنها مما يعرقل من مسيرتها التنموية(1).
الثاني: ويتمثل هذا التيار في تلك الجهود التي بذلت حول ما كان يسمى " نظام اقتصادي عالمي جديد" والذي تجسد نظريا في تقرير اللجنة المستقلة المشكلة لبحث قضايا التنمية الدولية سنة 1980، والذي كان انعكاسا لتلك النداءات التي دعت إليها الدول المتخلفة منذ نهاية عقد الستينيات من القرن الماضين ويرتكز التقرير على رؤية : " أن ثمة مصالح متبادلة بين الشمال المتقدم والجنوب المتخلف، وأن الخروج من مأزق النظام الرأسمالي العالمي حاليا سوف يتطلب إنعاشا اقتصاديا للجنوب"(2)
__________
(1) ـ لمزيد من التفاصيل حول هذا التيار الفكري وحول الانتقادات التي وجهت له راجع: رمزي زكي/ المشكلة السكانية وخرافة المالتوسية الجديدة، سلسلة عالم المعرفة الكتاب رقم 48 إصدار المجلس الوطني للثقافة والآداب والفنون، الكويت ديسمبر 1984، ص208 - 219.
(2) ـ راجع في ذلك: Nord/ Sud Du Défi au Dialogue ? Propositions Pour un Nouvel Ordre International, traduit de l’anglais par Nadia Jazairy, S.n.e.d /dunod1976.(1/17)
وفي منتصف السبعينيات سادت الاقتصاديات الغربية المصنعة حالة من الركود الاقتصادي التضخمي(stagflation) ، وتفاقمت أزمة البطالة حتى بعد الرجوع إلى النمو الاقتصادي "نمو بدون تشغيل" في حين تزايدت أهمية رأس المال، خصوصا مع ثورة المعلومات والاتصالات والتحرر السريع للأسواق المالية عبر العالم بنهاية القرن العشرين، وحيث أن الدول المتخلفة ترتبط في مجملها بهذا النظام فإن ذلك انعكس على أوضاعها نتيجة لنصيبها من الاقتصاد العالمي ـ العمل والاستهلاك ـ وكان من المفارقات تدفق عائدات الطاقة إلى المؤسسات المالية الغربية مما أنتج وفرة في السيولة الدولية، بالنظر لانكماش النشاط الاقتصادي هناك، فاستخدمتها تلك المؤسسات في إقراض البلدان المتخلفة، فكانت أزمة المديونية وتفاقم أعبائها. وبالنظر لانخفاض معدلات العائدات من الإنفاق العمومي لا يمكن احتمالها فإن أعباء الديون الخارجية تفاقمت إلي جانب تراكم متأخرات السداد.(1)
المبحث الثالث
التحوّل في مفهوم التنمية
__________
(1) ـ حول أزمة المديونية العالمية وحلول أزمتها بـ " البلدان النامية " وتحول اقتصادياتها نتيجة لذلك راجع: مسعود مجيطنة: أزمة المديونية العالمية، محاولة لتجاوزها من خلال موجة العولمة الاقتصادية الراهنة، وأساسا الفصلان الثالث والخامس، أطروحة دكتوراه دولة في العلوم الاقتصادية، كلية العلوم الاقتصادية وعلوم التسيير، جامعة الجزائر، السنة الجامعية 2004-2005.(1/18)
رأينا في الفصل الأول من بحثنا هذا، أنه كان من الصعوبة الاتفاق على تحديد علمي دقيق لمفهوم التنمية، خصوصا وأن أدبياتها تجمع على أن مفهومها هو مفهوم التغيير الذي يشمل الإنسان والمجتمع والدولة ويتغلغل في جميع مناحي الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية ـ ولذلك فإن مفهوم التنمية نتيجة للطبيعة البشرية ذاتها وتحت ضغط التحولات العالمية، إِتسَعَ ليبتعد عن المضمون الاقتصادي المحض والذي يتجسد في النمو الاقتصادي، ليشتمل على مؤشرات عديدة ومتنوعة تمس منافعها المجتمع بأكمله، فنتج عن هذا الاتساع في المضمون أن برزت إلى الواجهة مفاهيم جديدة من قبيل الخيرات العامة العالمية والتنمية المستديمة والحكمية(1)La gouvernance وما إلى ذلك، وأصبح ينظر إلى التنمية على أنها عملية تغيير اجتماعي متعدد الجوانب.
وأصبح يتم تقييم التنمية من خلال ما تحدثه من تغيير وتقاس إما بمؤشرات اقتصادية مثل معدل الدخل ومستوى المعيشة أو بمؤشرات سياسية مثل المشاركة السياسية وكفاءة الجهاز البيروقراطي واحترام حقوق الإنسان، أو بمؤشرات أخرى تعكس الآثار على البيئة مثل مؤشر الناتج المحلي الصافي المصحح بيئيا أو قابلية الحياة والاستمرارية ونسبة تلوث الهواء والمياه ودرجة تدهور الأراضي...وما إلى ذلك.
__________
(1) ـ يقصد بمفهوم التنمية المستديمة، محاولة تحقيق التوازن بين النمو الاقتصادي من جهة والمحافظة على البيئة من جهة أخرى وبتعبير آخر هي تحقيق حاجات الجيل الحالي دون تضحية بحاجات الأجيال القادمة.
وأما الحكمية فهو بعبر عن مسار المشاركة وتوزع المسئولية والتضامن كآلية جديدة لإدارة الشئون الدولية وللعناية بالخيرات العامة العالمية بما يتضمنه ذلك من تمايز في الأدوار مابين المعنيين.(1/19)
وهكذا أصبح ينظر إلى التنمية على أنها تقاس بمدى تحقيق عملية التغيير الكلية وليس بأحداث وظواهر محددة؛ وهي وجهة النظر التي تتفق مع توجهات الفكر المعاصر ومع مفهوم التنمية لدى المؤسسات المالية الدولية التي ترى أن التنمية عملية شاملة ومتعددة الأبعاد والجوانب وأن التنمية الاقتصادية المتواصلة لها متطلبات سياسية واجتماعية وثقافية وأنها تطرح تداعيات على نفس الأصعدة. وترى أيضا أن التنمية الحقيقية تفترض الارتقاء بمستوى الدخل والصحة والتعليم والغذاء. ومن هذا المنظور فان جوهر التنمية هو كفاءة استخدام الموارد المالية والبشرية المتاحة بهدف تحقيق رفاهية الإنسان.(1)ولا شك أن سقوط الاتحاد السوفيتي من ناحية ونجاح اليابان من ناحية أخرى يوضح بما لا يدع مجالا للشك أن النجاح في التنمية لا يرتبط بالأساس بتوافر الثروات الطبيعية وإنما بحسن إدارة ما يمتلكه المجتمع وبوجود المؤسسات الاجتماعية وبنظام القيم وباستقرار السياسات وبالنظرة الشاملة لعملية التنمية.
__________
(1) ـ حيث أقَرَّ البنك الدولي مؤشرا لقياس التنمية ومستوياتها بمختلف الدول يعتمد متوسط الدخل الحقيقي كمعيار في تصنيف الدول إلى مجموعات تنموية " فهي إما منخفضة أو متوسطة أو مرتفعة الدخل"؛ وأما الأمم المتحدة فاعتمدت مؤشر التنمية البشريةI.D.H. كمعيار، وهو المؤشر الذي يتركب من جوانب ثلاث تتمثل في : متوسط الدخل الحقيقي والمستوى الصحي والمستوى التعليمي فالبلد يكون ذا تنمية بشرية ضعيفة إذا حقق مؤشرا أقل من 50%، أما إذا تراوح المؤشر ما بين 50% و 79.9% فالبلد المعني يكون ذا تنمية بشرية متوسطة، وإذا زاد المؤشر عن 80% فهو ذو تنمية بشرية عالية.(1/20)
لقد كان مفهوم التنمية منذ الخمسينيات وحتى آخر السبعينيات من القرن الماضي يدعو إلى تحقيق العدالة والمساواة بين الناس، وإلى توسيع الطبقة الوسطي والقضاء على الفقر ورفع مستوى المعيشة؛ وفي الثمانينيات ساد اعتقاد بأن التنمية يمكن أن تتحقق بمجرد إعادة النموذج الغربي الذي اعتمد على آلية السوق وعدم التدخل الحكومي،وهو الاتجاه الذي رأى أن التنمية تعتمد على العديد من العوامل المختلفة التي لا يتوافر بعضها في البلدان المتخلفة، لذلك فقد ظهرت تيارات جديدة متعلقة بمفهوم التنمية منذ نهاية الثمانينيات؛ ولكي نقف على هذا التطور في النظر إلى التنمية منذ الخمسينيات، نضع الجدول الموالي:
جدول رقم (4)
تطور مفهوم التنمية منذ الخمسينيات
الفترة ... النماذج المجسدة للمضمون السائد ... المبادئ الأساسية ... ملاحظات
الخمسينيات والستينيات ... النموذج الخطي لمراحل التنمية، النمو المتوازن، النمو غير المتوازن، نظريات:روستو، هارود، دومار... ... معدل نمو الناتج المحلي ... امتداد أفكار الكلاسيك ،مع تلاؤم هذه النماذج لتفسير النمو الذي حدث في أوروبا
السبعينيات ... نموذج التغير الهيكلي(شينيري) ... التغير في الهيكل الاقتصادي وزيادة معدلي الادخار والاستثمار شروط تحقيق التنمية. تحقيق التنمية يتوقف على العديد من العوامل اقتصادية وسياسية محلية ودولية. التركيز على الجانب الاجتماعي. ... محاولة تقديم نموذج للتنمية مناسب للدول المتخلفة.
نموذج التبعية الدولية(التفكير الماركسي) والاستعمار الحديث. ... تفسير التخلف، واعتبار العامل الخارجي حاسما في التأثير على التنمية بالدول المتخلفة.
يتبع بالصفحة الموالية...(1/21)
الثمانينيات ... النموذج النيوكلاسيكي للأسواق الحرة ... آلية السوق الحرة ضمان لتحقيق كفاءة توزيع واستخدام الموارد المتاحة، وعدم التدخل الحكومي من شأنهما تحقيق النمو. ... يمكننا القول بأن هذا النموذج يمثل محاولة انعكاس تاريخي لما تحقق في أوروبا الغربية من نمو وهو يقوم على العديد من العوامل غير الموضوعية التي لا تتوفر في البلدان المتخلفة وبالتالي فإنه لا يمكن تكرار التجربة الغربية في التنمية.
منذ نهاية الثمانينيات حتى أوائل التسعينيات ... نموذج النمو من الداخل( النمو الذاتي)، ظهور مفهوم التنمية البشرية ... توافر رصيد من المال وقوى العمل المدربة والمتعلمة، ومناخ اقتصادي ملائم لتراكم المعارف هي ركائز لتحقيق النمو والتنمية. ... وأعتمد هذا المفهوم منذ 1990 من قبل العديد من المفكرين الذين منحوا أهمية خاصة للعنصر البشري الذي قدمه النموذج. وقد تبنى برنامج الأمم المتحدة للإنماء المصطلح بمضمون محدد ومقياس مركب مبسط.
منذ1992 حتى اليوم(2005) ... مفهوم التنمية المستديمة ... إدخال عنصر البيئة في مضامين التنمية، أي العمل على تحقيق احتياجات الجيل الحالي دون المساس بمتطلبات احتياجات الأجيال المقبلة. ... كان من نتائج هذا المفهوم تغير كثير من المفاهيم الاقتصادية مثل التغير في مفهوم رأس المال المادي والبشري والطبيعي والاجتماعي، وظهور أخرى مثل معدل إهلاك الموارد الطبيعية، والحكمية...وما إلى ذلك.
الجدول من إعداد الباحث.(1/22)
غير أن ما يلاحظ في حقيقة الوضع العالمي الراهن، أن الرخاء الاقتصادي لأي جزء أو بلد في العالم أصبح يتحدد ليس بالمصادر الطبيعية وإنما بخزينة من المعلومات التقنية ومهارة وخبرة أفراده وقدرة مؤسساته الخاصة والعامة في إدارة مجهوداته ولذلك فإنه مع التحول في المفاهيم الاقتصادية تحت ضغط المدرسة المؤسسية الجديدة، تبلورت أيضا مفاهيم جديدة للتنمية الاقتصادية، وبوجه خاص مع جهود الأمم المتحدة فيما عرف بالتنمية البشرية أو الإنسانية أو التنمية المستديمة ؛ فازداد الضغط على الفئات متوسطة الدخل واتسع حجم الفئات الدنيا من أصحاب المداخيل المحدودة، وتدَنَي مستوى معيشتهم وبرزت فئات جديدة من أصحاب المداخيل الناتجة عن المضاربة والاتجار فاتسعت حدّة الفروق الاجتماعية.
بفوز الأحزاب السياسية المحافظة في أهم البلدان الغربية(الولايات المتحدة، كندا، بريطانيا ،ألمانيا) منذ الثمانينيات، ظهر على صعيد السياسات الاقتصادية الميل إلى تدعيم دور القطاع الخاص من خلال إزالة أو تقليل القيود والإجراءات المفروضة عليه، بل وتصفية العديد من المشروعات العامة وتحويلها إلي القطاع الخاص، ولم تكتف حكومات تلك البلدان بممارسة سياساتها في بلدانها، بل شدّدت من ضغوطها على البلدان المتخلفة وخصوصا تلك المدينة منها، وفرضت عليها تقليص دور القطاع العام في نشاطاتها الاقتصادية، ومنح القطاع الخاص دورا هاما في عملية التنمية، وضرورة التحول نحو اقتصاد السوق وتجسّدّت تلك الضغوط أساسا في إطار المساعدات والاتفاقيات الثنائية، وعبر سياسات المؤسسات والمنظمات الدولية وأساسا البنك وصندوق النقد الدوليان.(1/23)
وبذلك تحدّد الإطار العام، لصياغة مفهوم جديد للتنمية، على خلاف ما كانت تطالب به مختلف مجموعات الدول المتخلفة منذ منتصف السبعينيات، من ضرورة إصلاح النظام الاقتصادي الدولي،وجعله أكثر ديمقراطية ومؤازرة البلدان المتطورة لها و/أو زيادة برامج المعونة الاقتصادية الدولية(1)، أو التوّجه نحو المزيد من التخطيط الاقتصادي، ولكن الإطار الذي حدّد تجسد عمليا من خلال التوجه "والتوجيه" نحو اقتصاد السوق، وترك آلياته لتقوم بعملية تخصيص الموارد الاقتصادية وتحديد الأسعار تبعا لحافز الرّبح، ولا شك أن السياسة المالية تأتى في مقدمة تلك الآليات التي يمكن بل ويجب، أن يعتمد عليها لتحقيق ذلك التوجه.
__________
(1) ـ كان ذلك بموجب الخطاب الذي ألقاه الرئيس المرحوم هواري بومدين أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، في 10 أفريل 1974الذي كان قد دعا من خلاله إلى إيجاد حل لمشكلة التنمية بعد فشل عشريات التنمية التي لم تقدم خلالها سوى مبادرات كانت في أحسن الأحوال "عبارة عن مسكنات أكثر منها حلولا جذرية ملموسة " وأن المساعدة من أجل التنمية " قد رسمت وضبطت، بكيفية تختلف كل الاختلاف عن مساعدة أخرى عرفت بمشروع مارشال"؛ وكان ذلك أيضا قد تم غداة مؤتمر القمة الرابع لبلدان "ما كان يسمى" بـ " بلدان عدم الانحياز" في سبتمبر1974 بالجزائر، حيث كانت تطالب بإقامة نظام اقتصادي دولي جديد. المرجو الرجوع إلي خطابي الرئيس المرحوم هواري بومدين ، بالمناسبتين، للتعرف على المنظور السياسي والاقتصادي لمسألة التنمية وللنظام الاقتصادي العالمي، الذي كان قد رأى أن الزمن تجاوزه آنذاك.(1/24)
يمكن القول أن الفكر الاقتصادي شهد فيما يتعلق بمسألة التنمية الاقتصادية في الدول المتخلفة تحولا بارزا نحو نموذج يستهدف تصحيح السياسات الوطنية لتحقيق التوازنات المالية وتقليل العجز والتفتح أكثر على الخارج، وتقليص القيود على التجارة الدولية والتدفقات المالية؛ وقد ظهر هذا الفكر الاقتصادي مرافقا لتيار سياسي يمنح اختيارات أكثر للأفراد، وانتشار آراء تقول بأن الانفتاح الاقتصادي للبلدان المتخلفة يجب أن يرافقه انفتاح ديمقراطي؛ إذ أن مجموعة تلك السياسات والآليات التي استهدفت توسيع الفرص والخيارات أمام الناس، وزيادة قدراتهم على كسب وتوليد الدخول، تجسدت على الصعيد التنظيري في طرح مفهوم جديد للتنمية، قوامه أن تصبح قائمة على مزيد من العدالة والديمقراطية والمشاركة السياسية، أي الأخذ بمفهوم التنمية الشاملة المضطردة.
المطلب الأول
دور المؤسسات الدولية في التنمية(1/25)
لقد كان من بين الأهداف الرئيسية من إنشاء المؤسسات المالية الدولية منذ البداية، تقديم المساعدات الفنية والمالية لمساعدة النمو الاقتصادي وتحقيق التنمية وتشجيع الإصلاحات الاقتصادية في البلدان المتخلفة، وذلك من خلال منح أو قروض بفوائد مخفضة وفترات سماح طويلة وكذلك بآجال إيفاء طويلة ويتضح الدور المتزايد لهذه المؤسسات من خلال أهمية الدور الذي لعبه في تغيير السياسات والمؤسسات في كثير من البلدان وخصوصا في المتخلفة منها على امتداد عقدي الثمانينيات والتسعينيات? كما أظهرت التطورات السياسية الدولية والعالمية أهمية دور هذه المؤسسات في مساندة الدول خلال مرحلة التحول إلى اقتصاد السوق بعد الخلل الذي أصاب الاقتصاديات التي كانت تعتمد التخطيط؛ والواقع أن الاعتبارات السياسية لعبت دورا هاما في التأثير على توجهات تلك المؤسسات عند تقديمها المساعدات للدول المتخلفة، فالمؤسسات الدولية غالبا تربط بين المعونات وإصلاح السياسات المختلفة، كما أن البلدان المقدمة للمعونات تربط هذه الأخيرة بالقوى السياسية والاجتماعية في البلدان المتلقية لها، ويرى البعض الآخر أن المعونات تشجع على إتباع سياسات رديئة ، وأن المعونة التي تحفز النمو يجب أن تتم في ظل سياسات سليمة(1)،
__________
(1) ـ كرايج بيرنسايد/ ديفيد دولارDavid Dollar & Craig Burnside: في مقال بعنوان: المعونة تحفز النمو في ظل السياسات السليمة، في التمويل والتنمية، العدد4 ديسمبر 1997، ص4. كرايج يعمل باحثا اقتصاديا في مجموعة أبحاث التنمية بالبنك الدولي، أما زميله ديفيد فهو مدير للأبحاث في نفس المجموعة وقت كتابتهما للمقال المذكور..(1/26)
فـ«التدفقات الهائلة والمتصلة بالتمويل الخارجي الممنوح من البلدان المتقدمة، قد سمحت لحكومات "العالم الثالث" بان تتبع سياسات (تنمية) ـ كانت مبددة وسيئة التصميم، وغير منتجة ـ أو حتى مدمرة»(1)، وفعلا فإن المؤسسات الدولية ترى أن أسلوب الحكم يعد محددا رئيسيا للأداء للبلدان المتخلفة، وأن الأسلوب الأفضل للحكم أمر ضروري للتنمية؛ هذا الأسلوب الذي يعتمد على خمسة محاور هي:
1 ـ المقارنة بين النجاح الذي تحققه اقتصاديات السوق والفشل الذي مُنِيَ به التخطيط المركزي.
2 ـ السخط الشعبي في كثير من البلدان على تجاوزات الأنظمة الاستبدادية يحض على البحث عن أشكال للحكم أكثر ديمقراطية واستجابة لاحتياجات الجماهير.
3 ـ أن عدم كفاءة مشروعات الدولة والهيئات العامة في وقت تغلب عليه الأزمات المالية شجع على إعادة النضر في دور الدولة.
4 ـ القلق المتزايد من أن الفساد المتفشي يعمل على استنزاف الموارد الداخلية والمعونة الأجنبية.
5 ـ أن انبعاث المشكلات الإثنية يؤدي إلى زيادة تعقيد مهمة بناء الأمة.
وفي الماضي كانت الجهات المانحة تتحرج من إثارة مسالة نوعية الحكم خشية أن يعتبر ذلك تدخلا في الشؤون الداخلية للدولة وانتهاكا لقضية السيادة، أما الآن فقد أصبحت حكومات البلدان المانحة أكثر إدراكا بأن المساعدات التي تقدمها تتأثر إلى حد كبير بنوعية الحكم في البلد المتلقي وأصبحت أكثر اهتماما بتشجيع الأساليب المتعلقة بالحكم الأفضل .
__________
(1) ـ " نيكولاس إيبر شتات" من المعهد الأمريكي للمشروعات، في شهادة أمام لجنة الشؤون الخارجية بمجلس الشيوخ الأمريكي، م. ن ص 6.(1/27)
ولما كانت البلدان الفقيرة المتخلفة تتسم بصفة عامة بأنظمة حكم هشة وآليات ضعيفة للمساءلة فإن الجهات المانحة والوكالات الإنمائية الأجنبية وجدت أن لديها القدرة على التأثير على قيام نوعية معينة من نظم الحكم، تكون فيه الدولة ذات السيادة هي المسؤولة عن تحديد الحلول النابعة من ظروفها على أن تقوم المؤسسات الدولية بمساعدتها في تنفيذها ومتابعتها وأن تنظم مساعدتها المالية تبعا لذلك.
المطلب الثاني
مفهوم التنمية لدى المؤسسات الدولية
سنلقى الضوء على مفاهيم التنمية لدى المؤسسات الدولية من خلال استعراض رؤية ابرز تلك المنظمات والبرامج التي تقدم المساعدات الاقتصادية والفنية للدول المتخلفة، وهي: البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومجموعة لجنة مساعدات التنمية(1)وهي التي تتشكل من الدول الأعضاء في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية والتي تضم معظم الدول الصناعية المتقدمة.
الفرع الأول
مفهوم التنمية لدى الأمم المتحدة
يمكننا استنتاج مفهوم التنمية لدى الأمم المتحدة، من خلال قراءة الإعلان الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة عقب دورتها الحادية والأربعين في ديسمبر1986، الذي يوضح أن التنمية حق وأنها: «عملية اقتصادية واجتماعية وثقافية وسياسية شاملة تستهدف التحسين المستمر لرفاهية السكان بأسرهم والأفراد جميعهم على أساس مشاركتهم النشطة والحرة والهادفة في التنمية والتوسيع العادل للفوائد الناجمة عنها»(2).
__________
(1) ـ Comité d’Aide au Développementوهي اللجنة المتكونة من مجموعة البلدان الصناعية الكبرى التي تشرف على توزيع المساعدات التي تقدمها الدول الغنية، حسب نسب متفاوتة من ناتجها الوطني الإجمالي، للدول المتخلفة.
(2) ـ راجع التقرير المذكور، الصادر في سنة 1987.(1/28)
ووفقا لهذا الإعلان فإن المبادئ الرئيسية التي يرتكز عليها أي منظور أو مفهوم للتنمية تتمثل في(1):
1- أن الإنسان يشكل الموضوع الرئيسي للتنمية لذلك يجب أن يكون المشارك في تحقيقها والمستفيد منها.
2- أن يتحمل جميع البشر مسؤولية التنمية آخذين في الاعتبار ضرورة الاحترام التام لحقوق الإنسان والحريات الأساسية الخاصة بهم، وأن تتخذ الدول الخطوات الحازمة للقضاء على الانتهاكات الواسعة النطاق والصارخة لحقوق الإنسان الخاصة بالشعوب والأفراد.
3- تتحمل الدول المسئولية الرئيسية في تهيئة الأوضاع الوطنية والدولية المواتية لممارسة الحق في التنمية.
__________
(1) ـ عن: صور المجتمع المثالي، نماذج التنمية في فكر القوى السياسية في مصر، مجموعة من المؤلفين، مركز دراسات وبحوث الدول النامية، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة، الطبعة الأولى2003، ص71-72.(1/29)
4- ينبغي للدول أن تضمن تكافؤ الفرص للجميع، فيما يتعلق بإمكانية وصولهم إلى المواد الأساسية والتعليم والخدمات الصحية والغذاء والإسكان والعمل والتوزيع العادل للدخل، وينبغي اتخاذ تدابير فعالة لضمان قيام المرأة بدور نشط في عملية التنمية(1).
5- ينبغي للدول أن تشجع المشاركة الشعبية في جميع المجالات بوصفها عاملا هاما في التنمية وفي الإعمال التام لجميع مواثيق حقوق الإنسان.
__________
(1) ـ وقد انعكست هذه الاهتمامات في تقارير التنمية في العالم التي تصدر عن البنك الدولي، بحيث نقرأ تركيزا على الصحة والتعليم في تقرير سنة1990، وتحليلا لفعالية التكاليف الصحية في تقرير 1993، والذي أوصى بالعمل على تشجيع العوامل المؤسسية التي من شأنها تحسين استفادة الفقراء من الخدمات الصحية، وقدم تقرير 1994، تحضيراً جيداً لأعمال قمة التنمية الاجتماعية التي انعقدت في كوبنهاجن سنة1995، فحاول تحديد استراتيجيات في مجالات مكافحة الفقر، وخلق فرص العمل، والتكامل الاجتماعي، باعتبارها ضمانات للعيش الكريم للجميع؛ وأما تقرير التنمية في العالم 2004 فقد فضل تقديم إطار عملي لجعل الخدمات الأساسية ـ مثل المياه والصرف الصحي والرعاية الصحية والتعليم ـ تسهم في التنمية البشرية من خلال وضع الفقراء في صلب عملية تقديم الخدمات لمزيد من التفاصيل راجع التقارير المذكورة والصادرة عن البنك الدولي.(1/30)
وتماشيا مع هذه المبادئ التي يتضمنها مفهوم التنمية لدلى الأمم المتحدة فإن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي إلى جانب منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة "الفاو" يعتبران الهيئتان الأمميتان الأساسيتان اللتان تتصديان للفقر، حيث ينظر إلى أن القضاء على الفقر يشكل ضرورة أخلاقية واجتماعية وسياسية ومعنوية للمجتمع البشري، وتعمل الهيئتان على مساعدة الدول في برامجها التي تستهدف القضاء على الفقر؛ فالبرنامج يتعاون مع كثير من البلدان المتخلفة لمتابعة تعهدات المجتمع الدولي عقب مؤتمر القمة العالمي للتنمية الاجتماعية الذي تم بـ "كوبنهاجن" سنة 1995؛ وأما منظمة الأغذية والزراعة، فقد عهد إليها من قبل القمة العالمية للغذاء التي عقدت سنة1996، تقديم المساعدة اللازمة للدول المحدودة الدخل، فأطلقت برنامجا من أجل الأمن الغذائي يركز على دعم توسيع وتطوير الإنتاج الزراعي وتحسين الفاعلية الإنتاجية، ويطبق البرنامج في أكثر من خمسين بلدا مركزا على أضعف المجموعات البشرية.
وقد ساهمت الإصدارات المتوالية من تقارير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في إثراء جوانب تلك المبادئ التي تعكس في رأينا، مفهوم التنمية المعتمد لدى الأمم المتحدة، إلى أن صدر تقريره لسنة1990، وجسده ضمن مفهوم أطلق عليه "التنمية البشرية"(1)، فما المقصود به وما هي مكوناته ؟ وما هي آليات تجسيده؟
__________
(1) ـ يفضل البعض لفظ "التنمية الإنسانية" باللغة العربية، بحيث يراه أصدق تعبير عن المضمون الكامل للمفهوم، مع الإبقاء على مصطلح "التنمية البشرية" بدلالة أضيق، في المضمون، وفي النظر للإنسان باعتباره حالة راقية للوجود البشري، أنظر، نادر فرجاني: التنمية الإنسانية واكتساب المعرفة المتقدمة في البلدان العربية، على الموقع http://www.amanjordan.org/aman_studies/wmview وقد استخدم أول تقرير عن التنمية العربية بتكليف من البرنامج المذكور لفظ "التنمية الإنسانية العربية".(1/31)
أولا: مفهوم التنمية البشرية:
برز هذا المصطلح على صعيد الأدب الاقتصادي، منذ1990 ، عندما تبناه قبل برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، ليؤكد على أن الأفراد هم محور الاهتمام والهدف الأساسي للتنمية، والذين ينبغي أن يشتركوا في عملية التنمية وأن يستفيدوا منها، فعرّف التنمية البشرية: بأنها عملية توسيع الخيارات أمام الناس، وأنها الخيارات التي يمكن أن تكون مطلقة وتتغير بمرور الزمن، وترى تقارير التنمية البشرية التي يصدرها برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أهمية هذا المفهوم، من حيث كونه دليل مركب يقيس معدل إنجازات التنمية في أي بلد، من خلال ثلاثة أبعاد أساسية للتنمية هي(1):
أ ـ أن يعيش الناس حياة أطول وصحية، ويقاس بمتوسط العمر المتوقع عند الولادة.
ب ـ أن يكتسبوا معرفة جيدة للقراءة والكتابة، ويقاس بمعدل إلمام البالغين بالقراءة والكتابة، ومعدل مجموع الالتحاق بالتعليم الابتدائي والثانوي والعالي.
ج ـ أن يحصلوا على الموارد اللازمة لمستوى معيشة لائق، ويقاس بنصيب الفرد من الناتج الداخلي الإجمالي، بما يعادل القوة الشرائية بالدولار الأمريكي.
واستنادا إلى ذلك فإن مستوى التنمية يقاس: بالعمر المتوقع عند الولادة، وبالتحصيل العلمي، وبالدخل الحقيقي، وتقسم البلدان تبعا لذلك إلى بلدان ذات تنمية بشرية عالية (حيث يبلغ دليل التنمية البشرية0.800 أو أكثر)، وأخرى ذات تنمية بشرية متوسطة (0.500 -0.799)، ثم بلدان ذات تنمية بشرية منخفضة(2)(وهي التي يكون فيها الدليل المذكور أقل من 0.500).
أي أن مفهوم التنمية من منظور برنامج الأمم المتحدة الإنمائي يتجسد من خلال ثلاثة أبعاد هي:
1 ـ تكوين القدرات البشرية، مثل تحسين الصحة، وتطوير المعارف والمهارات.
__________
(1) ـ راجع مثلا: تقرير لتنمية البشرية لعام2005، الأمم المتحدة، ص214.
(2) ـ تقرير التنمية البشرية للعام 2005، ص212.(1/32)
2 ـ استخدام البشر لتلك القدرات في الاستمتاع بالسلع والخدمات، أو في إنتاجها، أومن خلال مساهمتهم الفاعلة في النشاطات الثقافية والاجتماعية والسياسية.
3 ـ وأن يحقق البشر مستوى معين من الرفاه، في إطار مضمون ما سبق.
وعليه يتضح أن تحقيق التنمية الاقتصادية، يعد أمرا أساسيا لتحقيق تنمية بشرية تؤكد على الحاجة إلى الاهتمام بنوعيتها وبتوزيعها، وأن أهمية مفهوم التنمية البشرية يبدو من خلال المساهمة فيها والانخراط في عمليات التنمية الدائمة عبر مساعدة الأفراد على تحسين أدائهم الاقتصادي باستغلال الإمكانيات المتوفرة والجديدة للقضاء على الفقر وتقديم تعليم يساعدهم على أن يصبحوا أكثر قدرة وإبداعا وإنتاجا؛ بحيث يتضمن المفهوم التأكيد على تنمية المجتمع كله من خلال تعدد المعايير التي لم تتوقف عند الدخل أو المضمون الاقتصادي فقط.
تزايد عدد الأفراد الذين يتم تهميشهم، نتيجة للدمج العالمي للأسواق والاتصالات والتكنولوجيا؛ وهي القضية التي حظيت باهتمام عدد من المؤتمرات مثل مؤتمر الأمم المتحدة للبيئة والتنمية الذي عقد في ريودي جانيرو سنة 1992 والمؤتمر العالمي لحقوق الإنسان في فيينا سنة 1993 والمؤتمر الدولي للسكان والتنمية الذي عقد بالقاهرة سنة 1994 ومؤتمر القمة العالمي للتنمية الاجتماعية الذي عقد في كوبنهاجن سنة 1995 .
وعلى الجانب الأخر يوجه نقد إلى مفهوم التنمية البشرية لعدم احتوائه على بعض الأبعاد الهامة مثل الحرية السياسية والقيم الثقافية كما أن هناك مفهوما خاطئا بان التنمية البشرية تحتوي على مضمون اجتماعي فقط (التعليم والصحة) دون أي تحليل اقتصادي، ولكن مفهوم التنمية البشرية مفهوم شامل للتنمية يضم التنمية الاقتصادية والتنمية الاجتماعية معا ولكنه يعالج قضايا التنمية من زاوية الأفراد فهم العناصر المستفيدة وهم أيضا العناصر الفاعلة الحقيقية.(1/33)
وبعد استعراض مفهوم التنمية طبقا لرؤية البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة يكون من الأهمية بمكان طرح تصوره للهيكل السياسي الضروري من اجل ضمان إتباع سياسات مناصرة للفقراء وتهيئة مناخ ملائم للتنمية وطبقا للتقارير الصادرة عن الأمم المتحدة فان الإستراتيجية السياسية للقضاء على مفهوم الفقر مبنية على ثلاثة محاور(1):
المحور الأول ـ إقامة المجتمع المدني:
برز الاهتمام بمنظمات المجتمع المدني وترافق مع توجه المؤسسات الاقتصادية والمالية الدولية (البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي) نحو دعم وإجبار توجيه سياسات التنمية بالبلدان المتخلفة، نحو اعتماد الخوصصة لتهيئة المناخ لنمو القطاع الخاص، وسياسات التكييف الهيكلي، وتقليص دور الدولة الاقتصادي وللتعويض عن تقليص دور الدولة الاجتماعي تجاه مواطنيها، فقد تزايد الاهتمام بالمنظمات غير الحكومية، وتدعيمها والتعاون معها سواء من قبل المنظمات الدولية أو السلطات بالبلدان المتخلفة باعتبارها تعكس أراء الجماهير، وأنها أكثر مرونة واستجابة وفعالية من الوكالات الرسمية، في الاتصال بأفراد وجماعات المجتمع المدني.
__________
(1) ـ عن تقرير التنمية البشرية، 1997، ص95.(1/34)
وإذا كانت ضرورات التنمية تفرض أن تضافر جميع القوى الفعالة في المجتمع، حتى تشكل محركا حاسما للتنمية؛ فإنه من الضروري على الحكومات، أن تقوم بتوفير المناخ الديمقراطي لحماية مصالح الفئات المختلفة، وان تتميز بالشفافية وتخضع للمساءلة؛ وهو ما يمكن أن يسمح لتنظيمات المجتمع المدني بالمساهمة في ضمان الدفاع عن مصالح الطبقات الفقيرة والمتوسطة، وأن تعمل في اتجاه تخصيص موارد كافية لأولويات التنمية البشرية، كما يمكنها من التأثير في القرارات السياسية، إذ يمكن أن تكون النقابات حافزا على إقرار الديمقراطية، ولكن سياسات إعادة الهيكلة وما تبعها، في البلدان المتخلفة أدت إلى تضاؤل نسبة التمثيل النقابي وفعالية النقابيين بالنظر لعوامل عديدة من بينها انخفاض أعداد العمال في القطاع العمومي وموالاة الممثلين النقابيين للسلطات التنفيذية في كثير من الحالات؛ ومنه قد يرى البعض تناقضا بين الإصلاحات والديمقراطية.
والواقع أن نجاح أي مشروع تنموي يعتمد على وضع صيغة للتراضي بين جميع فئات المجتمع لإجراء إصلاح سلمي والتأكيد على أن تعزيز مصالح الفقراء لا يتناقض في كل الحالات والأوقات مع مصالح الأغنياء، ومن هنا تبرز أهمية إقامة تنظيمات مستقلة للمجتمعات المدنية بالبلدان المتخلفة.
المحور الثاني ـ الدور الفاعل للدولة:(1/35)
في ديسمبر1986أصدرت الأمم المتحدة " إعلان الحق في التنمية"، بأغلبية 146 صوتاً وعارضته الولايات المتحدة، ويفهم من "الحق في التنمية"، على أنه عملية متكاملة ذات أبعاد اقتصادية واجتماعية وثقافية وسياسية تهدف إلى تحقيق التحسن المتواصل لرفاهية كل السكان وكل الأفراد، والتي يمكن عن طريقها تحقيق حقوق الإنسان والحريات الأساسية(1)، ومن هنا فإن الأمم المتحدة ترى أن للدولة دورا حاسما وفاعلا يجب أن تقوم به، ذلك أن مبادرات التنمية التي تضطلع بها الأمم المتحدة تركز على إقامة الشراكات مع الحكومات والسلطات المحلية وتنظيمات المجتمع المدني لضمان توافق الاستثمارات المحلية وإدارتها بكفاءة، وحيث أن القضاء على الفقر يشكل أولوية محورية لجهود الأمم المتحدة، فإنها تؤكد الدور المحوري للدول في تحقيق أهداف الألفية الإنمائية(2)، إذ أن الأفراد لا يستطيعون مكافحة الفقر بالاعتماد على أنفسهم فقط.
__________
(1) ـ إعلان الحق في التنمية، إصدار الأمم المتحدة، إدارة شؤون الإعلام، نوفمبر 1990.
(2) ـ طالع تقرير الأمين العام للأمم المتحدة عن أعمال المنظمة في 10سيبتمبر2002، الوثائق الرسمية، الدورة السابعة والخمسون، الملحق رقم1A/57/1 ) ( نيويورك2002، الفصل الثالث: التعاون من أجل التنمية.(1/36)
كذلك يتأكد دور الدولة من حيث أن عملية التنمية، في نظر الأمم المتحدة تعتبر(حقاً) من حقوق الإنسان وليست مجرد (طلب) يطالب به الأفراد قد تستجيب له الحكومات أو لا تستجيب، كما أن الموافقة على (الحق في التنمية) من جانب الدول النامية تعني أن هذه الدول أصبحت مسؤولة أمام شعوبها عن القيام بالتنمية وما يتطلبه ذلك من أبعاد اجتماعية واقتصادية وسياسية وثقافية، وكذلك فان الموافقة على هذا الحق من جانب الدول المتقدمة تعني أن هذه الدول أصبحت مسؤولة عن مساعدة الدول النامية، التي تفتقر إلى الموارد المالية والفنية الكافية لتحقيق التنمية الاقتصادية(1).
المحور الثالث ـ الديمقراطية والشفافية:
تنطلق الأمم المتحدة في نظرتها للديمقراطية من:
ـ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي اعتمدته الجمعية العامة في عام 1948والذي أوضح العناصر الضرورية لقيام الديمقراطية.
ـ من تعهد كل دولة عضو في إعلان الألفية بأن تعزز قدرتها على تطبيق المبادئ والممارسات الديمقراطية.
ـ وقد اتخذت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارا بشأن تعزيز الديمقراطية وتوطيدها حيث وقع مائة بلد "إعلان مجتمع الديمقراطيات" في وارسو، وأقَرَّ ذلك المجتمع خطة عمل "سيول" في سنة2002، التي تضمنت قائمة بالعناصر الضرورية لتحقيق الديمقراطية ومجموعة من التدابير لتعزيزها.
ـ كما تساعد الأمم المتحدة الدول الأعضاء من خلال تقديم المساعدة والمشورة في الميادين القانونية والتقنية والمالية دعما للديمقراطيات الناشئة فقدمت الدعم لأكثر من 20 بلدا في سنة2004.
__________
(1) ـ عن إعلان الحق في التنمية، م. ن.(1/37)
وتؤكد تقارير البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة على أن دور الدولة في تحقيق التنمية البشرية يتم عبر إقامة مؤسسات ديمقراطية واحترام حقوق الإنسان ومشاركة المرأة والأقليات، وذكرت تلك التقارير أنه منذ عقد من الزمان ازداد عدد الحكومات الديمقراطية من60 إلى100 وتحسنت المؤشرات الاجتماعية تحسنا مطردا(1)ورغم أن ذلك يعتبر بداية هامة إلا أنه لا يكفى من غير تنفيذ الممارسات والمبادئ الديمقراطية عبر كل المستويات، ولا بد من تعزيز النشاط القضائي ووضع الإطار القانوني والدستوري من أجل كبح تزايد الفساد، ولذلك كانت المادة الخاصة بمحاربة الفساد ضمن تشريعات الميثاق العالمي للأمم المتحدة، حيث وقع عليها ما يقرب من ألفين شركة دولية، وكذلك وقعت 65 شركة عاملة في قطاعات الطاقة والمعادن والمناجم والهندسة والبناء على معاهدة في الموضوع خلال المنتدى الاقتصادي العالمي بدافوس شهر جانفي2005.
__________
(1) ـ التمويل والتنمية، العدد1 مارس2006، ص 8.(1/38)
لذلك فإن الأمم المتحدة ومنظماتها ترى أنه، لابد من توفير حيز ديمقراطي يعبر فيه الناس عن مطالبهم ويكون توزيع السلطة فيه أكثر عدلا؛ وأنه يجب الحرص على المساءلة والشفافية لأن الحكومات الضعيفة تعجز عن إقامة توازن يتصدى لفئة الأقوياء اقتصاديا مما يجعل الفساد عقبة تعترض جهود القضاء على الفقر، وحين يتعلق الأمر بالقضاء على الفقر لا يصبح الإصلاح السياسي خيارا بل ضرورة ملحة(1).
ثانيا: الأمم المتحدة وإستراتيجية التنمية للألفية الثالثة:
حددت الأمم المتحدة وبتعهد من المجتمع العالمي( أي جميع الدول الـ 191 الأعضاء في الأمم المتحدة) الوفاء بأهداف إستراتيجية التنمية للقرن الحادي والعشرين، والتي كانت بدايتها تحديد أهداف إنمائية للفترة (2000-2015) تمثلت في ثماني أهداف رئيسية هي التالية(2):
__________
(1) ـ يلاحظ هنا الربط بين الشفافية والديمقراطية باعتبارهما مسألتان سياسيتان، وفي حين ينظر البعض إلي الشفافية على أنها مسألة ثقافية، نقول أنها مسألة أخلاقية أولا وقبل أي اعتبارات أخرى، طالع مداخلة: أ. د. محمد سعيد أوكيل: قراءة حول الشفافية ونجاعة الأداء في عالم متغير ضمن مداخلات الملتقى الدولي حول" أهمية الشفافية ونجاعة الأداء للاندماج الفعلي في الاقتصاد العالمي" كلية العلوم الاقتصادية وعلوم التسيير، جامعة الجزائر، 28- 30 جوان 2003.
(2) ـ لمزيد من التفاصيل، طالع تقارير عن التنمية في العالم، الصادرة عن البنك الدولي لسنوات 1990 وما بعدها، وكذلك قسم خدمات شبكة الإنترنت بالأمم المتحدة، على الموقع: http://www.un.org/arabic/millenniumgoals(1/39)
1 ـ القضاء على الفقر المدقع والجوع: متمثلا ذلك في تخفيض عدد الأشخاص الذين يعيشون على أقل من دولار واحد في اليوم بنسبة النصف، وتخفيض عدد الأشخاص الذين يعانون من الجوع بنسبة النصف(1).
__________
(1) ـ تجدر الإشارة هنا إلى أن مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (الأونكتاد) تناول في تقريره الصادر سنة2002 عن أقل البلدان نموا، أهمية عملية إعداد أوراق إستراتيجية الحد من الفقر في ما يتعلق بإيجاد سبل للإفلات من الفقر، وقد لاحظ أن نسبة السكان الذين يعيشون بأقل من دولار واحد في اليوم، ارتفعت من 56%عام 1970 إلى65 %بعد 20 سنة؛ وأعربت الأونكتاد عن أسفها، لأن برامج التكيف الهيكلي التي فرضت على أقل البلدان نموا في الثمانينات والتسعينات، لم يكن لها تأثير على الفقر، وأشارت إلى أنه ينبغي لأي إستراتيجية جديدة أن تسعى إلى تقديم مزيد من المساعدة لهذه البلدان لأن القيمة الصافية للمساعدة الإنمائية الرسمية لا تزال دون الأرقام المسجلة في التسعينات بنسبة 49 %. ( بتصرف عن تقرير مقدم للجنة حقوق الإنسان، الأمم المتحدة، الدورة التاسعة والخمسون من السيد "برناردز مودهو" الخبير المستقل المعني بآثار سياسات التكيف الهيكلي والديون الخارجية ) على الموقع:
"http://www.hic-mena.org/documents/ECN4200310(1/40)
2 ـ تحقيق التعليم الابتدائي الشامل: أي ضمان إتمام الأولاد والبنات على السواء للمرحلة الدراسية الابتدائية(1).وقد حدد تقرير "الأمن الإنساني" الذي صدرسنة2003 عن الأمم المتحدة، أن تحقيق هذا الهدف يتم من خلال مد برامج التعليم الأساسي للمنظمات غير الحكومية والمنظمات الدولية وأجهزة الأمم المتحدة، بما يمكنهم من توفير التعليم الأساسي للأطفال في مخيمات اللاجئين والنازحين، وتشجيع المدارس على توفير البيئة التعليمية الملائمة للأطفال والتي يجب أن تكون خالية من التمييز والعنف والمخاطر الصحية، وكذلك استخدام وسائل الإعلام بطريقة إبتكارية، بما يمكنها من نقل المعارف والمعلومات بطريقة ملائمة(2).
__________
(1) ـ تجدر الملاحظة أن أبعد مجموعات السكان عن بلوغ هدف التعليم الابتدائي الشامل هي عادة الأكثر فقرا في العالم، ففي إفريقيا جنوب الصحراء، لا تبلغ نسبة صافي القيد في التعليم الابتدائي [ من مجموعة الفئة العمرية النموذجية 6- 16 سنة] سوى63%، وهي نسبة تقل كثيرا عن تلك المسجلة في أمريكا اللاتينية ودول الكاريبي96% وعن النسبة العالمية المقدرة بـ85%. في شأن هذه الأرقام وغيرها من مؤشرات التعليم راجع التمويل والتنمية، العدد2 يونية2005، ص9و10 وما بعدهما.
(2) ـ لجنة الأمن الإنساني هي تلك اللجنة التي أنشأتها اليابان في جانفي2001، وقد تم ذلك في إطار اجتماع ألفية الأمم المتحدة سنة2000 وتهدف اللجنة إلى تطوير مفهوم وفهم الأمن الإنساني كأداة إجرائية لصياغة وتنفيذ السياسات واقتراح برنامج محدد للتحرك لتحديد مصادر التهديد الخطيرة للأمن الإنساني، عن بتصرف ولمزيد من التفاصيل: خديجة عرفة محمد ، الأمن الإنساني الآن، في مجلة النهضة، الصادرة عن كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة، العدد20، يوليو2004، ص1001- 106.(1/41)
3 ـ تشجيع المساواة بين الجنسين وتمكين النساء من أسباب القوة: أي إزالة الفوارق بين الجنسين في كافة المراحل التعليمية، بحيث أستهدف أن يتم إزالة التفاوت في التعليم الابتدائي والثانوي بين الجنسين بحلول عام2005 (وهو ما لم يتحقق حتى الآن) وأن يتمكن من ذلك أيضا، بالنسبة لجميع مراحل التعليم، في موعد لا يتجاوز عام2015؛ إضافة إلى العمل على تسهيل حصول النساء على الشغل واكتسابهم دخلا، ومشاركتهم في الحياة السياسية، ومحاربة العنف ضدهم.
4 ـ تخفيض معدل وفيات الأطفال: ويتمثل هذا في استهداف تحقيق تخفيض في معدل وفيات الأطفال دون سن الخامسة بنسبة الثلثين.
5 ـ تحسين صحة الأمهات: من خلال تخفيض معدل وفيات الأمهات بنسبة ثلاث أرباع.
6 ـ مكافحة فيروس ومرض الإيدز والملاريا والأمراض الأخرى: من خلال بذل الجهود في تمويل أنشطة الرعاية الصحية(1)، قصد وقف انتشار وبدء تراجع: الفيروس المسبب لنقص المناعة المكتسبة، ومرض الملاريا والأمراض الرئيسية الأخرى بحلول سنة 2015.
__________
(1) ـ حيث يتسبب الإيدز في كارثة إنسانية في إفريقيا جنوب الصحراء فالعمر المتوقع عند الولادة انخفض من 50إلى 46 سنة في الفترة بين عامي 1990 و2001، وتقدر وكالة الأمم المتحدة لمكافحة الإيدز أن هناك نحو 40 مليون شخص يمارسون حياتهم حاملين لفيروس الإيدز، منهم 25 مليون في إفريقيا جنوب الصحراء، مع معدل لوفاة البالغين والأطفال في إفريقيا يبلغ7000 يوميا، وأما الملاريا فهي تمثل مشكلة صحية مدمرة، إذ يصاب بها 650مليون شخص تقريبا في المتوسط أكثر من مرة كل عام.(1/42)
7 ـ ضمان استمرارية البيئة: من خلال دمج أهداف للتنمية المستديمة في السياسات القطرية والحفاظ على الموارد البيئية، مع إدخال تحسينات هامة على حياة ما لا يقل عن مائة مليون شخص من سكان الأحياء الفقيرة بحلول سنة 2020، وهذا يعني تخفيض نسبة الأشخاص، الذين لا تتوفر لهم مياه عذبة وسليمة إلى النصف، وتأمين سلامة ونظافة العيش لعشرات الملايين من الذين يفتقرون إليها.
8 ـ إقامة شراكة عالمية من أجل التنمية: من خلال زيادة المساعدات الإنمائية الرسمية وزيادة فرص الوصول إلى الأسواق، وذلك بالعمل على:
? «المضي في إقامة نظام تجاري ومالي يتسم بالانفتاح والتقيد بالقواعد والقابلية للتنبؤ به وعدم التمييز يشمل التزاما بالحكم الرشيد، والتنمية، وتخفيف وطأة الفقر، على الصعيد الوطني والصعيد العالمي.
? معالجة الاحتياجات الخاصة لأقل البلدان نموا، تشمل قدرة صادرات أقل البلدان نموا على الدخول معفاة من التعريفات الجمركية والخضوع للحصص؛ وبرنامجا معززا لتخفيف عبء الديون الواقع على البلدان الفقيرة المثقلة بالديون وإلغاء الديون الثنائية الرسمية وتقديم المساعدة الإنمائية الرسمية بصورة أكثر سخاء للبلدان التي أعلنت التزامها بتخفيف وطأة الفقر.
? معالجة الاحتياجات الخاصة للبلدان غير الساحلية والدول النامية الصغيرة الجزرية (عن طريق برنامج العمل للتنمية المستدامة للدول النامية الصغيرة الجزرية ونتائج الدورة الاستثنائية الثانية والعشرين للجمعية العامة).
? المعالجة الشاملة لمشاكل ديون البلدان النامية باتخاذ تدابير على المستويين الوطني والدولي لجعل تحمل ديونها ممكنا في المدى الطويل.
?? التعاون مع البلدان النامية لوضع وتنفيذ استراتيجيات تتيح للشباب عملا لائقا ومنتجا.
?? التعاون مع شركات المستحضرات الصيدلانية لإتاحة العقاقير الأساسية بأسعار ميسورة في البلدان النامية.(1/43)
? التعاون مع القطاع الخاص لإتاحة فوائد التكنولوجيات الجديدة وبخاصة تكنولوجيا المعلومات والاتصال»(1)
فهل يسير المجتمع البشري ـ في البلدان المتخلفة أساسا ـ على طريق تحقيق هذه الأهداف؟ إن تحليلا لما تم في هذا الإطار لبعض من تلك الأهداف يرسم لنا مع الأسف صورة قاتمة لمستقبل الدول المتخلفة، إذ يتضح وأن « مناطق "العالم النامي" لن تحقق، وفقا لوتيرتها الحالية، أهداف الألفية الإنمائية في مجال الصحة بحلول العام2015»(2)؛ ويبدو كذلك من تقرير المتابعة العالمية2004 الصادر عن صندوق النقد والبنك الدوليان، الوجه القاتم في تحقيق معظم أهداف الألفية، إذ يشير إلى أنه بناءً على الاتجاهات الحالية « لن تتحقق أهداف خفض الوفيات بين الأطفال والأمهات في معظم المناطق» ويبدو الوضع أكثر قتامة فيما يتعلق بالتعليم والبيئة(3).
ثالثا:المعونات والمساعدات الإنمائية للبلدان المتخلفة:
__________
(1) ـ عن: قسم خدمات شبكة الإنترنت بالأمم المتحدة، م. س.
(2) ـ التمويل والتنمية،ع.س، مارس2004، ص8.
(3) ـ التمويل والتنمية، يونية2004، ص3.(1/44)
ترى نظريات التنمية التي ظهرت في الخمسينيات، ضرورة توجيه حجم كاف من المعونات المالية الدولية نحو البلدان المتخلفة، لكي يتوفر لها حد من تراكم رأس المال تستطيع من خلاله الانطلاق في إنجاز مشاريع تنموية؛ والواقع أن برامج المساعدات الإنمائية الرسمية هي ظاهرة حديثة مرتبطة بالقضاء على التخلف في البلدان حديثة الاستقلال والطموحة لتحقيق التنمية، كما ترتبط بعوامل تاريخية وسياسية؛ فقد كانت بريطانيا أولى الدول التي قدمت مساعدات إلى مستعمراتها منذ عشرينيات القرن العشرين وتلتها الولايات المتحدة الأمريكية، من خلال مشروع مارشال لإعادة بناء الاقتصاديات الأوروبية، ثم بدأ العمل بتقديم المساعدات للدول والشعوب الفقيرة مع إنشاء الأمم المتحدة، وبظهور منظمة التعاون الاقتصادي الأوروبي التي تحولت إلى منظمة للتعاون الاقتصادي والتنمية تم التوجه لمساعدة "دول العالم الثالث" من خلال لجنة مساعدة التنمية، وإذا كانت المساعدات قد أخذت الشكل المؤسسي المتعدد الأطراف فإنها تعد تعبيرا عن تصاعد موجة من التضامن العالمي والالتزام المعنوي والسياسي تجاه شعوب البلدان المتخلفة والتعاطف مع مطالبها المشروعة الهادفة إلى تحقيق التنمية الاقتصادية وهي تندرج خلال هذه السنوات الأخيرة ضمن مساعدة البلدان الفقيرة على تحقيق أهداف الألفية الإنمائية للأمم المتحدة بحلول عام2015.(1/45)
يرى بعض الباحثين أن نصيبا كبيرا من المعونة الخارجية يتوجه نحو "تعزيز المصالح الذاتية للمانحين"، وهو ما يعتبرونه سببا في ضعف التأثير الايجابي للمعونات في أغلب الأحوال، حيث يتم عادة "ربط المعونة الثنائية بشراء السلع والخدمات من الدولة المانحة، وهذا الخلل يخفض من القيمة الفعلية للمعونة ويحول محور البرامج الثنائية عن احتياجات المتلقين إلى التركيز على ما يمكن أن يوفره المانحون"(1)والحقيقة أن هناك أهداف وخلفيات عديدة وراء المعونات الخارجية المقدمة إلى البلدان المتخلفة، بحيث يقدم بعضها كالمعونات الإنسانية أو العسكرية أو في شكل معونات للتنمية الاقتصادية ـ وهي التي تهمنا في موضوعنا ـ في إطار القضاء على الفقر في إفريقيا وتحقيق الأهداف الإنمائية للألفية الثالثة.
__________
(1) ـ كونبرت رافر وهانز سينجرKunibert Raffer & H.W.Singer ، في استعراض لكتابهما حول المعونة الخارجية، في التمويل والتنمية، ع.س، يونية1997، ص54و55.(1/46)
إذا كانت الأهداف المعلنة للمعونات الاقتصادية، عادة ما تكون أهدافا إنسانية تركز على مساعدة الفقراء والقضاء على الأمراض المتفشية، أو بقصد تعزيز النمو، فإن الأحداث تؤكد أن المساعدات كثيرا ما ترتبط بشروط محددة تضعها الدول المانحة لتخدم مصالحها وذلك من خلال إبقاء ارتباط الدول المتلقية للمعونات بالسوق العالمية، سواء لتصريف منتجات الدول الصناعية أو لإشباع حاجاتها من المواد الأولية من الدول المتلقية إلى جانب الاستقطاب السياسي لتلك الدول التي تشكل المعونات المقدمة إليها أحد العناصر الضاغطة والمؤثرة على علاقتها الدولية ومواقفها السياسية؛ وقد أقر تقرير التنمية البشرية الصادر عن البرامج الإنمائي للأمم المتحدة سنة 1994، بأنه إذا كان الدافع إليها هو التضامن الدولي والتوجهات المثالية، فإن الوجه الخفي والحقيقي لها هو المقتضيات السياسية، وبالرغم من اعتراف ذلك التقرير بأن المعونة الخارجية قد حققت في البلدان المتخلفة تقدما خلال الثلاثين السنة السابقة، بأكثر مما حققته البلدان الصناعية في غضون قرن إلا انه انتقد الشروط القاسية التي فرضها المانحون والتي اعتبرها انتهاكا صارخا للسيادة الوطنية(1).
__________
(1) ـ تقرير التنمية البشرية لسنة1994، ص69.(1/47)
وما يؤكد ذلك أن تقريرًا أُعٍدَّ من أجل اجتماعات صندوق النقد والبنك الدوليان في مارس/ أفريل2004، أظهر أن البلدان المتقدمة لم تلتزم بعهودها، ولذلك فهي مطالبة« بإظهار مقدرتها على القيادة بالالتزام بالوعود التي قطعتها على نفسها في مؤتمر مونتري لتمويل التنمية، حيث تعهدت بالمواءمة بين جهود الإصلاح القوية في "البلدان النامية" وبين الدعم المالي المتزايد»(1)، وفقد يبدو ذلك وراء تعهد قمة مجموعة الدول الصناعية الثمانية الكبرى، التي عقدت خلال جويلية2005 بـ"جلينايلز " في سكوتلندا، "بزيادة المعونة المقدمة للبلدان النامية بدرجة كبيرة بما في ذلك مضاعفة المعونة المقدمة لأفريقيا"(2).
ولكن تقريرا يتعلق بأحوال التنمية الاقتصادية في إفريقيا خلال سنة2006، صدر عن مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية في سبتمبر2006، أشار إلى قضية المساعدات الدولية للدول الإفريقية، ورأى أن المشكلة الأساسية هي أن نظام المساعدات الدولية يجنح إلى المصالح السياسية والفوائد القصيرة المدى وينقصه التنسيق والشفافية ويفرض شروطا قاسية على الدول المتلقية للعون؛ الأمر الذي يجبر هذه الدول على اتخاذ إجراءات إصلاح مشددة مثل الخوصصة التي قد تؤدى إلى سلبيات أيضا؛ وهو الأمر الذي يؤدى بهذه الدول إلى اتخاذ إجراءات التقلص الاقتصادي في نهاية الأمر إلى جانب ذلك فان الدول المانحة لا تعرف ما تحتاج إليه الدول المتلقية للعون بسبب عدم التنسيق والتبادل بينها فتقدم المساعدات لها حسب رغبتها وحسب المصالح المتعارضة بين الدول المانحة مما جعل نظام العون الدولي يسوده الفوضى؛ فقد اضطرت الدول الإفريقية المتلقية للعون الدولي إلى إهدار أوقات كثيرة للتنسيق بين هذه الدول المانحة.
__________
(1) ـ التمويل والتنمية، ع. س، يونية2004، ص3.
(2) ـ م. ن، سبتمبر2005، ص1.(1/48)
ومن اجل القضاء على هذه الحالة اقترح التقرير تشكيل نظام دولي جديد للعون يقدم المساعدات للدول الإفريقية بأشكال متعددة وتخصيص هيئة نقد دولية تتبع للأمم المتحدة، بدلا من البنك العالمي وصندوق النقد الدولي، تتحمل مسئولية توزيع المعونات دون التأثير بالضغوط السياسية.
وعليه يتضح لنا أن الأمم المتحدة لم تنجح بعد في مهامها التنموية الكبرى، بالنظر لصعوبة وعمق أزمة التنمية ولعدم توافر الموارد المادية والإنسانية الكافية، ويبقى من الضروري زيادة المساعدات المتنوعة من قبل الدول الغنية للبلدان المتخلفة، إذ أن عليها دينا ومسؤولية تاريخية، بسبب ما اقترفته في حق شعوب هذه الأخيرة.
الفرع الثاني
مفهوم التنمية لدى البنك الدولي(1/49)
إن "البنك الدولي" هو الاسم الذي أصبح يستخدم لوصف البنك الدولي للإنشاء والتعمير (BIRD)(1)، ووكالة التنمية الدولية (AID)(2)، واللتان تشكلان بالإضافة إلى مؤسسة التمويل الدولية ما يسمى بمجموعة البنك الدولي(3)،
__________
(1) ـ Banque Internationale pour la Reconstruction et le Développement
(2) ـ Association Internationale de Développement وتعتبر ذراع البنك الدولي الذي أنشئ في1960، ليضطلع بمساعدة أشد بلدان العالم فقراً؛ وتهدف وكالة التنمية الدولية، إلى تخفيض أعداد الفقراء، من خلال تقديم قروض بدون فوائد ومنحٍ لبرامج تستهدف تعزيز النمو الاقتصادي، وتخفيف حدة التفاوت وعدم المساواة، وتحسين الأحوال المعيشية لشعوب البلدان المقترضة؛ حيث تقوم الوكالة بإقراض الأموال ، بما يُعرف بـ (الاعتمادات بشروط ميسرة). وهذا يعني أن اعتمادات وكالة التنمية الدولية تُقدم بدون فوائد، وتمتد فترة السداد إلى ما بين 35 إلى 40 سنة تشمل فترة سماح مدتها 10 سنوات.
(3) ـ يجب أن نلاحظ أن البنك الدولي ليس "بنكاً" بالمعنى العام، بل هو أحد الوكالات المتخصصة للأمم المتحدة، وهو مكون من 184 من البلدان الأعضاء المسؤولة بصورة مشتركة عن كيفية تمويل المؤسسة وكيفية صرف أموالها. و مجموعة البنك الدولي تتشكل من البنك الدولي للإنشاء والتعمير والمؤسسة الدولية للتنمية، بالإضافة ثلاثة منظمات أخرى هي: ـ المؤسسة المالية الدولية وتعمل على تشجيع استثمارات القطاع الخاص عن طريق مساندة البلدان والقطاعات عالية الخطورة، ـ وكالة ضمان الاستثمارات وتقدم تأمينات ضد المخاطر السياسية (ضمانات) للمستثمرين في البلدان "النامية" (الاستثمارات المتعددة الأطراف) وللمقرضين لها. ـ المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار ويسعى إلى تسوية الخلافات الاستثمارية بين المستثمرين الأجانب والبلدان المستضيفة..(1/50)
وتعتبر المؤسسة الدولية للتنمية أحد أكبر مصادر المساعدة المقدمة إلى أشدّ بلدان العالم فقراً البالغ عددها 81 بلداً، والتي يوجد منها 40 بلداً في أفريقيا، والمؤسسة تعدّ أكبر مصدر واحد لأموال الجهات المانحة لتمويل الخدمات الاجتماعية الأساسية في البلدان الأشد فقرا؛ ومساندة المؤسسة الدولية للتنمية لأي بلد تعتمد الحصول على الأهلية المتمثلة في معدل الفقر النسبي السائد في البلد المعني، وهو ما يُعرّف بأن يكون نصيب الفرد من إجمالي الدخل الوطني أقل من حد معين، حيث يتم تحديث بياناته سنوياً( وقد بلغ هذا الحد في السنة المالية 2006: ما يعادل دولاراً واحداً أمريكياًّ).
وحيث أن آجال استحقاق اعتمادات المؤسسة الدولية للتنمية تتراوح ما بين 20 أو 35 أو 40 سنة شاملة فترة سماح تبلغ 10 سنوات قبل بدء سداد أصل المبلغ، فإن امتداد هذا العامل الزمني يسمح للبلدان الفقيرة بالحصول على قروض منخفضة الفوائد، وائتمانات معفاة منها (حيث لا يتم تحميل الاعتمادات بفوائد، ولكن بمصروفات خدمة ضئيلة، تبلغ في سنة2006 حوالي 0.75 من الأموال المدفوعة) ويتم تخصيص أموال المؤسسة الدولية للتنمية للبلدان المقترضة وفقاً لمستويات الدخل السائدة فيها، وسِجِّل أدائها في إدارة اقتصادياتها وتبعا لمشروعات المؤسسة الجاري تنفيذها لديها.(1/51)
ولكن من ناحية أخرى فإن سياسة الإقراض في البنك الدولي تتأثر بواقع سيطرة الدول الصناعية الكبرى على أكثر الأسهم في البنك ووكالاته(1)، وهو الأمر الذي انعكس على تطور رؤية البنك للمفهوم الشامل للتنمية هذا المفهوم الإطار، الذي أوضح البنك تفصيلاته، ويعمل من خلاله على تعزيز جميع العمليات التي يتبناها، والذي يتزايد عدد الجهات التي تتبناه على صعيد تجمعات التنمية الدولية؛ إن المبادئ الأساسية لإطار التنمية الشامل الذي يعتمده البنك الدولي تتمثل فيما يلي(2):
ـ ملكية البلد للإطار، أي اعتماد الانتقائية داخل كل بلد فيما يتعلق بأولويات التنمية.
ـ رؤية واستراتيجيه شمولية على المدى البعيد.
ـ شراكة إستراتيجية فيما بين أصحاب المصالح.
ـ التركيز على المساءلة فيما يتعلق بنتائج التنمية.
__________
(1) ـ وبالتالي فإنها ما يزيد تملك عن خمسين في المائة من القوة التصويتية في البنك، والولايات المتحدة باعتبارها أكبر حامل للأسهم في البنك وأكبر مساهم في وكالاته، سيطرت دائما ولازالت على توجهات الإقراض فيه، وهي بذلك تؤثر في كثير من السياسات والأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في البلدان المتخلفة
(2) ـ لمزيد من التفاصيل حول هذه المسائل تصفح الموقع: http://site resources.Worldbank.org/styles/wbi(1/52)
لقد وجه البنك الدولي حتى بداية السبعينيات من القرن الماضي قروضه إلى مجالات الزراعة والكهرباء والسكك الحديدية ولم يمول القطاعات الاجتماعية مباشرة، وكان حتى الثمانينيات يرى أن النمو الاقتصادي يتحقق من خلال الزيادة الكمية في المتغيرات الاقتصادية، من قبيل الزيادة السنوية في الناتج الوطني الإجمالي، أو معدل نمو نصيب الفرد من الدخل أو الناتج الداخلي الإجمالي؛ غير أنه لاحظ أن الاستفادة من جهوده المتعلقة بالتنمية اقتصرت على ذوي الدخل المتوسط أو المرتفع، وأنها لم تصل إلى الفقراء، فكان أن تحول مفهومه للتنمية، منذ بداية التسعينيات من القرن الماضي بموجب إعلانه ضمن تقريره عن التنمية سنة1991 من أن التحدي أمام التنمية هو تحسين نوعية الحياة، خاصة في عالم الدول الفقيرة، وأن أفضل نوعية للحياة تتطلب دخولاً عالية، وتعليمًا جيدًا ومستويات عالية من التغذية والصحة وفقرًا أقل، وبيئة نظيفة، وعدالة في الفرص، وحرية أكثر للأفراد وحياة ثقافية غنية، ولا شك في أن هذه الرِؤية التي تأخذ في الاعتبار متغيرات ليست مادية أو اقتصادية في مجملها، تمثل تحولا بارزا في النظر إلى التنمية كمفهوم وممارسة، خصوصا بالنسبة للبلدان المتخلفة التي عانت من الاختلافات والعجز في تحديد المفهوم التنموي المناسب خلال عقود الخمسينيات والستينيات والسبعينيات وكانت نتائج تطبيقات المفاهيم التي اعتمدتها مخزية ومحزنة في معظمها.(1/53)
وعليه فقد تحولت التنمية في نظر البنك الدولي إلى مفهوم أوسع لتأخذ باعتبارات مستويات ومتطلبات المعيشة من مستوى دخل وتعليم وصحة إلى جانب اعتبارات أخرى هامة ومرتبطة بتلك، متمثلة في حماية البيئة والمساواة في الفرص والحريات السياسية والمدنية، بحيث تحدد الهدف الشامل للتنمية في احترام الحقوق الاقتصادية والسياسية والمدنية لكل الأفراد، دون تفرقة بسبب الجنس أو الدين، ولا شك في أن هذه الأهداف هي نفسها التي تنشدها البلدان المتخلفة منذ أوائل عقد الخمسينات وحتى الوقت الراهن.
ورغم أن البنك يستخدم الدخل كمؤشر لتصنيف الدول إلى مجموعات تنموية، إلا أنه يعتبره غير معبر عن تقدير التغيرات الحقيقية في حالة الرفاهية الاجتماعية بالنسبة لقسم كبير من الفقراء، وأن المؤشرات المتعلقة بنمو الدخل، قد لا تعكس التحسينات في تلبية الحاجات الأساسية من غذاء وتعليم ورعاية صحية ومساواة في الفرص والحريات المدنية وحماية البيئة، وهكذا يتبين وأن للتنمية مضامين أخرى غير اقتصادية.
المضامين غير الاقتصادية للتنمية:(1/54)
بالرغم من أن البنك الدولي يستخدم مؤشر الدخل الحقيقي كمعيار لتقسيم الدول إلى مجموعات تنموية(1)، كما أن أهلية الحصول على مساندة الوكالة الدولية للتنمية، تعتمد أولاً وقبل كل شيء على معدل الفقر النسبي السائد في البلد المعني، وهو ما يُعرّف بأن يكون نصيب الفرد من إجمالي الدخل الوطني أقل من حد معين(واحد دولار/اليوم في2006)، فإن تقاريره المختلفة تهتم بدراسة المضامين غير الاقتصادية في مفهوم التنمية وذلك بالنظر للعديد من الأسباب لعل من أبرزها:
أ: ـ أن القروض التي يمنحها البنك، وأساسا تلك الممنوحة من الوكالة الدولية للتنمية، يتم توجيهها بصفة أساسية إلى مجالات التعليم وخدمات الرعاية الصحية الأساسية والمياه النظيفة ومرافق الصرف الصحي والحماية البيئية، وإدخال تحسينات على مناخ ممارسة أنشطة الأعمال والبنية الأساسية والإصلاحات المؤسسية؛ وتستهدف هذه المشروعات إفساح الطريق لتحقيق النمو الاقتصادي وخلق فرص عمل وزيادة مستويات الدخل وتحسين الظروف المعيشية، ولا شك في أن هذه مضامين اجتماعية هامة في تحقيق عملية التنمية، ولعل في هذا ما يكشف عن قناعة خفية لدى مجموعة البنك، في أن الأسواق وحدها، لا تضمن بمفردها لكي تحصل الفئات الفقيرة على القدر الكافي من التعليم والرعاية الصحية والتغذية وخدمات تنظيم الأسرة.
__________
(1) ـ يقسم البنك الدولي، الدول إلى ثلاث مجموعات تبعا لنصيب الفرد من الدخل الوطني الإجمالي، وقد كانت المستويات سنة2003 تبعا لما أورده تقرير التنمية البشرية لعام2005 محددة كما يلي: أ ـ مجموعة الاقتصاديات المنخفضة الدخل نصيب الفرد فيها765$ فأقل. ب ـ مجموعة الاقتصاديات المتوسطة الدخل، يبلغ متوسط من 9385إلى766$. ج ـ مجموعة الاقتصاديات المرتفعة الدخل وهو9386$ أو أكثر.(1/55)
ب: ـ أن مجموعة البنك الدولي تعمل على توسيع نطاق قدرات البلدان المقترضة لتقديم الخدمات الأساسية وتحقيق الانتعاش من آثار الحروب الأهلية والاضطرابات المدنية والصراعات المسلحة والكوارث الطبيعية؛ كما تحاول إرساء مبدأ المساءلة فيما يتعلق بالموارد العامة؛ وهذه جوانب سياسية يهتم بها البنك.
ج: ـ أن خبراء التقويم في البنك الدولي يستخدمون بالفعل بعض المؤشرات التي يتضح منها الربط بين التصنيفات العامة لخصائص البلدان السياسية، خصوصا ما يتعلق بالحريات العامة وحجم الديمقراطية، وبين أداء مجموعة من المشروعات الاستثمارية الحكومية التي يمولها البنك الدولي(1).
__________
(1) ـ راجع مقالة: لانت بريتشيت/ دانيال كوفمان Lant Pritchett / Daniel Kaufmann المعنونة: الحريات المدنية والديمقراطية وأداء المشروعات الحكومية، في التمويل والتنمية، ع. س، العدد1، مارس1998 ص26.(1/56)
بالنظر لهذه الاعتبارات فإن البنك الدولي يؤكد على ضرورة توفر مجموعة من الشروط لتلقي معوناته الرسمية، التي يرمي من ورائها زيادة فاعلية هذه الأخيرة، وتدعيم أثرها في تحقيق التنمية، ويؤكد في نفس الوقت على أن المعونة حققت منافع طويلة الأجل بصفة عامة للبلدان المتلقية لها، ولذلك فقد قام البنك بوضع شروط لتلقي المعونة من بينها(1):
ـ ضرورة إقامة أسلوب حكم جديد، يتم من خلال إعادة النظر في دور الدولة، والربط بين طبيعة النظام السياسي والجوانب الشاملة للتنمية، كما يمنح البنك أهمية معتبرة للبناء المؤسسي وكفاءته في استخدام الموارد، إضافة إلى اهتمامه بدور المنظمات غير الحكومية في عملية التنمية.
__________
(1) ـ وهي ما تجسد مشروطية البنك الدولي،والتي يمكن تلخيصها في : أ ـ تدخل حكومي أقل بمعنى إعادة النظر في دور الدولة وإفساحها المجال للسوق وللقطاع الخاص، وبناء مؤسسات أكثر فاعلية ومنح أدوار للمنظمات غير الحكومية، أو ما يعبر عنه ببناء نظام سياسي ومؤسساتي ملائم للتنمية. ب ـ الشفافية والعلانية واستقلال القضاء والخضوع للمساءلة مع إمكانية الاستعانة بالضوابط الخارجية، وهو ما فتح الباب برأينا للتدخل المباشر في كثير من القضايا الداخلية للبلدان المتخلفة. ج ـ حرية الرأي وصحة الانتخابات وتوسيع المشاركة الشعبية واللامركزية لتحفيز التنمية المحلية؛ لمزيد من التفاصيل طالع تقارير البنك الدولي عن التنمية في العالم وأساسا منذ تقرير سنة1997.(1/57)
ـ يعتمد البنك مفهوما كإطار شامل للتنمية تتمثل مبادئه الأساسية فيما يلي: ملكية البلد للإطار، رؤية واستراتيجيه شمولية على المدى البعيد، وشراكة إستراتيجية فيما بين أصحاب المصالح، والتركيز على المساءلة فيما يتعلق بنتائج التنمية، ولذلك يعتمد ضرورة توفر بعض الضوابط لتدعيم مصداقية المساءلة والشفافية(1)، وهي الضوابط التي يرى أنها يمكن تحقيقها من خلال استقلال القضاء والفصل بين السلطات.
ـ كنتيجة لتطور فهم المجتمع الدولي للعلاقات بين تخفيف حدة الفقر والنمو الاقتصادي بما تشمله من شراكة بين القطاعين العام والخاص ومشاركة وتمكين وحكم فإن البنك يدفع باتجاه تفويض السلطات للمجتمعات المحلية والإقليمية ويقر مبدأ المشاركة الديموقراطية.
__________
(1) ـ لاشك وأن الشفافية تعتبر أساس لحسن سير الإدارة العامة حيث أن إمكانية الاطلاع والتحقق من المعلومات، تؤدي إلى الحد من انتشار الفساد، كما أن المؤسسات المتميزة بالشفافية تحوز على ثقة المواطنين، وقد ساعدت عمليات البنك الدولي في إدخال المزيد من الشفافية في كثير من أعمال الإدارة العامة، بل حتى هيكلة بعض الحكومات في البلدان المتخلفة( هياكل: للتضامن، المشاركة، التشاور، والعلاقات مع الهيئات المنتخبة...)(1/58)
كان يعتقد خلال الخمسينيات والستينيات والسبعينيات أن البلدان المتخلفة، استنادا إلى تدخل كثيف للدولة في النشاط الاقتصادي، ومن خلال تخطيط مركزي، بإمكانها أن تحقق معدلات نمو مرتفعة؛ ولكن نتائج ذلك النهج كانت ببداية الثمانينيات مخيبة للآمال في أغلب البلدان المتخلفة، وإن كانت تلك النتائج برأينا لا ترجع في مجملها إلى إتباع ذلك النهج، بل هناك من العوامل ـ من بينها التحولات على الصعيدين الدولي والعالمي ـ ما اجتمع على فشل النهج الذي لم يعتمد اقتصاد السوق وحرية التجارة، مما أدى إلي انعدام الاستقرار السياسي في بلدان كثيرة منها، لذلك دعا تقرير البنك الدولي عن التنمية لسنة1991 الحكومات صراحة إلى التدخل بدرجة أقل في بعض المجالات ولتبادل دورها مع آليات السوق وإلى التدخل بدرجة أكبر في مجالات أخرى من بينها الحفاظ على القانون والنظام وتوفير السلع العامة والاستثمار في رأس المال البشري وتشييد البنية الأساسية وإصلاحها وحماية البيئة.(1/59)
ولكن سياسات البنك الدولي تواجه انتقادات عديدة من بينها أنه مجرد أداة تستخدمها الدول الكبرى لفرض نظامها الاقتصادي على دول العالم، ولعل تقرير التنمية حول العالم لسنة2001 يعكس في جانب منه هذه الحقيقة، إذ يتمحور أساسا حول ضرورة بناء المؤسسات من أجل دعم الأسواق، وفي الجانب الآخر ربما يمنح التفاتة للانتقادات المتزايدة بشأن سياساته المتعلقة بالتنمية في الدول المتخلفة، حيث يشجع ويدعم الاختلاف ويقر بوجود مداخل مختلفة لعملية التنمية، وذلك من خلال تشجيعه لإيجاد الوسائل والإمكانيات لتحسين الأسواق، والعمل على جعلها تعمل في الدول المتخلفة كما تعمل في تلك الصناعية المتقدمة، وهو الأمر الذي يعتبره منظرو البنك الدولي عاملا أساسيا في عملية التنمية، إلى جانب تركيزهم على أن المؤسسات سواء كانت مبنية على أسس قانونية أو على أسس غير رسمية فإنها تساعد في تسيير حركة الأسواق وبالتالي تشجع النمو وتقلل من الفقر، ولذلك فإنهم يرون أن شكل تلك المؤسسات قد يكون مختلفا من دولة إلى أخرى، فالمهم في عملية بناء تلك المؤسسات هو تحديد الغرض منها أو ما ستقوم به، وليس كيفية إنشائها أو بنائها، ويقدم تقرير التنمية حول العالم سنة2001 أربعة مداخل للدول المتخلفة، يمكن أن تأخذ بها في بناء المؤسسات المختلفة والمهمة لعملية التنمية وهي التالية:
1 ـ ضرورة استكمال المؤسسات القائمة بالفعل أو الإضافة إليها.
2 ـ ابتكار وتحديث وتطوير الترتيبات المؤسساتية الملائمة للحكومات الوطنية ولمنظمات الأعمال وللمجتمعات المحلية.
3 ـ أهمية التجارة في تحقيق نتائج هامة على صعيد تشجيع عملية تبادل الأفكار، بين المجتمعات والدول المختلفة فيما يتعلق بالمؤسسات الجديدة، إضافة إلى أهميتها في زيادة الكفاءة ونقل وانسياب المعلومات عبر قطاعات الاقتصاد.(1/60)
4 ـ اعتبار المنافسة عاملا أساسيا ومحددا لعملية التنمية، حيث تزيد من الكفاءة وتفتح الأسواق وتدفع لخلق مؤسسات قيمة استجابة لضغوطها.
الفرع الثالث
مفهوم التنمية لدى صندوق النقد الدولي
لقد كان الخوف من تكرار الأزمات المالية التي مر بها العالم، وراء اتفاق لؤلئك الذين اجتمعوا في 22جويلية من سنة1944 ـ بمنطقة بريتون وودز بولاية نيو هامبشاير بالولايات المتحدة الأمريكية ـ على تأسيس منظمتين مستقلتين هما البنك الدولي للإنشاء والتعمير وصندوق النقد الدولي، الذي تمت المصادقة على إنشائه في ديسمبر1945 وبدأ مزاولة نشاطه في الأول من مارس سنة1947، وكانت أهدافه الرئيسية كما جاءت في ميثاق تأسيسه، يمكن تلخيصها في: ـ تشجيع التعاون النقدي الدولي.
ـ توسيع نطاق التجارة الدولية وتنمية الموارد الإنتاجية لجميع الدول الأعضاء.
ـ العمل على تحقيق ثبات أسعار الصرف. ـ المساعدة على وضع نظام متعدد الأطراف للمدفوعات المتعلقة بالمعاملات التجارية. ـ العمل على توفير الثقة والضمانات بين الدول الأعضاء. وعموما فقد كانت وظائفه الأساسية ثلاث هي: ـ الإصدار النقدي، والمراقبة النقدية، والمساعدة والتمويل وهذه تقدم لمعالجة عجز مؤقت في ميزان مدفوعات الدولة العضو؛ ومنه يتبين لنا بأنه كان ليشكل هيكلا دوليا لممارسة رقابة للنظام النقدي والمالي الدولي ولمناقشة وحل القضايا المؤثرة عليه، وأنه عند إنشائه لم يكن من بين أهدافه الرئيسية، القيام بأي دور إنمائي لدفع عملية التنمية في البلدان المتخلفة، ولكن تطورات الأحداث الاقتصادية والمالية على الصعيدين الدولي والعالمي غيرت من مهام وأدوار الصندوق فأصبح أحد المؤسسات التي تهتم بالنمو والتنمية، وخصوصا في توجيه السياسات المرتبطة بها بالبلدان المتخلفة.(1/61)
وهكذا تم في فيفري1997 تأسيس صندوق تسهيل معزز للتعديل الهيكلي الذي دخلت ترتيباته في أفريل من نفس السنة، وطبع فقد انصب الاهتمام ومجال العمل في هذا الإطار على البلدان المتخلفة، وتلك ذات الاقتصاد المتحول وظهر الاهتمام بمشكلات موازين المدفوعات التي واجهتها البلدان المتخلفة؛ ومنذ بداية التسعينيات بدأ الصندوق في تطوير عملياته لمواجهة تلك الموجة من التحولات الطارئة على الصعيدين الدولي والعالمي، فأولت مجموعة الدول الصناعية الكبرى، إلي الصندوق مهمة مساعدة الدول المستقلة نتيجة لتفكك الاتحاد السوفيتي، في عملية الانتقال إلى اقتصاد السوق؛ كما لعب الصندوق دورا أساسيا في مواجهة الأزمة المالية الأسيوية من خلال تقديم العون المالي لمساعدة تلك الدول على تسوية مديونيتها الخارجية.
ويصنف تقرير "آفاق الاقتصاد العالمي2006" الصادر عن صندوق النقد الدولي في أفريل2006، الدول إلى مجموعتان رئيسيتان(1):
أ ـ بلدان الاقتصاديات المتقدمة(29بلدا) تحوز على52.3% من الناتج الداخلي الإجمالي العالمي
ب ـ بلدان اقتصاديات الأسواق الناشئة والاقتصاديات النامية(146بلدا)، نصيبها من الناتج الداخلي الإجمالي العالمي47.7% والبلدان التي تمر اقتصادياتها بمرحلة انتقالية من نظم مدارة مركزيا إلى نظم تستند إلى مبادئ اقتصاد السوق، ويتم التقسيم تبعا لنصيب المجموعات من المجموع الكلي لإجمالي الناتج المحلي، والصادر من السلع والخدمات وإجمالي الدين القائم.
1 ـ مفهوم التنمية وصندوق النقد الدولي:
__________
(1) ـ راجع صفحة 184 وما بعدها والجداولA إلىFمن تقرير صندوق النقد الدولي: PERSPECTIVES DE L’ةCONOMIE MONDIALE, Avril 2006, Mondialisation et inflation , Fonds monétaire international(1/62)
إن التنمية من وجهة نظر الصندوق تتجسد في ارتفاع مستويات المعيشة بصورة مستمرة وهو المفهوم الذي يعد في رأينا منسجما مع منظور اقتصاد ليبرالي مرتبط بالتعديلات الاقتصادية والهيكلية لتحويل اقتصاديات البلدان المتخلفة إلى نظام السوق؛ وهكذا تصبح التنمية هي تبني البلدان المتخلفة لنمط مرجعي يأخذ بالتنمية المنفتحة على العالم الخارجي والاندماج التدريجي لاقتصادياتها ضمن إطار النظام الرأسمالي، وهو ما يوحي أن اقتصاديات السوق تقدم أفضل علاج للنمو الاقتصادي باعتبار أن السوق هو الذي يضمن التخصيص الكفء للموارد وليس للحكومات دورا في هذا ولذلك تبع هذا المفهوم بتيار ينادي بتقليص دور الدولة في الحياة الاقتصادية والاجتماعية(1).
__________
(1) ـ سنشير لاحقا إلى دور الدولة في ظل التحولات وأهمية هذا الدور بالنسبة للدول المتخلفة، وإن كنا قد تناولنا ضمن محتويات الفصل الثاني المهام التي قامت بها الدول الرأسمالية "المتقدمة حاليا" إبان ظروف هي أحسن حالا من ظروف البلدان المتخلفة اليوم.(1/63)
ويقسم الصندوق بلدان العالم إلى مجموعات تنموية حسب معدلات نمو نصيب الفرد من إجمالي الناتج المحلي، وهو ما يرى فيه أنه يوفر مؤشرا للعلاقة بين النمو وتحسين مستويات المعيشة(1)، التي تقاس بدخل الفرد، غير أن هذا المفهوم رغم ما يتضمنه من منطق ألا أنه لا يعبر برأينا بدقة عن مستوى التنمية التي قد يبلغها مثلا بلدان تساوت فيها تلك المعدلات بالنسبة للأفراد، إضافة إلى الاختلاف في مستوى الرفاه الذي يمكن أن يحصلوا عليه باختلاف البلدان وهو ما يمكن أن يعبر عن العديد من الاعتبارات منها اعتبارات سياسية وأخرى اقتصادية بل وحتى ثقافية واجتماعية، تعد في رأينا ذات أهمية للنظر فيها.
2 ـ الاعتبارات المتعددة ضمن مفهوم التنمية لدى صندوق النقد الدولي:
لا شك في أننا إذا ما استعرضنا الوثائق والتقارير الصادرة عن الصندوق، تبدو لنا الاعتبارات الاقتصادية واضحة، خاصة في حساباته وقراراته وان كان هذا لا يعني تجاهله للعديد من الاعتبارات الأخرى المتعددة، فهو يرى أن تحقيق معدلات مرتفعة من النمو تتطلب أن تكون سياسات الإصلاح مصحوبة باستقرار سياسي وبناء المؤسسات وزيادة في الاستثمار المادي والبشري وخاصة في مجال التعليم، وأن عدم الاستقرار السياسي من حروب أهلية وصراعات إقليمية يمكن أن يؤدي إلى عرقلة التنمية، وقد اهتمت التقارير الصادرة عن الصندوق على وجه الخصوص بالنقاط التالية:
2. 1 ـ نوعية الحكم السائد في الاقتصاد:
__________
(1) ـ إذا عرفنا أن معدلات نمو السكان في البلدان المتخلفة هي أسرع من تلك التي هي في البلدان المتقدمة يصبح من الملِّح التساؤل عن المعدلات التي يجب أن تنمو بها تلك المؤشرات، في الظروف العادية، حتى يتقلص الفارق بين المجموعتين على الأقل وليس لتحسين مستويات المعيشة الراهنة.(1/64)
برى الصندوق أن كفاءة الإصلاح الاقتصادي الرامي إلى رفع معدل النمو والرفاهية على المدى الطويل غالبا ما يعتمد على نوعية الحكم السائد في اقتصاد ما، وبأن تعريف مفهوم الحكم ليس بالأمر السهل ومع ذلك فهناك العديد من الجوانب الأساسية التي تضمن بعض الاتفاق حولها، ففي كثير من البلدان المتخلفة أدى نقص الشفافية و المساءلة في مجال وضع السياسيات العامة بالإضافة إلى التدخل الحكومي المفرط المقيد للنشاطات، إلى انتشار الفساد والسلوك الساعي إلى التربح. ومن ثم ؛ ولطالما شكلت كل من الحماية غير الكافية الخاصة وضعف سيادة القانون عقبتين رئيسيتين أمام النمو، فإن الحد من تدخل الدولة في الشئون الاقتصادية وإتاحة قدر أكبر من الشفافية لسياسات النظم التقليدية من شأنه أن يحد من السعي إلى التربح والفساد وأن يتيح للحكومات التركيز على مهامها الأساسية وهي إلى جانب المحافظة على النظام وإقامة العدالة تخصيص الموارد العامة وفقا لأولويات استخدامها بما في ذلك الاستثمار في الصحة والتعليم والمساعدة في الحفاظ على استقرار الاقتصاد الكلي وتوفير شبكات للأمان الاجتماعي ذات تكفه أقل وجيدة بحيث تصل إلى مستحقيها.
2. 2 ـ تحديد دور الدولة: ...(1/65)
رغم صعوبة القياس الكمي لفعالية الحكم ولمدى انتشار الفساد،إلا أننا يمكن أن نتفق على أن الحكم الضعيف والفساد لا يسببان فقط فقدان الإيرادات الضريبية الحكومية وبالتالي يساهمان في حدوث اختلالات المالية العامة ويقللان الاستثمار العام في مجالات أساسية كالصحة والتعليم، بل كذلك يعرقلان أيضا الاستثمار الأجنبي المباشر والمحلي، ولذلك نجد أن بعض الدراسات تحذر من أن هذه الجوانب يمكن أن تكون لها آثار سليبة ملموسة ودائمة على النمو "إن الفساد الذي ينخر في صميم النظام يفسد الحوافز ويقوض المؤسسات ويعيد توزيع الثروة والسلطة لصالح غير المستحقين، وعندما يقوض الفساد حقوق الملكية، وحكم القانون، وحوافز الاستثمار، فإنه يشل التنمية الاقتصادية والسياسية"(1).
وإذا كان من بين تعليمات صندوق النقد الدولي لتطبيق برنامج التقويم الهيكلي أن تتخلي الدولة عن العديد من الخدمات الاجتماعية، فإن ذلك لا يعد سببا لعدم تدخلها في كثير من المجالات منها الاستثمار في البنية التحتية ورأس المال البشري وتخفيض مستوى الفقر وتوزيع الدخل كما يجب أن تعمل على حماية الفقراء، ذلك أن إمكانات تحقيق التنمية تتوقف على مدى نجاح الدولة في القيام بدورها، ولكن صندوق النقد يوجه انتقادا للحكومات التي تتدخل في النشاط الاقتصادي، بحيث يرى أنه يجب عدم التدخل المباشر في الإنتاج وعوامله، فالحالات القليلة التي أصاب فيها التدخل قدرا من النجاح مثل حالة كوريا لا يعتد بها
2. 3 ـ النجاعة والشفافية والمساءلة:
__________
(1) ـ روبرت كليتجارد Robert Klitgaard في مقال له حول "استئصال شأفة الفساد" في التمويل والتنمية، صندوق النقد الدولي العدد2 يونية2000، ص2. يذكر أن كليتجارد هو أستاذ متميز للتنمية والأمن الدوليين وعميد مدرسة راند للخريجين، سانتا مونيكا كاليفورنيا.(1/66)
يعمل صندوق النقد الدولي على تقديم المواعظ الممزوجة بالتحذير للبلدان المتخلفة لتأخذ بالشفافية في العمليات الحكومية، وتعتمدها منهجاً في العمل والإدارة، سواء في الاقتصاد أو في السياسة، ولذلك فإن أغلب التقارير الصادرة عن صندوق النقد الدولي تؤكد على أن تكون الترتيبات المؤسسية الجديدة والإطار الشامل لسياساته على مستوى معين من الفعالية، بحيث يجب أن يتميز بالمساءلة والشفافية في جميع المراحل، وينظر إلى أن الشفافية في العمليات الحكومية تعد أمرا ضروريا لسلامة النفقات الحكومية وحسن الحكم والإدارة والنزاهة المالية العامة الشاملة، ولذلك يجب أن تتميز بإمكانية الاطلاع الفوري على المعلومات الموثوق بها والشاملة والتي يجب أن تصدر في مواعيدها المناسبة، لتسمح للأفراد والمتعاملين في الأسواق المالية من التقييم الدقيق لمركز الحكومة المالي الحالي والمستقبلي؛ ولكي يتم ذلك لابد من إصلاح مؤسسات المالية العامة، بما فيه من ترتيبات مؤسسية واضحة ودقيقة لإدارة الدين والضرائب والنفقات العمومية، وعلاقات المالية العامة فيما بين مختلف المستويات الحكومية، وإصلاح للأطر القانونية يشمل العمليات المالية الحكومية على كافة المستويات، ولتحسين المساءلة يجب تطوير عمليات تقييم ومراجعة حسابات الميزانية، كما أن زيادة الشفافية تتطلب ابتعاد الحكومات عن تقاليد السرية؛ ويقوم صندوق النقد الدولي عند وضع البنود الشرطية لبرنامجه لأي بلد ببحث مختلف الجهود لزيادة شفافية بيانات وممارسات المالية العامة في البلد المعني.(1/67)
لا شك في أن شفافية المالية العامة شرط أساسي لنجاعة السياسة الاقتصادية، ولكن ينبغي توخي الحكمة وحسن التقدير، إذ يمكن أن تكون الترتيبات المؤسسية والإجراءات المحاسبية في القطاع العام متسمة بالشفافية وباستمرار، في حين أن توقيت الإفصاح السابق لأوانه عن تدبير السياسات ـ كفرض ضرائب جديدة – أو تقديم إعانات ـ قد يؤدي إلى إضعاف فاعليتها أو تحصيل بعض المجموعات لمكاسب غير مقصودة ولم تكن في الحسبان.
وتجدر الملاحظة إلى تناقض صندوق النقد الدولي مع مبادئه، التي يفرضها على البلدان المتخلفة عند مفاوضاته مع حكوماتها في جو من السرية وبعيداً عن الرأي العام المعني وفي جلسات مغلقة وبتجاهل تام للمنظمات السياسية ونقابات العمال ورجال الأعمال، بالبلدان المعنية بالبرامج التي يفرضها.
2. 4 ـ زيادة الاستثمار في التعليم:(1/68)
على الرغم من إحراز تقدم ملموس من خلال تسجيل زيادة قدرها 37 مليون طفل في أعداد الملتحقين بالتعليم الابتدائي في الفترة من 1999 إلى 2004 وازدياد عدد البلدان التي ألغت الرسوم المدرسية، وارتفاع حجم الاعتمادات المالية المخصصة للتعليم في معظم البلدان، وارتفاع ملموس في معدلات تعليم الكبار؛ إلا أن هذا التقدم لم يتم بالسرعة اللازمة، فمن أصل 781 مليون أمي في العالم لن يتمكن إلا مائة مليون فقط من إجادة الكتابة والقراءة بحلول عام 2015 وفقاً لمعدلات التقدم الراهنة؛ كما أن ثلثي مجموع البلدان الـ 181 التي لديها بيانات في مجال التكافؤ بين الجنسين قد تمكن من تحقيق هذا التكافؤ في مرحلة التعليم الابتدائي، إلا أن هناك حاجة إلى حلول خاصة لمعالجة قضية التعليم للجميع في البلدان التي تمر بأوضاع ما بعد النزاعات وما بعد الطوارئ من أجل توفير الفرص التعليمية للأطفال والكبار؛ أما التحديات التي ما زالت تعترض تحقيق أهداف التعليم للجميع فهي كثيرة وملحة، ومن ذلك مثلاً أنه مع زيادة أعداد الملتحقين بالمدرسة يبقى تحسين نوعية التعليم وتقييم نتائج عملية التعلم من القضايا التي تحظى بالأولوية والتي ينبغي معالجتها معا، فإن صندوق النقد الدولي يرى أن ذلك يحتاج إلى إعادة توجيه قنوات الإنفاق العام إلى استخدامات اجتماعية أكثر فائدة، فالتعليم وتكوين رأس المال البشري ضروريان لبناء المؤسسات وتزايد نمو الإنتاجية وذلك لأن الاستثمار في التعليم يؤدي إلى اكتساب مهارات تحسن الكفاءة من خلال الاستخدام الأفضل للتكنولوجيات المتاحة، ويؤدي التقدم التكنولوجي بدوره إلى الإسراع بتراكم رأس المال البشري من خلال عوامل خارجية ايجابية ومؤثرة.
3 ـ وجهة نظر حول دور صندوق النقد في الدول المتخلفة:(1/69)
بالرغم من بعض النتائج الواضحة لسياسات صندوق النقد العالمي في كثير من البلدان المتخلفة، والتي يرى فيها البعض بأنها تشكل نعمة في حين يرى البعض الآخر أنها كانت نقمة وتشكل تهديدا للاستقرار الاجتماعي وللمكاسب السياسية، إلا أن فريقا ثالثا ينظر إلى أن تأثير سياسات صندوق النقد الدولي على الدول المتخلفة مسألة من الصعب تقديرها على الأقل في المديين القريب والمتوسط، إذ يرى أن هناك نماذج ناجحة في شيلي وغانا وتركيا والفلبين وأخرى فاشلة في المكسيك والبرازيل وزامبيا والأرجنتين، ويوجه البعض النقد للصندوق فيما يتعلق بإدعائه أنه ليس هيئة سياسية وان التوصيات الخاصة بالإصلاح لا تتعدى النواحي الفنية، ولا شك أن الأوضاع الداخلية للبلدان المتلقية تلعب دورها في تحديد ذلك التأثير إذ أن سياسات الصندوق كان لها انعكاسات سلبية على المستوى الاجتماعي من ارتفاع أسعار المواد الغذائية إلى تدهور نوعية الخدمات الصحية والتعليمية والسكنية ـ وهي الأبعاد السياسية لدور الصندوق في الدول المتخلفة ـ ومن هنا كان لابد أن نقف على بعض التداعيات السلبية لسياسة الصندوق:
3. 1 ـ الالتزامات والآثار الاجتماعية:(1/70)
إن العمل تبعا لسياسات صندوق النقد الدولي ـ في إطار برامج التكيف الهيكلي ـ لتخفيض الفقر ودفع عجلة النمو، يتم من خلال تحويل الهياكل الاقتصادية للدول المعنية على نحو يستهدف زيادة التحرير التجاري وتوسيع النظم المالية وتشديد السياسات النقدية، وزيادة المرونة في أسواق العمل، ترك آثارا أضرت بالفئات الاجتماعية المتوسطة والفقيرة، حيث انتشرت فئات العاطلين وازداد الفقر وتخلت الدول عن التزاماتها الاجتماعية في التعليم والصحة والسكن، فقد ترتب على سياسات الصدوق بالبلدان المتخلفة "آثار اجتماعية مرتفعة التكاليف" وقد حاول الصندوق أن يخفف من تلك الآثار من خلال تضمين برامجه ما يسمى بـ "الصندوق الاجتماعي للتنمية"، وبالتعاون مع البنك الدولي، إلا أوضاع المجتمعات بالبلدان المتخلفة، "ذات طبيعة خاصة وتحتاج إلى معالجات خاصة"(1).
3. 2 ـ الاستقرار السياسي والاجتماعي:
__________
(1) ـ بتصرف ومزيد عن: عبد المطلب عبد المجيد، م. س، ص93.(1/71)
... يذكر البعض "أنه ليس هناك تجربة واحدة مشجعة قام بها صندوق النقد الدولي في أي قطر من أقطار العالم الثالث بحيث يمكن الاسترشاد بها... فقد ولّدت هزَّاتٌ اجتماعية وتوتر سياسي، وانتهى إلى عواقب وخيمة"(1)، ذلك أن من بين السياسات التي يطلب الصندوق تطبيقها، رفع سعر الفائدة وإلغاء الدعم وتوحيد سعر الصرف، والنتيجة هو تقليص القوة الشرائية لقطاع واسع من السكان، وذلك عندما يحدث ولو على فترة محدودة يؤدى إلى توترات اجتماعية، مما يترتب عليه تأثير في حالة الاستقرار السياسي، "فالاتجاهات الخاصة بالتصحيح لها أبعاد سياسية، ولعل من الواضح أن ارتفاع الأسعار هو أحد المشكلات التي لها مضمون اجتماعي... وما يترتب على هذه الإجراءات ينبغي أن يراعى من قبل الحكومات المعنية بشكل لا ينتهي بمجرد حسابات اقتصادية"(2)، وقد برهنت الأحداث في كل من مصر والبرازيل والأرجنتين والجزائر أن التوترات الاجتماعية أدت إلى الاضطراب السياسي الذي ساعد على استصدار كثير من القوانين المقيدة للحريات والمنافية للديمقراطية.
3. 3 ـ دور الدولة:
__________
(1) ـ ذلك رأي مهدي الحفاظ، مسؤول البرنامج العربي الإقليمي لدى منظمة الأمم المتحدة للتنمية الصناعية، في بداية التسعينيات، طالع الحوار الذي أجرته معه مجلة الأهرام الاقتصادي، العدد1089، جانفي1990، ص38-39.
(2) ـ صبري السعدي، رئيس شعبة التخطيط في اللجنة الاقتصادية لغرب آسيا، م. ن، ص41.(1/72)
إن التحولات لم تؤثر على دور الدولة الاقتصادي والاجتماعي فقط، بل أنه ( كما يوضح رورك Rourek و بويرBoyer فإن المكانة المرموقة للدول في النظام الدولي تواجه مؤخرا تحديات من جبهتين: إحداهما خارجية ـ وهي نزعة تخطي الحدود القومية العولمة أو الكوكبية ـ والأخرى داخلية ـ التجزؤ أو التفتت ـ)(1). في الوقت الذي تمارس فيه المراكز الرأسمالية والمؤسسات المالية الدولية ضغوطا مختلفة على البلدان المتخلفة، لتأمين حرية انتقال السلع والخدمات والرساميل، فإننا نجدها تضع مختلف القيود والعراقيل لمنع انتقال قوة العمل من البلدان المتخلفة إلى الدول المتقدمة، كما أن سياسة تقليص حجم تدخل الدولة في آليات السوق محليا وخارجيا تعتبر سمة أساسية لبرامج التثبيت والتكييف الهيكلي وقد أدى كل ذلك إلى عرقلة عملية التنمية في عدة دول وحرمت الشعوب من مكاسب تحققت على مدى سنوات.
المطلب الثالث
مفهوم التنمية المستديمة
تعني التنمية المستدامة العملية التي تمكننا من سد احتياجاتنا الحالية دون تعريض قدرة الأجيال اللاحقة على سد احتياجاتها للخطر، أي أن نكون منصفين مع الأجيال القادمة، بحيث يترك الجيل الحالي للأجيال القادمة رصيدا من الموارد مماثلا للرصيد الذي ورثه على الأقل، أو أفضل منه، ومن هنا يبدو وأن هذه العملية لا يمكن أن تتم، دون أن تتضمن تحقيق العديد من الأهداف أهمها:
1 ـ الاستخدام الرشيد للموارد الآيلة للزوال (ماء ونفط وغاز) بمعنى آخر حفظ الأصول الطبيعية بحيث نترك للأجيال القادمة بيئة مماثلة، حيث أنه لا توجد بدائل صناعية لكثير من الأصول البيئية.
2 ـ مراعاة القدرة المحدودة للبيئة على استيعاب النفايات.
__________
(1) ـ عن فريديريك سي.تيرنر Frederick C.Turner و اليخاندرو ل.كورباتشو Alejandro L.Corbatcho : أدوار جديدة للدولة : في المجلة الدولية للعلوم الاجتماعية، العدد163، ع.س ، ص156.(1/73)
3 ـ الاقتصار على استخدام حصيلة مستدامة للموارد المتجددة.
إن الهدف الأمثل المعلن للتنمية المستدامة هو التوفيق بين التنمية الاقتصادية والمحافظة على البيئة والسعي إلى بلوغ "الحد الأقصى" من أهداف الأنظمة الثلاثة: البيولوجي (التنوع الجيني والمرونة والقدرة على الانتعاش والإنتاجية البيولوجية) والاقتصادي (تلبية الاحتياجات الأساسية للإنسان وتعزيز العدالة وزيادة السلع والخدمات المفيدة) والاجتماعي (التنوع الثقافي والاستدامة المؤسساتية والعدالة الاجتماعية والمشاركة) وهنا تكمن صعوبة تحديد الكمية التي ينبغي استخدامها من كل مكون من المكونات النظام (الثروات البيئية والرأسمالية والمكون البشري) فالمنظور قد يعتمد على تحديد قيمتها الاقتصادية الحقيقية وتحديد سعر لها، والصعوبة تكمن في رأينا في تسعير الأنظمة البيئية.
لو نظرنا إلى نظم المحاسبة التقليدية، فإننا نجد أنها تعتبر أن زيادة الإنتاج أو استخراج اكبر للمصادر الطبيعية (مثل زيادة الضخ من المياه الجوفية وزيادة الإنتاج من النفط الخام) هي مدخلات إيجابية عند حساب الناتج الوطني الإجمالي؛ وحسب هذا المنطق فان صيد سمك أكثر وقطع أخشاب أكثر وبيعها كأخشاب أو تصديرها ، كل ذلك يزيد من الناتج الوطني الإجمالي، بغض النظر عما تتركه مثل هذه التوجهات من آثار بيئية سيئة، مثل زيادة حرارة الجو وتبديد طبقة الأوزون وتلوث كل من الهواء والماء، والتي لها تكاليفها المخفية وغير المنظورة، ولذلك نجد أن التنمية المستدامة تفترض أن تعكس نظم المحاسبة قدر الإمكان الأسعار الافتراضية للموارد الطبيعية، ويجب اتخاذ موقف سلبي من نظام اقتصادي أو محاسبي لا يعتبر الموارد الطبيعية أصولا مادية إنتاجية قابلة للنضوب والتدهور نتيجة الأنشطة الاقتصادية المختلفة، لان ذلك سيشجع استخدامها بشكل غير مستدام وسيؤدي إلى إساءة استخدامها.(1/74)
كذلك فإن استخدام الناتج الوطني الإجمالي كمقياس لرفاهية المجتمع يفتقر للدقة، لأن من متطلبات التنمية المستدامة اقتطاع جزء من الدخل لتغطية تكلفة الأضرار الناتجة عن التلوث، ومن النتائج المباشرة للتنمية المستدامة اعتبار أن رأس المال غير متناقص وبالتالي فإن هناك ضرورة لتقييم الأرصدة والتغير في الأصول البيئية (أي تحديد حجم الأضرار الناتجة عن التلوث أو التحسينات التي تحققت من خلال الأنظمة البيئية).
من الآثار الأخرى للتنمية المستدامة الحاجة إلى قياس الدخل "المستدام"، وهو بمثابة قياس للدخل الصافي، حيث يجب طرح استهلاك رأس المال المادي والبيئي من الناتج الوطني الإجمالي، وبالتالي فان قياس " الدخل المستدام" يتم بحساب الدخل حسب الطرق التقليدية منقوصا منه نفقات حماية البيئة والقيمة النقدية للتلوث المتخلف واستهلاك رأس المال الاصطناعي واستهلاك رأس المال البيئي (الضرر الذي أصاب وظائف النظام الايكولوجي ورأس المال المتجدد ورأس المال الآيل للنضوب).
1 ـ التحولات والتنمية المستدامة:
اتجهت أغلب اقتصاديات البلدان المتخلفة إلى الخروج من تجربة القطاع العام فاتخذت خطوات إصلاحية تستهدف مواكبة الاقتصاديات المتقدمة عالميا، واعتمدت ما يعرف بالخوصصة وأجرت إصلاحات هيكلية، وسايرت المفاهيم التنموية الجديدة، من تنمية بشرية واجتماعية ومستديمة، ومن هنا يمكن طرح مجموعة من التساؤلات، متعلقة بمدى ملاءَمة تلك السياسات الاقتصادية للمحافظة على البيئة وهل أنها أفضل للبيئة من السياسات السابقة القائمة على امتلاك الدولة وإدارتها لعناصر الإنتاج (القطاع العام)؟ فهل هناك علاقة بين التنمية المستدامة وسياسات التحرر الاقتصادي؟(1/75)
يرى البعض أن زيادة التحرر الاقتصادي زاد من الخلل في توزيع الدخل في المجتمع الواحد وبين المجتمعات المختلفة حيث زاد دخل فئة محدودة بمعدلات خيالية، وفي نفس الوقت انتشر الفقر لجزء اكبر من المجتمع، غير أن هناك جهات أخرى، مثل البنك الدولي، ترى إن زيادة التحرر الاقتصادي تعني ارتفاع في الأسعار الطاقة والماء مما قد يخفض من استهلاكها(موارد ناضبة) وهو ما يبعث برأيهم على تحسين الوضع البيئي.
2 ـ السياسات الاقتصادية والبيئة:
لمواجهة المشاكل البيئية والوصول إلى التنمية المستدامة فإن إحداث تغييرات جوهرية في السياسات الاقتصادية والتخطيط على المستوى الوطني والإقليمي هي ضرورات أساسية، ويبدو أن هناك اتجاه لتحويل الاهتمامات البيئية إلى اتجاه سائد في الخطط والسياسات الوطنية، وهذا يعني أن النتائج البيئية يجب أن تكون واضحة في صميم السياسات الاقتصادية، والواقع أن أخذ البيئة في الاعتبار عند وضع السياسات الاقتصادية يمكن أن يكون له نتائج فيما يتعلق بالنمو الاقتصادي، غير أن هناك أيضا مجموعة من المسائل التي تبقى الإجابة عليها أو المفاضلة فيما بينها من القرارات الصعبة(1)، ورغم ذلك فأن خبراء المؤسسات الدولية يرون أنه من الممكن حماية البيئة وتشجيع النمو وتعزيز القدرة التنافسية في الوقت نفسه ويقترحون مجموعة من الإجراءات في هذا المجال من أهمها ما يلي:
1 ـ زيادة اتساع قاعدة اتخاذ القرار والسماح للجمهور بالمشاركة.
2 ـ إدماج البعد البيئي في خطط التنمية.
3 ـ خلق سياسات تنموية متوازنة إقليميا، بمعنى تأكيد أهمية التنمية الزراعية في البلدان التي تتوفر لديها الموارد الطبيعية اللازمة للزراعة والتركيز على التنمية الصناعية بهدف تطوير الاقتصاد.
__________
(1) ـ راجع في هذا : فينود توماس و تمارا بيلتVinod Thomas & Tamara Belt ، النمو والبيئة: حليفان أم خصمان، في التمويل والتنمية، ع. س، يونية 1997 ص20ـ22.(1/76)
4 ـ تحقيق التوازن بين تنمية المجتمعات الحضرية والريفية.
5 ـ الاستخدام المتوازن للموارد وخاصة الناضبة منها، وبحيث يكون استخدام الموارد المتجددة بما لا يتجاوز قدرتها على التجدد وزيادة فعالية استخدامها لتعوض عن الموارد الناضبة.
6 ـ مراعاة حفظ التنوع الايكولوجي باعتماد سياسات تتعامل مع المشاكل البيئية الطويلة الآجل.
7 ـ فرض رسوم تلوث ومن ثم استخدام مثل هذه الرسوم في حل المشاكل الناتجة عن التلوث من جهة ولتشجيع الحد من التلوث من جهة أخرى.
8 ـ الحد من إنتاج النفايات بحيث لا يتعدى قدرة تحمل البيئة على استيعابها وزيادة فعالية استخدام الموارد وزيادة الموارد المتجددة لتعوض عن الموارد الناضبة.
9 ـ تخفيض دعم إنتاج المبيدات الحشرية والأسمدة الكيماوية وتشجيع استخدام الأسمدة العضوية.
10 ـ تحسين وسائل النقل العام وشبكات الطرق للحد من التلوث الناجم عن السيارات.
11 ـ تشجيع استخدام البنزين الخالي من الرصاص.
تجدر الملاحظة هنا أن هذه الإجراءات التي تمليها المؤسسات الدولية، وتعمل على إجبار البلدان المتخلفة بالعمل وفقا لها في عمليات التنمية، أن البلدان المتقدمة ذاتها لم تحقق ما وصلت إليه، في ظل أي التزام تجاه المجتمع البشري، أو المناخ الطبيعي، ولا تزال حتى الوقت الراهن تنتهك بشدة ما يمس تحقيق تنمية إنسانية أو بشرية مستديمة، فمثلا في سنة 2001 أنتجت كل من أمريكا الشمالية وأوروبا الغربية واليابان ما يمثل 77% من الثروة العالمية، واستهلكت نفس المجموعة ما يمثل 52% من الطاقة العالمية(1).
__________
(1) ـ Hénaut : Les économies d’énergie : choix ou nécessité ? Dossier Economies d’énergie, revue Science & Décision édité par : SUDOC (système universitaire de documentation) 2004, p2 ; http://corail.sudoc.abes.fr(1/77)
مرت كثير من البلدان المتخلفة خلال العقود الماضية بكثير من النزاعات والحروب؛ وبالإضافة إلي ذلك، ومن خلال سياسات اقتصادية واجتماعية مختلفة، فقد تزايدت المجتمعات المحلية وتفاقمت الفوارق بينها مما زاد من حدة التنافس، وتفاوتت المداخيل بين تلك البلدان، وهذا بدوره ساعد في زيادة التوتر والفقر وتدهور الوضع البيئي، وعمل على توسيع الهوة بين طبقات الفقراء والأغنياء في داخل المجتمع الواحد وبين المجتمعات المختلفة؛ ففي سنة 1960 حصل أعلى 20% من أغنياء العالم على 30 ضعف أكثر من أفقر 20% من سكان العالم، وتغيرت هذه النسبة مع الزمن بحيث أن إحصائيات سنة 1990 تدل على أن أعلى 20% من أغنياء العالم قد حصلوا على 150 ضعف ما حصل عليه أفقر 20% من سكان العالم.
وإذا أضفنا إلى ذلك اتجاه تدفق الأموال من البلاد الفقيرة إلى البلاد الغنية فإن الصورة تصبح أكثر سوادًا؛ ففي سنة 1993 دفعت الدول الفقيرة فوائد على ديونها بقيمة 250 بليون دولار، بينما وصل هذه البلاد فقط 70 بليون دولار كمساعدات مالية، إن المضحك المبكي في هذه الصورة هو أن الدول الدائنة هي نفسها الدول المنتجة للسلع، والتي عملت من خلال رفع أسعار سلعها وزيادة الطابع الاستهلاكي للمجتمعات بالبلدان المتخلفة بحيث تجاوزت طاقاتها الشرائية لهذه المجتمعات مصادر دخلها، مما خلق عجزا هائلا واختلالا بين حاجاتها وطاقاتها الشرائية.(1/78)
إن تحليلنا لمفاهيم التنمية الاقتصادية في البلدان المتخلفة التي تحوّلت منذ الخمسينيات والستينيات من التركيز على الزيادة الكمية في المتغيرات الاقتصادية في ضوء استراتيجية محددة، إما للنمو المتوازن أو للنمو غير المتوازن، إلى اعتماد مفهوم التغير الهيكلي والتركيز على الأبعاد الاجتماعية والبشرية والبيئية خلال السبعينيات، ثم وتحت ضغط التطورات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي مرت بها البلدان المتخلفة، وبتدخل من المؤسسات العالمية اندفعت هذه البلدان إلى اعتماد استراتيجيات تنموية جديدة تأخذ بأسلوب اقتصاد السوق منهجا، وتستمد من النموذج الغربي القيم والمعايير والمؤشرات التنموية، بل حتى المسميات: من تنمية مستقلة إلى تنمية مستديمة إلى تنمية من الداخل، هذا التحليل يكشف أن التنمية بالبلدان المتخلفة لا زالت تعاني من أزمة معقدة، لا يمكن أن تجد لها حلا في إطار نظام عالمي يعاني من الفوارق فيما بين البشر وفيما بين الدول أيضا ولن ينطلق الحل في رأينا من المؤسسات العالمية أو الدولية
المبحث الرابع
آثار التحولات الاقتصادية على التنمية والتخطيط(1/79)
تواجه البلدان المتخلفة متطلبات الاقتصاد العالمي الجديد واستحقاقاته، وهو الذي يقوم على سرعة انتشار استخدام التكنولوجيا والتوسع في مفاهيم التحرر الاقتصادي وإعادة الهيكلة وحرية انتقال رؤوس الأموال والتركيز على التنافسية وجذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة والاعتماد على الاقتصاد المعرفي بشكل متزايد، كل ذلك في إطار انسحاب الدولة من النشاط الاقتصادي واقتصارها على القيام بإدارة السياسات الاقتصادية الكلية وتعزيز دورها التشريعي والرقابي والسعي للدخول في التكتلات الاقتصادية العالمية؛ أي الأخذ بالشروط الجديدة تحت شعار "برامج التصحيح والتكيف" والتي تمثل كما يقول د.رمزي زكي "أول مشروع أممي، تقوم به الرأسمالية العالمية في تاريخها لإعادة دمج بلدان العالم الثالث في الاقتصاد الرأسمالي من موقع ضعيف، بما يحقق مزيدا من إضعاف جهاز الدولة، وحرمانها من الفائض الاقتصادي، وهما الدعامتان الرئيسيتان اللتان تعتمد عليهما الليبرالية الجديدة"(1).
__________
(1) ـ مقالة، غازي الصوراني ،بعنوان: العولمة وطبيعة الأزمات السياسية/الاقتصادية/الاجتماعية في الوطن العربي وآفاق المستقبل http://www.rezgar.com(1/80)
وبالرغم من أن البنك الدولي يرى أنه خلال العقدين الماضيين بدأ "عدد الأشخاص الذين يعيشون في فقر مدقع ـ والذين تم تعريفهم بأنهم الذين يعيشون على أقل من دولار واحد في اليوم ـ أخيراً في الهبوط ، بعد أن كان يرتفع على مدى معظم القرنين التاسع عشر والعشرين؛ وأن جزءا كبيرا من هذا التقدم تم "نتيجة تسريع معدلات النمو في العالم النامي؛ فمنذ عام 1990 ،أصبحت اقتصاديات البلدان المتخلفة في المتوسط تحقق معدلات نمو من حيث دخل الفرد أسرع من المعدلات المماثلة في بلدان مجموعة التعاون الاقتصادي والتنمية، بمعدل 1.9 مقابل 1.6 بالمائة، وقد نشأ ذلك إلى حد كبير نتيجة السياسات المحسنة، بما في ذلك التوجه القوي نحو السوق والذي أحدث بيئات أفضل لنمو القطاع الخاص في العديد من البلدان"(1).
ولذلك فإنه ما إذا تناولنا التحولات الاقتصادية على الصعيد الدولي، فإنه لا مفر من الحديث عن الآثار السلبية الجانبية لها على التنمية والتخطيط الاقتصادي بالبلدان المتخلفة، إذ في ظل مختلف مظاهر تلك التحولات، كان من النتائج مجموعة آثار على صعيد ذلك، يمكن أن نذكر من أهمها ما يلي:
1 ـ إن برامج ما سمي بالإصلاح الاقتصادي وتحرير التجارة الخارجية التي طبقتها العديد من الدول المتخلفة والتي تمثلت في تحول فعال في إستراتيجية التنمية من إستراتيجية منغلقة إلى الداخل إلى استراتيجيات منفتحة على الخارج في اتجاه التكامل مع بقية دول العالم جسّدت تحولا مهما في سياسات التنمية في البلدان المتخلفة.
__________
(1) ـ دراسة للبنك الدولي حول: دور وفاعلية المساعدات الإنمائية: دروس من خبرة البنك الدولي، أجريت سنة2002، أنظر في ذلك: http://www.albankaldawli.org/MNA/ArabicWeb(1/81)
2 ـ لقد أصبح الاندماج بالاقتصاد العالمي هدفا من أهداف السياسة الاقتصادية وليس أداة لتحقيق أهداف النمو الاقتصادي والمساواة والاستقرار السياسي والاجتماعي، وبذلك انصرف الاهتمام في كثير من البلدان المتخلفة، بعيدا عن أساسيات التنمية الاقتصادية.
3 ـ تخلى الحكومات عن مسئوليات التنمية، تبعا لتصفية القطاع العام تماشيا مع شروط الصندوق والبنك الدوليين مما أفرز فراغا تنمويا لم يملؤه القطاع الخاص الغير مؤهل لتلك المهام.
4 ـ بالرغم من تراجع دور الحكومات – تبعا لشروط برامج التكيف- فقد عجزت عن تدبير الموارد لتمويل الإنفاق العام المحدود، بسبب محدودية الإيرادات التي توقعها أو افترضها الصندوق والبنك الدوليين، إضافة إلى الفشل في زيادة الادخار المحلي بسبب فتح الباب لتسرب الموارد على نطاق واسع من خلال الاستيراد وخروج رؤوس الأموال.
5 ـ بسبب تلك السياسات تم تهميش دور التخطيط بعد أن أصبح دور الحكومات مقتصرا فقط على الإشراف أو التوجيه عن بعد، وبالتالي غابت الأدوات الفعالة لتنفيذ الخطط التنموية، وصاحب ذلك مراجعة هامة لدور الدولة(1)ودور التخطيط، والمدى الذي يمكن أن يصل إليه التدخل الحكومي في الحياة الاقتصادية والاجتماعية.
__________
(1) ـ تجدر الملاحظة في هذا الإطار إلى أن البنك الدولي ، أصدر تقريره عن التنمية في العالم 1997، بعنوان: الدولة في عالم متغير، ورغم أن التقرير جاء ليتناول دور الدولة وفاعليتها، إلا أنه يوحى بما يجب على الدول أن تقوم به وكيفية قيامها بأدوارها على نحو أفضل، من وجهة نظر البنك.(1/82)
6 ـ إن التطورات الهامة التي برزت على الصعيد التكنولوجي، خاصة في ميدان الاتصالات والهندسة الوراثية والتكنولوجيا البيولوجية (الحيوية) وفي مجال إحلال وإعادة هيكلة المواد وصناعة المعلومات ـ بدلاً من أن تشكل هذه التطورات، فرصة جديدة لدفع عجلة التنمية في الدول المتخلفة وتساعد في حل مشكلات الفقر والجوع وندرة الموارد ـ نتجت عنها آثار سلبية فيما يتعلق بانخفاض الطلب على المواد الأولية والمنتجات المستندة إلي كثافة العمل المرتفعة؛ مما أدى إلى تآكل الميزة النسبية للدول المتخلفة المبنية على وفرة اليد العاملة والمواد الأولية.
7 ـ إن البرامج أو التوجهات الليبرالية الجديدة التي انساقت لتطبيقها غالبية الدول المتخلفة، طمست أو غيبت بشكل مرسوم ومتعمد، كل مصطلحات "التنمية" و"التحرر الاقتصادي" و"التقدم الاجتماعي" و"العدالة الاجتماعية"، واعتمدت على تصور مادي مالي بحت للتنمية غير لائق أخلاقيا وإنسانيا، مما حدا بالبعض إلى مطالبة محاكمة للمؤسسات النقدية العالمية(1).
8 ـ أن مفهوم التنمية البشرية، لم يترجم سوى الأوهام والمزيد من الفشل والعجز في إصلاح نظم التعليم والصحة، إلى جانب العجز في محاصرة تزايد الفقر والتفاوت المريع في توزيع الدخل والثروة.
__________
(1) ـ أصدر "جوزيف ستيقليتزJoseph Stiglitz " كتابا بعنوان " La grande désillusion" بين من خلاله كيف أن مؤسسة من حجم صندوق النقد الدولي، تتحمل مسؤولية الكوارث الخطيرة، خاصة فيما يتعلق بدول الجنوب، بالنظر لتصورها والعمل على تطبيق نموذج للتنمية غير مناسب لهذه الأخيرة.(1/83)
9 ـ العجز عن التصدير واجتذاب الاستثمار الأجنبي؛حيث يشير تقرير الاستثمار الدولي 2004 الصادر عن مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية "UNCTAD" إلى أن إجمالي تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر الوارد خلال عام 2003 بلغ 559.6 مليار دولار بلغت حصة الدول "النامية" منها حوالي 172مليار دولار (مانسبته30.74%) كان نصيب الدول العربية منها حوالي 8.6 مليار دولار أو ما نسبته 5.01% من حصة الدول "النامية" وما نسبته1.54% من إجمالي التدفقات على مستوى العالم وهي أعلى نسبة تصل إليها التدفقات إلى الدول العربية منذ العام 1995 بالنسبة للعالم وللدول العربية(1)، في حين ازداد نصيب الدول المتقدمة من62% سنة 1995 الى65% سنة 2003، وبقي نصيب الدول المتحولة ثابتا عند نسبة4% من تدفقات الاستثمار العالمي الوارد عالميا(1995-2003).(2)
المطلب الأول
آثار العولمة الاقتصادية
يفترض أن تتيح العولمة توفير الفرص لكافة الدول لأداء دور فعال في الاقتصاد العالمي، ولكن الواقع يبين لنا بأنها تزيد من التعقيدات والتحديات الناتجة عن تكثيف الاعتماد المتبادل وزيادة المخاطر الناجمة عن عدم الاستقرار وتهميش بعض الدول في إطار الاقتصاد العالمي.
حيث يمكننا القول بأن العولمة بمرحلتها الحالية تحمل العديد من مقومات التناقض، إذ الملاحظ أن الدول المتقدمة في الوقت الذي تعرقل انتقال القوى العاملة من الدول المتخلفة إليها، فإنها تعمل على تشجيع انتقال القوى العاملة الماهرة والمؤهلة تأهيلا عاليا من أجل الاستفادة من تجاربها في خدمة أهدافها باعتبار أن تلك الطاقات جاهزة علميا وعمليا للعمل وفقا لأحدث التطورات العلمية ولم تنفق عليها الدول المتقدمة في هذا المجال من التأهيل.
__________
(1) ـ ضمانات الاستثمار، نشرة فصلية تصدر عن المؤسسة العربية للضمان الاستثمار، تعني بشؤون الاستثمار والتجارة في الدول العربية، السنة الثانية والعشرون 3/2004، ص10.
(2) ـ م. ن ، ص12.(1/84)
يذكر تقرير"التنمية في العالم لعام2007" الصادر عن البنك الدولي "أن أعداداً كبيرة للغاية من الشباب ـ حوالي 130 مليون شاب من الشريحة العمرية 15-24 سنة ـ لا تستطيع القراءة أو الكتابة، وأنه ما لم تنجح مرحلة التعليم الابتدائية في تحقيق الأهداف التعليمية المتوخاة منها، فإن التعليم الثانوي واكتساب المهارات لن تكون لهما أية جدوى؛ ويشير نفس التقرير إلى أن "أكثر من 20 في المائة من الشركات العاملة في بلدان مثل الجزائر وبنغلاديش والبرازيل والصين واستونيا وزامبيا تصنّف ضعف مهارات ومؤهلات العاملين باعتباره "عقبة رئيسية أو شديدة أمام عملياتها" وأنه "ينبغي على منطقة كمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أن تهيئ بمفردها على سبيل المثال، 100 مليون فرصة عمل جديدة بحلول عام 2020، وذلك حتى تستطيع تثبيت حالة العمالة لديها"(1)؛ وهكذا يتضح أن للتحولات تأثير على مجمل عملية التنمية، إذ بالإضافة إلى الآثار المختلفة التي أنتجتها العولمة، فقد تحولنا من محو الأمية – الذي لم تتمكن من تحقيقه البلدان المتخلفة في ظل أوضاعها الأيسر حالا فيما سبق- إلى ضرورة تكوين ذوي المهارات، حتى تجدها الشركات الأجنبية جاهزة، ولكي تقبل بالقدوم إلي البلدان المتخلفة لتستثمر فيها وتمتص البطالة، ومنه نستطيع الاستنتاج أن محاولات إدماج هذه البلدان في الاقتصاد العالمي، أضاف إليها ضغوطا تئن بحملها الأمم المتقدمة، ترى كم يجب من الزمن ومن الإمكانيات المالية لتحقيق 100مليون فرصة عمل وجديدة أيضا.
__________
(1) ـ عن عرض لـ "تقرير التنمية في العالم لعام 2007: التنمية والجيل التالي" على موقع البنك الدولي: http://web.worldbank.org، تم التصفح في 02/10/2006.(1/85)
ومن المؤكد أن العولمة تتجه إلى تقييد السيادة الوطنية في بعض المجالات وتضع حدودا على قدرة الحكومات على إتباع سياسات اقتصادية وتجارية ومالية، لذلك كان من الضروري أن تكون الاقتصاديات الوطنية مؤهلة لتعظيم مزايا العولمة وعوائدها الإيجابية وتقليل آثارها السلبية أو تفاديها كلما أمكن حيث أن ذلك يتعلق بصافي أثر العولمة الاقتصادية على اقتصاديات البلدان المتخلفة إيجابا أو سلبا.
إن العولمة بالمفهوم المعاصر (الأمركة)(1)ليست مجرد سيطرة وهيمنة وتحكم بالسياسة والاقتصاد فحسب، ولكنها أبعد من ذلك بكثير، فهي تمتد لتطال ثقافات الشعوب والهوية القومية والوطنية، وترمي إلى تعميم أنموذج من السلوك وأنماط أو منظومات من القيم وطرق العيش والتدبير، وهي بالتالي تحمل ثقافة (غربية أمريكية) تغزو بها ثقافات مجتمعات أخرى، ولا يخلو ذلك من توجه استعماري جديد يتركز على احتلال العقل والتفكير وإخضاعه ليعمل تبعا لأهداف المسيطرين ومتقبلا منطقهم ومصالحهم؛ وقد أكد ذلك الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش "الأب" حين قال، بعد انتهاء حرب الخليج الثانية: (إن القرن القادم سيشهد انتشار القيم الأمريكية وأنماط العيش والسلوك الأمريكي).
وبالتالي فإنه لا مكان للدول المتخلفة عموما والعربية خاصة ... في (العولمة) إلا في الاتجاه السالب أي تأثيرها عليها وتأثرها بها، ومع ذلك فنحن بهذا المعنى معولمون منذ زمن بعيد، اقتصادياً وثقافياً وسياسياً.
المطلب الثاني
آثار سياسات تحرير التجارة
__________
(1) ـ إن أول من أطلق هذا المصطلح هو الرئيس الأمريكي الأسبق" فرانكلين روزفلت"، عندما قال في أعقاب الحرب العالمية الثانية: "إن قدرنا ...هو أمركة العالم، تكلموا بهدوء، واحملوا عصا غليظة، وعندئذ يمكن أن تتوغلوا بعيدا ". (عن: د.محمود خالد المسافر: العولمة الاقتصادية، ع. س، بالهامش 2، ص141).(1/86)
إن سياسات تحرير التجارة الخارجية التي طبقتها بعض الدول لم تقتصر على إلغاء السياسات المعيقة للتصدير وزيادة الاعتماد على آلية السعر وإنما شملت أيضا تخفيض مستوى التدخل الحكومي، حيث أن تقييم بعض من هذه التجارب أظهر بأن استقرار سياسات الاقتصاد الكلي والسيطرة على التضخم كانت عوامل أساسية لنجاح سياسة إصلاح قطاع التجارة الخارجية إضافة إلى أنه أظهر بأن أكثر الدول نجاحا في تطبيق هذه السياسات كانت الدول التي قامت بتحويل كل القيود الكمية على التجارة الخارجية إلى قيود غير كمية أي تعريفات جمركية وأخذت بتخفيضها تدريجيا، كما يلاحظ بأن سياسة منح حوافز مباشرة للصادرات لم تكن تمثل الحوافز في نمو الصادرات مثل سياسات إجراء تخفيض حقيقي على سعر الصرف وتحرير الاستيراد وسهولة حصول المصدرين على مستلزمات الإنتاج من السلع المستوردة، غير أن نجاح برامج إصلاح التجارة الخارجية تظل محدودة ما لم يتم العمل على إزالة كل العوامل الداخلية التي تعمل على عرقلة وتشويه الأداء الاقتصادي.
في الواقع إن زيادة التحرر الاقتصادي تعني تخلي الحكومات عن سياسة دعم السلع، وخصوصا ما تعلق بالموارد المستنفدة؛ وهو ما يعتبر بحد ذاته خدمة للتنمية المستدامة، غير أن ذلك لا يؤدي بالضرورة لسياسة بيئية سليمة، لذلك يجب أن تكون هناك سياسات وحسابات اقتصادية تأخذ في حسابها التكاليف البيئية.
كما ينظر إلى أن زيادة تحرر السوق سيزيد من المساهمة في زيادة الكفاءة الاقتصادية، وهذا بدوره سيزيد من فرص العمل المتاحة وخاصة للطبقة المحرومة؛ إلا أن السياسات الملازمة لسياسة تحرر السوق والانفتاح، والمرتبطة بالإصلاحات الهيكلية ـ كما أثبتت التجارب في أكثر من بلد: المغرب مصر الجزائر على سبيل المثال ـ تكون في الغالب مصحوبة بالحد من فرص العمل وتقييد الإنفاق الاجتماعي ولو على المدى القصير أو المتوسط.(1/87)
ولكن الدراسة التي صدرت عن البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة سنة2003، بعنوان(جعل التجارة العالمية تعمل لصالح الناس)؛ كان أن حذرت "من التحرير المتسرع للتجارة، وأكدت على أن النمو هو ما يدفع إلى تحرير التجارة وليس العكس، كما بينت أن الاندماج في الاقتصاد العالمي هو من نتائج النمو والتنمية، وليس شرطاً مسبقاً لها وأنه لا يجوز تطبيق قواعد تجارية موحدة على مختلف الدول، بل يجب أن تتباين هذه القواعد مع تباين مستوى التطور الاقتصادي والاجتماعي للدولة، ونبهت الدراسة إلى أهمية توفير حيز أوسع للسياسات الوطنية في الدول النامية، وبالتالي أهمية عدم إرهاق هذه الدول بالقواعد والمعايير والالتزامات الدولية التي تتعارض مع مقتضيات التنمية"(1).
وأما إذا ما اطلعنا على النتائج الناجمة عن اندماج البلدان المتخلفة وتطبيقها لتلك الشروط والإجراءات(2)فإننا نقرأ عددا من الحقائق من بينها:
__________
(1) ـ عن: منير الحمش، القطاع العام واقتصاد السوق الاجتماعي، في: مجلة الفكر السياسي، فصلية تصدر عن اتحاد الكتاب العرب بدمشق - تعنى بنشر المواد الفكرية والسياسية والدبلوماسية والوثائق المتصلة بذلك - العدد 26 السنة الثامنة 2006، على الموقع: http://www.awu-dam.org/politic/26/fkr26
(2) ـ حول الانعكاسات المحتملة لانضمام الجزائر إلي المنظمة العالمية للتجارة، راجع: نعيمة بوخالفي، المنظمة العالمية للتجارة وتأثيرها على الاقتصاد الوطني، دراسة حالة الجزائر، رسالة ماجستير، فرع التخطيط، كلية العلوم الاقتصادية وعلوم التسيير، جامعة الجزائر، جوان2001،ص141 إلى 153.(1/88)
1- أنه بالرغم من ارتفاع حجم التجارة الدولية إلى 7.6 تريليون دولار عام 95 ( في بداية عام 2002 وصلت إلى حوالي 9 تريليون دولار سنويا) ، فقد ظل نصيب مجموعة البلدان المتخلفة من التجارة العالمية ثابتا خلال العقود الثلاثة الماضية حول 18% بما في ذلك نصيب الدول المصدرة للنفط، رغم أن سكان هذه المجموعة من البلدان يشكلون 75% من إجمالي سكان العالم، إلى جانب ذلك فقد تراجعت نسبة مساهمتها في الناتج الإجمالي العالمي من 15% عام1965 إلى 13.4% عام1995.
يبدو لنا ومع تقبل فكرة أن الانفتاح على الأسواق العالمية مَكّن الدول المتخلفة من تحقيق النمو، وزيادة مساهمتها في التجارة العالمية، (خلال عام 2003 ارتفع معدل النمو ليصل إلى 4.1 %مقابل 3.5 % عام 2002)، إلا أن مساهمة الدول المتخلفة في الناتج الإجمالي العالمي تبقى ضعيفة قياسا بالدول المتقدمة، (ساهمت أفريقيا (48 دولة) بحوالي 3.2 % من إجمالي الناتج المحلى الإجمالي للعالم، في حين بلغت نسبة مساهمة الاقتصاد الأمريكي لوحده 21.1 % من إجمالي الناتج المحلى الإجمالي للعالم خلال عام2003، وأما الاقتصاد الياباني فقد ساهم بحوالي 7 % من إجمالي الناتج المحلى الإجمالي للعالم خلال عام 2003).(1)
__________
(1) ـ الأرقام عن التقرير الاستراتيجي العربي، مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية، القاهرة – مصر على الموقع:
http://www.ahram.org.eg/acpss.(1/89)
لذلك يمكن القول أن تحرير التجارة العالمية، خصوصا منذ إنشاء منظمة التجارة العالمية تميز بعدم التوازن في مراعاة مصالح الدول، بحيث ظلت القواعد الاقتصادية والتجارية والنقدية العالمية ـ بل ازدادت ـ في صالح الدول المتقدمة، فخلال الخمس سنوات الأولى حقق الاقتصاد الأمريكي أفضل النتائج بفضل أداء المنظمة العالمية للتجارة، إذ يذكر تقرير الإدارة الأمريكية إلى الكونجرس، أن عدد الوظائف التي توافرت في الولايات المتحدة نتيجة دعم الصادرات قد زاد بمقدار 1.4مليون ليصل إلي 11.7مليون وظيفة وذلك نتيجة لسلوك المنظمة خلال الخمس سنوات الأولى ويشير نفس التقرير إلي أن الصادرات الأمريكية ازدادت بأكثر من الثلث على امتداد الفترة 1994-1999(1).
2 ـ بالرغم من أن دعاة العولمة والتحرير المالي والتجاري، كانوا يزعمون أن البلدان المتخلفة سوف تستفيد من تدفق الاستثمارات الأجنبية المباشرة، إلا أن ذلك لم يحدث، فقد تبين في العقدين الماضيين أن أكثر من 90% من حركة الاستثمارات الأجنبية المباشرة تذهب أساسا إلى البلدان المتقدمة (الولايات المتحدة-أوروبا-اليابان والصين) أما بقية البلدان المتخلفة فقد حصلت على أقل من 10% من تلك الحركة.
__________
(1) ـ ملخص التقرير في جريدة الأهرام المصرية الصادرة في 04مارس2000، والذي أشار أيضا إلى أن منظمة التجارة العالمية برهنت على أنه رأس الحربة في إستراتيجية الولايات المتحدة للعالم من ناحية التكنولوجيا في إطار سعي واشنطن لبناء اقتصاد القرن الواحد والعشرين/ عن: د. السيد أحمد عبد الخالق / د. أحمد بديع بليح: تحرير التجارة العالمية في دول العالم النامي، الكتاب الأول، الدار الجامعية الإسكندرية،مصر 2002/2003 ، ص33-34.(1/90)
3 ـ أن إجمالي رصيد ديون البلدان المتخلفة ارتفع بشكل سريع ومهول خلال العقد الماضي من 603.3 مليار دولار عام 1980، إلى 2172 مليار دولار عام 1997، ومع نمو حجم هذه الديون، وارتفعت أسعار الفائدة ومعدل خدمة الدين الذي وصل في بعض هذه البلدان إلى ما يزيد عن 100%، وما يعنيه ذلك من زيادة معاناة شعوبها حيث يعيش اليوم حوالي 1.5 مليار إنسان في حالة فقر مدقع في حين يمتلك أقل من أربعمائة ملياردير في العالم الرأسمالي ثروة تزيد عما يملكه 2.5 مليار من السكان في جنوب الكرة الأرضية(1).
4 ـ إن هذا الدمج، والتحول المفاجئ والالتزام المبكر بقواعد العولمة والليبرالية والتحرير الاقتصادي، كانت له نتائج سلبية، وأحيانا مدمرة على اقتصاد البلدان المتخلفة حيث وضعت الكثير من العقبات في وجه تنميتها، وأفقدتها القدرة على حماية صناعاتها الوطنية، وأدت إلى ارتفاع تكلفة المعرفة والتكنولوجيا، وتعرضها إلى المنافسة غير المتكافئة مع الواردات الأجنبية، واحتمال استيلاء الشركات العملاقة المتعددة الجنسية على المشروعات الوطنية والمجالات الأساسية، مما سيدفع، وذلك هو الأخطر إلى تقليص قدرة البلدان المتخلفة على صياغة وتصميم سياساتها التنموية والتجارية (وغيرها من السياسات) بعد أن انتقلت عملية صنع الكثير من القرارات من مستواها الوطني إلى مكاتب ومراكز صنع القرار بالمؤسسات الدولية.
__________
(1) ـ غازي الصوراني: /www.rezgar.com، تم التصفح في 28/08/ 2003،ع. س.(1/91)
5 ـ إذا كان البعض يخشى من آثار تحرير التجارة على دولة بحجم وقوة الولايات المتحدة الأمريكية، ويرى أن السياسات التجارية منحت حقوقا للدول المتخلفة أضرت بالدول المتقدمة، إذ يذكر: « أن السياسات التجارية بها نوع من الازدواجية الطبقية، فالنافتا، والجات، والعديد من الاتفاقيات التجارية الدولية لم تعط الفرصة للمتخصصين أو المهنيين من الدول الفقيرة لمنافسة نظرائهم في الولايات المتحدة والدول الأكثر تقدما، بل على العكس قدمت هده الاتفاقيات الحماية لهم، كما تنصرف هذه الحماية إلى بعض السلع تحت مسمى الحماية الفكرية وحقوق الطبع. هذه الحماية التي تعود على الدول المتقدمة بفوائد أكبر مئات المرات من تلك التي تعود عليها من إزالة المعوقات أمام التجارة العالمية»(1)فالسؤال المطروح ماذا يمكن للبلدان المتخلفة أن تحقق من فتح أسواقها حتى مع فتح أسواق البلدان المتقدمة أبوابها لها، فالأسواق العالمية تميزها المنافسة، وسعة السوق تتطلب تخفيض تكاليف الإنتاج، أي اعتماد نظرية اقتصاد الحجم الكبير، فهل تملك البلدان المتخلفة الطاقات الإنتاجية المقابلة لهذا؟
__________
(1) ـ ذلك ما يسوقه الكاتب " دين بيكرDean Baker " في مقالته عن: الأهمية الحقيقية للعولمة الاقتصادية، من وجهة نظر أمريكية طبعا: « The Real Importance of a Global Economy »التي حاول من خلالها تحليل تأثير التجارة العالمية على المواطن في الولايات المتحدة، مبرزا أن الاقتصاد العالمي هو أحد العوامل الهامة التي يجب أن تِخذ في الاعتبار عند رسم السياسة الاقتصادية الأمريكية الداخلية. راجع ملخصا للمقال المذكور في قراءات استراتيجية، السنة الخامسة العدد الأول، مركز الأهرام للدراسات الإستراتجية، القاهرة، يناير2000، ص29 و30.(1/92)
في الحقيقة إن سياسات تحرير التجارة الخارجية التي طبقتها بعض الدول لم تقتصر على إلغاء السياسات المعيقة للتصدير وزيادة الاعتماد على آلية السعر وإنما شملت أيضا تخفيض مستوى التدخل الحكومي، حيث أن تقييما لبعض من هذه التجارب أظهر بأن استقرار سياسات الاقتصاد الكلي والسيطرة على التضخم كانت عوامل أساسية لنجاح سياسة إصلاح قطاع التجارة الخارجية، إضافة إلى أنه أظهر بأن أكثر الدول نجاحا في تطبيق هذه السياسات كانت الدول التي قامت بتحويل كل القيود الكمية على التجارة الخارجية إلى قيود غير كمية أي تعريفات جمركية وأخذت بتخفيضها تدريجيا، غير أن كافة المحللين والمتابعين لهذه التجارب يؤكدون بأن نجاح برامج إصلاح التجارة الخارجية يظل محدودا ما لم يتم العمل على إزالة كل العوامل الداخلية التي تعمل على عرقلة وتشويه الأداء الاقتصادي، كما أن ذلك النجاح يظل محدودا ما لم يتم المحافظة على تخفيض حقيقي لسعر العملة للدول التي لديها عملة مبالغ في قيمتها، وقد انتهت مشاريع أخرى بالفشل في الدول التي رفعت فيها القيود على الاستيراد في الوقت الذي تعاني هذه الدول من نقص في التمويل الخارجي بل وفي وجود قيود صارمة على هذا التمويل.(1/93)
إن فشل بعض محاولات البلدان المتخلفة في الاندماج بالاقتصاد العالمي، قد يرجع وبالإضافة إلى ما سبق ذكره، إلى إن بعض هذه البلدان حاول السعي لزيادة حجم الصادرات مع الإبقاء على سعر صرف حقيقي مبالغ فيه، حيث أن ارتفاع سعر الصرف الحقيقي لا يؤثر فقط على مقدار الطلب على الصادرات وبالتالي يخرجها من السوق العالمي، ولكنه في نفس الوقت يؤثر على جانب العرض لأنه يحول الموارد من قطاع السلع القابلة للتصدير إلى السلع غير القابلة للتصدير بسبب ارتفاع أسعارها، كما أن ارتفاع سعر الصرف الحقيقي يؤدي إلى تقليص الاستثمار في القطاعات الموجهة للتصدير، إن الفشل في زيادة الإنتاجية ورفع درجة تنافسية الصادرات في الأسواق العالمية في نظام عالمي مفتوح، وهو أمر عسير بالنسبة للبلدان المتخلفة، قد تنتج عنه مشاكل وصعوبات في ميزان المدفوعات، مما يؤدى إلى تقليص النشاط الاقتصادي وتخفيض معدلات التنمية الاقتصادية.(1/94)
إن منظمة التجارة العالمية يمكن أن تمثل إطارا لدعم تقدم ممارسة عملية التنمية بالبلدان المتخلفة،إذا ما تمكنت من: إزالة القيود التي تضعها البلدان المتقدمة على التجارة بالنسبة لمنتجات البلدان المتخلفة، وزيادة مساعدات التنمية، وتدعيم وتبني قواعد أكثر تنظيما وبناء مؤسسات معززة للتنمية بالبلدان المتخلفة، ودون هذا فإن هذه المنظمة ستكون عقدا ملزما لتنفيذ التزامات مشروطة أملتها البلدان المتقدمة على البلدان المتخلفة، وهو الأمر الذي يبقى منطقيا حتى ولو سايرنا الآراء التي ترى: في أنه "لا ينبغي أن يتجه القصد إلى جعل منظمة التجارة العالمية منظمة للتنمية"(1)
خاتمة:
من المنطق أن تتحدد انعكاسات التحولات العالمية عموما، على البلدان المتخلفة بمتطلبات الاندماج بالاقتصاد العالمي والتي بدورها تختلف من دولة إلى أخرى، بل ومن مجموعة دول إلى مجموعة أخرى وذلك حسب درجة تقدمها الاقتصادي والاجتماعي بالدرجة الأولى، وحسب تعاملها مع هذه التحولات وما تتوقعه منها من فرص وتحديات بالدرجة الثانية، ويبرز هذا الاختلاف بين الدول، سواء اعتبرت التحولات ظاهرة اقتصادية أو كظاهرة شمولية متعددة الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية والعقائدية. لقد جاءت التحولات في الوقت الذي كانت فيه معظم الدول المتخلفة تخوض صراعا حادا لتحقيق التنمية الاقتصادية مما تسبب في تعريض أولويات سياساتها الاقتصادية وتحقيق أهدافها التنموية للمزيد من المعوقات والعراقيل ونتيجة لذلك يواجه معظمها صعابا في الاندماج بالاقتصاد العالمي.
__________
(1) ـ أنظر مثلا: برنارد هوكمانBernard Hoekman : جعل منظمة التجارة العالمية أكثر دعما للتنمية، في التمويل والتنمية، مارس 2005، ص16، والمقال يوضح مجموعة من الخيارات التي يمكن أخذها في ما يتعلق بالبعد الخاص بالتنمية في اتفاقيات التجارة، والأستاذ برنارد، مستشار سابق في فريق أبحاث التنمية في البنك الدولي.(1/95)
ومن ناحية أخرى فقد تتبعنا كيف يروج منظرو العولمة للتحولات العالمية معتبرين إياها مرادفة للشفافية والوفرة والرخاء والتشغيل الكامل واستقرار الأسعار والتنمية المستديمة وحلول مجتمع العلم والمعرفة والابتكار وأنها تدفع الأمم والشعوب إلى الإنتاج النوعي وإلى تنمية قدراتها التنافسية، إلا أن هذه التحولات الاقتصادية من وجهة أخرى، تواجه انتقادات من بعض المفكرين وبعض منظمات المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية باعتبارها مرادفة للظلم والحرمان والفقر والتهميش والإقصاء وإلى جملة من المخاطر يمكن أن نستعرض بعضا منها فيما يلي:.
أ ـ الانكماش: أدت التحولات الاقتصادية إلى وفرة في السلع المعروضة ونقص في الطلب نتيجة لضعف القوة الشرائية مما يهدد الاقتصاد العالمي بمخاطر الانكماش والكساد.
ب ـ تفاقم الثنائية الاقتصادية في اقتصاد الدول المتخلفة: أدى إعطاء الأولوية لقطاع التصدير إلى احتكاره لعدد كبير من الاستثمارات والامتيازات والإعانات الحكومية وكذلك من التمويلات الدولية؛ مما زاد الهوة بين الاقتصاد المنتج والاقتصاد الاستهلاكي وبين اقتصاد العرض واقتصاد الطلب وبين الاقتصاد الرسمي واقتصاد الموازي.
ج ـ نقص الإنفاق الحكومي على الإعانات الاجتماعية: لقد أدت العولمة الاقتصادية وما رافقها من ليبرالية متطرفة إلى إضعاف دخول فئات اجتماعية كبيرة وتسريح الكثير من العمال، مما أدى إلى تفاقم آفات البطالة والفقر والمرض والجهل والإقصاء والتهميش، وزاد من هذه الآفات نقص الإعانات الاجتماعية والإنفاق الحكومي المخصص لتخفيف المعاناة الاجتماعية وحماية المواطنين.(1/96)
د ـ تنامي الإجراءات الحمائية الاقتصادية والتجارية ضد صادرات البلدان المتخلفة: رغم اتفاقيات منظمة التجارة العالمية، فإن الأقطاب الاقتصادية الثلاثة الكبرى تتصارع وتتحايل على هذه الاتفاقيات وتحول دون دخول صادرات البلدان المتخلفة متخذة ذرائع مختلفة من بينها عدم مطابقة سلع البلدان المتخلفة للمعايير الدولية المتفق عليها أو/ وعدم مطابقتها لمعايير الأمان، خصوصا إذا كانت سلعا غذائية
غير أن تحالف الدول المتخلفة وتضامنها في مواجهة التحولات الدولية والعالمية، يمكن أن يقلل من الآثار السلبية المرتبطة بها، فموقف الهند من مؤتمر "كانكون" ثم فشله، يعود في جزء منه إلى هذا بعد أن أرست بالمناسبة، وربما بشكل دائم، تحالفاً مع بعض دول الجنوب مثل الصين وجنوب إفريقيا والبرازيل وهو ما يعد مثالا معتبرا في هذا المجال.
وبالرغم من أن التحولات فتحت الباب لدخول رؤوس الأموال الأجنبية للاستثمار في الزراعة والصناعة والتعدين وقطاع الخدمات والاتصالات إلا أن فترة التحولات من ناحية أخرى، وكما حدث ويحدث في جميع المجتمعات خلقت مشكلات كثيرة في جميع المجالات، ومن المعروف أن هذه المشكلات وآثارها السلبية عادة ما تكون مؤقتة وملازمة لفترة التحول، ذلك أن التحول إلى اقتصاد السوق وخوصصة الوحدات الإنتاجية مثلا، أدت إلى الاستغناء عن كثير من العمال، بحيث ازداد عدد العاطلين عن العمل، وكانت الخسارة أطول وأعمق مما كان متوقعا عند بداية مرحلة التحول إلى اقتصاد السوق، وقد تطلب الأمر عقدا من الزمن لكي تعود مستويات نصيب الفرد من الدخل إلى المستويات التي كانت عليها، وهذا في أفضل الاقتصاديات أداء، ولا يزال بعض دون نقطة البداية(1/97)
ولذلك فانه لكي تستفيد الدول المتخلفة من فرص العولمة لتحقيق التنمية تبرز حاجتها إلى السعي نحو اتخاذ الإجراءات التي من شأنها ضمان اندماج اقتصادي دائم ومتوازن مع الاقتصاد العالمي؛ ولا شك في أن ذلك لا يمكن أن يتم دون دور أساسي للدولة، تقوم فيه بتحديد الأهداف قدر الإمكان، وتعمل على قياس خطوات تنفيذها، وأن تعمل على تنفيذ سياسات مناسبة حسبما تقتضى الإجراءات المنهجية والمنظمة المتاحة، أي إحداث ممارسة أدوار جديدة للدولة وللتخطيط الذين يجب أن يتجاوزا الطرق التقليدية، في ظل التحولات الاقتصادية العالمية الجارية؛ وهو ما سنعرض له في الفصل الموالي.(1/98)
الفصل الخامس
...
التخطيط ودور الدولة في إطار التحولات
الاقتصادية العالمية
تمهيد:
من المعروف أن كثيرا من الدول المتخلفة كانت تتبع سياسة الاقتصاد الموجه من خلال ممارسة التخطيط، وإن كانت بدرجات متفاوتة: بين دول المعسكر الشرقي التي كان الاقتصاد فيها موجها بالكامل وبين اقتصاد كثير من الدول المتخلفة الأخرى التي كانت تجمع بين التوجيه بنسب عالية وبين الاقتصاد الحر بنسب قليلة، ولكن بانهيار الاتحاد السوفيتي وتفكك الدول المكونة له، إنهار الإطار الذي يجمع بين تلك الدولة والدول التي تدور في فلكه، وبدأت جميع تلك الدول تحاول تحرير اقتصادها من كثير من القيود التي فرضت عليها وبدأ الاتجاه نحو تطبيق النظم الرأسمالية والاقتصاد الحر، فمنذ بداية الثمانينيات استوجبت تلك السياسات: انسحاب الدولة من بعض النشاطات الإنتاجية، وتحرير الاقتصاد والانفتاح التجاري على العالم الخارجي، والتوجه نحو إدماج الاقتصاديات الوطنية في الاقتصاد الكوني.
وإذا فما هي ضرورات أو مبررات الأخذ بالتخطيط كأسلوب لتحقيق التنمية؟
وإذا كان هذا التحول للأخذ باقتصاد السوق حتميا؟ هل يفرض ضرورة التخلي عن التخطيط؟
ترى أيمكن أن يقدم هذا التحول حلولا لأزمة التنمية؟ وهل يمكن العودة إلى التخطيط ضمن هذا الإطار العالمي من التحولات التي لا تتوقف؟ ذلك ما سنتناوله ضمن محتويات هذا الفصل.
المبحث الأول
مشكلة ضرورة التخطيط وحتمية اقتصاد السوق(1/1)
إذا كان التحول نحو اعتماد العمل بمقتضيات اقتصاد السوق، قد تم تحت ضغط واقع الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في البلدان المتخلفة بعد ممارسة عملية تحقيق التنمية في أغلبها استنادا إلى التخطيط من جهة، ثم نتيجة للضغوط التي مارستها عليها أيضا المنظمات الدولية والدول المتقدمة، بعد حصيلة تراكمات لسياسات اقتصادية واجتماعية خاطئة، حيث توصلت هذه الأطراف إلى نتيجة أن سياسات التنمية التي طبقت، قيّدت المبادرات الخاصة، وضيقت مجالات القطاع الخاص، وحالت دون الاستثمار الأجنبي، وأطلقت العنان للقطاع العام، وعزلت الاقتصاديات الوطنية عن الاقتصاد الرأسمالي العالمي، ونشرت مظلة للحماية الاجتماعية أعلى قطاع واسع من الشعب بالدعم والتأمينات الاجتماعية، ففقد ما يحفزه على العمل والإنتاج ـ ومع اعتقادنا بأن أغلب هذه الجوانب لا تقع مسؤوليتها في كل الحالات على البلدان المتخلفة بمفردها على الأقل من حيث المسئولية التاريخية ـ فإنه يصبح من المنطقي التساؤل عن الأسباب المبررة للأخذ بأسلوب التخطيط للتنمية ماضيا، وهل لأن برامج التكيف وإعادة الهيكلة والتحول لاقتصاد السوق الذي تم في معظم البلدان المتخلفة، قدم حلولا لهذه المسائل المطروحة؟ وإن لم يكن ذلك هل يمكن العودة إلى التخطيط للتنمية الاقتصادية والاجتماعية؟
المطلب الأول
مبررات اعتماد التخطيط للتنمية
لقد كان اختيار التخطيط من قبل العديد من الدول المتخلفة، كأسلوب لتحقيق التنمية خاضعا لمتطلبات وضرورات سياسية واقتصادية واجتماعية:(1/2)
ـ من الناحية السياسية أعتبر التخطيط كتعبير سياسي عن الرغبة في وضع الدولة بمأمن من سيطرة الدول المتقدمة وإخراجها من دائرة التبعية، وقد نظرت بعض البلدان المتخلفة للتخطيط كمنقذ للاستقلال وتحريرها من الاعتماد المستمر على المساعدات الخارجية.كما أن الوعود المتتالية للزعامات الحديثة في تلك الدول، بتحقيق الرخاء الاقتصادي لشعوبها، والتيقن أيضا من نجاح الاتحاد السوفياتي والصين وبعض الدول الأوروبية ـ سواء في أوقات السلم أو الحرب ـ في قيادة شعوبها إلى مراحل متطورة من النمو والازدهار الاقتصادي،عوامل ساهمت في إذكاء الطموح نحو التخطيط والنمو السريع.
وأما في ظل عالمنا الذي يموج بالتحولات المتلاحقة والمتسرعة في شتى ميادين العلم والتكنولوجيا والاقتصاد والاجتماع والسياسة والثقافة ويشهد نمواً ملحوظاً في درجة الترابط والاعتماد المتبادل بين الدول، (فإن الدول "النامية" التي لم تزل تسعى إلى بناء نفسها وتنمية اقتصادها والعثور على موقع أفضل لها على خريطة تقسيم العمل الدولي، في حاجة أشد إلى القيام بالدراسات المستقبلية ، لاسيما إذا كانت من الدول ذات الموقع الاستراتيجي المتميز أو المكانة السياسية البارزة التي تجعلها مستهدفة من جانب القوى الكبرى في العالم ، فيحاولون التأثير على قراراتها وتوجهاتها ومستقبلها)(1)ولا شك في أن المدخل لتلك الدراسات هو التخطيط.
__________
(1) ـ د . إبراهيم العيسوي: الدراسات المستقبلية ومشروع مصر 2020 ، ع. س، ص6.(1/3)
ـ ومن الناحية الاقتصادية أعتبر التخطيط الوطني أداة للتغيير السريع، حيث كان تزايد المشكلات الاقتصادية التي تواجه البلدان المتخلفة من نمو ديموغرافي، وانتشار الأحياء الفقيرة وتفشي البطالة والتضخم والتفكك الاجتماعي وازدياد الحاجات المكلفة والمعقدة ... وما إلى ذلك الكثير وهي معضلات من شأنها أن تجعل التخطيط ضرورة ملحة، فالحاجة للتخطيط التنموي تعود إلى كون الدول المتخلفة تعاني من نقص في معظم الموارد البشرية والرأسمالية والمادية، ولذلك فقد أعتبر التخطيط ضروريا من أجل تحريك الموارد واستثمارها لغايات إنتاجية ولضمان سرعة تطور البلدان المتخلفة اقتصاديا.
إن السبب في الحاجة للتخطيط لا يعود إلى نقص الموارد فقط أو ندرة السلع ولكن لأنه حتى الموجود منها لا يستغل استغلالا كافيا، وضمن هذا الواقع تحتاج هذه الدول إذن إلى بلورة أهدافها وتحديد أولوياتها واختيار أكفأ الوسائل لتحقيق هذه الأهداف، إضافة إلى حاجتها إلى القضاء على الجمود الذي يميز اقتصادياتها؛ حيث كانت الأهداف تتمثل في تحقيق الاكتفاء الذاتي في مجال الإنتاج الزراعي والتوسع في إقامة الوحدات الصناعية وتحسين طرق ووسائل الإنتاج بما يحقق فائضا في الإنتاج الصناعي ويجعل الدول في غير حاجة إلى استيراد الكثير من السلع بل التوسع في تصدير الفائض منها.
حيث أن (عملية التنمية ذات بعد زمني طويل بالضرورة، فالتنمية لا تحدث بين عشية وضحاها، بل هي تتضمن إجراء تغيرات مؤسسية وهيكلية عميقة، يستغرق إنجازها وقتاً ليس بالقصير. ومن ثم فالتنمية هي عملية ذات بعد مستقبلي بالضرورة، ويستوجب التخطيط لها بالتالي الامتداد بالتفكير والنظر عبر فترة زمنية "مستقبلية " طويلة والتطلع إلى أفق زمني "مستقبلي" بعيد)(1).
__________
(1) ـ د . إبراهيم العيسوي: م. ن، ص 23(1/4)
إن هذه المتطلبات التي جعلت من التخطيط ضرورة، تعدّ في حدّ ذاتها، إقرار صريح بأنه لا يمكن التعويل على ما يسمى باقتصاد السوق في تحقيق التنمية وعلى نحو تلقائي من خلال تفاعلات قوى السوق الحرة.
ـ وأما اجتماعيا فقد كانت النظرية تقوم على مبدأ "من كل حسب طاقته ولكل حسب حاجته" وكانت أهداف التنمية من الناحية النظرية تمثل آمالا كبيرة في حياة ملايين الجماهير ونوعا من التكافل الاجتماعي بين أبناء الدولة الواحدة.
وفي ضوء التحولات المعاصرة، نرى أن ضرورة الأخذ بالتخطيط تنبع مما يلي:
أ ـ يشكل التخطيط ضرورة ملحة ولازمة لكافة دول العالم ولكافة التنظيمات وغيرها، وذلك من أجل العمل على تحقيق تغيرات سريعة وتنمية شاملة أو لمواجهة المشاكل والمستجدات والظروف الصعبة والطارئة، وهو الحال والتحولات الاقتصادية العالمية المعاصرة.
ب ـ يساعد التخطيط في الوصول إلى البناء التراكمي والتكاملي لتحقيق التنمية الشاملة والمتوازنة.
ج ـ تنبع أهمية التخطيط من كونه يحتّم الالتزام بطريقة عملية منطقية لمواجهة المشكلات واتخاذ القرارات بواسطة تحديد الأهداف والسياسات والمراحل الكفيلة بتحقيق الغايات المرجوة، إذ أنه بقدر ما تتعاظم الأهداف والغايات التي يسعى المجتمع لبلوغها بقدر ما تتأكد أهمية العمل التخطيطي كوسيلة علمية وعملية منظمة لضبط المجتمع نحو غاياته.
د ـ يساعد التخطيط في أخذ الاحتياطات اللازمة لمواجهة التغيرات والمستجدات التي تحدث في البيئة حتى لا تؤثر على عمل التنظيمات والدول.
أما في إطار مستلزمات اقتصاد السوق، فإن الحاجة إلى التخطيط تصبح أكثر لزوما بالنظر لما يلي:
أ ـ لتحديد حجم العمل ونوعية القوى العاملة اللازمة لتنفيذ المشاريع الواردة في الخطة. ...
ب ـ لتحديد الأهداف والسياسات بشكل مسبق لبعث الأمان والاستقرار والرضا لدى العاملين.
ج ـ لتحديد الاحتياجات المالية وتخفيض نسبة الأخطاء والمشاكل والعقبات.(1/5)
د ـ لتمكين المنظمات من امتلاك القدرة على مواجهة التغيرات الطارئة والتنسيق بين مختلف مصالحها.
ولكن التطبيق العملي لتجارب التخطيط المركزي، أدى إلى تأميم الأراضي الزراعية والوحدات الإنتاجية ونقل ملكيتها وتبعيتها للدولة، مما قضى على الحافز الفردي وروح الابتكار إلى جانب القضاء على المنافسة بين الوحدات الإنتاجية و "وضع نظام التسعير الجبري للسلع واحتكار الدولة لعمليات الاستيراد والتصدير" حيث تقلص دور الإدارة وانعدمت الكفاءة والجودة الإنتاجية نظرا لإتباع أساليب وخطط تقليدية، كما أدت الحماية الجمركية وقيود الاستيراد إلى تدهور الإنتاج نتيجة لانعدام المنافسة. كذلك كان من نتيجة تدخل الدولة في تحديد المرتبات وإتباع سياسة تدعيم أسعار السلع والخدمات والوحدات الإنتاجية، إفراز جيل من العاطلين وانتشار الرشوة والفساد في المؤسسات والمصالح الحكومية وانحدرت القيم وانتشر الفقر والأمية، وكان لكل ذلك أثار اجتماعية سيئة للغاية فتخلفت تلك البلدان أو تعمق تخلفها، وأصبحت أكثر تبعية للبلدان الرأسمالية المتطورة وللمؤسسات الدولية التي تسيطر عليها هذه الأخيرة.(1/6)
نتيجة لذلك ينادى أنصار الحرية الاقتصادية بحتمية التخلي عن التخطيط، وهي مناداة تعكس النظر إلى التخطيط من خلال المفهوم التقليدي للتخطيط المركزي، وهو منظور خاطئ يتناسى المفهوم العلمي والدقيق للتخطيط باعتباره رسما لصورة المستقبل في ظل فروض عملية ممكنة التحقيق، فلا يمكن أن يكون مفهوم التخطيط المركزي مبَرّرًا لرفض الضرورات العملية للتخطيط كمفهوم علمي حياتي، لأن رفض فكرة التخطيط في حد ذاتها تكون بمثابة السعي لتغييب الدولة وهي دعوة للعشوائية والارتجالية والفردية، وهي بذلك تكون العدو الأول للحرية الاقتصادية؛ فقد أثبتت التجارب أن التخطيط ليس قاصرا على نظام اقتصادي دون آخر، فالهند تعدّ دولة ديمقراطية لا تختلف نظمها وأوضاعها البرلمانية كثيرا عن مثيلاتها في الدول الغربية، ونظامها الاقتصادي في أغلبه يرتكز على النشاط الخاص، استطاعت عن طريق الأخذ بنظام التخطيط الشامل بعد حصولها على استقلالها السياسي أن تحقق نتائج باهرة، وخاصة في القضاء على البطالة وزيادة الإنتاج الزراعي والنهوض بالصناعة(1).
المطلب الثاني
المفاضلة بين السوق والتخطيط
__________
(1) ـ حول تجربة الهند في التنمية والتخطيط، راجع الدراسة الهامة للدكتور: رمزي زكي: نموذج التنمية الهندي بين تناقضات النمو الرأسمالي وطموحات الاستقلال الاقتصادي والاعتماد على الذات، في التنمية المستقلة في الوطن العربي، بحوث ومناقشات الندوة الفكرية التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الأولى يناير1987، كذلك طالع: كامل بكرى، التنمية الاقتصادية، ع.س، ص204 وما بعدها.(1/7)
على امتداد الفترة 1917إلى 1950 انفصل كثير من البلدان في العديد من القارات،عن اقتصاد السوق، وجرب حتى نهاية الثمانينيات العمل بأنظمة بديلة قائمة على اقتصاد التخطيط المركزي، وكما عرفنا كان لالتحاق الدول الأخرى التي حصلت على استقلالها بعد الخمسينيات وحتى أواخر الستينيات بذلك التوجه السياسي الاقتصادي، الأثر الكبير في تغير الخريطة السياسية والاقتصادية للعالم وفي مسار كثير من الأحداث خلال القرن العشرين، غير أنه وكما يسجل التاريخ كان لانهيار الكتلة الاشتراكية التي يسيطر عليها الإتحاد السوفياتي وبسقوطه فضلت تلك البلدان وتحت ضغط مختلف الأوضاع ونتيجة لعدم كفاءة اقتصادياتها المخططة مركزيا، التحول نحو اقتصاد السوق الرأسمالي، ووضعت الكثير منها برامج للإصلاح الاقتصادي، وصممت على وضع آليات اقتصادياتها على طريق اقتصاد السوق، فقلصت من القطاع العام وأعادت النظر في الوظيفة التخطيطية وفضلت المشروع الخاص والمبادرة الفردية.
ومسايرة لتدعيم هذا المفاضلة الطارئة على صعيد التحولات العالمية صدر "تقرير عن التنمية في العالم1996" عن البنك الدولي تحت عنوان "من الخطة إلى السوق" والذي يتضح منه أنه يربط بين الانتقال إلى اقتصاد السوق وتحرير الأسواق والتجارة وتحقيق استقرار في الأسعار وتطوير المؤسسات والسياسات التي يرى أنها تساعد الأنظمة الجديدة على تحقيق الكثير، حتى مع عدم توافر مؤسسات سوقية قوية.(1)
__________
(1) ـ راجع تقرير عن التنمية في العالم 1996 "من الخطة إلى السوق" الإصدار التاسع عشر للبنك الدولي.(1/8)
إن كل من التخطيط واقتصاد السوق هما أسلوبين بديلين لإدارة الموارد وتخصيصها، غير أن أحدهما لا يستثنى الآخر، في إدارة الاقتصاد، وفي استهداف غايات معينة اجتماعية واقتصادية وسياسية، فقد أصبح من المعترف به اليوم ( في الصين وفي الهند مثلا) أن يستعان بنظام السوق ـ في حدود معينة ـ لترشيد التخطيط وقد سمح هذا الاعتراف للمشروعات بدرجة أكبر من الحرية في إدارة شؤونها وفي زيارة الاعتماد على الحوافز في حمل الأفراد والمشروعات على تحقيق قدر أكبر من الاستعمال الرشيد للموارد. وفي الأخذ بمعيار الربح للحكم على نجاح المشروع.
ورغم كل ما يقال عن "اعتماد التخطيط" أنه يتناقض مع اقتصاد السوق ومع الدعوة إلى التراجع عن تدخل الدولة الاقتصادي؛ إلا أن التخطيط يبقى برأينا، كما قال "جواهر لال نهرو"( ممارسة ذكية للتعامل مع الحقائق والمواقف كما هي عليه في الواقع، ومحاولة العثور على حلول للمشاكل القائمة)(1)أن كل دول العالم تخطط، ففي اليابان يُستخدم "الإرشاد الإداري" وفي ألمانيا "التلمذة الصناعية". وأكثر الشركات تخطيطاً هي الشركات المتعددة الجنسية، وأن نجاح اقتصاد السوق يتوقف على نجاح التخطيط، لأن اقتصاد السوق يعمل وفق آلية العرض والطلب، والتخطيط يعتمد على معرفة ماذا ينتج؟ وكيف؟ ومتى؟ وأين؟ ولماذا؟ وما هي نوعية المنتجات؟ وكمياتها؟ والسعي لزيادة القدرة التنافسية في ظل الانفتاح الاقتصادي، وتجنب الآثار السلبية للعولمة والتأقلم الإيجابي مع المتغيرات الدولية، أي أنه يعتمد على السوق كمؤسسة لتحديد خطوات المستقبل من خلال الربط بين الخطة الإنتاجية والتسويقية.
__________
(1) ـ رمزي علي إبراهيم سلامة: اقتصاديات التنمية، منشأة المعارف، الاسكندرية1991، ص425(1/9)
ولكن التوجه نحو اقتصاد السوق بحد ذاته ليس بكاف لتحقيق التنمية، بل هناك شروط عديدة مطلوبة، من بينها حسن اختيار البدائل الذي يتيحها اقتصاد السوق. إذ في إطار الواقع والتوجهات الراهنة يبدو أنه دون التوجه نحو اقتصاد السوق فان فرص تحقيقها ستبقى عسيرة إن لم تكن منعدمة، أي أن التحول نحو اقتصاد السوق أصبح شرطا ملزما ولكنه غير كاف في ضوء واقع البلدان المتخلفة.
ومنه يمكننا القول أنه لا توجد مفاضلة فاصلة بين التخطيط واقتصاد السوق، وأن العمل بأحدهما لا ينفى الآخر، وإنما يجب العمل ضمن ما يمكن أن تتعلمه الدول المتخلفة من التجارب الايجابية لكل منهما بالبلدان المختلفة، وعما إذا كان من الممكن نقل بعض الخصائص الايجابية لكل منهما إلى الآخر لتحقيق الأهداف التنموية المرغوبة بكلفة معقولة ومقبولة؛ والواقع أن للسياسات الاقتصادية بالبلدان المتخلفة دور مهم في اكتشاف ما يمكن أن تستفيده من كل منهما؛ وذلك ما أردنا تناوله في إطار التوجه السياسي للدولة والتخطيط بالمبحث الموالي.
المبحث الثاني
التوجه السياسي للدولة والتخطيط
... يشير التاريخ الاقتصادي إلى أن الدولة مارست فيما مضى دورا رئيسيا في النشاط الاقتصادي وذلك في جميع الدول المتقدمة منها والمتخلفة على حد سواء، مع ملاحظة اختلاف مدى ذلك الدور من دولة إلى أخرى، وكذلك عبر المراحل التي مر بها العالم.(1/10)
وإذا كانت الدولة في الماضي وفي كل الأنظمة قد مارست ذلك الدور بالنظر إلى أن الظروف التي كانت سائدة آنذاك قد أكدت الحاجة التي تدخلها ذلك، فإن المتغيرات التي يشهدها عالمنا الحاضر قد جعلت الباحثين في هذا الميدان يثيرون عدة تساؤلات حول الدور الذي يمكن أن تلعبه الدولة مستقبلا في هذا المجال في ضوء التوجه الذي برز خلال السنوات الأخيرة المتمثل في الحد من تدخل الدولة المباشر في النشاط الاقتصادي. خصوصا وأن الاتجاه السائد في وقتنا الحاضر هو محاولة زيادة الدور الذي يضطلع به السوق في توجيه الموارد وتقليل الدور الذي تقوم به الدولة، فقد أوحى تقرير التنمية العالمية لسنة1997، "أن الدرس الرئيسي على مدى السنوات الأخيرة كان يتمثل في أن قدرا كبيرا من العالم النامي كان عليه أن يواجه فشل استراتيجيات التنمية التي تهيمن عليها الدولة، وبسبب هذا كان على كثير من القادة الحكوميين أن يتجهوا بشدة نحو اقتصاد السوق، لأن الدولة لم يعد بمقدورها أن تعتمد بشدة على الوعود التي تقدمها للناس"(1)ولذلك فإنه وفي ظل التحولات التي اجتاحت العالم لم يعد هناك خيار كبير أمام العديد من الدول في ألا تسلك هذا الطريق.
__________
(1) ـ عن: إلبيونج ج.كيم/ أوك هيون هونج ILpyong J.Kim & Uk Heon Hong : جمهورية كوريا : ترويض النمر، في المجلة الدولية للعلوم الاجتماعية، م. س، العدد163 مارس2000، ص81-82(1/11)
كما أن انتصار السوق على الدولة وسّع من الرقعة الجغرافية للاقتصاد العالمي الذي وسّع بسهولة من دخول وخروج رؤوس الأموال، التي غيرت بشكل جوهري من طبيعة التداخل بين القوى الاقتصادية والسياسية، بحيث قلّصت من استقلالية وتأثير العوامل الداخلية البحتة، كما أصبح رأس المال أحد عوامل الإنتاج الأكثر تعقيدا، فازدياد حجم تدفقات السلع والخدمات ما بين المؤسسات خلق نموذجا معقدا من التخصص مرتبط بنظام جديد من الإنتاج العالمي، ومع انتعاش قوى السوق أدّى ذلك إلى ظهور هيكل تنظيمي عالمي أكثر حرية، قام بتقييد دور السياسات الوطنية وبالتالي تراجع دور السياسات التنموية الوطنية. ومن المنطقي أنه عندما تعمل كل المشاريع والمؤسسات المالية بشكل عابر للحدود الوطنية أي ما وراء محددات الحدود الوطنية فإن السلع وعوامل الإنتاج والموجودات المالية تصبح معوضة لبعضها بشكل تام في أي مكان ويصبح من غير الممكن اعتبار الدول وحدات اقتصادية منفصلة لها القدرة الذاتية على صناعة القرار في متابعة الأهداف الوطنية. وإن سلعا عامة لازمة للمحافظة على نظام سوق مفتوح كحقوق الملكية الفكرية ونظام نقدي مستقر تصبح مسؤولية عالمية ويصبح الأداء الاقتصادي الكلي معتمدا على استجابة المشاريع لمحفزات الاقتصاد والترتيبات العالمية.
المطلب الأول
سياسة الدولة ونمط التنمية(1/12)
من المعروف بأن هناك اتفاقا عاما على أن الدولة يجب أن تلعب دورا هاما في الحياة الاقتصادية للبلدان المتخلفة لعدة أسباب منها: ضيق السوق المحلية وانعدام أو تدني مستوى المرافق العامة وتدني مستويات التمويل، غير أن تدني الأداء في القطاع العام أرغم الحكومات سواء في الدول المتقدمة أو في غيرها على إعادة النظر في دور الدولة في الحياة الاقتصادية، فالبلدان المتخلفة تواجه عددا من المشكلات الاقتصادية وتباطؤ ملموس في معدلات النمو مما أفرز إختلالات كبيرة في الداخل والخارج و لذلك كان على هذه البلدان، وعلى أثر التدهور الكبير الذي طرأ على البيئة الاقتصادية العالمية أن تقتنع بأن التكيف مع المستجدات يتم من خلال السياسات التصحيحية المساعدة على إزالة هذه الإختلالات واستعادة معدلات مقبولة للنمو الاقتصادي.
أما أنصار الليبرالية الجديدة فيرون "أن السوق آلية مثلى للعمل الاقتصادي، وأن تدخل الدولة هو شر الشرور. ولذلك فإن تحقيق التقدم الاقتصادي يكون بتفعيل السوق، وإطلاق العنان لهويتها. وبالتالي يعني وقف تدخل الدولة، ومحاصرته، ومنعه من الميدان الاقتصادي المباشر.
ولكن القائلين بضرورة تدخل الدولة يرون أن هذا الأمر ليس صحيحاً، وأن تدخل الدولة لا يناقض اقتصاد السوق، وأن كل الدول الصناعية البرجوازية حققت الثورة الصناعية من خلال ثورة اقتصادية لعبت فيها الدولة دوراً كبيراً، كما في اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان وسنغافورة وهونغ كونغ، ولاحقاً في ماليزيا وتايلاند والصين، ومؤخراً في الهند. ولذلك فالقول إن اقتصاد السوق يعني عدم تدخل الدولة، هذا كلام غير تاريخي وغير علمي، هذا خيار أيديولوجي والتاريخ كذب هذا الخيار."(1)
__________
(1) ـ د. عصام الزعيم، حوارات حول اقتصاد السوق/ ثامر قرقوط، على الموقع www.an-nour.com،رقم.188بتاريخ 23/02/2005(1/13)
"فالليبراليون الجدد يقولون السوق كاملة، ونحن نقول لا، السوق ليست كاملة، والتاريخ والممارسة السياسية يكذبان قولهم، إذ فرضت الولايات المتحدة ... رسوماً على استيرادات الصلب، وتدعم دول الاتحاد الأوربي واليابان الزراعة وتتدخل بالسوق الزراعية، إذ أن السوق الزراعية في العالم هي سوق تدخليه، تتدخل فيها الدولة مباشرة أو على نحو غير مباشر من خلال التشريعات."(1)
وكذلك كان من بين أسباب عزلة الولايات المتحدة خلال اجتماع الدول الثمانية الأكثر تصنيعا وتقدما، رفضها رفع الدعم الزراعي الذي تقدمه لمزارعيها.(2)
إن دور الدولة يكمن أساسا في إدارة عملية الانتقال إلى اقتصاد سوق أكثر انفتاحا باعتماد وتيرة وطريقة من شأنهما التقليل إلى أدنى حد من التكاليف الاجتماعية حيث أن أحد الشروط الأساسية لنجاح التكيف مع اقتصاد عالمي يسير في ظل التحولات المتعاقبة والمتسارعة، هو إدراج العنصر الاجتماعي في برامج الإصلاح الاقتصادي من خلال تدريب وإعادة تدريب العمال واعتماد مخططات إعادة التوزيع وإيجاد فرص العمالة البديلة، وهذه التدابير ضرورية ليس لأسباب تتعلق بتحقيق العدالة فحسب وإنما لضمان القبول السياسي والاستدامة الاجتماعية للإصلاحات الاقتصادية.
" إن هذه الدول في الحقيقة لابد وأن تكون قادرة على وضع الشروط التي تحكم عمل المستثمرين الأجانب الذين يسعون إلى تعظيم الأثر المحلي على تشغيل العمالة، وانتشار التكنولوجيا، والشراكة الإستراتيجية، وما إلى ذلك، وفي ذات الوقت، فقد تحتاج الدول النامية إلى تعزيز القطاع الخاص المحلي لديها ودعم "الصناعات الوليدة" من خلال فرض إجراءات الحماية بصورة مؤقتة، وهو الأمر الذي من شأنه أن يساعدها على الارتقاء بناتجها المحلي على مسار التحرر الكامل.
__________
(1) ـ د. عصام الزعيم، م. ن.
(2) ـ حدث ذلك خلال الاجتماع الأخير الذي انعقد في مدينة بطرسبرغ ( لينين غراد سابقا) في جويلية2006.(1/14)
ليس هناك ابتداع أو خروج على المألوف في مثل هذه الاقتراحات، فقد فعلت الدول المتقدمة نفس الشيء بشكل أو بآخر، ففي القرن التاسع عشر، فرضت الولايات المتحدة قيوداً على الاستثمارات الأجنبية في العديد من القطاعات، بما في ذلك قطاع التمويل واليوم، تراقب الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي عن كثب كل صفقات البيع التجارية الكبرى، وعلى نحو مماثل تنحرف الدول الناشئة في آسيا الآن عن النموذج الليبرالي المحض، وحتى أيرلندا التي كانت تعد بطل التحرر الاقتصادي نكصت الآن على عقبيها نحو توجه أكثر انتقائية."(1)
"لقد فشلت البرامج الرامية إلى الإصلاح البنيوي وإيجاد التوازن الاقتصادي، التي فرضت منذ ثمانينيات القرن العشرين، في إنجاز وعودها برفع معدلات النمو الاقتصادي، والحقيقة أن معدلات النمو في العديد من بلدان العالم خلال ربع القرن الماضي كانت أبطأ من نظيراتها خلال ربع القرن الذي سبقه، على الرغم من تسارع النمو في شرق آسيا، والهند، وعدد قليل من البلدان الأخرى."(2)
إن "تراجع الدولة" في العديد من البلدان "النامية" أثناء العقود الأخيرة قد اشتمل على تراجع عام في دور الحكومات، بما في ذلك قدرتها على قيادة ودعم التنمية، فضلاً عن التدخلات الاجتماعية التقدمية في مجالات مثل: التعليم العام والصحة والإسكان والمرافق العامة(3).
__________
(1) ـ جين ميشيل سيفيرينو المدير التنفيذي لوكالة التنمية الدولية الفرنسية في مقال له بعنوان: البحث عن الاستثمار، على الموقع بروجيكت سنديكيت، تم التصفح في 26/05/2006. http://www.project-syndicate.org
(2) ـ عوالم متباعدة جومو. ك. س. Jomo.K.S، نائب أمين عام التنمية الاقتصادية في إدارة الشئون الاقتصادية والاجتماعية التابعة لأمم المتحدة (DESA). على الموقع ذاته: بروجيكت سنديكيت، تم التصفح في26/05/ 2006.
(3) ـ جومو. ك.س، م. ن(1/15)
وعليه فإن توجه الدولة نحو اعتماد سياسة اقتصاد السوق لا يتعارض مع دورها التنموي واعتماد أسلوبٍ ما من التخطيط، فقد لعبت سلطة الدولة دورا مهما منذ مطلع التأريخ البشري (نظرا للحاجة الموضوعية لسلطة مركزية تأخذ مواقع السلطة القبلية) في قيادة الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية؛ كما أن تجربة النمو للنمور الآسيوية التي لعبت فيها الدولة دوراً استراتيجياً لا يستهان به خاصة في مجالات: البنية الأساسية والسياسات النقدية والمالية والتعليم والبحث العلمي وحفز الصادرات، تؤكد هذا الدور في العصر الحديث؛ وفي ماليزيا أيضا يوجد هيكل حكومي متكامل تابع لمجلس الوزراء مسئول عن التخطيط الوطني (لجنة تخطيط التنمية) والتنسيق وتهيئة المناخ المناسب لتنفيذ الخطط (مجلس التنمية الوطني).
ولكننا نؤكد في نفس الوقت على أن التحولات الكبيرة والسريعة في العالم ـ لا ريب ـ تفرض إعادة النظر في دور الدولة، فالقطاع الخاص مثلا وكذلك العام، لم يتطورا في أغلب البلدان المتخلفة إلى الدرجة التي يمكن معها للدولة أن تتنازل فيها عن مسئولياتها كاملة.
ووفقا لمدرسة Public serviceالمتخصصة بدراسة دور الدولة في الحياة الاقتصادية، يبرر تدخل الدولة في الاقتصاد نتيجة للعجز الموجود في اقتصاد السوق في معالجة الأزمات.
ذلك أن العديد من منظري السوق يقِّرون بدور للدولة حيثما تعجز آلية السوق عن القيام بوظيفتها، كما هو الحال في قضايا توزيع الثروة، والاستثمار في البنى التحتية، وحماية البيئة، وفي جميع المجالات التي لا تخضع لآلية السوق أو لا تتوفر شروط عملها بكفاءة، كعدم توفر المعلومات وسوء توزيعها والاحتكار ووجود مخاطر لا يمكن الاحتياط لها، فالمهم إذا ليس التدخل أو عدمه بل طبيعة وشروط وفعالية التدخل.
التحول في دور للدولة:(1/16)
سيطرت الأجهزة السيادية للدولة المتمثلة في الإدارة العمومية وباقي مكونات القطاع العام خلال عقدي الستينات والسبعينات والى حد ما خلال عقد الثمانينات على أغلب الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية وقد قامت تلك السيطرة على احتكار الدولة للأدوات المالية والاقتصادية والقانونية كسياسات الأسعار والدعم والضرائب وتشريعات الأجور وتحديد عوائد الملكية...وما إلى ذلك، كما كانت الاستثمارات العمومية هي الرائدة في استيعاب اليد العاملة خلال تلك الفترة.
إلا أنه في إطار سياسات محاولات الإصلاح الاقتصادي داخليا،التي شرع فيها بأغلب البلدان المتخلفة منذ بداية عقد الثمانينات، وتماشيا مع التحولات الاقتصادية العالمية، بدأت حركة تحول جدري في طبيعة دور الدولة، وقد تمثل هذا التحول في انقلاب الوزن النسبي للإدارة العمومية والقطاع العام، لصالح القطاع الخاص الوطني والأجنبي المستند على قواعد الربح وآليات السوق، وقد كان من نتائج تراجع القطاع العمومي وما نجم عن ذلك من ضعف في مستوى الاستثمار العمومي، أن تراجع دور الدولة في التنمية.
لقد عرف اقتصاد السوق أنماطا متعددة بينها اختلافات حقيقية، وخاصة عبر تأثيرات الكينزية وضغوط الأممية الثانية الاشتراكية، إلى جانب وجود المعسكر الاشتراكي السابق كعدو فرض تكيفات معينة على النظام الرأسمالي مما أدى لبروز دور الدولة والقطاع العام وسياسات إعادة توزيع الدخل والإنفاق الاجتماعي الحكومي ودعم الفئات محدودة الدخل من اجل تقليص الفوارق الاجتماعية التي تخلقها السوق الحرة وغيرها، وقد تمثلت تلك الأنماط في ثلاثة نماذج رئيسية لاقتصاد السوق هي:
1 ـ النموذج الانجلوساكسوني المتطرف في محاباته للسوق الحرة والقطاع الخاص.
2 ـ نموذج اقتصاد السوق الاجتماعي الذي يمنح الدولة دورا أكبر في توجيه السوق بل والاستثمار المباشر فيها ويمنح أهمية أكثر للجانب الاجتماعي ويعطي دورا لآليات إعادة توزيع الدخل.(1/17)
3 ـ النموذج الياباني الشرق آسيوي ذي الطابع العائلي الشرقي.
والى جانب هذه النماذج الثلاثة، أو من ضمنها توجد تنوعات مختلفة على امتداد العالم واختلافاته.
غير أن هذه الاتجاهات جميعها بدأت تخلي المكان للاتجاه الانجلوساكسوني المتطرف منذ مطلع الثمانينيات وأخذت تقترب من آلياته لزيادة قدرتها التنافسية على حساب الجانب الاجتماعي، كل هذا أدى بالنسبة للدول المتخلفة إلى فقدان الشروط المساعدة على التنمية، المعتمدة على الذات، المستقلة عن الاندماج في الاقتصاد الرأسمالي؛ وهذا ما ضيّق الخيارات أمام الدولة بالبلدان المتخلفة في تكييف السياسات الاقتصادية والاجتماعية الوطنية وفقا لمتطلبات مصلحة التنمية الوطنية وضمن الخطوط العامة لاقتصاد السوق.
إن الآليات التي استعملت من قبل لتحقيق العدالة الاجتماعية عن طريق تضخيم دور الدولة لم تثبت فعاليتها، بل أدت للبيروقراطية وتضخم أجهزة الدولة على حساب إنتاجيتها، وأصبحت سياسات فرض ضرائب مرتفعة وتأميم نشاط القطاع الخاص والتدخل الإداري في آليات التسعير وغيرها غير قابلة للاستعمال على الأقل بسبب سيادة اقتصاد السوق وبالتالي فان العدالة الاجتماعية يجب أن تتحقق عبر آليات تنسجم واقتصاد السوق ذاته، بمعنى اقتصاد السوق الموجه بفعل التخطيط التأشيري واستراتيجيات تنمية يمكن تعديلها باستمرار.
تراجع دور الدولة الإنتاجي والخدماتي الذي كان مخصصا – في المرحلة السابقة- لتغطية بعض احتياجات الجماهير الشعبية فيها، وتراجع دور الدولة الوطني والاجتماعي.(1/18)
إن الاتجاه السائد في العديد من دول العالم في الوقت الحاضر يميل إلى قيام الدولة بدورها الاقتصادي بأسلوب جديد يقوم على صنع القواعد بدلاً من إصدار الأوامر، لا ينبغي أن يفهم على أنه تخلى من الدولة عن دورها في عملية التنمية، ولا على أن الاهتمام بعملية التنمية ينبغي أن يتراجع لإفساح المجال أمام قوى السوق بل على العكس من ذلك تماماً، فمشاكل الفقر وانخفاض الإنتاجية والمديونية هي قاسم مشترك بين معظم دول الجنوب؛ كما أن الدولة يمكن أن تلعب دورها في إيجاد المناخ الذي يسمح لقوى السوق بالمساعدة على دفع عملية التنمية.إن تراجع الدولة عن الإنفاق على التعليم والصحة يعيدها للوراء ويدخلها في حلقات مغلقة من الأجيال التي توَّرثُ الفقر أو الغنى لأجيالها اللاحقة. وعليه فإننا نرى أن الاختلاف لم يعد محصوراً حول دور الدولة تدخلها أو عدم تدخلها في المجال الاقتصادي والاجتماعي، بل أن الاختلاف حول نوع هذا التدخل وفي الطرق المستحدثة التي تمكن الدولة من خلال تدخلها من بث الديناميكية في الاقتصاد، أي كفاءة تدخل لدولة في النشاط الاقتصادي.(1/19)
إن المناخ الاقتصادي الدولي المهيمن يتسم بجو انتشار الأفكار الليبرالية الجديدة على الساحة الاقتصادية والمالية وفي كل أنحاء العالم(1)، مما أنتج أسلوبا تنمويا يقتضي تقليص دور الدولة في الآليات الاقتصادية وبيع منشآت القطاع العام إلى القطاع الخاص، وكذلك الحدّ، بل التراجع في تقديم الحماية الاجتماعية وقيام الدولة بإعطاء الحوافز الضريبية إلى المستثمرين في القطاع الخاص وإلى أصحاب التوظيفات في الأسواق المالية المحلية. وهذا الأسلوب التنموي الجديد فرض على كل البلدان وبتجاهل تام للمعطيات الاقتصادية المختلفة وللبنى الاجتماعية الخاصة بكل بلد.
من الواضح أن الدولة إذا ما تخلّت عن القيام بجهد أساسي في عملية التنمية الشاملة، فإن هذه تصبح بدون رعاية، لكن المفارقة أن الدول الصناعية الغنية التي تدعو البلدان النامية إلى تقليص دور الدولة وإلى الخصخصة وتخفيض حجم إنفاقها التنموي، بالوقت ذاته هذا، نجد أنها تعزز دور الدولة خاصة في الشأن الاجتماعي، فطبقاً لبيانات البنك الدولي: فقد زاد حجم الحكومة في إنكلترا من 31.6% سنة 1970 إلى 39.1% سنة 1997. وارتفع حجمها في فرنسا من 39.5% سنة 1980 إلى 46.6% سنة 1997. وفي السويد زاد حجم الحكومة من 25.2% إلى 44.3% سنة1997. ويمثل الاستثمار العام في السوق 20% من الاستثمار المحلي الإجمالي سنة1996.
__________
(1) ـ حتى أن بعض رواد الفكر الكينزي الجدد، أصبحوا يطالبون بتقييد حجم تدخل الدولة في بعض المجالات،من قبيل تحرير سياسات أسعار الفائدة، وأسعار الصرف،وأسعار السلع، وتشجيع التفتح على الخارج، وذلك بعد أن كان أسلافهم الأوائل من كينز وحتى رومر ولوكاس يطالبون بوجوب تدخل الدولة باستخدام توليفة من السياسات المالية والنقدية والاجتماعية إلى جانب آليات السوق.(1/20)
والمفارقة تبدو صارخة، عندما نجد أن توصيات صندوق الدولي والبنك الدولي الداعية إلى حكومة الحد الأدنى تأخذ طريقها للتنفيذ في البلدان النامية التي رضخت لهذه التوصيات إما بسبب مديونيتها الخارجية، أو تطوعاً.
ففي مصر تقلص حجم الحكومة من50.2% سنة1980 إلى 36.6% سنة1997 كما انخفض نصيب الاستثمار العام في الاستثمار المحلي الإجمالي من حوالي 80% سنة1982 إلى حوالي 35% سنة1998.
وإذا ما استحضرنا المؤسسات المالية والتجارية الدولية ( البنك الدولي- وصندوق النقد الدولي والمنظمة العالمية للتجارة ) وما تتخذه من قرارات وتدابير وإجراءات في حق كل دول الجنوب وفي العالم، وهي القرارات السالبة للحرية والسيادة الوطنية والمتحكمة في السياسات الاقتصادية، وهو الأمر الذي يؤدي إلى إضعاف الدولة وحملها على التخلي عن وظائفها خاصة ما يتعلق بالخدمة العمومية، وأيضا سحب القرارات من الحكومات والبرلمانات، فإننا ندرك جيدا خطورة الوضع.
المطلب الثاني
دور الدولة في ظل التحولات
لا ريب في أن الظروف التي أفرزتها التحولات الدولية أتاحت فرصا واسعة أمام القوى الكبرى للتحكم في مقادير الدول المتخلفة ومساراتها المستقبلية؛ فتطبيق برامج الإصلاحات الاقتصادية ترتب عليها آثار وتكاليف اقتصادية واجتماعية وسياسية حتى على المدى القصير، والتحول من اقتصاديات مخططة مركزيا إلى اقتصاديات السوق يفرض على الدولة أن تغير من أساليب وطرق عملها حتى تقوم بدورها الضروري طبقا للمعطيات الجديدة؛ فالأمر يتطلب بروز دور هام يجب على الدولة أن تقوم به، وعليه يمكن التساؤل عن أي دور يمكنها القيام به في ظل التحولات الاقتصادية العالمية؟(1/21)
إن تجارب الدول المتخلفة تثبت أهمية دور الدولة في العملية التنموية، بالرغم مما يبدو من اختلاف في هذا الدور من دولة لأخرى، حيث أن متطلبات التنمية وفقا لمنهج اقتصاد السوق، كأي تحول منهجي يستدعي بالضرورة تحول المجتمع من حيث سلوك وأفكار وأولويات أفراده ومؤسساته تماشيا والأهداف المنشودة، إضافة إلى ذلك فإن الضرورة تقتضى تدخل الدولة في توفير أو على الأقل المساعدة في توفير البنية الأساسية أو ضمان أسعار معقولة لها، فالدول المتقدمة تتدخل في توفير حلول لمشاكل القطاعات الاقتصادية المختلفة، وما يحدث من تدخلها في التجارة الدولية وأساسا في تجارة وسائل انتقال تكنولوجيا المعلومات وتجارة النفط ودعم الإنتاج الزراعي يؤكد ذلك.
وحيث أن التحول في دور الدولة كان له أبعاد اجتماعية متفاوتة فقد أظهرت التجارب، تلك التكاليف الاجتماعية والاقتصادية الشديدة الوطأة للتحولات خصوصا تلك المرتبطة بسياسيات واسعة للتحرير الاقتصادي والخوصصة (الجزائر ـ مصر ـ المكسيك) وفي هذا الإطار فان شبكات التضامن الاجتماعي يمكن أن تمثل وسيلة للدولة للتعامل مع هذه الجوانب من حيث أنها:
ـ تمكنها من رصد وحماية الفئات المتضررة اجتماعياً من جراء تراجع دور الدولة بوجه عام.
ـ وسيلة لتطوير مفهوم العمل الاجتماعي تنموياً وتنشيط مشاركة الآخرين بالتعاون مع الدولة (القطاع الخاص ـ المجتمع المدني).(1/22)
ومن أمثلة التدخلات في هذا الخصوص: التعويضات، إعانات البطالة، التأمين الاجتماعي، التأمين الصحي، برامج المساعدات والخدمات الاجتماعية وتطوير وتنمية المشروعات الصغيرة والمتوسطة وغيرها؛ وعليه يتضح الدور الهام الذي يمكن للدولة أن تقوم به في ظل التحولات المعاصرة، بل أن وظائفها الاقتصادية والاجتماعية، تزداد أهمية ودقة في إطارها مما يطرح من جديد أهمية ممارسة التخطيط للتنمية بالبلدان المتخلفة، هذه الوظائف الحاسمة التي توضح أن دور الدولة سيبقى مُهِمًّا خلال القرن الواحد والعشرين، والذي من بينه وضع وتنفيذ قواعد المنافسة في السوق، وتوفير البنية التحتية الضرورية لتطوير القطاع الخاص، وتشجيع التعليم والتكوين، وتطور التكنولوجيا، وضمان الحماية الاجتماعية لؤلئك الذين لا يستطيعون حماية أنفسهم، إضافة إلى العديد من الوظائف الأخرى الاقتصادية والاجتماعية التي يمكننا توضيح أهمها في الشكل الموالي.
يؤكد "فراني لوتبير" نائب رئيس البنك الدولي حول دور الدولة في ظل العولمة، "أن الدولة إذا شاركت حقًا في خلق اقتصاد عالمي بدلاً من أن تكون مجرد ضحية أو قوة خاسرة، فإنها تستطيع تعظيم المكاسب وتقليل الخسائر من عملية العولمة، ولكن طبقًا لقرار يتطلب أدوات قانونيةً وإداريةً جديدةً، حتى يمكن تفعيل دور الدولة في ضوء العولمة وسبل التعامل معها"(1).
__________
(1) ـ ورد ذلك في مداخلته بمؤتمر منظمة التنمية العالمية السنوي الرابع المنعقد بالقاهرة حول موضوع "العولمة والعدالة" في الفترة من 19-21 يناير 2003، أنظر في ذلك: ملفات وتقارير، http://www.egypt-facts.org، ملف: العولمة والعدالة... صدام أم وئام؟! تمّ التصفح في 18/04/2003.(1/23)
أما "أجاي شهيبر" فيؤكد على أن " التنمية تتطلب دولة فعالة تستطيع أن تلعب دورًا حافزًا، وأن تشجع وتستكمل أنشطة الأفراد وأنشطة دوائر الأعمال الخاصة" وبالرغم من إشارته لفشل التنمية التي "تشرف عليها الدولة" كما يذكر، فإنه يقر بضرورة تدخل التنمية، إذ يرى أن " حالات الاحتضار التي أصابت دولا منهارة ـ مثل الصومال وليبيريا ـ تبين بوضوح تام العواقب التي تترتب على انعدام وجود الدولة. إن الحكومة الجيدة ليست ترفا وإنما هي ضرورة حيوية لا يمكن بدونها تحقيق تنمية اقتصادية أو اجتماعية.(1)
شكل رقم ( 4 )
وظائف الدولة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في ظل التحولات العالمية
التعليم تنمية الزراعة
التدريب
البحث العلمي والتطوير التكنولوجي الاندماج في الاقتصاد العالمي
الحفاظ على البيئة توفير البنية الأساسية
الدور الرقابي للدولة تحفيز وتوجيه النمو
الحد من الفقر إدارة الصناعات الإستراتيجية
عمل الحكومة في القطاعات الاجتماعية
استخدام آلية الأسعار لزيادة دخول الفقراء
الاستثمار في رأس المال البشري
تسعير الغذاء وتوزيعه
توجيه استثمارات للمناطق الفقيرة
المصدر: ـ عن/ سعد طه علام، التنمية والدولة، ع.س، ص 69.
ـ مع إضافات وتعديل من قبل الباحث.
المبحث الثالث
التحولات والتكيف ومآل التخطيط
__________
(1) ـ راجع التمويل والتنمية، العدد3 سبتمبر 1997، ص17. "أجاي شهيبر": كان مديرا للفريق الذي أعدَّ تقرير عن التنمية في العالم 1997، الصادر عن البنك الدولي.(1/24)
ترجع المشاكل والأزمات الاقتصادية التي تعاني منها الدول المتخلفة حسب صندوق النقد الدولي إلى الاختلال في كل من الطلب (أي وجود فائض في الطلب الكلي)، وعجز في العرض الكلي، والذي يرجع إلى تدخل الدولة في الأسعار من خلال إجراءات سياساتها لدعم الأسعار الأساسية أو تقييم العملة بأعلى من قيمتها مما يعيق نظام آليات السوق ويؤدي إلى تشوهات في الأسعار. ومن أجل تصحيح هذه الاختلالات في اقتصاديات الدول المتخلفة، يقترح كل من صندوق النقد والبنك الدوليين برامج للإصلاحات في هذه الدولة، من خلال ضغط الطلب الكلي وحصره في حدوده الدنيا، فضلا عن ذلك فإن البنك الدولي يرى أن تلك الاختلالات هي ناتجة عن أخطاء تراكمية للدول المتخلفة، وأن تفاقمها يرجع إلى تأخرها عن القيام بإصلاحات هيكلية لمعالجة تلك الاختلالات، وأن هذه الإصلاحات لا تخرج عن أمرين إما " التثبيت " أو "التكيف " أو الأمرين معا.
لقد اعتمد صندوق النقد الدولي على برامج التثبيت الاقتصادي وهي سياسة تتعلق بجانب الطلب الكلي، في حين أن البنك الدولي قد اعتمد على برامج التكيف الهيكلي، غير أن هذه البرامج الأخيرة لن تكون ذات جدوى دون تحقيق تلك الأولى، الأمر الذي سيسمح باستغلال موارد الطاقة الإنتاجية المتاحة للدولة على أفضل وجه.
فما هو إذن مآل التخطيط في ظل تطبيق برامج هذه الإصلاحات المفروضة؟ وما هي الآثار المترتبة عن تطبيقها على صعيد التنمية؟ وهل من مفاضلة بين البعد الاقتصادي والأبعاد الأخرى للمجتمعات التي تصبو إلى تحقيق التنمية؟ سنحاول تحليل هذه الجوانب والإجابة على هذه التساؤلات وما إلى ذلك، في هذا المبحث.
المطلب الأول
التخطيط والتنمية وسياسات التعديل الهيكلي(1/25)
هل تترك سياسات التعديل اختيارات أمام المخططين الوطنيين؟ خصوصا وأن التعديل المطلوب يتم في إطار التوجهات المطلوبة دوليا: بحيث يتم التعديل في الاقتصاديات الوطنية بهدف تمكينها من الاندماج ضمن المبادلات الدولية، ولتقف بصلابة في مواجهة المنافسة الدولية كميا ونوعيا، ولكي تكون ذات مصداقية وقتما تكون مدينة، وضمن هذا الإطار يستهدف أن تستفيد المجموعات الوطنية من مزايا النظام الدولي؛ ولكن عليها أن تقبل أيضا بصعوباته وبتكاليفه: مواجهة النمو الاقتصادي لمتطلبات ولضغوط المنافسة،الخطر المتزايد لقلة الاستقرار، تزايد اللامساواة اجتماعيا والخضوع للقواعد وللمعايير التي تسيّر الاقتصاد العالمي. لا شك، أنه ليس من المؤكد أن تستفيد الدول المتخلفة من النظام الدولي المعولم، وذلك بسبب موقعها الضعيف منه وللتكاليف الباهظة التي تتحملها نتيجة للتعديل الهيكلي التقليدي كما يتم تطبيقه على الدول المتخلفة ـ كما برهنت على ذلك التجارب في كثير منها ـ(1)سواء فيما تعلق ببرامج التنمية أو فيما ارتبط بإفقار الفئات الاجتماعية الأكثر حرمانا، وعموما بكل ما ارتبط بتقليص السيادة الوطنية على محتوى ومضمون التنمية الاقتصادية؛ وذلك بالتأكيد هو التحدي الأساسي الذي يواجهه المخططون للتنمية.
__________
(1) ـ من تجربة معالجة المؤسسات المالية الدولية لأزمة شرق آسيا 1997، يتضح عدم فعالية برامج التصحيح الهيكلي التقليدية التي تعتمد على تقليص الإنفاق المالي وسياسة سعر الفائدة.(1/26)
إن تحليل التحولات الطارئة على الاقتصاد العالمي، توضّح لنا ـ بكل أسف ـ رؤية ضبابية لأي طريق آخر للتنمية غير طريق الاندماج في اقتصاد المبادلات العالمي، ضمن نموذج تنمية مسيطر، أي ضمن إطار التعديل الهيكلي كما هو مفروض من قبل مؤسسات " بريتون وودز"؛ إلا أننا يمكن أن نتصور آفاقا للخروج من هذه الأزمة التي تواجه التنمية والتخطيط بالبلدان المتخلفة من خلال استعراض المفاضلات المختلفة في تطبيق سياسات التعديل الهيكلي فيما يلي:
أولا ـ الاختيارات الوطنية والدولية: أي دور يمكن أن يمنح للأهداف الوطنية ضمن الإطار الدولي الراهن؟ ذلك أن أنصار ما سمي بـ "نهاية التاريخ" أي نهاية الإيديولوجيا يرون أن الاختيارات الوطنية يجب أن تخضع لاختيارات الإطار الدولي، إذ لم يعد في رأيهم هناك سبب لتقديس النظام الدولي، والذي ما هو سوى نتيجة للتاريخ ولعلاقات القوى التي سادته في وقت ما، ولذلك فإنه لن يكون أكثر وضوحا من التأكيد على وجوب تغليب الاختيارات الوطنية دائما على تلك الدولية:وهكذا فإن نتيجة ذلك ستكون إما الفوضى والحروب، وإما إعادة تأسيس علاقات قوى لن تكون من الضروري في كل الأحوال أفضل من سابقاتها.
وعليه فإننا نرى أن التحدي الأساسي الذي يواجه النظام الدولي يتمثل في تخفيف هذا الإرغام في علاقات القوى، والعمل بالمؤسسات الدولية على تدوين مستوى وآليات معينة معترف لمختلف الدول والأمم فيما يتعلق باستقلالية تحديد وتوجيه تنميتها؛ وهو ما يبدو في نظرنا إيضاحا لقابلية التعايش الاقتصادي والسياسي والاجتماعي في هذا العالم؛ ولكن يبدو أن الأفكار المسيطرة تبقى بعيدة جدَّا عن مبدأ الاستقلالية هذا.(1/27)
ثانيا ـ التعديل أو التنمية: إن الخطاب الرسمي لمؤسسات "بريتون وودز" ولتلك الأخرى التي تستلهم من سياساتها يذكر:" أن التعديل هو شرط مسبق للتنمية؛ عدِّلوا أوضاعكم أولا، وستنضمون تنميتكم فيما بعد" إن ضعف هذا الموقف ـ وهو دون ريب غير محايد تماما ـ يتمثل بالتأكيد في أنه يُبِينُ عن أن التعديل في نظر المنادين به، يقود نحو طريق للتنمية وكأنه هو الوحيد، حيث تحدد اختيارات التنمية بموجب سياسات التعديل المعدة مسبقا ،كما لو أنه لا توجد إمكانيات أخرى لها.
إن النتائج الاقتصادية والاجتماعية التي أفرزتها التعديلات الهيكلية التي طبقت في كثير من البلدان المتخلفة تبدو مخيبة للآفاق وتؤكد رأينا في تأكيد أولوية اختيارات التنمية، ثم ربطها فيما بعد بآليات التعديل التي يجب أن تنظم بعد ذلك، فالجدول الموالي يوضح النتائج السلبية في أغلب المؤشرات الاقتصادية لبعض من الدول العربية التي طبقت التعديلات الهيكلية( أقرأ بيانات الجدول الموالي) حيث يتضح أن معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي في الجزائر مثلا، أصبح سالبا بعد إتمام التعديلات الهيكلية، في حين أنه كان يزيد عن 4%قبل ذلك، كذلك يمكن قراءة أن نصيب الاستثمار من الدخل المحلي تراجع بما يزيد عن 5% بعد التعديل وفي كل من مصر وتونس بنسبة6 % و 8% على التوالي بعد ذلك أيضا.
ثالثا ـ الاعتبارات الاقتصادية وأبعاد المجتمع الأخرى: إن الغالب على النظام الحالي هو ذلك المنظور الاقتصادي، والذي يبدو أكثر وضوحا في منح الأولوية للاهتمامات الاقتصادية، وأساسا لتك المُحدًّدة تبعا لمتطلبات اقتصاد السوق، وهو بالذات نفس المنظور الذي يدعّم سياسات التعديل الهيكلي ضمن أشكالها الحالية، حيث يعتبر المردودية والتنافسية معاييرَا نهائيّةَ ومحدّدة للتنظيم الاجتماعي، وذلك على حساب كل الاعتبارات الأخرى من عدالة اجتماعية إلى التوازن الاجتماعي وقابلية الحياة بيئيا.
الجدول رقم(5)(1/28)
المؤشرات الاقتصادية الكلية قبل وبعد التعديلات الهيكلية لدول عربية مختارة
المؤشر ... معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي ... الادخار كنسبة من الدخل المحلي ... الاستثمار كنسبة من الدخل المحلي ... الصادرات كنسبة من الدخل المحلي ... متوسط معدل التضخم
الدول
قبل ... بعد ... قبل ... بعد التعديل ... قبل التعديل ... بعد التعديل ... قبل التعديل ... بعد التعديل ... 80-1986 ... -1990
التعديل ... التعديل ... التعديل
الجزائر ... 4.52 ... -0.02 ... 39.80 ... 32.34 ... 36.88 ... 31.46 ... 29.53 ... 18.10 ... 6.10 ... 7.77
المغرب ... 5.55 ... 3.67 ... 13.97 ... 17.10 ... 22.80 ... 25.11 ... 19.16 ... 22.80 ... 7.70 ... 6.03
تونس ... 4.78 ... 3.28 ... 21.78 ... 18.70 ... 30.26 ... 22.40 ... 37.13 ... 39.14 ... 8.9 ... 3.9
مصر ... 6.74 ... 2.98 ... 15.06 ... 6.32 ... 27.28 ... 21.12 ... 23.38 ... 23.32 ... 12.40 ... 10.4
المصدر: د. سعد طه علام دراسات في الاقتصاد والتنمية، ص159.
محسوب من التقرير الدولي للتنمية لسنوات: 82، 88، 1992.
الشكل رقم (5)
المطلب الثاني
هل من عودة للتخطيط؟
يشكل الإطار الدولي اليوم ضغطا على التنمية الوطنية بالبلدان المتخلفة، ومنذ ما يزيد عن عشريتين، وفي كثير منها شكلت عملية ما يسمى بالتعديل وإعادة الهيكلة، بديلا عن إستراتجيات التنمية للمدى المتوسط والمدى البعيد؛ وحيث أن الإستراتجيتان مرتبطتان ببعضهما ولا يمكن أن تتم إحداهما مع تجاهل للأخرى. فإنه يتوجب على الدول المتخلفة هنا، أن تأخذ بمبدأ أولوية التنمية على التعديل وهو ما لا يمكن أن يتم إلا من خلال تنظيم لاختيارات التنمية التي يسمح بها التخطيط؛ ومن هنا لابد من العودة إلى التخطيط في ظل هذا الإطار العالمي.
1 ـ الإطار العالمي: حيث أن الإطار العالمي للتحولات يطرح في نفس الوقت ضغوطا كثيرة، وفرصا إيجابية على وضع وإنجاز إستراتيجيات التنمية الاقتصادية الوطنية بالبلدان المتخلفة، وذلك من حيث:(1/29)
ـ أن التحولات العالمية تضع بين عشية وضحاها اختيارات التنمية الوطنية بالبلدان المتخلفة في مواجهة التوجهات المفروضة كنتيجة للاندماج في الاقتصاد العالمي مع ماتطرحه من مزايا جديدة، إضافة إلى ضغوط ومخاطر لا يمكن قياس حدتها حاليا (التزامات التنمية المستديمة، التطور التكنولوجي والهوية الثقافية، السوق العالمية ورفع الحواجز على الحدود... وما إلى ذلك).
ـ إن التحولات تضيف من الوسائل ما يسمح بالاستجابة لهذه الحاجات، ولكن على التحديات أيضا (وأساسا ما تسمح به المنافسة و التنافسية والقواعد التنظيمية الدولية).
ـ وبصفة عامة فان التحولات العالمية تقلص من هامش تصرفات المسئولين الوطنيين وتزيد من عدم توقع المستقبل.
إن محصلة(نتائج) التحولات على صعيد العمل بأسس التخطيط، والتعبير عن الحاجات والتطلعات والمشاكل تطرح للتحليل في المحصلة النهائية، الحاجات الجديدة الناشئة بسبب العولمة والتحرر؛ فقد أصبحت كثيرة تلك هي الحاجات المرتبطة بالتكيف في الاستهلاك النهائي (آثار التظاهر أو التقليد أو المحاكاة l’effet de démonstration ) بل وحتى تلك الأفكار الجديدة المرتبطة بالعلاقات الاجتماعية (كالديمقراطية والعيش بالمدن والأناقة في بعض المهن...) ولكن التحولات من ناحية أخرى تتضمن المسائل الناتجة عن اشتداد المنافسة الدولية وعن الحاجات الوطنية التي تم تجاهلها نتيجة للعولمة مثل الرغبة، الاستقلالية الوطنية، أو تأكيد الهوية الثقافية...وما إلى ذلك؛ وعليه فانه بجب إعطاء أهمية خاصة من قبل المخططين، للتحليل الاقتصادي للآثار السلبية التي تحدثها التحولات العالمية.(1/30)
2 ـ التعبير عن الاختيارات والأولويات الوطنية: في مواجهة مطالب النظام الدولي وسلطاته المسيطرة، تشكلت من جديد مرحلة أساسية للتعبير عن تلك الاختيارات والتطلعات، وهو ما يطرح ضرورة توفر الرؤية السياسية، وترجمة تلك تدريجيا في شكل اختيارات أكثر فأكثر دقة؛ وعندها فإن التعبير عن تلك الاختيارات والأولويات سيطرح مسألة عسيرة متمثلة في المواقع التي تناقش فيها: موقع للتحاور السياسي الداخلي، اقتصادي، ونفس الأمر بالنسبة لمجموع عناصر الإستراتيجية، وإضافة إلى ذلك موقع تحاور ومواجهة مع المتعاملين بالخارج من منظمات دولية ومؤسسات متعددة الجنسيات وحكومات الشراكة، غير أن إنشاء هذه المواقع يبقى مطروحا، خصوصا وان ذلك لم يكن يشكل إلا جزءا قليلا من أجهزة التخطيط التقليدية.
3 ـ تعبئة الموارد الدولية: التي يمكن أن تتم استنادا إلى مصادر جديدة، وإلا فإن السؤال المطروح لماذا توافق الدول المتخلفة على التعديل الهيكلي إن لم يكن يسمح بفرص تمويل إضافية؟ لماذا تتفتح على العالم الخارجي إذا لم تتمكن من الحصول على مزايا جديدة؟ لكن التحولات تفرض العديد من العوامل الخارجية عن التخطيط ،وهي عادة لا يتقن المخططون التحكم فيها، فيضطرون إلى تقديرها: من قبيل تقدير أو التنبؤ بالأسعار في السوق الدولية ( من أسعار السلع والخدمات إلى أسعار الفوائد وأسعار الصرف) وتقدير الطلب المتوقع للشركاء التجاريين وتقدير العرض وظروفه في الأسواق المالية.
لا شك في أن هذه العوامل ليست جديدة على المخططين ـ الذين تقف أعمالهم عادة عند حسابها ـ ولكن الجديد هو العودة إلى تأكيد أهميتها وأن عدم اليقين المرتبط بها في تزايد، مما يعدل بعمق من طبيعة وأهمية دور التخطيط.(1/31)
4 ـ تحديد الاستجابات المنتظرة: وهي تلك المرتبطة بحصر المزايا الجديدة التي يسمح بها التفتح على التبادل العالمي: سلع وخدمات جديدة، تكنولوجيا جديدة، أساليب وطرق تنظيمية جديدة ، ولكن كل ذلك مرتبط من جهة أخرى بالتكاليف، ذلك أنه عندما تستند الاستجابات الجديدة إلى استيراد سلع وخدمات فإن تكلفتها تكون بالعملة الصعبة وهو ما يعني أن تمويلها يجب أن يتم من خلال تصدير سلع وخدمات تقابل قيمة تلك.إن هذه الضرورات تعقد دون شك الحساب الاقتصادي، في حين أن التعرف عليها يمكن إن يسمح بتحاشي مشاكل التحكم في الاستدانة.
بصفة أعم فإن تحليل النتائج الممكنة يتضمن كذلك معالجة لآليات الانسجام الجديدة المفتوحة أمام البلدان المتخلفة في إطار المبادلات الدولية، وبالتالي معالجة الآفاق الجديدة للتخصص في إطار التقسيم الدولي للعمل، كما يمكن أن تسمح بمواجهة التوجهات المحتملة لمختلف أشكال التعاون الدولي.
خاتمة:(1/32)
لا شك في أن التحولات الاقتصادية العالمية لها تأثير عميق على التخطيط ودور الدولة التنموي، بل وعلى المخططين أنفسهم الذين تقف أعمالهم عادة عند التنبؤ والحساب، ولكن عدم اليقين المرتبط بالتطورات المتلاحقة هو نفسه ما يبعث على تأكيد أهمية العودة إلى التخطيط للتنمية ولو مع تعديل عميق في طبيعته وفنيات ممارسته. فالتحولات لا تلغي التخطيط ولا تعني غياب الدولة بل أن تجارب الدول المتخلفة تؤكد وتثبت أهمية دور الدولة في العملية التنموية، حيث أن متطلبات التنمية وفقا لمنهج اقتصاد السوق، كأي تحول منهجي يستدعي بالضرورة تحول المجتمع من حيث سلوك وأفكار وأولويات أفراده ومؤسساته تماشيا والأهداف المنشودة، إضافة إلى ذلك فإن الضرورة تقتضى تدخل الدولة في توفير أو على الأقل المساعدة في توفير البنية الأساسية أو ضمان أسعار معقولة لها، فالدول المتقدمة تتدخل في توفير حلول لمشاكل القطاعات الاقتصادية المختلفة، وما يحدث من تدخلها في التجارة الدولية وأساسا في تجارة وسائل انتقال تكنولوجيا المعلومات وتجارة النفط ودعم الإنتاج الزراعي يؤكد ذلك.
إن مستقبل التخطيط كأسلوب علمي وعملي في تحقيق التنمية يجب أن يرتبط بالدراسات المستقبلية نظرا لما يمكن أن تسهم به في ترشيد عمليات التخطيط واتخاذ القرارات من توفير قاعدة معلومات مستقبلية للمخططين وصانعي القرار، وترشيد ما يجب أن يسبق عملية اتخاذ القرارات بشأن الخطط والسياسات التنموية؛ ذلك أن ( التنمية هي عملية ذات بعد مستقبلي بالضرورة، ويستوجب التخطيط لها بالتالي الامتداد بالتفكير والنظر عبر فترة زمنية "مستقبلية" طويلة والتطلع إلى أفق زمني "مستقبلي" بعيد)(1).
__________
(1) ـ د. إبراهيم العيسوي: الدراسات المستقبلية ومشروع مصر 2020، ع. س.(1/33)
وفي ظل أوضاع البلدان المتخلفة فإن حدوث تغير في مضمون هذا الدور يجب أن يتم نحو الأفضل؛ كذلك أن الأعباء التي تقع على هذه البلدان، وضرورة إعدادها لدخول المنافسة العالمية تفرض على الدولة أن تقوم بدور رئيسي من خلال التخطيط، وأما طرح المفاضلة بين السوق والتخطيط أو محاولة الربط بين سياسة الدولة والتخطيط فإنها تقود حتما إلى تفضيل أسلوب التخطيط للتنمية، حيث تثبت التجارب إمكانية تلاؤمه مع خصائص التحولات في المجتمع.(1/34)
الفصل السادس
واقع واتجاهات التنمية والتخطيط
ضمن
المنظور العالمي الجديد للتنمية
حالة الاقتصاد المصري
تمهيد:
نستطيع القول واستنتاجا من كل ما سبق أن التحولات العالمية المختلفة أثرت على واقع التنمية والتخطيط في جميع البلدان المتخلفة، ولا شك في أن مستقبلها سيتأثر بها، خصوصا وأن هذه التحولات مسّت حتى المنظور التنموي، الذي تحول من الحيز الوطني الخاص بكل بلد إلى الإطار الدولي الذي يتحتم الآن أن تتم ضمنه ممارسة أي عمل تنموي؛ ولكي نقف على واقع واتجاهات كل ذلك، نتناول ضمن محتويات هذا الفصل حالة الاقتصاد المصري، باعتباره أول تجربة انفتاح على التحولات العالمية في العالم العربي، إذ كان قد تم التحول نحو اقتصاد السوق وللتخطيط في ظل سياسة انفتاح اقتصادي وسياسي منذ منتصف السبعينيات من القرن الماضي، بعد ممارسة للتخطيط المركزي لأكثر من عقدين من الزمن وهو نموذج نراه في هذا، يقترب من مثيله الجزائري.
من المعروف تاريخيا أنه خلال الفترة(1952- 1974) تحولت مصر إلى الاقتصاد الاشتراكي، بما تضمنه ذلك من تأميم الكثير من شركات القطاع الصناعي وتحولها من مرحلة اقتصاد السوق وملكية القطاع الخاص، التي كانت قبل ثورة1952 إلى مرحلة ملكية الدولة والقطاع العام وتوجيه الاقتصاد وقيام الدولة بتطبيق إستراتجية الإحلال للواردات؛ حيث حدثت تغييرات كبيرة في الاقتصاد المصري خلال عقود الستينيات والسبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين؛ وقد كان القطاع العام مسئولا عما يقرب من90% من إجمالي الاستثمارات التي تستثمر في مصر خلال الفترة من1960 إلى1973.(1/1)
غير أن تراجع الاقتصاد المصري والذي بلغ ذروته في نهاية الثمانينات من القرن العشرين، قد اضطر الحكومة المصرية إلى تطبيق برنامج للإصلاح الاقتصادي بالتعاون مع صندوق النقد الدولي وذلك لتحرير القطاع العام من بعض القيود التي تقيده، وتحرير التجارة وسوق المال وجذب الاستثمارات الأجنبية؛ بالإضافة إلى برنامج لإعادة هيكلة وخوصصة شركات القطاع العام بما في ذلك البنوك وشركات التأمين والخدمات، وبذلك سادت سياسة اقتصاد السوق للمرة الثانية، إضافة إلى ذلك فإن مصر تواجه شأنها شأن كل البلدان المتخلفة التحولات الاقتصادية العالمية الراهنة، و إيضاحا يمكننا إيضاح المراحل التي مرّ بها الاقتصاد المصري في الشكل الموالي، وذلك قبل تناول الإجابة على التساؤلات، التي تندرج ضمن موضوعنا، لعل من أهمها:
ـ هل تمكنت برامج الإصلاح والتعديل من تحقيق المستهدف منها ؟
ـ وهل تمكنت مصر من الخروج من التخلف الاقتصادي والاجتماعي في ظل التحولات الاقتصادية الراهنة ؟وبالتالي ما هو واقع الاقتصاد المصري بعد عقدين من التحولات؟للإجابة علي كل هذه التساؤلات سنعرض في هذا الفصل لتجربة التنمية والتخطيط في مصر قبل سنوات الانفتاح في مبحث أول، ثم نتناول واقع التنمية والتخطيط في إطار التحولات والمنظور الجديد للتنمية في مبحث ثاني، على أن نحلل واقع الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية إثر برامج الإصلاح والتعديل والتعرف على المشاكل التي واجهت الاقتصاد المصري مع بداية التسعينات ضمن مطلب أول منه، وبعد ذلك نعرض لواقع الاقتصاد المصري في ظل التحولات في مطلب آخر مستخلصين النتائج محاولين تصور آفاق التنمية ومآل التخطيط في ضوء ذلك، ونتوج الفصل بخاتمة نستعرض من خلالها أهم النتائج.
الشكل رقم(6) مراحل السياسة الاقتصادية المصرية
تخطيط هيكلي
ملاحظة: الشكل من وضع الباحث استنادا إلي: سعد طه علام، دراسات في الاقتصاد والتنمية، م. س، ص67 و 68.
المبحث الأول(1/2)
التنمية والتخطيط في مصر قبل سنوات الانفتاح
من المعلوم أنه على امتداد عقد الستينيات من القرن الماضي، سيطر القطاع العام على معظم الأنشطة الاقتصادية في أغلب البلدان المتخلفة الدولة، والاقتصاد المصري لم يخرج عن ذلك في تلك الفترة، وكانت الدولة مضطرة إلى دعم قدراتها على توفير الخدمات الأساسية من صحة وتعليم وبنية أساسية.(1)
ونتيجة لذلك عرفت تلك الفترة تدهورًا أصاب القطاع العام، وكان له أثر بالغ في استمرار الأزمات الاقتصادية؛ إذ مع نهاية الثمانينات من القرن العشرين، وصلت أعباء خدمة الديون المصرية ما يقرب من 40% من إجمالي إيرادات مصر من النقد الأجنبي، وأصبح الاقتصاد المصري يعاني من العجز في الموازين الاقتصادية وفي مقدمتها الميزان التجاري، بحيث وكما يتضح من الجدول الموالي ازداد ذلك العجز إلى نحو10.8 مليار جنيه سنة1989 بعد أن كان1.2 مليار في سنة1980 ثم تفاقم فوصل إلى نحو 22مليار جنيه عام1992.
الجدول رقم (6)
الميزان التجاري القومي المصري خلال الفترة (1980-1992)
السنة ... الصادرات القومية ... الواردات القومية ... الميزان التجاري
1980 ... .1 ... .9 ... .8
1985 ... .9 ... .0 ... .1
1987 ... .0 ... .8 ... .8
__________
(1) ـ للإطلاع حول تجربة التنمية والتخطيط بمصر قبل وبعد سنوات الانفتاح هناك الكثير من المصادر التي تناولتها بالدراسة والتحليل: نذكر من بينها: ـ التنمية الاقتصادية، دراسات نظرية وتطبيقية، م.ع. عجمية/ إيمان ع. ناصف، م.س، الفصل السادس، ص343. ـ قضايا اقتصادية معاصرة، عبد الرحمان يسرى.أ ن، م.س، الفصول الثلاثة الأولى ـ دراسات في الاقتصاد والتنمية، سعد طه علام، م. س، ص11- 98. ـ التخطيط مع حرية السوق، سعد طه علام، م. س، الفصول الثلاثة الأولى. ـ التخطيط بالمشاركة بين المخططين والجمعيات الأهلية على المستويين المركزي والمحافظات، سلسلة قضايا التنمية رقم145، ص5- 15، معهد التخطيط القومي، مصر، فبراير2002. وغيرها مما سنذكر من المصادر.(1/3)
1988 ... .4 ... .5 ... .1
1989 ... .7 ... .6 ... .8
1990 ... .8 ... .2 ... .4
1991 ... .9 ... .0 ... .1
1992 ... .7 ... .7 ... (11400.1)
المصدر: أ.د سعد طه علام: التنمية...والدولة، ع.س ص، 13، عن الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء.
لقد شكلت تلك الأوضاع مصدر قلق لواضعي السياسة التنموية وللمخططين كما كانت دافعا قويا لأولئك الذين يبدون الإصلاح الاقتصادي من خلال تحويل ونقل ملكية القطاع العام إلى القطاع الخاص (الخوصصةprivatisation) كإستراتجية مهمة يمكن أن تساهم بصفة عامة في حل المشاكل الاقتصادية الهيكلية التي يعاني منها الاقتصاد المصري، ورأوا أنها يمكن أن تساهم بصفة خاصة في حل مشاكل القطاع العام.
وتحت هذه الضغوط وقعت الحكومة المصرية اتفاقية مع صندوق النقد الدولي، وتضمنت العديد من سياسات الإصلاح الاقتصادي والهيكلي واعتبرت هذه الاتفاقية هي المعيار لأداء الاقتصاد المصري وكانت تخضع للمراجعة المستمرة والمنتظمة من جانب صندوق النقد الدولي؛ وقد استمرت هذه الفترة ما يقرب من أحد عشر عاما (1970-1981) تغيرت خلالها السياسات الاقتصادية في مصر، وبدأ بتطبيق التوجهات الجديدة التي تمثلت في سياسة الانفتاح، وكانت تعلن أن الهدف هو فتح أبواب مصر للاستثمارات الأجنبية والتكنولوجيا الحديثة.(1/4)
تبنت مصر - منذ منتصف السبعينات من القرن العشرين - إستراتيجية للتنمية الاقتصادية ترتكز على تطوير و تنمية الأنشطة التصديرية، كما سعت إلى تنويع المنتجات وأسواق التصدير التي تتجه إليها تلك المنتجات، نظراً لما يخلقه التصدير من فرص عمل جديدة، كما يمثل فرصاً جذابة للاستثمارات المحلية والأجنبية، ويفتح المجال لتطوير التكنولوجيا وتحسين مستوى العمالة، وإذا كانت سياسات الانفتاح الاقتصادي قد أسهمت في تحقيق معدلات نمو مرتفعة، فإنها من ناحية أخرى سمحت بزيادة حجم الواردات من السلع والخدمات الاستهلاكية (53%من قيمة الناتج المحلي سنة79/1980، بينما لم تبلغ قيمة الصادرات نصف قيمة الواردات) مما فاقم من المديونية الخارجية لتصل15 مليار دولار سنة1979 بعدما كانت 1.6مليار دولار سنة1970 وهكذا بدأت تتأكد الآثار السلبية لسياسة الانفتاح منذ بداية الثمانينيات وتبين أن ما أعلنته الدولة من إستراتيجية، لم يسفر إلا عن نتائج محدودة، في بعض المجالات كالزراعة وصناعات الحديد والأسمنت.(1/5)
وأمام ذلك الواقع انعقد مؤتمر اقتصادي في فيفري1982، تم خلاله مناقشة قضايا ومشكلات الاقتصاد المصري من قبل المختصين المصريين، لتحديد من أين وكيف تبدأ مسيرة التنمية في مصر وبعد مناقشات مستفيضة تبين أن الوضع الاقتصادي في مصر آنذاك كان سيئا جدا، وخرجوا بقرار ضرورة العودة للتخطيط الاقتصادي الشامل كأسلوب لإدارة البلد وإخراجه من أزمته(1)؛ فالاقتصاد المصري منذ بداية الثمانينيات، كان يعاني من تدهور شديد وأزمة حقيقية، تجمع أغلب الدراسات على أنها تجسدت في أربع إختلالات هيكلية، بدون علاجها لا يمكن أن يكون هناك أمل في تحقيق التنمية(2):
1 ـ إختلال بين الإنتاج والاستهلاك، متمثلا في زيادة الاستهلاك عن الإنتاج.
2 ـ إختلال بين الادخار والاستثمار، متجسدا في زيادة الثاني عن الأول.
3 ـ إختلال بين الصادرات والواردات، حيث تزيد الواردات عن الصادرات .
4 ـ إختلال بين إيرادات الدولة ونفقاتها،هذه الأخيرة التي فاقت الإيرادات.
__________
(1) ـ عن: سعد طه علام ، التخطيط مع حرية السوق، دار طيبة للنشر والتوزيع والتجهيزات العلمية، القاهرة2003، ص27.
(2) ـ ولمزيد من التفاصيل حول تلك اختلالات والأوضاع الاقتصادية عموما، في بداية الثمانينيات، وخطط التنمية، وبرامج الإصلاح الاقتصادي في مصر، راجع: الباب الثاني من رسالة الماجستير للباحث أماني أحمد علي زعرب، م. س، ص63 ـ 111.(1/6)
ولذلك فقد شرع في إتباع إستراتيجية تنموية جديدة في الاقتصاد الكلى المصري، استهدفت عملية التنمية خلال مرحلتها الأولى ـ الخطة الخمسية الأولى (82 / 83 - 86 / 1987) ـ إقامة بنية أساسية قوية، وجدولة الديون، إضافة إلى تكثيف إجراءات التحول نحو اقتصاد السوق، والتي من أهمها إلغاء نظام التخطيط المركزي والاستعاضة عنه بأسلوب التخطيط التأشيري، وإعادة النظر في أولويات الخطة، وتقليص دور القطاع العام تدريجياً، والتحول إلى القطاع الخاص، والانتقال من مرحلة التصنيع لإحلال الواردات إلى مرحلة التصنيع من أجل التصدير، مع الإبقاء على دور الدولة في إدارة الاقتصاد الكلى بهدف ضمان استقرار الأسعار والتوازن الخارجي والعدالة في التوزيع ومنع الاحتكار.
غير أن تراجع الاقتصاد المصري الذي بلغ ذروته في نهاية الثمانينات من القرن العشرين ـ انخفاضا جديدا في حجم الصادرات وارتفاعا في الواردات سنة1989، بحيث انخفضت الصادرات بنسبة22%بالمقارنةبعام87/1988 أي بقيمة729مليون دولارا، وزيادة في الواردات بنسبة بلغت32.5%أيبقيمة237.9مليون دولار بالمقرنة بعام87/1988 ـ(1)دفع بالحكومة المصرية إلى تطبيق برنامج للإصلاح الاقتصادي بالتعاون مع صندوق النقد الدولي، وذلك قصد تحرير القطاع العام من بعض القيود التي تقيده، وتحرير التجارة وسوق المال وجذب الاستثمارات الأجنبية بالإضافة إلى برنامج لإعادة هيكله وخوصصة شركات القطاع العام بما في ذلك البنوك وشركات التأمين والخدمات.
في ضوء ما سبق رأى المسؤولون المصريون أن أهم التحديات التي تواجههم في ظل التحولات الاقتصادية العالمية الراهنة، تتمثل في المسائل التالية :
__________
(1) ـ الأرقام عن الأهرام الاقتصادي، ضمن مقال لـ"خالد فؤاد شريف" بعنوان انخفاض الصادرات، هل البيروقراطية هي السبب؟ العدد1098، يناير1990، ص32.(1/7)
ـ أن الحفاظ على السلام يعد عاملا أساسيا "في التحول من اقتصاد الحرب إلى اقتصاد السلام، وكان الموقف ضد غزو الكويت عاملا حاسما في إلغاء ديون أمريكية وخليجية، وحققت مصر إنجازات هائلة بعون إنمائي غير مسبوق في تطوير بنية أساسية ...وتطورت صناعة رأسمالية مصرية حديثة في المدن الجديدة، كما نفذت مصر برنامجا واسعا للإصلاح الاقتصادي، ارتبط بإلغاء نصف الدين العام الخارجي، وسمح بعلاج اختلالات مالية ونقدية مزمنة وتكوين احتياطي غير مسبوق من النقد الأجنبي ومكن من قطع شوط هام على طريق التحول من اقتصاد الأوامر إلى اقتصاد السوق بتكلفة اجتماعية محتملة، وتصنيف الاقتصاد المصري من بين الاقتصاديات الواعدة مع مطلع القرن الواحد والعشرين"(1).
ـ الإعداد لإستراتيجية تنمية طويلة المدى (1982-2002) تم تنفيذها على مراحل خطط خمسية متوسطة المدى، الأولى: (28/1983- 86/1987) ثم الثانية(87/1988- 91/1992) فالخطة الثالثة (92/1993- 96/1997) فالرابعة(97/1997- 2001/2002)، وهذه تعتبر الحلقة الأخيرة من تلك الاستراتيجية الطويلة المدى وهي تعد في نفس الوقت الحلقة الأولى من مرحلة للتخطيط والتنمية تمتد عبر القترة(97/1998- 2016/2017) ، واندرجت الخطة الخمسية (2002/2003- 2006/2007) في هذا الإطار، والواقع أن هذه ميزة في ممارسة عملية التنمية والتخطيط بمصر، نحن في الجزائر بحاجة أكيدة إلى ترسيخها في الممارسات الحكومية، وهم الآن يعملون على مشروع مصر في ما بعد 2020، ويقيمون مدنا بتصورات القرن الواحد والعشرين.
__________
(1) ـ طه عبد العليم، م. س.(1/8)
ـ تحديث المجتمع سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، مع مراعاة البعد الاجتماعي، وتحقيق توازن سكاني ومكاني للتنمية، لمواجهة الزيادة السكانية، خصوصا وأن مصر تواجه أحد التحديات الأكيدة المتمثلة في خلق عدد من الوظائف لاستيعاب الأعداد المتزايدة من الداخلين الجدد إلى سوق العمل، إذ يتوقع أن يبلغ عدد سكان مصر83.5 مليون نسمة سنة2015.
ومن هنا فإنه إذا كانت الآليات التي استعملت من قبل لتحقيق العدالة الاجتماعية عن طريق تضخيم دور الدولة الذي لم يثبت فعاليته، بل أنتج بيروقراطية وتضخما في أجهزة الدولة على حساب إنتاجيتها، فقد أصبحت سياسات تأميم نشاط القطاع الخاص والتدخل الإداري في آليات التسعير وغيرها غير قابلة للتطبيق على الأقل، بسبب سيادة اقتصاد السوق، وعليه فان العدالة الاجتماعية يجب أن تتحقق عبر آليات تنسجم واقتصاد السوق ذاته، بمعنى اقتصاد السوق الموجه بفعل التخطيط التأشيري واستراتيجيات التنمية المستهدفة يجب أن تكون مرنة لتتلاءم مع التحولات العالمية المتغيرة باستمرار، وهو ما يمكن أن نتعرف على مدى نجاحه في التجربة المصرية، من خلال ممارسة التنمية والتخطيط بمنظور جديد لهما.
المبحث الثاني
واقع التنمية والتخطيط في إطار التحولات والمنظور الجديد للتنمية
بعد أن تمّ التعرّف على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي كانت عليها مصر قبل سنوات الانفتاح، سنتناول في هذا المبحث التحولات الاقتصادية الإستراتيجية التي واجهت الاقتصاد المصري منذ بداية التسعينيات، مع التركيز على التطورات التي حدثت في برنامج التعديل الهيكلي والإصلاح الاقتصادي، والتعرّف على أثر تلك البرامج على التنمية والتخطيط، وذلك من خلال مطلبين:
المطلب الأول: ونتناول ضمنه مختلف برامج الإصلاح والتعديل.
وأما المطلب الثاني: فنتعرّف من خلاله على واقع الاقتصاد المصري في ظل التحولات.
المطلب الأول
برامج الإصلاح والتعديل(1/9)
التحولات والأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في مصر
إن التدهور في ألأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في مصر؛ جاء بعد عقد من النمو السريع في ما بين سنوات1973 و1984 حيث كان معدل النمو في الناتج المحلي الإجمالي8.5%، غير أن ذلك النمو كان يصاحبه اختلالات، فازداد العجز في الزراعة وتفاقم العجز في موازنة الدولة؛ وكانت الاختلالات الخارجية للاقتصاد المصري انعكاسا للنمو البطئ الذي بدأ يبرز ويتعمق منذ، والواقع أنه منذ تطبيق سياسة الانفتاح الاقتصادي سنة1974، تفاقمت تلك الاختلالات، ولم تنفع الخطة الخمسية (1982/1983 ـ 1986/1987) والتي كان هدفها المعلن هو تصحيح تلك الاختلالات(1).
في نهاية الثمانينات من القرن العشرين لوحظ أن الاقتصاد المصري قد تراجع وبلغ الاختلال ذروته، بحيث أنه "غداة إنجاز المرحلة الأولى من الإصلاح الاقتصادي انزلقت مصر إلى أزمة ركود وسيولة وتدهور حاد في قيمة العملة الوطنية" وذلك يرجع للعديد من الأسباب من أهمها "ضعف القدرة التصديرية بسبب غلبة التصنيع لإحلال الواردات" مما سمح بالقول أنه " رغم ما تحقق من إنجازات تسمح بالطموح إلى تحقيق انطلاق اقتصادي، ورغم إجراءات الإصلاح المتأخرة... فإن مصر لم تتمكن من بناء اقتصاد تنافسي، يستطيع أن ينافس وينتصر في عصر العولمة، شأن الاقتصاديات الصناعية الجديدة والصاعدة، التي سبقتها مصر في معظم تاريخها المعاصر"(2)
__________
(1) ـ يرجى الرجوع إلى: جلال أمين، مشكلات التصحيح الاقتصادي والتنمية في مصر، في التصحيح والتنمية في البلدان العربية، تحرير سعيد النجار، م. س، ص153-184.
(2) ـ طه عبد العليم: الاقتصاد المصري في عصر العولمة، م.س.(1/10)
وثارت قضية عامة تناولت بالنقاش أو الجدل أنسب السبل للإصلاح الاقتصادي بصفة عامة وإصلاح القطاع العام بصفة خاصة، فتبين آنذاك أن إصلاح القطاع العام يمكن أن يتم من خلال تطبيق بعض من الاتجاهات أو الاستراتجيات،التي نشير إلي أهمها بإيجاز فيما يلي:
أ- اللامركزية ومنح القطاع العام مرونة أكبر:
حيث تهدف اللامركزية إلى تحرير القطاع العام من بعض قيوده وتعبيد أو تمهيد الطريق لتحويل الاقتصاد من اقتصاد اشتراكي إلى اقتصاد موّجه أما حرية الحركة والمرونة فتهدف إلى إعطاء القطاع العام حرية أكبر في تسعير منتجاته وخدماته ،حرية أكبر فيما يتعلق بالعمالة وعملية صنع القرار بصفة عامة.
ب- ضرورة تنشيط عملية التخطيط المركزي:
ركز هذا المدخل على ضرورة إحياء التخطيط المركزي على المستوى الوطني(1)، من خلال التركيز على الاستخدام الرشيد للموارد وتدعيم الاكتفاء الذاتي في إنتاج السلع والخدمات الضرورية؛ ومن هنا ووفقا لهذا المدخل فينبغي أن يقوم القطاع العام بقيادة الاقتصاد الوطني هذه الأهداف ربما تكون مقبولة على نطاق واسع، ولكن ثارت آنذاك شكوك كثيرة حول سبل أو طرق تنفيذ هذا المدخل أو هذه الإستراتجية في إطار توجه الدولة نحو سياسة الباب المفتوح والاندماج مع الاقتصاد العالمي.
ج- مدخل الاقتصاد المختلط:
__________
(1) ـ تمت فيما بعد العودة إلى الأخذ بأسلوب التخطيط الوطني الشامل، وذلك بموجب إصدار إستراتيجية للتنمية على مدار الفترة(81/82 -2001/2002) ، وقد تركزت تلك الاستراتيجية على: ـ الأخذ بمبدأ دعم القدرة الذاتية للاقتصاد في تمويل التنمية. ـ الاستمرار في دعم وإصلاح البنية الأساسية والمادية والاجتماعية. ـ اعتبار البعد السكاني والمكاني للتنمية محورا أصيلا من محاور التنمية.(1/11)
لقد كان هذا المدخل المفضل لمختلف سياسات الحكومات المصرية المتعاقبة، خصوصا منذ بداية الانفتاح؛ حيث تفضل الدولة قيام كل من القطاعين العام والخاص جنبا إلى جنب مع عدم إعطاء أي منهم أية ميزة على الأخر، وقد تم ذلك من خلال تشجيع القطاع الخاص وتحرير وإعادة هيكلة القطاع العام.
وهو ما تم في إطار تطبيق الحكومة المصرية لبرنامج للإصلاح الاقتصادي، بالتعاون مع صندوق النقد الدولي وذلك بالعمل على تحرير القطاع العام من بعض القيود التي تقيده، وتحرير التجارة الخارجية المصرية، وسوق المال وجذب الاستثمارات الأجنبية، بالإضافة إلى برنامج لإعادة هيكلة وخوصصة شركات القطاع العام بما في ذلك البنوك وشركات التأمين والخدمات.(1/12)
أما المواطنون المصريون فيقفون متصدين للهيمنة الاستعمارية الجديدة، بقوة وثبات رغم صعوبة موقع بلدهم ومواقف حكوماتهم المتتالية الذي لم يتغير منذ إمضاء اتفاقيات "كامب دايفد"(1)؛ هذه الهيمنة المتمثلة في الأحلاف العسكرية والمساعدات الاقتصادية المشروطة ومشاريع الشرق أوسطية المتعاقبة(2)، مرورا بالموجة الأخيرة المتمثلة في العولمة الرأسمالية، كما يتواصلون في مواجهتها مع كافة القوى المناهضة للعولمة على امتداد العالم كله جنوبا وشمالا، ذلك أن هناك حركة عالمية تتصدى بفاعلية متزايدة للعولمة الرأسمالية كما تؤكد ذلك مظاهرات "سياتل وجنوة ومؤتمر بورتو أليجري في البرازيل" وصولا إلى مظاهرة مناهضة العولمة الرأسمالية، في "برشلونة" التي ضمت ما يقرب من النصف مليون متظاهر.
__________
(1) ـ لا يسعنا إلا أن نقف بإعجاب أمام حيوية الشعب المصري في مواجهة الأحداث العصيبة التي تمر بها الشعوب سياسيا واقتصاديا وثقافيا؛ فالشارع المصري رغم عسر ظروف معاشه وحالة الطوارئ المفروضة عليه، يعبر بمناسبة كل حدث دولي عن موقفه، سواء تأييدا أو رفضا أو تنديدا، بالتظاهر أو بالتحرير والكتابة، خصوصا ما تعلق بأحداث المنطقة العربية والأمة الإسلامية وقد برز ذلك بوضوح بمناسبات عديدة منها مثلا: دورة مفاوضات الدوحة لمنظمة التجارة العالمية، العدوان الأمريكي البريطاني على العراق ثم احتلاله، العدوان الإسرائيلي الأمريكي على لبنان في جويلية2006، المأساة الفلسطينية المستمرة، والتظاهر بالأزهر الشريف عقب كل صلاة جمعة، تقريبا.
(2) ـ إذ أن هناك مشروع "شرق أوسط جديد"، كما أعلنت عنه وزيرة الخارجية الأمريكية، خلال العدوان على لبنان في جويلية2006، بعد أن تبين لهم فشل "خرافة" الشرق الأوسط في المشروع السابق له، حيث لم يحض المشروع بالتأييد من قبل البلدان العربية المعنية فقط، بل وكذلك من قبل إسرائيل.(1/13)
إن ما يعزز القدرة على مقاومة سياسات العولمة المطبقة في البلدان المتخلفة تحت ضغط الدول الرأسمالية الدائنة والمؤسسات الرأسمالية الدولية كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي، أن التحولات أثرت في مجملها سلبا على أغلبية الفئات البسيطة من عمال وفلاحين وحرفيين وعمال زراعيين وطبقة وسطى وهي الفئات التي تواجه بالفعل منذ سنوات تلك السياسات والنتائج السلبية المترتبة عليها وأغلبية الشعوب منخرطة بالفعل في مواجهات مستمرة مع تيارات العولمة، من ضمنها الملايين من مواطني البلدان المتقدمة .(1/14)
إن الهجمة الاستعمارية الجديدة المعاصرة تكتسب قوتها الدافعة من ظاهرة العولمة الرأسمالية، التي هي في جوهرها مرحلة جديدة من التوسع الرأسمالي تستهدف المزيد من الاستغلال الرأسمالي للطبقة العاملة في البلدان الرأسمالية المتقدمة، ولكل شعوب الجنوب من خلال إدماج اقتصاديات كافة البلدان، في نظام رأسمالي عالمي موحد وفق الشروط التي وضعتها المراكز الرأسمالية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، وفرض نموذج اقتصادي رأسمالي على الجميع يكرس تبعية هذه البلدان اقتصاديا وسياسيا، وفرض نمط ثقافي استهلاكي يعزز هذه التبعية. واستخدام القوة العسكرية والمناورات السياسية لقهر إرادة المقاومة لدى الشعوب التي تنشد الحرية وكرامة العيش بالخروج من التخلف، الذي كان الاستعمار التقليدي من أهم عوامله، إن لم يكن سببا رئيسيا لوجوده أو لترسيخه؛ وإذا كانت الرأسمالية العالمية قد تسلحت بمنجزات الثورة العلمية والتكنولوجية وبما وفرته لها وسائل الاتصال والمواصلات المتعددة والصفقات الالكترونية والعسكرية وعلوم الليزر والهندسة الوراثية من قوة متزايدة، فإن هناك بالفعل رفض متزايد في جميع البلدان المتخلفة لسياسات التكيف الهيكلي التي ترتب عليها اتساع نطاق الفقر ليشمل 48 في المائة من الشعب المصري مثلا وتدهور الأجور وزيادة العاطلين إلى 17 في المائة من حجم قوة العمل - تبعا لمعطيات تقرير البنك الدولي لسنة 2000-، واتساع نطاق الفئات المهمشة التي تسكن الأحياء العشوائية محرومة من الخدمات الأساسية(1)وضروريات الحياة ويصل حجمها إلى ثلاثة ملايين مواطن، وتدهور الخدمات الأساسية وارتفاع نطاقها من تعليم وصحة وإسكان... وما إلى ذلك.
__________
(1) ـ نقرأ في الجدولين (07) و (09) على التوالي: متوسط معدل بطالة يقدر بـ 11%خلال الفترة 2000 /2003، وانخفاض نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي إلى1143 دولار سنة 2004 بعدما كان 1543 دولار سنة2000.(1/15)
إضافة إلى الرفض المتزايد لفرض نمط ثقافي استهلاكي هو نمط ثقافة الطرف الأقوى والأكثر قدرة على فرض نفسه في السوق ونشر قيمه الاستهلاكية بما ينجم عنها من طمس للهوية الثقافية وما تتضمنه من قيم إيجابية. فإن هناك أيضا رفض متزايد لعسكرة العولمة التي تتجلى في الوطن العربي بوضوح في المساندة السافرة للعدوان الصهيوني المستمر على الشعب الفلسطيني، وتكريس وجود إسرائيل في المنطقة كدولة استيطانية عدوانية في المنطقة، وكذلك حصار العراق وتجويع أطفاله ثم غزوه عسكريا، وما تشنه أمريكا من عدوان في مواقع مختلفة من العالم باسم محاربة الإرهاب، ونشر الديمقراطية.
إن الأنشطة المتنوعة المضادة للعولمة التي تساهم فيها العديد من مؤسسات المجتمع المدني ومراكز البحوث ومنظمات حقوق الإنسان والنقابات والأحزاب السياسية ومنظمات العمال المتعددة، تعزز من قدرة المواجهة وتنتقل بها من الوعي النوعي إلى الوعي العام بظاهرة العولمة وبأبعادها وبنتائجها الخطيرة على مصر والوطن العربي وذلك من خلال التنسيق بين هذه الأنشطة النوعية.
كما أن التصدي للعولمة إنما هو رفض العولمة الرأسمالية التي تجري الآن لصالح عدد محدود من الشركات المتعددة الجنسيات، وكيانات ضيقة في مواجهة مصالح الشعوب، وهو حرص في نفس الوقت على تنمية وتطوير الجوانب الإيجابية لظاهرة العولمة الناتجة عن إنجازات الثورة العلمية والتكنولوجية المعاصرة التي لا بد من الدعوة إلى تطويرها والاستفادة منها لصالح الشعوب والحيلولة دون انفراد الاحتكارات العلمية تستخدمها لتكييف وتعميم الاستغلال الرأسمالي بأوجه المعاصرة والحداثة.(1/16)
وهنا نرى عدم الاكتفاء بمقاومة الجانب السلبي، من مظاهر العولمة المتمثل في مخاطر العولمة السياسية والثقافية، بل يجب إقامة عولمة مضادة، عولمة لصالح البلدان المتخلفة، إنسانية وعادلة، تكفل حق الشعوب في ثرواتها وعدم إهدار مواردها البيئية، وحقها في التقدم وحمايتها من الاستغلال وإقامة علاقات ديمقراطية بين الشعوب، ولا ريب في أن تحقيق هذا الهدف يتطلب تمتع الشعوب بحرياتها وحقوقها الفردية والجماعية؛ خصوصا وأن إعلان الأمم المتحدة بشأن الألفية أشار إلى أن "التحدي الأساسي الذي نواجهه اليوم هو ضمان جعل العولمة قوة إيجابية تعمل لصالح جميع الشعوب،... وأنه لا يمكن أن تكون شاملة ومنصفة تماما للجميع إلا إذا بذلت جهود واسعة النطاق ومستمرة لخلق مستقبل مشترك"(1)
إن الخطوط العريضة التي يمكن أن تحكم الموقف من العولمة الرأسمالية والدعوة للنضال من أجل عالم أفضل، تتضح من خلال العمل في مختلف النشاطات التي تجسد هذا الهدف وتساعد على تطويره باستخدام أساليب التعبئة السلمية والديمقراطية والتي من أهمها:
أ - التنسيق بين كافة أشكال وأنشطة مناهضة العولمة في البلدان المتخلفة؛ ونشر الوعي بأبعاد ظاهرة العولمة ونتائجها وكيفية مواجهتها ثقافيا واقتصاديا وسياسيا.
ب - فضح آليات السوق الوحشية وسياسات المؤسسات الرأسمالية الدولية وآثارها الاقتصادية والاجتماعية والبيئية، وما يتصل منها بصفة خاصة بتطبيق اتفاقيات منظمة التجارة العالمية "الجات".
ج - التعبئة في مواجهة المشاكل المترتبة على السياسات الرأسمالية كالبطالة والخوصصة وما تفرزه من ترَدٍّ في شروط العمل والمعيشة كالتعليم والصحة وما يصاحبها من أشكال التمييز خصوصا ضد المرأة، وكذلك ما تعلق بمواجهة الصناعات الملوثة للبيئة.
__________
(1) ـ عن: طه عبد العليم: الاقتصاد المصري في عصر العولمة، م.س.(1/17)
د - دعم التطور الديمقراطي في البلدان المتخلفة الذي لا يمكن بدونه مواجهة مظاهر وسلبيات العولمة المتوحشة والتركيز بصفة خاصة على حق التنظيم والنشاط الجماهيري.
هـ - الربط ما بين مناهضة العولمة الرأسمالية وفرض إسرائيل كقوة اقتصادية مهيمنة على الاقتصاديات العربية بدس مشاريع ضبابية مثل مشروع الشرق الأوسط الكبير.
و - التواصل مع الحركة العالمية لمناهضة النتائج السلبية للعولمة الرأسمالية والتعرف على مطالب تلك الحركات ومساندتها من إلغاء ديون البلدان المتخلفة تحت رقابة شعبية، مرورا برفض شروط منظمة التجارة العالمية المتعلقة ببراءات اختراع الأدوية للحفاظ على حياة وصحة الإنسان... الخ، وحتى الاهتمام بإيجاد صلات وثيقة مع مؤسسات المجتمع المدني في البلدان الأخرى المناهضة للعولمة.
المطلب الثاني
واقع الاقتصاد المصري في ظل التحولات
إن عرض التحديات التي تواجه مصر في ظل التحولات الاقتصادية العالمية، يجب أن يأخذ في الاعتبار دروس الماضي وحقائق الحاضر حتى نتمكن من فهم واقع الاقتصاد المصري والتعرف عليه وتقييمه على نحو موضوعي وشامل، إضافة إلى أن الباحث في شؤون الاقتصاد المصري يواجه ما يلي:
أ ـ: الصعوبة في الحصول على البيانات الصحيحة التي تعكس حقائق مختلف المتغيرات الاقتصادية، وذلك نتيجة نقص البيانات وعدم شمولها، إضافة إلى التناقض في مضمونها بين مختلف مصادرها، وأحيانا عدم صحتها أو دقتها، وعدم حداثة ما يوجد منها.
ب ـ: أن تواجد عدد من الدراسات التي تناولت مختلف مراحل السياسة الاقتصادية المصرية، لا يجب أن يخفي توجهاتها السياسية والإيديولوجية، فالمراكز الحكومية والأحزاب السياسية ومراكز الدراسات كل منها يقوم بالبحوث لأغراض وأهداف شتى، وتكون في معظمها متناقضة تماما.(1/18)
ج ـ: أن الاقتصاد المصري يتمتع بقوة بشرية وسوق واسعة نسبيا وبنية أساسية تتجاوز في قوتها واتساع نطاقها ما قد تفرضه وتتطلبه المرحلة الحالية للتنمية، فمهما كانت إخفاقات أو إنجازات مصر السياسية والاقتصادية، فإنها في رأينا تعكس صورة لمعظم البلدان المتخلفة، وقد تأثرت بالبيئة العالمية التي تتميز بتحولات متنوعة منذ بداية هذا القرن.
من المنطقي أن يكون الهدف النهائي لأي إصلاح اقتصادي وفي أي بلد من البلدان المتخلفة متمثلا في تحقيق الانطلاق الاقتصادي بكل ما تعنيه كلمة انطلاق من تحقيق معدلات مرتفعة من النمو المتواصل وبما يضمن الزيادة في مداخيل الأفراد وتحقيق العدالة.
من أجل تحقيق هذا الهدف أُجريَ الإصلاح الاقتصادي في مصر باتفاق مع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي منذ بداية التسعينات؛ ولكن أوضاع الاقتصاد المصري لم تتطور نحو الهدف المنشود من الإصلاح الاقتصادي، بل تزايدت حدة عدد من الظواهر الاقتصادية السلبية التي باتت تهدد تحصيل ثمار ما سبق أن تحقق وعلى الأخص في المتغيرات المالية والنقدية، وفى مقدمة هذه الظواهر ما يلي:
1- تزايد حدة العجز في الميزان التجاري ،وهى أزمة تعكس الخلل العميق في هيكل الاقتصاد المصري، وباتت تهدد احتياطي النقد الأجنبي في البنك المركزي واستقرار سعر الصرف.
2- تزايد حدة الفجوة الاستثمارية بسبب ضعف المدخرات المحلية، وعدم استخدام ما هو متاح منها على النحو الأمثل، وبسبب ضعف ما كان مأمولا تدفقه من استثمارات أجنبية.
3- تزايد حدة مظاهر الركود في الاقتصاد المصري من ازدياد حدة البطالة وتراكم المخزون، وزيادة حالات التعثر في السداد، وضعف السيولة واضطراب سوق التجارة إلى غير ذلك..
والواقع أن هناك أسبابا حقيقية لهذه الظواهر السلبية الثلاث، يمكن حصرها في الأسباب التالية:(1/19)
أ ـ التفاؤل غير الحذر حول تدفق الاستثمار الأجنبي وقدرات القطاع الخاص الوطني وتنفيذا لهذا الاتجاه في التفكير ركزت جهودها على تغيير القوانين، مما يسهم في إيجاد إطار تشريعي ونظام قضائي يتفق مع احتياجات المستثمر الأجنبي والوطني.
لكن التركيز والاقتصار عليها دون التفكير على الأقل بقدر كاف في سياسات بديلة أو على الأقل سياسات مكملة تضع في الاعتبار احتمالات عدم تدفق الاستثمارات الأجنبية بقدر كاف، واحتمال أن لا يستطيع القطاع الخاص الوطني القيام بمهامه الجديدة على نحو كاف ومرض.
ب ـ عدم التوصل إلى تصور علمي صحيح حول دور الدولة في ظل التحول إلى نظام السوق، فقد تخلت الحكومة عن القطاع العام وعن دورها الاستثماري في غالبية قطاعات الاقتصاد القومي وأنشطته المختلفة؛ وهذا أمر قد يبرره ما حدث من تغيير في طبيعة النظام الاقتصادي من اقتصاد قائم على التخطيط المركزي إلى اقتصاد قائم على آليات السوق.
ولكن مصر تخلت عن دور الدولة في الرقابة والإشراف على نحو موضوعي وفعال على القطاع الخاص الناشئ وتوجيهه نحو أولويات التنمية؛ وهو نتيجة تصور علمي خاطئ حول دور الدولة في ظل التحول إلى نظام السوق، بالنسبة لدولة صاعدة كمصر، ذلك أن الدولة لابد وأن يكون لها دور مهم من أجل الحفاظ على كفاءة السوق الجديدة والحيلولة دون انحرافها.
ج ـ عدم التوصل إلى تحديد أولويات الاستثمار على نحو يحقق أفضل توزيع للموارد الاقتصادية المتاحة، فازداد الخلل في الهيكل الإنتاجي والعجز في ميزان المدفوعات الأمر الذي يؤكد عدم سلامة أولوياتها الاستثمارية.(1/20)
وهكذا فقد اتضح خلال سنتي 1994و 1995 أن الإصلاح الاقتصادي في مصر يتطلب الدخول في المرحلة الثانية من برنامج الإصلاح الاقتصادي المتفق عليه مع صندوق النقد الدولي أو ما يمكن أن يطلق عليه بالجيل الثاني للإصلاح الاقتصادي، وهو الإصلاح الهيكلي للاقتصاد المصري قصد الخروج من الآثار الجانبية للبرنامج الأول وتخفيف الجوانب السلبية لذلك البرنامج على البعد الاجتماعي.
ومنذ منتصف سنة1998 بدأت خطوات الإصلاحات الاقتصادية في التباطؤ، وأدى انخفاض معدّل الدخل من النقد الأجنبي إلى الضغط على الجنيه المصري مما نتج عنه تخفيض قيمته أمام الدولار الأمريكي(في ماي2002،1دولاريقابل4.60 جنيه) ولا ريب في أن لذلك تأثير على القوة الشرائية للمواطن المصري العادي.
وتجدر الإشارة إلى أن هناك الكثير من الدراسات الاقتصادية الهامة، التي تناولت معاناة الاقتصاد المصري والتحديات المطروحة أمامه، من بينها:
ـ الدراسة التي قامت بها الدكتورة/فائقة الرفاعي(وكيل محافظ البنك المركزي سابقا، وعضو مجلس الشعب الحالي) والتي قام بنشرها المركز المصري للدراسات الاقتصادية، والتي تستخلص معاناة الاقتصاد المصري من ركود وعجز في السيولة النقدية، وما ترتب على ذلك من تزايد معدلات البطالة.(1/21)
ـ سلسلة تقارير التنمية لشاملة في مصر وهي الدراسة التي يقوم بها مركز بحوث ودراسات الدول النامية، بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة، وتتناول الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية‘إلى جانب دراسات أخرى للمركز تتناول موضوعات عديدة(1).
ـ ولعل أبرز تلك الدراسات، تقرير الاتجاهات الاقتصادية الإستراتيجية 2004/2003 الصادر عن مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية بمؤسسة الأهرام(2)، والذي تضمن قسما خاصا بالاقتصاد المصري، من خمس دراسات تناولت العديد من القضايا ، سواء تلك التي كانت مطروحة بقوة في سنة 2003 أو تلك التي توصف بأنها ذات طبيعة ممتدة ومؤثرة بعمق في حاضر ومستقبل المجتمع والاقتصاد المصري.
وهكذا فإننا استنادا إلى بعض معطيات هذه الدراسة الأخيرة، وإلى ما ورد بشأن مصر بالتقرير الاقتصادي العربي الموحد لسنوات مختلفة، سنحاول الوقوف على واقع الأحوال الاقتصادية والاجتماعية في مصر(3)لكي نتمكن من تصور المستقبل المنظور للتنمية والتخطيط بعد ما يزيد عن عقدين من التحولات التي شهدها الاقتصاد المصري.
__________
(1) ـ نذكر من بين تلك الدراسات مثلا: ـ الاقتصاد العالمي الجديد وموقع مصر فيه، مصطفى كامل السيد1998. ـ الدولة والتنمية في مصر، جمال مظلوم 1999. ـ دور القطاع الخاص والتنمية في مصر، علي سليمان2000. ـ تجارب ناجحة للتنمية في مصر، نجوى عبد الله سمك2000. ـ سياسات التحرير الاقتصادي في مصر وإمكانات بناء توافق وطني حولها، هويدا عدلي2004.
(2) ـ مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية ـ مؤسسة الأهرام، شارع الجلاء، القاهرة:http://www.ahram.org/acpss .
(3) ـ للتعرف على واقع تطور الاقتصاد المصري من منظور السلطات الرسمية المصرية، يرجى الرجوع إلى: الهيئة العامة للإستعلامات المصرية على الموقع: http://www.sis.gov.eg/Ar/Economy/introdaction/Development(1/22)
يمكننا أن نحصر فيما يلي أهم ما يعانيه الاقتصاد المصري من مظاهر تؤكد الحصاد السلبي للتحولات في النظام العالمي الذي تفرضه المؤسسات الدولية والدول العظمى والقوى المسيطرة من دول وشركات:
أولا: ركود النشاط الاقتصادي..نقص السيولة والبطالة،على الرغم من وصف ما يعانيه الاقتصاد المصري بأنه مجرد تباطؤ في معدلات النمو عندما يواجه المسئولون، فإن هناك ما يشير بل ما يؤكد تعرض الاقتصاد المصري في السنين الأخيرة إلى حالة ركود حقيقي بكل ما تعنيه كلمة ركود من سلبية في معدلات النمو، ومظاهر ذلك كثيرة، منها: ارتفاع معدلات البطالة، وغلق الكثير من المصانع .
ثانيا:عجز ميزان المدفوعات وتزايد الضغط على قيمة الجنيه المصري.
ثالثا:انخفاض معدلات الادخار المحلي وازدياد الخلل في توزيع الدخل القومي.
رابعا:انخفاض معدلات الاستثمار الأجنبي وانسحاب غير المباشر منه من السوق المصري، بحيث انخفض مستوى الاستثمار الأجنبي المباشر في السنوات الأخيرة ليصل إلى ما لا يزيد عن 500 مليون دولار سنويا، بعد أن كان قد تجاوز المليار في أواخر السبعينات وأوائل الثمانينيات، وينخفض هذا المبلغ كثيرا إذا ما استثنينا الاستثمارات الأجنبية في قطاع البترول وشراء شركات القطاع العام وامتياز المرافق العامة.
أما الاستثمار الأجنبي غير المباشر، خصوصا في الأسهم والسندات، فإنه قد تدفق في المراحل الأولى للإصلاح الاقتصادي في أوائل التسعينيات بمعدلات متزايدة للاستفادة من الفرص المتاحة في سوق المال في مصر بوصفها سوقا واعدة.(1/23)
ولكن بمجرد أن بدأت بوادر العجز في ميزان المدفوعات واحتمالات تخفيض قيمة الجنيه المصري، لجأ هذا النوع من الاستثمار الأجنبي إلى الانسحاب من السوق ابتداء من سنة1998، وبمعدلات تفوق تدفقاته، مما ساهم في زيادة حدة الأزمة التي تعرض لها سعر صرف الجنيه المصري على مرّ السنوات المتوالية، وانخفاض احتياطي البنك المركزي، مصاحبا لانسحاب الاستثمار الأجنبي غير المباشر.
تعتبر عوامل الثقة والموضوعية والصدق، من أهم الضمانات لنجاح السياسات الاقتصادية في أي بلد، وتزداد أهمية هذه العناصر في النظم الاقتصادية القائمة على اقتصاديات السوق والتي يؤدي فيها القطاع الخاص الدور الرئيسي، وعلى نحو أكثر ضرورة ووضوحا، إذا ما قورن هذا بالنظم الاقتصادية القائمة على التخطيط المركزي الآمر والتي يؤدي فيها القطاع العام الدور الرئيسي، وذلك لما يتسم به القطاع الخاص عموما من حساسية تدعوه إلى الحرص على توافر الحقائق بموضوعية وصدق، وتجعله لا يتخذ قرارا اقتصاديا خاصة في مجال الاستثمار والتصرف فيما يملكه من نقد أجنبي، إلا إذا توافرت لديه المعلومات الكافية وشعر بالاطمئنان إلى ما يتخذ من قرارات اقتصادية وتأكد من شفافيتها واستقرارها.
وبالرجوع إلى واقع ممارسات أغلب البلدان المتخلفة، منذ بداية التحولات والتوجه نحو اقتصاديات السوق وتشجيع القطاع الخاص، فإننا نلاحظ أن ذلك التحول لم يصاحبه إجراءات لزيادة درجة الموضوعية والصدق فيما يتخذ من سياسات، وغالبا ما يعتمد في تحقيق أهداف الاقتصاد على أدوات السياسات الاقتصادية والمالية والنقدية وأنه مازال هناك خلط بين الأسلوب المركزي والأسلوب التأشيري وأن الغلبة في معظم تلك البلدان مازالت للأسلوب الأول، وقد يكون ذلك هو الدافع في فرض الشفافية والمساءلة من قبل المنظمات الدولية على البلدان المتخلفة.(1/24)
إن الثقة مسألة أساسية لنجاح ما قد يتخذه أي بلد من سياسات سليمة وموضوعية، إذا لا يكفي أن نبني السياسات على أسس سليمة وموضوعة، بل لا بد من توافر الثقة بها حتى يمكن ضمان نجاحها، خاصة في ظل اقتصاديات السوق.
تطورات أداء الاقتصاد المصري: من خلال تناول المؤشرات الرئيسية المعبرة عن هذا الأداء، والقضايا الاقتصادية الأكثر أهمية التي أثيرت في مصر منذ سنة 2003، تعتبر سنة 2003، حلقة جديدة في سلسلة التباطؤ الاقتصادي الذي عاني منه الاقتصاد المصري منذ سنين ، والذي ترتب عليه استمرار معدل البطالة، مما شكل ضغطا على الفقراء والطبقة الوسطى، في ظل عدم وجود نظام لإعانة العاطلين ؛ وكان الأسوأ في سنة 2003، هو اقتران ذلك البطء في النمو الاقتصادي بارتفاع الأسعار بصورة لافتة بعد التراجع السريع في سعر صرف الجنيه المصري مقابل الدولار والعملات الحرة الأخرى في السوق الرسمية ؛ وقد عكست الأزمة الاقتصادية نفسها في المؤشرات الرئيسية المعبرة عن أداء الاقتصاد المصري في سنة 2003،( أنظر الجدول ـ 09 ـ الذي يوضح أهم المؤشرات الاقتصادية في مصر خلال العشر سنوات الأخيرة) ، كما عكست نفسها في الحالة الاقتصادية العامة التي شعر بها المواطنون في مصر، ولكي يتم التغلب على هذه المشكلة، كان يجب على السوق أن توفر من600.000 إلى800.000 فرصة عمل سنوياً لامتصاص قوة العمل الجديدة، ولكننا نجد أنه بين عامي1990و 1997 تم خلق370.000 فرصة عمل فقط سنوياويشير تقرير إلى ما ذكره البنك الدولى بأن مصر تحتاج لتحقيق نمو سنوى مستدام فى الناتج المحلى الإجمالى بنسبة 7% على الأقل من أجل خفض معدل البطالة إلى مستويات تُمَكن من السيطرة عليها(1).
__________
(1) ـ التقرير القطري لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي2004، حول التقدم الذي أحرزته مصر في سبيل تحقيق الأهداف التنموية للألفية، على الموقع: www.undp.org.eg/arabi وكان قد سبقه التقرير الأول في جوان2002.(1/25)
وقصد التعرف على آثار التحولات العالمية على مستوى معيشة المواطن المصري نضع فيما يلي جدولا يوضح أهم المؤشرات الاجتماعية، وقد أشرنا بالأساس إلى تلك العناصر التي يمكن أن تعكس لنا مؤشر التنمية البشرية في مصر، ثم أضفنا مؤشرات مقابلة خاصة بالجزائر في محاولة منا للتعرف على واقعنا أيضا، والذي يجب أن نقارنه بما نملك من طاقات وموارد وهبنا الله إياها( أنظر الجدول الموالي).
الجدول رقم (7)
أهم المؤشرات الدالة على التنمية البشرية في مصر والجزائر
البيان ... مصر ... الجزائر
1 ـ متوسط معدل نمو السكان: (%) ... 2.14 ... 2.62
1985- 1995 ... 2.7 ... 2.43
1995- 2004 ... 1.98 ... 2.24
معدل نمو: 2003/ 2004
2 ـ معدل البطالة: ... 11.3 ... 27.3
1995/2002 ... 11.0 ... 27.3
2000/2003
3 ـ العمر المتوقع عند الولادة: (بالسنوات) ... 51 ... 53
1970 ... 56 ... 59
1980 ... 70 ... 70
2003
4 ـ الإنفاق على التعليم: (% من الناتج الوطني الإجمالي) ... 4.8 ... 7.9
1970 ... 5.7 ... 7.8
1980 ... 3.8 ... 5.5
1990 ... 5.2 ... 5.1
1996/2002
5 ـ إجمالي الإنفاق على الصحة: (% من الناتج الوطني الإجمالي) ... 0.61 ... ـ
1995 ... 3.8 ... 3.8
2000 ... 5.5 ... 4.1
2001
6 ـ نسبة اللذين يحصلون على مياه شرب آمنة: (%) ... 93 ... -
1970 ... 94 ... 78
1990 ... 95 ... 94
2000 ... 98 ... 87
2002
المصادر: من إعداد الباحث استنادا إلى معطيات التقرير الاقتصادي العربي الموحد، لسنوات: 2001- 2003– 2004- 2005.(1/26)
1 ـ تراجع النمو: ومن خلال متابعة بيانات أداء الخطط الاقتصادية المختلفة، يتبين تراجع معدلات النمو الاقتصادي، فنتائج الخطة الخمسية(1987/1988 ـ 1991/1992) توضح أن الناتج المحلي الإجمالي قد حقق معدل نمو سنوي حقيقي قدره3.9% خلال سنوات هذه الخطة الخمسية الثانية، مقابل معدل نمو مستهدف قدر بـ5.8%، في حين أن معدل النمو الذي تحقق خلال سنوات الخطة الخمسية الأولى(1982/1983 ـ 1986/1987) كان6.2%، ويرجع البعض ذلك الانخفاض إلى عدم تحقيق أغلب القطاعات لمعدلات نموها المستهدفة، فمقابل معدل نمو مستهدف قدر بـ5.8% بالنسبة لمجموعة القطاعات السلعية ـ خلال الخطة الخمسية الثانية ـ كان المعدل المحقق3.7% فقط، وتوضح البيانات أيضا أن هذه القطاعات انخفضت مساهمتها في الناتج المحلي الإجمالي إلى4.3%خلال السنة المالية1994 ـ1995 من الخطة الخمسية الثالثة(1993/1994 ـ 1996/1997) مقابل4.9% في السنة السابقة لها(1)؛ ومن قراءة البيانات التي أوردناها بالجدولين(08 و09) نلاحظ حقيقة انخفاض معدل النمو الحقيقي للناتج المحلي الإجمالي، إضافة إلى ذلك فإن هناك اختلاف في تحديد هذا المعدل، إذ حدد بالنسبة لسنة 2003، كما تذكر مصادر البنك الدولي بـ (2.8%) وأما المصادر المصرية فتختلف في تحديد هذا المعدل، الذي حدده التقرير الاستراتيجي العربي بـ (3.1%) في إصداريه لسنتي 2004 و2005 ـ وهي كلها مؤشرات تعكس حالة التباطؤ الاقتصادي في مصر.
__________
(1) ـ جميع هذه المعدلات مأخوذة عن: أماني أحمد علي زعرب، م. س، طبقا لتقارير وزارة التخطيط المصرية، ص74-76(1/27)
2 ـ تدني مستويات الادخار والاستثمار يعرقل فرص النمو : ضمن سلسلة الدراسات، التي تناولت الاقتصاد المصري نجد تقرير الاتجاهات الاقتصادية الإستراتيجية 2004/2003، المذكور سابقا يتناول المستوى المتدني للادخار والاستثمار في مصر ، واستحالة تحقيق معدلات نمو سريعة في ظل انخفاض هذين المعدلين ، ويشير إلى أن مصر تحقق واحدا من أدنى معدلات الادخار في العالم ، ويرجع ذلك بصورة أساسية ، إلى سيادة ثقافة استهلاكية لا تتناسب إطلاقا مع مستوى الإنتاج والدخول في مصر ، ويرى بأنها ثقافة تروج لها أجهزة الإعلام، من خلال الإلحاح الرهيب على المستهلكين بكم هائل من السلع والاختيارات التي تتجاوز متوسط أغلب مداخيل المواطنين المصريين ، حتى أصبح الاقتراض من المصارف لتمويل استهلاكها أمرا عاديا، وهو ما يشجع الاستهلاك ويقلل الادخار والاستثمار ؛ إضافة إلى ما يسببه تدني معدل الادخار من تواكل وطني ، والانتظار للمنح والقروض وللاستثمارات الأجنبية مع تَوَّهم أن تقدم لمصر رؤوس الأموال وتمويل الاستثمارات وتحقيق التنمية ، وهو وهم كبير لا يظهر إلا لدى الحكومات والشعوب التي تتوهم أنها يمكن أن تحقق التنمية دون معاناة واقتطاع من الدخل الآني في صورة مدخرات لتمويل الاستثمارات التي تضيف طاقات جديدة للجهاز الإنتاجي ، وترفع مستويات التشغيل والدخل وتحقق النمو الاقتصادي السريع في المستقبل.
وفي ظل هذه المعدلات المنخفضة من الادخار، فإنه من الصعب تحقيق معدلات مرتفعة للاستثمار والنمو الاقتصادي ، لان تحقيق مثل هذه المعدلات المرتفعة دون وجود معدلات مرتفعة للادخار ، سوف يتطلب الاقتراض من الخارج والتورط في أزمة مديونية ، أو جذب استثمارات أجنبية كبيرة ، وهو ما لم تنجح الإدارة الاقتصادية المصرية في تحقيقه في ظل غياب الكثير من العوامل الضرورية لجذب الاستثمارات الأجنبية
الجدول(8)(1/28)
تطور معدل النمو الحقيقي للناتج المحلى الإجمالي في مصر وفى الدول النامية والمتقدمة وفى العالم (1998 -2003)
السنة ... مصر الدول النامية الدول الصناعية المتقدمة إجمالي العالم
1998 ... 4.5% 3.5% 2.7% 2.8%
1999 ... 6.3% 3.9% 3.4% 3.6%
2000 ... 5.1% 5.7% 3.9% 4.8%
2001 ... 3.5% 4.1% 1% 2.4%
2002 ... 2% 4.6% 1.8% 3%
2003* ... 2.8% 5% 1.8%* 3.2%*
4%، 4.5%، 2.4%، 3.30%، هي متوسطات السنوات الست الأخيرة من 1998إلى2003
* تقديرات أولية
المصدر:181&September 2003,p173 World Economic Outlook IMF,
الجدول (9)
بعض المؤشرات الاقتصادية الرئيسية في مصر والجزائر
البيان ... مصر ... الجزائر
1 ـ نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي: ( بالدولار): ... 1053 ... 1456
1995 ... 1543 ... 1697
2000 ... 1143 ... 2411
2004
2 ـ معدل التضخم: (نسبة مئوية) ... 4.8 ... 29.7
1995 ... 2.7 ... 0.3
2000 ... 17.3 ... 3.6
2004
3 ـ معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي(%): ( بالأسعار الثابتة) ... 4.7 ... 3.8
1995 ... 3.1 ... 17.1
2000 ... 4.2 ... 7.6
2004
4 ـ الميزان التجاري: ( مليون دولار) ... - 7,791.6 ... 160.0
1995 ... - 8,320.6 ... 12,300.0
2000 ... - 6,626.2 ... 14,270.0
2004
( أرقام أولية.
المصادر: من إعداد الباحث استنادا إلى معطيات التقرير الاقتصادي العربي الموحد، لسنوات: 2001- 2003– 2004- 2005.(1/29)
3 ـ تحدي النمو: يذكر"آرفيند سابرامانيان" في دراسة له أعدها سنة1997 عن تجربة الإصلاحات الهيكلية في مصر" أن مصر ظلت تواجه تحديات تنبع من الأداء الواهن للاقتصاد العيني، ومع أن النمو انتعش مع رسوخ الاستقرار فإنه لم يكن قويا بما يكفي لتحقيق مكاسب كبيرة في نصيب الفرد من الدخل، أو لفتح ثغرة في البطالة المتزايدة"(1)، وأما دراسة تقرير الاتجاهات الاقتصادية الرئيسية المذكورة، فقد بحثت في مدى مسئولية النمو السكاني في مصر عن الأزمة الاقتصادية ، وأكدت بعد مقارنة مصر ببلدان أخرى ، أن المسألة تكمن في الحقيقة في قدرة الإدارة الاقتصادية في كل دولة على توظيف السكان ، الذين تمثل القوة العاملة منهم عنصرا إنتاجيا مهما في زيادة الناتج وتحقيق التنمية الاقتصادية ، فالمشكلة لا تكمن في البشر ولكن في ضعف القدرة علي توظيفهم في إطار ضعف الأداء الاقتصادي بصفة عامة ، فالدراسات تشير إلي أن معدل النمو السكاني يتراجع بشكل تلقائي (أنظر الجدول7 حيث نلاحظ تراجع معدل النمو السنوي إلى1.98%خلال الفترة2003/2004 بعدما كان يتزايد سنويا بمعدل 2.14% على امتداد الفترة1985/1995) عندما ترتفع مستويات الدخول الناتجة عن العمل وليس عن ريع ثروة ناضبة كما هو الحال في بلدان الخليج، ويبدو هذا صحيحا بالنسبة للجزائر، التي انخفض متوسط معدل نمو السكان فيها بنسبة 0.38 بين ( 1985-1995 ) و (2003/2004) ، كما أن هذا المعدل يتراجع أيضا كلما ارتفع مستوى التعليم ، وأصبحت الثقافة العلمية أكثر انتشارا واحتراما في المجتمع.
__________
(1) ـ آرفيند سابرا مانيان Arvind Subramanian: مصر: هل هي متأهبة للنمو المستديم؟ في التمويل والتنمية، ع. س، ديسمبر1997، ص42. الجدير بالذكر أن "آرفيتد" كان وقت كتابته للبحث يشغل منصب باحث اقتصادي أول في الدائرة الإفريقية بصندوق النقد الدولي ، وكان قبل ذلك الممثل المقيم لصندوق النقد الدولي في مصر.(1/30)
ومن خلال تناول بيانات تقرير التنمية البشرية لسنة2005، يتضح حقيقة أن الاقتصاد والمجتمع المصري يدفعان ثمن الانفتاح والتحولات الراهنة على الصعيد العالمي، فمصر تأتي في المرتبة119 على مستوي معايير التنمية البشرية، من بين 175 بلدا عضوا في الأمم المتحدة، والجدول الموالي(رقم10) يوضح بعضا من مؤشرات التنمية البشرية في كل من الجزائر ومصر على سبيل الملاحظة فقط، وليس المقارنة، ذلك أنه إذا كانت مصر هبة النيل، فإن الجزائر هبة من الله موقعا وباطنا وسطحا.
الجدول رقم(10)
دليل ببعض مؤشرات التنمية البشرية في كل من الجزائر ومصر ( سنة2003)
البلد ... الترتيب بحسب دليل التنمية البشرية2003 ... قيمة دليل التنمية البشرية ... متوسط العمر المتوقع لدى الولادة بالأعوام ... نسبة الإلمام بالقراءة والكتابة لدى البالغين %من عمر 15 فما فوق ... مجموع نسب الالتحاق الإجمالية بالتعليم الابتدائي والثانوي والعالي ... الناتج المحلي الإجمالي للفرد (معادل القوة الشرائية بالدولار الأمريكي) ... معدل الأمية لدى البالغين %من عمر 15 عاما فما فوق ... النسبة المئوية للسكان تحت خط فقر(%) الدخل1990-2003
$ واحد في اليوم ... دولاران في اليوم
مصر ... 119 ... .659 ... .8 ... .6 ... 3,950 ... 44.4 ... 3.1 ... 43.9
الجزائر ... 103 ... 0.722 ... 71.1 ... 69.8 ... 74 ... 6.107 ... 30.2 ... أقل من2 ... 15.1
من إعداد الباحث إستنادا إلى معطيات تقرير التنمية البشرية2005، الأمم المتحدة.(1/31)
ولكن رغم هذا الوجه القاتم، الذي يمكن أن يقرأ من الجدول السابق، ورغم وتراكم المشاكل الاقتصادية وتعثر عملية التنمية والتخطيط، نتيجة اختلالات داخلية وخارجية، كما ترى بعض الدراسات لواقع ومستقبل الاقتصاد المصري، فإن هناك من الدراسات ما يظهر مستقبلا مشرقا له، بحيث يرى بعض المراقبين أن الاقتصاد المصري يشهد منذ سنة2005 تجربة إصلاح فريدة من نوعها، أسموها بـ"الجيل الثاني من الإصلاحات"، تشتمل على تحولات وتغيرات في المضمون والوتيرة، مع اتساع فلسفة الإصلاح لتشمل نواحي ومجالات عديدة إضافة إلى تحقيق قفزات في قطاعات اقتصادية معينة، كالاتصالات والبنوك والطاقة، وهو ما أسهم في خلق بيئة أعمال مشجعة وأكثر تفاؤلا حيال آفاق النمو والإصلاح في مسيرة الاقتصاد المصري(1). ويرى هؤلاء أن "مستقبل الاقتصاد المصري ـ رغم إملاءات إدارة العولمة ـ تتوقف بالدرجة الأولى على تفعيل الإرادة الوطنية في مجال تبني الاستراتيجيات والخيارات والأولويات والسياسات والإجراءات الاقتصادية وغير الاقتصادية، التي تسرع بالتحول من مجرد الاكتفاء بالإدارة المصرية الراهنة لعلاقات عدم التكافؤ ـ مهما تكن حكمتها ـ إلى توظيف القدرات المصرية القائمة والكامنة لبناء مرتكزات الاندماج في الاقتصاد العالمي"
وقد تجسدت هذه النظرة الطموحة، في الاستجابة لتحديات التحولات العالمية والاستفادة من مزاياها، في اعتماد إستراتيجية للتنمية طويلة المدى للفترة(1997/2017) وهي ترتكز على(2):
ـ توجه الدولة إلى شركائها في التنمية (القطاع الخاص والمجتمع المدني).
__________
(1) ـ طالع بعض من هذه الآراء في مقال لـ عصام الدسوقي: الاقتصاد المصري يخوض تجربة إصلاح فريدة بدخوله "الجيل الثاني" من الإصلاحات، على الموقع: التقرير الاقتصادي www.Fananews.com/arabic/econom.htm ، سبتمبر2006.
(2) ـ أنظر في هذا ولمزيد من التفاصيل: التخطيط بالمشاركة، معهد التخطيط القومي، م. س، ص14- 15.(1/32)
ـ إحداث تحول في مناهج التخطيط، تماشيا والتغيرات في مشاكل الحياة المعاصرة وتحدياتها.
ـ العمل على تطوير مجموعة من السياسات الاقتصادية والمالية، قصد تحجيم التضخم، بحيث لا يزيد معدله عن 5%السنة.
ـ الأخذ بمبدأ دعم القدرة الذاتية في تمويل التنمية.
ـ زيادة معدل النمو الحقيقي للناتج المحلي الإجمالي من %4.8 سنويا في المتوسط خلال الفترة(1982/1997) إلى6.8% سنويا في المتوسط خلال الخطة الخمسية الرابعة، ثم إلى7.6% سنويا في المتوسط خلال الفترة(2002/2017).
.
خاتمة:
لقد طبقت مصر في أوائل التسعينات سياسة الإصلاح الاقتصادي وبرامج التصحيح الهيكلي فتخلت عن التخطيط المركزي حيث لم يعد يفي بأهداف التنمية الشاملة، إذ لم تعد الدولة وحدها المنفذة للتنمية، فعملت على توسيع قاعدة الشركاء الاقتصاديين والاجتماعيين، وذلك من أجل التعجيل بتحرير الاقتصاد والتكامل مع الاقتصاد العالمي وزيادة الاستثمارات المحلية وتوفير بيئة مناسبة للتصدير.
ولكن أوضاع الاقتصاد المصري بعد ثلاث عقود من الإصلاحات لم تتطور نحو الهدف المنشود من الإصلاح الاقتصادي، وذلك كما أوضحنها من استعراضنا لأهم ما توصلت إليه الدراسة التي إعتمدناها مرجعية في أخذ صورة عن حقيقة الأوضاع بعد مرحلة مما سمي بالإصلاحات، إذ اتضح تزايد حدة عدد من الظواهر الاقتصادية السلبية التي تعكس الآثار السلبية للتحولات على الواقع الاقتصادي والاجتماعي وعلى الأخص على مستوى المتغيرات المالية والنقدية، وفى مقدمة هذه الظواهر ما يلي :
أ ـ تزايد حدة العجز في الميزان التجاري (أنظر الجدول9) ،وهى أزمة تعكس الخلل العميق في هيكل الاقتصاد المصري، وباتت تهدد احتياطي النقد الأجنبي في البنك المركزي واستقرار سعر الصرف.(1/33)
ب ـ تزايد حدة الفجوة الاستثمارية بسبب ضعف المدخرات المحلية، ( من أدنى المعدلات في العالم من 10% ألى15%أرجع إلى ص206 وما أشارت إليه الدراسة المرجعية) وعدم استخدام ما هو متاح منها على النحو الأمثل، وبسبب ضعف ما كان مأمولا تدفقه من استثمارات أجنبية.
ج ـ تزايد مظاهر الركود في الاقتصاد المصري من ازدياد حدة البطالة(11%بالجدول7أو9.9 %سنتي2002/2003) وزيادة حالات التعثر في السداد، وضعف السيولة واضطراب سوق التجارة غير ذلك
د ـ تزايد حدة الديون التي تستهلك أكثر من 11%( طالع ص209) من حصيلة الصادرات، واللجوء المتزايد للاستدانة لتقليص عجز الميزانية وبالتالي فإن هدفا رئيسيا من أهداف التعديل لم يتحقق بعد كل هذه السنوات التي مرت على ذلك.
هـ . الآثار السلبية لبرنامج إعادة الهيكلة على الزراعة، ويتجلى ذلك بوضوح في محصول رئيسي في الزراعة المصرية ـ القطن ـ والمنافسة الشديدة التي تواجهها الزراعة ونتيجة لابتعاد الحاكمين عن الواقع الذي يعيشه المواطن، وهنا نسجل دور الوعي الوطني عند المجتمع المصري، الذي نحن بالجزائر في حاجة ماسة إليه.
و ـ تراجع دور الدولة التنموي ضمن إطار التحول إلى اقتصاد السوق الذي لم تعمل على توفير كفاءته.
ز ـ بالرغم من أن المسئولين المصريين ينظرون إلى أن "العولمة" تمثل تحديًا وفرصةً على السواء، فرصةً - من وجهة نظر – أنها تساهم في خلق العمالة وتحقيق النمو، كما أنها تمثل التحديات التي تواجه الاقتصاد المصري(1)، إلا أن آثارها المترتبة عنها ـ نتيجة لسياسة الانفتاح ـ على الصعيد الاجتماعي والاقتصادي كانت سيئة، مما دفع المجتمع المدني المصري إلى رفض أبعادها السيئة (طالع ص196).
__________
(1) ـ عاطف عبيد رئيس الوزراء المصري السابق في كلمته الافتتاحية أمام المؤتمر السنوي الرابع لمنظمة التنمية العالمية الذي أنعقد بالقاهرة حول موضوع "العولمة والعدالة"، في الفترة من 19-21 جانفي 2003.(1/34)
إذا فالتحولات تركت آثارا غير مرغوب فيها ووقفت معرقلة للتنمية، واعتماد اقتصاد السوق مع غياب تدخل الدولة، رسخ استمرار أزمة التنمية، ومصر بلد يرسم لنا تصورا لبلدان أخرى متخلفة، وربما أوضاع أغلبها سياسيا واقتصاديا أسوأ من مصر، ولذلك فأزمة التنمية تبقى مطروحة والتخلي عن التخطيط لها لم يساهم في التقليص من عبئها، ولذلك تقترح ضمن خاتمة بحثنا تصورا يأخذ بأبعاد حل لها.(1/35)
الخاتمة
بعد الحرب العالمية الثانية وطيلة عقد الستينيات كان الفكر الاقتصادي السائد حول التنمية، متسامحا مع القطاع العام، بل ومشجعا له، وكذلك للدور الاستراتيجي المهم للدولة في الاقتصاد، ولكن دون مطالبةٍ بالحدِّ من دور القطاع الخاص فيه، بل الإبقاء عليه ودعمه وإشراكه في العملية التنموية ذاتها. وحيث كان التأكيد على دور الدولة حاسما وشديدا، فإن ذلك انعكس في زيادة حجم القطاع العام واتساع دوره الاقتصادي والاجتماعي، حتى أصبح ذلك هو النمط السائد في معظم البلدان المتخلفة على امتداد عقدي الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي وبتأييد حتى من المؤسسات الدولية كالبنك الدولي نفسه؛ وقد أدى ذلك إلى اهتمام موجهي ومخططي التنمية في البلدان المتخلفة اهتماما شديدا بالضوابط الاقتصادية المباشرة، مفترضين ببساطة شديدة أن ذلك يعني تشجيع القطاع العام والتوسع دون حدود أو قيود، وأنه من الضروري فرض ضوابط إدارية لتنظيم النشاط الاقتصادي وبخاصة في القطاع الخاص.
ـ إن أية متابعة تاريخية للتطور الاقتصادي بمختلف البلدان لابد أن تظهر أن التنمية الاقتصادية كانت دائما وتقريبا، عملية ساهم فيها بدور أساسي، وبصورة مشتركة، كل من التوجيه، والتخطيط الحكوميين من جهة، والمشاريع الخاصة من الجهة الأخرى، وفيما عدا البلدان الاشتراكية ذات النظم المركزية حتى أواخر عقد الثمانينيات من هذا القرن، ليس هناك ولا حالة واحدة تقريبا كان فيها التطور الاقتصادي مخططا كليا أم غير مخطط كليا.(1/1)
ـ مع بداية السبعينيات من القرن المنصرم بدأ تخطيط التنمية خاصة، يواجه أزمة واضحة، حيث لم يظهر أثر التخطيط على المسار الفعلي للأحداث بالرغم من المبالغ الطائلة التي أنفقت والجهود التي بذلت في إعداد الخطط، واستمرت أزمة التخطيط قائمة مع تفاقم أزمة التنمية وتحول العديد من الاقتصاديات المتخلفة تحت ضغط الأزمة وبفعل تدخلات المؤسسات الدولية إلى سياسات الانفتاح والتحرر الاقتصادي، وقد تعزز هذا الاتجاه بالتدهور ثم الانهيار الذي لحق بالاتحاد السوفياتي ودول شرق أوروبا.
لقد عمّقت التحولات التي طرأت على الصعيد العالمي منذ عام 1990 من أزمة التنمية والتخطيط بالدول المتخلفة، إذ أن سقوط جدار برلين أدخل إلى السوق العالمية أسواقا متعطشة، إضافة إلى تلك العاطفة التي تربط الأوروبيين بشعوب بلدان أوروبا الشرقية، أما سقوط الاتحاد السوفيتي فقد سمح لروسيا بالتخلي عن كل السياسات التقليدية وبدأت تنافس على جذب الاستثمارات، أما الثورة التقنية وخصوصا في قطاع المعلومات والاتصالات في الولايات المتحدة فقد استحوذت على أموال ضخمة كان يمكن أن يدخل بعضها البلدان المتخلفة، وهكذا فقد أفرزت التحولات العالمية ما يمكن أن يسمى بـ "تنافسية الدول".
ـ إن مشكلات التخلف والتنمية هي مشكلات مترابطة ومتداخلة مع بعضها وتتسم بطبيعة متشابهة، كما أن حلول هذه المشكلات متقاربة من حيث الجوهر والأساس؛ ولذلك فإنه نتيجة للصعوبات الاقتصادية الحادة التي واجهتها الدول المتخلفة منذ أوائل الثمانينيات، لم يكن أمامها من خيار سوى تطبيق إجراءات التثبيت لمواجهة الاختلالات الاقتصادية على المدى القصير، كما قامت أيضا بإصلاحات جذرية لتغيير هياكل اقتصاديتها وتفادي وقوع اختلالات مستقبلية على مستوى الاقتصاد الكلي، وفي هذا السياق المتطور، تم إعادة تشكيل وتعريف دور التخطيط كآلية دافعة للتنمية في هذه الاقتصاديات.(1/2)
وضمن هذا الإطار نجد ثلاثة مواقف متباينة، نستطيع القول من خلالها أن التخطيط في البلدان المتخلفة محكوم بعملية الإصلاح الهيكلي:
الموقف الأول: موقف صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمات التنمية الدولية:
وتتجه مواقف هذه المجموعة إلى إحلال خطط سنوية ومتوسطة الأجل لإصلاح السياسات الاقتصادية الكلية المالية والنقدية وفق توجه محدد.
الموقف الثاني: موقف منظمة الأمم المتحدة: والذي نجد فيه بقايا نشاط تخطيطي وفقا للنموذج الذي كان سائدا في الستينيات والسبعينيات.
الموقف الثالث: موقف توفيقي بين الموقفين السابقين وهو ما يسمى بالتخطيط الاستراتيجي لدى برنامج الأمم المتحدة الإنمائي.
إن التطورات الداخلية والخارجية (عالمية): داخليا: التي شهدتها الدول المتخلفة دون استثناء: ازدياد البطالة والفقر والتفاوت داخل كل دولة وفيما بين الدول، واتساع العجز الغذائي. عالميا: هناك انتهاء مرحلة الحرب الباردة ، وانتقال مركز الثقل الاقتصادي تدريجيا من المحيط الأطلسي إلى المحيط الهادي، والعولمة، والإقليمية الجديدة، والتكتلات الدولية، والتحول من اتفاقات الجات1994الى إنشاء منظمة التجارة العالمية، ولعل من أهم الأحداث الاقتصادية عند نهاية القرن العشرين، هو ذلك التحول في الأنظمة الاقتصادية من اقتصاديات قائمة على التخطيط المركزي والتدخل الحكومي وسيطرة القطاع العام إلى اقتصاد يعتمد على السوق وآليات وتقليص دور الدولة وتوسيع مجال دور القطاع الخاص.
إن كل تلك العوامل دفعتنا إلى التساؤل عن مستقبل التخطيط في عالم حافل بالتغيرات المتلاحقة والتحديات الجديدة؟
فهل التخطيط ضروري للتنمية؟ وهل يمكن أن يكون للسوق دور ايجابي في الاقتصاد المخطط من اجل التنمية؟(1/3)
لقد استنتجنا من خلال الدراسة أن انهيار تجربة التخطيط المركزي في المجتمعات الاشتراكية في أوروبا الشرقية والاتحاد السوفيتي سابقا، وما يبدو من إخفاقات حول تجارب التخطيط في بعض الدول المتخلفة والمنطقة العربية أيضا (مصر والجزائر مثلا)، قد اوجد ظلالا من الشك لا مبرر لها حول جدوى التخطيط عموما وحول دور الدولة الاقتصادي أيضا؛ وعلى الرغم من حالات النجاح الاقتصادي العديدة التي يشار إليها في كثير من اقتصاديات السوق في اليابان وجنوب وشرق آسيا على سبيل المثال (الهند ، كوريا الجنوبية) إلا أن هذه الاقتصاديات لم تكن بمنأى عن دور فعال للدولة ومؤسساتها في توفير البنية والأنظمة والتشريعات لتحقيق النمو المطرد، وتمت تلك النجاحات في ظل تخطيط اقتصادي يراعي عوامل السوق وتداخله.
إن الاعتقاد السائد بان التخطيط الشامل لا يصلح إلا في الدول الاشتراكية فقط، وأنه في الدول الديمقراطية حيث تتعدد الأحزاب والشركات الرأسمالية والقطاع الخاص ويسود مناخ الحرية الاقتصادية قد يفشل التخطيط في تحقيق الأهداف القومية؛ هو اعتقاد خاطئ، إذ أن هذه الدول أخذت في جميع مراحل تطورها وخلال كل أوقاتها ـ سلما وحربا ـ بالتخطيط ، فليس هناك اليوم دولة رأسمالية متقدمة تسير اقتصاديتها بدون خطة وطنية شاملة يساهم فيها القطاع العام بنصيب كبير في الاستثمار والإنتاج؛ ذلك أن التخطيط واقعا وعلما وضرورة تأخذ به الدول المتقدمة والمتخلفة وبدونه تتحول عملية التنمية إلى عمل عشوائي وعمل الدولة إلى ردود أفعال.(1/4)
وأما إذا كانت التجارب قد أثبتت فشل أسلوب التخطيط المركزي المفرط وقد حَلَّ السوق محل الخطة، فإن ذلك لا يعني إلغاء دور وأهمية البرمجة والتخطيط في تعبئة الموارد والطاقات لتحقيق توليفة متناسقة من الأهداف والغايات الاقتصادية بهدف تحقيق التنمية المستدامة. فإذا كان من غير المقبول اليوم وفي ظل ما أفرزته التحولات العالمية، رسم خطط اقتصادية مركزية شاملة ذات أهداف ملزمة، فلا يجب أن تترك عملية التنمية للتطور العفوي، لكي توجهها آلية سوق غير منظمة ولبرامج وقرارات ترسم قطاعياً أو على مستوى الوزارات المختلفة دون تنسيق كاف يؤمن انتظامها في تصور متكامل منسجم يحدد الأهداف والأولويات ويحث الأجهزة التنفيذية على تعبئة الموارد وأساليب التصرف بها على المدى المتوسط والطويل.(1/5)
ـ أن القفزة التي حققتها البلدان المتخلفة في الماضي في ميدان التنمية قد تمت تخت رعاية الدولة وبمساهمة منها من خلال تدخلها في النشاط الاقتصادي، ابتداء من مرحلة التخطيط إلى المشاركة في التنفيذ، وعليه فإن نجاح الدولة في ذلك يؤكد الدعوة إلى استمرار ذلك الدور، ولكن مع توجيه يرمي إلى تقليصه وتكييفه بما يتماشى مع التحولات الراهنة في الاقتصاد العالمي، نحو التحرير الاقتصادي وتخفيف القيود وضمان دور أكبر للقطاع الخاص، وهو ما تُركّز عليه أيضا برامج التكييف الاقتصادي التي تطبقها كثير من البلدان المتخلفة منذ منتصف عقد الثمانينيات، في توَّجُه منها لاعتماد اقتصاد السوق وتقليص دور الدولة في ممارسة النشاط الاقتصادي تدريجيا، إلا أنه على الرغم من سير البلدان المتخلفة في هذا الاتجاه فإن الأوضاع الاقتصادية فيها هي من الضعف، بحيث لا يمكنها الاستغناء كليا عن الدور الذي مارسته الدولة على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي، خصوصا وأن تكيف تلك الاقتصاديات مع القواعد الجديدة التي فرضها النظام الاقتصادي العالمي يحمل معه تكاليف عالية يصعب تحملها في غياب جهة تتكفل بتهيئة مجتمعات واقتصاديات هذه البلدان للدخول في هذا الوضع الجديد الحافل بالتحديات.
ـ وقد اتضح لنا أن العوامل الخارجية والمستقلة والتي لم يستطع المخططون التنبؤ بها قد لعبت دورا أساسيا أيضا في التقليل من فعالية التخطيط في البلدان المتخلفة.(1/6)
ـ إن الإجراءات المرتبطة بالإصلاحات في البلدان المتخلفة أدت في أغلب الحالات إلى تهميش التخطيط؛ كما أن فشل السوق في تحقيق مهمته في إخراجها من أوضاعها الاقتصادية المتردية، احتمال قائم وله نظرية مستقرة دعائمها، فليس هناك سوق كامل، كما أن قصور المنافسة وسيادة الاحتكار، والآثار الخارجية السلبية والايجابية وحماية البيئة وتوزيع الدخل، تعتبر ظواهر حقيقية قد تدفع إلى فشل السوق، حيث قد تؤدي هذه الظواهر إلى تشويه العرض والطلب، بحيث لا يعدوان حقيقيين، ومن ثم لا تصدر عن السوق الأسعار الصحيحة، غير أن الاحتمالات الواقعية لفشل السوق لا ينبغي أن تدفع إلى الاستنتاج باستبعاده، أو باعتبار اقتصادياته مثالية أو أنها غير ذات فائدة عملية.
ولذلك فإنه من المهم إدراك أن التحول إلى اقتصاد السوق والانفتاح على الخارج لا ينفي الحاجة إلى التخطيط كأداة مساعدة في تحقيق التنمية الاقتصادية ولكنه قد يؤدي إلى تغيير في نوعية التخطيط المطلوب وفي أسلوب استخدامه. فعلى خلاف ما قد يتصوره الكثيرون، فإن دول اقتصاد السوق الصناعية المتقدمة، هي التي شهدت تطورات مستمرة في أعمال النمذجة (التخطيط) والتخطيط التأشيري والسياسات الصناعية وتحولت فيها إلى نشاط مؤسسي أو صناعة بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة (أي إلى التخطيط).(1/7)
وعليه فإن كل دولة حديثة، في حاجة مستمرة إلي التخطيط، بغض النظر عمَّا يجب أن يكون عليه، فيمكن أن يكون استراتيجيا، وليس مركزيا شاملا، فالدولة مطالبة بتوفير نظرة عامة ومستقبلية تأخذ في الاعتبار التحولات الطارئة والتطورات المتوقعة محليا ودوليا وتعد نفسها لذلك، والنجاح هنا لا يرتبط باتساع تدخلها وإنما بفاعليتها، والفاعلية تقتضي الانتقاء والتركيز علي أهداف قليلة ولكنها أساسية، والتخطيط عندئذ لا يتعلق بتحقيق أهداف كمية محددة وإنما بوضع سياسات وتحديد اتجاهات للتطور مع إرساء القواعد والشروط التي يمكن أن تحقق هذه الاتجاهات. ولا شك في أن ذلك يتطلب نظرة لمجمل السياسات القطاعية، والبيئية ولسياسة البحث العلمي، ولا ريب أيضا في أن كل ذلك يمثل عملا تنمويا شاملا.
فالأحداث المحيطة تتفاعل وتتشابك المصالح وتسعي كل دولة اللحاق بركب التقدم في وسط هذا العالم الذي يتحرك بسرعة هائلة في كل المجالات، وما على الدول المتخلفة سوى السعي للمشاركة في كافة الأحداث المحيطة وعدم التخلف.
فعلى المستوي الاقتصادي أصبح الانفتاح الاقتصادي الذي تقَنَّنَ باتفاقات منظمة التجارة العالمية يتحقق بسرعة من أجل تحرير التجارة العالمية ولا مفر من الاندماج في الاقتصاد العالمي، هو ما يفرض العمل بجهود متواصلة للدخول في هذا العصر بكل متطلباته ومواجهة كافة التحديات الداخلية والخارجية، ويمكن في رأينا أن يتم ذلك من خلال المتطلبات الموالية:
أ . ـ على الدول المتخلفة أن تتبنى سياسات داخلية تساعدها على تحقيق التنمية في إطار اندماج متوازن بالاقتصاد العالمي، وذلك في ظل عولمة الإنتاج والاستثمار والتجارة السائدة على الصعيد العالمي.
ب . ـ تنمية وبناء الطاقات البشرية لمواكبة التطورات الحديثة.
ت . ـ تطوير برامج التعليم بجميع مراحله.
ث . ـ وضع إستراتيجية للبحث العلمي وخاصة في قضايا تكنولوجيا المعلومات.(1/8)
ج . ـ إعادة الاعتبار إلى دور التخطيط في عملية التنمية، خاصة على المستوى الكلي، وعلى مستوى المشاريع الاستثمارية الهامة، وتوفير مناخ أفضل للاستثمارات الوطنية أولا، ثم العمل على جذب الاستثمار الأجنبي بعد ذلك عند الضرورة.
ح . ـ حثُّ القطاع الخاص وتحفيزه للدخول في العملية الإنتاجية.
خ . ـ اعتماد سياسة بيئية وتطبيقها في مجالات العمل المختلفة( استثمارا وأسلوب حياة).
د . ـ تشجيع قيام كيانات اقتصادية كبرى محلية قادرة على المنافسة في الأسواق العالمية.
ذ . ـ قيام تكتلات واندماجات بين الدول المتخلفة، ويؤسفنا أساسا حال تشتت العرب وتفرق المسلمين في الوقت الذي تقام خلاله وحدة شعوب ودول وتتكتل مؤسسات لا تملك من عوامل التوحد ما لدى أولئك.
ومساهمة منا في تصور حلول لمعضلة التنمية والتخطيط، فإننا نضع الشكل(7) محاولين من خلاله وضع نموذج لممارسة التخطيط للتنمية الاقتصادية.
الشكل رقم (7)
نموذج مقترح لممارسة التخطيط الاقتصادي في ضوء التحولات الراهنة
المحيط التقني والاقتصادي والتجاري
... ... ... ...
... ...
... المحيط السياسي والدولي والرؤية الإستراتجية ...
الشكل من وضع الباحث.
هذا النموذج يأخذ في الاعتبار ما يلي:
أ ـ أن التطورات العالمية لا يمكن تجاهلها من قبل البلدان المتخلفة في أي عمل محرك للتنمية.
ب ـ أن التخطيط المركزي الشامل أثبت عدم كفاءته، في حين يبقى التخطيط علما محايدا.
ج ـ أن اقتصاد السوق أثبت كفاءته في توجيه الموارد وانجاز مالا يمكن للتخطيط أن يحققه، وهو ما لا ينفى بدوره أهمية التخطيط للتنمية بالبلدان المتخلفة، ولا يمكن أن يكون مبررًا لإلغاء الدور التنموي للدولة.
د ـ أن برامج الإصلاحات المختلفة والعديدة، التي تم إنجازها في العديد من البلدان المتخلفة وبدفع ودعم من المؤسسات الدولية لم تحقق النتائج المسطرة بل أن نتائجها كانت في كثير منها معاكسة للتوقعات.(1/9)
ـ (تثبت دراسة حديثة 2005 قام بها البنك الدولي لاستخلاص العبر من تجربة عقد من الإصلاحات والنمو في التسعينيات: أن التوقعات بشأن أثر الإصلاحات على النمو كانت غير واقعية، وأن "البلدان النامية" تشهد انخفاضا سنويا لنصيب الفرد من النمو مرة كل ثلاث سنوات، وأن التحول نحو اقتصاد السوق كان عارما وصاخبا وصعبا، وأن المعرفة بالنمو كانت ناقصة لأقصى حد)(1).
آخذًا في الاعتبار لكل هذه المسائل وما إليها الكثير، يمكننا أن نمثل تصورا لممارسة التخطيط، أسلوبا لتحقيق التنمية، يستفيد من تجارب التخطيط في مختلف الأنظمة ومن مزايا اقتصاد السوق، ومن الفرص الإيجابية التي تسمح بها التحولات، بحيث يمكن أن نتبع نموذجا للتخطيط ينطلق من الوحدات العاملة بالسوق والتي تأخذ في اعتبارها عوامل المردودية والمنافسة والربحية...وما إلى ذلك من مكونات محيطها التقني والاقتصادي والتجاري، إضافة إلى استرشادها بأولويات التنمية الوطنية، ومن بعد يتم تنسيق المشاريع على مستوى قطاعات الأنشطة التي تتبع لها الوحدات، ثم بين مختلف خطط قطاعات الاقتصاد الوطني، والتي يشارك بالتشاور ضمنها رجال الأعمال ومسئولي مؤسسات الدولة والمتعاملون في السوق وغيرهم من ذوي المهام والكفاءات، أي أننا نمارس هنا التخطيط القطاعي والجزئي، وخلال كل المسيرة التي تمارس ضمنها الأنشطة الاقتصادية المختلفة تكون الدولة حاضرة من خلال أدواتها المباشرة وغير المباشرة تشريعا وتحفيزا وتوجيها، أي ممارسة تخطيط توجيهي تشاركي صعودا وهبوطا ضمن منظور استراتيجي، آخذة في الاعتبار المعطيات السياسية والاقتصادية المحلية، والأوضاع الدولية وذلك ضمن منظور استراتيجي للتنمية الشاملة يأخذ مجمل التحولات الطارئة في الحسبان.
__________
(1) ـ راجع عرضا لهذه الدراسة على امتداد صفحات مجلة التمويل والتنمية، العدد1 مارس2006.(1/10)
إن البحث في إطار هذا التصور، لممارسة التخطيط للتنمية بالبلدان المتخلفة، سيكون إن شاء الله محور بحوثنا و دراساتنا مستقبلا.(1/11)
الجداول والأشكال
فهرس الجداول
...
رقم الجدول ... العنوان ... الصفحة
1. ... بداية خطط تقنية المعلومات في بعض الدول ... 85
2. ... نمو نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في بلدان مختارة (1880-1990) ... 108
3. ... تأثير الأزمة العالمية وتغيرات أسعار السلع الأساسية على الأوضاع الاقتصادية بمنطقة إفريقيا جنوب الصحراء 1998 ... 125
4. ... تطور مفهوم التنمية منذ الخمسينيات ... 128
5. ... المؤشرات الاقتصادية الكلية قبل وبعد التعديلات الهيكلية لدول عربية مختارة ... 194
6. ... الميزان القومي التجاري المصري خلال الفترة (1980- 1992) ... 202
7. ... أهم المؤشرات الدالة على التنمية البشرية في مصر والجزائر ... 217
8. ... تطور معدل النمو الحقيقي للناتج المحلى الإجمالي في مصر وفى الدول النامية والمتقدمة وفى العالم (1998 – 2003) ... 219
9. ... بعض المؤشرات الاقتصادية الرئيسية في مصر والجزائر ... 220
10. ... دليل ببعض مؤشرات التنمية البشرية في كل من الجزائر ومصر ( سنة2003) ... 221
فهرس الأشكال
رقم الشكل ... العنوان ... الصفحة
1. ... الأزمة والطلب الفعال عند كينز ... 31
2. ... المراحل التي كان يمر بها إنجاز المخطط في الإتحاد السوفياتي – السابق ... 47
3. ... ديمقراطية إنجاز وتنفيذ المخططات في فرنسا ... 59
4. ... وظائف الدولة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في ظل التحولات العالمية ... 190
5. ... المؤشرات الاقتصادية الكلية قبل وبعد التعديلات الهيكلية لدول عربية مختارة ... 194
6. ... مراحل السياسة الاقتصادية المصرية ... 201
7. ... نموذج مقترح لممارسة التخطيط الاقتصادي في ضوء التحولات الراهنة ... 232(1/1)
المراجع
أولا: باللغة العربية
أ ـ الكتب:
1) أ.إ. بلجوك: الأزمات الاقتصادية للرأسمالية المعاصرة، تعريب علي محمد تقي عبد الحسين القزويني، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر1989.
2) إبراهيم العيسوي: الغات وأخواتها، النظام الجديد للتجارة العالمية ومستقبل التنمية العربية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، الطبعة الأولى، مارس1995.
3) أدريانو بينايون: العولمة نقيض التنمية ـ دور الشركات عبر الوطنية في تهميش البلدان النامية من خلال الاستثمارات الأجنبية المباشرة ـ ترجمة جعفر علي حسين السوداني، مراجعة د.عماد عبد اللطيف سالم، الناشر: بيت الحكمة، جمهورية العراق، بغداد2002.
4) د.أحمد سيد مصطفى: تحديات العولمة والتخطيط الاستراتيجي، الناشر غير مذكور، الطبعة الثالثة2000.
5) أحمد كمال أحمد: التخطيط الاجتماعي، الجهاز المركزي للكتب الجامعية والمدرسية، ج.م.ع. 1976.
6) إدوارد. س. ماسون: التخطيط الاقتصادي، ترجمة: عبد الغني الدلي، مكتبة المعارف، بيروت 1981.
7) أيوب سميرة: صندوق النقد الدولي وقضية الإصلاح الاقتصادي والمالي، الإسكندرية للكتاب، الإسكندرية2000.
8) إيف بينوت: ما هي التنمية؟ ترجمة: سعيد أبو الحسن، دار الحقيقة، بيروت 1979.
9) د. السيد مصطفى أحمد أبو الخير: تحالفات القوة العسكرية والقانون الدولي، ايتراك للنشر والتوزيع، القاهرة، الطبعة الأولى2005.
10) النجار أحمد: الإصلاح الاقتصادي في الدول العربية، حالة مصر، المغرب، اليمن، " مركز الدراسات العربية الإستراتيجية، دمشق 1996.
11) د: السيد أحمد عبد الخالق/ د. أحمد بديع بليح: تحرير التجارة العالمية في دول العالم النامي، الكتاب الأول، الدار الجامعية الإسكندرية،مصر 2002/2003.
12) د. إفريت هاجن: اقتصاديات التنمية، ترجمة: جورج خوري، مركز الكتب الأردني1988.
13) اوتورا ينهولد: الأزمات الاقتصادية، ترجمة: بوعلي ياسين، دار الفارابي بيروت1980.(1/1)
14) جودة عبد الخالق: الإصلاح الاقتصادي، بحوث اقتصادية عربية، العدد 7 ربيع 1997.
15) د. جمال الدين محمد المرسي/ د. مصطفي محمود أبو بكر/ د. طارق رشدي جبة: التفكير الاستراتيجي والإدارة الإستراتيجية، منهج تطبيقي، الدار الجامعية الإسكندرية، 2002.
16) د. جلال الشافعي: العولمة الاقتصادية، الأثر على الضرائب في مصر، كتاب الأهرام الاقتصادي، رقم، 179أول نوفمبر2002.
17) د. وداد أحمد كيكسو: العولمة والتنمية الاقتصادية:نشأتها، تأثيرها، تطورها؛ المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الأولى، بيروت 2002.
18) حسين عمر: مبادئ التخطيط الاقتصادي والتخطيط التأشيري في نظام الاقتصاد الحر، دار الفكر العربي، القاهرة 1998.
19) حربي محمد موسى عريقات: التنمية والتخطيط الاقتصادي، دار الكرمل، الطبعة الأولى، عمان الأردن، 1993.
20) كاظم حبيب: مفهوم التنمية الاقتصادية، دار الفارابي، الطبعة الأولى، 1980.
21) د. كامل بكري: التنمية الاقتصادية، دار النهضة العربية، بيروت 1986.
22) د. كمال الدين عبد الغنى المرسى: الخروج من فخ العولمة، دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر، الإسكندرية، مصر الطبعة الأولى2005.
23) ليبريتو ماري فرانس: صندوق النقد الدولي وبلدان العالم الثالث، ترجمة هشام متولي، دار طلاس، دمشق، 1993.
24) لستر ثارو: الصراع على القمة، مستقبل المنافسة الاقتصادية بين أمريكا واليابان، ترجمة/أحمد فؤاد بلبع، سلسلة كتب عالم المعرفة،إصدار المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، ديسمبر1995.
25) مجذاب بكر عناد/ د.محي الدين حسين: المتغيرات الاقتصادية الدولية وانعكاساتها على منطقة الشرق الأوسط، أكاديمية الدراسات العليا والبحوث الاقتصادية، طرابلس الجماهيرية العظمى، 1998.(1/2)
26) مجموعة من المؤلفين: العولمة وتداعياتها على الوطن العربي، سلسلة كتب المستقبل العربي، رقم24، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الأولى، يناير2003 بيروت.
27) مجموعة من المؤلفين: صور المجتمع المثالي، نماذج التنمية في فكر القوى السياسية في مصر، مركز دراسات وبحوث الدول النامية، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة، الطبعة الأولى2003.
28) محمد دويدار: مبادئ الاقتصاد السياسي، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر 1981.
29) محمد مدحت مصطفى/ سهير عبد الظاهر أحمد: النماذج الرياضية للتخطيط والتنمية الاقتصادية، مكتبة ومطبعة الإشعاع الفنية، مصر1999.
30) محمد عبد العزيز عجمية/ محمد علي الليثي: التنمية الاقتصادية، مفهومها، نظرياتها، سياساتها، مؤسسة شباب الجامعة، الإسكندرية، 1996.
31) د. محمد عبد العزيز عجمية/ عبد الرحمن يسري أحمد: التنمية الاقتصادية والاجتماعية ومشكلاتها، الدار الجامعية 1999.
32) د. محمد عبد العزيز عجمية/ د. إيمان عطية ناصف: التنمية الاقتصادية، دراسات نظرية وتطبيقية، قسم الاقتصاد، كلية التجارة، جامعة الإسكندرية2003.
33) محمد البنا: التنمية والتخطيط الاقتصادي بين النظرية والتطبيق، مكتبة زهراء الشرق، القاهرة 1996.
34) محمد رضا علي العدل: الاقتصاد الكلي: كلية التجارة، جامعة عين شمس، دون سنة نشر.
35) محمد بشير علية: القاموس الاقتصادي، المؤسسة العربية؛ الطبعة الاولى1985.
36) د. محمد علي حوات: العرب والعولمة، شون الحاضر وغموض المستقبل، مكتبة مدبولي، الطبعة الأولى2002 القاهرة.
37) د. محمد صفوت قابل: الدول النامية والعولمة، الدار الجامعية الإسكندرية، 2003/2004.
38) د.محمد سليمان هدى: مناهج البحث الاقتصادي، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية 1989.
39) محمد صالح الحناوي/وآخرون: مقدمة في إدارة الأعمال، الدار الجامعية، القاهرة 1999.(1/3)
40) د.محمد العمادي: التنمية الاقتصادية والتخطيط، دار الحياة، دمشق الطبعة الثالثة مزيدة.1967.
41) محمد محفوظ: العولمة وتحولات العالم، إشكالية التنمية في زمن العولمة وصراع الثقافات، المركز الثقافي العربي الدار البيضاء المغرب، الطبعة الأولى 2003.
42) د. محمود خالد المسافر: العولمة الاقتصادية، هيمنة الشمال والتداعيات على الجنوب، بيت الحكمة، بغداد2002.
43) محمود يونس محمد/ عبد النعيم محمد مبارك:في اقتصاديات التنمية والتخطيط، دار النهضة العربية، بيروت، 1985.
44) د. محي الدين محمد مسعد: ظاهرة العولمة الأوهام والحقائق، مكتبة الإشعاع، الطبعة الأولى1999 ج. م. ع.
45) ميتشيو كاكو: رؤى مستقبلية، كيف سيغير العلم حياتنا في القرن الواحد والعشرين، ترجمة: د. سعد الدين خرفان، سلسلة كتب عالم المعرفة رقم270، إصدار المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب الكويت يونيو 2001.
46) معجم العلوم الاقتصادية: إعداد نخبة من الأساتذة، تصدير ومراجعة الدكتور إبراهيم مدكور، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1975.
47) مصطفي العبد الله /وآخرون: " الإصلاحات الاقتصادية وسياسات الخوصصة في البلدان العربية " مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، فبراير 1999.
48) د. مصطفى السعيد: الاقتصاد المصري وتحديات الأوضاع الراهنة- مظاهر الضعف- الأسباب- العلاج، دار الشروق، القاهرة، الطبعة الأولى 2002.
49) د.نبيل علي: الثقافة العربية وعصر المعلومات، رؤية لمستقبل الخطاب الثقافي العربي، سلسلة كتب عالم المعرفة، إصدار المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، يناير2001 الكويت.
50) نخبة من الكتاب: مستقبل الثورة الرقمية، العرب والتحدي القادم، سلسلة كتاب العربي، مجلة العربي 15يناير2004الكويت.
51) سيد البواب: دراسات معاصرة في السياسات الاقتصادية في مصر، كلية التجارة جامعة عين شمس، القاهرة، الطبعة الثانية 2003.(1/4)
52) د. سيد الهواري: الموجز في إدارة الأزمات، توزيع مكتبة عين شمس، الطبعة الأولى1998، القاهرة.
53) أ.د. سعد طه علام: التخطيط مع حرية السوق، دار طيبة للنشر والتوزيع والتجهيزات العلمية، القاهرة 2003.
54) أ.د سعد طه علام: التنمية... والدولة، دار طيبة للنشر والتوزيع والتجهيزات العلمية القاهرة2003.
55) د. سعد طه علام: دراسات في الاقتصاد والتنمية،دار طيبة للنشر والتوزيع والتجهيزات العلمية القاهرة2003.
56) سعيد النجار: تاريخ الفكر الاقتصادي من التجاريين إلى نهاية التقليديين، دار النهضة العربية، بيروت 1973.
57) عادل أحمد حشيش:تاريخ الفكر الاقتصادي، دار النهضة العربية ـ بيروت 1974.
58) د.عبد الوهاب الأمين: التنمية الاقتصادية، المشكلات والسياسات المقترحة مع إشارة إلى البلدان العربية، دار حافظ للنشر والتوزيع، جدّة، العربية السعودية الطبعة الأولى2000.
59) د. عبد الفتاح مراد: كيف تستخدم شبكة الإنترنت في البحث العلمي وإعداد الرسائل والأبحاث والمؤلفات، دار الكتب والوثائق المصرية، دون سنة نشر.
60) د.عبد الحميد القاضي: مقدمة في التنمية والتخطيط الاقتصادي، دار الجامعات المصرية1975.
61) علا أحمد إصلاح(تعريبا)/د.عبد الرحمن توفيق (إشرافا علميا): إدارة الأزمات. التخطيط لما قد لا يحدث،مركز الخبرات المهنية للإدارة(بميك)، القاهرة، الطبعة الثانية2004.
62) د. عمرو محي الدين: التخلف الاقتصادي، دار النهضة العربية، 1975.
63) د. عصام رضوان/ ياسين الضرير، التخطيط الاقتصادي منشورات جامعة دمشق، 1995 ـ1996.
64) د. عثمان محمد غنيم: التخطيط أسس ومبادئ عامة دار صفاء للنشر والتوزيع، عمان، الأردن، الطبعة الأولى 1999.
65) د. عثمان محمد غنيم: مقدمة في التخطيط التنموي الإقليمي ، دار صفاء للنشر والتوزيع، عمان، الأردن، الطبعة الأولى.(1/5)
66) د. فؤاد مرسي: التخلف والتنمية، دراسة في التطور الاقتصادي، دار الوحدة العربية، الطبعة الأولى 1982.
67) فيصل فخري مرار: العلاقة بين التخطيط والموازنة العامة، دار مجدلاوى للنشر والتوزيع، عمّان، الأردن، 1995.
68) فتح الله ولعلو: الاقتصاد السياسي، مدخل للدراسات الاقتصادية، دار الحداثة بيروت، الطبعة الثانية1982.
69) صبحي تادرس قريصة/ مدحت محمد العقاد: مقدمة في علم الاقتصاد، دار النهضة العربية، بيروت 1983.
70) روبرت بارو/ النمو الاقتصادي، دراسة تجريبية عبر البلدان، ترجمة/ نادر إدريس التل، دار الكتاب الحديث للنشر والتوزيع، عمان، الأردن 1998.
71) روبرت كارسون: ماذا يعرف الاقتصاديون عن التسعينات وما بعدها، ترجمة: دانيال رزق، الدار الدولية للنشر والتوزيع، مصرـ وكندا، الطبعة الاولى1994.
72) رمزي زكي: التضخم والتكيف الهيكلي في الدول النامية، دار المستقبل العربي، مصر1996.
73) رمزي زكي: المشكلة السكانية وخرافة المالتوسية الجديدة، سلسلة عالم المعرفة، رقم 48 إصدار المجلس الوطني للثقافة والآداب والفنون، الكويت، ديسمبر 1984.
74) د. رمزي زكي: الاقتصاد السياسي للبطالة،تحليل لأبرز مشكلات الرأسمالية المعاصرة سلسلة كتب عالم المعرفة، إصدار المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب،الكويت، أكتوبر1997.
75) رمزي زكي: التاريخ النقدي للتخلف، دراسة في أثر نظام النقد الدولي على التكون التاريخي للتخلف بدول العالم الثالث، سلسلة كتب عالم المعرفة، إصدار المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت أكتوبر1987.
76) رمزي زكي: العولمة المالية، الاقتصاد السياسي لرأس المال المالي الدولي( رؤية من البلاد النامية)، دار المستقبل العربي، الطبعة الأولى، القاهرة، مصر 1999.
77) رمزي علي إبراهيم سلامة: اقتصاديات التنمية، منشأة المعارف، الإسكندرية، مصر1991.
ب ـ المقالات:(1/6)
1. إبراهيم سعد الدين عبد الله: التنمية المستقلة والتغيرات الدولية المعاصرة، في: المستقبل العربي، العدد157، مارس 1992، ص17-27.
2. إبراهيم العيسوي: الدراسات المستقبلية ومشروع مصر2020، في: كراسات منتدى العالم الثالث بالقاهرة ، سبتمبر 2000.
3. إبراهيم أحمد البدوي: فعالية الإصلاح الهيكلي كإستراتيجية لنمو الصادرات، في "الندوة" نشرة منتدى البحوث الاقتصادية للدول العربية وإيران وتركيا، العدد الرابع، ديسمبر1994 ـ فبراير1995 القاهرة ج. م. ع.
4. إلبيونج ج.كيم/ أوك هيون هونج ILpyong J.Kim & Uk Heon Hong: جمهورية كوريا : ترويض النمر، في المجلة الدولية للعلوم الاجتماعية العدد163، مارس2000، ربع سنوية تصدر عن اليونسكو، النسخة العربية صادرة عن مركز مطبوعات اليونسكو بالقاهرة، ، ص81-82
5. إسماعيل صبري عبد الله، نشأة وتطور الرأسمالية، وهم التكرار وضرورة الابتكار، في: قضايا وآراء، السنة 127-العدد: 42698، 17 نوفمبر2003.
6. بعداش مسيكة: الأداء الفعال لدراسة الجدوى الفنية أحد مقومات نجاح المشروع الاستثماري، ضمن: مداخلات الملتقى الدولي حول" أهمية الشفافية ونجاعة الأداء للاندماج الفعلي في الاقتصاد العالمي" كلية العلوم الاقتصادية وعلوم التسيير، جامعة الجزائر، 28- 30 جوان 2003.
7. بوتين محمد: أثر تكنولوجيا المعلومات على عملية اتخاذ القرارات والأداء، واقع المؤسسة الجزائرية. في: مداخلات الملتقى الدولي حول "أهمية الشفافية ونجاعة الأداء للاندماج الفعلي في الاقتصاد العالمي" كلية العلوم الاقتصادية وعلوم التسيير، جامعة الجزائر، 28- 30 جوان 2003.
8. بن حسين: في تعقيب علي هامش ندوة: مستقبل التخطيط قي الأقطار العربية، ع.س، ص209.
9. جلال أمين، في: مستقبل التخطيط في الأقطار العربية، بحوث ومناقشات ندوة عقدت في تونس 20 ـ 22 أفريل 1993، تحرير: جميل طاهر/ صالح العصفور، منشورات المعهد العربي للتخطيط ـ الكويت ص150.(1/7)
10. جلال أمين، مشكلات التصحيح الاقتصادي والتنمية في مصر، التصحيح والتنمية في البلدان العربية، تحرير سعيد النجار، ندوة مشتركة تحت إشراف صندوق النقد العربي وصندوق النقد الدولي، أبو ظبي 16-18 فيفري1978، ص153-184.
11. جاك سابير: إجماع واشنطن ومرحلة الانتقال في روسيا: قصة فشل، في المجلة الدولية للعلوم الاجتماعية، العدد166، ديسمبر2000، ربع سنوية تصدر عن اليونسكو، النسخة العربية صادرة عن مركز مطبوعات اليونسكو بالقاهرة، ص49.
12. جوزيف رامز أمين: العولمة وآثارها على إفريقيا، في آفاق إفريقية، مجلة فصلية تعني بالقضايا الإفريقية، العدد14، صيف 2003، ص 57-60.
13. كليب سعد كليب: اقتصاد المعرفة والأمن الاقتصادي العربي، في المستقبل العربي، رقم293 مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت لبنان، جويلية2003، ص28.
14. كرايج بيرنسايد و ديفيد دولار David Dollar & Craig Burnside:المعونة تحفز النمو في ظل السياسات السليمة، في التمويل والتنمية العدد4 ديسمبر1997، ص4.
15. لانت بريتشيت Lant Pritchett و دانيال كوفمان Daniel Kaufmann: الحريات المدنية والديمقراطية وأداء المشروعات الحكومية، في التمويل والتنمية، ع. س، العدد1، مارس1998 ص26.
16. ميلود المهذبي: في المستقبل العربي، مجلة فكرية شهرية، يصدرها مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، تموز/يوليو1992.
17. منير الحمش: الاقتصاد السياسي للفساد، في: المستقبل العربي، مجلة فكرية شهرية، يصدرها مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، العدد328، حزيران (يونيو)2006.
18. محمد الأطرش: حول تحديات الاتجاه نحو العولمة الاقتصادية، في المستقبل العربي، رقم260 أكتوبر2000، يصدرها مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت لبنان، ص9.(1/8)
19. محمد سعيد أوكيل: قراءة حول الشفافية ونجاعة الأداء في عالم متغير ضمن مداخلات الملتقى الدولي حول"أهمية الشفافية ونجاعة الأداء للاندماج الفعلي في الاقتصاد العالمي" كلية العلوم الاقتصادية وعلوم التسيير، جامعة الجزائر، 28- 30 جوان 2003.
20. سامي موهوبي: تضييق الفجوة بين الشمال والجنوب، في مجلة الرسالة الجديدة ، تصدر عن منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم "اليونسكو" نوفمبر2005، ص60.
21. سميحة فوزي: النظام العالمي الجديد وانعكاساته الاقتصادية على الوطن العربي، في مجلة البحوث والدراسات العربية، العدد22، معهد البحوث والدراسات العربية، القاهرة1994، ص43-44.
22. عبد الجليل كاظم الوالي: جدلية العولمة بين الاختيار والرفض، في المستقبل العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، العدد275 يناير 2002 ، ص58 ـ 79.
23. عبد الفتاح الجبالي: مؤتمر سياتل وتحديات العولمة، في ملف الأهرام الاستراتيجي، العدد61 يناير2000، ص3.
24. عبد الفتاح علي الرشدان: العولمة واتجاهات سيادة الدولة القطرية في الوطن العربي، في مجلة شؤون عربية،الصادرة عن الأمانة العامة لجامعة الدول العربية، القاهرة،العدد107، سبتمبر2001 ص77.
25. عبد السلام الطرابلسي: التصنيع العربي والمفهوم التغريبي للتنمية، في:المستقبل العربي، العدد151، تموز يوليو 1992، ص71.
26. عزيز محمد علي: دور صندوق النقد الدولي والبنك الدولي في سياسات التصحيح والتنمية، في التصحيح والتنمية في البلدان العربية، تحرير سعيد النجار، ندوة مشتركة تحت إشراف صندوق النقد العربي وصندوق النقد الدولي، أبو ظبي 16-18 فيفري1978، ص 106.
27. عثمان محمد غنيم: تعقيب بندوة مستقبل التخطيط في الأقطار العربية، انعقدت في تونس 20 ـ 22 أفريل 1993، المعهد العربي للتخطيط بالكويت، ع. س، ص 572.(1/9)
28. فؤاد مرسي: مأزق التنمية من خلال التكامل الدولي، في: دراسات عربية، مجلة فكرية اقتصادية اجتماعية، تصدر عن دار الطليعة، بيروت، العدد 4 فبراير 1978، ص42.
29. فينود توماس و تمارا بيلتVinod Thomas & Tamara Belt ، النمو والبيئة: حليفان أم خصمان، في التمويل والتنمية، ع. س، يونية 1997 ص20ـ22.
30. فريديريك سي. تيرنر Frederick C.Turner، الأدوار المتغيرة للدولة : المقياس والفرص والمشكلات، في المجلة الدولية للعلوم الاجتماعية، العدد163 مارس2000، ربع سنوية تصدر عن اليونسكو، مركز مطبوعات اليونسكو بالقاهرة، ص20.
31. فريديريك سي.تيرنر Frederick C.Turner و اليخاندرو ل.كورباتشو Alejandro L.Corbatcho : أدوار جديدة للدولة : في المجلة الدولية للعلوم الاجتماعية، العدد163، ص156.
32. خالد الوزني: الاقتصادات العربية وتحديات الاقتصاد العالمي الجديد: خارطة الطريق. في التحولات الاقتصادية العربية والألفية الثالثة، مراجعة وتقديم منذر الشرع، منشورات مؤسسة عبد الحميد شومان، عمّان الأردن2004.
33. خالد المسافر: العولمة وواقع الفقير في الوطن العربي، في شؤون عربية، الصادرة عن الأمانة العامة لجامعة الدول العربية، القاهرة،العدد107، سبتمبر2001، ص 113 ـ 124.
34. خالد فؤاد شريف: انخفاض الصادرات، هل البيروقراطية هي السبب؟ في الأهرام الاقتصادي العدد1098، يناير1990، ص32.
35. خديجة عرفة محمد: الأمن الإنساني الآن (الأمم المتحدة: لجنة الأمن الإنساني،2003)، في مجلة النهضة، الصادرة عن كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة، العدد20، يوليو2004، ص1001- 106.
36. خلاف خلف الشاذلي: المجتمع العربي بين مخاطر العولمة الثقافية وتحديات ثقافة العولمة، في مجلة شؤون عربية، تصدرها الأمانة العامة لجامعة الدول العربية،العدد107، سبتمبر2001، ص93.
ج ـ الأطروحات والرسائل:
أولا: الأطروحات:(1/10)
1. ـ وصاف سعيدي: أثر تنمية الصادرات غير النفطية علي النمو الاقتصادي في البلدان النامية، الحوافز والعوائق، أطروحة دكتوراه دولة في العلوم الاقتصادية، كلية العلوم الاقتصادية وعلوم التسيير، جامعة الجزائر، فيفري2004.
2. ـ مسعود مجيطنة: أزمة المديونية العالمية: محولة لتجاوزها من خلال موجة العولمة الاقتصادية الراهنة، أطروحة دكتوراه دولة في العلوم الاقتصادية، كلية العلوم الاقتصادية وعلوم التسيير، جامعة الجزائر، السنة الجامعية2004-2005.
3. ـ نيفين محمد طريح: أثر حجم وكفاءة الدولة على النمو الاقتصادي ( دراسة مقارنة)، أطروحة دكتوراه في فلسفة الاقتصاد، كلية التجارة وإدارة الأعمال، قسم الاقتصاد والتجارة الخارجية جامعة حلوان، مصر2005.
4. ـ سعدون بوكبوس: الاقتصاد الجزائري: محاولتين من أجل التنمية(1962 ـ 1989 ، 1990 ـ 2005) أطروحة دكتوراه دولة في العلوم الاقتصادية، كلية العلوم الاقتصادية وعلوم التسيير، جامعة الجزائر، جانفي 1999.
5. ـ عبد الله بلوناس: الاقتصاد الجزائري الانتقال من الخطة إلى السوق ومدى إنجاز أهداف السياسة الاقتصادية، أطروحة دكتوراه دولة في العلوم الاقتصادية، كلية العلوم الاقتصادية وعلوم التسيير، جامعة الجزائر، السنة الجامعية2004-2005.
ثانيا: رسائل الماجستير:
6. ـ أحمد علي حسن محمد: مستقبل التعاون الاقتصادي العربي في مواجهة المتغيرات الاقتصادية العالمية والإقليمية، رسالة ماجستير في الاقتصاد، كلية التجارة قسم الاقتصاد، جامعة عين شمس، سنة2000.
7. ـ أماني أحمد علي زعرب: التغيرات الاقتصادية الدولية المعاصرة وآثارها على مستقبل الاستثمارات الصناعية في مصر(في إطار برنامج الإصلاح الاقتصادي) رسالة ماجستير في الاقتصاد، كلية التجارة قسم الاقتصاد، جامعة عين شمس، دون سنة نشر.(1/11)
8. ـ بوزلحة سامية: واقع اقتصاديات الدول العربية في ظل التحولات الاقتصادية العالمية، رسالة ماجستير، كلية العلوم الاقتصادية وعلوم التسيير، جامعة الجزائر السنة الجامعية2004-2005.
9. ـ بركان زهية: التضخم وبرامج التصحيح في البلدان النامية بين النظرية والتطبيق، حالة الجزائر: رسالة ماجستير في العلوم الاقتصادية، جامعة الجزائر 1997.
10. ـ دحمان عبد الفتاح: محاولة تقييم السياسة النقدية ضمن برامج التكيف لصندوق النقد الدولي: حالة الجزائر، رسالة ماجستير، معهد العلوم الاقتصادية، جامعة الجزائر،1997.
11. ـ حمدي باشا رابح: التخطيط وتوجهاته الجديدة بالجزائر، رسالة ماجستير في العلوم الاقتصادية، معهد العلوم الاقتصادية، جامعة الجزائر،1991.
12. ـ محمد المقبلي: الإصلاحات الاقتصادية وانعكاساتها على التجارة الخارجية في الجمهورية اليمنية(1990–2001) رسالة ماجستير، كلية العلوم الاقتصادية وعلوم التسيير، جامعة الجزائر.
13. ـ مروة محمود فكري: أثر التحولات العالمية على الدولة القومية خلال التسعينيات، دراسة نظرية، رسالة ماجستير في العلوم السياسية، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، قسم الاقتصاد، جامعة القاهرة، يونيو2004.
14. ـ نعيمة بوخالفي: المنظمة العالمية للتجارة وتأثيرها على الاقتصاد الوطني، دراسة حالة الجزائر، رسالة ماجستير، فرع التخطيط، كلية العلوم الاقتصادية وعلوم التسيير، جامعة الجزائر، جوان2001.
د ـ المجلات والدوريات والتقارير:
1. ـ التمويل والتنمية: تصدر كل ثلاثة أشهر عن صندوق النقد الدولي( وبالاشتراك مع البنك الدولي للإنشاء والتعمير حتى1997 عندما أنهي الإصدار المشترك للمجلة) الأعداد: ـ مارس1985. ـ يونية1995. ـ ديسمبر، يونية1997. ـ مارس، سبتمبر1999. ـ يونيه، مارس2000. ـ مارس، يونية، ديسمبر2004. ـ مارس، يونية2005.(1/12)
2. ـ أوراق موجزة تم إعدادها للمؤتمر الوزاري الرابع لمنظمة التجارة العالمية بالدوحة، قطر9 - 13 نوقمبر2001، الورقة رقم11، منشورات اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا، الأمم المتحدة، نيويورك،2001.
3. ـ الجزائر: تحقيق الاستقرار والتحول إلي اقتصاد السوق، دراسة خاصة أعدّها كريم النشاشيبي، باتريسيا ألوينزو...وآخرون، صندوق النقد الدولي،واشنطن1998.
4. ـ الأهرام الدولي: ليوم 24/12/1999، يصدر عن مؤسسة الأهرام بالقاهرة، مصر.
5. ـ الأهرام الاقتصادي: العدد1098 جانفي1990، أسبوعية اقتصادية تصدر عن مؤسسة الأهرام بالقاهرة، مصر.
6. ـ النفط والتنمية: مجلة تعني بشؤون النفط والتنمية في الوطن العربي والعالم، دار الثورة للصحافة والنشر العدد الأول، السنة الثالثة، تشرين الأول، بغداد العراق1977.
7. ـ أوراق اقتصادية: العدد17، ديسمبر2001، آفاق المؤتمر الوزاري الرابع لمنظمة التجارة العالمية بالدوحة، إصدار مركز البحوث والدراسات الاقتصادية والمالية، جامعة القاهرة.
8. ـ تقارير عن التنمية في العالم: الصادرة عن البنك الدولي، للسنوات: 1990. ـ1991. ـ1993. ـ1996.ـ2004. ـ2007.
9. ـ تقارير حول التنمية البشرية: الصادرة عن برنامج الأمم المتحدة للتنمية، للسنوات: ـ 1994. - 1997. ـ2005.
10. ـ التقرير الاقتصادي العربي الموحد، جامعة الدول العربية: سبتمبر- 2001، 2003، 2004، 2005.
11. ـ التقرير الاستراتيجي العربي: روسيا بوتين...السعي وراء المكانة المفقودة، مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية، القاهرة، ص9.
12. ـ التقرير الإستراتيجي العربي: (3) الاقتصاد المصري في عصر العولمة : رؤية إستراتيجية، مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية، تقرير 2004/2005، مؤسسة الأهرام القاهرة مصر، 10 يوليه 2005.(1/13)
13. ـ تقرير الأمين العام للأمم المتحدة عن أعمال المنظمة في 10سيبتمبر2002، الوثائق الرسمية، الدورة السابعة والخمسون، الملحق رقم1A/57/1 ) ( نيويورك2002.
14. ـ تقرير الاستثمار العالمي2006: الاستثمار الأجنبي المباشر الوارد من الاقتصادات النامية والانتقالية وآثاره على التنمية، الاستعراض العام، مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية، الأمم المتحدة، نيويورك وجنيف 2006.
15. ـ التخطيط بالمشاركة بين المخططين والجمعيات الأهلية على المستويين المركزي والمحافظات، سلسلة قضايا التنمية رقم145، معهد التخطيط القومي، مصر ، فبراير2002.
16. ـ قضايا و آراء: العدد: 42698، 17 نوفمبر2003.
17. ـ ضمانات الاستثمار: نشرة فصلية تصدر عن المؤسسة العربية للضمان الاستثمار(هيئة عربية دولية) تعني بشؤون الاستثمار والتجارة في الدول العربية، السنة الثانية والعشرون 3/2004 الكويت.
18. ـ كراسات إستراتيجية: جمال محمد غيطاس/ العرب والقمة العالمية لمجتمع المعلومات، تعقيدات التعامل مع الفجوة الرقمية السنة السادسة عشرة، العدد رقم (159) مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية، الأهرام ،مصر - يناير 2006.
19. ـ مجلة التنمية والسياسات الاقتصادية: تصدر عن المعهد العربي للتخطيط بالكويت، نصف سنوية، العدد الأول، ديسمبر1998.
20. ـ معلومات دولية: مجلة فصلية تصدر عن مركز المعلومات القومي في الجمهورية العربية السورية، السنة الثامنة، العدد64 ربيع2000، الملف من ص4 إلى ص128.
21. ـ شؤون عربية: مجلة فصلية تصدر عن الأمانة العامة لجامعة الدول العربية بالقاهرة، الأعداد: سبتمبر 2001.
ثانيا: المواقع والأقراص الإلكترونية:
1. البنك الدولي: http://web.worldbank.org كذلك الموقع: http://site resources.Worldbank.org/styles/wbi(1/14)
2. الجزيرة: أول صحيفة سعودية تصدر على شبكة الانترنت، يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر، على الموقع: http://www.al-jazirah.com
3. الهيئة العامة للإستعلامات المصرية على الموقع: http://www.sis.gov.eg/Ar/Economy/introdaction/Development
4. "المستقبل التام.. أساسيات العولمة "كتاب لـ جون يكل ثوايت وأدريان، ولدريج نشرته "جريدة الشرق الأوسط" على حلقات، تم التصفح في 10/11/2002. http://www.aawsat.com
5. التقرير الاقتصادي: www.Fananews.com/arabic/econom
6. برنامج الأمم المتحدة الإنمائي: www.undp.org.eg/arabi
7. جريدة تشرين السورية، في 28 حزيران 2003، ، مقالة الدكتور نبيل سكر، (الاقتصاد الجديد). http://www.teshreen.com
8. جريدة تشرين نفسها على نفس الموقع، وعلى التوالي: في تشرين 28 تموز2003 ،وفي 23 تموز2003، مقالين للدكتور منير الحمش (احد أفراد العولمة يدعو إلى الاقتصاد الجديد) (ضد اقتصاد السوق لماذا)
9. دور وفاعلية المساعدات الإنمائية: دروس من خبرة البنك الدولي، أجريت سنة2002، أنظر: في ذلك http://www.albankaldawli.org/MNA/ArabicWeb
10. لسان العرب، قرص مضغوط، إنتاج المستقبل للإنتاج الإلكتروني، بيروت، الإصدار1.0 ـ 1995.
11. موقع منظمة التجارة العالمية على شبكة الإنترنت: www.wto.org
12. مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية، القاهرة، مصر على الموقع: http://www.ahram.org.eg/acpss
13. مجيد مسعود على الموقع www.an-nour.com.
14. منير الحمش، القطاع العام واقتصاد السوق الاجتماعي، في: مجلة الفكر السياسي، فصلية تصدر عن اتحاد الكتاب العرب بدمشق تعنى بنشر المواد الفكرية والسياسية والدبلوماسية والوثائق المتصلة بذلك، العدد 26 السنة الثامنة2006،على الموقع: http://www.awu-dam.org/politic/26/fkr26 .(1/15)
15. نادر فرجاني: آثار إعادة الهيكلة الرأسمالية على البشر في البلدان العربية، مركز المشكاة للبحث مصر، أغسطس1989:
.www Almishkat.org.
16. نادر فرجاني:التنمية الإنسانية واكتساب المعرفة المتقدمة في البلدان العربية، على الموقع:
http://www.amanjordan.org/aman_studies/wmview
17. نموذج النمو لـ "باسينيتي" على الموقع ://www.egypt-facts.orghttp
18. سمير أمين: في برنامج وراء الأحداث الذي قدم على الفضائية المصرية الأولى يوم03/04/2000.
19. قنسطنطين فون برلوفنConstantin Von Barloewen : الثقافة والريلبوليتيك ، في صحيفة العالم الدبلوماسي" الترجمة العربية للصحيفة الفرنسية لوموند ديبلوماتيك"، الترجمة العربية على الموقع:www.mondipolar.com ، تم التصفح في 15/03/2006.
20. قسم خدمات شبكة الإنترنت بالأمم المتحدة، على الموقع: http://www.un.org/arabic/millenniumgoals
21. غازي الصوراني: العولمة وطبيعة الأزمات السياسية الاقتصادية الاجتماعية في الوطن العربي وآفاق المستقبل، في28/08/2003. . www.rezgar.com
22. Hénaut:Les économies d’énergie: choix ou nécessité ? Dossier Economies d’énergie, revue Science & Décision édité par : SUDOC (système universitaire de documentation) France ; 2004, p2 http://corail.sudoc.abes.fr
23. http:// decitre.Fr/search/ fiche détaillé
ثالثا: باللغة الأجنبية:
1. Abdelkader Sid Ahmed : croissance et développement, théories et politiques, tome 2ème édition, O.P.U 1981.
2. Abdelkader Sid Ahmed : développement sans croissance, l’expérience des économies pétrolières du Tiers-monde, co-édition O.P.U.Alger avec Publisud.France, 1983.(1/16)
3. Alain Samuelson : Les grands courants de la pensée économique, concepts de base et questions essentielles, quatrième édition, presses universitaires de grenoble1995.
4. A. Cohen & P. Combemale / Croissance & crises : éléments d’analyse.
5. Banque Mondiale : Rapport sur le développement dans le monde1996, de l’économie planifié à l’économie du marché, Washington, juin1996.
6. Christian Comeliau : Planifier le développement : illusion ou réalité ? Academia-Bruylant, Louvain-la-neuve, Paris1999.
7. Claude Julien : Une histoire qui modelé notre monde désorienté ; le siècle des extrêmes, Le Monde Diplomatique, mars1995, pp16et17.
8. Dominique Guellec/ Pierre Ralle : Les nouvelles théories de la croissance, éditions la découverte, nouvelle édition, Paris1997.
9. Frédérique Sachwald : La régionalisation contre la mondialisation ? in Mondialisation au-déla des mythes, casbah éditions, novembre1997 Alger
10. . Janine Bremond &Autres : Sciences économiques et Sociales, Hatier1986.
11. Jacques Pavoine : Les Trois Crises de20è siècle, ellipses édition marketing 1994, Paris.
12. Louis Dupont, La planification du développement à l’épreuve des faits, éditions Publisud, Paris, 1995.
13. Michael.P.Todaro : La Planification du développement « modèles et méthodes » ; traduit par M.E.Benissad, o.p.e.Alger1984.
14. Michel Beaud : L’art de la thèse, casbah éditions, Alger 1999.
15. Masahiko Aoki : Economie Japonaise, Informations, Motivations et Marchandages ? economica, 1991.(1/17)
16. Nord/ Sud Du Défi au Dialogue ? Propositions Pour un Nouvel Ordre International, sous la coordination de Jaén Tinbergen traduit de l’anglais par Nadia Jazairy, Sned/ dunod 1976.
17. O.C.D.E :.Rapport 1986, Coopération pour le développement, dans les années1990, publications OCDE, décembre1989.
18. O.N.U : Guide de la planification du développement, procédures, methods et techniques, New-York1987.
19. PNUD : Rapport sur le développement Humain2005, La Coopération International à La Croisée Des Chemins l’aide, Le Commerce et La Sécurité dans un Monde Marqué par Les Inégalités, édité par Economica, Paris,France2005.
20. PERSPECTIVES DE L’ECONOMIE MONDIALE, Avril 2006, Mondialisation et inflation, Etudes économiques et financières, Fonds monétaire international.
21. Régis Benichi/ Marc Nouschi : Histoire Economique Contemporaine, la croissance de xix ème siècle, 15 thèmes, Ellipes1987.
22. Zakane Ahmed : Dépenses publiques productivités et dynamique de croissance, Approches théorique et empirique appliqué au cas de l’Algérie, in 2ème colloque scientifique international, organise par la fsesg , université d’Alger, le14-15 /11/2005.(1/18)
الفهرس
مقدمة البحث ... ... ... ... .. ... ... .... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... أ
الفصل الأول: المفاهيم الأولية............................................................... 1
تمهيد.................................................................................. 2
المبحث الأول: مفهوم التنمية الاقتصادية...................................................... 4
الفرع الأول: المفكرون التجاريون................................................ 5
الفرع الثاني: المفكرون الطبيعيون.................................................6
الفرع الثالث: الاقتصاديون التقليديون..............................................8
الفرع الرابع: المفهوم الماركسي.................................................10
الفرع الخامس: المدرسة التقليدية الجديدة.........................................12
الفرع السادس: المفهوم الكينزي.................................................14
الفرع السابع: المفكرون الكينزيون الجدد.......................................15
المبحث الثاني: مفهوم التخطيط الاقتصادي...................................................21
المطلب الأول: مفهوم التخطيط باعتباره أسلوب اقتصادي عام.................................23
المطلب الثاني: مفهوم التخطيط باعتباره ذا طابع سياسي واقتصادي واجتماعي وفني..........25
المبحث الثالث: مفهوم الأزمة والتحولات العالمية.............................................27
المطلب الأول: الأزمة في الفكر الاقتصادي...................................................28
المطلب الثاني: التحوّلات العالمية........................................................34
الفرع الأول: مفهوم التحولات العالمية...........................................34(1/1)
الفرع الثاني: المعالم الاقتصادية والسياسية والاجتماعية للتحولات...............36
الفرع الثالث: المعالم التقنية والثقافية للتحولات..................................38
خاتمة.................................................................................41
الفصل الثاني: التخطيط في الأنظمة الاقتصادية والسياسية....................................42
تمهيد....................................................................................43
المبحث الأول: التخطيط في المنظومة الاشتراكية ( سابقا )...................................45
المطلب الأول: التخطيط قبل مرحلة التحولات................................................45
الفرع الأول: أسس التخطيط في الاتحاد السوفياتي ............................45
الفرع الثاني: المخططات من1928إلى1980................................50
المطلب الثاني: مرحلة الانتقال وواقع التخطيط في روسيا.....................................51
المبحث الثاني: بدايات وتطور التخطيط بالبلدان الرأسمالية المتطورة..........................53
المطلب الأول: التخطيط التأشيري في فرنسا .................................................54
الفرع الأول: بدايات التخطيط.................................................55
الفرع الثاني: مخططات النمو.................................................56
المطلب الثاني: التخطيط في اليابان ..........................................................60
خلفية تاريخية.................................................................60
الفرع الأول: دور الدولة التنموي..............................................62
الفرع الثاني: المخططات الاقتصادية........................................64(1/2)
المطلب الثالث: التوقعات والبرمجة في الولايات المتحدة......................................65
المبحث الثالث: التخطيط للتنمية بالبلدان المتخلفة.............................................68
المطلب الأول: ظهور وتطور التخطيط...................................................69
المطلب الثاني: إختلالات التنمية وتراجع التخطيط .........................................71
خاتمة..................................................................................76
الفصل الثالث: التحولات الاقتصادية العالمية..................................................77
تمهيد....................................................................................78
المبحث الأول: تفكك الكتلة الاشتراكية........................................................80
المبحث الثاني: الثورة العلمية والتكنولوجية...................................................83
المبحث الثالث: تطور التكتلات الاقتصادية ..................................................89
المبحث الرابع: ظهور العولمة الاقتصادية ...................................................95
المطلب الأول: العولمة مفهوم وواقع. ........................................................96
المطلب الثاني: مؤسسات وأشكال العولمة ..................................................100
المبحث الخامس: التجارة الدولية والمنظمة العالمية للتجارة.................................107
خاتمة................................................................................112
الفصل الرابع: انعكاسات التحولات الاقتصادية على البلدان المتخلفة.........................113
تمهيد..................................................................................114(1/3)
المبحث الأول : موجة الانفتاح والتحول إلى اقتصاد السوق .................................116
المطلب الأول: آراء المؤيدين للتحول نحو اقتصاد السوق ...................................116
المطلب الثاني: آراء المعارضين للتحول نحو اقتصاد السوق ...............................118
المبحث الثاني: انعكاسات الأزمة على البلدان المتخلفة......................................122
المبحث الثالث: التحول في مفهوم التنمية...................................................127
المطلب الأول: دور المؤسسات الدولية في التنمية...........................................131
المطلب الثاني: مفهوم التنمية لدى المؤسسات الدولية.......................................132
الفرع الأول: مفهوم التنمية لدى الأمم المتحدة............................................... 132
الفرع الثاني: مفهوم التنمية لدى البنك الدولي...............................................144
الفرع الثالث: مفهوم التنمية لدى صندوق النقد الدولي.......................................149
المطلب الثالث: مفهوم التنمية المستديمة.....................................................156
المبحث الرابع: آثار التحولات الاقتصادية على التنمية والتخطيط............................161
المطلب الأول: آثار العولمة الاقتصادية ....................................................163
المطلب الثاني: آثار سياسات تحرير التجارة................................................165
خاتمة................................................................................170
الفصل الخامس: التخطيط ودور الدولة في إطار التحولات الاقتصادية العالمية...............172
تمهيد..................................................................................173(1/4)
المبحث الأول: مشكلة ضرورة التخطيط وحتمية اقتصاد السوق...........................174
المطلب الأول: مبررات اعتماد التخطيط للتنمية.............................................174
المطلب الثاني: المفاضلة بين السوق والتخطيط.............................................178
المبحث الثاني: التوجه السياسي للدولة والتخطيط...........................................180
المطلب الأول: سياسة الدولة ونمط التخطيط................................................181
المطلب الثاني: دور الدولة في ظل التحولات...............................................187
المبحث الثالث: التحولات والتكيف ومآل التخطيط...........................................191
المطلب الأول: التخطيط والتنمية وسياسات التعديل الهيكلي..................................191
المطلب الثاني: هل من عودة للتخطيط؟.....................................................195
خاتمة................................................................................197
الفصل السادس: واقع واتجاهات التنمية والتخطيط ضمن المنظور العالمي الجديد للتنمية (حالة الاقتصاد المصري)...................................................................................198
تمهيد..................................................................................199
المبحث الأول: التنمية والتخطيط في مصر قبل سنوات الانفتاح.............................202
المبحث الثاني: واقع التنمية والتخطيط في إطار التحولات والمنظور الجديد للتنمية.........206
المطلب الأول: برامج الإصلاح والتعديل...................................................206
المطلب الثاني: واقع الاقتصاد المصري في ظل التحولات................................. 211(1/5)
خاتمة................................................................................223
الخاتمة العامة..................................................................225
الجداول والأشكال..........................................................................234
المراجع..............................................................................237
الفهرس....................................................................................251
تم بحمد الله(1/6)