بسم الله الرحمن الرحيم نحن المسلمين نعرف ربنا معرفة صحيحة، ونعترف بحقوقه اعترافا كاملا، ونضم إلى هذا وذاك شيئا آخر، أن الارتفاع إلى مستوى عبوديته يتطلب قدرا كبيرا من الطهر والشرف والأدب. ولنشرح هذه الكلمات بإيجاز: هناك من ينكر الألوهية، وفي عالمنا جماهير كثيفة ودول مسلمة تقوم على الإلحاد. لكننا نحن المسلمين نصحو وننام، ونغدو ونروح، وفي أعماقنا إحساس بأن قلوبنا تدق، وعيوننا تبصر، وأيدينا تتحرك بقدرة الله، إحساس بأن الليل يُدبر، والصبح يتنفس، والكون كله يدور وفق قوانين محكمة بقدرة الله. البون بعيد بعيد بيننا وبين الملحدين. وهناك من يعرف الألوهية معرفة رديئة أو مغشوشة، ربما ظنوا أن لله ولد، أو أن له شريكا، أو أن هناك من يعقب على حكمه، أو من يراجع أمره!!. وذلك كله يرادف الجهل بالله، فإن المعرفة لا تصح إلا مع إدراك يوافق الواقع، وتتألق فيه الأسماء الحسنى والصفات العلا!. وما أكثر الذين لا يعرفون الله المعرفة الواجبة، وفي الدنيا جماهير
ص _006(1/1)
غفيرة من هؤلاء الجاهلين: (وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون). وهناك من يعرف الله على قدر ما من الحق، بيد أنه يعطي نفسه حق التصرف بغير هداه، وحق الانطلاق في الأرض وفق هواه!. والله عز وجل يطلب من خلقه أن ينقادوا له، وأن تقوم علاقتهم به على مبدأ السمع والطاعة: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون * ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون * إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين). ومعنى ذلك أن رسالة الأحياء على ظهر الأرض التقيد بأمر الله وإبداء الخضوع له، والله شرع لعباده النظام وهم شرعوا لأنفسهم الفوضى. نعم، الله أمر ونهى لا لنفع يعود عليه أو ضر يتقيه، إنما هي مصلحة البشر. وقد تجاهل الناس رسالتهم، ونسوا ربهم، وشرعوا لأنفسهم، فماذا كسبوا؟ كسبوا أزمات الجوع والخوف!! إن الساسة أجهدوا ذكاءهم في الشرق والغرب حتى درت الأرض السمن والعسل، ثم جمدوا ذلك الخير كله في أسلحة الدمار الشامل، وبقيت الأمم تلهث وراء الضرورات المضنية؟ ألا ما أشأم العصيان وأقل جدواه مهما صاحبه من ذكاء وحضارة! إن نصف الجهد في تحصيل الأقوات لو بُذل في الأدب مع الله وابتغاء رضاه، لكسب الناس الدنيا والآخرة معا. إنني أنظر إلى الكفاح الوحشي في كسب الرزق، وإلى كل جبين مُقطب وعين مكسورة، ثم أذكر الحديث القدسي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ: يقول الله تعالى : " يا ابن آدم تفرغ ص _007(1/2)
لعبادتي أملأ صدرك غنى، وأسد فقرك، وإلا تفعل ملأت صدرك شغلا، ولم أسد فقرك ". وأعرف أن بعض الناس قد يسارع إلى إنكار هذا الحديث، يحسب أن المقصود منه العكوف في المحاريب! وما درى هؤلاء أن جوهر العبادة إسلام القلب والوجه لله، ثم تغبير القدم في ميدان الكدح الشريف دون جزع ولا هوان. إن العبادة كما هي ضراعة وتسبيح، قدرة على امتلاك الحياة وتسخيرها لله، ولإعلاء اسمه. بل إن الوعي الصحيح بحقوق الله يرتبط بالمعنى الثاني أكثر من ارتباطه بالمعنى الأول. المعنى الأول علم، والمعنى الثاني تدريس لهذا العلم ونشر لحقائقه وجهاد دونه، وهذا عمل الأنبياء ومن سار في آثارهم. والعبودية لله درجة من الكمال لا تُتاح لكل أحد، بل يرشح لها من استجمعوا خصالا معينة. هناك عارفون بالله، ولكن المعرفة تتفاوت وضوحا وغموضا وسطحية وعمقا. وهناك مطيعون لله، ولكن الطاعة تتفاوت نشاطا وكسلا، وخفة وثقلا، وتكلفا وترحيبا. والعبودية الكاملة إنما يحظى بها من أشرق يقينه وطار إلى ربه بجناح من الشوق والحب. وفي طباع الناس حب لأنفسهم ربما سيطر على مسالكهم كلها، وهؤلاء محجوبون عن الله أبدا، وليس يرقى إلى درجة العبودية إلا امرؤ أحب الله، وأحب فيه، واكترث بشؤون غيره، وهش لمصالح الخلق، وضاق بآلامهم. ص _008(1/3)
في ميدان العلم والدراسة ناس منسوبون لله لأنهم مرتبطون بحقائق الوحي لا يحيدون عنها يساق فيهم قوله تعالى: (ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون). وفي ميدان الجهاد الدامي ناس منسوبون إلى الله يحملون أعباء الكفاح بحقد، ولا ينكشفون تجاه الهزائم المرة، فيهم يقول الله : (وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين). إن النفس التي يقول الله لها: (فادخلي في عبادي * وادخلي جنتي ) نفس من طراز خاص، نفس استراحت إلى الله وتعاليمه، وآثرته على غيره من مغريات المال والجاه، ولم يكن ذلك خاطرا مساورا بل كان صيغة حياة، وتحديد وجهة. وهذا معنى النداء العالي: (يا أيتها النفس المطمئنة * ارجعي إلى ربك راضية مرضية * فادخلي في عبادي * وادخلي جنتي). ذوو الحرمة بيننا يأبون أن يصادقوا مختل الفكر، أو معتل الخلق، أو معوج السلوك، فكيف يرتضي رب العالمين أن ينتسب إليه سقيم العقل، هابط السجايا، مضطرب السيرة؟ إن مقترفي الآثام دون درجة العبودية المرموقة، والجنة مأوى لمن طابت سريرته، واستقامت خليقته، وقويت بالله صلته!. وما أزعم العصمة لمن بلغ درجة العبودية، فإن الخطأ طبيعة الناس ولكن عباد الله الصالحين إذا أخطأوا مسحوا أخطاءهم بعبرات الندم حتى لا يبقوا لها أثرا. ص _009(1/4)
شغفت بسير العباد الصالحين، وحاولت أن أقبس منها شعاعا استضىء به. كنت بقلبي مع موسى في مدين، وهو يحس لذع الوحشة والحاجة ويقول: (رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير). وكنت مع عيسى وهو يواجه مُساءلة دقيقة ويدفع عن نفسه دعوى الألوهية: (ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد). وكنت مع إبراهيم وهو بوادي مكة المجدب يسلم ابنه للقدر المرهوب، ويسأل الله الأنيس لأهله: (ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون). غير أني انبهرت وتاهت مني نفسي، وأنا بين يدي النبي الخاتم محمد بن عبد الله، وهو يدعو ويدعو. لقد شعرت بأني أمام فن في الدعاء ذاهب في الطول والعرض لم يؤثر مثله عن المصطفين الأخيار، على امتداد الأدهار. ولست في مقام مفاضلة بين أحد من النبيين، إنها حقيقة علمية رأيت إثباتها في صفحات قلائل، مشفوعة بالدلائل التي تزدحم حولها. وقد نقول: أعلى جبل في الأرض جبل كذا في الهند! وما نقصد النيل من الجبال الأخرى، إنه ذكر حقيقة. قد نقول: إن الشمس أكبر من القمر سبعين ألف ألف مرة. ليكن! ذاك تقرير حقيقة. ص _010
وفي هذا الكتاب سياحة محدودة في جانب شريف من جوانب السيرة، جانب الذكر والدعاء. ما فيه من توفيق هو محض الفضل الأعلى، وما قد أخطئ فيه هو رشح نفسي الأمارة بالسوء. ورجائي أن يقبل ربي هذه الكلمات في ميزان الحسنات، كما أرجوه - تبارك اسمه - أن يقبل صلواتي على النبي العربي المحمد، وأن يسعدنا جميعا بشفاعته. محمد الغزالى ص _011(1/5)
كيفَ عَرَّفنا محمدٌ بالله أنا أحد الألوف المؤلفة التي تؤمن بالله العظيم، وتسبح بحمده، وتقر بجلاله ومجده، وتنتعش بنعمته ورفده. ولقد عرفت هذا الإله الكبير عن طريق النبي العربي المحمد. قرأت كتابه، ثم درست سيرته، فتجاوبت فطرتي مع رسالته، واستراح فكري وقلبي إلى دعوته، وأصبحت واحدا من جماهير ضخمة رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ نبيا ورسولا. كان في الناس من لا يعرف الله أصلا، فأنار محمد بصيرته، وقاده من ضميره إلى مولاه. وكان هناك من يعرفه معرفة فاسدة، يظن له ولدا يشفع، أو شريكا ينفع، فجاء محمد- عليه الصلاة والسلام- يقرر عقيدة الوحدانية المطلقة، وينفي أن يكون لله ابن أو ابنة، أو ند أو ضد، أو شبيه في العظمة أو معقب في الحكم: (أم اتخذوا من دونه أولياء فالله هو الولي وهو يحيي الموتى وهو على كل شيء قدير * وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ذلكم الله ربي عليه توكلت وإليه أنيب * فاطر السماوات والأرض جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن الأنعام أزواجا يذرؤكم فيه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير * له مقاليد السماوات والأرض يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنه بكل شيء عليم) ص _012(1/6)
ومعرفة محمد بالله لا تسبقها معرفة في الأولين والآخرين، لأنها معرفة تنبع من شهود لا يخبو سناه، ولا يغيم ضحاه. والمسلم المتأسي برسوله يحس أن لهذه المعرفة سمات خاصة تبدو في حديثه ـ عليه الصلاة والسلام ـ فهي واضحة صادقة حارة نفاذة؟ نعم، لا غموض ولا افتعال في حديث هذا النبي عن الله، وفي ربط الناس به. وللكلام الإنساني درجة حرارة معينة يموت دونها فلا يترك أثرا، ولا يبلغ هدفا، وعندما يذكر محمد ربه راغبا أو راهبا يشتد النبض في الكلمات المنسابة، وتحتد العاطفة في المشاعر الحارة فلا يملك قارئ أو سامع إلا أن يخشع ويستكين لله رب العالمين. كنت أتابع يوما درسا في عالم الأفلاك حيث تقفز الأعداد إلى شطحات تسبق الخيال، وتقاس المسافات بأرقام تنقضي قبل إحصائها الآجال. وتضاءلت في نفسي، ثم عدت إلى مواقع الأقدام من أرضي، ونظرت إلى ما تحت الثرى، وعلمت أني لا أدري، ولا أرى، ترى ما هناك في أعماء هذه الكرة حتى النقطة المكشوفة من سطحها في الجانب الآخر؟ أشياء كثيرة نجهلها كل الجهل. قلت: لكن الله وصف نفسه فقال: (الرحمن على العرش استوى * له ما في السماوات و ما في الأرض و ما بينهما و ما تحت الثرى * و إن تجهر بالقول فإنه يعلم السر و أخفى * الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى) إن اللمعة المضيئة عند سدرة المنتهى كالحبة المستخفية في ظلمات الأرض، سواء في علمه- تبارك اسمه- وهو علم مسطور في سجل بين دقيق. وملأت أقطار نفسي عاطفة إعجاب بهذا الخالق الأعلى، بيد أن الكلمات المعبرة تقاصرت ثم احتبست، وشاء ربي أن يلهمني ترديد كلمات تُنفس عما بي، فإذا الكلمات المعبرة في حديث رواه علي بن أبي طالب ص _013(1/7)
يصف صلاة النبي الكريم جاء فيه ".. وإذا ركع يقول في ركوعه: اللهم لك ركعت وبك آمنت ولك أسلمت، خشع لك سمعي وبصري ومخي وعظمي وعصبي" ، وإذا رفع رأسه من الركوع يقول: "سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد ملء السموات وملء الأرض وملء ما بينهما وملء ما شئت من شيء بعد "، وإذا سجد يقول في سجوده: "اللهم لك سجدت وبك آمنت ولك أسلمت، سجد وجهي للذي خلقه وصوره وشق فيه سمعه وبصره. تبارك الله أحسن الخالقين " . في هذه المناجاة ترى الألوهية الكاملة والعبودية الكاملة. بين يدي بديع السموات والأرض يجثو عابد مُلهم، فيهمس في ركوعه وسجوده بكلمات تصور ما ينبغي أن ينطق به كل فم تحية لذي الأسماء الحسنى! إن المسلم الأول- وهذا ترتيب محمد بين النبيين والصديقين والشهداء والصالحين- له فن في الذكر والشكر والإنابة والدعاء لم يُحفظ مثله لبشر، وسنلقي نظرة على ما اثر عنه- عليه الصلاة والسلام- لنجلو هذه الحقيقة. رجعت البصر في كتب مقدسة لأديان أخرى، فوجدتها كلها دون ما حوى القرآن الكريم من إعظام لله، وتفصيل لأمجاده ومحامده ؛ لقد ذكر القرآن أسماء الله الحسنى مئات المرات في تضاعيف قصصه وتشريعه ووصفه لمشاهد الكون، ومشاهد البعث، ورفض أن يكون الثناء على الله نظريا لا يتحرك به فؤاد ولا يرقى به سلوك، ثم ترجم النبي العابد محمد عليه الصلاة والسلام هذا المنهج في نواحي حياته كلها فصار إنسانا ربانيا ترنو بصيرته إلى الله ويباشر كل شيء في الدنيا باسمه، كأنه منه على مرأى ومسمع. إن الغنى بالله لا تدنيه مشاعر الرغبة والرهبة، والقوي بالله لا تقلقه ص _014(1/8)
أعداد القلة والكثرة، والمراقب لله تستوي عنده الخلوة والجلوة، وطالب الآخرة لا تستخفه مآرب الحياة الدنيا. وقد كان محمد- عليه الصلاة والسلام- عامر القلب بربه، عميق الحس بعظمته، وكان ذلك أساس علاقته بالعباد ورب العباد. واسمع إليه في هذا الدعاء الجامع: "اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك علي الخلق، أحيني ما علمت الحياة خيرا لي، وتوفني إذا علمت الوفاة خيرا لي. اللهم إني أسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وأسألك كلمة الحق في الرضا والغضب. وأسألك القصد في الفقر والغنى. وأسألك نعيما لا ينفد، وأسألك قرة عين لا تنقطع. وأسألك الرضا بعد القضاء. وأسألك بَرد العيش بعد الموت. وأسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مُضلة". "اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين.. ". ومن مجون الناس أن يقول فريق منهم: كان محمد مدعيا للنبوة! وَيْحكُم!!! فأين الصدق إذن؟. إن فم بشر من أزل الدنيا إلى أبدها لم يناج الله بأشرف من هذا الكلم، ولم يتوجه إليه بأحر من هذه الضراعة. من يكون صادقا إن كان محمد مُزورا؟ والواقع أن المكذبين لمحمد في درك من العجز الفكري والروحي يُعي الحلماء، إن تحديثهم عن محمد كتحديث الهوام عن الكواكب السيارة. (والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون من مكان بعيد). ص _015(1/9)
الحب أساسه ، والشوق مركبه محنة البشر أنهم مكلفون بالارتقاء إلى الملأ الأعلى على حين أنهم خلقوا من حمأ مسنون! وهم ليسوا مكلفين أن يكونوا ملائكة، فهيهات هيهات ما داموا محكومين بأجهزة هذا الجسد ومطالبه المتجددة. هم مكلفون أن يقاوموا الإسفاف بالتسامي، والنسيان بالذكر، والأثرة بالأخوة. هم مكلفون ـ بعد ما وهبوا الحياة ـ أن يجعلوها لله، فلا تكون أنفسهم شغلهم الشاغل، بل يكون واهب الحياة أملهم الماثل، وما فرضه هو مصدر نشاطهم، وأساس حراكهم وحماسهم. وفي هذا الكلام إجمال يحتاج إلى إيضاح، إن الملائكة لا تأكل، ولا تتكلف زرعا ولا حصادا، والبشر الذين يأكلون يضاهئون الملائكة تماما لو أنهم زرعوا وحصدوا وأكلوا باسم الله. ووقتهم المبذول في ذلك كله يساوي وقت الملائكة المبذول في التسبيح والتحميد إذا هم لحظوا قدرة الله في الإنبات والإنضاج، وفضله في الإطعام والكسوة والمأوى. وقد بعث الله رسله من بدء الخليقة ليسيروا بالأمم على هذا الدرب، لم يبعثهم ملائكة، لأنه لا علاقة للملائكة بهذا النوع من التكاليف. ص _016(1/10)
وقد عجب الجاهليون من ذلك وقالوا: (أبعث الله بشرا رسولا * قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا * قل كفى بالله شهيدا بيني و بينكم إنه كان بعباده خبيرا بصيرا). والنبي العربي الخاتم ضرب من نفسه المثل في إمكان أن يعيش البشر على مستوى الملائكة ذكرا لله وشكرا، والأفق الذي رفع الناس إليه لا تلمح فيه إلا صفوف المصلين المسبحين بحمد ربهم، أو صفوف المجاهدين الذين بذلوا في ذات الله أنفسهم وأموالهم. نعم، إن محمدا أنشأ جيلا من الناس يباهي الله بهم ملائكته، لأنهم قطعوا كل الجواذب الأرضية وكل إغراءات هذه الدار العاجلة، ومشوا وراء نبيهم المتفاني في مرضاة ربه، الناشد لوجهه وحده، المرتبط بهذه الكلمات النقية: (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين * لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين). لا يعرف محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ من احتبس في سجن الدنايا أو قعد عن نصرة الحق والخير. وينابيع الحياة العاطفية والفكرية في نفس الرسول الكريم "محمد" بن عبد الله تجيء من معرفته الساطعة بالله، وذكره الدائم له، وأخذه بنصيبه الضخم من معاني الكمال في أسمائه الحسنى. ذلك أن الله خلق آدم على صورته، واستخلفه في هذه الأرض ليكون نائبا عنه، ومكنه، بل كلفه أن ينشط في استغلال خيرها وامتلاك أمرها وأوصاه أن يحترم أصله الإلهي العريق، فلا يتدلى عنه إلى نزعات الطين ووساوس الشياطين. ص _017(1/11)
يجب أن يكون عالما ماجدا، قادرا كريما، رحيما مُنعما، وهابا إلى آخر ما ترمز إليه أسماء الله الحسنى من صفات الكمال، وشارات العظمة والجمال. والعالم ـ من أزله إلى أبده ـ لا يعرف إنسانا استغرق في التأمل العالي ومشى على الأرض وقلبه في السماء، كما يعرف في سيرة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم. إنه خير من حقق في نفسه، وفي الذين حوله حياة الإنسان الكامل: الإنسان الرباني المستخلف في ملكوت الله، لينقل إليه أطرافا من حقيقة هذه الخلافة الكبيرة. وفي المواريث العقلية والعاطفية التي تركها هذا النبي الكريم، ترى كل العناصر التي يستطيع بها أي إنسان أن يقوم بوظيفته الصحيحة في الحياة. انظر إلى قوة العاطفة ودفقها في هذه المناجاة الحارة: روى الإمام أحمد وأبو داود والنسائي عن زيد بن أرقم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول دبر صلاته: "اللهم ربنا ورب كل شيء". "أنا شهيد أنك الرب وحدك، لا شريك لك ". "اللهم ربنا ورب كل شيء، أنا شهيد أن محمدا عبدك ورسولك ". " اللهم ربنا ورب كل شيء، أنا شهيد أن العباد كلها أخوة". "اللهم ربنا ورب كل شيء، اجعلني مخلصا لك وأهلي، في كل ساعة من الدنيا والآخرة". "يا ذا الجلال والإكرام، اسمع واستجب ". "الله الأكبر الأكبر، نور السموات والأرض ". ص _018(1/12)
"الله الأكبر الأكبر، حسبي الله ونعم الوكيل ". "الله الأكبر الأكبر". إن ألفاظ اللغة حين تعجز عن ملاحقة هذا الجيشان المنساب في كل دعوة تجعل الرسول المنيب المتعبد يلجأ إلى التكرار في العبارة الواحدة ليُنفس عما استكن في صدره من روعة ومحبة وإجلال. إنه في ظاهره ترداد للفظ واحد، وهو في باطنه تعبير عن معان متجددة من الولاء والهيام. ويستوقفك في هذا الدعاء أن تتوسط شهادة النبي لشخصه بالرسالة، بين توحيد الله، والإقرار بأن العباد كلهم أخوة. ما معنى أن يقول محمد لربه: "أشهد أن محمدا عبدك ورسولك "؟ ذلك ضرب من الإصرار على تحمل الأمانة وإبلاغ الرسالة للناس كافة مهما كذبوا بها، وتنكروا لصاحبها. ص _019
أربع وعشرون ساعة من حياة عريضة لنتأمل في هذه الصورة، صورة يوم واحد من حياة نبي الإسلام. لقد صحا من نومه قبل الفجر بيقين، وظلمة الليل لا تزال مخيمة على كل شيء، إنه يتحرك مع طلائع الصبح المقبل قائلا : "الحمد لله الذي رد إلي روحي، وعافاني في جسدي، واذن لي بذكره ". انظر كيف يستقبل الحياة بترحاب وتفاؤل: "الحمد لله الذي رد إلي روحي". إن العمر الذي ملكناه نعمة نحمد الله عليها، وينبغي أن نحسن استغلالها. إن الحياة فرصة النجاح لمن أراد النجاح، ولذلك امتن الله بالشروق والغروب على عباده: (الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون). وعظمة الحياة في العافية. ما أجمل أن يكون المرء سليم البدن، تنهض أجهزته وعضلاته بوظائفها كلها دون إعياء أو ملال. إن المسلم عندئذ ينطلق في كل أفق ليؤدي واجباته باقتدار ورغبة. وذلك سر حمد الله على العافية المتاحة. ونقف طويلا عند قول الرسول: "وأذن لي بذكره ". أرأيت أدب ص _020(1/13)
العبودية في شمائل العابد الرقيق؟ إن منحه يوما جديدا إيذان له باستئناف العبادة من مطلع الفجر. ويبدأ العبد الشكور بذكر ربه بكلمات يقطر اليقين والحب من كل حرف فيها، يقولها في الصباح والمساء على سواء "اللهم إني أسألك العافية في الدنيا والآخرة. اللهم أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي. اللهم استر عوراتي وآمن روعاتي. اللهم احفظني من بين يدي ومن خلفي وعن يميني، وعن شمالي، ومن فوقي، وأعوذ بعظمتك أن اغتال من تحتي". قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لي: " قل إذا أصبحت وإذا أمسيت: اللهم عالم الغيب والشهادة، فاطر السموات والأرض، رب كل شيء ومليكه، أشهد ألا إله إلا أنت، أعوذ بك من شر نفسي، وشر الشيطان وشركه " وفي رواية: "وأن أقترف على نفسي سوءا، أو أجره إلى مسلم ". مع طلائع اليوم المقبل يقول الرسول هو وأصحابه: "أصبحنا على فطرة الإسلام وكلمة الإخلاص، وعلى دين نبينا محمد، وعلى ملة أبينا إبراهيم حنيفا، وما كان من المشركين ". وإقرار الأصحاب والأتباع أنهم على دين نبيهم محمد ظاهر، فما معنى أن يقول ذلك النبي نفسه؟ لقد تكرر في أدعية كثيرة أن يشهد الرسول لنفسه بالنبوة، أو بأن محمدا حق. وأرى أن ذلك لمقاصد حسنة منها: أنه أول ملتزم بتنفيذ ما جاء به، فكثير من أهل الدين ورؤسائه يحسبون الدين بلاغا للآخرين وتكليفا، أما هم ففوق المساءلة به. ومنها: مراغمة الكفار والمنكرين الشانئين، وجعل ذلك حقيقة لا تنال منها الشبهات والأوهام. ص _021(1/14)
ومنها استشعار نعمة الله على صاحب الرسالة، وإبراز الرضا والسعادة بها شكرا لله الذي اصطفى. وقد كان القلب الشريف يجيش بمشاعر التقدير والإعظام لفضل الله منذ يصبح، ويترجم عن ذلك بكلمات رائقة: "اللهم ما أصبح بي من نعمة أو بأحد من خلقك فمنك وحدك لا شريك لك، فلك الحمد، ولك الشكر". "اللهم إني أصبحت منك في نعمة وعافية وستر، فأتمم نعمتك علي وعافيتك، وسترك في الدنيا والآخرة". وروى أبو هريرة أن رسول الله قال: "ما من رجل ينتبه من نومه فيقول: الحمد لله الذي خلق النوم واليقظة، الحمد لله الذي بعثني سالما سويا، أشهد أن الله يحيى الموتى، وهو على كل شيء قدير.. إلا قال الله تعالى: صدق عبدي ". وجميل أن يثني المرء على مالك الملك، فيستمع الله إلى الثناء المهدى، ويقبله بالتصديق، ونسبة القائل إلى عبادته، يقول عنه: صدق عبدي. وعن أبي مالك الأشعري أن رسول الله عظيم قال: "إذا أصبح أحدكم فليقل: أصبحنا وأصبح الملك لله رب العالمين، اللهم إني أسألك خير هذا اليوم، فتحه ونصره ونوره وبركته وهداه، وأعوذ بك من شر ما فيه، وشر ما بعده؛ ثم إذا أمسى فليقل مثل ذلك ". إن الناس يعيشون داخل كهف معتم من همومهم الحقيقية، أو المتخيلة. وإنه لمحزن أن عقولا ذكية لا ترى أبعد من جدران هذا الكهف، وأن قلوبا فياضة بالأسى لا تحس إلا ظلمته، وضيقه. إن الرسول العارف بربه يستنكر هذا الانقطاع المخزي فيقول: "ما من ص _022(1/15)
صباح يصبح العباد إلا مناد ينادي: سبحان الملك القدوس ـ وفي رواية ـ إلا صرخ صارخ: أيها الخلائق سبحوا الملك القدوس. أكاد أقول: إن فؤاد محمد وحده، وهو الذي أصاخ إلى صوت الصارخ المهيب بالبشر أن يمزقوا حُجب الغفلة، وأن يتوبوا إلى الملك القدوس. وافتنانه ـ صلى الله عليه وسلم ـ في التذكير هو أثر استغراقه في الذكر، ورؤيته لذي الجلال. وجمهور الفقهاء لا يُلزم الأمة بترديد الأذكار والأدعية التي نقلناها وننقلها هنا. إن ترديدها مستحب وحسب، وهذا صحيح. بيد أني أرى طول التأمل في هذه الأذكار والضراعات لا بد منه حين يعتل القلب، وتضعف بالله علاقته، فإن أثرها قوي في تعريف المرء بربه، وتبصيره بمعاني الأسماء الحسنى. إن الإيمان الغامض قليل الجدوى، والإيمان الفاتر أعجز أن يهيمن على السلوك، أو يكبح الهوى. والواقع أن أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يحتلوا في الإيمان مكان القمة، ولم يغيروا التاريخ الإنساني، ويقيموا حكما مكان حكم، وأخلاقا مكان أخلاق، إلا لقربهم من حياة الرسول، واقتباسهم من سناه، وسريان الإخلاص من قلبه إلى قلوبهم، وحب الله من فؤاده إلى أفئدتهم. هذه طباع الناس، ربما هاج أشواقهم الهامدة شوق حار، على ما قيل: وذو الشوق القديم وإن تسلى مشوق حين يلقى العاشقينا وأرى أن الاستماع إلى النبي وهو يدعو، واستبطان عواطفه وهو يناجي يشعل البصائر المنطفئة، ويدفعها دفعا إلى الإقبال على الله. وليكن هذا اللون من الأدعية نافلة، فهناك قدر مفروض من الاتصال ص _023(1/16)
بالله يتصل بالمسجد، والصلوات المكتوبات على كل مسلم. إنه خلال أربع وعشرين ساعة لا بد من الوقوف بين يدي الله خمس مرات، وقد تفترض الجماعة أو تكون سنة مؤكدة، ومكانة المسجد في المجتمع الإسلامي رفيعة، وسوف يستغرب الحديث عنها أناس أضاعوا الصلاة، واتبعوا الشهوات. مع التباس الخيط الأبيض والأسود من الفجر يبدأ الخطو إلى المسجد، وإغراءً لذلك يقول الرسول الكريم: "بشر المشائين إلى المساجد في ظلم الليل بالنور التام يوم القيامة"، (يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم)، (يقولون ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا). وفي المشي إلى المساجد لحضور الجماعات، صح قول الرسول أنه: "ما يرفع الإنسان قدما ويضع أخرى، إلا كتبت له حسنة، ومُحيت عنه سيئة، ورفعت له درجة". وروى ابن عباس أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ خرج إلى الصلاة بعد سماع الأذان وهو يقول: "اللهم اجعل في قلبي نورا وفي لساني نورا واجعل في سمعي نورا واجعل في بصري نورا، واجعل من خلفي نورا ومن أمامي نورا، اللهم أعطني نورا). وقد أعطاه الله ما سأل، فكان داعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا! وليت شعري ما تكون الإنسانية لو خلت من محمد؟ ومن سريرته النقية وبصيرته الوضاءة؟ ومن رسالته التي غسلت غسلا ما علق بعقيدة التوحيد من لوثات الأفاكين والمخرفين. لقد ارتبط بالمسجد، وجعل تعلق القلوب به أملا حلوا، وأحيا بسيرته ص _024(1/17)
دعاء أبيه إبراهيم لما قال: (رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء). لقد تحولت الصلاة في سيرته من تكليف تصحبه المعاناة إلى سعادة تستريح إليها النفس، وهو القائل: "وقرة عيني في الصلاة". وفي رواية كان إذا دخل المسجد يقول: "أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم " قال: فإذا قال ـ المسلم ـ ذلك قال الشيطان: حُفظ مني سائر اليوم. وفي رواية: كان رسول الله يكتمل إذا دخل المسجد حمد الله تعالى وسمى وقال: "اللهم اغفر لي وافتح لي أبواب رحمتك ". وإذا خرج قال مثل ذلك، وقال: "اللهم افتح لي أبواب فضلك ". ما كان أشد حبه للصلاة كان إذا سمع المؤذن يقول: قد قامت الصلاة يقول:"أقامها الله وأدامها". ونحن مأمورون أن نردد كلمات الأذان ثم ندعو للرسول، وهنا لطيفة يحسن إثباتها، إننا نقول: اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة آت محمد الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته. ربما تساءل سائل: لماذا لم تتجانس الكلمات في التعريف، فيقال: ابعثه المقام المحمود الذي وعدته؟ والجواب أن النبي فرح بالكلمة التي ذكرها القرآن الكريم وهو يبشر العابد المتهجد بالجائزة التي تنتظره (ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا). لقد تشبث بالكلمة المنبئة عن مكانته في الآخرة، وطلب من أمته أن تدعو الرحمن بسوق الجائزة وإنجاز الوعد، ومكافأة قوام الليل الذي تورمت قدماه من طول المناجاة والتلاوة، والركوع والسجود. ص _025(1/18)
إن لمحبة الله فى قلب هذا الإنسان المتبتل مكانة لا يزحمها شىء أبدا. ولقد ربى ـ عن طريق المحراب ـ الرجال الذين قادوا الإنسانية بعده ثقافيا وسياسيا، فما رأت الدنيا حضارة أشرف ولا أتقى مما صنع هؤلاء الربانيون من رجال محمد. رباهم بوحي قريب العهد بربه، فإذا الصحراء الغفل تتحول إلى معهد يخرج أعرف الناس بالقيم والشرائع، وأحق الناس بالإمامة والسياسة. كانت القلوب ـ وهو يقرأ القرآن ـ تكاد تطير من الروعة والخشوع وكان الأصحاب يرمقونه وهو يرثيهم، فما يملأ أحد عينه منه مهابة وإعزازا. ولقد شعر الرسول الخاتم أنه أدى رسالته عندما نظر في مرض الموت إلى المصلين في المسجد، فرآهم مقبلين على الله، خالصين للحق، فاستنار وجهه كأنه صفحة مذهبة. ذاك كل ما يريد !! ما يبغي ألا أن يلقى الله بهذا الثمر الحي لجهاده الدؤوب. تُرى هل تعود المساجد يوما مصانع للرجال كما كانت قديما؟ إن الأماكن متشابهة ولكن السكان... غير ما نهوى!. كأن مجنون ليلى كان يصف مشاعرنا عندما قال: أما الخيام فإنها كخيامهم وأرى نساء الحي غير نسائها ص _026(1/19)
أرق الدعوات بعد الطعام والشراب والمرسلون بشر لابد لهم من تغذية رتيبة، ودعك من تساؤل المشركين: ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق؟ إنه تساؤل غبي فالأكل لا يستغني عنه جسد، وإلا فكيف يحيا؟! المهم أن نعرف ماذا يأكل؟ وكيف؟. إن الذين يعيشون لغرض ضخم يطوون رغباتهم المادية طيا في سبيل ما يبتغون، وتنشأ لديهم مآرب أخرى قد تذهلهم عن أشهى المتاع. إننا في عصر تظله حضارة مادية بادية اللهفة على اللذات العاجلة. وقد يقبل الشرفاء فيها أن يقوموا بتضحية ما لقاء أمر عظيم، بيد أنهم لا يرون تلك الغاية التي يسعون لها. أما محمد والجيل الذي استمع إليه فنسق آخر من الفكر العالي. واسمع إلى هذا الخبر: رأى النبي عمر بن الخطاب وعليه ثوب بدا وكأنه جميل، فقال له: "أجديد هذا أم غسيل؟ " فقال: بل غسيل، فقال له الرسول داعيا: "البس جديدا، وعش حميدا، ومت شهيدا". القتل في سبيل الله أحد شارات السعادة التي طلبت لعمر مع العيش الحميد، والثوب الجديد.. هكذا اختلطت لذات الدنيا والآخرة وعيهم وأملهم، أفترى أولئك الرجال يعيشون لإقامة المآدب الدسمة؟!. ص _027(1/20)
إننا لا نحقر طلب الطعام، فتلك طبيعة البشر كما بينا، ومن حق الناس أن ينعموا بضرورات مكفولة، ومرفهات كذلك لطيفة، على أن ذلك لا يعني الشره، وإلف التنعم، والجزع من تحمل متاعب الجهاد والحصار. وقد كان محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذا قدرة مستغربة على العيش الغليظ والمقادير التافهة من الأغذية، ولم يؤثر عنه اكتراث بأطايب الطعام وغاليه، ومع ذلك فما أمر بشظف، ولا حث على زهد، ولا حرم حلالا. وكان حفيا بنعمة الله يعظمها ويشكرها ويغالي بها، ويقول: "إذا أكل أحدكم فليذكر اسم الله تعالى في أوله، فإذا نسي أن يذكر اسم الله تعالى في أوله فليقل: باسم الله أوله وآخره ". وكان إذا فرغ من طعامه قال: "الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وجعلنا مسلمين " ويقول: "إن الله تعالى ليرضى عن العبد يأكل الأكلة فيحمده عليها، ويشرب الشربة فيحمده عليها". إن هناك أناسا يملأون أجوافهم بالطعام والشراب، ثم يمضون لشأنهم ما يدرون أن لله عليهم حقا، إنهم كأي دابة دست فمها في مرودها حتى شبعت وحسب. هذا السلوك الحقير لا يليق بمؤمن. وقد كان إمام النبيين ـ كدأبه أبدا ـ يفتن في حمد الله بعد الطعام ـ فمما روي عنه قوله: "اللهم أطعمت وسقيت، وأغنيت، وأقنيت، وهديت، وأحييت، فلك الحمد على ما أعطيت ". وقوله: "الحمد لله الذي أطعمني هذا ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة". وفي رواية كان رسول الله إذا أكل أو شرب قال: "الحمد لله الذي أطعم وسقى، وسوغه، وجعل له مخرجا ". أو: " الحمد لله الذي من علينا، وهدانا، والذي أشبعنا وأروانا، وكل الإحسان آتانا". ص _028(1/21)
إن هذه البشاشة في استقبال النعمة، وشكر مُسديها الأعلى، لها دلالة يجب إبرازها، فقد كان النبي الخاتم إنسانا بعيدا عن العلل والآفات بل كان جلدا يهزم المصارعين، وفارس معارك يهرع للقاء المغيرين. والبسطة في الجسد حين تسد كل ثغرة، وتلبي كل واجب تُعد خيرا عظيما. وصاحب العافية يطل على الدنيا من أرحب آفاقها، ومن حقه أن يتزود من الطعام بما يعين عليها. ولم يحرم الله مأكلا يمد الجسد بالطاقة أو يبني ما تهدم من الخلايا في كدح الحياة الطويل. ومن زعم غير ذلك فهو يفتري على دين الله، إنما كره الإسلام الصرف المتلف، والتشبع المورث للبطنة، والبدانة، وسائر الأمراض. ولا يختلف الدين والطب في هذه الأمور، وقد حسب النبي عليه الصلاة والسلام عدد المشركين في بدر بين ألف وتسعمائة عندما علم أنهم يذبحون يوما تسعا، ويوما عشرا من الإبل. وعندما يُطعم مائة من الرجال جملا فإن نصيب كل واحد من اللحم يكفيه ويغنيه. على أن النبي عليه الصلاة والسلام في أحيان كثيرة كان يكتفي بلقيمات وتمرات، وعندما لم يكن في البيت إلا الخل، قال: "نعم الإدام الخل " وهذه هي الرجولة المرضية القوية لا تستذلها أزمة عارضة، ولا تفقد تماسكها عندما تفقد بعض ما ألفت من زاد، أو متاع. والبشر أجمعون لابد لهم من نفض فضلاتهم بعيدا عن العيون، وقد شرع الإسلام تعاليم من الإنقاء والتطهر تليق بما ينبغي للبشر من وضاءة وجمال ومروءة. وقد كان النبي إذا خرج من الخلاء يقول: "غفرانك. الحمد لله الذي أذهب عني الأذى، وعافاني" ص _029(1/22)
ومن ألطف وأجمل ما روي عنه في ذلك: "الحمد لله الذي أذاقني لذته وأبقى فى قوته، وأذهب عني أذاه ". والضمير في الجمل الثلاث يعود إلى الطعام. لكأن هذه الكلمات وضعها نفر من علماء الطب والأخلاق والبلاغة. فإنها ذكرت فضل الله فيما يمر من طعام شهي، وفيما ادخره البدن من أسباب حياته ونمائه، ثم فيما استبعده هذا البدن من نفايات تضر ولا تسر. أرأيت أجمل من هذا الحمد، وأرق من هذا السرد؟ إن النبى الإنسان دائم الاستحضار لآلاء الله، مسارع إلى شكرها ما استطاع. * * * * ص _030
مجالس النبوة قد يحتاج المرء إلى العزلة كي يحتفظ بقلبه مشرقا وفكره ثاقبا، وعلماء النفس يقولون: إن مستوى التفكير العالي يهبط عندما يخالط الإنسان الجموع. وهذا صحيح بالنسبة إلى عظماء البشر العاديين، أما رسل الله فإنهم يرتفعون بالجماهير، ولا تهبط بهم الجماهير. وقد كان من الأصحاب من يشكو أن يقظته العقلية في مجلس الرسول تخبو عندما يعود إلى بيته. لقد كان محمد عليه الصلاة والسلام لفرط شهوده وقوة علاقته بربه يحول الأرض سماء، والبشر ملائكة، فأصحابه من حوله يذكرون الله ويوفرونه، ويتواصون بعبادته، وأداء حقوقه. وكان رسول الله يمقت مجالس الغافلين، ويشمئز من كل تجمع خلا من ذكر الله، وفي ذلك يقول: "ما من قوم يقومون من مجلس لا يذكرون الله تعالى فيه، إلا قاموا عن مثل جيفة حمار. وكان لهم حسرة". إن المجالس التي يُنسى فيها الله، وتنفض عن لغط طويل حول مطالب العيش، وشهوات الخلق هي مجالس نتنة، وماذا فيها يستحق الخلود؟ ما يستحق الخلود إلا ما اتصل بالباقي تبارك اسمه. وإذا ضم الناس مجلس يخلط بين الدنيا والآخرة فينبغي أن يُستبقى خيره في مجلس ويُستبعد شره بهذا الاستغفار. قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "من ص _031(1/23)
جلس في مجلس فكثر فيه لغطه فقال قبل أن يقوم من مجلسه ذلك: سبحانك اللهم وبحمدك أشهد ألا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك، إلا كفر الله له ما كان في مجلسه ذلك ". وفي حديث آخر " أنه إذا كان في مجلس خير كان كالطابع له، وإن كان مجلس تخليط كان كفارة له ". إن الاختلاط بالناس ربما أثار التنافس على الدنيا، ربما أثار حب الظهور والاستطالة، ربما شغل الأذهان بقضايا تافهة، ربما قطع ما أمر الله به أن يوصل، من أجل ذلك كله جاء عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قلما كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقوم من مجلس حتى يدعو بهؤلاء الدعوات لأصحابه : " اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا". "اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ومبلغ علمنا، ولا تسلط علينا من لا يرحمنا ". كذلك كان النبي يختم مجالسه، فما ينفض الناس عنه قافلين إلى بيوتهم إلا وهم يخوضون في الرحمة خوضا ص _032(1/24)
ليل أبيض وينتهي سبح النهار الطويل، وتنقضي الصلوات المكتوبات، ويخلص كل امرىء بنفسه، قافلا إلى بيته ليستجم ويستريح، فهل ذلك ما يستقبل به محمد الليل الوافد؟ لو أن الفلاسفة الإلهيين يصنعون في نهارهم بعض ما يصنعه محمد في ليله لكفاهم، ولحسب لهم كدحا حسنا. إن النبي العابد يبدأ بالليل مرحلة جديدة من مراحل الإقبال على الله!. وما أكثر ما رواه المحدثون عن أذكاره وأدعيته، فعن حذيفة وأبي ذر أن رسول الله كان إذا أوى إلى فراشه قال: "باسمك اللهم أحيا وأموت ". وعن أبى هريرة، قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: " إذا أوى أحدكم إلى فراشه فليقل : باسمك ربي وضعت جنبي، وبك أرفعه، إن أمسكت نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين". وهذا الحديث شرح للآية الكريمة: (الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى). والمؤمن في تدبره للآية والحديث معا يشعر أن روحه فى يد الله، وأنه يستمد محياه لحظة بعد أخرى هبة من رب العالمين. قد يضع جنبه فلا ينهض إلا يوم النشور، فإن كان ذلك فهو يرجو الرحمة. ص _033(1/25)
وإن قام ليبدأ نهارا آخر فهو يرجو أن يحيا في ضمان الله وحفظه. أترى في ذلك المنهج أثارة من اعتداد، وغرور؟. وعن البراء بن عازب، قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة ثم اضطجع على شقك الأيمن وقل: اللهم أسلمت نفسي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، ونبيك الذي أرسلت.. فإن مت مت على الفطرة". عندما يغمض المرء جفنه ويتهيأ للكرى يترك إرادته جانبا لغيبوبة تطول أو تقصر. كثيرون يستسلمون للمجهول أما المؤمن فيسلم نفسه لربه: يفوض إليه أمره، ويلجىء إليه ظهره!. إنه وحده الحافظ، من غيره يُؤمل في دفع ضر، أو جلب خير؟ وقد يفكر المرء وهو يستعد لمنامه في مراجعة ما أصابه طول يومه من ربح أو خسارة، وما عرض له من خطأ أو صواب. والواقع أن الدعوات التي علمنا إياها الرسول الكريم تريح الأعصاب من هذا العناء، وتصل بمشاعر الرغبة والرهبة إلى مستقرها في جنب الله، وتجعل المرء قبل هجوعه يؤكد أمرا واحدا يناجي به ربه " آمنت بكتابك الذي أنزلت، ونبيك الذي أرسلت "، تلك هي الفطرة التي يستريح المسلم في مهادها الوثير. وجاء في رواية أخرى أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يقول إذا أوى إلى فراشه: " اللهم رب السموات ورب الأرض ورب العرش العظيم ربنا ورب كل شيء، فالق الحب والنوى، منزل التوراة والإنجيل والقرآن: أعوذ بك من شر كل ذي شر أنت آخذ بناصيته... أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت ص _034(1/26)
الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقض عنا الدين، واغننا من الفقر". وفي رواية أخرى عن علي رضي الله عنه أن رسول الله لمجبيه كان يقول عند مضجعه: "اللهم إني أعوذ بوجهك الكريم، وكلماتك التامة من شر ما أنت آخذ بناصيته، اللهم أنت تكشف المغرم والمأثم..، اللهم لا يُهزم جندك، ولا تُخلف وعدك، ولا ينفع ذا الجد منك الجد، سبحانك اللهم وبحمدك ". وفي رواية أخرى كان يقول : " باسم الله وضعت جنبي، اللهم اغفر لي ذنبي، واخسىء شيطاني، وفك رهاني، واجعلني في الندى الأعلى". ونلحظ في هذه الأدعية كلها أن النبي الإنسان لهج بتمجيد الله والتحدث عن عظمته. وقد قال ـ وهو يتأهب للنوم ـ كلاما لا يستطيعه غيره مع حدة الانتباه وتألق الذهن، صور به الألوهية في كمالها المطلق، وغِناها الذي يرنو إليه سائر الخلق. وهو بعد هذا الثناء الحار يستجمع ذل العباد كلهم، فيطلب حصنا من الفقر، والدين، والإثم، ووساوس الشيطان. ويطلب المغفرة، والفكاك من كل قيد أرضي يشده إلى هذه الدنيا. لأنه ينشد الانضمام إلى الندى الأعلى، إلى الرفيق الأعلى، إلى من فى السماء. إنه ما بقي في الأرض، أي ما بقي بين الناس لا يريد أن تشينه آفات الحياة، لا يريد أن يسوءه أحد، ومن ثم فهو يكره الفاقة والرذيلة، ويود من الدنيا ما يرشحه لآخرة رفيعة القدر. ولا تحسبن أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ يأخذه النعاس العميق بعد هذه الضراعات التي ناجى بها ربه، لا.. ما هي إلا ساعة ثم يستيقظ ليلي أمر الله باستئناف التسبيح والتحميد، في جنح الليل كما كان يصنع آناء النهار. ص _035(1/27)
الم يقل الله له: (واذكر اسم ربك بكرة وأصيلا * ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلا طويلا). إن قيام الليل فرض عليه وحده. لينم من ينام، أما هو فقد قيل له: (قم الليل إلا قليلا * نصفه أو انقص منه قليلا * أو زد عليه ورتل القرءان ترتيلا). والمأثور من سيرته الشريفة أنه كان يقوم بالقرآن أوقاتا متطاولة. وحدث وهو في أخريات الحلقة السادسة من عمره أن قام يصلى، وكان في البيت عبد الله بن عباس - وهو شاب في أوائل الصبا - فرأى أن يأتم بالرسول العابد، وشرع الرسول يقرأ ويقرأ والشاب القوي يكايد طول القيام، ويرقب انتهاء الصلاة.. لكن روح العابد المتبتل قهر الشيخوخة ومضى يختم سورة، ويبدأ أخرى.. قال ابن عباس: لقد هممت أن أتركه يصلي وحده، وأنصرف. لقد تورمت أقدامه من طول الانتصاب الخاشع بين يدي رب العالمين لكن الفؤاد العامر بالحب أرهق الجسد الزاحف إلى الستين فهو لا يحس وخز الألم قدر ما يحس سعادة الاستغراق، وحلاوة العبادة، وكما قيل: وإذا كانت النفوس كبارا تعبت في مرادها الأجسام وقد يستيقظ من الليل ويرمى ببصره إلى الأفق، ويشعر بأن هذا السكون السائد له ما بعده. إن الناس سوف يصيحون بين باك وضاحك، وحي وهالك، ومهتد وضال، وواجد وفاقد!. إن الأقدار تعذ لهم مع الغد المنتظر أشياء كثيرة، تُرى ما الموقف منها؟. إنه يقول: "سبحان الله ماذا أنزل من الفتن؟ وماذا فتح من الخزائن؟ ص _036(1/28)
أيقظوا صواحب الحجر ـ يعني نساءه ـ يا رب كاسية في الدنيا عارية فى الآخرة ". إنه يستعد لليوم الجديد قبل أن يجيىء بخيره وشره، يستعد له بعبادة يحشد لها أهل بيته، ينبغي أن يقمن الليل معه، وأن يتهيأن لليوم الآخر. إنه يوم يقلب الأوضاع المألوفة في عالمنا هذا، رب كاسية في الدنيا عارية في الآخرة، ورب صعلوك هنا يكون ملكا هناك. إن الآخرة هي دار الحق، ولها يجب الاستعداد. وقد ينام بعد ذلك ولكن القلب المفعم بالتقوى يقظان، فإذا تقلب لا فراشه، أو تهيأ لقيام ليلة قال: "اللهم لك الحمد أنت نور السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت قيوم السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت رب السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد، أنت الحق، ووعدك الحق، وقولك الحق، ولقاؤك حق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق، ومحمد حق، والساعة حق، اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، أنت إلهى لا إله إلا أنت ". وكان الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يرغب أمته فى استقبال الليل بكيان نقي نظيف فيقول: "طهروا هذه الأجساد، طهركم الله تعالى، فإنه لا يبيت أحد طاهرا إلا بات في شعاره ملك يقول: اللهم اغفر له فإنه بات طاهرا.. ". وطهارة البدن لا تغني عن زكاة الروح، والمرء يُعان على ليل طيب إذا دلف إلى فراشه، وقلبه مع ربه، وذكره على لسانه. عن على بن أبي طالب رضي الله عنه أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال له ولفاطمة رضي الله عنها: " إذا أويتما إلى فراشكما، أو إذا أخذتما مضاجعكما فكبرا ثلاثا وثلاثين، وسبحا ثلاثا وثلاثين، واحمدا ثلاثا وثلاثين "، وفي رواية : "التسبيح أربعا وثلاثين "، قال علي: فما تركته منذ سمعته من رسول الله، قيل له: ولا ليلة صفين قال: ولا ليلة صفين. ص _037(1/29)
لقد بقي على هذا الأدب مع الله ورسوله نيفا وثلاثين سنة حتى ليلة المعركة الرهيبة بينه وبين خصمه. وكان علي كثير الهموم، بعدت عنه الراحة في هذه الدنيا، فلم يشعر بطعمها إلا يوم ذهب إلى ربه، وقد علقت عائشة على موته المؤلم بهذا البيت: فألقت عصاها، واستقر بها النوى كما قر عينا بالإياب المسافر لكن الهموم لم تذهله عن ذكر الله قبل كل منام، بل لعله كان يهزمها ويفل حدها بهذا الذكر الموصول. وفي ترغيب الأمة كلها في طهارة البدن والروح لاستقبال الليل جاء عن أبي أمامة رضي الله عنه، سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: " من أوى إلى فراشه طاهرا، وذكر الله عز وجل حتى يدركه النعاس، لم يتقلب ساعة من الليل يسأل الله عز وجل فيها خيرا من خير الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه ". وعن عائشة قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أوى إلى فراشه قال: "اللهم أمتعني بسمعي وبصري، واجعلهما الوارث مني، وانصرني على عدوي، وأرني منه ثأري، اللهم إني أعوذ بك من غلبة الدين، ومن الجوع فإنه بئس الضجيع ". في هذا الحديث يرجو الرسول ربه أن يبقيه سليم الحواس طول عمره، وأن يمتعه بسمعه وبصره إلى أن يموت، كما يدعوه النجاة من غلبة الديون وسطوة الجوع. إن هذا النبي الإنسان ينشد الحياة القوية العزيزة البعيدة عن متاعب البأساء والضراء، وهذا حق كل إنسان صحيح الفطرة، ودعك من كذبة المتدينين الذين يرحبون بالآلام كأنها غاية تُقصد لذاتها، أو كأن الدين حرب على السلامة والكرامة. وفي هذه الكلمات دعوة نريد تفسيرها وتحديد معناها، ونسأل قبل ذلك: هل بين الرسول وبين أحد من الناس عداوة شخصية؟ كلا، فقد كان أسمح الناس بحقه الخاص، وما كان يهيجه إلا أن تستباح حقوق الله، ص _038(1/30)
لينتصب حينئذ للدفاع عنها كأنه أسد غضوب. وهو عندما يسأل الله أن ينصره على عدؤه فإنما يشرح بهذا السؤال قوله تعالى: (واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين). إن الكافرين يتركون في أفئدة المؤمنين جراحا دامية، خصوصا المؤمنين الضعاف الذين اجتاحهم جبروت القوة فمزق شملهم، وأذل جانبهم، وضيق عليهم الدنيا الواسعة، فهي في أعينهم كسم الخياط. من حق هؤلاء المؤمنين المقهورين أن يروا ثأرهم من عدوهم، وأن يروا كبرياء الكفر ممرغة في التراب. وذاك سر الأمر بقتالهم إلى أن تذهب دولتهم: (قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين * ويذهب غيظ قلوبهم) إن للفطرة الإنسانية معالم ثابتة لا يسوغ محوها، ولا جهلها. وهناك تدين مخبول، يؤخر العقل، ويجور على الطباع السليمة، ويتجاوز منطقها، وهذا التدين يرفضه الإسلام. ولعل من احترام الفطرة وتلبية أشواقها ما جاء عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما كان رسول الله - منذ صحبته حتى فارق الدنيا - ينام حتى يتعوذ من الجبن والكسل، والسآمة والبخل، وسوء الكبر وسوء المنظر في الأهل والمال، وعذاب القبر، ومن الشيطان وشركه ". وينام الرسول في هذا الليل الحي بالطهر والذكر، وما هي إلا ساعة حتى يصحو لصلاة الفجر، ويستعد لاستقبال أربع وعشرين ساعة أخرى. يستقبلها بهذا الدعاء: "أصبحنا وأصبح الملك لله، والحمد لله لا شريك له، لا إله إلا هو، وإليه النشور". ص _039(1/31)
في خضم الحياة محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ يعيره الله، ويعرف الناس به، يذكر الله ويشكره، ويحدو قوافل الذاكرين والشاكرين، فيلهب حماسهم إذا فتروا، ويقيمهم على النهج إذا انحرفوا. بل لقد أنشأهم إنشاء من جاهلية طامسة، فعلموا مَن ربهم؟ وكيف يحيون له على ظهر الأرض؟ وبم يعودون إليه يوم تفتح لهم أبواب السماء؟. وليست العلاقة بالله ساعة مناجاة في الصباح أو المساء ينطلق المرء بعدها في أرجاء الدنيا يفعل ما يريد؟ كلا، هذا تدين مغشوش. الدين الحق أن يرقب المرء ربه حيثما كان، وأن يقيد مسالكه بأوامره ونواهيه، وأن يشعر بضعفه البشري، فيستعين بربه في كل ما يعتريه. وقد كانت سيرة الرسول نسقا واضحا في عمق الصلة بالله وشمولها، فما يمكن أن يغفل عن الله في فعل أو ترك. ومن هنا وجدنا دعواته تتناول شؤون الحياة المختلفة، ولهجه بذكر الله يخالط كل ما يضع فيه يده. كانت العاطفة المشبوبة تجعله يتعرض للمطر أول ما ينزل، يقول: "هذا مطر حديث عهد بربه ". وكان الناس إذا رأوا أول الثمر جاءوا به إليه، فإذا أخذه الرسول قال: "اللهم بارك لنا في ثمرنا، وبارك لنا في مدينتنا، وبارك لنا في صاعنا، وبارك ص _040
لنا في مدنا". ثم يعطيه أصغر الحاضرين من الولدان. وكان إذا عصفت الريح قال: "اللهم إنى أسألك خيرها، وخير ما فيها، وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرها، وشر ما فيها، وشر ما أرسلت به ". بهذا الشعور الغامر المستوعب يلقى كل شيء، ويواجه بتعاليم السماء كما أنزلت إليه. فلننظر في جنبات المجتمع الإنساني لنرى كيف يبنيه محمد باسم الله وعلى بركته. ص _041(1/32)
بناء البيت المسلم قد تكون الغريزة الجنسية باب شر كبير عندما تستبد بها النزوات العارضة والشهوات الثائرة، وعندما تتعدى حدود الله وحقوق الناس، عندئذ تعرض صاحبها للعار والنار. وكل الغرائز التي لا تقفها حدود الشرع والأدب لابد منتهية بأصحابها إلى بلاء غليظ، وقد قال شاعر عربي: إذا أنت لم تترك طعاما تحبه ولا مجلسا تُدعى إليه الولائد تجللت عارا لا يزال يشبه سباب الرجال نثرهم والقصائد ولم يخلق الله الغرائز للسطو والختل، ولا خلقها ليتعبد بعض الناس بقتلها، والفراغ منها. وقد جعل الله للغريزة الجنسية متنفسا سمحا هو الزواج، وأسال منها نبع الود والرحمة الذي يلطف جو البيت. وأهاب بالصالحين من عباده أن يقدروا هذه السعادة، ويمرحوا في بحبوحتها، ولا يمدوا أعينهم إلى ما وراءها، وأن يوجهوا همهم بعد الزواج إلى تربية الأولاد وكفالة حاضرهم ومستقبلهم، وتكوين جيل صالح مهذب منهم. قال تعالى: (والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما). ص _042(1/33)
والمسلم الحق يهمه مسلك بنيه نحو ربهم وإخوانهم، وليست وظيفته أن يزحم المجتمع بأولاد حبلهم على غاربهم. وتدبر دعوة إبراهيم: (رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء). إن الظفر بأولاد يقومون بحقوق الله ربح عظيم، ومن عظمة الإيمان في قلب الخليل أن تكون أمنيته ذرية صالحة. إن غيره يطلب لذريته الغنى أو الرياسة، أو ما شاء من متاع الحياة الدنيا. أما ما وراء ذلك فلا اكتراث به.. لكن أنبياء الله لهم شأن أعلى، إنهم مهمومون بأمر العقيدة : (أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون). ويبدأ بناء البيت المسلم باختيار الزوجة الصالحة، وليستعن بالله في ذلك. وجاء أنه في أول لقاء بينه وبين عروسه يُستحب أن يسمي الله تعالى ويأخذ بناصيتها ويقوله: بارك الله لكل واحد منا في صاحبه، ثم يدعو الله قائلا : " اللهم إني أسألك خيرها وخير ما جبلتها عليه، وأعوذ بك من شرها وشرما جبلتها عليه ". وما منا أحد إلا وفي طباعه هنات تتطلب الستر والغفران. ومن زعم أنه رزق الكمال في شمائله جميعا، ومن زعمت أنها تمت فلا يعيبها ظاهر ولا باطن، فكلاهما موغل في الوهم. ولو كان الزوجان صديقين فلابد لدوام الود من غض الطرف وسؤال الله الحفظ. ص _043(1/34)
ومن ميزات الإسلام أنه يجعل المطالب الطبيعية للإنسان محفوفة بذكر الله، فهو يطعم من جوع، ويروي من عطش باسم الله. وهو يمس امرأته كذلك قارنا رغبته باسم ربه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو أن أحدكم إذا أتى أهله قال: اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا، فقضي بينهما ولد لم يضره شيطان أبدا ". والمرأة تتعرض بداهة للولادة، وهكذا متع الدنيا يعقبها ما يشوبها. الأب يتعرض للكدح على أولاده، والأم تتعرض لآلام الحمل والوضع والرضاع وكثيرا ما تتعسر الولادة، وتتحمل الأم عناء بالغا. ومن الخير التوجه إلى الله بما يرفع الكرب ويزيل الضر، مثل: "اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين، وأصلح لي شأني كله لا إله إلا أنت ". ومثل: "ياحي يا قيوم برحمتك أستغيث ". و"لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ". وكم لرسول الله من دعوات حافلة بحب الله، وانتظار فرجه!. والعلاقة بين الذكورة والأنوثة تحتاج إلى فضل بيان، فإن النصرانية ترى من حقيقة التقوى حسم هذه العلاقة وتطلب من الصالحين والصالحات أن يصفوا آذانهم عن نداء الغريزة المكظومة. وقد قام نظام الرهبانية على هذا الأساس، ولا يزال!. وعندما نتأمل في هذه القضية نرى أن البعض ضعيف الغريزة فلا يبالي بالحرمان وأن البعض الآخر شديد النزوع، فهو إما يتخذ وسائل خفية لإشباع نهمته، أو يشتبك في حرب قاسية مع نفسه لا يخرج منها سليم الأعصاب رضي الحكم على الأمور. والحكم بأن المرء بلغ حقيقة التقوى في هذه الحالات كلها مرفوض. ص _044(1/35)
أما الإسلام فقد أباح الزواج، ويكره، وجعله من القربات إلى الله. وعندما يطمئن إلى الضمانات الخلقية عند الرجل يبيح له التعدد، وإلا منعه. والغريب أن العالم الغربي ـ متأثرا بالنصرانية ـ أثار دخانا كثيفا حول تعاليم الإسلام، وأطلق عليها ألسنة الشغب من كل ناحية. والأغرب أن هذا العالم الغربي بنى علاقاته الجنسية على فوضى رهيبة، فالأولاد الذين يولدون على فراش المعصية تتفاحش نسبتهم حتى كادوا في بعض الأقطار يقاربون نسبة الأولاد العاديين. وبالنسبة إلى التعدد، فإن تنقل الرجل بين لفيف من النساء أمر مفهوم، وقد ذكرت امرأة كيندي ـ رئيس أمريكا الأسبق ـ أنه كان لزوجها بين 200 و 300 صديقة. والصعاليك في العالم الغربي لا الملوك يستطيعون السطو على مئات الأعراض. والذي يستحق الدهشة أن يدور الرجل بين جيش من العشيقات دون حرج، فإذا دار بين بضع زوجات داخل سياج من الأخلاق المحكمة وُضع في قفص الاتهام!. من زعماء الغرب الكبار وساسته المشهورين رجل له في ميدان الفاحشة قدم راسخة! ومع استفاضة خبثه ونسبة الخنا إليه فإن هذا لم يخدش شيئا من عظمته!. كتب الأستاذ أنيس منصور يقول : لم يكن غريبا أن يصدر فى فرنسا كتاب عن نمر السياسة الفرنسية "جورج كلمنصو" (1841-1929) فهذا الرجل خاض معارك سياسية مخيفة، واستطاع أن يتغلب على الجميع، وكان قادرا على أن يتحدث إلى عشرين شخصا في عشرين ص _045(1/36)
موضوعا في وقت واحد، ولم يكن أحد يتصور أن هذا الرجل كانت له ثمانمائة عشيقة، وكان له أربعون ابنا غير شرعيين!. ترى كم الشرعيون الذين نسلهم هذا الذئب؟. يقول أنيس منصور: لكنه عندما علم أن زوجته الأمريكية خانته نهض عند منتصف الليل وفتح لها الباب لتهبط إلى الشارع بقميص النوم!. ونعجب نحن لماذا حرم الرجل على غيره ما استباحه لنفسه!. يقول الصحافي المعلق: (كلمنصو ـ مثل كل الذئاب البشرية ـ من أكثر الناس احتقارا للمرأة، ولم يقل أحد في المرأة أسوأ ولا أبشع مما قاله هو، سواء على فراش اللهو، أو على فراش المرض!). ومع ذلك فإن مساعد وزير الدفاع الفرنسي أصدر كتابا عنه، وقادة العالم الغربي يعدونه من قممهم الرفيعة! لماذا؟ لأنه زنى، ولم يتزوج!. إن الزنى شيء يسير، أما التعدد فمنقصة تهوي بصاحبها ولو كان من العباقرة! هذا هو التقليد الذي أرسته الصليبية، وباركته، وتريد إشاعته بيننا. لقد ارتفع نبي الإسلام بمعنى الزواج ارتفاعا يستحق التنويه، فهو ليس سطوة رجل قوي على أنثى ضعيفة. إنه عقد حر، بدأ وتم بإذن الله وفي ضمانه، وعندما خطب رسول الله الناس في حجة الوداع قال: "اتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانات الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله ". ولهذا العقد طبيعة مادية وروحية، أرضية وسماوية، والبيت القائم عليه عامر بالسكينة والمودة والتراحم. ولهذا العقد كذلك طبيعة اجتماعية تتيح للنماء البشري أن يمتد فيه زاكيا مهديا. وقد سمى القرآن هذه الطبائع العتيدة: " حدود الله " لأن الله يريد ص _046(1/37)
من أركان البيت أن تكون أركانا للبر والتقوى، والتعاون المشترك على أعباء الحياة كلها. ونحن نثبت خطبة يبدأ بها الزواج، ثم نعقب بذكر دعاء يلازمه عند بدء آثاره، واطراد سيره مع الزمن، ليعلم الناس أن الزواج في دين الله ليس تلاقيا حيوانيا، ولا يفهمه كذلك إلا قطعان الرعاع. قال العلماء: يستحب أن يخطب بين عقد الزواج خطبة رقيقة مناسبة، وأفضل ذلك ما رواه عبد الله بن مسعود قال: علمنا رسول الله خطبة الحاجة: "الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيرا ونذيرا بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فإنه لا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئا". (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء و اتقوا الله الذي تساءلون به و الأرحام إن الله كان عليكم رقيبا). (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون). (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا * يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما). ثم ـ بعد هذا الخطاب ـ يعقد الزواج مذكرا الزوج بتقوى الله، وإحسان العشرة، وإقامة حدود الله. ص _047(1/38)
والمتدبر في الآيات المختارة يرى أنها تمهد لذلك، وتوجه لتأسيس أسرة يقوى بها الإسلام، وتدعم بها الأمة، فالزواج عقد خطير الآثار. وتمضي السنون، ويتحول الزوجان إلى والدين، ويضحي كل منهما معلق القلب بنشء وافد يعده امتداد حياته، وتنمو الأسرة فتصير أربعا، وثمانيا، وعشرا. وحين يمتد الزمن بالأبوين يكبر الصغار ويسيرون في ذات الطريق الذي سلكه من قبلهما، ترى ما مسلك هذه الأجيال الجديدة بالنسبة إلى من مضى؟. يقوله عز وجل: (ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا حملته أمه كرها ووضعته كرها وحمله وفصاله ثلاثون شهرا حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك وإني من المسلمين). إن الجيل الحاضر يُحيي الخالق الأعلى، ويذكر آلاءه على الجيل الماضي ويستنزل فضله على الجيل اللاحق، تلك هي وظيفة البيت المؤمن، وربط الناس بربهم، وحراسة تقاليد العبادة والشرف التي وضعها لهم. فلا عجب إذا كانت حملة العرش تدعو لأهل هذه البيوت المحافظة : (ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم * ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم إنك أنت العزيز الحكيم). وسنرى أن البيت الأول في الجماعة الإسلامية، أعني بيت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ص _048
ومن فيه من أمهات المؤمنين، كان الأسوة الحسنة في طلب الآخرة وصدق الإقبال على الله. كان البيت النبوي بيت ترفع على الرفاهة والترف، وإدمان للذكر والتلاوة وقيام لليل، يملأ آناءه بالتهجد، والثناء على الله. والحق أن الأسرة الإسلامية أعلى عناصر التربية والتوجيه، والحفاظ عليها ضمان للاستقامة، وسناء الخلق، وسلامة الوجهة. وسنرى بعد قليل كيف كان البيت النبوي منارة اليقين والتقوى فى حياة الأمة الإسلامية كلها. ص _049(1/39)
معركة الخبز يخرج المسلم من بيته ليباشر العمل الذي يؤديه، إن كان موظفا فإلى مكتبه، وإن كان عاملا فإلى مصنعه، وإن كان تاجرا فإلى دكانه، وإن كان فلاحا فإلى حقله. والناس يغدون إلى أعمالهم، وشؤون الرزق مستولية على أعصابهم، مستحوذة على أفكارهم، إنهم يريدون الكثير لأنفسهم وأهليهم، المقل يريد سعة، والموسع يريد مزيدا، ومآرب الحياة لا تقف عند حد، والقوى المبذولة وراءها تستنفد الطاقة. ترى كم تستهلكه هذه الساحة من جهود البشر؟ كأن صاحب الرسالة الخاتمة كان يستحضر هذه المشاعر، وهو يناجي ربه عندما يخرج من بيته يقول: "باسم الله، توكلت على الله، اللهم إني أعوذ بك من أن أزل أو أُزل، أو أضل أو أُضل، أو أظلم أو أُظلم، أو أجهل أو يُجهل علي . . ". إنه لا يريد غلبا على أحد، إنه يريد النجاة من الزلل يقع فيه أو يوقع أحدا فيه، إنه يبغي الهدى لنفسه ولغيره، إنه يستعيذ بالله أن يجهل على أحد أو يجهل عليه طاغ مفتون، إنه يكره الظلم في صوره كلها. بذلك يدعو ربه، ويستمد منه العون، وقد طلب الرسول من كل مسلم عندما يغدو من بيته لما يهمه من شأنه أن يوثق رباطه بربه، فعن أنس ابن مالك قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم: "من قال ـ يعني إذا خرج من بيته ـ بسم الله ، ص _050(1/40)
توكلت على الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، يقال له: هُديت، وكفيت، ووقيت... ". إن مخالطة الناس تعرض المرء لمشكلات جمة، وقد يتولد من الاحتكاك شر حارق. واليقظة العقلية مهما كانت حادة لا تغني عن حماية الله وهو سبحانه يقي من اعتمد عليه ولاذ به. بل ينبغي للمسلم أن يتهم قواه الذاتية، وأن يرمق باستعطاف العون الأعلى، قائلا كما علمه نبيه: "اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلا، وأنت إذا شئت تجعل الحزن ـ الصعب ـ سهلا ". وعندما تضطرب أحوال العيش، وتبرز صعوبات مُقلقة، يزداد تشبثه بربه، فعن ابن عمر عن النبي عليه الصلاة والسلام "ما يمنع أحدكم، إذ عَسُر عليه أمر معيشته، أن يقول إذا خرج من بيته: "بسم الله على نفسي ومالي وديني، اللهم رضني بقضائك، وبارك فيما قُدر لي، حتى لا أحب تعجيل ما أخرت، ولا تأخير ما عجلت ". سبحان الله ؛ أي علم بالنفس البشرية ومتاعبها كان عند هذا الرسول؟ وأي خزائن ملأى باليقين كان يمنح منها هذا وذاك ليستبقي العلاقة بالله ثابتة هادئة. عن البراء بن عازب قال: أتى رسول الله رجل يشكو إليه الوحشة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أكثر من أن تقول: سبحان الملك القدوس، رب الملائكة والروح، جللت السموات والأرض بالعزة والجبروت ". فقالها الرجل، فذهبت عنه الوحشة. هذا رجل من أولي الحساسية الذين يجنحون إلى العزلة، ويتطيرون من الخلائق، لعله من النوع الذي يقول: وإن امرءا يُمسي ويصبح سالما من الناس - إلا ما جنى - لسعيد ص _051(1/41)
لكن الحياة لا تتطامن لهؤلاء وترضيهم، فهم منها على وجل، وما تنقضي حاجتهم إليها، وقد ذهب يشكو إلى الرسول هذا الاستيحاش المعنت، فنصحه بذلك الدعاء، الذي يدفعه دفعا إلى الأنس بالله. على أن النبي عليه الصلاة والسلام يكره تحول الوحشة إلى عجز، أو أن يكون ذكر الله ستارا لهزيمة نفسية لا تليق، عن عوف بن مالك: قضى رسول الله عليه الصلاة والسلام بين رجلين، فقال المقضي عليه لما أدبر: حسبي الله ونعم الوكيل.. فقال رسول الله: "إن الله تعالى يلوم على العجز، ولكن عليك بالكيس ـ بالعقل والعزم والمثابرة ـ فإذا غلبك أمر فقل: حسبي الله ونعم الوكيل ". إن البصر الثاقب لم تفته حالة الرجل المحكوم عليه، لقد ملكه الفشل فولى يستر ضعفه واستسلامه بهذه الكلمة: حسبي الله ونعم الوكيل، إنها هنا كلمة حق أريد بها باطل. عندما قال هذه الكلمة الذين هُزموا بالأمس في أحد، ثم أصبحوا يتحاملون على جراحهم، ويحشدون آخر ما لديهم من وسع ليثأروا من مشركي مكة لم يضعفوا، نعم لما قيل لهم: (إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل).. قالوا: ليبارك الله في عزمهم وبذلهم واستئنافهم لجهاد المبطلين. للكلمة هنا معناها المحبوب المقبول. وما يجوز أن تقال الكلمة تسليما بالأمر الواقع، وتقاعسا عن تغييره، وانتظارا من السماء أن تدافع عمن لا يدافع عن نفسه. لابد لضمان السماء من سعي، لا بد للأمل من عمل. من أجل ذلك قال عمر: لا يقعد أحدكم عن طلب الرزق ثم يقول: اللهم ارزقني، وقد علم أن السماء لا تمطر ذهبا، ولا فضة. ص _052(1/42)
على أن الحياة المعاصرة لا تشكو من متوكلين لا يعملون، وإنما تشكو من عاملين لا يتوكلون، فإن الصبغة المادية سادت القارات المعمورة. والناس يغدون من بيوتهم وهم يتلهفون على صيد ثمين ينقضون عليه، وإذا أمكنتهم الفرص من مأرب سال لعابهم لآخره؟ إنهم يأكلون ولا يشبعون، ويشربون ولا يرتوون. وفي هذه الحمى لا تعلق للقلب إلا بالمزيد من الحطام. فإذا حدث أن استعصى رجل على هذا المنحدر، وتراجعت إلى فؤاده خصائصه العليا، واستبان وجه ربه وسط ركام من ضباب الأهواء، فذكر اسمه، ووحيه، وتشبث بآياته وتوجيهاته، فأي ثواب يكون له؟ قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: " من دخل السوق فقال: لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، يحي ويميت، وهو حيٌّ لا يموت، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير، كتب الله له ألف ألف حسنة، ومحا عنه ألف ألف سيئة، ورفع له ألف ألف درجة ". إن هذا الأجر الجزل ليس لألفاظ تمرق من الشفاه، إنها لحال من الثقة في الوجود الأعلى، والفضل الأعلى، تجعل الرجل يركن إلى من بيده الخير، فلا يحتال، ولا يغتال. وقد أكد الأئمة أن هذه الأجور الكبيرة لا توضع بإزاء الأعمال الصغيرة، ولا الهمم الصغيرة. وفي ميدان الارتزاق والكدح للنفس والولدان، قد يختلط الطيب والخبيث والنقي والمغشوش، والمسلم يعلم أنه لا يدخل الجنة لحم نبت على سُحت، وأن الله طيب لا يقبل إلا طيبا، ومن ثم وجب على المؤمن أن يتحرى، وقد علمنا الرسول عليه الصلاة والسلام هذا الدعاء: "اللهم اكفني بحلالك عن حرامك، وأغنني بفضلك عمن سواك ". "اللهم إني أسألك علما نافعا، ورزقا طيبا، وعملا متقبلا ". ص _053(1/43)
وفي زحام الدنيا ربما تعرض المرء لما يسوؤه، وربما استفره السفهاء ليجهل عليهم، أو ليثأر لنفسه منهم، وخير له إذا خرج من بيته أن يضمر التجاوز والسماحة. روى أنس بن مالك أن رسول الله قال: "أيعجز أحدكم أن يكون كأبي ضمضم "؟ قالوا: ومن أبو ضمضم يا رسول الله؟ قال: "كان إذا أصبح قال: اللهم إني قد وهبت نفسي وعرضي لك، فلا يشتم من شتمه، ولا يظلم من ظلمه، ولا يضرب من ضربه "!. وزحام الدنيا غاص بالمثيرات النفسية والاجتماعية، والإقبال عليها ناشب بأعماق النفس، والأمر يحتاج إلى أن نشرح موقف الأنبياء منها، تمهيدا لإيضاح موقف النبي الخاتم عليه الصلاة والسلام. الأنبياء بشر أمثالنا، ومناصبهم العالية لا تسقط عنهم مشاق التكاليف ولا تريحهم من أعباء الواجبات المفروضة، بل الصحيح أنهم أشد بلاء، وأكثر عناء، وذاك معنى قول العلماء: العصمة لا تمنع المحنة، أي لا تمنع الاختبار، وضروب التمحيص. كان يوسف بشرا يضيق بالسجن ويتشوق للحرية، يوم قال للسجين الذي يتوقع الإفراج عنه: اذكرني عند ربك.. ولم لا يذكره، وهو بريء مظلوم؟ وهذا السجين الخارج يعرف عن يوسف أنه من الصالحين المحسنين، فليحدث عنه الملك الذي سيعمل معه. وشاء الله أن ينسى السجين الخارج، وأن يبقى يوسف بضع سنين. حتى جاء اليوم المقدور، وأرسل الملك إلى يوسف يستقدمه، ولكن يوسف كان قد بلغ حدا من الاكتمال والتأني جعله يتريث في الاستجابة ويقول: أولا اعرفوا موقفي من القضية التي اتهمت فيها. ثم خرج يوسف ليتولى شؤون المال في مصر. وكان موسى بشرا يحس لذع الغربة في أرض مدين، فلما سقى للفتاتين أوى إلى الظل وناجى ربه: (رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير).. ص _054(1/44)
وجاءه الغوث إذ وجد المأمن المنشود، عند سيد مدين الذي قال له: ( نجوت من القوم الظالمين) ثم تزوج ابنته، وعاش في صحبته، وتهيأ للرسالة الضخمة. وكان لوط بشرا عندما داخله الحرج الشديد، لما رأى المجرمين من قومه ينظرون بخفة وشر؟ إلى وفد الملائكة عنده. !" لقد تمنى لو كان ذا عصبية يؤدب بها السفلة، حتى طمأنته الملائكة أن مصير القوم يقترب. (ولقد صبحهم بكرة عذاب مستقر * فذوقوا عذابي ونذر). إن تعليق النبي الخاتم على بعض ما سقنا من قصص ينبىء عن جانب من أخلاقه. يقول عن لوط: "رحم الله لوطا، كان يأوي إلى ركن شديد". يعني أن الله ما كان ليتركه، وما كان له أن يأسى على عصبية مفقودة. والواقع أن إحساس محمد بالله وتأييده لا نظير له، ولقد سُمي "المتوكل " لهذه الخلة البارزة. إن هذا الاعتماد الفذ على الله هو الذي أمده بالقوة على نشر عقيدته، وتبليغ رسالته في عالم كل شبر منه يتنكر له، وأول من صرخ في وجهه يتهدده عمه أبو لهب؟ ما كانت توجد ذرة من أمل في نجاح هذه الدعوة لولا أن صاحبها استند إلى الله، ومضى إلى غايته، لا يثنيه شيء. وتعليقه على كلمة لوط الذي يوحي بالقوة والثقة غير تعليقه على كلمة يوسف الذي يوحي بالتواضع وهضم النفس إنه يقول: "لو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعي ". ص _055(1/45)
أي لاستعجلت الفرج، وتركت السجن، غير منتظر سؤال النسوة وجوابهن المعروف. إنه هنا ـ مع تواضعه البادي ـ يقرر الطبيعة الإنسانية في التلهف على الحرية، وكره عالم السدود والقيود. والذي نخلص منه بعد هذا التقديم أن الأنبياء تهزهم المشاعر الفطرية التي تهز جمهرة البشر، وأنهم عندما يقدمون في مواطن الوغى لا يأخذون أمانا من الموت، وعندما يبذلون المال لا يأخذون ضمانا من الفقر. إن أخلاقهم العلا تكلفهم كل مغارم العظمة التي يدفعها الآخرون. ويبقى بعد ذلك تفرد المرسلين بأن أوجهم الذي يعيشون فيه لا يسمح لهم أبدا بالتدلي، فهم أزكى مكانا، وأسنى منالا. ونتساءل بعدئذ عن علاقة محمد عليه الصلاة والسلام بالدنيا؟ أكان يحبها أم ماذا يعافها؟. ونجيب: إنه كان يعرف الدنيا معرفة الخبير، ويتذوقها تذوق المعافى السليم، بيد أنه كان مشغولا عنها بما هو أعظم وأشرف. إن المجد الإلهي استغرقه، فجعل في الصلاة قرة عينه، وفي الصيام مسرح روحه، وفيما عند الله شغلا عن كل جاه يسعى إليه طلاب الجاه. وقد فرض هذا النمط من الحياة على زوجاته، وأفهمهن أن طالبات الدنيا لا مكان لهن عنده: (إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا). ولكنهن شغلن بما عناه، واجتهدن أن يرتفعن إلى مستواه، من الذكر والعبادة وطول الإقبال على الله. عن جويرية أم المؤمنين رضي الله عنها أن النبي خرج من عندها بكرة، حين صلى الصبح، وهي في مسجدها، ثم رجع بعد أن أضحى، وهي جالسة فيه، فقال: "ما زلات اليوم على الحالة ص _056(1/46)
التي فارقتك عليها"؟ـ من اعتكاف وتعبد ـ قالت: نعم!. فقال النبي عليه الصلاة والسلام : "لقد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرات لو وُزنت بما قلمت منذ اليوم لوزنتهن: سبحان الله وبحمده، عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته ". وعن أبي هريرة، قال رسول الله عليه الصلاة والسلام : " لأن أقول : سبحان الله، والحمد لله ، ولا إله إلا الله، والله أكبر، أحب إلي مما طلعت عليه الشمس ". إن سعادته، وهو يردد هذه الكلمات، ويستحلي معانيها، أشهى لديه من امتلاك كل ما أضاءه النهار في دنيا الناس. وهب أنه ملك القناطير المقنطرة في الذهب والفضة، ما عساه يفعل بها؟ لقد قال: إنه لو كان لديه مثل جبل أحد ذهبا ما مرت عليه ثلاث ليال وعنده شيء منه. كان سيفرقه في حاجات الفقراء، ولو بقي شيء لرصده لعوارض المسغبة والبأساء التي تطرأ على الناس. ولقد كان يملك الوادي من الشاء والنعم فلا تغيب الشمس إلا وهو في أيدي العفاة. إن حبه كان لشيء آخر: لله، لكتابه، لمناجاته، لمرضاته. واسمع إليه يشرح مشاعره نحو القرآن العظيم: "اللهم أنا عبدك، وابن عبدك، وابن أمتك، وفي قبضتك ناصيتي بيدك، ماض في حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في مكنون الغيب عندك، أن تجعل القرآن الكريم ربيع قلبي، وضياء بصري، وذهاب حزني، وجلاء همي وغمي ". إن الوحي أساسه فكيف لا يكون أنيسه الدائم؟ كان في سفره يقطع المفاوز، وهو به يصلي، وفي إقامته كان وعيه نسيجا من معانيه. وجاء أنه طلب من الصحابى الكبير عبد الله بن مسعود أن يقرأ عليه ص _057(1/47)
القرآن!! فقال ابن مسعود: أقرأ عليك وعليك أنزل؟ فقال عليه الصلاة والسلام: "إني أحب أن أسمعه من غيري ". ويقرأ عبد الله من أول سورة النساء حتى يصل إلى قوله سبحانه: (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا!؟) والتفت إلى الرسول عليه الصلاة والسلام ، فإذا عيناه تذرفان، قال له: "حسبك.. ". ويواصل الصيام،؟ فلا يفطر مع الغروب، ويحاول بعض صحبه أن يقلده فيقول لهم الرسول مانعا: "إنكم لستم كهيئتي، إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقين ". إن تبتله إلى الله أحدث تغييرا عضويا في كيانه البشري، وجعله يتقلل تقللا خطيرا من الطعام والشراب، لأنه يحيا في ملكوت آخر. ومع هذا البعد الروحاني الساحق فقد كان يعيش بين الناس خبيرا بطباعهم، شاعرا بقضاياهم، يبيت فيها باسم الله، فما ينحرف قيد أنملة عن الصراط المستقيم. هل يمكن أن يكون موقفنا نحن من الدنيا على هذا الغرار؟ لا، ما نستطيع ولا كُلفنا. إن بعض الفقراء والزهاد والمتصوفة حاول أن يخاصم الدنيا، ويعيش على هامشها، وأن يتشبه برسل الله في سيرتهم المترفعة، وهيهات!. إن حمرة الخجل لا تصنعها بعض المساحيق المحلوبة، والأزهار الصناعية قد يكون بها شبه من الأزهار الطبيعية، بل لعلها أبقى على الأيام. لكن أين عصارة الحياة، ونعومة الملمس، ونفح الرائحة الذاتية؟. ربما نام ناس على الحصير فانطبعت عيدانه في جلودهم. هل يمنحهم ذلك شبها بالرسول الذي رمق الدنيا بنظرة غائبة لأن فؤاده حاضر مع ربه، يقظان في حضرته، مستغرق في شهوده؟ إن الرجل لا يكون قائدا لأنه عثر على بدلة قائد فلبسها. ص _058(1/48)
إن لجمهور الناس موقفا من الدنيا شرحه الرسول لهم، نحب أن يعرفوه، وحسبهم شرفا أن يلتزموه. كان لقارون دنيا عريضة وثراء يشد إليه العيون، وكان عشاق الحياة ينظرون إليه ويقولون: يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون. ولم يطلب الله من قارون تطليق هذه الدنيا، لقد طلب إليه أمورا تُعد على الأصابع. من مَولك وكان يمكن أن تحيا صعلوكا؟. إنه الله. إذن انظر إلى مالك وقل: ما شاء الله، لا قوة إلا بالله. بيد أن المغرور قال: عبقريتي هي سر غناي.. ولو فرضنا جدلا أن هذا القول صحيح، فمن الذي منحك الذكاء، والمضاء؟ إنه الله، ولكن الغافل لا يحس. إن الله عندما يعطي يطلب الاعتراف بعطائه فهل هذا تكليف صعب؟. وهو يطلب من آخذ فضله أن يرحم ولا يقسو، وأن يعتدل ولا يطغى، وأن يصلح ولا يفسد، وقد قال لقارون: (وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض ). ولكن المؤسف أن ناسا كثيرين يمنحهم الله الدنيا فيذكرون أنفسهم ولا يكترثون بغيرهم، ويضاعفون متعهم على حساب الجياع، ويعصف بأحلامهم الغرور فينظرون إلى الناس من فوق. وقد حذر الله عباده المؤمنين من هذا الطيش، وقال لهم: ص _059(1/49)
(يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون * وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين) وفي السيرة الشريفة حث موصول على الصدقة، وزجر شديد عن الشح، وقد ثبت أن الفلسفات الكافرة التي أغوت الجماهير ما نبتت ولا نمت إلا في بيئات الكزازة، والقسوة، والأثرة العمياء. مع مطلع كل صبح، ومع انطلاق الأحياء في فجاج الأرض يحصلون ويؤثلون، يذكر النبي للناس هذه الحقائق. عن أبي هريرة أن رسول الله عليه الصلاة والسلام قال: "ما من يوم يصبح فيه العباد إلا وملكان ينزلان يقول أحدهما: اللهم اعط منفقا خلفا، ويقول الآخر: اللهم اعط ممسكا تلفا " وفي حديث قدسي: "عبدي أنفق أنفق عليك، يد الله ملأى لا تغيضها نفقة، سخاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض؟ فإنه لم يفض ما في يده . . ". وقد بين النبي عليه الصلاة والسلام أن النفقة لا تُقبل إلا إذا كانت من كسب طيب، وأن الله كلف الرسل خاصة، والناس عامة أن يتحروا في معايشهم الحلال وحده، فقال للأولين: (يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا ). وقال للآخرين : (يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون). ونشأ عن هذه التعاليم مجتمع يحنو أغنياؤه على ضعفائه، ويبرؤون من عبادة المال، ويرفضون مصادره المريبة. وكانت سيرة الرسول أمامهم شعاعا هاديا، فإن الرسول بإزاء الدنيا والمال كان يجمع بين منقبتي الغني الشاكر، والفقير الصابر. ص _060(1/50)
نعم فقد كان ذا مال: (و وجدك عائلا فأغنى)، وكان غناه من تجارته الرابحة في مال زوجه خديجة أيام شبابه. ثم كانت أنصبته من الخمس والفىء شيئا طائلا. لكنه لم يستحوذ على شيء من هذا كله، بل كان يضعه في حاجات الفقراء، وربما ظل يعطي وظل أهل بيته كذلك حتى يستنفد العطاء كل ما لديهم، فيمسون، وليس لديهم ما يغني من جوع. والمعروف في سيرته عليه الصلاة والسلام أنه ـ وهو في مرض الموت ـ أهمته ذهيبة كانت عنده فما استراح حتى وُزعت على الفقراء، وتساءل: كيف يلقى الله، وهي عنده؟. والمعروف كذلك أن أملاكه ليست ميراثا لأهله، وأقاربه، لقد وُزعت هي الأخرى في سبيل الله. لقد كان يدعو: "اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا " ـ كفافا ـ، فلما آثر الرفيق الأعلى، كان قبل أن يصل إلى السماء أشبه بسكان السماء، ترفعا عن مطالب الأرض، وزينات الدنيا. ص _061(1/51)
فى السفر والعودة ما أكثر ما يسافر الناس لشؤون مادية وأدبية، وللسفر مشقاته التي بذلت جهود كبيرة لتذليلها. ومع ذلك فإن فراق المرء لبيته وأحبابه، وتعرضه لتخفف عاداته فى يقظته ومنامه وشرابه وطعامه، وانطلاقه مع الأقدار إلى موعد مجهول، لا يدري بدقة كيف ينتهي؟ ولا ما يتكشف عنه المستقبل؟ كل ذلك يجعل السفر عملا ذا بال في حياة أي إنسان. وقد سافر النبي عليه الصلاة والسلام مرات في شبابه الباكر، وأيام عمله مع خديجة، وبعد البعثة. وهو يصف مشاعر المسافر ورغباته بصدق، وينتهز حاجته إلى الأنيس والمعين، فيصله بربه بأشرف الذكر، وألطف الدعاء. يقول: "من أراد أن يسافر فليقل لمن يخلف: أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه.. ". ويشرح ذلك في حديث آخر: "إن الله إذا استودع شيئا حفظه ". المهم أنك وأنت راحل عن بيتك تذكر أن هناك من لا يغيب عن البيت أبدا إذا غبت أنت عنه، وهو الله، وأنك إذا رجوته الحفاظ على ولدك وأهلك، وجعلتهما وديعة لديه، عدت وهما على خير حال. والسفر غالبا يُغري الإنسان من أقنعة تحجب طبيعته، ويجرده من ص _062(1/52)
أسانيد كانت له ظهيرا إبان إقامته، ومن ثم فإنه في فترة ارتحاله يشتد حسه بما يجد، وبما يفقد. وأدعية الرسول تسمو تتواءم مع هذه الأحوال تواؤما مثيرا. جاء رجل إلى النبي يقول له: إني أريد سفرا، زودني؟ قال: "زودك الله التقوى"، قال: زدني، قال: "وغفر ذنبك "، قال: زدني، قال: "ويسر لك الخير حيث كنت ". وعن أبي هريرة أن رجلا قال: يا رسول الله إني أريد أن أسافر فأوصني، قال: "عليك بتقوى الله والتكبير على كل شرف " ـ مرتفع ـ فلما ولى الرجل قال: "اللهم اطو له البعد، وهون عليه السفر". إن السفر الآن. غيره في أيام مضت، لقد مُهدت الطرق، وجرت عليها المركبات الآلية، وجلس الناس فيها مستريحين تحملهم الأدوات المبدعة على ظهر الأرض إن شاءوا، وفوق السحب إن رغبوا. وتقاصرت الأزمنة فما كان يتم في شهور بشق الأنفس، أضحى يتم في ساعات بجهود محدودة. ومع هذه الراحات الميسرة فإن الأخطار المبثوثة في البر والبحر والجو لم تنعدم، وإن تك قلت. وما بقيت نسبة ما من المخاطر، فإن دخول المرء في هذه النسبة جائز جدا، والحديث عما يفاجئ المسافرين من عطب وتلف لا ينقطع، ومن هنا فاستغناء الإنسان عن حماية الله جنون. إن حوادث الطرق في العالم أجمع لا تزال أفدح من شتى الأوبئة والحميات السيئة. والمنايا رصد للفتى حيث سلك!. كل شيء قاتل حين تلقى أجلك وأدب النبوة في الأسفار يوجه إلى الاحتماء بالله، وارتقاب لطفه. كان ص _063(1/53)
عبدالله بن عمر يقول للرجل إذا أراد سفرا: ادن مني أودعك كما كان رسول الله يودعنا، فيقول: "أستودع الله دينك، وأمانتك، وخواتم عملك ". قال ابن عمر: وكان النبي عليه الصلاة والسلام إذا ودع رجلا أخذه بيده، فلا يدعها حتى يكون الرجل هو الذي يدع يد النبي عليه الصلاة والسلام. إننا بإزاء عاطفة جياشة غامرة فالرسول يستبقي يد المسافر في يده، لا يزهد فيه ولا يتعجله، ويرسلها عندما يشاء المسافر الانطلاق لشأنه، ويدعو الله له بثلاثة أمور، أن يصون دينه، وأن يعينه على النهوض بمسؤولياته التي يرتبط بها، وأن يجعل ختام أعماله حسنا، فقد يخطئ أو يعثر، لكنه ينهض، ويصلح أمره كله، ويتفه على خير. ما يحتاج المسافر إلى أكثر من ذلك، اللهم إلا الشعور المتجدد بما يسوق الله من نعم حينا بعد حين، وذاك ما أبانه حديث آخر. قال علي بن ربيعة: شهدت علي بن أبي طالب رضي الله عنه أتى بدابة ليركبها، فلما وضع رجله في الركاب قال: باسم الله، فلما استوى على ظهرها قال: الحمد لله، ثم قال: سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين ـ مخضعين ـ وإنا إلى ربنا لمنقلبون، ثم قال: الحمد لله ـ ثلاثا ـ ثم قال: الله أكبر ـ ثلاثا ـ ثم قال: سبحانك اللهم إني ظلمت نفسي فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. ثم ضحك علي بن أبي طالب، فقيل: يا أمير المؤمنين من أي شيء ضحكت؟ قال: إني رأيت النبي فعل مثل ما فعلت، ثم ضحك، فقلت: يا رسول الله من أي شيء ضحكت؟ قال: "إن ربك سبحانه وتعالى يعجب من عبده إذا قال: رب اغفر لي ذنوبي، يعلم أنه لا يغفر الذنوب غيري ". عندما يذنب العبد فهو يرتكب عملا فيه قبح ودمامة، وهذا العمل بالإضافة إلى الله فيه معصية وجرأة، فهل يليق بالإنسان أن يسىء إلى نفسه وربه على هذا النحو؟. إنه يفعل، مهزوما أمام شهوة غالبة، أو منساقا مع فكرة غبية، فحتى ص _064(1/54)
متى تصرعه أهواؤه، ويقوده غباؤه؟. إن الله عز وجل ينتظر أوبة التائه، وهو يفرح بتوبة عبده، ويقدر الخطوات التي ترده إلى سيده. حسن أن يعرف العبد غلطه، أو يحس قباحته، وأن يتراجع خجلان إلى ولي أمره، وولي نعمته. البعض يبقى مكانه تحيط به خطيئته، كجيش انهزم، وحصره عدوه يريد الإجهاز عليه. وآخرون يضخون قبل فوات الأوان، ويجيئون إلى مولاهم يقولون: (ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار). لقد ذكر الغافل، وآب الشارد، وعلم أن له ربا يؤاخذ ويعفو، ويعاقب، ويثيب. ما كان أنساه وأطغاه!! وها هو ذا قد شعر بعجزه وذله، وشعر بأن الله وحده هو الذي يمسح عاره ويداوي جراحه، ليكن!! (والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون). إن هؤلاء العائدين أرشد سيرة من مذنبين فضرين، أو مذنبين يلتمسون العفو من أناس مثلهم. وهنا قد نسأل: لماذا يستفتح السفر بهذا الدعاء؟ الحقيقة أن السفر الطويل يحدث هزة نفسية شديدة، خصوصا إذا ترك المرء بعضه، وانطلق في فجاج الدنيا لا يعرف متى يعود؟ إن هذه الحال تدنيه من ربه وتقرره بما أسلف من ذنبه، وتُطلق فمه بطلب الرحمة والغفران. ص _065(1/55)
وفي رواية أخرى أن النبي عليه الصلاة والسلام كان إذا استوى على بعيره خارجا إلى سفر، يقول بعد التكبير: "اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى، ومن العمل ما ترضى، اللهم هون علينا سفرنا هذا، واطو عنا بعده، أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل، اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر، وسوء المنقلب، وكآبة المنظر في الأهل والمال.. ". وإذا رجع ـ من السفرـ قالهن، وزاد فيهن: "آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون ". وجاء أن الرسول وأصحابه خلال السفر كانوا إذا علوا الثنايا كبروا، وإذا هبطوا سبحوا. كأن القافلة المسافرة كلها في صلاة، فهي مع الهبوط في الأودية تسبح ساجدة، ومع الارتفاع على الربى تهتف مكبرة. أفي حياة هذه تجعل من تمجيد الله شغلها، ومن ذكره والثناء عليه الغناء الذي يريح الأعصاب، ويختصر الزمن. إن محمدا حول وجه الأرض إلى ساحة من السماء، مشحونة بملائكة لا ببشر. كنت في سفر مع ثلة من الطلاب العرب، وكانت الطائرة التي تحملنا قد شرعت في الهبوط بعاصمة عربية كبيرة، وأحسست قلقا على مستقبل أولئك الشباب بعد نزولهم، قلت: تُرى أين يسكنون؟ ومن سيعاشرون؟ ومَن من شياطين الإنس يتربص الآن بمقدمهم؟. وبينما أنا في هواجسي، إذ سمعت أصوات نفر منهم يناجون الله بالدعاء المأثور في هذه الحالات، فقلت في نفسي: لن يضيعوا، إن شاء الله. أما هذا الدعاء فقد جاء أن النبي عليه الصلاة والسلام لم ير قرية يريد دخولها إلا قال حين يراها: " اللهم رب السموات السبع وما أظللن، والأرضين السبع وما أقللن، ورب الشياطين وما أضللن، ورب الرياح وما ص _066(1/56)
أذرين، أسألك خير هذه القرية، وخير أهلها، وخير ما فيها، ونعوذ بك من شرها، وشر أهلها، وشر ما فيها.. ". وفي رواية أخرى: كان رسول الله عليه الصلاة والسلام إذا أشرف على أرض يريد دخولها قال: " اللهم إني أسألك من خير هذه، وخير ما جمعت فيها، وأعوذ بك من شرها، وشر ما جمعت فيها، اللهم ارزقني حياها، وأعذنا من وباها، وحببنا إلى أهلها، وحبب صالحي أهلها إلينا ". لقد استوعبت هذه الدعوات آمال الغريب النازل ببلد لا يعرفه، وجعلته يتحرك، وهو آو إلى ربه، مفوض إليه أمره، مستريح إلى كفالته حيثما توجه. والتوجه إلى الله بطلب الأنس والحماية لم يكن يفارق الرسول في أي محط ينزل به، ويستجم قليلا ثم يستأنف الترحال، والفقر إلى الله صفة ملازمة لكل مؤمن وهو بهذا الوصف يستغني عن الناس، ويتحصن من متاعبهم. عن خولة بنت حكيم: سمعت رسول الله يقول: "من نزل منزلا ثم قال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم يضره شيء حتى يرتحل من منزله ذلك ". وكلمات الله التامات، ما يكفل الله به فضله على خلقه، من خزائن رحمته، فلا يحتاجون بعدها إلى غيره، تدبر قوله تعالى: (وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا) وقوله: (وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته) والكلمات المعنية تكوينية لا تكليفية، يأذن الله فيها بحماه، وغناه لمن دعاه ورجاه. وعن عبد الله بن عمر قال: كان رسول الله عليه الصلاة والسلام إذا سافر فأقبل الليل قال: "يا أرض، ربي وربك الله، أعوذ بالله من شرك، وشر ما فيك، وشر ما خلق فيك، وشر ما يدب عليك ". ص _067(1/57)
"أعوذ بك من أسد وأسود ـ وحش وإنسان ـ ومن الحية والعقرب، ومن ساكن البلد، ومن والد وما ولد". الوالد والولد قيل: هما إبليس وذريته: (أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو) ويجوز الأراذل من أبناء آدم، فأذاهم محذور، والاستعاذة منهم واردة. والأرض الفضاء ـ خصوصا الصحراء ـ تكثر فيها الهوام الطائرة والزاحفة، ويتقى ما يختبىء فيها، وما يبدو عليها. وعندما يرجع المسافر إلى وطنه وتقر عينه برؤية أحبته ينبغي أن يشكر ربه فيقول: الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات؟ وهي كلمة تقال في كل ما يسر. وينبغي أن يقول له أهل بيته: الحمد لله الذي جمع الشمل بك، أو: الحمد لله الذي سلمك. وجاء أن رسول الله عليه الصلاة والسلام قفل من غزو فلما دخل استقبلته عائشة رضي الله عنها فأخذت بيده، وقالت: الحمد لله الذي نصرك وأعزك وأكرمك. لقد كان الناس يحسون أن رسول الله أعبد الخلق لربه، وأرجاهم لرحمته، وأكثرهم لهجا بذكره، ومدحه، فلا عجب إذا نابتهم نائبة أن يجيئوا إليه ينشدون دعاءه، ويرقبون الخير معه. عن عائشة رضي الله عنها قالت: شكا الناس إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام قحوط المطر، فأمر بمنبر فوضع له في المصلى، ووعد الناس يوما يخرجون فيه، فخرج رسول الله حين بدا حاجب الشمس، وقعد على المنبر، فكبر وحمد الله عز وجل ثم قال: "إنكم شكوتم تجذب دياركم، واستئخار المطر إبان زمانه عنكم، وقد أمركم الله سبحانه أن تدعوه، ووعدكم أن يستجيب لكم " ثم قال: "الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم مالك يوم الدين، ص _068(1/58)
لا!له إلا الله يفعل ما يريد. اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء. أنزل علينا الغيث، واجعل ما أنزلت لنا قوة وبلاغا إلى حين " ثم رفع يديه فلم يزل في الرفع حتى بدا بياض إبطيه، ثم حول إلى الناس ظهره، وقلب أو حول رداءه، وهو رافع يديه، ثم أقبل على الناس، ونزل فصلى ركعتين فأنشأ الله عز وجل سحابة فرعدت وبرقت، ثم أمطرت بإذن الله تعالى، فلم يأت مسجده حتى سالت السيول، فقال: "أشهد أن الله على كل شيء قدير، وأني عبد الله ورسوله ". حدث أن سألني شاب مغرور: أتعرف الله بدليل عقلي؟ فقلت له وأنا أتضاحك: أعرفه عن خبرة حسية. قال: ما معنى خبرة حسية؟ قلت: إن اللقيط قد يعرف بالدليل العقلي أن له أبا، وإن كان لم يره، لكن الابن الشرفي لا يحتاج إلى هذا الاستدلال، لأنه مغمور بحنان أبيه وإحسانه يحسهما صباحا ومساء، إنه يعرف أباه عن خبرة حسية، كما عبرت لك. إنني سألت الله أمورا لا يقدر عليها إلا هو، وأجابني تبارك اسمه إلى ما طلبت، فكيف لا أعرفه بعد؟. إن الجميل يثمر في الكلب العقور، أفلا يثمر في إنسان عاقل؟ أترى هؤلاء الأصحاب الذين ابتلوا بالجفاف، وهددهم الجدب بهلاك الحرث والنسل؟ لقد مشوا إلى محمد كيما يدعو ربه، وكيما تجمعهم وإياه ساحة ضراعة ورجاء. وافهم كما رأينا في صلاة استسقاء ما كادت تنتهي حتى استهل المطر يهمي، ويبشر بربيع نضير. بم تصف إيمان هؤلاء بعد ذلك؟ لقد تجاوزوا مرحلة الإيمان النظري إلى مرحلة أزكى وأرقى، إن كل ما قاله الرسول عليه الصلاة والسلام، بعد نزول الغيث: " أشهد أن الله على كل شيء قدير، وأني عبد الله ورسوله ". والشهادة هنا منزلة فوق اليقين المجرد. ص _069(1/59)
قال لي الشاب المسكين: لقد تعلمنا أن المادة لا تفنى، ولا تستحدث؟ وهو كلام يزلزل الإيمان، لولا حرارة ما أسمع. قلت: يا بُني إن الذين كتبوا هذا الكلام ذكروا نصف المعرفة بعد ما حرفوه عن موضعه. إن رب المادة هو الذي لا يفنى ولا يُستحدث، أما أنا وأنت فقد صح لنا وجود بعد أن لم نكن. أنا وأنت لسنا أزليين؟ تُرى من أوجدنا في بطون الأمهات؟ الخمسة أرطال من الأجهزة اللحمية التي تملأ تجويف البطن أهذه هي التي دفعت الأجنة لتخرج إلى الجو صارخة بعدما حرك الهواء الخارجي رئاتها؟ إنني أحتقر الغباء وكل ما ينتج عنه من أحكام، فدعني من مساخر هؤلاء الماديين. ربما ظن الطفل أن تحرك الصورة في المرآة يحدث من الصورة نفسها أو من سطح المرآة المصقول، وبعد قليل من رُشد سوف يدرك أن هذا التحرك يجىء من الجسم الذي يثبت الصورة، لا من الصورة المتوهمة. وناس كثيرون في طفولتهم العقلية ينسبون إلى المادة ما لا تعيه ولا تستطيعه، وقد تساءلت: من الذي صنع زخارف البصمات على أطراف الأصابع؟ الجلد نفسه؟ إنه منفعل لا فاعل. ولنترك عالم الجسم ـ على ما به من إبداع ـ إلى عالم أرقى، من الذي صنع الذكاء والغباء في عقولنا؟ أو من الذي صنع النزق والأناة في طباعنا؟ لننظر حولنا إلى "جندي مجهول " قام بهذا العمل الخارج، أنجد أحدا من الناس؟ أنجد عنصرا من العناصر؟. إن الأغبياء يتيهون أنفسهم عن الله عمدا، ويحاولون تجاهل القدرة العليا ببلاهة سمجة، وليس ذلك هو العجب، بل العجب أن من يفعل ذلك يريد أن يصف نفسه بالعلم، والتقدم، وألقاب أخرى... ص _070(1/60)
ومن قديم جحد ناس كثيرون عمل الله في كونه، ونسبوا العمل إلى أقرب مظهر له، كما ينسب الطفل تحرك الصورة في المرآة إلى المرآة. قال زين بن خالد الجهني: صلى بنا رسول الله صلاة الصبح بالحديبية ـ إثر مطر سقط ليلا ـ فلما انصرف أقبل على الناس فقال: "هل تدرون ماذا قال ربكم؟ " قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: "قال الله: أصبح من عبادي مؤمن بي، وكافر. فأما من قال: مُطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي كافر بالكواكب. وأما من قال: مُطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكواكب ". إن الذين يظنون الأشياء تحدث دون تقدير إلهي وهيمنة عليا ـ وهم في دنيانا الآن كثرـ كفار حقا. أما الذين يعرفون أن الله خالق كل شيء، وسائق كل فضل، فهم المؤمنون حقا. وسواء نسبوا العمل إلى الله، أو نسبوه إلى خلقه مجازا فهم مؤمنون بلا ريب، فمن قال: أنضج الصيف الفاكهة، يقصد أن الحرارة سبب الإنضاج، فهو مؤمن ولم يقل نُكرا، لأنه عارف أن الله هو الذي أخرج الزرع، وتفضل به على خلقه، إنما الإثم على من خلا من الله قلبه وفكره، ونسب الأشياء إلى أدنى سبب منها، وأبى أن يعترف بألوهيته وراء ما نلمح من أسباب، وقد كان النبي عليه الصلاة والسلام بين الحين والحين يكشف الغطاء عن الأسباب العادية، ويبين قيمتها ليربط الناس بربهم، ويجعل ذكره بين أعينهم. والله عز وجل لطفا منه بعباده قد يحرمهم ما يحتاجون إليه ليسارعوا إلى ساحته طالبين، ويسألون ملحين، فإذا أعطاهم أندثر مشاعر الشكر في أفئدتهم، وعادوا وقد ربا إيمانهم. وصلاة الاستسقاء، والحاجة، والاستخارة شرعت لذلك. وقد رأيت الناس في مكة ـ إذا تأخر المطرـ هرعوا إلى الصلاة، ص _071(1/61)
وصاحوا يطلبون النجدة من السماء، فما هي إلا أيام حتى ينزل الغيث. ولقد رأينا على عهد رسول الله أن الإجابة تعقب السؤال!.. ما يكاد النبي عليه الصلاة والسلام يدعو حتى تستهل السماء، وتبدأ الأنهار تتكون. الغريب أن في شرق أفريقية وغربها وقع جفاف أهلك البلاد والعباد وما فكر أحد في صلاة استسقاء، لأن الله لا يُعرف ولا يُقصد!! وتلك سمات الحضارة المادية وآثارها كما نقلها الاستعمار إلى الأقطار التي نُكبت ص _072
متاعب الدنيا البشر محكومون بقوانين اللذة والألم، قد يضعفون مع المتاعب إلى حد الهوان وقد يشتدون مع المنافع إلى حد الطغيان؟ والمطلوب من المؤمن الكيس ألا يزيغ، وألا يطغى، وأن يظل متماسكا على حاليه كلتيهما. وهو ما بقي حيا لن يستريح من اختبار، وتلك طبيعة الفترة التي نقضيها في هذه الدنيا. والآلام تكشف الضعف الإنساني، وتدفع العاقل دفعا إلى الوقوف بباب الله يطلب العافية، ويرجو رحمة ربه، ومطلوب من المؤمن أن يلجأ إلى الله في كل ما ينوبه، ولو كان تافها، قال رسول الله عليه الصلاة والسلام : "ليسترجع أحدكم في كل شيء حتى في شسع نعله، فإنها من المصائب "- والشسع رباط الحذاء. والمقصود من ذلك أن يعول المسلم في شؤونه كلها على معونة الله، وألا يتصور انقضاء شيء منها دون إذنه تعالى، ولو كان لا يلقي له بالا، فإن مصالح المرء صغراها وكثراها مرهونة بالتوفيق الأعلى. فإذا عظم الخطب اشتد إلى الله فزعه، وطالت ضراعته. فعن ثوبان أن النبي عليه الصلاة والسلام كان إذا راعه شيء قال: "هو الله، الله ربي لا شريك له ". وكان يعقم أصحابه عند الفزع هذه الكلمات: ص _073(1/62)
"أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه، وشر عباده، ومن همزات الشياطين، وأن يحضرون ". وعن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: شكوت إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام أرقا أصابني فقال: "قل: اللهم غارت النجوم، وهدأت العيون، وأنت حي قيوم لا تأخذك سنة ولا نوم. يا حى يا قيوم أهدى ليلي وأنم عيني ". فقلتها، فأذهب الله عز وجل عني ما كنت أجد. وظاهر أن الرسول الكريم يتأول آية الكرسي، أعني كلماتها الأولى، فيستوقف المرء الفقير إلى النوم، والاستغراق أمام الملك الذي يدبر ما سكن في الليل والنهار، ولا يغفل لحظة. وعندما يقف الإنسان في إطار ضعفه أمام ذي العزة والملكوت، فإنه يعود ملىء اليدين بالخير. وقد أمرنا أن ندعو الله بأسمائه الحسنى، والله يحب أن يمدح، ولذلك جاء في الحديث: "ألظوا - ألحوا - بياذا الجلال والإكرام ". وقد ذكرنا أن النبي عليه الصلاة والسلام أعلم الناس بالله، وأتقاهم له، وأبصرهم بمجالي أسمائه الحسنى في آفاق الكون والحياة، وأسرعهم إلى ما تتطلبه من مشاعر الصبر والشكر، والتحية والحمد. ويظهر لمؤرخي السيرة الشريفة أن التجارب التي مر بها قبل البعثة وبعدها أنضجت الكمال الإنساني في شخصه إلى حد لا يتكرر في الدنيا، على أن أحدا من الخلق ـ مهما كان قدره ـ لا يفرض صداقته على الله، بل الله هو الذي ـ إذا شاء ـ أحب واصطفى. وعندما يحب ويختار يسوق الأحداث التي ترفع القدر، وتزيد الأجر، ويغلب أن تكون جسيمة فادحة تنفي الراحة، والقرار الناعم. ومن هنا بدأ النبي الخاتم حياته يتيما يحتاج إلى الكافل الحاني، ولكن الله آواه، وبدأ حائرا لا يبصر المنهج، ولا يدري من حكمة الحياة شيئا، ولكن ص _074(1/63)
الله علم وهدى، وبدأ فقيرا يكدح ليحيا، ويضرب في أرجاء الأرض ليصون وجهه وعرضه، ولكن الله أغنى. وفي صفة هذه البداية وفي تقرير ما يترتب عليها يقول الله تعالى: (ألم يجدك يتيما فآوى * و وجدك ضآلا فهدى * و وجدك عآئلا فأغنى * فأما اليتيم فلا تقهر * و أما السائل فلا تنهر * و أما بنعمة ربك فحدث). والنعمة الوسطى بين هذه النعم الثلاث، الهدى بعد الضلال ـ كما عبر السيد وهو يخاطب عبده ـ احتاجت إلى سورة لتوضحها، وتكشف حقيقتها، وهي سورة الانشراح، فإن النبي عليه الصلاة والسلام نشأ في بيئة أثقلتها الجاهلية بأنواع التخفف، ومع ما فيها من سوء فهي أزكى وأسلم من البيئات التي ملأها أهل الكتاب بالتزوير والغش. وقد عاف النبي مآثر الجاهلية، كما رفض شرود النصارى واليهود، فما عساه يصنع؟ لا شيء. لقد اعتزل بفطرته النقية بعيدا، ضائقا بأحواله وأحوال الآخرين، فهو ما يستطيع أن يُسدي لأحد علما، ولا لنفسه، فمن أين له؟. والإنسان ذو الجو المرهف تشقيه أزمات الضمير والفكر، وتجعل الحياة في عينه أضيق من سم الخياط، وما يعريه متاع الدنيا كلها لو أتيح له، كذلك كان محمد حتى فجأه الوحي. وفي ذلك يقوله الله له: (ألم نشرح لك صدرك) ؟ بفيض الحقائق الأدبية التي ألهمتها؟ (و وضعنا عنك وزرك)؟ انزاح الحمل الثقيل الذي كان يبهظك وأنت مستوحش حائر منقطع؟ (الذي أنقض ظهرك) لقد كنت بهذا الحمل تهرب من المجتمع، وتأسى لنفسك ولغيرك، وتألم لعجزك، وغربتك عما حولك، ثم اجتباك الله.. ومن أرفع ممن يختاره رب الأرض والسماء ليهديه ويهدي به العالمين؟ (و رفعنا لك ذكرك ). ص _0 ص(1/64)
وسنة الحياة كذلك، الجد والجهد والتصبر يتبعها الثمر: (فإن مع العسر يسرا * إن مع العسر يسرا). والمطلوب منك ـ بعد ـ إذا فرغت من العمل أن تستأنف العمل، لا مجال للراحة: (فإذا فرغت فانصب * و إلى ربك فارغب). هكذا رأينا الإيواء بعد اليُتم، والهداية بعد الحَيرة والتوقف، والغنى بعد العيلة. والمعاناة التي ظهرت في حياة النبي الخاتم جعلته دقيق الإحساس بآلام الناس، فهو يحزن لها، ويسارع إلى تجفيفها، أو تخفيفها، وكان حقه شاملا لمختلف الآلام المادية والأدبية، فهو يود أن ينفيها كلها عن حياته، وحياة غيره. ومن الذي يقصد وجهه ويلتمس حماه عند هجوم البأساء والضراء؟ الله وحده، إنه الحرز الآمن، والمأوى الحصين، ومن ثم ذكره ودعاه بإلحاح وأدب. وهو عندما يجأر بأسماء الله الحسنى يعلم الألوف المؤلفة أن هذا هو الطريق فاسلكوه، هذا هو الأمل فانشدوه (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون). إن محمدا ليس كاهنا يقول للمذنبين: تعالوا إلي معترفين أغفر لكم، تعالوا إلي مثقلين مرهقين أخفف عنكم وارحكم.. كلا، إنه يقول: ادعوا الله معي، ادعوا الله لأنفسكم، أنا وأنتم ومن في السموات أصفار إن لم يشأ هو أن يجعلنا شيئا. إنه يجير ولا يُجار عليه، ويحكم لا مُعقب لحكمه (وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير).. ص _076(1/65)
ونثبت في هذا المجال جملة من الأدعية التي كان يدعو بها، ويرغب إلى المؤمنين أن يتقربوا إلى الله بترديدها: "اللهم إني أسألك موجبات رحمتك، وعزائم مغفرتك، والسلامة من كل إثم، والغنيمة من كل بر، والفوز بالجنة، والنجاة من النار". "اللهم ألهمني رشدي، وأعذني من شر نفسي ". "اللهم إني أعوذ بك من الجوع فإنه بئس الضجيع، وأعوذ بك من الخيانة فإنها بئست البطانة". "اللهم إني أعوذ بك من البرص، والجنون، والجذام، وسيئ الأسقام " "اللهم إني أعوذ بك من شر سمعي، ومن شر بصري، ومن شر لساني، ومن شر قلبي " "اللهم إني أعوذ بك من فتنة النار، وعذاب النار، ومن شر الغنى والفقر" "اللهم إني أعوذ بك من منكرات الأخلاق، والأعمال، والأهواء " "اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل ، والبخل والهرم ، وعذاب القبر " "اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها". "اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يُستجاب لها ". "اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافيتك، وفجأة نقمتك، وجميع سخطك ". "اللهم إني أعوذ بك من شر ما عملت، ومن شر ما لم أعمل ". ص _077(1/66)
"اغفر لي خطيئتي وجهلي، وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به منى " "اغفر لي جدي وهزلي، وخطئي وعمدي، وكل ذلك عندي ". "اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم ". "اللهم اهدني وسددني ". "اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل والجبن والبُخل والهرم. وأعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات، وضلع الدين، وغلبة الرجال ". "اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك " "اللهم إنا نعوذ بك من جهد البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء". " اللهم اغفر لي، وارحمني، واهدني، وعافني، وارزقنى" " اللهم إني أسألك الهدى، والتقى، والعفاف، والغنى ". "اللهم اغفر لي ذنبي كله، دقه وجله، وأوله وآخره، وعلانيته وسره ". "اللهم إني أعوذ بك من شر الخَلق، وهم الرزق، وسوء الخُلق ". "اللهم إني أعوذ بك من الشقاق، والنفاق، وسوء الأخلاق ". "اللهم لك الحمد كله، ولك الملك كله، وبيدك الخير كله، علانيته وسره، ولك الحمد إنك على كل شيء قدير. اغفر لى ما مضى من ذنوبى ، واعصمني فيما بقي من عمري، وارزقني أعمالا زاكية ترضى بها وتب علي ". ص _078(1/67)
"اللهم إني أعوذ بك من الفقر إلا إليك، ومن الذل إلا لك، ومن الخوف إلا منك، وأعوذ بك أن أقول زورا، أو أغشى فجورا، أو أكون بك مغرورا، وأعوذ بك من شماتة الأعداء، وعضال الداء، وخيبة الرجاء، وزوال النعمة، وفجاءة النقمة". "اللهم إني أعوذ بك من العطب، والنصب، وأعوذ بك من وعثاء السفر وسوء المنقلب ". "اللهم إني أعوذ بك من الزيغ، والجزع، وأعوذ بك من الطمع فى غير مطمع ". "اللهم إني أعوذ بك من الفتن ما ظهر منها وما بطن وأعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق " "اللهم إني أعوذ بك أن أظلم أو أُظلم، أو ابغي أو يُبغى علي، أو اطغى أو يُطغى علي ". "اللهم اجعلني لك، ذكارا لك، شكارا لك، مطواعا لك، مخبتا إليك، أواها منيبا. رب تقبل توبتي، واغسل حوبتي، وأجب دعوتي، وثبت حجتي، واهد قلبي، وسدد لساني، واسلل سخيمة صدري ". "اللهم زدنا ولا تنقصنا، وأكرمنا ولا تهنا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، وأرضنا وآرض عنا". حسبنا هذا القدر من تؤجه محمد إلى ربه، وقبل أن نتدبر بعض ما سقنا نسأل: هل في تاريخ القارات الخمس بشر أحب الله تبارك وتعالى بأحر من هذه العواطف؟. هل في تاريخ القارات الخمس عابد ضرع إلى الله بأخلص من هذه العبارات؟. إننا نقول لمن يستغربون اتباعنا لمحمد: هاتوا لنا بشرا مثله، له بالله أزكى من هذه العلاقة، ونحن نتبعه. ص _079(1/68)
إننا نحن الذين نرثي لمن جهل محمدا أو عاداه، ونستغرب العمى الذي حجبهم عنه. إن أفئدة الخلائق ـ حين تهتدي ـ وراء فؤاد محمد وهو ينبض بتوحيد الله وتمجيده، وجوارحها ـ حين تخضع ـ وراء كيانه حين يتابع بين ركوعه وسجوده.. تكون في أزكى أحوالها وأشرفها؟ نعم، إن الإنسانية الراشدة يمثلها هذا العَلم المفرد، الذي تفانى في ذكر الله وطاعته. وإذا افترضنا أن كل ما يمتلك قلب المرء دون ربه صنم، سواء فى ذلك المال والهوى وحب النفس، وحب الغير، فإن الإنسان الذي حطم الأصنام كلها، وجعل المرء لله وحده هو محمد.. الذي امحت من بصيرته ظلال الأشياء، ولم يبق فيها إلا إجلال الله، وإعظامه. وراء ذلك التقي النقي تقف جماهير هائلة من القانتين، وقلب كل منهم يؤمن على دعائه وهو يهتف بربه: "اللهم اجعلني لك، ذكارا لك، شكارا لك ". والأدعية التي أثبتناها في هذا الفصل تشير إلى جملة أمور: أولها: أن الرسول يكره المرض، خصوصا العضال منه، ومن منا يحب أنواع الخفى والسرطان؟ إن إيثار العافية فطرة الله في الأنفس، وما يحب الأوجاع إلا مختل المزاج. ومن ثم رأينا النبي عليه الصلاة والسلام يدعو ربه طالبا سلامة الحواس والأعضاء، مستعيذا به من السقام، والعجز، والهرم. والمعروف من سيرته عليه الصلاة والسلام أنه كان متين البنيان يهزم المصارعين، ويسير المسافات الشاسعة دون إعياء، ويحمل أعباء الجهاد دون نكوص. والمرء يدهش لأناس يجعلون النحافة والشحوب أمارات التقوى، وقد ظهر هذا الخلل بين الهنود أولا، ثم نقله النصارى إلى عناصر الرهبانية، ثم نقله جهلة الصوفية إلى الإسلام. ص _080(1/69)
ونشا عن ذلك ان البعض اعتبر "الفحولة" قدحا في الانسانية او نقصا في السمو الروحي.. كان المخنثين واشباههم يصعدون الى مستوى الملائكة بالضعف الجنسي. الواقع ان محمدا كان مثالا عاليا للبشر، صادقا مع منطق الطبيعة، عندما سال الله البعد عن الآفات والعلل. فإذا عرا المرء شيء بعد ذلك من المتاعب صبر عليه وسلم لله فيما أراد، وقال كما قال خاتم الأنبياء: "إن لله ما اخذ، ولله ما أعطى"، أو قال كما علمنا الله : " إنا لله وإنا إليه راجعون ". الأمر الثائي: أعلن النبي كرهه للفقر والدين، وشتى الأزمات التي تعكر الصفو وتذل الناس، وعندي انه من السخف تحبيب العيلة إلى الناس باسم الله. والفرق بارز بين الكفاية الواجبة، والزيادة المغرية بالطغيان والعبث وقد يتفاوت حد الكفاية بين شخص وآخر؟ والمهم أن صاحب الرسالة كان يسأل الله- كما جاء في بعض الآثار- عيشا قارا، ورزقا دارا، وعملا بارا، وكان كثير الدعاء: "ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار". فإذا عرض حصار، أو وجب كفاح، تحمل القلة بجلد، ولم يفقد البشاشة والاتزان. وإذا أقبل الكثير صرفه إلى الآخرين بسماحة ورغبة، وهناك يقين بان شيئا من أعراض الدنيا لم يملكه، بل أمره كما جاء في دعائه: "اللهم اجعل حبك أحب إلي من نفسي، وأهلي، ومالي، وولدي، ومن الماء البارد على الظمأ". الأمر الثالث: هناك ناس يكرهون من فوقهم ويحقرون من دونهم وهذا الصنف السيئ يملا جنبات المجتمع، وقد أعلن عليه الإسلام حربا صريحة فقال النبي عليه الصلاة والسلام: "ليس منا من لم يوقر كبيرنا ص _081(1/70)
ويرحم صغيرنا، ويعرف لعالمنا حقه ". والنبي الكريم يلقى الناس بشعور واحد، إنه لا يريد أن يكون جبارا في الأرض أو ملكا على العباد، انه لا يريد علوا في الأرض ولا فسادا، وفي الوقت نفسه يحب أن ينجيه الله من استطالة السفهاء، وجور المعتدين. من أجل ذلك كثر في دعائه الاستعاذة من الفتن والبغى والغدر والجهل، وكل ما يخدش كرامة الإنسان الكريم على نفسه. ومع ذلك قبل أن يهون في ذات الله ويُشتم ويُروع. وكل ما حرص عليه ألا يكون غاضبا منه: "... إن لم يك بك علي غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك أوسع لي ". وهنا نقرر حقا للنبي عليه الصلاة والسلام نبهنا إليه، ورغب إلينا فيه هو أن نصلي عليه. وما معنى الصلاة عليه؟ إنها استرحام مقرون بالثناء. أي أن المؤمنين يسألون الله لنبيهم محمد علو شأن، وزيادة فضل كفاء ما أسدى لهم من جميل، وقام به من جهاد. وقد أمرنا الله أن نصلي على نبيه، وأخبرنا أنه- تبارك اسمه- يصلي هو وملائكته على هذا النبي الكريم كما جاء في القران إن الله وملائكته يصلون على المؤمنين فما معنى هذه الصلوات؟ ظاهر من الصلاة على المؤمنين أنها توفيق لهم وبركة في سعيهم، وإنها عون من الله لإخراجهم من الحيرة والشرود والمضايق إلى السعة والضياء والاستقامة، وهي نابعة من رحمة الله وفضله، وذلك ما تشير إليه الآية: (هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور وكان بالمؤمنين رحيما * تحيتهم يوم يلقونه سلام وأعد لهم أجرا كريما). ويزداد هذا العطاء للمصابين من أهل الإيمان، الذين يُختبرون في أنفسهم وأموالهم، فلا يهتز يقينهم، ولا تنتهي بالله صلتهم، بل يسلمون ص _082(1/71)
ويسترجعون: (أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون). فإذا كان المؤمنون الصابرون يلقون من الله هذه الحفاوة، فكيف بالإنسان الذي حمل الجهد الأكبر في غرس الإيمان، ووقف دونه يذود شياطين الإنس والجن، وربط حياته بهذه الغاية الشريفة، فلا هم له إلا هداية الناس، ولا فرحة له إلا أن يعبد الله في الأرض؟. إن الملأ الأعلى يرقبون كفاحه بإعجاب، ويدهشون كيف- وهو الفرد الضعيف المتجرد- هزم المبطلين، ومحا جاهليتهم، وأقام دولة التوحيد وأمته الكبرى. ذاك معنى قوله سبحانه وتعالى : (إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما) إن صلاتنا عليه تصديق برسالته وانتصار لها، وولاء لصاحبها، وتحية إعزاز وحب؟ إنها الرباط الجامع بين القائد وجنده، أو الإمام وأتباعه، على طاعة الله، والتزام نهجه، والبقاء عليه إلى يوم اللقاء الأخير. ذلك... وكل شيء في الكون يشارك في التسبيح لته والصلاة له: (ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات والأرض والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه والله عليم بما يفعلون). ونحن نؤثر في الصلاة على رسول الله ما ورد من صيغ سهلة واضحة، ونكره الصيغ المتكلفة أو المبهمة التي ألفت لها كتب، وانعقدت مجالس واخترعت للنبي العظيم أسماء ما أنزل الله بها من سلطان. وليس المهم ترديد عبارات بليغة وإنما المهم عرفان الجميل للنبي الصالح المصلح، وتقدير الجهاد الذي محا به ظلمات الجاهلية، وكشف ص _083(1/72)
أشباحها، وأسس دولة للحق أعزت من يستحق العزة، وأهانت من يستحق الهوان.. هذا هو المعنى الحقيقي للصلاة على النبي. وهو ما رصدت له الأجور المروية في هذه القضية، لا ما يهدف به أدعياء الحب الذين لا يثبتون في الدفاع عن سنة، أو حماية شعيرة. نعم فى المجاهدين عن الدين والمقدرين لرسوله يساق الحديث: "من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرا " وحديث عبد الله بن مسعود أن رسول الله قال: " أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم علي صلاة" وعن أبي هريرة: "لا تجعلوا قبري عيدا، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم ". ولعالم الأرواح سنن فوق ما ندرك في عالم المادة تجعل هذا البلوغ ميسورا، ولا نحب أن نوغل في هذه الأمور. وفيما قرأنا، ونقرأ، من أدعية النبي الكريم نرى طول نفسه في الاستغفار، كما نرى أن القرآن الكريم نسب إليه ما نسبه هو إلى نفسه من ذنوب غفرت له بفضل الله فما معنى ذلك؟ وماذا صنع مما يؤاخذ به؟. ونحن نجيب على ذلك بهدوء، فإن صفحة محمد عليه الصلاة والسلام هي أنقى صفحة بين أهل الأرض والسماء، وما نعرف أحدا تبعته الأبصار في صغره وكبره، ويقظته ومنامه، وسره وعلنه، كما تبعت محمدا وأحصت عليه كل شيء. وماذا قال أعداؤه عنه مما يخدش البطولة أو ينقص المروءة؟ لا شيء. ما نقم منه الناقمون إلا أن الضربات التي كالها للباطل ظل يترنح منها إلى آخر الدهر، وأن منهجه في توحيد الله، وتحشيد الناس على عبادته، لم يقترب منه أحد من الأولين والآخرين. ص _084(1/73)
ولم ينسب إليه ـ ولو بطريق الكذب- ما نسبه أهل الكتاب إلى أنبياء الله من سكر، وزنى، وقتل، وختل...! وأنبياء الله كلهم براء من هذا الاختلاق، وإمامهم الشامخ محمد بن عبد الله أسمى قدرا، وأعز مكانا. إذن فمم الاستغفار؟ إن التفاوت بين النفوس كبير جدا، ذلك أن ما تملك من طاقات مادية وأدبية يختلف اختلافا واسعا، وموقفها مما وهب لها هو الذي يحدد نجاحها ورسوبها، أو تقدمها وتأخرها، ولا عبرة بظاهرة العمل. إن الأرنب يقدر في لحظات على اجتياز عدة أذرع على حين تستغرق السلحفاة في ذلك أمدا، ولا مكان للومها على بطئها إذا كانت قد بذلت وسعها. والبشر ليسوا سواء في هممهم ونظراتهم وإمكاناتهم، وهم مسؤولون أمام الله على قدر ما وهب لهم من تلك الأنصبة، ومعنى ذلك أنه قد يقبل من أحدهم ما يرفض من الآخر، ولعل ذلك معنى قول أبي الطيب: ويختلف الرزقان، والفعل واحد إلى أن يرى إحسان هذا لذا ذنبا نعم، قد تكون الحسنة من هذا سيئة من ذاك، لبُعد ما لدى كليهما من مواهب عقلية وحسية، ولذلك قالوا: (حسنات الأبرار سيئات المقربين). والواقع أن ما يُقبل من شخص عادي قد يُعد هنة من رجل عبقري، ومن هنا يمكن القول بأن ما ينسب- حينا ـ إلى الأنبياء من ذنوب إنما هو على مقدار درجاتهم، وأن هذه الذنوب ليست ما يواقع العامة من كبائر أو يتلوثون به من أوحال. وقد كتب الأستاذ العقاد مقالا عن المقاييس الأدبية، جاء فيه أنه ينبغي في بعض الأحوال النظر إلى من قال، لا إلى ما قيل.. فإن أبا العلاء المعري عندما ينشد: ص _085(1/74)
تعب كلها الحياة فما أعجب إلا من راغب في ازدياد فإنه لا يعني ما يعنيه الحمالون فى محطات السكة الحديد، أو ما يعنيه الفلاحون وهم ينقلون الأتربة والبذور. وهذا كلام حسن، ومن السخف تصور المرسلين يقترفون خطايا الدهماء، إن ما يستغفرون له من أخطاء شيء آخر يتفق مع معادنهم المنتقاة. والنسبة أمر لا بد منه، فركاب الطائرات قد ينظرون من مكانهم العالي إلى ركاب القطارات، ولكن ركاب السفن الفضائية يضحكون من ركاب الطائرات.. ويأخذ الأمر صفة أخرى عند سكان الكواكب. على أن هناك منطقا آخر يتمم هذه النظرة التي شرحناها فيما ينسب إلى الأنبياء من ذنوب. إن الإنسان الواحد- فيما يمر به من أطوار الكمال- يمكن أن يكون عدة أناس، إنه يرقى من سماء إلى سماء، وحاله في الأولى أدنى من حاله في الأخرى، وهو إذ ينظر إلى دنوها- بالنسبة إلى ما صار إليه- يستغفر ربه، ويستصغر ما قدم له، ويعده فعلا رديئا ما كان ينبغي منه، وكلما مضى في معراج الارتقاء، وتكشف له من آيات الجمال الأعلى ازداد ولها بالتمجيد والتحميد، وازداد كذلك لهجا بالتوبة والاستغفار. ونحن على صعيدنا القريب عندما نرمق محمدا عليه الصلاة والسلام في عبادته وقيادته نرى أنه في فلكه العالي يرتفع من أفق إلى أفق، فآيات القرآن تزيد يوما بعد يوم، ومراحل الجهاد تطرد مرحلة بعد مرحلة، وأعباء الهداية العامة تشتد وطأتها، وتنداح دائرتها. إن الذي صاح على الصفا يدعو عشيرته الأقربين أخذ يكاتب ملوك العصر وجبابرة الأرض.. والذي خاصم نفرا يُعدون على الأصابع أول أمره شرع يعد الجيوش لمقارعة الضلال وكسر كبريائه.. ولمن هذه المعاناة الموصولة في جهاد النفس وجهاد الناس؟.. لله وحده. ص _086(1/75)
لقد قام الليل إلا قليلا من أول أيام البعثة، ومضى على الدرب الطويل يواصل الصلاة والصيام والعطاء، " ويقاوم الوثنية والخرافات وعوج الجهال والمتعالمين. هل استراح يوما؟ كلا! كلما شعر أن الله اختاره لهذه الرسالة أفنى قواه في البلاغ والجهاد، وحطم العوائق ومضى في إعلاء اسم الله، فلا عجب إذ تنزل عليه قبيل الفتح الأكبر: (إنا فتحنا لك فتحا مبينا * ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما). إن الغفران هنا ليس لذنوب واقعة أو متوقعة، وإنما هو تبشير المجاهد في سبيل ربه بأنه نجح فيما كلف به، وإن الشعور بالتقصير أو العجز عن الوفاء بحقوق الله كما يحبها القائد الضخم أمر متجاوز عنه. لا ذنوب هنا مما يألف العوام، إنما هو إحساس نبي الأنبياء بأنه - وإن أذاب نفسه في مرضاة ربه - فهو مقصر في حقه، متخلف عن أداء واجباته العظام؛ من أجل ذلك كرمه الله، وساق له البشرى. وعندما يقول الله لعبد: غفرت لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر. فليس معنى هذا إسقاط التكاليف، وإعطاء المرء حرية أن يفعل أو يترك. هذا فهم بادي السوء والغفلة؛ وإنما المراد أن العبد بلغ مستوى من الرفعة لن ينحدر عنه، وأن مستقبله لن يكون إلا امتدادا لحاضر طيب موصول بالله مراقب له. وقد وُعد الرسول بهذه المغفرة الشاملة، كما أن الرسول بشر بهذه المكانة أهل بدر، وعثمان بن عفان لما أعطى مالا ضخما في غزوة العسرة. وفي الصحيح أن الله بشر بهذه المنزلة الرجل التائب الذي يستغفر الله من قلبه في أعقاب ذنبه قائلا: "علم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويؤاخذ به.. افعل ما شئت فقد غفرت لك ".. ص _087
إن المفهوم من هذا أن الله يكتب للعبد حقه أو صفته من الحال الثابتة التي بلغها في حياته، ويسجلها له قبل وفاته، لأنه يعلم منه أنه لن يتعرض بعدها لنكسة... ص _088(1/76)
هل الدعاء من الأسباب العادية ؟ نستطيع أن نقول: نعم إذا تصورنا القضية ليست أكثر من استعانة عاجز بقادر. إن الولد عندما يقول لأبيه: هات لي كذا مما يؤمل ويحب، فهو يستعمل السبب المتاح له، أي الوالد المحب، وإن كان بوسائله الخاصة لا يقدر. والأنبياء عندما لجأوا إلى الله يدفعون به أذى الكافرين كان الدعاء سببهم العادي: (كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر * فدعا ربه أني مغلوب فانتصر * ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر * وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر). وليس كلامنا الآن في هذا المنحى، وإنما نقصد ما روي في الصحاح من أذكار ورقى يرددها المؤمنون في أوقات معينة، أو في أوجاع وأحوال يضيقون بها، ويستعينون بالله لدفعها. ثبت في الصحاح أن رسول الله عليه الصلاة والسلام كان إذا أخذ مضجعه - استعد للنوم - نفث في يديه، وقرأ المعوذتين ومسح بهما جسده. وفي رواية كان إذا أوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه، ثم نفث فيهما، وقرأ فيهما: (قل هو الله أحد..) و (قل أعوذ برب الفلق.. ) ص _089(1/77)
و (قل أعوذ برب الناس..) ثم مسح بهما ما استطاع من جسده، يبدأ بهما على رأسه، ووجهه، وما أقبل من جسده، يفعل ذلك ثلاث مرات. قال رجال اللغة: النفث نفخ لطيف بلا ريق. إن هذه السور الثلاث تحتوي على توحيد الله، وعلى تمام تنزيهه، ثم تدفع بالمرء في أحضان العناية العليا متحصنا من جميع الشرور المادية والمعنوية التي تزعجه. وهناك رقى كثيرة سنشير إلى بعضها؛ يستشفي بها المسلم من الأوجاع التي تنتابه، واتصالها بعالم الغيبيات واضح، إذ لا يدري العقل سر النفث ولا سر العدد الوارد. وأجدني هنا مسوقا إلى ذكر حقائق طبية مقررة تقفنا هي الأخرى على حافة عالم الغيب متحيرين؛ إن الجراثيم التي تحمل العلل قد تهاجم بعض الأجسام بضراوة، على حين تفقد شراستها حين تتصل بأجسام أخرى، فما تمسها بأذى يذكر!. وأحيانا تشتد وطأة الجراثيم الهاجمة، ومع ذلك تستقبلها من الجسم مناعة غريبة، وربما حمل الإنسان أسباب المرض دون أن يعتل به، أو يتألم منه. ما سر ذلك؟ من الذي أفقد الجراثيم قدرتها على الإصابة ابتداء وانتهاء؟ نحن المؤمنين نقول: الله. ونسأل الشاكين: من غيره؟ إن عالم الحس بالنسبة إلى عالم الغيب ضئيل محدود، والتحكم في أسباب المرض والعافية أقله في أيدينا، وأكثره بعيد عن متناولنا. والتداوي حق، وقد وصفت السنة عقاقير وأغذية وأشربة شتى للنجاة من الأمراض، ولكن يبقى قبل ذلك كله، وبعد ذلك كله، هذا السبب الخفي الذي يجعل الجراثيم تستأنس حينا، وتفترس حينا آخر، الذي يجعل العدوى تنتقل من الهباء، ولا تنتقل مع طول المخالطة والالتصاق. ص _090(1/78)
من أجل ذلك يبقى دعاء الرب الأعلى، واهب الأسباب قدرتها على العمل إذا شاء، وتاركها صفرا لا أثر لها إذا شاء. وعلى ضوء هذا البيان نفهم المرويات التي نثبتها هنا واثقين من صدق نتائجها. عن عثمان بن أبي العاص أنه شكا إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام وجعا يجده في جسده، فقال له رسول الله عليه الصلاة والسلام : "ضع يدك على الذي تألم من جسدك، وقل: باسم الله- ثلاثا- وقل- سبع مرات- أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر". وعن أنس رضي الله عنه أنه قال لثابت رحمه الله: ألا أرقيك برقية رسول الله عليه الصلاة والسلام؟ قال: بلى. قال: "اللهم رب الناس، مُذهب البأس، اشف أنت الشافي، لا شافي إلا أنت، شفاء لا يغادر سقما ". وهذه قصة طريفة رواها البخاري ونحب أن نثبتها ونتدبرها. فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (انطلق نفر من أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام في سفرة سافروها، حتى نزلوا على حي من أحياء العرب فاستضافوهم فأبوا أن يضيفوهم، فلُدغ سيد ذلك الحي، فسعوا له بكل شيء لا ينفعه شيء. فقال بعضهم: لو أتيتم هؤلاء الرهط الذين نزلوا لعلهم أن يكون عندهم بعض شيء. فأتوهم، فقالوا: يا أيها الرهط، إن سيدنا لُدغ، وسعينا له بكل شيء لا ينفعه شيء. فهل عند أحد منكم شيء؟. قال بعضهم: إني والله لأرقي، ولكن والله لقد استضفناكم فلم تضيفونا فما أنا براق لكم حتى تجعلوا لنا جعلا. فصالحوهم على قطيع من الغنم، فانطلق يتفل عليه ويقرأ: (الحمد لله رب العالمين... ) - يعني ينفث بها على اللديغ- فكأنما نشط من عِقال، فانطلق يمشي وما به قلبة، فأوفوهم جعلهم الذي صالحوهم عليه. ص _091(1/79)
وقال بعضهم: اقسموا، فقال الذي رقى: لا تفعلوا حتى نأتي النبي عليه الصلاة والسلام ، فنذكر له الذي كان، فننظر الذي يأمرنا. فقدموا على النبي عليه الصلاة والسلام ، فذكروا له، فقال للصحابي الذي رقى المريض بأم الكتاب: "وما يدريك أنها رقية"؟ ثم قال: "قد أصبتم، اقسموا واضربوا لي معكم سهما ". وضحك النبي لما كان). وفي رواية مشابهة قال النبي للراقي: "كل فلعمري لمن أكل برقية باطل لقد أكلت برقية حق ". لقد استوقفتني هذه القصة من وجوه عديدة. فإن فاتحة الكتاب سورة عظيمة القدر بما حوت من تمجيد لله ودعاء، وكان ظني أنها تنفع قارئها وحده، أما أن تنفع المقروء له فذاك ما أثبتته القصة هنا. والقصة تحكي أن هؤلاء النفر من صحابة الرسول نزلوا بقوم لئام، رفضوا أن يقبلوهم ضيوفا، وهذه خسة منكورة، ترى هل فعلوا ذلك بُخلا أم فعلوا ذلك كرها للإسلام، والذين دخلوا فيه؟ إنني أرجح السبب الأخير. وكان من قدر الله أن أفعى أو عقربا لدغت كبير القوم وتركته لا قرار له ولا يجدي معه شيء، مما اضطر أهله أن يلجأوا للصحابة طالبين نجدة!. والغريب أن الذي داوى المريض بالفاتحة ينفث بها على المصاب هو الذي توقف في الانتفاع من المكافأة التي اشترطها، وشك في جواز الأكل منها، وهو تصرف يدل على أن الراقي كان يجمع بين صدق الإيمان وشدة الورع. وهنا موطن العبرة: فليس كل قارئ يشفي، ولا قراءة تداوي، ولكن لله عبادا إذا أرادوا أراد، وإذا استنزلوا الفضل نزل. وقد فرح الرسول عليه الصلاة والسلام بالقصة كلها، وأحب إرضاء الراقي، فشاركهم في الطعام من المكافأة المبذولة. ص _092(1/80)
ولم لا يفرح بأثر الوحي النازل عليه إذا صحبه اليقين الحاز والعمل البار؟. إن الجانب الغيبي في هذه المرويات ما يمكن إنكاره، وكذلك ما يمكن تعميمه بين أهل السبق والتقصير، أو بين من لهم بالله علاقة وثيقة ومن يمتون إليه بأوهى الصلات. وأغلب الصالحين يستمد صحته الجسدية، ومقاومته للأدواء والأوجاع من هذا النبع الجياش في فؤاده يمده بعفو الله، وعافيته. ونعود إلى إمام الصالحين محمد بن عبد الله لننقل عنه أنه كان يغالب المتاعب العارضة باللجوء إلى الله والاستعاذة به. قد تقول: إننا عرفنا عنه سلامة البدن وقوته، وأنه أوتي من ذلك ما لم يؤت غيره، فمن أين تجيئه هذه الأسقام الملجئة إلى التعوذ والضراعة؟. ونقول: لا ريب أن خاتم المرسلين أوتي بسطة في العلم والجسم تعينه على أضخم رسالة حملها بشر. لكن سهر الليل في التهجد والتلاوة، وسبح النهار في العبادة والكدح، والجهاد المتصل، وحمل آلام الخلق، واطراد هذه المعاناة ربع قرن وهي تربو، ولا تخص.. مع تخفف مستغرب من الطعام والشراب، هذا كله أعيا الجسد الجلد، وأرهقه. لقد رمقت عددا من كبار القادة فوجدتهم يتناولون مقادير كبيرة من المنبهات والمقويات، ويستهلكون مقادير أخرى من المآكل والمشارب، على حين رأيت في سيرة محمد أنه يحتاج إلى الطعام، فيؤتى له بخل- إذ لا يوجد غيره- فيغمس فيه اللقيمات المتاحة، وهو راض يقول: "نعم الإدام الخل "، أو لعله لا يجد شيئا فينوي الصيام إلى الغروب. أى جسد يتحمل مع هذا الإقلال أعباء الغزوات التي قصمت الوثنية، وأعباء التربية التي أطلعت من الجزيرة القاحلة رجالا أضاءوا العالمين. إن الإمدادات الروحية الهابطة من السماء هي من وراء هذه الأعصاب الحديدية: ذكره لله، ودعاؤه لله، وتفويضه لله. ص _093(1/81)
جاء في الصحيح أنه كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذات وينفث، قيل للزهري - أحد رواة الحديث -: كيف ينفث؟ قال: (ينفث على يديه، ثم يمسح بهما وجهه). لقد ظل كذلك طول عمره، ففي رواية أخرى: أن النبي كان ينفث على نفسه في المرض الذي توفي فيه بالمعوذات، قالت عائشة: (فلما تفل كنت أنفث عليه بهن، وأمسح بيد نفسه لبركتها) تعني - رضي الله عنها - أنها تمسح جسده بيده هو، التماس بركتها. ذاك طبيبه الخاص في دنيا الناس! إذا كان للرؤساء أطباء خاصون بهم. وكذلك كان يغالب الأسقام، حتى استراح مع الرفيق الأعلى. إن تعبيرنا هنا بالجانب الغيبي قد يصح بالنسبة إلى جمهرة الناس، فإن ظلال الأشياء لا تغادر بصائرنا، ورغائبنا الخاصة قلما تنفك عنا، مع ما يخالط ذلك كله من يقين وإخلاص؛ لكن الأمر بالنسبة إلى الأنبياء غير ما نتصور، فهم في شهود غالب يجعل إحساسهم برب الأشياء أسبق من حسهم بالأشياء نفسها. ونبي الأنبياء عليه الصلاة والسلام كانت روحانيته عارمة، والإشراق الإلهي على قلبه لا يلحقه أفول، وكان جهده أن يرفع مستوى من حوله، وآن يغلب ماديتهم بصفائه وسنائه. وذلك يجعلنا نلقي نظرة عجلى على أركان الإسلام لنرى كيف كانت معارج ارتقاء، ومصادر تذكر دائم لله، ولنرى كيف انفرد هو بأدائها على نحو لا يُدانى ولا يُرام!. ص _094(1/82)
الأركان العامة كان النبي عليه الصلاة والسلام إذا دخل الصلاة قال " الله أكبر كبيرا والحمد لله كثيرا وسبحان الله بُكرة وأصيلا، وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا مسلما وما أنا من المشركين. إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين. لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين ". "اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت، أنت ربي وأنا عبدك. ظلمت نفسي، واعترفت بذنبي، فاغفر لي ذنوبي جميعا، لا يغفر الذنوب إلا أنت. واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها لا يصرف سيئها إلا أنت ". "لبيك وسعديك، والخير كله في يديك، والشر ليس إليك، أنا بك وإليك، تباركت وتعاليت، أستغفرك وأتوب إليك ". ومعنى الشر ليس إليك: أنه لا يبدأ به عبدا، وإنما يجلبه العباد على أنفسهم بسوء عملهم: (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير). وربما قال عليه الصلاة والسلام في مفتتح صلاته: "اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب. اللهم نقني من خطاياي كما يُنقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد". ص _095(1/83)
وربما قال: "سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك ". وربما قال في ركوعه إذا ركع: "اللهم لك ركعت، وبك آمنت، ولك أسلمت، خشع لك سمعي، وبصري، ومُخي، وعظمي، وعصبي ". وربما قال بعد الرفع من الركوع: "ربنا لك الحمد، حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، ملء السموات، وملء الأرض، وملء ما بينهما، وملء ما شئت من شيء بعد. أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد ـ وكلنا لك عبد ـ : لا مانع لما أعطيت، ولا مُعطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد " أي لا ينفع أحدا ما قسمت له من دنيا عريضة، إنما ينفعه ما يلقاك به من تقوى وأدب. وربما قال في سجوده: "سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء، والعظمة" أو قال: "اللهم أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، سبحانك! لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك ". إنني عندما أتلو هذه العبارات المضيئة أشعر كأن الأنبياء كلهم، والملأ الأعلى معهم، يقفون وراء محمد صفوفا صفوفا، وهو يدعو بما أفاض الله على قلبه ولسانه، وهم يؤمنون ويؤكدون!. وقد أسأل: هل هناك عنصر من عناصر العبودية، أو معلم من معالم الرغبة والرهبة فات محمدا، وهو يناجي ربه؟. هل أدى أحد من الملائكة المقربين، أو الرسل المكرمين تحية لرب العالمين أزكى من هذه التحية، أو مدحا أسنى من هذا المدح، أو اعتذارا على تقصير أرق من هذا الاعتذار. والتقصير هنا يرجع إلى واحد من أمرين: أن طاقة البشر محدودة والواجب كبير، أو أن عظمة الرب فوق ما يعي الواعون، فالألفاظ تفنى، وحق الله أكبر مما يقولون . ص _096(1/84)
علي أنه في ميدان التعبد لله، بحسن المعرفة وإسداء. الشكر، نرى إنسانا فذا، سبق سبقا بعيدا، تحبو البشرية وراءه، وهي مبهورة الأنفاس، وفي مسامعها أصداء تسبيح وتحميد تتجدد ولا تتبدد. من هذا العابد المستغرق الأؤاه المنيب؟ إنه محمد بن عبد الله. ونهبط من هذا الأفق لنسمع فحيح بعض الأفاكين يقول: ليس محمد نبيا!. ومن قبل ذلك استمعنا إلى سخفهم وهم يقولون: لله ولد، وهو معه إله. ويْحَكم!!. إنه لا إله إلا الله، وإن محمدا رسول الله. * * * * إن الصلاة هي الركن الثاني فى الإسلام، ولا مجال هنا لشرح أقوالها وأفعالها، وما سقناه من أدعية وأذكار ليس من قبيل الواجب، فالصلاة تتم بقراءات وأذكار دون ذلك، وإنما أردنا أن نشير إلى فن الذكر عند كبير العابدين. والصلاة هي العبادة الأولى في كل دين، وقد كانت الشغل الشاغل للنبي عليه الصلاة والسلام، وقد جعلها شارة التقوى، ومظهر الخضوع والتودد، وشعار الولاء المطلق لله رب العالمين. ولا صلاة مع فساد المعرفة، أو رفض الانقياد لله، فتصور الألوهية شركة كفر، والتمرد على شرائع الله كفر. وتوجد معابد لشتى الأديان، بيد أن الإسلام جعل العبادة ارتباطا بإله واحد، واستمدادا من إله واحد، واحتكاما إلى إله واحد، وعودة ـ في النهاية ـ إلى هذا الإله الواحد. والنبي العربي المحمد أفضل من عرف الخلق بهذا الإله الواحد، وحببهم فيه، وأشعرهم بأن ربهم أرحم بهم من الوالد والوالدة، وأعطف عليهم من كل صديق. ص _097(1/85)
وقد بينا في مواضع أخرى أن منهاج الإسلام في التربية يجمع بين صفات الجلال وصفات الجمال، وما يستغني البشر عن هذا الجمع، فهناك فراعنة تغريهم السلطة بالبغي، وهناك فقراء يعوزهم الدعم، أو مخطئون يلتمسون الهدى والمتاب. في هؤلاء وأولئك تقرأ قوله تعالى : (إن بطش ربك لشديد * إنه هو يبديء و يعيد * و هو الغفور الودود * ذو العرش المجيد). وما يحبب في الله وما يؤسس مشاعر الحب في الأفئدة فيض غامر فى رسالة محمد عليه الصلاة والسلام، لا نعرف له نظيرا في أي تراث. إذا اعترضتك مشكلة، ولم تدر كيف تتصرف بإزائها، فالجأ إلى ربك تستفتيه، وسله أن يوجهك إلى الأفضل، إنه منك قريب فلماذا تتركه؟. عن جابر بن عبد الله: كان رسول الله يعلمنا الاستخارة فى الأمور كلها كما يعلمنا السورة من القرآن، يقول: "إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب. اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي فى ديني ومعاشي، وعاقبة أمري - أو قال: عاجل أمري وآجله - فاقدره لي، ويسره لي، ثم بارك لي فيه. وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري - أو قال عاجل أمري وآجله - فاصرفه عني واصرفني عنه، واقدُر لي الخير حيث كان، ثم رضني به " ويسمي حاجته. استغربت من بعض أعداء محمد، وهم يقولون متهكمين: إن رب محمد جبار متكبر!. قلت: ليكن! هل يكسر جبابرة الأرض إلا جبار السماء، وهل يمحو كبرياءهم إلا الكبير المتعال؟. ص _098(1/86)
إن إنقاذ الدنيا من أولئك المدفرين رحمة ففداة. ومع ذلك فإن مؤذب الطغاة يقول لطمنكسرين: أنا معكم جابر، ويقول للمستهدين: أنا لكم مرشد، ويقول لطلأب خيره: اسألوا الله من فضله إن الله كان بكل شيء عليماً. إذا كانت لك حاجة فتعاذ بها إلى ربك، إنه لن يتعب في قضائها: (إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون). عن عبد الله بن أبي أوفى، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من كانت له حاجة إلى الله تعالى ، أو إلى أحد من بني آدم فليتوضأ، وليحسن الوضوء، ثم ليصل ركعتين، ثم ليثني على الله عز وجل، وليصل على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ثم ليقل: لا إله إلا الله الحليم الكريم. سبحان الله رب العرش العظيم. الحمد لله رب العالمين. أسألك موجبات رحمتك، وعزائم مغفرتك، والعصمة من كل ذنب، والغنيمة من كل بر، والسلامة من كل إثم، لا تدع لي ذنبا إلا غفرته، ولا هما إلا فرجته، ولا حاجة هي لك. رضا إلا قضيتها يا أرحم الراحمين ". * * * وتنقضي الدنيا بأفراحها وأحزانها، وتنتهي الأعمار على طولها وقصرها، ويعود الناس إلى ربهم بعد ما أمضوا فترة الامتحان على ظهر الأرض (كما بدأكم تعودون * فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة). أصبحت الدنيا ذكريات.. وها هم أولاء بنو آدم يضعون أقدامهم على عتبات الآخرة. ويموت مسلم في المدينة المنورة، ويقف النبي الكريم مصليا على جنازته، ويقدمه إلى ربه قائلا: "اللهم اغفر له وارحمه، وعافه، واعف عنه، وأكرم نزله، ووسع مدخله، واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من ص _099(1/87)
الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله دارا خيرا من داره، وأهلا خيرا من أهله، وزوجا خيرا من زوجه، وأدخله الجنة وأعذه من عذاب القبر، ومن عذاب النار". قال راوي الحديث: ( لقد تمنيت أن أكون ذلك الميت الذي ظفر بهذه الدعوات المباركات). واختار الشافعي من أدعية الرسول الكريم هذا الدعاء: "اللهم هذا عبدك وابن عبدك، خرج من روح الدنيا وسعتها ومحبوبيها وأحبائه فيها إلى ظلمة القبر، وما هو لاقيه. كان يشهد أن لا إله إلا أنت، وأن محمدا عبدك ورسولك وأنت أعلم به . اللهم إنه نزل بك وأنت خير منزول به، وأصبح فقيرا إلى رحمتك وأنت غني عن عذابه، وقد جئناك راغبين إليك، شفعاء له. اللهم إن كان محسنا فزد في إحسانه، وإن كان مسيئا فتجاوز عنه، وآته برحمتك رضاك، وقه فتنة القبر وعذابه، وافسح له في قبره، وجافي الأرض عن جنبيه، وتقيما برحمتك الأمن من عذابك، حتى تبعثه إلى جنتك يا أرحم الراحمين ". الصلاة على المؤمنين كتاب موقوت، ترتبط بحركة الشمس الظاهرة، قبل الشروق بنحو ساعة ونصف، ثم بعد ما تتوسط كبد السماء، ثم بعد ما تميل وتتضاعف الظلال، ثم بعد ما تغرب، ثم بعد ما يختفي الشفق الأحمر. وكما يرعى المسلمون الشمس لضبط عبادتهم اليومية يرعون القمر لضبط فرائض الصيام والحج. إن الزمن في حياتهم مطية إلى الآخرة، وقد لفت النبي - صلى الله عليه وسلم - أنظارهم إلى الشمس في سمائها الصاحية، وإلى القمر وهو بدر تم، وأشعرهم أنهم سوف يرون ربهم في الدار الآخرة بهذا الوضوح . ص _100(1/88)
أفما ينبغي الاستعداد لهذا اللقاء بأعمال تنضر الوجوه وتجمل العقبى؟. إن أهم الأعمال أن يُذكر هذا الرب فلا يُنسى، وأن يُشكر فلا يُكفر، وألا تكون مخلوقاته حجابا دونه، أو عقبات أمام ما يجب له. وقد كان محمد عليه الصلاة والسلام رباني الشعور والسلوك، يستغل كل شيء لتحية الله، وإعلان حبه، وتقرير وحدانيته. عن ابن عمر: كان رسول الله إذا رأى الهلال قال: "الله أكبر، اللهم أهله علينا باليمن والإيمان، والسلامة والإسلام، والتوفيق لما تحب وترضى، ربنا وربك الله ". وفي رواية أن نبي الله كان إذا رأى الهلال قال : هلال خير ورشد، هلال خير ورشد، هلال خير ورشد. آمنت بالله الذي خلقك- ثلاثا- ثم يقول : الحمد لله الذي ذهب بشهر كذا، وجاء بشهر كذا". هذا قلب عابد يرصد الزمن الدوار، ليحمد مقلب الليل والنهار، ويتفاءل بنعمة قادمة، ويشيع نعمة ذاهبة، إن الزمن عنده هبة مبذولة في طاعة الله، وهو ما يضيع من هذا الزمن السائر لحظة في لهو أو غفلة، إنه في صلاة، وصيام، وجهاد، وسعي دؤوب لقيادة الخلق إلى الله. والناس إذا ذكر الصيام يذكرون رمضان، لأنه شهر الفريضة، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام كان يصوم حتى يُقال: ما يفطر، وقلنا: إنه كان في رمضان يواصل الصيام أحيانا فما يفطر عند الغروب. وهذا من خصائصه التي تفرد بها. وكلماته عندما يفطر تدل على نوع المعاناة التي كان يحبها فى صيف يجفف لهيبه الحلوق، ويرهق الأبدان. فعن ابن عمر : كان النبي عليه الصلاة والسلام إذا أفطر قال: "ذهب الظمأ، وابتلت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله ". وقد يقول " اللهم لك صمت، وعلى رزقك أفطرت". وعن عبد الله بن عمرو قال: سمعت رسول الله يقول: "إن للصائم عند فطره لدعوة ما تُرد" قال ابن مليكة: سمعت عبد الله بن عمرو- راوي ص _101(1/89)
هذا الحديث ـ إذا أفطر يقول: "اللهم إني أسألك برحمتك التي وسعت كل شيء أن تغفر لي ". سمعت متحدثا كأنه يعتذر عن مناسك الحج، يقول: إن الله يختبرنا بما نعقل حكمته، وبما لا نعقل حكمته، لتظهر طاعتنا في هذا وذاك!. قلت: تعني أن المناسك التي كلفنا بها فى الركن الخامس غير معقولة؟ فسكت تهيبا، ثم قال: ذاك ما أريد، وأنا أطيع الله جل وعز في كل ما يكلفني به. قلت: إن هناك أمورا كثيرة لا صلة لها بقضايا العقل، لا سلبا ولا إيجابا، ووصفها بأنها "لا معقولة" غير صحيح. فنحن نكتب لغتنا العربية من اليمين إلى اليسار، وأسرة الدول الغربية تكتب لغاتها من اليسار إلى اليمين، هذه أوضاع لا توصف بأنها مع العقل أو ضده، هذه شؤون تواضع الناس عليها، ومن حقهم ذلك دون ملام على ما ساروا فيه، واختاروه لأنفسهم. عند استعراض الجيوش يكفف الجند بأداء التحية على نحو معين، فيرفعون السلاح بحركة خاطفة، ثم يصوبونه إلى إحدى الجهات، ثم يردونه إلى أخرى، ثم يستقر على مناكبهم، ثم يتجهون صوب منصة القائد برؤوسهم... إلخ، ما هذا؟ أمور تواضع الناس عليها، يمكن أن نرفض منها ما ينبو عن الذوق اللطيف، وبمكن أن نستملح ما يوائم طباعنا، ولا صلة لهذا كله بقضايا المنطق العقلي. إن الإسلام يرفض ما يخالف العقل والفطرة، ولكنه لا يعترض المسالك البعيدة عن هذا المجال إلا إذا خدمت باطلا. قال: تقصد أن أفعال الحج من هذا القبيل السائغ؟ قلت: نعم. قال: لماذا يكون الطواف سبعة أشواط مثلا؟ قلت: السؤال الدوري يسقط تلقائيا، لأنه لو كان أقل أو أكثر لتكرر السؤال. لماذا كان اسمك ص _102(1/90)
فلانا، ولم يكن فلانا؟ إنه سؤال دائر لا نلتزم له بإجابة، ومع ذلك فإن أفعال الحج في جملتها معقولة، ولها حِكَم بينة. من حق الإنسانية أن تعتز بذكرياتها القديمة، وأن تحيط هذه الذكريات بأسوار من المهابة والتقديس إذا كانت تتصل بعقائدها وقيمها. ومناسك الحج جزء من تاريخ جليل، ومفاتح لخزائن من الروحانية الدافقة والعاطفة الجياشة، ومن ثم كان الارتباط بها ركنا في الدين: (ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب). ويحتاج هذا الكلام إلى شرح معقول! لماذا تنطلق قوافل البر والبحر والجو صوب البيت العتيق، مُقبلة من القارات الخمس، وفي الأفئدة شوق وفي العيون بريق؟ الحق أن البيت المقصود جدير بهذا الإعزاز كله، فقد بناه أبو الأنبياء إبراهيم ليكون حصنا للتوحيد ومُلتقى للركع السجود بعدما اشتبك عليه السلام مع الوثنية الأولى في صراع حياة أو موت، وقد انتصر إبراهيم في معركة الوحدانية، ورفع هو وابنه إسماعيل قواعد هذا البيت توكيدا للنصر، ومراغمة للكفر: (إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين * فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين). إن المسجد الأول في العالم جدير بأن تُشد إليه الرحال، وأن تجيء إليه الوفود بين الحين والحين لتؤدي له التحية. وكل مسجد يُبنى في المشارق والمغارب بعده ينبغي أن يرتبط به وأن يتجه إليه، ولذلك كان هذا المسجد المحترم قبلة للمؤمنين كافة: (ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره). وشيء آخر في تاريخ الإنسانية يشدنا نحن المسلمين خاصة إلى هذه ص _103(1/91)
الكعبة المشرفة، أن أمتنا الكبيرة كانت أملا عندما بدأ هذا البناء، وأن رسالتنا الخاتمة كانت دعوة حارة عندما برزت هذه القواعد. كان إبراهيم وإسماعيل يقولان: (..ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم * ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم) إننا نحن الذرية المسلمة المعنية في هذا الدعاء، وأن رسولنا الخاتم محمدا عليه الصلاة والسلام هو والدنا الروحي والثقافي وصاحب أطهر أنفاس حنت على العالم، وألهمته رشده. أفلا نرتبط بعدئذ بهذا البيت، ونزوره ما وجدنا إلى ذلك سبيلا؟ ما أعظم الذكريات التي تحف به! وما أوفى الوفود التي طوت الأبعاد لرؤيته، والتزود من خيره وبره!. ونحن نحيي البيت العتيق بالطواف حوله والصلاة إليه، نجعل الحجر الأسود إلى يسارنا ثم نلف سبع مرات، أو سبعة أشواط. وماذا نقول خلال ذلك؟ نقول: سبحان الله والحمد لله، ولا إله إلا الله والله أكبر. وندعو بما نشاء من حوائج الدنيا والآخرة: (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم) والبشر فقراء إلى الله، وهو صاحب الخزائن التي لا تنفد. كلهم سائل وأنت مجيب تلك نعماك مالها من نفاد! وبعض الحمقى من المبشرين يظن للمسلمين علاقات مادية بالكعبة، وبالحجر الأسود خاصة، وهذا ظن ما يبوء إلا بالسخرية والضحك، فإن التوحيد الذي يعمر قلوب المسلمين طراز من اليقين الحر لا نظير له في الدنيا، والهتاف الذي يسود مواكب الحجيج منذ تحركها النبيل هو: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك.. " وهو هتاف يزداد هديره كلما علوا ربوة، أو هبطوا واديا، أو لاقوا جمعا، وكلما أظلتهم هدأة الليل، أو سكينة الآخر.. ويشعر الملبي أن الكون كله يتجاوب معه مصداق ما ورد في الحديث: "إذا لبى الحاج ص _104(1/92)
لبى ما عن يمينه ويساره من شجر، وحجر، ومدر، حتى منقطع الأرض من ها هنا، وها هنا" ولا عجب أن يتجانس الكون المسبح بحمد الله مع إنسان انخلع عن نفسه، وانطلق في سفر صالح يبغي مرضاة الله. وكان النبي عليه الصلاة والسلام لا يريد سفرا إلا قال حين ينهض من جلوسه: "اللهم إليك توجهت، وبك اعتصمت، اكفني ما أهمني وما لا أهتم به. اللهم زودني التقوى واغفر لي ذنبي، ووجهني للخير أينما توجهت. اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل والمال والولد". إن الحاج إنسان متبتل إلى الله، متلهف على رضاه، متطلع إلى مثوبته متخوف من عقوبته، يتحرك كل شيء في بدنه بمشاعر الشوق والرغبة والحب ولا أعرف جمعا أهلا لرحمة الله ومغفرته كهذا التجمع الكريم. والسعي بين الصفا والمروة يقع عادة بعد الطواف، وشعائر السعي تجديد وتخليد لمشاعر التوكل على الله كما استقرت في قلب "هاجر" أم إسماعيل، وكما استقرت في قلب رجلها إبراهيم الخليل. إن التوكل شعور نفيس غريب، وهو أغلى من أن يخامر أي قلب، إنه ما يستطيعه إلا امرؤ وثيق العلاقة بالله حماس بالاستناد إليه والاستمداد منه. وعندما ينقطع عون البشر، وتتلاشى الأسباب المرجوة، وتغزو الوحشة أقطار النفس، فهلا يردها إلا هذا الأمل الباقي في جنب الله! عندئذ ينهض التوكل برد الوساوس وتسكين الهواجس. إنني بعين الخيال أتبع "هاجر" وهي ترمق وليدها الظامئ، ثم تجري بخطوات والهة هنا وهناك ترقب الغوث وتنتظر النجدة. إن ظئها بالله حسن، وقد قالت لإبراهيم عندما تركها في هذا الوادي المجدب الصامت: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم. قالت في رسوخ : إذن لا يضيعنا. وها هي ذي تتعرض للمحنة، وتنتظر تدخل السماء. وتدخلت السماء، وتفجرت زمزم، وغني الوادي بعد وحشة، وصار الرضيع المحرج أمة كبيرة العدد عظيمة الغناء، ومن نسله صاحب الرسالة العظمى، ومن شعائر الله هذا التحرك بين الصفا والمروة تقليدا لأم إسماعيل، وهي ترمق الغيب بأمل لا(1/93)
يخيب. ص _105
ما أحوج أصحاب المُثل إلى عاطفة التوكل، إنها وحدها تكثرهم من قلة، وتعزهم من ذلة، وتجعل من تعلقهم بالله حقيقة محترمة، ولعل ذلك بعض ما تعنيه الآية: (إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم) قال المؤرخون: إن إبراهيم لما ترك هاجر وابنه يواجهان المصير المجهول في هذه البقعة المنقطعة عرض له الشيطان وهو ينقل أقدامه في منى ـ بعد ما أنفذ أمر الله ـ يقول له: أيترك أحد أسرته تموت جوعا وعطشا على هذا النحو؟ عُد فاستنقذ أهلك!! ولكن إبراهيم قذف الشيطان بالحجارة ومضى في طريقه يناجي ربه: (ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون). واستجاب الله للدعاء الخالص، وسقط كيد الشيطان فلم ينل شيئا من قلب الإنسان المؤمن الواثق، وكانت سنة رمي الجمرات ليعلم من يجهل أن وعد الله حق، وأن وسوسة الشيطان هراء، وما تعمل هذه الوسوسة عملها إلا مع أصحاب القلوب الفارغة : (إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون * إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون). ومما يلفت النظر أن القرآن الكريم لما أراد أن يذكر رمي الجمرات بمنى لم يستعمل هذا العنوان المألوف، بل عبر عنه بذكر الله في أيام معدودات، قال تعالى: (واذكروا الله في أيام معدودات فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى) كأن المقصود من ص _106(1/94)
الموضوع هو الذكر الجهير العالي لرب العالمين، وما رمي الجمرات إلا رمز. والحق أن الحج كله هو هذا الهدير الموصول بذكر الله من أمواج بشرية متصلة، لا شغل لها إلا الجؤار بالتلبية والهتاف بالتسبيح. ومن المؤسف أن رمي الجمرات تحول إلى عمل معنت تُزهق في زحامه أرواح ولا يستطيعه إلا أصحاب الجلادة والمغامرة! لماذا؟ لأن الرأي الفقهي السائد أن الرمي لا يصح إلا بين زوال الشمس وغروبها. فكانت الجماهير المتدفقة في ذلك الوقت العصيب تواجه المهالك، وقد رفضت شخصيا هذا الرأي لأني لم أعرف له إسنادا من كتاب أو سنة، ورميت في أوقات خفيفة الحر والزحام. ومما يُسر الآن أن الحكومة السعودية جعلت للرمي ميدانا أعلى وآخر تحته، وضبطت طريقي الذهاب والعودة، وفسحت المجال للقول بأن الرمي يصح خلال الأيام المعهودة ليلا ونهارا، فاستنقذت بذلك أرواحا وأعانت على طاعة ؛ إن هناك مسلمين يظنون الحج جملة مشكلات معقدة، وهؤلاء عسروا اليسير واختلقوا بدعا لا أصل لها حتى ظن البعض أن لكل شوط في الطواف دعاء خاص، وأن لكل شوط في المسعى دعاء خاصا، وأُلفت كتب لهذه الأدعية ما أنزل الله بها من سلطان. وهناك أشخاص معلولو الفكر يظنون السعي علي الأرض أولى من السعي في الدور الأعلى الذي أقامته الحكومة تخفيفا لأهوال الزحام، وكذلك في رمي الجمار يظنون أن الرمي على الأرض أهم من الرمي في الدور الأعلى!! وما يدري هؤلاء أن النبي عليه الصلاة والسلام طاف حول البيت فوق ناقته يشير إلى الحجر الأسود بعصاه من بعيد ؛ إن الحج عبادة رقيقة محبوبة أساسها الوقوف بعرفة والطواف حول البيت وبعض شعائر أخرى يمكن استيعابها بيسر دون قلق أو حرج. والدين كله يقوم على صدق الإخلاص ونُضج الأخلاق وحسن العلاقة بالله وبعباده، والقرآن الكريم يقول في الحج: ص _107(1/95)
(الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق و لا جدال في الحج و ما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب). وهذه الرحلة بين الأماكن المقدسة تصقل الطبع وتزكى القلب، وتنمي مشاعر الحبب لله ولرسوله وجماعة المسلمين، فلا عجب إذا قال رسول الله عليه الصلاة والسلام في أثر هذه الفريضة الجليلة: " من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه " . ولقد ثبت أن مكة مركز العمران في هذا العالم، واستطاع الدكتور "حسين كمال الدين " أستاذ الهندسة بجامعة الرياض أن يثبت بحسابات رياضية عالية أن مكة تتوسط القارات المأهولة، وأن وضعها الذي قرره العلم الحديث تفسير حقيقي لقوله تعالى: (وكذلك أوحينا إليك قرءانا عربيا لتنذر أم القرى ومن حولها وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه..). فحول الكعبة المشرفة دوائر متتابعة الرحابة من الركع السجود، يتلوها غيرها من المسلمين الذين اتخذوا المسجد الحرام قبلتهم، وعلى امتداد خطوط الطول والعرض تسمع كلمات الأذان وتنحني الأصلاب والجباه ركوعا وسجودا لأهل الحمد والمجد، رب المشارق والمغارب، رب العالمين. في موسم الحج تلتقي مكة بالوفود المقبلة من كل فج عميق، تلتقي بأفراد الإنسانية الموحدة المهتدية المحبة لله وللمسجد الأول أبي المساجد ؛ في القارات كلها تتصافح الوجوه وتتعارف النفوس على تلبية النداء الصادر بحج البيت، النداء الذي صدر من قديم، وزاده الإسلام قوة وجدة ص _108(1/96)
(و أذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق * ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات). ووفود الله القادمة إلى مكة تصنع مجتمعا شغله الشاغل ذكر الله، والهتاف باسمه المبارك. في الأحياء التجارية يكون تبادل السلع والأثمان هو الحركة السائدة.. في الدواوين الحكومية يكون تنقيل الأوراق من هنا وهناك مظهر الحياة البارز. لكن الحجاج والعمار يقيمون سوقا للصالحات لها جؤار هائل بالتلبية والتكبير كأن الأرض تحولت بهم إلى أفق يعج بالملائكة المتعبدين. قال النووى يرسم عمل الحجيج: (ويستحب الإكثار من التلبية. يُستحب ذلك في كل حال، قائما وقاعدا، ماشيا وراكبا، مضطجعا ونازلا وسائرا، محدثا وجُنبا وحائضا. وعند تجدد الأحوال وتغايرها زمانا ومكانا، كإقبال الليل والنهار، وعند الأسحار، واجتماع الرفاق، وعند القيام والقعود والصعود والهبوط والركوب والنزول، وفي أدبار الصلوات، وفي جميع المساجد). ثم قال النووى: (وإذا رأى شيئا أعجبه قال: لبيك، إن العيش عيش الآخرة.. اقتداء برسول الله عليه الصلاة والسلام). ولبواعث هذا الإعجاب قصة، فقد روى الشافعي عن مجاهد قال: كان النبي عليه الصلاة والسلام يُظهر التلبية: لبيك اللهم لبيك.. إلى آخرها حتى إذا كان ذات يوم والناس يدفعون عنه، فكأنه أعجبه ما هو فيه فقال: "لبيك إن العيش عيش الآخرة". قال ابن جريج: (حسبت أن ذلك كان يوم عرفة). من حق عشرات الألوف من الحجاج أن يزدحموا حول نبيهم، وهو ص _109(1/97)
يجأر بذكر الله. إنه صانع هذه السيرة وقائدها. لكن محمدا الضخم لا يزدهيه أن تزدحم حوله الأتباع، إن فؤاده المعلق بالله، المرتقب للقائه، جعله يذكر الآخرة، ويؤمل في غدها القريب. ولقد سُمع وهو على الصفا يقول: "الله أكبر الله أكبر. الله أكبر ولله الحمد. الله أكبر على ما هدانا. والحمد لله على ما أولانا. لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد. يُحيي ويميت، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير. لا إله إلا الله، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده. لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه مخلصين له الذين، ولو كره الكافرون. اللهم إنك قلت: ( ادعوني أستجب لكم) وإنك لا تخلف الميعاد. وإني أسألك كما هديتني للإسلام أن لا تنزعه مني حتى تتوفاني وأنا مسلم ". سبحان الله، أمل الرسل الكرام من قبل! إن يوسف الصديق ـ بعدما أوتي الملك ـ دعا الله أن يميته على الحق: (...فاطر السماوات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلما وألحقني بالصالحين). كذلك يدعو محمد ربه، وهو في حجة الوداع، بعدما نكس الأوثان، ومحا الجاهلية وأقام دولة التوحيد! والجميل أنه بعد خمس سنين من غزو الأحزاب للمدينة يذكر النصر الذي منحه القدر، والذي جاء نجدة مشرقة بعد كفاح معنت رهيب. ص _110(1/98)
إنه الله! أنجز وعده وهزم الأحزاب وحده، وما كان غيره يفل حدهم ويمزق شملهم ويبطل كيدهم. إنه الله! أهل الحمد والثناء، وأهل التقوى وأهل المغفرة. هل استراح الإيمان وحملته بعد هذه المعارك المظفرة؟ كلا... إن القوى الكافرة ستظل تبغض الحق ورجاله، وتقلب لهم الأمور، بيد أن رجالات الإسلام سيمضون في الطريق إلى نهايته ولو كره الكافرون. تتبعت كلمات النبي عليه الصلاة والسلام في مناسك الحج، ظانا أني سأطالع أدعية مستفيضة ففوجئت بوجازة الكلمات التي قالها!. لكن المسلمين أحدثوا لكل شوط في الطواف أو السعي وردا يُتلى، وأحدثوا ليوم عرفة أدعية مسهبة، والعاطفة وراء هذا الإلحاح مقدورة، والمقبل على الله لا يُستغرب منه أن يستعين بكل كلمة تترجم عن شوقه وأمله، وأن يتشبث بكل حرف يظنه مفتاحا لخزائن الرحمة العليا. إن أي مسلم ينشد لنفسه وأهله الرضا والقرار، فهو يقول مع موسى الكليم: (رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير...). والدعاء الذي لم يسأم النبي تكراره في الطواف والسعي : (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار). والنشيد الذي يتردد بين قمم الجبال وبطون الأودية هو : "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير" الألوف المؤلفة تصرخ به، وتتلاقى عليه. ص _111(1/99)
ذكر وتذكير في وهج الحر قد يأوي المرء إلى حجرة "مكيفة" الهواء، يبقى داخلها مراح الأعصاب! وربما كان حظه أتم فذهب إلى مصيف عليل الريح لطيف الأنفاس، فهو ـ حيثما اتجه ـ في ربيع دائم. إن علاقة المؤمنين مع ربهم، نور السموات والأرض، تتراوح بين هذه المنازل، فقد يعيش العابد في صومعة معزولة عن ضجيج المجتمعات وآثامها، راكنا إلى الحميد المجيد، الفعال لما يريد، فهو سعيد بربه ترنو إليه بصيرته، وتتحدد عنده وجهته، ويظل كذلك بعيدا عن لفح الحياة الضالة، والعوج الشائع. وربما رزق بيئة صالحة، انهزم فيها الشيطان، واستقر في جنباتها الحق، وتجاوبت في أرجائها أصداء التسبيح والتحميد، فهو يمشي على نور من يقينه، وأنوار من إخوانه المتعاونين معه على البر والتقوى. كان الصحابة رضوان الله عليهم يستمتعون في جوار النبي عليه الصلاة والسلام بربيع دائم من الأنس بالله، والهتاف باسمه. وكان النبي الجليل ـ كما وصفه ربه ـ سراجا منيرا يرمي بأشعته فى كل أفق، ويجمع الناس على وحدانية جياشة المشاعر والمسالك، تتصدر كونا كبيرا، كل شيء فيه يسبح بحمد ربه. شعرت بأبعاد العبودية التي قامت عليها سيرة النبي الخاتم في مناح كثيرة من حياته عليه الصلاة والسلام، ولكني تريثت طويلا عند طرفة عميقة الدلالة، رواها ص _112(1/100)
ابن عباس قال : (جاء رجل إلى النبي عليه الصلاة والسلام فقال: رأيتني الليلة وأنا نائم كأني أصلي خلف شجرة، فسجدتُ فسجدتْ الشجرة لسجودي! فسمعتها تقول: اللهم اكتب لي بها أجرا، وحط عني بها وزرا، واجعلها لي عندك ذخرا، وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود عليه الصلاة والسلام!) قال ابن عباس: (سمعت رسول الله قرأ سجدة، ثم سجد، فقال مثل ما أخبره الرجل عن قول الشجرة!!). هذه الطرفة، كما قلت، عميقة الدلالة فهي تدل على أن صاحب الرؤيا أحسن الاستفادة من تعاليم الإسلام حتى نضح ذلك على سريرته وهو نائم. وهي تدل كذلك على أن فؤاد الرسول المربي موار بعاطفة من حب الله يهيجها أي شيء، فقد التقط الدعوات المنسوبة إلى الشجرة، وأخذ يرددها هو في سجود خاشع لرب العالمين. وصلة الأنبياء بالله تتحرك للملابسات المثيرة. إن زكريا لما رأى القدرة العليا تتجرد من قانون السببية، وتسوق الفضل الإلهي إلى مريم بغير حساب، انعطف إلى ربه يجأر: (هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء). ومحمد عليه الصلاة والسلام تربطه بنور السموات والأرض روابط فوق الحصر. وقد كان جهده أن يجعل البيئة كلها من حوله عابدة ساجدة ذاكرة شاكرة. روى النسائي عن يعقوب بن عاصم عن رجلين من أصحاب رسول الله أنهما سمعا النبي عليه الصلاة والسلام يقول: "ما قال عبد قط: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، مخلصا بها روحه، مصدقا بها قلبه، ناطقا بها لسانه، إلا فتق الله له السماء فتقا، حتى ينظر إلى قائلها من الأرض! وحُق لعبد نظر الله إليه أن يعطيه سؤله". لا أحبب أن أفسد هذا المعنى السمح بتكلف تأويل! كل ما يفيده ص _113(1/101)
الحديث المروي أن القلب الموحد قد تعرض له فورات إخلاص وصدق، تجعل كلمة التوحيد تنطلق من فمه، فما يقفها دون عرش الرحمن شيء! وما يشقى صاحبها بعدها أبدا. والتوحيد المذكور في هذه السنن يقوم على فقه لأسماء الله الحسنى، واصطباغ بمعانيها، والحامد لله أو المادح له أهل لأن يعود قرير العين. ويحضرني قول لأحد العارفين وقد سئل: ما أفضل الدعاء يوم عرفة؟ أجاب: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. قيل له: هذا ثناء، لا دعاء! قال: أما تعرف قول الشاعر: أأذكر حاجتي أم قد كفاني حياؤك إن شيمتك الحياء! إذا أثنى عليك المرء يوما كفاه من تعرضه الثناء! روى الطبراني أنه كان مما دعا به النبي عليه الصلاة والسلام عشية عرفة: "اللهم إنك ترى مكاني، وتسمع كلامي، وتعلم سري وعلانيتي، لا يخفى عليك شيئ من أمري؛ أنا البائس الفقير، المستغيث المستجير، الوجل المشفق، المقر المعترف بذنبه، أسألك مسألة المسكين، وأبتهل إليك ابتهال المذنب الذليل، وأدعوك دعاء الخائف الضرير... مَن خضعت لك رقبته، وذل جسده رغم أنفه... اللهم لا تجعلني بدعائك شقيا، وكن بي رؤوفا رحيما، يا خير المسؤولين ويا خير المعطين ". وارتباط الثناء بالدعاء ملحوظ في قول النبي عليه الصلاة والسلام : " أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك سبحانك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك ". وكذلك في قوله عليه الصلاة والسلام: "أفضل الذكر لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء الحمد لله ". ولننبه إلى أن حركة الشفتين ـ والقلب وسنان ـ لا تعني شيئا ؛ أما عندما. يكون النطق ترجمة لشوق هائج، وفؤاد مفعم، فإن النعم على كثرتها تتصاغر أمام حمد مرسلها، والإحساس بمنته. ص _114(1/102)
عن أنس، قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: "ما أنعم الله على عبد نعمة فقال: الحمد لله إلا كان الذي أعطى أفضل مما أخذ" وفي رواية: "لو أن الدنيا بحذافيرها في يد رجل من أمتي ثم قال: الحمد لله، لكان الحمد لله أفضل من ذلك ". قال القرطبي وغيره: أي لكان إلهامه الحمد أكثر نعمة عليه من نعم الدنيا، فثواب الحمد لا يفنى، ونعيم الدنيا لا يبقى! وهذا تفسير حسن. والتفسير القريب أن حمد الله ـ تبارك اسمه ـ كافي في تقدير النعمة وتقييدها مهما كانت كبيرة. على أن إحسان الحمد والمدح لا يقدر عليه كل إنسان، كيف تمدح من تجهل؟ كيف تحمد من لا تعامل؟ الأمر يحتاج كما أشرنا إلى فقه في أسماء الله الحسنى يكشف عظمة الذات والصفات وذلك يقوم على جملة عناصر: منها تدبر القرآن الكريم حين يتحدث المولى الجليل عن نفسه ويبصر بآياته، إن الرجل العادي يستقبل النهار، ويستدبر الليل دون وعي، وهنا يستثير القرآن الكريم وعيه، من فعل ذلك؟ الله (فالق الإصباح وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا ذلك تقدير العزيز العليم). والمرء يرى ببلاهة مساحات هائلة من الحقول والحدائق ينشق فيها الطين الأصم عن أنواع كثيرة من الحبوب والفواكه. من صاغها على هذا النحو المعجب وحشاها بالسكر والنشا وشتى الطعوم والروائح؟ (وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء فأخرجنا منه خضرا نخرج منه حبا متراكبا ومن النخل من طلعها قنوان دانية وجنات من أعناب والزيتون والرمان مشتبها وغير متشابه ..) بعد هذا اللفت المبين يتلطف السيد مع عبده، يتلطف رب العالمين في إيقاظ الجماهير الغافلة فيقول: ص _115(1/103)
(..انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون). إن التأمل في الكون باب واسع إلى معرفة جملة من أسماء الله الحسنى، ودلالة هذه الأسماء على الله تبارك وتعالى. ومع التأمل في الكون يجيء التأمل في أحوال الأفراد والأمم، ودراسة التاريخ قديمه وحديثه، وكيف يعطي ربنا ويمنع، وكيف يُضحك ويُبكي؟!. إن المسافة لا تطول كثيرا بين قول فرعون: (ما علمت لكم من إله غيري) وبين قوله حين شدته موجة غضب إلى قاع اليم: (آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل). ولكننا ـ معشر البشر ـ صرعى الساعة الحاضرة، وما نحسن دراسة سنن الله في الآحاد والجماعات. وكم من أمم ركبت رأسها ثم كُبت بعد أيام أو أعوام: (ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور). وقد حوى القرآن صنوف العبر من هذا القبيل حتى يعرف الناس ربهم ويحسنوا مراقبته وتقواه، وتنغرس في خلالهم مشاعر الرغبة والرهبة على نحو ما قال النبي عليه الصلاة والسلام: " لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمع في جنته! ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قنط من رحمته أحد! ". والمعرفة النظرية بالكون وعلومه والناس وتواريخهم يجب أن تتحول إلى إحساس وعمل، وإلا فهي كالطاقة الكهربائية المحبوسة وراء مواد عازلة ما تنير مصباحا، ولا تحرك آلة. وهنا أقول: إن أعظم إنسان عرف ربه، وتحولت كل ذرة في كيانه ص _116(1/104)
إلى قوة ساجدة هو محمد بن عبد الله الذي كان القرآن له خُلقا، فهو يستبطن معانيه ويدور مع توجيهه، إنه مشدود أبدا إلى آيات الله في الوحي الهادي والملكوت الواسع، وهو يجتذب من اتصل به إلى هذا المستوى الطهور العالي، فيجعله عارفا بالله، قواما بأمره. لذلك رأينا صحابته أصدق الناس إيمانا، وأصفاهم فطرة. ولست أصدق أن أحدا يجهل محمدا ثم يتخذ إلى الله طريقا موصلة. أبرز ما في سيرة هذا النبي أن حبه لله، وإعظامه لله، وتفانيه في الله ينتقل من نفسه إلى من حوله، فكأنهم في سباق إلى حمد الله والثناء عليه.. ولننظر إلى هذه الأحاديث. روى أحمد عن عبد الله بن عمر أن عبدا من عباد الله قال: "يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك، ولعظيم سلطانك... فعضلت بالملكين فلم يدريا كيف يكتبانها، فصعدا إلى السماء فقالا: يا ربنا إن عبدك قد قال مقالة لا ندري كيف نكتبها! قال الله ـ وهو أعلم بما قال عبده ـ: ماذا قال عبدي؟ قالا: يا رب إنه قد قال: يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك، وعظيم سلطانك. فقال الله لهما: اكتباها كما قال عبدي حتى يلقاني فأجزيه بها.. ". وظاهر أن هذا العابد كان في سياحة روحية طوفت به في آفاق لا يعلمها إلا الله، استجمع فيها من الآيات والعبر ما شحن قلبه، وغمر جده، وغلب على ظاهره وباطنه، فلم ير إلا أن يحيي ربه بهاتين الجملتين. ورأى الملكان أن ما قال فوق ما لديهما من ضوابط الأجور، ففعلا ما فعلا. وعن أبى أيوب ، قال رجل عند رسول الله عليه الصلاة والسلام الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، فقال رسول الله: "من صاحب الكلمة؟ فسكت الرجل، وظن أنه قد هجم من رسول الله على شيء يكرهه! فقال رسول الله: "من ص _117(1/105)
هو؟ فإنه لم يقل إلا صوابا ". فقال الرجل: أنا قلتها يا رسول الله أرجو بها الخير، فقال رسول الله عليه الصلاة والسلام : "والذي نفسي بيده لقد رأيت ثلاثة عشر ملكا يبتدرون كلمتك. أيهم يرفعها إلى الله تبارك وتعالى". وعن أنس بن مالك قال أُبي بن كعب : لأدخلن المسجد فلأصلين، فلما صلى وجلس ليحمد الله ويثني عليه، فإذا هو بصوت عال من خلفه يقول: اللهم لك الحمد كله، ولك الملك كله، وبيدك الخير كله، وإليك يُرجع الأمر كله، علانيته وسره، لك الحمد إنك على كل شيء قدير. اغفر لي ما مضى من ذنوبي، واعصمني فيما بقي من عمري، وارزقني أعمالا زاكية ترضى بها عني، وتب علي. فأتى رسول الله عليه الصلاة والسلام، فقص عليه، فقال: "ذاك جبرائيل عليه السلام ". وليس غريبا أن يهبط الملك بهذه الدعوات ليستوعبها قلب يشرئب إلى مدح الله على نحو لم يُسبق إليه، لقد كانت الملائكة تتنزل عندما يقرأ بعض الصحابة القرآن الكريم. الشيء الذي يستدعي التساؤل: من الذي دفع هؤلاء الأصحاب إلى الإيغال في طريق التوحيد والتقديس حتى تفجرت ينابيع الحكمة من ألسنتهم ونطقوا بكلمات زاكيات في تمجيد الله وإجلاله؟ إنه النبي العربي المحمد. من غيره وراء هذه العواطف المشبوبة؟ إنه الإنسان العباد السجاد الذكار الشكار الذي الهم التسبيح والتحميد مع كل زفير وشهيق، لقد حول الأرض إلى حلبة تُنافس السماء في الذكر والشكر. عن النعمان بن بشير، قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: "إن مما تذكرون من إجلال الله من التسبيح والتحميد والتهليل، ينعطفن حول العرش لهن دوي كدوي النحل، تذكر بصاحبها! أما يحب أحدكم أن يكون له، أو لا يزال له، ما يذكر به؟ ". ص _118(1/106)
وعن عبد الله بن مسعود: إذا حدثتكم بحديث أتيناكم بتصديق ذلك في كتاب الله، إن العبد إذا قال: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله والله أكبر، وتبارك الله، قبض عليهن ملك، فضمهن تحت جناحه، وصعد بهن لا يمر على تجمع من الملائكة إلا استغفروا لقائلهن، حتى يُحيا بهن وجه الرحمن، ثم تلا عبد الله: (إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه). قالوا: فاقد الشيء لا يعطيه، ومن تمام ذلك أن يقال: ومعطي " الكثير لابد أن يكون لديه أكثر! إن الأنهار الجارية تجيء عقب مطر هتان يسح أناء الليل، وأطراف النهار. والحق أن السلف الصالحين الذين تربوا بين يدي محمد، وكل جيل من الأبرار تبعهم بإحسان إلى يومنا هذا، ثم إلى آخر الدهر، إن هؤلاء، وأولئك بشخصية محمد تأثروا، وبروحانيته استناروا، ومن رسوخ يقينه استمدوا. إن صحبته في حياته، وصحبة مواريثه العقلية والخلقية بعد مماته تفعل الأعاجيب، وبقدر الاقتباس من مولد الطاقة تكون القوى الروحية والفقهية، والأساس كله عظمة المصدر. إن بيننا وبين الشمس مائة وخمسين مليون كيلومتر، من ناحية البُعد، ولا ندري من ناحية الزمان متى بدأ إشعاعها؟ لكن بُعد الزمان والمكان لم يغير من قدرة الشمس على الإضاءة والإنضاج واستبقاء الحياة على كوكبنا. كذلك اثر محمد عليه الصلاة والسلام في المستقدمين والمستأخرين، أثر عبادته وقيادته، أثر سيرته ودعوته، وإن طال الزمان، واتسع المكان!. ومنهج الذكر والتذكير في رسالة خاتم المرسلين يحتاج إلى شرح. إن الصدق العقلي أساسه الأول، والكلمات التي أهاب الإسلام بأتباعه أن يرددوها هي قضايا علمية صحيحة. ص _119(1/107)
فكلمة: لا إله إلا الله، أو سبحان الله، أو تعالى الله، تعني تقرير الصواب وتوكيده في أخطر أصول الاعتقاد. تدبر قوله جل شأنه: (ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون * عالم الغيب والشهادة فتعالى عما يشركون). ليس لله أم، ولا أب، ولا ابن ولا ابنة، إنه واحد، وما عداه عبد يخضع لأمره، وإذا شاء سحب منه نعمة الوجود، فباد وتلاشى. نعم، ما عدا الله فهو جزء من الكون الذي يبقى لأن الله يمده بالوجود بعدما أوجده بدءا، كما يخمد المصباح إذا قطعت عنه التيار. نعم، لا شريك لله، ولا حول ولا قوة إلا به، له وحده الفضل والملك والحمد. ومحمد- عليه الصلاة والسلام- أجهر البشر صوتا بهذه الحقيقة، وأغير الناس عليها، وقد ذاد بصوته ويده خرافات كثيفة عكرت صفوها واستنقذ جماهير هائلة كانت جائرة عنها. ولا تعرف في سير الأنبياء، وقادة الإنسانية الكبار من قام بمثل جهده ولا من نجح مثل نجاحه، ولا أحسب الأبالسة ومردة الإنس والجن غاظهم أحد ولا اعترض آثامهم غاضب لله، مثل ما فعل محمد القوي بربه، المجاهد في سبيله، فقد أنصت الحق من الباطل، والرشد من الغي. وبنى ـ وهو قوام الليل ـ جيوشا يشق تكبيرها عنان السماء، تصرخ بأن الله واحد، وأن الخلق كلهم ـ وأولهم محمد ـ عبيد لمن فاضت عليهم بركته، ونطقت معايشهم حكمته. إذا كان الدين قلبا طيبا، فهو قبل ذلك عقل سليم، وفكر حسن، وعلم صحيح: ص _120(1/108)
(شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم). ونحن لا نسأم. من توكيد هذا القول لأن الدنيا لا تزال تسمع من يقول: إن لله أما، وأبا، وإن الذات المقدسة ثالوث ذو رؤوس متميزة هي أب وابن وروح قدس.. وهو كلام صفر من أية حقيقة، مصدره إشاعة من بعض العقول العليلة، والخيالات المغالية الجانحة للأوهام؟ كلام ما قاله نبي سبق، ولا أقره عقل محترم. وأهل الكتاب ـ أعني النصارى خاصة ـ يكرهون كلمة التوحيد، وقد حاربوها ولا يزالون، وسوف نبقى عليها، ونلقى ربنا بها. روى أحمد عن شداد بن أوس ـ وعبادة بن الصامت يصدقه ـ قال كنا عند النبى صلى الله عليه وسلم فقال: هل فيكم غريب؟ ـ يعني من أهل الكتاب ـ قلنا: لا يا رسول الله. فأمر بغلق الباب، وقال: ارفعوا أيديكم وقولوا: لا إله إلا الله ـ كأنه يبايعهم ـ فرفعنا أيدينا ساعة ـ فترة ـ، ثم قال: الحمد لله، اللهم إنك بعثتني بهذه الكلمة، وأمرتني بها، ووعدتني عليها الجنة، وأنت لا تخلف الميعاد، ثم قال: "ابشروا فإن الله قد غفر لكم ". وسناء الفكر، مهما بلغ، لا يغني عن زكاة القلب، وصفاء الروح. لقد كان إبليس يعلم أن الله واحد، ولكنه أبى أن يلتزم بمبدأ السمع والطاعة، أبى أن يتواضع وينكر ذاته، أبى أن يكبت نزوات الحقد والاستطالة على الآخرين، أبى أن يكون عبدا حقا لله. والهيكل الأخلاقي الضخم الذي بناه صاحب الرسالة الخاتمة إنما ينهض على قلب سليم، ترتبط بالله رغبته ورهبته، ولذلك قال: "التقوى هاهنا التقوى هاهنا، التقوى هاهنا" ويشير إلى قلبه. والقرآن بعدما يشرح الحقيقة العلمية يشرح الحقيقة الروحية، أو الخلقية وما ينبغي عليها من سلوك. قال تعالى: ص _121(1/109)
(إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين ). ماذا بعد هذه الحقائق العلمية عن رب الزمان والمكان : (ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين) لا بد أمام الله من الضراعة والدعاء المصحوب بالفقر، المقرون بالخفوت ـ لأنه أدل على الذات وما فيها ـ ومن تجاوز هذا المستوى فهو يعدو حدوده. ثم ماذا؟ إن الله قد نظم للأرض ما تصلح به فلا يجوز أن نثير الفوضى فيما وضع، وعلينا أن نبلغ بالأعمال حد الإتقان، وليبق نظرنا إلى السماء دائما نرجو الخير، ونحذر الشرور: (ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفا وطمعا إن رحمة الله قريب من المحسنين) وفى مكان آخر من السورة نفسها يقول تبارك اسمه : (واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين). والذكر المقصود حركة قلب، لا حركة لسان كما يتوهم الجهال، حركة قلب يوجه صاحبه هنا أو هنالك وينشطه أو يكبو به. عن أم أنس رضي الله عنها قالت: يا رسول الله أوصنى قال "اهجري المعاصي فإنها أفضل الهجرة، وحافظي على الفرائض فإنها أفضل الجهاد، وأكثري من ذكر الله فإنك لا تأتين الله بشيء أفضل من ذكره ". الذكر الذي جاءت الوصايا به شيء آخر غير ما يسبق إلى أذهان الدهماء. إنه مصدر السكينة والاستقرار تجاه صروف الدنيا ومتاعبها، ففي ص _122(1/110)
حضارتنا المعاصرة كثر المثففون، وشاعت المعارف الذكية، ومع ذلك فإن اضطراب الأعصاب، وانتشار الكآبة داء عام. ما السبب؟ خراب القلوب من الله! إنها لا تذكره كي تتعلق به وتركن إليه، وكيف تذكر من تجهل؟ إن الحضارة الحديثة مقطوعة العلاقة بالله، والإنسان مهما قوي ضعيف، ومهما علِم قاصر، وحاجته إلى ربه حاجة الطفل إلى أبيه يحنو عليه، ويحميه. وذكر الله أمام الأزمات والنوازل عزاء ورجاء، قال تعالى: (الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب * الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مآب). وقد كان محمد صلى الله عليه وسلم أوثق الناس بالله، وأشدهم تعلقا به، منذ بدأ الدعوة قيل له: (واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا * رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا) من يومها توكل على الله وواجه قوات الشرك والكفر، فما هان ولا استكان. وقد علَّم محمد الناس أن يثقوا من حنو الله عليهم، ورحمته بهم، وأفهمهم أنه أحنى عليهم، وأرحم بهم من الأم برضيعها، فلماذا ينأون عنه، ويفرون منه؟. وذكر الله هو وحده أساس الضمير الكاره للآثام، العاصم من الانحراف. أعرف أن هناك أناسا لهم حناجر صياحة باسم الله، إنني لا أعني هؤلاء أبدا، إنما أعني إنسانا يحس بإشراف الله عليه (فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين) فإذا هم بسوء توقف، وإذا زين له الشيطان قبيحا كشف خداعه ورفض متابعته واستحضر عظمة ربه، وأمره، ونهيه، فاستقام. ص _123(1/111)
هذا الذاكر العفيف النبيل هو الذي عنته الآية الكريمة (..وأما من خاف مقام ربه و نهى النفس عن الهوى * فإن الجنة هي المأوى). ما أكثر الألسنة المتحركة باسم الله، وأقل جدواها! وما أندر الأفئدة الخاشعة لذكر الله، وأحوج العالم إليها! إن فساد الأديان يجئ من تحولها إلى ألفاظ ومظاهر، وما يؤدي الدين رسالته إلا يوم ينشئ ضمائر حية وسرائر طهورا، وقلوبا ترمق الشهود الإلهي برهبة، ذلك هو الذكر الحق. ومن آثار هذا الذكر أنه يحكم غريزة حيث المال، فالذاكرون لا يلهيهم التكاثر، ولا تزري بهم طبائع الجشع والشح، هم يأخذون المال من حِله، ويضعونه في حقه، ولا يحبسونه ووجوه الخير تنتظره، بل هم كما قيل: لا يألف الدرهم المضروب صرتنا لكن يمر عليها وهو منطلق والغاشون من رجال الأديان سقطوا في حبائل المال وجمعه واكتنازه، فأعانوا أو سكتوا عن الحكام الفسقة، ومهدوا الطريق أمام الفلسفات الملحدة كي تحكم بعدما ساءت سمعة الدين، والمتحدثين باسمه. لكن النبي العربي المحمد وزع كل ما جاءه من أمواله على الناس، وخرج من الدنيا بلا ميراث لأهل، وربى رجالا يؤثرون وجه الله على متاع الدنيا كله: (ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا * إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا). والطريف أن العشرة المبشرين بالجنة كانوا من هذا الطراز الذي ملك الدنيا، ونزل عنها لله. ليس النجاح أن يكون المرء عديم المال والأهل، ولكن النجاح أن ص _124(1/112)
يكون المرء كثير المال والأهل، ومع ذلك لا يشغله شيء من ذلك عن ربه مصداق قوله سبحانه وتعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون * وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين * ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها). ولذكر الله آثار كثيرة في الأخلاق والمسالك ليس هنا موضع تتبعها، وحسبنا أن نقول: إن ذكر العظيم يرفع القدر ويعقد العزم، والاستعداد للقائه يمنع الطغيان، ويضبط الحقائق. من عرف الناس بربهم، وذكرهم بحقوقه، وفند الإشاعات الباطلة فى ميدان العقائد، وبين أنه لا إله إلا الله؟ إنه محمد عليه الصلاة والسلام، لكن كيف نجح في اقتياد الأجيال إلى الصراط المستقيم؟. إنه عندما بدأ الدعوة في مكة هاج عليه الأكثرون: (وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون) بيد أنه مضى إلى غايته يحارب الجنون المتبجح وما زال بعين الله حتى أقام دولة الحق. كان القرآن خفقه، كانت دراسته لباب فكره وتيار شعوره، كانت وصاياه وأوامره ونواهيه جوهر سلوكه وأساس علاقاته بالناس جميعا، كانت تلاوته سعادة روحه وفرة عينه ومرضاة ربه. وفي الحديث: "ما أذن الله لشيء إذنه لنبي يقرأ القرآن يتغنى به "، إن ما صدر عن الله وحيا، يُطبق في الأرض قانونا وخُلقا، ثم يعود إليه نغما عذبا. ونذكر هنا قصة عن أثر القرآن في نفس رجل مشرك، قال جبير بن مُطعم: إن أباه قدم المدينة مفاوضا عن قريش في افتداء أسرى بدر، ص _125(1/113)
والرجل من عظماء مكة، والمهمة التي جاء من أجلها تخليص سبعين من صناديد قريش أوقعهم البطر بأيدي المسلمين. وسمع الرجل المشرك نبي الله وهو يقرأ سورة الطور في صلاة المغرب، قال: (ما سمعت أحدا أحسن صوتا أو قراءة منه)، واستمر الرجل يسمع الآيات في المحراب الخاشع المخبت، وهو مسحور بالتلاوة المرسلة، قال: فلما بلغ هذه الآيات (أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون * أم خلقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون) إلخ.. قال مُطعم: (كاد قلبي أن يطير). وكان سماعه هذه الآيات ـ وهو مشرك ـ سببا في دخوله الإسلام بعد ذلك. ونتوقف هنا قليلا، إن سورة الطور مكية، ولا شك أنها قُرئت في مكة مئات المرات فهل لم يسمعها الرجل إلا اليوم؟ ربما، فإن المشركين هناك تواصوا بإحداث شغب وضوضاء حول مجالس القرآن حتى لا تغزو معانيه قلبا، فيؤمن بالله. وربما سمعها من قبل ولكن التعصب والكبرياء صداه عن الحق فلما قلمت الهزيمة أظافر قريش، وعاد إليها رُشدها وتواضعها، أخذت تفكر فيما تسمع. وقد نظمت أنا في الآيات التي روعت قلب الرجل، وتجدد في نفسي إحساس بما أودع فيها من عبرة، إن الآيات قصيرة، ولكنها ذات جرس لاذع رهيب!. إنها تشبه المفتاح الدقيق لخزائن ضخمة، فالمعاني التي تهجم على الفؤاد بعد سماعها تشبه العواصف العاتية، تكررت كلمة "أم " خمس عشرة مرة، و"أم " عند علماء اللغة تجزيء في هذا السياق للإضراب الذي يعقبه استفهام قد يكون توبيخا، أو تقريرا، أو تعجيبا. ص _126(1/114)
إن النفس الإنسانية تتقلب على هذه المشاعر بما ينفي عنها الغفلة، ويرغمها على الانتباه. (فذكر فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون) (أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون * قل تربصوا فإني معكم من المتربصين) (أم تأمرهم أحلامهم بهذا أم هم قوم طاغون) (أم يقولون تقوله بل لا يؤمنون * فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين) (أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون) (أم خلقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون) (أم عندهم خزائن ربك أم هم المسيطرون) (أم لهم سلم يستمعون فيه فليأت مستمعهم بسلطان مبين) (أم له البنات ولكم البنون) ص _127(1/115)
(أم تسألهم أجرا فهم من مغرم مثقلون) (أم عندهم الغيب فهم يكتبون) (أم يريدون كيدا فالذين كفروا هم المكيدون ) (أم لهم إله غير الله سبحان الله عما يشركون) هذا أثر القرآن في رجل مشرك التفت إليه بسمعه وفؤاده. وروى الحافظ أبو بكر بن أبي الدنيا قال: خرج عمر بن الخطاب يعس المدينة ذات ليلة، فمر بدار رجل من المسلمين، فوافقه قائما يصلي، فوقف يستمع قراءته، فقرأ الرجل: (والطور * وكتاب مسطور.. ) حتى بلغ: (إن عذاب ربك لواقع * ما له من دافع) فقال: (قسم ورب الكعبة ـ حق) فنزل عن حماره، واستند إلى حائط ـ وهو مُروع النفس ـ.. ! فمكث مليا ثم رجع إلى منزله، فمكث شهرا يعوده الناس لا يدرون ما مرضه !! رضي الله عنه. إن أمير المؤمنين عمر كان مفعم الصدر بخشية الله وهو يمشي فى أزقة المدينة يتفقد رعيته، وينص المسامع ليتعرف ما هنالك، كان الرجل الكبير يحمل هموم الجماهير، ويسهر ليقدم حسابا إلى الله عما وُلي من شؤون الأمة. وكانت تلك المشاعر المضغوطة كالوقود الذي يرتقب شعلة ليلتهب، فلما سمع: (إن عذاب ربك لواقع.. ) كان ذلك كافيا ليوجل قلبه، ويشحب وجهه، وتدمع عينه، ويؤوب إلى بيته عليلا، وما به علة إلا مخافة الله. وعمر ـ إن شاء الله ـ يُبعث من الآمنين، فهو من السابقين الأولين والعشرة المبشرين، ولكن الضمير الحواس لا يعرف طمأنينة حتى يلقى الله بما أدى ووفى. ص _128(1/116)
وإنما ذكرت هذه القصة لأني مغيظ من رعاع يلتفون حول قارئ للقرآن ناعم الأوتار، فإذا هم يصيحون حوله بسفه، ما يفقهون من معنى، ولا يستضيئون بعظة، تحول بهم مجلس القرآن إلى مجلس لغو ولهو، قبحهم الله!. وكم أساء المسلمون إلى كتاب الله، وإلى ذكر الله!!. إن الآيات التي طار لها قلب امرئ واع ـ من سورة الطور ـ والتي ساقته ـ وهو مشرك ـ إلى الإيمان بالله، هذه الآيات بدأت بحملة واضحة: (فذكر فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون ! هذا التذكير هو إنشاء برامج لحياة جديدة، هو بناء حياة من طراز راشد على أنقاض حياة بالية. والذكر هنا معاملة مع الله، وهي معاملة فيها تبادل نشاط وتقدير إن صح التعبير ـ ولله المثل الأعلى ـ وهذا معنى يتضح من الحديث القدسي المشهور: "يقول الله: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه: إذا ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرب إلي شبرًا تقربت إليه ذراعًا، وإن تقرب إلي ذراعًا تقربت إليه باعًا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة ". وفي رواية عن أحمد بعد ذلك: ".. والله أسرع بالمغفرة ". إن هذا الذكر هو إقبال رجل على الله بعزم، وقبول الله لذلك، وإقباله عليه أجل وأزكى. ولصاحب الرسالة كلمات مضيئة في هذا الميدان نستهدي بها: " من قال: لا إله إلا الله مخلصا دخل الجنة" قيل: وما إخلاصها؟ قال: "أن تحجزه عفا حرم الله عليه ". "كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم ". "الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد ص _129(1/117)
لله تملآن ما بين السماء والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدو، فبائع نفسه: فمعتقها، أو موبقها". وعن ابن أبي أوفى، قالت أعرابي: يا رسول الله إني عالجت القرآن فلم أستطعه ـ لم أقدر على حفظه ـ فعلمني شيئا يجزئ عن القرآن. قال له الرسول: "قل: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر" وزاد في رواية: "ولا حول ولا قوة إلا بالله "، قال الأعرابي: يا رسول الله هذا لربي، فمالي؟ قال: "تقول: اللهم اغفر لي وارحمني وعافني وارزقني ـ أحسبه قال ـ واهدني "، ومضى الأعرابي فقال رسول الله: "ذهب الأعرابي وقد ملأ يديه خيرا... ". والأحاديث في ذلك باب واسع، والذي يكتب عن النبي العربي المحمد في الأخلاق يظن سنته كلها خلقا، أو في الجهاد يظن سنته كلها جهادا، أو في الذكر يظن سنته كلها ذكرا. إن ضخامة هذا الرسول ترد المتطلع وهو حسير، فسبحان من بعثه رحمة للعالمين. اللهم لك الحمد حمدا كثيرا خالدا مع خلودك، ولك الحمد حمدا لا منتهى له دون علمك، ولك الحمد حمدا لا منتهى له دون مشيئتك، ولك الحمد حمدا لا أجر لقائله إلا رضاك. ص _130(1/118)
نبى المرحمة ونبى الملحمة لا يستطيع ذو خلق أن يتهم محمدا بأنه كان يريد برسالته بسطة فى المال أو بسطة في الجاه، أو حظا من حظوظ الدنيا. والمعروف في سيرته أنه كان أعلى الناس هتافا بتوحيد الله وتمجيده، وأغير الناس ضد نسبة الشركاء والشفعاء إليه، وأرغبهم في تنفيذ أمره، وتوقير وحيه، وإبعاد الأهواء عما شرع للخلائق. وقد كان يحزن ـ إلى حد الاعتلال ـ لصدود الجهال عنه ويأسف لمضيهم في عماهم، ولكن الله عرفه أنه مكلف بالبلاغ، وحسب: (ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى * إلا تذكرة لمن يخشى). وأفهمه أنه لا يقتاد الناس إلى الصراط المستقيم قسرا، وأن الحماس والإخلاص لا يحملانه على هذا المسلك: (ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين). لكن أتباع الأديان الأخرى أحسوا الخطر من الدعوة الجديدة، ورأوا أن ترك صاحبها يتحدث معناه انصراف الناس عنهم، فإن الإسلام له بالنفس الإنسانية قرابة، أليس صدى الفطرة؟ إن العقل يتقبله على عجل، وإن القلب يرغب فيه دون تكفف. من أجل ذلك اتخذ أعداء الإسلام طرقا عديدة للصد عنه. ص _131(1/119)
ولو كانت هذه الطرق مقارنة دليل بدليل، لرحب الإسلام بهذا النزال، واطمأن إلى نتائجه. لا.. إن الأمر مشى على سياسة الصلف والتحدي التي لا يحسن الأقوياء غيرها: (وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا). إن هذه السياسة فرضت على النبي الصبور المكافح أن ينتصب للدفاع عن رسالته، وعن المستضعفين الذين اضطهدوا معه لاعتناقها. إذا كنت تمشي في الظلام ومعك مصباح يضيء لك الطريق، فإنك قد ترفع مصباحك ليهتدي معك غيرك، وإن كره أحد الانتفاع بسناك فليتعسف السير وحده، وليتعرض للحُفر والمهالك ما شاء له هواه، (قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها). لكن ما العمل إذا حاول سفيه يهوى الظلمة أن يكسر مصباحك؟ ويطفئ شعاعك؟ أليس من حقك أن تقاتله لتستبقي الهدى لك ولغيرك؟. إن ذلك ما فعله محمد، (ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب وهو يدعى إلى الإسلام والله لا يهدي القوم الظالمين * يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون * هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون). إن الذين يؤيدون سياسة تكسير المصابيح هم أشد الناس بغضا لمحمد، وكرها للرسالة التي جاء بها، وهم يدركون أن الضوء عدوهم لأنه يكشف باطلهم، ففي نور الحرية العقلية وحده يرفض الإنسان مبدأ التثليث في الألوهية ولو قيل له تسويغا لذلك: إن المثلث خط واحد! ويرفض رب ص _132(1/120)
إسرائيل المتعصب لشعبه وحده، المزدري لسائر الشعوب، الذي لم يتحدث عن الآخرة بكلمة. وقد شرع محمد يدعو إلى دينه، فلننظر في دعوته، أترى فيها أثارة لمجد شخصي، أو تطلعا لغاية دنيوية؟. هل رأينا في تراث إنسان أحر من هذا الحديث عن الله ووحدانيته ووجوب التفاني في مرضاته؟. ثم لننظر في القتال الذي خاض ميدانه، هل رأيناه مُعتدا بقوته أم مستندا إلى قوة الله وحوله وطوله؟ هل رأيناه يبغي شيئا غير إعلاء كلمة الله؟ هل رأيناه يقول: الويل للمغلوب، أو يجعل الظروف تقول ذلك، أم ترك حرية التدين عامة شاملة بعد ما قلم أظافر الطغاة؟.. لنستنطق التاريخ العادل. كانت معركة بدر أول قتال وقع بين الإسلام والوثنية، وذلك بعد خمس عشرة سنة من بدء الدعوة، ماذا كانت حال المسلمين خلال هذه المدة؟ كانوا مُهدري الحقوق، كانوا غرضا قريبا لكل ذي عدوان. وكان الرسول يشكو إلى الله ضعف قوته وقلة حيلته! ورفض الجاهليون كل الرفض الاعتراف بالإسلام، وعدِه دينا يقبله المجتمع العربي. أُخرج المسلمون من مكة ـ وهي الحرم الآمن ـ وكشرت الوثنية عن أنيابها، وبعد ما تم لها ما تريد أعلنت أن الهوان والطرد نصيب كل من يدخل في الإسلام، فهل يلوم أحد المسلمين إذا تصدوا لهذا التحدي، وقرروا الوقوف أمامه في حدود قواهم القليلة؟. وماذا يفعلون؟ لقد ارتقبوا فرجا مع الغد المجهول. وجاء هذا الفرج من حيث لا يحتسب أحد، فقد فرضت الظروف على المسلمين معركة بدر دون أن يستعدوا أو يخططوا لها، وشعر فريق منهم بالكره البالغ لهذا القتال المفروض، وتقدم المشركون للمعركة، وهم واثقون من دحر الإسلام، وحفر قبره هنا. ص _133(1/121)
وأحس النبي عليه الصلاة والسلام أن التصدي لهؤلاء ما منه بد، وأن جهاد الماضي المر بالغ قمته اليوم، وأن حكم الله قد تتمخض عنه هذه الساحة التي مهدها القدر، فاتجه عليه الصلاة والسلام إلى ربه ينشد النجدة والحِمى. قال ابن عباس : قال النبى صلى الله عليه وسلم وهو في قبته التي أقيمت له ببدر: "اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إن شئت لم تُعبد بعد اليوم.. " فأخذ أبو بكر رضي الله عنه بيده، فقال: حسبك يا رسول الله فقد ألححت على ربك، فخرج النبي وهو يقول: (سيهزم الجمع ويولون الدبر * بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر). وفي رواية: استقبل نبي الله القلة ثم مد يده فجعل يهتف بربه عز وجل يقول: "اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم آت ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تُعبد في الأرض ". فما زال يهتف بربه مادا يديه، حتى سقط رداؤه. كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشعر أن قريشا أقبلت بكبريائها وبطرها تريد أن تتوج اضطهادها للإسلام بيوم أغبر، وكان يعلم أن جمهرة المسلمين صابرت البأساء والضراء أمدا طويلا وهي متشبثة بدينها في وجه عناد شديد، فنظر إلى حالتهم قبيل القتال المرتقب وقال: "اللهم إنهم جياع فأشبعهم.. اللهم إنهم حفاة فاحملهم.. اللهم إنهم عُراة فاكسهم ". لقد كلفهم الإيمان الكثير طوال السنين التي مضت. ولم يكن أحد يدري أن الله ـ تبارك اسمه ـ قد تأذن بتغيير الوضع كله، فأغرى قريشا بدخول معركة هي أغنى الناس عنها، ووضع المسلمين أمام أمر واقع لا يستطيعون عنه حولا، لِمَ؟ (و يريد الله أن يحق الحق بكلماته و يقطع دابر الكافرين * ليحق الحق و يبطل الباطل و لو كره المجرمون). ص _134(1/122)
نعم، استجاب الرحمن لاستغاثة نبيه، وتنزل النصر المفاجئ فكان صاعقة كسرت ظهر الكفر، وجائزة ملأت أيدي المؤمنين بالخير، وصبغت وجوههم بالبشر. ولم يكن انتصار بدر هذا إلا فاتحة عهد آخر من الجهاد العسكري تجمعت فيه كل القوى المعادية للإسلام تريد الإجهاز عليه والخلاص منه. واستأنف النبي وصحبه العمل لربهم وآخرتهم. إن أطماع الدنيا لم تكن أمل هؤلاء الرجال الكبار! إن الموت من أجل المبدأ الجليل هو ما غرسه النبي فيهم، وهو أسعد نهاية يختم بها مؤمن حياته!. وقد تعلق المسلمون بهذا المعنى في أيام الرخاء والعافية، فهم في الأمن والضخة يسألون الله الشهادة كما جاء في الحديث: "من سأل الله القتل من نفسه صادقا ثم مات، أو قُتل، فله أجر شهيد" وفي رواية "من سأل الله الشهادة بصدق، بلغه الله تعالى منازل الشهداء، وإن مات على فراشه ". وبذلك التجرد لله تكونت أمة وراء نبيها تنصر الحق، وتثأر له، ولا تبالي بأنصبتها من الدنيا، وكانت دنياها في الأغلب رقيقة لما ارتبطت به من تكاليف، ولما حل بها من غربة. عن أنس بن مالك: خرج رسول الله إلى الخندق فإذا المهاجرون والأنصار يحفرون في غداة باردة، صباح شتاء قارس، فلما رأى ما بهم من النصب والجوع قال: "اللهم إن العيش عيش الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة"، وكانوا يحفرون التراب وينقلون أكوامه على ظهورهم، وينشدون: نحن الذين بايعوا محمدا على الجهاد ما بقينا أبدا كان رسول الله حريصا على أن يكون القتال لله لا لدنيا عارضة، وكان يأبى على رجاله أن ينشبوا الحرب أو يستمروا الخصوم. فعن عبد الله بن أبي أوفى أن رسول الله في بعض أيامه التي لقي فيها العدو انتظر حتى مالت الشمس، ثم قام في الناس ـ خطيبا ـ قال: "أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو، واسألوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ص _135(1/123)
ظلال السيوف "، ثم قال: "اللهم مُنزل الكتاب، ومُجري السحاب، وهازم الأحزاب، اهزمهم وانصرنا عليهم ". وفي رواية: "اللهم مُنزل الكتاب، سريع الحساب، اهزم الأحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم ". وهزيمة الأحزاب حول المدينة شأنها عجيب، فإن قوات الضلال في الجزيرة كلها أطبقت على المسلمين في مدينتهم، فإذا المسلمون في مأزق ضيق خانق يُنذر باستئصالهم، وليس هناك بصيص أمل في بشر، اللهم إلا ما تصنعه السماء. وكان الظن أن المسلمين قد احتبسوا في مصيدة هي لا محالة مهلكتهم، وكان النبي الضارع لربه ينتظر منه العون لحظة بعد أخرى، فلا أمل إلا فيه. وبوغتت الأحزاب الطامعة بالأجواء تتمخض عن عواصف أو أعاصير تخلع خيامهم، وتكب آنيتهم، وتبعثهم يطلبون النجاة من حيث جاءوا، بعيدا عن هذه المدينة المنيعة. وانطلق صوت الإيمان داخل المدينة التي أشرق عليها الفرج يقول: "الحمد لله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده ". والثابت في خلق الرسول الكريم أنه كان شديد التوكل على الله والتحصن به والثقة فيه، كان إذا قاتل قال: " اللهم أنت عضدي، ونصيري، بك أحول، وبك أصول، وبك أقاتل ". وكان إذا خاف قوما قال: "اللهم إنا نجعلك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم ". وكان يكره التهريج والفوضى والصخب عند القتال، فالأمر جد، والسكينة أعون على طاعة الله، واستنزال نصره. ص _136(1/124)
والموقف هنا يوجب استحضار قدرة الله، وفضله وغناه، وحاجة العباد أبدا إليه، وتوسلهم إليه بالبراءة من الحول والطول، ولقد ثبت أن من مواطن إجابة الدعاء وقت التقاء الجمعين، إنه كوقت السجود، وإنهاء الصوم، واستغفار السحر، وكل آناء التجرد لله، وطلب جداه. والأمة الإسلامية كلها من وراء الجبهة الساخنة تدعو ربها وتسأله النصر، وهي في الصلوات الخمس تقنت، ترد النوازل، أو تقنت مع مطلع كل فجرطالبة من الله تأييد المجاهدين. ونختار من المأثورات الواردة، الدعاء الذي كان يقنت به عمر بن الخطاب وجيوش الإسلام تطرق أبواب المجوسية والنصرانية، الديانتين اللتين طالما أذلتا الجماهير، وطاردتا التوحيد. (اللهم إنا نستعينك، ونستغفرك، ولا نكفرك، ونؤمن بك، ونخلع من يفجرك) (اللهم إياك نعبد، ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد ، نرجو رحمتك ونخشى عذابك، إن عذابك الجد بالكفار ملحق). اللهم عذب الكفرة الذين يصدون عن سبيلك، ويكذبون رسلك ويُقاتلون أولياءك). (اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات. وأصلح ذات بينهم، وألف بين قلوبهم. واجعل في قلوبهم الإيمان والحكمة، وثبتهم على ملة رسولك صلى الله عليه وسلم وأوزعهم أن يوفوا بعهدك الذي عاهدتهم عليه، وانصرهم على عدوك وعدوهم، إله الحق، واجعلنا منهم). قال الإمام النووي: [.. واعلم أن المنقول عن عمر رضي الله عنه... (وعذب كفرة أهل الكتاب) لأن قتالهم ـ يعني المسلمين ـ كان مع كفرة أهل الكتاب. وأما اليوم فالاختيار أن يقول: وعذب الكفرة فإنه أعم ]. ص _137(1/125)
ونحن نخالف الإمام النووي رضي الله عنه في اختياره الذي حور إليه دعاء عمر ـ وعنه نقلنا الصيغة المثبتة هنا ـ فإن كفرة أهل الكتاب هم في عصرنا وعصر عمر مصدر البلاء الذي يعاني منه ديننا، وسر النكبات التي حاقت بأمتنا. بل إن الشيوعية زحفت من بعدهم، سواء في النصف الأيمن للاتحاد السوفييتي، الذي استعمره القياصرة من قبل، أم في أرجاء العالم الإسلامي الذي أرغمه الاستعمار الصليبي على فتح أبوابه للشيوعية، كما أرغمه على فتح أبوابه للصهيونية. إن كفرة أهل الكتاب كانوا ولا يزالون من أشد الناس حقدا على الإسلام، ومواريثه، وقيمه كلها. * * * ونعود إلى الجهاد النبوي كي نزداد بصيرة فيه. كانت محنة المسلمين شديدة يوم طوقت الأحزاب المدينة، وكان الخناق يشتد عليهم حتى ليكاد يعتصر أرواحهم، ومع ذلك ثبت الرجال في موقف الحراسة، وأحبطوا المحاولات الكثيرة التي قام الكفار بها لاقتحام المدينة. وفي يوم من الأيام رأى المهاجمون أن يقوموا بعمل حاسم لإيقاع الهزيمة بالمسلمين، وإحداث ثغرة في استحكاماتهم ينفذون منها إلى قلب يثرب. وتلاحق الرجال يصدون هذا التسلل، وكان قد بدأ بعد الظهر، وظل الهجوم والدفاع مستمرين حتى ولى الأصيل وأقبل المغرب والمسلمون لا يستطيعون أن يصلوا العصر. كان الخطر شديدا على المدينة، ولم يجد الرسول وصحبه بدا من مواجهة العدو حتى تنكسر حدته. ووقف الهجوم بعد المغرب لما يئس المشركون من إدراك شيء. فصلى المسلمون العصر بعد وقتها، وكان النبي صلى الله عليه وسلم مغيظا لما حدث ص _138(1/126)
فقال "ملأ الله قلوبهم وبيوتهم نارا كما شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر" وعن ابن مسعود قال: حبس المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة العصر حتى احمرت الشمس أو اصفرت، فقال: "شغلونا عن الصلاة الوسطى، صلاة العصر، ملأ الله أجوافهم وقلوبهم نارا ". إن هذا التعليق على الهجوم الفاشل يستحق التأمل الطويل. إضاعة وقت العصر كان محنة حقيقية عند النبي عليه الصلاة والسلام، لقد فوت المشركون عليه أن يؤم أصحابه في جماعة خاشعة تناجي ربها، ترجو رحمته وتخشى عذابه. لقد كانت سعادة هذا الإنسان الجليل أن يستغرق في الصلاة، ويسلم وجهه ومشاعره في عبودية كاملة لله رب العالمين. قال علماء البلاغة: الإطناب في موضعه حسن، ومثلوا لذلك بإجابة موسى لربه لما سأله: (وما تلك بيمينك يا موسى)؟ كان الجواب: عصاي.. ولكن موسى قال: (هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى) إنه أطال الرد عمدا ليطيل الوقت مع العظيم الأعلى، ولماذا يختصر فرصة العمر؟. وخاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام كان يرى الصلاة معراجه الذي يناجي فيه ربه، أو الساعة التي تصل الملأ الأعلى بأهل الأرض؟ من أجل ذلك كانت الصلاة لذته الروحية، ومن أجل ذلك كان غضبه لما شغله المشركون عن موعد لقاء مع من يحب. وعلاقة الرسول مع ربه جل شأنه تستحق التأمل العميق في موقف آخر. فقد تعرض المسلمون معه لانكسار شديد في معركة أحد، وقُتل من الرجال العظام سبعون هم من خيرة شهداء التاريخ، وأصيب النبي عليه الصلاة والسلام بجرح نافذ في خده. ومع فرخ المشركين، وشماتة العدو، وآلام المؤمنين، فقد دعا النبي ص _139(1/127)
عليه الصلاة والسلام إلى صلاة جامعة ليحمد الله على ما وقع!. روى الإمام أحمد قال: لما كان يوم أحد وانكفأ المشركون ـ عائدين بعد ما كان ـ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "استووا حتى اثني على ربي عز وجل " فصاروا خلفه صفوفا. فقال صلى الله عليه وسلم: "اللهم لك الحمد كله، اللهم لا قابض لما بسطت، ولا باسط لما قبضت، ولا هادي لمن أضللت، ولا مضل لمن هديت، ولا معطي لما منعت، ولا مانع لما أعطيت، ولا مقرب لما باعدت، ولا مباعد لما قربت!!. اللهم ابسط علينا من بركاتك ورحمتك، وفضلك، ورزقك!! اللهم إني أسألك النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول.. اللهم أسألك النعيم يوم العيلة، والأمن يوم الخوف!!. اللهم إني عائذ بك من شر ما أعطيتنا، ومن شر ما منعتنا!!. اللهم حبب إلينا الإيمان، وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين!!. اللهم توفنا مسلمين، وأحينا مسلمين، وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين ! اللهم قاتل الكفرة الذين يكذبون رسلك، ويصدون عن سبيلك، واجعل عليهم رجزك وعذابك.. اللهم قاتل الكفرة الذين أوتوا الكتاب. إله الحق!! ". هذه دعوات ينسكب اليقين من كل حرف فيها، إن الهزيمة قد تكسر أفئدة الذين يعبدون الله على حرف. فأما الذين فنوا في الله وباعوه نفوسهم وأموالهم، فإن عبوديتهم تتألق في السراء والضراء، وهم يسلمون لله ما أراد، ويخضعون لحكمته. وذاك سر الكلمة الرقيقة الغالية التي قالها الرسول لصحبه بعد الهزيمة: "استووا حتى أثنى على ربي عز وجل.. ". ص _140(1/128)
لما تألم المتنبي لشر ناله من سيده سيف الدولة قال: فإن يكن الفعل الذي ساء واحدا فأفعاله اللائي سررن ألوف! إن الموقف هنا شيء آخر، فإن النبي الجليل عد ما وقع قدرا يعلم الله حكمته، ولا يجرؤ على وصفه بالسوء، أنه يستعيذ بالله من شر ما أعطى ومن شر ما منع على سواء، فربما كان العطاء مخوف العقبى، وربما كان المنع ألما في الحاضر، وخيرا في المستقبل. وحصن المؤمن أولا وآخرا هو الله تبارك اسمه. وقد ختم الرسول دعاءه باستنزال بأس الله على المشركين، ثم ضم إليهم الكفار أهل الكتاب، وذاك أن اليهود في المدينة كانوا يتربصون الدوائر بالمسلمين. إنهم سيفرحون كثيرا لما حدث، حسبهم الله!. ولا شك أن ضربة أحد كانت موجعة، بيد أنها نفضت المجتمع الإسلامي نفضا شديدا، فامتاز المنافقون، وانعزلوا بغشهم وخداعهم، وتعلم المسلمون كيف يواجهون الأحداث بإيمان حر، وصف ملتئم. وشمت اليهود للنكبة النازلة، ولكن لم تمض سنون حتى نزل بهم أضعافها، ثم تركوا قلب الجزيرة إلى حيث ألقت. قد يتحدث المؤرخون عن محمد المقاتل، وقد يصفون عبقريته العسكرية ولكنهم يخطئون الخطأ الجسيم حين يعزلون هذا الجانب عن الجوانب الأخطر والأهم من سيرته الشريفة. لقد قاتل حين كان سفك الدم قصاصا لضمان الحياة، أو حين يأمر بقتل مجرم، ولا يرون الطبيب مقاتلا حين يأمر ببتر عضو. إن القتال الذي خاضه محمد وصحبه كان في سبيل الله، وما كان فى سبيل مأرب شخصي، أو مجد ذاتي، أو توسع إقليمي أو عرض آخر مما ألفه المؤرخون في سير القادة، والساسة على اختلاف العصور. ص _141(1/129)
قالت عائشة: (ما ضرب رسول الله بيده خادما له قط، ولا ضرب امرأة، ولا ضرب بيده شيئا قط، إلا أن يجاهد في سبيل الله، ولا خير بين شيئين إلا كان أحبهما إليه أيسرهما حتى يكون إثما، فإذا كان إثما كان أبعد الناس عن الإثم، ولا انتقم لنفسه من شيء يؤتى إليه إلا أن تُنتهك حرمات الله، فيكون هو ينتقم لله عز وجل). وقال: "إنما بُعثت لأتمم صالح الأخلاق ". وجاء في وصفه عليه الصلاة والسلام: ( ليس بفظ، ولا غليظ، ولا صخاب في الأسواق، لو يمر إلى جنب سراج لم يطفئه من سكينته، ولو يمشي على القصب لم يسمع من تحت قدميه.. لا يقول الخنا، يفتح الله به أعينا كُمها، وآذانا صما، وقلوبا غلفا.. أسدده ـ من كلام الله في هذه الرواية ـ لكل أمر جميل، وأهب له كل خفق كريم، أجعل السكينة لباسه، والبر شعاره، والتقوى ضميره، والحكمة منطقه، والصدق والوفاء طبيعته، والعفو والمعروف خلقه، والحق شريعته، والعدل سيرته، والهدى إمامه والإسلام ملته.... إلخ). ولنترك هذه المرويات إلى مبادئ أساسية في الإسلام، كانت - بداهة - منطلق نبيه في جهاده فقد قال تعالى : (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين) أي أن طلاب الاستعلاء في هذه الحياة، وناشري الفساد في أرجائها مطرودون من رحمة الله. والواقع أن أغلب القادة الفاتحين، والساسة البارزين كانوا من هذا الطراز الذي يضحك من كلمة التقوى، ويهزأ من الدار الآخرة. وزبانية الاستعمار قديما وحديثا من هذا الصنف المقطوع عن الله، الجاهل كل الجهل بسبيل الله. ص _142(1/130)
أما نبي الإسلام فهو لا يعرف إلا هذه السبيل ولا يقاتل إلا فيها. الإسلام قاطع في أن الذين يكدحون للدنيا وحدها، ويجحدون ما وراءها لا تُفتح لهم أبواب السماء، ولا ينتظرهم فيها خير: (من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون * أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون) إن تلك التعاليم الرفيعة تكشف عن حقيقة القتال الذي خاضه محمد وصحبه! إنه لله أولا وآخرا. تحمله صاحب الرسالة الخاتمة كي يحمي الحق، ويرد عنه كيد الكائدين، تحمله كي تبقى للركع السجود حرية العبادة، تحمله كي يقال: الله أكبر، فلا يجىء جبار وغد ليسد فم العابد الموحد. أما من قاتل ليهتف باسمه، أو ليغنم مالا، قل أو كثر، فليس له في الإسلام نصيب، ولا "بسبيل الله " صلة!. إن نبي الملحمة هو نبي المرحمة، هو نبي الصلاة والزكاة، والبر والتقوى شخصية متكاملة، التقت فيها أمجاد الإنسانية الرفيعة كلها. وإذا كنا نقدم تفسيرا للقتال الذي أداره الإسلام فمن حقنا أن نطلب من القوى المعادية للإسلام تفسيرا لما صنعت ولا تزال تصنع بالإسلام وأمته. إن الإسلام اصطدم أول تاريخه بالوثنية واليهودية والنصرانية، فهل تغيرت مواقف المشركين وأهل الكتاب منه بعد مرور أربعة عشر قرنا؟ أم لا يزالون يضنون عليه بحق الحياة؟. في الهند ـ حيث تسود الوثنية ـ نقرأ بين الحين والحين أنباء عن المذابح الطائفية هناك، وهذا هو العنوان المختار لقتل ألوف المسلمين بالجملة. ص _143(1/131)
وذكر المسلمون هناك أن القتل يستمر عندما يكون المسلمون في بلد ما أقل من خمس السكان! أما عندما يكون المسلمون حول النصف فإن المذابح تقل لأن المقاومة ترهب، وخسائر المهاجمين تزيد. وقد ذبح من المسلمين نحو المليون عندما أنشئت "باكستان " ولا يزال القتل الجماعي مصير المسلمين في مئات القرى. هل راجع الضمير الوثني نفسه في هذه المآسي؟ هل سيراجع نفسه يوما؟. وقرأنا من شهور مقتل عشرة آلاف مسلم في "تشاد"! وهذا الخبر المشؤوم نموذج لأخبار كثيرة عن مذابح المسلمين في أفريقية الوسطى، منذ بدأ النشاط التبشيري يرسخ أقدامه هناك. والصليبية الحديثة هي المسؤولة عن هذه المجازر الكالحة. ولقد صرخت في قطر إسلامي عزيز، وأنا أقرأ هذه الأخبار طالبا من المسلمين أن يجعلوا للشهداء يوما من أيام السنة نبكي فيه الدم المهدر والتوحيد المستباح. إن دمنا أرخص دم في دنيا الناس، ولو أن الكلاب قتلت بهذه الأعداد الكبيرة لغضب لها جماعات الرفق بالحيوان!!. وفي أواسط هذا القرن الرابع عشر تحركت اليهودية، وتذكرت بغتة أن لها صلة بفلسطين، وبدأ الهجوم الصهيوني على مراحل. وفرض على العرب أن يستسلموا، فإذا وجدت رصاصة في بيت نسفت جدرانه، وسوي بالرغام. كم يبلغ قتلانا في فلسطين منذ بدأ غزوها؟ ألوف وألوف!!. ومطلوب من المسلمين الآن أن ينسوا ويستكينوا ! إن الذين قاتلوا الإسلام من قديم لا تزال قلوبهم مغلفة بالضغائن، ولا يزالون يبيتون الشر لمحمد، وتراثه. والغريب بعد ذلك كله أن يتهموا الإسلام بالعدوان، وهم الذين ص _144(1/132)
اسودت قلوبهم وصحائفهم بالمنكر من الأقوال والأفعال!!. هل يُترك هذا الطغيان يُحق الباطل ويبطل الحق؟ هل يُترك ليُذل العزيز ويُعز الذليل؟. لقد أُمر المسلمون أن يعتمدوا على الله، ويقاوموا هذا العنف، وقيل لهم: لا تقبلوا الضيم، ولا ترخصوا الحق: (فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم). إن السلام هنا يعني الضياع المادي والأدبي، ولا يتقبله إلا جبان خاسر الدين والدنيا. وهذا سر عشرات ومئات الأحاديث والآيات التي أوصت بالجهاد، وهو جهاد - كما علمت - فى سبيل الله لا إشباعا لغرور، ولا تمشيا مع طمع، ولا جريا وراء جاه، ولا عصبية لجنس، ولا دعما لباطل في هذه الحياة، إنه منع للشرك أن يقهر التوحيد، ومنع للظلم أن يجتاح الحقوق ومنع للقوة أن تمحو العدل. في جو من التوقير والتهيب نرمق رجالا صنعهم محمد المحب لربه، الراضي عنه، الفاني فيه، نفخ فيهم من روحه فإذا هم ليوث بالنهار، رهبان بالليل، يؤثرون الله على أنفسهم، وينشدون قبوله بالنفس والنفيس. هم مجاهدون أتقياء ، أشداء على الكفار رحماء بينهم، من قُتل منهم مات شهيدا في سبيل الله، ومن عاش منهم بقي حارسا يقظا لكلمات الله. كان الواحد منهم ينزع نفسه من أحضان عروسه ليلقى - في سبيل الله - حتفه، وهو سعيد. كان الواحد منهم يذهل عن الأهل والعشيرة - في مجتمع قوامه العصبية للأهل والعشيرة - ويتغرب بعقيدته، مستبدلا أهلا بأهل، وعشيرة بعشيرة. ص _145(1/133)
وعندما أنظر إلى دنيا الناس الآن أرى العجب، لقد رأيت كثيرين باعوا دينهم بعرض من الدنيا، وقالوا كلمات الكفر حرصا على منصب أو تطلعا إلى آخر، أو تركوا الحق يموت مستوحشا لأن إيناسه يُغضِب بعض الكبراء. أين هؤلاء الصغار.. من الرجال الذين رباهم محمد فاستقر بهم التوحيد وكان مطاردا، وعُرفت الآخرة في سيرتهم، وكانت مجهولة؟؟. في المجتمع العالمي الآن يُقال: إن خطتنا بناء دار لكل شاب، وتمليك سيارة لكل أسرة، وتمكين أفراد العائلة من كذا وكذا من وسائل الرفاهية، ثم ماذا؟ لا شيء. الحديث عن الله، والآخرة شيء مضحك. أما محمد الوافد الغريب على أنصاره بالمدينة فيتوجه أول ما يتوجه إلى بناء المسجد منشدا مع البناة المتطوعين من صحبه. "اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة، فانصر الأنصار والمهاجرة!! ". لقد بدأ يبني جيش الحق بكلمات من نور، أو من نار، يقول: " لغدوة في سبيل الله، أو روحة خير من الدنيا وما فيها " وفي رواية : "غدوة في سبيل الله، أو روحة خير مما طلعت عليه الشمس ". " ثلاثة لا ترى أعينهم النار: عين حرست في سبيل الله، وعين بكت من خشية الله، وعين كفت عن محارم الله ". " رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها". "رباط شهر خير من صيام دهر". " من جهز غازيا في سبيل الله فقد غزا، ومن خلف غازيا في أهله بخير فقد غزا". "ما خالط قلب امرئ رهج ـ فزغ وقلق ـ في سبيل الله إلا حرم الله عليه النار". ص _146(1/134)
"من بلغ العدو بسهم رفع الله له درجة، ما بين الدرجتين مائة عام ". "مقام الرجل في الصف في سبيل الله أفضل عند الله من عبادة الرجل ستين سنة ". "إن أبواب الجنة تحت ظلال السيوف ". وعن أبي هريرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يضمن الله لمن خرج في سبيله ـ لا يُخرجه إلا جهاد في سبيلي، وإيمان بي، وتصديق برسلي ـ فهو ضامن أن أدخله الجنة، أو أرجعه إلى منزله الذي خرج منه نائلا ما نال من أجر، أو غنيمة. والذي نفس محمد بيده لولا أن أشق على المسلمين ما قعدت خلاف سرية تغزو في سبيل الله أبدا، ولكن لا أجد سعة فأحملهم، ولا يجدون سعة، ويشق عليهم أن يتخلفوا عني. والذي نفس محمد بيده لوددت أن أغزو في سبيل الله فأُقتل، ثم أغزو فأُقتل ، ثم أغزو فأُقتل !". هذه الكلمات إلى جانب آيات الكتاب العزيز، إلى جانب التطبيق العملي لرسول ظل نحو ربع قرن ـ هو أمد الرسالة ـ دؤوبا منتظما في نصرة ربه كأنه كوكب دوار، لا توقف ولا شرود.. ذلك كله صنع الجيل الذي ثبت أركان الحق، وأرسى قواعده إلى آخر الدهر. الويل للعالم إذا نام الشرطة، واستيقظ اللصوص، وقد أسهر محمد ليله وجند رجاله ليحرسوا مسيرة الحق، ويطاردوا العصابات التي ألفت الغارة عليه حينا بعد حين. إن الرجل الذي تورمت أقدامه من طول تهجده هو الذي انطلق في ميادين الكفاح المر يضرب ناشري الخرافات، ويمهد الأرض لغارسي الحقائق. ونؤكد مرة أخرى أنه ما اعتمد الإكراه وسيلة لغرس عقيدة، بل إن ص _147(1/135)
أنبياء الله كلهم يأبون هذه الوسيلة في غرس الإيمان. الذي حكاه التاريخ، ولا يزال يحكيه، أن الضلال المسلح هو الذي يقوم بأعمال الفتنة والنهب، وأن موقفه من الإسلام لا ينطوي على مهادنة أو شرف. وهنا يجب أن نقدر محمدا قدره، إن توحيد الله سبحانه وتعالى هو الشيء الذي أطبق المرسلون عليه كلهم، ما يعرفون غير ذلك، ما يعرف آدم، ولا نوح، ولا إبراهيم، ولا موسى أن لله ولدا، هو إله معه، وذلك غير إله ثالث اسمه روح القدس!!. إن هذا التثليث غريب على السماء، منكور الأصل والوجهة، ومن حق محمد ـ والأنبياء كلهم وراءه ـ أن يصرخوا بالحقيقة الواحدة، وأن يمنعوا كل عقبة تعترضها. إن الأرض والسماء وما بينهما تهتف مع محمد وهو يشق أجواز الفضاء بكلمات الأذان ؛ فإذا استحمق بشر، وظن الآلهة عشرا فليستحمق ما شاء، ولكن ليس له أن يستغل سلطته أو ثروته في إيذاء الموحدين، وإغلاق أفواههم. ويوم ينكسر سيفه، وهو يحاول قطع الطريق على قافلة الحق، فليذهب إلى الجحيم، ولا مكان للعطف عليه، أو إهانة الذين نجوا منه. وفي عصرنا هذا تقع مفارقات مستغربة، هناك من يريد إقناع المسلمين بترك رسالتهم! والتنكر للحق الذي شرفهم الله به! والتخلف عن محمد خير من جاهد لتكون كلمة الله هي العليا!. وما أشك في أن هذا الصوت القبيح مستأجر للشيوعية أو الصهيونية أو الصليبية، ومصيره إن شاء الله إلى الاضمحلال والتلاشي، فإن الأوفياء لله ورسوله سيبقون على العهد إلى قيام الساعة يؤمنون بالله، ويكفرون بالجبت والطاغوت. وقد شاء الله أن تقترن الشهادة له بالوحدانية مع الشهادة لمحمد ص _148(1/136)
بالرسالة، وذلك لأمر واضح، أن محمدا عليه الصلاة والسلام كان أشد الناس جؤارا بذكر الله وحده، ومحو كل أثارة من شرك تتسلل إلى دينه. لقد تعلمنا منه أن نعرف الله معرفة اليقين، وأن نحبه الحب المكين وأن نتابعه وهو يردد : (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين * لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين) فماذا يقول الآخرون؟ إنهم يهرفون بما لا يعرفون! والموعد ساحة العرض: (إنك ميت وإنهم ميتون * ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون). ص _149
ختام هناك أئمة كبار لهم في دراسة السيرة الشريفة بصر أطول، وخبرة أعمق، وقد يستطيعون خيرا مني أن يتحدثوا في: (فن الذكر والدعاء، عند خاتم الأنبياء). بعضهم قرأنا له من علمائنا الأقدمين، وبعضهم سيتمخض عنه المستقبل؟ لأن التعرف على صاحب الرسالة العظمى، واكتشاف جوانب العظمة فيه لم يتم بعد، على كثرة الكاتبين، والدارسين. في شبابي كتبت " فقه السيرة " وحسبت أني أتيت بشيء طائل في الإبانة عن عظمة محمد صلى الله عليه وسلم!. ثم عرفت ـ بعد ـ أن محاولتي كانت محدودة، وإن كانت ـ بستر الله ـ غير مردودة. ثم كلفتني "إدارة الشؤون الدينية" بدولة قطر أن أسطر هذه الصحائف فاستجبت. وكانت عدتي التي اعتمدت عليها عاطفة حيث تتحرك في قلبي نحو محمد صلى الله عليه وسلم، تجعلني حفيا بمناجاته لله، مشوقا إلى متابعته، والإفادة منه. لكن العاطفة الحارة لا تستر البصر الكليل، والهمة القاصرة. لذلك انتهيت من الكتابة، وقد استولى علي الشعور بالنقص، ثم ص _150
قلت: جهد المقل، ولعل غيري يتم ما بدأت. إن الكتابة في شمائل محمد صلى الله عليه وسلم وعبادته وفروسيته ميدان لا يزال ينتظر الرجال.. وأستغفر الله أولا، وآخرا. " انتهى الكتاب والحمد لله أولاً وآخراً "(1/137)