بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمْ
فكر الهزيمة
خطره وسبل مواجهته
بحث مقدم إلى مؤتمر
"الإسلام والتحديات المعاصرة"
المنعقد بكلية أصول الدين في الجامعة الإسلامية
في الفترة: 2-3/4/2007م
إعداد:
د. محمد حسن بخيت
أستاذ مشارك في قسم العقيدة – كلية أصول الدين – الجامعة الإسلامية
أبريل/ 2007
ملخص
…يتناول البحث خطراً تواجهه الأمة الإسلامية وهو فكر الهزيمة، والذي يعد عماد الغزو الفكري، وأقوى الأسلحة في يد أعداء الأمة لكونه يعمل على الهبوط بها والرضا بالذل والهوان.
…ولهذا الفكر أسباب تتمثل في ضعف الإيمان واتباع الأهواء، مع عدم التوكل على الله تعالى والتعلق بالدنيا مع ترك الجهاد والاستسلام للأعداء، مما يؤدي إلى التنازع، ومن ثم الفسل الذي يؤدي إلى الهزيمة بأنواعها سواء عسكرية كانت أو سياسية وثقافية واقتصادية أو نفسية.
…ولكن لا يمنع ذلك من التصدي لفكر الهزيمة، بعوامل قوية تستطيع أن توقف هذا الفكر الخطير الذي سيطر على الأمة فجعلها جسداً مشلولاً ،لا تحس بواقعها، ولا تنظر إلى ماضيها، ولا تفكر في مستقبلها، ويعد الإيمان بالله تعالى القائم على العقيدة الراسخة التي لا تتزعزع ركيزة قوية تحصن الأمة ضد فكر الهزيمة، كما أن الصبر والثبات على الحق مع الإعداد والجهاد في سبيل الله تعالى من أقوى العوامل لصد فكر الهزيمة، ولا ننسى أن الثقة بالنفس، والوقاية من الحرب النفسية عوامل مهمة في حماية الأمة من الداخل، إلى جانب وحدة الأمة القائم على الاعتصام بحبل الله تعالى والأمر بالمعروف من النهي عن المنكر، كل ذلك يساعد الأمة على مواجهة فكر الهزيمة الذي أصبح خطره لا يخفى على أحد.
المقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وبعد:(1/1)
يعد فكر الهزيمة من أخطر التحديات التي تواجه الأمة الإسلامية، بل إنه عماد الغزو الفكري الذي عمد أعداء الإسلام إلى نشره بين المسلمين ليكون ثقافة المجتمع، وبالتالي تسهيل السيطرة عليه، وجعله يتبع الفكر الغربي، كما يعد فكر الهزيمة من أقوى الأسلحة في يد أعداء الأمة، وتنبع أهمية هذا السلاح في يد الأعداء من أنه لا يتطلب سوى التعرف على مصادر الضعف في الضحية ثم اختراقها والسيطرة عليها، وإن أخطر ما في هذا الفكر أن أخذ به الكثير من السياسيين والمثقفين والانتهازيين فحملوا لواءه وجاهروا به دون حياء أو خجل.
لقد عرف المجتمع الإسلامي كثيراً من المنهزمين يلهثون وراء الدخيل من الفكر المستورد من أجل مجد زائف وسراب خادع، حتى جعل نفسه حجراً على رقعة الشطرنج يحركه أعداء الأمة من أجل تحقيق أهدافهم وغاياتهم.
ولذا كان لا بد من تسليط الضوء على هذا الخطر مع بيان أسبابه وسبل مواجهته.
الدراسات السابقة:
…أشار العديد من الكتاب إلى الهزيمة وخطرها ومن ذلك:
1- كتاب المنهزمون………الأستاذ يوسف العظم.
2- درس النكبة الثانية………د. يوسف القرضاوي.
3- واقع المسلمين وسبل النهوض بهم…الأستاذ أبو الأعلى المودودي.
أهداف البحث:
1- بيان أسباب فكر الهزيمة.
2- تحديد أنواع فكر الهزيمة.
3- الإرشاد إلى سبل وعوامل التصدي لفكر الهزيمة.
منهج البحث:
…سيتم استخدام المنهج الوصفي التحليلي في هذه الدراسة.
خطة البحث:
…تم تقسيم البحث إلى مقدمة وثلاثة مباحث وخاتمة.
المبحث الأول: أسباب فكر الهزيمة.
المبحث الثاني: أنواع فكر الهزيمة.
المبحث الثالث: عوامل التصدي لفكر الهزيمة.
الخاتمة: وتتضمن أهم النتائج التي توصل إليها الباحث.
المبحث الأول
أسباب فكر الهزيمة(1/2)
…لفكر الهزيمة أسباب متعددة كان لها الدور الفاعل في انتشار هذا الفكر في المجتمع المسلم، وقد عمد أعداء الإسلام إلى نشر هذه الأسباب ودعمها وتقويتها للسيطرة على الأمة الإسلامية فكرياً وسياسياً واقتصادياً وعسكرياً، ولذلك بين القرآن الكريم هذه الأسباب وحذر منها كما أشارت السنة النبوية، وهذا يعني أن الأمة الإسلامية مطالبة بمعرفة هذه الأسباب لكونها أمراض خطيرة على المجتمع المسلم، ومن ثم علاجها، وهذه الأسباب تتمثل في:
المطلب الأول: ضعف الإيمان واتباع الأهواء:
…يعد الإيمان بالله تعالى أساس بناء الأمة وقوتها لكون الإيمان يرتبط بالعمل ارتباطاً وثيقاً، وضعف الإيمان يؤدي إلى ضعف العمل ومن ثم اتباع الأهواء وترك طاعة الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، وقد حذر القرآن الكريم بوضوح من اتباع الأهواء وطاعتها من دون الله عز وجل فقال: { وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ } (سورة صّ: 26)، وقال أيضاً: { أَفَرَأَيتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ } (سورة الجاثية: 23).
…يقول سيد قطب: "التعبير القرآني المبدع يرسم نموذجاً عجيباً للنفس البشرية حين تترك الأصل الثابت، وتتبع الهوى المتقلب، وحين تتعبد هواها، وتخضع له، وتجعله مصدر تصوراتها وأحكامها ومشاعرها وتحركاتها، وتقيمه إلهاً قاهراً لها، مستولياً عليها، تتلقى إشاراته المتقلبة بالطاعة والتسليم والقبول"(1).
__________
(1) في ظلال القرآن، سيد قطب 5/3230، الطبعة السابعة سنة 1398هـ- 1978م، دار الشروق، بيروت.(1/3)
…ومن المعلوم أن الأهواء تختلف من عصر إلى عصر ومن أمة إلى أمة، ومن بيئة إلى بيئة، وقد جاء الإسلام للقضاء على هذه الأهواء الضالة وتصحيح التصورات والاعتقادات على أساس متين عن عقيدة سليمة نابعة من الكتاب والسنة.
…لقد وجد أعداء الإسلام أفضل الطرق لإخضاع العالم الإسلامي لسيطرتهم وغزوهم فكرياً، فوضعوا المخططات والبرامج لإضعاف الإيمان في نفوس المسلمين، ونسجوا المؤامرات حتى وضعوا قاعدة لهم ارتكزوا عليها لتكون المعركة ليست في ساحة القتال فحسب، بل في ميدان الفكر والثقافة، والقاعدة التي ارتكزوا عليها هي: "إذا أرهبك سلاح عدوك فأفسد فكره ينتحر به ومن ثم تستعبده"(1).
…إن ضعف الإيمان يؤدي إلى الفراغ الروحي، وبالتالي يؤدي بالروح إلى الانشغال بأوهام الهزيمة والضعف فتصبح هشة تتشرب كل خبر وتصدق كل نبأ دون تمحيص، وهذا يؤدي إلى فساد المجتمع واستعباده.
المطلب الثاني: عدم التوكل على الله تعالى:
…إن من أسباب الهزيمة عدم التوكل على الله تعالى، ولذلك كان تكرار الدعوة من الله تعالى بأن نتوكل عليه حيث قال: { إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ } (سورة يوسف: 67).
…كما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حثنا على التوكل على الله تعالى فقال: (لو أنكم كنتم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدوا خماصاً وتروح بطاناً)(2).
__________
(1) واقعنا المعاصر والغزو الفكري، د. صالح الرقب، ص 39، الطبعة الخامسة سنة 1423هـ-2003م، مكتبة الطالب، الجامعة الإسلامية – غزة.
(2) سنن الترمذي، محمد بن عيسى الترمذي، في الزهد، باب رقم (33) في التوكل على الله رقم الحديث (2344)، طبعة (2) سنة 1395هـ، طبعة البابي الحلبي، القاهرة، جامع الأصول لابن الأثير الجزري 10/140، كتاب في القناعة والعفة رقم 7619، طبعة 1372هـ، مكتبة دار البيان.(1/4)
…كما أشار الله تعالى إلى حقيقة التوكل في المعارك مع الأعداء والاعتماد عليه فقال: { إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ } (سورة آل عمران:160).
…يقول الشوكاني معقباً على هذه الآية: "من علم أنه لا ناصر له إلا الله سبحانه وأن من نصره الله لا غالب له، ومن خذله لا ناصر له، فوض أموره إليه وتوكل عليه ولم يشتغل بغيره"(1).
…لقد نزل الوحي يحدد مكامن الهزيمة الداخلية التي أحدثت الهزيمة الخارجية وذلك في غزوة حنين حيث قال تعالى: { وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ } (سورة التوبة: 25).
…هذه هي المعركة التي اجتمع فيها للمسلمين – للمرة الأولى – جيش عدته اثنا عشر ألفاً فأعجبتهم كثرتهم، وغفلوا بها عن سبب النصر الأول وهو التوكل على الله تعالى، فردهم الله بالهزيمة في أول المعركة إليه ثم نصرهم بالقلة المؤمنة التي ثبتت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إن الإعجاب بالكثرة أدى إلى الهزيمة الروحية ثم الهزيمة الحسية وتولية الأدبار والنكوص على الأعقاب.
__________
(1) فتح القدير، محمد بن علي الشوكاني 1/394، طبعة دار المعرفة، بيروت، لبنان، بدون تاريخ.(1/5)
…إن معركة حنين تعرض نتائج الانشغال عن الله، والاعتماد على قوة غير قوته لتكشف لنا عن حقيقة ضمنية بأن الكثرة العددية ليست شيئاً، إنما هي القلة العارفة المتصلة الثابتة المتجردة للعقيدة، وإن الكثرة لتكون أحياناً سبباً في الهزيمة ؛ لأن بعض هذه الكثرة لم تدرك حقيقة العقيدة، والتوكل على الله تعالى، فتتزلزل أقدامهم وترتجف في ساعة الشدة، فيشيعون الاضطراب والهزيمة في الصفوف كما أن الكثرة أحياناً تخدع أصحابها فتجعلهم يتهاونون في توثيق صلتهم بالله تعالى، انشغالاً بهذه الكثرة عن اليقظة لسر النصر في الحياة(1).
…وَرَدُّ الاعتماد على الكثرة وترك التوكل والاعتماد على الله تعالى أوقعنا في هزائم متعددة مع عدونا الصهيوني، حيث يقول الدكتور القرضاوي في كتابه درس النكبة الثانية: "وهكذا خضنا الحرب بلا عقيدة، وقاتلنا بلا إيمان... خضناها متوكلين على الروس، فخذلنا الروس، معتمدين على السلاح فلم ينفعنا السلاح"(2).
المطلب الثالث: التعلق بالدنيا والمبالغة في حب البقاء فيها:
__________
(1) انظر : في ظلال القرآن لسيد قطب 3/1618.
(2) درس النكبة الثانية، د. يوسف القرضاوي، ص 41، الطبعة الثانية، 1407هـ-1987م، مكتبة وهبة، القاهرة.(1/6)
إن التعلق بالدنيا ومحاولة التلذذ بكل ملذاتها، وفي المقابل نسيان الآخرة، وما أعد الله فيها من النعيم للمتقين، والجحيم للكفرة والمجرمين، فهذا التعلق وهذا النسيان يؤدي بالمرء إلى الحرص على هذه الدنيا لدرجة الشعور بالبقاء الأبدي بلا موت حتى يصل به الحال أن يهون حال الأمة في نظره بالنسبة لحال دنياه وينسى قوله تعالى: { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ } (سورة آل عمران:185).…لقد كان التعلق بالدنيا من البعض سبباً للهزيمة في غزوة أحد بعد النصر في بدايتها حيث أشار الله تعالى إلى ذلك بقوله تعالى: { حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ } (سورة آل عمران: 152).
…بل إن تداعي الأمم على المسلمين واحتلال أرضهم وخيراتهم وأموالهم حتى وصل الأمر بالبعض ألا يستطيع أن يتكلم إلا بالعودة لأعداء الأمة الإسلامية من يهود أو نصارى، وهذا كله ناتج عن حب الدنيا وكراهية الموت كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، قلنا أو من قلة بنا يومئذ يا رسول الله ؟ قال: بل أنتم كثير ولكن تكونوا غثاءً كغثاء السيل ولينزعن الله المهابة من صدور عدوكم وليقذفن في قلوبكم الوهن، قلنا: وما الوهن يا رسول الله ؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت)(1).
__________
(1) مسند الإمام أحمد 5/278، جامع الأصول 10/28، كتاب الفتنة والأهواء رقم 7481، طبعة (2) سنة 1398هـ، دار الفكر، بيروت.(1/7)
…ولذلك خاطب الله تعالى المؤمنين بوضوح بأن ينفروا في سبيل الله وألا يفضلوا الدنيا على الآخرة فقال: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ } (سورة التوبة:38).
…إن حب الدنيا والخوف على الحياة والمال واللذائذ والمصالح والمتاع، إنها ثقلة اللذات الفانية، والأجل المحدود والهدف القريب، إن النفرة للجهاد في سبيل الله، انطلاق من قيد الأرض وتطلع إلى الخلود الممتد، وما يحجم ذو عقيدة في الله عن النفرة للجهاد في سبيله إلا في هذه العقيدة دخل، وفي إيمان صاحبها وهن(1).
المطلب الرابع: ترك الجهاد والاستسلام للعدو:
…إن الجهاد ذروة سنام الإسلام وعندما تركته الأمة وقعت في ذل لا يرفع عنها إلا بالعودة إليه حيث قال الله تعالى موضحاً هذه الحقيقة: { إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } (سورة التوبة:39).
…بل إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أشار إلى هذه الحقيقة بوضوح حيث قال: (إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقرة ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم)(2).
__________
(1) انظر : في ظلال القرآن لسيد قطب 3/1655.
(2) سنن أبي داود، في الأدب، باب ما جاء في الديك والبهائم، رقم 5103، جامع الأصول 11/765، حديث رقم 9465.(1/8)
…إن العذاب الذي يتهدد تارك الجهاد ليس عذاب الآخرة وحده، بل عذاب الدنيا أيضاً عذاب الذلة التي تصيب القاعدين عن الجهاد والحرمان من الخيرات واستغلالها للمعادين، وهم مع ذلك كله يخسرون من النفوس والأموال أضعاف ما يخسرون في الكفاح والجهاد، ويقدمون على مذبح الذل أضعاف ما تتطلبه منهم الكرامة لو قدموا لها الفداء، وما من أمة تركت الجهاد إلا ضرب الله عليها الذل، فدفعت مرغمة صاغرة لأعدائها أضعاف ما كان يتطلبه منها كفاح الأعداء(1).
…إن ترك الجهاد أدى إلى بروز أصوات لفكر الهزيمة تنادي بعدم المقاومة والجهاد، بل وتسخر وتدعو إلى الاستسلام للعدو؛ لأننا في مواجهة دولة احتلال لديها الإمكانات الكبيرة، وهي قادرة على التدمير، بمعنى أن الاستسلام سيكون بديلاً عن المقاومة، وينسى أصحاب هذا الفكر المهزوم أن الصراع هو صراع إرادات وليس صراع قوة فقط، وإن كانت القوة مطلوبة بحسب الاستطاعة، ويدل على ذلك هزيمة أمريكا في العراق وسعيها للفرار من ضربات المجاهدين الذين لا يملكون شيئاً من القوة بالنسبة لأمريكا، ولكن الإيمان والإرادة القوية التي جعلت أمريكا تعترف بالهزيمة ويستقيل وزير دفاعها المجرم رامسفيلد.
…ودليل آخر هو هزيمة الاحتلال الإسرائيلي في جنوب لبنان على يد جموع من المقاومين رغم ما تملك من قوة، ودليل ثالث هو هزيمتها في غزة هاشم وفرارها بسبب ضربات المجاهدين والمقاومين.
…إن هذه الأدلة الواضحة لترد على دعاة الاستسلام والواقعية وأصوات فكر الهزيمة الذي أوصل الأمة إلى ما وصلت إليه.
__________
(1) في ظلال القرآن، سيد قطب 3/1655.(1/9)
…يقول الدكتور القرضاوي: "يقول بعض الناس فلنكن واقعيين ولنعترف بما هو كائن ولنطلب التعايش السلمي مع إسرائيل، وخاصة أن إسرائيل ليست وحدها فإن وراءها قوى عالمية تحركها الصهيونية بنفوذها ودولاراتها، ولا زالت تعلن هذه القوى: إن إسرائيل خلقت لتبقى... إن هذه الواقعية هي بداية الهزيمة، بل هي الهزيمة بعينها، وليس أقر لعين الباطل من أن تعترف بوجوده، ونتعامل وإياه على أساس الواقع، وأول طريق النصر أن تقتل العدو في نفسك، وأن تسقطه من قلبك... وهدفنا سيتحقق إذا نحن آمنا به ورسمنا له الطريق القويم، ولن يكون زوال إسرائيل أعظم من زوال الصليبيين"(1).
…فالأمة يوم أن استسلمت للعدو أصابها الضعف والوهن، ولكن عندما ترفض الأمة الاستسلام نجد عزة الإسلام والمسلمين حيث يذكر ابن كثير في تاريخه عن يوم حطين "إنه لم يسمع بمثل هذا اليوم في عز الإسلام وأهله، ودفع الباطل وأهله، حتى ذكر أن بعض الفلاحين رآه بعضهم يقود نيفاً وثلاثين أسيراً من الفرنج، وقد ربطهم بطنب خيمة – حبل – وباع بعضهم أسيراً بنعل ليلبسها في رجله وجرت أمور لم يسمع بمثلها إلا في زمن الصحابة والتابعين"(2).
المطلب الخامس: الذنوب والمعاصي:
…تعد الذنوب والمعاصي طريق الشيطان، يستدرج من خلاله من يطيعه، وربما بدأ بصغائر الذنوب ثم الكبائر التي يؤدي انتشارها في الأمة إلى فكر الهزيمة، بل الهزيمة بعينها، ولقد حذرنا الله تعالى من الشيطان وألاعيبه عندما تحدث عن غزوة أحد حيث قال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ } (سورة آل عمران:155).
__________
(1) درس النكبة الثانية، د. يوسف القرضاوي، ص 49.
(2) البداية والنهاية لابن كثير 12/321، الطبعة الخامسة، 1404هـ-1983م، مكتبة المعارف، بيروت.(1/10)
…ذكرت هذه الآية المصاب الجلل في غزوة أحد حيث إنها جمعت موانع النصر وهي الذنوب والمعاصي، ولقد كان للشيطان عليهم سبيل بأن أوقعهم في الزلل، أي الهزيمة وعدم الثبات في المعركة بسبب مخالفة أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - مما أدى إلى تعطيل النصر وعدم تحقيقه، وهذه سنة الله تعالى لا تتخلف ولا تتعطل، وهي أن الهزائم لا تقع إلا بسبب أعمال يصيبها المسلم فتبعد عنه النصر، وتقرب إليه الهزيمة.
…إن النصر لم يتحقق للمسلمين بسبب عددهم أو عدتهم وإنما بإيمانهم بالله تعالى واعتمادهم عليه، ولكن إذا وقع المسلمون في الذنوب والمعاصي، فيتساووا مع عدوهم في المعصية، والفارق هو العدة والسلاح، وعدونا في الغالب أكثر عدة منا، وبالتالي يكون مجال المعركة الناحية المادية فتكون الغلبة لهم.
…يقول سيد قطب: "قد تكون الإشارة في هذه الآية خاصة بالرماة الذين جال في نفوسهم الطمع في الغنيمة... ولكنها في عمومها تصوير لحالة النفس البشرية حين ترتكب الخطيئة، فتفقد ثقتها في قوتها، ويضعف بالله ارتباطها، ويختل توازنها وتماسكها، وتصبح عرضة للوساوس والهواجس، بسبب تخلخل صلتها بالله وثقتها من رضاه ! وعندئذ يجد الشيطان طريقه إلى هذه النفس، فيقودها إلى زلزلة بعد الزلزلة... ومن هنا كان الاستغفار من الذنب هو أول ما توجه به الرّبيون الذين قاتلوا مع النبيين في مواجهة الأعداء"(1).
المطلب السادس: تفرق الأمة واختلاف القلوب:
__________
(1) في ظلال القرآن، سيد قطب 1/497.(1/11)
…إن وحدة الأمة أحد الركائز التي تقوم عليها الجماعة المسلمة فإذا انهارت واحدة لم تكن هناك جماعة مسلمة ولم يكن هناك دور لها، علم ذلك أعداء الأمة فزرعوا بذور الخلاف والتفرقة معتمدين قاعدة "فرق تسد" معتمدين أيضاً على القاعدة الأساسية والركيزة المهمة وهي تقوى الله تعالى التي ابتعد عنها كثير من المسلمين، فكان الوصول إلى تفرق الأمة واختلاف قلوبها من السهولة حتى جعلوا الأمة دويلات متنازعة، بل في داخل البلد الواحد الفرقة والاختلاف يزرعها الحاكم من أجل السيطرة على الشعب، والفرقة بين الدويلات ليسيطر الغرب الصليبي وعلى رأسه أمريكا على الأمة الإسلامية، وقد حذرنا الله تعالى من التنازع والفرقة فقال: { وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ } (سورة الأنفال: 46)، وقال: { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا } (سورة آل عمران: 103).
…فما كان إلا الإسلام وحده يجمع القلوب المتنافرة، وما كان إلا حبل الله الذي يعتصم به الجميع ليصبحوا بنعمة الله إخواناً ؛ لأنه لا يجمع القلوب إلا الأخوة في الله.
…يقول الإمام الشوكاني: "أمرهم سبحانه بأن يجتمعوا على التمسك بدين الإسلام أو بالقرآن، ونهاهم عن التفرق الناشئ عن الاختلاف في الدين"(1).
…وقد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - أن أمته ستفترق، وهذا تحذير منه من الافتراق فقال: (ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، قالوا: من هي يا رسول الله ؟ قال: من كان على ما أنا عليه وأصحابي)(2).
__________
(1) فتح القدير للشوكاني 1/367.
(2) سنن الترمذي، كتاب الإيمان، باب ما جاء في افتراق هذه الأمة، رقم 2643.(1/12)
…كما أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى سبب هذه الافتراق محذراً فقال: (لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لتبعتموهم، قلنا: يا رسول الله اليهود والنصارى ؟ قال: فمن ؟)(1).
…هذا هو السبب الذي تعاني منه الأمة في هذه الأيام، يحذرنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - من اليهود والنصارى وأعوانهم، وهم أصل معاناة الأمة.
…وأنقل هنا كلاماً للأستاذ مصطفى مشهور يبين فيه أثر الخلاف وعلاجه فيقول: "إثارة الخلاف والفرقة داخل الصف بما يساعد الشيطان أن يجد مجالاً للتباغض والحواجز بين الأخوة، وصرفت الجهود والأوقات حول الخلافات وأسبابها ويترتب على ذلك تعطيل الإنتاج وربما الفشل والعياذ بالله... فليكن كل أخ حارساً أميناً على وحدة الصف، وأن يتحرز من كل كلمة أو تصرف يحدث خلافاً أو فرقة، كذلك البعد عن الغيبة والنميمة وسوء الظن والقيل والقال وكل ما نهينا عنه"(2).
…هذه هي الأسباب الأساسية لفكر الهزيمة والتي اعتمد أعداء الأمة من خلالها، على تحقيق أهدافهم وأطماعهم.
المبحث الثاني
أنواع فكر الهزيمة
لفكر الهزيمة أنواع متعددة ركز عليها أعداء الأمة من يهود ونصارى ومأجورين لتحقيق أهدافهم الخبيثة، وهذه الأنواع استخدموها بحسب الحاجة والأهمية مع القدرة على التنفيذ، وهذه الأنواع متمثلة في النواحي العسكرية والسياسية والثقافية والاقتصادية والنفسية.
المطلب الأول: الهزيمة العسكرية:
__________
(1) صحيح مسلم 4/2054، كتاب العلم، باب اتباع سنن اليهود والنصارى، رقم 2669.
(2) طريق الدعوة بين الأصالة والانحراف، مصطفى مشهور، ص 38، الطبعة الرابعة، دار التوزيع والنشر الإسلامية، القاهرة.(1/13)
لقد استطاع الأعداء لهذه الأمة أن يقنعوا ضعاف البصر والبصيرة من هذه الأمة أنهم القوة التي لا تقهر، وأنهم أصحاب النظام العالمي الجديد وأصحاب القنبلة النووية، وأن بيدهم تدمير العالم، بل وصل بهم الحال الادعاء بأنهم يعلمون دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء وصدقهم التعساء بسبب بعدهم عن دينهم وعقيدتهم فاستسلموا بعد معارك وهمية خاضوها باسم القومية تارة والعروبة تارة أخرى، معتمدين مرة على الشرق ومرة على الغرب مع التخلي عن الإسلام - مصدر قوتنا وعزتنا ومددنا الروحي والنفسي - لمسنا آثارها ونتائجها حين دخلنا المعركة دون التسلح بالإيمان لمواجهة الصهاينة اليهود الذين يحاربونا باسم الدين في حين تخلينا عن الإسلام الذي يعد الأمة للجهاد ويطهرها من الميوعة والتحلل وأسباب الخذلان.
هكذا خاضت الأمة الحرب بلا عقيدة، وقاتلت بلا إيمان، فحجب الله تعالى نصره عنا وسلط عدوه علينا، لأنه لم يعد بالنصر إلا من نصره وأعز دينه { وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } (سورة الحج:40)، { إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ } (سورة محمد:7).
لقد كان الحكام ينتظرون المعونة من أي جانب إلا من الله تعالى، مما أدى إلى أن يكلهم الله إلى أنفسهم ويولهم ما تولوا حيث قال تعالى: { وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبعْ غَيرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً } (سورة النساء:115).
فكانت النتيجة الهزيمة العسكرية والتي تبعها فكر الهزيمة العسكرية مما دفع وزير الخارجية الأمريكية الأسبق أن يصف الدواء لحل القضية الفلسطينية - التي هي قضية العرب والمسلمين - وحدده في وصفتين وضعتا في كثير من البلاد العربية موضع التنفيذ:(1/14)
الأولى: قتل العقيدة في نفوس أبناء فلسطين وغيرهم من أبناء المسلمين بحيث ينسون مسرى الرسول - صلى الله عليه وسلم - وموطن أقدام الصحابة رضي الله عنهم.
الثانية: أن يترك الأمر للزمن حتى يقوم جيل جديد ينشأ في غير فلسطين فينسى الأرض ويهجرها بعد أن تموت العقيدة ويضعف وازع الإيمان(1).
ويؤكد هذا المخطط الخبيث ما تعرضت له القضية الفلسطينية في المراحل السابقة حيث أخرجوا القضية الفلسطينية من ثوبها الإسلامي إلى القومية العربية ثم القومية الفلسطينية حتى أوقعوا الأمة في الفشل وأسقطوها في هزائم عسكرية ونفسية، ليصلوا بالقضية إلى الاعتراف بالمغتصب، وجعله صاحب الحق بل أصبحوا حماة للعدو الصهيوني، وأن كل من يقاوم أو يدافع عن الأوطان فهو إرهابي خارج عن الوطنية والقانون، وهذا الواقع الانهزامي دفع بالغيورين على الإسلام والأوطان أن يسعوا لإعادة القضية الفلسطينية إلى مسارها الصحيح وهو إسلامية القضية وإسلامية المعركة، وهذا الذي أغاظ اليهود وأعوانهم.
لقد فطن البعض إلى دور الدين في المعركة حيث يقول عبدالله التل راسماً سبيل النجاة كما يراه في قضية فلسطين: " يجب أن نخوض معركة فلسطين على أساس الجهاد الديني، وذلك لأن فلسطين بلد إسلامي مقدس، كل شبر فيه ممزوج بدماء الصحابة والمجاهدين، يضم المسجد الأقصى أولى القبلتين، وثالث الحرمين الشريفين، الذي أسرى بالنبي الكريم إليه، ويضم مسجد الصخرة ومئات المساجد والمقامات الإسلامية الأثرية المقدسة"(2).
__________
(1) انظر : المنهزمون، يوسف العظم، ص249، الطبعة الثانية، 1397هـ، دار القلم، دمشق.
(2) 21/10/1427هـ، www. Islam online.net | Arabic | karadawypart3(1/15)
إن وجود جذور لهذا الدين وحماة لهذه الرسالة الإسلامية " يقطع الطريق على المهزومين الذين لا يعرفون من أمور دينهم ودنياهم معاً إلا ما يمليه عليهم العدو، وما يخطط لهم أحفاد الفكر اليهودي باسم التجديد والتقدمية والقوانين الحديثة والفكر المعاصر"(1).
المطلب الثاني: الهزيمة السياسية:
إن الهزيمة العسكرية لها تأثير واضح على الهزيمة السياسية، ولكن إذا كان فكر الهزيمة العسكرية منتشراً في الأمة فسيتبع فكر الهزيمة السياسية وهذا ما حصل بالفعل حيث أدت الهزيمة العسكرية بحكام العرب والمسلمين إلى قبول كل ما يقال لهم من قبل عدوهم حتى تنازلوا عن حقهم وثوابتهم التي كثيراً ما تنادوا بها، بل وأخذوا يدافعون عن عدوهم بل أصبحوا الأصدقاء الأعزاء يتم استقبالهم واحتضانهم رغم الدماء التي تسيل من أجسادنا.
إن هذه الهزيمة السياسية نجدها في حكام العرب وفي تسابقهم للقبول بالقرارات الدولية الظالمة لحقوقنا وقضيتنا والتي رفضت سابقاً ثم أصبحت اليوم سيفاً مسلطاً على رقابنا بل أخذ البعض من بني جلدتنا يطالبون بوجوب القبول بالشرعية الدولية، وأنها هي المنقذ لقضيتنا، وأننا لا قبل لنا باليهود الصهاينة والأمريكان، فيجب أن نستسلم لأن (الكف ما بيلاطم مخرز)(2)، وغيرها من العبارات والأمثال التي يتخذها الجبناء ذريعة لهم.
__________
(1) المنهزمون، يوسف العظم، ص100.
(2) معجم الأمثال الفلسطينية، حسين علي لوباني، ص 627، مادة (كف)، ط الأولى سنة 1999م، مكتبة لبنان، بيروت.(1/16)
لقد أدى حال الأمة إلى فرض السيطرة السياسية الغربية على الأنظمة الحاكمة والشعوب التابعة لها، والتحكم في مراكز القرار السياسي، وكل ذلك لخدمة المصالح الغربية والصهيونية، وذلك على حساب مصالح الشعوب العربية والإسلامية وبالأخص القضية الفلسطينية. يقول أبو الأعلى المودودي: "فرضوا علينا نظرياتهم ونظمهم السياسية التي لم تكن لديننا ودنيانا أقل ضرراً من شيء آخر، فقد زعزعت نظريتهم اللادينية كياننا الديني وكادت تأتي تصوراتنا وعقائدنا الدينية من القواعد"(1).…إن شر ما أصيبت به الأمة هو الحكام العتاة الجبابرة الذين يحطمون كل قوة إيجابية في شعوبهم، هؤلاء الذين قال فيهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - عندما سئل عن الساعة فقال: " إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة. قيل وكيف أضاعتها ؟ قال إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة "(2).…يقول الدكتور القرضاوي: "إن الصهيونية العالمية لو حكمت بنفسها بلاد العرب، واستأجرت أناساً ببلايين الدولارات ليفسدوا لها أمة العرب ويدمروا مقوماتها وخصائصها ومعنوياتها ما استطاعت أن تنجز معشار ما يصنعه هؤلاء الحكام بشعوبهم".(3)
__________
(1) واقع المسلمين وسبيل النهوض بهم أبو الأعلى المودودي، ص158 الطبعة الرابعة 1401هـ مؤسسة الرسالة بيروت.
(2) صحيح البخاري. 1|21 كتاب العلم، باب من سئل علماً وهو مشتغل في حديثه جامع الأصول 1|322 كتاب الأمانة رقم 103، المكتب الإسلامي، استانبول، تركيا، بدون تاريخ أو طبعة.
(3) درس النكبة الثانية، ص116.(1/17)
إن السياسة إذا لم يضبطها ويوجهها الدين وتحكمها تقوى الله تكن عبئاً على الأمة يقول يوسف العظم: " أما مفهوم السياسة الملوث ووجهها الشائه المعروف بين الناس وفي أندية الثرثارين، فهو ألاعيب قوم اتخذوا السياسة حرفة بلا تقوى، وارتقوها سلماً بلا خلق وجعلوها وسيلة وصول إلى منفعة أو بلوغ غرض دنيوي هزيل يحمل من أجله وجوهاً عدة تتخذها في المناسبات"(1).
لقد جلس على سدة الحكم الطغاة والمارقون والمستبدون ليديروا شؤون الأمة فيوسعونها ظلماً ومهانة واستبداداً، وقد أوضح النبي - صلى الله عليه وسلم - ما نراه اليوم مطبقاً في واقعنا وحياتنا حيث قال: " لتنقضن عرى الإسلام عرورة عروة فأولهن نقضاً الحكم وآخرهن الصلاة "(2).
إن علاج الهزيمة السياسية ينبع من التغيير السياسي الذي ينتزع السلطة والحكم من أيدي الطغاة المستبدين، ويردها إلى الأمة لكي تختار القوي الأمين ليقودها إلى بر الأمان، ويسخر طاقته لخدمة أمته، القوي الأمين الذي يعبيء الأمة ليقودها إلى الجهاد من أجل تحرير المقدسات من دنس اليهود الأشرار، القوي الأمين الذي يرحب بالنقد البناء ويقول كما قال عمر - رضي الله عنه - "رحم الله امرأً أهدى إلى عيوب نفسي"(3).
وعندما قال له رجل اتق الله يا عمر فنهره بعض من سمعه، فقال عمر - رضي الله عنه -: "لا خير فيكم إذا لم تقولوها ولا خير فينا إذا لم نسمعها"(4).
كما نريد الحرية التي تحمي الحرمات لا التي تغذي الشهوات، الحرية التي تجعل الفرد العادي يقول للسلطان والله لو رأينا فيك اعوجاجاًُ لقومناك بسيوفنا فلا يعتقل ولا يسجن ولا يعذب.
__________
(1) المنهزمون، يوسف العظم، ص75.
(2) الجامع الصغير للسيوطي 2|123، دار الكتب العلمية، مكة المكرمة، بدون تاريخ أو طبعة.
(3) إحياء علوم الدين لأبي حامد الغزالي 3/64، دار المعرفة، بيروت، بدون طبعة أو تاريخ.
(4) درس النكبة الثانية، د. يوسف القرضاوي، ص 115.(1/18)
ورحم الله خليفة رسول الله أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - الذي أعطى الأمة درساً في الحكم والسياسة عندما ولى الخلافة حيث قال: "أما بعد أيها الناس، فإني وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، الصدق أمانة والكذب خيانة، والضعيف فيكم عندي قوي حتى أرد عليه حقه إن شاء الله تعالى، والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ منه الحق إن شاء الله تعالى، ولا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم بالذل، ولا تشيع الفاحشة في قوم قط إلا عمهم الله بالبلاء، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله فإن عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم"(1).
لقد حث الرسول- صلى الله عليه وسلم - كل فرد من أبناء أمته بأن يأمر الإمام الجائر وينهاه حيث قال: "سيد الشهداء حمزة بن عبدالمطلب ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله"(2).
وهذا يعني أن المؤمن يجب أن يكون على وعي كامل في السياسة ومتابعة الحاكم ومراقبته في تصرفاته وأعماله حتى يأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر.
المطلب الثالث: الهزيمة الثقافية:
__________
(1) البداية والنهاية لابن كثير 6/301.
(2) الجامع الصغير للسيوطي، 2|35.(1/19)
لقد تجلت الهزيمة الثقافية تحت مسمى التطبيع الثقافي حيث برزت تجلياته في العلاقة بين الغالب والمغلوب، خاصة في مفردات الحياة اليومية كالمأكل والمشرب والملبس وطريقة الكلام والتفكير، وهي علاقة غير قائمة على الحوار والثقافة بل على التبعية والتقليد والإذعان أمام الغالب، والتي تبدأ بالهزيمة العسكرية لتنتهي بالهزيمة الثقافية، لأن المغلوب عادة ما يعتقد الكمال في الغالب فيسعى للاقتداء به حيث يقول ابن خلدون موضحاً هذه القضية: " إن المغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده. ولذلك ترى المغلوب يتشبه أبداً بالغالب في ملبسه ومركبه وسلاحه في اتخاذها وأشكالها بل وفي سائر أحواله. وما ذلك إلا لاعتقادهم الكمال فيهم"(1).
__________
(1) مقدمة ابن خلدون، عبد الرحمن بن خلدون، ص149، ط الأولى سنة 1419 هـ 1998م، دار الفكر للطباعة والنشر، بيروت.(1/20)
لقد عمد أعداؤنا على مدى عقود على تكريس الشعور بالهزيمة لدينا، وقد ساعدهم في ذلك رهط من أبناء جلدتنا من المهزومين فكرياً باسم النخب الفكرية والسياسية، الذين ما فتئوا ينشرون اليأس والعجز والإحباط بين ظهرانينا بدعوى الواقعية والعقلانية، وضرورة أن نعرف قدر أنفسنا على أساس أنه ليس بالإمكان أكثر مما كان. ليكونوا في واقع الحال قد عملوا بالوكالة عن المنتصر لتجميل الهزيمة، ودغدغة مشاعر المهزومين ليؤدي ذلك إلى التنازل عن الثوابت، بل يصبح فكر الهزيمة جزءاً أصيلاً من الثقافة الوطنية لتصبح بعد ذلك الخيانة وطنية، والتنازل عن الثوابت وطنية، بل يتعدى ذلك إلى إطلاق الأمثال الشعبية التي تقوي ثقافة الهزيمة مثل: "الكف ما بيلاطم مخرز"(1) و"حط راسك بين الروس(2) وقول يا قطاع الروس " وغيرها من الأمثال التي تثبط الهمة بدلاً من أمثال التشجيع والمقاومة والجهاد.
…إن أولئك الأشرار قد نجحوا إلى حد كبير في حربهم النفسية الخطيرة، والأخطر من الهزائم العسكرية التي منيت بها الأمة، القبول بهذه الهزائم والعيش معها كأمر واقع، حتى أصبحت الهزيمة ثقافة إلى حد الخوف من استخدام كلمة مقاومة أو جهاد، خشية أن نتهم بالإرهاب، فأصبحنا نخشى أن نتكلم، فما بالك بالقتال.
__________
(1) معجم الأمثال الفلسطينية، حسين علي لوباني، ص 627، مادة (كف)، الطبعة الأولى، سنة 1999م مكتبة لبنان، بيروت.
(2) معجم الأمثال الفلسطينية، حسين علي لوباني، ص 307، مادة (حط).(1/21)
…لم يكتف أعداء الإسلام وعملائهم بهذا بل توجهوا إلى التعليم، وتحت بند التطبيع الثقافي، قاموا بتعديل المناهج الدراسية في جميع مراحل التعليم وخاصة كتب التربية الدينية والتاريخ لتتماشى مع التقارب مع العدو الصهيوني، بل هناك إهمال متعمد لتدريس الناشئة تاريخ الإسلام العظيم ابتداءً بالسيرة النبوية وانتهاءً بسير الصالحين والدعاة من أبطال الإسلام ورجاله الفاتحين، وذلك لمعرفة أعداء الإسلام الأثر الواضح في التربية الصحيحة المبكرة، ولذلك عمد أعداء الإسلام إلى التركيز على الأطفال حيث يقول المبشر جون موط: " إن الأثر المفسد في الإسلام يبدأ باكراً جداً ومن أجل ذلك يجب حمل الأطفال الصغار إلى المسيح قبل بلوغهم سن الرشد، وقبل أن تأخذ طبائعهم أشكالها الإسلامية"(1).
…كما توجهوا إلى الإعلام لما له من دور واضح في الهزيمة الثقافية حيث إن مجاله من أخطر مجالات الحياة، وأعظمها أهمية، لقدرته على تشكيل الأفكار والأفراد حسب النوعية التي تريد، وتستطيع أن تحكم على الأمة من خلال إعلامها من حيث تقدمها أو تخلفها، ولو نظرنا إلى إعلام الأمة العربية والإسلامية لوجدنا أبشع مظاهر الهزيمة الثقافية إلا في بعض وسائل الإعلام المحدودة والخاصة.
…والسبب أننا نجد التناقض الواضح فيما يقدمه الإعلام في بلادنا العربية والإسلامية، فهذا مثلاُ التلفاز يعرض برنامجاً دينياً أو صحياً حول حكم التدخين وأضراره ثم بعد ذلك يطالعنا بمسلسل أو تمثيلية أو فيلم يعج بالدخان والمدخنين، وقد يأتي ببرنامج يحرم التبرج والسفور، ثم بعده يأتي بالمذيعات المتبرجات أو الأفلام الماجنة.
__________
(1) الغزو الفكري، د. عبد الستار سعيد، ص 69، دار الأنصار، مطبعة التقدم، القاهرة، بدون تاريخ أو طبعة.(1/22)
…كما تدرجوا في الهبوط الثقافي والأخلاقي حيث يقول د. عبدالستار سعيد: "وتحت مختلف دعاوي المدنية، والترفيه وأمثالها أدخل الكفار جيوشاً أخبث من جيوش الاحتلال العسكري، وهي أفواج الممثلين والممثلات وأمثالهما من البغايا والراقصات، وشجعوا إنشاء المسارح وفرق الغناء والتمثيل والمراقص والملاهي المتنوعة، وكانت الأجنبيات أولاً ثم الوطنيات من غير المسلمات، هن العنصر الأساسي في هذا الغزو، وقد شجع ذلك المرأة المسلمة نفسها على السفور والتعري، والاختلاط الماجن، ثم تقليد الكافرات في كل شيء بعد ذلك"(1).
…إن الهزيمة الثقافية تمثل دمار الأمة وإلغاء وجودها، ولذلك وجب على الأمة النهوض ومواجهة ثقافة الهزيمة بثقافة المقاومة.
المطلب الرابع: الهزيمة الاقتصادية:
…لقد أصبحت البلاد الإسلامية أسواقاً تجارية للمنتوجات الغربية دون التخطيط والعمل الجاد من أجل بناء المصانع الوطنية الكبرى حتى أصبحت كثيراً من البلدان الإسلامية لا تستطيع العيش دون الاستيراد من أمريكا وأوروبا المواد الأساسية، بل أصبحت هذه البلدات غارقة في الديون الربوية بصورة أذلت الحكومات وأثقلت كاهل الوطن والمواطن.
__________
(1) المرجع السابق، ص 65، 66.(1/23)
…وقد ظهرت العولمة، أي النظام العالمي الجديد، الذي يعني تدويل النظام الرأسمالي الحديث وفق الرؤية الأمريكية المهيمنة، والتي تزعم أنها سيدة الكون وحامية النظام العالمي الجديد، ومن ضمن البلاد المستهدفة في هذه العولمة الدول العربية والإسلامية بل إن الدول العربية بلغت ديونها الخارجية عام 1995م (250) مليار دولار، وتتفاقم ديونها بما مقداره (50) ألف دولار في الدقيقة الواحدة، ولا شك أنه كلما ارتفعت وتيرة الديون كلما ترسخت التبعية ووجدت الذريعة للتدخل من الدول الغربية وخاصة أمريكا وهو الحاصل فعلاً، وبسبب هذه الديون أصبح اقتصاد معظم هذه الدول متخبطاً، يستطيع وبصعوبة بالغة ملاحقة خدمة الديون وفوائدها المتراكمة، فهي في الحقيقة وسيلة لبسط النفوذ على البلاد العربية والإسلامية واستعبادها(1).
…لقد استطاعت أمريكا بسياساتها الخبيثة أن توقع العالم العربي والإسلامي في الهزيمة الاقتصادية عبر المؤسسات المالية الدولية كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي عبر ممارسات وإملاءات اقتصادية مغايرة لمصالح الشعوب، من أجل الهيمنة الأمريكية على اقتصاديات العالم من خلال القضاء على سلطة وقوة الدولة الوطنية في المجال الاقتصادي بحيث تصبح الدولة تحت رحمة صندوق النقد الدولي تستجدي فيه المعونة والمساعدة عبر القروض الربوية ذات الشروط المجحفة، وفرض السياسات الاقتصادية والزراعية بهدف تعطيل التنمية الاقتصادية، وإبقاء الدول العربية والإسلامية سوقاً استهلاكية رائجة للمنتجات
الغربية. ومن ثم تسلم إرادتها السياسية للقوى الحاكمة في أمريكا(2).
__________
(1) انظر : واقعنا المعاصر والغزو الفكري، د. صالح الرقب، ص 158.
(2) انظر : العولمة : د. صالح الرقب، ص13، 16، الطبعة الأولى سنة 1421 هـ سنة 2000 م، مكتبة الأمل التجارية – غزة.(1/24)
…وهذا دفع مهاتير محمد رئيس وزراء ماليزيا – السابق - إلى التحذير من العولمة في المجال الاقتصادي وذلك في كلمة ألقاها أمام مؤتمر لوزراء خارجية دول منظمة المؤتمر الإسلامي في 27/6/2000م بقوله: "إن منظمة التجارة العالمية تسمح للدول الغنية بابتلاع الدول الفقيرة"(1).
…إن هذا الواقع الاقتصادي الأليم الذي تعيشه الأمة ناتج عن بعدها عن منهاج ربها: { وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً } (سورة طه:124) لقد ربط الإسلام بين الاقتصاد والاستراتيجية العسكرية برباط وثيق فالمال والاقتصاد عصب الحرب وعدة القوة الحربية بلا جدال، ولذلك فرض الله تعالى الجهاد بالمال مع الجهاد بالنفس على الأمة الإسلامية، بل إن الجهاد بالمال ورد مقدماً على الجهاد بالنفس في كثير من الآيات حيث قال الله تعالى: { الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ } (سورة التوبة:20)، وقال أيضاً: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ، تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } (سورة الصف:10-11).
…وعن أنس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم"(2).
__________
(1) واقعنا المعاصر والغزو الفكري، د. صالح الرقب، ص157.
(2) سنن أبي داود، في الجهاد، باب كراهية ترك الغزو، رقم 2504، الجامع الصغير للسيوطي 1/143.(1/25)
…"وهكذا يحقق الجهاد بالمال الرهبة في قلوب العدو من قوة المسلمين، فإذا رأى العدو أنه سيواجه المسلمين قوة عسكرية تساندها قوة اقتصادية لا تنفد، فسوف لا يستهين بالمسلمين ولا يعلق أمله على التغلب عليهم"(1).
…إن روعة الإسلام تتجلى في عدالته الاقتصادية ونظرته الحضارية في توزيع الثروة وجمعها وتنميتها وإنفاقها، فهو يحرم الحصول على المال بطريق محروم، يقوم على الغصب والاستغلال والرشوة والميسر، ويحرم تنمية المال بالربا والربح الفاحش " الغبن " ويحرم إنفاق المال على ألوان من المعصية التي تتنافى مع عقيدة الإسلام وكرامة الإنسان السوي الذي يحترم إنسانيته، ويقدر كرامته حق قدرها، والإسلام يسمو بتشريعاته الاقتصادية في آفاق رفيعة من التطبيق حين يأمر بدفع أجر العامل قبل أن يجف عرقه(2).
المطلب الخامس: الهزيمة النفسية:
…إن الهزيمة النفسية ونشرها في المجتمع لتصبح فكراً من الخطورة بمكان، لأنها الممهدة والسابقة لأي هزيمة حضارية وعسكرية، ولذلك يعمد الأعداء على بث الهزيمة النفسية بكل الوسائل ليتحقق لهم النصر العسكري.
…وقد تحدث ابن خلدون عن الهزيمة النفسية فقال: " إن النفس أبدا تعتقد الكمال فيمن غلبها وانقادت إليه ولذلك ترى المغلوب يشتبه أبداً بالغالب في ملبسه ومركبه بل وفي سائر أحواله"(3).
__________
(1) النظرية الإسلامية في الحرب النفسية، اللواء الركن محمد جمال الدين محفوظ، ص26، دار الاعتصام – القاهرة.
(2) انظر : المنهزمون، يوسف العظم، ص130-131.
(3) مقدمة ابن خلدون، ص149.(1/26)
…إن ما ذكره ابن خلدون ليس على إطلاقه، فهناك من استولى عدوه على أرضه ولكنه بقي معتزاً بدينه وقيمه، ولم يقلد من غلبه، فالمسلمون لما هزمهم التتار وجدنا الغالب هو الذي قلد المغلوب ودخل في دينه، كما أن الشعب الفلسطيني منه من بقي معتزاً بدينه وإيمانه وحافظ على عقيدته وتميزه عن عدوه الجاثم على أرضه، ولكن لا يمنع ذلك أن ينهزم البعض نفسياً فيلحقوا بركب الأعداء فيقلدوهم التقليد الأعمى. ويجعلهم ينبهروا بكل خلق دخيل خالف أخلاق الإسلام كالعري والتبرج بل وتقليد أشخاص معينين يمثلون قدوة سيئة لهم مثل المغنيين والمغنيات والممثلين والممثلات الأحياء منهم والأموات، بينما جاء الإسلام ليعزز الكمال الأخلاقي حيث قال - صلى الله عليه وسلم -: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"(1).
…إن الهزيمة النفسية تفوق بكثير في آثارها ونتائجها الهزيمة العسكرية، لأن الهزيمة العسكرية قد تتحول إلى نصر يوم أن تنطلق الإرادة لتواجه التحدي، لكن الهزيمة النفسية تظل تقيد إرادة الإنسان، وتعطل قدرته على المقاومة، وتدفعه للشعور بالإحباط لتقضي على أي أمل للإصلاح، وبدلاً من أن يبحث عن أي سبيل للخروج من الأزمة يكتفي المحبط بالعويل والصراخ، وأن لا مجال للخروج من الأزمة إلا بالاستسلام والرضا بالواقع.
__________
(1) السلسلة الصحيحة، محمد ناصر الدين الألباني 1/112، رقم (45)، مكتبة المعارف، الرياض.(1/27)
لقد كانت معركة أحد درساً في الحرب النفسية وكيفية التصدي لها، حيث أذاع المشركون بأن محمداً - صلى الله عليه وسلم - فقد قتل لإضعاف ما بقي لدى المسلمين من قوة بعد المعركة، وحقق كفار مكة ما أرادوا حين وقع قولهم في نفوس بعض المؤمنين موقع التصديق مما أثر في نفسياتهم وعزائمهم في القتال يقول اللواء الركن محمد جمال محفوظ: " إن ذلك كان بعد الهزيمة العسكرية التي وقعت بالمسلمين في أحد وهو ظرف يعتبره خبراء الحرب النفسية من أفضل الظروف الملائمة للحرب النفسية(1)".
…لقد قرر النبي - صلى الله عليه وسلم - التصدي للحرب النفسية التي عمل على نشرها كفار مكة فقرر ملاحقة كفار قريش وألا يخرج إلا من اشترك في معركة أحد فقال: " لا يخرج معنا إلا من شهد القتال " مع ما أصابهم من جراح تملأ أجسادهم إلى جانب النفوس الكسيرة والأحزان لفقد سبعين من إخوانهم وأحبابهم، ولكن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أراد أن يداوي هذه النفوس ويرفع معنوياتهم، ويرد إليهم هيبتهم، ويضعف من حلاوة النصر عند قريش وذلك بمطاردتهم إلى مكة، لقد قام الصحابة ملبين أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يتخلف منهم واحد، وقامت الأمة من كبوتها في وقت قصير، وفر المشركون وتجنبوا القتال مع كثرة عددهم، ولعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - أراد ألا تمضي قريش وفي مشاعرها أخيلة النصر ومذاقاته، يشعرها أنها لم تنل من المسلمين منالاً، وأنه بقي من يتعقبها ويكر عليها، ويعلن أن هناك عقيدة هي كل شيء في نفوس أصحابها ويعيشون لها وحدها(2).
__________
(1) النظرية الإسلامية في الحرب النفسية، اللواء الركن محمد محفوظ، ص39.
(2) انظر : في ظلال القرآن، سيد قطب 1/519.(1/28)
…وفي العصر الحاضر عاشت القضية الفلسطينية حرباً نفسية شديدة بثها الإعلام الغربي والعربي من أن إسرائيل دولة لا تقهر، وقد ساهم في الهزيمة النفسية الدخول في معارك وهمية مع إسرائيل ثم الانسحاب دون حرب حقيقية، مما قوى هذه الحرب النفسية، ومن ثم رسخت لدى الشعوب قناعة بأن إسرائيل دولة لا تقهر، ومن هنا كثر الحديث بأنه يستحيل إخراج إسرائيل من فلسطين، وأن استمرارها بهذا الطريق يعني مزيداً من الخسائر والهزائم ومن ثم بدأت مرحلة طرح استراتيجيات تطالب بالسلام والتعايش مع العدو الصهيوني وتطبيع العلاقات، وما كان لأحد أن يجرؤ على الحديث عنها قبل أربعين سنة تقريباً ولو فعل لاتهم بالخيانة وبيع القضية، استغلها المتآمرون مع اليهود الصهاينة لتقديم تنازلات ضخمة، بدعوى المحافظة على ما يمكن الحفاظ عليه، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه لأننا أمام دولة لا تقهر، ومن العبث استمرار الصراع معها، ولكن الانتفاضة الأولى 1987م – انتفاضة الحجارة – ثم انتفاضة الأقصى سنة 2000م أثبتت بطلان تلك المزاعم، ثم انتصار المقاومة في جنوب لبنان وهزيمة الجيش الذي زعموا أنه لا يقهر سنة 2006م ليؤكد بوضوح حقيقة الحرب النفسية التي استخدمها أعداء هذه الأمة ليوصلوها إلى الهزيمة النفسية من أجل تحقيق مصالحهم.
المبحث الثالث
عوامل التصدي لفكر الهزيمة
إن التصدي لفكر الهزيمة يحتاج إلى عوامل قوية تستطيع أن توقف هذا الفكر الخطير الذي سيطر على الأمة فجعلها جسداً مشلولاً لا تحس بواقعها، ولا تنظر إلى عز ماضيها، ولا تفكر في مستقبلها الذي يخطط له عدوها لتبقى تعيش في ذيل الأمم تحت مسمى العالم الثالث بسبب فكر الهزيمة الذي تشربته أجيال تلو الأجيال، ولكن رغم الشدة والمحنة فإن بشائر النصر قادمة بإذن الله تعالى، وإن النصر والتمكين لهذا الدين والمستقبل للإسلام.
المطلب الأول: الإيمان وقوة العقيدة:(1/29)
إن العقيدة الراسخة القائمة على الإيمان بالله تعالى الذي لا يتزعزع هي الركيزة القوية والعامل المنيع لتحصين المجاهد ضد فكر الهزيمة، فالمؤمن لا يخاف الوعيد ولا يرهبه التهديد من الأعداء، بل لا يزيده ذلك إلا إيماناً وثباتاً، واستعداداً للبذل والعطاء لأنه يقتدي بمن سبقه ممن قال الله تعالى في شأنهم: { الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } (سورة آل عمران:173).
يعقب سيد قطب على هذه الآية بقوله: "خروج هؤلاء الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح، ومن خروجهم بهذه الصورة الناصعة الرائعة الهائلة، صورة التوكل على الله وحده، وعدم المبالاة بمقالة الناس، وتخويفهم لهم من جمع قريش لهم – كما أبلغهم رسل أبي سفيان – وكما هوَّل المنافقون في أمر قريش... وهكذا تتضافر مثل هذه الصورة الرفيعة على إعلان ميلاد تلك الحقيقة الكبيرة، وفي تلك النفوس الكبيرة، والنفوس التي لا تعرف إلا الله وكيلاً، وترضى به وحده وتكتفي، وتزداد إيماناً به في ساعة الشدة"(1).
__________
(1) في ظلال القرآن، سيد قطب 1/520.(1/30)
إن قوة الإيمان والعقيدة تحمي المجتمع وأفراده وجنوده من الحرب النفسية حيث يقول اللواء الركن محمد جمال محفوظ: "ويتفق علماء النفس وخبراء الحرب النفسية على أن الحرب النفسية تؤثر بفاعلية أكثر على الجنود الخالين من العقائد الثابتة، وذوي الوعي السياسي الضيق، وغير المثقفين، لذلك كان الإيمان بالنسبة للمسلمين نوراً يهديهم، وكان بالنسبة للأعداء صخرة تتحطم عليها أساليبهم ومحاولاتهم للنيل من معنويات المسلمين"(1).…بل إن الإعداد العسكري وحده لا يكفي بل لا بد له من إيمان وعقيدة ليتحقق النصر في المعركة، يقول الدكتور يوسف القرضاوي: "إن التعبئة العسكرية وحدها لا تكفي، فليس السلاح هو كل شيء في الحروب، فالسلاح يحتاج إلى اليد التي تستعمله، واليد تحتاج إلى الإرادة التي تحركها، والإرادة تحتاج إلى الإيمان الذي يدفعها"(2).
__________
(1) النظرية الإسلامية في الحرب النفسية، اللواء الركن محمد محفوظ، ص39.
(2) درس النكبة الثانية، د. يوسف القرضاوي ص76.(1/31)
لا بد من تعبئة الأمة تعبئة إيمانية وروحية وخلقية حتى تكون على مستوى التصدي لفكر الهزيمة، إن هذه التعبئة تقتضي تغييراً جوهرياً في حياة الأمة، لإصلاح ما اعوج من أفكارها وعقائدها لإرجاعها إلى ربها ودينها، ولردها إلى رشدها وإيمانها، وإعادتها إلى نفسها بعد أن فقدت نفسها، { نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ } (سورة الحشر:19)، لا بد من تنمية روح الإيمان، وأخلاق الإيمان في الأمة التي يراد إعدادها للجهاد، فالإيمان هو السلاح الأول في معركتها، وأمة بلا إيمان ستنهار لأول ضربة، وتخر صريعة لأول صدمة، والإيمان هو الذي يقاوم اليأس في قلوبها، والخلل في صفوفها، والوهن في نفسها وأول الوهن هو حب الدنيا وكراهية الموت، والأمة التي تريد أن تحيا لا بد أن تحرص على الموت حتى تستحق العيش، هكذا كان سيف الله خالد بن الوليد - رضي الله عنه - يبعث بكتبه إلى قادة الفرس والروم ليدعوهم إلى الإسلام أو الجزية أو القتال، ثم يختم كتبه بقوله: "وإلا جئتكم بقوم يحبون الموت كما تحبون الحياة"(1).
ومن المعلوم أنه إذا حدث صراع بين الأمم فإنه ستنتصر الأمة التي لها عقيدة على الأمة التي لا عقيدة لها، أو كان لها عقيدة وتخلت عنها، أو أصابها الشك والتذبذب.
__________
(1) انظر : المرجع السابق، ص79.(1/32)
ويترتب على الإيمان طاعة الله تعالى وطاعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقوله تعالى: { وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } (سورة آل عمران:132)، واتباع المنهاج الحق القائم على الكتاب والسنة لقوله تعالى: { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى - وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى } (سورة طه:123-124)، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنة رسوله"(1)، فمن اتبع منهاج الله تعالى فهو في أمان من الضلال والشقاء لأنه اتبع طريق الهداية وبالتالي فهو ناج من فكر الهزيمة بأنواعه المتعددة.
المطلب الثاني: الثبات والثقة بالنصر:
…إن هذه الأمة أعزها الله بالإسلام، وأكرمها بهذا الدين الذي يكسب النفس عزة ومكانة ولذلك يجب علينا كمسلمين أن نرى في أنفسنا الأفضلية والتطلع للصدارة، ولا نرضى المهانة في أي مجال كان وهذا التفضيل جاء من عند رب العالمين فقال: { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } (سورة آل عمران:110).
…ولكننا للأسف عندما تركنا مصدر عزنا أصيبت الأمة بالوهن والهوان فتأخرت عن الأمم وأصابتها الهزيمة بأنواعها المتعددة ولكن لا بد من التصدي لهذه الهزيمة، وهذا يحتاج منا إلى الصبر والثبات حتى يتحقق النصر والتمكين لهذا الدين بإذن الله تعالى.
__________
(1) جامع الأصول في أحاديث الرسول لابن الأثير الجزري 1/277، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الاستمساك بهما، رقم 64.(1/33)
…ولذلك كان التوجيه الرباني لهذه الأمة المؤمنة بالصبر والثبات حيث قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ } (سورة البقرة:153) وقال: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا } (سورة الأنفال:45).
…وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له"(1).
…ومن الملاحظ عند النظر في الآيات القرآنية والأحاديث النبوية أن خطاب الصبر والثبات موجه للمؤمنين، ولذلك يقول القرضاوي: "أهل الإيمان أشد تعرضاً للأذى والمحن والابتلاء في أموالهم وأنفسهم وكل عزيز لديهم، فقد اقتضى نظام الكون أن يكون لهم أعداء يمكرون بهم ويكيدون لهم، ويتربصون بهم الدوائر، كذلك جعل الله لآدم إبليس، ولإبراهيم نمرود، ولموسى فرعون، ولمحمد أبا جهل"(2)، وقد قال الله تعالى: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً } (سورة الفرقان:31).
__________
(1) صحيح مسلم، 4/2295، كتاب الزهد والرقائق، باب المؤمن أمره كله خير، حديث رقم 2999.
(2) الصبر في القرآن، د. يوسف القرضاوي، ص15، ط الثانية سنة 1406هـ، مكتبة وهبة، القاهرة.(1/34)
…إن اشتداد المحن، وتفاقم الفتن، وابتلاء المؤمنين حتى يزلزلوا زلزالاً شديداً، في هذه اللحظات الحاسمة يكون نصر الله قريب، وأقرب ما يكون على سنة الله في الطبيعة، حيث نرى الرعود القاصفة، والبروق الخاطفة بشير الغيث والرحمة.…وهذا يعني أن الثبات هو بداية الطريق إلى النصر، فأثبت الفريقين أغلبهما، وما يدري الذين آمنوا أن عدوهم يعاني أشد مما يعانون، وأنه يألم كما يألمون، ولكنه لا يرجو من الله ما يرجون، فلا مدد له من رجاء في الله تعالى يثبت أقدامه وقلبه، لأنه لا يريد إلا الحياة الدنيا، وهو حريص على هذه الحياة الدنيا التي لا أمل له وراءها ولا حياة له بعدها، ولا حياة له سواها، بينما المؤمن واثق من إحدى الحسنيين النصر أو الشهادة(1).
…وها هم الأنبياء يعطونا الدرس في الثبات على الحق، غير هيابين ولا وجلين، وما انكسرت نفوسهم في مواجهة الباطل وما ضعفت، فهذا إبراهيم عليه السلام يدعو قومه وأباه فيقذف في النار فيقول: "حسبي الله ونعم الوكيل" فكانت النار برداً وسلاماً بأمر من الله تعالى.
…وهذا موسى عندما أدركه فرعون ومن معه فكانت الهلكة محققة وفرعون وجنوده من خلفهم والبحر أمامهم، فقال بنو إسرائيل إنا لمدركون فقال موسى عليه السلام الواثق بنصر الله: { كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ } (سورة الشعراء: 62).
…وهذا محمد - صلى الله عليه وسلم - يعرض عليه الجاه والسلطان والمال فما لانت له قناة في مواجهة الشرك وأهله، قال تعالى: { إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ } (سورة غافر:51).
__________
(1) انظر : في ظلال القرآن 3/1528، تفسير سورة الأنفال، د. محمد أبو فارس ص100، ط الأولى سنة 1406هـ، مكتبة المنار – الأردن.(1/35)
إن الأمة عندما تتمسك بشرع ربها لا ترهبها صولة الباطل، ولا يؤثر فيها غزوه الفكري، لأن المؤمن الواثق بنصر الله تعالى يستعصى على الهزيمة النفسية { وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً } (سورة الطلاق: 3)، وعندما يعاني المحن والمصائب يعلم أن الفرج قريب وأن اليسر قادم { سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً } (سورة الطلاق: 7) ثم يتدبر بعد ذلك قوله تعالى { وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } (سورة آل عمران:139).
فثبات الدعاة وثبات المصلحين على دعوتهم ومنهجهم يعد انتصاراً مهما كان الأمر، فبعض الأنبياء عليهم السلام آمن معه قليل كنوح عليه السلام مع أن الله وعد رسله بالنصر في الحياة الدنيا وفي الآخرة وكذلك الذين آمنوا، وليس النصر فقط في الآخرة بل وفي الدنيا إذن فمفهوم النصر والهزيمة في أذهان كثير من الناس خطأ حيث يتعامل مع الواقع المادي،
والصواب أن ثبات النبي والرسول والداعية والمصلح والمجدد على مبدئه ومنهجه هو
الانتصار بذاته بل أعظم الانتصارات.
وأكبر إثبات ودليل على أن الغلبة والانتصار يكون بالثبات على الحق هو قصة السحرة الذين اتبعوا موسى وهارون عليهما السلام حيث قال تعالى: { قَالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ } (سورة الشعراء:50)، وقالوا: { فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا } (سورة طه: 72)، فصبرهم وثباتهم على الحق الذي آمنوا به يعد انتصاراً عظيماً وهذه هي الغلبة الحقيقية.(1/36)
وموقف آخر وقصة أخرى ذكرها القرآن الكريم هي قصة أصحاب الأخدود الذين تحدثت عنهم سورة البروج حيث حُرِّقُوا وقتلوا ومع ذلك كان صبرهم وثباتهم على الحق انتصاراً عظيماً حيث قال تعالى: { ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ } (سورة البروج: 11).
إن تعاملنا مع الحقائق، وعلمنا أن الصبر والثبات يوصل إلى الحق ويتصدى لفكر الهزيمة ويبعد اليأس، ويحقق التفاؤل والأمل الذي يدفع إلى العمل والأخذ بالأسباب، وأما النظرة التشاؤمية واليأس في صلاح الأمة فإنه يؤدي إلى الهزيمة النفسية التي تفضي إلى الضياع بل تنتج فكر الهزيمة.
المطلب الثالث: الوحدة وعدم التنازع والخلاف:
إن الإسلام هو الذي يوحد الأمة، فيجعلها تتماسك كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً، ويؤدي إلى وحدة الاتجاه والفكر والشعور بحيث إذا اشتكى منه عضو اشتكى كله، فلا عداوة بينهم ولا تمييز بين عناصرهم، ولا صراع بين الطبقات لقوله تعالى: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ } (سورة الحجرات: 10)، قرار من الله تعالى بأخوة المؤمنين، ويترتب على هذه الأخوة الحب والسلام والتعاون والوحدة، وقد أكد هذا نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى"(1)، وقال في حديث آخر: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً"(2).
__________
(1) صحيح مسلم 4/1999، كتاب البر والصلة والآداب، باب تراحم المؤمنين، رقم 2586.
(2) صحيح مسلم 4/1999، كتاب البر والصلة والآداب، باب تراحم المؤمنين، رقم 2585.(1/37)
إن الوحدة وعدم التنازع والاختلاف يؤدي إلى قوة الأمة وقدرتها على مواجهة التحديات، وأما التنازع والاختلاف فقد شهد الواقع أنه يورث الفشل، ومن قبل الواقع شهد رب السماوات والأرض وقرر ناهياً الأمة عن التنازع بقوله: { وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ } (سورة الأنفال: 46)، يقول قتادة: "لا تختلفوا فتجبنوا ويذهب نصركم"(1).
لقد نهت الآية عن التنازع أي الاختلاف والشقاق، فإن الشقاق إذا دب في جماعة فرق أواصر المودة بين أفرادها، وزرع الأحقاد في نفوسها، وانشغلت بنفسها عن عدوها، ومن ثم كتب عليها الفشل في جهادها وجهودها لتحصيل مقصودها، فضعفت قوتها، وسقطت هيبتها، وزالت دولتها، والذي يبدو أن الذي يقضي على كيان الأمة ليس مجرد الاختلاف، وإنما هو الخلاف المبني على الهوى، وحب الظهور والاعتداد بالرأي، والتعصب له، إنها الأنانية التي تدعو صاحبها إلى التمادي بالباطل والغرور والصلف والتمرد(2).
يقول سيد قطب: "فما يتنازع الناس إلا حين تتعدد جهات القيادة والتوجيه، وإلا حين يكون الهوى المطاع هو الذي يوجه الآراء والأفكار. فإذا استسلم الناس لله ورسوله انتفى السبب الأول الرئيسي للنزاع بينهم - مهما اختلفت وجهات النظر في المسألة المعروضة- فليس الذي يثير النزاع هو اختلاف وجهات النظر، إنما هو الهوى الذي يجعل كل صاحب وجهة يصر عليها مهما تبين له وجه الحق فيها"(3).
__________
(1) فتح القدير للشوكاني 2/316.
(2) انظر : تفسير سورة الأنفال، د. محمد أبو فارس، ص105-106، ط الأولى سنة 1406هـ-1986م، مكتبة الزرقاء، الأردن.
(3) في ظلال القرآن : 3/1528-1529.(1/38)
إن توهين الوحدة الإسلامية هدف لأعداء الإسلام منذ زمن بعيد ويصرحون به بألسنتهم فهذا لورنس براون يقول: "إذا اتحد المسلمون في امبراطورية عربية أمكن أن يصبحوا لعنة على العالم وخطراً وأمكن أن يصبحوا نعمة له أيضاً، أما إذا بقوا متفرقين فإنهم يظلون حينئذ بلا قوة ولا تأثير"(1).
ولذلك عمل أعداء الإسلام للقضاء على وحدة المسلمين لكون تفرقهم يؤدي إلى السيطرة على العالم الإسلامي مستخدمين قاعدة (فرق تسد) فهل فطن المسلمون لذلك فوحدوا صفوفهم واتعظوا من ذلك الرجل الحكيم الذي أراد أن يضرب لأولاده مثلاً في الوحدة والتفرق فجاء باثني عشر عوداً وحزمها حزمة واحدة، وطلب إليهم أن يحاولوا كسرها فلم يستطيعوا، فلما فرط الحزمة دفع إليهم بأعوادها المفرقة فاستطاعوا كسرها فقال: هكذا إذا اجتمعتم استعصيتم على الكسر، وإن تفرقتم تعرضتم للكسر(2).
المطلب الرابع: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
…إن التصدي للباطل ونصرة الحق يكون بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأنه علامة من علامات الانتصار، انتصار على الدنيوية ورغباتها في ظل إشاعة أمر الله تعالى والالتزام والانصياع لطاعته، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو من الإصلاح الذاتي للمجتمع حيث قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان"(3).
__________
(1) الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي، د. محمد البهي ص422، الطبعة التاسعة، الناشر مكتبة وهبة، القاهرة.
(2) انظر : دعوة الله بين التكوين والتمكين، د. علي جريشة، ص135-136، ط الأولى سنة 1406هـ مكتبة وهبة، القاهرة.
(3) صحيح مسلم 1/69، كتاب الإيمان، باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان حديث رقم 49.(1/39)
…بل إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يحمي الأمة من الهلاك حيث قال تعالى: { وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ } (سورة هود:117)، وهذه الإشارة تكشف عن سنة من سنن الله في الأمم، فالأمم التي يقع فيها الفساد بتعبيد الناس لغير الله في صورة من صوره، فتجد من ينهض لدفعه هي أمم ناجية، لا يأخذها الله بالعذاب والتدمير"(1).
كما أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يحقق الخيرية للأمة التي بينها الله تعالى بقوله: { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ } (سورة آل عمران: 110)، فهو سمة من سمات الأمة المسلمة.
يقول فتحي يكن: "والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مهمة أساسية من مهمات المؤمنين... وإذا كان المسلم لا يكون مسلماً حقاً ما لم ينهض بهذا الواجب... ينهض به في نطاق نفسه وأسرته ومجتمعه، فكيف بالدعاة الذين نصبوا أنفسهم وعاظاً ومرشدين وأئمة وقادة ؟ فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تكليفاً ربانياً قبل أن يكون تكليفاً حركياً"(2).
ولذلك لا بد من جماعة تدعوا إلى الخير وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر والذي يقر ذلك هو مدلول النص القرآني في قوله تعالى: { وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } (سورة آل عمران:104).
__________
(1) في ظلال القرآن 4/1933.
(2) قوارب النجاة في حياة الدعاة، فتحي يكن، ص87، ط سنة 1397هـ، مؤسسة الرسالة – بيروت.(1/40)
يقول د. علي جريشة: "يقوم التكامل السياسي على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهو فريضة على الدولة بعد التمكين، كما كان فريضة على الأفراد قبل التمكين، ولا شك أن أمر الدولة بالمعروف إقامة له، ونهيها عن المنكر إزالة له، فضلاً عما يدخل تحت ذلك من تطبيق قوله تعالى: { وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ } (سورة الشورى:39)، فإزالة المظالم أياً كان مصدرها، وأياً كان صاحبها، وأياً كان الواقع تحتها كل ذلك واجب الدولة(1).
إن الأمة عندما تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر لا يمكن أن يصل إليها فكر الهزيمة مطلقاً بل هو النصر والتمكين، يحكى أن هرقل إمبراطور الدولة البيزنطية حين انهزم الروم وهو على أنطاكية قال لهم: "ويلكم، أخبروني عن هؤلاء القوم الذين يقاتلونكم أليسوا بشراً مثلكم ؟ قالوا بلى. قال: فانتم أكثر أم هم ؟ قالوا بل نحن أكثر منهم أضعافاً في كل موطن، قال: فما بالكم تنهزمون ؟ فقال شيخ من عظمائهم: من أجل أنهم يقومون الليل ويصومون النهار ويوفون العهد ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويتناصفون بينهم، ومن أجل أنا نشرب الخمر ونزني ونركب الحرام، وننقض العهد، ونغضب ونظلم ونأمر بالسخط وننهى عما يرضي الله، ونفسد في الأرض. فقال: أنت صدقتني"(2)، هذه كلمات واضحة من الأعداء بأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر له أثره الواضح في النصر في المعركة.
المطلب الخامس: الإعداد والجهاد في سبيل الله تعالى:
__________
(1) دعوة الله بين التكوين والتمكين، د. علي جريشة، ص148، الطبعة الأولى، سنة 1406هـ-1986م مكتبة وهبة، القاهرة.
(2) درس النكبة الثانية، د. يوسف القرضاوي، ص87-88.(1/41)
يعد الإعداد والجهاد في سبيل الله تعالى من أقوى العوامل التي تتصدى لفكر الهزيمة لأن ضعف الأمة في حد ذاته هزيمة، فوجب على الأمة التي تكون دائماً على مستوى المسئولية المناطة بها، ولذلك كان الأمر الإلهي للأمة بالإعداد { وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ } (سورة الأنفال: 60).
يتضح من هذه الآية أن الله تعالى أمر بإعداد القوة ورباط الخيل، وأن الهدف من ذلك هو إرهاب الأعداء وإخافتهم من عاقبة التعدي على بلاد الأمة، كما يتبين أن إظهار القوة للأعداء وإخافتهم، وإيقاع الرهبة والرعب في قلوبهم، يحقق النصر عليهم، ويحقق أهداف الإسلام أكثر من أية وسيلة أخرى من وسائل مواجهة الأعداء.
يقول سيد قطب: "فالاستعداد بما في الطوق فريضة تصاحب فريضة الجهاد، والنص يأمر بإعداد القوة على اختلاف صنوفها وألوانها وأسبابها... إنه لا بد للإسلام من قوة ينطلق بها في الأرض لتحرير الإنسان، وأول ما تصنعه هذه القوة في حقل الدعوة أن تؤمن الذين يختارون هذه العقيدة على حريتهم في اختيارها، فلا يصدوا عنها، ولا يفتنوا كذلك بعد اعتناقها.
والأمر الثاني: أن ترهب أعداء هذا الدين فلا يفكروا في الاعتداء على دار الإسلام التي تحميها تلك القوة.
والأمر الثالث: أن يبلغ الرعب بهؤلاء الأعداء أن لا يفكروا في الوقوف في وجه المد الإسلامي، وهو ينطلق لتحرير الإنسان كله في الأرض كلها.
والأمر الرابع: أن تحطم هذه القوة كل قوة في الأرض تتخذ لنفسها صفة الألوهية، فتحكم الناس بشرائعها هي وسلطانها، ولا تعترف بأن الألوهية لله وحده، ومن ثم فالحاكمية له وحده سبحانه"(1).
__________
(1) في ظلال القرآن لسيد قطب 3/1453.(1/42)
ولذلك كان الأمر من الله تعالى بالنفير العام لحماية هذا الدين والدفاع عنه حيث قال تعالى: { انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } (سورة التوبة:41).
بل عتب الله على الذين يتثاقلون إلى الأرض عند النفير فقال: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ } (سورة التوبة:38).
لأن قتال أعداء الأمة يؤدي إلى نصر المؤمنين وشفاء صدورهم وذهاب غيظ القلوب ناهيك عن خزي الكفار ومذلتهم حيث قال تعالى: { قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ } (سورة التوبة:14).
يقول الشوكاني في تفسيره: "فإن قضية الإيمان توجب ذلك عليكم... قاتلوهم، ورتب على هذا الأمر فوائد: الأولى: تعذيب الله الكفار بأيدي المؤمنين بالقتل والأسر، والثانية: إخزاؤهم، قيل بالأسر، وقيل بما نزل بهم من الذل والهوان، والثالثة: نصر المسلمين عليهم وغلبتهم لهم، والرابعة: أن الله يشفي بالقتال صدور قوم مؤمنين ممن لم يشهد القتال ولا حضره، والخامسة: أنه سبحانه يذهب بالقتال غيظ قلوب المؤمنين الذين نالهم بسبب ما وقع من الكفار من الأمور الجالبة للغيظ وحرج الصدر"(1).
__________
(1) فتح القدير للشوكاني 2/341.(1/43)
إن الجهاد في سبيل الله تعالى يحتاج إلى الإعداد الذي يعني إعداد الجندي ليواكب المرحلة التي يعيشها لأن طبيعة الحياة العسكرية تختلف عن طبيعة الحياة الاجتماعية، لأن طابع الجندية يتطلب الالتزام والجدية والامتثال للأوامر التي تصدر إليه، كما أنه لا بد من الاهتمام الثقافي للجندي وذلك من خلال تأهيل الأفراد ثقافياً ومعرفياً، والتشجيع على المشاركة في الندوات والنشاطات العلمية التي تخدم ثقافتهم ليكونوا على حجم المسئولية الملقاة عليهم حيث حماية الوطن والدفاع عنه من الأعداء.
كما يجب على المؤسسة العسكرية مواكبة الجيش للتطور العلمي والتقني وذلك من خلال صقل ثقافة الجندي التقنية والفنية كالتدريب على استخدام أنواع الأسلحة المتطورة، وقد حث النبي - صلى الله عليه وسلم - على الإعداد والتدريب، فقد روى البخاري في صحيحه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرّ على نفر ينتضلون فقال: "ارموا بني إسماعيل، فإن أباكم كان رامياً"(1)، وروى مسلم في صحيحه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من عُلِّمَ الرمي ثم تركه فليس منا، أو فقد عصى"(2).
كما حث النبي - صلى الله عليه وسلم - على صناعة السلاح فقال: "إن الله يدخل بالسهم ثلاثة نفر الجنة: صانعه يحتسب في صنعته الخير، والرامي به، ومنبله، وارموا واركبوا، وأن ترموا أحب إليّ من أن تركبوا، ومن ترك الرمي بعدما عُلِّمَهُ – رغبة عنه – فإنها نعمة تركها، أو قال كفرها"(3).
وهذا يعني أن الذي يعد ويصنع السلاح للمجاهدين حيث يبتغي بصنعته الخير يدخل الجنة، وهذا دليل على عظم الإعداد وأهميته.
__________
(1) صحيح البخاري 3/227، كتاب الجهاد، باب التحريض على الرمي، رقم 2899.
(2) صحيح مسلم 3/1523، كتاب الإمارة، باب فضل الرمي والحث عليه، رقم 1919.
(3) سنن أبي داود رقم 2513.(1/44)
ولا ننسى هنا دور الروح المعنوية لدى الجندي، حيث أثرها الواضح كمصدر قوة تدفعه إلى الثبات والاتزان، من حيث ضبط النفس وتنظيم العمل، كما تؤدي إلى الشجاعة والصمود في وجه الصعوبات والمحن، كما أنه لا يخشى الاستجابة لأي تكليف عسكري.
ولكي تكون الروح المعنوية لدى الجندي مرتفعة لا بد من وجود قيادة مخلصة وتحمل الكفاءة، وتعمل على تقليص الفجوة بين القادة والجنود، وتوفير الاحتياجات المادية والمعنوية، وتحقيق التماسك والتوحد، كالألفة والتعاون والاحترام بين أفراد الجيش قادة وأفراداً.
وانظر إلى وصف رجل من الروم المسلمين لرجل من أمراء الروم فقال: "جئتك من عند رجال دقاق يركبون خيولاً عتاقاً، أما الليل فرهبان، وأما النهار ففرسان، يريشون النبل ويبرونها ويثقفون القنا، لو حدثت جليسك ما فهمه عنك لما علا من أصواتهم بالقرآن والذكر، قال: فالتفت إلى أصحابه وقال: "أتاكم من لا قِبَلَ لكم به"(1).
المطلب السادس: الإكثار من ذكر الله تعالى:
…إن الإكثار من ذكر الله تعالى هو أساس من أسس علاج فكر الهزيمة وطريق للفوز والنجاح والفلاح حيث قال الله تعالى: { وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } (سورة الأنفال: 45).
…فالذكر الدائم لله تعالى له أثر كبير في رفع المعنويات في جميع الأحوال لكونه يلجأ إلى ركن شديد مما يقوي الروح المعنوية فلا يهاب من لقاء عدو ولا يتردد ويتزعزع إن ادلهمت الخطوب وتتابعت الآلام، يقول الإمام الرازي: "إنه تعالى أمرهم عند لقاء العدو بالثبات والاشتغال بذكر الله، ومنعهم من أن يكون الحامل لهم على ذلك الثبات البطر والرياء، بل أوجب عليهم أن يكون الحامل لهم عليه طلب عبودية الله"(2).
__________
(1) درس النكبة الثانية، د. يوسف القرضاوي، ص 88.
(2) التفسير الكبير للرازي 15/139، الطبعة الأولى سنة 1411هـ-1990م، دار الكتب العلمية، بيروت.(1/45)
…ويقول الشيخ السعدي: "فالصبر والثبات، والإكثار من ذكر الله، من أكبر الأسباب للنصر"(1).
…ويقول سيد قطب: "إن ذكر الله عند لقاء العدو يؤدي وظائف شتى: إنه اتصال بالقوة التي لا تُغلب، والثقة بالله الذي ينصر أولياءه، كما أنه توكيد لهذا الواجب – واجب ذكر الله – في أحرج الساعات وأشد المواقف"(2).
…ولفضل الذكر وأهميته كان الأمر الإلهي للمؤمنين بالإكثار من ذكر الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً - وَسَبِّحُوهُ بُكرَةً وَأَصِيلاً } (سورة الأحزاب:41-42)، لأن من نتائج ذكر الله تعالى اطمئنان القلب لكل ما يتعرض له لقوله تعالى: { الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ } (سورة الرعد:28).
…تطمئن بإحساسها بالصلة بالله، والأمن في جانبه وفي حماه، تطمئن بالشعور بالحماية من كل اعتداء، ومن كل ضرر، ومن كل شر إلا بما يشاء، مع الرضا بالابتلاء والصبر على البلاء، ذلك الاطمئنان في قلوب المؤمنين حقيقة عميقة يعرفها الذي خالطت بشاشة الإيمان قلوبهم فاتصلت بالله(3).
المطلب السابع: الثقة بالنفس والوقاية من الحرب النفسية:
…إن الثقة بالنفس هي طريق النجاح في الحياة، وأما التردد والشعور بالسلبية وعدم الاطمئنان للإمكانات فهو بداية الفشل ؛ لأن الهزيمة النفسية سهم مسموم إن أصابت الإنسان أردته قتيلاً، كما أن الناس لا يثقون بالمهزوم نفسياً وإن كان عنده مبادئ وقيم.
__________
(1) تفسير كلام المنان للسعدي 3/173، المؤسسة السعودية، الرياض، بدون تاريخ أو طبعة.
(2) في ظلال القرآن لسيد قطب 3/1528.
(3) انظر : المرجع السابق 4/2060.(1/46)
…فالشخص الذي عنده الثقة بنفسه تجده يواجه الحياة غير هياب ولا يهرب من شيء من منغصاتها، بل يقابلها بالحزم والتصميم دون أن يفقد ثقته بنفسه ؛ لأن الثقة بالنفس تخرجه من العجز والسلبية إلى البذل والعطاء مع الاطمئنان المدروس إلى إمكانية تحقيق النجاح والحصول على ما يريده من أهداف.
…إن أهم ما كان يميز الجندي المسلم لم يكن ما يحمله من سلاح وعتاد وتنظيم، بل الثقة بالنفس والروح المعنوية العالية، ومما يؤكد ذلك أن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - يرسل ربعي بن عامر بثيابه الرثة ورمحه وبغلته على رستم في إيوانه وبين حراسه وجنده، ودارت مفاوضات قذفت الرعب في قلب رستم، وكان بداية لهزيمة الفرس، إذ سأل رستم ربعياً فقال له: ما الذي جاء بكم ؟ فقال ربعي بكل ثقة: "الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة"(1). لقد خاف رستم وأيقن أنه لن يستطيع أن ينتصر على هذا الصنف من البشر، وهكذا تبين أن الثقة بالنفس لها الأثر الفعال في حياة الإنسان والأمة.
…لقد كان للقرآن الكريم والسنة النبوية الأثر الواضح في علاج النفس إذا تعرضت لأي صدمة أن انكسار، لم لا وهو المنهج الرباني، شرعه من سوى النفس الإنسانية وأبدع أسرارها، وعلم مداخلها ومخارجها، حيث كان التوجيه الواضح دائماً للثقة بالنفس ورفع المعنويات عند الشدائد والمواقف الصعبة، ولفت النظر إلى الجوانب الإيجابية في المصيبة التي حلت بالشخص أو الأمة حيث قال تعالى: { وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } (سورة آل عمران:139).
__________
(1) البداية والنهاية لابن كثير 7/39.(1/47)
…كما بين أن المصيبة رغم شدتها على النفس إلا أنها تنطوي على جوانب إيجابية لا نعلمها في الحال حيث قال تعالى: { وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ } (سورة البقرة: 216)، وقال: { فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً } (سورة النساء: 19).
…وهذا الرسول - صلى الله عليه وسلم - يستنهض الهمة ويدعو إلى الثقة بالله أولاً ثم الثقة بالنفس وعدم العجز أمام أي موقف من المواقف فقال - صلى الله عليه وسلم -: "احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا وكذا ولكن قل قدر الله وما شاء فعل فإن لو تفتح عمل الشيطان"(1).
…وتوجد طرق متعددة للوقاية من الحرب النفسية على الأمة أن تأخذ بها لحماية جبهتها الداخلية والخارجية وتتمثل هذه الطرق في:
1- الوعي بأهداف العدو وأساليبه في الحرب النفسية، وهذا يعني أن كل جندي مطالب بأن يكون واعياً ومدركاً وعارفاً بتلك الأهداف حتى لا يخدعه العدو أو يضلله ؛ لأن الوعي بأهداف العدو وأساليبه في الحرب النفسية يحصن المقاتل ضد آثار تلك الحرب ؛ لأنه يجعله مستعداً لمواجهتها، وعدم الاستجابة لها والتأثر بها.
__________
(1) صحيح مسلم 4/2052، كتاب القدر، باب في الأمر بالقوة وترك العجز، رقم 2664.(1/48)
2- كتمان الأسرار ومنع ترويج الإشاعات وسد منافذ الحرب النفسية، وعدم إعطاء غير أهل العلم من القادة والرؤساء حق الحديث عما يتصل بأسرار الجيش والأمة ؛ لأن هؤلاء أدرى بما يصلح أن يقال وما لا يقال ولا سيما في الظروف الحساسة، ولذلك قال تعالى: { وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلاً } (سورة النساء:83).
كما حذر الإسلام إذاعة وإشاعة الأخبار قبل التثبت مما يصلهم من الأنباء والأخبار، ومن ثم الركون إليها والعمل بها حيث قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنوا أَنْ تُصِيبُ قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ } (سورة الحجرات:6).
3- التصدي للقوى المستترة التي تروج الإشاعات: إن الإسلام عندما أمر بالإعداد لردع العدو الخارجي، أمر أيضاً بردع أعداء الأمة من القوى المضادة الخفية والتي خطرها أشد بكثير من خطر العدو الظاهر، وهذا الصنف من الناس هو ما نعاني منه في الساحة الفلسطينية، والذين يسمون بالطابور الخامس أو العملاء أو المنافقين، حيث قال الله تعالى: { وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ } (سورة الأنفال: 60).(1/49)
…فهي القوى الخفية المنافقة التي تحقد على الأمة وتنفذ سمومها في الخفاء وتروج الإشاعات وتثير الفتن، وتقتل الإرادة الإيجابية، ولذلك حذر الإسلام من تلك الفئة من الأعداء وأوجب على الأمة إعداد وسائل القوة التي تروعها(1).
المطلب الثامن: الحرب النفسية المضادة:
…لا بد للمسلم الذي يريد أن ينتصر على عدوه، ويرد كيده إلى نحره من استخدام الأسلوب الأمثل في صد الحرب النفسية والتي يسعى العدو ليحقق النصر من خلالها، ونقل المعركة في ملعبه بتوجيه الحرب النفسية إلى جنده وشعبه من أجل إرباكه وإضعاف نفسيته، وهذا يحتاج إلى وسائل إعلام فاعلة ومؤثرة إلى جانب إعداد القوة والقدرة على إيلام الأعداء.
…إن الحرب النفسية من أقوى أسلحة الصراع أثراً في تحقيق النصر بسرعة وبأقل الخسائر في المعدات والأرواح. يقول اللواء ركن محمد جمال محفوظ: "الحرب النفسية سلاح فعال وشديد التأثير في المعركة، وقد أجمع العلم العسكري وخبرة الحروب على أنه يساهم مساهمة كبيرة على أعمال القتال وغيرها من أساليب الصراع في تحقيق الانتصار بسرعة وبأقل الخسائر في الأرواح والمعدات... إن الحرب النفسية تجرد العدو من أثمن ما لديه وهو إرادته القتالية، وهكذا تعتبر الحرب النفسية أخطر أنواع الحروب ؛ لأنها تستهدف في المقاتل عقله وتفكيره وقلبه، لكي تحطم روحه المعنوية، وتقضي على إرادة القتال لديه، وتقوده بالتالي نحو الهزيمة"(2).
__________
(1) انظر : النظرية الإسلامية في الحرب النفسية، محمد محفوظ، ص 57-58.
(2) النظرية الإسلامية في الحرب النفسية، ص 15.(1/50)
…إن النبي - صلى الله عليه وسلم - استخدم أسلوب الحرب النفسية عند فتح مكة حيث أرهب أهلها حتى أنها فتحت دون قتال إلا بعض المناوشات، حيث إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قاد الكتيبة الخضراء من المهاجرين والأنصار وهم مدججين بالسلاح أمام أبي سفيان قبل فتح مكة قال أبو سفيان للعباس - رضي الله عنه -: "لا قبل لأحد بقتال هؤلاء" ثم قال: "يا معشر قريش، هذا محمد جاءكم فيما لا قبل لكم به"(1).
…إن اختيار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمضيق الوادي بالذات لوقوف أبي سفيان يدل على برعة وإحكام في تدبير أمر التخويف والضغط النفسي، فمرور الجيش في مضيق يجعل أبا سفيان يرى قوة الجيش عن كثب وهي تمر عليه، ولو اختار موضعاً في الصحراء المكشوفة لتفرق الجيش فيها، ولما وقع التأثير المعنوي المطلوب(2).
…وهذا يدل على أن الحرب النفسية والإرهاب النفسي يكون بالإعداد دون قتال في الغالب، ولكن في الحرب والقتال توجد عدة صور وأشكال للحرب النفسية في الإسلام، ومن ذلك الشعارات والهتافات في القتال حيث صيحات القتال التي استخدمها المسلمون في عصر النبوة مثل: "أحد أحد" في غزوة بدر، "وأمت، أمت" في غزوة أحد، والله أكبر وغيرها من الشعارات التي تتخذ كصيحات للقتال لتحميس المجاهدين، وتحفيزهم على الإقدام والاستبسال في المعركة، وهي عوامل نفسية تؤثر على إرادة القتال.
__________
(1) البداية والنهاية لابن كثير 4/290.
(2) انظر : النظرية الإسلامية في الحرب النفسية، اللواء الركن محمد محفوظ، ص 72.(1/51)
…لقد انتبه الأعداء لأهمية الحرب النفسية وأثرها في إدارة الصراع وفي نتائجه حيث قال القائد الألماني روميل: "إن القائد الناجح هو الذي يسيطر على عقول أعدائه قبل أبدانهم"(1)، كما قال الجنرال ديجول: "لكي تنتصر دولة ما في حرب عليها أن تشن الحرب النفسية قبل أن تترك قواتها إلى ميادين القتال، وتظل هذه الحرب تساند هذه القوات حتى تنتهي من مهمتها"، ويقول تشرشل: "كثيراً ما غيرت الحرب النفسية وجه التاريخ"(2).
الخاتمة
…لله الحمد والشكر على ما أنعم ويسر، وبعد: فقد ناقش هذا البحث فكر الهزيمة وخطره وسبل مواجهته، وقد توصلت إلى العديد من النتائج أجملها فيما يلي:
أخطر ما يواجه الأمة الإسلامية فكر الهزيمة حيث يعمل على الهبوط بها، والتردي إلى هاوية الضعف، والرضا بالذل والهوان.
يعد ضعف الإيمان واتباع الأهواء، وعدم التوكل على الله تعالى سبب رئيس لفكر الهزيمة.
إن التعلق بالدنيا وحب البقاء فيها مع ترك الجهاد والاستسلام للعدو ساعد الأعداء للوصول إلى أهدافهم.
الذنوب والمعاصي، وتفرق الأمة أدت إلى التنازع ومن ثم الفشل.
الهزيمة العسكرية والسياسية والثقافية والاقتصادية والنفسية هي أنواع فكر الهزيمة الذي ركز عليه أعداء الأمة من يهود ونصارى ومأجورين لتحقيق أهدافهم الخبيثة.
العقيدة الراسخة القائمة على الإيمان بالله تعالى الذي لا يتزعزع هي الركيزة القوية والعامل المنيع لتحصين الأمة ضد فكر الهزيمة.
الصبر على المحنة، والثبات على الحق يؤدي إلى الفلاح والنجاة من فكر الهزيمة ؛ لأن الصبر والثبات يحقق التفاؤل والأمل الذي يدفع إلى العمل والأخذ بالأسباب.
إن الإسلام وحده هو الذي يوحد الأمة فيجعلها تتماسك كالبنيان المرصوص الذي يشد بعضه بعضاً، ويؤدي إلى وحدة الاتجاه والفكر والشعور.
__________
(1) المرجع السابق، ص 16
(2) نفس المرجع، ص 16.(1/52)
إن التصدي للباطل ونصرة الحق يكون بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؛ لأنه علامة من علامات الانتصار، انتصار على الدنيوية ورغباتها، وإصلاح ذاتي للمجتمع، وحماية للأمة من الهلاك.
يعد الإعداد والجهاد في سبيل الله من أقوى العوامل التي تتصدى لفكر الهزيمة ؛ لأن ضعف الأمة في حد ذاته هزيمة، ولذلك وجب على الأمة أن تكون دائماً على مستوى المسئولية المناطة بها.
إن الإكثار من ذكر الله تعالى أساس من أسس علاج فكر الهزيمة وطريق للفوز والنجاح.
الثقة بالنفس، والوقاية من الحرب النفسية هو طريق النجاح في الحياة لكون الهزيمة النفسية سهم مسلول إن أصابت الإنسان أردته قتيلاً.
إن الحرب النفسية من أقوى أسلحة الصراع أثراً في تحقيق النصر بسرعة وبأقل الخسائر في الأرواح والمعدات، ولذلك وجب استخدام الحرب النفسية ضد الأعداء ؛ لأنها تجرد العدو من أثمن ما لديه وهو إرادته القتالية.
…وبعد: فهذا ما يسره الله من كتابة هذا البحث، فما كان فيه من صواب، فهو من الله تعالى، وما كان فيه من خطأ، فهو من نفسي ومن الشيطان، وأسأل الله المغفرة، ولا أزعم أنني أوفيت البحث حقه، وإنما حاولت بذل الجهد في الوصول إلى الحق، والله من وراء القصد، وهو حسبنا ونعم الوكيل، وصلى الله على سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - وعلى آله وأصحابه أجمعين.
التوصيات:
…أوصي من خلال هذا المؤتمر العلمي بما يلي:
أولاً: إيجاد مركز إعلامي فاعل مع متخصصين لمواجهة فكر الهزيمة.
ثانياً: استخدام وسائل الإعلام الحديثة والمتطورة لعمل إعلامي مضاد من أجل نقل فكر الهزيمة إلى الأعداء، وهذا يتطلب متابعة إعلام العدو ودحض حربه النفسية وردها عليه، وهذا يعني مخاطبته بلغته التي يفهم.
ثالثاً: تقرير العقيدة الصحيحة في نفوس المسلمين لمواجهة فكر الهزيمة.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
المصادر والمراجع
القرآن الكريم.(1/53)
إحياء علوم الدين لأبي حامد الغزالي، دار المعرفة، بيروت، بدون طبعة أو تاريخ.
البداية والنهاية للحافظ ابن كثير، الطبعة الخامسة 1404هـ - 1983م، مكتبة المعارف، بيروت.
تفسير سورة الأنفال، د. محمد أبو فارس، الطبعة الأولى 1406هـ - 1986م، مكتبة المنار الزرقاء، الأردن.
التفسير الكبير للإمام فخر الدين الرازي، الطبعة الأولى 1411هـ - 1990م، دار الكتب العلمية، بيروت.
تفسير كلام المنان، عبدالرحمن بن ناصر السعدي، المؤسسة السعودية، الرياض.
جامع الأصول لابن الأثير الجزري، طبعة 1372هـ - 1972م، مكتبة دار البيان.
الجامع الصغير للإمام السيوطي، دار الكتب العلمية، توزيع دار الباز، مكة المكرمة.
درس النكبة الثانية، د. يوسف القرضاوي، الطبعة الثالثة 1407هـ - 1987م، مكتبة وهبة، القاهرة.
دعوة الله بين التكوين والتمكين، د. علي جريشة، الطبعة الأولى 1406هـ - 1986م مكتبة وهبة، القاهرة.
السلسلة الصحيحة، محمد ناصر الدين الألباني، مكتبة المعارف، الرياض، بدون تاريخ أو طبعة.
سنن أبي داود للحافظ أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني، دار الفكر للطباعة والنشر.
سنن الترمذي وهو الجامع الصحيح، لأبي عيسى محمد بن سورة الترمذي، الطبعة الثانية 1395هـ، شركة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي، القاهرة.
الصبر في القرآن الكريم، د. يوسف القرضاوي، الطبعة الثانية 1406هـ- 1985، مكتبة وهبة، القاهرة.
صحيح البخاري، أبو عبدالله محمد بن إسماعيل البخاري، المكتب الإسلامي، استانبول، تركيا.
صحيح مسلم، للإمام مسلم بن الحجاج، طبعة 1400هـ - 1980م، دار الإفتاء والدعوة، السعودية.
طريق الدعوة بين الأصالة والانحراف، مصطفى مشهور، الطبعة الرابعة، دار التوزيع والنشر الإسلامية، القاهرة.
العولمة، د. صالح الرقب، الطبعة الأولى 1421هـ - 2000م، مكتبة الأمل التجارية، غزة.(1/54)
الغزو الفكري والتيارات المعادية للإسلام، د. عبدالستار فتح الله سعيد، دار الأنصار مطبعة التقدم، القاهرة.
فتح القدير محمد بن علي الشوكاني، طبعة دار المعرفة، بيروت، لبنان.
الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي، د. محمد البهي، الطبعة التاسعة، مكتبة وهبة، القاهرة.
في ظلال القرآن، سيد قطب، الطبعة السابعة 1398هـ- 1978م، دار الشروق، بيروت.
قوارب النجاة في حياة الدعاة، فتحي يكن، الطبعة 1397هـ - 1977م، مؤسسة الرسالة، بيروت.
مسند الإمام أحمد بن حنبل، الطبعة الثانية 1398هـ - 1978م، دار الفكر، بيروت لبنان.
معجم الأمثال الفلسطينية، حسين علي لوباني، الطبعة الأولى سنة 1999م، مكتبة لبنان، بيروت.
مقدمة ابن خلدون، عبدالرحمن بن خلدون، الطبعة الأولى 1419هـ - 1998م، دار الفكر للطباعة والنشر، بيروت.
المنهزمون، يوسف العظم، الطبعة الثانية 1397هـ - 1977م، دار القلم، دمشق.
النظرية الإسلامية في الحرب النفسية، اللواء الركن محمد جمال الدين محفوظ، دار الاعتصام، القاهرة.
واقعنا المعاصر والغزو الفكري، د. صالح الرقب، الطبعة الخامسة 1423هـ-2003م، مكتبة الطالب، الجامعة الإسلامية، غزة .
واقع المسلمين وسبيل النهوض بهم، أبو الأعلى المودودي، الطبعة الرابعة 1401هـ - 1981م، مؤسسة الرسالة، بيروت .(1/55)