فقه التَّعامل مع السُّفهاء في ضوء القرآن الكريم
(من خلال سورتي البقرة والنِّساء)
( د. عبده محمد يوسف (1) ()
تمهيد:
الحمد الله رب العالمين، القائل: [الأنعام: 38]، أحمده حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً - صلى الله عليه وسلم - عبده ورسوله. أما بعد،،،
فالشَّريعة الإسلاميّة تتميَّز بالشُّمول والكمال، فقد شملت في تشريعاتها وأحكامها جميع الأفراد والفئات، فشرعت ما يصلح للصَّغير والكبير، والجاهل والعالِم، والسَّفيه والضَّعيف، والعاقل والمجنون، والذَّكر والأنثى، واهتمت بجميع شرائح المجتمع، ولم تفرِّق بينهم على أساس الجنس أو اللَّون أو المكان
أو النَّسب أو العمل أو الاختلاف في مكانتهم ومنزلتهم في المجتمع، بحيث تهتم بالشَّريف دون الضَّعيف، أو بالصَّحيح دون السَّقيم، أو بالذَّكي دون الغبي ومَنْ على شاكلتهم؛ بل هدفها تحقيق مصالح الجميع على اختلاف قدراتهم وإمكاناتهم.
فالشَّريعة الإسلاميّة إمَّا أمر وإمَّا نهي، وكلاهما يحقق مصلحة العبد، فهي إنْ أمرت؛ فذلك الأمر إنَّما هو لمصلحة تجلبها، وإنْ هي نهت؛ فذلك النَّهى إنَّما هو لمفسدة تدفعها، لا يشذّ عن هذا شيء من أحكامها.
وقد أرست الشَّريعة الإسلاميّة قواعد التَّعاون بين النَّاس على البر والتَّقوى، وحثّت القوي على إعانة الضَّعيف، وإغاثة الملهوف، وفرضت الأمر بالمعروف والنَّهيّ عن المنكر، تحقيقاً لمصلحة الخلق أجمعين، وتوفيراً لأسباب الشَّفقة والرَّحمة، ومن هنا كان على العاقل أنْ يتولَّى غيره بالنُّصح والإرشاد، وأنْ يقوم على مصالحه، يحفظها ويعمل عليها.
__________
(1) (()رئيس قسم القرآن وعلومه بكلية التَّربيّة، جامعة صنعاء (اليمن).(1/1)
كما جعلت الشَّريعة الإسلاميّة من مقاصدها الضَّروريّة: حفظ المال، وسلكت في سبيل المحافظة عليه طرقاً شتَّى في التَّشريع، منها الضَّمان، ومنها حدّ السَّرقة، ومنها هذا النَّوع من الأحكام، وهو رعاية السَّفيه والمحافظة على ماله، الذي هو موضوع بحثنا، وحذَّرت من التَّبذير والعبث بالمال، والبعثرة به ذات اليمين وذات الشمال، والعشوائيّة في صرفه، وجعلت ذلك من عمل الشَّيطان: [الإسراء: 27]، وشرعت المحافظة على مال اليتيم، وحرَّمت الانتفاع به في غير مصلحته
[النِّساء: 10]، وأوصت به خيراً [النِّساء: 9].
فشرعت لهؤلاء وأمثالهم ممن لا يحسنون لأنفسهم صنعاً أحكاماً وتشريعات، وجعلت من حقّهم على الذين يحسنون التَّصرُّف أنْ يتولوا عنهم وجوه التَّصريف، وشتَّى المعاملات؛ حفظاً لأموالهم، وتحقيقاً لمصالحهم.
وكان من حقّ الشَّريعة الإسلاميّة أنْ تواجه هذا الوضع، فتشرع له الأحكام، وتضع له الأسباب، وإلاَّ فماذا يكون لو تُرِكَ الصَّبيّ وشأنه، وخُلِّيَ بين المجنون وماله، ولم تمسك يد قويّة أمينة على مال السَّفيه، ولم تحفظ للدَّائن حقّه في مال المدين؟ ألا يكون ذلك تسليطاً للكبير أنْ يستغل الصَّغير، وتخلية للعاقل أنْ يستغل جنون المجنون، وتحريضاً للرَّشيد أنْ يستغل سفه السَّفيه، فتضيع أموال هؤلاء؟
لم تنظر الشَّريعة الإسلاميّة إلى السَّفيه نظرة احتقار وإهمال، لكونه سفيهاً لا يحسن التَّصرُّف في ماله ودينه؛ بل اهتمت به اهتماماً كبيراً في تشريعاتها الشَّاملة وأحكامها الوافية، سواء كان ذلك في القرآن أم في السُّنَّة، فقد جاءت آيات في كتاب الله تعالى ترشدنا إلى كيفيّة التَّعامل مع مثل هؤلاء، وما يجب علينا نحوهم.
السَّفيه في القرآن الكريم:
لقد ورد لفظ السَّفيه ومشتقاته في القرآن الكريم في عدد من الآيات القرآنيّة، يمكن لنا ذكرها مع بيان المراد منها بشكل مختصر على النَّحو التَّالي:(1/2)
[1] قوله تعالى: [البقرة: 130]، سَفِهَ بمعنى: جَهِلَ، أي جَهِلَ أمر نفسه فلم يفكر فيها، وقيل: أهلك نفسه (1) ، وقيل: (سفه نفسه) أي: جعلها مهانة ذليلة، وأصل السَّفه: الخفة (2) . وقيل: ظَلَمَ نفسه بسفهه وسوء تدبيره بتركه الحقّ إلى الضَّلال (3) .
[2] وقوله تعالى: [البقرة: 13] (ألا إنهم هم السُّفهاء) أي: الجُهَّال الخرقى بتركهم الإيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم - (4) .
والسَّفاهة: هي رقة الحلوم، وفساد البصائر، وسخافة العقول، والمراد بالسُّفهاء هنا؛ قيل: المنافقون، وقيل: اليهود (5) .
[3] وقوله تعالى: ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ [البقرة: 142]. المراد بالسُّفهاء: هنا مشركو العرب، وقيل: أحبار اليهود، وقيل: المنافقون، والآية عامّة في هؤلاء كلهم (6) .
وفي الآية إخبار من الله تعالى لنبيه وللمؤمنين بأنَّ السُّفهاء من اليهود والمنافقين سيقولون هذه المقالة قبل أنْ تتحوَّل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، والسُّفهاء: جمع سفيه، وهو الكذاب البهَّات، المعتمد خلاف ما يعلم، وقيل: هم خفاف الأحلام (7) .
__________
(1) فتح القدير: الشَّوكانيّ، 1/168.
(2) روح المعاني: الألوسيّ، 1/385.
(3) تفسير القرآن العظيم: ابن كثير، 1/142.
(4) تفسير السَّمرقنديّ المسمى بحر العلوم، 1/96.
(5) فتح القدير: الشَّوكانيّ، 1/51.
(6) انظر: تفسير البحر المحيط، ابن حيان، 1/593، وفتح القدير، للشَّوكانيّ، 1/51، وتفسير القرآن العظيم، ابن كثير، 1/142.
(7) فتح القدير: الشَّوكانيّ، 1/174.(1/3)
[4] وقوله تعالى: ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ [الأنعام: 140]. ـ ـ ـ ـ ـ أي: جهلاً لا عن بصيرة، والسَّبب هو خفة أحلامهم، وجهلهم أنَّ الله رازق أولادهم (1) . والمراد بهم العرب الذين كانوا يقتلون بناتهم بالوأد الذي كانوا يفعلونه سفهاً، أي لأجل السَّفه، وهو: الطَّيْش والخفة لا لحُجَّة عقليّة ولا شرعيّة كائناً ذلك منهم (2) .
[5] وقوله تعالى: ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ [الأعراف: 155]، ـ ـ ـ ـ أي: الذين لا يعلمون تفاصيل شؤونك، ولا يثبتون في المداحض (3) . وقيل المراد بالسُّفهاء: السَّبعون، والمعنى: أتهلك بني إسرائيل لِمَا فعل هؤلاء السُّفهاء، في قولهم: ـ ـ ـ ـ ـ، وقيل المراد بهم: السَّامريّ وأصحابه (4) .
[6] وقوله تعالى: ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ [الجن: 4] سفيهنا: يعنون إبليس، وقيل: عصاتهم ومشركوهم (5) . وقيل: جنس لكل سفيه، وإبليس مقدم السُّفهاء، و"الشَّطَط": التَّعدي وتجاوز الحد (6) .
[7] قوله تعالى: ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ [الأعراف: 66]. السَّفاهة: الخفة والحمق. وقيل: في جهالة، وقيل: (في سفاهة): أي في ضلالة، حيث تدعونا إلى ترك عبادة الأصنام، والإقبال على عبادة الله (7) .
__________
(1) انظر: تفسير القرآن، لأبي المظفر السَّمعانيّ، 4/280، والكشَّاف، الزّمخشريّ، 2/69.
(2) انظر: فتح القدير، الشَّوكانيّ، 2/190، وفتح البيان، الفنوجيّ، 4/252.
(3) تفسير أبي السعود، 3/36.
(4) انظر: روح المعاني، الألوسيّ، 4/280، وفتح القدير، الشَّوكانيّ، 2/287.
(5) انظر: فتح القدير، الشَّوكانيّ، 5/365، وتفسير القرآن العظيم، ابن كثير، 4/1952.
(6) تفسير البحر المحيط، ابن حيان، 8/34.
(7) انظر: فتح القدير، الشَّوكانيّ، 2/284، وتفسير القرآن العظيم، ابن كثير، 2/739، وتفسير الجلالين،
ص 158.(1/4)
وقيل معنى ـ ـ ـ ـ ـ ـ: أي في خفة حلم وسخافة عقل، حيث تهجر دين قومك إلى دين آخر (1) .
ونحن في حديثنا عن السَّفيه، نقصد به الذي ورد ذكره في آية المداينة عند قوله تعالى: ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ [البقرة: 182]، وعند قوله تعالى: ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ [النِّساء: 5]؛ لأنَّ هاتين الآيتين هما اللتان تطرقتا إلى ما يتعلَّق بالسُّفهاء في أمورهم الدَّنيويّة، أمَّا بقية الآيات التي ذكر فيها لفظ "السَّفيه" ومشتقاته في القرآن الكريم فأكثرها تتعلَّق بالجانب الدِّينيّ،كما صنَّفها بعض العلماء (2) .
يقول الرَّازيّ: "وقد ذكر الله تعالى السَّفه في مواضع، منها: ما أراد به السَّفه في الدِّين؛ وهو الجهل به، في قوله تعالى: ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ [البقرة: 13]، وقوله: ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ [البقرة: 142]. فهذا هو السَّفه في الدِّين، وهو الجهل والخفة، وقد قيل: إنَّ أصل "السَّفه": الخفة، ويُسمَّى الجاهل سفيهاً؛ لأنَّه خفيف العقل ناقصه، فمعنى "الجهل" شامل لجميع مَنْ أُطلق عليه اسم "السَّفيه" (3) .
إلاَّ أنَّه يمكن القول: إنَّ أصل السَّفه في الدِّين والدُّنيا واحد، وهو الخفة والجهل بمواضع التَّصرُّف والأمر الذي قصد له، فالسَّفيه في الدِّين والسَّفيه في رأيه هو الجاهل فيه، وبذيء اللِّسان يُسمَّى "سفيهاً"؛ لأنَّه لا تكاد تتفق البذاءة إلاَّ في جُهَّال النَّاس وأصحاب العقول الخفيفة (4) .
__________
(1) الكشَّاف، الزّمخشريّ، 2/112.
(2) انظر: أحكام القرآن، الطَّبريّ الهراسيّ، 1/241، وأحكام القرآن، الجصاص، 1/488.
(3) أحكام القرآن، الجصاص، 1/488.
(4) انظر: أحكام القرآن، الطَّبريّ الهراسيّ، 1/242، وأحكام القرآن، الجصاص، 1/488.(1/5)
فـ "السَّفه": الطَّيْش والخفة لا لحُجَّة عقليّة ولا شرعيّة، والعرب تطلق "السَّفه": على ضعف العقل تارة، وعلى ضعف البدن أخرى (1) . ويؤيِّد ذلك تعريف بعض الفقهاء لـ "السَّفيه" و"السَّفه"، فالمبذر لماله المفسد لدينه هو "السَّفيه"، كما يعرَّفه الإمام الشَّافعيّ (2) .
وعرَّف بعض الفقهاء "السَّفه" بأنَّه "العمل بخلاف موجب الشَّرع، واتّباع الهوى، وترك ما يدلُّ عليه الحجا" (3) . أي: الدَّليل والبرهان.
ومما سبق يتبيّن لنا أنَّ لفظ "السَّفيه" ومشتقاته في القرآن الكريم ما ورد إلاَّ في سياق التَّعبير عن كلّ مَنْ وُصِفَ بالصِّفات السَّابقة الذِّكر، سواء كان يراد بهم المنافقون أم اليهود أم المشركون، أم السُّفهاء من المسلمين؛ لأنَّ المنافقين واليهود والمشركين ما صدر منهم من الأقوال والأفعال وسائر التَّصرُّفات ما هو إلاَّ عن جهل، وفساد دين، وطيش، وخفة عقل.
أمَّا أهمية البحث ـ إلى جانب ما ذُكر ـ فيمكن تلخيصها في الآتي:
? معرفة أنَّ الشَّريعة الإسلاميّة تتميَّز بالشُّمول والكمال، فقد شملت تشريعاتها وأحكامها جميع الأفراد والفئات الصَّغير والكبير، الجاهل والعالِم، السَّفيه والضعيف، العاقل والمجنون، واهتمت بجميع شرائح المجتمع بهدف تحقيق مصالحهم.
? معرفة المراد من السُّفهاء الوارد ذكرهم في القرآن الكريم في مواضع مختلفة، وعلى وجه الخصوص السُّفهاء المذكورون في الآية (182) من سورة البقرة، والآية (5) من سورة النِّساء.
? التَّعرُّف على أحد أصناف وفئات المجتمع( السُّفهاء)، ومعرفة فقه التَّعامل معهم، والأحكام المتعلّقة بهم وبتصرُّفاتهم، كما علمتنا الشَّريعة الإسلاميّة.
__________
(1) فتح القدير، للشَّوكانيّ، 1/344.
(2) أحكام القرآن، ابن العربيّ، 1/330.
(3) انظر: تكملة فتح القدير، ابن قودر، 9/265.(1/6)
? كثرة الأفعال والتَّصرُّفات الصَّادرة من بعض النَّاس، التي يمكن عدَّها ضمن السَّفه، ولا سيما ما يتعلَّق بالمال وتبذيره بعيداً عن الالتزام بضوابط وأحكام الشَّريعة الإسلاميّة التي أرشدتنا إلى فقه التَّعامل مع مثل هؤلاء.
وأمَّا حدود البحث؛ فهم السُّفهاء المذكورون في آية المداينة عند قوله تعالى: ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ [البقرة: 182]، وعند قوله تعالى: ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ [النِّساء: 5]. حيث نتعرَّف في هذا البحث على أقوال العلماء في المراد بـ "السُّفهاء" في الآيتين، ونعرف فقه التَّعامل معهم كما أرشدنا القرآن الكريم والسُّنَّة النَّبويّة، ثُمَّ نتناول بعض الأحكام الفقهيّة المتعلّقة بالسُّفهاء، وذلك في الفصول والمباحث التَّالية:
الفصل الأوَّل: تعريف السَّفيه لغة واصطلاحاً، وأقوال العلماء فيه
ويحتوي على مبحثين:
المبحث الأوَّل: تعريف السَّفيه لغة واصطلاحاً.
المبحث الثَّاني: أقوال العلماء في المراد بالسُّفهاء في قوله تعالى: ـ ـ ـ ـ ـ [النِّساء: 5]، وقوله تعالى: ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ [البقرة:282].
الفصل الثَّاني: فقه التَّعامل مع السُّفهاء في قوله تعالى: ـ ـ ـ ـ ـ
وفيه مبحثان:
المبحث الأوَّل: أقوال العلماء في المراد بقوله تعالى: ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ وفيه مطلبان:
المطلب الأوَّل: أقوال العلماء في المراد بقوله تعالى: ـ ـ ـ.
المطلب الثاَّني: أقوال العلماء في المراد بقوله تعالى ـ ـ ـ.
المبحث الثَّاني: فقه التَّعامل مع السُّفهاء ماديّاً ومعنويّاً.
المطلب الأوَّل: فقه التَّعامل مع السُّفهاء ماديّاً: ـ ـ ـ ـ ـ.
المطلب الثَّاني: فقه التَّعامل مع السُّفهاء معنويّاً: ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ.
الفصل الثَّالث: الحَجْر على السَّفيه والولاية عليه
وفيه أربعة مباحث:
المبحث الأوَّل: تعريف الحَجْر وآراء الفقهاء في حكم الحَجْر على السَّفيه .(1/7)
المبحث الثَّاني: ما يثبت به الحَجْر على السَّفيه، وحكم إشهاره.
المبحث الثَّالث: حكم الحَجْر على السَّفيه الكبير.
المبحث الرَّابع: ثبوت الولاية على السَّفيه.
الفصل الرَّابع: أحكام تتعلّق بإقرار السَّفيه وتصرُّفاته
وفيه مبحثان:
المبحث الأوَّل: أحكام تتعلّق بإقرار السَّفيه، وفيه مطلبان:
المطلب الأوَّل: حكم إقراره بدَيْن.
المطلب الثَّاني: حكم إقراره بما يوجب حداً أو قصاصاً .
المبحث الثَّاني: أحكام تتعلّق بتصرُّفات السَّفيه، وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأوَّل: حكم بيع وشراء السَّفيه بدون إذن وليه.
المطلب الثَّاني: حكم زواجه.
المطلب الثَّالث: حكم طلاقه وخلعه.
الخاتمة: وفيها النَّتائج والتَّوصيات.
الفصل الأوَّل
تعريف السَّفيه لغة واصطلاحاً، وأقوال العلماء في المراد به
في هذا الفصل نتناول الحديث عن تعريف السَّفيه في اللُّغة وفي الاصطلاح، ثم نتطرَّق لأقوال العلماء في معنى "السَّفيه"، حيث تعدَّدت الأقوال والآراء في المراد بـ "السُّفهاء" في قوله تعالى: ـ ـ ـ ـ ـ ـ [النِّساء: 5] وقوله: ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ [البقرة: 282]. وذلك في المبحثين التاليين:
المبحث الأوَّل: تعريف السَّفيه لغة واصطلاحاً
أوّلاً: تعريف السَّفيه في اللُّغة:
"سَفِهَ سَفَاهَةً فهو سَفِيهٌ، والسَّفهُ: نقص في العقل، وأصله الخفة، وسَفِهَ الحقّ: جَهِلَهُ" (1) .
والسَّفه: نقيض الحلم، وأصله الخفة والحركة، وقيل: الجهل، وهو قريب بعضه من بعض، وقد سَفَّه حلمه ورأيه ونفسه سَفَهَاً وسَفَاهاً وسَفَاهَةً: حمله على السَّفه.
قال بعض أهل اللُّغة: "أصل السَّفه: الخفة، ومعنى السَّفيه: الخفيف العقل" (2) .
__________
(1) انظر: المصباح المنير، الفيوميّ، ص280.
(2) انظر: لسان العرب، لابن منظور، 6/287، مادة (سفه).(1/8)
وقيل: "السَّفه : الخفة والطَّيْش، يقال: سَفِهَ الحقّ فلان رأيه، إذا جَهِلَهُ، وكان رأيه مضطرباً لا استقامة له، والسَّفيه: الجاهل" (1) .
ثانياً: تعريف السَّفيه في الاصطلاح:
قيل: "السَّفيه: هو الجاهل، الضَّعيف الرَّأْي، القليل المعرفة بمواضع المصلحة والمضار" (2) .
وقيل: "السَّفيه : هو الذي لا يجوز لوليه أنْ يؤتيه ماله، وهو المستحقّ الحَجْر عليه، وهو أنْ يكون مبذراً أو مفسداً في دينه" (3) .
وقيل: "السَّفيه: هو الذي لا يجوز لوليه أنْ يؤتيه ماله وهو مستحقّ الحَجْر؛ لتضييعه ماله وفساده وإفساده وسوء تدبيره ذلك، سواء كان صبياً صغيراً، أم رجلاً كبيراً، ذكراً أم أنثى" (4) .
وقيل: "السَّفيه: هو الذي لا رَأْي له في حُسْن التَّصرُّف، فلا يحسن الأخذ والإعطاء، وقيل: هو المبذر إمَّا لجهله بالصَّرف، أو لتلاعبه بالمال عبثاً مع كونه لا يجهل الصواب" (5) .
وعرَّف بعض الفقهاء "السَّفه" بأنَّه "تبذير المال وإتلافه على خلاف مقتضى العقل والشَّرع" (6) .
وقيل: "السَّفيه: كلّ من لم يكن له عقل يفي بحفظ المال، ويدخل فيه: النِّساء، والصِّبيان، والأيتام، وكلّ مَنْ كان موصوفاً بهذه الصِّفة، وهذا القول أوْلَى؛ لأنَّ التَّخصيص بغير دليل لا يجوز" (7) .
__________
(1) المرجع السَّابق، 6/288، مادة (سفه).
(2) انظر: تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، 1/55.
(3) انظر: معالم التَّنزيل، البغويّ، 4/9.
(4) انظر: جامع البيان، الطَّبريّ، 3/310.
(5) انظر: فتح القدير، الشَّوكانيّ، 1/345.
(6) انظر: تكملة شرح فتح القدير، ابن قودر، 9/265.
(7) انظر: التَّفسير الكبير، الفخر الرَّازيّ، 9/139.(1/9)
ومما سبق ذكره من تعريف بعض العلماء للسَّفيه؛ يمكن القول: إنَّ هذه التَّعريفات متقاربة، وجلّها تنحو منحى واحداً في أنَّ المراد بالسَّفيه "الجاهل الضَّعيف الذي لا رَأْي له، ولا يحسن التَّصرُّف في الأخذ والعطاء، المبذر لماله، المفسد لدينه المستحقّ للحَجْر عليه".
المبحث الثَّاني: أقوال العلماء في المراد بالسُّفهاء في قوله تعالى: ـ ـ ـ ـ ـ ـ [النِّساء: 5] وقوله تعالى: ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ [البقرة:282]
اختلف المفسِّرون في المراد بالسُّفهاء في الآيتين إلى عدة أقوال، يمكن إيضاحها في الآتي:
أنَّ المراد بالسُّفهاء اليتامى:
رُوِيَ هذا عن سعيد بن جبير في قوله تعالى: ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ [النِّساء: 5]، قال: "هم اليتامى لا تؤتوهم أموالهم. قال النَّحاس: وهذا من أحسن ما قيل في الآية" (1) .
ووجه هذا القول أنَّه "سمَّى اليتامى "سفهاء" باعتبار خفة أحلامهم واضطراب آرائهم، لِمَا فيهم من الصِّغر وعدم التَّدرُّب" (2) . وعلى هذا القول يكون العدول عن التَّعبير عنهم بـ "اليتامى" إلى التَّعبير هنا بـ "السُّفهاء" لبيان علة النَّهيّ (3) .
وقال بعض العلماء: هم النِّساء والصِّبيان (4) :
قال ابن كثير: "قال عامّة علماء التَّفسير هم النِّساء والصِّبيان" (5) .
ودليل هذا القول: أقوال السَّلف الواردة في تفسيرهم للسَّفيه في القرآن الكريم، منها:
__________
(1) انظر: أحكام القرآن، القرطبيّ، 3/1598، وتفسير القرآن العظيم، ابن كثير، 1/410، وجامع البيان، الطَّبريّ، 3/3080، فتح القدير، الشَّوكانيّ، 1/389.
(2) انظر: روح المعاني، الألوسيّ، 2/412.
(3) تفسير ابن عاشور، 4/25.
(4) انظر: أحكام القرآن، ابن العربيّ، 1/330، وزاد المسير في علم التَّفسير، ابن الجوزيّ، 2/12، وتفسير القرآن العظيم، ابن كثير، 1/410، وجامع البيان،، الطَّبريّ، 3/307.
(5) تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، 1/55.(1/10)
[1] عن ابن مسعود - رضي الله عنه - في قوله تعالى: ـ ـ ـ ـ ـ ـ قال: "النِّساء والصِّبيان" (1) .
[2] وعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ في قوله ـ ـ ـ ـ ـ ـ: "هم بنوك والنِّساء" (2) .
[3] وعن معمر بن الحسن في قوله تعالى: ـ ـ ـ ـ ـ ـ
قال: "السُّفهاء ابنك السَّفيه، وامرأتك السَّفيهة" (3) .
[4] وعن الحسن: ـ ـ ـ ـ ـ ـ قال: "الصَّبيّ والمرأة" (4) .
وقيل: هم الصِّبيان خاصّة، أي الأولاد الصِّغار (5) :
فقد جاء في "الجامع لأحكام القرآن" (6) : "روى إسماعيل بن خالد عن أبي مالك قال: هم الأولاد الصِّغار، لا تعطوهم أموالكم فيفسدوها وتبقوا بلا شيء، وعن السُّديّ والضَّحّاك في قوله: ـ ـ ـ هو الصَّبيّ الصَّغير (7) .
وقال بعض العلماء: السُّفهاء هم النِّساء خاصة (8) :
قال مجاهد وعكرمة وقتادة : "هم النِّساء" (9) . وعن الضَّحّاك، قال: "النِّساء أسفه السُّفهاء" (10) .
__________
(1) انظر: الدُّر المنثور، السّيوطيّ، 3/433.
(2) تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، 1/410.
(3) جامع البيان، الطَّبريّ، 3/308.
(4) أحكام القرآن، الجصاص، 2/487.
(5) انظر: الدُّر المنثور، السّيوطيّ، 3/433، وأحكام القرآن، ابن العربيّ، 1/330، وزاد المسير في علم التَّفسير، ابن الجوزيّ، 2/12، وجامع البيان، الطَّبريّ، 3/157، وأحكام القرآن، القرطبيّ، 3/1598.
(6) للقرطبيّ، 3/1598.
(7) الدُّر المنثور، السّيوطيّ ، 3/433.
(8) انظر: أحكام القرآن، القرطبيّ، 3/1598، وزاد المسير في علم التَّفسير، ابن الجوزي، 2/12، وتفسير القرآن العظيم، ابن كثير، 1/410، وجامع البيان، الطَّبريّ، 3/307، وفتح القدير، الشَّوكانيّ، 1/489، ومعالم التَّنزيل، البغويّ، 4/9.
(9) انظر: تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، 1/410، وأحكام القرآن، الجصاص، 2/487.
(10) معالم التَّنزيل، البغويّ، 4/9.(1/11)
وعن ابن عباس: ـ ـ ـ ـ ـ ـ قال: "امرأتك وبنيك"، وقال: "السُّفهاء: الولدان، والنِّساء أسفه السُّفهاء" (1) .
وقد أنكر هذا القول بعض العلماء ووصفه بأنَّه لا يصح، قال النَّحّاس وغيره: "وهذا القول لا يصح؛ إنَّما تقول العرب في النِّساء: سفائه أو سفيهات؛ لأنَّه الأكثر في جمع فعيله" (2) .
وقيل السُّفهاء هم: الأولاد أي أولاد الرجل (3) :
عن الزُّهريّ في قوله تعالى: ـ ـ ـ ـ ـ ـ قال: "لا تعط ولدك السَّفيه مالك الذي هو قيامك بعد الله تعالى فيفسده" (4) .
وعن الضَّحّاك: ـ ـ ـ ـ ـ ـ يعني بذلك: ولد الرُّجل وامرأته، وهي أسفه السُّفهاء (5) .
وقال بعض العلماء: "السَّفيه: الكبير البالغ؛ لأنَّ السَّفه صفة ذم، ولا يذمّ الإنسان على ما لم يكتسب، والقلم مرفوع عن غير البالغ، فالذَّمّ والحرج منفيان عنه" (6) .
وقيل: "السَّفيه هو: الكذاب البهَّات المعتمد خلاف ما يعلم، وقيل:
السُّفهاء: خفاف الأحلام. وقيل: السَّفيه: الأحمق" (7) .
وقيل: السَّفيه: "شارب الخمر ومن جرى مجراه" (8) .
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - في قوله تعالى ـ ـ ـ ـ ـ ـ قال: "هم الخدم وشياطين الإنس" (9) .
وقال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ: "هو الجاهل بالإسلام، وقيل: هو الجاهل بمواضع الحقّ" (10) .
__________
(1) جامع البيان، الطَّبريّ، 3/308.
(2) انظر: أحكام القرآن، القرطبيّ، 3/1598.
(3) انظر: معالم التَّنزيل، البغويّ، 4/9، جامع البيان، الطَّبريّ، 3/308.
(4) معالم التَّنزيل، البغويّ، 4/9.
(5) جامع البيان، الطَّبريّ، 3/310.
(6) انظر: أحكام القرآن، القرطبيّ، 3/1600.
(7) انظر: فتح القدير، الشَّوكانيّ، 1/174، والبحر المحيط، ابن حيان، 2/360.
(8) روح المعاني، الألوسيّ، 2/412.
(9) انظر: الدُّر المنثور، السّيوطيّ ، 3/433.
(10) انظر: البحر المحيط، ابن حيان، 2/361، ومعالم التَّنزيل، البغويّ، 4/9.(1/12)
وقيل: "السُّفهاء: هم المبذرون للأموال بالإنفاق فيما لا ينبغي، ولا يد لهم بإصلاحها وتثميرها والتَّصرُّف فيها" (1) .
قال الشَّافعيّ: "السَّفيه: هو المبذر لماله المفسد لدينه" (2) .
قيل: "السُّفهاء هم المحجور عليهم لتبذيرهم" (3) . جاء في "الكشَّاف" (4) : "السَّفيه: المحجور عليه لتبذيره وجهله بالتَّصرُّف".
وقال ابن كثير في قوله تعالى: ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ :
"محجوراً بتبذيره وغيره" (5) .
قال أبو موسى الأشعري - رضي الله عنه - : "السُّفهاء هنا كل من يستحقّ الحَجْر" (6) .
وقال بعض الفقهاء: "السَّفيه: كلّ مَنْ لم يكن له عقل يفي بحفظ المال، ويدخل فيه: النِّساء، والصِّبيان، والأيتام، وكلّ مَنْ كان موصوفاً بهذه الصفة، وهذا القول أوْلَى؛ لأنَّ التَّخصيص بغير دليل لا يجوز" (7) .
قيل: "السَّفيه: هو الجاهل، الضعيف الرَّأْي، القليل المعرفة بمواضع المصلحة والمضار" (8) .
وقيل: "السَّفيه : هو الذي لا يجوز لوليه أنْ يؤتيه ماله، وهو المستحقّ الحَجْر عليه، وهو أنْ يكون مبذراً أو مفسداً في دينه" (9) .
وقيل: "السَّفيه: هو الذي لا يجوز لوليه أنْ يؤتيه ماله، وهو مستحق الحَجْر؛ لتضييعه ماله وفساده وإفساده وسوء تدبيره ذلك، سواء كان صبياً صغيراً، أم رجلاً كبيراً، ذكراً أم أنثى" (10) .
__________
(1) البحر المحيط، ابن حيان، 2/177.
(2) روح المعاني، الألوسيّ، 1/55.
(3) انظر: الكشاف، الزّمخشريّ، 1/461، وأحكام القرآن، القرطبيّ، 3/1598، وتفسير القرآن العظيم، ابن كثير، 1/306.
(4) للزَّمخشريّ، 1/461.
(5) تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، 1/306.
(6) أحكام القرآن، القرطبيّ، 3/1598.
(7) انظر: التَّفسير الكبير، لفخر الرَّازيّ، 4/98.
(8) انظر: تفسير القرآن العظيم، بن كثير، 1/55.
(9) انظر: معالم التَّنزيل البغويّ، 4/9.
(10) انظر: جامع البيان، الطَّبريّ، 3/310.(1/13)
وقيل: "السَّفيه: هو الذي لا رَأْي له في حُسْن التَّصرُّف، فلا يحسن الأخذ والإعطاء، وقيل: هو المبذر؛ إمَّا لجهله بالصَّرف، أو لتلاعبه بالمال عبثاً مع كونه لا يجهل الصَّواب" (1) .
وقيل: "السَّفيه: هو الجاهل بصواب ما يملك من خطئه، سواء كان صغيراً أم كبيراً، ذكراً أم أنثى، مع كونه ذا قدرة على الإملال، ومنع من الإملال لجهله بالصَّواب" (2) .
وبالنَّظر إلى أقوال العلماء في المراد بـ "السُّفهاء" في الآيتين (موضوع البحث) نجد أنَّهم في تعريفهم لمعنى "السَّفيه" على قسمين:
القسم الأوَّل: مَنْ ذهب إلى تفسير "السَّفيه" وقصد به فئة بعينها في المجتمع (اليتامى، الصِّغار، النِّساء ..).
القسم الثَّاني: وهم الذين ذهبوا إلى القول بأنَّ المراد بـ "السَّفيه" في الآيتين (موضوع البحث) كلّ مَنْ اقتضى الصِّفة التي شرط الله تعالى بها من السَّفه كائناً ما كان، صبياً صغيراً، أم رجلاً كبيراً، ذكراً أم أنثى.
والظَّاهر أنَّ الرَّاجح في المراد من "السَّفيه" في الآيتين ما ذهب إليه أصحاب القسم الثَّاني، الذي خلاصته أنَّ السَّفيه هو: "الجاهل، الضَّعيف الذي لا رَأْي له، ولا يحسن التَّصرُّف في الأخذ والعطاء، المبذر لماله، المفسد لدينه، المستحقّ للحَجْر عليه، كلّ مَنْ لم يكن له عقل يفي بحفظ المال، ويدخل فيه: النِّساء، والصِّبيان، والأيتام، وكلّ مَنْ كان موصوفاً بهذه الصِّفة، وهذا القول أوْلَى؛ لأنَّ التَّخصيص بغير دليل لا يجوز" (3) .
ويؤيِّد ذلك ما ورد عن الصَّحابيّ الجليل أبو موسى الأشعريّ - رضي الله عنه - ، في سبب نزول الآية: ـ ـ ـ ـ ـ ـ قال: "نزلت في كلّ مَنْ اقتضى الصِّفة التي شرط الله تعالى من السَّفه كائناً ما كان" (4) .
__________
(1) انظر: فتح القدير، الشَّوكانيّ، 1/345.
(2) انظر: جامع البيان، الطَّبريّ، 3/310.
(3) انظر: التَّفسير الكبير، الفخر الرَّازيّ، 4/98.
(4) انظر: البحر المحيط، ابن حيان، 3/177.(1/14)
وهو ما رجّحه بعض العلماء، حيث قالوا: "ويجوز أنْ يراد به مطلق مَنْ ثبت له السَّفه، سواء كان عن صغر أم عن اختلال تصرُّف، فتكون الآية قد تعرَّضت للحَجْر على السَّفيه الكبير استطراداً للمناسبة، وهذا هو الأظهر؛ لأنَّه أوفر معنى، وأوسع تشريعاً" (1) .
الفصل الثَّاني
فقه التَّعامل مع الفقهاء في قوله تعالى: ـ ـ ـ ـ ـ ـ
تمهيد:
السُّفهاء فئة من فئات المجتمع، لا يخلو أي مجتمع منهم، ولذا اعتنت الشَّريعة الإسلاميّة بهم في أحكامها وتشريعاتها، ولمَّا كان موضوع بحثنا يتركَّز عن الحديث عن السَّفيه والأحكام المتعلّقة به في الآيتين: ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ [البقرة: 282]، وقوله ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ [النِّساء: 5]، وقد سبق أنْ تناولنا أقوال العلماء في المراد بـ "السَّفيه" في الآيتين، بحسبان أنَّ هذا اللَّفظ ورد مشتركاً فيهما، ولما كانت الآية الخامسة من سورة النِّساء أكثرهما ملامسة بما يتعلَّق بالسَّفيه من أحكام، وفقه التَّعامل معه ماديّاً ومعنويّاً؛ رأينا أنْ نتناولها بطريقة مفصلة، وفي فصل مستقلّ، حيث قسم هذا الفصل إلى مباحث ومطالب على النَّحو التَّالي:
المبحث الأوَّل: أقوال العلماء في المراد بقوله تعالى: ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
اختلف العلماء في المراد بـ "الأموال" في الآية: هل هي أموال الأولياء أم لا؟ ثُمَّ ما وجه إضافتها إلى المخاطَبين في الآية السابقة؟ هل إضافتها إليهم على وجه الحقيقة أم على وجه المجاز؟ ثُمَّ إنْ كانت إضافتها إليهم على وجه الحقيقة؛ فما المراد بالنَّهيّ في الآية؟ وإنْ كانت الإضافة على وجه المجاز والأموال للفقراء؛ فلماذا أضيفت إليهم؟
وهذا ما سوف نتناوله في المطلب الأوَّل من هذا البحث، أمَّا المطلب الثَّاني؛ فسيكون محور الحديث فيه عن أقوال العلماء في المعنى المراد من قوله: (قياماً).
المطلب الأوَّل: أقوال العلماء في المراد بقوله تعالى: ـ ـ ـ
__________
(1) تفسير ابن عاشور، 4/25.(1/15)
اختلف العلماء في المراد بـ "الأموال" في الآية: هل المراد بها أموال الأولياء أم أموال السُّفهاء ؟ إلى قولين:
القول الأوَّل: يرى بعض العلماء أنَّ المراد بـ "الأموال" في الآية أموال السُّفهاء، وإنَّما أُضيفت إلى الأولياء؛ لأنَّهم قُوَّامها ومدبِّروها، ولأنَّها في أيديهم وهم النَّاظرون فيها فنُسِبَتْ إليهم اتّساعاً" (1) .
عن سعيد بن جبير وعكرمة في قوله تعالى: ـ ـ ـ ـ ـ : "هو مال اليتيم يكون عندك، يقول: لا تؤتيه إيّاه، وأنفقه عليه حتَّى يبلغ، وإنَّما أضافه إلى الأولياء فقال: ـ ـ ـ؛ لأنَّهم قُوَّامها ومدبِّروها" (2) .
وقيل: "أضافها إليهم؛ لأنَّها من جنس أموالهم، فإنَّ الأموال جُعِلت مشتركة بين الخلق في الأصل" (3) .
وقيل: "وجه الإضافة إليهم أنَّ الأولياء قد مُكِّنوا التَّصرُّف في الأموال، وكذلك من أجل الوحدة النَّوعيّة حَسُن إضافة الأموال إليهم حقيقة؛ ولأنَّ الأموال من جنس ما يقيم به النَّاس معايشهم، والدَّليل على ذلك قوله تعالى: ـ ـ ـ ـ ـ (4) .
وقيل: "المراد نهي الأولياء عن إيتاء السُّفهاء أموالهم، وإضافتها إلى الأولياء؛ لأنَّ الأموال مشتركة بين الخلق، تنتقل من يد إلى يد، وتخرج من مِلْك إلى مِلْك، وهذا كقوله تعالى: ـ ـ ـ ـ ـ [النِّساء: 29]، معناه: لا يقتل بعضكم بعضاً، فالذي يقتل يكون قد قتل نفسه، وكذلك إذا أعطى المال سفيهاً فأفسده رجع النُّقصان إلى الكلّ" (5) .
__________
(1) انظر: معالم التَّنزيل، البغويّ، 4/9، وأحكام القرآن، القرطبيّ، 3/1599، وفتح القدير، الشَّوكانيّ، 1/489.
(2) انظر: معالم التَّنزيل، للبغويّ، 2/9، وجامع البيان، الطَّبريّ، 3/311، وكشَّاف القناع، البهوتيّ، 3/416.
(3) انظر: فتح القدير، الشَّوكانيّ، 1/489.
(4) انظر: التَّفسير الكبير، الفخر الرَّازيّ، 4/152، والكشَّاف، الزّمخشريّ، 1/462.
(5) أحكام القرآن، ابن العربيّ، 1/416.(1/16)
وقيل: "إنَّه لمَّا كان الوصف في الآية هو السَّفاهة فناسب ألاَّ يختصوا بشيء من الملكيّة؛ لئلا يتورطوا في الأموال، فلذلك لم يضف الأموال إليهم وأضافها إلى الأولياء، وهو من باب المبالغة في المحافظة على أموال السُّفهاء" (1) .
ففي الآية نهي للأولياء عن أنْ يؤتوا الذين لا رشد لهم أموالهم فيُضيِّعوها، وإنَّما أضاف الأموال إلى الأولياء؛ لأنَّها في تصرُّفهم وتحت ولايتهم، وهو الملائم للآيات المتقدّمة والمتأخّرة.
القول الثَّاني: المقصود بـ "الأموال" أموال الأولياء حقيقة، "والمراد نهي الرجل أو المكلَّف أنْ يؤتى ماله سفهاء أولاده، فيضيعونه ويرجع عالة عليهم، لذلك نهاهم عن ذلك لِمَا فيه من الإفساد" (2) .
وقيل: "نهي لكلّ أحد أنْ يعمد إلى ما خوّله الله تعالى من المال فيعطي امرأته وأولاده، ثُمَّ ينظر إلى أيديهم، وإنَّما سمَّاهم "سفهاء" استخفافاً بعقولهم، واستهجاناً لجعلهم قُوَّاماً على أنفسهم" (3) .
قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ: "الآية مجراة على حقيقتها، والمراد منها النَّهيّ عن دفع المال إلى الصِّبيان والنِّسوان، وتسليطهم على مال نفسه حتَّى
يستنفذوه في أسرع مدة فيبقون عالة، وهو يبقى عائلاً ضعيفاً" (4) .
وعن السُّديّ في قوله تعالى: ـ ـ ـ ـ ـ ـ يقول: "لا تُعْطِ امرأتك وولدك مالك، فيكونوا هم الذين يقومون عليك، وأطعمهم من مالك واكْسُهُم" (5) .
وعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ: "لا تدفع مالك ـ الذي هو سبب معيشتك ـ إلى امرأتك وابنك، وتبقى فقيراً تنظر إليهم وإلى ما في أيديهم، بل كن أنت الذي تنفق عليهم" (6) .
__________
(1) انظر: روح المعاني، الألوسيّ، 2/412.
(2) انظر: أحكام القرآن، القرطبيّ، 3/1599، أحكام القرآن، ابن العربيّ، 1/416.
(3) تفسير البيضاويّ، 1/60.
(4) أحكام القرآن، الهراسيّ، 1/327.
(5) انظر: جامع البيان، الطَّبريّ، 3/311.
(6) انظر: أحكام القرآن، القرطبيّ، 3/1599.(1/17)
يقول الشَّوكانيّ مرجِّحاً هذا القول: "فالمراد بها أموال المخاطَبين حقيقة، والمراد النَّهيّ عن دفعها إلى مَنْ لا يحسن تدبيرها كالنِّساء والصِّبيان، ومَنْ هو ضعيف الإدراك، لا يهتدي إلى وجوه الضَّرر التي تهلكه وتذهب به" (1) .
ومن العلماء مَنْ ذهب إلى الجمع بين القولين، ويرى أنَّ المراد بـ "الأموال" أموال الفريقين معاً: الأولياء والسُّفهاء؛ لأنَّ قوله تعالى:
ـ ـ ـ غير مخصص ببعض الأموال دون بعض، أي أنَّها بمعنى: لا تؤتوا أيُّها النَّاس سفهاءكم أموالكم التي بعضها لكم وبعضها لهم فيُضيِّعوها.
وهذا القول ذهب إليه الطَّبريّ ورجَّحه، وصحَّحه ابن العربيّ، حيث قال:
"إنَّ الصَّحيح أنَّه المراد الجميع، بدليل قوله تعالى: ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ (2) .
ولعلَّ هذا هو الرَّأْي الرَّاجح؛ لأنَّ إفساد المال يرجع بالنُّقصان على الجميع "أولياء" و"سفهاء".
المطلب الثَّاني: أقوال العلماء في المراد بقوله تعالى: ـ ـ ـ
لقد وصف الله الأموال بأنَّها سبب للإقامة في قوله تعالى: ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ: "أي لا تؤتوا السُّفهاء أموالكم التي تصلح بها أموركم، فتقومون بها قياماً. وقيل المعنى: قائمة بأموركم" (3) .
وقيل: "معنى ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ أي: قيام عيشكم، وقيل: عصمة لدينكم، وقياماً لكم" (4) ، والمعنى: "لا تؤتوا السُّفهاء الأموال التي جعلها الله تعالى سبب بقاء إقامتكم" (5) .
__________
(1) فتح القدير، الشَّوكانيّ، 1/489.
(2) انظر: جامع البيان، الطَّبريّ، 3/312، وأحكام القرآن، ابن العربيّ، 2/319.
(3) انظر: فتح القدير، الشَّوكانيّ، 1/490.
(4) انظر: الدُّر المنثور، السّيوطيّ، 3/434.
(5) روح المعاني، الألوسيّ، 2/413.(1/18)
وقال آخرون: " ـ ـ ـ: أصله قواماً، وهو ملاك الأمر وما يقوم به الأمر، وأراد ها هنا: قوام عيشكم الذي تعيشون به. قال الضَّحّاك: به يقوم الحج، والجهاد، وأعمال البر، وبه فكاك الرِّقاب من النَّار (1) . أي لمعاشكم وصلاح دينكم" (2) .
وقيل: "معنى ـ ـ ـ أي التي جعلها الله لكم قيمة للأشياء" (3) .
فأخبر الله تعالى في الآية أنَّه جعل قوام أجسادنا بالمال، فمَنْ رزقه الله منه شيئاً؛ فعليه إخراج حقّ الله تعالى منه، ثُمَّ يحفظ ما بَقِيَ ويجنب تضييعه، وفي ذلك ترغيب من الله تعالى لعباده في إصلاح المعاش وحسن التدبير، وقد ذكر الله تعالى ذلك في مواضع في كتابه العزيز، منها:
[1] قوله تعالى: ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ [الإسراء: 26-27].
[2] وقوله تعالى: ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ [ الإسراء: 29].
[3] وقوله تعالى: ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ [الفرقان: 67].
وإلى جانب هذه الآيات، ما أمر الله به من حفظ الأموال وتحصين الدُّيون، بالشَّهادات، والكتابة، والرَّهن، وقد قيل في قوله تعالى: ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ: "يعني أنْ جعلكم قُوَّاماً عليها، فلا تجعلوها في يد مَنْ يُضيِّعها" (4) .
المبحث الثَّاني: فقه التَّعامل مع السُّفهاء ماديّاً ومعنويّاً
لقد أرشدتنا الآية الكريمة ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ إلى فقه التَّعامل مع السُّفهاء، وذلك من جانبين:
أحدهما: الجانب الماديّ المتمثِّل في المال، وكيف ننفق عليهم منه، أو على كلّ مَنْ نعولهم ويستحقون النَّفقة منّا.
الثَّاني: الجانب المعنويّ، المتمثِّل في الإحسان إليهم بالقول الجميل الطيِّب المعروف.
وهذا ما سنتناوله في هذا المبحث في المطلبين التَّاليين:
المطلب الأوَّل: فقه التَّعامل مع السُّفهاء ماديّاً: ـ ـ ـ ـ ـ
__________
(1) انظر: معالم التَّنزيل، البغويّ، 2/9.
(2) انظر: أحكام القرآن، القرطبيّ، 3/1601.
(3) انظر: فتح القدير، الشَّوكانيّ، 1/489.
(4) انظر: أحكام القرآن، الجصاص، 3/60.(1/19)
بعد أنْ نهى الله تعالى الأولياء أنْ يؤتوا السُّفهاء الأموال، أمرهم بأنْ يجعلوا هذه الأموال مكاناً لرزقهم وكسوتهم، إلاَّ أنَّ العلماء اختلفوا في المعنى المراد من قوله تعالى: ـ ـ ـ ـ ـ، وسبب هذا الاختلاف ناتج من اختلافهم في المراد بـ "الأموال" في قوله: ـ ـ ـ، وعليه يمكن القول بأنَّ المعنى المراد من الآية أحد معنيين، وسببهما اختلاف العلماء في المعنى المراد من قوله: ـ ـ ـ:
المعنى الأوَّل: على اعتبار أنَّ المراد بالأموال في الآية هي أموال أولياء السُّفهاء؛ فإنَّ معنى قوله تعالى: ـ ـ ـ ـ ـ أي اجعلوا لهم فيها رزقاً وافرضوا لهم، وهذا فيمن تلزم نفقتهم وكسوتهم من الزَّوجات والأولاد (1) .
ولذا قال بعض العلماء: "إنْ كان المخاطَب به الآباء في هذه؛ فهو دليل وجوب نفقة الولد على الوالد". وقال آخرون: "هذا دليل على وجوب نفقة الولد على الوالد والزَّوجة على زوجها" (2) .
وعليه يكون المعنى في قوله تعالى: ـ ـ ـ ـ ـ أي وارزقوا أيُّها النَّاس سفهاءكم من نسائكم وأولادكم، من أموالكم طعامهم وما لا بُدَّ لهم منه، من مؤنهم وكسوتهم (3) .
وعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أنَّه قال: ـ ـ : "أنفقوا عليهم" (4) .
والخلاصة: بناءً على هذا القول؛ فإنَّ في ذلك دليلاً على وجوب النَّفقة على الأولاد السُّفهاء والزَّوجات، لأمره إيّانا بالإنفاق عليهم من أموالنا (5) . وهذا هو فقه التَّعامل ماديّاً مع الأولاد السُّفهاء والزَّوجات، والذي نستفيده من هذه الآية.
__________
(1) انظر: أحكام القرآن، القرطبيّ، 3/1602، وفتح القدير، الشَّوكانيّ، 1/490.
(2) انظر: أحكام القرآن، ابن العربيّ، 1/416، وأحكام القرآن، القرطبيّ، 3/1602.
(3) انظر: جامع البيان، الطَّبريّ، 3/313.
(4) الدُّر المنثور: السّيوطيّ، 3/434.
(5) انظر: أحكام القرآن، الجصاص، 3/60.(1/20)
ويؤيِّد ذلك حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - : (أفضل الصَّدقة ما ترك غنىً، واليد العليا خير من اليد السُّفلى، وابدأ بمن تعول، تقول المرأة: إمَّا أنْ تطعمني وإمَّا أنْ تطلقني، ويقول العبد: أطعمني واستعملني، ويقول الابن: أطعمني إلى مَنْ تدعني؟) فقالوا: يا أبا هريرة ، سمعت هذا من رسول الله ؟ قال: لا هذا من كيس أبي هريرة (1) . قال المهلب: "النَّفقة على الأهل والعيال واجبة بإجماع؛ وهذا الحديث حُجَّة في ذلك" (2) .
المعنى الثَّاني: وعلى اعتبار أنَّ المراد بالأموال في الآية هي أموال السُّفهاء؛ فإنَّ معنى قوله تعالى: ـ ـ ـ ـ : أي ارزقوهم من هذه الأموال؛ لأنَّ (في) في الآية بمعنى (من) فنهى الله تعالى عن دفع الأموال إلى السُّفهاء الذين لا يقومون بحفظها، وأمرنا بأنْ نرزقهم منها ونكسوهم (3) .
ولكن الإنفاق عليهم من أموالهم كيف يتم؟ فهل يكون الإنفاق عليهم من صلب أموالهم مباشرة؟ أم يكون من أرباحها بعد السَّعي إلى تنميتها؟
وهذا هو فقه التَّعامل معهم الذي يجب أنْ نعرفه.
الجواب: أكثر الفقهاء يرون أنَّ الإنفاق عليهم يكون من أرباح أموالهم لا من أصولها، ولذا قالوا في معنى قوله تعالى: ـ ـ ـ ـ : "أمرهم الله بأنْ يجعلوا هذه الأموال مكاناً لرزقهم وكسوتهم، بأنْ يتّجروا بها ويربحوا حتَّى تكون نفقاتهم من الأرباح لا من صلب المال، لئلا يأكله الإنفاق، وهذا ما يقتضيه جعل الأموال نفسها ظرفاً للرِّزق والكسوة. فقال: ـ ـ ـ ـ ـ ولم يقل: (منها) (4) .
__________
(1) صحيح البخاريّ، كتاب النَّفقات، باب وجوب النَّفقة على الأهل، برقم 5355، 4/1724.
(2) أحكام القرآن، القرطبيّ، 3/1602.
(3) المرجع السَّابق، الجزء والصفحة نفسهما.
(4) روح المعاني، الألوسيّ، 2/414.(1/21)
ولذا قال بعض الفقهاء: "وآثر التَّعبير بـ (في) على (من) مع أنَّ المعنى عليها إشارة إلى أنَّه ينبغي للولي أنْ يتّجر لموليه في ماله ويربحه له، حتَّى تكون نفقته عليه من الرِّبح لا من أصل المال، فالمعنى: واجعلوهم مكاناً لرزقهم وكسوتهم، بأنْ تتّجروا فيها وتربحوها لهم" (1) .
وقال الشَّوكانيّ: "والمعنى: اتّجروا فيها حتَّى تربحوا وتنفقوا عليهم من أرباحها، أو اجعلوا لهم من أموالهم رزقاً ينفقونه على أنفسهم" (2) .
أما مقدار ما ينفق عليهم الولي من أموالهم؛ ففقه ذلك: "أنْ يكون الإنفاق على قدر مالهم وحالهم، فإنْ كان صغيراً وماله كثير اتخذ له مرضعة وحواضن، ووسَّع عليه في الإنفاق. وإنْ كان كبيراً قدر له ناعم اللِّباس، وشهي الطَّعام والخدم، وإنْ كان دون ذلك فبحسبه، وإنْ كان دون ذلك فخشن اللِّباس والطَّعام قدر الحاجة" (3) .
أمَّا بعض العلماء الذين يرون أنَّ المراد بـ "الأموال" في الآية أموال الجميع: الأولياء والسُّفهاء؛ فيرون أنَّ المعنى المراد من قوله تعالى: ـ ـ ـ ـ أي أنفقوا على سفهائكم من أولادكم ونسائكم الذين تجب عليكم نفقتهم، من طعامهم وكسوتهم في أموالكم، ولا تسلطوهم على أموالكم فيهلكوها، وأنفقوا على سفهائكم ممن لا تجب عليكم نفقتهم، ومن غيرهم الذين تلون أنتم أمورهم من أموالهم، فيما لا بُدَّ لهم من مؤنهم في طعامهم، وشرابهم، وكسوتهم (4) .
المطلب الثَّاني: فقه التَّعامل مع السُّفهاء معنويّاً: ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
__________
(1) انظر: فتح البيان في مقاصد القرآن، أبو الطَّيب النَّجاي، 3/24.
(2) فتح القدير: الشَّوكانيّ، 1/490.
(3) انظر: أحكام القرآن، القرطبيّ، 3/1603.
(4) انظر: جامع البيان، الطَّبريّ، 3/314.(1/22)
وكما أرشدتنا الآية الكريمة إلى فقه التَّعامل مع السُّفهاء ومع كل مَنْ نعولهم ماديّاً؛ أرشدتنا ـ أيضا ـ إلى فقه التَّعامل معهم معنويّاً؛ لأنَّ الإحسان الماديّ المصحوب بخشونة التَّعامل القوليّ والمعنويّ، قد لا يؤدي مقصوده الشَّرعيّ؛ بل قد يؤثر على الإحسان الماديّ سلباً، ولربما أبطله بالكليّة، ودخل في باب إبطال الأعمال بالمنّ والأذى، قال تعالى: ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ [البقرة: 264]، ولذا أرشدنا القرآن إلى حُسْن التَّعامل مع الأقارب واليتامى والمساكين عند حضورهم القسمة، فقال تعالى:
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ [النِّساء :8]
ولذا قال بعض العلماء في تفسير هذه الآية: "إنها بمعنى: قولوا أيُّها الولاة لمن تحت ولا يتكم من السُّفهاء كلاماً تطيب به نفوسهم، كأنْ يقول الولي لليتيم: مالك عندي وأنا أمين عليه، فإذا بلغت ورشدت أعطيتك مالك، فطيِّبوا الكلام لهم ولا تجمعوا بين الحرمان وجفاء القول، ولكن حسِّنوا لهم الكلام؛ لأنَّ القول الجميل يؤثِّر في القلب فيزيل السَّفه، أمَّا خلاف القول المعروف؛ فإنَّه يزيد السَّفيه سَفَهاً ونقصاناً" (1) .
وقد ذهب المفسِّرون في تفسير القول المعروف في الآية إلى أقوال كثيرة، منها:
قال بعض السَّلف: "القول المعروف: هو العِدة الجميلة من البرّ والصِّلة" (2) .
وقيل: "القول المعروف هو مثل أنْ يقول الولي: إذا ربحت أعطيتك، وإنْ غنمت فلك فيه حظّ" (3) .
وقيل: "معناه: ادعوا لهم: بارك الله فيكم، وأحاطكم وصنع لكم، وأنا ناظر
لكم، وهذا الاحتياط يرجع نفعه إليكم" (4) .
__________
(1) انظر: روح المعاني،الألوسيّ، 2/414، وأحكام القرآن، ابن العربيّ، 1/416، والتَّفسير الكبير، الرَّازيّ، 4/152.
(2) انظر: الدُّر المنثور، السّيوطيّ، 4/434، والتَّفسير الكبير، الرَّازيّ، 4/152، وتفسير القرآن العظيم، ابن كثير، 1/410.
(3) معالم التَّنزيل، البغويّ، 2/10.
(4) انظر: أحكام القرآن، القرطبيّ، 3/1602.(1/23)
وعن ابن زيد ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ قال: "إنْ كان ليس من ولدك ولا ممن يجب عليك أنْ تنفق عليه؛ فقل له قولاً معروفاً، قل له: عافانا الله وإيِّاك، وبارك فيك" (1) .
وقيل: "يحتمل أنْ يريد به: إذا أعطيتموهم الرِّزق والكسوة من أموالهم، أنْ تجمِّلوا لهم القول ولا تؤذوهم بالتَّذمُّر عليهم، والاستخفاف بهم" (2) .
وقيل: "القول المعروف" معناه: علّموهم مع إطعامكم وكسوتهم إيِّاهم أمر دينهم. وقيل : إنْ كان صبيّاً؛ فالوصي يعرِّفه أنَّ المال ماله، وإنْ زال صباه يردّ المال إليه، وإنْ كان سفيهاً وعظه وحثَّه على الصَّلاة، وعرَّفه أنَّ عاقبة الإتلاف فقر واحتياج" (3) .
وقيل: "عِدُوهم وعداً حسناً، قولوا لهم: إنْ رشدتم دفعنا إليكم أموالكم، ويقول الأب لابنه: مالي سيصير إليك، وأنت إنْ شاء الله صاحبه، إذا ملكت رشدك، وعرفت تصرُّفك" (4) .
وقال بعض العلماء في قوله ـ ـ ـ ـ ـ ـ : "أي قولوا: ـ يا معشر ولاة السُّفهاء ـ قولاً معروفاً للسُّفهاء: إنْ صلحتم ورشدتم سلَّمنا إليكم أموالكم، وخلينا بينكم وبينها، فاتقوا الله في أنفسكم وأموالكم، وما أشبه ذلك من القول الذي فيه حثٌّ على طاعة الله، ونهي عن معصيته" (5) .
وقال بعضهم: "القول المعروف هو التَّأديب والتَّنبيه على الرُّشد والصَّلاح والهداية للأخلاق الحسنة" (6) .
وقيل: "القول المعروف هو كل ما سكنت إليه النَّفس وأحَبَّته، لحسنه عقلاً أو شرعاً، من قول أو عمل، فهو معروف، وما أنكرته ونفرت منه لقبحه فهو منكر" (7) .
__________
(1) الدُّر المنثور، السّيوطيّ، 4/434.
(2) انظر: أحكام القرآن، الجصاص، 3/60.
(3) روح المعاني، الألوسيّ، 2/414.
(4) فتح القدير، الشَّوكانيّ، 1/490.
(5) جامع البيان، الطَّبريّ، 3/315.
(6) انظر: أحكام القرآن، الجصاص، 3/60.
(7) الكشَّاف، الزّمخشريّ، 1/462.(1/24)
وقيل: "القول المعروف: تعليم الدِّين والشَّرائع" (1) .
والرَّاجح: أنَّ القول المعروف هو كل ما يصدق عليه مُسمَّى القول الجميل، فهو يشمل كل معروف سكنت إليه النَّفس وأحَبَّته، لحسنه عقلاً أو شرعاً من قول أو عمل.
وهذا ما رجَّحه الشَّوكانيّ حيث قال: "والظَّاهر من الآية ما يصدق عليه مُسمَّى القول الجميل، ففي الآية إرشاد إلى حسن الخلق مع الأهل والأولاد، ومع الأيتام المكفولين (2) .
وهو ما يراه ابن كثير ـ أيضاً ـ فقال: "وهذه الآية الكريمة تضمَّنت الإحسان إلى العائلة، ومن تحت الحَجْر بالفعل، من الإنفاق في الكساوي والأرزاق، وبالكلام الطيِّب، وتحسين الأخلاق" (3) .
الفصل الثَّالث
الحَجْر على السَّفيه والولاية عليه
المبحث الأوَّل: تعريف الحَجْر وآراء الفقهاء في ثبوت الحَجْر على السَّفيه
أولاً : تعريف الحَجْر لغة وشرعاً:
الحَجْر لغة: "هو المنع، فيقال: حَجَرَ عليه حَجْراً ـ من باب (قَتَلَ) ـ: منعه التَّصرُّف، فهو محجور عليه، وحَجَرَ السَّفيه: منعه عن التَّصرُّفات" (4) .
فقيل: الحَجْر في اللُّغة: حَجْرت عليه، أي منعته من أنْ يوصل إليه، وكلّ ما منعت منه فقد حَجْرت عليه، وكذلك حَجَرَ الحُكَّام علي الأيتام : منعهم.
و"الحَجْر: مصدر، حَجَرَ عليه القاضي يَحْجُرُ حَجْراً: إذا منعه من التَّصرُّف في ماله، ومنه حَجَرَ القاضي على الصَّغير والسَّفيه: إذا منعهما من التَّصرُّف في مالهما" (5) .
__________
(1) تفسير القرآن: أبي المظفر السَّمعانيّ، 1/397.
(2) فتح القدير: الشَّوكانيّ، 1/490.
(3) تفسير القرآن العظيم: ابن كثير، 1/410.
(4) انظر: المصباح المنير، الفيوميّ، ص121، مادة (حَجَرَ)، وطلبة الطَّلبة في الاصطلاحات الفقهيّة، النَّسفيّ، ص 328.
(5) لسان العرب: ابن منظور، 3/56-57، مادة (حَجَر).(1/25)
أمَّا الحَجْر شرعاً: فهو "منع الإنسان من التَّصرُّف في ماله". وقيل: "هو المنع من التَّصرُّفات الماليّة" (1) .
ثانياً: آراء الفقهاء في ثبوت الحَجْر على السَّفيه:
الحَجْر على السَّفيه من المسائل التي اختلف الفقهاء فيها، في حكمه وثبوته، فكانوا في ذلك على قولين:
القول الأوَّل: أنَّه يثبت الحَجْر على السَّفيه، وبهذا قال جمهور الفقهاء: (فقهاء المالكيّة، والشَّافعيّة، والحنابلة، وأبو يوسف ومحمد من فقهاء الحنفيّة) (2) .
واحتج الجمهور بالآتي:
[1] قوله تعالى: ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ [البقرة: 282] فأثبت الولاية على السَّفيه، وأجاز لولي السَّفيه الإملاء عنه (3) .
[2] كما احتجّوا بما روى هشام بن عروة عن أبيه أنَّ عبد الله بن جعفر أتى الزّبير فقال: "إني ابتعت بيعاً، ثُمَّ إنَّ علياً يريد أنْ يَحْجر عليّ، فقال الزّبير: فإنّي شريكك في البيع، فأتى عليٌّ عثمان فسأله أنْ يحجر على عبد الله بن جعفر، فقال الزّبير - رضي الله عنه - : أنا شريكه في هذا البيع، فقال عثمان - رضي الله عنه - : كيف أحجر على رجل شريكه الزّبير؟
__________
(1) انظر: كشَّاف القناع، البهوتيّ، 3/416، ومغني المحتاج، الشَّربينيّ، 3/225.
(2) انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبيّ، 3/1600، والمغني، ابن قدامة، 6/223، والمنهاج، للنَّوويّ، وشرحه مغني المحتاج، الشَّربينيّ، 3/225، وبداية المجتهد، ابن رشد، 5/257، وحاشية الدُّسوقيّ، 4/475،
وبدائع الصَّنائع، الكاسانيّ، 6/172.
(3) انظر: المغني، ابن قدامة، 6/223، وأحكام القرآن، الجصاص، 1/487.(1/26)
فوجه الدَّلالة: يدلُّ هذا على أنَّهم جميعاً قد رأوا الحَجْر جائزاً، ومشاركة الزّبير ما هو إلاَّ ليدفع الحَجْر عنه، وكان ذلك بمحضر من الصَّحابة من غير خلاف ظهر من غيرهم، قال أحمد: "وهذه قصة يشتهر مثلها، ولم يخالفها أحد في عصرهم، فتكون إجماعاً" (1) .
[3] وروى الزُّهريّ عن عروة عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنَّها بلغها أنَّ ابن الزّبير بلغه أنَّها باعت بعض رباعها (2) ، فقال: لتنتهينَّ وإلاَّ حَجرت عليها، فبلغها ذلك فقالت: "لله عليَّ ألاَّ أكلّمه أبداً".
وجه الدَّلالة: دلَّ الأثر على أنَّ ابن الزّبير وعائشة قد رأيا الحَجْر، إلاَّ أنَّها أنكرت عليه أنْ تكون هي من أهل الحَجْر، فلولا ذلك لبيَّنتْ أنَّ الحَجْر لا يجوز ولردَّت عليه قوله (3) .
[4] رُوِيَ عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أنَّ رجلاً على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، كان يبتاع وفي عقدته ضعف، فأتى به أهله نبي الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقالوا: يا نبي الله، احجر على فلان؛ فإنَّه يبتاع وفي عقدته ضعف، فدعاه النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - ، فنهاه عن البيع، فقال: يا نبي الله إنّي لا أصبر عن البيع، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (إنْ كنت غير تارك البيع، فقل: ها وها ولا خلابة) (4) . أي لا خداع.
__________
(1) انظر: المغني، ابن قدامة، 6/223، وأحكام القرآن، الجصاص، 1/487.
(2) الرّباع: جمع ربع، وهو محلة القوم ومنزلهم. انظر: المصباح المنير، الفيوميّ، ص216، مادة (رَبَع).
(3) انظر: أحكام القرآن، للجصاص، 1/490.
(4) مسند الشَّافعيّ، محمد بن إدريس الشَّافعيّ، 3/217.(1/27)
فيرى مثبتو الحَجْر أنَّ وجه الدَّلالة: أنَّ أهل الرَّجل أتوا النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - ، فقالوا: يا نبي الله أحجر على فلان؛ فإنّه يبتاع وفي عقدته ضعف، فلم ينكره عليهم؛ بل نهاه عن البيع، ولما قال له الرَّجل: لا أصبر عن البيع، قال: (إذا بايعت فقل: لا خلابة) فأطلق له البيع على شريطة نفي التَّغابن فيه (1) .
[5] قوله تعالى: ـ ـ ـ ـ ـ [الإسراء: 26] قال مثبتو الحَجْر: إذا كان التَّبذير مذموماً منهياً عنه؛ وجب على الإمام المنع منه، وذلك بأنْ يحجر عليه ويمنعه التَّصرُّف في ماله، وكذلك نهي النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - ، عن إضاعة المال يقتضي منعه عن إضاعته بالحَجْر عليه (2) .
القول الثَّاني: لا يثبت الحَجْر على السَّفيه، وبهذا قال أبو حنيفة؛ لأنَّ الأسباب الموجبة للحجر عنده ثلاثة فقط: الجنون، والصِّبا، والرِّقّ، ولا يرى الحَجْر للفساد والسَّفه، وهو قول زفر ـ أيضاً ـ من فقهاء الحنفيّة (3) .
واحتجّ مبطلو الحَجْر بالأدلة نفسها التي احتجّ بها الجمهور؛ لأنَّهم يرون أنَّ وجه الدَّلالة فيها غير ما يراه الجمهور، ومما استدلوا به الآتي:
__________
(1) انظر: أحكام القرآن، للجصاص، 1/491.
(2) انظر: أحكام القرآن، للجصاص، 1/492.
(3) انظر: بدائع الصَّنائع، الكاسانيّ، 6/172، وتكملة شرح فتح القدير، ابن قودر،9/265، والهداية، المرغينانيّ، 9/265.(1/28)
[1] استدلوا بما في مضمون الآية من جواز مداينة السَّفيه في قوله تعالى: [البقرة: 282]. فأجاز مداينة السَّفيه وحَكَمَ بصحة إقراره في مداينته، وإنَّما خالف بينه وبين غيره في إملاء الكتاب؛ لقصور فهمه عن استيفاء ماله وما عليه مما يقتضيه شروط الوثيقة، وقالوا: "إنَّ قوله تعالى ـ ـ ـ ـ ـ إنَّما المراد به ولي الدَّيْن، وقد رُوِيَ ذلك عن جماعة من السَّلف قالوا: غير جائز أنْ يكون المراد ولي السَّفيه على معنى الحَجْر عليه وإقراره بالدَّيْن عليه؛ لأنَّ إقرار ولي المحجور عليه غير جائز عليه عند أحد، فعلمنا أنَّ المراد ولي الدِّيْن، فأمر بإملاء الكتاب حتَّى يقر به المطلوب الذي عليه الدَّيْن (1) .
[2] كما استدلوا بما روى الزُّهريّ عن عروة عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنَّها بلغها أنَّ ابن الزّبير بلغه أنَّها باعت بعض رباعها، فقال: لتنتهينَّ وإلا حجرت عليها، فبلغها ذلك فقالت: "لله عليَّ ألاَّ أكلّمه أبداً".
فوجه الاستدلال: أنَّه قد ظهر النَّكير من عائشة في الحَجْر، وهذا يدلُّ على أنَّها لم تر الحَجْر جائزاً، ولولا ذلك لما أنكرته إنْ كان ذلك شيئاً يسوغ فيه الاجتهاد، وما ظهر منها من النَّكير يدلُّ على أنَّها لا تسوغ الاجتهاد في جواز الحَجْر، فقد أنكرت الحَجْر على الإطلاق بقولها: "لله عليَّ ألاَّ أكلّمه أبداً"، ودعوى إنكارها للحجر عليها خاصّة دون إنكارها لأصل الحَجْر...؛ لأنَّه لا دلالة معه (2) .
__________
(1) انظر: أحكام القرآن، للجصاص، 1/487.
(2) انظر: أحكام القرآن، للجصاص، 1/490.(1/29)
[3] رُوِيَ عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أنَّ رجلاً على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، كان يبتاع وفي عقدته ضعف، فأتى به أهله نبي الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقالوا: يا نبي الله احجر على فلان؛ فإنَّه يبتاع وفي عقدته ضعف، فدعاه النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - ، فنهاه عن البيع، فقال: يا نبي الله إنّي لا أصبر عن البيع، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (إن كنت غير تارك البيع، فقل: ها وها ولا خلابة) (1) .
فوجه الاستدلال: أنَّ الرَّجل لما قال: "إني لا أصبر على البيع" أطلق له النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - التَّصرُّف، وقال له: (إذا بايعت فقل: لا خلابة)، فلو كان الحَجْر واجباً لِمَا كان قوله: (لا أصبر عن البيع) مزيلاً للحجر عنه؛ لأنَّ أحداً من موجبي الحَجْر لا يرفع الحَجْر عنه لفقد صبره عن البيع، ونهي النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - له عن البيع، بقوله: (فقل: لا خلابة)؛ إنَّما هو على وجه النَّظر له والاحتياط، كما تقول لمن يريد التِّجارة في طريق مخوف: لا تغرر بمالك واحفظه، وهذا ليس بحجر؛ وإنَّما هو مشورة وحسن نظر (2) .
المبحث الثَّاني: ما يثبت به الحَجْر على السَّفيه، وحكم إشهاره
أوّلاً: ما يثبت به الحَجْر على السَّفيه:
يرى جمهور الفقهاء أنَّ الحَجْر لا يثبت على السَّفيه إلاَّ بأمر الحاكم، ولا يثبت زوال الحَجْر عنه إلاَّ بحكم الحاكم؛ لأنَّ معرفة بلوغ الرُّشد تحتاج إلى اجتهاد، فإذا افتقر السَّبب إلى اجتهاد لم يثبت إلاَّ بحكم الحاكم، ولأنَّه حَجْر مختلف فيه، فلا يثبت إلاَّ بحكم الحاكم.
__________
(1) مسند الشَّافعيّ، 3/217.
(2) انظر: أحكام القرآن، للجصاص، 1/491.(1/30)
واحتجّ الجمهور على ذلك بما روى هشام بن عروة عن أبيه أنَّ عبد الله بن جعفر - رضي الله عنه - أتى الزّبير فقال: إنّي ابتعتُ بيعاً، ثُمَّ إنَّ عليّاً يريد أنْ يحجر عليّ، فقال الزّبير: فإني شريكك في البيع، فأتى عليٌّ عثمان فسأله أنْ يحجر على عبد الله بن جعفر، فقال الزّبير: أنا شريكه في هذا البيع، فقال عثمان: كيف أحجر على رجل شريكه الزّبير؟
فقالوا: لو كان الحَجْر جائزاً من غير إذن الحاكم لما طَلَبَ عليٌّ من عثمان الحَجْر على عبد الله بن جعفر، ولحجر عليه من غير طلب الإذن من الحاكم (1) .
ويرى بعض الفقهاء أنَّ السَّفيه يصير محجوراً عليه إذا صار في الحالة التي يستحقّ معها الحَجْر، سواء حَجَرَ عليه القاضي أم لم يَحْجر عليه. وكذا ينفك عنه الحَجْر بمجرّد رشده، ولا يحتاج إلى حكم الحاكم (2) .
ثانياً: حكم إشهار الحَجْر على السَّفيه:
__________
(1) انظر: المغني، ابن قدامة، 6/247، ومغني المحتاج، الشَّربينيّ، 3/232، والتَّنبيه، الشِّيرازيّ، 2/415، وشرحه، للسُّيوطيّ، 2/415، وأحكام القرآن، الجصاص، 1/490، وانظر: مواهب الجليل، الحطَّاب، 5/64.
(2) انظر: الشَّرح الكبير، للمقدسيّ، 6/250، وأحكام القرآن، الجصاص، 2/490.(1/31)
يرى أكثر الفقهاء أنَّ مَنْ أراد الحَجْر على السَّفيه فليحجر عليه عند الحاكم، فإذا حَجَرَ عليه الحاكم استحبّ أنْ يشهد عليه؛ ليظهر أمره فيجتنب معاملته، وإنْ رأى الحاكم أنْ يأمر مناديّاً ينادي بذلك ليعرفه النَّاس فعل ذلك، ولا يشترط الإشهاد عليه؛ لأنَّه قد ينتشر أمره بشهرته وحديث النَّاس به، فإذا حَجَرَ عليه فباع واشترى كان ذلك فاسداً، واسترجع الحاكم ما باع من ماله، وردّ الثَّمن إنْ كان باقياً، وما أدان به السَّفيه نفسه لا يلحقه ذلك إذا صلحت حاله، فمَنْ عامل السَّفيه بعد حجر الحاكم عليه فهو المتلف لماله ضامن له، سواء عَلِمَ بالحَجْر عليه أو لم يعلم؛ لأنَّه مظنّة الشُّهرة (1) .
المبحث الثَّالث
حكم الحَجْر على السَّفيه الكبير
مثلما اختلف الفقهاء في الحَجْر على السَّفيه اختلفوا في الحَجْر على الكبير، فجمهور العلماء يرون الحَجْر على كلّ مضيِّع لماله صغيراً كان أو كبيراً (2) .
قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري": "والجمهور على جواز الحَجْر على الكبير، وخالف أبو حنيفة وبعض الظَّاهريّة، ووافق أبو يوسف ومحمد الجمهور" (3) .
__________
(1) انظر: مواهب الجليل، الحطَّاب، 5/64، والمغني، ابن قدامة، 6/248، والمقنع، المقدسيّ، ص 126، والمهذب للشِّيرازيّ، المطبوع مع شرحه، المجموع، للنَّوويّ، 13/35، وأحكام القرآن، الجصاص، 1/490.
(2) انظر: المغني، ابن قدامة، 6/226، والمنهاج، للنَّوويّ، المطبوع مع شرحه مغني المحتاج، الشَّربينيّ، 3/231، والجامع لأحكام القرآن، القرطبيّ، 3/1600، وبداية المجتهد، ابن رشد، 5/256.
(3) فتح الباري شرح صحيح البخاريّ، 5/68.(1/32)
وعمدة الجمهور في إيجاب الحَجْر على الكبير قالوا: إنَّ الحَجْر على الصَّغير إنَّما وجب لمعنى التَّبذير الذي يوجد فيهم غالباً، فوجب أنْ يبتدئ الحَجْر على مَنْ وجد فيه هذا المعنى، وإنْ لم يكن صغيراً، ولذلك اشترط في رفع الحَجْر عنهم مع ارتفاع الصِّغر إيناس الرُّشد، قال تعالى: [النِّساء: 6]، فدلَّ هذا على أنَّ السَّبب المقتضى للحَجْر هو السَّفه (1) .
كما استدلوا ـ أيضاً ـ بقضية عبد الله بن جعفر وابن الزّبير مع عليّ، حيث طَلَبَ عليٌّ من عثمان أنْ يحجر على عبد الله بن جعفر، فقال عثمان: كيف أحجر على رجل في بيع شريكه الزّبير؟ فقالوا: "إنَّ قول عثمان: كيف أحجر على رجل...، دليل على جواز الحَجْر على الكبير" (2) .
أمَّا أبو حنيفة فيرى خلاف ذلك، فهو يرى أنَّه لا يحجر على مَنْ بلغ عاقلاً إلاَّ أنْ يكون مفسداً لماله، فإذا كان كذلك مُنِعَ من تسليم المال إليه حتى يبلغ (25) سنة، فإذا بلغها سُلِّم إليه بكل حال سواء كان مفسداً أو غير مفسد؛ لأنَّه يُحبل منه لاثنتي عشرة سنة، ثم يُولد له لستة أشهر فيصير جداً (أبا) وأنا استحي أنْ أحجر على مَنْ يصلح أن يكون جداً (3) .
وعمدة أبي حنيفة ما ذُكِرَ من أنَّ رجلاً ذُكِرَ للرَّسول - صلى الله عليه وسلم - أنَّه يخدع في البيوع، فجعل له الرَّسول - صلى الله عليه وسلم - الخيار ثلاثاً، ولم يحجر عليه (4) .
والظَّاهر أنَّ الرَّاجح ما ذهب إليه جمهور العلماء، وهو جواز الحَجْر على السَّفيه الكبير؛ لأنَّ السَّبب المقتضي للحَجْر على الصَّغير هو السَّفه، فإذا وُجد في الكبير ثبت الحَجْر عليه.
__________
(1) بداية المجتهد، ابن رشد، 5/257.
(2) انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبيّ، 3/1600.
(3) انظر: بدائع الصَّنائع، الكاسانيّ، 6/175، والهداية، المرغينانيّ، 9/265، والجامع لأحكام القرآن، القرطبيّ، 3/1600.
(4) بداية المجتهد، ابن رشد، 5/257.(1/33)
المبحث الرَّابع: ثبوت الولاية على السَّفيه
يرى جمهور العلماء أنَّ الولاية على السَّفيه ثابتة، وأنَّه لا بُدَّ من ولي يقوم على مصالحه، بدليل قوله تعالى [البقرة: 282]، فالهاء في قوله:
عائدة على ولي السَّفيه، فأثبت الولاية على السَّفيه، وأجاز لولي السَّفيه الإملاء عنه، ولأنَّه مبذر لماله، فلا يجوز دفعه إليه، ولأنَّ الله تعالى جعل لكلّ واحد من المذكورين في الآية ولياً، فكان منهم السَّفيه (1) . قال الشَّافعيّ: "أثبت الله الولاية على: السَّفيه، والضَّعيف، والذي لا يستطيع أنْ يملّ هو، وأمر وليه بالإملاء عنه" (2) .
وخالف في ذلك أبو حنيفة وقال: لا ولاية على السَّفيه؛ لأنَّه إذا كان له ولي دلَّ أنَّه مولى عليه، فلا ينفد تصرُّفه كالصَّبيّ والمجنون، وقوله: [النِّساء: 5] نهي عن إعطاء الأموال السُّفهاء، وعنده يدفع إليه ماله إذا بلغ خمساً وعشرين سنة، وإنْ كان سفيهاً (3) .
والولاية على السَّفيه تكون للأب، فإنْ لم يكن الأب موجوداً انتقلت الولاية إلى الوصي؛ لأنَّه نائبه، فإنْ لم يكن هناك وصي انتقلت الولاية إلى الحاكم، فإنْ جُدِّد الحَجْر على السَّفيه بعد بلوغه لم ينظر في ماله إلاَّ الحاكم لا الولي ولا الوصي؛ لأنَّ الحَجْر يفتقر إلى حكم حاكم وزواله يفتقر إلى ذلك فكذلك النَّظر في ماله (4) .
__________
(1) انظر: المغني، ابن قدامة، 6/227، وأحكام القرآن، الجصاص، 1/487، وأحكام القرآن، ابن العربيّ، 1/332، وأحكام القرآن، للهراس، 6/173، والجامع لأحكام القرآن، القرطبيّ، 3/1600، ومغني المحتاج، الشَّربينيّ، 2/225.
(2) أحكام القرآن، للشَّافعيَ، 1/158.
(3) انظر: بدائع الصَّنائع، الكاسانيّ، 6/173.
(4) انظر: المغني، ابن قدامة، 6/249، والرّوض المربع، البهوتيّ، ص270.(1/34)
وقيل: "إنَّ القاضي إذا جدَّد الحَجْر عليه استحبّ أنْ يردّ أمره إلى الأب والجد؛ لأنَّهما ولياه في الصِّغر، فإنْ لم يكن، فسائر العصابات فإنَّهم أشفق" (1) . ويجوز لوصي الأب أنْ يشتري ويبيع على الذي لم يبلغ من السُّفهاء، ولا يجوز أنْ يبيع ويشتري على الذي بلغ إلاَّ بأمر الحاكم (2) .
الفصل الرَّابع
أحكام تتعلّق بإقرار السَّفيه وتصرُّفاته
المبحث الأوَّل: أحكام تتعلّق بإقرار السَّفيه
المطلب الأوَّل: حكم إقراره بدَيْن
اختلف الفقهاء في حكم السَّفيه إذا أقرَّ بمال كالدَّيْن، أو بما يوجبه كجناية الخطأ وشبه العمد، وإتلاف المال وغصبه وسرقته، أو معاملة أسند وجوبها إلى ما قبل الحَجْر أو بعده، فيرى أكثر الفقهاء أنَّه لا يقبل إقراره؛ لأنَّه محجور عليه لحظة إقراره، فلم يصح إقراره بالمال كالصَّبيّ والمجنون؛ ولأنَّا لو قبلنا إقراره في ماله لزالت فائدة الحَجْر؛ لأنَّه يتصرُّف في ماله ثم يقرّ به فيأخذه المقر له، ولأنَّه أقرَّ بما هو ممنوع من التَّصرُّف فيه فلم ينفذ، كإقرار الرَّاهن على الرَّهن، والمفلس على المال (3) .
ويرى أبو حنيفة أنَّ السَّفيه إذا أقرَّ بدَيْن أو غيره لزمه الإقرار ما دام قد بلغ خمساً وعشرين سنة، وحُجَّته في ذلك عموميات الأدلة الدَّالة على الإقرار منها: قوله تعالى: [النِّساء: 135]، فوجه الشَّاهد: أنَّ الآية عامّة وشهادة الإنسان على نفسه إقرار (4) .
__________
(1) انظر: مغني المحتاج، الشَّربينيّ، 2/232.
(2) انظر: أحكام القرآن، الجصاص، 1/490.
(3) انظر: مواهب الجليل، الحطَّاب، 5/62، والمغني، ابن قدامة، 6/254، وأحكام القرآن، ابن العربيّ، 1/421، ص269، وانظر: مغني المحتاج، الشَّربينيّ، 2/234، وحاشية ابن عابدين، 9/178.
(4) انظر: بدائع الصَّنائع، الكاسانيّ، 6/173-174، والهداية المرغيناني، 9/265، والجامع لأحكام القرآن، القرطبيّ، 3/1600.(1/35)
ويرى بعض فقهاء الحنابلة والشَّافعيّة، أنَّه يلزمه ما أقرّ به بعد فكّ الحَجْر عنه (1) .
بينما يرى بعض فقهاء المالكيّة وبعض فقهاء الحنفيّة أنَّه يؤخذ بإقراره بالثُّلث إنْ كان ذلك في مرضه (2) .
ولعل الرَّاجح في ذلك أنَّه لا يقبل إقرار السَّفيه بدَيْن ولا يلزمه بعد فك الحَجْر عليه؛ لأنَّ المنع من نفوذ إقراره في الحال إنَّما ثبت لحفظ ماله عليه، ودفع الضَّرر عنه، فلو نفذ بعد فك الحَجْر لم يفد إلاَّ تأخير الضَّرر عليه إلى أكمل حالتيه؛ ولأنَّ الحَجْر على السَّفيه لحظ نفسه من أجل ضعف عقله وسوء تصرُّفه، ولا يندفع الضَّرر إلاَّ بإبطال إقراره بالكُليّة كالصَّبيّ والمجنون، وأمَّا صحته فيما بينه وبين الله تعالى؛ فإنَّ عَلِمَ صحة ما أقرَّ به كدَيْن لزمه من جناية أو دَيْن لزمه قبل الحَجْر عليه فعليه أداؤه؛ لأنَّه عَلِمَ أنَّ عليه حقّاً فلزمه أداؤه كما لم يقرّ به، وإنْ عَلِمَ فساد إقراره مثل: أنْ عَلِمَ أنَّه أقرّ بدَيْن ولا دَيْن عليه، أو بجناية لم توجد منه، أو أقرّ بمال لا يلزمه، مثل: أنْ أتلف مال مَنْ دفعه بقرض أو بيع لم يلزمه أداؤه؛ لأنَّه يعلم أنَّه لا دَيْن عليه، فلم يلزمه شيء كما لو لم يقرّ به (3) .
المطلب الثَّاني: حكم إقراره بما يوجب حداً أو قصاصاً
__________
(1) انظر: المغني، ابن قدامة، 6/254، ومغني المحتاج، الشَّربينيّ، 2/234.
(2) انظر: مواهب الجليل، الحطَّاب، 5/62، والهداية، المرغينانيّ، 9/269.
(3) انظر: المغني، ابن قدامة، 6/254.(1/36)
إذا أقرَّ المحجور عليه لسفه بما يوجب حداً أو قصاصاً كالزِّنا، والسَّرقة، وشرب المسكر، والقذف، والقتل العمد، أو قطع اليد وما أشبهها؛ فإنَّ ذلك مقبول ويلزمه حكم ذلك في الحال (1) .
قال ابن المنذر: "أجمع كلّ مَنْ نحفظ عنه من أهل العلم على أنَّ إقرار المحجور عليه للسَّفه على نفسه جائز إذا كان إقراره بزنا أو سرقة أو شرب خمر أو قذف أو قتل، وأنَّ الحدود تقام عليه، وهذا قول الشَّافعيّ، وأبي ثور، وأصحاب الرَّأْي، ولا أحفظ عن غيرهم خلافاً؛ وذلك لأنَّه غير متهم في حقّ نفسه، والحَجْر إنَّما تعلّق بماله فقُبل إقراره على نفسه بما لا يتعلّق بمال" (2) .
وإذا أقرَّ بما يوجب القصاص فعفا مستحقّ القصاص بعد إقراره على مال ثبت؛ لأنَّه تعلّق باختيار غيره لا بإقراره، فصحَّ كما لو ثبت بالبينة، وقيل: لا يصح؛ لئلا يتخذ ذلك وسيلة إلى الإقرار بالمال، بأنْ يتواطأ المحجور عليه والمقر له على الإقرار بالقصاص والعفو عنه على مال؛ ولأنَّه وجوب مال مستنده إقراره فلم يثبت كالإقرار به ابتداءً، فعلى هذا القول يسقط وجوب القصاص في المال في الحال (3) .
المبحث الثَّاني: أحكام تتعلّق بتصرُّفات السَّفيه
المطلب الأوَّل: حكم بيع وشراء السَّفيه بدون إذن وليه
__________
(1) انظر: المنهاج، للنَّوويّ، وشرحه مغني المحتاج، الشَّربينيّ، 2/234، ومواهب الجليل، الحطَّاب، 5/61، والمغني، ابن قدامة، 6/249، وبدائع الصَّنائع، الكاسانيّ، 6/176، وتكملة فتح القدير، ابن قودر، 9/265.
(2) انظر: المغني، ابن قدامة، 6/250.
(3) انظر: المغني، ابن قدامة، 6/250، مغني المحتاج، الشَّربينيّ، 2/234.(1/37)
يرى جمهور الفقهاء أنَّ بيع وشراء السَّفيه المحجور عليه بغير إذن وليه غير صحيح (1) . وخالف في ذلك أبو حنيفة، حيث يرى أنَّ بيع السَّفيه نافذ؛ لأنَّه بيع عن تراض فيجوز، كما يرى أنَّه إذا حَجَرَ عليه القاضي ثُمَّ أقر بدَيْن أو تصرُّف في ماله ببيع أو هبة أو غيرهما أجاز تصرُّفه (2) .
أمَّا إذا باع بإذن وليه فهل يصح تصرُّفه أم لا؟
الفقهاء في هذا على قولين:
القول الأوَّل: قيل: يصح؛ لأنَّه عقد معاوضة، فملكه بالإذن كالنِّكاح، ولأنَّه عاقل محجور عليه، فصحَّ تصرُّفه بالإذن فيه كالصَّبيّ، وتعليل ذلك أنَّ الحَجْر على الصَّبيّ أعلى من الحَجْر على السَّفيه، فيصحّ تصرُّفه بالإذن، فهاهنا أوْلَى؛ ولأننا لو منعنا تصرُّفه بالإذن لم يكن هناك طريقة لمعرفة رشده واختباره. وهذا قول أكثر الفقهاء.
القول الثَّاني: لا يصح؛ لأنَّ الحَجْر عليه لتبذيره وسوء تصرُّفه، فإذا أَذِنَ الولي فقد أَذِنَ فيما لا مصلحة فيه، فلم يصح كما لو أَذِنَ في بيع يساوي عشرة بخمسة، وهذا قول في المذهب الحنبليّ والشَّافعيّ، وبه قال بعض فقهاء المالكيّة (3) .
المطلب الثَّاني: حكم زواجه
اختلف الفقهاء في حكم زواج السَّفيه هل يصح أم لا ؟
__________
(1) انظر: المغني، ابن قدامة، 6/248، والمنهاج، للنَّوويّ، مغني المحتاج، الشَّربينيّ، 2/233، وأحكام القرآن، ابن العربيّ، 1/421، بدائع الصَّنائع، الكاسانيّ، 6/176، والهداية، المرغينانيّ، 9/269.
(2) انظر: بدائع الصَّنائع، الكاسانيّ، 6/173، والهداية، المرغينانيّ، 9/265، والجامع لأحكام القرآن، القرطبيّ، 3/1600.
(3) انظر: مواهب الجليل، الحطَّاب، 5/61-62، والمغني، ابن قدامة، 6/263، وأحكام القرآن، ابن العربيّ، 1/421، بدائع الصَّنائع، الكاسانيّ، 6/176، والهداية، المرغينانيّ، 9/269، ومغني المحتاج، الشَّربينيّ، 2/232.(1/38)
[1] فيرى فقهاء الحنابلة أنَّه إذا تزوجّ صحَّ النِّكاح بإذن وليه وبغير إذن وليه، وهذا قول أبي حنيفة، ووجه هذا الرَّأْي أنَّ الزَّواج عقد غير مالي، فصحَّ منه كخلعه وطلاقه، وإنْ لزم منه المال فحصوله بطريق الضَّمن فلا يمنع من العقد، كما لو لزم ذلك من الطَّلاق (1) .
[2] ويرى فقهاء الشَّافعيّة أنَّه لا يصح إذا كان بدون إذن وليه؛ لأنَّه تصرُّف يجب به مال، فلم يصح بغير إذن وليه كالشِّراء، ويصح بإذن وليه؛ لأنَّه مكلَّف صحيح العبارة، وإنَّما حُجِرَ عليه حفظاً لماله، وقد زال المنع بالإذن (2) .
المطلب الثَّالث: حكم طلاقه وخلعه
يرى أكثر أهل العلم أنَّ طلاقه نافذ؛ لأنَّ الطَّلاق ليس بتصرُّف في المال، ولا يجري مجراه، فلا يمنع منه كالإقرار بالحد والقصاص، والدَّليل على أنَّه لا يجري مجراه؛ أنَّه يصح من العبد بغير إذن سيده مع منعه من التَّصرُّف في المال، ولا يملك بالميراث؛ ولأنَّه مكلَّف طلَّق امرأته مختاراً فوقع طلاقه كالعبد والمُكَاتب.
وقال ابن أبي ليلى: "لا يقع طلاقه؛ لأنَّ البضع يجري مجرى المال، بدليل أنَّه يملكه بمال، ويصح أنْ يزول ملكه عنه بمال، فلم يملك التَّصرُّف فيه كالمال" (3) .
__________
(1) انظر: المغني، ابن قدامة، 6/251، وبدائع الصَّنائع، الكاسانيّ، 6/176، والهداية، المرغينانيّ، 9/272.
(2) انظر: المهذب، الشِّيرازيّ، المطبوع مع شرحه المجموع، 13/36، ومغني المحتاج، الشَّربينيّ، 2/232.
(3) انظر: مواهب الجليل، الحطَّاب، 5/61، والمغني، ابن قدامة، 6/250، بدائع الصَّنائع، الكاسانيّ، 6/176، والهداية، المرغينانيّ، 9/272، المهذب، الشِّيرازيّ، المطبوع مع شرحه المجموع، 13/36.(1/39)
أمَّا خلع السَّفيه فإنْ خالع صحَّ خلعه؛ لأنَّه إذا صحَّ طلاقه الذي لا يحصل منه على شيء؛ فالخلع الذي يحصل به على مال أوْلَى، إلاَّ أنَّ العِوَض لا يدفع إليه، وإنْ دُفِعَ إليه لم يصح قبضه، وإنْ أتلفه لم يضمنه، ولم تبرأ المرأة بدفعه إليه، وهو من ضمانها إنْ أتلفه أو تلف في يده؛ لأنَّها سلَّطته على إتلافه (1) .
الخاتمة:
ومن هذا البحث يمكن الخروج بالنَّتائج والتَّوصيات التَّالية :
[1] أنَّ الشَّريعة الإسلاميّة تتميَّز بالشمول، والكمال فقد شملت تشريعاتها وأحكامها جميع الأفراد والفئات، ومنهم: "السُّفهاء".
[2] ورد لفظ "السَّفيه" ومشتقاته في القرآن الكريم في عدد من الآيات القرآنيّة، منها ما أُريد به السَّفه في الدِّين، ومنها ما أريد به السَّفه في الدُّنيا، وكلا الأمرين يرجعان إلى أصل واحد، وهو: الخفة والجهل بمواضع التَّصرُّف، فالسَّفه في الدِّين، والسَّفه في الدُّنيا، هو الجهل والخفة، ومعنى "الجهل" شامل لجميع مَنْ أُطلق عليه اسم "السَّفيه".
[3] الرَّاجح من أقوال العلماء في أنَّ المراد بالسَّفيه في قوله تعالى ، وقوله تعالى هو الجاهل الضَّعيف الذي لا رَأْي له، ولا يحسن التَّصرُّف في الأخذ والعطاء، المبذر لماله، المفسد لدينه، المستحقّ للحَجْر عليه، صغيراً كان أم كبيراً، ذكراً كان أم أنثى.
[4] للعلماء في المراد بـ "الأموال" في قوله تعالى قولان:
الأوَّل: أنَّ المراد بها أموال السُّفهاء وإنَّما أضيفت إلى الأولياء؛ لأنَّهم قُوَّامها ومدبِّروها، أو لأنَّها في أيديهم وهم النَّاظرون فيها، وقيل: أُضيفت إليهم لأنَّها من جنس أموالهم، فإنَّ الأموال مشتركة بين الخلق في الأصل.
__________
(1) المراجع السَّابقة الأجزاء والصفحات نفسها.(1/40)
الثَّاني: أنَّ المراد بها أموال الأولياء حقيقة، وأنَّ المراد من النَّهيّ نهي الرجل أو المكلَّف أنْ يؤتي ماله سفهاء أولاده ونسائه، فيُضيِّعونها فيرجع عالة عليهم، لذلك نهاهم عن ذلك لِمَا فيه من الإفساد.
ولعلَّ الجمع بين القولين أوْلَى، فيكون المراد بالأموال أموال الفريقين "السُّفهاء" و"الأولياء"؛ لأنَّ إفساد المال يرجع بالنَّقص على الجميع.
[5] يستفاد من قوله تعالى: أي أنَّ الله تعالى جعل قوام حياتنا ومعاشنا في المال، ففيه صلاح لديننا ودنيانا.
[6] المستفاد من قوله تعالى: فقه التَّعامل مع السُّفهاء ماديّاً، فإنْ كان المراد بالأموال في قوله أموال السُّفهاء؛ يكون الأمر للأولياء بالإنفاق عليهم وكسوتهم من أرباح أموالهم لا من أصولها؛ لأنَّ المطلوب من الأولياء أنْ يتّجروا فيها حتَّى يربحوا وينفقوا عليهم من أرباحها؛ لأنَّ الإنفاق عليهم من أصولها يعرِّضها للنَّفاد والانتهاء.
أمَّا إنْ كان المراد بالأموال أموال الأولياء؛ فإنَّ في الآية دليلاً على وجوب النَّفقة على الأولاد السُّفهاء والزَّوجات، لأمره تعالى إيَّانا بالإنفاق عليهم من أموالنا.
[7] والمستفاد من قوله فقه التَّعامل المعنويّ مع السُّفهاء ومع كلّ مَنْ نعولهم ماديّاً؛ لأنَّ الإحسان الماديّ المصحوب بخشونة التَّعامل القوليّ والمعنويّ، لا يؤدي مقصوده الشَّرعيّ. وعليه فإنَّ المراد بقوله
هو كلّ ما يصدق عليه مُسمَّى "القول الجميل"، فهو يشمل كل معروف سكنت إليه النَّفس وأحَبَّته لحُسْنِهِ وجماله.
[8] من الأحكام المتعلّقة بالسَّفيه الحَجْر عليه، وهو ثابت عند جمهور العلماء، والمراد بالحَجْر في اللُّغة: المنع، وهو يوافق المعنى الشَّرعيّ له، الذي هو: منع الإنسان من التَّصرُّف في ماله. والحَجْر ثابت على السَّفيه، على قول جمهور العلماء.(1/41)
[9] يرى جمهور العلماء أنَّ ثبوت الحَجْر على السَّفيه لا يكون إلاَّ بحكم الحاكم، وكذلك لا يزول الحَجْر عنه إلاَّ به.
[10] يستحب إشهار الحَجْر على السَّفيه بالإشهاد، أو بالنَّشر في الصُّحف ليظهر أمره، فيجتنب النَّاس معاملته في البيع والشِّراء.
[11] إذا حَجَرَ الحاكم على السَّفيه فباع واشترى كان ذلك فاسداً، واسترجع الحاكم ما باع واشترى، وردّ الثمن إنْ كان باقياً؛ لأنَّ مَنْ عامَلَ السَّفيه بعد الحَجْر عليه فهو المُتلِف لماله الضَّامنُ له.
[12] يثبت الحَجْر على الكبير عند جمهور العلماء كما يثبت على الصَّغير؛ لأنَّ السبب المقتضي للحجر على الصَّغير هو السَّفه، فإذا وُجد في الكبير ثبت الحَجْر عليه.
[13] كما يثبت الحَجْر على السَّفيه؛ تثبت الولاية عليه، بدليل قوله تعالى: [ البقرة: 282]؛ لأنَّ الله جعل لكل واحد من المذكورين في الآية وليّاً، فكان منهم السَّفيه.
[14] يرى أكثر الفقهاء أنَّه لا يقبل الإقرار من السَّفيه المحجور عليه بمال كالدَّيْن، أو بما يوجب المال كجناية الخطأ وشبه العمد، وأنَّه يقبل إقراره بما يوجب حداً أو قصاصاً كالزِّنا، والسَّرقة، وشرب المسكر، والقذف، والقتل، وغير ذلك.
[15] مذهب جمهور العلماء أنَّ بيع وشراء السَّفيه المحجور عليه بغير إذن وليه غير صحيح، واختلفوا في حكم بيعه بإذن وليه إلى قولين: أحدهما: أنَّه يصح، والثَّاني: لا يصح.
التَّوصيات والمقترحات:
[1] على الأولياء الاهتمام بهذه الشَّريحة "السُّفهاء"، وذلك بحسن التَّعامل معهم ماديّاً ومعنويّاً، قولاً وفعلاً.
[2] على الأولياء العمل على صيانة حقوق السُّفهاء الماليّة، والسَّعي لتنميتها؛ وذلك بالاتّجار بها، وألاَّ يتركوها جامدة دون السَّعي إلى تنميتها حتَّى لا تتعرَّض للنَّفاد والانتهاء.
[3] على الأولياء منع السُّفهاء من التَّصرُّفات التي تكون سبباً لإهدار أموالهم وممتلكاتهم.(1/42)
[4] على الأولياء النَّفقة على السُّفهاء وكسوتهم، سواء كان ذلك من أموال السُّفهاء إنْ كانت لهم أموال، أو من أموال الأولياء إنْ كانوا بدون مال، عملاً بقوله تعالى: [النِّساء: 5].
[5] يجب أنْ يصاحب الإحسان الماديّ إلى السُّفهاء الإحسان المعنويّ، فكلّ منهما يكمل الآخر، ولا يستقيم الإحسان الماديّ ويؤدي دوره إلاَّ بالإحسان المعنويّ، المتمثِّل في القول الجميل، والمعاملة الحسنة بالمعروف.
[6] على الحُكَّام، والعلماء، والمرشدين، نشر الوعي بين أفراد المجتمع بضرورة الاهتمام بهذه الشَّريحة من النَّاس، وفقه التَّعامل معهم ماديّاً ومعنويّاً وعدم احتقارهم وازدرائهم.
[7] على الجهات المختصة العمل على فتح المرافق والمصحات الإرشاديّة والتَّوعويّة، لمساعدة مثل هذا الصِّنف في المجتمع؛ لتوعيتهم بدورهم في الحياة، وكيفية الحفاظ على أموالهم وممتلكاتهم، وعدم تبذيرها والإسراف فيها.
[8] على الجهات المعنية استخدام أسلوب الحزم ( الحَجْر) في حقّ كل مَنْ لا يحسن التَّصرُّف في ماله وممتلكاته، صغيراً كان أم كبيراً، ذكراً كان أم أنثى.
[9] على كل مَنْ وَلِيَ أمر السُّفهاء إعطاؤهم حقوقهم كاملة بعد زوال السَّفه منهم، ببلوغهم مرحلة الرُّشد، وحسن التَّصرُّف في أموالهم وممتلكاتهم.(1/43)