بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فهذه صفحات حول ظاهرة تحتاج إلى بسط، وإلقاء ضوء، وعلاج.
تلكم هي ظاهرة (فقر المشاعر).
هذه الظاهرة التي عمت، وكثرت الشكوى منها، وصارت من ضمن ما يبحث فيه المصلحون، ويسعون إلى علاجه.
فهذا ما استثار الهمة، وأخذ برأس القلم يجره إلى الكتابة في هذا الباب.
والحديث عنها سيبدأ بتوطئة ومدخل، ثم يتناول الحديث مظاهر هذه الظاهرة، ثم يكون الحديث عن الأسباب التي ترتقي بالمشاعر، وتنهض بها.
والله المستعان وعليه التكلان، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
محمد بن إبراهيم الحمد
20/1/1426هـ
الزلفي 11932ص ب: 460
www.Toislam.Net
Alhamad@Toislam.Net
الإنسان مركب من جسد وروح ومشاعر، فليس جماداً أصم، وليست حاجته قاصرة على الطعام والشراب فحسب، بل هو محتاج _ مع ذلك _ إلى غذاء عقله، وروحه، ومشاعره، وتفصيل ذلك يطول، وليس هذا مجال بسطه.
وحسب الحديث ههنا أن يدور حول المشاعر، وحاجة الإنسان إليها؛ فالذي يلاحظ في حياتنا اليومية أننا نعاني من فقر المشاعر الإنسانية الصادقة المعتدلة؛ فتجد من الناس من هو جافٍ لا تكاد تحظى منه بكلمة شكر، أو ابتسامة محب، أو دعوة مخلص.
ومنهم من هو متملق محتال يزجي المديح بلا كيل لمن يستحق ولمن لا يستحق؛ إما رغبة أو رهبة أو لأجلهما جميعا؛ فإذا انقضت مصلحته قَلَبَ ظهرَ المِجَنِّ، وعرَّى أفراسَ الصبا ورواحلَه.
أما من يقابل الناس بالبشر، ويصافحهم براحة كريمة، ويثني عليهم إذا هم أجادوا، ويردهم إلى الصواب برفق إذا هم أخطأوا، ويسدي إليهم المعروف إذا هم احتاجوا دون أن يكون خائفاً منهم أو راجياً لهم _ فذلك قليل في الناس، غريب بينهم.
ومن كان كذلك أحدقت إليه الضمائر الحرة، وأولته وداً وانعطافاً؛ وأساغت عشرته، وأصاخت السمع لما يقوله.(1/1)
ولكن هذا الصنف _ مع الأسف _ قليل؛ لأن المصالح الخاصة قد طغت، فصارت المعاملة إلى النفعية أقرب منها إلى المروءة والإنسانية.
ولا ريب أننا بحاجة ماسة إلى كمية كبيرة من المشاعر الصادقة؛ حتى نحفظ الود فيما بيننا، ونبعد عن شبح الأوهام التي تعترينا، ولأجل أن تكون حياتنا مليئة بالمسرات، بعيدة عن المكدرات والمنغصات.
وإن المتأمل في حياتنا ليرى عجباً؛ فلغة المشاعر التي تضفي علينا الدفء في قَرِّ الشتاء، وتهب علينا بالنسيم العليل في حر الهجير _ تكاد تنقرض عند فئام من الناس في هذه الأزمان.
كيف يكون ذلك؛ ونحن نتفيأ ظلال دين عظيم يرعى هذا الجانب حق رعايته، ويحذِّر من أن تتضاءل تلك العواطف النبيلة، فيضيع بسبب ذلك من حقائق الشريعة، وعزة أهلها ما يضيع؟!
ومن هنا جاء الإسلام بما يربي تلك المعاني، ويحييها في النفوس؛ فنصوص الوحيين _ التي لم تغادر صغيرة ولا كبيرة إلا وأحاطت بها إجمالاً أو تفصيلاً _ مليئة بتقرير تلك المعاني السامية التي تنهض بالمشاعر، وتقضي على روح الأثرة والقسوة، والغلظة والكزازة .
فلو أجلت فكرك في حِكَم الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج _ وهي أعظم دعائم الإسلام بعد الشهادتين _ لوجدت أن من أعظمِ حكمِ تشريعها مراعاةَ المشاعر، وقيامَ روح الألفة والمودة بين المسلمين.
ولو ألقيت نظرة فيما يقرره الشارع من أوامرَ ونواهٍ وما جرى مجرى ذلك لرأيت ذلك رأي العين.
ألا ترى أن الشارع يقرر ألا ننسى الفضل بيننا, وأن أحدنا لا يؤمن حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه، وأن المسلم أخو المسلم لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يسلمه، ولا يحقره؟
أليس الشارع يأمرنا بستر عورات المسلمين, والسعي في قضاء الحوائج, وتنفيس الكر بات, وعيادة المرضى, وتشييع الجنائز؟.
أليس يأمر بإفشاء السلام, والرحمة بالخلق, والعطف عليهم, وحسن رعايتهم, ومداراتهم, والصبر على أذاهم.(1/2)
أليس يأمر ببر الوالدين, وصلة الأرحام, وإكرام الجار, والوفاء للأصحاب, وحسن المعاملة للزوج والأولاد.
أليس يأمر بالأمانة وإنجاز الوعد, وحسن الظن, إلى غير ذلك من الأوامر التي ليس بعدها أمل لآمل, ولا زيادة لمستزيد.
وفي مقابل ذلك, فهو ينهى عن أمور كثيرة من شأنها أن توهي حبال المودة بين المسلمين, أو تنقض عراها؛ فتراه ينهى عن العقوق, والقطيعة, وأذية الجار, والكبر, والحسد, والغل, والحقد, والبخل, والفظاظة, والوقاحة, والعناد, والغيبة, والنميمة, والسب, واللعن, وإفشاء السر, والسخرية بالناس, والتعبير بالعبارات المستقبحة, والتخاطب بالألقاب السيئة.
وينهى _ كذلك _ عن كثرة الجدال والخصومة، وعن المزاح البذيء، وعن الكلام فيما لا يعني، وعن الخيانة, والمكر، وإخلاف الوعد, والتحسس والتجسس, وتتبع العورات, والتهاجر, والتشاحن, والتدابر وما إلى ذلك.
وتفصيلُ ما مضى، وذكرُ أدلته يحتاج إلى مجلدات ضخام, والمقام لا يسمح بذلك.
ومع ذلك كله فإن الناظر في أحوال إخوانه المسلمين يعتريه الأسى واللوعة؛ لما حل بهم من الشنآن, والقطيعة, والتهاجر, وجفاف المشاعر, وجفاء الطباع.
وهذا الأمر يشيع بين المسلمين، ويأخذ صوراً شتى، وفيما يلي تفصيل لبعض المظاهر، وذلك على النحو التالي:
أولاً: فقر المشاعر بين الوالدين والأولاد.
ثانياً: فقر المشاعر في الحياة الزوجية.
ثالثاً: فقر المشاعر بين الزوجة ووالدي زوجها.
رابعاً: فقر المشاعر بين الجيران.
خامساً: فقر المشاعر بين الطلاب والمعلمين.
سادساً: مظاهر أخرى لفقر المشاعر.
فإلى ذلك التفصيل في هذه المظاهر.
من مظاهر فقر المشاعر
أولاً: فقر المشاعر بين الوالدين والأولاد.
ثانياً: فقر المشاعر في الحياة الزوجية.
ثالثاً: فقر المشاعر بين الزوجة ووالدي زوجها.
رابعاً: فقر المشاعر بين الجيران.
خامساً: فقر المشاعر بين الطلاب والمعلمين.
سادساً: مظاهر أخرى لفقر المشاعر.(1/3)
فتجد من الأولاد من لا يرعى حق والديه, ولا يراعي مشاعرهما؛ فتراه لا يأنف من إبكائهما, وتحزينهما, ونهرهما, والتأفف والتضجر من أوامرهما, والعبوس وتقطيب الجبين أمامهما؛ فمن الناس من تجده في المجالس هاشاً باشاً حسن المعشر ليِّن العريكة؛ فإذا دخل المنزل, وجلس إلى والديه انقلب ليثاً هصوراً لا يلوي على شيء؛ حيث تتبدل حاله, فتذهب وداعته, وتحل غلظته وفظاظته.
ومن الأولاد من لا ينظر إلى والديه إلى شزراً, قال معاوية بن إسحاق عن عروة بن الزبير _ رحمهم الله ورضي عنهم _: =ما بَرَّ والدَه مَنْ شَدَّ الطرفَ إليه+(1) .
ومن قلة المراعاة لمشاعر الوالدين قلة الاعتداد برأيهما, والإشاحة بالوجه عنهما إذا تحدثا, وإثارة المشكلات أمامهما, وذمهما عند الناس، والقدح فيهما، والتبرؤ منهما، والحياء من الانتساب إليهما.
كل ذلك داخل في العقوق وقلة الرعاية لمشاعر الوالدين, وكأن هؤلاء لم يقرؤوا قوله _ تعالى _: [وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً (24)]الإسراء.
ولم يسمعوا قول النبي ": =الكبائر الإشراك بالله وعقوق الوالدين, وقتل النفس, واليمين الغموس+(2).
فحري بالولد أن يسعى سعيه في بر والديه؛ فيحسن إليهما, ويخفض الجناح لهما, ويصغي إلى حديثهما, ويتودد لهما بكل ما يستطيع من بر وصله, ويتجنب كل ما يفضي إلى العقوق والتكدير(3).
__________
(1) سير أعلام النبلاء للذهبي 4/433.
(2) رواه البخاري(6675).
(3) انظر تفصيل ذلك في كتاب عقوق الوالدين, وكتاب رسائل في التربية والأخلاق والسلوك للكاتب ص15_57.(1/4)
وليكن له في سلفنا الصالح قدوةٌ؛ فلقد ضربوا أروع الأمثلة في البر، ومراعاة مشاعر الوالدين، وإليك طرفاً من ذلك:
عن أبي مُرَّة مولى أم هانئ بنت أبي طالب: =أنه ركب مع أبي هريرة إلى أرضه بـ: العقيق، فإذا دخل أرضه صاح بأعلى صوته:
عليك السلام ورحمة الله وبركاته يا أماه.
تقول: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته.
يقول: رحمك الله كما ربيتني صغيرًا.
فتقول: =يا بني ! وأنت فجزاك الله خيرًا ورضي عنك كما بررتني كبيرًا (1)+.
وهذا ابن عمر _ رضي الله عنهما _ لقيه رجل من الأعراب بطريق مكة، فسلم عليه عبد الله بن عمر، وحمله على حمار كان يركبه، وأعطاه عمامة كانت على رأسه.
قال ابن دينار: فقلنا له: أصلحك الله إنهم الأعراب، وهم يرضون باليسير.
فقال عبد الله بن عمر:إن أبا هذا كان وُداً لعمر بن الخطاب ÷ وإني سمعت رسول الله " يقول: =إن أبرَّ البر صلةُ الولدِ أهلَ ودِّ أبيه+ (2).
وعن أم المؤمنين عائشة _ رضي الله عنها _ قالت: قال رسول الله ": =دخلت الجنة فسمعت فيها قراءة، فقلت: من هذا؟ قالوا: حارثة بن النعمان، كذلكم البر، كذلكم البر، وكان أبر الناس بأمه+ (3).
وعن أبي عبد الرحمن الحنفي قال: رأى كهمس بنُ الحسن عقرباً في البيت فأراد أن يقتلها، أو يأخذها، فسبقته، فدخلت في جحر، فأدخل يده في الجحر؛ ليأخذها، فجعلت تضر به، فقيل له ما أردت إلى هذا؟
قال: خفت أن تخرج من الجحر، فتجيء إلى أمي، فتلدغَها(4).
__________
(1) رواه البخاري في الأدب المفرد (14)، وقال الألباني في صحيح الأدب المفرد: =حسن الإسناد+.
(2) رواه مسلم (2552)، وأبو داوود (5143).
(3) رواه الإمام احمد 6/151، وعبد الرزاق في المصنف (20119)، والبغوي في شرح السنة 13/7، وصححه الحاكم 3/208، ووافقه الذهبي.
(4) حلية الأولياء 6/211 و انظر سير أعلام النبلاء 6/317.(1/5)
وهذا أبو الحسن بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ÷وهو المسمى بزين العابدين، وكان من سادات التابعين _ كان كثير البر بأمه، حتى قيل له: =إنك من أبر الناس بأمك، ولا نراك تؤاكل أمك، فقال:أخاف أن تسير يدي إلى ما قد سبقت عينها إليه؛ فأكون قد عققتها(1)+ .
وقال هشام بن حسان: =حدثتني حفصة بنت سيرين، قالت:كانت والدة محمد بن سيرين حجازية، وكان يعجبها الصِّبغ، وكان محمد إذا اشترى لها ثوباً اشترى ألين ما يجد، فإذا كان عيد صبغ لها ثياباً، وما رأيته رافعاً صوته عليها، كان إذا كلمها كالمصغي+ (2).
وعن بعض آل سيرين قال: =ما رأيت محمد بن سيرين يكلِّم أمَّه قط إلا وهو يتضرع.
وعن ابن عون أن محمداً كان إذا كان عند أمه لو رآه رجل ظن أن به مرضاً من خفض كلامه عندها+ (3).
وعن ابن عون قال: =دخل رجل على محمد بن سيرين وهو عند أمه فقال: ما شأن محمد؟ أيشتكي شيئاً ؟ قالوا: لا؛ ولكن هكذا يكون عند أمه+ (4).
=روى جعفر بن سليمان عن محمد بن المنكدر: أنه كان يضع خدَّه على الأرض، ثم يقول لأمِّه: قومي ضعي قدمك على خدي+ (5).
وعن ابن عون المزني: =أن أمه نادته، فأجابها، فعلا صوتُه صوتَها؛ فأعتق رقبتين+(6).
وقيل لعمر بن ذر: =كيف كان برُّ ابنك بك ؟ قال: ما مشيت نهاراً قط إلا مشى خلفي، ولا ليلاً إلا مشى أمامي، ولا رقى سطحاً وأنا تحته+ (7).
وحضر صالح العباسي مجلس المنصور، وكان يحدثه، ويكثر من قوله: =أبي×+ فقال له الربيع: لا تكثر الترحم على أبيك بحضرة أمير المؤمنين، فقال له: لا ألومك؛ فإنك لم تذق حلاوة الآباء.
__________
(1) عيون الأخبار، 3/97.
(2) سير أعلام النبلاء 4/619.
(3) المحاسن والمساوئ، لإبراهيم البيهقي ص 614، وحلية الأولياء، لأبي نعيم 2/273.
(4) سير أعلام النبلاء 6/128.
(5) سير أعلام النبلاء 4/620.
(6) سير أعلام النبلاء 6/366.
(7) عيون الأخبار 3/97.(1/6)
فتبسم المنصور، وقال: هذا جزاء من تعرض لبني هاشم(1).
ومن البارين بوالديهم بُندار المحدث، قال عنه الذهبي: =جمع حديث البصرة، ولم يرحل؛ براً بأمه+ (2).
قال عبد الله بن جعفر بن خاقان المروزي: =سمعت بنداراً يقول: أردت الخروج _ يعني الرحلة لطلب العلم _ فمنعتني أمي، فأطعتها، فبورك لي فيه+(3).
وقال الأصمعي: حدثني رجل من الأعراب قال: خرجت أطلب أعق الناس وأبر الناس، فكنت أطوف بالأحياء، حتى انتهيت إلى شيخ في عنقه حبلٌ يستقي بدلو لا تطيقه الإبل في الهاجرة والحر الشديد، وخلفه شابٌ في يده رشاءٌ _حبل_ من قدٍّ(4)ملويٍّ يَضْرِبُه بِهِ، وقد شقَّ ظهره بذلك الحبل، فقلت: أما تتقي الله في هذا الشيخ الضعيف؟ أما يكفيه ما هو فيه من مد هذا الحبل حتى تضربه؟
قال: إنه مع هذا أبي، قلت: فلا جزاك الله خيراً.
قال: اسكت فهكذا كان هو يصنع بأبيه، وكذا كان أبوه يصنع بجده، فقلت: هذا أعق الناس.
ثم جُلْتُ حتى انتهيت إلى شاب وفي عنقه زبيل فيه شيخ كأنه فرخ، فكان يضعه بين يديه في كل ساعة، فيزقه كما يُزَقُّ الفرخ، فقلت: ما هذا ؟ قال: أبي وقد خرف، وأنا أكفله، قلت: هذا أبر العرب(5).
وكان طلق بن حبيب من العباد والعلماء، وكان يقبل رأس أمه، وكان لا يمشي فوق ظهر بيت وهي تحته؛ إجلالاً لها(6).
وقال عامر بن عبد الله بن الزبير: =مات أبي+ فما سألت الله حولاً كاملاً إلا العفو عنه+(7).
__________
(1) بر الوالدين، للحناوي، ص 98، نقلاً عن:محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء 1/203.
(2) سير أعلام النبلاء 12/144. وانظر ترجمة بندار في السير 12/144_149.
(3) سير أعلام النبلاء 12/145.
(4) القد:السوط، وهو في الأصل سير يُقَدُّ من جلد مدبوغ.
(5) المحاسن والمساوئ، لإبراهيم البيهقي ص 614.
(3) (4) بر الوالدين للحافظ الطرطوشي 78.(1/7)
وكما أن هناك من الأولاد من لا يحسن التعامل مع والديه ولا يراعي مشاعرهما فهناك من الوالدين من هو كذلك، فبعضهم يقسو على أولاده قسوة تخرجه عن طوره, فتراه يضربهم ضرباً مبرحاً عند أدنى هفوة, وتراه يبالغ في عتابهم وتوبيخهم عند كل صغيرة وكبيرة, وتراه يُقَتِّر عليهم مع قدرته ويساره, مما يجعلهم يشعرون بالنقص والحاجة, وربما قادهم ذلك إلى البحث عن المال إما بسرقة, أو بسؤال الناس, أو بالارتماء في أحضان رفقة السوء؛ فيفقدون إنسانيتهم، وكرامتهم.
ومن الوالدين مَنْ يحرم أولاده من الشفقة والحنان, وإشباع العواطف؛ مما يحدوهم إلى البحث عن ذلك خارج المنزل.
ويشتد الأمر إذا كان ذلك في حق البنات؛ فهن أرق شعوراً, وأندى عاطفة؛ فإذا شعرت بفقر من هذا الجانب أظلمت الدنيا في وجهها, وربما قادها ذلك إلى البحث عما يشبع عواطفها؛ ولعل هذا من أعظم أسباب المعاكسات, وضيعة الآداب.
ومما يجرح مشاعر الأولاد: التفريق بينهم, وترك العدل في معاملتهم سواء كان ذلك في العطايا، والهبات، والهدايا، أو بالمزاح, والملاطفة والحنان.
ومما يدخل في هذا القبيل احتقار الأولاد, وذلك بإسكاتهم إذا تكلموا, والسخرية بهم وبحديثهم إذا تحدثوا، وذلك مما يجعل الواحد منهم عديم الثقة بنفسه, قليل الجرأة في الكلام والتعبير عن رأيه.
ومما يدخل في ذلك قلة العناية بتربيتهم على تحمل المسؤولية, وعدم إعطائهم فرصة للتصحيح إذا أخطأوا.
ومن ذلك قلة المراعاة لتقدير مراحل العمر التي يمر بها الولد؛ فتجد من الوالدين من يعامل ولده على أنه طفل صغير؛ مع أنه قد كبر, فهذه المعاملة تؤثر في شعور الولد، وتشعره بالنقص.(1/8)
ومما يجرحُ مشاعرَ الولدِ دخولُ والدِه في كل صغيرة وكبيرة من أمره إذا تزوج؛ فتجد من الوالدين من يفرض وصاية عامة, ويضع سياجاً محكماً على أولاده حتى بعد أن يتزوجوا؛ فتراه يدخل حتى في شؤنهم الخاصة, وربما أتى بيوتهم على غرة, وربما فرض عليهم آراءه التي قد تكون مجانبة للصواب.
كل ذلك من الخلل في التربية, ومما يورث الخوف والتردد, والهزيمة لدى الأولاد.
لذلك كان لزاماً على الوالد أن يراعي تلك الجوانب في التربية, ومما يعينه عليه أمور منها:
1_ تنمية الجرأة الأدبية في نفس الولد: وذلك بإشعاره بقيمته، وزرع الثقة في نفسه; حتى يعيش كريماً شجاعاً صريحاً جريئاً في آرائه، في حدود الأدب واللياقة، بعيدًا عن الإسفاف والصفاقة; فهذا مما يشعره بالطمأنينة، ويكسبه القوة والاعتبار، بدلاً من التردد، والخوف، والهوان، والذلة، والصغار (1) .
2_ استشارة الأولاد: كاستشارتهم ببعض الأمور المتعلقة بالمنزل أو غير ذلك، واستخراج ما لديهم من أفكار، كأخذ رأيهم في أثاث المنزل، أو لون السيارة التي سيشتريها الأب، أو أخذ رأيهم في مكان الرحلة أو موعدها، ثم يوازن الوالد بين آرائهم، ويطلب من كل واحد منهم أن يبدي مسوغاته، وأسباب اختياره لهذا الرأي، وهكذا.
ومن ذلك إعطاؤهم الحرية في اختيار حقائبهم، أو دفاترهم، أو ما شاكل ذلك; فإن كان ثم محذور شرعي فيما يختارونه بيَّنهُ لهم.
فكم في هذا العمل من زرع للثقة في نفوس الأولاد، وكم فيه من إشعار لهم بقيمتهم، وكم فيه من تدريب لهم على تحريك أذهانهم، وشحذ قرائحهم، وكم فيه من تعويد لهم على التعبير عن آرائهم.
3_ تعويد الولد على القيام ببعض المسؤوليات: كالإشراف على الأسرة في حالة غياب ولي الأمر، وكتعويده على الصرف، والاستقلالية المالية، وذلك بمنحه مصروفاً مالياً كل شهر أو أسبوع; ليقوم بالصرف منه على نفسه وبيته.
__________
(1) انظر: المراهقون، د. عبد العزيز النغيمشي، ص 48.(1/9)
4_ تعويد الأولاد على المشاركة الاجتماعية: وذلك بحثهم على المساهمة في خدمة دينهم، وإخوانهم المسلمين إما بالدعوة إلى الله، أو إغاثة الملهوفين، أو مساعدة الفقراء والمحتاجين، أو التعاون مع جمعيات البر، وغيرها.
5_ التدريب على اتخاذ القرار: كأن يعمد الأب إلى وضع الابن في مواضع التنفيذ، وفي المواقف المحرجة، التي تحتاج إلى حَسْمِ الأمر، والمبادرة في اتخاذ القرار، وتحمُّل ما يترتب عليه، فإن أصاب شجعه وشد على يده، وإن أخطأ قوَّمه وسدده بلطف; فهذا مما يعوده على مواجهة الحياة، وحسن التعامل مع المواقف المحرجة.
6_ فهم طبائع الأولاد ونفسياتهم: وهذه المسألة تحتاج إلى شيء من الذوق، وسبر الحال، ودقة النظر.
وإذا وفِّق المربي لتلك الأمور، وعامل أولاده بذلك المقتضى _ كان حريّاً بأن يحسن تربيتهم، وأن يسير بهم على الطريقة المثلى.
7_ تقدير مراحل العمر للأولاد: فالولد يكبر، وينمو تفكيره، فلا بدّ أن تكون معاملته ملائمة لسنه وتفكيره واستعداده، وألا يعامل على أنه صغير دائماً، ولا يعامل _ أيضاً _ وهو صغير على أنه كبير; فيطالب بما يطالب به الكبار، ويعاتب كما يعاتبون، ويعاقب كما يعاقبون.
8_ تلافي مواجهة الأولاد مباشرة: وذلك قدر المستطاع خصوصاً في مرحلة المراهقة، بل ينبغي أن يقادوا عبر الإقناع، والمناقشة الحرة، والحوار الهادئ البناء، الذي يجمع بين العقل والعاطفة.
9_ الجلوس مع الأولاد: فمما ينبغي للأب _ مهما كان له من شغل _ أن يخصص وقتاً يجلس فيه مع أولاده يؤنسهم فيه، ويسليهم، ويعلمهم ما يحتاجون إليه، ويقص عليهم القصص الهادفة; لأن اقتراب الولد من أبويه ضروري جدًا; وله آثاره الواضحة، فهذا أمر مجرب; فالآباء الذين يقتربون من أولادهم; ويجلسون معهم، ويمازحونهم -يجدون ثمار ذلك على أولادهم، حيث تستقر أحوال الأولاد، وتهدأ نفوسهم، وتستقيم طباعهم.(1/10)
أما الآباء الذين تشغلهم الدنيا عن أولادهم _ فإنهم يجدون غبَّ ذلك على الأولاد، فينشأ الأولاد وقد اسودت الدنيا أمامهم، لا يعرفون مواجهة الحياة، فيتنكبون الصراط، ويحيدون عن جادة الصواب، وربما تسبب ذلك في كراهية الأولاد للوالدين، وربما قادهم ذلك إلى الهروب من المنزل، والانحدار في هاوية الفساد.
ثم إن الوالد إذا كبر سنه، وكثر فرغه، وأراد ن يجلس مع أولاده _ لم يتمكن من ذلك؛ لأنه لم يَعْتَد ذلك، ولم يعودهم عليه، وهذا أمر مجرب، فيَحْرِمهم من جلوسه معهم صغاراً، ويُحْرمُ من جلوسهم معه كباراً.
10_ العدل بين الأولاد: فما قامت السموات والأرض إلا بالعدل، ولا يمكن أن تستقيم أحوال الناس إلا بالعدل; فمما يجب على الوالدين تجاه أولادهم أن يعدلوا بينهم، وأن يتجنبوا تفضيل بعضهم على بعض، سواء في الأمور المادية كالعطايا والهدايا والهبات، أو الأمور المعنوية، كالعطف، والحنان، وغير ذلك.
11_ إشباع عواطفهم: فمما ينبغي مراعاته مع الأولاد إشباع عواطفهم، وإشعارهم بالعطف، والرحمة، والحنان; حتى لا يعيشوا محرومين من ذلك، فيبحثوا عنه خارج المنزل; فالكلمة الطيبة، واللمسة الحانية، والبسمة الصادقة، وما جرى مجرى ذلك _ له أثره البالغ في نفوس الأولاد.
12_ النفقة عليهم بالمعروف: وذلك بكفايتهم، والقيام على حوائجهم; حتى لا يضطروا إلى البحث عن المال خارج المنزل.
13_ إشاعة الإيثار بينهم: وذلك بتقوية روح التعاون بينهم، وتثبيت أواصر المحبة فيهم، وتعويدهم على السخاء، والشعور بالآخرين؛ حتى لا ينشأ الواحد منهم مغالياً في حب ذاته، ولا هم له إلا خاصة نفسه.
ثم إن تربيتهم على تلك الخلال تقضي على كثير من المشكلات التي تحدث داخل البيوت.
14_ الإصغاء إليهم إذا تحدثوا، وإشعارهم بأهمية كلامهم: بدلاً من الانشغال عنهم، والإشاحة بالوجه، وترك الإنصات لهم.(1/11)
فالذي يجدر بالوالد إذا تحدث ولده _ خصوصًا الصغير _ أن يصغي له تمامًا، وأن يبدي اهتمامه بحديثه، كأن تظهر علامات التعجب على وجهه، أو يبدي بعض الأصوات أو الحركات التي تدل على الإصغاء والاهتمام والإعجاب، كأن يقول: رائع، حسن، صحيح، أو أن يقوم بالهمهمة، وتحريك الرأس وتصويبه، وتصعيده، أو أن يجيب على أسئلته أو غير ذلك، فمثل هذا العمل له آثار إيجابية كثيرة منها:
أ-أن هذا العمل يعلم الولد الطلاقة في الكلام.
ب-يساعده على ترتيب أفكاره وتسلسلها.
ج-يدربه على الإصغاء، وفهم ما يسمعه من الآخرين.
د-أنه ينمي شخصية الولد، ويصقلها.
هـ -يقوي ذاكرته، ويعينه على استرجاع ما مضى.
و-يزيده قرباً من والده (1) .
هذه بعض الأساليب التي تنهض بالمشاعر، وترهف الأذواق لدى الأولاد.
فمن البيوت ما يخيم عليها الصمت المطبق, ويسودها السكون الموحش؛ فلا تأنس الزوجة فيها بحديث زوجها, ولا هو يأنس بحديثها, ولا يسمع أحدهما من الآخر كلمة عطف أو حنان, أو رحمة.
ومن الأزواج من يكثر لوم زوجته, وانتقادها عند كل صغيرة وكبيرة ؛ فتراه ينتقد الطعام التي تعده الزوجة, وتراه يعاقبها إذا بكى أولاده الصغار, أو كثر عبثهم, وتراه يبالغ في تأنيبها إذا نسيت أو قصرت في أي شأن من شؤونه.
وأقبح ما في ذلك أن يعنفها فيما لا قدرة لها عليه, كأن يلومها إذا كانت لا تنجب, أو لا تنجب إلا بنين فحسب, أو بنات فحسب , ويلومها إذا أنجبت ولداً مصاباً ببعض العيوب الخلقية؛ فيجمع بذلك بين ألمها في نفسها وبين إساءته البالغة بقوارصه التي تقض مضجعها، وتؤرق جفنها.
وما هذا بمسلك العقلاء؛ ذلك أن كثرة اللوم لا تصدر من ذي خلق كريم أو طبع سليم؛ ثم إن ذلك يورث النفرة، ويوجب الرهبة.
__________
(1) انظر: مشكلات تربوية في حياة طفلك، لمحمد رشيد العويد ص 37_41، وانظر نفاصيل ذلك في كتاب =التقصير في تربية الأولاد+ للكاتب.(1/12)
فَدَعِ العتابَ فربَّ شرْ ... ر هاج أوله العتاب(1)
فالزوج العاقل الكريم لا يعاتب زوجته عند أدنى هفوة، ولا يؤاخذها بأول زلة.
بل يلتمس لها المعاذير، ويحملها على أحسن المحامل.
وإن كان هناك ما يستوجب العتاب عاتبها عتاباً ليناً رقيقاً تدرك به خطأها دون أن يهدر كرامتها، أو ينسى جميلها.
ثم ما أحسن أن يتغاضى المرء ويتغافل؛ فذلك من دلائل سمو النفس وشفافيتها وأريحيتها، كما أنه مما يعلي المنزلة، ويريح من الغضب وآثاره المدمرة.
وإن أتت المرأة ما يوجب العتاب فلا يحسن بالزوج أن يكرر العتاب، وينكأ الجراح مرة بعد مرة؛ لأن ذلك يفضي إلى البغضة، وقد لا يبقي للمودة عيناً ولا أثراً.
ومما يعين الزوج على سلوك طريق الاعتدال في عتاب الزوجة أن يوطن نفسه على أنه لن يجد من زوجته كل ما يريد كما أنها لن تجد فيه كل ما تريد؛ فلا يحسن به _ والحالة هذه _ أن يُعاتِب في كل الأمور، وأن يتعقب كل صغيرة وكبيرة؛ فأي الرجال المهذب؟ ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها؟.
ثم إن الإنسان لا يستطيع أن يتخلص من كثير من عيوبه؛ فعلامَ نُحمِّل الآخرين فوق ما يطيقون ونحن عن تلافي كثير من عيوبنا عاجزون؟.
ولا يعني ما مضى أن يتساهل الزوج في تقصير الزوجة في الأمور المهمة من نحو القيام بالواجبات الدينية، أو رعاية الآداب المرعية، أو التزام ما تقضي به الصيانة والعفة؛ فهذه أمور يجب أن توضع على رأس الأشياء التي لا يقبل التنازل عنها بحال(2).
قال النبي _ عليه الصلاة والسلام _: =استوصوا بالنساء؛ فإن المرأة خلقت من ضِلَع، وأن أعوج ما في الضلع أعلاه+(3).
فالحديث الشريف يعلِّم الرجل كيف يسلك في سياسة الزوجة طريق الرفق والأناة؛ فلا يشتد ويبالغ في ردها عن بعض آرائها التي بها عوج؛ فإن ذلك قد يفضي إلى الفراق.
__________
(1) عيون الأخبار لابن قتيبة 3/29.
(2) انظر نظرات في الأسرة المسلمة د. محمد الصباغ ص72 و 89.
(3) رواه البخاري (3331)، ومسلم (1468).(1/13)
كما أنه لا يتركها وشأنها؛ فإن الإغضاء عن العوج مدعاة لاستمراره أو تزايده.
والعوج المستمر أو المتزايد قد يكون شؤماً على المعاشرة، فتصير إلى عاقبة مكروهة.
وبعد ذلك فقد يقع من الزوج شدة في العتاب، أو إسراف في اللوم؛ فيحسن به إذا وقع منه ذلك أن يبادر إلى الاعتذار، أو الهدية، وإظهار الأسف، والاعتراف بالخطأ دون أن تأخذه العزة بالإثم؛ فما هو إلا بشر، وما كان لبشر أن يدعي أنه لم يقل إلا صواباً.
فإذا أخذ الزوج بهذه الطريقة قلَّ عتابه، وأراح نفسه، وسما بخُلُقِه, وحافظ على مشاعر معاشره.
قال ابن حبان ×: =من لم يعاشر الناس على لزوم الإغضاء عما يأتون من المكروه، وترك التوقع لما يأتون من المحبوب كان إلى تكدير عيشه أقرب منه إلى صفائه، وإلى أن يدفعه الوقت إلى العداوة والبغضاء أقرب منه أن ينال منهم الوداد وترك الشحناء+(1).
وكما أن من الأزواج من يكثر انتقاد الزوجة ولومها إذا هي أخطأت أي خطأ_ فكذلك تجد من هؤلاء من لا يشكر زوجته إذا هي أحسنت، ولا يشجعها إذا قامت بالعمل كما ينبغي؛ فقد تقوم الزوجة بإعداد الطعام الذي يَلَذُّ للزوج، وقد ترفع رأسه إذا قدم عليه ضيوف، وقد تقوم على رعاية الأولاد خير قيام، وقد تظهر أمامه بأبهى حلة، وأجمل منظر، وقد، وقد، وقد...
ومع ذلك لا تكاد تظفر منه بكلمة شكر، أو ابتسامة رضاً، أو نظرة عطف وحنان، فضلاً عن الهدية والإكرام.
ولا ريب أن ذلك ضرب من ضروب الكزازة والغلظة، ونوع من أنواع اللؤم والبخل.
وقد يلتمس الزوج لنفسه العذر بأنه يخشى من تعالي الزوجة وغرورها إذا هو شكرها أو أثنى عليها.
وهذا الكلام ليس صحيحاً على إطلاقه؛ فيا أيها الزوج المفضال، لا تبخل بما فيه سعادتك وسعادة زوجتك، ولا تهمل اللفتاتِ اليسيرةَ من هذا القبيل؛ فإن لها شأناً جللاً، وتأثيراً بالغاً.
__________
(1) روضة العقلاء لابن حبان ص72.(1/14)
فماذا يضيرك إذا أثنيت على زوجتك بتجملها، وحسن تدبيرها؟ وماذا ستخسر إذا شكرتها على وجبة أعَدَّتها للضيوف؟ أو ذكرت لها امتنانك لرعايتها وخدمتها لبيتك وأولادك _ وإن كان ذلك من اختصاصها، وإن كانت لا تقدمه إلا على سبيل الواجب _؟.
لكن ذلك من قبيل الكلمة الطيبة التي تؤكد أسباب المودة والرحمة.
إن الزوجة إذا وجدت ذلك من زوجها ستسعد، وتشعر بالنشاط، والتدفُّع لخدمته، والمسارعة إلى مراضيه؛ لما تلقاه منه من حنان وعطف وتقدير.
وإذا أصبح قلبها مُتْرعاً بهذه المعاني عاشت معه آمنة مطمئنة، وعاد ذلك على الزوج بالأنس والمسرات(1).
وكما أن كثرة اللوم وقلة الشكر يصدر من بعض الأزواج فكذلك يصدر من بعض الزوجات؛ فمن الزوجات من هي كثيرة التسخط، قليلة الحمد والشكر، فاقدة لخلق القناعة، غير راضية بما آتاها الله من خير.
فإذا سُئلت عن حالها مع زوجها أبدت السخط، وأظهرت الأسى واللوعة، وبدأت بعقد المقارنات بين حالها وحال غيرها من الزوجات اللائي يُحْسِنُ إليهن أزواجهن.
وإذا قدم لها زوجها مالاً سارعت إلى إظهار السخط، وندب الحظ؛ لأنها تراه قليلاً مقارنة بما يقدم لنظيراتها.
وإذا جاءها بهدية احتقرت الهدية، وقابلتها بالكآبة، فَتُدْخِل على نفسها وعلى زوجها الهم والغم بدل الفرح والسرور؛ بحجة أن فلانة من الناس يأتيها زوجها بهدايا أنفس مما جاء به زوجها.
وإذا أتى بمتاع أو أثاث يتمنى كثير من الناس أن يكون لهم مثله قابلته بفظاظة وشراسة منكرة، وبدأت تُظْهِر ما فيه من العيوب.
وبعضهن يحسن إليها الزوج غاية الإحسان، فإذا حصلت منه زلة، أو هفوة، أو غضبت عليه غضبة نسيت كل ما قدم لها من إحسان، وتنكرت لما سلف له من جميل.
وهكذا تعيش في نكد وضيق، ولو رزقت حظَّاً من القناعة لأشرقت عليها شموس السعادة.
__________
(1) انظر نظرات في الأسرة المسلمة ص118_119.(1/15)
ومثل هذه المرأة يوشك أن تسلب منها النعم، فتقرع بعد ذلك سن الندم، وتعض أنامل التفريط، وتقلِّب كَفَّيْها على ما ذهب من نعمها.
إن السعادة الحقة إنما هي بالرضا والقناعة، وإن كثرة الأموال والتمتع بالأمور المحسوسة الظاهرة _ لا يدل على السعادة؛ فماذا ينفع الزوجة أن تتلقى من زوجها الحلي والنفائس والأموال الطائلة إذا هي لم تجد المحبة، والحنان، والرحمة، والمعاملة الحسنة؟.
وماذا ستجني من جراء تسخطها إلا إسخاط ربها، وخراب بيتها، وتكدير عيشة زوجها؟(1).
فواجب على المرأة العاقلة أن تتجنب التسخط، وجدير بها أن تكون كثيرة الشكر؛ فإذا سُئلت عن بيتها وزوجها وحالها أثنت على ربها، وتذكرت نعمه، ورضيت قسمته؛ فالقناعة كنز الغنى، والشكر قيد النعم الموجودة، وصيد النعم المفقودة؛ فإذا لزم الإنسان الشكر درت نعمه وقَرَّت؛ فمتى لم ترَ حالك في مزيد فاستقبل الشكر.
كيف وقد قال ربنا _ عز وجل _: [وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ]إبراهيم: 7.
بل يحسن بالزوجة أن تشكر ربها إذا نزل بها ما تكرهه؛ شكراً لله على ما قدره، وكظماً للغيظ، وستراً للشكوى، ورعاية للأدب(2).
ثم إن الشكوى للناس لا تجدي نفعاً، ولا تطفئ لوعة _ في الغالب _.
ولهذا رأى بعض السلف رجلاً يشكو إلى رجل فاقته وضرورته فقال:
=يا هذا، والله ما زدت على أن شكوت من يرحمك إلى من لا يرحمك+(3).
وإذا عرتك بلية فاصبر لها ... صبر الكريم فإنه بك أعلم
وإذا شكوت إلى ابن آدم إنما ... تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم(4)
__________
(1) انظر إصلاح المجتمع ص308، ونظرات في الأسرة المسلمة ص111.
(2) انظر مدارج السالكين لابن القيم 2/199 و 243.
(3) الفوائد لابن القيم ص131.
(4) مدارج السالكين 2/160.(1/16)
وإن كان هناك من حاجة لبث الشكوى لمن يعنيهم الأمر؛ طلباً للنصيحة، أو نحو ذلك _ فلا بأس، وإلا فلماذا نثير انتباه الذين لا يعنيهم أمرنا، ولا ننتظر منهم أي فائدة لنا، فنفضح أنفسنا، ونهتك أستارنا، ونُبين عن ضعفنا وخورنا في سبيل الحصول على شفقة أو عطف ليس له من نتيجة سوى ازدياد الحسرة، وتفاقم المصيبة(1).
ثم إن من حق الزوج على زوجته أن تعترف له بنعمته، وأن تشكر له ما يأتي به من طعام، ولباس، وهدية ونحو ذلك مما هو في حدود قدرته، وأن تدعو له بالعوض والإخلاف، وأن تظهر الفرح بما يأتي به؛ فإن ذلك يفرحه، ويبعثه إلى المزيد من الإحسان.
كما يحسن بالزوجة أن تستحضر أن الزوج سببُ الولدِ، والولدُ من أجل النعم، ولو لم يكن من فضل الزوج إلا هذه النعمة لكفاه؛ =فمهما تكن الزوجة شقية بزوجها فإن زوجها قد أولدها سعادتها، وهذه وحدها مزية ونعمة+(2).
أما كفر النعمة، وجحود الفضل، ونسيان أفضال الزوج _ فليس من صفات الزوجة العاقلة المؤمنة؛ فهي بعيدة عن ما لا يرضي الله _ عز وجل _ فجحودُ فضل الزوج سماه الشارع كفراً، ورتب عليه الوعيد الشديد، وجعله سبباً لدخول النار.
قال _ عليه الصلاة والسلام _: =رأيت النار ورأيت أكثر أهلها النساء+.
قالوا: لم يا رسول الله؟
قال: =يكفرن العشير، ويكفرن الإحسان؛ لو أحسنت إلى إحداهن الدهر ثم رأت منك شيئاً قالت: ما رأيت منك خيراً قط+(3).
__________
(1) انظر طريق النجاح د. بول جاغو، تلخيص بهيج شعبان ص87.
(2) وحي القلم للرافعي 1/292.
(3) رواه البخاري (29) ومسلم(907).(1/17)
وعن عبدالله بن عمر _ رضي الله عنهما _ قال: قال رسول الله ": =لا ينظر الله إلى امرأة لا تشكر لزوجها وهي لا تستغني عنه+(1).
وعن أسماء ابنة يزيد الأنصارية قالت: =مرَّ بيَ النبي " وأنا وجوارٍ أترابٌ لي؛ فسلم علينا، وقال: =إياكنَّ وكفرَ المُنْعمِين+، وكنت من أجرئهن على مسألته، فقلت: يا رسول الله: وما كفرُ المنعمين؟.
قال: =لعل إحداكنَّ تطول أيْمَتُها من أبويها، ثم يرزقها الله زوجاً، ويرزقها ولداً، فتغضب الغضبة، فتكفر، فتقول: ما رأيت منك خيراً قط+(2).
ومن الخلل الذي تقع فيه بعض الزوجات في هذا الباب قلة المراعاة لأحوال الزوج ومشاعره؛ فقد تزعجه بالأخبار السيئة، وتكثر الطلبات منه إذا عاد إلى المنزل منهكاً مكدوداً قد بلغ به الإعياء مبلغه.
وقد تكثر من ترداده إلى السوق؛ ليأتي بما يحتاجه المنزل، فإذا رجع إلى المنزل ذكرت حاجة أخرى، فعاد إلى السوق مرة أخرى، وقد يرجع أكثر من ذلك، وقد يتكرر هذا منها مرات عديدة.
وقد يكون الزوج حاد المزاج، شديد التأثر لأقل الأشياء المخالفة لذوقه؛ فلا تراعي الزوجة فيه هذه الخصلة، فربما تضحك وهو في حالة غضب أو حزن، وقد يوجِّه لها الخطابَ، فَتُعْرِضُ وتشيح بوجهها عنه، وقد يتكلم بكلمة غضب فتجيبه بعشر كلمات.
وقد تتعمد إغضابه، وإثارته، فما هي إلا أن تتحرك العاصفة، وينفجر البركان، ويحصل ما لا تحمد عقباه.
__________
(1) رواه النسائي في الكبرى(9135_9136) والبيهقي 7/294، والحاكم 3/78، وقال: =صحيح الإسناد+ وقال الهيثمي 2/309: =رواه البزار بإسنادين والطبراني، وأحد إسنادي البزار رجاله رجال الصحيح+ وصححه الألباني في الصحيحة (289).
(2) رواه أحمد 6/457، والبخاري في الأدب المفرد(148) والترمذي(2697) وحسنه، والطبراني في الكبير 24/177، والحميدي في مسنده 1/179، وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد (800).(1/18)
ومن قلة المراعاة لأحواله ومشاعره قلة المراعاة لوقت نومه، وأكله، وقراءته، ونحو ذلك.
ومن ذلك قلة العناية بمخاطبته ومحادثته، فلا تناديه بأحب الأسماء إليه، ولا تخفض صوتها إذا خاطبته إلى غير ذلك مما ينافي أدب المخاطبة والمحادثة.
ومن ذلك أن تبدأ بتنظيف البيت، أو مكافحة الحشرات بالمبيدات إذا دخل الزوج المنزل، أو هم بالنوم، أو الأكل، فتزعجه بالجلبة، وتزكم أنفه بالروائح التي لا تروقه.
فمثل هذه الأعمال تقصير في حق الزوج، ودليل على حمق المرأة، وخفة عقلها، وقلة ذوقها.
فالذي تقتضيه الحكمة أن تراعي الزوجة أحوال زوجها، ومشاعره، وأن تعمل ما في وسعها لإدخال السرور عليه، وإزالة الهم والغم عن قلبه، فتفرح لفرحه، وتحزن لحزنه؛ حتى يشعر بأنها تتعاون معه؛ حيث يسرها ما يسره، ويحزنها ما يحزنه.
ولا ينبغي لها أن تظهر بمظهر السرور إذا كان محزوناً، كما ينبغي أن تكظم حزنها إذا رأته مسروراً؛ فإن ذلك أدعى لدوام الألفة، وأدل على كرم نفس الزوجة.
ومما ينبغي لها أن تجمع ما يحتاجه المنزل، وتخصص وقتاً في الأسبوع أو الشهر أو نحو ذلك، فتكتب ما تحتاجه في ورقة؛ كي يأتي به مرة واحدة بدلاً من كثرة ترداده في حاجات يسيرة.
ولا يعني ذلك أن تكون هذه قاعدة مطردة؛ فقد تقتضي الحال إرساله أكثر من مرة في اليوم، ولكن تحاول قدر المستطاع أن تختصر ذلك.
ومما ينبغي لها في هذا الصدد أن ترعاه في طعامه، فتصنع له ما يشتهيه، وتنوع له الطعام كيلا يسأم، وتلاحظ الوقت الذي تقدم له الطعام؛ فلا تؤخره ولا تقدمه إلا بإذنه.
كما يحسن بها أن تراعي أوقات نومه، فتحرص على تهدئة الأطفال؛ ليأخذ راحته الكافية؛ فإذا أخذ قسطه من الراحة انشرح صدره، وهدأت أعصابه، وإلا بقي قلقاً مستوفزاً.
ومما يدخل السرور عليه أن تحرص الزوجة على نظافة المنزل، وأن تعنى بثياب الزوج؛ كي يظهر بالمظهر اللائق.(1/19)
وإن كان طالب علم، أو صاحب قراءة وبحث فلتحرص على العناية بمكتبته، وكتبه ترتيباً، وتنظيماً، وتنظيفاً.
وإذا مرت به أزمة، أو مشكلة فلتقف معه بالدعاء، والرأي، والتثبيت، ونحو ذلك.
وإذا أرادت مخاطبته خاطبته بأسلوب لبق جذاب، يشعر من خلاله باحترامها وتوقيرها له.
قال ابن الجوزي ×: =وعن عثمان بن عطاء عن أبيه قال: قالت ابنة سعيد ابن المسيب: ما كنا نكلم أزواجنا إلا كما تكلمون أمراءكم.
وعنه _ أيضاً _ قال: قالت امرأة سعيد بن المسيب: ما كنا نكلم أزواجنا إلا كما تكلمون أمراءكم: أصلحك الله، عافاك الله+(1).
وبالجملة فلتحرص على كل ما يسره، وأن تتجنب كل ما يسوؤه وينوؤه.
وإن حصل منها تقصير في حقه فلتبادر إلى الاعتذار، ولتتلطف في ذلك.
وإذا روعيت هذه المشاعر بين الزوجين, وحرص كل منهما على عشرة الآخر بالمعروف _ حلت الأفراح, وزالت أو قلت المشكلات, وكان لذلك أبلغ الأثر في صلاح الأسرة, وقوة الأمَّة.
هذا وقد ذكر لنا التاريخ, وأرانا العيان أخباراً هي أقرب للخيال لأزواج كانوا يقضون حق المكارم, ويرعون المشاعر حق رعايتها؛ فكانوا مُثُلاً في التذمُّم, والتودد, والتحمل, والخلق, والذوق، والاحتساب, والوفاء إلى غير ذلك من المعاني الجميلة.
وإليك طرفاً من هذا القبيل.
قال ابن الجوزي ×: =قيل لأبي عثمان النيسابوري : ما أرجى عملك عندك ؟ قال : كنت في صبوتي يجتهد أهلي في تزويجي فآبى، فجاءتني امرأة فقالت: يا أبا عثمان! إني قد هَوِيتُك، وأنا أسألك بالله أن تتزوجني.
فأحضرت أباها _ وكان فقيراً _ فزوَّجني، وفرح بذلك.
فلما دَخَلَتْ إليَّ رأيتها عوراءَ، عرجاءَ، مشوهةً، وكانت لمحبتها لي تمنعني من الخروج؛ فأقعد؛ حفظاً لقلبها، ولا أظهر لها من البغض شيئاً وكأني على جمر الغضا من بغضها.
فبقيت هكذا خمس عشرة سنة حتى ماتت؛ فما منْ عملي شيء هو أرجى عندي من حفظي قَلْبَها+(2).
__________
(1) أحكام النساء ص139.
(2) صيد الخاطر ص635_636.(1/20)
وقال ابن القيم ×: =وقيل: تزوج رجل بامرأة، فلما دخلت عليه رأى بها الجدري، فقال: اشتكيتُ عيني، ثم قال: عميت، فبعد عشرين سنة ماتت ولم تعلم أنه بصير، فقيل له في ذلك، فقال: كرهت أن يحزنها رؤيتي لما بها! فقيل له: سبقت الفتيان+(1).
وقال الشيخ د. محمد بن لطفي الصباغ _ حفظه الله _: =حدثني صديق أن شيخه أسرَّ له بحقيقة تقوم في حياته، قال: إن زوجتي هذه مضى على زواجي منها أربعون سنة، وما رأيت يوماً سارَّاً، وإنني من اليوم الأول من دخولي بها عرفت أنها لا تصلح لي بحال، ولكنها كانت ابنة عمي، وأيقنت أن أحداً لا يمكن أن يحتملها، فصبرت، واحتسبت، وأكرمني الله منها بأولاد بررة صالحين، وساعدني نفوري منها على الاشتغال بالعلم، فكان من ذلك مؤلفات كثيرة أرجو أن تكون من العلم الذي ينتفع به، ومن الصدقة الجارية، وأتاحت لي علاقتي السيئة بها أن أقيم مع الناس حياة اجتماعية نامية، وربما لو تزوجت غيرها لم يتحقق لي شيء من ذلك+(2).
وقال الشيخ الصباغ _ حفظه الله _: =وحدثني صديق آخر، قال: إنني من الأيام الأولى لزواجنا لم أجد في قلبي مَيْلاً لهذه المرأة ولا حُبَّاً لها، ولكنني عاهدت الله على أن أصبر عليها، ولا أظلمها، ورضيت قسمة الله لي، ووجدت الخير الكثير من المال، والولد، والأمن، والتوفيق+(3).
ثم قال الشيخ الصباغ معلقاً على تلك القصتين: =لكن ذلك كان من هذين الرجلين برضى داخلي، وإيثار لمصلحة رَأَياها، ولم يسلكا هذا المسلك لأنه فرض عليهما لازم؛ فحقق الله لهما الخير العظيم، ومن هذا الخيرِ الثوابُ العظيم الذي أعده الله للصابرين، والحور العين التي ستكون لهم في الجنة.
__________
(1) مدارج السالكين 2/326.
(2) نظرات في الأسرة المسلمة ص196.
(3) نظرات في الأسرة المسلمة ص196.(1/21)
قال: أما إذا أراد الإنسان العافية من هذا الصبر، والبحث عن المتعة والهناءة والسعادة والصفاء، ووجد امرأة صالحة تحقق له في توقعه ذلك كله _ فليس هناك مانع شرعي أن يتزوج منها، ويعدل بين الزوجتين بما يستطيع من وسائل+(1).
هذا وقد تلقينا عن التاريخ, ورأينا بأعيننا أزواجاً عرفوا حقوق الزوجية، واحتفظوا بآدابها التي أمر الإسلام بها، فعاشوا في ارتياح وهناءة، موصولين بتعاطف واحترام.
وربما ظهر هذا فيما يصدر من الزوجين من عبارات الأسف والتحسر عند الوداع.
قال ابن زريق البغدادي لما ودع زوجته خارجاً لطلب الرزق في قصيدته العينية الطويلة المسماة باليتيمة:
استودع الله في بغدادَ لي قمراً ... بالكرخ من فلك الأزرار مطلعُهُ
ودَّعته وبِوُدي لو يودعني ... طيبُ الحياة وأني لا أودعه
كم قد تَشَفَّع بي ألا أفارقه ... وللضرورات حالٌ لا تُشَفِّعُه
وكم تَشَبَّث بي يومَ الرحيل ضحى ... وأدمعي مستهلاتٌ وأدمعه
لا أكذب اللهَ ثوبُ العذر منخرقٌ ... عني بفُرقته لكن أُرَقِّعُه
إني أوسِّع عذري في جنايته ... بالبين عنه وقلبي لا يوسِّعه
أُعطيتُ ملكاً فلم أحسنْ سياسَتَه ... كذاك مَنْ لا يسوسُ الملكَ يخلعُه
ومن غدا لابساً ثوبَ النعيمِ بلا ... شكر عليه فإن اللهَ يَنْزَعه
اعْتَضْتُ مِنْ بَعْدِ خِلِّي بعد فرقته ... كأساً أُجرَّع منه ما أُجَرَّعه
كم قائلٍ ليَ ذنب البين قلت له: ... الذنب والله ذنبي لست أدفعه
ألا أقمت فكان الرشدُ أجمَعُهُ ... لو أنني يوم بان الرشدُ أتبعه
إني لأقطع أيامي وأنفذها ... بحسرة منه في قلبي تُقَطِّعه
بمن إذا هجع النُّوَّام بتُّ له ... بلوعة منه ليلي لست أهجَعُهُ
لا يطمئن لجنبي مضجعٌ وكذا ... لا يطمئن له مذ بِنْت(2) مضجعُه
إلى أن قال:
بالله يا منزلَ الأنس الذي درست ... آثارُه وعفت مُذْ بنْتُ أرْبُعُه
هَل الزمانُ مُعيدٌ فيك لَذَّتَنا ... أم الليالي التي أمْضَت تُرجِّعه
__________
(1) نظرات في الأسرة المسلمة ص196.
(2) بنت: من البينونة وهي الفراق.(1/22)
في ذمة الله من أصبحت منزله ... وجاد غيثٌ على مغناك يَمْرَعُه
من عنده ليَ عهدٌ لا يضيع كما ... عندي له عهدُ ودٍّ لا أضيِّعه
ومن يُصَدِّع قلبي ذِكْرُهُ وإذا ... جرى على قلبه ذِكْري يُصَدِّعُه
لأصبرنَّ لدهر لا يمتِّعني ... به ولا بيَ في حال يُمتِّعه
علماً بأن اصطباري معقبٌ فرجاً ... فأضيقُ الأمرِ إن فكَّرت أوسعُه
عسى الليالي التي أضنت بفرقتنا ... جسمي ستجمعني يوماً وتجمعه
وإن تَنَلْ واحداً منا منيَّتُه ... فما الذي بقضاء الله يمنعه(1)
وهذا ابن دراج القسطلي يقول عند وداع زوجته:
ولما تدانت للوداع وقد هفا ... بصبري منها أنَّةٌ وزفير
تناشدني عهد المودة والهوى ... وفي المهد مبغومُ النداء صغيرُ
إلى أن قال:
وطار جناحُ الشوق بي وهفت به ... جوانح من ذعر الفراق تطير(2)
وقد تظهر هذه المشاعر الرقيقة عند حضور الموت، كما قال يحيى الهندي الأندلسي يوصي بأن يُدْفَنَ حذاء زوجته التي توفيت قبله، وحزن عليها حزناً شديداً:
إذا متُّ فادفني حذاء خليلتي ... يخالط عظمي في التراب عظامها
ورتِّبْ ضريحي كيفما شاءه الهوى ... تكون أمامي أو أكون أمامها
لعل إله العرش يجبر صرعتي ... فيعلي مقامي عنده ومقامها(3)
وقد تظهر هذه المشاعر في تشوق في حال غيبة كما قال المحدث ابن حجر × متشوقاً إلى زوجته ليلى الحلبية:
رحلت وخلَّفتُ الحبيب بداره ... برغمي ولم أجنح إلى غيره ميلا
أشاغل نفسي بالحديث تَعَلُّلاً ... نهاري وفي ليلي أحنُّ إلى ليلى(4)
ولا تقف تلك المشاعر والعواطف في الحياة فحسب, بل تتجلى أعظم ما تتجلى حين يفجع الزوج بوفاة زوجته, حينئذ تستثار كوامنه, ويظهر مدى حرقته.
__________
(1) ثمرات الأوراق لابن حجة الحموي ص476_478.
(2) مختارات من الشعر الأندلسي د. محمد رضوان الداية ص48_49.
(3) انظر الهداية الإسلامية ص59_60، والرجل والمرأة في الإسلام د. محمد وصفي 201_202.
(4) انظر الهداية الإسلامية ص59_60، والرجل والمرأة في الإسلام د.محمد وصفي ص201_202.(1/23)
قال البارودي × في رثاء زوجته(1) حين ورد إليه نعيها وهو بسرنديب:
أَيَدَ المنونِ قدحتِ أيَّ زنادِ ... وأطَرْت أيَّة شعلة بفؤادي
أوهنتِ عزميْ وهو حملةُ فيلقٍ ... وحَطَمْتِ عودي وهو رُمْحُ طرادي
لم أَدْرِ هل خطبٌ ألمَّ بساحتي ... فأناخ أم سهمٌ أصاب فؤادي
أقذى العيونَ فأسبلت بمدامعٍ ... تجري على الخدين كالفرصاد(2)
ما كنت أحسبني أراعُ لحادث ... حتى مُنيتُ به فأوهن آدي(3)
أبلتني الحسراتُ حتى لم يَكَدْ ... جسمي يلوح لأعين العواد(4)
أستنجد الزفراتِ وهي لوافحٌ ... وأُسَفِّه العبراتِ وهي بوادي
لا لوعتي تَدَعُ الفؤاد ولا يدي ... تقوى على ردِّ الحبيب الغادي
إلى أن يقول:
أسليلة القمرين أيُّ فجيعةٍ ... حلت لفقدك بين هذا النادي
أعزز عليَّ بأن أراك رهينةً ... في جوف أغبر قاتمِ الأسداد(5)
أو أن تبيني عن قرارة منزل ... كنت الضياءَ له بكل سوادي
لو كان هذا الدهرُ يقبل فديةً ... بالنفس عنك لكنتُ أولَ فادي
أو كان يرهب سطوة من فاتك ... لفعلت فعل الحارث بن عِبَاد(6)
لكنها الأقدارُ ليس بناجع ... فيها سوى التسليم والإخلاد
أفاستعين الصبر وهو قساوةٌ ... أم أصحب السلوان وهو تعادي
ومن البلية أن يسام أخو الأسى ... رعيَ التجلد وهو غير جماد
هيهات بعدك أن تقرَّ جوانحي ... أسفاً لبُعْدك أو يلينَ مهادي
ولهي عليك ملازمٌ لمسيرتي ... والدمع فيك ملازمٌ لوسادي
فإذا انتبهت فأنتِ أولُ ذكرتي ... وإذا أويتُ فأنتِ آخرُ زادي
أمسيت بعدك عِبْرةً لذوي الأسى ... في يوم كل مصيبة وحداد
__________
(1) زوجته هي عديلة يكن بنت المشير أحمد يكن باشا، تزوجها، سنة 1867م، وأنجب منها ابناً وأربع بنات، وتوفيت بالقاهرة سنة 1883م وهي في السابعة والثلاثين من عمرها، ونعيت إليه وهو منفي بسرنديب، فرثاها بهذه القصيدة الدالية التي تعد من عيون الشعر، وتبلغ 67 بيتاً.
(2) الفرصاد: صبغ أحمر، ويطلق على التوت.
(3) آدي: قوتي.
(4) العُوَّاد: الزوار.
(5) يعني به القبر.
(6) من سادات العرب وشعرائهم في الجاهلية.(1/24)
متخشعاً أمشي الضَّراءَ(1) كأنني ... أخشى الفجاءة من صيال أعادي
ما بين حزنٍ باطن أكل الحشا ... بلهيب سورته وسقم بادي
وردَ البريدُ بغير ما أمَّلْته ... تعس البريدُ وشاه وجهُ الحادي
فسقطت مغشياً عليَّ كأنما ... نَهَشَتْ صميمَ القلب حَيَّةُ وادي
وَيْلُمِّه رزءاً أطار نَعيُّه ... بالقلب شعلة مارج وقَّاد(2)
قد أظلمت منه العيون كأنما ... كحل البكاءُ عيونها بقتاد(3)
إلى أن قال :
سر يا نسيمُ فبلِّغ القبرَ الذي ... بحمى الإمام تحيتي وودادي
إلى أن قال مصبراً نفسه , سائلاً المغفرة لزوجته :
فاستهد يا محمودُ ربَّك والتمس ... منه المعونةَ فهو نعم الهادي
واسأله مغفرة لمن حلَّ الثرى ... بالأمس فهو مجيبُ كلَّ منادي
هي مهجةٌ ودَّعْتُ يوم زيالها(4) ... نفسي وعشت بحسرة وبعاد
تالله ما جفت دموعي بعدما ... ذهب الردى بك يا ابنة الأمجاد
لا تحسبيني ملْتُ عنك مع الهوى ... تالله ما تَرْكُ الوفاء بعاد(5)
قد كدتُ أقضي حسرةً لو لم أكن ... متوقعا لقياك يوم معادي
فعليك من قلبي التحية كلما ... ناحت مُطَوَّقَةٌ(6) على الأعواد(7)
وهذه مرثية قالها العلامة الأديب الشيخ محمد الخضر حسين × في رثاء زوجته السيدة زينب التي توفيت في القاهرة 1372هـ.
وكانت بارة صالحة, فقال فيها قصيدة بيَّن فيها لوعته على فراقها, وذكر ما كان لها من ود في قلبه, وما كانت عليه من خلق ودين ووفاء, قالها × وكان عمره آنذاك تسعاً وسبعين سنة:
أعاذل غُضَّ الطرفَ عن جفني الباكي ... فخطبٌ رمى الأكبادَ مني بأشواك
__________
(1) الضرَّاء: الاستخفاء.
(2) ويْلُمِّه: أي ويل لأمه، والرزء: المصيبة، ونعيُّه: أي ناعيه والمخبر به، المارج: النار لا دخان لها.
(3) القتاد: الشوك.
(4) زيالها: يعني فراقها.
(5) بعاد: يعني بعادتي.
(6) المطوقة: الحمامة ذات الطوق وهي التي في عنقها ريش يخالف لونه باقي جسمها يشبه الطوق.
(7) ديوان محمد سامي باشا البارودي ص145_152.(1/25)
ولي جارة(1) أودى بها سقمٌ إلى ... نوىً دون منآها المحيط بأفلاك
أيا جارتا عهد اللقاء قد انقضى ... فَصَمْتُكِ إذ أدعوك آخر ملقاك
أجارةُ هذا طائر الموت حائمٌ ... ليَذْهبَ من زهر الحياة بمجناك
وكيف يروم الصحب مني تصَبُّراً ... ومركبةٌ حدباءُ(2) أرْسَتْ بميناك
وكنت ألاقي كلما جئتُ مُؤنساً ... فمالي ألاقي اليوم صيحةَ مَنْعاك
حنانيكِ هل ساءتكِ مني خليقةٌ ... فأنكرتِ دنيانا وآثرت أخراك
وكنت أعَزِّي النفسَ من قبلُ إنني ... أفوت قرير المقلتين بمَحياك
ولم أدر ما طعمُ المنونِ فَذُقْتُهُ ... مساءَ لفظتِ الروحَ والعينُ ترعاك
هَوَى بكِ بينٌ لستُ أرجو وراءه ... زماناً يجود الدهرُ فيه بمرآك
فهيهات أن أنساك ما عشتُ والأسى ... يموج بقلبي ما جَرَتْ فيه ذكراك
وهيهات لا أنسى مواطنَ كُنْتِ لي ... مُسَلِّيةً لا أُنْس إلا بمغناك
ولولاك لم أقضِ اليراعةَ حقَّها ... كأن نسيجَ الفكر حِيْكَ بيُمناك(3)
لقد صُنتِ في الحالين عهداً فلا أرى ... لدى عسرةٍ إلا انطلاقَ مُحيَّاك
وأنت التي حبَّبْتِ ليْ العيشَ بعدما ... سئمتُ فَطيْبُ العيش بعضُ مزاياك
وإن سامني يومٌ شكاةً تدفَّقت ... دموعك من جفن يُخال هو الشاكي
يجافي الكرى عينيْ إذا مسَّكِ الضنى ... ويرتاح ما بين الحنايا(4) لمنجاك
تمرُّ بنا الأيام موصولة المنى ... فما ضرَّنا ألا نكونَ كأملاك
لياليك أيامٌ بمنزلة اللِّوى ... ومطلع أقمار السماء بمأواك
أجارةُ لو شاهدت كيف وقفت في ... مزارك لكنْ ما ظفرت بنجواك
إذاً لرأيت الحزنَ يَصْلى بناره ... حشاً وكأن الحزنَ شُدَّ بأسلاك
وعُدْتُ إلى البيت الكئيب كأنني ... خلقت فريداً لست أعرف إلاك
أغصُّ بشجو كلما مرَّ موضعٌ ... حللت به والنفسُ مرآةُ سيماك
__________
(1) الجارة يعني بها زوجته، والعرب تسمي الزوجة جارة.
(2) المركبة الحدباء: النعش.
(3) اليراعة: القلم، ويعني أنها من أعظم ما يعينه على الكتابة والتأليف.
(4) يعني القلب.(1/26)
ويبعث أشجاني هديرُ(1) حمامةٍ ... تنوح كأن الطيرَ في الجوِّ تنعاك
أجول بفكري أبتغي لي قربةً ... أمُتُّ بها عندي الدعاء برُحماك(2)
تَجَرَّعْتُ مرَّ الصبر علِّيْ أراه في ... حسابيْ وعقبايَ السليمةُ عقباك
فطوبى لك القربى لدى الله منةٌ ... ونزلٌ كريمٌ في منازل نُسَّاك(3)
ومن أعظم مظاهر فقر المشاعر أو انعدامها عند بعض الأزواج ضرب الزوجة بلا مسوغ؛ فمن الأزواج من قسا قلبه، وغلظ طبعه، وتعدى طوره، وساء للدين فهمُه؛ حيث يضرب زوجته ضرب غرائب الإبل، ويسومها سوء العذاب عند أتفه الأسباب، وربما تستر بعض أولئك العتاة العساة القساة بالإذن القرآني بالضرب، ففهموه على غير وجهه.
وبعضهم يرى أن ذلك من الرجولةِ؛ فالرجولةُ في نظرهم تعني الظلم، والقهر، والتسلط، والاستعلاء، والاستبداد، والقوامةُ عندهم طوق في عنق المرأة لإذلالها وتسخيرها.
والعجيب أن ترى بعض هؤلاء يتذلل ويتمسكن لأهل الزوجة قبل الزواج، فإذا ما ظفر بإربه تنكَّر، وقلب ظهر المجن، فانقلبت ذلته طغياناً، وتبدلت مسكنته تسلطاً وجبروتاً.
فتراه بعد ذلك يرفع يده أو عصاه على زوجته عند أدنى سبب، وربما بلا سبب، وربما ضربها هي وأولادها، وربما جمع إلى الضرب الشتمَ، والسبَّ، والقذف.
إن المرأة ليست هملاً مضاعاً، ولا لقىً مزدرى، وليست بهيمة تباع وتشترى، فيصنع بها ربُّها كيف يشاء.
إن للمرأة في هذه الحال الحقَّ الكامل في أن تشكو حالها إلى أوليائها، أو أن ترفع إلى الحاكم أمرها؛ لأنها إنسان مكرم داخل في قوله _ تعالى _:[وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً] الإسراء: 70.
__________
(1) هكذا في الديوان، ولعلها: هديل.
(2) يعني أنه يحاول أن يتذكر عملاً صالحاً يجعله وسيلة يتوسل به حال دعائه لها.
(3) خواطر الحياة لمحمد الخضر حسين ص192_194.(1/27)
وليس حسن المعاشرة أمراً اختيارياً متروكاً للزوج إن شاء فعله وإن شاء تركه، بل هو تكليف واجب.
وليس الرفق بالمرأة من باب الرفق بالحيوان الأعجم، ولكنه حق لها، وواجب على زوجها؛ فهي مُكَرَّمة مثله بالخلْق السوي، والصورة الحسنة، والتقويم الحسن، وهي مكرمة _ كذلك _ بالبيان والعقل، وحمل الأمانة؛ فهذه المزايا مشاعة بين الرجل والمرأة؛ فمن أراد أن يعامل الزوجة معاملة الدابة والسلعة فقد كفر نعمة الله، وعرض نفسه للعقوبة(1).
فأين أولئك القساة العصاة من قوله _ تعالى _ : [إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ] الفجر:12.
وأين هم من قول النبي ": =إني أحرج عليكم حق الضعيفين: اليتيم والمرأة+(2).
وقوله ": =النساء شقائق الرجال+(3).
وقوله ": =لا يجلد أحدكم امرأته جلد العبد ثم يضاجعها+(4).
فهذا الحديث من أبلغ ما يمكن أن يقال في تشنيع ضرب النساء؛ إذ كيف يليق بالإنسان أن يجعل امرأته _ وهي كنفسه _ مهينة كمهانة عبده؛ بحيث يضربها بسوطه أو بيده، مع أنه يعلم أنه لابد له من الاجتماع والاتصال الخاص بها(5).
__________
(1) انظر عودة الحجاب للشيخ د. محمد أحمد إسماعيل2/465_466.
(2) أخرجه أحمد 2/439، وابن ماجه (2678)، وابن حبان (1266)، والنسائي في الكبرى (9149)، والحاكم 1/63 و 4/128 وقال: صحيح الإسناد على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، وحسنه الألباني في الصحيحة (1015).
(3) أخرجه أحمد 6/256، وأبو داود (436) والترمذي(113)، والدارمي في سننه 1/195_196، وابن ماجه (1108)، وصححه أحمد شاكر في تحقيق الترمذي 1/190_192.
(4) أخرجه البخاري (5204)، ومسلم (2855).
(5) انظر نداء للجنس اللطيف للشيخ محمد رشيد رضا ص46.(1/28)
قال الشيخ السيد محمد رشيد رضا × في هذا الحديث: =وأذكر أنني هُديت إلى معناه العالي قبل أن أطلع على لفظه الشريف؛ أقول: يالله العجب! كيف يستطيع الإنسان أن يعيش عيشة الأزواج مع امرأة تُضرب؟ تارة يسطو عليها بالضرب، فتكون منه كالشاة مع الذئب، وتارة يذل لها كالعبد طالباً منتهى القرب+(1).
ولا يفهم مما مضى الاعتراض على مشروعية ضرب الزوجة بضوابطه، ولا يعني أن الضرب مذموم بكل حال.
لا، ليس الأمر كذلك؛ فلا يطعن في مشروعية الضرب إلا من جهل هداية الدين، وحكمة تشريعاته من أعداء الإسلام ومطاياهم.
هؤلاء الذين يتظاهرون بتقديس النساء والدفاع عن حقوقهن؛ فهم يطعنون في هذا الحكم، ويتأففون منه، ويعدونه إهانة للمرأة.
وما ندري من الذي أهان المرأة؟ أهو ربّها الرحيم الكريم الذي يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير؟
أم هؤلاء الذين يريدونها سلعة تمتهن وتهان، فإذا انتهت مدة صلاحيتها ضربوا بها وجه الثرى؟
إن هؤلاء القوم يستنكفون من مشروعية تأديب المرأة الناشز(2)، ولا يستنكفون أن تنشز المرأة، وتترفع على زوجها، فتجعله _ وهو رأس البيت _ مرؤوساً، وتصر على نشوزها، وتمشي في غلوائها، فلا تلين لوعظه، ولا تستجيب لنصحه، ولا تبالي بإعراضه وهجره.
تُرى كيف يعالجون هذا النشوز؟ وبم يشيرون على الأزواج أن يعاملوا به الزوجات إذا تمَرَّدْنَ ؟
لعل الجواب تضمنه قول الشنفرى الشاعر الجاهلي حين قال مخاطباً زوجته:
إذا ما جئْتِ ما أنهاك عنه ... فلم أُنْكِرْ عليكِ فطلقيني
فأنتِ البعلُ يومئذٍ فقومي ... بسوطك _ لا أبالك _ فاضربيني(3)
__________
(1) نداء للجنس اللطيف ص46.
(2) الناشز: التي ارتفعت عن طاعة زوجها من النشوز وهو الارتفاع.
(3) ديوان الشنفرى ص79.(1/29)
نعم لقد وجد من النساء _ وفي الغرب خاصة _ من تضرب زوجها مرة إثر مرة، والزوج يكتم أمره، فلما لم يعد يطيق ذلك طلَّقها، حينئذٍ ندمت المرأة، وقالت: أنا السبب؛ فلقد كنت أضربه، وكان يستحيي من الإخبار بذلك، ولما نفد صبره طلَّقني!
وقالت تلك المرأة القوامة: أنا نادمة على ما فعلت، وأوجه النصيحة بألا تضرب الزوجات أزواجهن!
لقد أذن الإسلام بضرب الزوجة كما في قوله _ تعالى _:[وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ] النساء: 34.
وكما في قوله _ عليه الصلاة والسلام _ في حجة الوداع: =ولكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضرباً غير مُبَرِّح+(1).
ولكن الإسلام حين أذن بضرب الزوجة لم يأذن بالضرب المبرح الذي يقصد به التشفي، والانتقام، والتعذيب، وإهانة المرأة وإرغامها على معيشة لا ترضى بها.
وإنما هو ضرب للحاجة وللتأديب، تصحبه عاطفة المربي والمؤدب؛ فليس للزوج أن يضرب زوجته بهواه، وليس له إن ضربها أن يقسو عليها؛ فالإسلام أذن بالضرب بشروط منها:
أ _ أن تصر الزوجة على العصيان حتى بعد التدرج معها.
ب_ أن يتناسب العقاب مع نوع التقصير؛ فلا يبادر إلى الهجر في المضجع في أمر لا يستحق إلا الوعظ والإرشاد، ولا يبادر إلى الضرب وهو لم يجرب الهجر؛ ذلك أن العقاب بأكثر من حجم الذنب ظلم.
جـ _ أن يستحضر أن المقصود من الضربِ العلاجُ والتأديب والزجر لا غير؛ فيراعي التخفيف فيه على أحسن الوجوه؛ فالضرب يتحقق باللكزة، أو بالمسواك ونحوه.
د_ أن يتجنب الأماكن المخوفة كالرأس والبطن والوجه.
هـ _ ألا يكسر عظماً، ولا يشين عضواً، وألا يدميها، ولا يكرر الضربة في الموضع الواحد.
و_ ألا يتمادى في العقوبة قولاً أو فعلاً إذا هي ارتدعت وتركت النشوز.
__________
(1) رواه مسلم (1218)، وأبو داود (1905)، وابن ماجه (3072)، والدارمي (1857).(1/30)
فالضرب _ إذاً _ للمصلحة لا للإهانة، ولو ماتت الزوجة بسبب ضرب الزوج لوجبت الدية والكفارة إذا كان الضرب لغير التأديب المأذون فيه.
أما إذا كان التلف مع التأديب المشروع فلا ضمان عليه، هذا مذهب أحمد ومالك.
أما الشافعي وأبو حنيفة فيرون الضمان في ذلك، ووافقهم القرطبي _ وهو مالكي _(1).
وقال النووي × في شرح حديث حجة الوداع السابق: =وفي هذا الحديث إباحة ضرب الرجل امرأته للتأديب، فإن ضربها الضرب المأذون فيه فماتت وجبت ديتها على عاقلة الضارب، ووجبت الكفارة في ماله+(2).
ومن هنا يتبين لنا أن الضرب دواء ينبغي مراعاة وقته، ونوعه، وكيفيته، ومقداره، وقابلية المحل، لكن الجهلة بدين الله يقلبون الأمر، ويلبسون الحق بالباطل.
ثم إن التأديب بالضرب ليس كل ما شرعه الإسلام من العلاج، بل هو آخر العلاجات مع ما فيه من الكراهة؛ فإذا وجدت امرأة ناشز أساءت عشرة زوجها، وركبت رأسها، واتبعت خطوات الشيطان، ولم ينجع معها وعظ ولا هجران _ فماذا يصنع الرجل في مثل هذه الحال؟
هل من كرامته أن يهرع إلى مطالبة زوجته كلَّما نشزت؟ وهل تقبل المرأة ذلك، فينتشر خبرها، فتكون غرضاً للذم، وعرضة للَّوم؟
إن الضرب بالمسواك، وما أشبهه أقلُّ ضرراً على المرأة نفسها، وأحفظ لمشاعرها من تطليقها الذي هو نتيجة غالبة لاسترسالها في نشوزها، فإذا طُلِّقت تصدع بنيان الأسرة، وتفرق شملها، وتناثرت أجزاؤها.
وإذا قيس الضرر الأخف بالضرر الأعظم كان ارتكاب الأخف حسناً جميلاً، كما قيل: وعند ذكر العمى يستحسن العورُ.
__________
(1) انظر المغني لابن قدامة 12/528، وتفسير القرطبي 5/165.
(2) صحيح مسلم بشرح النووي 8/340.(1/31)
فالضرب طريق من طرق العلاج يجدي مع بعض النفوس الشاردة التي لا تفهم بالحسنى، ولا ينفع معها الجميل، ولا تفقه الحجة، ولا تقاد بزمام الإقناع(1).
ثم إذا أخطأ أحد من المسلمين سبيل الحكمة، فضرب زوجته وهي لا تستحق، أو ضربها ضرباً مبرحاً _ فالدين براء من تبعة هذه النقائص، وإنما تبعتها على أصحابها(2).
__________
(1) انظر الطلاق والعدة بين التشرع والواقع، لمحمود بزال ص28_29، وعودة الحجاب، د. محمد إسماعيل المقدم 2/459_460.
(2) هذا وقد أثبتت دراسات علم النفس أن بعض النساء لا ترتاح أنفسهن إلا إذا تعرضن إلى قسوة وضرب شديد مبرح، بل قد يعجبها من الرجل قسوته، وشدته، وعنفه؛ فإذا كانت امرأة من هذا النوع فإنه لا يستقيم أمرها إلا بالضرب.
وشواهد الواقع والملاحظات النفسية على بعض أنواع الانحراف تقول: إن هذه الوسيلة قد تكون أنسب الوسائل لإشباع انحراف نفسي معين، وإصلاح سلوك صاحبه، وإرضائه في الوقت ذاته؛ فربما كان من النساء من لا تحس قوة الرجل الذي تحب أن يكون قواماً عليها إلا حين يقهرها عضلياً.
وليست هذه طبيعة كل امرأة، ولكن هذا الصنف من النساء موجود، وهو الذي يحتاج إلى هذه المرحلة الأخيرة؛ ليستقيم على الطريقة.
والذين يولعون بالغرب، ويولون وجوههم شطره يوحون إلينا أن نساء الغرب ينعمن بالسعادة العظمى مع أزواجهن.
ولكن الحقيقة الماثلة للعيان تقول غير ذلك؛ فتعالوا نطالع بعض الإحصاءات التي تدل على وحشية الآخرين الذين يرمون المسلمين بالوحشية.
أ_ نشرت مجلة التايم الأمريكية أن ستة ملايين زوجة في أمريكا يتعرضن لحوادث من جانب الزوج كل عام، وأنه من ألفين إلى أربعة آلاف امرأة يتعرضن لضرب يؤدي إلى الموت، وأن رجال الشرطة يقضون ثلث وقتهم للرد على مكالمات حوادث العنف المنزلي. انظر دور المرأة المسلمة في المجتمع إعداد لجنة المؤتمر النسائي الأول ص45.
ب_ ونشر مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي عام 1979م أن 40% من حوادث قتل النساء تحدث بسبب المشكلات الأسرية، وأن 25% من محاولات الانتحار التي تُقْدم عليها الزوجات يسبقها نزاع عائلي. انظر دور المرأة المسلمة في المجتمع ص46.
ج_ دراسة أمريكية جرت في عام 1407هـ _ 1987م أشارت إلى أن 79% يقومون بضرب النساء وبخاصة إذا كانوا متزوجين بهن.
وكانت الدراسة قد اعتمدت على استفتاء أجراه د.جون بيرير الأستاذ المساعد لعلم النفس في جامعة كارولينا الجنوبية بين عدد من طلبته.
وقد أشارت الدراسة إلى أن استعداد الرجال لضرب زوجاتهم عالٍ جداً، فإذا كان هذا بين طلبة الجامعة فكيف بمن هو دونهم تعليماً؟
د _ وفي دراسة أعدها المكتب الوطني الأمريكي للصحة النفسية جاء أن 17% من النساء اللواتي يدخلن غرف الإسعاف ضحايا ضرب الأزواج أو الأصدقاء، وأن 83% دخلن المستشفيات سابقاً مرة على الأقل للعلاج من جروح وكدمات أُصِبْنَ بها كان دخولهن نتيجة الضرب.
وقال إفان ستارك معد هذه الدراسة التي فحصت (1360) سجلاً للنساء: إن ضرب النساء في أمريكا ربما كان أكثر الأسباب شيوعاً للجروح التي تصاب بها النساء، وأنها تفوق ما يلحق بهن من أذى نتيجة حوادث السيارات، والسرقة، والاغتصاب مجتمعة.
وقالت جانيس مور _ وهي منسقة في منظمة الائتلاف الوطني ضد العنف المنزلي ومقرها واشنطن _: إن هذه المأساة المرعبة وصلت إلى حد هائل؛ فالأزواج يضربون نساءهم في سائر أنحاء الولايات المتحدة، مما يؤدي إلى دخول عشرات منهن إلى المستشفيات للعلاج.
وأضافت بأن نوعية الإصابات تتراوح ما بين كدمات سوداء حول العينين، وكسور في العظام، وحروق وجروح، وطعن بالسكين، وجروح الطلقات النارية، وما بين ضربات أخرى بالكراسي، والسكاكين، والقضبان المحماة.
وأشارت إلى أن الأمر المرعب هو أن هناك نساءاً أكثر يُصبن بجروح وأذى على أيدي أزواجهن ولكنهن لا يذهبن إلى المستشفى طلباً للعلاج، بل يُضمِّدن جراحهن في المنزل.
وقالت جانيس مور: إننا نقدر بأن عدد النساء اللواتي يُضربن في بيوتهن كل عام يصل إلى ستة ملايين امرأة، وقد جمعنا معلومات من ملفات مكتب التحقيقات الفيدرالية، ومن مئات الملاجئ التي توفر المأوى للنساء الهاربات من عنف وضرب أزواجهن. انظر من أجل تحرير حقيقي ص16_21، وانظر المجتمع العاري بالوثائق والأرقام ص56_57.
هـ _ وجاء في كتاب ماذا يريدون من المرأة لعبدالسلام البسيوني ص36_66 ما يلي:
-ضرب الزوجات في اليابان هو السبب الثاني من أسباب الطلاق.
-772 امرأة قتلهن أزواجهن في مدينة ساوباولو البرازيلية وحدها عام1980م.
-يتعرض ما بين ثلاثة إلى أربعة ملايين من الأمريكيات للإهانة المختلفة من أزواجهن وعشاقهن سنوياً.
_ أشارت دراسة كندية اجتماعية إلى أن ربع النساء هناك _ أي أكثر من ثمانية ملايين امرأة _ يتعرضن لسوء المعاملة كل عام.
_ في بريطانيا تستقبل شرطة لندن وحدها مائة ألف مكالمة سنوياً من نساء يضربهن أزواجهن على مدار السنين الخمس عشرة الماضية.
-تتعرض امرأة لسوء المعاملة في أمريكا كل ثمان ثوان.
-مائة ألف ألمانية يضربهن أزواجهن سنوياً، ومليونا فرنسية.
-60% من الدعوات الهاتفية التي تتلقاها شرطة النجدة في باريس أثناء الليل _ هي نداءات استغاثة من نساء تُساء معاملتهن.
وبعد فإننا في غنى عن ذكر تلك الإحصاءات؛ لعلمنا بأنه ليس بعد الكفر ذنب.
ولكن نفراً من بني جلدتنا غير قليل لا يقع منهم الدليل موقعه إلا إذا نسب إلى الغرب وما جرى مجراه؛ فها هو الغرب تتعالى صيحاته من ظلم المرأة؛ فهل من مدكر؟
إذا لم يكن للمرء عين صحيحة فلا غرو أن يرتاب والصبح مسفر(1/32)
وهذه الفقرة داخلة في الفقرة الماضية، وإنما أفردت لأهميتها، ولمسيس الحاجة إليها؛ ذلك أن كثيراً من الأزواج يشكو من فقر المشاعر بين زوجته ووالديه، وعلى وجه الخصوص أمه؛ فتجد من الزوجات من لا تراعي مشاعر والدي زوجها، وهذا الأمر يأخذ صوراً شتى؛ فمن ذلك رفع الصوت عليهما، وقلة التودد لهما.
ومن ذلك إذلالهما، واحتقارهما، وكثرة ذمهما، وتمني الخلاص من العيش معهما، وإغراء الزوج بعقوقهما.
ومن مظاهر ذلك الغيرة من الأم، ومعاملتها على أنها منافسة لها، وشريكة معها في زوجها؛ فإذا قدم لأمه هدية، أو أي نوع من أنواع البر ثارت ثوائرها إلى غير ذلك من صور فقر المشاعر.
وإذا أرجعنا البصر في أسباب ذلك وجدناها ناتجة عن قلة التقوى، وسوء التربية، وضعف العقل.
كذلك تنتج هذه المعاملة عن ضيق العطن، وصغر النفس؛ فالنفوس تختلف سعة وضيقاً، كما تختلف الحجر والمنازل والأماكن؛ فمن الناس من تضيق نفسه حتى تكون كَسَمّ الخِيَاط، ومنهم من تتسع نفسه حتى تشمل العالم وما فيه.
فما ثمرة تلك المعاملة من الزوجة؟ إنها تُنَغِّصُ عيشتها وعيشة من تعاشره؛ فلا الزوجة تسعد، ولا زوجها ولا والداه.
وكما أن فقر المشاعر قد يصدر من الزوجات فقد يصدر من الوالدين أو أحدهما وخصوصاً الأم؛ فمن الأمهات _ هداهن الله _ من هي قاسية في التعامل مع زوجة الابن، فتراها تضخم المعايب، وتخفي المحاسن، وقد تتقوَّل على الزوجة، وقد تذهب كل مذهب في تفسير التصرفات البريئة،وتأويل الكلمات العابرة.
ومن صور فقر المشاعر في هذا الصدد عقد المقارنة بين زوجات الأبناء؛ فترى أهل الزوج _ وخصوصاً أمه _ يبالغون في الثناء على هذه الزوجة بأنها تجيد الطبخ، ويعيبون الأخرى بأنها خلاف ذلك، أو يثنون على هذه باللباقة، ويصفون الأخرى بالكزازة والغلظة، أو يدَّعون بأن هذه تدير زوجها على ما تريد، وأن الأخرى لا ترفع صوتها فوق صوت زوجها.(1/33)
وربما طال هذا الأمر، وبولغ فيه، وربما علم الأزواج بما يقال في زوجاتهم، وربما علمت الزوجات بذلك.
ومن هنا تنشأ النفرة، ويسود سوء الظن، وتتأجج نار الغيرة.
وهذا خطأ كبير؛ فاللائق بأهل الزوج أن يحتفظوا بآرائهم لأنفسهم، وألا يذكروا أولئك الزوجات إلا بخير خصوصا عند أبنائهم؛ لأن ذلك مما يفرح الأبناء، ويزيد في الألفة.
وإن كان هناك من خطأ فليعالج بالحكمة، وإن كان الخطأ يسيراً فالتغاضي حسن مطلوب، إلا إذا كان أمر لا يطاق ولا يحتمل.
ومن صور التفريط في مراعاة المشاعر مبالغة بعض الأمهات في تفضيل بعض زوجات أبنائها على زوجات الأبناء الأخريات، وإظهار ذلك دون مداراة أو مواربة.
ولا ريب أن ذلك مما يوغر صدور الأبناء، ويسبب النفرة بين الأم وباقي الزوجات.
إلى غير ذلك من صور فقر المشاعر؛ فما الحل _ إذاً _ في مثل هذه الأحوال؟ هل يقف الإنسان مكتوف الأيدي فلا يحرك ساكناً ؟ هل يعق والديه، ويسيء إليهما، ويسفِّه رأيهما، ويردهما بعنف وقسوة في سبيل إرضاء زوجته ؟
أو يساير والديه في كل ما يقولانه في حق زوجته، ويصدقهما في جميع ما يصدر منهما من إساءة للزوجة مع أنها قد تكون بريئة ووالداه على خطأ ؟.
وهل يرضى بأن تسود لغة القسوة، وتختفي لغة المشاعر الصادقة الطيبة؟!.
لا، ليس الأمر كذلك، وإنما عليه أن يبذل جهده، ويسعى سعيه في سبيل إصلاح ذات البين، ورأب الصدع، وجمع الكلمة.
إن قوة الشخصية في الإنسان تبدو في القدرة على الموازنة بين الحقوق والواجبات التي قد تتعارض أمام بعض الناس، فتُلبِسُ عليه الأمر، وتوقعه في التردد والحيرة.
ومن هنا تظهر حكمة الإنسان العاقل في القدرة على أداء حق كلٍّ من أصحاب الحقوق دون أن يلحق جوراً بأحدٍ من الآخرين.
ومن عَظَمة الشريعة أنها جاءت بأحكام توازن بين عوامل متعددة، ودوافع مختلفة، والعاقل الحازم يستطيع _ بعد توفيق الله _ أن يعطي كل ذي حقٍّ حقه.(1/34)
وكثير من المآسي الاجتماعية، والمشكلات الأسرية تقع بسبب الإخلال بهذا التوازن.
ومما يعين على تلافي وقوع هذه المشكلات أن يسعى كل طرف من الأطراف في أداء ما له وما عليه.
وفيما يلي إشارات، وإرشادات عابرة تعين على ذلك:
وهذه الإشارات، والإرشادات تخاطب الابن الزوج، وتخاطب زوجته، وتخاطب والديه وخصوصاً أمه.
1_ دور الابن الزوج: فمما يعين الابن الزوج على التوفيق بين والديه وزوجته ما يلي:
أ_ مراعاة الوالدين وفهم طبيعتهما:وذلك بألا يقطع البر بعد الزواج، وألا يبدي لزوجته المحبة أمام والديه _ خصوصاً إذا كان والداه أو أحدهما ذا طبيعة حادة؛ لأنه إذا أظهر ذلك أمامهما أوغر صدورهما، وولَّد لديهما الغيرة وخصوصاً الأم.
كما عليه أن يداري والديه، وأن يحرص على إرضائهما، وكسب قلبيهما.
ب_ إنصاف الزوجة: وذلك بمعرفة حقها، وبألا يأخذ كل ما يسمع عنها من والديه بالقبول، بل عليه أن يحسن بها الظن، وأن يتثبت مما يُقال.
ج_ اصطناع التوادد: فيوصي زوجته _ على سبيل المثال _ بأن تهدي لوالديه، أو يشتري بعض الهدايا ويعطيها زوجته؛ كي تقدمها للوالدين _خصوصاً الأم_ فذلك مما يرقق القلب، ويستل السخائم، ويجلب المودة.
ومن ذلك نقل الكلام الطيب بينهما؛ لأن ذلك يزيد في الود، ويكذب سوء الظن.
و_ التفاهم مع الزوجة: فيقول لها _ مثلاً _ إن والديَّ جزءٌ لا يتجزأ مني، وإنني مهما تبلد الحس عندي فلن أَعُقَّهما، ولن أقبل أيَّ إهانة لهما، وإن حبي لك سيزيد وينمو بصبرك على والدي، ورعايتك لهما.
كذلك يذكرها بأنها ستكون أمَّاً في يوم من الأيام، وربما مرّ بها حالة مشابهة لحالتها مع والديه؛ فماذا يرضيها أن تُعَامَل به؟
كما يذكرها بأن المشاكسة لن تزيد الأمر إلا شدة وضراوة، وأن الرفق ما كان في شيء إلا زانه، ولا نزع من شيء إلا شانه، وهكذا (1).
__________
(1) انظر: =من أخطاء الأزواج+ للكاتب ص 5_9.(1/35)
2_ دور زوجة الابن: أما زوجة الابن فإنها تستطيع أن تقوم بدور كبير في هذا الصدد، ومما يمكنها أن تقوم به أن تُؤْثِر زوجها على نفسها، وأن تكرم قرابته، وأن تزيد في إكرام والديه، وخصوصاً أمه؛ فذلك كله إكرام للزوج، وإحسان إليه.
كما أن فيه إيناساً له، وتقوية لرابطة الزوجية، وإطفاءاً لنيران الفتنة.
وإذا كان الزوج أعظم حقَّاً على المرأة من والديها، وإذا كان مأموراً _ شرعاً _ بحفظِ قرابته، وأهلِ ودِّ أبيه؛ تقوية للرابطة الاجتماعية في الأمة _ فإن الزوجة مأمورة شرعاً بأن تحفظ أهل ودِّ زوجها من بابٍ أولى؛ لتقوية الرابطة الزوجية.
ثم إن إكرام الزوجة لوالدي زوجها _ وهما في سن والديها _ خُلُقٌ إسلاميٌ أصيل، يدل على نبل النفس، وكرم المَحْتدِ.
ولو لم يأتها من ذلك إلا رضا زوجها، وكسب محبة الأقارب، والسلامة من الشقاق والمنازعات، زيادة على ما سينالها من دعوات مباركات.
كما أن على الزوجة الفاضلة ألا تنسى _ منذ البداية _ أن هذه المرأة التي تشعر أنها منافسة لها في زوجها _ هي أم ذلك الزوج، وأنه لا يستطيع مهما تبلّد فيه الإحساس أن يتنكر لها؛ فإنها أمه التي حملته في بطنها تسعة أشهر، وأمَدَّتْهُ بالغذاء من لبنها، وأشرقت عليه بعطفها وحنانها، ووقفت نفسها على الاهتمام به حتى صار رجلاً سويَّاً.
كما أن هذه المرأة أم لأولادك _ أيتها الزوجة _ فهي جدَّتهم، وارتباطهم بها وثيق؛ فلا يحسن بك أن تعامليها كضرَّة؛ لأنها قد تعاملك كضرّة، ولكن عامليها كأم تعامِلْك كابنة، وقد يصدر من الأم بعض الجفاء، وما على الابنة إلا التحمل، والصبر؛ ابتغاء المثوبة والأجر.
فإذا شاع في المنزل والأسرة أدبُ الإسلام، وعرف كل فرد ماله وما عليه سارت الأسرة سيرة رضيَّة، وعاشت _ في أغلب الأحيان _ عيشة هنيئة.(1/36)
واعلمي _ أيتها الزوجة _ أن زوجك يحب أهله أكثر من أهلك، ولا تلوميه في ذلك؛ فأنت تحبين أهلك أكثر من أهله؛ فاحذري أن تطعنيه بازدراء أهله، أو أذيتهم، أو التقصير في حقوقهم؛ فإن ذلك يدعوه إلى النفرة منك، والميل عنك.
إن تفريط الزوجة في احترام أهل زوجها تفريط في احترام الزوج نفسه، وإذا لم يقابل ذلك _ بادي الرأي _ بشيء فلن يسلم حبُّه للزوجة من الخدش، والتكدير.
ثم إن الرجل الذي يحب أهله، ويبر والديه إنسان فاضل كريم صالح جدير بأن تحترمه زوجته، وتجلّه، وتؤمل فيه الخير؛ لأن الرجل الذي لا خير فيه لوالديه لا يكون فيه _ غالباً _ خير لزوجة، أو ولد، أو أحد من الناس.
وإذا كنت _ أيتها الزوجة _ راضية عن عقوق الزوج لوالديه، وعن معاملتك السيئة لهما _ فهل ترضين أن تعامل أمُّك بمثل هذه المعاملة من قبل زوجات إخوانك؟
بل هل ترضين أن تعاملي أنت بذلك من زوجات أولادك إذا وهن منك العظم، واشتعل الرأس شيباً؟
وأخيراً فإن موقف الزوجة الصالحة في إعانة زوجها على البر كفيل في كثير من الأحيان _ بعد توفيق الله _ في حل المشكلات، وتسوية الأزمات، وجمع الشمل، ورأب الصدع؛ لأن الوالدين عندما يشهدان الحبَّ الصادق، والحنان الفياض من زوجة ابنهما _ فإنهما سيحفظان ذلك الجميل.
هذا وقد أرانا العيان أن كثيراً من الوالدين يحبون زوجات بنيهم كحبهم لبناتهم، أو أشدّ حُبَّاً.
وما ذلك إلا بتوفيق الله، ثم بحكمة أولئك الزوجات، وحرصهن على حسن المعاملة لوالدي الأزواج.
ومما يعين الزوجة على التسلل إلى قلوب والدي الزوج _ زيادة على ما مضى _ أن تصبر على الجفاء، وأن تستحضر الأجر، وأن تنظر في العواقب.
ومن ذلك أن تبادرهما بالهدية، وأن تحرص على حسن المحادثة والاستماع لحديث الوالدين، وأن تتلطف بالكلام، وإلقاء السلام، وحسن التعاهد.
ومن ذلك أن توصي زوجها بمراعاة والديه، و بألا يشعرها بأن قلبه قد مال عنهما كل الميل إليها.(1/37)
ومن ذلك أن ترفع أكف الضراعة إلى الله؛ كي يعطف قلوب الوالدين إليها، وأن يعينها على حسن التعامل معهما.
فيا أيتها الزوجة الكريمة استحضري هذه المعاني، ولك ثناء جميل، وذكر حسن في العاجل، وأجر جزيل، وعطاءٌ غير مجذوذ في الآجل(1).
3_ دور أم الزوج: فيا أيتها الأم الكريمة، يا من تحبين ابنك، وترومين له السعادة _ لا تكوني معول هدم وتخريب، ولا تجعلي غيرتك ناراً موقدة تحرق جو الأسرة، ولا تستسلمي للأوهام التي ينسجها خيالك؛ فتعكِّري الصفو، وتثيري البلابل؛ فلا تجعلي علاقتك بزوجة ابنك علاقة الندّ بالندّ، والضرة بالضرة، بل كوني لها أمَّاً تكن لك ابنة؛ فيحسن بك أن تحبيها، وأن تتغاضي عن بعض ما يصدر منها، وإذا رأيتِ خللاً بادرتِ إلى نصحها بلين ورفق، حينئذٍ تسعدين، وتُسعدين.
بل يحسن بك أن تتوددي إليها بالهدية ونحوها، وأن تسعيها بقلبك الكبير وحنانك الفياض، ودعائك الخالص، وثنائك الصادق.
واستحضري عند حصول أية مشكلة بينك وبين زوجة ابنك _ أن هذه المشكلة حدثت بين ابنتك وأم زوجها؛ فماذا ترضين أن تعامل ابنتك به؟
أترك الجواب لك، وأسأل الله يتولاك برعايته، ويمدك بلطفه.
للجار في الإسلام منزلة عالية، وحرمة مصونة، ولقد بلغ من عِظَم حق الجار في الإسلام أن قرنَ الله حق الجار بعبادته وتوحيده _ تبارك وتعالى _ وبالإحسان إلى الوالدين، واليتامى، والأرحام.
قال _ عز وجل _ في آية الحقوق العشرة: [وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ] النساء: 36.
فقوله _ تعالى _: [وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى]: هو الذي بينك وبينه قرابة، وقيل: هو الذي قَرُبَ جوارُه، وقيل: المسلم، وقيل: الزوجة.
__________
(1) انظر إلى كتاب: من أخطاء الزوجات للكاتب ص 16_11.(1/38)
وقوله: [وَالْجَارِ الْجُنُبِ]: قيل: هو الذي يعد في العرف جارًا وبينك وبين منزله فسحة.
وقيل: هو الذي ليس بينك وبينه قرابة، وقيل: الزوجة: وقيل: غير المسلم(1).
أما السنة النبوية فقد استفاضت نصوصها في بيان رعاية حقوق الجار، والوصاية به، وصيانة عرضه، والحفاظ على شرفه، وستر عورته، وسد خلَّته، وغض البصر عن محارمه، والبعد عن ما يريبه ويسيء إليه.
ومن أجلى تلك النصوص وأعظمها ما جاء في الصحيحين من حديث عائشة وابن عمر _ رضي الله عنهما _ أن النبي " قال: =ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورِّثه+ (2).
أي ظننت أنه سيبلغني عن الله الأمرُ بتوريث الجارِ الجارَ.
وهذه كلمة جامعة بالغة؛ فإن الوصاية بالجار تشمل كف الشر عنه وإسداء الخير إليه، وقوله ": =حتى ظننت أنه سيورِّثه+ يدل على أن الوصاية بالجار كانت على جانب عظيم من التأكد، والحث على رعاية حقوقه (3).
ومع عظم هذه الوصاية بالجار فإن هناك من فرط كثيراً في حق الجار، والذي يعنينا في هذا السياق قلة المراعاة لمشاعر الجيران، وهذا الأمر يأخذ مظاهر عديدة منها:
1_ مضايقة الجار: وتلك المضايقة داخلة في أذية الجار، وهي تأخذ صوراً شتى؛ فمن مضايقةِ الجارِ إيقافُ السيارات أمام بابه حتى يضيقَ عليه دخولُ منزله، أو الخروج منه.
ومن ذلك مضايقته بالأشجار الطويلة التي تطل على منزله، وتؤذيه بتساقط الأوراق عليه.
ومن ذلك ترك المياه تتسرب أمام منزل الجار مما يشق معها دخول الجار منزله، وخروجه منه.
__________
(1) انظر: تفسير البغوي معالم التنزيل 2/310، 211، وزاد المسير لابن الجوزي 2/78_81، وجامع العلوم والحكم 1/437، 438، وفتح القدير للشوكاني 4/464_465.
(2) البخاري (6014)، ومسلم (2624)، من حديث عائشة، والبخاري (6015) ومسلم (2625) من حديث ابن عمر.
(3) انظر الهداية الإسلامية للشيخ محمد الخضر حسين ص 78.(1/39)
ومن ذلك إيذاء الجيران بالروائح المنتنة المنبعثة من مياه المجاري.
وقد لا يُلام المرء على هذا في بداية الأمر، ولكن يُلام إذا لم يحرص على إصلاحها أو تعاهدها.
ومن ذلك مضايقتهم بمخلفات البناء وأدواته؛ حيث تمكث طويلاً أمام بيوت الجيران بلا داع.
أما إذا احتاج الجار إلى وضع بعض المخلفات أمام منزل جاره، وحرص على إنجاز العمل فلا بأس؛ فمتطلبات الحياة تستلزم مثل هذا، وتَحَمُّلُ مثل ذلك من حق الجار على الجار.
والمقصود أن يعجل المرء في إماطة الأذى عن جيرانه مع الاعتذار لهم، وشكرهم على تحملهم.
ومن مضايقتهم حفر الآبار وتركها مكشوفة دون وضع حماية لها، فتكون عرضة لسقوط أحد أبناء الجيران فيها.
ومن المضايقة للجيران وضع الزبل أمام أبوابهم.
2_ احتقار الجار والسخرية منه: كأن يحتقر جاره، أو يسخر منه لفقره، أو لجهله، أو وضاعته.
ومن ذلك السخرية بحديثه إذا تحدث، والسخرية بملبس الجار، أو منزله، أو أولاده أو نحو ذلك.
ويكفي في التنفير من هذا الخلق القبيح قوله _ تعالى _:[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ] الحجرات: 11.
واحتقار الجار لا يصدر من ذي خلق كريم، أو دين قويم، وإنما يفعله الذين ضَمُر إحساسُهم، ولم يتربوا تربية فاضلة.
وإلا لو كانوا كراماً لما احتقروا جارهم، بل لحرصوا على أن يجلِّوه، وأن يرفعوا خسيسته.
قال حسان بن ثابت ÷:
فما أحدٌ منا بمهدٍ لجاره ... أذاةً ولا مُزْرٍ به وهو عائد
لأنَّا نرى حقَّ الجوارِ أمانةً ... ويحفظه منا الكريم المعاهد(1)
__________
(1) ديوان حسان بن ثابت ص 77.(1/40)
3_ إيذاء الجيران بالجَلَبةِ: فمن الجيران مَنْ لا يأنف من إيذاء جيرانه بالجلبة، إما برفع الأصوات بالغناء والملاهي، أو برفع الصوت بالشجار بين أهل البيت، أو بلعب الأولاد بالكرة وإزعاجهم للجيران، أو بطرق باب الجار وضرب جرس منزله دون حاجة، أو بإطلاق الأبواقِ المزعجة أمام بيت الجار خصوصاً في الليل، أو في أوقات الراحة؛ فلربما كان أحد الجيران مريضاً، أو كبيراً لا ينام إلا بشق الأنفس، أو لديه طفل يريد إسكاته وتهدئته، فلا يستطيع ذلك بسبب الإزعاج والجلبة.
4_ قلة المشاركة العاطفية للجيران: فمن الناس من لا هَمَّ له إلا خاصة نفسه، وما عدا ذلك لا يعنيه في قليل ولا كثير؛ فَفَرحُ الناس وحزنهم ومشكلاتهم لا تشغل حيِّزاً من تفكيره.
وتلك آفة سيئة، وأَثَرَةٌ قبيحة، وهي مع الجيران أسوأ وأقبح؛ فالجار الصالح من يُعنى بشؤون جيرانه، فيشاطرهم أفراحهم، ويشاركهم أتراحهم، فإن نالهم فَرَحٌ فَرِحَ معهم، وزاد من أنسهم، وإن نابهم تَرَحٌ شاركهم في مشاعرهم، وواساهم، وخفف عليهم مصابهم؛ فإن ذلك دليل الإيمان، وآية المروءة؛ فالمؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً، والمؤمنون في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر.
ولقد كان العرب يضربون المثل في حسن الجوار بجار أبي دؤاد، وهو كعب ابن مامة، فيقولون في مثلهم السائر: =جار كجار أبي دؤاد+.
فإن كعباً كان إذا جاوره رجل فمات وداه(1)، وإن هلك له بعير أو شاة أخلف عليه، فجاءه أبو دؤاد الشاعر مجاورًا له، فكان كعب يفعل به ذلك، فضربت العرب به المثل في حسن الجوار، فقالوا: جار كجار أبي دؤاد.
قال قيس بن زهير:
أطَوِّف ما أطوف ثم آوي ... إلى جار كجار أبي دؤاد(2)
__________
(1) وداه: أي أعطى أهله مقدار ديته.
(2) انظر: مجمع الأمثال للميداني 1/289.(1/41)
5_ قلة التهادي بين الجيران: فالجيران يحصل بينهم _ بحكم القرب _ ما يحصل من الهفوات والزلات، وما شاكل ذلك، فيحتاجون إلى ما يؤصِّر العلاقة فيما بينهم، وإلى ما يذيب أسباب الفرقة والعداوة، والظنون السيئة.
ويأتي على رأس ذلك الهديةُ.
إن الهدية حلوةٌ ... كالسحر تجتذب القلوبا
تدني البعيد عن الهوى ... حتى تصيِّره قريباً
وتعيد مضطغن العدا ... وة بعد بغضته حبيباً
تنفي السخيمة عن ذوي الشـ ... ـحنا وتمتحق الذنوبا(1)
ومع عظم شأن الهدية، ومع حاجة الجيران إليها إلا أن من الناس من لا يأبه بها، فربما مرّت الأعوام تلو الأعوام، وربما حدثت مشكلات بين الجيران، ومع ذلك لا يبادر أحد منهم بالهدية، بل ربما مرّت الأعمار دون تهادٍ بين الجيران.
ومن هنا تهي حبال المودة، وتتصرم عرى المحبة بين الجيران، فيحسن بالجيران أن يتهادوا فيما بينهم، وأن يتعاهدوا بالهدية الأقرب فالأقرب، جاء في صحيح البخاري عن عائشة _ رضي الله عنها _ قالت: قلت: يا رسول الله، إن لي جارين، فإلى أيهما أهدي ؟ قال: =إلى أقربهما منك باباً+(2).
قال ابن حجر ×: =وقوله: =أقربهما+ أي أشدهما قربًا.
قيل: الحكمة فيه أن الأقرب يرى ما يدخل بيت جاره من هدية وغيرها، فيتشوف لها؛ بخلاف الأبعد، وأن الأقرب أسرع إجابة لما يقع لجاره من المهمات، ولا سيما في أوقات الغفلة.
قال ابن أبي جمرة: الإهداء إلى الأقرب مندوب؛ لأن الهدية في الأصل ليست واجبة، فلا يكون الترتيب فيها واجباً+(3).
6_ التكبر عن قبول هدية الجار: فمن الناس من يتكبر عن قبول الهدية من جاره، وذلك إذا كانت يسيرة قليلة، أو كانت من جار فقير أو وضيع.
وهذا من الكبر المذموم، ومما يورث البغضاء والشحناء، وجرح شعور الجار.
__________
(1) روضة العقلاء لابن حبان ص 243.
(2) البخاري (2259)، و(2595)، و(6020).
(3) فتح الباري 10/461.(1/42)
فاللائق بالجار أن يقبل هدية جاره ولو قلَّت، سواء أكان غنيًا أم فقيرًا، أو كان رفيعًا أو وضيعاً؛ فالهدية لا تقدر بقيمتها، وإنما تقدر بمعناها.
وإذا قبلتَ الهديةَ من الجار أفْرَحْتَه، وأشعرته بتواضعك ومحبتك له.
قال النبي ":=يا نساء المؤمنات، لا تَحْقِرنَّ جارةٌ لجارتها ولو فِرْسِن شاة+(1).
الفِرْسِن بكسر الفاء، وسكون الراء، وكسر السين ثم نون: هو العظم قليل اللحم، وهو خف البعير أيضاً، وقد يستعار للشاة وهو الظلف.
والمقصود بالفرسن في الحديث: حافر الشاة (2).
ومعنى الحديث: لا تحقرن جارة أن تهدي إلى جارتها شيئاً ولو أن تهدي لها ما لا يُنتفع به في الغالب، وإنما حذف المفعول؛ اكتفاء بشهرة الحديث، ولأن المخاطبين يعرفون المراد منه (3).
قال النووي × في هذا الحديث: =ومعناه: لا تمتنع جارة من الصدقة والهدية لجارتها؛ لاستقلالها واحتقارها الموجودَ عندها، بل تجود بما تيسر وإن كان قليلاً كفرسن شاة، وهو خير من العدم، وقد قال الله _ تعالى _: [فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه] الزلزلة: 7.
وقال النبي ": =اتقوا النار ولو بشق تمرة+(4).
قال القاضي: هذا التأويل في الظاهر، وهو تأويل مالك؛ لإدخاله هذا الحديثَ في باب الترغيب في الصدقة.
قال: ويحتمل أن يكون نهياً للمعطاة عن الاحتقار+ (5).
وقال ابن حجر ×: =وقال الكرماني: يحتمل أن يكون النهي للمعطية، ويحتمل أن يكون للمُهدى إليها.
قلت: ولا يتم حمله على المهدى إليها بجعل اللام في قوله: =لجارتها+ بمعنى من، ولا يمتنع حمله على المعنيين+ (6).
وبالجملة فالحديث يُستفاد منه فائدتان:
__________
(1) رواه البخاري (6017)، ومسلم (1030)
(2) انظر صحيح مسلم بشرح النووي 7/98، 99، والآداب الشرعية 2/20، وفتح الباري 10/9.
(3) انظر فتح الباري 10/459.
(4) أخرجه البخاري (6540) ومسلم (1016).
(5) صحيح مسلم بشرح النووي 7/99.
(6) فتح الباري 10/459.(1/43)
إحداهما: ألا تحقر المرأة شيئاً تهديه لجارتها ولو قل.
والأخرى: ألا تحتقر المرأة المُهدَى إليها شيئاً ولو كان قليلاً أو حقيرًا.
وإنما خص النساء بالنهي لأمور منها:
أ_ أن النساء يكثر منهن الاحتقار للمُهدى، أو المهدي.
ب_ ولأن النساء أكثر اتصالاً بالجيران من الرجال؛ بحكم المكث والقرار.
ج_ ولأن النساء موارد المودة والبغضاء _ والله أعلم _(1).
وهذه الطبقة تمثل شريحة كبرى من الناس فأكثرهم ما بين معلم أو متعلم، أو من قد كان كذلك.
ولا ريب أن هذا الميدانَ من أرحب الميادين للقاء، والتأثير، والفائدة سواء للأفراد أو للأمة.
ومع ذلك تجد أن لغة المشاعر تكاد تضمر عند بعض المنتسبين إلى هذا الميدان العظيم؛ فترى من بعض الطلاب قلةَ احترام للمعلمين، وتجد فيهم من يطلق لسانه في ثلبهم وعيبهم، وتجد من لا يحسن التعامل، ولا عرض السؤال، ولا التأدب بأدب التلقي عموماً؛ فربما تأخر عن الدرس، وربما أحرج أستاذه بالأسئلة التي لا يريد من ورائها إلا التعنت، وربما أشاح بوجهه عن المعلم وهو يلقي الدرس، وربما اشتغل عن الدرس بجريدة أو كتاب، والمعلمُ يراه وهو على هذه الحال.
فهذه مظاهر توحي بأن من يقع فيها لم يعرف حق العلم، ولم يتأدب بأدب أهله.
وهي _ في الوقت نفسه _ توهي حبال الود بين المعلمين والطلاب.
وكذلك تجد عند بعض المعلمين تعسفاً وشدة خارجة عن طورها، فتراه لا يلقي للطلاب بالاً،ولا يخاطبهم إلا بعبارات الاحتقار والتنقص والجفاء، كما ذكر العلامة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور عن بعض مؤدبي القرون أنه كان يلقي على الصبيان شيئاً من الأدب، ويخاطبهم عند الغضب بقوله:
يا فراخ المزابل ... ونتاج الأراذل
اقرؤوا لا قرأتم ... غيرَ سحر وباطل
0
روَّح اللهُ منكم ... عاجلاً غير آجل(2)
وما هكذا تورد الإبل، وما هكذا تكون العلاقة بين الطلاب ومعلمهم.
__________
(1) انظر: فتح الباري 10/459.
(2) أليس الصبح بقريب لابن عاشور ص65.(1/44)
وإذا سارت التربية على هذا النحو فما المنتظر من الجيل الذي يتربى على تلك المعاملة؟.
ولهذا فإنه جدير بالطلاب تبجيل معلميهم، واحترامهم، وإن كانوا ناقصين في نظرهم فخذ _ أيها الطالب _ ما عند معلمك من خير، وعليك بتوجيبه، والدعاء له، والثناء عليه، وإلا فلا أقلَّ من أن تُقْصِرَ عن ذمه وعيبه.
ثم إذا أردت نقاشه في موضوعٍ ما فليكن ذلك بأدب، وحسن تأتٍّ بعيداً عن رفع الصوت أو الإسفاف.
ثم إذا وقع معلمك في خطأ ما، وأردت لفت نظره إلى ذلك _ فلا تقل له: أخطأت، أو نحو ذلك، ولا تفرح بخطئه، وإنما تأكد من ذلك، وليكن تنبيهك بأجمل عبارة، وألطف إشارة يدرك بها المعلم خطأه دون أن تشوش عليه قلبه.
ثم الزم أدب الطلب معه، فلا تقاطعه إذا تحدث، ولا تنشغل عنه إذا شرع في الدرس.
وإذا أردت أن تكسب الود، وتستولي على الأمد _ فراع أدب المحادثة مع معلمك؛ فإذا شرع في حديث فلا تكملْه، وإذا عجَّبَك فاعجب، وإذا فكَّهك فاطرب، وإذا أفادك بفائدة فأظهر الفرح إلى غير ذلك مما تستجلب به المحبة، وتطرد السآمة والوحشة.
ثم إنه حقيقٌ على المعلمين أن يعوا جانب المشاعر الصادقة وأثرها، وأن يكونوا لطلابهم مثل الوالد مع الولد؛ فإذا أردت _ أيها المعلم _ أن يحبك طلابك فأحببهم، وإذا رغبت بأن يعاملوك وكأنك أب لهم فعاملهم وكأنهم أبناء لك؛ فإن من الطباع اللازمة للطلاب أنهم يحبون من يتحبب لهم، ويميلون إلى من يحسن إليهم، ويأنسون بمن يعاملهم بالرفق، ويقابلهم بالبشاشة والبشر؛ فما لم يشعر الطالب أن معلمه يحبه، ويحب الخير له فلن يُقبل على التلقي منه، ولو أيقن أن الخير عنده، وأيُّ خير يمكن أن يتم بغير حب؟(1/45)
فجدير بالمربي الحاذق المخلص إذا أراد أن يصل إلى نفوس طلابه من أقرب طريق، وأن يصلح نزعاتهم بأيسر كلفة، وأن يحملهم على طاعته وامتثال أمره بأسهل وسيلة _ أن يتحبب إليهم، ويقابلهم بوجه متهلل، ويبادلهم التحية بأحسن منها، ويحادثهم بلطف وبشاشة، ويظهر لهم من الحنان والعطف ما يحملهم على محبته.
فإذا أحبوه أطاعوا أمره، وإذا أطاعوا أمره وصل في توجيههم في الصالحات إلى ما يريد، وتمكن من حملهم على الاستقامة، وطَبْعِهم على الخير والفضيلة.
فإذا ملك نفوسهم بهذه الطريقة حبب إليهم المدرسة، والقراءة والعلم؛ فالطالب لا يفلح في التربية، ولا ينجح في الدراسة إلا إذا أحب معلمه كحبه لأبويه، وأحب المدرسة كحبه لبيته.
وكثيراً ما ترى من الطلاب الذين يربيهم معلموهم على هذه الطريقة الحكيمة _ يباهي أحدهم تِرْبَه بِقِسْمِه ومعلمه، ويباهي زميله من مدرسة أخرى بمدرسته كما يتباهون في العادة بالآباء والبيوت، وما ذلك إلا أثر من آثار المعاملة من المعلم.(1)
هذا ومما يرسخ المحبة وينميها بين المعلم وطلابه _ زيادة على ما مضى _ ما يلي:
أ_ العناية بمصالح الطلاب وأحوالهم: قال ابن جماعة ×: =وينبغي أن يعنى بمصالح الطالب+.(2)
وقال: =ويؤنسهم بسؤالهم عن أحوالهم وأحوال من يتعلق بهم+.(3)
ب_ الصبر على بعض ما يصدر من الطلاب: فإن لذلك أثراً في محبة الطلاب لمعلمهم؛ إذ يدركون أن ذلك نابع من محبته لهم، وشفقته عليهم.
قال الإمام النووي ×: =ويجريه مجرى ولده في الشفقة عليه، والصبر على جفائه، وسوء أدبه، ويعذره في سوء أدب وجفوة تعرض منه في بعض الأحيان؛ فإن الإنسان معرض للنقائص+.(4)
__________
(1) انظر آثار الشيخ محمد البشير الإبراهيمي 3/161_162.
(2) تذكرة السامع والمتكلم ص89.
(3) تذكرة السامع والمتكلم ص107.
(4) المجموع شرح المهذب للنووي 1/30، وانظر تذكرة السامع والمتكلم ص89.(1/46)
جـ _ احترام الطلاب ومراعاة مشاعرهم: فالمعلم النبيل ذو المروءة والأدب _ هو من يحترم طلابه، ويراعي مشاعرهم، فلا يؤذيهم بكلمة، أو إشارة، بل يحفظ عليهم عزتهم وكرامتهم طالما أنهم يسيرون على حد الأدب.
قال ابن عباس _ رضي الله عنهما _: =أعز الناس عليَّ جليسي الذي يتخطى الناس إليَّ، أما والله إن الذباب يقع عليه فيشق عليَّ+.(1)
ولقد كان رسول الله " أكرم الناس لجلسائه، فقد كان يعطي كل واحد منهم نصيبه، ولا يحسب جليسُه أن أحداً أكرم عليه منه.(2)
د _ التعرف على أسماء الطلاب: لأن ذلك يشعرهم بقيمتهم واعتبارهم.
قال ابن جماعة ×: =وينبغي أن يستعلم أسماءهم، وأنسابهم، ومواطنهم، وأحوالهم+.(3)
هـ _ مخاطبتهم بكُناهم وأحب الأسماء إليهم: وفي هذا مزيد احترام وتقدير لهم.
قال ابن جماعة: =وينبغي أن يخاطب كُلاً منهم ولا سيما الفاضل المتميز بكنيته ونحوها من أحب الأسماء إليه، وما فيه له تعظيم وتوقير؛ فعن عائشة _رضي الله عنها_ =كان رسول الله " يكني أصحابه؛ إكراماً لهم+.(4)
و_ استشارتهم ببعض الأمور: فذلك مما يزرع الثقة في نفوس الطلاب، ومما ينمي الألفة والمحبة بينهم وبين معلمهم.
ز_ معرفة الطبائع وفهم العقليات: فبذلك تعامل الطالب بما يوائمه، وتعالجه بالدواء الذي يلائمه.
ح_ صفاء السريرة للطلاب: فإذا كان المعلم صافي السريرة سليم الصدر للطلاب أحبه الطلاب، وعلموا منه الإخلاص لهم، والرحمة بهم، ولو كان يؤدبهم ويعاقبهم على أخطائهم.
فلا ينبغي أن يستهان بإضمار المحبة للطلاب والشفقة عليهم؛ بحجة أنهم لا يدركون ذلك.
لا؛ بل إنهم يدركون ويميزون، ويلحظون ذلك من نظرات العيون.
وصدق من قال:
__________
(1) عيون الأخبار 1/307، وأدب المجالسة وحمد اللسان ص33، وبهجة المجالس 1/45.
(2) انظر دلائل النبوة لأبي نعيم ص555.
(3) تذكرة السامع والمتكلم ص100_101.
(4) تذكرة السامع والمتكلم ص107.(1/47)
والعين تنطق والأفواه صامتة ... حتى ترى من ضمير القلب تبيانا
العين تبدي الذي في نفس صاحبها ... من العداوة أو ودٍّ إذا كانا(1)
ومن قال:
إن العيونَ على القلوب شواهد ... فَبَغِيْضُها لك بَيِّنٌ وحبيبُها
وإذا تلاحظت العيونُ تفاوضت ... وَتَحَدَّثَتْ عَمَّا تُجنُّ قلوبها
يَنْطِقْنَ والأفواهُ صامتةٌ فما ... يخفى عليك بريئُها ومريبها(2)
ومن قال:
لا تسألنَّ المرء عما عنده ... واسْتمْلِ ما في قلبه من قلبكا
إن كان بغضاً كان عندك مثلُهُ ... أو كان حباً فاز منك بحُبِّكا(3)
ومن مقتضيات إضمار المحبةِ الدعاءُ للطلاب؛ فللدعاء سر عجيب في دوام الألفة، وقد لا تدركه الأبصار، ولكن تدركه القلوب التي في الصدور.
هذه بعض الأمور التي تحبب المعلم لطلابه، وتحببهم به.
فإذا أحببت الطلاب وأحبوك وجدت سعادتك بينهم أكثر مما تجدها في البيت وبين الأصحاب.
وإليك نبذة عن أحوال المعلمين مع الطلاب، وأحوال الطلاب مع المعلمين؛ فقد روى الذين دوَّنوا ترجمة الإمامِ الفاتحِ أسدِ بن الفرات، أنه لما كان يأخذ العلم عن الإمام محمد بن الحسن الشيباني، تلميذ الإمام أبي حنيفة كان الإمام محمد بن الحسن إذا رأى تلميذه أسد بن الفرات غلب عليه النوم وهو يسهر في تلقي العلم عنه نضح على وجهه رشاشاً من الماء؛ ليجدد له نشاطه؛ شفقة منه عليه، ورغبة منه في أن ينهض إلى مستوى الإمامة في العلم.
ولولا أن محمد بن الحسن تأدب بأدب الإسلام، وعمل بالمبدأ المحمدي في أن يكون لتلميذه كما يكون الوالد لولده _ لانتهز فرصة غلبة النوم على تلميذه، وأرجأ الدرس على الليلة الثانية.
__________
(1) الخصائص لابن جني 1/247.
(2) الأبيات لمحمود الوراق، انظر ديوانه تحقيق د. وليد قصاب ص84.
(3) ديوان محمد الوراق ص156.(1/48)
هذا مع ما عُلم من مقام الإمام محمد بن الحسن في الدولة، وكثرة أعماله العلمية، لكنه لما كان يعلم أن من أدب الإسلام أن يكون التلميذ بمنزلة الولد من الوالد التزم مع أسد بن الفرات هذا الأدب الرحيم، وكان من نتيجة ذلك نبوغُ أسدِ بن الفرات، وقيامه للملة الإسلامية بما لا يقوم بمثله إلا أفذاذ النوابغ من صفوة البشر(1).
=ويقص علينا التاريخ أن في الأساتذة من يحرص على أن يرتقي طلابه في العلم إلى الذروة، ولا يجد في نفسه حرجاً من أن يظهر عليه أحدُهم في بحث أو محاورة.
يذكرون أن العلامة أبا عبدالله الشريف التلمساني كان يحمل كلام الطلبة على أحسن وجوهه، ويبرزه في أحسن صوره.
ويروى أن أبا عبدالله هذا كان قد تجاذب مع أستاذه أبي زيد ابن الإمام الكلامَ في مسألة، وطال البحث اعتراضاً وجواباً، حتى ظهر أبو عبدالله على أستاذه أبي زيد، فاعترف له الأستاذ بالإصابة، وأنشد مداعباً:
أعلمه الرماية كل يوم ... فلما اشتد ساعده رماني+(2)
والذي يقرأ مثل هذه السير تهتز في نفسه عاطفةُ احترام لمن أقر بالخطأ، أو اعترف لخصمه بخصلة حمد، وربما كان إكبارهم لمن أقر بالخطأ فوق إكبارهم لمن خالفه فأصاب.
وسبب هذا الإكبار عظمة الإنصاف، وعزة من يأخذ نفسه بها في كل حال.
وهذا الشيخ ابن التلمساني، أحد كبار علماء شمال أفريقيا سأله السلطان عن مسألة فقال: إن تلميذي فلاناً يحسن الجواب عنها، فوجه السلطان السؤال إلى تلميذ ابن التلمساني، فأحسن الجواب، فأجازه وأحسن منزلته، وكان ابن التلمساني أعلم من تلميذه فيما سأله عنه السلطان، لكنه؛ لاعتباره تلميذه بمنزلة ولده أراد أن يُنَوِّه به في حضرة السلطان كما لو كان ولده حقاً.
__________
(1) انظر أحاديث في رحاب الأزهر للشيخ محمد الخضر حسين ص92_93.
(2) رسائل الإصلاح للشيخ محمد الخضر حسين 1/44.(1/49)
والطلبة في دستور الإسلام عرفوا كيف يقابلون هذا العطف الأبوي من أساتذتهم بما يكافئه من حرمة ومحبة وإجلال، ومن أقدم الأمثلة على ذلك ما رواه الشعبي، أن زيد بن ثابت ÷ صلّى على جنازة، ثم قربت إليه بغلته؛ ليركبها؛ فبادر إليه عبدالله بن عباس، فأخذ بزمام البغلة؛ ليساعده على الركوب، فقال له زيد: خل عنه يابن عم رسول الله، فأجابه ابن عباس _ رضي الله عنهما _: هكذا أمرنا أن نفعل بالعلماء.
وقد حافظ ذرية ابن عباس على هذا الأدب من التلاميذ نحو أساتذتهم بعد أن صار بنو العباس ملوك الدنيا؛ فقد نقل برهان الإسلام الزرنوجي، في كتاب تعليم المتعلم طرق التعلم _ =أن أمير المؤمنين هارون الرشيد بعث ابنه إلى الأصمعي؛ ليعلمه العلم والأدب، فرآه يوماً يتوضأ ويغسل رجله، وابن الخليفة يصب الماء على رجله، فعاتب الخليفةُ الأصمعيَّ بقوله: إنما بعثته إليك لتعلمه وتؤدبه؛ فلماذا لم تأمره بأن يصب الماء بإحدى يديه، ويغسل بالأخرى رجلك؟+(1)
فانظر كيف رأى أن تقصير ابنه في ذلك تقصير في أدب التلميذ مع أستاذه.
وقد علمنا من سيرة ابن خلدون أنه لما رزئ بوفاة كبار شيوخه وكان منهم القاضي محمد بن عبدالسلام، والرئيس أبو محمد الحضرمي، والعلامة محمد ابن إبراهيم الأبلي _ ضاق به وطنُه؛ فترك مقامه الوجيه الذي وصل إليه في قصر الإمارة، ورحل عن تونس إلى الجزائر والمغرب الأقصى؛ لأن مقام أساتذته كان في نفسه فوق كل مقام.
وهذه المحبة الصحيحة التي يكنها التلميذ لأستاذه هي التي حملت العالم أحمد بن القاضي على أن يقول في شيخه المنجوري: =وصارت الدنيا تصغر بين عيني، كلما ذكرت أكل التراب للسانه، والدود لبنانه+.
ومن ذلك قول ابن عرفة:
إذا لم يكن في مجلس الدرس نكتة ... وإيضاح إشكال بأحسن صورة
الأبيات، فيجيبه تلميذه الأبي بقوله:
يميناً بمن أولاك في العلم رتبة ... وزان بك الدنيا بأحسن زينة
__________
(1) تعليم المتعلم طرق التعلم للزرنوجي ص82.(1/50)
لمجلسك الأعلى كفيل بكلها ... على حينما عنه المجالس ولت(1)
وهذه مقطوعة بعنوان (رفقاً بها)، وقد قالها الشيخ محمد الخضر حسين في تونس مداعباً أستاذه الشيخ سالم أبو حاجب بعد درس تعرض فيه إلى حكم التضحية بالظباء:
مدَّ في وجرةَ الحِبَالةَ يبغي ... قَنَصاً والظِّباء ترتع مرحى(2)
صادها ظبيةً وهمَّ بأن يصـ ... ـرعَها كالخروف في عيد أضحى
قلت: رفقاً بها ولا تُرْهِقَنْها ... وهي ترنو إليك صرعاً وذبحا
ما أظن السكِّين ترضى وفيها ... حِدَّةٌ أن تخط في الجيد جرحا
خلِّ عنها فَعَيْنُها أذكرتنا ... عينَ أسماءَ وهي بالبشر طفحى(3)
إن هذا الأدب الإسلامي الذي جعل من الطلبة أبناء للأساتذة كفلذات أكبادهم، وجعل من الأساتذة آباء لتلاميذهم، يعطفون عليهم أكثر من عطف الآباء على أبنائهم _ هو الأدب اللائق بنا أن نرجع إليه؛ لنجدد في تاريخنا عهداً سعيداً، فننعم به، ونسعد بنعمته.
والطلبةُ الذين يكتسبون من دراستهم مثل هذا الأدب ينالون به من السعادة أضعاف ما ينالون به من دراسة العلم مهما تقدموا فيه.
فمن ذلك قلة المراعاة للمشاعر حال تقديم النصيحة؛ فتجد بعض الناصحين لا يلبس نصيحته أثواباً ملائمة لأحوال المنصوحين، ولا يبالي بأقدارهم، ومنازلهم؛ بل ربما ألقاهم جزافاً دون تلطف، وحسن مدخل وتأتٍّ.
وقل مثل ذلك في حال بعض المنصوحين؛ حيث تراهم يردون النصيحة، ويزرون بالناصح.
وكم سقت في آثارهم من نصيحة ... وقد يستفيد البغضة المتنصح
ومن ذلك قلة المراعاة لمشاعر العمال, والغرباء, والصغار, والمرؤوسين؛ وذلك باحتقارهم, أو هضم حقوقهم أو ما شاكل ذلك.
__________
(1) انظر أحاديث في رحاب الأزهر للشيخ محمد الخضر حسين ص 92_95.
(2) وجرة: مرتع للوحش، والحبالة: المصيدة، والقنص: الصيد.
(3) خواطر الحياة ديوان محمد الخضر حسين ص69.(1/51)
ومن هذا القبيل قلة المراعاة للمخالفين والخصوم حال الرد والمناقشة أو المجادلة، ولا يعني ذلك ترك الرد أو قوة الحجة فيه، وإنما المقصود من ذلك ما يكون من الظلم، والزيادة، والبغي، والاستطالة.
ومن ذلك قلة المراعاة لمشاعر المراجعين من قبل بعض الموظفين؛ حيث يستقبلونهم بتثاقل, وبرود, ويقدمون لهم الخدمة بمنة وتباطؤ.
ومن ذلك قلة المراعاة لحقوق الأخوة والصداقة, كقلة التعاهد، والتزاور، وكالجفاء، وكثرة التجني، وما جرى مجرى ذلك.
ومن ذلك قلة المراعاة لمشاعر المريض أثناء زيارته, كحال من يذم الطبيب الذي يعالج المريض, أو الذي أجرى له العملية الجراحية, أو كحال من إذا زار المرضى أن يذكر لهم أقواماً أصيبوا بمثل ما أصيبوا به فماتوا.
ومن مظاهر فقر المشاعر ما يقع بين جماعة المسجد الواحد؛ فهم يجتمعون لأشرف الغايات ألا وهي عبادة الله _ عز وجل _ بأداء الصلاة، وليحققوا مقصداً من أعظم مقاصد الدين ألا وهو الاجتماع، والألفة، والمحبة.
ومع ذلك تجد جماعة بعض المساجد لا يرعون هذا الجانب؛ فتجد أن العلاقة بين الإمام والمؤذن وجماعة المسجد ضعيفة أو معدومة، بل ربما شاع بينهم كثرة الانتقاد، وكثرة اللوم والعتاب، وربما شاع بينهم القطيعة والبين.
وهذا مصداق قول النبي ": =إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم+(1).
فالذي ينبغي لهؤلاء أن يقطعوا على الشيطان طريقه، وألا يسترسلوا مع الظنون السيئة؛ فينبغي للإمام أن يراعي مأموميه، وأن يرفق بهم، وأن يتحمل بعض ما يصدر منهم من جفاء، أو كثرة اقتراحات، أو انتقاد.
كما ينبغي أن ينزلهم منازلهم، وأن يبادرهم بالسلام والتحية، خصوصاً كبار السن، ومن لهم قدر وجاه.
كما عليه أن يراعي مشاعر الصغار، والمقصرين، وأن يأخذ بأيديهم إلى الصلاح.
__________
(1) رواه الإمام أحمد 3/313 و 354 و 366 و 384، ومسلم (2812).(1/52)
كما عليه أن يحفظ عرضه وذلك بالانضباط، والاعتذار حال المغيب، وأن يوكل الكفؤ إذا كان لديه عذر.
وعلى المؤذن مثل ما على الإمام، وعليه أن يحسن علاقته بالإمام والمأمومين، وعليهما أن يهيئا جوَّ الخشوع والراحة للمصلين.
وبالمقابل فعلى جماعة المسجد أن يلتمسوا العذر للإمام والمؤذن في بعض الأمور، وعليهم المناصحة بالتي هي أحسن.
وإذا وفقوا بإمام عاقل فليعضوا عليه بالنواجذ، وإذا رأوا من بعضهم إساءة في حقه فليوقفوا ذلك المسيءَ عند حده.
وعلى كل حال فالمسألة تحتاج إلى بسط، ولعل الله ييسر ذلك.
وبالجملة فإن مظاهر فقر المشاعر كثيرة وكل واحد مما مضى يحتاج إلى بسط وتفصيل وعلاج.
ولعل الإشارة تغني؛ حتى لا يطول بنا الحديث, ولأن بعض ذلك سيرد عند الكلام على الأسباب المعينة على الرقي بالمشاعر.
هناك أسباب عديدة توصل إلى إحياء المشاعر، والرقي بها، وتقطع دابر الجفاء، وتزيل علله وأدواءه.
وقد مرَّ شيء من ذلك من خلال ذكر بعض المظاهر لفقر المشاعر وربما يرد شيء من ذلك في ثنايا الحديث الآتي على سبيل العموم لا على سبيل التخصيص في مظهر دون مظهر.
فمما تحيا به المشاعر وترتقي _ زيادة على ما مضى _ ما يلي:
1_ استشعار الأخوة الإسلامية: قال الله _ عز وجل _:[إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ] الحجرات: 10.
وقال ": =لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه+(1).
والحديث في هذا السياق معلوم؛ ولذا لا يحتاج إلى التطويل.
وربما وردت إليه إشارات فيما سيأتي.
2_ استعمال الثناء الصادق المعتدل: فذلك مما يشعر الإنسان بقيمته، ويهزه إلى المكارم هزاً؛ فيقوده إلى الصفح، والعفو، وإحسان الظن، والبذل.
كما أنه دليل على كرم سجية المادح، وعلى بعده عن الأثرة والشح؛ فهو من قبيل الكلمة الطيبة، والكلمة الطيبة صدقة.
__________
(1) رواه البخاري (13) ومسلم (45).(1/53)
ولا ريب أن هذه المعاني من أعظم ما يرتقي بالمشاعر، ويحفظ للناس أقدارهم، وينأى بهم عن السفاسف والمحقرات.
بل إن كرام الناس إذا مدحوا أبت لهم هممهم أن يكونوا دون ما مدحوا به؛ فمن ذلك ما حكي أن هارون الرشيد لما سمع قول الشاعر:
تراه في الأمْنِ في دِرْعٍ مُضاعفةٍ ... لا يأمن الدهرَ أن يُدعى على عَجَلِ
سأل عنه وعمن قيل فيه، فقيل له: لمسلم بن الوليد الشاعر، في قائد الجيوش يزيد بن مزيد الشيباني _ وكان يزيد يقول للرشيد: والله يا أمير المؤمنين، لأحرصن على أن لا أكذب شعرائي فيما يمدحونني به _ فأمر الرشيد بإحضار يزيد على الحالة التي يُصادَف عليها، فأحضروه وعليه ثياب خلوته مُلَوَّنة، فلما نظر إليه الرشيد في تلك الحالة، قال: أكذبت شاعرك يا يزيد! قال: فيم يا أمير المؤمنين؟ قال في قوله:
تراه في الأمن في درع مضاعفة ... لا يأمن الدهر أن يدعى على عجل
فقال يزيد: لا والله يا أمير المؤمنين، ما أكذبته، وإن الدرع عليَّ ما فارقتني، وكشف ثيابه، وإذا عليه درع مظاهرة(1).
بل إن الثناء الصادق مما تنشرح له صدور العظماء، ويشعرهم بصواب ما هم عليه، ويقودهم إلى مزيد من الخير والإحسان، ويسد عليهم باب الكسل الذي يواجههم به المخذِّلون، والمبالغون في النقد.
ولهذا سلكت هداية القرآن الكريم هذا المهيع؛ فكم هي الآيات التي ورد فيها الثناء من الرب الكريم _ جل وعلا _ على بعض عباده الصالحين؟.
إنها كثيرة جداً، منها قوله _ تعالى _ في الثناء على نوح _ عليه السلام _: [ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً] الإسراء: 17.
وقوله _ تعالى _ في حق إبراهيم _ عليه السلام _: [إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ] هود: 75.
__________
(1) نوادر في الأدب لمحمد المكي بن الحسين ص94.(1/54)
وقوله: [إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ(120) شَاكِراً لأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(121)] الإسراء.
وقوله _ تبارك وتعالى _ في حق سليمان _ عليه السلام _: [وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30)] ص.
وقوله في حق أيوب _ عليه السلام _: [إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ] ص:44.
وقوله في حق نبينا محمد ": [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)] القلم.
أما السنة النبوية فحافلة في هذا المقام؛ ولو ألقيت نظرة في داووينها وفي كتب المناقب منها على وجه الخصوص لرأيت عجباً، وإليك طرفاً من ذلك.
جاء في الصحيحين عن سلمة بن الأكوع ÷ قال: =حدثنا قتيبة حدثنا حاتم بن إسماعيل عن يزيد بن أبي عبيد عن سلمة بن الأكوع ÷ قال كان علي ÷ تخلف عن النبي " في خيبر وكان به رمد فقال: أنا أتخلف عن رسول الله " فخرج علي، فلحق بالنبي " فلما كان مساء الليلة التي فتحها في صباحها، فقال رسول الله ": =لأعطين الراية _ أو قال: ليأخذن _ غداً رجلٌ يحبه الله ورسوله أو قال: يحب الله ورسوله يفتح الله عليه+.
فإذا نحن بعلي وما نرجوه، فقالوا هذا علي، فأعطاه رسول الله " ففتح الله عليه+(1).
وجاء في صحيح البخاري عن عمرو بن تغلب أن رسول الله " أتى بمال، أو بسبي فقسمه، فأعطى رجالاً وترك رجالاً، فبلغه أن الذين ترك عتبوا؛ فحمد الله، ثم أثنى عليه ثم قال: =أما بعد فوالله إني لأعطي الرجل، وأدع الرجل، والذي أدع أحب إلي من الذي أعطي، ولكن أعطي أقواماً لما أرى في قلوبهم من الجزع والهلع، وآكل أقواماً إلى ما جعل الله في قلوبهم من الغنى والخير، فيهم عمرو بن تغلب+ فوالله ما أحب أن لي بكلمة رسول الله " حمر النعم(2).
__________
(1) البخاري (2975) واللفظ له، ومسلم (2407).
(2) البخاري (923).(1/55)
فانظر إلى هذا الثناء، وانظر إلى أثره في عمرو بن تغلب ÷ حتى إنه استغنى أن يطلب مالاً، فكانت هذه الكلمة أحب إليه من حمر النعم، وهي أنفس ما كانت عند العرب.
وجاء في الصحيحين من حديث سالم بن عبدالله عن أبيه عبدالله ÷ قال: =كان الرجل في حياة النبي " إذا رأى رؤيا قصها على رسول الله " فتمنيت أن أرى رؤيا؛ فأقصها على رسول الله " وكنت غلاماً شاباً، وكنت أنام في المسجد على عهد رسول الله " فرأيت في النوم كأن ملكين أخذاني، فذهبا بي إلى النار، فإذا هي مطوية كطي البئر، وإذا لها قرنان، وإذا فيها أناس قد عرفتهم؛ فجعلت أقول: أعوذ بالله من النار، قال: فَلَقِيَنا ملك آخر، فقال لي: لم ترع.
فقصصتها على حفصة، فقصتها حفصة على رسول الله " فقال: =نعم الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل+.
فكان عبدالله بعد لا ينام من الليل إلا قليلاً(1).
وجاء في الصحيحين من حديث أسماء بنت عميس الطويل في الهجرة وما دار بينها وبين عمر بن الخطاب، وفيه:
فلما جاء النبي " قلت: =يا نبي الله إن عمر قال: كذا وكذا، قال: =فما قلت له؟+ قالت: قلت له: كذا وكذا.
قال: =ليس بأحق بي منكم، وله ولأصحابه هجرة واحدة، ولكم أنتم _ أهل السفينة _ هجرتان+.
قالت: فلقد رأيت أبا موسى وأصحاب السفينة يأتونني أرسالاً يسألونني عن هذا الحديث، ما من الدنيا شيء هم به أفرح، ولا أعظم في أنفسهم مما قال لهم النبي ".
قال أبو بردة: قالت أسماء: فلقد رأيت أبا موسى وإنه ليستعيدُ هذا الحديث مني(2).
__________
(1) البخاري (1121) و (1122) ومسلم (2479).
(2) البخاري (4230) و (4231) ومسلم (2502).(1/56)
وجاء في الصحيحين عن أبي موسى ÷ قال النبي ": =إني لأعرف أصوات رُفْقة الأشعريين بالقرآن حين يدخلون بالليل، وأعرف منازلهم من أصواتهم بالقرآن بالليل، وإن كنت لم أرَ منازلهم حين نزلوا بالنهار، ومنهم حكيم إذا لقي الخيل أو العدو، قال لهم: إن أصحابي يأمرونكم أن تنظروهم+(1).
فهذه أمثلة يسيرة من السنة، والمقام لا يحتمل الإطالة في ذلك، وإنما هي إشارات يتبين من خلالها أن الثناء الصادق سنة متبعة، وأن له آثاره الحميدة.
ولهذا تتابع السلف الصالح على هذا الخلق النبيل، فلو نظرنا في سير أكابرهم لرأينا ذلك واضحاً؛ فهذا ابن مسعود ÷يقول: =كان معاذ بن جبل أمة قانتاً لله حنيفاً ولم يكن من المشركين+ تشبيهاً له بإبراهيم الخليل _ عليه السلام _(2).
فهذا الثناء من ابن مسعود ÷ دليل على إنصافه، وزكاء نفسه؛ فمع أنه من أكابر علماء الصحابة، ومع أنه أسبق إسلاماً وأكبر سناً من معاذ إلا أنه لم يجد في نفسه غضاضة من الثناء عليه، وإنزاله منزلته اللائقة به.
وهكذا شأن الصحابة _ رضي الله عنهم _ وبمثل هذا الخلق النبيل سادوا، وارتفعوا فكانوا خير أمة أخرجت للناس، وكانوا أكثرهم اتفاقاً ووئاماً، وأقلهم خلافاً وتفرقاً.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ×: =ومن استقرأ أحوال العالم في جميع الفرق يتبين له أنه لم يكن قط طائفة أعظم اتفاقاً على الهدى والرشد، وأبعد عن الفتنة والتفرق والاختلاف من أصحاب رسول الله " الذين هم خير الخلق بشهادة الله لهم بذلك؛ إذ يقول _ تعالى _: [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ] آل عمران: 110+(3).
__________
(1) البخاري (4232) ومسلم (2499).
(2) انظر هذا الأثر في مجمع الزوائد للهيثمي 9/314، وانظر مجموع الفتاوى لابن تيمية 10/654.
(3) منهاج السنة النبوية لابن تيمية 6/34.(1/57)
وهكذا درج من جاء بعد الصحابة على هذا المنوال؛ فهذا الإمام أحمد × يقول: =أتدري مَن الإمامُ؟ الإمام سفيان الثوري، لا يتقدمه أحد في قلبي+.
وقال: =قال لي ابن عيينة: لن ترى بعينك مثل سفيان+(1).
وهذا سفيان الثوري × يقول: =كان إبراهيم بن أدهم يشبه إبراهيم الخليل، ولو كان في الصحابة لكان رجلاً فاضلاً+(2).
ويقول _ أيضاً _ في ابن المبارك ×: =إني لأشتهي أن أكون من عمري كلِّه أن أكون سنة مثل ابن المبارك؛ فما أقدر أن أكون ولا ثلاثة أيام+(3).
وقال علي بن زيد: حدثني عبدالرحمن بن أبي جميل قال: =كنا حول ابن المبارك بمكة، فقلنا له: يا عالم الشرق حدِّثْنا _ وسفيان قريب منا يسمع _ فقال: ويْحَكُم! عالم المشرق والمغرب وما بينهما+(4).
فها هم أفاضل السلف يشهد بعضهم لبعض دونما تحرج أو غضاضة؛ فماذا كانت النتيجة؟ لقد رفعهم الله جميعاً؛ وربما كان إعجابنا بالشاهد المادح أعظم من إعجابنا بالمشهود له الممدوح؛ لأن شهادته لقرنه تدل على ساحة طاهرة، ونفس زكية.
وهذا مما يرقى بالذوق، ويسمو بالهمم، ويرتقي بالمشاعر، ويقضي على روح التشاحن والبغضاء.
قيل لأعرابي: =من أكرم الناس عشرة؟ قال: من إذا قرب منح، وإذا بعد مَدَح، وإن ضويق فسح، فمن ظفر به فقد أفلح ونجح+(5).
ومما ينبغي التنبيه عليه مراعاة الفرق بين المديح المنضبط المعتدل الصادق وبين الإطراء الكاذب الممقوت، والمبالغة الخارجة عن طورها؛ كمن يقول في ممدوحه:
وأَخَفْتَ أهلَ الشركِ حتى إنه ... لتخافُك النُّطَفُ التي لم تخلقِ(6)
وكحال من يقول:
__________
(1) انظر مواعظ الإمام سفيان الثوري للشيخ صالح الشامي ص6.
(2) انظر مواعظ الإمام إبراهيم بن أدهم للشيخ صالح الشامي ص10.
(3) سير أعلام النبلاء 8/389.
(4) سير أعلام النبلاء 8/389.
(5) الصداقة والصديق لأبي حيان ص13.
(6) البيت لأبي نواس انظر ديوانه ص401.(1/58)
ما شئت لا ما شاءت الأقدار ... فاحكم فأنت الواحد القهار(1)
وكحال من يقول لما حصل زلزال في مصر في عهد أحد السلاطين:
ما زلزلت مصرُ من كيد يراد بها ... لكنها رقصت من عدله طربا(2)
وكذلك ينبغي مراعاة التوازن في المديح؛ لأن من الناس من يزيده المديح إقبالاً وجداً، وفضلاً ونبلاً، ومنهم من يبعث فيه المديح غروراً، وطيشاً، وتيهاً، وعتواً، ونفوراً.
وهذا راجع لحكمة الإنسان، ومعرفته بطبائع النفوس، وربما كان الفصل بينهما رهينَ كلمة مدح مقدرة أو مبالغ فيها.
وبناءاً على ما مضى كله فلماذا لا نأخذ بهذه الطريقة الحكيمة النبيلة؟ لماذا لا نأخذ بها إذا وقفنا أمام الناس لنعظهم؛ فنبدأ بالثناء عليهم ثناءاً متزناً؛ كي نهيئ نفوسهم لقبول ما نقول؛ إذ لا شيء يهز أعطافهم كالثناء عليهم خصوصاً إذا كان من غريب؟.
وما الذي يضيرنا إذا رأينا إنساناً براً بوالديه، واصلاً لأرحامه، متودداً لجيرانه أن نذكره بعظم هذا العمل، وأن نشكره عليه، ونوصيه بالاستمرار على ذلك؟.
وما الذي يمنعنا إذا رأينا من أحد طلابنا جداً ونشاطاً وأدباً أن نشعره بالرضا والفرح، والدعاء؟.
وما الذي يمنعنا إذا رأينا معلماً مخلصاً في عمله، حريصاً على طلابه أن نشد على يده، وأن نشكره على إخلاصه وحرصه؟ بدلاً من تخذيله، وإشعاره بأنه إنسان ساذج يقوم بأكثر مما طلب منه.
وما الذي يضيرنا إذا رأينا خطيباً مصقعاً يهز أعواد المنابر، ويحترم عقول المخاطبين، ويحرص على تحرير خطبه وإلقائها في أثواب ملائمة أن نشكر له صنيعه، ونشعره باستفادتنا منه، وتقديرنا له؟.
وما الذي يضيرنا إذا رأينا أو سمعنا عن طبيب حاذق يتمتع بخلق فاضل، وصبر على مراجعيه، وحرص على سلامتهم وعافيتهم أن نبدي له إعجابنا وشكرنا ودعاءنا؟.
__________
(1) البيت لابن هانئ الأندلسي انظر ديوانه ص146.
(2) البيت لمحمد بن عاصم انظر وفيات الأعيان لابن خلكان 4/103.(1/59)
وما الذي يلجم أفواهنا أو أقلامنا أن تشكر صحفياً أو كاتباً على حبه للفضيلة، ودفاعه عنها؟.
ولماذا لا نزجي الشكر لمسؤول أصدر قراراً فيه نفع للمسلمين، أو فيه فتح لباب خير، أو إغلاق لباب شر؟.
ولماذا لا نعتاد تقديم الشكر لمن أسدى إلينا معروفاً ولو قل؟.
قال النبي ": =من صنع إليكم معروفاً فكافؤوه فإن لم تجدوا ما تكافؤونه فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه+(1).
وقال _ عليه الصلاة والسلام _: =من صُنع إليه معروفٌ، فقال لفاعله: جزاك الله خيراً فقد أبلغ في الثناء+(2).
يقول سفيان الثوري ×: =إني لأريد شرب الماء، فيسبقني الرجل إلى الشربة، فيسقينيها؛ فكأنما دقَّ ضلعاً من أضلاعي لا أقدر على مكافأة لفعله+(3).
وقال أبو هاشم الحراني: =من طباع الكريم وسجاياه رعاية اللقاءة الواحدة، وشكر الكلمة الحسنة الطيبة، والمكافأة بجزيل الفائدة+(4).
وبالجملة فباب الثناء والشكر باب واسع لمن أحسن الدخول فيه، ومسلك جميل للتعبير عن المشاعر، والحفاظ على روح الود.
والحديث عنه يحتاج إلى مزيد عناية وتحرير؛ لأن الناس فيه ما بين مفَرِّط ومفْرِط؛ فلعل الله ييسر فرصة أوسع.
3_ إظهار المشاعر، والإعلام بالمحبة: فلا بد لدوام المودة، والقضاء على روح البغضاء من اغتنام الفرصة لإظهار العاطفة المكنونة؛ فلا يكفي مجرد المحبة القلبية، والشعور المضمر، بل لا بد من إظهار ذلك؛ حتى تتأكد أسباب الصلة، ولأجل أن يكون المرء على ثقة ويقين من مودة أخيه.
ولهذا تظاهرت الأحاديث النبوية في بيان هذا المعنى، والتأكيد عليه.
__________
(1) رواه أبو داود (1672) وقال الألباني في صحيح الجامع (6021): =صحيح+.
(2) رواه الترمذي (2035) وقال: =حديث حسن جيد غريب+ وقال الألباني في صحيح الجامع (6368): =صحيح+.
(3) مواعظ الإمام سفيان الثوري ص94.
(4) الصداقة والصديق ص41_42.(1/60)
قال النبي ": =إذا أحب أحدكم أخاه فليعلمه أنه يحبه+(1).
وقال ": =إذا أحب أحدكم أخاه في الله فليبين له؛ فإنه خير في الإلفة، وأبقى في المودة+(2).
وقال _ عليه الصلاة والسلام _: =إذا أحب أحدكم صاحبه فليأته في منزله؛ فليخبره أنه يحبه لله _ عز وجل _+(3).
وعن أنس ÷ أن رجلاً كان عند النبي " فمر به رجل، فقال: يا رسول الله؛ إني لأحب هذا، فقال له النبي ": =أَعْلَمْتَهُ؟+قال: لا، قال: =أَعْلِمْهُ+ قال: فلحقه، فقال: إني لأحبك في الله، فقال: أحبك الله الذي أحببتني له(4).
ولقد صرح _ عليه الصلاة والسلام _ مراراً كثيرة بمحبته لأناس بأعيانهم فمن ذلك قوله _ عليه الصلاة والسلام _ لمعاذ بن جبل ÷: =يا معاذ إني والله لأحبك، أوصيك يا معاذ لا تَدَعَنَّ في دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك+(5).
وعقد الإمام البخاري × في صحيحه باباً قال فيه: =باب: قول النبي " للأنصار =أنتم أحب الناس إليَّ+.
__________
(1) رواه أحمد (17303)، وأبو داود (5124) بلفظ =فليخبره+ وقال الألباني في صحيح الجامع (279): =صحيح+.
(2) رواه وكيع في الزهد 2/67 وحسنه الألباني في الصحيحة (1199) وفي صحيح الجامع (280).
(3) رواه ابن المبارك في الزهد 1/188 من الكواكب 575 و 712، ورواه عنه عبدالله بن وهب في الجامع ص36، وصححه الألباني في الصحيحة (797) وصحيح الجامع (281).
(4) رواه أبو داود (5125)والحاكم 4/171 وقال: =صحيح الإسناد+ ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في الصحيحة (418).
(5) رواه أحمد 5/244 و 245 و 274، وأبو داود (1522) والنسائي (1301) والحاكم 1/273 وصححه ووافقه الذهبي، وصححه ابن خزيمة (751).(1/61)
ثم ساق الحديث بسنده عن أنس ÷ قال: رأى النبي " النساءَ والصبيانَ مُقْبلين _ قال حسبت أنه قال من عرس _ فقام النبي " مُمْثلاً فقال: =اللهم أنتم من أحب الناس إلي+ قالها ثلاث مرار(1).
وعن أنس بن مالك ÷ قال: جاءت امرأة من الأنصار إلى رسول الله " ومعها صبي لها، فكلمها رسول الله " فقال: =والذي نفسي بيده إنكم أحب الناس إلي+ مرتين(2).
قال الفضيل بن الربيع: =احلف لأخيك أنك تحبه، واجتهد في تثبيت ذلك عنده؛ فإنه يستجد لك حباً، ويزداد لك وداً+(3).
وقال أبو طائع الطَّلْحي: =كتب الجراحي إليَّ مرة: الله يعلم أنك ما خطرت ببالي في وقت من الأوقات إلا مَثَّل الذكرُ منك لي محاسن تزيدني صبابة إليك، وضنَّاً بك، واغتباطاً بإخائك+(4).
ويزداد هذا الباعث _ أعني إظهار المشاعر والإعلام بالمودة _ بين الأصدقاء خصوصاً إذا حصل بينهما غربة وتفرق؛ فإنَّ ذِكْرَ أحدِهما للآخر، ومكاتبته، وإبداء الشوق له _ أدعى لقوة الصلة، وتأكيدها.
ولك أن تتصور ما تفعله الرسالة، وما تحمله من معاني الود في القلب؛ إنها تتسلل إلى سويدائه، وتفعل فيه ما لا يفعله السحرُ، ولا البابليُّ المعتَّقُ.
وإليك هذه الأمثلة بين عالمين كبيرين من علماء تونس الكبار ومن علماء الزيتونة الذين لم تُخْرِجْ بعدهم مثلَهم؛ حيث انعقدت بينهما صداقة تُعَدُّ مثلاً يحتذى في الصداقة في العصور المتأخرة، وهما الشيخ العلامة محمد الخضر حسين 1293_ 1377هـ، والشيخ العلامة محمد الطاهر بن عاشور 1296_1393هـ .
فبعد هجرة الشيخ الخضر من تونس عام 1331هـ بعد أن حكم عليه الاستعمار الفرنسي بالإعدام، وصادروا أملاكه _ بعث إليه صديقه محمد الطاهر وهو كبير القضاة بتونس رسالة مصدرة بالأبيات التالية:
__________
(1) البخاري (3785) وأخرجه مسلم (2508).
(2) البخاري (3786) وأخرجه مسلم (2509).
(3) الصداقة والصديق ص44.
(4) الصداقة والصديق ص47.(1/62)
بَعُدْتَ ونفسي في لقاك تصيدُ ... فلم يُغِنِ عنها في الحنان قصيد
وخلَّفت ما بين الجوانح غُصَّةً ... لها بين أحشاء الضلوع وقود
وأضحتْ أمانيْ القربِ منك ضئيلةً ... ومرُّ الليالي ضعفها سيزيد
أتذكر إذ ودَّعْتنا صبحَ ليلةٍ ... يموج بها أنسٌ لنا وبرودُ
وهل كان ذا رمزاً لتوديع أنسنا ... وهل بعد هذا البين سوف يعود
ألم ترَ هذا الدهر كيف تلاعبت ... أصابعه بالدر وهو نضيد
إذا ذكروا للود شخصاً محافظاً ... تجلى لنا مرآك وهو بعيدُ
إذا قيل: مَنْ للعلم والفكر والتقى ... ذكرتُك إيقاناً بأَنْكَ فريد
فقل لليالي: جَدِّدي من نظامنا ... فحسبكِ ما قد كان فهو شديد
ثم كتب تحت هذه الأبيات: =هذه كلمات جاشت بها النفس الآن عند إرادة الكتابة إليكم؛ فأبثها على عِلاتها، وهي وإن لم يكن لها رونق البلاغة والفصاحة فإن الود والإخاء والوجدان النفسي يترقرق في أعماقها+.
ولما وصلت تلك الرسالة إلى الشيخ محمد الخضر حسين أجاب بالأبيات التالية:
أينعم لي بالٌ وأنت بعيد ... وأسلو بطيف والمنام شريد
إذا أجَّجتْ ذكراك شوقيَ أُخْضِلَتْ ... لعمري بدمع المقلتين خدود
بَعُدْتُ وآمادُ الحياة كثيرةٌ ... وللأمد الأسمى عليَّ عهود(1)
بعدت بجثماني وروحي رهينةٌ ... لديك وللودِّ الصميم قيود
عرفتُك إذ زرتُ الوزير وقد حنا ... عليَّ بإقبال وأنت شهيد(2)
فكان غروبُ الشمس فجْرَ صداقةٍ ... لها بين أحناء الضلوع خلود
لقيت الودادَ الحرَّ من قلب ماجدٍ ... وأصدق من يُصْفي الوداد مجيد
ألم تَرْمِ للإصلاح عن قوس نافذٍ ... درى كيف يُرعى طارفٌ وتليدُ
وقمتَ على الآداب تحمي قديمها ... مخافةَ أن يطغى عليه جديد
__________
(1) يعني بالأمد الأسمى: خدمة الدين، والقيام بالدعوة، ومحاربة الاستعمار.
(2) الوزير: هو محمد العزيز بو عتَّور (1240_ 1325) من كبار رجال السياسة والعلم في تونس، وهو جد ابن عاشور لأمه، والبيت إشارة إلى أول لقاء بين الخضر وابن عاشور.(1/63)
أتذكر إذ كنا نباكر معهداً ... حُميَّاه عِلْمٌ والسقاة أسود(1)
أتذكر إذ كنا قرينين عندما ... يحين صدورٌ أو يحين ورود
فأين ليالينا وأسمارها التي ... تُبلُّ بها عند الظماء كبودُ
ليالٍ قضيناها بتونسَ ليتها ... تعود وجيش الغاصبين طريد(2)
ولما قدم الشيخ الخضر تونس أثناء رجوعه من الآستانة سنة 1330هـ مرت الباخرة بالقرب من شاطئ (المرسى) حيث كان يقيم صديقه العلامة ابن عاشور، فقال الخضر:
قلبي يحيِّيك إذ مرت سفينتنا ... تُجاه واديك والأمواج تلتطم
تحيةً أبرق الشوق الشديد بها ... في سلكِ ودٍّ بأقصى الروح ينتظم (3)
4_ الإيثار: فهو من أحمد الخصال، وأجمل الخلال، وأعظم ما تحيا به المشاعر؛ فهو يقضي على جراثيم العداوة، ويقطع دابر سوء الظن، ويميت أسباب الأثرة والمبالغة في حب الذات، ويضمن _ بإذن الله _ دوام العشرة، وصفاء المودة.
قال الله _ عز وجل _ مثنياً على الأنصار: [وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ] الحشر: 9.
فإذا شاع هذا الخلق الرفيع في المنزل، وفي السوق، وبين الأصدقاء، وفي قاعات العلم _ عمَّ الائتلاف، وقلَّ الخلاف.
قال أبو حيان التوحيدي: =سمعت أبا دُلَف الخزرجيَّ يقول: أنا أستجفي الشاعر الذي يقول:
والله لا كنت في حسابي ... إلا إذا كنت في حسابكْ
فإن تزرني أَزُرْكَ أو إن ... تقف ببابي أقف ببابكْ
__________
(1) نباكر: نأتي مبكرين، والمعهد: جامع الزيتونة، والحميا: شدة الغضب وأوله، ويعني به هنا: النشاط، ويريد بالسقاة: أساتذة المعهد وما كان لهم من مهابة وإجلال في قلوب المتعلمين.
(2) ديوان خواطر الحياة للشيخ محمد الخضر حسين ص93_95.
(3) انظر ديوان خواطر الحياة ص231، وانظر كتاب الصداقة بين العلماء للكاتب ففيه نماذج كثيرة من هذا القبيل.(1/64)
وكان يقول: ما هذه الغلظة، والفظاظة؟! وما هذه المكايسة والمصادقة؟! أفليس لو قابلك صاحبك بمثل هذا الأمر وقف الأمر بينكما؟ وانتكث حبل المودة عنكما؟ ودبَّت الشحناء في طي حالكما؟+(1).
وقال الشيخ الأديب العلامة محمد الخضر حسين مصوراً هذه المعاني في مقطوعة عنوانها =الأثرة بين الأصدقاء+:
سايرت خلاً في الهجير فحادَ عن ... ظلٍّ وآثرني ببرد هوائه
فأبيت أن أرد الظلال وصاحبي ... يلقى وهيج الشمس في غلوائه(2)
ولو احتسى الماءَ الزُّعاقَ حسوته ... عَبَّاً ولو جاء الفرات بمائه(3)
والود إن شابَتْه يوماً أثرةٌ(4) ... ذهبت معالمُ صدقه ووفائه(5)
5_ حسن الظن والتماس المعاذير: فذلك دأب النبلاء، وأدب الفضلاء ممن تمت مروآتهم، وكمل سؤددهم؛ فأعقل الناس أعذرهم للناس.
وإلا لو استرسل الإنسان مع سوء ظنه، وإغلاقه البابَ في وجه من يعتذر إليه لم يبق له صديق ولا صاحب إلا نفسه التي بين جنبيه.
قال الله _ عز وجل _: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ] الحجرات: 12.
وقال النبي ": =إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث+(6).
ويتأكد هذا الأمر مع من يكثر الإنسان من صحبتهم كالأصدقاء، والأقارب، والزوجة، والأولاد، ويزداد تأكيداً في حق العلماء، والفضلاء.
فإذا لزمنا حسن الظن، والتماس المعاذير _ حفظنا لرجالنا مكانتهم، وحَمَلنا مَنْ يقصِّر في أي شأن من الشؤون إلى أن يرتفع بنفسه، وينأى عن مراتب الدون والهُون، وقطعنا الطريق على من يريد التشكيك بالأفاضل، والتنقيص من أقدارهم.
__________
(1) الصداقة والصديق 41.
(2) وهيج الشمس: شدة توقدها.
(3) احتسى: شربه شيئاً فشيئاً، والزُّعاق: الماء المر الغليظ الذي لا يطاق شربه، والفرات: الصافي.
(4) الأُثرة: ضد الإيثار.
(5) خواطر الحياة ص23.
(6) رواه البخاري (5143 و 6606 و 6724) ومسلم (2563).(1/65)
ولا ريب أن لذلك أثرَه في قوة الأمة، وتماسك أفرادها.
وما أجمل قول القائل:
وما عبَّر الإنسان عن فضل نفسه ... بمثل اعتقاد الفضل في كل فاضل
وليس من الإنصاف أن يدفع الفتى ... يدَ النقصِ عنه بانتقاص الأفاضل
جاء في الصحيحين عن جابر بن سمرة ÷ قال: =شكا أهل الكوفة سعداً _يعني ابن وقاص ÷_ إلى عمر ÷ فعزله، واستعمل عليهم عماراً، فشكوا حتى ذكروا أنه لا يحسن يصلي، فأرسل إليه، فقال: يا أبا إسحاق إن هؤلاء يزعمون أنك لا تحسن تصلي!
قال أبو إسحاق: أما أنا والله فإني كنت أصلي بهم صلاة رسول الله " ما أخرم عنها، أصلي صلاة العشاء فأركد في الأوليين، وأخف في الأخريين.
قال _ يعني عمر _: ذاك الظن بك يا أبا إسحاق.
فأرسل معه رجلاً أو رجالاً إلى الكوفة، فسأل عنه أهل الكوفة ولم يدع مسجداً إلا سأل عنه، ويثنون معروفاً حتى دخل مسجداً لبني عبس، فقام رجل منهم يقال له أسامة بن قتادة يكنى أبا سعدة قال: أما إذ نشدتنا فإن سعداً كان لا يسير بالسرية، ولا يقسم بالسوية، ولا يعدل في القضية، قال سعد: أما والله لأدعون بثلاث اللهم إن كان عبدك هذا كاذباً قام رياء وسمعة _ فأطل عمره، وأطل فقره، وعَرِّضه بالفتن.
وكان بعد إذا سئل، يقول: شيخ كبير مفتون أصابتني دعوة سعد.
قال عبد الملك _ بن عمير _ فأنا رأيته بعد قد سقط حاجباه على عينيه من الكبر وإنه ليتعرض للجواري في الطرق يغمزهن+(1).
فانظر كيف أحسن عمرُ الظنَّ بسعد _ رضي الله عنهما _.
ومما ينبغي التنبيه عليه في هذا الشأن أن يَحْمِل الإنسانُ ما يصدر من الآخرين على أحسن المحامل، وأن يلتمس لهم أحسن المخارج؛ فربما كان لهم عذر وأنت تلوم.
=توفي ابنٌ ليونس بن عبيد × فقيل له: إن ابن عون لم يأتك.
فقال: إنا إذا وثقنا بمودة أخٍ لا يضرنا أن لا يأتينا+(2).
__________
(1) البخاري (755) ومسلم (453).
(2) الصداقة والصديق ص38.(1/66)
=وقالت امرأة عبدالله بن مطيع لعبدالله: ما رأيت ألأم من أصحابك، إذا أيسرت لزموك، وإذا أعسرت تركوك، فقال: هذا من كرمهم، يغشوننا في حال القوة منا عليهم، ويفارقوننا في حال العجز منا عنهم!+(1).
=ومر بخالد بن صفوان صديقان، فعرَّج عليه أحدهما، وطواه الآخر، فقيل له في ذلك، فقال: عرَّج علينا هذا؛ لفضله، وطوانا ذاك لثقته+(2).
وقال أحدهم مبيناً ما ينبغي أن يسلك مع الأصحاب:
إذا كثرتْ ذنوبٌ من خليل ... فَقِفْهُ بين وصل واجتنابِ
وأنْظِرهُ فللأيام حكمٌ ... بذلك كلُّ ماضي العزم آبِ
وعاتبه فكم أبدى عتابٌ ... جليَّةَ مشكلٍ بعد ارتيابِ
ورجّ النفع في الإعراض عنه ... إذا أخفقت من نفع العتابِ
وراجعه بعفوك حين يَثْني ... عِناناً للرجوع أو الإيابِ
فإن العفو عن ذي الحزم أولى ... إذا قدرت يداك على العتابِ
فإنك واجد للحي ذنباً ... وتعدم ذنبَ من تحت الترابِ(3)
وكما ينبغي التماس المعاذير فينبغي _ من باب أولى _ قبول عذر من اعتذر إذا أتى مستعتباً منيباً؛ فلنا في نبي الله يوسف _ عليه السلام _ أسوة عندما عفى عن إخوته، واستغفر لهم دون توبيخ ولا تعنيف.
قال الشافعي ×:
اقبل معاذير من يأتيك معتذراً ... إن برَّ عندك فيما قال أو فجرا
لقد أطاعك من يرضيك ظاهره ... وقد أجلَّك من يعصيك مستترا(4)
وقال ×:
قيل لي: قد أسا إليك فلان ... ومقام الفتى على الذل عار
قلت: قد جاءَني وأحدث عذراً ... ديةُ الذنب عندنا الاعتذار(5)
__________
(1) الصداقة والصديق ص43_44.
(2) الصداقة والصديق ص58.
(3) الصداقة والصديق ص122.
(4) ديوان الشافعي ص44_45.
(5) ديوان الشافعي ص184_185.(1/67)
ومن خلال ما مضى يتبين لنا أنه يجب على الإنسان ألا يسترسل مع سوء الظن، وألا يحمل الآخرين على أسوء المحامل، بل عليه أن يتعامل مع الحقائق الثابتة، وأن يطَّرح الأوهام التي ينسجها خياله جانباً؛ لأن الذي يلاحظ أن فئاماً من الناس يجرحون إحساسات الآخرين، ويفسرون تصرفاتهم تفسيراً غريباً بعيداً عن الحقيقة؛ فتراهم يتصورون أشخاصاً يدبرون لهم المكايد، ويحيكون لهم الدسائس؛ ففلان إنما يسارُّ فلاناً في أمره، وفلان قابل فلاناً؛ لتدبير مؤامرة له.
وهكذا من أنواع السخافات التي لا تنتهي، والتي تقضي على الأخضر واليابس من المودات، والمشاعر السامية.
6_ قلةُ الخلافِ، والتماسُ الرضا: فذلك من أعظم ما يحفظ الود، ويطفئ نار الحقد والحسد.
قال الأحنف بن قيس ×: =لو جلست إلى مائة لأحببت أن ألتمس رضا كل واحد منهم+(1).
وقال أبو إسحاق السبيعي ×: =ثلاث يصفين لك ود أخيك: السلام إذا لقيته، وأن تدعوه بأحب أسمائه، وأن لا تماريه+(2).
قال أبو غسان غناة بن كليب: اجتمعت أنا ومحمد بن النضر الحارثي وعبدالله ابن المبارك والفضيل ورجل آخر، فصنعت لهم طعاماً، فلم يخالف محمد ابن النضر علينا في شيء، فقال له ابن المبارك: ما أقلَّ خِلافكَ، فأنشد:
وإذا صاحبتَ فاصحبْ ماجداً ... ذا حياءٍ وعفافٍ وكرمْ
قوله للشيء لا إن قلت لا ... وإذا قلت نعم قال نعم(3)
وقال الشافعي ×:
أحبُّ من الإخوان كل مُواتِ ... وكل غضيض الطرف عن عثراتي
يساعدني في كل أمر أحبه ... ويحفظني حياً وبعد مماتي
فمن لي بهذا ليت أني وجدته ... فقاسمته ما لي من الحسنات(4)
__________
(1) بهجة المجالس لابن عبدالبر 1/45.
(2) الصداقة والصديق ص158.
(3) الصداقة والصديق ص113_114.
(4) الصداقة والصديق ص196، وانظر ديوان الشافعي ص36.(1/68)
وقال ابن حزم ×: =إياك ومخالفة الجليس، ومعارضةَ أهلِ زمانك فيما لا يضرك في دنياك ولا أخراك وإن قل؛ فإنك تستفيد بذلك الأذى والمنافرة، والعداوة، وربما أدى ذلك إلى المطالبة والضرر العظيم دون منفعة أصلاً+(1).
7_ سلامة الذوق: فإذا رزق الإنسان ذوقاً سليماً مهذباً عرف كيف يستمتع بالحياة، وكيف يحترم شعور الآخرين ولا ينغص عليهم، بل يدخل السرور عليهم؛ فصاحب الذوق السليم قادر على استجلاب القلوب، وإدخال السرور على نفسه وعلى من حوله.
وإذا ساد الذوق السليم في أسرة أو مجتمع رأينا كل فرد من هؤلاء يتجنب جرح إحساس غيره بأي لفظ، أو عمل، أو إشارة، أو أي شيء يأباه الذوق.
إن الذوق السليم في الإنسان يرفعه إلى حد أن يتخير الكلمة اللطيفة، والتصرف الملائم الذي يمنع الإحراج، ويدخل السرور على الآخرين.
بل إن صاحب الذوق السليم يأبى النزاع، وحدة الغضب.
ولا يبالغ الإنسان إذا قال: إن رقي الذوق أكثر أثراً في السعادة من رقي العقل؛ إن الذوق إذا رقي أنف من الأعمال الخسيسة، والأقوال النابية، والأفعال السخيفة(2).
أما من جفَّ طبعه، وكَثَفَتْ نفسه، وقلَّ ذوقه _ فلا تسل عما سيحدثه من شرخ في الناس، وما سيجلبه من شقاء لنفسه وغيره، فتراه لا يراعي مشاعر الآخرين، ولا يأنف من مواجهتهم بما يكرهون؛ فإذا ما حضر مجلساً، وابتدر الكلام وضعت يدك على قلبك؛ خشية أن يزل، أو يفرط على أحد من الحاضرين.
فإذا ما وجد مجالاً يشبع فيه طبيعته النزقة الجهول _ هام على وجهه، لا ينتهي له صياح، ولا تنحبس له شِرَّة.
فتارة يذكر الحاضرين بعيوبهم، وتارة يؤذيهم بلحن منطقه، وتارة يذكرهم بأمور يسوؤهم تذكرها.
=أكب رجل من بني مرة على مالك بن أسماء يحدثه في يوم صيف، ويُغِمّه، ويثقل عليه، ثم قال: أتدري من قتلنا منكم في الجاهلية؟.
قال: لا، ولكني أعرف من قتلتم منا في الإسلام.
__________
(1) الأخلاق والسير لابن حزم ص61.
(2) انظر فيض الخاطر لأحمد أمين 1/280.(1/69)
و قال: من هم؟
قال: أنا قتلتني اليوم بطول حديثك، وكثرة فضولك+.(1)
وقال ابن القيم ×: =ومنهم مَنْ مُخالطتُه حُمَّى الروح، وهو الثقيل البغيض العقل، الذي لا يحسن أن يتكلم فيفيدك، ولا يحسن أن ينصت فيستفيد منك، ولا يعرف نفسه فيضعها في منزلتها.
بل إن تكلم فكلامه كالعصى تنزل على قلوب السامعين مع إعجابه بكلامه وفرحه به؛ فهو يحدث من فيه كلما تحدث، ويظن أنه مسك يطيب به المجلس، وإن سكت فأثقل من نصف الرّحا العظيمة، التي لا يطاق حملها ولا جرها على الأرض.
ويُذْكَرُ عن الشافعي × أنه قال: ما جلس إليّ ثقيل إلا وجدت الجانب الذي هو فيه أنزل من الجانب الآخر.
ورأيت يوماً عند شيخنا(2) _ قدس الله روحه _ رجلاً من هذا الضرب، والشيخ يحمله وقد ضعفت القوى عن حمله، فالتفت إليّ وقال: مجالسة الثقيل حمى الرَّبَع، ثم قال: لكن قد أدمنت أرواحنا على الحمى، فصارت لها عادة، أو كما قال+.(3)
ولهذا فالرجل النبيل، ذو المروءة والأدب هو من يراعي مشاعر الآخرين، ويحفظ عليهم كرامتهم وماء وجوههم.
خالق الناس بخُلْقٍ حَسَنٍ ... لا تكن كلباً على الناس يَهِرْ(4)
=قال بعضهم: صحبت الربيع بن خثيم عشرين عاماً ما سمعت منه كلمة تعاب+.(5)
__________
(1) عين الأدب والسياسة وزين الحسب والرياسة لأبي الحسين علي بن عبد الرحمن بن هذيل ص192.
(2) يعني شيخه ابن تيمية ×.
(3) بدائع الفوائد لابن القيم2/274_275.
(4) بهجة المجالس2/298.
(5) سير أعلام النبلاء4/259.(1/70)
ومن أعجب ما تراه ممن يراعي مشاعر الآخرين بذوق مرهف وأدب جم في هذه العصور المتأخرة _ سماحة شيخنا الإمام العلامة الشيخ عبدالعزيز بن باز × فهو ذو نفس شفافة مرهفة، وأدب جم رفيع، فهو لا يجرح شعور أحد، ولا يواجه الناس بما يكرهون، كما أن أدبه لا يفارقه سواء في بيته مع أهله، أو مع موظفيه، أو مع زائريه، أو مراجعيه، أو مع من يتحدث معه عبر الهاتف، وسواء كان ذلك في السفر أو الحضر، أو حالة الصحة أو المرض وإليك طرفاً ونماذج من هذا القبيل:
أ_ من ذوقه ورهافة حسه أنه إذا شعر بضيق من يعمل معه حاول إيناسه ومباسطته. .
ب_ ومن ذوقه ×أنه يراعي مشاعر الآخرين؛ ويسعى سعيه لإرضائهم وتطييب قلوبهم.
ولا أدل على ذلك من الدعوات الكثيرة التي توجه إليه؛ فيجيب أصحابها مع ما كان عنده من الأعمال العظيمة التي تحتاج إلى أوقات بل أعمار لكي تقضى.
وهذه السجية لا تفارق سماحته حتى في حال مرضه، بل في آخر أيامه؛ ففي مرضه الأخير، وقبل وفاته بمدة يسيرة جداً توفي رجل من أهل الرياض اسمه سليمان الغنيم، وكان هذا الرجل مُسِنَّاً، محسناً، صالحاً، محباً لسماحة الشيخ، وله مكانة عند الشيخ؛ فاتصل أحد أبناء ذلك الرجل بسماحة الشيخ وقال: إن أبي قد توفي، ونأمل أن تُصَلُّوا عليه، وتحضروا جنازته، فقال الشيخ: إن شاء الله نفعل.
وبعد ذلك بقليل جاءه خبر وفاة الشيخ صالح بن غصون × فذهب للصلاة على جنازة ابن غصون مع أن سماحته كان تحت وطأة مرضه الأخير، وكان متعباً جداً، وقد سقط في السيارة على من بجانبه، وتقيأ وهو في الطريق.
وبعد أن صلى على جنازة الشيخ ابن غصون × وذهب لتعزية أهله لم ينس الرجل المذكور الذي توفي في ذلك اليوم، بل ذهب إلى قبره وهو على تلك الحال من الإعياء، وصلى عليه بعد العصر، وبعد المغرب ذهب إلى أهل المتوفى، وعزاهم وصبَّرهم !.(1/71)
وفي يوم من الأيام، لما كان سماحته في الطائف دعاه أحد المشايخ إلى حفل زواج، وذلك مساء يوم عاشوراء، وكان موقع الحفل جنوب شرق مطار الطائف، والطريق إلى مكان الحفل غير معبدة، ويبعد عن منزل سماحته أربعين كيلاً تقريباً، وكان سماحة الشيخ صائماً ذلك اليوم.
ومع ذلك لبى الدعوة، وذهب إلى مقر الحفل، ووصل إليه في الساعة العاشرة ليلاً تقريباً، وألقى كلمة، وأجاب على عشرات الأسئلة، وسلم على كثير من الناس، فلما كانت الساعة الحادية عشرة والنصف استأذن من الداعي للانصراف، فقال له الداعي: لا، والله ما نأذن لكم حتى تتناولوا طعام العشاء.
فقال له سماحة الشيخ: نحن صائمون اليوم، وقد تعشينا بعد المغرب، ولا حاجة لنا بشيء، فأرجو السماح لنا.
فقال الداعي: لا نسمح لكم، فجلس سماحته حتى انتهوا من العشاء، ثم استأذن ورجع إلى منزله، ولم يَصِلْ إلا في الساعة الثانية عشرة والنصف.
ومن المعلوم أنه يتهجد قبل صلاة الفجر بساعة تقريباً، ويجلس بعد الفجر ساعتين أو أكثر للمعاملات، إلى غير ذلك من أعبائه اليومية.
ومع ذلك لم يغادر مقر الحفل حتى طيَّب نفس الداعي.
ج_ ومن ذوقه × أنه كان يلاطف من يأتون لزيارته، حتى في آخر أيامه؛ حيث يسألهم عن أحوالهم، وعن أهليهم؛ ليدخل السرور عليهم
بل كان يسأل من معه من الموظفين عن أهليهم، ويقول: لعلكم تتصلون بهم، وتطمئنون عليهم؛ لأنهم في الطائف، وأهليهم في الرياض؛ فلم تكن هذه الأمور لتفوت على سماحته ×.
حتى إنه لما كان في المستشفى في مرضه الأخير وقبل وفاته بأيام لم يكن يهمل أي رسالة تأتيه، حتى إن أحد الناس كتب إلى سماحته رسالة أبان فيها عن عظيم محبته للشيخ، ودعواته ودعوات المسلمين لسماحته؛ فأمر سماحته بإعداد جواب مناسب، ضَمَّنه شكره، ومحبته، والدعاء له بالتوفيق.(1/72)
د_ ومما يدل على ذوق سماحته المرهف أنه يتحمل الناس بألوانهم المختلفة، وهيئاتهم المتنوعة، وروائحهم التي لا تروق أحياناً، حيث إن بعضهم يقترب كثيراً من سماحته، بل ربما ضيق عليه النَّفَس وسماحة الشيخ لا ينهره ولا يوبخه، بل قصارى ما يكون من سماحته أن يقول له: ابتعد قليلاً.
هـ _ ومن عجائب مراعاته لشعور الآخرين، وحرصه على عدم تكدير صفوهم أنه في آخر ليلة جلسها للناس لم يدخل على الناس من باب المجلس الذي اعتاد أن يدخل عليهم معه.
وإنما دخل من باب المجلس النافذ إلى المكان الذي يوضع فيه الطعام؛ ذلك أنه أتى من داخل منزله على العربة يقوده ابنه أحمد؛ ولما وصل إلى باب المجلس ترجَّل من العربة ومشى؛ ليري الناس أنه بخير وعافية؛ ليفرحوا بذلك، ويطمئنوا على صحته.
ولهذا لما رآه الناس تهللت وجوههم، وفرحوا أيما فرح.
و_ ومن ذوقه المرهف وأدبه الجم أنه لا يمد رجله وعنده أحد، حتى ولو كانوا من مرافقيه، مع أن الأطباء قد أوصوه بأن يجعل مُتَّكَئاً يضع عليه رجله بعد إصابته إثر سقوطه عليها عام 1414هـ.
ز_ ومن ذوقه أنه إذا انتهى من غسل يديه بالصابونة الموجودة على المغسلة أراق عليها بعض الماء؛ حتى يزيل ما عليها من رغوة تطفو عليها؛ حتى إذا أراد استعمالها غيره وجدها نظيفة.
ح_ ومن أدبه وذوقه أنه إذا شرب ماءاً أعطى الذي عن يمينه ولو كان صغيراً، ولو لم يكن يعرفه.
ط_ وإذا أراد أن يناول شيئاً لأحدٍ ناوله بيمينه، وإذا كان أحد عن شماله وشق عليه أن يمد له باليمين وضع اليمين على الشمال وناول ما معه.
ي_ ومن أدبه أنه إذا دخل بيته بعد درس الفجر، أو بعد أن يغادر مكتب البيت بعد استعراض المعاملات أنه يدخل بيته بسكينة، ورفق، وهدوء؛ لئلا يزعج نائماً.
وإذا وصل منزل الأسرة، وحاول فتح الباب ووجده مغلقاً طرقه برفق ولين، وربما جلس الدقائق وهو يحركه، ويطرقه بسكينة ولطف.
ك_ وكان من أدبه أنه إذا مر بأحد وظن أنه نائم مشى بهدوء ورفق.(1/73)
لكنه إذا مر بأحد، أو سمع أحداً والصلاة قد دخل وقتها تغيرت طريقته، فتراه يرفع صوته، ويقول: الصلاة الصلاة، أَمَا سمعتم الأذان؟ توكلوا على الله.
ل_ ومن أدبه وذوقه أنك لا تسمع منه كلمة نابية، أو غليظة، أو مشتملة على سوء أدب.
لا مطلق هُجْرَ الحديث إذا احتبى ... فيهم ولا شرس السجية جاس(1)
8_ البشاشة والبشر: قال النبي ": =لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق+(2).
وقال _ عليه الصلاة والسلام _: =تبسمك في وجه أخيك صدقة+(3).
وقال جرير بن عبدالله البجلي ÷: =ما حجبني رسول الله " منذ أسلمت ولا رآني إلا تبسم في وجهي+(4).
قيل للعتابي: =إنك تلقى الناسَ كلَّهم بالبشر!.
قال: دفع ضغينة بأيسر مؤونة، واكتساب إخوان بأيسر مبذول+(5).
وقال محمد بن حازم:
وما اكتسب المحامدَ حامدوها ... بمثل البشر والوجه الطليق(6)
وقال أعرابي: =البشرُ سحرٌ، والهدية سحر، والمساعدة سحر+(7).
وقال آخر:
ولاقِ ببشرٍ من لقيت تَكُنْ له ... صديقاً وإن أمسى مُغِبَّاً على حقد(8)
وكان عمر بن عبدالعزيز × يتمثل بهذه الأبيات:
القَ بالبشر مَنْ لقيت من النا ... س جميعاً ولاقهم بالطلاقهْ
تَجْنِ منهم به جناءَ ثمارٍ ... طيباً طعمُه لذيذَ المذاقهْ
ودعِ التيهَ والعبوسَ عن النا ... س فإن العبوسَ رأسُ الحماقهْ
__________
(1) انظر تفاصيل سيرته في كتاب: جوانب من سيرة الإمام عبدالعزيز بن باز برواية الشيخ محمد الموسى، وإعداد الكاتب.
(2) أخرجه الترمذي (956) وقال: =هذا حديث حسن غريب+ وصححه الألباني في الصحيحة (272) وصحيح الجامع (2905).
(3) رواه مسلم (2626).
(4) رواه البخاري (3035) ومسلم (2475).
(5) بهجة المجالس 2/665.
(6) بهجة المجالس 2/298.
(7) الصداقة والصديق ص181.
(8) الصداقة والصديق ص240.(1/74)
كلما شئت أن تعاديَ عاديـ ... ت صديقاً وقد تعز الصداقهْ(1)
وقال أبو جعفر المنصور ÷: =إن أحببت أن يكثر الثناء عليك من الناس بغير نائل _ فالقهم ببشر حسن+(2).
وقال ابن عقيل ×: =البشر مؤنِّسٌ للعقول، ومن دواعي القبول، والعبوس ضده+(3).
وقيل للعباداني: =مَنِ الصديق؟ قال: من شهد طرفه لك عن ضميره بالوفاء والود، فإن العين أنطق من اللسان، وأوقد من النيران+(4).
9_ إفشاء السلام: فالسلام مدعاة للمحبة، ومجلبة للمودة، ومطردة للوحشة.
قال النبي ": =لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أَوَلا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم+(5).
10_ التزاور والتعاهد والتغافر والسؤال: ويتأكد هذا المعنى مع الأصدقاء، ومن لهم حق.
قال أعرابي: =السؤال عن الصديق أحدُ السؤالين+(6).
وقال أرسطو طاليس: =تعهَّدِ الإخوانَ بإحياء الملاطفة؛ فإن التاركَ متروك، ثم تَعَهَّدْ إخوانَ الإخوان؛ فإن إخوانَ الإخوان من الإخوان، وهم منزلة العَلَم المستَدَلِّ به على الوفاء، ثم تعهدْ أهلَ المكاشرة المتشبهين بالإخوان بالصبر عليهم؛ إما طمعاً في تحويل ذلك منهم صدقاً، وإما اتقاء كلمة فاجر وقعت في سمع مائق ذي دولة+(7).
وقال فيلسوف: =لا تقطع أحداً إلا بعد عجز الحيلة عن استصلاحه، ولا تُتْبِعْهُ بعد القطيعة وقيعة؛ فينسد طريقه عن الرجوع إليك؛ فلعل التجارب ترده إليك، وتصلحه لك+(8).
__________
(1) الكتاب الجامع لسيرة عمر بن عبدالعزيز الخليفة الخائف الخاشع للملاء تحقيق د. محمد البورنو 2/554.
(2) عين الأدب والسياسة ص154.
(3) الفنون لابن عقيل 2/635.
(4) الصداقة والصديق ص187.
(5) رواه مسلم (54) والترمذي (688).
(6) الصداقة والصديق ص243.
(7) الصداقة والصديق 286_287.
(8) الصداقة والصديق ص183.(1/75)
وقال الأحنف ×: =من حق الصديق أن يُحْتَمَلَ له ظلمُ الغضب، وظلم الدَّالَةِ، وظلم الهفوة+(1).
وقال الشيخ محمد الخضر حسين × مصوراً هذا المعنى:
جفا الصديق فناجيت الفؤاد بأن ... يبيت في جفوة تلقاء جفوته
أبى وقال أصون العهد متَّئِداً ... فَرُبَّ ودٍّ صفا من بعد غُبرته
عاد الصديق فأصفى ودَّه فإذا ... حديث نجواي منسوخٌ برمَّته
إن تلقَ طبعاً رقيقاً فاغرسن به ... مودةً يُسْقِها من ماء رقَّته(2)
11_ استعمال المداراة: فالناس خلقوا للاجتماع لا للعزلة , وللتعارف لا للتناكر،وللتعاون لا لينفرد كل واحد بمرافق حياته.
وللإنسان عوارض نفسية كالحب، والبغض، والرضا، والغضب، والاستحسان، والاستهجان؛ فلو سار على أن يكاشف الناس بكل ما يعرض له من هذه الشؤون في كل وقت وعلى أي حال _ لاختل الاجتماع، ولم يحصل التعارف، وانقبضت الأيدي عن التعاون.
فكان من حكمة الله في خلقه أن هيأ الإنسان لأدب يتحامى به ما يحدث تقاطعاً،أو يدعو إلى تخاذل،ذلك الأدب هو المداراة(3).
فالمدارة مما يزرع المودة والألفة، ويجمع الآراء المشتتة، والقلوب المتنافرة.
=والمداراة ترجع إلى حسن اللقاء، ولين الكلام، وتجنب ما يشعر ببغض أو غضب أو استنكار إلا في أحوال يكون الإشعار به خيراً من كتمانه.
فمن المداراة أن يجمعك بالرجل يضمر لك العداوة مجلس، فتقابله بوجه طلق، وتقضيه حق التحية،وترفق به في الخطاب+(4).
قال أحد الحكماء :
وأمنحه مالي وودي ونصرتي ... وإن كان محني الضلوع على بغضي
وقال الشافعي ×:
إني أحيي عدوي عند رؤيته ... لأدفع الشر عني بالتحيات
وأظهر البشر للإنسان أبغضه ... كأنه قد حشا قلبي محبات(5)
__________
(1) الصداقة والصديق ص54.
(2) ديوان خواطر الحياة ص60.
(3) انظر رسائل الإصلاح 1/131.
(4) رسائل الإصلاح 1/131.
(5) ديوان الشافعي ص28.(1/76)
بل إن المداراة قد تبلغ إلى إطفاء العداوة, وقَلْبِها إلى صداقة؛ فما أحوج المرء إلى هذه الخصلة الحميدة، خصوصاً مع من لابد له من معاشرته، أو ممن يتوقع الأذى منه.
قال ابن الحنفية ×: =ليس بحكيم من لم يعاشر بالمعروف من لم يجد من معاشرته بداً حتى يأتيه الله منه بالفرج أو المخرج+(1).
وقال العتابي: =المداراة سياسة لطيفة،لا يستغني عنها ملك ولا سوقة، يجتلبون بها المنافع، ويدفعون بها المضار، فمن كثرت مداراته كان في ذمة الحمد والسلامة+(2).
وقال بعضهم: =ينبغي للعاقل أن يداري زمانه مداراة السابح في الماء الجاري+(3).
وقال الحسن: =حسن السؤال نصف العلم، ومداراة الناس نصف العقل، والقصد في المعيشة نصف المؤونة+(4).
وقال ابن حبان: =من التمس رضا جميع الناس التمس ما لا يدرك، ولكن يقصد العاقل رضا من لا يجد من معاشرته بُدَّاً، وإن دفعه الوقت إلى استحسان أشياء من العادات كان يستقبحها،أو استقباح أشياء كان يستحسنها ما لم يكن مأثماً؛ فإن ذلك من المدارة وما أكثر من دارى فلم يسلم , فكيف توجد السلامة لمن لا يداري ؟+(5).
قال أمير المؤمنين على بن أبي طالب ÷:
يقول لك العقل الذي زين الورى ... إذا أنت لم تقدر عدواً فداره (6)
وقال عبدالله بن جعفر: =كمال الرجل بخلال ثلاث:
معاشرة أهل الرأي والفضيلة، ومداراة الناس بالمخالقة الجميلة، واقتصاد من غير بخل في القبيلة، فذو الثلاث سابق، وذو الاثنين زاهق، وذو الواحدة لاحق، فمن لم تكن فيه واحدة من الثلاث لم يسلم له صديق، ولم يتحنَّن عليه شفيق، ولم يتمتع به رفيق+(7).
__________
(1) روضة العقلاء ص 70.
(2) عين الأدب والسياسة ص 154.
(3) المرجع السابق.
(4) عيون الأخبار 3/22.
(5) روضة العقلاء ص 71ـ72.
(6) ديوان الإمام علي ص 106.
(7) الصداقة والصديق ص44.(1/77)
ولنا في رسول الله " أسوة حسنة؛ فلقد كان يولي هذا الجانب عنايته فقد جاء في الصحيحين عن عروة عن عائشة _ رضي الله عنها _ أن رجلاً استأذن على النبي " فلما رآه قال: =بئس أخو العشيرة، وبئس ابن العشيرة+.
فلما جلس تطلَّق النبي " في وجهه، وانبسط إليه، فلما انطلق قالت له عائشة: يا رسول الله! حين رأيت الرجل قلت له: كذا وكذا، ثم تطلَّقت في وجهه، وانبسطت إليه؟
قال رسول الله ": =يا عائشةُ! متى عهدتِّني فحَّاشاً؟ إن شر الناس عند الله منزلةً يوم القيامة من تركه الناس؛ اتقاء شره+.
وفي رواية: =من تركه الناس، أووَدَعَهُ الناس؛ اتقاء فحشه+(1).
فلقاء رسول الله " لهذا الرجل المعروف بالبذاء من قبيل المداراة؛ لأنه لم يزد على أن لاقاه بوجه طلق، أو رَفَقَ به في الخطاب.
وقد سبق إلى ذهن عائشة _ رضي الله عنها _ أن الذي بلغ أن يقال فيه: =بئس أخو العشيرة، وبئس ابن العشيرة+ لا يستحق هذا اللقاء، ويجب أن يكون نصيبُه قسوةَ الخطاب، وعبوسَ الجبين.
ولكنَّ نَظَرَ رسولِ الله " أبعدُ مَدَىً، وأناته أطول أمداً؛ فهو يريد تعليم الناس كيف يملكون ما في أنفسهم؛ فلا يَظْهَر إلا في مكان أو زمان يليق إظهاره فيه.
ويريد تعليمهم أدباً من آداب الاجتماع، وهو رِفْقُ الإنسان بمن يقصد إلى زيارته في منزله، ولو كان شرُّه في الناس فاشياً.
على أن إطلاق الجبين لمثل هذا الزائر لا يمنع من إشعاره بطريق سائغ أنك غير راض عما يُشيعُه في الناس من أذىً، ولا يعوقك أن تعالجه بالموعظة الحسنة إلا أن يكون شيطاناً مريداً.
قال ابن الجوزي × مقرراً هذا المعنى: =مما أفادتني تجارب الزمان أنه لا ينبغي لأحد أن يظاهر بالعداوة أحداً ما استطاع؛ لأنه ربما يحتاج إليه مهما كانت منزلته، ولقد احتجت في عمري إلى ملاطفة أقوام ما خطر لي قط وقوعُ الحاجة إلى التلطف بهم+(2).
__________
(1) البخاري (6032) و(6054) و(6131)، ومسلم (2591).
(2) صيد الخاطر لابن الجوزي ص169.(1/78)
وقال: =اعلم أن المُظاهرة بالعداوة قد تجلب أذىً من حيث لا يُعلم؛ لأن المُظاهِرَ بالعداوة كشاهر السيف ينتظر مضرباً، وقد يلوح منه مضربٌ خفيٌّ إن اجتهد المُتَدَرِّع في ستر نفسه؛ فيغتنمه ذلك العدو.
فينبغي لمن عاش في الدنيا أن يجتهد في أن لا يظاهر أحداً؛ لما بينتُ من وقوع احتياج الخلق بعضهم إلى بعض، وإقدار بعضهم على ضرر بعض.
وهذا فصل مُفيد تَبينُ فائدته للإنسان مع تقلب الزمان+(1).
وبالجملة فالمداراة خصلة كريمة يحكمها الأذكياء، ولا يتعدى حدودها الفضلاء؛ فالأخذ بها مفيد في مراعاة المشاعر، وحماية المصالح (2).
12_ المواساة: وذلك عند حلول المصائب والبلايا؛ فمواساة من أصيب بذلك تخفف مصابه، وتقربه ممن واساه، وتشعره بمنزلته.
وربما رجعت مودةٌ سابقةٌ بسبب مواساة حادثة.
والمواساة تكون بالمال، والجاه، والخدمة، والكلمة الطيبة، والشفاعة الحسنة وما جرى مجرى ذلك.
قال ابن عائشة: =جزعُك في مصيبة صديقك أحسن من صبرك، وصبرك في مصيبتك أحسن من جزعك+(3).
وقال ابن مناذر: =كنت أمشي مع الخليل فانقطع شِسْعُ نعلي فخلع نعله، فقلت له: ما تصنع؟ قال: أواسيك بالحفاء+(4).
وقال حاتم الأصم: =أربعة تُذهب الحقد بين الإخوان: المعاونة بالبدن، واللطف باللسان، والمواساة بالمال، والدعاء في الغيب+(5).
قال ابن عباس _ رضي الله عنهما _:=ثلاثة لا أكافئهم: رجل بدأني بالسلام، ورجل وسع لي في المجلس، ورجل اغبرت قدماه من المشي إليَّ ؛ إرادة التسليم عليَّ.
أما الرابع فلا يكافئه عني إلا الله.
__________
(1) صيد الخاطر ص169_170.
(2) انظر تفاصيل الحديث عن المداراة وبيان معالمها والفروق بينها وبين المداهنة في كتاب (سوء الخلق) للكاتب ص152_166.
(3) الصداقة والصديق ص51.
(4) الصداقة والصديق ص55.
(5) الصداقة والصديق ص285.(1/79)
قيل: من هو؟... قال: رجل نزل به أمر،فبات ليلته يفكر بمن ينزله،ثم رآني أهلاً لحاجته فأنزلها بي+(1).
وينسب له ÷ شعر في هذا المعني يقول فيه :
إذا طارقاتُ الهمِّ ضاجعت الفتى ... وأعمل فكرَ الليلِ والليلُ عاكرُ
وباكرني في حاجة لم يجد بها ... سواي ولا من نكبة الدهر ناصرُ
فَرَجْتُ بمالي همَّه من مقامه ... وزايله همٌّ طروقٌ مسامرُ
وكان له فضل علي بظنه ... بي الخير إني للذي ظن شاكرُ(2)
13_ التبشير والتهنئة: فذلك مما يدخل السرور، ويئد العداوات.
قال الله _ عز وجل _:[وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ] البقرة: 223.
وقال النبي " لمعاذ وأبي موسى الأشعري _ رضي الله عنهما _ لما بعثهما إلى اليمن: =يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا+(3).
ثم إن التهنئة مما يفرح المُهنأ، ويدل على سجية المهنِّئ، وقد تدخل في التبشير.
ولهذا جاء في حديث توبة كعب بن مالك وصاحبيه _ رضي الله عنهم _ الطويل: =قال: فآذن رسول الله "الناس بتوبة الله علينا حين صلى صلاة الفجر، فذهب الناس يبشروننا، فذهب قِبَلَ صاحبيَّ مبشرون، وركض رجل إلي فرساً، وسعى ساعٍ من أسلم قبلي، وأوفى الجبل، فكان الصوت أسرع من الفرس، فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني، فنزعت له ثوبيَّ فكسوتهما إياه ببشارته، والله ما أملك غيرهما يومئذ، واستعرت ثوبين، فلبستهما، فانطلقت أتأمَّم رسول الله " يتلقاني الناس فوجاً فوجاً يهنئوني بالتوبة، ويقولون: لتهنئك توبة الله عليك حتى دخلت المسجد فإذا رسول الله " جالس في المسجد وحوله الناس، فقام طلحة بن عبيدالله يهرول حتى صافحني، وهنأني، والله ما قام رجل من المهاجرين غيره، قال: فكان كعب لا ينساها لطلحة+(4).
__________
(1) عيون الأخبار 4/176.
(2) العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده لابن رشيق القيرواني 1/37.
(3) أخرجه البخاري (6124) ومسلم (1733).
(4) انظر قصة الثلاثة الذين خلفوا بطولها في صحيح البخاري (2757).(1/80)
14_ الشورى: فهي تشعر المشاوَر بقيمته، وتدل على تواضع المُشاوِر، وتقرب المتشاورين من بعض؛ لشعورهم بأن مصلحتهم واحدة.
قال الله _تعالى_ حاثاً نبيه على الشورى: [وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ] آل عمران: 159.
وقال مثنياً على المؤمنين: [وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ]الشورى: 38.
15_ إنزال الناس منازلهم: وقد مر شيء من ذلك فيما مضى.
فمن أعظم ما يحفظ على الناس مشاعرهم أن تحفظ لهم أقدارهم، وأن ينزلوا منازلهم؛ فللعالم حق، وللوجيه حق، وللوالد حق، وللولد حق، وللكبير حق، وللصغير حق، وللمعلم حق، وللطالب حق؛ فكل يعطى منزلته اللائقة به، فذلك له حق الإجلال والإكرام والتوقير، وذلك له حق الرحمة والرعاية والملاطفة وهكذا؛ فرعاية هذه الحقوق بلا وكس ولا شطط يحفظ على الناس كرامتهم، فلا يَشْعُر أحدٌ ببخس حقه، أو الإساءة إليه.
أخرج مسلم في مقدمة صحيحه عن عائشة _ رضي الله عنها _ أنها قالت: =أمرنا رسول الله " أن ننزل الناس منازلهم+. (1)
ولقد اعتنت كتب السنة بهذا المعنى، كما اعتنت بذلك كتب أدب الطلب كثيراً.
ولو ألقى القارئ نظرة في بعضها لرأى ذلك جلياً.
ومن ذلك على سبيل المثال: كتاب الجامع لأخلاق الراوي، وآداب السامع للخطيب البغدادي ×.
ومما عقده من أبواب في ذلك الكتاب _ الباب التاسع عشر، وعنوانه:
=باب: توقير المحدث طلبة العلم، وأخذه نفسه بحسن الاحتمال لهم والحلم+.
وساق جملة من الآثار تحت هذا الباب، ومن العنوانات التي جاءت تحت هذا الباب ما يلي:
-=إكرامه المشايخ وأهل المعرفة+.
-=تعظيم المحدِّث الأشراف ذوي الأنساب+.
-=تعظيم من كان رأساً في طائفته وكبيراً عند أهل نِحْلته+.
-=إكرامه الغرباء من الطلبة وتقريبهم+.
-=استقباله لهم بالترحيب+.
-=تواضعه لهم+.
-=تحسين خلقه معهم+.
-=الرفق بمن جفا طبعه منهم+.
وتحت كل عنوان ساق × جملة من الآثار (2).
__________
(1) مقدمة صحيح مسلم ص 20.
(2) انظر الجامع ص 343 _ 355.(1/81)
هذه بعض الأسباب التي تعين على الارتقاء بالمشاعر.
16_ لزوم الإنصاف في الردود، وحسن التعامل مع الخلاف: ذلك أن الردود والخلاف من أعظم مشوشات القلب، ومن أشد ما يذكي أوار الفتنة، ويقضي على روح المحبة والألفة إذا لم تراع الضوابط الشرعية، والآداب المرعية في ذلك الشأن.
والأخذ بأدب الرد، وحسن التلقي والتعامل مع الردود من أعظم ما يحفظ المشاعر، ويبقي على الود.
ولهذا كان حرياً بمن كان أهلاً للرد، واقتضى الأمر أن يرد _ أن يلزم الإنصاف، وحرياً بمن يقف على شيء من ذلك أن يحسن التعامل مع الخلاف والردود.
فيا من يروم المعالي،ويتطلب الإصلاح عليك بلزوم الإنصاف، وتحري العدل.
وإذا لم ينصفك الرجل، فرد عليك الحق بالشمال وباليمين، أو جحد جانباً وهو يراه رأي العين _ فلا تكن قلة إنصافه حاملة لك على أن تقابله بالعناد، فترد عليه حقاً، أو تجحد له فضلاً، واحترس من أن تسري لك من خصومك عدوى هذا الخلق الممقوت، فيلج في نفسك، وينشط له لسانك، أو قلمك، وأنت تحسبه من محاربة الخصوم بمثل سلاحهم.
كلا، لا يحارب الرجل خصومه بمثل الاعتصام بالفضيلة، ولا سيما فضيلة كالإنصاف؛ فهي تدل على نفس مطمئنة، ونظر في العواقب بعيد.
بل يحسن بمن أراد الرد أن ينظر في جدواه، وأن يتمثل الرحمة ويتجنب الظلم والبغي، ومما يعينه على ذلك ما يلي:
أ_ أن يحب المرء لإخوانه ما يحبه لنفسه: فذلك أقرب للتقوى، وأنفى للوحشة والبغضاء، وأدعى للعدل والرحمة، والمودة والقربى؛ =فأعدل السير أن تقيس الناس بنفسك، فلا تأتي إليهم إلاَّ ما ترضى أن يؤتى إليك+ (1).
قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : =لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه+(2).
قال الشافعي ×: =ما ناظرت أحداً فأحببت أن يخطئ+(3).
__________
(1) الأدب الصغير والأدب الكبير لابن المقفع ص73.
(2) رواه البخاري (13) ومسلم (45).
(3) صفة الصفوة 2/167 .(1/82)
وقال: =ما ناظرت أحداً قط إلاَّ أحببت أن يوفق، ويسدد، ويعان، ويكون عليه رعاية من اللَّه، وحفظ+(1).
وقال الخطابي ×:
ارض للناس جميعاً ... مثل ما ترضى لنفسك
إنما الناس جميعاً ... كلهم أبناء جنسك
فلهم نفس كنفسك ... ولهم حس كحسك(2)
ب_ أن يضع المرء نفسه موضع خصمه: فذلك مما يدعو لالتماس المعاذير، والبعد عن إساءة الظن، والحذر من مواطن الظلم والاعتساف.
قال ابن حزم ×: =من أراد الإنصاف فليتوهم نفسه مكان خصمه؛ فإنه يلوح له وجه تعسفه+ (3).
ج_ التجرد للحق: فإذا تجرد المرء للحق، وآثره، وحرص على طلبه _ وفق له، ولم يجد صعوبة في لزوم العدل .
قال الرافعي ×: =متى ما وقع الخلاف بين اثنين، وكانت النية صادقة مخلصة _ لم يكن اختلافهما إلا من تنوع الرأي، وانتهيا إلى الاتفاق بغلبة أقوى الرأيين، ما من ذلك بد+(4).
وقال الشافعي ×: =وما ناظرت أحداً إلاَّ ولم أبال: أبيَّن اللَّه الحق على لساني أو لسانه+(5).
وكما يحسن بمن رَدَّ أو رُدَّ عليه أن يلزم أدب الرد فكذلك يحسن حال حصول الخلاف والرد خصوصاً بين بعض أهل العلم _ أن تنشرح صدورنا لما يقع من الخلاف؛ فما من الناس أحد إلا وهو راد ومردود عليه، وكلٌّ يؤخذ من قوله ويرد إلا الرسول ".
ويجمل بنا أن نحسن الظن بأهل العلم والفضل إذا رد بعضهم على بعض، وألا ندخل في نياتهم، وأن نلتمس لهم العذر.
وإذا تبين لنا أن أحداً من أهل العلم والفضل أخطأ سواء كان راداً أو مردوداً عليه _ فلا يسوغ لنا ترك ما عنده من الحق؛ بحجة أنه أخطأ.
وإذا كنا نميل إلى أحد من الطرفين أكثر من الآخر فلا يجوز لنا أن نتعصب له، أو نظن أن الحق معه على كل حال.
__________
(1) صفة الصفوة 2/167.
(2) أقوال مأثورة ص456.
(3) الأخلاق والسير ص80.
(4) وحي القلم 2/315.
(5) صفة الصفوة 2/167، وانظر تفصيل الحديث عن الإنصاف في رسائل الإصلاح 1/38_47، وأخطاء في أدب المحادثة والمجالسة للكاتب 68_84.(1/83)
وإذا كان في نفس أحدٍ منا شيء على أحد الطرفين _ فلا يكن ذلك حائلاً دون قبول الحق منه.
قال ربنا _ جل وعلا _: [وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى] الأنعام: 142.
وقال: [وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى] المائدة: 8.
وقال: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ] النساء: 135.
قال ابن حزم ×: =وجدت أفضل نعم الله _ تعالى _ على المرء أن يطبعه على العدلِ وحُبِّه، وعلى الحق وإيثاره+.(1)
وقال: =وأما من طبع على الجور واستسهاله، وعلى الظلم واستخفافه _ فلييأس من أن يصلح نفسه، أو يقوِّم طباعه أبداً، وليعلم أنه لا يفلح في دين ولا في خلق محمود+.(2)
وقال الشيخ محمد الطاهر بن عاشور ×: =والعدل مما تواطأت على حسنه الشرائع الإلهية، والعقول الحكيمة، وتمدَّح بادعاء القيام به عظماءُ الأمم، وسجلوا تمدُّحهم على نقوش الهياكل من كلدانية، ومصرية، وهندية.
وحسن العدل بمعزل عن هوى يغلب عليها في قضية خاصة، أو في مبدأ خاص تنتفع فيه بما يخالف العدل بدافع إحدى القوتين: الشاهية والغاضبة+.(3)
وإذا كان لدينا قدرة على رأب الصدع، وجمع الكلمة، وتقريب وجهات النظر فتلك قربة وأي قربة.
قال الله _ عز وجل _: [لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً] النساء: 114.
وإذا لم نستطع فلنجتهد بالدعاء والضراعة إلى الله أن يقرب القلوب، ويجمع الكلمة على الحق.
__________
(1) الأخلاق والسير ص37.
(2) الأخلاق والسير ص37.
(3) أصول النظام الاجتماعي في الإسلام للطاهر بن عاشور ص186.(1/84)
ولنحذر كل الحذر من الوقيعة بأهل العلم، أو السعاية بينهم، ولنعلم بأنهم لا يرضون منا بذلك مهما كان الأمر.
وإذا سلَّمَنا الله من هذه الردود، فاشتَغل الواحد منا بما يعنيه _ فهو خير وسلامة _إن شاء الله تعالى _.
والذي يُظَن بأهل الفضل سواء كان الواحد منهم رادَّاً أو مردوداً عليه _ أنهم لا يرضون منا أن نتعصَّب لهم أو عليهم تفنيداً، أو تأييداً.
بل يرضيهم كثيراً أن نشتغل بما يرضي الله، وينفع الناس.
ويؤسفهم كثيراً أن تأخذ تلك الردود أكثر من حجمها، وأن تفسر على غير وجهها.
هذا وإن العاقل المحب لدينه وإخوانه المسلمين ليتمنى من صميم قلبه أن تجتمع الكلمة، وألا يحتاج الناس أو يضطروا إلى أن يردوا على بعض، وما ذلك على الله بعزيز، ولكن:
فيا دارها بالحزن إن مزارها ... قريب ولكن دون ذلك أهوال
فمن العسير أن تتفق آراء الناس، واجتهاداتهم، ومن المتعذر أن يكونوا جميعاً على سنة واحدة في كل شيء، ومن المحال أن يُعْصَم الناس فلا يخطئوا.
ثم ليكن لنا في سلفنا الكرام قدوة؛ فهم خير الناس في حال الوفاق وحال الخلاف؛ حيث كانوا مثالاً يحتذى في الرحمة، والعدل، والإنصاف حتى في حال الفتنة والقتال.
روي أنه أُنشد في مجلس أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ÷ قول الشاعر:
فتىً كان يدنيه الغنى من صديقه ... إذا ما هو استغنى ويبعده الفقر
كأن الثريا علقت بجبينه ... وفي خده الشِّعرى وفي الآخر البدر
فلما سمعها علي ÷ قال: هذا طلحة بن عبيد الله، وكان السيف ليلتئذٍ مجرداً بينهما (1).
فانظر إلى عظمة الإنصاف، وروح المودة، وشرف الخصومة.
ولا ريب أن هذه المعاني تحتاج إلى مراوضة النفس كثيراً، وإلى تذكيرها بأدب الإنصاف، وإنذارها ما يترتب على العناد والتعصب من الإثم والفساد.
وإذا استقبلنا الخلاف والردود بتلك الروح السامية، والنفس المطمئنة صارت رحمةً، وإصلاحاً، وتقويماً، وارتقاءاً بالعقول، وتزكية للنفوس.
__________
(1) رسائل الإصلاح 1/43.(1/85)
وبهذا نحفظ لرجالنا، وأهل العلم منا مكانتهم في القلوب، ونضمن _ بإذن الله _ لأمتنا تماسكها وصلابة عودها، ونوصد الباب أمام من يسعى لتفريقها والإيضاع خلالها .
والعجيب أن ترى أن اثنين من أهل العلم قد يكون بينهما خلاف حول مسألة أو مسائل، وتجد أتباعهما يتعادون، ويتمارون، وكل فريق يتعصب لصاحبه مع أن صاحبي الشأن بينهما من الود، والصلة، والرحمة الشيء الكثير!.
وأخيراً لنستحضر أن ذلك امتحان لعقولنا وأدياننا؛ فلنحسن القول، ولنحسن العمل، ولنجانب الهوى.
17_ إشاعة روح التعاون على البر والتقوى، والحرص على الإفادة من كل أحد، والحذر من احتقار أي جهد للإصلاح: فهذا مما ينمي روح المودة، ويقضي على الكسل والبطالة؛ فإن من النعم الكبرى كثرةَ طرق الخير، وتعَدُّدَ السبل الموصلة إلى البر؛ فلا يسوغ _ والحالة هذه _ أن يُقَلَّل من أي عمل من أعمال الخير؛ فالمسلم بحاجة إلى ما يقربه إلى ربه، والأمة بحاجة إلى كل عمل من شأنه رفعُ راية الإسلام، وإعزازُ أهله.
وإذا شاعت روح التعاون بين أفراد الأمة في شتى الميادين _ أمكن الإفادة من كل شخص مهما قلت مواهبه، ومن كل فرصة ووسيلة ما دامت جارية على مقتضى الشرع.
أما إذا اقتصر كل واحد منا على باب من أبواب الخير، ورأى أنه هو السبيل الوحيد للنهوض بالأمة، وقبض يده عن التعاون مع غيره ممن فتح عليهم أبواب أخرى من الخير _ فإننا سنحرم خيراً كثيراً، وستُفْتَح علينا أبواب من الشر لا يعلمها إلا الله _ عز وجل _.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية × في معرض كلام له في بيان أن أفضل الأعمال يتنوع بحسب أجناس العبادة، وباختلاف الأزمنة، والأمكنة، والأشخاص، والأحوال، قال: =وهذا باب واسع يغلو فيه كثير من الناس، ويتَّبعون أهواءهم؛ فإن من الناس من يرى أن العمل إذا كان أفضل في حقه لمناسبته له، ولكونه أنفع لقلبه، وأطوع لربه _ يريد أن يجعله أفضل لجميع الناس، ويأمرهم بمثل ذلك.(1/86)
والله بعث محمداً بالكتاب والحكمة، وجعله رحمة للعباد، وهدياً لهم يأمر كل إنسان بما هو أصلح له؛ فعلى المسلم أن يكون ناصحاً للمسلمين، يقصد لكل إنسان ما هو أصلح.
وبهذا تبين لك أن من الناس من يكون تطوعه بالعلم أفضل له، ومنهم من يكون تطوعه بالجهاد أفضل له، ومنهم من يكون تطوعه بالعبادات البدنية _ كالصلاة والصيام _ أفضل له.
والأفضل مطلقاً ما كان أشبه بحال النبي " باطناً وظاهراً؛ فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد ".
والله _ سبحانه وتعالى _ أعلم+(1).
__________
(1) مجموع الفتاوى 10/427_429.(1/87)
وبناءاً على ما مضى فإنه لا غضاضة على من فتح عليه في باب من أبواب الخير دون أن يفتح عليه في غيره؛ ولا على من فتح عليه من أبواب الخير دون أن يفتح على غيره فيه؛ فكل ميسر لما خلق له، وقد علم كل أناس مشربهم؛ فلا غرو _ إذاً _ أن تتنوع الأعمال ما دامت على مقتضى الشرع؛ فهذا يُكِبُّ على العلم والبحث والتأليف، وذاك يقوم بتعليم الناس عبر الدروس، وهذا يسد ثغرة الجهاد، وذاك يقوم بشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا يقوم على رعاية الأرامل والأيتام، ويتعاون مع جمعيات البر المعنية بهذا الشأن، وذاك يقوم بتربية الشباب في محاضن التربية والتعليم، وهذا يقوم بتعليم الناس كتاب الله، وتحفيظهم إياه، وذاك يعنى بشؤون المرأة، وما يحاك حولها، وهذا يهتم بعمارة المساجد، ودلالة المحسنين على ذلك، وذاك يسعى في تنظيم الدروس والمحاضرات والدورات العلمية، وتسهيل مهام أهل العلم في ذلك الشأن، وهذا يعنى بالجاليات التي تفد إلى بلاد المسلمين يعلمهم أمور دينهم إن كانوا مسلمين، ويدعوهم إلى الإسلام إن كانوا غير مسلمين، وهذا مفتوح عليه في باب الشبكة العالمية _ الإنترنت _ حيث ينشر الخير من خلالها، ويصد الشر عن المسلمين، وذاك قد فتح عليه في الإعلام ونشر الخير عبر وسائله المتنوعة، وهذا يعنى بالمسلمين في بقاع الأرض؛ حيث يسعى في تعليمهم، وبيان قضاياهم، ويحرص على رفع الظلم عنهم، وهذا يسعى سعيه في الإصلاح بين الناس، وذاك يقوم بشؤون الموتى من تغسيلهم، ودفنهم ونحو ذلك، وهذا منقطع للعبادة، والذكر، والتلاوة، وعمارة بيوت الله، وذاك مفتوح عليه في باب الصيام، وهذا مفتوح عليه في باب الصلاة، وذاك مفتوح عليه في باب الصدقة، وذاك الفذُّ الجامع لأكثر تلك الخصال وهكذا...(1/88)
وبهذه النظرة الشاملة نأخذ بالإسلام من جميع أطرافه، ونسد كافة الثغرات التي تحتاج إلى من يقوم بها، ويمكننا اغتنام جميع الفرص، وكافة المواهب، ونستطيع من خلال ذلك إشاعة روح العمل للإسلام، والقضاء على الكسل والبطالة.
وبذلك يقل التلاوم، ويكثر العمل، وتحفظ الأقدار، ويُنْبذ الخلاف، ونسلم من القيل والقال، وننهض بأمتنا إلى أعلى مراقي السعود، وأقصى مراتب المجادة.
وبعد التطواف في هذا البحث يتبين لنا أنَّ مراعاة المشاعر منهج شرعي، ومطلب اجتماعي يحتاجه المعلم مع طلابه، وعميد الأسرة مع أهل بيته، كما يحتاجه القاضي في مقطع أحكامه، والعالم في تصديه للناس، والرئيس الأعلى في سياسته لرعيته.
بل ويحتاج إليه كل إنسان ما دام مدنياً بطبعه، ولا يستطيع أن يعيش في عزلة مطلقة.
وأخيراً لا تحتقر شيئاً ممن يكسبك شكوراً، وتزداد به صحيفة أعمالك نوراً؛ فلا تحتقر كلمة طيبة، أو ابتسامة صادقة تنزلها رحمة على قلب إخوانك.
ولا تتهاون بملاطفة الصغير؛ فإنه سيكبر ولن ينسى لك ذلك الجميل، ولا يغب عن بالك مواساة العامل الغريب؛ فإنه يأنس بذلك، ويرتاح له، ولا تتوانَ أن تقول للناس حسناً ؛ فإن كنت تعرف من تقول له ذلك استملت قلبه، وإن كنت لا تعرفه فقد أسعدته، وكسبت رضا ربك في ذلك كله.
بل لا تحتقر المكالمة الهاتفية، أو الرسالة البريدية، أو الجوالية المسعدة المعبرة، المذكرة، المواسية، وتذكر أن في =الكلمة الطيبة صدقة+ واستحضر =أن تبسمك في وجه أخيك صدقة+.
و=لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق+.
و[خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ] الأنفال: 199.
و:
اقبل من الناس ما تيسر ... ودع من الناس ما تعسر
واشكر على القليل، وتجاوز عن الكثير، والله يتولاك، ويرعاك.(1/89)
وبالجملة فالموضوع طويل، والحديث عنه ذو شجون، وما مضى إنما هي إشارات وذكرى و =الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ+.(1)
المقدمة ... 3
توطئة ومدخل ... 4
من مظاهر فقر المشاعر: ... 8
أولاً: فقر المشاعر بين الوالدين والأولاد: ... 9
_ صور من قلة المراعاة لمشاعر الوالدين ... 9
_ صور من بر السلف، ومراعاتهم لمشاعر الوالدين ... 10
_ صور من قلة المراعاة لمشاعر الأولاد ... 14
_ أمور تعين الوالدين على التعامل مع الأولاد والارتقاء بمشاعرهم: ... 16
1_ تنمية الجرأة ... 16
2_ استشارة الأولاد ... 16
3_ تعويد الولد على القيام ببعض المسؤوليات ... 17
4_ تعويد الأولاد على المشاركة الاجتماعية ... 17
5_ التدريب على اتخاذ القرار ... 17
6_ فهم طبائع الأولاد ونفسياتهم ... 17
7_ تقدير مراحل العمر للأولاد ... 18
8_ تلافي مواجهة الأولاد مباشرة ... 18
9_ الجلوس مع الأولاد ... 18
10_ العدل بين الأولاد ... 19
11_ إشباع عواطفهم ... 19
12_ النفقة عليهم بالمعروف ... 19
13_ إشاعة الإيثار بينهم ... 19
14_ الإصغاء إليهم إذا تحدثوا، وإشعارهم بأهمية كلامهم ... 19
ثانياً: فقر المشاعر في الحياة الزوجية: ... 21
_ مظاهر لذلك: ... 21
_ الصمت المطبق الذي يخيِّم على البيوت ... 21
_ كثرة لوم الزوجة وانتقادها عند كل صغيرة وكبيرة ... 21
_ قلة الشكر للزوجة إذا هي أحسنت ... 24
_ كثرة اللوم، وقلة الشكر من قِبَل الزوجة ... 25
_ قلة مراعاة الزوجة لأحوال الزوج ومشاعره ... 29
_ أخبار من التاريخ لأزواج يرعون حق الزوجة، ومشاعرها الحقة ... 32
_ قصة أبي عثمان النيسابوري ... 32
_ قصة الرجل الذي تزوج وادَّعى العمى ... 33
_ قصتان في الصبر على الزوجة وحصول العاقبة الحميدة لصاحبي القصة ... 33
_ تعليق على القصتين ... 34
__________
(1) ولقد يسر الله لي بسط شيء من ذلك في عدد من الكتب منها كتاب: =أخطاء في أدب المحادثة والمجالسة+ وكتاب =سوء الخلق أسبابه ومظاهره وعلاجه+ وكتاب =مع المعلمين+ وكتاب =رسائل في التربية والأخلاق والسلوك+ وكتاب =رسائل في الزواج والحياة الزوجية+.(1/90)
_ قصيدة ابن زريق البغدادي لما ودَّع زوجته ... 35
_ قصيدة ابن دراج القسطلي وهو يودِّع زوجته ... 36
_ قصيدة يحيى الهندي الأندلسي وهو يوصي بأن يُدفن حذاء زوجته ... 36
_ قصيدة الحافظ ابن حجر وهو يتشوق إلى زوجته ... 37
_ البارودي يرثي زوجته ... 37
_ مرثية العلامة محمد الخضر حسين لزوجته ... 40
_ من أعظم مظاهر فقر المشاعر ضرب الزوجة بلا مسوِّغ ... 42
_ شروط ضرب الزوجة، وضوابطه ... 47
ثالثاً: فقر المشاعر بين الزوجة ووالدي زوجها: ... 52
_ صور لذلك ... 53
_ إشارات وإرشادات تُعين على تلافي فقر المشاعر بين الزوجة ووالدي زوجها: ... 55
1_ دور الابن الزوج ... 55
2_ دور الزوجة ... 56
3_ دور أم الزوج ... 59
رابعاً: فقر المشاعر مع الجيران: ... 60
_ منزلة الجار في الإسلام ... 60
_ مظاهر لقلة المراعاة لمشاعر الجيران: ... 61
1_ مضايقة الجار ... 61
2_ احتقار الجار والسخرية منه ... 62
3_ إيذاء الجيران بالجَلَبةِ ... 63
4_ قلة المشاركة العاطفية للجيران ... 63
_ قصة جار أبي دؤاد ... 64
5_ قلة التهادي بين الجيران ... 64
6_ التكبر عن قبول هدية الجار ... 66
خامساً: فقر المشاعر بين الطلاب والمعلمين: ... 69
_ مظاهر لذلك ... 69
_ جدير بالطلاب تبجيل معلميهم... ... 70
_ حقيق على المعلمين أن يعوا جانب المشاعر الصادقة ... 71
_ مما يرسخ المحبة وينميها بين المعلم وطلابه: ... 72
أ_ العناية بمصالح الطلاب وأحوالهم ... 72
ب_ الصبر على بعض ما يصدر من الطلاب ... 72
جـ _ احترام الطلاب ومراعاة مشاعرهم ... 72
د _ التعرف على أسماء الطلاب ... 73
هـ _ مخاطبتهم بكُناهم وأحب الأسماء إليهم ... 73
و_ استشارتهم ببعض الأمور ... 73
ز_ معرفة الطبائع وفهم العقليات ... 74
ح_ صفاء السريرة للطلاب ... 74
_ نبذة عن أحوال المعلمين مع الطلاب، وأحوال الطلاب مع المعلمين ... 75
_ الإمام محمد بن الحسن الشيباني مع تلميذه أسد بن الفرات ... 75
_ قصة جميلة للشريف التلمساني مع أستاذه أبي زيد ابن الإمام ... 76
_ تنويه ابن التلمساني بأحد طلابه بحضرة السلطان ... 76(1/91)
_ زيد بن ثابت مع ابن عباس _ رضي الله عنهم _. ... 77
_ ابن الرشيد والأصمعي ... 77
_ ابن خلدون ومكانة شيوخه عنده ... 78
_ بين ابن عرفة وتلميذه الأبي ... 78
_ مداعبة الشيخ محمد الخضر لأستاذه سالم بو حاجب ... 78
سادساً: مظاهر أخرى لفقر المشاعر: ... 80
_ قلة المراعاة للمشاعر حال تقديم النصيحة ... 80
_ قلة المراعاة لمشاعر العمال, والغرباء, والصغار, والمرؤوسين ... 80
_ قلة المراعاة للمخالفين والخصوم حال الرد والمناقشة أو المجادلة ... 80
_ قلة المراعاة لمشاعر المراجعين ... 80
_ قلة المراعاة لحقوق الأخوة والصداقة ... 80
_ قلة المراعاة لمشاعر المريض أثناء زيارته ... 80
_ فقر المشاعر بين جماعة المسجد الواحد ... 81
أسباب تعين على الارتقاء بالمشاعر: ... 83
1_ استشعار الأخوة الإسلامية ... 83
2_ استعمال الثناء الصادق المعتدل: ... 83
_ قصة يزيد بن مزيد الشيباني مع الرشيد ... 84
_ هداية القرآن الكريم في الثناء على من يستحق ... 84
_ السنة النبوية حافلة في الثناء على من يستحق ... 85
_ خمسة أمثلة من السنة النبوية ... 85
_ أمثلة لثناء بعض السلف على بعض: ... 88
_ ثناء ابن مسعود على معاذ _ رضي الله عنهما _ ... 88
_ ثناء الإمام أحمد على سفيان الثوري ... 89
_ ثناء سفيان الثوري على إبراهيم بن أدهم ... 89
_ ثناء سفيان الثوري على ابن المبارك ... 89
_ كلمة جميلة لأعرابي ... 90
_ التنبيه على مراعاة الفرق بين المديح المنضبط المعتدل الصادق وبين الإطراء الكاذب الممقوت ... 90
_ ينبغي مراعاة التوازن في المديح ... 90
_ التنبيه على الأخذ بهذه الطريقة الحكيمة النبيلة ... 91
_ أمثلة لأمور يجدي فيها الثناء الصادق ... 91
_ كلمة جميلة لسفيان الثوري ... 92
_ كلمة جميلة لأبي هاشم الحراني ... 93
3_ إظهار المشاعر، والإعلام بالمحبة ... 93
_ أثر ذلك ... 93
_ ثمانية أمثلة نبوية حول هذا المعنى ... 93
_ كلمة جميلة للفضيل بن الربيع ... 95
_ مكاتبة جميلة من الجراحي إلى أبي طائع الطلحي ... 95
_ إظهار المشاعر والإعلام بالمودة يتأكد بين الأصدقاء ... 95(1/92)
_ مراسلة شعرية رائعة بين ابن عاشور ومحمد الخضر حسين ... 96
_ تحية شعرية من الخضر إلى ابن عاشور ... 97
4_ الإيثار: ... 98
_ أثر الإيثار في الارتقاء بالمشاعر ... 98
_ انتقاد أبي دلف لأبيات تدعو إلى ترك الإيثار ... 98
_ أبيات رائقة للشيخ محمد الخضر حسين تصور الأُثْرَة بين الأصدقاء ... 99
5_ حسن الظن والتماس المعاذير: ... 99
_ قصة عمر مع سعد بن أبي وقاص _رضي الله عنهما_ ... 100
_ ثلاثة مواقف رائعة في حسن الظن ... 101
_ أبيات معبرة لما ينبغي سلوكه مع الأصحاب ... 102
_ أبيات للشافعي في الاعتذار ... 102
6_ قلة الخلاف والتماس الرضا: ... 103
_ كلمة جميلة للأحنف بن قيس، وأبي إسحاق السبيعي ... 103
_ ابن المبارك يثني على محمد بن النضر لقلة خلافه ... 104
_ أبيات للشافعي في مواتاة الأصدقاء ... 104
_ كلمة لابن حزم في التحذير من مخالفة الناس فيما لا يضر في دنيا وآخرة ... 104
7_ سلامة الذوق: ... 104
_ أثر ذلك في سعادة الأفراد والأمم ... 105
_ قلة الذوق وأثره السيئ ... 105
_ موقف في قلة الذوق ... 106
_ كلمة لابن القيم في الثقلاء ... 106
_ نماذج من ذوق الإمام عبدالعزيز بن باز ... 107
8_ البشاشة والبشر: ... 112
_ آثار، وكلمات، وأبيات في هذا المعنى ... 112
9_ إفشاء السلام ... 113
10_ التزاور والتعاهد والتغافر والسؤال: ... 114
_ أقوال وأشعار في هذا المعنى ... 114
11_ استعمال المداراة: ... 115
_ مفهوم المداراة ... 115
_ أبيات وأقوال جميلة لأحد الحكماء، وللشافعي، وابن الحنفية، والعتابي، والحسن، وابن حبان، وعلي بن أبي طالب، وعبدالله بن جعفر _ في المداراة ... 116
_ مثال من السنة النبوية للمداراة ... 118
_ كلمتان جميلتان لابن الجوزي في هذا المعنى ... 119
12_ المواساة: ... 120
_ أثر المواساة، وبأي شيء تكون ... 120
_ أقوال في المواساة لابن عائشة، وابن مناذر، وابن عباس ... 120
13_ التبشير والتهنئة: ... 121
_ وصية النبي " لمعاذ وأبي ذر _ رضي الله عنهما _ ... 121
_ شاهد من توبة كعب بن مالك وصاحبيه _ رضي الله عنهم _ ... 121
14_ الشورى ... 122(1/93)
15_ إنزال الناس منازلهم: ... 122
_ أمثلة على ذلك ... 122
_ أمثلة من كتاب =الجامع للخطيب+ على هذا المعنى ... 123
16_ لزوم الإنصاف في الردود، وحسن التعامل مع الخلاف: ... 124
_ أثر الردود والخلاف على الود ... 124
_ الحث على لزوم الإنصاف ... 124
_ أمور تعين على الإنصاف: ... 125
أ_ أن يحب المرء لأخيه ما يحب لنفسه ... 125
_ حديث نبوي، وكلمتان للشافعي، وأبيات للخطابي حول هذا المعنى ... 125
ب_ أن يضع المرء نفسه موضع خصمه: ... 125
_ كلمة جميلة لابن حزم ... 126
ج_ التجرد للحق: ... 126
_ كلمتان جميلتان للرافعي، والشافعي في هذا المعنى ... 126
_ وصايا في حال الخلاف والرد ... 126
_ مثال لإنصاف علي بن أبي طالب _ رضي الله عنه _ ... 129
17_ إشاعة روح التعاون على البر والتقوى، والحرص على الإفادة من كل أحد، والحذر من احتقار أي جهد للإصلاح ... 130
_ الحث على هذا المعنى ... 130
_ تقرير رائع لابن تيمية في بيان أن فضل الأعمال يتنوع بحسب أجناس العبادة، وباختلاف الأزمنة، والأمكنة، والأشخاص والأحوال ... 131
_ نماذج لاختلاف الأعمال، وحاجة الأمة إليها ... 132
صفوة المقال في الحديث عن فقر المشاعر ... 134
المحتويات ... 136(1/94)