فضل الجهاد والمجاهدين
تأليف
سماحة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
http://www.binbaz.org.sa/
طبع على نفقة بعض المحسنين
تحت إشراف
الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
الإدارة العامة للطبع والترجمة
الرياض - المملكة العربية السعودية
وقف لله تعالى
1411 هـ
ahalalquran@hotmail.com
[ فضل الجهاد والمجاهدين ]
الحمد لله الذي أمر بالجهاد في سبيله , ووعد عليه الأجر العظيم والنصر المبين, واشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له القائل في كتابه الكريم ( وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ )(1) .
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وخليله, أفضل المجاهدين , وأصدق المناضلين , وأنصح العباد أجمعين صلي الله علية وسلم , وعلى آله الطيبين الطاهرين , وعلي أصحابه الكرام الذين باعوا أنفسهم لله, وجاهدوا في سبيله حتى اظهر الله بهم الدين وأعز بهم المؤمنين وأذل بهم الكافرين , رضي الله عنهم وأكرم مثواهم وجعلنا من اتباعهم بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد :
فإن الجهاد في سبيل الله من أفضل القربات , ومن أعظم الطاعات , بل هو أفضل ما تقرب به المتقربون وتنافس فيه المتنافسون بعد الفرائض , وما ذاك إلا لما يترتب عليه من نصر المؤمنين و إعلاء كلمه الدين , وقمع الكافرين والمنافقين , وتسهيل انتشار الدعوة الإسلامية بين العالمين , و إخراج العباد من الظلمات إلى النور ونشر محاسن الإسلام و أحكامه العادلة بين الخلق أجمعين, وغير ذلك من المصالح الكثيرة والعواقب الحميدة للمسلمين.
وقد ورد في فضله وفضل المجاهدين من الآيات القرآنية و الأحاديث النبوية ما يحفز الهمم العالية , ويحرك كوامن النفوس إلى المشاركة في هذا السبيل, والصدق في جهاد أعداء رب العالمين .(1/1)
وهو فرض كفاية علي المسلمين إذا قام به من يكفي سقط عن الباقين , وقد يكون في بعض الأحيان من الفرائض العينية التي لا يجوز للمسلم التخلف عنها إلا بعذر شرعي , كما لو استنفره الإمام أو حصر بلده العدو, أو كان حاضراً بين الصفين , و الأدلة علي ذلك من الكتاب والسنة معلومة .
ومما ورد في فضل الجهاد والمجاهدين من الكتاب المبين قوله تعالى ( انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قَاصِداً لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ * لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ * إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ )(2) ففي هذه الآيات الكريمات يأمر الله عباده المؤمنين أن ينفروا إلى الجهاد خفافاً وثقالاً , أي شيباً وشبابا وأن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله , ويخبرهم عز وجل بأن ذلك خير لهم في الدنيا و الآخرة , ثم يبين سبحانه حال المنافقين وتثاقلهم عن الجهاد وسوء نيتهم , وأن ذلك هلاك لهم بقوله عن وجل ( لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قَاصِداً لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ ... )(3) .(1/2)
ثم يعاتب نبيه صلي الله عليه وسلم عتابا لطيفا علي إذنه لمن طلب التخلف عن الجهاد بقوله سبحانه (عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ )(4) ويبين عز وجل أن في عدم الإذن لهم تبيين للصادقين وفضيحة للكاذبين , ثم يذكر عز وجل أن المؤمن بالله واليوم و الآخر لا يستأذن في ترك الجهاد بغير عذر شرعي لان إيمانه الصادق بالله واليوم الآخر يمنعه من ذلك, ويحفزه إلى المبادرة إلى الجهاد والنفير مع أهله , ثم يذكر سبحانه أن الذي يستأذن في ترك الجهاد هو عادم الإيمان بالله واليوم الآخر المرتاب فيما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وفي ذلك أعظم حث وأبلغ تحريض علي الجهاد في سبيل الله , والتنفير من التخلف عنه .
وقال تعالى في فضل المجاهدين ( إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ )(5) .(1/3)
ففي هذه الآية الكريمة الترغيب العظيم في الجهاد في سبيل الله عز وجل وبيان أن المؤمن قد باع نفسه وماله علي الله عز وجل , أنه سبحانه قد تقبل هذا البيع وجعل ثمنه لأهله الجنة, أنهم يقاتلون في سبيله فيقتلون ويقتلون , ثم ذكر سبحانه أنه وعدهم بذلك في أشرف كتبه وأعظمها , التوراة , و الإنجيل والقرآن , ثم بين سبحانه أنه لا أحد أوفى بعهده من الله , ليطمئن المؤمنون إلى وعد ربهم ويبذلوا السلعة التي واشتراها منهم , وهي نفوسهم وأموالهم في سبيله سبحانه عن ( إخلاص ) وصدق وطيب نفس حتى يستوفوا أجرهم كاملا في الدنيا و الآخرة, ثم يأمر سبحانه المؤمنين أن يستبشروا بهذا البيع لما فيه من الفوز العظيم , والعاقبة الحميدة , والنصر للحق والتأييد لأهله , وجهاد الكفار والمنافقين وإذلالهم ونصر أوليائه عليهم, وإفساح الطريق لانتشار الدعوة الإسلامية في أرجاء المعمورة.
وقال عز وجل ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ )(6) .(1/4)
في هذه الآيات الكريمات الدلالة من ربنا عز وجل على أن الإيمان بالله ورسوله والجهادَ في سبيله هما التجارة العظيمة المنجية من العذاب الأليم يوم القيامة , ففي ذلك أعظم ترغيب وأكمل تشويق إلى الإيمان والجهاد , ومن المعلوم أن الإيمان بالله ورسوله يتضمن توحيد الله و إخلاص العبادة له سبحانه, وكما يتضمن أداء الفرائض وترك المحارم ويدخل في ذلك الجهاد في سبيل الله لكونه من اعظم الشعائر الإسلامية ومن أهم الفرائض, ولكنه سبحانه خصه بالذكر لعظم وشأنه , وللترغيب فيه لما يترتب عليه من المصالح العظيمة والعواقب الحميدة التي سبق بيان الكثير منها, ثم ذكر سبحانه ما وعد الله به المؤمنين المجاهدين من المغفرة والمساكن الطيبة في دار الكرامة ليعظم شوقهم إلى الجهاد وتشتد رغبتهم فيه , وليسابقوا إليه , ويسارعوا في مشاركة القائمين به , ثم أخبر سبحانه أن من ثواب المجاهدين شيئا معجلا يحبونه وهو النصر على الأعداء , والفتح القريب علي المؤمنين , وفي ذلك غاية التشويق والترغيب .
والآيات في فضل الجهاد والترغيب فيه وبيان فضل المجاهدين كثيرة جداً , وفيما ذكر سبحانه في هذه الآيات التي سلف ذكرها ما يكفي ويشفي ويحفز الهمم , ويحرك النفوس إلى تلك المطالب العالية والمنازل الرفيعة , والفوائد الجليلة , والعواقب الحميدة , والله المستعان .
أما الأحاديث الواردة في فضل الجهاد والمجاهدين, والتحذير من تركه و الإعراض عنه فهي أكثر من أن تُحصر , وأشهر من أن تُذكر , ولكن نذكر منها طرفاً يسيراً ليعلم المجاهد الصادق شيئا مما قاله نبيه ورسوله الكريم عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم في فضل الجهاد ومنزلة أهله.(1/5)
ففي الصحيحين عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها, وموضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما عليها, والروحة ويروحها العبد في سبيل الله أو الغدوة خير من الدنيا وما عليها ) .
وعن أبي هريرة رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( مثل المجاهد في سبيل الله - والله أعلم بمن يجاهد في سبيله - كمثل الصائم القائم , وتكفل الله للمجاهد في سبيله إن توفاه أن يدخله الجنة أو يرجعه سالما مع أجر أو غنيمة ) أخرجه مسلم في صحيحه , وفي لفظ له ( تضمَّن الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا جهاد في سبيلي , و إيمان بي وتصديق برسلي فهو علي ضامن أن أدخله الجنة , أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلًا ما نال من أجر أو غنيمة ) .
وعن أبى هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ما من مكلوم يكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة وكلمه يدمي , اللون لون الدم والريح ريح المسك ) متفق عليه .
وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم ) رواه أحمد والنسائي وصححه الحاكم .
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل أي العمل أفضل قال ( إيمان بالله ورسوله ) قيل ثم ماذا ؟ قال ( الجهاد في سبيل الله ) قيل ثم ماذا ؟ قال ( حج مبرور ) .
وعن أبي عبس بن جبر الأنصاري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ما اغبّرت قدما عبد في سبيل الله فتمسه النار ) رواه البخاري في صحيحه .
وفيه أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه به مات على شعبة من نفاق ) .(1/6)
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ( إذا تبايعتم بالعينة , وأخذتم أذناب البقر , ورضيتم بالزرع , وتركتم الجهاد , سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه شئ حتى ترجعوا إلى دينكم ) رواه أحمد و أبوداود وصححه ابن القطان , وقال الحافظ في البلوغ ( رجاله ثقات )
والأحاديث في فضل الجهاد والمجاهدين وبيان ما أعد الله للمجاهدين الصادقين من المنازل العالية , والثواب الجزيل , وفي الترهيب من ترك الجهاد و الإعراض عنه كثيرة جداً , وفي الحديثين الآخرين , وما جاء في معناهما الدلالة علي أن الإعراض عن الجهاد وعدم تحديث النفس به من شعب النفاق , وأن التشاغل عنه بالتجارة والزراعة والمعاملة الربوية من أسباب ذل المسلمين وتسليط الأعداء عليهم كما هو الواقع , وأن ذلك الذل لا ينزع عنهم حتى يرجعوا إلى دينهم بالاستقامة علي أمره, والجهاد في سبيله .
فنسأل الله أن يمن علي المسلمين جمعيا بالرجوع إلى دينه , وأن يصلح قادتهم ويصلح لهم البطانة , ويجمع كلمتهم علي الحق , ويوفقهم جمعيا للفقه في الدين والجهاد في سبيل رب العالمين , حتى يعزهم ويرفع عنهم الذل , ويكتب لهم النصر علي أعدائه وأعدائهم إنّه وليّ ذلك والقادر عليه .
[ المقصود من الجهاد ](1/7)
الجهاد جهادان , جهاد طلب , وجهاد دفاع , والمقصود منهما جمعيا هو تبليغ دين الله ودعوة الناس إليه وإخراجهم من الظلمات إلى النور , و إعلاء دين الله في أرضه , وأن يكون الدين كله لله وحده كما قال عز وجل في كتابة الكريم من سورة البقرة ( وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ ... )(7) وقال في سورة الأنفال ( وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ... )(8) وقال عز وجل في سورة التوبة ( فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ )(9) و الآيات في هذا المعني كثيرة .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله , أن محمدا رسول الله , ويقيموا الصلاة , ويؤتوا الزكاة , فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم , وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله عز وجل ) متفق عليه صحته من حديث ابن عمر رضي الله عنهما .
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا اله إلا الله وأني رسول الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله ) .
وفي صحيح مسلم عنه أيضا رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا اله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به ) .
وفي صحيح مسلم أيضا عن طارق بن أشيم الأشجعي رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلي الله عليه وسلم ( من وحد الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه علي الله عز وجل ) .(1/8)
والأحاديث في هذا المعني كثيرة , وفي هذه الآيات الكريمات والأحاديث الصحيحة الدلالة الظاهرة علي وجوب جهاد الكفار والمشركين وقتالهم بعد البلاغ والدعوة إلى الإسلام , وإصرارهم على الكفر حتى يعبدوا الله وحده ويؤمنوا برسوله محمد صلى الله عليه وسلم ويتبعوا ما جاء به , وأنه لا تحرم دماؤهم وأموالهم إلا بذلك وهي تعم جهاد الطلب , وجهاد الدفاع , ولا يستثني من ذلك إلا من التزم بالجزية بشروطها إذا كان من أهلها عملا بقول الله عز وجل ( قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ
صَاغِرُون )(10) .
وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلمه أنه أخذ الجزية من مجوس هجر , فهؤلاء الأصناف الثلاثة من الكفار وهم اليهود , والنصارى , والمجوس , ثبت بالنص أخذ الجزية منهم.
فالواجب أن يجاهدوا ويقاتلوا مع القدرة حتى يدخلوا في الإسلام , أو يودوا الجزية عن يد وهم صاغرون , أما غيرهم فالواجب قتالهم حتى يسلموا في اصح قولي العلماء , لأن النبي صلى الله عليه وسلم قاتل العرب حتى دخلوا في دين الله أفواجا , ولم يطلب منهم الجزية , ولو كان أخذُها منهم جائزاً تحقنُ به دماؤهم و أموالهم لبينَه لهم ولو وقع ذلك لنقل .
وذهب بعض أهل العمل إلى جواز أخذها من جميع الكفار لحديث بريدة المشهور في ذلك المخرج في صحيح مسلم , والكلام في هذه المسألة وتحرير الخلاف فيها وبيان الأدلة مبسوط في كتب أهل العمل من أراده وجده , ويُستثنى من الكفار في القتال النساء والصبيان والشيخ الهرم ونحوهم ممن ليس من أهل القتال ما لم يشاركوا فيه فان شاركوا فيه وساعدوا عليه بالرأي والمكيدة قوتلوا كما هو معلوم من الأدلة الشرعية .
وقد كان الجهاد في الإسلام على أطوار ثلاثة :(1/9)
الطور الأول : الأذن للمسلمين في ذلك من غير إلزام لهم كما في قوله سبحانه
( أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ )(11) .
الطور الثاني : الأمر بقتال من قاتل المسلمين والكف عمن كف عنهم , وفي هذا النوع نزل قوله تعالى ( لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَي ... )(12) , وقوله تعالى )وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ... )(13) , وقوله تعالى ( وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ )(14) في قول جماعة من أهل العلم , وقوله تعالي في سورة النساء ( وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً * إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً )(15) والآية بعدها .(1/10)
الطور الثالث : جهاد المشركين مطلقا وغزوهم في بلادهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله ليعم الخير أهل الأرض , وتتسع رقعه الإسلام , ويزول من طريق الدعوة دعاة الكفر والإلحاد , ويَنعمَ العباد بحكم الشريعة العادل , وتعاليمها السمحة , وليخرجوا بهذا الدين القويم من ضيق الدنيا إلى سعة الإسلام , ومن عبادة الخلق إلى عبادة الخالق سبحانه , ومن ظلم الجبابرة إلى عدل الشريعة و أحكامها الرشيدة.
وهذا هو الذي استقر عليه أمر الإسلام وتوفي عليه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وأنزل الله فيه قوله عز وجل في سورة براءة وهي من آخر ما نزل ( فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ... )(16) , وقوله سبحانه ( وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ... )(17) والأحاديث السابقة كلها تدل علي هذا القول وتشهد له بالصحة .
وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن الطور الثاني وهو القتال لمن قاتل المسلمين والكف عمن كف عنهم قد نسخ لأنه كان في حال ضعف المسلمين , فلما قواهم الله وكثر عددهم وعدتهم أمروا بقتال من قاتلهم , ومن لم يقاتلهم حتى يكون الدين كله لله وحده , أو يؤدوا الجزية أن كانوا من أهلها .
وذهب آخرون من أهل العمل إلى أن الطور الثاني لم ينسخ بل هو باق يُعمَل به عند الحاجة إليه , فإذا قويَ المسلمون واستطاعوا بدء عدوهم بالقتال وجهاده في سبيل الله فعلوا ذلك عملا بآية التوبة وما جاء في معناها , أما إذا لم يستطيعوا ذلك فإنهم يقاتلون من قاتلهم واعتدي عليهم , ويكفون عمن كف عنهم بآية النساء وما ورد في معناها , وهذا القول أصح وأولى من القول بالنسخ وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية يرحمه الله .(1/11)
وبهذا يعلمُ كل من له أدنى بصيرة أن قول من قال من كتاب العصر وغيرهم إن الجهاد شرع للدفاع فقط قول غير صحيح , والأدلة التي ذكرنا وغيرها تخالفه , و إنما الصواب هو ما ذكرنا من التفصيل كما قرر ذلك أهل العلم والتحقيق , ومن تأمل سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرة أصحابه رضي الله عنهم في جهاد المشركين اتضح له ما ذكرنا , وعرف مطابقة ذلك لما أسلفنا من الآيات والأحاديث والله ولي التوفيق .
[ وجوب الإعداد للأعداء ](1/12)
وقد أمر الله سبحانه عباده المؤمنين أن يعدوا للكفار ما استطاعوا من القوة , وأن يأخذوا حذرهم كما في قوله عز وجل ( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ... )(18) , وقوله سبحانه ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ ... )(19) وذلك يدل علي وجوب العناية بالأسباب والحذر من مكائد الأعداء, ويدخل في ذلك جميع أنواع الأعداد المتعلقة بالأسلحة والأبدان , كما يدخل في ذلك أعداد جميع الوسائل المعنوية والحسية , وتدريب المجاهدين علي أنواع الأسلحة وكيفية استعمالها وتوجيههم إلى كل ما يعينهم علي جهاد عدوهم والسلامة من مكائده في الكر و الفر والأرض والجو والبحر وفي سائر الأحوال لأن الله سبحانه أطلق الأمر بالأعداد , وأخذ الحذر , ولم يذكر نوعا دون نوع ولا حالا دون حال وما ذلك إلا لأن الأوقات تختلف والأسلحة تتنوع , والعدو يقل ويكثر ويضعف ويقوى والجهاد قد يكون ابتداء , وقد يكون دفاعا فلهذه الأمور وغيرها أطلق الله سبحانه الأمر بالأعداد, وأخذ الحذر ليجتهد قادة المسلمين وأعيانهم و مفكروهم في إعداد ما يستطيعون من القوة لقتال أعدائهم وما يرونه من المكيدة في ذلك , وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم انه قال ( الحرب خدعة ) ومعناه : أن الخصم قد يدرك من خصمه بالمكر والخديعة في الحرب ما لا يدركه بالقوة والعدد , وذلك مجرب معروف وقد وقع في يوم الأحزاب من الخديعة للمشركين واليهود والكيد لهم علي يد نعيم بن مسعود رضي الله عنه بإذن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان من أسباب خذلان الكافرين , وتفريق شملهم واختلاف كلمتهم, وإعزاز المسلمين ونصرهم عليهم وذلك من فضل الله ونصره لأوليائه ومكره ولهم كما قال عز وجل ( وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ )(20) .(1/13)
ومما تقدم يتضح لذي يتضح لذوي البصائر أن الواجب امتثال أمر الله, والأعداد لأعدائه, وبذل الجهود في الحيطة والحذر , واستعمال كل ما أمكن من الأسباب المباحة الحسية والمعنوية مع الإخلاص لله والاعتماد عليه والاستقامة علي دينه , وسؤاله المدد والنصر , فهو سبحانه وتعالي الناصر لأوليائه والمعين لهم إذا أدوا حقه, ونفذوا أمره وصدقوا في جهادهم وقصدوا بذلك إعلاء كلمته وإظهار دينه, وقد وعدهم الله بذلك في كتابه الكريم، وأعلمهم أن النصر من عنده ليثقوا به ويعتمدوا عليه، مع القيام بجميع الأسباب قال تعالى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ )(21) , وقال سبحانه ( وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ )(22) ، وقال عز وجل ( وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * ، )الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ )(23) , وقال عز وجل ( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً )(24) قال تعالى ( وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ )(25) ، وقال سبحانه ( إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ(1/14)
عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ
حَكِيمٌ )(26) ,وقد سبق في هذا المعنى آيات سورة الصف وهي قوله تعالى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ )(27) ، والآيات في هذا المعنى كثيرة.
ولما قام سلفنا الصالح بما أمرهم الله به ورسوله وصبروا وصدقوا في جهاد عدوهم نصرهم الله وأيدهم وجعل لهم العاقبة مع قلة عددهم وعدتهم وكثرة أعدائهم كما قال عز وجل ( كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ )(28) ، وقال عز وجل ( إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ )(29) .(1/15)
ولما تغير المسلمون وتفرقوا ولم يستقيموا على تعاليم ربهم وآثر أكثرهم أهواءهم أصابهم من الذل والهوان وتسلط الأعداء ما لا يخفى على أحد . وما ذاك إلا بسبب الذنوب والمعاصي ، والتفرق والاختلاف وظهور الشرك والبدع والمنكرات في غالب البلاد ، وعدم تحكيم أكثرهم الشريعة كما قال الله سبحانه ( وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ )(30) ، وقال تعالى ( ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِم )(31) , وقال عز وجل ( ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ )(32) .
ولما حصل من الرماة ما حصل يوم أحد من النزاع والاختلاف والإخلال بالثغر الذي أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بلزومه جرى بسبب ذلك على المسلمين من القتل والجراح والهزيمة ما هو معلوم ، ولما استنكر المسلمون ذلك أنزل الله قوله تعالى ( أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ )(33) .(1/16)
ولو أن أحداً يسلم من شر المعاصي وعواقبها الوخيمة لسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام يوم أحد وهم خير أهل الأرض ، ويقاتلون في سبيل الله ومع ذلك جرى عليهم ما جرى بسبب معصية الرماة التي كانت عن تأويل لا عن قصد للمخالفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم والتهاون بأمره ، ولكنهم لما رأوا هزيمة المشركين ظنوا أن الأمر قد انتهى وأن الحراسة لم يبق لها حاجة ، وكان الواجب عليهم أن يلزموا الموقف حتى يأذن لهم النبي صلى الله عليه وسلم بتركه ، ولكن الله سبحانه قد قدر ما قدر وقضى ما قضى لحكم بالغة وإسرار عظيمة ، ومصالح كثيرة قد بينها في كتابه سبحانه وعرفها المؤمنون وكان ذلك من الدلائل على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنه رسول الله حقاً ، وأنه بشر يصيبه ما يصيب البشر من الجراح والآلام ونحو ذلك ، وليس بإله يُعبد , وليس مالكاً للنصر ، بل النصر بيد الله سبحانه ينزله على من يشاء .
ولا سبيل إلى استعادة المسلمين لمجدهم السالف واستحقاقهم النصر علي عدوهم إلا بالرجوع إلى دينهم والاستقامة عليه , وموالاة من والاه , ومعاداة من عاداه , وتحكيم شرع الله سبحانه في أمورهم كلها, واتحاد كلمتهم على الحق وتعاونهم على البر والتقوى , كما قال الأمام مالك بن أنس رحمة الله عليه ( لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها ) , وهذا هو قول جميع أهل العلم والله سبحانه إنما أصلح أول هذه الأمة باتباع شرعه والاعتصام بحبله والصدق في ذلك والتعاون عليه , ولا صلاح لآخرها إلا بهذا الأمر العظيم .
[ فضل الرباط والحراسة في سبيل الله ]
الرباط هو الإقامة في الثغور وهي الأماكن التي يخاف علي أهلها من أعداء الإسلام, والمرابط هو المقيم فيها المعد نفسه للجهاد في سبيل الله , والدفاع عن دينه , وإخوانه المسلمين .(1/17)
وقد ورد في فضل المرابطة والحراسة في سبيل الله أحاديث كثيرة إليك أيها الأخ المسلم الراغب في الرباط في سبيل الله طرفا منها نقلا من كتاب الترغيب والترهيب للحافظ المنذرى يرحمه الله .
عن سهل بن سعد رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها, وموضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما عليها والروحة, يروحها العبد في سبيل الله أو الغدوة خير من الدنيا وما عليها) رواه البخاري ومسلم و الترمذى وغيرهم .
وعن سلمان رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله علية وسلم يقول ( رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه وان مات فيه جري عليه عمله الذي كان يعمل , وأجري عليه رزقه , وأمن من الفتان ) رواه مسلم واللفظ له و الترمذى والنسائي و الطبرانى وزاد ( وبعث يوم القيامة شهيداً ).
وعن فضالة بن عبيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( كل ميت يختم علي عمله إلا الرابط في سبيل الله فانه ينمي له عمله إلى يوم القيامة , ويؤمن من فتنه القبر ) رواه أبوداود و الترمذى وقال ( حديث حسن صحيح ) , والحاكم وقال ( صحيح على شرط مسلم ) , وابن حبان في صحيحه وزاد في آخره قال: سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول ( المجاهد من جاهد نفسه لله عز وجل ) وهذه الزيادة في بعض نسخ الترمذي.
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( رباط شهر خير من صيام دهر , ومن مات مرابطا في سبيل الله أمن الفزع الأكبر , وغدي عليه وريح برزقه من الجنة , ويجري عليه أجر المرابط حتى يبعثه الله عز وجل ) رواه الطبراني ورواته ثقات.(1/18)
وعن العرباض بن سارية رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( كل عمل ينقطع عن صاحبه إذا مات إلا المرابط في سبيل الله فإنه ينمي له عمله ويجري عليه رزقه إلى يوم القيامة ) رواه الطبراني في الكبير بإسنادين رواة أحدهما ثقات .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال ( من مات مرابطا في سبيل الله أجري عليه الصالح الذي كان يعمل, وأجري عليه رزقه وأمن من الفتان, وبعثه الله يوم القيامة آمنا من الفزع الأكبر ) رواه ابن ماجه بإسناد صحيح و الطبراني في الأوسط أطول منه وقال فيه ( والمرابط إذا مات في رباط كتب له أجر عمله إلى يوم القيامة, وغدي عليه وريح برزقه , ويزوج سبعين حوراء , وقيل له قف اشفع إلى أن يفرغ من الحساب ) وإسناده متقارب .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول ( عينان لا تمسهما النار عين بكت من خشية الله, وعين باتت تحرس في سبيل الله ) رواه الترمذى وقال ( حديث حسن غريب ) .
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم ( عينان لا تمسهما النار أبدا عين باتت تكلأ في سبيل الله, وعين بكت من خشية الله ) رواه أبويعلى ورواته ثقات و الطبرانى في الأوسط إلا أنه قال ( عينان لا تريان النار ) .
وعن عثمان رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ( حرس ليلة في سبيل الله أفضل من ألف ليلة يقام ليلها ويصام نهارها ) رواه الحاكم وقال ( صحيح الإسناد ) .
والأحاديث في هذا المعني كثيرة , وأرجو أن يكون فيما ذكرناه كفاية للراغب في الخير .(1/19)
ونسأل الله أن يوفق المسلمين للفقه في دينه , وأن يجمعهم علي الهدي , وأن يوحد صفوفهم وكلمتهم علي الحق , وأن يمن عليهم بالاعتصام بكتابه وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام - وتحكيم شريعته و التحاكم إليها , والاجتماع علي ذلك والتعاون عليه انه جواد كريم , وصلى الله وسلم علي نبينا محمد وآله وصحبه.
عبد العزيز بن عبدالله بن باز رحمه الله
1 ) الروم الآية 47 .
2 ) سورة التوبة الآيات 41-45 .
3 ) سورة التوبة الآية 42 .
4 ) سورة التوبة الآية 43 .
5 ) سورة التوبة الآية 111 .
6 ) سورة الصف الآيات 10-13 .
7 ) الآية 193 .
8 ) الآية 39 .
9 ) الآية 5 .
10 ) سورة التوبة الآية 29 .
11 ) سورة الحج الآية 39 .
12 ) سورة البقرة الآية 256.
13 ) سورة الكهف الآية 29 .
14 ) سورة البقرة الآية 190 .
15 ) سورة النساء الآيتان 89-90 .
16 ) سورة التوبة الآية 5 .
17 ) سورة الأنفال الآية 39 .
18 ) سورة الأنفال الآية 60 .
19 ) سورة النساء الآية 71 .
20 ) سورة الأنفال الآية 30 .
21 ) سورة محمد الآية 7 .
22 ) سورة الروم الآية 47 .
23 ) سورة الحج الآيتان 40- 41 .
24 ) سورة النور الآية 55 .
25 ) سورة آل عمران الآية 120 .
26 ) سورة الأنفال الآيتان 9-10 .
27 ) سورة الصف الآيات من 10-13 .
28 ) سورة البقرة الآية 249 .
29 ) سورة آل عمران الآية160 .
30 ) سورة الشورى الآية 30 .
31 ) سورة الأنفال الآية 53 .
32 ) سورة الروم الآية 41 .
33 ) سورة آل عمران الآية 165 .
??
??
??
??(1/20)