وأحب أن أنبّه أيضا على أن من أهم البواعث على كثرة الخوض في موضوع التكفير في هذا الزمان، هو وقوع كثير من المنتسبين إلى الإسلام في المكفرات بما يؤدي بهم إلى الانسلاخ من الدين الحنيفي دون زجر أو ردع أو عقاب، وذلك بسبب غياب الحكم الإسلامي والحكم بالقوانين الوضعية التي لاتجرّم الردّة ولاتعاقب عليها، فشاعت الردة بين المسلمين، وتنبّه لأسبابها من فتح الله عليهم بالعلم ومعرفة أسباب الكفر، وتلا ذلك التنبيه على أهمية النظر في موانع التكفير ومنها العذر بالجهل، فثار الجدل والخلاف حول هذه المسألة.
ولم يكن هناك خلاف كبير بين السلف في هذه المسألة، وذلك لأنه في ظل قيام الحكم الإسلامي في دار الإسلام فإن الحكم على المعينين مرجعه إلى القاضي الشرعي الذي يُرفع إليه أمر من ارتكب شيئا من المكفرات، وكان البحث في شروط الحكم بالتكفير وموانعه من شأن القاضي وحده وإلى اجتهاده يرجع تقدير اعتبار العذر والمانع في حق الشخص المعين، ولم يكن للعامة دخل في هذا.
وسوف يكون كلامنا في الجهل والعذر به في هذا الباب في أربعة فصول إن شاء الله، وهى:
1 ــ الفصل الأول: تعريف الجهل وبيان أثره على المكلّف.
2 ــ الفصل الثاني: حجة الله التي يقع بها التكليف.
3 ــ الفصل الثالث: صفة قيام الحجة الرسالية من جهة القائم بها.
4 ــ الفصل الرابع: صفة قيام الحجة الرسالية من جهة المخاطب بها.
الفصل الأول
تعريف الجهل وبيان أثره على المكلّف
وفيه خمس مسائل:
1 ــ تعريف الجهل.………2 ــ تعريف العذر.
3 ــ أثر الجهل على أهلية المكلّف. …4 ــ الجهل كمانع من ثبوت الأحكام الشرعية.
5 ــ الجهل كمانع من التكفير.
وهذا بيانها.
المسألة الأولى: تعريف الجهل:
1 ــ الجهل: (عدم العلم عما من شأنه أن يكون عالما به).
والجهل في موضوعنا هنا هو (عدم العلم بالأحكام الشرعية أو بأسبابها).
2 ــ وهو نوعان:(5/2)
(أ) جهل بسيط: (وهو عدم العلم بالشيء أصلا) كمن لايعلم بالنبي صلى الله عليه وسلم أصلا.
(ب) جهل مركب: (وهو العلم بالشيء على خلاف حقيقته) كمن يقول إن النبي صلى الله عليه وسلم كاذب.
3 ــ والجهل كما يتعلق بالعلم فإنه يتعلق بالعمل.
قال ابن تيمية رحمه الله (لفظ الجهل: يُعبّر به عن عدم العلم، ويعبر به عن عدم العمل بموجب العلم) (مجموع الفتاوى) 935/7.
قال ابن القيم رحمه الله (قال قتادة (أجمع أصحاب محمد أن كل من عصى الله فهو جاهل) وليس المراد أنه جاهل بالتحريم إذ لو كان جاهلا لم يكن عاصيا فلا يترتب الحد في الدنيا والعقوبة في الآخرة على جاهل بالتحريم، بل نفس الذنب يسمى جهلا وإن علم مرتكبه بتحريمه، إما أنه لايصدر إلا عن ضعف العلم ونقصانه وذلك جهل فسمي باسم سببه، وإما تنزيلا لفاعله منزلة الجاهل به.) (مفتاح دار السعادة) 1/ 101، ط دار الفكر.
فجهل العمل (هو فعل الشيء بخلاف ماحقه أن يُفعل، سواء اعتقد فيه اعتقاداً صحيحا أو فاسداً).
والذي يفعل الشيء بخلاف حقه، واعتقاده فيه صحيح هو المسلم العاصي، وهو الجهل الوارد في قوله تعالى (كتب ربكم على نفسه الرحمة، أنه من عمل منكم سوءً بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح، فأنه غفور رحيم) الأنعام 54، وقوله تعالى (وإلا تصرف عني كيدهن أَصْب إليهن وأكن من الجاهلين) يوسف 33، وقوله تعالى (قال هل علمتم مافعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون) يوسف 89، ومثلها آية (17) بسورة النساء.
أما الذي يفعل الشيء بخلاف حقه، واعتقاده فيه فاسد فهو الكافر، وهو الجهل الوارد في قوله تعالى (قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون) الزمر 46.
4 ــ والجهل يرد غالبا للذم، كما في النصوص السابقة، وقد لايرد إلا لتقرير الحال كما في قوله تعالى (يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف) البقرة 273، والجهل في هذه الآية هو بمعنى عدم الخبرة.
5 ــ ولا ترادف بين الجهل والأميّة:
أما الجهل فقد سبق تعريفه.(5/3)
وأما الأمية: فالأمّي هو الذي لايقرأ ولايكتب نسبة إلى حاله يوم خرج من بطن أمه، قال تعالى ــ في وصف نبينا صلى الله عليه وسلم ــ (الذين يتبعون الرسول النبي الأمي) الأعراف 157، وجاء تعريف أمّيته في قوله تعالى (وماكنت تتلوا من قبله من كتاب ولاتخطه بيمينك)العنكبوت 48. فالأمي هو الذي لايقرأ ولا يكتب.
ولا تلازم بين الجهل والأمية، فقد كان كثير من الصحابة رضي الله عنهم أميين وكانت الكتابة فيهم نادرة، وهم أعلم الأمة مع ذلك.
ولكن لما كانت القراءة والكتابة هما من أهم وسائل التعلم، فإن الجهل في الأميين أكثر منه في غيرهم.
وأنبه هنا على أن أمّية النبي صلى الله عليه وسلم هى من معجزاته، إذ تَأَتّي له كل هذا العلم مع ذلك. أما في غيره صلى الله عليه وسلم فالأمية صفة نقص، وقد نبّه على هذا القاضي عياض في كتابه (الشفا في حقوق المصطفى صلى الله عليه وسلم).
(المراجع)
* (لسان العرب) لابن منظور، مادة (جهل)، جـ 11/ 129 ــ 130، ط دار صادر.
* (المفردات في غريب القرآن) للراغب الأصفهاني، مادة (جهل).
* (المعجم الوسيط) لمجمع اللغة العربية، 1/ 143 ــ 144.
* (الإحكام في أصول الأحكام) لابن حزم، 1/ 46.
* (الموسوعة الفقهية) إعداد وزارة الأوقاف بالكويت، جـ 14/ 230، ط ذات السلاسل 1408هـ.
* (شرح التلويح على متن التنقيح) للتفتازاني، 2/ 180، ط مكتبة محمد صبيح.
المسألة الثانية: تعريف العذر:
العذر: الحجة التي يعتذر بها.
واعتذر: أبدى عذره.
واعتذر عن فعله: تنصّل واحتج لنفسه.
وأعذره وعَذَرَه: قبِلَ عذره.
انظر:
* (لسان العرب) لابن منظور، 4/ 545.
* (المعجم الوسيط) لمجمع اللغة العربية، 2/ 590.
وعلى هذا: فإن العذر بالجهل، معناه الاحتجاج بالجهل عن ترك واجب أو فعل منهي عنه عند المساءلة على ذلك.
المسألة الثالثة: أثر الجهل على أهلية المكلّف:
1 ــ المكلف: هو الشخص الذي تعلق خطاب الشارع بفعله.(5/4)
2 ــ وشرط صحة التكليف: هو قدرة الشخص على فهم خطاب الشارع الموجه إليه، وإنما يكون ذلك بالعقل، ولما كان من العسير تقدير القدرة العقلية اللازمة لفهم خطاب الشارع، فقد أقام الشارع البلوغ مقام العقل في ذلك، لأن البلوغ أمر منضبط وله علامات محددة سبق أن ذكرتها في أول الفصل الثالث من الباب الثالث بهذا الكتاب.
فمناط التكليف: هو بلوغ الإنسان عاقلا.
ودليله: قوله صلى الله عليه وسلم (رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يعقل) رواه أبو داود عن علي رضي الله عنه، ورواه الترمذي وحسّنه، ورواه البخاري معلقا عن علي بلفظ مقارب في الطلاق والحدود.
3 ــ أما الأهلية: فهى الصلاحية، وهى قسمان:
(أ) أهلية الأداء (وهى أهلية التكليف): وتعني صلاحية الفرد لأن تعتبر أقواله وأفعاله شرعا، أي صلاحيته لأن يكون مكلفا يؤاخذ بأقواله وأفعاله.
وشروط صحة هذه الأهلية:
(1) الإدراك (بالبلوغ والعقل والعلم بخطاب التكليف).
(2) الاختيار.
(ب) أهلية الوجوب: وتعني صلاحية الفرد لأن تكون له حقوق وعليه واجبات. وتثبت هذه الأهلية: بالحياة.
4 ــ عوارض الأهلية:
هى أمور تعرض لأهلية الأداء ــ أي أهلية التكليف ــ فتزيلها أو تنقصها.
أو هى أمور تعرض للمكلف فتجعل أقواله وأفعاله غير معتبرة شرعاً فلا يؤاخذ بها ولاتترتب عليها آثارها فيما يتعلق بحقوق الله تعالى لا حقوق العباد.
5 ــ أقسام عوارض الأهلية:
سبق القول بأن شروط صحة أهلية التكليف هى: الإدارك والاختيار، فعوارض هذه الأهلية:
إما أن تفسِد الإدراك: كالصِغر، والجنون، والنسيان، والنوم، والجهل، والسُّكر.
وإما أن تفسِد الاختيار: وذلك بالإكراه.
ولكن جرى عرف الفقهاء على تقسيم عوارض الأهلية إلى قسمين:
(أ) عوارض سماوية: أى من قَدَر الله، لادخل للعبد في اكتسابها، فنسبت إلى السماء لأنها خارجة عن قدرة العبد.(5/5)
ومنها: صِغر السن، والجنون، والعته، والنسيان، والنوم، والإغماء، والمرض، والموت.
(ب) عوارض مكتسبة: وهى التي لاختيار العبد دخلُ ُ في اكتسابها بنفسه أو من غيره، وإن كان كل شيء من قدر الله كما قال تعالى (إنّا كل شيء خلقناه بقدر) القمر 49.
فمن العوارض المكتسبة من ذات العبد: الجهل والخطأ والسُّكر والهزل.
ومن العوارض المكتسبة من غيره: الإكراه.
(المراجع)
* (شرح المنار وحواشيه في الأصول) لابن ملك، صـ 943 ومابعدها، ط العثمانية 1315 هـ.
* (شرح التلويح على التوضيح والتنقيح) لسعد الدين التفتازاني، جـ 2 صـ 167 وما بعدها، ط صبيح 1367 هـ.
* (الإحكام في أصول الأحكام) للآمدي، 1/ 216.
(فائدة) في سبب كون الجهل من العوارض المكتسبة.
اعلم أن الأصل في الإنسان الجهل، كما قال تعالى (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا، وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون) النحل 78.
فالأصل فيمن خرج من بطن أمه أنه لايعلم شيئا، وهذا الجهل. ومع أنه أمر أصلي فقد جُعل من العوارض المكتسبة، لأن الواجب على العبد إزالة هذه الجهل بتعلم مايجب عليه من فرض العين من العلم، وقد جعل الله له وسائل التعلم (السمع والأبصار والأفئدة)، فإذا استعمل هذه الوسائل في التعلم كان قد أدى بعض شكرها (لعلكم تشكرون)، وإذا أهمل التعلم فكأنه اختار الجهل، ومن هنا سُمّي عارضاً مكتسبا، وهو مالاختيار العبد دخل في اكتسابه.
انظر:
* (الإحكام في أصول الأحكام) لابن حزم، 1/ 65 ـ 68.
* (مجموع فتاوى ابن تيمية) 9/ 307 ــ 314.
* (مفتاح دار السعادة) لابن القيم، 1/ 106 ــ 107، ط دار الفكر.
* (الموافقات) للشاطبي، 1/ 179 ــ 180.
المسألة الرابعة: الجهل كمانع من ثبوت الأحكام الشرعية:(5/6)
تبين من المسألة السابقة أن الجهل عارض من عوارض الأهلية (أهلية التكليف) بما يعني أنه يجعل أقوال المكلف وأفعاله غير معتبرة في الشرع ولاتترتب عليها آثارها. ويسمى العارض أيضا بالمانع، لأنه يمنع ثبوت الحكم المترتب على أقوال المكلف وأفعاله.
وقاعدة الحكم في الشريعة بوجه عام هى:
(يترتب الحكم على السبب إذا توفرت الشروط وانتفت الموانع).
والحكم: هو اثبات أمر لآخر أو نفيه عنه. ومثاله اثبات حكم الكفر لتارك الصلاة.
وسبب الحكم: هو الشيء الذي جعل الشارع وجوده علامة على وجود الحكم، وعدمه علامة على عدمه. وفي المثال السابق: سبب الحكم هو ترك الصلاة.
وشرط الحكم: هو مايتوقف وجود الحكم على وجوده، ولايلزم من وجوده وجود الحكم، ولكن يلزم من عدمه عدم الحكم. وهو في المثال السابق: أن يكون تارك الصلاة بالغا عاقلا متعمداً.
ومانع الحكم: هو مايلزم من وجوده عدم الحكم، ولايلزم من عدمه وجود الحكم أو عدمه. وهو في المثال السابق: أن يكون تارك الصلاة جاهلا بوجوبها لكونه أسلم في دار الحرب ولم يجد من يعلمه الصلاة، فهذا الجهل يعتبر مانعا من ثبوت حكم الكفر لهذا الشخص.
هذا شرح موجز لقاعدة الحكم، وليس الجهل بمانع من ثبوت الأحكام الشرعية بإطلاق، ولكن في الأمر تفصيل ذكره السيوطي في قوله (اعلم أن قاعدة الفقه:
أن النسيان والجهل مُسقط للإثم مطلقاً.
وأما الحكم:
* فإن وقعا في ترك مأمور لم يسقط، بل يجب تداركه، ولايحصل الثواب المترتب عليه لعدم الائتمار.
* إو فعل منهي عنه ــ ليس من باب الإتلاف: فلا شيء فيه.
ــ أو فيه إتلاف: لم يسقط الضمان.
ــ فإن كان فيه عقوبة: كان شبهة في إسقاطها) أهـ.
من (الأشباه والنظائر في قواعد وفروع فقه الشافعية) للسيوطي، صـ 339 ــ 340، ط دار الكتاب العربي 1407هـ. وقد نُقِل كلامه هذا بتصرف في (الموسوعة الفقهية) ط وزارة الأوقاف بالكويت، جـ 14 صـ 230.(5/7)
ومعنى كلام السيوطي رحمه الله، أن الأحكام نوعان: أخروية ودنيوية.
1 ــ النوع الأول: الأحكام الأخروية: أي محاسبة الله للعباد يوم القيامة، وقوله (الجهل مسقط للإثم مطلقا) أي في الآخرة، فلا يحاسب الله العبد إذا ارتكب معصية (بترك واجب أو فعل منهي عنه) جاهلا، وذلك لقوله تعالى (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) الإسراء 15.
2 ــ النوع الثاني: الأحكام الدنيوية: وهذه نوعان أيضا: حقوق لله وحقوق للعباد.
أ ) حقوق لله تعالى: وهذه نوعان: إما ترك واجب أو فعل محرَّم.
(1) فإن ترك الواجب جاهلا بوجوبه، وجب عليه فعله، هذا قول السيوطي، ولابن تيمية قول آخر سأذكره بعد ذلك إن شاء الله.
(2) وإن فعل منهياً عنه جاهلا بتحريمه،
ــ وليس من باب الاتلاف فلا شيء فيه.
ــ أو فيه اتلاف لم يسقط الضمان: كقتل صيد الحرم أو قطع شجره.
ــ أو فيه عقوبة كشرب الخمر: كان الجهل بالتحريم شبهة في إسقاطها.
ب) حقوق العباد: من أداء واجب أو ضمان المتلفات كل هذه لايسقط منها شيء بالجهل.
والجهل المؤثر في الأحكام السابقة هو الجهل المعتبر كعذر، وحد الجهل المعتبر سنعني ببيانه في المسائل التالية إن شاء الله.(5/8)
وقد قال السيوطي في كلامه السابق إن من ترك الواجب جهلا وجب عليه فعله، وقال ابن تيمية بخلافه، والجمع بين قوليهما: أن إعادة الواجب واجبة إذا كان مما يمكن تداركه لكونه مازال في الوقت. قال ابن تيمية رحمه الله (وكذلك كل من ترك واجباً لم يعلم وجوبه، فإذا علم وجوبه فَعَلَه ولاتلزمه الإعادة فيما مضى: في أصح القولين في مذهب أحمد، وغيره. وكذلك من فعل محظوراً في الصلاة لم يعلم أنه محظور، ثم علم كمن كان يصلي في أعطان الإبل، أو لايتوضأ الوضوء الواجب الذي لم يعلم وجوبه، كالوضوء من لحوم الإبل، وهذا بخلاف الناسي، فإن العالم بالوجوب إذا نسي صَلّى متى ذَكَر، كما قال صلى الله عليه وسلم: «من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها» وأما من لم يعلم الوجوب، فإذا علمه صلى صلاة الوقت ومابعدها، ولا إعادة عليه. كما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأعرابي المسيء في صلاته: «ارجع فَصَلِّ فإنك لم تُصَلِّ» قال: والذي بعثك بالحق لا أحسن غير هذا فعلمني مايجزيني في صلاتي، فعلمه ــ صلى الله عليه وسلم ــ وقد أمره بإعادة صلاة الوقت، ولم يأمره بإعادة ما مضى من الصلاة، مع قوله «لا أحسن غير هذا».
وكذلك لم يأمر عمر وعماراً بقضاء الصلاة، وعمر لما أجنب لم يُصَل، وعمار تمرغ كما تتمرغ الدابة، ولم يأمر أبا ذر بما تركه من الصلاة وهو جنب، ولم يأمر المستحاضة أن تقضي ماتركت، مع قولها إني أستحاض حيضة شديدة منعتني الصوم والصلاة.
ولم يأمر الذين أكلوا في رمضان حتى تبين لهم الحبال البيض من السود بالإعادة، والصلاة أول ما فرضت كانت ركعتين ركعتين، ثم لما هاجر زِيدَ في صلاة الحضر ففرضت أربعاً، وكان بمكة وأرض الحبشة والبوادي كثير من المسلمين لم يعلموا بذلك إلا بعد مدة، وكانوا يصلون ركعتين، فلم يأمرهم بإعادة ما صلوا.(5/9)
كما لم يأمر الذين كانوا يصلون إلى القبلة المنسوخة بالإعادة مدة صلاتهم إليها قبل أن يبلغهم الناسخ) (مجموع الفتاوى) 23/ 37 ــ 38.
فهذا ما يتعلق بما يؤثر فيه الجهل ومالا يؤثر كمانع من الأحكام الشرعية. ومنه يتبين أن مسألة الجهل والعذر به هى من مسائل أصول الفقه ليست من مسائل الاعتقاد.
المسألة الخامسة: الجهل كمانع من التكفير:
أي كمانع من ثبوت الحكم بالكفر، والحكم بالكفر هو كغيره من الأحكام الشرعية، الجهل المعتبر يمنع من ثبوته. وقاعدة التكفير أي قاعدة الحكم بالكفر هى نفس قاعدة الحكم في الشريعة بوجه عام ــ المثبتة أعلاه ــ ولكن مع مزيد من التفصيل، وسيأتي شرح قاعدة تكفير المعين في مبحث الاعتقاد بالباب السابع إن شاء الله، وسأقتصر هنا على ذِكر نصّها وبيان موقع الجهل منها:
ونصّ قاعدة تكفير المعين ــ وهو من وضعي ــ كالتالي:
(في أحكام الدنيا التي تجري على الظاهر، يُحكم بالكفر على شخصٍ ما بقولٍ مكفّر أو بفعل مكفر، ثبت عليه ثبوتا شرعيا، إذا توفرت شروط الحكم وانتفت موانعه في حقه، ويَحكم عليه مؤهل للحكم، ثم يُنظر:
فإن كان مقدوراً عليه في دار الإسلام استتيب وجوباً قبل استيفاء العقوبة منه من ذوي السلطان.
وإن كان ممتنعا بشوكة أو بدار الحرب جاز لكل أحدٍ قتله وأخذ ماله بغير استتابة، وينظر في هذا إلى المصلحة والمفسدة المترتبة على ذلك، وإذا تعارضت المصلحة والمفسدة قدّم أرجحهما) اهـ.
وسيأتي شرحها إن شاء الله في مبحث الاعتقاد كما ذكرت، ويتبين من هذا النص أن الجهل موقعه في موانع الحكم. وهنا مسألة:
هل الجهل مانع من الحكم أم من العقوبة؟.
أي أن من قال الكفر أو فعله ــ كمن قال إنه لابعث ولاحساب أو من سجد لصنم ــ وهو جاهل جهلا معتبراً، فهل يمنع هذا الجهل من الحكم عليه بالكفر بما عمله، أم أنه يُحكم عليه بالكفر بعمله ويكون الجهل مانعا من معاقبته عقاب الكافر؟.(5/10)
والجواب: أن هذا يختلف بحسب حال هذا الشخص في الأصل. فإن كان كافراً في الأصل فالجهل مانع من معاقبته، وإن كان مسلما في الأصل فالجهل مانع من الحكم بكفره وبالتالي مانع من عقوبته. وهذا بيان موجز لما سبق.
1 ــ فمن كان كافراً أصليا، ولكنه جاهل بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم:
فحكمه أنه كافر ولايقال إن كفره متوقف على بلوغ الدعوة إليه ورفضه لها، بل هو كافر قبل الدعوة، ولكنه لايعاقب في الدنيا ولا يعذب في الآخرة حتى تبلغه الحجة. وفي هذا قال ابن القيم رحمه الله (الواجب على العبد أن يعتقد أن كل من دان بدين غير دين الإسلام فهو كافر، وأن الله سبحانه وتعالى لايعذب أحداً إلا بعد قيام الحجة عليه بالرسول، هذا في الجملة، والتعيين موكول إلى علم الله وحكمه. هذا في أحكام الثواب والعقاب. وأما في أحكام الدنيا فهى جارية على ظاهر الأمر: فأطفال الكفار ومجانينهم كفار في أحكام الدنيا لهم حكم أوليائهم) (طريق الهجرتين) صـ 413. والدليل على أن من لايدين بدين الإسلام يسمى كافراً حتى قبل بلوغ الدعوة إليه:
( أ ) قوله تعالى (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه، ذلك بأنهم قوم لايعلمون) التوبة 6، فسّماه الله مشركا قبل سماعه كلام الله الذي هو دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، وسّماه الله مشركا مع جهله وعدم علمه بالدعوة (ذلك بأنهم قوم لايعلمون).
(ب) قوله تعالى (هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن) التغابن 2، وقال صلى الله عليه وسلم (لايرث المسلم الكافر، ولايرث الكافر المسلم) متفق عليه، فليس إلا دينان: إسلام أو كفر، وإيمان أو كفر، فمن لم يكن مسلماً فهو كافر. انظر (الفصل في الملل والأهواء والنحل) لابن حزم، 3/ 276 ــ 285.
فهذا مايدل على أنه يُسمى كافراً مع جهله قبل الدعوة، أما إنه لايعاقب قبل الدعوة فلا يجوز قتله في الدنيا حتى يُدعى ولايعذبه الله في الآخرة حتى تبلغه الدعوة، فدليله:(5/11)
( أ ) قوله تعالى (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) الإسراء 15.
(ب) وقوله تعالى (ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدّمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولاً فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين) القصص 47. قال ابن تيمية (فدّل ذلك على أن المقتضى لعذابهم قائم ولكن شرط العذاب هو بعد بلوغ الرسالة، ولهذا قال «لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل») (الجواب الصحيح لمن بدّل دين المسيح) لابن تيمية، 1/ 314.
(جـ) وقوله تعالى (ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولاً فنتبع آياتك من قبل أن نذِل ونخزى) طه 134. قال ابن تيمية رحمه الله (فهذا يبين أنه لم يكن ليعذب الكفار حتى يبعث إليهم رسولاً، وبيّن أنهم كانوا قبل الرسول قد اكتسبوا الأعمال التي توجب المقت والذم وهى سبب للعذاب، لكن شرط العذاب قيام الحجة عليهم بالرسالة) (المصدر السابق) 1/ 316.
ومن هذا الباب أيضاً الآيات: الأنعام 131، و الشعراء 208، و القصص 59.
والخلاصة: أنه بالنسبة للكافر الأصلي فإن الجهل مانع من معاقبته، وليس مانعا من الحكم عليه بالكفر.
2 ــ أما من ثبت له حكم الإسلام في الأصل:
فإنه لو فعل شيئا مكفراً وهو جاهل جهلا معتبراً، فإن الجهل يكون مانعا من الحكم عليه بالكفر وبالتالي مانعا من العقوبة. ولايُسمى كافراً قبل إقامة الحجة عليه، بخلاف الكافر الأصلي الذي يُسمى كافراً قبل إقامة الحجة عليه.
والدليل على أن المسلم الذي يرتكب الكفر جهلا لايحكم عليه بالكفر ولايُسمى كافراً حتى يُعَلّم وتقام عليه الحجة:(5/12)
( أ ) حديث ذات أنواط. وهو عن أبي واقد الليثي رضي الله عنه قال (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حُنين ونحن حدثاء عهد بكفر، وللمشركين سِدرة يعكفون عندها وينوطون بها أسلحتهم، يقال لها ذات أنواط، فمررنا بسِدرة، فقلنا: يارسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (الله أكبر، إنها السنن، قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى «اجعل لنا إلها كما لهم آلهة، قال: إنكم قوم تجهلون»، لتركبن سَنن من كان قبلكم) رواه الترمذي وصححه. وهنا لم يكفرهم النبي صلى الله عليه وسلم مع طلبهم الشرك وعَذَرهم بالجهل لكونهم حدثاء عهد بكفر، وهذا من المواضع التي يُعذر فيها بالجهل كما سنفصله فيما بعد إن شاء الله.
(ب) والدليل أيضا على أنه لايُسمى كافراً حتى تقام عليه الحجة: إجماع الصحابة الذي ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في قوله (وأما الفرائض الأربع فإذا جحد وجوب شيء منها بعد بلوغ الحجة فهو كافر، وكذلك من جحد تحريم شيء من المحرمات الظاهرة المتواتر تحريمها كالفواحش والظلم والكذب والخمر ونحو ذلك، وأما من لم تقم عليه الحجة: مثل أن يكون حديث عهد بالإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة لم تبلغه فيها شرائع الإسلام ونحو ذلك، أو غلط فظن أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يستثنون من تحريم الخمر، كما غلط في ذلك الذين استتابهم عمر، وأمثال ذلك، فإنهم يستتابون وتقام الحجة عليهم، فإن أصروا كفروا حينئذٍ، ولا يحكم بكفرهم قبل ذلك، كما لم يحكم الصحابة بكفر قدامة بن مظعون وأصحابه لما غلطوا فيما غلطوا فيه من التأويل) (مجموع الفتاوى) 7/ 609 ــ 610.
واختلفت أقوال علماء الدعوة النجدية في هذه المسألة: هل الجهل مانع من الحكم بالكفر أم مانع من العقوبة؟.(5/13)
فذهب الشيخ عبدالله بن شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب رحمهما الله إلى أن الجهل مانع من الحكم ــ وهو الصواب الذي تشهد له الأدلة السابقة ــ فقال (إذا فعل الإنسان الذي يؤمن بالله ورسوله مايكون فعله كفراً أو اعتقاده كفراً جهلا منه بما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم، فهذا لايكون عندنا كافراً ولانحكم عليه بالكفر حتى تقوم عليه الحجة الرسالية التي يكفر من خالفها، فإذا قامت عليه الحجة وبُيّن له ماجاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وأصرّ على فعل ذلك بعد قيام الحجة عليه فهذا هو الذي يكفر) أهـ (الدرر السنية في الأجوبة النجدية ــ جـ 8 ــ كتاب المرتد ــ صـ 158 ــ 159).
وذهب آخرون إلى أن الجهل مانع من العقوبة ليس مانعا الحكم بالكفر، ومن هذا ماورد في فتاوى اللجنة الدائمة للإفتاء بالسعودية، وذلك في جواب السؤال الثاني من الفتوى رقم (4400)، قالوا: (كل من آمن برسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وسائر ماجاء به في الشريعة إذا سجد بعد ذلك لغير الله من ولي وصاحب قبر أو شيخ طريق يعتبر كافراً مرتداً عن الإسلام مشركاً مع الله غيره في العبادة ولو نطق بالشهادتين وقت سجوده، لإتيانه بما ينقض قوله من سجوده لغير الله، لكنه قد يعذر لجهله فلا تنزل به العقوبة حتى يُعلم وتقام عليه الحجة ويمهل ثلاثة أيام إعذارا إليه ليراجع نفسه عسى أن يتوب فإن أصر على سجوده لغير الله بعد البيان قتل لردته، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من بدّل دينه فاقتلوه». أخرجه الإمام البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما، فالبيان وإقامة الحجة للإعذار إليه قبل إنزال العقوبة به لا ليسمى كافراً بعد البيان فإنه يسمى كافراً بما حدث منه.) إفتاء المشايخ: عبدالله بن قعود وعبدالرزاق عفيفي وعبدالعزيز بن باز. نقلا عن (فتاوى اللجنة الدائمة) جمع الدويش، جـ 1 صـ 220.(5/14)
وهذه الفتوى خطأ، فإنه إذا كان الجهل معتبراً كعذر كان مانعا من الحكم بلاشك، ويدل على ذلك ما قدّمناه من أدلة كحديث ذات أنواط وإجماع الصحابة في حادثة قدامة بن مظعون. ولهم رَدُّ ُ مشهور على حديث ذات أنواط حيث يقولون: إن الذين طلبوا ذلك قالوا ولم يفعلوا وسيأتي كلامهم بنصه في الفصل الرابع إن شاء الله، يريدون بذلك أن مجرد الطلب ليس شركا، وهذا خطأ إذ لم يختلف العلماء في أن من نوي الكفر في المآل كَفَر في الحال، وسيأتي تقرير هذا في شرح قاعدة التكفير بمبحث الاعتقاد إن شاء الله. فمجرد طلبهم كان شركاً، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم (قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى «اجعل لنا إلها») وهذا هو الشرك، ولكنه خفي عليهم لكونهم حديثي عهد بالكفر أي أسلموا حديثا، فقد كانوا من مسلمة الفتح (فتح مكة) وخرجوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم إلى غزوة حنين وكانت قبل أقل من شهر من فتح مكة، فلم تكن لديهم فسحة من الوقت للتعلم، ولهذا قال الشيخ عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ ــ في هذا الحديث ــ (قوله «ونحن حدثاء عهد بكفر» يشير إلى أهل مكة الذي أسلموا قريباً، فلذلك خفي عليهم هذا الشرك المذكور في الحديث، بخلاف من تقدم إسلامهم) (قرة عيون الموحدين) له، صـ 74، وقال ابن عمه الشيخ سليمان ابن عبدالله آل الشيخ ــ في فوائد هذا الحديث ــ (أن من أراد أن يفعل الشرك جهلاً فنُهي عن ذلك فانتهى لايكفر) (تيسير العزيز الحميد) صـ 185. وهذا كله في بيان أن ماطلبوه كان شركاً، ومنع جهلهم من الحكم بكفرهم.
وعلى هذا فمن كان مسلماً في الأصل، وفعل ماهو كفر وهو جاهل جهلاً يعذر به، فإن هذا الجهل يكون مانعا من الحكم عليه بالكفر، ولايُسمى كافراً قبل تعليمه وإقامة الحجة عليه، وسيأتي بيان الجهل الذي يعذر به في الفصل الرابع إن شاء الله. هذا وبالله تعالى التوفيق.
الفصل الثاني
حُجة الله التي يقع بها التكليف(5/15)
سبق في الفصل الأول القول بأن المكلّف هو الشخص الذي تعلق خطاب الشارع بفعله، وخطاب الشارع هو الشيء الذي يقع به التكليف ويُسمى حجة الله على خلقه أيضا. فما هى حجة الله التي يقع بها التكليف؟ والجواب عن هذا السؤال هو موضوع هذا الفصل الثاني. وفيه أربع مسائل:
1 ــ حجة الله تعالى تقوم بالرسل. ……
2 ــ حكم من لم تبلغه دعوة رسول في الدنيا.
3 ــ الرد على من قال إن التكليف بالعقل.…
4 ــ الرد على من قال إن التكليف بالميثاق والفطرة.
وهذا بيانها: ــ
المسألة الأولى: حجة الله تعالى على خلقه
تقوم بالرسل عليهم السلام
وأدلة ذلك مستفيضة في الكتاب والسنة، ولن أفردها بالذكر اكتفاء بورودها في المنقول عن العلماء في تقرير ذلك. ومنه:
قول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (وتقرير الحجة في القرآن بالرسل كثير. كقوله: (لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل) النساء 165، وقوله: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) الإسراء 15، وقوله: (ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك) طه 134، إلى قوله: (وماكان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا) الآية القصص 59. وقوله: (كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير؟) الملك 8، وقوله: (وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمراً حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم؟) الآية الزمر 71. وقوله: (يامعشر الجن والإنس) الآية الأنعام 130.(5/16)
ولهذا كان طائفة من أئمة المصنفين للسنن على الأبواب، إذا جمعوا فيها أصناف العلم: ابتدءوها بأصل العلم والإيمان. كما ابتدأ البخاري (صحيحه) ببدء الوحي ونزوله، فأخبر عن صفة نزول العلم والإيمان على الرسول أولا، ثم أتبعه بكتاب الإيمان الذي هو الإقرار بما جاء به، ثم بكتاب العلم الذي هو معرفة ماجاء به، فرتبه الترتيب الحقيقي. وكذلك الإمام أبو محمد الدارمي صاحب (المسند): ابتدأ كتابه بدلائل النبوة، وذكر في ذلك طرفاً صالحاً وهذان الرجلان: أفضل بكثير من مسلم، والترمذي ونحوهما، ولهذا كان أحمد بن حنبل: يعظم هذين ونحوهما، لأنهم فقهاء في الحديث أصولا وفروعاً.) (مجموع الفتاوى) 2/ 3 ــ 4.
وقال ابن تيمية أيضا (وهذا أصل لابد من اثباته وهو أنه قد دلت النصوص على أن الله لايعذب إلا من أرسل إليه رسولا تقوم به الحجة عليه.
قال تعالى: (وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً * اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً * من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) سورة الإسراء: 13 ــ 15.
وقال تعالى: (رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل) سورة النساء: 165.
وقال تعالى عن أهل النار: (كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير؟ * قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا مانزل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير) سورة الملك: 8، 9.
وقال تعالى: (وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمراً * حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين) سورة الزمر: 71.(5/17)
وقال تعالى: (يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين) سورة الأنعام: 130.
وقال تعالى (وماكان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا يتلوا عليهم آياتنا وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون) سورة القصص: 59.
وقال تعالى: (ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا ــ إلى قوله ــ فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا لولا أوتي مثل ماأوتى موسى أو لم يكفروا بما أوتي موسى من قبل قالوا سحران تظاهرا وقالوا إنا بكل كافرون) سورة القصص: 47، 48.
وقال تعالى: (ياأهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ماجاءنا من بشير ولانذير فقد جاءكم بشير ونذير والله على كل شيء قدير) سورة المائدة: 19.
وإذا كان كذلك فمعلوم أن الحجة إنما تقوم بالقرآن على من بلغه كقوله: (لأنذركم به ومن بلغ)، فمن بلغه بعض القرآن دون بعض قامت عليه الحجة بما بلغه دون مالم يبلغه.) (الجواب الصحيح لمن بدّل دين المسيح) لابن تيمية، جـ 1 صـ 309 ــ 310.
وهذا الذي ذكره شيخ الإسلام هو مذهب أهل السنة والجماعة، لايختلفون في ذلك، أن الحجة على الخلق إنما تقوم بالسمع أي عن طريق ماجاءت به الرسل كما حكاه أبو القاسم اللالكائي عنهم في كتابه (شرح اعتقاد أهل السنة) 1/ 196، ط دار طيبة.
وانظر أيضا (مجموع فتاوى ابن تيمية) 12/ 493 ــ 496، و (إيثار الحق على الخلق) لمحمد بن إبراهيم الوزير، صـ 220، ط دار الكتب العلمية 1403 هـ، و (تفسير أضواء البيان) للشنقيطي جـ 2 صـ 211 و 336، و جـ 3 صـ 471 ــ 484. وسيأتي مزيد في هذه المسألة ضمن المسائل التالية إن شاء الله.
المسألة الثانية: حكم من لم تبلغه دعوة رسولٍ في الدنيا(5/18)
وهذا إما أن لاتبلغه حقيقة: كالبالغ العاقل الذي لم يسمع برسالة نبي أبداً، وإما أن لاتبلغه حكماً: كالشخص غير القادر على فهم خطاب التكليف ــ كالصبي والمجنون والخَرِف ــ رغم وجود دعوة الرسول واشتهارها.
ومذهب أهل السنة والجماعة أن هؤلاء ــ الذين لم تبلغهم دعوة الرسل حقيقة أو حكماً ــ أنهم يمتحنون يوم القيامة. وبذلك تقوم حجة الله بالرسل على جميع خلقه إما في الدنيا وإما في الآخرة.
قال ابن تيمية رحمه الله (ومن لم تقم عليه الحجة في الدنيا بالرسالة كالأطفال والمجانين وأهل الفترات، فهؤلاء فيهم أقوال أظهرها ماجاءت به الآثار أنهم يمتحنون يوم القيامة فيبعث إليهم من يأمرهم بطاعته، فإن أطاعوه استحقوا الثواب، وإن عصوه استحقوا العذاب.) (الجواب الصحيح لمن بدّل دين المسيح) جـ 1 صـ 312.
وقال ابن تيمية أيضا (ولكن لايعذب الله أحداً حتى يبعث إليه رسولا، وكما أنه لايعذبه فلا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة مؤمنة، ولايدخلها مشرك ولا مستكبر عن عبادة ربه، فمن لم تبلغه الدعوة في الدنيا امتحن في الآخرة، ولايدخل النار إلا من اتبع الشيطان، فمن لاذنب له لايدخل النار، ولايعذب الله بالنار أحداً إلا بعد أن يبعث إليه رسولا، فمن لم تبلغه دعوة رسول إليه كالصغير والمجنون، والميت في الفترة المحضة، فهذا يمتحن في الآخرة كما جاءت بذلك الآثار) (مجموع الفتاوى) 14/ 477.
وقال ابن تيمية أيضا (وقد رويت آثار متعددة في أن من لم تبلغه الرسالة في الدنيا فإنه يبعث إليه رسول يوم القيامة في عرصات القيامة. وقد زعم بعضهم أن هذا يخالف دين المسلمين، فإن الآخرة لا تكليف فيها، وليس كما قال، إنما ينقطع التكليف إذا دخلوا دار الجزاء الجنة أو النار، وإلا فَهُم في قبورهم ممتحنون ومفتونون، يقال لأحدهم: من ربك؟ ومادينك؟ ومن نبيك؟. وكذلك في عَرَصات القيامة يقال: ليتبع كل قوم ماكانوا يعبدون) الحديث، (مجموع الفتاوى) 17/ 308ــ309.(5/19)
وانظر أيضا (مجموع الفتاوى) جـ 4/ 246 ــ 247، جـ 24/ 372 ــ 373.
أما الآثار التي أشار إليها ابن تيمية، فقد وردت في عدة مصادر، منها ماذكره ابن كثير في تفسير قوله تعالى (وماكنا معذبين حتى نبعث رسولا) الإسراء 15 (تفسير ابن كثير) 3/ 28 ــ 31. وما ذكره ابن القيم في كتابه (طريق الهجرتين) صـ 396 ــ 401، ط دار الكتب العلمية 1402هـ.
ومما قال ابن القيم رحمه الله (وقد جاءت بذلك آثار كثيرة يؤيد بعضها بعضا: فمنها مارواه الإمام أحمد في مسنده والبزار أيضا بإسناد صحيح فقال الإمام أحمد: حدثنا معاذ بن هشام عن أبيه عن قتادة عن الأحنف بن قيس عن الأسود بن سريع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «أربعة يحتجون يوم القيامة: رجل أصم لايسمع ورجل هرم ورجل أحمق، ورجل مات في الفترة.أما الأصم فيقول: رب لقد جاء الإسلام وأنا ماأسمع شيئاً. وأما الأحمق فيقول:رب لقد جاء الإسلام والصبيان يحذفونني بالبعر. وأما الهرم فيقول: رب لقد جاء الإسلام وماأعقل. وأما الذي في الفترة فيقول: رب ماأتاني رسول. فيأخذ مواثيقهم ليطيعنّه فيرسل إليهم رسولا أن ادخلوا النار. فو الذي نفسي بيده لو دخلوها لكانت عليهم برداً وسلاماً، قال معاذ بن هشام: وحدثني أبي عن قتادة عن الحسن عن أبي رافع عن أبي هريرة بمثل هذا الحديث وقال في آخره « فمن دخلها كانت عليه برداً وسلاماً ومن لم يدخلها رد إليها» ــ إلى أن قال ــ قال الحافظ عبدالحق في حديث الأسود: قد جاء هذا الحديث، وهو صحيح فيما أعلم، والآخرة ليست دار تكليف ولا عمل، ولكن الله يخص من يشاء بما يشاء، ويكلف من شاء ماشاء وحيثما شاء. لا يُسأل عما يفعل وهم يسألون. قلت: وسيأتي الكلام على وقوع التكليف في الدار الآخرة وامتناعه عن قريب إن شاء الله. ورواه علي بن المديني عن معاذ بنحوه قال البيهقي: حدثنا علي بن محمد بن بشران أخبرنا أبو جعفر الرازي أخبرنا حنبل بن الحسين أخبرنا علي بن عبدالله وقال: هذا إسناد(5/20)
صحيح) أهـ. ثم ذكر ابن القيم الروايات الأخرى لهذا الحديث، ثم قال (فهذه الأحاديث يشد بعضها بعضا وتشهد لها أصول الشرع وقواعده، والقول بمضمونها هو مذهب السلف والسنة، نقله عنهم الأشعري رحمه الله في (المقالات) وغيرها.
فإن قيل: قد أنكر ابن عبدالبر هذه الأحاديث وقال: أهل العلم ينكرون أحاديث هذا الباب، لأن الآخرة ليست دار عمل ولا ابتلاء، وكيف يكلفون دخول النار وليس ذلك في وسع المخلوقين، والله لايكلف نفسا إلا وسعها؟ فالجواب من وجوه: (أحدها) أن أهل العلم لم يتفقوا على إنكارها بل ولا أكثرهم، وإن أنكرها بعضهم فقد صحح غيره بعضها كما تقدم. (الثاني) أن أبا الحسن الأشعري حكى هذا المذهب عن أهل السنة والحديث، فدل على أنهم ذهبوا إلى موجب هذه الأحاديث. (الثالث) أن إسناد حديث الأسود أجود من كثير من الأحاديث التي يحتج بها في الأحكام، ولهذا رواه الأئمة أحمد وإسحق وعلي بن المديني (الرابع) أنه قد نص جماعة من الأئمة على وقوع الامتحان في الدار الآخرة وقالوا: لا ينقطع التكليف إلا بدخول دار القرار ذكره البيهقي عن غير واحد من السلف. (الخامس) ماثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة وأبي سعيد في الرجل الذي هو آخرأهل الجنة دخولا إليها أن الله سبحانه وتعالى يأخذ عهوده ومواثيقه أن لا يسأله غير الذي يعطيه، وأنه يخالفه ويسأله غيره فيقول الله تعالى «ما أغدرك» وهذا الغدر منه لمخالفته للعهد الذي عاهد ربه عليه. (السادس) قوله: وليس ذلك في وسع المخلوقين. جوابه من وجهين، أحدهما: أن ذلك ليس تكليفا بما ليس في الوسع، وإنما هو تكليف بما فيه مشقة شديدة، وهو كتكليف بني إسرائيل قتل أولادهم وأزواجهم وآبائهم حين عبدوا العجل، وكتكليف المؤمنين إذا رأوا الدجال ومعه مثال الجنة والنار أن يقعوا في الذي يرونه ناراً. الثاني: أنهم لو أطاعوه ودخلوها لم يضرهم، وكانت برداً وسلاما، فلم يكلفوا بممتنع ولا بما لم يستطع. (السابع) أنه قد ثبت أنه(5/21)
سبحانه وتعالى يأمرهم في القيامة بالسجود ويحول بين المنافقين وبينه، وهذا تكليف بما ليس في الوسع قطعاً، فكيف ينكر التكليف بدخول النار في رأى العين إذا كانت سببا للنجاة؟ كما جعل قطع الصراط الذي هو أدق من الشعرة وأحد من السيف سببا كما قال أبو سعيد الخدري «بلغني أنه أدق من الشعرة وأحد من السيف» رواه مسلم، فركوب هذا الصراط الذي هو في غاية المشقة كالنار ولهذا كلاهما يفضي منه إلى النجاة والله أعلم. (الثامن) أن هذا استبعاد مجرد لاتُرَدّ بمثله الأحاديث، والناس لهم طريقان: فمن سلك طريق المشيئة المجردة لم يمكنه أن يستبعد هذا التكليف، ومن سلك طريق الحكمة والتعليل لم يكن معه حجة تنفي أن يكون هذا التكليف موافقا للحكم، بل الأدلة الصحيحة تدل على أنه مقتضى الحكمة كما ذكرناه (التاسع) أن في أصح هذه الأحاديث وهو حديث الأسود أنهم يعطون ربهم المواثيق ليطيعنه فيما يأمرهم به، فيأمرهم أن يدخلوا نار الامتحان، فيتركون الدخول معصية لأمره لا لعجزهم عنه، فكيف يقال إنه ليس في الوسع.(5/22)
فإن قيل: فالآخرة دار جزاء، وليس دار تكليف، فكيف يمتحنون في غير دار التكليف؟ فالجواب: أن التكليف إنما ينقطع بعد دخول دار القرار، وأما في البرزخ وعرصات القيامة فلا ينقطع، وهذا معلوم بالضرورة من الدين من وقوع التكليف بمسألة الملكين في البرزخ وهى تكليف. وأما في عرصة القيامة فقال تعالى [القلم: 42]، (يوم يُكشف عن ساق ويُدعون إلى السجود فلا يستطيعون) فهذا صريح في أن الله يدعو الخلائق إلى السجود يوم القيامة، وأن الكفار يحال بينهم وبين السجود إذ ذاك، ويكون هذا التكليف بما لا يطاق حينئذ حساً عقوبة لهم، لأنهم كلفوا به في الدنيا وهم يطيقونه فلما امتنعوا منه وهو مقدور لهم كلفوا به وهم ولايقدرون عليه حسرة عليهم وعقوبة لهم، ولهذا قال تعالى [43]: (وقد كانوا يُدعون إلى السجود وهم سالمون) دعوا إليه في وقت حِيلَ بينهم وبينه كما في الصحيح من حديث زيد ابن أسلم عن عطاء عن أبي سعيد رضي الله عنه «أنا ناسا قالوا: يارسول الله، هل نرى ربنا» ــ فذكر الحديث بطوله: إلى أن قال ــ «فيقول تتبع كل أمة ماكانت تعبد. فيقول المؤمنون: فارقنا الناس في الدنيا أفقر ماكُنا إليهم، ولم نصاحبهم. فيقول: أنا ربكم. فيقولون: نعوذ بالله منك لانشرك بالله شيئا ــ مرتين أو ثلاثا ــ حتى إن بعضهم ليكاد أن ينقلب، فيقول هل بينكم وبينه آية تعرفونه بها؟ فيقولون نعم. فيكشف عن ساق فلا يبقى من كان يسجد لله من تلقاء نفسه إلا أذن الله له بالسجود، ولا يبقى من كان يسجد اتقاء ورياء إلا جعل الله ظهره طبقا واحدا كلما أراد أن يسجد خر على قفاه ثم يرفعون رءوسهم» وذكر الحديث. وهذا التكليف نظير تكليف البرزخ بالمسألة، فمن أجاب في الدنيا طوعا واختيارا أجاب في البرزخ، ومن امتنع من الإجابة في الدنيا منع منها في البرزخ، ولم يكن تكليفه في الحال وهو غير قادر قبيحا بل هو مقتضى الحكمة الإلهية لأنه مكلف وقت القدرة وأبى، فإذا كلف وقت العجز وقد حِيلَ بينه(5/23)
وبين الفعل كان عقوبة له وحسرة. والمقصود أن التكليف لاينقطع إلا بعد دخول الجنة أو النار: وقد تقدم أن حديث الأسود بن سريع صحيح، وفيه التكليف في عرصة القيامة، فهو مطابق لما ذكرنا من النصوص الصحيحة الصريحة. فعلم أن الذي تدل عليه الأدلة الصحيحة وتأتلف به النصوص ومقتضى الحكمة هذا القول. والله أعلم) (طريق الهجرتين) 397 ــ 401.
وكلام ابن كثير في تفسيره (3/ 28 ــ 31) مثل كلام ابن القيم، بل دونه. وذكر حديث العرصات أيضا: ابن حزم في (الفصل) 4/ 105، وذكره السيوطي برواياته المختلفة في كتابه (الحاوي للفتاوى)
2/ 356 ــ 359، ط المكتبة العصرية 1411 هـ.
المسألة الثالثة: الرد على من قال إن التكليف بالعقل
وهنا مسألتان تنازع فيهما العلماء:
الأولى: هل العقل وحده يدرك حُسن الأشياء وقبحها، أم لايُدرَك هذا إلا بالشرع؟ وهى المسألة المعروفة في علم أصول الفقه بمسألة (التحسين والتقبيح العقلي).
والثانية: على قول من قال إن العقل يدرك الحُسن والقبح، فهل يعاقب الله العبد بموجب مخالفته لما يقتضيه العقل أم لابد من بلوغ الحجة الرسالية بالرسل؟.
وقد لخّص شيخ الإسلام ابن تيمية الأقوال في هاتين المسألتين في قوله (وقد تنازع الناس في حسن الأقوال وقبحها كحسن العدل والتوحيد، والصدق، وقبح الظلم، والشرك، والكذب: هل يُعلم بالعقل أم لا يُعلم إلا بالسمع، وإذ قيل: إنه يُعلم بالعقل فهل يعاقب من فعل ذلك قبل أن يأتيه رسول؟ على ثلاثة أقوال معروفة في أصحاب الأئمة الأربعة وغيرهم، وهى ثلاثة أقوال لأصحاب الإمام أحمد وغيرهم.
فقالت طائفة لايعرف ذلك إلا بالشرع لا بالعقل، وهذا قول نظار المجبرة كالجهم بن صفوان وأمثاله، وهو قول أبي الحسن الأشعري وأتباعه من أصحاب الأئمة الأربعة كالقاضي أبي بكر بن الطيب، وأبي عبدالله بن حامد، والقاضي أبي يعلى، وأبي المعالي، وأبي الوفاء ابن عقيل وغيرهم.(5/24)
وقيل: بل قد يعلم حُسن الأقوال وقُبحها بالعقل. وقال أبو الخطاب محفوظ بن أحمد: وهذا قول أكثر الفقهاء والمتكلمين، وهذا هو المنقول عن أبي حنيفة نفسه، وعليه عامة أصحابه، وكثير من أصحاب مالك، والشافعي، وأحمد، وأهل الحديث كأبي الحسن التميمي، وأبي الخطاب، وأبي بكر القفال، وأبي نصر السجزي، وأبي القاسم سعد بن علي الزنجاني، وهو قول الكرامية وغيرهم من نظار المثبتة للقدر، وهو قول المعتزلة وغيرهم من نظار القدرية، ثم هؤلاء على قولين:
منهم من يقول: يستحقون عذاب الآخرة بمجرد مخالفتهم للعقل كقول: المعتزلة، والحنفية، وأبي الخطاب، وقول هؤلاء مخالف للكتاب والسنة.
ومنهم من يقول: لايعذبون حتى يبعث إليهم رسول كما دل عليه الكتاب والسنة. لكن أفعالهم تكون مذمومة ممقوتة يذمها الله ويبغضها ويوصفون بالكفر الذي يذمه الله ويبغضه، وإن كان لايعذبهم حتى يبعث إليهم رسولا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح كما تقدم: «إن الله نظر إلى أهل الأرض فَمَقَتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب، وإن ربي قال لي: قم في قريش فأنذرهم. قلت: إذا يثلغوا رأسي حتى يدعوه خبزة قال: إني مُبتلِيك ومُبتَلٍ بك ومنزل عليك كتاباً لايغسله الماء تقرأه نائماً ويقظان، فابعث جنداً أبعث مثليهم، وقاتل بمن أطاعك من عصاك، وأنفق أنفق عليك. وقال: إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين. وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي مالم أنزل به سلطاناً»(5/25)
وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: «كل مولود يولد على الفطرة». وفي رواية: «على هذه الملة، فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجّسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تُحسّون فيها من جَدْعاء». ثم يقول أبو هريرة رضي الله عنه «اقرأوا إن شئتم: فطرة الله التي فطر الناس عليها». قيل: يا رسول الله أرأيت من يموت وهو صغير. قال: «الله أعلم بما كانوا عاملين». ومع مقت الله لهم، فقد أخبر أنه لم يكن ليعذبهم حتى يبعث إليهم رسولا. وهذا يدل على إبطال قول من قال إنهم لم يكونوا مسيئين، ولا مرتكبين لقبيح حتى جاء السمع. وقول من قال: إنهم كانوا معذبين بدون السمع إما لقيام الحجة بالعقل كما يقوله من يقوله من القدرية وإما لمحض المشيئة، كما يقوله المجبرة.
قال تعالى: (وماكان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا يتلوا عليهم آياتنا، وماكنا مُلهكي القرى إلا وأهلها ظالمون) سورة القصص: 59.
وقال تعالى: (ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين) سورة القصص: 47.
وقال تعالى: (ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نَذِل ونخزى) سورة طه: 134.
فهذا يبين أنه لم يكن ليعذب الكفار حتى يبعث إليهم رسولا، وبين أنهم كانوا قبل الرسول قد اكتسبوا الأعمال التي توجب المقت والذم وهى سبب للعذاب لكن شرط العذاب قيام الحجة عليه بالرسالة.) (الجواب الصحيح لمن بدّل دين المسيح) لابن تيمية، 1/ 314 ــ 316.
يتبين من كلام شيخ الإسلام:
أن الراجح في المسألة الأولى (التحسين والتقبيح العقلي): أن العقل يُدرك الحُسْن والقبح.
وأن الراجح في المسألة الثانية (ترتيب العقاب على ذلك): أنه لاعقاب ولا مؤاخذة قبل ورود الشرع وذلك بالحجة الرسالية. فالعقل وإن أدرك الحُسْن والقبح إلا أنه لايوجب ولايُحرّم، وهى الأحكام التي يترتب عليها الثواب والعقاب.(5/26)
وتكلم ابن القيم في هاتين المسألتين: مُنكراً على من أنكر التحسين والتقبيح العقلي، ومنكراً على من رتب العقاب على حكم العقل، أي منكراً على المخطيء في المسألتين، فقال رحمه الله (ولما ذهب المعتزلة ومن وافقهم إلى تلازم الأصلين استطلتم عليهم. وتمكنتم من إبداء تناقضهم وفضائحهم. ولما نفيتم أنتم الأصلين جميعاً استطالوا عليكم. وأبدوا من فضائحكم وخلافكم لصريح العقل والفطرة ماأبدوه. وهم غلطوا في تلازم الأصلين. وأنتم غلطتم في نفي الأصلين.
والحق الذي لايجد التناقض إليه السبيل: أنه لاتلازم بينهما، وأن الأفعال في نفسها حسنة وقبيحة، كما أنها نافعة وضارة. والفرق بينهما كالفرق بين المطعومات والمشمومات والمرئيات. ولكن لايترتب عليها ثواب ولا عقاب إلا بالأمر والنهي. وقبل ورود الأمر والنهي لايكون قبيحاً موجباً للعقاب مع قبحه في نفسه. بل هو في غاية القبح. والله لايعاقب عليه إلا بعد إرسال الرسل. فالسجود للشيطان والأوثان، والكذب والزنا، والظلم والفواحش. كلها قبيحة في ذاتها. والعقاب عليها مشروط بالشرع.
فالنفاة يقولون: ليست في ذاتها قبيحة. وقبحها والعقاب عليها إنما ينشأ بالشرع.
والمعتزلة تقول: قبحها والعقاب عليها ثابتان بالعقل.
وكثير من الفقهاء من الطوائف الأربع يقولون: قبحها ثابت بالعقل. والعقاب متوقف على ورود الشرع. وهو الذي ذكره سعد بن علي الزنجاني من الشافعية، وأبو الخطاب من الحنابلة. وذكره الحنفية وحكوه عن أبي حنيفة نصا. لكن المعتزلة منهم يصرحون بأن العقاب ثابت بالعقل.
وقد دل القرآن أن لاتلازم بين الأمرين. وأنه لايعاقب إلا بإرسال الرسل. وأن الفعل نفسه حسن وقبيح.) (مدارج السالكين) 1/ 254 ــ 255،ط 1، دار الكتب العلمية.(5/27)
وفصّل ابن القيم القول في موضع آخر، فتكلم فيما يجب به التوحيد، فقال رحمه الله (فاختلف فيها الناس. فقالت طائفة: يجب بالعقل. ويعاقب على تركه. والسمع مقرر لما وجب بالعقل مؤكد له. فجعلوا وجوبه والعقاب على تركه ثابتين بالعقل. والسمع مبين ومقرر للوجوب والعقاب. وهذا قول المعتزلةَ ومن وافقهم من أتباع الأئمة في مسألة التحسين والتقبيح العقليين.
وقالت طائفة: لايثبت بالعقل. لا هذا ولا هذا. بل لايجب بالعقل فيها شيء. وإنما الوجوب بالشرع. ولذلك لايستحق العقاب على تركه. وهذا قول الأشعرية ومن وافقهم على نفي التحسين والتقبيح. والقولان لأصحاب أحمد والشافعي وأبي حنيفة.(5/28)
والحق: أن وجوبه ثابت بالعقل والسمع، والقرآن على هذا يدل، فإنه يذكر الأدلة والبراهين العقلية على التوحيد، ويبين حسنه وقبح الشرك عقلا وفطرة، ويأمر بالتوحيد وينهى عن الشرك، ولهذا ضرب الله سبحانه الأمثال وهى الأدلة العقلية. وخاطب العباد بذلك خطاب من استقر في عقولهم وفِطَرِهم حسن التوحيد ووجوبه وقبح الشرك وذمه. والقرآن مملوء بالبراهين العقلية الدالة على ذلك. كقوله: (ضرب الله مثلا: رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلماً لرجل، هل يستويان مثلا؟ الحمد لله بل أكثرهم لايعلمون) الزمر 29، وقوله: (وضرب الله مثلا: عبداً مملوكاً لايقدر على شيء، ومن رزقناه منا رزقاً حسناً فهو ينفق منه سراً وجهراً، هل يستوون؟ الحمد لله. بل أكثرهم لايعلمون * وضرب الله مثلا رجلين: أحدهما أبكم لايقدر على شيء. وهو كلُّ ُ على مولاه. أينما يوجهه لايأت بخير، هل يستوي هو من يأمر بالعدل، وهو على صراط مستقيم؟) النحل 75 ــ 76، وقوله: (ياأيها الناس، ضُرب مثلُ ُ فاستمعوا له: إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له، وإن يسلبهم الذباب شيئاً لايستنقذوه منه. ضعف الطالب والمطلوب. ما قدروا الله حق قدره إن الله لقوي عزيز) الحج 73 ــ 74، إلى أضعاف ذلك من براهين التوحيد العقلية التي أرشد إليها القرآن ونبه عليها.(5/29)
ولكن ههنا أمر آخر. وهو أن العقاب على ترك هذا الواجب يتأخر إلى حين ورود الشرع. كما دل عليه قوله تعالى: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) الإسراء 15، وقوله: (كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها: ألم يأتكم نذير؟ * قالوا: بلى ! قد جاءنا نذيرُ ُ فكذبنا) الملك 8 ــ 9، وقوله: (وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا يتلو عليهم آياتنا، وماكنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون) القصص 59، وقوله: (ذلك أن لم يكن ربك مُهلك القرى بظلم وأهلها غافلون) الأنعام 131، فهذا يدل على أنهم ظالمون قبل إرسال الرسل. وأنه لا يهلكهم بهذا الظلم قبل إقامة الحجة عليهم. فالآية رد على الطائفتين معاً، من يقول: إنه لايثبت الظلم والقبح إلا بالسمع، ومن يقول: إنهم معذبون على ظلمهم بدون السمع. فالقرآن يبطل قول هؤلاء وقول هؤلاء. كما قال تعالى:(ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم، فيقولوا: ربنا لولا أرسلت إلينا رسولاً؟ فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين؟) القصص 47، فأخبر: أن ما قدمت أيديهم قبل إرسال الرسل سبب لإصابتهم بالمصيبة. ولكن لم يفعل سبحانه ذلك قبل إرسال الرسول الذي يقيم به حجته عليهم، كما قال تعالى: (رسلا مبشرين ومنذرين. لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل) النساء 165، وقال تعالى: (وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون * أن تقولوا: إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا، وإن كنا عن دراستهم لغافلين * أو تقولوا: لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم. فقد جاءكم بينةُ ُ من ربكم وهدى ورحمة) الأنعام 157، وقوله: (أن تقول نفس: ياحسرتي على مافرطت في جنب الله. وإن كنت لمن الساخرين * إلى قوله ــ بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين) الزمر 56 ــ 59، وهذا في القرآن كثير يخبر أن الحجة إنما قامت عليهم بكتابه ورسوله، كما نبههم بما في عقولهم وفطرهم: من حسن التوحيد والشكر، وقبح الشرك والكفر.(5/30)
وقد ذكرنا هذه المسألة مستوفاة في كتاب «مفتاح دار السعادة» وذكرنا هناك نحواً من ستين وجهاً. تبطل قول من نفي القبح العقلي، وزعم أنه ليس في الأفعال مايقتضي حسنها ولاقبحها. وأنه يجوز أن يأمر الله بعين مانهي عنه. وينهي عن عين ماأمر به. وأن ذلك جائز عليه. وإنما الفرق بين المأمور والمنهي بمجرد الأمر والنهي، لا بحُسْن هذا وقبح هذا. وأنه لو نهي عن التوحيد والإيمان والشكر لكان قبيحاً. ولو أمر بالشرك والكفر والظلم والفواحش لكان حسناً. وبينا أن هذا القول مخالف للعقول والفطر، والقرآن والسنة. ــ إلى أن قال ــ
واعلم أنه إن لم يكن حسن التوحيد وقبح الشرك معلوماً بعقل، مستقراً في الفطر، فلا وثوق بشيء من قضايا العقل. فإن هذه القضية من أجل القضايا البديهيات، وأوضح ما ركب الله في العقول والفطر. ولهذا يقول سبحانه عقيب تقرير ذلك (أفلا تعقلون؟ أفلا تذكرون) وينفي العقل عن أهل الشرك، ويخبر عنهم بأنهم يعترفون في النار: أنهم لم يكونوا يسمعون ولا يعقلون. وأنهم خرجوا عن موجب السمع والعقل، وأخبر عنهم: أنهم (صم بكم عمي فهم لا يعقلون) البقرة 171، وأخبر عنهم أن سمعهم وأبصارهم وأفئدتهم لم تغن عنهم شيئاً. وهذا إنما يكون في حق من خرج عن موجب العقل الصريح والفطرة الصحيحة. ولو لم يكن صريح العقل مايدل على ذلك لم يكن في قوله تعالى «انظروا» و «اعتبروا» و «سيروا في الأرض، فانظروا» فائدة. فإنهم يقولون: عقولنا لا تدل على ذلك. وإنما هو مجرد إخبارك. فما هذا النظر والتفكير والاعتبار والسير في الأرض؟ وماهذه الأمثال المضروبة، والأقيسة العقلية والشواهد العيانية؟ أفليس في ذلك أظهر دليل على حسن التوحيد والشكر؟. وقبح الشرك والكفر مستقر في العقول والفطر. معلوم لمن كان له قلب حي، وعقل سليم، وفطرة صحيحة؟) (مدارج السالكين) جـ 3 صـ 509 ــ 513، ط 1، دار الكتب العلمية.(5/31)
وكما قال ابن القيم فقد أثبت التحسين والتقبيح العقليين من أكثر من ستين وجهاً في كتابه (مفتاح دار السعادة) جـ 2 صـ 2 ــ 113، ط دار الفكر، لمن شاء الاستزادة.
واعلم أن المعتزلة يقسمون الدين إلى أصوال وفروع:
1 ــ أما الأصول فهى التوحيد ويقولون إن هذا واجب بالعقل بناء على حُسن التوحيد وقبح الشرك، ومن لم تبلغه دعوة نبي ومات كافراً فهو معذب، وهذا خلاف النص (وماكنا معذبين حتى نبعث رسولا)، وعلى وقولهم هذا فإنه لاعذر بالجهل فيما يناقض التوحيد، وهو قول باطل من هذا الوجه أي من جهة أن العقل حجة.
2 ــ وأما الفروع: فهى الأحكام الشرعية التفصيلية، وقولهم فيها كقول سائر العلماء أن الحجة فيها بالرسل.
انظر (شرح المحلى على جمع الجوامع للسبكي) 1/ 54 ــ 63، و (مقالات الإسلاميين) لأبي الحسن الأشعري، 1/ 296.
كما بين ابن تيمية رحمه الله أن تقسيم الدين إلى أصول وفروع بهذه الصفة هو تقسيم مبتدع لا أصل له فيما نقل عن السلف، انظر (مجموع الفتاوى) جـ 12/ 492، و جـ 23/ 346. ومع ذلك فقد قال ابن تيمية إن الدين ينقسم إلى أصول وفروع ولكن بصفة أخرى، فقال رحمه الله (بل الحق أن الجليل من كل واحد من الصنفين «مسائل أصول» والدقيق «مسائل فروع») (مجموع الفتاوى) 6/ 56، ويعني بالصنفين المسائل الخبرية الاعتقادية، ومسائل الأحكام العملية، كما ورد في سياق كلامه رحمه الله.(5/32)
وفي الانكار على المعتزلة نقل ابن حجر عن أبي المظفر بن السمعاني قوله (إن العقل لايوجب شيئا ولا يحرم شيئا ولا حَظَّ له في شيء من ذلك، ولم لم يرد الشرع بحكمٍ ما وجب على أحدٍ شيء، لقوله تعالى (وماكنا معذبين حتى نبعث رسولا) وقوله (لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل)، وغير ذلك من الآيات، فمن زعم أن دعوة رسل الله عليهم الصلاة والسلام إنما كانت لبيان الفروع لزمه أن يجعل العقل هو الداعي إلى الله دون الرسول، ويلزمه أن وجود الرسول وعدمه بالنسبة إلى الدعاء إلى الله سواء، وكفى بهذا ضلالاً، ونحن لاننكر أن العقل يُرشد إلى التوحيد وإنما ننكر أن يستقل بإيجاب ذلك) (فتح الباري) 13/ 353. وكلام أبي المظفر بن السمعاني موجود بتمامه في كتاب (الحجة في بيان المحجة وشرح عقيدة أهل السنة) لإسماعيل التيمي الأصبهاني، جـ 1 صـ 314 ــ 322، ط دار الراية 1411 هـ، لمن شاء مراجعته.
وانظر أيضا (الإحكام في أصول الأحكام) لابن حزم، الباب السادس، 1/ 52 ــ 60.
والخلاصة: أنه لا تكليف على العباد يترتب عليه ثواب وعقاب بحكم العقل، وإنما يترتب التكليف والثواب والعقاب بالحجة الرسالية.
ومن الأدلة على بطلان وجوب التوحيد بالعقل:
1 ــ قوله تعالى (ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت) النحل 36. فلو كان العقل موجبا لهذا التوحيد، لكان بعث الرسل به نوعا من العبث، وهذا يمتنع على الله تعالى، فدلّ على بطلان المقدمة الأولى وأن العقل غير موجب للتوحيد. ولو كان العقل موجباً للتوحيد، لجاء الرسل بالأحكام الفرعية العملية دون التوحيد، ولكنهم جاءوا أول ماجاءوا بالتوحيد.
2 ــ ولما بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل إلى اليمن، قال (ليكن أول ماتدعوهم إلى أن يوحدوا الله) الحديث متفق عليه. فدلّ هذا الدليل والذي قبله على أن التوحيد ومعرفة الله إنما تجب بالرسل (بالسمع) لا بالعقل.(5/33)
3 ــ وقوله تعالى (وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ماكنت تدري ماالكتاب ولا الإيمان، ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا) الشورى 52، فدلت الآية على أن النبي صلى الله عليه وسلم ماكان يدري ما الإيمان قبل الوحي، فلو كان هناك أحدُ ُ يمكنه أن يهتدي بعقله لذلك لكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ــ وهو سيد ولد آدم ــ أحق بذلك. ومن هذا الباب أيضا قوله تعالى (ووجدك ضالا فهدى) الضحى 7، وقوله تعالى (نحن نقص عليك أحس القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين) يوسف 3. انظر (مجموع فتاوى ابن تيمية) 2/ 2 ــ 3، وانظر (الشفا) للقاضي عياض جـ 2 صـ 793 ومابعدها، ط الحلبي.
4 ــ وقوله تعالى (وللذين كفروا بربهم عذاب جهنم ــ إلى قوله ــ كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير، قالوا: بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا مانزّل الله من شيء، إن أنتم إلا في ضلال كبير، وقالوا: لو كنا نسمع أو نعقل ماكنا في أصحاب السعير) المُلك 6 ــ 10. وهذا نص في محل النزاع إذ احتج خزنة جهنم على الكفار بالرسل (ألم يأتكم نذير) ولم يقولوا لهم (ألم تكن لكم عقول)، فدل على أن الحجة تقوم والعذر ينقطع بالرسل لا بالعقل. كما دل النص أيضا على أن عمل العقل هو تدبر الحجة الرسالية (وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل). وهذا صريح في أن العقل لايستقل بشيء هنا وإنما هو تابع للحجة الرسالية.
المسألة الرابعة: الرد على من قال إن التكليف بالميثاق والفطرة(5/34)
والمراد بالميثاق، ماورد في قوله تعالى (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم، قالوا: بلى شهدنا، أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين، أو تقولوا إنما أشرك أباؤنا من قبل، وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون، وكذلك نفصل الآيات ولعلهم يرجعون) الأعراف 172 ــ 174. وهذه الآيات مما يحتج به من لايعذر بالجهل في التوحيد، لأن بني آدم أقروا بالربوبية لله تعالى (قالوا بلى شهدنا) وجعل الله هذا الإقرار حجة عليهم في عدم الإشراك به (أن تقولوا إنما أشرك آباؤنا). وفي معنى هذه الآىة ماورد في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (يُقال للرجل من أهل النار يوم القيامة: أرأيت لو كان لك ماعلى الأرض من شيء أكنت مفتدياً به، قال: فيقول نعم، فيقول: قد أردت منك أهون من ذلك، قد أخذت عليك في ظهر آدم أن لاتشرك بي شيئا فأبيت إلا أن تشرك بي) أهـ، هذا الميثاق. فاحتج قوم بهذه الآىات وهذا الحديث على أن هذا الميثاق والاشهاد حجة في وجوب التوحيد وأنه لا يعذر أحد بجهله في نقض التوحيد بالشرك ولو لم تبلغه دعوة رسول (الحجة الرسالية).(5/35)
وأما الفطرة: فهى الواردة في قوله تعالى (فأقِم وجهك للدين حنيفاً، فطرة الله التي فطر الناس عليها، لاتبديل لخلق الله، ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لايعلمون) الروم 30. وورد في تفسير هذه الآية حديث الفطرة الدال على أن كل مولود يولد على ملة الإسلام وهى الحنيفية، قال ابن القيم رحمه الله (وهذا الحديث ــ وهو حديث الفطرة ــ ألفاظه يفسر بعضها بعضاً، ففي «الصحيحين» ــ واللفظ للبخاري ــ عن ابن شهاب عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من مولود يولد إلا على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء؟» ثم يقول أبو هريرة: اقرؤوا «فطرة الله التي فطر الناس عليها، لاتبديل لخلق الله ذلك الدين القيم» قالوا: يارسول الله أفرأيت من يموت صغيراً؟ قال: «الله أعلم بما كانوا عاملين». وفي الصحيح ــ صحيح البخاري ــ قال الزهري: يصلي على كل مولود يتوفى وإن كان لغية من أجل أنه ولد على فطرة الإسلام إذا استهل خارجاً، ولا يصلي على من لم يستهل من أجل أنه سقط، وأن أبا هريرة كان يحدث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من مولود إلا ويولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء؟» ثم يقول أبو هريرة: «فطرة الله التي فطر الناس عليها» وفي «الصحيح» ــ صحيح مسلم ــ من رواية الأعمش «ما من مولود إلا وهو على الملة» وفي رواية أبي معاوية عنه «إلا على هذه الملة، حتى يبين عنه لسانه»: فهذا صريح في أنه يولد على ملة الإسلام كما فسره ابن شهاب راوي الحديث، واستشهاد أبي هريرة بالآية يدل على ذلك.(5/36)
قال ابن عبدالبر: وسئل ابن شهاب عن رجل عليه رقبة مؤمنة: أيجزيء عنه الصبي أن يعتقه وهو رضيع؟ قال: نعم، لأنه ولد على الفطرة، قال ابن عبدالبر، وقد ذكر أقوال الناس في هذا الحديث: وقال آخرون: الفطرة ههنا هى الإسلام. قالوا: وهو المعروف عند عامة السلف. وأهل التأويل قد أجمعوا في تأويل قوله عزوجل: «فطرة الله التي فطر الناس عليها» على أن قالوا: فطرة الله دين الإسلام، واحتجوا بقول أبي هريرة في هذا الحديث) أهـ (أحكام أهل الذمة) لابن القيم، جـ 2/ 534 ــ 535، ط دار العلم للملايين 1983 م.
وقال ابن القيم أيضا (ويدل على صحة مافسر به الأئمة الفطرة أنها «الدين» ما رواه مسلم في صحيحه من حديث عياض بن حمار المجاشعي عن النبي صلى الله عليه وسلم، فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى: (إني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ماأحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي مالم أنزل به سلطاناً) وهذا صريح في أنهم خلقوا على الحنيفية، وأن الشياطين اقتطعتهم بعد ذلك عنها، وأخرجوهم منها، قال تعالى: «والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت: يخرجونهم من النور إلى الظلمات»، وهذا يتناول إخراج الشياطين لهم من نور الفطرة إلى ظلمة الكفر والشرك، ومن النور الذي جاءت به الرسل من الهدى والعلم إلى ظلمات الجهل والضلال.) (المرجع السابق) 2/ 531 ــ 532.
فذهب قوم إلى أنه مادام الخلق قد ولدوا جميعا على ملة الإسلام فهى حجة عليهم، ولا عذر لأحد في الشرك مع ذلك، وإن لم تبلغه دعوة رسول (الحجة الرسالية)، فلا يعذر بجهله في الشرك.(5/37)
واعلم أن جمهور العلماء على أن الميثاق المذكور في آية الأعراف والفطرة شيء واحد، قال ابن القيم (وقد قال هذا غير واحد من أهل العلم قبله وبعده. وأحسن مافسرت به الآىة قوله صلى الله عليه وسلم «كل مولود يولد على الفطرة: فأبواه يهودانه وينصرانه» فالميثاق الذي أخذه سبحانه عليهم، والإشهاد الذي أشهدهم على أنفسهم، والإقرار الذي أقروا به هو الفطرة التي فطروا عليها.) (أحكام أهل الذمة) 2/ 527. وانظر (مجموع فتاوى ابن تيمية) 14/ 296. و (شرح العقيدة الطحاوية) صـ 268، ط المكتب الإسلامي 1403هـ. و (تفسير ابن كثير) 2/ 261 ــ 264.
واعلم أن القول بأن الميثاق والفطرة حجة مستقلة على الخلق بالتوحيد غير صحيح، والدليل على ذلك:
1 ــ قوله تعالى (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لاتعلمون شيئا، وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون) النحل 78، ونقل ابن القيم عن محمد بن نصر المروزي 294 هـ انكاره على من زعم أن الميثاق حجة محتجاً بآية النحل هذه، فقال محمد بن نصر (زعم أن الفطرة التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن كل مولود يولد عليها: هى خلقه في كل مولود معرفة بربه وزعم أنه على معنى قوله تعالى: (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم) الآية. قال محمد بن نصر: قال الله تعالى: (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لاتعلمون شيئا) فزعم هذا أنهم يعرفون أعظم الأشياء: وهو الله تعالى، فمن أعظم جرماً وأشد مخالفة للكتاب ممن سمع الله عزوجل يقول: (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لاتعلمون شيئا) فزعم أنهم يعلمون أعظم الأشياء؟ وهذا هو المعاند لرب العالمين والجاهل بالكتاب.) (أحكام أهل الذمة) 2/ 525 ــ 526.(5/38)
2 ــ وقوله تعالى (وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ماكنت تدري ماالكتاب ولا الإيمان) الشورى 52، فدلت الآىة على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعلم شيئا عن الإىمان إلا بالوحي (وهو الحجة الرسالية) لا بالميثاق والفطرة، وهذا نص في محل النزاع.
3 ــ وقوله تعالى (رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل) النساء 165، فدلت الآىة على أن الحجة تقوم والعذر ينقطع بالرسل، وهو مايحتج به خزنة جهنم على العصاة كما قال تعالى (كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير، قالوا بلى قد جاءنا نذير) الملك 8 ــ 9، ونحوها من الآىات. وقال الشنقيطي رحمه الله (والآيات القرآنية مصرحة بكثرة، بأن الله تعالى لايعذب أحداً حتى يقيم عليه الحجة بإنذار الرسل، وهو دليل على عدم الاكتفاء بما نصب من الأدلة، وماركز من الفطرة، فمن ذلك قوله تعالى: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) فإنه قال فيها: حتى نبعث رسولا، ولم يقل حتى نخلق عقولا، وننصب أدلة، ونركز فطرة.) من تفسيره (أضواء البيان) جـ 2 صـ 336.(5/39)
فإن قيل فما التوفيق بين الاحتجاج بالرسل هنا وبين الاحتجاج بالميثاق في الحديث الذي سبق ذكره (قد أخذت عليك في ظهر آدم أن لاتشرك بي شيئاً فأبيت إلا أن تشرك) الحديث متفق عليه. فالجواب: أنه لابد من تقدير دلالة اقتضاء في هذا الحديث متضمنة لإقامة الحجة بالرسل وهو مادلت عليه النصوص المستفيضة فيكون معنى الحديث (قد أخذت عليك في ظهر آدم أن لاتشرك بي شيئاً وأقمت عليك الحجة بالرسل فأبيت إلا أن تشرك). هذا مقتضي الجمع بين النصوص، ومقتضى رد المتشابه إلى المحكم. وبمثل هذا أجاب الشيخ عبدالعزيز بن باز عن هذا الحديث فذكره ثم قال («فأبيت إلا الشرك» يعني أردت منك شرعاً أن لاتشرك بي، وذلك بما جاء على ألسنة الرسل من الأمر بعبادته وحده والنهي عن الإشراك به، لكن أبى أكثر الخلق إلا الشرك بالله عزوجل) من (فتاوى ومقالات ابن باز) جمع محمد بن سعد الشويعر، جـ 3 صـ 35، ط 1410هـ.
واعلم أنه لا بد للمشتغل بالعلوم الشرعية من معرفة القواعد الكلية الضابطة للنصوص، وتسمى القواعد الكلية التي تنتظم موضوعاً معيناً في جميع الفقه بالقواعد الفقهية، وتسمى القواعد الكلية التي تنتظم باباً من أبواب الفقه بالضابط الفقهي، وستأتي الإشارة إلى ذلك في مبحث الفقه بالباب السابع إن شاء الله، وإهمال هذه القواعد والضوابط يؤدي إلى الشذوذ، فمثلا جميع الأحاديث الواردة بالوعيد في حق عصاة الموحدين مقيدة بضابط المشيئة الوارد في قوله تعالى (إن الله لايغفر أن يشرك به ويغفر مادون ذلك لمن يشاء) النساء 48، وفي معناها حديث عبادة بن الصامت في بيعة النساء المتفق عليه، فمن أهمل ضابط المشيئة لابد أن يقول بقول الخوارج والمعتزلة. وكذلك في موضوعنا هنا الضابط هو أنه لايدخل النار أحد إلا من قامت عليه الحجة الرسالية كما في آية الأنعام 130، والزمر 71، وفاطر 37، والملك 6 ــ 10 ويجب فهم سائر النصوص في هذا الموضوع مقيدة بهذا الضابط.(5/40)
4 ــ فإن قيل فما فائدة الميثاق والفطرة، وهل ليس فيه أي حجة؟ والجواب: أنه حجة ولكن ناقصة، والنقص فيه من وجهتين:
( أ ) الأولى: أنه بحاجة إلى التذكير، إذ لايذكر أحد هذا الميثاق في الدنيا ويدل عليه قوله تعالى (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لاتعلمون شيئا) النحل 78. فجاء الرسل بالتذكير بهذا الميثاق كما قال تعالى (فذكِّر إنما أنت مذكر) الغاشية 21، وقال تعالى (لعلهم يتذكرون) البقرة 221، وقال تعالى (قليلا ماتذكرون) الأعراف 3، وقال تعالى (وليتذكر أولوا الألباب) صلى الله عليه وسلم 29، وقال تعالى (واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به) المائدة 7، وقال تعالى (ولقد يسّرنا القرآن للذكر، فهل من مدّكر) القمر 17. فالرسل جاءوا بالتذكير بالميثاق.
(ب) الثانية: أنه بحاجة إلى التفصيل، أي إلى العلم المفصل بما يجب لله تعالى من حقوق على العباد، وبهذا جاءت الرسل.
فالحجة الرسالية جاءت مكملة للميثاق والفطرة اللذين لاتقوم بهما وحدهما حجة.
وفي بيان هذا قال ابن تيمية رحمه الله ــ بعدما ذكر حديث الفطرة ــ (فالصواب أنها فطرة الله التي فطر الناس عليها، وهى فطرة الإسلام، وهى الفطرة التي فطرهم عليها يوم قال «ألست بربكم؟ قالوا: بلى»، وهى السلامة من الاعتقادات الباطلة والقبول للعقائد الصحيحة ــ إلى أن قال ــ ولا يلزم من كونهم مولودين على الفطرة أن يكونوا حين الولادة معتقدين للإسلام بالفعل، فإن الله أخرجنا من بطون أمهاتنا لانعلم شيئا، ولكن سلامة القلب وقبوله وإرادته للحق الذي هو الإسلام، بحيث لو تُرِكَ من غير مُغَيّر لما كان إلا مسلماً) (مجموع الفتاوى) 4/ 245 ــ 247. ولابن القيم مثله في (أحكام أهل الذمة) جـ 2 صـ 568 و 609.(5/41)
وقال ابن القيم أيضا (ثم إن الله سبحانه ــ لكمال رحمته وإحسانه ــ لايعذب أحداً إلا بعد إرسال الرسول إليه، وإن كان فاعلا لما يستحق به الذم والعقاب: فلله على عبده حجتان قد أعدهما عليه لا يعذبه إلا بعد قيامهما:
إحداهما ما فطره عليه وخلقه عليه من الإقرار بأنه ربه ومليكه وفاطره، وحقه عليه لازم، والثانية إرسال رسله إليه بتفصيل ذلك وتقريره وتكميله فيقوم عليه شاهد الفطرة والشرعة، ويقر على نفسه بأنه كان كافراً كما قال تعالى: «وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين» فلم ينفذ عليهم الحكم إلا بعد إقرار وشاهدين وهذا غاية العدل.) (أحكام أهل الذمة) جـ 2 صـ 564 ــ 565.
وقال ابن تيمية أيضا (ولهذا كانت الرسل إنما تأتي بتذكير الفطرة ماهو معلوم لها، وتقويته وإمداده ونفي المغير للفطرة، فالرسل بُعثوا بتقرير الفطرة وتكميلها، لا بتغيير الفطرة وتحويلها، والكمال يحصل بالفطرة المكَمَّلة بالشِرعة المنزّلة) (مجموع الفتاوى) 16/ 348.
وقال ابن القيم (ثم أرسل إليهم رسله يذكرونهم بما في فطرهم وعقولهم ويعرفونهم حقه عليهم، وأمره ونهيه ووعده ووعيده) (الروح) لابن القيم، صـ 224، ط المدني. وانظر أيضا (مفتاح دار السعادة) لابن القيم، 2/ 82، ط دار الفكر. و (تفسير القرطبي) 7/ 317. و (إحياء علوم الدين) للغزالي، 1/ 103.
وهذا كله يدل على أنه لاتكليف للعباد بالميثاق والفطرة، وأنهما لايقومان بذاتهما كحجة مستقلة على الخلق. وأن الحجة عليهم إنما تقوم بالرسل، وهى ماتعرف بالحجة الرسالية.
(تنبيه) خطأ الاحتجاج بالميثاق على عدم العذر بالجهل في نقض التوحيد
اطلعت على كتابات لبعض المعاصرين ممن تبنوا القول بعدم العذر بالجهل في نقض التوحيد بالشرك. واحتجوا في ذلك: بآية الميثاق، وبحديث أنس الوارد في معناها (فأبيت إلا أن تشرك بي)، وبحديث الفطرة. وقد قدمت فيما مضى بيان أنه لاحجة لهم في الاستدلال بهذه النصوص على ذلك.(5/42)
ثم عمدوا بعد ذلك إلى نوعين من الأدلة:
نوع حمّلوه مالا يدل عليه ليؤيد وجهة نظرهم، ونوع يخالف وجهة نظرهم صراحة فعمدوا إلى تأويله أو تحريفه لصرفه عن ظاهره. فأخطأوا في هذا كله.
أما النوع الأول من الأدلة التي حملوها على قولهم.
وأن الناس محجوجون بالميثاق ولو لم تبلغهم الحجة الرسالية. فأهمها النصوص الواردة في أن مشركي العرب كفار معذبون في النار قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، وهى نصوص كثيرة ليس لها مَدفع، ومنها:
1 ــ قول الله تعالى (وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها) آل عمران 103.
2 ــ وما رواه مسلم عن أنس: أن رجلا قال يارسول الله أين أبي؟ قال: في النار، فلما قضي الرجل دعاه فقال صلى الله عليه وسلم (إن أبي وأباك في النار) أهـ.
3 ــ ومارواه مسلم عن عائشة أنها قالت: يارسول الله ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحِم ويطعم المسكين، هل ذلك نافعه؟ قال صلى الله عليه وسلم (لاينفعه، إنه لم يقل يوماً رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين) أهـ.
4 ــ ومنها حديث لقيط بن عامر الطويل، وفيه قال (فقلت: يارسول الله، هل لأحد مما مضى من خير في جاهليتهم. قال فقال رجل من عرض قريش: والله إن أباك المنتفق لفي النار، فلكأنه وقع حر بين جلدي ووجهي مما قال لأبي على رءوس الناس، فهممت أن أقول: وأبوك يارسول الله؟ فإذا الأخرى أجمل، فقلت وأهلك يارسول الله؟ قال: وأهلي لعمر الله ماأتيت عليه من قبر عامري أو قرشي من مشرك فقل أرسلني إليك محمد يبشرك بما يسوءك تجر على وجهك وبطنك في النار.) الحديث رواه عبدالله بن أحمد بن حنبل في (السنة)، وابن أبي عاصم والطبراني وابن منده وغيرهم، وقال ابن القيم (هذا حديث كبير مشهور، جلالة النبوة بادية على صفحاته تنادي عليه بالصدق، وصححه بعض الحفاظ، حكاه شيخ الإسلام الأنصاري) أهـ من (مختصر الصواعق المرسلة) لابن القيم، اختصار محمد بن الموصلي، صـ 379 ــ 380، ط دار الكتب العلمية 1405هـ.(5/43)
فهذه نصوص صريحة في أن بعض مشركي العرب في النار، وهناك نصوص أخرى تدل على كفرهم ولكن ليس فيها وعيد بالنار، ولاتلازم بينهما، فقد يُسمى الرجل كافراً ولايعذب حتى تقوم عليه الحجة الرسالية كما ذكرته في آخر الفصل الأول، فمن النصوص الدالة على أنهم كانوا كفاراً قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم قوله تعالى (لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة، رسول من الله يتلوا صحفا مطهرة) البينة 1 ــ 2، وقوله تعالى (وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا) البقرة 89، أي كان اليهود يستفتحون على الذين كفروا وهم العرب بنبِيّ يأتي من اليهود. ومن الأدلة على ذلك حديث أبي طالب في وفاته وأن آخر ماقال (إنه على ملة عبدالمطلب) الحديث متفق عليه، فدل على أن عبدالمطلب مات على الشرك، وذلك قبل البعثة، ومثله حديث نهي الله تعالى النبي صلى الله عليه وسلم أن يستغفر لأمه، رواه مسلم عن أبي هريرة في الجنائز، يدل على أنها ماتت مشركة.
والذي يعنينا هنا النصوص الدالة على أن بعض العرب قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم كفار معذبون في النار.(5/44)
فطعن قوم في هذه النصوص بأنها أحاديث آحاد ووقائع أعيان لاتعارض النصوص القطعية في أنه لا يعذب أحد حتى تبلغه الحجة الرسالية، وهؤلاء لم تبلغهم. وممن ذهب إلى هذا السيوطي رحمه الله، ورتب على هذا القول بنجاة أبوي النبي صلى الله عليه وسلم من النار، ثم غلا فقال إن الله بعثهما من موتهما فآمنا بالنبي صلى الله عليه وسلم، وصحح حديثا في ذلك عن طريق الكشف والمنام، وهذا مما عابه عليه العلماء. انظر (الحاوي للفتاوى) للسيوطي، جـ 2 صـ 353 ــ 395، ط المكتبة العصرية 1411 هـ. وتبع السيوطي على ذلك البيجوري في كتابه (تحفة المريد شرح جوهرة التوحيد) صـ 29 ــ 30. وأحب أن أنبه هنا على أن هناك بعض المقدمات والقواعد الفاسدة التي لم تكن معروفة في السلف أدخلها المتكلمون الفقهاء من بعدهم لتأييد أقوالهم وللاحتجاج بها على الخصوم، ومن هذه القواعد: تقسيم الدين إلى أصول وفروع، وتقسيم الكلام إلى حقيقة ومجاز، والقول بأن خبر الآحاد ظني الدلالة لاتثبت به العقائد، والقول بأن وقائع الأعيان لاعموم لها. وستأتي إشارة إلى ذلك في مبحث دراسة أصول الفقه بالباب السابع إن شاء الله.(5/45)
أما من احتج بهذه النصوص فقالوا هؤلاء معذبون قبل بلوغ الحجة الرسالية فدلّ على أنهم محجوجون بالميثاق والإشهاد. وهذا خطأ فقد دلت النصوص المستفيضة على أنه لايعذب بالنار إلا من بلغته دعوة رسول كقوله تعالى (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) الإسراء 15، ومن حمل العذاب في هذه الآية على العذاب الدنيوي بالهلاك ونحوه، يُشكل عليه قوله تعالى (وللذين كفروا بربهم عذاب جهنم ــ إلى قوله ــ كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير، قالوا: بلى) الملك 6 ــ 9، ومثلها آية الأنعام 130، وآية فاطر 37، وآية الزمر 71. فلا يدخل النار إلا من بلغته دعوة رسول، ولكن لايلزم أن يكون الرسول هو محمد صلى الله عليه وسلم، فالقول بأن مشركي العرب لم تبلغهم الحجة الرسالية لكونهم ماتوا قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم هو قول غير صحيح، فقد قامت عليهم الحجة الرسالية بدين إبراهيم عليه السلام، وإن دخله التحريف إلا أنه كان فيهم من يعرف التوحيد ويحتج عليهم به ومنهم زيد بن عمرو بن نفيل الذي كان يقول لكفار قريش (يامعشر قريش، والله مامنكم على دين إبراهيم غيري) الحديث رواه البخاري (3828). وروي البخاري عن سالم بن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما «أنّ النبي صلى الله عليه وسلم لقي زيد بن عمرو بن نفيل بأسفل بلدح قبل أن ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم الوحي، فقدمت إلى النبي صلى الله عليه وسلم سفرة، فأبى أن يأكل منها. ثم قال زيد: إني لست آكل مما تذبحون على أنصابكم، ولا آكل إلا ماذُكر اسم الله عليه. وأن زيد بن عمرو كان يعيب على قريش ذبائحهم ويقول: الشاة خلقها الله، وأنزل لها من السماء الماء، وأنبت لها من الأرض، ثم تذبحونها على غير اسم الله، إنكاراً لذلك وإعظاماً له» (حديث 3826). وزيد هذا رأي النبي صلى الله عليه وسلم كما في هذا الحديث ولكنه مات قبل البعثة. وعمل بما أمكنه معرفته من دين إبراهيم الحق، وكان كفار قريش يؤذونه على ذلك(5/46)
كما ذكره ابن كثير في (البداية والنهاية) 2/ 238. وذكر حديث جابر قال: سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن زيد بن عمرو بن نفيل أنه كان يستقبل القبلة في الجاهلية ويقول إلهى إله إبراهيم وديني دين إبراهيم ويسجد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (يُحشر ذاك أمة وحده بيني وبين عيسى بن مريم) رواه محمد بن عثمان بن أبي شيبة وقال ابن كثير: إسناده جيد حسن (البداية والنهاية) 2/ 241. وعن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (دخلت الجنة فرأيت لزيد بن عمرو بن نفيل دوحتين) رواه الباغندي، وقال ابن كثير: وهذا إسناد جيد وليس هو في شيء من الكتب (البداية والنهاية) 2/ 241. وراجع خبر زيد بن عمرو بن نفيل في الموضع المشار إليه من (البداية والنهاية) وفي (فتح الباري) 7/ 142 ــ 145.(5/47)
فالحجة كانت قائمة على العرب قبل البعثة بدين إبراهيم وكان منهم من هو على بقية من الدين الحق وهم الحنفاء ومنهم زيد بن عمرو، وذكر بعضهم السيوطي في (الحاوي للفتاوى) 2/ 391، وكانت قريش تفخر على بقية العرب بأنهم نسل إبراهيم ويسمون أنفسهم الحُمْس كما ورد في أول سيرة ابن هشام. وانظر في هذا (مجموع فتاوى ابن تيمية) 11/ 402، و (الموافقات) للشاطبي، 1/ 175. ولهذا قال النووي في شرح حديث (إن أبي وأباك في النار) قال (فيه أن من مات على الكفر فهو في النار ولاتنفعه قرابة المقربين، وفيه أن من مات في الفترة على ماكانت عليه العرب من عبادة الأوثان فهو من أهل النار، وليس هذا مؤاخذة قبل بلوغ الدعوة فإن هؤلاء كانت قد بلغتهم دعوة إبراهيم وغيره من الأنبياء صلوات الله تعالى وسلامه عليهم) (صحيح مسلم بشرح النووي) 3/ 79. وقد دخل التحريف والتبديل على دين إبراهيم كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (رأيت عمرو بن لُحيّ بن قمعة بن خندف يجر قَصْبَه في النار، وهو أول من غيرّ دين إبراهيم وسيّب السوائب وبحَّر البَحِيرة) الحديث متفق عليه. ومع ذلك كان منهم حنفاء لم يشركوا وكانوا مقرين بالتوحيد إجمالا وإن لم يهتدوا إلى أكثر من ذلك لعدم التمكن، وكتبت لهم النجاة بفعلهم ماتمكنوا منه.(5/48)
ولا يُشكل على القول بأن العرب قبل البعثة كانوا محجوجين بدين إبراهيم إلا قوله تعالى (لتنذر قوما ماأتاهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون) القصص 46، ومثلها السجدة 3، وسبأ 44، ويس 6، فتدل على أنه لم يأت العرب نذير قبل محمد صلى الله عليه وسلم، ولكن يعارض هذه الآية قوله تعالى (وإن من أمةٍ إلا خلا فيها نذير) فاطر 24، فمقتضاه أنه جاءهم نذير، وهو إبراهيم عليه السلام كما ثبت بالنصوص السابقة. والتوفيق بين هذه النصوص أن المراد بآية القصص ونحوها أنه لم يُبعث نذير إليهم وحدهم، وبهذا قال ابن كثير في تفسيره (3/ 563 ــ 564) فإن إبراهيم لم يُبعث إليهم وحدهم، وهناك توفيق آخر. وهو أنه لم يُبعث فيهم رسول من العرب قبل النبي صلى الله عليه وسلم فإن إبراهيم عليه السلام كان في أرض بابل وكنعان بالعراق والشام، وهذا قول القرطبي، ويؤيد هذا الوجه من التوفيق قوله تعالى (لقد مَنّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم) آل عمران 164، وقال تعالى ــ حكاية عن إبراهيم ــ (ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم) البقرة 129، ومثلها البقرة 151، والجمعة 2. وعلى هذا فإن آية القصص ونحوها لاتشكل على أن العرب كانوا محجوجين بدين إبراهيم، وأن الذين أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم في النار ممن ماتوا قبل بعثته قامت عليهم الحجة الرسالية بدين إبراهيم عليه السلام. وبهذا يظل الضابط الفقهي في هذا الباب صحيحا غير منخرم، وهو أنه لايدخل النار إلا من قامت عليه الحجة الرسالية إما بدعوة رسول في الدنيا وإما باختبار في عَرصات يوم القيامة.
وعلى هذا فلا حجة في هذه النصوص لمن قال إن مشركي العرب قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم كانوا محجوجين بالميثاق واستحقوا العذاب بدون أن تقوم عليهم الحجة الرسالية.(5/49)
وبهذا ترى أن النصوص الواردة في كفر بعض العرب وتعذيبهم قبل البعثة أخطأ فيها فريقان: فريق ردّها بدعوى أنها أخبار أحاد ووقائع أعيان لاتعارض النصوص القطعية في أنه لايعذب أحد حتى تبلغه الحجة الرسالية. وفريق أثبتها واستدل بها على أنهم عذبوا قبل الحجة الرسالية بما قام عليهم من حجة الميثاق. والفريقان المخطئان اتفقا على أن هؤلاء لم تقم عليهم حجة رسالية وكلاهما أخطأ في هذا أيضا.
أما النوع الثاني من الأدلة التي حرّفوها لصرفها عن ظاهرها ليسلم لهم قولهم: إن الناس محجوجون بالميثاق، ومن نقض التوحيد فهو كافر معذب ولو لم تقم عليه الحجة الرسالية. ولما كانت هناك أدلة مشكلة على قولهم هذا فقد حرّفوها، ومنها: ــ
1 ــ قوله تعالى (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً) الإسراء 15.
فقالوا إن العذاب المتوقف على بعثة الرسول هو الإهلاك في الدنيا لا عذاب الآخرة. ولما كان قوله تعالى (كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير)الملك 8، مشكل عليهم، فقالوا هذا خاص ببعض أهل النار وأن الآية ليست للحصر والعموم وأنها في المكذبين من الكفار لقوله (بلى قد جاءنا نذير فكذبنا) الملك 9، وماذا يفعلون بقوله تعالى (وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمراً، حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا، قالوا: بلى، ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين) الزمر 71، ومثلها الأنعام 130، وفاطر 36 ــ 37؟ فليس في هذه الآيات ذكر للتكذيب، وهى نصوص عامة.
وقالوا قولا آخر وهو أن الرسل بُعثوا بالأحكام الشرعية التفصيلية لا التوحيد، وهذا قول المعتزلة وسبق الرد عليه.
وهذا كله من تحريف الدين والتلاعب به.
2 ــ وأشكل عليهم حديث امتحان من لم تبلغه دعوة رسول في الدنيا في عرصات القيامة، لأن هذا الحديث متمم للحجة الرسالية، فاحتجوا بانكار ابن عبدالبر له، وقد سبق رد ابن القيم عليه، فراجعه.(5/50)
3 ــ وأشكل عليهم حديث ذات أنواط، وأن الذين طلبوا ذلك لم يكفروا. فقالوا: إنهم طلبوا ولم يفعلوا، وسبق الرد على هذا في آخر الفصل الأول.
4 ــ وأشكل عليهم حديث الذي شك في قدرة الله على بعثه، ومع ذلك غفر الله له، فقالوا إن معنى (لئن قدر الله علي) إنّ قدر معناها ضيّق أو قضى. وهذا التحريف رد عليه ابن تيمية، فذكر أن الحديث أخرجاه في الصحيحين عن أبي هريرة مرفوعا، قال ابن تيمية (وفي لفظ آخر «أسرف رجل على نفسه فلما حضره الموت أوصى بنيه فقال: إذا أنا مِتُّ فأحرقوني، ثم اسحقوني، ثم اذروني في البحر. فو الله لئن قدر علي ربي ليعذبني عذاباً ماعذبه أحداً. قال: ففعلوا ذلك به. فقال للأرض: أدّ ماأخذت، فإذا هو قائم. فقال له: ماحملك على ماصنعت. قال: خشيتك يارب. أو قال: مخافتك، فغفر له بذلك» ــ إلى أن قال ــ
فهذا الرجل ظن أن الله لايقدر عليه إذا تفرق هذا التفرق، فظن أنه لايعيده إذا صار كذلك، وكل واحد من انكار قدرة الله تعالى، وانكار معاد الأبدان وإن تفرقت كفر. لكنه كان مع إيمانه بالله وإيمانه بأمره وخشيته منه جاهلاً بذلك، ضالاً في هذا الظن مخطئاً. فغفر الله له ذلك. والحديث صريح في أن الرجل طمع أن لايعيده إذا فعل ذلك، وأدنى هذا أن يكون شاكا في المعاد، وذلك كفر ــ إذا قامت حجة النبوة على منكِره حُكِمَ بكفره ــ هو بين في عدم إىمانه بالله تعالى، ومن تأول قوله: لئن قدر الله علي بمعنى قضى، أو بمعنى ضَيّق، فقد أبعد النجعة، وحَرّف الكلم عن مواضعه، فإنه إنما أمر بتحريقه وتفريقه لئلا يجمع ويعاد. وقال: إذا أنا مِت فأحرقوني ثم اسحقوني، ثم ذروني في الريح في البحر، فو الله لئن قدر علي رب ليعذبني عذاباً ماعذبه أحداً.(5/51)
فذكر هذه الجملة الثانية بحرف الفاء عقيب الأولى يدل على أنه سبب لها، وأنه فعل ذلك لئلا يقدر الله عليه إذا فعل ذلك، فلو كان مقراً بقدرة الله عليه إذا فعل ذلك كقدرته عليه إذا لم يفعل لم يكن في ذلك فائدة له، ولأن التقدير عليه والتضيق موافقان للتعذيب، وهو قد جعل تفريقه مغايراً، لأن يقدر الرب. قال: فو الله ! لئن قدر الله علي ليعذبني عذاباً ماعذبه أحداً من العالمين. فلا يكون الشرط هو الجزاء، ولأنه لو كان مراده ذلك لقال: فو الله لئن جازاني ربي أو لئن عاقبني ربي ليعذبني عذاباً، كما هو الخطاب المعروف في مثل ذلك: ولأن لفظ «قدر» بمعنى ضيق لا أصل له في اللغة.
ومن استشهد على ذلك بقوله: (وقدر في السرد) وقوله: (ومن قدر عليه رزقه) فقد استشهد بما لايشهد له. فإن اللفظ كان بقوله: (وقدر في السرد) أي اجعل ذلك بقدر، ولاتزد ولاتنقص وقوله:(ومن قدر عليه رزقه) أي جعل رزقه قدر مايغنيه من غير فضل، إذ لو ينقص الرزق عن ذلك لم يعش.
وأما «قَدِرَ» بمعنى قَدَّر. أي أراد تقدير الخير والشر فهو لم يقل: إن قدر علي ربي العذاب، بل قال: لئن قدر علي ربي، والتقدير يتناول النوعين، فلا يصح أن يقال، لئن قضى الله علي، لأنه قد مضى وتقرر عليه ماينفعه ومايضره، ولأنه لو كان المراد التقدير أو التضييق لم يكن مافعله مانعا من ذلك في ظنه. ودلائل فساد هذا التحريف كثيرة ليس هذا موضع بسطها، فغاية مافي هذا أنه كان رجلا لم يكن عالما بجميع مايستحقه الله من الصفات، وبتفصيل أنه القادر، وكثير من المؤمنين قد يجهل مثل ذلك، فلا يكون كافراً.) (مجموع الفتاوى) 11/ 408 ــ 411.(5/52)
والعبارة الأخيرة كررها شيخ الإسلام في أكثر من موضع وأن (الجهل ببعض أسماء الله وصفاته لايكون صاحبه كافراً، إذا كان مقراً بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يبلغه العلم بما جهله على وجه يقتضي كفره إذا لم يعلمه، كحديث الذي أمر أهله بتحريقه ثم تذريته) (مجموع الفتاوى) 7/ 538، وانظر أيضا في نفس المجلد السابع صـ 149، 152، 574.
والصحيح في شأن هذا الرجل الإسرائيلي أنه كان معه إيمان مجمل ولم يبلغه تفصيل مايجب لله تعالى لكونه في زمان فترة، فدخل الجنة بما معه من الإيمان القليل شأنه في ذلك شأن زيد بن عمرو بن نفيل الذي سبق ذكر خبره. وانظر في هذا (مجموع فتاوى ابن تيمية) جـ 3/ 231، جـ 35/ 166، و (الشفا) للقاضي عياض جـ 2/ 1082 ــ 1085، ط الحلبي.
فهذه بعض النصوص التي حرّفها القائلون بأن الميثاق حجة، وأن من نقض التوحيد فهو كافر في النار وإن لم تبلغه دعوة رسول.
(تنبيه آخر) على خطأ من أطلق القول بالعذر بالجهل:
اعلم أن الجهل يعذر به ويكون مانعاً من العقوبة في الدنيا ومن العذاب في الآخرة وذلك في أحوال معينة سيأتي التنبيه عليها في الفصل الرابع إن شاء الله. ومنها:
* حديث العهد بالإسلام الذي لم يجد وقتا كافيا للتعلم، والدليل على أن هذا يعذر هو حديث ذات أنواط، وقد سبق الكلام فيه.
* وفي زمان اندراس العلم وندرته، ينجو العبد بما معه من الحق القليل ويُعذر بما لم يبلغه من الحق، ومن أدلة ذلك حديث زيد بن عمرو بن نفيل، وحديث الرجل الذي شك في قدرة الله على بعثه، وحديث حذيفة بن اليمان ومجادلة صلة بن زفر له وسيأتي هذا الحديث في الفصل الرابع إن شاء الله.(5/53)
فهذه بعض الأحوال التي يُعذر فيها بالجهل، إلا أن بعض المعاصرين اعتبروا هذه الأحوال الاستثنائية هى الأصل، فأطلقوا القول بالعذر بالجهل لكل أحد، وهذا خطأ سيأتي بيانه في الفصل الرابع، ويكفي في بيان فساد إطلاق العذر بالجهل وتعميمه: أن القول به يؤدي إلى إسقاط التكاليف الشرعية جملة، فكل من ترك واجبا أو ارتكب محرما أو توجبت عليه عقوبة فإنه لن يعجز أن يدرأ عن نفسه بدعوى الجهل. ولم يكن الأمر كذلك عند السلف ولم يكن هناك إسراف في العذر بالجهل لديهم، خاصة في القضاء الشرعي ويدرك هذا كل من طالع في كتب أخبار القضاة.
هذا فضلا عن أن إطلاق العذر بالجهل يجعل الجاهل أسعد حالاً في الدنيا والآخرة من العالم المجتهد، لأن الجاهل لن يعاقب في الدنيا ولن يعذب في الآخرة لعذره، أما العالِم فسيعاقب في الدنيا إذا فعل ما يستوجب ذلك وسيعذب في الآخرة على معاصيه في حين يرى الجاهل ناجيا من أهل السعادة في الآخرة. ومقتضى هذا القول أن الجهل خير من العلم وأن عدم بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم خير للبشر من بعثته التي يترتب عليها التكليف والمؤاخذة، وهذه اللوازم في غاية الفساد ومضادة للثابت بالشرع من أن العالم خير من الجاهل وأن العلم خير من الجهل وأن بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم خير للبشر كما قال تعالى (وماأرسلناك إلا رحمة للعالمين) الأنبياء 107، وفساد هذه اللوازم ينبئك عن فساد ملزومها وهو إطلاق العذر بالجهل.
وقد احتج الذين أطلقوا القول بالعذر بالجهل بنوعين من الأدلة:
1 ــ نوع منها خاص بالعذر بالجهل في أحوال معينة، فقالوا بتعميمه، فأخطأوا. ومثاله ما ذكرته آنفا، كحديث ذات أنواط، والرجل الذي شك في البعث.
2 ــ والنوع الآخر: لا يدل على العذر بالجهل، فحمّلوه مالا يحتمل ليستدلوا به على ذلك، ومن الأمثلة المشهورة لهم:(5/54)
( أ ) حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت (مهما يكتم الناس يعلمه الله) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (نعم). فقالوا إن عائشة شكت في علم الله ولم تكفر بذلك.
والجواب:
أن هذا الحديث بهذه الرواية خطأ، والصحيح أن الذي قال نعم هى عائشة نفسها، والحديث كما رواه مسلم في آخر كتاب الجنائز من صحيحه: قالت عائشة (مهما يكتم الناس يعلمه الله، نعم) الحديث. قال النووي في شرحه (هكذا هو في الأصول وهو صحيح، وكأنها لما قالت: مهما يكتم الناس يعلمه الله، صدّقت نفسها فقالت: نعم) (صحيح مسلم بشرح النووي) 7/ 44.
وعلى القول بأن الرواية المذكورة صحيحة فهى تدل على الجهل ببعض صفات الله، وقد نقلت عن ابن تيمية من قبل أن هذا الجهل لايكفر صاحبه، انظر (مجموع الفتاوى) 7/ 538، 574، 152، 149.
هذا وقد ذكر ابن تيمية الرواية غير الصحيحة وهى رواية أحمد في المسند لهذا الحديث في (مجموع الفتاوى) 11/ 412، فلزم التنبيه على ذلك.
(ب) واستدلوا بحديث سجود معاذ بن جبل للنبي صلى الله عليه وسلم، وهذا ثابت عن معاذ، فيما رواه ابن ماجة بإسناد حسن (1853)، وفيه أنه لما سجد قال له النبي صلى الله عليه وسلم (ماهذا يامعاذ)؟ قال (أتيت الشام فوافيتهم يسجدون لأساقفتهم وبطارقتهم، فوددت أن نفعل ذلك بك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (فلا تفعلوا، فإني لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لغير الله، لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها) الحديث. وأراد قيس بن سعد أن يسجد للنبي صلى الله عليه وسلم تعظيماً له فنهاه عن ذلك، وحديثه رواه أبو داود (2140).(5/55)
وهذا الحديث لايحتج به في العذر بالجهل إلا إذا ثبت أن معاذاً كان سجوده كفراً، وهذا غير صحيح وإنما سجد تحية للنبي صلى الله عليه وسلم. وسوف يأتي في شرح قاعدة التكفير في مبحث الاعتقاد بالباب السابع إن شاء الله أن هناك أموراً (من الأقوال والأفعال) صريحة الدلالة على الكفر، وهناك أمور محتملة الدلالة ولا تصير كفراً إلا بعد تبيّن قصد فاعلها وأنه أراد بها ماهو كفر. ومن هذه الأمور المحتملة: السجود لغير الله، فقد يفعل عبادة وقد يفعل تحية وكان هذا مشروعاً في الأمم السابقة كما قال تعالى (ورفع أبويه على العرش وخروا له سُجّداً) يوسف 100، ومادام الأمر محتملا فلابد من تبين قصد فاعله كما قال الشوكاني رحمه الله (وأما قوله: «ومنها السجود لغير الله» فلابد من تقييده بأن يكون سجوده هذا قاصدا لربوبية من سجد له، فإنه بهذا السجود قد أشرك بالله عزوجل: وأثبت معه الآهاً آخر، وأما إذا لم يقصد إلا مجرد التعظيم كما يقع كثيراً لمن دخل على ملوك الأعاجم أنه يقبل الأرض تعظيماً له فليس هذا من الكفر في شيء، وقد عَلِمَ كل مَن كان مِن الأعلام أن التكفير بالإلزام من أعظم مَزَالق الأقدام، فمن أراد المخاطرة بِدِينه فعلى نفسه جني) (السيل الجرار) 4/ 580. وهناك أجوبة أخرى عن حديث معاذ لا أرى وجهاً للإطالة بذكرها.
(جـ) دليل آخر احتج به من أطلق العذر بالجهل، وهو قوله تعالى (إذ قال الحواريون ياعيسى بن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء، قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين) المائدة 112. فقالوا: شك الحواريون في قدرة الله على إنزال المائدة، وهذا الشك كفر، ولكن عُذروا بالجهل، مع أن النص ليس فيه إشارة لذلك.
وأجاب الذين لايعذرون بالجهل مطلقا: بأن القراءة الأخرى (هل تستطيعُ ربَّك) أي هل تسأل لنا ربك أن ينزل مائدة؟. وعلى قراءة (هل يستطيع) فمعناها: هل يجيبك؟، وهذا وجه صحيح في لغة العرب.(5/56)
وعلى القول بأن سؤالهم شك في القدرة، فيقال في الجواب ماقيل في حديث ذات أنواط أنهم حديثو عهد بالدين، أو يقال فيها إن الجهل ببعض صفات الله ليس كفراً بالضرورة كما نقلته عن ابن تيمية.
فهذا بعض مااستدل به الذين أطلقوا العذر بالجهل، وكما ترى فإنه ليس لهم دليل معتبر إلا الأدلة الواردة بالعذر في حالات خاصة وأخطأوا في تعميمها.
وبالنسبة للأدلة الثلاث الأخيرة أحب أن أنبه على أمرٍ هام فات المتكلمين في هذا الموضوع، وهو القاعدة الأصولية التي تنص على أنه (لايجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة). وذلك لأن الكفر من عظائم الأمور التي لايُسكت عنها، وحيثما وقع جاء البيان الإلهي أو البيان النبوي بالتنبيه عليه:
فمن البيان الإلهي: قوله تعالى (لاتعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم) التوبة 66، وقوله تعالى (ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم) التوبة 74، وقوله تعالى (قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك) الكهف 37.
ومن البيان النبوي: قوله صلى الله عليه وسلم ــ في حديث ذات أنواط ــ (قلتم كما قالت بنو إسرائيل «اجعل لنا إلها كما لهم آلهة») الحديث.
فحيثما وقع الكفر جاء التنبيه عليه لعظم خطره، وعدم النص على الكفر أو التنبيه عليه في سؤال الحواريين، وفي سجود معاذ يدل على أن هذه الأمور غير مكفرة، فلا يرد فيها القول بالعذر بالجهل من الأصل. هذا وبالله تعالى التوفيق.
وهذا آخر ماأذكره في الفصل الثاني الخاص ببيان حجة الله التي يقع بها التكليف، وأنه يقع بالحجة الرسالية.
الفصل الثالث
صفة قيام الحجة الرسالية
من جهة القائم بها
وفيه ثلاث مسائل:
1 ــ صفة الحجة الرسالية.……2 ــ صفة من يقيم الحجة الرسالية.
3 ــ صفة إقامة الحجة الرسالية.
وهذا بيانها:
المسألة الأولى: صفة الحجة الرسالية(5/57)
إذا كنا قد ذكرنا في الفصل السابق أن تكليف الله لخلقه ــ الذي يترتب عليه الثواب والعقاب ــ يقع بالحجة الرسالية. فالحجة الرسالية هى مابُعث به الأنبياء من العلم الذي أوحاه الله إليهم.
والعلم الذي جاء به رسولنا صلى الله عليه وسلم هو القرآن ثم مادَلّ عليه من الأدلة الشرعية الأخرى كالسّنة والإجماع والقياس الصحيح.
1 ــ أما القرآن فهو أصل الحجة الرسالية.
* قال تعالى (وأوحِيَ إلي هذا القرآن لأنذركم به ومَنْ بَلَغ) الأنعام 19.
* وقال تعالى (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله) التوبة 6.
* وقال تعالى (لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة، رسول من الله يتلوا صحفاً مطهرة) البينة 1 ــ 2.
* وقال تعالى (بلى قد جاءتك آياتي فكذّبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين) الزمر 59.
فدلّت هذه الآىات على أن الإنذار والبينة والحجة قائمة بالقرآن الذي هو كلام الله وآياته، والذي مَن كذب به أو استكبر عن اتباعه كان من الكافرين.
* ولهذا فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها) الحديث رواه مسلم عن أبي مالك الأشعري.
إذا ثبت هذا:
فإن أركان الإىمان الستة: وهى الإىمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والقدر خيره وشره.
وأركان الإسلام الخمسة: وهى الشهادتين والصلاة والزكاة والصوم والحج.
والمحرمات القطعية: كالزنا والخمر والربا والسرقة والكذب وغيرها.
كل هذه قد جاءت في القرآن صريحة واضحة بأسلوب مُيَسَّر يفهمه العالم والجاهل، وتكررت في مواضع كثيرة من القرآن بما لايدع لأحد حجة في مخالفتها.(5/58)
ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنهما (التفسير على أربعة أوجه: تفسير تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لايعذر أحد بجهالته، وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لايعلمه إلا الله فمن ادعى علمه فهو كاذب) رواه ابن جرير بإسناده عنه. انظر (مجموع فتاوى ابن تيمية) جـ 13 صـ 375و 384.
وقال تعالى (ولقد يسّرنا القرآن للذِكر فهل من مُدّكر) القمر 17.
وقال تعالى (أفلا يتدبرون القرآن، أم على قلوب أقفالها) محمد 24. وفي تفسير هذه الآية قال الشنقيطي رحمه الله (اعلم أن قول بعض متأخري الأصوليين: إن تدبر هذا القرآن العظيم، وتفهمه والعمل به. لا يجوز إلا للمجتهدين خاصة، وأن كل من لم يبلغ درجة الاجتهاد المطلق بشروطه المقررة عندهم التي لم يستند اشتراط كثير منها إلى دليل من كتاب ولاسنة ولا إجماع ولاقياس جلي، ولا أثر عن الصحابة، قول لامستند له من دليل شرعي أصلا.
بل الحق الذي لاشك فيه، أن كل من له قدرة من المسلمين. على التعلم والتفهم، وإدراك معاني الكتاب والسنة، يجب عليه تعلمهما، والعمل بما علم منهما.
أما العمل بهما مع الجهل بما يعمل به منهما فممنوع إجماعاً.
وأما ماعلمه منهما علماً صحيحاً ناشئاً عن تعلم صحيح، فله أن يعمل به، ولو آية واحدة أو حديثاً واحداً.
ومعلوم أن هذا الذم والإنكار على من لم يتدبر كتاب الله عام لجميع الناس.
ومما يوضح ذلك أن المخاطبين الأولين به الذين نزل فيهم هم المنافقون والكفار، ليس أحد منهم مستكملا لشروط الاجتهاد المقررة عند أهل الأصول، بل ليس عندهم شيء منها أصلا. فلو كان القرآن لايجوز أن ينتفع بالعمل به، والاهتداء بهديه إلا المجتهدون بالاصطلاح الأصولي لما وبخ الله الكفار وأنكر عليهم عدم الاهتداء بهداه، ولما أقام عليهم الحجة به حتى يحصلوا شروط الاجتهاد المقررة عند متأخري الأصوليين، كما ترى.(5/59)
ومعلوم أن من المقرر في الأصول أن صورة سبب النزول قطعية الدخول، وإذاً فدخول الكفار والمنافقين، في الآىات المذكورة قطعي، ولو كان لايصح الانتفاع بهدي القرآن إلا لخصوص المجتهدين لما أنكر الله على الكفار عدم تدبرهم كتاب الله، وعدم عملهم به.
وقد علمت أن الواقع خلاف ذلك قطعاً، ولايخفى أن شروط الاجتهاد لاتشترط إلا فيما فيه مجال للاجتهاد، والأمور المنصوصة في نصوص صحيحة، من الكتاب والسنة، لايجوز الاجتهاد فيها لأحد، حتى تشترط فيها شروط الاجتهاد، بل ليس فيها إلا الاتباع. ــ إلى أن قال ــ
فالقول بمنع العمل بما علم من الكتاب والسنة، حتى يحصل رتبة الاجتهاد المطلق، هو عين السعي في حرمان جميع المسلمين، من الانتفاع بنور القرآن، حتى يحصلوا شرطاً مفقوداً، في اعتقاد القائلين بذلك، وادعاء مثل هذا على الله وعلى كتابه وعلى سنة رسوله هو كما ترى.) (أضواء البيان) 7/ 430 ــ 434.
فهذا مايتعلق بالحجة القرآنية، وهى أول الأدلة الشرعية.
2 ــ أما الدليل الثاني: فهو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد أرشد إلى وجوب اتباعها والعمل بها اللهُ تعالى في كتابه، فقال تعالى (قل أطيعوا الله والرسول، فإن تولّوا فإن الله لايحب الكافرين) آل عمران 32، وقال تعالى (من يطع الرسول فقد أطاع الله) النساء 80، ونحوها من الآيات الدالة على وجوب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم وذلك باتباع سنته، وقد بلغت نحو مائة آية.
وذلك لأن الرسول صلى الله عليه وسلم مُبَيّن عن ربّه، بتفصيل ماأجمله الله في القرآن، قال تعالى (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس مانزّل إليهم) النحل 44، وقال تعالى (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله) النساء 105.
3 ــ وكذلك الإجماع وهو الدليل الثالث.
دل على وجوب اتباعه:
كتاب الله في قوله تعالى (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) النساء 59.(5/60)
والسنة: في الأحاديث الآمرة بوجوب ملازمة جماعة المسلمين والأحاديث الدالة على أن الأمة لاتجتمع على ضلالة. وقال الشافعي رحمه الله في (الرسالة) إن ملازمة جماعة المسلمين بالأبدان في كل حين غير ممكنة فلم يبق إلا ملازمة مااجتمعوا عليه من العلم.
4 ــ وأما القياس الصحيح، فهو حجة عند جماهير العلماء خلافاً للظاهرية، واستوفى الكلام في حجيته ابن القيم في كتابه (اعلام الموقعين).
فهذه أدلة الأحكام الشرعية الأربعة المتفق عليها ــ انظر (مجموع فتاوى ابن تيمية) 11/ 339 ــ 341 ــ والتي بالاحتجاج بها تقوم الحجة الرسالية. هذا على سبيل العموم، أما الحجة في مسألة معينة فهى الدليل الشرعي الخاص في تلك المسألة.
وعادة مايبدأ المؤلفون في أصول الفقه كتبهم بالكلام في الحاكم وهو الله تعالى، كما قال (إن الحكم إلا لله) يوسف 40، فيقولون: لاحكم قبل ورود الشرع، ثم بعد الكلام في الحاكم يتكلمون في المحكوم به وهى أدلة الأحكام الشرعية التي يقع بها التكليف كالأربعة المذكورة أعلاه وغيرها من الأدلة.
هذا ما يتعلق بصفة الحجة الرسالية.
المسألة الثانية: صفة من يقيم الحجة الرسالية
والأصل في ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي يقيم الحجة، ثم يبلغها عنه في حياته وبعد مماته: الواحد، العالم، العدل، المعروف، ولايلزم أن يكون ذا سلطان إلا إذا كان سيترتب على إقامة الحجة استيفاء عقوبة في دار الإسلام. فهذه صفة من يُبلِّغ عن النبي صلى الله عليه وسلم، وبه تقوم الحجة الرسالية، وقد أمرالنبي صلى الله عليه وسلم بالبلاغ عنه فقال (بلّغوا عني ولو آية) الحديث رواه البخاري، وقال (ليبلغ الشاهد الغائب) الحديث متفق عليه. وهذا من فروض الكفاية وقد يتعين في مواضع كما سبق في الباب الثاني.
وهذا شرح موجز لصفات من يقيم الحجة الرسالية.
1 ــ أما أن الحجة تقوم بخبر الواحد.
فلأن العادة والغالب أن يكون النبي فرداً واحداً وبه تقوم الحجة على أمته.(5/61)
وقد أرسل رسولنا صلى الله عليه وسلم رسله إلى ملوك الأرض في زمانه يدعوهم إلى الإسلام، وكان رسله إليهم وُحداناً، وبهم قامت الحجة على من أرسل إليهم، فأرسل دحية الكلبي إلى هرقل، وحاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس بمصر، وأرسل عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي بالحبشة، وأرسل عمرو بن العاص إلى عبد وجيفر ابني الجلندي بعُمان، وغيرهم. انظر (زاد المعاد) جـ 3 صـ 60 ومابعدها.
وقال تعالى (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون) التوبة 122، والطائفة تقع على الواحد فما فوق، وأمر الله بقبول خبره ونذارته.
وقد أفرد البخاري رحمه الله كتابا في صحيحه لبيان حجية خبر الآحاد، وأقام فيه الأدلة على ذلك، فراجعه في (فتح الباري) جـ 13 صـ 231 ومابعدها.
وقال ابن حزم رحمه الله (واستدركنا برهانا في وجوب قبول خبر الواحد قاطعا، وهو خبر الله تعالى عن موسى عليه السلام: إذ جاءه « رجل من أقصى المدينة يسعى قال ياموسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين فخرج منها خائفا يترقب (إلى قوله تعالى) إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ماسقيت لنا (إلى قوله تعالى) إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج » إلى آخر القصة، فصدق موسى عليه السلام قول المنذر له، وخرج عن وطنه بقوله، وصوّب الله تعالى ذلك من فعله، وصدق قول المرأة إن أباها يدعوه فمضى معها، وصدق أباها في قوله إنها بنته، واستحل نكاحها وجماعها بقوله وحده، وصوب الله ذلك كله، فصح يقينا ماقلنا بأن خبر الواحد مايضطرُّ إلى تصديقه يقينا. والحمد لله رب العالمين) (الإحكام في أصول الأحكام) 1/ 138.(5/62)
وقال ابن حزم أيضا (ولا يختلف اثنان من المسلمين في أن مسلما ثقة لو دخل أرض الكفر فدعا قوما إلى الإسلام وتلا عليهم القرآن وعلمهم الشرائع لكان لازما لهم قبوله، ولكانت الحجة عليهم بذلك قائمة، وكذلك لو بعث الخليفة أو الأمير رسولا إلى ملك من ملوك الكفر، أو إلى أمة من أمم الكفر، يدعوهم إلى الإسلام، ويعلمهم القرآن، وشرائع الدين ولافرق) (الإحكام) 1/ 112.
واعلم أن كون خبر الواحد حجة لم يكن فيه خلاف بين السلف، وإنما هذا شيء أحدثه المبتدعة بعد ذلك لرد أحاديث الآحاد التي تبطل بدعهم، ثم تلقّاه بعض الفقهاء عن هؤلاء المبتدعة، حتى صار القول بأن خبر الواحد لايوجب العلم هو قول (جمهور أهل الكلام وأكثر المتأخرين من الفقهاء وجماعة من أهل الحديث) كما قال ابن القيم في (مختصر الصواعق المرسلة) صـ 466. ومعنى أنه لايوجب العلم أنه لايثبت به اعتقاد، وإن كان يُعمل به في الأحكام الفقهية العملية، وهذا مبني على تقسيمهم الدين إلى: أصول وهى المسائل العلمية الخبرية (العقائد)، وفروع وهى الأحكام الشرعية العملية. وقالوا العقائد لاتثبت إلا بالقرآن أو بالسنة المتواترة، وهو قول فاسد، ويكفي في إبطاله أن الحجة قامت على الملوك بأخبار الوحدان الذين أرسلهم النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، والنبي كان يطلب منهم الاعتقاد وعلى رأسه الإىمان بالله وحده وعدم الاشراك به والشهادة للنبي بالرسالة، وهذه كلها من العقائد وقامت الحجة بها بخبر الواحد.(5/63)
وقال ابن القيم أيضا (والذي يقضي منه العجب انهم لايرجعون إلى أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم إنها لاتفيد العلم، ويرجعون إلى الخيالات الذهنية والشبهات الباطلة التي تلقوها عن أهل الفلسفة والتجهم والاعتزال، ويزعمون أنها براهين عقلية. قال شيخ الإسلام ابن تيمية ــ وقد قسم الأخبار إلى تواتر وآحاد فقال بعد ذكر التواتر: ــ وأما القسم الثاني من الأخبار فهو مالا يرويه إلا الواحد العدل ونحوه، ولم يتواتر لفظه ولامعناه، ولكن تلقته الأمة بالقبول عملاً به أو تصديقاً له كخبر عمر بن الخطاب «إنما الأعمال بالنيات» وخبر ابن عمر «نهي عن بيع الولاء وهبته» وخبر أنس: دخل مكة وعلى رأسه المغفر، وكخبر أبي هريرة: لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها، وكقوله يحرم من الرضاع مايحرم من النسب، وقوله: «إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها فقد وجب الغسل » وقوله في المطلقة ثلاثاً « حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك» وقوله «لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ» وقوله «إنما الولاء لمن أعتق» وقوله يعني ابن عمر «فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر في رمضان على الصغير والكبير والذكر والأنثى» وأمثال ذلك. فهذا يفيد العلم اليقيني عند جماهير أمة محمد صلى الله عليه وسلم من الأولين والآخرين.
أما السلف فلم يكن بينهم في ذلك نزاع، وأما الخلف فهذا مذهب الفقهاء الكبار من أصحاب الأئمة الأربعة، والمسئلة منقولة في كتب الحنفية والمالكية، والشافعية والحنبلية مثل السرخسي وأبي بكر الرازي من الحنفية، والشيخ أبي حامد وأبي الطيب والشيخ أبي إسحاق من الشافعية، وابن خواز منداد وغيره من المالكية، ومثل القاضي أبي يعلى وابن أبي موسى وأبي الخطاب وغيرهم من الحنبلية، ومثل أبي اسحاق الاسفرائيني وابن فورك وأبي اسحاق النظام من المتكلمين.(5/64)
وإنما نازع في ذلك طائفة كابن الباقلاني ومن تبعه مثل أبي المعالى والغزالي وابن عقيل، وقد ذكر أبو عمرو بن الصلاح القول الأول وصححه واختاره، ولكنه لم يعلم كثرة القائلين به ليتقوى بهم، وإنما قاله بموجب الحجة الصحيحة، وظن من اعترض عليه من المشايخ الذين لهم علم ودين وليس لهم بهذا الباب خبرة تامة أن هذا الذي قاله الشيخ أبو عمرو انفرد به عن الجمهور، وعذرهم أنهم يرجعون في هذه المسائل إلى ما يجدونه من كلام ابن الحاجب، وإن ارتفعوا درجة صعدوا إلى السيف الامدي وإلى ابن الخطيب، فإن علا سندهم صعدوا إلى الغزالي والجويني والباقلاني.
قال: وجميع أهل الحديث على ماذكره الشيخ أبو عمرو، والحجة على قول الجمهور، أن تلقي الأمة للخبر تصديقاً وعملاً إجماع منهم، والأمة لاتجتمع على ضلالة) أهـ. ثم ذكر ابن القيم أكثر من عشرين دليلاً على حجية خبر الواحد، إلى أن نقل عن أبي المظفر بن السمعاني قوله:
إذا صح الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورواه الثقات والأئمة وأسنده خَلَفُهم عن سلفهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وتلقته الأمة بالقبول، فإنه يوجب العلم فيما سبيله العلم، هذا قول عامة أهل الحديث والمتقنين من القائمين على السنة.
وأما هذا القول الذي يذكر أن خبر الواحد لايفيد العلم بحال فلابد من نقله بطريق التواتر لوقوع العلم به حتى أخبر عنه القدرية والمعتزلة، وكان قصدهم منه رد الأخبار، وتلقفه منهم بعض الفقهاء الذين لم يكن لهم في العلم قدم ثابت، ولم يقفوا على مقصودهم من هذا القول، ولو أنصف أهل الفِرَق من الأمة لأقروا بأن خبر الواحد قد يوجب العلم، فإنك تراهم مع اختلافهم في طرائقهم وعقائدهم يستدل كل فريق منهم على صحة مايذهب إليه بالخبر الواحد:) أهـ. من كتاب (مختصر الصواعق المرسلة) لابن القيم، اختصار محمد بن الموصلي، صـ 464 ــ 485، ط دار الكتب العلمية 1405هـ.(5/65)
وهذا كله مما يبين أن الحجة الرسالية تقوم بخبر الواحد، مع بقية الشروط التالية، فإذا جاء الخبر من أكثر من واحد فهذا مما يزيده قوة ولكنه ليس شرطا لقبوله.
2 ــ وأما أن هذا الواحد يجب أن يكون عالما.
فلأن الله أمر بقبول خبر العالم المتفقه في قوله تعالى (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم) التوبة 122.
ولأن العلماء هم ورثة الأنبياء والقائمون بالحجة الرسالية بعدهم، كما قال صلى الله عليه وسلم (وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهما، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظٍ وافر) رواه أبو داود والترمذي، وصححه ابن حبان.
ولأن الجاهل فرضه السؤال لا التعليم، كما قال تعالى (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لاتعلمون) النحل 43.
ولكن لا يشترط فيمن يقيم الحجة أن يستوفي شروط الاجتهاد بحيث يكون متضلعاً من كافة العلوم الشرعية. وإنما يشترط أن يكون عالما بحكم المسألة التي يتكلم فيها، سواء كان مجتهداً في المسألة أو ينقلها بدليلها أو ينقل الحكم بغير دليل. كما ذكرته في مراتب المفتين في الفصل الأول من الباب الخامس، وقال صلى الله عليه وسلم (بلّغوا عني ولو آية) الحديث رواه البخاري.
وكل من بلغه خبر من الدين ولم يثق في علم من نقله إليه، وجب عليه التثبت بسؤال من يثق بعلمه، إذا كان هذا الخبر يترتب عليه عمل في ذات نفسه، كما في حديث عقبة بن عامر لما تثبت في أمر خبر المرأة التي أخبرته أنها أرضعته وزوجه فرحل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليتثبت، وحديثه في الباب الخامس في أحكام المستفتي (إذا لم يجد من يفتيه ببلده؟)، وكما في حديث والد العسيف الذي زني واختلفت عليه الأقوال فذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليتثبت، وحديثه أيضا في أحكام المستفتي (إذا اختلف عليه مفتيان فأكثر).
3 ــ وأما أن هذا الواحد العالم يجب أن يكون عدلاً.(5/66)
فلأن خبر الفاسق لايوثق به، قال تعالى (إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا) الحجرات 6، وكما ذكرت آنفا، إذا لم تقم الثقة في المخبر فلا يعني هذا إطراح قوله بالكلية وإهماله، ولكن يجب التبين بسؤال من يوثق بعلمه وعدالته، لأن الله أمر بالتثبت والتبين بالنسبة لخبر الفاسق فقال (فتبينوا) ولم يأمر بإهمال قوله بالكلية.
أما صفة العدالة فقد سبق بسط القول فيها في أحكام المفتي بالباب الخامس، عند الكلام في شروط المفتي.
4 ــ وأما أن هذا الواحد العالم العدل ينبغي أن يكون معروفاً عند من يخاطبه.
فلأنه لايثبت علمه وعدالته عند المخاطب ــ الذي ستقام عليه الحجة ــ إلا إذا كان يعرفه، وفي تعليل ذلك قال ابن حزم رحمه الله (وقد ذكرنا في الباب الذي قبل هذا وجوب قبول نذارة العدل النافر للتفقه في الدين، فإذا كان الراوي عدلا حافظا لما تفقه فيه، أو ضابطا له بكتابه، وجب قبول نذارته. فإن كان كثير الغلط والغفلة غير ضابط بكتابه، فلم يتفقه فيما نفر للتفقه فيه، وإذا لم يتفقه فليس ممن أمرنا بقبول نذارته، ومن جهلنا حاله فلم ندر أفاسق هو أم عدل، وأغافل هو أم حافظ أو ضابط؟ ففرض علينا التوقف عن قبول خبره حتى يصح عندنا فقهه وعدالته وضبطه أو حفظه، فيلزمنا حينئذ قبول نذارته، أو تثبت عندنا جرحته، أو قلة حفظه وضبطه، فيلزمنا اطراح خبره.) (الإحكام في أصول الأحكام) 1/138.
ويقال هنا ماقلته في مسألة (صفة من يستفتيه العامي) في أحكام المستفتي بالباب الخامس، وأنه يجب أن يتوثق من علمه وعدالته.
ومما يدل على هذا الشرط، شرط المعرفة:
قوله تعالى (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين، ولينذروا قومهم) التوبة 122، فأمر الله بقبول نذارة الطائفة المتفقهة على قومهم لكونهم منهم، بما يعني أنهم يعرفونهم ويعرفون عنهم التفقه في الدين.(5/67)
وقال تعالى ــ منكراً على كفار مكة ــ (أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون) المؤمنون 69. فأنكر الله عليهم تكذيبهم له مع أنهم كانوا يعرفونه بالصدق والأمانة، كما ورد في تفسير قوله تعالى (وأنذر عشيرتك الأقربين) الشعراء 214، أنه لما نزلت هذه الآىة جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بطون قريش وقال لهم (أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مُصَدّقِيّ؟، قالوا: نعم ماجربنا عليك إلا صدقاً قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد) الحديث رواه البخاري (4770).
وفي هذا المعنى أيضا قوله تعالى (وإلى عادٍ أخاهم هوداً) هود 50، (وإلى ثمود أخاهم صالحاً) هود 61، (وإلى مدين أخاهم شعيباً) هود 84.
وقد نبّه على هذا الشرط ــ شرط المعرفة ــ الشافعي رحمه الله في كلامه عن خبر الآحاد، فقال: (وبعث رسول الله أبابكرٍ والياً على الحج في سنة تسعٍ، وحضره الحج من أهل بلدانٍ مختلفة، وشعوب متفرقة، فأقام لهم مناسكهم، وأخبرهم عن رسول الله بما لهم وما عليهم. وبعث علي بن أبي طالب في تلك السنة، فقرأ عليهم في مجمعهم يوم النحر آياتٍ من (سورة براءة)، ونبذ إلى قومٍ على سواءٍ، وجعل لهم مُدداً، ونهاهم عن أمورٍ. فكان أبو بكر وعليُّ ُ معروفين عند أهل مكة بالفضل والدين والصدق، وكان (مَن جَهِلَهما ــ أو أحدهما ــ من الحاج وجد من يخبره عن صدقهما وفضلهما. ولم يكن رسول الله ليبعث إلا واحداً الحجة قائمة بخبره على من بعثه إليه، إن شاء الله. ــ إلى أن قال ــ(5/68)
وبعث في دهرٍ واحدٍ اثنى عشر رسولاً، إلى اثنى عشر ملكاً، يدعوهم إلى الإسلام. ولم يبعثهم إلا إلى من قد بلغته الدعوة، وقامت عليه الحجة فيها، وألا يكتب فيها دلالات لمن بعثهم إليه على أنها كُتُبه. وقد تحرَّى فيهم ماتحرَّى في أمرائه: من أن يكونوا معروفين، فبعث دحية إلى الناحية التي هو فيها معروف. ولو أن المبعوث إليه جهل الرسول كان عليه طلب علم أن النبي بعثه، ليستبريء شكه في خبر الرسول، وكان على الرسول الوقوف حتى يستبرئه المبعوث إليه. ولم تزل كُتُبُ رسول الله تنفذ إلى ولاته بالأمر والنهي، ولم يكن لأحد من ولاته ترك إنفاذ أمره، ولم يكن ليبعث رسولاً إلا صادقا عند من بعثه إليه.) (الرسالة) للشافعي بتحقيق أحمد شاكر، صـ 414 ــ 419.
5 ــ وأما أنه لايشترط فيمن يقيم الحجة أن يكون ذا سلطان.
فلأن الحجة قامت بالرسل على أقوامهم، وكان كثير من الرسل مستضعفين في أقوامهم:
كما قال تعالى (ياحسرة على العباد مايأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون) يس 30.
وقال تعالى ــ في وصف فرعون لموسى ــ (أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولايكاد يبين) الزخرف 52.
وقال تعالى ــ حكاية عن قوم شعيب ــ (قالوا ياشعيب مانفقه كثيراً مما تقول، وإنا لنراك فينا ضعيفاً، ولولا رهطك لرجمناك، وماأنت علينا بعزيز) هود 91.
وقال تعالى ــ حكاية عن لوط عليه السلام ــ (قال لو أن لي بكم قوةً أو آوي إلى ركن شديد) هود 80.
والآيات في هذا المعنى كثيرة، وهى تدل على أن كثيراً من الرسل كانوا مستضعفين لم يكونوا ذوي سلطان في أقوامهم، وقد قامت الحجة بهم مع ذلك كما قال تعالى (لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل) النساء 165.(5/69)
أما إقامة الحجة من السلطان أو نوابه من القضاة فهذا شرط لاستيفاء العقوبة ممن أذنب في دار الإسلام. وهذا محل إجماع بين العلماء ــ وسيأتي الكلام فيه في شرح قاعدة التكفير في مبحث الاعتقاد بالباب السابع ــ أن الحكم على المعينين واستيفاء العقوبة منهم في دار الإسلام إنما هو للسلطان ونوابه لا لآحاد العامة.
فهناك فرق بين إقامة الحجة وبين الحكم واستيفاء العقوبة.
وبلفظ آخر: هناك فرق بين أحكام الدنيا وأحكام الآخرة، فمن قامت عليه الحجة بخبر الواحد العالم العدل المعروف ولم يعمل بموجب هذه الحجة فهو معذّب في الآخرة بذنبه، أما إذا كان ذنبه هذا فيه عقوبة دنيوية فإن الحكم عليه واستيفاء العقوبة منه إنما هو للسلطان ونوابه في دار الإسلام. وانظر (مجموعة الرسائل والمسائل النجدية) صـ 478، ط مكتبة الإمام الشافعي بالرياض، ط 2، 1408هـ.
هذا ما يتلعق بصفة من يقيم الحجة الرسالية.
المسألة الثالثة: صفة إقامة الحجة الرسالية
قد علمنا مما سبق صفة الحجة وأنها الأدلة الشرعية المعتبرة، وصفة من يقيمها، وهنا نتكلم في صفة إقامتها.
وضابط صفة إقامة الحجة: هو أن تبلغ المكلّف (المخاطَب) على وجه يمكنه به فهمها.
وهذه الصفة تُستوفى بشرطين:
1 ــ الشرط الأول: أن تصل الحجة للمخاطَب بِلُغته، وإذا اقتضى ذلك الترجمة فتكون واجبة. ودليل ذلك:
قوله تعالى (وماأرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبيّن لهم) إبراهيم 4.
وهل تجب الترجمة على من يقيم الحجة أم على المخاطب بها؟.
والجواب: أنه قد وردت الأدلة بهذا وهذا.
فمن الأول: مارواه البخاري في كتاب العلم عن أبي جمرة قال: كنت أترجم بين ابن عباس وبين الناس. الحديث (87)، وهو حديث وفد عبد القيس.(5/70)
ومن الثاني: مارواه البخاري في بدء الوحي عن ابن عباس في حديث هرقل، لما أرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم كتابه يدعوه إلى الإسلام، وفيه قال (فدعاهم في مجلسه وحوله عظماء الروم، ثم دعاهم ودعا بترجمانه، فقال) الحديث (7).
قال ابن تيمية رحمه الله (ومعلوم أن الأمة مأمورة بتبليغ القرآن لفظه ومعناه، وكما أمر بذلك الرسول ولايكون تبليغ رسالة الله إلا كذلك، وأن تبليغه إلى العجم قد يحتاج إلى ترجمة لهم، فيترجم لهم بحسب الإمكان. والترجمة قد تحتاج إلى ضرب أمثال لتصوير المعاني، فيكون ذلك من تمام الترجمة.) (مجموع الفتاوى) 4/ 116 ــ 117.
2 ــ الشرط الثاني: أن تكون الحجة مفصّلة مُبَيّنة.
وهذا هو المراد بالبلاغ المبين في قوله تعالى (فهل على الرسل إلا البلاغ المبين) النحل 35، وقال تعالى (فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين) المائدة 92، وقال تعالى (وماكان الله ليضل قوماً بعد إذ هداهم حتى يبيّن لهم مايتقون) التوبة 115. ومثلها آية النور 54، والتغابن 12.
وصفة البلاغ المبين هى كما قال ابن تيمية رحمه الله (وقوله تعالى (فأجره حتى يسمع كلام الله) سورة التوبة 6، قد علم أن المراد أنه يسمعه سمعاً يتمكن معه من فهم معناه، إذ المقصود لا يقوم بمجرد سمع لفظ لايتمكن معه من فهم المعنى، فلو كان غير عربي لوجب أن يترجم له ماتقوم به عليه الحجة، ولو كان عربياً وفي القرآن ألفاظ غريبة ليست من لغته، وجب أن نبين له معناها، ولو سمع اللفظ كما يسمعه كثير من الناس ولم يفقه المعنى وطلب منا أن نفسره له ونبين له معناه، فعلينا ذلك. وإن سألنا عن سؤال يقدح في القرآن أجبناه عنه، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أورد عليه بعض المشركين أو أهل الكتاب أو المسلمين سؤالا يوردونه على القرآن. فإنه كان يجيبهم عنه.) إلى آخر ماذكره في (الجواب الصحيح لمن بدّل دين المسيح) 1/ 68 ــ 69.(5/71)
ووصف ابن حزم البلاغ المبين بقوله (وصفة قيام الحجة هو أن تبلغه فلا يكون عنده شيء يقاومها) (الإحكام) 1/ 74.
فابن حزم أوجز في حين فصّل ابن تيمية، فإقامة الحجة والبلاغ المبين ينبغي أن يكون مفصلاً.
فإن أورد المخاطب أسئلة أو شبهات وجب الرد عليها فإن هذا من البلاغ المبين، وهذا إذا كانت الشبهات معتبرة ولها وجه، كأسئلة فرعون لموسى (قال فمن ربكما ياموسى، قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى، قال فما بال القرون الأولى، قال علمها عند ربي في كتاب لايضل ربي ولا ينسى) طه 49 ــ 52.
وإن أقيمت الحجة على شخص فلم يتبعها ولم يجب شيئا، فهذا المُعْرِض، كما قال تعالى (والذين كفروا عما أنذروا معرضون)س الأحقاف 3.(5/72)
وإن أقيمت الحجة على شخص فَرَدّ بالباطل والسخرية، فهذا مُعْرضُ ُ مستهزيء ينبغي الإعراض عنه كما قال تعالى (وأعرض عن الجاهلين) الأعراف 199، ومن الرد بالباطل أقوال فرعون بعدما انقطعت أسئلته (إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون) الشعراء 27، (لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين) الشعراء 29، و (أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولايكاد يبين) الزخرف 52. وهذا غالب حال الكفار ليست لهم حجج صحيحة يقاومون بها حجة الرسل كما قال ابن تيمية رحمه الله (ولهذا لايذكر الكفار حجة صحيحة تقدح في صدق الرسل، إنما يعتمدون على مخالفة أهوائهم، كقولهم لنوح: (أنؤمن لك واتبعك الأرذلون) الشعراء 111، ومعلوم أن اتباع الأرذلين له لايقدح في صدقه، لكن كرهوا مشاركة أولئك، كما طلب المشركون من النبي صلى الله عليه وسلم، ابعاد الضعفاء، كسعد بن أبي وقاص، وابن مسعود، وخباب بن الأرت، وعمار بن ياسر، وبلال ونحوهم، وكان ذلك بمكة قبل أن يكون في الصحابة أهل الصفة، فأنزل الله تبارك وتعالى: (ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه، ما عليك من حسابهم من شيء ومامن حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين، وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء مَنَّ الله عليهم من بيننا، أليس الله بأعلم بالشاكرين؟!) الأنعام 52 ــ 53.(5/73)
ومثل قول فرعون: (أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون) المؤمنون 47، وقول فرعون: (ألم نربّك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين، وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين) الشعراء 18ــ19، ومثل قول مشركي العرب: (ان نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا) قال الله تعالى: (أو لم نمكن لهم حرماً آمناً يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا؟!) القصص 57، ومثل قول قوم شعيب له: (أصلاتك تأمرك أن نترك مايعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا مانشاء) هود 87، ومثل قول عامة المشركين: (إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون) الزخرف 23.
وهذه الأمور وأمثالها ليست حججا تقدح في صدق الرسل، بل تبين أنها تخالف إرادتهم وأهوائهم وعاداتهم، فلذلك لم يتبعوهم، وهؤلاء كلهم كفار) (مجموع الفتاوى) 7/ 191 ــ 192.
وهذا كله فيما يتعلق بصفة إقامة الحجة وأنها ينبغي أن تكون بلسان المخاطب وأن تكون مفصلة مبيّنة كاشفة لكل شبهة.
ويبقى بعد ذلك تنبيهان متعلقان بهذه المسألة:
(التنبيه الأول) مسألة هل فهم الحجة شرط في بلوغها؟
إذ قد شاع عن بعض علماءالدعوة النجدية قولهم إن هناك فرقاً بين بلوغ الحجة وفهمها، وأن من بلغته الحجة فقد قامت عليه وإن لم يفهمها.(5/74)
ومن ذلك قول الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله (وأما أصول الدين التي أوضحها الله وأحكمها في كتابه فإن حجة الله هو القرآن فمن بلغه القرآن فقد بلغته الحجة، ولكن أصل الإشكال أنكم لم تفرقوا بين قيام الحجة وبين فهم الحجة فإن أكثر الكفار والمنافقين من المسلمين لم يفهموا حجة الله مع قيامها عليهم كما قال تعالى: «أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا» الفرقان 44. وقيام الحجة نوع، وبلوغها نوع وقد قامت عليهم وفهمهم إياها نوع آخر وكفرهم ببلوغها إياهم وإن لم يفهموها. إن أشكل عليكم ذلك فانظروا قوله صلى الله عليه وسلم في الخوارج «أينما لقيتموهم فاقتلوهم» وقوله: «شر قتلى تحت أديم السماء» مع كونهم في عصر الصحابة ويحقر الإنسان عمل الصحابة معهم ومع إجماع الناس أن الذي أخرجهم من الدين هو التشدد والغلو والاجتهاد وهم يظنون أنهم يطيعون الله، وقد بلغتهم الحجة ولكن لم يفهموها) من كتاب (الرسائل الشخصية) صـ 244 ــ 245، وهو الجزء الخامس من مؤلفات الشيخ الإمام محمد بن عبدالوهاب، ط جامعة الإمام محمد بن سعود.
وقال الشيخ سليمان بن سحمان النجدي (قال شيخنا الشيخ عبداللطيف رحمه الله: ــ وينبغي أن يعلم الفرق بين قيام الحجة، وفهم الحجة، فإن من بلغته دعوةالرسل فقد قامت عليه الحجة إذا كان على وجه يمكن معه العلم، ولايشترط في قيام الحجة أن يفهم عن الله ورسوله ما يفهمه أهل الإيمان والقبول والانقياد لما جاء به الرسول، فافهم هذا يكشف عنك شبهات كثيرة في مسألة قيام الحجة، قال الله تعالى (أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا) الفرقان 44، وقال تعالى (ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غِشَاوَةٌُ) البقرة 7، انتهى.(5/75)
قلت ومعنى قوله رحمه الله تعالى: «إذا كان على وجه يمكن معه العلم» فمعناه أن لا يكون عديم العقل والتمييز كالصغير والمجنون، أو يكون ممن لايفهم الخطاب، ولم يحضر ترجمان يترجم له، ونحو هؤلاء فمن بلغته رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وبلغه القرآن فقد قامت عليه الحجة، قال الله تعالى (لأنذركم به ومن بلغ) الأنعام 19، وقال تعالى (لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل) النساء 165، فلا يعذر أحد في عدم الإىمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، فلا عذر له بعد ذلك بالجهل، وقد أخبر الله سبحانه بجهل كثير من الكفار مع تصريحه بكفرهم) من كتاب (كشف الشبهتين) لسليمان بن سحمان، صـ 91 ــ 92.
وانظر أيضا (الدرر السنية في الأجوبة النجدية ــ كتاب المرتد ــ 8/ 245)، وهذا كثير في كتاباتهم.
فإن أرادوا:
1 ــ أن فهم الحجة كما يفهمها أهل الإيمان والقبول ليس شرطا في إقامتها بعد بلوغها، فهذا صواب.(5/76)
2 ــ وإن أرادوا أن فهم الحجة بمعنى معرفة المراد منها ليس شرطا في إقامتها بعد بلوغها فهذا خطأ. لأن الله تعالى بيّن أن الكفار فهموا المراد من دعوة الرسل وأنهم يدعون إلى التوحيد واجتناب الشرك، فمن هذا قوله تعالى عن قول عادٍ لنبيهم هود (قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ماكان يعبد آباؤنا)س الأعراف 70، وقال تعالى حكاية عن كفار مكة (أجعل الآلهة إلها واحداً إن هذا لشيء عجاب)س صلى الله عليه وسلم 5، وقال تعالى (إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون، ويقولون أإنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون)س الصافات 35 ــ 36، وهذه الآيات ونحوها تبيّن أن الكفار فهموا المراد من دعوة الرسل وفهموا معنى شهادة أن (لا إله إلا الله) وأنها تقتضي إخلاص العبادة لله وحده وخلع الأوثان المعبودة من دونه، ولكنهم امتنعوا عن الإيمان بها استكباراً وعناداً. وقد نبّه محمد بن عبدالوهاب نفسه على هذا المعنى في رسالته (كشف الشبهات في التوحيد) وقال إن مشركي العرب فهموا من معنى شهادة (أن لا إله إلا الله) مالم يفهمه كثير من المتأخرين، ونبّه على هذا أيضا حفيده الشيخ عبدالرحمن بن حسن صاحب (فتح المجيد) في رسالته (المورد العذب الزلال في كشف شبهة أهل الضلال). وقد سبق فيما نقلته عن ابن تيمية من كتابه (الجواب الصحيح) 1/ 68 قوله (وقوله تعالى « فأجره حتى يسمع كلام الله » التوبة 6، قد علم أن المراد أن يسمعه سمعاً يتمكن معه من فهم معناه، إذ المقصود لايقوم بمجرد سمع لفظ لايتمكن معه من فهم المعنى) أهـ. وهذا كله داخل في معنى البلاغ المبين الواجب على من يقيم الحجة.
والحاصل أن فهم المعنى المراد من الحجة شرط في صحة إقامتها.(5/77)
ويرتفع الإشكال في هذه المسألة بمعرفة أن الفهم فهمان، وكذلك السمع سمعان، وكذلك الهداية هدايتان، وقد أثبت الله تعالى للكفار نوعاً من السمع والعقل والهداية، ونفى عنهم نوعاً آخر، والنوع الأول المثبت لهم شرط في قيام الحجة عليهم وهو متعلق بفهم معنى الحجة وفهم المراد منها، أما النوع الثاني المنفي عن الكفار فهو متعلق بقبول الحجة والإيمان بها والانقياد لها.
1 ــ فأما جهة السمع، فهو نوعان:
(أ) سماع الإدراك: وهذا أثبته الله للكفار في قوله تعالى (وإذا تُتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا، لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين)س الأنفال 31، وقال تعالى (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله)س التوبة 6.
(ب) سماع القبول والاستجابة: وهذا نفاه الله عن الكفار في قوله تعالى (ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم، ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون)س الأنفال 23، وفي قوله تعالى ــ حكاية عن أهل النار ــ (وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ماكنا في أصحاب السعير)س الملك 10.
فأثبت الله لهم سمعاً (قالوا قد سمعنا)س ونفى عنهم سمعاً (لو كنا نسمع)س، فالمثبت سماع الإدراك وفهم المعنى، والمنفي سماع القبول والاستجابة.
2 ــ وكذلك العقل نوعان:
(أ) العقل الذي هو مناط التكليف الذي يتمكن به المكلف من فهم المعنى، وهذا أثبته الله للكفار، قال تعالى (أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ماعقلوه وهم يعلمون) البقرة 75، فأثبت الله لهم سمعاً (يسمعون كلام الله) وأنهم فهموا معناه (من بعد ماعقلوه، وهم يعلمون).(5/78)
(ب) العقل المستلزم لقبول الحجة والاستجابة لها، وهذا نفاه الله عن الكفار في قوله تعالى (وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ماكنا في أصحاب السعير) الملك 10، وأخبر الله تعالى أنه سلبهم هذا العقل عقوبة لهم على إعراضهم كما قال تعالى (ومن أظلم ممن ذُكِّر بآيات ربه فأعرض عنها ونسي ماقدمت يداه، إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقراً وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذاً أبداً) الكهف 57، فبيّن سبحانه أن هذا الطبع على قلوبهم وآذانهم كان عقوبة لهم على إعراضهم (فأعرض عنها.... إنا جعلنا على قلوبهم أكنة).
3 ــ وكذلك الهداية هدايتان:
(أ) هداية الإرشاد: وهذه أثبتها الله للكفار، كما قال تعالى (وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى) فصلت 17، وفي قوله تعالى (وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم) الشورى 52.
(ب) وهداية القبول والاستجابة: وهذه نفاها الله عن الكفار، كما قال تعالى (إنك لا تهدي من أحببت، ولكن الله يهدي من يشاء) القصص 56، وقوله تعالى (ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء) البقرة 272. فبيّن سبحانه أن النبي صلى الله عليه وسلم مكلف بهداية الإرشاد (وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم)، وغير مكلف بهداية القبول (ليس عليك هداهم) فهذه لله تعالى وحده.(5/79)
وإنما أثبت الله تعالى للكفار سماع الإدراك وفهم المعنى وهداية الإرشاد لأن هذا شرط في قيام الحجة ولا تقوم إلا به. ونفي عنهم النوع الثاني المتعلق بالقبول والاستجابة ــ الذي مَنّ به على المؤمنين ــ إذ لم يشأ الله لهم الإيمان. وهذا هو فصل الخطاب في الفهم المثبت للكفار والفهم المنفي عنهم. قال ابن القيم رحمه الله (ولهذا نفي سبحانه عن الكفار الأسماع والأبصار والعقول لما لم ينتفعوا بها. وقال تعالى (وجعلنا لهم سمعا وأبصاراً وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله) الأحقاف 26، وقال تعالى (ولقدذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس لهم قلوب لايفقهون بها ولهم أعين لايبصرون بها ولهم آذان لايسمعون بها) الأعراف 171، ولما لم يحصل لهم الهدى المطلوب بهذه الحواس كانوا بمنزلة فاقديها قال تعالى (صم بكم عمي فهم لايعقلون) البقرة 171) (مفتاح دار السعادة) 1/ 101.
ومن شاء المزيد في هذه المسألة فليرجع إلى:
* (مجموع فتاوى ابن تيمية) جـ 1/ 208 ــ 209، جـ 7/ 24، جـ 9/ 286 ــ 287، جـ 16/ 8 ــ 15.
* (مدارج السالكين) لابن القيم، ط دار الكتب العلمية، جـ 1/ 51 ــ 58، جـ 1/ 518 ــ 520.
* (مفتاح دار السعادة) لابن القيم، ط دار الفكر، جـ 1/ 101 ــ 102.
* (التفسير القيم) لابن القيم، ط دار الكتب العلمية، صـ 37 ومابعدها.
(التنبيه الثاني) الفرق بين إقامة الحجة وبين الدعوة
وبينهما فرق:
فإقامة الحجة كما في قوله تعالى (ياأيها المدثر، قم فأنذر)س المدثر1 ــ 2، وقوله تعالى (وأوحي إلى هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ) الأنعام 19.
وأما الدعوة فكما في قوله تعالى (ولقد وصّلنا لهم القول لعلهم يتذكرون) القصص 51.(5/80)
والذي يترتب عليه الوعيد في الدنيا والآخرة هو إقامة الحجة، أما الدعوة وهى مواصلة التذكير فإنها واجب آخر ووسيلة لانتشار الدين وتكثير أتباعه، فإن مِن الناس مَن يستجيب للدعوة بمجرد بلوغ الحجة كأبي بكر الصديق رضي الله عنه، ومنهم من لا يستجيب إلا بعد سنين كعمر بن الخطاب رضي الله عنه، ومنهم من لا يستجيب إلا بعد خصومة وقتال كأبي سفيان رضي الله عنه، ومنهم من لم يستجب ومات كافراً كأبي جهل وأبي لهب، وكلهم قد قامت عليه الحجة من يوم أن صدع بها النبي صلى الله عليه وسلم.
وإقامة الحجة الرسالية على النحو المذكور في هذا الفصل هو من فروض الكفاية على المسلمين، إذا لم يقم به من يكفي منهم لسدّ حاجة المسلمين أثم الكل، وقد يصير فرض الكفاية فرض عين في أحوال مذكورة بالفصل الثالث من الباب الثاني بهذا الكتاب. كما يتعين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مواضع مثل أن لايكون هناك من يعلم بالمنكر غيره.
ويلاحظ أن قد طرأ تقصير في القيام بالحجة الرسالية في هذا الزمان ويرجع إلى سببين: الأول نقص عدد القائمين بذلك، والثاني: مشقة الارتحال إلى حيث يوجد المؤهل لذلك بسبب التعقيدات الإدارية المتعلقة بالسفر والانتقال بين البلدان. إلا أنه ومن رحمة الله تعالى ولما سبق من إرادته بحفظ هذا الدين قد حدث تطورات في هذا الزمان تجبر بعض هذا التقصير، ومنها وسائل الطباعة الحديثة التي أدت إلى وفرة ضخمة في الكتاب الإسلامي الذي كان ينسخ قديما بخط اليد، ومنها الإذاعة (الراديو) التي تمكّن مَنْ ببلاد المغرب إلى الاستماع لفتاوى العلماء ببلاد المشرق، ومنها انتشار أشرطة التسجيل (الكاسيت) المتضمنة للعلوم الشرعية المختلفة، كل هذا مما يساعد على نشر العلم في هذا الزمان.
وهذا آخر ماأذكره في الفصل الثالث وبالله تعالى التوفيق.
الفصل الرابع
صفة قيام الحجة الرسالية
من جهة المخاطَب بها
وفيه مسألتان:(5/81)
1 ــ ضابط قيام الحجة الرسالية على المخاطَب بها، أي على المكلَّف.
2 ــ ضابط التمكن من العلم.
وهذا بيانها.
المسألة الأولى: ضابط قيام الحجة الرسالية
على المكلفين (وهو التمكن من العلم بالحجة)
ليس معنى أن المكلف بإقامة الحجة عليه البلاغ المبين أن يبلغها على هذه الصفة لآحاد المكلفين على التعيين حتى تقوم عليهم الحجة وينقطع عذرهم. فهناك فرق بين الواجب على القائم بالحجة والواجب على المخاطب بها وهو المكلف.
أما القائم بالحجة فقد ذكرنا صفته ومايجب عليه في الفصل السابق.
وأما المكلف المخاطب بالحجة فإن عذره ينقطع وتعتبر الحجة قائمة عليه بمجرد تمكنه من طلبها لابحقيقة بلوغها إليه. والدليل على ذلك:
جميع الأدلة المذكورة في مسألة (وجوب العلم قبل القول والعمل) بالباب الثاني من هذا الكتاب.
كقوله تعالى (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لاتعلمون) النحل 43.
وقوله تعالى (ياأيها الذين آمنوا لاتقدموا بين يدي الله ورسوله) الحجرات 1.
وقوله صلى الله عليه وسلم (طلب العلم فريضة على كل مسلم) صححه السيوطي بمجموع طرقه.
وغيرها من الأدلة المذكورة في الباب الثاني.
ومن جهة التمكن أتكلم في مسألتين: صفة التمكن، وأحوال المتمكن من طلب العلم.
أولا: صفة التمكن من طلب العلم.
والتمكن له شرطان:
1 ــ من جهة المكلّف: وهو شرط سلامة الآلات التي يستطيع أن يصل بها إلى الخطاب ويفهمه، فيشترط لفهم الخطاب سلامة السمع والعقل، ويشترط للوصول إلى الخطاب القدرة على الوصول إليه بالسفر وغيره إذا لم يكن الخطاب (العلم) متيسراً بمحله وببلده. فإذا فقد السمع أو العقل أو عجز عن الوصول للخطاب فهو غير متمكن من العلم.
2 ــ ومن جهة الحجة الرسالية (أي العلم الشرعي): فشرط التمكن أن يكون هذا العلم متيسراً موجوداً يمكن للمكلف الوصول إليه.
فإذا تحقق التمكن للمكلف فله أحوال سنذكرها في (ثانيا).(5/82)
وإذا لم يتحقق له التمكن فهذا ممن لم تصله الحجة الرسالية في الدنيا وهو من الذين يمتحنون في عرصات القيامة كما سبق بيانه. وإذا كان عدم التمكن من جهة الحجة فهى مسألة (إذا لم يجد المستفتي من يفتيه البته) المذكورة بالباب الخامس.
وقد لايتحقق له التمكن في وقت ثم يتحقق له بعد ذلك في الدنيا حسب تغير الأحوال.
ثانيا: أحوال المتمكن من طلب العلم.
وهو الذي تحقق له التمكن على الصفة المذكورة في (أولا)، وهذا له أحوال من جهة أدائه ماوجب عليه من طلب العلم أو تقصيره في ذلك، والضابط الجامع هنا هو قوله تعالى (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) البقرة 286.
أما أحواله فهى:
الحال الأول: أن يسعى في طلب العلم الواجب ويدركه.
ومن حق السعي أنه يجب عليه إذا لم يجد أحداً يفتيه ببلده أن يرتحل إلى حيث يجد من يفتيه كما سبق بيانه في أحكام المستفتي بالباب الخامس.
فإذا وجد من يقيم عليه الحجة على الصفة المذكورة بالفصل السابق، فهذا قد أدى واجبه وأدرك الحق.
الحال الثانية: ألا يسعى في طلب العلم الواجب.
فهذا مقصّر، مفرّط، مُعرض عن الحق، غير معذور بجهله، وهو آثم في الدنيا والآخرة.
وفي هذا الصنف قال ابن القيم رحمه الله (فكل من تمكّن من معرفة ماأمر الله به ونهى عنه، فقصَّر عنه ولم يعرفه، فقد قامت عليه الحجة) (مدارج السالكين) 1/ 239. وعلى هذا القول سائر أهل العلم وستأتي أقوالهم فيما بعد إن شاء الله.
الحال الثالثة: أن يسعى في طلب العلم الواجب ويدرك بعضه.
ومن حق السعي أن يجتهد فيه، وأنه إذا بلغه خبر من غير ثقة أن يتثبت فيه كما سبق في الفصل السابق، وأنه إذا اختلفت لديه الأقوال في المسألة فإنه يجب عليه الترجيح بسؤال الأعلم الأوثق كما سبق بيانه في أحكام المستفتي في الباب الخامس (إذا اختلف عليه مفتيان فأكثر). فإذا سعي حق السعي ولم يجد من يقيم عليه الحجة على الصفة المذكورة بالفصل السابق، فله حالان:(5/83)
1 ــ سعي ولم يجد إلا من يدلّه على الباطل:
فهذا قال فيه ابن حزم (وأما من بلغ إليه خبر غير صحيح عن النبيص وصححه له متأول أو جاهل أو فاسق لم يعلم هو بفسقه. فهذا هو مبلغ اجتهاد هذا الإنسان ولم يكلفه الله تعالى أكثر مافي وسعه ولا مالم يبلغه، فهو إن عمل بما بلغه من ذلك الباطل فمعذور بجهله، لا إثم عليه. لأنه لم يتجانف لإثم والأعمال بالنيات، فهو مجتهد مأجور مرة في قصده بنيته إلى الخير) (الإحكام) 1/ 65. والذي يظهر أن هذا المكلف إذا لم يدرك الحق فيما يتعلق بالتوحيد فحكمه حكم غير المتمكن الذي لم تبلغه حجة في الدنيا ويختبر يوم القيامة، أما من لم يدرك الحق في بعض الأحكام ــ غير التوحيد ــ مع سعيه، فهذا لا إثم عليه باتفاق العلماء.
2 ــ سعى ولم يدرك إلا بعض الحق.
لنقص العلم بالحجة الرسالية وندرة من يعرفه أو يدل عليه، فمن سعى ولم يدرك إلا بعض الحق، فهذا ناجٍ قد أدى واجبه.(5/84)
وعلى هذا الحال يتنزل خبر زيد بن عمرو بن نفيل وقد سبق ذكر قصته، وكان قد رحل من مكة إلى الشام يطلب الحق لدى اليهود والنصارى، وذلك فيما رواه البخاري (أن زيد بن عمرو بن نفيل خرج إلى الشام يسأل عن الدين ويتبعه، فلقي عالماً من اليهود فسأله عن دينهم فقال: إني لعلى أن أدين دينكم فأخبرني. فقال: لاتكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من غضب الله. قال زيد: ماأفِرُّ إلا من غضب الله، ولا أحمل من غضب الله شيئا أبدا وأني أستطيعُه؟ فهل تدُلُّني على غيره؟ قال: ما أعلمه إلا أن يكون حنيفاً. قال زيد: وماالحنيف؟ قال: دين إبراهيم، لم يكن يهودياً ولا نصرانياً ولايعبد إلا الله. فخرج زيد فلقي عالماً من النصارى، فذكر مثله فقال: لن تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من لعنة الله. قال: ماأفر إلا من لعنة الله، ولاأحمل من لعنة الله ولا من غضبه شيئا أبدا، وأني أستطيع؟ فهل تدلني على غيره؟ قال: ماأعلمه إلا أن يكون حنيفاً. قال: وماالحنيف؟ قال: دين إبراهيم، لم يكن يهودياً ولا نصرانياً ولايعبد إلا الله. فلما رأى زيد قولهم في إبراهيم عليه السلام خرج، فلما برز رفع يديه فقال: اللهم إني أشهد أني على دين إبراهيم) (حديث 27 83). وقال ابن حجر في الشرح (ووقع في حديث زيد ابن حارثة ــ أي عن زيد بن عمرو ــ «قال لي شيخ من أحبار الشام: إنك لتسألني عن دين ماأعلم أحداً يعبد الله به إلا شيخاً بالجزيرة، قال فقدمت عليه فقال: إن الذي تطلب قد ظهر ببلادك وجميع من رأيتهم في ضلال» وفي رواية الطبراني من هذا الوجه «وقد خرج في أرضك نبي، أو هو خارج، فارجع وصدّقه وآمن به» ــ إلى أن قال ابن حجر ــ وفي رواية ابن اسحق «وكان يقول: اللهم لو أعلم أحب الوجوه إليك لعبدتك به، ولكني لا أعلمه، ثم يسجد على الأرض براحته») (فتح الباري) 7/ 144 ــ 145.(5/85)
فإذا تبيّن لك أن زيد بن نفيل ناج ــ راجع الأحاديث الواردة في ذلك نقلا عن ابن كثير من «البداية والنهاية» بآخر الفصل الثاني ــ وأن غيره من مشركي العرب في النار كما في قوله صلى الله عليه وسلم (إن أبي وأباك في النار) الحديث رواه مسلم. تبيّن لك الفرق بين المتمكن الذي سعي جهده وأدرك بعض الحق فهذا ناجٍ، وبين المتمكن المُعرِض المقصّر فهذا هالك. وهذان المثالان يبينان لك المعنى المراد بكلمة (إذا كان مثله لا يجهل ذلك) التي يرددها بعض العلماء كضابط في هذه المسألة. لأن زيد بن نفيل والذي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنه في النار، كلاهما كان في نفس الحال (الزمان والمكان) وأحدهما ناجٍ فقيس غيره عليه، فإن لم يفعل مثله فهو مقصّر هالك.(5/86)
ومن باب النجاة بإدراك بعض الحق: ماورد عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب، حتى لا يُدْري ما صيام ولاصلاة ولا نُسُك ولا صدقة، ويُسري على كتاب الله تعالى في ليلة فلا يبقى في الأرض منه آية، وتبقى طوائف من الناس، الشيخ الكبير والعجوز الكبيرة يقولون: أدركنا آباءنا على هذه الكلمة لا إله إلا الله، فنحن نقولها) فقال صلة بن زفر لحذيفة فما تغني عنهم لا إله إلا الله وهم لايدرون ما صلاة ولاصيام ولا نسك ولا صدقة؟ فأعرض عنه حذيفة، فرددها عليه ثلاثا، كل ذلك يعرض عنه حذيفة، ثم أقبل عليه في الثالثة، فقال (يا صلة! تنجيهم من النار، تنجيهم من النار) رواه ابن ماجة في سننه. ورواه الحاكم في مستدركه وقال هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وقال الحافظ ابن حجر: رواه ابن ماجة بسند قوي عن حذيفة (فتح الباري) 13/ 16. أما زوال القرآن من الأرض فهذا يكو بعد موت عيسى بن مريم عليه السلام في آخر الزمان كما ذكره القرطبي في تذكرته، انظر «مختصر تذكرة القرطبي» للشعراني صـ 144 ط دار الفكر، وهو الخلوّ المطلق للعلم من للأرض، ولكن قد يحدث خلوّ نسبي قبل ذلك من الأزمان في بعض الأرض لا كلها، وهى مسألة (إذا لم يجد المستفتي من يفتيه البته) المذكورة في كل من أحكام المفتي والمستفتي بالباب الخامس، وفيها استدل العلماء بهذا الحديث على أن المكلف يعمل بما أمكنه من العلم ويسقط عنه فرض مالم يعلمه، وانظر في هذا (أدب المفتي والمستفتي) لابن الصلاح صـ 105 ــ 106، و (المجموع) للنووي جـ 1 صـ 58، واستدل ابن تيمية بهذا الحديث على ذلك أيضا فقال رحمه الله (وفي أوقات الفترات، وأمكنة الفترات: يُثاب الرجل على مامعه من الإيمان القليل، ويغفر الله فيه لمن لم تقم الحجة عليه مالا يغفر به لمن قامت الحجة عليه، كما في الحديث المعروف: «يأتي على الناس زمان لا يعرفون فيه(5/87)
صلاة. ولا صياماً، ولا حجاً، ولا عمرة، إلا الشيخ الكبير، والعجوز الكبيرة. ويقولون: أدركنا آباءنا وهم يقولون لا إله إلا الله» فقيل لحذيفة بن اليمان: ما تغني عنهم لا إله إلا الله؟ فقال: تنجيهم من النار») (مجموع الفتاوى) جـ 35 صـ 165، وكرر هذا أيضا في جـ 1/ صـ 407 ــ 408.
والمذكور في هذا الحديث صورته كصورة زيد بن عمرو بن نفيل الذي نجا بما معه من الإيمان القليل لأنه هو الذي تمكّن منه في زمان فترة الشريعة.
هذه أحوال المتمكن من طلب العلم.
واعلم أن هناك اتفاقا بين العلماء على أن ضابط قيام الحجة على المكلف هو تمكنه من طلب العلم لا حقيقة بلوغ العلم إليه، لايختلفون في ذلك. ولهذا فقد قلت في أول هذا الباب إنه إزراء بالسلف أن يُظن بهم أنهم لم يتكلموا في هذه المسألة.
وجميع النصوص الدالة على العذر بالجهل أو الدالة على عدم العذر بالجهل، وكذلك الأحوال التي يُعذر فيها بالجهل والتي لايعذر فيها بالجهل، كل هذه يجمعها ضابط واحد، وهو التمكن من العلم أو عدمه،وبهذا الضابط يرتفع الإشكال بين النصوص المتعارضة في هذه المسألة كالنصوص التي ذكرتها في آخر الفصل الثاني، في التنبيه على خطأ من أطلق القول بعدم العذر بالجهل وخطأ من أطلق القول بالعذر به.
1 ــ فمن الأحوال التي يذكر العلماء أنه لا يُعذر فيها بالجهل:(5/88)
(أ) أنه لاعذر بالجهل للمقيم في دار الإسلام: ويعللون ذلك بأنها مظنة لانتشار العلم، وأنه المكلف يتمكن من طلب علم مايجب عليه فيها. حتى أنهم يقولون إذا أسلم الكافر في دار الحرب ولم يُصَلّ مدة ثم علم بوجوب الصلاة فلا يقضي مافاته، أما إذا أسلم في دار الإسلام (كالذمي إذا أسلم) ولم يُصَل مدة ثم صلى فإنه يجب عليه القضاء لأنه متمكن من معرفة وجوب الصلاة، خاصة وهو يرى الناس يصلون في دار الإسلام، فتركُه لها بتقصير منه. ومع ذلك يستثنى العلماءأحوالاً يعذرون فيها بالجهل في دار الإسلام وهو حديث العهد بالإسلام، ومن نشأ في بادية، أو في شاهق جبل لايخالط المسلمين. والضابط الذي يحكم كل هذه الصور والاستثناءات هو التمكن من العلم أو عدمه. فليست العبرة بمجرد الإقامة بدار الإسلام أو دار الحرب، ولكن لأن الأولى مظنة العلم والثانية مظنة الجهل.
(ب) أنه لاعذر بالجهل في المعلوم من الدين بالضرورة، وهو مايشترك جمهور الناس في العلم به في مكان معين في زمان معين، وإنما لم يعذروا أحداً بالجهل فيه لأنه يمكن العلم به بسهولة ويُسْر، وفي مقابل المعلوم بالضرورة يقولون بالعذر بالجهل في المسائل الخفية لأنه لايتمكن من العلم بها آحاد العامة.
انظر في المعلوم بالضرورة: (جامع العلوم والحكم) لابن رجب الحنبلي، صـ 59، في شرح الحديث السادس، وانظر (مجموع فتاوى ابن تيمية) 13/ 118.
2 ــ ومن الأحوال التي يعذرون فيها بالجهل:
( أ) من أسلم في دار الحرب ولم يجد من يعلمه: ويمثلون له بالنجاشي، فإذا وجد من يعلمه في دار الحرب فلا يُعذر لأن العبرة بالتمكن من التعلم لامجرد وجوده في الدار.
(ب) حديث العهد بالإسلام: ودليله حديث ذات أنواط.
(جـ) من نشأ ببادية أو شاهق جبل منقطعا عن الناس، كالمرأة التي استهلت بالاقرار بالزنا على عهد عمر.(5/89)
(د) في المسائل الخفية: التي يخفى علمها على كثير من المسلمين. انظر (مجموع فتاوى ابن تيمية) جـ 1/ 106، جـ 4/ 54 ــ 55، جـ 18/ 54 ــ 55.
(هـ) ندرة العلم في مكان ما: فيعذر فيما لايمكنه العلم به: كزيد بن نفيل، وحديث حذيفة وصلة.
والضابط في هذا كله هو التمكن من التعلم أو عدمه، فإذا كان متمكنا ولم يتعلم فهو مقصر آثم غير معذور، وإذا كان غير متمكن فهو معذور بجهله.
وإليك طائفة من أقوال العلماء المبينة لضابط التمكن من التعلم:
وسيذكر بعضهم الأحوال التي يعذر فيها والتي لايعذر فيها بالجهل كأمثلة للتمكن أو عدمه، وهى الأحوال التي ذكرتها أعلاه.
1 ــ أبو محمد بن حزم رحمه الله
قال (ورأيت قوما يذهبون إلى أن الشرائع لاتلزم من كان جاهلا بها ولا من لم تبلغه.
قال أبو محمد: وهذا باطل بل هى لازمة له لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى الإنس كلهم، وإلى الجن كلهم، وإلى كل من لم يولد، إذا بلغ بعد الولادة.(5/90)
قال أبو محمد: قال الله تعالى آمراً له أن يقول: «إنِّي رسول الله إليكم جميعا» الأعراف 158. وهذا عموم لايجوز أن يخص منه أحد. وقال تعالى: «أيحسب الإنسان أن يترك سدى» القيامة 36. فأبطل سبحانه أنه يكون أحد سدى، والسدى: المهمل الذي لايؤمر ولا ينهى، فأبطل عزوجل هذا الأمر، ولكنه معذور بجهله ومغيبه عن المعرفة فقط، وأما من بلغه ذكر النبي صلى الله عليه وسلم حيث ماكان من أقاصى الأرض ففرض عليه البحث عنه، فإذا بلغته نذارته ففرض عليه التصديق به واتباعه، وطلب الدين اللازم له، والخروج عن وطنه لذلك، وإلا فقد استحق الكفر، والخلود في النار، والعذاب بنص القرآن، وكل ماذكرنا يبطل قول من قال من الخوارج إن في حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم يلزم من في أقاصي الأرض الإىمان به، ومعرفة شرائعه، فإن ماتوا في تلك الحال ماتوا كفاراً إلى النار، ويبطل هذا قول الله عزوجل «لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ماكسبت وعليها ما اكتسبت» البقرة 286، وليس في وسع أحد علم الغيب.
فإن قالوا فهذه حجة الطائفة القائلة إنه لايلزم أحدا شيء من الشرائع حتى تبلغه، قلنا لاحجة لهم فيها لأن كل ما كلف الناس فهو في وسعهم، واحتمال بنيتهم، إلا أنهم معذورون بمغيب ذلك عنهم ولم يكلفوا ذلك تكليفا يعذبون به إن لم يفعلوه، وإنما كلفوه تكليف من لايعذبون حتى يبلغهم ومن بلغه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه له أمراً من الحكم مجملاً أو لم يبلغه نصه، ففرض عليه اجهاد نفسه في طلب ذلك الأمر، وإلا فهو عاص لله عزوجل. قال الله تعالى: «فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون» النحل 43.) أهـ (الفصل في الملل والأهواء والنحل) لابن حزم، 4/ 106) ط دار الجيل.(5/91)
وقال ابن حزم أيضا (قال الله عزوجل «وماكنا معذبين حتى نبعث رسولا» فصح أنه لاعذاب على كافر أصلا حتى يبلغه نذارة الرسول صلى الله عليه وسلم. وأما من بلغه ذكر النبي محمد صلى الله عليه وسلم وماجاء به، ثم لم يجد في بلاده من يخبره عنه ففرض عليه الخروج عنها إلى بلاد يستبريء فيها الحقائق ولولا إخباره عليه السلام أنه لانبي بعده، للزمنا ذلك في كل من نسمع عنه أنه ادعى النبوة، ــ إلى أن قال ــ وكل من كان منا في بادية لايجد فيها من يعلمه شرائع دينه ففرض على جميعهم من رجل أو امرأة أن يَرْحَلوا إلى مكان يجدون فيه فقيها يعلمهم دينهم، أو أن يُرَحّلوا إلى أنفسهم فقيها يعلمهم أمور دينهم، وإن كان الإمام يعلم ذلك فليرحل إليهم فقيها يعلمهم) (الإحكام) 5/ 118.
2 ــ شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
وبكل أسف فإن بعض المعاصرين الذي أطلقوا القول بالعذر بالجهل كما ذكرت في آخر الفصل الثاني احتجوا في ذلك بأقوال لابن تيمية بأنه لايكفر إلا من قامت عليه الحجة الرسالية، ولم يذكروا شيئا من كلامه في ضابط التمكن، فإن كلامه عن قيام الحجة الرسالية كله مقيد بضابط التمكن. وكلام العلماء يجب أن يُجمع بعضه إلى بعض ليُعرف مطلقه من مقيده ومجمله من مفسَّره شأنه شأن النصوص الشرعية، وهذا متفق عليه عند أهل العلم.
فمن كلامه في وجوب إقامة الحجة الرسالية قبل التكفير، قوله رحمه الله (هذا مع أني دائماً ومن جالسني يعلم ذلك مني: أني من أعظم الناس نهياً عن أن ينسب معين إلى تكفير، وتفسيق، ومعصية، إلا إذا علم أنه قد قامت عليه الحجة الرسالية التي من خالفها كان كافراً تارة، وفاسقاً أخرى، وعاصياً أخرى) (مجموع الفتاوى) 3/ 229. وقال أيضا (لكن ليس كل من تكلم بالكفر يكفر، حتى تقوم عليه الحجة المثبتة لكفره، فإذا قامت عليه الحجة كفر حينئذٍ) (مجموع الفتاوى) 5/ 306. وهذا كثير في كلامه.
أما كلامه الذي ينص فيه على ضابط التمكن من العلم، فمنه:(5/92)
قوله رحمه الله (حكم الخطاب لايثبت في حق المكلفين إلا بعد تمكنهم من معرفته في أصح الأقوال) (مجموع الفتاوى) 20/ 25.
وقال أيضا (أن الله يقول «وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا»، والحجة على العباد إنما تقوم بشيئين: بشرط التمكن من العلم بما أنزل الله، والقدرة على العمل به. فأما العاجز عن العلم كالمجنون أو العاجز عن العمل فلا أمر عليه ولا نهي، وإذا انقطع العلم ببعض الدين، أو حصل العجز عن بعضه: كان ذلك في حق العاجز عن العلم أو العمل بقوله كمن انقطع عن العلم بجميع الدين أو عجز عن جميعه كالمجنون مثلا، وهذه أوقات الفترات.) (مجموع الفتاوى) 20/ 59.
وقال ابن تيمية أيضا (وإذا تبين هذا فمن ترك بعض الإيمان الواجب لعجزه عنه، إما لعدم تمكنه من العلم: مثل أن لاتبلغه الرسالة، أو لعدم تمكنه من العمل، لم يكن مأموراً بما يعجز عنه، ولم يكن ذلك من الإيمان والدين الواجب في حقه، وإن كان من الدين والإيمان الواجب في الأصل) (مجموع الفتاوى) 12/ 478 ــ 479.
وقال أيضا (إذا كان التكليف مشروطاً بالتمكن من العلم الذي أصله العقل، وبالقدرة على الفعل) (مجموع الفتاوى) جـ 10/ 347، وله مثله في جـ 21/ 634.
وقال ابن تيمية أيضا (إن هذا العذر لايكون عذراً إلا مع العجز عن إزالته، وإلا فمتى أمكن الإنسان معرفة الحق فقصّر فيها لم يكن معذوراً) (مجموع الفتاوى) 20/ 280.(5/93)
وقال أيضا (وبالجملة لا خلاف بين المسلمين أن من كان في دار الكفر وقد آمن وهو عاجز عن الهجرة لا يجب عليه من الشرائع مايعجز عنها بل الوجوب بحسب الإمكان، وكذلك مالم يعلم حكمه، فلو لم يعلم أن الصلاة واجبة عليه وبقي مدة لم يصل لم يجب عليه القضاء في أظهر قولي العلماء، وهذا مذهب أبي حنيفة وأهل الظاهر، وهو أحد الوجهين في مذهب أحمد ــ إلى أن قال ــ والصواب في هذا الباب كله أن الحكم لايثبت إلا مع التمكن من العلم، وأنه لايقضي مالم يعلم وجوبه) (مجموع الفتاوى) جـ 19/225 ــ 226، وله مثله في جـ 11/ 406.
وقال ابن تيمية أيضا (والله تعالى كما أخبر بأنها ــ أي الأمة ــ تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر فقد أوجب ذلك على الكفاية منها بقوله «ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون»، وإذا أخبر بوقوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر منها لم يكن من شرط ذلك أن يصل أمرالآمر ونهي الناهي منها إلى كل مكلّف في العالم، إذ ليس هذا من شرط تبليغ الرسالة، فكيف يُشترط فيما هو من توابعها؟، بل الشرط أن يتمكن المكلفون من وصول ذلك إليهم، ثم إذا فرّطوا فلم يسعوا في وصوله إليهم مع قيام فاعله بما يجب عليه كان التفريط منهم لا منه) أهـ (مجموع الفتاوى) جـ 28 صـ 125 ــ 126. وقد أدرجت في كلامه كلمة ــ الأمة ــ بين شرطتين.
وكل كلام شيخ الإسلام السابق بيّن فيه ضابط التمكن وأن المتمكن إذا قصّر في طلب الحق فهو غير معذور، وأنه لايشترط أن يبلغ القائم بالحجة الحجة لكل إنسان.
وإليك طائفة أخرى من أقواله تبين ضابط التمكن أيضا، ويذكر فيها بعض الأحوال التي يعذر فيها بالجهل لعدم التمكن، وسبق أن ذكر منها من أسلم في دار الكفر، فمنها:(5/94)
قوله رحمه الله (وهذا لأن لحوق الوعيد لمن فعل المحرم مشروط بعلمه بالتحريم، أو بتمكنه من العلم بالتحريم، فإن من نشأ ببادية أو كان حديث عهد بالإسلام وفعل شيئا من المحرمات غير عالم بتحريمها لم يأثم ولم يحد، وإن لم يستند في استحلاله إلى دليل شرعي. فمن لم يبلغه الحديث المحرم واستند في الاباحة إلى دليل شرعي أولى أن يكون معذورا) (مجموع الفتاوى) 20/ 252.
وقال أيضا (وكثير من الناس قد ينشأ في الأمكنة والأزمنة الذي يندرس فيها كثير من علوم النبوات، حتى لايبقي من يُبَلّغ مابعث الله به رسوله من الكتاب والحكمة، فلا يعلم كثيراً مما يبعث الله به رسوله ولايكون هناك من يبلغه ذلك، ومثل هذا لايكفر، ولهذا اتفق الأئمة على أن من نشأ ببادية بعيدة عن أهل العلم والإىمان، وكان حديث العهد بالإسلام، فأنكر شيئاً من هذه الأحكام الظاهرة المتواترة فإنه لايحكم بكفره حتى يعرف ما جاء به الرسول، ولهذا جاء في الحديث « يأتي على الناس زمان لايعرفون فيه صلاة ولا زكاة ولا صوماً ولا حجا إلا الشيخ الكبير، والعجوز الكبيرة، يقول أدركنا آباءنا وهم يقولون: لا إله إلا الله، وهم لايدرون صلاة ولا زكاة ولا حجا. فقال: ولاصوم ينجيهم من النار ».) (مجموع الفتاوى) 11/ 407 ــ 408. وله مثله في جـ 35/ 165 ــ 166.
وقال أيضا (والتكفير هو من الوعيد. فإنه وإن كان القول تكذيباً لما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن قد يكون الرجل حديث عهد بإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة. ومثل هذا لايكفر بجحد ما يجحده حتى تقوم عليه الحجة.) (مجموع الفتاوى) 3/ 231، وله مثله في جـ3/ 354.
وقال ابن تيمية أيضا (فأما من تعمد تحريف الكتاب لفظه أو معناه، أو عرف ماجاء به الرسول فعانده فهذا مستحق للعقاب، وكذلك من فرط في طلب الحق واتباعه متبعاً لهواه مشتغلاً عن ذلك بدنياه) (الجواب الصحيح لمن بدّل دين المسيح) 1/ 310.(5/95)
فهذه بعض أقوال ابن تيمية في بيان ضابط التمكن من التعلم والأحوال التي يعذر فيها بالجهل لعدم التمكن، وهذا يقيد كل كلامه في وجوب إقامة الحجة الرسالية.
3 ــ كلام ابن القيم رحمه الله في نفس المسألة.
قال رحمه الله (اعتراف العبد بقيام حجة الله عليه من لوازم الإيمان. أطاع أم عصى. فإن حجة الله قامت على العبد بإرسال الرسول، وإنزال الكتاب، وبلوغ ذلك إليه، وتمكنه من العلم به. سواء علم أو جهل. فكل من تمكن من معرفة ماأمر الله به ونهى عنه. فقصر عنه ولم يعرفه. فقد قامت عليه الحجة.) (مدارج السالكين) 1/ 239، ط دار الكتب العلمية.
وقال أيضا (لكن قد يشتبه الأمر على من يقدم قول أحد أو حكمه، أو طاعته أو مرضاته، ظناً منه أنه لا يأمر ولا يحكم ولايقول إلا ماقاله الرسول. فيطيعه، ويحاكم إليه، ويتلقي أقواله كذلك. فهذا معذور إذا لم يقدر على غير ذلك. وأما إذا قدر على الوصول إلى الرسول، وعرف أن غير من اتبعه هو أولى به مطلقاً، أو في بعض الأمور. ولم يلتفت إلى الرسول ولا إلى من هو أولى به. فهذا الذي يخاف عليه. وهو داخل تحت الوعيد.) (المرجع السابق) 1/ 113.
وقال ابن القيم (فأحكام التكليف تتفاوت بحسب التمكن من العلم والقدرة) (اعلام الموقعين) 4/220.
وقال أيضا (فإن قيل فهل لهذا عذر في ضلاله إذا كان يحسب أنه على هدى كما قال تعالى (ويحسبون أنهم مهتدون)س. قيل لا عذر لهذا وأمثاله من الضلال الذين منشأ ضلالهم الإعراض عن الوحي الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ولو ظن أنه مهتد فإنه مُفرِّط بإعراضه عن اتباع داعي الهدى فإذا ضل فإنما أتى من تفريطه وإعراضه وهذا بخلاف من كان ضلاله لعدم بلوغ الرسالة وعجزه عن الوصول إليها فذاك له حكم آخر والوعيد في القرآن إنما يتناول الأول وأما الثاني فإن الله لايعذب أحدا إلا بعد إقامة الحجة عليه) (مفتاح دار السعادة) جـ 1 صـ 44، ط دار الفكر.(5/96)
وقال ابن القيم أيضا (وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «من دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل أوزار من اتبعه. لاينقص من أوزارهم شيئا» وهذا يدل على أن كفر من اتبعهم إنما هو بمجرد اتباعهم وتقليدهم. نعم لابد في هذا المقام من تفصيل به يزول الإشكال، وهو الفرق بين مقلد تمكن من العلم معرفة الحق فأعرض عنه، ومقلد لم يتمكن من ذلك بوجه، والقسمان واقعان في الوجود، فالمتمكن المعرض مفرط تارك للواجب عليه لاعذر له عند الله، وأما العاجز عن السؤال والعلم الذي لايتمكن من العلم بوجه فهم قسمان أيضا: أحدهما مريد للهدى مؤثر له محب له، غير قادر عليه ولا على طلبه لعدم من يرشده، فهذا حكمه حكم أرباب الفترات، ومن لم تبلغه الدعوة. الثاني معرض لا إرادة له، ولايحدث نفسه بغير ماهو عليه. فالأول يقول: يارب لو أعلم لك دينا خيرا مما أنا عليه لدنت به وتركت ماأنا عليه. ولكن لا أعرف سوى ماأنا عليه ولا أقدر على غيره، فهو غاية جهدي ونهاية معرفتي. والثاني: راض بما هو عليه لايؤثر غيره عليه ولاتطلب نفسه سواه، ولافرق عنده بين حال عجزه وقدرته، وكلاهما عاجز، وهذا لايجب أن يلحق بالأول لما بينهما من الفرق: فالأول كمن طلب الدين في الفترة ولم يظفر به فعدل عنه بعد استفراغ الوسع في طلبه عجزا وجهلا، والثاني كمن لم يطلبه بل مات على شركه وإن كان لو طلبه لعجز عنه، ففرق بين عجز الطالب وعجز المعرض. فتأمل هذا الموضع، والله يقضي بين عباده يوم القيامة بحكمه وعدله ولايعذب إلا من قامت عليه حجته بالرسل، فهذا مقطوع به في جملة الخلق. وأما كون زيد بعينه وعمرو قامت عليه الحجة أم لا، فذاك مما لايمكن الدخول بين الله وبين عباده فيه، بل الواجب على العبد أن يعتقد أن كل من دان بدين غير دين الإسلام فهو كافر، وأن الله سبحانه وتعالى لايعذب أحدا إلا بعد قيام الحجة عليه بالرسول. هذا في الجملة، والتعيين موكول إلى علم الله وحكمه. هذا في أحكام(5/97)
الثواب والعقاب، وأما في أحكام الدنيا فهى جارية على ظاهر الأمر: فأطفال الكفار ومجانينهم كفار في أحكام الدنيا لهم حكم أوليائهم. وبهذا التفصيل يزول الإشكال في المسألة.) (طريق الهجرتين) صـ 412 ــ 413، ط دار الكتب العلمية 1402هـ.
4 ــ القاضي شهاب الدين القرافي المالكي رحمه الله.
قال ــ في كتابه (الفروق) ــ («الفرق الثالث والتسعون: بين قاعدة النسيان في العبادات لايقدح، وقاعدة الجهل يقدح، وكلاهما غير عالم بما أقدم عليه». اعلم أن هذا الفرق بين هاتين القاعدتين مبني على قاعدة: وهى أن الغَزَّالي حكى الإجماع في إحياء علوم الدين، والشافعي في رسالته حكاه أيضا، في أن المكلَّف لايجوز له أن يُقدم على فعلٍ حتى يعلم حكمَ الله فيه ــ إلى أن قال ــ فإذا كان العلم بما يُقدم الإنسان عليه واجباً كان الجاهل في الصلاة عاصيا بترك العلم، فهو كالمتعمِّد الترك بعد العلم بما وجب عليه، فهذا هو وجه قول مالك رحمه الله أن الجهل في الصلاة كالعمد والجاهل كالمتعمِّد لا كالناسي. وأما الناسي فمعفو عنه لقوله عليه السلام «رُفع عن أمتي الخطأ والنسيان ومااستكرهوا عليه»، وأجمعت الأمة على أن النسيان لا إثم فيه من حيث الجملة، فهذا فرق. وفرق ثانٍ وهو أن النسيان يهجم على العبد قهراً لاحيلة له في رفعه عنه، والجهل له حيلة في رفعه بالتعلم. وبهذين الفرقين ظهر الفرق بين قاعدة النسيان وقاعدة الجهل) أهـ.
ثم قال القرافي رحمه الله («الفرق الرابع والتسعون: بين قاعدة مالا يكون الجهل عذراً فيه وبين قاعدة مايكون الجهل عذراً فيه». اعلم أن صاحب الشرع قد تسامح في جهالات في الشريعة فعفا عن مرتكبها، أو أخذ بجهالات فلم يَعْفُ عن مرتكبها، وضابط مايُعفي عنه من الجهالات: الجهل الذي يتعذر الاحتراز عنه عادة، ومالا يتعذر الاحتراز عنه ولايشقّ لم يُعْفَ عنه) أهـ (الفروق) جـ 2 صـ 148 ــ 150، ط دار المعرفة.(5/98)
وقال القرافي أيضا (القاعدة الشرعية دلت على أن كل جهل يمكن المكلف دفعه لايكون حجة للجاهل، فإن الله تعالى بعث رسله إلى خلقه برسائله وأوجب عليهم كافة أن يَعْلموها ثم يعملوا بها، فالعلم والعمل بها واجبان، فمن ترك التعلم والعمل وبقي جاهلا فقد عصى معصيتين لتركه واجبين، وإن علم ولم يعمل فقد عصى معصية واحدة بترك العمل، ومن علم وعمل فقد نجا) (المصدر السابق) 4/ 264، وقال الشارح (لأن القاعدة الشرعية دلّت على أن كل جهل يمكن للمكلف رفعه فلا يكون حجة للجاهل، لاسيما مع طول الزمان واستمرار الأيام، فإن الذي لايُعلم اليوم يُعلم في غدٍ) (المصدر السابق) هامش صـ 289 جـ 4. وقوله (لاسيما مع طول الزمان). دليله قوله تعالى (أو لم نعمركم مايتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير، فذوقوا فما للظالمين من نصير)س فاطر 37.
5 ــ وقال أبو حامد الغزالي رحمه الله.
(والمقصود أن من قَصَد الخير بمعصية عن جهل فهو غير معذور إلا إذا كان قريب العهد بالإسلام ولم يجد بعد مهلة للتعلم، وقد قال الله سبحانه «فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون») (إحياء علوم الدين) 4/ 389.
6 ــ وقال ابن قدامة الحنبلي رحمه الله.
(ولا حَدّ على من لم يعلم تحريم الزنا. قال عمر وعثمان وعلي: لا حَدّ إلا على من علمه، وبهذا قال عامة أهل العلم، فإن ادعى الزاني الجهل بالتحريم وكان يحتمل أن يجهله كحديث العهد بالإسلام والناشيء ببادية قُبِلَ منه لأنه يجوز أن يكون صادقا، وإن كان ممن لايخفي عليه ذلك كالمسلم الناشيء بين المسلمين وأهل العلم لم يقبل لأن تحريم الزنا لايخفى على من هو كذلك فقد علم كذبه، وإن ادعى الجهل بفساد نكاح باطل قُبِل قوله لأن عمر قبل قول المدعي الجهل بتحريم النكاح في العدة ولأن مثل هذا يُجهل كثيراً ويخفى على غير أهل العلم) (المغني مع الشرح الكبير) 10/ 156.
7 ــ وقال ابن رجب الحنبلي رحمه الله.(5/99)
(إذا زنا من نشأ في دار الإسلام بين المسلمين وادعى الجهل بتحريم الزنا لم يُقبل قوله، لأن الظاهر يُكذبه، وإن كان الأصل عدم علمه بذلك) أهـ (القواعد) لابن رجب، صـ 343. ومعنى قوله (الظاهر) أي نشأته بين المسلمين والتي يمكن معها العلم بالتحريم، وقوله (الأصل عدم علمه) لأن الأصل في الإنسان الجهل كما ذكرته في الفصل الأول بهذا الكتاب.
8 ــ وقال السيوطي رحمه الله
(من يُقبل منه دعوى الجهل ومن لايُقبل) (كل من جَهِلَ تحريم شيء مما يشترك فيه غالب الناس، لم يُقبل،، إلا أن يكون قريب عهد بالإسلام، أو نشأ ببادية بعيدةً يخفى فيها مثل ذلك: كتحريم الزنا، والقتل والسرقة والخمر، والكلام في الصلاة والأكل في الصوم) (الأشباه والنظائر) صـ 357 ــ 358، ط دار الكتاب العربي 1407هـ، وهذا الكلام منقول بنصه في (الموسوعة الفقهية) ط وزارة الأوقاف بالكويت، 14/ 230.
9 ــ وقال ابن حجر الهيتمي رحمه الله.
(وعندنا إذا كان بعيد الدار عن المسلمين بحيث لاينسب لتقصير في تركه المجيء إلى دارهم للتعلم أو كان قريب العهد بالإسلام يعذر بجهله فيعرف الصواب، فإن رجع إلى ماقاله بعد ذلك كفر، وكذا يقال فيمن استحسن ذلك أو رضي به.) أهـ من كتابه (الإعلام بقواطع الإسلام) ملحق بآخر كتابه (الزواجر) جـ 2/ 366، ط دار المعرفة 1402 هـ.
10 ــ الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله.
قال (فهذا من العجب كيف تشكون في هذا وقد أوضحته لكم مرارا فإن الذي لم تقم عليه الحجة هو الذي حديث عهد بالإسلام والذي نشأ ببادية بعيدة أو يكون ذلك في مسألة خفية مثل الصرف والعطف فلا يكفر حتى يعرف، وأما أصول الدين التي أوضحها الله وأحكمها في كتابه فإن حجة الله هو القرآن فمن بلغه القرآن فقد بلغته الحجة.) (الدرر السنية في الأجوبة النجدية) جـ 8/ 90، وجـ 9/ 28. وأقواله التي يطلق فيها العذر بالجهل مقيدة بكلامه هذا.
11 ــ الأستاذ عبدالقادر عودة رحمه الله.(5/100)
وقد فصل القول في ضابط التمكن من العلم في قوله (من المباديء الأولية في الشريعة الإسلامية أن الجاني لايؤاخذ على الفعل المحرم إلا إذا كان عالماً تاماً بتحريمه، فإذا جهل التحريم ارتفعت عنه المسئولية. ويكفي في العلم بالتحريم إمكانه، فمتى بلغ الإنسان عاقلا وكان ميسراً له أن يعلم ما حرم عليه إما برجوعه للنصوص الموجبة للتحريم، وإما بسؤال أهل الذكر اعتبر عالما بالأفعال المحرمة، ولم يكن له أن يعتذر بالجهل أو يحتج بعدم العلم ولهذا يقول الفقهاء: «لا يقبل في دار الإسلام العذر بجهل الأحكام».
ويعتبر المكلف عالماً بالأحكام بإمكان العلم لا بتحقق العلم فعلا، ومن ثم يعتبر النص المحرم معلوماً للكافة ولو أن أغلبهم لم يطلع عليه أو يعلم عنه شيئاً مادام العلم به كان ممكناً لهم. ولم تشترط الشريعة تحقق العلم فعلا، لأن ذلك يؤدي إلى الحرج ويفتح باب الادعاء بالجهل على مصراعيه ويعطل تنفيذ النصوص. وهذه هى القاعدة العامة في الشريعة الإسلامية ولا استثناء لها، وإذا كان الفقهاء يرون قبول الاحتجاج بجهل الأحكام ممن عاش في بادية لا يختلط بمسلمين، أو ممن أسلم حديثاً ولم يكن مقيما بين المسلمين، فإن هذا ليس استثناء في الواقع وإنما هو تطبيق للقاعدة الأصلية التي تمنع مؤاخذة من يجهل التحريم حتى يصبح العلم ميسراً، فمثل هؤلاء لم يكن العلم ميسراً لهم، ولا يعتبرون عالمين بأحكام الشريعة. أما إذا كان مدعي الجهل ناشئاً بين المسلمين أو أهل العلم فلا يقبل منه الادعاء بالجهل.) أهـ من كتابه (التشريع الجنائي الإسلامي) جـ 1 صـ 430 ــ 431، ط دار إحياء التراث العربي 1405هـ.
وقال بمثل هذا: عبدالكريم زيدان في كتابه (الوجيز في أصول الفقه) صـ 76 ــ 77 و 112 ــ 114، ط مؤسسة الرسالة 1405هـ.
وبمثله أيضا قال: محمد أبو زهرة في كتابه (أصول الفقه) صـ 347 ــ 352، ط دار الفكر العربي.(5/101)
وهذا الذي ذكره الأستاذ عبدالقادر عودة متفق عليه بين علماء الأصول.
12 ــ الشيخ الشنقيطي رحمه الله.
قال (أما القادر على التعلم المفرّط فيه، والمقدم آراء الرجال على ماعلم من الوحي، فهذا الذي ليس بمعذور) (أضواء البيان) 7/ 554 ــ 555.
13 ــ ومن فتاوى اللجنة الدائمة للإفتاء بالسعودية (رقم 9257).
(لا يعذر المكلف بعبادته غير الله أو تقربه بالذبائح لغير الله أو نذره لغير الله ونحو ذلك من العبادات التي هى من اختصاص الله إلا إذا كان في بلاد غير إسلامية ولم تبلغه الدعوة فيعذر لعدم البلاغ لا لمجرد الجهل، لما رواه مسلم عن أبي هريرة عن رسول الله أنه قال صلى الله عليه وسلم: « والذي نفس محمد بيده لايسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار ». فلم يعذر النبي صلى الله عليه وسلم من سمع به ومن يعيش في بلاد إسلامية قد سمع بالرسول صلى الله عليه وسلم فلا يعذر في أصول الإىمان بجهله.
أما الذين طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم ذات أنواط يعلقون بها أسلحتهم فهؤلاء كانوا حديثي عهد بكفر وقد طلبوا فقط ولم يفعلوا فكان ماحصل منهم مخالفاً للشرع وقد أجابهم النبي صلى الله عليه وسلم بما يدل على أنهم لو فعلوا ماطلبوا كفروا. وبالله تعالى التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم).
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء: عبدالله بن قعود، وعبدالله بن غديان، وعبدالرزاق عفيفي، وعبدالعزيز بن باز. (فتاوى اللجنة الدائمة) 2/ 33 ــ 34، جمع الدويش، ط دار العاصمة 1411هـ. وقولهم في حديث (ذات أنواط) سبق الرد عليه في آخر الفصل الأول من هذا الباب.
14 ــ الشيخ عبدالعزيز بن باز.(5/102)
قال (دعوى الجهل والعذر به فيه تفصيل، وليس كل أحد يعذر بالجهل، فالأمور التي جاء بها الإسلام وبينها الرسول صلى الله عليه وسلم للناس وأوضحها كتاب الله وانتشرت بين المسلمين فإن دعوى الجهل بها لاتقبل ولاسيما مايتعلق بالعقيدة وأصل الدين فإن الله عزوجل بعث نبيه صلى الله عليه وسلم ليوضح للناس دينهم ويشرحه لهم وقد بلغ البلاغ المبين وأوضح للأمة حقيقة دينها وشرح لها كل شيء وتركها على البيضاء ليلها كنهارها، وفي كتاب الله الهدى والنور فإذا ادعى بعض الناس الجهل فيما هو معلوم من الدين بالضرورة وقد انتشر بين المسلمين، كدعوى الجهل بالشرك وعبادة غير الله عزوجل، أو دعوى أن الصلاة غير واجبة، أو أن صيام رمضان غير واجب أو الزكاة غير واجبة، أو أن الحج مع الاستطاعة غير واجب، هذا كله لايقبل لأن هذا أمر معلوم بين المسلمين وقد علم بالضرورة من دين الإسلام وقد انتشر بين المسلمين فلا تقبل الدعوى في ذلك، وهكذا إذا ادعى أنه يجهل مايفعله المشركون عند القبور أو عند الأصنام من دعوة الأموات والاستعانة بهم والذبح لهم والنذر لهم، أو الذبح للأصنام أو الكواكب أو الأشجار أو الأحجار، أو طلب الشفاء أو النصر على الأعداء من الأموات أو الأصنام أو الجن أو الملائكة أو الأنبياء فكل هذا أمر معلوم من الدين بالضرورة وأنه شرك أكبر وقد أوضح الله ذلك في كتابه وأوضحه رسوله صلى الله عليه وسلم ــ إلى أن قال ــ
أما المسائل التي قد تخفى مثل مسائل المعاملات وبعض شئوون الصلاة وبعض شئوون الصيام فقد يعذر فيها الجاهل كما عذر النبي صلى الله عليه وسلم الذي أحرم في جبة وتلطخ بالطيب فقال له النبي صلى الله عليه وسلم (اخلع عنك الجبة واغسل عنك هذا الطيب واصنع في عمرتك ماأنت صانع في حجتك) ولم يأمره بفدية، لجهله، وهكذا بعض المسائل التي قد تخفى يعلم فيها الجاهل ويبصر فيها،(5/103)
أما الأمور الأصولية وأصول العقيدة وأركان الإسلام والمحرمات الظاهرة فلا يقبل ذلك من أحد، فلو قال أحد وهو بين المسلمين إنني ماأعرف أن الزنا حرام فلا يعذر بل يقام عليه حد الزنا أو قال ماأعرف أن الخمر حرام وهو بين المسلمين فلا يعذر أو قال ماأعرف أن عقوق الوالدين حرام فلا يعذر بل يضرب ويؤدب أو قال ماأعرف أن اللواط وهو إتيان الذكور حرام فلا يعذر لأن هذه أمور ظاهرة معروفة من المسلمين معروفة في الإسلام.
لكن لو كان في بعض البلاد البعيدة عن الإسلام أو في مجاهل أفريقيا التي لايوجد حولها مسلمون قد يقبل منه دعوى الجهل وإذا مات على ذلك يكون أمره إلى الله ويكون حكمه حكم أهل الفترة والصحيح أنهم يمتحنون يوم القيامة فإن أجابوا وأطاعوا دخلوا الجنة وإن عصوا دخلوا النار، أما الذي بين المسلمين ويتعاطى أنواع الكفر بالله ويترك الواجبات المعلومة فهذا لايعذر لأن الأمر واضح، والمسلمون بحمد الله موجودون يصلون ويصومون ويحجون ويعرفون أن الزنا حرام وأن الخمر حرام وأن العقوق حرام كل هذا معروف بين المسلمين وفاش بينهم فدعوى الجهل دعوى باطلة والله المستعان.) أهـ من كتاب (فتاوى وتنبيهات) لابن باز، صـ 239 ــ 242، ط مكتبة السنة، 1409هـ.
وقال ابن باز أيضا (والحاصل أن من أظهر الكفر في ديار الإسلام حكمه حكم الكفرة، أما كونه يوم القيامة ينجو أو لاينجو فهذا إلى الله سبحانه وتعالى إن كان ممن لم تبلغه الدعوة ولم يسمع ببعثة الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه يمتحن يوم القيامة ويرسل إليه عنق من النار كما جاء في حديث الأسود بن سريع فيقال له ادخل فإن دخلها كان عليه برداً وسلاماً، وإن أبى التف عليه العنق وصار إلى النار نسأل الله السلامة.) (المرجع السابق) صـ 213.
وبعد:
فقد كانت هذه أقوال بعض أهل العلم، وكلها تبين أن ضابط قيام الحجة الرسالية على المكلف هو تمكنه من العلم بها.(5/104)
فإن لم يكن متمكنا من ذلك ــ وضربوا له أمثلة بمن أسلم بدار الحرب أو حديث العهد بالإسلام أو من نشأ ببادية أو في المسائل الخفية أو في زمان الفترة وندرة العلم ــ فهذا جهله معتبر كعذر مانع من الحكم عليه بما يستوجبه ذنبه.
أما من كان متمكنا من العلم ولم يسع للتعلم، فهذا جهله غير معتبر كعذر أو مانع من الأحكام، بل هو مُعْرِض عن طلب الحق.
وأما من كان متمكنا من العلم وسعي ولم يجد من يعلمه أو وجد من علّمه بعض الحق فقد أدى واجبه وإن لم يعلم بكثير من الأحكام الواجبة ولم يعمل بها.
المسألة الثانية: ضابط التمكن من العلم
تكلمنا في المسألة الأولى عن صفة التمكن وشروطه، وعن أحوال المتمكن من طلب العلم، وهنا نتكلم في ضابط التمكن.
وقد تكلمنا عن الأحوال التي يُعذر فيها بالجهل في المسألة السابقة، فمن كان حاله كذلك فهو معذور.
ونتكلم هنا عن واقع محدد، وهو حال المنتسبين إلى الإسلام في معظم بلاد المسلمين المحكومة بقوانين الكفار (القوانين الوضعية) في هذا الزمان.
وهذه البلاد تعتبر من جهة الأحكام دار كفر وحرب، وسيأتي الكلام في أحكام الديار في آخر مبحث الاعتقاد بالباب السابع، كما سيأتي الكلام في مسألة الحكم بغير ماأنزل الله والآثار المترتبة عليه في المبحث الثامن بالباب السابع إن شاء الله.(5/105)
ونحن إذا قلنا إنه يُعذر بالجهل في دار الكفر، فذلك في دار الكفر الأصلي التي جمهور سكانها أو كلهم كفار أصليون يعجز من أسلم منهم عن معرفة شيء من أحكام الدين، أما دار الكفر الطاريء ـــ كالبلاد المحكومة بالقوانين الوضعية ــ فمن المعلوم أن جمهور سكانها مسلمون ولو في الحكم الظاهر ولهذا يُحكم بإسلام اللقيط في مثل هذه البلاد بخلاف دار الكفر المحضة ــ وسيأتي بحث هذا بأواخر مبحث الاعتقاد المشار إليه ــ ولهذا فإن المكلف يمكنه التعلم بهذه البلاد بالسؤال أو بالرحلة من مدينة إلى أخرى أو من بلد إلى آخر أو بالسؤال عن طريق الهاتف أو البريد وغير ذلك.
والحاصل: أن العلم متيسر بهذه البلاد يمكن طلبه والوقوف على الحق منه، فلا يعذر أحد بالجهل في هذه البلاد إلا في مسائل الدين الخفية التي لايعلمها إلا الخاصة من أهل العلم، وهذا ماتدل عليه أقوال جميع من ذكرنا من أهل العلم بالمسألة الأولى السابقة.
ومن الضوابط التي يقاس عليها هنا: حال الناجين والهالكين من العرب قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم. فقد كانوا متعبدين بدين إبراهيم مع مادخله من التبديل كما سبق بيانه في الفصل الثاني، وأدرك بعضهم التوحيد وترك عبادة الأوثان بالسعي والسؤال كزيد بن عمرو بن نفيل، وأخلد آخرون إلى تقليد ماعليه قومهم وهؤلاء أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنهم كفار معذبون.
فإذا كانت الحجة قد قامت بدين إبراهيم ــ رغم تحريفه ــ على هؤلاء، مع ندرة من كان يعلم الحق أو بعضه منهم، فكيف يعذر الناس بالجهل في هذه البلاد إذا وقعوا في نواقض الإسلام، مع تيسر أسباب التعلم وكثرة المجاهرين بالحق والعاملين به؟.(5/106)
وفي هذا قال الشيخ عبدالعزيز بن باز (الأمور قسمان: قسم يعذر فيه بالجهل وقسم لايعذر فيه بالجهل. فإذا كان من أتى ذلك بين المسلمين، وأتى الشرك بالله، وعبد غير الله، فإنه لايعذر لأنه مقصر لم يسأل، ولم يتبصر في دينه فيكون غير معذور في عبادته غير الله من أموات أو أشجار أو أحجار أو أصنام، لإعراضه وغفلته عن دينه، كما قال الله سبحانه: (والذين كفروا عما أنذروا معرضون)س. ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لما استأذن ربه أن يستغفر لأمه لأنها ماتت في الجاهلية لم يؤذن له ليستغفر لها، لأنها ماتت على دين قومها عبّاد الأوثان، ولأنه صلى الله عليه وسلم قال لشخص سأله عن أبيه، قال:«هو في النار»، فلما رأى مافي وجهه قال: «إن أبي وأباك في النار». لأنه مات على الشرك بالله، وعلى عبادة غيره سبحانه وتعالى،
فكيف بالذي بين المسلمين وهو يعبد البدوي، أو يعبد الحسين، أو يعبد الشيخ عبدالقادر الجيلاني، أو يعبد الرسول محمدا صلى الله عليه وسلم، أو يعبد علياً أو يعبد غيرهم. فهؤلاء وأشباههم لايعذرون من باب أولى، لأنهم أتوا الشرك الأكبر وهم بين المسلمين، والقرآن بين أيديهم.. وهكذا سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم موجودة بينهم، ولكنهم عن ذلك معرضون.
والقسم الثاني: من يعذر بالجهل كالذي ينشأ في بلاد بعيدة عن الإسلام في أطراف الدنيا، أو لأسباب أخرى كأهل الفترة ونحوهم ممن لم تبلغهم الرسالة، فهؤلاء معذورون بجهلهم، وأمرهم إلى الله عزوجل، والصحيح أنهم يمتحنون يوم القيامة فيؤمرون، فإن أجابوا دخلوا الجنة، وإن عصوا دخلوا النار لقوله جل وعلا:(وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) ولأحاديث صحيحة وردت في ذلك.(5/107)
وقد بسط العلامة ابن القيم رحمه الله الكلام في هذه المسألة في آخر كتابه: (طريق الهجرتين) لما ذكر طبقات المكلفين، فليراجع هناك لعظم فائدته) اهـ من (مجموع فتاوى ابن باز) جمع محمد بن سعد الشويعر، جـ 4 صـ 26 ــ 27، وموجود بنصه في (مجلة البحوث الإسلامية) الصادرة عن دار الإفتاء بالسعودية، عدد 25 صـ 85 ــ 86.
وبمثل هذا قال الشيخ عبدالرحمن بن قاسم الحنبلي ــ جامع فتاوى ابن تيمية ــ في كتابه
(السيف المسلول على عابد الرسول) صـ 11 ــ 12.
(تنبيه) على الفرق بين الحكم القضائي والحكم الدياني.
فإن قيل هل إذا ادعى من قال الكفر أو فعله أنه جاهل بأن هذا كُفْر، فهل يُقبل قوله؟.
والجواب: إن هناك فرقاً بين الحكم القضائي في الدنيا، والحكم الدياني على الحقيقة.
فإذا كان من ادعى الجهل متمكنا من العلم على الوجه الذي أسلفنا، فهو غير معذور ولا تنفعه دعواه عند الله تعالى، وعذره هو كأعذار المنافقين الذين كانوا يعتذرون للنبي صلى الله عليه وسلم فدرأت عنهم هذه الأعذار في حكم الدنيا ولم تنفعهم في الآخرة، فهذا المتمكن هو مع جهله كافر غير معذور بجهله في الحقيقة عند الله، ولو مات على هذه الحال لكان كافراً مخلداً في النار لايخرج منها.
أما في الحكم القضائي: فقبول عذره مرجعه إلى القاضي الشرعي الذي يُرفع إليه أمره إن وُجد، ولم يكن قضاة السلف يقبلون اعتذار مثل هذا بالجهل، وراجع القسم الرابع من كتاب (الشفا) للقاضي عياض لتدرك هذا، وقد يَعتبر بعض القضاة هذا الاعتذار شبهة تدرأ الحد عنه، خاصة وأن حد الردّة هو من حقوق الله وهى مبنية على المسامحة بخلاف حقوق العباد. وغاية هذا إذا لم يقبل القاضي عذره أن يحكم عليه بالردة ــ مع استيفاء بقية الشروط ــ وتجب استتابته منها بعد الحكم وقبل استيفاء العقوبة بقتله، فإن تاب حكم بإسلامه.(5/108)
ولكن في البلاد المحكومة بالقوانين الوضعية لاوجود للقضاء الشرعي، وإن وُجد أحيانا فيما يُسمى بالأحوال الشخصية، فإن هذه القوانين لاتعتبر الردّة جريمة ولاتعاقب المرتد، وبناء على ذلك فإن فائدة الكلام في هذا الموضوع هى في المعاملات الشخصية للمسلمين، وسيأتي في مبحث الاعتقاد بالباب السابع بيان أهمية موضوع الإيمان والكفر وبيان الآثار المترتبة عليه في الدنيا إن شاء الله، ومن هذه المعاملات: إمامة الصلاة والنكاح والطلاق والحضانة والولاية على النفس والمال والمواريث والذكاة والشهادات وغيرها من الأحكام التي يؤثر فيها معرفة الدين، فإذا كانت هناك معاملة بين مسلم صالح في دينه وبين منتسب للإسلام يفعل المفكرات الجلية كترك الصلاة وسب الدين وشركيات القبور والأضرحة، فإنه يعامل هذا على أنه كافر في الحقيقة وإن كان جاهلاً بأن هذا كفر لأنه متمكن من معرفة ذلك وهو مُعرِض عن تعلم دينه، ويتأكد كُفره هذا إذا كان قد بُيِّن له أن هذا كُفر، ولو كان الذي بيّن له ذلك عاميا غير مستوفٍ لشروط القائم بالحجة الرسالية، فإنه يجب على المتلبس بالكفر إذا بلغه خبر أن يتثبت، لأن هذا واجب عليه ابتداء، فإن تاب وأقلع عن الكفر حُكِم بإسلامه، وإن أصر على ماهو عليه فهو كافر معاند. وهذا الكلام يترتب عليه إفساد كثير من الأنكحة في هذه البلاد بسبب ردة أحد الزوجين ويترتب عليه بطلان قسمة كثير من المواريث، وغير ذلك من الآثار التي يغفل عنها كثير من الناس.
والحكم بكفر شخص شيء ودعوته إلى الإسلام شيء آخر، كما سبق في بيان الفرق بين إقامة الحجة والدعوة، فهذا واجب وهذا واجب آخر، فيجب مواصلة دعوة هؤلاء لإعادتهم إلى حظيرة الإسلام.
وسيأتي شرح قاعدة التكفير في الباب السابع بمبحث الاعتقاد إن شاء الله.
وهذا آخر ما أذكر في موضوع الجهل والعذر به، وبه أختم الباب السادس وبالله تعالى التوفيق.(5/109)
الجامع
في طلب العلم الشريف
المجلد الثاني
الشيخ
عبد القادر بن عبد العزيز
الباب السابع
الكتب التي نوصي بدراستها
في صنوف العلم المختلفة
الباب السابع
الكتب التي نوصي بدراستها
في صنوف العلم المختلفة
(تمهيد)
قد تبيّن لك مما سبق ذكره في هذا الكتاب
أن طلب العلم منه ماهو فرض عين على كل مسلم، ومنه ماهو فرض كفاية.
وأن الأصل في طلب العلم أن يكون بالتلقي من العلماء وبسؤال الفقهاء.
ولكن قد يتعذر أخذ العلم عن العلماء: إما لندرتهم في بعض البلدان، وإما لجهل المتصدين للتعليم والإفتاء أوفسقهم الذي يمنع الثقة بأقوالهم في بلدان أخرى، ومن هنا كان الرجوع إلى الكتب لامناص عنه.
ومن فضل الله تعالى على هذه الأمة أن اتفق علماؤها على مشروعية التعلم من الكتب، وهو ما يُعرف بالوجادة، وقد فصَّلنا القول في مشروعيتها في الفصل الثالث من الباب الثالث من هذا الكتاب، مع الاتفاق على أن الوجادة أدنى مرتبة من التلقي من العلماء، ولكنها خير من الأخذ عن الرءوس الجهال المذكورين في قوله صلى الله عليه وسلم (إن الله لايقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبق عالماً اتخذ الناس رءوسا جهالا، فسُئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا) متفق عليه.
وهذا من الأشراط الصغرى للساعة، كما قال صلى الله عليه وسلم (من أشراط الساعة أن يقل العلم ويظهر الجهل) الحديث رواه البخاري عن أنس رضي الله عنه (حديث 81). فإن التعلم بالوجادة من نقص العلم لأنها أدنى من التلقي من العلماء بغير شك.
فإذا ثبت أن التعلم بالوجادة جائز، فإنه لايشترط لصحتها إلا التوثق من صحة نسبة الكتاب لمؤلفه، وهذا ثابت بحمد الله تعالى لجميع كتب العلم التي مدار اعتماد الأمة عليها.(6/1)
هذا، والغرض من وضع هذا الباب (الكتب التي نوصي بدراستها) هو إرشاد طالب العلم إلى مايقرأه ويدرسه، وتتضح أهمية هذا الإرشاد إذا مانظرت إلى كثرة الكتب التي تعج بها المكتبات العامة والتجارية، والتي تبلغ آلاف الكتب في كل صنف من صنوف العلم بين مختصر ومبسوط، فيها الغث والسمين، ومنها ماكتبه أئمة الهدى ومنها ماوضعه دعاة الضلالة، وطالب العلم ــ خاصة المبتدئ ــ يقف حيران وسط هذا البحر الزاخر من الكتب لايدري مايقرأ ولابأيها يبدأ؟، وإن لم يدركه توفيقٌُ من الله قد تضيع سنوات من عمره في قراءة مالا فائدة فيه أو مافيه ضلاله وهلاكه، وقد يبدأ بقراءة مالا ينبغي أن يقرأه إلا في مرحلة متقدمة فلا يفهم منه إلا القليل، وقد ينفق ماله في شراء مالا فائدة في شرائه أو مالا ينبغي أن يشتريه في وقته هذا من الكتب، وهذه الآفات وغيرها اشتكى لي منها غير واحد من الشبان المتديّنين. وأنا أشبِّه حال الطالب المبتديء مع المكتبات المليئة بآلاف الكتب بحال من يريد أن يخوض البحر أو يقطع البيداء ولاخبرة له بذلك، كلاهما لابد له من مرشد وإلا فهو هالك لا محالة إن لم تتداركه رحمة من الله. ولأجل إرشاد الطلاب المبتدئين وغيرهم من المسلمين إلى ما يقرأونه وضعت هذا الباب.
وسوف يشتمل هذا الباب إن شاء الله تعالى على ثلاثة فصول، وهي:
1 ــ الفصل الأول: نصائح لطالب العلوم الشرعية.
2 ــ الفصل الثاني: الكتب التي نوصي بدراستها في المرتبة الأولى.
3 ــ الفصل الثالث: الكتب التي نوصي بدراستها في المرتبتين الثانية والثالثة.
هذا، وبالله تعالى التوفيق.
الفصل الأول
نصائح لطالب العلوم الشرعية
يشتمل هذا الفصل على ست مسائل، وهى:
1 ــ نصائح عامة في طلب العلم. 2 ــ صفة العلم المطلوب تحصيله.
3 ــ أقسام العلوم الشرعية. 4 ــ مستويات الدراسة ومراحلها.
5 ــ صفات الكتاب الجيد. 6 ــ نصائح خاصة بدراسة الكتب.
المسألة الأولى: نصائح عامة في طلب العلم(6/2)
1 ــ طلب العلم من حيث وجوبه قسمان:
أ ــ فرض عين: واجب على كل مسلم بالغ عاقل من ذكر أو أنثى، من حرٍ وعبد. وهذا العلم لايعذر أحد في ترك طلبه، مادام يجد السبيل إلى ذلك ولو بالرحلة والسفر إلى حيث يجد من يعلمه، كما ذكرناه في مسألة (وجوب الرحلة في المسألة النازلة) في أحكام المستفتي. وقد ذكرنا في الباب الثاني من هذا الكتاب أن فرض العين من العلم قسمان: قسم عام يجب على جميع المسلمين، وقسم خاص يجب على كل أحد بحسب مايزاوله من عمل أو مايبتلى به من النوازل.
ب ــ فرض كفاية: وهو مازاد عن الحد السابق وحتى تحصيل رتبة الاجتهاد في الشريعة. وأما مازاد عما يلزم المجتهد من العلوم الشرعية، فطلبه من النوافل لامن فروض الكفاية، واعتبر النووي هذا قسماً ثالثا فيما نقلناه عنه من (المجموع) في الفصل الأول من الباب الثاني.(6/3)
والمقصود من ذكر هذا التقسيم هنا تنبيه طالب العلم على وجوب طلب فرض العين من العلم قبل الاشتغال بفرض الكفاية منه. أما فرض الكفاية فيجب فيه تقديم الأهم منه على مادونه، فيجب الاشتغال بعلوم الاجتهاد الخمسة جميعها دون إهمال لبعضها، فإن المقصود شرعا من الاشتغال بفرض الكفاية من العلم هو سَدّ حاجة الأمة من المجتهدين كما سبق بيانه في الفصل الثالث من الباب الثاني. فلا ينبغي التبحر في دراسة علم وإهمال غيره، وقد نبّه غير واحد من العلماء على هذا، فقال ابن مفلح الحنبلي رحمه الله (قال ابن الجوزي: قال أحمد بن حنبل: الاشتغال بالأخبار القديمة يقطع عن العلم الذي فرض علينا طلبه. وقال مالك: ماأكثر أحدٌُ من الحديث فأنجح، قال ابن الجوزي: وإنما الإشارة إلى ماذكرت من التشاغل بكثرة الطرق والغرائب فيفوته الفقه، وذكر كلاماً كثيراً ــ إلى أن قال ــ وقد أوغل خلق من المتأخرين في كتابة طرق المنقولات فشغلهم عن معرفة الواجبات حتى إن أحدهم يُسئل عن أركان الصلاة فلا يدري.) (الآداب الشرعية) لابن مفلح، 2/ 122، ط مكتبة ابن تيمية. وذكر الخطيب البغدادي رحمه الله في كتابه (الفقيه والمتفقه) أنه كتبه لأهل الحديث الذين أهملوا الفقه حتى شَنّع عليهم أهل الرأي، (الفقيه والمتفقه) 2/ 71 ــ 72. وذكر الخطابي مثله في مقدمة كتابه (معالم السنن). ونبّه ابن عبدالبر على هذا الأمر نفسه في (جامع بيان العلم) 2/ 171. ومازالت هذه الآفة قائمة إلى يومنا هذا في بعض المشتغلين بعلوم الحديث والرجال.
2 ــ الإخلاص في طلب العلم واجب، وهو من عبادات القلب فهو سِرٌُّ بين العبد وربه. ويُعان طالب العلم ويُوفق بقدر إخلاصه. قال تعالى (إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون) النحل 128. وقد سبق هذا بالتفصيل في أول الباب الرابع (آداب العالم والمتعلم).(6/4)
3 ــ يُستعان على طلب العلم بأمور سبق التنبيه عليها خاصة في الباب الرابع، حيث ذكرناها بالتفصيل، ونجملها هنا، فمنها:
أ ــ الإخلاص، وبقدر الإخلاص تأتي المعونة من الله تعالى.
ب ــ تقليل العلائق الشاغلة.
جـ ــ التعلم في الصِغر ماأمكن ذلك.
د ــ الحرص على الوقت، وتنظيم الوقت وحسن استغلاله.
هـ ــ الصحبة في طلب العلم.
و ــ العمل بالعلم ومجاهدة النفس في حملها على ذلك، ومن العمل بالعلم: الاجتهاد في الطاعات والاكثار من النوافل، وأكل الحلال، وغض البصر وحفظ السمع. ومن العمل بالعلم نشره وتدريسه والدعوة إليه.
ز ــ الصبر في طلب العلم لامناص عنه لمواصلة الطلب وبلوغ الرتبة العالية، قال تعالى (وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون) السجدة 24. ومما يعين على الصبر معرفة فضل العلم وأهميته خاصة في زماننا زمان الغربة.
المسألة الثانية: صفة العلم المطلوب تحصيله
1 ــ العلم: هو إدراك الشئ على حقيقته إدراكاً جازماً.
وعدم إدراك الشئ هو الجهل البسيط.
وإدراك الشئ بخلاف حقيقته هو الجهل المركب.
وإدراك الشئ مع احتمال ضد ٍ مرجوح هو الظن.
وإدراك الشئ مع احتمال ضد ٍ مساوٍ هو الشك.
وإدراك الشئ مع احتمال ضد ٍ راحج هو الوهم.
2 ــ والعلم الشرعي: هو معرفة الحكم بدليله من الكتاب أو السنة أو الإجماع المعتبر أو القياس الصحيح على النص أو الإجماع. وقد سبق الكلام في هذا في المسألة الثالثة عشرة من أحكام المستفتي في الباب الخامس.
فالعلم الشرعي في الحقيقة هو معرفة الدليل ومايستنبط منه من أحكام وفوائد بوجوه الدلالة المختلفة. وقد سمى الله تعالى القرآن (وهو أصل الأدلة) علماً، فالعلم هو الدليل، قال تعالى (فمن حاجّك فيه من بعد ماجاءك من العلم) آل عمران 61، وقال تعالى (فلم تحاجّون فيما ليس لكم به علم) آل عمران 66، فذم سبحانه من يتكلم بغير دليل.(6/5)
3 ــ والتمكّن في العلم: هو معرفة الحكم بدليله، ومعرفة الاعتراضات الواردة عليه وأقوال المخالفين وكيفية الرد عليها. أو يمكن القول بأن التمكن في العلم هو معرفة الحق من بين الأقوال المختلفة المتضادة. ويُروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (أعلم الناس أبصرهم بالحق إذا اختلف الناس) رواه ابن عبدالبر في (جامع بيان العلم) 2/ 43.
قال تعالى (ولايأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيراً) الفرقان 33، وقال تعالى (بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق) الأنبياء 18، وقال تعالى (وماأنزلنا عليك الكتاب إلا لتبيّن لهم الذي اختلفوا فيه) النحل 64، وقال تعالى (إن هذا القرآن يقصّ على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون) النمل 76، تبيّن هذه الآيات أن الرد على الشبهات والباطل من عمل الأنبياء عليهم السلام ــ كمافي آيتي الفرقان والأنبياء ــ والعلماء ورثتهم في هذا، كما تبين الآىات أن إظهار الحق في مواضع الاختلاف من عمل الأنبياء عليهم السلام ــ كما في آيتي النحل والنمل ــ والعلماء ورثتهم في هذا. وليس بعالم من يذكر حكما بدليله ثم إذا اعتُرض عليه بدليل آخر في نفس المسألة أو اعتُرض عليه بشبهة سكت. ولهذا قال ابن تيمية رحمه الله (الفقيه: الذي سمع اختلاف العلماء وأدلتهم في الجملة، وعنده مايعرف به رجحان القول) (الاختيارات الفقهية) لابن تيمية، جمع البعلي، ط دار المعرفة صـ 333.
وقال ابن تيمية رحمه الله (فهذا أحسن مايكون في حكاية الخلاف: أن تستوعب الأقوال في ذلك المقام، وأن ينبه على الصحيح منها، ويبطل الباطل، وتذكر فائدة الخلاف وثمرته، لئلا يطول النزاع والخلاف فيما لافائدة تحته فيشتغل به عن الأهم.
فأما من حكي خلافا في مسألة ولم يستوعب أقوال الناس فيها فهو ناقص، إذ قد يكون الصواب في الذي تركه.
أو يحكي الخلاف ويطلقه ولاينبه على الصحيح من الأقوال فهو ناقص أيضا.(6/6)
فإن صحح غير الصحيح عامداً فقد تعمد الكذب، أو جاهلا فقد أخطأ.
كذلك من نصب الخلاف فيما لافائدة تحته أو حكي أقوالا متعددة لفظاً ويرجع حاصلها إلى قول أو قولين معنىً، فقد ضيّع الزمان وتكثّر بما ليس بصحيح فهو كلابس ثوبي زور، والله الموفق للصواب.) (مجموع الفتاوي) 13/ 368.
فهذه صفة التمكن في العلم.
4 ــ والعلم المعتبر: هو العلم المحفوظ، قال تعالى (بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم) العنكبوت 49. فدلّت الآية على أن أهل العلم هم من كان علمهم في صدورهم، وهذا هو الحفظ.
وقال بعض السلف: ليس بعلم ٍ مالا يدخل مع صاحبه الحمّام، وقائل هذا هو عبدالرزاق الصنعاني صاحب (المصنَّف) ت 211 هـ، ويقصد أنه ليس بعلم إلا المحفوظ، أما من كان علمه في الكتاب فقط لافي صدره فهذا علمٌُ لايعتد به، لأنه إذا ذهب كتابه (بسرقة أو حريق ونحو ذلك) ذهب علمه، كما أنه لايحمل معه كتب العلم إذا دخل الحمّام. فإذا كان مستحضراً للعلم وهو في الحمّام (وهذا لايكون إلا للحافظ) فهو عالم، وإلا فلا. والآفات العارضة كثيرة فلابد من الحفظ.
وقد ذكرنا مايعين على الحفظ في آداب المتعلم في الباب الرابع، ومن ذلك: التفرغ (في الوقت)، والخلوة (في المكان)، والتكرار (وهو أساس الحفظ)، وفهم المعنى، والكتابة (أي كتابة المراد حفظه)، ومراجعة المحفوظ كل فترة، وتدريسه (وهو من صور المراجعة)، والصحبة في طلب العلم وصغر السن معينان على الحفظ.
5 ــ صفة العلم المطلوب تحصيله ــ وذلك بناء على المقدمات السابقة ــ هى:
أ ــ معرفة الحكم بدليله، سواء كان دليلاً واحداً أو عدة أدلة.
ب ــ معرفة الاعتراضات والأقوال المخالفة والشبهات الواردة على هذا الحكم، وكيفية الرد عليها، وبهذا يتميز لديه الراجح من المرجوح بالأدلة.
جـ ــ حفظ هذا كله.(6/7)
وعلى هذا فينبغي لطالب العلم أن يحرص على استيفاء هذه الصفات الثلاث فيما يتعلمه من علم ٍ، ولايتعصب لمذهب ولا لشيخ ولا لطائفة ولا لجماعة، بل لايبتغي إلا الحق الذي أنزله الله على رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن الله سبحانه سوف يسأله عما أجاب به الرسول صلى الله عليه وسلم لا ماأجاب به المذهب أو الشيخ أو الطائفة، قال تعالى (ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين، فعميت عليهم الأنباء يومئذ فهم لايتساءلون، فأما من تاب وآمن وعمل صالحا فعسى أن يكون من المفلحين) القصص 65 ــ 67.
المسألة الثالثة: أقسام العلوم الشرعية
تنقسم العلوم الشرعية إلى ثلاثة أقسام: علوم أصلية وعلوم مستنبطة من العلوم الأصلية، وعلوم وسائل هى وسيلة لاستخراج العلوم المستنبطة من العلوم الأصلية.
1 ــ أما العلوم الأصلية أو الأساسية فهى:
أ ــ الكتاب (القرآن).
ب ــ السنة (أو علم الحديث رواية ً): وهو ماأضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير أو صفة.
هذان هما أصل العلوم الشرعية. قال تعالى (فإن تنازعتم في شئ فرّدوه إلى الله والرسول) النساء 59، أي ردّوه إلى الكتاب والسنة بالإجماع. قال ابن عبدالبر (وأما أصول العلم: فالكتاب والسنة) (جامع بيان العلم) 2/ 33.
2 ــ العلوم المستنبطة: وهى العلوم المستخرجة من ــ أو المبنية على ــ العلوم الأصلية (الكتاب والسنة) بالدلالات المختلفة للنصوص. ومن هذه العلوم المستنبطة:
أ ــ العقائد (وهى المسائل العلمية الخبرية المستخرجة من أدلتها التفصيلية).
ب ــ الفقه (وهى الأحكام الشرعية العملية المستخرجة من أدلتها التفصيلية).
جـ ــ الرقائق (وهى عبادات القلب وآدابه).
د ــ الآداب الشرعية (وهى آداب الجوارح).
هـ ــ الأذكار والأدعية (وهى من عبادات اللسان).
3 ــ علوم الوسائل: وسميت بذلك لأنها:(6/8)
أ ــ وسائل لضبط العلوم الأصلية وفهمها كما كان يفهمها الصحابة رضي الله عنهم، فالتجويد والتفسير وسائل لتلاوة القرآن وفهمه على الوجه الصحيح، ومصطلح الحديث وسيلة لتمييز مايُقبل من الحديث ومايُرد منه.
ب ــ ولأنها وسائل لاستخراج العلوم المستنبطة كالفقه من العلوم الأصلية، فهى وسائل لاستخراج علم من علم.
وعلوم الوسائل أربعة، وهى:
أ ــ علوم القرآن (ومنها التجويد والتفسير والغريب وأسباب النزول والناسخ والمنسوخ، وغيرها) وقد بلغ بها السيوطي ثمانين نوعاً من علوم القرآن في كتابه (الاتقان).
ب ــ علوم الحديث (علم الحديث دراية، أو مصطلح الحديث) ومنها (أقسام الحديث المختلفة، والغريب والمعاجم وشروح الحديث وعلم الرجال بشقيه: تواريخ الرواة والجرح والتعديل، وغيرها) وقد بلغ بها ابن الصلاح خمسة وستين نوعا من علوم الحديث في (مقدمته)، وقال السيوطي ــ في تدريب الراوي ــ إنها يمكن أن تكثر كثيرا بالتفريعات.
جـ ــ علوم اللغة العربية (النحو والصرف والبلاغة واللغة والأدب).
د ــ أصول الفقه (الحاكم، وأدلة الأحكام ــ المحكوم به ــ، وطرق الاستنباط من الأدلة، والمحكوم فيه، والمحكوم عليه ومايعرض له).
وهذه العلوم ــ علوم الوسائل ــ لا يحتاجها العامة، فهى ليست من فروض العين، وإنما يحتاجها طالب العلم الساعي لتحصيل رتبة الاجتهاد في الشريعة وذلك لأنها من أدوات الاجتهاد.
وتعتبر العلوم الأصلية والمستنبطة علوماً مقصودة لذاتها، أما علوم الوسائل فمقصودة لغيرها.(6/9)
وقد وضعت علوم الوسائل هذه بعد عصر الصحابة رضي الله عنهم لاستغنائهم عنها، والحق أن غرض العلماء من وضع هذه العلوم (علوم القرآن، ومصطلح الحديث، وقواعد اللغة، وأصول الفقه) هو أن يفهم العالم النصوص كما فهمها الصحابة فيتبع سبيلهم ولا يشذ عنهم، وبهذا يُحفظ الدين من التبديل والتحريف ويسير الآخر على نهج الأول، فإن فعلوا ذلك رشدوا وإلا ضلّوا. قال ابن كثير رحمه الله (قال عمر لابن عباس: كيف يختلفون وإلههم واحد وكتابهم واحد وملتهم واحدة؟، فقال: إنه سيجئ قوم لايفهمون القرآن كما نفهمه، فيختلفون فيه، فإذا اختلفوا فيه اقتتلوا. فأقرّ عمر بن الخطاب بذلك.) (البداية والنهاية) 7/ 276. فالفتنة والفساد يأتيان من عدم فهم النصوص (الكتاب والسنة) كما فهمهما الصحابة فيؤدي هذا إلى الإحداث في الدين ومايعقبه من الاختلاف والتفرق، ومن هنا وضع العلماء علوم الوسائل لضبط فهم نصوص الكتاب والسنة ولضبط الاستنباط منها.
ومما يبيّن أهمية علوم الوسائل في حفظ الدين مارواه ابن عديّ الجرجاني رحمه الله في كتابه (الكامل في ضعفاء الرجال) قال (أنبأنا عبدالله بن العباس الطيالسي قال: سمعت هلال بن العلاء يقول: منَّ الله على هذه الأمة بأربعة ولولاهم لهلك الناس: منَّ الله عليهم بالشافعي، حتى بيَّن المُجْمَل من المفسَّر، والخاص من العام والناسخ من المنسوخ، ولولاه لهلك الناس. ومنَّ الله عليهم بأحمد بن حنبل حتى صبر في المحنة والضرب فنظر غيره إليه فصبر، ولم يقولوا بخلق القرآن، ولولاه لهلك الناس. ومنَّ الله عليهم بيحيي بن معين حتى بيَّن الضعفاء من الثقات، ولولاه لهلك الناس. ومنَّ الله عليهم بأبي عبيد حتى فسَّر غريب حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ولولاه لهلك الناس) (الكامل في الضعفاء) 1/119، ط دار الفكر 1409هـ.(6/10)
وروي ابن عدي أيضا (عن محمد بن سيرين قال: لقد أتى على الناس زمان ومايُسأل عن إسناد حديث، حتى وقعت الفتنة، فلما وقعت الفتنة سُئل عن إسناد الحديث ليُنظر مَن كان مِن أهل السنة أخِذ بحديثه، ومن كان من أهل البدعة ترك حديثه) (المرجع السابق) 1/121. ويقصد بالفتنة ظهور الفرق الضالة ووضعها للأحاديث المكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن عدي (قال ابن المبارك: الإسناد من الدين، ولولا ذلك لقال من شاء ماشاء) (المرجع السابق) 1/121، ورواه مسلم في مقدمة صحيحه.
وتكلم شيخ الإسلام ابن تيمية في سبب وضع العلماء لعلوم الوسائل، فقال رحمه الله: (ونظير هذا في العلم: علم الأسماء واللغات، فإن المقصود بمعرفة النحو واللغة التوصّل إلى فهم كتاب الله وسنة رسوله وغير ذلك، وأن ينحو الرجل بكلامه نحو كلام العرب. والصحابة لما استغنوا عن النحو، واحتاج إليه من بعدهم، صار لهم من الكلام في قوانين العربية مالا يوجد مثله للصحابة لنقصهم وكمال الصحابة، وكذلك صار لهم من الكلام في أسماء الرجال وأخبارهم مالا يوجد مثله للصحابة، لأن هذه وسائل تطلب لغيرها، فكذلك كثير من النظر والبحث احتاج إليه كثير من المتأخرين، واستغنى عنه الصحابة.
وكذلك ترجمة القرآن لمن لايفهمه بالعربية، يحتاج إليه من لغته فارسية وتركية ورومية. والصحابة لما كانوا عرباً استغنوا عن ذلك.
وكذلك كثير من التفسير والغريب يحتاج إليه كثير من الناس والصحابة استغنوا عنه.(6/11)
فمن جعل النحو ومعرفة الرجال، والاصطلاحات النظرية والجدلية المعينة على النظر والمناظرة، مقصودة لنفسها، رأي أصحابها أعلم من الصحابة، كما يظنه كثير ممن أعمى الله بصيرته. ومن علم أنها مقصودة لغيرها، علم أن الصحابة الذين علموا المقصود بهذه، أفضل ممن لم تكن معرفتهم مثلهم في معرفة المقصود، وإن كان بارعاً في الوسائل.) (منهاج السنة النبوية) لابن تيمية، تحقيق د. محمد رشاد سالم، ط 1406 هـ، جـ 8 صـ 205 ــ 206.
هذا، والمقصود من ذكر أقسام العلوم الشرعية هنا أمور:
1 ــ منها: أن يدرك طالب العلم موقع كل علم من العلوم والغاية منه، فيعطي كل علم حقه دون إفراط ولاتفريط. فلا يصح أن يتبحر الطالب في دراسة علم المصطلح أو علم الرجال وهو لم يحفظ كتابا من الكتب الستة بعد، فإن علم المصطلح مقصود لغيره، وعلم السنة (رواية) مقصود لذاته.
2 ــ ومنها: أن يدرك طالب العلم أن علوم الوسائل هى من أدوات الاجتهاد والاستنباط، فلا يلزم العامة معرفتها، وغاية مايجب على العامة من هذا أن يعلموا أن هناك أحاديث صحيحة يحتج بها وأخرى ضعيفة لايحتج بها، هذا من علم المصطلح، ومن أصول الفقه لايلزم العامة منه إلا معرفة أقسام الحكم الشرعي التكليفي الخمسة (الواجب والمندوب والمباح والمكروه والحرام)، هذا مايلزم العامة.
ونحن في الكتب التي نوصي بدراستها سنذكر ــ إن شاء الله ــ ثلاث مراتب للدراسة: الأولى خاصة بالعامة ولن نذكر فيها شيئا من علوم الوسائل إلا ماأشرنا إليه أعلاه من علمي المصطلح وأصول الفقه، أما المرتبة الثانية فخاصة بطلاب العلم المبتدئين وفيها نوصي بدراسة مختصرات في علوم الوسائل المختلفة لمعرفة اصطلاحاتها، وأما المرتبة الثالثة: فخاصة بطلاب العلم المتقدمين وفيها نوصي بدراسة مبسوطات في علوم الوسائل المختلفة لتحصيل عدة الاجتهاد.
فهذا ما يتعلق بأقسام العلوم الشرعية.
المسألة الرابعة: مراتب الدراسة(6/12)
سبق التنبيه على أهمية التدرج في طلب العلم، وذلك في القسم الثالث من آداب المتعلم في الفصل الثالث من الباب الرابع. وذكرنا هناك أن التدرج مطلوب في الكم والكيف ليدرك الطالب مبتغاه ولا ينقطع.
وذكرنا أن التدرج في الكمّ: معناه أن يدرس الطالب المقدار الذي يحتمله عقله وطاقته. وأن التدرج في الكيف: معناه مراعاة الترتيب الصحيح في دراسة العلوم المختلفة فلا يدرس علما لم يدرس مقدماته، ولايدرس كتابا مبسوطا في علم لم يقرأ شيئا من مختصراته.
وقد نبّه الله تعالى على أهمية التدرج في التعلم وذلك في قوله تعالى (وقال الذين كفروا لولا نُزل عليه القرآن جملة واحدة، كذلك لنثبت به فؤادك ورتّلناه ترتيلا) الفرقان 32، وفي قوله تعالى (وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مُكث ونزلناه تنزيلا) الإسراء 106. فالله سبحانه وتعالى لم ينزل القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم جملة واحدة وإنما فرّقه فنزل منجماً على مدى ثلاث وعشرين سنة شيئا بعد شئ، ليثبت في القلوب. قال أبو عمر بن عبدالبر رحمه الله (طلب العلم درجات ومناقل ورتب لاينبغي تعدّيها ومن تعداها جملة فقد تعدى سبيل السلف رحمهم الله، ومن تعدى سبيلهم عامداً ضلّ ومن تعداه مجتهداً زلّ.) (جامع بيان العلم) 2/ 166.
ولما كان التدرج في طلب العلم بهذه الأهمية فسوف نجعل الكتب التي نوصي بدراستها في ثلاث مراتب دراسية إن شاء الله، كل مرتبة منها تناسب فئة معينة من المسلمين، كما تمثل هذه المراتب ثلاث مراحل متدرجة في الطلب.
وسوف نجعل المرتبة الأولى خاصة بالعامة، وهذا يعني أنها ستشتمل على بيان فرض العين من العلم الذي يجب على كل مسلم.
وسنجعل المرتبة الثانية خاصة بطلاب العلم المبتدئين، ويندرج فيهم كثير من الشبان المتدينين المقبلين على تعلم العلوم الشرعية اليوم.
أما المرتبة الثالثة فهى لطلاب العلم المتقدمين المتخصصين الساعين لتحصيل مرتبة الاجتهاد في الشريعة.(6/13)
وغني عن البيان أن طلاب المرتبة الثانية يجب أن يبدأوا بدراسة كتب المرتبة الأولى، كما أن طلاب المرتبة الثالثة يجب أن يبدأوا بدراسة كتب المرتبتين الأولى ثم الثانية، فهذا مقتضى التدرج والمرحلية.
المسألة الخامسة: صفات الكتاب الجيد
من صفات الكتاب الجيد:
1 ــ أن يكون كاتبه من علماء أهل السنة والجماعة.
وذلك ليأمن الطالب ــ خاصة المبتدئ ــ من أن يعلق بقلبه شئ من أقوال المبتدعة فيعتقد أنها الحق ثقة في المؤلف وهو لايدري بأنها زيغ وضلال. ومن هنا مازال العلماء يحذرون من أمثال تفسير الكشاف للزمخشري لأنه نصر مذهب المعتزلة فيه بصورة تخفي أحيانا، حتى قال سراج الدين البلقيني (وهو من شيوخ الحافظ ابن حجر) قال إنه استخرج الاعتزال من الكشاف بالمناقيش.
أما علماء أهل السنة فكأصحاب الكتب الستة وغيرهم ممن ذكرهم اللالكائي في طبقات من أهل الأمصار المختلفة في الجزء الأول من كتابه (شرح اعتقاد أهل السنة). ومنهم ابن قدامة وابن تيمية وتلاميذه كابن القيم والحافظ الذهبي وابن كثير وغيرهم رحمهم الله جميعا.
فإذا احتاج الطالب للمطالعة لبعض العلماء الذين لديهم مخالفات لأهل السنة في بعض المسائل، كابن حزم والقاضي عياض والقرطبي والنووي وابن حجر رحمهم الله، فليكن الطالب على بيّنة من مخالفاتهم وذلك كالتأويل في الصفات والإرجاء في الإيمان.
2 ــ أن يكون كاتبه متخصصاً في فنه.
قال تعالى (ولاينبئك مثل خبير) فاطر.
3 ــ والكتاب الذي كتبه فقيه خير من الكتاب الذي لااشتغال لكاتبه بالفقه.
حتى ولو كان الكتاب في غير مادة الفقه، فما يكتبه الفقهاء يتميز بالاختصار والضبط عند التعرض للأحكام من قريب أو بعيد، وهذا من أهم الفروق بين ماكتبه السلف ومعظمهم فقهاء وبين مايكتبه المعاصرون الذين لااشتغال لمعظمهم بالفقه فيأتون بالشطحات والعجائب المخالفة للنصوص والإجماع أحيانا.
4 ــ والكتاب الذي يذكر الأقوال بأدلتها خير من الذي لا يذكر الأدلة.(6/14)
وذلك لأنه يدرب الطالب على الاتباع، وعلى ألا يقبل قولا إلا بدليل، ليتخلص الطالب من ربقة التقليد الذي ذكرنا أنه لايُلجأ إليه إلا مع العجز الحقيقي عن أخذ القول بدليله.
5 ــ والكتاب الذي يذكر الراجح من المرجوح خير من الذي يُطلق القول ويُلقي الطالب في حَيْرة فلا يدري بأي قول يعمل؟. وقد ذكرنا في آداب المفتي في الفصل الأول من الباب الخامس أنه لاينبغي للمفتي أن يُلقى المستفتي في حيرة بل يجب أن يخلصه من عمايته.
6 ــ ومن صفات الكتاب الجيد أن يشتمل على معظم مسائل الفن بحيث يُغْني عن الحاجة إلى غيره من الكتب.
7 ــ والكتاب الذي قد خرجت أحاديثه وحُكم عليها ببيان درجتها خير من الكتاب المفتقر إلى ذلك. ليكون الطالب على بصيرة من قوة الأدلة وحُجيّتها.
فهذه هى أهم صفات الكتاب الجيد فيما أرى والله تعالى أعلم، وقد يضاف إلى ذلك حُسن إخراج الكتاب وحُسن طباعته بما ييسر مطالعته، فإن التيسير مطلوب بوجه عام.
ولعله من المناسب هنا أن أنبه طالب العلم على أهم المراجع العلمية.
(أهم مراجع العلوم الشرعية)
الكتب الشرعية تبلغ مئات الألوف بل تبلغ الملايين، وعمر الإنسان أقصر من أن يحيط بتحصيل عُشر معشار هذه الكتب، فوجب معرفة أهم الكتب في كل علم من العلوم الهامة للاشتغال به. وهذا سوف نذكره في الفصول التالية إن شاء الله. أما أهم الكتب بإطلاق:
فأول ذلك حفظ القرآن الذي هو أساس العلوم الشرعية واللغوية، قال ابن عبدالبر (أول العلم حفظ كتاب الله جل وعز وتفهمه، وكل مايعين على فهمه فواجب طلبه، ولاأقول إن حفظه كله فرض، ولكن أقول إن ذلك واجب لازم على من أحبّ أن يكون عالما ليس من باب الفرض) (جامع بيان العلم) 2/ 166 ــ 167.
وأهم كتاب بعد كتاب الله تعالى هو صحيح الإمام البخاري رحمه الله ورضي عنه.
أما بعد ذلك فإن أهم كتب علوم الإسلام ــ فيما أرى ــ أربعة، وهى:(6/15)
1 ــ (تفسير القرآن العظيم) للحافظ ابن كثير رحمه الله (774 هـ): وهو أهم كتب التفسير بالمأثور عن السلف، مع اتباعه للمنهج الصحيح في التفسير، وهو تفسير القرآن بالقرآن ثم بالسنة ثم بأقوال الصحابة فالتابعين كما نبه على هذا في مقدمته التي اقتبسها من (مقدمة أصول التفسير) لابن تيمية. وقد بني ابن كثير تفسيره على تفسير ابن جرير الطبري الذي اتفق العلماء على أنه أجلّ التفاسير بإطلاق مع حذفه لأسانيد ابن جرير، وجمع إلى ذلك من تفسير ابن أبي حاتم الرازي صاحب (الجرح والتعديل) ومن تفسير الإمام الجليل ابن مردويه. فجاء تفسيره جامعا، مع نصرته لاعتقاد السلف ومع اشتماله على أبحاث فقهية قيّمة. وابن كثير مُحَدِّث فقيه سلفي، صوابه كثير وخطؤه يسير، وتفسيره من أعظم الكتب المعينة على فهم كتاب الله تعالى. وهو مطبوع في أربع مجلدات.(6/16)
2 ــ (فتح الباري شرح صحيح البخاري) للحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله (852 هـ)، وهو أهم شروح الحديث بإطلاق، إذ يجمع في كل باب ــ بالإضافة إلى مارواه البخاري ــ أهم الأحاديث المتعلقة بالباب التي وردت في دواوين السنة الأخرى من بقية الكتب الستة والمسانيد وغيرها، كما يذكر أهم ماقاله شُرَّاح البخاري السابقون عليه، وينقل عن شراح كتب السنة الأخرى كشرح النووي على صحيح مسلم وشرح الخطابي لسنن أبي داود وكلام البغوي في (شرح السنة) وغيرهم. هذا مع تفصيله للمسائل الفقهية وذكر أقوال المذاهب فيها. مع اشتماله على أبحاث لغوية ومسائل في مصطلح الحديث وأصول الفقه. ويعيبه اتباعه لمذهب الأشاعرة في الإيمان وفي الصفات، ويظهر هذا بجلاء في شرحه لكتابي الإيمان والتوحيد بالبخاري، وهذا النقص يستدرك بمعرفة مذهب السلف، كما يعيبه تعسفه أحيانا في الانتصار لمذهبه الشافعي في مواضع خالف فيها الدليل، انظر على سبيل المثال شرحه لباب (مسح الرأس كله)، بكتاب الوضوء بصحيح البخاري (حديث 185). والفتح مطبوع في أربعة عشر مجلداً منها مجلد لمقدمته (هدي الساري).
3 ــ (المغني) لابن قدامة المقدسي الحنبلي (620هـ): وهو موسوعة فقهية اشتملت على ذكر مذاهب العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من المذاهب الفقهية الأربعة وغيرها، وذلك في جميع المسائل الفقهية، مع الترجيح بين الأقوال وذكر الأدلة، وهو يرجح مذهبه الحنبلي عادة ويخالفه أحيانا، وليس كل مايرجحه هو الصواب، ويستعان في تمييز هذا بترجيحات ابن تيمية كما سنذكر إن شاء الله. والمغني مطبوع وحده، ومطبوع مع الشرح الكبير في إثني عشر مجلداً، وله فهارس مستقلة مطبوعة في مجلدين على الأبجدية تعين على البحث فيه.(6/17)
4 ــ (مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله) (728 هـ) جمع وترتيب عبدالرحمن بن محمد بن قاسم النجدي الحنبلي. وهو مطبوع في خمسة وثلاثين مجلداً مع فهارس في مجلدين. وترجع أهمية هذا الكتاب إلى ثلاثة أمور:
الأول: اشتماله على تفصيل مذهب السلف في مسائل الاعتقاد المختلفة، مع ذكره لمقالات الفرق المبتدعة ونقدها، وقد ذكرت في الباب الرابع أن شيخ الإسلام قد جمع ماكتبه السلف قبله في الاعتقاد، وعنه أخذ جميع من كتبوا بعده في اعتقاد السلف.
الأمر الثاني: إكثاره من ذكر الأدلة الشرعية على مايقوله وينقله، حتى صار هذا منهجا ثابتا له. وقد ذكرت من قبل أنني أوصي بالاكثار من القراءة لابن تيمية وابن القيم لما في ذلك من تدريب على أخذ الأقوال بأدلتها فيترسخ هذا المنهج لدى الطالب، وفيه فوائد عظيمة سبق التنبيه عليها.
الأمر الثالث: اشتماله على الترجيح في معظم المسائل الفقهية التي تكلم فيها ومعظم ترجيحاته صائبة إلا النزر اليسير، وقد جمع كثيراً من هذه الترجيحات علاء الدين البعلي الحنبلي (803 هـ) وأفردها بكتاب مستقل بعنوان (الاختيارات الفقهية من فتاوي شيخ الإسلام ابن تيمية) جمع فيه اختياراته مرتبة على أبواب الفقه التقليدية، وهو مطبوع في مجلد بتحقيق الشيخ محمد حامد الفقي رحمه الله، ط دار المعرفة.
فهذه الكتب الأربعة هى أهم كتب علوم الإسلام فيما أرى والله أعلم، وإنما كانت بهذه المنزلة لإحاطتها بمعظم العلوم الشرعية الأصلية والمستنبطة، ففيها التفسير وشرح الحديث والفقه والإعتقاد والرقائق والآداب الشرعية والأذكار والسيرة والمغازي والمناقب وغيرها. بحيث إن من يحصل مافي هذه الكتب لايفوته من علوم الإسلام شئ يذكر، وبحيث إن من أراد بحث مسألة شرعية فجمع ماورد فيها في هذه الكتب لم يفته من علم هذه المسألة شئ يذكر في الأغلب الأعم. ولهذا فإن هذه الكتب تغني عن كثير من غيرها ولايغني غيرها عنها.(6/18)
ولهذا نوصي كل دارس للعلوم الشرعية باقتناء هذه الكتب الأربعة وفهارسها (فهارس المغني، وفهارس مجموع فتاوي ابن تيمية).
ولكن الطالب المبتدئ ــ وإن كان يُسْتَحب له اقتناء هذه المراجع ــ إلا أنها لاتصلح أن يبدأ بدراستها، فلابد لذلك من تمهيد ومقدمات كما لابد من دراسة علوم الوسائل في مرحلة معينة، ومن هنا جعلنا الدراسة الشرعية على ثلاثة مستويات كما أشرنا من قبل، ومع التدرج في الدراسة يصير الطالب قادراً على دراسة هذه المراجع الأربعة والاستفادة منها. هذا وبالله تعالى التوفيق.
المسألة السادسة: نصائح خاصة بدراسة الكتب
تكلمت في هذه المسألة بشئ من التفصيل في الباب الثالث، فلتراجع هناك، وأوجز هنا للتذكير، فأقول يجب على الطالب أن يحرص على:
* معرفة النطق الصحيح للألفاظ من الأعلام والاصطلاحات وغيرها.
* معرفة مواضع الوقف والوصل فيما يقرأ حتى لايخل بالمعنى.
* معرفة معاني اصطلاحات العلم الذي يدرسه، أو المذهب الذي يدرسه.
* فهم معنى مايقرأ.
إلى غير ذلك مما يلزم القارئ لفهم الكتاب، والطريقة المثلى لتحصيل ذلك هى بقراءة الكتاب على شيخ عالم أو طالب علم متقدم وسؤاله عما يُشكل على الطالب. قال الشاطبي (وهو معنى قول من قال «كان العلم في صدور الرجال ثم انتقل إلى الكتب وصارت مفاتحه بأيدي الرجال»، والكتب وحدها لاتفيد الطالب منها شيئا دون فتح العلماء) (الموافقات) 1/97.
فإذا تعذرت القراءة على شيخ أو السماع منه، فإن مما يعين الطالب على فهم مادة الكتاب أمران:
أحدهما: ألا يبدأ دراسته لعلم بدراسة متن أو مختصر موجز فيه، ولكن يبدأ بقراءة شرح متوسط. لأن المتون وضعت ليشرحها المعلمون.
ثانيهما: أن يقرأ في أكثر من كتاب في نفس المادة في نفس الوقت، فما غمض في كتاب لعله يوضح في كتاب آخر.(6/19)
ومما ننصح به طالب العلم أيضا أن يلخص مايدرسه في كل علم في دفتر خاص به يذكر به خطة الموضوع وأهم مسائله وأدلتها باختصار، كما يذكر المراجع في كل مسألة من اسم الكتاب ورقم المجلد ورقم الصفحة والطبعة ليسهل عليه الرجوع إليه للمراجعة أو لطلب مزيد من التفصيل. وهذا الدفتر الذي يذكر به المختصر والمراجع أيسر على الطالب في الحمل إذا أراد السفر والانتقال من بلد إلى آخر.
فهذا ما أنصح به الطالب عند دراسته للكتب، وبالله تعالى التوفيق.
الفصل الثاني
الكتب التي نوصي بدراستها
في المرتبة الأولى
هذه المرتبة الدراسية ــ وكما ذكرنا في الفصل السابق ــ خاصة بالعامة، كما أنها تعتبر المرحلة الأولى في الطلب بالنسبة لطالب العلم.
ولما كانت هذه المرتبة خاصة بالعامة، فإنها ينبغي أن تقتصر على فرض العين من العلم، ويكون هدف الدراسة فيها هو تحصيل العلم الواجب على كل مسلم.
وقد ذكرنا في الفصل الثاني من الباب الثاني في هذا الكتاب أن فرض العين من العلم ينقسم إلى ثلاثة أقسام وهى:
1 ــ العلم الواجب العيني العام: والذي يجب على جميع المسلمين المكلفين في كل زمان ومكان. وهذا القسم والذي بعده يجب أن يتعلمهما المسلم ابتداء.
2 ــ العلم الواجب العيني الخاص: وهذا يجب على كل أحد بحسب مايزاوله من عمل أو مايمتهنه من مهنة، ولهذا فهو يختلف من شخص لآخر.
3 ــ العلم بأحكام النوازل: التي يبتلى بها، وهذه يستفتي فيها عندما تقع.
أما القسم الأول: وهو العلم الواجب العيني العام
فقد ذكرنا أهم موضوعاته في المسألة الخامسة من الفصل الثاني من الباب الثاني، ونعيدها هنا باختصار، وهى:
1 ــ معرفة أركان الإسلام الخمسة، ومنها فهم معنى الشهادتين.
2 ــ معرفة أركان الإيمان الستة.
3 ــ معرفة أقسام التوحيد وشروط صحته.
4 ــ معرفة نواقض الإسلام، وأن الكفر بالطاغوت بأنواعه شرط لصحة الإسلام.
5 ــ معرفة عبادات القلب الواجبة.(6/20)
6 ــ حفظ سورة الفاتحة: لأنها من أركان الصلاة.
7 ــ معرفة أحكام الطهارة: على الوجه الذي تصح به طهارته لا ليفتي فيها.
8 ــ معرفة أحكام الصلاة: على الوجه الذي تصح به صلاته لا ليفتي فيها.
9 ــ معرفة أحكام الصيام: على الوجه الذي يصح به صيامه لا ليفتي فيها.
10 ــ معرفة أحكام الجنائز: لربما تتعين عليه في وقتٍ ما.
11 ــ معرفة شروط وجوب الزكاة: فإذا وجبت عليه تعلم مايلزمه من أحكامها.
12 ــ معرفة شروط وجوب الحج: فإذا وجب عليه تعلم مايلزمه من أحكامه.
13 ــ معرفة شروط وجوب الجهاد: فإذا وجب عليه تعلم مايلزمه من أحكامه.
14 ــ معرفة الواجبات والآداب الشرعية المتعيّنة.
15 ــ معرفة المحرمات من الأقوال والأفعال، ومن الأطعمة والأشربة والألبسة، والمحرمات من الوظائف وطرق المكاسب، وغيرها من المحرمات.
16 ــ معرفة وجوب التوبة من كل ذنب ظاهر أو باطن، ومعرفة شروط صحة التوبة.
أما الكتب التي نوصي بها ليتعلم منها المسلم هذه الموضوعات فهى:
1 ــ كتاب (العقيدة الواسطية) لابن تيمية، أو كتاب (لُمعة الاعتقاد) لابن قدامة المقدسي، لدراسة أركان الإيمان الستة.
2 ــ كتاب (التوحيد حق الله على العبيد) وكتاب (كشف الشبهات في التوحيد) وكتاب (الأصول الثلاثة وأدلتها)، كلها لمحمد بن عبدالوهاب. وهذه الكتب لدراسة معنى الشهادتين وأقسام التوحيد ونواقض الإسلام وعبادات القلب الواجبة.
3 ــ كتاب (العُدة شرح العمدة) لبهاء الدين المقدسي 624 هـ، وكتابه (العدة) شرح لكتاب (العمدة) للموفق بن قدامة الحنبلي 620 هـ، وهذا لدراسة الأحكام الفقهية الواجبة، وهى أحكام الطهارة والصلاة والجنائز والزكاة والصيام والحج والجهاد، وذلك على النحو الذي أشرنا إليه أعلاه.(6/21)
4 ــ كتاب (رياض الصالحين) للنووي. لدراسة عبادات القلب الواجبة (وهى في خُمسِه الأول تقريبا)، ودراسة المحرمات (وهى في خُمسِه الأخير تقريبا)، ودراسة الواجبات والآداب الشرعية (وهى في بقية الكتاب)، ودراسة شروط التوبة (وهى في أول الكتاب).
فهذه أهم الكتب التي نوصي بها في هذه المرتبة الدراسية، فإذا قسّمناها على صنوف العلم وأضفنا إليها بعض الكتب النافعة الأخرى المناسبة للعامة، فيكون التقسيم كالتالي:
أولا: في الاعتقاد:
1 ــ (العقيدة الواسطية) لابن تيمية، فإذا أمكن قراءة شرحها في هذه المرتبة ففيه خير كثير، كشرح الشيخ محمد خليل هراس.
2 ــ (التوحيد حق الله على العبيد) لمحمد بن عبدالوهاب، فإذا أمكن قراءة شرحه في هذه المرتبة ففيه خير كثير، وأفضل شروحه ــ فيما أرى ــ كتاب (فتح المجيد شرح كتاب التوحيد) لعبدالرحمن بن حسن آل الشيخ.
3 ــ (كشف الشبهات في التوحيد) لمحمد بن عبدالوهاب.
4 ــ (الأصول الثلاثة وأدلتها) لمحمد بن عبدالوهاب.
وهذه الكتب ذكرناها أعلاه، وهى مهمةلكل مسلم، ونضيف إليها:
5 ــ (تطهير الجنان والأركان عن درن الشرك والكفران) لأحمد بن حجر آل بوطامي.
6 ــ كتاب (دعوة التوحيد) للشيخ محمد خليل هراس.
7 ــ (سلسلة التوجيهات) للشيخ محمد بن جميل زينو، وهى عدة كتب موجزة مفيدة.
8 ــ رسالة (أوثق عرى الإيمان) لشيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب، ورسالة (حكم موالاة أهل الإشراك) للشيخ سليمان بن عبدالله بن محمد بن عبدالوهاب، ورسالة (بيان النجاة والفكاك من موالاة المرتدين وأهل الإشراك) للشيخ حمد بن عتيق النجدي، وهى الرسائل السادسة والحادية عشرة والثانية عشرة من (مجموعة التوحيد) لشيخي الإسلام ابن تيمية ومحمد بن عبدالوهاب. وهذه المجموعة كلها نافعة إن تيسّرت قراءتها. فإن لم يجدها فليقرأ موضوع الموالاة والمعاداة في كتاب (الولاء والبراء في الإسلام) لمحمد بن سعيد القحطاني.(6/22)
وموضوع الموالاة والمعاداة في غاية الأهمية، وهو التطبيق العملي للكفر بالطاغوت والإيمان بالله، أي لعقيدة التوحيد. والواجب الشرعي على كل مسلم أن يوالي المؤمنين وينصرهم وأن يعادي الكافرين ويبغضهم ويجاهدهم. والتقصير في القيام بهذا الواجب أدى إلى فساد عظيم في هذا الزمان، إذ وقع كثير من المنتسبين إلى الإسلام في موالاة الكافرين ومعاداة المؤمنين حتى آل الأمر إلى استعلاء الكافرين على المؤمنين المستضعفين في شتى أقطار الأرض يسومونهم سوء العذاب بأيدي أناس يدّعون الإسلام، ولا خلاف بين العلماء في أن من أعان الكافر على المسلم أنه كافر بإعانته هذه دون النظر إلى ماقام بقلبه، وستأتي إشارة إلى حكم هذه المسألة بآخر مبحث دراسة الاعتقاد في الفصل التالي إن شاء الله.
وصور الموالاة والمعاداة كثيرة، تُعلم من الكتب المشار إليها، ولايتمكن المسلم من القيام بهذه الواجبات إلا بتمييز المؤمن من الكافر وهذا واجب في ذاته. ونحن لانطلب من العامة أن يفتوا في هذا، ولكن يجب أن تكون هذه المسألة حاضرة في أذهانهم عند التعامل مع الناس تعاملا يؤثر فيه معرفة دينهم كمعرفة أحوال الحكام ومايتبعها من واجبات، وكما في أمور النكاح والجنائز والتوارث وإمامة الصلوات والشركات والإجارة وغيرها، ولايجب التنقيب عن حال المسلم مستور الحال، ولكن من جُهل أمرُه أو ظهرت منه ريبة يُفتش عن حاله، ويَستفتي العامي أهلَ العلم في شأنه، وهذا كله من باب وجوب العلم قبل القول والعمل.
ثانيا: في القرآن:
1 ــ (تفسير الجلالين)، بدون حواشي. وهو تفسير مختصر ميسّر يناسب العامة.
2 ــ رسالة في التجويد كالتجويد الميسّر للشيخ عبدالعزيز القارئ. وأحكام التجويد يجب أن تؤخذ سماعاً من شيخ وإلا فمن أشرطة الكاسيت المخصصة لذلك عند التعذر.
ثالثا: في الحديث:(6/23)
1 ــ الأربعون النووية. بالشرح المختصر، فإذا أضاف العامي إلى ذلك قراءة شرحها المفصل مع تكملة ابن رجب الحنبلي لها في (جامع العلوم والحِكَم) ففيه خير عظيم.
2 ــ أما مصطلح الحديث: فلا يلزم العامي منه إلا معرفة أقسام الحديث من حيث القبول والرد. وأن الزنادقة والمبتدعة وضعوا أحاديث ونسبوها للنبي صلى الله عليه وسلم، وأن بعض رواة الأحاديث لايثق العلماء في صحة ماينقلونه إما لجرح عدالتهم وإما لعدم ضبطهم لما يروونه. وأنه لهذه الأسباب وضع العلماء قواعد للحكم على الحديث، وترتب عليها تقسيم الحديث إلى صحيح وحسن وضعيف، وأن الصحيح والحسن مقبولان يعمل بهما وأن الضعيف مردود.
رابعا: في الفقه:
1 ــ كتاب (العدة شرح العمدة) لبهاء الدين المقدسي، وقد ذكرته من قبل.
أوكتاب (السلسبيل في معرفة الدليل) للشيخ صالح بن إبراهيم البليهي، وهو شرح لمتن (زاد المستقنع) للشيخ شرف الدين الحجَّاوي 968 هـ، و(زاد المستقنع) هو مختصر من كتاب (المقنع) لابن قدامة المقدسي 620 هـ.
و كتاب (السلسبيل) سهل العبارة، يذكر الأدلة من الكتاب والسنة، ويذكر اختيارات شيخ الإسلام ابن تيمية واختيارات تلميذه العلامة ابن القيم، كما يشير إلى أقوال المذاهب الفقهية الأخرى أحيانا باختصار، ويذكر القول الراجح في مسائله بما لا يلقي الطالب في حيرة، وهو مطبوع في ثلاثة مجلدات متوسطة.
2 ــ أما أصول الفقه ــ فكما ذكرنا في الفصل السابق ــ لايلزم العامي منها إلا معرفة أقسام الحكم التكليفي الخمسة (الواجب والمندوب والمباح والمكروه والحرام)، ومعنى كل حكم منها.
خامسا: الرقائق والآداب الشرعية:
1 ــ (رياض الصالحين) للإمام النووي.(6/24)
2 ــ (مختصر منهاج القاصدين) لأحمد بن محمد بن قدامة 742 هـ، وهو مختصر (منهاج القاصدين) لابن الجوزي الذي هو مختصر (إحياء علوم الدين) لأبي حامد الغزالي. وأنصح بقراءة نسخة محققة من كتاب (مختصر منهاج القاصدين) نظراً لاشتماله على كثير من الأحاديث الضعيفة.
سادسا: الأذكار والأدعية:
1 ــ (الكلم الطيب) لابن تيمية، بتخريج أحاديثه للأرناؤط.
سابعا: مسائل معاصرة يجب معرفة حكمها:
1 ــ الحكم بغير ماأنزل الله، بالقوانين الوضعية، كفر أكبر ممن وضع القوانين أو حكم بها، أو دعا إلى التحاكم إليها، أو تحاكم إليها راضيا بها، أو دافع عنها. كل هؤلاء كفار خارجون عن ملة الإسلام. وستأتي إشارة موجزة لأدلة هذه الأحكام في الموضوع الرابع من المبحث الثامن في الفصل التالي إن شاء الله.
ويترتب على هذا تحريم العمل بهذه القوانين وتحريم الحكم بها والتحاكم إليها، وتحريم العمل في المؤسسات الحاكمة بها كالمحاكم، وتحريم تنفيذ ماحكم به القضاة منها.
كما يترتب على هذا وجوب خلع الحكام الكافرين الحاكمين بهذه القوانين ووجوب نصب حكام مسلمين يحكمون بالشرع مكانهم، فإن لم يمكن خلع الحاكم الكافر إلا بالقتال لامتناعه بالشوكة والأعوان فقد وجب قتاله فرض عين على كل مسلم، لأن حكمه حكم العدو الكافر الذي نزل ببلاد المسلمين، وقتال هذا فرض عين، وإن عجز عنه في الحال وجب الإعداد لأجله.
ويجب على كل مسلم أن يعلم حكم حاكم بلده، لما أوجبه الله تعالى من طاعة الحاكم المسلم والصبر عليه وإن جار، ولما أوجبه الله تعالى من خلع الحاكم الكافر وقتاله إن لم يتأتى خلعه إلا بذلك.
ويُقرأ في هذا: رسالة (تحكيم القوانين) للشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ.(6/25)
2 ــ الديمقراطية: قانون وضعي مخالف للشرع اخترعه الكفار، ويقضي بمنح البشر الحق المطلق في التشريع، وذلك في مقابل دين الإسلام الذي حق التشريع فيه لله تعالى. فالديمقراطية كفر أكبر حكمها في ذلك حكم مثلها من القوانين الوضعية، بل هى دين مخالف لدين الإسلام لما تمثله من شرك صريح في الربوبية، قال تعالى (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله) التوبة 31 وكانت هذه الربوبية بالتشريع من دون الله، وقال تعالى (أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين مالم يأذن به الله) الشوري 21. ووسائل تطبيق الديمقراطية لها نفس الحكم، كإنشاء الأحزاب السياسية وإنشاء المجالس النيابية (البرلمانات) والمشاركة في هذه الأحزاب أو في انتخابات المجالس النيابية بالترشيح أو الانتخاب، كل هذا كفر أكبر ممن فعله أو دعا إليه وزيَّنه للناس أو رضي به وإن لم يفعله. لأن هذه هى وسائل تطبيق الديمقراطية التي هى دين الكفار، ولاتغتر بكثرة الهالكين في هذا الذين فارقوا دين الإسلام ودخلوا في دين الكفار ماداموا قد ارتضوا بالديمقراطية ووسائلها، وإن كان أحدهم يركع في اليوم ألف ركعة أو يختم في اليوم مائة ختمة هو كافر، قال تعالى (ومايؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون) يوسف 106.
وراجع ماذكرته في هذا الموضوع في مسألة النية في أول الباب الرابع من هذا الكتاب. وفي المبحث الثامن من الفصل التالي إن شاء الله.
3 ــ الأغاني الخليعة والموسيقى بآلاتها المختلفة، يحرم الاستماع إليها وهى من الكبائر للوعيد الوارد فيها، ويحرم الاشتغال بها وبيعها والاكتساب منها.
ولايستثنى من ذلك إلا الدف في إعلان النكاح وللنساء خاصة على ألا يختلطن بالرجال.
يُقرأ في هذا كتاب (تنزيه الشريعة عن إباحة الأغاني الخليعة) لأحمد بن يحيي النجمي، وهو كتاب مختصر جامع في الموضوع.(6/26)
4 ــ إطلاق اللحية واجب على الرجال، للأمر الوارد في ذلك، وفيها كتب كثيرة أيسرها رسالة (اعفاء اللحى وقص الشوارب) لعبدالرحمن بن قاسم النجدي جامع فتاوي ابن تيمية.
5 ــ تعاطي الدخان والتبغ والقات بالتدخين أو بالمضغ كل ذلك حرام والاتجار فيها والاكتساب منها حرام.
يقرأ في ذلك فتوى الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ في تحريم الدخان والقات، ونحوها من الرسائل.
6 ــ حجاب المرأة ولُبس النقاب واجب، وفيه رسائل كثيرة، وسأتكلم في هذه المسألة في المبحث الثامن من الفصل التالي إن شاء الله.
ثامنا: واقع المسلمين المعاصر:
يجب على كل مسلم أن يعلم واقع العالم ككل وواقع البلد الذي يعيش فيه لما يترتب على هذا العلم من واجبات شرعية.
أما واقع البلد الذي يعيش فيه فقد أشرنا إليه في مسألة الحكم بغير ماأنزل الله، ومسألة الديمقراطية ووسائلها.
وأما واقع العالم، فيجب معرفة مخططات الكافرين وكيدهم للمسلمين ليتقيها المسلم قال تعالى (وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين) الأنعام 55، كما يجب معرفة أحوال المسلمين في العالم للقيام بالواجبات الشرعية نحوهم من النصرة والإعانة ما أمكن ذلك، فالمسلمون ــ مهما حالت بينهم الحدود السياسية المصطنعة ــ هم أمة واحدة وجسد واحد إذا اشتكى منه عضو اشتكت سائر الأعضاء، ولهذا فإن من لايتأثر بأحوال المسلمين في العالم فليس من هذا الجسد، فكيف بمن لايهتم أصلاً بمعرفة أحوال المسلمين؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (مثلُ المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم، مثلُ الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحُمى) متفق عليه. والجسد هو أمة المسلمين فمن لم يتأثر بما يصيبهم فليس منهم.
وهذا الموضوع فيه كتب كثيرة نرشح منها على سبيل المثال.
1 ــ (ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين) لأبي الحسن الندوي.
2 ــ (المخططات الاستعمارية لمكافحة الإسلام) لمحمد محمود الصّواف.(6/27)
3 ــ (الغارة على العالم الإسلامي) ترجمة محب الدين الخطيب ومساعد اليافي.
4 ــ (قادة الغرب يقولون: دمّروا الإسلام وأبيدو أهله) لجلال العالم.
وما في معناها من الكتب، مع متابعة أخبار العالم الإسلامي.
فهذا ماأوصي به من كتب في المرتبة الأولى من مراتب الدراسة الشرعية الخاصة بعوام المسلمين، وهى ليست كثيرة، فالناس يضيعون الكثير من أوقاتهم فيما لاينفع بل فيما يضرهم، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ) رواه البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنهما رقم (6412). والناس بحاجة إلى من ينبههم ويوقظهم من غفلتهم ليقبلوا على طلب العلم الواجب عليهم الذي فيه سعادتهم في الدنيا والآخرة، وحقيق بالعلم أن يسمى (مفتاح دار السعادة) كما سّماه ابن القيم رحمه الله في كتابه الموسوم بهذا. ومن كان قارئا من المسلمين فليقرأ هذه الكتب بنفسه أو على شيخ أو على طالب علم متقدم، ومن كان أميّاً لايقرأ فليستعن بمن يقرأ له هذه الكتب ولو بالأجر، ولو بالرحلة، فما لايتم الواجب إلا به فهو واجب.
بقي بعد ذلك فائدة وتنبيه.
(أما الفائدة)
فهى ماذكرته في الباب الثالث من هذا الكتاب في مسألة (واجب العامي في تبليغ العلم). وهى أن كل من حَصَّل شيئا من هذا العلم الواجب عليه أن يبلغه إلى من لايَعْلمه وعليه أن يُعَلِّمه أهله وأولاده خاصة، لقوله تعالى (ياأيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة) التحريم 6، ولقوله صلى الله عليه وسلم (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته) الحديث متفق عليه، وقال صلى الله عليه وسلم (ليبلغ الشاهدُ الغائب) الحديث متفق عليه.
(وأما التنبيه)(6/28)
فهو أنه بالنسبة لما أذكره من كتب في هذا الباب أو في كتابي هذا كله، فليس ذكري للكتاب أو وصيتي به ليس ذلك تزكية لمؤلفه أو لسائر مايكتبه هذا المؤلف، وإنما تقتصر تزكيتي على الكتاب المذكور خاصة، وإذا كان الكتاب الموصَى به فيه عيب أو خطأ ظاهر نبّهت عليه إن شاء الله.
هذا، ومن فرغ من دراسة كتب المرتبة الأولى وشرح الله صدره لطلب المزيد من العلم فليشرع في دراسة كتب المرتبة الدراسية الثانية ثم الثالثة، (ومن يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)، هذا وبالله تعالى التوفيق.
الفصل الثالث
الكتب التي نوصي بدراستها
في المرتبتين الدراسيتين الثانية والثالثة
(تمهيد: عن أهداف الدراسة في هاتين المرتبتين ومنهجها)
وبه ثلاث مسائل: أهداف الدراسة، ومنهج الدراسة، وخطة ترتيب علوم المنهج.
1 ــ أهداف الدراسة في المرتبتين الثانية والثالثة.
المرتبة الثانية من مراتب الدراسة الشرعية ــ وكما ذكرنا في الفصل الأول من هذا الباب ــ خاصة بطلاّب العلم المبتدئين الذين حصّلوا العلم الواجب على العامة المذكور في المرتبة الأولى السابقة، وطلاب هذه المرتبة ــ الثانية ــ يندرج فيهم كثيرٌُ من الشبان المتدينين اليوم أو هكذا ينبغي أن يكونوا. ومن ينتهي من دراسة هذه المرتبة يكون من طلاب العلم المتقدمين، الذين لهم قدرة على النظر في الأدلة والأقوال، إلا أنه لاتجوز لهم الفتيا إلا للضرورة.(6/29)
أما المرتبة الدراسية الثالثة فخاصة بطلاب العلم المتقدمين الذين انتهوا من دراسة جميع العلوم الموصي بها في المرتبة الثانية، والذين يسعون لتحصيل رتبة الاجتهاد في الشريعة، ودراسة المرتبة الثالثة بحاجة إلى التفرّغ، ويعتبر حفظ القرآن وحفظ الكتب الستة من الأركان الأساسية للدراسة في هذه المرتبة، ومن يُوفّق في الانتهاء من دراسة المرتبة الثالثة بنجاح يكون عالما فقيها مجتهداً جديراً بالتصدي للافتاء والقضاء بإذن الله تعالى، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم. وعلامة النجاح في دراسة المرتبة الثالثة أن تكثر إصابة صاحبها في الفتوى وأن يشهد له بالعلم أقرانه ومن هم أعلم منه.
هذا وتعتبر دراسة المرتبتين الثانية والثالثة من فروض الكفاية التي يقوم بها من شرح الله صدورهم لطلب العلم الشرعي نيابة عن مجموع المسلمين، في حين تشتمل المرتبة الأولى على فرض العين من العلم الشرعي الواجب على كل مسلم ومسلمة.
2 ــ منهج الدراسة في المرتبتين الثانية والثالثة.
إذا كان هدف الدراسة في المرتبتين الثانية والثالثة هو تحصيل رتبة الاجتهاد في الشريعة، فإن منهج الدراسة فيهما ينبغي أن يشتمل على علوم الاجتهاد، وهى قسمان:
القسم الأول: علوم الاجتهاد الشرعية الخمسة، وهى: القرآن وعلومه، والحديث وعلومه، واللغة العربية، وأصول الفقه، والفقه (وهو يشتمل على أقوال العلماء السابقين من الصحابة فمَن بعدهم ماأجمعوا عليه ومااختلفوا فيه).
القسم الثاني: معرفة الواقع: وهو ماسمّاه أحمد بن حنبل رحمه الله بمعرفة الناس في كلامه عن صفات المفتي. وذلك لأن الفتوى هى معرفة الواجب في الواقع. أما الواجب فهو حكم الشريعة وهذا يُعلم من العلوم الشرعية الخمسة السابقة، وأما الواقع فلأجل الإلمام به رأينا أن تشتمل الدراسة على بعض العلوم التي تبصِّر الفقيه به، ومنها التاريخ الإسلامي والتاريخ الدولي وواقع المسلمين المعاصر.(6/30)
وسوف نضيف إلى هذين القسمين بعض العلوم المستنبطة التي لابد منها للطالب لتصحيح معتقده وتطهير قلبه وتقويم سلوكه، وهى علوم الاعتقاد والرقائق والآداب. مع مراعاة التدرج في هذه العلوم كلها من المرتبة الثانية إلى الثالثة.
3 ــ ترتيب العلوم في منهج الدراسة.
سوف نبدأ بإذن الله تعالى بالكلام في الاعتقاد ثم الاعتصام بالكتاب والسنة في المبحثين الأول والثاني. وذلك لأهمية الموضوعين، فدراسة الاعتقاد هامة لتصحيح المعتقد، ودراسة الاعتصام هامة لتصحيح منهج التَّلقِّي، وهذه من أصول الدين التي يجب البدء بها لأنها شرط لصحة مابعدها.
ثم نذكر القرآن وعلومه ثم الحديث وعلومه في المبحثين الثالث والرابع، وذلك لأن القرآن والحديث هما العلمان الأساسيان اللذان تتفرع عنهما وتنبني عليهما باقي العلوم الشرعية.
ويأتي ترتيب علوم الوسائل بعد العِلمين الأساسيين إذ إن علوم الوسائل هى وسائل لضبط فهم العلوم الأساسية ولضبط الاستنباط منها. وهى أربعة علوم: علوم القرآن وعلوم الحديث وهذان محلهما في المبحثين الثالث والرابع، ثم اللغة العربية وأصول الفقه ومحلهما المبحثان الخامس والسادس.
وبعد الفراغ من ذكر علوم الوسائل يأتي دور العلوم المستنبطة وعلى رأسها علم الفقه ومحله المبحث السابع، ثم نذكر بعض الموضوعات الفقهية المتفرقة ومراجعها الأساسية في المبحث الثامن.
ثم نذكر آداب الباطن والظاهر وهى الرقائق والآداب الشرعية في المبحث التاسع.
ثم نذكر سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وذلك في المبحث العاشر.
ثم نختم بالكلام في التاريخ وذلك في المبحث الحادي عشر.(6/31)
ونظراً لأننا قدمنا في كل مبحث بالتعريف بالعلم المذكور فيه، فقد رأينا أنه من المناسب ذكر كتب هذا العلم التي نوصي بدراستها في المرتبتين الثانية ثم الثالثة معا في مبحث واحد بدلا من إفراد كتب المرتبة الثالثة بفصل مستقل، ليكون التعريف بالعلم متصلا بذكر كل مراجعه الهامة. أما من جهة الدراسة ــ فكما سبق التنبيه ــ يجب أن يفرغ الطالب من دراسة منهج المرتبة الثانية في شتى العلوم قبل أن يدرس منهج المرتبة الثالثة.
وفيما يلي عرض للكتب التي نوصي بدراستها مرتبة على المباحث المذكورة، وبالله تعالى التوفيق.
المبحث الأول:
في دراسة الاعتقاد
يشتمل هذا المبحث على أربعة موضوعات، وهى:
1 ــ تدوين علم الاعتقاد.
2 ــ موضوعات علم الاعتقاد.
3 ــ كتب الاعتقاد التي نوصي بدراستها في المرتبة الثانية.
4 ــ كتب الاعتقاد التي نوصي بدراستها في المرتبة الثالثة.
وهذا تفصيلها:
أولا: تدوين علم الاعتقاد
كما ذكرنا في الفصل الأول، فإن العلوم المستنبطة (كالاعتقاد والفقه والآداب) لم تكن متميزة بهذه الأسماء في عصر الصحابة رضي الله عنهم الذين كانت عمدتهم العلوم الأصلية (الكتاب والسنة).
وقد بدأ علم الاعتقاد في التميز مع ظهور البدع واشتداد وطأة الفرق المبتدعة، فأخذ أئمة المسلمين في كتابة مايعتقدونه الحق الموافق للكتاب والسنة في المسائل التي اختلف فيها المنتسبون إلى الإسلام، والتي يترتب على الاختلاف فيها تكفير المخالف للحق أو تفسيقه وتبديعه، وهذه المسائل التي حدث فيها الخلاف تتناول أركان الإيمان الستة (الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والإيمان بالقدر خيره وشره) كما تتناول بعض المسائل الأخرى كالقول في الصحابة وأمهات المؤمنين والإمامة وكرامات الأولياء.(6/32)
وقد كان هذا الاختلاف مصداق قول رسول صلى الله عليه وسلم (فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عَضّوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ٍ ضلالة) الحديث رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح. فأخبر صلى الله عليه وسلم بأن الاختلاف واقع لا محالة وأن النجاة في التمسك بالسنة. كما أخبرص بأن الاختلاف سيترتب عليه التفرق إلى فرق الناجية منها واحدة، وذلك لأن الحق واحد لايتعدد، فقال صلى الله عليه وسلم (إن أهل الكتاب قبلكم تفرقوا على اثنتين وسبعين فرقة في الأهواء، ألا وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة في الأهواء كلها في النار إلا واحدة، وهى الجماعة) الحديث رواه أحمد وأبو داود وهو حديث صحيح مشهور، كما قال ابن تيمية.
وسميت الفرقة الناجية بأهل السنة والجماعة، فسموا بأهل السنة لتمسكهم بما وردت به السنة في مواضع الاختلاف كما قال صلى الله عليه وسلم ــ في حديث العرباض بن سارية ــ (فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي)، وسموا بالجماعة لتمسكهم بالحق الذي كانت عليه الجماعة الأولى وهم الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته رضي الله عنهم كما قال صلى الله عليه وسلم ــ في حديث معاوية ــ (كلها في النار إلا واحدة، وهى الجماعة). وصار منهج أهل السنة: التمسك بالكتاب والسنة وإجماع السلف الذين هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. والأخذ بأقوال الصحابة وإجماعهم من أهم مايميز أهل السنة عن الفرق الضالة المبتدعة التي تستدل أحياناً ببعض نصوص القرآن وببعض الأحاديث دون بعضها الآخر لينصروا بدعتهم فإذا جاءوا إلى أقوال الصحابة في تفسير النصوص لم يجدوا مايعضدهم.
وقد ترتب على الاختلاف والتفرق تدوين علمين: الأول علم الاعتقاد، والثاني علم الفرق.(6/33)
أما علم الفِرَق: وهو عرض أقسام الفرق ومقالات كل منها، فمن المؤلفين من يسرد ذلك سرداً دون الرد على المخالفين كما في (مقالات الاسلاميين) لأبي الحسن الأشعري، و(الفَرق بن الفِرق) لعبدالقاهر البغدادي، و(المِلل والنحل) للشهرستاني. ومنهم من يفند مقالات الفرق المخالفة لأهل السنة ويرد عليها كما فعل ابن حزم في (الفِصَل في الملل والأهواء والنحل)، على ماعلى ابن حزم من مؤاخذات سوف نشير إليها فيما بعد إن شاء الله.
وأما علم الاعتقاد: فقد بدأت الكتابة فيه في صورة ردود على الفرق الضالة، فكتب أحمد بن حنبل 241 هـ (الرد على الزنادقة والجهمية)، وكتب البخاري 256هـ (الرد على الجهمية)، وكتب عثمان بن سعيد الدارمي 280 هـ (الرد على بشر المريسي). وفي الرد على الوعيدية (وهم الخوارج والمعتزلة) وعلى المرجئة كتب أبو عبيد القاسم بن سلام 224 هـ كتابه (الإيمان) وكذلك صنع أبو بكر بن أبي شيبة 235 هـ وكُتب الردود هذه تتناول بعض مسائل الاعتقاد. ويضاف إلى ذلك كتب (الإيمان) و (السنة) بدواوين الحديث كالكتب الستة وغيرها.
ثم دُوِّنت الكتب التي تجمع معظم مسائل الاعتقاد المعروفة اليوم، ولكنها لم تسم باسم كتب الاعتقاد إلا في أوائل القرن الخامس الهجري، أما قبل ذلك فعرفت كتب الاعتقاد باسم كتب السنة، وذلك في مقابل مقالات المبتدعة، فمنها كتاب (السنة) لأبي بكر بن أبي عاصم 287 هـ، و(السنة) لعبدالله بن أحمد بن حنبل 290 هـ، و(السنة) لمحمد بن نصر المروزي 294 هـ، و(السنة) لأبي بكر الخلاّل 311 هـ. كما سُميت كتب الاعتقاد أيضا باسم كتب الشريعة، ككتاب (الشريعة) لأبي بكر الآجري 360هـ، وكتاب (الإبانة عن شريعة الفرق الناجية) لابن بطة 387 هـ. وسمي الاعتقاد أيضا بأصول الدين كما سمّاه أبو الحسن الأشعري 324 هـ في كتابه (الإبانة عن أصول الديانة).(6/34)
ثم ظهر مصطلح الاعتقاد في أوائل القرن الخامس الهجري، فكتب أبو القاسم اللالكائي (418 هـ) كتابه (شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة). وكل هذه الكتب مطبوعة ومعظمها محقق الآن بفضل الله تعالى.
وفي كل الكتب السابقة يسوق المؤلفون مايَرْوونه ــ في الأبواب المختلفة ــ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة والتابعين بأسانيدهم الخاصة، وعلى ذلك فهذه الكتب تعتبر من كتب السنة الأصلية، وذلك باستثناء (الإبانة) لأبي الحسن الأشعري، حيث ذكر اعتقاده في صورة متن بدون أسانيد.
ومع هذا النمط من التصانيف الأثرية ــ المدعمة بالآثار ــ كان علماء السلف يكتبون مايعتقدونه الحق ــ في مسائل الخلاف ــ باختصار بلفظهم. وساق اللالكائي طائفة من هذه الاعتقادات في كتابه المذكور أعلاه، فبدأ بذكر اعتقاد سفيان الثوري (161هـ)، ثم اعتقاد الأوزاعي (157هـ)، ثم اعتقاد سفيان بن عيينة (198 هـ)، ثم اعتقاد أحمد بن حنبل (241 هـ)، ثم اعتقاد علي بن المديني (234 هـ)، ثم اعتقاد أبي ثور (240 هـ)، ثم اعتقاد البخاري صاحب الصحيح (256 هـ)، إلى أن ختم باعتقاد ابن جرير الطبري صاحب التفسير (310 هـ)، رضي الله عنهم أجمعين.
ومن الاعتقادات المختصرة المشهورة اعتقاد أبي جعفر الطحاوي (321هـ) وهو (متن العقيدة الطحاوية) إلا أنه تكلم في الإيمان على طريقة مرجئة الفقهاء لا طريقة أهل السنة.
وانتهت الطبقات التي كان رجالها يكتبون العقائد بطريقة الآثار المسندة، وتلا ذلك كتابة العقائد مجردة من الأسانيد في صورة متون: كالعقيدة الواسطية لابن تيمية، ولمعة الاعتقاد لابن قدامة، أو في صورة شروح ككتابات ابن تيمية وابن القيم في الاعتقاد، أو في صورة قصائد منظومة: كالقصيدة النونية لابن القيم وقصيدة «الدُّرة المُضيّة» للسفاريني والتي شرحها بنفسه في «لوامع الأنوار البهية»، وقصيدة «سُلّم الوصول» لحافظ حكمي والتي شرحها بنفسه في «معارج القبول».(6/35)
وتعتبر كتابات شيخ الإسلام ابن تيمية في اعتقاد أهل السنة ونقد مقالات الفرق الضالة ــ والتي استغرقت الإثنى عشر مجلداً الأولى من مجموع فتاويه ــ حلقة وصل هامة في تدوين اعتقاد أهل السنة، إذ إنه ــ وكما ذكرت من قبل ــ قد جمع خلاصة كتابات مَن سبقه مِن السلف في ذلك، وعنه أخذ كل مَن كتب في اعتقاد أهل السنة مِن بعده وإلى يومنا هذا.
واتبع أهل السنة منهجاً ثابتا في تدوين مسائل الاعتقاد، ألا وهو اثبات هذه المسائل بأدلتها من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة، وأصبح اتباع هذا المنهج من خصائص أهل السنة. وذلك في مقابل منهج الفرق المبتدعة في اتباع قواعد الجدل والمنطق لاثبات مسائل الاعتقاد بدعوى أنه يمكن اثبات صحة العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية، ولم يستقم لهم ذلك إذ أداهم اتباع هذا المنهج إلى مخالفة الحق الثابت بالكتاب والسنة في بعض مسائل الاعتقاد بحجة أن العقل يأباه، ولم يكتفوا بالمخالفة بل عمدوا إلى نصوص الكتاب والسنة المعارضة لآرائهم فتأوّلوها، وخرجوا بذلك عن أهل السنة والجماعة. وقد دخل هذا الاسلوب على المسلمين بعد مخالطتهم لأهل النحل القديمة وبعد ترجمة كتب فلاسفة اليونان وغيرهم، واشتهر المعتزلة بالأخذ بهذا الأسلوب ثم فاقهم فيه الأشاعرة وعلى رأسهم كبيرهم القاضي أبو بكر الباقلاني 403 هـ، الذي وضع المقدمات العقلية التي يتوقف عليها الاستدلال والنظر وجعلها قواعد تابعة للعقائد الإيمانية في وجوب اعتقادها لتوقف اثبات هذه العقائد عليها، ثم زاد إمام الحرمين أبو المعالي الجويني 478 هـ هذه القواعد العقلية تأصيلا في كتابه (الشامل) والذي لخصه في كتابه (الإرشاد)، ويكفي في ابطال هذا كله أن هذه المقدمات العقلية لو كانت واجبة لكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بينها. وسُمي اثبات مسائل الاعتقاد بالأدلة العقلية بعلم الكلام، ومازالت العقائد تدرس في كثير من المعاهد الإسلامية ــ كالأزهر بمصر ــ وإلى يومنا هذا(6/36)
باسم علم الكلام. وقد ذم السلف الكلام والفلسفة والمنطق أشد الذم وحذروا منها، قال أبو عمر بن عبدالبر (قال يونس بن عبدالأعلى: سمعت الشافعي يوم ناظره حفص الفرد، قال لي: ياأبا موسى لأن يلقى اللهَ عزوجل العبدُ بكل ذنب ماخلا الشرك خير من أن يلقاه بشئ من الكلام، لقد سمعت من حفص كلاما لا أقدر أن أحكيه. أهـ. قال ابن عبدالبر: وقال أحمد بن حنبل رحمه الله إنه لايفلح صاحب كلام أبداً ولاتكاد ترى أحداً نظر في الكلام إلا وفي قلبه دَغَل. أهـ. وقال ابن عبدالبر: أجمع أهل الفقه والآثار من جميع الأمصار أن أهل الكلام أهل بدع وزيغ ولايُعدون عند الجميع في جميع الأمصار في طبقات العلماء، وإنما العلماء أهل الأثر والتفقه فيه ويتفاضلون فيه بالاتقان والمَيْز والفهم. أهـ. ونقل ابن عبدالبر عن ابن خويز منداد المالكي قوله: أهل الأهواء عند مالك وسائر أصحابنا هم أهل الكلام فكل متكلم فهو من أهل الأهواء والبدع أشعرياً كان أو غير أشعري لاتقبل له شهادة في الإسلام أبداً ويٌهجر ويؤدب على بدعته، فإن تمادى عليها استتيب منها) (جامع بيان العلم) 2/ 95 ــ 96.
هذا هو سبب تسمية المتأخرين للعقائد بعلم الكلام ــ تأسيسهم له على الجدل والمنطق ــ وقد ذكر ابن خلدون في مقدمته سببا آخر لهذه التسمية وهو الخلاف في كلام الله تعالى ومسألة خلق القرآن، فقال إن مسائل الاعتقاد سميت بعلم الكلام لأن مبدأها كان الخلاف في كلام الله تعالى، إلا أن شيخ الإسلام ابن تيمية قد انتقد هذا القول وبيّن أنه خطأ ولا صلة له بالتسمية، وأن الصواب هو القول الأول، انظر (مجموع الفتاوي) 3/ 184، في نقده لكلام الشهرستاني.
ثانيا: موضوعات علم الاعتقاد
وهى تتناول ــ وكما ذكرنا من قبل ــ أركان الإيمان الستة بالإضافة إلى موضوعات أخرى اختلفت فيها الفرق، على النحو التالي:
1 ــ الركن الأول من أركان الإيمان، وهو الإيمان بالله تعالى، ويُسمى علم التوحيد وهو نوعان:(6/37)
أ ــ توحيد الربوبية (أو توحيد المعرفة والإثبات): ومعناه توحيد الله تعالى في ذاته وأفعاله وأسمائه وصفاته. وأحيانا يُفرد توحيد الأسماء والصفات بقسم مستقل، فيقتصر توحيد الربوبية بذلك على توحيد الله في ذاته وأفعاله.
ويختص هذا القسم بالبحث في أسماء الله وصفاته وأفعاله ومعرفة مذهب أهل السنة في هذا، ومقالات أهل البدع فيها ونقضها.
ب ــ توحيد الألوهية (أو توحيد القصد والطلب)، ومعناه إفراد الله تعالى وحده بالعبادة، وهو معنى شهادة أن لا إله إلا الله.
ويختص هذا القسم ببحث معنى العبادة، وشروط صحة شهادة أن لا إله إلا الله، ومعنى الطاغوت وأقسام الكفر والشرك، ونواقض التوحيد المختلفة.
2 ــ الركن الثاني وهو الإيمان بالملائكة: ومعرفة صفاتهم التي وصفهم الله بها ومعرفة أقسامهم وأعمالهم، والإيمان بذلك كله.
3 ــ الركن الثالث وهوالإيمان بالكتب السماوية التي أنزلها الله على رُسُله وأنها كلها حق من عند الله على الصفة التي أنزلت عليها، لا على الصفة التي هى عليها اليوم ماعدا القرآن، بل يجب الإيمان بأن الكتب السابقة الموجودة اليوم ــ كالتوارة والإنجيل ــ قد دخلها التحريف، كما يجب الإيمان بأن القرآن قد نسخ مامضي من الكتب السماوية، التي حتى لو وجدت اليوم على حالتها دون تحريف لحَرُمَ العمل بها.
4 ــ الركن الرابع: الإيمان برُسُل الله تعالى، خاصة من ذكر الله تعالى أسماءهم في القرآن، وأنهم أفضل البشر، وأنهم قد بَلَّغوا ماوجب عليهم من البلاغ، وأن أولي العزم منهم خمسة، وأنهم معصومون من الشرك والكبائر، أما الصغائر ففيها خلاف ورجّح القاضي عياض وغيره عصمتهم منها، ثم معرفة طرف من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ومعجزاته وعموم بعثته إلى الثقلين إلى يوم القيامة، ووجوب تصديقه واتباعه في كل ماأخبر به صلى الله عليه وسلم، وهذا هو معنى شهادة أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم.(6/38)
5 ــ الركن الخامس: الإيمان باليوم الآخر: ومنه الإيمان بأشراط الساعة، وسؤال القبر ونعيمه أو عذابه، والنفخ في الصور والفزع والصعق والبعث، والحشر وتطاير الصحف والشفاعة بأقسامها والعرض والميزان والصراط والحوض والإيمان بالجنة والنار وأنهما موجودتان الآن.
6 ــ الركن السادس: الإيمان بالقدر خيره وشره من الله تعالى، وأن له أربع مراتب وهى العلم ثم الكتابة ثم المشيئة ثم خلق الأفعال خيرها وشرها. ومنه الكلام في التقدير الأزلي ثم العمري ثم الحولي ثم اليومي،. ومنه الكلام في استطاعة العبد بقسميها الشرعية والقدرية. ومعرفة اختلاف الفِرَق وقول أهل السنة في هذا كله.
7 ــ الكلام في الإيمان، وهو مايعرف (بمسائل الأسماء والأحكام) ومنه: معرفة حقيقة الإيمان، وزيادته ونقصانه، وتفاضل أهله فيه، والقول في أصحاب المعاصي بأقسامها، والفرق بين الإيمان والإسلام. ومعرفة اختلاف الفِرَق وقول أهل السنة في هذا كله.
8 ــ المسائل التي أدرجت في الاعتقاد ــ بالإضافة لأركان الإيمان الستة ــ بسبب مخالفة بعض الفِرَق فيها مخالفةً يحكم على صاحبها بالكفر أو بالفسق والضلال، وأكثر هذه المسائل خالف فيها الشيعة الروافض، وأهمها:
أ ــ القول في الصحابة والخلفاء الأربعة وأمهات المؤمنين وأهل البيت رضي الله عنهم.
ب ــ القول في الإمامة، وإقامة الجُمع والجماعات والحج والجهاد مع البر والفاجر.
جـ ــ القول في كرامات الأولياء.
د ــ القول في المسح على الخفين.
هـ ــ القول في الجن: صفتهم وتكليفهم ومصيرهم.
و ــ القول في التحسين والتقبيح العقلي.
هذه هى أهم الموضوعات التي تتناولها كتب علم الاعتقاد.
ثالثا: كتب الاعتقاد التي نوصي بدراستها في المرتبة الثانية(6/39)
مما يؤسف له أنه لا يوجد كتاب جامع لموضوعات الاعتقاد سالفة الذكر على الصفة المرضية، بحيث يغني هذا الكتاب عن غيره، وهذا هو الشأن في معظم كتب العلوم الشرعية ولكن كتب العلماء يكمل بعضها بعضاً، ولهذا فسوف نوصي في كل علم بكتاب نجعله الأساس وهو أكثر كتب هذا العلم جمعاً لمسائله وفوائده ثم نستكمل النقص في هذا الكتاب الأساسي من بقية كتب نفس العلم.
ومن ناحية كتب الاعتقاد فإنها تختلف في درجة استيعابها لموضوعات الاعتقاد، وفي طريقة عرضها لها من حيث الترتيب ومن حيث البسط والإيجاز.
ومع ذلك فإذا كان هناك كتاب يغني عن غيره في علم الاعتقاد للمرتبة الثانية فهو كتاب (معارج القبول) لحافظ حكمي، ولهذا فسنجعله الكتاب الأساسي في هذه المرتبة. وسوف نبدأ بعرض أهم كتب الاعتقاد المناسبة لطلاب المرتبة الثانية، ثم نلخص مانوصي بدراسته منها:
1 ــ كتاب (معارج القبول) للشيخ حافظ بن أحمد حَكمي (1377هـ)، وهو مطبوع في مجلدين، عندي منه طبعة المكتبة السلفية بمصر، والمجلد الأول مخصص كله للتوحيد بأقسامه ونواقضه، والمجلد الثاني مخصص لبقية أركان الإيمان الستة. وهذا الكتاب يعرض عقيدة السلف أهل السنة والجماعة ويعرض أقوال الفرق المخالفة ويرد عليها معتمداً في ذلك على كلام ابن تيمية وابن القيم وغيرهما من علماء أهل السنة. ولايوجد كتاب آخر جمع ماجمعه هذا الكتاب، وكل مافيه حقٌُ وصواب، وهناك مسائل قليلة لم يذكرها ككرامات الأولياء والغزو مع البر والفاجر وأشراط الساعة والمسح على الخفين، وختم كتابه بقواعد هامة في الاعتصام بالكتاب والسنة. فإذا أراد الطالب في هذه المرتبة أن يقرأ كتابا واحداً في الاعتقاد فهو (معارج القبول) الذي يغني عن غيره، وهذا الكتاب بحاجة إلى عزو الآيات الواردة فيه وإلى تخريج أحاديثه.(6/40)
وللشيخ حافظ حكمي رحمه الله كتاب مختصر في الاعتقاد بطريقة السؤال والجواب، وهى طريقة جيدة لتوضيح بعض المسائل، وهو كتاب (أعلام السنة المنشورة)، وهو مطبوع في جزء متوسط.
ويلي (معارج القبول) في الجودة وتقرير مذهب أهل السنة:
2 ــ كتاب (لوامع الأنوار البهية) للشيخ محمد السفاريني الحنبلي (1188هـ)، وهو مطبوع في مجلد واحد كبير يشتمل على جزأين. وهو أدنى مرتبة من (معارج القبول)، ويعيبه مايلي:
أ ــ أنه لم يتكلم في توحيد الألوهية ولانواقض التوحيد، وهو بهذا لايغني عن غيره، بل لابد من قراءة كتاب (التوحيد) لمحمد بن عبدالوهاب معه لتدارك هذا النقص.
ب ــ أنه أخطأ في نسبة بعض الأمور لأهل السنة، كما أن به مادة أشعرية، ولكن الكتاب عليه تعليقات للشيخين أبي بطين وسليمان بن سحمان من علماء نجد لتصويب هذه الأخطاء (بطبعة المكتب الإسلامي 1411 هـ).
جـ ــ أن الكتاب ينقصه حُسن الترتيب، فلم يذكر أركان الإيمان الستة متتابعة كما فعل صاحب (معارج القبول).
د ــ أنه أسهب في الحديث عن علامات الساعة في مائة صفحة من الجزء الثاني.
3 ــ (العقيدة الواسطية) لشيخ الإسلام ابن تيمية، وهى عقيدة مختصرة كتبها لأهل مدينة واسط (بالعراق) بناء على طلب قاضيها. ولها عدة شروح منها شرح الشيخ محمد خليل هراس.
ولم يتكلم شيخ الإسلام في هذه العقيدة في توحيد الألوهية أو نواقض التوحيد، وقد خصص الجزء الأكبر منها للحديث عن صفات الله عزوجل وبيان مذهب أهل السنة فيها. ولهذا فهى لاتكفي وحدها لدراسة الاعتقاد.
ولا يفوتني هنا أن أوصي بقراءة (مناظرة في العقيدة الواسطية) في المجلد الثالث من مجموع فتاوي ابن تيمية من صفحة 160 إلى 277. فقراءة هذه المناظرة مهمة لطالب العلم وأوصي الناشرين بطبعها مع العقيدة الواسطية، فهى تبين غربة أهل السنة وحملة العقيدة الصحيحة وتبين ماتعرض له شيخ الإسلام من هجوم من علماء عصره وكيف رد عليهم؟ إلى غير ذلك من الفوائد الهامة.(6/41)
ومتن العقيدة الواسطية موجود بنفس المجلد الثالث صـ 129 ــ 159.
وهناك متون أخرى في عقيدة السلف في نفس حجم العقيدة الواسطية ولكنها أقل فائدة، ولابأس بقراءتها كلها فهى يسيرة، ومنها:
(كتاب شرح السنة) لأبي محمد الحسن بن علي بن خلف البربهاري 329 هـ.
و(عقيدة السلف أصحاب الحديث) لأبي عثمان الصابوني 449هـ.
و (لُمعة الاعتقاد الهادي إلى سبيل الرشاد) للموفق بن قدامة صاحب المغني 620 هـ.
4 ــ (شرح العقيدة الطحاوية) لابن أبي العز الحنفي 792 هـ، وهو شرح لمتن العقيدة الطحاوية للإمام أبي جعفر الطحاوي الحنفي 321 هـ.
وهذا الكتاب من أشهر كتب العقائد الآن. ومن حق هذا الكتاب أن يُسمى بشرح العقيدة الطحاوية لابن تيمية، لأن ابن أبي العز إنما ركّب كلام ابن تيمية كشرح على كلام الطحاوي. ومعظم الشرح منقول من كلام ابن تيمية في مواضع متعددة من مجموع فتاويه بنصه، ولاأشك في أن كلام ابن تيمية هو الذي جعل للكتاب هذه الأهمية، وقد ذكرت من قبل أن كل من كتب في اعتقاد السلف بعد ابن تيمية ــ ومنهم ابن أبي العز ــ فإنما نقل عنه واستفاد منه.
وبالرغم من شهرة هذا الكتاب فإن فيه تقصيراً وأخطاء:
أ ــ أما التقصير في الكتاب: فهو أنه لم يتكلم في توحيد الألوهية بما فيه الكفاية وإنما أشار الشارح إليه إشارة موجزة في أوله، ولهذا ينبغي أن يُدرس معه كتاب (التوحيد) لمحمد بن عبدالوهاب مع شرحه (فتح المجيد) لحفيده عبدالرحمن بن حسن لجبر هذا النقص.
ب ــ ومن التقصير أيضا تفرق مسائل القدر في الكتاب، فينبغي قراءة موضوع القدر في (معارج القبول) 2/ 326 ــ 398، وفيه نقل حافظ حكمي تلخيصا لكتاب ابن القيم في القدر وهو (شفاء العليل) الذي هو من أهم المراجع لدراسة موضوع القدر.(6/42)
جـ ــ أما الأخطاء فهى أساسا في كلام صاحب المتن أبي جعفر الطحاوي رحمه الله، وقد حاول الشارح تدارك هذه الأخطاء، إلا أنه لم يوفق في ذلك كل التوفيق. وتتركز الأخطاء في مسائل الإيمان، فالماتن كتبها على مذهب مرجئة الفقهاء (أبي حنيفة وشيخه حماد بن أبي سليمان ومن تبعهما). وقد قال الشارح إن الخلاف بينهم وبين أهل الحديث خلاف لفظي وليس كما قال، فإن السلف لم يختلفوا في أن ماأتى به حماد ابن أبي سليمان بدعة، والعلماء الذين ذكروا طبقات أهل السنة ــ كاللالكائي وابن بطة ــ لم يدرجوا فيهم لا أبا حنيفة ولا شيخه حماداً، صحيح إن شارح الطحاوية قال بأن الخلاف لفظي متابعة لابن تيمية (انظر مجموع الفتاوى، 7/ 394)، ولكن هذا غير صحيح، فإن الفرق بين السنة والبدعة لايكون لفظيا، وقد اشتد نكير السلف على هذه البدعة.
وإليك أهم الأخطاء الواردة في متن العقيدة الطحاوية حسب ترتيب ورودها:
(1) قوله في أسماء الله تعالى (قديم بلا ابتداء). والقديم ليس من أسماء الله الحسنى، وهي توقيفية.
(2) قوله في صفات الله تعالى (لا تحويه الجهات الست) هذا نفي يجب أن يُتبع بما يناسبه من اثبات كما هو المنهج القرآني في قوله تعالى (ليس كمثله شئ وهو السميع البصير) الشورى، نفي يعقبه اثبات، ولهذا كان ينبغي أن يقول (لاتحويه الجهات الست، وهو سبحانه فوق مخلوقاته، بائن منهم، مستوٍ على عرشه بذاته)، وذلك لأن قوله (لاتحويه الجهات الست) قد يفهم منه نفي فوقية الله تعالى وعُلُوّه، فوجب التقييد والإثبات عقب النفي.
(3) قول الطحاوي رحمه الله (ونسمي أهل قبلتنا مسلمين مؤمنين، ماداموا بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم معترفين، وله بكل ماقاله وأخبر مصدقين). هذه العبارة تشتمل على مسألتين خالف فيها مرجئة الفقهاء أهل السنة.(6/43)
المسألة الأولى: تسمية أهل القبلة مؤمنين بدون استثناء، ومذهب أهل السنة الاستثناء أو التقييد فتقول أنا مؤمن إن شاء الله أو تقول أنا مؤمن في الأحكام. وقول المرجئة في هذه المسألة مبني على المسألة التالية.
المسألة الثانية: قصره الإيمان على الإقرار (معترفين) والتصديق (مصدقين). وهذا مذهب مرجئة الفقهاء أنه مادام قد صدق بقلبه وأقر بلسانه فهو مؤمن كامل الإيمان، والإيمان عندهم شيء واحد لايزيد ولاينقص، وأعمال الجوارح عندهم ليست من الإيمان وإنما هى من ثمراته وآثاره، ولهذا لايستثنون.
وقد لخّص عمر بن محمد النسفي 537 هـ مذهب مرجئة الفقهاء في كتابه (العقائد النسفية) بقوله (والإيمان في الشرع: هو التصديق بما جاء النبي عليه الصلاة والسلام به من عند الله تعالى والإقرار به، وأما الأعمال فهى تتزايد في نفسها، والإيمان لايزيد ولاينقص، والإسلام واحد، فإذا وُجِدَ من العبد التصديق والإقرار صح له أن يقول أنا مؤمن حقاً، ولاينبغي أن يقول أنا مؤمن إن شاء الله) أهـ.
ومذهب أهل السنة أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص:
وأرادوا بالقول: قول القلب وهو معرفته وتصديقه، وقول اللسان وهو إقراره
وأرادوا بالعمل: عمل القلب وعمل الجوارح (ومنها عبادات اللسان غير الإقرار كتلاوة القرآن والذكر والاستغفار والدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ذكره حافظ حكمي في «معارج القبول» 2/ 20). وأهل السنة يستثنون للعمل.(6/44)
ولم يرد أهل السنة من ذلك أي قول أو أي عمل بل ماكان مشروعاً من الأقوال والأعمال، وهو فعل الواجبات والمندوبات وترك المحرمات والمكروهات، والأدلة على صحة مذهب أهل السنة كثيرة، ليس هذا موضع بسطها، وقد استوفى البخاري رحمه الله في كتابه (الإيمان) من صحيحه كثيراً من الأدلة على أن العمل من الإيمان وأنه يزيد وينقص، ومنها على سبيل المثال حديث شُعب الإيمان (الإيمان بضع وستون شعبة) فقد اشتمل على ذكر الشعب القولية والفعلية، ولما كان هذا الحديث نصاً في محل النزاع فقد شكك بعض مرجئة الفقهاء فيه رغم أنه حديث صحيح مشهور، انظر (شرح العقيدة الطحاوية) صـ 383، ط 1403 هـ.
(4) قول الطحاوي رحمه الله (ولانكفر أحداً من أهل القبلة بذنب مالم يستحله) هذا الكلام صحيح، وهو وإن لم يرد في الكتاب أوالسنة بنصه، إلا أن هذه العبارة تستمد قوتها وحجيتها من اتفاق أهل السنة عليها، وقد نقلها اللالكائي عن معظم الأئمة الذين نقل اعتقاداتهم، ولايوجد إشكال في هذه العبارة، ولكن الإشكال في سوء فهم كثير من المعاصرين لها سواء من العوام أو من المنتسبين إلى العلم الشرعي، فيستدلون بهذه العبارة على أنه لايكفر أحد وإن فعل المكفرات كلها إلا إذا استحل أو جحد، فتسألهم وكيف تعرف استحلاله أو جحده؟ فيقول لك أن يصرح بلسانه بأنه مستحل أو جاحد. والذين يقولون بهذا كَفَّرهم كثير من السلف كالحميدي وأحمد (مجموع فتاوي ابن تيمية، 7/ 209) و(السنة لأبي بكر الخلال، صـ 587، ط دار الراية، 1410هـ) وهذا الكلام الذي شاع هذه الأيام هو مذهب غلاة المرجئة، وسيأتي تفصيل هذا إن شاء الله.(6/45)
أما معنى هذه العبارة ــ والذي لم يوضحه الشارح ابن أبي العز وأشكلت عليه ــ فالمقصود بالذنوب في هذه العبارة المعاصي التي لايكفر فاعلها كالزنا وشرب الخمر فهذه إذا استحلها ــ فعلها أو لم يفعلها ـ كَفَر كأن يقول إن الزنا والشرب ليسا بحرام ونحو ذلك ومثله لايجهل تحريمهما. أما المعاصي المكفِّرة كسَبّ الله تعالى أو سب الرسول صلى الله عليه وسلم أو إهانة المصحف بقول أو فعل فهذه يكفر فاعلها بمجرد القول أو الفعل دون نظر في جحد أو استحلال. ولهذا قيد العلماء هذه العبارة بكلمة (أهل القبلة) فالمقصود بهم الذين لم يأتوا بمكفِّر يخرجهم عن أهل القبلة، فما دام لم يأت بمكفّر، فلا يكفر بالذنب غير المكفِّر إلا أن يستحله. والذنب المكفِّر هو الذي نصَّ الشارع على كفر فاعله كسبّ الله ورسوله ودعاء غير الله، والذنب غير المكفر هو ماورد الوعيد على فعله ولكن لم ينص الشارع على كفر فاعله كشرب الخمر والزنا وأكل الربا والسرقة.
ويبين أن المراد (بأهل القبلة) عند العلماء: المسلم الذي لم يأت بذنب مكفر يخرجه من الإسلام قول أبي محمد الحسن البربهاري رحمه الله 329 هـ (ولا يخرج أحد من أهل القبلة من الإسلام حتى يَرُدَّ آية من كتاب الله عزوجل أو يرد شيئاً من آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم أو يصلي لغير الله أو يذبح لغير الله، وإذا فعل شيئاً من ذلك فقد وَجَبَ عليك أن تخرجه من الإسلام، فإذا لم يفعل شيئاً من ذلك فهو مؤمن ومسلم بالإسم لا بالحقيقة) (كتاب شرح السنة) لأبي محمد الحسن بن علي بن خلف البربهاري، تحقيق د. محمد سعيد القحطاني، صـ 31، ط دار ابن القيم 1408 هـ. وقوله (مؤمن ومسلم بالإسم لا بالحقيقة) أي في الحكم الظاهر الدنيوي.(6/46)
وقد أوضح البخاري رحمه الله هذا في اعتقاده فقال (ولم يكونوا يكفرون أحداً من أهل القبلة بالذنب لقوله «إن الله لايغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء») أهـ (شرح اعتقاد أهل السنة) لأبي القاسم اللالكائي، 1/ 175، ط دار طيبة. فبيّن البخاري أن أهل القبلة الذين لايكفرون بالذنب هم الذين لم يفعلوا ماهو شرك، وكذلك بوَّب البخاري لهذه المسألة في كتاب (الإيمان) من صحيحه في (باب 22) فقال (باب المعاصي من أمر الجاهلية ولايكفر صاحبها بارتكابها إلا بالشرك) انظر (فتح الباري) 1/ 84. وتأمل قوله (ولايكفر صاحبها بارتكابها إلا بالشرك) ولم يقل (إلا بالاستحلال) لأن قوله (بالشرك) يعم الاستحلال وغيره، خاصة وأن ابن أبي العز في شرحه قال إن هذه العبارة (لانكفر مسلماً بذنب) امتنع عن إطلاقها كثير من أهل السنة، انظر (شرح الطحاوية) صـ 355، ط المكتب الإسلامي 1403 هـ.
وقد ذكر أئمة أهل السنة هذه العبارة في اعتقاداتهم للرد على الخوارج الذين يكفِّرون بالكبائر غير المكفّرة كالزنا والسرقة. قال ابن تيمية رحمه الله (ولهذا قال علماء السنة في وصفهم «اعتقاد أهل السنة والجماعة» أنهم لايكفرون أحداً من أهل القبلة بذنب، إشارة إلى بدعة الخوارج المكفرة بمطلق الذنوب) (مجموع الفتاوى) 12/ 474. وقال ابن تيمية أيضا (ونحن إذا قلنا: أهل السنة متفقون على أنه لا يكفر بالذنب فإنما نريد به المعاصي كالزنا والشرب، وأما هذه المباني ففي تكفير تاركها نزاع مشهور) (مجموع الفتاوى) 7/302، وقال ابن تيمية أيضا (إنه قد تقرر من مذهب أهل السنة والجماعة مادلّ عليه الكتاب والسنة أنهم لايكفرون أحداً من أهل القبلة بذنب ولايخرجونه من الإسلام بعملٍ إذا كان فعلاً منهياً عنه مثل الزنا والسرقة وشرب الخمر مالم يتضمن ترك الإيمان) (مجموع الفتاوى) 20/ 90.(6/47)
وقال الشيخ حافظ حكمي (ولانكفر بالمعاصي مؤمنا إلا مع استحلاله لما جنى، «ولانكفر بالمعاصي» التي قدمنا ذكرها وأنها لاتوجب كفراً، والمراد بها الكبائر التي ليست بشرك) (معارج القبول) 2/438.
وقال أبو الحسن الأشعري رحمه الله ــ في بيان اعتقاد أهل السنة ــ (ولايكفرون أحداً من أهل القبلة بذنب، كنحو الزنا والسرقة، وماأشبه ذلك من الكبائر، وهم بما معهم من الإيمان مؤمنون وإن ارتكبوا الكبائر) (مقالات الإسلاميين) ط المكتبة العصرية، جـ 1 صـ 347.
وقال شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله ــ في رده على أحد مخالفيه ــ (وأما المسألة الثالثة: وهى من أكبر تلبيسك الذي تلبس به على العوام، أن أهل العلم قالوا: لايجوز تكفير المسلم بالذنب، وهذا حق ولكن ليس هذا مانحن فيه، وذلك أن الخوارج يكفرون من زني أو من سرق أو سفك الدم بل كل كبيرة إذا فعلها المسلم كفر. وأما أهل السنة فمذهبهم أن المسلم لايكفر إلا بالشرك، ونحن ماكفّرنا الطواغيت وأتباعهم إلا بالشرك، وأنت رجل من أجهل الناس تظن أن من صلى وادعى أنه مسلم لا يكفر ــ إلى أن قال ــ أرأيت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قاتلوا من منع الزكاة، فلما أرادوا التوبة قال أبوبكر لانقبل توبتكم حتى تشهدوا أن قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار، أتظن أن أبابكر وأصحابه لا يفهمون وأنت وأبوك الذين تفهمون؟ ياويلك أيها الجاهل الجهل المركب إذا كنت تعتقد هذا) أهـ من (الرسائل الشخصية للشيخ محمد بن عبدالوهاب) وهى القسم الخامس من مؤلفاته، ط جامعة الإمام محمد بن سعود، صـ 233 ــ 234.(6/48)
وقال الشيخ عبداللطيف بن عبدالرحمن بن حسن 1292هـ ــ وأبوه عبدالرحمن هو صاحب كتاب (فتح المجيد شرح كتاب التوحيد) رحمهما الله ــ في رده على المُلا داود بن جرجيس العراقي (وأما قوله: «إن الشيخ أحمد بن تيمية وتلميذه ابن القيم لايكفران أحداً من أهل القبلة». فيقال: لو عرف هذا مَنْ أهل القبلة في هذا الموضع، ومن المراد بهذه العبارة لما أوردها هنا محتجاً بها على دعاء غير الله وعدم تكفير فاعله؟؟. ومن أعرض عن كلام أهل العلم ورأي أن مَنْ صلى وقال لا إله إلا الله فهو من أهل القبلة وإن ظهر منه من الشرك والترك لدين الإسلام ماظهر، فقد نادى على نفسه بالجهالة والضلالة، وكشف عن حاصله من العلم والدين بهذه المقالة. وقد أنكر الإمام أحمد رحمه الله قول القائل «لا نكفر أهل الذنوب»، وهذا يزعم أنه على مذهب الإمام أحمد. ومقصود من قالها: إنما هو البراءة من مذهب الخوارج الذين يكفرون بمجرد الذنوب، وهذا وَضَعَ كلامهم في غير موضعه وأزال بهجته لأنه تأوله في أهل الشرك ودعاء الصالحين، فالتبس عليه الأمر ولم يعرف مراد من قال هذا من السلف، وهذا الفهم الفاسد مردود بكتاب الله وسنة رسوله وبإجماع أهل العلم. وقد عقد الفقهاء من أرباب المذاهب بابا مستقلا في هذه المسألة، وذكروا حكم المرتد من أهل القبلة، وقرروا من المكفرات أشياء كثيرة دون مانحن فيه، وجزموا بأن العصمة بالتزام الإسلام ومبانيه ودعائمه العظام، لا بمجرد القول والصلاة مع الإصرار على المنافي، وهذا يعرفه صغار الطلبة، وهو مذكور في المختصرات من كتب الحنابلة وغيرهم، فهذا لم يعرف ماعرفه صبيان المدارس والمكاتب، فالدعوى عريضة والعجز ظاهر) (الدرر السنية في الأجوبة النجدية، جـ 9، كتاب الردود، صـ 290 ــ 291).(6/49)
هذا، وقد دلّ على صحة ماذكرناه هنا إجماع الصحابة رضي الله عنهم، فإنهم أجمعوا على أن المعاصي غير المكفرة كشرب الخمر لايكفر صاحبها إلا بالاستحلال، هذا مااتفقوا عليه في حادثة قدامة بن مظعون، كما أجمعوا على أن المعاصي المكفرة يكفر صاحبها بمجرد اتيانها (سواء كانت فعلا أو تركا) دون نظر في جحد أو استحلال، كإجماعهم على تكفير تارك الصلاة، وإجماع الصحابة حجة قطعية على الأولين والآخرين من خالفها فهو مخطيء ضال، وسيأتي شرح لهذا فيما يأتي إن شاء الله تعالى.
هذا مذهب أهل السنة وفهمهم لهذه العبارة (لانكفر مسلما بذنب مالم يستحله)، وقد أطلت في بيان معناها إذ لم يفهمها كثير من المعاصرين على وجهها الصحيح، بل فهموها فهما فاسداً أدى بهم إلى اشتراط الاستحلال للتكفير بالذنوب المكفرة ــ وهو مالم يقصده السلف بهذه العبارة ــ فامتنعوا بهذا الشرط الفاسد عن تكفير من قضى الله ورسوله بكفره فوقعوا في معاندة الشريعة.(6/50)
(5) قول الطحاوي رحمه الله (ولا يخرج العبد من الإيمان إلا بجحود ماأدخله فيه). هذا الحصر خطأ، وهو صريح مذهب المرجئة. فإن الإيمان عندهم هو التصديق بالقلب ومنهم من لم يُدخل إقرار اللسان فيه وقال هو شرط لإجراء أحكام الإسلام عليه في الدنيا وهم الأشاعرة والماتريدية، ومنهم من قال بل الإقرار داخل في حقيقة الإيمان وهم مرجئة الفقهاء (الأحناف) وبعض الأشاعرة. انظر (شرح جوهرة التوحيد) للبيجوري) صـ 46 ــ 47. ولما كان الإيمان عندهم هو التصديق فلا يكفر أحدٌُ إلا بعكسه وهو التكذيب، وهو معنى قول الطحاوي (لايخرج العبد من الإيمان إلا بجحود...)، والجحود هو الانكار والتكذيب الظاهر باللسان كما في حديث المرأة التي كانت تجحد العارية، ومعنى الجحود في اللغة: انكار الشخص للشئ مع علمه به، يدل علي ذلك قوله تعالى ــ حكاية عن قوم فرعون ــ (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم) النمل 14، فمع استيقانهم بأن ماجاء به موسى هو الحق كذبوه في الظاهر كما قال تعالى (ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين إلى فرعون وهامان وقارون فقالوا ساحر كذاب) غافر 23 ــ 24، وهذا هو الجحد: اعتقاد صدق المُخْبِر مع تكذيبه في الظاهر، ودليله أيضا قوله تعالى (فلما جاءهم ماعرفوا كفروا به) البقرة 89، فكفروا بالانكار الظاهر مع وجود المعرفة القلبية، فهذا الجحد. أما كفر التكذيب: فهو التكذيب ظاهراً وباطنا أي اعتقاد كذب المُخْبِر مع تكذيبه في الظاهر. انظر (أعلام السنة المنشورة) لحافظ حكمي صـ 81، ط دار النور. فالجاحد والمكذب كلاهما مكذب في الظاهر ويفترقان في أن الجاحد مصدق بقلبه والمكذب مكذب بقلبه. ولأجل اتفاقهما في الصورة الظاهرة يستعمل كل من الاصطلاحين محل الآخر أو كمترادفين. فوصف الله الكفار في مواضع بالتكذيب كما قال تعالى (كلما جاء أمة ً رسولها كذّبوه) المؤمنون 44، ووصفهم في موضع بالجحد كما في قوله تعالى (فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا،(6/51)
وماكانوا بآياتنا يجحدون) الأعراف 51. ولهذا قال ابن القيم في كفر الجحود (إن سُمِّيَ هذا كفر تكذيب أيضا فصحيح، إذ هو تكذيب باللسان) (مدارج السالكين) 1/ 366، ط دار الكتب العلمية.
وقبل بيان الخطأ في قول الطحاوي هذا، ينبغي التفريق بين أمرين يؤدي الخلط بينهما إلى أخطاءٍ عدة، وهما أسباب الكفر وأنواعه.
* أما أسباب الكفر: فهى الأمور التي إذا فعلها الإنسان حُكم عليه بأنه كافر، وهى في أحكام الدنيا أمران لا ثالث لهما: قولٌ مُكفِّر أو فعلٌ مكفر (ومنه الترك والامتناع). وإن كان العبد يكفر أيضا على الحقيقة بالاعتقاد المكفر المنعقد بالقلب إلا أنه لايؤاخذ به في أحكام الدنيا إلا إذا ظهر هذا الاعتقاد القلبي في قول ٍ أو فعل ٍ يمكن اثباته على صاحبه بطرق الثبوت الشرعية، لإجماع أهل السنة وسائر الطوائف على أن أحكام الدنيا تجري على الظاهر، والظاهر الذي يمكن اثباته على صاحبه هو قوله أو فعله لا ما في قلبه لقوله صلى الله عليه وسلم (أفلا شققت عن قلبه) الحديث متفق عليه، وقوله صلى الله عليه وسلم (إني لم أومر أن أنقُب قلوب الناس ولا أشق بطونهم) الحديث متفق عليه، ففعل القلب لايؤاخذ به في أحكام الدنيا إلا إذا ظهر في قول أو فعل قال ابن حجر رحمه الله (وكلهم أجمعوا على أن أحكام الدنيا على الظاهر والله يتولى السرائر) (فتح الباري) 12/ 273. وضابط القول والفعل المكفِّرَيْن هى الأقوال والأفعال التي نص الشارع على كفر من أتى بها، وهو معنى قول ابن تيمية رحمه الله (وبالجملة فمن قال أو فعل ماهو كُفْر كَفَر بذلك) (الصارم المسلول) صـ 177، وسيأتي مزيد بيان لهذا في شرح قاعدة التكفير إن شاء الله.(6/52)
والجحد أحد أسباب الكفر بالقول، وهو الإنكار باللسان لما ثبت بالشرع، ومنه قول الشيخ منصور البهوتي الحنبلي ــ في أسباب الكفر ــ (أو جَحَدَ الملائكة أو أحداً ممن ثبت أنه مَلَك كَفَر لتكذيبه القرآن، أو جَحَدَ البعث كَفَر لتكذيبه للكتاب والسنة وإجماع الأمة) (كشاف القناع عن متن الإقناع) 6/ 168، ط دار الفكر
* أما أنواع الكفر: فإن الكفر ينقسم إلى أقسام كثيرة باعتبارات متعددة وسوف نذكرها فيما بعد ــ في أخطاء التكفير ــ إن شاء الله. وباعتبار البواعث الباطنة (القلبية) الحاملة لصاحبها على الاتيان بأسباب الكفر القولية والفعلية ينقسم الكفر إلى عدة أنواع منها: كفر التكذيب كما في قوله تعالى (الذين كذبوا بالكتاب وبما أرسلنا به رسلنا فسوف يعلمون) غافر 70، وكفر الجحد كما في قوله تعالى (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوّا) النمل 14، وبيّنا الفرق بينهما، وكفر الإباء والاستكبار بغير جحد ككفر إبليس كما قال تعالى (فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين) البقرة 34، وكفر الشك والريب كما في قوله تعالى (وإذا قيل إن وعد الله حق والساعة لاريب فيها، قلتم ماندري ما الساعة إن نظن إلا ظنا ومانحن بمستيقنين) الجاثية 32 وقوله تعالى (إنهم كانوا في شك ٍ مريب) سبأ 54، ومنها كفر الإعراض كما في قوله تعالى (والذين كفروا عما أنذروا معرضون) الأحقاف 3، وكفر التولي عن الطاعة كما في قوله تعالى (قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لايحب الكافرين) آل عمران 32، وكفر التقليد كما في قوله تعالى (إن الله لعن الكافرين ــ إلى قوله ــ وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا) الأحزاب 64 ــ 67، ومنها كفر الحسد وكفر البُغْض والكراهية وكفر الاستهزاء وكفر النفاق، ولكل من هذه الأنواع دليله من النصوص الشرعية. وأنواع الكفر هذه هى البواعث الباطنة الحاملة لصاحبها على الكفر الظاهر أي على الاتيان بأسباب الكفر(6/53)
القولية والفعلية، وهذه البواعث الباطنة هى أعمال قلبية يُضاد كلٌ منها عملاً من أعمال القلب الداخلة في أصل الإيمان: فمعرفة القلب ــ بالله تعالى وبالرسول وبما جاء به إجمالا ــ يضادها كفر الجهل، وتصديق القلب ــ بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم إجمالا ــ يُضاده كفر التكذيب، ويقين القلب ــ بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به ــ يضاده كفر الشك والريب، وانقياد القلب ــ لما أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم ــ يضاده كفر الاستكبار وكفر الإعراض، ومحبة القلب ــ لله ولرسوله ولشريعته ــ يضادها كفر البُغض والحسد، وتعظيم القلب وتوقيره ــ لله وللرسول وللشريعة ــ يُضاده كفر الاستهزاء. فأنواع الكفر هى بواعث باطنة مضادة لأعمال القلب الواجبة الداخلة في أصل الإيمان، ولاتقر الجهمية إلا بكفر الجهل لأن الإيمان عندهم هو المعرفة، كما لاتقر معظم فرق المرجئة إلا بكفر التكذيب لأن الإيمان عندهم هو التصديق. انظر في أنواع الكفر (معارج القبول) 2/ 21 ــ 23، و (مدارج السالكين) لابن القيم، 1/ 366 ــ 367، ط دار الكتب العلمية، و (مفتاح دار السعادة) لابن القيم، 1/ 94، ط دار الفكر.
ولتدرك الفرق بين أسباب الكفر التي عليها مدار الحكم بالكفر في الدنيا، وأنواع الكفر وهى البواعث الحاملة لصاحبها على الاتيان بأسباب الكفر، نضرب عدة أمثلة لذلك:
* فإبليس سبب كفره: ترك السجود لآدم عليه السلام (والترك فعل كما سيأتي تقريره)، أما نوع كفره: فكفر استكبار، وهذا هو الباعث له على ترك السجود.(6/54)
* وقد يتحد السبب ويختلف النوع الباعث، فلو أن رجلين أحدهما مسلم والآخر نصراني قالا: المسيح ابن الله، فقد اتحد السبب وهو هذا القول المكفِّر، واختلف نوع الكفر فيهما: فهو في المسلم كفر تكذيب لتكذيبه بنص القرآن الدال على أن الله (لم يلد ولم يولد)، أما في النصراني فكفره كفر تقليد لآبائه ولرهبانهم كما قال تعالى (قل ياأهل الكتاب لاتغلوا في دينكم غير الحق، ولاتتبعوا أهواء قوم ٍ قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيراً وضلوا عن سواء السبيل) المائدة 77، فاتحاد السبب واختلاف النوع مما يبين لك الفرق بينهما.
* ومن اتحاد السبب واختلاف النوع: كُفر كفار مكة واليهود وهرقل قيصر الروم: اتحد سبب الكفر فيهم وهو ترك الإقرار بالشهادتين، واختلف النوع:
فهو في كفار مكة واليهود كفر جحود واستكبار وحسد، ففي كفار مكة: قال تعالى (فإنهم لايكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون) الأنعام 33 فهذا كفر الجحود، وقال تعالى (إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون) الصافات 35 فهذا كفر الاستكبار. وفي اليهود: قال تعالى (فلما جاءهم ماعرفوا كفروا به) البقرة 89 فهذا كفر الجحود، وقال تعالى (أفكلما جاءكم رسول بما لاتهوى أنفسكم استكبرتم) البقرة 87 فهذا كفر الاستكبار، وقال تعالى (أم يحسدون الناس على ماآتاهم الله من فضله) النساء 54 فهذا كفر الحسد.
وهو في هرقل: الحرص على الملك وهو من اتباع الهوى الصارف عن الإيمان، انظر (فتح الباري)
1/ 37.
والأمثلة السابقة تبين أنه قد يتحد سبب الكفر عند عدة أفراد ويختلف النوع الباعث لدى كل منهم عن الآخر، كما بيّنت هذه الأمثلة أنه قد يجتمع للسبب الواحد أكثر من باعث في الشخص الواحد كما في قوله تعالى (بلى قد جاءتك آياتي فكذّبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين) الزمر 59، فاجتمع لهذا كفر التكذيب وكفر الاستكبار.(6/55)
ولما كانت أنواع الكفر هى أمور باطنة خفية فإن أحكام الدنيا لم ترتب عليها، وإنما رتبت أحكام الدنيا على الأسباب الظاهرة من الأقوال والأفعال المكفرة التي يمكن اثباتها على فاعلها، ولايلزم في أحكام الدنيا أن نتكلف في حمل أسباب الكفر على أنواعه، فمن سَبَّ الرسول صلى الله عليه وسلم حكمنا بكفره لأنه أتى بسبب الكفر وهو القول المكفِّر ولايلزم أن نتكلف في معرفة نوع كفره هل سِبّه لتكذيبه به أم لبُغضِه وحسده له أم لاستهزائه به فهذا لايمكن الجزم به ولايلزم البحث عنه في أحكام الدنيا. وفي هذا قال ابن تيمية رحمه الله (إنْ سَبَّ اللهَ أو سبَّ رسوله كَفَر ظاهراً وباطنا، سواء كان الساب يعتقد أن ذلك مُحرم أو كان مستحلاً له، أو كان ذاهلاً عن اعتقاده، هذا مذهب الفقهاء وسائر أهل السنة القائلين بأن الإيمان قولٌ وعمل ٌ) (الصارم المسلول) صـ 512. وقال أيضا (إن كل من لم يقر بما جاء به الرسول فهو كافر، سواء اعتقد كذبه، أو استكبر عن الإيمان به، أو أعرض عنه اتباعا لما يهواه، أو ارتاب فيما جاء به، فكل مكذب بما جاء به فهو كافر، وقد يكون كافراً من لا يكذبه إذا لم يؤمن به) (مجموع الفتاوى) 3/ 315، ومثله في 20/78. وقال ابن تيمية أيضا (فإن الكفر عدم الإيمان بالله ورُسله، سواء كان معه تكذيب أو لم يكن معه تكذيب بل شك وريب، أو إعراض عن هذا كله حسداً أو كِبراً، أو اتباعا لبعض الأهواء الصارفة عن اتباع الرسالة) (مجموع الفتاوي) 12/ 335. وخلاصة كلام ابن تيمية هنا أن من أتى بسبب الكفر فهو كافر سواء كان الباعث له على ذلك تكذيب أو كِبر أو حسد أو شك أو غير ذلك من أنواع الكفر. فهذا أمر هام ينبغي أن يتفطن له طالب العلم بوجه خاص ألا وهو التفريق بين سبب الكفر ونوعه وعدم الخلط بينهما، وأن أحكام الدنيا مترتبة على الأسباب الظاهرة من الأقوال والأفعال لا على البواعث الباطنة.(6/56)
وبعد: فقد تبين مما سبق أن الجحد يدخل في أسباب الكفر كما يدخل في أنواعه:
فالجحد كسبب للكفر هو الإنكار باللسان لما ثبت بالشرع، وضربنا له مثالاً بما نقلناه عن الشيخ منصور البهوتي من كتابه (كشاف القناع)، وماقاله محل إجماع.
والجحد كنوع للكفر المقصود به كفر التكذيب لما بيّناه من الترادف بينهما في الاستعمال.
فهل أراد الطحاوي رحمه الله أسباب الكفر أم أنواعه بالحصر المذكور في قوله (ولا يخرج العبد من الإيمان إلا بجحود ماأدخله فيه)؟. والجواب: أن قوله يحتمل الأمرين ولكنه أراد أنواع الكفر لا أسبابه، لاتفاق مرجئة الفقهاء مع أهل السنة على الحكم بالكفر بأسباب كثيرة من الأقوال والأفعال المكفرة غير جحد ماثبت بالشرع، كسبّ الله ورسوله وكالسجود للصنم وإلقاء المصحف في القذر مما ليس فيه إنكار ظاهر باللسان، فليست أسباب الكفر محصورة في الجحد باللسان باتفاق سائر الفرق.
فلم يبق إلا أنه أراد بعبارته بيان أنواع الكفر، ومعنى قول الطحاوي (ولايخرج العبد من الإيمان إلا بجحود ماأدخله فيه) أي لايكفر أحد إلا بتكذيب القلب وعبَّر عنه بالجحود لترادفهما كما بيّناه، أي أنه حصر أنواع الكفر في نوع واحد وهو كفر التكذيب، وهذا لأن الإيمان عندهم هو تصديق القلب والكفر ضد الإيمان، فلا يكون الكفر إلا تكذيب القلب وأن كل كافر لابد أن ينتفي التصديق من قلبه، هذا هو مراد الطحاوي بعبارته حصره الكفر في نوع واحد وهو كفر التكذيب. وهذا القول فيه خطأ وإشكال:(6/57)
أما الخطأ: فهو حصر أنواع الكفر في نوع واحد وقدذكرنا من قبل أنه أنواع عدة، وفي معرض رده على المرجئة في قولهم إن الكفر لايكون إلا بالتكذيب لأن الإيمان ــ وهو ضده ــ هو التصديق، قال ابن تيمية رحمه الله (والكفر لايختص بالتكذيب، بل لو قال: أنا أعلم أنك صادق ولكن لا اتبعك بل أعاديك وأبغضك وأخالفك لكان كفراً أعظم، فعُلم أن الإيمان ليس التصديق فقط ولا الكفر التكذيب فقط، بل إذا كان الكفر يكون تكذيبا، ويكون مخالفة ومعاداة بلا تكذيب، فكذلك الإيمان يكون تصديقا وموافقة وموالاة وانقياداً، ولايكفي مجرد التصديق) (مجموع الفتاوى) جـ 7 صـ 292، ونقله ابن أبي العز دون عزو في (شرح العقيدة الطحاوية) ط المكتب الإسلامي 1403هـ، صـ 381. وقال ابن تيمية أيضا (والتكذيب أخصّ من الكفر، فكل مكذب لما جاءت به الرسل فهو كافر، وليس كل كافر مكذبا) (مجموع الفتاوى) 2/ 79. وقال أيضا (بل قد استعمل لفظ الكفر ــ المقابل للإيمان ــ في نفس الامتناع عن الطاعة والانقياد، فقياس ذلك أن يستعمل لفظ الإيمان كما استعمل لفظ الإقرار في نفس التزام الطاعة والانقياد، فإن الله أمر إبليس بالسجود لآدم فأبى واستكبر وكان من الكافرين) (مجموع الفتاوى) 7/ 531. فإذا كان الإيمان لابد فيه من التصديق فضده كفر التكذيب، وإذا كان لابد فيه من الانقياد فضده كفر الاستكبار، وإذا كان لابد فيه من اليقين فضده كفر الشك والظن، وإذا كان لابد فيه من محبة الله ورسوله فضده كفر البُغْض والحسد، وهذه الأمور الواجبة هى من أعمال القلب الداخلة في أصل الإيمان وكذلك أضدادها من أعمال القلب المكفرة. فليس الإيمان شيئاً واحداً ولا الكفر نوعا واحداً، وهذا يبين لك خطأ الحصر في قول الطحاوي السابق، وذلك لأنهم ــ مرجئة الفقهاء ــ جعلوا الإيمان شيئا واحداً وهو التصديق، فلا يكون الكفر ــ وهو ضده ــ إلا نوعاً واحداً وهو التكذيب أو الجحد.(6/58)
وأما الإشكال في قول الطحاوي (ولايخرج العبد من الإيمان إلا بجحود ماأدخله فيه) فهو في التوفيق بين حصره الكفر في التكذيب وبين أن الشارع نص على كُفْر من أتى بأقوال وأفعال معينة دون اشتراط التكذيب، فنصّ الشارع على أن من استهزأ بالدين كَفَر دون أن يقيد الحكم بكُفره بكونه مكذباً، أما حَلّ المرجئة لهذا الإشكال فيبينه مايلي:
أنه من جهة أسباب الكفر من الأقوال والأفعال الظاهرة، فقد اتفق أهل السنة والمرجئة من الفقهاء والأشاعرة ــ وقد كانوا هم أكثرية القضاة في مختلف عصور الدولة الإسلامية ــ على أن الحكم بالكفر مرتب على الاتيان بسببه الظاهر، وأن كل من حكم الله ورسوله بكفره بقول ٍ أو فعل ٍ (ومنه الترك) فهو كافر ظاهراً في الحكم الدنيوي وباطناً على الحقيقة، ولكنهم اختلفوا في تفسير هذه الأحكام:(6/59)
أ ــ فقال أهل السنة: هو كافر بنفس القول أو الفعل الظاهر، ومن أدلته قوله تعالى (يحلفون بالله ما قالوا، ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم) التوبة 74، فأكفرهم الله بنفس القول، ومثله قوله تعالى (لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح بن مريم) المائدة 17، ونحوها من الآيات. فمذهب أهل السنة: أن من أتى بقول ٍ مكفر أو فعل مكفر كَفَر بنفس القول أو الفعل كُفْراً ظاهراً في الحكم الدنيوي وباطناً على الحقيقة. لأن من دلّ الدليل الشرعي على كفره فهو كافر في الظاهر والباطن، لأن الدليل الشرعي وهو خبر الله تعالى لايكون على الظاهر دون الباطن بل لايكون إلا على الحقيقة المتضمنة للظاهر والباطن. فأهل السنة يرتبون الحكم بالكفر على الاتيان بسببه الظاهر من الأقوال والأفعال المكفرة دون النظر في البواعث القلبية التي لايمكن ضبطها بضابط ظاهر ومع هذا فإن الحكم بكفره ظاهراً وباطناً يدل على أنه لابد أن يكون قد قام بقلبه نوع من أنواع الكفر من جهل أو تقليد أو استكبار أو بُغض أو تكذيب أو شك، ولايلزم في أحكام الدنيا التكلف في معرفته. وهذا هو معنى قول ابن تيمية (إنْ سَبَّ اللهَ ورسولَه كَفَر ظاهراً وباطناً، سواء كان السَّاب يعتقد أن ذلك مُحرم، أو كان مستحلاً له، أو كان ذاهلاً عن اعتقاده، هذا مذهب الفقهاء وسائر أهل السنة القائلين بأن الإيمان قولٌ وعملٌ) (الصارم المسلول) صـ 512، ط دار الكتب العلمية 1398 هـ. وقال أيضا (وبالجملة فمن قال أو فَعَل ماهو كُفْر كَفَر بذلك، وإن لم يقصد أن يكون كافراً، إذ لايقصد الكفر أحدٌ إلا ما شاء الله) (المرجع السابق) صـ 177 ــ 178. هذا مذهب أهل السنة، وهو راجع إلى تفسيرهم لحقيقة الإيمان وأنه قول وعمل، فكما أن الأعمال الظاهرة إيمانٌ، فكذلك الكفر يكون بالأعمال الظاهرة.(6/60)
ب ــ أما مرجئة الفقهاء والأشاعرة فقد قالوا: إن كل من نصّ الشارع على كفره بسبب عمل ٍ ظاهر (قول أو فعل) فهو كافر ظاهراً في الحكم الدنيوي وباطناً على الحقيقة، ولكن كفره ليس بالعمل الظاهر ذاته، ولكن لأن هذا العمل أمارة (أو علامة أو دليل) على انتفاء التصديق من قلبه أي علامة على أنه مكذّب بقلبه، وبهذا التفسير وفّقوا بين حكم الشارع بالكفر على من أتى بقول أو فعل مكفّر وبين حصرهم الكفر في التكذيب، وهو توفيق فاسد، فليس كل كافر مكذباً بقلبه كما سنبينه إن شاء الله. ويبين مذهبهم في هذا التوفيق ماقاله ابن عابدين الحنفي في حاشيته: ــ وهو من مرجئة الفقهاء ــ فقال في شرح قول الماتن (من هَزَل بلفظٍ كَفَرَ) قال ابن عابدين (أي تكلم به باختياره غير قاصد معناه، وهذا لاينافي ما مَرَّ من أن الإيمان هو التصديق فقط أو مع الإقرار، لأن التصديق وإن كان موجوداً حقيقة لكنه زائل حكماً، لأن الشارع جعل بعض المعاصي أمارة على عدم وجوده كالهَزْل المذكور وكما لو سجد لصنم أو وضع مصحفاً في قاذورة فإنه يكفر وإن كان مصدقاً لأن ذلك في حكم التكذيب) (حاشية ابن عابدين) باب المرتد، جـ 3 صـ 284،ط دار الكتب العلمية. كما ذكر ابن حزم مذهب المرجئة في حديثه عن الأشاعرة، فقال (وأما الأشعرية فقالوا: إنّ شتم من أظهر الإسلام لله تعالى ولرسوله بأفحش مايكون من الشتم وإعلان التكذيب بهما باللسان بلا تقية ولاحكاية، والإقرار بأنه يدين بذلك، ليس شئ من ذلك كفراً. ثم خشوا مبادرة جميع أهل الإسلام لهم فقالوا: لكنه دليل على أن في قلبه كفراً، فقلنا لهم: وتقطعون بصحة مادّل عليه هذا الدليل، فقالوا: لا) (الفصل) لابن حزم، جـ 5 صـ 75، ط دار الجيل 1405هـ.(6/61)
وبيّن ابن تيمية أيضا مذهب المرجئة في قوله (وقال أبو عبدالله الصالحي: إن الإيمان مجرد تصديق القلب ومعرفته، لكن له لوازم فإذا ذهبت دلّ ذلك على عدم تصديق القلب. وأن كل قول أو عمل ظاهر دلّ الشرع على أنه كُفْرٌ كان ذلك لأنه دليل على عدم تصديق القلب ومعرفته، وليس الكفر إلا تلك الخصلة الواحدة، وليس الإيمان إلا مجرد التصديق الذي في القلب والمعرفة، وهذا أشهر قولي أبي الحسن الأشعري، وعليه أصحابه كالقاضي أبي بكر وأبي المعالي وأمثالهما، ولهذا عدّهم أهل المقالات من المرجئة) (مجموع الفتاوى) 7/ 509. وقال ابن تيمية أيضا (وأما جهم فكان يقول إن الإيمان مجرد تصديق القلب وإن لم يتكلم به، وهذا القول لايُعرف عن أحد ٍ من علماء الأمة وأئمتها، بل أحمد ووكيع وغيرهما كَفّروا من قال بهذا القول، ولكن هو الذي نصره الأشعري وأكثر أصحابه، ولكن قالوا مع ذلك إن كل من حكم الشرع بكفره حكمنا بكفره، واستدللنا بتكفير الشارع له على خلو قلبه من المعرفة) (مجموع الفتاوى) 13/ 47. وقال ابن تيمية أيضا (ومنشأ هذه الشبهة التي أوجبت هذا الوهم من المتكلمين ومن حَذَا حَذْوَهم من الفقهاء أنهم رأوا أن الإيمان هو تصديق الرسول فيما أخبر به، ورأوا أن اعتقاد صدقه لاينافي السبّ والشتم بالذات ــ إلى قوله ــ ثم رأوا أن الأمة قد كَفَّرت السابّ، فقالوا: إنما كَفَر لأن سبه دليل على أنه لم يعتقد أنه حرام، واعتقادُ حِلِّه تكذيبٌ للرسول، فكَفَر بهذا التكذيب لابتلك الإهانة، وإنما الإهانة دليل على التكذيب) (الصارم المسلول) صـ 518.(6/62)
والذي أدى بالمرجئة إلى القول بأن أي عمل ظاهر مكفر لايكون كفراً في ذاته وإنما هو علامة على تكذيب القلب: قولهم في حقيقة الإيمان وأنه تصديق القلب حتى أن جمهورهم لايعتبرون إقرار اللسان من حقيقة الإيمان وإنما هو ركن زائد وشرط لإجراء الأحكام في الدنيا ويعتبرون إقرار اللسان علامة على تصديق القلب وهو مارجّحه البيجوري في (شرح جوهرة التوحيد) صـ 47، فإقرار اللسان وأعمال الجوارح ليست من الإيمان عند المرجئة بل هى علامات وآثار لتصديق القلب، فكما أن الأعمال الظاهرة ليست إيمانا فلا تكون كفراً، فأعمال الطاعات آثار للإيمان الذي هو تصديق القلب وكذلك الأعمال المكفرة هى علامات على الكفر الذي هو تكذيب القلب. وانحصر الإيمان والكفر عندهم في تصديق القلب وتكذيبه على الترتيب، وبقيت الأعمال الظاهرة علامات على ذلك.
وقد انتقد ابن تيمية قول المرجئة إن الشئ المكفر أمارة على الكفر، فقال (وهذا موضع لابد من تحريره، ويجب أن يُعلم أن القول بأن كُفْر السابّ في نفس الأمر إنما هو لاستحلاله السبّ زلةٌُ منكرة وهفوة عظيمة..ثم قال: وإنما وقع من وقع في هذه المهْوَاة بما تلقوه من كلام طائفة من متأخري المتكلمين وهم الجهمية الإناث الذين ذهبوا مذهب الجهمية الأولى في أن الإيمان هو مجرد التصديق الذي في القلب). (الصارم المسلول) صـ 515.(6/63)
وليس هذا محل نقد أقوال المرجئة هذه بل المقصود هنا عرضها أما نقدها فمحله المراجع التي نوصي بدراستها في هذا المبحث، ويكفي في بيان فسادها أن الله تعالى حكم على أقوام بالكفر وأثبت أن معهم تصديقا ومعرفة بالقلب، فليس كل عمل ظاهر مُكفّر لابد أن يقارنه تكذيب القلب، قال تعالى ــ عن قوم فرعون ــ (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم) النمل 14، واليقين من أعلى مراتب المعرفة والتصديق، وقال تعالى ــ عن كفار أهل الكتاب ــ (الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، وإن فريقاً منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون) البقرة 146. وقال ابن تيمية رحمه الله (ومن جعل الإيمان هو تصديق القلب يقول: كل كافر في النار ليس معهم من التصديق بالله شيء، لا مع إبليس ولا مع غيره ــ إلى أن قال ــ ونصوص القرآن في غير موضع تدل على أن الكفار كانوا في الدنيا مصدقين بالرب، حتى فرعون الذي أظهر التكذيب كان في باطنه مصدقاً، كما قال تعالى «وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلموا وعلوّا» النمل 14 ــ وكما قال موسى لفرعون «لقد علمتَ ماأنزل هؤلاء إلا ربُّ السماوات والأرض بصائر» ــ الإسراء 102 ــ ومع هذا لم يكن مؤمنا بل قال موسى «ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم» ــ يونس 88، إلى أن قال: ــ وقد أخبر الله عن الكفار في غير موضع أنهم كانوا معترفين بالصانع في مثل قوله «ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله» ــ الزخرف 87 ــ (مجموع الفتاوي) 7/ 150 ــ 152. فثبت بذلك أنه لاتلازم بين الاتيان بعمل مكفر وبين انتفاء التصديق القلبي كما تقول المرجئة. ومع ذلك فينبغي أن يُعلم أن كل من أتى بعمل ظاهر مكفِّر ــ إذا انتفت موانع التكفير كالإكراه في حقه ــ فلابد أن يكون كافراً على الحقيقة أي كافر بقلبه ــ مع كفره الظاهر ــ والقائم بقلبه إما أن يكون جهلاً تكذيبا أو كبراً أو شكّا أو حسداً أو بُغضاً للشريعة أو استهزاءً أو حُبّاً(6/64)
للدنيا أو غير ذلك من البواعث التي لايُنظر إليها في أحكام الدنيا كما سبق بيانه. قال ابن تيمية رحمه الله (فإن الكفر عدم الإيمان بالله ورُسله، سواء كان معه تكذيب أو لم يكن معه تكذيب بل شك وريب، أو إعراض عن هذا كله حسداً أو كبراً أو اتباعا لبعض الأهواء الصارفة عن اتباع الرسالة) (مجموع الفتاوي) 12/ 335.
يتبيّن مما سبق أن قول الطحاوي (ولا يخرج العبد من الإيمان إلا بجحود ماأدخله فيه) أراد به أمرين كلاهما خطأ:
* فأراد به حصر الكفر في نوع ٍ واحد وهو التكذيب، وهذا الحصر خطأ، فإن أنواع الكفر كثيرة كما بيَّناه.
* وأراد به التلازم بين الكفر الظاهر وبين تكذيب القلب وجحده، أي أن كل من أتى بسبب ظاهر مكفر من قول أو فعل فلابد أن يكون جاحداً بقلبه، وهذا التلازم ليس بلازم كما أسلفنا. ومع ذلك فنحن ننبه هنا على أن الطحاوي جعل الجحد لازما لاينفك عن الحكم بالكفر الظاهر ولم يجعل الجحد شرطا مستقلا للحكم بالكفر الظاهر، فقد ظن بعض المعاصرين أن الجحد شرط مستقل وأن هذا ماتدل عليه عبارة الطحاوي، ولم يفرقوا بين اللازم والشرط المستقل، وقالوا إن من أتى بعمل ٍ مكفرٍ (من قول أو فعل ظاهر) لايكفر إلا أن يجحد وذلك بأن يصرح بالجحد بلسانه، ومالم يجحد فلا يكفر بالعمل المكفر، والقائلون بهذا وقعوا في محظورات خطيرة يأتي بيانها.
والخلاصة: أن أهل السنة والمرجئة من الفقهاء والأشاعرة اتفقوا على أن من أتى بسبب مكفر من قول أو فعل ظاهر، فهو كافر ظاهراً وباطنا، أي في أحكام الدنيا والآخرة، واختلفوا في تفسير كفره كما سبق بيانه. والاتفاق بين أهل السنة وفرق المرجئة هذه في الأحكام مع الاختلاف في تفسيرها هو الذي حَدَا بشيخ الإسلام ابن تيمية إلى القول بأن الخلاف معهم لفظي، قال رحمه الله (فإن كثيراً من النزاع فيها نزاع في الإسم واللفظ دون الحكم) (مجموع الفتاوى) 13/ 38.
وشذ عن هذا طائفتان من غلاة المرجئة:(6/65)
الطائفة الأولى قالت: إن كل من نص الشارع على كفره لاتيانه بقول أو فعل مكفر فلابد أن نحكم بكفره في أحكام الدنيا، أي أنه كافر في الظاهر، ويجوز أن يكون مؤمناً في الباطن إذا كان مصدقاً بقلبه، وإنما جعلت الأقوال المكفرة أمارة على الكفر لتثبت بها أحكام الكفار على فاعلها في الظاهر. وهذا قول الجهمية من المرجئة، وهو قول فاسد لأن من حكم الله بكفره بقول ٍ أو فعل فهو كافر ظاهراً وباطناً، معذبٌ في الآخرة، لأن خبر الله لايكون إلا على الحقيقة لاعلى الظاهر فقط. ولهذا فقد كفَّر السلف كوكيع بن الجراح وأحمد بن حنبل وأبي عبيد وغيرهم أصحاب هذه المقالة لأنها تكذيب بخبر الله تعالى بأن هذا كافر ظاهراً وباطنا وهم يقولون يجوز أن يكون مؤمنا في الباطن. انظر (مجموع فتاوى ابن تيمية) جـ 7، صـ 188 ــ 189 و 401 ــ 403 و 558. وقال ابن تيمية رحمه الله (إن من تكلم بالتكذيب والجحد وسائر أنواع الكفر من غير إكراه على ذلك فإنه يجوز أن يكون مع ذلك في نفس الأمر مؤمنا، ومن جوّز هذا فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه) (الصارم المسلول) صـ 523، وقال في موضع آخر (فإن قيل لايكونون كفاراً فهو خلاف نص القرآن) (الصارم المسلول) صـ 517. ومع ذلك فقد نقل ابن تيمية عن الجهمية قولاً آخر في هذا: وهو أن من قال أو فعل ماهو كُفْر كَفَر ظاهراً وباطناً وتفسيرهم لكفره كتفسير مرجئة الفقهاء والأشاعرة (مجموع الفتاوى) 7/ 188 ــ 189.(6/66)
والطائفة الثانية من غلاة المرجئة قالت: إن من نصّ الشارع على كفره بقول ٍ أو فعل مُكفرٍ لايُحكم بكفره في أحكام الدنيا إلا أن يصرح بالجحد، ولم يختلف السلف في تكفير هؤلاء لأن مقالتهم تكذيب صريح بنصوص الشارع الحاكمة بكفر من أتى كفراً دون تقييده بالجحد. والفرق بين قول هؤلاء الغلاة وبين قول الطحاوي وطائفته أن الطحاوي جعل الجحد لازماً للكفر، أما الغلاة فجعلوا الجحد شرطاً مستقلاً للحكم بالكفر. فعند الطحاوي كل من حكم الشارع بكفره فلابد أن يكون جاحداً، وعند الغلاة كل من حكم الشارع بكفره يشترطون تصريحه بالجحد لايقاع الحكم عليه. ولم يختلف السلف في كفر أصحاب هذه المقالة من غلاة المرجئة كما قال ابن تيمية رحمه الله (وقال حنبل: حدثنا الحُميدي قال: وأُخبرت أن ناسا يقولون: من أقر بالصلاة والزكاة والصوم والحج ولم يفعل من ذلك شيئا حتى يموت، ويصلي مستدبر القبلة حتي يموت، فهو مؤمن مالم يكن جاحداً إذا علم أن تركه ذلك فيه إيمانه إذا كان مُقراً بالفرائض واستقبال القبلة. فقلت: هذا الكفر الصراح، وخلاف كتاب الله وسنة رسوله وعلماء المسلمين قال الله تعالى (وماأمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين) الآية. وقال حنبل: سمعت أبا عبدالله أحمد بن حنبل يقول: من قال هذا فقد كفر بالله وردّ على أمره وعلى الرسول ماجاء به عن الله) (مجموع الفتاوى) 7/ 209. وهذا الأثر رواه الخلال بإسناده في كتابه (السنة) صـ 586 ــ 587، ط دار الراية 1410هـ ونقل ابن تيمية تكفيرهم عن طائفة أخرى من علماء السلف في (مجموع الفتاوى) 7/ 205.(6/67)
وبقول هؤلاء الغلاة يقول كثير من المعاصرين المتكلمين في مسائل الإيمان والكفر، يجعلون الجحد (وفي معناه الاستحلال إذ مرجعهما إلى التكذيب بالنصوص) شرطا للحكم بكفر من أتى بقول ٍ أو فعل ٍ مكفر، ظناً منهم أن هذا هو معنى قول الطحاوي (ولا يخرج العبد من الإيمان إلا بجحود ماأدخله فيه) فظنوا أن الجحد شرطاً للحكم بالكفر، والطحاوي أراد أن الجحد لازماً لاينفك عن الحكم بالكفر على مافي هذا من خطأ بيّناه آنفا.
وقد أطلت الكلام في هذه المسألة وفي السابقة عليها إذ إن سوء فهمهما هو عمدة غلاة المرجئة المعاصرين الذين لايكفرون من قضى الله ورسوله بكفره بحجة أنه (لا نكفر مسلماً بذنب ما لم يستحله) أو أنه (لايخرج أحد من الإيمان إلا بجحود ماأدخله فيه). وسأذكر أمثلة لمن يقولون بقول غلاة المرجئة من المعاصرين عند الكلام في أخطاء التكفير إن شاء الله تعالى.
والعبارة الأخيرة للطحاوي ليست من معتقد أهل السنة بل هى من مذهب المرجئة، ولم ينبه شارح العقيدة الطحاوية (ابن أبي العز) على ذلك، ولهذا لزم التنبيه هنا، وماذكرته هنا هو مجرد إشارة وإلا فإنني كتبتُ كتاباً مفصلاً في أحكام الإسلام والإيمان والكفر ذكرت فيه أدلة هذا كله من الكتاب والسنة وأقوال السلف وكتابي هذا اسمه (الحُجَّة في أحكام الملة الإسلامية) ومازال مخطوطاً لم يطبع إلى الآن يَسَّر الله تعالى نشره.
(فائدة) الفرق بين الجحد وبين الاستحلال أو الاستباحة
جرت عادة العلماء على:
* استعمال لفظ الجحد مع الواجبات الشرعية، فيقال: جحد الواجب، أي قال إنه ليس واجبا أو أنكر وجوبه، فيقال: جحد وجوب الصلاة وجحد وجوب الجهاد وجحد وجوب الصدق في القول.
* واستعمال لفظ الإستحلال والاستباحة مع المحرمات، فيقال استحل الحرام أو استباحه، أي قال إنه حلال أو مباح أو أنكر أنه حرام، فيقال: استحل الخمر أو الزنا.(6/68)
فالجحد يستعمل مع الواجبات والاستحلال مع المحرمات، فيقال جحد الواجب واستحل المحرَّم، ولا يستقيم أن يقال: استحل الواجب وجحد الحرام، وإن كان يقال أحيانا: جَحَد تحريم الحرام كجَحْد تحريم الخمر كما في قول ابن تيمية (وأما الفرائض الأربع فإذا جحد وجوب شيء منها بعد بلوغ الحجة فهو كافر، وكذلك من جحد تحريم شيء من المحرمات الظاهرة المتواتر تحريمها كالفواحش والظلم والكذب والخمر ونحو ذلك (مجموع الفتاوي) 7/ 609 ــ 610، فاستعمل لفظ (جحد تحريم) بدل (استحل). ولكن الشائع هو استعمال لفظ الجحد في انكار الواجب، ولفظ الاستحلال في استباحة الحرام أي انكار تحريمه.
ونحن إذا قلنا إن الجحد والاستحلال يثبتان على العبد ــ في أحكام الدنيا ــ بقوله، فإن القول قد يكون نطقاً بلسانه، أو كتابةً بخطه أو بأمره، وذلك لما دلّت عليه القاعدة الفقهية من أن (الكتاب كالخطاب)، انظر (شرح القواعد الفقهية) للشيخ أحمد الزرقا، صـ 285، ط دار الغرب الإسلامي، 1403 هـ.
والجحد والاستحلال كلاهما يرجع إلى أصل واحد، وهو التكذيب بالنصوص الشرعية، فالجاحد ــ المنكر لوجوب الواجب ــ مكذب بالنص الموجب لفعل الواجب، والمستحل ــ المنكر لتحريم الحرام ــ مكذب بالنص الحاظر لفعل المحرم، وكل مكذب بالنصوص فهو كافر، لقوله تعالى (ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو كذّب بالحق لما جاءه، أليس في جهنم مثوى للكافرين) العنكبوت 68، وقال تعالى (وما يجحد بآياتنا إلا الكافرون) العنكبوت 47. فالجاحد والمستحل كافران.
وسبب الكفر هنا هو مجرد التصريح ــ نطقاً أو كتابةً ــ بانكار الواجب أو استحلال الحرام، دون النظر في الباعث للشخص على ذلك، وهذا الباعث هو ماقام بقلبه وحمله على الجحد أو الاستحلال، وهو نوع كفره:
* فقد يجحد أو يستحل بلسانه، وهو مكذب بقلبه لما أنكره بلسانه، فكفره كفر تكذيب.
* وقد يجحد أو يستحل بلسانه، وهو مصدق بقلبه لما أنكره بلسانه، فكفره كفر جحود.(6/69)
* وقد يقر بوجوب الواجب وتحريم الحرام بقلبه ولسانه إلا أنه يقول إنه لن يلتزم بذلك، فكفره كفر عناد واستكبار.
وتفصيل هذا تجده بكتاب (الصارم المسلول) لابن تيمية، صـ 521 ــ 522، وسيأتي فيها تفصيل في المقدمة السابعة عشرة بالمسألة الخامسة بموضوع الحكم بغير ماأنزل الله بالمبحث الثامن بهذا الباب إن شاء الله.
ومن أمثلة استعمال هذين المصطلحين: ما نقله ابن حجر عن البغوي ــ في توبة المرتد ــ قال: (فإن كان كَفَر بجحود واجب أو استباحة محرم، فيحتاج أن يرجع عما اعتقده) (فتح الباري) 12/ 279. وقال في تكملة (المجموع للنووي) (وإن ارتد بجحود فرض أو استباحة محرم لم يصح إسلامه حتى يرجع عما اعتقده، ويعيد الشهادتين لأنه كَذَّب اللهَ وكَذَّبَ رسوله بما اعتقده في خبره، فلا يصح إسلامه حتى يأتي بالشهادتين) (المجموع) 19/ 231. ولابن قدامة مثله في (المغني مع الشرح الكبير) 10/ 100.
هذا ما تيسّر في بيان الفرق بين الجحد والاستحلال، وإذا وجدت بعض أهل العلم يسوون بينهما فذلك لأن مرجعهما إلى أصل واحد وهو التكذيب بالنصوص الشرعية كما ذكرت، ولكن عند التحقيق يوجد بينهما فرق وهو ماذكرته هنا، وبالله تعالى التوفيق.
(تنبيه هام) فيما يُشترط للتكفير به من الذنوب أن يكون فاعلها جاحداً أو مستحلاً، ومالا يُشترط فيه ذلك.
إذا أطلق لفظ الإيمان فالمراد به الدين كله، وهو يشتمل على شُعَب كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان) رواه مسلم، فاشتمل الإيمان بذلك علي جميع الطاعات فرضها ونفلها مما يجب على القلب واللسان والجوارح، كما يشتمل الإيمان على ترك المحظورات المحرم منها والمكروه.
وينقسم الإيمان إلى ثلاث مراتب، تشتمل كل مرتبة على بعض شعب الإيمان، بحيث تنتظم المراتب الثلاث جميع شُعب الإيمان، والمراتب الثلاث هى:(6/70)
أ ــ أصل الإيمان: وهو مالا يوجد الإيمان بدونه، وبه النجاة من الكفر والدخول في الإيمان، وهو مطلق الإيمان، وصاحبه داخل في المخاطبين بقوله تعالى (ياأيها الذين آمنوا)، وهو يشتمل على شُعَب ولا يصح إلا باكتمالها وهى:
على القلب: معرفة ماجاء به الرسول صلى الله عليه وسلم إجمالا والتصديق به والانقياد له، كما يدخل في أصل الإيمان بعض أعمال القلب الأخرى كالمحبة والخشية والرضا والتسليم لله تعالى.
وعلى اللسان: الإقرار بالشهادتين.
وعلى الجوارح: أعمال الجوارح التي يكفر تاركها كالصلاة، وبقية المباني الخمسة عند بعض العلماء.
كما يدخل في أصل الإيمان ترك المُكَفِّرات، لقوله تعالى (فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها) البقرة 256.
وضابط ما يدخل في أصل الإيمان من أعمال (سواء كانت فعلاً أو تركاً): أن كل عمل يكفر تاركه ففعله من أصل الإيمان (كالتصديق والانقياد القلبي والإقرار باللسان والصلاة)، وكل عمل يكفر فاعله فتركه من أصل الإيمان (كالاستهزاء بالدين ودعاء غير الله)، وذلك لأن ضد أصل الإيمان هو الكفر.
ولما كان الكفر ضداً لأصل الإيمان، فإن كل ذنب مُكفِّر ــ من ترك واجب أو فعل مُحرم ــ فهو مُخِلٌ بأصل الإيمان. وكل من لم يأت بأصل الإيمان أو أخلّ به فهو كافر. وضابط الذنب المكفر هو ماقام الدليل الشرعي على أنه كفر أكبر، وسيأتي شرح ذلك في قاعدة التكفير إن شاء الله تعالى.(6/71)
ومن أتى بأصل الإيمان فقد نجا من الكفر ودخل الجنة لامحالة إما ابتداءً وإما مآلاً. فإن أتى بالإيمان الواجب كاملاً (وهو المرتبة الثانية) دخل الجنة ابتداءً. وإن قصّر في الإيمان الواجب وغفر الله له تقصيره دخل الجنة ابتداء، وإن لم يغفر الله له تقصيره في الإيمان الواجب دخل النار بقدر ذنوبه ثم يخرج منها بما معه من أصل الإيمان ليدخل الجنة مآلاً، كما دلّ على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم (لَيُصيبَنَّ أقواماً سفعٌ من النار بذنوب ٍ أصابوها عقوبةً، ثم يدخلهم الله الجنة بفضل رحمته، يقال لهم الجَهَنّميين) رواه البخاري عن أنس (7450). ودخولهم الجنة مآلاً إنما هو بما معهم من أصل الإيمان المضاد للكفر كما قال صلى الله عليه وسلم (حتى إذا فَرَغ الله من القضاء بين العباد وأراد أن يُخرج برحمته من أراد من أهل النار، أَمَرَ الملائكة أن يُخرجوا من النار من كان لا يُشرك بالله شيئا ممن أراد أن يرحمه ممن يشهد أن لا إله إلا الله فيعرفونهم في النار بأثر السجود) الحديث رواه البخاري عن أبي هريرة (7437) فخرجوا من النار بما معهم من أصل الإيمان ومن أهم شُعَبِه التي ذكرت في هذا الحديث: الإقرار بالشهادتين (ممن يشهد.....) والصلاة (بأثر السجود) وترك المكفِّرات (كان لايشرك بالله شيئا).
فمن أتى بأصل الإيمان دخل الجنة إما ابتداءً وإما مآلا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ذاك جبريل أتاني فقال: مَن مات مِن أمتك لايشرك بالله شيئا دخل الجنة) قال أبو ذر: قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال صلى الله عليه وسلم (وإن زنى وإن سرق) الحديث رواه البخاري (6444) أي مصيره إلى الجنة.(6/72)
ومن لم يأت بأصل الإيمان أو أخلّ به فهو كافر من أهل النار لايخرج منها كما قال تعالى (إن الذين كفروا لو أن لهم مافي الأرض جميعاً ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ماتُقُبل منهم ولهم عذاب أليم، يريدون أن يخرجوا من النار وماهم بخارجين منها، ولهم عذاب مقيم) المائدة 36 ــ 37.
فهذه المرتبة الأولى من مراتب الإيمان
ب ــ المرتبة الثانية: الإيمان الواجب. وهو مازاد عن أصل الإيمان من فعل الواجبات وترك المحرمات.
وضابط مايدخل في الإيمان الواجب من أعمال (سواء كانت فعلاً أو تركاً): أن كل عمل ورد في تركه وعيد ولم يكفر تاركه ففعله من الإيمان الواجب (كالصدق والأمانة وبر الوالدين والجهاد الواجب)، وكل عمل ورد في فعله وعيد ولم يكفر فاعله فتركه من الإيمان الواجب (كالزنا والربا والسرقة وشرب الخمر والكذب والغيبة والنميمة).
والناس في الإيمان الواجب على درجتين:(6/73)
الدرجة الأولى: المقصِّرون فيه بترك واجب أو فعل محرم ــ بعد اتيانهم بأصل الإيمان ــ فهؤلاء هم أصحاب الكبائر أو المُخلِّطون من أهل التوحيد أو عصاة الموحِّدين أو الفاسق المِليِّ أي أنه مع فسقه لم يخرج من المِلة، وهذه درجة (فمنهم ظالم لنفسه) فاطر ــ على قول ٍ في تفسيرها ــ فمن كان هذا حاله فهو من أهل الوعيد إن مات بلا توبة، ولكنه في المشيئة، فإن شاء الله غفر له وأدخله الجنة ابتداء بلا سابقة عذاب، وإن شاء عذّبه بقدر ذنوبه ثم يخرجه الله من النار ويُدخله الجنة بما معه من أصل الإيمان كما دلت عليه النصوص المذكورة أعلاه. أما الدليل على أنه في المشيئة فقوله تعالى (إن الله لايغفر أن يُشرك به ويغفر مادون ذلك لمن يشاء) النساء 48، فالمذنبون من أهل التوحيد مغفرة ذنوبهم معلقة على مشيئة الرحمن، ويدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم (بايعوني على أن لاتشركوا بالله شيئا ولاتسرقوا، ولاتزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولاتأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولاتعصوا في معروف، فمن وَفَى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به في الدنيا فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئا ثم ستره الله عليه، فهو إلى الله: إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه) الحديث متفق عليه. ويستثنى من تكفير الذنب بالعقوبة وكونه في المشيئة: المرتد المشار إليه في الحديث بقوله (أن لاتشركوا بالله شيئا)، فإذا قتل على الردة لم تكن العقوبة كفارة له، وإذا مات مرتداً لم يكن في المشيئة لقوله تعالى (إن الله لايغفر أن يشرك به) سواءً عوقب في الدنيا على ردته أو لم يُعاقب. انظر (فتح الباري) جـ 1/ 64 ــ 68، و جـ 12/ 112.(6/74)
الدرجة الثانية: الذين أدّوا الإيمان الواجب بتمامه لم يقصروا فيه ولم يزيدوا عليه ــ بعد اتيانهم بأصل الإيمان ــ فهذا هو المؤمن المستحق للوعد السالم من الوعيد أي أنه يستحق دخول الجنة ابتداء بلا سابقة عذاب بفضل الله حسب وعده الصادق، وهذه هى درجة المقتصدين (ومنهم مقتصد) فاطر، وفي هؤلاء أيضا حديث (أفلح إن صدق) فيمن سأل عن شرائع الإسلام، وفيه (فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بشرائع الإسلام، قال: والذي أكرمك بالحق لاأتطوع شيئا ولاأنقص مما فرض الله عَلَيّ شيئا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أفلح إن صدق أو دخل الجنة إن صدق) الحديث متفق عليه واللفظ للبخاري (1891) فأداء الفرائض بلا تطوع هذه صفة الإيمان الواجب وقد بشّره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفلاح ودخول الجنة على ذلك.
(فائدة) العلم بالواجبات والنواهي التي تدخل في أصل الإيمان والإيمان الواجب فرض عين على كل مسلم، ومنها مايدخل في العلم الواجب العيني العام ومنها مايدخل في العلم الواجب العيني الخاص كما سبق تفصيله في الباب الثاني من هذا الكتاب. وإنما كان العلم بها واجباً لأن العمل بها واجب ويترتب على التقصير فيه وعيدٌ من كفر أو فسق، ولما كان العمل لابد له من علم يسبقه، كان العلم بها واجباً إذ للوسائل حكم المقاصد.
جـ ــ المرتبة الثالثة: الإيمان المستحب: وهو مازاد عن الإيمان الواجب من فعل المندوبات والمستحبات وترك المكروهات والمشتبهات، فمن أتى بهذا ــ مع أصل الإيمان والإيمان الواجب ــ فهو من السابقين المحسنين الذين يستحقون دخول الجنة ابتداء في درجة أعلى من المقتصدين، وهى درجة (ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله) فاطر.
قال تعالى (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه، ومنهم مقتصد، ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله، ذلك هو الفضل الكبير) فاطر 32.(6/75)
هذه هى مراتب الإيمان الثلاث، وقال ابن تيمية عن الإيمان (وهو مركب من أصل لايتم بدونه، ومن واجب ينقص بفواته نقصاً يستحق صاحبه العقوبة، ومن مستحب يفوت بفواته علو الدرجة) (مجموع الفتاوى) 7/ 637. ولو قال (أصل لايوجد بدونه) لكان أفضل من قوله (لايتم بدونه). لأن الإيمان لايتم بأصله فقط بل بمراتبه الثلاث والتي يُسمى مجموعها بالإيمان الكامل، كما قال ابن تيمية نفسه (وهو جميع ماأمر الله به، فهذا هو الإيمان الكامل التام) (مجموع الفتاوى) 19/ 293.(6/76)
والإيمان الذي ذكرنا مراتبه الثلاث آنفا هو الإيمان الحقيقي الذي تجري عليه أحكام الآخرة عند الله تعالى من الثواب والعقاب، أما في الدنيا فالإيمان الحكمي الذي يُفرق به بين المسلم والكافر (وهو المرادف للإسلام الحكمي) يثبت بالإقرار بالشهادتين أو مايقوم مقامهما من علامات الإسلام. قال ابن حجر رحمه الله ــ في كلامه في تعريف الإيمان ــ (فالسلف قالوا هو اعتقاد بالقلب ونطق باللسان وعمل بالأركان ــ إلى قوله ــ وهذا كله بالنظر إلى ماعند الله تعالى، أما بالنظر إلى ماعندنا فالإيمان هو الإقرار فقط، فمن أقرَّ أجريت عليه الأحكام في الدنيا) (فتح الباري) 1/ 46. وقال ابن تيمية رحمه الله (لأن الإيمان الظاهر الذي تجري عليه الأحكام في الدنيا لايستلزم الإيمان في الباطن الذي يكون صاحبه من أهل السعادة في الآخرة) (مجموع الفتاوى) 7/ 210. وقد فرق الله بين نوعَي الإيمان في قوله تعالى (ياأيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن، الله أعلم بإيمانهن، فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار) الممتحنة 9، فقوله تعالى (الله أعلم بإيمانهن) أي بحقيقة إيمانهن، وقوله (فإن علمتموهن مؤمنات) أي بحسب الظاهر وهو الإيمان الحكمي. وكما في قوله تعالى (ومن لم يستطع منكم طولاً أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات، والله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض) النساء 25، فقوله تعالى (المحصنات المؤمنات، فتياتكم المؤمنات) أي بحسب الظاهر، وقوله (والله أعلم بإيمانكم) أي بحقيقته وهو الإيمان الحقيقي.
يُراجع في مراتب الإيمان: (مجموع فتاوى ابن تيمية) جـ 7 صـ 358 و 525 و 529 و 637، جـ 10 صـ 6، جـ 12 صـ 474، جـ 19 صـ 290 ــ 294. وقد وصف ابن القيم رحمه الله أحوال أصحاب هذه المراتب الثلاث (الظالم لنفسه والمقتصد والسابق بالخيرات) وذلك في كتابه (طريق الهجرتين) صـ 185 ــ 216، ط دار الكتب العلمية 1402 هـ.(6/77)
يتبين مما سبق أن كلَّ طاعةٍ إيمانٌ ولكن ليست كل معصية كفراً، فكما أن الطاعات تتفاوت مراتبها فمنها مايدخل في أصل الإيمان ومنها مايدخل في الإيمان الواجب ومنها مايدخل في الإيمان المستحب، فكذلك المعاصي مراتب: منها مايُخل بأصل الإيمان وتسمى كفراً ومنها مايُخل بالإيمان الواجب وتسمى فسقاً. قال تعالى (ولكن الله حبّب إليكم الإيمان وزيّنه في قلوبكم وكرّه إليكم الكفر والفسوق والعصيان) الحجرات 7. أورد ابن تيمية هذه الآية ثم قال (قال محمد بن نصر المروزي: لما كانت المعاصي بعضها كفر، وبعضها ليس بكفر، فرَّق بينها فجعلها ثلاثة أنواع: نوع منها كفر، ونوع منها فِسق وليس بكفر، ونوع عصيان وليس بكفر ولا فسوق، وأخبر أنه كَرَّهها كلها إلى المؤمنين. ولما كانت الطاعات كلها داخلة في الإيمان وليس فيها شيء خارج عنه لم يفرق بينها) (مجموع الفتاوي) 7/ 42. والمرجع في تصنيف المعصية إلى الشارع، فمن المعاصي التي سمّاها الله كفراً دعاء غير الله تعالى كما في قوله تعالى (ومن يَدْعُ مع الله إلهاً آخر لابرهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لايُفلح الكافرون) المؤمنون 117، ومن المعاصي التي سمّاها الله فسقاً قذف المحصنات ــ وهو الاتهام بالزنا ــ قال تعالى (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدةً ولاتقبلوا لهم شهادة أبداً، وأولئك هم الفاسقون) النور 4. وقد جمع الله بين المعصية المفسِّقة والمعصية المكفِّرة في قوله تعالى (ولاتأكلوا مما لم يُذكر اسم الله عليه وإنه لفِسقٌ، وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون) الأنعام 121، فسمَّى الله الأكل من متروك التسمية عمداً (الذبيحة التي لم يذكر اسم الله عند ذبحها) فسقاً، وسمَّى طاعة الكفار (أولياء الشياطين) في شريعتهم شركاً، كما جاء في تفسير قوله تعالى (وإن أطعتموهم إنكم لمشركون) قال ابن كثير (أي حيث عدلتم عن أمر الله لكم(6/78)
وشرعه إلى قول غيره، فقدمتم عليه غيره، فهذا هو الشرك، كقوله تعالى «اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله») ثم ذكر حديث عدي بن حاتم في هذه الآية (تفسير ابن كثير) 2/ 171. وهذا النص يبيّن أيضا كيف تنقلب المعصية غير المكفرة إلى كُفر بالاستحلال، وهو هنا اعتبارها مباحة عملاً بتشريع من قال بذلك مخالفاً حكم الله في هذا.
ونلخص ما سبق فنقول:
إن الذنب هو إما ترك واجب أو فعل محرم، وهو قسمان:
أولا ــ القسم الأول: ذنب مُكَفِّر: وهو الذي سمّاه الله كُفرا، وهو الذي يُخل بأصل الإيمان، وهو نوعان:
أ ــ ترك واجب من الواجبات الداخلة في أصل الإيمان، كترك الإقرار بالشهادتين، وترك الصلاة، وانتفاء تصديق القلب وهو كفر التكذيب فإن انتفى التصديق وأقر بلسانه فكُفر نفاق، وكانتفاء يقين القلب وهو كفر الشك، وغيرها من واجبات أصل الإيمان سواء كانت من أعمال القلب أو اللسان أو الجوارح، فكل أمر ٍ وردت الشريعة بكفر تاركه فهو واجب من أصل الإيمان.
ب ــ أو فعل محرم يضاد أصل الإيمان: كسبّ الله ورسوله، وكدعاء غير الله والذبح له، فكل أمر وردت الشريعة بكفر فاعله فهو محرم يضاد أصل الإيمان.(6/79)
فكل من أتى بذنب مُكَفِّر (من ترك واجب أو فعل محرم) فهو كافر بمجرد تركه أو فعله ولايجوز أن يشترط لتكفيره جحده الواجب الذي تركه أو استحلاله للمحرم الذي فعله، لأن الله تعالى سمّاه كافراً ــ بتركه أو بفعله ــ ولم يقيد ذلك بجحد أو استحلال، فمن اشترط ذلك فقد استدرك على الله، بل هو مكذب بآيات الله الدالة على كفر فاعل هذا الذنب، ومن كذّب بآيات الله فقد كَفَر، ولهذا كَفّر السلف غلاة المرجئة الذين يعتبرون الجحد شرطاً مستقلا للتكفير بالذنوب المكفرة كما سبق نقله عن (مجموع الفتاوى) 7/ 209 و 205. وقد سبق بيان أن قول الطحاوي (ولايخرج العبد من الإيمان إلا بجحود ماأدخله فيه) لا دلالة فيه على اشتراط الجحد للتكفير بل يعني هذا القول عند المرجئة ــ من الفقهاء والأشاعرة ــ أن الجحد لازم لاينفك عن الكفر الظاهر، وقولهم هذا خطأ كما سبق بيانه. كذلك فقد أسلفنا أن قول أهل السنة (لانكفر مسلما بذنب مالم يستحله) أن هذا الشرط والقيد خاص بالذنوب غير المكفرة بدليل تسميتهم فاعلها (مسلماً) أي أنه لم يأت بذنب مكفر يخرجه من الإسلام، وسبق أن نقلت أقوال العلماء في شرح معنى هذه العبارة. فلا دلالة في هاتين العبارتين على اشتراط الجحد أو الاستحلال للتكفير بالذنوب المكفرة، ومن ظن أن العبارتين تدلان على اشتراط ذلك فقد أساء الفهم كما هو حال كثير من المعاصرين الذين يتكلمون في مسائل الإيمان والكفر، هم على مذهب غلاة المرجئة فيما يشترطونه من الشروط الفاسدة، وإذا سألت أحدهم عن حجته ودليله في اشتراط الجحد أو الاستحلال للتكفير بالذنوب المكفرة، قال لك هذا ماتدل عليه القواعد العامة، فإذا سألته وماهذه القواعد؟، فلن تجد له حجة إلا هاتين العبارتين السابقتين (لانكفر مسلماً.....) و (ولايخرج العبد من الإيمان......) وقد تبيّن لك أنه لا دلالة فيهما على مااشترطه المرجئة المعاصرون بسوء فهمهم لأقوال العلماء.(6/80)
وفيما يلي أذكر الأدلة من النصوص والإجماع على كفر من أتى بالذنوب المكفرة ــ بمجرد الفعل أو الترك ــ دون تقييد ذلك بجحد ٍ أو استحلال، ومنها:
أ ــ قال تعالى (يحلفون بالله ماقالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم) التوبة 74، فحكم الله بكفرهم بمجرد القول الذي تكلموا به، قال ابن تيمية (وقد ذكر الله كلمات الكفار في القرآن وحكم بكفرهم واستحقاقهم الوعيد بها) (مجموع الفتاوى) 7/ 558.
ب ــ وقال تعالى (يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم، قل استهزءوا إن الله مخرج ما تحذرون، ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب، قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون، لاتعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم) التوبة 64 ــ 66، قال ابن تيمية (فقد أخبر أنهم كفروا بعد إيمانهم مع قولهم: إنا تكلمنا بالكفر من غير اعتقاد له، بل كنا نخوض ونلعب، وبين أن الاستهزاء بآيات الله كفر) (مجموع الفتاوي) 7/ 220، وقال أيضا في نفس هذه الآيات (فدل على أنهم لم يكونوا عند أنفسهم قد أتوا كفراً، بل ظنوا أن ذلك ليس بكفر، فبيّن أن الاستهزاء بالله وآياته ورسوله كفر يكفر به صاحبه بعد إيمانه) (مجموع الفتاوى) 7/ 273.
جـ ــ وقال تعالى (ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ماأظن أن تبيد هذه أبداً، وماأظن الساعة قائمة ولئِن رُددت إلى ربي لأجدن خيراً منها منقلبا، قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك) الكهف 35 ــ 37. فقد أكفره صاحبه بمجرد قوله المكفِّر (وماأظن الساعة قائمة).
د ــ وقال تعالى (لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح بن مريم) المائدة 72، وقال تعالى (لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة) المائدة 73، فقد أكفرهم الله بنفس القول.
هـ ــ وقال تعالى (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين) البقرة 34. فأكفره الله بفعله وهو تركه السجود لآدم.(6/81)
فهذه النصوص تدل على أن من قال أو فعل ماهو كُفر، كَفَر بذلك، دون اشتراط لأن يكون جاحداً أو مستحلاً، إذ لم يقيد الله الحكم عليهم بالكفر بهذا الشرط، ولايدل على اعتباره دليل منفصل، أما القواعد العامة التي يظنها البعض دليلا على اشتراط الجحد أو الاستحلال للتكفير فقد بيّنا لك فساد فهمهم لها. قال ابن تيمية رحمه الله (وبالجملة فمن قال أو فعل ماهو كُفْر كَفَر بذلك، وإن لم يقصد أن يكون كافراً، إذ لايقصد الكفر أحدٌ إلا ماشاء الله) (الصارم المسلول) صـ 177 ــ 178.(6/82)
و ــ وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة) رواه مسلم، والكفر المُعَرَّف بأل هو الكفر الأكبر، فرتب الرسول صلى الله عليه وسلم الحكم بالكفر على مجرد ترك الصلاة، وقد أجمع الصحابة على تكفير من ترك صلاة واحدة متعمداً حتى خرج وقتها، وقد نقل الإجماع على ذلك ابن حزم في (المحلى) 2/ 242، وابن القيم فقال (قال أبو محمد بن حزم: وقد جاء عن عمر وعبدالرحمن بن عوف ومعاذ بن جبل وأبي هريرة وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم أن من ترك صلاة فرض واحدة متعمداً حتى يخرج وقتها فهو كافر مرتد. قالوا ــ أي المكفرون لتارك الصلاة ــ ولانعلم لهؤلاء مخالفاً من الصحابة، وقد دل على كفر تارك الصلاة: الكتاب والسنة وإجماع الصحابة) (كتاب الصلاة) لابن القيم صـ 15 ــ ثم شرع في ذكر الأدلة من الكتاب والسنة والإجماع فراجعها بكتابه هذا ــ إلى أن قال (قال محمد بن نصر: حدثنا محمد ابن يحيي حدثنا أبو النعمان حدثنا حماد بن زيد عن أيوب قال: ترك الصلاة كُفر لايختلف فيه، وحكى محمد عن ابن المبارك قال: من أخّر صلاة حتى يفوت وقتها متعمداً من غير عذر فقد كفر. ــ إلى أن قال ــ وكذلك كان رأي أهل العلم من لدن النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا أن تارك الصلاة عمداً من غير عذر حتى يذهب وقتها كافر) (الصلاة) صـ 31، ط دار الكتب العلمية. وقد نقل ابن تيمية قول السلف في هذا في (مجموع الفتاوى) 20/ 97. وقال إن التفريق بين المقر بوجوب الصلاة والجاحد لوجوبها وتكفير الثاني دون الأول إن هذه فروع فاسدة لم تنقل عن الصحابة (مجموع الفتاوي) 22/ 48، وقال أيضا (وعلم أن من قال من الفقهاء إنه إذا أقر بالوجوب وامتنع عن الفعل لايُقتل، أو يُقتل مع إسلامه، فإنه دخلت عليه الشبهة التي دخلت على المرجئة والجهمية) (مجموع الفتاوى) 7/ 616. وهذه الشبهة التي دخلت عليهم ذكرها ابن القيم في قوله ــ عمن لايرون كفر تارك الصلاة ــ (قالوا:(6/83)
ولأن الكفر جحود التوحيد وإنكار الرسالة والمعاد جحد ماجاء به الرسول، وهذا يُقر بالوحدانية شاهداً أن محمداً رسول الله، مؤمنا بأن الله يبعث من في القبور، فكيف يُحكم بكفره؟. والإيمان هو التصديق وضده التكذيب لاترك العمل، فكيف يُحكم للمصدق بحكم المكذب الجاحد؟) (الصلاة) صـ 15. وقد سبق بيان فساد هذا القول وأن الكفر ليس هو الجحد فقط، لا في الأسباب ولا في الأنواع، وأن الكفر في أحكام الدنيا يكون إما بقول أو فعل ــ أو تَرْك ــ دلّ الدليل على كفر فاعله.(6/84)
ز ــ ومن الأدلة على ماذكرنا: إجماع الصحابة على تكفير مانعي الزكاة بمجرد المنع دون النظر إلى إقرارهم بالوجوب أو الجحد. ودليله حديث أبي هريرة قال (لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم واستُخِلف أبوبكر، وكَفَر من كَفَر من العرب، قال عمر: ياأبابكر كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أُمِرتُ أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قال لا إله إلا الله عَصَم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله». قال أبوبكر: والله لأقاتلن من فَرَّق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عَنَاقاً كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها، قال عمر: فو الله ماهو إلا أن رأيت أنْ قد شرح الله صدر أبي بكر للقتال، فعرفت أنه الحق) متفق عليه واللفظ للبخاري (6924، 6925) في باب (قتل من أبى قبول الفرائض ومانُسبوا إلى الردّة) بكتاب (استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم). ودليل تكفير أبي بكر رضي الله عنه لمانعي الزكاة قوله (والله لأقاتلن من فرّق بين الصلاة والزكاة) وقد استقر إجماع الصحابة على كفر تارك الصلاة ووجوب قتله إن لم يتب، فدلت تسويته بين الصلاة والزكاة على أن مانعي الزكاة عنده كفار يجب قتالهم، ومن زعم أنه سوّى بين تارك الصلاة ومانع الزكاة في العقوبة (القتل) دون الحكم (الكفر) فقد أخطأ، فقد سوّى بينهما أبوبكر تسوية مطلقة تشتمل على الحكم والعقوبة، ويدل عليه قول أبي هريرة (وكفر من كفر من العرب)، وهو اختيار البخاري كما ذكره في ترجمة الباب (ومانُسبوا إلى الرِدّة). وقد وافق الصحابة أبابكر فيما ذهب إليه فكان هذا إجماعاً منهم على كفر مانعي الزكاة وإقراراً منهم بفضيلة أبي بكر وأعلميته، كما قال ابن تيمية رحمه الله (وقد اتفق أهل السنة والجماعة على أن أبابكر أعلم الأمة بالباطن والظاهر، وحكى الإجماع على ذلك غير واحد) (مجموع الفتاوى) 13/ 237، وقال أيضا(6/85)
(بل أبوبكر الصديق لايُحفظ له فتيا أفتى فيها بخلاف نص النبي صلى الله عليه وسلم، وقد وُجِد لعَلِيّ وغيره من الصحابة أكثر مما وُجد لعمر) (مجموع الفتاوى) 35/ 124، وقال ابن القيم (فإن اختلف أبوبكر وعمر، فالصواب مع أبي بكر، وهذه جملة لا يعرف تفصيلها إلا من له خبرة واطلاع على مااختلف فيه الصحابة وعلى الراجح من أقوالهم) (اعلام الموقعين) 4/ 119. ولم يُنقل أن الصحابة ساروا في قتال مانعي الزكاة سيرة تختلف عن سيرتهم في قتال سائر المرتدين كقوم مسيلمة الكذاب وغيرهم. فدَلّ على أنهم لم يفرقوا بينهم، بخلاف ماصنع عَلِيّ بن أبي طالب في قتاله للبغاة في وقعة الجمل وصفين إذ أخبر جيشه بألا يجهزوا على جريح وألا يتبعوا مُدْبراً (نقل الشوكاني عن ابن حجر إن هذا صَحَّ عن علي موقوفا، أخرجه ابن أبي شيبة والحاكم) (نيل الأوطار) 7/ 353. وقال ابن تيمية (وقد تواتر عن عَلِيّ يوم الجمل لما قاتلهم أنه لم يتبع مدبرهم ولم يُجهز على جريحهم ولم يغنم لهم مالاً ولاسبي لهم ذرية) (منهاج السنة) 4/ 496، تحقيق د. رشاد سالم. وقد اعتبر الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ تسوية الصحابة بين قتال مانعي الزكاة وقتال غيرهم من المرتدين دليلا على كفر مانعي الزكاة، فقد سُئِل: قتال مانعي الزكاة هل هو رِدّة؟. فأجاب (الصحيح أنه ردة، لأن الصدّيق لم يفرق بينهم ولا الصحابة ولا من بعدهم) من (فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ) جمع محمد بن عبدالرحمن بن قاسم، ط 1399 هـ بمكة المكرمة، جـ 6 صـ 202.(6/86)
وممن نقل إجماع الصحابة على تكفير مانعي الزكاة: القاضي أبو يعلى صاحب (الأحكام السلطانية) قال (وأيضا فإنه إجماع الصحابة، وذلك أنهم نسبوا الكفر إلى مانع الزكاة وقاتلوه وحكموا عليه بالردة، ولم يفعلوا مثل ذلك بمن ظهر منه الكبائر ولو كان الجميع كفراً لسَوّوا بين الجميع) (مسائل الإيمان) للقاضي أبي يعلى صـ 330 ــ 332، ط دار العاصمة 1410هـ. وأبو بكر الجصاص الحنفي في كتابه (أحكام القرآن) في تفسير قوله تعالى (فلا وربك لايؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم) الآية ــ النساء 65، قال (وفي هذه الآية دلالة على أن من رد شيئاً من أوامر الله تعالى أو أوامر رسوله صلى الله عليه وسلم فهو خارج من الإسلام، سواء ردّه من جهة الشك أو ترك القبول والامتناع من التسليم، وذلك يوجب صحة ماذهب إليه الصحابة في حكمهم بارتداد من امتنع عن أداء الزكاة وقتلهم وسبي ذراريهم، لأن الله تعالى حكم بأن من لم يُسلم للنبي صلى الله عليه وسلم وحكمه فليس من أهل الإيمان) أهـ. وقال ابن تيمية (وقد اتفق الصحابة والأئمة بعدهم على قتال مانعي الزكاة وإن كانوا يصلون الخمس ويصومون شهر رمضان، وهؤلاء لم يكن لهم شبهة سائغة فلهذا كانوا مرتدين، وهم يُقاتلون على منعها وإن أقروا بالوجوب كما أمر الله) (مجموع الفتاوي) 28/ 519. وقال ابن تيمية أيضا (وإذا كان السلف قد سمّوا مانعي الزكاة مرتدين مع كونهم يصومون ويصلون ولم يكونوا يقاتلون جماعة المسلمين، فكيف بمن صار مع أعداء الله ورسوله قاتلا للمسلمين) (مجموع الفتاوي) 28/ 531. وقال الشيخ عبدالله بن محمد بن عبدالوهاب 1242هـ (وقال الشيخ ــ ابن تيمية ــ رحمه الله في آخر كلامه على كفر مانعي الزكاة: والصحابة لم يقولوا هل أنت مُقر بوجوبها أو جاحد لها، هذا لم يُعهد عن الصحابة بحال، بل قال الصدّيق لعمر رضي الله عنهما: «والله لو منعوني عَنَاقاً كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها»(6/87)
فجعل المبيح للقتال مجرد المنع لاجحد وجوبها، وقد روي أن طوائف منهم كانوا يقرون بالوجوب لكن بخلوا بها، ومع هذا فسيرة الخلفاء فيهم سيرة واحدة وهى قتل مقاتلتهم وسبي ذراريهم وغنيمة أموالهم والشهادة على قتلاهم بالنار، وسمّوهم جميعهم أهل الردّة) (الدرر السنية في الأجوبة النجدية، جـ 8 صـ 131).
وقد أطلت في بيان اتفاق الصحابة على كفر مانعي الزكاة ورِدّتهم، إذ إن المشهور لدى المتأخرين هو قول أبي سليمان الخطابي في كتابه (معالم السنن) إن تسمية مانعي الزكاة مرتدون هو من باب المجاز والتغليب وأنهم بغاة ليسوا مرتدين لأنهم لم يجحدوا وجوب الزكاة، ووجد المتأخرون أن هذا الكلام جار ٍ على أصول المرجئة في اشتراط الجحد للتكفير فتلقّفوه ونقلوه في كتبهم ولهذا لم يعرف كثير من المعاصرين غير هذا القول، فنقله النووي في شرح مسلم، وقال ابن حجر في شرح حديث أبي هريرة السابق (وإنما أطلق الكفر في أول القصة ليشمل الصنفين: فهو في حق من جحد حقيقة، وفي حق الآخرين مجاز تغليبا) (فتح الباري) 12/ 277. وذهب فريق إلى أن الصحابة كفروهم لأنهم جحدوا الزكاة (نقله ابن حجر عن القاضي عياض في الفتح، 12/ 276)، ولم يثبت عن الصحابة أنهم تكلموا في مسألة الجحد أو الإقرار بالوجوب في حق مانعي الزكاة وتعليق الحكم عليهم بذلك. فهذه كما قال ابن تيمية: فروع فاسدة لم تنقل عن الصحابة. فتأمل هذا تعرف مخالفة كثير من المتأخرين لما كان عليه السلف، كما قال ابن تيمية (وإذا ذكروا نزاع المتأخرين لم يكن بمجرد ذلك أن يجعل هذه من مسائل الاجتهاد التي يكون كل قول من تلك الأقوال سائغاً لم يخالف إجماعا، لأن كثيراً من أصول المتأخرين مُحدَث مُبتدع في الإسلام مسبوق بإجماع السلف على خلافه، والنزاع الحادث بعد إجماع السلف خطأ قطعا) (مجموع الفتاوى) 13/ 26، وبهذا تعلم أن اختلاف المتأخرين في تكفير مانع الزكاة ــ بعد إجماع الصحابة عليه ــ لااعتبار له، وهو كاختلاف(6/88)
المتأخرين في تكفير تارك الصلاة بعد إجماع الصحابة على تكفيره.
وقد ذهب بعض العلماء إلى أن عمر لم يوافق أبابكر في تكفير مانعي الزكاة بدليل أنه رَدّ السَّبْي إليهم في خلافته (ذكره ابن حجر في الفتح، 12/280)، وهذا خطأ، فإن رَدّ السبي لايدل على مخالفة عمر لأبي بكر في تكفير مانعي الزكاة، بدليل أنه رَدّ سبي غيرهم من المرتدين كقوم مسيلمة الكذاب وطليحة الأسدي، فهل خالف عمر في كُفْر هؤلاء؟، بل الصواب في هذا ماذكره ابن تيمية في (منهاج السنة) أن عمر ردّ السبي لسائر المرتدين من العرب بسبب توبتهم ورجوعهم إلى الإسلام. قال ابن تيمية (وأهل الردة كان قد اتفق أبو بكر وعمر وسائر الصحابة على أنهم لايُمَكَّنون من ركوب الخيل ولا حمل السلاح، بل يُتركون يتبعون أذناب البقر، حتى يُري الله خليفة رسوله والمؤمنين حُسن إسلامهم. فلما تبيّن لعمر حُسن إسلامهم ردّ ذلك إليهم، لأنه جائز) (منهاج السنة) 6/ 349 تحقيق د. رشاد سالم. ونقل ابن جرير الطبري رحمه الله أن عمر ردّ السبي في خلافته لتعظيم أمر العرب، فقال (فلما وَليَ عمر رحمه الله قال: إنه ليقبح بالعرب أن يملك بعضهم بعضاً، وقد وسَّع الله وفتح الأعاجم. واستشار في فداء سبايا العرب في الجاهلية والإسلام إلا امرأة ولدت لسيدها، وجعل فِداء كل إنسان سبعة أبعرة وستة أبعرة، إلا حَنِيفة كِنْدة فإنه خفّف عنهم لقتل رجالهم، ومَنْ لايقدر على فِداء لقيامهم وأهل دَبَا، فتتبعت رجالُهم نساءَهم بكل مكان) (تاريخ الطبري) 2/ 304 ــ 305، ط دار الكتب العلمية 1408هـ، وكما ترى فقد ردّ عمر جميع السبي للمرتدين التائبين وحتى سَبْي الجاهلية بين العرب قبل الإسلام. فلا دلالة في هذا على أنه خالف أبابكر في تكفير مانعي الزكاة، بل قد ذكر ابن تيمية أنهم لم يَسْبوا امرأة لمانعي الزكاة وإنما سَبَوا غيرهم من المرتدين. (منهاج السنة) 6/ 348 ــ 349.(6/89)
ح ــ ومن الأدلة على ما ذكرنا: تكفير الصحابة لمن شهد أن مسيلمة رسول الله دون أن يقولوا له هل أنت جاحد ومستحل أم لا؟. وقد ورد هذا في حق نفر من بني حنيفة ــ وهم قوم مسيلمة الكذاب ــ أعلنوا توبتهم بعد قتال الصحابة لهم ومقتل مسيلمة، وانتقل هؤلاء النفر للإقامة بالكوفة وأميرها عبدالله بن مسعود رضي الله عنه وذلك في خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه، وكان لهم مسجد في ناحيتهم فقال مؤذنهم في أذانه إنه يشهد أن مسيلمة رسول الله، فحكم الصحابة بردتهم بهذا. وخبرهم رواه البخاري معلقاً مختصراً في أول كتاب الكفالة من صحيحه، فقال رحمه الله (وقال جرير والأشعث لعبدالله بن مسعود في المرتدين: استتبهم وكفِّلْهم، فتابوا وكَفَّلهم عشائرهم). قال ابن حجر في شرحه (وهذا أيضا مختصر من قصة أخرجها البيهقي بطولها من طريق أبي إسحاق عن حارثة بن مضرب قال: صليت الغداة مع عبدالله بن مسعود فلما سَلَّم قام رجل فأخبره أنه انتهى إلى مسجد بني حنيفة فسمع مؤذن عبدالله بن النَّوَّاحة يشهد أن مسيلمة رسول الله، فقال عبدالله: عَلَيّ بابن النواحة وأصحابه فجيء بهم، فأمر قرظة بن كعب فضرب عنق ابن النواحة، ثم استشار الناس في أولئك النفر، فأشار عليه عدي بن حاتم بقتلهم، فقام جرير والأشعث فقالا: بل استتبهم وكَفِّلهم عشائرهم، فتابوا وكَفَّلهم عشائرهم وروي ابن أبي شيبة من طريق قيس بن أبي حازم أن عدة المذكورين كانت مائة وسبعين رجلاً) (فتح الباري) 4/ 469 ــ 470. وكان ما قاله مؤذنهم بغير نكير منهم ولهذا حكم الصحابة بردتهم كما في رواية أبي داود (إني مررت بمسجد لبني حنيفة فإذا هم يؤمنون بمسيلمة)، ولم يستفسر الصحابة منهم هل هم جاحدون أو مستحلون أم لا؟. وإنما استتابهم الصحابة دون ابن النواحة، لأنه كان رسولاً من مسيلمة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأقر بنبوة النبي صلى الله عليه وسلم ونبوة مسيلمة فقال صلى الله عليه وسلم (لولا أن الرسل لاتقتل(6/90)
لضربت أعناقكما) حديث صحيح رواه أحمد وأبو داود عن نعيم بن مسعود. فلم يمنع النبي صلى الله عليه وسلم من قتله إلا كونه رسولاً، فلما جِيء به إلى ابن مسعود قتله، كما في رواية أبي داود عن حارثة بن مُضرب أنه أتى عبدالله فقال: مابيني وبين أحدٍ من العرب حِنَةٌ وإني مررت بمسجد لبني حنيفة، فإذا هم يؤمنون بمسيلمة، فأرسل إليهم عبدالله، فجيء بهم فاستتابهم، غير ابن النَّواحة قال له: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «لولا أنك رسول لضربت عنقك» فأنت اليوم لست برسول، فأمر قَرظَة بن كعب فضرب عنقه في السوق، ثم قال: من أراد أن ينظر إلى ابن النواحة قتيلاً بالسوق. أهـ. ومعنى (حِنَة) أي عداوة.(6/91)
ط ــ وهذا الذي دلّت عليه النصوص وإجماع الصحابة مِنْ أن مَنْ أتى بذنب ٍ مكفر كَفَر دون نظر في جحد أو استحلال هو مذهب أهل السنة الذي أجمعوا عليه، كما قال ابن تيمية رحمه الله (إنْ سَبَّ الله أو سَبَّ رسوله كَفَر ظاهراً وباطناً، سواء كان الساب يعتقد أن ذلك محرم، أو كان مستحلاً له، أو كان ذاهلاً عن اعتقاده، هذا مذهب الفقهاء وسائر أهل السنة القائلين بأن الإيمان قول وعمل. وقد قال الإمام أبو يعقوب إسحاق بن إبراهيم الحنظلي المعروف بابن راهويه ــ وهو أحد الأئمة يُعْدَل بالشافعي وأحمد ــ: قد أجمع المسلمون أن مَنْ سَبَّ الله أو سب رسوله عليه الصلاة والسلام أو دفع شيئاً مما أنزل الله أو قتل نبياً من أنبياء الله أنه كافر بذلك وإن كان مُقراً بما أنزل الله) (الصارم المسلول) صـ 512. وتأمل قوله (وإن كان مُقِراً) لتعلم أن الإقرار بالوجوب لايمنع من التكفير بالذنوب المكفرة، ومثل هذا ماقاله القاضي عياض رحمه الله (وكذلك نُكَفِّر بكل فعل أجمع المسلمون أنه لا يصدر من كافر وإن كان صاحبه مُصَرِّحاً بالإسلام مع فعِله ذلك الفعل، كالسجود للصنم وللشمس والقمر والصليب والنار، والسعي إلى الكنائس والبِيَع مع أهلها بزيِّهم من شد الزنانير وفَحصْ الرءوس، فقد أجمع المسلمون أن هذا الفعل لايوجد إلا من كافر، وأن هذه الأفعال علامة على الكفر وإن صَرَّح فاعلها بالإسلام) (الشفا) جـ 2 صـ 1072 ــ 1073، ط الحلبي بتحقيق البجاوي. وهناك سقط لايستقيم الكلام بدونه فقال (لايصدر من كافر) والصواب (لا يصدر إلا من كافر) كما يدل عليه آخر كلامه. ومعنى (فحص الرءوس) أي حلق أوساطها وهو من شعائر أهل الكتاب حينئذ. ونقل ابن حجر عن الشيخ تقي الدين السبكي الإجماع على تكفير من سجد للصنم ونحوه ممن لاتصريح بالجحود فيه وإن كان معتقداً للإسلام إجمالا عاملاً بالواجبات، انظر (فتح الباري) 12/ 299 ــ 300.(6/92)
والخلاصة: أن ماذكرناه من نصوص الكتاب والسنة وإجماع الصحابة قد دل على أن من أتى بذنب ٍ مُكفِّر (من قول أو فعل أو ترك ثبت كفر فاعله) فإنه يكفر بذلك دون تقييد كفره باشتراط الجحد أو الاستحلال. وقد سبق أن بيّنا اتفاق أهل السنة والمرجئة من الفقهاء والأشاعرة والجهمية على هذا الحكم، إلا أن الجهمية ــ في أحد قوليهم ــ قالوا: يجوز أن يكون مؤمنا في الباطن، وهذا القول كُفْر منهم. ولم يشذ عن هذا الحكم إلا طائفة من غلاة المرجئة قالوا: وإن فعل الكفر لايكفر إلا بالجحد، وبقولهم هذا يقول كثير من المعاصرين، وقائل هذا لم يختلف السلف في تكفيره لأنه رَدّ نصوص الشارع الحاكمة بكفر من قال الكفر أو فعله. هذا ما يتعلق بالقسم الأول من الذنوب، وهى الذنوب المكفرة المضادة لأصل الإيمان.
ثانيا: القسم الثاني: الذنوب المُفَسِّقة غير المكفرة، وهى الكبائر التي فيها حدٌ في الدنيا أو وعيدٌ في الآخرة، ولم يرد النص بكُفر فاعلها ولايُعاقب فاعلها بعقوبة المرتد، وهذه الذنوب تُخِل بالإيمان الواجب ولذلك ففاعلها من أهل الوعيد ولاتُخل بأصل الإيمان ولذلك لايكفر فاعلها. وهى نوعان:
أ ــ ترك واجب من الواجبات الداخلة في الإيمان الواجب: كترك الجهاد في سبيل الله إذا تعيّن فهذه كبيرة للوعيد الوارد فيها (إلا تنفروا يعذبكم عذاباً أليماً) التوبة 39، وكترك الصدق في القول والوعد، وكترك بر الوالدين، ونحوها من الواجبات.
ب ــ فعل مُحرم يُخل بالإيمان الواجب: كشرب الخمر والزنا والسرقة وأكل الربا والكذب والغيبة والنميمة ونحوها من الكبائر.(6/93)
فكل من أتى بذنب ٍ من هذه فهو فاسق من أهل الوعيد لايكفر، ويُسمى الفاسق المِلِّي أي أنه مع فسقه فهو مازال من أهل ملة الإسلام لم يخرج عنهم، وذلك بما معه من أصل الإيمان، تمييزاً له عن الفاسق فسقاً أكبر مخرجاً من الملة إذ إن كل كافر فاسق كما قال تعالى (إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه) الكهف 50، ونحوها من الآيات. فإن كانت الكبيرة فيها حدٌ في الدنيا (كشرب الخمر والسرقة والقذف والزنا والحرابة) فأقيم الحد على فاعلها كان كفارة لذنبه، وإن لم يكن فيها حدٌ (كالكذب وعقوق الوالدين) أو كان فيها حدٌ ولم يُقَم على فاعلها (لكونه استتر بذنبه ولم يُرفع للقاضي أو لتعذر إقامته كما في هذه الأزمنة) فهذا إن مات بلا توبة فهو في المشيئة، إن شاء الله غفر له وإلا عذبه بقدر ذنبه في النار ثم يخرج منها إلى الجنة بما معه من أصل الإيمان. كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ــ في أهل الكبائر ــ (ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب في الدنيا فهو كَفّارةٌ له، ومن أصاب من ذلك شيئا ثم سَتَره الله فهو إلى الله، إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه) الحديث متفق عليه، واللفظ للبخاري (حديث 18). وكونه في المشيئة في الآخرة يدل على أنه غير كافر، لقوله تعالى (إن الله لايغفر أن يُشرك به، ويغفر مادون ذلك لمن يشاء) النساء 48، وأما دخوله النار بذنوبه إن لم يشأ الله أن يغفرها له فيدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم (ليصيبنّ أقواماً سفعٌ من النار بذنوب أصابوها عقوبةً، ثم يدخلهم الله الجنة بفضل رحمته، يقال لهم الجَهَنَّميين) رواه البخاري عن أنس (7450)، وأما دخوله الجنة بعد النار فبما معه من أصل الإيمان المنجي من الكفر كما يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم (حتى إذا فرغ الله من القضاء بين العباد وأراد أن يُخرج برحمته من أراد من أهل النار أمر الملائكة أن يُخرجوا من النار من كان لايُشرك بالله شيئا ممن أراد الله أن يرحمه ممن يشهد أن لا إله إلا(6/94)
الله فيعرفونهم في النار بأثر السجود) الحديث رواه البخاري عن أبي هريرة (7437).
فهذه الذنوب المُفَسِّقة ــ من ترك واجب أو فعل محرم ــ لا يكفر فاعلها إلا إذا جحد الواجب أو استحل المحرم، وقد سبق بيان معنى الجحد والاستحلال وأن مرجعها إلى التكذيب بالنصوص الشرعية، ولهذا يكفر الجاحد للواجب وإن فعله كما يكفر المستحل للحرام وإن لم يفعله. وإنما لم يكفر فاعل هذه الذنوب بمجرد فعلها لأنها لاتخل بأصل الإيمان فإذا أضاف إليها الجحد أو الاستحلال أخلّ بأصل الإيمان فصار كافراً. وقد لخص الشيخ حافظ حكمي معتقد أهل السنة في ذلك بقوله نظماً:
ولا نُكفِّر بالمعاصي مؤمناً .. إلا مع استحلاله لما جنى
قال الشيخ حافظ في شرح هذا البيت: (ولا نكفر بالمعاصي) التي قدمنا ذكرها وأنها لاتوجب كُفراً، والمراد بها الكبائر التي ليست بشرك ولاتستلزمه ولاتنافي اعتقاد القلب ولا عمله، (مؤمنا) مُقراً بتحريمها معتقداً له، مؤمنا بالحدود المترتبة عليها، ولكن نقول يفسق بفعلها ويقام عليه الحد بارتكابها وينقص إيمانه بقدر ما تجارأ عليه منها. ــ إلى أن قال ــ (إلا مع استحلاله لما جني) هذه هي المسألة الخامسة وهو أن عامل الكبيرة يكفر باستحلاله إياها، بل يكفر بمجرد اعتقاده بتحليل ما حَرَّم الله ورسوله لو لم يعمل به، لأنه حينئذ يكون مكذباً بالكتاب ومكذبا بالرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك كفر بالكتاب والسنة والإجماع، فمن جحد أمراً مجمعاً عليه معلوماً من الدين بالضرورة فلاشك في كفره. أهـ (معارج القبول) 2/438، ط السلفية.(6/95)
وقد دلّ على ماذكرنا ــ من اشتراط الجحد أو الاستحلال للتكفير بالذنوب غير المكفرة ــ إجماع الصحابة على أن شارب الخمر إن أقر بتحريمها جُلِدَ الحد وإن استحلها ــ أى قال إنها حلال ليست بحرام ــ فهو مرتد يستتاب وإلا قتل، وقد نقل هذا ابن تيمية فقال (وهذه الشبهة كانت قد وقعت لبعض الأولين فاتفق الصحابة على قتلهم إن لم يتوبوا من ذلك، فإن قدامة بن عبدالله شربها هو وطائفة وتأولوا قوله تعالى «ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات» ــ المائدة 93 ــ فلما ذُكِرَ ذلك لعمر بن الخطاب اتفق هو وعلي بن أبي طالب وسائر الصحابة على أنهم إن اعترفوا بالتحريم جُلدوا، وإن أصروا على استحلالها قتلوا، وقال عمر لقدامة: أخطأت استك الحفرة، أما إنك لو اتقيت وآمنت وعملت الصالحات لم تشرب الخمر. وذلك أن هذه الآية نزلت بسبب أن الله سبحانه لما حرّم الخمر ــ وكان تحريمها بعد وقعة أحد ــ قال بعض الصحابة: فكيف بأصحابنا الذين ماتوا وهم يشربون الخمر؟، فأنزل الله هذه الآية يبين فيها أن من طَعِمَ الشيء في الحال التي لم تحرم فيها فلا جناح عليه إذا كان من المؤمنين المتقين المصلحين. ــ إلى أن قال ابن تيمية ــ فلهذا اتفق الصحابة على أن من استحل الخمر قتلوه، ثم إن أولئك الذين فعلوا ذلك ندموا، وعلموا أنهم أخطأوا وأيسوا من التوبة، فكتب عمر إلى قدامة يقول له «حم، تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم، غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب» ــ غافر 1 ــ 3 ــ ما أدري أي ذنبيك أعظم، استحلالك المحرم أولا؟ أم يأسك من رحمة الله ثانيا؟. وهذا الذي اتفق عليه الصحابة هو متفق عليه بين أئمة الإسلام لايتنازعون في ذلك) (مجموع الفتاوى) 11/ 403 ــ 405، وذكر هذه القصة في مواضع أخرى من (مجموع فتاويه) في جـ 12/ 499، وجـ 20/ 92 و جـ 34/ 213. وفي (الصارم المسلول) صـ 530. وذكر القصة شارح العقيدة الطحاوية(6/96)
في شرحه ط المكتب الإسلامي 1403هـ صـ 364. وقصة قدامة قال ابن حجر إن عبدالرزاق رواها في مُصنّفه بإسناد صحيح (فتح الباري) 13/ 141، وذكرها ابن حزم ــ دون ذكر اسم قدامة ــ في (الإحكام) 7/158، وقال أحمد شاكر في التعليق عليه: إسناد ابن حزم مُرسل، ورواه الطحاوي بإسناد صحيح موصولا. أهـ.
وهذا الذي أجمع عليه الصحابة من اشتراط الاستحلال للتكفير بالذنوب غير المكفرة، رتب عليه أهل السنة القاعدة المشهورة (لا نكفِّر مسلما بذنب مالم يستحله). وقد سبق نقل أقوال العلماء في بيان معنى هذه العبارة، وأن المراد بالذنب فيها: الكبائر غير المكفرة بدليل تسمية فاعلها مسلماً ــ أو من أهل القبلة ــ أي أنه لم يأت بمكفِّر يخرجه من الإسلام. كما قد سبق بيان أن أهل السنة قد وضعوا هذه القاعدة لتمييز معتقدهم عن معتقد الخوارج المكفرين بالكبائر غير المكفِّرة.
ومن الاستحلال المكفِّر: التشريعات العامة المخالفة للشريعة والتي تنص عليها الدساتير والقوانين الوضعية، فهذه التشريعات هى إما جحد لواجبات شرعية أو استحلال لمحرمات، قال تعالى (إنما النسيء زيادة في الكفر يُضل به الذين كفروا، يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً ليواطؤا عدة ماحرَّم الله، فيحلّوا ماحّرم الله) التوبة 37، والنسيء كان تشريعا عاماً مخالفا لشريعة الله في الأشهر الحرم، فسمّاه الله إحلالا للحرام وسمّاه زيادة في الكفر، والزيادة في الكفر كفر، ويستوي أن يكون الجحد والاستحلال بالنطق أو بالكتابة كما في هذه التشريعات الوضعية المدوّنة لما نصت عليه القاعدة الفقهية من أن (الكتاب كالخطاب). ويتخذ الجحد والاستحلال في القوانين الوضعية صوراً:(6/97)
* منها النص على إباحة المحرمات صراحة: كإباحة الزنا بالتراضي، والترخيص بفتح بيوت للزنا في بعض البلاد التي مازالت تزعم أنها إسلامية، وإباحة شرب الخمر في أماكن معينة ومنح الترخيصات بفتح هذه المحلات والترخيص بصناعة الخمور، وإباحة الربا والترخيص بفتح البنوك الربوية، وإباحة الملاهي والموسيقى وإجازة ذلك في وسائل الإعلام الحكومية وغيرها، وإباحة الرِدَّة بالنص على حرية الاعتقاد في الدساتير الوضعية. وكل هذا استحلال صريح للمحرمات.
* ومنها النص على عقوبات بديلة لبعض الجرائم التي وردت فيها عقوبات شرعية، بما يعني اسقاط هذه العقوبات الشرعية بما يعني جحدها وانكارها، وبهذا سقطت الحدود الشرعية جملة. قال ابن تيمية رحمه الله (ومعلوم أن من أسقط الأمر والنهي الذي بَعَثَ الله به رُسُلَه فهو كافر باتفاق المسلمين واليهود والنصارى) (مجموع الفتاوى) 8/ 106.
* ومنها النص ضمناً على إسقاط بعض الواجبات الدينية: فالنص على حرية الاعتقاد يعني إسقاط الجهاد في سبيل الله ضد الوثنيين وأهل الكتاب وبالتالي إسقاط العمل بأحكام أهل الذمة، كما أن النص على حرية الاعتقاد يعني إسقاط حدّ الردة وإسقاط جهاد المرتدين، وهذا جحد وانكار لهذه المحرمات.
* ومنها عقوبة من يؤدي بعض الواجبات الشرعية بما يعني جحدها وانكارها: كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكالجهاد في سبيل الله بالخروج على الحكام المرتدين وغيرهم، وعقوبة من يقوم بهذه الواجبات يعني تجريمها وإنكارها، وهذا عين الجحود.(6/98)
* ومن استحلال المحرمات القطعية: استحلال أموال المسلمين المعصومة باسم الإشتراكية التي تقنن أخذ أموال الأغنياء بدعوى توزيعها على الفقراء، لتحقيق ماسمّوه بالعدالة الاجتماعية وهى عين الظلم والغصب، وهذه الأموال المغصوبة لاتحل للفقراء فأكلها حرام ولُبسها حرام وصلاتهم في الأرض المغصوبة غير مقبولة وفي بطلانها قولان، ولاتحل الأموال المغصوبة ــ في أي صورة كانت ــ وإن طال الزمان. وهذا المذهب الخبيث المسمى بالإشتراكية إنما هو حيلة يستولي بها الحكام الكفار على أموال الأغنياء لأنفسهم ولايعطون الفقراء منها إلا الفتات، كما أنها وسيلة يستر بها الحكام عجزهم عن تدبير اقتصاد البلاد فيأخذون من هذا ويعطون هذا.
(خلاصة ماورد في هذا التنبيه الهام)، وبعد:
فهذا مادلت عليه النصوص الشرعية وأجمع عليه الصحابة والفقهاء من أهل السنة والجماعة:
* أن الذنوب المكفرة: وهى الأقوال والأفعال ــ ومنها التروك ــ التي ثبت بالدليل الشرعي أنها كُفر أكبر، يكفر فاعلها دون اشتراط للجحد والاستحلال. وفي هذا قال ابن تيمية رحمه الله (وبالجملة فمن قال أو فعل ماهو كُفْر كَفَر بذلك، وإن لم يقصد أن يكون كافراً، إذ لايقصد الكفر أحد إلا ماشاء الله) (الصارم المسلول) 177 ــ 178.
* أما الذنوب غير المكفرة: وهى التي لم يثبت كفر فاعلها، فهذه لايكفر بمجرد فعلها، فإن استحلها ــ إن كانت محرماً ــ أو جحدها ــ إن كانت واجباً ــ كَفَرَ بذلك، وهو المراد بقول أهل السنة (ولا نكفر مسلماً ــ أو أحداً من أهل القبلة ــ بذنب مالم يستحله).
فهذا مايشترط للتكفير به من الذنوب أن يكون فاعلها جاحداً أو مستحلاً، ومالا يُشترط فيه ذلك، ولا ينبغي الخلط بين القسمين من الذنوب.(6/99)
وقد فَرَّق بين القسمين القاضي أبو يعلى الحنبلي في كتابه (المعتمد) قال (من سَبَّ الله أو سب رسوله فإنه يكفر، سواء استحل سَبَّه أو لم يستحله، فإن قال «لم أستحل ذلك» لم يُقبل منه في ظاهر الحكم، رواية واحدة، وكان مرتداً، لأن الظاهر خلاف ماأخبر، لأنه لاغرض له في سب الله وسب رسوله إلا أنه غير معتقد لعبادته غير مُصدق بما جاء به النبي عليه الصلاة والسلام. ويُفارق الشارب والقاتل والسارق إذا قال «أنا غير مستحل لذلك» أنه يُصَدَّق في الحكم لأن له غرضاً في فعل هذه الأشياء مع اعتقاد تحريمها وهو ما يتعجل من اللذة) أهـ. نقلاً عن (الصارم المسلول) صـ 513 ــ 514.(6/100)
وانتقد شيخ الإسلام ابن تيمية من خلط بين القسمين فاشترط الاستحلال للتكفير بالذنوب المكفرة، فقال (وذكر القاضي عن الفقهاء أن ساب النبي عليه الصلاة والسلام إن كان مستحلاً كَفَر، وإن لم يكن مستحلاً فَسَق ولم يكفر) ثم قال ابن تيمية (إن الحكاية المذكورة عن الفقهاء أنه إن كان مستحلا كفر وإلا فلا، ليس لها أصل، وإنما نقلها القاضي من كتاب بعض المتكلمين الذين نقلوها عن الفقهاء، وهؤلاء نقلوا قول الفقهاء بما ظنوه جاريا على أصولهم أو بما قد سمعوه من بعض المنتسبين إلى الفقه ممن لايُعد قولُه قولاً، وقد حكينا نصوص أئمة الفقه وحكاية إجماعهم عمن هو من أعلم الناس بمذاهبهم، فلا يظن ظانّ أن في المسألة خلافاً يجعل المسألة من مسائل الخلاف والاجتهاد، وإنما ذلك غَلَط، لايستطيع أحد أن يحكي عن واحد من الفقهاء أئمة الفتوى هذا التفصيل البتة ــ إلى أن قال ــ وإذا تبين أن مذهب سلف الأمة ومن اتبعهم من الخلف أن هذه المقالة في نفسها كُفْر استحلها صاحبها أو لم يستحلها، فالدليل على ذلك جميع ماقدمناه في المسألة الأولى من الدليل على كُفر الساب مثل قوله تعالى (ومنهم الذين يؤذون النبي) ــ التوبة 61 ــ وقوله تعالى (إن الذين يؤذون الله ورسوله) ــ الأحزاب 57 ــ وقوله تعالى (لاتعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم) ــ التوبة 66 ــ وما ذكرناه من الأحاديث والآثار فإنما هو أدلة بَيِّنة في أن نفس أذى الله ورسوله كُفر، مع قطع النظر عن اعتقاد التحريم وجوداً وعدماً) (الصارم المسلول) صـ 514 ــ 517.
وهذا التنبيه ــ في الفرق بين مايشترط للتكفير به من الذنوب أن يكون فاعلها جاحداً أو مستحلا، ومالا يُشترط فيه ذلك ــ سوف نحتاج للرجوع إليه في موضعين فيما يستقبل من هذا الكتاب إن شاء الله، وهما:(6/101)
الموضع الأول: في مبحث الاعتقاد هذا، عند الكلام في أخطاء التكفير ومنها اشتراط بعض المعاصرين للجحد أو الاستحلال كشرط مستقل للتكفير بالذنوب المكفرة، وقد تبيّن لك أن هذا بخلاف مادلّ عليه الكتاب والسنة وإجماع الصحابة، بل قد تبيّن لك أن السّلف قد كفروا من قال بهذا الشرط لامتناعهم عن تكفير من قام الدليل على كفره.
والموضع الثاني: عند الكلام في مسألة الحكم بغير ماأنزل الله في المبحث الثامن من هذا الفصل، وهو المبحث الخاص (بموضوعات فقهية متفرقة). فقد ذهب البعض ــ وهم كثيرٌ ــ إلى أن من ترك الحكم بما أنزل الله لايكفر إلا أن يكون جاحداً للحكم الذي تركه أو مستحلاً لتركه، أما إن فعل ذلك لهوى أو شهوة فلا يكفر. وهذا محض قول غلاة المرجئة الذين كَفّرهم السلف. فقد قال تعالى (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) المائدة 44. ولايختلف أهل العلم وأهل اللغة أن الكفر المعرف بأل ــ كما في هذه الآية ــ هو الكفر الأكبر، كما لايختلف أهل العلم في أن الكفر إذا أطلق في القرآن فهو الكفر الأكبر، وسيأتي تقرير هذا في المبحث الثامن إن شاء الله ــ فدلّت الآية على كفر من ترك الحكم بما أنزل الله. وعَلّق الحكم بالكفر على مجرد الترك، كما عَلّق رسول الله صلى الله عليه وسلم الحكم بكفر تارك الصلاة على مجرد الترك (بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة) رواه مسلم. وقد أجمع الصحابة على تكفير تارك الصلاة بمجرد الترك، وأن التفريق بين الجاحد والمقر بالوجوب في هذه المواضع هى فروع فاسدة لم تنقل عن الصحابة كما قال ابن تيمية. فلابد أن يكون تارك الحكم بما أنزل الله كافراً بمجرد تركه كتارك الصلاة إذ ترتب الحكم في النصين على مجرد الترك، والكفر في النصين هو الكفر الأكبر، وقال ابن تيمية رحمه الله (وهو سبحانه كما يفرق بين الأمور المختلفة فإنه يجمع ويسوي بين الأمور المتماثلة، فيحكم في الشيء خلقاً وأمراً بحكم مثله، لايفرق بين(6/102)
متماثلين، ولايسوي بين شيئين غير متماثلين) (مجموع الفتاوى) 13/ 19.
وبهذا تعلم أن تارك الحكم بما أنزل الله ــ كالسلاطين والقضاة في البلاد المحكومة بقوانين وضعية ــ هو كافر كفراً أكبر بمجرد تركه دون نظر إلى جحد ٍ أو استحلال. فإذا أضاف إلى ذلك الحكم بشرع مخالف لشرع الله فهذا سبب مُكَفِّر آخر غير الترك الأول فيكفر أيضا من هذا الوجه. فإذا أضاف إلى ذلك وضعه للتشريعات المخالفة فهذا سبب مُكفِّر ثالث. فالسلاطين والمشرِّعون والقضاة بهذه البلاد كلهم كفار كفراً أكبر، ومنهم من ترتب كفره على عِلّة واحدة ومنهم من ترتب كفره على علتين ومنهم من ترتب كفره على ثلاث علل كل منها مكفرة بذاتها.
وسيأتي شيء من التفصيل في هذه المسألة بالمبحث الثامن كما أشرت من قبل إن شاء الله.
وبهذا أختم هذا التنبيه فيما يشترط للتكفير به من الذنوب أن يكون فاعلها جاحداً أو مستحلاً، وبين مالا يشترط فيه ذلك.
ونتابع سرد أخطاء الطحاوي في عقيدته.
(6) قال الطحاوي رحمه الله (والإيمان هو الإقرار باللسان والتصديق بالجنان) هذا خطأ وهو مذهب المرجئة الفقهاء، وتقدم أن مذهب أهل السنة أن الإيمان قول وعمل ويزيد وينقص: قول القلب (وهو المعرفة والتصديق الجازم) وقول اللسان (وهو الإقرار)، وعمل القلب (عبادات القلب) وعمل الجوارح (عبادات الجوارح).
(7) وقال الطحاوي رحمه الله (والإيمان واحد) هذا خطأ وهو مذهب المرجئة أن الإيمان شئ واحد لايتبعَّض فلا يزيد ولاينقص إما أن يبقى كله أو يذهب كله. أما مذهب أهل السنة فالإيمان مركب من شُعَب ولهذا فهو يزيد وينقص عند أهل السنة بزيادة تحصيل العبد لشُعَبه أو تقصيره فيها، كما أن الإيمان عند أهل السنة له أصل لايصح بدونه وله كمال واجب وله كمال مستحب.(6/103)
(8) وقال الطحاوي رحمه الله (وأهله في أصله سواء) وهذا مبني على قوله السابق (والإيمان واحد). وهذا كله مذهب المرجئة، ومذهب أهل السنة أن أهل الإيمان يتفاوتون فيما معهم منه تفاوتا كبيراً. فليس إيمان الفاجر كإيمان الرسول صلى الله عليه وسلم، أما عند المرجئة فإيمان الفاجر كإيمان الرسول صلى الله عليه وسلم كإيمان جبريل وميكائيل عليهما السلام.
(9) وقال الطحاوي رحمه الله (ولايطيقون إلا ماكلّفهم) أي لايطيق العباد إلا ماكلفهم به اللهُ تعالى، وهذا غير صحيح فهم يطيقون أكثر ولكن الله خفّف عنهم وأراد بهم اليُسر كما أخبر بذلك سبحانه في غير آيةٍ.(6/104)
فهذه أهم المواضع التي أردت التنبيه على مافيها من أخطاء بمتن العقيدة الطحاوية، أما الشارح (ابن أبي العز الحنفي) فهو بالإضافة إلى عدم تنبيهه علي بعض هذه الأخطاء وتكلُّفِه في تصحيح بعضها، قد أخطأ في مواضع من شرحه، ومنها قوله في تعريف الإيمان (فذهب مالك والشافعي وأحمد والأوزاعي وإسحاق بن راهويه، وسائر أهل الحديث وأهل المدينة رحمهم الله وأهل الظاهر وجماعة من المتكلمين إلى أنه تصديق بالجَنان وإقرار باللسان وعمل بالأركان) (شرح العقيدة الطحاوية) صـ 373، ط المكتب الإسلامي 1403هـ. وهذا الذي ذكره أخطأ فيه من أربعة أوجه: الأول نسبته هذا التعريف للفقهاء الذين ذكرهم ولأهل الحديث، فإن الذي قاله هؤلاء هو أن الإيمان قول وعمل، انظر (شرح اعتقاد أهل السنة) لأبي القاسم اللالكائي 2/832، و(فتح الباري) 1/47. والوجه الثاني: أن التعريف الذي ذكره يُسقط معرفة القلب وعمله وهما من فروض القلب الإيمانية، ولهذا فمن فصَّل من أهل السنة قال إن الإيمان (اعتقاد بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالجوارح) وأراد باعتقاد القلب: معرفته وتصديقه وعمله. وسيأتي مزيد تفصيل في هذا الوجه في نقد كتاب (الإيمان) لمحمد نعيم ياسين في كتب المرتبة الثالثة، فهناك فرق كبير بين قولنا (اعتقاد القلب) وبين الاقتصار على (تصديق القلب). والوجه الثالث: قوله (وعمل بالأركان) وأهل السنة يقولون (وعمل بالجوارح) ليعم كل عمل مشروع سواء كان من الأركان أو الواجبات أو المستحبات، وسواء كان فعلا أو تركا، أما ماذكره الشارح فهو بعض عمل الجوارح. والوجه الرابع: قوله إن أهل الظاهر وافقوا أهل السنة في تعريف الإيمان، فكان ينبغي التنبيه على أنهم وافقوهم في ظاهر العبارة أما حقيقة مذهبهم فهو مذهب المرجئة إذ أخرجوا العمل من أصل الإيمان، وسيأتي بيان هذا عند الكلام في اعتقاد ابن حزم الظاهري في كتب المرتبة الثالثة إن شاء الله تعالى.(6/105)
من أجل هذا فإنني أوصي عند طبع العقيدة الطحاوية أو شرحها أن ينبه على مافيها من مخالفات لاعتقاد أهل السنة خاصة وأنها تروج على أنها عقيدة أهل السنة. وماذكرته من أخطاء بهذا الكتاب ينبه الطالب على أنه لاينبغي أن يتلقى كل مافي الكتب المتداولة على أنه مقطوع بصحته وصوابه فهذه الصفة ليست لكتاب إلا كتاب الله تعالى وماأجمع المسلمون على صحته كالأحاديث التي تلقتها الأمة بالقبول بصحيحي البخاري ومسلم وغيرهما من كتب السنة. ولا يدرك الطالب أخطاء الكتب إلا بتنبيه أهل العلم على هذا أو بكثرة القراءة في كتب أئمة نفس العلم. هذا وبالله تعالى التوفيق.
بعد هذا العرض للكتب، نعود للحديث عن كتب الاعتقاد التي نوصي بدراستها في المرتبة الثانية للدراسة الشرعية. فنقول وبالله التوفيق:
1 ــ يجب أن يبدأ الطالب بدراسة كتب الاعتقاد الموصي بها في المرتبة الأولى، وهى: متن العقيدة الواسطية ــ أو متن لمعة الاعتقاد ــ ورسالة الأصول الثلاثة وأدلتها، ومتن كتاب التوحيد حق الله على العبيد، ورسالة كشف الشبهات في التوحيد، ورسائل الموالاة (السادسة والحادية عشرة والثانية عشرة) بمجموعة التوحيد.
2 ــ ثم يدرس في المرتبة الثانية كتاب (معارج القبول) لحافظ حكمي، وكتاب (أعلام السنة المنشورة) لنفس المؤلف.ويعتبر (معارج القبول) مرجعه الأساسي في هذه المرتبة.
3 ــ ثم يدرس (شرح العقيدة الطحاوية) لابن أبي العز مع مراعاة التنبيهات السابقة، ويضيف مافيه من فوائد زائدة على هامش (معارج القبول).
4 ــ ثم يدرس (شرح العقيدة الواسطية) للشيخ محمد خليل هّراس. وينبغي أن يحرص الطالب على قراءة (مناظرة العقيدة الواسطية) التي أشرت إليها من قبل. وترجع أهمية دراسة هذا الكتاب إلى توضيحه لمذهب أهل السنة في صفات الله عزوجل. وينبغي للطالب أن يضيف مافيه من فوائد وزيادات على هامش كتاب (معارج القبول) مرجعه الأول في هذه المرتبة.(6/106)
5 ــ ثم يدرس الطالب كتاب (فتح المجيد شرح كتاب التوحيد) للشيخ عبدالرحمن بن حسن بن محمد ابن عبدالوهاب 1285هـ. وترجع أهمية دراسة هذا الكتاب إلى بسطِهِ لموضوع التوحيد، خاصة توحيد الألوهية ونواقضه بما يجبر النقص في الكتب السابقة. ومع دراسته يضيف الطالب مافيه من زيادات وفوائد على هامش (معارج القبول)، أو بكراسة مستقلة ــ إذا لم يتسع الهامش ــ يكتب فيها المسألة موضع الزيادة ورقم الصفحة بمعارج القبول ثم يذكر مايضيفه إليها من فائدة أو توضيح من كتب شرح العقيدة الطحاوية وشرح العقيدة الواسطية وفتح المجيد.
وللشيخ عبدالرحمن بن حسن شرحان لكتاب التوحيد لجدّه محمد بن عبدالوهاب 1206هـ، شرح مختصر: وهو (قرة عيون الموحدين)، وشرح مطول: وهو (فتح المجيد). وقد استفاد في الشرحين من كتاب (تيسير العزيز الحميد شرح كتاب التوحيد) لابن عمه سليمان بن عبدالله بن محمد بن عبدالوهاب1233هـ. وهذه الشروح كلها مبنية على كلام ابن تيمية في (مجموع فتاويه) وفي (منهاج السنة النبوية)، وعلى كلام ابن القيم خاصة في (مدارج السالكين)، وعلى كلام غيرهما من علماء السلف كالبغوي وابن كثير رحمة الله عليهم أجمعين.
وأفضل طبعات (فتح المجيد) طبعة دار الفكر بتعليق الشيخ محمد حامد الفقي، وتعليق لآخر، أما الأول فقد أضاف في تعليقه الزيادات التي ذكرها المؤلف في (قرة عيون الموحدين)، وأما الآخر فقد استدرك على الأول بعض الأخطاء وأضاف بعض التنبيهات.
وتوجد طبعة (لفتح المجيد) بتخريج أحاديثه لعبدالقادر الأرناؤط، طبع مكتبة دار البيان، ولكن يعيبها خلوّها من التعليقات السابقة، كما يعيبها تداخل المتن والشرح معاً دون الفصل بينهما بخط يميزهما.(6/107)
فهذه أهم كتب الاعتقاد التي يدرسها الطالب في المرتبة الثانية، ويُفضَّل أن يجعل مرجعه إلى كتاب واحد وهو الكتاب الذي يشتمل على مسائل وفوائد أكثر من غيره وهو (معارج القبول) ثم يضيف إلى هوامش هذا الكتاب ــ أو في كراسة مستقلة ــ الزيادات والفوائد التي يجدها بالكتب الأخرى وهى شرح العقيدة الطحاوية وشرح العقيدة الواسطية وفتح المجيد شرح كتاب التوحيد، فيستغنى بذلك عن الرجوع إلى هذه الكتب عند مراجعة الكتاب الأساسي أو عند تدريسه له.
بعد كتب الاعتقاد: بقي أن نوصي ببعض الكتب في الفِرَق:
اعلم أن معظم كتب الاعتقاد الجامعة تذكر مختصراً في أقسام الفرق ومقالاتها، ثم إن هناك كتباً مؤلفة في الفِرَق خاصة، وهى نوعان:
1 ــ نوع منها يذكر أقسام الفرق ومقالاتها دون نقدها على التفصيل، وهذه أشهرها ثلاثة كتب يمكن للطالب أن يقرأ أحدها وهى:
(مقالات الإسلاميين) لأبي الحسن الأشعري 324 هـ.
(الَفرق بين الفِرَق) لعبدالقاهر البغدادي 429هـ.
(الملل والنحل) لعبدالكريم الشهرستاني 548 هـ.
وننبه على أنه ليس أحدٌُ من أصحاب هذه الكتب الثلاثة ينقل اعتقاد أهل السنة على الوجه الصحيح، فلا ينبغي اعتبارها مراجع في هذا. وفي هذا يقول ابن تيمية رحمه الله (وكتاب «المقالات» للأشعري أجمع هذه الكتب وأبسطها، وفيه من الأقوال وتحريرها مالا يوجد في غيرها. وقد نقل مذهب أهل السنة والحديث بحسب مافهمه وظنّه قولهم، وذكر أنه يقول بكل مانقله عنهم) (منهاج السنة النبوية) لابن تيمية، تحقيق رشاد سالم، 6/ 303.
2 ــ وهناك كتب تذكر مقالات الفرق وتنقدها ــ وهذه تقرأ في المرتبة الثالثة ــ وأشهرها (الفصل) لابن حزم وكتابات شيخ الإسلام ابن تيمية.
وبالإضافة إلى هذه الكتب نوصي كل طالب بدراسة مفصلة للفِرَق والأديان المنتشرة ببلده، ليحذرها وليحذر غيره منها، وليتزود بما يمكِّنه من مناظرة أتباع هذه الفرق ودعوتهم إلى مذهب أهل السنة.(6/108)
فمن ابتلي باليهود والنصاري فليقرأ:
(الجواب الصحيح لمن بدّل دين المسيح) لابن تيمية.
(هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى) لابن القيم.
(إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان) لابن القيم.
(محاضرات في النصرانية) للشيخ محمد أبي زهرة.
ومن ابتلي بالشيعة فليقرأ:
(الخطوط العريضة التي قام عليها دين الشيعة) لمحب الدين الخطيب، وهو كتيب صغير الحجم كثير الفائدة.
و(مختصر التحفة الإثنى عشرية) والتحفة للشاه عبدالعزيز ابن شاه ولي الله الدهلوي، واختصرها محمود شكري الألوسي. وهو كتاب في مجلد متوسط، وهو جامع يفي هو والكتاب الذي قبله في تعريف المسلم بفساد مذهب الشيعة. أما من أراد التوسع في هذا الموضوع فليقرأ:
سلسلة الشيعة لإحسان إلهي ظهير، وهى: (الشيعة والقرآن) و (الشيعة والسنة) و(الشيعة والتشيع) و (الشيعة وأهل البيت). وكلها كتب متوسطة الحجم.
كتاب (منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدرية) لابن تيمية، وهو كتاب كبير مطبوع في تسعة مجلدات بتحقيق د. محمد رشاد سالم، ومع كبر حجمه لم يستوعب كل مسائل الخلاف مع الشيعة خاصة شذوذهم الفقهي وغيره، وذلك لأن شيخ الإسلام ألّف كتابه هذا للرد على كتاب (منهاج الكرامة في معرفة الإمامة) لابن المطهر الحِليّ الرافضي، فكان موضوع الإمامة وخلافة الخلفاء الراشدين هو الموضوع الأساسي في الكتاب، ويعرف كتاب (منهاج السنة) أيضا باسم كتاب (الرّد على الرافضي) ويشير إليه ابن حجر في (فتح الباري) بهذا الاسم. وقد اختصره الحافظ الذهبي اختصاراً جيداً في مجلد متوسط باسم (المنتقى من منهاج الاعتدال في نقض كلام أهل الرفض والاعتزال) وهذا المختصر لجودته يغني عن الكتاب الأصلي ومن أراد التوسع في مسألة معينة يرجع للأصل.(6/109)
كذلك فقد تعرض شيخ الإسلام لبعض أحكام الرافضة في الفصول الخاصة بحكم من سَبّ أزواج النبي وأصحابه صلى الله عليه وسلم بكتابه (الصارم المسلول على شاتم الرسول) من صـ 565 إلى صـ 587، متابعا في ذلك لما صنعه القاضي عياض في آخر كتابه (الشفا).
واعلم أن الرافضة هم شر الطوائف المنتسبين إلى القبلة كما قال ابن تيمية رحمه الله (مجموع الفتاوى) 28/ 638، ووصفهم بقوله أيضا (فهم أشد ضرراً على الدين وأهله، وأبعد عن شرائع الإسلام من الخوارج الحرورية، ولهذا كانوا أكذب فرق الأمة، فليس في الطوائف المنتسبة إلى القبلة أكثر كذباً ولا أكثر تصديقاً للكذب وتكذيباً للصدق منهم، وسيّما النفاق فيهم أظهر منه في سائر الناس) (مجموع الفتاوى) 28/ 479. وقال ابن تيمية أيضا (فقد عُرف َ من موالاتهم لليهود والنصارى والمشركين ومعاونتهم على قتال المسلمين مايعرفه الخاص والعام، حتى قيل: إنه ما اقتتل يهودي ومسلم، ولا نصراني ومسلم، ولامشرك ومسلم، إلا كان الرافضي مع اليهودي والنصراني والمشرك) (منهاج السنة) 2/ 452، وقد علل ابن تيمية وقوف الرافضة مع الكفار على المسلمين أنهم يرون المسلمين مرتدين وإن كانوا يعاملونهم بالتقية والمرتد شر من الكافر الأصلي ولهذا يعاونون الكفار الأصليين على المسلمين لأنهم مرتدون عندهم، انظر (مجموع الفتاوى) 28/ 478. ومع ذلك فلم يقل أحد بتكفير الرافضة على التعيين وإنما شاع هذا القول في السنوات الأخيرة لأسباب سياسية مع ظهور دولة للشيعة في إيران عام 1399هـ (1979م) فأصيبت دول الخليج النفطية الضعيفة بالرعب وشجعت كل من يكتب ضد الشيعة فتطوع البعض بالقول بكفرهم، وليس هذا قول أهل السنة كما قال ابن تيميةرحمه الله (ومن قال: إن الثنتين وسبعين فرقة كل واحد منهم يكفر كفراً ينقل عن الملة فقد خالف الكتاب والسنة وإجماع الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، بل وإجماع الأئمة الأربعة وغير الأربعة، فليس فيهم من كفَّر كل واحد من(6/110)
الثنتين وسبعين فرقة) (مجموع الفتاوى) 7/ 218. وقال ابن تيمية أيضا ــ في كلامه عن الإسماعيلية (والإمامية الإثنا عشرية خير منهم بكثير، فإن الإمامية مع فرط جهلهم وضلالهم فيهم خلق مسلمون باطناً وظاهراً ليسوا زنادقة منافقين، لكنهم جَهِلوا وضلوا واتبعوا أهواءهم) (منهاج السنة) 2/ 452. واعلم أن الكفر هو الكفر، وما يكفر به الرافضي الشيعي يكفر به السُّني، ألا أن الشيعة اختصوا ــ من دون سائر فرق المسلمين ــ بمقالات مكفرة أصبحت من خصائصهم وأكثر شيوعاً فيهم.
فهذا ما نوصي بدراسته في الاعتقاد في المرتبة الثانية من مراتب الدراسة الشرعية. فإذا أتم الطالب دراسة ماذكرناه في الاعتقاد هنا وفي المرتبة الأولى وأراد التبحُّر في هذا الشأن فعليه بما سنذكره من كتب الاعتقاد في المرتبة الثالثة إن شاء الله تعالى.
وإنني في هذا المقام أحذر تحذيراً شديداً من كثير من الكتب المصنفة في الاعتقاد والتي تشتمل على مخالفات لاعتقاد أهل السنة تخفي على كثير من الطلاب، سواء كان مؤلفوها من المعاصرين أو من الأقدمين، ويدخل في هذا مايدرس في الاعتقاد في المعاهد والجامعات الإسلامية في معظم بلدان المسلمين كالأزهر بمصر ومعاهد بلاد المشرق كالهند وباكستان وأفغانستان والعراق والشام، ومعاهد بلاد المغرب العربي والسودان، ولهذا أوصي طلاب هذه المعاهد وغيرهم بدراسة ماأوصيت به من كتب في الاعتقاد ليتبينوا فساد مايُدرس لهم. قال ابن تيمية رحمه الله (وكثير من الكتب المصنفة في «أصول علوم الدين» وغيرها تجد الرجل المصنف فيها في المسألة العظيمة كمسألة القرآن والرؤية والصفات والمعاد وحدوث العالم وغير ذلك يذكر أقوالا متعددة، والقول الذي جاء به الرسول سلف ل صلى الله عليه وسلم وكان عليه سلف الأمة ليس في تلك الكتب، بل ولا عرفه مصنّفوها ولا شعروا به) (مجموع الفتاوى) جـ 12 صـ 115، وهذه هى حقيقة حال كثير من كتب الاعتقاد المتداولة الآن.(6/111)
فهذا مانوصي به من كتب الاعتقاد والفِرَق في المرتبة الثانية.
رابعا: ما نوصي بدراسته
من كتب الاعتقاد في المرتبة الثالثة
كما سبق وأوصينا لا ينبغي الشروع في دراسة كتب هذه المرتبة إلا بعد الفراغ من دراسة كتب الاعتقاد الموصي بها في المرتبتين الأولى والثانية.
وفي هذه المرتبة ينبغي أن يدرس الطالب معظم ماكتب في الاعتقاد، لأن المرتبة الثالثة هى مرتبة تأهيل الطالب للاجتهاد، وهنا ينبغي ألا يفوته شئ مما كتب في علم ٍ من العلوم ليعرف مواضع الاتفاق والخلاف، وليدرك الحق في مواضع الاختلاف، فهذه صفة المجتهد.
وأقول: إن دراسة كتب الاعتقاد على مذهب أهل السنة تغني عن دراسة كتب الاعتقاد المدونة لبعض الفرق، إذ يذكر السلف أقوال الفرق ويفندونها، وقد ذكرنا طائفة من كتب السلف في الاعتقاد في المرتبتين الأولى والثانية، وهنا نذكر أهم مابقي منها.
وسوف نذكر في هذه المرتبة نوعين من الكتب:
النوع الأول: كتب جامعة لموضوعات الاعتقاد المختلفة، وإذا كنا قد ذكرنا في المرتبة الثانية كتب المتأخرين في هذا النوع، فسوف نذكر هنا ــ إن شاء الله ــ كتب المتقدمين التي يروي مؤلفوها الآثار بأسانيدهم.
النوع الثاني: كتب في موضوعات أو مسائل معينة في الاعتقاد، وهى تبحث بعض الموضوعات المهمة بالتفصيل كموضوع الأسماء والصفات، وموضوع الإيمان وغيرهما.
وإليك تفصيل ذلك:
النوع الأول: كتب المتقدمين الجامعة لموضوعات الاعتقاد:
وهي تختلف في درجة استيعابها لهذه الموضوعات كما سبق بيانه. وترجع أهمية دراستها إلى التمييز بين منهجي المتقدمين والمتأخرين في الكتابة في الاعتقاد، فتتميز كتب المتقدمين بذكر الآثار المسندة في حين تتميز كتب المتأخرين بالجمع وحُسن التقسيم. ودراسة كلا النوعين من الكتب تعين على استيعاب موضوعات هذا العلم.
وكتب المتقدمين الجامعة كثيرة وسنوصي بدراسة بعضها الذي يغني عن بقيتها، وهذا البعض هو حسب وفيات المصنّفين كالتالي:(6/112)
1 ــ كتاب (السنة) لأبي بكر الخلال 311 هـ. ط دار الراية.
2 ــ كتاب (الشريعة) لأبي بكر الآجرّي 360 هـ، ط أنصار السنة.
3 ــ كتاب (الإبانة عن شريعة الفرق الناجية) لأبي عبدالله بن بطة 387 هـ، ط دار الراية.
4 ــ كتاب (شرح أصول اعتقاد أهل السنة) لأبي القاسم اللالكائي 418 هـ، ط دار طيبة.
5 ــ كتاب (الحجة في بيان المحّجة وشرح عقيدة أهل السنة) لأبي القاسم إسماعيل التيمي الأصبهاني، 535 هـ، ط دار الراية.
وكل هذه الكتب مطبوعة ومحققة، ودراستها كلها ليست صعبة ففيها قدر كبير مشترك ومكرر، وقد أثنى عليها شيخ الإسلام ابن تيمية فقال رحمه الله (وأما أبو عبدالله بن بطة فطريقته طريقة المحدِّثين المحضة، كأبي بكر الآجري في «الشريعة»، واللالكائي في «السنن»، والخلاّل مثله قريب منه، وإلى طريقته يميل الشيخ أبو محمد ومتأخرو المحدِّثين) (مجموع الفتاوى) جـ 6 صـ 52 ــ 53، والشيخ أبو محمد هو موفق الدين بن قدامة صاحب (المغني)، هكذا يكنيه ابن تيمية.
وهذه الكتب الخمسة التي أوصيت بدراستها تغنيك عن غيرها مثل: (السنة) لابن أبي عاصم 287هـ، و(السنة) لعبدالله بن أحمد بن حنبل 290هـ، و(السنة) لمحمد بن نصر المروزي 294هـ، و(التوحيد) لابن خزيمة 311هـ، و(الإبانة) لأبي الحسن الأشعري 324 هـ، ونحوها. إلا أنه يوجد بآخركتاب (التوحيد) لابن خزيمة بحث جيد في الإيمان رد فيه شبهات المرجئة والمعتزلة والخوارج، وقد نقله عنه حافظ حكمي في (معارج القبول) 2/424 ــ 436. هذا والله تعالى أعلم.
5 ــ المجلدات من الأول إلى الثامن، والمجلد الثاني عشر من مجموع فتاوي ابن تيمية، وهى الحاوية لموضوعات الاعتقاد، ولكن كتابات شيخ الإسلام يعيبها التكرار وعدم التقسيم الجيد.
6 ــ أما القصيدة النونية لابن القيم رحمه الله وشروحها كشرح الشيخ محمد خليل هراس، ففيها تلخيص لاعتقاد أهل السنة والرد على الفرق المخالفة.(6/113)
فهذه أهم كتب الأقدمين الجامعة في اعتقاد أهل السنة، وبدراستها تتكون لدى الطالب مَلَكة النقد العلمي، ويستطيع بعد ذلك إذا قرأ أي كتاب في الاعتقاد للقدامي أو المعاصرين أن يحكم عليه:هل مافيه موافق لاعتقاد أهل السنة أم لا؟ وما المخالفات التي به؟.
النوع الثاني: كتب في موضوعات معينة في الاعتقاد:
والموضوعات التي سنذكرها هنا إن شاء الله هى: الأسماء والصفات، والتوسل، وحقوق النبي صلى الله عليه وسلم، والفتن وأشراط الساعة، والقدر، والجن، والموالاة والمعاداة، والإيمان والكفر.
أما موضوع الفِرَق فقد ذكرنا أهم كتبه في المرتبة الثانية، والتوسع فيه هنا أن يقرأ الطالب كتاب (الفصل في الملل والأهواء والنحل) لابن حزم، وسيأتي ذكر هذا الكتاب عند الكلام في موضوع الإيمان إن شاء الله.
1 ــ موضوع أسماء الله تعالى وصفاته
وهو متعلق بتوحيد الربوبية. وبعد دراسته بالكتب الجامعة في المرتبة الثانية والثالثة، نوصي بدراسة الكتب التالية:
أ ــ شرح كتاب التوحيد بصحيح البخاري، للدكتور عبدالله بن محمد الغنيمان، في مجلدين ط مكتبة الدار 1405هـ، وهذا شرح سلفي سدّ به مؤلفه الثلمة التي أحدثها الحافظ ابن حجر بشرحه لنفس الكتاب وفق معتقد الأشاعرة في الأسماء والصفات بفتح الباري. ويوجد مبحث آخر في (الأسماء الحسنى) في (فتح الباري) 11/ 214 ــ 228، عند شرحه لباب (لله مائة اسم غير واحدة) بآخر كتاب الدعوات بالبخاري.
ب ــ كتاب (التوحيد واثبات صفات الرب) للإمام محمد بن إسحاق بن خزيمة 311 هـ، مطبوع بتحقيق الشيخ محمد خليل هراس.
جـ ــ (الرسالة التدمرية) لابن تيمية، وهى موجودة بالمجلد الثالث من مجموع فتاويه صـ 1 ــ 128.
د ــ (الفتوى الحموية الكبرى) لابن تيمية، وهى موجودة بالمجلد الخامس من مجموع فتاويه صـ 5 ــ 121.
هـ ــ (الرسالة المدنية) لابن تيمية، وهى موجودة بالمجلد السادس من مجموع فتاويه صـ 351 ــ 374.(6/114)
و ــ (مختصر الصواعق المرسلة على الجمهية والمعطلة) لابن القيم، اختصار محمد بن الموصلي.
ز ــ (اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية) لابن القيم وهو في صفة الاستواء أساساً
ح ــ كتاب (بدائع الفوائد) لابن القيم، به مبحث في الأسماء الحسنى، جـ 1 صـ 159 ــ 170 و صـ 189 ــ 194، ط دار الكتاب العربي.
ط ــ كتاب (اثبات العلو للعلي الغفار) للحافظ الذهبي. ط مكتبة العاصمة 1388 هـ.
ي ــ (منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات) لمحمد الأمين الشنقيطي.(6/115)
ولعل من المناسب أن نحذر هنا من كتابات بعض المعاصرين في مسائل الصفات، والتي يحاولون فيها التلفيق بين مذهب السلف ومذاهب المتأخرين الذين يؤولون صفات الله تأويلا يصرفها عن معانيها بغير برهان، بدعوى أن بعض السلف قال بالتأويل. وممن فعل هذا حسن البنا المرشد الأول للإخوان المسلمين في كتابه (العقائد) ــ وتبعه على هذا غيره ــ فقال إن أحمد بن حنبل رحمه الله أَوَّل ثلاث صفات، ولاشك أن البنا نقل هذا عن أبي حامد الغزالي، فقد كان البنا يعتبر كتابه (إحياء علوم الدين) أعظم كتب الإسلام كما نقل هذا عنه محمود عبدالحليم في الجزء الأول من كتابه (جماعة الإخوان المسلمين)، وهذا الكلام موجود بالإحياء جـ 1 صـ 123، وهو نقل باطل عن أحمد، كما قال ابن تيمية رحمه الله (وأبو حامد في الإحياء ذكر قول هؤلاء المتأولين من الفلاسفة وقال إنهم أسرفوا في التأويل، وأسرفت الحنابلة في الجمود، وذكر عن أحمد بن حنبل كلاما لم يقله أحمد، فإنه لم يكن يعرف ماقاله أحمد ولا ما قاله غيره من السلف في هذا الباب، ولا ماجاء به القرآن والحديث) (مجموع الفتاوي) 17/362، وقال ابن تيمية أيضا (وأما ماحكاه أبو حامد الغزالي عن بعض الحنبلية: أن أحمد لم يتأول إلا ثلاثة أشياء: «الحجر الأسود يمين الله في الأرض»، و«قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن»، «وإني أجد نَفَسَ الرحمن من قبل اليَمَن». فهذه الحكاية كذب على أحمد، لم ينقلها أحد عنه بإسناد، ولايُعرف أحد من أصحابه نقل ذلك عنه، وهذا الحنبلي الذي ذكر عنه أبو حامد مجهول لايُعرف) (مجموع الفتاوي) 5/ 398. أما معانى هذه الأحاديث فذكرها ابن تيمية في (مجموع الفتاوي) 6/ 397 ــ 401. والمقصود بيان أن تأويل الصفات بطريقة الخلف لم يقل به أحد من السلف، فلا يجوز الاحتجاج بذلك من أجل تمرير مذهب الخلف أو الاعتذار عنه.
2 ــ موضوع التوسّل:(6/116)
وهو متعلق بتوحيد الألوهية، ويقرأ فيه: (قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة) لابن تيمية، وهو ضمن مجلدات الاعتقاد من مجموع الفتاوى جـ 1 صـ 142 ــ 368.
3 ــ موضوع حقوق النبي صلى الله عليه وسلم
هذا الموضوع متعلق بشهادة (أن محمداً رسول الله) والتي تعني تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم ومتابعته فيما جاء به عن ربه وماشرعه استقلالا. وللرسول صلى الله عليه وسلم حقوق على كل مسلم هى مقتضى شهادته بأن محمداً رسول الله. وينبغي لكل مسلم أن يعرف هذه الحقوق ليقوم بها.
ولايخلو كتاب من كتب الاعتقاد الجامعة من بيان هذه الحقوق، فهى بكتاب (الشريعة) للآجري في صـ 402 ــ 499، ط أنصار السنة، وهى بكتاب (معارج القبول) لحافظ حكمي في جـ 2 صـ 445 ــ 520، ط السلفية. إلا أن أجمع كتاب في هذا الموضوع هو كتاب (الشفا بتعريف حقوق المصطفى صلى الله عليه وسلم) للقاضي عياض بن موسى اليحصبي 544 هـ. وهو من فقهاء المالكية، والقاضي عياض أشعري في الاعتقاد وسوف نذكر ذلك في موضوع الإيمان إن شاء الله.
وكتابه (الشفا) مقسم لأربعة أقسام، قسم في تعظيم الله لقدر النبي صلى الله عليه وسلم، وقسم فيما يجب على الأنام من حقوقه صلى الله عليه وسلم، وقسم فيما يجب للنبي صلى الله عليه وسلم ومايستحيل في حقه أو يجوز عليه من الأحوال البشرية، وقسم في حكم من تنقّصه أو سبَّه صلى الله عليه وسلم.
وكتاب (الشفا) له عدة طبعات متداولة، اطلعت عليها كلها، وأفضلها طبعة عيسى الحلبي بمصر، مطبوع في مجلدين، بتحقيق وتعليق علي محمد البجاوي، وتمتاز هذه الطبعة بفصل المتن عن التعليق، وباعتماد المحقق في الشرح على (نسيم الرياض شرح الشفا) لشهاب الدين الخفاجي 1069هـ، وأحيانا ينقل عن شرح الملا علي القاري 1014هـ، وباعتماده في التخريج على (مناهل الصفا في تخريج أحاديث الشفا) للسيوطي، على قصورٍ في تخريجه.(6/117)
وللكتاب طبعتان أخريان صادرتان عن دار الكتب العلمية، إحداهما في مجلدين وهى (شرح الملا علي القاري للشفا) ويعيبها تداخل المتن والشرح، والثانية: شرح مختصر للشمني في مجلد. وطبعة الحلبي أفضل.
وسوف يأتي إن شاء الله ذكر كتب أخرى في خصائص النبي صلى الله عليه وسلم في المبحث العاشر الخاص بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم.
4 ــ موضوع الفتن وأشراط الساعة:
وهو متعلق بالإيمان باليوم الآخر، وهو الركن الخامس من أركان الإيمان، ويُقرأ فيه.
أ ــ كتاب (الفتن) بصحيح البخاري، وشرحه في (فتح الباري) أول المجلد الثالث عشر.
ب ــ كتاب (النهاية أو الفتن والملاحم) لابن كثير، مطبوع في مجلدين بتعليق الشيخ إسماعيل الأنصاري.
جـ ــ كتاب (مختصر تذكرة القرطبي) للشعراني، وهو كتاب جيد ولكنه بحاجة إلى تخريج أحاديثه. وكتاب (التذكرة) للقرطبي، وهو الأصل مطبوع أيضا.
د ــ كتاب (الإذاعة لما كان ويكون بين يدي الساعة) لصديق حسن خان صاحب (الروضة الندية).
فهذه كتب أربعة، من أراد الاقتصاد فليقرأ شرح كتاب الفتن بالبخاري ومختصر تذكرة القرطبي، ومن أراد التوسع فليقرأها جميعا.
5 ــ موضوع القدر:
وهو الركن السادس من أركان الإيمان، ودراسته على الاستيعاب تكون على النحو التالي:
أ ــ يقرأ الطالب موضوع القدر من (معارج القبول) لحافظ حكمي لمعرفة مسائله الأساسية، ولأن حافظ حكمي رحمه الله قد اختصر في كتابه أهم ماورد (بشفاء العليل) لابن القيم واتبع طريقة ابن القيم في تقسيم الموضوع.
ب ــ ثم يقرأ كتاب (شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل) لابن القيم، وهو مجلد كبير. ويمتاز بحسن التقسيم وجودة الترتيب بخلاف طريقة ابن تيمية في الكتابة.
جـ ــ ثم يقرأ المجلد الثامن من مجموع فتاوي ابن تيمية، وهو المجلد الخاص بالقدر، ويلحق مابه من زيادات على هوامش (شفاء العليل)، ومعظمها زيادات متعلقة بأقوال الفرق واختلافها في مسائل القدر المختلفة.(6/118)
6 ـ موضوع الجن:
مايتعلق بوجودهم وأقسامهم وأحكامهم وتكليفهم بالشرائع ومصيرهم يوم القيامة وغير ذلك، يقرأ في هذا الموضوع مايلي:
أ ــ صَدْر المجلد التاسع عشر بمجموع فتاوي ابن تيمية، وهو يتضمن رسالته (ايضاح الدلالة في عموم الرسالة). (مجموع الفتاوي) جـ 19 صـ 9 ــ 65.
ب ــ كتاب (الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان) لابن تيمية، ذكر فيه بعض أخبار الجن، وهو مطبوع بمفرده، وموجود بالمجلد 11 صـ 156 ــ 310.
جـ ــ بعض مسائل في نفس الموضوع (بمجموع فتاوي ابن تيمية) 13/ 77 ــ 95.
د ــ باب (ذكر الجن وثوابهم وعقابهم) بكتاب بدء الخلق بصحيح البخاري، وشرحه بفتح الباري) 6/ 343 ــ 346.
هـ ــ الطبقة الثامنة عشرة من طبقات المكلفين التي ذكرها ابن القيم في آخر كتابه (طريق الهجرتين)، وقد خصص هذه الطبقة للجن وأحكامهم. (طريق الهجرتين) صـ 414 ــ 427.
و ــ الفصل الخاص بأحكام الجن من كتاب (الأشباه والنظائر) للسيوطي، صـ 435 ــ 444، ط دار الكتاب العربي 1407هـ.
ز ــ كتاب (آكام المرجان في غرائب الأخبار وأحكام الجان) للشبلي، وهو القاضي بدر الدين أبو عبدالله محمد بن عبدالله الشبلي الحنفي 769هـ، مطبوع في جزء متوسط بتعليق عبدالله محمد الصديق، وعن كتاب الشبلي نقل السيوطي في كتابه (الأشباه والنظائر).
7 ـ موضوع الموالاة والمعاداة:
أشرنا إلى أهمية هذا الموضوع عند الكلام في كتب الاعتقاد في المرتبة الأولى، وتعتبر كتابات علماء الدعوة النجدية هى الأساس في هذا الموضوع، وهم شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب وأتباعه، فقد كانت لهم فضيلة السبق في جمع ماورد في هذا الموضوع من الكتاب والسنة ومن التفاسير والشروح الحديثية، بحيث صار هذا الموضوع متميزاً.(6/119)
وقد كان هذا الموضوع ركناً أساسيا من أركان دعوتهم، لَمَّا كان الجهاد في سبيل الله من أسس هذه الدعوة، والجهاد لابد أن يسبقه تميز ومفاصلة بين الناس ليؤتى ثمرته، ولايتم هذا إلا بالموالاة والمعاداة، فبالموالاة تقوى شوكة المؤمنين باجتماعهم وتناصرهم في سبيل الله، وبالمعاداة والبراءة من الكافرين تضعف شوكتهم ويفتضح باطلهم وتشتد عزيمة المؤمنين لقتالهم.
وقد لاقي الرعيل الأول من أصحاب هذه الدعوة صنوفاً من العداوة من أصحاب السلطان ومن شايعهم من علماء السوء، وهؤلاء هم أعداء الحق في كل زمان ومكان، كما قال عبدالله بن المبارك رحمه الله.
وهل أفسد الدين إلا الملوك .. وأحبار سوءٍ ورهبانها
حتى شاع بين الناس وصف أصحاب هذه الدعوة بأنهم خوارج يدعون إلى تكفير المسلمين وقتالهم، وهى نفس التهمة التي يُرمى بها دعاة الحق ودعاة الجهاد في كل زمان ومكان، خاصة في عصرنا الحاضر. حتى أن ابن عابدين قد ذكر في باب الخوارج من (حاشيته) ــ التي هى عمدة متأخري الأحناف ــ ذكر من أصناف الخوارج أتباع محمد بن عبدالوهاب في نجد، وقال فيهم قولا شديداً (حاشية ابن عابدين) 3/309. وأنصح الطالب بقراءة كتاب (دعاوي المناوئين لدعوة الشيخ محمد بن عبدالوهّاب) لعبدالعزيز العبد اللطيف ــ ط دار طيبة، فقد لخّص في كتابه هذا أصناف الذين حاربوا هذه الدعوة ومقالاتهم والردود عليها. كما يُقرأ في نفس الموضوع: كتاب الرسائل الشخصية للشيخ محمد بن عبدالوهاب، وهو القسم الخامس من (مؤلفات الشيخ الإمام محمد بن عبدالوهاب) ط جامعة الإمام محمد بن سعود.
أما موضوع الموالاة والمعاداة، فأصل كتبه الرسائل الثلاث التي ذكرناها في المرتبة الأولى وهى الرسائل السادسة والحادية عشرة والثانية عشرة من (مجموعة التوحيد)، وهى:
(رسالة أوثق عرى الإيمان) للشيخ محمد بن عبدالوهاب 1206هـ.
و(رسالة حكم موالاة أهل الإشراك) للشيخ سليمان بن عبدالله بن محمد بن عبدالوهاب 1233هـ.(6/120)
و(رسالة بيان النجاة والفكاك من موالاة المرتدين وأهل الإشراك) للشيخ حمد بن عتيق 1301هـ.
هذه الرسائل هى الأصل لِمَا كُتب بعدها في نفس الموضوع، بالإضافة لفتاوى متناثرة في نفس الموضوع لعلماء هذه الدعوة تجدها بالجزء السابع من (الدرر السنية في الأجوبة النجدية ــ وهو كتاب الجهاد) جمع عبدالرحمن بن قاسم.
ولو بُعث مؤلفو هذه الرسائل من قبورهم اليوم لتبرأوا من كثيرين ممن ينتسبون إليهم من أهل العلم وغيرهم.
ومن كتب المعاصرين في نفس الموضوع ما يلي:
أ ــ كتاب (تحفة الإخوان في الموالاة والمعاداة والهجران) للشيخ حمود التويجري، ط مؤسسة النور بالرياض، 1383 هـ.
ب ــ كتاب (الولاء والبراء في الإسلام) لمحمد سعيد القحطاني، ط دار طيبة.
جـ ــ كتاب (الموالاة والمعاداة) لمحماس الجلعود، وهو كتاب كبير في مجلدين، وبه استطرادات كثيرة.
هذا، وقد اشتملت معظم هذه الكتابات على أخطاء خاصة في حكم موالاة المسلم للكافر، فذكروا أنها قد تكون كفراً أو كبيرة، وهذا خطأ يأتي التنبيه عليه في آخر المبحث إن شاء الله، عند نقدي لكتاب (الرسالة الليمانية في الموالاة).
8 ـ موضوع الإيمان والكفر:
موضوع الإيمان والكفر هو أهم موضوعات الاعتقاد إذ هو ثمرة البحث فيها وهو التطبيق العملي لها. وقد أخّرناه في البحث لأهميته. ونحن وإن كان مقصدنا الأساسي هنا هو ذكر مراجع الموضوع من الكتب المتيسرة، إلا أننا سنقدم لذلك ببعض المسائل الهامة التي تعين الطالب على فهم الموضوع من الكتب التي سنوصي بدراستها إن شاء الله. وعلى هذا سنتكلم في أربع مسائل وهى: أهمية الموضوع، ثم مسائل موضوع الإيمان، ثم ضوابط التكفير، ثم أهم مراجع الموضوع.
المسألة الأولى: أهمية موضوع الإيمان والكفر(6/121)
لا نكون مغالين إذا قلنا إن موضوع الإيمان والكفر هو أهم موضوعات الديانة كلها، لكثرة الأحكام المترتبة عليه في الدنيا والآخرة، قال تعالى (أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم، ساء مايحكمون) الجاثية 21.
أما في الآخرة: فإن مصائر الخلق إلى الجنة أو النار متوقفة على الإيمان والكفر.
وأما في الدنيا: فالأحكام المترتبة على ذلك كثيرة، منها:
(1) في أمور السياسة الشرعية: أي مايتعلق بأحوال الحكام وأنظمة الحكم في بلدٍ ما، فإن أحكام الإيمان والكفر المتعلقة بذلك في غاية الأهمية لما لها من آثار على عموم المسلمين لاعلى بعضهم، فإن الله تعالى قد أوجب على المسلمين طاعة الحاكم المسلم ونصرته، كما حرّم عليهم طاعة الحاكم الكافر أو معاونته، وأوجب عليهم خلع الحاكم إذا كفر، ولذلك فقد قال العلماء إنه يجب على كل مسلم معرفة حال الحاكم، انظر (المستصفى) لأبي حامد الغزالي، جـ 2 صـ 390. ويبين هذه الأهمية أن البلاد المحكومة بقوانين وضعية ــ كما هو الحال في شتى بلدان المسلمين اليوم ــ لها أحكام خطيرة يجب أن يعلمها كل مسلم ليهلك من هلك عن بينة ويحيىَ من حيَّ عن بينة، ومن هذه الأحكام:
أ ــ أن حكام هذه البلاد كفار كفراً أكبر خارجون من ملة الإسلام.
ب ــ أن قضاة هذه البلاد كفار كفراً أكبر، وهذا يعني تحريم العمل بهذه المهنة.
ودليل كفر هؤلاء الحكام والقضاة هو قوله تعالى (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) المائدة 44، وستأتي إشارة لهذا الموضوع عند الكلام في أخطاء التكفير في آخر هذا المبحث، وكذلك في الموضوع الرابع من المبحث الثامن من هذا الفصل وهو الموضوع الخاص بالحكم بغير ماأنزل الله ففيه إشارة موجزة في الرد على بعض الشبهات الواردة على الاستدلال بهذه الآية إن شاء الله، فراجعها هناك.(6/122)
جـ ــ أنه لايجوز التحاكم لمحاكم هذه البلاد، ولا العمل بها، ومن تحاكم إلى قوانينهم راضياً بها فهو كافر أيضا.
د ــ أن أعضاء الهيئات التشريعية بهذه البلاد ــ كالبرلمان ومجلس الأمة ونحوه ــ كفار كفراً أكبر ــ لأنهم هم الذين يجيزون العمل بهذه القوانين الكافرة وهم الذين يشرعون مايستجد منها.
هـ ــ أن الذين ينتخبون أعضاء هذه البرلمانات هم كفار كفراً أكبر، لأنهم بانتخابهم هذا إنما يتخذونهم أربابا مشرعين من دون الله، فالعبرة بالمسمى. ويكفر أيضا كل من دعا إلى هذه الانتخابات أو شجع الناس على المشاركة فيها.
ودليل كفر نواب البرلمانات هو قوله تعالى (أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين مالم يأذن به الله) الشورى 21، وقوله تعالى (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله) التوبة 31، ولم يختلف المفسرون في أن هذه الربوبية كانت في التشريع من دون الله. فنواب البرلمانات هم أرباب ينازعون الله حق التشريع، والذين ينتخبونهم يتخذونهم أربابا من دون الله. وقد سبق الكلام في هذه المسألة في أول الباب الرابع من هذا الكتاب في موضوع النية عند الرد على فتوى الشيخ ابن باز، وسيأتي في الموضوع الأول الخاص بالسياسة الشرعية في المبحث الثامن مزيد تفصيل في هذه المسألة إن شاء الله تعالى.
و ــ أنه تحرم مبايعة هؤلاء الحكام على تقلد الحكم بهذه البلاد أو على الاستمرار فيه كما يجري في الاستفتاءات الخاصة بذلك، لما في هذه المبايعة من إرادة دوام الكفر، ومن أراد ذلك كفر، انظر (الفروق) للقرافي، 4/118.(6/123)
ز ــ أن الجنود المدافعين عن هذه الأوضاع الكافرة هم كفار كفراً أكبر، لأنهم إنما يقاتلون في سبيل الطاغوت، وقال تعالى (والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت) النساء 76، والطاغوت الذي يقاتلون في سبيله هنا هو طاغوت الحكم المتمثل في الدساتير والقوانين الوضعية والحكام الذين يحكمون بها، قال تعالى (يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت) النساء 60، فكل ماتحوكم إليه من دون الله فهو طاغوت. ويدخل في هذا الحكم كل من يدافع عن هذه الأنظمة الكفرية بالقتال دونها كالجنود، أو يدافع عنها بالقول كبعض الصحافيين والإعلاميين والمشايخ. ولهذا فإنه تحرم الخدمة في جيوش هذه الدول الكافرة. وستأتي إشارة إلى حكم هذه المسألة في آخر هذا المبحث إن شاء الله في نقدنا لكتاب (الرسالة الليمانية في الموالاة).
ح ــ أنه لاطاعة لحكام هذه الدول على مسلم، ولايجب عليه الالتزام بقوانينها، بل هو في حلٍ من مخالفتها كيفما شاء بشرطين: ألا يفعل مالايجوز له شرعا، وألا يؤذي مسلماً أو يظلمه.
ط ــ أن البلد المحكومة بقوانين كافرة دار كفر، فإن كانت تحكم من قبل بالشريعة ثم طرأت عليها قوانين الكفار ومازال يسكنها المسلمون، فهى دار كفر طارئ، وستأتي إشارة لأحكام الديار بآخر هذا المبحث إن شاء الله.
هذا ولست هنا بصدد التفصيل في هذه المسألة، وإنما أردت أن أبيّن أهمية معرفة أحكام الإيمان والكفر لكل مسلم، وذكرت هنا مايتعلق منها بالسياسة الشرعية.
ثم نتابع الكلام عن الأحكام الدنيوية المترتبة على موضوع الإيمان والكفر.(6/124)
(2) من أحكام الولاية: بطلان ولاية الكافر على المسلم في صور كثيرة: فلا يجوز أن يكون الكافر واليا أو حاكما أو قاضيا للمسلمين، وصلاته باطلة فلا يكون إماما للصلاة ومن صلى خلفه مع علمه بحاله فصلاته باطلة، ولا يكون الكافر ولياً لمسلمة في النكاح ولايكون مَحْرَماً لها وإن كان ذا قرابة محرمة على التأبيد، ولايلي الكافر مال مسلم فلا يكون وصياً عليه، ولايُمكّن الكافر من التقاط اللقيط في دار الإسلام، إلى غير ذلك من صور الولاية المختلفة.
(3) ومن أحكام النكاح: فإن الكافر ومنه المرتد كتارك الصلاة وسابّ الدين: يحرم نكاحه من مسلمة، ولايكون وليا لها في النكاح، وإذا نكح وهو مسلم ثم ارتد فسد نكاحه فإن استمر في معاشرة زوجته فهذا زنا. وإذا طبقت هذا على الواقع وجدت أن كثيراً من الأنكحة باطلة وفاسدة لاتترتب عليها آثارها لارتداد الزوج أو الزوجة قبل النكاح أو بعده، فالأمر خطير.
(4) ومن أحكام التوارث: اختلاف الدين مانع من التوارث، وقد خالف ابن تيمية وتبعه ابن القيم في هذا، فأجازوا تورث المسلم من قريبه الكافر، كما ذكره ابن القيم وأسهب في الانتصار له في كتابه (أحكام أهل الذمة) جـ 2 صـ 462 ومابعدها، ط دار العلم للملايين، ط 1983، وقولهما خطأ ومردود لمخالفته للنصوص الصحيحة الصريحة السالمة من المُعَارِض، وقد احتجَّا بأقوال لبعض الصحابة ولا قول لأحد ٍ مع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم.(6/125)
(5) ومن أحكام العصمة: أن عصمة الدم والمال لاتكون إلا بإيمان أو أمان، أما الإيمان فالمقصود به الإسلام الحكمي الظاهر، وأما الأمان فنوعان: مؤقت وهو للمستأمن الذي يسمح له بدخول دار الإسلام لا ليقيم بها إقامة دائمة، وأمان مؤبد وهو للذمي المقيم إقامة دائمة بدار الإسلام بشرط التزامه بشروط عقد الذمة. والأمان بنوعيه لايكون إلا للكافر الأصلي، أما المرتد فلا أمان له. ومن لا أمان له من كافر أصلي أو مرتد فهو مهدر الدم والمال. وأنت إذا قتلت شخصا مجهول الديانة عمداً ثم تُيُقِّن أنه كافر غير معصوم أو مرتد، فلا قصاص عليك ولادية هذا في الحكم القضائي أما الإثم الدياني ففيه خلاف بسبب العمد مع الجهل بالحال وهو يحتمل الإسلام، وإن قتلت هذا خطأ فلا دية عليك ولا كفارة.
(6) ومن أحكام الجنائز: أن الكافر أو المرتد لايُغَسَّل ولايُصلى عليه ولايُدفن مع المسلمين، ولايجوز لمسلم أن يقوم على قبره عند مواراته أو أن يستغفر له وإن جاز اتباع جنازته. وهذا من تمام البراءة من الكافرين في محياهم ومماتهم. قال تعالى (ولاتُصلِّ على أحدٍ منهم مات أبداً ولاتقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله) التوبة 84، وقال تعالى (ماكان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولى قربى) التوبة 113.
(7) أحكام الولاء والبراء: فتجب موالاة المؤمن بقدر إيمانه، وتحرم موالاة الكافر وتجب البراءة منه ويجب أن يبغضه المؤمن في الله ويظهر له العداوة ماأمكنه ذلك، ولايعينه على شئ يضر المسلمين بل يجب التضييق على الكافر مع عدم ظلمه إن كان مُعاهداً أو ذمياً.
(8) أحكام الهجرة: مبناها على الإيمان والكفر، فيجب على المؤمن الهجرة من بين الكافرين ماأمكنه ذلك لينجو بدينه من فتنتهم وحتى لايكثّر سوادهم ولايعينهم على مسلم.
(9) أحكام الجهاد: ومايترتب عليه من معاملة الأسرى والغنائم والفيء والجزية والخراج، كل هذا مبني على الإيمان والكفر.(6/126)
(10) أحكام الديار: مبنية على الإيمان والكفر، فلا يجوز للمسلم أن يذهب إلى دار الكفر إلا لحاجة ولايقيم بها إلا لضرورة، كما لايجوز أن يدخل الكافر دار الإسلام إلا بعهد ولايقيم بها إلا بجزية. وهناك أماكن لايجوزللكافر أن يقيم بها وهى جزيرة العرب، وهناك أماكن لايجوز لهم دخولها وهوالحرم.
(11) ومن أحكام القضاء: أنه لاتقبل شهادة الكافر على المسلم في الأصل، هذا فضلا عن أنه يحرم أن يكون الكافر قاضيا يحكم على المسلمين كما ذكرناه في أحكام الولاية.(6/127)
ونحن إذا ذهبنا نتتبع هذه الأحكام المترتبة على الإيمان والكفر في أبواب الفقه المختلفة لأحصينا الشئ الكثير، فآنية الكفار لها أحكام وذبائحهم لها أحكام، والمعاملات المالية من البيع والشراء والإجارة مع الكفار لها أحكام، وهذا باب واسع نكتفي منه بالأمثلة السابقة. فإن الله تعالى جعل خلقه فريقين فقال تعالى (هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن) التغابن 2، ولم يُسَوّ سبحانه بين الفريقين لافي الدنيا ولا في الآخرة فقال جل شأنه (أفنجعل المسلمين كالمجرمين مالكم كيف تحكمون) القلم 35 ــ 36، وقال تعالى (أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لايستوون) السجدة 18، وقال تعالى (لايستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة) الحشر 20. وعلى هذا فالمساواة بين الفريقين هى معاندة لشرع الله وهذا ماتتولى كبره الدساتير الوضعية الجاهلية التي تنص على أن المواطنين أمام القانون سواء، وأنه لايُفرَّق بينهم في الحقوق والواجبات بسبب العقيدة ونحو ذلك. وإهمال هذه الفروق يؤدي إلى فساد عظيم في دين المسلمين ودنياهم، ولايستفيد من ذلك إلا الكافرون، وهذا هو واقع العالم اليوم فساد في دين المسلمين وخراب في دنياهم واستعلاء للكافرين. في حين أن العمل بأحكام الإيمان والكفر يترتب عليه تميُّز الناس إلى فريقين: مؤمن وكافر، وهذا التميز هو مفتاح الجهاد في سبيل الله تعالى ومقدمته، والجهاد فيه حياة الأمة الإسلامية وعزها كما أن فيه قمع الكافرين وإذلالهم. وتميّز الناس أمر محبوب لله تعالى كما قال جل شأنه (ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب) آل عمران 179، وقال تعالى (ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا فيجعله في جهنم، أولئك هم الخاسرون) الأنفال 37، كذلك فإن وسيلة هذا التميز وهي العمل بأحكام الإيمان والكفر والشهادة على الناس أمر محبوب لله تعالى كما قال جل شأنه (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا(6/128)
شهداء على الناس) البقرة 143. والغفلة عن هذا كله من الغفلة عن دين الله وعما يحبه سبحانه ويرضاه، فكيف بمن يصدّ المسلمين عن الكلام في موضوع الإيمان والكفر بدعوى أن السلامة من الزلل في تجنبه؟، وكيف إذا كان يشارك في هذا الصد بعض المنتسبين للدعوة الإسلامية؟، وهل هذا إلا من الجهل بدين الله ومن نقص الإيمان؟، فإن بعض المتصدرين للدعوة الإسلامية ولقيادة الجماعات الإسلامية اليوم هم كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (اتخذ الناس رءوساً جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا) الحديث متفق عليه. وهيهات أن ينصر دين الله أو أن يدعو إليه على بصيرة من لا يميز بين المؤمن والكافر أو من يصدّ عن ذلك.(6/129)
إن التمييز بين المؤمن والكافر ومعاملة كل منهما بما يوجبه الشرع لا يؤثر في مصائر الأفراد فقط بل إن تأثيره في مصائر الأمم والدول أخطر بكثير، فما الذي يحول بين المسلمين وبين الحكم بشريعة الإسلام في بلدانهم؟ إلا حكام كافرون يصفهم أعوانهم من شيوخ الضلالة بأنهم حكام مسلمون، ويدافع عنهم جنود كافرون يحسبون أنفسهم وحكامهم مسلمين. وما الذي أدى إلى هذا الواقع؟ إلا تراكم التجهيل المتعمد والتضليل المنظم عبر عشرات السنين والذي أدى إلى صرف جمهور المسلمين عن التفكير في هذا الأمر ــ أمر الإيمان والكفر وتمييز المؤمن من الكافر ــ بل أدى بهم إلى الجهل المركب بهذا الأمر وهو اعتقادهم فيه بخلاف حقيقته فأصبحوا يرون الحاكم الكافر مسلما تقيا، ويرون المسلم الداعية المجاهد من الخوارج الضالين، فتنحسر الدعوة بذلك ويظل الدعاة غرباء مضطهدين، وهذا هو الواقع في شتى بلدان المسلمين اليوم. ولهذا فليس غريبا أن يقول العلماء إنه يجب على كل مسلم أن يعرف حال حاكمه لما يترتب على ذلك من أحكام كثيرة، انظر (المستصفى) لأبي حامد الغزالي جـ 2 صـ 390. إن الإهمال المتعمد لهذا الأمر ــ أمر تمييز المسلم من الكافر ــ وصرف المسلمين عنه إنما يراد به تجهيل المسلمين بأعدائهم الحقيقيين من الحكام الكافرين داخل بلادهم ومن قوى الكفر الدولية خارج بلادهم، لينصرف المسلمون عن جهاد أعدائهم في الداخل والخارج، ولا حياة لأمة المسلمين ولا عِزّة لهم إلا بالجهاد، فإذا تعطل الجهاد فسد دين المسلمين وخربت دنياهم واستعلى الكافرون في الأرض يعيثون فساداً، وهذا هو الواقع اليوم ومنذ أزمان مضت. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا تبايعتم بالعِينَة وتبعتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلّط الله عليكم ذلاً لاينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم) رواه أحمد وأبو داود بإسناد حسن عن ابن عمر، والعينة صنف من الربا، واتباع أذناب البقر والرضا بالزرع يدلان على(6/130)
الركون إلى الدنيا والذي من لوازمه ترك الجهاد، وهذا كله يفضي إلى الذل الذي لايرتفع إلا بنبذ أسبابه.
وهذا كله في بيان أهمية موضوع الإيمان والكفر، وفي بيان أهمية هذا الموضوع قال ابن تيمية رحمه الله (إذا تبيّن ذلك فاعلم أن «مسائل التكفير والتفسيق» هى مسائل «الأسماء والأحكام» التي يتعلق بها الوعد والوعيد في الدار الآخرة، وتتعلق بها الموالاة والمعاداة والقتل والعصمة وغير ذلك في الدار الدنيا، فإن الله سبحانه أوجب الجنة للمؤمنين، وحرّم الجنة على الكافرين، وهذا من الأحكام الكلية في كل وقتٍ ومكان) (مجموع الفتاوى) جـ 12 صـ 468، وقال ابن تيمية أيضا (فإن الخطأ في اسم الإيمان ليس كالخطأ في اسم محدث، ولا كالخطأ في غيره من الأسماء، إذ كانت أحكام الدنيا والآخرة متعلقة باسم الإيمان والإسلام والكفر والنفاق) (مجموع الفتاوى) جـ 7 صـ 395. وقال أيضا (وليس في القول اسم عُلِّق به السعادة والشقاء والمدح والذم والثواب والعقاب أعظم من اسم الإيمان والكفر، ولهذا سُمي هذا الأصل «مسائل الأسماء والأحكام») (مجموع الفتاوى) 13/ 58. وقال ابن رجب الحنبلي رحمه الله (وهذه المسائل: أعني مسائل الإسلام والإيمان والكفر والنفاق مسائل عظيمة جداً، فإن الله عزوجل علّق بهذه الأسماء السعادة والشقاوة واستحقاق الجنة والنار. والاختلاف في مسمّياتها أول اختلاف وقع في هذه الأمة) (جامع العلوم والحكم) صـ 27. وقال ابن القيم رحمه الله ــ في حديثه عن ورود الشريعة بسد ذرائع الشر والفساد، فذكر من أمثلة ذلك ــ (أن الشروط المضروبة على أهل الذمة تضمّنت تمييزهم عن المسلمين في اللباس والشعور والمراكب وغيرها لئلا تُفْضِي مشابهتهم إلى أن يُعامَل الكافر معاملة المسلم، فَسُدَّت هذه الذريعة بإلزامهم التميّز عن المسلمين) (اعلام الموقعين) جـ 3 صـ 157.(6/131)
وخلاصة هذه المسألة: أن ثمرة هذا الموضوع ــ الكلام في الإيمان والكفر ــ هى تمييز المؤمن من الكافر لمعاملة كل منهما بما يستحقه في شرع الله تعالى، وهذا واجب على كل مسلم. ثم إن من مصلحة الكافر أو المرتد أن يعلم أنه كافر فقد يبادر بالتوبة أو بتجديد إسلامه فيكون هذا خيراً له في الدنيا والآخرة، أما أن نكتم عنه حكمه ولا نخبره بكفره أو ردته بحجة أن الخوض في هذه المسائل غير مأمون العواقب فهذا فضلاً عما فيه من كتمان للحق وهدم لأركان الدين فهو ظلم لهذا الكافر وخداع له بحرمانه من فرصة التوبة إذا عَلِمَ بكفره، فكثير من الكفار هم من (الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً) الكهف 104.
وقد سبق في المرتبة الأولى الخاصة بعلم العامة أن ذكرت أنني لا أطالب العامي بأن يفتي في أحكام الإيمان والكفر، بل لايجوز له ذلك، وإنما يجب أن يكون هذا الموضوع حاضراً في ذهنه في تعاملاته المختلفة ليستفتي فيه عند الحاجة، من باب وجوب العلم قبل القول والعمل.
أما طالب العلم في المرتبة الثالثة مرتبة التخصص وطلب الاجتهاد فينبغي أن يكون اهتمامه بهذا الموضوع فوق ذلك، بأن يدرسه دراسة وافية ليتأهل للإفتاء فيه.
المسألة الثانية: مسائل موضوع الإيمان
اعلم أن فهم موضوعات الكفر والنفاق والفسق مبني علي فهم موضوع الإيمان، إذ إنها نواقض له من وجوه مختلفة، فالكفر ونفاق الاعتقاد يناقضان أصل الإيمان، والفسق ونفاق العمل يناقضان الإيمان الواجب، وقد سبق بيان هذا في أول التنبيه الهام المذكور في تعليقي على العقيدة الطحاوية.
ولفهم موضوع الإيمان ينبغي دراسة مسائله الهامة والتي تختلف كتب الاعتقاد في استيعابها وتفصيلها. ونحن نذكر هذه المسائل هنا ليستكمل الطالب دراستها من الكتب المختلفة. ومسائل الإيمان التي اختلفت فيها الفِرَق هى:
(1) مسألة حقيقة الإيمان، من جهة تعلقه بالقلب واللسان وأعمال الجوارح.(6/132)
(2) مسألة هل الإيمان مركب من شُعَب أم هو شئ واحد؟ والفرق بين أركان الإيمان وشُعَبه؟.
(3) مسألة زيادة الإيمان ونقصانه، وتفاضل أهل الإيمان في إيمانهم، واجتماع الطاعة والمعصية في العبد، واجتماع الإيمان والنفاق فيه.
(4) مسألة مراتب الإيمان وأقسامه، وذلك عند من يقول بأنه مركب فيقسمه إلى أصل وكمال واجب وكمال مستحب، أما من يقول بأنه شئ واحد فلا أقسام له عنده.
(5) مسألة تفاضل شُعب الإيمان فيما بينها عند من يقول بأنه مركب من شُعب.
(6) مسألة أنواع شُعب الإيمان وما منها شرط في أصل الإيمان أو في كماله الواجب أو في كماله المستحب؟. وهذا عند من يقول بأن الإيمان مركب من شُعب.
(7) مسألة أصحاب الكبائر: حكمهم في الدنيا ومصائرهم في الآخرة؟. ويتفرع عن هذه المسألة مصطلحات عديدة منها: الكبائر، والصغائر، والفاسق المِلي، ومطلق الإيمان، والإيمان المطلق، والمنزلة بين المنزلتين، وكفر دون كفر، وشرك دون شرك، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق، ونفاق دون نفاق، وجاهلية دون جاهلية، وجهل دون جهل، وغيرها من المصطلحات.
(8) مسألة الإيمان والإسلام، هل هما شئ واحد أم مختلفان؟.
(9) مسألة الاستثناء في الإيمان، والاستثناء في الإسلام.
(10) مسألة هل الإيمان مخلوق أم غير مخلوق؟.
(11) الفرق في الإيمان والإسلام بين الحكم الظاهر (أو حكم الدنيا أو الحكم الحكمي) وبين الحكم الحقيقي (أو حكم الآخرة أو الحكم الحَدِّي).
هذه أهم مسائل موضوع الإيمان، واعلم أنها متفرعة كلها عن مسألة واحدة هى الأولى هنا، وهى مسألة حقيقة الإيمان، واضرب لك مثالا بمذهب المرجئة في ذلك:
فحقيقة الإيمان عندهم هى التصديق بالقلب (وزادت بعض فرق المرجئة الإقرار باللسان كشرط لإجراء أحكام الدنيا وليس الإقرار داخلا في حقيقة الإيمان عند جمهور المرجئة)، وترتب على هذا الأصل عندهم (وهو أن الإيمان هو التصديق فقط) بقية المسائل التالية:(6/133)
(1) أن الإيمان شئ واحد غير مركب من شُعب، لأن التصديق واحد، إذا زال بعضه زال كله.
(2) أن الإيمان لايزيد ولاينقص، لأن التصديق شئ واحد، ولو نقص لصار شكّاً وهو كفر.
(3) أن أهل الإيمان فيه سواء الفاجر كالتقي كلهم إيمانهم كإيمان النبي صلى الله عليه وسلم بل كإيمان جبريل وميكائيل عليهما السلام، لأن الإيمان شئ واحد. وهذا من قبائحهم.
(4) أن العمل ليس من الإيمان لأن الإيمان تصديق القلب، وإنما العمل ثمرة الإيمان، وإذا سُمِّيَ العملُ إيمانا فعلى سبيل المجاز.
(5) أن الفاجر الفاسق مؤمن كامل الإيمان مادام مصدقاً، وهذا من قبائحهم.
(6) أن أهل الإيمان لايتفاضلون فيه، بل إيمانهم على السواء ــ كما سبق ــ وإنما يتفاضلون في الأعمال وهى ليست من الإيمان.
(7) أنه لايجوز الاستثناء في الإيمان، وهو قول: أنا مؤمن إن شاء الله، لأنه شك، والشكّ في الإيمان الذي هو التصديق كفر. بل يقول أنا مؤمن حقاً أو قطعاً.
(8) أن الكفر هو التكذيب لاغير أو ماهو راجع إلى التكذيب كالجحد والاستحلال، لأن الكفر نقيض الإيمان، والإيمان تصديق القلب فليس الكفر إلا تكذيب القلب، ثم انقسموا فرقاً في شأن من قال أو فعل ماورد النص بكفر فاعله:
* فقال الأشاعرة ومرجئة الفقهاء هو كافر ظاهراً وباطناً ولكن ليس بنفس القول أو الفعل، ولكن لأن القول أو الفعل المكفِّر أمارة على أنه مكذِّبٌُ بقلبه.
* وقالت الجهمية: هو كافر في الظاهر لورود النص بكفره، ويجوز أن يكون مؤمنا في الباطن إذا كان تصديقه مازال قائما. وهؤلاء كفرهم السلف لردهم النص الشرعي الحاكم بكفر قائل الكفر أو فاعله، لأن النص الشرعي الذي هو خبر الله تعالى لايكون إلا على الحقيقة لا الظاهر فقط، وللجهمية قول آخر في هذا مثل قول الأشاعرة ومرجئة الفقهاء.(6/134)
* وقال غلاة المرجئة وهم كثيرون في هذا الزمان ويصنفون الكتب المشحونة بالضلالات: لا يكفر هذا إلا أن يجحد أو يستحل ويصرح بذلك. وهؤلاء كفّرهم السلف لردهم النص الشرعي القاضي بكفر من أتى بالقول أو الفعل المكفِّر. وقد سبق تفصيل هذا في تعليقي على العقيدة الطحاوية.
هذا موجز مذهب المرجئة في الإيمان على اختلاف فرقهم، وكما ترى فإن مذهبهم بمسائله المتعددة مبني على مسألة واحدة وهى حقيقة الإيمان عندهم، وقولهم في حقيقة الإيمان بدعة مذمومة ترتب عليها بدع كثيرة، كما أن من عقوبة السيئة فعل السيئة بعدها، (ظلمات بعضها فوق بعض)، ولهذا فخلافهم مع أهل السنة ليس لفظيا كما ذكرت لك من قبل في تعليقي على العقيدة الطحاوية.
وكذلك الحال عند أهل السنة والمعتزلة والخوارج مذاهبهم في الإيمان مبنية على ماهية حقيقة الإيمان عند كل منهم.
هذا ما يتعلق بمسائل موضوع الإيمان التي ينبغي أن يدرس الطالب أدلة الفرق المختلفة فيها من المراجع التي سنذكرها إن شاء الله.
المسألة الثالثة: ضوابط التكفير
وسوف نذكر في هذه المسألة أربعة مطالب، وهى: مواضع بحث موضوع التكفير، وتعريف الردة، وقاعدة التكفير، والأخطاء الشائعة في هذا الموضوع.
المطلب الأول: مواضع بحث موضوع التكفير.
كلامنا في التكفير هنا سيقتصر على من ثبت له حكم الإسلام من قبل بكونه أسلم بنفسه أو وُلِدَ على الفطرة لأبوين مسلمين، لا الكافر الأصلي، وإن كان الكفر هو الكفر بغض النظر عمن وقع منه، ولكن الكلام في الكافر الأصلي لا إشكال فيه ومحله أبواب الجهاد.
فنقول إن موضوع التكفير (أي الحكم بالكفر على شخص ٍ ما، وهو مايُعرف بمسألة تكفير المُعَيَّن) له شقان، يتم بحثهما في مواضع مختلفة من كتب العلم، وهما:
(1) شق اعتقادي: متعلق بحقيقة الكفر وأنواعه، ومحل بحثه أبواب الإيمان ونواقضه في كتب العقيدة.
(2) وشق قضائي: ويبحث في أمرين:(6/135)
(أ) أحدهما: الأمور المكفرة ــ أي أسباب الكفر ــ وعقوبة الكافر، ومحل بحثها أبواب الردّة والمرتد في كتب الفقه.
(ب) والآخر: اثبات وقوع الأمر المكفِّر ــ أي سبب الكفر ــ من شخصٍ ما، والنظر في خُلُوِّه من موانع الحكم المعتبرة شرعا، وذلك للحكم عليه بالكفر أو لتبرئته. ومحل بحث هذا الأمر أبواب القضاء والدعاوي والبينات في كتب الفقه.
والمقصود هنا التنبيه على أنه لايجوز الإفتاء في مسألة تكفير المعيَّن بالنظر في كتب الاعتقاد وحدها دون النظر في الإجراءات القضائية المتعلقة بذلك. وسيأتي شئ من التفصيل في ذلك عند الكلام عن قاعدة التكفير.
المطلب الثاني: تعريف الردة:
الردة: هى الرجوع عن دين الإسلام إلى الكفر، أو هى قطع الإسلام بالكفر، قال تعالى (ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة. وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) البقرة 217.
والمرتد: هو الذي يكفر بعد إسلامه بقول أو فعل أو اعتقاد أو شك.(6/136)
وتعريفات المذاهب الأربعة وغير الأربعة للردة والمرتد تدور كلها حول هذا المعنى: وذلك لأن الكفر قد يقع بعمل اللسان (وهو القول)، أو بعمل الجوارح (وهو الفعل)، أو بعمل القلب (وهو الاعتقاد أو الشك). انظر (كشاف القناع) للشيخ منصور البهوتي، جـ 6 صـ 167 ــ 168. وقال أبو بكر الحصني الشافعي في (كفاية الأخيار) (الردة في الشرع: الرجوع عن الإسلام إلى الكفر وقطع الإسلام، ويحصل تارة بالقول وتارة بالفعل وتارة بالاعتقاد، وكل واحد من هذه الأنواع الثلاثة فيه مسائل لاتكاد تحصر) (كفاية الأخيار) 2/ 123. وقال الشيخ حمد بن عتيق النجدي رحمه الله 1301هـ، إن علماء السنة والحديث (قالوا إن المرتد هو الذي يكفر بعد إسلامه إما نطقاً وإما فعلاً وإما اعتقاداً، فقرروا أن من قال الكُفر كَفَر وإن لم يعتقده ولم يعمل به إذا لم يكن مكرهاً، وكذلك إذا فَعَل الكفر كَفَر وإن لم يعتقده ولانطق به، وكذلك إذا شرح بالكفر صدره أي فتحه ووسّعه وإن لم ينطق بذلك ولم يعمل به. وهذا معلوم قطعاً من كتبهم ومن له ممارسة في العلم فلابد أن يكون قد بلغ طائفة من ذلك) (الدفاع عن أهل السنة والاتباع) للشيخ حمد بن عتيق، ط دار القرآن الكريم 1400هـ، صـ 30.
فاقتصر بعض العلماء على ثلاثة أسباب للكفر (قول أو فعل أو اعتقاد) وزاد بعضهم (أو شك)، وذلك تمييزاً للشك من الاعتقاد مع أن كلاهما من أعمال القلب، ولكن الاعتقاد هو الأمر المنعقد المستقر، أما الشك فهو مالم ينعقد ولم يستقر لكونه يستوي هو ونقيضه، فمن استقر في قلبه كذب الرسول فهذا كفر اعتقاد، ومن شك في صدق الرسول ويحتمل كذبه عنده فهذا كفر شك، قال تعالى (وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون) التوبة 45.(6/137)
وهنا تنبيه هام: وهو أن ماسبق هو تعريف الردة على الحقيقة، أما في أحكام الدنيا التي تجري على الظاهر فلا يحكم بالردة إلا بقول مكفِّر أو فعل مكفِّر، فالقول والفعل هما مايظهر من الإنسان، أما الاعتقاد والشك ومحلهما القلب فلا مؤاخذة بهما في الدنيا مالم يظهرا في قول أو فعل، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ــ في الحديث الصحيح ــ (إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس) الحديث، وفي الصحيح أيضا أنه صلى الله عليه وسلم قال لأسامة (أفلا شققت عن قلبه) الحديث. فمن كفر بقلبه (باعتقاد أو شك) ولم يظهره في قول أو فعل هو مسلم في حكم الدنيا ولكنه كافر على الحقيقة عند الله وهو المنافق النفاق الأكبر المستسر بكفره، قال ابن القيم (ولم يرتب تلك الأحكام على مجرد مافي النفوس من غير دلالة فعل أو قول) (اعلام الموقعين) 3/ 117، وهذا لاخلاف فيه في أحكام الدنيا التي تجري على الظاهر وفي هذا قال الإمام الطحاوي رحمه الله في اعتقاده ــ في أهل القبلة ــ (ولانشهد عليهم بكفر ولابشرك ولابنفاق، مالم يظهر منهم شيء من ذلك، ونذر سرائرهم إلى الله تعالى) قال الشارح (لأنَّا قد أُمِرنا بالحكم بالظاهر، ونُهينا عن الظن واتباع ماليس لنا به علم) (شرح العقيدة الطحاوية) صـ 427، ط المكتب الإسلامي 1403هـ.
والخلاصة: أن الحكم بالردة ــ في الدنيا ــ لايكون إلا بقول ٍ مُكَفِّر أو فعل ٍ مُكَفِّر.
قال ابن تيمية رحمه الله (فالمرتد: كل من أتى بعد الإسلام من القول أو العمل بما يناقض الإسلام بحيث لايجتمع معه) (الصارم المسلول) صـ 459. وقال ابن تيمية أيضا (وبالجملة فمن قال أو فعل ماهو كفرٌُ كَفَر بذلك، وإن لم يقصد أن يكون كافرا، إذ لايقصد الكفر أحد إلا ماشاء الله) (الصارم المسلول) صـ 177 ــ 178.
(تنبيه) بشأن إمكان وقوع الرِدّة، وسرعة وقوعها:(6/138)
بالغ كثير من المعاصرين في التحذير من تكفير الناس وإن فعلوا ما فعلوا، وقالوا إن هذا مذهب الخوارج، بل قد ذهب البعض إلى نفي إمكان وقوع الردة وأن المسلم المقر بالشهادتين لا يكفر أبدا ويستدل بعضهم بعبارة (لا نكفر مسلماً بذنب).
وهذا من الجهل بدين الإسلام، أما الخوارج فإنهم يكفّرون بالذنوب غير المكفرة، وأما أهل السنة فإنهم يكفّرون بالذنوب المكفرة، وأما عبارة (لا نكفر مسلماً بذنب) سبق بيان معناها في تعليقي على العقيدة الطحاوية.
وقد ارتد أناس في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وبعد وفاته ارتد عامة مَن أسلم مِن العرب إلا أهل مكة والمدينة والبحرين وقاتلهم أبوبكر والصحابة على الردة.(6/139)
قال تعالى (لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم) التوبة 66، وقال تعالى (ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم) التوبة 74 فهؤلاء الذين نزلت فيهم هذه الآيات كفروا بكلمات قالوها في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وقال صلى الله عليه وسلم (بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، أو يُمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا) رواه مسلم. فالعبد قد يكفر بكلمة واحدة يقولها ولو هازلا، ولهذا قال شارح العقيدة الطحاوية (فدين الإسلام هو ما شرعه الله سبحانه وتعالى لعباده على ألسنة رسله، وأصل هذا الدين وفروعه روايته عن الرسل، وهو ظاهر غاية الظهور، يمكن كل مميز ــ من صغير وكبير، وفصيح وأعجم، وذكي وبليد ــ أن يدخل فيه بأقصر زمان، وإنه يقع الخروج منه بأسرع من ذلك) (شرح العقيدة الطحاوية) ط المكتب الإسلامي 1403هـ، صـ 585. فتأمل قوله (يقع الخروج منه بأسرع من ذلك)، ولهذا ذكر العلماء الردة في نواقض الوضوء والأذان والصلاة والصوم وغيرها، أي أن الإنسان قد يتوضأ يريد الصلاة فيأتي مكفراً ــ من قولٍ أو فعل ٍ أو اعتقاد أو شك ــ فيرتد، فإن تاب وجب عليه تجديد وضوءه الذي فسد بالردة، فتأمل سرعة الردة تدرك فساد قول الذين يعتبرونها من الأمور المستبعدة أو المستحيلة.(6/140)
ومن هذا قول ابن قدامة رحمه الله (إن الردة تنقض الوضوء وتبطل التيمم، وهذا قول الأوزاعي وأبي ثور، وهي الاتيان بما يخرج به عن الإسلام إما نطقاً أو اعتقاداً أو شكاً ينقل عن الإسلام، فمتى عاود إسلامه ورجع إلى دين الحق فليس له الصلاة حتى يتوضأ وإن كان متوضئاً قبل ردته) (المغني مع الشرح الكبير) 1/ 168. وقال ابن قدامة أيضا (والردة تبطل الأذان إن وجدت في أثنائه) (المرجع السابق) 1/438. وقال أيضا (لا نعلم بين أهل العلم خلافا في أن من ارتد عن الإسلام في أثناء الصوم أنه يفسد صومه وعليه قضاء ذلك اليوم إذا عاد إلى الإسلام سواء أسلم في أثناء اليوم أو بعد انقضائه) (المرجع السابق) 3/52. وقال ابن قدامة أيضا (إذا قالت امرأتُه طَلِّقني بدينار، فطلَّقها ثم ارتدت لزمها الدينار ووقع الطلاق بائنا، ولا تؤثر الردة لأنها وجدت بعد البينونة، وإن طلقها بعد ردتها وقبل دخوله بها بانت بالردة ولم يقع الطلاق لأنه صادفها بائنا) (المرجع السابق) 8/186. وقال أبو القاسم الخرقي (ولو تزوجها وهما مسلمان فارتدت قبل الدخول انفسخ النكاح ولامهر لها، وإن كان هو المرتد قبلها وقبل الدخول فكذلك إلا أن عليه نصف المهر) وقال أيضا (وإن كانت ردتها بعد الدخول فلا نفقة لها، وإن لم تسلم حتى انقضت عدتها انفسخ نكاحها، ولو كان هو المرتد فلم يعد إلى الإسلام حتى انقضت عدتها انفسخ النكاح منذ اختلف الدينان) (المرجع السابق) 9/ 564 ــ 565.
فهذا غيضٌ من فيضٍ، وهو يبين إمكان وقوع الردة بل سرعة وقوعها، خلافا لما يدعيه البعض، حتى أن المتوضيء ليرتد بين وضوئه وصلاته، وحتى أن المؤذن ليرتد وهو ينادي بالصلاة بلفظ مكفِّر يتكلم به أو باعتقاد مكفر ينعقد قلبه عليه أو غير ذلك من المكفرات. فتأمّل هذا تدرك الجهل الفاضح الذي عليه كثيرٌ من المعاصرين.(6/141)
قال الشيخ محمد حامد الفقي (حتى أن كثيراً من العلماء في هذه القرون اشتد نكيرهم على من أنكر الشرك الأكبر، فصاروا هم والصحابة رضي الله عنهم على طرفي نقيض، فالصحابة ينكرون القليل من الشرك، وهؤلاء ينكرون على من أنكر الشرك الأكبر ويجعلون النهي عن هذا الشرك بدعة وضلالة، وكذلك كانت حال الأمم مع الأنبياء والرسل جميعهم فيما بُعِثوا به من توحيد الله تعالى واخلاص العبادة له وحده والنهي عن الشرك به)، وقال الفقي أيضا (كثير من أدعياء العلم يجهلون «لا إله إلا الله» فيحكمون على كل من تلفظ بها بالإسلام ولو كان مجاهراً بالكفر الصراح، كعبادة القبور والموتى والأوثان واستحلال المحرمات المعلوم تحريمها من الدين ضرورة والحكم بغير ما أنزل الله واتخاذ أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله). من هامش صفحتي 128 و 221 من كتاب (فتح المجيد شرح كتاب التوحيد) ط دار الفكر 1399 هـ.
المطلب الثالث: قاعدة التكفير:
والمقصود هنا تكفير المعيَّن، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية مصطلح (قاعدة التكفير) في أكثر من موضع في (مجموع الفتاوي). وقد حاولت منذ زمن طويل أن أعثر على نص لهذه القاعدة في مؤلفات شيخ الإسلام المختلفة، فلم أعثر عليه للآن مع كثرة التتبع، وأظنه يعني بذلك ماتقرر عند العلماء من مراعاة ضوابط التكفير من جهة الإجراءات القضائية المتعارف عليها، ولعله ــ لذلك ــ لم تدع الحاجة إلى تدوينها في زمنهم لممارستهم القضاء الشرعي حينئذ، وغاية ماذكره شيخ الإسلام ــ وكرره في عدة مواضع ــ هو أن تكفير المعيَّن متوقف على توفر الشروط وانتفاء الموانع في حقه، انظر على سبيل المثال (مجموع الفتاوى) 12/ 484 و 487 و 489 و 498. أما اليوم ومع انقطاع القضاء الشرعي وغيابه في معظم البلدان ومع نقص العلم وظهور الجهل فإن الحاجة داعية لتدوين مثل هذه القاعدة.
ولذلك فقد وضعت نصاً لقاعدة تكفير المعيَّن أرجو أن يفي بالمراد، وهو كالتالي:(6/142)
(في أحكام الدنيا التي تجري على الظاهر، يُحكَم بالكفر على شخصٍ ما بقول ٍ مكفِّر أو بفعل ٍ مكفِّر، ثبت عليه ثبوتا شرعيا، إذا توفرت شروط الحكم وانتفت موانعه في حقه، ويَحكُم عليه مؤهل للحكم، ثم يُنظَر:
فإن كان مقدوراً عليه في دار الإسلام استتيب وجوبا قبل استيفاء العقوبة منه من ذوي السلطان.
وإن كان ممتنعا بشوكة أو بدار الحرب جاز لكل أحد قتله وأخذ ماله بغير استتابة، وينظر في هذا إلى المصلحة والمفسدة المترتبة على ذلك، وإذا تعارضت المصلحة والمفسدة، قدم أرجحهما) أهـ.
وأشرح هذه القاعدة شرحاً موجزاً فأقول وبالله تعالى التوفيق:
(1) قولي (في أحكام الدنيا التي تجري على الظاهر) هو تمهيد وتقديم لقولي (بقولٍ أو فعل) إذ إنهما مايظهر من الإنسان ويؤاخذ به في الدنيا، أما الكفر القائم بالقلب (من اعتقاد مكفرِّ أو شكّ في أركان الإيمان وشعبه) فهذا لايؤاخذ صاحبه به في الدنيا وإنما أمره إلى الله (يوم تُبْلى السرائر) وهو سبحانه لايغفر لمن مات كافراً. وقد بيّنت ذلك في التنبيه المذكور عقب تعريف الردّة آنفا.
(2) قولي (بقول أو فعل) وهذا هو سبب الحكم بالكفر على شخص في الدنيا، فسبب الكفر ــ في أحكام الدنيا ــ إما قول أو فعل. أما القول فمثل سب الله تعالى أو سب الرسول صلى الله عليه وسلم أو سب الدين. وأما الفعل فمثل إلقاء المصحف في القاذورات، ويدخل في الفعل: الترك والامتناع عن فعل المأمور به كترك الصلاة وترك الحكم بما أنزل الله، فإن تَرْك المأمور به يسمى فعلاً على التحقيق لقوله تعالى (كانوا لا يتناهون عن منكر ٍ فعلوه لبئس ماكانوا يفعلون) المائدة 79، فسمَّى عدم تناهيهم عن المنكر فعلاً، وفيه أدلة أخرى ذكرها الشيخ محمد الأمين الشنقيطي في (مذكرة أصول الفقه) ط مكتبة ابن تيمية، 1409 هـ، صـ 46. وكذلك قال ابن حجر (والتروك أفعال على الصحيح) (فتح الباري) 12/ 315.(6/143)
(3) قولي (مكفرِّ) صفة للقول والفعل. وتتحقق صفة الكفر فيهما بشرطين:
أ ــ أن يثبت بالأدلة الشرعية المعتبرة كفر من أتى بهذا القول أو الفعل، وهذا مايُسمى (بالتكفير المطلق) وهو أن يقال: من قال كذا فقد كفر ومن فعل كذا فقد كفر، هكذا باطلاق دون تنزيل الحكم بالكفر على شخص معين. فالتكفير المطلق هو تنزيل الحكم بالكفر على السبب لا على الشخص فاعل السبب.
ويشترط في الدليل الشرعي أن يكون قطعي الدلالة على الكفر الأكبر، فهناك صيغ محتملة الدلالة على الكفر قد تعنيه وقد تعني مادونه من الكفر الأصغر والفسق ويتم تعيين المراد من النص محتمل الدلالة بقرائن من داخل النص أو من غيره من النصوص، ومثال ذلك:(6/144)
مارواه البخاري في كتاب الإيمان من صحيحه، في باب (كفران العشير، وكفر دون كفر). وفيه روي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أُرِيتُ النار، فإذا أكثر أهلها النساء يَكْفُرنَ) قيل: أيكفرن بالله؟ قال: (يكفرن العشير ويكفرن الإحسان) الحديث (29) ورواه في كتاب الحيض عن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم مَرّ على النساء فقال:(يامعشر النساء تصدَّقن فإني أُريتكن أكثر أهل النار) فقلن: وبِمَ يارسول الله؟. قال (تكثرن اللعن وتكفرن العشير) الحديث (304). وفيه وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم عدم قيام المرأة بحق زوجها (العشير) وعدم شكر إحسانه إليها وصفه بالكفر، وقد دلت القرائن على أن المراد به الكفر الأصغر لا الأكبر المخرج من الملة، والقرائن هى أنهم لما سألوا أهو الكفر بالله؟ عدل بجوابه عنه، وأنه صلى الله عليه وسلم أمرهن بالصدقة لتكفير هذه المعاصي والصدقة إنما تنفع المؤمن لقوله صلى الله عليه وسلم (والصدقة تطفيء الخطيئة كما يطفيء الماء النار) الحديث، رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح. ولاتقبل الصدقة من الكافر ولاتكفِّر ذنوبه لقوله تعالى (إن الله لايغفر أن يُشرك به)، فدل على أنهن مؤمنات مع وصف معصيتهن بالكفر، وهذه صفة الكفر الأصغر.(6/145)
ومثاله أيضا: قوله صلى الله عليه وسلم (سُباب المسلم فسوق، وقتاله كفر) وقوله صلى الله عليه وسلم (لاترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض) رواهما البخاري، فسمّى قتل المسلم للمسلم كفراً، وكذلك سمّى تقاتلهما، وقد دلت النصوص على أن قاتل العمد لايكفر لقوله تعالى (ياأيها الذين آمنوا كُتِبَ عليكم القصاص في القتلى ــ إلى قوله ــ فمن عفي له من أخيه شيء) البقرة 178، فأثبت الأخوة الإيمانية بين القاتل وولي المقتول، وكذلك في التقاتل كما قال تعالى (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا) الحجرات 9، فسمّاهم مؤمنين مع الاقتتال، وهذا يدل على أن الكفر في الأحاديث السابقة لايزول معه الإيمان فيكون كفراً أصغر أو كفراً دون كفر.
والمقصود هنا الإشارة لا التفصيل، وإلا فقد فصّلت كل هذه المسائل في كتابي (الحجة في أحكام الملة الإسلامية). ومن الصّيغ محتملة الدلالة التي تحتمل الكفر الأكبر ومادونه: الكفر بصيغة الفعل الماضي أو المضارع (فقد كَفَر، يكفر)، والكفر بصيغة الإسم النكرة مفرداً كان أو جمعا (كافر، كفاراً)، وصيغة نفي الإيمان (لايؤمن)، وصيغة (ليس مِنا)، وصيغة (فهو في النار)، وصيغة (حَرَّم الله عليه الجنة)، وصيغة (فقد برئت منه الذمة، أو فقد برئ منه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم)، ونحوها. والأمثلة لهذا كله مع شرح دلالاتها مذكورة بكتابي (الحجة في أحكام الملة). وقد ذكر الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام طائفة من هذه الصيغ محتملة الدلالة في كتابه (الإيمان).(6/146)
أما الأدلة الشرعية قطعية الدلالة على الكفر الأكبر، فمثالها قوله تعالى (ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون، لاتعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم) التوبة 65 ــ 66، فنص على كفرهم بعد الإيمان وهذا الكفر الأكبر. ومثالها قوله تعالى (ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه أبداً وماأظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيراً منها منقلبا، قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك) الكهف 35 ــ 37، فنص على أنه كَفَر بالله وهو كُفْر أكبر. ومثالها قوله تعالى ــ فيمن دعا غير الله فيما لايقدر عليه إلا الله ــ (ذلكم الله ربكم له الملك، والذين تدعون من دونه مايملكون من قطمير، إن تدعوهم لايسمعوا دعاءكم، ولوسمعوا مااستجابوا لكم، ويوم القيامة يكفرون بشرككم) فاطر 13 ــ 14. وقوله تعالى (له دعوة الحق، والذين يدعون من دونه لايستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفّيه إلى الماء ليبلغ فاه وماهو ببالغه، وما دعاء الكافرين إلا في ضلال) الرعد 14.
وكقاعدة عامة:
* فإن كل كُفِر ورد بصيغة الإسم المُعرَّف بأل في الكتاب أو السنة فهو كفر أكبر، كلفظ (الكفر ــ الكافر ــ الكفار ــ الكافرون ــ الكوافر) لأن الألف واللام تدلان على استغراق الإسم لكمال المعنى، وهذا لاخلاف عليه بين أهل العلم وأهل اللغة.
* وكل كُفر ورد في القرآن فهو كفر أكبر، سواء ورد بصيغة الاسم أو الفعل أو المصدر. لأن ألفاظ القرآن غائية، وقد ثبت هذا باستقراء مفردات القرآن حتى الكفر الوارد في معرض كفر النعم هو كفر أكبر كما في سورتي إبراهيم 28، والنحل 112. وحتى مايظهر أنه يراد به الكفر اللغوي إنما المراد بتفسيره الكفر الأكبر الشرعي كما في آية سورة الحديد 20.(6/147)
* تبقى بعد ذلك ألفاظ الكفر الواردة في السنة، فما كان منها بصيغة الإسم المعرف بأل فهو كفر أكبر كما في حديث (بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة) رواه مسلم، فإن كان بغير هذه الصيغة فالأصل فيه حمله على الكفر الأكبر حتى تقوم القرينة الصارفة له إلى الكفر الأصغر. ودليله حديث كفران العشير السابق، ألا ترى أنه لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ــ عن النساء ــ (يكفرن) فقال الصحابة: أيكفرن بالله؟. فدل على أن الكفر إذا أطلق انصرف إلى الأكبر حتى تقوم القرينة الصارفة له إلى الأصغر كما في الأمثلة التي سبق ذكرها.
قال الشيخ عبداللطيف بن عبدالرحمن بن حسن بن شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب (ولفظ الظلم والمعصية والفسوق والفجور والموالاة والمعاداة والركون والشرك ونحو ذلك من الألفاظ الواردة في الكتاب والسنة قد يراد مُسَّماها المطلق وحقيقتها المطلقة، وقد يُراد بها مطلق الحقيقة، والأول هو الأصل عند الأصوليين، والثاني لايُحمل الكلام عليه إلا بقرينة لفظية أو معنوية، وإنما يُعرف ذلك بالبيان النبوي وتفسير السنة، قال تعالى «وماأرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم» إبراهيم 4) أهـ. (الرسائل المفيدة) للشيخ عبداللطيف، جمع سليمان بن سحمان، صـ 21 ــ 22.(6/148)
وهنا تنبيه هام: وهو أنه لايشترط للحكم على أمرٍ ماأنه مكفِّر أن يرد فيه بعينه نص على أنه مكفر، فقد قال الشيخ حمد بن ناصر بن معمر رحمه الله 1225هـ، وهو من أئمة الدعوة النجدية ومن تلاميذ الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله، قال (وأيضا فإن كثيراً من المسائل التي ذكرها العلماء في مسائل الكفر والردّة وانعقد عليها الإجماع لم يرد فيها نصوص صريحة بتسميتها كفراً، وإنما يستنبطها العلماء من عموم النصوص كما إذا ذبح المسلم نُسُكاً متقرباً به إلى غير الله فإن هذا كفر بالإجماع كما نص على ذلك النووي وغيره، وكذلك لو سجد لغير الله) (الدرر السنية في الأجوبة النجدية، جـ 9، صـ 9) قلت: ومن أظهر الأمثلة على ماقاله الشيخ حَمَد بن معمر: تكفير القائل بخلق القرآن، وهذا من أشهر الأشياء في كتب السلف قولهم: القرآن كلام الله غير مخلوق ومن قال إنه مخلوق فهو كافر، انظر كتاب (السنة) لعبدالله بن أحمد، و (السنة) للخلال، وكتاب اللالكائي، وكتاب (العلو) للذهبي وغيرها كثير. ولايوجد نص في الكتاب أو السنة بأن من قال القرآن مخلوق فهو كافر مثلما يوجد نص بأن من ترك الصلاة فقد كفر، كما لايوجد أثر عن الصحابة في مسألة خلق القرآن، وإنما استنبط العلماء الحكم بكفره من جهة أن النصوص دلت على أن القرآن كلام الله وعلمه، وكلامه وعلمه من صفاته جل شأنه، وصفاته لاتكون مخلوقة، ومن أنكر ذلك وقال إنها مخلوقة فقد كفر، حتى أصبح حكم هذه المسألة محل إجماع أهل السنة. ومما يبين لك خفاء حكم هذه المسألة مارواه الذهبي عن القاضي أبي يوسف قال (ناظرت أبا حنيفة ستة أشهر، فاتفق رأينا على أن من قال: القرآن مخلوق فهو كافر) أهـ (مختصر العلوّ للعليّ الغفار) للذهبي، ط المكتب الإسلامي 1401هـ، صـ 155.(6/149)
وإنما تناظرا هذه المدة الطويلة إذ لم يرد في المسألة نص صريح من الكتاب أو السنة ولا نقل عن الصحابة فيها. وهذا كله مما يبين أنه لايشترط في الدليل الشرعي المكفِّر أن يكون نصاً صريحاً في مسألة بعينها بل يجوز أن يكون حكمها مستنبطاً من النصوص.
وفي هذه المسألة ــ وهى ثبوت صفة الكفر للقول والفعل بدليل قطعي ــ يدخل خِلاَف الفرق: فالخوارج يكفّرون بما ليس كفراً كالكبائر غير المكفرة، والمرجئة: لايكفّرون بشئ من العمل (القول والفعل) ولكنهم وافقوا أهل السنة في الحكم بالكفر على من أتى عملاً مكفراً لا بنفس العمل ولكن لأن العمل الذي نص الدليل على كفر فاعله أمارة على أنه كافر بقلبه، فاتفقوا مع أهل السنة في الحكم واختلفوا معهم في تفسيره، والمرجئة الذين أعنيهم في كلامي السابق هم الأشاعرة ومرجئة الفقهاء.
أما غلاة المرجئة الذين ضلوا ضلالا بعيداً فلا يكفرون بالدليل الشرعي قطعي الدلالة على الكفر الأكبر واشترطوا لتكفير من يفعل العمل المكفِّر أن يصرح بالتكذيب أو الجحد أو الاستحلال وهذا هو الشائع عند كثير من المعاصرين، وقد ذكرت لك أن السلف كفّروا من ذهب إلى هذا المذهب.
هذا ما يتعلق بالشرط الأول وهو أن يكون الدليل الشرعي صريح الدلالة على الكفر الأكبر.(6/150)
ب ــ الشرط الثاني لتحقق صفة الكفر في القول والفعل: أن يكون القول أو الفعل نفسه صريح الدلالة على الكفر، أي أنه مشتمل على المناط المكفِّر الوارد في النص الشرعي المستَدَل به على التكفير. ومثاله من قال: ياسيدي البدوي أغثني أو اقض حاجتي أو وسِّع رزقي أو نجني من عدوي. فهذه أقوال مكفِّرة لأنها صريحة الدلالة على دعاء غير الله، ولأن الدليل الشرعي قد دلّ على أن من دعا غير الله فهو كافر. ومن الأفعال صريحة الدلالة على الكفر: من ألقى مصحفاً في القاذورات فهذا لايحتمل إلا أنه مستخف بالمصحف وقد ثبت بالدليل القطعي كفر المستهزيء بآيات الله، أما إذا ألقى المصحف في النار فهذا فعل ليس صريحاً في الدلالة على الكفر كما سيأتي بيانه في الأمور محتملة الدلالة.
وفي مقابل صريح الدلالة يأتي العمل محتمل الدلالة، وهو العمل (القول أو الفعل) الذي لايدل على الكفر صراحة، ولكنه يحتمل الكفر وغيره ويُسمى هذا (التكفير بالمحتملات) ومنه القول الذي ليس هو كفراً في ذاته ولكنه يؤول إلى الكفر ويُسمى هذا (التكفير بالمآل، أو التكفير بلازم القول).
فهذا العمل محتمل الدلالة لابد فيه من النظر في عدة أمور لتعيين دلالته وهل يُحمل على الكفر الصريح أو يُهدر، وفي هذا قال القاضي شهاب الدين القرافي (كل ماله ظاهر فهو ينصرف إلى ظاهره إلا عند قيام المعارض أو الراجح لذلك الظاهر، وكل ماليس له ظاهر فلا يترجح أحد محتملاته إلا بمرجِّح شرعي) (الفروق) للقرافي، 2/ 195، ط دار المعرفة. والمرجح الشرعي لتعيين المراد من العمل محتمل الدلالة هو النظر في ثلاثة أشياء أو في بعضها، وهى: تَبَيُّن قصد الفاعل، والنظر في قرائن الحال المصاحبة للعمل، ومعرفة عُرْف المتكلم وأهل بلده.(6/151)
* أما تبين قصد الفاعل أي نيّته، فيكون بسؤاله عما أراده بقوله أو بفعله، كرجل يدعو عند قبر ولا يُسمع صوته ولا مَنْ يدعو ومايدعو به، فيُسأل، فإن قال: أدعو الله أن يغفر لهذا الميت فهو مُحسن، وإن قال: أدعو الله عند هذا القبر رجاء القبول فعمله هذا بدعة غير مكفرة، وإن قال: إنه يدعو صاحب القبر بقضاء حوائجه فعمله هذا مُكفر. فتبيّن القصد يُعيِّن المراد من محتمل الدلالة، وفي هذا قال النووي فيما نقله عن الصيمري والخطيب (وإن سُئِل ــ أي المفتي ــ عمن قال كذا وكذا مما يحتمل أموراً لايكون بعضها كفراً، فينبغي للمفتي أن يقول: يُسأل هذا عما أراد بما قال، فإن أراد كذا فالجواب كذا، وإن أراد كذا فالجواب كذا) (المجموع) للنووي، 1/ 49.
وفي هذا أيضا يقول الإمام الشافعي رحمه الله (والقول قوله في الذي يحتمل غير الظاهر) (الأم) للشافعي، 7/ 297. وهنا تنبيه هام سيأتي شرحه في أخطاء التكفير: وهو أن القصد المطلوب تبيّنه والذي يؤثر في الحكم، هو تعيين المراد من فعل الفاعل لاتبين قصده الكفر بذلك، ففي المثال السابق إذا قال: إنه يدعو الميت بتفريج كروبه فهذا القصد هو المطلوب تبينه وهو المؤثر في الحكم، ولايلزم سؤاله هل تقصد أن تكفر بذلك؟، بل لو قال: إنه لايقصد الكفر بذلك، لم يؤثر هذا النفي في الحكم. وسيأتي بسط هذا إن شاء الله.(6/152)
* وأما النظر في قرائن الحال المصاحبة للعمل، فكمن قال قولا محتملا للكفر، وأنكر إرادة الكفر، وبالتحري ثبت مصاحبته للزنادقة أو أنه متهم بالزندقة، فهذه قرائن حال ترجح إرادة الكفر ومثاله أيضا: لو أن رجلا ألقى مصحفاً في النار، فهذا يحتمل أنه مستخف بالمصحف فيكفر كمن ألقاه في القذر، ويحتمل أنه أراد التخلص من مصحف قديم عنده بالحرق كما أحرق عثمان بن عفان رضي الله عنه المصاحف الزائدة فهذه سنة خليفة راشد فلا يكفر، فإذا تبينا قصده وقال إنه أراد التخلص منه، ثم بتبين دلالة الحال تبيّن أن المصحف جديد أو أن الرجل متهم بالزندقة، فهذه الدلالات تبين أنه كاذب في قوله إنه أراد التخلص من المصحف بل هو مستخف به. قال ابن رجب الحنبلي رحمه الله (دلالة الأحوال يختلف بها دلالة الأقوال في قبول دعوى مايوافقها ورد مايخالفها ويترتب عليها الأحكام بمجردها) (القواعد) لابن رجب ــ القاعدة 151 ــ صـ 322.
* وأما النظر في العرف فكما قال ابن القيم ــ في أحكام المفتي ــ (لايجوز له أن يفتي في الإقرار والأيمان والوصايا وغيرها مما يتعلق باللفظ بما اعتاده هو من فَهْم تلك الألفاظ دون أن يعرف عُرف أهلها والمتكلمين بها فيحملها على مااعتادوه وعرفوه وإن كان مخالفا لحقائقها الأصلية، فمتى لم يفعل ضَلَّ وأَضَلَّ) (اعلام الموقعين) 4/ 228.
فهذه هى المرجحات الشرعية الثلاثة التي يتعيَّن بها المراد من محتمل الدلالة، هذا ولم يعتبر الشافعي رحمه الله منها إلا تبين القصد فقط، انظر (الأم) له، 7/297. ولتقريب المسألة نذكر فتاوي بعض العلماء في الأمور محتملة الدلالة على الكفر:(6/153)
قال القاضي عياض رحمه الله (وشاهدت شيخنا القاضي أبا عبدالله محمد بن عيسى أيام قضائه أُتِيَ برجل هاتَرَ رجلا، ثم قصد إلى كلبٍ فضربه برجله وقال له: قُمْ يامحمد، فأنكر الرجل أن يكون قال ذلك، وشهد عليه لفيفٌ من الناس، فأمَرَ به إلى السجن، وتقصّى عن حاله وهل يصحب من يُسْتَراب بدينه؟، فلما لم يجد مايقوي الريبة باعتقاده ضربه بالسَّوط وأطلقه) أهـ. قال الشارح إنَّ خَصم هذا الرجل كان اسمه محمداً. وقال القاضي عياض أيضا (ونزلت أيضا مسألة استفتي فيها بعض قضاة الأندلس شيخنا القاضي أبا محمد بن منصور رحمه الله في رجل تنقّصه آخر بشيء، فقال له: إنما تريد نقضي بقولك، وأنا بَشَرٌ وجميع البشر يلحقهم النقص حتى النبي صلى الله عليه وسلم، فأفتاه بإطالة سجنه وإيجاع أدبه، إذ لم يقصد السَّب. وكان بعض فقهاء الأندلس أفتى بقتله) (الشفا) للقاضي عياض، ط عيسى الحلبي، 2/ 984 و 996.
وسئل شيخ الإسلام عمن سَبَّ شريفا من أهل البيت، فقال: (لعنه الله، ولعن من شَرَّفه)، فأجاب ابن تيمية رحمه الله (وليس هذا الكلام بمجرده من باب السَّب الذي يُقتل صاحبه، بل يستفسر عن قوله: من شَرّفه، فإن ثبت بتفسيره أو بقرائن حالية أو لفظية أنه أراد لَعْن النبي صلى الله عليه وسلم وجب قتله. وإن لم يثبت ذلك ــ إلى قوله ــ لم يكن ذلك موجبا للقتل باتفاق العلماء) (مجموع الفتاوى) 35/ 197 ــ 198، وله مثله في (مجموع الفتاوى) 34/ 135 ــ 136. هذا في الأقوال محتملة الدلالة.
ومن الأفعال المحتملة: رجل يصلي إلى القبلة وأمامه نار أو قبر، فيحتمل أنه يُصلي لله أو للقبر أو النار، فلابد من تبين قصده والنظر في قرائن الحال: هل هو معروف بالخير أو في دينه ريبة كمجوسي من عبدة النار أظهر الإسلام تقية، ونحو ذلك؟، وقد بوّب البخاري لهذه المسألة في كتاب الصلاة من صحيحه في باب (من صلى وقُدَّامه تنّور أو نار أو شيء مما يُعبد فأراد به الله) (فتح الباري) 1/527.(6/154)
فهذا ما يجب اتباعه لتعيين دلالة العمل المحتمل، وحكمه في ذلك حكم ألفاظ الكنايات في الطلاق والقذف والعتق وغيرها والتي لاتتميز إلا بمعرفة نية القائل والنظر في قرائن الحال وعُرف المتكلم. أما الصريح في هذا كله فلا نظر فيه إلى النية والقصد إلا من جهة التعمد كما سنبينه في أخطاء التكفير إن شاء الله.
والمرجع في تعيين المراد من محتمل الدلالة ــ في أحكام الدنيا ــ إلى اجتهاد القاضي الذي ينظر في الدعوى، كما ورد في الأمثلة المنقولة عن القاضي عياض آنفا، ويجوز للقاضي أن يُعَزِّر المتهم تعزيراً بليغاً وإن لم يمكنه حمل المحتمل على الصريح إذا قويت التهمة. ويَرِدُ هنا الخلاف في حكم الزنديق الذي تكثر منه الأعمال محتملة الدلالة على الكفر، وكان هذا حال كثير من المنافقين على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى عنهم (ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول) محمد 30، ومن المنافقين من كان يقول الكفر الصريح ولايثبت عليه ثبوتا شرعيا لعدم اكتمال البينة كالذين قال الله تعالى فيهم (يحلفون بالله ماقالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم) التوبة 74. أما الزنديق وهو من تكررت ردته واستتابته أو من كثرت منه المحتملات والمعاريض فمذهب مالك رحمه الله عدم قبول توبته، ومذهب الشافعي رحمه الله قبولها أبداً. والمرجع في هذا أيضا إلى اجتهاد القاضي ويؤثر فيه ازدياد الشر والاستخفاف بالدين في الناس، فمتى وُجِدَ هذا وجب حسم مادته ويترجح العمل بمذهب مالك. انظر في الكلام عن توبة الزنديق (المغني مع الشرح الكبير) 10/ 78 ــ 80، و (الفروع) لابن مفلح الحنبلي 6/ 170 ــ 171، و (فتح الباري) 12/ 269 ــ 273، و (الأم) للشافعي 6/ 156 ــ 167، و(اعلام الموقعين) 3/ 112 ــ 115 و 140 ــ 145.(6/155)
أما في أحكام الآخرة فمن وُجدت منه الأعمال المحتملة للكفر فأمره إلى الله بحسب نيته، والله أعلم بها ومجازيه بها وإن لم يثبت عليه شيء في أحكام الدنيا، قال صلى الله عليه وسلم (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امريء ما نوى) الحديث متفق عليه، وقال تعالى (يوم تُبلى السرائر، فما له من قوة ٍ ولاناصر) الطارق 9 ــ 10.
ولمزيد بيان في هذه المسألة يُرجع إلى:
* صحيح البخاري ــ كتاب استتابة المرتدين ــ باب (إذا عَرَّض الذمّي أو غيره بسَبِّ النبي صلى الله عليه وسلم ولم يُصَرِّح) (فتح الباري) 12/ 280.
* (الشفا) للقاضي عياض، فصل (الأقوال المحتملة لسبّ النبي صلى الله عليه وسلم) جـ 2 صـ 978 ــ 999، وفصل (تحقيق القول في إكفار المتأولين) والفصل بعده، جـ 2 صـ 1056 ــ 1086، ط عيسى الحلبي.
* (مجموع فتاوى ابن تيمية)، مسألة (لازم المذهب هل هو مذهب؟) جـ 20 صـ 217 ــ 219، وجـ 5 صـ 306 ــ 307.
* كلام ابن القيم في مسألة (لازم المذهب هل هو مذهب؟) في قصيدته النونية وشرحها للشيخ محمد خليل هراس، جـ 2 صـ 252 ــ 258، ط مكتبة ابن تيمية 1407هـ.
* (الأشباه والنظائر في قواعد وفروع فقه الشافعية) للسيوطي، باب (القول في الصريح والكناية والتعريض) صـ 488 ومابعدها، ط دار الكتاب العربي 1407هـ.
* (اعلام الموقعين) لابن القيم، 2/ 5، (مسألة أثر دلالة الحال في تحويل الكناية إلى الصريح).
والخلاصة: أن العمل (وأعني به هنا القول أو الفعل) يصير مكفراً ــ أي يصير سببا للحكم بالكفرـ بشرطين:
شرط في الدليل الشرعي: وهو أن يكون صريح الدلالة على أن فاعل هذا العمل كافر كفراً أكبر.(6/156)
وشرط في فِعل المكلَّف أي العمل الصادر من شخص ٍما: وهو أن يكون العمل صريح الدلالة على الكفر أي أنه مشتمل على المناط المكفّر الوارد في الدليل الشرعي. ويكون العمل صريح الدلالة إما ابتداء وإما بعد تبيّن قصد فاعله أو النظر في قرائن الحال وعُرف المتكلم إن كان العمل محتمل الدلالة.
وقد دَلّ على اعتبار هذين الشرطين قول النبي صلى الله عليه وسلم (إلا أن تروا كُفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان) الحديث متفق عليه. فقوله (كفراً بواحاً) أي صريح الدلالة على الكفر وهذا شرط العمل المكفِّر، وقوله (عندكم من الله فيه برهان) أي دليل شرعي صريح وهذا شرط الدليل المكفِّر. وقال الشوكاني رحمه الله (قوله «عندكم فيه من الله برهان» أي نص آية أو خبر صريح لايحتمل التأويل، ومقتضاه أنه لايجوز الخروج عليهم مادام فعلهم يحتمل التأويل) (نيل الأوطار) 7/ 361.
هذا، ويرجع معظم الخلاف بين العلماء فيما يكفر به الإنسان وما لا يكفر إلى الشرط الثاني السابق، وهو هل العمل صريح الدلالة على الكفر أم محتمل لها، فما كان صريحا لم يختلفوا فيه، وما كان محتملا دخله الخلاف لأنه محل اجتهاد.(6/157)
ومنه ما ذكره أبو بكر الحصني الشافعي في أمثلة الردة بالقول قال: (فكما إذا قال شخص عن عدوه لو كان ربي ما عبدته فإنه يكفر. وكذا لو قال لو كان نبياً ما آمنت به. أو قال عن ولده أو زوجته هو أحب إليّ من الله أو من رسوله. وكذا لو قال مريض بعد أن شفي لقيت في مرضي هذا مالو قتلتُ أبابكر وعمر لم استوجبه فإنه يكفر، وذهب طائفة من العلماء إلى أنه يتحتم قتله لأنه يتضمن قوله نسبة الله تعالى إلى الجور، وقضية هذا التعليل أن يلتحق بهذه الصورة ما في معناها لأجل تضمُّن هذه النسبة عافانا الله تعالى من ذلك. وكذا لو ادعى أنه أوحى إليه وإن لم يدّع النبوة. أو ادعى أنه يدخل الجنة ويأكل من ثمارها وأنه يعانق الحور العين فهو كفر بالإجماع، ومثل هذا وأشباهه كما يقوله زنادقة المتصوفة قاتلهم الله ما أجهلهم وأكفرهم وأبلم من اعتقدهم. ولو سب نبياً من الأنبياء أو استخف به، فإنه يكفر بالإجماع ومن صور الاستهزاء ما يصدر من الظلمة عند ضربهم فيستغيث المضروب بسيد الأولين والآخرين رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول خَلّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يخلصك، ونحو ذلك. ولو قال شخص أنا نبيّ، وقال آخر صَدَق كفَرا. ولو قال لمسلم يا كافر بلا تأويل كَفَر، لأنه سمى الإسلام كُفْراً، وهذا اللفظ كثير يصدر من التُرك فليتفطن لذلك. ولو قال إن مات ابني تهودت أو تنصرت كَفَر في الحال. ولو سأله كافر يريد الإسلام أن يلقنه كلمة التوحيد فأشار عليه بأن يثبت كَفَر، وكذا إن لم يلقنه التوحيد كَفَر.(6/158)
ولو أشار على مسلم أن يكفر كَفَر. ولو قيل له قلّم أظفارك أو قص شواربك فإنه سُنة، فقال: لا أفعل وإن كان سنة كفر، قاله الرافعي عن أصحاب أبي حنيفة وتبعهم، وقال النووي: المختار أنه لا يكفر إلا أن يقصد استهزاء، والله أعلم. ولو تقاول شخصان فقال: أحدهما لا حول ولا قوة إلا بالله، فقال الآخر لا حول ولا قوة لا تغني من جوع كَفَر. ولو سمع أذان المؤذن فقال إنه يكذب كَفَر، ولو قال لا أخاف القيامة كَفَر.
ولو ابتلي بمصائب فقال أَخَذَ مالي وولدي وكذا وكذا وماذا يفعله أيضا وما بقي ما يفعل كَفَر. ولو ضرب غلامه وولده، فقال له شخص ألست بمسلم، فقال لا متعمداً كَفَر. ولو قال له شخص يا يهودي أو يا نصراني فقال لبيك كَفَر كذا نقله الرافعي وسكت عليه، وقال النووي في هذا نظر إن لم ينو شيئا والله أعلم. ولو قال معلم الصبيان إن اليهود خير من المسلمين بكثير لأنهم يقضون حقوق معلمي صبيانهم كفر كذا نقله الرافعي عن أصحاب أبي حنيفة رضي الله عنه وسكت عليه وتبعه النووي، قلت وهذا اللفظ كثير الوقوع من الصنائعية والمتعيِّشة وفي التكفير بذلك نظر ظاهر إذ إخراج مسلم عن دينه بلفظة لها محمل صحيح لا سيما عند القرينة الدالة على أن المراد أن معاملة هذا أجود من معاملة هذا لا سيما إذا صرح بأن هذا مراده أو وقع في لفظ صريح كالمسألة المنقولة والله أعلم.) أهـ.
فهذه أمثلة للردة بالأقوال، وكما ترى فإن ما دخلته الاحتمالات منها اختلفت آراء العلماء في التكفير بها، وهذا يرد أيضا في الأفعال محتملة الدلالة، ومنها ماذكره أبو بكر الحصني بعد كلامه السابق،
قال: (وأما الكفر بالفعل فكالسجود للصنم والشمس والقمر وإلقاء المصحف في القاذورات، والسحر الذي فيه عبادة الشمس، وكذا الذبح للأصنام، والسخرياء باسم من أسماء الله تعالى أو بأمره أو وعيده أو قراءة القرآن على ضرب الدف، وكذا لو كان يتعاطى الخمر والزنا ويقدّم اسم الله تعالى استخفافاً فإنه يكفر.(6/159)
ونقل الرافعي عن أصحاب أبي حنيفة أنه لو شدّ الزنار على وسطه كفر. قال: واختلفوا فيمن وضع قلنسوة المجوس على رأسه والصحيح أنه يكفر. ولو شد على وسطه حبلا فسئل عنه فقال هذا زنار فالأكثر على أنه يكفر وسكت الرافعي على ذلك، وقال النووي الصواب أنه لا يكفر إذا لم يكن له نية، وما ذكره النووي ذكره الرافعي في أوّل الجنايات في الطرف الرابع ما حاصله موافقة النووي وأَنَّ لُبْس زِيّ الكفار بمجرده لا يكون ردة.
ونقل الرافعي عن أصحاب أبي حنيفة أن الفاسق إذا سقى ولده خمرا فنثر أقرباؤه الدراهم والدنانير فإنهم يكفرون وسكت الرافعي عليه، وقال النووي الصواب أنهم لا يكفرون. ولو فعل فعلا أجمع المسلمون على أنه لا يصدر إلا من كافر، وإن كان مصرحا بالإسلام مع فعله كالسجود للصليب أو المشي إلى الكنائس مع أهلها بزيهم من الزنانير وغيرها فإنه يكفر.) أهـ (كفاية الأخيار) جـ 2 صـ 123 ــ 124.
وإذا تأملت هذه المكفرات القولية والفعلية وهى مجرد أمثلة من كثير مما جاء في أبواب الردة بكتب الفقه تبيّن لك استهانة كثير من الناس بأمور هى من نواقض الإسلام، وماهذا إلا بسبب فشو الجهل ورِقَّة الدين، قال أنس بن مالك رضي الله عنه (إنكم لتعملون أعمالا هى أدق في أعينكم من الشَّعر كنا نعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات) رواه البخاري.
هذا ما يتعلق بشرح قولي ــ في قاعدة التكفير ــ (بقول أو فعل مُكَفِّر) وكيف يستوفي القول أو الفعل شروط وصفِه بأنه مُكَفِّر؟.
(فائدة) لا يدخل العبد في الإيمان إلا بجملة أعمال، ولكنه يخرج منه ــ أي يكفر ــ بعمل واحد.
والمقصود هنا الإيمان الحقيقي الذي ينفع صاحبه في الآخرة لا الإيمان الحكمي المرادف للإسلام الحكمي الذي تجري عليه أحكام الدنيا، فهذا يدخل فيه بالشهادتين.(6/160)
أما الإيمان الحقيقي فلا يدخل فيه العبد حتى يأتي بأصله، وقد سبق بيان أن أصل الإيمان مكون من جملة من أعمال القلب واللسان والجوارح، وهى على القلب: المعرفة والتصديق وبعض أعمال القلب كالانقياد والمحبة والرضا والتسليم لله تعالى، وعلى اللسان: الإقرار بالشهادتين، وعلى الجوارح: مايكفر بتركه من الأعمال كالصلاة وأدخل فيها كثير من العلماء بقية المباني الخمسة.
ولكن العبد يخرج من الإيمان أي أنه يكفر بعمل واحد ــ لا بجملة من الأعمال ــ فإذا أتى بقولٍ أو فعل أو اعتقاد مكفِّر كَفَر بذلك كما سبق بيانه، ولايشترط لكفره أن يزول كل مامعه من شعب الإيمان في الظاهر ــ وإن حبطت في الحقيقة ــ وهذا يدل على أن بعض من يُحكم بكفرهم قد تكون لهم أعمال صالحة في الظاهر وهذا لايمنع من تكفيرهم إذا قام المقتضى لذلك.
وهذه الفائدة لها نظائر في الفقه:
فالصلاة لا تصح ولا تجزيء إلا بجملة من الشروط والأركان والواجبات: كالوضوء وستر العورة واستقبال القبلة والنية والقيام والركوع والسجود وغيرها. ولكنها تبطل بعمل واحد فمن أحدث أو أكل أثناء الصلاة بطلت صلاته.
والحج لا يصح إلا بجملة من الأركان والواجبات ويفسد بعمل واحد كالجماع.
وإذا عمل العبد صالحا طول حياته ثم كفر بقول أو فعل أو اعتقاد ومات عليه حبطت كل أعماله الصالحة، قال تعالى (ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة، وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) البقرة 217. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن الرجل ليعمل الزمان الطويل بعمل أهل الجنة ثم يختم له عمله بعمل أهل النار، وإن الرجل ليعمل الزمان الطويل بعمل أهل النار ثم يختم له عمله بعمل أهل الجنة) رواه مسلم عن أبي هريرة، وأصله في الصحيحين من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
(فائدة أخرى) الفرق بين التكفير المطلق (كفر النوع) وتكفير المعين (كفر العين).(6/161)
التكفير المطلق: هو تنزيل الحكم بالكفر على السبب المجرد (وهو الاتيان بقول ٍ مكفر أو بفعل مكفرٍ). فيقال: من قال كذا كفر ومن فعل كذا كفر، أي معرفة الحكم مُطلقاً دون تنزيل الحكم بالكفر على شخص معين وإن كان قد أتى بهذا السبب. والتكفير المطلق هو ماتكلمنا عنه في الفقرات السابقة من قاعدة التكفير.
أما تكفير المعين: فهو الحكم بالكفر على الشخص المعين الذي فعل السبب (القول أو الفعل المكفر). وهذا بالإضافة إلى ماسبق بيانه ــ وهو التحقق من ثبوت صفة الكفر لقوله أو لفعله ــ يستلزم النظر في ثبوت هذا السبب على فاعله وخلوّه من موانع الأحكام.
وبعبارة أخرى يمكن القول بأن الفرق بين النوعين هو:
* أن التكفير المطلق هو تجريم الفعل، وينظر فيه إلى أمر واحد وهو السبب المكفر مجرداً من حيث استيفائه لشروط وصفه بأنه مكفر من جهة الدليل الشرعي ومن جهة قطعية دلالة الفعل نفسه.
* أما تكفير المعين فهو تجريم الفاعل، وينظر فيه إلى أمرين: تجريم الفعل كما سبق، والنظر في حال فاعله من حيث ثبوت الفعل عليه وانتفاء موانع الحكم في حقه.
والنظر في الثبوت والموانع هو موضوع الفقرات التالية.(6/162)
(4) قولي ــ في قاعدة التكفير ــ (ثبت عليه ثبوتاً شرعيا) أي القول أو الفعل المكفِّر وهو سبب الكفر. وبيان ذلك أنه يدخل ضمن قاعدة (إجراء أحكام الدنيا على الظاهر) أن المكلَّف لايؤاخذ بشيء من أقواله أو أفعاله في أحكام الدنيا إلا إذا ثبتت عليه بطرق بيّنتها الشريعة تسمى طرق الإثبات الشرعية، ومنها الإقرار وشهادة الشهود، ويختلف نصاب الشهادة من أمرٍ لآخر، فإذا لم يثبت القول أو الفعل على المكلَّف ثبوتا شرعيا صحيحاً فهو معدوم حُكماً وإن وُجِدَ في الحقيقة، فمن زني ولم يثبت زناه بطريق صحيح فهو غير زان ٍ في الحكم الشرعي ولكنه زان ٍ في الحقيقة والله مؤاخذه على فعله هذا إلا أن يغفرَ له بتوبة أو بموازنة أو بشفاعة. أما الردة ــ وهى الاتيان بقول ٍ مكفر أو فعل ٍ مكفر ــ فتثبت بأحد أمرين: بالإقرار وهو الاعتراف أو بشهادة رجلين مسلمين عدلين. وهذا مذهب جماهير العلماء لم يخالف فيه إلا الحسن إذ اشترط أربعة شهود لاثبات الردة لأن عقوبتها القتل قياساً على الزنا، وردّه ابن قدامة بأن العلة في عدد شهود الزنا هو الزنا لا القتل المترتب عليه إذ نفس النصاب (عدد الشهود) مشترط في اثبات زنا غير المحصن ولا قتل فيه، فظهر الفرق، انظر (المغني مع الشرح الكبير) 10/ 99.
ولا بد في أداء الشهادة بالردة من التفصيل، كما قال القاضي برهان الدين بن فرحون المالكي (ولا تقبل الشهادة بالردة المُجْملة، فقول الشهود: كَفَر فلان أو ارتد، بل لابد من تفصيل ماسمعوه ورأوه منه لاختلاف الناس في التكفير، فقد يعتقدون كفراً ماليس بكفر) (تبصرة الحكام) 2/ 277.(6/163)
وهل تثبت الردة بالاستفاضة وهى شهادة الجمع الغفير دون سماع أو معاينة من المشهود عليه؟ فيها خلاف. قال ابن القيم (الحكم بالاستفاضة: هى درجة بين التواتر والآحاد، فالاستفاضة هى الاشتهار الذي يتحدث به الناس وفاض بينهم ــ إلى أن قال ــ وهى أقوى من شهادة اثنين مقبولين) (الطرق الحكمية) لابن القيم، صـ 212، ط المدني. ويراجع أيضا (فتح الباري) 5/ 254، و (مجموع فتاوى ابن تيمية) 35/ 412 ــ 414. ومن أمثلة الشهادة على الردة بالاستفاضة الحادثة التي رواها ابن كثير في تاريخه في أحداث سنة 741 هـ، قال (ثم لما كان يوم الثلاثاء الحادي والعشرين من ذي القعدة أُحْضِرَ عثمان الدكاكي المذكور إلى دار السعادة وأقيم إلى بين يدي الأمراء والقضاة وسُئل عن القوادح في الشهود فعجز فلم يقدر، وعجز عن ذلك فتوجه عليه الحكم، فسُئل القاضي المالكي الحكم عليه، فحمد الله وأثنى عليه وصلى على رسوله ثم حكم بإراقة دمه وإن تاب، فأخِذَ المذكور فضربت رقبته بدمشق بسوق الخيل، ونودي عليه: هذا جزاء من يكون على مذهب الاتحادية، وكان يوماً مشهوداً بدار السعادة، حضره خلق من الأعيان والمشايخ، وحضر شيخنا جمال الدين المِزي الحافظ، وشيخنا الحافظ شمس الدين الذهبي، وتكلما وحَرَّضا في القضية جداً، وشهدا بزندقة المذكور بالاستفاضة، وكذا الشيخ زين الدين أخو الشيخ تقي الدين بن تيمية، وخرج القضاة الثلاثة المالكي والحنفي والحنبلي، وهم نفذوا حكمه في المجلس فحضروا قتل المذكور، وكنت مباشراً لجميع ذلك من أوله إلى آخره) (البداية والنهاية) 14/ 190.(6/164)
فهذه طرق اثبات الردة في أحكام الدنيا، وقد يكفر شخصٌ ما على الحقيقة ولا يثبت عليه الكفر في أحكام الدنيا فهذا حسابه إلى الله (يوم تُبلى السرائر، فماله من قوة ولاناصر)، فإن مات على كفره بلا توبة فهو في النار لامحالة خالداً فيها أبداً، فإن الله لايغفر أن يشرك به، فليس كل من كفر على الحقيقة يمكن اثبات كفره في الأحكام القضائية الدنيوية، ويبيّن هذا الصور الأربع التالية:
أ ــ إذا أسَرَّ شخص اعتقاداً مكفراً لم يظهره في قول أو فعل وهو الكفر بالاعتقاد المجرد كالتكذيب بالبعث، فهو مسلم في الحكم الظاهر كافر على الحقيقة. وهذا من المنافقين النفاق الأكبر. وفي هذا النوع قال ابن تيمية (لو أضمروا النفاق ولم يتكلموا به كانوا منافقين، قال تعالى «يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم، قل استهزءوا إن الله مخرج ماتحذرون» التوبة 64) (مجموع الفتاوى) 13/ 57. فدلت الآية على أن النفاق كان بقلوبهم ولم يخرج بعد في قول ٍ أو فعل ٍ ظاهر.
ب ــ وإذا أظهر شخص قولاً أو فعلاً مكفراً، ولكن لم يطلع عليه أحد من الناس، فهو مسلم في الحكم الظاهر كافر على الحقيقة. وهذا من المنافقين النفاق الأكبر، وهذا والذي قبله داخلان في قوله تعالى (وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لاتعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم) التوبة 101.(6/165)
جـ ــ وإذا أظهر شخص قولاً أو فعلا مكفراً، واطلع عليه بعض الناس، لكن لم يشهد به عليه منهم إلا رجلٌُ واحدٌُ أو طفل أو امرأة، فلا يثبت عليه هذا الأمر المكفِّر لعدم اكتمال نصاب الشهادة على الردة في حقه. وهو مسلم في الحكم الظاهر كافر على الحقيقة. ومع هذا يجوز للقاضي أن يُعزر المشهود عليه (أي يعاقبه بما دون الحدّ بسجن أو جلد وغيره) بحسب قوة الشهادة كأن يكون الشاهد من العلماء العدول الصالحين مع كونه واحداً، انظر (تبصرة الحكام) لابن فرحون جـ 2 صـ 281.
وهذه الصورة الثالثة كانت هى غالب حال المنافقين على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فإنهم كانوا يتكلمون بالكفر فيما بينهم ولا يشهد به بعضهم على بعض كما قال ابن تيمية (فينافق في الباطن ومايمكنه اظهار الرِدّة بل يتكلم بالنفاق مع خاصته) (مجموع الفتاوى) 13/ 54، وأحيانا كان يسمعهم رجل من المسلمين فيشهد بما سمع ولايكفي هذا للاثبات. كما شهد زيد بن أرقم على عبدالله بن أُبَيّ بأنه قال (لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل) كما ثبت في الصحيح، ومع أن الوحي صدّق زيداً إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤاخذهم بالوحي وإنما بطرق الاثبات الشرعية، ولأن كثيراً من كلام المنافقين كان محتمل الدلالة ليس صريحا، كما قال تعالى (ولتعرفنهم في لحن القول) محمد 30، ولحن القول هو ماعُرف بالمعنى ولم يُصرح به، ذكره القرطبي.(6/166)
وبهذا أجاب العلماء عن لماذا لم يقتل النبي صلى الله عليه وسلم المنافقين؟، فقال ابن تيمية رحمه الله (إن عامتهم لم يكن ما يتكلمون به من الكفر مما يثبت عليهم بالبينة، بل كانوا يُظهرون الإسلام، ونفاقهم يُعرف تارة بالكلمة يسمعها الرجل المؤمن فينقلها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فيحلفون بالله أنهم ماقالوا أو لايحلفون، وتارة بما يظهر من تأخرهم عن الصلاة والجهاد واستثقالهم للزكاة وظهور الكراهة منهم لكثير من أحكام الله، وعامتهم يُعرفون في لحن القول ــ إلى أن قال ــ ثم جميع هؤلاء المنافقين يُظهرون الإسلام، ويحلفون أنهم مسلمون، وقد اتخذوا أيمانهم جُنّة، وإذا كانت هذه حالهم فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يقيم الحدود بعلمه، ولا بخبر الواحد، ولابمجرد الوحي، ولا بالدلائل والشواهد، حتى يثبت الموجب للحدّ ببينةٍ أو إقرار، ــ إلى قوله ــ فكان ترك قتلهم ــ مع كونهم كفاراً ــ لعدم ظهور الكفر منهم بحجة شرعية. ويدل على هذا أنه لم يستتبهم على التعيين، ومن المعلوم أن أحسن حال من ثبت نفاقه وزندقته أن يستتاب كالمرتد، فإن تاب وإلا قتل، ولم يبلغنا أنه استتاب واحداً بعينه منهم، فعُلِمَ أن الكفر والرِدّة لم تثبت على واحد بعينه ثبوتا يوجب أن يُقتل كالمرتد، ولهذا تقبل علانيتهم، ونكِلُ سرائرهم إلى الله، فإذا كانت هذه حال من ظهر نفاقه بغير البينة الشرعية فكيف حال من لم يظهر نفاقُه؟) (الصارم المسلول صـ 355 ــ 357. وقال القاضي عياض رحمه الله (وبواطن المنافقين مستترة، وحُكمه صلى الله عليه وسلم على الظاهر، وأكثر تلك الكلمات إنما كان يقولها القائل منهم خُفْية ومع أمثاله، ويحلفون عليها إذا نُمِيت وينكرونها ويحلفون بالله ماقالوا، ولقد قالوا كلمة الكفر ــ إلى قوله ــ وبهذا أجاب بعض أئمتنا رحمهم الله عن هذا السؤال. وقال: لعلّه لم يثبت عنده صلى الله عليه وسلم من أقوالهم مارُفِعَ وإنما نقله الواحد ومَنْ لم يصل رتبة(6/167)
الشهادة في هذا الباب، من صَبي أو عبدٍ أو امرأة، والدماء لاتستباح إلا بعَدْلين ــ إلى أن قال ــ وكذلك قال بعض أصحابنا البغداديين: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتل المنافقين بعلمه فيهم، ولم يأت أنه قامت بينة على نفاقهم، فلذلك تركهم) (الشفا) للقاضي عياض، 2/ 961 ــ 963، ط الحلبي.
وبهذا أيضا أجاب ابن تيمية عن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم (دَعْهُ، لايتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه) لما أراد عمر بن الخطاب رضي الله عنه قتل عبدالله بن أُبي بما شهد به عليه زيد بن أرقم، الحديث رواه البخاري (4905)، فقال ابن تيمية (وإنما منع النبي صلى الله عليه وسلم من قتله ماذكره من تحدث الناس أنه يقتل أصحابه، لأن النفاق لم يثبت عليه بالبينة، وقد حلف أنه ماقال، وإنما عُلِمَ بالوحي وخبر زيد بن أرقم) (الصارم المسلول) صـ 354. وقال القاضي عياض (فلو قتلهم النبي صلى الله عليه وسلم لنفاقهم ومايبدر منهم وعِلمِه بما أسرّوا في أنفسهم لوجَدَ المنَفِر مايقول، ولارتاب الشارد، وأرجف المعاند، وارتاع من صحبة النبي صلى الله عليه وسلم والدخول في الإسلام غير واحد، ولزَعَم الزاعم، وظن العدو الظالم أن القتل إنما كان للعداوة ــ إلى أن قال ــ وهذا بخلاف إجراء الأحكام الظاهرة عليهم من حدود الزنا والقتل وشِبْهِهِ لظهورها واستواء الناس في علمها) (الشفا) 2/ 964، ط الحلبي.
د ــ وإذا أظهر شخص قولاً أو فعلاً مكفراً. وأقرّ به على نفسه، أو شهد به عليه رجلان عدلان فما فوقهما، أو استفاض أمره في الناس، فقد ثبت عليه هذا العمل المكفِّر ثوبتا شرعيا صحيحاً، إلا أن هذا لايكفي للحكم عليه بالكفر حتى يُنظر في موانع الحكم.
فهذه أربع أحوال للكافر على الحقيقة، ولم يثبت عليه العمل المكفر في أحكام الدنيا إلا في حال واحدة منها، فهذا مايتعلق بالثبوت الشرعي.(6/168)
(وهنا فائدة) وهى هل لمن علم كفراً من رجل ٍ أن يعتبره كافراً ــ كما في الصورة (جـ) السابقة ــ وإن لم يمكن اثبات الكفر عليه بطرق الاثبات الشرعية.
والجواب: نعم، بل يجب عليه أن يحكم عليه بالكفر، ولكن بشرطين:
أولهما: أن يكون الشخص مؤهلا للحكم بنفسه أو باستفتاء غيره، ليفرق بين الكفر وغيره ولينظر في موانع الحكم.
والآخر: أن لايعاقبه بالعقوبات التي هى حق لله تعالى كاستباحة دمه وماله لئلا يؤاخذ بهذا مع عدم الثبوت الشرعي الكامل، ولو جاز هذا لأدى إلى الفوضى في استباحة الدماء والأموال بمجرد التهمة، ولكن يعاقبه بما دون ذلك من هجره وترك نكاحه وانكاحه وترك الصلاة عليه إذا مات ونحو ذلك. ذكر هذا شيخ الإسلام ابن تيمية في (مجموع الفتاوى) 24/285 ــ 287. وقال ابن تيمية ــ في المنافقين ــ (وكان النبي صلى الله عليه وسلم أولاً يصلي عليهم ويستغفر لهم، حتى نهاه الله عن ذلك فقال (ولاتصل على أحد منهم مات أبداً ولاتقم على قبره) وقال (استغفر لهم أو لاتستغفر لهم، إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم)، فلم يكن يصلي عليهم ولايستغفر لهم، ولكنْ دماؤهم وأموالهم معصومة لايستحل منهم مايستحله من الكف ار الذين لايُظهرون أنهم مؤمنون بل يظهرون الكفر دون الإيمان) (مجموع الفتاوى) 7/ 212 ــ 213.(6/169)
ودليل حكم الفرد الواحد على غيره بالكفر إذا علم منه كفراً، قوله تعالى (واضرب لهم مثلا رجلين ــ إلى قوله تعالى ــ ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ماأظن أن تبيد هذه أبدا، وماأظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيراً منها منقلبا، قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك) الكهف 32 ــ 37. فالأول كفر بالشك في البعث (وماأظن الساعة قائمة) والآخر أكفره بذلك، وكانا رجلين فقط كما قال الله تعالى. ومثال هذا في السلف كثير ومنه إكفار الشافعي رحمه الله لحفص الفرد في مجلس المناظرة، انظر (الشريعة) للآجري صـ 81، و(شرح اعتقاد أهل السنة) لأبي القاسم اللالكائي، 1/252 ــ 253، وقد ذهب ابن تيمية رحمه الله إلى أن الشافعي لم يكفِّر حفصاً هذا وإنما أطلق الكفر على قوله، ولكن الثابت من خبرهما بخلاف ماقاله شيخ الإسلام، انظر كلامه في (مجموع الفتاوي) 23/ 349.
وهذا الذي أكفر غيره لايجوز أن يلزم غيره من المسلمين بذلك مادام لم يثبت عندهم ماثبت عنده، ومادام لم يثبت كفر هذا الكافر ثبوتا شرعيا صحيحا.
ولكن هذا الذي أكفر غيره يجوز لغيره أن يقلده إذا كان فقيها ثقة، ومثاله تقليد عمر بن الخطاب لحذيفة بن اليمان في ترك الصلاة على من علم حذيفة نفاقهم بإخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم له، انظر (مجموع فتاوي ابن تيمية) 7/213، و (الأم) للشافعي، 6/ 166.(6/170)
وهل يجوز لمن علم كفراً من رجل أن يشهره في الناس وإن كان الكافر مستسراً بكفره؟. والجواب: نعم، بل يجب حيث يُخشى ضرره، خاصة إذا كان هذا الكافر من دعاة البدع أو ممن يؤخذ عنه العلم أو كان يريد نكاح مسلمة ونحو ذلك، فالدين النصيحة. وفي هذا قال القاضي عياض رحمه الله (فإن كان القائل لذلك ممن تصدى لأن يُؤخَذ عنه العلم أو رواية الحديث أو يُقطع بُحكمه أو شهادته أو فتياه في الحقوق، وَجَب على سامعه الإشادة بما سمع منه والتنفير للناس عنه والشهادة عليه بما قاله، ووجب على من بَلَغَهُ ذلك من أئمة المسلمين إنكاره وبيان كُفْرِه وفساد قوله، لقطع ضرره عن المسلمين وقياما بحق سيد المرسلين. وكذلك إن كان ممن يعظ العامة أو يؤدب الصبيان، فإن من هذه سريرته لايؤمن على إلقاء ذلك في قلوبهم، فيتأكد في هؤلاء الإيجاب لحق النبي صلى الله عليه وسلم، ولحق شريعته) (الشفا) 2/ 997 ــ 998.
فهذا مايتعلق بالثبوت الشرعي، أي اثبات وقوع سبب الكفر من فاعله اثباتا صحيحاً.
(5) قولي ــ في قاعدة التكفير ــ (إذا توفرت شروط الحكم). فالنظر في الشروط لابد منه قبل الحكم. فإن قاعدة الحكم في الشريعة بوجهٍ عام هى:
(يترتب الحكم على السبب إذا توفرت الشروط وانتفت الموانع).
والحكم: هو اثبات أمر لآخر أو نفيه عنه، وهو هنا اثبات حكم الكفر (الردة) لشخص ما.
وسبب الحكم: هو الشيء الذي جعل الشارع وجوده علامة على وجود الحكم، وعدمه علامة على عدمه. وهو هنا اتيان هذا الشخص بقول أو فعل مكفِّر.
وشرط الحكم: هو مايتوقف وجود الحكم على وجوده، ولايلزم من وجوده وجود الحكم، ولكن يلزم من عدمه عدم الحكم.
وتنقسم شروط الحكم بالتكفير إلى ثلاثة أقسام:
أ ــ شروط في الفاعل: وهى أن يكون مكلفاً (أي بالغا عاقلاً) عالما بأن فعله مكفِّر، متعمداً قاصداً لفعله، مختاراً له بإرادته.(6/171)
ب ــ شروط في الفعل (الذي هو سبب الحكم): وهو أن يكون فعله مكفِّراً بلا شبهة، وقد سبق بيان مايشترط لذلك: وهو أن يكون فعل المكلف صريح الدلالة، وأن يكون الدليل الشرعي المكفر صريح الدلالة أيضا.
جـ ــ شروط في اثبات فعل المكلف: وهى أن يثبت بطريق شرعي صحيح.
(6) وقولي ــ في قاعدة التكفير ــ (وانتفت موانعه في حقه) أي موانع الحكم.
والمانع: هو مايلزم من وجوده عدم الحكم، ولايلزم من عدمه وجود الحكم أو عدمه.
واعلم أنه يجوز أن يكتفى في قاعدة التكفير بذكر الشروط فقط أو الموانع فقط إذ إنهما أضداد، وذكر أحدهما يُغني عن الآخر، كما قال ابن القيم (ومما يبين لك الأمر اتفاق الناس على أن الشرط ينقسم إلى وجودي وعدمي، بمعنى أن وجود كذا شرط في الحكم وعدم كذا شرط فيه، وهذا متفق عليه بين الفقهاء والأصوليين والمتكلمين وسائر الطوائف، وماكان عدمه شرطاً فوجوده مانع، كما أن ماوجوده شرط فعدمه مانع. فعدم الشرط مانع من موانع الحكم وعدم المانع شرط من شروطه، وبالله التوفيق) (بدائع الفوائد) 4/12، ط دار الكتاب العربي.
وتنقسم الموانع ــ كالشروط ــ إلى ثلاثة أقسام:
أ ــ موانع في الفاعل: وهى مايعرض له بما يجعله لايؤاخذ بأقواله وأفعاله شرعا، وتسمى هذه الموانع بعوارض الأهلية. وسنذكرها بعد قليل إن شاء الله.
ب ــ موانع في الفعل (أي في السبب): ككون الفعل غير صريح في الكفر أو الدليل الشرعي غير قطعي الدلالة على الكفر.
جـ ــ موانع في الثبوت: ككون أحد الشهود غير مقبول الشهادة لكونه صبياً أو غير عدل مثلاً.
(عوارض الأهلية)
والمقصود أهلية الأداء، إذ إن الأهلية ــ عند الأصوليين ــ قسمان:
أهلية الأداء: وتعني صلاحية الفرد لأن تعتبر أقواله وأفعاله شرعا، والعقل والبلوغ والاختيار من شروط صحة هذه الأهلية.(6/172)
وأهلية الوجوب: وتعني صلاحية الفرد لأن تكون له حقوق وعليه واجبات. وهذه الأهلية أساسها الحياة، فتصح للكبير والصغير حتى الجنين، وتصح للعاقل وغير العاقل.
وعوارض الأهلية متعلقة بأهلية الأداء، وهى أمور تَعرض للمكلف فتجعل أقواله وأفعاله غير معتبرة شرعاً فلا يؤاخذ بها ولاتترتب عليها آثارها فيما يتعلق بحقوق الله تعالى لا حقوق العباد، وعوارض الأهلية قسمان:
القسم الأول ــ عوارض سماوية: أي من قدر الله تعالى لادخل للعبد في اكتسابها، كالصِّغَر والجنون والعته والنوم والنسيان. فإذا جني من اعتراه شيء من هذه العوارض جناية فلا إثم عليه ولاىؤاخذ بشيء من العقوبات لارتفاع خطاب التكليف عنه، وإنما يؤاخذ بحقوق العباد كقيم المتلفات والديات ونحوها لأنها من خطاب الوضع. وهذه الموانع السماوية يقابلها شروط، كالصِّغر يقابله البلوغ، والجنون والعته يقابلهما العقل، فمن شروط تكفير المعين أن يكون بالغا عاقلا، وفي صحة ردّة الصبي المميز خلاف، ومن قال بصحتها كالحنابلة قالوا لايعاقب حتى يبلغ ويستتاب. انظر (المغني مع الشرح الكبير، 10/ 91 ــ 92).
القسم الثاني ــ عوارض مكتسبة: وهى التي لاختيار العبد دخلٌ في اكتسابها بنفسه أو من غيره، وإن كان كل شيء من قدر الله، قال تعالى (إنا كل شيء خلقناه بقدر) القمر 49، ومن العوارض المكتسبة المعتبرة كموانع من تكفير المعين:
أ ــ الخطأ بما يؤدي إلى سبق اللسان: فينطق بالكفر وهو لايقصده، وهذا المانع يُبطل شرط العمد، أي أن يفعل الملكف الكفر عامداً له، ودليل اعتبار الخطأ كمانع قوله تعالى (وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ماتعمدت قلوبكم) الأحزاب 5، ودليله كمانع من التكفير حديث الرجل الذي أضلّ راحلته ثم وجدها فقال (اللهم أنت عبدي وأنا ربك) وفيه وصف النبي صلى الله عليه وسلم بأنه (أخطأ من شدة الفرح) الحديث متفق عليه. وقرائن الحال لها دخل في اعتبار هذا المانع من عدمه.(6/173)
ب ــ الخطأ في التأوّل: والتأول هو وضع الدليل الشرعي في غير موضعه باجتهاد أو شبهة تنشأ عن عدم فهم دلالة النصّ. فيقدم المكلف على فعل الكفر وهو لايراه كفراً محتجاً بدليل أخطأ في فهم معناه، فينتفي بهذا الخطأ شرط العمد، ويكون الخطأ في التأوّل مانعا من تكفيره، فإذا أقيمت عليه الحجة وبُيِّن له خطؤه فأصرّ على فعله كفر حينئذ. ودليل هذا: حادثة قدامة بن مظعون ــ وقد ذكرتها في التنبيه الهام المذكور بتعليقي على العقيدة الطحاوية ــ وفيها استحل قدامة شرب الخمر ــ واستحلال شربها كُفر ــ مستدلا بقوله تعالى (ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا) المائدة 93، واحتج بهذه الآية على عمر لما أراد أ يقيم عليه الحد، فبيّن له عمر خطأه وأقام عليه الحد. وفي هذا قال ابن تيمية (أو غلط فظن أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يستثنون من تحريم الخمر، كما غلط في ذلك الذين استتابهم عمر، وأمثال ذلك، فإنهم يُستتابون وتقام الحجة عليهم، فإن أصرّوا كفروا حينئذ ٍ، ولايُحكم بكفرهم قبل ذلك كما لم يحكم الصحابة بكفر قدامة بن مظعون وأصحابه لما غلطوا فيما غلطوا فيه من التأويل) (مجموع الفتاوى) 7/ 610. وقد دلت هذه الحادثة على أن الخطأ في التأول مانع من التكفير بإجماع الصحابة، كما أنه داخل في عموم قوله تعالى (وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به) الأحزاب 5.
ومع ذلك فإنه ليس كل خطأ في التأول يعتبر عذراً مقبولاً ومانعاً من التكفير:
فالخطأ في التأول الذي يُعذر به هو مانشأ عن النظر في دليل شرعي فأخطأ في فهمه.
والخطأ في التأول الذي لايُعذر به هو مانشأ عن محض الرأي والهوى دون استناد إلى دليل شرعي. كامتناع إبليس عن السجود لآدم محتجاً بأنه (أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين) فهذا محض الرأي، وكتأويلات الباطنية التي أسقطوا بها الواجبات الشرعية فإنها محض الهوى.(6/174)
وفي كل الأحوال فإن الخطأ في التأول يسقط كمانع بإقامة الحجة على المتأوِّل.
جـ ــ مانع الجهل: كأن يفعل المكلفُ الكفرَ وهو يجهل أنه كُفر، فجهله ــ إذا كان معتبراً ــ يمنع من تكفيره، ودليله قوله تعالى (وماكنا معذبين حتى نبعث رسولا) الإسراء 15، فلا عذاب في الدنيا ولا في الآخرة إلا بعد البلاغ، وقد سبق بحث هذا الموضوع في الباب السادس من هذا الكتاب، وذكرت فيه أن الجهل المعتبر كعذر ومانع هو الجهل الذي لايتمكن المكلف من إزالته لأسباب من جهته أو لأسباب من جهة مصادر العلم فإذا كان متمكنا من التعلم وإزالة الجهل فقصَّر فهو غير معذور بجهله ويعتبر عالما حُكماً ــ أي في حكم العالِم ــ وإن لم يكن عالما في الحقيقة.
د ــ مانع الإكراه: ويقابله كشرط أن يكون المكلف مختاراً لفعله، ودليل اعتبار الإكراه كمانع من التكفير قوله تعالى (من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكرِهَ وقلبه مطمئن بالإيمان) النحل 106. ويشترط في صحة الإكراه على الكفر كمانع أن يكون بالتهديد بالقتل أو القطع أو أن يقع على المكلف تعذيب شديد وهذا قول الجمهور وهو الراجح. وسيأتي الكلام في الإكراه بشيء من التفصيل في آخر هذا المبحث إن شاء الله.
* السُّكر الذي يزول معه العقل: وفي اعتباره كمانع من التكفير خلاف، واختار ابن القيم اعتباره وهو قول الأحناف، خلافا للراجح عند الحنابلة والشافعية من صحة ردة السكران، (اعلام الموقعين) 3/ 65، وانظر (كشاف القناع) للبهوتي 6/ 176، و (المغني مع الشرح الكبير) 10/ 109.(6/175)
* قول الكفر على سبيل الحكاية عن الغير: كمن يقرأ كلام الكفار الذي قصّه الله علينا في القرآن وقد أمرنا الله بتلاوته، وكنقل الشاهد ماسمعه من الكفر إلى القاضي، وكنقل مقالات الكفار لبيان مافيها من الفساد وللرد عليها. كل هذا جائز أو واجب ولايكفر قائله. انظر (الفصل) لابن حزم، 3/ 250. ولهذا يقال ناقل الكفر ليس كافراً. وهنا تفصيل هام: فمن نقل الكفر لغرض شرعي صحيح كما في الأمثلة السابقة فلا شيء عليه. ومن حكاه على سبيل الاستحسان والرضا به فهو كافر. وقرائن الحال لها دخل في التفريق بين هذه الأحوال وفي بيان هذا التفصيل قال القاضي عياض (أن يقول القائل ذلك حاكيا عن غيره وآثِراً له عن سِوَاه، فهذا يُنظر في صورة حكايته وقرينة مقالته، ويختلف الحكم باختلاف ذلك على أربعة وجوه: الوجوب، والندب والكراهة والتحريم) ثم ذكر أمثلة لكل هذه الأحكام فراجعها في (الشفا) 2/ 997 ــ 1003، وهذا التفصيل ذكره أيضا الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ في (مجموع فتاويه) 12/ 196 ــ 197، جمع محمد بن عبدالرحمن بن قاسم.
والهزل: وإن كان معدوداً من الموانع المكتسبة إلا أنه ليس مانعا من التكفير باتفاق أهل العلم.
وإذا كنا قد ذكرنا أن شروط التكفير المتعلقة بالمكلف هى أن يكون بالغاً عاقلاً عالماً عامداً مختاراً، فإن الموانع المذكورة آنفا يُبطل كل منها شرطاً أو أكثر من هذه الشروط:
فالبلوغ كشرط يَبْطل بالصِغر كمانع.
والعقل كشرط يبطل بالجنون والعته والسُّكر الطافح كموانع.
والعلم كشرط يبطل بالجهل المعتبر كمانع.
والعمد وهو القصد كشرط يبطل بالخطأ في سبق اللسان والخطأ في التأول وحكاية الكفر كموانع.
والاختيار كشرط يبطل بالإكراه كمانع.
(تنبيهات على الكلام في موانع التكفير)
التنبيه الأول: تبيّن الموانع داخل في مسمى الاستتابة:(6/176)
اعلم أن الاستتابة وإن كان المراد بها في الأصل طلب التوبة وهذا لايكون إلابعد الحكم بالكفر والردة كما سنذكره بعد قليل إن شاء الله.
إلا أن الاستتابة تطلق أيضا على ماقبل الحكم من تبين توفر الشروط وانتفاء الموانع، وفي بيان هذا قال ابن تيمية رحمه الله (أو غلط فظن أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يستثنون من تحريم الخمر، كما غلط في ذلك الذين استتابهم عمر، وأمثال ذلك. فإنهم يُستتابون وتقام الحجة عليهم، فإن أصروا كفروا حينئذ ٍ ولايُحكم بكفرهم قبل ذلك كما لم يَحكم الصحابة بكفر قدامة بن مظعون وأصحابه لما غلطوا فيما غلطوا فيه من التأويل) (مجموع الفتاوى) 7/ 610. فالاستتابة تطلق على كل مايقع في مجلس الحكم من تبيّن الشروط والموانع قبل الحكم ومن طلب التوبة بعده.
التنبيه الثاني: تبيّن الموانع يجب عند القدرة ويسقط عند التّعذَر. ومن صور التعذر:
* الامتناع عن القدرة: وسوف نشرح معنى المقدور عليه والممتنع فيما بعد إن شاء الله، وملخصه أن المقور عليه هو من يتمكن القاضي من احضاره لمجلس الحُكم ويتمكن من إقامة الحد عليه إن وجب، والممتنع بعكسه. فالمقدور عليه يجب تبين الموانع في حقه والممتنع يُحكم عليه بدون تبين موانع. قال ابن تيمية (على أن الممتنع لايستتاب وإنما يستتاب المقدور عليه) (الصارم المسلول) صـ 325 ــ 326، وقد سبق التنبيه على أن تبين الموانع داخل في مُسمى الاستتابة.(6/177)
* ومن صور التعذر: الموت، فإذا كان دِين الميت محل خصومة بين الورثة، فادعى بعضهم أنه مات مسلماً وادعى بعضهم أنه مات مرتداً، فإنه يكتفى في الحكم عليه بشهادة الشهود، قال ابن قدامة ــ في الأسير المسلم ببلاد الكفار ــ (وإن قامت عليه بيّنة أنه نطق بكلمة الكفر وكان محبوساً عند الكفار ومقيداً عندهم في حالة خوف لم يُحكم بردته لأن ذلك ظاهر في الإكراه، وإن شهدت أنه كان آمنا حال نطقه به حُكِمَ بردته، فإن ادعى ورثته رجوعه إلى الإسلام لم يُقبل إلا ببينة لأن الأصل بقاؤه على ماهو عليه) (المغني مع الشرح الكبير) 10/ 106. وليس كلامنا فيمن أكرِه، ولكن فيمن نطق بالكفر وهو آمن فهذا محكوم بردته مع احتمال وجود مانع لديه كجهل معتبر أو تأوّل أو حكاية الكفر وغيرها، ومع ذلك حُكِمَ عليه بشهادة الشهود فقط وذلك لتعذر تبين هذه الموانع بعد موته، فالكلام هنا فيمن مات كما بيّنه الشافعي في كلامه في نفس المسألة في (الأم) 6/ 162. وليس هذا خاصا بمن مات ببلاد الكفار، بل إن هذا يقال أيضا في الميت بدار الإسلام إذا اختلف الورثة في دينه، فيُحكم عليه بشهادة الشهود فقط دون تبين موانع للتعذّر، كما ذكره ابن قدامة في (المغني مع الشرح الكبير) 12/ 214 ــ 218.
وإذا ارتد رجل ٌ فَجُنَّ ــ أي أصيب بالجنون ــ ثم مات قبل أن يُستتاب، مات محكوماً بكفره، ذكره الشافعي في (الأم).
وإذا ارتد السكران فمات في سُكْره مات كافراً، وإذا قتله إنسان في سُكرِهِ هذا لم يضمنه، وهذا عند من لايعتبر السكر مانعا من الردة، ذكره ابن قدامة في (المغني مع الشرح الكبير) 10/ 109، و (الأم) للشافعي 6/ 158.
وفي كل هذه الصور حُكِمَ بالردة بدون تبين موانع وبدون استتابة، ومن مات كافراً لم يرثه ورثته المسلمون ومع ذلك فإذا شهد الشهود بوجود مانع من التكفير لدى الممتنع أو الميت وجب اعتباره.(6/178)
التنبيه الثالث: المرجع في اعتبار المانع مطلقاً إلى الشرع، والمرجع في اعتباره في حق شخص معين إلى القاضي.
المانع من التكفير هو ماثبت بالدليل الشرعي أنه كذلك، ومالم يثبت فلا يُعَدُّ مانعا وإن ظنه الناس مانعا أو اعتذروا به، وسنذكر في التنبيه الخامس أمثلة لذلك.
أما اعتبار المانع في حق شخص معين فمرجعه إلى القاضي الذي ينظر في الدعوى، فالجهل والإكراه من موانع التكفير الثابتة بالأدلة الشرعية إما اعتبار شخص ٍ ما جاهلاً أو مكرهاً فتقدير ذلك إلى القاضي.
التنبيه الرابع: إذا زال المانع فأَصَرَّ الشخص على الكفر فهو كافر.
والمانع إما أن يزول بنفسه (كالصِّغر) وإما أن يزول بزوال سببه (كالإكراه والسكْر) وإما أن يزول بإقامة الحجة (كالجهل والخطأ في التأول). فإذا زال المانع وأصرَّ الشخص على ماقاله أو فعله من الكفر حال وجود المانع فهو كافر من حينئذ ٍ.
التنبيه الخامس: ما لا يعتبر شرعا كموانع من التكفير.
موانع الحكم ــ ومنه الحكم بالتكفير ــ المعتبرة شرعاً هى ماثبتت بالأدلة الشرعية، فما دل الدليل على أنه مانع من الحكم اعتبرناه ومالم يدل عليه الدليل أو عارضه لم نعتبره. وذلك لأن بعض الناس توسّعوا في المنع من التكفير بأعذار غير معتبرة شرعا، فليس كل مايعتذر به الناس مقبولا، قال تعالى (ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب، قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون، لاتعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم) التوبة 65 ــ 66، فاعتذروا ولكن لم يُقبل عذرهم، ومثله قوله تعالى (يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم قل لاتعتذروا لن نؤمن لكم) التوبة 94. فليس كل عذر بمقبول كمانع.
ومن الأعذار الباطلة: كون من ثبت كفره ــ بدعاء غير الله أو بسب ّ الدين مثلاً ــ يأتي بالشهادتين أو يصلي. فيظن البعض أن ذلك يمنع من تكفيره وليس كذلك.(6/179)
فقد سبق التنبيه على أن العبد لايدخل في الإيمان الحقيقي إلا بمجموع خصال ولكنه يخرج منه بخصلة واحدة، ولايلزم زوال كل مالديه من شُعب الإيمان ليُحكم بكفره، فثبت بذلك أنه قد يكفر ومازال معه بعض شعب الإيمان ولكنها لاتنفعه مع كفره. قال تعالى (ومايؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون) يوسف 106، فأثبت سبحانه أن معهم إيمانا مع الشرك.
وقد ذكرت من الأدلة والأمثلة فيما مضى مايغني عن ذكر المزيد، ومن ذلك ماذكرته في التنبيه الهام المذكور بتعليقي على العقيدة الطحاوية من أن الصحابة أجمعوا على كفر مانعي الزكاة ولم يصفوهم بغير ذلك فلم يسموهم تاركي الصلاة ومانعي الزكاة فدلّ على أنهم كانوا يصلون، ومثلهم الذين أكفرهم عبدالله ابن مسعود ومَن معه مِن الصحابة وكانوا يصلون في مسجد بني حنيفة بالكوفة، فهذه كلها أدلة شرعية وأمثلة في آن ٍ واحد.(6/180)
ومن الأعذار الباطلة: الاعتذار للكفار بأن قادتهم ومشايخهم يضلونهم ويلبّسون عليهم، وهو عذر باطل لقوله تعالى (ولو ترى إذ الظالمون موقفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول، يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين، قال الذين استكبروا للذين استضعفوا أنحن صددنكم عن الهدى بعد إذ جاءكم بل كنتم مجرمين، وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مَكْرُ الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفرَ بالله ونجعلَ له أنداداً، وأسرُّوا الندامة لما رأوا العذاب وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا هل يجزون إلا ماكانوا يعملون) سبأ 31 ــ 33. فثبت بهذا النص أن الكبراء كانوا يضلون الضعفاء ويمكرون بهم ويأمرونهم بالكفر ولم يمنع هذا من تكفير الضعفاء واستحقاقهم للوعيد. بل إن هذا التضليل الذي يظنه البعض عذراً هو نوع من أنواع الكفر وهو كفر التقليد كما أسلفنا القول وهو كفر عوام اليهود والنصارى وسائر الطوائف الكافرة فعوامهم مقلدون لرءوسهم الذين يضلونهم كما قال تعالى (قل ياأهل الكتاب لاتغلوا في دينكم غير الحق ولاتتبعوا أهواء قوم ٍ قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيراً وضلوا عن سواء السبيل) المائدة 77. والآيات الواردة في تقليد الكفار لما كان عليه أباؤهم كثيرة، وكذلك الآيات الواردة في تخاصم الاتباع والمتبوعين وتبرؤ كل فريق منهما من الآخر كثيرة كما في آيات سورة سبأ السابقة وكما في سور البقرة 166 ــ 167 والأعراف38 ــ 39 وإبراهيم 21 والأحزاب 64 ــ 68 وغافر 47 ــ 48.(6/181)
ومن الأعذار الباطلة: الاعتذار للمرتد بأنه من أهل العلم، وكأنهم معصومون من الكفر، وقد قال تعالى ــ في حق الأنبياء ــ (ولو أشركوا لحبط عنهم ماكانوا يعملون) الأنعام 88، ومثلها آية الزمر 65، وإذا كان الكفر يمتنع في حق الأنبياء فليس بممتنع فيمن دونهم. فالعالِم وإن بَلَغ من العلم مابلغ قد يكفر و (إنما الأعمال بالخواتيم) ومثاله قوله تعالى (واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين) الآيات بسورة الأعراف، وأمثلته في هذه الأمة كثير بدءً بمن ارتد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم كعبدالله بن سعد بن أبي السرح وكان يكتب الوحي للنبي صلى الله عليه وسلم، ثم المرتدون بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، وكثير من دعاة البدع المكفرة كانوا منسوبين للعلم الشرعي كالقدرية نفاة العلم الذين أكفرهم ابن عمر في أول حديث بصحيح مسلم فقد جاء في صفتهم أنهم (يقرأون القرآن ويتقفرون العلم). والشَّرُّ في الآخرين أكثر منه في الأولين لقوله صلى الله عليه وسلم (لايأتي عليكم يوم إلا والذي بعده شر منه) الحديث رواه البخاري. ونحن نرى في زماننا هذا الحكام المرتدين في شتى البلدان قد اصطنع كل منهم طائفة من المشايخ هو يخلع عليهم الألقاب الفضفاضة كأصحاب الفضيلة والسماحة تلبيساً على العامة لترويج باطلهم، وهم يخلعون عليه خِلعة الإيمان والشرعية الإسلامية تضليلا للعامة، فهؤلاء المشايخ وأمثالهم لاشك في كفرهم وردتهم لقوله تعالى (ومن يتولهم منكم فإنه منهم) المائدة 51، ولرضاهم بالكفر، ولعدم تكفيرهم للحكام الكافرين الذين دَلّ الدليل على كفرهم. قال عبدالله بن المبارك رحمه الله:
وهل أفسَدَ الدينَ إلا الملوك ُ .. وأحبارُ سوء ٍ ورهبانُها(6/182)
وكمثال على المسألتين السابقتين ــ وهما أن وجود المضلل ليس عذراً لمن تبعه، وأن بعض من أوتي العلم قد يكفر ــ أن رجلا اسمه نهار الرّجَّال بن عُنْفُوَة صَحِبَ النبي صلى الله عليه وسلم وتفقّه في الدين فأرسله النبي صلى الله عليه وسلم مُعَلما لأهل اليمامة قوم مسيلمة الكذاب، فارتد وتبع مسيلمة وشهد له أن النبي صلى الله عليه وسلم أشركه معه في الرسالة، وصَدّقه الناس واتبعوا مسيلمة ثقة ً في الرّجّال، ولم يمنع هذا الصحابة من تكفيرهم وقتالهم. وقد ذكر الطبري خبره في تاريخه فقال (كتب إليّ السريّ، عن شعيب، عن سيف، عن طلحة بن الأعلم، عن عُبيد بن عمير، عن أثال الحنفي ــ وكان مع ثمامة بن أثال ــ قال: وكان مُسيلمة يصانع كل أحد ويتألفه ولايبالي أن يطلع الناس منه على قبيح، وكان معه نهار الرَّجَّال بن عُنْفُوَة، وكان قد هاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقرأ القرآن، وفقه في الدين، فبعثه مُعلماً لأهل اليمامة وليشغب على مسيلمة، وليشدّد من أمر المسلمين، فكان أعظم فتنة على بني حنيفة من مسيلمة، شهد له أنه سمع محمداً صلى الله عليه وسلم يقول: إنه قد أشرِك معه، فصدّقوه واستجابوا له، وأمروه بمكاتبة النبي صلى الله عليه وسلم، ووعدُوه إن هو لم يقبل أن يُعِينوه عليه) أهـ، وقال الطبري أيضا: (كتب إلي السري، قال: حدثنا شعيب عن سيف، عن طلحة، عن عكرمة، عن أبي هريرة، وعبدالله بن سعيد عن أبي سعيد عن أبي هريرة قال: قد كان أبو بكر بعث إلى الرجَّال فأتاه فأوصاه بوصيته، ثم أرسله إلى أهل اليمامة، وهو يرى أنه على الصدق حين أجابه. قالا: قال أبو هريرة: جلست مع النبي صلى الله عليه وسلم في رهط معنا الرجَّال ابن عنفوة، فقال: إن فيكم لرجلاً ضرسه في النار أعظم من أحُد، فهلك القوم وبقيت أنا والرّجال، فكنت متخوفاً لها، حتى خرج الرّجَّال مع مُسيلمة، فشهد له بالنبوة، فكانت فتنة الرجال أعظم من فتنة مُسيلمة، فبعث إليهم أبو بكر(6/183)
خالداً.) أهـ (تاريخ الطبري) 2/ 276 و 278، ط دار الكتب العلمية 1408 هـ.
وفي الجملة فإن موانع الأحكام ــ ومنها موانع التكفير ــ المعتبرة في الشريعة هى مادل على اعتبارها الأدلة الشرعية لا كل مايظنه الناس مانعا، هذا وبالله تعالى التوفيق.
(7) قولي ــ في قاعدة التكفير ــ (ويحكم عليه مؤهل للحكم): فمعنى (ويحكم عليه) أي بالكفر والردة بسبب عمله المكفِّر إذا توفر الشرط وانتفى المانع. ومعنى (مؤهل للحكم) من قاضٍ ومفتٍ وغيرهما من أهل العلم، وينبغي أن يكون مجتهداً لقوله صلى الله عليه وسلم (إذا حَكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر) متفق عليه، فإن عُدِم المجتهد، فمقلد على النحو الذي ذكرناه في (مراتب المفتين) في الباب الخامس من هذا الكتاب. قال ابن تيمية رحمه الله (وشروط القضاة تعتبر حسب الإمكان، ويجب تولية الأمثل فالأمثل، وعلى هذا يدل كلام أحمد وغيره، فيولى لعدمه أنفع الفاسِقَيْن وأقلهما شراً، وأعدل المقلدَيْن وأعرفهما بالتقليد) (الاختيارات الفقهية) جمع علاء الدين البعلي، تحقيق الفقي، ط دار المعرفة، صـ 332
وهنا تفصيل:(6/184)
أ ــ فمن ارتد في دار الإسلام فالحكم عليه للقاضي صاحب ولاية القضاء، ومن تكلم في شأنه من العلماء غير القضاة فكلامهم فتوى وليس حكماً. قال النووي رحمه الله ــ في إفتاء المفتي في مسائل الردة ــ (قال الصيمري والخطيب: إذا سُئل عمن قال: أنا أَصْدَقُ من محمد بن عبدالله أو الصلاة لعب وشبه ذلك، فلا يبادر بقوله: هذا حلال الدم أو عليه القتل، بل يقول: إن صحّ هذا بإقراره أو بالبينة، استتابه السلطان فإن تاب قبلت توبته، وإن لم يتب فُعل به كذا وكذا وبالغ في ذلك وأشبعه. قال ــ أي الصيمري والخطيب ــ: وإن سئل عمن تكلم بشئ يحتمل وجوها يكفر ببعضها دون بعض، قال: يُسئل هذا القائل فإن قال أردت كذا فالجواب كذا.) (المجموع) جـ 1 صـ 49. فالحكم في دار الإسلام للقاضي الذي ينظر الدعوى لا للمفتين لأن القاضي هو الذي يتمكن بمقتضى ولايته من التحقق من استيفاء الشروط وانتفاء الموانع كما أن حكم القاضي يرفع الخلاف ولايُنقض من حُكمه إلا ماخالف نص كتاب أو سنة أو إجماع، انظر (المغني مع الشرح الكبير) 11/403 ــ 405، و (اعلام الموقعين) 4/ 224. ومن أمثلة ماجرى عليه عمل المسلمين في هذا الحادثة التي ذكرها ابن كثير في أحداث سنة 701 هـ، قال: (وفي يوم الاثنين الرابع والعشرين من ربيع الأول قُتل الفتح أحمد بن الثقفي بالديار المصرية، حكم فيه القاضي زين الدين بن مخلوف المالكي بما ثبت عنده من تنقيصه للشريعة واستهزائه بالآيات المحكمات، ومعارضة المشتبهات بعضها ببعض، يذكر عنه أنه كان يحل المحرمات من اللواط والخمر وغير ذلك، لمن كان يجتمع فيه من الفسقة من الترك وغيرهم من الجهلة، هذا وقد كان له فضيلة وله اشتغال وهيئة جميلة في الظاهر، وبِزَّته ولُبسته جيدة، ولما أوقف عند شباك دار الحديث الكاملية بين القصرين استغاث بالقاضي تقي الدين بن دقيق العيد فقال: ماتعرف مني؟ فقال: أعرف منك الفضيلة، ولكن حكمك إلى القاضي زين الدين، فأَمَر القاضي(6/185)
للوالي أن يَضرِبَ عنقَه، فضُرِبَ عنقه وطيف برأسه في البلد، ونودي عليه هذا جزاء من طعن في الله ورسوله.) (البداية والنهاية) جـ 14 صـ 18. فحكم الجاني إلى القاضي وإن شهد له بعض العلماء بالفضيلة ونحو ذلك كما في هذه الحادثة.
ب ــ ومن ارتد ولحق بدار الحرب أو ارتد في دار الحرب، جاز لكل مؤهل من قاضٍ وغيره أن يحكم عليه، وجاز لكل أحد تنفيذ حكمه، وفيه تفصيل يأتي في الفقرة (10) إن شاء الله.
(8) قولي ــ في قاعدة التكفير ــ (فإن كان مقدوراً عليه في دار الإسلام). (فالمقدور عليه) هو من كان تحت قدرة السلطان والقاضي إما حقيقة بحبسه وإما حكماً بإمكانهم توقيفه ومساءلته لايمتنع منهم، قال ابن تيمية (ومعنى القدرة عليهم: إمكان الحد عليهم لثبوته بالبينة أو بالإقرار، وكونهم في قبضة المسلمين) (الصارم المسلول) صـ 507، ولعل صحة عبارته (إمكان إقامة الحد). وقولي (في دار الإسلام) هو تفسير لقولي (مقدوراً عليه) فإن الشخص لايكون مقدوراً عليه لسلطان المسلمين إلا إذا كان في دار الإسلام، فإن مجرد وجوده في دار الحرب هو منعة له من سلطان المسلمين، ولايعني هذا أن جميع من هم بدار الإسلام مقدور عليهم. بل قد يكون الشخص بدار الإسلام مقدوراً عليه أو ممتنعا، ولايتأتى الامتناع في دار الإسلام إلا بشق عصا الطاعة والتظاهر بالسلاح أو بالسلاح والأعوان كما هو حال المحاربين قطاع الطرق. وقولي (دار الإسلام) هى كل دار محكومة بشريعة الإسلام.(6/186)
وقد ذكر الماوردي التفريق بين المرتد المقدور عليه والمرتد الممتنع وذلك في كلامه عن قتال أهل الردة في باب حروب المصالح من كتابه (الأحكام السلطانية) فقال رحمه الله (فإذا كانوا ممن وجب قتلهم بما ارتدوا عنه من دين الحق إلى غيره من الأديان لم يخل حالهم من أحد أمرين: إما أن يكونوا في دار الإسلام شذاذاً وأفراداً لم يتحيزوا بدار يتميزون بها عن المسلمين، فلا حاجة بنا إلى قتالهم لدخولهم تحت القدرة ويكشف عن سبب ردتهم ــ إلى قوله ــ ومن أقام على ردته ولم يتب وجب قتله رجلا كان أو امرأة. ــ ثم قال ــ والحالة الثانية: أن ينحازوا إلى دار ينفردون بها عن المسلمين حتى يصيروا فيها ممتنعين... الخ) (الأحكام السلطانية) صـ 69 ــ 70، ط دار الكتب العلمية 1405هـ. وقال ابن تيمية رحمه الله (العقوبات التي جاءت بها الشريعة لمن عصى الله ورسوله نوعان: أحدهما: عقوبة المقدور عليه من الواحد والعدد كما تقدم، والثاني: عقاب الطائفة الممتنعة كالتي لايقدر عليها إلا بقتال) (مجموع الفتاوى) 28/ 349. وقال ابن تيمية أيضا (فهذا النص في المرتد المقدور عليه، وذاك في المحارب الممتنع) (منهاج السنة النبوية) 4/ 455، بتحقيق د. محمد رشاد سالم. والمقصود بيان أن الشريعة جاءت بالتفريق بين عقوبة المقدور عليه والممتنع، والامتناع لايختص بالطائفة بل قد يكون الممتنع طائفة أو فرداً، كما في حالة ارتداد عبدالله بن سعد بن أبي السرح وفراره إلى مكة قبل فتحها. ولايخلو كتاب من كتب الفقه من التفريق بين هذين النوعين. ومما ينبغي أن يُعلم أن قاعدة الشريعة في التفريق بين المقدور عليه والممتنع مطّردة، حتى جاءت بالتفريق بين المقدور عليه والممتنع من البهائم المباح أكلها، فلا يحل أكل المقدور عليه منها ــ وإن كان أصله وحشيا كالغزال ــ إلا بالذكاة الشرعية أي الذبح، في حين يحل أكل الممتنع منها ــ وإن كان أصله إنسياً كالإبل ــ بطعنه بمحدَّد في أي موضع من(6/187)
جسده كما في الصيد. فقاعدة الشريعة هى تشديد الشروط في المقدور عليه وتخفيفها في الممتنع.
(9) قولي ــ في قاعدة التكفير ــ (استتيب وجوبا قبل استيفاء العقوبة). وهذا للمقدور عليه.
اعلم أن الاستتابة وإن كانت تطلق في الأصل على طلب التوبة من المرتد بما يعني أنه لايُستتاب إلا من حُكِمَ عليه بالردة، إلا أنها تطلق أيضا في كلام العلماء على مايسبق الحكم من تبين الشروط والموانع، وبناء على ذلك فإن الاستتابة تطلق على كل مايقع في مجلس الحكم من تبين الشروط والموانع قبل الحكم ومن طلب التوبة بعد الحكم بالردة. ويتبيّن من هذا أنه إذا قرأ الطالب في كتب العلم (أنه من قال كذا أو فعل كذا يُستتاب) فلا تعني هذه العبارة أن هذا قد كفر وتطلب منه التوبة، بل تعني أنه صدر منه قول أو فعل مُكفِّر ويجب تبين حاله أي تبين الشروط والموانع وبعدها إما أن يُحكم ببراءته وإما أن يُحكم بردته وتطلب توبته.(6/188)
أ ــ أما إطلاق الاستتابة على تبين الشروط والموانع قبل الحكم على من صدر منه قول أو فعل مكفر، فهذا ثابت بإجماع الصحابة رضي الله عنهم، كما ذكره ابن تيمية رحمه الله في قوله (أما الفرائض الأربع فإذا جحد وجوب شيء منها بعد بلوغ الحجة فهو كافر، وكذلك من جحد تحريم شيء من المحرمات الظاهرة المتواتر تحريمها كالفواحش والظلم والكذب والخمر ونحو ذلك. وأما من لم تقم عليه الحُجة مثل أن يكون حديث عهد بالإسلام أو نشأ ببادية بعيدة لم تبلغه فيها شرائع الإسلام ونحو ذلك، أو غلط فظن أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يستثنون من تحريم الخمر، كما غلط في ذلك الذين استتابهم عمر، وأمثال ذلك. فإنهم يستتابون وتقام الحجة عليهم، فإن أصروا كفروا حينئذ ٍ ولايُحكم بكفرهم قبل ذلك كما لم يَحكم الصحابة بكفر قدامة بن مظعون وأصحابه لما غلطوا فيما غلطوا فيه من التأويل) (مجموع الفتاوى) 7/ 609 ــ 610. فظهر من كلامه هذا أن الاستتابة تطلق على تبين الموانع وإقامة الحجة وهذا يكون قبل الحكم بالردة كما قال (ولايُحكم بكفرم قبل ذلك). وهذه الاستتابة واجبة مع المقدور عليه، وتفعل بحسب الإمكان مع الممتنع بحيث أنه إذا بلغ من يحكم في شأن الممتنع الذي صدر منه الكفر وجود مانع لديه وجب أن يعتبره، ولكن لايجب على من يحكم في شأنه أن يبحث عن الموانع ولا أن يعلق الحكم عليه على ذلك، خاصة إذا ترتب على التوقف في ذلك مفسدة على المسلمين، وسيأتي ذكر الأدلة على ذلك في الفقرة التالية إن شاء الله عند الكلام في الممتنع.(6/189)
ب ــ وأما الاستتابة بمعنى طلب التوبة ممن حُكِمَ عليه بالردّة فهذا هو المشهور في كتب العلم، وقد دلت عليها أدلة كثيرة كقوله تعالى (ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم ــ إلى قوله ــ فإن يتوبوا يك خيراً لهم) التوبة 74، وقوله تعالى (كيف يهدي الله قوماً كفروا بعد إيمانهم ــ إلى قوله ــ إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا) آل عمران 86 ــ 89. وفي قصة القوم الذين ارتدوا من بني حنيفة بالكوفة في إمارة عبدالله بن مسعود ــ جاء فيما رواه البيهقي ــ (ثم استشار الناس في أولئك النفر، فأشار عليه عدي بن حاتم بقتلهم، فقام جرير والأشعث فقالا: بل استتبهم وكفِّلهم عشائرهم، فتابوا وكفّلهم عشائرهم) نقله ابن حجر في (فتح الباري) 4/ 470، ونقلت قصتهم بطولها من قبل، فقوله (استتبهم... فتابوا) دل على أن الاستتابة هنا هى طلب التوبة ممن حُكِمَ بردته. وهذه الاستتابة واجبة عند أكثر أهل العلم، وذهب إلى عدم وجوبها الأحناف وأهل الظاهر والشوكاني. والراجح وجوب الاستتابة وحكي ابن القصّار من المالكية إجماع الصحابة على ذلك، يعني الإجماع السكوتي، انظر (الشفا) للقاضي عياض، 2/ 1023 ــ 1025، ط الحلبي. وحكى ابن تيمية أيضا إجماع الصحابة على وجوب استتابة المرتد في (الصارم المسلول) صـ 323. ويراجع أيضا (فتح الباري) 12/ 269، و (المغني مع الشرح الكبير) 10/ 76، و (المجموع) للنووي 19/ 229، و (السيل الجرار) للشوكاني 4/ 373، و (الصارم المسلول) صـ 321 ومابعدها.
وتوبة المرتد: تكون باتيانه بالشهادتين ورجوعه عما كَفَر به. انظر (المراجع السابقة)، وقال ابن مفلح الحنبلي (قال شيخنا: اتفق الأئمة أن المرتد إذا أسلم عَصَم دمه وماله وإن لم يحكم به حاكم) (الفروع) 6/ 172، ط مكتبة ابن تيمية. وقوله (شيخنا) يعني شيخ الإسلام ابن تيمية.
(فائدة) متى تُرَدُّ العدالة للمذنب التائب؟(6/190)
سبق الحديث عن التوبة وبيان شروطها في بيان فرض العين من العلم في الفصل الثاني من الباب الثاني من هذا الكتاب. والتوبة نوعان: باطنة وحكمية.
أما الباطنة فهى المستوفية للشروط التي أشرنا إليها من الندم والإقلاع عن الذنب والعزم على عدم العودة إليه والاستغفار باللسان وأداء حقوق العباد إن تعلَّق الذنب بها وغيرها، فهذه التوبة المقبولة.
وأما التوبة الحكمية: فهى إظهار المذنب لتوبته عند الناس بالإقلاع عن معصيته وإظهار الندم، واختلف العلماء في هذا هل تُرد إليه عدالته ــ فتُقبل شهادته وتصح ولايته في النكاح ــ في الحال بمجرد التوبة أم يشترط مضي مدة يتبيّن فيها صلاحه؟ على قولين:
الأول: ترد إليه عدالته في الحال، ودليله قوله تعالى (وهو الذي يقبل التوبة عن عباده) الشورى 25، وقوله تعالى (إن الله يغفر الذنوب جميعا) الزمر 53.
والقول الثاني: يشترط مضي مدة قبل أن ترد إليه عدالته، فإن مضت عليه سنة عمل فيها صالحا بعد توبته ردت إليه العدالة وتبيَّنا صدق توبته. ودليله:
* أن الله تعالى اشترط لصحة التوبة أن يعقبها العمل الصالح، قال تعالى (ومن تاب وعمل صالحا فإنه يتوب إلى الله متابا) الفرقان 71، وقال تعالى (إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم) آل عمران 89، والآيات في هذا المعنى كثيرة، فإذا عمل العبد صالحا بعد توبته تبينا صحة توبته.(6/191)
* أن أبابكر الصديق رضي الله عنه لما تاب المرتدون منعهم من ركوب الخيل وحمل السلاح، وقال لوفد بُزاخة ــ وهم قوم طليحة الأسدي ــ (تتبعون أذناب الإبل حتى يُرِيَ الله خليفة نبيه صلى الله عليه وسلم والمهاجرون أمراً يعذرونكم به) رواه البخاري (7221) أي ترعون الإبل في البادية حتى تظهر صحة توبتكم، قال ابن حجر (والذي يظهر أن المراد بالغاية التي أنظرهم إليها: أن تظهر توبتهم وصلاحهم بحُسن إسلامهم) (فتح الباري) 13/ 211. فهذه سُنّة خليفة راشد وتابعه الصحابة على ذلك، فهو إجماع للصحابة.
* أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما تاب صبيغ بن عسل ــ بعد مانفاه عمر لبدعته ــ أمر عُمر ألا يُكَلَّم إلا بعد سنة. وهذه أيضا سُنّة خليفة راشد.
فالذي يظهر مما سبق رجحان القول الثاني لقوة أدلته، وهى أدلة مُقَيِّدة لأدلة القول الأول المطلقة. وقد ذكر ابن قدامة رحمه الله القولين ولم يرجح بينهما (المغني مع الشرح الكبير) 12/ 80 ــ 82. وكذلك ذكرهما ابن تيمية رحمه الله ولم يرجح بينهما، فقال (وإذا كان كذلك وتاب الرجل، فإن عمل صالحا سنة من الزمان ولم ينقض التوبة، فإنه يُقبل منه ذلك ويُجالَس ويُكَلَّم. وأما إذا تاب ولم تمض عليه سنة، فللعلماء فيه قولان مشهوران: منهم من يقول: في الحال يُجالس وتقبل شهادته، ومنهم من يقول: لابد من مُضِي سنة كما فعل عمر بن الخطاب بصبيغ بن عسل. وهذه من مسائل الاجتهاد، فمن رأي أن تقبل توبة هذا التائب ويُجالس في الحال قبل اختباره فقد أخذ بقولٍ سائغ، ومن رأي أنه يؤخر مدة حتى يعمل صالحاً ويظهر صدق توبته فقد أخذ بقول سائغ وكلا القولين ليس من المنكرات) (مجموع الفتاوى) 28/ 214 ــ 215. وانظر (مجموع الفتاوى) 7/ 86.(6/192)
وقد تبيّن لك من الأدلة رجحان القول الثاني وأنه ينبغي أن يُتربَّص به مدة لتبين صدق توبته، وهذا أيضا من السياسة الحسنة، فلو رُدت العدالة للتائب في الحال وخالطه المسلمون أو تولى ولاية على المسلمين ولم يتبين صدق توبته لأمكن أن يُفسد في المسلمين خاصة إذا كانت تهمته الردة والزندقة، فالواجب أن يتربص به وهى سنة الخلفاء الراشدين كما سبق بيانه، وقال ابن تيمية أيضا (ولا استعمل عمر قط، بل ولا أبوبكر على المسلمين منافقاً، ولا استعملا من أقاربهما ولا كان تأخذهما في الله لومة لائم، بل لما قاتلا أهل الردة وأعادوهم إلى الإسلام منعوهم ركوب الخيل وحمل السلاح حتى تظهر صحة توبتهم، وكان عمر يقول لسعد بن أبي وقاص وهو أمير العراق لاتستعمل أحداً منهم ولاتشاورهم في الحرب) (مجموع الفتاوى) 35/ 65. فلو أن ذا ولاية ٍ ارتد ثم تاب فلا ينبغي أن يبقى في ولايته بعد توبته.(6/193)
(10) قولي ــ في قاعدة التكفير ــ (قبل استيفاء العقوبة من ذوي السلطان) هذا للمقدور عليه في دار الإسلام، فإن لم يتب فقد استوجب عقوبة المرتد في دمه وماله، والرجل والمرأة في ذلك سواء خلافا للأحناف، ويستوفي العقوبة منه في دار الإسلام ذوو السلطان من الإمام ونوابه كالوالي والقاضي وأعوانهم من الشُّرط، وليس للأفراد أن يستوفوا العقوبات أو أن يقيموا الحدود بأنفسهم في دار الإسلام، قال شمس الدين بن مفلح الحنبلي في كتابه (الفروع): (تحرم إقامة حدّ إلا لإمام أو نائبه) جـ 6 صـ 53. وقال ابن قدامة (وقتل المرتد إلى الإمام حُراً كان أو عبداً، وهذا قول عامة أهل العلم، إلا الشافعي في أحد الوجهين في العبد فإن لسيده قتله لقول النبي صلى الله عليه وسلم «أقيموا الحدود على ماملكت أيمانكم») (المغني مع الشرح الكبير) 10/ 80. فهذا لاخلاف عليه بين المسلمين وجري عليه العمل في دار الإسلام من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى انقطاع دار الإسلام من الأرض. والحديث الذي أورده ابن قدامة رواه أبو داود مرفوعا، ورواه مسلم عن علي موقوفا. وقال الشيخ منصور البهوتي الحنبلي (ولايقتله إلا الإمام أو نائبه حُراً كان المرتد أو عبداً، لأنه قتل لحق الله تعالى فكان إلى الإمام أو نائبه ــ إلى قوله ــ (وإن قتله) أي المرتد (غيره) أي غير الإمام ونائبه (بلا إذنه أساء وعُزِّر) لافتياته على الإمام أو نائبه (ولم يضمن) القاتلُ المرتد لأنه محلٌ غير معصوم (سواء قتله قبل الاستتابة أو بعدها) لأنه مهدر الدم في الجملة وردته مبيحة لدمه وهى موجودة قبل الاستتابة كما هى موجودة بعدها (إلا أن يلحق) المرتد (بدار حرب فلكل) أحد ٍ (قتله) بلا استتابة (وأخذ مامعه من مال) لأنه صار حربيا) (كشاف القناع عن متن الإقناع) للبهوتي، 6/ 175، ط دار الفكر 1402 هـ.(6/194)
وما ذكره الشيخ البهوتي من أنه إذا قتل المرتَدَ غيرُ الإمام عُزِّر ولم يضمن، لم يختلف عليه أهل العلم وهو شائع في كتبهم، ولكنه ينبغي أن يُحمل على من استفاض كُفره وثبت عليه ولم تُعرف له توبة، فهذا هو الذي إذا قتله آحاد الرعية لايضمن دمه، وقد يجب هذا على آحاد الرعية إذا كان الإمام متهاوناً في إقامة الحدود. ومن هذا الباب ما نُقل من تحريض السلف على قتل بشْر المريسي عندما أكفروه لقوله بخلق القرآن وتهاوَنَ الأئمة في عقابه، ففي هذا قال عبدالملك بن الماجشون ــ صاحب الإمام مالك ــ (من قال القرآن مخلوق فهو كافر، وقال: لو وجدت بشر المريسي لضربت عنقه) وقال عبدالله بن المبارك ــ محرضاً على قتل بِشر ــ (خيبة ً للأبناء أما فيهم أحدٌ يفتك ببشر). رواهما عبدالله بن أحمد بن حنبل في كتابه (السنة) صـ 40 و 37، ط دار الكتب العلمية 1405هـ.
(11) قولي ــ في قاعدة التكفير ــ (وإن كان ممتنعا بشوكة أو بدار الحرب جاز لكل أحد قتله وأخذ ماله بغير استتابة، وينظر في هذا إلى المصلحة والمفسدة...) فهذا حكم المرتد الممتنع عن القدرة.
والامتناع في الشرع نوعان: النوع الأول: امتناع عن العمل بالشريعة جزئياً أو كلياً، وهو الذي كثر ذكره في كلام شيخ الإسلام ابن تيمية (أيما طائفة امتنعت عن شريعة من شرائع الإسلام) أي لم تعمل بها، والنوع الآخر: امتناع عن القدرة أي عن قدرة سلطان المسلمين أن يوقفه ويحاسبه، ولاتلازم بين النوعين من الامتناع، فقد يكون الممتنع عن العمل بالشريعة مقدوراً عليه في دار الإسلام كمن امتنع عن الصلاة أو الزكاة وهو فرد مقدور عليه في دار الإسلام. فيجب التفريق بين النوعين من الامتناع. والامتناع الذي نعنيه في كلامنا السابق هو الامتناع عن قدرة سلطان المسلمين.(6/195)
ويكون الامتناع عن القدرة في دار الإسلام بالتظاهر بالسلاح والأعوان ــ كما يفعل المحاربون قطاع الطرق ــ، كما يكون الامتناع بالفرار إلى دار الحرب خارجاً عن سلطان المسلمين، فهذه صور الامتناع عن القدرة، وقد ذكرها ابن تيمية في قوله (وأيضا فإنه إذا امتنع بطائفة أو بدار الحرب) (الصارم المسلول) صـ 278، وفي قوله (ولأن المرتد لو امتنع بأن يلحق بدار الحرب أو بأن يكون المرتدون ذوي شوكة يمتنعون بها عن حكم الإسلام) (الصارم المسلول) صـ 322.
والمرتد الممتنع: قد يكون ارتد في دار الإسلام وبقي فيها ممتنعا عن قدرة السلطان بالسلاح والأعوان، وقد يكون ارتد في دار الإسلام وفرّ إلى دار الحرب، وقد يكون مقيما بدار الحرب وقت ارتداده وبقي فيها.(6/196)
فإذا ثبتت ردته بشهادة عدلين أو باستفاضة بدون شبهة أو احتمال ــ وهذا لايثبت إلا بقضاء قاضٍ أو بفتوى مفت ٍ ــ جاز لكل أحد قتله وأخذ ماله، بغير استتابة، وهذا من الفروق بين المقدور عليه والممتنع، وقد سبق كلام الشيخ البهوتي في هذا، وقال ابن قدامة رحمه الله (ولو لحق المرتد بدار الحرب لم يزل ملكه، لكن يباح قتله لكل أحد من غير استتابة وأخذ ماله لمن قدر عليه لأنه صار حربيا حكمه حكم أهل الحرب) (المغني مع الشرح الكبير) 10/ 82، وذكر مثله ابن مفلح الحنبلي في (الفروع) 6/175 ــ 176. ودليله إهدار النبيص لدم عبدالله بن سعد بن أبي السرح لما ارتد وفرّ إلى مكة قبل فتحها، فامتنع بفراره إلى دار الكفر عن سلطان المسلمين، وقصته مروية بأسانيد صحيحة ومذكورة بالتفصيل في (الصارم المسلول) لابن تيمية، صـ 109 ــ 118، ط دار الكتب العلمية 1398 هـ. وقال ابن تيمية رحمه الله (ولأن المرتد لو امتنع ــ بأن يلحق بدار الحرب أو بأن يكون المرتدون ذوي شوكة يمتنعون بها عن حكم الإسلام ــ فإنه يقتل قبل الاستتابة بلا تردد) (الصارم المسلول) صـ 322، وقال أيضا (على أن الممتنع لايُستتاب، وإنما يُستتاب المقدور عليه) (الصارم المسلول) صـ 325 ــ 326.(6/197)
ويدخل في هذا: المرتدون المحاربون لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم المجاهرون بعدائهم للإسلام والمسلمين كالحكام الطواغيت الحاكمين بغير شريعة الإسلام وجنودهم وأعوانهم من الكتاب والصحافيين وغيرهم في شتى بلدان المسلمين اليوم، فديارهم ديارحرب لحكمها بشرائع الكفر. وهؤلاء حكمهم حكم المرتد الممتنع بدار الحرب والتي لايؤاخذ فيها بجريمة الردة التي لاتجرّمها القوانين الوضعية. فالمرتد في هذه البلاد يحتمي بقوانينها وبجنودها الموكلين بالدفاع عن هذه القوانين، فهو ممتنع بدار الحرب، ولهذا يجوز لكل أحدٍ من المسلمين قتل أمثال هؤلاء الذين استفاض العلم بكفرهم وتخطى مرحلة الاثبات الشرعي، وهذا من الجهاد في سبيل الله تعالى، ولايبقى نظرٌُ هنا إلا النظر في المصلحة والمفسدة المترتبة على قتلهم، ومع أن قتل المرتد والكافر هو في ذاته مصلحة خاصة إذا كان قد جمع بين الكفر والصد عن سبيل الله وإيذاء المسلمين وفتنتهم ففي قتله مصلحة عظيمة، ولكن إذا ترتب على قتله مفسدة أعظم على المسلمين من هذه المصلحة، فيؤخر قتله إلى أن يحين الظرف المناسب، لأن (درء المفاسد مقدم على جلب المصالح)، ولأنه (إذا تعارضت مفسدتان احتملت أخفهما لدفع أعظمهما)، وإذا كانت المصلحة في قتل هذا أرجح من المفسدة المترتبة على ذلك قدمت المصلحة. هذا والله تعالى أعلم.
فهذه قاعدة التكفير مع شرح موجز لها، ومن طلب مزيداً من التفصيل فليرجع إلى كتابي (الحجة في أحكام الملة الإسلامية) ففيه بسط كل هذا بأدلته. وإنما ذكرت هذا الشرح الموجز هنا ليستعين به الطالب في دراسته لموضوع الإيمان والكفر من الكتب المختلفة نظراً لتفرق مسائل الموضوع تفرقاً يتعذر معه على الطالب المبتدئ جمع شتاته. وألخّص ماسبق فأقول: إن المراحل أو الخطوات ــ المذكورة في قاعدة تكفير المعيّن هى:(6/198)
(1) النظر في السبب: وهو أن يستوفي القول أو الفعل شرطي التكفير، بأن يكون صريحا في الدلالة وثبت أنه مكفر بالدليل الشرعي.
(2) النظر في الشرط: وهو إما أن يكون في الفاعل أو في فعله أو في ثبوت فعله.
(3) النظر في المانع: وهو إما أن يكون في الفاعل أو في فعله أو في ثبوت فعله.
(4) الحكم: بالردة، ويتعلق به أهلية الحاكم للحكم.
(5) الاستتابة: ــ على المعنى الثاني ــ بعد الحكم بالردة، وذلك للمقدور عليه.
(6) استيفاء العقوبة: من ذي السلطان في دار الإسلام للمقدور عليه، ومن كل أحدٍ للممتنع.
والنظر في السبب فقط هو مايعرف (بالتكفير المطلق)، أما (تكفير المعيّن) فيستوجب النظر في الشرط والمانع ــ بالإضافة إلى السبب ــ قبل الحكم عليه.
هذا ما يتعلق بقاعدة التكفير.
المطلب الرابع: الأخطاء الشائعة في موضوع التكفير:
وهى أخطاء شائعة ومنتشرة بالكتب وفي مقالات المتكلمين في موضوع التكفير، وهى قليلة في القدامي كثيرة في المعاصرين، وهذه الأخطاء تؤدي إلى تكفير المسلم أو إلى عدم تكفير الكافر، ومنها: التكفير بالدليل المحتمل، والتكفير بالعمل المحتمل، والخلط بين قصد العمل المكفِّر وقصد الكفر، والخلط بين سبب الكفر ونوع الكفر، واشتراط كفر القلب للحكم بالكفر. وهذا عرض موجز لها:
(1) التكفير بالأدلة الشرعية محتملة الدلالة: وهى الصّيغ التي أشرنا إلى بعضها من قبل في شروط وصف القول أو الفعل بأنه مكفِّر، كالذنوب التي يوصف فاعلها بأنه (لايؤمن) أو (فقد كفر) أو (ليس منا) ونحوها. فقد حمل الخوارج كل هذه الصيغ ــ بل كل صيغ الوعيد ــ على الكفر الأكبر مع أنها تحتمله وتحتمل مادونه. وتفصيل هذا كله بكتابي (الحجة في أحكام الملة الإسلامية).
(2) التكفير بالأعمال (الأقوال والأفعال) محتملة الدلالة دون النظر في قصد فاعلها: وهو مابوّب له العلماء بعنوان (إكفار المتأولين) ومسألة (لازم المذهب) كما ذكرته من قبل في شرح قاعدة التكفير.(6/199)
(3) الخلط بين قصد العمل المكفِّر وقصد الكفر.
اشترط البعض قصد الكفر للحكم بالتكفير، وأن الشخص مهما أتى من الأقوال والأفعال المكفّرة لايكفر مالم يقصد أن يكفر بهذا، وقد يبدو هذا الشرط صحيحا بادي الرأي لقوله صلى الله عليه وسلم (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امريءٍ مانوى) الحديث متفق عليه، ولكن التفريق بين نوعين من النية أو القصد ــ مع أدلة أخرى ــ يبيّن أنه شرط باطل. فالنوع الأول من القصد هو أن يتكلم الإنسان كلاماً مكفراً قاصداً له أي متعمداً غير مخطيء، فهذا القصد معتبر ولابد من اشتراطه لمؤاخذة صاحبه بكلامه، والنظر في قرائن الحال المصاحبة للكلام له أثر هام في تمييز العامد من المخطيء كما سيأتي في حديث الرجل الذي أضلّ راحلته، والنوع الثاني من القصد هو أن يقصد الإنسان الكفر بكلامه المكفر الذي تعمّده، فهذا القصد غير معتبر وليس شرطاً للحكم بالكفر على صاحبه كما سنذكره بأدلته. ولتقريب المسألة نذكر ماقاله القاضي شهاب الدين القرافي في قاعدة (مايشترط في الطلاق من النية وبين قاعدة مالا يشترط) قال رحمه الله (اعلم أن النية شرط في الصريح إجماعا وليست شرطا فيه إجماعا وفي اشتراطها قولان وهذا هو متحصل الكلام الذي في كتب الفقهاء وهو ظاهر التناقض ولا تناقض فيه، فحيث قال الفقهاء إن النية شرط في الصريح فيريدون القصد لإنشاء الصيغة احترازا من سبق اللسان لِمَا لم يقصد مثل أن يكون اسمها طارقا فيناديها فيسبق لسانه فيقول لها ياطالق فلا يلزمه شيء لأنه لم يقصد اللفظ، وحيث قالوا النية ليست شرطا في الصريح فمرادهم القصد لاستعمال الصيغة في معنى الطلاق فإنها لاتشترط في الصريح إجماعا وإنما ذلك من خصائص الكنايات أن يقصد بها معنى الطلاق وأما الصريح فلا.) (الفروق) 3/163. فكذلك الكلام صريح الدلالة على الكفر يشترط فيه قصد الكلام أي تعمده احترازاً من سبق اللسان ولا يشترط قصد الكفر به. وحتى أن القصد المعتبر في تعيين(6/200)
المراد من الأعمال محتملة الدلالة على الكفر ليس هو قصد الكفر بها وإنما القصد الذي تتميز به، فلو أن رجلا ذبح عند قبر ولم يُعرف لمن يذبح، وسُئِل عن قصده، فقال: اذبح لصاحب القبر عسى أن يفرج كربتي لكفر بذلك، ولايشترط أن يُسئل بعد ذلك هل تقصد الكفر بفعلك هذا أم لا؟، وقد أشرت إلى هذا عند الكلام في المحتملات.
أما عند الذين يشترطون قصد الكفر بالعمل المكفر: فَلَوْ أن رجلاً سَبَّ الله ورسوله، أو قال ماأظن أن الله يبعث مَنْ في القبور، أو قال ماأظن الساعة قائمة، أو قال إن الله هو المسيح بن مريم، ونحو ذلك من الأقوال المكفرة، وقال لم يعتقد قلبي على شيء من ذلك وماانشرح صدري بالكفر وماأردت الكفر بهذه الأقوال، فهذا الرجل لايكفر عند الذين يشترطون قصد الكفر بالعمل المكفر وأنه لابد أن يقصد أن يكون كافراً، وهذا شرط فاسد ويمكن أن يكون حيلة يدرأ بها كل كافر عن نفسه مهما أتى من الكفر، والصحيح أن من قال شيئا من الأقوال السابقة كفر وإن قال لم أقصد الكفر، واشتراط قصد الكفر بالعمل المكفر شرط باطل ترده النصوص الشرعية، وقال صلى الله عليه وسلم (من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو ردّ) رواه مسلم، والدليل على بطلان هذا الشرط:(6/201)
أ ــ قوله تعالى (ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب، قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون، لاتعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم) التوبة 65 ــ 66، فهؤلاء المذكورون قالوا كلاماً مكفراً ــ وهو الاستهزاء المذكور ــ ولم يقصدوا أن يكفروا به بدليل اعتذارهم بأنه (إنما كنا نخوض ونلعب) ولم يكذبهم الله في اعتذارهم فدل على أنهم كانوا يلعبون ولم يقصدوا الكفر بكلامهم، ولكن هذا العذر لم يمنع من الحكم بكفرهم بمجرد كلامهم كما قال تعالى (لاتعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم). قال ابن تيمية رحمه الله في هذه الآيات (فقد أخبر ــ سبحانه وتعالى ــ أنهم كفروا بعد إيمانهم مع قولهم: إنا تكلمنا بالكفر من غير اعتقاد له بل كنا نخوض ونلعب، وبين أن الاستهزاء بآيات الله كُفر، ولايكون هذا إلا ممن شرح صدره بهذا الكلام، ولو كان الإيمان في قلبه منعه أن يتكلم بهذا الكلام) (مجموع الفتاوي) 7/ 220. وذكر ابن تيمية نفس الآيات السابقة وقال (فدلّ على أنهم لم يكونوا عند أنفسهم قد أتوا كفراً، بل ظنوا أن ذلك ليس بكفر، فبيّن أن الاستهزاء بالله وآياته ورسوله كُفر يكفر به صاحبه بعد إيمانه، فدلّ على أنه كان عندهم إيمان ضعيف، ففعلوا هذا المحرم الذي عرفوا أنه محرم، ولكن لم يظنوه كفراً، وكان كُفْراً كفروا به، فإنهم لم يعتقدوا جوازه) (مجموع الفتاوى) 7/273. فهذه الآيات نص في موضع النزاع يبطل اشتراط قصد الكفر للحكم بالكفر، أي يبطل اشتراط نية الكفر، كما يدل النص على أن المرجع في الحكم على الأقوال والأفعال إلى الشريعة لا إلى مايظنه الناس بأعمالهم.(6/202)
ب ــ دليل آخر: هو أنه قد ثبت بالنصوص القرآنية أن كثيراً من الكافرين يُحسنون الظن بأعمالهم وباعتقاداتهم التي هم عليها ويظنون بأنفسهم خيراً، وأنهم أَهْدى من الذين آمنوا سبيلا، وإذا رأوا الذين آمنوا قالوا إن هؤلاء لضالون، وكانوا منهم يسخرون، فإذا أجرينا هذا الشرط الفاسد على هؤلاء الكافرين، وقلت لأحدهم أتريد الكفر بما أنت عليه؟ لقال بل نحن مهتدون أو نحن أبناءُ الله وأحباؤه. فإذا التزمت بالشرط الفاسد وصدقته في قوله لكذّبت بآيات الله وخبر الله تعالى ولصرت أنت من الكافرين بتكذيبك لخبر الله. وهذا يكفي لبيان فساد هذا الشرط. وقد نبّه على هذا شيخ المفسِّرين الطبري في تفسيره لقوله تعالى (قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا، الذين ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا) الكهف 103 ــ 105. قال ابن جرير الطبري رحمه الله في تفسيرها (وهذا من أدلّ الدلائل على خطأ قول من زعم أنه لايكفر بالله أحد إلا من حيث يقصد إلى الكفر بعد العلم بوحدانيته، وذلك أن الله تعالى ذِكْره أخبر عن هؤلاء الذين وصف صفتهم في هذه الآية أن سعيهم الذي سعوا في الدنيا ذهب ضلالا، وقد كانوا يحسبون أنهم محسنون في صنعهم ذلك، وأخبر عنهم أنهم هم الذين كفروا بآيات ربهم، ولو كان القول كما قال الذين زعموا أنه لايكفر بالله أحدٌ إلا من حيث يعلم، لوجب أن يكون هؤلاء القوم في عملهم الذي أخبر الله عنهم أنهم كانوا يحسبون فيه أنهم يحسنون صنعه مثابين مأجورين عليه، ولكن القول بخلاف ماقالوا، فأخبر جَلَّ ثناؤه عنهم أنهم بالله كفرة وأن أعمالهم حابطة) (جامع البيان) 16/43 ــ 35. كما نبّه على هذا أيضا شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب في كلامه عمن نطق بكلمة الكفر ولا يعرف أنها تكفّره، فقال (وأما كونه لايعرف أنها تكفره، فيكفي فيه قوله «لاتعتذروا قد كفرتم بعد(6/203)
إيمانكم» التوبة 66، فهُم يعتذرون من النبي صلى الله عليه وسلم ظانين أنها لاتُكفِّرهم. والعجب ممن يحملها على هذا وهو يسمع قوله «وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا» الكهف 104، «إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون» الأعراف 30، «وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون » الزخرف 37، أيظن هؤلاء ليسوا كفاراً؟، ولاتستنكر الجهل الواضح لهذه المسائل لأجل غربتها) (الدرر السنية في الأجوبة النجدية، جـ 8، كتاب المرتد، صـ 105). وقد أضفت إلى كلامه مواضع الآيات وأرقامها. وأضيف إلى ماذكره من آيات: قوله تعالى (وقالت اليهود والنصارى نحن أبناءُ الله وأحباؤه) المائدة 18، وقوله تعالى (وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى) البقرة 111، فاعتقاد الكافر بأنه محسنٌ وأنه مُهتد ٍ أو أنه من أهل الجنة لايمنع من تكفيره إذا ثبت كفره بالدليل، وأضيف إلى ذلك: أن اعتقاده بأنه مُحسنٌ هو في ذاته عقوبة قدرية له من الله ليستمر على ضلاله وغوايته كما قال تعالى (وقيّضنا لهم قُرناء فزينوا لهم مابين أيديهم وماخلفهم، وحق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس، إنهم كانوا خاسرين) فصلت 25، وقال تعالى (ومن يَعْشُ عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين، وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون) الزخرف 36 ــ 37. فكيف تُعتبر هذه العقوبة القدرية مانعا من الحكم الشرعي عليهم بالكفر؟.
جـ ــ دليل ثالث: وهو آية النحل (من كفر بالله من بعد إيمانه) وسيأتي مافيها في كلام ابن تيمية بعد قليل إن شاء الله.(6/204)
والخلاصة: أن القصد المعتبر في التكفير هو قصد العمل المكفر أي تعمّده، لاقصد الكفر به، وقد بيَّن ابن تيمية هذا الفرق بأوجز عبارة فقال رحمه الله (وبالجملة فمن قال أو فعل ماهو كُفْر كَفَرَ بذلك، وإن لم يقصد أن يكون كافراً، إذ لايقصد الكفر أحدٌ إلا ماشاء الله) (الصارم المسلول) صـ 177 ــ 178. وقد بوّب البخاري رحمه الله لهذه المسألة ــ عدم اشتراط قصد الكفر للحكم بالكفر ــ في كتاب الإيمان من صحيحه في باب (خوف المؤمن من أن يحبط عملُه وهو لايشعر) (فتح الباري) 1/ 109. وفي شرح أحاديث الخوارج وفيها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرميّة) الحديث، قال ابن حجر (وفيه أن من المسلمين من يخرج من الدين من غير أن يقصد الخروج منه، ومن غير أن يختار دينا على دين الإسلام) (فتح الباري) 12/ 301 ــ 302. فالقصد المعتبر كشرط في التكفير هو تعمّد اتيان العمل المكفِّر كما نَبَّهنا عليه في شروط الحكم وموانعه في شرح قاعدة التكفير، أما تعمّد الكفر بهذا العمل فغير معتبر. واعتبار القصد بهذه الصفة ــ أي العَمْد ــ كشرط للتكفير يؤدي إلى عدم تكفير أصناف من الناس:
أ ــ كمن لاقصد له معتبر في الشريعة: كالصغير غير المميز والمجنون والنائم مهما أتوا.
ب ــ ومن أتى عملاً محتمل الدلالة على الكفر، فلابد من تبين قصده من العمل.
جـ ــ والمخطئ: وهو المكلف الذي أتى عملا صريح الدلالة على الكفر ولكن على وجه الخطأ لا العمد. كالذي قال (اللهم أنت عبدي وأنا ربك) فهذا قول مكفِّر، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم وصفه بأنه (أخطأ من شدة الفرح) الحديث متفق عليه. والخطأ معفو عنه كما قال تعالى (وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ماتعمدت قلوبكم) الأحزاب 5.
د ــ والمتأوِّل المخطيء: تأوّلا سائغا يُعذر به كما ذكرت في الموانع آنفا، لأنه غير متعمد.(6/205)
فهذا هو القصد المعتبر في التكفير: قصد العمل المكفّر لا قصد الكفر.
وهذا الخطأ ــ وهو اشتراط قصد الكفر ــ وقع فيه بعض القدامى وكثير من المعاصرين، ومن هؤلاء:
أ ــ فمن القدامى: القرطبي رحمه الله قال (وليس قوله «أن تحبط أعمالكم وأنتم لاتشعرون» ــ الحجرات 2 ــ بموجب أن يكفر الإنسان وهو لايعلم، فكما لايكون الكافر مؤمنا إلا باختياره الإيمان على الكفر، كذلك لايكون المؤمن كافراً من حيث لايقصد إلى الكفر ولايختاره بإجماع، كذلك لا يكون الكافر كافراً من حيث لايعلم) (تفسير القرطبي) 16/ 308. وكلامه ليس صريحا في اشتراط قصد الكفر، فقوله (إلا باختياره ــ ولايختاره) فالاختيار يضاد الإكراه وليس هو موضوعنا هنا، وقوله (من حيث لايقصد إلى الكفر) يحتمل أنه يريد قصد العمل المكفر أي تعمّده، فهذا هو المجمع عليه لحديث (الأعمال بالنيات) وكما في كلام القرافي السابق، أما أن يريد القرطبي بكلامه هذا اشتراط قصد الكفر نفسه فاحتمال بعيد والآية نفسها موضع التفسير تبطله بالإضافة لما سبق ذكره من أدلة، ولكن بعض المعاصرين حمل كلام القرطبي على أنه يشترط قصد الكفر، ولهذا ذكرته هنا، ولاحجة في كلام القرطبي مع النصوص التي ذكرناها ويكفي منها قوله تعالى (لاتعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم) التوبة 66، وقوله تعالى (ويحسبون أنهم مهتدون) الأعراف 30، وأذكِّر الطالب بما ذكرته في الباب الرابع من هذا الكتاب من أن أقوال العلماء يحتج لها ولايحتج بها، فهى ليست أدلة شرعية تنتهض للاحتجاج بل هى أقوال غير معصومين تفتقر للاحتجاج.(6/206)
ب ــ وممن وقع في هذا الخطأ ــ وهو اشتراط قصد الكفر للحكم بالكفر ــ الشوكاني رحمه الله في قوله (قال الله عزوجل «ولكن من شرح بالكفر صدراً» النحل 106، فلابد من شرح الصدر بالكفر وطمأنينة القلب به، وسكون النفس إليه، فلا اعتبار بما يقع من طوارق عقائد الشر، لاسيما مع الجهل بمخالفتها لطريقة الإسلام. ولا اعتبار بصدور فعل كفري لم يرد به فاعله الخروج عن الإسلام إلى ملة الكفر، ولا اعتبار بلفظ تلفظ به المسلم يدل على الكفر وهو لايعتقد معناه) (السيل الجرار) 4/ 578، ونقله عنه صديق حسن خان في (الروضة الندية) 2/289، ط دار الندوة الجديدة 1408هـ. ونقل محمد بن إبراهيم الوزير اليماني في كتابه (ايثار الحق على الخلق) صـ 395، أن هذا قول بعض المعتزلة واستدلوا بنفس الآية التي استدل بها الشوكاني رحمه الله. وكلام الشوكاني هذا أشد من كلام القرطبي الذي يمكن تفسيره بما يوافق الصواب، أما كلام الشوكاني فالخطأ فيه ظاهر، والآية التي استدل بها ومافيها من انشراح الصدر بالكفر، فليس هذا شرطا للحكم بالكفر إلا في حال الإكراه فقط كما يدل عليه النص ويفسره حديث عمار الذي رُوِيَ أنه سبب نزوله، أما في غير الإكراه فكل من تعمَّد اتيان قول أو فعل مكفر فقد شرح بالكفر صدراً. قال ابن تيمية رحمه الله (فإن قيل: فقد قال تعالى «ولكن من شرح بالكفر صدراً»، قيل: وهذا موافق لأولها، فإنه من كفر من غير إكراه فقد شرح بالكفر صدراً، وإلا ناقض أول الآية آخرها، ولو كان المراد بمن كفر هو الشارح صدره، وذلك يكون بلا إكراه، لم يستثن المكره فقط، بل كان يجب أن يستثني المكره وغير المكره إذا لم يشرح صدره، وإذا تكلم بكلمة الكفر طوعاً فقد شرح بها صدراً وهى كفر. وقد دل على ذلك قوله تعالى «يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم، قل استهزءوا إن الله مخرج ماتحذرون، ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب، قل أبالله وآياته ورسوله كنتم(6/207)
تستهزءون، لاتعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين». فقد أخبر أنهم كفروا بعد إيمانهم مع قولهم: إنا تكلمنا بالكفر من غير اعتقاد له، بل كنا نخوض ونلعب، وبين أن الاستهزاء بآيات الله كفر، ولايكون هذا إلا ممن شرح صدره بهذا الكلام، ولو كان الإيمان في قلبه منعه أن يتكلم بهذا الكلام) (مجموع الفتاوى) 7/ 220. وقال أيضا (فمن تكلم بدون الإكراه لم يتكلم إلا وصدره منشرح به) (مجموع الفتاوى) 7/561، وقال ابن تيمية أيضا (قال سبحانه: (مَنْ كَفَرَ بالله مِنْ بَعْد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان، ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب من الله، ولهم عذاب عظيم) ــ النحل 106 ــ ومعلوم أنه لم يرد بالكفر هنا اعتقاد القلب فقط، لأن ذلك لايكره الرجل عليه، وهو قد استثنى من أكره ولم يرد من قال واعتقد، لأنه استثنى المُكْرَهَ وهو لايكرَه على العقد والقول، وإنما يكره على القول فقط، فعلم أنه أراد من تكلم بكلمة الكفر فعليه غضب من الله وله عذاب عظيم وأنه كافر بذلك إلا من أكره وهو مطمئن بالإيمان، ولكن من شرح بالكفر صدراً من المكرهين فإنه كافر أيضاً، فصار من تكلم بالكفر كافراً إلا من أكره فقال بلسانه كلمة الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان، وقال تعالى في حق المستهزئين (لاتعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم)، فبين أنهم كفار بالقول مع أنهم لم يعتقدوا صحته) (الصارم المسلول) صـ 524.(6/208)
وخلاصة ما تدل عليه الآية ومايريده ابن تيمية رحمه الله: هو أن شرح الصدر بالكفر ــ أي كُفر القلب ــ شرط للحكم بالكفر في حالة الإكراه فقط، فمن أكرِه على الاتيان بمكفر ظاهر من قول ٍ أو فعل، يقال له: كيف تجد قلبك؟ ــ كما رُوِيَ في حديث عمار بن ياسر ــ فإن قال: مطمئن بالإيمان، فلا يضره مافعل، وإن قال: رضيت بما فعلت أو انشرح صدري به، يُحكم عليه بالكفر رغم وقوع الإكراه عليه، هذا هو معنى الآية. أما في غير الإكراه، فكل من أتى بمكفّر ظاهر من قول ٍ أو فعل ٍ متعمداً فقد شرح صدره بالكفر ــ أي كفر بقلبه ــ للإجماع على أن من أخبر الله بكفره بمكفر ظاهر فهو كافر ظاهراً وباطناً، فشرح الصدر بالكفر شرط للتكفير في حالة المكره ولكنه لازم للكفر في غير المكره.(6/209)
وقد تكلم الشيخ حمد بن عتيق النجدي رحمه الله 1301 هـ في نفس المسألة في رده على أحد خصوم دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب، فقال (وأما خروجه ــ أي الخَصْم ــ عما بعث الله به رسوله من الكتاب والسنة وماعليه الصحابة ومن بعدهم من أهل العلم فقوله: فمن شرح بالكفر صدراً أي فتحه ووسّعه وارتد عن الدين وطابت نفسه بالكفر فذلك الذي ندين الله بتكفيره، هذه عبارته، وصريحها أن من قال الكفر أو فعله لايكون كافراً وأنه لايكفر إلا من فتح صدره للكفر ووسعه، وهذا معارضة لصريح المعقول وصحيح المنقول وسلوك سبيل غير سبيل المؤمنين، فإن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع الأمة قد اتفقت على أن من قال الكفر أو فعله كَفَر ولا يشترط في ذلك انشراح الصدر بالكفر ولايستثنى من ذلك إلا المكره، وأما من شرح بالكفر صدراً أي فتحه ووسّعه وطابت نفسه به ورضي فهذا كافر عدو لله ولرسوله وإن لم يتلفظ بذلك بلسانه ولافعله بجوارحه، هذا هو المعلوم بدلالة من الكتاب والسنة وإجماع الأمة، ونبين ذلك من وجوه) ثم ذكر عشرة أدلة على كلامه ذكرنا بعضها فيما مضى، وراجع بقيتها في رسالته (الدفاع عن أهل السنة والاتّباع) ط دار القرآن الكريم 1400هـ، صـ 22 ــ 23.(6/210)
ومن المعاصرين الذين وقعوا في هذا الخطأ: ماورد في رسالة ماجستير بعنوان (ضوابط التكفير عند أهل السنة) لعبدالله بن محمد القرني، حيث نصّ صراحة على أن القصد المعتبر في التكفير ليس هو مجرد القصد إلى الفعل بل غاية الفاعل من فعله وأنه لابد لتكفيره من أن يقصد الكفر الذي حصره في عبادة غير الله وهذا كله بخلاف ماتدل عليه الأدلة كما أسلفنا القول، فقال المؤلف في صـ 261 (فالحكم على الفعل الظاهر بأنه كفر متعلق ببيان الحكم الشرعي مطلقا، وأما الفاعل فلابد من النظر إلى قصده بما فعل والتبيّن عن حاله في ذلك قبل الجزم بتكفيره. وليس المراد بالقصد هنا مجرد القصد إلى الفعل فإن هذا لايتخلف عنه عمل أصلا ــ خلا عمل المجنون والنائم ونحوهما ــ وهو في حقيقته الإرادة الجازمة لتحقيق الفعل بحيث يكون الإنسان معها مخيراً أن يفعل الفعل أو ألا يفعله. وهذا القصد هو مناط التكليف. وإنما المراد بالقصد هنا القصد بالفعل الذي هو غاية الفاعل من فعله والباعث له عليه، والدافع له على تحقيقه ومراده منه) ثم استدل لكلامه بحديث (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امريء مانوى) أهـ ثم فصَّل قوله أن المراد بالقصد هو غاية الفاعل من فعله والباعث له عليه بأنه قصد عبادة غير الله، فقال في صـ 309 (فهل كل من تلبّس بعملٍ من أعمال الشرك الظاهرة أو حكم بالقوانين الوضعية لابد أن يكون كافراً بمجرد فعله الظاهر؟ إننا لابد أن نفرق هنا بين أحكام الكفر على الحقيقة وبين الحكم على المعين بالكفر في الظاهر، وذلك أنه ليس كل من عمل عملاً من أعمال الشرك في الظاهر لابد أن يقصد به عبادة غير الله إذ قد يفعله على غير جهة التقرب إلى غير الله تعالى، فلابد قبل الحكم بكفره من تبين حاله لإزالة هذا الاحتمال، إلا إذا كان فعله لا يحتمل مطلقا إلا أن يكون عبادة وتقرباً إلى غير الله فإنه يُحكم بكفره حينئذ لعدم الاحتمال في القصد) أهـ. فهو قد اعتبر قصد الكفر (عبادة غير(6/211)
الله) شرطاً للتكفير، وهذا خطأ من وجهين:
الأول: أن القصد المعتبر هو تعمد فعل العمل المكفر لاقصد الكفر به كما سبق بيانه، والتبيُّن المطلوب في الأعمال محتملة الدلالة هو تبين هل هى صريحة أم لا؟ لا تبين قصد الكفر بها. فمن دعا عند قبر نسأله مَنْ تدعو وبماذا تدعو؟ فإن قال أدعو الميت أن يفرج كربتي علمنا أن عمله صريح الدلالة على الكفر. ولا نقول له بعد ذلك هل تقصد الكفر أم لا؟. وقد سبق أن نقلنا قول ابن تيمية (وبالجملة فمن قال أوفعل ما هو كُفْر كَفَر بذلك وإن لم يقصد أن يكون كافراً، إذ لايقصد الكفر أحد إلا ماشاء الله) (الصارم المسلول) صـ 177 ــ 178.
الوجه الثاني: حصره الكفر في عبادة غير الله والتقرب إليه، فالكفر أسبابه أعم من هذا، فمن ألقى المصحف في القذر أو سب الله ورسوله أو أنكر البعث بعد الموت ونحوه كفر بذلك وليس في ذلك عبادة غير الله أو التقرب إليه.
وفي الرسالة المشار إليها أخطاء أخرى نذكرها فيما بعد إن شاء الله تعالى.
(4) ومن الأخطاء الشائعة في موضوع التكفير: الخلط بين سبب الكفر ونوع الكفر.
سبق التنبيه على هذه المسألة عند الكلام في قول الإمام الطحاوي رحمه الله (ولايخرج العبد من الإيمان إلا بجحود ماأدخله فيه). وذكرت هناك الفرق بين أسباب الكفر وأنواعه، وأن أحكام الدنيا التي تجري على الظاهر مترتبة على الأسباب لا الأنواع.
أما أسباب الكفر: فهى ــ وكما سبق في تعريف الردة ــ على الحقيقة أربعة أسباب: قول مكفر أو فعل مكفر أو اعتقاد مكفر أو شك مكفر. أما في أحكام الدنيا فأسباب الكفر اثنان لاثالث لهما: قول مكفر أو فعل مكفر. والقول هو عمل اللسان والفعل عمل الجوارح، كما قال تعالى (لم تقولون مالا تفعلون، كبر مقتا عند الله أن تقولوا مالا تفعلون) الصف، أما الاعتقاد والشك فهى من أعمال القلب.
وأما أنواع الكفر فكثيرة إذ ينقسم الكفر بأكثر من اعتبار إلى أقسام منها:(6/212)
أ ــ فباعتبار البواعث القلبية على الكفر، ينقسم إلى الأقسام التي ذكرنا من قبل: ككفر التكذيب وكفر الجحود وكفر الاستكبار وكفر الشك والريب وكفر التقليد وكفر الجهل.
ب ــ وباعتبار ظهور الكفر وخفائه: ينقسم إلى كفر ظاهر وهو ماظهر في قول أو فعل، وإلى كفر خفي وهو ماكان بالاعتقاد المجرد مع اظهار صاحبه للإسلام وهذا كفر النفاق.
جـ ــ وباعتبار ثبوت حكم الإسلام من قبل للكافر، ينقسم الكفر إلى: كفر أصلي: وهو مالم يكن صاحبه مسلماً من قبل، وهؤلاء أقسام خمسة جمعتهم آية سورة الحج (والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا) الحج 17، وكفر طاريء: وهو كفر الرِدّة وهو ماكان صاحبه محكوماً بإسلامه قبل كفره.
د ــ وباعتبار الزيادة والنقصان، ينقسم الكفر إلى كفر مجرد وكفر مزيد، قال تعالى (ثم كفروا ثم ازدادوا كفراً) النساء 137، وقال تعالى (إنما النسيء زيادة في الكفر) التوبة 37. وتكلم شيخ الإسلام كثيراً في هذين القسمين في كتابه (الصارم المسلول).
هـ ــ وباعتبار الإطلاق والتعيين: ينقسم الكفر إلى: كفر النوع (التكفير المطلق)، وكفر العين (تكفير المعين).
و ــ وباعتبار مايتعلق به سبب الكفر، ينقسم الكفر إلى أقسام مثل: شرك في الربوبية (ومنه شرك التصرف والأسباب، وشرك الحلول) وشرك في الألوهية (ومنه شرك الدعاء وشرك الطاعة وشرك المحبة وشرك الخوف) وشرك في الصفات.
ز ــ وباعتبار كونه مخرجا من الملة أم لا؟: ينقسم الكفر إلى كفر أكبر مخرج من الملة وتندرج تحته كل الأقسام السابقة، وكفر أصغر غير مخرج من الملة أو كفر دون كفر وهو كل معصية أطلق عليها الشارع اسم الكفر مع بقاء اسم الإيمان لفاعلها.
وكل هذه الأقسام والأنواع قد دلت عليها الأدلة الشرعية وأثبتها العلماء في كتبهم.
ومن جهة الخلط بين الأسباب والأنواع فأكثر مايقع ذلك بين أسباب الكفر وأنواعه التي هى بواعث قلبية على الكفر.(6/213)
فقد ذهب البعض إلى أنه لايحكم على أحدٍ بالكفر إلا أن يندرج عملُه تحت نوعٍ من أنواع الكفر المذكورة أعلاه، وهذا شرط فاسد وتلبيس يؤدي إلى عدم تكفير الكافر وإلباسه خلعة الإيمان وتركه يخالط المسلمين على أنه منهم. فتجد في زماننا هذا من يلتمس الأعذار للكافرين ويقول لك إن هذا الذي أكفرته لم يجحد أو لم يرد النص ونحو ذلك من زخرف القول الذي يخدعون به العوام لصرفهم عن تكفير الكافر. ومن هذا مافعله بعض المشايخ الموالين للحكومة الكافرة في مصر (منهم محمد متولي الشعراوي ومحمد الغزالي ويوسف القرضاوي وآخرون) إذ أصدروا بيانا في 1/1/1989م، وقالوا فيه (إنهم يعتقدون في إيمان المسئولين بمصر، وأنهم لايَرُدّون على الله حُكماً، ولاينكرون للإسلام مبدأ) من (صحيفة الإتحاد) 2/1/ 1989، هذا كلامهم، وفيه تلبيس وكتمان، ولايتمكن عالم السوء من تضليل الناس إلا بتلبيس الحق بالباطل أو بكتمان الحق أو بهما معاً، كما قال تعالى (ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون) البقرة 42، أما تلبيسهم وخلطهم فإيهامهم الناس أن الحكم بالكفر يترتب على نوعه والذي قصروه على ردّ النصوص مع أن الكفر أنواع كثيرة كما سبقت الإشارة، وأما ماكتموه من الحق فهو أن الحكم بالكفر يترتب على سببه وهو في حق هذه الحكومة الامتناع عن الحكم بشريعة الإسلام، وإجازة الحكم بالقوانين الوضعية المخترعة، وإلزام الناس بالحكم بها والتحاكم إليها، وغير ذلك من الأسباب.
فينبغي أن يتفطن طالب العلم لهذه الشبهات المُضِلة، ويجب أن يعلم أن أنواع الكفر المذكورة بكتب الاعتقاد لادخل لها في موضوع التكفير من الوجهة الحكمية القضائية، ولهذا لاتجد لها ذكراً في أبواب الرّدة والمرتد في كتب الفقه، وأن الذي يُحكم به بالكفر في الدنيا: قول مكفّر أو فعل مكفّر (ومنه الترك والامتناع).(6/214)
أما أنواع الكفر التي ذكرناها فهى وصف للباعث الذي قام بقلب الكافر وحمله على الكفر كالكبر والحسد والشك فهذه أعمال قلبية قد تقوى حتى تحمل صاحبها على الكفر، وقد ذكر ابن القيم عشرة أنواع لهذه البواعث الحاملة على الكفر في كتابه (مفتاح دار السعادة) 1/ 96 ــ 98، ط دار الفكر. وهذه البواعث شئ آخر غير سبب الكفر، وليس لها دخل في الحكم على صاحبها بالكفر في الدنيا. ولتقريب المسألة نضرب مثالا برجل قتل آخر عمداً، والباعث له على ذلك إما عداوة أو تعجلاً للميراث أو كان مأجوراً لقتله أو قتله شفقة عليه من مرض مؤلم أو غير ذلك من البواعث، ثم حكم القاضي على القاتل بالقتل قصاصاً، فما الذي نظر إليه القاضي كسبب لحكمه؟ لاشك في أن القاضي نظر إلى الفعل (القتل وكونه عمداً) هذا هو سبب الحكم ولم ينظر القاضي إلى أيٍ من البواعث المذكورة. فلا تخلط بين الأسباب والبواعث، وللتفريق بينهما في الحكم بالكفر نذكر الأمثلة التالية:
فإبليس لعنه الله كَفَر بالامتناع عن السجود (وهذا تَرْكٌُ مكفِّر)، أما الباعث له على هذا الامتناع والترك فهو الاستكبار فكُفْره كُفر استكبار، هذا نوع كفره، أما سبب كفره فهو الامتناع عن الأمر. قال تعالى (فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين) البقرة 34. ومعنى (أَبَى) أي امتنع، فقد جمعت هذه الآية بين سبب الكفر (وهو الامتناع عن فعل الأمر) وبين نوع الكفر (وهو الاستكبار).
وكفار مكة امتنعوا عن الإقرار بالشهادتين (وهذا تركٌُ مكفِّر) وهو سبب كفرهم، والباعث لهم على هذا هو الاستكبار وهو نوع كفرهم، كما قال تعالى (إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون) الصافات 35. واليهود مثلهم وزادوا عليهم من جهة الباعث بالحسد كما قال تعالى (حسداً من عند أنفسهم) البقرة 109، وقال تعالى (أم يحسدون الناس على ماآتاهم الله من فضله) النساء 54.(6/215)
وعوام النصارى يكفرون بالقول المكفِّر (إن الله هو المسيح) أو (إن الله ثالث ثلاثة)، كما يكفرون بالفعل المكفِّر كطاعتهم للأحبار والرهبان في التشريع المخالف. هذا سبب كفرهم، أما نوع كفرهم فهو كفر تقليد لأسلافهم الضالين كما في قوله تعالى (ولاتتبعوا أهواء قومٍ قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيراً وضلوا عن سواء السبيل) المائدة 77.
والذين استهزءوا بالصحابة في غزوة تبوك، سبب كفرهم القول المكفّر كما قال تعالى (قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون) التوبة 65، والباعث لهم على ذلك كفر النفاق والشك القائم بقلوبهم. كما قال تعالى (يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم قل استهزئوا إن الله مخرجٌ ما تحذرون) التوبة 64، فهذا نوع كفرهم وهو كفر النفاق الذي حملهم على الاستهزاء. وتأمل قوله تعالى (بما في قلوبهم) وقوله (إن الله مخرج) لتدرك الفرق بين الباعث (وهو نوع الكفر) وبين السبب، وأن الباعث يكون في القلب (وهو النفاق هنا)، أما السبب فهو مايخرج ويمكن إدراكه في الظاهر من قول أو فعل (وهو الاستهزاء هنا). فهذه الآية من أوضح مايبين لك الفرق بين الباعث أو النوع وأنه أمر باطن وبين السبب وهو أمر ظاهر.
هذا كله في بيان الفرق بين سبب الكفر ونوع الكفر، وأن الأول (سبب الكفر) هو المعتبر في أحكام الدنيا لأنه أمر ظاهر منضبط، أما نوع الكفر فلا اعتبار له في أحكام الدنيا لأنه أمر خفي لا ينضبط، وأحكام الشريعة مبنية على ماينضبط.
(5) ومن الأخطاء الشائعة في موضوع التكفير: حصر أسباب الكفر في الكفر الاعتقادي
سبق ــ في تعريف الردة ــ بيان أن الكفر يقع بسبب من ثلاثة: قول مكفر (وهو عمل اللسان) أو فعل مكفر (وهو عمل الجوارح) أو اعتقاد مكفر (وهو عمل القلب) ومنه الشك.(6/216)
فذهب البعض إلى أنه لاكُفْر إلا بالاعتقاد ولايكفر أحد من جهة العمل ويعنون بذلك أقوال اللسان وأفعال الجوارح. وهذا قولٌ فاسد، فقد دَلّت نصوص الشريعة وأجمع العلماء على كفر من قال أقوالا معينة أو فعل أفعالا معينة أو اعتقد اعتقادات معينة، وأبواب الرِّدة بكتب الفقه مشحونة بالأمثلة على ذلك، فحصر أسباب الكفر في الاعتقاد المكفر فقط خطأ فاحش.
أضف إلى ذلك أن أصحاب هذا القول الفاسد يشكل عليهم أن صاحب الاعتقاد المكفر هو مُسلم في أحكام الدنيا مادام لم يُظهر اعتقاده، ولانحكم بكفره إلا إذا أظهر اعتقاده في قول أو فعل، فثبت أنه لايكفر أحد في أحكام الدنيا إلا بقول أو فعل وهو ماينكره أصحاب هذا القول.
والقائلون بأنه لايكفر أحد إلا بالاعتقاد، وإن اختلفت عباراتهم إلا أنها ترجع إلى أصل واحد وهو اشتراط كفر القلب للحكم بالتكفير وهذا قول غلاة المرجئة ــ كما سبق بيانه في التعليق على العقيدة الطحاوية ــ الذين اعتبروا كفر القلب المُعَبَّر عنه بإنكار أو استحلال باللسان شرطا مستقلا للتكفير بالذنوب المكفرة، في حين اعتبر مرجئة الفقهاء والمتكلمين كفر القلب لازما للتكفير بالأعمال الظاهرة المكفرة.
وإليك أمثلة للقائلين بأنه لاكُفْر إلا بالاعتقاد:(6/217)
أ ــ الشيخ الألباني في تعليقه على متن العقيدة الطحاوية، عند قول الطحاوي (ولانكفِّر أحداً من أهل القبلة بذنب مالم يستحله)، قال الألباني إن شارح العقيدة الطحاوية (نقل عن أهل السنة القائلين بأن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، أن الذنب أي ذنب كان هو كفر عملي لا اعتقادي، وأن الكفر عندهم على مراتب كفر دون كفر كالإيمان عندهم) (العقيدة الطحاوية شرح وتعليق الألباني) ط المكتب الإسلامي 1398 هـ، صـ 40 ــ 41. وبمراجعة (شرح العقيدة الطحاوية) لابن أبي العز، صـ 362 ــ 363، ط المكتب الإسلامي 1403هـ تعلم أنه أراد بالكفر العملي: الكفر الأصغر غير المخرج من الملة. وحاصل كلام الألباني أن أي ذنب كان لايكفر فاعله إلا أن يستحله استحلالا قلبيا اعتقاديا ــ حسبما عَرَّف الاستحلال في المصدر المشار إليه ــ فإن لم يستحله كان كفراً أصغر. ونعلق على هذا بقولنا:(6/218)
* إن الألباني لم يكن أمينا في النقل عن ابن أبي العز، فنسب إليه أنه قال (إن الذنب أي ذنب كان هو كفر عملي لا اعتقادي) ولم يقل ابن أبي العز هذا الكلام، وإنما وصف ابن أبي العز الكفر الأصغر (كفر دون كفر) بالكفر العملي. وليست هذه هى المرة الأولى التي يحرف فيها الألباني في النقل، فقد ذكرت في كتابي (العمدة في إعداد العُدة) في ردي على شبهة للألباني قال فيها إن الواجب نحو حكام اليوم هو الصبر والاشتغال بالتربية لا الخروج عليهم، ذكرت أن الألباني استدل لقوله هذا بنقل عن ابن أبي العز بدّل فيه فوضع الألباني كلمة (التربية) من عنده بدلا من كلمة (التوبة) في كلام ابن أبي العز. وكلام ابن أبي العز في (شرح العقيدة الطحاوية) صـ 430، والنقل المحرف في تعليق الألباني على متن العقيدة الطحاوية صـ 47. وهذا التحريف الذي يفعله الألباني لينصر به آراءه هو كما قال ابن حزم رحمه الله (وليعلم من قرأ كتابنا هذا أننا لانستحل مايستحله من لاخير فيه من تقويل أحد مالم يقله نصاً، وإن آل قوله إليه، إذ قد لايلزم ماينتجه قوله فيتناقض، فاعلموا أن تقويل القائل كافراً كان أو مبتدعاً أو مخطئاً مالا يقوله نصاً كذب عليه، ولايحل الكذب على أحد) (الفصل) لابن حزم، 5/33.(6/219)
* أما قول الطحاوي (ولانكفر أحداً من أهل القبلة بذنب مالم يستحله) فقد سبق بيان معناه الصحيح عند أهل السنة في تعليقي على العقيدة الطحاوية، وأن المراد بالذنوب في هذه العبارة هى الذنوب غير المكفرة كالزنا وشرب الخمر التي يُكَفِّر بها الخوارج، ونقلت أقوال العلماء في شرح هذه العبارة، ولم يقل أحد (إن الذنب أي ذنب كان...) كما قال الألباني، بل قد قال ابن أبي العز بخلاف هذا الذي نسبه إليه الألباني، فقال (ولهذا امتنع كثير من الأئمة عن إطلاق القول بأنا لانكفر أحداً بذنب، بل يقال لانكفرهم بكل ذنب كما تفعله الخوارج) (شرح العقيدة الطحاوية) صـ 355 ــ 356. هذا كلام الشارح فتأمل الفرق؟! وقول الشارح إنه قد امتنع كثير من الأئمة عن اطلاق القول بأنا لا نكفر أحداً بذنب. قلت: ومنهم أحمد بن حنبل رحمه الله فيما نقله عنه الخلاّل قال: أنبأنا محمد بن هارون أن إسحاق بن إبراهيم حدّثهم قال: حضرت رجلاً سأل أبا عبدالله فقال: ياأبا عبدالله، إجماع المسلمين على الإيمان بالقدر خيره وشره؟ قال أبو عبدالله: نعم. قال: ولانكفر أحداً بذنب؟، فقال أبو عبدالله: اسكت، من ترك الصلاة فقد كفر، ومن قال القرآن مخلوق فهو كافر) أهـ (المسند) للإمام أحمد بن حنبل، بتحقيق أحمد شاكر، 1/79. وبوّب البخاري لهذه المسألة في كتاب (الإيمان) من صحيحه في باب (المعاصي من أمر الجاهلية ولايكفر صاحبها بارتكابها إلا بالشرك) ولم يقل (ولا يكفر إلا بالاستحلال) لأن قوله (بالشرك) يعم الاستحلال وغيره من الأمور المكفِّرة، وهذا من شفوف نظر البخاري رحمه الله. وقد سبق تفصيل هذا عند كلامي في بيان الفرق بين ما يشترط للتكفير به من الذنوب أن يكون فاعلها جاحداً أو مستحلاً وبين مالا يشترط فيه ذلك، وذكرت هناك أنه يلزم الرجوع إلى هذه المسألة عند الكلام في أخطاء التكفير، فراجعها، وذكرت فيها أن التفريق بين هذين القسمين من الذنوب ثابت بالكتاب والسنة وإجماع الصحابة.(6/220)
أما الألباني فلا يفرق بينهما بل عنده الذنب أي ذنب كان ــ كما قال ــ هو كفر عملي ولايكفر فاعله إلا أن يستحله استحلالا قلبيا، فلا هو ذكر مراد أهل السنة بهذه العبارة (لانكفر مسلما بذنب...) ولا هو نقل كلام ابن أبي العز فيها نقلا صحيحاً. وقد سبق في تعليقي على قول الطحاوي رحمه الله (ولايخرج أحد من الإيمان إلا بجحود ما أدخله فيه) بيان أن جَعْل الجحد ــ وفي معناه الاستحلال كما سبق بيانه ــ شرطا مستقلا للتكفير بالذنوب المكفرة هو قول غلاة المرجئة الذين أكفرهم السلف كما قال ابن تيمية (مجموع الفتاوى) 7/ 205 و 209، وهذا القول أخبث من قول الجهمية الذين قالوا إن من نص الشارع على كفره فهو كافر في أحكام الدنيا ويجوز أن يكون مؤمنا في الباطن.(6/221)
فحاصل قول الألباني هو قول غلاة المرجئة، إذ إنه يشترط الاستحلال الاعتقادي للتكفير بأي ذنب ٍ كان دون تفريق بين الذنوب المكفرة وغير المكفرة، وفي قولٍ آخر له حَصَر الكفر في الانكار (وهو الجحد) وذلك في قوله (ولكني أقول إن القضاء على الذين يحكمون بغير ماأنزل الله سواء كان حكمهم يؤدي بهم إلى الكفر الكلي أو الكفر العملي لايهمنا في كثير أو قليل هذا الفصل بين الأمرين. الآن من ناحية العقيدة من الذي يكفر عند الله؟ هو الذي ينكر ماشرع الله) أهـ. من كتاب (حياة الألباني وآثاره) لمحمد إبراهيم الشيباني، ط الدار السلفية 1407هـ جـ 2 صـ 518. وإذا كان الألباني يشترط الاستحلال أو الانكار للتكفير فماذا أبقى لأمثال محمد متولي الشعراوي الذي قال في كتابه (أنت تسأل والإسلام يجيب): (أي إنسان مهما كان علمه لايستطيع أن يجتريء على واحد يُعلن لا إله إلا الله ويقول عنه: إنه كافر، جائز أن يقول: إنه لايلتزم في أعماله بأمور الدين، أقول لهم: هل الذين يشيرون إليه بذلك لايقوم بتنفيذ أحكام الله إنكاراً أم كسلاً.. إن كان كسلاً نستمهله حتى آخر يوم في حياته ولانكفِّره، وأما إن كان مُنكراً لهذه الأحكام فيكون كُفره ليس لأنه لايطيع وإنما لأنه يُنكر هذه الأحكام) أهـ. نقلا عن كتاب (أشهر قضايا الاغتيالات السياسية) لمحمود كامل العروسي، ط دار الزهراء للإعلام 1989م، صـ 635 ــ 636. وهذا الذي ذكره الشعراوي هو دينه الذي تعلمه في الأزهر، وعمدتهم في ذلك على (شرح جوهرة التوحيد) للبيجوري، ففي كلامه عن الأعمال هل هى شرط في صحة الإيمان أم لا؟ قال البيجوري (وهذا شرط كمال على المختار عند أهل السنة، فمن أتى بالعمل فقد حَصَّل الكمال، ومن تركه فهو مؤمن، لكنه فوَّت على نفسه الكمال، إذا لم يكن مع ذلك استحلال أو عناد للشارع أو شكّ في مشروعيته وإلا فهو كافر فيما عُلِمَ من الدين بالضرورة) أهـ (تحفة المريد شرح جوهرة التوحيد) صـ 45، وقوله (عند(6/222)
أهل السنة) يعني الأشاعرة كما يُسمون أنفسهم، وقد علمت من قبل أن الأشاعرة يُكفرون بالذنوب المكفرة ظاهراً وباطناً مثلهم في ذلك مثل أهل السنة ومرجئة الفقهاء، ألا أن الأشاعرة ومرجئة الفقهاء قالوا: إن اتيان الشخص بالذنب المكفر علامة على أنه جاحد أو مستحل بقلبه أي مكذب بقلبه، لأن الجحد والاستحلال مرجعهما إلى التكذيب كما سبق بينه. أما المتأخرون من أمثال الألباني والشعراوي فجعلوا الجحد والاستحلال شروطاً مستقلة للتكفير ولم يعرفوا مراد القدامى في كتاباتهم فذهبوا بذلك مذهب غلاة المرجئة.
ولهذا فإنني أحذر الكثيرين من الشبان المقلدين للألباني ظناً منهم أنه يقول بقول أهل السنة في هذه المسائل ــ مسائل الإيمان والكفر ــ فقد تبين أن قوله هو قول غلاة المرجئة الذين يحصرون الكفر في الجحد والاستحلال ويعتبرون ذلك شرطاً مستقلاً للتكفير بالذنوب المكفرة بذاتها. مع أنه مافتيء يدعو إلى تصحيح العقيدة وتنقية التراث كما ذكر في مقدمته لكتاب (مختصر العلو) للذهبي، وكما نقله عنه محمد بن إبراهيم الشيباني في كتابه (حياة الألباني وآثاره)، فهل يتفق كلامه في الإيمان والكفر ــ وهى من أهم مسائل الدين ــ مع دعوته لتصحيح العقيدة؟. وكذلك أحذر من الشذوذ الفقهي للألباني فإن له منهجاً شاذاً في الاستدلال والاستنباط سوف أشير إليه إن شاء الله تعالى في المبحث السابع الخاص بدراسة الفقه وفي المبحث الثامن عند كلامي في أحكام الحجاب. ولنا أيضا تعليق على تخريجاته الحديثية في المبحث الرابع إن شاء الله.
* بقيت مسألة هامة ينبغي التنبيه عليها تعقيباً على قول الألباني (إن الذنب أي ذنب كان هو كفر عملي لا اعتقادي) ألا وهى التحذير من الخلط بين الكفر العملي والكفر بالعمل، بما يوهم أنهما مترادفان.(6/223)
فالكفر العملي يُطلق في كلام العلماء ويراد به الكفر الأصغر غير المخرج من الملة، أو كفر دون كفر، قال ابن القيم رحمه الله (فالإيمان العملي يضاده الكفر العملي، والإيمان الاعتقادي يضاده الكفر الاعتقادي، وقد أعلن النبي صلى الله عليه وسلم بما قلناه في قوله في الحديث الصحيح «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر» ففرّق بين قتاله وسبابه، وجعل أحدهما فسوقاً لايكفر به والآخر كفراً، ومعلوم أنه إنما أراد الكفر العملي لا الاعتقادي، وهذا الكفر لايخرجه من الدائرة الإسلامية والملة بالكلية، كما لايخرج الزاني والسارق والشارب من الملة وإن زال عنه اسم الإيمان) (الصلاة) صـ 26. وقال الشيخ حافظ حكمي رحمه الله (الكفر كفران: كفر أكبر يُخرج من الإيمان بالكلية وهو الكفر الاعتقادي المنافي لقول القلب وعمله أو لأحدهما. وكفر أصغر ينافي كمال الإيمان ولاينافي مطلقه وهو الكفر العملي الذي لايناقض قول القلب ولا عمله ولايستلزم ذلك) (أعلام السنة المنشورة) صـ 80، ط دار النور بألمانيا 1406هـ. وقال حافظ حكمي أيضا (ماالكفر العملي الذي لايُخرج من الملة؟. هو كل معصية أطلق عليها الشارع اسم الكفر مع بقاء اسم الإيمان على عامله.... الخ) (المصدر السابق) صـ 82. هذا الكفر العملي.(6/224)
أما الكفر بالعمل: فهى الأعمال (أقوال اللسان وأفعال الجوارح) التي يكفر فاعلها كفراً أكبر. قال ابن القيم (فكما يكفر بالاتيان بكلمة الكفر اختياراً وهى شعبة من شعب الكفر، فكذلك يكفر بفعل شعبة من شُعَبه كالسجود للصنم والاستهانة بالمصحف) (الصلاة) صـ 24، وقال أيضا (أما كفر العمل فينقسم إلى مايضاد الإيمان وإلى مالا يضاده، فالسجود للصنم والاستهانة بالمصحف وقتل النبي وسَبّه يضاد الإيمان) (الصلاة) صـ 25. وقال الشيخ حافظ حكمي (سؤال: إذا قيل لنا هل السجود للصنم والاستهانة بالكتاب وسبّ الرسول والهزل بالدين ونحو ذلك هذا كله من الكفر العملي فيما يظهر، فلِمَ كان مُخرجاً من الدين وقد عرّفتم الكفر الأصغر بالعملي؟. الجواب: اعلم أن هذه الأربعة وماشاكلها ليس هى من الكفر العملي إلا من جهة كونها واقعة بعمل الجوارح فيما يظهر للناس، ولكنها لاتقع إلا مع ذهاب عمل القلب من نيته واخلاصه ومحبته وانقياده لايبقي معها شيء من ذلك، فهى وإن كانت عملية في الظاهر فإنها مستلزمة للكفر الاعتقادي ولابد ــ إلى قوله ــ ونحن لم نعرف الكفر الأصغر بالعملي مطلقا بل بالعملي المحض الذي لم يستلزم الاعتقاد ولايناقض قول القلب ولا عمله) (اعلام السنة المنشورة) صـ 83. فهذا الكفر بالأعمال من الأقوال والأفعال المكفرة.
ومن هذا يتبين أن الكفر العملي وهو كفر أصغر غير الكفر بالعمل الذي هو كفر أكبرواقع بقول اللسان أو فعل الجوارح.
وأنا أدعو أهل العلم وطلابه في زماننا وفيما بعده من الأزمنة إلى عدم استعمال مصطلح الكفر العملي وأن يستعملوا بدلاً منه ماورد عن السلف في معناه، لسببين:
أحدهما: أنه مصطلح حادث استعمله المتأخرون ولم يرد عن السلف من الصحابة والتابعين وإنما الذي ورد عنهم في وصف الكفر الأصغر هو مصطلح (كفر لاينقل عن الملة)، ومصطلح (كفر دون كفر) وهو الذي أورده البخاري في كتاب الإيمان من صحيحه، ومصطلح (كفر النعمة).(6/225)
السبب الثاني: أن وصف الكفر الأصغر بالكفر العملي يوهم أنه لايكفر أحد من جهة العمل وأنه لاكفر إلا بالاعتقاد، وهذا مذهب المرجئة، ولكن المتأخرين شر من المرجئة، فإن المرجئة قالوا إن الأعمال الظاهرة المكفرة هى علامات على كفر الباطن أي كفر الاعتقاد والتزموا أن من حكم الشارع بكفره هو كافر ظاهراً وباطناً، في حين قال أهل السنة إن الأعمال الظاهرة المكفرة هى كفر في ذاتها ومستلزمة لكفر الباطن كما قال حافظ حكمي (فهى وإن كانت عملية في الظاهر فإنها مستلزمة للكفر الاعتقادي ولابد)، وذلك لأن من حكم الشارع بكفره بقول ٍ أو فعل فلابد أن يكون كافراً ظاهرآً وباطناً، وقد سبق بيان هذا في التعليق على العقيدة الطحاوية، أما المتأخرون فقالوا لاكفر إلا بالاعتقاد بجحد أو استحلال مهما عمل من معاصي كما قال الألباني (إن الذنب أي ذنب كان هو كفر عملي لا اعتقادي). فتسمية الكفر الأصغر بالكفر العملي والكفر الأكبر بالكفر الاعتقادي يوهم أنه لا يكفر أحد من جهة العمل، كما يوهم أن الكفر الأكبر هو كفر الاعتقاد فقط. وقد سبق في تعريف الردة أن الكفر يقع بقول ٍ أو فعل أو اعتقاد، وأن الاعتقاد لايؤاخذ به في أحكام الدنيا إلا إذا ظهر في قول أو فعل، وبذلك انحصرت أسباب الكفر الأكبر ــ في أحكام الدنيا ــ في الأقوال والأفعال المكفرة، كما قال ابن تيمية رحمه الله (وبالجملة فمن قال أو فعل ماهو كُفْر كَفَر بذلك، وإن لم يقصد أن يكون كافراً) (الصارم المسلول) 177 ــ 178. ويراجع في هذه المسألة أيضا ماذكره الشوكاني في كتابه (الدر النضيد) صـ 49 ط دار القدس بصنعاء في رده على الصنعاني، وماكتبه صديق حسن خان في كتابه (الدين الخالص) 4/ 87 ــ 92، ط مكتبة دار التراث بالقاهرة، ورد أيضا الشيخ محمد بشير السهسواني الهندي على أحمد زيني دحلان مفتي مكة في تفريقه بين كفر العمل وكفر الاعتقاد والقول بأن كفر العمل هو كفر أصغر دائما وذلك في كتابه (صيانة(6/226)
الإنسان عن وسوسة الشيخ دحلان) صـ 367 ــ 368، ط مكتبة ابن تيمية بالقاهرة 1410هـ.
والخلاصة: أنني أحذر من الخلط بين الكفر العملي والكفر بالعمل، كما أدعو إلى عدم استعمال مصطلح الكفر العملي واستبداله بالكفر الأصغر أو كفر دون كفر رفعاً للالتباس في هذا الشأن.
وقد كان هذا كله في التعليق على كلام الألباني.
ب ــ وممن قيّد الكفر بالاعتقاد: سالم البهنساوي في كتابه (الحكم وقضية تكفير المسلم) صـ 171 قال (إن الذين يستعينون بالصالحين من الأموات بندائهم أو التوسل بهم إلى الله لقضاء الحاجات لايعتقدون قدرة الأموات على تصريف الأمر، وبالتالي فالحكم بكفرهم هو انحراف عن فهم حكم الإسلام، ومن باب أولى من حَكَم لهم بالإيمان لايصبح كافراً بدعوى أنه لم يُكَفِّر الكافر ــ إلى قوله ـ لقد قالوا إن مناداة الصالحين ليست مصحوبة باعتقاد أنهم يملكون ضراً ولانفعاً بل على أساس أنهم أحياء عند ربهم يسمعون ويدعون الله وسماعهم ودعاؤهم لم ينكره أحد) أهـ.
وهذا المؤلف لايفرق بين توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، فاعتقاد من وصفهم بأنه لايقدر على تصريف الأمور إلا الله هذا من توحيد الربوبية، أما دعاؤهم غيره فهذا يناقض توحيد الألوهية وهو إفراد الله تعالى بالعبادات ومنها الدعاء، فهم كفروا بفعلهم ما ينقض توحيد الألوهية وإن أقروا بتوحيد الربوبية.(6/227)
وهذه الحال التي ذكرها البهنساوي هى حال أهل الجاهلية الذين أكفرهم الله وقاتلهم الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد كانوا يدعون الأصنام ويتوسلون بهم مع اعتقادهم أن تصريف الأمور إلى الله كما وصف الله حالهم في قوله تعالى (قل من يرزقكم من السماء والأرض، أم من يملك السمع والأبصار، ومن يخرج الحيّ من الميت، ويُخرج الميت من الحي، ومن يدبر الأمر، فسيقولون الله، فقل أفلا تتقون) يونس 31 فقد كانوا مقرين بتوحيد الربوبية ولكنهم أشركوا في العبادة، والآيات في هذا المعنى كثيرة. أما قول البهنساوي إنهم ــ أي هؤلاء المشركين ــ لايعتقدون الضر والنفع في الأموات فكذب، بل يعتقدون ذلك فيهم ولولا ذلك مادعوهم. قال تعالى (والذين اتخذوا من دونه أولياء مانعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زُلْفى، إن الله يحكم بينهم في ماهم فيه يختلفون، إن الله لايهدي من هو كاذب كفّار) الزمر 3، فأكذبهم الله في قولهم إنهم يتقربون بهم إلى الله لأنهم مافعلوا ذلك إلا لأنهم يعتقدون فيهم الضر والنفع ولذلك عبدوهم بالدعاء وغيره. قال الإمام الصنعاني رحمه الله (فإن قلت: هؤلاء القبوريون يقولون: نحن لانشرك بالله تعالى ولانجعل له نداً، والإلتجاء إلى الأولياء والاعتقاد فيهم ليس شركا. قلت: نعم «يقولون بأفواههم ماليس في قلوبهم» لكن هذا جهل منهم بمعنى الشرك، فإن تعظيم الأولياء ونحرهم النحائر لهم شرك. والله تعالى يقول «فَصَلِّ لربك وانحر» أي لالغيره كما يفيده تقديم الظرف، ويقول تعالى «وأن المساجد لله فلا تدعو مع الله أحداً». وقد عرفت بما قدمناه قريباً أنه صلى الله عليه وسلم قد سمى الرياء شركاً، فكيف بما ذكرنا؟ فهذا الذي يفعلونه لأوليائهم هو عين مافعله المشركون وصاروا به مشركين، ولاينفعهم قولهم: نحن لانشرك بالله شيئا، لأن فعلهم أَكْذَبَ قولهم) (تطهير الاعتقاد) للصنعاني صـ 23 ــ 24.(6/228)
وهذا الذي ذكره البهنساوي هو مااعتذر به خصوم دعوة شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب للمشركين عُبّاد القبور أنهم لايعتقدون التأثير لغير الله، ومن هؤلاء الخصوم الشيخ دحلان المشار إليه آنفا، فراجع أقوالهم والرد عليها في كتاب (دعاوي المناوئين لدعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب) لعبدالعزيز العبد اللطيف، ط دار طيبة 1409 هـ، صـ 193 وما بعدها.
وقد ذكر البهنساوي في أكثر من موضع بكتابه أن المعاصي لايكفر أحد بشيء منها ولايخرج من الملة إلا بالكفر الاعتقادي، انظر كتابه (الحكم وقضية تكفير المسلم) صـ 45 و 54 و 55.
وأعود فأذكِّر الطالب بأن الحكم بالكفر في الدنيا مترتب على الاتيان بقولٍ مكفر أو فعل ٍ مكفر، فمن دعا غير الله فيما لايقدر عليه إلا الله أو ذبح له فقد كفر، فإن قال لم يعتقد قلبي فهو كاذب، قال تعالى (إن الله لايهدي من هو كاذب كفار) الزمر 3، وأحكام الدنيا جارية على الظاهر لا على الاعتقادات الباطنة، ومع ذلك فإن كل من كفر بسبب ظاهر فهو كافر باطنا إذا انتفت موانع التكفير في حقه، لأن من أخبر الله بكفره لسببٍ ما فلابد أن يكون كافراً حقيقة أما نوع الكفر الذي قام بقلبه فلا تعلق لأحكام الدنيا به.
وهذا كله في بيان خطأ قول البهنساوي وماشابهه من أقوال، فنحن نذكر أخطاء بعض المؤلفين كأمثلة للرد عليها وعلى مايشبهها.(6/229)
جـ ــ وممن قيّد الكفر بالاعتقاد: جماعة (الجماعة الإسلامية بمصر) في كتابها (الرسالة الليمانية في الموالاة) لطلعت فؤاد قاسم، حيث قال في صـ 13 ــ في حكم موالاة المسلم للكافر ــ (القاعدة الثانية: وهى وجوب النظر في فعل الموالاة نفسه: هل هو موالاة بالظاهر فقط مع سلامة القلب والعقد؟، أم موالاة بالظاهر والباطن معا؟، فالأولى لاتوجب كُفراً من باب الموالاة. والثانية قد توجب كفراً مخرجاً من الملة) أهـ. وكان المؤلف قد عرَّف الموالاة الظاهرة بأنها (هى الأقوال والأفعال التي تحمل معنى الموالاة الممنوعة لكن بالظاهر فقط مع سلامة القلب والعقد) كما عرّف موالاة الباطن بأنها (هى هذه الأفعال والأقوال ولكن مقترنة بالرضا القلبي والتصويب والمحبة) صـ 11. فالمؤلف جعل الموالاة الظاهرة غير مكفرة وقيد التكفير بها بالكفر الاعتقادي أو كفر القلب أو كفر الباطن. وقد ذكرنا أن ماورد النص بكفر فاعله لايعتبر فيه قصد فاعله، وقد ورد النص بكفر من يتولى الكافرين، وذلك في قوله تعالى (ياأيها الذين آمنوا لاتتخذوا اليهود والنصارى أولياء، بعضهم أولياء بعض، ومن يتولهم منكم فإنه منهم) المائدة 51. وهذا الكتاب (الرسالة الليمانية في الموالاة) سنفرده بالنقد في آخر هذا المبحث إن شاء الله نظراً لما انطوي عليه من أخطاء وشبهات في مسألة ٍ هى من نوازل العصر.
وبعد، فقد كانت هذه أمثلة لمن أخطأ في موضوع التكفير فحصر أسبابه في كفر الاعتقاد.
(6) ومن الأخطاء الشائعة في موضوع التكفير: اعتبار الجحد أو الاستحلال شرطاً مستقلاً للتكفير بالذنوب المكفرة.(6/230)
المرجئة ــ وكما سبق القول ــ هم الذين يُخرجون العمل من حقيقة الإيمان، وقد ترتب على هذا القول تجرئة الناس على المعاصي، حتى قال إبراهيم النخعي رحمه الله (تركت المرجئةُ الدينَ أرق من ثوب سابري)، رواه عبدالله بن أحمد بن حنبل في كتابه (السنة) صـ 84، أثر 438، ط دار الكتب العلمية 1405 هـ. والثوب السابري هو الرقيق الذي يشف عما تحته حتى يكون لابسُه بين المكتسي والعُريان، ذكره أبو منصور الثعالبي في كتابه (فقه اللغة).
وقد أثرت بدعة الإرجاء تأثيراً عميقا في كتابات المتأخرين وأفكارهم كما أثرت بالمثل في سلوك كثير من المسلمين، ومن أهم أسباب تأثر كتابات المتأخرين بهذه البدعة، تولي المرجئة ــ من الفقهاء والأشاعرة ــ لمعظم مناصب الإفتاء والقضاء والتدريس والوعظ في عصور الإسلام المتأخرة، فأصبحت أقوالهم هى المعروفة المشتهرة، لدى الدارسين والمؤلفين، في حين أصبحت أقوال السلف غريبة مهجورة ولايعثر عليها الباحث إلا بشق الأنفس، وربما وجدها مختلطة بأقوال المرجئة وربما وجدها مفردة فحاول التوفيق بينها وبين أقوال المرجئة. وفي هذا يقول ابن تيمية رحمه الله (وكثير من المتأخرين لايميزون بين مذاهب السلف وأقوال المرجئة والجهمية، لاختلاط هذا بهذا في كلام كثير منهم ممن في باطنه يرى رأي الجهمية والمرجئة في الإيمان وهو مُعَظِّم للسلف وأهل الحديث فيظن أنه يجمع بينهما، أو يجمع بين كلام أمثاله وكلام السلف) (مجموع الفتاوى) 7/ 364.
وقد علمت مما سبق أن الإيمان عند المرجئة محله القلب وكذلك ضده ونقيضه وهو الكفر محله القلب، وقد أدى التأثر بهذا القول إلى الوقوع في عدة أخطاء في موضوع التكفير ترجع كلها إلى اشتراط كفر القلب لأجل الحكم بالكفر، ومن هذه الأخطاء:
* الخلط بين قصد العمل المكفِّر وقصد الكفر، واشتراط شرح الصدر بالكفر لأجل الحكم بالكفر، وقد سبق الرد على هذا الخطأ.(6/231)
* ومنها حصر أسباب الكفر في كفر الاعتقاد وهو كفر القلب، أو تقييد الكفر بكفر القلب، وقد سبق الرد على هذا الخطأ.
* ومنها القول بأنه لاكفر إلا بالجحد أو الاستحلال ومرجعهما إلى التكذيب بالنصوص كما سبق بيانه في تعليقي على العقيدة الطحاوية، في التعقيب على قول الطحاوي (ولايخرج العبد من الإيمان إلا بجحود ماأدخله فيه).
ومع حصرهم الكفر في الجحد والاستحلال اشكل على المرجئة أن هناك أقوالا وأفعالا نص الشارع على كفر فاعلها، فانقسمت المرجئة إلى طوائف كما ذكرت من قبل:
أ ــ فمنهم من قال: كل من نص الشارع على كفره فهو كافر ظاهراً وباطناً، ليس بالعمل المكفِّر، ولكن لأن العمل المكفر أمارة على أنه مكذب بقلبه.وهذا قول الأشاعرة والأحناف الذين هم مرجئة الفقهاء. انظر (الفصل) لابن حزم جـ 3 صـ 239 و 259 وجـ 5 صـ 75، و(مجموع فتاوي ابن تيمية) جـ 7 صـ 147 و 509 و 548 و 582، و(حاشية ابن عابدين) جـ 3 صـ 284.
ب ــ ومنهم من قال: إن كل من نص الشارع على كفره فهو كافر في الظاهر، ويجوز أن يكون مؤمنا في الباطن، وهذا قول الجهمية وهو قول في غاية الفساد، لأن من أخبر الله بكفره لإتيانه بقول معين أو بفعل معين فهو كافر ظاهراً وباطناً لأن خبر الله تعالى لايكون إلا على الحقيقة لا على الظاهر فقط، ولهذا كفَّر السلف أصحاب هذه المقالة لما تنطوي عليه من تكذيب بخبر الله تعالى، وللجهمية قول آخر في هذه المسألة مثل قول الأشاعرة والأحناف، انظر (مجموع الفتاوى) جـ 7 صـ 188 ــ 189 و 401 ــ 403 و 558، و (الصارم المسلول) 523 ــ 524.
جـ ــ ومنهم من قال: إن من نصّ الشارع على كفره لايُحكم عليه بالكفر إلا أن يُصرح بالجحد ــ وهو الإنكار الظاهر باللسان ــ أو الاستحلال. وهؤلاء كفّرهم السلف لأن قولهم تكذيب صريح بنصوص الشارع. انظر (مجموع الفتاوي) جـ 7 صـ 205 و 209.(6/232)
هذا مجمل مذاهب المرجئة الذين يشترطون كفر القلب لأجل الحكم بالكفر ــ وقد ذكرتها بشيء من التفصيل من قبل ــ فمنهم من جعل كفر القلب لازما للكفر الظاهر كالأشاعرة ومرجئة الفقهاء، ومنهم من جعل كفر القلب ــ في صورة التصريح الظاهر بالجحد أو الاستحلال ــ شرطا مستقلا للحكم بالكفر مهما أتى الشخص من كفر ظاهر بقول أو فعل.
وهذا القسم الأخير هو الخطأ الشائع لدى بعض المؤلفين وكثير من الناس في زماننا هذا، وقد دخل الخطأ على أصحاب هذا القول من سوء فهمهم لقاعدة (لانكفّر مسلما بذنب مالم يستحله) كما نقلته عن الألباني في الرد على الخطأ السابق. وقد ذكرت في تعليقي على العقيدة الطحاوية أن هذه القاعدة صحيحة ولكنها خاصة بالذنوب غير المكفرة، فجعلها أصحاب هذا المذهب الفاسد قاعدة عامة في الذنوب المكفرة وغير المكفرة. كما دخل الخطأ عليهم من متابعتهم للطحاوي في قوله (ولا يخرج العبد من الإيمان إلا بجحود ماأدخله فيه) مع حملهم لهذه العبارة علي غير ماأراده الطحاوي، فهو ومرجئة الفقهاء جعلوا الجحد لازما للحكم بالكفر الظاهر أما المتأخرون فجعلوا الجحد شرطاً مستقلا للحكم بالكفر الظاهر، وقولهم هذا مخالف للكتاب والسنة والإجماع، بل هو تكذيب بالنصوص الحاكمة بكفر من أتى المكفرات دون تقييد بجحد أو استحلال.
والرد على أصحاب هذا الشرط الفاسد هو ماذكرته من قبل في التنبيه الهام ــ المذكور بتعليقي على العقيدة الطحاوية ــ في بيان الفرق بين:
ما يشترط للتكفير به من الذنوب أن يكون فاعلها جاحداً أو مستحلاً، وهى الذنوب التي لم ينص الشارع على كفر فاعلها.
وما لا يشترط للتكفير به من الذنوب أن يكون فاعلها جاحداً أو مستحلاً، وهى الذنوب التي نص الشارع على كفر فاعلها.(6/233)
وسوف ترى أن الخلل دخل على من وقع في هذا الخطأ ــ تقييد الكفر بالجحد أو الاستحلال ــ بسبب عدم تمييزهم بين هذين القسمين من الذنوب (المكفرة وغير المكفرة) وبالتالي لم يفرقوا بين شروط التكفير في كل قسم ٍ منهما، وهذا يظهر من أقوالهم، ومنهم:
أ ــ الشيخ الألباني: وقد نقلت هذا عنه من قبل، وهو قوله (ولكني أقول إن القضاء على الذين يحكمون بغير ماأنزل الله سواء كان حكمهم يؤدي بهم إلى الكفر الكلي أو العملي لا يهمنا في كثير أو قليل هذا الفصل بين الأمرين. الآن من ناحية العقيدة من الذي يكفر عند الله؟ هو الذي يُنكر ماشَرَع الله) أهـ من كتاب (حياة الألباني وآثاره) لمحمد بن إبراهيم الشيباني، ط الدار السلفية 1407هـ، جـ 2 صـ 518. فقَصَرَ الكفر على الإنكار وهو الجحد، ولهذا ففي تعليقه على متن العقيدة الطحاوية لم يعلق الألباني على قول الطحاوي (ولايخرج العبد من الإيمان إلا بجحود ما أدخله فيه) مع أن هذا هو صريح مذهب المرجئة ولم يبينه الألباني لأنه جار ٍ على أصوله في الصورة، أما في الحقيقة فمرجئة الفقهاء والأشاعرة جعلوا الجحد لازماً لاينفك عن الحكم بالكفر الظاهر، وأما المتأخرون فجعلوا الجحد شرطا مستقلا للتكفير بالذنوب المكفرة. كما سبق قول الألباني في اشتراط الاستحلال للتكفير (بأي ذنب ٍ كان).(6/234)
ب ــ أحد تلاميذ الألباني وهو محمد إبراهيم شقرة أراد أن يُعَلِّم المسلمين الحقَّ في موضوع التكفير في كتاب ٍ له بعنوان (مجتمعنا المعاصر بين التكفير الجائر والإيمان الحائر) ط المكتبة الإسلامية بالأردن 1411 هـ، وقد ملأ كتابه هذا بالسباب للجهال الذين يتكلمون في موضوع التكفير بغير علم، ومن أهون ماقاله في ذلك (وماأكثر ما لَبّس الجبناء ممن نصبوا أنفسهم أوصياء منظرين على عباد الله الغافلين ــ إلى قوله ــ وإذا أفردت الكتابة في هذا الموضوع المهم الخطير، فلتعريف المسلمين على مختلف طرائقهم ومستوياتهم واتجاهاتهم بالمنهج العلمي الحق في دراسة المسائل وحلّ المشاكل، وبخاصة في مثل هذه المسألة الشائكة) صـ 23. وبعدما قدّم بهذا الكلام، ماالحق الذي قاله في هذا الموضوع؟ قال (الإنسان إذا نطق بالشهادة، وصدق بها قلبه، واعتقدها جازما، وآمن بحقها كله، فهو مؤمن، وإن اجترح المعاصي كلها، ماظهر منها ومابطن، مالم يصاحبها جحود أو نكران) صـ 37.
وأقول: هذا الذي أراد أن يعلم الناس الحق مذهبه في الإيمان هو مذهب مرجئة الفقهاء إذ قصر الإيمان علي النطق بالشهادتين والتصديق بالقلب، أما مذهبه في الكفر فهو مذهب غلاة المرجئة الذين يجعلون الجحد شرطاً مستقلا للتكفير بالمعاصي المكفِّرة، فقوله (المعاصي كلها ماظهر منها ومابطن) نصٌ عام يدخل فيه ماكان منها كفراً ومادونه، وهذا كاشتراط شيخه الألباني الاستحلال القلبي للتكفير (بأي ذنب ٍ كان)، فالتلميذ على مذهب شيخه. والأعجب من هذا قوله (كل خطأ يغتفر للإنسان إذا أخطأ إلا الخطأ في العقيدة ومتعلقاتها) صـ 107، وقال أيضا (فإنه لايغتفر له جهله في أصول دينه) صـ 108؟ أيتفق هذا التوبيخ مع مذهبه في الإيمان والكفر؟.(6/235)
جـ ــ جماعة (الجماعة الإسلامية بمصر) في كتابها (القول القاطع فيمن امتنع عن الشرائع) لعصام دربالة وعاصم عبدالماجد، حيث ورد في صـ 13 من هذا الكتاب (أيما طائفة ذات شوكة تمتنع عن شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة الواجبة فإنها تُقَاتَل عليها ــ إلى قوله ــ وهذه الطائفة لا تكفر طالما أنها لم تجحد وجوب ماامتنعت عنه، أما إذا جحدوا فقد صاروا بالجحود مرتدين) أهـ. وقد تكرر هذا الكلام في أكثر من موضع بهذا الكتاب. وهذا خطأ. فالواجبات الشرعية قسمان:
* منها مايدخل في أصل الإيمان فيكفر تاركها بمجرد الامتناع عنها، جحدها أو لم يجحدها، ومن هذا الباب كفر تارك الصلاة ومانعي الزكاة بإجماع الصحابة كما ذكرته من قبل. فتقييد التكفير في هذا القسم بالجحد هو مذهب غلاة المرجئة.
* ومنها مايدخل في الإيمان الواجب فلا يكفر تاركها بمجرد الامتناع عنها، فإذا جحد وجوبها كَفَرَ سواء فعلها أو امتنع عنها.
فتعميم القول بأن تارك الواجب لايكفر إلا بالجحد ــ دون تفريق بين مايُخل بأصل الإيمان وما يُخل بالإيمان الواجب ــ هو قول غلاة المرجئة كما نقلناه من قبل عن ابن تيمية، انظر (مجموع الفتاوى) 7/ 209 و 205.
وهذا الكتاب (القول القاطع) سنفرده بالنقد في آخر هذا المبحث إن شاء الله.
وكما ترى فإن الخلل دخل على كل من سبق ذكرهم بعدم تفريقهم بين الذنوب المكفرة وغير المكفرة ومايشترط للتكفير بكل منهما.(6/236)
د ــ حسن الهضيبي ــ المرشد الثاني لجماعة (الإخوان المسلمين) ــ في كتابه (دعاة لاقضاة) ط دار الطباعة والنشر الإسلامية بالقاهرة، في كلامه في قوله تعالى (ومن لم يحكم بما أنزل فأولئك هم الكافرون)، قال (ولقد سبق أن قدمنا البرهان من كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام. على أن العامل من المسلمين على خلاف أمر الله تعالى لايكون كافراً إلا مااستثني بنص ٍ خاص يقضي بأن فاعله ينتفي عنه اسم الإيمان رغم نطقه بالشهادتين، ومن ثم خرج الحاكم بعمله من عموم نص الآية الكريمة إلا أن يكون جاحداً ــ إلى أن قال ــ إذ إجماع أهل السنة على أن الحاكم بمعنى المنفذ للأمر أو الآمر بتنفيذ أمر على خلاف حكم الله لاينتفي عنه اسم الإيمان إلا أن يكون جاحداً) صـ 156 ــ 157، ثم قال في صـ 159 (إن الصحابي الجليل ابن عباس رضي الله عنهما الذي ضمه رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاله قائلا «اللهم علمه التأويل» والتابعي الجليل طاووس اليماني قالا: إن الآية ليست على ظاهرها وإطلاقها، وأن الكافر هو من حكم بغير ماأنزل الله جاحداً، وأن من أقر بحكم الله وحكم في الأمر على خلافه فهو ظالم فاسق، وبذلك قال السُّدِّي وعطاء وجميع فقهاء أهل السنة) أهـ. ثم في صـ 158 اعتبر أن هذا الإجماع مخصصٌ للآية.(6/237)
ذكر الهضيبي في كلامه هذا قاعدة عامة وهى أن العاصي (والذي وصفه بالعامل على خلاف أمر الله) بترك واجب أو فعل محرم لايكون كافراً إلا مااستثني بنص ٍ خاص. وهذا حق وهو في هذا أفضل ممن سبق ذكرهم فإنه بقوله (إلا مااستثني بنص....) فرّق بين الذنوب المكفرة وغير المكفرة، ولكنه لم يأخذ بما قال، فإن تارك الحكم بما أنزل الله كافر بنص هذه الآية (ومن لم يحكم...) فهذا إذن مما استثني من القاعدة ــ التي ذكرها ــ بنص خاص. وهو قد أكّد هذا في موضع آخرٍ من كتابه صـ 35 ــ 36 حيث قال (فمما لاشك فيه أن شريعة الله قد حدّدت أقوالاً وأعمالاً إذا قالها المسلم أو عملها خرجت به من الإسلام وارتد بها إلى الكفر، والذي نقول به إن تلك الأقوال والأعمال قد حدّدها الله عزوجل ووضّحها الرسول عليه الصلاة والسلام فليس لنا أن نزيد فيها أو ننقص منها) أهـ. وكلامه هذا هو صفة الذنوب المكفّرة التي يكفر فاعلها بمجرد فعلها، وحسب كلامه هذا فإن ترك الحكم بما أنزل الله ــ والترك فعل كما سبق بيانه ــ هو من الأعمال التي يرتد فاعلها لورود النص بأنه (فأولئك هم الكافرون) فهذا الترك إذن من الذنوب المكفرة. أما احتجاجه بأن الآية ليست علي ظاهرها لإسقاط حكم الكفر فيها فاحتجاج باطل سيأتي بيانه إن شاء الله.(6/238)
وأما قوله بأن الكافر هو من حكم بغير ماأنزل الله جاحداً ومن لم يجحد لايكفر ونسبته هذا إلى جميع فقهاء أهل السنة واعتباره أن هذا إجماع فهذا قول لا أصل له، ولم ينقل أحد الإجماع على شيء في تفسير هذه الآية، فإن اختلاف الأقوال في تفسيرها هو من أشهر الأشياء عند أهل العلم، أما ماذكره الهضيبي من الجحد فقد قال ابن القيم (ومنهم من تأوّل الآية على ترك الحكم بما أنزل الله جاحداً له، وهو قول عكرمة، وهو تأويل مرجوح، فإن نفس جحوده كُفْر، سواء حَكَم أو لم يحكم) (مدارج السالكين) جـ 1 صـ 365، ط دار الكتب العلمية. فهذا التفريق بين الجحد وعدمه إنما يرد في الذنوب غير المكفرة.
والكلام في هذه المسألة (مسألة الحكم بغير ماأنزل الله) محله في المبحث الثامن من هذا الباب إن شاء الله تعالى، وهناك بسط القول فيه، وأما هنا ــ فعلى سبيل الإيجاز ــ ينبغي أن يعلم طالب العلم الحقائق الآتية فيما يتعلق بتفسير هذه الآية:
أولا: أن الكفر في هذه الآية هو الكفر الأكبر، لأنه ورد معرفاً بالألف واللام، وكل كفر ورد بصيغة الإسم المعرفة فهو الأكبر، وكل قول بأنه كفر دون كفر فهو خطأ، وسوف يأتيك بيان هذا في المبحث الثامن إن شاء الله، ويكفيك هنا قول أبي حيان الأندلسي في تفسيره (البحر المحيط): (وقيل المراد كُفْر النعمة، وضُعِّفَ بأن الكفر إذا أطلق انصرف إلى الكفر في الدين) (البحر المحيط) 3/ 493.(6/239)
ثانيا: أن الحكم بالكفر الأكبر في هذه الآية مترتب على تعمد ترك الحكم بما أنزل الله (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون)، ولم يترتب على الحكم بغير ماأنزل الله، فإذا حكم بغير ما أنزل الله فهذا مناط مكفِّر آخر ــ غير مجرد الترك ــ ودليله قوله تعالى (وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون) الأنعام 121، وقوله تعالى (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله) التوبة 31. فترك الحكم بما أنزل الله كفر أكبر والحكم بغير ماأنزل الله كفر أكبر آخر، ومثاله:
لو أن رجلاً ضُبِط في حالة سُكْرٍ بيّن في ملهى مرخص بشرب الخمر فيه، وأُحضِر هذا الرجل إلى القاضي الحاكم بالقانون الوضعي، فإنه بموجب هذا القانون لم يرتكب الرجل جريمة ولن يُعاقب بشيء، في حين أن الشرع يوجب إقامة حد الخمر عليه بجلده ثمانين جلدة. فهنا القاضي لم يحكم بما أنزل الله، أي ترك الحكم الشرعي ولم يحكم بشيء آخر. فترتب كفر القاضي هنا على سبب واحد.
ولو أن رجلا ضُبط في حالة سُكْرٍ بيِّن في الشارع العام، فإن القاضي الوضعي سيحكم عليه بالحبس ستة أشهر. فهنا ترك القاضي الحكم الشرعي وهو الجلد (فلم يحكم بما أنزل الله) وحكم بغيره وهو الحبس (حَكَم بغير ماأنزل الله)، فترتب كفر القاضي هنا على سببين كلاهما مُكفِّر، يكفي كل منهما لإخراجه من الملة بمفرده.
والخلاصة: أن مجرد تعمد ترك الحكم بما أنزل الله كفر أكبر، فترك الحكم ذنب مُكَفِّر ــ شأنه في ذلك شأن ترك الصلاة أو سبّ الله والرسول صلى الله عليه وسلم ــ فهذه ذنوب مكفِّرة يكفر فاعلها بمجرد فعلها، ومن اشترط الجحد أو الاستحلال للتكفير بهذه الذنوب المكفرة فقد قال بقول غلاة المرجئة ــ الذين أكفرهم السلف ــ من حيث يدري أو من حيث لايدري.(6/240)
واعلم أن هذا الخطأ الذي وقع فيه الهضيبي قد وقع فيه معظم المعاصرين مقلدين في ذلك لابن أبي العز في شرحه للعقيدة الطحاوية ولابن القيم في مدارج السالكين وأقوالهم كلها لا أصل لها ولاتقوم على دليل معتبر، بل هى كما قال ابن تيمية ــ فيمن اشترط الاستحلال لتكفير سابّ الرسول ــ (إن الحكاية المذكورة عن الفقهاء أنه إن كان مستحلاً كفر وإلا فلا، ليس لها أصل، وإنما نقلها القاضي من كتاب بعض المتكلمين الذين نقلوها عن الفقهاء، وهؤلاء نقلوا قول الفقهاء بما ظنوه جاريا على أصولهم، أو بما قد سمعوه من بعض المنتسبين إلى الفقه ممن لايُعد قوله قولا) (الصارم المسلول) صـ 516. وبهذا تعلم أن القول بأن الحاكم بغير ماأنزل الله إن استحل ذلك أو جحد حكم الله كفر أما إذا فعله لشهوة أو هوى لم يكفر هو قول فاسد وتقسيم ماأنزل الله به من سلطان، وهو قول معظم المعاصرين إن لم يكن جميعهم، وإنما يقال هذا التقسيم في الذنوب غير المكفرة لاتلك التي نص الله على أن فاعلها كافر كفراً أكبر كترك الحكم بما أنزل الله والحكم بغير ماأنزل الله.
ثالثا: أن الآية عامة في حق كل من ترك الحكم بما أنزل الله لأنها مصدّره (بِمَنْ) الشرطية وهى أبلغ صيغ العموم كما قال ابن تيمية رحمه الله، انظر (مجموع الفتاوى) جـ 15 صـ 82، و جـ 24، صـ 346.(6/241)
وبهذا تعلم أن المعنى الصحيح لقوله تعالى (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) أن كل من تعمد ترك الحكم بما أنزل الله فهو كافر كفراً أكبر، فكيف إذا انضاف إلى هذا التركِ الحكمُ بغيره. قال ابن القيم ــ في هذه الآية ــ (ومنهم من تأولها على الحكم بمخالفة النص، تعمداً من غير جهل به ولا خطأ في التأويل، حكاه البغوي عن العلماء عموما) (مدارج السالكين) جـ 1 صـ 365، ط دار الكتب العلمية، وقال الشوكاني ــ في نفس الآية ــ (فهذه الآيات الكريمة متناولة لكل من لم يحكم بما أنزل الله) (القول المفيد في أدلة الاجتهاد والتقليد) صـ 47، ضمن (الرسائل السلفية) للشوكاني، ط دار الكتب العلمية.
وهذا الحكم بالكفر الأكبر يعم كل من ترك حكم الله وكل من حكم بغيره، سواء كان يحكم بالشريعة في الأصل كقضاة الشرع أو كان يحكم بغير الشريعة في الأصل. ولايستثنى من هذا الحكم أحدٌ إلا المجتهد المخطيء من قضاة الشرع فإن المأثم مرفوع عنه بنص حديث عمرو بن العاص مرفوعا (وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر) الحديث متفق عليه.
ويدخل في هذا الحكم دخولاً أوليا القضاة الحاكمين بالقوانين الوضعية، فإنهم ملتزمون بموجب الدستور والقانون أن يتركوا الحكم بما أنزل الله وأن يحكموا بغير ماأنزل الله بالقوانين الوضعية، وهم يفعلون هذا عامدين طواعية واختياراً منهم للعمل بهذه المهنة، عالمين بمخالفة مايحكمون به لشريعة الله بحكم دراستهم للشريعة في كليات الحقوق وغير ذلك، فهؤلاء القضاة كفار كفراً أكبر، ولانرى أي احتمال لوجود مانع من موانع التكفير في حق أي ٍ منهم، هذا هو الصواب في هذه المسألة، والله تعالى أعلم.
هذا، وسوف يأتي بحث مسألة الحكم بغير ماأنزل الله بشيء من التفصيل في المبحث الثامن من هذا الباب إن شاء الله تعالى.
وبعد:(6/242)
فهذا ما أردت التنبيه عليه من أهم الأخطاء الشائعة في موضوع التكفير، والتي لشيوعها يكاد كثير من طلاب العلم والعوام يرون أنها هى الحق والصواب، إذ لايرون غيرها في كثير من الكتب المتداولة.
ولعل أخطر هذه الأخطاء تلك المتأثرة ببدعة الإرجاء من اشتراط كفر القلب في صورة جحد أو استحلال أو اعتقاد كشرط مستقل للتكفير، وكذلك الخلط بين الكفر العملي والكفر بالعمل. فإن العمل بهذه الأخطاء من البدع المدمّرة للأمة الإسلامية إذ يترتب عليها عدم تمييز المسلم من الكافر كما يترتب عليها ادخال كثير من الكفار في الملة واعتبارهم في عداد المسلمين ولا يخفى الفساد العظيم المترتب على هذا خاصة إذا كان هؤلاء الكفار هم أصحاب الجاه والسلطان وأصحاب القيادة والتوجيه في بلاد المسلمين، وقد سبق في أوائل هذا المبحث القول في أهمية موضوع الإيمان والكفر بما يغني عن إعادته.
ولا يفوتني في هذا المقام أن أحذّر من كتابات كثيرٍ من المعاصرين في هذا الموضوع، فإن معرفة الحق فيه أصبحت عزيزة، وإن كثيراً ممن يظنون أنهم يقولون بقول أهل السنة فيه، إنما يقولون بقول غلاة المرجئة، وأمرهم كما قال ابن تيمية رحمه الله (وكثير من المتأخرين لايميزون بين مذاهب السلف وأقوال المرجئة والجهمية لاختلاط هذا بهذا في كلام كثير منهم ممن هو في باطنه يرى رأي الجهمية والمرجئة في الإيمان وهو مُعَظِّم للسلف وأهل الحديث فيظن أنه يجمع بينهما، أو يجمع بين كلام أمثاله وكلام السلف) (مجموع الفتاوي) 7/364.
وبهذا نختم هذه الإشارة لموضوع التكفير وأخطائه، وتفصيل الموضوع وبسطه بكتابي (الحجة في أحكام الملة الإسلامية).(6/243)
المسألة الرابعة: أهم مراجع موضوع الإيمان والكفر.
وقد ذكرت لك إن هذا الموضوع يُبحث في كتب الاعتقاد وفي كتب الفقه (بأبواب الردة والدعاوي والبينات). وسوف يقتصر كلامنا هنا على كتب الاعتقاد. أما المباحث الفقهية المتعلقة بالموضوع فتدرس عند دراسة الفقه. على أن بعض الكتب التي سنذكرها هنا ككتاب (الشفا) يتعرض للجانب القضائي لموضوع التكفير أحيانا.
أما كتب الاعتقاد التي سنذكرها هنا فنقسّهما إلى ثلاثة أقسام، وهى الكتب الأساسية في الموضوع التي لابد من أن يقرأها الطالب ليحيط علماً بجوانب موضوع الإيمان والكفر، ثم نذكر بعض الكتب الممهدة لدراسة الكتب الأساسية، ثم نذكر كتب أخرى في الموضوع نفسه.
أولا: الكتب الأساسية في موضوع الإيمان والكفر.
وهى أربعة كتب: المجلد السابع من مجموع فتاوى ابن تيمية، و(الصارم المسلول) له، و(الفصل) لابن حزم، و (الشفا) للقاضي عياض.
1 ــ المجلد السابع من مجموع فتاوي ابن تيمية 728 هـ، وهذا المجلد خاص كله بالإيمان، ولايغني عنه كتاب (الإيمان) المطبوع بالمكتب الإسلامي فإنه جزء من المجلد السابع ولابد من دراسة هذا المجلد كله، وهو يشتمل على كتاب (الإيمان الكبير) من صـ 4 ــ 460، وكتاب (الإيمان الأوسط) من صـ 461
ــ 686.(7/1)
وفي هذا المجلد ذكر شيخ الإسلام مذهب أهل السنة ومذاهب الفرق المخالفة من المعتزلة والخوارج والمرجئة بفرقهم الكثيرة كالأشاعرة والأحناف والجهمية وغيرهم، وقد ذكر أقوال هذه المذاهب في معظم مسائل موضوع الإيمان التي سردتها من قبل. بحيث أن من يقرأ هذا المجلد لايفوته شئ يذكر في موضوع الإيمان. ولكن لما كانت كتابات شيخ الإسلام يعيبها التكرار وكثرة الاستطراد واهمال التقاسيم وتفرق أطراف المسألة الواحدة في عدة مواضع، فإنه ينبغي التمهيد لدراسة هذا المجلد بدراسة بعض المختصرات التي سأذكرها بعد قليل إن شاء الله تعالى باسم (الكتب الممهدة لدراسة الكتب الأساسية). وأنصح قبل دراسة هذا المجلد السابع ــ ولتحصيل أقصى استفادة منه ــ أن يعمل الطالب لنفسه فهرساً بمسائل موضوع الإيمان والكفر، وقد قدمت سرداً لمسائل الإيمان قبلاً ويستكمل الطالب تفاريعها من الكتب الممهدة، ثم يشرع في دراسة هذا المجلد السابع ويكتب أمام كل مسألة في فهرسه الخاص مواضعها في هذا المجلد، فيستكمل بذلك أطراف المسائل المتناثرة بهذا المجلد. كما أنصح بقراءة هذا المجلد أكثر من مرة لمزيد من الاستفادة، فإن هناك فروعاً دقيقة قد لايدرك الطالب أهميتها من القراءة الأولى.
2 ــ كتاب (الصارم المسلول على شاتم الرسول) لابن تيمية. وقد وصفه ابن تيمية بقوله (وأنا قد صنّفت كتابا كبيراً سميته «الصارم المسلول على شاتم الرسول» وذكرت في هذه المسألة مالم أعرف أحداً سبق إليه، وكذلك هذه «القواعد الإيمانية» قد كتبت فيها فصولاً هى من أنفع الأشياء في أمر الدين) (مجموع الفتاوى) 3/ 277، ذكره بآخر مناظرة الواسطية.(7/2)
وقول شيخ الإسلام إنه ذكر في مسألة سب الرسول صلى الله عليه وسلم مالم يُسبق إليه، قوله صحيح من جهة بسط القول في المسألة وإلا فقد سبق إلى الكلام فيها القاضي عياض 544 هـ في كتابه (الشفا)، وعنه نقل ابن تيمية كثيراً في (الصارم). والقاضي عياض نفسه مسبوق (بالشفا) لابن سبع.
وقد ذكر شيخ الإسلام في (الصارم) ثلاثة مواضيع أساسية:
* موضوع سب الرسول صلى الله عليه وسلم، وحكم الساب من مسلم وكافر.
* وموضوع شروط عقد الذمة ونواقضه وحكم الذمي إذا سبَّ.
* وموضوع ضوابط التكفير، خاصة توضيحه لأن الكفر يقع بقول مكفر أو فعل مكفر دون النظر إلى قصد فاعله، ودون النظر إلى استحلال من عدمه، مع بيانه أن هذه الشروط الفاسدة ــ كالاستحلال ــ إنما هى مما دخل في كلام الفقهاء من مذهب الجهمية.
كما تعرض شيخ الإسلام لمسائل أخرى كبعض أحكام المرتدين وكسَبّ الله تعالى وسب أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
والموضوع المتعلق بأحكام الإيمان والكفر من (الصارم) هو موضوع ضوابط التكفير، ولكن يجب قراءة الكتاب كله لتناثر مسائل هذا الموضوع في الكتاب ولأهمية مواضيع الكتاب كلها.
3 ــ كتاب (الفصل في الملل والأهواء والنحل) لابن حزم 456 هـ، وقد علمت من قبل أن هذا الكتاب في الفِرَق ومقالاتها، ولكنه عند عرضه لمقالات الفرق تعرض لمسائل الإيمان والكفر واختلاف الفرق فيها، ونقد مقالات المعتزلة والخوارج والمرجئة في هذه المسائل نقداً جيداً في معظمه، وإلا فإنه وقع في بعض الأخطاء لتبنّيه مذهب المرجئة في بعض المسائل.
أما المواضع التي تكلم فيها في الإيمان والكفر من كتابه، فهي في طبعة الكتاب بدار الجيل 1405هـ، على النحو التالي:
* جـ 3 صـ 227 ــ 302 (كتاب الإيمان والكفر والطاعات والمعاصي والوعد والوعيد).
* جـ 4 صـ 79 ــ 99 (الكلام في الوعد والوعيد).(7/3)
* جـ 5 صـ 33 ــ 98 (ذكر العظائم المخرجة إلى الكفر أو إلى المحال من أقوال أهل البدع: المعتزلة والخوارج والمرجئة والشيع).
وأما مذهب ابن حزم في الإيمان فهو مرجئ، وله مذهب خاص في الإرجاء، فجميع فرق المرجئة تخرج العمل من الإيمان، أما ابن حزم فإنه يُخرج العمل من أصل الإيمان ويُدخله في الإيمان الواجب.
أما الدليل على أنه يخرج العمل من أصل الإيمان: فقوله (فأما الإيمان الذي يكون الكفر ضداً له فهو العقد بالقلب والإقرار باللسان فإن الكفر ضد لهذا الإيمان) (الفصل) 3/255، وقوله (الإيمان الذي يكون الكفر ضداً له) فهذه صفة أصل الإيمان، فأخرج العمل من أصل الإيمان وقَصَره على اعتقاد القلب وإقرار اللسان كقول مرجئة الفقهاء خلافا لأهل السنة، ويترتب على هذا أنه لايكفُر أحدٌُ بشئ من العمل، وهذا مايصرّح به ابن حزم فقال (ومن ضيّع الأعمال كلها فهو مؤمن عاص ناقص الإيمان لايكفر) (المحلى) 1/40، ويدل على إرجائه أيضا تجويزه قول (أنا مؤمن مسلم قطعاً عند الله تعالى) هكذا بدون استثناء بل على وجه القطع والجزم. (الفصل) 3/271. وهذه كلها أقوال المرجئة بلا ريب.
وأما الدليل على أنه يُدخل العمل في الإيمان الواجب والإيمان المستحب، فقوله (وأما الإيمان الذي يكون الفسق ضداً له لا الكفر، فهو ماكان من الأعمال فرضاً فإن تركه ضد للعمل وهو فسق لاكفر. وأما الإيمان الذي يكون الترك له ضداً فهو كل ماكان من الأعمال تطوعاً فإن تركه ضد العمل به وليس فسقاً ولاكفراً) (الفصل) 3/ 255. والإيمان الذي يضاده الفسق هو الإيمان الواجب، والإيمان الذي يضاده الترك غير المكفر ولا المفسق هو الإيمان المستحب.(7/4)
وبهذا تعلم أن ابن حزم وافق المرجئة في مسائل ووافق أهل السنة في مسائل، ولهذا فإن قوله (الإيمان والإسلام شئ واحد ــ إلى قوله ــ كل ذلك عقد بالقلب وقول باللسان وعمل بالجوارح، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية) (المحلى) 1/38، كلامه هذا وإن كان موافقا لأهل السنة في ظاهره إلا أنه مخالف لهم في الحقيقة إذ لايُدخِل العمل في أصل الإيمان كما ظهر من كلامه السابق، فأمره مضطرب. ولهذا فقد اعتبر ابن الجوزي الظاهرية فرقة ً من فرق المرجئة في كتابه (تلبيس ابليس) ط مكتبة المدني، صـ 28.
وهذا شأن ابن حزم رحمه الله في معظم العلوم سواء منها الاعتقاد أو أصول الفقه أو الفقه، أمره مضطرب، وكلامه يجمع بين الحق والباطل، ولهذا يجب التوقف في قبول ماانفرد به من آراء وأحكام حتى ينظر فيها، وينبغي ألا يبدأ طالب العلم دراسته بقراءة كتب ابن حزم كالإحكام والمحلى على مافيهما من فوائد، وأنا أنصح بقراءتهما، ولكن في مرحلة متقدمة بعد قراءة غيرهما من الكتب ليستفيدالطالب بما فيهما من فوائد مع توقِّيه ما فيهما من أخطاء.(7/5)
وفي وصف حال ابن حزم وبيان سبب اضطرابه، قال ابن تيمية (وكذلك أبو محمد بن حزم فيما صنفه في الملل والنحل إنما يستحمد بموافقة السنة والحديث مثل ما ذكره في مسائل القدر والإرجاء ونحو ذلك، بخلاف ماانفرد به من قوله في التفضيل بين الصحابة ــ إلى قوله ــ وإن كان أبو محمد بن حزم في مسائل الإيمان والقدر أقوم من غيره وأعلم بالحديث وأكثر تعظيما له ولأهله من غيره، لكن قد خالط من أقوال الفلاسفة والمعتزلة في مسائل الصفات ماصرفه عن موافقة أهل السنة في معاني مذهبهم في ذلك، فوافق هؤلاء في اللفظ وهؤلاء في المعنى. وبمثل هذا صار يذمه من يذمه من الفقهاء والمتكلمين وعلماء الحديث باتباعه لظاهر لاباطن له، كما نفي المعاني في الأمر والنهي والاشتقاق، وكما نفي خرق العادات ونحوه من عبادات القلب، مضموما إلى مافي كلامه من الوقيعة والإسراف في نفي المعاني ودعوى متابعة الظواهر) (مجموع الفتاوي) 4/18 ــ 19، فهذا حال ابن حزم مالَه وماعليه. ومع هذا فكلامه في الإيمان جدير بالقراءة مع معرفة ما أخطأ فيه.(7/6)
4 ــ كتاب (الشفا بتعريف حقوق المصطفى صلى الله عليه وسلم) للقاضي عياض بن موسى اليحصبي 544 هـ. وقد تحدثت عن هذا الكتاب في موضوع (حقوق النبي صلى الله عليه وسلم)، وذكرت هناك أنه مقسم لأربعة أقسام، والذي يهمنا منها في موضوع الإيمان والكفر هو القسم الرابع الخاص بحكم من سبّ النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا القسم في الطبعة التي زكّيناها (طبعة عيسى الحلبي، تحقيق البجاوي) في جـ 2 من صـ 926 إلى آخر الكتاب. ويعتبر ماذكره القاضي عياض في أحكام سابّ النبي صلى الله عليه وسلم هو الأصل لمن كتب بعده في هذا الموضوع. فقد نقل عنه شيخ الإسلام ابن تيمية في (الصارم المسلول)، ونقل عنه القاضي برهان الدين بن فرحون المالكي 799هـ في أبواب الرّدة من كتابه (تبصرة الحكام)، ونقل عنه ابن حجر المكي الهيتمي 974هـ في كتابه (الإعلام بقواطع الإسلام) المطبوع بآخر كتابه (الزواجر في النهي عن اقتراف الكبائر)، وغيرهم كثير، حتى قال ابن فرحون (وقد استوعب القاضي عياض رحمه الله الكلام في هذا وماأشبهه ولم يترك لغيره مقالا) وقال أيضا (واستيفاء أحكام هذا الباب محلها كتاب الشفاء للقاضي عياض) انظر (تبصرة الحكام) 2/ 280 ــ 281.
وإذا كان شيخ الإسلام ابن تيمية قد بسط القول في موضوع السبّ، فإن القاضي عياض قد أوجز فيه المقال، ولكل من البسط والإيجاز مزيته. ولكن أهمية كتاب (الشفا) واعتباره من الكتب الأساسية لدراسة موضوع الإيمان والكفر لاترجع إلى تناوله حكم سابّ النبي صلى الله عليه وسلم وإنما ترجع إلى تناوله موضوع ضوابط التكفير خاصة من الجانب القضائي، فقد أبرز في القسم الرابع المشار إليه عدة مسائل في هذا الجانب منها:
أ ــ أن الحكم بالكفر على شخص ٍ ما في الدنيا إنما يكون بصدور قولٍ مكفرٍ منه أو فعل مكفرٍ.
ب ــ أن الشخص المعيّن لايحكم عليه بالكفر في الدنيا إلا إذا ثبت عليه السبب بطرق الثبوت الشرعية الصحيحة.(7/7)
جـ ــ التفريق بين الكفر الصريح والكفر المحتمل أو الكفر بالمآل، وهو ماسّماه (إكفار المتأولين) وعقّب هذا الفصل بفصلٍ (في بيان ماهو من المقالات كفر، ومايتوقف أو يختلف فيه، وما ليس بكفر). وهذا يندرج تحته ماذكرته لك من قبل باسم الأعمال محتملة الدلالة على الكفر.
د ــ أَنَّ تبيُّن قصد الفاعل معتبر في محتمل الدلالة ولا اعتبار له في الكفر الصريح.
هـ ــ ولعل أهم مااشتمل عليه كلام القاضي عياض في هذا القسم هى التطبيقات العملية التي أوردها من أحكام القضاة وفتاوي المفتين في مسائل الكفر المختلفة، وبقراءة هذه التطبيقات تدرك مدى إسراف بعض المعاصرين في اعتبار موانع التكفير كالعذر بالجهل وغيره إسرافا يكاد أن يؤدي إلى إسقاط التكليف جملة.
وبعد بيان أهمية كتاب (الشفا) في موضوع الإيمان والكفر، بقي التنبيه على مافيه من أخطاء، ولن ننبه على مافيه من أحاديث ضعيفة فهذه قد نبّه المحقق على أكثرها، وإنما يهمنا هنا التنبيه على الأخطاء في موضوع الإيمان، وهى بعد ماذكرناه قبلا لن تخفى على الطالب، وهى ترجع إلى أن القاضي عياض مذهبه في الإيمان هو مذهب الأشاعرة ــ وهم إحدى فرق المرجئة ــ الذين يخرجون العمل من الإيمان، وأن العبد لايكفر بعمل (قول أو فعل) وإنما يكفر بكفر القلب، واتفقوا مع أهل السنة في أن من أتى قولا أو فعلا دل الدليل على كفره فهو كافر ظاهراً في الحكم وباطنا في الحقيقة، ولكنهم اختلفوا مع أهل السنة في تفسير كفره، فقالوا إنه لم يكفر بنفس القول أو الفعل ولكن لأن اتيانه لهذا القول أو الفعل أمارة على أنه كافر بقلبه. ولأجل اتفاقهم مع أهل السنة في الحكم كان كتاب (الشفا) مفيداً في دراسة الجانب القضائي لموضوع التكفير.
وبعد هذه الإشارة يستطيع الطالب أن يكتشف بسهولة الأخطاء الأشعرية في كتاب (الشفا)، وهى إما أخطاء للقاضي عياض أو أخطاء لغيره، وإليك أمثلة منها:(7/8)
أما أخطاء القاضي عياض نفسه، فكقوله في تفسير الإيمان إنه تصديق بالقلب وإقرار باللسان ولم يذكر الأعمال. (2/ 539) في طبعة الحلبي، وذكر القاضي بعض الأفعال المكفرة ثم قال (فقد أجمع المسلمون أن هذا الفعل لا يوجد إلا من كافر، وأن هذه الافعال علامة علي الكفر وإن صرح فاعلها بالإسلام) (الشفا) 2/ 1073. فقوله الإيمان تصديق وإقرار، وقوله (علامة على الكفر) هذا قول المرجئة كما ذكرت من قبل.
وأما أخطاء غيره التي نقلها وسكت عنها، فمنها قوله (قال القاضي أبو بكر: القول عندي أن الكفر بالله هو الجهل بوجوده، والإيمان بالله هو العلم بوجوده، وأنه لايكفر أحد بقول ٍ ولا رأي إلا أن يكون هو الجهل بالله، فإن عصى بقولٍ أو فعل ٍ نصّ الله ورسوله أو أجمع المسلمون أنه لايوجد إلا من كافر، أو يقوم دليلٌُ على ذلك، فقد كَفَر، ليس لأجل قوله أو فعله لكن لما يقارنه من الكفر) (الشفا) 2/1080، والقاضي عياض وسائر الأشاعرةإذا أطلقوا قول القاضي فالمقصود به أبو بكر الباقلاني من متقدمي الأشاعرة بل كبيرهم وهو واضع قواعد علم الكلام كما ذكرت هذا من قبل، توفي الباقلاني في 403هـ. وقول الباقلاني إن الكفر بالله هو الجهل بوجوده هو صريح مذهب الجهم بن صفوان ت 128هـ، وهو رأس الجهمية (انظر «الفصل» لابن حزم 3/227)،وقول الباقلاني (لكن لما يقارنه من الكفر) هو كقول غيره إن القول والفعل علامة على الكفر.
هذه أمثلة للأخطاء الأشعرية (بالشفا) تعرف بها بقيتها. ومع اتفاق الأشاعرة مع أهل السنة في الحكم بكفر من أتى قولا مكفراً أو فعلا مكفراً يكون خطبهم أهون من غلاة المرجئة المعاصرين الذين يعتبرون كفر القلب شرطا مستقلا للتكفير ليس شرطاً لازما له كقول الأشاعرة ومرجئة الفقهاء، وحاصل قول المعاصرين هو عدم تكفير الكافر كما ذكرت من قبل.
هذا مايتعلق بكتاب (الشفا)، وهو رابع الكتب الأساسية في دراسة موضوع الإيمان والكفر.(7/9)
ثانيا: الكتب الممهدة لدراسة الكتب الأساسية.
مع بسط الشرح في الكتب الأساسية السابقة تضيع أحيانا رؤوس المسائل من الطالب، ومع عدم ترتيب العرض في الكتب الأساسية يفقد أحيانا بعض أجزاء المسائل، ومن هنا رأينا أن يدرس الطالب موضوع الإيمان والكفر من بعض الكتب المختصرة ليتمكن بذلك من حصر مسائل الموضوع، ولمعرفة خلاصة القول في كل مسألة منها.
وقد قدمت آنفاً سرداً لمسائل الإيمان ثم شرحاً لضوابط التكفير وهذا أيضا مما يساعد الطالب على دراسة الكتب الأساسية.
أما الكتب الممهدة التي نوصي بدراستها قبل دراسة الكتب الأساسية فهى:
1 ــ مسائل الإيمان في كتاب (معارج القبول) لحافظ حكمي، وموضعها في طبعة المكتبة السلفية بمصر، بالجزء الثاني في موضعين منه:
من صـ 17 إلى 46: وفيه تكلم عن حقيقة الإيمان، وأنواع الكفر، والفرق بين الإيمان والإسلام
ومن صـ 405 إلى 444: بعنوان (ست مسائل تتعلق بمباحث الدين) وهذا الجزء طبعته مستقلا مكتبة السوادي بجدة، ولكنه لايتناول كل مسائل الإيمان خاصة مسألة حقيقة الإيمان التي هى أصل مسائل الإيمان كلها كما ذكرته من قبل، فحبذا لو طُبع الجزء الخاص بحقيقة الإيمان (2/17 ــ 46) مع هذه المسائل الست مستقبلا ليكتمل الموضوع.
2 ــ مسائل الإيمان في كتاب (لوامع الأنوار البهية) للسفاريني، وهو أكثر استيعاباً لمسائل الإيمان من (معارج القبول). ومسائل الإيمان في (لوامع الأنوار) موضعها في طبعة المكتب الإسلامي 1411هـ، بالجزء الأول من صـ 352 ــ 446.
هذا مايتعلق بالكتب الممهدة وفائدتها حصر مسائل الموضوع ومعرفة خلاصة القول فيها، ثم يبني عليها الطالب من الكتب الأساسية.
ثالثا: كتب أخرى في موضوع الإيمان والكفر.(7/10)
بعد دراسة الكتب الممهدة ثم الكتب الأساسية، هناك كتب أخرى في نفس الموضوع ينبغي للطالب في مرحلة التخصص وطلب الاجتهاد (في المرتبة الثالثة) أن يقرأها من أجل توكيد أو توضيح بعض مادرسه في الكتب الأساسية، ومن هذه الكتب:
1 ــ كتاب الإيمان بصحيح البخاري: وقد ذكر فيه معظم مسائل الإيمان على مذهب أهل السنة، وقد أثنى عليه ابن تيمية فقال (وهذا أيضا مما استشهد به البخاري في «صحيحه» فإن كتاب «الإيمان» الذي افتتح به «الصحيح» قرر مذهب أهل السنة والجماعة، وضمّنه الرد على المرجئة فإنه كان من القائمين بنصر السنة والجماعة مذهب الصحابة والتابعين لهم بإحسان) (مجموع الفتاوى) 7/351.
والحق أن البخاري لم يُضَمِّن كتابه الرد على المرجئة فقط بل رد أيضا على المعتزلة والخوارج. وكان الأولى البدء بدراسة الإيمان بالبخاري قبل ما ذكرناه من كتب تمهيدية وأساسية، إلا أن الطالب قد تخفى عليه كثير من فوائده إذا بدأ به خاصة مع إخلال ابن حجر بشرحه، فإن ابن حجر أشعري المذهب وقد أدى هذا به إلى التقصير والإخلال بشرح الإيمان للبخاري من وجهين:
أحدهما: تقصيره في بيان مناسبة تراجم الأبواب لموضوع الإيمان ومسائله المختلفة.
والوجه الثاني: شرحه للكتاب على مذهب الأشاعرة وهم مرجئة مع أن البخاري أراد به نصر مذهب أهل السنة، وأضرب لك أمثلة على ذلك:
أ ــ فمن ذلك قوله في (فتح الباري) ط دار المعرفة. جـ 1 صـ 46، إن السلف في قولهم إن الإيمان (هو اعتقاد بالقلب ونطق باللسان وعمل بالأركان) أنهم آرادوا بذلك أن الأعمال شرط في كماله. هذا كلامه، وليس هذا قول السلف ولا مذهبهم.
أما أنه ليس قول السلف، فإن من عرّف الإيمان منهم بهذه العبارة قال إنه (اعتقاد بالقلب ونطق باللسان وعمل بالجوارح) ليس عملا بالأركان فقط، وبينهما فرق ذكرته من قبل.(7/11)
وأما أنه ليس مذهب السلف، فمذهبهم أن العمل من حقيقة الإيمان ليس شرطا في كماله فقط، والإيمان عندهم ثلاث مراتب: أصل وكمال واجب وكمال مستحب، والعمل يدخل في المراتب الثلاث.
فما كان من العمل تركه كفر فهو من أصل الإيمان.
وما كان من العمل تركه فسق فهو من الإيمان الواجب، كأداء الواجب وترك الحرام.
وما كان من العمل لايُذم تاركه ولايعاقب فهو من الإيمان المستحب، كالنوافل.
فقول ابن حجر (إن السلف قالوا إن الأعمال شرط في كمال الإيمان) غير صحيح، بل هذا هو قول المرجئة وهو ماذكره الشيخ إبراهيم البيجوري 1277هـ في شرحه (لجوهرة التوحيد) لإبراهيم اللقاني 1041هـ، قال البيجوري إن العمل (شرط كمال على المختار عند أهل السنة، فمن أتى بالعمل فقد حَصَّل الكمال، ومن تركه فهو مؤمن لكنه فوَّت على نفسه الكمال) أهـ، وفي شرح قول اللقاني (والإسلام اشرحن بالعمل) قال البيجوري (والتقدير: والإسلام اشرحنه بالعمل الصالح، أي بالامتثال لذلك والإذعان الظاهري له، سواء عَمِلَ أو لم يعمل، فمعنى الإسلام شرعا: الامتثال والانقياد لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم مما عُلِمَ من الدين بالضرورة) أهـ (تحفة المريد شرح جوهرة التوحيد) صـ 45 ــ 47. وقوله (عند أهل السنة) يعني الأشاعرة، هكذا يُسمون أنفسهم كما قال الزبيدي في (إتحاف السادة المتقين) 2/ 6 (إذا أطلِقَ أهل السنة والجماعة فالمراد بهم الأشاعرة والماتريدية) أهـ. وهى تسمية في غير محلها كما تبين لك من هذا المبحث.(7/12)
ب ــ ومن ذلك قول ابن حجر ــ في جـ 1 صـ 46 ــ (فمن أقر أجريت عليه الأحكام في الدنيا ولم يحكم عليه بكفر إلا إن اقترن به فعل يدل على كفره) أهـ. فقوله (فعل يدل على كفره) هو كقول المرجئة إن فعله علامة على كفره، وقد علمت من قبل أن هذا بخلاف قول أهل السنة الذين يقولون إنه كفر بفعله، كما علمت من قبل أن سبب قول المرجئة هذا هو أن الكفر عندهم لايكون إلا بالقلب، وأن العمل ليس من حقيقة الإيمان فلا يكفر به، والتزموا أن من حكم الشارع بكفره بفعل يكون كافراً وأن فعله هذا علامة على كفر قلبه.
جـ ــ ومن ذلك قول ابن حجر ــ في جـ 1 صـ 57 ــ في صيغة نفي الإيمان الواردة في حديث (لا يؤمن أحدكم حتى يحبَّ لأخيه ما يُحب لنفسه) قال (والمراد بالنفي كمال الإيمان) أهـ. وهذا ليس صحيحا، فنفي الإيمان صيغة وعيد، والوعيد لايرد إلا في حق من ترك واجبا إما من أصل الإيمان وإما من الإيمان الواجب، أما من ترك شيئا من الإيمان المستحب فلا وعيد في حقه، ولهذا فإن كل آية أو حديث ورد فيه نفي إيمان، فإما أن يراد به نفي أصل الإيمان فيكون صاحبه كافراً، وإما أن يراد به نفي الإيمان الواجب أي كماله الواجب فيكون صاحبه فاسقاَ. هذا حاصل ماذكره ابن تيمية في دلالات صيغ نفي الإيمان، انظر (مجموع الفتاوي) جـ 7 صـ 14 ــ 15 و 37 ــ 42 و 337، ويتم التفريق بين الدلالتين (هل نفي الإيمان يعني الكفر أم الفسق؟) بقرائن من نفس النص المشتمل على صيغة نفي الإيمان أو من نصوص أخرى، ولهذا فقد ذكرت في قاعدة التكفير أن صيغة نفي الإيمان محتملة ــ ليست قطعية ــ الدلالة على الكفر.(7/13)
د ــ ومن ذلك قول ابن حجر ــ في جـ 1 صـ 74 ــ 75 ــ في باب (الحياء من الإيمان) قال (إن إطلاق كونه من الإيمان مجاز)، وقال إنه (أثر من آثار الإيمان) أهـ. وهذا والذي قبله كله جار على مذهبه الأشعري أن العمل ليس من الإيمان على الحقيقة، وأن العمل إذا سُمي إيمانا فعلى سبيل المجاز أو لأنه ثمرة من ثمرات الإيمان، انظر (مجموع فتاوي ابن تيمية) 7/195، وهذا كله مخالف لمذهب أهل السنة. ولهذا لم ننصح بالبدء بدراسة الإيمان من صحيح البخاري نظراً لهذه الأخطاء ونحوها. ولكن دراسته مهمة وتؤخر بعد دراسة الكتب الأساسية والتمهيدية إلا أن يجد الطالب من يشرحه له على مذهب أهل السنة.
2 ــ كتاب الإيمان بصحيح مسلم، وشرح النووي له. ويُدرس مع الإيمان بالبخاري أو عقبه. ومع التشابه بين الكتابين ومع أن ابن حجر نقل في شرحه عن النووي، إلا أن هذا لا يغني عن دراسة الإيمان بصحيح مسلم لسببين:
الأول: تفرد مسلم بأبواب لم يوردها البخاري في كتاب الإيمان، إما تفرد مطلق، وإما لأن البخاري أوردها في كتب أخرى، كأحاديث الشفاعة: أوردها مسلم بالإيمان في حين أوردها البخاري بالرقاق والتوحيد.
الثاني: جمع مسلم للروايات المتعددة للحديث في نفس الباب، ومايترتب على هذا من فوائد كتفصيل المجمل ومعرفة زيادات الثقات وغير ذلك.
ومذهب النووي في الإيمان كابن حجر، إلا أن أخطاءه في الشرح أقل.
3 ــ أما كتب الإيمان في بقية الكتب الستة (وهى سنن أبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجة) فليس فيها فوائد أكثر مما ورد بكتابي الإيمان بالصحيحين، ولكن ينبغي قراءتها من باب استكمال دراسة الموضوع من الكتب الستة، وستجد أن أحاديث الإيمان بالسنن هى تكرار لأحاديث الصحيحين بل أقل مما بالصحيحين بكثير.(7/14)
4 ــ وما قلته في الإيمان بالسنن الأربع أقوله أيضا في كتاب الإيمان بشرح السنة للبغوي، ليس فيه فائدة أكثر مما بالصحيحين بل هو دونهما بكثير، وإن زاد البغوي في آخر كتاب الإيمان بعض أبواب في القدر والصفات والاعتصام فهذه أفردها البخاري بكتب مستقلة في صحيحه، كما أنها ليست من صلب موضوع الإيمان. وقد نقل ابن حجر في شرحه بعض الفوائد عن البغوي رحمة الله عليهم أجمعين.
5 ــ وما قلته في كتب الإيمان في السنن الأربع وشرح السنة للبغوي، أقوله أيضا في كتاب (الإيمان) لابن منده (محمد بن إسحاق) 395هـ، فليس فيه شئ أكثر مما بكتابي الإيمان بالصحيحين على طوله باستثناء بعض الفوائد في تراجم أبوابه، وقد نقل عنه ابن حجر جملاً يسيرة في شرحه لكتاب الإيمان بالبخاري، وكتاب الإيمان لابن منده طبعته مؤسسة الرسالة بتحقيق وتخريج د. علي بن ناصر الفقيهي.(7/15)
6 ــ كتاب (مسائل الإيمان) للقاضي أبي يعلى الفراء الحنبلي 458 هـ، وهو صاحب (الأحكام السلطانية) وهو عَلم من أعلام المذهب الحنبلي، وإذا أطلق الحنابلة لفظ القاضي فهو المراد، وكتاب أبي يعلى (مسائل الإيمان) مطبوع بتحقيق سعود بن عبدالعزيز الخلف، ط دار العاصمة 1410هـ. والكتاب جيد ومفيد خاصة في الرد على المرجئة على اختلاف فرقهم، كما أن تعليقات محققه وإضافاته مفيدة جيدة وفيها أخطاء يسيرة منها: أن القاضي ذكر أن الصحابة أجمعوا على أن مانعي الزكاة مرتدون فاعترض المحقق على ذلك (صـ 330) وقول القاضي هو الصواب، وقد سبق كلام ابن تيمية في هذه المسألة، ولا اعتبار للخلاف الناشيء بعد إجماع الصحابة. ومنها: قوله إن الحكام بغير ماأنزل الله في عصرنا كفار كفراً أكبر، وهذا حق، ولكنه فسّره على أنه لاعتقادهم عدم صلاحية حكم الله ورد شرعه (صـ 342). أي جعله كفراً أكبر لأنه كفر اعتقاد، وهذا يمكن أن ينازع فيه البعض، وقد ذكرت لك من قبل أن الحكم بالكفر يترتب على سببه لا على نوعه وبواعثه، والسبب في آية المائدة هو مجرد ترك الحكم بالشريعة، فكيف إذا انضاف إليه الحكم بخلافه؟. وسيأتي شيء من التفصيل في هذه المسألة في المبحث الثامن من هذا الفصل إن شاء الله.
7 ــ كتاب (الإيمان) لأبي بكر ابن أبي شيبة 235هـ، ليس فيه فائدة تذكر، وهو مطبوع، ط دار الأرقم 1405هـ.(7/16)
8 ــ كتاب (الإيمان) لأبي عبيد القاسم بن سلام 224هـ، مطبوع مع الكتاب السابق، وفيه فوائد كثيرة، ونقل عنه ابن تيمية في الإيمان (المجلد السابع)، كما نقل عنه ابن حجر في الإيمان (بالفتح). ولكن بكلام أبي عبيد رحمه الله خطأ ينبغي التنبيه عليه وهو قوله (ولا يكفر المسلم إلا بكلمة الكفر خاصة) في صـ 97 من الطبعة المشار إليها، هذا خطأ إذ قصَرَ الكفر على القول المكفّر فقط، وقد علمت من قبل أن الكفر على الحقيقة يقع بقول أو فعل أو اعتقاد أو شك، وأنه في أحكام الدنيا يقع بقول أو بفعل. وقد أجمع الصحابة على كفر تارك الصلاة، وهذا ترك مجرد، فقَصْر أبي عبيد التكفير على الاتيان بالقول المكفر فقط هو خطأ بلا ريب.
9 ــ كتب شُعب الإيمان، وهى كتب مَعْنية ببيان شُعب الإيمان الواردة في حديث (الإيمان بضع وستون شعبة) الحديث، وذلك على سبيل الحصر، وهما كتابان:
أ ــ كتاب (المنهاج في شعب الإيمان) لأبي عبدالله الحلِيمي 403هـ، ط دار الفكر 1399هـ بتحقيق حلمي محمد فودة.
ب ــ كتاب (شعب الإيمان) للبيهقي (أبو بكر أحمد بن الحسين) 458 هـ، ط دار الكتب العلمية 1410هـ، بتحقيق أبي هاجر بن بسيوني زغلول. وهو كتاب كبير في 7 مجلدات كبيرة مع فهارس في مجلدين. واعتمد البيهقي فيه على كلام الحليمي في (المنهاج في شعب الإيمان) وبني عليه. وهو ليس من الكتب الأساسية في دراسة موضوع الإيمان، فمن وجد متسعا من الوقت قرأه. وقد اعتنى البخاري ومسلم في كتابي (الإيمان) من صحيحيهما بالكلام في شعب الإيمان ولكن ليس على سبيل الحصر والاستيعاب كما فعل الحليمي والبيهقي، وإنما ذكر الشيخان بعض الشُعب للاستدلال على صحة مذهب أهل السنة وللرد على المرجئة والمعتزلة والخوارج. وعلى هذا فمن أراد معرفة هذه الشعب على سبيل الحصر تقريبا فليرجع إلى كتاب الحليمي أو كتاب البيهقي.(7/17)
وأنبه هنا على أن ماقاله البيهقي في الإيمان ليس هو قول أهل السنة، وإنما يشبه قوله قول ابن حزم الذي ذكرناه آنفا من حيث أنه جعل الأعمال والطاعات كلها من الإيمان ولكنها ليست داخله في أصل الإيمان، ويبين هذا قول البيهقي (باب الدليل على أن التصديق بالقلب والإقرار باللسان أصل الإيمان) جـ 1 صـ 38، ثم قال (باب الدليل على أن الطاعات كلها إيمان) جـ 1 صـ 43. فاتفق مع المرجئة في قوله الأول وخالفهم في الثاني كابن حزم، وإن كان البيهقي محسوباً في الجملة من الأشاعرة، انظر (مجموع الفتاوى) لابن تيمية، 6/ 53.
10 ــ كتب الاعتقاد الجامعة التي كتبها السلف بأسانيدهم، أشرنا إليها في النوع الأول من كتب الاعتقاد في المرتبة الثالثة. وجميع هذه الكتب تشتمل على أبواب في مسائل الإيمان، وإذا قرأتها وقرأت المجلد السابع من فتاوي ابن تيمية ستجده قد جمع أهم ما ورد بهذه الكتب في الإيمان أحيانا بنصّه مع حذف الأسانيد. ومؤلفو هذه الكتب منهم من يسرد الأحاديث والآثار دون أن يعلق عليها ومنهم من يعلق بعبارته للشرح والإيضاح وهذه أكثر فائدة، كالآجري في كتابه (الشريعة) وابن بطة في كتابه (الإبانة)، وابن خزيمة في (التوحيد)، وإسماعيل التيمي في (الحجة في بيان المحجة).
11 ــ كتابات ابن القيم في موضوع الإيمان والكفر. وهو لم يكتب فيه على وجه الاستيعاب وإنما كتب في توضيح بعض مسائله، خاصة أنواع الكفر، والكلام في الكفر والشرك والظلم والفسق والنفاق وغيرها وتقسيم كل منها إلى أكبر مخرج من الملة وأصغر غير مكفِّر، ومن كتبه التي ذكر هذا فيها:
أ ــ كتاب (الصلاة) له، في المسائل من الأولى إلى الرابعة، من أول الكتاب إلى صـ 33، طبعة دار الكتب العلمية.
ب ــ كتاب (مدارج السالكين) بالمجلد الأول في آخر كلامه عن التوبة، صـ 364 ومابعدها، ط 1، دار الكتب العلمية.
جـ ــ كتاب (مفتاح دار السعادة) له، جـ 1 صـ 87 ــ 104، ط دار الفكر.(7/18)
د ــ كتاب (طريق الهجرتين) له،الفصل الخاص بطبقات المكلفين بآخر الكتاب من الطبقة الأولى إلى السابعة عشرة، به مباحث إيمانية هامة، صـ 349 ــ 414، ط دار الكتب العلمية 1402هـ.
(تعقيب على كتابات ابن القيم رحمه الله)
* ذكر ابن القيم في كتابه (الصلاة) صـ 24 و 30 (أن المعاصي كلها من شُعَب الكفر كما أن الطاعات كلها من شعب الإيمان) أهـ، وهو في هذا متابع لابن تيمية كما ورد في (مجموع الفتاوى) 7/ 633. أما أن الطاعات كلها فرضها ونفلها من شعب الإيمان فصحيح، وأما أن المعاصي كلها من شعب الكفر فغير صحيح، بل الدليل بخلاف قوله، فقد قال تعالى (وكَرّه إليكم الكفر والفسوق والعصيان) الحجرات 7، وقد ذكرت هذه الآية من قبل ونقلت قول الإمام محمد بن نصر المروزي فيها وهو قوله (لما كانت المعاصي بعضها كفر، وبعضها ليس بكفر، فرّق بينها فجعلها ثلاثة أنواع: نوع منها كُفر، ونوع منها فسوق وليس بكفر، ونوع عصيان وليس بكفر ولافسوق، وأخبر أنه كرَّهها كلها إلى المؤمنين) نقلا عن (مجموع فتاوى ابن تيمية) 7/ 42. وفي الصحيح (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر) فَفَرَّق بينهما.
* أما كلام ابن القيم في حق الحاكم بغير ما أنزل الله في كتابه (الصلاة) ففيه لَبْس وغير واضح، ولكنه في كتابه (مدارج السالكين) تكلم بكلام واضح ولكنه غير صحيح.
أما في كتابه (الصلاة) فقال في صـ 25 (فالحاكم بغير ماأنزل الله كافر، وتارك الصلاة كافر بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن هو كفر عمل لا كفر اعتقاد) أهـ. ثم قال عقب هذا في صـ 26 (ومعلوم أنه إنما أراد الكفر العملي لا الاعتقادي، وهذا الكفر لايُخرجه من الدائرة الإسلامية والملة بالكلية) أهـ، وحاصل هذا الكلام أن الحكم بغير ماأنزل الله كفر أصغر غير مخرج من الملة، مع أنه قرنه بترك الصلاة الذي قرر أنه كفر أكبر في صدر كتابه هذا، فتأمل التناقض.(7/19)
ولكنه في كتابه (مدارج السالكين) تكلم بكلام واضح فقال (والصحيح أن الحكم بغير ماأنزل الله يتناول الكفرين الأصغر والأكبر بحسب حال الحاكم:
فإنه إن اعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله في هذه الواقعة وعَدَل عنه عصياناً، مع اعترافه بأنه مستحق للعقوبة، فهذا كفر أصغر.
وإن اعتقد أنه غير واجب وأنه مخيّر فيه، مع تيقنه أنه حكم الله، فهذا كفر أكبر.
وإن جهله وأخطأه، فهذا مخطيء له حكم المخطئين.) جـ 1 صـ 365، ط دار الكتب العلمية.
والصحيح الذي ذكره ابن القيم غير صحيح، فإنه جعل الحكم بغير ماأنزل الله من الذنوب غير المكفرة كالزنا وشرب الخمر فهذه هى التي لايكفر فاعلها إلا بجحد أو استحلال، وهو قد اشترط لتكفير الحاكم بغير ماأنزل الله أن يكون جاحداً، فقال (إن اعتقد أنه غير واجب) وهذا هو الجحد وهو انكار الوجوب. مع أنه انتقد هذا القول قبل كلامه هذا بسطور فقال (ومنهم من تأول الآية على ترك الحكم بما أنزل الله جاحداً له، وهو قول عكرمة، وهو تأويل مرجوح، فإن نفس جحوده كُفْر، سواء حكم أو لم يحكم) أهـ. هذا كلامه، وهذا الذي انتقده هو نفس ماوقع فيه فناقض نفسه، وذلك لأن هذا الكلام لا أصل له في دين الله تعالى، بل هى محض آراء العلماء وهذا هو سبب التناقض والاختلاف، قال تعالى (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيراً) النساء 82. والصواب في هذا أن مجرد ترك الحكم بما أنزل الله عمداً كفر أكبر، وكذلك الحكم بغير ماأنزل الله كفر أكبر كما ذكرته في نقد كلام حسن الهضيبي عند كلامي السابق في أخطاء التكفير، لأن هذه الذنوب قد ثبت بالنصوص أنها كفر أكبر، وماكان كذلك لايشترط للتكفير به جحد أو استحلال كما ذكرته في التنبيه الهام المذكور عقب تعليقي على قول الطحاوي (ولايخرج العبد من الإيمان إلا بجحود ماأدخله فيه).(7/20)
بقي أن يعلم الطالب أن كلام ابن القيم المذكور في (مدارج السالكين) فيمن حَكَم بغير ماأنزل الله، بتقسيماته التي ماأنزل الله بها من سلطان، هو نفس ماذكره ابن أبي العز في (شرحه للعقيدة الطحاوية) في نفس المسألة وكأنه نقله عن ابن القيم بتصرف لأنه متأخر عنه في الوفاة، انظر (شرح الطحاوية) صـ 363 ــ 364، ط المكتب الإسلامي 1403هـ، وهو مانقله الألباني واستحسنه في تعليقه على متن العقيدة الطحاوية صـ 41. وعلى هذا القول والتقسيم معظم أهل العلم المعاصرين إن لم يكن جميعهم وستأتي أقوالهم في المبحث الثامن، وفيه بحث هذه المسألة بشيء من التفصيل إن شاء الله تعالى.
12 ــ كتاب (الإعلام بقواطع الإسلام) لابن حجر المكي الهيتمي 974هـ، ومعنى (قواطع الإسلام) أي مايقطع الإسلام من الأمور المكفّرة، وهو كتاب ليس فيه كثير فائدة، ونقل كثيراً عن (الشفا) للقاضي عياض، وهو مطبوع بآخر كتابه (الزواجر في النهي عن اقتراف الكبائر)، ويُغني عنه كتاب (الشفا).(7/21)
13 ــ كتاب (تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد) لمحمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني 1182هـ، وهو صاحب كتاب (سبل السلام). وكتابه (تطهير الاعتقاد) عبارة عن رسالة مختصرة مفيدة، وذكر فيه أن الصبي المحكوم بإسلامه إذا أدرك البلوغ وهو كافر أنه يعتبر كافراً أصليا ليس مرتداً، لتبين عدم صحة إسلامه السابق، والصحيح أنه يصح إسلام الصبي المميز وتصح ردته ولا يؤاخذ بها حتى يبلغ، انظر (المغني مع الشرح الكبير) 10/ 91 ــ 92، وهذا الرأي لم ينفرد به الصنعاني كما يظنه البعض، فقد قال العلامة محمد بشير السهسواني في كتابه (صيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ دحلان) صـ 420 ــ 421، ط مكتبة ابن تيمية 1410هـ إن الصنعاني انفرد بهذا القول متابعاً في ذلك بعض علماء نجد، وهذا غير صحيح بل هو مسبوق في هذا، فقد نسب ابن القيم هذا الرأي لبعض علماء السلف في كتابه (أحكام أهل الذمة) 2/507، وخلص الصنعاني من هذا إلى أن أعراب البادية الواقعين في الأمور المكفرة والذين لايعرف لهم إسلام صحيح من قبل أنهم كفار أصليون.
وكتابه (تطهير الاعتقاد) اشتمل على الرد على بعض الشبهات التي يظنها البعض موانع من التكفير، وهذه الردود هى أهم ما فيه.
14 ــ كتاب (الدر النضيد في إخلاص كلمة التوحيد) للشوكاني (محمد بن علي) 1250 هـ، وهى رسالة مختصرة مفيدة بها كشف لبعض الشبهات ومنها شبهة التفريق بين كفر العمل وكفر الاعتقاد نسبها للصنعاني، وأسهب الشوكاني في الرد عليه وكلامه جيد إلا أنه كان ينبغي أن يبين أن الحكم بالكفر في الدنيا لا يكون إلا بقول أو بفعل، مع أنه ذكر هذا في موضع متقدم بنفس الكتاب (صـ 39) قبل تعرضه لهذه الشبهة (صـ 49). وهذه الأرقام بطبعة الكتاب بتخريج علي المهذري، ط دار القدس بصنعاء 1407هـ.(7/22)
وقد رد على الصنعاني أيضا: صديق حسن خان القنوجي في كتابه (الدين الخالص) ط مكتبة دار التراث بالقاهرة، جـ 4 صـ 87 ــ 92. وكلامه يشبه كلام الشوكاني وهو من مدرسته، وصديق حسن خان هو صاحب (الروضة الندية) شرح (الدرر البهية) للشوكاني.
15 ــ كتابات علماء الدعوة النجدية في موضوع الإيمان والكفر، ومنها:
أ ــ كتاب (التوحيد حق الله على العبيد) لمحمد بن عبدالوهاب،وشرحه (فتح المجيد) لحفيده عبدالرحمن بن حسن. وقد سبق التنبيه عليهما ضمن كتب المرتبة الثانية، وكل ماورد بهذين الكتابين ــ وبأمثالهما ــ من التكفير هو من باب التكفير المطلق، أما تنزيل أحكام الكفر هذه على المعينين فيجري وفق ماذكرته في قاعدة التكفير.
ب ــ كتاب (كشف الشبهات في التوحيد) لمحمد بن عبدالوهاب.
جـ ــ كتاب (الرسائل الشخصية) لمحمد بن عبدالوهاب، وهم القسم الخامس من مؤلفاته التي طبعتها جامعة الإمام محمد بن سعود.
د ــ كتاب (التوضيح عن توحيد الخلاّق) لسليمان بن عبدالله بن محمد بن عبدالوهاب، وهو صاحب كتاب (تيسير العزيز الحميد)، وفي كتابه (التوضيح) نقل كلام ابن القيم في كتابه (الصلاة). وتابعه في أخطائه.
هـ ــ كتاب (مجموعة الرسائل والمسائل النجدية) لمجموعة من علماء الدعوة.
و ــ كتاب (الدرر السنية في الأجوبة النجدية) وهو عدة أجزاء، وموضوعنا في الجزء الثامن منها وهو (كتاب المرتد)، وبعضه في الجزء السابع (كتاب الجهاد).
وكتابات علماء الدعوة النجدية مبنية في الأساس على كلام ابن تيمية وابن القيم في هذا الموضوع. وأهم مافي كتابات علماء الدعوة النجدية رحمهم الله هو: بيانهم لحقيقة التوحيد، ومعنى الطاغوت والكفر به، والتنبيه على الأمور المكفِّرة المتلبس بها كثير من الناس، ثم ردهم على كثير من الشبهات الواردة في موضوع التكفير خاصة الرد على أمور يظنها البعض أعذاراً شرعية مانعة من التكفير، وهى ليست كذلك.(7/23)
16 ــ كتاب (أعلام السنة المنشورة) لحافظ حكمي، وقد سبقت الإشارة إليه.
17 ــ كتاب (ايثار الحق على الخلق) لابن الوزير (محمد بن إبراهيم الوزير) 840 هـ صاحب (الروض الباسم في الذب عن سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم)، وكتابه (إيثار الحق) مع الكتب السابقة لايبقي فيه كثير فائدة.
18 ــ كتاب (الإيمان: أركانه ــ حقيقته ــ نواقضه) للأستاذ محمد نعيم ياسين، وكلامه في شرح أركان الإيمان الستة جيد، وكذلك كلامه في نواقض الإيمان جيد باستثناء خطأ وقع فيه في أول كلامه في النواقض سنذكره إن شاء الله، أما كلامه في حقيقة الإيمان فبه عدة أخطاء. وأذكر فيما يلي أهم الأخطاء الواردة بهذا الكتاب ــ وذلك حسب طبعة دار عمر بن الخطاب:
أ ــ في صـ 85: قال المؤلف إن الذين قالوا (إن الإيمان إقرار باللسان وتصديق بالقلب وعمل الجوارح) هم معظم أهل السنة،وهذا الكلام خطأ من عدة أوجه،وهى:
* لم يذكر المؤلف إلا تفسيراً واحداً للإىمان على مذهب أهل السنة، وقد جرت عادة السلف في تأليف الكتب التي تقتصر على ذكر قول واحد في المذهب ــ سواء كان مذهبا اعتقاديا أو فقهيا ــ جرت عادتهم على ذكر القول الراجح في المذهب ليكون هو أول ما يعرفه الطالب فيه، وليترسخ عنده قبل معرفة الخلاف والأقوال الأخرى.
ولهذا كان ينبغي أن يذكر المؤلف القول الراجح عند أهل السنة في تفسير الإيمان، فإن القول الذي ذكره ليس راجحا ولامشهوراً بل هو قول شاذ.
أما القول الراجح عند أهل السنة فهو أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، وقال ابن حجر إن اللالكائي روى بسنده الصحيح عن البخاري قال (لقيت أكثر من ألف رجل من العلماء بالأمصار فما رأيت أحداً منهم يختلف في أن الإيمان قول وعمل، ويزيد وينقص) (فتح الباري) 1/47.(7/24)
* أن القول الذي ذكره المؤلف ليس من الأقوال المتفق عليها عند أهل السنة بل هو قول شاذ ولهذا لم يذكره ابن تيمية في أقوال أهل السنة، فقد قال رحمه الله (ومن هذا الباب أقوال السلف وأئمة السنة في تفسير الإيمان، فتارة يقولون: هو قول وعمل، وتارة يقولون:قول وعمل ونية، وتارة يقولون هو قول وعمل ونية واتباع السنة، وتارة يقولون: قول باللسان واعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح. وكل هذا صحيح ــ إلى أن قال ــ إن من قال من السلف: الإيمان قول وعمل أراد قول القلب واللسان وعمل القلب والجوارح. ومن أراد الاعتقاد رأي أن لفظ القول لا يفهم منه إلا القول الظاهر أو خاف ذلك فزاد الاعتقاد بالقلب. ومن قال: قول وعمل ونية، قال: القول: يتناول الاعتقاد وقول اللسان، وأما العمل فقد لا يفهم منه النية فزاد ذلك. ومن زاد اتباع السنة فلأن ذلك كله لا يكون محبوباً لله إلا باتباع السنة. وأولئك لم يريدوا كل قول وعمل، وإنما أرادوا ماكان مشروعاً من الأقوال والأعمال. ولكن كان مقصودهم الرد على المرجئة الذين جعلوه قولاً فقط، فقالوا: بل هو قول وعمل) (مجموع الفتاوى) 7/ 170 ــ 171.
* أما القول الذي ذكره المؤلف (أن الإيمان قول باللسان وتصديق بالقلب وعمل بالجوارح) فهو قول شاذ، والشذوذ هو مخالفة الثقة للثقات، وهو بالإضافة إلى شذوذه قول خطأ. وممن انفرد بهذا القول من السلف: أبو ثور (نسبه إليه اللالكائي في كتابه شرح اعتقاد أهل السنة، 2/ 849)، وابن بطة في كتابه (الإبانة عن شريعة الفرق الناجية) 2/ 760، وقد تابع ابن بطة في هذا شيخه الآجري في (الشريعة) صـ 105 و 119. وهذا التعريف خطأ لأنه يُسقط بعض فروض القلب الإيمانية.
* ووجه الخطأ في هذا التعريف يتبيّن بمعرفة أن أمور الإيمان الواجبة على القلب ثلاثة: وهى المعرفة (أو العلم) والتصديق وأعمال القلب، وكلها من أصل الإيمان وشروط صحته.(7/25)
فمن قال إن الإيمان قول وعمل: أراد بالقول: قول القلب (وهو معرفته وتصديقه) وقول اللسان، وأراد بالعمل: عمل القلب وعمل الجوارح. فاشتمل هذا التعريف للإيمان على واجبات القلب الثلاثة.
ومن قال إن الإيمان قول باللسان واعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح، فأراد باعتقاد القلب معرفته وتصديقه وأعماله.
أما من قال إن الإيمان قول باللسان وتصديق بالقلب وعمل بالجوارح، فقد أسقط من الإيمان معرفة القلب وأعماله، وهما من أصل الإيمان وشروط صحته، وبهذا يتبين خطأ هذا التعريف، ولهذا فإن أبا عبدالله ابن بطة لما ذكر هذا التعريف الشاذ أعقبه بقوله (اعلموا رحمكم الله أن الله جل ثناؤه وتقدّست أسماؤه فَرَض على القلب المعرفة به والتصديق له ولرسله ولكتبه وبكل ماجاءت به السنة، وعلى الألسن النطق بذلك والإقرار به قولا، وعلى الأبدان والجوارح العمل بكل ما أمر به وفَرَضه من الأعمال، لاتجزئ واحدة من هذه إلا بصاحبتها، ولايكون العبد مؤمنا إلا بأن يجمعها كلها) (الإبانة) 2/760 ــ 761، فذكر معرفة القلب في كلامه هذا، كما ذكر أعمال القلب في قوله (وأما مافُرِض على القلب فالإقرار والإيمان والمعرفة والتصديق والعقل والرضا والتسليم) (الإبانة) 2/766، فالرضا والتسليم من أعمال القلب. وكذلك شيخه الآجري قال مثله في (الشريعة) صـ 119. فكل من ذكر من أهل السنة ــ في تعريف الإيمان ــ لفظ (تصديق بالقلب) بيّن في شرحه أن معرفة القلب وعمله من لوازم هذا التصديق. وهذا ما بَيَّنه الشيخ حافظ حكمي بقوله (ومن هنا يتبيّن لك أن من قال من أهل السنة في الإيمان هو التصديق على ظاهر اللغة أنهم إنما عنوا التصديق الإذعاني المستلزم للانقياد ظاهراً وباطنا بلاشك، لم يعنوا مجرد التصديق) (معارج القبول) صـ 23، ط السلفية. وقوله لم يعنوا مجرد التصديق أي التصديق الخبري: تصديق الخَبَر والمُخْبِر. والشيخ حافظ حكمي متابع في قوله هذا لابن القيم في قوله (فإن الإيمان ليس مجرد(7/26)
التصديق ــ كما تقدم بيانه ــ وإنما هو التصديق المستلزم للطاعة والانقياد) (الصلاة) لابن القيم، صـ 25. والحق أن التصديق وهو أحد أعمال القلب لايدل على غيره من أعمال القلب كالانقياد والمحبة لا بدلالة المطابقة ولا بدلالة التضمّن، وإنما يمكن أن يدل عليها بدلالة اللزوم، ولهذا قال حافظ حكمي (التصديق الإذعاني المستلزم للانقياد) وقال ابن القيم (التصديق المستلزم للطاعة والانقياد)، وهذا اللزوم ليس بلازم إذ قد تخلف الانقياد عن التصديق في كفر الاستكبار ككفر إبليس، فليس الانقياد بلازم ٍ دائما للتصديق، ولهذا كان قول جمهور أهل السنة أكمل وهو قولهم إن الإيمان قول وعمل، خاصة وأن بعض المرجئة قال في تفسير التصديق بمثل ماقال ابن القيم وحافظ حكمي، فقد قال سعد الدين التفتازاني في (شرح العقائد النسفية) صـ 433 (وليس حقيقة التصديق أن يقع في القلب نسبة الصدق إلى الخبر أو المُخبِر من غير اذعان وقبول، بل هو اذعان وقبول ذلك بحيث يقع عليه اسم التسليم)، وبمثل هذا قال البيجوري أيضا في (تحفة المريد شرح جوهرة التوحيد) صـ 43. أهـ.(7/27)
وفي بيان وجوب معرفة القلب وعمله بالإضافة إلى تصديقه كشروط لصحة الإيمان قال ابن تيمية (الوجه الثاني من غلط المرجئة ظنهم أن مافي القلب من الإيمان ليس إلا التصديق فقط دون أعمال القلوب كما تقدم عن جهمية المرجئة) (مجموع الفتاوي) 7/204، وقال أيضا (ولابد أن يدخل في قوله: اعتقاد القلب أعمال القلب المقارنة لتصديقه مثل حب الله وخشية الله والتوكل على الله ونحو ذلك، فإن دخول أعمال القلب في الإيمان أولى من دخول أعمال الجوارح باتفاق الطوائف كلها) (مجموع الفتاوي) 7/506، وقال أيضا (وأحمد رضي الله عنه فرّق بين المعرفة التي في القلب وبين التصديق الذي في القلب ــ إلى أن قال ــ فعُلم أنه أراد تصديق القلب ومعرفته مع الإقرار باللسان)(مجموع الفتاوي) 7/395 ــ 396. أما الأدلة من الكتاب والسنة على وجوب هذه الأمور كلها فتجدها في المراجع الأساسية والتمهيدية التي أوصيت بها، كما تجدها في كتابي (الحجة في أحكام الملة الإسلامية).
ب ــ في صـ 85، بعد ماذكر القول السابق، قال الأستاذ محمد نعيم ياسين: أن بعض أهل العلم قالوا إن الإيمان إقرار باللسان وتصديق بالقلب، وليس العمل منه، ثم قال في صـ 86: إن الخلاف بينهم وبين أهل السنة خلاف صوري نظري.ولم يذكر أصحاب هذا القول، وقد علمت من قبل أنهم مرجئة الفقهاء حماد ابن أبي سليمان وأبو حنيفة وأتباعهما، وقد ذكرهم ابن تيمية ثم قال (ثم إن السلف والأئمة اشتد انكارهم على هؤلاء وتبديعهم وتغليظ القول فيهم) (مجموع الفتاوي) 7/507. ولو كان الخلاف صوريا لما اشتد نكير السلف عليهم، فالانكار لايكون إلا لما هو منكر من ترك واجب أو فعل محرم لا لشيء صوري. وفي صـ 87 اعتبر المؤلف مرجئة الفقهاء من أهل السنة في قوله (وأجمع أهل السنة ــ إلى قوله ــ وجعلوا الجزء الآخر من مقتضياته وثماره) أهـ. ولم يقل أحد من السلف إن مرجئة الفقهاء من أهل السنة وإن تساهل المتأخرون في هذا.(7/28)
جـ ــ وفي صـ 87: قال المؤلف (والكل متفقون على عدم التكفير بترك العمل) أهـ. وهذا خطأ فاحش بل هناك أعمال هى شرط في صحة الإيمان يكفر تاركها، كتارك الصلاة هو كافر بإجماع الصحابة وإن كان مقراً بوجوبها. كما نقلته في التنبيه الهام المذكور عقب التعليق على قول الطحاوي (ولايخرج العبد من الإيمان....).
د ــ وفي صـ 99: قال المؤلف (من قال قولاً أو فعل فعلاً يدل على انكار شئ مما تقدم يكون قد نقض إقراره السابق بالشهادتين وخرج من دين الله سبحانه) أهـ. وهذا الكلام صحيح بشرط عدم حصر الكفر في الانكار فقط، ولكنه قيّده بكلام أخطأ فيه فقال عقب كلامه السابق (فإن كان قوله أو فعله مطابقاً لحقيقة نيته واعتقاده كان كافراً في الدنيا والآخرة فيُعامل بأحكام الكفار في الدنيا وتطبق عليه أحكام الردة) أهـ. فقوله (من قال قولا ــ إلى ــ وخرج من دين الله) هذه صفة الأقوال والأفعال المكفرة صريحة الدلالة، وقد ذكرت لك أن هذه لايُسأل فاعلها عن قصده ولا اعتقاده وأن هذا شرط فاسد، بل من قال أو فعل ماهو كفر صريح فهو كافر ظاهراً وباطنا ولو ادعى أنه لم يقصد الكفر، فالذين استهزأوا بالصحابة في غزوة تبوك كفّرهم الله بمجرد قولهم، وادعوا أنهم كانوا يلعبون ولم يقصدوا الكفر، ولم يكذبهم الله في ادعائهم هذا، فعُلِمَ أنهم صادقون في عذرهم وأنهم لم يقصدوا أن يكفروا، ولكن الله أبطل هذا العذر ولم يقبله، فدّل هذا على أن قصد الكفر ليس شرطا للتكفير، وإنما العبرة بقصد اتيان القول أو الفعل المكفِّر، قال تعالى (ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب، قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون، لاتعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم) التوبة 65 ــ 66. وقال ابن تيمية رحمه الله (وبالجملة فمن قال أو فعل ماهو كُفْر كَفَر بذلك، وإن لم يقصد أن يكون كافراً، إذ لايقصد الكفر أحد إلا ماشاء الله) (الصارم المسلول) صـ 177 ــ 178، وقال أيضا (فلو شتم الله ورسوله كان(7/29)
كافراً باطنا وظاهراً عندهم كلهم) (مجموع الفتاوي) 7/403. بل إن الشخص إذا قال أو فعل ماهو كفر صريح وادعى أنه لايعتقد بصحة ماقاله كَفَر أيضا، كما نقل اللالكائي عن أبي ثور رحمهما الله قوله (ولو قال: المسيح هو الله وجحد أمر الإسلام، قال لم يعتقد قلبي على شئ من ذلك أنه كافر بإظهار ذلك وليس بمؤمن) (شرح اعتقاد أهل السنة) ط دار طيبة، 2/849. وقد تكلمت في هذه المسألة بالتفصيل في أخطاء التكفير في بيان (الفرق بين قصد العمل المكفر وقصد الكفر به).
وبهذا تعلم أن القيد الذي ذكره المؤلف (فإن كان قوله أو فعله مطابقا لحقيقة نيته واعتقاده...) هو قيد غير صحيح لم يقل به لا أهل السنة ولا مرجئة الفقهاء ولا مرجئة المتكلمين الأشاعرة، وإنما هو شرط فاسد اشترطه بعض غلاة المرجئة ومنهم المرجئة المعاصرون الذين يقولون باشتراط كفر القلب ــ بجحد أو استحلال أو اعتقاد ــ كشرط للحكم بالكفر، وهو شرط يؤدي إلى عدم تكفير كثير من الكافرين.
فهذه أهم الأخطاء بكتاب (الإيمان) للأستاذ محمد نعيم ياسين، وهناك أمور أخرى كالفقرات التي نقلها من العقيدة الطحاوية ولم ينبه على مافيها من زلل، ومنها تعريف الإيمان الذي نسبه لمعظم أهل السنة فقد تابع فيه شارح العقيدة الطحاوية، وكلاهما أخطأ. وقد نبهت على خطأ الشارح في تعليقي على (العقيدة الطحاوية) بكتب المرتبة الثانية.
19 ــ رسالة ماجستير بعنوان (ضوابط التكفير عند أهل السنة) لعبدالله بن محمد القرني، صادرة من جامعة أم القرى، كلية الدعوة، قسم العقيدة، في 1410هـ، وتقع في 400 صفحة مصورة عن نسخة على الآلة الكاتبة. وفيها تكلم المؤلف في ثلاثة موضوعات أساسية وهى: الإسلام الحكمي، وأنواع الشرك والكفر، وموانع التكفير من الجهل والتأول والتقية والإكراه، وإن وضَع لهذه الموضوعات عناوين أخرى. وبهذا لم تأت الرسالة مستوفية لمسائل موضوع ضوابط التكفير، ولعل أهم أوجه التقصير فيها وجهان:(7/30)
الأول: أنه لم يُبين الفرق بين أسباب الكفر وأنواعه، وأن الحكم بالكفر في الدنيا لايكون إلا بقول أو بفعل، كما قال شيخ الإسلام (وبالجملة فمن قال أو فعل ماهو كُفْر كَفَر بذلك) (الصارم المسلول) صـ 177. وإنما اقتصر كلام المؤلف على أنواع الكفر ومع ذلك فهو لم يستوعبها.
الوجه الثاني: أنه لم يتكلم في الجانب القضائي لموضوع التكفير ــ باستثناء ذِكرِه لبعض الموانع ــ فلم يتكلم في الاثبات وغيره من الشروط، والاستتابة، واستيفاء العقوبة، والفرق بين المقدور عليه والممتنع، وصفة الحاكم.
هذه أهم أوجه التقصير في هذه الرسالة خاصة وأن مؤلفها سمّاها (ضوابط التكفير)، أما الأخطاء الواردة فيها، فمنها مايلي:
أ ــ في صـ 178، نفى المؤلف وجود كفر التكذيب وقال إنه كله كفر جحود، وقد بيّنت الفرق بينهما في التعليق على العقيدة الطحاوية وأن كفر التكذيب تكذيب بالباطن والظاهر، وأن كفر الجحود تكذيب بالظاهر مع تصديق الباطن. فقال المؤلف (لايكون كفر التكذيب والاستحلال باعتقاد أن الرسول صلى الله عليه وسلم كاذب، وإنما يكون تكذيبا باللسان مع العلم بالحق في الباطن، وذلك أن التكذيب لايتحقق إلا ممن عَلِمَ الحق فردّه، وأما من لم يتبيّن له الحق وكان له شبهة وتأوّل فلا يكون مكذبا ولا رادّاً للحق) أهـ. فأقول: اعلم أن من واجبات القلب الإيمانية: العلم بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم إجمالا والتصديق به، وضد العلم: الجهل، وضد التصديق: التكذيب ويقع بالقلب واللسان، فليس التكذيب ضداً للعلم كما قال المؤلف، ولكنه ضد للتصديق.
فمن لم يعلم شيئا عن الرسول صلى الله عليه وسلم وماجاء به فهو كافر كفر جهل.
ومن علم ماجاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يصدقه بقلبه ولابلسانه فهو كافر كفر تكذيب.
ومن علم ماجاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وصدقه بقلبه وكذّبه بلسانه فهو كافر كفر جحود.(7/31)
ومن علم ماجاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وكذّبه بقلبه وصدّقه بلسانه فهو كافر كفر نفاق.
وقد نفى المؤلف تكذيب القلب ــ وهو موجود في كفر التكذيب وكفر النفاق ــ واعتبر أن العلم بالحق في الباطن ينافي اعتقاد أن الرسول كاذب ولايقع معه إلا تكذيب اللسان، فخلط بذلك بين العلم والتصديق، والصواب أنه يجتمع في القلب العلم بما جاء به الرسول واعتقاد كذبه في الباطن كما في كفر التكذيب وكفر النفاق. قال تعالى (إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون) المنافقون 1، فمع تصديقهم بألسنتهم لا ينصرف كذبهم إلا إلى قلوبهم، فسبب كذبهم أنهم يقولون مالا يعتقدون بقلوبهم كما قال تعالى (يقولون بألسنتهم ماليس في قلوبهم) الفتح 11، ووصفهم الله بأنهم (وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون) التوبة 45. فاعتقاد كذب الرسول صلى الله عليه وسلم بالقلب ثابت بالنصوص ولا سبيل إلى نفيه.(7/32)
ب ــ وفي صـ 179 قال المؤلف (وكفر التكذيب والاستحلال هذا هو حقيقة الكفر عند المرجئة إذ لايكون الكفر عندهم إلا بما يناقض الاعتقاد والتصديق الذي جعلوه حقيقة الإيمان) أهـ ثم قال في صـ 196 (إن المرجئة لما قرروا أن العمل ليس داخلاً في مسمى الإيمان التزموا أن من ترك العمل بالكلية ليس كافراً، وأن من ناقض الالتزام الظاهر بمجرد العمل لايكفر أيضا بل لابد في الحالين من إظهار مايدل على كفره بالنطق الدال على الاستحلال والتكذيب، وأن مجرد الرد بالعمل سواء كان ذلك بالترك أو بالفعل لايكون كفراً لذاته مطلقا) أهـ. وأقول: كان ينبغي أن ينبه المؤلف على الفرق بين أقوال فرق المرجئة في هذه المسألة وهو مالم يفعله في رسالته كلها، فإن الذين يشترطون التصريح بالاستحلال أو التكذيب باللسان هم غلاة المرجئة الذين أكفرهم السلف، أما مرجئة الفقهاء والمتكلمين فإنهم لايشترطون ذلك بل إنهم متفقون مع أهل السنة على أن من قال أو فعل ماهو كُفر كَفَر ظاهراً وباطناً ويكون عمله المكفِّر الظاهر علامة على أنه مكذب بقلبه، فالتكذيب عند هؤلاء لازم للكفر الظاهر، وعند أولئك شرط مستقل للتكفير بالعمل الظاهر المكفِّر، وقد نبّهت على هذا الفرق في أكثر من موضع من قبل.(7/33)
جـ ــ وفي صـ 181، نفى المؤلف وجود كفر الجهل، فقال (الأًصل في الكفر مطلقاً أنه إنما يكون عن عناد واستكبار وإعراض عن الحق بعد معرفته وقيام الحجة به) أهـ. وليس كل كافر عرف الحق أو قامت عليه الحجة، بل هناك من يعيش ويموت وهو لم يعرف الحق ولم يسمع به، ومثل هذا يختبره الله يوم القيامة. والذي حمل المؤلف على قوله هذا أنه قال إن الحجة تقوم على الناس بالفطرة كما أنكر المؤلف مسألة اختبار من لم تبلغه الحجة يوم القيامة، وكلامه هذا كله مخالف لمذهب أهل السنة وسيأتي كلامه بنصه مع نقده بعد قليل إن شاء الله. والحاصل: أنه ليس كل كافر قد بلغته الحجة ومثل هذا يكون كُفْره كُفْر جهل كما قال ابن القيم رحمه الله (والإسلام هو توحيد الله وعبادته وحده لاشريك له، والإيمان بالله وبرسوله واتباعه فيما جاء به، فمالم يأت العبد بهذا فليس بمسلم، وإن لم يكن كافراً معانداً فهو كافر جاهل) (طريق الهجرتين) صـ 411، ط دار الكتب العلمية 1402هـ. وقد نقل المؤلف قول ابن القيم هذا في صـ 307 من رسالته؟.(7/34)
د ــ وفي صـ 211 ــ 214 قال المؤلف إن من ترك صلاة واحدة أو بعض صلوات لايكفر، وإنما الذي يكفر بترك الصلاة هو التارك لها بالكلية. واستدل لذلك بحديث عبادة بن الصامت مرفوعا (خمس صلوات كتبهن الله عزوجل على العباد، فمن جاء بهن لم يضيع منهن شيئاً استخفافا بحقهن، كا له عند الله عهد أن يدخله الجنة، ومن لم يأت بهن فليس له عند الله عهد إن شاء عذبه وإن شاء أدخله الجنة) رواه مالك وأبو داود والنسائي ونقل الشوكاني تصحيحه عن ابن عبدالبر (نيل الأوطار، 1/ 373). ذكر المؤلف هذا الحديث ثم قال ــ في صـ 214 ــ (فالحديث صريح على أن الانتقاص من الصلاة بعدم الاتيان ببعضها مع الالتزام بها في الجملة ليس كفراً، وأن من تحقق منه ذلك فهو تحت المشيئة، ومن كان كذلك لايكون كافراً، لأن الكافر محكوم عليه بالخلود في النار) أهـ. وهذا الذي قاله المؤلف ــ خطأ، فإنه لاينبغي فهم الأحاديث بمعزل عن قول السلف في المسألة، والثابت عن السلف أن من ترك صلاة واحدة متعمداً حتى خرج وقتها من غير عذر فقد كفر، وقد نقلت هذا عن ابن القيم من قبل ومن ذلك مانقله عن محمد بن نصر عن ابن المبارك قال (من أخر صلاة حتى يفوت وقته متعمداً من غير عذر فقد كَفَر) وقال أيضا (وكذلك كان رأي أهل العلم من لدن النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا أن تارك الصلاة عمداً من غير عذر حتى يذهب وقتها كافر) (الصلاة) لابن القيم صـ 31، ط دار الكتب العلمية. وعلى هذا فقوله صلى الله عليه وسلم ــ في الحديث السابق ــ (ومن لم يأت بهن) يتعين حمله على من انتقص من صفة الصلاة شيئا كأن لايتم ركوعها أو سجودها، لا من انتقص من عددها شيئا.(7/35)
ولو كان القول على ماقاله المؤلف ــ من أن ترك صلاة أو بعض صلوات لايُكفِّر ــ لفُتِحَ بذلك باب التلاعب بالأحكام الشرعية على مصراعيه، إذ لايكون هناك سبيل لتكفير من ترك الصلاة في أحكام الدنيا، ولكان ترك الصلاة من الأعمال محتملة الدلالة على الكفر، إذ بإمكان كل من يُراد مؤاخذته على ترك الصلاة أن يحتج على القاضي بأنه يصلي شهراً ويترك شهراً أو يصلي أسبوعاً ويترك أسبوعاً أو أنه يصلي الجمعة فقط أو أنه يذكر أنه كان يصلي منذ عدة سنوات، وهو في كل هذه الصور غير تارك للصلاة بالكلية، فلا سبيل إلى تكفيره حسب قول المؤلف، ويصبح ترك الصلاة بذلك غير صريح في الكفر بل محتمل الدلالة، وفساد هذه اللوازم ينبئك عن فساد القول المستلزم لها.
هذا، وأحب أن أنبه هنا على أن شيخ الإسلام ابن تيمية قد تناقض كلامه في هذه المسألة، فذكر حديثا بمعنى ماذكره المؤلف هنا، وهو قوله صلى الله عليه وسلم (خمس صلوات كتبهن الله على العبد في اليوم والليلة، من حافظ عليهن كان له عهد عند الله أن يدخله الجنة، ومن لم يحافظ عليهن لم يكن له عند الله عهد إن شاء عذّبه وإن شاء غفر له) الحديث، وذكر أن الذي في المشيئة ــ بما يعني أنه غير كافر ــ هو من لم يحافظ على الصلاة لا تاركها، وفسّر عدم المحافظة بتأخير الصلاة عن وقتها وضرب لذلك مثالا بأمراء بني أمية وكانوا يؤخرونها لآخر وقتها لابعد خروج وقتها كما ذكره البخاري في كتاب مواقيت الصلاة من صحيحه. فهذا الحديث لايعني أن تارك الصلاة غير كافر في المشيئة، إلا أن ابن تيمية قال بعد ذلك إن من يصلي أحيانا ويدع الصلاة أحيانا فيه نفاق وتجري عليه أحكام الإسلام الظاهرة، وهذا تناقض. وانظر كلامه في (مجموع الفتاوى) 7/ 578 ــ 579 و 614 ــ 617. وقد أضفت توضيحا بشأن الأمراء وأنهم كانوا يصلون في آخر الوقت لابعده.(7/36)
هـ ــ اضطرب المؤلف في مسألة الحكم بغير ماأنزل الله وتناقض كلامه فيها، فقد قال في صـ 220 ــ منكراً على من قال إنه لايكفر إلا من جحد أو استحل ــ (والذي يبيّن فساد هذا القول أن الله قد جعل الحكم بغير الشريعة هو مناط الكفر ولم يذكر الاستحلال والجحود، بل الجحود كُفر ولو لم يكن معه تحكيم لغير الشريعة، فالجاحد المستحل كافر، شَرَع من دون الله أو لم يُشرع. فدلّ هذا على أن القول بأن المراد في معنى الآية في قوله تعالى «ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون»: ومن لم يحكم جاحداً منكراً، تنزيل لحكم الله على غير مناطه الذي هو الأصل في معنى الآية وهو مجرد التشريع والحكم بغير الشريعة التزاما بغيرها.) أهـ. وهذا الكلام وإن أخطأ فيه لكنه كلام سديد بالنسبة إلى كلام غيره من المعاصرين، أما خطؤه ففي تحديد المناط، فالمناط المكفِّر في هذه الآية هو مجرد ترك الحكم بالشريعة حيث توجَّب عليه، أما الحكم بغير الشريعة فهذا مناط مكفر آخر، وقد فصَّلت هذا في نقد كلام حسن الهضيبي من قبل، ولما كان هذان المناطان يتلازمان عادة فقد تسامح البعض في حمل الآية على من حكم بغير ماأنزل الله مع أنها فيمن لم يحكم بما أنزل الله.(7/37)
ولكن ومع الأسف، فمع انكاره على من اشترط الجحد أو الاستحلال للتكفير هنا، ناقض المؤلف نفسه ووقع فيما أنكره على غيره، وذلك في قوله ــ في صـ 216 ــ 217 ــ (ويستمسك هؤلاء بأقوال وردت في حُكم من حَكَم بغير ماأنزل الله في قضية معينة، وأن القاضي والحاكم الذي تحقق منه ذلك لايكفر إلا بشرط الاستحلال، وكلام السلف هنا صحيح لكن فهم المرجئة المعاصرين قاصر عن إدراك حقيقته ومناطه، فابن عباس رضي الله عنه لما قال في معنى قول الله تعالى «ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون» المائدة 44: إنه كفر دون كفر، لم يكن يقصد من نَحَّى الشريعة وتحاكم إلى القوانين الوضعية لأنه لم يكن في عصره من فعل ذلك، وإنما يقصد الحاكم المسلم الملتزم بالحكم بشريعة الله لكنه قد يجور فيحكم بغير العدل في مسألة معينة فهذا لايكفر إلا إذا استحل مافعل) أهـ. كما قال في صـ 256 (ودلالة الآىة على الكفر الأكبر على الصحيح هو المعنى المقصود بها أصلاً، وقول ابن عباس رضي الله عنهما لايناقض ذلك ولايمنع أن يكون الحاكم في قضية معينة بغير الشرع لأجل الشهوة كافراً كفراً أصغر) أهـ.
وبهذا ترى أن المؤلف ناقض نفسه فقد أنكر على من جعل الاستحلال هو مناط تكفير الحاكم بغير الشريعة، ثم قال إنه هو المناط ولكن فيمن حكم في قضية معينة، وقد تكلمت في هذه المسألة من قبل على سبيل الإشارة وسيأتي شيء من التفصيل فيها في المبحث الثامن إن شاء الله. وذكرت من قبل أن هذه التقسيمات التي ذكرها ابن القيم وابن أبي العز ونقلها عنهما معظم المعاصرين وركَّبوا علىها قول ابن عباس، هذه التقسيمات ماأنزل الله بها من سلطان وهى محض آراء العلماء. وأنبه هنا على بعض الأمور:(7/38)
* فاعلم أنه لافرق بين من حكم في قضية واحدة وبين من حكم في جميع القضايا بغير ماأنزل الله، كما أنه لافرق بين من سَرَق مرة ومن سرق مائة مرة، هذا سارق وهذا سارق، ومما يؤكد فساد هذا التفريق مخالفته لسبب النزول فإن الحكم بالكفر في آية المائدة ترتب على ترك الحكم بالشريعة في قضية واحدة وهى حُكم الزاني المحصن. فالتفريق بين الحكم في قضية معينة وبين الحكم في كل القضايا هو تفريق وتقسيم ماأنزل الله به من سلطان، هذا فضلاً عن أنه لم يرد فيه شيء عن ابن عباس، وإنما الذي ورد عن ابن عباس (إنه ليس بكفر ينقل عن الملة) فحمله بعضهم على الحكم في قضية معينة إذ لم يتصور أن يكون تارك الحكم بجميع الشريعة كُفْره كفر أصغر، كما لم يتصور أن يكون ابن عباس قد أخطأ في قوله هذا، فحاول التوفيق، فجعل قول ابن عباس فيمن ترك حكماً واحداً وإن لم يصرح ابن عباس بذلك، وجعل عموم الحكم بالكفر الأكبر في الآية في حق من ترك الحكم بجميع الشريعة. وقد نقل المفسرون هذا الرأي عن عبدالعزيز بن يحي الكناني أن الكافر هو من ترك الحكم بجميع ماأنزل الله، ورَدَّهُ أبوحيان الأندلسي بقوله (وضُعِّفَ بأنه لو كان كذلك لم يتناول هذا الوعيد اليهود بسبب مخالفتهم حكم الله في الرجم وأجمع المفسرون على أن هذا الوعيد يتناول اليهود بسبب مخالفتهم حكم الله في واقعة الرجم فدلّ على سقوط هذا) (تفسير البحر المحيط) 3/ 493. ونقل ابن القيم كلام عبدالعزيز الكناني واستبعده (مدارج السالكين) 1/ 365.
* واعلم أن الكفر في آية المائدة هو الكفر الأكبر لأنه معرف بأل كما قال صاحب الرسالة (ودلالة الآية على الكفر الأكبر على الصحيح هو المعنى المقصود بها أصلا) أهـ. ويترتب على ذلك أمران:(7/39)
الأمر الأول: أن شرط الاستحلال أو الجحد لتكفير من ترك الحكم بما أنزل الله أو حَكَم بغيره هو شرط باطل، بل هو قول غلاة المرجئة الذين أكفرهم السلف، لأن الله تعالى نصّ على أن هذه الذنوب مكفرة بذاتها، فقال تعالى ــ في ترك الحكم ــ (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون)، وقد سبق بيان أنه كفر أكبر، وماكان كذلك فهو مكفِّر بذاته لايفتقر إلى شرط الاستحلال أو الجحد ليصبح مكفراً، وقد فصّلت القول في هذا في التنبيه الهامّ المذكور بتعليقي على العقيدة الطحاوية. وسواء حَكَم في قضية أو أكثر لافرق في ذلك، وسواء كان ملتزما بالحكم بالشريعة أصلاً أو ملتزماً بالحكم بغيرها.
والأمر الثاني: أنه إذا ثبت أن الكفر في الآية هو الأكبر فإن قول الصحابي لايحوِّله إلى كفر أصغر، لا في صورة معينة لأنه تخصيص وقول الصحابي لايخصص عموم القرآن، ولافي كل الصور لأنه نسخ وقول الصحابي لاينسخ القرآن. قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي (واعلم أنه التحقيق أنه لايُخصص النص بقول الصحابي إلا إذا كان له حكم الرفع، لأن النصوص لاتُخصص باجتهاد أحد لأنها حجة على كل من خالفها) (مذكرة أصول الفقه) صـ 199. وأما أن قول الصحابي لا ينسخ القرآن فلأن الإجماع لا ينسخه، فقول الصاحب الواحد لاينسخه من باب أولى (المصدر السابق) صـ 105. وهذا كله على فرض أن قول الصحابي صحيح من جهة النقل، صريح في الدلالة، سالم من المعارض، وهذه الشروط لم تكتمل لقول ابن عباس ولو اكتملت لما صلح قوله لا للنسخ ولا التخصيص كما أسلفت.
أما تضعيف قول ابن عباس من جهة النقل فسأذكره في المبحث الثامن إن شاء الله.(7/40)
وأما دلالته على المسألة محل النزاع فغير صريحة، فلا يصلح قوله للاحتجاج فيها، فهو لم يقل بأن قوله فيمن قضى في قضية معينة ولم يصرح بأن قوله كفر دون كفر هو في الحكم بمعنى القضاء بغير ما أنزل الله. وإنما يُحمل قوله هذا على أنه رد على الخوارج المكفرين بمطلق المعاصي بحجة أن كل من عصى الله فقد حكم بغير ماأنزل الله، ومناظرات ابن عباس للخوارج وردوده عليهم مشهورة في كتب العلم، ويدل على ذلك مناظرة أبي مجلز للخوارج.
وأما من جهة السلامة من المعارض، فاعلم أن قول الصحابي لايصح الاحتجاج به ــ فيما يصلح للاحتجاج به فيه ــ إلا إذا كان سالماً من المعارض، وفي هذه المسألة قد عورِضَ قوله بقول ابن مسعود الذي قال إن الحاكم إذا ترك حكم الله بسبب الرشوة ــ وهى داخلة في ترك الحكم للشهوة ــ فذاك الكفر، ورواه الطبراني عنه بإسناد صحيح كما قال ابن حجر الهيتمي في كتابه (الزواجر) 2/ 189، ط دار المعرفة 1402هـ. وقول ابن مسعود هذا مثبت في جميع التفاسير في تفسير آية المائدة (44) والمعاصرون لاينقلونه وينقلون قول ابن عباس فقط، فاعلم أن أقوال الصحابة إذا اختلفت فلا حجة في أحدها ووجب الترجيح بينها وهذا إجماع لأهل العلم لايختلفون فيه، انظر (اعلام الموقعين) 4/ 118 ومابعدها. وسيأتي تفصيل هذا في المبحث الثامن إن شاء الله.
وعلى هذا فالصواب في هذه المسألة هو مانقله ابن القيم في قوله (ومنهم من تأولها على الحكم بمخالفة النص تعمداً من غير جهل به ولا خطأ في التأويل، حكاه البغوي عن العلماء عموماً) (مدارج السالكين) 1/ 365، ط 1، دار الكتب العلمية.(7/41)
وأنبّه هنا على مسألة الحكم بغير ماأنزل الله في قضية معينة غير واردة في حق الحكام والقضاة في البلاد المحكومة بالقوانين الوضعية، إذ إن هؤلاء ملتزمون بموجب الدستور الوضعي بالحكم بغير ماأنزل الله في الأصل، وإنما تَرِدُ هذه المسألة في حق الحاكم المتلزم بالحكم بالشريعة في الأصل ثم خالفها في بعض الأحكام، فإن تعمد المخالفة فقد كَفَر.
و ــ وفي صـ 227 قال المؤلف (وأما العالم بلزوم الالتزام بالشريعة لتحقيق شهادة أن محمداً رسول الله لكن تحققت منه المخالفة في الظاهر بالالتزام بغير الشريعة لكن لا على جهة رفض الشريعة وردّها، بل قد يكون عن ظنّ بأن فعله لايناقض حقيقة الالتزام. وهنا لابد من إقامة الحجة على المعيّن ورد شبهته حتى يعلم أن مايفعله هو رد لشريعة الله فإن أصر على فعله كَفَر لأنه حينئذ يكون قد فعل ما فعل رداً ورفضاَ للشريعة، وهذا هو مناط التكفير هنا) أهـ. وهذا الكلام يتناقض مع قوله الذي أثبتُّه آنفا وفيه قال ــ في صـ 220 ــ (إن القول بأن المراد في معنى الآية في قوله تعالى «ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون» ومن لم يحكم جاحداً منكراً، تنزيل لحكم الله على غير مناطه الذي هو الأصل في معنى الآية وهو مجرد التشريع والحكم بغير الشريعة التزاما بغيرها) أهـ. فجعل المناط في قوله الأول رد الشريعة ورفضها، وفي قوله الثاني جعله التشريع والحكم بغير الشريعة، وهو وإن أخطأ في قوله الثاني هذا كما نبَّهت عليه من قبل إلا أنه صحيح في الجملة: فالتشريع من دون الله مناط مكفر، والحكم بغير الشريعة مناط مكفر، وكذلك فإن مجرد ترك الحكم بالشريعة مناط مكفر، وهذه المناطات هى أسباب ظاهرة منضبطة يمكن التحقّق منها ولهذا تصلح لأن تناط بها الأحكام، فإنه يمكنك الجزم بأن هذا الحاكم ترك حكم الشرع أو أنه حكم بغيره أو أنه شرَّع بخلافه. أما رد الشرع ورفضه فهذه مصطلحات مائعة غير منضبطة لايجوز أن تناط بها الأحكام،(7/42)
خاصة وأن المؤلف قال في صـ 176 من رسالته (فكفر الرد إما أن يكون بالتكذيب والاستحلال المناقض للتصديق، وإما أن يكون بالتولي والإعراض المناقض للالتزام سواء الالتزام الباطن أو الالتزام الظاهر) أهـ. فصفة كفر الرد هذه يمكن لكل متلاعب بالشريعة أن ينفيها عن نفسه فينفي أنه مكذِّب أو مُعرِض، وقد ذكرت في أخطاء التكفير ــ عند التنبيه على الخلط بين أسباب الكفر وأنواعه ــ ذكرت قول بعض المشايخ الموالين للحكومة الكافرة في مصر (إنهم يعتقدون في إيمان المسئولين بمصر، وأنهم لايَرُدّون على الله حكماً، ولايُنكرون للإسلام مبدأ) أهـ. فمثل هذه الأمور المائعة لاتصلح لإناطة الأحكام بها وهى من أنواع الكفر لا أسبابه، والخلط بينهما خطأ سبق التنبيه عليه.
ز ــ ومن الأخطاء الواردة في هذه الرسالة، قول المؤلف في صـ 258 (ومن الدلالات على الشرك والكفر الأصغر أن يأتي منكراً غير مُعَرَّف، فإن جاء معرفاً بأل دَلَّ على أن المقصود به الكفر المخرج من الملة) أهـ. فقوله إن الكفر المعرف بأل هو الأكبر صحيح، وقوله إن الكفر إذا جاء بصيغة الإسم النكرة فهو الأصغر غير صحيح، بل إذا كان نكرة احتمل أن يكون كفراً أصغر أو أكبر، ومعرفة دلالته على أيهما يكون بالنظر في القرائن والجمع بين الأدلة، وهذا الكلام ينطبق على الكفر النكرة الوارد في السُّنة (الحديث)، أما في القرآن فكل كُفر فيه فهو الكفر الأكبر سواء ورد بصيغة الفعل بأزمنته المختلفة أو بصيغة الاسم النكرة أو المعرفة.(7/43)
ومن أمثلة الكفر بصيغة الاسم النكرة في القرآن، ودلالته على الكفر الأكبر، قوله تعالى (ودّ كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً) البقرة 109، وقوله تعالى (ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر) البقرة 217، وقوله تعالى (وليزيدن كثيراً منهم ماأنزل إليك من ربك طغيانا وكُفراً) المائدة 64 و 68، وقوله تعالى (الذين كذّبوا شعيباً كأن لم يغنوا فيها ــ إلى قوله تعالى ــ فكيف آسى على قوم كافرين) الأعراف 92 ــ93، وقوله تعالى (وكان الشيطان لربه كفوراً) الإسراء 27، وقوله تعالى (وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون) سبأ 34. فهذه كلها أسماء نكرة (كُفاراً، كافر، كُفْراً، كافرين، كفوراً، كافرون) وكلها تدل على الكفر الأكبر، وهكذا كل كُفر في القرآن كما ذكرت في شرح قاعدة التكفير.(7/44)
أما الكفر بصيغة الاسم النكرة في السنة فيحتمل الكفر الأكبر أوالأصغر. فقوله صلى الله عليه وسلم (سباب المسلم فسوق وقتاله كُفْر) متفق عليه، وقد ذكرت هذا الحديث في شرح قاعدة التكفير عند الكلام في الأدلة محتملة الدلالة وأن الكفر فيه هو الأصغر لأن قاتل العمد لايكفر بدليل آية البقرة (فمن عفي له من أخيه شيء) كما أن البغاة لايكفرون مع الاقتتال كما في آية الحجرات (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا). أما الكفر النكرة في قوله صلى الله عليه وسلم (إلا أن تروا كفراً بواحاً) الحديث متفق عليه فهو الكفر الأكبر، والقرينة الدالة على ذلك وصفه بالبواح وهو الصريح، وهناك قرينة أخرى وهى عموم الأحاديث الآمرة بالصبر على أئمة الجور مع ظلمهم وفسقهم فعُلِمَ أنه لا يقيد هذا الأمر بالصبر إلا وقوعهم في الكفر. وكذلك الكفر النكرة في قوله صلى الله عليه وسلم (بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافراً، أو يمسي مؤمنا ويصبح كافراً يبيع دينه بِعَرَض ٍ من الدنيا) رواه مسلم، فالكفر فيه هو الأكبر بقرينة أنه جعله ضداً للإيمان، وبقرينة قوله صلى الله عليه وسلم (يبيع دينه).(7/45)
والأصل أن يُحمل كل كُفْر بأي صيغة ورد على الكفر الأكبر حتى تقوم القرينة الصارفة له إلى الأصغر، لأن هذا أصل وضع اللفظ، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال في حديث موعظة النساء ــ (يكفرن)، قال الصحابة (يكفرن بالله؟)، فحمله الصحابة على الكفر الأكبر، حتى بيّن لهم الرسول صلى الله عليه وسلم أنه الكفر الأصغر بقوله (يكفرن العشير)، وفي بيان هذا الأصل قال الشيخ عبداللطيف بن عبدالرحمن بن حسن ابن شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب (ولفظ الظلم والمعصية والفسوق والفجور والموالاة والمعاداة والركون والشرك ونحو ذلك من الألفاظ الواردة في الكتاب والسنة قد يُراد بها مُسمَّاها المطلق وحقيقتها المطلقة، وقد يُراد بها مطلق الحقيقة، والأول هو الأصل عند الأصوليين، والثاني لايُحمل الكلام عليه إلا بقرينة لفظية أو معنوية، وإنما يُعرف ذلك بالبيان النبوي وتفسير السنة، قال تعالى «وماأرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم» إبراهيم 4) أهـ. (الرسائل المفيدة) للشيخ عبداللطيف، جمع سليمان بن سحمان، صـ 21 ــ 22.
ح ــ ومن الأخطاء الواردة في هذه الرسالة، اشتراط قصد الكفر (بعبادة غير الله) للحكم على المكلف بالكفر. في صـ 261 و 309 بهذه الرسالة كما نقلته عن المؤلف في أخطاء التكفير وهناك رددت عليه. وقد رتب المؤلف على هذا الخطأ أن نسب إلى الصنعاني أنه التبست عليه بعض الأمور. والمؤلف أولى بالخطأ في هذا من الصنعاني (صـ 319 ــ 321).(7/46)
ط ــ ومن الأخطاء الواردة في هذه الرسالة، قول المؤلف إن الفطرة هى الأصل في الحجة على الناس بالتوحيد، أماحجة الرسل فهى فيما يناقض الالتزام التفصيلي بالشريعة. فقال (بل الفطرة هى الأصل في الحجة على جميع الناس بالتوحيد، وذلك أن الله تعالى قد خلق الناس لحكمة هى عبادته وحده، كما قال تعالى «وماخلقت الجن والإنس إلا ليعبدون» الذاريات 56، وليس كل إنسان تبلغه الحجة بالرسل، فلزم إذن لتحقيق تلك الحكمة أن يكون معهم أصل هو مناط تكليفهم إذا لم تبلغهم دعوة الرسل، وتلك هى الفطرة على التوحيد ــ ثم ذكر حديث (كل مولود يولد على الفطرة....) إلى أن قال ــ وهذه الفطرة على التوحيد هى مقتضى الإشهاد الذي أخذه الله تعالى على جميع بني آدم حين أخذهم من ظهور آبائهم ــ ثم ذكر الآية «وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم، قالوا بلى شهدنا» الأعراف 172، إلى أن قال ــ وهذا يعني أن الإشهاد على التوحيد ليس لمجرد إقامة الحجة بل هو أيضا مناط للتكليف ومخالفته تقتضي التعذيب ولو لم يكن بلاغ عن طريق الرسل. ويؤيد ذلك ماجاء في الحديث المتفق عليه وفيه «يجاء بالكافر يوم القيامة فيقال له: أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهباً أكنت مفتديا به؟ فيقول نعم، فيقول: قد أردت منك أهون من هذا وأنت في صلب آدم ألا تشرك، فأبيت إلا الشرك ») صـ 300 ــ 301.(7/47)
قلت: والصواب في هذا ــ كما سبق تفصيله في الباب السادس من هذا الكتاب ــ أن الحجة إنما تقوم على الخلق في التوحيد والشريعة بالرسُل، وفي هذا قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي (والآيات القرآنية مصرحة بكثرة بأن الله تعالى لايعذب أحداً حتى يقيم عليه الحجة بانذار الرسل، وهو دليل على عدم الاكتفاء بما نصب من الأدلة، وماركز من الفطرة، فمن ذلك قوله تعالى «وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً» ــ الإسراء 15 ــ، فإنه قال فيها: حتى نبعث رسولاً ولم يقل حتى نخلق عقولاً وننصب أدلة ونركز فطرة. ومن ذلك قوله تعالى «رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل» ــ النساء ــ 165 ــ فصرّح بأن الذي تقوم به الحجة على الناس وينقطع به عذرهم هو إنذار الرسل، لانصب الأدلة والخلق على الفطرة. ومن ذلك أنه تعالى صرّح بأن جميع أهل النار قطع عذرهم في الدنيا بإنذار الرسل، ولم يكتف في ذلك بنصب الأدلة، كقوله تعالى «كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير، قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا مانزل الله من شيء ــ الملك 8 ــ» (أضواء البيان) 2/ 336 ــ 338.
وننبه على بعض الأخطاء التفصيلية الواردة في كلامه السابق:
* فمنها قوله (الفطرة هى الأصل في الحجة على جميع الناس بالتوحيد) أهـ، وقد ثبت بالنص أن التوحيد هو أول مادعا إليه الرسل كما قال تعالى (ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت) النحل 36. وهذا يدل على أن إقامة الحجة بالتوحيد يدخل ضمن الحجة الرسالية.(7/48)
* ومنها قوله إن الله خلق الناس لعبادته وليس كل انسان تبلغه حجة الرسل فلزم أن تكون الحجة عليهم بالفطرة، هذا ملخص كلامه، وقد أداه إلى هذا انكاره لحديث اختبار من لم تبلغهم دعوة الرسل بعرصات القيامة ــ كما سيأتي قوله ــ فوقع بذلك في ثلاثة أخطاء: انكاره للحديث مع تقرير أهل السنة له، وحصره للعذاب المترتب على تكذيب الرسل في عذاب الدنيا وهذا خطأ فاحش سيأتي ذكره، واعتباره أن الفطرة والميثاق حجة مستقلة وهذا خطأ لسببين:
الأول: أن الفطرة والميثاق (الإشهاد) لو كانا حجة مستقلة لكان كل أحدٍ يذكرهما في هذه الدنيا، فإن الله لا يكلف الخلق بما لا يعلمونه، وقد ثبت أن الإنسان يخرج إلى الدنيا لايعلم شيئا حتى تأتيه حجة الرسل، قال تعالى (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لاتعلمون شيئا) 78.
السبب الثاني: أن الفطرة والميثاق لو كانا حجة مستقلة على الخلق بالتوحيد وعدم الشرك كما قال المؤلف (ومخالفته ــ أي الإشهاد ــ تقتضي التعذيب ولو لم يكن بلاغ عن طريق الرسل) أهـ، لو كان كذلك لوجب أن يحتج خزنة جهنم على أهل النار بالميثاق والرسل، لأنه ليس كل أحد قد بلغته دعوة الرسل فمن لم تبلغه فالموجب لتعذيبه ــ حسب قول المؤلف ــ مخالفة الميثاق، فوجب أن يحتج الخزنة على أهل النار بمخالفة الميثاق والرسل، ولكن القرآن قد ورد بخلاف قوله وأن الموجب لعذاب أهل النار هو مخالفتهم للرسل كما قال تعالى (وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمراً حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا، قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين) الزمر 71، فبيّن لهم الخزنة أن الموجب لعذابهم مخالفة الرسل لامخالفة الفطرة والميثاق.(7/49)
وقد سبق في الباب السادس بيان أن الميثاق (الإشهاد) حجة (بدليل آية الأعراف 172، وبدليل الحديث الذي ذكره المؤلف «فأبيت إلا الشرك») ولكنه حجة غير مستقلة بدليل أن الله أخرج الناس من بطون أمهاتهم لايعلمون شيئا (آية النحل 78) وبدليل أن خزنة النار احتجوا على أهلها بمخالفة الرسل لا الميثاق. وكون الميثاق حجة غير مستقلة معناه أنه بحاجة إلى من يذكِّر الناس به في الدنيا ويعرفهم بتفاصيل مايجب عليهم، وهذه هى حُجة الرسل، فالرسل يذكِّرون بالميثاق كما قال تعالى (فذكِّر إنما أنت مذكر) الغاشية 21، ونحوها من الآيات، وبهذا أجاب أهل العلم عن الحديث الذي أورده المؤلف وفيه (قد أردت منك أهون من هذا وأنت في صلب آدم ألا تشرك) الحديث، أن فيه دلالة اقتضاء وهى (قد أردت منك... ألا تشرك) وقد أرسلت إليكم رسلي يذكرونكم بذلك. ولو لم تكن دلالة الاقتضاء هذه لازمة لقال هذا المشرك المحتج عليه بالميثاق: يارب أخرجتني من بطن أمي لا أعلم شيئا. فقد قال تعالى (يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها) النحل 110. فدلالة الاقتضاء هذه لابد منها، وهى واردة في أحاديث كثيرة كتلك الدالة على أن (من قال لا إله إلا الله دخل الجنة) و (من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة). وبعض من يقول الشهادة ويعلم معناها نحن نقطع بأنه كافر مشرك لايدخل الجنة أبداً، فقد كان مسيلمة الكذاب واتباعه يقولونها وكانوا يصلون، فدل على أن معنى هذه الأحاديث أنه يدخل الجنة إذا أتى بما تستلزمه الشهادة من واجبات ولم يأت بما يناقضها، والضابط الجامع في هذه الأحاديث ونحوها (أنه يترتب الحكم على السبب إذا توفرت الشروط وانتفت الموانع). فقول (لا إله إلا الله) والعلم بمعناها أسباب لحكم وهو دخول الجنة، ولكن لايترتب الحكم على سببه حتى تتوفر شروطه (كالاتيان بأصل الإيمان والإيمان الواجب ليدخل الجنة ابتداء) وتنتفي موانعه (من الكفر والفسق ليدخل الجنة ابتداء) على التفصيل الذي(7/50)
ذكرته من قبل في دخول الجنة ابتداء ومآلاً. وانظر (معارج القبول) ط السلفية جـ 1 صـ 387 وما بعدها.
هذا وقد ترتب على قول المؤلف إن الفطرة والميثاق حجة مستقلة خلط واضطراب كثير في رسالته من صـ 299 إلى صـ 323. وقوله هذا مخالف لمذهب أهل السنة.
ي ــ ومن أخطائه قوله في صـ 302 (ولاتعارض بين كون الفطرة هى مناط التكليف والتعذيب لمن لم تبلغهم دعوة الرسل وبين قوله تعالى «وماكنا معذبين حتى نبعث رسولا» ــ الإسراء 15 ــ فإن المراد بهذه الآية على الصحيح أن الله لايعذب عذاب استئصال في الدنيا إلا بعد الإعذار بإرسال الرسل) أهـ. والصحيح الذي قاله غير صحيح بل هذا خطأ فاحش ونصوص القرآن ترده، فإن العذاب في الآية عام يشتمل على عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فلا عذاب في الدنيا بالقتل على الكفر ولا في الآخرة بدخول النار إلا لمن بلغته دعوة الرسل. وقد استدل المؤلف لقوله بذكر الآيات الدالة على أن الله لايهلك الناس في الدنيا إلا بعد إرسال الرسل إليهم كقوله تعالى (وماأهلكنا من قرية إلا لها منذرون) الشعراء 209، ولم يذكر المؤلف آية واحدة تدل على أن عذاب الآخرة متوقف على بلوغ دعوة الرسل لأن هذه الآيات تبطل قوله، والآيات في هذا كثيرة، منها آية الزمر 71 التي ذكرتها آنفاً، ومنها قوله تعالى (كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير، قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزَّل الله من شيء) الملك 8 ــ 9، وقوله تعالى (وقال الذين في النار لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يوماً من العذاب، قالوا أو لم تك تأتيكم رسلكم بالبينات، قالوا بلى، قالوا فادعوا، ومادعاء الكافرين إلا في ضلال) غافر 49 ــ 50، وقوله تعالى (والذين كفروا لهم نارجهنم لايقضى عليهم فيموتوا ولايُخفف عنهم من عذابها، كذلك نجزي كل كفور، وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحاً غير الذين كنا نعمل، أو لم نعمركم مايتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير، فذوقوا فما(7/51)
للظالمين من نصير) فاطر 36 ــ 37، وقوله تعالى (يامعشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا، قالوا شهدنا على أنفسنا، وغرتهم الحياة الدنيا، وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين) الأنعام 130. فلا عذاب في الدنيا ولا في الآخرة إلا لمن بلغته دعوة الرسل، هذا ماتدل عليه النصوص، ومن خالف في هذا فهو مخطيء قطعاً، ومن لم تبلغه دعوة الرسل حتى مات اختبر يوم القيامة.
ك ــ ومن الأخطاء الواردة في هذه الرسالة تضعيف المؤلف لحديث اختبار من لم تبلغه دعوة الرسل في الدنيا في عرصات يوم القيامة (صـ 303 ــ 306 برسالته)، وذكر أقوال من ضعَّف الحديث من العلماء كابن عبدالبر، ولم يذكر قول من صحّحه وهذا تقصير في التحقيق، فقد نقل تصحيح الحديث ورد على ابن عبدالبر كل من ابن القيم في (طريق الهجرتين) صـ 396 ــ 401، ط دار الكتب العلمية 1402هـ، وابن كثير في تفسير قوله تعالى (وماكنا معذبين حتى نبعث رسولا) (تفسير ابن كثير) 3/28 ــ 31. فنقلا أنه مروي بإسناد صحيح عن البزار والبيهقي، وقال بصحته الحافظ عبدالحق الإشبيلي والبيهقي. وقد احتج شيخ الإسلام ابن تيمية بهذا الحديث في مواضع منها في (مجموع الفتاوى) جـ 17/ 307 ــ 309، و جـ 24/ 372 ــ 373. ومنها في (الجوب الصحيح لمن بدّل دين المسيح) 1/ 312.(7/52)
ل ــ وقال المؤلف (ومما تقدم من كلام الشيخ الإمام ــ محمد بن عبدالوهاب ــ ومن كلام علماء الدعوة بعده يتبين: أن منهجه في تكفير المعين هو منهج أهل السنة، والذي لايلزم فيه إذا لم نعذر بالجهل في الشرك على الحقيقة أن نحكم على كل من تلبّس بشيء من أعمال الشرك الظاهرة أنه مشرك، بل لابد من تبيّن حاله وإقامة الحجة عليه بأن مايفعله هو عبادة لاتصح إلا لله، لأنه قد يجهل أنها عبادة مثلاً. وهذا لايُعلم إلا بدليل خاص لا بمجرد الحجة العامة بالفطرة والإقرار المجمل) أهـ صـ 315 ــ 316. وهذا الكلام أنموذج لاضطراب المؤلف في مسألة العذر بالجهل، فهو قد اعتبر أن الميثاق والفطرة حجة ويعبر عنها بالإقرار بالشهادتين وأن كل من أقرَّ فقد قامت عليه الحجة (صـ 309 برسالته) ولذلك لايعذر بالجهل في الشرك، ثم فرقّ بين أحكام الحقيقة وحكم المعين، وهو تفريق لا محل له حسب قاعدته التي أصّلها والتي بيّنا خطأه فيها. وقد نقل عن الشيخ محمد بن عبدالوهاب أقوالا متعددة يعذر بالجهل في التوحيد في بعضها ولايعذر في البعض الآخر، وفهمها حسب تقسيمه السابق. والمتواتر عن الشيخ حسب النصوص المنقولة عنه وحسب مانقله عنه علماء الدعوة أنه لايعذر بالجهل في التوحيد من بلغه القرآن، وأنه لايعذر إلا حديث العهد بالإسلام أو في المسائل الخفية، وكلامه في هذا متفق مع سائر الفقهاء في أنه يُرجع العذر بالجهل من عدمه إلى التمكن من التعلم من عدمه، فإن حديث الإسلام لم يتمكن من التعلم بعد وكذلك المسائل الخفية لايصل علمها إلى كثير من العامة. قال الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله (فإن الذي لم تقم عليه الحجة هو الذي حديث عهد بإسلام، والذي نشأ ببادية بعيدة، أو يكون في مسائل خفية من الصرف والعطف فلا يكفر حتى يُعَرَّف، أما أصول الدين التي أوضحها الله وأحكمها في كتابه فإن حجة الله هو القرآن، فمن بلغه فقد بلغته الحجة) (الدرر السنية في الأجوبة النجدية ــ جـ 8 ــ(7/53)
كتاب المرتد ــ صـ 90). هذه قاعدة الشيخ في العذر بالجهل من تتبعي لكلامه وكلام علماء الدعوة، وأي كلام آخر مطلق له يُحمل على هذه القاعدة.
م ــ في صـ 371 قال المؤلف (وأما مايكون المكلف معذوراً فيه بالجهل مما لايُعلم إلا بالحجة الرسالية فهو معذور بالتأول فيه إذا أمكن أن يكون غير مكذب للرسول صلى الله عليه وسلم ولا مستحل لفعله، وأما إذا لم يمكن ذلك فلا يُعذر بشبهته) أهـ. وقال كلاماً قريباً من هذا في صـ 349 و 369. وهذا الكلام صحيح ولكن كان ينبغي أن يوضحه المؤلف فإن ظاهره يوهم بأنه حصر الكفر في التكذيب والاستحلال وهذا قول المرجئة. ولكن المؤلف يعني ــ فيما يظهر لي ــ أن المتأول لايكفر إلا إذا كان مكذباً أو مستحلاً، وهذا لايُعلم إلا إذا أقيمت عليه الحجة فأصر على فعله المكفر الذي تأول له، لأنه إذا أصر يكون مكذبا بالحجة وهى النص الذي يُبطل تأوّله. ومثال ذلك: حادثة قدامة بن مظعون، فإنه إذا كان قد أصرّ على أن الخمر تحل له بعد بيان عمر بن الخطاب له، لصار مستحلاً الاستحلال المكفِّر المتضمن للتكذيب بالنص الحاظر. وقد ذكرت قصته في هذا المبحث من قبل.
هذا مايتعلق بالتنبيه على بعض الأخطاء الواردة برسالة (ضوابط التكفير عند أهل السنة)، والله تعالى أعلم.
20 ــ كتاب (حَدّ الإسلام وحقيقة الإيمان) لعبدالمجيد الشاذلي، طبع جامعة أم القري 1404هـ وهذا الكتاب أذكره أيضا للتنبيه على مافيه من أخطاء، فمؤلفه اختلطت عليه أمور كثيرة في صلب الموضوع الذي كتب فيه وهو موضوع الإيمان والإسلام، وبالرغم من أن المؤلف أكثر من النقل عن ابن تيمية إلا أنه استنبط استنباطات لاتمت لما نقله بصلة. ومن الأخطاء الواردة في كتابه:
أ ــ قال المؤلف (إن الإيمان إذا اقترن بالإسلام في نصوص الكتاب والسنة، فالمراد بالإيمان التوحيد القولي، وبالإسلام التوحيد العملي) صفحة جـ بالمقدمة، وصـ 221 ــ 223 ــ 229.(7/54)
وأراد المؤلف بالتوحيد القولي: توحيد الربوبية بدليل أنه سماه (التوحيد العلمي المعرفي الخبري الاعتقادي) صـ 105، وسماه (توحيد الصفات) صـ 108، وسماه (التوحيد في الاعتقاد)
صـ 108.
وأراد المؤلف بالتوحيد العملي: توحيد الألوهية بدليل أنه سماه (توحيد العبادة) صـ 223، وسماه (التوحيد العملي الإرادي القصدي الطلبي) صـ 105.
ثم قال المؤلف (وقد يقترن الإسلام بدلالته هذه على أصل الدين أي على التوحيد بنوعيه القولي والعملي، بلفظ الإيمان بدلالته على فعل الواجب وترك المحرم زيادة على التوحيد. فيكون الإسلام هو التوحيد، والإيمان مازاد على ذلك من العمل) صـ 231.
وقد حاول المؤلف الاستدلال لأقواله هذه بكلام لابن تيمية رحمه الله لايمت لما ذكره المؤلف بصلة، ومثل هذا الكلام لايقوله ابن تيمية ولو قاله لكان مخطئا.
ثم إنني أقول إن هذا الدين مبني على النقل لاعلى الابتكار والاختراع، والعصمة فيه تكون باتباع الآخر لما كان عليه الأول، والتجديد في الدين يكون بالعودة به إلى حالته يوم كان جديداً في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لم تشُبْه شائبة بدعة أو رأي، وهكذا نقله إلينا الصحابة رضي الله عنهم والتابعون لهم بإحسان وهم سلف هذه الأمة. فمن من السلف قال بهذا الكلام الذي ذكره الاستاذ/ عبدالمجيد الشاذلي؟. وإليك بيان مافي كلامه السابق من مخالفات.(7/55)
* فعلي قوله إن الإيمان هو توحيد الربوبية ــ والذي سّماه بالتوحيد القولي ــ يكون من أتي بالإيمان فقط كافراً. لأن العلماء لم يختلفوا في أن من أتى بتوحيد الربوبية فقط أنه كافر، فيكون من أتى بالإيمان حسبما فسَّره كافراً. وهذا من أسوأ مايلزمه باصطلاحاته الجديدة التي وضعها. قال شارح العقيدة الطحاوية (فلو أقر رجل بتوحيد الربوبية الذي يُقر به هؤلاء النظّار ويفني فيه كثير من أهل التصوف، ويجعلونه غاية السالكين، كما ذكره صاحب «منازل السائرين» غيره، وهو مع ذلك إن لم يعبد الله وحده ويتبرأ من عبادة ماسواه كان مشركاً من جنس أمثاله من المشركين) ط المكتب الإسلامي 1403هـ، صـ 83. وقال محمد بن عبدالوهاب (أما توحيد الربوبية فهو الذي أقر به الكفار على زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يُدخلهم في الإسلام وقاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم واستحل دماءهم وأموالهم) (الرسالة المفيدة)
صـ 34، مطبوعة مع (كشف الشبهات) له، ط الرئاسة العامة 1404هـ.
* ثم إن الأستاذ الشاذلي استدل لقوله إن الإيمان هو التوحيد القولي بقوله تعالى (قولوا آمنا بالله وماأنزل إلينا ــ إلى قوله ــ ونحن له مسلمون) البقرة 136، وقد علمت مما سبق أن من أتى بتوحيد الربوبية فقط أنه كافر، فهل إذا قال رجل كافر بما في هذه الآية ــ التي استدل بها على التوحيد القولي ــ ثم مات، هل لانحكم له بالإسلام؟. وهذا أيضا من الأخطاء السيئة التي تلزمه.
* ثم إن أحداً من السلف لم يستدل بآية (قولوا آمنا) على مااستدل له، وإنما استدل بها السلف على وجوب الإقرار باللسان كأحد شروط صحة الإيمان كحجة على بعض فرق المرجئة الذين قالوا الإيمان هو التصديق فقط ولايشترط الإقرار، هذا ماقاله أبو عبيد القاسم بن سلام في (الإيمان) ط دار الأرقم صـ 79، والآجري في (الشريعة) ط أنصار السنة صـ 119 ــ 120، وابن بطة في (الإبانة) ط دار الراية(7/56)
2/762، وحافظ حكمي في (معارج القبول) ط السلفية 2/18، وغيرهم، فهذه الآية من أدلة وجوب الإقرار.
* ثم إنه باستدلاله بآية (قولوا آمنا) على الإيمان ولو في حالة اقترانه بالإسلام، معناه أنه قصر الإيمان على مجرد الإقرار، وهذا هو قول الكرّامية وهم إحدى فرق المرجئة.
* ثم إن الاستاذ الشاذلي قال إن التوحيد القولي ــ وهو الاسم الذي أطلقه على توحيد الربوبية ــ إنه توحيد الصفات. ومعلوم لأهل العلم أن توحيد الربوبية هو توحيد الله تعالى في ذاته وأفعاله وأسمائه وصفاته، فلماذا قصره على توحيد الصفات؟.(7/57)
* ثم إن الاستاذ الشاذلي في كلامه السابق ذكر قولين متناقضين في حالة واحدة وهى حالة اقتران الإسلام والإيمان في نصوص الكتاب والسنة، فقال مرة: إن المراد بالإيمان التوحيد القولي والمراد بالإسلام التوحيد العملي (صـ 223)، ومرة أخرى قال: إن المراد بالإسلام التوحيد بنوعيه القولي والعملي والمراد بالإيمان مازاد عن ذلك من العمل (صـ 223 و 231) وهذا كله في حالة اقترانهما، فأي قوليه هو الصواب؟. وبكل أسف فإن كلا قوليه خطأ، والذي عليه جمهور علماء السلف أن الإسلام والإيمان إذا اقترنا فالمراد بالإسلام الأعمال الظاهرة والمراد بالإيمان الأعمال الباطنة أي اعتقاد القلب كما في حديث جبريل عليه السلام (ماالإسلام..... وما الإيمان...... وما الإحسان)؟. قال ابن حجر رحمه الله ــ في شرح حديث جبريل ــ (وبهذا استدل المزني وأبو محمد البغوي فقال في الكلام على حديث جبريل هذا: جعل النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام هنا إسماً لما ظهر من الأعمال، والإيمان إسماً لما بطن من الاعتقاد، وليس ذاك لأن الأعمال ليست من الإيمان، ولا لأن التصديق ليس من الإسلام، بل ذاك تفصيل لجملة كلها شئ واحد وجماعها الدين، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم «أتاكم يعلمكم دينكم») (فتح الباري) 1/115، وقد ذكر ابن تيمية هذا الكلام في (مجموع الفتاوى، 7/359 ــ 360)، وقال ابن تيمية أيضا (فلما ذكر الإيمان مع الإسلام، جعل الإسلام هو الأعمال الظاهرة: الشهادتان والصلاة والزكاة والصيام والحج، وجعل الإيمان مافي القلب من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر) (مجموع الفتاوى) 7/14. وكون الإيمان عند الاقتران يدل على اعتقاد القلب هو عكس ماقاله الاستاذ الشاذلي من أن الإيمان عند الاقتران هو العمل، وقد استدل فيما استدل به بما نقله ابن تيمية عن الزهري أنه قال (فنرى أن الإسلام الكلمة، والإيمان العمل) (صـ 231)، وهذا قول شاذ، والمؤلف لم ينقل نقد ابن تيمية لهذا(7/58)
القول، فقد قال رحمه الله (لكن التحقيق ابتداء هو مابيّنه النبي صلى الله عليه وسلم لمّاسُئل عن الإسلام والإيمان، ففسّر الإسلام بالأعمال الظاهرة، والإيمان بالإيمان بالأصول الخمسة، فليس لنا إذا جمعنا بين الإسلام والإيمان أن نجيب بغير ماأجاب به النبي صلى الله عليه وسلم) (مجموع الفتاوى) 7/259. وقوله (الأصول الخمسة) هو خطأ مطبعي غالبا، أو سبق قلم منه، وإلا فإن حديث جبريل نَصَّ على أركان الإيمان الستة. كما انتقد الشيخ حافظ حكمي رحمه الله قول الزهري ورجّح تصحيفه، انظر (معارج القبول) 2/33 ــ 34، وقال حافظ حكمي أيضا (وقد قدّمناأن الإسلام هو الأركان الظاهرة عند التفصيل واقترانه بالإيمان، والإيمان إذ ذاك هو الأركان الباطنة، والإحسان هو تحسين الظاهر والباطن، أما عند الإطلاق فكل منها يشمل دين الله كله) (معارج القبول) 2/399. هذا قول أهل السنة على أن كلام الزهري رحمه الله يمكن تفسيره دون الحاجة إلى دعوى تصحيفه، وهو أن الشخص يسمى مسلما إذا أتى بالكلمة وهى الإقرار بالشهادتين، ولايستحق وصف الإيمان إلا إذا عمل بالشرائع وهذا ماذكره الزهري نفسه، فقد قال (كنا نقول الإسلام بالإقرار، والإيمان بالعمل، والإيمان قول وعمل قرينان لاينفع أحدهما إلا بالآخر) نقله ابن تيمية في (مجموع الفتاوى) 7/ 295. وهذا ماذكره ابن تيمية أيضا في تفسير كلام الزهري فقال (ومعلوم أنه على القول بكفر تارك المباني يمتنع أن يكون الإسلام مجرد الكلمة، بل المراد أنه إذا أتى بالكلمة دخل في دين الإسلام، وهذا صحيح، فإنه يُشهد له بالإسلام) (مجموع الفتاوى) 7/ 259. ومع ذلك فليس لنا أن نَصِفَ الإسلام والإيمان إذا اقترنا بغير ماورد في حديث جبريل عليه السلام، أما ماقاله الاستاذ الشاذلي في هذا فقول محدث لا أصل له، وهو قول مردود غير مقبول لقوله صلى الله عليه وسلم (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رَدٌّ) رواه مسلم.(7/59)
ثم ننتقل إلى فقرة أخرى من كلام الاستاذ/ عبدالمجيد الشاذلي.
ب ــ قال الاستاذ الشاذلي إن الإيمان والإسلام إذا انفردا في نصوص الكتاب والسنة، دلّ كل منهما على أصل الدين وهو التوحيد بنوعيه القولي والعملي، أي أنهما إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا. صفحة «ج» في المقدمة، وصـ 97 و 223 و 226 و 229.
وكلامه هذا خلاف الكتاب والسنة وخلاف قول السلف. والصواب في هذا أن الإيمان أو الإسلام إذا انفرد في النص فإنه يدل على الدين كله لا على أصله فقط ولا على التوحيد فقط. كما أن أصل الدين ليس مرادفا للتوحيد بنوعيه، بل يشتمل أصل الدين على التوحيد وعلى أمور أخرى.
ونبدأ ببيان أن الإيمان والإسلام إذا انفردا دَلَّ كل منهما على الدين كله لا على التوحيد فقط، فنقول إن التوحيد بنوعيه هى معنى شهادة أن لا إله إلا الله، يدل على هذا حديث مباني الإسلام لابن عمر فذكر أن الركن الأول هو الشهادتان في رواية متفق عليها، وفي رواية لمسلم وصف الركن الأول بقوله صلى الله عليه وسلم (على أن يوحِّد الله). كما يدل عليه حديث ابن عباس في بعث معاذ إلى اليمن ففي إحدى رواياته (ليكن أول ماتدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله) وفي رواية أخرى للبخاري (ليكن أول ماتدعوهم إلى أن يوحِّدوا الله) الحديث ثم ذكر الصلاة والزكاة. وهو حديث متفق عليه.(7/60)
ونخلص من هذا إلى أن التوحيد الذي تدل عليه شهادة أن لا إله إلا الله هو الركن الأول من أركان الإسلام لا الإسلام كله، وهو الركن الأول من أركان الإيمان الستة كما في حديث جبريل لا الإيمان كله، وهو الشعبة الأولى من شعب الإيمان المذكورة في قوله صلى الله عليه وسلم (الإيمان بضع وستون شعبة فأفضلها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق) الحديث رواه مسلم، قال العلامة السفاريني رحمه الله (قال في القاموس: التوحيد إيمان بالله وحده) (لوامع الأنوار البهية) 1/57. والإيمان بالله وحده هو الركن الأول من أركان الإيمان لا الإيمان كله.
وإذا أراد الاستاذ الشاذلي جعل التوحيد مرادفا للإيمان، وإذا كان السلف أجمعوا على أن الإيمان بضع وستون شعبة وأنه يزيد وينقص، فهل التوحيد بضع وستون شعبة؟، وهل التوحيد يزيد وينقص؟.
فلفظا الإسلام والإيمان ليسا مرادفين للفظ التوحيد، بل التوحيد ركن من أركانهما وجزء من أجزائهما. وهذان اللفظان إذا انفردا دلّ كل منهما على الدين كله بما في ذلك التوحيد وبقية أركان الإيمان وشعبه.
ودليله بالنسبة للإسلام، قوله تعالى (إن الدين عند الله الإسلام) آل عمران، وقوله تعالى (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) المائدة، فسّمي الله تعالى الدين الكامل بالإسلام ولم يقصر الإسلام على أصل الدين فقط كما قال الشاذلي.
ودليله بالنسبة للإيمان: حديث شُعب الإيمان السابق، وذكر البخاري في (باب أمور الإيمان) في كتاب الإيمان من صحيحه قوله تعالى (ليس البر أن تولوا وجوهكم) البقرة، وقوله تعالى (قد أفلح المؤمنون) المؤمنون. ومنه أيضا قوله تعالى (إنما المؤمنون) بالأنفال، وقوله (إنما المؤمنون) بالحجرات. فاشتمل الإيمان على كل شرائع الدين كما قال ابن تيمية (مجموع الفتاوى) 19/ 293.(7/61)
فبأي حجة قصر الاستاذ الشاذلي الإيمان والإسلام على التوحيد وهو ركن من أركان الدين لا الدين كله. قال السيوطي رحمه الله (وليس الإسلام إسماً للتوحيد فقط، بل لمجموع الشريعة بفروعها وأعمالها) (الحاوي للفتاوي) للسيوطي، جـ 2 صـ 225، ط المكتبة العصرية ببيروت 1411هـ. هذا في بيان أن الإسلام أو الإيمان ليس هو التوحيد فقط.
ويتبين أيضا مما سبق أن الإسلام والإيمان إذا انفردا دلّ كل منهما على الدين كله لا على أصل الدين كما قال الشاذلي.
ويتبين أيضا أن أصل الدين هو أصل الإيمان، وهذا ليس هو التوحيد فقط كما قال المؤلف، بل يشتمل أصل الإيمان على الإيمان بأركان الإيمان الستة وعلى بعض أعمال القلب والجوارح التي يكفر تاركها إذ كان أصل الإيمان ضداً للكفر.(7/62)
جـ ــ ثم تمادي الشاذلي في الخطأ في نفس المسألة، فقال إن الإسلام ــ الذي إذا أطلق تناول التوحيد بنوعيه ــ هو الإسلام العام الذي هو إسلام النبيين والذي تختلف دلالته عن دلالة حديث جبريل (صـ 223 من كتابه). فأقول: ومن قال إن الإسلام إذا اطلق فهو الإسلام العام وليس الإسلام الخاص الذي بُعث به محمد صلى الله عليه وسلم، بأي دليل يقول هذا؟ بل إن العكس هو الصحيح ولو قال يهودي أسلمت ثم لم يلتزم شرائع الإسلام وقال اليهودي قصدت الإسلام العام دين إبراهيم وموسى، لُحكم عليه بالرِّدة، لايختلف العلماء في هذا قال ابن قدامة (كل من تلفّظ بالإسلام أو أخبر عن نفسه به ثم أنكر معرفته بما قال لم يُقبل انكاره وكان مرتداً، نصّ عليه أحمد في مواضع) انظر (المغني مع الشرح الكبير، 10/ 91)، لأن الإسلام إذا أطلق أريد به دين محمد صلى الله عليه وسلم قال تعالى (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه) آل عمران. وحتى لو وافقناه على قوله أن المراد هو الإسلام العام فهو خطأ أيضا لأنه من قال إن إسلام النبيين عليهم السلام هو التوحيد فقط، ألم تكن لهم شرائع كما قال تعالى (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا) المائدة؟، أكانت شرائعهم هذه من إسلامهم أم ليست منه؟.(7/63)
د ــ وقال الاستاذ الشاذلي إن الإيمان ــ الذي إذا أطلق تناول التوحيد بنوعيه ــ هو الإيمان المجمل (صـ 223) وأراد بالإيمان المجمل أصل الإيمان كما يدل عليه كلامه وسيأتي بتمامه. فأقول: بأي حجة قال إن الإيمان إذا أطلق أريد به أصل الإيمان؟، هذه دعوى بلا دليل، فلفظ الإيمان إذا أطلق ــ كما في كلام المؤلف ــ دَلّ على الدين كله بجميع شُعبه، وليس لأحد أن يصفه بغير ماوصفه به رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث شُعَب الإيمان كما أن دعوى المؤلف أنه أراد بالإيمان المرادف للتوحيد أنه الإيمان المجمل هى دعوى غير مُسَلَّمة، لأنه جعل هذا الإيمان مرادفا للإسلام إذا انفردا وقسيمه إذا اجتمعا، والسلف إنما قالوا بهذا ــ الانفراد والاجتماع ــ عن الإيمان الذي هو الدين كله أي الإيمان الكامل أو الإيمان المطلق لا أصل الإيمان فقط الذي سّماه المؤلف بالإيمان المجمل، فهذا الذي صنعه المؤلف خلط واضطراب.
وإذا سلّمنا بقول الاستاذ الشاذلي إنه أراد بلفظ الإيمان المنفرد أصل الإيمان ــ الذي سّماه الإيمان المجمل ــ وأنه مرادف للتوحيد. فنقول إن أصل الإيمان ضده الكفر، وهو لايختلف معنا في هذا، ونقول أجمع الصحابة على أن ترك الصلاة كفر، فلابد أن تكون الصلاة داخلة في أصل الإيمان، إذن فلم يقتصر أصل الإيمان على التوحيد فقط، وماقلناه في الصلاة يقال في الإيمان بالملائكة والإيمان باليوم الآخر، وهى أمور زائدة على التوحيد. فتبيّن أن قوله (الإيمان ــ حتى لو أراد به أصل الإيمان أو الإيمان المجمل ــ إنه هو التوحيد) هو قول خطأ.(7/64)
وقبل أن ننتقل إلى فقرة أخرى من كلامه، نقول: قال السلف: إن الإيمان قول وعمل، أو إنه قول باللسان واعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح، ونحوها من الأقوال التي نقلناها عن ابن تيمية في الكلام عن كتاب (الإيمان) لمحمد نعيم ياسين. فهذه أقوال السلف في الإيمان. فمن من السلف قال بقول الاستاذ الشاذلي: إن الإيمان هو التوحيد القولي أو توحيد الصفات عند اقترانه بالإسلام، وإن الإيمان هو التوحيد بنوعيه عند الإطلاق؟. بكل أسف هذا قول مخترع ليس له أصل في كلام السلف فضلا عن أن يكون له أصل في الكتاب والسنة، وهذا الدين مبني على النقل كما أسلفت. وإذا اتفق السلف على قولٍ فليس لأحد من الأمة أن يخرج عنه أو أن يُحدث غيره، وإذا اختلفوا على قولين أو ثلاثة فليس لأحد أن يُحدث قولا جديداً زائداً عنهم لأنه يعني أن الحق غاب عن السلف وأدركه المتأخر، وهذا منكر عظيم، لأنه يعني أن الأمة كانت على ضلالة حتى أدرك المتأخرُ الحقَّ، والأمة لاتجتمع على ضلالة بالإجماع ولابد فيها من طائفة على الحق دائما وأبدا، فإذا اختلفوا على أقوال فالحق في واحدٍ منها ليس خارجاً عنها، وإذا أتى المتأخر بقول خارج عن أقوالهم فهو خطأ قطعاً إذ الحق في واحد من أقوالهم. انظر في الكلام عن هذه المسألة (مجموع فتاوى ابن تيمية) جـ 13 صـ 59 ــ 60. وبتطبيق هذا الأصل تعلم أن التفسيرات التي وضعها الأستاذ الشاذلي للإيمان والإسلام هى خطأ بلا ريب لخروجها عما قال به السلف في ذلك.
ثم ننتقل إلى فقرة أخرى من كلامه.(7/65)
هـ ــ قال الاستاذ الشاذلي (ولفظ الإيمان بهذه الدلالة هو الإيمان المجمل، ثم قد يُقرن بالإيمان الواجب في آية واحدة، فإذا ذهب بعض الإيمان الواجب بترك بعض الواجبات أو بفعل بعض المحرمات، بقي بعضه وبقي معه الإيمان المجمل لايتبعّض) (صـ 223 من كتابه). يتبيّن من كلامه هذا أنه أراد بالإيمان المجمل أصل الإيمان لأنه هو الذي يبقي بعد ذهاب الإيمان الواجب. ولنا هنا تعليقان:
التعليق الأول: تعبيره عن أصل الإيمان بلفظ الإيمان المجمل غير دقيق، فهما ليسا مترادفَيْن. فإن السلف يستعملون أصل الإيمان كجزء في مقابل الإيمان الواجب والإيمان الكامل، في حين يستعملون الإيمان المجمل في مقابل الإيمان المفصل،
قال ابن تيمية عن الإيمان (وهو مركب من أصل لايتم بدونه، ومن واجب ينقص بفواته نقصاً يستحق صاحبه العقوبة، ومن مستحب يفوت بفواته علوّ الدرجة) (مجموع الفتاوى) 7/637.
وقال شارح العقيدة الطحاوية (فمن وجب عليه الحج والزكاة مثلا يجب عليه من الإيمان أن يعلم ماأُمِرَ به، ويؤمن بأن الله أوجب عليه مالا يجب على غيره الإيمان به إلا مجملاً، وهذا يجب عليه فيه الإيمان المفصل) صـ 377 ــ 378. فهذه استعمالات السلف لمصطلحي أصل الإيمان، والإيمان المجمل، وقد سبق القول بأن كل عمل يكفر تاركه فهو داخل في أصل الإيمان، إذ إن أصل الإيمان هو القدر الذي ينجو به العبد من الكفر، ومن هذه الأعمال: الصلاة بإجماع الصحابة كما أسلفنا القول، وماوجب من الأعمال لابد من أن يؤمن به العبد إيمانا مفصلاً بكيفيته ومايصح به وما يُفسده، فالإيمان المفصل بالصلاة داخل في أصل الإيمان بلا شك، فلم يقتصر أصل الإيمان بذلك على الإيمان المجمل ولايرادفه. وبهذا يتبين لك خطأ المؤلف في تعبيره عن أصل الإيمان بالإيمان المجمل. فأصل الإيمان يشتمل على الإيمان المجمل بأمور والإيمان المفصل بأمور أخري.(7/66)
أما التعليق الثاني: فهو على قوله (وبقي معه الإيمان المجمل لايتبعض)، وقد تبين أنه أراد بالإيمان المجمل أصل الإيمان، فقوله إن أصل الإيمان لايتبعض خطأ بل هو قول المرجئة، فإنه يتبعض شأنه في ذلك شأن الإيمان كله. فأصل الإيمان ــ الذي هو ضد الكفر ــ يتكون من شُعب كل شُعبة منها إيمان وهذا يدل على أنه يتبعض إلا أنه لايصح إلا باكتمال هذه الشعب، فهناك فرق بين عدم التبعض وعدم الصحة.
أما شُعب أصل الإيمان والذي لا يصح إلا باكتمالها فهى:
على القلب: المعرفة والتصديق وبعض أعمال القلب كالإخلاص والمحبة والخشية والانقياد والرضا والتسليم لله، والمقصود بالمعرفة أي معرفة معنى لا إله إلا الله وماتدل عليه كما نص عليه في حديث عثمان بن عفان عند مسلم، ومعرفة ماجاء به الرسول صلى الله عليه وسلم إجمالا، والمقصود بالتصديق تصديقه في كل ماجاء به جملة وعلى الغيب. ويتبع المعرفة: التصديق بما عرفه وأعمال القلب والتي أهمها الرضا والإذعان لما عرفه وصدّق به وايثاره على ماعداه وهى المحبة، وخشية الله دون ماسواه. هذا مايجب على القلب. وإذا قامت هذه الأعمال بالقلب على الوجه الصحيح فلابد أن يتبعها عمل الجوارح.
وعلى اللسان: الإقرار بالشهادتين. وهذا الإقرار يفترض أنه إخبار عن تصديق القلب وعن إنشاء الالتزام بسائر شرائع الإيمان، فمن لم يقر مع القدرة فهو كافر، ومن أقر فهو مسلم في أحكام الدنيا، فإن صاحَبَ إقرار اللسان اعتقاد القلب نفعه إقراره عند الله تعالى في الآخرة، وإن أقر بلسانه دون قلبه فهو مسلم في الظاهر كافر على الحقيقة وهو المنافق النفاق الأكبر.
وعلى الجوارح: أعمال الجوارح التي يكفر تاركها كالصلاة.(7/67)
فهذه الشُعَب تدل على أن أصل الإيمان يتبعض، وقد نقل الاستاذ الشاذلي مايدل على ذلك ــ في صـ 217 من كتابه ــ عن ابن تيمية قوله (فإن الإيمان أصله معرفة القلب وتصديقه، والعمل تابع لهذا العلم والتصديق ملازم له، ولايكون العبد مؤمنا إلا بهما) أهـ. كما نقل الشاذلي ــ في صـ 254 من كتابه ــ رد أحمد بن حنبل على المرجئة الذين يزعمون أن الإيمان لايكون إلا شيئا واحداً، بأنهم إذا أقروا بأنه لابد في الإيمان من المعرفة والتصديق والإقرار فقد أقروا بالتعدد وأن هذا لايستطيعون ردّه وإلا قالوا قولا عظيما، وكلام أحمد هذا ذكره ابن تيمية في (مجموع الفتاوي) 7/395 ــ 396. كما نقل الشاذلي عن ابن تيمية قوله (ولابد أن يكون مع التصديق شئ من حب الله وخشية الله، وإلا فالتصديق الذي لايكون معه شئ من ذلك ليس إيمانا البته، بل هو كتصديق فرعون واليهود وإبليس، وهذا الذي أنكره السلف على الجهمية) صـ 257 بكتاب الشاذلي، وصـ 307 بالمجلد السابع بمجموع الفتاوي. فكيف ينكر المؤلف تبعّض أصل الإيمان مع ما نقله؟.(7/68)
والخلاصة: أن أصل الإيمان يتبعض خلافا لقول المؤلف، وأن الكافر قد تكون معه شٌعبة من شُعب أصل الإيمان، إلا أن الإيمان لايصح إلا باكتمال شعب أصل الإيمان، فالمنافق النفاق الأكبر معه بعض شُعب أصل الإيمان وهو الإقرار باللسان كما في قوله تعالى (إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله) المنافقون 1، واليهود معهم بعض شعب أصل الإيمان وهو التصديق بنبوّة الرسول صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى (الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون) البقرة 146، وفرعون معه بعض شعب أصل الإيمان وهو تيقنه بصحة نبوّة موسى وصحة ماجاء به عليه السلام كما قال تعالى (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم) النمل 14، وإبليس معه بعض شُعب أصل الإيمان وهو الإيمان بالربوبية وبيوم البعث كما في قوله تعالى (قال ربّ فأنظرني إلى يوم يُبعثون) صلى الله عليه وسلم 79، ومع ذلك فهؤلاء كلهم كفار إذ لم تكتمل لديهم جميع شُعب أصل الإيمان، وهذا معنى قوله تعالى (ومايؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون) يوسف 106، أورد ابن القيم هذه الآية ثم قال (أثبت ــ سبحانه وتعالى ــ لهم إيمانا به سبحانه مع الشرك) (الصلاة) صـ 28. وقال ابن تيمية (كما لايكون مؤمنا إذا كان معه أصل الكفر وبعض فروع الإيمان) (مجموع الفتاوى) 15/283، ويراجع أيضا (مجموع الفتاوى) 7/317.
وهذا كله في بيان تبعّض أصل الإيمان خلافا لقول المؤلف.
ثم ننتقل إلى فقرة أخرى من كلامه.(7/69)
و ــ قال الاستاذ عبدالمجيد الشاذلي في تفسير قوله تعالى (ياأيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة) البقرة 208، قال (يدعوهم باسم الإيمان المجمل ليحققوا الإيمان الواجب الكامل بالدخول في جميع الطاعات ووجوه البر ــ راجع ابن كثير صـ 248) (حد الإسلام) صـ 225، هذا كلامه. والتعليق هنا على قوله (الإيمان الواجب الكامل) وأحال في كلامه على تفسير ابن كثير فلم أجد هذا المصطلح به وإنما قال ابن كثير (وهو أنهم أمروا كلهم أن يعملوا بجميع شُعب الإيمان وشرائع الإسلام وهي كثيرة جداً مااستطاعوا منها) أهـ (تفسير ابن كثير، 1/248) فترجم الاستاذ الشاذلي كلام ابن كثير هذا في مصطلح (الإيمان الواجب الكامل). وهذا المصطلح لايُعبّر عن معنى الآية ولا عن معنى كلام ابن كثير في تفسيره.
وبيان ذلك أن الإيمان له ثلاث مراتب ــ وقد ذكرتها في تعليقي على العقيدة الطحاوية ــ وأوجزها هنا فأقول:
* المرتبة الأولى: أصل الإيمان ــ وتكلمنا عنه في الفقرة السابقة ــ ويُسمى أيضا (مطلق الإيمان)، وبه النجاة من الكفر فأصل الإيمان مضاد للكفر، وبه يدخل العبد في عموم المخاطبين بقوله تعالى (ياأيها الذين آمنوا)، وبه يستحق العبد أن يخرج من النار إذا دخلها بتقصيره في الإيمان الواجب ولم يشأ الله أن يغفر له.
* المرتبة الثانية: الإيمان الواجب، وهو مازاد عن أصل الإيمان من فعل الواجبات وترك المحرمات، ويُسمى أيضا (كمال الإيمان الواجب)، والناس فيه على درجتين:
الدرجة الأولى: المقصرون فيه، بترك واجب أوفعل محرم، وهم أصحاب الكبائر أو مايُسمى بالفاسق المِلّي، وهم أصحاب الوعيد، ومن مات منهم غير تائب فهو في مشىئة الله إن شاء غفر له وإن شاء عذبه ثم يخرجه من النار بما معه من أصل الإيمان، وهذه درجة (فمنهم ظالم لنفسه) فاطر 32، وإذا غفر الله له دخل الجنة ابتداء بلا سابقة عذاب.(7/70)
الدرجة الثانية: الذين أدّوا الإيمان الواجب بتمامه لم يقصروا فيه ولم يزيدوا عليه، وهذه مرتبة (ومنهم مقتصد) فاطر 32، وهؤلاء هم المستحقون للوعد السالمون من الوعيد، أي أنهم يستحقون دخول الجنة ابتداء بلا سابقة عذاب بفضل الله وبرحمته حسب وعده الصادق، وفي هؤلاء أيضا قوله صلى الله عليه وسلم ــ فيمن اقتصر على فعل الواجب ــ (أفلح إن صدق) الحديث متفق عليه. وأصحاب هذه الدرجة قد أتوا بالإيمان الواجب الكامل، وهذا هو المصطلح الذي ذكره الاستاذ الشاذلي، وهو لايُعبّر عن كل شرائع الإسلام المذكورة في قوله تعالى (ادخلوا في السلم كافة) وإنما يعبّر هذا المصطلح عن الواجب فقط من هذه الشرائع ولايدخل فيه المستحبات. قال ابن تيمية (والإيمان المؤلف من الأقوال الواجبة والأعمال الواجبة الباطنة والظاهرة هو المجموع الواجب الكامل) (مجموع الفتاوي) 18/ 276.
* المرتبة الثالثة: الإيمان المستحب، وهو مازاد عن الإيمان الواجب من فعل المندوبات والمستحبات وترك المكروهات والمشتبهات، وهذه درجة (ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله) فاطر 32، وهم المحسنون وأصحاب هذه الدرجة يدخلون الجنة ابتداء بلا سابقة عذاب برحمة الله تعالى في درجة أعلى من المقتصدين، (وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلاً) الإسراء 21، وتسمى هذه المرتبة أيضا بمرتبة كمال الإيمان المستحب.(7/71)
هذه مراتب الإيمان الثلاث، ومجموعها يُسمى: الإيمان الكامل. وهو ماعناه عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه بقوله (إن للإيمان فرائض وشرائع وحدوداً وسنناً، فمن استكملها فقد استكمل الإيمان، ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان) رواه البخاري تعليقا في أول كتاب الإيمان من صحيحه، وقوله (فقد استكمل الإيمان) هى مرتبة الإيمان الكامل، وهى المرتبة التي عناها ابن كثير في قوله (أن يعملوا بجميع شعب الإيمان وشرائع الإسلام) وهذا الكلام يشتمل على مراتب الإيمان الثلاث: أصله وكماله الواجب وكماله المستحب، أما المصطلح الذي استخدمه الاستاذ الشاذلي وهو (الإيمان الواجب الكامل) فإنه لايشتمل على كمال الإيمان المستحب وبالتالي فإن مصطلحه هذا لايعبر عن معنى الآية التي استدل بها، كما لايعبر عن معنى كلام ابن كثير، فقد عبّر المؤلف عن مرتبة ٍ بمصطلح خاص بمرتبة أدنى منها، ولهذا فقد كان ينبغي أن يستخدم مصطلح (الإيمان الكامل) أو (الإيمان الواجب والمستحب) بدلا من قوله (الإيمان الواجب الكامل).
ثم ننتقل إلي فقرة أخرى من كلامه.
ز ــ في الصفحات من 311 إلى 317 من كتابه ذكر وقائع نقض بني النضير وبني قريظة وكفار مكة عهودهم مع النبي صلى الله عليه وسلم فقاتلهم وأجرى على الساكت منهم حكم الناقض لأنهم كانوا طوائف ممتنعين بشوكة. كما ذكر أن الردء له حكم المباشر في المحاربة والجهاد. هذا حاصل كلامه، وهذا كله صواب لاغبار عليه. والردء هو المعين على القتال بغير مباشرة منه له.(7/72)
ولكن الإشكال في تعليقه على هذه الوقائع، فقد قال مانصّه (ومن هذه القاعدة يتبيّن أن تطبيق مبدأ ألا يؤخذ أحد بجريرة غيره في حالة الأفراد الذين تنالهم القدرة وتصل إليهم اليد، لابد أن يتقيّد بالقيود المقتضية للإطراد في حالة الدور التي يمتنع فيها أهلها بسلطان فيكون حكم الردء حكم المباشر، وحكم المقر والساكت حكم الناقض والمحارب، مع أنه لم يباشر النقض والحرب كل فرد من الناس) أهـ. صـ 317 من كتابه (حد الإسلام). والإشكال في كلامه هذا في موضعين:
الموضع الأول: تعميمه حكم المعاهدين على كل دار يمتنع أهلها بسلطان: فالحكم الذي ذكره خاص بأهل العهد من الكفار الأصليين إذا نقض بعضهم العهد ولم ينكر الباقون فهؤلاء هم الذين يجري على الساكت فيهم حكم الناقض منهم. قال السيوطي رحمه الله ــ في قواعده الفقهية ــ (القاعدة الثامنة عشرة «لا يُنسب للساكت قول». هذه عبارة الشافعي رضي الله عنه ــ إلى قوله ــ وخرج عن هذه القاعدة صور: منها لو نقض بعض أهل الذمة ولم يُنكر الباقون بقول ولا فعل، بل سكتوا، انتقض فيهم أيضا) (الأشباه والنظائر في قواعد وفروع فقه الشافعية) للسيوطي، صـ 266 ــ 267، ط دار الكتاب العربي 1407هـ. فتعميم هذا الحكم على غير هذه الصورة غير صحيح. فإن النبي صلى الله عليه وسلم قتل جميع الرجال المقاتلة حكما في بني قريظة، في حين ورد الشرع بالنهي عن قتل الرهبان والشيوخ والفلاحين ممن لايقاتلون فعلا وإن كانوا من المقاتلة حكما وذلك في أهل الحرب وهم من أهل المنعة كما هو مقرر في فقه الجهاد.(7/73)
الموضع الثاني: تعميمه الأحكام في قوله (حُكْم... حُكْم... حُكْم...) فقد أبهم المراد بالحكم، هل أراد به أحكام القتال أم أحكام الإيمان والكفر؟. فالوقائع التي ذكرها فيها التسوية في أحكام القتال، أما أحكام الإيمان والكفر فلها أسباب وعلل أخرى. وقد ترتب على إبهام المؤلف للحكم المراد في كلامه أن استند إليه البعض في تكفير عوام المسلمين الساكتين في البلاد التي يحكمها بغير ماأنزل الله حكام مرتدون ممتنعون بالشوكة، لأن المؤلف أجرى على الساكت حكم المحارب في الديار الممتنعة، فكان يجب عليه التفصيل في هذا الموضع ونظراً لأهمية المسألة وكونها من النوازل ولكثرة الجدل القائم حولها أعرض لها بإيجاز فيما يلي من جهتين: من جهة أحكام الإيمان والكفر ومن جهة أحكام القتال، وكلامي هنا عن الساكتين بهذه البلاد وهم جمهور أهلها، أما من ظهرت منه موافقة ورضا أو إعانة للحكام الكافرين على كفرهم فالكلام فيه يأتي إن شاء الله عند نقد كتاب (الرسالة الليمانية في الموالاة) كما وعدت من قبل. أما بالنسبة للساكتين عن إعانة الحكام الكفار وعن الانكار عليهم وهم الأغلبية الصامتة بهذه البلاد، فأحكامهم على النحو التالي:
أولا: من جهة أحكام الإيمان والكفر.
فالساكت بهذه البلاد لايخلو حاله من حال من ثلاث: أن يكون ظاهره الكفر أو يكون ظاهره الإسلام أو لا يظهر منه شيء يدل على إسلام أو كفر.
1 ــ فمن كان ظاهرُهُ الكفر من كافر ٍ أصلي أو مرتد.
فهو كافر حكماً، كالنصراني واليهودي والشيوعي الملحد والمرتد بترك الصلاة أو سبّ الدين أو عبادة المقبورين بالدعاء والاستغاثة والنذر والذبح أو غيرها من أسباب الردّة.
2 ــ ومن كان ظاهره الإسلام.(7/74)
فهو مسلم حكماً، وهو المسمى بالمسلم مستور الحال، وهو من ظهرت منه علامة من علامات الإسلام ولم يعرف عنه ناقض من نواقضه. وذلك لأن علامات الإسلام هى أسباب ظاهرة رتب عليها الشارع الحكم لصاحبها بالإسلام، فيثبت له حكمه، إلا أن يعارض هذا الظاهر ظاهرٌ أقوى منه كإتيانه بناقض للإسلام فيُرَجَّح عليه، فما لم يُعرف عنه ناقض للإسلام فحكم الإسلام ثابت له. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من صلّى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم) الحديث رواه البخاري (391)، وقال ابن حجر في شرحه (وفيه أن أمور الناس محمولة على الظاهر، فمن أظهر شعائر الدين أجريت عليه أحكام أهله مالم يظهر منه خلاف ذلك) (فتح الباري) 1/ 497.
وقد أخطأ في حكم المسلم مستور الحال طائفتان:(7/75)
أ ــ طائفة كفّرت المسلم مستور الحال لسكوته عن الحاكم الكافر، باعتبار أن السكوت دليل رضا. وهؤلاء لهم سلف من بعض فرق الخوارج ــ وهم العوفية والبيهسية ــ الذين قالوا إذا كفر الإمام فقد كفرت الرعية الغائب منهم والشاهد، انظر (مقالات الإسلاميين) لأبي الحسن الأشعري، 1/ 192 و 194. وهذا قول فاسد، وقد سبق بيان أنه (لايُنسب إلى ساكت ٍ قولٌ) ويؤكد هذا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم (من رأي منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان) رواه مسلم، فقد دل هذا الحديث على أن الساكت بلسانه قد يكون منكراً بقلبه، وهو بذلك مازال مؤمنا، ومن هذا الباب أيضا قوله صلى الله عليه وسلم (إنه يُستعمل عليكم أمراء فتعرفون وتُنكرون، فمن كَرِه فقد بريء، ومن أنكر فقد سَلِمَ، ولكن من رضي وتابع) قالوا: يارسول الله ألا نقاتلهم؟ قال (لا، ما صَلّوا) رواه مسلم، وقال النووي في شرحه (فأما رواية من روي «فمن كره فقد بريء» فظاهرة، ومعناه من كره ذلك المنكر فقد بريء من إثمه وعقوبته، وهذا في حق من لايستطيع انكاره بيده ولا لسانه فليكرهه بقلبه وليبرأ) (صحيح مسلم بشرح النووي) 12/ 243. ومادام حال الساكت قد دخله الاحتمال فلا يجوز تكفيره بل يُحمل حاله على الاحتمال الحسن مادام مسلما مستور الحال وقد سبق في شرح قاعدة التكفير بيان أنه لايجوز التكفير بالأمور محتملة الدلالة ومنها السكوت المشار إليه هنا.(7/76)
ب ــ والطائفة الثانية التي أخطأت في هذا المقام: هى الطائفة التي توقفت في اثبات حكم الإسلام للمسلم مستور الحال بهذه البلاد واشترطت وجوب تبين حاله واختبار اعتقاده لأجل الحكم بإسلامه. وهذا يوافق قول طائفة من الخوارج ــ وهم الأخنسية ــ في التوقف والتبين. انظر (مقالات الإسلاميين) لأبي الحسن الأشعري، 1/ 180. وهذا التوقف في شأن مستور الحال بدعة، والدليل على أنه بدعة أن النصوص الدالة على اثبات حكم الإسلام لمن أظهر علامات الإسلام ورد معظمها في شأن أناس في دار الحرب أو في أثناء الحرب، فدل هذا على أن وجود من أظهر الإسلام في دار الحرب بين الكفار لا يوجب التوقف في اثبات حكم الإسلام له، ولو مات على حاله هذا لعومل معاملة المسلمين، لاخلاف بين العلماء في هذا، وكما لم يختلف العلماء في أن المسلم معصوم الدم والمال والذرية بإسلامه سواء كان في دار الإسلام أو دار الكفر، انظر (المغني مع الشرح الكبير) 9/ 335.ومن هذه النصوص المشار إليها. حديث أسامة بن زيد (أقتلته بعدما قال لا إله إلا الله) الحديث متفق عليه، وحديث ابن عمر في قتل خالد بن الوليد لأسارى بني جذيمة بعدما قالوا: صبأنا صبأنا ــ وتعني عندهم أسلمنا، وإنكار النبي صلى الله عليه وسلم عليه، وحديثه بالبخاري، ونحوها من النصوص. قال الحافظ ابن رجب الحنبلي رحمه الله (ومن المعلوم بالضرورة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل من كل من جاءه يريد الدخول في الإسلام الشهادتين فقط، ويعصم دمه بذلك ويجعله مسلماً، فقد أنكر على أسامة بن زيد قتله لمن قال «لا إله إلا الله» لَمَّا رفع عليه السيف واشتد نكيره عليه، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم ليشترط على من جاءه يريد الإسلام، ثم إنه يُلزم الصلاة والزكاة) (جامع العلوم والحِكم) صـ 72، ط دار الفكر.
والذين قالوا بالتوقف والتبيُّن لهم بعض الشبهات:(7/77)
* منها أنه لا يكفي الإقرار بالشهادتين للحكم بإسلام شخص ٍ ما بل لابد من تبيُّن التزامه بالشريعة، أهـ. والحق أن هذا الالتزام لابد منه لصحة الإسلام فمن أقر ولم يُصَلَّ فليس بمسلم، ولكن الصواب الذي دلّت عليه النصوص هو أنه يُحكم بإسلام الشخص بمجرد الإقرار ولايتوقف في الحكم عليه حتى يحين وقت الصلاة لينظر هل يصلي أم لا؟. بل إذا جاء وقت الصلاة أُلزِمَ بها، فإن لم يُصَلِّ حُكِمَ بردته ويستتاب. قال ابن تيمية رحمه الله (والأعراب وغيرهم كانوا إذا أسلموا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ألزِموا بالأعمال الظاهرة: الصلاة والزكاة والصيام والحج، ولم يكن أحد يُترك بمجرد الكلمة، بل كان من أظهر المعصية يُعاقب عليها) (مجموع الفتاوى) 7/ 258. وإنما يُلزَم بالصلاة في وقتها ويُعاقب على تركها لأن إقراره بالشهادتين متضمن للالتزام بالأحكام، وهذا هو الفرق بين قول السلف الذين قالوا إن الإقرار هو إخبار عن تصديق القلب وإنشاء للإلتزام بالشريعة وبين قول المعاصرين الذين لايرون الإقرار متضمنا للالتزام بل يعتبرون تبيّن الالتزام شرطاً مستقلاً للحكم بالإسلام، والنصوص التي أشرنا إليها أعلاه وكلام ابن رجب يبين صحة قول السلف وخطأ قول المعاصرين، وقال ابن رجب أيضا (من أقر بالشهادتين صار مسلماً حكماً، فإذا دخل في الإسلام بذلك أُلزِمَ ببقية خصال الإسلام) (جامع العلوم والحكم) صـ 21. وفي بيان تضمُّن الإقرارالالتزام بالشريعة قال ابن تيمية رحمه الله (ومراده بالإقرار الالتزام لا التصديق كما قال تعالى «وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنُن به ولتنصرنه، قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري؟ قالوا أقررنا، قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين» ــ آل عمران 81 ــ فالميثاق المأخوذ على أنهم يؤمنون به وينصرونه، وقد أمِروا بهذا، وليس هذا الإقرار تصديقاً فإن الله لم يخبرهم بخبر، بل أوجب(7/78)
عليهم إذا جاءهم ذلك الرسول أن يؤمنوا به وينصروه، فصدّقوا بهذا الإقرار والتزموه، فهذا هو إقرارهم ــ إلي أن قال ــ ولفظ الإقرار يتناول الالتزام والتصديق ولابد منهما) (مجموع الفتاوى) 7/ 396 ــ 397، ومثله في 7/ 530 ــ 531.
* ومن شبهات من قالوا بالتوقف والتبيُّن: القول بأن الحال تغيَّر، والناس اليوم يقولون الشهادة ولايعرفون معناها، فلابد من اختبارهم في فهمهم لمعناها وماتدل عليه من النفي والاثبات، أي الكفر بالطاغوت والإيمان بالله. وهذا الشرط لايدل عليه دليل شرعي بل يخالف ماكان عليه النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة إذ لم يتوقفوا في اثبات الإسلام لمن أقر بالشهادتين حتى يختبروه في فهمه المعنى المراد بهما، وقال صلى الله عليه وسلم (كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل) الحديث رواه البخاري، وقال صلى الله عليه وسلم (من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو ردّ) رواه مسلم. كما أن أصحاب هذا الشرط يُشكل عليهم حديث ذات أنواط، فالذين سألوا الرسول صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم ذات أنواط لم يعلموا أن هذا يناقض معنى الشهادتين. والصواب في هذا أن العلم بمعنى الشهادة كما في حديث عثمان بن عفان عند مُسلم والاخلاص فيها واليقين وغيرها من شروط صحة شهادة «لا إله إلا الله» المذكورة بكتب الاعتقاد، هذه شروط صحة الإسلام الحقيقي الذي ينفع صاحبه في الآخرة، وقد أشرت إلى هذا في بيان فرض العين من العلم بالفصل الثاني من الباب الثاني بهذا الكتاب وتراجع شروط صحة شهادة (لا إله إلا الله) في (معارج القبول) ط السلفية، 2/ 377 ــ 386، وفي (فتح المجيد) في شرح باب (الدعاء إلى شهادة لا إله إلا الله) صـ 88 في ط دار الفكر 1399هـ. أما في أحكام الدنيا فالإسلام الحكمي يثبت بالنطق بالشهادتين، ومن قَصَّر في دينه بعد ذلك حُكِمَ عليه بحكمه الشرعي من كُفْر ٍ أو فسق ٍ بشروطه كما قال ابن تيمية (ولم يكن أحد يُترك بمجرد الكلمة، بل كل من أظهر(7/79)
المعصية يعاقب عليها (مجموع الفتاوى) 7/ 258، ويعني بالكلمة الإقرار بالشهادتين. قال الشيخ سليمان بن عبدالله بن محمد بن عبدالوهاب رحمهم الله (وأما قول الإنسان «لا إله إلا الله» من غير معرفة لمعناها ولاعمل به، أو دعواه أنه من أهل التوحيد وهو لايعرف التوحيد بل ربما يُخلص لغير الله من عبادته من الدعاء والخوف والذبح والنذر والتوبة والإنابة وغير ذلك من أنواع العبادات فلا يكفي في التوحيد، بل لايكون إلا مشركا والحالة هذه) (تيسير العزيز الحميد) صـ 140، ط المكتب الإسلامي 1409هـ. وتأمل قوله (فلا يكفي في التوحيد...) ولم يقل (فلا يكفي للحكم بإسلامه)، فالحكم يثبت له بأي ٍ من علامات الإسلام، أما على الحقيقة فإن أتى ببقية شروط صحة الشهادتين نفعته في الآخرة وإلا فلا، ولايجب علينا اختباره في الدنيا للتحقق من اتيانه بهذه الشروط بل يثبت له حكم الإسلام ثم يُحاسب على تقصيره فيه. وكثيراً ما يدخل الخطأ على البعض من عدم التمييز بين الحكم بالإسلام في الظاهر الذي تجري عليه أحكام الدنيا من عصمة الدم والمال وصحة التناكح والتوارث، وبين الإسلام الحقيقي الذي تجري عليه أحكام الآخرة من الثواب والعقاب عند الله تعالى. قال ابن تيمية رحمه الله (فإن كثيراً ممن تكلم في «مسائل الإيمان والكفر» ــ لتكفير أهل الأهواء ــ لم يلحظوا هذا الباب، ولم يميّزوا بين الحكم الظاهر والباطن، مع أن الفرق بين هذا وهذا ثابت بالنصوص المتواترة والإجماع المعلوم، بل هو معلوم بالاضطرار من دين الإسلام) (مجموع الفتاوى) 7/472، وقال الشيخ حافظ حكمي رحمه الله (ثم اعلم ياأخي أرشدنا الله وإياك أن التزام الدين الذي يكون به النجاة من خزي الدنيا وعذاب الآخرة وبه يفوز العبد بالجنة ويزحزح عن النار إنما هو ماكان على الحقيقة في كل ماذُكِرَ في حديث جبريل ومافي معناه من الآيات والأحاديث، ومالم يكن منه على الحقيقة ولم يظهر منه مايناقضه أجريت عليه أحكام(7/80)
المسلمين في الدنيا ووكِلَت سريرته إلى الله تعالى، قال الله تعالى «فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلّوا سبيلهم» وفي الآية الأخرى «فإخوانكم في الدين» وغيرها من الآيات) (معارج القبول) 2/37. والحاصل أنه لاتوقف ولاتبين مع المسلم مستور الحال، ولايتوقف الحكم بإسلامه على تعلمه بعض مسائل الدين ــ بل يُحكم بإسلامه ثم يجب عليه تعلم الدين كما سبق في بيان فرض العين من العلم في الباب الثاني من هذا الكتاب ــ وليس هذا التعلم شرطاً للحكم بإسلامه. قال ابن حجر رحمه الله (قال الغزّالي: أسرفت طائفة فكفّروا عوام المسلمين وزعموا أن من لم يعرف العقائد الشرعية بالأدلة التي حرّروها فهو كافر، فضيقوا رحمة الله الواسعة وجعلوا الجنَّة مختصة بشرذمة يسيرة من المتكلمين. وذكر نحوه أبو المظفر بن السمعاني وأطال في الردّ على قائله، ونقل عن أكثر أئمة الفتوى أنهم قالوا: لايجوز أن تُكلَّف العوام اعتقاد الأصول بدلائلها، لأن في ذلك من المشقّة أشد من المشقّة في تعلم الفروع الفقهية. ــ إلى أن قال ابن حجر ــ قال القرطبي: هذا الذي عليه أئمة الفتوى ومن قبلهم من أئمة السلف، واحتج بعضهم بما تقدم من القول في أصل الفطرة وبما تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم الصحابة أنهم حكموا بإسلام من أسلم من جفاة العرب ممن كان يعبد الأوثان، فقبلوا منهم الإقرار بالشهادتين والتزام أحكام الإسلام من غير إلزام بتعلّم الأدلة) (فتح الباري) 13/ 349 ــ 352.(7/81)
* ومن شبهات الذين قالوا بالتوقف والتبيّن: أنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم التبيّن كما في حديث الجارية وكما في آية الممتحنة، وهذا حق ولكنه لايدل على العموم ولو كان هو القاعدة لأجراه النبي صلى الله عليه وسلم ثم الأئمة من بعده مع كل من يدخل في الإسلام. والصواب أن التبيّن في هذه الأحوال كان لأسباب معيَّنة وستأتي الإشارة إليها في القسم التالي وهذا من التبين الشرعي، أما تبيّن حال المسلم مستور الحال فهذا تبيُّن بدعي.
* ومن شبهات الذين قالوا بالتوقف والتبيّن: اشتراط شروط معينة لأجل الحكم بالإسلام لشخص ٍ ما. مثل أن يكون في جماعة إسلامية ومبايعاً لأمير هذه الجماعة سواء كانت جماعة معينة أو مطلقة. وهذا قد يجب أحيانا كما ذكرته في كتابي (العمدة) ولكنه ليس شرطا لصحة الإسلام لاحكماً ولا حقيقة ومن أدلة ذلك:
أن الرجل إذا أسلم بدار الحرب ولم يهاجر ــ إما لعجزه وإما لتمكنه من إقامة دينه بها ــ فهو مسلم رغم أنه ليس بجماعة ولا مبايعا لأمير. وقد وَصَف الله من كان هذا حاله بالإيمان ــ والمقصود الإيمان الحكمي ــ كما قال تعالى (وإن كان من قوم ٍ عدو لكم وهو مؤمن) النساء 92، وقال تعالى (ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم) الفتح 25.(7/82)
ومن أدلته وصف الباغي بالإيمان: وهو المسلم الخارج على جماعة المسلمين وإمامهم، فلم يبايعه أو بايعه فخرج عليه ونقض بيعته وشق عصا طاعته، فهو مع بَغْيه هذا مازال مسلماً كما قال تعالى (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما، فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي) الحجرات 9، فسمّاه مؤمناً مع البغي. وبهذا يتبين أن الجاهلية في قوله صلى الله عليه وسلم (من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية) رواه مسلم أن المراد بها مات عاصيا، وليس كافراً، إذ الباغي كذلك وهو مسلم، وقد بوّب البخاري لهذه المسألة في كتاب (الإيمان) من صحيحه في باب (المعاصي من أمر الجاهلية ولا يكفر صاحبها بارتكابها إلا بالشرك) وذكر فيه حديث أبي ذر مرفوعاً (إنك امرؤ فيك جاهلية).
ومن أدلته حديث حذيفة بن اليمان قال (فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام) قال صلى الله عليه وسلم (فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يأتيك الموت وأنت على ذلك) الحديث متفق عليه. فبيّن أن الإسلام يصح رغم غياب جماعة المسلمين ــ بالمعنى السياسي الشرعي ــ وغياب إمام المسلمين. ولم يقل له النبي صلى الله عليه وسلم إن الإسلام لايصح في هذه الحال. ولايجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة.
وقد أسلم كثير من الناس في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ولم يروه ولم يبايعوه ولم يقيموا بدار الإسلام في المدينة، ومن هؤلاء من مات في حياته صلى الله عليه وسلم كالنجاشي ملك الحبشة رضي الله عنه، ومنهم من عاش بعد وفاته صلى الله عليه وسلم وهم التابعون المخضرمون، ولم يقدح هذا في إسلام أيٍ من الفريقين.
فهذا مايتعلق بالرد على بعض شبهات القائلين بالتوقف في الحكم بإسلام المسلم مستور الحال.(7/83)
وقد رتب البعض على التوقف في شأن المسلم مستور الحال ترك الصلاة خلفه، وهذه بدعة أخرى، فقد قال ابن تيمية رحمه الله (وتجوز الصلاة خلف كل مسلم مستور باتفاق الأئمة الأربعة وسائر أئمة المسلمين، فمن قال: لا أصلي جمعة أو جماعة إلا خلف من أعرف عقيدته في الباطن فهذا مبتدع مخالف للصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة المسلمين الأربعة وغيرهم. والله أعلم) (مجموع الفتاوى) 4/542. وقال أيضا (يجوز للرجل أن يصلي الصلوات الخمس والجمعة وغير ذلك خلف من لم يعلم منه بدعة ولافسقا باتفاق الأئمة الأربعة وغيرهم من أئمة المسلمين، وليس من شرط الائتمام أن يعلم المأموم اعتقاد إمامه ولا أن يمتحنه فيقول: ماذا تعتقد؟، بل يصلي خلف مستور الحال) (مجموع الفتاوى) 23/ 351. أما إذا علم من إمام الصلاة فسق أو بدعة فحكمه كما قال ابن تيمية (مازال المسلمون من بعد نبيهم يصلون خلف المسلم المستور، ولكن إذا ظهر من المصلي بدعة أو فجور وأمكن الصلاة خلف من يعلم أنه مبتدع أو فاسق مع إمكان الصلاة خلف غيره، فأكثر أهل العلم يصححون صلاة المأموم، وهذا مذهب الشافعي وأبي حنيفة، وهو أحد القولين في مذهب مالك وأحمد، وأما إذا لم يمكن الصلاة إلا خلف المبتدع أو الفاجر كالجمعة التي إمامها مبتدع أو فاجر وليس هناك جمعة أخرى فهذه تُصلى خلف المبتدع والفاجر عند عامة أهل السنة والجماعة. وهذا مذهب الشافعي وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل وغيرهم من أئمة أهل السنة بلا خلاف عندهم. وكان بعض الناس إذا كثرت الأهواء يحب أن لايصلي إلا خلف من يعرفه على سبيل الاستحباب كما نُقل ذلك عن أحمد أنه ذكر ذلك لمن سأله. ولم يقل أحمد إنه لاتصح إلا خلف من أعرف حاله) (مجموع الفتاوى) 3/280. ولشيخ الإسلام كلام مبسوط في هذه المسألة في (مجموع الفتاوى) 23/ 340 ــ 359. وقد نقل شارح العقيدة الطحاوية معظم كلام ابن تيمية هذا عند شرحه لقول الطحاوي (ونرى الصلاة خلف كل بر وفاجر من أهل القبلة(7/84)
وعلى من مات منهم) (شرح العقيدة الطحاوية) صـ 421 ــ 426، ط 1403هـ.
وحتى لو كان المسلم مستور الحال هو في الحقيقة كافراً ــ كبعض الشيوعيين والعلمانيين والمحاربين لله ولرسوله ــ وظهرت منه علامة الإسلام كالصلاة فحكم رجل بإسلامه بما ظهر منه، وصَلَّى خلفه وهو لايعلم حقيقته وأنه كافر كفراً ظاهراً فصلاته صحيحة، قال ابن قدامة رحمه الله (إذا صلى خلف من شك في إسلامه أو كونه خنثى فصلاته صحيحة مالم يَبنْ كفره وكونه خنثى مشكلا، لأن الظاهر من المصلين الإسلام سيّما إذا كان إماما، والظاهر السلامة من كونه خنثى سيّما من يؤم الرجال، فإن تبين بعد الصلاة أنه كافر أو خنثى فعليه الإعادة على مابيّنا. وإن كان الإمام ممن يُسلم تارة ويرتد أخرى لم يُصل خلفه حتى يعلم على أي دين هو) (المغني مع الشرح الكبير) 2/34. فإذا كانت صلاته خلف من يشك في كفره صحيحة، فصلاته خلف من يجهل كفره صحيحة من باب أَوْلى.
هذا ما يتعلق بالمسلم مستور الحال وهو من أظهر علامات الإسلام فحُكِمَ بإسلامه ولايعرف عنه ناقض من نواقض الإسلام.
(فائدة) علامات الإسلام الحكمي.(7/85)
وهى العلامات التي إذا ظهرت من شخص ٍ حُكم له بالإسلام، ويجب أن تكون من خصائص الإسلام التي لايشارك أهلَه فيها غيرُهم من أهل الملل الأخرى. فالصدقة وبر الوالدين وإغاثة الملهوف كلها من شُعب الإيمان ولكن لايختص بفعلها المسلم بل يفعلها المسلم والكافر، ويدل على ذلك حديث حكيم بن حزام أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أرأيت أموراً كنت أتحنث بها في الجاهلية من صدقة ٍ أو عتق ٍ أو صلة رحم، أفيها أجر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أسلمت على ما أسلفت من خير) متفق عليه، والتحنث: التعبد. فلابد أن تكون علامات الإسلامي الحكمي من خصائص الإسلام. قال ابن تيمية رحمه الله (وكل حُكم عُلِّق بأسماء الدين من إسلام وإيمان وكفر ونفاق وردّة وتهوّد وتنصُّر إنما يثبت لمن اتصف بالصفات الموجبة لذلك) (مجموع الفتاوى) 35/ 227. وقال شارح العقيدة الطحاوية (وهنا مسائل تكلم فيها الفقهاء كمن صلى ولم يتكلم بالشهادتين، أو أتى بغير ذلك من خصائص الإسلام ولم يتكلم بهما هل يصير مسلماً أم لا؟ والصحيح أنه يصير مسلما بكل ما هو من خصائص الإسلام.) (شرح العقيدة الطحاوية) ط المكتب الإسلامي 1403هـ، صـ 75. وعلامات الإسلام الحكمي قسمان: علامات تكفي بذاتها، وقرائن لا يحكم بها إلا بعد التبين وهذا بيانها باختصار:
أما العلامات التي تكفي بذاتها لاثبات حكم الإسلام لصاحبها، فمنها.
أ ــ النطق بالشهادتين: للحديث (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله) الحديث متفق عليه، وحديث أسامة بن زيد (أقتلته بعدما قال لا إله إلا الله) الحديث متفق عليه، وغيرها كثير، وفيها تفصيل راجعه في (نيل الأوطار 8/ 12) و(المغني مع الشرح الكبير) 10/ 100 ــ 102.(7/86)
ب ــ قول الشخص (إني مسلم) كما في حديث فرات بن حيان عند أحمد وأبي داود (نيل الأوطار، 8/154). أو قوله (أسلمت لله) كما في حديث المقداد بن الأسود (أرأيت إن لقيت رجلاً من الكفار فاقتتلنا) الحديث متفق عليه. أو قوله مايدل على إرادة الإسلام كما في حيث قتل خالد بن الوليد لأسارى بني جَذِيمة بعد قولهم صبأنا (نيل الأوطار، 8/ 9).
جـ ــ الصلاة منفرداً أو في جماعة: لحديث أنس (من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم) الحديث رواه البخاري. ونقل القرطبي عن إسحاق بن راهويه الإجماع على ذلك (تفسير القرطبي) 8/ 207. وانظر (المغني مع الشرح الكبير) 10/ 102 ــ 103.
د ــ الأذان: رفعه أو ردّده، لأنه متضمن للشهادتين (فتح الباري، 2/ 90). وفيه حديث أنس في الغزو والكف عمن يسمع منهم الأذان، رواه البخاري. وراجع (نيل الأوطار) 8/69.
هـ ــ الحج: وفيه خلاف لأن المشركين كانوا يحجون في الجاهلية، والصحيح أنه علامة لأن النبي صلى الله عليه وسلم منعهم عن ذلك عام 9هـ إذ أعلمهم بأن (لايحج بعد العام مشرك) الحديث رواه البخاري، فأصبح الحج من خصائص الإسلام. وانظر (المغني مع الشرح الكبير) 10/ 103.
و ــ شهادة رجل مسلم له: كشهادة النبي صلى الله عليه وسلم للنجاشي أصحمة لما صلى عليه صلاة الجنازة يوم وفاته ولم يعلم الصحابة بإسلامه إلا حينئذ، وحديثه متفق عليه. وكشهادة ابن مسعود بإسلام سهيل بن بيضاء في قصة أسارى بدر وحديثه رواه الترمذي وحسّنه (نيل الأوطار، 8/148).
ز ــ التبعية للوالدين المسلمين أو أحدهما: وهذه يحكم بها بإسلام الأطفال دون البلوغ.
أما القرائن التي لا يحكم بها إلا بعد التثبت، فمنها:(7/87)
أ ــ تحية الإسلام: فمن ألقى تحية الإسلام (السلام عليكم) فهى قرينة على إسلامه وليست قاطعة إذ قد يقولها الكافر عادة ً أو تقيّة ً أو مجاملة ً فيلزم التثبت، ذكره القرطبي في تفسيره (5/ 339) وابن حجر في الفتح (8/259). في تفسير قوله تعالى (إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا) النساء 94 مع حديث ابن عباس المتفق عليه في سبب نزولها وأنها فيمن ألقى التحية فَعَدَا عليه بعض المسلمين فقتله. وإنما لم تكن التحية قاطعة لأن غير المسلم قد يقولها كما في حديث أنس (إذا سلّم عليكم أهل الكتاب فقولوا: وعلكيم) متفق عليه.
ب ــ الهدي الظاهر (السيما) من الثياب واللحية والشعر والعمامة وغيرها، قال محمد بن الحسن الشيباني رحمه الله في (السير الكبير) (وإذا دخل المسلمون مدينة من مدائن المشركين عَنوة فلا بأس أن يقتلوا من لقوا من رجالهم إلا أن يروا رجلاً عليه سيماء المسلمين أو سيماء أهل الذمة للمسلمين فحينئذ يجب عليهم أن يتثبتوا في أمره حتى يتبين لهم حاله) أهـ. قال الشارح الإمام السرخسي (لأن تحكيم السيما أصل فيما لايوقف على حقيقته، قال تعالى «سيماهم في وجوههم» الفتح 29، وقال تعالى «تعرفهم بسيماهم» البقرة 273، وقال تعالى «يُعرف المجرمون بسيماهم» الآية، الرحمن 41، ومتى وقع الغلط في القتل لايمكن تداركه، وليس في تأخيره إلى أن يتبين الأمر تفويت شيء على المسلمين، فلهذا ينبغي لهم أن يتثبتوا في أمره حتى يتبين لهم حاله، وهذا لأن السيماء في كونه محتملا لايكون دون خبر الفاسق، وقد أُمِرنا بالتثبت هناك، فها هنا أولى) (السير الكبير) 4/ 1444.(7/88)
وهناك أمور أخرى يستدل بها على الإسلام الحكمي كتلاوة القرآن، والقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغيره من الوظائف الشرعية، والجهاد في سبيل الله تعالى، وفي كل هذا تفصيل. ويمكن تقسيم هذه العلامات والقرائن بأكثر من طريقة، وبسط هذا بكتابي (الحجة في أحكام الملة).
فهذا ما يتعلق بمستور الحال ــ وهم القسم الثاني من أقسام الساكتين ببلاد المسلمين التي يحكمها حكام مرتدون بغير شريعة الإسلام ــ وهو من كان ظاهره الإسلام ولايُعرف عنه ناقض من نواقضه. وسُمِّي هذا بمستور الحال لأنه لم يُخْتَبَر حقيقة أمره وعدالته الباطنة، وقد بَيَّنْتُ معنى (العدالة الباطنة) في الباب الخامس من هذا الكتاب عند الكلام في شروط المفتي. وهل يجب البحث عن عدالته الباطنة؟. والجواب: يجب البحث عنها فيما تشترط له العدالة الباطنة كتزكية الشهود عند القاضي، وفي الولايات العامة كالإمامة الكبرى والقضاء، وانظر في هذا (الأشباه والنظائر) للسيوطي، صـ 612 ــ 616، وصـ 750، ط دار الكتاب العربي 1407هـ. وطرق معرفة العدالة الباطنة هى كما قال ابن تيمية (ومعرفة أحوال الناس: تارة تكون بشهادات الناس، وتارة تكون بالجرح والتعديل وتارة تكون بالاختبار والامتحان) (مجموع الفتاوى) 15/ 330.
فهذا القسم الثاني من الساكتين، ثم نتكلم في القسم الثالث وهو من لم يظهر منه شيء.
3 ــ من لم يظهر منه شيء يدل على إسلام أو كُفر.
فهذا يُسمَّى مجهول الحال، ولا يقال: (المسلم مجهول الحال) كما قلنا في القسم الثاني (المسلم مستور الحال)، لأننا إذا قلنا (المسلم) فقد حكمنا له بالإسلام ولم يبق حاله مجهولاً.
وحكم مجهول الحال في هذه البلاد: هو التوقف في الحكم عليه ولايستصحب له أصل معين، ولايبحث عن حاله، إلا أن تدعو الحاجة إلى معرفة حكمه فيتبيَّن أمره، ولايُحكم عليه إلا بظاهر، وعند العجز التام عن اثبات الظاهر يُحكم له بحكم الدار مع اعتبار حال سكانها.(7/89)
وباختصار يمكن القول بأن مجهول الحال في هذه البلاد: يُتوقف في الحكم عليه ويُتبين أمره عند الحاجة.
وهذا شرح موجز للعبارة الأولى:
أ ــ أما التوقف في الحكم عليه: فلأن الشارع رتب الحكم بالإسلام أو الكفر على أسباب ظاهرة، وهذا لم يظهر منه شيء فلا يثبت له حكم، وقد قال تعالى (ولاتقف ماليس لك به علم) الإسراء 36.
ب ــ وأما أنه لا يُستصحب له أصل معين: فلأن الاستصحاب أضعف الأدلة ولايثبت به حُكم إلا عند العجز عن اثبات ظاهر يُحكم به، واثبات الظاهر بالنسبة لمجهول الحال الحيّ ممكن بالتبيُن والتحري فلا يُعمل باستصحاب الأصل. وتفصيل هذا الكلام: هو أن الأصل الذي يستصحب للمجهول في كلام الفقهاء هو حكم الدار مع اعتبار ديانة سكانها، فالمجهول في دار الإسلام يُحكم بإسلامه، ومع ذلك فإن اللقيط في قُرى أهل الذمة في دار الإسلام يُحكم بكفره لأنه منهم في الغالب، والمجهول في دار الكفر يُحكم بكفره، ومع ذلك فإن اللقيط في دار الكفر التي يقطنها بعض المسلمين محكوم بإسلامه في وجه ٍ تغليبا لحكم الإسلام. فالأصل المستصحب للمجهول هو حكم الدار مع اعتبار ديانة سكانها، انظر (المغني مع الشرح الكبير) 6/ 375، و(أحكام أهل الذمة) لابن القيم، 2/518 ــ 519، ط دار العلم للملايين 1983. ومع ذلك فلم يقل أحد من العلماء بالعمل بهذا الاستصحاب إلا عند العجز التام عن اثبات علامة ظاهرة يُعمل بها، فلم يحكموا بهذا الاستصحاب إلا في اللقيط والميت المجهول الذي ليس عليه علامة، قال ابن قدامة رحمه الله (دار الإسلام يُحكم بإسلام لقيطها ويثبت للميت فيها إذا لم يعرف أصل دينه حكم الإسلام في الصلاة عليه ودفنه وتكفينه من الوقف الموقوف على أكفان موتى المسلمين) (المغني مع الشرح الكبير) 12/215. فهذه من الصور التي يُعجز فيها عن اثبات ظاهر فيُعمل بالأصل. ومثاله أيضا ماقاله ابن رجب الحنبلي رحمه الله (لو وجد في دار الإسلام ميت مجهول الدين: فإن لم يكن عليه(7/90)
علامة الإسلام ولا الكفر أو تعارض فيه علامة الإسلام والكفر صلى عليه نَصَّ عليه، فإن كان عليه الكفر خاصة فمن الأصحاب من قال يصلي عليه والمنصوص عن أحمد أنه لايصلي عليه ويدفن، وهذا يرجع إلى تعارض الأصل والظاهر إذ الأصل في دار الإسلام الإسلام والظاهر في هذا الكفر، ولو كان الميت في دار الكفر فإن كان عليه علامات الإسلام صلى عليه وإلا فلا، نص عليه أحمد في رواية على بن سعيد، وهذا ترجيح للظاهر على الأصل ها هنا كما رجحه في الصورة الأولى) (القواعد الفقهية) لابن رجب، صـ 345، ط دار المعرفة، ومعنى (نصّ عليه) أي أحمد بن حنبل إما المذهب، وبهذا ترى أن الظاهر يقدم دائما على استصحاب الأصل الذي لايُعمل به إلا عند العجز عن اثبات الظاهر. أما العلامات التي يستدل بها على دين الميت فمثل الختان والهدي الظاهر كما قال ابن مُفلح الحنبلي (قال أحمد في المقتول بأرض حرب «يستدل عليه بالختان والثياب» فثبت أن للسيما حكماً في هذه المواضع في باب الحكم بالإسلام والكفر) (الفروع) 6/ 168. ألا ترى كيف قدم السيما في الحكم على الميت قبل اعتبار الأصل؟ مع أن السيما من القرائن التي تحتاج إلى تبيُّن وليست من العلامات المستقلة، وكذلك الختان ليس من خصائص المسلمين، فقد كان العرب في الجاهلية يختتنون وكذلك اليهود كما ورد في حديث هرقل، وفيه قال (فمن يختتن من هذه الأمة؟ قالوا: ليس يختتن إلا اليهود ــ إلى قوله ــ وسأله عن العرب، فقال: هم يختتنون) الحديث متفق عليه.(7/91)
فلم يقل العلماء باستصحاب حكم الدار إلا عند العجز عن اثبات ظاهر يُحكم به كما في اللقيط والميت الذي ليس عليه علامة، فإذا كانت عليه علامة ــ ولو كانت قرينة كالختان والسيماء ــ حُكم بها تغليبا للظاهر على الأصل، قال ابن تيمية رحمه الله (الظاهر يقدم على الاستصحاب، وعلى هذا عامة أمور الشرع ــ إلى قوله ــ إن التمسك بمجرد استصحاب حال العدم أضعف الأدلة مطلقا، وأدنى دليل يُرجح عليه) (مجموع الفتاوى) 23/51 ــ 16. وقال ابن تيمية أيضا (أجمع المسلمون وعُلم بالاضطرار من دين الإسلام: أنه لايجوز لأحد أن يعتقد ويفتي بموجب هذا الاستصحاب والنفي إلا بعد البحث عن الأدلة الخاصة إذا كان من أهل ذلك، فإن جميع ماأوجبه الله ورسوله وحرَّمه الله ورسوله مُغَيِّر لهذا الاستصحاب، فلا يوثق به إلا بعد النظر في أدلة الشرع لمن هو من أهل ذلك) (مجموع الفتاوى) 29/ 166. وكلام شيخ الإسلام هنا وإن كان في العمل بالاستصحاب كدليل شرعي: أنه لايُحكم به في إباحة أو تحريم إلا بعد البحث عن غيره من الأدلة لأنه أضعفها وكل دليل غيره مقدم عليه، فكلامه هذا جارٍ أيضا في مسألتنا هذه: أنه لايقال باستصحاب حكم الدار في اثبات إسلام أو كفر إلا بعد البحث عن العلامات الظاهرة المُغَيِّرة للأصل لأن هذه العلامات هى أسباب شرعية وضعها الشارع لترتيب الأحكام عليها، أما الاستصحاب فهو العمل بالأصل لعدم وجود دليل مُغَيِّر له، فإذا ظهر أدنى دليل رُجِّح عليه. ولهذا فإنه حيث يُعمل بالاستصحاب في اثبات إسلام أو كفر فإن أي دليل يظهر يُقدَّم عليه ويُغيِّر حكمه، كما قال ابن قدامة في حكم اللقيط (وفي الموضع الذي حكمنا بإسلامه إنما يثبت ذلك ظاهراً لا يقيناً لأنه يحتمل أن يكون وَلَدَ كافر ٍ، فلو أقام كافرٌ بيّنة أنه وَلَدَه وُلِدَ على فِراشه حكمنا له به) (المغني مع الشرح الكبير) 6/ 376.
والحاصل: أن مجهول الحال لا يستصحب في الحكم عليه أصل معين، وذلك لسببين:(7/92)
أحدهما: أن استصحاب الأصل (حكم الدار مع اعتبار ديانة سكانها) لايُعمل به في اثبات إسلام أو كفر إلا عند العجز عن اثبات ظاهر يُحكم به ــ كما في اللقيط والميت المجهول ــ وفيما عدا هاتين الصورتين فإنه يمكن اثبات ظاهر لمجهول الحال الحيّ بتبيُّن أمره، فلا يعمل بالاستصحاب مع إمكان اثبات الظاهر كما ذكره ابن تيمية ونقل فيه الإجماع. وننبه هنا على أن العمل بالاستصحاب في الميت المجهول إنما يكون في الأمور التي لاتنازع فيها ولا ضرر فيها على أحد كالصلاة عليه ودفنه، أما إذا ترتب على اثبات دينه تنازع أو خصومة كالتنازع في ميراثه إذا اختلف الورثة في دِينه فلا يصح استصحاب الأصل ولابد من البحث عن البينات والشهود، انظر (المغني مع الشرح الكبير) 12/ 214 ــ 216. وهذا مما يبيّن لك ضَعْف الاستصحاب كدليل.
والسبب الثاني: أن الأصل الذي يستصحب حكمه في هذه الأحوال (وهو حكم الدار مع اعتبار ديانة سكانها) قد دخله اختلاط كبير جعل صفته غير منضبطة، وهذا بالإضافة إلى السبب السابق يجعلنا نؤكد أنه لايعمل بهذا الأصل إلا في حالة العجز التام عن اثبات ظاهر يُحكم به، وهذا في اللقيط والميت المجهول كما سبق بيانه، وأما الاختلاط الذي دخله فحكم الدار (التي يحكمها حكام كافرون بأحكام كافرة) أنها دار كفر وهذا هو حكم البلاد التي نتكلم عنها ــ وستأتي إشارة موجزة فيما بعد لأحكام الديار إن شاء الله ــ وأما سكانها فهم خليط من المسلمين وغير المسلمين، فهذه البلاد كانت من قبل دار إسلام يتميز فيها المسلم عن غير المسلم، إلا أنه ومع تطبيق القوانين الوضعية اختلط المسلم بغير المسلم بلا تميز لسببين:(7/93)
أحدهما: عدم إلزام أهل الكتاب بالغيار الذي يُميِّزهم عن المسلمين ــ في الثياب والشَّعر والمراكب والأسماء والكُنى ــ لإسقاط العمل بعقد الذمة بموجب الدساتير والقوانين الوضعية التي ساوت بين السكان في الحقوق والواجبات على أساس مبدأ المواطنة وألغت مبدأ الهوية الدينية. ولُبس الغيار مما يميز بين الناس في دار الإسلام كما قال ابن القيم رحمه الله (إن الشروط المضروبة على أهل الذمة تضمّنت تمييزهم عن المسلمين في اللباس والشعور والمراكب وغيرها لئلا تفضي مشابهتهم إلى أن يُعامَل الكافر معاملة المسلم، فَسُدَّت هذه الذريعة بإلزامهم التميّز عن المسلمين) (اعلام الموقعين) 3/ 157.
والثاني: إقرار المرتدين على ماهم عليه بسبب عدم تجريم الردّة في القوانين الوضعية، أما في دار الإسلام فالأمر كما قال ابن قدامة (إن المرتد لايُقَر على ردته في دار الإسلام) (المغني مع الشرح الكبير) 12/ 214. وقد سبق بيان معنى هذا الكلام في قاعدة التكفير وأن المرتد في دار الإسلام يُستتاب فإن تاب وعاد إلى الإسلام وإلا قُتل، وبذلك لايبقى مرتد ردة ظاهرة في دار الإسلام. أما الآن فنحن نقطع بوجود كثير من المرتدين بهذه البلاد من تاركي الصلاة والساخرين بالدين وأهله ومن الذين يسبّون الدين ومن الشيوعيين والعلمانيين وعُبّاد القبور وغيرهم.
فمع التميز في دار الإسلام يكون مجهول الحال ــ الذي ليست عليه علامة تميزه ــ هو غالبا مسلم، لعدم إقرار المرتد بها ولتميز الذمي بالغيار، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم (تقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف) الحديث متفق عليه، فهذا مع نهيه عن بداءة أهل الكتاب بالسلام يدل على أن مجهول الحال بدار الإسلام محكوم بإسلامه. أما في هذه البلاد اليوم مع اختلاط المسلم بالكافر وعدم التميُّز لم يبق أصل منضبط يستصحب لمجهول الحال، ويكون الحكم عليه بإسلام أو كفر ضرب من التخرُّص والتخمين.(7/94)
لأجل هذا كله فإننا نرى أن مجهول الحال لايستصحب له أصل في اثبات إسلام أو كفر إلا في أضيق الحدود وذلك في حالة اللقيط والميت المجهول الذي ليس عليه علامة.
ونتابع شرح العبارة التي ذكرناها في حكم مجهول الحال، وقد شرحنا معنى قولنا (يتوقف في الحكم عليه ولايستصحب له أصل معين) ثم قلنا:
جـ ــ (ولا يبحث عن حاله، إلا أن تدعو الحاجة إلى معرفة حكمه فيُتبيَّن أمره). أما عدم البحث عن حال مجهول الحال فلأنه لم يجر عليه العمل بين المسلمين، فلم يكونوا يعترضون كل مجهول ليتبينوا حاله، وهذا مندرج تحت عموم قوله صلى الله عليه وسلم (من حُسن إسلام المرء تركه مالا يعنيه) قال النووي: حديث حسن رواه الترمذي وغيره. أما اعتراض الناس وتبين أحوالهم فهو شأن الخوارج كما هو ثابت عنهم في كتب الفِرَق.
وقولنا (إلا أن تدعو الحاجة....) فهذا هو الذي جرى عليه العمل: التبيُّن للحاجة، وعليه تدل الأدلة، والمقصود بالتبيُّن هنا: تبيّن دين مجهول الحال، ومن المواضع التي يُحتاج فيها إلى ذلك:(7/95)
* العِتق: لما أوجبه الله من تحرير الرقبة المؤمنة في مواضع، قال تعالى (فتحرير رقبة مؤمنة) النساء 92، أما العبد الكافر فلا يُجزيء تحريره في مواضع، كما أنه مكروه عموما إذ قد يلحق بعد حريته بدار الكفر ويبقى على كفره أما بقاؤه بين المسلمين ففيه تعريض له بالإسلام. فالعتق من المواضع التي يجب فيها تَبيّن دين الرقيق، عن معاوية بن الحكم السلمي قال: قلت: يارسول الله، جارية لي صككتها صَكّة، فعظم ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: أفلا أعتقها؟ قال (ائتني بها)، قال: فجئت بها، قال (أين الله)؟ قالت: في السماء، قال (من أنا)؟، قالت: أنت رسول الله. قال (اعتقها فإنها مؤمنة) الحديث رواه مسلم. نقل ابن تيمية عن أبي عثمان الصابوني قوله (وإمامنا أبو عبدالله الشافعي احتج في كتابه «المبسوط» في مسألة اعتاق الرقبة المؤمنة في الكفّارة، وأن الرقبة الكافرة لايصح التكفير بها، بخبر معاوية بن الحكم، وأنه أراد أن يعتق الجارية السوداء عن الكفارة، وسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن اعتاقه إياها، فامتحنها ليعرف أنها مؤمنة أم لا) (مجموع الفتاوى) 5/192. وحديث الجارية هذا يستدل به على أن التبين إنما يكون عند الحاجة وأن من أقر بما أقرت به حُكم له بالإسلام، وأخطأ في الاستدلال به فريقان: فريق استدل به على إطلاق التبين مع عموم الناس وأنه لايحكم لأحد بالإسلام إلا بعد امتحانه وهذا خطأ لأن التبين في الحديث كان لسبب، وفريق استدل به على أن الإيمان هو الإقرار ــ وهم فريق من المرجئة ــ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حكم لها بالإيمان بإقرارها، والمقصود بالإيمان في الحديث الإيمان الحكمي المرادف للإسلام الحكمي لا الإيمان الحقيقي، قال ابن تيمية رحمه الله (الإيمان الذي عُلّقت به أحكام الدنيا هو الإيمان الظاهر وهو الإسلام، فالمسمى واحد في الأحكام الظاهرة، ولهذا لما ذكر الأثرم لأحمد احتجاج المرجئة بقول النبي صلى الله عليه وسلم(7/96)
«اعتقها فإنها مؤمنة» أجابه بأن المراد حكمها في الدنيا حُكم المؤمنة، لم يُرد أنها مؤمنة عند الله تستحق دخول الجنة بلا نار إذا لقيته بمجرد هذا الإقرار) (مجموع الفتاوى) 7/416، وقد سبقت الإشارة إلى الفرق بين الإيمان الحكمي والإيمان الحقيقي عقب ذِكْر مراتب الإيمان في التنبيه الهام المذكور في التعليق على العقيدة الطحاوية.
* اثبات إسلام الشهود عند القاضي: هذا من المواضع التي يجب فيها تبين دين مجهول الحال، لأن الإسلام شرط في صحة الشهادة ــ على تفصيل ــ وإذا فرَّط القاضي في هذا توجَّه اللوم إليه ووقع ضمان الخطأ عليه. قال ابن قدامة (قال القاضي: ولابد من معرفة إسلام الشاهد ويحصل ذلك بأحد أربعة أمور (أحدها) إخباره عن نفسه أنه مسلم أو اتيانه بكلمة الإسلام (الثاني) اعتراف المشهود عليه بإسلامه (الثالث) خبرة الحاكم (الرابع) بيِّنة تقوم به) (المغني مع الشرح الكبير) 11/ 419 باختصار، وفيه ذكر طرق تبيُّن دين مجهول الحال.(7/97)
وفي الجملة فإن كل ما يشترط له معرفة الدين يجب فيه تبيّن دين مجهول الحال، كالنكاح والإجارة والشركة ومصارف الزكاة والوقف الذي لايجوز صرفه إلا لمسلم، ومواضع وجوب الدية كأن تقتل رجلا خطأ بحادث سيارة أو غيره وهو مجهول لك، فيجب تبين دينه ودين أوليائه فإن ثبت أنه مسلم وجبت عليك الدية ــ على عاقلتك ــ لأوليائه المسلمين إلا أن يعفوا كما تجب عليك الكفارة، فإن كان أولياء القتيل المسلم كافرين فلا تجب الدية وإنما الكفارة فقط لقوله تعالى (فإن كان من قوم ٍ عدو ٍ لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة) النساء 92، انظر (تفسير ابن كثير، 1/535) و (تفسير القرطبي، 5/324) و (المغني مع الشرح الكبير، 9/ 340). فإن كان القتيل نصرانياً أو مرتداً أو زانياً محصناً فلا يجب عليك لا دية ولا كفارة لأنه مهدر الدم. وحيث وجبت الدية تجب وإن لم يحكم بها قاض ٍ كما هو الحال في كثير من البلاد المحكومة بالقوانين الوضعية، والقاتل مسئول عنها أمام الله. وفي هذه الصورة لايكفي استصحاب الأصل للمقتول خطأ لما يترتب عليه من تنازع وحقوق بخلاف الميت المجهول الذي يستصحب له الأصل في حكم الصلاة عليه ودفنه إذ لاضرر في ذلك على أحد (راجع المغني مع الشرح الكبير، 12/ 215 ــ 216، وفيه أن العمل بالأصل يكون فيما لاتنازع فيه). فهذه الأمور ونحوها من المواضع التي يُحتاج فيها إلى تبيّن دين المجهول. وهذا هو التبيّن الشرعي (تبين دين مجهول الحال عند الحاجة إلى ذلك) في مقابل التبيّن البدعي الذي ذكرناه قبلاً (وهو التبيّن لاثبات الإسلام الحكمي للمسلم مستور الحال).(7/98)
ومن الأمور المتعلقة بمجهول الحال والتي ثار الجدل حولها هذه الأيام حكم الذبائح بهذه البلاد مع جهالة حال الذابح واحتمال كونه مرتداً بسبب إقرار المرتدين على ردتهم بهذه البلاد المحكومة بالقوانين الوضعية. فهل يتوقف عن أكل الذبائح بهذه البلاد؟ وهل يجب على من يريد شراء اللحم أن يتبين حال الذابح وقد يكون الذابح غير البائع؟.
والجواب: أن الكلام في هذه المسألة مبني على تحريم ذبيحة المرتد، وهو الصواب، وذهب الشوكاني رحمه الله إلى أن ذبيحة الكافر مباحة إذا سَمَّى الله عليها وأنه لايوجد دليل يحرمها (السيل الجرار، 4/ 64). وهذا خطأ ودليل التحريم ماذكره الشيخ منصور البهوتي في قوله (ولاتباح ذكاة مرتد، وإن كانت ردته إلى دين أهل الكتاب، ولامجوسي ولاوثني ولازنديق وكذا الدروز والتيامنة والنصيرية بالشام لقوله تعالى «وطعام الذين أوتوا الكتاب حِلٌّ لكم » المائدة 5 ــ فمفهومه تحريم طعام غيرهم من الكفار) (كشاف القناع) 6/ 205. وعلى هذا فالذبائح بهذه البلاد ثلاثة أقسام:
* إذا عُلم أن الذي ذكّاها مسلم مستور الحال أو كتابي (يهودي أو نصراني) فهذه حلال.
* وإذا عُلم أن الذي ذكّاها كافر كمرتد أو وثني فهذه عين الحرام وهى كالميتة في التحريم.(7/99)
* وإذا جُهل حال الذي ذكّاها فهذا موضع السؤال: فإذا كان ذلك في دار الإسلام فقد أجمع العلماء على شراء اللحم الموجود بالأسواق دون سؤال عن حِلّه، ومع أن الأصل في اللحوم الحظر (جامع العلوم والحِكَم لابن رجب صـ 60، والمغني مع الشرح الكبير 4/308) إلا أن الظاهر أن المسلمين لايقرون بيع مالا يحل بأسواقهم وحالهم محمول على الصحة والسلامة فقُدِّم هذا الظاهر على الأصل ومن هنا أجمعوا على شراء اللحم بدار الإسلام دون سؤال عن حِلّه، حتى قال الشيخ منصور البهوتي في شرح الإقناع (ويحل مذبوحٌُ منبوذ، أي ملقى بموضع يحل ذبح أكثر أهله، ولو جُهِلت تسمية الذابح، لأنه يتعذر الوقوف على كل ذبح ٍ وعملاً بالظاهر) (كشاف القناع) 6/212. وأما في البلاد التي نتكلم عنها، والتي يحتمل أن يكون بعض الذابحين فيها مرتدين، فالحِلّ والحرمة متوقفان على قوة الشبهة وضعفها: فإذا كثر المرتدون في موضع ٍ ما قويت الشبهة في اللحوم المجهولة وقدِّم الحظر فلا يشترى من هذا الموضع، وإذا قلَّ المرتدون في موضع ٍ ما ضعفت الشبهة في اللحوم المجهولة لأن ذبائح المرتدين وهى كالميتة اختلطت بمالا ينحصر من الذبائح المباحة فجاز الشراء. قال ابن تيمية رحمه الله (إذا اختلط الحرام بالحلال في عدد لاينحصر: كاختلاط أخته بأهل بلد، واختلاط الميتة والمغصوب بأهل بلدة، لم يوجب ذلك تحريم مافي البلد، كما إذا اختلطت الأخت بالأجنبية والمذكَّى بالميت، فهذا القدر المذكور لايوجب تحريم ذبائحهم المجهولة الحال) (مجموع الفتاوى) 21/532، وقال أيضا (والحرام إذا اختلط بالحلال فهذا نوعان:(7/100)
أحدهما أن يكون محرماً لعينه كالميتة والأخت من الرضاعة، فهذا إذا اشتبه بمالا يُحصر لم يحرم، مثل أن يعلم أن في البلدة الفلانية أختاً له من الرضاعة ولايعلم عينها، أو فيها من يبيع ميتة لايعلم عينها، فهذا لايحرم عليه النساء ولا اللحم. وأما إذا اشتبهت أخته بأجنبية أو المذكى بالميت حَرُمَا جميعا) (مجموع الفتاوى) 29/ 276. وقوله (وأما إذا اشتبهت.......) يعني به إذا اشتبهت بعدد منحصر أي قليل فهنا تكون الشبهة قوية ويقدم التحريم. وهذه القاعدة (الإباحة إذا اختلط الحرام بعدد لاينحصر ــ كبير ــ من الحلال، والحظر إذا اختلط الحرام بعدد منحصر ــ قليل ــ من الحلال) قال بها معظم أهل العلم، انظر (المغني مع الشرح الكبير) 1/51، و (بدائع الفوائد) لابن القيم 3/258، (القواعد) لابن رجب الحنبلي صـ 241، (الانصاف) لعلاء الدين المرداوي 1/78 ــ 79، (رسالة كشف الشبهات عن المشتبهات) للشوكاني صـ 16 ضمن (الرسائل السلفية) له.(7/101)
فالواجب على المسلم بهذه البلاد: أن يتحرى شراء اللحم ممن يثق بدينه من الذابحين، فإن تعذر سأل من يشتري منه اللحم عن حال الذابح وديانته، فإن تعذر عمل بقاعدة اختلاط الحرام بما ينحصر ومالا ينحصر من الحلال. ولا يجزيء عن هذا التحري والتبيّن مجرد التسمية عند أكل اللحم، فإن حديث (سمّوا عليه أنتم وكلوه) قد ورد فيما إذا عُلمَ أن الذابح مسلم ولكن شُك في هل سَمَّى الله وقت الذبح أم لا؟، ولم يرد هذا الحديث في جهالة دين الذابح، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: إن قوماً قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إن قوماً يأتوننا بلحم ٍ لاندري أذُكِرَ اسم الله عليه أم لا. فقال (سمّوا عليه أنتم وكلوه)، قالت: وكانوا حديثي عهد بالكفر. رواه البخاري (5507) أي أن الذابحين كانوا حديثي الإسلام قريبي العهد بالكفر وربما يجهلون وجوب التسمية عند الذكاة. وانظر (مجموع فتاوى ابن تيمية) 35/ 240. هذا ولا ينبغي أن تكون مسألة الذبائح المجهولة والأكل منها محل خصومة ونزاع بين المسلمين، لأنها مسألة اجتهادية، فقد يرى شخص أن الشبهة قوية في موضع فلا يأكل من ذبائحه ويكون رأي الآخر بخلافه، ومادام الأمر محتملا، فلا انكار في المحتملات، وإنما يُنكر في شيء صريح واضح كمن يأكل من ذبيحة مرتد ظاهر الردة فهذا كأكل الميتة يُنكر عليه.
وقد كان هذا كله في شرح قولنا في حكم مجهول الحال إنه (لايُبحث عن حاله، إلا أن تدعو الحاجة إلي معرفة حكمه فيتبين أمره).(7/102)
د ــ ثم قلنا (ولايُحكم عليه إلا بظاهر، وعند العجز التام عن اثبات الظاهر يُحكم له بحكم الدار مع اعتبار حال سكانها). هذا الكلام سبق شرحه وهو توكيد لما قلناه من أن الاستصحاب لايحكم به إلا عند العجز عن اثبات الظاهر كما في اللقيط والميت المجهول فيما لاتنازع فيه، وفيما عدا ذلك لايُحكم إلا بظاهر في اثبات دين المجهول فإن النبي صلى الله عليه وسلم حكم للجارية بالإقرار ولم يستصحب لها أصل معين، وكذلك القاضي في تبينه لإسلام الشهود لم يستصحب لهم أصلاً معيناً كما أسلفنا.
هذا ما يتعلق بحكم مجهول الحال وهو من لم يظهر منه إسلام أو كُفر، وهو القسم الثالث من أقسام الساكتين في هذه البلاد التي يحكمها حكام كافرون بأحكام الكفار والتي كانت من قبل ديار إسلام ومازال يسكنها كثير من المسلمين. وقد كان هذا التفصيل لإزالة الإشكال في تعميم الأحكام الذي ورد في كلام الأستاذ عبدالمجيد الشاذلي، خاصة وأنه لم يفرق بين أحكام الإيمان والكفر وأحكام القتال، أما أحكام الإيمان والكفر فقد سبق بيانها فيما مضى.
ثانيا: وأما من جهة أحكام القتال.
فالمسلم معصوم بإسلامه أينما وجد في دار الإسلام أو دار الحرب (المغني مع الشرح الكبير) 9/ 335، ولا يجوز قتله أثناء قتال الكفار ــ إذا كان مختلطاً بهم ويمكن تمييزه ــ إلا لضرورة، وهذه هي (مسألة تترس الكفار بالمسلمين). وإذا كان مختلطاً بهم ولا يمكن تمييزه عنهم بعلامة فلا مؤاخذة في قصده بالقتل والحال هذه، وهذه الصورة ذكرها ابن تيمية في (مجموع الفتاوي) 28/536 ــ 547، واستدل لها بحديث الجيش الذي يُخسف به بالبيداء، ويُبعث كل أحدٍ على نيته. أما إذا كان المسلم في هذه البلاد مميزاً وغير مختلط بالكفار حال القتال فلا سبيل إلى قتله. هذا والله تعالى أعلم.(7/103)
فهذه بعض المواضع من كتاب (حد الإسلام) لعبدالمجيد الشاذلي، التي أردت أن أنبه على مافيها من أخطاء وأمور اختلطت على المؤلف، والحق أن هذا ليس حصراً لأخطاء الكتاب ولكني أردت فقط أن أنبه على أخطائه في موضوع الإيمان والكفر، وإلا فإن الكتاب به أخطاء أخرى أعرضت عن ذكرها، ومنها مثلا في كلامه عن يوسف عليه السلام (في صـ 422) قال إنه كرسول لابد أن يكون مطاعاً للقاعدة (وماأرسلنا من رسول إلا ليُطاع بإذن الله) النساء 64 أهـ، ولاحجة له في هذه الآية لأن الإرادة فيها إرادة شرعية وهذه ليست متحتمة الوقوع وليست إرادة قدرية متحتمة الوقوع، ويدل على أنها ليست متحتمة الوقوع أن بعض الأنبياء لم يؤمن بهم أحدٌ من أقوامهم كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ــ في حديث سبقك بها عكاشة ـ (ويأتي النبي وليس معه أحد) الحديث متفق عليه، فهذا نبيٌّ يأتي يوم القيامة وحده لأنه لم يؤمن به أحد من قومه، فمعنى قوله تعالى (إلا ليطاع) أي أمر الله بطاعته شرعاً، ولكنه قد يُطاع وقد يُعصَى، ولا يطيعه إلا من كتب الله له ذلك في علمه فتتفق الإرادة القدرية في حق المطيع مع الإرادة الشرعية، ولذلك أعقب الله ذلك بقوله (إلا بإذن الله) أي لايطيع الرسول أحد إلا من شاء الله أن يؤمن وأذِنَ له في ذلك قدراً. ومن الأخطاء أيضا: عند كلامه في قصة حاطب بن أبي بلتعة قال إن مافعله ليس موالاة للكفار وهذا بخلاف النص ففيه نزل صدر سورة الممتحنة باتفاق أهل العلم وقال الله فيها (لاتتخذوا عدوي وعدوكم أولياء)، فنص على أن مافعله موالاة، ولكن الأستاذ الشاذلي أشكل عليه أن الموالاة لم توصف بغير الكفر في القرآن وحاطب لم يكفر فقال إن فعله ليس موالاة، وحَلّ هذا الإشكال سيأتي في نقدي لكتاب (الرسالة الليمانية في الموالاة) إن شاء الله، هذا والله تعالى أعلم.(7/104)
وبهذا أختم الكلام في الكتب الخاصة بموضوع الإيمان والكفر، وهى آخر مانذكره من كتب الاعتقاد الخاصة بالمرتبة الثالثة من مراتب الدراسة الشرعية. وبالله تعالى التوفيق.
بقيت ثلاثة موضوعات أرجأت الكلام فيها إلى آخر هذا المبحث كما ذكرت في خلاله، وهى أحكام الديار، ونقد كتابَيْ (القول القاطع فيمن امتنع عن الشرائع) و (الرسالة الليمانية في الموالاة). وهذا بيانها:
الموضوع الأول:
أحكام الديار
وفيه خمس مسائل:
1 ــ أساس تقسيم العالم إلى دارين. …2 ــ الأدلة على هذا التقسيم.
3 ــ تعريف دار الإسلام ودار الكفر. …4 ــ تغيّر صفة الدار.
5 ــ الأحكام المترتبة على اختلاف الديار.
وهذا شرح موجز لهذه المسائل:
المسألة الأولى: أساس تقسيم العالم إلى دارين.
اعلم أن أساس تقسيم العالم إلى دارين ــ دار الإسلام ودار الكفر ــ هو عموم بعثة النبي صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة: عموماً مكانياً لجميع أهل الأرض، وعموماً زمانياً من وقت بعثته صلى الله عليه وسلم وإلى يوم القيامة، ومع عموم بعثته وصَدْعِهِ بدعوته صلى الله عليه وسلم انقسم الخلق إلى مؤمن به وكافر، ثم فرض الله تعالى على المؤمنين الهجرة من بين الكافرين، وقيض الله لهم أنصاراً بالمدينة فكانت هى دار الهجرة ومجتمع المهاجرين وبها أنشأ رسول دولة الإسلام، وظل فرض الهجرة إلى المدينة قائما حتى فتح مكة، ثم ظلت فريضة الهجرة على كل مسلم يقيم بين الكافرين، فتميزت الديار بذلك إلى دار الإسلام وهى مجتمع المسلمين وموضع سلطانهم وحكمهم، ودار الكفر وهى مجتمع الكافرين وموضع سلطانهم وحكمهم، ثم فرض الله على المؤمنين قتال الكفار إلى قيام الساعة فسميت دارهم أيضا دار الحرب.
أما الأدلة على ذلك:(7/105)
فالأدلة على عموم بعثته صلى الله عليه وسلم كثيرة منها: قوله تعالى (تبارك الذي نزّل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً) الفرقان 1، وقال تعالى (قل ياأيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا) الأعراف 158، وقال تعالى (وماأرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً) سبأ 28، وقال تعالى (وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم، فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ) آل عمران 20، وقال تعالى (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يُقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين) آل عمران 85. ونحوها من الآيات. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أُعطِيتُ خمساً لم يُعطهن أحدٌ من الأنبياء قبلي: نُصِرت بالرعب مسيرة شهر، وجُعلت لي الأرض مسجداً وطَهوراً، وأيُّما رجل ٍ من أمتي أدركته الصلاة فليُصَلِّ، وأحِلت لي الغنائم، وكان النبي يُبعث إلى قومه خاصة وبُعثت إلى الناس كافة، وأُعطيت الشفاعة) رواه البخاري عن جابر رضي الله عنه، وعموم البعثة من المعلوم من الدين بالضرورة.(7/106)
وأما انقسام الخلق بدعوته صلى الله عليه وسلم إلى مؤمن به وكافر، فهذه سنة الله القدرية مع جميع الرسل، كما أنها سنته في خلقه ولابد من وجود الفريقين: المؤمنين والكافرين في الأرض إلى قبيل قيام الساعة ــ حتى تهب الريح الطيبة ــ لتتحقق سنة الابتلاء قال تعالى (ولقد بعثنا في كل أمة ٍ رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقّت عليه الضلالة، فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين) النحل 36، وقال تعالى (وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً من المجرمين) الفرقان 31، وقال تعالى (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة، ولايزالون مختلفين إلا من رحم ربك، ولذلك خلقهم، وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجِنّة والناس أجمعين) هود 118 ــ 119. وفي الحديث (ومحمد ٌ فرَّق بين الناس) رواه البخاري عن جابر (7281)، وفي الحديث القدسي (وقاتل بمن أطاعك من عصاك) رواه مسلم عن عياض بن حمار. فلا بد من وجود المؤمن والكافر في الخلق لتتحقق سنة الابتلاء كما قال تعالى (ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم، ولكن ليبلو بعضكم ببعض) محمد 4، وقال تعالى (وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون وكان ربك بصيراً) الفرقان 20، وفي الحديث القدسي قال الله عزوجل للنبي صلى الله عليه وسلم (إنما بعثتك لأبتليك وابتلي بك) رواه مسلم عن عياض بن حمار.(7/107)
وأما فرض الهجرة على المسلم من بين الكافرين، فمن أدلته قوله تعالى (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض، قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها، فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيراً) النساء 97، فالوعيد الوارد في الآية على ترك الهجرة يدل على وجوبها ــ لأن ماورد في تركه وعيد فهو واجب ــ إلا من عذر كما في الآيات التالية لها، ويدل عليه أيضا الوعيد الوارد في الأحاديث الآمرة بالهجرة كقوله صلى الله عليه وسلم (أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين، لاتراءى نارهما) الحديث رواه أبو داود والترمذي بإسناد صحيح مرسلاً. وقال صلى الله عليه وسلم (لاتنقطع الهجرة مادام العدو يقاتل) رواه أحمد، وقال الهيثمي رجاله رجال الصحيح.
وأما فرض قتال الكافرين على المسلمين فأدلته معروفة، ومنها قوله تعالى (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) الآية ــ التوبة 5، وقوله تعالى (وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة) الآية ــ التوبة 36، وقوله صلى الله عليه وسلم (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله) الحديث متفق عليه، وقوله صلى الله عليه وسلم (بُعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يُعبد الله وحده) الحديث رواه أحمد.(7/108)
وهنا تنبيه هام: فنحن إذ قلنا إن عموم الرسالة هو أساس تقسيم العالم إلى دارين، فإنه لا يشترط وجود الدارين معاً دائماً في الدنيا، ولايشترط لصحة وصف دار ٍ ما بأنها دار كفر أن توجد في الدنيا دار إسلام، فليس هذا داخلا في مناط الحكم على الديار كما سيأتي بيانه إن شاء الله. بل قد تخلو الأرض من دار الإسلام في وقت ٍ ما ولايوجد فيها إلا دار الكفر، كما كان الحال في صدر الإسلام قبل الهجرة إلى المدينة، وكما هو الحال في زماننا هذا، ويشير إليه حديث حذيفة بن اليمان في الفتن وفيه قال (فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم، قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟، قال صلى الله عليه وسلم: فاعتزل تلك الفِرق كلها ولو أن تعض ّ بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك) الحديث متفق عليه.
هذا ما يتعلق بأساس تقسيم العالم إلى دارين.
المسألة الثانية: الأدلة على هذا التقسيم.
ذهب بعض المعاصرين ــ مثل د. وهبة الزحيلي في كتابه (آثار الحرب في الفقه الإسلامي) ــ إلى أن تقسيم العالم إلى دارين لا أساس له من الكتاب والسنة وإنما هو اجتهاد من الفقهاء بعد عصر النبوة وعصر الصحابة.
ويجب أن يكون معلوماً أن هذا التقسيم مجمع عليه بين علماء الأمة من السلف والخلف. وأن الإجماع لابد أن يستند إلى دليل من الكتاب أوالسنة كما قال ابن تيمية رحمه الله، انظر (مجموع الفتاوى) 7/ 39، ونحن نذكر هنا بعض الأدلة على هذا التقسيم:(7/109)
1 ــ فمن كتاب الله تعالى: قوله تعالى (وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا) إبراهيم 13، وقوله تعالى (قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك ياشعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا) الأعراف 88. فالإضافة في كلمتي (أرضنا) و (قريتنا) ــ وهى إضافة الأرض والقرية إلى ضمير المتكلمين (نا) ــ هى إضافة تملك، فأرضنا وقريتنا تعني أرض الكافرين وقرية الكافرين التي يملكها الكفار ويتحكمون فيها بالأمر والنهي والسلطان ولهذا هدّدوا رسلهم، وهذه هى صفة دار الكفر.
وقوله تعالى (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم، قالوا فِيمَ كنتم، قالوا: كنا مستضعفين في الأرض، قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها) النساء 97، وقوله تعالى (ياأيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن، الله أعلم بإيمانهن، فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار) الممتحنة 10، وقوله تعالى (والذين آمنوا ولم يهاجروا مالكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا) الأنفال 72، فهذه النصوص الخاصة بالهجرة تدل دلالة واضحة على الدارين دار الإسلام ودار الكفر إذ الهجرة إذا أطلقت في نصوص الشرع تعني الانتقال من دار الكفر إلى دار الإسلام.
ومن النصوص في هذا أيضا قوله تعالى (سأوريكم دار الفاسقين) الأعراف 145.
2 ــ ومن السنة: الأحاديث الواردة في وجوب الهجرة وهى تدل على تقسيم العالم إلى دارين، ومنها الأحاديث المذكورة في المسألة الأولى ومنها أيضا قوله صلى الله عليه وسلم (كلُ مسلمٍ على مسلم ٍ محرم، أخوان نصيران، لايقبل الله عزوجل من مُشرك ٍ بعدما أسلم عملاً أو يفارق المشركين إلى المسلمين) رواه النسائي بإسناد حسن عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده.
وبالإضافة إلى أحاديث وجوب الهجرة، فمن النصوص الدالة على هذا التقسيم:(7/110)
* عن ابن عمر رضي الله عنهما (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يُسافر بالقرآن إلى أرض العدو) متفق عليه.
* ومنها حديث ابن عباس الطويل في الرجم وفيه أن عبدالرحمن بن عوف قال لعمر بن الخطاب بمنى (فأمهل حتى تقدم المدينة فإنها دار الهجرة والسنة) الحديث رواه البخاري (6830).
* ومنها مارواه النسائي بإسناد صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر كانوا من المهاجرين لأنهم هجروا المشركين وكان من الأنصار مهاجرون، لأن المدينة كانت دار شرك، فجاؤا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة).أهـ.
* ومنها حديث أبي هريرة في قصة هجرته قال: لما قدِمت على النبي صلى الله عليه وسلم قلت في الطريق:
ياليلة من طولها وعَنَائِها . . على أنها من دارة الكفر نَجَّت ِ
قال: وأبَق مني غلامٌ لي في الطريق، قال فلما قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم فبايعته، فبينا أنا عنده إذ طَلَع الغلام، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ياأباهريرة، هذا غلامك. فقلت: هو حُر ّ لوجه الله، فأعتقته) رواه البخاري (4393). قال ابن منظور (والدارة: لغة في الدار) (لسان العرب) 4/ 298، ط دار صادر.(7/111)
* ومنها حديث عائشة في قصة الجارية المهاجرة التي اتهمت في الوشاح، وفيه عن عائشة رضي الله عنها أن وليدة كانت سوداء لِحَيّ ٍ من العرب فأعتقوها فكانت معهم. قالت: فخرجت صبية لهم عليها وشاح أحمر من سيور، قالت: فوضعته ــ أو وقع منها ــ فمرّت به حُدَيَّاةٌ وهو مُلقى فحسبته لحما فخطفته، قالت: فالتمسوه فلم يجدوه، قالت: فاتهموني به، قالت: فطفقوا يفتشون حتى فتشوا قُبُلَها، قالت: والله إني لقائمة معهم إذ مرَّت الحدياة فألقته، قالت: فوقع بينهم، قالت: فقلت هذا الذي اتهمتموني به زعمتم وأنا منه بريئة وهو ذا هو، قالت: فجاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلمتْ. قالت عائشة: فكان لها خِبَاءٌ في المسجد أو حِفْش ٌ، قالت: فكانت تأتيني فتحدث عندي، قالت: فلا تجلس عندي مجلساً إلا قالت:
ويوم الو ِشاح من تعاجيب ربنا . . ألا إنه من بَلدة ِ الكفر أنجاني
قالت عائشة: فقلت لها ماشأنك لا تقعدين معي مقعداً إلا قلت هذا؟ قالت: فحدثتني بهذا الحديث، أهـ. رواه البخاري (حديث 439). وبلدة الكفر هى دار الكفر كما قال ابن حجر في شرحه (وفيه فضل الهجرة من دار الكفر) (فتح الباري) 1/ 535.
فهذه النصوص تدل على أن تقسيم العالم إلى دارين دار الإسلام ودار الكفر ثابت بالكتاب والسنة ومنقول عن الصحابة. وأن الهجرة واجبة من الثانية إلى الأولى. بل قد وردت المصطلحات الخاصة بهذه الديار في الكتاب والسنة ــ في النصوص السابقة ــ بألفاظ مختلفة مثل: دار الفاسقين ــ أرض العدو ــ دار الهجرة والسنة ــ دار شرك ــ دارة الكفر ــ بلدة الكفر. وهذا كله في الرد على من زعم إن تقسيم العالم إلى دارين أمر أحدثه الفقهاء باجتهادهم.
المسألة الثالثة: تعريف دار الإسلام ودار الكفر(7/112)
يظهر من الأدلة المذكورة في المسألتين السابقتين أن دار الإسلام هى البلاد الخاضعة لسلطان المسلمين وحكمهم، وأن دار الكفر هى البلاد الخاضعة لسلطان الكافرين وحكمهم، وإليك أقوال العلماء في هذا:
قال ابن القيم رحمه الله (قال الجمهور: دار الإسلام هى التي نزلها المسلمون وجرت عليها أحكام الإسلام، ومالم تجر عليه أحكام الإسلام لم يكن دار إسلام وإن لاصقها، فهذه الطائف قريبة إلى مكة جداً ولم تصر دار إسلام بفتح مكة) (أحكام أهل الذمة) لابن القيم، 1/ 366، ط دار العلم للملايين 1983.
وقال الإمام السَّرَخْسي الحنفي رحمه الله (عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى إنما تصير دارهم دار الحرب بثلاث شرائط، أحدها: أن تكون متاخمة أرض الترك ليس بينها وبين أرض الحرب دار للمسلمين، والثاني: أن لايبقى فيها مسلم آمن بإيمانه ولا ذمي آمن بأمانه، والثالث: أن يُظهروا أحكام الشرك فيها. وعن أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى إذا أظهروا أحكام الشرك فيها فقد صارت دارهم دار حرب، لأن البقعة إنما تنسب إلينا أو إليهم باعتبار القوة والغلبة، فكل موضع ظهر فيه حكم الشرك فالقوة في ذلك الموضع للمشركين فكانت دار حرب، وكل موضع كان الظاهر فيه حكم الإسلام فالقوة فيه للمسلمين) (المبسوط) للسرخسي، جـ 10 صـ 114، ط دار المعرفة. فجعل الصاحبان المناط: هو الغلبة والأحكام.(7/113)
ولم يعتبر العلماء الشروط التي ذكرها أبو حنيفة رحمه الله، حتى خالفه صاحباه: القاضي أبو يوسف ومحمد بن الحسن الشيباني كما ذكر السرخسي، وذكره أيضا علاء الدين الكاساني وعلل قولهما بقوله (إن كل دار مضافة إما إلى الإسلام وإما إلى الكفر، وإنما تضاف الدار إلى الإسلام إذا طُبقت فيها أحكامه، وتضاف إلى الكفر إذا طبقت فيها أحكامه، كما تقول الجنة دار السلام والنار دار البوار، لوجود السلامة في الجنة والبوار في النار، ولأن ظهور الإسلام أو الكفر بظهور أحكامهما) (بدائع الصنائع) للكاساني، 9/ 4375، ط زكريا علي يوسف. فجعل الكاساني مناط الحكم على الدار هو نوع الأحكام المطبقة فيها.
وانتقد ابن قدامة الحنبلي أيضا شروط أبي حنيفة فقال (ومتى ارتد أهل بلد وجرت فيه أحكامهم صاروا دار حرب في اغتنام أموالهم وسبي ذراريهم الحادثين بعد الردة، وعلى الإمام قتالهم فإن أبابكر الصديق رضي الله عنه قاتل أهل الردة بجماعة الصحابة، ولأن الله تعالى قد أمر بقتال الكفار في مواضع من كتابه وهؤلاء أحقهم بالقتال لأن تركهم ربما أغرى أمثالهم بالتشبه بهم والارتداد معهم فيكثر الضرر بهم، وإذا قاتلهم قتل من قدر عليه ويُتبع مدبرهم ويُجاز على جريحهم وتغنم أموالهم، وبهذا قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: لاتصير دار حرب حتى تجتمع فيها ثلاثة أشياء: أن تكون متاخمة لدار الحرب لاشيء بينهما من دار الإسلام (الثاني) أن لايبقى فيها مسلم ولاذمي آمن (الثالث) أن تجري فيها أحكامهم. ــ قال ابن قدامة ــ ولنا أنها دار كفار فيها أحكامهم فكانت دار حرب) (المغني مع الشرح الكبير) 10/ 95. فجعل ابن قدامة مناط الحكم على الدار نوع الأحكام الجارية فيها.
وقال السرخسي في شرحه لكتاب (السير الكبير) (والدار تصير دار المسلمين بإجراء أحكام الإسلام) (السير الكبير) 5/ 2197.(7/114)
وللقاضي أبي يعلى الحنبلي (كل دار كانت الغلبة فيها لأحكام الكفر دون أحكام الإسلام فهى دار الكفر) (المعتمد في أصول الدين) لأبي يعلى صـ 276، ط دار المشرق ببيروت 1974.
ولعبدالقاهر البغدادي مثله في (أصول الدين) له، صـ 270، ط دار الكتب العلمية ط 2 وقال الشيخ منصور البهوتي (وتجب الهجرة على من يعجز عن إظهار دينه بدار الحرب وهى مايغلب فيها حكم الكفر) (كشاف القناع) له، 3/ 43.
مناط الحكم على الدار
مناط الحكم هو عِلّته، وسميت العلة مناطاً لأنها مكان نوطه أي تعليقه، وسميت عِلة لأنها أثرت في المحل كعِلّة المريض، فالعلة هى الوصف الذي عُلِّق عليه الحكم، فإذا وُجِدَ الوصف وُجِدَ الحكم وإلا فلا، وهذا هو معنى قول العلماء (الحكم يدور مع عِلته وجوداً وعدماً).(7/115)
وقد تضمنت أقوال العلماء السابقة ذِكر سببين للحكم على الدار: الأول (القوة والغلبة) كما قال أبو يوسف ومحمد بن الحسن (لأن البقعة إنما تُنسب إلينا أو إليهم باعتبار القوة والغلبة). والسبب الثاني (نوع الأحكام المطبقة فيها) كما ورد في كلام سائر من نقلنا عنهم. وعند التحقيق فإن السببين يرجعان إلى شيء واحد هو مناط الحكم على الدار، ولاتناقض بين السببين: لأن الغلبة والأحكام قرينان، فلا يكون المتغلِّب متغلباً إلا إذا كان هو صاحب الأمر والنهي، فالأمر والنهي هما من أهم مظاهر الغلبة والسلطان، فالسلطان المسلم يطبق أحكام الإسلام وإلا لما كان مسلماً، والسلطان الكافر يطبق أحكام الكفر. وبهذا يكون مناط الحكم على الدار هو نوع الأحكام المطبقة فيها والتي تدل على من له الغلبة فيها، كما قال الصاحبان ــ فيما نقله السرخسي ــ (فكل موضع ظهر فيه حكم الشرك فالقوة في ذلك الموضع للمشركين فكانت دار حرب، وكل موضع كان الظاهر فيه حكم الإسلام فالقوة فيه للمسلمين) أهـ. وسوف يأتي في مسألة استيلاء الكفار على دار الإسلام بيان أنه إذا تغلب كافر على الدار وظلت أحكام الإسلام مطبقة (وهو الاستيلاء الناقص) فهى دار إسلام، مما يبيّن أن المناط يرجع إلى الأحكام المطبقة.(7/116)
ويلاحظ أن كون المناط: نوع الأحكام المطبقة في الدار، هو وصفٌ مناسب للتعليل، وذلك لأن الأحكام ــ لا الحاكم ــ هى التي تصبغ الدار بصبغتها، فأحكام الإسلام بما تأمر به وتنهى عنه تصبغ الدار بصبغة إسلامية، وأحكام الكفر بما تأمر به وتبيحه وبما تنهى عنه تصبغ الدار بصبغة الكفر من إباحة الردة والإلحاد وسب الدين والطعن فيه بلا رادع أو عقوبة، ومن إباحة الربا والزنا والخمر والتبرج والاختلاط، ومن عدم مؤاخذة تارك الصلاة والصيام والزكاة، ومن معاقبة من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر خاصة بيده، وشيوع هذا كله وغيره هو من صفات دار الكفر. فالأحكام هى التي تصبغ الدار بصبغتها لا الحاكم، الذي لو أراد شيئا من ذلك فإنه لايتمكن منه إلا بالأمر والنهي، وهذه هى الأحكام فهى إما أمر أو نهي أو إباحة، والحاكم ينفذ ذلك بشوكته.
ومن الأدلة على أن مناط الحكم على الدار: نوع الأحكام المعبرة عن أصحاب الغلبة فيها:(7/117)
* قوله تعالى (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم، قالوا فِيمَ كنتم، قالوا: كنا مستضعفين في الأرض، قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها) النساء 97. فكون المسلم المخاطب بالهجرة مستضعفاً في أرض ٍ ما يدل على أن الغلبة فيها للكفار، ومثله قوله تعالى (قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك ياشعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن من ملتنا) الأعراف 88، فالإضافة في كلمة (قريتنا) هى إضافة نسبة وتملك، أي قرية الكافرين المستكبرين، ويدل على تملكهم لها وغلبتهم عليها تهديدهم المؤمنين بالإخراج منها بما يعني أنهم أصحاب الأمر والنهي فيها، فدلَّ هذا على أن دار الكفر ماكانت الغلبة فيها للكفار وماكان الأمر والنهي فيها للكفار والأمر والنهي هما الأحكام وهما مظهر الغلبة والسلطان. ومثل هذه الآية قوله تعالى (وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا) إبراهيم 13. ويقال فيها ماقيل في الآية السابقة. فدل مجموع هذه الآيات على أن دار الكفر هى ماكانت الغلبة والأحكام فيها للكفار.
* وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ــ بعد فتح مكة ــ (لاهجرة بعد الفتح) الحديث متفق عليه، وكانت الهجرة واجبة من مكة لأنها كانت دار كفر حتى الفتح، فصارت دار إسلام وسقط فرض الهجرة منها، والذي تغير بالفتح وتغيرت معه أحكام مكة هو تغير اليد الغالبة عليها من يد الكفار إلى يد المسلمين وما تبع ذلك من تغير الأحكام، فدلّ هذا على أن مناط الحكم على الدار هو اليد الغالبة عليها والأحكام تبع لها، فإن الكافر يحكم بأحكام الكفار والمسلم يحكم بأحكام الإسلام وإلا لكان كافراً. وفي بيان هذا المناط قال ابن حزم رحمه الله (لأن الدار إنما تنسب للغالب عليها والحاكم فيها والمالك لها) (المحلى) 11/ 200. هذا مناط الحكم على الدار.
تنقيح مناط الحكم على الدار(7/118)
قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي (التنقيح في اللغة: التهذيب والتصفية، فمعنى تنقيح المناط: تهذيب العلة وتصفيتها بإلغاء مالا يصلح للتعليل واعتبار الصالح لها) (مذكرة أصول الفقه) صـ 292.
وقد أخطأ البعض في هذا المقام فظنوا أن إقامة كثير من المسلمين ببعض البلدان مع أمنهم وقدرتهم على إظهار شعائر دينهم كالأذان والصلاة والصوم وغيرها كاف ٍ في اعتبار البلد دار إسلام، حتى قال البعض: كيف تقولون إن البلد الفلاني دار كفر وفي عاصمته مايزيد عن ألف مسجد؟ وهذا كله لا اعتبار له وقد بيّنا أن مناط الحكم على الدار هو اليد الغالبة عليه والأحكام الجارية فيه، وماعدا ذلك من الأوصاف فلا اعتبار له في الحكم على الدار، ومن الأوصاف التي يجب إلغاؤها في هذا المقام تنقيحاً للمناط، مايلي:
1 ــ لا دخل لديانة أكثرية السكان في الحكم على الدار.(7/119)
ودليله أن خيبر كان يسكنها اليهود ولما فتحها النبي صلى الله عليه وسلم عام 7 هـ أقرهم فيها ليقوموا على زراعتها (حديث 4248 بالبخاري) وبعث عليهم أميراً من الأنصار (حديث 4246 بالبخاري)، فكان معظم أهلها اليهود ــ حتى أجلاهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه في خلافته ــ ولم يمنع هذا من كون خيبر من دار الإسلام لكونها في قبضة المسلمين تجري فيها أحكامهم. وفي هذا قال ابن حزم (وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم «أنا بريء من كل مسلم أقام بين أظهر المشركين» يبيّن ما قلناه، وأنه عليه السلام إنما عَنَى بذلك دار الحرب، وإلا فقد استعمل عليه السلام عماله على خيبر وهم كلهم يهود، وإذا كان أهل الذمة في مدائنهم لايمازجهم غيرهم فلا يُسمى الساكن فيهم لإمارة عليهم أو لتجارة بينهم كافراً ولا مسيئاً، بل هو مسلم مُحسن ودارهم دار إسلام لا دار شرك، لأن الدار إنما تنسب للغالب عليها والحاكم فيها والمالك لها) (المحلى) 11/ 200. وقال أبو القاسم الرافعي الشافعي (وليس من شرط دار الإسلام أن يكون فيها مسلمون بل يكتفى كونها في يد الإمام وإسلامه) (فتح العزيز شرح الوجيز) للرافعي،
8/ 14.
2 ــ ولا دخل لظهور شعائر الإسلام أو الكفر في الحكم على الدار.(7/120)
فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُظهر الدين بمكة ويدعو إليه ويجاهر المشركين بالعداوة والبراءة منهم ومما يعبدون من دون الله، وهذا قبل الهجرة من مكة، وكذلك كان بعض الصحابة يُظهرون الصلاة وتلاوة القرآن، ولم تصبح مكة دار إسلام بهذا بل هاجر المسلمون منها إذ كانت الغلبة فيها للكفار، وهذا مما يبين خطأ الماوردي رحمه الله في قوله (إذا قدر على إظهار الدين في بلد من بلاد الكفر فقد صارت البلد به دار إسلام، فالإقامة فيها أفضل من الرحلة منها لما يُترجى من دخول غيره في الإسلام) (فتح الباري) 7/229. ونقل الشوكاني هذا القول وانتقده فقال (ولايخفى مافي هذا الرأي من المصادمة لأحاديث الباب القاضية بتحريم الإقامة في دار الكفر) (نيل الأوطار) 8/ 178.
والعكس صحيح فإقامة بعض الكفار ــ كأهل الذمة ــ بدار الإسلام وإظهارهم شعائر دينهم لايجعلها دار كفر، إذ إن ظهور شعائر الكفر ليس بشوكة الكفار بل بإذن المسلمين.
فلا دخل لإظهار الشعائر في الحكم على الدار، كما قال الشوكاني: (الاعتبار بظهور الكلمة، فإن كانت الأوامر والنَّواهي في الدار لأهل الإسلام بحيث لايستطيع من فيها من الكفار أن يتظاهر بكفره إلا لكونه مأذونا له بذلك من أهل الإسلام فهذه دار إسلام، ولايضر ظهور الخِصال الكفرية فيها لأنها لم تظهر بقوة الكفار، ولا بِصَوْلتهم كما هو مشاهد في أهل الذمة من اليهود والنصارى والمعاهدين السَّاكنين في المدائن الإسلامية، وإذا كان الأمر بالعكس، فالدار بالعكس.) (السيل الجرار) 4/ 575.
3 ــ ولا دخل لأَمْن فريق من السكان في الحكم على الدار.(7/121)
فالكفار الذميون يأمنون في دار الإسلام ولايُخل هذا بكونها دار إسلام، والمسلمون المهاجرون أمِنوا بالحبشة وكانت دار كفر، وأمِنَ المسلمون على أنفسهم بمكة مدة عهدهم مع النبي صلى الله عليه وسلم (من صلح الحديبية حتى فتح مكة) حتى أدوا عمرة القضاء خلالها ولم يمنع هذا الأمن من كون مكة ظلت دار كفر حتى فتحها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لاهجرة بعد الفتح). ولم يقل لاهجرة بعد الصلح، فبيَّن أن المناط الذي غيَّر حكم الدار هو الغلبة لا مجرد الأمن.
هذا ما يتعلق بتنقيح المناط ومعرفة مناط الحكم على الدار. ومنه تعلم أن البلاد التي أكثر أهلها من المسلمين ولكن يحكمها حكام مرتدون بأحكام الكفار بالقوانين الوضعية هى اليوم ديار كفر وإن كان أكثر أهلها مسلمين يمارسون شعائر دينهم كإقامة الجمع والجماعات وغيرها في أمان، فهى ديار كفر لأن الغلبة والأحكام فيها للكفار، أما اظهار المسلمين لشعائر دينهم فليس هذا راجعا إلى شوكة المسلمين ولكن لأنه مأذون فيه من الحاكم الكافر، ولو أراد أن يبدل أمنهم خوفاً وفتنة بشوكته وجنوده لفعل كما هو واقع في كثير من البلاد اليوم باسم محاربة الإرهاب والتطرف الديني.
(فائدة) الأقسام الفرعية لدار الكفر.
تنقسم دار الكفر إلى عدة أقسام بأكثر من اعتبار، والإسم الجامع لها هو دار الكفر أو دار الشرك. وأقسامها هى:
1 ــ من جهة كون الكفر فيها قديما أو طارئا، تنقسم إلى:
أ ــ دار الكفر الأصلي: وهى التي لم تكن دار إسلام في وقت من الأوقات مثل اليابان وشرق الصين وانجلترا وقارات أمريكا الشمالية وأمريكا الجنوبية واستراليا.
ب ــ دار الكفر الطاريء: وهى التي كانت دار إسلام في وقت من الأوقات ثم استولى عليها الكفار الأصليون مثل الأندلس (إسبانيا والبرتغال) وفلسطين ودول شرق أوربا التي كانت تحت حكم الدولة العثمانية مثل رومانيا وبلغاريا ويوغوسلافيا واليونان وألبانيا.(7/122)
جـ ــ دار الردة: وهى فرع من دار الكفر الطاريء، وهى التي كانت دار إسلام في وقت ٍ ما ثم تغلّب عليها المرتدون وأجروا فيها أحكام الكفار، مثل الدول المسماة اليوم بالإسلامية ومنها الدول العربية. وقد مرت معظم هذه الدول بمرحلة كونها دار كفر طاريء عندما استولى عليها المستعمر الصليبي وفرض عليها القوانين الوضعية ثم رحل عنها وحكمها من بعده المرتدون من أهل هذه البلاد. وهناك بعض الفروق في الأحكام الفقهية بين دار الكفر ودار الردة ذكرها الماوردي في كتابه (الأحكام السلطانية) صـ 57، ط الحلبي. وأنبه هنا على أنني كثيراً ماأصف هذه البلاد في كتاباتي ببلاد المسلمين وذلك بالنظر إلى حال أغلب سكانها، ولايرادف هذا الوصفُ مصطلحَ (دار الإسلام) بل هى ديار كفر وردّة. وجهاد حكامها الكافرين فرض عين على أهلها المسلمين كما بيّناه في أكثر من موضع.
2 ــ ومن جهة علاقتها بدار الإسلام، تنقسم دار الكفر إلى:
أ ــ دار الحرب: وهى التي ليس بينها وبين دار الإسلام صلح أو هدنة، ولايشترط قيام الحرب فعليا لصحة هذه التسمية، بل يكفي عدم وجود صلح كما ذكرنا، بما يعني أنه يجوز للمسلمين قتال أهل هذه الديار وقتما شاءوا، ومن هنا سميت دار حرب.(7/123)
ب ــ دار العهد: وهى التي بينها وبين دار الإسلام موادعة وصلح وهدنة، كما كانت مكة فيما بين صلح الحديبية وفتح مكة (6 ــ 8 هـ). ولاتجوز موادعة الكفار على الصلح وترك الحرب إلا بالنظر إلى مصلحة المسلمين كأن يكون بهم ضعف لقوله تعالى (فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون) محمد 35، وذلك لأن الله فرض علينا قتال الكفار حتى يكون الدين كله لله، لم يفرض علينا مسالمتهم ومصالحتهم إلا عند حاجتنا لذلك، قال تعالى (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) التوبة 5، وقال تعالى (وقاتلوهم حتى لاتكون فتنة ويكون الدين كله لله) الأنفال 39.(انظر المغني مع الشرح الكبير) 10/517، و(السير الكبير) لمحمد بن الحسن، 5/1689. ولايجوز عقد الهدنة إلا من إمام المسلمين أو من يُنيبه، ونظراً لغياب هذا الإمام في زماننا هذا فلا اعتبار لأي معاهدات دولية يعقدها الحكام الكافرون لصدورها ممن ليست لهم ولاية شرعية على المسلمين، فوجودها كعدمها، إذ المعدوم حكماً كالمعدوم حقيقة.
3 ــ ومن جهة أمن المسلم على نفسه فيها، تنقسم دار الكفر إلى:
أ ــ دار الأمن: وهى التي يأمن المسلم فيها على نفسه، مثل الحبشة في صدر الإسلام لما هاجر إليها الصحابة فراراً من بطش كفار مكة.
ب ــ دار الفتنة: وهى التي لايأمن المسلم فيها على نفسه، مثل مكة في صدر الإسلام، ومثل معظم ديار الردة اليوم.
(فائدة أخرى) الأقسام الفرعية لدار الإسلام
ترد أحيانا مصطلحات خاصة بأقسام فرعية لدار الإسلام في كتب أهل العلم، مثل:
1 ــ دار البغي: وهى ماإذا انفرد البغاة أو الخوارج ببلد في دار الإسلام واستقلوا بإجراء الأحكام فيها. ويقابلها دار العدل وهى التي تحت حكم إمام المسلمين.(7/124)
2 ــ دار الفسق: وهى ماإذا شاع الفسق ببلد في دار الإسلام، قال الشوكاني (وقد ذهب جعفر بن مبشر وبعض الهادوية إلى وجوب الهجرة عن دار الفسق قياسا على دار الكفر، وهو قياس مع الفارق والحق عدم وجوبها من دار الفسق لأنها دار إسلام) (نيل الأوطار) 8/179. قلت: ولكن يستحب مغادرة البلدة التي تكثر فيها المعاصي كما في حديث قاتل المائة، وفيه أخبره العالِم أن مما يعينه على التوبة التحول عن بلده التي وصفها بأنها أرض سوء وأن يذهب إلى بلدة بها قوم صالحون يعبد الله معهم.
3 ــ دار أهل الذمة: وهى غير دار العهد والصلح فهذه من أقسام دار الكفر، أما دار أهل الذمة فهى دار إسلام كما كانت خيبر بعدما فتحها المسلمون في عهد النبي صلى الله عليه وسلم. وصِفة دار أهل الذمة هى كما قال محمد بن الحسن رحمه الله (وإن حاصر أمير العسكر أهل مدينة من مدائن العدو، فقال بعضهم نسلم، وقال بعضهم نصير ذمة ولانبرح منازلنا، فإن كان المسلمون يقوون على أن يجعلوا معهم مِن المسلمين مَن يقوى على قتال من يحضر بهم من أهل الحرب ويحكم فيهم بحكم الإسلام، فعل ذلك الأمير) قال الشارح السرخسي (لأن إجراء أحكام المسلمين في دارهم ممكن، والدار تصير دار المسلمين بإجراء أحكام المسلمين، فيجعلها الإمام دار إسلام، ويجعل القوم أهل ذمة) (السير الكبير) 5/2196 ــ 2197.
هذا، والمقصود من ذكر هذه الأقسام تعريف الطالب بها إذا قرأها في كتب العلم.
المسألة الرابعة: تغيّر صفة الدار وحكمها
صفة الدار ليست من الصفات اللازمة المؤبدة بل هى صفة عارضة قابلة للتغيّر بحسب اليد الغالبة عليها والأحكام الجارية فيها، فقد تكون الدار دار كفر في وقت ما ثم تصبح دار إسلام كما كانت مكة في أول الإسلام، وقد تكون دار إسلام ثم تصبح دار كفر كالأندلس وفلسطين.(7/125)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (فإن كون الأرض «دار كفر» أو «دار إسلام أو إيمان» أو دار سلم» أو «حرب» أو «دار طاعة» أو «معصية» أو «دار المؤمنين» أو «الفاسقين» أوصاف عارضة، لا لازمة، فقد تنتقل من وصف ٍ إلى وصف ٍ كما ينتقل الرجل بنفسه من الكفر إلى الإيمان والعلم، وكذلك بالعكس) (مجموع الفتاوى) 27/ 45، وكرر هذا في جـ 18 صـ 282 ــ 284، وجـ 27 صـ 143 ــ 144.
وقد ذهب ابن حجر المكي الهيتمي في كتابه (تحفة المحتاج لشرح المنهاج) في فقه الشافعية إلى أن دار الإسلام لاتصير دار كفر وإن استولى عليها الكفار وأجروا فيها أحكامَهم، واستدل لذلك بحديث (الإسلام يعلو ولا يُعلى) رواه الدارقطني بإسناد حسن عن عائذ بن عمرو مرفوعا، ورواه البخاري معلقاً في كتاب الجنائز، (فتح الباري) 3/ 218 ــ 220. وقد نقل قول ابن حجر المكي هذا صديق حسن خان في كتابه (العبرة فيما ورد في الغزو والشهادة والهجرة) صـ 240، ط دار الكتب العلمية، 1405هـ. وقد ذهب إلى رأي ابن حجر هذا بعض المعاصرين، ولايخفى بطلان هذا القول فإن الأدلة الخاصة على أن مناط الحكم على الدار هو الغلبة والأحكام ــ وقد ذكرناها في بيان المناط ــ هذه الأدلة الخاصة ترجح على الأدلة العامة كالتي استدل ابن حجر. فقد أجمع العلماء على تقديم الدليل الخاص على العام، كتقديم قوله تعالى (وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن) الطلاق 4 على قوله تعالى (والمطلقات يتربصن بأنفسهم ثلاثة قروء) البقرة 228. لايختلف العلماء في هذا. ولو صح قول ابن حجر المكي لجاز القول بأن المسلم لايكفر أبدا وإن قام به الكفر لأن (الإسلام يَعلو ولا يُعلى) وهذا خلاف النص والإجماع، وقد قال صلى الله عليه وسلم (من بدل دينه فاقتلوه) رواه البخاري.(7/126)
فهذا النص العام الذي استدل به ابن حجر لاينبغي أن تعارض به النصوص الخاصة في كل مسألة، ولا ينبغي أن ترتب عليه مثل هذه الأحكام. وقوله بأن دار الإسلام لا تنقلب دار كفر مع مصادمته للأدلة مخالف لقول جمهور الفقهاء.
وإذا افترضنا صحة قوله لوجب أن تكون إسبانيا النصرانية دار إسلام اليوم لأنها كانت دار إسلام من قبل (الأندلس). وهذا يعني وجوب هجرة كل مسلم إلى دار الإسلام في إسبانيا وأن يقبل طواعية بجريان أحكام الكفار فيها عليه، وأنه يحرم على المسلمين الهجرة من إسبانيا لأنه لاهجرة من دار الإسلام، وأنه يحرم على المسلمين غزو إسبانيا النصرانية لأنها دار إسلام، ولو هجم الكفار على إسبانيا لوجب على كل مسلم أن يهب ليدفع عن دار الإسلام في إسبانيا، إلى آخر لوازم قول ابن حجر، وهى لوازم لامناص منها، وفساد هذا القول ولوازمه يُغني عن إفساده.
(فصل) أثر استيلاء الكفار على دار الإسلام
وهو نوعان:
1 ــ الاستيلاء التام: وهو ماإذا تغلّب الكفار على دار إسلام وأجروا فيها أحكام الكفر. فهذه تصير دار كفر لتحقق المناط فيها كما ذكرنا في تعريف العلماء لدار الكفر، ويدخل في هذا بلاد المسلمين المحكومة بالقوانين الوضعية هى ديار كفر.
وهذا القسم وصفه الشيخ سليمان بن سحمان النجدي 1349هـ بقوله:
إذا ما تولى كافرٌ متغلبٌ .. على دار إسلام وحَل َّ بها الوجل
وأجرى بها أحكامَ كفر ٍ علانياً . . وأظهرها فيها جهاراً بلا مهل
وأَوْهَى بها أحكام شرع محمد ٍ . . ولم يَظهر الإسلام فيها ويُنتحل
فذى دار كفر عند كل محقق .. كما قاله أهل الدراية بالنِحَل
وما كل مَنْ فيها يُقال بكفره .. فرُبَّ امريء فيهم على صالح العمل
نقلاً عن (الموالاة والمعاداة) لمحماس الجلعود، 2/ 522.(7/127)
وسُئِل الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ (هل تجب الهجرة من بلاد المسلمين التي يُحكم فيها بالقانون؟) فأجاب (البلد التي يحكم فيها بالقانون ليست بلد إسلام، تجب الهجرة منها، وكذلك إذا ظهرت الوثنية من غير نكير ولا غُيّرت فتجب الهجرة، فالكفر بفشُوّ الكفر وظهوره، هذه بلد كفر) من (فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ) جمع محمد بن عبدالرحمن بن قاسم، ط 1399هـ بمكة المكرمة، جـ 6 صـ 188.
2 ــ الاستيلاء الناقص: وهو ما إذا تغلب الكفار على دار إسلام ولكن بقيت أحكام الإسلام هى الجارية في الدار. ومن أمثلة هذا: استيلاء التتار على الشام في أواخر القرن السابع الهجري، فالثابت تاريخيا أنهم أقروا القضاة على الحكم بالشريعة بين المسلمين مع تكفير العلماء للتتار لحكمهم فيما بينهم بقانون كبيرهم جنكيز خان (الياسق). انظر (العبرة) لصديق حسن خان صـ 232، وكتاب (وثائق الحروب الصليبية والغزو المغولي) لمحمد ماهر حمادة. فالمنقول عن فقهاء ذلك العصر أن الدار لاتصير دار كفر بهذا مادامت أحكام الشريعة قائمة، انظر (العبرة) لصديق حسن خان صـ 232 وما بعدها.
والحق أنه إذا استولى الكفار على دار الإسلام وظلت أحكام الإسلام قائمة، فإنه يجب التفريق بين ما إذا كانت قائمة بسبب شوكة المسلمين أم بسبب إذن الكفار بذلك.(7/128)
فإذا ظلت أحكام الإسلام جارية بسبب شوكة المسلمين فهى دار إسلام، وهى الصورة السابقة التي حدثت في بلاد الشام مع استيلاء التتار، ولايحدث هذا إلا مداهنة من الكافر المتغلب حتى لايستفز المسلمين إذا أبطل أحكام الإسلام، ولايداهن الكافر إلا مع عدم قدرته على تمام الغلبة والاستيلاء، وكان هذا هو الوضع بالشام فقد كانت الحرب سجال بين التتار وبين أهل الشام ومصر كما ذكره ابن كثير في أول الجزء الرابع عشر من (البداية والنهاية) وحضر شيخ الإسلام ابن تيمية بعض هذه الحروب، ومع عدم تمام الغلبة ومع جريان أحكام الإسلام تبقى الدار دار إسلام، وإن كان السلطان كافراً، كما أن دار الإسلام تظل كما هى إذا ارتد حاكمها المسلم ولم يغير شيئا من الأحكام، وفي كلا الحالين يجب على المسلمين قتال السلطان الكافر (المتغلب أو المرتد) لخلعه ونصب إمام مسلم، وقتاله فرض عين لأنه جهاد دفع.(7/129)
أما إذا ظلت أحكام الإسلام جارية في الدار مع استيلاء الكفار لكونها مأذونا بها من الكافر المتغلب لابسبب شوكة المسلمين، فهى دار كفر، لأن لو أراد أن يبطلها لأبطلها، وهذه الصورة وقعت بالأندلس في بداية استيلاء الأسبان عليها كما ذكر محمد بن جعفر الكتاني في كتابه (نصيحة أهل الإسلام) قال (شروط معاهدة تسليم أهل الأندلس للأسبان: وانظر فإنهم لما ضيقوا على أهل الأندلس، وضَعُفَ أهل الأندلس عنهم بعد حروب كثيرة وحصار عظيم، طاع أهل الأندلس بالدخول تحت أيالتهم وحكمهم بشروط اشترطوها عليهم وهى نحو من خمسة وخمسين وقيل سبعة وستين، منها تأمين الصغير والكبير في النفس والأهل والمال، وإبقاء الناس في أماكنهم ودورهم ورباعهم وعقارهم، وإقامة شريعتهم على ما كانت ولايحكم عليهم أحد إلا بها، وأن تبقى المساجد كما كانت والأوقاف كذلك... إلى أن قال... فلما رأوا دمّرهم الله أن الأمر قد تم لهم وأن المسلمين قد دخلوا تحت عقد ذمتهم وأنهم تمكنوا منهم، بدأ غدرهم، وأخذوا في نقض تلك الشروط التي اشترطها عليهم المسلمون أول مرة شرطاً شرطاً وفصلا فصلا، إلى أن نقضوا جميعها وزالت حرمة المسلمين بالكلية وأدركهم الهوان العظيم والذلة الكثيرة ــ إلى قوله ــ ثم حملوا جميع المسلمين على التنصر والدخول في دينهم وترك شعائر الإسلام كلها بالمرة) (نصيحة أهل الإسلام) ط مكتبة بدر بالرباط 1409 هـ، صـ 102 ــ 103. فكانت أحكام الشريعة قائمة في أول الأمر بإذن الكافر وهذا لا يمنع من وصف الدار بأنها دار كفر، كما أن إذن الحاكم المسلم لأهل الذمة بممارسة شعائرهم أو بالتحاكم إلى قساوستهم في بعض الأمور لايمنع من أن الدار دار إسلام. قال صديق حسن خان (فمتى علمنا يقيناً ضرورياً بالمشاهدة أو السماع تواتر أن الكفار استولوا على بلد من بلاد الإسلام التي تليهم وغلبوا عليها وقهروا أهلها بحيث لايتم لهم إبراز كلمة الإسلام إلا بجوار من الكفار صارت دار حرب وإن(7/130)
أقيمت فيها الصلاة) (العبرة فيما جاء في الغزو والشهادة والهجرة) صـ 236، ومعنى كلامه أنه إذا استولى الكفار على بلد وقهروها فإن كان أهلها لا يُظهرون شرائع الإسلام إلا بجوار من الكفار ــ أي بإذن منهم ــ فهى دار حرب، وكرر هذا في قوله (وبما حررناه تبيّن لك أن عَدَن وما والاها إن ظهرت فيها الشهادتان والصلوات ــ ولو ظهرت فيها الخصال الكفرية ــ بغير جوار فهى دار إسلام، وإلا فدار حرب) (المصدر السابق) صـ 237. وقوله هذا في مدينة عدن باليمن لما استولى عليها الانجليز في منتصف القرن التاسع عشر الميلادي.
(فائدة) مسألة الدار المركّبة.
ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية إلى القول بقسم ثالث من أقسام الديار وهى الدار المركبة، فقد سُئِل رحمه الله (عن بلد ماردين هل هى بلد حرب أم بلد سلم، وهل يجب على المسلم المقيم بها الهجرة إلى بلاد الإسلام أم لا؟ وإذا وجبت عليه الهجرة ولم يهاجر وساعد أعداء المسلمين بنفسه أو ماله هل يأثم في ذلك؟ وهل يأثم من رماه بالنفاق وسبّه به أم لا؟.)
فأجاب (الحمد لله. دماء المسلمين وأموالهم محرمة حيث كانوا في «ماردين» أو غيرها. وإعانة الخارجين عن شريعة دين الإسلام محرمة سواء كانوا أهل ماردين، أو غيرهم. والمقيم بها إن كان عاجزاً عن إقامة دينه وجبت الهجرة عليه. وإلا استحبت ولم تجب.
ومساعدتهم لعدو المسلمين بالأنفس والأموال محرمة عليهم، ويجب عليهم الامتناع من ذلك، بأي طريق أمكنهم، من تغيب، أو تعريض أو مصانعة، فإذا لم يمكن إلا بالهجرة تعيَّنت.
ولايحل سبهم عموما ورميهم بالنفاق، بل السب والرمي بالنفاق يقع على الصفات المذكورة في الكتاب والسنة، فيدخل فيها بعض أهل ماردين وغيرهم.(7/131)
وأما كونها دار حرب أو سلم فهى مركبة: فيها المعنيان: ليست بمنزلة دار السلم التي تجري عليها أحكام الإسلام، لكون جندها مسلمين، ولا بمنزلة دار الحرب التي أهلها كفار، بل هى قسم ثالث يعامل المسلم فيها بما يستحقه، ويقاتل الخارج عن شريعة الإسلام بما يستحقه) (مجموع الفتاوى) 28/ 240 ــ 241. هذا وتقع ماردين اليوم جنوب شرق تركيا قرب حدودها مع سوريا.
والذي يتحصل من السؤال والجواب: أن ماردين استولى عليها الكفار (أعداء المسلمين)، وأنها لا تجري عليها أحكام الإسلام ولاجندها مسلمين، وأن سكانها خليط من المسلمين والكفار، فهذه دار حرب بلا ريب، ولايشترط في دار الحرب أن يكون أهلها كفار كما قال شيخ الإسلام، فقد سبق بيان مناط الحكم على الدار وأنه لاعبرة بدين السكان. وشيخ الإسلام محجوج في إحداثه قسماً ثالثا للديار بإجماع العلماء قبله على أن الديار نوعان لا ثلاثة. ولهذا فقد اعترض علماء الدعوة النجدية على قوله بأنها قسم ثالث، فقالوا (وأما البلد التي يُحكم عليها بأنها بلد كُفر، فقال ابن مُفلح: وكل دار غلب عليها أحكام المسلمين فدار إسلام وإن غلب عليها أحكام الكفر فدار كفر ولا دار غيرهما. وقال الشيخ تقي الدين ــ ابن تيمية ــ وسُئل عن ماردين هل هى دار حرب أو دار إسلام؟ قال: هى مركبة فيها المعنيان ليست بمنزلة دار الإسلام التي تجري فيها أحكام الإسلام لكون جنودها مسلمين ولا بمنزلة دار الحرب التي أهلها كفار بل هى قسم ثالث يُعامل المسلم فيها بما يستحقه ويُعامل الخارج عن شريعة الإسلام بما يستحقه. والأَوْلَى هو الذي ذكره القاضي والأصحاب) (الدرر السنية في الأجوبة النجدية) جمع ابن قاسم، جـ 7، كتاب الجهاد، صـ 353. فلم يوافقوا شيخ الإسلام في إحداثه لقسم ٍ ثالث في الديار إذ اتفق العلماء قبله على أن الديار قسمان لا غير.(7/132)
وقال الشيخ سليمان بن سحمان إن ماردين التي أفتى فيها شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية لم تجر عليها أحكام الكفار وإنما استولى عليها الكفار استيلاءً ناقصاً، ولو صح هذا وظلت أحكام الإسلام جارية فيها فهى إما دار إسلام أو دار كفر بحسب سبب جريان أحكام الإسلام كما أسلفنا. ولكن فتوى ابن تيمية تبين أن أحكام الإسلام لم تكن جارية في ماردين خلافاً لما قال الشيخ سليمان بن سحمان:
ولم تجر للكفار أحكام دينهم على أهلها لكن بها الكفر قد حصل
وماكان فيها الجانبان على السوى فقال تقي الدين في ذلك المحل
يُعامل فيها المسلمون بحقهم وذا الكفر ما قد يستحق من العمل
فلا تُعط حكم الكفر من كل جانب ٍ ولا الحكم بالإسلام في قول من عَدَل
وهذا النظم للشيخ سليمان بن سحمان نقلته عن كتاب (الموالاة والمعاداة) لمحماس الجعلود، 2/ 522.
والذي ننبه عليه هنا أن الديار قسمان لا ثلاثة، وأن الدار المركبة يمكن أن تكون وصفاً لحال السكان لا حكماً، ومعاملة كل إنسان بما يستحقه لا خلاف فيه وقد سبق بيان أن المسلم معصوم الدم والمال أينما كان، ولكن هذه المعاملة النوعية لاتجعل الدار قسماً ثالثا.(7/133)
وابن تيمية نفسه نقل أن مصر كانت دار ردّة زمن استيلاء العُبَيْديين (المُسمَّون بالفاطميين) عليها، بسبب كونهم زنادقة مرتدين (مجموع الفتاوى) 13/ 178، مع أن أحكام الشريعة كانت جارية بمصر مدة ملكهم التي امتدت مائتين ونيف وثمانين سنة (البداية والنهاية، 12/ 267)، ومع أن جمهور أهل مصر هم المسلمون، ولكن الدار صارت دار ردّة بسبب استيلاء العبيديين التام عليها ولم يؤثر في هذا إذنهم بالحكم بالشريعة. قال ابن تيمية رحمه الله (وتكرر دخول العسكر إليها مع صلاح الدين الذي فتح مصر، فأزال عنها دعوة العبيديين من القرامطة الباطنية وأظهر فيها شرائع الإسلام، حتى سكنها من حينئذ من أظهر بها دين الإسلام ــ إلى قوله ــ ولأجل ماكانوا عليه من الزندقة والبدعة بقيت البلاد المصرية مدة دولتهم نحو مائتي سنة قد انطفأ نور الإسلام والإيمان، حتى قالت فيها العلماء: إنها كانت دار ردّة ونفاق كدار مسيلمة الكذاب) (مجموع الفتاوي) 35/ 138 ــ 139. وقال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله (ولو ذهبنا نُعَدِّد من كفَّره العلماء مع ادعائه الإسلام وأفتوا بردته وقتله لطال الكلام، ولكن من آخر ماجرى قصة بني عبيد ملوك مصر وطائفتهم وهم يدّعون أنهم من أهل البيت، ويصلون الجمعة والجماعة ونصبوا القضاة والمفتين، أجمع العلماء على كفرهم وردتهم وقتالهم وأن بلادهم بلاد حرب يجب قتالهم ولو كانوا مكرهين مبغضين لهم) (مؤلفات شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب ــ القسم الخامس ــ الرسائل الشخصية) صـ 220، ط جامعة الإمام محمد بن سعود. وقوله (ولو كانوا مكرهين مبغضين لهم) أي ولو كان أهل مصر مبغضين لحكامهم العبيديين فهذا لايمنع من أن بلادهم بلاد حرب.(7/134)
فإذا كانت مصر دار ردّة وحرب زمن العبيديين مع نصبهم لقضاة الشريعة، فإن صورة ماردين المذكورة أسوأ من هذا إذ لم تجر عليها أحكام الإسلام، فهى دار حرب كما أسلفت إذا كانت على الصفة المتحصلة من الفتوى. ولايوجد في الديار مايُسمى بالدار المركبة ــ إلا من جهة الوصف لا الحكم ــ والديار قسمان لا ثلاثة كما سبق بيانه، وكما نقله علماء نجد عن ابن مفلح ــ وهو من تلاميذ ابن تيمية ــ أن الديار إما دار إسلام أو دار كفر ولا دار غيرهما، هذا والله تعالى أعلم.
فهذا مايتعلق بتغير صفة الدار، وأثر استيلاء الكفار على ديار الإسلام. وبالله تعالى التوفيق.
المسألة الخامسة: الأحكام الشرعية المترتبة على اختلاف الديار
الأحكام الشرعية المترتبة على اختلاف الديار هي ثمرة البحث في هذا الموضوع، وقد قال الشوكاني رحمه الله (اعلم أن التعرض لذكر دار الإسلام ودار الكفر قليل الفائدة جداً لما قدّمنا لك في الكلام على دار الحرب، وأن الكافر الحربي مُبَاح الدم والمال على كل حال مالم يُؤَمَّنْ من المسلمين، وأن مال المسلم ودمه معصومان بعصمة الإسلام في دار الحرب وغيرها) (السيل الجرار) 4/ 576. ورغم قول الشوكاني هذا فإن هناك أحكاماً مترتبة على اختلاف الديار، وأهمها أحكام الهجرة والجهاد، ومن هذه الأحكام:
1 ــ وجوب الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام عند القدرة على ذلك، أو إلى دار الأمن (وهى دار الكفر الأقل فتنة) إذا عُدِمت دار الإسلام من الدنيا كما كانت هجرة الحبشة في صدر الإسلام وكما هو الحال اليوم، وقد قدمنا بعض النصوص الدالة على وجوب الهجرة، وتراجع بقية أحكام الهجرة في (المغني مع الشرح الكبير) 10/513 ــ 515، و (نيل الأوطار) 8/176 ــ 179. ويتفرع عن وجوب الهجرة بعض الأحكام منها:(7/135)
أ ــ سقوط وجوب المَحْرَم لسفر المرأة المهاجرة من دار الكفر سواء كانت كافرة أسلمت أو أسيرة مسلمة تخلّصت، فلها السفر من دار الكفر بدون محرم إن تعذّر، لأن مفسدة بقائها بين الكفار أعظم من مفسدة سفرها بدون محرم، فاحتملت أدنى المفسدتين لدفع أعظمهما، انظر (المغني مع الشرح الكبير) 3/192 و 10/ 527، و(فتح الباري) 2/ 568 و 4/ 76.
ب ــ ومنها أن عِدّة المهاجرة إذا كانت كافرة أسلمت وزوجها كافر بدار الحرب، عدتها حيضة واحدة، ولها أن تنكح مسلماً بعدها إن أرادت، ودليله حديث ابن عباس (وكان إذا هاجرت امرأة من أهل الحرب لم تُخطب حتى تحيض وتطهر، فإذا طَهُرت حلّ لها النكاح، فإن هاجر زوجها قبل أن تنكح رُدّت إليه) الحديث رواه البخاري (5286)، وهذا تفسير لقوله تعالى (ياأيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن، الله أعلم بإيمانهن، فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار، لاهنّ حل لهم ولاهم يحلون لهن، وآتوهم ماأنفقوا، ولاجناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن) الممتحنة 10، وانظر (أحكام أهل الذمة) لابن القيم 1/ 339 و 365.
جـ ــ ومنها أنه إذا أسلم بعض عبيد الكفار وهاجروا صاروا أحراراً ويملكون ماخرجوا به من أموال أهل الحرب، وهو في حديث ابن عباس السابق (وإن هاجر عبدٌ منهم أو أمةٌ فهما حُرَّان، ولهما ما للمهاجرين) الحديث. ومثاله فرار الصحابي أبي بكرة نفيع بن الحارث من حصن الطائف أثناء حصار النبي صلى الله عليه وسلم له بعد غزوة حنين، فتدلى أبو بكرة من الحصن بواسطة بكرة، فسُمِّى بها وقصته بالبخاري في غزوة الطائف. والمسألة مذكورة في (نيل الأوطار) 8/ 157، وفي (السير الكبير) لمحمد بن الحسن، 5/2286 ومابعدها.(7/136)
د ــ ومنها أنه يحرم سفر المسلم إلى دار الحرب وإقامته بها لغير ضرورة، لأن الهجرة تجب على من أسلم بها، فلا يسافر المسلم إليها ابتداء إلا لضرورة تجارة أو علاج ونحو ذلك، قال تعالى ــ فيمن أقام بين الكفار ــ (ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها، فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيراً) النساء 97. والإقامة بين الكفار من أعظم أسباب الفتنة في الدين وأسهب ابن تيمية في كتابه (اقتضاء الصراط المستقيم) في بيان مضرة مخالطة الكفار وأن هذا يؤول إلى التشبه بهم والتخلق بأخلاقهم ظاهراً وباطنا وقد قال بعض العلماء بكفر من عزم على الإقامة بدار الكفر لقبوله بجريان أحكام الكفار عليه طواعية، فهذا تحاكم طوعي منه إلى الطاغوت ولهذا فمن اضطر للسفر إلى هذه البلاد ينبغي ألا يعزم على الإقامة بها وأن يستصحب دائما نية مغادرتها متى تيسر له ذلك. وقد عَمّ البلاء بالسفر إلى بلاد الكفار الأصليين كأوربا وأمريكا في هذا الزمان لغير ضرورة إلا الاستكثار من متاع الدنيا، والإقامة بين المسلمين في ديار الردّة كالبلاد العربية والمسماة بالإسلامية خير من ديار الكفر الأصلية وإن كانت كلها ديار كفر، ولكن بعض الشر أهون من بعض. ومن أهم أسباب استمرار النهج العلماني في بلاد المسلمين تولي هؤلاء الذين تعلموا في بلاد الغرب وتطبّعوا بطباعِهِ للمناصب الهامة في بلاد المسلمين من السياسة والاقتصاد والتعليم والإعلام.(7/137)
هذا، وكان أحد المسلمين قد سألني عن مسألة التَّجنس بجنسية بلاد الكفار الأصليين، وحاصل المسألة أن المسلم المقيم ببلادهم إذا استوفى شروطاً معينة جاز له طلب الجنسية، وأنه لايُمنحها حتى يُقسم قَسَم ولاء للدولة أنه ملتزم بقوانينها وملتزم بعدم الإضرار بها وبأن يدافع عنها ونحو ذلك؟ فأجبته بأن هذا القَسَم كُفر صريح ومن قاله بغير إكراه كَفَر، فإن يلتزم بذلك أن يتحاكم طواعية إلى الطاغوت (وهو هنا شرائع الكفار)، وإن التزم بهذا كفر، وهذا بخلاف قوانين الكفر المفروضة عليه رغماً عنه في ديار الردة، كما أنه بعد تجنُّسِهِ ملتزم ــ إما هو وإما أبناؤه ــ بالخدمة في جيش الكفار والخروج في قتالهم، وهذا مكفِّر لأنه قتال في سبيل الطاغوت، وقال تعالى (والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت) النساء 76، وفي الجملة فإن هذا القَسَم موالاة مكفرة، وسيأتي بيان معنى الموالاة في نقد كتاب (الرسالة الليمانية في الموالاة). وقال لي السائل: هب أن رجلاً علم هذا الحكم وقال إنه يكفر خمس دقائق حين أداء القَسَم ثم يتوب؟ فأجبته: إنه إن قال: إنه سيكفر مدة القسم، كفر بقوله هذا ولو لم يُقسم إذ لم يختلف العلماء في أن من نوي الكفر في الآجل كَفَر في الحال، ونقلت هذا في شرح قاعدة التكفير عن صاحب (كفاية الأخيار) 2/ 123 قوله (ولو قال إن مات ابني تهوَّدت أو تنصّرت كَفَر في الحال) أهـ، ومايدريه أنه يعيش حتى يتوب فقد يموت أو يصاب بالجنون في الحال وتفوته التوبة وقد قال تعالى (ومَكَرُوا ومَكَر اللهُ، والله خير الماكرين) آل عمران 54، وقال تعالى (أفأمِنَ الذين مكروا السيئات أن يخسف الله بهم الأرض أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون) النحل 45. وفي الجملة فإن التجنس المرتبط بأداء هذا القسم لايجوز، وقال الشيخ حمد بن عتيق النجدي (أن يوافقهم ــ أي الكفار ــ في الظاهر مع مخالفته لهم في الباطن، وهو ليس في سلطانهم، وإنما حمله على ذلك إما طمع في(7/138)
رياسة أو مال ٍ أو مشحة بوطن أو عيال، أو خوف مما يحدث في المآل، فإنه في هذه الحال يكون مرتداً ولاتنفعه كراهته لهم في الباطن، وهو ممن قال الله فيهم «ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة وأن الله لايهدي القوم الكافرين» ــ النحل 107 ــ) من رسالته (بيان النجاة والفكاك من موالاة المرتدين وأهل الإشراك) ضمن (مجموعة التوحيد) ط دار الفكر، صـ 418.
وقال شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب (إن كانت الموالاة مع مساكنتهم ــ أي الكفار ــ في ديارهم والخروج معهم في قتالهم ونحو ذلك، فإنه يُحكم على صاحبها بالكفر، كما قال تعالى «ومن يتولهم منكم فإنه منهم» ــ المائدة 51 ــ) من رسالته (أوثق عرى الإيمان) ضمن (مجموعة التوحيد) صـ 175. هذا والله تعالى أعلم.
هـ ــ ومن سافر إلى بلاد الكفار لسبب مباح كَرِهَ أكثر أهل العلم أن يتزوج في بلادهم. وإذا غلبته الشهوة وخشي على نفسه الزنا يتزوج مسلمة إن أمكن وإلا فكتابية، وفي كل الأحوال يعزل عن زوجته خشية على الولد أن ينشأ على دين الكفار ويتخلق بأخلاقهم. انظر (المغني مع الشرح الكبير) 10/ 512، و(السير الكبير) لمحمد بن الحسن 5/ 1838، و(أحكام أهل الذمة) لابن القيم 2/ 431. والواقع يشهد بما حذّر منه فقهاء السلف: فإن قوانين الكفار تمنح النساء والأبناء حرية يتعذر معها تنشئتهم نشأة إسلامية، وللمرأة منهم الحق في الاحتفاظ بأبنائها معها إذا أراد الزوج المسلم مغادرة بلادهم. وأنا أعلم واقعة رجل مسلم كان متزوجاً من نصرانية أمريكية في أمريكا وله ثلاثة أطفال، فمات الرجل فقامت زوجته بتنصير أبنائه، وفشل أهل الرجل ــ وكانوا خارج أمريكا ــ في استنقاذ أبنائه.(7/139)
و ــ ومن دخل بلاد الكفار بأمان منهم فلا يحل له أن يخونهم في أنفسهم وأموالهم، لقوله تعالى (وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا) الإسراء 34، قال أبو القاسم الخِرقي في مختصره (ومن دخل أرض العدو وبأمان لم يخنهم في مالهم ولم يعاملهم بالربا) قال ابن قدامة في شرحه (أما تحريم الربا في دار الحرب فقد ذكرناه في الربا، مع أن قول الله تعالى (وحرم الربا) وسائر الآيات والأخبار الدالة على تحريم الربا عامة تتناول الربا في كل مكان وزمان، وأما خيانتهم فمحرمة لأنهم إنما أعطوه الأمان مشروطاً بتركه خيانتهم وأَمْنِهِ إياهم من نفسه، وإن لم يكن ذلك مذكوراً في اللفظ فهو معلوم في المعنى، ولذلك من جاءنا منهم بأمان فخاننا كان ناقضا لعهده. فإذا ثبت هذا لم تحل له خيانتهم لأنه غدر، ولايصلح في ديننا الغدر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم «المسلمون عند شروطهم» فإن خانهم أو سرق منهم أو اقترض شيئا وجب عليه ردّ ماأخذ إلى أربابه، فإن جاء أربابه إلى دار الإسلام بأمان أو إيمان ردّه عليهم وإلا بعث به إليهم لأنه أخذه على وجه حَرُمَ عليه أخذه، فلزمه ردّ ماأخذ كما لو أخذه من مال مسلم) (المغني مع الشرح الكبير) 10/ 515 ــ 516.(7/140)
قلت: وهل تعتبر تأشيرة الدخول (الفيزا) التي يحصل عليها مسلم لدخول بلاد الكفار الأصليين عقد أمان؟ والجواب: أن الذي يظهر لي أنها كذلك، فإن المسلم إذا دخل بلادهم أمّنوه على نفسه وماله، ولو اعتدى عليه أحدٌ في نفسه وماله لأظهروا الاهتمام ولحكموا له بالتعويض عن الإصابة ولردّوا له المال المسروق كما يهتمون بأبناء دينهم، وهذا يدل على أن المسلم ببلادهم محترم النفس والمال وهذا لُبّ عقد الأمان، فوجب عليه معاملتهم بالمثل فيؤمِّنهم على أنفسهم وأموالهم، قال تعالى (فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم) التوبة 7، وحتى لو دخل بلادهم بتأشيرة مزوَّرة ظنوها صحيحة لوجب عليه الوفاء وقد ضرب محمد بن الحسن الشيباني رحمه الله لهذا صوراً فراجعها بكتابه (السير الكبير) 2/ 507 ــ 508. وهذا الحكم خاص بدخول المسلم بلاد الكفار الأصليين، وبسط هذا الموضوع محله كتاب (السير الكبير) المشار إليه. أما إذا دخل أحد الكفار إلى بلاد المسلمين والتي هى ديار كفر وردة اليوم، فإنه لايدخلها إلا بعد حصوله على تأشيرة دخول (فيزا) من السلطة الحاكمة بهذه البلاد، وهذا لايعتبر أماناً له يعصم دمه وماله بهذه البلاد، لصدور هذا الأمان من كافر مرتد وهو السلطة الحاكمة المرتدة التي ليست لها ولاية شرعية على المسلمين وأمان الكافر للكافر غير مُلِزم للمسلم، وأما إذا دخل أحد الكفار هذه البلاد بناء على دعوة ٍ من مسلم ــ ولو كان فاسقا ــ فإن هذا يعتبر أمانا شرعيا له يجب على المسلمين احترامه لقوله صلى الله عليه وسلم (ذمة المسلمين واحدة، فمن أخفر مسلماً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لايُقبل منه صرفٌ ولا عدل) الحديث رواه البخاري، ومعنى أخفر أي نقض عهده، والحديث معناه أن أمان أي مسلم مُلزم لجميع المسلمين يجب عليهم احترامه، فإن أمَّن مسلمٌ كافراً حَرُمَ على المسلمين التعرض له، انظر (فتح الباري) 4/ 86، ومعلوم أنه حتى في هذه الحال لن يدخل البلاد(7/141)
إلا بتأشيرة من السلطات وهذا لايؤثر في الحكم المذكور لقوله صلى الله عليه وسلم (الإسلام يعلو ولايُعلى) الحديث. هذا والله تعالى أعلم.
فهذه بعض الأحكام المتفرعة عن وجوب الهجرة ومايستثنى منها من السفر المباح إلى بلاد الكفار.
2 ــ ومن الأحكام المترتبة على اختلاف الديار: وجوب غزو الكفار في دارهم، وهو جهاد الطلب، قال تعالى (ياأيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار) التوبة 123. وقال العلماء: وأقل مايفعله إمام المسلمين غزو الكفار في بلادهم مرة في العام، انظر (المغني مع الشرح الكبير) 10/367 ــ 368. وقد استنبطتُ هذا العدد من قوله تعالى (أو لا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لايتوبون ولاهم يذّكرون) التوبة 126، وذكرت دلالة الآية على ذلك في كتابي (العمدة).
3 ــ ومن الأحكام المترتبة: استصحاب حكم الدار لمجهول الحال عند تعذّرتبيّن حاله، كما ذكرته في حكم مجهول الحال.
4 ــ ومن أحكام دار الكفر: وجوب التحري عند شراء اللحم كما ذكرته في حكم مجهول الحال. ومن أحكامها: جواز قتل المرتد الممتنع بدار الكفر وأخذ مامعه من مال بلا استتابة كما ذكرته في شرح قاعدة التكفير.
هذا، وقد رتب الأحناف أحكاماً كثيرة على اختلاف الدارين لم يوافقهم عليها جمهور الفقهاء، ومنها:
* إباحة أخذ الربا من الحربيين في دار الحرب برضاهم، انظر (السير الكبير) 4/1486 وما بعدها، ورتب عليه بعض المعاصرين جواز إيداع المسلم ماله بالبنوك الأجنبية وأخذ الفائدة (الربا) عليه. وقول الأحناف مرجوح بل باطل، وانظر في هذا (المغني مع الشرح الكبير) 4/162 ــ 163، و (المجموع) للنووي 9/ 391 ــ 392، و (الأم) للشافعي 7/ 357 ــ 358، و (كشاف القناع) للبهوتي 3/ 271.
* ومنها سقوط الحدود عن المسلم إذا ارتكب حداً بدار الحرب، انظر (السير الكبير) 5/1851. والجمهور بخلافه، انظر (الأم) 7/ 356 ــ 359.(7/142)
* ومنها أن الكافرة إذا أسلمت وهاجرت من دار الحرب تقع الفرقة بينها وبين زوجها الكافر المقيم بدار الحرب بمجرد هجرتها، وقال الجمهور: لابد من أن تحيض وتطهر أو تضع حملها، فتحل للنكاح، وإذا أسلم زوجها ولحق بها ولم تكن قد نكحت ردّت إليه بالنكاح الأول. انظر (أحكام أهل الذمة) لابن القيم 1/ 363 ــ 364.
* ومنها انقطاع التوارث بتباين الدارين، فلو أن كتابياً ذمياً مات بدار الإسلام فلا يرثه قريبه المقيم بدار الحرب، وقال الجمهور: يرثه. انظر (أحكام أهل الذمة) لابن القيم 2/ 444.
وبوجه عام فقد رتب الأحناف أحكاماً عدة على اختلاف الدارين لايصح أكثرها.(7/143)
هذا، ويعتبر موضوع أحكام الديار من الموضوعات التي تعرضت لتحريف شديد في هذا العصر من أدعياء الاجتهاد ممن تأثروا بالمستشرقين ولَفّوا لَفّهم في محاولة للتوفيق بين أحكام الإسلام وأحكام الكفار خاصة مايسمي منها بالقوانين الدولية ومواثيق الأمم المتحدة وغيرها تلك التي تدعو إلى مايُسمى بالتعايش السلمي بين الشعوب وتحريم الحروب الهجومية، وهى كلها أوهام يخدعون بها الشعوب الضعيفة ومنها سائر الشعوب الإسلامية ليبقى القَوِيُّ قوياً والضعيف ضعيفاً، فإذا ماسعى المسلمون يوماً لجهاد الكفار اتهموا بخرق القوانين الدولية واستحقوا العقوبات الدولية، وكان مما لجأ إليه الكافرون لتضليل المسلمين وخداعهم تحريف أحكام الإسلام خاصة مايتعلق منها بالجهاد، ونظراً للارتباط الوثيق بين أحكام الديار وبين الجهاد، فقد نال هذا الموضوع نصيبه من التحريف، قال تعالى (ودّت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم ومايُضلون إلا أنفسهم ومايشعرون) آل عمران 69، ومن هذا التحريف ــ الذي بذر بذوره المستشرقون ثم تولاه بالرعاية بعض أدعياء الاجتهاد ــ قولهم: إن تقسيم العالم إلى دارين لامستند له، وقولهم إن بلاد الكفار لاتسمى دار حرب إلا إذا قامت الحرب فعلا بينها وبين المسلمين ومالم تقم وكان الصلح هو السائد فلا دار حرب، وقولهم إن استيلاء الكفار وإظهارهم أحكام الكفر في بلاد المسلمين لايجعلها دار كفر مادام المسلمون يظهرون شعائر دينهم فهى دار إسلام ومادامت كذلك فلا جهاد في دار الإسلام. وغير ذلك من التحريفات التي يراد بها تضليل المسلمين وصرفهم عن دينهم، وقد بيّنا فسادها فيما سبق.
وهذا آخر ما أذكره في أحكام الديار وبالله تعالى التوفيق.
ثم نتكلم في الموضوع الثاني وهو نقد كتاب (القول القاطع فيمن امتنع عن الشرائع).
الموضوع الثاني
نقد كتاب
(القول القاطع فيمن امتنع عن الشرائع)(7/144)
صدر هذا الكتاب على أنه من المعالم الشرعية والفكرية للجماعة الإسلامية بمصر، إعداد: الأستاذين عصام دربالة وعاصم عبدالماجد. وموضوع الكتاب: هو بحث حكم الحاكم الذي يحكم بغير شريعة الإسلام هو وطائفته التي تنصره والتي سمّوها بالطائفة الممتنعة، وانتهى البحث إلى أنه يجب قتال هذه الطائفة وأن الحاكم بعينه كافر أما أفراد الطائفة فلا يكفر منهم أحد ٌُ إلا بجحد ماامتنعت عنه الطائفة وهو هنا الحكم بما أنزل الله.
وقد اشتمل الكتاب على عدة أخطاء نبّهت على أحدها في (أخطاء التكفير) وهو اشتراط الجحد للتكفير بالذنوب المكفرة، وهنا ننبه على هذا وعلى غيره من الأخطاء.
فنقول وبالله التوفيق:
أولا: مواضع النقد في الكتاب على التفصيل
1 ــ جاء في صـ 13 (أيما طائفة ذات شوكة تمتنع عن شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة الواجبة فإنها تقاتل عليها ــ إلى قوله ــ وهذه الطائفة لاتكفر طالما أنها لم تجحد وجوب ماامتنعت عنه، أما إذا جحدوا فقد صاروا بالجحود مرتدين) أهـ، وتكرر هذا في صـ 23 و 44 و 143. والتعميم المذكور في هذه العبارة خطأ، إذ إن الواجبات الشرعية قسمان:
أ ــ ما يدخل في أصل الإيمان، فهذه الواجبات يكفر تاركها بمجرد الامتناع عنها، جحدها أو لم يجحدها، ومن هذا الباب كفر تارك الصلاة ومانعي الزكاة بإجماع الصحابة كما ذكرته في التنبيه الهام المذكور عقب تعقيبي على قول الطحاوي (ولايخرج العبد من الإيمان إلا بجحود ماأدخله فيه). فتقييد التكفير في هذا القسم ــ وهى الذنوب المكفرة ــ بالجحد هو مذهب غلاة المرجئة.
ب ــ وما يدخل في الإيمان الواجب، فهذه الواجبات لايكفر تاركها بمجرد الامتناع عنها، فإذا جحد وجوبها كَفَر سواء فعلها أو لم يفعلها.(7/145)
فتعميم القول بأن تارك الواجب لايكفر إلا بالجحد كما ورد بهذا الكتاب ــ دون تفريق بين مايُخل بأصل الإيمان ومايُخل بالإيمان الواجب ــ هو قول غلاة المرجئة، خاصة وأن أصحاب كتاب (القول القاطع) اشترطوا المجاهرة بالجحد كشرط للتكفير، فقد قالوا في صـ 23 (أما إذا كانت مع امتناعها جاحدة فقد جاهرت بالجحود فتصير مرتدة) أهـ.
وقد سبق أن نقلنا عن ابن تيمية تكفير السلف لمن قال بهذا، ومن هذا قوله رحمه الله (قال حنبل: حدثنا الحميدي قال: وأُخبِرت أن ناساً يقولون: من أقر بالصلاة والزكاة والصوم والحج ولم يفعل من ذلك شيئاً حتى يموت، ويصلي مستدبر القبلة حتى يموت، فهو مؤمن مالم يكن جاحداً، إذا علم أن تركه ذلك فيه إيمانه، إذا كان مُقراً بالفرائض واستقبال القبلة، فقلت: هذا الكفر الصراح وخلاف سنة رسوله وعلماء المسلمين، قال الله تعالى «وما أمِروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين» الآية. وقال حنبل: سمعت أبا عبدالله أحمد بن حنبل يقول: من قال هذا فقد كفر بالله ورَدّ على الله أمره وعلى الرسول ماجاء به عن الله) (مجموع الفتاوى) 7/ 209.
وإنما كَفَّر السلف من قال إنه لا يكفر بترك هذه الواجبات إلا الجاحد، لأن مادَلّ الدليل الشرعي على كفر فاعله (من ترك واجب أو فعل محرم) فلا يجوز تقييد كفره بجحد واستحلال وذلك بدلالة الكتاب والسنة وإجماع الصحابة كما ذكرته في التنبيه الهام المشار إليه، فمن امتنع من تكفير هذا حتى يجحد فقد رَدّ على الله أمره وعلى الرسول ما جاء به عن الله كما قال أحمد بن حنبل، ومن رد أمر الله ورسوله فقد كفر.
ونقل ابن تيمية أيضا عن أحمد بن حنبل بإسناده عن معقل بن عبيد الله العبسي أنه قال لنافع ــ مولى ابن عمر ــ (إنهم يقولون: نحن نُقر بأن الصلاة فرض ولانصلي، وبأن الخمر حرام ونشربها، وأن نكاح الأمهات حرام ونحن ننكح، فَنَثَر يده من يدي وقال: من فعل هذا فهو كافر) (مجموع الفتاوى) 7/ 205.(7/146)
وقال ابن تيمية أيضا (إنه لو قُدِّر أن قوماً قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: نحن نؤمن بما جِئتنا به بقلوبنا من غير شك، ونقر بألسنتنا بالشهادتين، إلا أنا لا نطيعك في شيء مما أمرتَ به ونهيتَ عنه، فلا نصلي، ولا نصوم، ولانحج ولانَصْدق الحديث، ولانؤدي الأمانة، ولانفي بالعهد، ولانصل الرحم، ولانفعل شيئا من الخير الذي أمرت به، ونشرب الخمر، وننكح ذوات المحارم بالزنا الظاهر، ونقتل من قدرنا عليه من أصحابك وأمتك، ونأخذ أموالهم، بل نقتلك أيضا ونقاتلك مع أعدائك، هل كان يتوهم عاقل أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول لهم: أنتم مؤمنون كاملوا الإيمان وأنتم من أهل شفاعتي يوم القيامة ويُرجَى لكم أن لايدخل أحد منكم النار؟. بل كل مسلم يعلم بالاضطرار أنه يقول لهم: أنتم أكفر الناس بما جئت به، ويضرب رقابهم إن لم يتوبوا من ذلك) (مجموع الفتاوى) 7/ 287.
فإذا نظرنا إلى الموضوع محل البحث في هذا الكتاب (القول القاطع) نجده الامتناع عن الحكم بالشريعة ــ صفحة ب بمقدمة الكتاب ــ، فمن التقصير الواضح أن يخلو الكتاب من الكلام في قوله تعالى (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) المائدة 44.(7/147)
وقد سبق التنبيه من قبل ــ في نقد كلام حسن الهضيبي، وفي نقد رسالة (ضوابط التكفير عند أهل السنة) ــ على أن ترك الحكم بالشريعة من الذنوب المكفرة، وكذلك الحكم بغيرها، وتفصيل المسألة بالمبحث الثامن إن شاء الله. فإذا كان الامتناع عن الحكم بالشريعة من الذنوب المكفرة، فإن التكفير به لا يُقَيَّد بالجحد كما ذكرته في التنبيه الهام المذكور في تعليقي على العقيدة الطحاوية في بيان مايشترط للتكفير به من الذنوب أن يكون فاعلها جاحداً أو مستحلاً، ومالا يشترط فيه ذلك. وذكرت أن هذا التفريق بين النوعين من الذنوب ــ المكفرة بذاتها وغير المكفرة ــ ثابت بالكتاب والسنة وإجماع الصحابة، ولثبوته كفَّر السلف غلاة المرجئة الذين اشترطوا الجحد للتكفير بالذنوب المكفرة كما نقلته عن ابن تيمية آنفا. وإهمال العمل بهذه القاعدة يترتب عليه ادخال كثير من الكفار في الملّة.
والحاصل أن القول بأن الممتنع عن الحكم بالشريعة لايكفر إلا بالجحد كما تقول هذه الجماعة في كتابها (القول القاطع) هو قول مخالف للكتاب والسنة والإجماع، وهو قول غلاة المرجئة كما أثبته آنفا.(7/148)
بل قد قال العلماء إن من يفعل الذنوب المكفِّرة لو ادعى أنه مُقِر بوجوبها، فإن هذا لايمنع من تكفيره، بل يكون كاذباً في دعواه هذه، كما قال ابن تيمية رحمه الله (ولايتصور في العادة أن رجلاً يكون مؤمناً بقلبه، مقراً بأن الله أوجب عليه الصلاة، ملتزماً لشريعة النبي صلى الله عليه وسلم وماجاء به، يأمره ولي الأمر بالصلاة فيمتنع، حتى يقتل، ويكون مع ذلك مؤمناً في الباطن قط لا يكون إلا كافراً، ولو قال أنا مقر بوجوبها غير أني لا أفعلها كان هذا القول مع هذه الحال كذباً منه، كما لو أخذ يلقي المصحف في الحشّ ويقول: أشهد أن مافيه كلام الله، أو جعل يقتل نبياً من الأنبياء ويقول أشهد أنه رسول الله، ونحو ذلك من الأفعال التي تنافي إيمان القلب، فإذا قال أنا مؤمن بقلبي مع هذه الحال كان كاذبا فيما أظهره من القول.) (مجموع الفتاوى) 7/ 615 ــ 616.
ومن كلام شيخ الإسلام هذا تعلم أن الذنوب المكفرة كترك الصلاة وترك الحكم بما أنزل الله وغيرها لا يمنع من التكفير بها قول فاعلها إنه مقر بوجوبها غير جاحد لها. فإن مجرد فعل الذنوب المكفرة ينافي إيمان القلب لأنها مخلة بأصل الإيمان، فإن أظهر بلسانه خلاف ذلك كان كاذبا ً.
ومثله قول الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ (لو قال من حَكَّم القانون: أنا اعتقد أنه باطل، فهذا لا أثر له، بل هو عزل للشرع، كما لو قال أحدٌُ: أنا أعبد الأوثان واعتقد أنها باطل) (فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم) جمع عبدالرحمن بن قاسم النجدي، جـ 6 صـ 189، ط 1399 هـ بمكة المكرمة. فانظر كيف سَوَّى بين حكم القانون وعبادة الأوثان لأن كلاهما فعل مكفر يكفر فاعله بمجرد فعله دون النظر إلى مايخبر به لسانه عن اعتقاده.
والخلاصة: أن الامتناع عن الحكم بالشريعة كفر أكبر لايشترط لتكفير فاعله أن يكون جاحداً لما امتنع عنه، وأن اشتراط الجحد للتكفير بهذا الذنب المكفر كما تقول هذه الجماعة هو قول غلاة المرجئة.(7/149)
وبهذه الخُرافة ــ وهى تعميم القول باشتراط الجحد للتكفير بترك الواجب ــ احتجّت المحكمة العسكرية التي حكمت بقتل المسلمين الذين قتلوا حاكم مصر السابق أنور السادات عام 1981م، بأنه وإن لم يحكم بالشريعة إلا أنه لم يجحد وجوب الحكم بها وبذلك فهو لم يكفر، وبالتالي فإنه قُتِلَ بغير حق وقتلته يستحقون القصاص. وأتت المحكمة بقول للشيخ محمد متولي الشعراوي ــ الذي نقلته في الرد السابق على الألباني ــ أنه لايكفر تارك الواجب إلا إذا أنكر وجوبه، وأتت بقول مثله للشيخ محمد أبي زهرة، ثم قالت المحكمة (فإذا ماطبقنا قواعد الشرع السابق تفصيلها والتي استندنا فيها إلى كتاب الله وسنة رسوله، وآراء أهل الذكر من فقهاء المسلمين على مانسبه المتهمون للرئيس الراحل محمد أنور السادات، تكفيرا له واستحلالا لدمه نجده ــ رحمه الله ــ لم يجحد ماأنزله الله في كتابه الكريم وعلى لسان رسوله عليه الصلاة والسلام، لم ينكر ضرورة الحكم بما أنزل الله بدليل نص المادة الثانية من الدستور في عهده بناء على استفتاء تم عام (1980)، أصبحت فيه الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع وانعقدت اللجان ولازالت تعمل لتقنين الشريعة الإسلامية وإحلالها محل القانون الوضعي على مستوى مجلس الشعب والأزهر الشريف، وإن مانسبه المتهمون للمجني عليه من إتيانه أموراً مخالفة للدين الإسلامي، فهى أمور إن صحت فتدخل في باب الذنوب والمعاصي التي لاتخرجه عن ربقة الإسلام.)
نقلا عن كتاب (أشهر قضايا الاغتيالات السياسية) لمحمود كامل العروسي، ط الزهراء للإعلام 1989م، صـ 636 ــ 637.
وكما ترى فإنه بمثل هذه الخرافات أصبح الحاكم الكافر مسلماً معصوم الدم، وأصبح المجاهدون الذين قتلوه قتلة ً مجرمين يستحقون القصاص. وسوف يأتي تفنيد شبهة الجحد هذه عند الكلام في موضوع الحكم بغير ماأنزل الله بالمبحث الثامن إن شاء الله.(7/150)
2 ــ وجاء في صفحة ب بالمقدمة (ولايخفى أننا نُفَرِّق بين الحكام المبدِّلين وأعيان طائفتهم التي تعينه وتنصره، فهؤلاء الحكام مرتدون لتبديلهم شرع الله، أما أعيان الطائفة فغير خاف ٍ أنه يجب التأكد من تحقيق شروط الأهلية وانتفاء موانعها وإقامة الحجة قبل الحكم بردتهم على التعيين) أهـ. ونعلق على هذه الفقرة بما يلي:
أ ــ جاء في نفس الصفحة (وهذه الطائفة لاتكفر طالما أنها لم تجحد وجوب ماامتنعت عنه، أما إذا جحدوا فقد صاروا بالجحود مرتدين) أهـ، فلماذا لم يطبق قاعدته هذه في تقييد الردة بالجحد على الحكام المبدلين؟، فهُم مع حكمهم بغير الشريعة يقرون في دساتيرهم أن دين الدولة الإسلام وأن الشريعة هى المصدر الرئيسي للتشريع ويعتذرون بأن العمل جار ٍ لتقنين الشريعة ونحو ذلك. فلماذا أَكْفَرَ الحكام مع إقرارهم بوجوب تطبيق الشريعة؟، هذا تناقض ولابد أن أحد قوليه أو كلاهما خطأ، ولا شك في أن قوله الأول ــ وهو تقييد الكفر بالجحد ــ هو الخطأ.
ب ــ وقال إنه لا يجوز الحكم بردّة أعيان طائفتهم قبل تبين توفر الشروط وانتفاء الموانع، فلماذا أكفر الحكام قبل تبين توفر الشروط وانتفاء الموانع لديهم؟ هذا تناقض.
جـ ــ وأما قوله بوجوب تبين الشروط وانتفاء الموانع لدى أعيان الطائفة قبل الحكم بردتهم فقول فاسد مخالف لإجماع الصحابة، لأن هذه الطائفة ممتنعة عن القدرة بالشوكة، والممتنع لايُستتاب ولايتبين فيه شروط أو موانع كما ذكرته في قاعدة التكفير، ونقلت هناك قول ابن تيمية رحمه الله (ولأن المرتد لو امتنع ــ بأن يلحق بدار الحرب أو بأن يكون المرتدون ذوي شوكة يمتنعون بها عن حكم الإسلام ــ فإنه يقتل قبل الاستتابة بلا تردد) (الصارم المسلول) صـ 322، وقال أيضا (على أن الممتنع لايُستتاب، وإنما يُستتاب المقدور عليه) (الصارم المسلول) صـ 325 ــ 326.(7/151)
وذكرت هناك أن النبي صلى الله عليه وسلم أهدر دم عبدالله ابن أبي السرح لما ارتد ولحق بمكة قبل فتحها بدون تبين شروط وانتفاء موانع، وعلى هذا انعقد إجماع الصحابة فإنهم حكموا بردة أعوان أئمة الكفر كمسيلمة الكذاب وطليحة الأسدي وغيرهم وسمّوهم جميعا بالمرتدين وكانوا ألوفاً ولم يتبينوا شروطاً أو موانع في أعيانهم، وسيأتي تفصيل هذا في نقد الكتاب التالي لنفس هذه الجماعة وهو كتاب (الرسالة الليمانية في الموالاة). فالقول بتبيّن الشروط والموانع في أعيان الممتنعين عن القدرة كما تقول به هذه الجماعة هو خلاف السنة وخلاف إجماع الصحابة رضي الله عنهم الذي هو سبيل المؤمنين.
د ــ وورد أيضا في الفقرة السابقة قولهم (ولايخفى أننا نفرق بين الحكام المبدّلين وأعيان طائفتهم...). وهذا التفريق أيضا ماأنزل الله به من سلطان، فإن التسوية بين أفراد الطائفة الممتنعة في الأحكام ثابت بالكتاب والسنة والإجماع، وسوف يأتي بسط الأدلة على ذلك في نقد الكتاب التالي (الرسالة الليمانية في الموالاة) إن شاء الله، ولذلك فإني أشير إلى هذه الأدلة هنا إشارة موجزة:
* فدليل التسوية من الكتاب: قوله تعالى (إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين) القصص 8، فجعل الله حكم التابع والمتبوع سواء.
* ودليل التسوية من السنة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أجرى على عمه العباس حكم الكفار بأخذ الفداء منه لما أُسِرَ يوم بدر لخروجه في صف الكفار، فجعل حكمه كحكمهم.
* ودليل التسوية من الإجماع: هو إجماع الصحابة على كفر أنصار أئمة الردة كمسيلمة وطليحة وغيرهما، وسمّوهم جميعا مرتدين بدون تفريق بين تابع ومتبوع، وغنموا أموالهم وسبوا نساءهم وقطعوا بأن قتلاهم في النار، والنار لا يُقطع بها إلا لكافر، وقتلاهم معينون، فقطعوا بكفر الأتباع على التعيين، وبسط هذا في نقد (الرسالة الليمانية).(7/152)
ولأجل وضوح أدلة هذه المسألة صارت التسوية بين الممتنعين في الأحكام قاعدة فقهية، وقد ذكرها شيخ الإسلام في قوله (والطائفة إذا انتصر بعضها ببعض حتى صاروا ممتنعين فهُم مشتركون في الثواب والعقاب ــ إلى قوله ــ فأعوان الطائفة الممتنعة وأنصارها منها فيما لهم وعليهم ــ إلى قوله ــ لأن الطائفة الواحدة الممتنع بعضها ببعض كالشخص الواحد) (مجموع الفتاوى) 28/ 311 ــ 312. والعجب من أن أصحاب كتاب (القول القاطع) نقلوا كلام ابن تيمية هذا في صـ 126 من كتابهم ومع ذلك قالوا (إننا نفرق بين الحكام المبدلين وأعيان طائفتهم) فيحتجّون في موضع ٍ بكلام يخالفونه في موضع ٍ آخر.
3 ــ ومن الأخطاء الواردة في هذا الكتاب مانقلوه عن الخطابي رحمه الله من أن مانعي الزكاة على عهد أبي بكر هم مع إقرارهم بوجوبها بغاة وإنما سُمّوا مرتدين في ذلك الزمان خصوصاً لدخولهم في غمار أهل الردة (صـ 18 بكتاب القول القاطع). وفي نفس المسألة ذكروا أن مانعي الزكاة عند ابن تيمية وعند أكثر أهل العلم ليسوا كفاراً (صـ 47 بكتاب القول القاطع).
هذا مع أنهم نقلوا في نفس كتابهم هذا في صـ 61 منه قول ابن تيمية (وقد اتفق الصحابة والأئمة بعدهم على قتال مانعي الزكاة وإن كانوا يصلون الخَمْس ويصومون شهر رمضان، وهؤلاء لم يكن لهم شبهة سائغة فلهذا كانوا مرتدين، وهم يُقَاتَلون على منعها وإن أقروا بالوجوب) وهذا الكلام موجود (بمجموع الفتاوى) 28/519، وقال ابن تيمية أيضا (وإذا كان السلف قد سمّوا مانعي الزكاة مرتدين مع كونهم يصومون ويصلون ولم يكونوا يقاتلون جماعة المسلمين، فكيف بمن صار مع أعداء الله ورسوله قاتلا للمسلمين؟) (مجموع الفتاوى) 28/ 531. فهذا كلام ابن تيمية بخلاف مانسبوه إليه، فالعجب من أنهم في صـ 47 من كتابهم قالوا إن ابن تيمية لايكفر مانعي الزكاة، ثم في صـ 61 نقلوا قوله في تكفيرهم وأنه إجماع الصحابة.(7/153)
فاعلم أن تكفير مانعي الزكاة هو إجماع الصحابة كما قال ابن تيمية، وقد نقل هذا الإجماع أيضا: أبو بكر الجصّاص الحنفي في (أحكام القرآن) في تفسير قوله تعالى (فلا وربك لايؤمنون) النساء، ونقله القاضي أبو يعلى الحنبلي في كتابه (مسائل الإيمان) صـ 330 ــ 332، ط دار العاصمة 1410 هـ، وهو قول علماء الدعوة النجدية، انظر (الدرر السنية في الأجوبة النجدية) 8/ 131، وقد نقلت هذه الأقوال في التتنبيه الهام المذكور عقب التعليق على قول الطحاوي (ولايخرج العبد من الإيمان...) وسُئل الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ: قتال مانعي الزكاة هل هو ردّة؟ فأجاب (الصحيح أنه ردّة لأن الصدّيق لم يفرق بينهم ولا الصحابة ولا من بعدهم) (فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم) جمع عبدالرحمن بن قاسم جـ 6 صـ 202.(7/154)
وبهذا تعلم أن قول الخطابي رحمه الله في مانعي الزكاة الذي نقلوه في كتابهم (القول القاطع)، مُقِرِّين به، هو خطأ مخالف لإجماع الصحابة، وأن القول بأن مانعي الزكاة بغاة لإقرارهم بوجوبها أنما هو جارٍ على أصول المرجئة الذين دخلت شبههم على كثير من الفقهاء كما قال ابن تيمية. وخلاف المتأخرين في تكفير مانعي الزكاة ــ بعد إجماع الصحابة عليه ــ لااعتبار له، وهو كاختلافهم في تكفير تارك الصلاة بعد إجماع الصحابة على تكفيره، وهؤلاء المتأخرون وصفهم ابن تيمية بقوله (وأما المتأخرون الذين لم يتحروا متابعتهم وسلوك سبيلهم، ولا لهم خبرة بأقوالهم وأفعالهم، بل هم في كثير مما يتكلمون به في العلم ويعملون به، لايعرفون طريق الصحابة والتابعين في ذلك ــ إلى أن قال ــ كما تجد كتب أهل الكلام مشحونة بذلك، يحكون إجماعاً ونزاعاً ولايعرفون ماقال السلف في ذلك البته، بل قد يكون قول السلف خارجاً عن أقوالهم ــ إلى أن قال ــ لأن كثيراً من أصول المتأخرين مُحدَثٌُ مبتدع في الإسلام مسبوق بإجماع السلف على خلافه، والنزاع الحادث بعد إجماع السلف خطأ قطعاً) (مجموع الفتاوى)
13/ 25 ــ 26. وقال أبو حامد الغزالي رحمه الله ــ فيما يجب على طالب العلم ــ (ومنها أن يكون شديد التّوقي من محدثات الأمور وإن اتفق عليها الجمهور، فلا يغرّنه إطباق الخلق على ماأُحدث بعد الصحابة رضي الله عنهم، وليكن حريصاً على التفتيش عن أحوال الصحابة وسيرتهم وأعمالهم ــ إلى أن قال ــ واعلم تحقيقا أن أعلم أهل الزمان وأقربهم إلى الحق أشبههم بالصحابة وأعرفهم بطريق السلف، فمنهم أُخِذَ الدين ــ إلى قوله ــ فلا ينبغي أن يكترث بمخالفة أهل العصر في موافقة أهل عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم) (إحياء علوم الدين) 1/95.(7/155)
وأنا أنصح كل مسلم عامة وكل مهتم بالعلم الشرعي خاصة أن يتحرى أقوال السلف من الصحابة والتابعين ماوجد إلى هذا سبيلا قبل أن ينظر في أقوال المتأخرين كقول الخطابي هذا الذي لايَعرف كثيرٌُ من المعاصرين غيره في مسألة مانعي الزكاة. وبالله التوفيق.
4 ــ ومن الأخطاء الواردة في هذا الكتاب (القول القاطع) في صـ 141، حيث ذكروا شبهة مفادها (إن الأئمة والحكام وإن امتنعوا عن كل شرائع الإسلام لايجوز الخروج عليهم وقتالهم ماداموا يصلون) واستدل أصحاب الشبهة بأحاديث منها قوله صلى الله عليه وسلم (خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم وتُصلّون عليهم ويُصلّون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تُبغضونهم ويُبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم) قال: قلنا يارسول الله أفلا ننابذهم عند ذلك. قال (لا، ما أقاموا فيكم الصلاة) أهـ.
وفي حديث آخر: فقالوا: أفلا نقاتلهم؟ قال صلى الله عليه وسلم (لا، ماصَلّوا) رواهما مسلم في كتاب الإمارة. ثم شرع المؤلفان في الرد على هذه الشبهة والذي تلخص في أن إقامة الصلاة إشارة إلى إقامة الدين، ومادام هؤلاء الحكام لايقيمون الدين فلا مانع من منابذتهم وقتالهم.
وحاصل ردّهم على هذه الشبهة صحيح إلا أنه ردٌُّ قاصر من وجهين:(7/156)
الأول: أنه كان ينبغي ــ قبل الرد علي الشبهة ــ التنبيه على أن هذه الأحاديث ليست نصاً في محل النزاع. فالأحاديث التي استدل بها أصحاب الشبهة واردة في حق أئمة المسلمين لا في هؤلاء الحكام المرتدين، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم (أئمتكم) أي أئمة المسلمين لأن الإضافة في اللفظ تدل على الاختصاص، كما في قوله تعالى (وأولي الأمر منكم) النساء 59، ويؤكده قوله تعالى (ياأيها الذين آمنوا شهادةُ بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية، اثنان ذوا عدل ٍ منكم أو آخران من غيركم) الآية ــ المائدة 106، فمعنى (منكم) أي من المسلمين، ومعنى (من غيركم) أي من غير المسلمين، لاخلاف بين العلماء في ذلك، فالإضافة إلى ضمير المخاطبين في قوله صلى الله عليه وسلم (أئمتكم) وفي قوله تعالى (منكم) تدل على الاختصاص، أي أئمة المسلمين ومن المسلمين على الترتيب. ولايكون أحدٌُ إماماً للمسلمين إلا أن يستوفي ثلاثة أشياء:
الأول : أن تتوفر فيه شروط الإمامة وعلى رأسها: العدالة في الدين والعلم الشرعي.
والثاني : أن تنعقد إمامته بموجب بيعة شرعية على الكتاب السنة.
والثالث : أن يقوم بواجبات الأئمة والتي على رأسها حفظ الدين على أصوله المستقرة كما ذكر الماوردي وأبو يعلى في كتابيهما في (الأحكام السلطانية).
فهل استوفى هؤلاء الحكام المرتدون شروط الإمامة؟ وهل بويعوا على الكتاب والسنة أم بويعوا على الحكم بالدستور والقانون الوضعيين أي الحكم بالطاغوت؟ وهل يقومون بواجبات الأئمة كحفظ الدين على أصوله المستقرة أم أنهم يهدمون أصول الدين؟. فهؤلاء الحكام لم تنعقد لهم بيعات شرعية من الأصل فليسوا أئمة للمسلمين، وحَمْل النصوص الواردة في الأئمة على الحكام المرتدين حَيْدة وخداع وتلبيس، كمن تناظره في مسألة فيعترض عليك بدليل وارد في مسألة أخرى، وكان ينبغي أن ينبه أصحاب كتاب (القول القاطع) على هذه الحيدة والتلبيس.(7/157)
والوجه الثاني: هو عدم استيفاء أصحاب كتاب (القول القاطع) أدلة المسألة محل البحث، فالذي يتكلم في مسألة ينبغي أن يستوفي أدلتها عامها وخاصها، مطلقها ومقيدها، وذلك أنه بالنسبة لأئمة المسلمين فإن جميع الأحاديث الآمرة بالصبر عليهم والناهية عن الخروج عليهم، كالحديثين اللذين استدل بهما أصحاب الشبهة وكأحاديث ابن عباس المتفق عليها (من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر...) الحديث، هذه الأحاديث كلها مقيدة بحديث عبادة بن الصامت (وألا ننازع الأمر أهله، قال: إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان) الحديث متفق عليه.
ولهذا فإن البخاري رحمه الله ــ في الباب الثاني بكتاب الفتن من صحيحه ــ لما ذكر أحاديث الصبر على الأئمة كأحاديث ابن عباس هذه أتبعها بحديث عبادة ابن الصامت، إشارة منه إلى مايقيد الصبر وعدم الخروج. وكذلك صنع مسلم رحمه الله في كتاب الإمارة من صحيحه. فالصبر وعدم الخروج على الأئمة مقيد بعدم وقوعهم في الكفر الصريح، فإذا كفروا فقد وجب الخروج عليهم. ولم يذكر أصحاب كتاب (القول القاطع) حديث عبادة بن الصامت المقيد لما عداه في نفس المسألة وهذا من التقصير في البحث. وبدلا من ذلك شرعوا في التكلّف بحمل قوله صلى الله عليه وسلم (ماأقاموا فيكم الصلاة) على أن المراد إقامة الدين، وهذا التأويل غير صحيح لأن إقامة الصلاة أخص من إقامة الدين وإقامة الدين أعم من إقامة الصلاة، ومن الناحية الأصولية فإنه يجوز أن يراد بالعام الخصوص، ولكن الخاص (كإقامة الصلاة) لايراد به العام
(كإقامة الدين). والذي نقلوه عن النووي لايفيد ذلك بل ذكر النووي رحمه الله (أنه لايجوز الخروج على الخلفاء بمجرد الظلم أو الفسق مالم يغيروا شيئاً من قواعد الدين) (صحيح مسلم بشرح النووي) 12/ 243.(7/158)
فلم يقل النووي إن إقامة الصلاة إشارة إلى إقامة الدين، بل قال (مالم يغيروا شيئا من قواعد الدين) يشير بذلك لحديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه. أما الذي نقلوا عنه أن إقامة الصلاة إشارة إلى إقامة الدين كله فهو الدكتور علي جريشة، وليس هذا من كلام أهل العلم، لمخالفته لقواعد الأصول.
وهناك حديث صريح في تقييد طاعة الأئمة بإقامة الدين كان ينبغي ذكره لأن دلالة النص أقوى من دلالة الإشارة المذكورة مع مافيها من تكلّف، والحديث هو مارواه البخاري بسنده عن معاوية رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (إن هذا الأمر في قريش لايعاديهم أحدٌُ إلا كَبَّه الله في النار على وجهه، ماأقاموا الدين) أهـ (حديث 7139). وتقييد هذا كله بحديث عبادة بن الصامت (إلا أن تروا كفراً بواحاً) هو الأوْلى والصواب.
واعلم أنه لامنافاة بين قوله صلى الله عليه وسلم (إلا أن تروا كفراً بواحاً) وبين قوله (لا ماصلّوا). ففي الأول نهى عن منابذة الأئمة وقتالهم إلا إذا كفروا، وفي الثاني نهي عن ذلك إلا إذا تركوا الصلاة، ولاتعارض فإن ترك الصلاة كفر بإجماع الصحابة كما سبق بيانه، فتركها سبب من أسباب الكفر، والنص على هذا السبب مع عموم قوله (كفراً بواحاً) هو من باب النص على الخاص بعد العام لأهميته وللتنبيه عليه، كما في قوله تعالى (من كان عدواً لله وملائكته ورُسُله وجبريل وميكال فإن الله عدوّ للكافرين) البقرة 98، فإن جبريل وميكال من الملائكة ومع ذلك أفردهما الله بالنص للتنبيه، وكذلك فإن ترك الصلاة من الكفر وأفِردت بالنص لأهميتها. ويعتبر هذا من الأدلة على كفر تارك الصلاة فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الخروج على الأئمة إلا إذا كفروا وأجاز الخروج عليهم بترك الصلاة فعُلِمَ أن تركها من الكفر المبيح للخروج عليهم. أما إذا كفروا بسبب آخر غير إقامة الصلاة فإن الخروج عليهم واجب أيضا لعموم حديث عبادة.(7/159)
والخلاصة: أن كان ينبغي الرد على أصحاب هذه الشبهة من وجهين
الأول: أن الأحاديث التي استدلوا بها ــ (لا ماأقاموا فيكم الصلاة) ــ ليست نصاً في محل النزاع، فهى في حق أئمة المسلمين لا الحكام المرتدين، فالاستدلال بها حيدة.
الثاني: أنه لو افترضنا جدلاً أن هذه الأحاديث تنطبق على هؤلاء الحكام فهى مُقَيَّدة بحديث عبادة بن الصامت (إلا أن تروا كفراً بواحاً). هذا وبالله التوفيق.
5 ــ وجاء بكتاب (القول القاطع) في صـ 122 شبهة تقول (بأي شيء استبحتم دماء كل طائفة ممتنعة عن شرائع الإسلام وقد قال صلى الله عليه وسلم «لا يحل دم امريء مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة» فأين هذه الطائفة من هذه الأصناف المذكورة؟) أهـ.
وقد تهرَّب أصحاب الكتاب من الإجابة عن هذا السؤال. فأفادوا بأن الحديث لايفيد الحصر وضربوا أمثلة لأصناف يجوز قتلهم غير مندرجين في لفظ هذا الحديث، وهذا صواب، ولكن الأصناف التي ذكروها قد ورد في كل منهم دليل من الكتاب أو السنة يبين مشروعية قتله، فقتل الجاسوس فيه حديث حاطب بن أبي بلتعة، وقتل الداعي للبدعة فيه أحاديث الخوارج، وقتل شارب الخمر في المرة الرابعة فيه حديث ولكنه منسوخ بلا خلاف، وقتل من تزوج امرأة أبيه فيه حديث البراء بن عازب وأبي بردة بن نيار، فالأمثلة المذكورة قد ورد في كل منها نص خاص.(7/160)
ثم قالوا إن حديث (لايحل دم امريء مسلم....) هو في القتل لا القتال ومسألتهم في القتال فهو ليس نصاً في محل النزاع. وهذا صحيح ولكنه لايعني جواز القتال بدون مستند من نص شرعي، ولم يذكر أصحاب كتاب (القول القاطع) نصاً من كتاب ٍ أو سنة ٍ كدليل على قتال الطائفة الممتنعة محل البحث وهى الطائفة الممتنعة عن الحكم بالشريعة والحاكمة بالقوانين الوضعية كما ذكروه في صفحة (ب) بالمقدمة، وإنما اعتمدوا فيما قرروه من أحكام على أقوال العلماء، وقد سبق في الباب الرابع من هذا الكتاب ــ عند الكلام في آداب المتعلم ــ بيان أن أقوال العلماء يُحتج لها ولايحتج بها، فأقوالهم ليست حجة بذاتها وإنما الحجة في الأدلة الشرعية، وإذا قال العالم قولاً بدليله فالحجة في الدليل الذي ذكره لا في قوله.
والحاصل أن كتاب (القول القاطع) اتسم بتقصيرٍ واضح في بحث المسألة التي هى صلب الكتاب وسبب تأليفه، وهو حكم الطائفة الحاكمة بغير ماأنزل الله في بلد ٍ بعينه وهى مصر كما جاء في صفحتي (ب) و (جـ) بالمقدمة، وجاء التقصير في صور منها:
أ ــ لم يبين أصحاب الكتاب ــ من أوله لآخره ــ من أي صنف هذه الطائفة محل البحث، فالطائفة الممتنعة قد تكون من المرتدين أو الخوارج أو البغاة أو قطاع الطرق المحاربين، ولكل صنف من هؤلاء أحكام خاصة بقتاله، ذكروا بعضها بكتابهم في صـ 143 ــ 152، ولم يبينوا من أي صنف قتال الطائفة محل البحث.(7/161)
ب ــ ولم يبين أصحاب الكتاب ــ من أوله لآخره ــ هل الطائفة محل البحث مسلمة أم مرتدة؟، وإنما علقوا حكمها على الجحد من عدمه، وهو شرط فاسد وهو قول غلاة المرجئة كما أسلفت القول، ومع ذلك فلم يبينوا هل هى جاحدة أم لا؟، وحاصل هذا أنهم يفتون المسلمين بقتال طائفة لايدرون هل هى كافرة أم مسلمة؟، أما التفريق الذي ذكروه بين الحاكم وأعوانه ــ كما نقلت عنهم من قبل ــ فتفريق فاسد ومخالف للكتاب وللسنة ولإجماع الصحابة، فالطائفة الممتنعة كالشخص الواحد كما قال شيخ الإسلام رحمه الله.
جـ ــ ولم يذكر أصحاب الكتاب ــ من أوله لآخره ــ دليلاً من كتاب أو سنة لاستباحة دماء هذه الطائفة، وإنما اعتمدوا على أقوال لبعض العلماء ولا حجة فيها ولاتستباح بها الدماء وإنما تستباح الدماء بالدليل الصحيح السالم من المعارض.
وهناك فرق بين البحث الفقهي المجرد وبين الفتوى في واقعة بعينها، والذي نحن فيه فتوى في واقعة معينة وهو حكم الطائفة الممتنعة عن الحكم بالشريعة في بلدٍ بعينه، فيجب تعيين هل هذه الطائفة كافرة أم مسلمة؟ وما دليل قتالها في كل ٍ من الحالين؟، وهذا ماخلا منه الكتاب.
وبهذا تعلم أن تسمية الكتاب (القول القاطع فيمن امتنع عن الشرائع) تسمية في غير محلها، كما تعلم أن (القول القاطع) غير قاطع في موضوعه، لما انطوى عليه من نقص ٍ.
6 ــ وجاء في هذا الكتاب في صـ 153 ــ 159 بيان بأحكام الديار، اشتمل على عدة أخطاء،
منها:
أ ــ كما لم يبيّن أصحاب كتاب (القول القاطع) حكم الطائفة المقصودة والتي هى محل البحث، فكذلك لم يبينوا حكم الدار المقصودة، وهى مصر في ظل حكمها بقوانين الكفار، وهذا من التقصير إذا لم يبينوا حكم الدار محل البحث.(7/162)
ب ــ ذكر أصحاب الكتاب قول ابن تيمية بأن ماردين قسم ثالث من الديار وأنها (دار مركبة)، ووصفوا هذا القول بأنه رأي قيّم. وهو رأي خطأ كما سبق بيانه في الموضوع السابق الخاص بأحكام الديار، إذ إن الديار قسمان لا ثالث لهما كما قال ابن مفلح الحنبلي تلميذ ابن تيمية، ونقله عنه علماء الدعوة النجدية وصَوَّبوه.
جـ ــ قال أصحاب الكتاب في صـ 153 ــ 154 (ويختلف المستشار علي جريشة مع أبي حنيفة والجمهور في حدود دار الحرب... فهو يرى أن كل بلد حُكِمَ بالإسلام فترة من الزمان يظل اسمه دار إسلام، ولو أزيل عنه حكم الإسلام بعد ذلك.. وإن انتفى الأمان لدى المسلمين فيه.. وإن انتفت المتاخمة لدار الإسلام.. وإن أُخرِج كل المسلمين منه. وهو يفتي بذلك حتى يظل الجهاد لاسترداد هذه الأراضى فرض عين ــ وهو كذلك ــ وحتى لايظن أحد أنه صار فرض كفاية إذا ماأطلقنا على الدار أنها دار كفر أو دار حرب) أهـ.
وهذه جرأة على مخالفة جمهور أهل العلم بغير دليل، فلو أن له دليلا صحيحاً لساغت المخالفة، ولكن قوله هذا مجرد استحسان، وقد قال الشافعي رحمه الله (من استحسن فقد شرَّع).
وكلامه هذا في أحكام الديار كلام فاسد فقد ذكرت في الموضوع السابق الخاص بأحكام الديار قول ابن تيمية إن صفة الدار ليست من الصفات اللازمة المؤبدة، بل حكم الدار يتغير بحسب تغيّر مناط الحكم، كما يتغير حال الشخص من الكفر إلى الإسلام وعكسه.(7/163)
وذكرت هناك أن القول بأن ماكان دار إسلام لايصير دار كفر أبدا هو قول ابن حجر المكي الهيتمي، وكان ينبغي أن يُنسب الكلام لأول من قال به كما جرى على هذا عمل أهل العلم، وذكرت هناك بعضاً من لوازم هذا القول، وقلت إن فساد هذا القول وفساد لوازمه يُغني عن إفساده. فراجع ماذكرته في ذلك في موضوع أحكام الديار. وليس ماذكروه من أسباب كون الجهاد فرض عين، حتى تُخترع مناطات جديدة لأحكام الديار، ففرض العين من الجهاد له ثلاثة أسباب معروفة في كتب الفقه، ليس منها كون بلد ما كان دار إسلام حكمه المسلمون يوماً ما، انظر في أسباب تعيّن وجوب الجهاد على سبيل المثال في (المغني مع الشرح الكبير) 10/ 366.
ثانيا: التقييم الإجمالي لكتاب (القول القاطع).
والخلاصة: أن كتاب (القول القاطع فيمن امتنع عن الشرائع) غير قاطع في موضوعه، لما اشتمل عليه من مخالفات عقائدية وأخطاء فقهية وتقصير في البحث.(7/164)
أما المخالفات العقائدية: فتمثلت في تبني أصحاب الكتاب لقول غلاة المرجئة في تعميم اشتراط الجحد كشرط مستقل للتكفير، وهذا القول مخالف للكتاب والسنة وإجماع الصحابة، وهذا القول شرٌ من قول مرجئة الفقهاء والأشاعرة والجهمية فقد اتفق جميعهم مع أهل السنة على أن من قال أو فعل ما دل الدليل على أنه كُفر فهو كافر دون قيد أو شرط، واتفق مرجئة الفقهاء والأشاعرة مع أهل السنة على أنه كافر ظاهراً وباطناً وإن اختلفوا في تفسير كفره على النحو الذي ذكرته من قبل، وأما الجهمية فلهم قولان قول مثل قول مرجئة الفقهاء والأشاعرة في أنه كافر ظاهراً وباطناً مع اتفاقهم معهم في تفسير كفره، وقول آخر أنه كافر ظاهراً في أحكام الدنيا ويحتمل أن يكون مؤمنا في الباطن ولأجل توقفهم في تكفيره باطنا أكفرهم السلف. فكيف بمن يتوقف في تكفيره ظاهراً وباطنا ويقول لايكفر لاظاهراً ولا باطناً إلا أن يجحد؟، وقد علمت من قبل حكم من قال بهذا، كما سبق تفصيل القول في هذا الموضوع في تعليقي على العقيدة الطحاوية، في التعليق على قول الطحاوي رحمه الله (ولايخرج العبد من الإيمان إلا بجحود ماأدخله فيه) وفي التنبيه الهام المذكور عقب ذلك.
وأما الأخطاء الفقهية الواردة بكتاب (القول القاطع)، فتمثلت في مخالفة إجماع الصحابة رضي الله عنهم في مواضع منها: اشتراط تبين شروط التكفير وموانعه في الممتنعين، والتفريق بين رءوس الطائفة الممتنعة وأتباعهم في الأحكام، وتبني قول شاذ مخالف لإجماع الصحابة في حكم مانعي الزكاة.
وأما التقصير في البحث، فقد كان في الموضوع الذي هو صلب الكتاب والباعث على تأليفه، ومن أوجه التقصير:
* عدم ذكر حكم الطائفة محل البحث، أمسلمة هى أم كافرة؟.
* عدم ذكر الأدلة على قتال هذه الطائفة من الكتاب والسنة، مع الحيدة عن الإجابة عن ذلك؟.
* عدم ذكر نوع قتال هذه الطائفة، من أي صنف هو؟.
* عدم ذكر حكم الدار محل البحث.(7/165)
هذا ما يتعلق بنقد كتاب (القول القاطع)، ثم نعرج على نقد كتاب آخر لنفس الجماعة وهو كتاب (الرسالة الليمانية في الموالاة)، وبالله تعالى التوفيق.
الموضوع الثالث:
نقد كتاب
(الرسالة الليمانية في الموالاة)
ومؤلفها: الأستاذ طلعت فؤاد قاسم، وهى أيضا من المعالم الشرعية والفكرية للجماعة الإسلامية بمصر، وتعتبر هذه الرسالة مكملة لكتاب (القول القاطع فيمن امتنع عن الشرائع) الذي سبق نقده، فقد جاء في صفحة ب من مقدمة كتاب (القول القاطع): (ولايخفى أننا نُفَرِّق بين الحكام المبدِّلين وأعيان طائفتهم التي تعينه وتنصره، فهؤلاء الحكام مرتدون لتبديلهم شرع الله، أما أعيان الطائفة فغير خاف ٍ أنه يجب التأكد من تحقيق شروط الأهلية وانتفاء موانعها وإقامة الحجة قبل الحكم بردتهم على التعيين) أهـ. فجاء كتاب (الرسالة الليمانية) ليبحث حكم أعيان الطائفة التي تعين الحاكم المرتد وتنصره، وانتهى مؤلفها إلى ما انتهى إليه أصحاب (القول القاطع) من عدم البت في حكم هذه الطائفة، وعدم اثبات حكم معين لأفرادها إلا بعد تبين أحوال أفرادها على التعيين، فقال في خاتمة هذه الرسالة في صـ 37 ــ 38 (ولكن ينبغي على كل من نصب نفسه حَكماً يحكم على الناس أن ينظر أولا في نوع هذه الموالاة: هل هى ظاهرية فقط، أم باطنية. فإن كانت ظاهرية ــ وليس هنالك أي فائدة أو مصلحة معتبرة ــ كان فاعلها آثما عاصيا بحسب درجة فعله، أما إذا كانت باطنية فهى كفر وفاعلها يُعْرف كُفره بإقامة الحجة عليه. وعلى هذا لانستطيع ــ ولا يصح ــ أن نحكم على أي مُوال ٍ ــ تعييناً ــ بالكفر، سواء كان موالياً لكفار، أو نظام أو ايديولوجية كافرة قبل اعتبار ماذكرناه من قواعد. نعم، نطلق على الفعل ــ عموماً ــ أنه فعل كفري، أو على النظام أنه نظام كافر، أما تعيين أفراده فلا يصح قبل اعتبار ماذكرنا. فمثلا النظام المصري الحالي هو نظام كافر، أما أفراده على التعيين ــ عدا رئيس الدولة ــ(7/166)
فيجب اعتبار ماذكرنا قبل الحكم بتكفير أي منهم، وإنما استثني رئيس الدولة لأن كفره من وجوه أخرى غير الموالاة، وهو الذي يُوالَى هنا، أما إذا كان يُراد البحث في كفره، فموالاته للغرب أو اليهود تنسحب عليها القواعد السابقة. وكذا القول في جهاز أمن الدولة المصري الحالي هو جهاز كافر، أما تعيين من يعمل فيه ــ ممن لانعلم حاله ولا نعلم نوع موالاته ــ فلا نحكم بتكفيره قبل اعتبار ما ذكرنا) أهـ. وقد وصف مؤلف الرسالة من يقول بكفر أعوان الحاكم على التعيين بأوصاف منها في صـ 3 (من تردّي في خندق التكفير)، وفي صـ 4 (وقع في مصيدة التكفير الهرمية)، وفي صـ 4 أيضا (فَضَلّوا وأضَلّوا)، وفي صـ 6 (رأينا كثيراً من ذئاب التكفير قد خرجت من أحراش أماكن كهذه) أهـ. وسوف ترى في السطور التالية أن هذا السُّباب الذي كاله المؤلف يقع أول مايقع على أبي بكر الصديق وجميع الصحابة معه رضي الله عنهم إذ إنهم قد أجمعوا على تكفير أنصار المرتد على التعيين.
وسوف نقسِّم الكلام في هذا الموضوع إلى ثلاثة أقسام وهى:
القسم الأول: في مقدمات لبحث المسألة.
والقسم الثاني: في بيان حكم أنصار الطواغيت.
والقسم الثالث: في نقد كتاب (الرسالة الليمانية).
والقسم الأول والثاني هما توطئة وتمهيد للنقد الوارد في القسم الثالث.
القسم الأول: مقدمات بحث المسألة.
قبل بيان حكم أنصار الطواغيت نقدم لذلك بثلاث مقدمات: في بيان معنى الطاغوت وأنصاره، وبيان جريمة أنصار الطواغيت، وبيان كيفية الاجتهاد في النوازل، وهذا بيانها:
1 ــ المقدمة الأولى: في بيان معنى الطاغوت وأنصاره.
لا يصح إيمان العبد حتى يكفر بالطاغوت، قال تعالى (فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى) البقرة 256، وهذه الآية تفسير لشهادة (لا إله إلا الله) المشتملة على نفي واثبات:(7/167)
والنفي معناه: نفي الألوهية عن كل ماعُبِد من دون الله، ويحقق العبد هذا باعتقاده بطلان عبادة غير الله وبأن يترك هذه العبادة ويُبغضها ويُكفِّر أهلها ويعاديهم، وهذا هو المراد بالكفر بالطاغوت، وهذه صفته كما ذكرها الشيخ محمد بن عبدالوهاب.
والاثبات معناه: اثبات الألوهية لله تعالى وحده بصرف العبد جميع أنواع العبادة لله تعالى وحده، وهذا هو الإيمان بالله تعالى المذكور في الآية.
قال ابن كثير رحمه الله (وقوله «فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها» أي من خَلَع الأنداد والأوثان ومايدعو إليه الشيطان من عبادة كل مايُعبد من دون الله، وَوَحّد الله فعَبَده وحده وشهد أن لا إله إلا الله «فقد استمسك بالعروة الوثقى» أي فقد ثبت في أمره واستقام على الطريقة المثلى والصراط المستقيم).
ثم نقل ابن كثير عن عمر بن الخطاب أن الطاغوت هو الشيطان، وقال ابن كثير: معنى قوله في الطاغوت إنه الشيطان قوي جداً فإنه يشمل كل شر كان عليه أهل الجاهلية من عبادة الأوثان والتحاكم إليها والاستنصار بها. (تفسير ابن كثير، 1/ 311). وفي 1/512 قال ابن كثير إنه قال بقول عمر كل من ابن عباس وأبي العالية ومجاهد وعطاء وعكرمة وسعيد بن جبير والشعبي والحسن والضحاك والسّدي.
ونقل ابن كثير عن جابر رضي الله عنه أن الطواغيت: كهّان تنزل عليهم الشياطين.
ونقل عن مجاهد أن الطاغوت: الشيطان في صورة إنسان يتحاكمون إليه وهو صاحب أمرهم.
ونقل عن الإمام مالك أن الطاغوت: هو كل مايُعبد من دون الله عزوجل.
وفي تفسير قوله تعالى (ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وماأنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمِروا أن يكفروا به) النساء 60، قال ابن كثير: والآية أعمّ من ذلك كله فإنها ذامّة لمن عَدَل عن الكتاب والسنة وتحاكَمَ إلى ماسواهما من الباطل، وهو المراد بالطاغوت هنا. (تفسير ابن كثير، 1/519).(7/168)
وقال ابن القيم رحمه الله (الطاغوت: كل ماتجاوز به العبدُ حدَّه من معبود أو متبوع أو مطاع ٍ، فطاغوت كل قوم ٍ من يتحاكمون إليه غير الله ورسوله، أو يعبدونه من دون الله، أو يتبعونه على غير بصيرة من الله، أو يطيعونه فيما لايعلمون أنه طاعة لله، فهذه طواغيت العالم إذا تأملتها وتأملت أحوال الناس معها رأيت أكثرهم عدلوا من عبادة الله إلى عبادة الطاغوت، وعن التحاكم إلى الله وإلى الرسول إلى التحاكم إلى الطاغوت، وعن طاعته ومتابعة رسوله إلى طاعة الطاغوت ومتابعته) (اعلام الموقعين) 1/ 50.
وقال الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله (الطاغوت عام: فكُل ماعُبد من دون الله ورضي بالعبادة من معبود أو متبوع أو مُطاع في غير طاعة الله ورسوله فهو طاغوت، والطواغيت كثيرة ورءوسهم خمسة:
(الأول) الشيطان الداعي إلى عبادة غير الله، والدليل قوله تعالى «ألم أعهد إليكم يابني آدم أن لاتعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين» يس 60.
(الثاني) الحاكم الجائر المغيِّر لأحكام الله تعالى، والدليل قوله تعالى «ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وماأنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمِروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيداً» النساء 60.
(الثالث) الذي يحكم بغير ماأنزل الله، والدليل قوله تعالى «ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون» المائدة 44.
(الرابع) الذي يَدّعي علم الغيب من دون الله، والدليل قوله تعالى «عالم الغيب فلا يُظهر على غيبه أحداً، إلا من ارتضى من رسول، فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصداً » الجن 26 ــ 27، وقال تعالى «وعنده مفاتح الغيب لايعلمها إلا هو، ويعلم مافي البر والبحر، وماتسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين» الأنعام 59.(7/169)
(الخامس) الذي يُعبد من دون الله وهو راض ٍ بالعبادة، والدليل قوله تعالى «ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم، كذلك نجزي الظالمين» الأنبياء 29) من رسالة (معنى الطاغوت ورءوس أنواعه) لمحمد بن عبدالوهاب، ضمن (مجموعة التوحيد) ط مكتبة الرياض الحديثة، صـ 260.
وقال الشيخ محمد حامد الفقي في تعريف الطاغوت (الذي يستخلص من كلام السلف رضي الله عنهم: أن الطاغوت كل ماصَرَف العبد وصدّه عن عبادة الله واخلاص الدين والطاعة لله ولرسوله، سواء في ذلك الشيطان من الجن والشيطان من الإنس والأشجار والأحجار وغيرها. ويدخل في ذلك بلاشك: الحكم بالقوانين الأجنبية عن الإسلام وشرائعه وغيرها من كل ماوضعه الإنسان ليحكم به في الدماء والفروج والأموال، وليُبطل بها شرائع الله من إقامة الحدود وتحريم الربا والزنا والخمر ونحو ذلك مما أخذت هذه القوانين تحللها وتحميها بنفوذها ومنفذيها، والقوانين نفسها طواغيت، وواضعوها ومروّجوها طواغيت، وأمثالها من كل كتاب وضعه العقل البشري ليصرف عن الحق الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم إما قصداً أو عن غير قصد من واضعه، فهو طاغوت) أهـ هامش صـ 287 من كتاب (فتح المجيد شرح كتاب التوحيد) لعبدالرحمن بن حسن آل الشيخ، ط دار الفكر 1399 هـ.
وقال الشيخ سليمان بن سحمان النجدي: الطاغوت ثلاثة أنواع: طاغوت حكم وطاغوت عبادة وطاغوت طاعة ومتابعة. (الدرر السنية، 8/ 272).(7/170)
وألخص ما سبق فأقول: إن أجمع قول في معنى الطاغوت: هو قول من قال: إن الطاغوت هو كل مايُعبد من دون الله ــ وهذا قول الإمام مالك ــ وقول من قال: إن الطاغوت هو الشيطان ــ وهو قول جمهور الصحابة والتابعين. وماعدا هذين القولين ففروع منهما. وهذان القولان يرجعان إلى أصل واحد له ظاهر وحقيقة، فمن نظر إلى الظاهر قال الطاغوت: كل مايُعبد من دون الله، ومن نظر إلى الحقيقة قال الطاغوت: الشيطان، وذلك لأن الشيطان هو الداعي إلى عبادة مايُعبد من دون الله كما أنه الداعي إلى كل كُفرٍ، قال تعالى (ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزّهم أزاً) مريم 83، فكل من كَفَر، وكل من عَبَد غير الله، فبتزيين الشيطان، وكل من عَبَد غير الله فهو إنما يعبد الشيطان على الحقيقة كما قال تعالى (ألم أعهد إليكم يابني آدم ألا تعبدوا الشيطان) يس 60، وقال تعالى ــ عن إبراهيم عليه السلام ــ (ياأبت لاتعبد الشيطان) مريم 44، مع أن أباه كان يعبد الأصنام كما قال تعالى (وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناما آلهة) الأنعام 74. فالشيطان هو الطاغوت الأكبر، فكل من عَبَد صنماً من حجر ٍ أو شجر ٍ أو بشر ٍ فهو إنما يعبد الشيطان، وكل من تحاكم إلى بشر ٍ أو قانون أو دستور من دون الله فهو إنما يتحاكم إلى الشيطان وهذا هو معنى تحاكمه إلى الطاغوت.
فمن أَجْمل بحسب الظاهر قال الطاغوت: كل مايُعبد من دون الله، ومن أجمل بحسب الحقيقة قال الطاغوت: الشيطان، كما نقلته آنفا.(7/171)
ومن فصَّل بحسب الظاهر قال كل معبود أو متبوع أو مُطاع أو مُتَحاكَم إليه من دون الله، وهو قول ابن القيم، وقريب منه قول سليمان بن سحمان. وكل هذا يرجع إلى معنى العبادة، فالاتباع والطاعة والتحاكم كلها عبادات ينبغي ألا تصرف إلا لله تعالى كما قال تعالى (اتبعوا ماأنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء) الأعراف 3. فهذا في الاتباع، وقال تعالى (قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لايحب الكافرين) آل عمران 32. وهذا في الطاعة، وقال تعالى (ولايُشرك في حكمه أحداً) الكهف 26 وهذا في التحاكم. فإفراد الله تعالى بالاتباع والطاعة والتحاكم كل هذا داخل في إفراده بالعبادة ــ الذي هو توحيد الألوهية ــ تماما كإفراده بالصلاة والدعاء والنّسك، فهذه كلها عبادات، وقد قال تعالى (وماأرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون) الأنبياء 25، فالعبادة اسم جامع لكل مايحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة.
فالقول الجامع في معنى الطاغوت بحسب الظاهر أنه كل مايُعبد من دون الله، وأما على التفصيل فقد ورد في الكتاب والسنة النص على نوعين من الطواغيت: طاغوت العبادة وطاغوت الحكم.(7/172)
أ ــ فطاغوت العبادة، ورد في قوله تعالى (والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها) الزمر 17، وهو كل ماعُبِدَ من دون الله من شيطان، أو إنسان حي أو ميت، أو حيوان، أو جماد من شجر أو حجر، أو كوكب من الكواكب، سواء عُبدَ بتقديم القرابين له أو بدعائه أو بالصلاة له من دون الله، أو بطاعته واتباعه فيما يخالف شرع الله. ويُقيَّد (ماعُبد من دون الله) بلفظ (وهو راض ٍ بذلك) ليخرج منه مثل عيسى بن مريم عليه السلام أو غيره من الأنبياء والملائكة والصالحين فهؤلاء عُبدوا من دون الله وهم لايرضون بذلك فلا يُسمى أحدٌُ منهم طاغوتا. قال ابن تيمية رحمه الله (وقال تعالى «ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون، قالوا سبحانك أنت وليّنا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون» ــ سبأ 40، 41 ــ يعني أن الملائكة لم تأمرهم بذلك، وإنما أمرتهم بذلك الجن، ليكونوا عابدين للشياطين التي تتمثل لهم، كما يكون للأصنام شياطين، وكما تنزل الشياطين على بعض من يعبد الكواكب ويرصدها، حتى تنزل عليه صورة فتخاطبه، وهو شيطان من الشياطين. ولهذا قال تعالى «ألم أعهد إليكم يابني آدم أن لاتعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين، وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم، ولقد أضل منكم جبلاً كثيراً أفلم تكونوا تعقلون» ــ يس 60، 61 ــ وقال «أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو، بئس للظالمين بدلا» ــ الكهف 50 ــ) (مجموع الفتاوى) 4/ 135 ــ 136.(7/173)
ب ــ وطاغوت الحكم، ورد في قوله تعالى (يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت) النساء 60، وهو كل ماتُحوكِمَ إليه من دون الله من دستور وضعي أو قانون وضعي أو حاكم بغير ماأنزل الله سواء كان سلطاناً أو قاضياً أو غيرهما. ومن فتاوى المعاصرين في هذا: ماجاء في فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالسعودية رداً على سؤال عن معنى الطاغوت في قوله تعالى (يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت)، فجاء في الجواب (والمراد بالطاغوت في الآية كل ماعدل عن كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم إلى التحاكم إليه من نظم وقوانين وضعية أو تقاليد وعادات متوارثة أو رؤساء قبائل ليفصل بينهم بذلك أو بما يراه زعيم الجماعة أو الكاهن ومن ذلك يتبين أن النظم التي وضعت ليتحاكم إليها مضاهاة لتشريع الله داخلة في معنى الطاغوت) من الفتوى رقم 8008، ورداً على سؤال: متى نُفرد شخصاً باسمه وعينه على أنه طاغوت، فجاء في الجواب (إذا دعا إلى الشرك أو لعبادة نفسه أو ادعى شيئا من علم الغيب أو حَكَم بغير ماأنزل الله متعمداً ونحو ذلك) من الفتوى رقم 05966 إفتاء: عبدالله بن قعود وعبدالله بن غديان وعبدالرزاق عفيفي وعبدالعزيز بن باز. (فتاوى اللجنة الدائمة) جـ 1 صـ 542 ــ 543، جمع أحمد عبدالرزاق الدويش، ط دار العاصمة بالرياض 1411هـ.
بقي بعد ذلك مسألتان:
الأولى: أن الطاغوت يُؤمَن به ويُكفَر، فقال تعالى (يؤمنون بالجبت والطاغوت) النساء 51، وقال تعالى (فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله) البقرة 256. انظر (مجموع فتاوى ابن تيمية) 7/558 ــ 559. والإيمان بالطاغوت يكون بصرف نوع من أنواع العبادة له أو بالتحاكم إليه، والكفر بالطاغوت يكون بترك عبادته واعتقاد بطلانها وبترك التحاكم إليه واعتقاد بطلانه، وبمعاداة عبيد الطاغوت وتكفيرهم.(7/174)
والمسألة الأخرى: أن الكفر بالطاغوت والإيمان بالله هو التوحيد الذي بُعث به جميع الرسل عليهم السلام، وهو أول ما دَعَواْ إليه، كما قال تعالى (ولقد بعثنا في كل أمة ٍ رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت) النحل 36.
والطاغوت المقصود في بحثنا في مسألة (حكم أنصار الطواغيت) هو طاغوت الحكم: وهو هنا الدساتير والقوانين الوضعية التي يُتحاكم إليها من دون الله، والحكام الكافرون الذين يحكمون بغير ما أنزل الله.
وأنصار هذه الطواغيت: هم الذين يدافعون عنها وينصرونها حتى القتال من دونها بالقول والفعل، فكل من نصرهم بقول أو بفعل فهو من أنصار الطواغيت، لأن القتال يكون بقول أو فعل، كما قال ابن تيمية رحمه الله ــ في كلامه عن قتال الكفار الأصليين ــ (وأما من لم يكن من أهل الممانعة والمقاتلة، كالنساء والصبيان والراهب والشيخ الكبير والأعمى والزَّمِن ونحوهم فلا يُقتل عند جمهور العلماء إلا أن يقاتِل بقوله أو فعله) (مجموع الفتاوى) 28/ 354، وقال أيضا (ولاتُقتل نساؤهم إلا أن يقاتلن بقول ٍ أو عمل، باتفاق العلماء) (مجموع الفتاوى) 28/ 414، وقال أيضا (المحاربة نوعان: محاربة باليد ومحاربة باللسان ــ إلى قوله ــ وكذلك الإفساد قد يكون باليد وقد يكون باللسان، ومايُفسده اللسان من الأديان أضعاف ماتفسده اليد) (الصارم المسلول) صـ 385. وعلى هذا فأنصار الطواغيت في بحثنا هنا هم:
أ ــ المناصرون بالأقوال، ويأتي على رأسهم: بعض علماء السوء والمتعالمين الذين يسبغون الشرعية الإسلامية على الحكام الكافرين ويدرأون عنهم تهمة الكفر ويُسفِّهون المسلمين المجاهدين الخارجين عليهم ويتهمونهم بالمروق والضلال ويغرون الحكام بهم. كما يدخل في المناصرون بالقول: بعض الكتَّاب والصحافيين والإعلاميين الذين يقومون بنفس هذا العمل.(7/175)
ب ــ المناصرون بالأفعال: ويأتي على رأسهم جنود الحكام الكافرين، سواء في ذلك جنود الجيش أو جنود الشرطة، الرِّدء منهم والمباشر، فهؤلاء مُعَدّون بحكم دساتير هذه البلاد وقوانينها للقيام بأمور منها:
* المحافظة على النظام العام للدولة بما يعني استمرار العمل بالدساتير والقوانين الوضعية الكفرية، ومعاقبة كل من يعارض ذلك أو يحاول تغييره.
* حماية الشرعية الدستورية: وهى عبارة تعني حماية الحاكم الكافر نفسه، لأنه يُعد عندهم حاكما شرعيا بموجب الدستور، لأنه قد جرى نصبه وفق الإجراءات المبينة بالدستور الوضعي.
* تأكيد سيادة القانون: بتنفيذ مايوجبه الدستور والقانون ويدخل في ذلك تنفيذ الأحكام الصادرة عن المحاكم الوضعية الطاغوتية.
ويدخل في أنصار الطواغيت كل من نصرهم بقول أو فعل مِن غير مَن ذكرنا هنا حتى ولو كان هذا المناصِر حكومة دولة أخرى فإنه يلحقها نفس الحكم.
فهذا هو الطاغوت وهؤلاء هم أنصاره.
2 ــ المقدمة الثانية: بيان جريمة أنصار الطواغيت:(7/176)
اعلم أنه لا يمكن لكافر أن يفسد في الأرض أو أن يظلم أُمة من الناس إلا بأعوان يعينونه على ظلمه وإفساده ويمنعونه ممن يريد أن يقتص منه، فلا بقاء للكافر وإفساده إلا بأعوانه وأنصاره، ومن هنا قال تعالى (ولاتركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار) هود 113، وقال العلماء: الركون هو الميل اليسير، وقال ابن تيمية رحمه الله (وكذلك الأثر المروي: «إذا كان يوم القيامة قيل: أين الظلمة وأعوانهم؟ ــ أو قال: وأشباههم ــ فيُجمعون في توابيت من نار ثم يقذف بهم في النار». وقد قال غير واحد من السلف: أعوان الظلمة من أعانهم، ولو أنهم لاق لهم دواة أو برى لهم قلماً، ومنهم من كان يقول: بل من يغسل ثيابهم من أعوانهم. وأعوانهم: هم من أزواجهم المذكورين في الآية، فإن المعين على البر والتقوى من أهل ذلك، والمعين على الإِثم والعدوان من أهل ذلك. قال تعالى: (من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها، ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها) والشافع الذي يعين غيره، فيصير معه شفعا بعد أن كان وتراً، ولهذا فسّرت «الشفاعة الحسنة» بإعانة المؤمنين على الجهاد، و«الشفاعة السيئة» بإعانة الكفار على قتال المؤمنين، كما ذكر ذلك ابن جرير، وأبو سليمان.) (مجموع الفتاوى) 7/64.(7/177)
فلا بقاء للحاكم الكافر ولابقاء لأحكام الكفر ومايترتب عليها من الفساد العظيم في بلاد المسلمين إلا بأنصار هؤلاء الحكام الطواغيت، سواء في ذلك أنصاره بالقول الذين يُضلون الناس ويلبسون عليهم، أو أنصاره بالفعل الذين يحمون الحكام والقوانين ويمنعونهم ممن يريد القصاص منهم وينصرونهم عليه، ولذلك فلا عجب من أن يصف الله تعالى جنود الحاكم الكافر بالأوتاد، لأنهم هم الذين يثبتون مُلكه وحكمه، وهم سبب بقاء الكفر، وذلك في قوله تعالى (وفرعون ذي الأوتاد) الفجر 10، قال ابن جرير الطبري رحمه الله في تفسير هذه الآية (يقول جل ثناؤه: ألم تر كيف فعل ربك أيضا بفرعون صاحب الأوتاد، واختلف أهل التأويل في معنى قوله «ذي الأوتاد» ولِمَ قيل له ذلك؟ فقال بعضهم: معنى ذلك: ذي الجنود الذين يُقَوُّون له أمره، وقالوا: الأوتاد في هذا الموضع الجنود) (تفسير الطبري) 30/ 179.
وهذا كله في بيان جريمة أنصار الطواغيت وأنهم هم السبب الحقيقي لدوام الكفر والفساد، فلا يمكن لكافر أن يُفسد أمة ويظلمها إلا بأعوان ينصرونه، وإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال (أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين) فكيف بمن يعينهم على كفرهم؟ وكيف بمن يعينهم على إيذاء المسلمين وقتالهم؟.
ومن الناحية الواقعية فإن معركة المسلمين مع الحكام الطواغيت لأجل خلعهم ونصب حاكم مسلم هى في الحقيقة معركة مع أنصارهم من الجنود وغيرهم، ولهذا وجب معرفة حكم أنصار الطواغيت، وهو موضوع بحثنا هنا.
3 ــ المقدمة الثالثة: كيفية الاجتهاد في النوازل.
ذكرت شروط المجتهد عند الكلام في شروط المفتي في الباب الخامس من هذا الكتاب، وهنا نذكر كيفية الاجتهاد في النوازل.(7/178)
فإذا نزلت نازلة بالمسلمين أو بأحدهم وأراد مَنْ هو أهل للاجتهاد أن يجتهد لمعرفة حكمها الشرعي، فإن أول مايجب عليه أن ينظر هل هى من المسائل المجمع على حكمها أم هى محل خلاف بين العلماء؟ وذلك حتى لايفتي فيها بخلاف الإجماع فيَضِل باتباعه غير سبيل المؤمنين. ولايجوز أن يعمد إلى دليل من الكتاب أو السنة ليستدل به في المسألة دون النظر في أقوال العلماء فيها، فقد يفهم من الدليل غير مايدل عليه، وقد يضع الدليل في غير موضعه فيكون من الذين يحرفون الكلم عن مواضعه، وسوف ترى في نقدنا لكتاب (الرسالة الليمانية في الموالاة) أن مؤلفها عمد إلى الاستدلال ببعض النصوص لتأييد وجهة نظره في المسألة محل النزاع قبل البحث عن أقوال السلف فيها مع أنها من المسائل التي أجمع الصحابة على حكمها، بل ستجد أنه استدل بنصوص في غير محل النزاع وأهمل تماما النصوص التي هى محل النزاع.
وماانحرفت الفرق المخالفة لأهل السنة والجماعة إلا باتباع هذا المنهج المعوج، وهو الاعتقاد قبل الاستدلال، ثم البحث عن دليل من كتاب أو سنة لتأييد المعتقد دون النظر في أقوال السلف في المسائل، بهذا ضلت الخوارج والمرجئة والمعتزلة وغيرهم.
ونحن إذا قلنا إنه يجب البدء بالنظر في الإجماع قبل النظر في الأدلة من الكتاب والسنة، فليس هذا تقديماً للإجماع على النصوص في الرتبة، ولكنه تقديم في العمل، هذا ماذكره أبو حامد الغزالي رحمه الله في كتابه (المنخول) صـ 466.
وقال أبو حامد الغزالي (يجب على المجتهد في كل مسألة: أن يرد نظره إلى النفي الأصلي قبل ورود السمع، ثم يبحث عن الأدلة السمعية المقيدة.
فينظر أول شيء في الإجماع، فإن وجد في المسألة إجماعاً ترك النظر في الكتاب والسنة، فإنهما يقبلان النسخ والإجماع لايقبله، فالإجماع على خلاف مافي الكتاب والسنة دليل قاطع على النسخ، إذ لا تجتمع الأمة على الخطأ.(7/179)
ثم ينظر في الكتاب والسنة المتواترة، وهما على رتبة واحدة، لأن كل واحد يفيد العلم القاطع، ولا يتصور التعارض في القطعيات السمعيات، إلا بأن يكون أحدهما ناسخاً، فما وَجَد فيه نص كتاب أو سنة متواترة أخذ به.
ثم ينظر بعد ذلك إلى عمومات الكتاب وظواهره.
ثم ينظر في مخصصات العموم، من أخبار الآحاد والأقيسة، فإن عارض قياسٌُ عموماً أو خبرُ واحدٍ عموماً، فقد ذكرنا مايجب تقديمه منها.
فإن لم يجد لفظاً نصاً ولاظاهراً، نظر إلى قياس النصوص.
فإن تعارض قياسان أو خبران أو عمومان طلب الترجيح، فإن تساويا عنده توقَّف على رأي وتخيَّر على رأي) أهـ (المستصفى) للغزالي، 2/ 392، نقلا عن (الرد على من أخلد إلى الأرض) للسيوطي، صـ 163 ــ 164، ط دار الكتب العلمية 1403هـ.
ونحن بتوفيق الله تعالى بعدما ذكرنا معنى الطاغوت وأنصاره وبيّنا جريمة هؤلاء الأنصار نشرع في بيان حكمهم الشرعي سالكين في ذلك وِفْق ماذكره أبو حامد الغزالي من النظر في الإجماع ثم الأدلة من الكتاب والسنة.
القسم الثاني: حكم أنصار الطواغيت.
والمقصود بهم: أنصار الحكام المرتدين الذين يحكمون بغير ماأنزل الله في شتى بلدان المسلمين اليوم، وأنصارهم هم الذين يحمونهم ويمنعونهم وينصرونهم على من يريد خلعهم من المسلمين المجاهدين، وأنصارهم هم الذين يذبون عنهم بالقول ويقاتلون دونهم بالسلاح، وهم سبب دوام أحكام الكفر بهذه البلاد، كما سبق بيانه.
وحكم أنصار هؤلاء الطواغيت هو فرع عن الحكم على الطواغيت، وحكم هؤلاء الحكام بغير ماأنزل الله أنهم مرتدون، وسيأتي ذكر أدلة ذلك في المبحث الثامن إن شاء الله تعالى.
أما حكم أنصارهم من علماء السوء والإعلاميين والجنود وغيرهم فهم كُفَّار على التعيين في الحكم الظاهر، وإليك الأدلة على ذلك:
1 ــ الدليل الأول: إجماع الصحابة رضي الله عنهم.(7/180)
لم يقاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم المرتدين الممتنعين في حياته، وإنما قاتلهم الصحابة رضي الله عنهم بعد وفاته صلى الله عليه وسلم في خلافة أبي بكر الصديق، فعن أبي بكر والصحابة تؤخذ تفاصيل أحكام هذه المسألة. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عَضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار) الحديث رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.
وقد أجمع الصحابة على كفر أنصار أئمة الرِّدة كأنصار مسيلمة المتنبيء الكذاب وأنصار طليحة الأسدي المتنبيء الكذاب، فقد غنموا أموالهم وسَبَواْ نساءهم وشهدوا على قتلاهم بأنهم في النار وهذا تكفير منهم لهم على التعيين، ودليله:(7/181)
مارواه طارق بن شهاب قال (جاء وفد بُزَاخة من أسد وغطفان إلى أبي بكر يسألونه الصلح، فخيَّرهم بين الحرب المُجْلِيَة والسلم المُخْزِيَة، فقالوا: هذه المُجْلِيَة قد عرفناها فما المخزية؟. قال: تُنْزَع منكم الحَلْقَة والكُرَاع، ونَغْنَم ما أصبنا منكم، وتَرُدُّون علينا ماأصبتم منا، وتَدُون قتلانا وتكون قتلاكم في النار، وتتركون أقواماً يتبعون أذناب الإبل حتى ىُرِيَ الله خليفة رسوله والمهاجرين أمراً يعذرونكم به) فعَرَض أبو بكر ماقال على القوم، فقام عمر فقال: قد رأيت رأيا وسنشير عليك، أما ماذكرت من الحرب المجلية والسلم المخزية فَنِعْم ماذكرت، وأما ماذكرت أن نغنم ماأصبنا منكم وتردون ماأصبتم منا فنِعْم ماذكرت، وأما ماذكرت تدون قتلانا وتكون قتلاكم في النار، فإن قتلانا قاتلت فقُتِلت على أمر الله أجورها على الله ليس لها ديات) قال: فتتابع القوم على ماقال عمر. أهـ. رواه البرقاني على شرط البخاري. عن (نيل الأوطار) للشوكاني، 8/ 22. وذكره ابن حجر في الفتح ثم قال (قال الحميدي: اختصره البخاري فذكر طرفاً منه وهو قوله لهم «يتبعون أذناب الإبل ــ إلى قوله ــ يعذرونكم به» وأخرجه بطوله البرقاني بالإسناد الذي أخرج البخاري ذلك القدر منه) (فتح الباري) 13/210. وأصل الحديث بالبخاري في باب (الاستخلاف) بكتاب الأحكام برقم (7221). ووفد بُزَاخة هم قوم طليحة الأسدي الذين قاتلوا معه، فلما هزمهم الصحابة بعثوا وفدهم إلى أبي بكر.(7/182)
وقد ذكر ابن حجر هذا الحديث وقال في شرحه (و «المجلية» بضم الميم وسكون الجيم بعدها لام مكسورة ثم تحتانية من الجلاء بفتح الجيم وتخفيف اللام مع المد ومعناها: الخروج عن جميع المال. و «المخزية» بخاء معجمة وزاي بوزن التي قبلها: مأخوذة من الخزي، ومعناها: القرار على الذل والصغار، و «الحلقة» بفتح المهملة وسكون اللام بعدها قاف: السلاح، و «الكُرَاع» بضم الكاف على الصحيح وبتخفيف الراء: جميع الخيل. وفائدة نزع ذلك منهم أن لايبقى لهم شوكة ليأمن الناس من جهتهم، وقوله «ونغنم ما أصبنا منكم» أي يستمر ذلك لنا غنيمة نقسمها على الفريضة الشرعية ولانرد عليكم من ذلك شيئا، وقوله «وتردون علينا ما أصبتم منا» أي ماانتهبتموه من عسكر المسلمين في حالة المحاربة، وقوله «تدون» بفتح المثناة وتخفيف الدال المضمومة: أي تحملون إلينا دياتهم، وقوله «قتلاكم في النار» أي لاديات لهم في الدنيا لأنهم ماتوا على شركهم، فقتلوا بحق فلا دية لهم، وقوله و «تتركون» بضم أوله، و «يتبعون أذناب الإبل» أي في رعايتها لأنهم إذا نزعت منهم آلة الحرب رجعوا أعرابا في البوادي لاعيش لهم إلا مايعود عليهم من منافع إبلهم، قال ابن بطال: كانوا ارتدوا ثم تابوا، فأوفدوا رسلهم إلى أبي بكر يعتذرون إليه فأحب أبو بكر أن لايقضي بينهم إلا بعد المشاورة في أمرهم، فقال لهم: ارجعوا واتبعوا أذناب الإبل في الصحاري، انتهى. والذي يظهر أن المراد بالغاية التي أنظرهم إليها أن تظهر توبتهم وصلاحهم بحُسْن إسلامهم) (فتح الباري) 13/ 210 ــ 211.(7/183)
والشاهد من هذا: هو قول أبي بكر للمرتدين التائبين (وتكون قتلاكم في النار) وموافقة عمر وسائر الصحابة رضي الله عنهم له على ذلك، وهذا إجماع منهم على تكفير أنصار أئمة الردة وجنودهم على التعيين، إذ لاخلاف في أن القتلى أشخاص معينون، كما أنه لاخلاف بين أهل السنة في أنه لايشهد لمعيَّن بالنار إلا المقطوع بكفره، أما المسلم مهما كان فاسقاً فاعتقاد أهل السنة ــ هو كما ذكره الطحاوي رحمه الله ــ (ونرى الصلاة خلف كل بَرّ ٍ وفاجر ٍ من أهل القبلة، وعلى من مات منهم، ولانُنْزِلُ أحداً منهم جنة ً ولا ناراً) انظر (شرح العقيدة الطحاوية) ط المكتب الإسلامي 1403هـ، صـ 421 ــ 426. أما من مات كافراً فإنه يُشهد له بالنار وأنه من أهلها كما في قوله صلى الله عليه وسلم (إن أبي وأباك في النار) الحديث رواه مسلم، وكما في قوله صلى الله عليه وسلم ــ عن عمّه أبى طالب ــ (هو في ضَحْضاح من نار) الحديث رواه البخاري (3883). وقال صلى الله عليه وسلم (حيثما مررت بقبر كافر ٍ فبشِّره بالنار) قال الهيثمي (رواه البزار والطبراني في الكبير ورجاله رجال الصحيح) (مجمع الزوائد) 1/ 118.(7/184)
فهذا نقل صحيح وإجماع صريح من الصحابة على تكفير أنصار أئمة الردة وجنودهم على التعيين دون تبين لتوفر الشروط وانتفاء الموانع في حقهم لما كانوا ممتنعين بالشوكة، وقد كانوا ألوفاً، فقد ذكر ابن تيمية أن اتباع مسيلمة كانوا نحو مائة ألف أو أكثر (منهاج السنة النبوية) 7/217، وقد سبق أن ذكرنا ــ في شرح قاعدة التكفير ــ أن تبين الشروط والموانع إنما يكون في المقدور عليه لا الممتنع، ودليله إجماع الصحابة المذكور هنا، قال ابن تيمية رحمه الله (ولأن المرتد لو امتنع ــ بأن يلحق بدار الحرب، أو بأن يكون المرتدون ذوي شوكة يمتنعون بها عن حكم الإسلام ــ فإنه يُقتل قبل الاستتابة بلا تردد) (الصارم المسلول) صـ 322، وقال أيضا (على أن الممتنع لايُستتاب، وإنما يُستتاب المقدور عليه) (الصارم المسلول) صـ 325 ــ 326. وقد سبق في شرح قاعدة التكفير أن تبين الشروط والموانع داخل في مسمى الاستتابة.
(فوائد متعلقة بالإجماع وحجيته وبيان كفر من خالف إجماع الصحابة)
أ ــ الإجماع: ــ كما قال الشوكاني ــ (هو اتفاق مجتهدي أمة محمد صلى الله عليه وسلم، بعد وفاته، في عصر من الأعصار، على أمر ٍ من الأمور، والمراد بالاتفاق الاشتراك إما في الاعتقاد أو في القول أو في الفعل) (ارشاد الفحول) صـ 68.(7/185)
ب ــ كيف يُعرف الإجماع؟: قال الخطيب البغدادي رحمه الله (اعلم أن الإجماع يُعرف بقول ٍ، وبفعل ٍ، وبقول ٍ وإقرار، وبفعل وإقرار. فأما القول: فهو أن يتفق قول الجميع على الحكم بأن يقولوا كلهم هذا حلال أو حرام، وأما الفعل: فهو أن يفعلوا كلهم الشيء، وأما القول والإقرار: فهو أن يقول بعضهم قولاً وينتشر في الباقي فيسكت عن مخالفته، وأما الفعل والإقرار: فهو أن يفعل بعضهم شيئا ويتصل بالباقين فيسكتوا عن إنكاره) (الفقيه والمتفقه) للبغدادي، ط دار الكتب العلمية 1400هـ، جـ 1 صـ 170. من هذا تعلم أن إجماع الصحابة في مسألتنا هذه ــ حكم أنصار الطواغيت ــ هو إجماع صحيح إذ أجمع عليه جميعهم، وأنه قد ثبت بالقول وبالفعل وبالإقرار، أما القول: فهو قول أبي بكر (وتكون قتلاكم في النار) ووافقه عمر وتتابع القوم على قول عمر كما في حديث طارق بن شهاب، وأما الفعل: فهو أن الصحابة قاتلوهم جميعا على صفة واحدة وهى صفة قتال أهل الردة ــ كما سبق بيانه في أكثر من موضع ــ ولم يفرّقوا بين تابع ومتبوع، وأما الإقرار: فهو أنه لايعرف مخالف أو مُنكِر من الصحابة فيما ذكرناه.
والخلاصة: أن إجماع الصحابة في هذه المسألة من أقوى الإجماعات صحة وثبوتاً.
جـ ــ حُجِّية الإجماع: الإجماع هو الدليل الثالث من أدلة الأحكام الشرعية ــ بعد الكتاب والسنة ــ والأدلة على حجيته كثيرة منها:
* قوله تعالى (ياأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) النساء 59، فنصَّت هذه الآية على الأدلة الثلاثة الأُوَل من أدلة الأحكام: وهى الكتاب (أطيعوا الله) والسنة (وأطيعوا الرسول) وإجماع العلماء (وأولي الأمر منكم). وقد سبق شرح دلالة هذه الآية على ذلك في أكثر من موضع بهذا الكتاب.(7/186)
* قوله تعالى (ومن يشاقق الرسول من بعد ماتبيّن له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نولِّه ما تولى ونُصْلِه جهنم وساءت مصيراً) النساء 115، وإجماع العلماء من سبيل المؤمنين ولابد، وقد ورد الوعيد لمخالفه، فدل على وجوب اتباعه، وبهذه الآية استدل الشافعي وغيره من العلماء على حجية الإجماع، انظر (المستصفى) للغزالي، ط الأميرية، 1/ 175. و (مجموع فتاوى ابن تيمية) 19/ 178و 192.
* واستدل الشافعي رحمه الله أيضا على حجية الإجماع بحديث عمر مرفوعاً (ألا فمن سَرَّه بَحْبَحة الجنة فليلزم الجماعة، فإن الشيطان مع الفذ وهو من الاثنين أبعد) الحديث رواه أحمد والترمذي والحاكم وصححه ووافقه الذهبي، انظر (كشف الخفاء) للعجلوني برقم 1265، فقال الشافعي إن المراد بلزوم جماعة المسلمين لزوم ماهم عليه من التحليل والتحريم والطاعة فيهما، إذ لايمكن لزومهم بالأبدان مع تفرقهم في البلدان، قال (ومن قال بما تقول به جماعة المسلمين فقد لزم جماعتهم، ومن خالف ماتقول به جماعة المسلمين فقد خالف جماعتهم التي أُمِرَ بلزومها) (الرسالة) للشافعي، بتحقيق أحمد شاكر، صـ 473 ــ 476.
قال ابن تيمية رحمه الله (معنى الإجماع أن تجتمع علماء المسلمين على حكم من الأحكام، وإذا ثبت إجماع الأمة على حُكم من الأحكام لم يكن لأحد أن يخرج عن إجماعهم، فإن الأمة لاتجتمع على ضلالة) (مجموع الفتاوى) 20/ 10، وتراجع المسألة في نفس المصدر: جـ 1/16 و 17، جـ 3/ 368، جـ 19/91 و 92 و 176 و 177، جـ 28/ 125.
د ــ إجماع الصحابة حجة قطعية يكفر مخالفها:
حجية إجماع الصحابة مما لاخلاف فيه بين العلماء، حتى من أنكر منهم إمكان انعقاد الإجماع بعد عصر الصحابة بسبب تفرق العلماء في البلدان كابن حزم رحمه الله فإنه متفق مع سائر العلماء على صحة إجماع الصحابة وأنه حجة، انظر (المحلى) لابن حزم 1/ 54.(7/187)
فإذا ثبت إجماع الصحابة فهو دليل قطعي كما قال ابن تيمية (منهاج السنة) 4/220، والإجماع قطعي الدلالة هو ماليس فيه منازع، كإجماع الصحابة في مسألتنا هذه ــ حكم أنصار الطواغيت ــ فلم يخالف فيها أحدٌُ من الصحابة رضي الله عنهم. قال ابن تيمية رحمه الله (والإجماع هل هو قطعي الدلالة أو ظني الدلالة؟ فإن من الناس من يُطلق الاثبات بهذا أو هذا، ومنهم من يُطلق النفي لهذا ولهذا، والصواب التفصيل بين مايُقطع به من الإجماع ويُعلم يقيناً أنه ليس فيه منازع من المؤمنين أصلاً، فهذا يجب القطع بأنه حق، وهذا لابد أن يكون مما بيَّن فيه الرسولُ الهدى) (مجموع الفتاوى) 7/ 39.(7/188)
ومثل هذا الإجماع قطعي الدلالة يكفر مخالفه فلا يجوز لأحد أن يخرج عليه أو أن يفتي بخلافه. قال ابن تيمية رحمه الله (وكذلك قوله تعالى «ومن يشاقق الرسول من بعد ماتبيّن له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين» فإنهما متلازمان، فكل من شاقّ الرسول من بعد ماتبين له الهدى فقد اتبع غير سبيل المؤمنين، وكل من اتبع غير سبيل المؤمنين فقد شاق الرسول من بعد ماتبين له الهدى، فإن كان يظن أنه متبع سبيل المؤمنين وهو مخطيء فهو بمنزلة من ظن أنه متبع للرسول وهو مخطيء. وهذه الآية تدل على أن إجماع المؤمنين حجة من جهة أن مخالفتهم مستلزمة لمخالفة الرسول، وأن كل ماأجمعوا عليه فلابد أن يكون فيه نصّ عن الرسول، فكل مسألة يُقطع فيها بالإجماع وبانتفاء المنازع من المؤمنين فإنها مما بيّن الله فيه الهدى، ومخالف مثل هذا الإجماع يكفر، كما يكفر مخالف النص البيِّن. وأما إذا كان يظن الإجماع ولايقطع به فهنا قد لايقطع أىضا بأنها مما تبين فيه الهدى من جهة الرسول، ومخالف مثل هذا الإجماع قد لايكفر، بل قد يكون ظن الإجماع خطأ والصواب في خلاف هذا القول. وهذا هو فصل الخطاب فيما يكفر به من مخالفة الإجماع ومالايكفر) (مجموع الفتاوى) 7/ 38 ــ 39. وله مثله في (مجموع الفتاوى) 19/ 269 ــ 270. وقال القاضي عياض رحمه الله (أكثر المتكلمين من الفقهاء والنظار في هذا الباب قالوا بتكفير كل من خالف الإجماع الصحيح الجامع لشروط الإجماع المتفق عليه عموما. وحجتهم قوله تعالى «ومن يشاقق الرسول من بعد ماتبيّن له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ماتولى ونصله جهنم وساءت مصيراً»، وقوله صلى الله عليه وسلم «من خالف الجماعة قيد شِبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه»، وحكوا الإجماع على تكفير من خالف الإجماع) (الشفا) جـ 2 صـ 1079، ط الحلبي بتحقيق البجاوي.(7/189)
والخلاصة: أن الحكم بكفر أنصار الطواغيت الممتنعين على التعيين قد ثبت بإجماع الصحابة إجماعا قطعيا ليس فيه منازع، ومثل هذا الإجماع يكفر مخالفُهُ، فمن خالف في هذا الحكم فقد كَفَر واتبع غير سبيل المؤمنين وفارق جماعتهم.
وقال عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه (سَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمور من بعده سُنناً الأخذ بها تصديق لكتاب الله واستعمال لطاعة الله ومعونة على دين الله، ليس لأحد تغييرها ولا النظر في رأي من خالفها، فمن خالفها واتبع غير سبيل المؤمنين ولاّه الله ماتولى وأصلاه جهنم وساءت مصيراً) رواه اللالكائي بإسناده عنه في (شرح اعتقاد أهل السنة) ط دار طيبة، 1/94. ورواه الآجري في (الشريعة) ط أنصار السنة، صـ 48.
(فائدة) الإجماع حجة ولو لم يُعلم دليل المجتمعين من الكتاب أوالسنة، فمجرد إجماعهم على حكم ٍما هو حجة في ذاته، فإذا عُلِمَ النصّ في المسألة فهو دليل آخر، كما قال ابن تيمية (وحينئذ ٍ فالإجماع مع النص دليلان كالكتاب والسنة) (مجموع الفتاوى) 19/ 270، وإذا لم يُعلم النص فلا يجب البحث عنه إذ إن الإجماع الصحيح حجة في ذاته، قال الشوكاني (قال الأستاذ أبو إسحاق: لايجب على المجتهد طلب الدليل الذي وقع الإجماع به، فإن ظهر له ذلك أو نُقِل إليه كان أحد أدلة المسألة. قال أبو الحسن السهيلي: إذا أجمعوا على حكم ولم يُعلم أنهم أجمعوا عليه من دلالة آية أو قياس أو غيره فإنه يجب المصير إليه لأنهم لايُجمِعون إلا عن دلالة ولايجب معرفتها) (ارشاد الفحول) صـ 76.(7/190)
ومع ذلك فإنه إذا ثبت الإجماع على حكم ٍ فلابد أن يكون له دليل من الكتاب أو السنة، كما قال ابن تيمية رحمه الله (مامن حكم اجتمعت الأمة عليه إلا وقد دلّ عليه النص، فالإجماع دليل على نصّ ٍ موجود عند الأئمة، ليس مما دَرَس علمه) (منهاج السنة) 8/ 344. وقد استدل شيخ الإسلام لقوله هذا بالآية (ومن يشاقق الرسول....) كما نقلناه عنه آنفا من (مجموع الفتاوى) 7/38 ــ 39. ومصداقاً لقول ابن تيمية هذا فنحن نثبت فيما يلي الأدلة النصية من الكتاب والسنة على نفس الحكم الذي أثبتناه آنفا بإجماع الصحابة، وهذا الترتيب يتفق مع كيفية الاجتهاد التي نقلناها قبلاً عن أبي حامد الغزالي رحمه الله.
2 ــ الدليل الثاني: من كتاب الله تعالى، قوله عزوجل (الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله، والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت، فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفا) النساء 76.
أما الطاغوت فقد سبق بيان معناه في المقدمات وأنه يدخل فيه بالنص كل من تُحوكم إليه من دون الله من حاكم ٍ بغير ماأنزل الله أو دستور أوقانون كفري، قال تعالى (ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وماأنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمِروا أن يكفروا به) النساء 60، فكل ماتحوكم إليه من دون الله فهو طاغوت وعَرَّف الطبري (سبيل الطاغوت) بأنه (طاعة الشيطان وطريقه ومنهاجه الذي شرعه لأوليائه من أهل الكفر بالله) (تفسير الطبري) 5/ 169.
فكل من قاتل دفاعا عن حاكم كافر أو دستور أو قانون كافر، ــ كما يفعله أنصار الحكام المرتدين ــ فقد قاتل في سبيل الطاغوت، وكل من قاتل في سبيل الطاغوت فهو كافر، قال تعالى (والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت)، ويدخل في هذا: القتال بالقول أو الفعل كما نقلناه عن ابن تيمية في المقدمات.(7/191)
وتأمل قوله تعالى (فقاتلوا أولياء الشيطان) فإنه مما يبين لك أن الطاغوت على الحقيقة هو الشيطان الداعي إلى كل كفر، وأن من يقاتل في سبيل الطاغوت فهو إنما يقاتل في سبيل الشيطان على الحقيقة، وهذا أيضا من باب توكيد كفرهم فإن أولياء الشيطان هم الكافرون كما قال تعالى (والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت) البقرة 257، وقال تعالى (إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لايؤمنون) الأعراف 27
فهذا من أظهر الأدلة على كفر أنصار الحكام المرتدين بالقول كبعض علماء السوء والإعلاميين وبالفعل كالجنود على اختلاف أصنافهم، أنهم يقاتلون في سبيل الطاغوت، ومن قاتل في سبيله فهو كافر، ولايلزم للحكم بكفر كل منهم أن يباشر القتال فعلا، أو أن يقع قتال، بل كل من كان مُعَداً بواسطة هؤلاء الحكام للقتال دفاعا عنهم وعن أنظمة حكمهم الكفرية ــ التي هى سبيل الطاغوت ــ فهو كافر. وإذا كان الله قد حكم بكفر من يتحاكم إلى الطاغوت فكيف بمن يقاتل من دونه وفي سبيله؟.
3 ــ الدليل الثالث: من كتاب الله تعالى، قوله عزوجل (من كان عدوّاً لله وملائكته ورُسُله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين) البقرة 98.
قال المفسرون في سبب نزول هذه الآية: إن اليهود لما علموا أن جبريل عليه السلام هو الذي ينزل بالوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قالوا: إن جبريل ينزل بالعذاب والنقمة فإنه عدوّ لنا. فأنزل الله هذه الآية والتي قبلها يبين أن من عادى رسولاً من رسله فقد عادى رسله كلهم من الملائكة ومن الناس كما قال تعالى (الله يصطفي من الملائكة رُسُلاً ومن الناس) الحج 75، ومن عادى رُسُل الله فقد عادى الله وكان من الكافرين (فإن الله عدو للكافرين). انظر (تفسير ابن كثير) 1/131 ــ 133.(7/192)
فأي عداوة لله ولرسوله ولدينه أعظم من هجر أحكام شريعته واستبدال قوانين كافرة بها؟، وأي عداوة لله ولرسوله ولدينه أعظم من السخرية بشعائر الدين كاللحية والحجاب وغيرهما كما تطفح به وسائل إعلام هؤلاء الطواغيت؟، وأي عداوة لله ولرسوله ولدينه أعظم من معاداة أولياء الله المتمسكين بدينهم وسجنهم وتعذيبهم وقتلهم ومحاربتهم في أرزاقهم؟ وأي عداوة لله ولرسوله ولدينه أعظم من نصرة أنظمة الحكم العلمانية الكافرة بالقول والفعل، والقتال في سبيل بقائها ودوامها، والقتال دفاعاً عن أئمة الكفر الذين يحكمون بهذه الأنظمة؟ أليس هذا هو مايفعله الحكام المرتدون وأنصارهم وجنودهم؟، وأليست أفعالهم هذه هى صريح المعاداة لله ولرسوله ولدينه؟، ومن كان عدواً لله ولرسوله ولدينه فهو كافر، (فإن الله عدوٌُ للكافرين).
قال الخفاجي في (نسيم الرياض شرح الشفا للقاضي عياض) 4/ 395 (وقع بتونس أن رجلاً قال لآخر: أنا عدوك وعدو نبيك، فعُقد له مجلس، فأفتى بعض أئمة المالكية بأنه مرتد يُستتاب، وأخذ كُفره من قوله تعالى «من كان عدواً لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين»، وأفتى بعضهم بأن كُفره كفر تنقيص فلا يُستتاب) نقلا عن (الشفا) للقاضي عياض، ط الحلبي بتحقيق البجاوي، جـ 2 هامش صـ 951. قلت: فإذا كان العلماء قد أكفروا هذا الرجل بهذه الكلمة فكيف بمن بدّل شريعة النبي صلى الله عليه وسلم جملة واستهزأ بدينه وسخر من أهله؟ وكيف بمن أعانه على ذلك ونصره ودافع عنه؟.(7/193)
قال تعالى (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعَوْن في الأرض فساداً أن يُقتلوا) الآية 33 بسورة المائدة. وقد نزلت هذه الآيات في المرتدين ــ في حادثة العُرنيين ــ وفسَّر الجمهور المحاربة في هذه الآية بالذي يقطع الطريق على الناس مسلماً كان أو كافراً، انظر (فتح الباري) جـ 8 صـ 274، وجـ 12 صـ 109 ــ 110، وانظر (مجموع فتاوى ابن تيمية) 7/ 85. فإذا كان من يقطع الطريق على مسلم لأجل سرقة وغيرها قد سُمِّى محاربا لله ولرسوله، فكيف بمن يقطع الطريق على دين الله ورسوله بإماتة أحكام شريعته؟ وكيف بمن يسعى في إعلاء شرائع الكفر في الأرض وتحكيمها في دماء المسلمين وأعراضهم وأموالهم؟ وكيف بمن يعينه وينصره على ذلك؟. فأي عداوة لله ولرسوله ولدينه أشد من هذا؟. ولكن الأمر كما قال الله تعالى (فإنها لاتعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور) الحج 46. ومن كان عدواً لله ولرسوله ولدينه كهؤلاء الحكام وجنودهم فهو كافر.
4 ــ الدليل الرابع: من كتاب الله تعالى، قوله عزوجل (ياأيها الذين آمنوا لاتتخذوا اليهود والنصارى أولياء، بعضهم أولياء بعض، ومن يتولهم منكم فإنه منهم، إن الله لايهدي القوم الظالمين * فترى الذين في قلوبهم مرضٌُ يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة، فعسى اللهُ أن يأتي بالفتح أو أمر ٍ من عنده فيصبحوا على ماأسرّوا في أنفسهم نادمين * ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم، حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين * ياأيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم ٍ يحبهم ويحبونه، أذلة على المؤمنين أعزة ٍ على الكافرين، يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله واسع عليم) المائدة 51 ــ 54.(7/194)
ورد ت هذه الآيات في بيان تحريم موالاة المسلم للكافرين وبيان حكم من تولاّهم، وقبل الحديث عن تفسيرها والأحكام المستفادة منها نقدم ببيان معنى الموالاة.
(تمهيد في بيان معنى الموالاة في اللغة والشرع)
أ ــ في اللغة: أصل الموالاة من الوَلْى ــ بسكون اللام ــ وهو القُرْب والدُّنُوْ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم للغلام (كُلْ مما يليك) أي مما يقاربك، ووالى بين شيئين: تابَعَ بينهما بلا تفرقة ومنه الموالاة في أعمال الوضوء أي المتابعة بينها بلا تفرقة. فأصل الموالاة: القرب والمتابعة.
وضد الموالاة: المعاداة، وهى المباعدة والمخالفة.
والوَليّ ضد العدو، والوَلِيّ هو: الناصر والمعين والحليف والمحب والصديق والقريب في النسب، والمعِتق، والمعتَق، والعَبْد، وكل من قام بأمر فهو وَلِيُّه: كولي الأمر، وولي المرأة في النكاح وولي اليتيم ونحوه.
وقال الفرّاء: الوَلِيّ والمَوْلى واحد في كلام العرب، (لسان العرب) 15/408، وكلاهما يستعمل في الفاعل (الموالِي، بكسر اللام) والمفعول (الموالَي، بفتح اللام). (المفردات) للراغب الأصفهاني صـ 533.
وتولّى فلانٌُ فلاناً: أي اتبعه وأطاعه وتقرَّب منه ونصره.
وتولّى عنه: أي أعرَضَ وذهب وانصرف، فمعناها عكس (تولّى) التي تعنى اقترب، ومنه قوله تعالى (فأعرض عن من تولى عن ذكرنا) النجم 29، وقوله تعالى (فتولّ عنهم) القمر 6، وإذا جاءت تولى بمعنى أعرض وانصرف كما في قوله تعالى (لايصلاها إلا الأشقى الذي كذّب وتولى) الليل 15 ــ 16، فيُقَدَّر فيها (عن) محذوفة بعد (تولّى).
انظر: (لسان العرب) لابن منظور، ط دار صادر، 15/406 ــ 415، و(النهاية) لابن الأثير 5/ 227 ــ 230، و (المفردات) للراغب الأصفهاني 533 ــ 535، و (مختار الصحاح) للرازي صـ 736، و (المعجم الوسيط) لمجمع اللغة العربية بمصر 2/1057 ــ 1058، و (مجموع فتاوى ابن تيمية) 20/ 499.(7/195)
ب ــ أما في الشرع: فتطلق الموالاة على عدد من المعاني، يُعرف المراد منها بحسب السياق، وجميع المعاني الشرعية للموالاة ترجع إلى أصلها اللغوي وهو القُرب والدُّنُوْ، ومن هذه المعاني:
(1) ولاء النصرة: وهو أظهر معاني الموالاة في الكتاب والسنة حتى أن غيره من معاني الولاء ــ كولاء العتق والنسب ــ يرجع إليه أي إلى النصرة. ومن هذا الباب: قوله تعالى (وماكان لهم من أولياء ينصرونهم من دون الله) الشورى 46، فدلّت الآية على أن الوليّ هو الناصر وأن النصرة موالاة بلا ريب، وقوله تعالى (بل الله مولاكم وهو خير الناصرين) آل عمران 150، أي الله ناصركم وهو خير الناصرين، وقوله تعالى (أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين) البقرة 286 أي أنت ناصرنا، وقوله تعالى (واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير) الحج 78، ومنه قوله تعالى (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض) التوبة 71، أي أنصار بعض، وقوله تعالى (والذين كفروا بعضهم أولياء بعض) الأنفال 73، أي أنصار بعض يتناصرون فيما بينهم، وقوله تعالى (ومن يتولهم منكم فإنه منهم) المائدة 51، معناه من يتبعهم وينصرهم، وقال ابن السِّكِّيت: يقال هم على وِلاية أي مجتمعون في النَّصرة (لسان العرب) 15/407. والمعاني المثبتة هنا منقولة من مختلف التفاسير ومن المعاجم المثبتة أعلاه. والآيات في بيان ولاء النصرة كثيرة جداً.(7/196)
(2) ولاء الطاعة والمتابعة: ومنه قوله تعالى (ومن يشاقق الرسول من بعد ماتبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نولّه ماتولّى) النساء 115، فبيّن أن اتباع غير سبيل المؤمنين هو نوع من أنواع التولّي (نولّه ماتولّى).، وقوله تعالى (اتبعوا ماأنزل إليكم من ربكم ولاتتبعوا من دونه أولياء) الأعراف 3، وتدل على أن من اتبع أحداً فقد اتخذه ولياً، ومن هذا الباب عبادة غير الله كما قال ثعلب: كل من عبد شيئاً من دون الله فقد اتخذه ولياً (لسان العرب) 15/ 411، ويدل على ذلك قوله تعالى (والذين اتخذوا من دونه أولياء مانعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) الزمر 3. ومما يدل أيضا على أن الموالاة والتولي يعنيان المتابعة: قوله تعالى (ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ٍ ويتبع كل شيطان مريد، كتب عليه أنه من تولاّه فأنه يضله) الحج 3 ــ 4، فتولي الشيطان هنا (مَنْ تولاّه) يعني متابعته كما فسّرتها الآية قبلها (ويتبع كل شيطان). ومثلها آية الأنعام 121، والنحل 100.
(3) ولاء المودَّة والمحبة: فولاء المودّة كما في قوله تعالى (ياأيها الذين آمنوا لاتتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة) الممتحنة 1، فجعل المودة من الموالاة، وولاء المحبة كما في قوله تعالى (ياأيها الذين آمنوا لاتتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان، ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون، قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم ــ إلى قوله تعالى ــ أحب إليكم من الله ورسوله) التوبة 23 ــ 24 فجعل سبحانه محبة الكفار تولياً لهم. فالمودة والمحبة من صور الموالاة.(7/197)
(4) ولاء التحالف والمؤاخاة: الذي كان المهاجرون والأنصار يتوارثون به قبل أن يُنسخ بولاء النسب، وهذا الولاء هو المذكور في قوله تعالى (إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آوَوْا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض، والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا، وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصرُ إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق) الأنفال 72. فمعنى (بعضهم أولياء بعض) أي في التوارث بالمحالفة كما في قوله تعالى (والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم) النساء 33، ومعنى (مالكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا) أي لاتوارث بين من هاجر ومن لم يهاجر ولو كانوا من أولي الأرحام، كما قال الفَرَّاء (مالكم من ولايتهم من شيء) يريد مالكم من مواريثهم من شيء (لسان العرب) 15/407، ثم قال تعالى (وإن استنصروكم...) فنفى عنهم ولاء التوارث وأثبت لهم ولاء النصرة. ثم إن ولاء التوارث هذا نُسِخَ بقوله تعالى (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله) الأنفال 75 وبقي إعطاء أولياء المحالفة شيئاً من الميراث على الاستحباب كما قال تعالى (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا) الأحزاب 6. فصار الميراث لأولى الأرحام وبقي فعل المعروف إلى الأولياء.
(5) ولاء النَّسب: وهم العَصَبَة من الأقربين، وبه التوارث كما في الآيات السابقة (الأنفال 75، والأحزاب 6)، وكما في قوله صلى الله عليه وسلم (ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فهو لأَوْلَي رجل ٌُ ذكر) أي لأقرب رجل في النسب إلى المورِّث، والحديث متفق عليه.
وولاء النسب به أيضا ولاية الدم لمن قُتِل بغير حق كما قال تعالى (ومن قُتِل مظلوماً فقد جعلنا لوليّه سلطانا) الإسراء 33.(7/198)
وولاء النسب به أيضا الولاية في النكاح، كما في قوله صلى الله عليه وسلم (أيما امرأة نكحت بغير إذن وليّها فنكاحها باطل) الحديث أخرجه الأربعة إلا النسائي وصححه أبو عوانة وابن حبان والحاكم.
(6) ولاء العتق: فيُسمى المعتِق والمعتَق مَوْلى، وبه يقع التوارث بشروطه، فمن أعتَق عبده ورثه إن مات ولا وارث له، وهو المذكور في قوله صلى الله عليه وسلم (إنما الولاء لمن أعتق) الحديث متفق عليه.
(7) ولاء الإسلام: فيطلق على من أسلم على يد رجل إنه مولاه، ولايثبت بهذا الولاء شيء من الأحكام على الراجح.
وقال ابن الأثير رحمه الله (وقد تكرر ذكر «المولَى» في الحديث وهو اسم يقع على جماعة كثيرة، فهو الرَّب، والمالك، والسيد، والمنِعم، والمعتِق، والناصر، والمحب، والتابع، والجار، وابن العم، والحليف، والعقيد، والصِّهر، والعبد، والمعتَق، والمنعَم عليه. وأكثرها قد جاءت في الحديث فيضاف كل واحد إلى مايقتضيه الحديث الوارد فيه، وكل من وَلِيَ أمراَ أو قام به فهو مولاه ووليُّه) أهـ (النهاية) 5/ 228.
يتضح مما سبق أن الموالاة تطلق على المناصرة والموافقة والمتابعة والطاعة والمودة والمحبة، وأن كل خصلة من هذه تسمى موالاة.
والموالاة الواجبة شرعاً هى صرف المسلم هذه الخصال لله ولرسوله وللمؤمنين، كما قال تعالى (ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون) المائدة 56.(7/199)
والموالاة المحرمة شرعاً هى صرف المسلم شيئا من هذه الخصال إلى الكافرين، كما قال تعالى (ياأيها الذين آمنوا لاتتخذوا عدوي وعدوكم أولياء) الممتحنة 1. فإن الله تعالى قد أوجب على المؤمنين أن يعادوا الكفار ويبغضوهم ويقاتلوهم مااستطاعوا كما قال تعالى (قد كانت لكم أسوة ٌُ حسنة في إبراهيم والذين معه، إذ قالوا لقومهم إنا برءاؤا منكم ومما تعبدون من دون الله، كفرنا بكم، وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده) الممتحنة 4، وقال تعالى (ياأيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير) التوبة 73 والتحريم 9. فمن قام بخلاف هذا فأطاع الكافرين أو أحبهم أو نصرهم فقد تولاّهم، ومن تولاهم فقد كفر لقوله تعالى ــ في الآيات موضع الاستدلال ــ (ومن يتولهم منكم فإنه منهم) المائدة 51، ويتأكد كفره إذا ما أطاع الكافرين أو نصرهم فيما يضر الإسلام والمسلمين كما يفعله أنصار الحكام المرتدين لأن هذه مشايعة لهم فيما هم عليه من الكفر وإعانة على ظهور الكفر على الإسلام، وسيأتي بيان هذا فيما يلي من أقوال العلماء إن شاء الله.
وبعد هذا التمهيد في بيان معنى الموالاة نعود للحديث عن الآيات المستدل بها، فنقول:(7/200)
اختُلِفَ في سبب نزول هذه الآيات ولم يصح في ذلك خبرٌ تقوم بمثله حجة كما قال ابن جرير الطبري رحمه الله (فإن كان ذلك كذلك فالصواب أن يُحكم لظاهر التنزيل بالعموم على ماعَمَّ ــ إلى قوله ــ غير أنه لاشك أن الآية نزلت في منافق كان يوالي يهود أو نصارى خوفاً على نفسه من دوائر الدهر، لأن الآية التي بعد هذه تدل على ذلك، وذلك قوله «فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة...») أهـ، وبيَّن ابن جرير العموم الذي تدل عليه الآية بقوله (والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن الله تعالى ذكره نهى المؤمنين جميعا أن يتخذوا اليهود والنصارى أنصاراً وحلفاء على أهل الإيمان بالله ورسوله، وأخبر أنه من اتخذهم نصيراً وحليفا وولياً من دون الله ورسوله والمؤمنين، فإنه منهم في التحزّب على الله وعلى رسوله والمؤمنين، وأن الله ورسوله منه بريئان ــ إلى أن قال ــ يعني تعالى ذكره بقوله «ومن يتولهم منكم فإنه منهم » ومن يتول اليهود والنصارى دون المؤمنين فإنه منهم، يقول: فإن من تولاهم ونصرهم على المؤمنين، فهو من أهل دينهم وملتهم، فإنه لايتولى متولّ ٍ أحداً إلا وهو به وبدينه وماهو عليه راض، وإذا رضيه ورضي دينه فقد عادى ماخالفه وسخطه، وصار حكمه حكمه) (تفسير الطبري) 6/ 276 ــ 277.(7/201)
وقال القرطبي رحمه الله (قوله تعالى «ومن يتولهم منكم» أي يعضدهم على المسلمين «فإنه منهم» بيّن تعالى أن حُكمه كحكمهم، وهو يمنع اثبات الميراث للمسلم من المرتد، وكان الذي تولاّهم ابن أُبَيّ، ثم هذا الحكم باق إلى يوم القيامة في قطع الموالاة، وقد قال تعالى «ولاتركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار»، وقال تعالى في آل عمران «لايتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين»، وقال تعالى «لاتتخذوا بطانة من دونكم» وقد مضى القول فيه. وقيل: إن معنى «بعضهم أولياء بعض» أي في النصرة. «ومن يتولهم منكم فإنه منهم» شرط وجوابه، أي لأنه قد خالف الله تعالى ورسوله كما خالفوا، ووجبت معاداته كما وجبت معاداتهم، ووجبت له النار كما وجبت لهم، فصار منهم أي من أصحابهم) (تفسير القرطبي) 6/ 217.
وقال الشوكاني رحمه الله (قوله تعالى «ومن يتولهم منكم فإنه منهم» أي فإنه من جملتهم وفي عدادهم، وهو وعيد شديد فإن المعصية الموجبة للكفر هى التي قد بلغت إلى غاية ليس وراءها غاية. ــ إلى أن قال في قوله تعالى «ياأيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه» ــ وهذا شروع في بيان أحكام المرتدين بعد بيان أن موالاة الكافرين من المسلم كفر، وذلك نوع من أنواع الردة.) (فتح القدير) للشوكاني، 2/ 50 ــ 51.(7/202)
وقال ابن تيمية رحمه الله (ومثله قوله تعالى في الآية الأخرى: (ترى كثيراً منهم يتولون الذين كفروا لبئس ماقدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون. ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وماأنزل إليه مااتخذوهم أولياء ولكن كثيراً منهم فاسقون). فذكر «جملة شرطية» تقتضي أنه إذا وجد الشرط وجد المشروط بحرف «لو» التي تقتضي مع الشرط انتفاء المشروط، فقال: (ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وماأنزل إليه مااتخذوهم أولياء). فدل على أن الإيمان المذكور ينفي اتخاذهم أولياء ويضاده، ولايجتمع الإيمان واتخاذهم أولياء في القلب. ودل ذلك على أن من اتخذهم أولياء، مافعل الإيمان الواجب من الإيمان بالله والنبي، وماأنزل إليه.
ومثله قوله تعالى (لاتتخذوا اليهود والنصارى أولياء، بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم). فإنه أخبر في تلك الآيات أن متوليهم لايكون مؤمناً، وأخبر هنا أن متوليهم هو منهم، فالقرآن يصدِّق بعضُه بعضا) (مجموع الفتاوى) 7/ 17 ــ 18.
وقال ابن تيمية أيضا (يبين ذلك أنه ذكر هذا في سياق النهي عن موالاة الكفار، فقال تعالى (يا أيها الذين آمنوا لاتتخذوا اليهود والنصارى أولياء، بعضهم أولياء بعض، ومن يتولهم منكم فإنه منهم، إن الله لا يهدي القوم الظالمين. فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة، فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر ٍ من عنده فيصبحوا على ماأسروا في أنفسهم نادمين ــ إلى قوله ــ ياأيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه). فالمخاطبون بالنهي عن موالاة اليهود والنصارى هم المخاطبون بآية الردة. ومعلوم أن هذا يتناول جميع قرون الأمة.
وهو لما نهي عن موالاة الكفار وبين أن من تولاهم من المخاطبين فإنه منهم بين أن من تولاهم وارتد عن دين الإسلام لايضر الإسلام شيئا.) (مجموع الفتاوى) 18/ 300، وله مثله في جـ 28/ 193.(7/203)
وقال ابن تيمية أيضا (قال الله تعالى (ياأيها الذين آمنوا لاتتخذوا اليهود والنصارى أولياء، بعضهم أولياء بعض، ومن يتولهم منكم) فيوافقهم ويعينهم (فإنه منهم) أهـ (مجموع الفتاوى) 25/ 326.
وبعد: فقد ذكرنا أقوال العلماء في آيات سورة المائدة (51 ــ 54) موضع الاستدلال، إلا أن هناك عدة مسائل ينبغي التنبيه عليها في مسألة موالاة المسلم للكافر، وهى:
أ ــ إن هذه الآيات في النهي عن موالاة الكفار عموما، ليست في النهي عن موالاة اليهود والنصارى دون غيرهم من الكفار، وذلك لأن لفظ (اليهود والنصارى) هو لقب، ومفهوم مخالفة اللقب لاحجة فيه عند جمهور العلماء، انظر (ارشاد الفحول) للشوكاني صـ 166 و 169. فالنهي عن الموالاة يصدق على اليهود والنصارى وعلى غيرهم من الكفار كما دلت عليه الآيات الأخرى كقوله تعالى (لايتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين) آل عمران 28، وقوله تعالى (لاتتخذوا عدوي وعدوكم أولياء) الممتحنة 1، ولهذا قال أبو بكر بن العربي في تفسيره لآية المائدة هذه (إن الآية تفيد نفي اتخاذ الأولياء من الكفار جميعاً) (أحكام القرآن) لابن العربي، 2/ 630. فيدخل في هذا: النهي عن موالاة الحكام المرتدين فإنهم من جملة الكافرين، فإن تسميته مرتداً لاتمنع من أنه كافر كما قال تعالى (ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر) البقرة 217، وقال تعالى (كيف يهدي الله قوماً كفروا بعد إيمانهم) آل عمران 86، ونحوها من الآيات. بل قد قال ابن تيمية رحمه الله (وكُفر الردة أغلظ بالإجماع من الكفر الأصلي) (مجموع الفتاوى) 28/ 478، وله مثله في جـ 28/ 534، وجـ 35/ 158 ــ 159.
ب ــ وقد أفادت آيات سورة المائدة موضع الاستدلال بأن من تولى الكفار فقد كَفَر، وقد تأكد كفره بعدة مؤكدات من نفس الآيات ومن غيرها، ومن ذلك:
* قوله تعالى (ومن يتولهم منكم فإنه منهم) (المائدة 51) وأكّد أنه منهم بحرف التوكيد (إنَّ).(7/204)
* وقوله تعالى (حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين) (المائدة 53)، وحبوط العمل والخسران بسبب الكفر.
* وقوله تعالى (من يرتد منكم عن دينه) (المائدة 54) فإنها خطاب لنفس المخاطبين بالنهي عن موالاة الكافرين كما قال ابن تيمية والشوكاني فيما نقلته عنهما آنفا: إن الموالاة نوع من الردة.
* وقوله تعالى (لايتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء) آل عمران 28، قال ابن جرير الطبري في تفسيرها (ومعنى ذلك: لاتتخذوا أيها المؤمنون الكفار ظهراً وأنصاراً توالونهم على دينهم وتظاهرونهم على المسلمين من دون المؤمنين، وتدلونهم على عوراتهم فإنه من يفعل ذلك فليس من الله في شيء، يعني بذلك فقد برئ من الله وبرئ الله منه بارتداده عن دينه ودخوله في الكفر) (تفسير الطبري) 6/ 313.
(فائدة) في وجوب رَدّ المتشابه إلى المحكم.(7/205)
قال تعالى (هو الذي أنزل إليك الكتاب منه آيات محكمات هُنّ أم الكتاب، وأُخَر متشابهات، فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ماتشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله) آل عمران 7، قال ابن كثير في تفسيرها (يُخبر تعالى أن في القرآن آيات محكمات هُنَّ أم الكتاب: أي بَيِّنات واضحات الدلالة لا التباس فيها على أحد، ومنه آيات أخر فيها اشتباه في الدلالة على كثير من الناس أو بعضهم، فمن رَدّ ما اشتبه إلى الواضح منه وحَكَّم مُحْكمه على متشابهه عنده فقد اهتدى، ومن عَكَس انعكس) (تفسير ابن كثير) 1/ 344. والمحكم واضح الدلالة في مسألة حكم من تولى الكافرين هو قوله تعالى (ومن يتولهم منكم فإنه منهم) المائدة 51، فهذا نص صريح في كفره، فيجب رَدّ المتشابه في نفس المسألة إلى هذا النص المحكم، والمتشابه خفي الدلالة هنا: النصوص الدالة على نفي الإيمان عمن يتولى الكافرين، فإن نفي الإيمان يحتمل نفي أصله فيكون فاعله كافراً، ويحتمل نفي كماله الواجب فيكون فاعله فاسقا، وقد نقلت هذا من قبل عن ابن تيمية، انظر (مجموع الفتاوى) 7/ 14 ــ 15 و 37 ــ 42 و 337. ويتم تعيين المراد من نفي الإيمان بالقرائن ومنها رَدّ المتشابه إلى المحكم في موضوعه. وعليه فإن كل نص ورد فيه نفي الإيمان عمن تولى الكافرين فالمراد نفي أصله أي أنه كافر بدلالة النص المحكم في نفس المسألة (فإنه منهم) ومن النصوص المشتملة على نفي الإيمان في موضوع الموالاة قوله تعالى (ترى كثيراً منهم يتولون الذين كفروا ــ إلى قوله ــ ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وماأنزل إليه مااتخذوهم أولياء) المائدة 80 ــ 81، وقوله تعالى (لاتجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادّون من حادّ الله ورسوله) المجادلة 22، ونحوها من الآيات.(7/206)
جـ ــ وقد أفادت آيات سورة المائدة موضع الاستدلال أن هذا الحكم بالكفر عام، يجري على كل مسلم تولى الكافرين، وذلك لأن الآية المشتملة على هذا الحكم هى من صيغ العموم، لأنها مُصدَّرة بـ (مَنْ) الشرطية، قال تعالى (ومَنْ يتولهم منكم فإنه منهم)، وقال ابن تيمية رحمه الله (ولفظ «مَنْ» أبلغ صيغ العموم، لاسيما إذا كانت شرطاً أو استفهاماً) (مجموع الفتاوى) جـ 15/ 82، وله مثله في جـ 24/ 346.
وبهذا تعلم أن هذا الحكم جار ٍ على أنصار الحاكم المرتد، الذين ينصرونه بالقول والفعل فهذه موالاة للكافرين بلا ريب، وأنهم داخلون في هذا النص العام، فهم كفار لا محالة.(7/207)
(شبهة) فإن قيل لِمَ لَمْ يُجرِ النبي صلى الله عليه وسلم أحكام المرتدين على الذين نزلت فيهم هذه الآيات التي نصت على كفرهم (ومَنْ يتولهم منكم فإنه منهم)؟. فالجواب: أنه وكما قال ابن جرير الطبري لم يصح خبرٌُ في سبب نزول هذه الآيات، فلم يصح أنها نزلت في أناس بأعينهم، ومع ذلك فقد اتفق المفسرون على أنها في قوم من المنافقين بدلالة قوله تعالى (فترى الذين في قلوبهم مرض). وقد سبق في شرح قاعدة التكفير ــ عند الكلام في ثبوت الردة ــ بأن المنافقين على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يُسِرّون الكفر ولا يظهرونه إلا لخاصتهم، أو أنه كان يُنقل كفرهم الظاهر بشهادة رجل واحد أو صبي بما لاتقوم بمثله حجة في الاثبات الشرعي ومع هذا كانوا يحلفون أنهم مافعلوا ذلك. ونقلت هناك قول ابن تيمية والقاضي عياض أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستتب أحداً منهم على التعيين لعدم ثبوت كفره الظاهر بالبينة الشرعية. وهذا هو حال المنافقين الذين نزلت فيهم آيات الموالاة في سورة المائدة، فإنهم لم يُظهروا موالاة الكفار بإعانتهم ونصرتهم والقتال معهم وإنما أَسَرّوا وأخفوا في أنفسهم العزم على فعل ذلك، يدل على هذا قوله تعالى (فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر ٍ من عنده فيصبحوا على ماأسرّوا في أنفسهم نادمين) المائدة 53، فقد أخفوا موالاتهم ولو أظهروها وثبتت عليهم لحُكِمَ بردتهم في الظاهر، وإلا فقد حكم الله بكفرهم على الحقيقة كسائر المنافقين.
فإذا كان الله قد حكم بكفر هؤلاء المنافقين، مع أنهم أخفوا موالاتهم للكفار، ومع أنهم كانوا يجاهدون مع النبي صلى الله عليه وسلم، فكيف بأنصار الطواغيت الذين أظهروا موالاتهم للحكام المرتدين وصاروا معهم وفي صفهم على الإسلام والمسلمين؟.
وهناك شبهات أخرى في مسألة الموالاة يأتي الرد عليها في القسم الثالث (نقد الرسالة الليمانية) إن شاء الله.(7/208)
5 ــ الدليل الخامس: من السُّنة، وهو إجراء النبي صلى الله عليه وسلم حكم الكفار ــ في أخذ الفداء من الأسرى ــ على عمّه العباس بن عبدالمطلب لما خرج مع الكفار يوم بدر.
والحديث أصله بالبخاري، وفيه عن أنس رضي الله عنه أن رجالاً من الأنصار استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ائذن لنا فلنترك لابن اختنا عباس فداءَه، قال صلى الله عليه وسلم (والله لا تذرون منه درهماً) (حديث 4018 بكتاب المغازي). وقول الأنصار (ابن اختنا عباس) لأن جدته أم أبيه عبدالمطلب كانت منهم أي من أهل يثرب.
قال ابن حجر في شرحه (قوله (إن رجالاً من الأنصار) أي ممن شهد بدراً، لأن العباس كان أُسِرَ ببدر كما سيأتي، وكان المشركون أخرجوه معهم إلى بدر، فأخرج ابن إسحاق من حديث ابن عباس «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يوم بدر، قد عرفت أن رجالاً من بني هاشم قد أُخرِجوا كرهاً، فمن لقي أحداً منهم فلا يقتله) ــ إلى أن قال ابن حجر ــ وأخرج ابن إسحاق من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ياعباس اِفْدِ نفسك وابن أخويك عقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحارث وحليفك عتبة بن عمرو فإنك ذو مال، قال: إني كنت مُسلماً ولكن القوم استكرهوني، قال صلى الله عليه وسلم: الله أعلم بما تقول إن كنت ماتقول حقاً إن الله يجزيك، ولكن ظاهر أمرك أنك كنت علينا) أهـ. (فتح الباري) 7/ 322. والحديث الأول الذي ذكره ابن حجر أصله عند أحمد من حديث علي بن أبي طالب (المسند) 1/89، والحديث الآخر رواه أحمد من طريق ابن إسحاق به (المسند) 1/ 353. ط المكتب الإسلامي 1398 هـ.
وقد دلّ الحديث على أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أجرى أحكام الكفار في أخذ الفداء من الأسرى على العباس واعتبره كافراً عيناً في الحكم الظاهر، لما خرج في صفوف الكفار لقتال المسلمين، ولم يعتبر دعواه الإكراه مانعة من إجراء حكم الكفار عليه.(7/209)
وهذا الحديث ومادلّ عليه من حكم هو نصٌُّ في محل النزاع ودليل لقولنا إن أنصار الحكام المرتدين كفار على التعيين في الحكم الظاهر، وقد نقلنا إجماع الصحابة على هذا الحكم في الدليل الأول.
واستدل شيخ الإسلام ابن تيمية بحديث العباس هذا على الحكم بكفر كل من خرج إلى القتال مع الكفار ولو كان مؤمنا مُكرهاً في الحقيقة، فقال (وقد يقاتلون وفيهم مؤمن يكتم إيمانه يشهد القتال معهم ولايمكنه الهجرة، وهو مُكره على القتال، ويبعث يوم القيامة على نيته، كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «يغزو جيشٌُ هذا البيت، فبينما هم ببيداء من الأرض إذ خُسِفَ بهم، فقيل: يارسول الله، وفيهم المكره، قال: يبعثون على نياتهم»، وهذا في ظاهر الأمر وإن قُتِل وحُكِمَ عليه بما يُحكم على الكفار فالله يبعثه على نيته، كما أن المنافقين منا يُحكم لهم في الظاهر بحكم الإسلام ويُبعثون على نياتهم. والجزاء يوم القيامة على مافي القلوب لا على مجرد الظواهر، ولهذا رُوِيَ أن العباس قال: يارسول الله كنتُ مكرهاً، قال «أما ظاهرك فكان علينا وأما سريرتك فإلى الله») (مجموع الفتاوى) 19/ 224 ــ 225، وله مثله في (منهاج السنة) 5/ 121 ــ 122، تحقيق د. محمد رشاد سالم.(7/210)
وتعقيباً على قول شيخ الإسلام (وهو مُكره على القتال) أهـ، ينبغي التنبيه على أن الإكراه ــ وإن كان متصور الوقوع ــ إلا أنه لايُسَوِّغ قتل المسلمين أو قتالهم، فقد قال ابن تيمية رحمه الله ــ عن المكرَه على القتال في صف الكفار ــ (فلا ريب أن هذا يجب عليه إذا أكرِه على الحضور أن لايُقاتِل وإن قتله المسلمون، كما لو أكرهه الكفار على حضور صفهم ليقاتِل المسلمين، وكما لو أكره رجلٌُ رجلاً على قتْل مسلم معصوم، فإنه لايجوز له قتله باتفاق المسلمين وإن أكرهه بالقتل، فإنه ليس حفظ نفسه بقتل ذلك المعصوم أولى من العكس) (مجموع الفتاوى) 28/ 539. وقال القرطبي رحمه الله (أجمع العلماء على أن من أكرِه على قتل غيره أنه لايجوز له الإقدام على قتله ولا انتهاك حرمته بجَلْد ٍ أو غيره، ويصبر على البلاء الذي نزل به، ولايحل له أن يفدي نفسه بغيره، ويسأل الله العافية في الدنيا والآخرة) (تفسير القرطبي) 10/ 183.
فالخلاصة: أن كل من قاتل في صف الكفار أو نصرهم بالقول والفعل ــ لأن هذه النصرة قتال حكماً ــ فهو محكوم بكفره على التعيين، وهذا هو حكم أنصار الحكام المرتدين.
وقال ابن حزم رحمه الله (ولو أن كافراً مجاهدا غلَب على دار من دور الإسلام وأقرَّ المسلمين بها على حالهم إلا أنه هو المالك لها المنفرد بنفسه في ضبطها وهو معلن بدين غير الإسلام لكَفَر بالبقاء معه كل من عاونه وأقام معه وإن ادعى أنه مسلم) (المحلى) 11/ 200. وقوله (كافراً مجاهداً) غير مستقيم في الشرع ولعله تصحيف وصحته (كافراً مجاهراَ).
6 ــ الدليل السادس: القاعدة الفقهية وهى أن الفرد في الطائفة الممتنعة عن القدرة له حكم رءوس الطائفة.
وقد سبق في شرح قاعدة التكفير بيان أن الامتناع يرد في الشرع على معنيين:(7/211)
أحدهما: الامتناع عما وجب فعله من شرائع الإسلام، كترك الصلاة والزكاة ونحو ذلك، وهذا الامتناع عن الشرع هو الذي تردد ذكره كثيراً في كلام شيخ الإسلام (أيما طائفة امتنعت عن شريعة من شرائع الإسلام...) والممتنع عن الشرع قد يكون كافراً أو فاسقا بحسب ماامتنع عنه.
والآخر: الامتناع عن القدرة، قال ابن تيمية (ومعنى القدرة عليهم: إمكان الحد عليهم لثبوته بالبينة أو بالإقرار وكونهم في قبضة المسلمين) (الصارم المسلول) صـ 507، ولعل صحة العبارة (إمكان إقامة الحد). وقال أيضا (وهذا كله إذا قُدِرَ عليهم، فأما إذا طلبهم السلطان أو نوابه لإقامة الحد بلا عدوان فامتنعوا عليه، فإنه يجب على المسلمين قتالهم باتفاق العلماء حتى يقدر عليهم كلهم) (مجموع الفتاوى) 28/ 317. وقال أيضا (العقوبات التي جاءت بها الشريعة لمن عصى الله ورسوله نوعان: أحدهما عقوبة المقدور عليه من الواحد والعدد كما تقدم، والثاني: عقاب الطائفة الممتنعة كالتي لايُقدر عليها إلا بقتال) (مجموع الفتاوى) 28/ 349. والامتناع عن القدرة يتأتى بأمرين: باللحوق بدار الحرب حيث لاسلطان للمسلمين، أو بالامتناع بطائفة وشوكة أي بأعوان وسلاح، وذكر ابن تيمية كيفية الامتناع عن القدرة في قوله (ولأن المرتد لو امتنع ــ بأن يلحق بدار الحرب، أو بأن يكون المرتدون ذوي شوكة يمتنعون بها عن حكم الإسلام ــ فإنه يُقتل قبل الاستتابة بلا تردد) (الصارم المسلول) صـ 322.
وانبه هنا على عدة أمور:
* أن الممتنع عن الشرع: قد يكون فرداً كتارك الصلاة، أو طائفة كمانعي الزكاة.
* وأن الممتنع عن القدرة: قد يكون فرداً كعبدالله بن سعد بن أبي السرح الذي ارتد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وامتنع باللحاق بمكة قبل فتحها وكانت دار حرب، وقد يكون الممتنع عن القدرة طائفة كالمحاربين قطاع الطريق وكالمرتدين الممتنعين.(7/212)
* أنه لاتلازم بين الامتناع عن الشرع والامتناع عن القدرة، فليس كل ممتنع عن الشرع ممتنعاً عن القدرة: كالفرد تارك الصلاة المقدور عليه، وكالطائفة المقدور عليها كبقايا بني حنيفة الذين استتابهم عبدالله بن مسعود من الردة بالكوفة وقد ذكرت حديثهم في التنبيه الهام المذكور بتعليقي على العقيدة الطحاوية وأصل حديثهم بصحيح البخاري بأول كتاب الكفالة وكان عدد هؤلاء الذين استتابهم ابن مسعود: مائة وسبعين رجلا كما نقله ابن حجر عن ابن أبي شيبة (فتح الباري) 4/ 470.
* أما الممتنع عن القدرة فلابد أن يكون ممتنعاً عن الشرع، لأنه لايوصف بالامتناع عن القدرة إلا إذا كان قد وجب عليه حق لله تعالى أو حق للعباد فطولب به فامتنع عن القدرة، أو امتنع عن القدرة قبل المطالبة وبعد وجوب الحق عليه حتى لايؤاخذ به.
بعد بيان أنواع الامتناع في الشريعة، نقول إن الفرد له حكم الطائفة في الممتنعين عن القدرة والذين لا يكونون إلا ممتنعين عن الشرع أيضا، وحكم الطائفة هو حكم رءوسها وأئمتها. وعلى هذا فإذا كان رأس الطائفة مرتداً كمسيلمة وطليحة، سُمِّيت طائفته بالمرتدين، وحُكم على كل فرد منهم بالردة. وإذا كان رأس الطائفة باغيا سُمِّيت طائفته بالبغاة، كما قال تعالى (فإن بغت إحداهما على الأخرى) الحجرات 9، وقال صلى الله عليه وسلم (تقتل عماراً الفئة الباغية) ويُسمى كل فرد في هذه الفئة باغيا. وحديث عمار متفق عليه ولفظه لمسلم ورواه البخاري بلفظٍ مقارب (حديث 447). وهكذا القول في غيرهم من الممتنعين كالخوارج والمحاربين قطّاع الطرق يسمي كل منهم خارجيا أو محارباً على الترتيب.
وهذا الحكم الذي ذكرناه وهو أن الفرد له حكم الطائفة في الممتنعين عن القدرة، دلّ عليه الكتاب والسنة والإجماع.(7/213)
أ ــ أما الكتاب: فالدليل قوله تعالى (إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين) القصص 8، وقوله تعالى (ونُرِيَ فرعون وهامان وجنودهما منهم ماكانوا يحذرون) القصص 6، وقوله تعالى (فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليمَ، فانظر كيف كان عاقبة الظالمين) القصص 40، وقوله تعالى (وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا يُنصرون) القصص 41 والآيات تبين أن الأتباع (جنودهما) لهم حكم المتبوعين (فرعون وهامان)، فقد سوّى الله تعالى بينهم في الإثم (كانوا خاطئين) وفي الوعيد (ماكانوا يحذرون) وفي العقوبة الدنيوية (فنبذناهم في اليم) وفي العقوبة الأخروية (ويوم القيامة لاينصرون)، ووصفهم الله جميعا بأنهم (أئمة يدعون إلى النار) ولم يفرق بين تابع ومتبوع، ولم يصف الأتباع إلا بأنهم جنود المتبوع، وإنما استحقوا حكم المتبوع لمشاركتهم له في إجرامه وإفساده، إذ لم يكن المتبوع ليتمكن من الإجرام إلا بجنوده الذين يطيعونه وينفذون إرادته، وهكذا جنود الطاغية في كل زمان ومكان.(7/214)
فإن قيل إنه لاحجة في هذه الآيات على تكفير جنود الحكام المرتدين ــ وفيهم من يُظهر الإسلام ــ لأن جنود فرعون كانوا كفاراً أصليين، فالجواب: أن النص على كفر جنود الحكام المرتدين مستفاد من الأدلة السابقة من الكتاب والسنة والإجماع ولايؤثر في هذا الحكم إظهار بعضهم للإسلام، لأنه ــ وكما سبق القول في حكم مستور الحال ــ لايحكم لشخص بالإسلام الحكمي بإظهاره لعلامات الإسلام إلا إذا لم يقترن ذلك بناقض من نواقض الإسلام، وهنا اقترن ظهور علامات الإسلام من بعضهم بناقض وهو نصرة الكفار على كفرهم وعلى المسلمين. أما الآيات المذكورة هنا فوجه الاستدلال بها على كفر جنود المرتدين هو من جهة دلالة هذه الآيات على التسوية بين التابع والمتبوع من كل الوجوه، ولم يجعل الله تعالى سبب هذه التسوية مشابهة معتقد التابع لمعتقد المتبوع، بل لم تُشِر الآيات أدنى إشارة إلى معتقد الأتباع، وإنما جعل الله مناط هذه التسوية هو مجرد المتابعة في الفعل لا الموافقة في الاعتقاد، ولم يصفهم الله في جميع هذه الآيات إلا بأنهم جنود فرعون. وحَصْر التكفير في الكفر بالاعتقاد فقط هو مذهب المرجئة كما ذكرته في أخطاء التكفير، وعلى الصحيح فإن الكفر يقع بالقول والفعل والاعتقاد، وجنود الحكام المرتدين الذين ينصرونهم بالقول والفعل إنما كفروا بالقول والفعل دون النظر في معتقدهم.(7/215)
والصحابة رضي الله عنهم عندما سمّوا اتباع أئمة الردة بالمرتدين وحكموا بكفرهم إنما حكموا عليهم بمجرد اتباعهم لأئمة الردة ونصرتهم لهم بالقول والفعل والقتال معهم، لا لأنهم اختبروا معتقدهم، فإن هذا لم يقع ولم يثبت من جهة النقل، وقد سبق أن ذكرت قول ابن تيمية إن أتباع مسيلمة كانوا نحو مائة ألف أو أكثر (منهاج السنة) 7/217، فكيف يتأتى تبين معتقد هذا العدد مع امتناعهم عن القدرة؟ فضلاعن غيرهم من أتباع طليحة وسجاح والعنسي وغيرهم. ولو توقف الحكم عليهم على تبين معتقدهم لأفضى هذا إلى ابطال الجهاد. وبهذا تعلم أن كفر أنصار المرتدين هو من جهة القول والفعل لامن جهة الاعتقاد. بل قد ذكر ابن جرير الطبري رحمه الله مايبين أن بعض أتباع مسيلمة كان يُقر بكذبه، فقال (كتب إلىّ السريّ قال: حدثنا شعيب عن سيف عن خُلَيد بن ذفرة النمري عن عمير بن طلحة النمري عن أبيه، أنه جاء اليمامة فقال: أين مسيلمة؟ قالوا: مَهْ رسول الله! فقال: لا، حتى أراه، فلما جاءه، قال: أنت مسيلمة؟ قال: نعم، قال: من يأتيك؟، قال: رحمن، قال: أفي نور أو في ظُلمة؟ فقال: في ظُلمه، فقال: أشهد أنك كذّاب وأن محمداً صادق، ولكن كذّاب ربيعة أحب إلينا من صادق مُضر، فقُتِل معه يوم عقرباء) وفي رواية (قال: كذّاب ربيعة أحب إليّ من كذاب مُضَر) أهـ (تاريخ الطبري) 2/277، ط دار الكتب العلمية 1408 هـ.
والحاصل: أن الصحابة لم يتبيّنوا معتقد أنصار أئمة الردة، ولم يكن هذا ممكناً للمنعة القائمة، وإنما حكموا بردتهم بسبب النصرة والمعاونة وهذا يوجب التسوية بينهم وبين أئمتهم ورءوسهم في الأحكام كما سوّى الله بين فرعون وجُنده.(7/216)
ب ــ وأما السنة: فالدليل على أن الفرد له حكم الطائفة في الممتنعين هو إجراء النبي صلى الله عليه وسلم حكم الكفار على عمِّه العباس لما خرج مع جيش المشركين للقتال يوم بدر، رغم دعواه الإسلام والإكراه، وأنه قد توجّب الحكم عليه بمجرد فعله لا بالنظر في معتقده. فدلّ على أن الفرد له حكم الطائفة. وقد ذكرنا حديثه من قبل وذكرنا مااستنبطه ابن تيمية منه.
جـ ــ وأما الإجماع: فدليله إجماع الصحابة ــ المذكور في الدليل الأول ــ على تكفير أنصار أئمة الردة في عهد أبي بكر رضي الله عنه. ولم يفرقوا في ذلك بين تابع ومتبوع.
ومن هذا تعلم أنه في الممتنعين يجري على الفرد حكم الطائفة الذي هو حكم رءوسها، كما قال تعالى (يوم ندعو كل أناس بإمامهم) الإسراء 71. فأنصار الحكام المرتدين الحاكمين بغير شريعة الإسلام في زماننا هذا هم مرتدون حكمهم حكم أئمتهم، وهذا الحكم يجري على الأنصار على التعيين أي أن كل منهم كافر بعينه، ودليل تكفيرهم على التعيين حكم النبي صلى الله عليه وسلم على عمه العباس على التعيين، وإجماع الصحابة على تكفير من مات من أنصار المرتدين (وقتلاكم في النار) ولاشك في أن القتلى معيَّنون.
وإليك بعض أقوال العلماء في تقرير هذه القاعدة:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (والطائفة إذا انتصر بعضها ببعض حتى صاروا ممتنعين فهم مشتركون في الثواب والعقاب ــ إلى قوله ــ فأعوان الطائفة الممتنعة وأنصارها منها فيما لهم وعليهم ــ إلى قوله ــ لأن الطائفة الواحدة الممتنع بعضها ببعض كالشخص الواحد) (مجموع الفتاوى) 28/ 311 ــ 312.(7/217)
وقال شيخ الإسلام أيضا ــ في قتال الكفار ــ (وقد يقاتِلون وفيهم مؤمن يكتم إيمانه يشهد القتال معهم ولايمكنه الهجرة، وهو مكره على القتال، ويُبعث يوم القيامة على نيته ــ وذكر حديث الجيش الذي يُخسف به، ثم قال ــ وهذا في ظاهر الأمر وإن قُتِل وحكم عليه بما يُحكم على الكفار فالله يبعثه على نيته) (مجموع الفتاوى) 19/ 224 ــ 225، وقد نقلت كلامه هذا بتمامه من قبل عقب ذكر حديث العباس رضي الله عنه.
ومن فتاوى المعاصرين في بيان أن الفرد له حكم الطائفة ماورد في الفتوى رقم (9247) من فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية بالسعودية، والسؤال (ماحكم عوام الروافض الإمامية الإثنى عشرية؟ وهل هناك فرق بين علماء أي فرقة من الفرق الخارجة عن الملة وبين أتباعها من حيث التكفير أو التفسيق؟). فجاء في الجواب: (الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه.. وبعد: من شايع من العوام إماماً من أئمة الكفر والضلال، وانتصر لسادتهم وكبرائهم بغياً وعدواً حُكِمَ له بحكمهم كفراً وفسقاً قال الله تعالى (يسألك الناس عن الساعة).. إلى أن قال: (وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعناً كبيراً) واقرأ الآية رقم 165، 166، 167 من سورة البقرة، والآية رقم 37، 38، 39 من سورة الأعراف، والآية رقم 21، 22 من سورة إبراهيم، والآية رقم 28، 29 من سورة الفرقان، والآيات رقم 62، 63، 64 من سورة القصص والآيات رقم 31، 32، 33 من سورة سبأ، والآيات رقم 20 حتى 36 من سورة الصافات، والآيات 47 حتى 50 من سورة غافر وغير ذلك في الكتاب والسنة كثير، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قاتل رؤساء المشركين وأتباعهم وكذلك فعل أصحابه ولم يفرقوا بين السادة والأتباع.(7/218)
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم) أهـ بتوقيع: عبدالله بن قعود، وعبدالله بن غديّان، وعبدالرازق عفيفي، وعبد العزيز بن باز. من (فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء) مجلد 2، صـ 267 ــ 268، جمع أحمد بن عبدالرزاق الدويش، ط دار العاصمة بالرياض 1411 هـ.
فهذه أقوال بعض أهل العلم في تقرير القاعدة الثابتة بالكتاب والسنة والإجماع وهى أن الفرد له حكم الطائفة في الممتنعين.
وبعد:
فقد ذكرت آنفا ستة أدلة على كفر أنصار الحكام المرتدين وسردتها على ترتيب كيفية الاجتهاد الذي ذكره أبو حامد الغزالي رحمه الله، فبدأت بذكر إجماع الصحابة في المسألة ثم ثلاثة أدلة من كتاب الله تعالى، ثم ذكرت دليلا من السنة، ثم القاعدة الفقهية الكلية في هذه المسألة بما لايدع لدى مسلم أدنى شك في حكم أنصار الطواغيت الذين هم سبب دوام الكفر وبقائه، وقد دل إجماع الصحابة والسنة على أنهم كفار على التعيين، وهذا في الحكم الظاهر،
ويتبيّن من الأدلة السابقة اجتماع عدة مناطات في تكفير أنصار الطواغيت، كل منها مكفِّر لهم بذاته، وهى:
1 ــ موالاتهم الحكام الكافرين: وذلك بإعانتهم لهم على حرب الإسلام والمسلمين، وهذا مناط مكفر لقوله تعالى (ومن يتولهم منكم فإنه منهم) المائدة 51، ولحكم النبي صلى الله عليه وسلم على عمه العباس، ولإجماع الصحابة على تكفير أنصار أئمة الردة، وللقاعدة الفقهية في الحكم على الممتنعين.
2 ــ قتالهم في سبيل الطاغوت: وهو طاغوت الحكم المتحاكم إليه من دون الله، وهو هنا الدساتير والقوانين الوضعية والحكام الكافرون. وهذا مناط مكفر لقوله تعالى (والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت) النساء 76.(7/219)
3 ــ معاداتهم لله ولرسوله ولدينه: بحربهم للإسلام والمسلمين وإماتتهم لشريعة الإسلام وإعلائهم لشرائع الكفر وقوانينه، وهذا مناط مكفر لقوله تعالى (من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين) البقرة 98.
فإن نجوا من مناط مكفر، وقعوا في الثاني، وإن نجوا من الثاني وقعوا في الثالث، فكيف وهم واقعون في المناطات الثلاثة؟ فُهم من الذين كسبوا السيئات وأحاطت بهم خطاياهم.
واختم هذا القسم (حكم أنصار الطواغيت) ببعض أقوال العلماء في هذه المسألة.
1 ــ قال ابن حزم رحمه الله (ولو أن كافراً مجاهداً غلب على دار من دور الإسلام وأقر المسلمين بها على حالهم إلا أنه هو المالك لها المنفرد بنفسه في ضبطها وهو معلن بدين غير الإسلام، لكَفَر بالبقاء معه كل من عاونه وأقام معه وإن ادعى أنه مسلم) (المحلى) 11/200. وسبق القول بأن الصواب (كافراً مجاهراً) لا مجاهداً.
2 ــ وقال ابن حزم أيضا ــ في كلامه عن وجوب الهجرة من دار الكفر ــ (وكذلك من سكن بأرض الهند والسند والصين والترك والسودان والروم من المسلمين فإن كان لايقدر على الخروج من هنالك لثقل ظهر أو لقلة مال أو لضعف جسم أو لامتناع طريق فهو معذور، فإن كان هنالك محارباً للمسلمين معيناً للكفار بخدمة أو كتابة فهو كافر) (المحلى) 11/ 200. والبلاد التي ذكرها كانت ديار كفر أصلي في زمان ابن حزم رحمه الله. وحاصل الصورتين اللتين ذكرهما أن من أعان الكفار على المسلمين فهو كافر، وعَلّق ابن حزم كُفْره على مجرد الإعانة لا على الموافقة القلبية كما يزعم مؤلف (الرسالة الليمانية) وسيأتي تفنيد زعمه في القسم الثالث إن شاء الله.
3 ــ وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (قال الله تعالى (ياأيها الذين آمنوا لاتتخذوا اليهود والنصارى أولياء، بعضهم أولياء بعض، ومن يتولهم منكم) فيوافقهم ويعينهم (فإنه منهم)) (مجموع الفتاوى) 25/ 326.(7/220)
4 ــ وقال ابن تيمية أيضا ــ في كلامه عن الكفار ــ (وقد يقاتِلون وفيهم مؤمن يكتم إيمانه يشهد القتال معهم ولا يمكنه الهجرة، وهو مكره على القتال، ويُبعث يوم القيامة على نيته، كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «يغزو جيش هذا البيت، فبينما هم ببيداء من الأرض إذ خُسِفَ بهم، فقيل: يا رسول الله، وفيهم المكره، قال يبعثون على نياتهم». وهذا في ظاهر الأمر وإن قُتِل وحكم عليه بما يُحكم على الكفار فالله يبعثه على نيته، كما أن المنافقين منا يُحكم لهم في الظاهر بحكم الإسلام ويُبعثون على نياتهم. والجزاء يوم القيامة على مافي القلوب لاعلى مجرد الظواهر، ولهذا روي أن العباس قال: يا رسول الله كنت مكرها، قال «أما ظاهرك فكان علينا وأما سريرتك فإلى الله») (مجموع الفتاوى) 19/ 224 ــ 225، وله مثله في (منهاج السنة) 5/ 121 ــ 122.(7/221)
5 ــ وسُئل ابن تيمية عمن يتعمد قتل المسلم بسبب دينه وهو يدعي الإسلام كما يفعله الحكام المرتدون وأنصارهم وجنودهم الذين يقتلون المسلمين بسبب دينهم ويستحلون قتلهم بقوانين كافرة ماأنزل الله بها من سلطان، فأجاب رحمه الله (أما إذا قتله على دين الإسلام، مثل مايقاتل النصراني المسلمين على دينهم، فهذا كافر شر من الكافر المعاهد، فإن هذا كافر محارب بمنزلة الكفار الذين يقاتلون النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وهؤلاء مخلدون في جهنم كتخليد غيرهم من الكفار) (مجموع الفتاوى) 34/ 136 ــ 137. قلت: ووجه كفر الحكام المرتدين وجنودهم في هذه المسألة هو الاستحلال المكفِّر، والاستحلال هنا هو اعتبارهم قتل المسلمين المتدينين والمجاهدين أمراً مشروعاً مستباحاً بل واجبا عليهم بموجب قوانينهم الوضعية التي تعاقب بالقتل من أراد قلب نظام الحكم ولو كان هذا القلب هو في حقيقته جهاد في سبيل الله، فمن استحل دم المسلم بغير حق بهذه القوانين الكافرة فقد كفر لأن استحلاله هذا هو تكذيب بالنصوص المتواترة الدالة على حرمة دماء المسلمين. وقال ابن تيمية (والإنسان متى حَلّل الحرام المُجْمع عليه أو حرَّم الحلال المجمع عليه أو بدَّل الشرع المجمع عليه كان كافراً مرتداً باتفاق الفقهاء) (مجموع الفتاوى) 3/ 267.
6 ــ وفي شرح حديث ابن عمر مرفوعا (إذا أنزل الله بقوم ٍ عذابا أصاب العذاب من كان فيهم ثم بُعثوا على أعمالهم) رواه البخاري (7108)، قال ابن حجر رحمه الله (ويُستفاد من هذا مشروعية الهرب من الكفار ومن الظلمة لأن الإقامة معهم من إلقاء النفس إلى التهلكة، هذا إذا لم يُعِنْهم ولم يرض بأفعالهم، فإن أعان أو رضي فهو منهم) (فتح الباري) 13/ 61.(7/222)
7 ــ وذكر شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله ضمن نواقض الإسلام التي يكفر بها المسلم، قال (الناقض الثامن: مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين، لقوله تعالى «ومن يتولهم منكم فإنه منهم») أهـ (مجموعة التوحيد) ط دار الفكر 1399 هـ، صـ 33.
8 ــ وقال محمد بن عبدالوهاب أيضا: (إن كانت الموالاة مع مساكنتهم في ديارهم والخروج معهم في قتالهم ونحو ذلك، فإنه يُحكم على صاحبها بالكفر، كما قال تعالى «ومن يتولهم منكم فإنه منهم» ــ المائدة 51 ــ، وقوله تعالى «وقد نزّل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يُكفر بها ويُستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره، إنكم إذاً مثلهم» ــ النساء 140 ــ) أهـ (المرجع السابق) صـ 175 ــ 176.
قلت: أليست مناطات التكفير المذكورة في كلام ابن حجر السابق وكلام محمد بن عبدالوهاب متحققة في جنود الحكام المرتدين وأنصارهم، من مظاهرتهم ومعاونتهم لهم على الإسلام والمسلمين؟. وتأمل قول ابن حجر (فإن أعان أو رضي فهو منهم) فالإعانة مناط مستقل للحكم عليه، كما أن الرضا مناط آخر، ولا يجب اجتماع المناطين للحكم عليه، بل كل مناط منهما يكفي بمفرده للحكم عليه ليس كما يزعم مؤلف (الرسالة الليمانية) أن من أعان لايكفر إلا إذا رضي بما عليه الكفار، وسيأتي عرض كلامه ونقده في القسم الثالث إن شاء الله، وإليك مزيداً من أقوال العلماء في نفس المسألة:(7/223)
9 ــ قال الشيخ محمد بن عبدالوهاب أيضا ــ مخاطباً اتباعه ومنتقداً لخصوم دعوته ــ (ولكنهم يجادلونكم اليوم بشبهة واحدة فاصغوا لجوابها، وذلك أنهم يقولون كل هذا حق نشهد أنه دين الله ورسوله إلا التكفير والقتال، والعجب ممن يخفى عليه جواب هذا إذا أقروا أن هذا دين الله ورسوله كيف لا يكفر من أنكره وقَتَل من أَمَر به وحَبَسَهم؟ كيف لايكفر من أمر بحبسهم؟ كيف لايكفر من جاء إلى أهل الشرك يحثهم على لزوم دينهم وتزينه لهم ويحثهم على قتل الموحدين وأخذ مالهم؟ كيف لايكفر وهو يشهد أن الذي يحث عليه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنكره؟ ونهى عنه وسماه الشرك بالله ويشهد أن الذي يبغضه ويبغض أهله ويأمر المشركين بقتلهم هو دين الله ورسوله.
واعلموا أن الأدلة على تكفير المسلم الصالح إذا أشرك بالله، أو صار مع المشركين على الموحدين ولو لم يشرك أكثر من أن تحصر من كلام الله وكلام رسوله وكلام أهل العلم كلهم.) أهـ (الرسائل الشخصية) صـ 272، وهى القسم الخامس من مؤلفات الشيخ محمد بن عبدالوهاب، ط جامعة الإمام محمد بن سعود. وتأمل قول الشيخ إن من صار مع المشركين على الموحدين كَفَر بذلك ولو لم يُشرك، وهذا أيضا يرد على مؤلف (الرسالة الليمانية) قوله إن أنصار الحاكم المرتد لايكفرون بنصرتهم له إلا أن يقترن بهذه النصرة اعتقاد مكفر بمحبة ماعليه هذا الحاكم والرضى به.(7/224)
10 ــ وقال الشيخ حَمَد بن عتيق النجدي رحمه الله 1301هـ: (قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: تأملت المذهب فوجدت الإكراه يختلف باختلاف المكرَه عليه، فليس الإكراه المعتبر في كلمة الكفر كالإكراه المعتبر في الهبة ونحوها، فإن أحمد قد نصَّ في غير موضع أن الإكراه على الكفر لا يكون إلا بالتعذيب من ضرب وقيد ولايكون الكلام إكراهاً، وقد نص على أن المرأة لو وهبت زوجها صداقها يمسكه فلها أن ترجع بناء على أنها لاتَهَب له إلا إذا خافت أن يطلقها أو يسيء عشرتها فَعَلى خوف الطلاق أو سوء العشرة إكراه ولفظه في موضع آخر أنه أكرهها، ومثل هذا لا يكون إكراهاً على الكفر فإن الأسير إذا خشي من الكفار أن لا يزوجوه وأن يحولوا بينه وبين امرأته لم يبح له التكلم بكلمة الكفر ــ انتهى ــ ومثله كثير في كلام غيره وإذا تبين ذلك فقد تقدم أن مظاهرة المشركين ودلالتهم على عورات المسلمين أو الذب عنهم بلسان أو رضي بما هم عليه كل هذه مكفرات ممن صدرت منه من غير الإكراه المذكور فهو مرتد وإن كان مع ذلك يبغض الكفار ويحب المسلمين وقد تقدم ذلك في غير موضع وإنما كررنا لعموم الجهل به وشدة الحاجة إلى معرفته) أهـ (الدفاع عن أهل السنة والاتباع) للشيخ حمد بن عتيق، صـ 31 ــ 32، ط دار القرآن الكريم 1400هـ. وقوله (فَعَلى خوف الطلاق) صوابه (فجعل خوف الطلاق) والتصويب من (مجموعة التوحيد) صـ 419.
11 ــ وقال الشيخ سليمان بن سحمان النجدي 1349 هـ ــ نظماً ــ
(ومن يَتَولَّ الكافرين فمثلهم ولا شك في تكفيره عند من عَقَل
ومن قد يواليهم ويركن نحوهم فلاشك في تفسيقه وهو في وَجَل
وكل محب ٍ أو معين وناصر ويُظهر جهراً للوفاق على العمل
فهم مثلهم في الكفر من غير ريبةٍ .. وذا قول من يدري الصواب من الزلل) أهـ.
من ديوانه (عقود الجواهر المنضّدة الحسان) لسليمان بن سحمان صـ 131، نقلا عن (الموالاة والمعاداة لمحماس الجلعود، 2/ 523.(7/225)
12 ــ ومن المعاصرين: الشيخ عبدالعزيز بن باز قال: (إن الذين يدعون إلى الاشتراكية أو الشيوعية أو غيرهما من المذاهب الهدامة المناقضة لحكم الإسلام، كُفَّار ضُلاّل أكفر من اليهود والنصارى، لأنهم ملاحدة لايؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ولايجوز أن يُجعل أحدٌُ منهم خطيباً وإماماً في مسجد من مساجد المسلمين، ولاتصح الصلاة خلفهم.
وكل من ساعدهم على ضلالهم وحَسَّن مايدعون إليه، وذَمَّ دعاة الإسلام ولَمزَهم فهو كافر ضال حُكْمه حُكم الطائفة الملحدة التي سار في ركابها وأيّدها في طلبها.
وقد أجمع علماء الإسلام على أن من ظاهر الكفار على المسلمين وساعدهم عليهم بأي نوع ٍ من المساعدة، فهو كافر مثلهم، كما قال سبحانه «ياأيها الذين آمنوا لاتتخذوا اليهود والنصارى أولياء، بعضهم أولياء بعض، ومن يتولهم منكم فإنه منهم، إن الله لايهدي القوم الظالمين» ــ المائدة 51 ــ وقال تعالى «ياأيها الذين آمنوا لاتتخذوا آباءَكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان، ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون» ــ التوبة 23 ــ) أهـ نقلا عن (مجموع فتاوى ومقالات متنوعة للشيخ عبدالعزيز بن باز) جمع محمد بن سعد الشويعر، جـ 1 صـ 274، ط 2، 1408هـ.
وهذا الإجماع الذي نقله الشيخ ابن باز هو إجماع الصحابة الذي ذكرته في الدليل الأول وهو إجماع قطعي يكفر مخالفه كما بيَّنته هناك.
وهذا الشيخ ــ أعني ابن باز ــ من الذين أسرفوا على أنفسهم وتقلّبت فتاواه لتتفق مع السياسة حيث دارت، ومن هنا اختلفت فتاواه وتناقضت في المسألة الواحدة بين عام ٍ وآخر، انظر على سبيل المثال ماقاله في مسألة الاستعانة بالمشركين في كتابه (نقد القومية العربية) وماقاله في نفس المسألة في حرب الخليج الثانية 1990م، أسأل الله أن يوفقه للتوبة النصوح قبل موته، فإنما الأعمال بالخواتيم.
(مسألة: يُحكم على الممتنعين عن القدرة بدون استتابة، أي بدون تبيُّن الشروط والموانع).(7/226)
سبق في شرح قاعدة التكفير بيان أن الاستتابة تطلق على تبين توفر الشروط وانتفاء الموانع قبل الحكم بالكفر، كما تطلق الاستتابة على طلب التوبة من المرتد بعد الحكم عليه بالكفر، ونقلت قول ابن تيمية في ذلك.
كما ذكرت في شرح قاعدة التكفير وفي نقد كتاب (القول القاطع) أن الاستتابة إنما تجب مع المقدور عليه لا الممتنع عن القدرة، ونقلت قول ابن تيمية (ولأن المرتد لو امتنع ــ بأن يلحق بدار الحرب أو بأن يكون المرتدون ذوي شوكة يمتنعون بها عن حكم الإسلام ــ فإنه يُقتل قبل الاستتابة بلا تردد) (الصارم المسلول) صـ 322، وقال أيضا (على أن الممتنع لايستتاب، وإنما يُستتاب المقدور عليه) (الصارم المسلول صـ 325 ــ 326. ويدل على هذا:
1 ــ السنة: لأن النبي صلى الله عليه وسلم حكم برِدَّة عبدالله بن سعد بن أبي السرح وأمر بقتله بدون استتابة لما أتى ما هو كفر وامتنع بفراره من المدينة إلى مكة قبل فتحها وكانت دار حرب. وكذلك أجرى النبي صلى الله عليه وسلم حكم الكفار على عمه العباس ولم يقبل عذره كما سبق ذكره قريبا.
2 ــ إجماع الصحابة: على تكفير أئمة الردة وأنصارهم، وإجماعهم على قتالهم بدون استتابة.
فإذا تبيّن لك هذا علمت أن الحكم المذكور قبلاً بتكفير أنصار المرتدين على التعيين لايتوقف على تبين شروط التكفير وموانعه في حقهم، وعلمت أيضا أنه لايجب علينا البحث في هذه الشروط والموانع لعدم توقف الحكم عليها.(7/227)
(تنبيه) على الفرق بين المنفرد والمقدور عليه، فالواحد من جنود المرتدين إذا ابتعد عن معسكره أو مقر عمله فإن هذا لايُصَيِّره مقدوراً عليه، وإنما يُسمى هذا بالمنفرد وهو الشاذ، كما في حديث الرجل الذي قتل نفسه لما أثخنته الجراح وفيه أنه كان (لايدع من المشركين شاذّة ولا فاذّة إلا اتبعها فضربها بسيفه (حديث 4207 بالبخاري) والشاذ هو المنفرد عن جماعة، والفاذ هو المنفرد الذي لم يكن في جماعة قبلاً. فالجندي الذي ابتعد عن معسكره هو منفرد شاذ وهو مع هذا مازال ممتنعاً عن القدرة لأن طائفته يمكنها نجدته وإغاثته وتتعقب من يتعرض له وتنتصر له بعقاب من تعرَّض له، ومادام ممتنعا فإنه يُحكم عليه بدون تبين الشروط والموانع، أما المقدور عليه فقد سبق بيان أنه من كان في قبضة المسلمين ويمكن للسلطان أو نوابه أن يطلبوه لإقامة الحد أو العقوبة عليه فلا يمتنع منهم. انظر (مجموع الفتاوى) 28/ 317، و (الصارم المسلول) صـ 507. فوجود جنود المرتدين بين المسلمين ومخالطتهم لهم خارج معسكراتهم في بعض الأحيان لايصيِّرهم مقدوراً عليهم.
(مسألة) فإن قيل: فهل الحكم بكفر أنصار المرتدين على التعيين هو على الظاهر أم على الحقيقة؟ أي هل هم كفار في الحكم الدنيوي الظاهر فقط أم كفار ظاهراً في الدنيا وباطناً على الحقيقة معذبون في الآخرة؟.(7/228)
والجواب: أن كل من أتى كفراً وانتفت الموانع في حقه فلابد أن يكون كافراً ظاهراً وباطناً كما سبق بيانه تصديقاً لخبر الله الذي لايكون إلا على الحقيقة. ولما كان الحكم بالكفر يقع على الممتنعين بدون تبين الشروط والموانع، فحُكْمنا بكفرهم إنما هو على الظاهر ولانقطع بكفرهم كممتنعين على الحقيقة لاحتمال قيام مانع من التكفير في حق بعضهم، مع التذكير بأنه لايجب علينا البحث عن هذه الموانع. فالحكم عليهم إنما هو على الظاهر كما قال ابن تيمية ــ فيما نقلته عنه آنفا ــ (وقد يقاتِلون وفيهم مؤمن يكتم إيمانه يشهد القتال معهم ولايمكنه الهجرة، وهو مُكرَه على القتال، ويُبعث يوم القيامة على نيّته، كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «يغزو جيشٌُ هذا البيت، فبينما هم ببيداء من الأرض إذ خُسِفَ بهم، فقيل: يارسول الله وفيهم المكره، قال: يُبعثون على نياتهم»، وهذا في ظاهر الأمر وإن قُتِلَ وحُكِمَ عليه بما يُحكم على الكفار، فالله يبعثه على نيته، كما أن المنافقين منا يُحكم لهم في الظاهر بحكم الإسلام ويُبعثون على نياتهم، والجزاء يوم القيامة على مافي القلوب لا على مجرد الظاهر) ثم استدل لكلامه هذا بحديث العباس و خروجه مع المشركين يوم بدر وحُكْم النبي صلى الله عليه وسلم عليه. انظر (مجموع الفتاوى) 19/ 225. فقوله (وهذا في ظاهر الأمر ــ إلى قوله ــ فالله يبعثه على نيته) يدل على أن الحكم بكفره (وحُكمَ عليه بما يُحكم على الكفار) إنما هو على الظاهر لا الحقيقة، لاحتمال قيام مانع في حقه، فإذا وُجِدَ مانع فهو كافر حكما مسلم في الباطن، وإذا لم يوجد مانع فهو كافر ظاهراً وباطناً.(7/229)
وفائدة الخلاف في هذا ــ هل هو كافر حقيقة ً أو حُكْماً أي ظاهراً؟ ــ ليس من جهة أحكام الآخرة فقط، فهذه أمرها إلى الله كما سبق تقريره، ولكن من جهة أحكام الدنيا أيضا، ومن هذه الجهة فليس هناك خلاف في تكفير أنصار المرتدين الممتنعين ووجوب قتالهم، سواء كانوا كفاراً حُكْماً أو حقيقة، بل تكفيرهم وقتالهم محل إجماع كما سبق بيانه، وإنما فائدة الخلاف في أحكام الدنيا: أنه وبسبب مخالطة جنود المرتدين للمسلمين في كثير من البلدان، فإن هناك كثيراً من المعاملات الخاصة التي يؤثر فيها معرفة الدين تقع بين الطرفين كمسائل النكاح والميراث ونحوها، فمن كانت بينه وبين أحد هؤلاء الجنود معاملة من هذه وأمكنه تبيّن حاله من جهة توفر شروط التكفير وانتفاء موانعه، وعلم منه قيام مانع معتبر شرعا يمنع من تكفيره فيعامله كمسلم، ويكون هذا الجندي كافراً في الظاهر مسلماً في الباطن، وإذا لم يجد لديه مانعا معتبراً فهو كافر ظاهراً وباطنا. وتبيَّن الموانع إنما يكون لهذا الغرض فقط ــ وهى المعاملات الخاصة بسبب المخالطة ــ ولايجب التبين لأجل الحكم بالتكفير والقتال لكونهم ممتنعين، وكون الواحد من جنود المرتدين قد يصير منفرداً عن طائفته في بعض الأوقات فإن هذا لايصيّره مقدوراً عليه بالمعنى الاصطلاحي بل مازال ممتنعا بنجدة طائفته له، كما أنه مازال من الطائفة حكمه حكمها لم يخرج عنها بانفراده إذ مازال مؤتمراً بأمرها مطيعا لها.
فإن قيل: فهل يجوز أن نطلق على فرد ٍ واحد أنه كافر ومسلم في آن ٍ واحد، فيعامله بعض المسلمين على أنه كافر في الظاهر ويعامله بعضهم على أنه مسلم في الباطن؟.(7/230)
فالجواب: نعم، وهذه هى مسألة (تَبَعُّض الأحكام) ومعناها اجتماع حكمين متضادين في العين الواحدة ومثال ذلك: البنت من الرضاعة: هى ابنة من جهة الحرمة والمحرمية، وليست ابنة في النفقة والميراث. ومعنى هذا الكلام: لو أن امرأة أرضعت طفلة أجنبية، لصارت هذه الطفلة ابنة من الرضاع لزوج هذه المرأة فيحرم عليه نكاحها ويكون محرماً لها، ولكنه لايجب عليه الإنفاق عليها ولايتوارثان. فهى ابنة له من وجه وليست ابنة من وجه آخر، بخلاف بنته من صُلبه.
قال ابن القيم رحمه الله (والشريعة طافحة من تبعّض الأحكام وهو محض الفقه، وقد جعل الله سبحانه البنت من الرضاع بنتاً في الحرمة والمحرمة، وأجنبية في الميراث والإنفاق.
وكذلك بنت الزنى عند جمهور الأمة بنت في تحريم النكاح، وليست بنتاً في الميراث.
وكذلك جعل النبي صلى الله عليه وسلم ابن وليدة زمعة أخاً لسودة بنت زمعة في الفِراش وأجنبياً في النظر لأجل الشّبه بعُتبة) (أحكام أهل الذمة) لابن القيم، 1/ 264.(7/231)
وحديث ابن وليدة زمعة متفق عليه، وفيه أن زمعة ــ والد أم المؤمنين سودة بنت زمعة رضي الله عنها ــ كانت له جارية، فزنى بها عُتبة بن أبي وقاص في الجاهلية، فولدت غلاماً، وأخبر عتبة أخاه سعد بن أبي وقاص أن هذا الغلام ابنه فأراد سعد أخذه يوم فتح مكة فنازعه فيه عبد بن زمعة فتخاصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى بينهما، وفي إحدى روايات البخاري لهذا الحديث قالت السيدة عائشة رضي الله عنها (كان عتبة بن أبي وقاص عَهِدَ إلى أخيه سعد بن أبي وقاص أن ابن وليدة زمعة مِنّي فاقبضه إليك، فلما كان عام الفتح أخذه سعد، فقال: ابن أخي كان قد عَهِدَ إليَّ فيه، فقام إليه عبدُ بن زمعة فقال: أخي وابن وليدة أبي وُلِدَ على فراشه، فتساوقا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال سعد: يارسول الله، ابن أخي كان عَهِدَ إليّ فيه، وقال عبد بن زمعة أخي وابن وليدة أبي وُلِدَ على فِراشه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هو لك ياعبدُ بن زمعة، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الولد للفِراش وللعاهر الحَجَر، ثم قال لسودة بنت زمعة: احتجبي منه، لِماَ رأي من شبهِهِ بعتبة، فما رآها حتى لقي الله تعالى) (حديث 7182). ذكر ابن القيم هذا الحديث ثم قال (وفي لفظ للبخاري «هو أخوك ياعبد» وعند النسائي «واحتجبي منه ياسودة فليس لك بأخ» وعند الإمام أحمد «أما الميراث فله، وأما أنت فاحتجبي منه فإنه ليس لك بأخ»، فحَكَم وأفتى بالولد لصاحب الفراش عملاً بموجب الفِراش، وأمَرَ سودة أن تحتجب منه عملا بشبهِهِ بعتبة، وقال «ليس لك بأخ» للشُّبْهَة، وجعله أخا في الميراث، فتضمنت فتواه صلى الله عليه وسلم أن الأَمَة فِراش ٌُ، وأن الأحكام تتبعض في العين الواحدة عملاً بالاشتباه). (اعلام الموقعين) 4/356. وتبعّض الأحكام الوارد في حديث ابن وليدة زمعة: أنه أخ للسيدة سودة من جهة النسب والتوارث وليس أخاً لها في المحرمية، كما قال شيخ الإسلام ــ بعدما ذكر(7/232)
هذا الحديث ــ (فتبيّن أن الاسم الواحد يُنفي في حُكم ويثبت في حُكم، فهو أخ في الميراث وليس بأخ في المحرمية) (مجموع الفتاوى) 7/ 421.
ومثال تبعض الأحكام في أحكام الإيمان: أن الفاسق يُسمى مؤمنا من جهة دخوله في خطاب التكليف الوارد في قوله تعالى (ياأيها الذين آمنوا) بما معه من أصل الإيمان المنجي من الكفر، ولايُسمى مؤمنا من جهة عدم اتيانه بالإيمان الواجب المنجي من الوعيد، وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم (لايزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) الحديث متفق عليه، وانظر (مجموع الفتاوى) 7/ 240 ــ 241.
والحاصل: أن تبعّض الأحكام ثابت في الشريعة، ولولا أنه ليس مقصوداً بالبحث لذاته لأسهبت في شرحه، فنكتفي منه بهذا، والمراد بيان أن الشخص الواحد يمكن أن يجتمع فيه حكمان متضادان في وقت واحد بحسب الأسباب الموجبة لكل حكم منهما، ومن هذا الباب أنصار الحكام المرتدين، كل واحد منهم كافر حكماً ويمكن أن يكون بعضهم مسلمين حكماً عند من يعلم منهم موانع معتبرة من التكفير.
(مسألة: في الموانع المعتبرة شرعاً كموانع من التكفير)
وأعود فأكرر أنه لايجب علينا شرعاً البحث عن هذه الموانع في حق أنصار المرتدين الممتنعين وأنه يُحكم على أعيانهم بالكفر بدون استتابة. ولكن من كانت له معاملة خاصة مع أحدهم ويمكنه تبيّن حاله، نظر في هذه الموانع فإن وجد أحدها في بعضهم عامله كمسلم. ومن هذه الموانع:
1 ــ الالتحاق بجيش المرتدين بقصد النكاية فيهم:
كأن يقصد قتل أئمة المرتدين أو القيام بما يُسمى بالانقلاب العسكري ونحو ذلك، سواء كان هذا هو قصده الابتدائي (أي عند التحاقه بالجيش) أو طرأ له هذا القصد بعد ذلك، فيتغير حكمه بحسب تغير قصده.(7/233)
والدليل على أن هذا القصد مانع من التكفير، ليس حديث (إنما الأعمال بالنيات) لأنه وكما سبق تفصيله في أول الباب الرابع من هذا الكتاب فإن الكفر ــ وهو هنا الكفر بسبب نصرة المرتدين في الظاهر ــ لايرخص فيه بمجرد النية الحسنة، كَنِيَّة دعوتهم للإسلام وغيرها من أعمال البر، وإنما يُرَخّص في ذلك بنيّة خاصة وهى قصد النكاية فيهم، فهذا هو الذي ثبت جوازه بالأدلة، وقد ذكرت في أول الباب الرابع أن المعاصي لاتباح بمجرد النية الحسنة ولكن تباح أو يرخص فيها بأدلة شرعية خاصة في كل مسألة بعينها.(7/234)
وعليه فالدليل على أن هذا القصد مانع من التكفير هنا: حادثة فيروز الديلمي رضي الله عنه، فإنه لما ادعى الأسود العنسي النبوة وارتد قوم من أهل اليمن واتبعوه حتى غلب على صنعاء، تظاهر فيروز الديلمي بأنه من خاصته وأنصاره واحتال حتى قتله، وبوّب البخاري لقصته بكتاب المغازي من صحيحه، وفيه قال: قال عبيد الله بن عبدالله (سألت عبدالله بن عباس عن رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم التي ذَكَرَ، فقال ابن عباس: ذُكِرَ لي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: بينا أنا نائم أُرِيتُ أنه وُضعَ في يديَّ سِواران من ذهب فقطعتُهما وكرهتهما، فأُذِنَ لي فنفختُهما فطارا، فأوّلتهما كذابين يخرجان، فقال عبيد الله: أحدهما العنسي الذي قتله فيروز باليمن، والآخر مسيلمة الكذاب) (حديث 4379). وقال ابن تيمية (ثم خرج فيروز الديلمي على الأسود العنسي فقتله، وجاء الخبر إلى رسول صلى الله عليه وسلم بقتله وهو في مرض موته، فخرج فأخبر أصحابه بذلك، وقال «قُتِلَ الأسود العنسي الليلة، قتله رجلٌُ صالح من قوم صالحين» وقصته مشهورة) (الجواب الصحيح فيمن بدّل دين المسيح) 1/ 109. وقد ذكر ابن جرير الطبري في تاريخه قصة فيروز وأنه صنع ماصنع من تظاهره باتباع العنسي لما أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالثبات في اليمن واغتنام الفرصة لقتله، إذ كان بعض عمال النبي صلى الله عليه وسلم على اليمن قد عادوا إلى المدينة لما استشرى أمر العنسي، فقد روي الطبري بإسناده عن الضّحاك بن فيروز قال (قَدِمَ علينا وَبَرُ بن يُحَنَّس بكتاب النبي صلى الله عليه وسلم يأمرنا فيه بالقيام على ديننا والنهوض في الحرب والعمل في الأسْوَد: إما غِيَلة ً وإما مصادمةً، وأن نبلّغ عنه مَن رأينا أن عنده نجدة ً وديناً، فعمِلنا في ذلك) (تاريخ الطبري) 2/ 248، ط دار الكتب العلمية 1408هـ. وقد ذكر الطبري رحمه الله ــ في نفس الموضع السابق ــ أن فيروز ومن معه احتالوا على الأسود وأظهروا(7/235)
متابعته حتى تمكنوا من قتله غِيلة ً، وقد أثنى النبي صلى الله عليه وسلم على فيروز، وقد قيل أن خبرهم بَلَغ النبي صلى الله عليه وسلم بالوحي ليلة وفاته، (المصدر السابق) 2/ 247 ــ 254، و(فتح الباري) 8/ 93.
فالحاصل: أن إظهارهم المتابعة للأسود العنسي لأجل قتله ثابت في السير المختلفة، وهذا يدل على جواز مثل ذلك، ووجه الحجة فيه: إما أنه سُنّة تقريرية، وإما أنه إجماع صحابة إذ قد عُلِمَ هذا عنهم ولم يُنكر عليهم، وعلى كل حال فإن هذا العمل داخل في عموم قوله صلى الله عليه وسلم (الحرب خدعة) متفق عليه. ومن هنا قلت: إن الالتحاق بجيش المرتدين بقصد النكاية فيهم جائز، ومادام جائزاً شرعاً فهو مانع معتبر من التكفير. ويلزم من أقدم على هذا أن يعلم مايجوز له أن يترخص فيه في هذا الموضع ومالا يجوز. ومما لايجوز له بحال أن يقتل مسلماً أو أن يأمر بقتله.
هذا، وكنت قد ذكرت في كتابي (العمدة) حادثة فيروز الديلمي مع العنسي وغيرها في الرد على الشيخ الألباني في زعمه أن الانقلابات العسكرية من بدع العصر الحاضر، وقد ذكر هذا في تعليقه على متن العقيدة الطحاوية، فما فعله فيروز مع الأسود حتى قتله صورته صورة الانقلاب العسكري وهو تغيير نظام الحكم من داخل السلطة الحاكمة بواسطة بعض أفراد هذه السلطة، وقد وقع هذا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم قبيل وفاته ومع توافر الصحابة وبلا نكير من أحد ٍ، فليس الانقلاب ببدعة كما زعم الشيخ والعبرة بالمسمى وإن اختلفت الأسماء.
2 ــ المانع المعتبر الثاني: هو الجهل.
وقد سبق بحثه في الباب السادس من هذ الكتاب، وضابط الجهل المعتبر عذراً ومانعا من وقوع الأحكام: هو الجهل الذي لايمكن للمكلف إزالته، أما الجهل الذي يمكنه إزالته بتمكنه من التعلم فليس بعذر وليس بمانع، فإذا تمكن من التعلم فلم يَسْعَ في ذلك فهو من المعرضين عن الهُدَى.(7/236)
كما سبق بيان أنه لايلزم بلوغ العلم حقيقة ً إلى كل مكلّف لتقوم عليه الحجة، بل يكفي إمكان بلوغ العلم له ــ بانتشاره وتيسّر أسبابه ــ ليعتبر المكلف عالما حُكماً، أي يعتبر في حُكم العالِم وإن لم يكن عالما على الحقيقة.
ولا يخفى أنه قد شاع في هذه الأزمنة في كثير من البلدان القول بكُفر الحكام الحاكمين بغير ما أنزل الله، وهذا يكفي لبلوغ الحجة وقيامها، وإن وُجِد من يُخالف هذا القول، وإن وُجِدَ من يُسَفِّه ويُضلل من يقول بكفر الحكام، فقد وُجِدَ المخالف والمضلل والمستهزيء مع الأنبياء عليهم السلام، ولم يمنع وجودهم من قيام الحجة، قال تعالى (ياحسرة على العباد مايأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزءون) يس 30، وقال تعالى (كذلك ماأتى الذين من قبلهم من رسول ٍ إلا قالوا ساحرٌُ أو مجنون) الذاريات 52. ومن هذا تعلم أيضا أنه لو وُجِدَ في بعض البلدان من يُضلل أنصار المرتدين ــ من علماء السوء وغيرهم ــ فيوهمهم أن حاكمهم مسلم، وأنهم مجاهدون في سبيل الله، وأن المسلمين الخارجين على الحاكم ضالون أو خوارج وغير ذلك، أن هذا التضليل ليس عذراً يمنع من تكفير أنصار المرتدين مع إمكان بلوغ الحجة. وقد قال تعالى (وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً من المجرمين) الفرقان 31، وقال جل شأنه (وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها) الأنعام 123، وهذا جَعْلٌُ قدري متحتم الوقوع، فكلما ظهر الحق كلما ظهر المجرم والمستهزيء والمخالف والمضلل ولابد، وهذا كله لايمنع من قيام الحجة كما قامت بالرسل مع وجود هؤلاء.
والحاصل أنه إذا وجد من يقول بكفر الحكام الحاكمين بغير ماأنزل الله فقد قامت الحجة به وإن وُجِدَ من يخالفه ويستهزئ به، ووجب على من سمع به أن يسعى لتبين الحق في هذا الأمر. فكيف وقد شاع تنكيل الحكام بالمسلمين المتدينين لأجل دعوتهم في شتى البلدان؟ إن هذا يكاد لا يخفى على أحدٍ اليوم.
بقي هنا تنبيهان:(7/237)
الأول: أن إقامة الحجة على المعيَّن إنما تجب للمقدور عليه ــ لا الممتنع ــ لأنها داخلة في الاستتابة.
والثاني: أن الممتنعين لايجب إقامة الحجة على أعيانهم، وإنما يُدْعَون قبل القتال، وتكون هذه الدعوة واجبة بشرطين: أحدهما أن لاتكون الدعوة قد بلغتهم من قبل، والآخر: أن لايكون قتالهم قتال دفع. والذي يُدعي هم رءوس الطائفة الممتنعة.
ومن هذا تعلم أن دعوة الحكام المرتدين الممتنعين إلى التزام الإسلام والحكم به غير واجبة اليوم، إذ قد علموا مايُراد منهم بل إنهم يقتلون الدعاة كل حين، كما أن قتالهم قتال دفع وهذا لادعوة فيه، وفي المسألة تفصيل يأتي في آخر القسم التالي وفيه أقوال لمحمد بن الحسن الشيباني وابن القيم في هذه المسألة إن شاء الله.
ونحن إذا قلنا إنه يحكم على أنصار المرتدين بدون تبين موانع، فذِكْرنا للموانع هنا المراد به تنبيه من أراد تبين حال بعض هؤلاء الأنصار لأجل معاملة خاصة أن نعرِّفه الموانع المعتبرة في الشريعة.
3 ــ المانع الثالث: الإكراه.
وفيه مسائل: تعريفه، وشروط اعتبار الإكراه وحَدّه، وبيان عدم توفر شروط الإكراه في أنصار المرتدين.
أ ــ تعريف الإكراه: وأوجز تعريف هو ماذكره ابن حجر أن الإكراه (هو إلزام الغير بما لايريده) (فتح الباري) 12/ 311.
ب ــ شروط اعتبار الإكراه: قال ابن حجر رحمه الله (وشروط الإكراه أربعة:
الأول: أن يكون فاعله قادراً على ايقاع مايهدد به، والمأمور عاجزاً عن الدفع ولو بالفرار.
الثاني: أن يغلب على ظنه أنه إذا امتنع أوقع به ذلك.
الثالث: أن يكون ماهَدَّده به فورياً، فلو قال: إن لم تفعل كذا ضربتك غدا لايُعد مُكرهاً، ويستثنى ما إذا ذكر زمناً قريباً جداً أو جرت العادة بأنه لايُخلف.(7/238)
الرابع: أن لايظهر من المأمور مايدل على اختياره) (فتح الباري) 12/ 311. ولم يذكر ابن حجر في كلامه هذا صفة التهديد الذي يُعَد إكراها، وإنما ذكره بعد ذلك، وينبغي أن يكون هذا شرطاً خامساً، فنقول:
الخامس: نوع ما يهدده به أو ما يسمى (حَدّ الإكراه). فقال ابن حجر (واختُلف فيما يهدد به، فاتفقوا على القتل واتلاف العضو والضرب الشديد والحبس الطويل، واختلفوا في يسير الضرب والحبس كيوم ٍ أو يومين) أهـ، وقال أيضا (واختلف في حَدّ الإكراه، فأخرج عبد بن حميد بسند صحيح عن عمر قال «ليس الرجل بأمين على نفسه إذا سُجن أو أوثِقَ أو عُذّب»، ومن طريق شُريح نحوه وزيادة ولفظه «أربعٌُ كلهن كُره: السجن والضرب والوعيد والقيد»، وعن ابن مسعود قال «ماكلام ٌُ يدرأ عني سوطين إلا كنت متكلماً به»، وهو قول الجمهور) أهـ (فتح الباري) 12/ 312 و 314. وهذه الأمور المذكورة في حَدّ الإكراه قسَّمها الأحناف إلى قسمين:
الأول: إكراه ملجيء أو تام: وذلك بالتهديد بالقتل والقطع وبالضرب الذي يخاف منه تَلَف النفس أو العضو.
والآخر: إكراه غير ملجيء أو ناقص: وهو ماكان بالحَبْس والقيد والضرب الذي لايخاف منه التلف. (بدائع الصنائع) للكاساني، 9/ 4479.
ومذهب جمهور العلماء أن الترخص في الكفر لايكون إلا بالإكراه الملجيء، وهذا قول الأحناف والمالكية والحنابلة، وقال الشافعي إن الحبس والقيد إكراه على الردّة. وقول الأحناف في (بدائع الصنائع) 9/ 4493، وقول المالكية في (الشرح الصغير) 2/ 548 ــ 549، وقول الحنابلة في (المغني مع الشرح الكبير) 10/ 107 ــ 109، وقول الشافعية في (المجموع) 18/ 6 ــ 7. وكلهم أجمعوا على أن من أكرِهَ على الكفر فاختار القتل أنه أعظم أجراً عند الله ممن اختار الرخصة، نقله ابن حجر عن ابن بطال وهذا لفظه في (فتح الباري) 12/ 317، ونقل الإجماع أيضا القرطبي في تفسيره، 10/ 188.(7/239)
وفي الترجيح بين أقوال المختلفين فيما يقع به الإكراه على الكفر، رجّح ابن تيمية قول الجمهور وهو قول الحنابلة فقال (تأملت المذاهب فوجدت الإكراه يختلف باختلاف المكرَه عليه، فليس الإكراه المعتبر في كلمة الكفر كالإكراه المعتبر في الهبة ونحوها، فإن أحمد قد نص ّ في غير موضع أن الإكراه على الكفر لايكون إلا بالتعذيب من ضرب ٍ وقيد ولايكون الكلام إكراها) (الدفاع عن أهل السنة والاتباع) لحمد بن عتيق صـ 32، و (مجموعة التوحيد) صـ 419 ضمن الرسالة الثانية عشرة لحمد بن عتيق أيضا.(7/240)
والحجة لقول الجمهور هو سبب النزول، فإن عمار بن ياسر لم يتكلم بالكفر حتى عذّبه المشركون، وعلى المشهور فإن هذا هو سبب نزول قوله تعالى (من كَفَر بالله من بعد إيمانه إلا من أكرِهَ وقلبه مطمئن بالإيمان) النحل 106، قال ابن حجر (والمشهور أن الآية المذكورة نزلت في عمار بن ياسر، كما جاء من طريق أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر قال «أخذ المشركون عماراً فعذبوه حتى قاربهم في بعض ما أرادوا، فشكي ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: كيف تجد قلبك؟ قال: مطمئناً بالإيمان، قال: فإن عادوا فعُد». وهو مُرسَل ورجاله ثقات أخرجه الطبري وقبله عبدالرزاق وعنه عبد بن حميد) (فتح الباري) 12/ 312. وقد أشار البخاري رحمه الله ــ حسب عادته في التلميح ــ إلى حد الإكراه المرخص في الكفر وذلك في باب (من اختار الضرب والقتل والهوان على الكفر) بكتاب الإكراه من صحيحه، وذكر فيه ثلاثة أحاديث الأول حديث أنس مرفوعا (ثلاث من كُنّ فيه وجد حلاوة الإيمان ــ ومنها ــ وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار) وفيه إشارة إلى أن العودة في الكفر تعدل دخول النار بما يعني الهلاك، فلا يرخص في الكفر إلا عند خشية الهلاك وتلف النفس وهو قول الجمهور. والحديث الثاني عن سعيد بن زيد قال (لقد رأيتُني وإن عمر مُوثِقِي على الإسلام) الحديث، وفيه أن عمر بن الخطاب ــ قبل إسلامه ــ كان يوثق سعيد بن زيد ويقيّده ليرتد عن الإسلام، ولم يكن القيد ليرخص له في ذلك وفيه إشارة للرد على الشافعية في قولهم إن الحبس والقيد إكراه على الردة. ثم ذكر البخاري حديث خباب مرفوعا (قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيُحفر له في الأرض فيُجعل فيها، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيُجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد من دون لحمه وعظمه، فما يصدّه ذلك عن دينه) الحديث، وفيه أثنى النبي صلى الله عليه وسلم على من اختاروا القتل والعذاب على الكفر وامتدحهم، ويشير البخاري(7/241)
بذلك إلى الدليل الموافق للإجماع على أن من اختار القتل على الكفر أنه أعظم أجراً. والأحاديث الثلاثة المذكورة هنا أرقامها (6941 و 6942 و 6943).
هذا ما يتعلق بشروط الإكراه المعتبر وحَدّه المرخِّص في الكفر.
جـ ــ بيان عدم توفر شروط الإكراه المعتبر في حق أنصار الحكام المرتدين، وفيه أربع مسائل:
الأولى: بيان عدم توفر شروط الإكراه المعتبر في حق أنصار الحكام المرتدين، لأن من شروطه: ــ فيما نقلته عن ابن حجر ــ ألا يظهر من المأمور مايدل على اختياره، وذلك لأن الإكراه إنما اعتبر مانعا شرعيا من وقوع الأحكام وعقوباتها لأنه يُفسد الاختيار، فإذا ظهر من المكلف مايدل على اختياره فلا إكراه وإن وجد في الصورة. وبتطبيق هذا على أنصار الحاكم المرتد نجدهم يفعلون مايفعلون باختيارهم، وهذه أصنافهم:
فالمناصرون بالقول: كبعض علماء السوء والصحافيين والإعلاميين، يقولون ما يقولونه باختيارهم طمعاً في المناصب والأموال وإن كانوا يعلمون أن مايقولونه باطلا، فهم ممن كفر باختياره بغير إكراه الذين قال الله فيهم (ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم، ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة وأن الله لايهدي القوم الكافرين) النحل 106 ــ 107، فحملهم على ما فعلوا حُبّ العاجلة لا الإكراه.
وأما المناصرون بالفعل: فهم قسمان:
قسم لحق بجيش الحاكم المرتد باختياره: كالضباط الذين يلتحقون بالكليات العسكرية باختيارهم وكالجنود المتطوعين، فهؤلاء فعلوا مافعلوا باختيارهم فلا اعتبار للإكراه في حقهم.(7/242)
وقسم آخر لحق بجيش الحاكم المرتد فيما يُسمى بالتجنيد الإلزامي ــ وهذا موجود ببعض البلاد لا كلها ــ أي أنه مفروض عليه هذا الإلتحاق، ولو لم يفعله لأضرَّ بدنياه من وجوه مختلفة كمنعه من الأعمال الحكومية ومَنْعِهِ من السفر ولتعرض لعقوبة الحبس، وهذه الأَضرار لاتبلغ حدّ الإكراه الملجيء المرخّص في الكفر، الذي يقع فيه بالتحاقه بجيش المرتد. فثبت بذلك أنه ليس ثَمَّ إكراه معتبر في حق هذا القسم أيضا.
وكل من القسمين يترك معسكره ويعود إليه باختياره، وفي كل ٍ من القسمين لو أظهر فرد التديّن قبل التحاقه بالجيش ــ خاصة لو اعتقل بسبب تدينه ــ لمُنِعَ من الخدمة بالجيش لدواعي الأمن العام حسب مصطلح الطواغيت، وفي كل من القسمين لو أظهر فرد التدين أثناء عمله بالجيش لأبعد من الخدمة فيه، ولو أطلق لحيته ــ في بعض البلدان ــ وهو بجيش المرتد لعوقب بالحبس ثم طرد من الجيش. كل هذا يؤكد أنه ليس ثَمَّ إكراه معتبر، وأن كل من يعمل بجيش المرتد فباختياره أو هو غافل معرض عن أمر دينه لايعنيه في شيء. هذا مايتعلق ببيان عدم توفر شروط الإكراه المعتبر في حق أنصار الحكام المرتدين.
المسألة الثانية: بيان أن الإكراه المعتبر لو وُجِدَ فإنه لا يرخص لهم في قتل المسلمين وقتالهم.
وهذا محل إجماع، فقال ابن رجب الحنبلي رحمه الله (اتفق العلماء على أنه لو أكرِهَ على قتل معصوم لم يصح له أن يقتله، فإنه إنما يقتله باختياره افتداء لنفسه من القتل، هذا إجماع من العلماء المعتد بهم) (جامع العلوم والحكم) صـ 329. وقد نقلت الإجماع على هذا من قبل عن القرطبي (تفسير القرطبي) 10/183، وعن ابن تيمية (مجموع الفتاوى) 28/ 539، ونقل هذا الإجماع أيضا كل من أبو إسحاق الشيرازي (فتح الباري) 12/ 312، وعزالدين بن عبدالسلام (قواعد الأحكام) 1/79، وغيرهم كثير.(7/243)
فالإكراه ولو اكتملت شروطه لا يرخص في قتل المسلمين ولا قتالهم، كما يفعله أنصار الحكام المرتدين وجنودهم، بل الواجب على هؤلاء إن كانوا يزعمون أنهم مسلمون أن يفعلوا كما قال ابن تيمية (بل قد أمر النبي صلى الله عليه وسلم المكرَه في قتال الفتنة بكسر سيفه وليس له أن يُقاتل وإن قُتِل، كما في صحيح مسلم عن أبي بكرة ــ وذكر الحديث ثم قال ــ والمقصود أنه إذا كان المكرَه على القتال في الفتنة ليس له أن يقاتل بل عليه إفساد سلاحه، وأن يصبر حتى يُقتل مظلوما، فكيف بالمكره على قتال المسلمين مع الطائفة الخارجة عن شرائع الإسلام؟! كمانعي الزكاة والمرتدين ونحوهم، فلا ريب أن هذا يجب عليه إذا أُكرِه على الحضور أن لايقاتل وإن قتله المسلمون) (مجموع الفتاوى) 28/ 538 ــ 539.
المسألة الثالثة: بيان أن الإكراه المعتبر لو وُجدَ فإنه لايمنع من الحكم بكفرهم.
كما سبق بيانه من أن الممتنعين يُحكم عليهم بدون استتابه، وهذا إجماع الصحابة، ويدل عليه أيضا حديث العباس، وفيه أجرى النبي صلى الله عليه وسلم حكم الكفار عليه بخروجه في صف المشركين يوم بدر مع دعواه الإسلام والإكراه، وقد سبق ذكر هذا الحديث.
المسألة الرابعة: بيان أن الإكراه المعتبر لو وُجِدَ فإنه لايمنع من قتلهم وقتالهم.
وذلك لكونهم كفاراً حكماً، والكافر يجوز قتله وقتاله، ولو كان مُكرهاً مسلما في الباطن، ودليله فيما ذكره ابن تيمية في كلامه عن قتال التتار الخارجين عن شريعة الإسلام مع دعواهم الإسلام، قال رحمه الله (ومَنْ أخرجوه معهم مكرها فإنه يُبعث على نيته. ونحن علينا أن نقاتل العسكر جميعه إذ لايتميز المُكرَه من غيره.(7/244)
وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يغزو هذا البيت جيش من الناس، فبينما هم ببيداء من الأرض إذ خُسِفَ بهم. فقيل يارسول الله: إن فيهم المكرَه فقال: يُبعثون على نياتهم». والحديث مستفيض عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه متعددة، أخرجه أرباب الصحيح عن عائشة، وحفصة، وأم سلمة ــ ثم ذكر ابن تيمية روايات أخرى لنفس الحديث ثم قال ــ فالله تعالى أهلك الجيش الذي أراد أن ينتهك حرماته ــ المكرَه فيهم وغير المكرَه ــ مع قدرته على التمييز بينهم، مع أنه يبعثهم على نياتهم، فكيف يجب على المؤمنين المجاهدين أن يميزوا بين المكره وغيره، وهم لايعلمون ذلك؟! بل لو ادعى مدع أنه خرج مُكرَهاً لم ينفعه ذلك بمجرد دعواه، كما روي: أن العباس بن عبدالمطلب قال للنبي صلى الله عليه وسلم لما أسره المسلمون يوم بدر: يارسول الله! إني كنت مكرها. فقال:«أما ظاهرك فكان علينا، وأما سريرتك فإلى الله». بل لو كان فيهم قوم صالحون من خيار الناس ولم يمكن قتالهم إلا بقتل هؤلاء لقتلوا أيضا، فإن الأئمة متفقون على أن الكفار لو تترسوا بمسلمين وخيف على المسلمين إذا لم يقاتلوا، فإنه يجوز أن نرميهم ونقصد الكفار. ولو لم نخف على المسلمين جاز رمي أولئك المسلمين أيضا في أحد قولي العلماء. ومن قُتِلَ لأجل الجهاد الذي أمر الله به ورسوله ــ وهو في الباطن مظلوم ــ كان شهيداً. وبُعث على نيته، ولم يكن قتلُه أعظم فساداً من قَتْل من يُقْتل من المؤمنين المجاهدين.
وإذا كان الجهاد واجباً وإن قُتِلَ من المسلمين ماشاء الله. فَقَتْل من يُقتل في صفهم من المسلمين لحاجة الجهاد ليس أعظم من هذا.) (مجموع الفتاوى) 28/ 535 ــ 538، وكرّره في صـ 546 ــ 547.
فهذا ما يتعلق بمانع الإكراه، فمن علم إكراهاً معتبراً ــ ملجئاً ــ في حق أحد جنود المرتدين عامله كمسلم، وهذا لايمنع من حكمنا عليه بأنه كافر حكماً مادام في صف المرتدين.(7/245)
فهذه أهم الموانع الشرعية التي إذا وجدت في حق بعض جنود المرتدين لكانت مانعا من تكفيرهم في الباطن عند من يمكنه تبين ذلك منهم لأجل معاملة خاصة، وإلا فجميعهم كفار حكماً على التعيين كما سبق تقريره.
(مسألة) هناك أمور قد يظنها البعض موانع من التكفير وليست كذلك، وأشرت إلى بعضها عند الكلام في الموانع في شرح قاعدة التكفير، وسيأتي ذكر بعضها في القسم التالي (نقد الرسالة الليمانية) ومنها:
أ ــ كون جنود المرتدين وأنصارهم يعتقدون أنهم مؤمنون أو أنهم على حق ٍ في نصرتهم للحاكم المرتد وقتالهم للمسلمين، كل هذا لايمنع من تكفيرهم ماداموا قد أتوا بسبب الكفر من قول أو فعل مكفر. ودليله قوله تعالى (قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيُهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا) الكهف 104، وقوله تعالى (إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون) الأعراف 30، وقوله تعالى (وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى) البقرة 111، والآيات في هذا المعنى كثيرة جداً، وتقييد التكفير بالاعتقاد هو مذهب غلاة المرجئة كما سبق تقريره، وإلا فالحكم بالكفر في الدنيا يترتب على الأقوال والأفعال الظاهرة.
بقي أن نقول: إن إحسان الكافر ظنه بنفسه إنما هو عقوبة من الله له على إعراضه عن الحق فيظن أنه على الهدى فيتمادى في كفرِه وضلاله كما قال تعالى (ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين، وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون) الزخرف 36 ــ 37، وقوله تعالى (أفمن زُيِّن له سوء عمله فرآه حسناً) فاطر 8، ومثلها الأنعام 122، وقوله تعالى (فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم) الصف 5، ومثلها مريم 75، والآيات في هذا المعنى كثيرة.(7/246)
ب ــ وليس من موانع التكفير وجود من يضلل جنود المرتدين من علماء السوء، وكونهم يقلدونهم على أنهم من أئمة الدين، فهذا رددت عليه عند الكلام في مانع الجهل قريباً، وأنه لابد من وجود المضِلّ والمخالف والمستهزيء فهذه سنة قدرية لتتحقق سنة الابتلاء والمحنة، كما قال تعالى (أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لايفتنون) العنكبوت 2، ونحوها من الآيات، وقد وصف الله الكفار بأنهم ضالون وأن هناك من يضلهم كما قال تعالى (ولاتتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيراً وضلوا عن سواء السبيل) المائدة 77، ومعظم كفر الكفار هو كفر تقليد لكبرائهم كما وصفهم الله بقوله تعالى (وإذا قيل لهم اتبعوا ماأنزل الله قالوا بل نتبع ماألفينا عليه آباءنا) البقرة 170، وقال صلى الله عليه وسلم ــ في وصف عذاب القبر ــ (وأما الكافر ــ أو المنافق ــ فيقول: لا أدري، كنت أقول مايقول الناس. فيقال: لا دَرَيْت ولا تَلَيْت، ثم يُضرب بمطرقة من حديد ضربة بين أذنيه، فيصيحُ صيحة يسمعها من يليه إلا الثقلين) الحديث رواه البخاري (1338). فمع كونه مقلداً لغيره (كنت أقول مايقول الناس) لم يمنع هذا من كونه كافراً معذباً.(7/247)
جـ ــ وليس من موانع التكفير كون جنود المرتدين يُقِرَّون بالشهادتين أو يُصلّون، فهم لم يكفروا من جهة الامتناع عن الإقرار أو الصلاة، وإنما كفروا بسبب آخر وهو نصرة الحاكم الكافر وعلى هذا فلو نطق أحدهم بالشهادتين حال قتله أو قتاله فإن هذا لايمنع من قتله لأنه لا يُقَاتَل على الشهادتين بل لكفره بسبب آخر، وأعود فأنبّه على ماذكرته في شرح قاعدة التكفير من أن العبد لايؤمن إلا بمجموع خصال من شُعب الإيمان ولكنه يكفر بخصلة واحدة من شعب الكفر الأكبر. ومما يجلي عنك هذه الشبهة قوله تعالى (قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون، لاتعتذورا قد كفرتم بعد إيمانكم) التوبة 65 ــ 66، فهؤلاء الذين أنزلت فيهم هذه الآيات كانوا في غزوة تبوك مع النبي صلى الله عليه وسلم فهم إذن كانوا يجاهدون وكانوا يصلون ولهذا أثبت الله أن معهم إيمانا (قد كفرتم بعد إىمانكم)، ولكنهم كفروا بكلمة قالوها وهو الاستهزاء الذي وقع منهم. وأيضا قوله تعالى (ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم) التوبة 74، فأثبت الله أنهم كانوا مسلمين ولايكونون كذلك إلا بالإقرار وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وغيرها من واجبات الدين، ومع ذلك فقد أكفرهم الله بكلمة ٍ قالوها (ولقد قالوا كلمة الكفر، وكفروا). وإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال لأسامة بن زيد (أقتلته بعدما قال لا إله إلا الله) الحديث متفق عليه، فإن هذا في الكافر الأصلي يُكفّ عنه ويُتبين أمره بعدها هل التزم بما توجبه هذه الشهادة من العمل؟، وهو معنى قوله تعالى (إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا) النساء 94، وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها) رواه مسلم والحديث له روايات أخرى معروفة واستوعبها ابن حجر في شرح كتاب استتابة المرتدين بالبخاري، ومعنى (إلا بحقها) أو (إلا بحق الإسلام) فمن حقها الكفر(7/248)
بالطاغوت وأداء الفرائض واجتناب النواهي، فمن قصّر في هذا يحكم عليه بالكفر أو بالفسق بحسب ماقصّر فيه. فليس المراد بالشهادة مجرد القول بل المراد تحقيق معناها خاصة ماتدل عليه من النفي والاثبات وهو الكفر بالطاغوت والإيمان بالله وحده، كما قال تعالى (إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون ويقولون أئِنا لتاركوا آلهتنا لشاعر ٍ مجنون) الصافات 35 ــ 36 فالكفار علموا أن المراد من شهادة (أن لا إله إلا الله) ليس مجرد القول بل المراد ترك عبادة غير الله (أئنا لتاركوا آلهتنا) أي ترك الكفر، فويل ٌُ لمن كان الكفار أفقه منه، وويل لمن كان أجهل من الكفار، فمن قال لا إله إلا الله وفَعَل المكفرات لم يأت بالمراد، ويُحكم عليه بالكفر ويحل دمه وماله كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لايحل دم امريء مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة) متفق عليه، والتارك لدينه هو المرتد، وقد دل الحديث على أن المسلم المقر بالشهادتين قد يرتد إذا أتى بسبب من أسباب الردة.
والخلاصة: أن من أتى بسبب الكفر ــ من قول ٍ أو فعل ٍ ــ كفر بذلك وإن كان مصليا مزكيا صائما مجاهداً. وفي هذا قال ابن تيمية رحمه الله (وبالجملة فمن قال أو فعل ماهو كُفْر كَفَر بذلك، وإن لم يقصد أن يكون كافراً، إذ لايقصد الكفر أحدٌُ إلا ماشاء الله) (الصارم المسلول) صـ 177 ــ 178.
د ــ وليس من موانع التكفير كون جنود المرتدين مستضعفين لاحيلة لهم مع حكامهم، فالاستضعاف لا يسوِّغ لهم نصرة الكافر والخروج في صفه لقتال المسلمين، بل قد سبق القول بأن الإكراه الملجيء ولو تحققت شروطه لايرخص في قتل المسلمين أو قتالهم وهو مايفعله هؤلاء المجرمون.(7/249)
أما الاستضعاف فإنه يرخّص في مثل ترك الانكار على الحكام المرتدين باليد واللسان مع الانكار بالقلب، أو يرخّص في مدارة الكفار وملاينتهم لاموالاتهم، وسيأتي بيان الفرق بين المداراة والموالاة في القسم التالي إن شاء الله. كما يرخص الاستضعاف في مثل ترك الهجرة من بين الكفار للعجز.
وليس كل مستضعف ٍ بين الكفار يكون معذوراً، بل لايُعذر ولايأثم إلا المستضعف المؤمن المميِّز للحق من الباطل الذي يدعو الله أن ينجيه من الكافرين وأن ينصر أولياءه المجاهدين. أما المستضعف المتابع للكافرين في إفسادهم فهذا مجرم من أهل النار، وقد ذكر الله النوعين من المستضعفين في كتابه العزيز:
فذكر المستضعفين المؤمنين وصِفتهم في قوله تعالى (والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالِم أهلها واجعل لنا من لدنك ولياً واجعل لنا من لدنك نصيراً) النساء 75.(7/250)
وذكر جل شأنه المستضعفين المجرمين وصفتهم في قوله (وإذا يتحاجّون في النار فيقول الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعاً فهل أنتم مُغْنون عَنَّا نصيباً من النار، قال الذين استكبروا إنا كلٌُ فيها إن الله قد حَكَم بين العباد) غافر 47 ــ 48، وقوله تعالى (ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يَرجعُ بعضهم إلى بعض ٍ القول يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين قال الذين استكبروا للذين استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم، بل كنتم مجرمين، وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مَكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أنداداً، وأسّروا الندامة لما رأوا العذاب، وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا، هل يجزون إلا ماكانوا يعملون) سبأ 31 ــ 33 فالاستضعاف لايرخص في متابعة الكافر المتكبر من حاكم وغيره ولا يرخص في طاعته في الكفر بصوره المختلفة والتي منها محاربة الإسلام والمسلمين، بل لو أطاعه في هذا لكَفَر مثله وصار من أهل النار مادام قد بلغه الهدى وسمع به.
وقد كان المسلمون مستضعفين بمكة قبل الهجرة كما وصفهم الله بقوله تعالى (واذكروا إذ أنتم قليل ٌُ مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس، فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون) الأنفال 26، ومع ذلك لم يرخص الله تعالى لهم حينئذ في شيء من طاعة الكفار كما قال تعالى (فلا تطع المكذبين ودّوا لو تُدهن فيُدهنون) القلم 8 ــ 9، ولم يرخص لهم في شيء من الكفر (إلا من أكرِهَ وقلبه مطمئن بالإيمان) النحل 106.
والخلاصة: أنه ليس كل مستضعف يكون معذوراً، وأن الاستضعاف لا يرخص في متابعة الكافر في إجرامه، وأن المستضعفين أقسام منهم المؤمن ومنهم المجرم، وقد سبق بيان صفة كل منهما.(7/251)
وسوف يأتي في القسم التالي بيان أن مجرد الخوف ــ بدون وقوع إكراه ــ لايرخص في طاعة الكافر في الكفر، وأن الحرص على المنافع الدنيوية من المناصب والأموال وغيرها لايرخص في ذلك أيضا.
فهذا ما يتعلق بما يعتبر ومالا يعتبر كموانع شرعية من التكفير.
وخلاصة القول في هذه المسألة (حكم أنصار الطواغيت) وهم هنا أنصارالحكام المرتدون: أن كل من نَصَر الحكام المرتدين وأعانهم على محاربة الإسلام والمسلمين بالقول أو بالفعل فهو كافر في الحكم الظاهر، والردء والمباشر في هذا الحكم سواء ولو لم يكن كذلك لقلنا بكفر من يباشر قتال المسلمين فقط من جنود الحاكم المرتد ولكن قد دلت القواعد الشرعية على أن كل فرد في الممتنعين له حكم الطائفة، وأن الردء له حكم المباشر في القتال، وقد يكون فيهم مسلمون في الباطن إذا قامت في حقهم موانع معتبرة من التكفير، ولايلزمنا البحث عن هذه الموانع لكونهم ممتنعين عن القدرة، وإنما يبحث عنها من كانت له معاملة خاصة مع بعضهم بسبب مخالطتهم للمسملين في نفس الدار،فمن علم من أحدهم مانعا معتبراً عامله كمسلم وهو عندنا كافر في الحكم الظاهر مادام في صف الحكام المرتدين.
هذا، ويجب نشر علم هذه المسألة (حكم أنصار الحكام المرتدين) بين عموم المسلمين، ففي نشرها خير عظيم بإذن الله تعالى وفي نشرها تعجيل بزوال دولة الحكام المرتدين وضعف شوكتهم وذهاب ريحهم، فإن كثيراً من جنود المرتدين لايعلمون حكمهم ولاحكم حكامهم في الشريعة وأنهم كفار، ولو علموا ذلك فلربما انقلب كثير من الجنود على حكامهم أو ساعدوا على ذلك، (ولله جنود السماوات والأرض وكان الله عزيزاً حكيما) الفتح 7، (ومايعلم جنود ربك إلا هو) المدثر 31، ويقع عبء نشر علم هذه المسألة على كل مسلم عَلِمَها وبصفة خاصة الدعاة وأهل العلم منهم.
القسم الثالث: نقد (الرسالة الليمانية في الموالاة)(7/252)
ذكرت في أول هذا الموضوع أن هذه الرسالة مكملة لكتاب (القول القاطع فيمن امتنع عن الشرائع) لنفس الجماعة، والذي انتهى إلى وجوب قتال الطائفة الممتنعة عن الحكم بالشريعة، وأن رأس هذه الطائفة وهو رئيس الدولة الذي يحكم بغير ماأنزل الله أنه مرتد، أما أعوانه الذين ينصرونه فعلّق حكمهم على تبيُّن الشروط والموانع. وجاء كتاب (الرسالة الليمانية) ليبحث حكم هؤلاء الأعوان ولم ينته فيهم إلى حكم عام وإنما علق حكم أعيانهم على تبين الشروط والموانع كما ذكر مؤلف الرسالة في خاتمتها التي أوردناها في صدر هذا الموضوع. وسوف نبدأ ببيان المسلك الذي سلكه المؤلف وأوصله إلى هذه النتيجة وننقده على التفصيل ثم نذكر تقييماً مجملاً للرسالة.
أولا: بيان مسلك المؤلف في رسالته ونقده على التفصيل.
حَصَر المؤلف (طلعت فؤاد قاسم) مناط الحكم على أنصار الحاكم الكافر (المرتد) في أمر ٍ واحد وهو موالاتهم لهذا الحاكم. ثم شرع ــ بعد تعريف الموالاة لغة وشرعاً ــ في تقسيم الموالاة إلى ظاهرة وباطنة، وذكر أن الموالاة الظاهرة بالنصرة والمتابعة وغيرهما من المسلم للكافر إنما هى معصية ليست كفراً، ولا يكفر فاعلها إلا إذا قارنتها موالاة باطنة وصفها بأنها الرضا القلبي والتصويب والمحبة (صـ 11). ثم أخذ في سرد أقوال بعض العلماء وبعض الأدلة الشرعية التي رأي أنها تؤيد وجهة نظره هذه.
ونحن نذكر بعون الله تعالى أهم المواضع التي تستحق النقد في رسالته على التوالي، ثم نذكر بعدها نقداً مجملاً للرسالة.(7/253)
1 ــ في صـ 9 قال المؤلف (اصطلاحاً: الموالاة هى النصرة والمحبة والإكرام والاحترام والكون مع المحبوبين ظاهراً وباطنا) أهـ. لم يذكر المؤلف دليلاً شرعياً على صحة هذا التعريف كما أنه لم ينسبه إلى مصدر من كتب اللغة أو كتب الشريعة. وبالتتبع فإن هذا التعريف نقله المؤلف دون عزو من كتاب (الولاء والبراء) لمحمد بن سعيد القحطاني، ط دار طيبة، ط 1، صـ 90، بل نقل كل ماذكره من تعريفات من نفس الكتاب صـ 87 ــ 91. وهذا التعريف الاصطلاحي للموالاة لم ينسبه القحطاني بدوره لمصدر وغالبا هو الذي وضعه، وهذا التعريف به قصور إذ اسقط بعض أهم معاني الموالاة كالمتابعة، كما أن ادراج الإكرام والاحترام ضمن الموالاة خطأ فهذه يجوز بذلها للأبوين الكافِرَين وليست بموالاة. وقد ذكرت أهم المعاني الشرعية للموالاة بأدلتها في شرح الدليل الرابع بالقسم السابق. والذي أنبه عليه هنا أن كل معنى من هذه المعاني بمفرده يُسمى موالاة، ولايشترط لصحة التسمية أن تجتمع كل المعاني الاصطلاحية للموالاة في آن ٍ واحد، بل النصرة وحدها موالاة كما في قوله تعالى (وماكان لهم من أولياء ينصرونهم من دون الله) الشورى 46، والمتابعة وحدها موالاة كما في قوله تعالى (ويتبع كل شيطان مريد، كتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله) الحج 3 ــ 4.
وقد اختار مؤلف (الرسالة الليمانية) هذا التعريف الاصطلاحي للموالاة خاصة قوله (والكون مع المحبوبين ظاهراً وباطناً) لأنه يؤيد وجهة نظره في أنه لايكفر أحد بالموالاة الظاهرة إلا إذا اقترنت بها الموالاة الباطنة، وسوف نبيِّن خطأ ماذهب إليه فيما يأتي إن شاء الله.(7/254)
2 ــ في صـ 10 قال مؤلف (الرسالة الليمانية): (والموالاة لأعداء الله تقع على شُعَب متفاوتة منها ما يوجب الردة وذهاب الإسلام بالكلية، ومنها مادون ذلك من الكبائر والمحرمات) أهـ، ونسب هذا القول إلى صاحب (الرسائل المفيدة) صـ 43. أهـ. وصاحب الرسائل هو الشيخ عبداللطيف بن عبدالرحمن بن حسن بن محمد بن عبدالوهاب ت 1293 هـ، وأبوه عبدالرحمن هو صاحب كتاب (فتح المجيد شرح كتاب التوحيد)، وهذه العبارة منقولة أيضا من كتاب (الولاء والبراء) للقحطاني صـ 91، لأن عبارة الشيخ عبداللطيف في كتاب (الرسائل المفيدة) تختلف قليلا في لفظها عن هذه. وقد كرر الشيخ عبداللطيف هذا المعنى بلفظ آخر في نفس الكتاب (صـ 23 ــ 24، جمع الشيخ سليمان بن سحمان) واحتج لأن الموالاة قد تكون غير مكفِّرة بحديث حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه وأنه وقعت منه موالاة للكفار ولم يكفر. ولنا هنا تعليقان:(7/255)
الأول: أما إن حاطب وقعت منه موالاة ولم يكفر فهذا صواب، ولكنه لايعني أن الموالاة التي وقعت منه غير مكفرة، بل موالاته وكل موالاة كُفْر وإنما لم يكفر حاطب لقيام مانع في حقه وهذا مثال للتفريق بين التكفير المطلق وتكفير المعين، وسنذكر حديثه بالتفصيل بعد قليل إن شاء الله. أما موالاة المسلم للكافر فكلها كفر، ولم توصف في كتاب الله تعالى بغير الكفر، وقد سبق القول في قوله تعالى (ومن يتولهم منكم فإنه منهم) ــ المائدة 51 ــ في القسم السابق، وهذه الآىة نص محكم عام في تكفير كل من تولى الكفار، وكل نص آخر دخله احتمال عدم التكفير يجب أن يحمل على هذا النص المحكم حتى يأتي نص صريح في عدم التكفير بالموالاة، وهذا لم يرد لا في الكتاب ولا في السنة، وسيأتي القول فيما التبس فهمُه من حديث حاطب بَعْدُ. وقد نَبَّهت على وجوب رد المتشابه إلى المحكم فيما يتعلق بموالاة الكفار وذلك في شرح الدليل الرابع في القسم السابق (حكم أنصار الطواغيت) عملاً بقوله تعالى (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب، وأخر متشابهات) آل عمران 7، وذكرت هناك قول ابن كثير في تفسيرها. فهذا التعليق الأول على قول الشيخ عبداللطيف إن موالاة الكفار منها ماهو كفر ومنها دون ذلك، وبيان أن موالاة الكفار كلها مكفِّرة.
أما التعليق الآخر: فهو أن الذي أدى ببعض أهل العلم إلى القول بأن موالاة الكفار منها مايكفر به المسلم ومنها ماهو معصية غير مكفرة، أمران:
أحدهما: ماظنه البعض من أن مافعله حاطب موالاة غير مكفِّرة. وهذا سيأتي بيان مافيه من خطأ.(7/256)
والأمر الآخر: هو أن هناك أموراً تشبه الموالاة في الصورة أو في معناها اللغوي ــ وهو القُرْب والدُّنُو ــ ولكنها ليست موالاة بالمعنى الاصطلاحي الشرعي، وإنما سُمِّيت في الشريعة بأسماء أخرى، وهذه الأمور منها ماهو جائز شرعا ومنها ماهو محرم، إلا أن بعض أهل العلم أدرجها كلها في صور الموالاة ومن هنا وقع الّلبس فقسَّموا الموالاة إلى مكفرة وغير مكفرة، ومثاله ماذكره شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب في صور الموالاة في رسالته (أوثق عرى الإيمان) ونقل معظمها عنه بتصرف القحطاني في كتابه (الولاء والبراء في الإسلام) صـ 231 ــ 247. ومن هذه الصور التي ذكرها محمد بن عبدالوهاب حسب ترتيبه لها:(7/257)
* (الصورة الرابعة: مداهنتهم ومداراتهم) أهـ. وليستا من الموالاة، وبينهما فرق، والمداهنة محرمة، والمداراة جائزة، وبوّب عليها البخاري في كتاب الأدب من صحيحه في (باب المداراة مع الناس). قال ابن حجر (قال القرطبي تبعا لعياض: والفرق بين المداراة والمداهنة، أن المداراة: بذل الدنيا لصلاح الدنيا أو الدين أو هما معاً، وهى مباحة وربما استحبت. والمداهنة: ترك الدين لصلاح الدنيا) (فتح الباري) 10/ 454. وقال ابن حجر أيضا (قال ابن بطال: المداراة من أخلاق المؤمنين وهى خفض الجناح للناس ولين الكلمة وترك الإغلاظ لهم في القول، وذلك من أقوى أسباب الألفة، وظن بعضهم أن المداراة هى المداهنة فغلط، لأن المداراة مندوب إليها والمداهنة محرمة. والفرق أن المداهنة: من الدهان وهو الذي يظهر على الشيء ويستر باطنه، وفسّرها العلماء بأنها معاشرة الفاسق واظهار الرضا بما هو فيه من غير انكار عليه. والمداراة: هى الرفق بالجاهل في التعليم وبالفاسق في النهي عن فعله، وترك الإغلاظ عليه حيث لايظهر ماهو فيه والإنكار عليه بلطف القول والفعل لاسيما إذا احتيج إلى تألفه ونحو ذلك) (فتح الباري) 10/ 528. وقد ذكر البخاري الأدلة على جواز المداراة فراجعها في الباب المشار إليه. والمداراة تكتب بالهمزة أيضاً (المدارأة) لأنها مشتقة من الدرء وهو الدفع ولذلك فهى داخلة في عموم قوله تعالى (ادفع بالتي هى أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم) فصلت 34.(7/258)
* (الصورة الثامنة: استعمالهم في أمر من أمور المسلمين، أي أمرٍ كان) أهـ، وهذا الكلام ليس على إطلاقه، فإنه يجوز استعمال الكافر في أحوال بوّب لها البخاري في كتاب الإجارة من صحيحه في باب (استئجار المشركين عند الضرورة، أو إذا لم يوجد أهل الإسلام، وعَامَل النبي صلى الله عليه وسلم يهود خيبر) ثم ذكر حديث استئجار النبي صلى الله عليه وسلم وأبى بكر رجلا مشركاً ليدلهم على الطريق في الهجرة (حديث 2263). وقال ابن قدامة رحمه الله (ويجوز أن يتولى الكافر ماكان قُرَبة ً للمسلم كبناء المساجد والقناطر) (المغني مع الشرح الكبير) 11/ 116.
* (الصورة العاشرة: مجالستهم ومزاورتهم والدخول عليهم) أهـ ولايلزم أن تكون هذه موالاة، فإن المسلم يجوز أن ينكح نصرانية أو يهودية ويحتاج لمخالطتها وأهلها بالمعروف، ويجوز للمسلم أن يعود المريض الكافر وبوّب عليه البخاري في كتاب المرضى من صحيحه في باب (عيادة المشرك) وفيه حديث عيادة النبي صلى الله عليه وسلم للغلام اليهودي (حديث 5657)، وهذه كلها مجالسة ومزاورة. والمسألة مذكورة بأحكام أهل الذمة لابن القيم، 1/ 200 ــ 202.
* (الصورة الحادية عشرة: البشاشة لهم والطلاقة) أهـ. وهذا يدخل في المداراة وليس من الموالاة بالضرورة، وقال تعالى في حق الوالدين الكافرين (وإن جاهداك على أن تشرك بي ماليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا) لقمان 15. مع نهيه تعالى عن موالاتهما كما قال تعالى (لاتتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان) التوبة 23.(7/259)
* (الصورة الثالثة عشرة: استئمانهم وقد خوّنهم الله) أهـ. وقد ذكرنا حديث استئجار الدليل المشرك في الهجرة النبوية، والأجير مؤتمن، بل قد ورد النص على النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر أمِنَاه، ففي نفس الحديث (وهو على دين كفار قريش، فأمِنَاه، فدفعا إليه راحلتيهما، وواعداه غار ثور ٍ بعد ثلاث ليال) الحديث رواه البخاري (2263). كما تجوز مشاركة الكافر والشريك مؤتمن، وبوّب البخاري للمسألة في كتاب الشركة من صحيحه في (باب مشاركة الذمي والمشركين في المزارعة) وذكر حديث معاملة النبي صلى الله عليه وسلم يهود خيبر. كما تجوز الوكالة بين المسلم والكافر، والوكيل مؤتمن، وبوّب البخاري للمسألة في كتاب الوكالة من صحيحه في (باب إذا وكَّل المسلم حربياً في دار الحرب أو في دار الإسلام جاز) وذكر حديث الوكالة التي كانت بين عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه وأمية بن خلف من كفار مكة (حديث 2301).
* (الصورة الرابعة عشرة: معاونتهم في أمورهم ولو بشيء قليل) أهـ. وقد أجمع العلماء على جواز البيع والشراء مع المشركين، وذلك بالنظر إلى مصلحة المسلمين في ذلك، وبالمقابل فلابد أن ينتفع المشركون. وبوّب عليه البخاري في كتاب البيوع من صحيحه في باب (الشراء والبيع مع المشركين وأهل الحرب) وذكر الحديث (2216) وقال ابن حجر (قال ابن بطال: معاملة الكفار جائزة إلا بيع مايستعين به أهل الحرب على المسلمين) (فتح الباري) 4/ 410. وقد فصَّل محمد بن الحسن الشيباني رحمه الله القول في هذا في كتابه (السير الكبير).(7/260)
* (الصورة السابعة عشرة: مصاحبتهم ومعاشرتهم) أهـ. وقد سبق ذكر الدليل على وجوب مصاحبة الوالدين الكافرين بالمعروف مع النهي عن موالاتهما، فلم تدخل المصاحبة بذلك في الموالاة. وفرّق الله تعالى بين الأمرين في قوله عزوجل (لاينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم، إن الله يحب المقسطين، إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم، ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون) الممتحنة 8 ــ 9. ففرق بين البر والإقساط وبين التولي والموالاة. ويجوز قبول هدية المشرك والإهداء إليه وهذا من المعاشرة بالمعروف، وبوّب البخاري في كتاب الهبة من صحيحه لهاتين المسألتين في باب (قبول الهدية من المشركين) وباب (الهدية للمشركين) وساق الأدلة.
فإدخال كل هذه الصور في الموالاة ــ كما صنع الشيخ محمد بن عبدالوهاب وغيره ــ مع جوازها أحيانا غير سديد، وهى وإن كانت تشبه الموالاة من جهة التقرب من الكفار، إلا أن الموالاة شيء وراء ذلك.(7/261)
ومن هذا الباب أيضا إدخال التشبه بهم في بعض الأمور الظاهرة ضمن صور الموالاة، كما صنع مؤلف (الرسالة الليمانية) فقال في صـ 15 (هذا وقد فرق ابن تيمية رحمه الله بين من تشبه بالكفار ــ وهو صورة من صور الموالاة إذ فيه تكثير لهم ــ وهو يعلم ذلك ويأتيه على سبيل العادة... الخ) أهـ. ومابين الخطين مدرج من قول مؤلف (الرسالة الليمانية) فهو الذي جعل التشبه من صور الموالاة، وليس هذا قول ابن تيمية وهو لم يجعل التشبه موالاة، وإنما قال ابن تيمية إنه ذريعة إلى الموالاة، وفرق كبير بين الشيء وبين ذرائعه وأسبابه، فقال رحمه الله (ومشاركتهم في الظاهر إن لم تكن ذريعة أو سبباً قريباً أو بعيداً إلى نوع ٍ ما من الموالاة والموادة، فليس فيها مصلحة المقاطعة والمباينة مع أنها تدعو إلى نوع ٍ مامن المواصلة) (اقتضاء الصراط المستقيم) صـ 48، ط مكتبة المدني.
والحاصل: أن إدخال كثير من الأمور ــ التي لاتعتبر موالاة من جهة المصطلح الشرعي ــ في مسمى الموالاة، هو الذي جعل البعض يقسم الموالاة إلى مكفِّرة وغير مكفِّرة، في حين لم يصف الله تعالى موالاة الكفار بغير الكفر، قال تعالى (ومن يتولهم منكم فإنه منهم) المائدة 51. كما أن ادخال كثير من الأمور التي ليست بموالاة في مسمى الموالاة هو الذي جعل بعض علماء الدعوة النجدية يفرّقون بين الموالاة والتولي، وجعلوا الموالاة كبيرة غير مكفر، والتولي كفر، وهذا التفريق لايدل عليه دليل لا من الشرع ولا من اللغة فأصلهما اللغوي واحد وهو القرب والدنو، ولهذا لم يفرق بينهما البعض الآخر من علماء نجد كالشيخ عبدالرحمن بن ناصر بن سعدي. وأقوال الفريقين ذكرها محماس الجلعود في كتابه (الموالاة والمعاداة) 1/31 ــ 42.
ثم نتابع نقدنا (للرسالة الليمانية).(7/262)
3 ــ في صـ 11 قال مؤلف (الرسالة الليمانية) (الموالاة على ضربين: الضرب الأول: موالاة الظاهر، وهى الأقوال والأفعال التي تحمل معنى الموالاة الممنوعة لكن بالظاهر فقط مع سلامة القلب والعقد. الضرب الثاني: موالاة الباطن، وهى هذه الأفعال والأقوال ولكن مقترنة بالرضا القلبي والتصويب والمحبة.) أهـ. ثم قال في صـ 13 (وجوب النظر في فعل الموالاة نفسه: هل هو موالاة بالظاهر فقط مع سلامة القلب والعقد؟ أم موالاة بالظاهر والباطن معاً؟. فالأولى لاتوجب كفراً من باب الموالاة، والثانية قد توجب كفراً مخرجاً من الملة لفاعليها بعد اعتبار القاعدة الأولى) أهـ، والقاعدة الأولى التي أشار إليها هى تبين حال الموالِي من حيث الشروط والموانع، وحال الموالَي وهل هو كافر؟ كما ذكره في صـ 11 و 12 من رسالته.
وهذا هو الموضع الذي نقلناه من هذه الرسالة عند الحديث في أخطاء التكفير، لأنه في حقيقته قول غلاة المرجئة الذين يشترطون كفر القلب كشرط مستقل للتكفير بالذنوب المكفرة.
أما تقسيمه الموالاة إلى ظاهرة بالأقوال والأفعال، وباطنة بالقلب، فصحيح.(7/263)
وأما أنه لايكفر أحد بالموالاة الظاهرة إلا أن يوالي بقلبه بالرضا والمحبة فقول فاسد، وهو قول غلاة المرجئة الذين يقولون لايكفر أحد بعمل ظاهر إلا أن يقترن به اعتقاد قلبي مُكَفِّر، وهذا القول يردُّه ويبين فساده النص كما قال تعالى (ياأيها الذين آمنوا لاتتخذوا اليهود والنصارى أولياء، بعضهم أولياء بعض، ومن يتولهم منكم فإنه منهم، إن الله لايهدي القوم الظالمين، فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة، فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمرٍ من عنده فيصبحوا على ماأسرُّوا في أنفسهم نادمين) المائدة 51 ــ 52. ففي هذا النص قضى الله بكفر من تولى الكفار (ومن يتولهم منكم فإنه منهم). والنصرة موالاة بلا نزاع وهى أظهر معاني الموالاة في كتاب الله تعالى ومن هذا قوله تعالى (وماكان لهم من أولياء ينصرونهم من دون الله) الشورى 46، وحاصل هذا أن من نَصَر الكفار فإنه منهم أي هو كافر. فإن قيل: إن هذا مقيد باشتراط أن تقترن نصرته للكفار بمحبته لهم ورضاه بكفرهم ــ كما يقوله مؤلف (الرسالة الليمانية) ــ، فالجواب: أنه قد ثبت بالنص السابق أن الذين قضى الله بكفرهم لم تقترن موالاتهم للكفار بالرضا والمحبة وإنما تولوهم خوفاً على أنفسهم (نخشى أن تصيبنا دائرة)، والخوف والخشية من أعمال القلب ولايدخلان في مسمى الموالاة لا لغة ً ولا اصطلاحاً، وإنما حمل هذا الخوف صاحبه على أن يتولى الكفار في الظاهر فكفر بموالاته هذه كما قال تعالى (ومن يتولهم منكم فإنه منهم). وبهذا يثبت فساد الشرط الذي وضعه مؤلف (الرسالة الليمانية) من اشتراط الموالاة القلبية بالمحبة والرضا للتكفير بالموالاة الظاهرة. قال ابن تيمية رحمه الله (والمفسرون متفقون على أنها نزلت بسبب قوم ٍ ممن كان يُظهر الإسلام وفي قلبه مرض، خاف أن يُغلب أهلُ الإسلام، فيوالي الكفار من اليهود والنصارى وغيرهم للخوف الذي في قلوبهم، لا لاعتقادهم أن محمداً كاذب(7/264)
واليهود والنصارى صادقون) (مجموع الفتاوى) 7/ 193 ــ 194.
ولهذا احتج العلماء بهذه الآىة على كُفر من نَصَر الكفار، خاصة إذا نصرهم على المسلمين، كما نقلنا عن القرطبي قوله (قوله تعالى «ومن يتولهم منكم» أي يعضدهم على المسلمين «فإنه منهم» بيَّن تعالى أن حكمه كحكمهم) (تفسير القرطبي) 6/ 217. واحتج بها ابن تيمية على ذلك فقال («ومن يتولهم منكم» فيوافقهم ويعينهم «فإنه منهم») (مجموع الفتاوى) 25/ 326. وعَدَّ محمد بن عبدالوهاب مظاهرة الكفار ومعاونتهم على المسلمين من نواقض الإسلام محتجاً بهذه الآىة كما نقلناه عنه. ولم يقيد أحد من العلماء التكفير هنا باشتراط الموالاة القلبية بل الموالاة الظاهرة وحدها مُكفِّرة وهذا ظاهر النص، غاية ماذكره الطبري ــ فيما نقلناه عنه من قبل ــ أنه لايتولاهم إلا وهو راض ٍ بدينهم (تفسير الطبري) 6/ 277. وهذا التعليل قاله من عند نفسه، وهو مصادم للنص الذي أثبت أن من نزلت فيهم الآيات كان باعثهم على موالاة الكفار الخوف من دوائر الدهر لا الرضا بما عليه الكفار، وقول الطبري هنا يشبه قول مرجئة الفقهاء والمتكلمين: إن من أتى عملا من أعمال الكفر فهو علامة على أنه مكذب بقلبه، فقال الطبري من تولى الكفار فلابد أن يكون راضيا بدينهم، وِكلاَ القولين فاسد تردّه النصوص.(7/265)
ومما يؤكد أن الموالاة الظاهرة مكفرة بذاتها دون اعتبار للموالاة القلبية: إجراء النبي صلى الله عليه وسلم حكم الكفار على عمه العباس بمناصرته الكفار على المسلمين وخروجه معهم في غزوة بدر، وألزمه بأن يفتدي نفسه كأسير بمجرد فعله الظاهر هذا ولم يقل له النبي صلى الله عليه وسلم هل خرجت مع المشركين حباً لهم؟ أو هل أنت راض ٍ بدينهم مصوِّباً له ولهم؟ لم يثبت شيء من هذا مما يبين لك أنها فروع فاسدة أحدثها المتأخرون ولم تنقل عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، بل ادعى العباس الإسلام والإكراه ولم يُقبل منه إذ كان ظاهره بخلاف ذلك. والحاصل أن الموالاة الظاهرة بالنصرة ومظاهرة الكفار على المسلمين ــ كما يفعله جنود الحكام المرتدين وأنصارهم ــ مُكفرة بذاتها دون اعتبار لوجود الموالاة القلبية من عدمه. وهذا كله في بيان فساد الشرط الذي وضعه مؤلف (الرسالة الليمانية) من أنه لاتكفير بالموالاة الظاهرة إلا أن تقارنها موالاة قلبية.
أما إن قوله هذا هو قول غلاة المرجئة، فقد سبق في تعليقي على العقيدة الطحاوية تعقيباً على قول الطحاوي رحمه الله (ولا يخرج العبد من الإيمان إلا بجحود ماأدخله فيه) أن بيَّنت مذاهب الفرق في التكفير بالذنوب المكفِّرة، وذكرت أن الذنوب المكفرة في أحكام الدنيا ــ التي تجري على الظاهر ــ هى إما قول أو فعل ثبت بالدليل الشرعي كفر فاعله.
* فقال أهل السنة: من قال أو فعل ماهو كُفْر، كَفَر ظاهراً وباطناً بقوله أو بفعله هذا. انظر (الصارم المسلول) لابن تيمية، 177 و 178 و 512.(7/266)
* وقالت المرجئة من الفقهاء والأشاعرة: من قال أو فعل ماهو كُفْر، كَفَر ظاهراً وباطناً، لابنفس القول أو الفعل ولكن لأنهما علامة على أنه كافر مكذب بقلبه، وذلك لأن الإيمان عندهم تصديق القلب وليس العمل الظاهر منه، ولابد أن يكون عكسه وهو الكفر ــ عندهم ــ هو تكذيب القلب ــ بجحد أو استحلال ــ ولا يكفر أحدٌُ بالعمل الظاهر، قالوا: فإذا ثبت بالدليل كُفْر من أتى عملاً ظاهراً، فيكون هذا العمل علامة على تكذيب القلب. وقد بيَّنت أن هذا اللازم ليس بلازم وأن الله تعالى أثبت ــ في كتابه ــ تصديقاً لمن قضى بكفرهم. انظر (مجموع الفتاوى لابن تيمية) 7/ 147 و 509 و 548 و 582، و (الصارم المسلول) لابن تيمية صـ 518، و (الفصل) لابن حزم 3/ 239 و 259.
* وقالت الجهمية من المرجئة: من قال أو فعل ماهو كُفْر، كَفَر ظاهراً في أحكام الدنيا، ويجوز أن يكون مؤمنا في الباطن، فأكفرهم السلف بهذا، لأن من ثبت كُفْره بالدليل لابد أن يكون كافراً ظاهراً وباطناً معذباً في الآخرة لأن خبر الله لايكون إلا على الحقيقة، لاعلى الظاهر فقط، فمن أكفره في الظاهر دون الباطن فقد كذَّب بالنص ومن هنا أكفرهم السلف، انظر (مجموع الفتاوى) 7/ 401 ــ 403 و 558، (الصارم المسلول) صـ 517 و 523. ولكن نقل ابن تيمية عن الجهمية أيضا أنهم التزموا بكفر من قال أو فعل الكفر ظاهراً وباطناً، وتعليلهم لذلك هو كتعليل مرجئة الفقهاء والأشاعرة أن الكفر الظاهر علامة على الكفر الباطن، انظر (مجموع الفتاوى) 7/ 188 ــ 189، وسيأتي نصه إن شاء الله وعلى هذا فالجهمية لهم قولان في التكفير بالذنوب المكفرة، أحدهما أن فاعلها يكفر ظاهراً فقط، والآخر: يكفر ظاهراً وباطناً، وفي كلا القولين هم متفقون مع أهل السنة ومرجئة الفققهاء والمتكلمين على التكفير في أحكام الدنيا بمجرد فعل الذنوب المكفرة، وفي هذا خالف غلاة المرجئة.(7/267)
* فقال غلاة المرجئة: من قال أو فعل ماهو كُفْر، لم يكفر بذلك إلا أن يصدر منه مايدل على أنه كافر بقلبه كالجحد والاستحلال، وهؤلاء أكفرهم السلف لأن قولهم تكذيب بالنصوص الدالة على كفر من أتى المكفرات دون القيود التي اشترطوها، وقد نقل تكفير السلف لهم ابنُ تيمية في (مجموع الفتاوى) 7/ 205 و 209. وبقول غلاة المرجئة هذا يقول مؤلف (الرسالة الليمانية) فإن الله تعالى نص على كفر من يتولى الكفار (ومن يتولهم منكم فإنه منهم) والموالاة لاتثبت على فاعلها في أحكام الدنيا ــ التي تجري على الظاهر ــ إلا بقول أو فعل ظاهر، فقال مؤلف (الرسالة الليمانية) لايكفر إلا بموالاة القلب، وهو شرط فاسد مصادم للنص، كما بيَّنتُه من قبل، وهو قول غلاة المرجئة الذين يجعلون كفر القلب شرطاً مستقلاً للتكفير بالذنوب المكفرة الظاهرة في حين أن مرجئة الفقهاء والمتكلمين والجهمية جعلوا كفر القلب لازماً للتكفير بالذنوب المكفرة الظاهرة وتأمل الفرق بين الشرط المستقل وبين اللازم الذي لاينفك.(7/268)
وهذا القول الذي قاله مؤلف (الرسالة الليمانية) من اشتراط موالاة القلب كشرط مستقل للتكفير بالموالاة الظاهرة هو أفسد من قول الجهمية، فلو أن رجلاً كافراً مفسداً في الأرض محارباً لله ورسوله يسوم المسلمين سوء العذاب تقتيلاً وتعذيباً وتشريداً، كالحكام المرتدين في زماننا هذا، وقد أتى هذا الكافر بقانون كافر حكَّمه في دماء المسلمين وأعراضهم وأموالهم، ثم أتى بطائفة تنصره وتدفع عنه بالقول والفعل وتقاتل من يريد أن يقاتله، وتعمل بأمره في المسلمين سجناً وإهانة وتعذيبا وتقتيلاً، فإن مؤلف (الرسالة الليمانية) يقول لايكفر أحدٌُ من هذه الطائفة بأفعال الموالاة الظاهرة هذه إلا أن يصرحوا بمحبتهم للكافر وكُفْرِه ورضاهم عنه، في حين أن الجهمية قالوا بل يكفر بهذه الأفعال وتكون علامة على انتفاء التصديق من قلبه. ومن هنا قلت: إن قول مؤلف (الرسالة الليمانية) أفسد من قول الجهمية والذي ذكره ابن تيمية رحمه الله في قوله (ومن هنا يظهر خطأ قول «جهم بن صفوان» ومن اتبعه حيث ظنوا أن الإيمان مجرد تصديق القلب وعلمه، لم يجعلوا أعمال القلب من الإيمان، وظنوا أنه قد يكون الإنسان مؤمنا كامل الإيمان بقلبه وهو مع هذا يسب الله ورسوله ويعادي الله وسوله ويعادي أولياء الله ويوالي أعداء الله ويقتل الأنبياء ويهدم المساجد ويهين المصاحف ويكرم الكفار غاية الإكرام ويهين المؤمنين غاية الإهانة، قالوا: وهذه كلها معاص لا تنافي الإيمان الذي في قلبه، بل يفعل هذا وهو في الباطن عند الله مؤمن، قالوا: وإنما ثبت له في الدنيا أحكام الكفار لأن هذه الأقوال أمارة على الكفر ليُحكم بالظاهر كما يُحكم بالإقرار والشهود، وإن كان في الباطن قد يكون بخلاف ماأقرّ به وبخلاف ماشهد به الشهود. فإذا أورد عليهم الكتاب والسنة والإجماع على أن الواحد من هؤلاء كافر في نفس الأمر معذب في الآخرة، قالوا: فهذا دليل على انتفاء التصديق والعلم من قلبه، فالكفر عندهم شيء(7/269)
واحد وهو الجهل، والإيمان شيء واحد وهو العلم، أو تكذيب القلب وتصديقه، فإنهم متنازعون هل تصديق القلب شيء غير العلم أو هُوَ هُوَ؟.
وهذا القول مع أنه أفسد قول قيل في «الإيمان» فقد ذهب إليه كثير من «أهل الكلام المرجئة». وقد كَفَّر السلف ــ كوكيع بن الجراح وأحمد بن حنبل وأبي عبيد وغيرهم ــ من يقول بهذا القول) (مجموع الفتاوى) 7/ 188 ــ 189. ويظهر من كلام شيخ الإسلام أن الجهمية أكفروا في الظاهر من يفعل هذه الأفعال، ثم أكفروه ظاهراً وباطنا لما رأوا أن قولهم الأول مصادم للنصوص. ثم جاء مؤلف (الرسالة الليمانية) ليقول إن من يعادي الله ورسوله ودينه وأهله ويكرم الكفار ويهين المؤمنين لايكفر بذلك في الظاهر في حين أكفر الجهمية مثل هذا في الظاهر. فويل لمن كان مذهبه في الإيمان أفسد من مذهب الجهمية الذي وصفه شيخ الإسلام بأنه أفسد قول قيل في الإيمان.
وبعد بيان فساد اشتراط الموالاة القلبية للتكفير بالموالاة الظاهرة، وأن هذا هو قول غلاة المرجئة، نتابع نقدنا لبقية كتاب (الرسالة الليمانية).
فبعد ما ذكر المؤلف أنه لا يكفر أحد بموالاة الكفار في الظاهر إلا أن يقترن بها موالاة قلبية، شرع في الاستدلال لقوله هذا بأمرين:
الأمر الأول: أقوال لبعض العلماء: فذكر أقوالاً للرازي ولابن العربي ولأبي السعود ولابن تيمية في صـ 13 ــ 16.
والأمر الآخر: بعض النصوص الشرعية: فذكر حديث حاطب رضي الله عنه، ثم آية التقيّة بسورة آل عمران، ثم الآيات الدالة على عمل يوسف عليه السلام لملك مصر، ثم آية سورة الأنفال فيمن آمن ولم يهاجر. وأراد بذكر هذه الأدلة بيان أن هذه كلها صور للموالاة الظاهرة وثبت بالنص عدم كفر فاعلها، فلا يكفر أحد بالموالاة الظاهرة مالم تقترن بها الموالاة القلبية.
وسوف نرد على ماأورده من أقوال وأدلة بحسب ترتيب ورودها بالرسالة.(7/270)
4 ــ ففي صـ 13 ــ 14 نقل عن الرازي المفسِّر قوله (واعلم أن كون المؤمن موالياً لكافر يحتمل ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكون راضيا بكفره ويتولاه لأجله، وهذا ممنوع منه، لأن كل من فعل ذلك كان مصوِّباً له في ذلك الدين، وتصويب الكفر كفر، والرضا بالكفر كفر، فيستحيل أن يبقى مؤمناً مع كونه بهذه الصفة. وثانيها: المعاشرة الجميلة في الدنيا بحسب الظاهر، وذلك غير ممنوع منه. والقسم الثالث: وهو كالمتوسط بين القسمين الأوليين، هو أن موالاة الكفار بمعنى الركون إليهم والمعونة والمظاهرة والنصرة، إما بسبب القرابة أو بسبب المحبة مع اعتقاد أن دينه باطل، فهذا لايوجب الكفر إلا أنه منهي عنه لأن الموالاة بهذه المعنى قد تجره إلى استحسان طريقته والرضا بدينه، وذلك يُخرجه عن الإسلام، فلا جرم هدّد الله تعالى فيه فقال «ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء») أهـ ثم قال مؤلف الرسالة (فهذا التقسيم الذي أورده الإمام الرازي يبيّن بوضوح أن موالاة الباطن، والتي تعني الرضا بالكفر وتصويبه، كفر مُخرج من الملة، أما موالاة الظاهر فقط مع سلامة العقد واعتقاد بطلان ماعليه الكفار فهذا لايوجب الكفر وإن كان مُحرما) أهـ. ونعلِّق على هذا من وجهين:(7/271)
أ ــ الكلام في الرازي: كشخص: فهو ليس ممن يحتج بقوله في هذه المسائل، وإن كانت أقوال العلماء في الجملة لا يحتج بها وإنما يحتج لها بالأدلة الشرعية المبينة لصوابها من خطئها. أما الرازي ــ وهو أبو عبدالله محمد بن عمر بن الخطيب الرازي 606 هـ ــ فقد قال ابن تيمية فيه (وهذا المذكور في كتب الرازي، فليس في كتبه وكتب أمثاله في مسائل أصول الدين الكبار القول الصحيح الذي يوافق المنقول والمعقول الذي بَعَث الله به الرسول وكان عليه سلف الأمة وأئمتها، بل يذكر بحوث المتفلسفة الملاحدة وبحوث المتكلمين المبتدعة) (مجموع الفتاوى) 17/ 247، وقال أيضا (وأبلغ من ذلك أن منهم من يصنف في دين المشركين والردة عن الإسلام كما صنّف الرازي كتابه في عبادة الكواكب والأصنام وأقام الأدلة على حُسن ذلك ومنفعته ورغَّب فيه، وهذه رِدَّة عن الإسلام باتفاق المسلمين، وإن كان قد يكون تاب منه وعاد إلى الإسلام) (مجموع الفتاوى) 4/ 55، وفي جـ 13/ 180 ــ 181 فصَّل ابن تيمية ماكتبه الرازي في عبادة الكواكب. ووصفه ابن تيمية بأنه جهمي جبري في جـ 16/ 213، وجـ 7/ 511. ثم قال ابن تيمية (وأما ابن الخطيب فكثير الاضطراب جداً لايستقر على حال، وإنما هو بحث وجَدَل بمنزلة الذي يطلب ولم يهتد إلى مطلوبه) (مجموع الفتاوى) 6/ 55. فهذا حال الرازي الذي احتج مؤلف (الرسالة الليمانية) بقوله، فهل يُحتج بقول مثله في مسائل الإيمان؟.(7/272)
ب ــ أما الكلام فيما قاله الرازي، فمحل النزاع ــ وهو الموضع الذي احتج به مؤلف الرسالة الليمانية ــ هو قوله في القسم الثالث إن مظاهرة الكفار ونصرتهم مع اعتقاد بطلان دينهم لايوجب الكفر، هذا حاصل قوله. فلماذا اقتصر مؤلف الرسالة الليمانية على هذا القول المؤيد لرأيه وترك ماعداه من أقوال المفسرين؟ وهل هذا إلا الاختيار بالتشهي والهوى؟ كما قال الشاطبي رحمه الله في (الموافقات) 4/ 140 ــ 144. وأين الترجيح الواجب عند الاختلاف كما فصَّلته في الباب الخامس من هذا الكتاب؟. وأنا آتيه بضده من أقوال المفسرين، وهو قول القرطبي («ومن يتولهم منكم» أي يعضدهم على المسلمين «فإنه منهم» بيَّن تعالى أن حكمه كحكمهم) (تفسير القرطبي) 6/ 217. وذكر شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب في نواقض الإسلام: مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين محتجاً بنفس آية المائدة هذه. ولم يقيد أحد التكفير بهذه المعاونة والنصرة بالرضا بالكفر وتصويبه، فقد أتيته بعكس ماقال الرازي. فأي الفريقين أحق بالصواب؟. والحكم في هذا لله وللرسول كما قال تعالى (فإن تنازعتم في شيء فردّوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر) النساء 59:
وبالرد إلى الله تعالى، وجدناه قد قضى بكفر من تولى الكفار دون تقييد ذلك بالرضا بالكفر وتصويبه، بل أكْفَرَ الله من تولى الكفار خوفاً على دنياه من دوائر الدهر كما قال تعالى (ومن يتولهم منكم فإنه منهم ــ إلى قوله ــ يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة) المائدة 51 ــ 52.(7/273)
وبالرد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وجدناه قد حكم على عمه العباس بحكم الكفار لما خرج معهم في غزوة بدر، رغم دعواه الإسلام والإكراه، وهذا نص في محل النزاع في تكفير من عاون الكفار وظاهرهم على المسلمين دون النظر في اعتقاده، بل يكفر ولو ادعى سلامة معتقده كما ادعى العباس، وهذا يُبطل قول الرازي ويُبطل ماادعاه مؤلف (الرسالة الليمانية) وماأسس عليه رسالته من أولها إلى آخرها.
فهذا حكم الله ورسوله، وقد قال تعالى (لاتقدموا بين يدي الله ورسوله) الحجرات 1، هذا مايتعلق بنقد مانقله المؤلف عن الرازي مستدلاً به.(7/274)
5 ــ وفي صـ 14، قال مؤلف الرسالة الليمانية ــ عقب ما نقله عن الرازي ــ (وفي نفس المعنى أيضا يقول ابن العربي رحمه الله (إنما يكون المؤمن بطاعة المشرك مشركاً إذا أطاعه في الاعتقاد، فإن أطاعه في الفعل وعقده سليم مستمر ٌُ على التوحيد والتصديق فهو عاص ٍ فافهموه) أهـ. وقال المؤلف معقبا على ذلك (فهذا الكلام يوضح الفارق بين من فعل فعلا من أفعال الموالاة باطناً وظاهراً ــ وهو هنا طاعة المشرك ــ وبين من فعل نفس الفعل واعتقاده سليم وقلبه مطمئن بالإيمان، فالأول يصير بذلك مشركا طبعاً بعد اعتبار القاعدة الأولى، أما الثاني فهو عاص) انتهى كلام المؤلف. أما قول ابن العربي (فإن أطاعه في الفعل وعقده سليم مستمر على التوحيد والتصديق فهو عاص ٍ) أهـ، فهذا كلام فيه إجمال لا ينبغي سوقه ولا إبهامه هكذا، فلو أن كافراً أو مسلماً قال لمسلم ألقِ هذا المصحف في القذر أو اسجد لهذا الصنم فأطاعه في فعل هذه الأفعال لكَفَر الآمر والمأمور بإجماع المسلمين بما فيهم ابن العربي نفسه، ولو أمره أحد بترك الصلاة فلم يُصَل لكفر بإجماع الصحابة. وهذه طاعة في أفعال وتروك مجردة غير مصحوبة بطاعة ٍ في اعتقاد مكفِّر، وقد كَفَر فاعلها بالإجماع. ولكن الذي لم يعرفه مؤلف الرسالة الليمانية والذي يدل على أنه حاطب ليل يجمع الأقوال ولا يدري ما فيها: أن الأشاعرة ــ وابن العربي منهم ــ يُكفِّرون بهذه الأفعال غير المصحوبة باعتقاد مكفِّر ولكنهم يقولون إن هذه الأفعال علامة على انتفاء التصديق بالقلب، يبين هذا ما قاله ابن عابدين الحنفي ــ وهو من مرجئة الفقهاء وقولهم في هذا كقول الأشاعرة ــ (وكما لو سَجَد لصنم أو وضع مصحفاً في قاذورة فإنه يكفر، وإن كان مُصدقاً، لأن ذلك في حكم التكذيب) (حاشية ابن عابدين) ط دار الكتب العلمية، كتاب المرتد، جـ 3 صـ 284. وقال ابن تيمية رحمه الله (وقال أبو عبدالله الصالحي: إن الإيمان مجرد تصديق القلب ومعرفته، لكن(7/275)
له لوازم فإذا ذهبتَ دَلَّ ذلك على عدم تصديق القلب. وأن كل قول أو عمل ظاهر دَلَّ الشرع على أنه كُفْرٌُ كان ذلك لأنه دليل على عدم تصديق القلب ومعرفته، وليس الكفر إلا تلك الخصلة الواحدة، وليس الإيمان إلا مجرد التصديق الذي في القلب والمعرفة، وهذا أشهر قولي أبي الحسن الأشعري وعليه أصحابه كالقاضي أبي بكر وأبى المعالي وأمثالهما، ولهذا عَدَّهم أهل المقالات من المرجئة) (مجموع الفتاوى) 7/ 509. وأبو المعالي الجويني شيخ أبي حامد الغزالي، والغزالي شيخ ابن العربي الذي نقل المؤلف قوله، فهذا مذهب الأشاعرة. وبهذا تعلم أن إطلاق القول بأنه يكفر إن أطاعه في الاعتقاد ولايكفر إن أطاعه في الأفعال الظاهرة خطأ، وواضح أن مؤلف (الرسالة الليمانية) لا علم له بمذاهب الفرق في الإيمان والكفر، وماكان له أن يُقدم على كتابة رسالته هذه قبل دراسة المذاهب في الإيمان والكفر ومعرفة الصواب من الخطأ في هذا لأنه أساس موضوع رسالته. وأنا أحذِّر كل من يؤلف للناس خاصة إذا كان المقصود بالتأليف وضع مناهج للجماعات مثلما كتب مؤلف الرسالة الليمانية على غلافها (المعالم الشرعية والفكرية للجماعة الإسلامية بمصر)، أحذّر من التأليف فيما لم يتأهل له المؤلف حذراً من الوعيد الوارد في قوله صلى الله عليه وسلم (اتخذ الناس رءوساً جهالاً فسُئِلوا فأفتوا بغير علم فَضَلّوا وأَضَلّوا) الحديث متفق عليه، وقوله صلى الله عليه وسلم (من دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه، لاينقص ذلك من آثامهم شيئاً) الحديث رواه مسلم. وأوصي كل من يريد أن يُعَلِّم غيره بأن يتعلم قبل أن يُعَلِّم.(7/276)
6 ــ قال مؤلف (الرسالة الليمانية) في صـ 14 ــ 15 ــ عقب مانقله عن ابن العربي ــ (ويتم وضوح الأمر وجلاؤه بقول أبي السعود ــ رحمه الله ــ في تفسير قوله تعالى «إلا أن تتقوا منهم تقاة...» قال: «.... كأنه قيل لاتتخذوهم أولياء ظاهراً أو باطناً في حال من الأحوال إلا حال اتقائهم... فإنه يجوز إظهار الموالاة حينئذ مع اطمئنان النفس بالعداوة والبغضاء وانتظار زوال المانع...) أهـ، ثم قال المؤلف (ففي هذا النص بيَّن أبو السعود رحمه الله الفرق بين الموالاة الظاهرة والباطنة، إذ لو لم يكن بينهما فرق لما قال: ظاهراً أو باطناً، ثم بيّن إباحة المولى سبحانه للنوع الأول ــ وهو الموالاة الظاهرة ــ حال التقية، إذ حاشا لله أن يبيح الموالاة الباطنة، وهى كُفْر ــ كما بيَّنا ــ حتى حال التقية) أهـ.
ظن المؤلف أن التقيَّة موالاة ظاهرة وأنها جائزة حال الخوف من الكفار، وجوازها دليل على أنها ليست كفراً. وذكرها ضمن الأدلة الشرعية التي استدل بها على أن الموالاة الظاهرة مع سلامة العقد غير مكفرة، فقال في صـ 24 (الدليل الثاني: وهو قوله تعالى «لايتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين، ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء، إلا أن تتقوا منهم تقاة، ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير» آل عمران 28. ثم قال المؤلف: وهذا دليل على ماذكرناه من أن المسلم إذا وقع منه موالاة ظاهرية تحت تأثير خوف أو إكراه أو لمصلحة من المصالح المعتبرة فإنه لايكفر بذلك مادام القلب سليما إذ تنتفي بذلك الموالاة القلبية التي توجب كفر صاحبها) أهـ.(7/277)
وأقول: إن الموالاة الظاهرة للكفار كفر أكبر كما يدل عليه قوله تعالى (ومن يتولهم منكم فإنه منهم)، وحُكم النبي صلى الله عليه وسلم في العباس. والكفر لايجوز إظهاره إلا مع الإكراه المعتبر لا لمجرد الخوف أو لمصلحة كما قال المؤلف. فلم يرخص الله في إظهار الكفر إلا مع الإكراه كما قال تعالى (من كَفَر بالله من بعد إيمانه إلا من أكرِهَ وقلبه مطمئن بالإيمان) النحل 106، وسنذكر إن شاء الله الدليل على أن مجرد الخوف من الكفار دون وقوع إكراه معتبر منهم لايجيز للمسلم موافقتهم في الظاهر، فإن وافقهم دون إكراه فقد كَفَر. ولكنا نبدأ ببيان خطأ ماذهب إليه المؤلف من أن التقية موالاة ظاهرة جائزة مع الخوف، وهو يريد أن يتوصل بذلك إلى أن أنصار الحكام المرتدين وجنودهم معذورن في موالاتهم الظاهرة للحكام بسبب خوفهم منهم لكونهم في سلطانهم، وهذا قول فاسد.
والذي أوقع المؤلف فيما وقع فيه ظنه أن التقية موالاة، وإذا جازت التقية مع الخوف جازت الموالاة. والصحيح أن التقية غير الموالاة في اللغة وفي الشرع.
أما في اللغة: فقد ذكرنا من قبل أن الموالاة أصلها: القُرْب والدُّنُو. أما التقيّة فأصلها في اللغة: الحَذَر، والحذر شيء والقُرب شيء آخر. والفعل: اتَّقى، والمصدر: تَقِيَّة وتُقَاة، وكلا المصدرين ورد في القراءات الصحيحة، فقريء (إلا أن تتقوا منهم تقاة) وقرِيء (إلا أن تتقوا منهم تقيّة). وأتَّقِيه تقيَّة بمعنى حذِرْتُه. انظر (لسان العرب) لابن منظور، 15/ 402 ــ 404، ط دار صادر.(7/278)
وأما في الشرع: فإن التقيّة بمعنى الحذر من الكفار ــ عند الخوف منهم بسبب ظهورهم وغلبتهم ــ تكون بإخفاء المعاداة لهم أو بمداراتهم بإظهار القول الليِّن والمعاشرة الحسنة لهم. فهذا مايجوز إظهاره مع الخوف، أما إن أظهر فوق ذلك بالذب عن الكفار أو نصرتهم والقتال دونهم فهذه موالاة ظاهرة مكفِّرة لايجوز شيء منها إلا مع الإكراه الملجيء مع الأخذ في الاعتبار الإجماع على أن الإكراه لايجيز قتل المسلم بغير حق. وقد تساهل بعض المفسرين فسمّوا المداراة ــ التي تجيزها التقية ــ موالاة ظاهرة، وهذا خطأ، ولكن مؤلف (الرسالة الليمانية) اختار أقوال هؤلاء المفسرين دون غيرها لأنها تؤيد وجهة نظره، ونحن نذكرها ونذكر أقوال غيرهم من أئمة التفسير ثم نرجح بينهم بإذن الله.
أ ــ أما الذين قالوا إن التقية هى الموالاة الظاهرة:
* فمنهم أبو السعود، وذكرنا مانقله عنه المؤلف آنفا.
* ونقل المؤلف في صـ 24 ــ 25 قول ابن العربي (فساعِدوهم ووالوهم وقولوا مايصرف عنكم من شرهم وأذاهم بظاهر منكم لا باعتقاد، بيَّن ذلك قوله تعالى «إلا من أكرِه وقلبه مطمئن بالإيمان») أهـ.
* ونقل المؤلف في صـ 25 قول النسفي (أي إلا أن يكون للكافر عليك سلطان فتخافه على نفسك ومالك فحينئذ ٍ يجوز لك إظهار الموالاة وإبطان المعاداة) أهـ.
* وقال الشنقيطي (أما عند الخوف والتقية فيرخَّص في موالاتهم بقدر المداراة التي يُكتفى بها شرهم، ويشترط في ذلك سلامة الباطن من تلك الموالاة) (أضواء البيان) 2/ 111.
ب ــ وأما الذين قالوا إن التقية هى إخفاء معاداة الكفار أو إظهار المداراة لهم.
* قال ابن حجر رحمه الله (التقية: الحذر من إظهار مافي النفس من معتقد وغيره للغير) (فتح الباري) 12/ 314. وهذا يبين أن التقية مجرد حَذَر لا موالاة.(7/279)
* وقال ابن القيم رحمه الله (ومعلوم أن التقاة ليست بموالاة ولكن لما نهاهم الله عن موالاة الكفار اقتضى ذلك معاداتهم والبراءة منهم ومجاهرتهم بالعدوان في كل حال، إلا إذا خافوا من شرهم فأباح لهم التقية، وليست التقية بموالاة) (بدائع الفوائد) لابن القيم، 3/ 69. وهذا كلام واضح في أن التقية شيء غير الموالاة.
* وقال الشيخ عبداللطيف بن عبدالرحمن آل الشيخ (ومسألة إظهار العداوة غير مسألة وجود العداوة، (فالأول) يعذر به مع الخوف والعجز لقوله تعالى «إلا أن تتقوا منهم تقاة»، (والثاني) لابد منه لأنه يدخل في الكفر بالطاغوت، وبينه وبين حبِّ الله ورسوله تلازم كُليِّ لاينفك عن المؤمن) (الرسائل المفيدة) للشيخ عبداللطيف، جمع سليمان بن سحمان صـ 284. يريد الشيخ أن وجود معاداة الكفار في قلب المؤمن وإظهار هذه المعاداة للكفار واجبان، والواجب الأول ــ وهو وجود العداوة ــ لابد منه في كل حال، أما الآخر ــ وهو إظهار العداوة ــ فيجوز تركه عند الخوف منهم للآية المذكورة. فعُلِمَ بذلك أن التقية عند الشيخ عبداللطيف إنما تجيز إخفاء معاداة الكفار، وهو نفس كلام ابن القيم، وهو يرجع إلى ما ذكره ابن حجر من أن التقية الحذر من إظهار مافي النفس، وهو هنا معاداة الكفار، فالتقية إخفاء معاداة الكفار.
* وقال القرطبي رحمه الله ــ في بيان معنى التقية ــ (قال ابن عباس: هو أن يتكلم بلسانه وقلبه مطمئن بالإيمان ولايقتل ولايأتي مأثما. وقال الحَسَن: التقية جائزة للإنسان إلى يوم القيامة ولاتقية في القتل. وقرأ جابر بن زيد ومجاهد والضحاك «إلا أن تتقوا منهم تقيَّة». وقيل إن المؤمن إذا كان قائما بين الكفار فله أن يداريهم باللسان إذا كان خائفاً على نفسه وقلبه مطمئن بالإيمان. والتقية لاتحل إلا مع خوف القتل أو القطع أو الايذاء العظيم) (تفسير القرطبي) 4/ 57.(7/280)
* وقال ابن كثير رحمه الله (وقوله تعالى «إلا أن تتقوا منهم تقاة» أي من خاف في بعض البلدان والأوقات من شرهم فله أن يتقيهم بظاهره لا باطنه ونيته، كما قال البخاري عن أبي الدرداء أنه قال «إنا لنُكْشِرُ في وجوه أقوام وقلوبنا تلعنهم». وقال الثوري: قال ابن عباس: ليس التقية بالعمل إنما التقية باللسان، وكذا رواه العوفي عن ابن عباس: إنما التقية باللسان، وكذا قال أبو العالية وأبو الشعثاء والضحاك والربيع بن أنس، ويؤيد ماقالوه قول الله تعالى «من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكرِه وقلبه مطمئن بالإيمان». وقال البخاري: قال الحسن: التقية إلى يوم القيامة.) (تفسير ابن كثير) 1/357. ومعنى (نُكْشِر) ــ في قول أبي الدرداء ــ أي نَضحك.
* وقال البغوي رحمه الله (نهى الله المؤمنين عن موالاة الكفار ومداهنتهم ومباطنتهم إلا أن يكون الكفار غالبين ظاهرين، أو يكون المؤمن في قوم كفار فيخافهم فيداريهم باللسان وقلبه مطمئن بالإيمان دفعاً عن نفسه من غير أن يستحل دماً حراماً أو مالاً حراماً، أو يُظهر الكفار على عورة المسلمين. والتقية لاتكون إلا مع خوف القتل وسلامة النية، قال تعالى «إلا من أُكرِه وقلبه مطمئن بالإيمان». ثم هذه رخصة فلو صَبَر حتى قُتِل فله أجر عظيم) (تفسير البغوي) 1/ 336.(7/281)
فهذه أقوال الفريقين من العلماء: من قال إن التقية هى الموالاة الظاهرة، ومن قال إنما هى مجرد إخفاء العداوة أو إظهار المداراة بملاينة الكفار، فأيهما صواب؟. والصواب هو قول الفريق الثاني والدليل على ذلك قوله تعالى (ياأيها الذين آمنوا لاتتخذوا اليهود والنصارى أولياء، بعضهم أولياء بعض، ومن يتولهم منكم فإنه منهم، إن الله لايهدي القوم الظالمين، فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة) المائدة 51 ــ 52. فهؤلاء المذكورن في الآىة حَكَمَ الله بكفرهم بموالاتهم الكفار (فإنه منهم) رغم خوفهم (نخشى أن تصيبنا دائرة)، فبيَّن الله تعالى في هذه الآية أن مجرد الخوف من أذى الكفار إذا ظهروا على المؤمنين ليس بعذر في المسارعة إلى موالاتهم، ولو كان الخوف يُرخص في الموالاة لما أكفرهم الله. فإذا كان الخوف يرخص في التقية ولايرخص في الموالاة، عُلِمَ بذلك أن التقية غير الموالاة، كما قال ابن القيم ــ في كلامه المنقول آنفا ــ (وليست التقية بموالاة) أهـ.
والخلاصة:
* أن الخوف (وهو الأذى المتوقَّع من الكفار) يرخِّص في التقية بإخفاء معاداتهم أو بمداراتهم.
* أما الإكراه (وهو الأذى الواقع فعلا من الكفار) فيرخِّص في الموالاة الظاهرة التي هى نوع من الكفر الأكبر مع اطمئنان القلب بالإيمان. فمن أظهر الموالاة للكفار دون إكراه ملجيء حكمنا بكفره.(7/282)
وقد خلط بعض المفسرون بين الخوف والإكراه فيما نقلته عنهم آنفا، واستدلوا للتقية بآية الإكراه (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان). ومن هنا تساهل بعضهم في اعتبار التقية موالاة ظاهرة باعتبار أنها مما يرخص فيه الإكراه. والتحقيق الذي يدل عليه ظاهر الآيات هو ماذكرته لك في الخلاصة السابقة من أن التقية غير الموالاة ومن أن الخوف غير الإكراه. وإذا ظهر أن التقية شيء غير الموالاة ــ كما قال ابن القيم ــ فإن آيات سورة آل عمران التي استدل بها المؤلف ــ وهى قوله تعالى «لايتخذ المؤمنون الكافرين أولياء ــ إلى قوله ــ إلا أن تتقوا من منهم تقاة» ــ يكون معناها: لاتوالوهم ولكن اتقوهم واحذروهم عند الخوف منهم، وهذا ماذكره البغوي والقرطبي وابن كثير في تفسير الآية.
وبهذا تعلم أن قول مؤلف (الرسالة الليمانية) (ثم بيَّن إباحة المَوْلى سبحانه للنوع الأول ــ وهو الموالاة الظاهرة ــ حال التقية) أهـ (صـ 15) أن قوله هذا خطأ، وأن الموالاة الظاهرة لايرخص فيها إلا الإكراه، فمن والى الكفار ظاهراً بغير إكراه حكمنا بكفره. وقد تكلمت في الإكراه في آخر القسم الثاني عقب بيان حكم أنصار الطواغيت وذكرت أنه لايلزمنا البحث فيه كمانع لكونهم ممتنعين، وأنه غير متحقق في أغلبهم على الحقيقة.(7/283)
7 ــ وفي صـ 15، ذكر مؤلف (الرسالة الليمانية) أن شيخ الإسلام ابن تيمية ذكر أن التشبه بالكفار يصل إلى أن يكون من الكبائر أو كفراً بحسب الأدلة الشرعية، وأنه من صور الموالاة، هذا حاصل قوله. والذي قال إن التشبه من صور الموالاة هو المؤلف لاشيخ الإسلام، أما شيخ الإسلام فقد ذكرت من قبل أنه قال إن التشبه بالكفار ذريعة أو سبب إلى الموالاة، وقال أيضا إنه مظنة المودة، انظر (اقتضاء الصراط المستقيم) صـ 48 و 218 ــ 220، ط المدني. والمؤلف أراد أن التشبه بهم وهو موالاة ظاهرة ليس كفراً فتكون الموالاة الظاهرة غير مكفرة بذاتها، وقد بيَّن شيخ الإسلام أن التشبه ليس موالاة في ذاته، كما بيَّن أن التشبه نفسه قد يكون كفراً، فبطلت بذلك المقدمتان اللتان بنى عليهما المؤلف حكمه.
هذه أقوال العلماء التي استدل بها على أن الموالاة الظاهرة غير مكفرة مالم تقترن بها موالاة قلبية، وقد أبطلنا مااستدل به، ثم شرع في الاستدلال على نفس القضية ببعض النصوص الشرعية.(7/284)
8 ــ فبدأ في صـ 17 بذكر حديث حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه، والحديث متفق عليه، وفي رواية للبخاري قال: حدثنا الحميدي حدثنا سفيان حدثنا عمرو بن دينار قال حدثني الحسن بن محمد بن علي أنه سمع عُبيد الله بن أبي رافع كاتِب عَلِيّ يقول: سمعتُ عليا رضي الله عنه يقول: (بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد قال: انطلقوا حتى تأتوا روضة خَاخ، فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها، فذهبنا تعادي بنا خيلنا حتى أتينا الروضة، فإذا نحن بالظعينة، فقلنا: أخرجي الكتاب، فقالت: مامعي من كتاب، فقلنا: لتُخرِجنَّ الكتاب أو لنُلقِيَنَّ الثياب، فأخرجته من عقاصها، فأتينا به النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا فيه من حاطب بن أبي بلتعة إلى أناس من المشركين ممن بمكة يخبرهم ببعض أمر النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ماهذا ياحاطب؟، قال لا تعجل عَلَيَّ يا رسول الله، إني كنت امرءاً من قريش ولم أكن من أنفسهم، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها أهليهم وأموالهم بمكة، فأحببت إذ فاتني من النسب فيهم أن أصطنع إليهم يداً يحمون قرابتي، ومافعلت ذلك كُفْراً ولا ارتداداً عن ديني، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنه قد صدقكم، فقال عمر: دعني يارسول الله فأضرب عنقه، فقال: إنه شهد بدراً، ومايدريك لعل الله عزوجل اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ماشئتم فقد غفرت لكم) قال عمرو: ونزلت فيه (ياأيها الذين آمنوا لاتتخذوا عدوي وعدوكم أولياء) الحديث (4890). وفي رواية لمسلم (ولم أفعله كفراً ولا ارتداداً عن ديني ولا رضا بالكفر بعد الإسلام).(7/285)
قال مؤلف (الرسالة الليمانية) في صـ 18 (في هذا الحديث دلالة على أن حاطباً ــ رضي الله عنه ــ قد أتى بفعل من أفعال الموالاة للمشركين وذلك بنص الآىة «ياأيها الذين آمنوا لاتتخذوا عدوي وعدوّكم أولياء» وفيه نزلت، كما يدل الحديث على أنه لم يكفر بموالاته هذه، وذلك بنص قول النبي صلى الله عليه وسلم لعمر «صَدَق»، يعني صدق في قوله «ولم أفعله كفراً ولا ارتداداً عن ديني، ولا رضاً بالكفر بعد الإسلام»، ينتج من ذلك الدليل البيِّن على أن موالاة حاطب كانت موالاة ظاهرية فَعَلها لغرض دنيوي وقلبه مطمئن بالإيمان، ولو كانت موالاة بالباطن لكَفَر، وذلك يستحيل بقول النبي صلى الله عليه وسلم «صدق» ولمخاطبة الله له بقوله سبحانه «ياأيها الذين آمنوا لاتتخذوا» الآىة فلم يُسْلَب اسم الإيمان) أهـ. وقال أيضا في صـ 21 (وذلك لأن حاطباً لما أتى فعلاً من أفعال الموالاة، وكان عقده سليما لم يُحكم بكفره، والسبب في ذلك سلامة باطنه وهذا مايُقصد به: الموالاة الظاهرية دون الباطنية، إذ لو اجتمع رضا القلب بما فَعَله مع فِعْله لكانت موالاته موالاة باطنية وهى التي يجتمع فيها الظاهر مع الباطن، والتي يكفر صاحبها بعد اعتبار حاله) أهـ. أما قوله إن حاطباً فعل ماهو موالاة ظاهرة للمشركين وأنه لم يكفر بذلك فصحيح.
وأما تعليله لعدم كفره: بأنه فعل الموالاة الظاهرة لغرض دنيوي مع انتفاء الموالاة القلبية فخطأ، وأن الموالاة الظاهرة مجردة من الموالاة الباطنة غير مكفرة فخطأ وسنفصّل هذا إن شاء الله.
وكذلك قوله إن المخاطبة بياأيها الذين آمنوا ــ في أول سورة الممتحنة ــ تدل على عدم كفره، فهذا خطأ، ونَسَبَهُ المؤلف أيضا في صـ 19 للشيخ سليمان بن سحمان و قد أخطأ أيضا، فإن المخاطبة باسم الإيمان لا تدل على عدم كفر المخاطبين، بل يجوز أن يوصف الشخص بسابق حاله ولو انتقل عنه و مثاله:(7/286)
* قوله صلى الله عليه وسلم (لايحل دم امريء مسلم إلا بإحدى ثلاث...) ومنها (التارك لدينه) الحديث متفق عليه. والتارك لدينه هو المرتد ووصفه في أول الحديث بالإسلام باعتبار سابق حاله، وفي هذا قال ابن حجر (وفي الحديث جواز وصف الشخص بما كان عليه ولو انتقل عنه لاستثنائه المرتد من المسلمين، وهو باعتبار ماكان) (فتح الباري) 12/ 204.
* ومثاله أيضا قوله صلى الله عليه وسلم (ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين) وذكر منهم (ورجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي) الحديث متفق عليه. فوصفه بأنه من أهل الكتاب مع أنه أسلم بدلالة قوله (وآمن بي) صلى الله عليه وسلم فقوله (ورجل من أهل الكتاب) من باب تسميته بسابق حاله. ومصداق هذا الحديث من كتاب الله قوله تعالى (وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وماأنزل إليكم) الآية آل عمران 199، ومثلها آية المائدة (الذين قالوا إنا نصارى ــ إلى قوله تعالى ــ يقولون ربنا آمنا) المائدة 82 ــ 83.
* ومثاله قوله تعالى (ياأيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه) المائدة 54، فهل الخطاب بالإيمان يمنع من ارتداد بعضهم؟ وكذلك قوله تعالى في صدر سورة الممتحنة (ياأيها الذين آمنوا لاتتخذوا عدوي وعدوكم أولياء ــ إلى قوله ــ ومن يفعله منكم فقد ضلّ سواء السبيل) فلا يمنع الخطاب بالإيمان من كفر بعض المخاطبين، ويكون وصفهم بالذين آمنوا من باب وصف الشخص بسابق حاله كما أثبتناه. هذا مع الاتفاق على أن حاطباً لم يكفر، ولكني أردت التنبيه على خطأ الاستدلال على عدم كفره بالمخاطبة باسم الإيمان فلا دلالة فيه على ذلك خاصة وأنه خطاب عام فـ (الذين آمنوا) من صيغ العموم اللفظي لأنه اسم موصول. وذلك بخلاف مالو كان الخطاب خاصاً به كما في قوله تعالى (وعلى الثلاثة الذين خُلِّفوا) التوبة 118، وقوله تعالى (إذ هَمَّت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما) آل عمران 122.(7/287)
أما استدلال المؤلف بعدم كُفْر حاطب رضي الله عنه على أن الموالاة الظاهرة غير مكفرة مالم تقارنها موالاة قلبية، فاستدلال فاسد، وهذا بيانه:
أ ــ لا خلاف في أن مافعله حاطب موالاة ظاهرة للمشركين، بنص قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا لاتتخذوا عدوي وعدوّكم أولياء تلقون إليهم بالمودّة) الممتحنة 1، وفيه نزلت.
ب ــ ولا خلاف في أن الموالاة الظاهرة للمشركين كفر أكبر بدون أن تقارنها موالاة قلبية، وقد أقمنا الدليل على ذلك من قبل بالكتاب والسنة والإجماع، أما الكتاب فقوله تعالى (ومن يتولهم منكم فإنه منهم) وأن ما قام بقلوبهم هو الخوف لا الرضا عن الكفار ودينهم، وأما السنة فحكم النبي صلى الله عليه وسلم على عمه العباس بحكم الكفار بسبب مظاهرته المشركين على المسلمين، وأما الإجماع فإجماع الصحابة على تكفير أنصار أئمة الردة. وأسهبت في بيان هذا في القسم الثاني (بيان حكم أنصار الطواغيت) وفي نقدي السابق لقول المؤلف أنه لايكفر أحد بالموالاة الظاهرة وأن هذا هو قول غلاة المرجئة. وهذا يكفي في بيان أن مافعله حاطب كفر، وهو نفسه كان يعلم أن فعله هذا كفر ولكنه نفاه عن نفسه فقال (وما فعلت ذلك كفراً ولا ارتداداً عن ديني ولا رضا بالكفر بعد الإسلام) من رواية مسلم، ووصفه عمر بن الخطاب أيضا بذلك كما ذكره ابن حجر قال (وفي حديث ابن عباس «قال عمر فاخترطت سيفي وقلت: يارسول الله أَمْكِنّي منه فإنه قد كفر» قال ابن حجر: إسناده صحيح) (فتح الباري) 12/ 309، وحديث ابن عباس هذا أخرجه الطبري. وهذا كله في بيان أن مافعله حاطب كُفر.(7/288)
هذا وليس في قول النبي صلى الله عليه وسلم (إنه قد صدق) دليل على أن مافعله حاطب ليس كُفْراً، فإن فعلَه كُفْرٌُ بالكتاب والسنة وبالإجماع على كُفْر من ظاهر الكفار على المسلمين، فَوَجَب بذلك أن ينصرف تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أمر ٍ آخر وهو مطابقة قول حاطب لاعتقاده، لامطابقة قوله للواقع والحقيقة فإن الكتاب والسنة والإجماع بخلاف ذلك. وهذا الكلام بحاجة إلى بيان، وبيانه أن الصدق في الخبر هل يُطلق على مطابقة قول المُخبِر لاعتقاده صواباً كان أو خطأ أم يُطلق على مطابقة قول المُخبِر للواقع المُخبَر عنه؟. والمسألة فيها قولان ويبينها المثال التالي: فلو أن أعمى نظر إلى المصباح المضيء فقال أرى ظُلمة. فعلى القول الأول ــ وهو مطابقة قوله لاعتقاده ــ هو صادق وإن أخطأ، وعلى القول الثاني ــ وهو مطابقة قوله للواقع ــ هو كاذب. وكل من القولين يقول به بعض العلماء، والمسألة من مسائل علم المعاني وأشار إليها الخطيب القزويني في كتابه (الإيضاح في علوم البلاغة) صـ 18، ط دار الكتب العلمية 1405هـ، والحق أن كِلا القولين صواب ــ وإن كان الثاني هو المشهور ــ وقد يجتمعان أو ينفردان، فالصدق قد يطلق على مطابقة قول المُخبر لاعتقاده، وقد يُطلق على مطابقة قوله للواقع، وقد يطلق على مطابقة قوله لاعتقاده وللواقع معاً وهذا هو الصدق التام، والذي يعين المراد منها السياق والقرائن وأمثلة ذلك من التنزيل:
* قوله تعالى (إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون) المنافقون 1، فأكذبهم الله من جهة مخالفة قولهم لاعتقادهم فقط ــ لأنهم لايعتقدون أنه رسول الله ــ وإن كان قولهم مطابقا للواقع وأنه رسول الله حقاً، فيظهر من ذلك أن الصدق والكذب في هذا المثال متعلق بمطابقة قول المخبِر لاعتقاده لا مطابقته للواقع والحقيقة.(7/289)
* وقوله تعالى ــ عن قول سليمان عليه السلام للهدهد ــ (قل سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين) النمل 27، فالمراد بالصدق هنا مطابقة قولِه للواقع المُخبَر عنه، كما يدل عليه سياق الآيات.
* وقوله تعالى (قل ياأيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا) الأعراف 158، فهذا خبر صادق من الرسول صلى الله عليه وسلم، وصِدْقُه من الوجهين: من جهة مطابقة القول لاعتقاده ومن جهة مطابقته للواقع، فهو صلى الله عليه وسلم يعتقد أنه رسول الله ــ هذا من جهة اعتقاده ــ، وهو رسول الله حقاً ــ وهذا من جهة الواقع ــ.
فهذه الأمثلة تبين الفرق بين تصديق المخبِر من جهة مطابقة قوله لاعتقاده ومن جهة مطابقة قوله للواقع، وأنه لاتلازم بين الجهتين فقد يجتمعان وقد ينفردان.
وبتطبيق هذا على تصديق النبي صلى الله عليه وسلم لحاطب رضي الله عنه، نجد أن حاطبا أخبر بأمرين: بأنه فعل ما فعل ليحمي قرابته بمكة وأنه لم يفعله كفراً، وقال النبي صلى الله عليه وسلم إنه قد صدقه في قوله، فهل صدقه من جهة مطابقة قوله لاعتقاده أم من جهة مطابقته للواقع أم من الجهتين معا؟ والذي يعين المراد هنا النظر في القرائن والأدلة الأخرى.
فقوله إنه لم يفعل مافعل من موالاة الكفار كفراً ولا ارتداداً عن الدين أي لم يفعله بقصد الكفر، صِدْقهُ هنا هو من جهة مطابقة قوله لمعتقده وأنه لم يقصد الكفر، وليس من جهة مطابقته للواقع من أن موالاة الكفار ليست كفراً، والدليل على انصراف صِدْقُه للجهة الأولى دون الثانية دلالة الكتاب والسنة والإجماع على أن موالاة الكفار بمظاهرتهم على المسلمين ــ كما فعل حاطب ــ كفر، فثبت أن قوله بخلاف الواقع والحقيقة وإن وافق معتقده.(7/290)
وأما اعتذاره عن فعله بخوفه على قرابته، فهو صادق في اعتذاره وأن هذا هو الذي حمله على ما فعل، فصِدْقه هنا من جهة مطابقة قوله لاعتقاده، لا من جهة مطابقته للواقع والحقيقة، وذلك لقيام الدليل على أن مجرد الخوف ــ دون وقوع إكراه ملجيء ــ لايرخّص في الكفر الذي هو هنا موالاة الكفار.
فثبت بالنظر في القرائن والأدلة الأخرى أن تصديق النبي صلى الله عليه وسلم لحاطب هو من جهة موافقة قوله لمعتقده لامطابقته للواقع، وعلى هذا فتصديق النبي صلى الله عليه وسلم له ليس تصويباً لمقالته ولايدل على أن مافعله ليس كفراً كما لا يدل على أن عذره صحيح معتبر شرعاً.
وهذا كله في بيان أن مافعله حاطب رضي الله عنه كُفْر، وذكره شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب في نواقض الإسلام وهو مظاهرة المشركين على المسلمين. والمظاهرة تكون بالقتال معهم كما فعله العباس رضي الله عنه أو بالدلالة على عورات المسلمين كما فعله حاطب رضي الله عنه، وبهذا وصفه عمر كما قال ابن حجر (وزاد الحارث «فقال عمر بلى ولكنه نكث وظاهر أعداءك عليك») (فتح الباري) 12/ 309، ورواية الحارث هذه أخرجها الطبري وابن أبي حاتم. ونقلت قبل ذلك قول الشيخ حمد بن عتيق النجدي (إن مظاهرة المشركين ودلالتهم على عورات المسلمين أو الذب عنهم بلسان ٍ أو رضى بما هم عليه، كل هذه مُكَفِّرات ممن صدرت منه من غير الإكراه المذكور فهو مرتد، وإن كان مع ذلك يُبْغض الكفار ويحب المسلمين) (الدفاع عن أهل السنة والاتّباع) له، صـ 32، ط دار القرآن الكريم 1400هـ.(7/291)
هذا وقد جاء في مجلة (المرابطون) التابعة لنفس الجماعةالصادر عنها كتاب (الرسالة الليمانية) قولهم (ولا التفات لما يردده بعض الجهال من أن حاطباً أتى كُفراً ولكن غُفِرَ له لأنه من أهل بدر، فإن الله لايغفر أن يُشرك به ويغفر مادون ذلك لمن يشاء، وقد عَصَم الله أهل بدر فلم يقعوا في الشرك، هذا فضلاً عن أن النص واضح في تصديق الرسول له لما قال إنه لم يفعل ذلك كفراً ولا ارتداداً) أهـ مجلة (المرابطون) عدد 6، ربيع أول 1411هـ، صـ 40، ولمؤلف الرسالة الليمانية كلام قريب من هذا في صـ 21 ــ 22. وأقول: ذلك مبلغهم من العلم، وأعلّق على مقالتهم بما يلي:
* أما إن حاطباً أتى كفراً، فهذا هو الصواب بالكتاب والسنة والإجماع فيمن ظاهر الكفار على المسملين.
* وأما تصديق النبي صلى الله عليه وسلم له، فقد سبق القول في أنه تصديق لقوله ليس تصويباً لمقالته. أي أنه صدق في مطابقة قوله لمعتقده لا في مطابقته للواقع والحقيقة.
* وأما أنه غُفِرَ له لأنه من أهل بدر، فهو لم يكفر حتى يُغفر له الشرك، وهذا الفرق بين التكفير المطلق وتكفير المعيَّن، فهو أتى كُفراً لكنه لم يكفر لقيام مانع من التكفير في حقه، وليس المانع هنا شهوده بدراً، ولكنه شيء آخر يأتي بيانه إن شاء الله.
* وأما استدلالهم بقوله تعالى (إن الله لا يغفر أن يُشرك به) فهذا في حق الميت لا الحي، أي لايغفر لمن مات مشركاً، وهذا محل إجماع، أما الحي فيُغفر له كل شيء بالتوبة، الشرك ومادونه ــ بدرياً كان أو غير بدري، ولكن الله عصم البدريين من الشرك ــ كما قال تعالى (قل للذين كفروا إن ينتهوا يُغفر لهم ما قد سلف) الأنفال 38، والآيات في غفران الكفر بالتوبة كثيرة كما في آخر الفرقان وكما في آية الزمر.
وبعد بيان أن مافعله حاطب من الموالاة الظاهرة كفرٌُ، وهو التكفير المطلق المنزّل على السبب المجرد، نذكر المانع الذي منع من تكفيره كمعيّن.(7/292)
جـ ــ أما هذا المانع فهو العذر الذي اعتذر به وهو خوفه من الكفار على أهله وماله بمكة، وظن حاطب أن هذا العذر يرخّص له فيما أقدم عليه، وعذره هذا غير معتبر شرعاً، فقد سبق بيان أن مجرد الخوف من الكفار ــ دون وقوع إكراه ــ لايرخص في الموالاة المكفرة التي فعل، ولهذا عاتبه الله تعالى في نفس السورة بقوله (لن تنفعكم أرحامُكم ولا أولادكم، يوم القيامة يفصل بينكم) الممتحنة 3. قال الشيخ سليمان بن عبدالله بن محمد عبدالوهاب في رسالته (حكم موالاة أهل الإشراك) (ثم ذكر تعالى شبهة من اعتذر بالأرحام والأولاد فقال «لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم، يوم القيامة يفصل بينكم، والله بما تعملون بصير» ــ الممتحنة 3 ــ فلم يعذر تعالى من اعتذر بالأرحام والأولاد والخوف عليها ومشقة مفارقتها، بل أخبر أنها لاتنفع يوم القيامة، ولاتغني من عذاب الله شيئا، كما قال في الآية الأخرى «فإذا نُفِخَ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولايتساءلون» ــ المؤمنون 101 ــ) أهـ من (مجموعة التوحيد) صـ 353، ط دار الفكر 1399 هـ. وقد تأوّل حاطب رضي الله عنه أن خوفه من الكفار على أهله وماله يرخّص له فيما فعل، ولكنه كان مخطئا في تأوّله فقد عاتبه الله في ذلك كما تدل عليه الآية السابقة بما يدل على أنه كان مخطئاً. وهذا الخطأ في التأوّل هو المانع من تكفيره، كما كان الخطأ في التأول مانعا من تكفير قدامة بن مظعون رضي الله عنه وهو من أهل بدر أيضا لما شرب الخمر ظاناً إباحتها متأولا في ذلك قوله تعالى (ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طَعِموا إذا مااتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات) المائدة 53، حتى قال له عمر رضي الله عنه: أخطأت استك الحفرة، وقال له: لو اتقيت الله ماطعمتها. وقد ذكرت قصته ومواضعها في كتب العلم في التنبيه الهام المذكور بتعليقي على العقيدة الطحاوية (فيما يشترط للتكفير به من الذنوب أن يكون فاعلها جاحداً أو مستحلاً ومالا يشترط(7/293)
فيه ذلك). فكما منع الخطأ في التأويل من تكفير قدامة منع أيضا تكفير حاطب وكلاهما بدري، وقد قال تعالى (وليس عليكم جُناح فيما أخطأتم به) الأحزاب 5.
وفي بيان عذر حاطب قال ابن حجر (وعذر حاطب ما ذكره، فإنه صَنَع ذلك متأولاً أن لا ضرر فيه) (فتح الباري) 8/ 634، يشير ابن حجر إلى ماورد في بعض ألفاظ الحديث وفيه قال حاطب (وعلمت أن ذلك لا يضرك) أشار إليها ابن تيمية في (مجموع الفتاوى) 35/ 67. وفي بيان عذر حاطب أيضا قال ابن كثير (وقال تعالى «لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين، ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه» ولهذا قَبِل رسول الله صلى الله عليه وسلم عذر حاطب لما ذَكَر أنه إنما فعل ذلك مصانعة لقريش لأجل ماكان له عندهم من الأموال والأولاد) (تفسير ابن كثير) 4/ 347، أراد ابن كثير أن يقول إن حاطباً ظن أن مافعله يدخل في باب التقية الجائزة عند الخوف. وقد أخطأ فإن ما فعله موالاة مكفرة لايرخص فيها الخوف كما قال تعالى (ومن يتولهم منكم فإنه منهم ــ إلى قوله ــ يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة) المائدة 51 ــ 52، فأكفرهم الله بموالاة الكفار رغم اعتذارهم بالخوف، ولم يكذّبهم الله في عذرهم هذا، فعُلِمَ بذلك أن الخوف لايرخص في موالاة الكفار، وعُلِمَ بذلك أن حاطباً أخطأ في ظنه أن الخوف على أهله وماله يرخّص له فيما أقدم عليه من موالاة الكفار.(7/294)
وفي بيان أن من أخطأ في التأوّل لايُحكم بكفرِه ــ إذا كان قد أقدم بتأوّله على فعل المكفّرات ــ حتى يبيّن له، فإن أصرّ بعد البيان حُكم بكفره، قال ابن تيمية رحمه الله (فإذا كان المتأول المخطيء في تلك لايُحكم بكفره إلا بعد البيان له واستتابته ــ كما فعل الصحابة في الطائفة الذين استحلوا الخمر ــ ففي غير ذلك أولى وأحرى) (مجموع الفتاوى) 7/619، وقال ابن تيمية أيضا (أما الفرائض الأربع فإذا جحد وجوب شيء منها بعد بلوغ الحجة فهو كافر، وكذلك من جحد تحريم شيء من المحرمات الظاهرة المتواتر تحريمها كالفواحش والظلم والكذب والخمر ونحو ذلك. وأما من لم تقم عليه الحجة مثل أن يكون حديث عهد بالإسلام أو نشأ ببادية بعيدة لم تبلغه فيها شرائع الإسلام ونحو ذلك، أو غلط فظن أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يستثنون من تحريم الخمر، كما غلط في ذلك الذين استتابهم عمر، وأمثال ذلك. فإنهم يستتابون وتقام الحجة عليهم، فإن أصروا كفروا حينئذ ولايُحكم بكفرهم قبل ذلك كما لم يَحكم الصحابة بكفر قدامة بن مظعون وأصحابه لما غلطوا فيما غلطوا فيه من التأويل) (مجموع الفتاوى) 7/ 609 ــ 610.(7/295)
فإن قيل: إذا كان المتأوِّل المخطيء يجب أن يُستتاب ويُبيَّن له، فلم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم استتاب حاطبا؟، فالجواب: أنه قد سبق في شرح قاعدة التكفير بيان أن الاستتابة وإن كان معناها في الأصل طلب التوبة ممن حُكم بردته وكُفره، إلا أنها صارت تطلق في عرف العلماء على ما قبل الحكم بالردة من تبين الشروط وانتفاء الموانع في المعين الذي فعل فعلا مكفراً، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم تبين حال حاطب وقال له (ماهذا ياحاطب) فأبدى عذره الذي اعتُبر مانعا من تكفيره، أما تعريف حاطب بفُحش مافعله وبخطئه فيما اعتذر به فهذا قد تكفل الله تعالى به فيما أنزله في حاطب من أول سورة الممتحنة، ويكفي ببيان الله بياناً، وقد قال تعالى في هذه الآيات (ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل) هذا في بيان فُحش مافعله، وقال تعالى (لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم يوم القيامة يفصل بينكم) وهذا في بيان خطئِه فيما اعتذر به، أَنَّ خوفه على أهله وولده لايرخص له فيما أقدم عليه، فهم لن ينفعوه شيئا إذا سخط الله عليه بفعله.
د ــ فإذا كان من فعل مكفراً متأولاً لم يحكم بكفره لعذره بالتأول، فهل تجب عليه عقوبة بعد ذلك؟. والجواب: إن عقوبته تعتمد على نوع معصيته وهل هى من المعاصي الحدّية (أي التي فيها حد من الحدود، وهى العقوبة المقدّرة شرعاً حقاً لله تعالى) فيجب إقامة الحد، أم أنها من المعاصي غير الحدية؟ والمعاصي غير الحدية يُعاقب عليها بالتعزير وهذا يتدرج من التوبيخ إلى القتل بقدر مايندفع به الشر والفساد كما حققه شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالة (السياسة الشرعية)، وهذا يرجع إلى اجتهاد الإمام أو الحاكم (أي القاضي). ويتبيّن الفرق بين النوعين بضرب مثال لكل منهما: ــ(7/296)
فقدامة بن مظعون وحاطب بن أبي بلتعة كلاهما فعل ماهو كُفْر متأولا فلم يكفر، فقدامة استحل شرب الخمر متأولا آية المائدة (ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا)، وحاطب وَالَى الكفار وظاهرهم على المسلمين متأولا أن له عذراً في ذلك وأنه لن يضر المسلمين. ومع أنهما لم يَكْفُرا بذلك إلا أن قدامة أقيم عليه حَدّ شرب الخمر، وحاطب عُفِيَ عنه، مع أن كلاهما شهد بدراً، فما الفرق؟.
والفرق: هو أن معصية قدامة حدّية ــ وهى شرب الخمر ــ فلم يسقط عنه الحد بشهوده بدراً، والذي أقام عليه الحد عمرُ في خلافته، كما أقام النبي صلى الله عليه وسلم حَدّ القذف على مسطح بن أثاثة ــ وهو بدري ــ لما شارك في حادثة الإفك، في حين أن معصية حاطب تعزيرية تقبل العفو والإسقاط من الإمام فأسقطها النبي صلى الله عليه وسلم بسبب سابقته وشهوده بدراً، وهذا من باب ماوري عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال (أقيلوا ذوي الهىئات عثراتهم إلا الحدود) رواه أحمد وأبو داود والنسائي والبيهقي عن عائشة، وذوو الهيئات هم الذين لا يُعرفون بالشر، كما ذكره ابن الأثير في (النهاية) 5/ 285. وفي بيان الفرق بين النوعين من المعاصي الحدية وغير الحدية قال ابن حجر رحمه الله (وقد استشكلت إقامة الحد على مسطح بقذف عائشة رضي الله عنها كما تقدم مع أنه من أهل بدر، فلم يُسامَح بما ارتكبه من الكبيرة وسومح حاطب وعُلل بكونه من أهل بدر؟، والجواب: ماتقدم في باب «فضل من شهد بدر» أن محل العفو عن البدري في الأمور التي لاحَدّ فيها) (فتح الباري) 12/ 310، وفي الباب المشار إليه قال ابن حجر (واتفقوا على أن البشارة المذكورة فيما يتعلق بأحكام الآخرة، لا بأحكام الدنيا من إقامة الحدود وغيرها) (فتح الباري) 7/ 306. والبشارة المقصودة هى مغفرة الذنوب للبدريين.
وألخّص ما قلته في حديث حاطب رضي الله عنه فيما يلي.(7/297)
* أن حاطبا رضي الله عنه وَالَى الكفار وظاهرهم على المسلمين، وفيه نزلت (ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء) الممتحنة 1.
* أن موالاة الكفار كفر دون اشتراط أن تقارنها موالاة قلبية كما زعم مؤلف (الرسالة الليمانية)، لقوله تعالى (ومن يتولهم منكم فإنه منهم ــ إلى قوله ــ يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة) المائدة.
* يتحصل من هذا أن حاطبا أتى كفراً ليس معصية كما زعم المؤلف وغيره.
* ولكن حاطبا لم يكفر لقيام مانع من التكفير في حقه وهو التأوّل ــ وإن أخطأ فيه ــ وليس المانع هو شهوده بدراً كما ظنه البعض.
* وأن هذا المانع وإن منع من تكفيره لم يمنع من استحقاقه العقاب تعزيراً، ولهذا راجع عمرُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم في قتله مرة ثانية، ومنع من ذلك شهوده بدراً، ولهذا كان مذهب طوائف من العلماء قتل الجاسوس وأنه راجع إلى رأي الإمام، ذكره ابن القيم في فوائد غزوة فتح مكة في (زاد المعاد) جـ 2 صـ 170 و جـ 3/ 215، ط المكتبة العلمية ببيروت، وفي (بدائع الفوائد) 4/ 128، ط دار الكتاب العربي، وذكره ابن حجر في (فتح الباري) 8/ 635، كما قال بعض العلماء بكفر الجاسوس المنتسب للإسلام وأن هذه زندقة، انظر المراجع السابقة.
وبهذا ترى أن حاطباً رضي الله عنه قام في حقه مانعان:
الأول: مانع من تكفيره: وهو التأوّل وإن أخطأ فيه، تماما كما وقع لقدامة بن مظعون.
والآخر: مانع من تعزيره: وهو شهوده بدراً.(7/298)
هذا هو تحقيق القول الذي تشهد له الأدلة الشرعية مجتمعة في قصة حاطب، وقد وردت خلافات كثيرة في استنباطات العلماء من هذه القصة وهى مثبتة في التفاسير والشروح الحديثية وقد أعرضت عن ذكرها إلا ماشهدت له الأدلة، وقد قال تعالى (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً) النساء 82. وقد قال الأستاذ عبدالمجيد الشاذلي في كتابه (حد الإسلام) إن موالاة الكفار كلها كُفْر، وهذا صواب، ولكن أشكل عليه حديث حاطب وأنه لم يكفر بفعله، فقال إنه ليس من الموالاة، وهذا خطأ، فقد نزلت فيه سورة الممتحنة وهى صريحة في أن فعله موالاة.(7/299)
واعلم أن من قال بقتل الجاسوس ومن قال بعدم قتله كلاهما احتج بحديث حاطب كما هو معلوم في كتب الفقه والحديث، حتى جاء أحد المعاصرين فقال إن مجرد إظهار الإسلام يمنع من قتل الجاسوس واعترض على قول ابن القيم وغيره ممن قالوا إن المانع من قتل حاطب شهوده بدراً وأنه يجوز قتل من لم يكن بهذه الصفة، واحتج هذا المعاصر بحديث فرات بن حيان، وفيه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتله وكان عيناً لأبي سفيان وكان حليفاً لرجل من الأنصار، فمّر بحلقة ٍ من الأنصار فقال إني مسلم، فقال رجل من الأنصار: يارسول الله إنه يقول إني مسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن منكم رجالاً نكلهم إلى إيمانهم، منهم فرات بن حيان) رواه أبو داود بسند صحيح. فقال هذا المعاصر وهو د. محمد خير هيكل إن علة منع قتل فرات بن حيان كونه أعلن إسلامه، ثم ذكر قول ابن القيم ثم قال مانصه (كلام ابن القيم هذا فيه إغفال لحديث فرات بن حيان الذي يدل على أن كون الإسلام بمجرده هو المانع الوحيد من قتل الجاسوس، ومعلوم أن الجمع بين الأدلة أولى من إعمال بعضها وإغفال بعضها الآخر) أهـ، ثم قال ولعل عدم الإشارة إلى حديث فرات هو لضعف بعض رواياته. انظر (الجهاد والقتال في السياسة الشرعية) د. محمد خير هيكل، جـ 2 صـ 1162 ــ 1163، ط دار البيارق ببيروت 1414هـ. وأقول: ليس الأمر كما ظن هذا المؤلف فإن حديث فرات هذا في الكافر المعاهد إذ تجسس على المسلمين ولهذا أورده أبو داود في سننه في باب (الجاسوس الذمي) فإذا تجسس نقض عهده واستحق القتل، فإذا أسلم عَصَم دمه لقوله صلى الله عليه وسلم (الإسلام يهدم ما كان قبله) الحديث رواه مسلم، وهذا ماوقع لفرات فلم يكن يعرف له إسلام من قبل فلما أسلم هدم إسلامُه ماصنع. وهذا بخلاف ما إذا تجسس المسلم المعروف الإسلام فهذه المسألة ليس فيها إلا حديث حاطب. فلم يُغفل ابن القيم حديث فرات ولكن المؤلف هو الذي غفل عن الفرق بين(7/300)
المسألتين، فحديث حاطب في مسألة وحديث فرات في مسألة أخرى.
(تنبيه على خطأ فاحش):
قال مؤلف (الرسالة الليمانية) ــ فيما نقلته عنه من قبل ــ (ينتج من ذلك الدليل البيّن على أن موالاة حاطب كانت ظاهرية فَعَلها لغرض دنيوي وقلبه مطمئن بالإيمان، ولو كانت موالاة بالباطن لكَفَر) صـ 18. وهو في هذا مقلِّد لما ذكره أبو بكر بن العربي والقرطبي في تفسيريهما، قال القرطبي (من كثر تطلّعه على عورات المسلمين وينبّه عليهم ويُعرِّف عدوهم بأخبارهم لم يكن بذلك كافراً إذا كان فعله لغرض دنيوي واعتقاده على ذلك سليم، كما فعل حاطب حين قصد بذلك اتخاذ اليد ولم ينوِ الردّة عن الدين) (تفسير القرطبي) 18/ 52.
وهذا القول من أفحش ماقيل وهو يفتح باب الردّة والكفر على مصراعيه لمن شاء أن يكفر ثم يعتذر بأنه كان له غرض دنيوي، وأعلّق على هذا بما يلي:
* أما قول القرطبي (ولم ينوِ الردَة عن الدين) فهذا خطأ سبق التنبيه عليه في أخطاء التكفير، وأن العبرة بقصد اتيان الفعل المكفر لاقصد الكفر به، وأسهبت في التنبيه على هذا بالأدلة المستفيضة، وذكرت هناك قول شيخ الإسلام ابن تيمية (وبالجملة فمن قال أو فَعَل ماهو كُفر، كَفَر بذلك، وإن لم يقصد أن يكون كافراً، إذ لايقصد الكفر أحد إلا ما شاء الله) (الصارم المسلول) 177 ــ 178.
* وأما القول بأن من أظهر العدو على عورات المسلمين لايكفر إذا فعله لغرض دنيوي فهو استنباط خطأ من قصة حاطب، فإن الذي جعله يُقدم على مافعل ليس هو مجرد الغرض الدنيوي بل الخوف من الكفار على ذريته. فتأمل الفرق؟.(7/301)
* وغالب الكفار لم يكفروا إلا للأغراض الدنيوية باستحباب الحياة الدنيا على الآخرة كما قال تعالى (وويل للكافرين من عذاب شديد، الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة) إبراهيم 2 ــ 3، ووصف الله كفار أهل الكتاب بأنهم (أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم يُنصرون) البقرة 86، ووصفهم بأنهم (فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا) آل عمران 187، وما كَفَر هرقل وامتنع عن الإسلام إلا ضناً بملكه كما هو ظاهر في حديثه المتفق عليه عن ابن عباس عن أبي سفيان، وماامتنع المقوقس عن الإسلام ــ بعدما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم ليدعوه إليه ــ إلا حبا لدنياه وخوفاً على ضياع مُلكه، ونقل ابن تيمية قصته وقال في آخرها إنه لما امتنع عن الإسلام قال النبي صلى الله عليه وسلم (ضَنَّ الخبيث بُملكه ولا بقاء لمُلكه) انظر (الجواب الصحيح فيمن بدّل دين المسيح) لابن تيمية، 1/ 97. وقد كان هرقل والمقوقس واليهود وكثير من الكفار يعلمون أنه رسول الله حقاً وامتنعوا عن الإسلام حباً في الدنيا، قال تعالى (فلما جاءهم ماعرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين) البقرة 89. وهؤلاء الملوك والرؤساء الكافرون الذين يحكمون بلاد المسلمين اليوم بغير الإسلام مايمنعهم من الحكم بالإسلام إلا حب الدنيا والتمتع بمباهجها والخوف على ضياع ملكهم أو تقييد نفوذهم، وهذا من عمى البصيرة الذي يعاقبهم الله به جزاء إعراضهم، ولو أسلموا لسلمت لهم دنياهم وأخراهم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لهرقل ــ في رسالته إليه ــ (أَسْلِم تَسْلَم) وأشار ابن حجر إلى أن السلامة الموعود بها متضمنة لسلامة الدنيا والآخرة وبقاء مُلكه كما ثبَّت النبي صلى الله عليه وسلم الملوك الذين أسلموا على ملكهم، ولكن الأمر كما قال تعالى (ويُضل الله الظالمين، ويفعل الله مايشاء) إبراهيم 27.(7/302)
والحاصل: أن ما فعله حاطب كفر، والكفر لايرخص فيه إلا الإكراه، لايترخص فيه للأغراض الدنيوية ولا لمجرد الخوف مالم يقع إكراه، ومن كفر اختياراً بغير إكراه فقد شرح صدره بالكفر، وغالب من يفعل ذلك إنما يفعله لأغراض دنيوية، ويدل على هذا كله قوله تعالى (من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكرِه وقلبه مطمئن بالإيمان، ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم، ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة) النحل 106 ــ 107. وفي التعقيب على هذه الآيات قال شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله (ولكن عليك بفهم آيتين من كتاب الله، أولاهما: ماتقدم من قوله (لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم) ــ التوبة 66 ــ فإذا تحققت أن بعض الصحابة الذين غزوا الروم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كفروا بسبب كلمة قالوها على وجه المزح واللعب، تبيّن لك أن الذي يتكلم بالكفر أو يعمل به خوفاً من نقص مال أو جاه أو مداراة لأحد أعظم ممن تكلم بكلمة يمزح بها.
والآية الثانية: قوله تعالى (من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من إكره وقلبه مطمئن بالإيمان) ــ النحل 106 ــ فلم يعذر الله من هؤلاء إلا من أكرِه مع كون قلبه مطمئناً بالإيمان، وأما غير هذا، فقد كَفَر بعد إيمانه، سواء فعله خوفاً أو مداراة، أو مشحّة بوطنه أو أهله أو عشيرته أو ماله، أو فَعَله على وجه المزح، أو لغير ذلك من الأغراض إلا المكره والآية تدل على هذا من وجهتين:
الأولى: قوله (إلا من أكرِه) فلم يستثن الله إلا المكرَه، ومعلوم أن الإنسان لايُكره إلا على العمل أو الكلام، وأما عقيدة القلب فلا يُكره أحد ٌُ عليها.(7/303)
والثانية: قوله تعالى (ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة) ــ النحل 107 ــ فصرَّح أن هذا الكفر والعذاب لم يكن بسبب الاعتقاد أو الجهل أو البُغض للدين أو محبة الكفر، وإنما سببه أن له في ذلك حظاً من حظوظ الدنيا فآثره على الدين. والله سبحانه وتعالى أعلم) من رسالة (كشف الشبهات في التوحيد) لمحمد بن عبدالوهاب، ضمن (مجموعة التوحيد) ط دار الفكر 1399هـ، صـ 125 ــ 126.
وفي التعليق على نفس الآيات بسورة النحل قال ابن تيمية رحمه الله (والله سبحانه وتعالى جعل استحباب الدنيا على الآخرة هو الأصل الموجب للخسران، واستحباب الدنيا على الآخرة قد يكون مع العلم والتصديق بأن الكفر يضر في الآخرة، وبأنه ماله في الآخرة من خلاق) (مجموع الفتاوى) 7/ 560.
وبهذا يتبيّن لك أن الكفر لايترخّص فيه أبداً للأغراض الدنيوية، وأن هذا عذر فاسد، وأفسد منه الاستدلال عليه بحديث حاطب، بل إن أغلب الكفار إنما كفروا حُباً في الدنيا بما فيها من المناصب والرياسات والأموال، ولهذا فإن الله سلط عليهم المؤمنين لينتزعوا منهم أموالهم التي منعتهم من الإيمان (بالغنيمة والفيء)، وليستذلوا أجسادهم التي تكبرت عن الخضوع لله (بالقتل والرِّق)، وهذه من ثمرات الجهاد في سبيل الله تعالى.
هذا ما يتعلق بالتنبيه على الخطأ الفاحش في الاعتذار بالأغراض الدنيوية.
(التنبيه على أخطاء مؤلف الرسالة الليمانية في الاستدلال بحديث حاطب)، وهي:
أ ــ ذكر المؤلف أن فعل حاطب غير مُكفِّر مالم تقارنه موالاة قلبية، وقد بيّنت فساد هذا القول وأنه قول غلاة المرجئة. والصحيح أن حاطباً فعل كفراً ولم يكفر للمانع.
ب ــ وذكر المؤلف أن من فعل هذا لغرض دنيوي لايكفر، وهذا خطأ فاحش سبق التنبيه عليه.(7/304)
جـ ــ وفي صـ 21 نفى المؤلف أي خصوصية لحاطب في هذا الحديث، والصحيح أن الحديث نص عام في حاطب وفي مثله، ولكن حاطب له خصوصية شهود بدر التي منعت من تعزيره، ولهذه الخصوصية احتج من قال بقتل الجاسوس لانتفاء هذا المانع الخاص في غير حاطب، كما ذكره ابن حجر في (الفتح) 8/ 635، وذكره ابن القيم في (الزاد) 2/ 170 و 3/ 215، وفي (بدائع الفوائد) 4/ 128.
د ــ ولكن الخطأ الفاحش الذي وقع فيه المؤلف في الاستدلال بحديث حاطب هو تطبيقه ما فهمه واستنتجه من الحديث على أنصار الحكام المرتدين وجنودهم في زماننا هذا، فقد قال في صـ 30 (عمل فيه إعانة مباشرة لهذا السلطان الكافر ولكفره وظلمه، كالعمل في جهاز الشرطة المصري الحالي، فهذا وأضرابه يجب فيه التفصيل:
إن كان يعمل هذا وهو محب لكفره راض ٍ به، ليس هنالك ثمة مانع من تكفيره، فهو كافر.
وإن كان يعمل لغرض دنيوي وقلبه سليم، كاره لكفره يتمنى لو يزول، فهذا آثم بفعله ذلك حسب درجة ذلك الفعل، ولايكون كافراً من باب الموالاة ــ لسلامة اعتقاده كفعل حاطب رضي الله عنه ــ إلا إذا كان فعله ذلك كفراً بواحا فيكون تكفيره من هذا الباب وليس من باب الموالاة.
وإن كان يعمل لتحقيق مصلحة شرعية معتبرة أو لدفع مفسدة أكبر فهذا لاشيء عليه، بل قد يثاب على فعله هذا، ولايخفى أن الذي يقرر اعتبار هذه المصلحة أو تلك إنما هو المجتهد) أهـ. وواضح من كلامه أنه طبق مافهمه من حديث حاطب على جنود الحكام المرتدين، وقد بيّنتُ فيما مضى فساد مافهمه من حديث حاطب بما ينقض مااستنتجه من أحكام من أساسها.(7/305)
ولكني أقول هنا: هل كان حاطب رضي الله عنه جنديا في جيش الكفار يأتمر بأمرهم ولايخرج عن طاعتهم فيعمل في المسلمين تقتيلا وتعذيبا ويرصد حركاتهم وسكناتهم، حتى يستدل بحديثه للحكم على جنود الكافرين أم كان حاطب جنديا في جيش المسلمين؟ وأي الأحاديث أولى بالتطبيق والتنزيل على هؤلاء الجنود، حديث حاطب الذي كان جنديا في صف المسلمين أم حديث العباس الذي كان جنديا في صف الكافرين وأجرى عليه النبي صلى الله عليه وسلم أحكام الكفار؟ أم إن هذا تحريف للكلم عن مواضعه واستدلال بالأدلة في غير ماوردت فيه؟ أم إن هذا هو فقه آخر الزمان؟.
وأقول أيضا: هل لم يفهم أبو بكر وعمر وسائر الصحابة رضي الله عنهم دلالة حديث حاطب فلم يطبقوه على أنصار المرتدين وجنودهم، حتى جاء هذا المؤلف بعدهم بألف وأربعمائة سنة ليطبق حديث حاطب على جنود المرتدين؟ فهو الذي فهم دلالة الحديث والصحابة لم يفهموا؟.
فإذا تبيّن أن الصحابة رضي الله عنهم لم يعملوا بما يدل عليه هذا الحديث ولم يستفصلوا أحوال جنود المرتدين بل حكموا عليهم جميعا بالكفر وأن قتلاهم في النار، علمت أن هذا المؤلف قد استدل بهذا الحديث في غير موضعه هذا بالإضافة إلى خطأ مافهمه منه، فهو قد جمع بين الخطأ في الفهم والخطأ في الاستدلال فزاد ضغثا على إبالة، وخرج بذلك عن إجماع السلف في هذا الموضع.(7/306)
وقد نقلت في المقدمات المذكورة في القسم الأول ــ في كيفية الاجتهاد في النوازل ــ عن أبي حامد الغزالي قوله إنه يجب أن يبدأ بالنظر في الإجماع قبل النصوص حتى لايفتي في النازلة بخلاف الإجماع، فقد يفهم من النصوص مالا تدل عليه كما فعل هذا المؤلف. وسائر الفرق المبتدعة الضالة كالخوارج والمعتزلة والمرجئة وغيرهم يستدلون لبدعهم بأدلة من الكتاب والسنة وقد ضلّوا مع ذلك: إما لأنهم فهموا منها مالا تدل عليه وإما لأنهم لم يجمعوا بينها وبين مايخصصها أو يقيدها، وإما لأنهم أنزلوها في غير مواضعها. والعاصم من الزلل في هذا هو النظر فيما كان عليه السلف علماً وعملاً في كل مسألة فإن النظر فيما كانوا عليه يبين المراد من الأدلة، كما أنه مرجح بين الأدلة المتعارضة كما ذكره أبو حامد الغزالي في (المستصفى) 2/ 396، وأبو بكر الحازمي في (الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار) صـ 19. وقد أسهب الشاطبي في بيان أهمية النظر في عمل السلف في فهم الأدلة وتنزيل كل دليل في موضعه وتعيين الناسخ من المنسوخ منها، فقال رحمه الله (فإن موافقة العمل ــ أي للدليل ــ من أوجه الرجحان، فإن موافقته شاهد للدليل الذي استدل به، ومُصدّق له، على نحو ما يصدقه الإجماع، فإنه نوع من الإجماع فِعْليّ، بخلاف ما إذا خالفه فإن المخالفة موهّنة له أو مكذبة. وأيضا فإن العمل مخلص للأدلة من شوائب المحامِل المقدَّرة الموهِّنة، لأن المجتهد متى نظر في دليل على مسألة احتاج إلى البحث عن أمور كثيرة، لايستقيم إعمال الدليل دونها، ومعين لناسخها من منسوخها، ومبين لمجملها، إلى غير ذلك، فهو عون في سلوك سبيل الاجتهاد عظيم ــ إلى قوله ــ ولذلك لاتجد فرقة من الفرق الضالة ولا أحداً من المختلفين في الأحكام لا الفرعية ولا الأصولية يعجز عن الاستدلال على مذهبه بظواهر من الأدلة، وقد مَرّ من ذلك أمثلة. بل قد شاهدنا ورأينا من الفساق من يستدل على مسائل الفسق بأدلة ينسبها(7/307)
إلى الشريعة، المنزّهة، ــ ثم قال الشاطبي: ــ فلهذا كله يجب على كل ناظر في الدليل الشرعي مراعاة ما فهم منه الأولون، وما كانوا عليه في العمل به فهو أحرى بالصواب، وأقوم في العلم والعمل) (الموافقات) جـ 3 صـ 76 ــ 77 وأدرجت في أوله كلمة (أي للدليل). فتأمل قول الشاطبي أنه ما من أحد من المختلفين إلا ويمكنه الاستدلال بشئ من الأدلة ثم إن المرجح في هذا ــ ضمن المرجحات الكثيرة ــ النظر في عمل سلف الأمة فإنه مخلص للأدلة من شوائب الاحتمالات المقدرة، فهل عمل الصحابة بحديث حاطب أو أشاروا إليه في التوقف والتثبت في تكفير جنود المرتدين؟. وفي نفس الموضوع قال الشاطبي أيضا (كل دليل شرعي لا يخلو أن يكون معمولاً به في السلف المتقدمين دائما أو أكثرياً أو لا يكون معمولا به إلا قليلا أو في وقتٍ ما، أو لا يثبت به عمل، فهذه ثلاثة أقسام:
(أحدها) أن يكون معمولاً به دائما أو أكثريا، فلا إشكال في الاستدلال به ولافي العمل على وفقه، وهى السنة المتبعة والطريق المستقيم ــ إلى قوله:
(والثاني) أن لايقع العمل به إلا قليلا، أو في وقت من الأوقات، أو حال من الأحوال، ووقع إيثار غيره والعمل به دائما أو أكثريا، فذلك الغير هو السنة المتبعة والطريق السابلة. وأما مالم يقع العمل عليه إلا قليلا فيجب التثبت فيه وفي العمل على وفقه، والمثابرة على ماهو الأعم والأكثر. ــ إلى قوله:(7/308)
(والقسم الثالث) أن لا يثبت عن الأولين أنهم عملوا به على حال فهو أشد مما قبله، والأدلة المتقدمة جارية هنا بالأولى، وما توهمه المتأخرون من أنه دليل على ما زعموا ليس بدليل عليه البته، إذ لو كان دليلا عليه لم يعزب عن فهم الصحابة والتابعين ثم يفهمه هؤلاء. فعمل الأولين كيف كان مصادما لمقتضى هذا المفهوم ومعارضا له، ولو كان ترك العمل، فما عمل به المتأخرون من هذا القسم مخالف لإجماع الأولين، وكل من خالف الإجماع فهو مخطئ، وأمة محمد صلى الله عليه وسلم لا تجتمع على ضلالة، فما كانوا عليه من فعل أو ترك فهو السنة والأمر المعتبر وهو الهدى، وليس ثَمّ إلا صواب أو خطأ. فكل من خالف السلف الأولين فهو على خطأ، وهذا كاف ــ إلى قوله ــ وكثيراً ماتجد أهل البدع والضلالة يستدلون بالكتاب والسنة، يحملونهما مذاهبهم ويغبّرون بمشتبهاتهما في وجوه العامة ويظنون أنهم على شيء) (الموافقات) جـ 3 صـ 56 ــ 57 و 71.
هذا الكلام المنقول عن الشاطبي رحمه الله سأعيده إن شاء الله في المبحث الثامن في أحكام الحجاب، عند نقد قول الألباني بعدم وجوب ستر المرأة وجهها بحضرة الرجال الأجانب، فالألباني ومؤلف الرسالة الليمانية كلاهما يفهم من الأدلة مالا تدل عليه، وكلاهما يفتي في المسائل بأدلة لم يعمل بها السلف في هذه المواضع بل كان عمل السلف مصادما لما توصلا إليه، وتأمل قول الشاطبي (فما كانوا عليه من فعل أو ترك فهو السنة والأمر المعتبر)، وتأمل قوله (وما توهّمه المتأخرون من أنه دليل على ما زعموا ليس بدليل عليه البته، إذ لو كان دليلا عليه لم يعزب عن فهم الصحابة والتابعين ثم يفهمه هؤلاء). هذا مايتعلق بنقد استدلال مؤلف الرسالة الليمانية بحديث حاطب وتنزيله على جنود المرتدين.
(تنبيه آخر: في الفرق بين المقدور عليه والممتنع).(7/309)
بقي هنا تنبيه آخر على قول هذا المؤلف: إنه يجب التفصيل عند الحكم على هؤلاء الجنود، والتفصيل الذي ذكره ينطوي على تبين الشروط وانتفاء الموانع، وكرر هذا القول في موضع آخر من رسالته، فقال إنه لايجوز الحكم على المعين قبل تبين استيفاء الشروط وانتفاء الموانع، ونقل في صـ 12 من رسالته عن ابن تيمية قوله (من كفر بعينه فلقيام الدليل على أنه وجدت فيه شروط التكفير وانتفت موانعه، ومن لم يكفر بعينه فلانتفاء ذلك في حقه، هذا مع إطلاق قوله بالتكفير على سبيل العموم) أهـ. وأقول: واضح أن مؤلف الرسالة الليمانية لاعلم له بالفرق بين المقدور عليه والممتنع عن القدرة في هذه الأحكام، وإلا فقد قال ابن تيمية نفسه (ولأن المرتد لو امتنع ــ بأن يلحق بدار الحرب أو بأن يكون المرتدون ذوي شوكة يمتنعون بها عن حكم الإسلام ــ فإنه يُقتل قبل الاستتابة بلا تردد) (الصارم المسلول) صـ 322، وقال أيضا (على أن الممتنع لايُستتاب وإنما يستتاب المقدور عليه) (الصارم المسلول) صـ 325 ــ 326.
وصفة الامتناع التي ذكرها شيخ الإسلام متوفرة في جنود الحكام المرتدين محل البحث فهم ممتنعون بالشوكة فضلا عن كون دارهم دار حرب كما أسلفته في أحكام الديار، فالاستتابة غير واردة عند الكلام في حكم هؤلاء الجنود، وقد ذكرت في شرح قاعدة التكفير ــ وذكرته قريبا من قبل ــ أن الاستتابة صارت تطلق على تبين الشروط والموانع، كما قال شيخ الإسلام (كما غلط الذين استتابهم عمر وأمثال ذلك. فإنهم يُستتابون وتقام الحجة عليهم، فإن أصرّوا كفروا حينئذ ٍ ولايُحكم بكفرهم قبل ذلك كما لم يحكم الصحابة بكفر قدامة بن مظعون وأصحابه لما غلطوا فيما غلطوا فيه من التأويل) (مجموع الفتاوى) 7/ 610. وقد ذكرت من قبل أدلة عدم وجوب استتابة الممتنعين ومنها حادثة عبدالله بن سعد بن أبي السرح وإجماع الصحابة على تكفير أنصار المرتدين بدون استتابة وقد كانوا عشرات الألوف.(7/310)
كما وقد سبق التنبيه ــ في القسم الثاني السابق ــ على الفرق بين المقدور عليه والمنفرد بالنسبة للفرد من جنود المرتدين.
والحاصل: أن الممتنعين عن القدرة كجنود الحكام المرتدين يُحكم عليهم دون تبين شروط وموانع، وقد تكلمت في هذه المسألة بالتفصيل في آخر القسم السابق (بيان حكم أنصار الطواغيت) بما يُغني عن إعادته.
9 ــ بعد استدلاله بحديث حاطب رضي الله عنه على أن الموالاة الظاهرة المجردة غير مكفرة، تابع مؤلف الرسالة الليمانية سرد بقية أدلته على ذلك، فذكر في صـ 24 دليله الثاني، فذكر آية التقية وأنها موالاة ظاهرة جائزة عند الخوف وهى غير مكفرة، وقد سبق الكلام في هذه المسألة من قبل وأن التقية ليست موالاة كما قال ابن القيم.
10 ــ ثم في صـ 27 ذكر المؤلف دليله الثالث على أن الموالاة الظاهرة بدون موالاة قلبية غير مكفرة، فقال (الدليل الثالث: ويتضمن بيان جواز تولي بعض الأعمال لدى السلطان الكافر أو الجائر لتحقيق مصلحة معتبرة أو لدفع مفسدة أعظم، وهو قوله تعالى «فلما كلّمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين، قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم» يوسف 54 ــ 55. وجه الدلالة: تشير الآيات إلى أن يوسف عليه السلام قد تقلد أمر خزائن البلاد لملك كافر مما يدل على أنه يجوز تولي بعض الأعمال لدى السلطان الكافر وذلك لتحقيق مصلحة معينة أو للتمكن من إجراء الأحكام الشرعية أو لدفع مفسدة أعظم، الأمر الذي يبين أن العمل عند الكافر وإن كان يأخذ في ظاهره صورة من صور الإعانة والموالاة الممنوعة إلا أنه قد يصبح جائزاً في حالات معينة وذلك بشروط معينة، مما يؤكد القاعدة التي ذكرناها بشأن وجوب عدم التسوية في الحكم على كل الصور التي تأخذ في ظاهرها صورة من صور الموالاة، لذا فقد فرق العلماء عند توضيحهم لهذه المسألة بين العمل عند الظالم والعمل عند الكافر، وأيضا بين من يعمل وهو يحب ويرضى ومن يعمل مداراة وهو يكره ويبغض) أهـ.(7/311)
وأقول: أما الدليلان الأول والثاني (وهما حديث حاطب وآية التقية) فَهُما نصّان في الموالاة، وأما هذا الدليل وهو عمل يوسف عليه السلام لملك مصر فليس نصاً في الموالاة وإنما أقحمه مؤلف (الرسالة الليمانية) في الموضوع ليستكثر من الأدلة على أن الموالاة الظاهرة المجردة غير مكفرة، فقال (وإن كان يأخذ في ظاهره صورة من صور الإعانة والموالاة الممنوعة) صـ 27.
وإيراد هذا الدليل في هذه المسألة هو من سوء الأدب مع الأنبياء عليهم السلام، فمعنى كلامه أن يوسف عليه السلام وَالَى الكفار ــ وإن سماها موالاة ظاهرة ــ وهذا يدخل في تنقُّص الأنبياء، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبيّن فيها يَزِل بها إلى النار أبعد مما بين المشرق والمغرب) متفق عليه.(7/312)
وهذا الذي فعله المؤلف شاع في هذا الزمان من بعض المنتسبين للإسلام، فإذا تقلد أحدهم الوزارة لملك أو رئيس كافر قال فعلها يوسف عليه السلام، وإذا تقلد أحدهم العضوية في البرلمان الكافر قال فعلها يوسف عليه السلام، وهذا سوء أدب مع الأنبياء وتنقّص لهم والتّنقص يدخل في السَّب كما ذكره القاضي عياض في (الشفا)، ويوسف وسائر الأنبياء بريئون من هؤلاء الذين لايتقلدون الوزارة ولايدخلون البرلمان حتى يقسموا على احترام الطاغوت والتزام العمل به والعمل من أجله، والطاغوت هنا هو الدستور والقانون اللذين يُتحاكم إليهما من دون الله كما قال تعالى (يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمِروا أن يكفروا به) النساء 60، أما يوسف وسائر الأنبياء عليهم السلام إنما بُعثوا باجتناب الطاغوت والكفر به كما قال تعالى (ولقد يعثنا في كل أمة ٍ رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت) النحل 36، فهل لم يجتنب يوسف الطاغوت؟، وقال تعالى ــ حكاية عن يوسف عليه السلام ــ (واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب، ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء) يوسف 38. وقد انعقد الإجماع على عصمة الأنبياء من الشرك ومن الكبائر، واختلفوا في عصمتهم من الصغائر، والجمهور على عصمتهم منها، حكى هذا كله القاضي عياض في (الشفا) 2/ 694 ــ 851، ط الحلبي بتحقيق البجاوي، فالذين يستدلون بعمل يوسف عليه السلام لملك مصر على إجازة المكفِّرات ينبغي أن يُستتابوا.
ونعود للرد على مؤلف (الرسالة الليمانية) في استدلاله بهذا الدليل من عدة أوجه، فنقول:(7/313)
أ ــ إن عمل يوسف عليه السلام لملك مصر ليس موالاة قطعاً: لأن الله تعالى لما نهى المسلمين عن موالاة الكافرين بقوله (ياأيها الذين آمنوا لاتتخذوا عدوي وعدوكم أولياء) الممتحنة 1، ضرب لهم الأسوة بإبراهيم عليه السلام فقال تعالى (قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا بُرءاؤا منكم ومما تعبدون من دون الله، كفرنا بكم، وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده) الممتحنة 4. وهذه المعاداة للكفار والبراءة منهم والتي هى نقيض موالاتهم هى ملة إبراهيم عليه السلام وهى ملة يوسف وسائر الأنبياء عليهم السلام، قال تعالى ــ حكاية عن يوسف عليه السلام ــ (واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب) يوسف 38. وقد كان يوسف عليه السلام مُظهراً لدينه ــ كما في الآية السابقة ــ داعياً إلى التوحيد مظهراً للبراءة من الكافرين وكُفرِهم مُسَفِّهاً لما هم عليه، حتى وهو في السجن، كما قال تعالى ــ حكاية عنه ــ (يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير ٌُ أم الله ُ الواحد القهار، ماتعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ماأنزل الله بها من سلطان، إن الحكم إلا لله، أمر ألا تعبدوا إلا إياه، ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لايعلمون) يوسف 39 ــ 40.(7/314)
فإذا تبين لك أن يوسف كان على ملة إبراهيم التي هى اعلان التوحيد والدعوة إليه وإظهار المعاداة للكفار والبراءة منهم وهى أمور على النقيض من موالاتهم علمت يقيناً أن يوسف عليه السلام لم يقع منه شيء من موالاة الكفار لا ظاهراً ولاباطناً. وأن عمله لملك مصر لايوصف بالموالاة لا من قريب ولا من بعيد، كما لايوصف أيضا بالركون إلى الكفار والظلمة لأن هذا الركون كبيرة من الكبائر بدليل الوعيد الوارد فيه في قوله تعالى (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار) هود 113، وقد سبق ذكر الإجماع على عصمة الأنبياء من الكبائر، فلم يقع منه عليه السلام لا موالاة ولا ركون إلى الكفار. وهذا يُبطل ماذهب إليه مؤلف (الرسالة الليمانية) في إقحامه لعمل يوسف عليه السلام ضمن صور الموالاة، مما يُبطل استدلاله بهذا الدليل في موضوع الموالاة.
وقد قيل إن ملك مصر كان مسلما أو أسلم على يد يوسف، ذكره القرطبي في تفسيره جـ 9/ 120 و 159، ونسبه القرطبي إلى مجاهد في جـ 9/217، وذكره ابن كثير أيضا في تفسيره جـ 2/472. فإن صح هذا ارتفع الإشكال في المسألة من أصله، ولكن هذا لم يثبت بنقل صحيح يعتمد عليه، كما أنه مستبعد بدليل قول يوسف نفسه (ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ماأنزل الله بها من سلطان) يوسف 40، ثم قال موسى عليه السلام بعد ذلك بعدة قرون (ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات فما زلتم في شك ٍ مما جاءكم به) غافر 34.(7/315)
فإن قيل: إن عمل يوسف عليه السلام للملك الكافر فيه إعانة له بلاشك، فالجواب: أن هذا غير ممنوع منه إلا إذا كانت إعانة ً للكافر على أمر ٍ محرم فهى محرمة، أو إعانة للكافر على الكفر أو على المسلمين فتكون الإعانة هنا موالاة مكفّرة. ومؤلف (الرسالة الليمانية) خلط بين الإعانة والموالاة فجعل كل إعانة موالاة، وقد وردت شريعتنا ــ وشرائع الأنبياء جميعهم ــ بالنهي عن موالاة الكفار في حين أجازت الشريعة معاملتهم بالبيع والشراء والشركة والإجارة ــ وذكرت ذلك من قبل فيما يُظَن أنه موالاة وليس منها ــ وهذا كله فيه نوع إعانة لهم، ولكنها إعانة في أمور الدنيا ليست إعانة على الكفر أو على المسلمين، ومثاله: أن كفار مكة كانوا يجلبون الحنطة من اليمامة، فلما أسلم ثمامة بن أثال وهو من سادة اليمامة منعهم الحنطة حتى يأذن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، والحديث رواه البخاري (4372) وفي شرحه قال ابن حجر: إن النبي صلى الله عليه وسلم أذِنَ في ذلك، فيما رواه عن ابن هشام (فتح الباري) 8/ 88. وهذه إعانة وأي إعانة، ولكنها في أمر دنيوي.
ب ــ فإن قيل: هل يجوز في شريعتنا أن يعمل مسلم عند كافر؟. فالجواب: أن ابن حزم رحمه الله ذكر أن هذا كان مباحا في شريعة يوسف وأن شريعتنا بخلافه (الفصل في الملل والأهواء والنحل) 4/ 26 ــ 27، وقد قال هذا لأن مذهبه أن شرع من قبلنا ليس شرعاً لنا، انظر (الإحكام) لابن حزم، 5/ 160 ومابعدها. وهذا هو الراجح في مذهب الشافعي أيضا، انظر (الإحكام) للآمدي، 4/ 147. وقول عامة السلف وجمهور الفقهاء أن شرع من قبلنا شرع ٌُ لنا بشرطين:
الشرط الأول: أن يثبت بنقل موثوق أنه شرع لهم، وذلك بالقرآن والسنة أو بالتواتر، دون مارَوُوه لنا ــ أي أهل الكتاب ــ من كتبهم وأخبارهم التي دخلها التحريف.(7/316)
والشرط الثاني: ألا يرد في شرعنا بيان خاص في المسألة، فإن جاء في شرعنا بيان بالموافقة فيها فشرعنا أولى بالاتباع، وإن كان بياناً بالمخالفة أو النسخ وجب العمل به ولايجوز العمل بشرع من قبلنا في هذه المسألة، ويبقى قسم ثالث وهو ماسكت عنه شرعنا فلم يرد فيه بيان لا بالموافقة ولا المخالفة فهذا القسم من شرع من قبلنا يجوز العمل به. هذا حاصل ماذكره ابن تيمية في (اقتضاء الصراط المستقيم) ط المدني صـ 167 ــ 169، وفي (مجموع الفتاوى) جـ 1 صـ 258، و جـ 19/ 7.
فإذا نظرنا في مسألة عمل المسلم عند الكافر هل ورد فيها بيان في شريعتنا بالموافقة أو المخالفة؟. والجواب: نعم ورد بيان بالموافقة ويدل عليه ماوراه البخاري رحمه الله في كتاب الإجارة من صحيحه، باب (هل يؤاجر الرجل ُ نفسَه من مشركٍ في أرض الحرب؟). وأورد فيه حديث خبَّاب بن الأرت رضي الله عنه قال: (كنت رجلا قَيْناً، فعملت للعاص بن وائل، فاجتمع لي عنده، فأتيته أتقاضاه، فقال: لا والله لا أقضيك حتى تكفر بمحمد، فقلت: أما والله حتى تموت ثم تُبعث فلا، قال: وإني لميت ثم مبعوث؟، قلت: نعم، قال: فإنه سيكون لي ثَمَّ مالٌ وولدٌ فأقضيك، فأنزل الله تعالى «أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالاً وولداً» مريم 77) أهـ. حديث رقم 2275. والقَيْن هو الحداد ويطلق على كل صانع.(7/317)
قال ابن حجر رحمه الله في شرحه (قوله (باب هل يؤاجر الرجل نفسه من مشرك في أرض الحرب) وأورد فيه حديث خباب ــ وهو إذ ذاك مسلم ــ في عمله للعاص بن وائل وهو مشرك، وكان ذلك بمكة وهى إذ ذاك دار حرب، واطلع النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك وأقره، ولم يجزم المصنف بالحكم لاحتمال أن يكون الجواز مقيدا بالضرورة، أو أن جواز ذلك كان قبل الإذن في قتال المشركين ومنابذتهم وقبل الأمر بعدم إذلال المؤمن نفسه، وقال المهلب: كره أهل العلم ذلك إلا لضرورة بشرطين: أحدهما أن يكون عمله فيما يحل للمسلم فعله، والآخر أن لايعينه على مايعود ضرره على المسلمين. وقال ابن المنير: استقرت المذاهب على أن الصُّناع في حوانيتهم يجوز لهم العمل لأهل الذمة ولا يُعَد ذلك من الذلة، بخلاف أن يخدمه في منزله وبطريق التبعية له والله أعلم) (فتح الباري، 4/ 452).
وبهذا تعلم أن عمل المسلم عند الكافر جائز بشروط ثلاثة:
الشرط الأول: أن يكون ذلك لضرورة: وذلك لأن فيه استعلاء للكافر على المسلم وهذا منهي عنه لقوله تعالى (ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا) النساء 141، وقال صلى الله عليه وسلم (الإسلام يَعلو ولايُعلى) رواه البخاري معلقاً. والضرورة هنا: قد تكون الحاجة إلى الرزق أو تحقيق مصلحة أو دفع مفسدة لايتوصل إليها إلا بهذا العمل.(7/318)
والشرط الثاني: أن يكون جنس العمل حلالاً للمسلم: كأن يعمل زارعاً أو صانعاً عند الكافر فجنس هذه الأعمال حلال. أما الأعمال المحرمة فكثيرة ومن أمثلتها اليوم: الحكم بالقوانين الوضعية كالعمل في سلك القضاء في الحكومات الكافرة، والأعمال التي تقتضي القَسَم على احترام الدستور والقانون الوضعيين، والعمل في جباية الأموال لهذه الحكومات لأن معظم هذه الأموال تؤخذ ظلماً من الناس، والعمل في البنوك الربوية والبيوع والتجارات المحرمة، والعمل في مصانع الخمور والتبغ ونحوها، والعمل في أجهزة التضليل المختلفة المسماة بأجهزة الإعلام والثقافة.
والشرط الثالث: أن لايُعين الكافرَ على مايضر المسلمين، فهذا يدخل في الموالاة المكفرة كما قال تعالى (ومن يتولهم منكم فإنه منهم) المائدة 51. ومن هذا: العمل كعريف أو شرطي أو جندي عند الكافر، قال رسول صلى الله عليه وسلم (يكون في آخر الزمان أمراء ظَلَمة ووزراء فسقة وقضاة خونة وفقهاء كذبة، فمن أدركهم فلا يكونن لهم عريفاً ولا جابياً ولا خازنا ولا شرطياً) رواه الخطيب البغدادي في (تاريخ بغداد) 10/ 284 و 12/ 63، ورواه ابن حبان وأبو يعلى والطبراني في الصغير، والحديث صحيح بمجموع طرقه. فإذا كان هذا مع الأمير الظالم فكيف بالكافر؟. وكل مايعود على المسلمين بالضرر فهو حرام وقد يصل إلى الكفر.
وعمل يوسف عليه السلام عند الملك الكافر قد استوفى هذه الشروط الثلاثة، فعمله كان لتحقيق مصلحة وكان مباحاً ولم يُعِنْ الكافر على المسلمين ولم يضر مسلماً.(7/319)
فإن قيل: قد ذكرت في الأعمال المحرمة جباية المال للكافر وهذا هو عمل يوسف عليه السلام، فكيف كان عمله مباحا؟. فالجواب: إن المحرم هو جباية المال وفق اجتهاد الكافر وحسب قوانينه الوضعية الطافحة بالظلم، أما إن كانت الجباية وفق اجتهاد المسلم متولي الجباية فهذا عدل ٌُ وإصلاح، وقد كان هذا هو حال يوسف عليه السلام فقد كان مفوّضاً يُمضي الأمور على اجتهاده ويدل على هذا قول الملك له (إنك اليوم لدينا مكين أمين) يوسف 54، وقال تعالى (وكذلك مكّنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء) يوسف 56، وقال تعالى ــ حكاية عن يوسف ــ (ربِّ قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث) يوسف 101، فأي تمكين بعد هذا؟. وقال الشوكاني (قوله تعالى «يتبوأ منها حيث يشاء» أي ينزل حيث أراد... عبارة عن كمال قدرته) (فتح القدير) 3/ 35، ويدل على تمكينه أيضا أنه عمل بشريعته في استرقاق السارق كما ورد في قوله تعالى (قال معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده) يوسف 79، وكانت تلك شريعته كما قال ابن تيمية (مجموع الفتاوى) 15/ 118. والحاصل أن يوسف عليه السلام وإن كان قد تولى الأموال جبايةً وصرفاً فهو قد تولاها على أن يعمل فيها باجتهاده لا وفق اختيار الكافر. وهذا جائز اليوم، فلو أن ملكاً كافراً وَلّى مسلماً ولاية أموال أو قضاء أو غيرها على أن يعمل المسلم فيها باجتهاده لا باجتهاد الكافر جاز، ذكره ابن عابدين في حاشيته، 4/ 307 ــ 308، والقرطبي في تفسيره، 9/ 215.(7/320)
وبهذا يتبين الفرق بين ولاية يوسف عليه السلام، وتولي الوزارة عند الحاكم الكافر اليوم، فمتوليها يقسم على احترام الدستور والقانون وعلى العمل بهما وهما من شرائع الكفر، فهو كافر، هذا فضلا عن أن دساتيرهم تنص على المسئولية التضامنية للوزارة عن تنفيذ السياسة العامة للدولة وهى سياسة ترسيخ الكفر في البلاد واستئصال الإسلام منها، ومعنى المسئولية التضامنية أن كل وزير مسئول عن هذا وإن لم يباشره بنفسه.
فإن قيل: فما معنى قوله تعالى ــ حكاية عن يوسف ــ (ماكان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله) يوسف 76؟. فالجواب: أن دين الملك هنا هو سلطانه، لا ملة الكفر وإلا ماكان يوسف مجتنباً للطاغوت ولا متبعاً لملة إبراهيم عليه السلام، وهذا ممتنع، فتعيّن الأول.
واختم الكلام في الدليل الثالث لمؤلف (الرسالة الليمانية) بما بدأتُ به من أن هذا الدليل لايمت للموالاة بصلة لا في الصورة ولا في الحقيقة. وأن ولاية التفويض التي كان عليها يوسف عليه السلام لا وجود لها في ظل أنظمة الحكم الكافرة المعاصرة. ولهذا فإن الاستدلال بهذا الدليل جاء في غير موضع.
11 ــ ثم ذكر المؤلف دليلاً رابعا على أن الموالاة الظاهرة غير مكفرة مالم تقارنها موالاة قلبية، فذكر في صـ 31 قوله تعالى (والذين آمنوا ولم يهاجروا مالكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا، وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر) الآية 72 ــ الأنفال. فنفى سبحانه ولاية المؤمنين لهم ــ وسبق بيان أنها في الميراث وقد نسخت ــ وأثبت لهم النصرة، وأنهم مازالوا مؤمنين رغم تركهم للهجرة.(7/321)
وقد أقحم المؤلف هذا الدليل أيضا في مسألة الموالاة، فهناك فرق بين ترك الهجرة وبين الموالاة. ولا يصح له الاستدلال بذلك إلا إذا أثبت بالدليل أن كل تارك للهجرة موال ٍ للكفار موالاة ظاهرة، ليطبق عليها بعد ذلك قاعدته في اقترانها بالموالاة القلبية من عدمه. ولايوجد دليل على أن تارك الهجرة لابد أن يكون مواليا في الظاهر للكفار، فبطل استدلاله بهذا الدليل.
وقد أشرت إلى أحكام الهجرة في موضوع الديار، وأن الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام ــ إن وجدت ــ واجبة في الأصل، ثم قد تصير مستحبة، وقد يسقط الوجوب للعذر.. فتارك الهجرة ــ بناءً على ذلك ــ يكون آثما إذا كانت واجبة عليه، ولايكون آثما إذا كانت مستحبة في حقه، ويكون معذوراً إذا عجز عنها، ولا يوصف بموالاة الكفار.
غاية ما يمكن أن يقال في الصنف الأول وهو الآثم بترك الهجرة الواجبة مع قدرته عليها وعجزه عن إظهار دينه بدار الكفر. أن تركه للهجرة محتمل للموالاة المكفرة: فإن كان تركها لأجل مصلحة دنيوية له بدار الكفر فهو فاسق إلا إذا كان عجزه عن إظهار الدين يصل إلى الكفر كأن لايتمكن من إقامة الصلاة. أما إذا كان قد ترك الهجرة حباً لقومه الكفار وايثاراً للعيش معهم فهذه موالاة مكفرة. فالتوصيف الفقهي لترك الهجرة ــ في حق هذا الصنف ــ أن يقال: تركه الهجرة عمل محتمل للموالاة ولايقال إنه موالاة ظاهرة. وقد سبق بيان الفرق بين العمل صريح الدلالة ومحتمل الدلالة في شرح قاعدة التكفير فلا ينبغي الخلط، وينبغي على من يؤلف في العلوم الشرعية أن يختار المصطلح الفقهي المناسب وأن يصوغ كلامه صياغة فقهية صحيحة.
هذا كل مااستدل به مؤلف (الرسالة الليمانية)، وقد تبين مما سبق أنه لا دليل له على ماذهب إليه.(7/322)
12 ــ بقي بعد ذلك تعقيب على ماقاله في الخاتمة ــ صـ 37 ــ (أما إذا كانت باطنية فهى كُفْر، وفاعلها يُعْرَف كفره بإقامة الحجة عليه ــ إلى أن قال ــ وكذا القول في جهاز أمن الدولة المصري هو جهاز كافر، أما تعيين من يعمل فيه ــ ممن لانعلم حاله ولا نعلم نوع موالاته ــ فلا نحكم بتكفيره قبل اعتبار ماذكرنا) أهـ. وقد نقلت قوله هذا بتمامه في أول الموضوع، وقوله (باطنية) يعني الموالاة الباطنة. والتعقيب هنا على قوله (بإقامة الحجة عليه) لسببين:
أ ــ أن إقامة الحجة هو مايُعرف بالاستتابة في عرف الفقهاء، وقد سبق بيان هذا، كما سبق بيان أن الاستتابة إنما تكون للمقدور عليه، أما الممتنع كهؤلاء الذين ضرب بهم المثل فلا تجب استتابتهم، ويُحكم عليهم بلا استتابة، ولكن يَرِدُ فيهم أمر آخر.
ب ــ وهذا الأمر الآخر الوارد في حق الممتنعين هو الدعوة قبل القتال، وهذه لاتجب في حق الحكام المرتدين الذين يحكمون بلاد المسلمين وأنصارهم، وعدم وجوبها يرجع إلى سببين:(7/323)
السبب الأول: أن الدعوة لا تجب في حق من بلغتهم الدعوة، وهؤلاء الحكام يعلمون مايُراد منهم على التفصيل، ومازالوا يقتلون مَن يدعونهم إلى الحق ويعذبونهم ويسجنونهم على مَرِّ السنين، بل ويُبعدون كل من يُشتم منه رائحة التدين عن جيوشهم وعن وسائل إعلامهم وتعليمهم، ومازالوا يضعون المخطط تلو المخطط لاستئصال الإسلام من البلاد وإشاعة الكفر والفجور فيها، ويسخرون أجهزة إعلامهم للتضليل المنظّم وللصد عن سبيل الله، ومازالوا يعقدون التحالفات الدولية والإقليمية لمحاربة الإسلام والمسلمين باسم مكافحة الإرهاب والتطرف، وقد استفاض العلم بأن الدعوة إنما توجه إلى رءوس الممتنعين لا إلى أفرادهم على التعيين، فقد أرسل النبي صلى الله عليه وسلم يدعو كسرى وقيصر والمقوقس والنجاشي إلى الإسلام، وكان كتابه إليهم كتابا واحداً، وأنه من تولى منهم فإنما عليه إثم الأريسيين الذين هم أتباعه. فهؤلاء الحكام المرتدون قد بلغتهم الدعوة وعلموا مايريده المسلمون منهم من الحكم بالإسلام وهذه حجة عليهم وعلى أتباعهم، فكيف وقد استفاض العلم بذلك بين الأتباع؟. وكل من بلغته الدعوة يقاتل بلا دعوة كما أغار النبي صلى الله عليه وسلم على بني المصطلق وهم غارون، والحديث متفق عليه، والمسألة معروفة بكتب فقه الجهاد، انظر (المغني مع الشرح الكبير) 10/ 385 ــ 387.(7/324)
أما السبب الثاني: فهو أن قتال المسلمين لهؤلاء الحكام إنما هو جهاد دفع فهؤلاء الحكام وأنصارهم قد سيطروا على بلاد المسلمين يفرضون عليها الكفر بالقوة والقهر ويسومون المسلمين سوء العذاب تقتيلاً وتعذيباً وسجناً وتشريداً، فهذه صورة العدو الذي حَلَّ ببلاد المسلمين والذي قتاله قتال دفع، وقتال الدفع لادعوة فيه، وإنما الدعوة في قتال الطلب وهو أن يقصد المسلمون الكافرين في ديارهم، فتجب الدعوة إذا كانت لم تبلغهم من قبل، أما قتال الدفع فلا دعوة فيه، وفي بيان هذا قال محمد بن الحسن الشيباني رحمه الله (ولو أن قوماً من أهل الحرب الذين لم يبلغهم الإسلام ولا الدعوة أتوا المسلمين في دارهم، يُقاتلُهم المسلمون بغير دعوة ليدفعوا عن أنفسهم، فقتلوا منهم وسبوا وأخذوا أموالهم، فهذا جائز، يُخَمَّس ذلك ويقسم مابقي بين من أصابه) أهـ. قال الشارح السرخسي رحمه الله (لأن المسلم لو شَهَر سيفه على مُسلم ٍ حَلَّ للمشهور عليه سيفه قتله للدفع عن نفسه، فها هنا أولى، والمعنَى في ذلك: أنهم لو اشتغلوا بالدعوة إلى الإسلام فربما يأتي السبي والقتل على حرم المسلمين وأموالهم وأنفسهم، فلا يجب الدعاء) (السير الكبير) للشيباني، 5/ 2233 ــ 2234. وبالمثل قال ابن القيم رحمه الله (ومنها أن المسلمين يدعون الكفار ــ قبل قتالهم ــ إلى الإسلام، وهذا واجب إن كانت الدعوة لم تبلغهم، ومستحب إن بلغتهم الدعوة، هذا إذا كان المسلمون هم القاصدين للكفار. فأما إذا قصدهم الكفار في ديارهم فلهم أن يقاتلوهم من غير دعوة،، لأنهم يدفعونهم عن أنفسهم وحريمهم) (أحكام أهل الذمة) لابن القيم، جـ 1 صـ 5، ط دار العلم للملايين 1983م.
وبهذا تعلم أنه لا وجه لإقامة الحجة ولا للدعوة مع هؤلاء الحكام المرتدين وجنودهم.
هذا مايتعلق بالنقد التفصيلي لكتاب (الرسالة الليمانية في الموالاة)، بقي بعد ذلك أن أذكر تقييما مجملاً لهذه الرسالة.(7/325)
ثانيا: التقييم الإجمالي لكتاب (الرسالة الليمانية):
والمقصود به في الأساس تبصير طالب العلم بالأسلوب العلمي لبحث المسائل الفقهية في ضوء ذكر مواضع الخلل التي وردت بهذه الرسالة.
وأبدأ فأقول: قد سبق عند الكلام في شروط المفتي في الباب الخامس من هذا الكتاب، بيان أنه يجب أن يكون عالما بالكتاب والسنة وبأقوال مَن سبق مِن العلماء. فإذا وردت عليه مسألة جمع أدلتها من الكتاب والسنة ونظر في أقوال أهل العلم فيها:
1 ــ فإذا وجدهم أجمعوا على قول ٍ فيها، وجب عليه الإفتاء بالإجماع. قال أبو حامد الغزالي رحمه الله (وأما الإجماع فينبغي أن تتميز عنده مواقع الإجماع حتى لايفتي بخلاف الإجماع) (المستصفى) 2/ 351. وكل فتوى خرجت بخلاف الإجماع فهى باطلة يجب نقضها، ذكره القرافي رحمه الله في كتابه (الفروق) 2/ 109.
2 ــ وإذا وجدهم اختلفوا في المسألة، فقد وجب عليه الترجيح بين أقوالهم بما علمه من الأدلة من الكتاب والسنة وفق قواعد الترجيح المعروفة لأهل العلم، ثم يفتي بالقول الراجح في المسألة. كما قال ابن تيمية رحمه الله ــ في صفة الفقيه ــ (الفقيه: الذي سمع اختلاف العلماء وأدلتهم في الجملة، وعنده مايعرف به رجحان القول) (الاختيارات الفقهية) ط دار المعرفة، صـ 333، وقال ابن تيمية أيضا (أجمع العلماء على تحريم الحكم والفتيا بالهوى، وبقول ٍ أو وجه من غير نظر في الترجيح) (المصدر السابق) صـ 332. ونقل ابن القيم عن أحمد بن حنبل رحمهما الله قوله (ينبغي لمن أفتى أن يكون عالما بقول من تَقَدم، وإلا فلا يفتي) (اعلام الموقعين) 4/ 205.
3 ــ فإذا لم يجد في المسألة قولاً لمن تقدم من أهل العلم اجتهد فيها.(7/326)
هذا ما يجب على المفتي عندما تعرض له مسألة يريد أن يفتي فيها. والمسألة محل البحث (وهى حكم أنصار الحاكم المرتد) فيها إجماع وهو إجماع الصحابة الذي سبق ذكره، وبالتالي فهى ليست محلاً للاجتهاد ولا الترجيح، وكل مايجب على المفتي فيها أن يعرف أنها محل إجماع، فإذا لم يعرف ذلك دَلّ على جهله وقِلة بضاعته الفقهية.
ولم يسلك مؤلف (الرسالة الليمانية) هذا المسلك عندما تكلم في حكم أنصار الحاكم المرتد، فلم يجمع نصوص المسألة من الكتاب والسنة ولانظر في أقوال السلف فيها ليعرف هل هى موضع إجماع أم محل خلاف؟ وإنما اعتبرها نازلة جديدة لم يسبق لأحد ٍ قول ٌُ فيها، فشرع في الاجتهاد فيها، وحتى في اجتهاده لم يسلك مسلكاً سديداً فلم يجمع كل النصوص الواردة في المسألة، وإنما وضع رأيا من عند نفسه وهو أن أي موالاة ظاهرة لايكفر فاعلها مالم تقارنها موالاة باطنة ثم التمس الأدلة على صحة رأية هذا وأنزله على أنصار الحاكم المرتد، وتوصّل بذلك إلى أنه لايكفر أحد ٌُ منهم مالم يُتحقق من توفر الموالاة الباطنة القلبية لديه وذلك بتبين حاله. فوقع المؤلف بذلك في مخالفة الكتاب والسنة والإجماع.
1 ــ أما مخالفته لكتاب الله تعالى:
فقد نص الله تعالى على كفر أنصار الحاكم المرتد المحارب لله ولرسوله من عدة أوجه، وذكرت في القسم الثاني (حكم أنصار الطواغيت) قيام ثلاثة مناطات مكفرة بهؤلاء، كل منها مكفِّر لهم بذاته، وهى:
أ ــ مناط موالاتهم للحاكم الكافر، وهذا يكفرهم لقوله تعالى (ومن يتولهم منكم فإنه منهم) المائدة 51.
ب ــ مناط قتالهم في سبيل الطاغوت، والطاغوت هنا هو ماتُحوكم إليه من دون الله من الدستور والقانون والحاكم الكافر، قال تعالى (يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت) النساء 60، وقتالهم في سبيل هذا الطاغوت المسمى بالشرعية الدستورية يكفرهم، لقوله تعالى (والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت) النساء 76.(7/327)
جـ ــ مناط معاداتهم لله ولرسوله، وهذا يكفرهم لقوله تعالى (من كان عدواً لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين) البقرة 98.
أما مؤلف (الرسالة الليمانية) فحصر تكفير أنصار الحاكم المرتد في مناط واحد وهو مناط الموالاة وأهمل ماعداه، ثم قسّم الموالاة إلى ظاهرة وباطنة، وأن الأولى غير مكفرة بذاتها إلا أن تقترن بها الثانية، وجعل كل مايقوم به أنصار الحاكم المرتد من قتل المسلمين وتعذيبهم وسجنهم وهتك حرماتهم وارتهان نسائهم ونقل أخبار المسلمين للكافرين جعل كل هذا من الموالاة الظاهرة غير المكفرة واستدل لذلك بأدلة سبق نقدها على التفصيل.
ومن الأهمية بمكان القول بأنه حتى في المناط الوحيد الذي اقتصر المؤلف على ذكره، وهو مناط الموالاة، لم يذكر المؤلف النص العام المحكم الوارد فيه، وهو قوله تعالى (ومن يتولهم منكم فإنه منهم)، فلم يذكر هذا النص ولو مرة واحدة في رسالته كلها، لأنه لو كان قد ذكره وذكر ماورد في تفسيره لأبطل الأساس الذي بني عليه رسالته كلها لأسباب منها:
* أنه نص عام في كل من تولى الكافرين لتصديره بمَن الشَّرطية، فيدخل فيه أنصار الحاكم المرتد ولابد.
* كما أنه نص محكم صريح الدلالة في كفر من تولى الكافرين، وأكّد كفره بثلاث مؤكدات: حرف التوكيد إنّ (فإنه منهم)، وتوكيد كفره بقوله تعالى (حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين)، وقوله تعالى (من يرتد منكم عن دينه). والآيات كلها نزلت في سبب واحد كما ذكره ابن تيمية وابن كثير والشوكاني.(7/328)
* كما أنه نص صريح في عدم اشتراط الموالاة القلبية للتكفير بالموالاة الظاهرة، لأن الله تعالى حكم بكفر من تولى الكفار وبيَّن أن الباعث الذي قام بقلبه لم يكن حب الكفار ولا الرضى بكفرهم ولاتكذيب الرسول ــ كما نقلته عن ابن تيمية ــ وإنما حمله على ذلك مجرد الخوف على دنياه (يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة)، والخشية من عمل القلب، فما قام بقلبه كان الخوف لا المحبة ولا الرضا كما اشترط المؤلف. فثبت بذلك أن الموالاة الظاهرة بالاتباع والنصرة مكفرة بذاتها بدون اشتراط أن تقارنها موالاة قلبية. وهذا يهدم الأساس الذي بنى عليه المؤلف رسالته.(7/329)
* كما أنه نص صريح في أن الخوف من الكفار ــ دون وقوع إكراه ملجيء ــ لايرخّص في موالاتهم، بل من والاهم مع الخوف دون إكراه فهو كافر كما قال تعالى (ومن يتولهم منكم فإنه منهم ــ إلى قوله ــ يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة)، وكون الخوف من الكفار لايرخص في موالاتهم يُثبت أمرين: أحدهما: خطأ حاطب في اعتذاره بالخوف لِمَا أقدم عليه، والأمر الآخر: أن التقية غير الموالاة، لأن التقية تجوز مع الخوف والموالاة لاتجوز معه، فثبت أن التقية ليست بموالاة كما قال ابن القيم، وهذا يُبطل الدليل الثاني للمؤلف. وبهذا ترى أن إيراد هذا النص العام المحكم في مسألة الموالاة كفيل بأن ينقض رسالة المؤلف من قواعدها، وبدلا من ذكر هذا النص المحكم لجأ المؤلف إلى نص خفي الدلالة تدخله الاحتمالات وهو حديث حاطب رضي الله عنه وفسَّره حسب القاعدة التي وضعها بعدم التكفير بالموالاة الظاهرة مالم تقارنها موالاة قلبية، فقال إن حاطباًلم يكفر رغم وقوع الموالاة الظاهرة منه، وخلص من هذا إلى أن الموالاة الظاهرة غير مكفرة بذاتها، والصواب أنها مكفرة وأن حاطبا فعل ماهو كُفْر وإنما لم يكفر للتأول وإن أخطأ فيه. ولو كان قد ذكر آيات سورة المائدة وهى النص العام المحكم في المسألة لما وقع في هذا الخلط، لأن حديث حاطب بخفاء دلالته يدخل في باب المتشابه وهذا يجب تفسيره وفق النص المحكم في المسألة عملا بقوله تعالى (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هُنّ أم الكتاب، وأخر متشابهات، فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ماتشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله) آل عمران 7. ومعنى (أم الكتاب) أي أصله الذي يُرجع إليه عند الاشتباه. ولكن مؤلف (الرسالة الليمانية) لم يذكر النص المحكم في المسألة:(7/330)
* فإن كان لم يذكر النص المحكم لعدم علمه به، فهو يتكلم في دين الله بغير علم، وهذا من الكبائر التي قرنها الله بالشرك كما قال ابن القيم في أوائل كتابه (اعلام الموقعين) ودليله قوله تعالى (قل إنما حرم ربي الفواحش ماظهر منها ومابطن، والإثم والبغي بغير الحق، وأن تشركوا بالله مالم ينزل به سلطانا، وأن تقولوا على الله مالا تعلمون) الأعراف 33، والمفتي إنما يُخبر عن الله ويقول عن الله، فإن قال على الله بغير علم فقد وقع في هذه الكبيرة وحرم عليه الإفتاء.(7/331)
* وإن كان المؤلف لم يذكر النص المحكم مع علمه به، فهو متوعد بقوله تعالى (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد مابيّناه للناس في الكتاب، أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون) البقرة 159. وإن كان يعلم النص المحكم فتركه وذكر النص المتشابه ــ وهو حديث حاطب خفي الدلالة ــ فهذه مسالك أهل الزيغ كما دل عليه قوله تعالى (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هُنّ أم الكتاب، وأخر متشابهات، فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ماتشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله) آل عمران 7، قال ابن كثير في تفسير هذه الآية (يُخبر تعالى أن في القرآن آيات محكمات هُنّ أم الكتاب: أي بيِّنات واضحات الدلالة لا التباس فيها على أحد، ومنه آيات أخر فيها اشتباه في الدلالة على كثير من الناس أو بعضهم، فمن رَدّ مااشتبه إلى الواضح منه وحَكَّمَ مُحكمه على متشابهه عنده فقد اهتدى، ومن عَكَس انعكس. ولهذا قال تعالى (هن أم الكتاب) أي أصله الذي يُرجع إليه عند الاشتباه، (وأخر متشابهات) أي تحتمل دلالتها موافقة المحكم وقد تحتمل شيئا آخر من حيث اللفظ والتركيب لا من حيث المراد ــ إلى أن قال ــ ولهذا قال الله تعالى (فأما الذين في قلوبهم زيغ) أي ضلال وخروج عن الحق إلى الباطل (فيتبعون ماتشابه منه) أي إنما يأخذون بالمتشابه الذي يمكنهم أن يحرّفوه إلى مقاصدهم الفاسدة وينزلوه عليها لاحتمال لفظه لما يصرفونه، فأما المُحكم فلا نصيب لهم فيه لأنه دافع لهم وحجة ٌُ عليهم، ولهذا قال الله تعالى (ابتغاء الفتنة) أي الإضلال لأتباعهم إيهاماً لهم أنهم يحتجون على بدعتهم بالقرآن وهو حجة عليهم لا لهم) (تفسير ابن كثير) 1/ 344 ــ 345.(7/332)
فهذا مايلزم المؤلف بتركه للنص المحكم في مسألة الموالاة، مما يجعله واقعا بين وعيدين، الوعيد الوارد في حق من أفتى بغير علم إن كان يجهل النص، والوعيد الوارد في حق من يكتم العلم إن كان قد تركه مع علمه به. وتركه لهذا النص جعله يحكم في المسألة بخلاف كتاب الله تعالى، هذا في المناط الوحيد الذي ذكره ــ وهو الموالاة ــ فكيف بما لم يذكره من مناطات أخرى مكفِّرة لأنصار الحاكم المرتد؟.
2 ــ أما مخالفة المؤلف للسنة:
فهو لم يذكر حديث العباس في خروجه مع المشركين يوم بدر، وإجراء النبي صلى الله عليه وسلم حكم الكفار عليه، فهذا نص في محل النزاع في تكفير من يقاتل في صف الكفار على التعيين. واستدل شيخ الإسلام به على تكفير كل من يقف في صف الكفار ولو كان مؤمنا يكتم إيمانه أو كان مُكرهاً، وقد نقلت قوله من قبل عن (مجموع الفتاوى) 19/ 225. فلم يذكر المؤلف حديث العباس ولامرة واحدة في رسالته.
فإن كان المؤلف قد ترك ذكر هذا الحديث لعدم علمه به فتلزمه آية الأعراف (33) السابق ذكرها، وإن تركه مع علمه به فتلزمه آية البقرة (159) السابق ذكرها.
3 ــ وأما مخالفته للإجماع
فهو إجماع الصحابة رضي الله عنهم على تكفير أنصار المرتدين وغَنْم ِ أموالهم وسَبْي نساءهم وأن قتلاهم في النار، ولم يفرقوا بين تابع ومتبوع. وهذا إجماع صحيح من جهة النقل، قطعي من جهة الدلالة إذ لم يخالف في ذلك أحدٌُ من الصحابة. وقد ذكرت من قبل أن مخالف مثل هذا الإجماع يكفر نقلاً عن ابن تيمية والقاضي عياض.(7/333)
ويلزم المؤلف في تركه لهذا الإجماع ما ذكرته من قبل إن كان قد تركه مع علمه به أو مع عدم علمه به. وكان الأحرى به أن يجتهد في البحث عن أقوال السلف في هذه المسألة ويتبعها حتى لايقع في مخالفة السنة والجماعة، كما قال الطحاوي رحمه الله (ونتبع السنة والجماعة ونجتنب الشذوذ والخلاف والفرقة) قال الشارح رحمه الله (السنة: طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم، والجماعة: جماعة المسلمين وهم الصحابة والتابعون لهم بإحسان إلى يوم الدين، فاتباعهم هدى وخلافهم ضلال) إلى آخر ماذكره من الأدلة على ذلك، (شرح العقيدة الطحاوية) ط المكتب الإسلامي 1403هـ، صـ 430.
والحاصل: أن مؤلف (الرسالة الليمانية) قال في حكم أنصار الحاكم المرتد بخلاف الكتاب والسنة والإجماع فوقع بذلك في محظورات ومحذورات عظيمة، سواء وقع في هذه المخالفة جهلاً أو عمداً. وبدلاً من ذلك لجأ إلى الاستدلال بأدلة ليست نصوصاً في محل النزاع وقد سبق نقدها على التفصيل.
وكل فتوى جاءت مخالفِة للنص أو الإجماع فهى باطلة لقوله صلى الله عليه وسلم (من عمل عملا ليس أمرنا فهو رَدّ) رواه مسلم، وهذا يُبطل ماجاء به في رسالته. كما قال القاضي شهاب الدين القرافي رحمه الله (كل شيء أفتى فيه المجتهد فخرجت فتياه على خلاف الإجماع أو القواعد أو النصّ أو القياس الجلي السالم عن المعارِض الراجح، لايجوز لمقلده أن ينقله للناس ولايفتي به في دين الله تعالى ــ إلى قوله ــ فالفتيا بهذا الحكم حرام) (الفروق) 2/109، ط دار المعرفة. وهذا في فتوى المجتهد فكيف بفتوى مَن دونه؟.(7/334)
وقد جمع المؤلف ــ بالإضافة إلى مخالفته للكتاب والسنة والإجماع ــ قوله بقول غلاة المرجئة في اشتراط كفر القلب للتكفير بالأعمال الظاهرة، مع عدم تفريقه بين المقدور عليه والممتنع في الأحكام. فهل يتفق هذا العجز العلمي وقِلّة البضاعة الفقهية مع تقمص دور الأستاذيّة الذي صَدَّر به المؤلف رسالته بقوله (إزاء كل هذا كان لِزاماً على الجماعة الإسلامية أن تنتهض لتبيان الحق والصواب، تفصِل وتحسِم هذه الأمور ــ إلى قوله ــ فأعدّت الجماعة الإسلامية بتوفيق الله ومنته هذه الرسالة لتكون سلاحاً لمن يقرؤها متجرداً من كل هوى إلا طلب الهدى والرشاد) أهـ (صـ 5)؟. وهل يتفق هذا العجز العلمي مع السُّباب الذي كاله المؤلف لمخالفيه في صدر رسالته كقوله (من تردّى في خندق التكفير) وقوله (رأينا كثيراً من ذئاب التكفير قد خرجت من أحراش أماكن كهذه)؟ وقد تبين لك من البحث السابق أن سُبابه هذا يقع أول مايقع على أبي بكر الصديق وعمر وسائر الصحابة رضي الله عنهم. وهل يتفق هذا العجز العلمي مع قول المؤلف في صـ 7 (وكل ذلك بعد العرض والإقرار ممن له أهلية ذلك، وهو في هذه الرسالة فضيلة الشيخ د. عمر عبدالرحمن)؟. وواضح من الرسالة وما انطوت عليه من مخالفات جسيمة في الاعتقاد وشذوذ في الأحكام الفقهية أنه ليس ثَمَّة أهلية وأن الدعوى عريضة والعجز ظاهر. والشيخ الذي ذكره له كتاب بعنوان (أصناف الحكام وأحكامهم) يأتي نقده في المبحث الثامن في موضوع الحكم بغير ماأنزل الله إن شاء الله، وهو على نفس القول في الإرجاء.(7/335)
(تذكرة) فإذا عَلِمْتَ أن هذا الكتاب (الرسالة الليمانية)، والذي انتقدته قبله وهو كتاب (القول القاطع فيمن امتنع عن الشرائع) يرجعان إلى جماعة واحدة أصدرتهما على أنهما من (المعالم الشرعية والفكرية للجماعة الإسلامية بمصر) وعلمت مافيهما من مخالفات شرعية جسيمة، وأضفت إلى ذلك المخالفات الواردة بكتاب (دعاة لا قضاة) وهو مرجع لجماعة الإخوان المسلمين، وأضفت مخالفات الألباني في الاعتقاد وشذوذه في الفقه والذي تمثل آراؤه مدرسة جديدة لها أتباعها، تبيّن لك أي جناية تجنيها بعض الجماعات الإسلامية على أتباعها وعلى غيرهم من المسلمين بتنشئتهم على اعتقادات منحرفة ومناهج فقهية شاذة. وإذا كنت قد ذكرت في (أداب العالم والمتعلم) ــ في الباب الرابع من هذا الكتاب ــ أن الشاب يظل على مانشأ عليه ويعسر أن يتحول عنه تبين لك أن الخطب جليل والخطر عظيم، فَحَول هذه الاعتقادات المنحرفة والآراء الشاذة يتحزب المسلمون اليوم خاصة الشبان منهم، لتنشأ فرق جديدة كما نشأت الفرق القديمة في هذه الأمة. وقد قال الله عزوجل (فليحذر الذي يخالفون عن أمرِهِ أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم) النور 63. ويدخل في الفتنة والعذاب الأليم الواردين في هذه الآىة ماهو واقع بالمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها من الضعف والتفرق والذِلة والهوان وضياع دولة الإسلام وتسلّط الكفار على المسلمين، وهذا كله يرجع في المقام الأول إلى مخالفات المسلمين لشريعتهم علما وعملاً كما قاله تعالى (وما أصابك من سيئة فمن نفسك) النساء 79، وقال تعالى (وماأصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير) الشورى 30. ودواء هذه الأدواء ماذكره الله في قوله تعالى (إن الله لايغير مابقوم حتى يغيروا مابأنفسهم) الرعد 11، ولايمكن تغيير مابالنفس إلا بالمجاهدة، ومن صدق فيها سَدَّده الله حسب وعده الصادق (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سُبلنا، وإن الله لمع المحسنين) العنكبوت 69. وهذا(7/336)
آخر موضوعات مبحث الاعتقاد، وبقيت خاتمته.
خاتمة مبحث كتب الاعتقاد
أما بعد، فقد اجتهدت في نصيحتي للطالب بما يدرسه في الاعتقاد، وأنا أعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال (من أُفتى بغير علم ٍ كان إثمه على من أفتاه، ومن أشار على أخيه بأمر يعلم أن الرشد في غيره فقد خانه) رواه أبو داود بإسناد حسن. نعوذ بالله تعالى من الخيانة.
بقي في هذه الخاتمة مسألتان من مسائل الدين، متعلقتان بالنقد الموجّه لبعض الكتب وبعض المؤلفين، والمذكور في كلامي السابق وفي بقية كتابي هذا، فينبغي أن يعلم الطالب أن هذا النقد من الواجبات الشرعية، كما ينبغي أن يعلم أنه إذا توجّه النقد لكاتب أو لكتاب فلا يعني هذا بالضرورة طرح الكتاب كله أو طرح كتب هذا الكاتب كلها. فهاتان مسألتان، وإليك شرحاً موجزاً لهما:
المسألة الأولى: وجوب التحذير من الخطأ في الدين:
اعلم أن التحذير من الخطأ واجب في شرع الله تعالى، وهو مما لايختلف على وجوبه وأهميته العلماء.
والمراد بالخطأ هنا هو القول المخالف للدليل الشرعي الصحيح وللراجح من أقوال العلماء.
ونتكلم في هذه المسألة في ثلاثة أمور، وهى: أسباب هذه الأخطاء، وخطورة السكوت عنها، ووجوب بيانها والتحذير منها.
1 ــ أما أسباب هذه الأخطاء، فهي إما أن تقع على وجه الخطأ أو على وجه العمد.(7/337)
أ ــ أما الأخطاء الواقعة على وجه الخطأ، فهى أخطاء العلماء المجتهدين، كما قال صلى الله عليه وسلم (إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر) متفق عليه. فبيّن الحديث أنه مع كونه مجتهداً إلا أن الخطأ جائز عليه إذ لامعصوم بعد النبي صلى الله عليه وسلم، والمجتهد مأجور مع ذلك إلا أنه لايُتابع على خطئه ولايُعمل به، لقوله صلى الله عليه وسلم (من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو ردٌُ) رواه مسلم، ومعنى (فهو ردٌُ) أي مردود لايُعمل به ولايُقبل عند الله تعالى. وهذه المعاني من أصول الاعتصام بالكتاب والسنة. ومازال علماء المسلمين يردون بعضهم على بعض وينبهون على الأخطاء من لدن أبي بكر الصديق رضي الله عنه وإلى يومنا هذا.
وأسباب أخطاء العلماء أهمها الأسباب التي ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه (رفع الملام عن الأئمة الأعلام)، متابعا في ذلك ماذكره ابن حزم في (الإحكام في أصول الأحكام) 2/124 ــ 145.
ب ــ وأما الأخطاء المتعمدة، فهى أخطاء أهل البدع والضلالات قديما وحديثا، وأخطاء الجهّال الذين يتكلمون في الدين بغير علم وهم كثيرٌُ في هذا الزمان ولهم أسماء شتى فهذا كاتب إسلامي وهذا مفكر إسلامي، ومنها أخطاء أصحاب المناصب الدينية الذين ينصبهم الحكام الطواغيت لتضليل المسلمين ولاسباغ الشرعية على حكم الطواغيت وأعمالهم الكفرية، ويخدعون العوام بما يخلعونه عليهم من ألقاب فضفاضة كصاحب الفضيلة وصاحب السماحة ومفتي الديار وغير ذلك.
والمبتدع والجاهل وعالم السوء يُضلون الناس بوسائل شتى:(7/338)
* منها الكذب الصريح على الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، بأن ينسب للقرآن ماليس منه أو يكذب على النبي صلى الله عليه وسلم بوضع الأحاديث المكذوبة، وهذا لابد أن يفتضح فاعله إذ تكفل الله بحفظ نصوص الشريعة من الكتاب والسنة، قال تعالى (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) الحجر 9، وإن كان هذا التبديل قد وقع في الأمم السابقة كاليهود والنصارى كما قال تعالى (فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا ثمناً قليلا) البقرة 79.
* ومنها كتمان النصوص الشرعية الدالة على الحق الذي يريدون إخفاءه، كما قال تعالى (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولاتكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا، فبئس مايشترون) آل عمران 187، ونحوها من الآيات. وقد يتخذ الكتمان صورة تضعيف حديث صحيح ليسقط الاحتجاج به، وقد يتخذ الكتمان صوة الإفتاء بالقول الشاذ أو القول المرجوح في المسألة مع عدم الإشارة إلى القول الراجح للعلماء، وقد يتخذ الكتمان صورة إسقاط بعض الكلام المنقول عن أحد العلماء، وهذا باب واسع ومنه الاحتجاج بالعام وكتمان مايخصصه، والاحتجاج بالمطلق وكتمان مايقيده، والاحتجاج بالمُجمل وكتمان مايبينه، وغير ذلك.
* ومنها تحريف النصوص الشرعية، كما في قوله تعالى (يحرفون الكلم عن مواضعه) النساء 46،
وهذا أكثر مايقع، لأن المُضِل لابد له من أن يتعلق بدليل شرعي ليروج كلامه لدى الناس، ولهذا فإن كلامه الباطل يُسمى (شُبهة) لأنه يشبه الحق بما تعلق به من دليل، ذكره ابن تيمية، ثم إنه يحرف الدليل عن معناه بتأويله تأويلاً شاذاً بغير حجة، أو باستنباطٍ فاسدٍ منه، ونحو ذلك، وهذا هو تلبيس الحق بالباطل المذكور في قوله تعالى (ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون) البقرة 42.(7/339)
وإذا تأملت النصوص السابقة ونحوها تجد كيف قَرَنَ الله تعالى بين الكذب عليه وكتمان الحق والصد عن سبيل الله الذي يفعله علماء السوء في كل زمان ومكان وبين شرائهم الثمن القليل الذي هو الدنيا بما فيها من المناصب والرياسات وجمع الأموال والتمتع بمباهج الدنيا؟ قال تعالى (فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا) البقرة 79، فقرن الله بين الكذب عليه وشراء الثمن القليل، وهو الدنيا بحذافيرها كما قال تعالى (قل متاع الدنيا قليل) النساء 77.(7/340)
وقال تعالى (إن الذين يكتمون ماأنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا، أولئك مايأكلون في بطونهم إلا النار) البقرة 174، وقال تعالى (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولاتكتمونه، فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا، فبئس مايشترون) آل عمران 187، فانظر كيف قرن الله بين كتمان الحق وشراء الثمن القليل؟. وقال تعالى (ياأيها الذين آمنوا إن كثيراً من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله) التوبة 34، فانظر كيف قرن الله تعالى بين الصد عن سبيله وأكل المال بالباطل؟. فحيثما وَجَدْتَ الضلالة من علماء السوء في صورة كذب على الله أو كتمان للحق أو تلبيس للحق بالباطل أو تحريف لمعاني النصوص، حيثما وجدت هذا فابحث عن الثمن، فستجده حتماً في صورة من الصور، فقد قرن الله تعالى بينهما في مواضع كثيرة من كتابه الحكيم، (ومن أصدق من الله حديثا)؟. وقال تعالى (فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم، وخضتم كالذي خاضوا) التوبة 69، فقرن سبحانه بين الخوض بالباطل والاستمتاع بالخلاق، وهذا كثير في القرآن، ولكثرته واضطراده فقد قال ابن القيم رحمه الله ــ في كتابه الفوائد ــ إن كل من آثر الدنيا من العلماء فلابد أن يقول على الله غير الحق. أهـ. وهؤلاء هم حاشية السلطان وقطّاع الطريق إلى الله الذين يصدون الناس عن سبيل الله باسم الدعوة إلى الله، ولهذا فقد توعّدهم الله بأشد العذاب.
هذه أهم أسباب الأخطاء الواردة في الموضوعات الشرعية.
(فائدة) متعلقة بمقام الحكمة والتعليل:
وهي لماذا أراد الله تعالى وقوع هذه الأخطاء والبدع والضلالات التي ينسبها مقترفوها إلى دين الله تعالى؟.(7/341)
والجواب أن هذا مما يبتلي الله تعالى به خلقه ويفتنهم به ليختبر صدق إيمانهم. قال تعالى (ونبلوكم بالشر والخير فتنة) الأنبياء 35، ولما صنع السامري العجل لبني اسرائيل وقال لهم هذا إلهكم وذلك في غيبة موسى عليه السلام، فبماذا عَلّل هارون عليه السلام صنيع السامري هذا؟، قال هارون ــ فيما قصّ الله علينا ــ (ياقوم إنما فتنتم به، وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري) طه 90، وهو نفس ماعلّل به موسى الأمر لما رجع ورأى ماحدث، قال موسى ــ فيما قصّ الله تعالى ــ (إن هى إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء) الأعراف 155. وقبل تعليل موسى وهارون عليهما السلام فقد قال الله عزوجل (فإنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري) طه 85. وهذا كله يدل على أن الله تعالى قد أراد وقوع الأخطاء والبدع والضلالات ــ إرادة قدرية وإن نهى عنها شرعا ــ ليختبر الناس بها فيُضل بها من يشاء ويهدي من يشاء، وبهذا تقوم بالناس في هذه الدنيا المحنة التي تميزهم إلى فريق في الجنة وفريق في السعير وِفق مشيئة المولى جل شأنه، قال تعالى (وتنذر يوم الجمع لاريب فيه، فريق في الجنة وفريق في السعير، ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة ولكن يدخل من يشاء في رحمته والظالمون مالهم من ولي ولانصير) الشورى 7 ــ 8.
ومانشأت الفرق الضالة المخالفة لأهل السنة كالشيعة والخوارج والمرجئة إلا من المفتونين بالبدع والضلالات التي أجراها الله على ألسنة من سبق لهم الخذلان في علمه تعالى، وبهذا وقعت إرادة الله القدرية بافتراق هذه الأمة إلى فرق شتى كما أخبر بذلك الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم.(7/342)
بقي هنا تنبيه هام: وهو أنه كما يفتن الله الناس بالضلالة يجريها على ألسنة أهل الزيغ، فإنه يفتنهم أيضا بالخطأ يجريه على لسان العالم الفاضل ليعلم الله هل يتبع الناس ماقال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم أم يتبعون العالم الفاضل في كل مايقول دون تبصر في قوله؟ ألا ترى أن السيدة عائشة رضي الله عنها لما خرجت على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه في يوم الجمل.فقال عمار بن ياسر رضي الله عنهما ــ محذراً المسلمين من متابعتها ــ (إن عائشة قد سارت إلى البصرة، والله إنها لزوجة نبيكم صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة، ولكن الله تبارك وتعالى ابتلاكم ليعلم إياه تطيعون أم هى) رواه البخاري، وروى أيضا بسنده عن أبي وائل قال: قام عمار على منبر الكوفة فذكر عائشة وذكر مسيرها وقال (إنها زوجة نبيكم صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة، ولكنها مما ابتليتم) (الأحاديث 7100 و 7101 بصحيح البخاري)؟، ألا ترى إلى قول عمار (ولكن الله تبارك وتعالى ابتلاكم ليعلم إياه تطيعون أم هى؟) وقال أيضا (ولكنها مما ابتليتم). فهكذا يبتلي الله الناس بخطأ العالم الفاضل وأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بألا نتابعه فقال (من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد) رواه مسلم. ومع ذلك فإن المفتونين بأخطاء العلماء كثيرون، ولهذا قال بعض السلف (زلة العالم كالسفينة تغرق ويغرق معها خلق كثير) رواه ابن عبدالبر في (جامع بيان العلم).
والخلاصة: أنه إذا تبيّنت لك الحكمة في وقوع الأخطاء والضلالات، وأن الله جعلها فتنة واختباراً للناس، فاحذر أن تكون من المفتونين خاصة إذا جرى الخطأ على ألسنة الفضلاء من أهل العلم. نسأل الله تعالى أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه وأن يرينا الباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه، وأن يثبت قلوبنا على دينه وصراطه المستقيم، وأن يختم لنا بخاتمة السعادة وسائر المسلمين، آمين.
2 ــ خطورة السكوت عن الأخطاء في الدين.(7/343)
حاصل السكوت عن الأخطاء في علوم الدين هو تبديل الدين وطمس معالمه بسبب تراكم الأخطاء عبر السنين والقرون مع عدم الإنكار والتغيير، حتى لايعرف المتأخرون إلا الدين المبدَّل ويحسبونه الحق ولايدرون عن الدين الحق شيئا وإذا أُخبروا به أنكروه، فيصير المعروف منكراً، كما يصير المنكر معروفا. وهذا ماوقع لأصحاب الأديان السابقة كاليهود والنصارى وكما بدّل العرب دين إبراهيم عليه السلام قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم.
ولما كان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم هو آخر الأنبياء لانبي بعده، ودينه الإسلام هو آخر الأديان في هذه الدنيا، فقد قضى الله بحفظ هذا الدين من التبديل والتحريف لتبقى حجته قائمة على خلقه إلى يوم القيامة سالمة من التحريف. ومن هنا قال أبو حاتم الرازي رحمه الله 277هـ (لم يكن في أمةٍ من الأمم منذ خلق الله آدم أمناء يحفظون آثار الرسل إلا في هذه الأمة) ذكره الخطيب البغدادي في (شرف أصحاب الحديث) صـ 43.(7/344)
ومع ذلك فقد تتراكم الأخطاء والبدع والضلالات حتى يُرمى من يتكلم بالحق بكل بدعةٍ وشناعة ٍ، وحتى يصير الحق غريبا فلا يعرفه من الناس إلا الرجل أو الرجلان، ومن هذا ماوقع للحافظ عبدالغني المقدسي 600 هـ ــ وهو صاحب كتاب (عمدة الأحكام) في أحاديث الأحكام، وكتاب (الكمال في أسماء الرجال)، وهو ابن أخي الموفق بن قدامة الحنبلي صاحب (المغني) ــ وقد ذكر قصته ابن كثير فقال (فحوّل عبدالغني ميعاده إلى بعد العصر فذكر يوما عقيدته على الكرسي، فثار عليه القاضي ابن الزكي وضياء الدين الدولعي، وعقدوا له مجلساً في القلعة يوم الاثنين الرابع والعشرين من ذي القعدة سنة خمس وتسعين ــ وخمسمائة ــ وتكلمو معه في مسألة العلوّ والنزول ومسألة الحرف والصوت، وطال الكلام وظهر عليهم بالحجة، فقال له برغش نائب القلعة: كل هؤلاء على الضلالة وأنت على الحق؟ قال: نعم، فغضب برغش من ذلك وأمره بالخروج من البلد) (البداية والنهاية) 13/ 39. وأدرجت في كلامه كلمة ــ وخمسمائة ــ ليتضح التاريخ، ويريد ابن كثير بكلمة (ميعاده) أي ميعاد درسه. وقد حدث قريب من هذا مع شيخ الإسلام ابن تيمية انظر مناظرة العقيدة الواسطية (بمجموع الفتاوى) 3/160 ــ 277، وذكر ابن كثير خبر هذه المناظرات في كتابه (البداية والنهاية) آخر جـ 13، وأول جـ 14. ورُمي أيضا شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله بكل بدعة ٍ وشناعة، انظر (الرسائل الشخصية) له،وانظر (دعاوي المناوئين لدعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب) لعبدالعزيز العبداللطيف، ولكن رغم تراكم الضلالات وغربة الحق فإن الله يقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق، (ويحق الله الحق بكلماته ولو كره المجرمون)، (ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون)، هذا وعد الله، ولايخلف الله الميعاد.
وفي بيان غربة أهل الحق وصفات أعدائهم ومخالفيهم في كل زمان، قال ابن القيم رحمه الله في قصيدته النونية:(7/345)
لا تُوحِشنّك غربةٌ بين الورى فالناس كالأموات في الحسبان
أو ما علمت بأن أهل السنة الغرباء حقاً عند كل زمان
قل لي متى سَلِمَ الرسول وصحبُه والتابعون لهم على الإحسان
من جاهلٍ ومعاندٍ ومنافقٍ ومحارب بالبغي والطغيان
وتظن أنك وارثٌ لهم وما ذُقْتَ الأذى في نصرة الرحمن
(شرح القصيدة النونية) 2/ 127، ط مكتبة ابن تيمية 1407هـ.
وقد قضى الله تعالى بأن يحفظ هذا الدين، ومما حفظ الله به دينه:
أ ــ أن يَسَّر سبحانه على المسلمين حفظ القرآن في الصدور، فأصبح منقولا بالتواتر جيلا بعد جيل، فإن زاغ زائغ وأراد أن ينقص من القرآن شيئا أو يزيد عليه أو يبدل فيه ابتدره آلاف الحفاظ بالزّجر والتصحيح.
ب ــ أن ألهم الله علماء المسلمين وضع علوم الوسائل وهى علوم القرآن وعلوم الحديث وعلوم اللغة العربية وأصول الفقه،لضبط العلوم الأصلية ــ وهى الكتاب والسنة ــ من جهة النقل ومن جهة الاستنباط منها.
جـ ــ أن أوجب الله تعالى على المسلمين الرد على المخطئ سواء تعمد الخطأ كأهل البدع والأهواء، أو لم يتعمده كالعلماء المجتهدين.
د ــ أن يَسَّر الله انتشار كتب العلوم الشرعية بأنواعها في شتى بلدان المسلمين ولم تعد من أسرار الكهنوت الدفينة، بحيث لو أراد رجل بأقصى المشرق أن يبدّل فيها لرّد عليه من بأقصى المغرب فمَن دونه، لايخفى من هذا شئ، وكمّ جُرح رجال بسبب ذلك.
بهذا حفظ الله تعالى على المسلمين دينهم، والكتب الشرعية وإن جمعت بين السمين والغث من الأقوال والآراء، إلا أن الإنسان إذا بحث عن الحق ــ متجرداً لله من كل هوى أو عصبية ــ وجده بكل يُسر، هذا وعدُ الله، لايخلف الله الميعاد، قال تعالى (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سُبلنا، وإن الله لمَعَ المحسنين) العنكبوت 69.(7/346)
قال ابن تيمية رحمه الله ــ في حفظ الله تعالى لهذا الدين ــ (وهذا الجنس ونحوه من علم الدين قد التبس عند أكثر المتأخرين حقه بباطله،فصار فيه من الحق مايوجب قبوله، ومن الباطل مايوجب رده، وصار كثير من الناس على طرفي نقيض.
قوم كذّبوا به كله لما وجدوا فيه من الباطل.
وقوم صدقوا به كله لما وجدوا فيه من الحق، وإنما الصواب التصديق بالحق والتكذيب بالباطل، وهذا تحقيق لما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم عن ركوب هذه الأمة سنن من قبلها حذو القذة بالقذة.
فإن أهل الكتابين لبسوا الحق بالباطل، وهذا هو التبديل والتحريف الذي وقع في دينهم، ولهذا يتغير الدين بالتبديل تارة، وبالنسخ أخرى، وهذا الدين لاينسخ أبداً لكن يكون فيه من يُدخِل من التحريف والتبديل والكذب والكتمان مايلبس به الحق بالباطل، ولا بد أن يقيم الله فيه من تقوم به الحجة خلفاً عن الرسل، فينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، فيحق الله الحق ويبطل الباطل ولو كره المشركون.) (مجموع الفتاوى) جـ 11 صـ 434 ــ 435.
هذا ما يتعلق ببيان خطورة السكوت عن الخطأ في الدين، وبيان أن الخطأ لابد أن يقع، وأما السكوت عنه فإن وقع من البعض إلا أنه يستحيل أن يتواطؤ عليه مجموع المسلمين لما قضى الله تعالى من حفظ هذا الدين.
3 ــ بيان وجوب التنبيه على الخطأ في الدين ووجوب التحذير منه:
اعلم أن الأدلة على هذا الوجوب كثيرة، فمنها:(7/347)
أ ــ قوله تعالى (وماأنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون) النحل 64. فبيّن الله جل وعلا أن بيان الحق في مواضع الاختلاف هو من واجبات الأنبياء، ولما كان العلماء ورثة الأنبياء، فقد وجب عليهم ماوجب على الأنبياء عليهم السلام. ومثل هذه الآية قوله تعالى (فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه) البقرة 213، وقوله تعالى (ولما جاء عيسى بالبينات قال قد جئتكم بالحكمة ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه) الزخرف 63، وقال تعالى (إن هذا القرآن يقصُّ على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون) النمل 76، ونحوها من الآيات التي تبين أن بيان الحق في مواضع الاختلاف هو من عمل الأنبياء، والعلماء ورثتهم وقائمون مقامهم في الأمة.
ب ــ قوله تعالى (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وأولئك هم المفلحون) آل عمران 104، وقال صلى الله عليه وسلم (من رأى منكم منكراً فليغيره) الحديث رواه مسلم. فبيان الخطأ في الدين والتحذير منه والرد عليه داخل في عموم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولهذا ذم الله من لم يقم بهذا وتوعّده بالعقوبة كما قال تعالى (لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون، كانوا لايتناهون عن منكر فعلوه، لبئس ماكانوا يفعلون) المائدة 78 ــ 79، وقال تعالى (لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ماكانوا يصنعون) المائدة 63.
جـ ــ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (الدين النصيحة) قلنا: لمن؟، قال (لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم) رواه مسلم عن تميم الداري.
وعن جرير بن عبدالله رضي الله عنه قال (بايعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم) متفق عليه.(7/348)
ولاشك في أن بيان الخطأ في الدين والتحذير منه والرد عليه هو من أعظم النصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولعموم المسلمين، إذ يترتب على السكوت عنه فساد دين الناس ومايتبعه من فساد دنياهم وآخرتهم.
ولهذا لم يختلف العلماء في وجوب هذا،وإن ترتب عليه تعيين المخطئ وجرحه إذ كان هذا من النصيحة الواجبة، وهذه الأدلة السابقة هى ونحوها أدلة على مشروعية جرح الرواة نقلة العلم وتعديلهم وفي هذا صُنفت كتب (الجرح والتعديل)، لم يختلف العلماء في وجوب ذلك، وإليك بعض أقوالهم:
أ ــ أورد البخاري رحمه الله 256 هـ، في كتاب الأدب من صحيحه، باب (مايجوز من اغتياب أهل الفساد والريب)، وفيه روي عن عائشة رضي الله عنها قالت: استأذن رجلٌُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال (ائذنوا له، بئس أخو العشيرة، أو ابن العشيرة)، فلما دخل ألان له الكلام، قلت: يارسول الله، قلت الذي قلت ثم ألنت له الكلام؟، قال (أي عائشة، إن شر الناس من تركه الناس ــ أو وَدَعه الناس ــ اتقاء فُحشِه). حديث 6054، قال ابن حجر في شرحه (قال العلماء: تباح الغيبة في كل غرض صحيح شرعاً حيث يتعيّن طريقاً إلى الوصول إليه بها ــ إلى قوله ــ والتحذير من الشر، ويدخل فيه تجريح الرواة والشهود ــ إلى قوله ــ وكذا من رأي متفقهاً يتردد إلى مبتدع أو فاسق ويخاف عليه الاقتداء به) (فتح الباري) 10/472.
ب ــ وروي الخطيب البغدادي بسنده عن الأوزاعي رحمهما الله قال (إذا ظهرت البدع فلم ينكرها أهل العلم صارت سُنّة) (شرف أصحاب الحديث) صـ 17، ط جامعة أنقرة.(7/349)
جـ ــ وقال أبو حامد الغزالي رحمه الله 505 هـ (بيان الأعذار المرخصة في الغيبة: اعلم أن المرخص في ذكر مساوئ الغير هو غرض صحيح في الشرع لايمكن التوصل إليه إلا به فيدفع ذلك إثم الغيبة، وهى ستة أمور ــ إلى أن قال ــ الرابع: تحذير المسلم من الشر، فإذا رأيت فقيهاً يتردد إلى مبتدع أو فاسق، وخفت أن تتعدى إليه بدعته وفسقه، فلَكَ أن تكشف له بدعته وفسقه) (إحياء علوم الدين) جـ 3 صـ 161 ــ 162. وقد نقل النووي كلام الغزالي هذا في فصل (مايباح من الغيبة) بكتابيه (الأذكار) و(رياض الصالحين).
وقال الغزالي أيضا ــ في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ــ (ومنها كلام القُصَّاص والوُعّاظ الذين يمزجون بكلامهم البدعة، فالقاصّ إن كان يكذب في أخباره فهو فاسق والإنكار عليه واجب، وكذا الواعظ المبتدع يجب منعه ولايجوز حضور مجلسه إلا على قصد إظهار الرد عليه، إما للكافة إن قدر عليه أو لبعض الحاضرين حواليه، فإن لم يقدر فلايجوز سماع البدع، قال تعالى لنبيه «فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره» ــ الأنعام 68 ــ، ومهما كان كلامه مائلا إلى الإرجاء وتجرئه الناس على المعاصي، وكان الناس يزدادون بكلامه جرأة وبعفو الله وبرحمته وثوقاً يزيد بسببه رجاؤهم على خوفهم فهو منكر، ويجب منعه عنه لأن فساد ذلك عظيم، بل لو رجّح خوفهم على رجائهم فذلك أليق وأقرب بطباع الخلق فإنهم إلى الخوف أحوج) (إحياء علوم الدين) 2/365. فانظر إلى تغليظه في شأن من يجرئ الناس على المعاصي، فكيف بمن يجرئ الناس على الكفر، من الذين يقولون للكافر ــ كالحاكم والقاضي بغير ماأنزل الله ــ إنك لم تكفر لأنك لم تعتقد أو تستحل أو تجحد أو تستخف؟.(7/350)
د ــ وقال القاضي عياض رحمه الله 544هـ ــ في الأحوال التي يجوز فيها حكاية الأقوال المكفّرة كسَبّ النبي صلى الله عليه وسلم ــ قال (فإن كان القائل لذلك ــ أي للسبّ ــ ممن تصدى لأن يؤخذ عنه العلم أو رواية الحديث أو يُقطع بُحكمه أو شهادته أو فتياه في الحقوق، وَجَب على سامعه الإشادة بما سمع منه والتنفير للناس عنه، والشهادة عليه بما قاله، ووجب على من بَلَغَه ذلك من أئمة المسلمين إنكاره وبيان كُفره وفساد قوله، لقطع ضرره عن المسلمين وقياما بحق سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم. وكذلك إن كان ممن يعظ العامة أو يؤدب الصبيان، فإن مَنْ هذه سريرته لايؤمن على إلقاء ذلك في قلوبهم، فيتأكد في هؤلاء الإيجاب لحقّ النبي صلى الله عليه وسلم، ولحقّ شريعته، ــ إلى قوله ــ وقد أجمع السلف على بيان حال المتهم في الحديث فكيف بمثل هذا؟) (الشفا) ط الحلبي، 2/ 997 ــ 998.
هـ ــ وقال النووي رحمه الله 676هـ ــ في آداب المعلم مع المتعلم ــ (ويبيّن الدليل الضعيف لئلا يغتر به، فيقول استدلوا بكذا وهو ضعيف لكذا، ويبين الدليل المعتمد ليُعتمد، ويبين له مايتعلق بها من الأصول والأمثال والأشعار واللغات وينبههم على غلط من غلط فيها من المصنفين، فيقول مثلا هذا هو الصواب وأما ماذكره فلان فغلط أو فضعيف قاصداً النصيحة لئلا يغتر به، لا لتنقص للمصنّف) (المجموع) 1/31، وقال النووي أيضا (فإن كان ــ أي المعلم الآخر ــ فاسقا أو مبتدعا أو كثير الغلط ونحو ذلك، فليحذّر من الاغترار به) (المجموع) 1/ 35.(7/351)
و ــ وقال ابن تيمية رحمه الله 728 هـ (ومثل أئمة البدع من أهل المقالات المخالفة للكتاب والسنة، أو العبادات المخالفة للكتاب والسنة، فإن بيان حالهم وتحذير الأمة منهم واجب باتفاق المسلمين. حتى قيل لأحمد بن حنبل: الرجل يصوم ويصلي ويعتكف أحب إليك، أو يتكلم في أهل البدع؟ فقال: إذا قام وصلى واعتكف فإنما هو لنفسه، وإذا تكلم في أهل البدع فإنما هو للمسلمين، هذا أفضل. فبين أن نفع هذا عام للمسلمين في دينهم، من جنس الجهاد في سبيل الله، إذ تطهير سبيل الله ودينه ومنهاجه وشرعته ودفع بغي هؤلاء وعدوانهم على ذلك واجب على الكفاية باتفاق المسلمين، ولولا من يقيمه الله لدفع ضرر هؤلاء لفسد الدين، وكان فساده أعظم من فساد استيلاء العدو من أهل الحرب، فإن هؤلاء إذا استولوا لم يفسدوا القلوب ومافيها من الدين إلا تبعا، وأما أولئك فهم يفسدون القلوب ابتداء) (مجموع الفتاوى) 28/231 ــ 232، وله كلام قريب من هذا في (الصارم المسلول) صـ 171.
وقال ابن تيمية أيضا ــ في كلامه عن أصحاب عقيدة الحلول والاتحاد كمحيي الدين بن عربي وأمثاله ــ (وهكذا هؤلاء الإتحادية: فرؤسهم هم أئمة كفر يجب قتلهم، ولاتقبل توبة أحد منهم، إذا أخذ قبل التوبة، فإنه من أعظم الزنادقة، الذين يظهرون الإسلام، ويبطنون أعظم الكفر، وهم الذين يفهمون قولهم، ومخالفتهم لدين المسلمين، ويجب عقوبة كل من انتسب إليهم، أو ذَبّ عنهم، أو أثنى عليهم، أو عظّم كتبهم، أو عُرف بمساعدتهم ومعاونتهم، أو كره الكلام فيهم، أو أخذ يعتذر لهم بأن هذا الكلام لا يدري ما هو؟ أو مَنْ قال إنه صنف هذا الكتاب؟ وأمثال هذه المعاذير، التي لايقولها إلا جاهل، أو منافق، بل تجب عقوبة كل من عَرف حالهم، ولم يعاون على القيام عليهم، فإن القيام على هؤلاء من أعظم الواجبات، لأنهم أفسدوا العقول والأديان، على خلق من المشايخ والعلماء، والملوك والأمراء، وهم يسعون في الأرض فساداً، ويصدون عن سبيل الله.(7/352)
فضررهم في الدين: أعظم من ضرر من يفسد على المسلمين دنياهم،ويترك دينهم كقطاع الطريق، وكالتتار الذين يأخذون منهم الأموال، ويبقون لهم دينهم، ولايستهين بهم من لم يعرفهم، فضلالهم وإضلالهم: أعظم من أن يوصف، وهم أشبه الناس بالقرامطة الباطنية.) (مجموع الفتاوى) جـ 2 صـ 131 ــ 132.
هذا كلام ابن تيمية في أهل البدع والضلالات، أما كلامه فيمن يخطئ من الصالحين، فقد قال رحمه الله (ولهذا وجب بيان حال من يغلط في الحديث والرواية، ومن يغلط في الرأي والفتيا، ومن يغلط في الزهد والعبادة، وإن كان المخطئ المجتهد مغفوراً له خطؤه، وهو مأجور على اجتهاده فبيان القول والعمل الذي دلّ عليه الكتاب والسنة واجب وإن كان في ذلك مخالفة لقوله وعمله، ومن عُلِمَ منه الاجتهاد السائغ فلا يجوز أن يذكر على وجه الذم والتأثيم له، فإن الله غفر له خطأه، بل يجب ــ لما فيه من الإيمان والتقوى ــ موالاته ومحبته والقيام بما أوجب الله من حقوقه من ثناء ودعاء وغير ذلك) (مجموع الفتاوى) 28/233.
ز ــ وقال ابن القيم رحمه الله 751هـ (والفرق بين النصيحة والغيبة: أن النصيحة يكون القصد فيها تحذير المسلم من مبتدع أو فتّان أو غاش أو مفسد ــ إلي قوله ــ فإذا وقعت الغيبة على وجه النصيحة لله ورسوله وعباده المسلمين فهى قربة إلى الله من جملة الحسنات) (الروح) لابن القيم، ط مكتبة المدني، صـ 322.
وقال ابن القيم أيضا (من أفتى الناس وليس بأهل للفتوى فهو آثم عاص ٍ، ومن أقرّه من ولاة الأمور على ذلك فهو آثم أيضا. ــ إلى أن قال ــ: وكان شيخنا رضي الله عنه شديد الإنكار على هؤلاء، فسمعته يقول: قال لي بعض هؤلاء: أجُعِلتَ محتسباً على الفتوى؟، فقلت له: يكون على الخبازين والطباخين محتسب ولايكون على الفتوى محتسب؟) (اعلام الموقعين) 4/ 217. وقوله (شيخنا) يعني ابن تيمية رحمه الله.(7/353)
ح ــ ولا مانع من تعيين شخص المخطئ من العلماء أو الضال من المبتدعة إذا اقتضت النصيحة ذلك، وكتب الجرح والتعديل مشحونة بآلاف الأمثلة على ذلك، وانقل طرفاً يسيراً مما ذكره الإمام مسلم في مقدمة صحيحه في هذا الشأن.
قال مسلم رحمه الله حدثنا عمرو بن علي أبو حفص قال: سمعت يحيي بن سعيد قال: سألت سفيان الثوري وشُعبة ومالكاً وابن عيينة عن الرجل لا يكون ثَبْتاً في الحديث، فيأتيني الرجل فيسألني عنه، قالوا: أخبر عنه أنه ليس بثَبْتٍ.
وقال مسلم حدثني محمد بن عبدالله بن قُهزاذ من أهل مَرْو قال: أخبرني علي بن حسين بن واقد قال: قال عبدالله بن المبارك: قلت لسفيان الثوري أن عبّاد بن كثير من تعرف حاله وإذا حَدَّث جاء بأمر ٍ عظيم، فترى أن أقول للناس لاتأخذوا عنه، قال سفيان: بلى، قال عبدالله: فكنت إذا كنت في مجلس ذُكِرَ فيه عباد أثنيت عليه في دينه وأقول لاتأخذوا عنه. وقال محمد: حدثنا عبدالله بن عثمان قال: قال أبي: قال عبدالله بن المبارك: انتهيت إلى شُعبة فقال: هذا عبّاد بن كثير فاحذروه.
وروي مسلم بإسناده عن ابن عون قال: قال لنا إبراهيم: إياكم والمغيرة بن سعيد وأبا عبدالرحيم فإنهما كذابان.
وروي مسلم بإسناده عن عبدالله بن المبارك قال: لو خُيِّرتُ بين أن أدخل الجنة وبين أن ألقي عبدالله بن مُحَرّر لاخترت أن ألقاه ثم أدخل الجنة، فلما رأيته كانت بَعْرة ٌ أحبَّ إلي منه.
وروي مسلم بإسناده عن عبيد الله بن عمرو قال: كان يحيي بن أبي أُنَيْسة كذاباً.(7/354)
إلى أن قال مسلم (وأشباه ماذكرنا من كلام أهل العلم في متهمي رواة الحديث وإخبارهم عن معايبهم كثير يطول الكتاب بذكره على استقصائه وفيما ذكرنا كفاية لمن تفهم وعقل مذهب القوم فيما قالوا من ذلك وبينوا، وإنما ألزموا أنفسهم الكشف عن معايب رواة الحديث وناقلي الأخبار وأفتوا بذلك حين سئلوا لما فيه من عظيم الخطر إذ الأخبار في أمر الدين إنما تأتي بتحليل أو تحريم أو أمر أو نهي أو ترغيب أو ترهيب، فإذا كان الراوي لها ليس بمعدن ٍ للصدق والأمانة ثم أقدم على الرواية عنه من قد عرفه ولم يبين مافيه لغيره ممن جهل معرفته كان آثما بفعله ذلك غاشاً لعوام المسلمين.) أهـ من (مقدمة صحيح مسلم).
وبعد:
فهذا كله مما يبين لك أن بيان خطأ من أخطأ في الدين والتحذير منه والرد عليه هى أمور واجبة بالكتاب والسنة وأجمع عليها علماء المسلمين، وهى من باب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر والنصيحة لله ولكتابه ولرسوله وللمسلمين وهذه من أعظم واجبات الدين. وهذا هو الأساس الشرعي لنقدنا لبعض المؤلفين وبعض الكتب في كتابي هذا وفي غيره من مؤلفاتي، وبالله تعالى التوفيق.
المسألة الثانية: اجتماع الحسنة والسيئة في العبد.
وهذا من أعظم أصول أهل السنة والجماعة التي خالفوا فيها غيرهم من الفرق، ومن هذا الباب أن المسلم قد يتكلم بحق وقد يتكلم بباطل، فنقبل ماقال من حق، ونرد ماقال من باطل. وهذه المسألة قد أوردتها لبيان أنه ليس معنى أن نقول إن فلاناً أخطأ في كذا وكذا أنه لايجوز نقل العلم عنه، بل الصواب في هذا الأمر التفصيل:
1 ــ فإن كان المخطئ من العلماء العدول فهذا ينقل عنه العلم بلاريب، وهو مأجور حتى في خطئه ولكن لايتابع عليه، وقد سبق ذكر أدلة ذلك.
2 ــ أما إن كان المخطئ من أهل البدعة فهذا في نقل العلم عنه تفصيل:
أ ــ فإن كانت بدعته مكفرة فلا يؤخذ عنه شئ من العلم.(7/355)
ب ــ وإن كانت بدعته مفسقه، فيؤخذ عنه العلم بشرطين: ألا يكون داعية إلى بدعته، وألا يروي مايقوي بدعته.
وتفصيل ذلك تجده بمسألة (حكم الرواية عن المبتدع) بكتب مصطلح الحديث. وسواء روينا عنه العلم أو لم نرو فإن الله تعالى قد يجري الخير والهداية على أيدي المبتدعة، فإن الله لايخلق شراً محضاً، وفي هذا يقول ابن تيمية رحمه الله (كالشيخ الذي فيه كذب وفجور من الإنس قد يأتيه قوم كفار فيدعوهم إلى الإسلام فيسلمون ويصيرون خيراً مما كانوا، وإن كان قصد ذلك الرجل فاسداً، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم «إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر، وبأقوام لاخلاق لهم».
وهذا كالحجج والأدلة التي يذكرها كثير من أهل الكلام والرأي، فإنه ينقطع بها كثير من أهل الباطل، ويَقْوَي بها قلوب كثير من أهل الحق، وإن كانت في نفسها باطلة فغيرها أبطل منها، والخير والشر درجات، فينتفع بها أقوام ينتقلون مما كانوا عليه إلى ماهو خير منه.
وقد ذهب كثير من مبتدعة المسلمين: من الرافضة والجهمية وغيرهم إلى بلاد الكفار، فأسلم على يديهم خلق كثير، وانتفعوا بذلك وصاروا مسلمين مبتدعين، وهو خير من أن يكونوا كفاراً، وكذلك بعض الملوك قد يغزو غزواً يظلم فيه المسلمين والكفار ويكون آثماً بذلك،ومع هذا فيحصل به نفعُ خلق ٍ كثير كانوا كفاراً فصاروا مسلمين، وذاك كان شراً بالنسبة إلي القائم بالواجب، وأما بالنسبة إلى الكفار فهو خير.
وكذلك كثير من الأحاديث الضعيفة في الترغيب والترهيب والفضائل والأحكام والقصص، قد يسمعها أقوام فينتقلون بها إلى خير مما كانوا عليه، وإن كانت كذبا) (مجموع الفتاوى) 13/ 95 ــ 96.
وخلاصة هذه المسألة:
1 ــ أنه ليس كل من يخطئ في مسائل الدين يكون فاسداً أو مبتدعاً، بل قد يخطئ العالم الفاضل.(7/356)
2 ــ كما أنه ليس كل من يصيب أو تقع على يديه هداية يكون صالحاً عدلاً مرضياً، بل قد يقول الشيطانُ الحقَ، كما في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ــ لأبي هريرة ــ (أما إنه صدقك وهو كذوب، تعلم مَن تخاطب من ثلاث ليال ياأباهريرة؟) قلت: لا، (قال:ذاك شيطان) الحديث رواه البخاري معلقا بصيغة الجزم. فشيطان الجن قد يصدق ويقول الحق، وكذلك شيطان الإنس قد يصدق، وصدقه أحيانا لايمنعنا من أن نصفه بأنه شيطان إذا قام المقتضي لذلك، تحذيراً للمسلمين من متابعته والفتنة به، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكهان إنهم ليسوا بشئ مع أنهم يصدقون أحيانا.
3 ــ أنه ليس كل من يخطئ في مسائل الدين يُرد قوله كله، بل إن في هذا تفصيلا سبق بيانه، أما عين الخطأ فهو مردود من أي شخص ٍ أتى.
وبهذا أختم المسألة الثانية في خاتمة مبحث كتب الاعتقاد، وبها أختم هذا المبحث، وبالله تعالى التوفيق.
ثم نعرج على الحديث عن الاعتصام بالكتاب والسنة، وهو منهج أهل السنة والجماعة الذي باتباعه قالوا بالاعتقاد الصحيح، فاتباع المنهج الصحيح يقود إلى الاعتقاد والاتباع الصحيحين.(7/357)