علامات الترقيم
جواباً على طلب بعض القراء وضعنا هذه الصفحة التعليمية التي نطرح فيها موضوعات تتعلق بلغتنا العربية. وسوف يكون العرض ميسراً وسهلا ما أمكننا ذلك.
وفي هذا العدد نتكلم عن علامات الترقيم : صورتها أو شكلها، أين توضع ، وكيف؟ ومثال على استعمال كل منها.
1- علامة الترقيم :الفاصلة (،)
أين توضع وكيف : بعد النداء، وبين أجزاء الجمل
المثال : يا باغي الخير، أقبل ، ويا باغي الشر، أقصر.
2- علامة الترقيم :الفاصلة تحتها نقطة (؛)
أين توضع وكيف : بين جملتين إحداهما سبب حدوث الأخرى
المثال : إن كنت مسافراً ؛ فودع أهلك.
3- علامة الترقيم : النقطة (.)
أين توضع وكيف : في نهاية الفقرة أو المعنى
المثال : خير الناس أنفعهم للناس.
4- علامة الترقيم : النقطتان (:)
أين توضع وكيف :قبل القول المنقول أو ما في معناه
المثال :قال الله تعالى : ((عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ)).
5- علامة الترقيم : علامة الحذف (...)
أين توضع وكيف : للدلالة على كلام محذوف من النص
المثال : وقف في ساحة المدرسة ... ثم أنشد
6- علامة الترقيم :علامة الاستفهام (؟)
أين توضع وكيف : بعد صيغة السؤال أو الاستفهام
المثال : ما مهنتك؟…
7- علامة الترقيم : علامة التعجب (!)
أين توضع وكيف : بعد كلمة أو جملة أو معنى متعجب منه
المثال :ما أجمل أيام الربيع!…
8- علامة الترقيم : علامة الاقتباس ( " " )
أين توضع وكيف : يوضع بينهما كلام منقول
المثال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"»لا ضرر، ولا ضرار«".
9- علامة الترقيم : الشرطة المعترضة ( - )
أين توضع وكيف : توضع قبل وبعد الجملة الاعتراضية
المثال : إني - والحمد لله - بخير.
10- علامة الترقيم : القوسان الحاصرتان ( [ ] )
أين توضع وكيف: يوضع بينهما كلام ليس من النص أصلاً، أو زائد عليه.
المثال :إن فلسفة شوبنهور [ فيلسوف ألماني مشهور] تشبه فلسفة أبي العلاء المعري.
11- علامة الترقيم : القوسان ( ( ) )(1/1)
أين توضع وكيف : يوضع بينهما أرقام أو مرجع داخل النص
المثال : خرجت فرنسا مدحورة من الجزائر عام (1961)(1).
الهوامش:
1- يمكن الاستئناس بالصفحة الأخيرة من هذا العدد كمثال تطبيقي لاستعمال بعض علامات الترقيم.(1/2)
الجامع
في طلب العلم الشريف
المجلد الأول
الشيخ
عبد القادر بن عبد العزيز
بسم الله الرحمن الرحيم
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى،
فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله
فهجرته إلى الله ورسوله،
ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة
ينكحها فهجرته إلى ماهاجر إليه)
متفق عليه.
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة الطبعة الأولى
الجامع في طلب العلم الشريف
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
(ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولاتموتن إلا وأنتم مسلمون) آل عمران 102.
(ياأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا).النساء 1.
(ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما) الأحزاب 71.
أ ما بعد،،،
فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امريء مانوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ماهاجر إليه) متفق عليه.
ثم أما بعد:(2/1)
فقد قال الله عزوجل (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) الذاريات 56، ولاسبيل للخلق إلى عبادته سبحانه على الوجه الذي يرضيه إلا بأن يعبدوه كما أمرهم، ولاسبيل إلى معرفة أمره ونهيه سبحانه إلا عن طريق الوحي الذي أوحاه إلى رسله والعلم الذي أنزله إليهم، قال تعالى (وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ماكنت تدري ماالكتاب ولا الإيمان، ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا، وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم) الشورى 52، وقال تعالى (أَومَن كان مَيْتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس، كمن مَثَله في الظلمات ليس بخارج منها، كذلك زُيِّن للكافرين ماكانوا يعملون) الأنعام 122.
ولاسبيل إلى معرفة ماجاء به الأنبياء عليهم السلام من الوحي والعلم إلا بطلبه والاجتهاد في تحصيله. وهذا الطلب منه ماهو فرض عين أي واجب على كل مسلم ومسلمة وهو العلم الذي لايصح عمله إلا بمعرفته والتزامه به وإلا كانت أعماله فاسدة باطلة مردودة لايقبلها الله ولاتنفعه في الآخرة كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رَدّ) رواه مسلم، ومعنى (فهو رَدّ) أي مردود غير مقبول.
ثم إن هناك مرتبة أخرى أعلى من طلب فرض العين من العلم، وهى مرتبة طلب فرض الكفاية منه، وهو العلم الذي ينفع المسلمُ به غيره من إخوانه المسلمين في التعليم والفتوى والقضاء والوعظ، وهذه المرتبة يُوَفَّق لطلبها من كتب الله له الخير والسعادة منذ الأزل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من يُرد الله به خيراً يفقّهه في الدين) الحديث متفق عليه. وأصحاب هذه المرتبة العليا والمنزلة السامية هم العلماء الذي هم ورثة الأنبياء وحملة علمهم.
وقد جاء كتابي هذا (الجامع في طلب العلم الشريف) مبيّنا لفرض العين من العلم وفرض الكفاية منه، وذلك في سبعة أبواب:(2/2)
الباب الأول منها: في فضل العلم وفضل أهله، ليعرف الإنسان شرف المطلوب وفضله، ومايناله من الخير والفضل إذا طلبه فتنبعث هِمّته إلى طلبه.
والباب الثاني: في بيان حكم طلب العلم الشرعي، وحَدّ فرض العين منه وصفته ومفرداته، وحَدّ فرض الكفاية منه.
والباب الثالث: في كيفية طلب العلم، لمعرفة كيف يطلب المسلم ماوجب عليه من العلم.
والباب الرابع: في آداب العالم والمتعلم، إذ إن الطلب له آداب وإرشادات لابد من اتباعها والالتزام بها حتى يؤتي التعلم ثمرته.
والباب الخامس: في أحكام المفتي والمستفتي وآدابهما، فما فات المسلم طلب علمه فإنه لابد أن يسأل عنه ويستفتي فيه خاصة إذا نزل به أمر يستوجب العلم قبل العمل. فجاء هذا الباب مبينا لما يتعلق بالمفتي والمستفتي من أحكام وآداب.
والباب السادس: في الجهل والعذر به، إذ إن الجهل نقيض العلم، وينبغي للمسلم أن يعلم مايُعذر به وما لا يُعذر به من الجهل حتى لايخلد إليه فيكون فيه هلاكه يوم ينكشف عنه الغطاء.
أما الباب السابع: ففي بيان الكتب التي أوصي بداستها في مختلف العلوم الشرعية، وهذا أمر لايكتمل الكتاب بدونه خاصة مع كثرة الاعتماد على الكتب في التعلم في هذا الزمان بسبب ندرة العلماء المؤهلين لذلك أو بسبب مشقة الارتحال إليهم. وقد قدّمت لكل نوع من أنواع العلوم الشرعية ببيان أهم موضوعاته وأهم كتبه مع الوصية بدراسة بعضها. هذا وقد اضطررت في هذا الباب للاستطراد في بحث بعض الموضوعات إما بسبب كثرة أخطاء المؤلفين فيها، وإما بسبب نقص المؤلفات فيها مع شدة الحاجة إلى العلم بها.
هذه هى أبواب الكتاب السبعة.(2/3)
وقد كان الباعث على تأليف هذا الكتاب هو الرغبة في أداء النصيحة لأمة محمد صلى الله عليه وسلم إيمانا بقوله صلى الله عليه وسلم (الدين النصيحة)، وبصفة خاصة في هذا الموضوع المهم ألا وهو طلب العلم الشرعي الذي يعتمد عليه تجديد دين الأمة وبعثها من غفلتها وتخلفها، إذ لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها. وقد رأيت انصراف كثير من المسلمين عن طلب العلم الشرعي في هذا الزمان حتى ماوجب على أعيانهم منه، ورأيت من أدرك منهم أهمية طلب العلم لايميز بين الفريضة والنافلة منه، ولايميز بين الأهم وما دونه، كما رأىت بعض المسلمين يشتغلون بكتب الغث فيها أكثر من السمين وبكتبٍ ضررها أكثر من نفعها. فإذا أضفت إلى هذا إهمال كثير من المسلمين للاستفتاء الواجب عليهم في نوازلهم وإقدامهم على الأقوال والأعمال غير مبالين بمعرفة حكم الله فيها، ظهرت بذلك الحاجة الشديدة إلى الكتابة في هذا الموضوع عظيم الخطر وكبير الأثر على الأمة ألا وهو موضوع طلب هذا العلم الشريف، ومن هنا جاء هذا الكتاب.
وقد كتبت كتابي هذا بأسلوب مُيسَّر يناسب العامّة وطلاب العلم المتخصصين، ويجد كل منهما فيه بُغيته بإذن الله تعالى.(2/4)
كما التزمت ألا أذكر فيه قولاً أو حكماً إلا مقرونا بأدلته الشرعية من الكتاب والسنة مع الاستشهاد بأقوال العلماء حسبما تيسر، حتى يترسخ هذا المنهج ــ منهج اتباع الدليل الشرعي ــ في نفوس المسلمين عامة وفي نفوس العاملين منهم للدعوة لدين الله تعالى خاصة. وذلك للخروج من ربقة التقليد المذموم الذي فرّق المسلمين شِيعاً وأحزاباً وألقى بينهم العداوة والبغضاء بنسيانهم حظاً ما ذكروا به، ولا مخرج لهم من ذلك إلا بالاعتصام بالكتاب والسنة وذلك باتباع الدليل الشرعي كما قال تعالى(واعتصموا بحبل الله جميعا ولاتفرقوا) آل عمران 103. والله تعالى إنما تعبدنا بطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وذلك باتباع الدليل الشرعي، قال تعالى(ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم، ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله ناراً خالداً فيها وله عذاب مهين) النساء 13 ــ 14، فتبيّن بذلك أن العصمة والفوز والفلاح باتباع قول الله وقول الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن الخيبة والخسران في مخالفة ذلك، فينبغي ألا يقبل المسلم قولاً في دين الله من أحد ٍ إلا إذا كان مستنداً إلى دليل شرعي من نص كتاب أو سنة أو إجماع معتبر أو قياس صحيح، وذلك حتى لايقع المسلم في حبائل قطّاع الطريق إلى الله باسم الدعوة إلى الله.
وعلى هذا فإن أي قول قلته في كتابي هذا ثبت أنه مخالف للدليل الشرعي الصحيح الراجح فأنا راجع عنه في حياتي وبعد مماتي، وأقول بما صح به الدليل.(2/5)
هذا وقد احتجت في كتابي هذا إلى نقد بعض أقوال أهل العلم ونقد كثير من الكتب، كلُ ُ في موضوعه، استكمالا لنصيحة المسلمين التي لاتتم إلا بالتحذير من الخطأ في الدين، وذكرت الأدلة على مشروعية هذا النقد وذلك في خاتمة مبحث الاعتقاد بالباب السابع، واتبعت في دراستي النقدية المنهج الذي بيّنه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في قوله (فهذا أحسن مايكون في حكاية الخلاف: أن تُستوعب الأقوال في ذلك المقام، وأن ينبه على الصحيح منها، ويبطل الباطل، وتذكر فائدة الخلاف وثمرته، لئلا يطول النزاع والخلاف فيما لافائدة تحته، فيشتغل به عن الأهم، فأما من حكي خلافاً في مسألة ولم يستوعب أقوال الناس فيها فهو ناقص، إذ قد يكون الصواب في الذي تركه أو يحكي الخلاف ويطلقه، ولاينبه على الصحيح من الأقوال فهو ناقص أيضاً، فإن صحّح غير الصحيح عامداً فقد تعمد الكذب أو جاهلا فقد أخطأ، كذلك من نصب الخلاف فيما لافائدة تحته أو حكي أقوالا متعددة لفظاً ويرجع حاصلها إلى قول أو قولين معنى فقد ضيع الزمان، وتَكَثّر بما ليس بصحيح فهو كلابس ثَوْبَي زور، والله الموفق للصواب) (مجموع الفتاوى) 13/ 368.
كما أودّ أن أنبّه القاريء إلى أنني لجأت إلى اختصار الحديث أحيانا بالاستدلال بجزء منه في مواضع، أخذاً بمذهب من يجيز ذلك من أهل العلم كالبخاري رحمه الله وغيره، وهو المذهب الصحيح كما رجحه النووي شريطة ألا يُخل المحذوف بحكم المذكور من الحديث. انظر (المجموع) للنووي، 1/ 64.(2/6)
وقد تكلمت في هذا الكتاب في كثير من الموضوعات التي تشغل بال المسلمين في هذا الزمان مبيّنا الراجح والصواب في كل منها بإذن الله تعالى، وذلك مثل موضوع الاتباع والتقليد، وموضوع الجهل والعذر به، وموضوع التكفير وضوابطه، وموضوع حكم الديمقراطية وأساليبها، وموضوع حكم الحكام الحاكمين بغير ماأنزل الله وحكم أعوانهم وأنصارهم، وموضوع أحكام الديار وحكم عوام الناس بها، وموضوع السياسة الشرعية ومادخله من تحريفات المعاصرين، وموضوع الحجاب والنقاب، وغيرها من الموضوعات التي يمكن معرفة مواضعها بمراجعة الفهرس المثبت في آخر الكتاب. وأحب أن أنبه هنا على أنني أحيانا ماأتكلم في الموضوع الواحد في أكثر من موضع بالكتاب وهنا غالبا ماأنبه على بقية مواضعه خاصة الموضع الأساسي منها.
وقد جاء هذا الكتاب مشتملاً على موضوعات كتابي (دعوة التوحيد) الذي لم يقدّر الله نشره، وكتابي (دعوة التوحيد هو كتاب تحقيق التوحيد بتحكيم شريعة رب العالمين) وموضوعه: الكلام في حكم الحكام وأعوانهم وحكم ديارهم وذلك في البلاد المحكومة بغير ماأنزل الله بالقوانين الوضعية، وقد وردت هذه الموضوعات كلها ــ ولو بصورة موجزة ــ في كتابي هذا (الجامع في طلب العلم الشريف) كما ذكرت آنفا.(2/7)
وأحب أن أنبّه على أن كتابي هذا ليس خاصاً بأهل بلدٍ بعينه أو بطائفة بعينها، وإنما كتبته لكل مسلم وكافر، وهم أمة دعوة محمد صلى الله عليه وسلم، المخاطبون بدعوته ورسالته، وهم جميع الخلق من يوم مبعثه صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة. كما قال صلى الله عليه وسلم (وكان النبي يُبعث إلى قومه خاصة وبُعثت إلى الناس عامة) الحديث رواه البخاري، وقال صلى الله عليه وسلم (والذي نفس محمد بيده لايسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولانصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار) رواه مسلم، فقوله (من هذه الأمة) يعني أمة الدعوة التي تعم كل مسلم وكافر، لا أمة الإجابة الخاصة بالمسلمين كالمذكورة في قوله تعالى (كنتم خير أمة أخرجت للناس) آل عمران 110.
كما أحبّ أن أنبه على أن المكتوب في هذا الكتاب لايعبر عن رأي حزب معين أو جماعة معينة، بل لا يعبر إلا عن رأى صاحب الكتاب، هذا فضلا عن أنني لا أنتمي إلى أي حزب أو جماعة. ولهذا فإن مافي هذا الكتاب هو وجهة نظر باحث محايد لايبتغي إلا الحق بإذن الله تعالى، وكما ذكرت من قبل فإن أي شيء في كتابي هذا، وفي غيره من كتبي، صَحَّ الدليل بخلافه فأنا راجع عنه في حياتي وبعد مماتي، فلا يحل لأحد أن ينسب إليّ قولاً يخالف الدليل مع رجوعي هذا.
وقد كتبت كتابي هذا ماأريد به إلا وجه الله تعالى وابتغاء مرضاته، عسى الله أن ينفع به وأن يكون صدقة جارية وعلماً ينتفع به فيلحقني ثوابه في محياي ومماتي. ولهذا فإني لا أُحِلّ لنفسي التكسب من كتبي ولا أُحِلّ ذلك لورثتي من بعدي، ولاأقول إن هذا حرام على غيري من المؤلفين خاصة مع الحاجة، ولكني أحتسب علمي عند الله تعالى.(2/8)
ولهذا فإني أجيز كل إنسان في طباعة أي كتاب من كتبي، أو طباعة أي جزء منه أو ترجمته إلى غير العربية من مؤهل لذلك، شريطة ألا يزيد أحدُ ُ في كلامي أو ينقص منه شيئا. ولكني لأجيز أحداً في اختصار كتبي فإني لا أدري أعُمدة مايحذفه منه أم فَضْلة.
وأرجو من كل من يقوم على طباعة كتبي ألا يتكسب من جَرّاء ذلك إلا بما يسمح بطباعتها ونشرها، حتى تصل إلى القاريء الكريم بثمن زهيد، فالمؤلف ــ وكما سبق بيانه ــ ليست له حقوق طبع.
وأدعو الله السميع القريب المجيب أن يجزي خيراً في الدنيا والآخرة كل من قدّم لي مساعدة في سبيل إخراج هذا الكتاب. آمين.
والحمد لله رب العالمين وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
كتبه إيمانا واحتسابا
عبدالقادر بن عبدالعزيز
مقدمة الطبعة الثانية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين.
أما بعد:
فإن هذه الطبعة الثانية من كتابي (الجامع في طلب العلم الشريف) لاتختلف عن الطبعة الأولى في شيء من محتواها إلا في هذه المقدمة وما اقتضته إضافتها من تعديل في الغلاف أو في ترقيم الصفحات.
وقد كان الباعث على إضافة هذه المقدمة هو التنبيه على العبث والإفساد الذي تعرضت له الطبعة الأولى، فقد قامت إحدى الجماعات الإسلامية وهي جماعة الجهاد المصرية بطبع كتابي هذا بعد تغيير اسمه وبعد الحذف منه والإضافة إليه، فاقتضى هذا إصدار بيان للتنبيه على مافعلته هذه الجماعة، ويأتي نص هذا البيان في آخر هذه المقدمة إن شاء الله تعالى.
وهذا مصداق قول رسول الله صلى الله عليه وسلم (لايأتي عليكم زمان إلا والذي بعده شرُُ ُ منه حتى تلقوا ربكم) رواه البخاري، وقوله صلى (تأتي الفتن يُرَققّ بعضها بعضا) الحديث رواه مسلم، فإن الذي فعلته هذه الجماعة الأثيمة من تحريف كتب العلوم الشرعية لاسابقة له في تاريخ المسلمين فيما علمته، فهذا من الشرور الحادثة، وقانا الله من مضلات الفتن.(2/9)
وقد علمت بأن الباعث لهذه الجماعة الأثيمة على ماأقدمت عليه من التحريف والتزوير لكتابي قولهم بأنه اشتمل على نقد لبعض الجماعات الإسلامية وأن هذا يضر بالعمل الإسلامي وأن المصلحة تقتضي حذف هذا النقد وهو مااقترفته أيديهم، وأعلّق على هذا بأمرين:
أحدهما: إن المصلحة الشرعية الحقة هى في تمييز الحق من الباطل، أما السكوت عن الباطل فليست فيه مصلحة وإنما هو تلبيس على المسلمين واتباع للهوى، وهذا بخلاف مراد الله في قوله تعالى(ماكان الله ليذر المؤمنين على ماأنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب) آل عمران، وقوله تعالى
(ليميز الله الخبيث من الطيب، ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا فيجعله في جهنم، أولئك هم الخاسرون) الأنفال. فتمييز الخبيث من الطيب أمر محبوب لله تعالى أراده شرعاً وقدراً، وعلى هذا فالقول بأن كتمان النقد الذي ورد بكتابي فيه مصلحة هو قول فاسد مضاد لأمر الله. ولهذا فقد قال الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه (إذا سكت العالِم تقية، والجاهل لايعلم، فمتى يظهر الحق ؟).
والأمر الثاني: أن أغلب المعاصي العظيمة ماارتكبت إلا بتأويل فاسد، فإبليس عصى بامتناعه عن السجود لآدم بتأويل فاسد وهو قوله ــ فيما حكى الله تعالى (أنا خير منه خلقتني من نارٍ وخلقته من طين)، والكفار استحلوا الربا بتأويل فاسد وهو قولهم ــ فيما حكى الله تعالى ــ (إنما البيع مثل الربا) واليهود والنصارى استمروا في كفرهم وضلالهم بتأويل فاسد وهو قولهم ــ فيما حكى الله تعالى ــ (نحن أبناء الله وأحباؤه)، ولهذا وصفهم الله تعالى بقوله (وغرّهم في دينهم ماكانوا يفترون)، أما هذه الجماعة الأثيمة فاقترفت مااقترفته من التحريف والتزوير بتأويل فاسد وهو المصلحة المزعومة، وكل التأويلات الفاسدة ماهى إلا تقية يدرأ بها العاصي عن نفسه.(2/10)
وليس كل مايراه المرء مصلحة يكون كذلك، فقد عاب الله على قوم دعواهم (إنما نحن مصلحون) ووصفهم بأنهم (ألا إنهم هم المفسدون ولكن لايشعرون) وهؤلاء المنافقون وكانوا يدّعون المصلحة والإحسان في كل مايفعلونه كما قال تعالى (فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاءوك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا، أولئك الذين يعلم الله مافي قلوبهم،، فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولاً بليغا) النساء، وإنما المصلحة هى ماشهد له الشرع، ولها ضوابط محددة مذكورة في أبواب أدلة الأحكام بكتب أصول الفقة.
والحق أن البعض يضيق بالنقد لا لمصلحة شرعية حقيقية، وإنما لما للنقد من تأثير سلبي على وجاهتهم أو على مايجمعونه من أموال، وهذا من أعظم مايفسد الدين كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه) رواه أحمد، وتكون دعوى المصلحة في كتمان النقد هنا إنما هى تقية لأجل المحافظة على الوجاهة والأموال، ولاتروج هذه التقية إلا على الجهال. وهذا كله بخلاف سيرة السلف الصالح الذين كانوا يقولون (رحم الله من أهدى إلينا عيوبنا). وقد قال الله تعالى (ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لايحتسب) الطلاق، وكان أبو بكر المروزي ــ وهو من أجلّ تلاميذ الإمام أحمد رحمهما الله ــ يقول (قليل التقوى يهزم كثير الجيوش).
وأنا أحذّر كل انسان من أن تمتد يده بالعبث إلى كتب العلوم الشرعية، فإنه مافعل ذلك أحدُ ُ إلا وقد فضحه الله في الدنيا، وإن فضيحة الآخرة لأشد، وقال الإمام مالك ــ فيما رواه عنه اللالكائي رحمهما الله ــ (مهما تلاعبت به من شيء فلا تلاعبنّ بأمر دينك).
وسوف أذكر فيما يلي البيان الذي أصدرته بشأن هذه الجماعة الأثيمة، ثم أتبعه بتعقيب إن شاء الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم(2/11)
قال الله عزوجل (لايحب الله الجهربالسوء من القول إلا من ظُلم، وكان الله سميعا عليما).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من رأي منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان).
بيان وتحذير بشأن جماعة الجهاد المصرية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، أما بعد:
فهذا بيان من الشيخ عبدالقادر بن عبدالعزيز إلى من يصل إليه من المسلمين، يحذرهم فيه من الكذب والتزوير والخداع الذي تقوم به جماعة الجهاد المصرية.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ثم أما بعد:(2/12)
فإن الله تعالى المحمود على إنعامه آناء الليل وأطراف النهار قد مَنَّ عَلَيَّ بتأليف كتاب أسميته (الجامع في طلب العلم الشريف) اشتمل على بيان مايلزم طالب العلم الشرعي منذ أن يشرع في طلبه إلى أن يصير مفتيا إن وفّقه الله لذلك، وذلك على التفصيل، كما اشتمل كتابي هذا على ذكر الفتوى في بعض النوازل المعاصرة من وجة نظري، واشتمل أيضا على نقد شرعي لأخطاء بعض المؤلفين من القدامى والمعاصرين، ودخل في هذا النقد المؤلفات الشرعية لبعض الجماعات الإسلامية ونقد الأساليب العملية غير الشرعية للبعض الآخر، وقد كان مقصدي من هذا أن يعلم المسلمون بعض مواضع الخلل في العمل الإسلامي المعاصر، وأن يعلموا بعض أسباب الخذلان الملازِم للحركات الإسلامية في الأغلب الأعم، وذلك أن وعد الله بنصر المؤمنين هو حق لاريب فيه (وكان حقاً علينا نصر المؤمنين)، وإنما يتخلف هذا الوعد لتخلف أسبابه وذلك بنقص الإيمان علما أو عملا، (وماأصابك من سيئة فمن نفسك)، وذكرت في كتابي هذا أن الشك في صحة مناهج الحركات الإسلامية العلمية أو العملية خير من الشك في صدق وعد الله تعالى، كما ذكرت أنني لا أنتمي لأي جماعة إسلامية حتى لا أتهم بمحاباة أحدٍ، وإنما كتبت من وجهة علمية محايدة وانتقدت نقداً شرعياً غرضه تصحيح الأخطاء وكشف الانحرافات قياما بواجب النصيحة لله ولكتابه ولرسوله صلى الله عليه وسلم ولعموم المسلمين، وبيني وبين كل من انتقدته الدليل الشرعي من كتاب أو سنة مقبولة أو إجماع معتبر أو قياس صحيح.(2/13)
هذا وقد ذكرت في مقدمة كتابي هذا أنه يجوز لكل مسلم طبعه وأنه ليس للمؤلف حقوق طبع وذلك تقرباً إلى الله تعالى وإيثاراً لما عنده من الأجر في الدار الآخرة على متاع الدنيا الفانية، ومع ذلك فقد ذكرت في المقدمة أنه لايجوز لأحد أن يختصر شيئا من الكتاب أو أن يبدّل فيه حرفاً وهذه أمانة في عنق كل مسلم يصل إليه كتابي، إلا أنه لامانع من طبع بعض أبواب الكتاب مفردة دون بعضها الآخر أو طبع فصول منه لمن شاء ذلك.
وبالرغم من كل ماذكرته في المقدمة فقد فوجئت بهذه الجماعة الضالة جماعة الجهاد المصرية تعبث بكتابي وتحرّفه تحريفاً لم يفعله أحد من الزنادقة بكتب العلوم الشرعية على مَرّ تاريخ المسلمين فيما علمته، وذلك على النحو التالي:
أولا: وضعت هذه الجماعة الضالة عنوانا لكتابي غير الذي وضعته فأسمته (الهادي إلى سبيل الرشاد في معالم الجهاد والاعتقاد) مع أنني سميته (الجامع في طلب العلم الشريف)، ووضعتْ تحت العنوان المفَتَري اسمي، وهذا كذب علي، وبهذا ثبت أن القائمين على أمر هذه الجماعة كذابون، والكذب كبيرة، ومرتكب الكبيرة فاسق عند أهل السنة، ولو كان لديهم شيء من الورع مافعلوا ذلك.
ثانيا: حذفت هذه الجماعة الضالة المقدمة التي وضعتها للكتاب وقد ذكرت مجمل ماورد بها آنفا، ووضعوا مقدمة أخرى للكتاب ونسبوها إليّ، وهذا كذب وافتراء وفسق، وقد قال تعالى (إنما يفتري الكذب الذين لايؤمنون).(2/14)
ثالثا: بالرغم من أنني قد ذكرت في مقدمة كتابي أنه لايحل لأحد أن يختصره، فقد قامت هذه الجماعة الضالة باختصاره بل بتمزيقه مَزّق الله أوصالهم، فقد اختصروا الكتاب في نصف جمه الأصلي البالغ نحو ألف صفحة من القطع الكبير، وإنما حملهم على هذا ماورد بالكتاب من نقد شرعي لبعض الجماعات الإسلامية، وهذا الذي صنعوه لم تفعله أشد الحكومات إجراماً وطغيانا مع كتابات مخالفيها، غاية ماتفعله تلك الحكومات أن تمنع نشر كتب مخالفيها، أما أن تحرّفها وتعبث بها بالإضافة والحذف فلا أعلم حكومة طاغية فعلت ذلك، فإذا كانت هذه الجماعة الضالة تعبث بكتب العلوم الشرعية هذا العبث مع استضعافها فكيف تصنع إذا تمكّنت ؟ بل كيف يرجو هؤلاء الكاذبون الضالون تمكينا من الله ؟. إن مسالك الناس نحو أقوال المخالفين تتنوع، فالعلماء يردّون على الحجة بالحجة وبذلك يتمحص الحق، والسفهاء يردّون على الحجة بالسّبّ والشتم فذلك مبلغهم، وأما أهل الزيغ والضلال فإنهم يكتمون الحجة أو يحرفونها فيلبسون الحق بالباطل وهذا ماصنعته هذه الجماعة بكتابى، وهذا مسلك أهل الزيغ والعناد في كل زمان كما قال تعالى (ولاتلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون)، وهذا يجعلهم متوعَّدين بلعنة الله كما قال تعالى (إن الذين يكتمون ماأنزلنا من البينات والهدى من بعد مابينّاه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون)، وإن اختصار كتابي هو خيانة للأمانة التي ائتمنت عليها المسلمين بنصّي في مقدمته أنه لايحل لأحد أن يختصره، فهؤلاء خانوا الأمانة وكتموا الحق، ولبسوا الحق بالباطل بما افتروه من عند أنفسهم وأضافوه بكتابي، فأي ضلال بعد هذا.(2/15)
رابعا: تمادت هذه الجماعة الضالة في التزوير والخداع، فأرادوا أن ينسبوا لأنفسهم علماً ليس فيهم وفضلاً ليس لهم، فوضعوا على غلاف الكتاب بعد اسمي عبارة (أقرته بعد المراجعة اللجنة الشرعية بجماعة الجهاد) ليوهموا الناس أن لديهم أهلية مراجعة مثل هذا الكتاب أوإقرار ماورد به، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (المتشبّع بما لم يُعط كلابس ثوبيّ زور). وقال تعالى (لاتحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يُحمدوا بمالم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب، ولهم عذاب أليم). وأنا لم أطلب من أحدٍ إقرار ماورد بكتابي أو مراجعته، فكيف وقد ثبت عندي أن القائمين على أمر هذه الجماعة هم بالمعيار الشرعي من العوام الجهال ليست لديهم أهلية مراجعة مثل كتابي هذا، بل قد حملهم جهلهم على ماصنعوا من الكذب والتزوير والخداع والخيانة، وليعلم كل مسلم أنه لايحل اتباع الجهال ــ كهؤلاء أو غيرهم ــ في أي أمر من أمور الدين أو أمور العمل الإسلامي، فإن اتباع الجهال وتقليدهم زمام قيادة المسلمين هو الضلال بعينه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (اتخذ الناس رءوساً جهالاً فسُئِلوا فأفتوا بغير علم فضلّوا وأضلوا) الحديث.
هذا ما صنعته جماعة الجهاد المصرية بكتابي من الكذب والتزوير والإفتراء والخداع، وبهذا يتبين أن بعض الجماعات الإسلامية تشترك مع أعداء المسلمين في أن كلاهما يحارب كلمة الحق، وأن كلاهما (إذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالاثم، فحسبه جهنم ولبئس المهاد).(2/16)
ولو أن مسلماً غيوراً على دينه تساءل لماذا لاينتصر المسلمون على أعدائهم ؟ ففيما فعلته هذه الجماعة من الكذب والتحريف إجابة عن سؤاله، وهذه المعاصي من كبائر الذنوب التي يتسلط العدو بسببها على المسلمين، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لجنوده (وآمرك ومن معك أن تكونوا أشد احتراساً من المعاصي منكم من عدوكم، فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم، وإنما يُنصر المسلمون بمعصية عدوهم لله، ولولا ذلك لم تكن لنا بهم قوّة، لأن عددنا ليس كعددهم ولاعدتنا كعدتهم، فإن استوينا في المعصية كان لهم الفضل علينا في القوة ــ إلى أن قال ــ ولاتقولوا إن عدوّنا شرّ منا فلن يُسَلّط علينا، فرُبَّ قوم سُلّط عليهم شرُّ ُ منهم، كما سُلط على بني إسرائيل لما عملوا بمساخط الله كفار المجوس فجاسوا خلال الديار وكان وعداً مفعولاً). وروي البخاري عن أبي الدرداء رضي الله عنه قوله (أيها الناس عملُ ُ صالحُ ُ قبل الغزوة) لاكذب وخيانة.
وبعد فإن ماصنعته هذه الجماعة هى أفعال عصابة من المفسدين المستخفين بالدين، لا أفعال جماعة من المسلمين، ولايحل لمسلم أن ينتمي لأمثال هؤلاء أو أن يعينهم ولهذا لزم البيان والتحذير، ومرفق بهذا البيان صورة للإعلان الذي وضعته هذه الجماعة عن كتابي، مرة بعنوان (كتاب العلم) في العدد الثاني من مجلتهم مجلة المجاهدون، ثم مرة بعنوان (الهادي إلى سبيل الرشاد) في العدد الحادي عشر من نفس المجلة، وذلك بعد التحريف، وأنا بريء من هذه الجماعة الضالة ومن كتاب (الهادي إلى سبيل الرشاد)، ولايحل لأحد أن يطبع مثل هذا الكتاب المُفْتَرَى أو أن ينسبه لي.
والحمد لله رب العالمين، وصَلّ اللهم على نبينا محمد وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً.
إعلان
إلى الباحثين والدارسين وطلبة العلوم الشرعية
ترقبوا:
صدور الموسوعة السلفية
كتابُ العلم
للعالم المرابط والمفتي
المجاهد الشيخ/ عبدالقادر بن عبدالعزيز
(المجاهدون) العدد الثاني:(2/17)
السنة الأولى. الأربعاء 22 ربيع الأول 1415هـ ــ 31 أغسطس 1994م
قريباً إن شاء الله في الأسواق:
من إصدارات جماعة الجهاد
الهادي إلى سبيل الرشاد
في معالم الجهاد والإعتقاد
تأليف
الشيخ عبدالقادر بن عبدالعزيز
أقرته بعد المراجعة
اللجنة الشرعية بجماعة الجهاد
(المجاهدون) العدد الحادي عشر:
السنة الأولى الأربعاء 3 شعبان 1415هـ ــ 4 يناير1995م
تعقيب على البيان السابق:
سألني البعض هل يجوز أن توصف جماعة بأجمعها بالضلال لذنب اقترفه البعض منها ؟.
والجواب: نعم، فإن هذا الكتاب المختلق الملفق منسوب لتلك الجماعة، فاستحقت وصف الكذب والضلال، ومَن أراد مِن أتباعها النجاة من هذا الوصف فليعلن استنكاره وبراءته مما اقترفته رءوس هذه الجماعة، وإلا فإن الفاعل والساكت سواء، وقد قال تعالى (إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين) القصص، فانتظمهم نفس الحكم، وهكذا الطوائف المجتمعة توصف بصفة رءوسها، كالبغاة والخوارج وغيرهم ويوصف كل فرد منهم بأنه باغ أو خارجي، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لَعَن الله من آوى مُحدِثاً) الحديث. وفي هذه المسألة تفصيل واسع بآخر مبحث الاعتقاد بالباب السابع من هذا الكتاب. ولامناص من هذا الوصف إلا بالتوبة بأن تعلن هذه الجماعة توبتها مما اقترفت، أو بأن يتبرأ المنكرون مِن أفرادها مِما اقترفته جماعتهم.
وسألني آخرون هل يقتضي مافعلته هذه الجماعة التحذير منها ؟(2/18)
والجواب: نعم، وهذا من المواضع التي تباح فيها الغيبة كما ذكره النووي رحمه الله في (رياض الصالحين) و (الأذكار) وهو تحذير المسلمين من الشر، فإن الذي يعبث بكتب العلوم الشرعية ويكذب ويفتري لايؤتمن لاعلى دين ولا على دنيا، والكذب من الكبائر، وقد نقل ابن حجر في (فتح الباري) عن إمام الحرمين الجويني رحمهما الله قوله في صفة الكبيرة بأنها (ماتؤذن بقلة اكتراث مرتكبها بالدين ورقة الديانة) وعن العز بن عبدالسلام رحمه الله قوله (مايُشعر بتهاون مرتكبها بدينه). فإذا كان من كذب في أمر الدنيا مرتكبا لكبيرة فكيف بمن يكذب في أمور الدين ؟.
وأسأل الله أن يوفق هؤلاء للتوبة وأن يكونوا من (الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه)، وألا يكونوا من الذين (إذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم) فيتمادوا في الكذب والافتراء.
وسبحانك اللهم وبحمدك أشهد ألا إله إلا أنت استغفرك وأتوب إليك، وحسبنا الله هو نعم الوكيل.
والحمد لله رب العالمين وصل اللهم على نبينا محمد وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً.
انتهت مقدمة الطبعة الثانية
كتبها:
عبد القادر بن عبدالعزيز
الباب الأول
فضل العلم
وفضل أهله
الباب الأول
فضل العلم وفضل أهله
(تمهيد في بيان المراد بالعلم الممدوح وأهله)
1 ــ العلم الشريف هو العِلم المنزَّل من السماء إلى الأرض، العِلم الموحَى من الله تعالى إلى نبيِّه صلى الله عليه وسلم من الكتاب والسنة ثم ماتفرّع عنهما من العلوم الشرعية.
قال تعالى (وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلّمك مالم تكن تعلم، وكان فضلُ الله عليك عظيما) النساء 113.
وقال تعالى (وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا، ماكنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان، ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا، وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم) الشورى 52.
وقال تعالى (فمن حاجك فيه من بعد ماجاءك من العلم) آل عمران 61.(2/19)
فبيّن الحق جل وعلا أنه إنما أوحى إلى نبيه صلى الله عليه وسلم العلمَ، ووصف هذا العلم بأنه روح ونور. وإنما كان كذلك لأنه يُحيي القلوب الميتة ويخرج الناس من الظلمات إلى النور، كما قال تعالى (أوَ مَن كان مَيْتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مَثَلُه في الظلمات ليس بخارج منها، كذلك زُيِّن للكافرين ماكانوا يعملون) الأنعام 122.
قال ابن حجر رحمه الله (والمراد بالعلم: العلم الشرعي الذي يُفيد معرفة مايجب على المكلَّف من أمر دينه في عباداته ومعاملاته، والعلم بالله وصفاته ومايجب من القيام بأمره وتنزيهه عن النقائص. ومدار ذلك على التفسير والحديث والفقه) (فتح الباري) جـ 1 صـ 141.
فهذا هو العلم الممدوح بإطلاق، وهو الذي وردت الأدلة ببيان فضله وفضل أهله، وهو العلم المقصود بيانه في هذا الكتاب.
وإلا فهناك علوم أخر، منها ماهو مذموم بإطلاق، ومنها ماهو ممدوح في حال دون حال:
فمن المذموم بإطلاق ما ورد في قوله تعالى (ويتعلمون مايضرهم ولاينفعهم، ولقد علموا لمن اشتراه ماله في الآخرة من خلاق) البقرة 102، فأثبت الله تعالى أن من العلم ما يضر ولا ينفع ــ وهو السحر هنا ــ، ومن المذموم: علوم الكفار التي يعارضون بها الرسل عليهم السلام كما قال تعالى (فلما جاءتهم رُسُلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ماكانوا به يستهزءون) غافر 83.
ومن الممدوح في حال دون حال: العلوم النافعة في الدنيا، والتي هى من فروض الكفاية، كعلوم الزراعة والصناعات والطب ونحوها، وهى المقصودة في قول النبي صلى الله عليه وسلم (أنتم أعلم بأمر دنياكم) الحديث رواه مسلم.(2/20)
2 ــ أهل العلم: أما أهل العلم الذين وردت الأدلة ببيان فضلهم وعلو منزلتهم وعظيم ثوابهم، فهم الحاملون لهذا العلم الشريف العاملون به في أنفسهم وفي الناس بنشره وتبليغه. فقد وردت الأدلة بذم من عَلِمَ ولم يعمل كما فى قوله تعالى (كَبُر مقتا عند الله أن تقولوا مالا تفعلون) الصف 3، فعُلِم من هذا أن الممدوحين هم العلماء العاملون بعلمهم، وأن من لم يعمل بعلمه فهو من أهل الذم لا أهل الفضل. بل قد أنزل الله تعالى من لم يعمل بعلمه منزلة الجاهل الذي لا علم له، وذلك في قوله تعالى (ولقد علموا لَمَن اشتراه ماله في الآخرة من خلاق، ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون) البقرة 102، فبدأ الله بوصف أهل الكتاب بالعلم على سبيل التوكيد القسمي (ولقد علموا) ثم نفي العلم عنهم (لو كانوا يعلمون) حيث لم يعملوا بعلمهم، فأنزلهم منزلة الجهال.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (ومن المستقر في أذهان المسلمين: أن ورثة الرسل وخلفاء الأنبياء هم الذين قاموا بالدين علما وعملا ودعوة إلى الله والرسول، فهؤلاء أتباع الرسول حقاً وهم بمنزلة الطائفة الطيبة من الأرض التى زََكَت، فقبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، فزكت فى نفسها وزَكَى الناس بها. وهؤلاء هم الذين جمعوا بين البصيرة في الدين والقوة على الدعوة، ولذلك كانوا ورثة الأنبياء الذين قال الله فيهم: (واذكر عبادنا إبراهيم وإسحق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار) فالأيدي القوة في أمر الله، والأبصار البصائر فى دين الله، فبالبصائر يدرك الحق ويعرف، وبالقوة يتمكن من تبليغه وتنفيذه والدعوة إليه.) (مجموع الفتاوى) جـ 4 صـ 92 ــ 93.
وقال الشاطبي رحمه الله (العلم وسيلة من الوسائل، ليس مقصوداً لنفسه من حيث النظر الشرعى، وإنما هو وسيلة إلى العمل، وكل ماورد فى فضل العلم فإنما هو ثابت للعلم من جهة ماهو مكلَّف بالعمل به) (الموافقات) جـ 1 صـ 65، ط دار المعرفة.(2/21)
وقال الشاطبي أيضا (العلم الذى هو العلم المعتبر شرعا ــ أعنى الذى مدح الله ورسوله أهله على الإطلاق ـ هو العلم الباعث على العمل، الذى لايُخَلّى صاحبه جاريا مع هواه كيفما كان، بل هو المقيِّد لصاحبه بمَقتضاه، الحامِلُ له علي قوانينه طوعا أو كرها.) المصدر السابق صـ 69.
فعُلم بذلك أن أهل العلم الذين وردت الأدلة ببيان فضلهم هم العلماء العاملون بعلمهم.
بعد هذا التمهيد، نقول إنه قد وردت أدلة كثيرة في الكتاب والسنة تدل على فضل العلم وأهله العاملين به، وسوف نورد في هذا الباب أربعة فصول لبيان هذه الأدلة مع أقوال بعض السلف، ثم بيان مراتب الناس في هذا الفضل على النحو التالي:
الفصل الأول…: الأدلة من كتاب الله تعالى علي فضل العلم وفضل أهله.
الفصل الثاني…: الأدلة من السنة على فضل العلم وفضل أهله.
الفصل الثالث…: من أقوال السلف الصالح في فضل العلم وفضل أهله.
الفصل الرابع…: بيان مراتب الناس في استحقاق هذا الفضل.
ونشرع فى بيان المراد بحول الله تعالى وقوته.
الفصل الأول
الأدلة من كتاب الله تعالى
على فضل العلم وفضل أهله
1 ــ قول الله تعالى (وعَلَّم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم علي الملائكة فقال أنبئونى بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين، قالوا سبحانك لاعلم لنا إلا ما علّمتنا إنك أنت العليم الحكيم، قال ياآدم أنبئهم بأسمائهم. فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إنى أعلم غيب السموات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون) البقرة 31 ــ 33.
قال القرطبى رحمه الله (قوله تعالى « قال ياآدم أنبئهم بأسمائهم» فيه خمس مسائل:(2/22)
الأولى ــ قوله تعالي (أنبئهم بأسمائهم) أمره الله أن يُعلِمهم بأسمائهم بعد أن عرضهم على الملائكة ليعلموا أنه أعلم بما سألهم عنه تنبيهاً على فضله وعلوّ شأنه، فكان أفضل منهم بأن قدّمه عليهم وأسجدهم له وجعلهم تلامذته وأمرهم بأن يتعلّموا منه. فحصلت له رتبة الجلال والعظمة بأن جعله مسجودا له، مختصَّا بالعلم.
الثانية ــ وفي هذه الآية دليل على فضل العلم وفضل أهله، وفي الحديث: « وإن الملائكة لتضع أجنحتها رِضاً لطالب العلم » أي تخضع وتتواضع، وإنما تفعل ذلك لأهل العلم خاصّة من بين سائر عيال الله، لأن الله تعالى ألزمها ذلك في آدم عليه السلام فتأدّبت بذلك الأدب. فكلما ظهر لها عِلْماً في بشر خضعت له وتواضعت وتذلّلت إعظاما للعلم وأهله، ورضىً منهم بالطلب له والشغل به. هذا في الطلاب منهم فكيف بالأحبار فيهم والربّانيين منهم ! جعلنا الله منهم وفيهم، إنه ذو فضل عظيم) أهـ (تفسير القرطبى، 1/ 288 ـ 289).
2 ــ قول الله تعالى (وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعَلَّمك مالم تكن تعلم، وكان فضل الله عليك عظيما) النساء 113.
والآية تدل على فضل العلم بنصِّها، لقوله تعالى (وعَلَّمك مالم تكن تعلم) ووصف الله تعالى هذا العلم بالفضل العظيم فقال سبحانه (وكان فضل الله عليك عظيما).(2/23)
وكما امتنَّ الله تعالى على نبينا صلى الله عليه وسلم بنعمة العلم، فكذلك امتنَّ علي سائر الأنبياء، فقال تعالى في حق إبراهيم عليه السلام (يا أبت إني قد جاءني من العلم مالم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا) مريم 43، وقال تعالى في حق يعقوب عليه السلام (وإنه لذو علم لما عَلَّمناه، ولكن أكثر الناس لا يعلمون) يوسف 68، وقال تعالى في حق يوسف عليه السلام (وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث) يوسف 6، وقال تعالى في حق داود عليه السلام (وآتاه الله الملك والحكمة وعلّمه ممايشاء) البقرة 251، وقال تعالى عن سليمان عليه السلام (وَوَرِثَ سليمان داود، وقال ياأيها الناس عُلِّمنا منطق الطير وأوتينا من كل شئ إن هذا لهو الفضل المبين) النمل 16، وقال تعالى عن عيسى عليه السلام (إذ قال الله ياعيسى بن مريم اذكرنعمتى عليك وعلى والدتك، إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلا، وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوارة والإنجيل) المائدة 110.
وكما امتنَّ الله تعالى على أنبيائه بنعمة العلم، فكذلك امتنَّ على عباده المؤمنين أتباع الأنبياء عليهم السلام، فقال تعالى (ولأتم نعمتى عليكم ولعلكم تهتدون، كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم يتلوا عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم مالم تكونوا تعلمون) البقرة 150 ـ 151، وقال تعالى (لقد منَّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتب والحكمة، وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين) آل عمران 164.
3 ــ قول الله تعالى (وقل ربِّ زدنى علما) طه 114.(2/24)
أورده البخارى رحمه الله فى (باب فضل العلم) فى أول كتاب العلم من صحيحه، وقال ابن حجر رحمه الله (قول الله عز وجل « وقل ربِّ زدنى علما »: واضح الدلالة فى فضل العلم، لأن الله تعالى لم يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بطلب الازدياد من شئ إلا من العلم، والمراد بالعلم: العلم الشرعى الذى يفيد معرفة مايجب على المكلَّف من أمر دينه في عباداته ومعاملاته، والعلم بالله وصفاته ومايجب من القيام بأمره وتنزيهه عن النقائص، ومدار ذلك على التفسير والحديث والفقه) أهـ (فتح البارى، 1/ 141).
4 ــ قوله تعالى (فوجدا عبداً من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما، قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمن ِمما عُلِّمت رشداً) الكهف 65 ــ 66.
هذه الآيات فى حق موسى والخضر عليهما السلام، وهى تشبه الآية السابقة في حق نبينا صلى الله عليه وسلم (وقل ربِّ زدنى علما) فهنا طلب موسى أيضا المزيد من العلم وسعى من أجله وطلبه ولو ممن هو أقل منه فضلاً.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (بينما موسى فى ملأ من بنى إسرائيل إذ جاءه رجل فقال: هل تعلم أحداً أعلم منك ؟ قال موسي: لا، فأوحى الله إلى موسى: بلى، عبدنا خَضِر، فسأل موسى السبيل إليه، فجعل الله له الحوت آية، وقيل له: إذا فقدت الحوت فارجع فإنك ستلقاه، وكان يتبع أثر الحوت فى البحر، فقال لموسى فتاه: أرأيت إذا أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وماأنسانيه إلا الشيطان أن أذكره، قال: ذلك ماكنا نبغى، فارتدا على آثارهما قصصا، فوجدا خضراً، فكان من شأنهما الذى قصَّ الله عز وجل فى كتابه) الحديث رواه البخارى (حديث 74).(2/25)
وهو واضح الدلالة في فضل العلم إذ سعى موسى عليه السلام مع كونه من أولي العزم من الرسل لأجل طلب العلم ولوممن هو أقل منه فضلا وهو الخضر، وفى المفاضلة بينهما قال ابن حجر رحمه الله (والخضر وإن كان نبياً فليس برسول باتفاق والرسول أفضل من نبي ليس برسول، ولوتنزّلنا على أنه رسول فرسالة موسى أعظم وأمته أكثر فهو الأفضل، وغاية الخضر أن يكون كواحد من أنبياء بني اسرائيل وموسى أفضلهم، وإن قلنا الخضر ليس بنبي بل ولي، فالنبي أفضل من الولي وهو أمر مقطوع به عقلاً ونقلاً والصائر إلى خلافه كافر لأنه أمر معلوم من الشرع بالضرورة) أهـ (فتح البارى 1/ 221).
5 ــ قول الله تعالى (شهد الله أنه لاإله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط لاإله إلا هو العزيز الحكيم) آل عمران 18.
قال ابن القيم رحمه الله ــ فى هذه الآية ــ (استشهد سبحانه بأولى العلم على أجلّ مشهود عليه وهو توحيده، فقال « شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط » وهذا يدل علي فضل العلم وأهله من وجوه، أحدها: استشهادهم دون غيرهم من البشر، والثاني: اقتران شهادتهم بشهادته، والثالث: اقترانها بشهادة ملائكته، والرابع: أن في ضِمن هذا تزكيتهم وتعديلهم فإن الله لايستشهد من خلقه إلا العدول ومنه الأثر المعروف عن النبى صلى الله عليه وسلم « يحمل هذا العلم من كل خلفٍ عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين » ـ إلى أن قال ـ، السادس: أنه سبحانه استشهد بنفسه وهو أجَلّ شاهد ثم بخيار خلقه وهم ملائكته والعلماء من عباده، ويكفيهم بهذا فضلا وشرفا) أهـ (مفتاح دار السعادة) لابن القيم صلى الله عليه وسلم 48 ــ 49.
وقال القرطبى رحمه الله (فى هذه الآية دليل على فضل العلم وشرف العلماء وفضلهم، فإنه لو كان أحدٌ أشرف من العلماء لقرنهم الله باسمه واسم ملائكته كما قرن اسم العلماء) أهـ (تفسير القرطبى، 4/41).(2/26)
ولأبي حامد الغزالي رحمه الله كلام قريب من هذا في هذه الآية (الإحياء، 1/ 15).
6 ــ قول الله تعالى (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لايعلمون، إنما يتذكر أولوا الألباب) الزمر 9.
قال ابن القيم رحمه الله (إنه سبحانه نفى التسوية بين أهله وبين غيرهم كمانفى التسوية بين أصحاب الجنة وأصحاب النار فقال تعالى (لايستوى أصحاب النار وأصحاب الجنة)، وهذا يدل على غاية فضلهم وشرفهم) أهـ (مفتاح دار السعادة، صـ 49).
7 ــ قول الله تعالى (أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى، إنما يتذكر أولوا الألباب) الرعد 19.
قال ابن القيم رحمه الله (إنه سبحانه جعل أهل الجهل بمنزلة العميان الذين لايُبصرون فقال «أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى» فما ثَمَّ إلا عالم أوأعمى، وقد وصف سبحانه أهل الجهل بأنهم صم بكم عمي فى غير موضع من كتابه) أهـ (مفتاح دار السعادة صـ 49).
8 ــ قول الله تعالى (وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا، وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم) الشورى 52.
فوصف الله تعالى ماأوحاه إلى نبيه بالنور، وهو قد أوحى إليه العلم كما قال تعالى (فمن حاجّك فيه من بعد ما جاءك من العلم) آل عمران 61. فكلما زاد حظ العبد من العلم كلما زاد حظه من النور الهادي الذى يميز به بين الحق والباطل، قال تعالى (أومن كان مَيْتا فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به فى الناس كمن مثله فى الظلمات ليس بخارج منها) الأنعام 122. وهذا كله فى العلم النافع الباعث على الخشية والتقوى، قال تعالى (ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نوراً تمشون به ويغفر لكم والله غفور رحيم) الحديد 28.(2/27)
9 ــ قول الله تعالى (قالوا اتخذ الله ولداً سبحانه، هو الغني، له مافي السموات وما فى الأرض إن عندكم من سلطان بهذا، أتقولون على الله مالا تعلمون) يونس 68.
وصف الله تعالى العلم والحجّة فى هذه الآية بالسلطان، فطالب الله الكافرين بالحجة على دعواهم (إن عندكم من سلطان بهذا)، وأنكر سبحانه عليهم ادعاءهم بغير علم (أتقولون على الله مالا تعلمون).
ومثل هذه الآية قوله تعالى (أتجادلوننى فى أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما نَزَّل الله بها من سلطان) الأعراف 71، وقال تعالى (هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لولا يأتون عليهم بسلطان بيِّن، فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا) الكهف 15، وقال تعالى (ويعبدون من دون الله مالم يُنَزِّل به سلطانا وماليس لهم به علم) الحج 71، وقال تعالى (ألا إنهم من إفكهم ليقولون وَلَد الله وإنهم لكاذبون، أصطفى البنات على البنين، مالكم كيف تحكمون، أفلا تذكرون، أم لكم سلطان مبين، فأتوا بكتابكم إن كنتم صادقين) الصافات 151 ــ 157. ففى كل هذه الآيات ورد السلطان بمعنى العلم والحجة وذم الله المشركين فى شركهم بغير حجة وطالبهم بالحجة على مايقترفونه.
(فائدة) وردت كلمة (سلطان) في القرآن بمعنيين أحدهما: بمعنى العلم والحجة كما فى الآيات السابقة، والثانى: بمعنى القوة والقهر كما فى قوله تعالى (واجعل لى من لدنك سلطانا نصيراً) الإسراء 80، وقوله تعالى (ومن قُتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا) الإسراء 33. وأكثر ماوردت الكلمة فى القرآن بالمعنى الأول أى الحجة، وكلا المعنيين يرجعان إلى معنى واحد، فهما مشتقان من كلمة السَّلاطة ومعناها التمكن من القهر وقد يكون القهر بالحجة وقد يكون بالقوة المادية. انظر (المفردات للراغب الأصفهانى، صـ 238).(2/28)
قال ابن القيم رحمه الله (والمقصود أن الله سبحانه سمى علم الحجة سلطانا لأنها توجب تسلط صاحبها واقتداره فله بها سلطان على الجاهلين، بل سلطان العلم أعظم من سلطان اليد، ولهذا ينقاد الناس للحجة مالا ينقادون لليد فإن الحجة تنقاد لها القلوب وأما اليد فإنما ينقاد لها البدن، فالحجة تأسر القلب وتقوده وتذل المخالف وإن أظهر العناد والمكابرة فقلبه خاضع لها ذليل مقهور تحت سلطانها، بل سلطان الجاه إن لم يكن معه علم يساس به فهو بمنزلة سلطان السباع والأسوُد ونحوها قدرة بلا علم ولا رحمة بخلاف سلطان الحجة فإنه قدرة بعلم ورحمة وحكمة) (مفتاح دار السعادة) 1/ 59.
ولما كان العلم هو السلطان فإن أصحابه (العلماء) هم أصحاب السلطان الحقيقى والرياسة الحقيقية على الناس، قال أبو الأسود الدؤلى (ليس شيء أعز من العلم، الملوك حكام على الناس، والعلماء حكام على الملوك) (إحياء علوم الدين، 1/ 18). ويدل على هذا:
10 ــ قول الله تعالى (وإذا جاءهم أمرٌ من الأمن أو الخوف أذاعوا به، ولو ردّوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم) النساء 83.(2/29)
وهذا نص فى أن العلماء (الذين يستنبطونه) من أولي الأمر الذين ينبغى أن تُرَدَّ إليهم النوازل ويُصدَر عن أمرهم. ولهذا قال ابن تيمية رحمه الله إن العلماء والأمراء هما من أولى الأمر المذكورين فى قوله تعالي (ياأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) النساء 59. قال ابن تيمية (فلهذا كان أولو الأمر صنفين: العلماء والأمراء، فإذا صلحوا صلح الناس، وإذا فسدوا فسد الناس) أهـ (مجموع الفتاوى 28/170) ومثله فى (مجموع الفتاوى جـ10/ 354 ــ 355 و جـ11/ 551 ــ 552). وكلا التفسيرين ورد عن الصحابة كما قال ابن حجر (واختلف فى المراد بأولي الأمر في الآية، فعن أبي هريرة قال: هم الأمراء، أخرجه الطبرى بإسناد صحيح، وأخرج عن ميمون بن مهران وغيره نحوه. وعن جابر بن عبدالله قال: هم أهل العلم والخير، وعن مجاهد وعطاء والحسن وأبي العالية: هم العلماء) (فتح البارى) جـ 8 صـ 254.
11 ــ ومن فضل العلم أن فضله تعدى من الناس إلى البهائم، فلم يُسَوّ الله بين الكلب العالم والكلب الجاهل كما لو يُسَوِّ بين العالم والجاهل من الناس. وبيان ذلك فيما قال ابن القيم رحمه الله (إن الله سبحانه جعل صيد الكلب الجاهل ميتة يحرم أكلها وأباح صيد الكلب المعلم، وهذا أيضاً من شرف العلم أنه لايباح إلا صيد الكلب العالم وأما الكلب الجاهل فلا يحل أكل صيده، فدلّ على شرف العلم وفضله. قال الله تعالى (يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وماعلمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه واتقوا الله إن الله سريع الحساب) ــ المائدة 4 ــ ولولا مزية العلم والتعليم وشرفهما كان صيد الكلب المعلم والجاهل سواء) (مفتاح دار السعادة) 1/55.
فهذه بعض الأدلة من كتاب الله تعالى على فضل العلم وفضل أهله، ثم نعرج على ذكر الأدلة من السنة.
الفصل الثانى
الأدلة من السُّنة
على فضل العلم وفضل أهله(2/30)
1 ــ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من عَمِل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رَد ٌّ) رواه مسلم عن عائشة رضى الله عنها.
ورواه البخارى معلقاً في كتاب الاعتصام من صحيحه قال (باب إذا اجتهد العامِل أو الحاكم فأخطأ خِلاف الرسول من غير علم، فحكمه مردود، لقول النبي صلى الله عليه وسلم «من عَمِل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد») أهـ. ورواه البخاري موصولاً بلفظ آخر.
قال ابن حجر (هذا الحديث معدود من أصول الإسلام وقاعدة من قواعده) (فتح البارى) جـ 5 صـ302.
قلت: وإنما كان هذا الحديث بهذه المنزلة لأنه:
أ ــ يدل بمنطوقه: على بطلان كل عمل مخالف للدليل الشرعي، ويدخل فى هذا العبادات والمعاملات من العقود وغيرها، وأحكام القضاة ونحوهم، فكل ما خالف الشريعة من هذا وغيره فهو مردود باطل، لايُثاب عليه صاحبه إن كان من العبادات والقربات، ولاتترتب عليه آثاره إن كان من المعاملات والعقود والأقضية.
ب ــ ويدل بمفهومه: على وجوب العلم قبل العمل ــ كما سيأتى الاستدلال به على ذلك في الباب الثاني إن شاء الله ــ فإنه إذا كان العمل لايُقبل ولايصح إلابمتابعة الشريعة، فقد وجب معرفة حكم الشريعة في كل عمل قبل الشروع فيه. وهذا يدل على فضل العلم وأنه شرط لصحة العمل، وأنه واجب قبل العمل.
وكما هو معلوم فإن شرطي قبول العمل هما:
أ ــ الإخلاص: بألا يقصد العبد بعمله إلا ابتغاء مرضاة الله.
ب ــ ومتابعة الشريعة: بأن يكون عمله وفق ماوردت به الشريعة، وهذا يقتضى وجوب العلم قبل العمل ليتسنّى إيقاع العمل وفق الشريعة.(2/31)
وقد جمع الله تعالى هذين الشرطين فى قوله تعالى (فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولايُشرك بعبادة ربه أحدا) الكهف 110. فشرط الإخلاص ورد في قوله تعالى (ولايُشرك بعبادة ربه أحدا)، وشرط المتابعة في قوله (فليعمل عملا صالحا) وهو العمل الموافق للشريعة، ولايقع العمل موافقا للشريعة إلا بعد العلم بأحكامها. قال ابن القيم رحمه الله (إن كل واحد منا مأمور بأن يصدق الرسول فيما أخبر به، ويطيعه فيما أمر، وذَلك لايكون إلا بعد معرفة أمره وَخبره. وَلم يوجب الله سبحانه من ذلك على الأمة إلا مافيه حفظ دينها ودنياها وَصلاحها في معاشها وَمعادها، وَبإهمال ذلك تضيع مصالحها وَتفسد أمورها، فما خراب العالم إلا بالجهل، وَ لا عمارته إلا بالعلم. وَإذا ظهر العلم في بلد أو محلة قل الشر في أهلها، وَإذا خفي العلم هناك ظهر الشر وَالفساد. ومَنْ لم يعرف هذا فهو ممن لم يجعل الله له نورا. قال الإمام أحمد: ولولا العلم كان الناس كالبهائم، وَقال: الناس أحوج إلى العلم منهم إلى الطعام والشراب، لأن الطعام وَالشراب يحتاج إليه في اليوم مرتين أو ثلاثا، وَالعلم يحتاج إليه كل وَقت) (اعلام الموقعين) 2/237 ــ 238.
2 ــ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من يُرد الله به خيراً يُفَقَّه في الدين، وإنما أنا قاسمٌ والله يُعطي، ولن تزال هذه الأمة قائمة على أمر الله لايضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله) رواه البخارى عن معاوية رضى الله عنه.
ورواه مسلم عنه مرفوعا بلفظ (من يُرد الله به خيراً يفقهه فى الدين، ولاتزال عصابة من المسلمين يقاتلون على الحق ظاهرين على من ناوأهم إلى يوم القيامة) أهـ.من فوائد الحديث(2/32)
أ) دَلّ الحديث على فضل العلم وفضل أهله: وأن تفقه العبد في دينه من علامات إرادة الله تعالى الخير به، إذ بتفقهه في دينه يُصلح عمله كما قدّمنا من وجوب متابعة الشريعة لصحة العمل، وبتفقهه فى دينه يُرشد غيره إلي الحق والخير فيكون له مثل ثواب عمل من أرشده، وهذا كله يبين عِظَم فضل العلم وعِظم أجر أهله العاملين به.
ويدل الحديث بمفهومه علي أن من لم يتفقه في الدين فقد حُرِمَ الخير، قال ابن حجر (وقد أخرج أبو يعلى حديث معاوية من وجه آخر ضعيف وزاد فى آخره « ومن لم يتفقه فى الدين لم يُبَال الله به » والمعنى صحيح، لأن من لم يعرف أمور دينه لايكون فقيها ولا طالب فقه، فيصح أن يوصف بأنه ما أريد به الخير، وفى ذلك بيان ظاهر لفضل العلماء علي سائر الناس، ولفضل التفقه فى الدين علي سائر العلوم) أهـ (فتح البارى) 1/ 165. وقال أبو الدرداء رضى الله عنه (يرزُق اللهُ العلمَ السعداءَ ويحرمُه الأشقياء) أهـ، رواه ابن عبد البر (جامع بيان العلم) 1/57.
ب) وأن العلم لايكون بالاكتساب فقط (أى بالطلب والتعلّم) بل لمن يفتح الله عليه، ودليل ذلك:* قوله صلى الله عليه وسلم (من يرد الله به خيراً يُفقهه) ولم يقل (يتفقه) فنسب التفقيه إلى الله لا إلى كسب العبد، وإن كان كسب العبد (بالتعلم) سببا فى ذلك.
* وقوله صلى الله عليه وسلم ــ فى رواية البخاري ــ (وإنما أنا قاسم) أى للعلم مبلِّغ له (والله يعطى) أى يرزق الفقه لمن يشاء، فليس كل من بلغه قِسْم من علم النبي صلى الله عليه وسلم صار فقيها.
* ويؤيد هذا قوله تعالى (يُؤْتِ الحكمة من يشاء ومن يُؤْتَ الحكمة فقد أوتى خيراً كثيرا) البقرة 269، فثبت أن الحكمة إيتاء ووهب من الله تعالى. وروى ابن عبد البر عن مالك رحمه الله أنه قال: (الحكمة هى الفقه في دين الله) أهـ (جامع بيان العلم) 1/17.(2/33)
* وروى ابن عبد البر عن الإمام مالك رحمه الله قال: (الحكمة والعلم نور يهدي به الله من يشاء وليس بكثرة المسائل)، وعنه أيضا قال (إن العلم ليس بكثرة الرواية ولكنه نور جعله الله فى القلوب) أهـ (جامع بيان العلم) 2/25.
جـ) ويدل الحديث أيضا أن الرجل لايقال له فقيه إلا إذا عَمِلَ بما عَلِمَ فهذا الذى يصح أن يقال فيه (من يرد الله به خيرا)، أما من عَلِمَ ولم يَعْمل بعلمه فمتعرض للذم والوعيد كما قال تعالى (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب، أفلا تعقلون) البقرة 44، وقال تعالى (لم تقولون مالاتفعلون، كبر مقتا عند الله أن تقولوا مالا تفعلون) الصف 2 ــ 3، ولايجتمع المقت وإرادة الخير، فعُلم بذلك أن التفقه في الدين هو العلم والعمل به جميعاً. قال ابن القيم رحمه الله (ومن فَقَّهه في دينه فقد أراد به خيراً إذا أريد بالفقه العلم المستلزم للعمل، وأما إن أريد به مجرد العلم فلا يدل على أن من فقه في الدين فقد أريد به خيراً) (مفتاح دار السعادة) 1/60.
د) ويدل الحديث أيضا على أن الفقهاء حملة العلم العاملين به لن يزالوا في هذه الأمة حتى يأتي أمر الله، لقوله صلى الله عليه وسلم ــ في رواية البخاري ــ (ولن تزال هذه الأمة قائمة على أمر الله) الحديث. والقيام على أمر الله لايكون إلا بالاعتصام بالحق وبقاء حجة الله تعالى. وهذا يستلزم بقاء العلماء العاملين الصالحين، ومن هنا قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه (لن تخلو الأرض من قائم لله بحجة) (اعلام الموقعين، 4/150) و (الفقيه والمتفقه، 1/50).(2/34)
واستدل بعض العلماء بهذا الحديث على أن الزمان لايخلو عن مجتهد، وأن الاجتهاد في الدين لاينقطع حتى يأتى أمر الله (فتح البارى، 1/ 164). و(أمر الله) المذكور في رواية البخاري هو هبوب الريح التى تقبض روح كل من كان فى قلبه شيء من الإيمان ويبقى شرار الخلق عليهم تقوم الساعة، كما فى الحديث الذي رواه مسلم عن عبد الرحمن بن شُمَاسة المَهْرِى قال: كنت عند مَسْلَمة بن مُخَلَّد وعنده عبدالله بن عمرو بن العاص، فقال عبدالله (لاتقوم الساعة إلا على شرار الخلق، هم شرٌّ من أهل الجاهلية، لايدعون الله بشيء إلا رَدّه عليهم)، فبينما هم على ذلك أقبل عقبة بن عامر، فقال له مسلمة: ياعقبة اسمع مايقول عبدالله، فقال عقبة هو أعلم، وأما أنا فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (لاتزال عصابة من أمتي يقاتلون على أمر الله قاهرين لعدوهم لايضرهم من خالفهم حتى تأتيهم الساعة وهم على ذلك)، فقال عبد الله أجل ثم يبعث الله ريحاً كريح المسك مَسُّها مَسّ الحرير، فلا تترك نفساً فى قلبه مثقال حبة من الإيمان إلا قبضته، ثم يبقى شرار الناس عليهم تقوم الساعة. انتهى. فهذا يقيد لفظ (إلي يوم القيامة) الوارد فى رواية مسلم لحديث الطائفة المنصورة المذكور أعلاه.(2/35)
وتدل الروايات السابقة لحديث الطائفة المنصورة على أن إظهار الحق واستقامة هذه الأمة منوط بطائفتين من المؤمنين: أهل العلم كما ذكرنا، وأهل الجهاد لقوله صلى الله عليه وسلم ــ فى رواية مسلم ــ (لاتزال عصابة من المسلمين يقاتلون على الحق ظاهرين على من ناوأهم إلى يوم القيامة). وهاتان الطائفتان: العلماء والمجاهدون هم أهل الكتاب وأهل الحديد المذكورون فى قوله تعالى (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط، وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس، وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب، إن الله قوى عزيز) الحديد 25، هذا ما ذكره ابن تيمية في هاتين الطائفتين (مجموع الفتاوى، 10/ 354). وروى الخطيب البغدادي بإسناده عن إسحق بن عبدالله قال (أقرب الناس من درجة النبوة أهل العلم وأهل الجهاد، قال: فأما أهل العلم فدلّوا الناس علي ماجاءت به الرسل، وأما أهل الجهاد فجاهدوا على ماجاءت به الرسل) أهـ (الفقيه والمتفقِّه، 1/35).
3 ــ ومن فضل العلم أن طالبه بمنزلة المجاهد في سبيل الله، لقوله صلى الله عليه وسلم (من جاء مسجدي هذا، لم يأته إلا لخير يَتَعلمُه أو يُعَلِّمَه، فهو بمنزلة المجاهد في سبيل الله، ومن جاء لغير ذلك فهو بمنزلة الرجل ينظر إلى متاع غيره) رواه ابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه وإسناده حسن وصححه ابن حبان.
وروى ابن عبد البر عن أبي الدرداء رضى الله عنه قال (من رأى الغُدُوّ والرواح إلي العلم ليس بجهاد فقد نقص عقله ورأيه) أهـ، وروي عنه أيضا قال (ما من أحد يغدو إلى المسجد لخير يتعلمه أو يُعَلمِّه إلا كتب له أجر مجاهد لاينقلب إلا غانما) أهـ (جامع بيان العلم، 1/ 31 ــ 32).(2/36)
قال ابن القيم رحمه الله (الوجه الخمسون ــ في فضل العلم ــ مارواه الترمذي من حديث أبي جعفر الرازي عن الربيع بن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من خرج في طلب العلم فهو في سبيل الله حتى يرجع) قال الترمذي هذا حديث حسن غريب رواه بعضهم فلم يرفعه. وإنما جعل طلب العلم من سبيل الله لأن به قوام الإسلام كما أن قوامه بالجهاد فقوام الدين بالعلم والجهاد، ولهذا كان الجهاد نوعين: جهاد باليد والسنان وهذا المشارك فيه كثير، والثاني: الجهاد بالحجة والبيان وهذا جهاد الخاصة من اتباع الرسل وهو جهاد الأئمة وهو أفضل الجهادين لعظم منفعته وشدة مؤنته وكثرة أعدائه. قال تعالى في سورة الفرقان وهى مكية (ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيراً فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا)فهذا جهاد لهم بالقرآن وهو أكبر الجهادين، وهو جهاد المنافقين أيضاً فإن المنافقين لم يكونوا يقاتلون المسلمين بل كانوا معهم في الظاهر، وربما كانوا يقاتلون عدوهم معهم، ومع هذا فقد قال تعالى (ياأيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم) ومعلوم أن جهاد المنافقين بالحجة والقرآن. والمقصود أن سبيل الله هو الجهاد وطلب العلم ودعوة الخلق به إلى الله.) (مفتاح دار السعادة) 1/70.(2/37)
4 ــ ويدل علي فضل العلم قوله صلى الله عليه وسلم (من سلك طريقا يطلب فيه علما، سلك الله به طريقا من طرق الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم، وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض، والحيتان في جوف الماء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يُورثوا ديناراً ولادرهما، إنما وَرَّثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظٍ وافر) رواه أبو داود ــ واللفظ له ــ والترمذي وابن ماجة عن أبي الدرداء رضي الله عنه وصححه ابن حبان. وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا (ومن سلك طريقا يلتمس فيه علماً، سهل الله له به طريقاً إلى الجنة) الحديث.
دَلَّ هذا الحديث على فضل العلم وفضل أهله من أكثر من وجه:
أـ منها أن العلم هو ميراث النبوة.
ب ــ وأن العلماء هم ورثة الأنبياء في تبليغ العلم والحكم به بين الناس لا في التشريع.
جـ ــ وأن العالم يستغفر له من في السموات والأرض.
د ــ وأن طلب العلم من الطرق الموصِّلة إلى الجنة.
فأي فضيلة فوق هذا ؟
5 ــ والعلم هو الرياسة الحقيقية، إذ إلى أهله المرجع والردّ عند الاختلاف، وقد ذكرنا أدلة هذا من كتاب الله، ومنه قوله تعالى (فإن تنازعتم فى شيء فردّوه إلى الله والرسول) النساء 59، والرد إلى الله والرسول صلى الله عليه وسلم هو الرد إلى الكتاب والسنة، والرد إلى الكتاب والسنة هو الرد إلى العلماء العالمين بهما. ويدل عليه قوله تعالى (ولوردّوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم) النساء 83. فالعلماء هم الحكام على الحقيقة بقولهم هذا يجوز وهذا لايجوز، وهذا صواب وهذا خطأ. قال الشاطبي رحمه (ومن ذلك صار العلماء حكاماً على الخلائق أجمعين قضاء أو فتيا أو ارشاداً لأنهم اتصفوا بالعلم الشرعي الذي هو حاكم بإطلاق) (الاعتصام) للشاطبي، 2/341.(2/38)
وقد دلّ على هذا من السنة: قولهص (إن الله لايقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبق عالما اتخذ الناس رءوسا جُهّالا، فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا) متفق عليه. فالحديث يدل بإشارته على وجوب تقديم العلماء فى الرياسة والتحذير من ترأس الجهال.
وروى مسلم فى صحيحه عن نافع بن عبد الله الخزاعى ــ وكان عامل عمر رضي الله عنه على مكة ــ أنه لقيه بعُسْفان. فقال له: من استخلفت ؟، فقال استخلفت ابن أبزى مولى لنا، فقال عمر: استخلفت مولى ؟، قال: إنه قاريء لكتاب الله، عالم بالفرائض، فقال عمر: أما إن نبيكم صلى الله عليه وسلم قد قال (إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين) أ هـ. فكان علمُ ابن أبزى مدعاة لتأميره وتقديمه على غيره.
كذلك فقد دل كتاب الله على مراعاة شرط العلم فيمن يترأس على الناس، وذلك في قوله تعالى (قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال، قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة فى العلم والجسم، والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم) البقرة247.
6 ــ والعلماء هم الأمناء على هذا الدين: يعلمون الجاهل، ويردّون الغالى، ويكشفون زيغ الزائغ والمبتدع، كما في الحديث (يحمل هذا العلم من كل خَلَفٍ عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين) رواه ابن عدي عن علي وابن عمر، ورواه الخطيب عن معاذ، والطبري عن أسامة بن زيد، ورُوى أيضا عن أبي هريرة وابن مسعود، وقال أحمد بن حنبل هو حديث صحيح كما ذكر الخلاّل فى كتاب العلل، ذكر هذا كله ابن القيم في (مفتاح دار السعادة، 1/163)، ونقل الخطيب البغدادي تصحيحه عن أحمد في كتابه (شرف أصحاب الحديث) صـ 29.(2/39)
ومن هذا الحديث أخذ أحمد بن حنبل رحمه الله مقدمة كتابه (الرد علي الزنادقة والجهمية) فقال: (الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل، بقايا من أهل العلم، يدعون من ضل إلي الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله الموتى. ويبصرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه. وكم من ضال تائه قد هدوه، فما أحسن أثرهم على الناس. وأقبح أثر الناس عليهم.
ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين. الذين عقدوا ألوية البدعة، وأطلقوا عقال الفتنة، فهم مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب، مجمعون على مفارقة الكتاب، يقولون على الله، وفي الله، وفي كتاب الله بغير علم يتكلمون بالمتشابه من الكلام، ويخدعون جهّال الناس بما يشبهون عليهم. فنعوذ بالله من فتن المضلين.) أهـ. انظر (مجموعة عقائد السلف) ط دار المعرفة بالإسكندرية 1971 م صـ 52، و (منهاج السنة) لابن تيمية، تحقيق د. محمد رشاد سالم جـ 5 صـ 273، وفي (اعلام الموقعين) لابن القيم جـ 1 صـ 9.
7 ــ ومن فضل العلم: أن صاحبه يجري عليه بعد موته ثواب ما نشره من العلم، فينال مثل أجر كل من انتفع بعلمه في حياته وبعد مماته، ويدل على هذا:
أ ــ قول الله عزوجل (إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ماقدّموا وآثارهم، وكل شئ أحصيناه في إمام مبين) يس 12. ومعنى قوله تعالى (إنا نحن نحيي الموتى) أي يوم القيامة، ومعنى (ونكتب ما قدموا) أي ماقدَّموه في حياتهم الدنيا من الأعمال، ومعنى (وآثارهم) أي ما خلّفوه من الأثر بعد موتهم إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، كالصدقة الجارية والعلم النافع يجري على صاحبها ثوابها، وكالبدعة والضلالة يجري على صاحبها وزرها ما عُمل بها من بعده كما دلت عليه الأحاديث وسيأتي بعضها.(2/40)
وذكر ابن كثير رحمه الله قولاً ثانيا في (وآثارهم) وأن المراد بذلك آثار خطاهم إلى الطاعة أو المعصية. وهذا القول وإن كانت تحتمله اللغة إلا أن القول الأول هو الراجح إن شاء الله. لورود قوله تعالى (وآثارهم) في مقابل قوله تعالى (ماقدموا) فهذا ما عملوه بأنفسهم في حياتهم، وذاك ما خلفوه من الأثر بعد مماتهم.
ب ــ قول رسول الله صلى الله عليه وسلم (من دَلّ على خيرٍ فله مثل أجرِ فاعله) رواه مسلم عن أبي مسعود البدري رضي الله عنه.
جـ ــ وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثلُ أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لاينقص ذلك من آثامهم شيئا) رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه.
د ــ وقال صلى الله عليه وسلم (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقةٍ جارية، أو علمٍ ينتفع به، أو ولدٍ صالح يدعو له) رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه.
ورواه ابن ماجه عنه مرفوعا (إن مما يلحَقُ المؤمنَ من عمله وحسناته بعد موته، علماً عَلَّمه ونشره، وولداً صالحاً تركه، ومصحفاً ورَّثه، أو مسجداً بناه، أو بيتاً لابن السبيل بناه، أو نهراً أجراه، أو صدقة أخرجها من مالِه في صحته وحياته، يلحُقُه من بعد موته) أهـ.
فانظر إلى عِظَم هذا الثواب، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يناله مثل ثواب كل من عمل الخير من أمته، والصحابة رضي الله عنهم كذلك ينالهم، إذ هم الذين حملوا إلينا هذا العلم عن النبي صلى الله عليه وسلم وبلّغوه لنا عبر الأجيال. ثم العلماء الأعلام من بعدهم وإلى يوم القيامة ينال كل منهم مثل ثواب من انتفع بعلمهم وكتبهم، فكل من قرأ في صحيح البخاري وانتفع به ــ على سبيل المثال ــ نال البخاري رحمه الله مثل أجر هذا القارئ، وينال رجال أسانيد البخاري مثل هذا الأجر حتى ترتفع الأسانيد إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وقِس على هذا.(2/41)
ويدخل في هذا أيضا وَقْف كتب العلم النافع كالقرآن وكتب التفسير والحديث والفقه، فإذا اشتريت مصحفا وجعلته وقفا في مسجد، فلك مثل ثواب كل من قرأ في هذا المصحف، ودليل ذلك الحديث المذكور (أو علم ٍ ينتفع به)، فالقرآن رأس العلوم الشرعية وأساسها، قال تعالى (فمن حاجك فيه من بعد ماجاءك من العلم) آل عمران 61، وهذه الصورة ليست هى مسألة (هل ينال الميت ثواب من قرأ القرآن وأهدى ثوابه له ؟)،بل هى مسألة أخرى ودليلها ماذكرناه.
أما مسألة هل ينال الميت ثواب قراءة الأحياء ؟ ففيها خلاف، واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية أنه يناله ثوابه، انظر (مجموع الفتاوي جـ 24 صـ 300 و 321 ــ 324 و 366 وجـ 31 صـ 41). وهو أيضا اختيار ابن القيم رحمهما الله، قال ابن القيم (وأما قراءة القرآن، وإهداؤها له ــ أي الميت ــ تطوعا بغير أجرة فهذا يصل إليه كما يصل ثواب الصوم والحج) أهـ. (الروح) لابن القيم، ط مكتبة المدني، صـ 191 ــ 192.
8 ــ ومن فضل العلم أنه عاصم ــ بإذن الله ــ من الفتن والشرور، فكلما نقص العلم كلما ازدادت الفتن. ومن هنا أورد البخاري رحمه الله في كتاب العلم من صحيحه باب (رفع العلم وظهور الجهل)، وروى فيه عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (إن من أشراط الساعة أن يُرفع العلم، ويثبُت الجهل، ويُشرب الخمر، ويظهر الزنا)، وروى عنه أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (من أشراط الساعة أن يقل العلم، ويظهر الجهل، ويظهر الزنا، وتكثُر النساء، ويقل الرجال حتى يكون لخمسين امرأة القيِّم الواحد). وروى البخاري في نفس الباب أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (يُقبض العلم، ويظهر الجهل والفتن، ويكثر الهَرْج) قيل يارسول الله وما الهرج ؟ فقال: هكذا بيده فحرَّفها، كأنه يريد القتل. أهـ. وقد أورد البخاري جملة من أحاديث نقص العلم في كتاب الفتن من صحيحه (أحاديث 7062 إلى 7066 و 7121).(2/42)
قال ابن حجر رحمه الله (وكأن هذه الأمور الخمسة خُصَّت بالذكر لكونها مُشعرة باختلال الأمور التي يحصل بحفظها صلاح المعاش والمعاد وهى: الدين لأن رفع العلم يُخلُّ به، والعقل لأن شرب الخمر يُخلّ به، والنسب لأن الزنا يُخلّ به، والنفس والمال لأن كثرة الفتن تخلّ بهما. قال الكِرْماني: وإنما كان اختلال هذه الأمور مُؤْذِناً بخراب العالم لأن الخلق لايُتركون هملاً، ولانبي بعد نبينا صلوات الله تعالى وسلامه عليهم أجمعين، فيتعين ذلك. وقال القرطبي في «المفهم»: (في هذا الحديث علم من أعلام النبوة إذ أخبر عن أمور ستقع فوقعت، خصوصا في هذه الأزمان) أهـ (فتح الباري) جـ 1 صـ 179. فانظر كيف وصف القرطبي زمانه ؟. وأشد منه ماذكره البيهقي (ت 458 هـ) فقد أورد في كتابه (دلائل النبوة) حديث أنس (إن من أشراط الساعة أن يُرفع العلم...) الحديث، في باب (ماجاء في إخباره صلى الله عليه وسلم بذهاب العلم وظهور الجهل، فذهب ذلك في زماننا هذا من أكثر البلدان، واستولى على أهلها الجهل، وظهَر سائر ماروي في ذلك الخبر) انظر (دلائل النبوة) للبيهقي، جـ 6 صـ 543، ط دار الكتب العلمية 1405 هـ. فإذا كان هذا هو وصف البيهقي رحمه الله لعصره، أي منذ ما يقرب من ألف سنة خلت، فكيف بزماننا وأهله ؟. وقد كان حال أهل زماننا من البواعث على تأليف هذا الكتاب كما ذكرته في المقدمة.(2/43)
(فائدة) نقص العلم يقع بموت العلماء كما في حديث قبض العلم (ولكن يقبض العلم بقبض العلماء) الحديث وقد سبق، قال ابن حجر (فكلما مات عالمٌُ في بلد ولم يخلُفه غيره نقص العلم من تلك البلدة) (فتح الباري) جـ 13 صـ 17. وذكر أبو سليمان الخطابي رحمه الله حديث قبض العلم في كتابه (العزلة) وقال فيه (قد أعلَمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن آفة العلم ذَهَاب أهله وانتحال الجهال وترؤسهم على الناس باسمه وحَذَّر الناس أن يقتدوا بمن كان من أهل هذه الصفة، وأخبر أنهم ضلال مُضلون ــ ثم روى الخطابي بسنده ــ عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم (إن من أشراط الساعة أن يُرفع العلمُ ويظهر الجهل) ــ وقد رواه البخاري ــ قال الخطابي: يريد والله أعلم ظهور الجُهال المنتحلين للعلم المترئسين على الناس به قبل أن يتفقّهوا في الدين ويرسخوا في علمه) (كتاب العزلة) ط السلفية صـ 96.
ولكن العلم لايُرفع بالكلية من الأرض مادامت الطائفة المنصورة باقية وذلك حتى هبوب الريح التي تقبض أرواح المؤمنين. وذلك بعد بدء العلامات الكبرى كخروج الدجال ومقتله، ونزول عيسي عليه السلام وموته، وخروج يأجوج ومأجوج ومهلكهم، وطلوع الشمس من مغربها وخروج الدابة وبهما يُختم على كل قلب بما فيه، ثم تهب تلك الريح فتقبض أرواح المؤمنين، ويبقى شرار الخلق عليهم تقوم الساعة، كما دلت على ذلك جملة أحاديث أشراط الساعة. وكأن العلم والإيمان من لوازم بقاء الدنيا، فإذا قبض العلم والإيمان قامت القيامة. نسأل الله تعالى لنا ولسائر المسلمين أن يثبتنا على دينه وأن يختم لنا بصالح الأعمال وأن يجعل الجنة مأوانا بغير مناقشة حساب ولا سابقة عذاب مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا، ذلك الفضل من الله، إنه على كل شيء قدير، آمين.(2/44)
هذا، ونقص العلم وظهور الجهل مناسبان لشيوع الفتن والشرور، إذ قرن الله تعالى ــ في كتابه ــ كل شر بالجهل:
فقرن سبحانه فعل المعاصي بالجهل في قوله تعالى (إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة) النساء 17، وقال تعالى (وإلا تصرف عني كيدهن أَصْب إليهن وأكن من الجاهلين) يوسف 33، وقال تعالى (قال هل علمتم مافعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون) يوسف 89. وقال بعض السلف: كل من عصى الله تعالى فهو جاهل.
وقرن سبحانه الظلم بالجهل في قوله تعالى (وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا) الأحزاب 72.
وقرن سبحانه الضلال بالجهل في قوله تعالى (وإن كثيراً ليضلون بأهوائهم بغير علم، إن ربك هو أعلم بالمعتدين)الأنعام 119.
وقرن سبحانه النفاق بالجهل في قوله تعالى (ولكن المنافقين لايعلمون) المنافقون 8.
وقرن سبحانه الكفر والشرك والإعراض عن الحق بالجهل، في قوله تعالى (قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون) الزمر 64، وقال تعالى (وإن أحد من المشركين استجارك فأجِره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لايعلمون) التوبة 6، وقال تعالى (أم اتخذوا من دونه آلهة، قل هاتوا برهانكم، هذا ذكر من معي وذكر من قبلي، بل أكثرهم لايعلمون الحق فهم معرضون) الأنبياء 24.
وهذا كله يدل على خطر الجهل، ويدل بمفهومه على فضل العلم وفضل أهله وأهمية نشره وإشاعته، فإن الضد يُظهر حسنه الضد.
وبهذا نختم الكلام في ذِكر الأدلة من السنة على فضل العلم وفضل أهله.
الفصل الثالث
من أقوال السلف الصالح
في فضل العلم وفضل أهله(2/45)
1 ــ روى أبو عمر بن عبدالبر رحمه الله عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال (العلم خير من المال، لأن المال تحرسه، والعلم يحرسك، والمال تفنيه النفقة، والعلم يزكو على الإنفاق، والعلم حاكم والمال محكوم عليه، مات خُزَّان المال وهم أحياء، والعلماء باقون مابقي الدهر، أعيانهم مفقودة وآثارهم في القلوب موجودة) أهـ (جامع بيان العلم، 1/57).
2 ــ وقال معاذ بن جبل رضي الله عنه (عليكم بالعلم فإن طلبه لله عبادة، ومعرفته خشية، والبحث عنه جهاد، وتعليمه لمن لايعلمه صدقة، ومذاكرته تسبيح، به يُعرف الله ويُعبد، وبه يُمجَّد الله ويُوَحَّد، يرفع الله بالعلم أقواما يجعلهم للناس قادة وأئمة يهتدون بهم وينتهون إلى رأيهم) أهـ. نقلا عن (مجموع فتاوي ابن تيمية، 10/93). وروى ابن عبدالبر هذا الأثر عن معاذ مرفوعا بأطول من هذا، ولكن إسناده ضعيف.
3 ــ وروى ابن عبدالبر عن أبي الأسود الدؤلي رحمه الله قال (الملوك حكّام على الناس، والعلماء حكّام على الملوك) أهـ (جامع بيان العلم، 1/60).
4ــ وروى ابن عبدالبر عن الأحنف بن قيس رحمه الله قال (كاد العلماء أن يكونوا أربابا، وكل عّزً لم يؤكَّد بعلم فإلى ذل ٍ ما يصير) أهـ (المصدر السابق، 1/60).
5 ــ وقال ابن عبدالبر (قال بعض العلماء: من شرف العلم وفضله أن كل من نُسب إليه فرح بذلك وإن لم يكن من أهله، وكل من دُفِع عنه ونُسِب إلى الجهل عَزَّ عليه ونال ذلك من نفسه وإن كان جاهلا) أهـ (المصدر السابق، 1/59).
6 ــ وروى الخطيب البغدادي رحمه الله عن سفيان بن عيينة رحمه الله قال (تدرون مامثل الجهل والعلم ؟، مثل دار الكفر ودار الإسلام، فإن ترك أهل الإسلام الجهاد جاء أهل الكفر فأخذوا الإسلام، وإن ترك الناس العلم صار الناس جهّالا) أهـ (الفقيه والمتفقه، 1/35).(2/46)
7 ــ وروى الخطيب عنه أيضا قال (أرفع الناس عند الله منزلة من كان بين الله وبين عباده، وهم الأنبياء والعلماء) (المصدر السابق، 1/35).
8 ــ وروى الخطيب عن أبي حنيفة رحمه الله قال (إن لم يكن أولياء الله في الدنيا والآخرة الفقهاء والعلماء فليس لله ولي). وروى الخطيب عن الشافعي رحمه الله مثل هذا. (المصدرالسابق، 1/ 35 ــ 36).
9 ــ وروى الخطيب عن هلال بن خباب قال (قلت لسعيد بن جبير: يا أبا عبدالله ما علامة هلاك الناس ؟، قال: إذا هلك فقهاؤهم هلكوا) (المصدر السابق، 1/37).
10 ــ وروى ابن عبدالبر عن جعفر بن محمد قال (ما موت أحد أحب إلى إبليس من موت فقيه) أهـ (جامع بيان العلم، 1/60).
11 ــ وقال الشافعي رحمه الله (طلب العلم أفضل من صلاة النافلة)، وقال (من أراد الدنيا فعليه بالعلم، ومن أراد الآخرة فعليه بالعلم)، وقال (ما تُقُرِّب إلى الله تعالى بشيء بعد الفرائض أفضل من طلب العلم). ذكرها النووي في (المجموع) جـ 1 صـ 12.
12 ــ وقال أبو حامد الغزّالي رحمه الله (وقلما يرضى الإنسان بأن يُنسب إلى الجهل بالأمور لاسيما بالشرع. ولذلك ترى الذي يغلب عليه الغضب كيف يغضب إذ نُبه على الخطأ والجهل ؟ وكيف يجتهد في مجاحدة الحق بعد معرفته خيفة من أن تنكشف عورة جهله ؟ والطباع أحرص على ستر عورة الجهل منها على ستر العورة الحقيقية، لأن الجهل قُبْح في صورة النفس وسواد في وجهه، وصاحبه ملوم عليه، وقبح السوأتين يرجع إلى صورة البدن، والنفس أشرف من البدن وقبحها أشدّ من قبح البدن. ثم هو غير ملوم عليه لأنه خلقة لم يدخل تحت اختياره حصوله، ولا في اختياره إزالته وتحسينه. والجهل قبح يمكن إزالته وتبديله بحسن العلم، فلذلك يعظم تألم الإنسان بظهور جهله، ويعظم ابتهاجه في نفسه بعلمه ثم لذته عند ظهور جمال علمه لغيره) (إحياء علوم الدين) جـ 2 صـ 357.
وهذا آخر ما نذكره من أقوال السلف في فضل العلم وفضل أهله.
الفصل الرابع(2/47)
بيان مراتب الناس في استحقاقهم
للفضل الوارد في حق أهل العلم
بيَّنا في الفصول السابقة الفضل العظيم الوارد في حق أهل العلم، وثوابهم ومكانتهم في الدنيا والآخرة.
ويختلف الناس في استحقاقهم لهذا الفضل بقدر طلبهم للعلم وانتفاعهم به في أنفسهم بالعمل به وفي الناس بنشر العلم وتعليمه. وتتفاوت مراتب الناس في استحقاق هذا الفضل تفاوتا عظيما كما يدل عليه:
1 ــ قوله تعالى (أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى، إنما يتذكر أولوا الألباب) الرعد 19.
2 ــوقوله تعالى (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لايعلمون، إنما يتذكر أولوا الألباب) الزمر 9.
3 ــ وقد ورد حديثٌ مفصَّلٌ عن النبي صلى الله عليه وسلم في بيان مراتب الناس في هذا الشأن، وهو قوله صلى الله عليه وسلم (مَثَلُ مابعثني الله به من الهدى والعلم كمثلِ الغيث الكثير أصاب أرضا: فكان منها نَقيَّة ٌ قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعُشْبَ الكثير، وكانت منها أجادِبُ أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسَقَوا وزرعوا، وأصابت منها طائفة ً أخرى إنما هى قيعانٌ لاتُمسِكُ ماءً ولا تنبت ُ كلأ ً، فذلك مَثَل ُ من فَقِه في دين الله ونفعَهُ ما بعثني الله ُ به فعَلِمَ وعَلَّم، ومَثَلُ من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هُدَى الله الذي أُرسِلتُ به) متفق عليه عن أبي موسى رضي الله عنه، واللفظ للبخاري (حديث 79).(2/48)
قال ابن حجر رحمه الله في شرح هذا الحديث (قال القرطبي وغيره: ضرب النبيص لما جاء به من الدين مثلا بالغيث العام الذي يأتي الناس في حال حاجتهم إليه، وكذا كان حال الناس قبل مبعثه، فكما أن الغيث يحيي البلد الميت فكذا علوم الدين تحيي القلب الميت. ثم شبه السامعين له بالأرض المختلفة التي ينزل بها الغيث، فمنهم العالم العامل المعلم. فهو بمنزلة الأرض الطيبة شربت فانتفعت في نفسها وأنبتت فنفعت غيرها. ومنهم الجامع للعلم المستغرق لزمانه فيه غير أنه لم يعمل بنوافله أو لم يتفقه فيما جمع لكنه أداه لغيره، فهو بمنزلة الأرض التي يستقر فيها الماء فينتفع الناس به، وهو المشار إليه بقوله «نضر الله امرءا سمع مقالتي فأداها كما سمعها». ومنهم من يسمع العلم فلا يحفظه ولا يعمل به ولا ينقله لغيره، فهو بمنزلة الأرض السبخة أو الملساء التي لاتقبل الماء أو تفسده على غيرها. وإنما جمع في المثل بين الطائفتين الأوليين المحمودتين لاشتراكهما في الانتفاع بهما، وأفرد الطائفة الثالثة المذمومة لعدم النفع بها. والله أعلم. ثم ظهر لي أن في كل مثل طائفتين، فالأول قد أوضحناه، والثاني الأولى منه من دخل في الدين ولم يسمع العلم أو سمعه فلم يعمل به ولم يعلمه، ومثالها من الأرض السباخ وأشير إليها بقوله صلى الله عليه وسلم «من لم يرفع بذلك رأسا» أي أعرض عنه فلم ينتفع به ولا نفع. والثانية منه من لم يدخل في الدين أصلا، بل بلغه فكفر به، ومثالها من الأرض الصماء الملساء المستوية التي يمر عليها الماء فلا ينتفع به، وأشير إليها بقوله صلى الله عليه وسلم «ولم يقبل هدى الله الذي جئت به».(2/49)
وقال الطيبي: بقي من أقسام الناس قسمان: أحدهما الذي انتفع بالعلم في نفسه ولم يعلِّمه غيره، والثاني من لم ينتفع به في نفسه وعلَّمه غيره. قلت: والأول داخل في الأول لأن النفع حصل في الجملة وإن تفاوتت مراتبه. وكذلك ماتنبته الأرض، فمنه ما ينتفع الناس به ومنه ما يصير هشيما. وأما الثاني فإن كان عمل الفرائض وأهمل النوافل فقد دخل في الثاني كما قررناه، وإن ترك الفرائض أيضا فهو فاسق لايجوز الأخذ عنه، ولعله يدخل في عموم « من لم يرفع بذلك رأسا » والله أعلم.) أهـ (فتح الباري) جـ 1 صـ 177.
وقال الخطيب البغدادي رحمه الله ــ في الكلام عن نفس الحديث ــ (قد جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث مراتب الفقهاء والمتفقهين من غير أن يشذ منها شيء. فالأرض الطيبة هي مثل الفقيه الضابط لما روى الفاهم للمعاني المحسن لرد ما اختلف فيه إلى الكتاب والسنة. والأجادب الممسكة للماء التي يستقي منها الناس هي مثل الطائفة التي حفظت ما سمعت فقط وضبطته وأمسكته حتى أدته إلى غيرها محفوظا غير مغير دون أن يكون لها فقه تتصرف فيه ولا فهم بالرد المذكور وكيفيته لكن نفع الله بها في التلبيغ فبلغت إلى من لعله أوعى منها كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رُبَّ مبلغ أوعى من سامع وربَّ حامل فقه ليس بفقيه، ومن لم يحفظ ماسمع ولا ضبط فليس مثل الأرض الطيبة ولا مثل الأجادب بل هو محروم ومثله مثل القيعان التي لاتنبت كلأ ولا تمسك ماءً وقد قال الله سبحانه (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لايعلمون) وقال (أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى) وشبه التارك للعلم رغبة عنه واستهانة به وتكذيبا له بالكلب فقال تعالى (واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها) إلى أن قال (فمثله كمثل الكلب) إلى آخر الآية.) (الفقيه والمتفقه) جـ 1 صـ 49.(2/50)
وبعد: فقد كان هذا بياناً لمراتب الناس في طلب العلم والعمل به، ويقابلها مراتبهم في استحقاق الفضل. فانظر ياأخي المسلم أين موقعك في هذه المراتب ؟. واجتهد في طلب المزيد من الفضل، قبل أن يأتي يوم لا مَرَدَّ له من الله، يوم لاينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بلقب سليم.
وهذا آخر ما نذكره في باب (فضل العلم وفضل أهله)، ثم نعرج على الكلام في (حكم طلب العلم)، وإنما قدَّمنا ببيان فضل العلم لتتشوف إليه النفوس فتعرف شرف المطلوب وقدره قبل معرفة حكم طلبه. وبالله تعالى التوفيق.
الباب الثاني
حكم طلب العلم الشرعي
الباب الثاني
حكم طلب العلم الشرعي
قدّمنا بيان فضل العلم وفضل أهله في الباب السابق لتعرف النفس شرف المطلوب، وما ينالها من الشرف إذا نالته. وفي هذا الباب نبيِّن إن شاء الله تعالى حكم طلب العلم. وسوف نمهد لهذا بمقدمة أصولية تشتمل على بعض التعريفات.
(مقدمة أصولية)
أولا: الحكم الشرعي: هو خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير أو الوضع.
ومعنى (خطاب الله) أي كلامه وهو القرآن، أو ما يرجع إلى كلامه كالسنة والإجماع وغيرهما من الأدلة الشرعية.
ومعنى (المكلفين) جمع مكلَّف وهو المسلم البالغ العاقل، وقد يتعلق خطاب الله أحيانا بغير المكلفين كالحقوق الواجبة في مال الصبي والمجنون ولكن المخاطب بهذا هو ولي الصبي والمجنون من المكلفين.
ومعنى (الاقتضاء) أي الطلب: وهو نوعان طلب فعل (ومنه الواجب والمندوب) وطلب كف (ومنه الحرام والمكروه).
ومعنى (التخيير) أي التسوية بين الفعل والترك، أي إباحة الشيء.
ومعنى (الوضع) أي وضع الشارع لشيء كعلامة لشيء آخر.
ثانيا: أقسام الحكم الشرعي: بناءً على التعريف السابق للحكم الشرعي فإنه ينقسم إلى قسمين:
1 ــ الحكم التكليفي: وهو مايقتضي طلب فعل أو طلب كف أو تخيير.
وينقسم خمسة أقسام: الواجب والمندوب والحرام والمكروه والمباح.(2/51)
2 ــ الحكم الوضعي: وهو وضع شيء كعلامة لشيء آخر، ومنه السبب والشرط والمانع، أي جعل شيء سببا أو شرطا لشيء آخر أو مانعا منه.
ثالثا: الواجب: وهو ماطلب الشارع (الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم) فعله على سبيل الحتم والإلزام، بحيث يُذَم تاركه ويُعاقَب، ويُمدح فاعله ويُثاب.
رابعا: أقسام الواجب من جهة المُطالَب بأدائه: ينقسم إلى قسمين:
1 ــ الواجب العيني (فرض العين): وهو ماطلب الشارع فعله من كل فرد من أفراد المكلفين، ولا يجزيء قيام مكلف به عن آخر. كالصلاة والزكاة لمن وجبت عليه واجتناب الحرام.
2 ــ الواجب الكفائي (فرض الكفاية): وهو ماطلب الشارع فعله من مجموع المكلفين، لا من كل فرد منهم، بحيث إذا قام به بعض المكلفين بما يكفي فقد أدى الواجب وسقط الإثم والحرج عن الباقين، والفضل والثواب فيه لمن قام به. وإذا لم يقم به بعض المكلفين بما يكفي أثموا جميعا بإهمالهم هذا الواجب. كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصلاة على الجنازة.
خامسا: الفروق بين فرض العين وفرض الكفاية:
1 ــ في القسمين: الخطاب بالطلب يتناول في ابتدائه الجميع، ثم يختلفان في أن فرض الكفاية يسقط بفعل بعض الناس له. وفرض العين لايسقط عن أحد بفعل غيره له.
2 ــ المنظور إليه في القسمين: في فرض العين ينظر الشارع إلى إيقاع الفعل من كل مكلف، وفي فرض الكفاية ينظر إلى إيقاع الفعل بغض النظر عمن قام به.
3 ــ ذهب بعض العلماء كإمام الحرمين إلى تفضيل فرض الكفاية على فرض العين، من جهة أن القائم بفرض الكفاية:
أ ــ حل محل المسلمين أجمعين في القيام بواجب من واجبات الدين.
ب ــ وسعى في صيانة الأمة كلها عن المأثم.
وخالفه آخرون في تفضيل فرض العين من جهة شدة اعتناء الشارع بإيقاعه من كل مكلف.(2/52)
انظر (التمهيد) للإسنوي، ط مؤسسة الرسالة 1401 هـ، صـ 75. و (المجموع) للنووي،جـ 1 صـ 27. و(جمع الجوامع) لابن السبكي جـ 1 صـ 183. و(الفروق) للقرافي جـ 2 صـ 203.
بعد هذه المقدمة الأصولية نقول:
إن طلب العلم واجب، وهذا الواجب منه ماهو فرض عين ومنه ماهو فرض كفاية، وهذا الباب معقود لبيان حكم طلب العلم وأقسامه. وسوف يتم بيان المراد ــ إن شاء الله ــ في فصول ثلاثة، وهى:
1 ــ حكم طلب العلم الشرعي وأقسامه.
2 ــ فرض العين من العلم الشرعي.
3 ــ فرض الكفاية من العلم الشرعي.
وهذا أوان الشروع في بيان المراد بحول الله تعالى وقوته.
الفصل الأول
حكم طلب العلم الشرعي وأقسامه
أولا: اتفق العلماء على أن طلب العلم الشرعي واجب
وأدلة الوجوب هى:
1 ــ من كتاب الله تعالى: قال تعالى (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لاتعلمون) النحل 43.
2 ــ ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله (طلب العلم فريضة على كل مسلم) رواه ابن ماجة، وقد روي هذا الحديث من عدة طرق كلها ضعيفة وصححه السيوطي بمجموع طرقه.
3 ــ الإجماع.
وسوف يأتي بسط هذه الأدلة في هذا الفصل وبقية فصول هذا الباب إن شاء الله تعالى.
ثانيا: واتفق العلماء على أن العلم الشرعي من حيث وجوبه قسمان:
أحدهما: فرض العين من العلم الشرعي
وهو: ما يجب على كل مكلَّف (أي كل مسلم بالغ عاقل) أن يتعلمه، وهو: العلم الذي لايتمكن المكلَّف من أداء الواجب الشرعي الذي تعين عليه فعله إلا بتعلمه.
وفرض العين من العلم نوعان:
1 ــ مايجب أن يتعلمه المسلم ابتداء، وذلك لتكرار وقوعه، وهذا أيضا قسمان:
أ ــ قسم عام، نسميه (العلم الواجب العيني العام)، وهو مايشترك فيه جميع المكلفين ويلزمهم معرفته بلا استثناء كالإيمان المجمل والطهارة والصلاة والصيام والحلال والحرام.(2/53)
ب ــ قسم خاص، نسميه (العلم الواجب العيني الخاص)، وهو مايجب على بعض المكلفين دون بعض، إما لقدرتهم على أدائه كالزكاة والحج، وإما لشروعهم في عمل من الأعمال اختياراً كالنكاح والتجارة، وإما لتعيّن واجب عليهم كالقضاة وأمراء الجهاد. فمن تعيّن عليه واجب أو اشتغل بمباح (كالنكاح والتجارة) وجب عليه تعلم أحكامه دون غيره.
2 ــ مالا يجب أن يتعلمه المسلم ابتداء، وهى الأشياء نادرة الحدوث، فهذه يتعلمها ويسأل عنها عند وقوعها أو عند توقع وقوعها. وهذه الأشياء تسمى (النوازل).
ثانيهما: فرض الكفاية من العلم الشرعي
وهو: مايجب على الأمة الإسلامية ككل تعلمه وحفظه، فإن قام بهذا البعض بما يكفي كان لهم الفضل والثواب وسقط الإثم عن الكل. وإن لم يقم بهذا البعض بما يكفي أثم الكل.
ويشتمل هذا العلم على تحصيل مالابد للمسلمين منه في إقامة دينهم من العلوم الشرعية، كحفظ القرآن كله، والأحاديث وعلومها ومعرفة رواتها، والفقه والأصول، والإجماع والخلاف، واللغة والنحو والصرف.
وسوف نذكر في هذا الفصل ــ إن شاء الله ــ أقوال العلماء التي تبين اتفاقهم على هذا التقسيم، ثم نلخص المستفاد منها في الفصول التالية إن شاء الله تعالى.
1ــ قول الإمام الشافعي رحمه الله (ت 204 هـ) ـــ في « الرسالة » ـــ
(قال الشافعيُّ: فقال لي قائل: ما العلمُ ؟ وما يجب على الناس في العلم ؟. فقلت له: العلمُ علمانِ علم عامَّة ٍ لايَسَعُ بالغاً غيرَ مغلوبٍ على عقله جهلُه.
قال: ومِثْل ُ ماذا ؟
قلتُ: مِثلُ الصلواتِ الخمسِ، وأن لله على الناس صوم شهرِ رمضان، وحَجَّ البيتِ إذا استطاعوه، وزكاةً في أموالهم، وأنه حَرَّم عليهم الزِّنا والقتل والسرقةَ والخمرَ، وماكان في معنى هذا، مما كُلِّفَ العِبادُ أن يعقلوه ويعملوه ويُعطوه من أنفسهم وأموالهم، وأن يكفوا عن: ماحرَّم عليهم منه.(2/54)
وهذا الصنف كله من العلم موجود نصَّا في كتاب اللهِ، وموجود عامَّا عند أهل الإسلام، ينقُلُهُ عوامُّهم عن من مضى من عوامهم، يحكونه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يتنازعون في حكايته ولا وجوبه عليهم.
وهذا العلم العام الذي لايُمكن فيه الغلطُ من الخبر، ولا التأويلُ، ولا يجوزُ فيه التنازعُ.
قال: فما الوجه الثاني ؟
قلت له: ماينوبُ العبادَ من فروع الفرائض، وما يُخصُّ به من الأحكام وغيرها، مما ليس فيه نصُ كتاب ٍ، ولا في أكثره نصُ سنة ٍ، وإن كانت في شيء منه سنة فإنما هى من أخبار الخاصّة، لا أخبارِ العامّة، وما كان منه يحتملُ التأويلَ ويُستدركُ قياساً.
قال: فيعدو هذا أن يكون واجباً وجوب العلم قبله ؟ أو موضوعاً عن الناس ِ علمُه، حتى يكون مَن عَلِمَه مُنتفلاً ومن ترك عِلمه غير آثم ٍ بتركه ؟ أو من وجه ثالثٍ، فتوجدناهُ خبراً أو قياساً؟.
فقلت له: بل هو من وجه ثالث ٍ.
قال: فصفه واذكر الحجَّة فيه، ما يلزمُ منه، ومن يلزمُ، وعن مَّن يسقطُ ؟
فقلت له: هذه درجة من العلم ليس تبلغها العامةُ، ولم يُكلفها كل الخاصَّة، ومن احتمل بلوغها من الخاصة فلا يسعهم كلهم كافةً أن يُعطلوها، وإذا قام بها من خاصتهم من فيه الكفاية لم يحرج غيره ممن تركها، إن شاء الله، والفضلُ فيها لمن قام بها على من عطلها.
فقال: فأوجدني هذا خبراً أو شيئاً في معناه، ليكون هذا قياساً عليه ؟.
فقلت له: فرض الله الجهاد في كتابه وعلى لسان نبيه، ثم أكد النفير من الجهاد فقال: (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة، يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويُقتلون، وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن، ومن أوفى بعهده من اللهِ، فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به، وذلك هو الفوز العظيم).(2/55)
وقال: (وقاتلوا المشركين كافةً كما يقاتلونكم كافةً، واعلموا أن الله مع المتقين) ــ إلى أن قال الشافعي ــ وقال: (انفروا خفافاً وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله، ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون).
قال: فاحتملت الآيات أن يكون الجهاد كله ــ والنَّفير خاصةً منه ــ: على كل مُطيقٍ له. لايسع أحداً منهم التخلفُ عنه، كما كانت الصلواتُ والحجُّ والزكاةُ، فلم يخرج أحدُ وجب عليه فرض منها من أن يُؤدي غيرُه الفرض عن نفسه، لأن عمل أحدٍ في هذا لايُكتبُ لغيره.
واحتملت أن يكون معنى فرضها غير معنى فرض الصلوات، وذلك أن يكون قُصد بالفرض فيها قصد الكفاية فيكون من قام بالكفاية في جهاد من جُوهد من المشركين مُدركاً تأدية الفرض ونافلة الفضل، ومخرجاً مَن تخلف من المأثم.
ولم يُسوي الله بينهما، فقال اللهُ: (لايستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة، وكلا وعد اللهُ الحسنى، وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً). فأما الظاهرُ في الآيات فالفرضُ على العامة.
قال: فأين الدلالة في أنه إذا قام بعض العامة بالكفاية أخرج المتخلفين من المأثم ؟.
فقلت له: في هذه الآية.
قال: وأين هو منها ؟
قلت: قال اللهُ: (وكلا وعد اللهُ الحسنى) فوعد المتخلفين عن الجهاد على الإيمان، وأبان فضيلة المجاهدين على القاعدين، ولو كانوا آثمين بالتخلف إذا غزا غيرهم: كانت العقوبة ُ بالإثمـ إن لم يعفو الله ــ: أولى بهم من الحسنى.
قال: فهل تجدُ في هذا غير هذا ؟(2/56)
قلت: نعم، قال اللهُ: (وماكان المؤمنون لينفروا كافة ً، فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون). وغزا رسول الله وغزا معه من أصحابه جماعة وخلف أخرى، حتى تخلف علي بن أبي طالب في غزوة تبوك، وأخبرنا الله أن المسلمين لم يكونوا لينفروا كافةً: (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة) فأخبر أن النفير على بعضهم دون بعض، وأن التفقه إنما هو على بعضهم دون بعض ٍ.
وكذلك ماعدا الفرض في عُظمِ الفرائض التي لايسع جهلها، والله أعلم.
وهكذا كلُّ ماكان الفرضُ فيه مقصوداً به قصد الكفاية فيما ينوبُ، فإذا قام به مِن المسلمين مَن فيه الكفاية ُ خرج مَن تخلف عنه مِن المأثم.
ولو ضيعُوه معاً خفتُ أن لايخرج واحدٌ منهم مطيقٌ فيه من المأثم ــ إلى قوله ــ
قال: ومثل ماذا سوى الجهاد ؟
قلت: الصلاةُ على الجنازة ودفنها، لايحلُّ تركُها ولايجبُ على كل مَن بحضرتها كلهم حضورها، ويُخْرِجُ مَن تخلف مِن المأثم مَن قام بكفايتها.
وهكذا ردّ السلام، قال الله: (وإذا حُييتم بتحية ٍ فحيوا بأحسن منها أو ردوها، إن الله كان على كل شئ حسيبا). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « يُسلم ُ القائمُ على القاعد ». و:« إذا سلم من القوم واحد أجزأ عنهم» وإنما أريد بهذا الرد، فرد القليل جامع لاسم « الرد »، والكفاية فيه مانع لأن يكون الرد معطلاً.
ولم يزل المسلمون على ماوصفتُ، منذُ بعث الله نبيه ــ فيما بلغنا ــ إلى اليوم: يتفقه أقلهم، ويشهدُ الجنائز بعضهم، ويجاهدُ ويرد السلام بعضهم، ويتخلف عن ذلك غيرهم، فيعرفون الفضل لمن قام بالفقه والجهاد وحضور الجنائز ورد السلام، ولا يؤثمون من قصر عن ذلك، إذا كان بهذا قائمون بكفايته) انتهى كلام الشافعي رحمه الله في أقسام العلم نقلا عن (الرسالة) للشافعي بتحقيق أحمد شاكر، صـ 357ــ 369. وكما ترى فقد قسّم الشافعي رحمه الله العلم ــ من حيث وجوبه ــ إلى قسمين:(2/57)
فرض العين: وهو ماوصفه الشافعي بأنه (علم عامة لايسع بالغا غير مغلوب على عقله جهله). ويقصد بالبالغ العاقل أي المكلَّف.
وفرض الكفاية: وهو ماوصفه الشافعي بأنه (هذه درجة من العلم ليس تبلغها العامة ولم يكلفها كل الخاصة ــ إلى قوله ــ وإذا قام بها من خاصتهم من فيه الكفاية لم يَحْرَج غيره ممن تركها، إن شاء الله، والفضل فيها لمن قام بها على من عّطلها).
ثم نتابع سرد بقية أقوال العلماء حسب ترتيب وفياتهم.
2 ــ قول أبي محمد بن حزم الأندلسي رحمه الله (ت 456 هـ)ــ في « الإحكام » ــ
(الباب الحادي والثلاثون: في صفة التفقه في الدين، ومايلزم كل امريء طلبه من دينه).
(قال أبو محمد: قال الله تعالى: «وماكان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم» فبين الله عزوجل في هذه الآية وجه التفقه كله، وأنه ينقسم قسمين:
أحدهما: يخص المرء في نفسه، وذلك مبين في قوله تعالى: «ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم» فهذا معناه تعليم أهل العلم لمن جهل حكم مايلزمه.
والثاني: تفقه من أراد وجه الله تعالى بأن يكون منذراً لقومه وطبقته، قال تعالى: «فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون» ففرض على كل أحد طلب مايلزمه على حسب ما يقدر عليه من الاجتهاد لنفسه في تعرف ما ألزمه الله تعالى إياه، وقد بينا قبل أن الاجتهاد هو افتعال من الجهد، فهو في الدين إجهاد المرء نفسه في طلب ما تعبده الله تعالى به في القرآن، وفيما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم لأنه لادين غيرهما، فأقلهم في ذلك درجة مَن هو في غمار العامة ومن حدث عهده بالجلب من بلاد الكفر وأسلم من الرجال والنساء. وقد ذكرنا كيف يطلب هؤلاء علم مايلزمهم من شرائع الإسلام، في باب إبطال التقليد من كتابنا هذا فأغنى عن ترداده، ونذكر منه ههنا مالابد من ذكره).
«العلم الواجب العيني العام»(2/58)
(وهو أن كل مسلم عاقل بالغ من ذكر أو أنثى حر أو عبد يلزمه الطهارة والصلاة والصيام فرضا بلا خلاف من أحد من المسملين، وتلزم الطهارة والصلاة المرضى والأصحاء، ففرض على كل من ذكرنا أن يعرف فرائض صلاته وصيامه وطهارته، وكيف يؤدي كل ذلك، وكذلك يلزم كل من ذكرنا أن يعرف ما يحل له ويحرم عليه من المآكل والمشارب والملابس والفروج والدماء والأقوال والأعمال، فهذا كله لايسع جهله أحدا من الناس، ذكورهم وإناثهم أحرارهم وعبيدهم وإمائهم. وفرض عليهم أن يأخذوا في تعلم ذلك من حين يبلغون الحلم وهم مسلمون، أو من حين يسلمون بعد بلوغهم الحلم. ويجبر الإمام أزواج النساء وسادات الأرقاء على تعليمهم ماذكرنا، إما بأنفسهم وإما بالإباحة لهم لقاء من يعلمهم.
وفرض على الإمام أن يأخذ الناس بذلك، وأن يرتب أقواما لتعليم الجهال.)
«العلم الواجب العيني الخاص»
(ثم فرض على كل ذي مال تعلم حكم مايلزمه من الزكاة وسواء الرجال والنساء والعبيد والأحرار، فمن لم يكن له مال أصلا فليس تعلم أحكام الزكاة عليه فرضا. ثم من لزمه فرض الحج ففرض عليه تعلم أعمال الحج والعمرة، ولايلزم ذلك مَن لا صحة لجسمه ولا مال له. ثم فرض على قواد العساكر معرفة السير وأحكام الجهاد وقسم الغنائم والفيء. ثم فرض على الأمراء والقضاة تعلم الأحكام والأقضية والحدود، وليس تعلم ذلك فرضا على غيرهم ثم فرض على التجار وكل من يبيع غلته تعلم أحكام البيوع ومايحل منها وما يحرم وليس ذلك فرضا على مَن لايبيع ولايشتري).
«العلم الواجب الكفائي»(2/59)
(ثم فرض على كل جماعة مجتمعة في قرية أو مدينة أو دسكرة ــ وهى المجشرة عندنا ــ أو حلة أعراب أو حصن أن ينتدب منهم لطلب جميع أحكام الديانة أولها عن آخرها، ولتعلم القرآن كله، ولكتاب كل ماصح عن النبي صلى الله عليه وسلم من أحاديث الأحكام أولها عن آخرها وضبطها بنصوص ألفاظها، وضبط كل ماأجمع المسلمون عليه ومااختلفوا فيه ــ: من يقوم بتعليمهم وتفقيههم من القرآن والحديث والإجماع، ويكتفى بذلك على قدر قلتهم أو كثرتهم بالآية التي تلونا في أول هذا الباب بحسب مايقدر أن يعمهم بالتعليم، ولا يشق على المستفتي قصده، فإذا انتدب لذلك من يقوم بما ذكرنا فقد سقط عن باقيهم إلا مايلزمه خاصة نفسه فقط على ماذكرنا آنفا، ولايحل للمفقه أن يقتصر على آراء الرجال دون ماذكرنا.(2/60)
فإن لم يجدوا في محلتهم مَن يفقههم في ذلك كله كما ذكرنا ففرض عليهم الرحيل إلى حيث يجدون العلماء المحتوين على صنوف العلم، وإن بعدت ديارهم ولو أنهم بالصين، لقوله تعالى: «فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم» والنفار والرجوع لا يكون إلا برحيل. ومن وجد في محلته من يفقهه في صنوف العلم كما ذكرنا فالأمة مجمعة على أنه لايلزمه رحيل في ذلك، إلا القصد إلى مسجد الفقيه أو منزله فقط، كما كان الصحابة يفعلون مع النبي صلى الله عليه وسلم. وهكذا القول في حفظ القرآن وتعليمه، ففرض على كل مسلم حفظ أم القرآن وقرآن ما، وفرض على جميع المسلمين أن يكون في كل قرية أو مدينة أو حصن مَن يحفظ القرآن كله ويعلمه الناس ويقرؤه إياهم، لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقراءته.فصح بكل ماذكرنا أن النفار المذكور فرض على الجماعة كلها حتى يقوم بها بعضهم فيسقط عن الباقين) أهـ من (الإحكام في أصول الأحكام) لابن حزم جـ 5 صـ 121 ــ 123. وقد وضعت ثلاثة عناوين فرعية خلال كلام ابن حزم وهى «العلم الواجب العيني العام» و «العلم الواجب العيني الخاص» و «العلم الواجب الكفائي»، لبيان الأقسام الواردة في كلامه.
3 ــ قول الخطيب البغدادي رحمه الله (ت 463 هـ) ــ في «الفقيه والمتفقِّه» ــ
روى الخطيب بإسناده عن علي بن أبي طالب وعن أنس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (طلب الفقه فريضة على كل مسلم). ثم قال الخطيب (قال بعض أهل العلم إنما عنى رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا القول علم التوحيد وما يكون العامل به مؤمنا وأن العلم بذلك فريضة على كل مسلم ولايسع أحدا جهله إذ كان وجوبه على العموم دون الخصوص.(2/61)
وقيل معناه إن طلب العلم فريضة على كل مسلم إذا لم يقم بطلبه من كل سقع وناحية مَن فيه الكفاية وهذا القول يروى عن سفيان بن عيينة. أنا أبو مسلم جعفر بن باي الفقيه الجيلي نا أبو العباس أحمد بن عبدالرحمن بن يوسف الأسدي الأصبهاني نا القاضي عمرو بن عثمان أبو سهل قال سمعت أبا الفضل جعفر بن عامر البزار قال سمعت مجاهد بن موسى في حديث النبي صلى الله عليه وسلم (طلب العلم فريضة على كل مسلم) قال: كنا عند ابن عيينة فجرى ذكر هذا الحديث فقال ابن عيينة ليس على كل المسلمين فريضة إذا طلب بعضهم أجزأ عن بعض مثل الجنازة إذا قام بها بعضهم أجزأ عن بعض ونحو ذلك، قلت والذي أراد ابن عيينة معرفة الأحكام الفقهية المتعلقة بفروع الدين فأما الأصول التي هى معرفة الله سبحانه وتوحيده وصفاته وصدق رسله فمما يجب على كل أحد معرفته ولايصح أن ينوب فيه بعض المسلمين عن بعض.(2/62)
وقيل معنى قوله عليه السلام (طلب العلم فريضة على كل مسلم) أن على كل أحد فرضا أن يتعلم مالا يسعه جهله من علم حاله. وقد بيّن ذلك عبدالله بن المبارك فقال فيما أنبأنا محمد بن أبي نصر النرسي أنا محمد بن عبدالله بن الحسين الدقاق نا ابن منيع نا إسحاق بن إبراهيم المروزي نا حسن بن الربيع قال سألت ابن المبارك فقلت: (طلب العلم فريضة على كل مسلم) أي شئ تفسيره ؟ قال: ليس هو الذي تطلبون. إنما طلب العلم فريضة أن يقع الرجل في شئ من أمر دينه يسأل عنه حتى يعلمه. أنا أبو بكر محمد بن عمر بن بكير المقريء النجار نا يحيي بن شبل بن العباس الحنيني نا أحمد بن محمد بن عبدالخالق نا أبو همام نا علي بن الحسن بن شقيق قال سألت عبدالله بن المبارك ما الذي يجب على الناس من تعلم العلم ؟ قال أن لايقدم الرجل على الشيء إلا بعلم يسأل ويتعلم فهذا الذي يجب على الناس من تعلم العلم وفسّره قال: لو أن رجلا ليس له مال لم يكن عليه واجبا أن يتعلم الزكاة فإذا كان له مائتا درهم وجب عليه أن يتعلم كم يخرج ومتى يخرج وأين يضع وسائر الأشياء على هذا. انتهى.
قلت وهكذا روى عن علي بن أبي طالب أنه أمر تاجرا بالتفقه قبل التجارة. أخبرني بذلك الحسن بن أبي طالب نا عبيد الله بن أحمد بن يعقوب المقري نا علي بن محمد بن كاس نا الحسن بن علي العلوي نا نصر بن مزاحم المنقري نا أبو خالد الواسطي عن زيد بن علي عن آبائه عن علي أنه جاءه رجل فقال ياأمير المؤمنين أريد أن أتجر فقال له: الفقه قبل التجارة إنه من تجر قبل أن يفقه ارتطم في الربا ثم ارتطم.
أنا أبو نعيم الحافظ نا أبو الحسن أحمد بن محمد بن الحسن بن مقسم البغدادي نا عبدالله بن محمد بن زياد نا يونس بن عبد الأعلى نا ابن وهب عن مالك وذكر العلم فقال: إن العلم لحسن ولكن انظر ما يلزمك من حين تصبح إلى حين تمسي ومن حين تمسي إلى حين تصبح فالزمه ولا تؤثر عليه شيئا.(2/63)
أنا علي بن أحمد بن عمر المقري أنا أبو محمد إسماعيل بن علي الخطبي نا عبدالله بن أحمد بن حنبل قال سألت أبي عن الرجل يجب عليه طلب العلم ؟ فقال: أمّا ما يقيم به الصلاة وأمر دينه من الصوم والزكاة وذكر شرائع الإسلام قال ينبغي له أن يعلم ذلك.
قلت فواجب على كل أحد طلب مايلزمه معرفته مما فرض الله عليه على حسب مايقدر عليه من الاجتهاد لنفسه وكل مسلم بالغ عاقل من ذكر وأنثى حر وعبد تلزمه الطهارة والصلاة والصيام فرضا فيجب على كل مسلم تعرف علم ذلك.
وهكذا يجب على كل مسلم أن يعرف مايحل له ومايحرم عليه من المآكل والمشارب والملابس والفروج والدماء والأموال فجميع هذا لايسع أحدا جهله وفرض عليهم أن يأخذوا في تعلم ذلك حتى يبلغوا الحلم وهم مسلمون أو حىن يسلمون بعد بلوغ الحلم، ويجبر الإمام أزواج النساء وسادات الإماء على تعليمهن ما ذكرنا، وفرض على الإمام أن يأخذ الناس بذلك ويرتب أقواما لتعليم الجهال ويفرض لهم الرزق في بيت المال. ويجب على العلماء تعليم الجاهل ليتميز له الحق من الباطل.) أهـ نقلا عن (الفقيه والمتفقه) للخطيب البغدادي، جـ 1 صـ 43 ــ 46. وورد في كلامه لفظ (نا) وهى اختصار (حدثنا) ولفظ (أنا) وهى اختصار (أخبرنا). وفي كلام الخطيب البغدادي: ــ
فرض العين من العلم هو مانقله عن علي بن أبي طالب وابن المبارك ومالك وأحمد رضي الله عنهم، وهو ما فصَّله الخطيب في نهاية كلامه بكلام قريب من كلام ابن حزم في العلم العيني.
وفرض الكفاية هو مانقله عن سفيان بن عيينة رحمه الله.
4 ــ قول أبي عمر بن عبدالبر رحمه الله (ت 463 هـ) ـــ في «جامع بيان العلم» ـــ(2/64)
روى ابن عبدالبر بإسناده عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (طلب العلم فريضة على كل مسلم). ثم روى ابن عبدالبر بإسناده عن إسحق بن راهوية رحمه الله قال (طلب العلم واجب ولم يصح فيه الخبر إلا أن معناه أنه يلزمه طلب علم مايحتاج إليه من وضوئه وصلاته وزكاته إن كان له مال وكذلك الحج وغيره قال وماوجب عليه من ذلك لم يستأذن أبويه في الخروج إليه وما كان فضيلة لم يخرج إليه حتى يستأذن أبويه. قال أبو عمر يريد اسحق والله أعلم أن الحديث في وجوب طلب العلم في أسانيده مقال لأهل العلم بالنقل ولكن معناه صحيح عندهم.
ثم روى ابن عبدالبر بإسناده عن ابن وهب قال: سُئِل مالك عن طلب العلم أهو فريضة على الناس، قال: (لا، ولكن يطلب من المرء ماينتفع به في دينه). أهـ
وروى ابن عبدالبر عن الحسن بن الربيع قال سألت ابن المبارك قلت: قول النبي صلى الله عليه وسلم «طلب العلم فريضة على كل مسلم». قال (ليس هو الذي يطلبونه، ولكن فريضة على من وقع في شئ من أمر دينه أن يسأل عنه حتى يعلمه). أهـ
وروى ابن عبدالبر بإسناده عن سفيان بن عيينة قال (طلب العلم والجهاد فريضة على جماعتهم ويجزيء فيه بعضهم عن بعض، وتلا هذه الآية «فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم») أهـ.
وبعد ذكرِه لأقوال الأئمة رحمهم الله، قال ابن عبدالبر:
(أجمع العلماء على أن من العلم ماهو فرض متعين على كل امريء في خاصته بنفسه، ومنه ماهو فرض على الكفاية إذا قام به قائم سقط فرضه على أهل ذلك الموضع).
«العلم الذي هو فرض عين»(2/65)
قال ابن عبدالبر (والذي يلزم الجميع فرضه من ذلك مالايسع الإنسان جهله من جملة الفرائض المفترضة عليه نحو الشهادة باللسان والإقرار بالقلب بأن الله وحده لاشريك له،لا شبه له ولا مثل، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، خالق كل شيء وإليه مرجع كل شيء، المحيي المميت الحي الذي لايموت، والذي عليه جماعة أهل السنة أنه لم يزل بصفاته وأسمائه ليس لأوليته ابتداء ولا لآخريته انقضاء وهو على العرش استوى. والشهادة بأن محمدا عبده ورسوله وخاتم أنبيائه حق، وأن البعث بعد الموت للمجازاة بالأعمال، والخلود في الآخرة لأهل السعادة بالإيمان والطاعة في الجنة، ولأهل الشقاوة بالكفر والجحود في السعير حق، وأن القرآن كلام الله ومافيه حق من عند الله يجب الإيمان بجميعه واستعمال محكمه، وأن الصلوات الخمس فرض ويلزمه من عِلْمها علم مالا تتم إلا به من طهارتها وسائر أحكامها، وأن صوم رمضان فرض ويلزمه عِلْم مايفسد صومه ومالا يتم إلا به، وإن كان ذا مال وقدرة على الحج لزمه فرضا أن يعرف ماتجب فيه الزكاة ومتى تجب وفي كم تجب، ويلزمه أن يعلم بأن الحج عليه فرض مرة واحدة في دهره إن استطاع إليه سبيلا، إلى أشياء يلزمه معرفة جملها ولا يعذر بجهلها نحو تحريم الزنا، والربا، وتحريم الخمر، والخنزير، وأكل الميتة، والأنجاس كلها، والغصب، والرشوة على الحكم، والشهادة بالزور، وأكل أموال الناس بالباطل وبغير طيب من أنفسهم إلا إذا كان شيئاً لايتشاح فيه ولا يرغب في مثله، وتحريم الظلم كله، وتحريم نكاح الأمهات والأخوات ومن ذكر معهن، وتحريم قتل النفس المؤمنة بغير حق، وما كان مثل هذا كله مما قد نطق الكتاب به وأجمعت الأمة عليه).
«العلم الذي هو فرض كفاية»(2/66)
قال ابن عبدالبر (ثم سائر العلم وطلبه والتفقه فيه وتعليم الناس إياه وفتواهم به في مصالح دينهم ودنياهم فهو فرض على الكفاية يلزم الجميع فرضه فإذا قام به قائم سقط فرضه عن الباقين لا خلاف بين العلماء في ذلك وحجتهم فيه قول الله عزوجل (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم) فألزم النفير في ذلك البعض دون الكل ثم ينصرفون فيعلمون غيرهم والطائفة في لسان العرب الواحد فما فوقه).
«أمثلة لفروض الكفاية»
قال ابن عبدالبر (وكذا الجهاد فرض على الكفاية لقول الله عزوجل (لايستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله) إلى قوله (وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما) ففضل المجاهد ولم يذم المتخلف والآيات في فرض الجهاد كثيرة جداً وترتيبها مع الآية التي ذكرنا على حسب ماوصفنا عند جماعة أهل العلم فإن أظل العدو بلدة لزم الفرض حينئذ جميع أهلها وكل من قرب منها إن علم ضعفها عنه وأمكن نصرتها لزمه فرض ذلك أيضا. قال أبو عمر وردّ السلام عند أصحابنا من هذا الباب فرض على الكفاية لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: وإن ردّ واحد من القوم أجزأ عنهم: وخالفهم العراقيون فجعلوه فرضا متعينا على كل واحد من الجماعة إذا سلم عليهم وقد ذكرنا وجه القولين والحجة لمذهب الحجازيين في كتابنا كتاب التمهيد لآثار الموطأ والآية المثبتة لرد السلام بإجماع هى قوله عزوجل (وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها)، ومن هذا الباب أيضا تكفين الموتى وغسلهم والصلاة عليهم ومواراتهم والقيام بالشهادة عند الحكام فإن كان الشاهدان عدلين ولاشاهد له غيرهما تعين إذاً عليهما وصار من القسم الأول) أهـ من (جامع بيان العلم) لابن عبدالبر، 1/ 9 ــ 12. وقد وضعت خلال كلامه ثلاثة عناوين فرعية وهى «العلم الذي هو فرض عين» و «العلم الذي هو فرض كفاية» و «أمثلة لفروض الكفاية».(2/67)
5 ــ قول أبي حامد الغز ّالي رحمه الله (ت 505 هـ) ــ في «إحياء علوم الدين» ــ
الباب الثاني من كتاب العلم في الإحياء (في العلم المحمود والمذموم وأقسامهما وأحكامهما).
قال أبو حامد رحمه الله (وفيه بيان ماهو فرض عين وماهو فرض كفاية، وبيان أن موقع الكلام والفقه من علم الدين إلى أي حدٍ هو وتفضيل علم الآخرة.
بيان العلم الذي هو فرض عين
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « طلب العلم فريضة على كل مسلم »، وقال أيضا صلى الله عليه وسلم « اطلبوا العلم ولو بالصين » واختلف الناس في العلم الذي هو فرض على كل مسلم ــ إلى أن قال ــ والذي ينبغي أن يقطع به المحصِّل ولايستريب فيه ماسنذكره: وهو أن العلم كما قدّمناه في خطبة الكتاب ينقسم إلى علم معاملة وعلم مكاشفة، وليس المراد بهذا العلم إلا علم المعاملة، والمعاملة التي كُلِّف العبد العاقل البالغ العمل بها ثلاثة: اعتقاد وفعل وترك.
«الاعتقاد»: فإذا بلغ الرجل العاقل بالاحتلام أو السن ضحوة نهار مثلاً فأول واجب عليه تعلم كلمتي الشهادة وفهم معناهما وهو قول «لا إله إلا الله، محمد رسول الله» وليس يجب عليه أن يحصل كشف ذلك لنفسه بالنظر والبحث وتحرير الأدلة، بل يكفيه أن يصدّق به ويعتقده جزماً من غير اختلاج ريب واضطراب نفس، وذلك قد يحصل بمجرد التقليد والسماع من غير بحث ولا برهان، إذ اكتفى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجلاف العرب بالتصديق والإقرار من غير تعلم دليل. فإذا فعل ذلك فقد أدى واجب الوقت وكان العلم الذي هو فرض عين عليه في الوقت تعلم الكلمتين وفهمهما، وليس يلزمه أمر وراء هذا في الوقت، بدليل أنه لو مات عقيب ذلك مات مطيعاً لله عزوجل غير عاص له، وإنما يجب غير ذلك بعوارض تعرض وليس ذلك ضرورياً في حق كل شخص بل يتصوّر الانفكاك، وتلك العوارض إما أن تكون في الفعل وإما في الترك وإما في الاعتقاد.(2/68)
أما الفعل: فبأن يعيش من ضحوة نهاره إلى وقت الظهر فيتجدد عليه بدخول وقت الظهر تعلم الطهارة والصلاة، فإن كان صحيحا وكان بحيث لو صبر إلى وقت زوال الشمس لم يتمكن من تمام التعلم والعمل في الوقت بل يخرج الوقت لو اشتغل بالتعليم، فلا يبعد أن يقال: الظاهر بقاؤه فيجب عليه تقديم التعلم على الوقت. ويحتمل أن يقال: وجوب العلم الذي هو شرط العمل بعد وجوب العمل فلا يجب قبل الزوال، وهكذا في بقية الصلوات. فإن عاش إلى رمضان تجدّد بسببه وجوب تعلم الصوم: وهو أن وقته من الصبح إلى غروب الشمس، وأن الواجب فيه النية والإمساك عن الأكل والشرب والوقاع، وأن ذلك يتمادى إلى رؤية الهلال أو شاهدين، فإن تجدّد له مال أو كان له مال عند بلوغه لزمه تعلم مايجب عليه من الزكاة، ولكن لايلزمه في الحال إنما يلزمه عند تمام الحول من وقت الإسلام، فإن لم يملك إلا الإبل لم يلزمه إلا تعلم زكاة الإبل، وكذلك في سائر الأصناف، فإذا دخل في أشهر الحج فلا يلزمه المبادرة إلى علم الحج مع أن فعله على التراخي فلا يكون تعلمه على الفور، ولكن ينبغي لعلماء الإسلام أن ينبهوه على أن الحج فرض على التراخي على كل من ملك الزاد والراحلة إذا كان هو مالكاً حتى ربما يرى الحزم لنفسه في المبادرة، فعند ذلك إذا عزم عليه لزمه تعلم كيفية الحج ولم يلزمه إلا تعلم أركانه وواجباته دون نوافله، فإن فِعْل ذلك نفل فعِلْمُه أيضا نفل فلا يكون تعلمه فرض عين، وفي تحريم السكوت على التنبيه على وجوب أصل الحج في الحال نظر يليق بالفقه، وهكذا التدرج في علم سائر الأفعال التي هى فرض عين.(2/69)
وأما التروك: فيجب تعلم ذلك بحسب مايتجدد من الحال، وذلك يختلف بحال الشخص إذ لا يجب على الأبكم تعلم مايحرم من الكلام، ولا على الأعمى تعلم مايحرم من النظر، ولا على البدوي تعلم ما يحرم الجلوس فيه من المساكن، فلذلك أيضاً واجب بحسب مايقتضيه الحال، فما يعلم أنه ينفك عنه لا يجب تعلمه وما هو ملابس له يجب تنبيهه عليه كما لو كان عند الإسلام لابساً للحرير، أو جالساً في الغصب، أو ناظراً إلى غير ذي محرم، فيجب تعريفه بذلك وما ليس ملابساً له ولكنه بصدد التعرض له على القرب كالأكل والشرب فيجب تعليمه، حتى إذا كان في بلد يتعاطى فيه شرب الخمر وأكل لحم الخنزير فيجب تعليمه ذلك وتنبيهه عليه، وما وجب تعليمه وجب عليه تعلمه.
وأما الاعتقادات وأعمال القلوب: فيجب علمها بحسب الخواطر، فإن خطر له شك في المعاني التي تدل عليها كلمتا الشهادة فيجب عليه تعلم مايتوصل به إلى إزالة الشك. فإن لم يخطر له ذلك ومات قبل أن يعتقد أن كلام الله سبحانه قديم وأنه مرئي وأنه ليس محلاً للحوادث إلى غير ذلك مما يذكر في المعتقدات، فقد مات على الإسلام إجماعاً، ولكن هذه الخواطر الموجبة للاعتقادات بعضها يخطر بالطبع وبعضها يخطر بالسماع من أهل البلد، فإن كان في بلد شاع فيه الكلام وتناطق الناس بالبدع فينبغي أن يصان في أول بلوغه عنها بتلقين الحق، فإنه لوألقي إليه الباطل لوجبت إزالته عن قلبه وربما عسر ذلك، كما أنه لو كان هذا المسلم تاجراً وقد شاع في البلد معاملة الربا وجب عليه تعلم الحذر من الربا، وهذا هو الحق في العلم الذي هو فرض عين ومعناه العلم بكيفية العمل الواجب، فمن علم العلم الواجب ووقت وجوبه فقد علم العلم الذي هو فرض عين ــ إلى أن قال ــ(2/70)
ومما ينبغي أن يبادر في إلقائه إليه إذا لم يكن قد انتقل عن ملة إلى ملة أخرى: الإيمان بالجنة والنار والحشر والنشر حتى يؤمن به ويصدق، وهو من تتمة كلمتي الشهادة، فإنه بعد التصديق بكونه عليه السلام رسولاً ينبغي أن يفهم الرسالة التي هو مبلغها: وهو أن من أطاع الله ورسوله فله الجنة، ومن عصاهما فله النار.
النوازل: فإذا انتبهت لهذا التدريج علمت أن المذهب الحق هو هذا، وتحققت أن كل عبد هو في مجاري أحواله في يومه وليلته لايخلو من وقائع في عبادته ومعاملاته عن تجدد لوازم عليه فيلزمه السؤال عن كل مايقع له من النوادر ويلزمه المبادرة إلى تعلم مايتوقع وقوعه على القرب غالباً. ــ إلى أن قال ــ
بيان العلم الذي هو فرض كفاية
قال أبو حامد الغزالي: وهذه هى العلوم التي لو خلا البلد عمن يقوم بها حَرج أهل البلد. وإذا قام بها واحد وكفى، سقط الفرض عن الآخرين. ــ إلى أن قال ــ
وهى أربعة أضرب:
الضرب الأول: الأصول: وهى أربعة كتاب الله عزوجل، وسنة رسول الله عليه السلام، وإجماع الأمة وآثار الصحابة، والإجماع أصل من حيث إنه يدل على السنة فهو أصل في الدرجة الثالثة. وكذا الأثر فإنه أيضا يدل على السنة. لأن الصحابة رضي الله عنهم قد شاهدوا الوحي والتنزيل وأدركوا بقرائن الأحوال ماغاب عن غيرهم عيانه ــ إلى أن قال ــ
الضرب الثاني: الفروع: وهو مافهم من هذه الأصول لا بموجب ألفاظها بل بمعان تنبه لها العقول فاتسع بسببها الفهم حتى فهم من اللفظ الملفوظ به غيره كما فهم من قوله عليه السلام: «لا يقضي القاضي وهو غضبان» أنه لا يقضي إذا كان خائفا أو جائعا أو متألما بمرض. وهذا على ضربين:
أحدهما: يتعلق بمصالح الدنيا ويحويه كتب الفقه والمتكفل به الفقهاء وهم علماء الدنيا.(2/71)
الثاني: مايتعلق بمصالح الآخرة وهو علم أحوال القلب وأخلاقه المحمودة والمذمومة وما هو مرضي عند الله تعالى، وماهو مكروه وهو الذي يحويه الشطر الأخير من هذا الكتاب، أعني جملة كتاب إحياء علوم الدين، ومنه العلم بما يترشح من القلب على الجوارح في عباداتها وعاداتها، وهو الذي يحويه الشطر الأول من هذا الكتاب.
والضرب الثالث: المقدمات، وهى التي تجري منه مجرى الآلات كعلم اللغة والنحو، فإنهما آلة لعلم كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وليست اللغة والنحو من العلوم الشرعية في أنفسهما، ولكن يلزم الخوض فيهما بسبب الشرع إذ جاءت هذه الشريعة بلغة العرب وكل شريعة لاتظهر إلا بلغة فيصير تعلم تلك اللغة آلة. ــ إلى أن قال ــ
الضرب الرابع: المتممات: وذلك في علم القرآن، فإنه ينقسم إلى مايتعلق باللفظ كتعلم القراءات ومخارج الحروف وإلى ما يتعلق بالمعنى كالتفسير، فإن اعتماده أيضا على النقل، إذ اللغة بمجردها لاتستقل به وإلى مايتعلق بأحكامه كمعرفة الناسخ والمنسوخ والعام والخاص والنص والظاهر. وكيفية استعمال البعض منه مع البعض، وهو العلم الذي يسمى أصول الفقه ويتناول السنة أيضا. وأما المتممات في الآثار والأخبار فالعلم بالرجال وأسمائهم وأنسابهم وأسماء الصحابة وصفاتهم، والعلم بالعدالة في الرواة، والعلم بأحوالهم ليميز الضعيف عن القوي، والعلم بأعمارهم ليميز المرسل عن المسند وكذلك مايتعلق به، فهذه هى العلوم الشرعية وكلها محمودة بل كلها مِن فروض الكفايات.) أهـ (إحياء علوم الدين) لأبي حامد الغزالي، جـ 1 صـ 25 ــ 28. ط دار الكتب العلمية 1406 هـ. وقد أدرجنا خلال كلامه عنوانين في أوائل بعض الفقرات وهما «الاعتقاد» و «النوازل». وماذكره من حديث (اطلبوا العلم ولو بالصين) رواه البيهقي والخطيب وابن عبدالبر وغيرهم عن أنس بسند ضعيف، وذكره ابن الجوزي في (الموضوعات) والله تعالى أعلم.(2/72)
6 ــ قول القرطبي رحمه الله (ت 671 هـ): قال (طلب العلم ينقسم قسمين:
فرض على الأعيان: كالصلاة والزكاة والصيام.
وفي هذا المعنى جاء الحديث المروي «إن طلب العلم فريضة». روى عبد القدوس بن حبيب أبو سعيد الوحاظي عن حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم النخعي قال سمعت أنس بن مالك يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «طلب العلم فريضة على كل مسلم». قال إبراهيم: لم أسمع من أنس بن مالك إلا هذا الحديث.
وفرض على الكفاية، كتحصيل الحقوق وإقامة الحدود والفصل بين الخصوم ونحوه، إذ لايصلح أن يتعلمه جميع الناس فتضيع أحوالهم وأحوال سراياهم وتنقص أو تبطل معايشهم، فتعين بين الحالين أن يقوم به البعض من غير تعيين، وذلك بحسب مايسره الله لعباده وقسمه بينهم من رحمته وحكمته بسابق قدرته وكلمته.) (تفسير القرطبي) جـ 8 صـ 295.
7 ــ قول النووي رحمه الله (ت 676 هـ)ـــ في مقدمته الأصولية لكتابه «المجموع» ـــ
قسّم النووي العلم إلى ثلاثة أقسام: فرض عين وفرض كفاية ونفل، فقال رحمه الله:
الأول فرض العين: وهو تعلم المكلَّف مالا يتأدى الواجب الذي تعين عليه فعله إلا به. ككيفية الوضوء والصلاة ونحوهما وعليه حمل جماعات الحديث المروي في مسند أبي يعلى الموصلي عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم « طلب العلم فريضة على كل مسلم ». وهذا الحديث وإن لم يكن ثابتاً فمعناه صحيح: وحمله آخرون على فرض الكفاية: وأما أصل واجب الإسلام وما يتعلق بالعقائد فيكفي فيه التصديق بكل ماجاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم واعتقاده اعتقاداً جازما سليما من كل شك ولايتعين على من حصل له هذا تعلم أدلة المتكلمين، هذا هو الصحيح الذي أطبق عليه السلف والفقهاء والمحققون من المتكلمين من أصحابنا وغيرهم. فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يطالب أحداً بشيء سوى ماذكرناه، وكذلك الخلفاء الراشدين ومن سواهم من الصحابة فمن بعدهم من الصدر الأول ــ إلى أن قال ــ(2/73)
(فرع) لايلزم الإنسان تعلم كيفية الوضوء والصلاة وشبههما إلا بعد وجوب ذلك الشيء فإن كان بحيث لو صبر إلى دخول الوقت لم يتمكن من تمام تعلمها مع الفعل في الوقت فهل يلزمه التعلم قبل الوقت ؟ تردد فيه الغزّالي والصحيح ماجزم به غيره أنه يلزمه تقديم التعلم كما يلزم السعي إلى الجمعة لمن بعد منزله قبل الوقت ثم إذا كان الواجب على الفور كان تعليم الكيفية على الفور وإن كان على التراخي كالحج فعلى التراخي: ثم الذي يجب من ذلك كله ما يتوقف أداء الواجب عليه غالباً دون مايطرأ نادراً فإن وقع وجب التعلم حينئذ: وفي تعلم أدلة القبلة أوجه أحدها فرض عين والثاني كفاية وأصحهما فرض كفاية إلا أن يريد سفراً فيتعين لعموم حاجة المسافر إلى ذلك.
(فرع) أما البيع والنكاح وشبههما مما لايجب أصله فقال إمام الحرمين والغزالي وغيرهما يتعين على من أراده تعلم كيفيته وشرطه. وقيل لا يقال يتعين بل يقال يحرم الإقدام عليه إلا بعد معرفة شرطه وهذه العبارة أصح، وعبارتهما محمولة عليها، وكذا يقال في صلاة النافلة يحرم التلبس بها على من لم يعرف كيفيتها ولا يقال يجب تعلم كيفيتها.
(فرع) يلزمه معرفة مايحل ومايحرم من المأكول والمشروب والملبوس ونحوها مما لاغنى له عنه غالبا، وكذلك أحكام عشرة النساء. إن كان له زوجة، وحقوق المماليك إن كان له مملوك ونحو ذلك. ــ إلى أن قال ــ
(فرع) أما علم القلب وهو معرفة أمراض القلب كالحسد والعجب وشبههما فقال الغزالي: معرفة حدودها وأسبابها وطبها وعلاجها فرض عين، وقال غيره: إن رُزِق المكلَّف قلبا سليما من هذه الأمراض المحرمة كفاه ذلك ولايلزمه تعلم دوائها، وإن لم يسلم نظر إن تمكن من تطهير قلبه من ذلك بلا تعلم لزمه التطهير كما يلزمه ترك الزنا ونحوه من غير تعلم أدلة الترك، وإن لم يتمكن من الترك إلا بتعلم العلم المذكور لزمه ذلك حينئذ والله أعلم.
(القسم الثاني) فرض الكفاية(2/74)
وهو تحصيل مالابد للناس منه في إقامة دينهم من العلوم الشرعية كحفظ القرآن والأحاديث وعلومها والأصول والفقه والنحو واللغة والتصريف: ومعرفة رواة الحديث والإجماع والخلاف: ــ إلى أن قال ــ
وفرض الكفاية المراد به تحصيل ذلك الشيء من المكلفين أو بعضهم ويعم وجوبه جميع المخاطبين به فإذا فعله من تحصل به الكفاية سقط الحرج عن الباقين وإذا قام به جمع تحصل الكفاية ببعضهم فكلهم سواء في حكم القيام بالفرض في الثواب وغيره فإذا صلى على جنازة جمع ثم جمع ثم جمع فالكل يقع فرض كفاية، ولو أطبقوا كلهم على تركه أثم كل مَن لا عذر له ممن علم ذلك وأمكنه القيام به أو لم يعلم وهو قريب أمكنه العلم بحيث ينسب إلى تقصير ولايأثم من لم يتمكن لكونه غير أهل أو لعذره ــ إلى أن قال ــ
واعلم أن للقائم بفرض الكفاية مزية على القائم بفرض العين لأنه أسقط الحرج عن الأمة وقد قدمنا كلام إمام الحرمين في هذا في فضل ترجيح الاشتغال بالعلم على العبادة القاصرة.
(القسم الثالث) النفل: وهو كالتبحر في أصول الأدلة، والإمعان فيما وراء القدر الذي يحصل به فرض الكفاية.) أهـ. (المجموع) للنووي، جـ 1 صـ 24 ــ 27.
وقول النووي (إن للقائم بفرض الكفاية مزّية على القائم بفرض العين)، هو اختيار إمام الحرمين الجويني ووالده رحمهم الله، وخالفهم في ذلك آخرون، فانظر قول ابن السبكي في المسألة في (جمع الجوامع) جـ 1 صـ 183. وقول القرافي أيضا في كتابه (الفروق) جـ 2 صـ 203.
8 ــ قول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (ت 728 هـ) ــ من مجموع الفتاوى ــ(2/75)
قال رحمه الله (وطلب العلم الشرعي فرض على الكفاية إلا فيما يتعين: مثل طلب كل واحد علم ما أمره الله به ومانهاه عنه، فإن هذا فرض على الأعيان كما أخرجاه في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين». وكل من أراد الله به خيراً لابد أن يفقهه في الدين، فمن لم يفقهه في الدين لم يرد الله به خيراً، والدين: مابعث الله به رسوله: وهو مايجب على المرء التصديق به والعمل به، وعلى كل أحد أن يصدق محمداً صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به، ويطيعه فيما أمر تصديقاً عاما وطاعة عامة، ثم إذا ثبت عنه خبر كان عليه أن يصدق به مفصلا، وإذا كان مأموراً من جهة بأمر معين كان عليه أن يطيعه طاعة مفصلة.) أهـ (مجموع الفتاوى، 28/80).
وقال ابن تيمية رحمه الله (لا ريب أنه يجب على كل أحد أن يؤمن بما جاء به الرسول إيمانا عاما مجملا، ولاريب أن معرفة ماجاء به الرسول على التفصيل فرض على الكفاية فإن ذلك داخل في تبليغ مابعث الله به رسوله، وداخل في تدبُّر القرآن وعقله وفهمه، وعلم الكتاب، والحكمة، وحفظ الذكر، والدعاء إلى سبيل الرب بالحكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هى أحسن، ونحو ذلك ــ مما أوجبه الله على المؤمنين ــ فهو واجب على الكفاية منهم.
وأما ما يجب على أعيانهم فهذا يتنوع بتنوع قدرهم، ومعرفتهم، وحاجتهم وماأمر به أعيانهم فلا يجب على العاجز عن سماع بعض العلم، أو عن فهم دقيقه مايجب على القادر على ذلك، ويجب على من سمع النصوص وفهمها من علم التفصيل مالا يجب على من لم يسمعها، ويجب على المفتي، والمحدث، والمجادل مالا يجب على من ليس كذلك.) أهـ (مجموع الفتاوى، 3/312).(2/76)
وقال أيضا رحمه الله (وأما قوله: ماالذي يجب عليه علمه ؟ فهذا أيضا يتنوع فإنه يجب على كل مكلف أن يعلم ماأمر الله به، فيعلم ماأمر بالإيمان به ؟ وماأمر بعلمه، بحيث لو كان له ماتجب فيه الزكاة لوجب عليه تعلم علم الزكاة، ولو كان له مايحج به لوجب عليه تعلم علم الحج، وكذلك أمثال ذلك !.
ويجب على عموم الأمة علم جميع ماجاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، بحيث لايضيع من العلم الذي بلغه النبي صلى الله عليه وسلم أمته شيء، وهو مادل عليه الكتاب والسنة، لكن القدر الزائد على مايحتاج إليه المعين فرض على الكفاية، إذا قامت به طائفة سقط عن الباقين.
وأما «العلم المرغب فيه جملة» فهو العلم الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم أمته لكن يرغب كل شخص في العلم الذي هو إليه أحوج، وهو له أنفع، وهذا يتنوع، فرغبة عموم الناس في معرفة الواجبات والمستحبات من الأعمال والوعد والوعيد أنفع لهم. وكل شخص منهم يرغب في كل مايحتاج إليه من ذلك، ومن وقعت في قلبه شبهة فقد تكون رغبته في عمل ينافيها أنفع من غير ذلك.) أهـ (مجموع الفتاوى، 3/ 328 ــ 329).
وسُئل ابن تيمية: أيما طلب القرآن أو العلم أفضل؟.
فأجاب رحمه الله (أما العلم الذي يجب على الإنسان عيناً كعلم ماأمر الله به، وما نهى الله عنه، فهو مقدم على حفظ مالا يجب من القرآن، فإن طلب العلم الأول واجب، وطلب الثاني مستحب، والواجب مقدم على المستحب.(2/77)
وأما طلب حفظ القرآن: فهو مقدم على كثير مما تسميه الناس علماً: وهو إما باطل، أو قليل النفع، وهو أيضا مقدم في التعلم في حق من يريد أن يتعلم علم الدين من الأصول والفروع، فإن المشروع في حق مثل هذا في هذه الأوقات أن يبدأ بحفظ القرآن، فإنه أصل علوم الدين، بخلاف مايفعله كثير من أهل البدع من الأعاجم وغيرهم، حيث يشتغل أحدهم بشئ من فضول العلم، من الكلام، أو الجدال، والخلاف، أو الفروع النادرة، أو التقليد الذي لايحتاج إليه، أو غرائب الحديث التي لا تثبت، ولاينتفع بها، وكثير من الرياضيات التي لاتقوم عليها حجة، ويترك حفظ القرآن الذي هو أهم من ذلك كله، فلابد في مثل هذه المسألة من التفصيل.
والمطلوب من القرآن هو فهم معانيه، والعمل به، فإن لم تكن هذه همة حافظه لم يكن من أهل العلم، والدين، والله سبحانه أعلم. أهـ (مجموع الفتاوى، 23/ 54 ــ 55).
وقال أيضا رحمه الله (وأما العلم بالكتاب والحكمة فهو فرض على الكفاية: لايجب على كل أحد بعينه أن يكون عالماً بالكتاب: لفظه ومعناه، عالما بالحكمة جميعها، بل المؤمنون كلهم مخاطبون بذلك وهو واجب عليهم، كما هم مخاطبون بالجهاد، بل وجوب ذلك أسبق وأوكد من وجوب الجهاد، فإنه أصل الجهاد، ولولاه لم يعرفوا عَلاَمَ يقاتلون، ولهذا كان قيام الرسول والمؤمنين بذلك قبل قيامهم بالجهاد، فالجهاد سنام الدين، وفرعه وتمامه، وهذا أصله وأساسه وعموده ورأسه.) أهـ (مجموع الفتاوى، 15/ 390 ــ 391).
الخلاصة:
مما سبق ترى اتفاق العلماء على وجوب طلب العلم الشرعي، وأنه من حيث الوجوب قسمان: فرض عين وفرض كفاية. وقد نقل ابن عبدالبر ــ في كلامه السابق ــ الإجماع على هذا كله.
وسوف نتناول في الفصول التالية فرض العين وفرض الكفاية من العلم بالبيان، إن شاء الله تعالى.
الفصل الثاني
فرض العين من العلم الشرعي(2/78)
بعد عرض أقوال العلماء في حكم طلب العلم الشرعي وأقسامه ــ وذلك في الفصل السابق ــ ندرس في هذا الفصل القسم الأول من العلم الواجب، وهو فرض العين من العلم، وفيه خمس مسائل هى:
1 ــ بيان حاجة الناس إلى الشرع.
2 ــ وجوب العلم قبل القول والعمل.
3 ــ تعريف فرض العين من العلم.
4 ــ الأدلة على فرضيته.
5 ــ أقسام العلم الذي هو فرض عين.
******
المسألة الأولى: بيان حاجة الناس إلى الشرع
قال الله عزوجل (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لاتُرجعون، فتعالى الله الملك الحق، لا إله إلا هو رب العرش الكريم) المؤمنون 115 ــ 116.
أنكر الله تعالى على من يظن أنه خلق الخلق عبثا بلا غاية و نزّه نفسه سبحانه عن هذا الظن، فقال عزوجل (فتعالى الله الملك الحق) أي تعالى وتقدّس عن هذا الظن، إذ لايفعل سبحانه شيئا إلا لحكمة قال تعالى (أليس الله بأحكم الحاكمين) التين.
فقد خلق الله تعالى الخلق لعبادته كما قال سبحانه (وماخلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) الذاريات 56، والعبادة هى امتثال ماشرعه الله على ألسنة رسله عليهم السلام، وهى التكليف بالأوامر والنواهي، وقد وعد الله تعالى المطيعين بالجنة، قال تعالى (ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم) النساء 13، كما توعّد سبحانه العصاة بجهنم، قال تعالى (ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله ناراً خالداً فيها وله عذاب مهين) النساء 14.
وقال تعالى (أيحسب الإنسان أن يترك سُدى) القيامة 36، قال الشافعي رحمه الله في هذه الآية (فلم يختلف أهل العلم بالقرآن فيما علمت أن السُدَى الذي لايُؤمر ولايُنهى) أهـ (الأم) للشافعي جـ 7 صـ 298، (باب إبطال الاستحسان)، ط دار المعرفة.(2/79)
والتكليف الشرعي ــ الذي هو مضمون العبادة ــ هو أمر ونهي، ويترتب على امتثالهما أو التفريط فيهما وعد أو وعيد، ولا يمكن امتثال الأمر والنهي إلا بعد معرفتهما، ومعرفتهما ليس لها طريق إلا الشرع، خلافا لمن قال إن هذا ممكن بالعقل، فإن عقول الخلق تتفاوت وقد يستحسن إنسانٌ مايستقبحه غيره، فليس لمعرفة الحق من الباطل، والخير من الشر طريق إلا الشرع.
قال تعالى (وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ماكنت تدري ماالكتاب ولا الإيمان، ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا، وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم) الشورى 52. ومع كونه صلى الله عليه وسلم خير بني آدم فقد أخبر الله عزوجل أنه ما كان يدري ماالكتاب ولا الإيمان قبل الوحي، فلو كان هناك أحدٌُ حريّ بمعرفة الحق من الباطل بغير الشرع لكان رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد وصف الله تعالى وحيه وشرعه بالنور، فقال تعالى (ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء)، وقال تعالى ــ في آية أخرى ــ (ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور) النور 40، فدلّ على أنه ليس للإنسان نور يهتدي به ويميز به بين الحق والباطل إلا نور الشرع.
ولايعني هذا أن العقول لاقدرة لها على التمييز بين الحَسَن والقبيح، ولكنها لاتستقل بذلك، ولو استقلت العقول بذلك لاستغنى الناس عن بعثة الرسل بالشرائع، ولكان إرسالهم عبثاً، تعالى الله عن ذلك. وقد استوفى ابن القيم رحمه الله الكلام في (مسألة التحسين والتقبيح العقلي) في كتابه (مفتاح دار السعادة) بما لا مزيد عليه، وتكلم في نفس المسألة أيضا في كتابه (الصواعق المرسلة). وحاصل المسألة أن العقل قادر على إدراك الحُسْن والقبح في كثير من الأشياء إلا أنه لايترتب على هذا وجوب أو تحريم إلا بما شرعه الله تعالى على ألسنة الرسل عليهم السلام، وهو مايعبر عنه العلماء بقولهم (لاحكم قبل ورود الشرع).(2/80)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (ولابد من الإيمان بالشرع، وهو الإيمان بالأمر والنهي والوعد والوعيد كما بعث الله بذلك رسله وأنزل كتبه، والإنسان مضطر إلى شرع في حياته الدنيا، فإنه لابد له من حركة يجلب بها منفعته، وحركة يدفع بها مضرته، والشرع هو الذي يميّز بين الأفعال التي تنفعه، والأفعال التي تضره، وهو عدل الله في خلقه، ونوره بين عباده، فلا يمكن للآدميين أن يعيشوا بلا شرع يميزون به بين مايفعلونه ويتركونه) أهـ (مجموع الفتاوى، 3/113 ــ 114).
وقال ابن تيمية أيضا (والرسالة ضرورية في إصلاح العبد في معاشه ومعاده، فكما أنه لا صلاح له في آخرته إلا باتباع الرسالة، فكذلك لاصلاح له في معاشه ودنياه إلا باتباع الرسالة، فإن الإنسان مضطر إلى الشرع، فإنه بين حركتين: حركة يجلب بها ماينفعه، وحركة يدفع بها ما يضره. والشرع هو النور الذي يبيِّن ما ينفعه ومايضره والشرع نور الله في أرضه وعدله بين عباده، وحصنه الذي من دخله كان آمنا.
وليس المراد بالشرع التمييز بين الضار والنافع بالحس، فإن ذلك يحصل للحيوانات العُجْم، فإن الحمار والجمل يميز بين الشعير والتراب، بل التمييز بين الأفعال التي تضر فاعلها في معاشه ومعاده، كنفع الإيمان والتوحيد، والعدل والبر والتصدق والإحسان، والأمانة والعفة، والشجاعة والحلم، والصبر والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وصلة الأرحام وبر الوالدين، والإحسان إلى المماليك والجار، وأداء الحقوق، وإخلاص العمل لله والتوكل عليه والاستعانة به والرضا بمواقع القدر به، والتسليم لحكمه والانقياد لأمره، وموالاة أوليائه ومعاداة أعدائه، وخشيته في الغيب والشهادة، والتقوى إليه بأداء فرائضه واجتناب محارمه، واحتساب الثواب عنده، وتصديقه وتصديق رسله في كل ماأخبروا به، وطاعته في كل ماأمروا به، مما هو نفع وصلاح للعبد في دنياه وآخرته، وفي ضد ذلك شقاوته ومضرته في دنياه وآخرته.(2/81)
ولولا الرسالة لم يهتد العقل إلى تفاصيل النافع والضار في المعاش والمعاد، فمن أعظم نعم الله على عباده وأشرف منّة عليهم: أن أرسل إليهم رسله، وأنزل عليهم كتبه، وبين لهم الصراط المستقيم. ولولا ذلك لكانوا بمنزلة الأنعام والبهائم بل أشر حالا منها، فمن قَبلَ رسالة الله واستقام عليها فهو من خير البرية، ومن ردها وخرج عنها فهو من شر البرية، وأسوأ حالا من الكلب والخنزير والحيوان البهيم.) أهـ (مجموع الفتاوى، 19/99 ــ 100).
إذا ثبت هذا، وثبتت حاجة الناس إلى الشرع ليتمكنوا من القيام بوظائف العبودية لله تعالى على الوجه الذي يرضيه، فإنه ليس للناس طريق إلى معرفة الشرع إلا بالتعلم، ومن هنا كان فرضاً على كل مسلم أن يتعلم من العلم مالا يتأدى الواجب الذي تعيّن عليه فعله إلا به.
فالسعيد من يسعى لتحصيل مايجب عليه من العلم ويعمل به ليلقى الله تعالى وهو راض عنه، فإن الدنيا إنما هى ممر وهى إلى زوال لا محالة، والآخرة هى المستقر، كما قال عزوجل ــ حكاية عن مؤمن آل فرعون ــ (ياقوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هى دار القرار) غافر39. وقال تعالى (وماهذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب، وإن الدار الآخرة لهي الحيوان، لو كانوا يعلمون) العنكبوت 64، ومعنى الحيوان أي الحياة الكاملة، ويوم القيامة يقول الغافلون عن طاعة ربهم الذين فرحوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها ــ كما حكى الله تعالى ــ (وجايء يومئذ بجهنم، يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى، يقول ياليتني قدّمت لحياتي، فيومئذ لايعذِّب عذابه أحد ولايوثِق وثاقه أحد) الفجر 23 ــ 36. وقوله (ياليتني قدمت لحياتي) دليل على أن الدار الآخرة هى دار الحياة الكاملة للسعداء كما أنها دار العذاب المقيم للأشقياء، فهى دار الخلود.(2/82)
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ماالدنيا في الآخرة إلا مثلُ مايجعلُ أحدكُم أصبُعَه في اليَمِّ، فلينظر بما يرجع) رواه مسلم عن المستورد بن شداد رضي الله عنه.
وعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: نام رسول الله صلى الله عليه وسلم على حصير فقام وقد أثّر في جَنْبه، قلنا: يارسول الله لو اتخذنا لك وطاءً، فقال: (مالي وللدنيا ؟، ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ٍ ثم راح وتركها) رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح، والوِطاء هو الفراش الليِّن. فتلك هى حقيقة الدنيا وهذا هو قدرها.
فالعاقل السعيد من يسعى لتعلم ماتصح به عبادته لربه في هذه الدار الفانية ليكون من أهل النعيم المقيم في الدار الباقية. فإن كثيرا من الناس يقضون السنوات الطوال وينفقون الأموال الجزيلة في التعلم لإصلاح دنياهم وهم تاركونها لا محالة، ولايفكرون في إنفاق بعض هذا الوقت والمال في تعلم مايُصلح آخرتهم، أولائك هم الغافلون، فلا تكن منهم. قال تعالى (وعد الله، لايُخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لايعلمون، يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون) الروم 6 ــ 7، قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية (أي أكثر الناس ليس لهم علم إلا بالدنيا وأكسابها وشؤونها ومافيها، فهم حذاق أذكياء في تحصيلها ووجوه مكاسبها، وهم غافلون في أمور الدين وماينفعهم في الدار الآخرة، كأن أحدهم مغفّل لا ذهن له ولافكرة، قال الحسن البصري: والله ليبلغ من أحدهم بدنياه أنه يقلب الدرهم على ظفره فيخبرك بوزنه وما يُحسن أن يصلي) أهـ (تفسير ابن كثير) 3/427، ط دار المعرفة.
******
المسألة الثانية: وجوب العلم قبل القول والعمل
وحرمة القول والعمل بغير علم
تبيّن من المسألة السابقة حاجة الناس إلى الشرع في هذه الدنيا، وأنه لاطريق إلى معرفة الشرع إلا بالتعلم.(2/83)
وهنا نُبين إن شاء الله تعالى أن هذا التعلم ليس اختياراً يفعله من يشاء ويدعه من يشاء، وإنما هو واجب على كل مسلم ٍ مكلَّف (بالغ عاقل). ووجه الوجوب أنه يحرم على المسلم أن يُقدم على قولٍ أو فعلٍ حتى يعلم حكم الله تعالى فيه، فيُقدم على مايريد على بصيرة وعلى علمٍ، فكان العلم واجباً قبل القول والعمل. ويأتي وجوب العلم في المرتبة التالية للإيمان المجمل الذي هو أول واجب على المكلَّف، والذي هو شرط لصحة سائر الأعمال. وذلك لأن العبد أول مايُسلم إنما يجب عليه الإيمان المجمل بالله وبالرسول صلى الله عليه وسلم وبما جاء به، وهذا الإيمان هو المعبَّر عنه بالإقرار بالشهادتين، ثم إنه يجب عليه بعد ذلك أن يتعلم من شرائع الإيمان مايجب عليه العمل به، وهو مايعرف بالإيمان المُفَصَّل، فكان العلم بذلك قنطرة بين الإيمان المجمل والإيمان المُفَصَّل. ويدل على هذا بوضوح ماأوصى به النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً حين بعثه إلى اليمن، فقال له (إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإن هم أطاعوا لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فتُرَدُّ في فقرائهم، فإن هم أطاعوا لذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب) متفق عليه، واللفظ لمسلم. فالدعاء إلى الإقرار بالشهادتين هو الإيمان المجمل، والعمل بالشرائع من الصلاة والزكاة وغيرهما هو الإيمان المفصل، والعلم قنطرة بينهما وهو المراد في قوله صلى الله عليه وسلم (فأعلمهم أن الله افترض عليهم)، ومحل وجوبه بعد الإيمان المجمل وقبل الإيمان المفصل.(2/84)
وبهذا يتبين شفوف نظر البخاري رحمه الله في ترتيبه للموضوعات في صحيحه، فقد بدأ بكتاب بدء الوحي إشارة منه إلى أن الدين يعرف من جهة الوحي لا العقل، ثم أتبعه بكتاب الإيمان لأنه أول واجب على العبد، ثم أتبعه بكتاب العلم لأنه الوسيلة إلي معرفة شرائع الإيمان ومايجب على العبد العمل به منها، ثم أخذ في سرد شرائع الإيمان وبدأها بالطهارة فالصلاة لأنها آكد فروض العين وأول مايحاسب عليه العبد. فجعل البخاري رحمه الله العلم قنطرة بين الإيمان المجمل والإيمان المفصّل كما دلّ عليه حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه. على أن هذا لايعني أن الإيمان المجمل لايشترط لصحته العلم، بل العلم شرط لصحة الإيمان، وقد قال السلف إن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، وأن القول يراد به قول القلب وقول اللسان، ولم يختلفوا في أن قول القلب هو معرفته وتصديقه، فصارت المعرفة بما يجب الإيمان به إجمالا شرطاً لصحة الإيمان. ونذكر فيما يلي مزيداً من الأدلة على وجوب العلم قبل القول والعمل، من الكتاب والسنة والإجماع، وهى على النحو التالي:
أولا: الأدلة من كتاب الله تعالى:
على تحريم القول والعمل بغير علم، وعلى وجوب العلم قبل القول والعمل.
1 ــ قال تعالى (قل إنما حرّم ربي الفواحش ماظهر منها ومابطن، والإثم والبغي بغير الحق، وأن تشركوا بالله مالم ينزل به سلطانا، وأن تقولوا على الله مالا تعلمون) الأعراف 33.
هذا نص صريح في تحريم القول على الله بغير علم (قل إنما حرَّم ربي... وأن تقولوا على الله مالا تعلمون). وهو وعيد خاص في حق العالم والقاضي والمفتي وكل مبلغ لأحكام الله تعالى أن يقول على الله مالا يعلم. ويدل النص ــ بمفهومه ــ على وجوب العلم قبل القول والعمل ومنه التعليم والحكم والفتوى.(2/85)
وقد بيَّن الله تعالى في آيةٍ أخرى أن الإقدام على مخالفة هذا النهي إنما هو من تزيين الشيطان، وذلك في قوله تعالى (ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين، إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله مالا تعلمون) البقرة 168 ــ 169. ومثل هذه الآية قوله تعالى (ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ٍ ويتبع كل شيطان مريد، كُتب عليه أنه من تولاه فأنه يُضله ويهديه إلى عذاب السعير) الحج 3 ــ 4. فدل على أن الجدال ــ وهو أقوال ــ بغير علم من تزيين الشيطان، وبيَّن سوء عاقبة ذلك.
2 ــ قول الله تعالى (ولاَ تَقْفُ ماليس لك به علم، إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولاً) الإسراء 36.
ومعنى (لاتقف) أي لاتتبع ماليس لك به علم. ذكر ابن كثير رحمه الله أقوال السلف في الآية ثم قال (ومضمون ماذكروه أن الله تعالى نهى عن القول بلا علم بل بالظن والتوهم والخيال ــ إلى قوله ــ (كل أولئك) أي هذه الصفات من السمع والبصر والفؤاد (كان عنه مسئولاً) أي سيُسأل العبد عنها يوم القيامة وتُسأل عنه وعما عمل فيها) (تفسير ابن كثير) جـ 3 صـ 39.
3 ــ قوله تعالى (إذ تلقّونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ماليس لكم به علم، وتحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم) النور 15.
فَذَمّ الله تعالى القول بغير علم (وتقولون بأفواهكم ماليس لكم به علم) وبيّن سبحانه أن هذا أمر عظيم عند الله وإن استهان الناس به. والآية وإن كانت في حق من تكلم في حادثة الإفك إلا أن العبرة بعموم اللفظ.
4 ــ قوله تعالى (ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم، فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم) آل عمران 66.
قال القرطبي رحمه الله (في الآية دليل على المنع من الجدال لمن لا علم له، والحظر على من لاتحقيق عنده ــ إلى قوله ــ وقد ورد الأمر بالجدال لمن عَلِم وأيقن فقال تعالى « وجادلهم بالتي هى أحسن ») (تفسير القرطبي) جـ 4 صـ 108.(2/86)
5 ــ قال الله عزوجل (ياأيها الذين آمنوا لاتقدِّموا بين يدي الله ورسوله، واتقوا الله إن الله سميع عليم) الحجرات 1.
قال القرطبي رحمه الله (أى لاتقدموا قولا ولا فعلا بين يدي الله وقول رسوله وفعله فيما سبيله أن تأخذوه عنه من أمر الدين والدنيا. ومن قدّم قوله أو فعله على الرسول صلى الله عليه وسلم فقد قدّمه على الله تعالى، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما يأمر عن أمر الله عزوجل) (تفسير القرطبي، 16/300).
وفي الآية دلالة على حرمة الإقدام على قول أو عمل قبل معرفة حكم الله تعالى وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم فيه.
وقال ابن القيم رحمه الله ــ في نفس الآية ــ (أي لاتقولوا حتى يقول، ولا تأمروا حتى يأمر، ولا تُفْتُوا حتى يفتي، ولا تقطعوا أمراً حتى يكون هو الذي يحكم فيه ويُمضِيه، روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: لا تقولوا خِلافَ الكتاب والسنة، وروى العوفي عنه قال: نُهُوا أن يتكلموا بين يدي كلامه.
والقول الجامع في معنى الآية لا تعجلوا بقول ولا فعل قبل أن يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم أو يفعل.) (اعلام الموقعين) جـ 1 صـ 51.
وقد أثنى الله تعالى على الملائكة وامتدحهم من هذا الوجه، في قوله تعالى (بل عبادٌُ مُكرمون، لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون) الأنبياء 26 ــ 27. فهم لايقدِّمون قولاً قبل قوله تعالى، ولا يعملون إلا بأمره تعالى. قال ابن كثير رحمه الله (وهم له في غاية الطاعة قولا وفعلا «لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون» أي لا يتقدمون بين يديه بأمر ولا يخالفونه فيما أمرهم به، بل يبادرون إلى فعله) (تفسير ابن كثير) جـ 3 صـ 176.
6 ــ وقال تعالى: (ياأيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض، أن تحبط أعمالكم وأنتم لاتشعرون) الحجرات 2.(2/87)
قال ابن القيم رحمه الله (فإذا كان رفع أصواتهم فوق صوته سببا لحبوط أعمالهم فكيف تقديم آرائهم وعقولهم وأذواقهم وسياساتهم ومعارفهم على ما جاء به ورفعها عليه ؟ أليس هذا أولى أن يكون مُحبْطاً لأعمالهم ؟.) (اعلام الموقعين) جـ 1 صـ 51.
7 ــ وقال تعالى (إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر ٍ جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه) النور 62.
قال ابن القيم رحمه الله (فإذا جعل من لوازم الإيمان أنهم لا يذهبون مذهبا إذا كانوا معه إلا باستئذانه، فأولى أن يكون من لوازمه أن لايذهبوا إلى قول ولا مذهب علمي إلا بعد استئذانه، وإذنُه يُعرف بدلالة ماجاء به على أنه أذِنَ فيه) (اعلام الموقعين) جـ 1 صـ 51.
قلت: فوجب معرفة ما أذِن فيه مما لم يأذن بالتعلم قبل القول والعمل.
8 ــ وقال تعالى (وماكان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم) الأحزاب 36.
قال ابن القيم رحمه الله (فأخبر سبحانه أنه ليس لمؤمن أن يختار بعد قضائه وقضاء رسوله، ومن تخيَّر بعد ذلك فقد ضل ضلالا مبيناً) (اعلام الموقعين) جـ 1 صـ 51.
قلت: فوجب بذلك معرفة ماقضى به الله ورسوله صلى الله عليه وسلم في كل أمر قبل الإقدام عليه، حتى لايُقدم العبد على فعل ٍ برأيه دون اعتبار لحكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
9 ــ قول الله عزوجل (فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) النحل 43 والأنبياء 7. فأمر الله تعالى غير العالم بسؤال العالم، حتى لايقدم على العمل بجهل، فدلت الآية على وجوب العلم قبل القول والعمل. وأجمع العلماء على أن العامي يجب عليه السؤال عما وجب عليه من أمر دينه.
قال أبو عمر بن عبدالبر رحمه الله (لم تختلف العلماء أن العامة عليها تقليد علمائها وأنهم المرادون بقول الله عزوجل « فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لاتعلمون ») أهـ (جامع بيان العلم) جـ 2 صـ 115.(2/88)
وقال مثله الخطيب البغدادي رحمه الله في (الفقيه والمتفقه) جـ 2 صـ 68. وسيأتي تفصيل حكم التقليد في الباب الخامس من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.
ثانيا: الأدلة من السنة: -
على تحريم القول والعمل بغير علم، وعلى وجوب العلم قبل القول والعمل.
1 ــ قال البخاري رحمه الله في كتاب العلم من صحيحه، باب (العلم قبل القول والعمل، لقول الله تعالى «فاعلم أنه لا إله إلا الله»، فبدأ بالعلم) أهـ.
قال ابن حجر رحمه الله (قال ابن المنيّر: أراد به أن العلم شرط في صحة القول والعمل، فلا يُعتبران إلا به، فهو متقدم عليهما لأنه مصحِّح للنية المصحِّحة للعمل) أهـ (فتح الباري، 1/159 ــ 160).
قلت: وليس العلم مصححا للنية فقط، بل وللمتابعة أيضا، فإن شرطي قبول العمل هما: الإخلاص: بأن يبتغي بعمله الله وحده لاشريك له، والمتابعة: بأن يكون العمل موافقا لأحكام الشريعة في صفته.
قال تعالى (الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا) تبارك 2، نقل ابن تيمية عن الفضيل بن عياض رحمهما الله قوله في (أحسن عملا) إنه أخلصه وأصوبه، والإخلاص هو مقصود النية، والصواب مقصود المتابعة. والعلم لازم لتصحيح النية ولتصحيح المتابعة أيضا، ويدل على هذا:
2 ــ قول النبي صلى الله عليه وسلم (من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد) رواه مسلم عن عائشة رضي الله عنها، ورواه البخاري معلّقا، ورواه متصلا بلفظ مقارب.
ويدل الحديث على أن كل عمل غير موافق للشريعة (ليس عليه أمرنا) فهو مردود غير مقبول من فاعله، وهذا هو شرط المتابعة، ويدل الحديث ــ بإشارته ــ على وجوب العلم قبل العمل، ليكون العمل صوابا موافقا للشرع وإلا فهو فاسد مردود لايجزيء عن فاعله.
وهذا الحديث من الأحاديث التي عليها مدار الإسلام، ومن هنا أدرجه النووي رحمه الله في الأربعين حديثا (الأربعين النووية).
واستدل به العلماء على إبطال البدع المحدثة لكونها مما (ليس عليه أمرنا).(2/89)
واستدل به على إبطال حكم القاضي وفتوى المفتي المخالفة للشريعة، ولو كانت صادرة من مجتهد، كما ذكره البخاري في كتابي الأحكام والاعتصام من صحيحه (فتح الباري جـ 13 صـ 181 و317)، واستدل به أيضا على إبطال الصلح والعقود ــ وماجرى مجراها ــ المخالفة للشريعة، كما ذكره البخاري في كتاب الصلح من صحيحه (فتح الباري جـ 5 صـ 301 ــ 303).
3 ــ أخرج البخاري رحمه الله في كتاب الاعتصام من صحيحه قال (باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يُسألُ مما لم ينزل عليه الوحي فيقول لا أدري أو لم يُجب حتى ينزل عليه الوحي، ولم يقل برأي ولا قياس، لقوله تعالى «بما أراك الله» ــ النساء 105 ــ. وقال ابن مسعود: سُئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الروح فسكت حتى نزلت الآية) أهـ ثم روى البخاري حديث جابر رضي الله عنه في نزول آية الكلالة. (فتح الباري جـ 13 صـ 290) والباب يدل على وجوب العلم قبل القول والعمل.
4 ــ روي أبو داود رحمه الله قال حدثنا موسى بن عبدالرحمن الأنطاكي، حدثنا محمد بن سلمة، عن الزبير بن خُريق، عن عطاء، عن جابر رضي الله عنه قال: خرجنا في سفر، فأصاب رجلاً منا حجرٌُ فشجَّّه في رأسه، ثم احتلم، فسأل أصحابه، فقال: هل تجدون لي رخصة في التيمم ؟، فقالوا: مانجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء، فاغتسل فمات. فلما قدِمنا على النبي صلى الله عليه وسلم، أُخْبِرَ بذلك فقال: «قتلوه قتلهم الله، ألا سألوا إذْ لم يعلموا، فإنما شفاء العِيِّ السؤال، إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصر» أو «يعصب» ــ شك موسى ــ على جرحه خرقة ثم يمسح عليها ويغسل سائر جسده. ورواه أبو داود وابن ماجه عن ابن عباس رضي الله عنهما.(2/90)
ومعنى العِيِّ أي الجهل، وفي هذا الحديث عابهم النبي صلى الله عليه وسلم بالفتوى بغير علم وألحق بهم الوعيد بأن دعا عليهم، وجعلهم في الإثم قَتَلَة ً له، ذكره الخطابي رحمه الله في (معالم السنن). والحديث يدل على وجوب العلم قبل القول والعمل، ويدل على تحريم القول والعمل بغير علم لما ورد فيه من الذم والوعيد.
5 ــ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إنما الدنيا لأربعة نفرٍ:
عبد ٍ رزقه الله مالاً وعلماً فهو يتقي رَبَّه فيه ويصلُ به رحمِه ويعلمُ لله فيه حقاً فهذا بأفضل المنازل.
وعبدٍ رزقه الله علماً ولم يرزقه مالا، فهو صادق النية يقول: لو أن لي مالاً لعملت فيه بعمل فلان، فهو بنيَّته، فأجرهما سواء.
وعبدٍ رزقه الله مالاً ولم يرزقه عِلماً، فهو يخبطُ في ماله بغير علم، لا يتقي فيه رَبَّه ولايصل فيه رحمه، ولايعلمُ لله فيه حقاً، فهو بأخبث المنازل.
وعبدٍ لم يرزقه الله مالا ولا علما فهو يقول: لو أن لي مالاً لعملت فيه بعمل فلان، فهو بنيته، فوزرهما سواء) الحديث رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح (2441).
ورواه ابن ماجة وفيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (مَثَلُ هذه الأمة كمثل أربعة نفر) الحديث. كلاهما رواه عن أبي كبشة الأنماري رضي الله عنه.
في هذا الحديث مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنين، وذم اثنين:
فمدح من عمل (أنفق ماله) بعلم: وهو صاحب المرتبة الأولى.
كما مدح من قال قولا بعلم: وهو صاحب المرتبة الثانية.
وذم من عمل (يخبط في ماله) بغير علم: وهو صاحب المرتبة الثالثة.
كما ذم من قال قولا بغير علم: وهو صاحب المرتبة الرابعة.
فمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم من قال وعمل بعلم، وذم من قال وعمل بغير علم بل بجهل وجعله مستحقا للوزر وهذا يدل على أنه لم يعذره بالجهل إذ كان العلم واجبا عليه قبل القول والعمل، ومن فرّط في أداء الواجب لايُعذر ولايسقط عنه الإثم بل هو واقع في الإثم.(2/91)
فدل هذا الحديث على تحريم القول والعمل بغير علم وعلى وجوب العلم قبل القول والعمل.
6 ــ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (القضاة ثلاثة: واحد في الجنة واثنان في النار، فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فقضى به، ورجل عرف الحق فجار في الحكم فهو في النار، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار) رواه الأربعة عن بُريدة رضي الله عنه، وصححه الحاكم.
فأثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم على من عمل بعلم (وهو من عرف الحق فقضى به)، كما ذم من عمل بغير علم (وهو من قضى على جهل) وذكر الوعيد الوارد في حقه بما يدل على أنه لم يعذره بالجهل لتقصيره في طلب العلم الواجب عليه قبل اشتغاله بالقضاء. فدل الحديث على تحريم القول والعمل بغير علم، وعلى وجوب العلم قبل القول والعمل.
(تنبيه) وردت الإشارة في موضعين ــ أعلاه ــ إلى عدم العذر بالجهل، وهذه المسألة فيها تفصيل، وفي النية أن أتكلم فيها في باب مستقل وهو الباب السادس في هذا الكتاب إذا شاء الله تعالى.
ثالثا: الإجماع: -
على تحريم القول والعمل بغير علم، وعلى وجوب العلم قبل القول والعمل.
قال العلامة شهاب الدين القرافي المالكي (ت 684 هـ) في كتابه « الفروق » في الفرق الثالث والتسعين، قال رحمه الله (إن الغزالي حكى الإجماع في إحياء علوم الدين، والشافعي في رسالته حكاه أيضا في: أن المكلَّف لايجوز له أن يُقدم على فعلٍ حتى يعلم حكم الله فيه. فمن باع وجب عليه أن يتعلم ماعيّنه الله وشرعه في البيع، ومن آجر وجب عليه أن يتعلم ماشرعه الله تعالى في الإجارة، ومن قارض وجب عليه أن يتعلم حكم الله تعالى في القراض، ومن صلى وجب عليه أن يتعلم حكم الله تعالى في تلك الصلاة، وكذلك الطهارة وجميع الأقوال والأعمال. فمن تعلّم وعمل بمقتضى ماعَلِم فقد أطاع الله طاعتين، ومن لم يعلم ولم يعمل فقد عصى الله معصيتين، ومن عَلِم ولم يعمل بمقتضى علمه فقد أطاع الله طاعة وعصاه معصية.(2/92)
ويدل على هذه القاعدة أيضا من جهة القرآن، قوله تعالى ــ حكاية عن نوح عليه السلام ــ (إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم) ــ هود 47 ــ ومعناه: ماليس لي بجواز سؤاله علم، فدلّ ذلك على أنه لايجوز له أن يقدم على الدعاء والسؤال إلا بعد علمه بحكم الله تعالى في ذلك السؤال وأنه جائز، وذلك سبب كونه عليه السلام عوتب على سؤال الله عزوجل لابنه أن يكون معه في السفينة لكونه سأل قبل العلم بحال الولد، وأنه مما ينبغي طلبه أم لا ؟ فالعتب والجواب كلاهما يدل على أنه لابد من تقديم العلم بما يريد الإنسان أن يشرع فيه.
إذا تقرر هذا فمثله أيضا قوله تعالى (ولا تقف ما ليس لك به علم) ــ الإسراء 36 ــ نهى الله تعالى نبيّه عليه السلام عن اتباع غير المعلوم فلا يجوز الشروع في شئ حتى يعلم، فيكون طلب العلم واجبا في كل حالة.
ومنه قوله عليه السلام (طلب العلم فريضة على كل مسلم).
قال الشافعي رحمه الله: طلب العلم قسمان: فرض عين وفرض كفاية، ففرض العين علمك بحالتك التي أنت فيها، وفرض الكفاية ماعدا ذلك) أهـ. من (الفروق) جـ 2 صـ 148 ــ 149، ط دار المعرفة.
الخلاصة:
دلت الأدلة السابقة من الكتاب والسنة والإجماع ــ الذي نقله القرافي ــ على وجوب العلم قبل القول والعمل، وعلى تحريم الإقدام على قول أو عمل إلا بعلم.
وقد أكثرتُ من إيراد الأدلة من الكتاب والسنة للتدليل على هذه القاعدة وهى (وجوب العلم قبل القول والعمل، وتحريم القول والعمل بغير علم) لتترسخ هذه القاعدة في أذهان المسلمين، وليلتزموا بها في أنفسهم ومع غيرهم، فلا يقولوا ولايفعلوا إلا مادَلَّ عليه الدليل، ولايقبلوا من غيرهم قولاً لا دليل عليه من الشريعة. ففي الاعتصام بهذه القاعدة صلاح عظيم للمسلمين بإذن الله تعالى، وفيها درء لفساد أهل البدع والأهواء والضلالات الذين يتكلمون في دين الله تعالى بغير علم، والله المستعان.(2/93)
إذا علمت هذا، تبيَّن لك التفريط الشديد الواقع فيه كثير من المسلمين في هذه الأزمان والذي تمثل في الإقدام على الأقوال والأعمال بغير علم وبغير سؤال، وبلا مبالاة بتحليل أو تحريم، حتى إن الرجل ليطلب الرزق سنين بعمل لايبالي أحلال هو أم حرام ؟.
ولم تقتصر هذه الآفة على العوام بل قد سرت في بعض المنتسبين إلى العلم الشرعي، فتراهم يُصدرون الفتاوى ويصنِّفون التآليف يبيحون فيها ويحظرون بلا بحث وبلا تحقيق بل وبلا أهلية أحيانا، وقد ذكرنا الوعيد الشديد في حق هؤلاء الذين يقولون على الله مالا يعلمون والذين يُضِلّون بأهوائهم بغير علم، قال تعالى (ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم) المطففين 4 ــ 5، وقال تعالى (ستُكتب شهادتهم ويُسألون) الزخرف 19. وهل دخل التبديل والتحريف على الديانات السابقة إلا من هذا الباب: باب الأقوال والآراء التي لامستند لها من الشريعة ؟. وسوف أذكر بعض الأمثلة لأخطاء المؤلفين في العلوم الشرعية بما يبين لك صحة قولي هذا، وذلك في الباب السابع من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.
وفي هذا المقام أوصي الإخوة الدعاة والوعّاظ وكل مشتغل بالعلوم الشرعية أن ينشروا هذه المسألة في عموم المسلمين، ألا وهى وجوب العلم قبل القول والعمل، وحرمة الإقدام على قول أو عمل بغير علم، ففي نشر هذا الأمر إحياء لفريضة طلب العلم بين المسلمين وهذا باب عظيم من أبواب الخير، بل العلم كما وصفه ابن القيم هو مفتاح دار السعادة وهى الجنة بإذن الله تعالى.
(فائدة) وفاء الشريعة بمصالح العباد إلى يوم القيامة.(2/94)
اعلم أن القول (بوجوب العلم قبل القول والعمل) يصدق على الجماعات والدول كما يصدق على الأفراد. واعلم أن هذا القول يتضمن القول بوفاء الشريعة بمصالح العباد والجماعات والدول إلى يوم القيامة، سواء في ذلك المصالح الدنيوية أو الأخروية، لأنها إذا لم تكن وافية بذلك انخرمت قاعدة (وجوب العلم قبل القول والعمل)، فوجوب العلم بالحكم الشرعي في كل أمر قبل الإقدام عليه يعني وفاء الشريعة بذلك.
وقد دل على وفاء الشريعة بالأحكام إلى يوم القيامة أدلة كثيرة منها:
1 ــ قول الله عزوجل (ونَزَّلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء) النحل 89.
2 ــ وقول الله تعالى (ياأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم، فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا) النساء 59.
قال ابن القيم رحمه الله (ومنها: أن قوله (فإن تنازعتم في شىء) نكرة في سياق الشرط تعم كلَّ ما تنازع فيه المؤمنون من مسائل الدين دِقِّه وجِله، جلِيه وخفِيه، ولو لم يكن في كتاب الله ورسوله بيان حكم ما تنازعوا فيه ولم يكن كافيا لم يأمر بالرد إليه، إذ من الممتنع أن يأمر تعالى بالرد عند النزاع إلى من لا يوجد عنده فصل النزاع.
ومنها: أن الناس أجمعوا أن الرد إلى الله سبحانه هو الرد إلى كتابه، والرد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم هو الرد إليه نفسه في حياته وإلى سنته بعد وفاته.) (اعلام الموقعين) جـ 1 صـ 49.(2/95)
وفي بيان وفاء الشريعة بمصالح الخلق إلى يوم القيامة، قال ابن القيم رحمه الله (وهذ الأصل من أهم الأصول وأنفعها، وهو مبني على حرف واحد، وهو عموم رسالته صلى الله عليه وسلم بالنسبة إلى كل ما يحتاج إليه العباد في معارفهم وعلومهم وأعمالهم، وأنه لم يحوج أمته إلى أحد ٍ بعده، وإنما حاجتهم إلى من يبلغهم عنه ماجاء به، فلرسالته عمومان محفوظان لايتطرق إليهما تخصيص: عموم بالنسبة إلى المرسَل إليهم، وعموم بالنسبة إلى كل مايحتاج إليه من بُعث إليه في أصول الدين وفروعه، فرسالته كافية شافية عامة، لا تُحْوِج إلى سواها، ولايتم الإيمان به إلا بإثبات عموم رسالته في هذا وهذا، فلا يخرج أحد من المكلفين عن رسالته، ولايخرج نوع من أنواع الحق الذي تحتاج إليه الأمة في علومها وأعمالها عما جاء به.(2/96)
وقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائر يقلب جناحيه في السماء إلا ذكر للأمة منه علماً، وعلَّمهم كل شيء حتى آداب التخلي وآداب الجماع والنوم والقيام والقعود، والأكل والشرب، والركوب والنزول، والسفر والإقامة، والصَّمْت والكلام، والعزلة والخلطة، والغنى والفقر، والصحة والمرض، وجميع أحكام الحياة والموت، ووصف لهم العرش والكرسي، والملائكة والجن، والنار والجنة ويوم القيامة، ومافيه حتى كأنه رأي عين، وعرَّفهم معبودهم وإلههم أتم تعريف حتى كأنهم يرونه ويشاهدونه بأوصاف كماله ونعوت جلاله، وعَرَّفهم الأنبياء وأممهم وماجرى لهم وماجرى عليهم معهم حتى كأنهم كانوا بينهم، وعرفهم من طرق الخير والشر دقيقها وجليلها مالم يعرفه نبي لأمته قبله، وعرفهم صلى الله عليه وسلم من أحوال الموت ومايكون بعده في البرزخ ومايحصل فيه من النعيم والعذاب للروح والبدن مالم يُعَرّف به نبي غيره، وكذلك عرفهم صلى الله عليه وسلم من أدلة التوحيد والنبوة والمعاد والرد على جميع فرق أهل الكفر والضلال ماليس لمن عرفه حاجة من بعده، اللهم إلا إلى مَنْ يبلغه إياه ويبينه ويوضح منه ماخفي عليه، وكذلك عرفهم صلى الله عليه وسلم من مكايد الحروب ولقاء العدو وطرق النصر والظفر مالو عَلموهُ وعَقَلوه ورَعَوْه حق رعايته لم يقم لهم عدو أبداً، وكذلك عرفهم صلى الله عليه وسلم من مكايد إبليس وطرقه التي يأتيهم منها وما يتحرزون به من كيده ومكره ومايدفعون به شره مالا مزيد عليه، وكذلك عرفهمص من أحوال نفوسهم وأوصافها ودسائسها وكمائنها مالا حاجة لهم معه إلى سواه، وكذلك عرفهم صلى الله عليه وسلم من أمور معايشهم مالو علموه وعملوه لاستقامت لهم دنياهم أعْظَمَ استقامة.(2/97)
وبالجملة فجاءهم بخير الدنيا والآخرة بِرُمَّته، ولم يحوجهم الله إلى أحد سواه، فكيف يظن أن شريعته الكاملة التي ما طرق العالم شريعة أكمل منها ناقصة تحتاج إلى « سياسة خارجة عنها تكملها، أو إلى قياس أو حقيقة أو معقول خارج عنها ؟ ومن ظن ذلك فهو كمن ظن أن بالناس حاجة إلى رسول آخر بعده، وسبب هذا كله خفاء ماجاء به على من ظن ذلك وقلة نصيبه من الفهم الذي وَفَّقَ الله له أصحاب نبيه الذين اكتفوا بما جاء به، واستغنوا به عما ماسواه، وفتحوا به القلوب والبلاد، وقالوا: هذا عهد نبينا إلينا وهو عهدنا إليكم، وقد كان عمر رضي الله عنه يمنع من الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خشية أن يشتغل الناسُ به عن القرآن، فكيف لو رأى اشتغال الناس بآرائهم وزَبَد أفكارهم وزُبالة أذهانهم عن القرآن والحديث ؟ فالله المستعان.
وقد قال الله تعالى: (أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يُتْلَى عليهم، إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون)، وقال تعالى: (وأنزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شىء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين)، وقال تعالى:(ياأيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم، وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة للمؤمنين)) انتهى كلام ابن القيم (إعلام الموقعين) جـ 4 صـ 375 ــ 377.
وبعد:
فقد تبيّن لك مما سبق وجوب العلم قبل القول والعمل، أي وجوب معرفة الحكم الشرعي في أي أمر ٍ يريد العبد أن يفعله قبل أن يفعله. كما تبيّن لك وفاء الشريعة بجميع الأحكام اللازمة للعباد إلى يوم القيامة إذ لا نبياً بعد نبينا صلى الله عليه وسلم، ولا شريعة بعد شريعته إلى يوم القيامة.
فإذا كان العلم واجبا قبل القول والعمل، فهل يجب على كل مسلم الإحاطة بجميع علوم الشريعة وأحكامها، أم يجب عليه العلم ببعض هذه الأحكام ؟.
وما حدّ هذا القدر من العلم الواجب على كل مسلم، أو مايعرف بفرض العين من العلم ؟. وهذا هو موضوع المسألة التالية ومايليها من مسائل.
******(2/98)
المسألة الثالثة: تعريف فرض العين من العلم الشرعي
هو ما يجب على كل مكلّف (أي مسلم بالغ عاقل) أن يتعلمه، وهو العلم الذي لايتمكن المكلّف من أداء الواجب الشرعي الذي تعيّن عليه فعلُه إلا بتعلمه.
وهذا التعريف مقتبس من تعريف النووي ــ المذكور في الفصل السابق ــ لفرض العين من العلم، وهو قوله رحمه الله (فرض العين ــ أي من العلم الشرعي ــ وهو تعلّم المكلّف مالا يتأدي الواجب الذي تعيَّن عليه فعله إلا به) أهـ (المجموع) للنووي جـ 1 صـ 24.
هذا هو التعريف المختار، وهناك تعريفات أخرى ذُكِرَت في أقوال العلماء التي وردت في الفصل السابق، ومنها:
وَصْف الشافعي رحمه الله لفرض العين من العلم بأنه (علم عامَّة لايسع بالغا غير مغلوب على عقله جهلُه... مثل الصلوات الخمس، وأن لله على الناس صوم شهر رمضان، وحج البيت إذا استطاعوه، وزكاة في أموالهم، وأنه حرَّم عليهم الزنا والقتل والسرقة والخمر، وما كان في معنى هذا، مما كُلِّف العباد أن يعقلوه ويعلموه ويعطوه من أنفسهم وأموالهم، وأن يكفوا عنه ماحَرَّم عليهم منه) (الرسالة) صـ357.
وَوَصَف عبدالله بن المبارك رحمه الله فرض العين من العلم بأنه (أن على كل أحد فرضا أن يتعلم مالا يسعه جهله من علم حاله). وقال أيضا (إنما طلب العلم فريضة أن يقع الرجل في شيء من أمر دينه يسأل عنه حتى يعلمه). وقال أيضا ــ وقد سُئِل ماالذي يجب على الناس من تعلم العلم ــ فقال (أن لايُقدم الرجل على الشيء إلا بعلم، يسأل ويتعلم، فهذا الذي يجب على الناس من تعلم العلم) أهـ. نقل كل هذا الخطيب البغدادي في (الفقيه والمتفقه) جـ 1 صـ 45.(2/99)
وَوَصَف مالك رحمه الله فرض العين من العلم بقوله (انظر مايلزمك من حين تصبح إلى حين تمسي، ومن حين تمسي إلى حين تصبح فالزمه، ولاتؤثر عليه شيئا) أهـ (الفقيه والمتفقه) جـ1صـ 46.وَوَصَف أحمد بن حنبل رحمه الله فرض العين من العلم ــ وقد سُئِل عن الرجل عليه طلب العلم ــ فقال: (أما مايقيم به الصلاة وأمر دينه من الصوم والزكاة، وذكر شرائع الإسلام، قال ينبغي له أن يعلم ذلك) أهـ (الفقيه والمتفقه) جـ 1 صـ 46.
وَوَصَف ابن تيمية رحمه الله فرض العين من العلم بقوله (طلبُ كل واحدٍ عِلم ماأمره الله به وما نهاه عنه، فإن هذا فرض على الأعيان) (مجموع الفتاوى) جـ 28 صـ 80.
وكما ترى فإن تعريف النووي رحمه الله لفرض العين من العلم أجمع من تعريفات غيره ولذلك اخترناه.
وهذا العلم الواجب يختلف قدره من شخص لآخر، وإن كان هناك قدر مشترك منه واجب على جميع المكلفين، وسنبيِّن هذا في المسألة الخامسة (أقسام فرض العين من العلم) إن شاء الله تعالى.
******
المسألة الرابعة: الأدلة على فرضيته
الأدلة على وجوب طلب فرض العين من العلم:
ترد هنا الأدلة المذكورة في المسألة الثانية (وجوب العلم قبل القول والعمل) من الكتاب والسنة والإجماع. كقوله تعالى (لاتقدموا بين يدي الله ورسوله) الحجرات 1، وقوله تعالى (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لاتعلمون) النحل 43. وغيرها من الأدلة الدالة على وجوب العلم قبل القول والعمل.
وبالإضافة إلى ماذكرنا هناك، فسنذكر هنا أدلة أخرى على وجوب طلب فرض العين من العلم ووجوب تعليمه للناس، ومنها:
1 ــ قول رسول الله صلى الله عليه وسلم (طلب العلم فريضة على كل مسلم) رواه ابن ماجة وغيره عن أنس رضي الله عنه. وقد روي هذا الحديث من طرق عدة كلها ضعيفة، وقد صححه السيوطي بمجموع طرقه.(2/100)
2 ــ قول النبي صلى الله عليه وسلم لمالك بن الحويرث (ارجعوا إلى أهليكم فعَلِّموهم) رواه البخاري عن مالك بن الحويرث معلقا بكتاب العلم من صحيحه، ورواه موصولاً في عدة مواضع بكتاب الأذان والجهاد والأدب وأخبار الآحاد، ومنها مارواه في كتاب الأذان عن مالك بن الحويرث قال: قدِمنا على النبي صلى الله عليه وسلم ونحن شَبَبَةٌُ فلبثنا عنده نحواً من عشرين ليلة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم رحيما فقال (لو رجعتم إلى بلادكم فعلمتموهم، مُروهم فليصلوا صلاة كذا في حين كذا، وصلاة كذا في حين كذا، وإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم، وليؤمَّكم أكبركم) حديث 685. وفي رواية أخرى قال صلى الله عليه وسلم (ارجعوا إلى أهليكم فأقيموا فيهم وعلِّموهم ومروهم) الحديث 631.
3 ــ وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم وَفَد عبد القيس عن الإيمان، وقال لهم (احفظوه وأخبروا مَنْ وراءكم). الحديث رواه البخاري. فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بحفظ ماأخبرهم به من العلم وأن يخبروا به قومهم.
قال البخاري رحمه الله في كتاب العلم (باب 25) من صحيحه: (باب تحريض النبي صلى الله عليه وسلم وفد عبد القيس على أن يحفظوا الإيمان والعِلمَ ويخبروا مَنْ وراءهم. وقال مالك بن الحويرث: قال لنا النبي صلى الله عليه وسلم «ارجعوا إلى أهليكم فعلِّموهم ».(2/101)
ثم روى البخاري بإسناده عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن وفد عبد القيس أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (مَن الوفد ــ أو مَن القوم ــ) قالوا: ربيعةُ. فقال (مرحبا بالقوم ــ أو بالوفد ــ غير خزايا ولا ندامى) قالوا: إنا نأتيك من شُقَّةٍ بعيدة، وبيننا وبينك هذا الحيُّ من كفار مُضَر، ولا نستطيع أن نأتِيَك إلا في شهر حرام، فمرنا بأمر نُخبرُ به مَنْ وراءنا ندخُل به الجنة، فأمرهم بأربع ونهاهم عن أربع (أمرهم بالإيمان بالله عزوجل وحده، قال: هل تدرون ما الإيمان بالله وحده؟). قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: (شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان، وتُعطوا الخُمس من المغنم. ونهاهم عن الدُّبَّاء والحَنْتم والمُزفّت) ــ قال شعبة: ربما قال النَّقير وربما قال المُقيَّر ــ قال:(احفظوه وأخبروه مَنْ وراءكم) حديث 87. والأشياء المنهي عنها هى آنية كان العرب ينتبذون فيها وكان يُسرع فيها التَّخمر، فنهاهم عنها سداً للذريعة. قال ابن حجر (ثم ثبتت الرخصة في الانتباذ في كل وعاء مع النهي عن شرب كل مسكر كما سيأتي في الأشربة إن شاء الله) (فتح الباري، 1/135). ومعنى الانتباذ والنبيذ المرخّص فيه أن العرب كان يستقون الماء من الآبار وكان فيها بعض الملوحة فكانوا ينبذون (يُلقون) في الماء تمراً أو زبيباً ليحلو مذاقه ويُستساغ، وكانوا يحفظون الماء في أوعية ــ منها ماذُكر في حديث وفد عبد القيس ــ وربما تركوه مدة طويلة فيتخمّر لما فيه من التمر والزبيب فيصير خمراً. فرُخّص لهم في الانتباذ لحاجتهم إليه ونُهوا عن كل مُسكر.
وبعد فهذه الأحاديث الثلاثة ــ حديث أنس وحديث مالك بن الحويرث وحديث وفد عبد القيس ــ فيها أمر صريح بطلب العلم وتعليمه لعموم المسلمين.(2/102)
إلا أن هذه الأدلة يجب تقييدها بأدلة أخرى، إذ إن كلمة (العلم) ـ فى حديث أنس (طلب العلم فريضة على كل مسلم) ـ هى اسم جنس مُعَرَّف بأل وهى من صيغ العموم، وإن قيل (أل) للعهد فلا معهود ينصرف إليه اللفظ إلا العلم الشرعي، وهذا لاينفي العموم عن اللفظ، وهذا يعني استغراق اللفظ لجميع العلوم الشرعية وأنها فرض عين على كل مسلم، وليس الأمر كذلك فإن هذا العموم مقيد بالأدلة المذكورة في المسألة الثانية من هذا الفصل (وجوب العلم قبل القول والعمل) كقوله تعالى (إنى أعوذ بك أن أسألك ماليس لى به علم) هود 47 ـ كما ذكره القرافي ـ وكقوله صلى الله عليه وسلم (من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد) رواه مسلم. فدلت هذه الأدلة ومنها الإجماع الذى نقله القرافي على أن القدر الواجب من العلم علي كل مسلم هو مالا يتمكن من أداء ماتعين عليه فعله إلا بتعلمه. وهذا يخصص عموم لفظ (العلم) في حديث (طلب العلم فريضة على كل مسلم).
كما يخصصه قوله تعالى (وما كان المؤمنون لينفروا كافة، فلولا نفر من كل فرقةٍ منهم طائفة ليتفقهوا فى الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون) التوبة 122، فالحديث أمر جميع المسلمين بطلب العلم، والآية أمرت بعض المسلمين ـ لاجميعهم ـ بالتفقه، فدل الحديث على فرض العين من العلم وهو مايجب على كل مسلم، ودلت الآية على فرض الكفاية من العلم، كما ورد في كلام العلماء في أقسام العلم في الفصل السابق.
******
المسألة الخامسة: أقسام العلم الذي هو فرض عين
ينقسم العلم الواجب بحسب تكرار الحاجة إليه في الأقوال والأعمال إلى قسمين أساسيين:
1 ــ ما يجب أن يتعلمه المسلم ابتداء ليتمكن من أداء الواجبات التي يتكرر وقوعها، وأداء المعاملات التي تكثر الحاجة إليها، وهذا القسم من العلم ينقسم بدوره إلى قسمين:
أ ــ قسم عام مشترك يلزم جميع المكلفين تعلمه في جميع الأمكنة والأزمنة، وسوف نسميه (العلم الواجب العيني العام).(2/103)
ب ــقسم خاص: يلزم بعض المكلفين دون بعض، ويختلف قدره بين شخص وآخر بحسب ما تعيّن عليهم من الواجبات دون غيرهم، وهذا القسم سوف نسميه (العلم الواجب العيني الخاص).
2 ــ ما لا يجب أن يتعلمه المسلم إلا عند وقوعه أو قرب وقوعه، وهى الأمور نادرة الوقوع التي لاتتكرر عادة، وتسمى هذه الأمور بالنوازل، وسوف نسمي هذا القسم من العلم الواجب بـ (العلم بأحكام النوازل). وهذا القسم أيضا يختلف قدره من شخص لآخر بحسب مايُبتلى به من النوازل.
يتلخص من هذا أن العلم الذي هو فرض عين ثلاثة أقسام: العلم الواجب العيني العام، والعلم الواجب العيني الخاص، والعلم بأحكام النوازل، وقد أشرنا إلى هذه الأقسام الثلاثة في الفصل الأول من هذا الباب. وسنذكر فيما يلي صفة كل قسم منها بإيجاز إن شاء الله تعالى.
أولا ـــ العلم الواجب العيني العام
وهذا القسم يجب على جميع المكلفين تعلمه في كل زمان ومكان، فيشترك جميع المسلمين المكلفين في وجوب تعلمه. ومنه: ـــ
1 ــ معرفة أركان الإسلام الخمسة: وهى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام لمن استطاع إليه سبيلا.
ولا يكفي في الركن الأول (الشهادتين) مجرد النطق، بل لابد من معرفة معناهما وشروط صحة شهادة أن (لا إله إلا الله) حتى لايقع العبد فيما يناقضهما.
قال أبو حامد الغزالي رحمه الله (فإذا بَلَغَ الرجل العاقل بالاحتلام أو السنّ ضحوة نهار مثلا، فأول واجب عليه تعلُّم كلمتي الشهادة وفهم معناهما، وهو قول « لا إله إلا الله، محمد رسول الله ») (إحياء علوم الدين) جـ 1 صـ 25.(2/104)
فأما معرفة معناهما: فشهادة أن (لا إله إلا الله) مشتملة على نفي (لا إله) وإثبات (إلا الله)، أي نفي الألوهية عن غير الله بترك عبادة مادونه، وإثبات الألوهية لله وحده، بإفراده وحده بالعبادات كالصلاة والدعاء والنذر والذبح والخوف والرجاء والتحاكم، فمن صرف شيئا من هذه العبادات أو غيرها إلى غير الله تعالى فقد نقض فعلُه قَولَه ولم يحقق معنى الشهادة، بل يكون كافراً لإتيانه بأمور ناقضة للشهادة فلابد لصحة هذه الشهادة من تحقيق مااشتملت عليه من النفي والإثبات. وحقيقة العبادة هى التذلل والخضوع، ويتحقق هذا بأن تصير حركات العبد وسكناته وأفكاره وخطراته موافقة لمراد الله تعالى بالتزام أَمْرِه ونَهْيه في كل شأن، كما قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم (قل إن صلاتي ونُسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لاشريك له وبذلك أمِرتُ وأنا أول المسلمين) الأنعام 162 ــ 163. هذه هى العبودية الخالصة، ومن هنا عَرَّفها بعض العلماء بأنها (امتثال ماشرعه الله تعالى على ألسنة رُسُلِه). ثم إن الله تعالى قد جعل مخالفة أمره ونهيه مراتب، فأغلظها المخالفة التي تُبْطِل حقيقة العبادة من أصلها وتنقض شهادة (أن لا إله إلا الله) وهى الأمور المكفِّرة من الاعتقادات والأقوال والأفعال التي نصَّ الشارع على كُفْر من أتى بها، ثم يأتي بعدها كبائر الذنوب غير المكفِّرة والتي يفسق فاعلها، ثم الصغائر.(2/105)
وأما شهادة (أن محمداً رسول الله): فتعني تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم في كل ماأخبر به وطاعته في كل ماأمر به، كما تعني إفراده صلى الله عليه وسلم بالمتابعة، فعن طريق الرسول صلى الله عليه وسلم يعرف العبد كيف يعبد ربَّه ؟ وكيف يؤدي ماتستوجبه الشهادة الأولى (شهادة أن لا إله إلا الله). فيعبد الله وِفْق ماجاء به رسوله صلى الله عليه وسلم لاوِفْق مايستحسنه بعقله وهَوَاه أو بعقل غيره وهواه. ومن هنا قال الله تعالى (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم) آل عمران 31.
وأما شروط صحة شهادة أن (لا إله إلا الله) فهى: العلم المنافي للجهل أي العلم بمعناها كما هو مذكور أعلاه، واليقين المنافي للشك، والإخلاص المنافي للشرك، والصدق المنافي للكذب، والمحبة المنافية للبُغض، والانقياد المنافي للترك، والقبول المنافي للرد، والكفر بما يُعبد من دون الله. وهذه الشروط لازمة لصحة إيمان العبد وقبول أعماله في الآخرة. أما في أحكام الدنيا الظاهرة فلا يجوز اختبار الناس للتحقق من اتيانهم بهذه الشروط، خاصة وأن منها شروطاً هى من أعمال القلب التي لاسبيل للعباد إلى معرفتها. وإنما يُطالب العبد في الدنيا بالإقرار والانقياد. فإذا كان ينطق بالشهادتين ولا يأتي بناقض من نواقض الإسلام فهو مسلم. أما اليقين والإخلاص والصدق والمحبة فمن أعمال القلب وعباداته ولاسبيل إلى العلم بها في الدنيا ــ وإن كانت لها علامات ــ فأمرها إلى الله تعالى يحاسب عباده عليها يوم القيامة، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله تعالى) الحديث متفق عليه.
(تنبيه) معرفة معنى الشهادتين ليست شرطاً للحكم بالإسلام فى الظاهر، وإنما هى شرط لصحة الإسلام على الحقيقة. والكلام هنا فى مقامين:(2/106)
أ ــ معرفة معنى الشهادتين ليست شرطا للحكم بالإسلام: بمعنى أنه إذا أراد شخص الدخول فى دين الإسلام فلايجب اختباره فى هذا الأمر ليُحكم له بالإسلام، وكذلك إذا كان شخص ظاهره الإسلام فلايجب اختباره في معرفة معني الشهادتين لإثبات حكم الإسلام له. والدليل على عدم وجوب الاختبار في هذا الأمر أن النبى صلى الله عليه وسلم قَبِلَ إسلام من أسلم دون إلزام بهذا الاختبار وأجرى عليهم أحكام الإسلام ثم كانوا يتعلمون مايجب عليهم بعد ذلك، ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم لأسامة بن زيد رضى الله عنهما (أقتلته بعدما قال لاإله إلا الله) الحديث متفق عليه، فجعل مجرد النطق بالشهادة عاصماً لصاحبه وهذا حكم له بالإسلام.
وماورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من اختباره بعض الأشخاص، فقد كانت حالات معدودة لاتعتبر هى الأصل مع عدم اختباره لعشرات الآلاف ممن أسلموا في حياته صلى الله عليه وسلم، واختبار بعض الأشخاص يجوز أو يجب لأسباب معينة، فحديث الجارية والذى قال فيه صلى الله عليه وسلم (أعتقها فإنها مؤمنة) ــ الحديث رواه مسلم ــ كان سبب الاختبار هو أن الإيمان الحكمي شرط في صحة العتق، فإن الله تعالى قد أوجب ــ في بعض الأمور ــ عتق الرقيق المؤمن كقوله تعالى (فتحرير رقبة مؤمنة). وتبيُّن إيمان الجارية هنا هو كما يتبيّن القاضى إسلام الشهود وعَدَالتهم ليجيز شهاداتهم ويقبلها فهذا واجب عليه. وهذا الكلام يقال في قوله تعالى (ياأيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن) الممتحنة 10، مع ماورد في تفسيرها، فهذه المواضع ونحوها يجب فيها الاختبار، وهذا هو (التبيُّن الشرعي).(2/107)
أما من كان يريد الدخول في الإسلام أو من كان ظاهره الإسلام (وهو المسلم مستور الحال) فهذا لايجب اختباره في معرفة معنى الشهادتين لأجل الحكم بإسلامه في الدنيا، ومن قال بهذا فهو مبتدع، وهذا هو (التبيُّن البدعي). واشتراط هذه المعرفة لأجل الحكم بالإسلام يشبه اشتراط المتكلمين تعلم الأدلة العقلية كشرط لصحة الإيمان، وهو شرط باطل كما قال ابن حجر رحمه الله (قال الغزّالى: أسرفت طائفة فكفّروا عوام المسلمين، وزعموا أن من لم يعرف العقائد الشرعية بالأدلة التي حرّروها فهو كافر، فضيّقوا رحمة الله الواسعة. وجعلوا الجنة مختصة بشرذمة يسيرة من المتكلمين. وذكر نحوه أبو المظفر بن السمعانى وأطال في الرد على قائله، ونقل عن أكثر أئمة الفتوى أنهم قالوا: لايجوز أن تكلَّف العوام اعتقاد الأصول بدلائلها لأن في ذلك من المشقة أشدّ من المشقّة في تعلم الفروع الفقهية. ــ إلى أن قال ابن حجر ــ وقال بعضهم: المطلوب من كل أحد التصديق الجزمى الذى لاريب معه بوجود الله تعالى والإيمان برُسُلهِ وبما جاءوا به كيفما حَصَل وبأي طريق إليه يوصل، ولو كان عن تقليد محض إذا سلم من التزلزل. قال القرطبي: هذا الذي عليه أئمة الفتوى ومَنْ قَبلهم من أئمة السلف، واحتج بعضهم بما تقدم من القول فى أصل الفطرة وبما تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم الصحابة أنهم حكموا بإسلام من أسلم من جفاة العرب ممن كان يعبد الأوثان، فقبلوا منهم الإقرار بالشهادتين، والتزام أحكام الإسلام من غير إلزام بتعلم الأدلة.) (فتح الباري) جـ 13 صـ 349 ــ 353. وقال النووي رحمه الله كلاماً قريباً من هذا (صحيح مسلم بشرح النووي) جـ 1 صـ210 ــ 211. وكرر ابن حجر هذا المعنى في شرحه للأحاديث (20 و 25). وسوف يأتي مزيد بيان في مسألتي (التبيّن الشرعي) و (التبيّن البدعي) في أواخر مبحث الاعتقاد بالباب السابع من هذا الكتاب إن شاء الله.(2/108)
ب ــ معرفة معنى الشهادتين شرط لصحة الإسلام على الحقيقة. أى الإسلام الذى ينفعه عند الله تعالى في الآخرة. ومن هنا قال الغَزَّالي ــ في كلامه المذكور آنفا ــ إنه يجب على الرجل إذا بلغ فَهْم ُ معنى الشهادتين، وإنما كان هذا واجبا لأسباب:
* منها أن مالايتم الواجب إلا به فهو واجب. فوجب على العبد أن يعلم أن معنى الشهادتين هو توحيد الألوهية واجتناب الشرك وتجريد متابعة النبي صلى الله عليه وسلم، لأن هذا هو الواجب الحقيقي على العبد ــ لامجرد النطق بالشهادتينوقد دل على هذا الواجب:
قوله تعالى (ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت) النحل 36، وهذه الآية تفسِّر معنى شهادة (لا إله إلا الله)، فوجب العلم بمعناها ليأتي العبد بمايجب عليه من حقيقتها.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (حَقُّ الله على العباد أن يعبدوه ولايشركوا به شيئا) الحديث متفق عليه. وهذا أيضا يفسِّر معنى شهادة (لا إله إلا الله).
* أن الشهادة لا تعتبر شهادة في اللغة وفي الشرع إلا بالعلم بالمشهود عليه، يدل على هذا قوله تعالى(إلا من شهد بالحق وهم يعلمون) الزخرف 86، فلابد من العلم لتصح الشهادة. وقد دل على وجوب هذا العلم بمعنى الشهادة أدلة أخر منها:
قوله تعالى (هذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا أنما هو إله واحد) إبراهيم 52.
وقولهص (من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة) رواه مسلم عن عثمان رضي الله عنه، فجعل العلم بمعنى الشهادة من شروط دخول الجنة وانتفاع العبد بالشهادتين على الحقيقة، إذ إن العلم بالمعنى هو مفتاح العمل بما توجبه الشهادتان.(2/109)
* أن العرب الذين بُعث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم كانوا أهل اللسان والفصاحة والبيان، بل من كلامهم تؤخذ شواهد ــ أي أدلة ــ قواعد اللغة العربية، كما في شواهد كتب أئمة اللغة، وقد فهم هؤلاء العرب معنى الشهادتين، وأن لا إله إلا الله تعني توحيد الألوهية وإفراد الله بالعبادة، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم لما طالبهم بالشهادتين، قال كفارهم ــ كما حكى الله تعالى ــ (أجعل الآلهة إلهاً واحداً) صلى الله عليه وسلم 5، فعلموا أن المراد بالشهادة خلع الآلهة الأخرى، فإذا كان هذا هو فهم من كفر من هؤلاء العرب فكيف بمن أسلم منهم ؟.
فهذا كله يدل على وجوب العلم بمعنى الشهادتين ليتمكن من العمل بموجبهما ولايقع فيما يناقضهما. وهذا يرجع إلى ما قررناه أولا من وجوب العلم قبل القول والعمل.
وهذا كله على الحقيقة التي ينتفع بها العبد عند الله، أما في أحكام الدنيا فمن نطق بالشهادتين فهو مسلم مالم يُعلم منه ناقض من نواقض الإسلام، وحسابه على الله تعالى.
وأودُّ أن أنبِّه تنبيها شديداً ــ في هذا المقام ــ على وجوب تعليم عموم المسلمين معنى الشهادتين، خاصة في هذا الزمان الذى عمَّت فيه البلوى بالشرك المناقض للتوحيد في شتى بلدان المسلمين فى صورٍ من أخطرها:
* الشرك في التشريع: فإن التشريع للخلق هو حق خالص لله تعالى، فلا يُشَرِّع إلا الربُّ جل وعلا قال تعالى (ولايُشرك في حكمه أحداً) الكهف 26، فمن شرّع للناس مالم يأذن به الله فقد جعل نفسه رباً لهم، وجعل نفسه شريكا لله تعالى في التشريع للخلق، قال تعالى (أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين مالم يأذن به الله) الشورى 21، والدين ــ في أحد معانيه ــ هو نظام حياة الناس وشرعهم حقاً كان أو باطلا، لأن الله سَمَّى ماعليه الكفار من الكفر والضلال دينا، وذلك في قوله تعالى (لكم دينكم ولى دين).(2/110)
ومن صور الشرك في التشريع في هذا الزمان: انتحال طوائف من البشر حق التشريع للناس، ومن هؤلاء واضعو القوانين الوضعية من خبراء القانون وأعضاء البرلمانات التشريعية ورؤساء الدول، فهؤلاء هم في الحقيقة أرباب مشرِّعون من دون الله. وعوام المسلمين في غفلة عن هذا الشرك الأكبر ويشاركون في نصب هؤلاء الأرباب بالمشاركة في الانتخابات البرلمانية والمشاركة في الاستفتاءات لاختيار رؤساء الدول. وهذا كله يناقض قول (لا إله إلا الله)، ومِنَ العوام مَنْ يقع في هذا الشرك لجهله بمعني (لا إله إلا الله)، ومنهم مَنْ لو عرف معناها لاحتاط لنفسه، وهذا ينبهك إلى أهمية تعليم عموم المسلمين معنى الشهادتين.
* الشرك في التحاكم: بالتحاكم لغير شريعة الله، للدساتير والقوانين الوضعية وسدنتها، وهذا مما عَمَّت به البلوى، قال تعالى (ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيداً) النساء 60. قال ابن القيم رحمه الله (أخبر سبحانه أن مَنْ تحاكم أو حاكم إلى غير ماجاء به الرسول فقد حَكَّم الطاغوت وتحاكم إليه، والطاغوت ــ كما عرّفه ابن القيم هو ــ: (كل ماتجاوز به العبدُ حدَّه من معبود أو متبوع أو مُطاع، فطاغوت كل قوم من يتحاكمون إليه غير الله ورسوله، أو يعبدونه من دون الله، أو يتبعونه على غير بصيرة من الله، أو يطيعونه فيما لايعلمون أنه طاعة لله، فهذه طواغيت العالم إذا تأملتها وتأملت أحوال الناس معها رأيت أكثرهم عدلُوا من عبادة الله إلى عبادة الطاغوت وعن التحاكم إلى الله وإلى الرسول إلى التحاكم إلى الطاغوت، وعن طاعته ومتابعة رسوله إلى طاعة الطاغوت ومتابعته) (اعلام الموقعين) جـ 1 صـ 50.(2/111)
* الشرك بعبادة الأموات من دون الله تعالى: بدعاء الأموات (أهل القبور) والاستغاثة بهم والنذر لهم والذبح لهم، وكل هذا من الشرك الأكبر الذى عمّت به البلوى فى معظم بلدان المسلمين. قال تعالى (ذلكم الله ربكم له الملك، والذين تدعون من دونه مايملكون من قِطمير، إن تدعوهم لايسمعوا دعاءكم، ولو سمعوا ما استجابوا لكم، ويوم القيامة يكفرون بِشِركِكُم، ولاينبئك مثل خبير) فاطر 13 ــ 14.
فالواجب على كل مسلم أن يعلم معنى شهادة (أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله) حتى يحتاط لنفسه من هذا الشرك. ومن أهم الكتب المعِينة على هذا كتاب (فتح المجيد شرح كتاب التوحيد) للشيخ عبد الرحمن بن حسن بن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله تعالى، وهذا الكتاب من الكتب التى أنصح كل مسلم بقراءتها فإنه يبيِّن بجلاء معنى (لا إله إلا الله) ويبيِّن كثيراً من نواقضها التى عمَّت بها البلوى.
2 ــ معرفة أركان الإيمان الستة: وهى الإيمان بالله وملائكتِه وكتبه ورسله واليوم الآخر، والإيمان بالقدر خيره وشرِّه. وهى أركان الإيمان الواردة في حديث جبريل عليه السلام.
ومع معرفة هذه الأركان يُنَبَّه على أمرين:
أ ــ أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص: قول القلب واللسان، وعمل القلب والجوارح، أما قول القلب فهو معرفته وتصديقه الجازم الباعث على الانقياد والإذعان، وقول اللسان هو النطق بالشهادتين، وعمل القلب هو عبادات القلب كالإخلاص والخشية والمحبة والتسليم ــ وسنذكرها فيما يأتي ــ، وعمل الجوارح هو امتثال الأوامر والنواهي الشرعية. وأن الإيمان يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي حتى لايبقى منه شيء.(2/112)
ب ــ أن الأمة انقسمت إلى فِرَقٍ بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم في الاعتقادات والآراء، وأن هذه الفرق واحدة منها فقط هى الناجية والفرق الباقية هلكى واقعة في دائرة الوعيد، وأن الناجية نجت باتباعها لما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم وهم أهل السنة والجماعة، وأن الفرق الهالكة ضلَّت بابتداعها الآراء المحدثة المخالفة لما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم. ويتأكد التنبيه على هذا الافتراق ووجه الحق فيه في البلاد التي تفشو فيها الفرق الضالة والبدع، فهذا من التحذير الواجب للمسلمين. وفائدة معرفة هذا الاختلاف: هو وجوب تعلم مايجب من هذه الاعتقادات وفق مذهب أهل السنة والجماعة.
3 ــ معرفة أقسام التوحيد: والتوحيد هو الإيمان بالله تعالى وهو أول أركان الإيمان الستة، وهو قسمان:
أ ــ توحيد الربوبية (وهو توحيد المعرِفة والإثبات أو التوحيد العلمي الخبري) ومعناه اعتقاد أن الله تعالى واحد في ذاته وأفعاله وأسمائه وصفاته لا شريك له، (لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد)، واعتقاد أن الله تعالى فوق السموات مستو علي العرش، بائن من الخلق، وهو معهم بعلمه وقدرته وإحاطته وسمعه وبصره، واعتقاد أنه سبحانه (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير)، واعتقاد أنه وحده الرب المالك الخالق الرازق النافع الضار المَحيِ المميت المُشَرِّع لخلقه لايشاركه أحد في هذا، ولايقع شئ في الكون بغير إذنه وإرادته سواء كان مما يحبه ويرضاه أو مما يُبغضه ويكرهه، واعتقاد أن الله تعالى على كل شيء قدير، لايعجزه شيء.(2/113)
ويُدرِجُ بعض المصنفين توحيد الأسماء والصفات في توحيد الربوبية، وبعضهم يفرده بقسم مستقل وفي هذه الحالة يقتصر توحيد الربوبية على توحيد الله تعالى في ذاته وأفعاله. وأيما كان التقسيم، فإنني أوصي بألا تكون دراسة الأسماء والصفات دراسة نظرية مجردة مقتصرة على بيان مذهب أهل السنة ومذاهب المبتدعة، بل يجب عند دراستها ربطها بحياة المسلم ومعاملاته اليومية الباطنة والظاهرة، فتفيده معرفة صفة المعية الاستحياء من الله تعالى والطمع في معيته الخاصة للمتقين فيجتهد أن يكون منهم، وتفيده معرفة صفة البصر أن يستحي من الله أن يراه على مانهاه عنه بل يراه الله على طاعته، وتفيده معرفة صفة السمع ألا ينطق بما يؤاخذه الله به بل ينطق بما يرضيه سبحانه من القول، وتفيده معرفة صفة القدرة التوكل على الله تعالى والثقة في وعده، وهكذا في بقية الأسماء والصفات. فإن جميع مافي العالم من خلق أو أمر إنما هى آثار ومقتضيات لأسماء الله تعالى وصفاته، إذ يستحيل أن تتعطل هذه الأسماء والصفات عن آثارهما، والعلم بهذا هو من أجل المعارف وأشرفها كما قال ابن القيم، وكتبه مشحونة ببيان ذلك.
ب ــ توحيد الألوهية (وهو توحيد العبادة والقصدأو التوحيد الإرادي الطلبي) ومعناه عبادة الله تعالى وحده، أو إفراد الله تعالى بالعبادة كما ذكرناه في معنى شهادة أن (لا إله إلا الله).(2/114)
ويتبين من ذلك أن توحيد الربوبية علم، وأن توحيد الألوهية عمل، وهو أثر العلم بتوحيد الربوبية في أعمال العبد، ولابد منهما معا لصحة التوحيد والإيمان. ولايدخل العبد في الإيمان بتوحيد الربوبية وحده، فإن الكفار الذين قاتلهم النبي صلى الله عليه وسلم واستحل دماءهم وأموالهم كانوا مقرِّين بتوحيد الربوبية وأن الله هو الخالق وحده لاشريك له النافع الضار المدبِّر لجميع الأمور، كما قال تعالى ــ لنبيه صلى الله عليه وسلم ــ (قل من يرزقكم من السماء والأرض، أمّن يملك السمع والأبصار، ومن يُخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي، ومن يدبر الأمر، فسيقولون الله، فقل أفلا تتقون) يونس 31. فلم يُدخلهم هذا الإقرار في الإسلام إذ كانوا يشركون في الألوهية بعبادتهم غير الله بالدعاء والاستغاثة والنذر والذبح والتحاكم لغير شريعة الله تعالى.
ولهذا كان أول ما يدعو الرسل إليه أقوامهم هى عبادة الله وحده لاشريك له ــ أي توحيد الألوهية ــ كما قال تعالى (ولقد بعثنا في كل أمة ٍ رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت) النحل 36. ولما بعث رسول اللهص معاذاً إلى أهل اليمن قال له:(إنك تقدم على قوم من أهل الكتاب فليكن أول ماتدعوهم إلى أن يوحِّدوا الله تعالى) الحديث رواه البخاري (7372)، والمقصود توحيد الألوهية بدلالة الروايات الأخرى لنفس الحديث ومنها (فليكن أول ماتدعوهم إليه عبادة الله) الحديث رواه البخاري (1458)، ومنها (فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله) الحديث رواه البخاري (4347).(2/115)
دل هذا كله على أن التوحيد أول واجب، ولاتصح العبادات ولاتُقبل إلا به، ولهذا فقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببقية أركان الإسلام ــ في حديث معاذ ــ بعد الإتيان بالتوحيد، فقال صلى الله عليه وسلم (فليكن أول ماتدعوهم إلى أن يوحِّدوا الله تعالى، فإذا عرفوا ذلك فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم، فإذا صلوا فأخبرهم أن الله افترض عليهم زكاة أموالهم تؤخذ من غنيِّهم فتُرد على فقيرهم، فإذا أقروا بذلك فخذ منهم وتوقَّ كرائم أموال الناس) الحديث متفق عليه، واللفظ للبخاري (7372).
فالواجب على كل عبد معرفة قِسْمي التوحيد وأنه لايصح إيمانه إلا بالإتيان بهما معاً، وأن هذا هو أول ما يجب على العبد من أمر دينه علماً وعملاً.
4 ــ معرفة نواقض الإسلام: أي معرفة الكفر وما يكفر به العبد. وإنما وجب معرفة هذا:
لقوله تعالى (ولقد بعثنا في كل أمة ٍ رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت) النحل 36.
فوجب معرفة الطاغوت ليجتنبه العبد على بصيرة، إذ لايصح إيمانه إلا باجتناب الطاغوت والكفر به، لقوله تعالى (فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها) البقرة 256، وقُدم الكفر بالطاغوت على الإيمان بالله إذ لايصح إلا به، والكفر بالطاغوت هو المراد بالنفي في شهادة أن (لا إله إلا الله).(2/116)
والطاغوت: مشتق من الطغيان، وهو كل ما جاوز به العبد حَدّه من معبود أو متبوع أو مطاع، أو هو كل ما يُخرج العبد من الإيمان إلى الكفر الذي هو أصل الطغيان. وقد سبق قول ابن القيم في تعريف الطاغوت. وقال ابن حجر رحمه الله (قال الطبري ــ في تعريف الطاغوت ــ: الصواب عندي أنه كلُ طاغٍ طغى على الله يُعبد من دونه، إما بقهرٍ منه لمن عَبَدَ أو بطاعة ممن عَبَدَ، إنسانا كان أو شيطانا أو حيوانا أو جماداً) أهـ (فتح الباري) جـ 11 صـ 448 شرح الحديث (6573) وقال كثير من العلماء إن الطاغوت في الأصل هو الشيطان فهو الذي يزين للناس كل كفر بالله، كما قال تعالى ــ حكاية عن إبليس ــ (قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين) الحجر 39 ــ 40.
وقد كانت أول وصايا لقمان لابنه ــ كما قال تعالى ــ (وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه، يابني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم) لقمان 13. والشرك إذا أُطلق فهو مرادف للكفر.
فوجب معرفة الكفر ومايكفر به العبد أي معرفة نواقض الإسلام، وهى تفوق الحصر، وأشهرها العشرة التي جمعها شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمهم الله، ثم النواقض المثبتة في أبواب الرِّدة من كتب الفقه. وهذا كله على سبيل المثال.
5 ــ معرفة عبادات القلب الواجبة: وهى مما يغفله كثير من الناس رغم وجوبها ودخول أكثرها في أصل الإيمان.
أ ــ كالإخلاص: لقوله تعالى (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين) البينة 5.
فيجب أن يعلم كل مسلم وجوب الإخلاص، وأنه شرط لقبول العمل عند الله تعالى، وأن العمل ــ كالصلاة والزكاة وغيرهما ــ قد يكون ظاهره صحيحاً في الدنيا ولكنه غير مقبول عند الله ولايُثاب عليه صاحبه لتخلف شرط الإخلاص. والإخلاص هو: قصد الله تعالى وحده بالعمل، وهو عمل قلبي.
ب ــ والخشية: لقوله تعالى (فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين) التوبة 13.(2/117)
جـ ــ والمحبة: لقوله تعالى (والذين آمنوا أشد حُبّا لله) البقرة 165.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ثلاثٌُ من كنَّ فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لايحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ انقذه الله منه، كما يكره أن يُقذف في النار) متفق عليه. ومحبة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ليست كلاما يقال بلا حقيقة، بل حقيقتها أنها عبادة قلبية باعثة على موافقة مراد المحبوب وبُغض ما يُبغضه المحبوب، بفعل ما يأمر به وترك ما ينهى عنه.
قال القاضي عياض رحمه الله (« فى لزوم محبته صلى الله عليه وسلم »
قال تعالى: (قُل إن كان آباؤُكم وأبناؤكم وإخوانُكم وأزواجُكم وعشيرتُكم وأموال اقترفتموها وتجارةٌ تخشون كسادها، ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله، فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لايهدي القوم الفاسقين) ـ التوبة 24 ـ.
فكفى بهذا حضَّا وتنبيها ودلاله وحُجَّة على إلزام محبته، ووجوب فرضها وعِظَم خَطرها، واستحقاقه لها صلى الله عليه وسلم، إذ قرَّع تعالي من كان ماله وأهله وولده أحب إليه من الله ورسوله، وأوعدهم بقوله تعالى: (فتربصوا حتى يأتي الله بأمره).
ثم فسَّقهم بتمام الآية، وأعلمهم أنهم ممن ضل ولم يهده الله.) (الشفا) جـ 2 صـ 563.
ثم قال القاضى عياض (« فصل فى علامة محبته صلى الله عليه وسلم »
اعلم أن من أحب شيئا آثره وآثر مُوافقته، وإلا لم يكن صادقا فى حُبّه وكان مُدّعياً. فالصادق في حب النبى صلى الله عليه وسلم من تظهر علامة ذلك عليه، وأولها الاقتداء به، واستعمال سُنته واتباع أقواله وأفعاله، وامتثال أوامره واجتناب نواهيه، والتأدب بآدابه في عُسره ويُسره، ومنشطه ومكرهه، وشاهد هذا قوله تعالى (قُل إن كنتم تحبون الله فاتبعونى يحببكم الله) ــ آل عمران 31 ـ.(2/118)
وإيثار ماشرعه وحض عليه على هوى نفسه، وموافقة شهوته، قال الله تعالى: (والذين تبوّءُوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولايجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولوكان بهم خصاصة) ــ الحشر 9 ــ.
وإسخاط العباد فى رضا الله تعالى ــ إلى أن قال ــ: ومنها بُغْضُ من أبغض الله ورسوله، ومعاداة من عاداه، ومجانبة من خالف سنته وابتدع في دينه، واستثقاله كلَّ أمر يخالف شريعته، قال تعالى
(لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادُّون من حادَّ اللهَ ورسولهَ) المجادلة 22 ـ، وهؤلاء أصحابه صلى الله عليه وسلم قد قتلوا أحبَّاءهم، وقاتلوا آباءهم وأبناءهم فى مرضاته) (الشفا) جـ 2 صـ571 ــ 576، ط عيسى الحلبي.
والمقصود من نقل كلام القاضي عياض رحمه الله بيان أن المحبة وإن كانت من أعمال القلب الواجبة إلا أن لها لوازم من أعمال الجوارح يجب الإتيان بها. وماقيل فى المحبة يقال فى غيرها من عبادات القلب كالرضا والتسليم وغيرهما.
د ــ والخوف والرجاء، لقوله تعالى (وادعوه خوفاً وطمعاً) الأعراف 56.
هـ ــ والتوكل على الله، لقوله تعالى (وعلى الله فليتوكل المؤمنون) آل عمران 160.
و ــ والصبر علي الطاعة وعن المعصية وعلى البلاء، قال تعالى (ياأيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة) البقرة 153.(2/119)
قال الشيخ الإمام عزالدين بن عبدالسلام رحمه الله (وأفعال القلوب كثيرة: منها حسن الظن بالله، ومنها الحزن على مافات من طاعته، ومنها الفرح بفضله ورحمته، ومنها محبة الطاعة والإيمان وكراهة الكفر والفسوق والعصيان، ومنها الحب في الله والبغض في الله كحب الأنبياء وبغض العصاة والأشقياء، ومنها الصبر على البليات والطاعات، وعن المعاصي والمخالفات، ومنها التذلل والتخضع والتخشع والتذكر والتيقظ وغبطة الأبرار على برهم، والأخيار على خيرهم، والأتقياء على تقواهم، ومنها الكف عن أضداد هذه المأمورات، ومنها الشوق إلى لقاء الله، ومنها أن يحب للمؤمنين مايحب لنفسه، وأن يكره لهم مثل مايكره لنفسه، ومنها مجاهدة النفس والشيطان إذا دعوا إلى المخالفات والعصيان، ومنها ذكر هاذم اللذات وذكر الوقوف بين يدي رب السموات، ومنها السرور بطاعة الله والاغتمام بمعصية الله، فإن المؤمن من سرته حسنته وساءته سيئته كما قال عليه السلام، ومنها الإيمان بجميع ماأخبر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم به من السابق واللاحق، ومنها إضمار النصيحة لكل مسلم، ومنها استحضار المخوفات عند نزوع النفس إلى اتباع الشهوات، ومنها أن يقدِّر إذا عبد ربه كأنه يراه لتقع العبادة على أكمل الأحوال فإن عجز عن ذلك فليقدر أن الله ناظر إليه ومطلع عليه، وهذا هو إحسان العبادات) إلى آخر ماذكره في كتابه (قواعد الأحكام في مصالح الأنام) جـ 1 صـ 189، ط دار الكتب العلمية.
فهذه أمثلة لعبادات القلب الواجبة، ولايستقيم حال العبد إلا بها، فَبِهَا يصلُح قلبه فتستقيم جوارحه على الطاعة، فأعمال القلب هى أصل أعمال الجوارح وهى الباعثة عليها، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ألا إن في الجسد لمضغة إذا صلحت صلح سائر الجسد، وإذا فسدت فسد سائر الجسد، ألا وهى القلب) الحديث متفق عليه.
6 ــ معرفة أحكام الطهارة: لكونها شرطاً لصحة الصلاة، ومن أحكام الطهارة الواجب معرفتها:(2/120)
أ ــ معرفة صفة الماء الذي يصح التطهر به.
ب ــ معرفة النجاسات وكيفية إزالتها.
جـ ــ معرفة وجوب الاستنجاء.
د ــ معرفة الأغسال الواجبة: كغُسل الجنابة والحيض والنفاس.
هـ ــ معرفة سُنن الفطرة: كالختان وإطلاق اللحية والاستحداد ونحوها.
و ــ معرفة الوضوء: شروطه، وواجباته، وسننه، ونواقضه.
ز ــ معرفة التيمم: متى يُشرع، وصفته.
7 ــ حفظـ سورة الفاتحة: لأنها من أركان الصلاة، ويستحب حفظ بعض قصار السور. كما يستحب معرفة أحكام تجويد القرآن ليتمكن العبد من تلاوته تلاوة صحيحة.
8 ــ معرفة أحكام الصلاة: وهى آكد الفروض بعد الشهادتين.
وهى أول ما يُحاسب عليه العبد يوم القيامة، وهى الركن الثاني من أركان الإسلام، ومن تركها فهو كافر مرتد سواء أقر بوجوبها أو جحده، هذا مادَلّ عليه الكتاب والسنة وأجمع عليه الصحابة، كما ذكره ابن القيم في أول كتابه (الصلاة)، وسوف تأتي إشارة إلى هذه المسألة في مبحث الاعتقاد في الباب السابع من هذا الكتاب إن شاء الله. ومما يجب معرفته من أحكامها:
أ ــ معرفة شروط وجوبها: وهى الإسلام والعقل والبلوغ، مع صحتها من الصبي المميِّز ويؤمر بها.ب ــ معرفة شروط صحتها: كالطهارة واستقبال القبلة وستر العورة ودخول الوقت والنية.
جـ ــ معرفة صفة الصلاة: وأركانها وواجباتها وسُننها.
د ــ معرفة سجود السهو: أسبابه، وماينجبر به ومالا ينجبر، وكيفيته.
هـ ــ معرفة مايُبطل الصلاة، ومايُكره فيها.
ومع هذه الواجبات ينبغي معرفة صلاة التطوع ومايتأكد منها، كالوتر وركعتى الفجر ثم الرواتب، إذ المداومة على تركها مما يقدح في عدالة المرء كما سيأتي في تعريف العدالة في البابين الرابع والخامس من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى. كما أن النقص في الصلاة المفروضة ينجبر يوم القيامة بصلاة التطوع كما صح الحديث بذلك.
و ــ معرفة أحكام صلاة الجماعة والجمعة والعيدين.(2/121)
9 ــ معرفة أحكام الجنائز: وهى وإن كانت من فروض الكفاية إلا أنها قد تصبح فرض عين في بعض الأحوال، كرجلين مسافرين مات أحدهما في انقطاع عن الناس.
فيجب معرفة كيفية: غسل الميت وتكفينه والصلاة عليه ودفنه.
10 ــ معرفة أحكام الزكاة: وهى من أركان الإسلام الخمسة، فيجب على كل مسلم معرفة بعض أحكامها ـ كشروط وجوبها حتى إذا وجبت عليه تعلَّم تفاصيل أحكامها. وعلى هذا فإن معرفة بعض أحكام الزكاة ـ كشروط وجوبها ـ تدخل فى العلم الواجب العينى العام، وبقية أحكامها تدخل في العلم الواجب العينى الخاص على من وجبت عليه.
أ ــ أما شروط وجوبها: فهى الإسلام والحرية ومِلك النصاب والملك التام لهذا النصاب، وتمام الحول من وقت اكتمال النصاب، ولايُشترط الحول في الخارج من الأرض.
وعلى هذا فالزكاة واجبة في مال الصبى غير البالغ، والمجنون غير العاقل، إذ لايُشترط لوجوبها البلوغ ولا العقل. وهذا مذهب الجمهور وخالفهم أبو حنيفة.
ب ــ معرفة فيما تجب الزكاة: وهى سائمة بهيمة الأنعام، والخارج من الأرض، والعسل، والأثمان (الأموال)، وعروض التجارة. فيجب معرفة مقدار النصاب في كل صنف من هذه الأصناف.
جـ ــ ويجب معرفة من يجزيء دفع الزكاة له ومن لايجزيء.
د ــ ويجب معرفة شروط وجوب زكاة الفطر ومقدارها ووقت إخراجها.
11 ــ معرفة أحكام الصيام: وهو من أركان الإسلام، فيجب أن يعلم المسلم أن الله قد فرض عليه صوم شهر رمضان من كل عام. ويجب معرفة:
أ ــ شروط وجوبه: الصوم واجب على كل مسلم بالغ عاقل مستطيع من ذكر أو أنثى، من حرٍ أو عبد.
ب ــ وشروط صحته: الإسلام والتمييز والعقل، وانقطاع دم الحيض والنفاس، والنية.
جـ ــ وصفة الصوم: هو الإمساك عن المُفطِرات (كالطعام والشراب والجماع وغيرها) من طلوع الفجر إلي غروب الشمس.
د ــ ويحرم الصوم: على الحائض والنفساء فيجب عليهما الفطر ويقضيان.(2/122)
هـ ــ ويجب أن يعلم المسلم المُفطِرات التى تُبطل الصوم وما يوجب منها القضاء والكفارة وما يوجب القضاء فقط.
و ــ ويَعْلم من يجوز له الفِطر: كالمريض والكبير العاجز عن الصوم والمسافر بشروطه، ومن يلزمه القضاء منهم ومن يلزمه الإطعام.
ز ــ ومن سُنن شهر رمضان: صلاة التراويح والاعتكاف والإكثار من قراءة القرآن وأفعال الخير.
12 ــ معرفة أحكام الحج: وهو ركن من أركان الإسلام الخمسة، فيجب على كل مسلم أن يعلم أن الله فرض عليه الحج مَرّة واحدة فى العمر.
أ ــ شروط وجوبه: وهى الإسلام والعقل والبلوغ وكمال الحرية والاستطاعة. ويصح الحج من الصبي والرقيق ويثاب عليه ولكن لايجزئه عن حجة الاسلام فإذا بلغ الصبى أو عُتق الرقيق وجب عليه الحج.
وفي وجوب العُمْرة خلاف.
ب ــ الاستطاعة: من شروط وجوب الحج، وهى مايُمكِّنه من بلوغ بيت الله الحرام لأداء مناسك الحج والعودة دون ضرر.
وتختلف صفة الاستطاعة بين شخص وآخر فمايلزم البعيد لايلزم القريب ويشترط للمرأة مالا يشترط للرجل.
وفي الجملة فإن الحج عبادة بَدَنيّة مالية. والاستطاعة متعلقة بكل من البَدَن والمال، وأمن الطريق.
فمن كان قادراً ببدنه على الحج يملك المال اللازم للسفر والنفقة زائداً عن حاجته الأصلية من مسكن ودابة وخادم ونفقة عياله، فهذا مستطيع يجب عليه الحج، والأفضل تعجيل الحج بمجرد حصول الاستطاعة.
ويشترط للمرأة مع هذا وجود الزوج أو المَحَرْمَ الذى يرافقها في السفر.
ومن قدر على الحج بماله وعجز ببدنه عجزاً دائما يقيم نائبا يحج عنه.
جـ ــ فمن وجب عليه الحج وعزم عليه وجب عليه تعلم أحكامه. والقدر السابق من العلم هو من العلم الواجب العيني العام ليعلم كل مسلم متى يجب عليه الحج ؟ أمَّا تعلمّ أحكام الحج على التفصيل فهو من العلم الواجب العيني الخاص على من وجب عليه الحج وعزم عليه. فيجب عليه أن يعلم أركان الحج وواجباته وسننه وما يفسده وما يوجب الفدية.(2/123)
د ــ ويجب معرفة أحكام الأضحية لاختلاف المذاهب فى وجوبها.
13 ــ معرفة أحكام الجهاد: يجب على كل مسلم أن يعلم أن الله تعالى فرض الجهاد ــ وهو قتال الكفار ــ على المسلمين، قال تعالى (كُتب عليكم القتال وهو كره لكم، وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خيرٌ لكم، وعسى أن تحبوا شيئا وهو شرٌ لكم، والله يعلم وأنتم لاتعلمون) البقرة 216.
والجهاد من فروض الكفاية: فإذا قام به بعض المسلمين بما يكفى كان لهم الثواب وسقط الإثم عن الباقين، لقوله تعالى (فضّل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة، وكلا وعد الله الحُسني، وفضّل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيما) النساء 95، وتعلم أحكامه فى هذه الحال من العلم الواجب العينى الخاص.
إلا أن الجهاد قد يكون فرض عين فى مواضع، ومن هنا أدرجناه فى العلم الواجب العينى العام. وهذه المواضع ثلاثة وهى:
أ ــ إذا استنفر إمام المسلمين رجلاً أو قوماً بعينهم للجهاد لزمهم النفير، لقوله تعالى (مالكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثَّاقلتم إلى الأرض) التوبة 38، وقوله صلى الله عليه وسلم (وإذا استُنفرتم فانفروا) الحديث متفق عليه. وفى نفس المعني إذا استنفر أمير جماعة مجاهدة أو حزب مجاهد أحد أتباعه لزمه النفير إذا كانت بينهما بيعة توجب السمع والطاعة على الجهاد فى سبيل الله تعالى.
ب ــ ويتعيَّن الجهاد على من خرج فى الغزو الذى هو فرض كفاية حتى التقى جيش المسلمين بعدوهم، فيحرم على من حضر الانصراف ويتعيّن عليه الثبات، لقوله تعالى (ياأيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا) الأنفال 45، ولقوله تعالى (ياأيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً فلاتولوهم الأدبار، ومن يولِّهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزاً إلى فئةٍ فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير) الأنفال 15 ـ 16.(2/124)
جـ ــ وإذا نزل العدو ببلد أصبح الجهاد فرض عين على أهل البلد، للأدلة السابقة (الأنفال 15 ــ 16 و 45) لأن نزول العدو ببلد المسلمين هو تقابل للصَّفَّيْن والتقاءللزَّحفين، أي التقاء الكفار بالمسلمين. ومن هذا الباب: قتال الحكام المرتدين الحاكمين للمسلمين بالشرائع الوضعية الكافرة فهم عدو كافر متسلط على بلاد المسلمين وجهادهم فرض عين على كل مسلم بهذه البلاد ومن عجز عن هذا وجب عليه إعداد العدة لذلك لقوله تعالى (وأعدوا لهم مااستطعتم من قوة) الأنفال 60.
فهذه هى المواضع الثلاثة التي يتعيّن فيها الجهاد
والجهاد عبادة من العبادات لاتُقبل عند الله تعالى إلا بإخلاص النية فيه، بأن يقاتل قاصداً أن تكون كلمة الله هى العليا لينصر دين الله تعالى ليظهره على الدين كله ولوكره المشركون.
قال صلى الله عليه وسلم (من قاتل لتكون كلمة الله هى العليا فهو في سبيل الله) الحديث متفق عليه.
وشروط وجوب الجهاد هى: الإسلام والبلوغ والعقل، والذكورية والحرية، ووجود النفقة اللازمة للجهاد، وسلامة البدن، وإذن الوالدين المسلمين، وإذن الدائن للمدين. هذا إذا كان الجهاد فرض كفاية.
فإذا صار الجهاد فرض عين فشروطه: الإسلام والبلوغ والعقل والذكورية وسلامة البدن. فلايشترط إذن الوالدين أو الدائن كغيره من فروض العين ولذا يجب على العبد وعلى فاقد النفقة إذا أمكنه الجهاد، وذهب بعض الفقهاء إلي وجوب الجهاد العيني على المرأة قياساً علي غيره من فروض العين والصواب عدم وجوبه كما حققته فى كتابي (العمدة في إعداد العدة). ويصح الجهاد للمرأة إذا تطوعت به وإن لم يجب عليها.
14 ــ معرفة الواجبات والآداب العينية: ومنها:(2/125)
أ ــ بِرّ الوالدين ولوكانا كافرين، وطاعتهما في غير معصية، فقد قَرنَ الله تعالى بين توحيده وبين طاعة الوالدين فى آيات كثيرة كقوله تعالى (واعبدوا الله ولاتشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا) النساء 36، ونحوها من الآيات. ويلتحق ببر الوالدين صلةُ الأرحام.
ب ــ وفي مقابل هذا: رعاية الرجل لأهله وعياله، ووجوب إنفاقه عليهم وتعليمهم أمور دينهم وحملهم على طاعة الله تعالى.
جـ ــ رعاية حقوق الجار وهى من الواجبات.
د ــ إكرام الضيف.
هـ ــ معرفة حقوق المسلم على المسلم والقيام بمايجب من ذلك خاصة إذا تعيَّن كَرَدِّ السلام وعيادة المريض واتباع الجنائز وإعانة المحتاج وإغاثة الملهوف والنصيحة.
و ــ وجوب طاعة ولاة أمور المسلمين فى غير معصية، وإكرامهم وإكرام العلماء وأهل الخير والفضل.
ز ــ وجوب الاستئذان، وغضّ البصر وحفظ السمع عن المحرمات.
ح ــ وجوب أكل الحلال والاحتراز من المحرمات.
ط ــ وجوب الصدق والأمانة ووجوب الوفاء بالوعود والعقود والعهود.
ى ــ الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر خاصة إذا تعيّن.
ك ــ وجوب لُبس المرأة للحجاب الشرعى والنقاب الساتر للوجه، واحتجابها عن الأجانب، وسوف تأتي إشارة إلى حكم النقاب وبيان وجوب ستر المرأة وجهها بحضرة الرجال الأجانب في المبحث الثامن من الباب السابع بهذا الكتاب إن شاء الله تعالى.
ل ــ وجوب طاعة المرأة زوجها في غير معصية ومراعاة حقوقه.
وهذه كلها من الواجبات، ويستحب معرفة غيرها من الآداب الشرعية كآداب الطعام وآداب الصحبة ومعاشرة الناس، والأذكار المسنونة، ومكارم الأخلاق.
15 ــ معرفة المحرَّمات:
يجب على كل مسلم معرفة المحرَّمات التي نهى الله عنها وتوعَّد فاعلها بالعقوبة ليتوقّاها، ومنها:
أ ــ معاصي القلب:
ومنها الكفر بالقلب وإن لم يظهر في قول أو عمل، وهو النفاق الأكبر: كاعتقاد وجود شريك لله، وإنكار البعث، وبُغْض الدين وأحكام الشريعة، وحُب ماعليه الكفار من الكفر.(2/126)
ومن معاصي القلب: الكِبر، والحسد، والرياء، وحُب المعاصي والفرح بها، وحُبِّ الظَّلَمة والفَسَقة، وسوء الظن، وقسوة القلب المانعة من أعمال البر، والغضب المذموم.
ب ــ الكبائر الحدِّية (التي توجب إقامة الحدِّ في الدنيا) وهى:
الردة (بقولٍ أو عملٍ أو اعتقادٍ ثبت بالدليل الشرعى كفرُ من يأتى به)، وقتل النفس التي حَرَّم الله إلا بالحق، والزنا، والقذف، والسرقة وشرب الخمر، وقطع الطريق.
جـ ــ معاصى اللسان: كالكذب، والغيبة والنميمة، وشهادة الزور، و القذف، والسبّ واللعن، والاستهزاء والسخرية، واحتقار المسلم وإظهار الشماتة به، والنياحة على الميت.
د ــ معاصى البصر: كالنظر إلى النساء الأجنبيات والمُرْدَان، والنظر إلى المنكرات فى المسارح والملاهى والسينما والتلفاز ونحوها، والنظر إلى الظَّلَمة ومواقف الظلم.
هـ ــ معاصى السمع: كاستماع الموسيقى والملاهى والكلام الفاحش، والتجسس.
و ــ معاصى الفَرْج: كالزنا، واللواط والسحاق، والاستمناء، وترك الختان للرجال.
ز ــ المحرمات من الأطعمة والأشربة: ومنها الميتة، والدم ولحم الخنزير، والخمر، وشرب الدخان، وغيرها من المحرمات كلحم الحُمُر الأهلية ولحوم السباع وجوارح الطير.
ويحرم الأكل والشرب فى آنية الذهب والفضة علي الرجال والنساء.
ح ــ محرمات الأموال: ومنها السرقة، والغصب، والربا، والرشوة، والميسر (القمار)، وأكل حقوق الناس وجحدها، وأكل مال اليتيم، وخيانة الأمانة والغش في البيع والشراء، والاحتكار، والإسراف والسَّفه في الإنفاق، والإنفاق فى المحرّمات، والتجارة في المحرمات.
وكل مالٍ اكتسب من حرام، فأكله حرام، والذين يأكلون الحرام «إنما يأكلون في بطونهم ناراً وسيَصْلون سعيرا». والكسب الحرام يدخل فيه:
محرمات الأموال التي سبق ذكرها.
ويدخل فيه الأجر المأخوذ مقابل الاشتغال في الأعمال المحرمة وهى كثيرة.(2/127)
ويدخل فيه الأموال المأخوذة من الأغنياء ليتم توزيعها على الفقراء باسم الاشتراكية والعدالة الاجتماعية، سواء كانت هذه الأموال أرضاً للزراعة أو البناء أو كانت عقارات أو كانت نقوداً، فكلها يحرم أخذها وهى عين الغصب ولاتحل وإن طال الزمن.
وكل من أمسك مالاً حراما تجب عليه التوبة، ومن شروطها رد المال إلى أهله، فإن تعذر أو لم يكن له أهل (كمال الإجارة المحرمة) فسبيل التخلص من هذا المال الحرام أن يتصدق به، فهذا مصرفه، كما ذكره ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله في أكثر من موضع.
ط ــ معاصى اللباس والهيئة: ككشف العورة وفى حكمها لُبس الملابس الضَّيِّقة التى تُبرز العورات أو الملابس الشَّفافة التي تظهر العوارت من خلالها، والتبرج، وإسبال الثياب، ولبس الحرير والذهب للرجال، وتشبه الرجال بالنساء وعكسه، والتشبه بالكفار، وحلق اللحية، والنمص والوصل والوشر.
ى ــ معاصٍ متعلقة بمعاملة الناس: كعقوق الوالدين، وقطيعة الأرحام، وظلم الناس فى الدماء والأموال والأعراض، وهتك عورات المسلمين وعدم الستر عليهم، وإيذاء الجار، والمكر والغش والخداع، وإعانة الظلمة، والخروج على أئمة المسلمين بغير حق، والخلوة بالأجنبية، وسفر المرأة بغير محرم.
ك ــ معاصى الجنائز والقبور: كالنياحة على الميت، والاجتماع للعزاء بصورة مبتدعة، ورفع بناء القبور فوق القدر المشروع، وتجصيص القبور وتسريجها والجلوس عليها والصلاة إليها، وبناء المساجد على القبور ونحوها. وقد سبقت الإشارة إلى الشرك بعبادة المقبورين.
ل ــ تحريم السحر والكهانة والتنجيم، وتحريم إتيان السحرة والكهان والمنجِّمين أو تصديقهم. ومن هذا الباب قراءة (حظّك اليوم) الذى لاتكاد تخلو منه صحيفة.
م ــ تحريم تصوير ذوات الأرواح واتخاذ صورها (وتستثنى الصور الفوتوغرافية للضرورة) وتحريم صناعة التماثيل واتخاذها.(2/128)
ن ــ تحريم التحاكم للقوانين الوضعية الكافرة لأنه تحاكم للطواغيت، وتحريم المشاركة فى انتخابات البرلمانات التشريعية سواء بالترشيح أو الانتخاب أو الإعانة، وتحريم الخدمة فى جيوش الحكام الطواغيت المرتدين أو في شرطتهم.
فهذه أهم المعاصى التي يجب أن يعرفها كل مسلم لكثرة الحاجة إليها ولعموم الابتلاء بها، ومعظمها من الكبائر التى ورد فيها وعيد فيجب التنزه عنها والتوبة منها لمن قارفها.
16 ــ معرفة وجوب التوبة: يجب على كل مسلم أن يعلم أن التوبة من المعاصي واجبة، لقوله تعالى (ياأيها الذين آمنوا توبوا إلي الله توبة نصوحا) التحريم 8، وقوله تعالى (وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون) النور 31، وقوله تعالى(وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه) هود 3، وقال تعالى (ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون) الحجرات 11، فهذه بعض أدلة وجوب التوبة.
قال العلاّمة السَّفاريني الحنبلي رحمه الله (ت 1188هـ). (وهذا مما اتفق عليه العلماء فإنهم اتفقوا على أن التوبة من كل معصية واجبة على الفور لايجوز تأخيرها، سواء كانت صغيرة أو كبيرة، وأنها من مهمات الإسلام وقواعد الدين المتأكدة) (لوامع الأنوار البهية) للسفارينى، ط المكتب الإسلامي،1411هـ، جـ 1 صـ 372.
أما شروط صحة التوبة، والتى يتوقف عليها قبول الله تعالى لها، فهى:
أ ــ أن يُقلع عن المعصية، لقوله تعالى (ولم يُصِّروا على مافعلوا) آل عمران 135.
ب ــ أن يندم على فعلها، لقوله تعالى (فتصبحوا على مافعلتم نادمين) الحجرات 6، وقوله تعالى (لايزال بنيانهم الذى بنوا ريبة فى قلوبهم، إلا أن تقطّع قلوبهم) التوبة 110، وتقطع القلب هو الندم في قول بعض المفسرين، ذكره القرطبى.
قال ابن القيم رحمه الله (فأما الندم: فإنه لاتتحقق التوبة إلا به، إذ من لم يندم على القبيح فذلك دليل رضاه به وإصراره عليه، وفي المسند « الندم توبة ») (مدارج السالكين) 1/202.(2/129)
جـ ــ أن يستغفر بلسانه، واشترطه البعض، لقوله تعالى(وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه) هود 3، وقوله تعالى (والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم، ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على مافعلوا وهم يعلمون) آل عمران 135.
د ــ أن يعزم علي ألا يعود إلى معصية أبداً، لقوله تعالى (ومن تاب وعمل صالحا فإنه يتوب إلى الله متابا) الفرقان 71، وقوله تعالى (فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه) المائدة 39.
هـ ــ أن تقع التوبة فى وقت القبول، وهو قبل غرغرة الموت، لقوله تعالى (وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إنى تبت الآن) النساء 18، وقال صلى الله عليه وسلم سسس(إن الله عزوجل يقبل توبة العبد مالم يُغَرْغِر) رواه الترمذى وقال حديث حسن عن ابن عمر رضى الله عنهما.
و ــ أداء الحقوق، ومعاصى العبد قسمان:
* معاصى فى حق الله تعالى: وهذه قسمان: قسم ليس فيه أداء حق بل تكفى فيه شروط التوبة السابقة وهذا كشرب الخمر، وقسم فيه أداء الحق كتقصير فى أداء صوم أو إخراج زكاة أو أداء كفارة أو فدية أو نذر ونحوه فيجب عليه قضاء مافرَّط فيه.
* ومعاصى في حق الناس: كظلمهم فى عِرْضٍٍ أو مالٍ أو بَدَن. فإن ظلم العبد أحداً في عِرضه طلب عفوه واستحله منه، وإن ظلمه في ماله ردَّ إليه المال إن أمكن وإلا تصدق به نيابة عنه، وإن ظلمه فى بَدَنِهِ مكّنه من القصاص أو أدى إليه الدية أو الأرش بحسب الحال.
وقد جعل بعض العلماء شروط التوبة أربعة فقط كالنووى رحمه الله، وجعلها بعضهم أكثر من عشرة كابن حجر الهيتمى رحمه الله في كتابه (الزواجر). وقد اخترت من هذا كله هذه الشروط الستة التي ذكرتها. وقال بعض العلماء: وتجب التوبة من تأخير التوبة.
وبعد:
فقد كانت هذه هى أهم مفردات العلم الواجب العينى العام الذى يجب أن يتعلمه كل مسلم.(2/130)
فيجب عليه أن يعرف أركان الإسلام وأركان الإيمان ومعنى التوحيد ومعنى الشرك والكفر ليصح إيمانه ولايُفسده بالوقوع فيما ينقضه.
ويجب عليه تعلم أحكام الطهارة والصلاة والزكاة والصوم والحج والجهاد لتصح عبادته.
ويجب عليه أن يتعلم الواجبات والآداب االشرعية والحلال والحرام لتصح معاملاته.
ولا يجب على كل مسلم معرفة الأدلة التفصيلية لجميع ماذكرنا، وإنما يكفيه معرفة حكم كل مسألة واجبة، وأن يعلم أن هذا هو حكم الله ورسوله في المسألة وإن لم يعرف دليله على التفصيل، وسيأتي بسط القول في مسألة (الاتباع والتقليد) في الباب الخامس إن شاء الله.
وأدلة جميع ماذكرنا موجودة بكتب العلم، وسوف نشير إلى الكتب التى ننصح بقراءتها في كل باب من أبواب العلم في الباب السابع بآخر هذا الكتاب إن شاء الله تعالى، لمن شاء الاستزادة.
ويجب على كل مسلم أن يتعلم جميع ماذكرناه ثم يُعَلِّمه أهله وأولاده وكل من هو مسئول عنهم، ويجب على العلماء وعلى كل قادر أن ينشر هذا العلم الواجب في الناس، ويجب على ولاة أمور المسلمين أن يحملوا الناس على تعلم هذا العلم ويعينوهم عليه. وسوف نذكر في الباب الثالث (كيفية طلب العلم) واجبات كل فريق ممن ذكرنا (ولاة الأمور والعلماء والعامة) فى نشر العلم، إن شاء الله تعالى.
(فائدة) وجدت في كتاب (الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية) لأبى عبد الله بن بطة رحمه الله (ت 387 هـ) ــ وهومن أئمة أهل السنة الذين أكثر ابن تيمية رحمه الله من النقل عنهم فى مجموع فتاويه ــ وجدته نقل عن الضحاك بن مزاحم رحمه الله ــ وهو من مشاهير أتباع التابعين بخراسان، ت 105 هـ ــ موجزاً عن شرائع الإيمان يصلح أن يكون مختصراً للعلم الواجب العينى العام، وأنقله هنا لينتفع به إخوانى المسلمون.(2/131)
روى أبو عبد الله بن بطة رحمه الله بإسناده عن الضحاك بن مزاحم قال (إن أحقّ مابدأ به العبد من الكلام أن يحمد الله ويثنى عليه. فالحمد لله نحمده ونثنى عليه بما اصطنع عندنا أن هدانا للإسلام وعلمنا القرآن ومنَّ علينا بمحمد عليه السلام وأن دين الله الذى بعث به نبيه صلى الله عليه وسلم هو الإيمان، والإيمان هو الإسلام وبه أرسل المرسلون قبله، قال تعالى: (وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون).
وهو الإيمان بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين والتصديق والإقرار بما جاء من الله والتسليم لقضائه وحكمه والرضا بقدره، وهذا هو الإيمان ومن كان كذلك فقد استكمل الإيمان، ومن كان مؤمناً حرَّم الله ماله ودمه ووجب له مايجب على المسلمين من الأحكام، ولكن لايستوجب ثوابه ولاينال الكرامة إلا بالعمل فيه، واستيجادُ ثواب الإيمان عملٌُ به.
والعمل به اتباع طاعة الله تبارك وتعالى فى أداء الفرائض واجتناب المحارم، والاقتداء بالصالحين، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت من استطاع إليه سبيلا، ومحافظة على إتيان الجمعة والجهاد في سبيل الله والاغتسال من الجنابة وإسباغ الطهور وحُسْن الوضوء للصلاةوالتنظيف.(2/132)
وبر الوالدين وصلة الرحم وصلة ما أمر الله به أن يوصل، وحُسْن الخلق مع الخلطاء، واصطناع المعروف إلى الأقرباء ومعرفة كل ذي حق حقه من والدٍ فوالدةٍ فولدهِ فذِى قرابةٍ فيتيمٍ فمسكين ٍفابن سبيلٍ فسائلٍ فغارمٍ فمكاتبٍ فَجَارٍ فصاحبٍ فما ملكت اليمين، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، والحب فى الله تعالى والبغض فى الله، وموالاة أوليائه ومعاداة أعدائه، والحكم بما أنزل الله، وطاعة ولاة الأمر، والغضب والرضا ووفاء بالعهد وصدق الحديث ووفاء بالنذور وإنجاز الموعود، وحفظ الأمانة من كتمان السر أو المال وأداء الأمانة إلى أهلها، وكتاب الدين المؤجل بشهادة ذوي عدول، والاستشهاد على المبايعة، وإجابة الداعى للشهادة، وكتابة بالعدل كما علَّم الله، وقيام الشهادة على وجهها بالقسط ولو على النفس والوالدين والأقربين، ووفاء الكيل والميزان بالقسط، وذكر الله تعالى عند عزائم الأمور وذكر الله تعالى على كل حال، وحفظ النفس وغض البصر وحفظ الفرج وحفظ الأركان كلها عن الحرام، وكظم الغيظ ودفع السيئة بالحسنة، والصبر على المصائب، والقصد فى الرضا والغضب، والاقتصاد في المشى والعمل، والتوبة إلى الله تعالى من قريب، والاستغفار للذنوب، ومعرفة الحق وأهله، ومعرفة العدل إذا رأى عامله، ومعرفة الجور إذا رأي عامله كيما يعرفه الإنسان من نفسه إن هو عمل به، والمحافظة على حدود الله، وردِّ ما اختلف فيه من حكم أو غيره إلى عالمه وجسور على مالم يختلف فيه من قرآن منزل وسنة ماضية فإنه حق لاشك فيه، وردِّ مايتورع فيه من شيء إلى أولي الأمر الذين يستنبطونه منهم، وترك مايريب إلى مالا يريب، واستئذان في البيوت، فلا يدخل البيت حتى يستأذن ويسلم على أهله من قبل أن ينظر فى البيت أو يستمع فيه فإن لم يجد فيها أحداً فلا يدخل بغير إذن أهلها فإن قيل: ارجعوا فالرجوع أزكى وإن أذنوا فقد حل الدخول، وأما البيوت التي ليس فيها سكان وفيها المنافع لعابر السبيل أو(2/133)
لغيرهم يسكن فيها ويتمتع فيها فليس فيها استئذان، واستئذان ما ملكت اليمين صغيراً أو كبيراً ومن لم يبلغ الحلم من حرمة أهل البيت ثلاثة أحيان من الليل والنهار أو آخر الليل قبل الفجر وعند القيلولة إذا خلا رب البيت بأهله ومن بعد صلاة العشاء إذا أوى رب البيت وأهله إلى مضاجعهم، وإذا بلغ الأطفال من حرمة أهل البيت الحُلُم فقد وجب عليه من الاستئذان كل هذه الأحيان.
واجتناب قتل النفس التى حرم الله إلا بالحق، واجتناب أكل أموال الناس بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منهم. واجتناب أكل أموال اليتامى ظلماً، واجتناب شرب الخمر، واجتناب شرب الحرام من الأشربة والطعام، واجتناب أكل الربا والسحت، واجتناب أكل القمار والرشوة والغَصْب، واجتناب النجش والظلم، واجتناب كسب المال بغير حق، واجتناب التبذير والنفقة فى غير حق، واجتناب التطفيف في الوزن والكيل واجتناب نقص المكيال والميزان، واجتناب نكث الصفقة وخلع الأئمة، واجتناب الغدر والمعصية، واجتناب اليمين الآثمة واجتناب برِّ اليمين بالمعصية، واجتناب الكذب والتزيد فى الحديث، واجتناب شهادة الزور، واجتناب قول البهتان، واجتناب قذف المحصنة، واجتناب الهمز واللمز واجتناب التنابز بالألقاب، واجتناب النميمة والاغتياب، واجتناب التجسس، واجتناب سوء الظن بالصالحين والصالحات، واجتناب الإصرار على الذنب والتهاون به، واتقاء الإمساك عن الحق والتمادى في الغى والتقصير عن الرشد، واتقاء الكبر والفخر والخيلاء واتقاء الفجور والمباراة بالشر.. واتقاء الإعجاب بالنفس، واتقاء الفرح والمرح، والتنزه من لفظ السوء والتنزه عن الفحش وقول الخنا والتنزه من سوء الظن، والتنزه من البول والقذر كله.(2/134)
فهذه صفة دين الله وهوالإيمان وماشرع الله فيه من الإقرار بماجاء من عند الله وبَيَّن من حلاله وحرامه وسننه وفرائضه، قد سمى لكم ما ينتفع به ذوو الألباب من الناس، وفوق كل ذي علم عليم. ويجمع كل ذلك التقوى فاتقوا الله واعتصموا بحبله ولاقوة إلا بالله أسأل الله أن يوفقنا وإياكم لما نبلغ به رضوانه وجنته. ــ انتهى كلام الضحاك بن مزاحم ــ
قال الشيخ أبو عبد الله بن بطة: فهذه إخوانى رحمكم الله شرائع الإيمان وشُعَبه وأخلاق المؤمنين الذين مَن كملت فيهم كانوا على حقائق الإيمان وبصائر الهدى وإمارات التقوى، فكلما قوى إيمان العبد وازداد بصيرة فى دينه وقوة فى يقينه تزيدت هذه الأخلاق وماشاكلها فيه ولاحت أعلامها وأماراتها فى قوله وفعله، فكلها قد نطق بها الكتاب وجاءت بها السنة وشهد بصحتها العقل الذى أعلا الله رتبته ورفع منزلته وأفلج حجته، وعلى قدر نقصان الإيمان في العبد وضعف يقينه يقل وجدان هذه الأخلاق فيه وتعدم من أفعاله وسجاياه وفقنا الله وإياكم لموجبات الرضا والعافية فى الدارين من جميع البلاء.) أ هـ من كتاب (الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية) لأبى عبدالله بن بطة، جـ 2 صـ 650 ــ 653، ط دار الراية 1409 هـ.
فهذا مختصر فى بيان العلم الواجب العينى العام عن الضحاك بن مزاحم المتوفى فى أول القرن الثانى الهجري اشتمل على بيان أركان الإيمان وأركان الإسلام والواجبات والآداب الشرعية والمحرمات مع طائفة من الآداب المستحبة ومكارم الأخلاق.
ثم ننتقل بعد هذا إلى بيان القسم الثاني من أقسام فرض العين من العلم، وهو العلم الواجب العيني الخاص.
ثانيا ــ العلم الواجب العينى الخاص
وهذا يجب على بعض المكلفين دون بعض، وقد يجب على الشخص نفسه فى وقت دون وقت. فكل من وجب عليه واجب شرعى (كالزكاة والحج) وكل من شرع فى أمر مباح (كالتجارة والنكاح) وجب عليه تعلم أحكامه، لوجوب العلم قبل القول والعمل.(2/135)
ومثال هذا ما قاله ابن حزم رحمه الله:
(ثم فرض على كل ذي مال تَعَلُّم حكم ما يلزمه من الزكاة، وسواء الرجال والنساء والعبيد والأحرار، فمن لم يكن له مال أصلا فليس تعلم أحكام الزكاة عليه فرضا.
ثم من لزمه فرض الحج ففرض عليه تعلم أحكام الحج والعمرة، ولايلزم ذلك مَن لاصحة لجسمه ولامال له.
ثم فرض على قواد العساكر معرفة السِّير وأحكام الجهاد وقَسْم الغنائم والفيء.
ثم فرض على الأمراء والقضاة تعلم الأحكام والأقضية والحدود، وليس تعلم ذلك فرضا على غيرهم.
ثم فرض على التجار وكل من يبيع غلَّته تعلم أحكام البيوع ومايحل منها وما يحرم وليس ذلك فرضا على من لا يبيع ولا يشترى.) (الإحكام) جـ 5 صـ 122.(2/136)
ومن هذا الباب أيضا أن من أقام ببلد به بعض البدع أو بعض الطوائف الضالة كالشيعة أو الخوارج أو القاديانية أو البهائية أو الصوفية وغيرها، وجب عليه تعلم مايدفع به عن نفسه تلك البدع ليحفظ إيمانه من الزلل، فيجب عليه من الإيمان المفصَّل مالا يجب على غيره ممن لم يُبْتَلَ بما ابُتِلى به. وهذا هو معنى قول أبى حامد الغزالى رحمه الله (وأما الاعتقادات وأعمال القلوب فيجب علمها بحسب الخواطر، فإن خطر له شك فى المعانى التى تدل عليها كلمتا الشهادة فيجب عليه تعلم مايتوصل به إلي إزالة الشك. فإن لم يخطر له ذلك ومات قبل أن يعتقد أن كلام الله سبحانه قديم وأنه مرئى وأنه ليس محلاً للحوادث إلى غير ذلك مما يذكر فى المعتقدات، فقد مات على الإسلام إجماعاً، ولكن هذه الخواطر الموجبة للاعتقادات بعضها يخطر بالطبع وبعضها يخطر بالسماع من أهل البلد، فإن كان فى بلد شاع فيه الكلام وتناطق الناس بالبدع فينبغى أن يُصان في أول بلوغه عنها بتلقين الحق، فإنه لو ألقى اليه الباطل لوجبت إزالته عن قلبه وربما عَسُر ذلك، كما أنه لو كان هذا المسلم تاجراً وقد شاع فى البلد معاملة الربا وجب عليه تعلم الحذر من الربا، وهذا هو الحق فى العلم الذي هو فرض عين ومعناه العلم بكيفية العمل الواجب. فمن علم العلم الواجب ووقت وجوبه فقد علم العلم الذى هو فرض عين) (إحياء علوم الدين) جـ 1 صـ 26. وقول الغزالي (إن كلام الله قديم) هذا الأمر فيه تفصيل، راجعه إن شئت في (لوامع الأنوار البهية) للسفاريني، ط المكتب الإسلامي 1411 هـ، جـ 1 صـ 27 و 112 و 130 بهوامشها.
وهكذا كل من أقدم على عمل يجب عليه أن يسأل عن حكمه، فيقدم على بصيرة، فيسأل هل يجوز له فعله أم لا ؟. كمن يريد أن يشارك في قتال أو يريد أن يلتحق بمهنة أو وظيفة، أو يريد أن يتعامل بمعاملة مالية، ونحو ذلك، يجب عليه أن يسأل عن مشروعيتها.(2/137)
وإذا كان الأمر الذى سيُقدم عليه فيه أحكام تفصيلية، وجب عليه تعلمها، وهذا كله لوجوب العلم قبل القول والعمل.
ثم ننتقل لبيان القسم الثالث من أقسام فرض العين من العلم.
ثالثا - العلم بأحكام النوازل
العلم الواجب العينى بقسميه العام والخاص، هو العلم بالأمور التى يتكرر وقوعها للعبد ولاينفك منها، أما مايندر وقوعه فلايجب تعلمه ابتداء ولكن من ابتلى بشئ فيجب أن يعلم حكمه حتى لايُقدم على قول أو عمل بغير علم.
وهذا القسم هو الذى أشار إليه النووى فى قوله (ثم الذى يجب من ذلك كله مايتوقف أداء الواجب عليه غالبا دون مايطرأ نادراً فإن وقع وجب التعلم حينئذ) أ هـ (المجموع، 1/25). فالنوازل هى ما وصفه النووى بأنه (مايطرأ نادراً).
وقال النووى أيضا (ويجب عليه الاستفتاء إذا نزلت به حادثة يجب عليه علم حكمها فإن لم يجد ببلده من يستفتيه وجب عليه الرحيل إلى من يفتيه وإن بَعُدت داره، وقد رحل خلائق من السلف فى المسألة الواحدة الليالى والأيام) أ هـ (المجموع، 1/54). هذا وسوف نذكر أحكام المستفتي على التفصيل في الباب الخامس من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.
وروي الخطيب البغدادى وابن عبد البر كلاهما عن عبد الله بن المبارك رحمهم الله قال (فريضة على من وقع فى شئ من أمر دينه أن يسأل عنه حتى يعلمه) أ هـ (الفقيه والمتفقه، 1/ 45) و (جامع بيان العلم، 1/ 10).
وقال أبو حامد الغزالى ــ فى النوازل ــ (إن كل عبد في مجارى أحواله فى يومه وليلته لايخلو من وقائع فى عبادته ومعاملاته عن تجدد لوازم عليه فيلزمه السؤال عن كل مايقع له من النوادر، ويلزمه المبادرة إلي تعلم مايتوقع وقوعه على القرب غالبا) أ هـ (إحياء علوم الدين، 1/27).(2/138)
ومن النوازل النازلة بعموم المسلمين فى جميع البلدان ما ابتلوا به من حكمهم والحكم بينهم بغير شريعة الإسلام بالقوانين الوضعية، فيجب على جميع المسلمين المكلفين من الذكور والإناث معرفة حكم هذه النازلة لما يترتب على هذا الحكم من واجبات عينية على كل منهم، وسوف تأتي إشارة إلى حكم هذه النازلة في المبحثين الأول والثامن في الباب السابع بهذا الكتاب إن شاء الله تعالى.
ومن النوازل الدعوة إلى الديمقراطية ومايترتب عليها من إنشاء الأحزاب السياسية والبرلمانات التشريعية، وتوابع هذا من الترشيح والانتخاب، وكل هذا من الشرك الأكبر الذي لايجوز لمسلم أن يقع فيه ويجب أن يَحْذر منه ويُحَذِّر غيره، وسوف تأتي إشارة إلى حكم هذه النازلة في أوائل الباب الرابع، وفي المبحث الثامن في الباب السابع من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.
وبهذا نختم الكلام في أقسام العلم الذى هو فرض عين على كل مسلم، والمقصود منه بيان أنه لايجوز أن يُقدم المسلم علي قول أو فعل حتى يعلم حكم الله تعالى فيه، ويجب أن يعلم كل مسلم أنّه مامن شئ فى هذه الدنيا إلا وله حكم في شريعة الله تعالى، قال تعالى (ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شئ) النحل 89، فما من شئ إلا وله حكم من أحكام التكليف الخمسة: الوجوب أو الندب أو الإباحة أو الكراهة أو التحريم. إما أن يرد حكم الشئ منصوصاً عليه في الكتاب والسنة وإما أن يستنبط العلماء حكمه بإلحاقه بما ورد فيه النص، وقد سبقت الإشارة إلى هذا عند الكلام عن (وفاء الشريعة بمصالح العباد إلى يوم القيامة). والحمد لله رب العالمين.
الفصل الثالث
فرض الكفاية من العلم الشرعي
ونبحث في هذا الفصل المسائل التالية بإذن الله تعالى:
1 ــ تعريف فرض الكفاية من العلم.
2 ــ أدلة وجوبه.
3 ــ كيف يتأدي فرض الكفاية من العلم ؟.
4 ــ صفة فرض الكفاية من العلم.
5 ــ حفظ مجموع علوم الدين واجب على مجموع القائمين بفرض الكفاية لا على أعيانهم.(2/139)
6 ــ متى يجوز الاشتغال بفرض الكفاية من العلم ؟.
7 ــ متى يصير فرض الكفاية من العلم فرض عين ؟.
******
المسألة الأولى: تعريف فرض الكفاية من العلم
هو العلم الذي يجب على مجموع المسلمين تعلمه وحفظه، فإذا قام به بعض المسلمين بما يكفي جميع المسلمين سقط الإثم والحرج عن الجميع وكان الفضل والثواب لمن قام به، وإذا لم يقم به البعض بما يكفي أثم الجميع حتى يتأدى الواجب بما يكفي.
ويشتمل هذا العلم على تحصيل ما لابد للمسلمين منه لإقامة دينهم من العلوم الشرعية، كحفظ القرآن كله، والأحاديث وعلومها ومعرفة رواتها، والفقه والأصول والإجماع والخلاف، وأصول الاعتقاد، واللغة والنحو والصرف.
وقولنا في التعريف السابق (بما يكفي جميع المسلمين) يعني للقيام بالوظائف الفقهية كالتعليم والوعظ والفتوى والقضاء والحِسْبة بما يكفي جميع المسلمين، وبما يحفظ نقل الشريعة بالتواتر من جيل إلى جيل.
(فائدة) قول الشاطبى رحمه الله فى فروض الكفاية.(2/140)
قال الشاطبى رحمه الله (طلب الكفاية: يقول العلماء بالأصول إنه متوجِّه على الجميع، لكن إذا قام به بعضهم سقط عن الباقين) أهـ. وقد خالف الشاطبى فى مقولة إن الخطاب بفروض الكفاية متوجِّه على الجميع فقال إن الخطاب بها متوجِّه على البعض وهم من فيهم أهلية القيام بذلك الفعل المطلوب لا على الجميع عموما. واستدل الشاطبى على ماقال بأن فروض الكفاية كالإمامة الكبرى أو الصغرى إنما تتعين على من فيه أوصافها المرعية لا على كل الناس، إذ لايصح أن يُطالب بها من لا يبديء فيها ولايعيد فإنه من باب تكليف مالايُطاق بالنسبة إلى المكلّف ومن باب العبث بالنسبة إلى المصلحة المجتلبة أو المفسدة المستدفعة، وكلاهما باطل شرعا. وأيَّد الشاطبى كلامه بقوله (فمن ذلك ماروى عن محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد قال لأبي ذر: « يا أباذر إني أراك ضعيفاً وإنى أحب لك ماأحب لنفسى لاتأمَّرنَّ على اثنين ولاتولّين مال يتيم »، وكلا الأمرين من فروض الكفاية، ومع ذلك فقد نهاه عنها. فلو فُرِضَ إهمال الناس لهما لم يصح أن يقال بدخول أبى ذر فى حرج الإهمال، ولامن كان مثله. وفى الحديث: «لا تسأل الإمارة» وهذا النهى يقتضى أنها غير عامة الوجوب) أ هـ.(2/141)
وبعد هذا التفصيل عاد الشاطبى ووافق علماء الأصول في مقولتهم، فقال: (لكن قد يصح أن يقال إنه واجب على الجميع على وجه من التجوز، ولأن القيام بذلك الفرض قيام بمصلحة عامة. فهم مُطالبون بسدها على الجملة. فبعضهم قادر عليها مباشرة، وذلك من كان أهلاً لها. والباقون ـ وان لم يقدروا عليها ـ قادرون على إقامة القادرين. فمن كان قادراً على الولاية فهو مطلوب بإقامتها. ومن لا يقدر عليها مطلوب بأمر آخر وهو إقامة ذلك القادر وإجباره على القيام بها. فالقادر إذاً مطلوب بإقامة الفرض. وغير القادر مطلوب بتقديم ذلك القادر. إذ لايتوصل إلى قيام القادر إلا بالإقامة، من باب مالايتم الواجب إلا به. وبهذا الوجه يرتفع مناط الخلاف فلايبقى للمخالفة وجه ظاهر) أ هـ (الموافقات) جـ 1 صـ 176 ـ 179، ط دار المعرفة.
قلت: كون فرض الكفاية واجباً على الجميع ابتداء أو واجبا على طائفة معينة وهم المؤهلون له، مسألة خلافية عند أهل الأصول. واختار الآمدي وابن الحاجب القول الأول، واختار الرازى فى (المحصول) القول الثانى وهو قول المعتزلة وهو اختيار الشاطبى هنا. انظر (التمهيد) للإسنوى، ط مؤسسة الرسالة 1401 هـ صـ 75.
والتحقيق فى المسألة ماقاله الشاطبى هنا من أنه واجب على الجميع: على المؤهَّل بنفسه، وعلى غير المؤهل بتقديم المؤهل وإعانته، فإذا قام بالواجب بعض المؤهلين بأنفسهم، وأعانهم بعض غير المؤهلين بما يكفى لأداء الواجب ارتفع الحرج عن الجميع، والله أعلم.
******
المسألة الثانية: أدلة وجوب فرض الكفاية من العلم
1 ــ قول الله تعالى (وما كان المؤمنون لينفروا كافة، فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقّهوا في الدين، ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون) التوبة 122.(2/142)
اتفق العلماء ـ فيما نقلناه عنهم فى الفصل الأول من هذا الباب ـ على الاستدلال بهذه الآية على أن التفقه في الدين فرض كفاية، لأن الله تعالى فرضه على طائفة دون طائفة وقسّم الله تعالى المؤمنين في هذه الآية إلى قسمين:
أ ــ متفقِّهة: وأمرهم سبحانه بتعليم قومهم وإنذارهم، (ولينذورا قومهم).
ب ــ وغير متفقهة: وأمرهم سبحانه بالتعلم من المتفقهة وقبول نذارتهم.
وذكر الشافعى رحمه الله هذه الآية ـ فى كلامه المنقول من رسالته في الفصل الأول ـ ثم قال إن الآية دلت على أن (التفقُّه إنما على بعضهم دون بعض). (الرسالة، صـ 366).
ونقلنا كذلك قول ابن عبدالبر رحمه الله عن سفيان بن عيينة رحمه الله قال (طلب العلم والجهاد فريضة على جماعتهم ويجزئ فيه بعضهم عن بعض)، وتلا هذه الآية «فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا فى الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم») أ هـ (جامع بيان العلم، 1/ صـ 10).
وقال ابن عبد البر رحمه الله ـ بعد أن ذكر فرض العين من العلم ـ (ثم سائر العلم وطلبه والتفقه فيه وتعليم الناس إياه وفتواهم به فى مصالح دينهم ودنياهم فهو فرض على الكفاية يلزم الجميع فرضه، فإذا قام به قائم سقط فرضه عن الباقين، لاخلاف بين العلماء في ذلك وحجتهم فيه قول الله عز وجل «فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم» فألزم النفير فى ذلك البعض دون الكل ثم ينصرفون فيعلمون غيرهم، والطائفة في لسان العرب: الواحد فما فوق) أهـ (جامع بيان العلم، 1/ صـ 11)(2/143)
وقد اختلف المفسرون في الطائفة المتفقهة في هذه الآية، هل هم النافرون أم القاعدون ؟. وقد لخص ابن القيم أقوال العلماء في ذلك، فقال رحمه الله (فإنه سبحانه نوَّع عبوديتهم وقيامهم بأمره إلى نوعين، أحدهما: نفير الجهاد، والثاني: التفقه في الدين، وجعل قيام الدين بهذين الفريقين، وهم الأمراء والعلماء أهل الجهاد وأهل العلم، فالنافرون يجاهدون عن القاعدين، والقاعدون يحفظون العلم للنافرين، فإذا رَجَعُوا من نفيرهم استدركوا مافاتهم من العلم بإخبار مَنْ سمعه مِن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهنا للناس في الآية قولان، أحدهما: أن المعني فهلاَّ نَفَر من كل فرقة طائفة تتفقه وتنذر القاعدة، فيكون المعني في طلب العلم، وهذا قول الشافعي وجماعة من المفسرين، واحتجوا به على قبول خبر الواحد، لأن الطائفة لايجب أن تكون عَدَد التواتر. والثاني: أن المعني فلولا نفر من كل فرقة طائفة تجاهد لتتفقه القاعدةُ وتنذر النافرة للجهاد إذا رجعوا إليهم ويخبرونهم بما نزل بعدهم من الوحي، وهذا قول الأكثرون، وهو الصحيح، لأن النفير إنما هو الخروج للجهاد كما قال النبي صلى الله عليه وسلم «وإذا اسْتُنْفِرْتم فانفروا») (اعلام الموقعين) 2/233.
وسواء كانت الطائفة المتفقهة هى النافرة أم القاعدة، فقد دلت الآية على أن التفقه في الدين ــ وهو معرفة أحكامه على التفصيل ــ إنما يجب على بعض المسلمين لا كلهم، وهذه هى صفة فرض الكفاية.
2 ــ قول الله عز وجل (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وأولئك هم المفلحون) آل عمران 104.
دلت الآية على أن الدعوة والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ـ وهى واجبات تقتضى طلب العلم على التفصيل ـ فرض على الكفاية، على قول من يقول إن (مِنْ) في الآية للتبعيض، وهو الراجح، فأوجبها الله تعالي على البعض لا الكل.
3 ــ قول الله عز وجل (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لاتعلمون) النحل 43 والأنبياء 7.(2/144)
دلت الآية ــ بإشارتها ــ على وجوب طلب العلم علي طائفة من الأمة على صفةٍ تمكنهم من إجابة السائلين. فالآية دلت بنصها علي وجوب السؤال على الجاهل، كما دلت بإشارتها على وجوب قيام طائفة من الأمة بطلب العلم ليجيبوا هؤلاء السائلين الجاهلين ويعلموهم، فقسّمت الآية المسلمين قسمين: متفقهة يُعلِّمون، وغير متفقهة يسألون.
4 ــ قول الله عز وجل (وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به، ولو ردّوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم، ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا) النساء 83.
وهذه الآية ــ كالآية السابقة ــ تدل بدلالة الإشارة علي وجوب قيام طائفة من أهل العلم القادرين على الاستنباط (وهو الاجتهاد) فى الأمة ليتسنى رَدُّ النوازل (أمر الأمن والخوف) إليهم. وقسَّمت الآية ـ كغيرها من الآيات السابقة ـ المسلمين إلي متفقهة وغير متفقهة.
فهذه أربعة أدلة تدل على أن طلب العلم على وجه البسط بما يكفي للدعوة إلى دين الله تعالى وتعليم الجاهلين وإفتاء المستفتين هو فرض على بعض المسلمين لاجميعهم، بما يعنى أنه فرض على الكفاية، إذ إن هذه هى صفة فرض الكفاية.
******
المسألة الثالثة: كيف يتأدي فرض الكفاية من العلم ؟
يتأدى فرض الكفاية من العلم إذا تحقق أمران: أمر كيفى وأمر كمىَّ.
1 ــ أما الأمر الكَيْفِيّ: فيتعلق بصفة فرض الكفاية من العلم، ويتحقق الأمر الكَيْفيّ بأن يقوم القائمون بهذا الواجب بتحصيل كافة أصناف العلوم الشرعية التي تحيط بأحكام الديانة وهذه العلوم سنذكرها في المسألة الرابعة (صفة فرض الكفاية من العلم) إن شاء الله. كما سنذكر فى المسألة الخامسة أنه لايجب على كل قائم بفرض الكفاية من العلم الإحاطة بجميع أحكام الديانة وإنما هذا واجب على مجموع القائمين بفرض الكفاية.
2 ــ وأما الأمر الكَمِّى: فيتعلق بعدد القائمين بفرض الكفاية من العلم، ويتحقق بأمرين:(2/145)
أ ــ أن يوجد بالأمة الإسلامية ككل ـ في كل عصر ـ عدد من العلماء يكفون للقيام بالواجبات الفقهية لجميع المسلمين، وهذه الواجبات هى كما ذكرنا من قبل: التعليم والوعظ والفتوى والقضاء والحِسْبة. فإن لم يوجد العدد الكافى من هؤلاء العلماء أثِم المسلمون جميعهم.
ب ــ أن يوجد بكل بلدة أوقرية ــ أو فيما دون مسافة القصر منها ــ عدد العلماء يكفون لافتاء أهلها وتعليمهم، حتى أن بعض العلماء ذهبوا إلى تحريم السكنى بالبلدة التى ليس بها مفتٍ كما سنذكره إن شاء الله. ودليل وجوب ذلك على أهل كل مجتمع من المسلمين (بلدة أو قرية ونحوها) قوله تعالى (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا). فأوجب الله هذا على كل فرقة وهى كل جماعة منفصلة من المسلمين ببلدة أو قرية.
وفى هذا يقول ابن حزم رحمه الله (فرض علي كل جماعة مجتمعة في قرية أو مدينة أو دسكرة ـ وهى المجشرة عندنا ـ أو حلّة أعراب أو حصن أن ينتدب منهم لطلب جميع أحكام الديانة أولها عن آخرها، ولتعلّم القرآن كله، ولكتاب كل ماصح عن النبى صلى الله عليه وسلم من أحاديث الأحكام أولها عن آخرها وضبطها بنصوص ألفاظها، وضبط كل ماأجمع المسلمون عليه ومااختلفوا فيه: مَن يقوم بتعليمهم وتفقيههم من القرآن والحديث والإجماع، ويكتفى بذلك على قدر قِلَّتهم أو كثرتهم بالآية التى تلونا فى هذا الباب ـ «فلولا نفر من كل فرقة منهم.... » ـ بحسب مايقدر أن يعمهم بالتعليم، ولايشقّ على المستفتى قصده. فإذا انتدب لذلك مَن يقوم بما ذكرنا فقد سقط عن باقيهم إلا مايلزمه في خاصة نفسه فقط علي ماذكرنا آنفا. ولايحل للمفقه أن يقتصر على آراء الرجال دون ما ذكرنا.
فإن لم يجدوا فى محلتهم من يفقههم فى ذلك كله كما ذكرنا، ففرض عليهم الرحيل إلي حيث يجدون العلماء المحتوين على صنوف العلم وإن بَعُدت ديارهم ولو أنهم بالصين) أ هـ (الإحكام فى أصول الأحكام) جـ 5 صـ 123.(2/146)
وقال أبو حامد الغزالى رحمه الله (وواجب أن يكون فى مسجدٍ ومَحِلَّةٍ من البلد فقيه يُعلِّمِ الناس دينهم، وكذا فى كل قرية) (إحياء علوم الدين) جـ 2 صـ 370.
وقال النووى رحمه الله (ولو خلت البلدة من مفتٍ فقيل يحرم المقام بها، والأصح لايحرم إن أمكن الذهاب إلي مفتٍ. وإذا قام بالفتوى إنسان فى مكان سقط به فرض الكفاية إلى مسافة القصر من كل جانب ـ إلى أن قال ـ تعليم الطالبين وإفتاء المستفتين فرض كفاية، فإن لم يكن هناك من يصلح إلا واحد تعيّن عليه) أهـ (المجموع، 1/27). وقول النووي (إلى مسافة القصر)، وهو ماذكرته آنفا، لأنها المسافة التي يمكن للعبد قطعها بدون مشقة. وإن كان أصل اعتبار هذه المسافة محل خلاف لايسع تفصيله هذا المقام.
فهذا يبيِّن كيف يتأدى فرض الكفاية من العلم من جهة الكَمِّ ؟.
******
المسألة الرابعة: صفة فرض الكفاية من العلم
والمقصود بيان العلوم الشرعية التى يجب تحصيلها ليتأدى فرض الكفاية في الأمة، وهى العلوم اللازمة لتأهيل العلماء والمفتين والقضاة والمحتسبين لأداء الوظائف الشرعية فى الأمة، وهذا بيان للأمر الكَيْفيّ ــ المذكور في المسألة السابقة ــ اللازم لتأدىة فرض الكفاية من العلم.
وتبدأ هذه العلوم بكل مازاد عن فرض العين من العلوم إلى تحصيل جميع علوم الدين. وتحصيل هذا واجب على مجموع القائمين بفرض الكفاية لاعلى أعيانهم، كما سنذكره فى المسألة التالية إن شاء الله تعالى.
وقد نقلنا فى الفصل الأول من هذا الباب وصف بعض العلماء للعلوم اللازم تحصيلها لتحقيق فرض الكفاية، ومن هذا ما قاله الغزَّالي والنووي.
1 ــ قال أبو حامد الغزالي رحمه الله (إن هذه العلوم لها أصول وفروع ومقدمات ومتممات:
الضرب الأول: الأصول: وهى أربعة، كتاب الله عز وجل، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجماع الأمة وآثار الصحابة.
الضرب الثانى: الفروع: وهو مافُهم من هذه الأصول، وهذا على ضربين(2/147)
أحدهما: يتعلق بمصالح الدنيا ويحويه كتب الفقه.
الثانى: مايتعلق بمصالح الآخرة وهو علم أحوال القلب وأخلاقه المحمودة والمذمومة.
الضرب الثالث: المقدمات: وهى التى تجرى منه مجرى الآلات كعلم اللغة والنحو.
الضرب الرابع: المتممات: وهى علوم القرآن وعلوم الحديث وأصول الفقه.
فهذه هى العلوم الشرعية وكلها محمودة بل كلها من فروض الكفايات) أ هـ باختصار، وقد سبق بنصه فى الفصل الأول نقلاً عن (إحياء علوم الدين، 1/27 ــ 28).
2 ــ ونقلنا في الفصل الأول وصف النووى رحمه الله لفرض الكفاية من العلم وهو قوله (كحفظ القرآن والأحاديث وعلومها والأصول والفقه والنحو واللغة والتصريف ومعرفة رواة الحديث والإجماع والخلاف) أ هـ (المجموع، 1/ 26).
3 ــ وقال أبو محمد بن حزم رحمه الله، في الإحكام، فى الباب الحادي والثلاثين، في كلامه عن (صفة المفتي الذى له أن يفتي فى الدين وصفة الاجتهاد الواجب على أهل الإسلام).
قال ابن حزم (وأما المنتصبون لطلب الفقه وهم النافرون للتفقه، الحاملون لفرض النفار عن جماعتهم، المتأهبون لنذرة قومهم، ولتعليم المتعلم وفتيا المستفتى، وربما للحكم بين الناس ـ: ففرض عليهم تقصي علوم الديانة على حسب طاقتهم، من أحكام القرآن، وحديث النبى صلى الله عليه وسلم، ورُتَبِ النقل، وصفات النقلة، ومعرفة المسند الصحيح مما عداه من مرسل وضعيف، هذا فرضه اللازم له، فإن زاد إلى ذلك معرفة الإجماع والاختلاف، ومن أين قال كل قائل، وكيف يرد أقاويل المختلفين المتنازعين إلى الكتاب والسنة ـ: فحسن، وفرض عليه تعلم كيفية البراهين التى يتميز بها الحق من الباطل، وكيف يعمل فيما ظاهره التعارض من النصوص وكل هذا منصوص فى القرآن.
قال تعالى (ليتفقّهوا فى الدين)، فهذا إيجاب لتعلم أحكام القرآن وأحكام أوامر النبى صلى الله عليه وسلم، لأن هذين أصل الدين.(2/148)
وقال تعالى (إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا)، فوجب بذلك تعرّف عدول النّقلة من فسّاقهم، وفقهائهم ممن لم يتفقه منهم.
وأما معرفة الإجماع فقد زعم قوم أن هذا يجب بقوله تعالى: (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم)، قال ففرض علينا معرفة ما اتفق عليه أولو الأمر منا، لاننا مأمورون بطاعتهم، ولايمكننا طاعتهم إلا بعد معرفة إجماعهم الذي يلزمنا طاعتهم فيه.
وأما معرفة الاختلاف ومعرفة مايتنازعون فيه ومعرفة كيفية الرد إلي الكتاب والسنة فبقوله تعالى (فإن تنازعتم فى شئ فردّوه إلي الله والرسول). ففرض علينا معرفة ما يتنازعون فيه ومعرفة كيف يرد ذلك إلى الكتاب والسنة، لاننا إن لم نعرف الاختلاف ظننا أن القول الذي نسمعه من بعض العلماء لاخلاف فيه، فنتبعه دون أن نعرضه على القرآن والسنة، فنخطيء ونعصى الله تعالى إذ أخذنا قولا نهينا عن اتباعه.
قال أبو محمد: وهذا خطأ، لأننا إنما أمرنا تعالى بطاعة أولي الأمر فيما نقلوه إلينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأما أن يقولوا من عند أنفسهم بحكم لانص فيه فماجاز هذا قط لأحد أن يفعله، ولاحل لأحد قط أن يطيع من فعله، وقد توعد الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم على هذا أشد الوعيد، فكيف على من دونه، قال تعالى (ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين فما منكم من أحد عنه حاجزين). فصح أن من قال في الدين بقول أضافه إلى الله تعالى فقد كذب وتقوّل على الله تعالى الأقاويل، وأن من لم يضفه إلى الله تعالى فليس من الدين أصلا، لكن معرفة الاختلاف علم زائد، قال سعيد بن جبير: أعلم الناس أعلمهم بالاختلاف. وصدق سعيد، لأنه علم زائد، وكذلك معرفة من أين قال كل قائل ؟.
فأما معرفة كيفية إقامة البرهان فبقوله تعالى (قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين).
وقال تعالى (ماننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها) ففرض علينا معرفة الناسخ من المنسوخ.(2/149)
وفرض على من قصد التفقه في الدين كما ذكرنا أن يستعين على ذلك من سائر العلوم بما تقتضيه حاجته إليه في فهم كلام ربه تعالى، وكلام نبيه صلى الله عليه وسلم. قال تعالى: (وماأرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم) ففرض على الفقيه أن يكون عالما بلسان العرب ليفهم عن الله عزوجل، وعن النبي صلى الله عليه وسلم، ويكون عالما بالنحو الذي هو ترتيب العرب لكلامهم الذي به نزل القرآن، وبه يفهم معاني الكلام التي يعبر عنها باختلاف الحركات وبناء الألفاظ، فمن جهل اللغة وهى الألفاظ الواقعة على المسميات، وجهل النحو الذي هو علم اختلاف الحركات الواقعة لاختلاف المعاني ــ: فلم يعرف اللسان الذي به خاطبنا الله تعالى ونبينا عليه السلام، ومن لم يعرف ذلك اللسان لم يحل له الفتيا فيه، لأنه يفتي بمالا يدري، وقد نهاه الله تعالى عن ذلك بقوله تعالى:(ولاتقف ما ليس لك به علم). وبقوله تعالى:(ومن الناس من يجادل في الله بغير علم). وبقوله تعالى:(ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم). وقال تعالى:(وتقولون بأفواهكم ماليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم).
وفرض على الفقيه أن يكون عالما بسِيَر النبي صلى الله عليه وسلم ليعلم آخر أوامره وأولها، وحربه عليه السلام لمن حارب، وسِلمه لمن سالم، وليعرف على ماذا حارب، ولماذا وضع الحرب ؟، وحرم الدم بعد تحليله، وأحكامه عليه السلام التي حكم بها.(2/150)
فمن كانت هذه صفته، وكان وَرِعاً في فتياه، مشفقا على دينه، صليبا في الحق، حلت له الفتيا، وإلا فحرام عليه أن يفتي بين اثنين، أو أن يحكم بين اثنين، وحرام على الإمام أن يقلده حكما، أو يتيح له فتيا، وحرام على الناس أن يستفتوه، لأنه إن لم يكن عالما بما ذكرنا فلم يتفقه في الدين، وإن لم يكن مشفقا على دينه فهو فاسق، وإن لم يكن صليبا لم يأمر بمعروف ولانهى عن منكر، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فرضان على الناس، قال تعالى:(ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر). وهذا متوجه إلى العلماء بالمعروف وبالمنكر، لأنه لايجوز أن يدعو إلى الخير إلا مَنْ علمه، ولايمكن أن يأمر بالمعروف إلا مَنْ عرفه، ولا يقدر على إنكار المنكر إلا مَن مَيّزه.
فان كان مع ماذكرنا قويا على إنفاذ الأمور، حَسَن السياسة، حَلّ له القضاء والإمارة، وإلا فلا. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « المؤمن القوي أحب إلى الله من المؤمن الضعيف ». وقال عليه السلام لأبي ذر: « ياأبا ذر إني أحب لك ماأحب لنفسي إنك ضعيف فلا تأمّرن على اثنين ولا تولين مال يتيم ». وكان أبو ذر رضي الله عنه ممن له أن يفتي، ولم يكن ممن له أن يقضي.
فحدّ الفقه هو المعرفة بأحكام الشريعة من القرآن، ومن كلام المرسَل بها، الذي لاتؤخذ إلا عنه، وتفسير هذا الحد كما ذكرنا المعرفة بأحكام القرآن وناسخها ومنسوخها، والمعرفة بأحكام كلام الرسول صلى الله عليه وسلم ناسخه ومنسوخه، وما صح نقله مما لم يصح، ومعرفة ماأجمع العلماء عليه، وما اختلفوا فيه، وكيف يرد الاختلاف إلى القرآن وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم، فهذا تفسير العلم بأحكام الشريعة.(2/151)
وكل من علم مسألة واحدة من دينه على الرتبة التي ذكرنا جاز له أن يفتي بها، وليس جهله بما جهل بمانع من أن يفتي بما علم، ولا علمه بما علم بمبيح له أن يفتي فيما جهل، وليس أحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا وقد غاب عنه من العلم كثير هو موجود عند غيره، فلو لم يُفْتِ إلا من أحاط بجميع العلم لما حل لأحد من الناس بعد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يفتي أصلا، وهذا لايقوله مسلم، وهو إبطال للدين، وكفر من قائله. وفي بعثة النبي صلى الله عليه وسلم الأمراء إلى البلاد ليعلموا الناس القرآن وحكم الدين ولم يكن أحد منهم يستوعب جميع ذلك، لأنه قد كان تنزل بعدهم الآيات والأحكام: بيان صحيح بأن العلماء وإن فاتهم كثير من العلم فإن لهم أن يُفْتُوا ويقضوا بما عرفوا.) أهـ (الإحكام في أصول الأحكام) جـ 5 صـ 124 ــ 128 باختصار يسير.(2/152)
4 ــ وقال أبو عمر بن عبدالبر رحمه الله ــ في صفة فرض الكفاية من العلم ــ طلب العلم درجات ومناقل ورتب لاينبغي تعديها ومن تعداها جملة فقد تعدى سبيل السلف رحمهم الله ومن تعدى سبيلهم عامداً ضل ومن تعداه مجتهداً زل. فأول العلم حفظ كتاب الله جل وعز وتفهمه وكل مايعين على فهمه فواجب طلبه معه ولا أقول إن حفظه كله فرض ولكن أقول إن ذلك واجب لازم على من أحب أن يكون عالما ليس من باب الفرض * حدثنا عبدالوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثنا سعيد بن سليمان قال حدثنا ميمون أبو عبدالله عن الضحاك في قوله (كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب) قال حق على كل من تعلم القرآن أن يكون فقيها فمن حفظه قبل بلوغه ثم فرغ إلى مايستعين به على فهمه من لسان العرب كان له ذلك عوناً كبيرا على مراده منه ومن سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ينظر في ناسخ القرآن ومنسوخه وأحكامه، ويقف على اختلاف العلماء واتفاقهم في ذلك وهو أمر قريب على من قرّبه الله عليه، ثم ينظر في السنن المأثورة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فبها يصل الطالب إلى مراد الله جل وعز في كتابه وهى تفتح له أحكام القرآن فتحا. وفي سير رسول الله صلى الله عليه وسلم تنبيه على كثير من الناسخ والمنسوخ في السنن ومن طلب السنن فليكن معوله على حديث الأئمة الثقات الحفاظ الذين جعلهم الله خزائن لعلم دينه وأمناء على سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومما يستعان به على فهم الحديث ماذكرناه من العون على كتاب الله وهو العلم بلسان العرب ومواقع كلامها وسِعَة لغتها واستعارتها ومجازها وعموم لفظ مخاطبتها وخصوصه وسائر مذاهبها لمن قدر فهو شئ لايستغنى عنه. وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يكتب إلى الآفاق أن يتعلموا السنة والفرائض واللحن يعني النحو كما يتعلم القرآن وقد تقدم ذكر هذا الخبر عنه فيما سلف من كتابنا.(2/153)
ويلزم صاحب الحديث أن يعرف الصحابة المؤدين للدين عن نبيهم صلى الله عليه وسلم ويعني بسيرهم وفضائلهم ويعرف أحوال الناقلين عنهم وأيامهم وأخبارهم حتى يقف على العدول منهم من غير العدول وهو أمر قريب كله على من اجتهد. فمن اقتصر على علم إمام واحد وحفظ ماكان عنده من السنن ووقف على غرضه ومقصده في الفتوى حصل على نصيب من العلم وافر وحظ منه حسن صالح فمن قنع بهذا اكتفى والكفاية غير الغنى والاختيار له أن يجعل إمامه في ذلك إمام أهل المدينة دار الهجرة ومعدن السنة ومن طلب الإمامة في الدين وأحب أن يسلك سبيل الذين جاز لهم الفتيا نظر في أقاويل الصحابة والتابعين والأئمة في الفقه إن قدر على ذلك نأمره بذلك كما أمرناه بالنظر في أقاويلهم في تفسير القرآن فمن أحب الاقتصار على أقاويل علماء الحجاز اكتفى واهتدى إن شاء الله وإن أحب الإشراف على مذاهب الفقهاء متقدميهم ومتأخريهم بالحجاز والعراق وأحب الوقوف على ماأخذوا وتركوا من السنن ومااختلفوا في تثبيته وتأويله من الكتاب والسنة كان ذلك له مباحا ووجها محمودا أن فهم وضبط ماعلم أو سلم من التخليط نال درجة رفيعة ووصل إلى جسيم من العلم واتسع ونبل إذا فهم مااطلع وبهذا يحصل الرسوخ لمن فقهه الله وصبر على هذا الشأن واستحلى مرارته واحتمل ضيق المعيشة فيه) أهـ (جامع بيان العلم) جـ 2 صـ 166 ــ 169 باختصار.
هذا في بيان صفة فرض الكفاية من العلم.
******
المسألة الخامسة: حفظ مجموع علوم الدين واجب على
مجموع القائمين بفرض الكفاية لا على أعيانهم
هذه المسألة متعلقة بالسابقة، فبعد بيان صفة فرض الكفاية من العلم وأنه يشتمل على مجموع علوم الدين، قد يُتوهم أن كل مشتغل بطلب فرض الكفاية من العلم يجب عليه تحصيل جميع هذه العلوم.
والصواب: أن هناك فرقاً بين مايجب على مجموع الأمة ومايجب على الأفراد في ذلك.
أولا: أما مايجب على مجموع الأمة فهو حفظ مجموع علوم الدين(2/154)
وقد وُجد هذا على مدى تاريخ الأمة فكان هناك العلماء المتبحرون في علوم القراءات ولا اشتغال لهم بالحديث، والعلماء المبرزون في الحديث رواية ودراية ولا اشتغال لهم بالقراءات، والعلماء المتبحرون في اللغة العربية وفنونها المختلفة، وكان هناك ــ مع هؤلاء ــ الفقهاء المجتهدون الذين أخذوا من كل علم مايستكملون به آلة الاجتهاد وإن لم يبلغوا في كل علم مبلغ أئمته المتفرغين له. وبمجموع هؤلاء تم حفظ جميع علوم الدين قرنا بعد قرن: قال تعالى (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) الحجر 6، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لاتزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله) الحديث رواه مسلم.
قال ابن تيمية رحمه الله (ولهذا وجب على مجموع الأمة حفظ جميع الكتاب، وجميع السنن المتعلقة بالمستحبات والرغائب، وإن لم يجب ذلك على آحادها، ولهذا أوجب على الأمة من تحصيل المستحبات العامة مالا يجب على الأفراد) أهـ (مجموع الفتاوى) 25/175، وقال ابن تيمية أيضا: (ويجب على عموم الأمة علم جميع ماجاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، بحيث لايضيع من العلم الذي بلّغه النبي صلى الله عليه وسلم أمته شيء، وهو مادلّ عليه الكتاب والسنة، لكن القدر الزائد على ما يحتاج إليه المعيّن فرض على الكفاية إذا قامت به طائفة سقط عن الباقين) (مجموع الفتاوي) 3/ 328 ــ 329.
ثانيا: وأما ما يجب على أعيان القائمين بفروض الكفاية العلمية
كالمفتي والقاضي والمحتسب والمُعَلِّم: فإنه يجب على كل منهم من العلم مالا يتم الواجب عليه إلا بتعلمه، من باب (مالا يتم الواجب إلا به فهو واجب).(2/155)
ومن هذا الباب قول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (ولايقولن قائل: من لم يعرف الأحاديث كلها لم يكن مجتهداً، لأنه إن اشترط في المجتهد علمه بجميع ماقاله النبي صلى الله عليه وسلم وفَعَله فيما يتعلق بالأحكام: فليس في الأمة مجتهد، وإنما غاية العالم أن يعلم جمهور ذلك ومعظمه، بحيث لايخفى عليه إلا القليل من التفصيل) أهـ (مجموع الفتاوى) جـ 20 صـ 239.
فلا يجب على كل قائم بفرض الكفاية من العلم الإحاطة بجميع علوم الدين، وإنما يجب عليه ما يُمكِّنه من أداء واجبه، ويدخل في هذا المجتهدون فلا يجب عليهم الإحاطة بعلوم الدين، وسوف نذكر علوم المجتهد إن شاء الله في (صفة المفتي وشروطه) في الباب الخامس من هذا الكتاب.
وإنما تتم الإحاطة بجميع علوم الدين وحفظها بمجموع القائمين بفروض الكفاية العلمية كالفقهاء والمحدثين والوعاظ واللغويين والقرّاء، وهذا مصداق لقوله صلى الله عليه وسلم (لاتزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله) الحديث رواه مسلم.
******
المسألة السادسة: متى يجوز الاشتغال بفرض الكفاية من العلم؟
يجوز اشتغال المسلم بفرض الكفاية من العلم: بشرطين:
الأول: ألا يؤدي اشتغاله بفرض الكفاية إلى تضييع فرض عين عليه. للإجماع على وجوب تقديم أداء فرض العين على فرض الكفاية.
روى الخطيب البغدادي بإسناده عن الإمام مالك رحمه الله قال:(إن طلب العلم لحسنٌُ، وإن نشره لحسنٌُ إذا صحت فيه النية، ولكن انظر مايلزمك من حين تصبح إلى حين تمسي فلا تؤثرن عليه شيئا) الفقيه والمتفقه) 1/46، وذكره الغزالي في (الإحياء) 1/79.
الشرط الثاني: ألا يؤدي اشتغاله بفرض الكفاية من العلم إلى تضييع فرض كفاية أهم وأولى.
وإليك أقوال بعض العلماء في النص على هذه الشروط(2/156)
1ــ تكلم العلامة القرافي المالكي رحمه الله في هذه المسألة ــ مسألة تعارض الواجبات وما يُقدّم منها وما يؤخر فقال ــ إن هذا ــ (مبني على معرفة قاعدة في الترجيحات، وضابط ماقدَّمه الله تعالى على غيره من المطلوبات، وهى أنه إذا تعارضت الحقوق قُدِّم منها المضيَّق على الموسَّع، لأن التضييق يُشعِر بكثرة اهتمام صاحب الشرع بما جعله مُضَيَّقا، وأن ما جوَّز له تأخيره وجعله موسعا عليه دون ذلك.
ويقدم الفَوْري على المتراخي لأن الأمر بالتعجيل يقتضي الأرجحية على ما جعل له تأخيره.
ويقدم فرض الأعيان على الكفاية و لأن طلب الفعل من جميع المكلفين يقتضي أرجحية ما طلب من البعض فقط، ولأن فرض الكفاية يعتمد عدم تكرر المصلحة بتكرر الفعل، والفعل الذي تتكرر مصلحته في جميع صوره أقوى في استلزام المصلحة من الذي لاتوجد المصلحة معه إلا في بعض صوره.
ولذلك يُقدم مايُخشى فواته على مالا يُخشى فواته وإن كان أعلى رتبة منه) أهـ (الفروق) جـ 2 صـ 203.
2ــ وتكلم أبو حامد الغزَّالي رحمه الله في هذه المسألة، وهى شروط الاشتغال بفروض الكفاية، وذلك في كلامه عن المناظرة الفقهية ــ وهى من فروض الكفاية العلمية ــ فقال رحمه الله في شروط الاشتغال به:
(الأول: أن لايشتغل به وهو من فروض الكفايات من لم يتفرغ من فروض الأعيان، ومن عليه فرض عين فاشتغل بفرض كفاية وزعم أن مقصده الحق فهو كذاب. ومثاله من يترك الصلاة في نفسه ويتجرد في تحصيل الثياب ونسجها ويقول غرضي أستر عورة من يصلي عُريانا ولايجد ثوبا ــ إلى أن قال ــ فلا يكفي في كون الشخص مطيعا كون فعله من جنس الطاعات مالم يٌراع فيه: الوقت والشروط والترتيب.(2/157)
الثاني: أن لايرى فرض كفاية أهم من المناظرة فإن رأي ماهو أهم وفعل غيره عصى بفعله وكان مثاله مثال من يرى جماعة من العطاش أشرفوا على الهلاك وقد أهملهم الناس وهو قادر على إحيائهم بأن يسقيهم الماء فاشتغل بتعلم الحجامة، وزعم أنه من فروض الكفايات ولو خلا البلد عنها لهلك الناس وإذا قيل له في البلد جماعة من الحجامين وفيهم غنية فيقول هذا لايخرج هذا الفعل عن كونه فرض كفاية. فحال من يفعل هذا ويهمل الاشتغال بالواقعة الملمة بجماعة العطاش من المسلمين كحال المشتغل بالمناظرة وفي البلد فروض كفايات مهملة لاقائم بها.) أهـ (إحياء علوم الدين) جـ 1 صـ 56.
وكرّر أبو حامد الغزالي هذا المعنى في موضع آخر، في معرِض كلامه عن نشر العلم، حيث قال (فحق على كل مسلم أن يبدأ بنفسه فيُصلحها بالمواظبة على الفرائض وترك المحرمات، ثم يُعلِّم ذلك أهل بيته، ثم يتعدى بعد الفراغ منهم إلى جيرانه، ثم إلى أهل محلته، ثم إلى أهل بلده ــ إلى قوله ــ وهكذا إلى أقصى العالم، فإن قام به الأدنى سقط عن الأبعد ــ إلى أن قال ــ ولايتقدم على هذا إلا فرض عين أو فرض كفاية هو أهم منه) أهـ (إحياء علوم الدين) جـ 2 صـ 371.
3 ــ وتكلم ابن القيم رحمه الله في هذا الأمر، وبيَّن أن الاشتغال بطاعة مع ترك طاعة أهم وأولى وأعلى منزلة ً أن هذا من تلبيس الشيطان على العبد بشَغْلِهِ بالمفضول عن الفاضل وبالمرجوح الفضل عن الراجح ليضيِّع على العبد ثواب العمل الراجح.(2/158)
ففي معرِض كلامه عن التوبة، ذكر ابن القيم مراتب تسلُّطِ الشيطان على العبد، فقال رحمه الله (النظر الرابع: نظُره إلى الآمر له بالمعصية، المزيِّن له فعلها، الحاضِّ له عليها، وهو شيطانه الموكَّل به. فيفيده النظر إليه وملاحظته: اتخاذَه عدوّاً وكمال الاحتراز منه، والتحفظ واليقظة والانتباه لما يريد منه عدوه وهو لايشعر، فإنه يريد أن يظفر به في عقبة ٍ من سبع عقبات، بعضها أصعب من بعض، لا ينزل منه من العقبة الشاقة إلى مادونها إلا إذا عجز عن الظَّفَر به فيها). ثم ذكر ابن القيم هذه العقبات السبع ونذكرها باختصار وتصرّف من عندنا، وهى:
العقبة الأولى: عقبة الكفر بالله وبدينه ولقائه، فإذا ظفر الشيطان بالعبد فيها فقد بلغ مراده منه، وإذا نجا العبد من الشيطان في هذه العقبة، جاءه في التي تليها، وهى:
العقبة الثانية: وهى عقبة البدعة والضلالات وتحريف الدين وتبديله.
ثم العقبة الثالثة: وهى عقبة الكبائر بترك الفرائض أو بارتكاب المحرمات.
ثم العقبة الرابعة: وهى عقبة الصغائر حتى تكثر على العبد فتهلكه.
ثم العقبة الخامسة: وهى عقبة الاشتغال بالمباحات: من فضول الكَسْب والطعام والشراب والنوم والصحبة وتضييع الأوقات، فيشغله الشيطان بالمباح ليفوِّت عليه الاشتغال بالطاعات وفضائل الأعمال من النوافل والمستحبات.
ثم العقبة السادسة: وفيها قال ابن القيم (وهى عقبة الأعمال المرجوحة المفضولة من الطاعات فأمره بها. وحسنها في عينه. وزينها له. وأراه مافيها من الفضل والربح، ليشغله بها عما هو أفضل منها، وأعظم كسباً ورِبحاً. لأنه لما عجز عن تخسيره أصل الثواب، طمع في تخسيره كماله وفضله، ودرجاته العالية. فشغله بالمفضول عن الفاضل، وبالمرجوح عن الراجح، وبالمحبوب لله عن الأحب إليه، وبالمرضي عن الأرضى له.
ولكن أين أصحاب هذه العقبة ؟ فهم الأفراد في العالم، والأكثرون قد ظفر بهم في العقبات الأول.(2/159)
فإن نجا منها بفقه في الأعمال ومراتبها عند الله، ومنازلها في الفضل، ومعرفة مقاديرها، والتمييز بين عاليها وسافلها، ومفضولها وفاضلها، ورئيسها ومرءوسها، وسيدها ومسودها. فإن في الأعمال والأقوال سيداً ومسودا ً، ورئيسا ً ومرءوساً، وذروة ومادونها، كما في الحديث الصحيح «سيد الاستغفار: أن يقول العبد: اللهم أنت ربي. لا إله إلا أنت ــ الحديث» وفي الحديث الآخر «الجهاد ذروة سنام الأمر» وفي الأثر الآخر «إن الأعمال تفاخرت. فذكر كل عمل منها مرتبته وفضله. وكان للصدقة مزية في الفخر عليهن» ولايقطع هذه العقبة إلا أهل البصائر والصدق من أولي العلم، السائرين على جادة التوفيق، قد أنزلوا الأعمال منازلها، وأعطوا كل ذي حق حقه.
فإذا نجا منها لم يبق هناك عقبة يطلبه العدو عليها سوى واحدة لابد منها، ولو نجا منها أحد لنجا منها رسل الله وأنبياؤه، وأكرم الخلق عليه. وهى) أهـ:
العقبة السابعة: وهى عقبة تسليط أولياء الشيطان من شياطين الإنس والجن على العبد، وقال ابن القيم فيها (وهى عقبة تسليط جنده عليه بأنواع الأذى، باليد واللسان والقلب، على حسب مرتبته في الخير. فكلما عَلَتْ مرتبته أجلب عليه العدو بخيله ورجله. وظاهَر عليه بجنده، وسلط عليه حزبه وأهله بأنواع التسليط. وهذه العقبة لا حيلة له في التخلص منها. فإنه كلما جد في الاستقامة والدعوة إلى الله، والقيام له بأمره، جد العدو في إغراء السفهاء به. فهو في هذه العقبة قد لبس لأمة الحرب. وأخذ في محاربة العدو لله وبالله. فعبوديته فيها عبودية خواص العارفين. وهى تسمى عبودية المراغمة، ولاينتبه لها إلا أولو البصائر التامة. ولاشئ أحب إلى الله من مراغمة وليه لعدوه، وإغاظته له. وقد أشار سبحانه إلى هذه العبودية في مواضع من كتابه.(2/160)
أحدها: قوله (4: 100 ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مُراغما ً كثيرا ً وسعة) سمى المهاجر الذي يهاجر إلى عبادة الله مراغما ً يراغم به عدو الله وعدوه. والله يحب من وليه مراغمة عدوه، وإغاظته. كما قال تعالى (9: 120 ذلك بأنهم لايصيبهم ظمأ ولا نَصَب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يَطَئُون مَوْطِئا ً يغيظ الكفار. ولا ينالون من عدو نَيْلا إلا كُتب لهم به عمل صالح إن الله لايضيع أجر المحسنين) وقال تعالى في مَثل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتباعه (48: 29 ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شَطْأه فآزره. فاستغلظ. فاستوى على سوقه. يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار) فمغايظة الكفار غاية محبوبة للرب مطلوبة له، فموافقته فيها من كمال العبودية. وشرع النبي صلى الله عليه وسلم للمصلي إذا سها في صلاته سجدتين، وقال «إن كانت صلاته تامة كانتا ترغمان أنف الشيطان» وفي رواية «ترغيما للشيطان» وسماهما «المرغمتين».
فمن تعبد الله بمراغمة عدوه، فقد أخذ من الصديقية بسهم وافر. وعلى قدر محبة العبد لربه، وموالاته ومعاداته لعدوه، يكون نصيبه من هذه المراغمة. ولأجل هذه المراغمة حُمد التبختر بين الصفين، والخيلاء والتبختر عند صدقة السر، حيث لايراه إلا الله. لما في ذلك من إرغام العدو. وبذل محبوبه من نفسه وماله لله عزوجل.
وهذا باب من العبودية لايعرفه إلا القليل من الناس. ومن ذاق طعمه ولذته بكى على أيامه الأول.
وبالله المستعان. وعليه التكلان. ولا حول ولا قوة إلا بالله.) أهـ (مدارج السالكين) لابن القيم، جـ 1 صـ 222 ــ 227.
فإذا أردنا استخراج ما ذكرناه من شروط للاشتغال بفرض الكفاية من العلم من كلام ابن القيم هذا، فنقول:
إن من اشتغل بفرض الكفاية من العلم بما يؤدي إلى تركه لفرض عين ٍ، فقد ظفر به الشيطان في العقبة الثالثة (عقبة الكبائر)، إذ إن تارك فرض العين مرتكب لكبيرة، للوعيد الوارد في حق تارك الفروض، والوعيد من علامات الكبائر.(2/161)
وأن من اشتغل بفرض الكفاية من العلم بما يؤدي إلى تركه لفرض كفاية أولى وأهم، كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أحيانا، فقد ظفر به الشيطان في العقبة السادسة، وهى عقبة الاشتغال بالمرجوح الفضل من الطاعات.
(فائدة)
تبيّن لك مما سبق أنه لايجوز الاشتغال بفرض الكفاية من العلم مع إهمال فروض العين أو فرض كفاية أهم منه.
وبهذا يتضح لك التقصير الشديد والتفريط الأليم المتلبس به كثير من المنتسبين إلى العلم الشرعي في هذا الزمان على اختلاف مراتبهم بإهمالهم لفريضتي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله تعالى وهما من آكد الفروض في مختلف البلدان الآن، وأهل العلم هم أحق الناس بالقيام بهذه الواجبات.
ففي كل بلد من بلدان المسلمين تجد عشرات المعاهد والكليات الشرعية، يُدَرِّس فيها مئات الشيوخ، ويَدْرُس فيها آلاف من طلاب العلم الشرعي. وفي مقابل هذا تجد الكفر والمنكرات ترتع في هذه البلدان ولا رادع لها، فتجد البلاد محكومة بالقوانين الوضعية في التشريع وفي السياستين الداخلية والخارجية، وتجد العلمانيين (اللادينيين) قد فرضوا مناهجهم على التعليم ووسائل الإعلام المختلفة ليخرج النشء هزيل الصلة بدينه، وتجد التبرج والخلاعة والملاهي والفجور في شتى البلدان، وتجد الربا والخمر، وتجد بيوت الدعارة القانونية في بعض البلدان وغير القانونية في أكثرها. فأي خير وأي دين في هؤلاء المنتسبين إلى العلم الشرعي مع السكوت عن هذه الموبقات ؟.(2/162)
وحُماة هذه الموبقات هم أئمة الكفر: وهم الحكام المرتدون الحاكمون بلاد المسلمين بغير شريعة رب العالمين بالشرائع الوضعية الكافرة، فإن كل ما هو سائد في بلاد المسلمين من الكفر والبدع والضلالات والمعاملات المحرمة والربا والخمر والدعارة والفجور والملاهي وغيرها من الموبقات تعتبر قانونية ومشروعة بمقتضى الشرائع الوضعية التي تم فرضها على بلدان المسلمين بالقوة المسلحة للاحتلال الصليبي في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي حين احتلت انجلترا وفرنسا وغيرهما من الدول الأوربية معظم ولايات الدولة العثمانية وشبه القارة الهندية وبقية البلدان الإسلامية في إفريقيا وجنوب شرقي آسيا. واصطنع المستعمرون الكفارُ طوائف من أبناء البلدان الإسلامية المحتلة أرضعوهم مذاهبهم الكافرة في الحكم والتشريع والسياسة والتعليم والإعلام، وعند رحيل المستعمر عن بلدان المسلمين ــ بعدما مَزَّقها عن الدولة العثمانية ــ أسلم حكمها للطوائف المرتدة التي اصطنعها لتواصل نهجه في هذه البلدان. وهذه الطوائف هى التي تحمي القوانين الوضعية بالحديد والنار، وبالجنود والسلاح في شتى بلدان المسلمين اليوم، ومن هنا قلنا إن هؤلاء الحكام المرتدين هم أئمة الكفر وهم رأس الفتنة وأساسها. وسوف تأتي إشارة موجزة إلى الأدلة على كفر هؤلاء الحكام وأعوانهم في المبحثين الأول والثامن من الباب السابع بآخر هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.
وجهاد هؤلاء الحكام الكافرين فرض عين على كل مسلم، وكل من نكل عن القيام بهذا الجهاد الواجب عيناً فهو آثم مرتكب لكبيرة فاسق للوعيد الوارد في حق تارك الجهاد العيني، وقد ظفر به الشيطان في العقبة الثالثة من العقبات التي ذكرها ابن القيم ــ في كلامه السابق ــ وهى عقبة الكبائر.
وبعد:(2/163)
فماذا كانت مواقف المنتسبين إلى العلم الشرعي من هذا البلاء الذي عمّ بلاد المسلمين فأفسدها وخربها، هل صدعوا بكلمة الحق فعرَّفوا المسلمين مايجب عليهم من جهاد الحكام المفسدين ؟، وهل حرضوهم على القيام بهذا الجهاد ؟، بل قبل هذا وذاك هل تعلم المنتسبون للعلم الشرعي حكم الله في هذه النوازل ؟. بكل حسرة وأسف فإن من قام بالحق في هذا قلّة نادرة من أهل العلم، أما الأكثرون فهم في غفلة معرضون لامبالاة عندهم بما يجري للدين وأهله، وهؤلاء من الذين وصفهم ابن القيم في قوله:(ومَنْ له خبرة بما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم وبما كان عليه هو وأصحابه رأى أن أكثر من يُشَار إليهم بالدين هم أقل الناس دينا، والله المستعان، وأيُّ دين ٍ وأيُّ خير فيمن يرى محارم الله تُنْتَهكُ وحدودَه تُضَاع ودينه يُتْرَك وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم يُرْغَبُ عنها وهو بارد القلب ساكت اللسان ؟ شيطان أخرس ! كما أن المتكلم بالباطل شيطان ناطق، وهل بَليَّة الدين إلا من هؤلاء الذين إذا سلمت لهم مآكلهم ورياساتهم فلا مُبَالاة بما جرى على الدين ؟ وخيارهم المتحزن المتلمظ، ولو نُوزِعَ في بعض مافيه غَضَاضة عليه فى جاهه أو ماله بذل وتبذَّل وجَدَّ واجتهد، واستعمل مراتب الإنكار الثلاثة بحسب وُسعِهِ. وهؤلاء ــ مع سقوطهم من عين الله ومقت الله لهم ــ قد بُلوا فى الدنيا بأعظم بلية تكون وهم لايشعرون، وهو موت القلوب، فإن القلب كلما كانت حياته أتم كان غضبه لله ورسوله أقوى وانتصاره للدين أكمل.) (اعلام الموقعين) 2/157 ــ 158.
******
المسألة السابعة:متى يصير فرض الكفاية من العلم فرض عين ؟
يتعيّن فى أحوال:
1 ــ إذا شرع في طلب العلم يتعين عليه الاستمرار، ذكره ابن تيمية (مجموع الفتاوى، 28/ 186) وخالف فيه النووى (المجموع، 1/ 27)
2 ــ إذا ظهر نبوغه في طلب العلم وقدرته عليه، ذكره ابن تيمية (مجموع الفتاوى، 28/ 186)(2/164)
3 ــ إذا لم يقم غيره بطلب العلم في محلٍ ما، تعيَّن عليه، ذكره ابن تيمية (مجموع الفتاوى، 28/ 82).
4 ــ إذا أرصدته الأمة لطلب العلم، بأن يتفرغ لذلك ويُرزق عليه سواء من بيت المال أومن جماعة أو من رجل من المسلمين. ذكره ابن تيمية في (مجموع الفتاوى، 28/ 176 ـ 187).
وإليك أقوال ابن تيمية رحمه الله التي ذكر فيها هذه الأحوال، قال: (وكذلك أهل العلم الذين يحفظون على الأمة الكتاب والسنة: صورة ومعنى: مع أن حفظ ذلك واجب على الأمة عموماً على الكفاية منهم، ومنه مايجب على أعيانهم وهو علم العين الذى يجب على المسلم فى خاصة نفسه: لكن وجوب ذلك عيناً وكفاية على أهل العلم الذين رأسوا فيه أو رزقوا عليه، أعظم من وجوبه على غيرهم، لأنه واجب بالشرع عموما وقد يتعين عليهم لقدرتهم عليه وعجز غيرهم: ويدخل في القدرة استعداد العقل، وسابقة الطلب. ومعرفة الطرق الموصلة اليه، من الكتب المصنفة، والعلماء المتقدمين، وسائر الأدلة المتعددة، والتفرغ له عما يشغل به غيرهم.
ولهذا مضت السنة، بأن الشروع فى العلم والجهاد يلزم، كالشروع في الحج، يعنى أن ماحفظه من علم الدين، وعلم الجهاد ليس له إضاعته.) أ هـ (مجموع الفتاوى) جـ 28 صـ 186 ـ 187.
وقال ابن تيمية أيضا (إن هذه الأعمال التى هى فرض على الكفاية متى لم يقم بها غير الإنسان صارت فرض عين عليه، لاسيما إن كان غيره عاجزاً عنها) أ هـ. (مجموع الفتاوى) جـ 28 صـ82.
هذا كلام ابن تيمية رحمه الله وقد ذكر فيه الأحوال الأربعة التي يصير فيها فرض الكفاية من العلم فرض عين. وقد خالف النووى رحمه الله في تعينه بالشروع فقال (وأصحهما لايتعين لأن الشروع لايغير المشروع فيه عندنا إلا في الحج والعمرة) أ هـ. (المجموع) جـ 1 صـ 27. وقول النووى (عندنا) أى عند الشافعية.(2/165)
وسبب اختلاف القولين، هو اختلاف المذاهب فى هذه المسألة، كما ذكره الشيخ محمد بن حسين المالكي في حاشيته على كتاب (الفروق) للقرافي، قال (النافلة والمندوبات المتأكدة مما يجب عندنا وعند السادة الأحناف خلافا للشافعية. وكذا فرض الكفاية يصير فرض عين بالشروع فيه على الأصح، حتى طلب العلم لمن ظهرت فيه قابليةٌ من نجابةٍ) أ هـ كتاب (الفروق للقرافي)، هامش صـ 163 جـ 1، ط دار المعرفة.
(تنبيه)
ليس معنى صيرورة فرض الكفاية من العلم فرض عين، أن تُهمل بسبب الاشتغال به فروض العين الأخرى، كالجهاد إذا تعيَّن، أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا تعيَّنا.
بل الواجب الجمع بين فروض العين والقيام بجميعها. فلا تُترك الصلاة بعذر أداء الزكاة أو الصوم، فالكل فرض عين، ويجب القيام بها جميعا.
فإذا تعارضت بعض الواجبات تعارضاً حقيقياً، قدِّم المضيَّق منها على الموسَّع، وقدِّم مايُخشى فواته على ما يمكن تداركه، كما سبق فى كلام القرافى فى أول المسألة السادسة. والله تعالى أعلم.
وبهذا نختم الكلام فى فرض الكفاية من العلم، وهو آخر مانذكره في (حكم طلب العلم الشرعي) وهو الباب الثانى من هذا الكتاب ثم نشرع فى بيان كيف يطلب المسلم علمَ دينه في الباب التالى بإذن الله تعالى.
الباب الثالث
كيفية طلب العلم
الباب الثالث
كيفية طلب العلم
ذكرنا فى الباب الأول من هذا الكتاب: فضل العلم وأهله، ثم ذكرنا حكم طلب العلم في الباب الثاني وبيَّنَّا أن طلب العلم واجب وأن منه ماهو فرض عين على كل مسلم، ومنه ماهو فرض كفاية على مجموع المسلمين.
وفي هذا الباب نذكر ــ إن شاء الله تعالى ــ كيف يطلب المسلم العلم، سواء ماكان منه فرض عين أو فرض كفاية ؟.
وسوف يشتمل هذا الباب على الفصول التالية:
الأول: واجب الإمام في تعليم الرعية وحفظ العلم.
الثانى: واجب العلماء في تبليغ العلم.
الثالث: واجب العامى في طلب العلم وتبليغه.
الرابع: واجب الرجل في تعليم أهله.(2/166)
وما اشتملت عليه هذه الفصول يبيّن أن تعليم المسلمين أمور دينهم مسئولية مشتركة بين أكثر من فريق من الأمة: وهم الأئمة والعلماء والعامة، وهذا مما يبيّن لك شِدّة اعتناء الشارع بهذا الأمر ــ أمر تعليم المسلمين أمور دينهم ــ أن أوجبه على أكثر من فريق من الأمة حتى أنه لو قصَّر فريق منهم في القيام بواجبه لانجبر الأمر بقيام الآخرين بواجبهم إلا أن هذا لايرفع عن المقصِّر إثم تقصيره.
فإذا توانى الأئمة في نصب العلماء لتعليم العامة وحضّ الفريقين على ذلك، لوجب على العلماء أن ينتصبوا بأنفسهم لتعليم العامة لما أخذه الله على العلماء من الميثاق، وإذا قصَّر الأئمة والعلماء فإن هذا لايعفي العامة من وجوب طلب الحق بأنفسهم.
وستأتي واجبات كل فريق من هؤلاء في هذا الباب وفيما يليه من أبواب إن شاء الله.
الفصل الأول
واجب الإمام فى تعليم الرعية وحفظ العلم
لما كان تعليم المسلمين أمور دينهم أمراً جليلا ــ إذ كان العلم واجبا قبل القول والعمل ــ فقد أوجبه الله على أكثر من فريق من المسلمين، وفى مقدمة هؤلاء أئمة المسلمين وولاة أمورهم على اختلاف مراتبهم لقوله صلى الله عليه وسلم (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته) الحديث متفق عليه.
وسوف نذكر في هذا الفصل عدة مسائل لبيان المقصود منه، وهى:
1 ــ بيان قيام الإمام مقام النبى صلى الله عليه وسلم فى الأمة.
2 ــ بيان مسئولية الإمام عن تعليم الأمة.
3 ــ تفصيل واجبات الإمام فى تعليم الأمة.
4 ــ ما يجب على ولاة الأمور ــ غير الإمام ــ من هذه الواجبات.
5 ــ تقصير الأئمة فى أداء واجبهم لايسقط عن المسلمين واجبهم.
******
المسألة الأولى: بيان قيام الإمام مقام النبي صلى الله عليه وسلم في الأمة(2/167)
(تمهيد) المراد بقولنا قيام الأئمة مقام النبي صلى الله عليه وسلم في الأمة أى في حراسة الدين وسياسة الدنيا، وبدهي أن الأئمة ليس لهم شيء وراء ذلك مما اختص به الأنبياء عليهم السلام كالوحي والعصمة من الذنوب والكفر والعصمة من أن يُقَرُّوا على خطأ، هذا هو مذهب أهل السنة خلافا للرافضة الذين يدينون بعصمة الأئمة، وهو قول باطل لقوله تعالى (ياأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم، فإن تنازعتم في شيء فردّوه إلى الله والرسول) النساء 59، وهذا النص يدل على بطلان عصمة الأئمة من ثلاثة أوجه، أحدها: عدم إفرادهم بطاعة مستقلة بل جعل طاعتهم تابعة لطاعة الله ورسوله وذلك لعدم تكرار الفعل (وأطيعوا) معهم، والثانى: دلت الآية على جواز منازعة ولاة الأمور ولو كانوا معصومين لما جازت منازعتهم، والثالث: جعلت الآية الرد عند التنازع إلى قول الله وقول رسوله صلى الله عليه وسلم فدلت على أن العصمة فيهما ولاعصمة وراء ذلك وأن ماعدا قول الله وقول رسوله صلى الله عليه وسلم يحتمل القبول والرد، وماكان كذلك فغير معصوم.
بعد هذا التمهيد نعود إلى المقصود من المسألة، فنقول:
قال الماوردي رحمه الله (الإمامة موضوعة لخلافة النُّبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا) (الأحكام السلطانية) صـ 5.
ويدل على هذا التعريف أدلة منها:
1 ــ قول النبي صلى الله عليه وسلم (إن بني إسرائيل كانت تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبيٌ خَلَفَهُ نبيٌ، وإنه لانبي بعدي، وستكون خلفاء فيكثرون) قالوا: يارسول الله فما تأمرنا ؟. قال: (أوفوا ببيعة الأول فالأول ثم أعطوهم حقهم، واسألوا الله الذي لكم، فإن الله سائلهم عما استرعاهم) متفق عليه عن أبي هريرة رضى الله عنه.(2/168)
وهذا الحديث يشير إلى أن الخلفاء يقومون مقام الأنبياء فى سياسة الرعية، إذ قد بيّن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن سياسة الرعية كانت من شأن الأنبياء فى بني إسرائيل، نبى ٍ بعد نبي، ثم بيّن أنه لا نبي بعده وإنما خلفاء، إشارة منه إلى قيام الخلفاء مقامه صلى الله عليه وسلم فى سياسة الرعية وغيرها من واجبات الدين.
2 ــ عن جبير بن مُطعم رضى الله عنه قال أتَتِ النبىَّ صامرأةٌٌ فكلمته في شيء، فأمرها أن ترجع إليه، قالت: يارسول الله أرأيت إن جئت ولم أجِدْك ــ كأنها تريد الموت ــ قال (إن لم تجدينى فَأْتِي أبا بكر) رواه البخاري (حديث 7220). وفيه إشارة ضمنية إلى استخلاف أبي بكر، وإن كان الجمهور على أن خلافته انعقدت بإجماع الصحابة لابالنص. ويدل الحديث على قيام الخليفة في الأمة مقام النبي صلى الله عليه وسلم، إذ أحال النبيُّ صلى الله عليه وسلم المرأة على خليفته منمنممن بعده.
3 ــ وروى البخاري عن طارق بن شهاب عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال لوفد بُزاخة (تَتْبعون أذناب الإبل حتى يُرِيَ اللهُ خليفة نبيِّه صلى الله عليه وسلم والمهاجرين أمراً يعذرونكم به) (حديث 7221). ودلالته في تسمية أبي بكر ــ وهو الإمام ــ نفسه بخليفة النبي صلى الله عليه وسلم، وخليفة المرء هو من قام مقامه.
وقولنا قيام الأئمة مقام النبي صلى الله عليه وسلم في الأمة يشبه قولنا بقيام العلماء مقامه صلى الله عليه وسلم في الأمة للحديث (العلماء ورثة الأنبياء). فالأئمة يقومون مقامه صلى الله عليه وسلم في حراسة الدين وسياسة الدنيا، والعلماء يقومون مقامه في تبليغ الدين وتعليم الجاهل وإفتاء السائل. وليس لأحد بعده صلى الله عليه وسلم عصمة أو حق في التشريع.
******
المسألة الثانية: بيان مسئولية الإمام عن تعليم الأمة
يدل على هذا:(2/169)
1 ــ قول الله عز وجل (كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم يتلوا عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم مالم تكونوا تعلمون) البقرة 151.
دلت الآية على مسئولية النبي صلى الله عليه وسلم عن تعليم الأمة، وتدل أيضا على مسئولية الأئمة عن هذا لقيامهم مقام النبى صلى الله عليه وسلم في الأمة كما تقرر فى المسألة السابقة. وماقيل في هذه الآية يُقال في قوله تعالى (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة) النحل 125.
2 ــ قول النبي صلى الله عليه وسلم (ألا كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فالإمام الأعظم الذي على الناس راع وهو مسئول عن رعيته، والرجل راع على أهله وهو مسئول عن رعيته، والمرأة راعية على أهل بيت زوجها وولده وهى مسئولة عنهم، وعبدُ الرجل راع على مال سيده وهو مسئول عنه، ألا فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته) متفق عليه عن ابن عمر رضي الله عنهما، واللفظ للبخاري (حديث 7138).
فالحديث يدل على عموم مسئولية الإمام عن الرعية، ومنها مسئوليته عن تعليمهم، ويدل على هذا قول عمر بن عبد العزيز رضى الله عنه (لتفشُوا العلم، ولتجلسوا حتى يُعَلَّم مَن لا يعلم، فإن العلم لايهلك حتى يكون سِراً) رواه البخاري معلقا فى كتاب العلم من صحيحه.
3 ــ وقوله صلى الله عليه وسلم (مامن أمير يلي أمور المسلمين ثم لايجهد لهم وينصح لهم إلا لم يدخل معهم الجنة) رواه مسلم عن معقل بن يسار رضي الله عنه. ولاشك أن تعليم الرعية أمور دينهم يأتي على رأس النصيحة لهم.(2/170)
4 ــ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل حين أرسله إلى أهل اليمن (إنك تأتى قوماً من أهل الكتاب فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإن هم أطاعوا لذلك فأَعْلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لذلك فأَعْلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فتُرَدّ في فقرائهم، فإن هم أطاعوا لذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتّقِ دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب) متفق عليه واللفظ لمسلم. فقوله صلى الله عليه وسلم (فادعهم.... فأَعْلمهم....فأَعْلمهم....) يدل على أن تعليم الرعية من واجبات ولاة الأمور سواء علّموهم بأنفسهم أو أقاموا في الرعية من يقوم بذلك.
5 ــ ومن هنا قال الماوردي رحمه الله في واجبات الأئمة (الأول: حفظ الدين على أصوله المستقرة وماأجمع عليه سلف الأمة، فإن نجم مبتدع أو زاغ ذو شبهة عنه، أوضح له الحجّة وبيّن له الصواب وأخذه بما يلزمه من الحقوق والحدود، ليكون الدين محروساً من خلل والأمة ممنوعة من زلل). (الأحكام السلطانية) صـ 15.
******
المسألة الثالثة: تفصيل واجبات الإمام في تعليم الأمة
لن يكون الحديث هنا عن واجبات الإمام الشرعية كلها كنصب أئمة الصلوات، ونصب القضاة والمحتسبين، وإنما سيقتصر حديثنا هنا عن واجباته في تعليم المسلمين أمور دينهم، ومن هذه الواجبات: حفظ العلم وتدوينه، وإعداد طائفة من الأمة لتحصيل فروض الكفاية من العلم، ونصب المعلّمين لتعليم الرعية، وتصفّح أحوال المفتين والمعلمين، وإجراء الأرزاق على الفقهاء والمعلمين. كالتالى: ــ
1 ــ حفظ العلم وتدوينه:(2/171)
دلَّ قيام الأئمة بحفظ العلم وتدوينه على مسئوليتهم عن هذا الأمر فى كل جيل، وقد بدأ هذا الأمر بجمع الخليفة الأول أبي بكر رضى الله عنه للقرآن، ثم قيام الخليفة الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه بتوحيد روايته. ثم قيام الخليفة عمر بن عبد العزيز ــ بعد ذلك ــ بجمع السّنة وتدوينها. فهذه الأعمال من سُنن الخلفاء الراشدين المهديين وهى واجبة الاتباع.
أ ــ روى البخاري عن زيد بن ثابت رضى الله عنه قال: قال أبو بكر رضى الله عنه: إن عمر أتانى فقال إن القتل قد استحر يوم اليمامة بقراء القرآن، وإنى أخشى إن استحر القتل بالقراء بالمواطن فيذهب كثير من القرآن، وإنى أرى أن تأمر بجمع القرآن. قلت لعمر: كيف نفعل شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال عمر: هذا والله خيرٌ. فلم يزل عمر يراجعنى حتى شرح الله صدري لذلك ورأيت فى ذلك الذى رأى عمر. قال زيد قال أبو بكر: إنك رجلٌ شاب عاقل لانتهمك، وقد كنت تكتب الوحى لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتتبع القرآن فأجمعه. فوالله لو كلفُونى نقل جبل من الجبال ما كان أثقل على مما أمرنى به من جمع القرآن. قلت: كيف تفعلون شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: هو والله خير. فلم يزل أبو بكر يُراجعنى حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبى بكر وعمر رضى الله عنهما. فتتبعت القرآن أجمعه من العُسُب واللِّخاف وصدور الرجال، حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصارى لم أجدها مع أحد غيره (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ماعنتم)، حتى خاتمة براءة، فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله، ثم عند عمر حياته، ثم عند حفصة بنت عمر رضي الله عنه) أهـ (حديث 4986).(2/172)
ب ــ وروى البخارى عن أنس رضى الله عنه أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان، وكان يُغازى أهل الشام فى فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق، فأفزع حذيفة اختلافهم فى القراءة، فقال حذيفة لعثمان: ياأمير المؤمنين، أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى. فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلى إلينا بالصحف ننسخها فى المصاحف ثم نَرُدُّها إليك. فأرسلت بها حفصة إلى عثمان، فأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فنسخوها في المصاحف، وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت فى شئ من القرآن فاكتبوه بلسان قريش فإنما نزل بلسانهم، ففعلوا. حتى إذا نسخوا الصحف فى المصاحف ردّ عثمان الصحف إلى حفصة، فأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق) أ هـ (حديث 4987).
جـ ــ وروى البخاري أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى أبي بكر بن حزم (انظر ماكان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاكتبه، فإنى خِفتُ درُوس العلم وذهاب العلماء، ولاتقبل إلا حديث النبى صلى الله عليه وسلم). كتاب العلم بصحيح البخارى ــ باب كيف يُقبض العلم.
وأبو بكر بن حزم تابعي فقيه استعمله عمر بن عبد العزيز على إمرة المدينة وقضائها ولهذا كتب إليه، قاله ابن حجر وقال (يستفاد منه ابتداء تدوين الحديث النبوي، وكانوا قبل ذلك يعتمدون على الحفظ فلما خاف عمر بن عبد العزيز ــ وكان على رأس المائة الأولى ـ من ذهاب العلم بموت العلماء رأى أن في تدوينه ضبطاً له وإبقاء. وقد روى أبو نُعيم في تاريخ أصبهان هذه القصة بلفظ « كتب عمر بن عبد العزيز إلى الآفاق انظروا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجمعوه ») (فتح الباري) جـ 1 صـ 194 ــ 195.(2/173)
فهذا كله يبيّن ما يجب أن يقوم به الأئمة فى حفظ العلم وتدوينه إذ يدخل هذا في واجباتهم وأولها ــ كما قال الماوردي ــ (حفظ الدين على أصوله المستقرة).
2 ــ إعداد طائفة من الأمة لتحصيل فروض الكفاية من العلم.
يدل قول الله تعالى (فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لاتعلمون) ـ النحل 43 ـ بدلالة إشارته على وجوب إيجاد هذه الطائفة (أهل الذكر) في الأمة لتعليم المسلمين، ولما كان الإمام مسئولا عن تعليم الرعية فهو أول المخاطبين بهذا الواجب.
ونفس الاستدلال يقال في قوله تعالى (وماكان المؤمنون لينفروا كافة، فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا فى الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون) التوبة 122.
3 ــ نصب المُعلِّمين لتعليم الرعية.
ويدل على أن هذا من واجبات الإمام.
أ ــ إرسال النبى صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير وابن أم مكتوم رضى الله عنهما لتعليم من أسلم من أهل يثرب (المدينة) بعد بيعة العقبة وقبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إليها. فعن البراء رضى الله عنه قال (أول من قَدِمَ علينا من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير وابن أم مكتوم فجعلا يُقْرِئاننا القرآن) الحديث، رواه البخارى (4941).(2/174)
ب ــ ومثله مارواه مسلم عن أنس رضى الله عنه قال: جاء ناسٌ إلى النبى صلى الله عليه وسلم فقالوا أن ابعث معنا رجالا يعلِّمونا القرآن والسنة، فبعث إليهم سبعين رجلا من الأنصار يقال لهم القُرَّاء فيهم خالي حَرَامٌ، يقرءون القرآن ويتدراسون بالليل يتعلمون، وكانوا بالنهار يجيئون بالماء فيضعونه في المسجد ويحتطبون فيبيعونه ويشترون به الطعام لأهل الصُّفة وللفقراء، فبعثهم النبى صلى الله عليه وسلم إليهم فعَرَضوا لهم فقتلوهم قبل أن يبلغوا المكان، فقالوا اللهم بلِّغ عنا نبيّنا أنا قد لقيناك فرضينا عنك ورضيت عنا، قال: وأتى رَجُلٌ حَراماً خال أنس من خلِفه فطعنه بُرمح حتى أَنْفَذهُ فقال حرامٌ: فُزْتُ وربِّ الكعبة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه (إن إخوانكم قد قُتِلوا، وإنهم قالوا: اللهم بلِّغ عنا نبينا أن قد لقِيناك فرضينا عنك ورضيت عنّا) متفق عليه، واللفظ لمسلم.
جـ ــ وروى أحمد عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُشْغَل فإذا قِدم رجلٌ مهاجر على رسول الله صلى الله عليه وسلم دفعه إلى رجل مِنا يعلمه القرآن) الحديث (المسند 5/324)
د ــ وأورد البخاري في كتاب العلم من صحيحه، باب (عِظة الإمام النساء وتعليمهن) وروى فيه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أشهد على النبي صلى الله عليه وسلم خرج ومعه بلال فظن أنه لم يُسْمع فوعظهن وأمرهن بالصدقة، فجعلت المرأة تُلقى القُرْط والخاتم، وبلال يأخذ فى طرف ثوبه. (حديث 98) قال ابن حجر (قوله « باب عظة الإمام النساء » نبّه بهذه الترجمة على أن ما سبق من الندب إلى تعليم الأهل ليس مختصاً بأهلهن، بل ذلك مندوب للإمام الأعظم ومن ينوب عنه) (فتح الباري) جـ 1 صـ 192.(2/175)
هـ ــ وقال ابن حزم رحمه الله (وكل من كان مِنَّا فى بادية لايجد فيها من يعلِّمه شرائع دينه ففرض على جميعهم من رجل أو امرأة أن يَرْحَلوا إلى مكان يجدون فيه فقيها يعلمهم دينهم، أو أن يُرَحِّلوا إلى أنفسهم فقيها يعلمهم أمور دينهم. وإن كان الإمام يعلم ذلك فَلْيُُرَحِّل إليهم فقيهاً يعلمهم، قال الله تعالى «ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة»، وبعث عليه السلام معاذاً وأبا موسى إلى اليمن، وأباعبيدة إلى البحرين، معلِّمين للناس أمور دينهم، فَفَرْضُ ذلك على الأئمة) (الإحكام) جـ 5 صـ 118.
و ــ وقال ابن حزم أيضا ــ بعد أن وَصَف فرض العين من العلم ــ (ويُجْبر الإمام أزواج النساء وسادات الأرقاء على تعليمهم ماذكرنا، إما بأنفسهم وإما بالإباحة لهم لقاء من يعلمهم، وفرض على الإمام أن يأخذ الناس بذلك، وأن يرتب أقواما لتعليم الجُهَّال) الإحكام) جـ 5 صـ 122. وقال الخطيب البغدادي كلاما قريبا من هذا في (الفقيه والمتفقه) 1/ 46.
فهذا بعض مايدل على واجب الإمام في نصب المعلّمين لتعليم الرعية.
4 ــ تصفّح أحوال المفتين والمعلّمين.
روى ابن عبدالبر عن مالك رحمهما الله قال: أخبرني رجل أنه دخل على ربيعة بن أبي عبدالرحمن فوجده يبكي، فقال له ما يبكيك وارتاع لبكائه، فقال له: أمصيبة دخلت عليك ؟. فقال: لا، ولكن استُفتي مَن لا علم له وظهر في الإسلام أمر عظيم، قال ربيعة: ولَبَعض من يُفتي ههنا أحقّ بالسجن من السُّرَّاق. أهـ (جامع بيان العلم) جـ 2 صـ 201.
وربيعة هو المعروف بربيعة الرأي من التابعين بالمدينة، مات سنة ست وثلاثين ومائة هجرية، وعنه أخذ مالك الفقه. فإذا كان ربيعة رحمه الله قال هذا في زمانه فكيف بزماننا ؟.(2/176)
وقال العلاّمة أحمد بن حمدان الحنبلي رحمه الله (ت 695 هـ): (ورأى رجل ربيعة بن عبدالرحمن يبكي فقال: ما يُبكيك ؟ فقال: اسُتفتي مَن لا علم له وظهر في الإسلام أمر عظيم، وقال: ولَبَعض من يفتي ها هنا أحق بالسجن من السراق. قلت: فكيف لو رأى زماننا وإقدام مَن لا علم عنده على الفتيا مع قلة خبرته وسوء سيرته وشؤم سريرته، وإنما قصده السمعة والرياء ومماثلة الفضلاء والنبلاء والمشهورين المستورين، والعلماء الراسخين، والمتبحرين السابقين، ومع هذا فهم يُنهون فلا ينتهون، ويُنَبَّهون فلا ينتبهون، قد أملي لهم بانعكاف الجهال عليهم، وتركوا ما لهم في ذلك وما عليهم، فمن أقدم على ما ليس له أهلا من فتيا أو قضاء أو تدريس أثم. فإن أكثر منه وأصرّ واستمر فسق، ولم يحل قبول قوله ولا فتياه ولا قضاؤه، هذا حكم دين الإسلام والسلام. ولا اعتبار لمن خالف هذا الصواب فإنا لله وإنا إليه راجعون.) أهـ (صفة الفتوى) لابن حمدان، ط المكتب الإسلامي 1404 هـ، صـ 11 ــ 12.
مما سبق يتبيّن لك خطر الفتوى والتعليم، وخطر تصدي غير المؤهلين لها لما يترتب على هذا من الفساد العظيم وإشاعة الضلالات، وترى هذا كثيراً في هذا الزمان ممن يتسمّون بالعلماء وليسوا منهم، وترى هذا في الفتاوى الباطلة والاجتهادات الفاسدة التي تملأ الصحف والكتب هذه الأيام، (ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم، يوم يقوم الناس لرب العالمين). ولما كان من أول واجبات الإمام حفظ الدين على أصوله المستقرة، كان لزاما عليه تصفح أحوال المفتين والمعلِّمين، ليقر من هو أهل لهذا، ويمنع من ليس أهلا. وإليك أقوال العلماء التي تبيّن هذا:(2/177)
قال القاضي أبو يعلى رحمه الله: (وأما جلوس العلماء والفقهاء في الجوامع والمساجد والتصدي للتدريس والفتيا، فعلى كل واحد منهم زاجر من نفسه أن لايتصدى لما ليس له بأهل، فيضل به المستهدي، ويزلّ به المسترشد، وقد جاء الأثر «أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على جراثيم جهنم».
وقد قال أحمد في رواية صالح «ينبغي للرجل إذا حمل نفسه على الفتيا أن يكون عالما بوجوه القرآن، عالما بالأسانيد الصحيحة، عالما بالسنن». وقال في رواية حنبل «ينبغي لمن أفتى أن يكون عالما بقول من تقدم، وإلا فلا يفتي».
وللسلطان فيهم من النظر مايوجبه الاحتياط من إنكار أو إقرار. ــ إلى أن قال ــ وإذا تنازع أهل المذاهب المختلفة فيما يسوغ فيه الاجتهاد لم يعترض عليهم فيه، إلا أن يحدث بينهم تنافر فيُكَفوا عنه.
وإن حدث منازع ارتكب مالا يسوغ في الاجتهاد كُف عنه ومُنع منه. فإن أقام عليه وتظاهر باستغواء من يدعو إليه لزم السلطان أن يحسمه بزواجر السلطنة، ليبين ظهور بدعته، ويوضح بدلائل الشرع فساد مقالته، فإن لكل بدعة ٍ مستمعاً، ولكل مستغو ٍ متبعاً.) أهـ (الأحكام السلطانية لأبي يعلى، صـ 226 ــ 227، ط دار الفكر 1394 هـ.
وقال الماوردي رحمه الله مثله إلى قوله (ولكل مستغو ٍ متبعاً) وأضاف الماوردي (وإذا تظاهر بالصلاح من استبطن ماسواه تُرك، وإذا تظاهر بالعلم من عَرِىَ منه هُتِك، لأن الداعي إلى صلاحٍ ليس فيه مُصْلِحٌ، والداعي إلى علم ٍ ليس فيه مُضِلٌ) أهـ (الأحكام السلطانية) للماوردي، صـ 189، ط الحلبي 1393 هـ.(2/178)
وقال النووي رحمه الله (قال الخطيب: ينبغي للإمام أن يتصفح أحوال المفتين فمن صلح للفتيا أقرّه ومن لا يصلح منعه ونهاه أن يعود وتواعده بالعقوبة إن عاد وطريق الإمام إلى معرفة من يصلح للفتوى أن يسأل علماء وقته ويعتمد أخبار الموثوق بهم. ثم روى بإسناده عن مالك رحمه الله قال: ما أفتيت حتى شهد لي سبعون أني أهل لذلك. وفي رواية ما أفتيت حتى سألت مَن هو أعلم مني هل يراني موضعا لذلك قال مالك ولاينبغي لرجل أن يرى نفسه أهلا لشيء حتى يسأل مَن هو أعلم منه) أهـ (المجموع) جـ 1 صـ 41. وهذا الكلام الذي نقله النووي عن الخطيب البغدادي موجود بكتاب الخطيب (الفقيه والمتفقه) جـ 2 صـ 153 ــ 154.
وقال ابن القيم رحمه الله (من أفتى الناس وليس بأهل للفتوى فهو آثم عاص ٍ، ومن أقره من وُلاَة الأمور على ذلك فهو آثم أيضا.
قال أبو الفرج ابن الجوزي رحمه الله: ويلزم ولي الأمر منعهم كما فعل بنو أمية، وهؤلاء بمنزلة مَنْ يدل الركب، وليس له علم الطريق، وبمنزلة الأعمى الذي يرشد الناس إلى القبلة، وبمنزلة مَن لا معرفة له بالطب وهو يطبُّ الناس، بل هو أسوأ حالا من هؤلاء كلهم، وإذا تعين على ولي الأمر منع مَنْ لم يُحسن التطبُّب من مُدَاواة المرضى، فكيف بمن لم يعرف الكتاب والسنة ولم يتفقه في الدين ؟.
وكان شيخنا رضي الله عنه شديد الإنكار على هؤلاء، فسمعته يقول: قال لي بعض هؤلاء: أجُعِلْتَ محتسباً على الفتوى ؟ فقلت له: يكون على الخبَّازين والطباخين محتسب ولا يكون على الفتوى محتسب ؟) أهـ (اعلام الموقعين) جـ 4 صـ 217.(2/179)
فهذا كلام العلماء رحمهم الله في وجوب تصفح الإمام لأحوال المفتين والمعلمِّين، أما في زماننا هذا، حيث لا إمام، فإن هذا الواجب يتعين على كل مؤهل له، لأنه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو من فروض الكفاية ويتعيّن على المؤهَّل له خاصة إذا لم يقم به غيره. ومازال العلماء من لدن الصحابة رضي الله عنهم وإلى يومنا هذا يردون على المخالف في الأصول والفروع، ويبيِّنون خطأ المخطيء وزيغ الزائغ، مصداقا لقوله صلى الله عليه وسلم (يحمل هذا العلم من كل خلف ٍ عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين).
5 ــ إجراء الأرزاق على الفقهاء والمعلمِّين.
قال الخطيب البغدادي رحمه الله (ذِكر مايلزم الإمام أن يفرض للفقهاء ومن نَصَبَ نفسه للفتوى من الرزق والعطاء) قال (لايسوغ للمفتي أن يأخذ الأجرة من أعيان مَن يفتيه كالحاكم الذي لايجوز له أن يأخذ الرزق من أعيان من يحكم له وعليه.
وعلى الإمام أن يفرض لمن نصب نفسه لتدريس الفقه والفتوى في الأحكام مايُغنيه عن الاحتراف والتكسُّب، ويجعل ذلك في بيت مال المسلمين.
فإن لم يكن هناك بيت مال أو لم يفرض الإمام للمفتي شيئا واجتمع أهله على أن يجعلوا له من أموالهم رزقا ليتفرغ لفتاويهم وكتابات نوازلهم ساغ ذلك.
ثم روى الخطيب بإسناده قال كتب عمر بن عبدالعزيز إلى والي حمص: انظر إلى القوم الذين نصبوا أنفسهم للفقه وحبسوها في المسجد عن طلب الدنيا فأعط كل رجل منهم مائة دينار يستعينون بها على ماهم عليه من بيت مال المسلمين حين يأتيك كتابي هذا، فإن خير الخير أعجله والسلام عليك.) أهـ (الفقيه والمتفقه) جـ 2 صـ 164.(2/180)
وبيان هذا: أن فروض الكفاية كالقضاء والفتيا والتعليم واجبة على جماعة المسلمين على اختلاف في الواجب على كل ٍ منهم لتحقيق الكفاية. فالفتيا فرض كفاية على مجموع المسلمين وليس كلهم مؤهلا لها، فالواجب على المؤهلين أن يقوموا بذلك بأنفسهم، ثم الواجب على بقية المسلمين أن يعينوا هؤلاء المؤهلين على التصدِّي لما هم له أهل. وقد ذكرنا هذا المعنى ــ عند كلامنا عن فرض الكفاية من العلم في الباب الثاني ــ نقلا عن الشاطبي من (الموافقات) جـ 1 صـ 176 ــ 179. ومن إعانة الكل للبعض المؤهل إجراء الأرزاق عليهم ليتمكنوا من التفرغ لما هم له أهل. ويكون هذا من بيت مال المسلمين، فإن لم يوجد أو تَعَذّر، وتطوع بعض المسلمين بكفالة هؤلاء المتفرغين للفتيا والتعليم ساغ هذا كما قال الخطيب البغدادي رحمه الله.
وأشار الشاطبي إلى هذا في مسألة (من كُلِّف بمصالح غيره وجب على المسلمين القيام بمصالحه، وإنما يكون ذلك من بيت المال ونحوه)، انظر (الموافقات) جـ 2 صـ 366 ــ 367.
ودليل هذا من النصوص
أ ــ إجراء النبي صلى الله عليه وسلم الرزق على عماله، قال صلى الله عليه وسلم (من استعملناه على عمل فرزقناه رزقا، فما أخذ بعد ذلك فهو غُلُول) رواه أبو داود بإسناد صحيح عن بريدة رضي الله عنه.(2/181)
ب ــ ودليله أيضا صنيع الصحابة مع أبي بكر الصديق لما استُخلِف رضي الله عنهم. روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: (لما استُخلِف أبو بكر الصديق قال: لقد علم قومي أن حرفتي لم تكن تعجزُ عن مَؤُنة أهلي، وشُغِلتُ بأمر المسلمين، فسيأكل آل أبي بكر من هذا المال وأحَترِفُ للمسلمين فيه) (حديث 2070). وقال ابن حجر في شرحه (في قصة أبي بكر أن القَدْر الذي كان يتناوله فُرِضَ له باتفاق من الصحابة، فروى ابن سعد بإسناد مرسل رجاله ثقات، قال «لما استُخلِف أبو بكر أصبح غاديا إلى السوق على رأسه أثواب يتجر بها، فلقيه عمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح فقال: كيف تصنع هذا وقد ولِّيت أمر المسلمين ؟، قال: فمن أين أطعم عيالي ؟، قالوا: نفرض لك، ففرضوا له كل يوم ٍ شطر شاة») (فتح الباري) جـ 4 صـ 305.
وبعد، فتلك هى أهم الواجبات التي على الإمام في رعاية العلم وأهله، وفي تعليمه للرعية ما يجب أن يعلموه من أمور دينهم، فقارن هذا بواقع المسلمين اليوم ؟ !.
******
المسألة الرابعة: ما يجب على ولاة الأمور ــ غير الإمام ــ من هذه الواجبات
لا فرق بين مايجب على الإمام وما يجب على غيره من ولاة الأمور في هذا الشأن، فكل من وَلِيَ شأن طائفة من المسلمين ولاية عامة، قَلَّت هذه الطائفة أم كثرت، فقد وجب عليه أن يعلّمهم مايجب عليهم من أمور دينهم إما بنفسه إن أمكنه ذلك وإما بأن يرتب لهم من يعلمهم، أو يدلهم على من يعلّمهم وييسِّر لهم سُبل التعلم ويحضهم عليه.
ودليل وجوب هذا على ولاة الأمور عموم قوله صلى الله عليه وسلم (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته) الحديث متفق عليه.(2/182)
وفي تعريف ولاة الأمور قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (و (أولوا الأمر) أصحاب الأمر وذووه، وهم الذين يأمرون الناس، وذلك يشترك فيه أهل اليد والقدرة وأهل العلم والكلام، فلهذا كان أولو الأمر صنفين: العلماء، والأمراء. فإذا صلحوا صلح الناس، وإذا فسدوا فسد الناس، كما قال أبو بكرالصديق رضي الله عنه للأحمسية لما سألته: ما بقاؤنا على هذا الأمر؟ قال: ما استقامت لكم أئمتكم. ويدخل فيهم الملوك والمشايخ وأهل الديوان، وكل من كان متبوعا فإنه من أولي الأمر، وعلى كل واحد من هؤلاء أن يأمر بما أمر الله به، وينهى عما نهى عنه، وعلى كل واحد ممن عليه طاعته أن يطيعه في طاعة الله، ولايطيعه في معصية الله) (مجموع الفتاوي) جـ28 صـ 170.
وحديث الأحمسية (امرأة من أحمس) رواه البخاري، وفيه قالت المرأة: مابقاؤنا على هذا الأمر الصالح الذي جاء الله به بعد الجاهلية ؟ قال أبو بكر: بقاؤكم عليه مااستقامت بكم أئمتكم، قالت: وما الأئمة ؟، قال: أما كان لقومك رءوس وأشراف يأمرونهم فيطيعونهم ؟، قالت: بلى، قال: فهم أولئك على الناس. الحديث (3834).
فكل متبوع مطاع فهو من ولاة الأمور، ويجب عليه تعليم أتباعه مايلزمهم من أمور دينهم. ويدخل في ولاة الأمور: شيوخ القبائل وأمراء الجماعات الإسلامية المختلفة ونحوهم.
******
المسألة الخامسة: تقصير الأئمة في أداء واجبهم
لا يسقط عن المسلمين واجبهم
إذا كنا قد ذكرنا في هذا الفصل أن تعليم الرعية واجب على الأئمة بالكيفية التي أشرنا إليها، فإن هذا لايعني أن تقصير الأئمة وولاة الأمور في أداء واجبهم يُسقط عن المسلمين وجوب طلب العلم، إذ إن هذا واجب على كل فريق ٍ استقلالا، وتقصير أي فريق في أداء واجبه يوقعه في الإثم ولايُسقط الواجب عن الفريق الآخر.(2/183)
حتى أنه لو قام الأئمة بعكس الواجب عليهم، أي قاموا بتضليل الرعية وصدِّهم عن سبيل الله بدلا من تعليمهم الهدى ودين الحق، لَمَا كان هذا عذراً يرفع الحرج عن الرعية طالما كان بإمكانهم طلب الحق ومعرفته، ودليل هذا: ــ
قول الله عز وجل (ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضُهم إلى بعض القول، يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين، وقال الذين استكبروا للذين استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدي بعد إذ جاءكم، بل كنتم مجرمين، وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مَكْرُ الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أنداداً وأسرّوا الندامة لما رأوا العذاب وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا هل يجزون إلا ماكانوا يعملون) سبأ 31 ـ 33
بيَّن الله تعالى في هذه الآيات أنه لم يعذر الأتباع بل حكم عليهم بالكفر والخلود فى الجحيم.
رغم أنهم كانوا مستضعفين ووصفهم الله بذلك (يقول الذين استضعفوا).
ورغم التضليل المستمر الذى كان يقوم به القادة والكبراء (بل مكر الليل والنهار).
ورغم أن القادة والكبراء كانوا يأمرونهم بالكفر ويزينونه لهم (إذ تأمروننا أن نكفر).
رغم هذا كله لم يعذر الله الأتباع إذ قد جاءهم الهدى وعلموا أنه بخلاف ماعليه قادتهم، فكان واجبا على الأتباع تحرى الحق وطلبه وإن كان أهله موصوفين عندهم بأقبح النعوت والصفات فقد كان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مستضعفين فى أقوامهم كما قال تعالى ( وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن فى ملتنا) إبراهيم 13، وكان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يوصفون من أقوامهم بأقبح الصفات كما قال تعالى (كذلك ماأتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون) الذاريات 52، وقال تعالى (ياحسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزءون) يس 30، ورغم هذا فقد قامت الحجة بالرسل عليهم الصلاة والسلام خير قيام.(2/184)
قال ابن كثير رحمه الله فى تفسير الآيات السابقة من سورة سبأ (قال الله عز وجل متهددا لهم ومتوعدا ومخبراً عن مواقفهم الذليلة بين يديه في حال تخاصمهم وتحاجهم (يرجع بعضهم إلى بعض القول يقول الذين استضعفوا) وهم الأتباع (للذين استكبروا) منهم وهم قادتهم وسادتهم (لولا أنتم لكنا مؤمنين) أى لولا أنتم تصدونا لكنا اتبعنا الرسل وآمنا بما جاءونا به، فقال لهم القادة والسادة وهم الذين استكبروا (أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم ؟) أى نحن فعلنا بكم أكثر من أنا دعوناكم فاتبعتمونا من غير دليل ولابرهان وخالفتم الأدلة والبراهين والحجج التي جاءت بها الرسل لشهوتكم واختياركم لذلك ولهذا قالوا (بل كنتم مجرمين، وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار) أى بل كنتم تمكرون بنا ليلا ونهاراً وتغرونا وتمنُّونا وتخبرونا أنّا على هدى وأنّا على شيء، فإذا جميع ذلك باطل وكذب ومِين. قال قتادة وابن زيد (بل مكر الليل والنهار) يقول بل مكركم بالليل والنهار، وكذا قال مالك عن زيد بن أسلم مكركم بالليل والنهار (إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أنداداً) أى نظراء وآلهة معه وتقيموا لنا شبها وأشياء من المحال تُضِلونا بها (وأسروا الندامة لما رأوا العذاب) أى الجميع من السادة والأتباع كلٌُ ندم على ماسلف منه (وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا) وهى السلاسل التى تجمع أيديهم مع أعناقهم (هل يجزون إلا ماكانوا يعملون) أى إنما نجازيكم بأعمالكم كل بحسبه، للقادة عذاب بحسبهم، وللأتباع بحسبهم) (تفسير ابن كثير) جـ 3 صـ 539.
والمقصود هنا بيان أن تقصير الأئمة في القيام بواجبهم في تعليم الرعية لايُسقط عن الرعية وجوب طلب العلم إذ كان طلبه فرض عين على كل مسلم ــ كما سبق في الباب الثاني ــ وإن كان واجب الأئمة تيسير طلب العلم على الرعية، فإذا لم يقوموا بهذا شقَّ الأمر على الرعية ولم يَسقُط عنهم الواجب، والأجر على قدر النَّصب.(2/185)
كذلك فإنه إذا قام الأئمة بتضليل الرعية كان عليهم وزر الرعية من غير أن يُسقط هذا وِزْر الرعية، لقوله صلى الله عليه وسلم (ومن دعا إلى ضلالة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده لاينقص ذلك من أوزارهم شيئا) الحديث رواه مسلم.
والخلاصة أن عوام المسلمين في عصرنا هذا لايُعذرون في القعود عن طلب العلم الواجب بسبب غياب إمام المسلمين أو بسبب تضليل الحكام المفسدين للرعية بمختلف الوسائل. وبالله تعالى التوفيق.
الفصل الثاني
واجب العلماء في تبليغ العلم
نذكر في هذا الفصل ــ إن شاء الله ــ أربع مسائل:
1 ــ بيان أن تبليغ العلم واجب على العلماء.
2 ــ المخاطبون بوجوب تبليغ العلم.
3 ــ أساليب تبليغ العلماء للعلم.
4 ــ تقصير العلماء في تبليغ العلم لايُسقط عن العامة وجوب طلبه.
******
المسألة الأولى: بيان أن تبليغ العلم واجب على العلماء
ويدلّ على هذا :
1 ــ قول الله عز وجل (ياأيها الرسول بلِّغ ماأنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلّغت رسالته) المائدة 67. وقال النبى صلى الله عليه وسلم (إن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يُوَرِّثُوا ديناراً ولا درهما، وإنما ورَّثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظٍ وافر) الحديث رواه أبوداود والترمذي وصححه ابن حبان.
دلّت الآية على وجوب البلاغ على النبي صلى الله عليه وسلم، ودلّ الحديث على أن العلماء ورثة علم النبى صلى الله عليه وسلم. فيجب عليهم من البلاغ ماوجب عليه، ولقوله صلى الله عليه وسلم (ليبلِّغ الشاهد الغائب) الحديث متفق عليه. والعلماء شهود علم النبي صلى الله عليه وسلم في كل عصر فوجب عليهم البلاغ.
2 ــ قول الله تعالى (قل تعالَوْا أتل ماحرَّم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا) الآيات، الأنعام 151 ــ 153.(2/186)
قال القرطبي رحمه الله (هذه الآية أمر من الله تعالى لنبيِّه عليه السلام بأن يدعو جميع الخلق إلى سماع تلاوة ماحرّم الله. وهكذا يجب على من بعده من العلماء أن يبلِّغوا الناس ويبيِّنوا لهم ماحرّم الله عليهم مما حَلّ) أ هـ (تفسير القرطبى، 7/ 131).
3 ــ قول الله عز وجل (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيِّنُنه للناس ولاتكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا، فبئس مايشترون) آل عمران 187.
الآية تدل على وجوب تبليغ العلماء للعلم وبيانه وإظهاره، بالميثاق الذى أخذه الله على أهل العلم وأكّده بتوكيدين باللام والنون (لتبيننه).
قال القرطبي رحمه الله (قوله تعالى «وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب»، وهذا متصل بذكر اليهود، فإنهم أُمِروا بالإيمان بمحمد عليه السلام وبيان أمره، فكتموا نعته، فالآية توبيخ لهم، ثم مع ذلك هو خبر عام لهم ولغيرهم. قال الحسن وقتادة: هى فى كل مَن أوتى عِلم شيء من الكتاب، فمن علم شيئا فليُعلِّمه وإياكم وكتمان العلم فإنه هلكة. وقال محمد بن كعب: لايحلّ لعالم أن يسكت على علمه ولاللجاهل أن يسكت على جهله) أ هـ (تفسير القرطبي، 4/ 304).
4 ــ قول الله عز وجل (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البيِّنات والهدى من بعد ما بيَّناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون) البقرة 159.(2/187)
قال القرطبي رحمه الله (أخبَرَ الله تعالى أن الذي يكتم ماأنزل الله من البينات والهدى ملعون. واختلفوا فى المراد بذلك، فقيل: اليهود ورهبان النصارى الذين كتموا أمر محمد صلى الله عليه وسلم، وقد كتم اليهود أمر الرجم. وقيل: كل من كتم الحق، فهى عامة في كل من كتم علماً من دين الله يُحتاج إلى بَثِّه ــ إلى أن قال ــ وبها استدل العلماء على وجوب تبليغ العلم الحق، وتبيان العلم على الجملة، دون أخذ الأجرة عليه، إذ لايستحق الأجرة على ماعليه فِعله، كما لايستحق الأجرة على الإسلام) أهـ (تفسير القرطبى، 2/ 184 ــ 185).
ويدل على صحة الاستدلال بهذه الآية على وجوب تبليغ العلم وتحريم كتمانه، وأن العبرة بعموم اللفظ لابخصوص السبب: استدلال الصحابة رضي الله عنهم بها كما في الأحاديث التالية:
5 ــ روى البخاري رحمه الله بإسناده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: إن الناس يقولون: أكثرَ أبو هريرة، ولولا آيتان في كتاب الله ما حدَّثت حديثا، ثم يتلو «إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات ــ إلى أن قال ــ الرحيم».) الحديث (رقم 118).
قال ابن حجر رحمه الله: (قوله «أكثر أبو هريرة» أى من الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما صرّح به المصنف فى البيوع ــ إلى قوله «ولولا آيتان»........ ومعناه: لولا أن الله ذمَّ الكاتمين للعلم ماحدَّث أصلا، لكن لما كان الكتمان حراما وجب الإظهار، فلهذا حصلت الكثرة لكثرة ماعنده) أ هـ (فتح الباري، 1/ 213 ــ 214).
6 ــ وروى البخاري أن عثمان رضي الله عنه توضأ ثم قال: ألا أحدثكم حديثا لولا آية ماحدثتكموه؟. سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول (لايتوضأ رجلٌ يُحِسنُ وضوءه ويصلي الصلاة إلا غفِرَ له مابينه وبين الصلاة حتى يصلِّيها)، قال عروة بن الزبير ــ من رجال سند الحديث ـ: الآية (إن الذين يكتمون ماأنزلنا من البينات) أهـ (حديث 160).(2/188)
قال ابن حجر رحمه الله (قوله «قال عروة: الآية: إن الذين يكتمون ماأنزلنا» يعنى الآية التى في البقرة إلى قوله «اللاعنون» كما صرَّح به مسلم. ومراد عثمان رضي الله عنه أن هذه الآية تُحرِّض على التبليغ، وهى وإن نزلت فى أهل الكتاب لكن العبرة بعموم اللفظ، وقد تقدم نحو ذلك لأبي هريرة في كتاب العلم، وإنما كان عثمان يرى ترك تبليغهم ذلك ــ لولا الآية المذكورة ــ خشية عليهم من الاغترار، والله أعلم) أ هـ (فتح الباري، 1/ 261).
7 ــ وقال صلى الله عليه وسلم (من سُئل عن علم يعلمه فكتمه، أُلجم يوم القيامة بلجام من نار) رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة عن أبي هريرة، وقال الترمذي: حديث حسن، وصححه ابن حبان.
8 ــ وقال البخارى رحمه الله (قال أبو ذر رضى الله عنه: لو وضعتم الصَّمْصَامة على هذه ــ وأشار إلى قفاه ــ ثم ظننت أنى أنْفذُ كلمة ً سمعتها من النبى صلى الله عليه وسلم قبل أن تُجيزوا عَلَىَّ لأنفذتها) أهـ. هكذا رواه البخارى معلَّقا فى كتاب العلم من صحيحه فى باب (العلم قبل القول والعمل).
ومعنى (الصمصامة) أى السيف الصارم الذى لايثنى، ومعنى (أُنفذ) أى أُمِضى وأبلِّغ، ومعنى (تُُجيزوا) أى تكملوا قتلى. وفى الأثر: شدة حرص العالم على تبليغ العلم.(2/189)
قال ابن حجر في شرحه (قوله «قال أبو ذر الخ» هذا التعليق رويناه موصولا فى مسند الدَّارمي وغيره من طريق الأوزاعى: حدثني أبو كثير ــ يعني مالك بن مرثد ــ عن أبيه قال: أتيت أبا ذر وهو جالس عند الجمرة الوسطى، وقد اجتمع عليه الناس يستفتونه، فأتاه رجل فوقف عليه ثم قال: ألم تُنه عن الفتيا ؟ فرفع رأسه اليه فقال: أرقيب أنت على ؟ لو وضعتم. فذكر مثله. ورويناه في الحلية من هذا الوجه، وبين أن الذى خاطبه رجل من قريش، وأن الذى نهاه عن الفتيا عثمان رضي الله عنه. وكان سبب ذلك أنه كان بالشام فاختلف مع معاوية فى تأويل قوله تعالى (والذين يكنزون الذهب والفضة) فقال معاوية: نزلت فى أهل الكتاب خاصة، وقال أبوذر: نزلت فيهم وفينا. فكتب معاوية إلى عثمان، فأرسل إلى أبى ذر، فحصلت منازعة أدت إلى انتقال أبى ذر عن المدينة فسكن الربذة ــ بفتح الراء والموحدة والذال المعجمة ــ إلى أن مات، رواه النسائى. وفيه دليل على أن أبا ذر كان لا يرى بطاعة الإمام إذا نهاه عن الفتيا، لأنه كان يرى أن ذلك واجب عليه لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتبليغ عنه كما تقدم، ولعله أيضا سمع الوعيد فى حق من كتم علما يعلمه ــ إلى أن قال ــ وفيه الحثّ على تعليم العلم واحتمال المشقّة فيه والصبر على الأذى طلباً للثواب) (فتح البارى) جـ 1 صـ 161.
والأدلة فى وجوب تبليغ العلم وتحريم كتمه كثيرة فنكتفي بما سبق.
******
المسألة الثانية: المخاطبون بوجوب تبليغ العلم
يبلّغ العلم خمسة:
1 ــ العالم: المتصدى للتدريس والتعليم والتحديث والوعظ.
2 ــ المفتي: المتصدى لإفتاء الناس وإجابة أسئلتهم بإخبارهم بحكم الله فيها.
3 ــ القاضي: المتصدى للحكم بين الناس، يبلِّغ العلم سواء في موعظة الخصوم أو في الحكم بينهم بإخبارهم بحكم الله وإلزامهم به.(2/190)
4 ــ المحتسب: المتصدى للأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، فإن الأمر بالمعروف موعظة وتعليم، والنهي عن المنكر أول مراتبه التعريف.
5 ــ العامي: عليه أن يبلّغ ما يعلمه من العلم، خاصة إذا احتيج إليه.
وقد تجتمع الوظائف الأربع الأولى في رجل واحد، كما أن الحِسْبة واجبة على كل هؤلاء لقولهص (من رأى منكم منكراً فليغيره) الحديث رواه مسلم.
******
المسألة الثالثة: أساليب تبليغ العلماء للعلم
يُبلِّغ العالم ماعنده من العلم بإحدى ثلاث طرق: إما أن يبتديء الناس بما عنده من علم، وإما أن يعرضوا عليه ما عندهم من العلم فيُقره أو يُصَوِّبه، وإما أن يجيبهم إذا سألوه.
الطريقة الأولى: ابتداء العالم بالبلاغ
وهذا هو الأصل، ونذكر أدلته ثم صوره.
1 ــ أدلة وجوب ابتداء العالم الناس بالبلاغ
أ ــ قول الله عز وجل (قل تعالوا أتل ما حرّم ربكم عليكم) الأنعام 151، وقد ذكرنا قول القرطبي في تفسيرها.
ب ــ وقوله تعالى (ياأيها الرسول بلّغ ماأنزل إليك من ربك) المائدة 67.
جـ ــ وقوله تعالى (وأما بنعمة ربك فحدِّث) الضحى 11.
د ــ قوله تعالى (وما كان المؤمنون لينفروا كافَّة، فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا فى الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون) التوبة 122، وفي هذه الآية أوجب الله على الطائفة التى تفقهت إنذار قومها.(2/191)
هـ ــ وقد كان غالب حال النبيص فى البلاغ هو ابتداؤه الناس بتبليغ العلم. وأخرج ابن عبد البر رحمه الله في كتابه (جامع بيان العلم): باب (في ابتداء العالم جلساءه بالفائدة وقوله سلونى، وحرصهم على أن يؤخذ ما عندهم) وروى فيه بإسناده قول رسول الله صلى الله عليه وسلم (خذوا عنِّى، خذوا عنِّى قد جعل الله لهن سبيلاً الثيِّب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة، والبكر بالبكر جلد مائة ونفى سنة). وروى أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى الجمرة يوم النحر على راحلته وقال خذوا عنى مناسككم فإنى لا أدرى لعلى لا أحج بعد حجتى هذه). (جامع بيان العلم، 1/113).
2 ــ صور ابتداء العالم الناس بالبلاغ.
أ ــ إلقاء العلم مشافهة، وهو الأصل، سواء كان ذلك بسببٍ باعث أو ابتداءً، وكان هذا هو غالب حال النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه رضي الله عنهم أن يبدأهم بالتحديث. كما أخرجه البخارى فى باب (قول المحدث: حدثنا أو أخبرنا وأنبأنا) في كتاب العلم من صحيحه.
ب ــ التعليم بطريقة سؤال العالم للمتعلم، كما فى سؤال النبى صلى الله عليه وسلم أصحابه عن الشجرة التى مثلها مثل المسلم وهو حديث النخلة، وقد أورده البخارى فى كتاب العلم فى باب (طرح الإمام المسألة على أصحابه ليختبر ماعندهم من العلم). وأخرج ابن عبد البر فى كتابه (جامع بيان العلم): باب (طرح العالم المسألة على المتعلم) جـ 1 صـ 119.
جـ ــ كتابة العالم العلم للناس أو للطلاب، ومنه الإجازة والمناولة في التحديث، ومنه تأليف العلماء للكتب وروايتها عنهم ككتب الحديث والتفسير والفقه. ويدل عليه كتابة النبى صلى الله عليه وسلم لسرّية عبد الله بن جحش رضى الله عنه، وكتابتهص لملوك الآفاق فى عصره يدعوهم إلى الإسلام، كما ذكره البخارى فى باب (مايُذكر فى المناولة، وكتاب أهل العلم بالعلم إلى البلدان)، في كتاب العلم من صحيحه.(2/192)
(فائدة) يتأكد ابتداء العالم بالبلاغ: في النوازل التى يُبتلى بها الناس، ولرد البدع والضلالات وتحذير الناس منها، لقوله تعالى (ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون) التوبة 122، ولقوله صلى الله عليه وسلم (من رأى منكم منكراً فليغيره) الحديث، رواه مسلم.
وقال أبو حامد الغزالي رحمه الله (وواجب أن يكون في مسجدٍ ومَحِلّةٍمن البلد فقيه يعلم الناس دينهم وكذا في كل قرية، وواجب على كل فقيه ــ فرغ من فرض عينه وتفرغ لفرض الكفايةـ أن يخرج إلى من يجاور بلده من أهل السواد، ومن العرب والأكراد وغيرهم ويعلمهم دينهم وفرائض شرعهم، ويستصحب مع نفسه زاداً يأكله ولايأكل من أطعمتهم فإن أثرها مغصوب، فإن قام بهذا الأمر واحد سقط الحرج عن الآخرين وإلا عم الحرج الكافة أجمعين.
أما العالم فلتقصيره في الخروج. وأما الجاهل فلتقصيره في ترك التعلم ــ إلى أن قال ــ ولعمرى الإثم على الفقهاء أشد لأن قدرتهم فيه أظهر وهو بصناعتهم أليق.) أ هـ (إحياء علوم الدين) جـ 2 صـ 370 ــ 371.
الطريقة ا لثانية: عرض الناس ماعندهم من ا لعلم على العالم فيُقِرّه أو يصححه لهم.
وأخرج فيها البخارى ــ في كتاب العلم ــ باب القراءة والعرض على المحدِّث. قال البخارى (ورأى الحسن والثوري ومالك القراءة جائزة، واحتج بعضهم في القراءة على العالم بحديث ضِمام بن ثعلبة قال للنبى صلى الله عليه وسلم: آلله أمرك أن تصلي الصلوات ؟ قال صلى الله عليه وسلم: نعم. قال فهذه قراءة على النبى صلى الله عليه وسلم، أخبر ضِمامٌ قومه بذلك فأجازوه ــ إلى أن قال ــ عن سفيان قال: إذا قرِئَ على المحدِّث فلابأس أن تقول حدثني) (فتح البارى، 1/148).
قلت: وتعتبر السنة التقريرية أصل في الَعرْض على العالم وتقريره.
الطريقة الثالثة:إجابةالعالم أسئلة السائلين.
وسيأتي ــ إن شاء الله ــ تفصيل هذه المسألة في أحكام المفتي والمستفتي ونشير إليها هنا إشارة مختصرة فنقول:(2/193)
يجب علي العالم إجابة السائل، للأدلة التالية:
أ ــ لقوله تعالى (يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه، قل قتال فيه كبير) البقرة 217.
ب ــ وقوله تعالى (ويسألونك عن المحيض، قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولاتقربوهن حتى يطهرن) البقرة 222.
وقوله تعالى (قل) في الآيات السابقة أمر، يدل على وجوب إجابة السائل، ويتأكد هذا بسبب الوعيد الوارد في قوله صلى الله عليه وسلم (من سُئل عن علم يعلمه فكتمه، ألجم يوم القيامة بلجام من نار) رواه ابن ماجة، وقد سبق.
ومع أن حكم إجابة العالم السائل هو الوجوب، إلا أن الأمر فيه تفصيل:
أ ــ فقد تكون إجابة السائلين فرض كفاية إذا تعدد المفتين في المكان، وفرض عين إذا لم يوجد غيره بالمكان أو إذا وُجد غيره ولكن ليس عنده علم المسألة.
ب ــ وقد لاتجب الإجابة وهذا في أحوال، كسؤال السائل عن المسائل التى لم تقع، أوسؤاله عما لايعنيه. وغيره مما نذكره في أحكام المفتى والمستفتى في الباب الخامس من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.
******
المسألة الرابعة: تقصير العلماء في تبليغ العلم
لا يُسقط عن العامة وجوب طلبه
والدليل علي هذا:(2/194)
1 ــ ذكر الله سبحانه كيف ضل علماء أهل الكتاب بتلبيس الحق بالباطل وكتم الحق عن أتباعهم، وكيف حّرفوا الكلم عن مواضعه، بل بدّلوا في كتبهم بما كتبوه بأيديهم، قال تعالى (ياأهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون) آل عمران 71، وقال تعالى (يحرفون الكلم من بعد مواضعه) المائدة 41، وقال تعالى (فويلٌ للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلا، فويلٌ لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون) البقرة 79، وقال تعالى (لولا ينهاهم الربّانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون) المائدة 63، وقال تعالى (قل ياأهل الكتاب لاتغلوا فى دينكم غير الحق ولاتتبعوا أهواء قومٍ قد ضلّوا من قبل وأضلوا كثيراً وضلّوا عن سواء السبيل) المائدة 77، فدلّت الآيات على ضلال علماء أهل الكتاب، وهذا لم يدرأ الإثم عن عوامهم بل حكم الله بكفرهم جميعا علمائهم وعوامهم من قبل بعثة نبينا صلى الله عليه وسلم، إذ كان قد بقي فيهم من كان على الدين الصحيح ــ ولو على النّدرة ــ وهم حجة الله على أممهم، كما ورد فى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب) الحديث رواه مسلم، وقال النووى (المقت أشد البغض، والمراد بهذا المقت والنظر ماقبل بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمراد ببقايا أهل الكتاب: الباقون على التمسك بدينهم الحق من غير تبديل) (صحيح مسلم بشرح النووى) جـ 17 صـ 197 ــ 198. وهذا كله يبيِّن أن تقصير العالم في تبليغ الحق، بل تضليل العالم للناس لايسقط عن العامى وجوب طلب الحق طالما كان هذا الطلب ممكنا.(2/195)
وإذا كان الأمر كذلك فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لتتبعن سَنَنَ من كان قبلكم شبراً شبراً وذراعاً ذراعاً حتى لودخلوا جُحرضبٍّ تبعتموهم) قلنا: يارسول الله اليهود والنصارى ؟ قال: (فمن؟). متفق عليه. قال ابن حجر (قال عياض: الشبر والذراع والطريق ودخول الجُحر تمثيل للاقتداء بهم في كل شيء مما نهى الشرع عنه وذمّه ــ إلى أن قال ابن حجر ــ قال ابن بطال: أعلم صلى الله عليه وسلم أن أمته ستتبع المحدثات من الأمور والبدع والأهواء كما وقع للأمم قبلهم، وقد أنذر في أحاديث كثيرة بأن الآخِرَ شرٌ، والساعة لاتقوم إلا على شرار الناس، وأن الدين إنما يبقى قائما عند خاصة ٍ من الناس. قال ابن حجر: وقد وقع معظم ماأنذر به صلى الله عليه وسلم وسيقع بقية ذلك) (فتح الباري) جـ 13 صـ301. وقد دل هذا الحديث على أن ما وقع لأهل الكتاب لابد أن يقع في هذه الأمة، وعلى هذا فإن المسلمين لايُعذرون في ترك السعي في طلب الحق بسبب تقصير العلماء في قول الحق أو حتى تضليلهم للناس. كما لم يُعذَر عوام أهل الكتاب بسبب تضليل علمائهم لهم، فيحرُم الركون لأمثال هؤلاء العلماء ويجب السعي في طلب الحق.
2 ــ قول الله تعالى (ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين، قال الذين استكبروا للذين استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم بل كنتم مجرمين، وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أنداداً وأسرّوا الندامة لما رأوا العذاب وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا، هل يُجزون إلا ما كانوا يعملون) سبأ 31 ــ 33. وهذا نص في أن الكبراء إذا دعوا إلى الضلالة لم يكن هذا عذراً للعامة في متابعتهم ولا عذراً في رفع الحرج والإثم عن العامة. وقد سبق الكلام في هذه الآيات في آخر الفصل السابق (الأول) من هذا الباب.(2/196)
3 ــ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لاينقصُ ذلك من آثامهم شيئا) الحديث رواه مسلم. والشاهد منه أن تقصير العالم في تبليغ الحق حتى يصل به الأمر إلى الدعوة إلى الضلالة لايرفع المؤاخذة عمن تابعه من الناس، إذ كان طلب الحق فرضا عليهم.
وقال ابن عبدالبر (قال ابن مسعود رضي الله عنه: ألا لا يقلدن أحدكم دينه رجلا إن آمن آمن وإن كَفَر كَفَر فإنه لا أسوة في الشر) (جامع بيان العلم) جـ2 صـ 114.
خلاصة هذه المسألة:
أن تقصير العالم في تبليغ العلم، لايُسقط عن العامي وجوب طلب العلم والحق، لأن هذا واجب مستقل على العامي غير مشروط بقيام العالم بواجبه، قال صلى الله عليه وسلم (طلب العلم فريضة على كل مسلم) وقد سبق هذا الحديث في الباب الثاني.
بل قد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن العالم الضال المضل والدعاة إلى البدع والضلالات إذا تابوا توبة صادقة تاب الله عليهم وتسقط عنهم أوزار أتباعهم، مع بقاء هذه الأوزار على الأتباع إلا أن يتوبوا. فقد ذكر شيخ الإسلام قول الله تعالى (قل ياعبادِىَ الذين أسرفوا على أنفسهم لاتقنطوا من رحمة الله، إن الله يغفر الذنوب جميعا) الزمر 53، ثم قال رحمه الله (وهذه آية عظيمة جامعة من أعظم الآيات نفعاً. وفيها رد على طوائف. رد على من يقول إن الداعي إلى البدعة لاتقبل توبته، ويحتجون بحديث إسرائيلي، فيه: « أنه قيل لذلك الداعية فكيف بمن أضللت ؟ » وهذا يقوله طائفة ممن ينتسب إلى السنة والحديث وليسوا من العلماء بذلك، كأبى علي الأهوازي وأمثاله ممن لايميزون بين الأحاديث الصحيحة والموضوعة، وما يحتج به وما لايحتج به، بل يروُون كل ما في الباب محتجين به.
وقد حَكَى هذا طائفةٌ قولا ً فى مذهب أحمد أو رواية عنه، وظاهر مذهبه مع مذاهب سائر أئمة المسلمين أنه تقبل توبته كما تقبل توبة الداعي إلى الكفر، وتوبة من فَتَن الناس عن دينهم.(2/197)
وقد تاب قادة الأحزاب: مثل أبي سفيان بن حرب، والحارث بن هشام، وسهيل بن عمرو. وصفوان بن أمية، وعكرمة بن أبي جهل، وغيرهم بعد أن قُتِلَ على الكفر بدُعائِهم مَنْ قُتِلَ، وكانوا من أحسن الناس إسلاماً وغفر الله لهم. قال تعالى: (قل للذين كفروا إن ينتهوا يُغفَر لهم ماقد سلف). وعمرو بن العاص كان من أعظم الدعاة إلى الكفر والإيذاء للمسلمين. وقد قال له النبى صلى الله عليه وسلم لما أسلم « ياعمرو أما علمت أن الإسلام يَجُبُّ ماكان قبله ؟ ! ».
وفى صحيح البخاري عن ابن مسعود فى قوله: (أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب) قال كان ناسٌ من الإنس يعبدون ناساً من الجن، فأسلم أولئك الجن والإنس يعبدونهم. ففي هذا أنه لم يضر الذين أسلموا عبادة غيرهم بعد الإسلام لهم، وإن كانوا هم أضلوهم أولا.
وأيضا فالداعي إلى الكفر والبدعة وإن كان أضل غيره فذلك الغير يعاقب على ذنبه: لكونه قَبِلَ من هذا واتبعه. وهذا عليه وِزُره ووِزْرُ من اتبعه إلى يوم القيامة مع بقاء أوزار أولئك عليهم، فإذا تاب من ذنبه لم يبق عليه وزره ولاماحمله هو لأجل إضلالهم، وأما هم فسواء تاب أو لم يتب حالهم واحد: ولكن توبته قبل هذا تحتاج إلى ضد ماكان عليه من الدعاء إلى الهدى. كما تاب كثير من الكفار وأهل البدع. وصاروا دعاة إلى الإسلام والسنة. وسحرةُ فرعونَ كانوا أئمة في الكفر ثم أسلموا وختم الله لهم بخير.) أهـ (مجموع الفتاوى) جـ 16 صـ 23 ــ 25.
ولهذا نقول إن قعود العلماء عن أداء واجبهم فى الجهر بالحق وتبليغه، ليس عذراً يُسقط عن العامة وجوب طلب الحق بأنفسهم. وكذلك لو قام العلماء بخلاف ما يجب عليهم.(2/198)
وقد اتفقت أقوال العلماء على أن من لم يجد من يُفتيه ويعلمه فى بلده أنه يجب عليه الرحيل إلى حيث يجد ذلك. قال ابن حزم (فإن لم يجدوا في محلتهم مَن يفقههم فى ذلك كله كما ذكرنا، ففرض عليهم الرحيل إلى حيث يجدون العلماء المحتوين على صنوف العلم، وإن بعدت ديارهم ولو أنهم بالصين) (الإحكام) جـ 5 صـ 123، وقال الخطيب البغدادي (أول مايلزم المستفتى إذا نزلت به نازلة أن يطلب المفتى ليسأله عن حكم نازلته، فإن لم يكن فى محلته وجب عليه أن يمضي إلى الموضع الذي يجده فيه، فإن لم يكن ببلده لزمه الرحيل إليه وإن بعدت داره) (الفقية والمتفقة) جـ2 صـ 177. ونقل ابن عبد البر عن إسحق بن راهوية أن الرحلة لطلب العلم الواجب العيني لا يجب استئذان الوالدين فيها، قال إسحق (وماوجب عليه من ذلك لم يستأذن أبويه في الخروج إليه) (جامع بيان العلم) جـ 1 صـ 9. وبهذا قال أحمد ابن حنبل أن المرء لايستأذنهما في طلب فرض العين من العلم، وذلك فيما نقله ابن مفلح في (الفروع) 6/199، ط مكتبة ابن تيمية.
وبهذا نختم هذا الفصل المعقود لبيان واجب العلماء فى تبليغ العلم، وبالله التوفيق.
الفصل الثالث
واجب العامي في طلب العلم وتبليغه
ذكرنا في الباب الثاني (حكم طلب العلم) أن هناك علما يجب على كل مسلم مكلَََََّّّّّف معرفته، وهو فرض العين من العلم. وأوضحنا أنه ثلاثة أقسام: العلم الواجب العيني العام، والعلم الواجب العينى الخاص، والعلم بأحكام النوازل، وبيَّنا صفة كل قسم منها.
وسوف نبحث في هذا الفصل ــ إن شاء الله تعالى ــ كيف يطلب المسلم العامي (أى غير العالم) ما وجب عليه طلبه من العلم ؟، ونذكر فى هذا الفصل ثلاث مسائل وهي:
1 ــ وقت وجوب طلب فرض العين من العلم.
2 ــ كيف يطلب العامي العلم ؟.
3 ــ مايجب على العامي من تبليغ العلم.
******
المسألة الأولى: وقت وجوب طلب فرض العين من العلم(2/199)
اعلم أن كثيراً من الواجبات الشرعية لها مواقيت بيّنتها الشريعة، ومن هذه الواجبات: طلب فرض العين من العلم.
قال أبو حامد الغزالي رحمه الله (فمن عَلِمَ العلم الواجب ووقت وجوبه فقد علم العلم الذي هو فرض عين) أ هـ (إحياء علوم الدين، 1/26).
وقد ذكرنا في الباب الثانى (حكم طلب العلم) أن العلم الواجب العيني قسمان:
* ما يجب أن يتعلمه المسلم ابتداء، لتكرار الحاجة إليه، وذكرنا أنه قسمان: عام وخاص.
* وما يجب أن يتعلمه المسلم عند وجود سببه لا ابتداء، وهي النوازل التي لاتتكرر عادة.
وعلى هذا فإن وقت وجوب طلب العلم يختلف في القسمين كما يلي:
القسم الأول: وقت وجوب طلب ما يجب تعلمه ابتداء.
(تمهيد) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (رُفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يعقل) رواه أبو داود عن علي رضي الله عنه، ورواه الترمذي وحسّنه، ورواه البخارى تعليقا عن على بلفظ مقارب فى الطلاق والحدود. وله روايات وطرق عن ستة من الصحابة ذكرها الزيلعي في كتابه (نصب الراية) 4/161 ــ 165..وقد دَلَّ الحديث على رفع التكليف عن الصبى حتى يبلغ (يحتلم)، فلاخلاف فى وجوب الواجبات ــ ومنها فرض العين من العلم ــ على البالغ، كما أنه لاخلاف فى عدم وجوبها على الصبى (غير البالغ)، إلا أن الصبى إذا أدى بعض الواجبات أثيب عليها، لقوله تعالى (من عمل صالحا فلنفسه) فصلت 46، ولحديث المرأة التي رفعت صبياً إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: ألهذا حج ؟، قال النبى صلى الله عليه وسلم (نعم ولَكِ أجر) الحديث رواه مسلم عن ابن عباس رضى الله عنهما. فالصبى مثاب على فعل الطاعة ــ كالصلاة والصوم والحج ــ وإن لم تجب عليه.
بعد هذا التمهيد نقول إن المسلم له حالان: إما أن يكون صبيا أو بالغا:
أولا ــ الصبي (غير البالغ): اختلفت أقوال العلماء فى وقت وجوب تعليمه على قولين:(2/200)
1 ــ القول الأول: يجب تعليمه قبل البلوغ ليبلغ عالما بمايجب عليه، وهو قول الخطيب البغدادي والنووى. قال الخطيب ــ بعد ذكره فرض العين من العلم ــ (وفرض عليهم أن يأخذوا فى تعلّم ذلك حتى يبلغوا وهم مسلمون) (الفقيه والمتفقه، 1/46). وقال النووي (قال الشافعي والأصحاب رحمهم الله: على الآباء والأمهات تعليم أولادهم الصغار ما سيتعين عليهم بعد البلوغ فيعلمه الولي الطهارة والصلاة والصوم ونحوها ويعرفه تحريم الزنا واللواط والسرقة وشرب المسكر والكذب والغيبة وشبهها، ويعرفة أنه بالبلوغ يدخل فى التكليف ويعرفه مايبلغ به، وقيل هذا التعليم مستحب والصحيح وجوبه، وهو ظاهر نصه وكما يجب عليه النظر فى ماله وهذا أولى. وإنما المستحب مازاد على هذا من تعليم القرآن وفقه وأدب، ويعرفه مايصلح به معاشه ودليل وجوب تعليم الولد الصغير والمملوك قول الله عز وجل (ياأيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً) أ هـ (المجموع) جـ 1 صـ 26.
2 ــ القول الثاني: أن تعليم الصبيان يجب عند بلوغهم لأن هذا هو وقت وجوب العمل عليه، وهو قول ابن حزم والغزالى. قال ابن حزم ــ بعد ذكره فرض العين من العلم ــ (وفرض عليهم أن يأخذوا فى تعلّم ذلك من حين يبلغون الحلم وهم مسلمون) (الإحكام فى أصول الأحكام، 5/122). وقال أبو حامد الغزالى (فإذا بلغ الرجل العاقل بالاحتلام أو السن ضحوة نهار مثلا فأول واجب عليه تعلّم كلمتي الشهادة وفهم معناهما... ـ إلى أن قال ــ فإن كان فى بلد شاع فيه الكلام وتناطق الناس بالبدع فينبغى أن يُصان في أول بلوغه بتلقين الحق...) (إحياء علوم الدين، 1/ 25ــ 26).
قلت: والصواب في المسألة ــ والله تعالى أعلم ــ التفريق بين الصبى وولى أمره: ــ
فالوَلِىّ: يجب عليه تعليم الصبى قبل بلوغه.
أما الصبى: فلايجب عليه شئ قبل بلوغه، فإذا بلغ بلاتعلم فقد وجب عليه أن يتعلم عند بلوغه.(2/201)
والدليل على هذا: مارواه أبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (مُرُوا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشرٍ، وفرِّقوا بينهم في المضاجع). وإسناده حسن. وعن سبرة بن معبد مرفوعا (علموا الصبي الصلاة لسبع سنين، واضربوه عليها ابن عشر سنين) رواه الترمذي وقال حديث حسن.
(فائدة) قاعدة أصولية: (الأمر بالأمر بالشئ ليس أمراً بالشيء مالم يدل عليه دليل)، انظر (ارشاد الفحول) للشوكاني صـ 100، مباحث الأمر، الفصل التاسع.
وبتطبيق هذه القاعدة على هذا الحديث يتبين صحة ما ذكرناه من تفريق بين الولي والصبي، فالحديث فيه أمر للولي بأمر الصبي بالصلاة، فلايدل على أمر الصبي بالصلاة ولاتعلمها، وإنما إذا وجب هذا على الصبي فلا بد من دليل آخر يوجبه، وقد دل الدليل الآخر (رفع القلم عن ثلاث) على عدم وجوبه. فالوجوب فى هذا الحديث (مروا أولادكم...) هو على الولى لا الصبى.
وما قلناه في المسألة هو ماذهب إليه ابن قدامة رحمه الله (المغنى والشرح الكبير، 1/ 647) وابن تيمية رحمه الله (مجموع الفتاوى، 22/ 26 ــ 27).
قال ابن قدامة (قال القاضى: يجب علي وليّ الصبي أن يعلمه الطهارة والصلاة إذا بلغ سبع سنين ويأمره بها ويَلزمه أن يؤدبه عليها إذا بلغ عشر سنين، والأصل في ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم «علمّوا الصبي الصلاة ابن سبع واضربوه عليها ابن عشر» رواه الأثرم وأبو داود والترمذي وقال حديث حسن وهذا لفظ رواية الترمذي، ولفظ حديث غيره «مروا الصبي بالصلاة لسبع سنين واضربوه عليها لعشر وفرقوا بينهم في المضاجع» وهذا التأديب المشروع في حق الصبي لتمرينه على الصلاة كي يألفها ويعتادها ولايتركها عند البلوغ، وليست واجبة عليه في ظاهر المذهب) (المغني والشرح الكبير، 1/647).(2/202)
وقول ابن قدامة: (يجب على وليّ الصبي أن يعلِّمه) مع قوله عن الصلاة إنها ليست واجبة على الصبي هو تطبيق لقاعدة (الأمر بالأمر بالشئ ليس أمراً بالشئ).
والخلاصة: أنه يجب على وَلِيّ الصبي (سواء أكان أباً أو جداً أو وصيّاً أو قيِّماً من جهة القاضي) أن يعلمه فرض العين من العلم قبل بلوغه.
(فائدة) علامات البلوغ هى:
أ ــ خروج المَنِيّ من الذكر (الاحتلام) أو نزول دم الحيض في الأنثى.
ب ــ أو نبات الشعر الخشن حول الفرج في الذكر والأنثى.
جـ ــ أو بلوغ سن ٍ معينة، وهى استكمال خمس عشرة سنة هلالية.
وقد تكلمت في هذه العلامات في كتابي (العمدة في إعداد العدة) عند الكلام في شروط وجوب الجهاد، فليراجعه من شاء مطالعة الأدلة على هذه العلامات.
(فائدة أخرى) قال السيوطي رحمه الله (قال السبكي: والحكمة في تعليق التكليف بخمس عشرة سنة: أن عندها بلوغ النكاح وهيجان الشهوة والتوَّقان، وتتسع معها الشهوات في الأكل والتَّبسط ودواعي ذلك، ويدعوه إلى ارتكاب مالا ينبغي، ولا يَحْجِرُه عن ذلك وَيُردُّ النفس عن جماحها، إلا رابطة التقوى، وتشديد المواثيق عليه والوعيد، وكان مع ذلك قد كمل عقله، واشتد أَسْره وقوته، فاقتضت الحكمة الإلهية توجه التكليف إليه، لقوة الدواعي الشهوانية، والصوارف العقلية، واحتمال القوة للعقوبات على المخالفة.) أهـ (الأشباه والنظائر في فقه الشافعية) للسيوطي، ط دار الكتب العلمية 1403 هـ، صـ 223.
ثانيا ــ البالغ: وله حالان
1 ــ رجل مسلم منذ صباه لم يتعلم مايجب عليه في صباه، فيجب عليه أن يتعلم ذلك عند بلوغه. فإن لم يفعل فالتفريط من جهته، مادام التعلُّم متيسِّراً ولو بالرحيل إلى مظان العلم.(2/203)
2 ــ رجل كان كافراً في صباه (كصبي نصراني أو وثني) أسلم عند بلوغه أو بعد ذلك، فيجب عليه أن يتعلم مايجب عليه عند إسلامه، ذكره الخطيب (الفقيه والمتفقه، 1/46) وابن حزم (الإحكام، 5/122). ويدل عليه مارواه أحمد عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُشغَل فإذا قدِم رجلٌ مهاجرعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم دفعه إلى رجل منا يعلمه القرآن) الحديث (المسند، 5/324).
القسم الثاني: وقت وجوب طلب علم أحكام النوازل
ووقت الوجوب هو: عند وقوع النازلة أو قبيل وقوعها إن كانت متوقَّعة. ويحرم الإقدام على أمر بلا علم لما ذكرناه في الباب الثاني من حرمة القول والعمل بلا علم.
1 ــ أما قولنا يجب طلب علم النازلة عند وقوعها: فيدل عليه كثير من الأسئلة الواردة في القرآن (يسألونك عن....) وفي السنة، فمعظمها أسئلة عن نوازل وقعت، وأفرد لها البخاري بابا فى كتاب العلم من صحيحه، وهو (باب الرحلة فى المسألة النازلة) وفيه روى البخارى عن عقبة بن الحارث أنه تزوج ابنة ً لأبى إهاب بن عزيز، فأتته امرأة فقالت: إني قد أرضعت عقبة والتي تزوج. فقال لها عُقْبَةُ: ما أعلم أنكِ أرضعتنى ولا أخبرتِنى. فركب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة فسأله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (كيف وقد قيل ؟)، ففارقها عقبة، ونكحت زوجا غيره. (حديث 88). وكان عقبة من أهل مكة فرحل إلى المدينة للسؤال عن النازلة.
2 ــ وأما قولنا يجب طلب علم النازلة قبل وقوعها إذا كانت متوقعة، فأمثلته أيضا كثيرة:
ومنها سؤال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه عن مقدار مايوصى به، فعنه قال: قلت يا رسول الله أنا ذو مال ٍ ولايرثني إلا ابنةٌ لي واحدة، أفأتصدق بثلثي مالي ؟ قال (لا)، قلت: أفأتصدق بشطره ؟ قال (لا)، قلت: أفأتصدق بثلثِهِ ؟ قال: (الثلث، والثلث كثير، إنك إن تذر ورثتك أغنياء خيرٌ من أن تذرهم عالة ً يتكففون الناس) متفق عليه.(2/204)
ومنها سؤال جابر بن عبدالله رضي الله عنهما عن كيف يورِّث ماله، كما رواه البخاري عن محمد بن المنكدر عن جابر رضي الله عنه قال: (عادني النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر في بني سلمة ماشِيَيْن، فوجدني النبي صلى الله عليه وسلم لا أَعْقِلُ، فدعا بماء ٍ فتوضأ منه ثم رَشَّ عليَّ فأفَقْتُ، فقلت: ماتأمرني أن أصنع في مالي يا رسول الله؟، فنزلت «يوصيكم الله في أولادكم». (حديث 4577). ورواه مسلم بلفظ مقارب.
والحديثان يدلاّن على وجوب العلم قبل العمل، ويدل على شدة اعتناء الصحابة رضي الله عنهم بهذا الأصل حتى أنهم ليحافظون عليه وهم في شدة المرض. فقد كان سعد وجابر رضي الله عنهما مريضين عند سؤالهما، وطلبا علم النازلة المتوقعة وأقرهما النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك.
هذا ما يتعلق بوقت وجوب طلب فرض العين من العلم بأقسامه. أما فرض الكفاية فليس له وقت وجوب وإنما وقت استحباب وهو أن يطلبه في الصِّغر كما سنذكره في (آداب طالب العلم) في الباب الرابع من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.
ثم ننتقل بعد هذا إلى الموضوع الثاني في هذا الفصل وهو كيف يطلب العامي العلم ؟.
******
المسألة الثانية: كيف يطلب العامي العلم؟
طلب العلم ليس له إلا طريقان: التعلم بالتلقِّي عن العلماء مشافهة، والتعلم بمطالعة الكتب، والطريق الأول هو الأصل في التعلم. ونتكلم هنا في الطريق الأول، ثم نتكلم في الطريق الثاني بعده إن شاء الله.
الطريق الأول: التعلم بالتلقي عن العلماء مشافهة:
سواء كان العلم المطلوب فرض عين أو فرض كفاية، فإن الأصل في التعلمّ أن يكون على أيدي العلماء بالتلقي عنهم مشافهة.
وسوف نذكر في هذه المسألة الموضوعات التالية:
1 ــ الأدلة على أن التلقي عن العلماء مشافهة هو الأصل في التعلم.
2 ــ فوائد التعلم بالتلقي عن العلماء.
3 ــ مايلزم المتلقي عن العلماء من إرشادات.
أولا ــ الأدلة على أن التلقي عن العلماء مشافهة هو الأصل في التعلم(2/205)
يدل على ذلك: أن هذا الدين تعلَّمه النبي صلى الله عليه وسلم من جبريل عليه السلام عن الله عزوجل، ثم تعلمه الصحابة رضي الله عنهم من النبي صلى الله عليه وسلم، ثم تعلم التابعون من الصحابة، ثم انتقل العلم (الكتاب والسنة) من كل جيل إلى الذي يليه بالتعليم والسماع فيقولون:أخبرنا وحدثنا. واتصلت أسانيد علوم المسلمين بذلك إلى الصحابة رضي الله عنهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جبريل عليه السلام إلى رب العزة جل وعلا. ودليل هذا على النحو التالى:
1 ــ الدليل على تلقِّي جبريل عليه السلام العلم عن رب العزة جل وعلا.
أ ـــ قال تعالى (وماكان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه مايشاء، إنه عليّ حكيم، وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا، ماكنت تدري ماالكتاب ولا الإيمان) الشورى 51 ــ 52. والرسول المذكور في قوله تعالى (أو يرسل رسولاً) هو جبريل عليه السلام، كما في قوله تعالى (قل من كان عدواً لجبريل فإنه نزَّله على قلبك بإذن الله مصدقاً لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين) البقرة 97.
ب ــ وروى البخاري في كتاب التوحيد من صحيحه تعليقا عن ابن مسعود رضي الله عنه ــ موقوفا ــ قال (إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السموات شيئا، فإذا فُزِّع عن قلوبهم وسَكَن الصوت عرفوا أنه الحق، ونادوا ماذا قال ربكم قالوا الحق).
جـ ــ ورواه أبو داود في كتاب السنة من سننه عنه مرفوعا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا تكلم الله بالوحي، سمع أهل السماء صَلْصَلة كجرِّ السلسلة على الصفا، فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم جبريل، حتى إذا جاءهم جبريل فُزِّع عن قلوبهم) قال (فيقولون: ياجبريل ماذا قال ربك ؟ فيقول: الحق ّ، فيقولون: الحق، الحق) أهـ.
2 ــ الدليل على تلقي النبي صلى الله عليه وسلم العلم عن جبريل عليه السلام.(2/206)
أ ــ قال تعالى (والنجم إذا هوى، ماضلّ صاحبكم وما غوى، وما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، علّمه شديد القوى) النجم 1 ــ 5.
قال ابن كثير رحمه الله (يقول تعالى مخبراً عن عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم أنه علّمه الذي جاء به إلى الناس «شديد القوى» وهو جبريل عليه الصلاة والسلام) (تفسير ابن كثير، 4/247).
ب ــ وروى البخاري رحمه الله بإسناده عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى (لا تحرك به لسانك لتعجل به)، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعالج من التنزيل شِدَّة، وكان مما يُحرك شفتيه، فقال ابن عباس: فأنا أحركهما لكم كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحركهما، وقال سعيد: أنا أحركهما كما رأيت ابن عباس يحركهما ــ فحرّك شفتيه ــ، فأنزل الله تعالى (لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعَه وقرآنه)، قال: جمعه لك في صدرك وتقرأه، (فإذا قرأناه فاتبع قرآنه)، قال: فاستمع له وأنصت، (ثم إن علينا بيانه)، ثم إن علينا أن تقرأه. فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك إذا أتاه جبريل استمع، فإذا انطلق جبريل قرأه النبي صلى الله عليه وسلم كما قرأه. أهـ (حديث 5).
جـ ــ وروى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود مايكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسُه القرآن، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة).(حديث 6).
3 ــ الدليل على تلقِّي الصحابة رضي الله عنهم العلم عن النبي صلى الله عليه وسلم.
أ ــ قال تعالى (كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم يتلوا عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة، ويعلمكم مالم تكونوا تعلمون) البقرة 151.(2/207)
ب ــ وقال تعالى (لقد مَنَّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين) آل عمران 164.
قال ابن كثير رحمه الله (يذكّر تعالى عباده المؤمنين ما أنعم به عليهم من بعثة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم إليهم، يتلو عليهم آيات الله مبينات، يزكيهم: أى يطهرهم من رذائل الأخلاق ودَنس النفوس وأفعال الجاهلية ويخرجهم من الظلمات إلى النور، ويعلمهم الكتاب: هو القرآن، والحكمة: وهي السنة، ويعلمهم مالم يكونوا يعلمون، فكانوا في الجاهلية الجهلاء يسفهون بالعقول الغراء فانتقلوا ببركة رسالته ويُمن سفارته إلي حال الأولياء وسجايا العلماء، فصاروا أعمق الناس علما، وأبرّهم قلوبا وأقلهم تكلفاً وأصدقهم لهجة.) (تفسير ابن كثير، 1/195 ــ 196).
جـ ــ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ألا إن ربى أمرنى أن أعلمكم ماجهلتم مما علّمنى يومى هذا) الحديث رواه مسلم عن عياض بن حمار رضى الله عنه.
د ــ وعن جابر رضى الله عنه قال (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة فى الأمور كلها كالسورة من القرآن) الحديث، رواه البخارى.
4 ــ الدليل على تعليم الصحابة رضى الله عنهم لمن بعدهم.
أ ــ وأصله أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم وللأمة بقوله (ليبلغ الشاهد الغائب) الحديث متفق عليه.
ب ــ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمالك بن الحويرث رضي الله عنه (ارجعوا إلى أهليكم فأقيموا فيهم وعلّموهم ومُرُوهم) الحديث رواه البخارى (رقم 631)
جـ ــ وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم وفد عبد القيس عن الإيمان، وقال لهم (احفظوه وأخبروا مَنْ وراءكم) الحديث رواه البخارى (رقم 53 و 87). فأمرهم النبى صلى الله عليه وسلم بتعليم قومهم.(2/208)
د ــ وروى البخارى عن البراء رضى الله عنه قال (أول من قَدِم علينا من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم مُصعب بن عمير وابن أم مكتوم، فجعلا يُقرِئاننا القرآن) الحديث (رقم 4941). وكان النبى صلى الله عليه وسلم أرسل مصعب بن عمير وابن أم مكتوم رضى الله عنهما إلى يثرب (المدينة) بعد بيعة الأنصار له بالعقبة وقبل الهجرة، ليعلما من أسلم من أهلها القرآن.
5 ــ الدليل علي حرص السلف على أخذ العلم عن العلماء الثقات وليس من الكتب.
أ ــ قال البخاري رحمه الله (ورَحَل جابر بن عبدالله مسيرة شهر إلى عبدالله بن أنيس في حديث واحد) ــ كتاب العلم من صحيح البخاري، باب 19.
ب ــ وعن محمد بن سيرين رضى الله عنه قال (إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم) رواه مسلم فى مقدمة صحيحه.
جـ ــ وعن محمد بن سيرين قال (لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة قالوا: سمّوا لنا رجالكم، فيُنظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم، وينظر إلى أهل البدع فلايؤخذ حديثهم) رواه مسلم فى مقدمة صحيحه.
د ــ وعن عبد الله بن المبارك رحمه الله قال (الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال من شاء ماشاء) رواه مسلم فى مقدمة صحيحه.(2/209)
هـ ــ وقال أبو حامد الغزالى رحمه الله (وإذا كان الاعتماد على المسموع من الغير تقليداً غيرَ مَرْضِىّ فالاعتماد على الكتب والتصانيف أبعد، بل الكتب والتصانيف محدثة لم يكن شئ منها فى زمن الصحابة وصدر التابعين، وإنما حدثت بعد سنة مائة وعشرين من الهجرة وبعد وفاة جميع الصحابة وجملة التابعين رضى الله عنهم، وبعد وفاة سعيد بن المسيب والحسن وخيار التابعين، بل كان الأولون يكرهون كتب الأحاديث وتصنيف الكتب لئلا يشتغل الناس بها عن الحفظ وعن القرآن وعن التدبر والتذكر وقالوا: احفظوا كما كنا نحفظ. ولذلك كره أبو بكر وجماعة من الصحابة رضى الله عنهم تصحيف القرآن في مصحف وقالوا: كيف نفعل شيئا مافعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وخافوا اتكال الناس على المصاحف وقالوا: نترك القرآن يتلقاه بعضهم من بعض بالتلقىن والإقراء ليكون هذا شغلهم وهمهم حتى أشار عمر رضى الله عنه وبقية الصحابة بكتب القرآن خوفاً من تخاذل الناس وتكاسلهم وحذرا من أن يقع نزاع فلا يوجد أصل يُرجع إليه فى كلمة أو قراءة من المتشابهات، فانشرح صدر أبي بكر رضي الله عنه لذلك فجمع القرآن في مصحف واحد.
وكان أحمد بن حنبل ينكر على مالك في تصنيفه الموطأ ويقول: ابتدع مالم تفعله الصحابة رضي الله عنهم وقيل: أول كتاب صنف فى الإسلام كتاب ابن جريج فى الآثار وحروف التفاسير عن مجاهد وعطاء وأصحاب ابن عباس رضي الله عنهم بمكة. ثم كتاب معمر بن راشد الصنعانى باليمن جمع فيه سنناً مأثورة نبوية ثم كتاب الموطأ بالمدينة لمالك بن أنس، ثم جامع سفيان الثوري.) (إحياء علوم الدين) جـ 1 صـ 94 ـ 95.(2/210)
الخلاصة: يتبين من مجموع الأدلة السابقة أن الأصل فى تعلم العلم أن يكون بالتلقِّى عن العلماء الثقات. وهكذا أخذ النبي صلى الله عليه وسلم العلم (القرآن) عن جبريل عليه السلام، ثم أخذ الصحابة رضي الله عنهم العلم عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم تلقى التابعون العلم عن الصحابة، حتى أن كتابة العلم كانت مهجورة في القرن الأول ولم تحدث إلا بعد عصر الصحابة كما قال الغزالي، وقال عامر الشعبى رحمه الله وهو من أكابر التابعين (ماكتبت سوداء في بيضاء قط، ولاحدَّثنى رجل بحديث فأحببت أن يعيده عَلَىّ، ولاحدَّثنى رجل بحديث إلا حفظته) رواه ابن أبى حاتم بإسناده عنه (الجرح والتعديل) لابن أبى حاتم الرازي، جـ 6 صـ 323. ويعني بالسوداء أى الحبر، والبيضاء أى الورق.
حتى صار حفظ العلم بتلقيه شفاهة عن العلماء صفة هذه الأمة كما قال تعالى (وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولاتخُطهّ بيمينك إذا لارتاب المبطلون، بل هو آيات بيّنات فى صدور الذين أوتوا العلم) العنكبوت 48 ــ 49.
قال الشاطبى رحمه الله (من أنفع طرق العلم الموصِّلة إلي غاية التحقق به أخذُه عن أهله المتحققين به علي الكمال والتمام ــ إلي أن قال ــ فأول ذلك ملازمة الصحابة رضى الله عنهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخذهم بأقواله وأفعاله، واعتمادهم علي مايرد منه ــ إلى أن قال ــ وصار مَثَلُ ذلك أصلا لمن بعدهم، فالتزم التابعون فى الصحابة سيرتهم مع النبى صلى الله عليه وسلم حتى فقهوا، ونالوا ذروة الكمال في العلوم الشرعية. وحسبك من صحة هذه القاعدة أنك لاتجد عالما اشتهر في الناس الأخذ عنه إلا وله قدوة اشتهر فى قرنه بمثل ذلك. وقلما وُجدت فرقة زائغة ولاأحد مخالف للسنة إلا وهو مفارق لهذا الوصف.) أ هـ (الموافقات) للشاطبى جـ 1 صـ 91 ـ 95، المقدمة الثانية عشرة.
ثانيا ــ فوائد التعلم بالتلقي عن العلماء:
وهي ثلاث فوائد:(2/211)
1 ــ فوائد متعلقة باتصال السند: بأن يأخذ الطالب عن شيخه كتابا، لشيخه إسناد متصل إلي مُصَنِّف هذا الكتاب، فيكون للطالب بهذا إسناد متصل إلى مصنف الكتاب كأن يجد الطالب شيخا يروي صحيح البخارى بإسناد متصل إلى البخاري رحمه الله، فيأخذه عنه الطالب إما سماعا من الشيخ أو عرضاً عليه أو يجيزه به الشيخ، فيصبح للطالب بهذا إسناد متصل إلى البخاري رحمه الله.
وهذه الفائدة ــ وهي اتصال السند ــ أصبحت قليلة الأهمية في هذا الزمان بعد شهرة نسبة الكتب إلى مُصَنِّفيها، كما ستعرفه فى الكلام عن الوِجادة إن شاء الله، كما أن جهالة حال كثير من رجال السند الآن يُضعف قيمة هذه الأسانيد. فقد يروي الطالب أحد كتب السنة عن شيخه عن شيوخه، وقد يعرف الطالب حال شيخه ولكنه يجهل حال بقية شيوخ سلسلة الإسناد بسبب إهمال تدوين الجرح والتعديل في الأعصار المتأخرة لاكتفاء العلماء بشهرة الكتب عن تحمّلها بالأسانيد المتصلة.
2 ــ فوائد متعلقة بفهم العلم: وهى أهم فوائد التعلم بالتلقى عن العلماء والسعي لتحصيل هذه الفوائد هو سبب نهى كثير من السلف عن التعلم من الكتب، واشتهرت بينهم مقولة (لاتقرءوا القرآن على المُصْحفيين، ولاتحملوا العلم عن الصحفيين). ومعناها لاتأخذوا القرآن عمن أخذه بقراءة المصحف لامن الشيوخ مشافهة، ولاتحملوا العلم ممن تعلم من الصحف (أى الكتب) لامن الشيوخ مشافهة.
وسبب ذلك أن الذي يتعلم من الكتب مباشرة دون إرشاد شيخ لايأمن أن يقع في أحد الأخطاء التالية:أ ــ سوء اختيار الكتاب الذي يتعلم منه: وهذا أسوأ مايقع فيه المتعلم، وقد يكون ضلالُهُ في الدنيا وهلاكُهُ في الآخرة بسبب اختياره لكتاب فاسد يتعلم منه، وإنما يرشده إلى الكتب النافعة شيخ ٌ صالح ٌ ونظراً لأهمية هذه المسألة فسنَبْسُط ُ القول فيها في الباب الرابع من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.(2/212)
ب ــ الخطأ في نطق الألفاظ: وهو مايُعرف بالتصحيف والتحريف واللحن، بماقد يغيّر المعني
وفى هذا يقول النووي رحمه الله (قالوا: ولاتأخذوا العلم ممن كان أخذه له من بطون الكتب من غير قراءة على شيوخ أو شيخ حاذق، فمن لم يأخذه إلا من الكتب يقع في التصحيف ويكثر منه الغلط والتحريف) (المجموع) جـ 1 صـ 36.
جـ ــ الخطأ فى الوقف والوصل: فيقف حيث يجب وصل الكلام، أو يصله حيث يجب الوقف، بما يُخل بالمعنى. فإذا تلقى العلم عن شيخ متمكن أرشده إلى الصوب في هذا. وقد أغلَظَ عبدالعزيز الكناني رحمه الله القول لبشر المريسي الضال بسبب جهله بالوقف والوصل بما آل به إلى الابتداع في الدين، راجع كتاب (الحَيْدَة) لعبدالعزيز الكناني ــ على تشكيك في صحة نسبته إليه ــ وفيه مناظرته لبشر في حضرة الخليفة العباسي المأمون. وقال عبدالقاهر الجرجاني رحمه الله ت 471 هـ ــ وهو مؤسس علم البلاغة ــ قال (القول في الفَصل والوَصْل: اعلم أن العلم بما ينبغي أن يُصنَع في الجُمَل من عطف بعضها على بعض، أو ترك العطف فيها والمجيء بها منثورة تُستأنف واحدة منها بعد أخرى، من أسرار البلاغة ــ إلى أن قال ــ وقد بلغ من قوة الأمر في ذلك أنهم جعلوه حداً للبلاغة، فقد جاء عن بعضهم أنه سُئِل عنها فقال: معرفة الفصل من الوصل....) إلى آخر ماقال، انظر (دلائل الإعجاز في علم المعاني) للجرجاني، ط دار المعرفة 1402 هـ، صـ 170 ــ 171.(2/213)
د ــ الخطأ في فهم المعنى المراد: وكان هذا هو سبب ظهور أول الفرق الضالة فى هذه الأمة، وهم الخوارج الذين خرجوا على عهد على بن أبى طالب رضى الله عنه، فاعتمدوا على أنفسهم فى فهم معاني القرآن دون الرجوع إلى الشيوخ (الصحابة رضى الله عنهم) ففهموا من القرآن غير المراد به، فاستحلوا دماء المسلمين وأموالهم، وهذا هو معنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم (يقرأون القرآن لايجاوز حناجرهم) وفي رواية (لايجاوز تراقيهم) الحديث متفق عليه، أى قراءة ترديد بالحناجر لا تصل إلى القلوب محل الفهم، فأخطأوا في فهم المعاني، ولم يكن في الخوارج صحابىٌ واحدٌ ولله الحمد. فلايأمن الطالب من الخطأ في فهم المعنى إلا بالتلقى عن شيخ صالح متمكن.
وفي هذا يقول النووى ــ فى آداب طالب العلم ــ (ولايحفظ ابتداء من الكتب استقلالا، بل يُصحِّح على الشيخ كما ذكرنا، فالاستقلال بذلك من أضر المفاسد، وإلى هذا أشار الشافعي رحمه الله بقوله: من تفقّه مِن الكتب ضيَّع الأحكام) (المجموع) جـ 1 صـ 38.
وقال الخطيب البغدادي رحمه الله (ولابد للمتفقِّه من أستاذ يَدْرُس عليه، ويرجع إليه في تفسير ماأشكل عليه، ويتعرف منه طرق الاجتهاد، ومايفرق به بين الصِّحة والفساد. ثم روى الخطيب بإسناده أنه قيل لأبي حنيفة: في المسجد حلقة ينظرون فى الفقه، فقال: لهم رأس ؟، قالوا لا، قال لايَفْقه هؤلاء أبداً) أهـ (الفقيه والمتفقه) جـ 2 صـ 83.(2/214)
ومن الخطأ فى فهم المعني: الاستدلال بالمجمل مع الجهل بما يبيِّنه، والاستدلال بالعام مع الجهل بما يخصصه، والاستدلال بالمطلق مع الجهل بمايُقيده، وقد يستدل بالخاص في موضع العام أو بالمقيد فى موضع المطلق، وقد يستدل بالمنسوخ. وكل هذا وقعت فيه الفرق الضالة المخالفة لأهل السنة والجماعة، فعمدة أهل البدع والضلال: الاستدل ببعض النصوص دون بعض، وعمدة أهل السنة: الجمع بين النصوص، فإذا واجهت المبتدعة بالنصوص التي تُبطل بدعتهم تمادوا في ضلالتهم فتأوّلوها أو أنكروها.
هـ ــ عدم تمييز الصحيح من الضعيف: سواءً فى الأحاديث أو فى أقوال العلماء في الفقه، فقد يقرأ قولاً مرجوحا أو باطلاً ويظنه الحق كله، وهذا بسبب عدم معرفته بالقول الصحيح الراجح فى المسألة. ولو درس على يد شيخ متمكن لأرشده إلى هذا.
وفى هذا نَقَلَ ابن القيم عن عبد الله بن أحمد بن حنبل قوله (سألت أبي عن الرجل يكون عنده الكتب المصنفة فيها قول رسول اللهص والصحابة والتابعين، وليس للرجل بَصَر بالحديث الضعيف المتروك ولا الإسناد القوي من الضعيف، فيجوز أن يعمل بما شاء ويتخير منها فيفتى به ويعمل به ؟، قال: لايعمل به حتى يسأل مايؤخذ به منها فيكون يعمل على أمر صحيح، يسأل عن ذلك أهل العلم.) (إعلام الموقعين) جـ 4 صـ 206.
و ــ عدم التمييز بين اصطلاحات العلوم المختلفة: فقد يقرأ الطالب مصطلح (السنة) فى الفقه ويعلم أنها المندوب وأنها دون الواجب، ثم يقرأ نفس المصطلح فى أصول الفقه أو علم الحديث فيظن أن كل سُنّة هى من المندوب. وإنما يرشده إلى الصواب فى هذا شيخ متمكن.(2/215)
ز ــ عدم التمييز بين اصطلاحات المذاهب الفقهية المختلفة: فقد يقرأ الطالب كتابا في الفقه ويقرأ فيه مصطلحات: (نص عليه)، أو (قال القاضى)، أو (قال الشيخ)، أو (فى أحد الأقوال كذا)، أو (وفي أحد الأوجه كذا). والطالب لايفقه من هذه المصطلحات شيئا، وإذا علم معناها فى مذهب ٍ ما فقد ينقل المعنى إلى مذهب آخر فيخطئ. وإنما يرشده إلى الصواب فى هذا شيخ متمكن.
فهذه بعض الأخطاء التى يقع فيها الطالب إذا درس من الكتاب استقلالا، هذا إذا أحسن اختيار الكتاب، فكيف إذا أساء الاختيار ؟. وإنما يأمن من هذه الأخطاء بتلقى العلم عن شيخ متمكن، إما سماعاً من الشيخ وإما قراءة عليه. والأمن من هذه الأخطاء ومعرفة الصواب في النطق والمعنى والأحكام هي أهم فوائد التعلم بالتلقى عن العلماء.
3 ــ التَّأدُّب بأدب العلماء: من الحِلْم والسَّكينة والوقار وغيرها من الآداب الفاضلة والتي تنتقل بالمحاكاة من الشيخ إلى طلابه، وقد كان علماء السلف يحرصون على تأديب تلاميذهم كحرصهم على تعليمهم. كما كان الطلاب يحرصون على التأدب بآداب شيوخهم كحرصهم على التعلم منهم. وسيأتي بسط هذا الأمر في الباب الرابع من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.
ثالثامايلزم المتلقي عن العلماء من إرشادات.
المتلقىّ للعلم عن العلماء له حالان:
أ ــ إما أن يكون طالبا للعلم يدرس على العلماء، وهذا سنذكر مايلزمه من إرشادات فى الباب الرابع (آداب العالم والمتعلم) إن شاء الله.
ب ــ وإما أن يكون مستفتيا يسأل العلماء في نازلة، وهذا سنذكر مايلزمه من إرشادات في الباب الخامس (أحكام المفتي والمستفتي وآدابها) إن شاء الله.(2/216)
(فائدة) من الوسائل المستحدثة التي تقوم مقام التلقي عن العلماء مشافهة ولو جزئيا: الأشرطة المسجلة لدروس العلماء وشروحهم لبعض كتب العلم الهامة، وإنما قلت: ولو جزئيا، لأنها لاتسمح بالمراجعة والاستفسار، ومع ذلك فهى تحقق كثيراً من فوائد هذا التلقي خاصة من ناحية فهم ما بالكتب.
هذا مايتعلق بالطريق الأول لطلب العلم، وهو التعلم بالتلقي عن العلماء مشافهة.
الطريق الثاني للتعلم: التعلم بمطالعة الكتب:
ونذكر هنا الموضوعات التالية:
1 ــ بيان أن مطالعة الكتب أدنى منزلة من التلقي عن العلماء.
2 ــ بيان السبب الباعث للسلف على كتابة العلم.
3 ــ بيان جواز الاعتماد على مايكتبه العلماء من العلم وشرطـ ذلك.
4 ــ بيان طرق تَحَمُّل مايكتبه العلماء من العلم والفرق بينها.
5 ــ أقوال العلماء في جواز العمل بالوِجادة.
6 ــ إرشادات هامة لمن يتعلم من الكتب.
أولاً ــ بيان أن مطالعة الكتب أدنى منزلة من التلقي عن العلماء:
1 ــ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (خير القرون قرنى، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم) الحديث، متفق عليه، فهذه ثلاثة قرون والمقصود بالقرن الأول منها هم الصحابة رضى الله عنهم، والقرن الثاني التابعون، والثالث أتباع التابعين. وذكر ابن حجر رحمه الله أن القرن الثالث خُتم فى عام مائتين وعشرين هجرية بموت آخر اتباع التابعين، وأنه بعدها تغيّرت الأحوال تغيّراً شديداً وفشت البدع والضلالات، انظر أول الجزء السابع من فتح البارى (صـ 5 ــ 6).
فما كان عليه الصحابة خير مما كان عليه التابعون، وقد ذكرنا أن العلم ــ في القرن الأول ــ كان يؤخذ عن أهله شفاهة وحفظا ولم تكن كتب الحديث والفقه قد كُتِبتْ وإنما حدثت بعد الصحابة رضى الله عنهم. فثبت بهذا الحديث (خير القرون قرني) أن أخذ العلم عن العلماء مشافهة أعلى منزلة وخير من أخذه بمطالعة الكتب.(2/217)
2 ــ قال البخارى رحمه الله (وإنما العلم بالتعلم) أهـ. قال ابن حجر (قوله « إنما العلم بالتَّعلم» هو حديث مرفوع أيضا، أورده ابن أبي عاصم والطبرانى من حديث معاوية أيضا بلفظ « ياأيها الناس تعلموا، إنما العلم بالتعلم، والفقه بالتفقه، ومن يرد الله به خيراً يفقهه في الدين »، إسناده حسن، إلا أن فيه مبهما اعتضد بمجيئه من وجه آخر، وروى البزار نحوه من حديث ابن مسعود موقوفا، ورواه أبو نعيم الأصبهانى مرفوعا. وفى الباب عن أبي الدرداء وغيره. فلا يغتر بقول من جعله من كلام البخارى، والمعنى ليس العلم المعتبر إلا المأخوذ من الأنبياء وورثتهم على سبيل التعلم.) (فتح الباري) جـ 1 صـ 161.
وقد أشار إلى هذا الشاطبى رحمه الله في كلامه المنقول عنه آنفا، وفيه قال (من أنفع طرق العلم الموصِّلة إلى غاية التحقق به أخذه عن أهله المتحققين به على الكمال والتمام) أ هـ.
وأشار إليه ابن خلدون رحمه الله فى (مقدمته) فقال (الفصل الثالث والثلاثون: فى أن الرحلة فى طلب العلوم ولقاء المشيخة مزيد كمال فى التعلم. والسبب في ذلك أن البشر يأخذون معارفهم وأخلاقهم وماينتحلون به من المذاهب والفضائل: تارة علماً وتعليما وإلقاءً، وتارة محاكاة وتلقيناً بالمباشرة. إلا أن حصول المَلَكات عن المباشرة والتلقين أشد استحكاماً وأقوى رسوخا فعلى قدر كثرة الشيوخ يكون حصول المَلَكات ورسوخها) (مقدمة ابن خلدون) صـ 541.
ثانيا ــ بيان السبب الباعث للسلف على كتابة العلم.(2/218)
بدأت كتابة العلوم الشرعية بجمع القرآن، وكان سبب ذلك خشية ضياع شيء منه بسبب موت الحفاظ. فقد روى البخارى عن زيد بن ثابت رضي الله عنه أن أبا بكر الصديق رضى الله عنه قال: إن عمر أتانى فقال إن القتل قد استحرَّ يوم اليمامة بقُراء القرآن، وإني أخشى إن استمر القتل بالقراء بالمواطن فيذهب كثير من القرآن، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن، قلت لعمر: كيف نفعل شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟، قال عمر: هذا والله خير، فلم يزل عمر يراجعنى حتى شرح الله صدرى لذلك ورأيت فى ذلك الذى رأى عمر. قال زيد: قال أبو بكر: إنك رجلٌ شاب عاقل لا نتهمك، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتتبَّع القرآن فاجمعه) الحديث (رقم 4986).
وإذا كان جمع القرآن قد تم في خلافة أبي بكر رضي الله عنه (توفي 13 هـ) وانتشرت المصاحف، فإن جمع السنة تأخر حتى نهاية القرن الأول الهجري وكان الاعتماد على السماع والحفظ وذلك لأن كتابة العلم كانت موضع خلاف بين السلف، كما قال ابن حجر:(لأن السلف اختلفوا في ذلك عملاً وتركا وإن كان الأمر استقر والإجماع انعقد على جواز كتابة العلم بل على استحبابه بل لايبعد وجوبه على من خشي النسيان ممن يتعين عليه تبليغ العلم) (فتح الباري) جـ1 صـ 204.وقال ابن حجر أيضا:(قال العلماء: كره جماعة من الصحابة والتابعين كتابة الحديث واستحبوا أن يؤخذ عنهم حفظاً كما أخذوا حفظاً، لكن لما قصرت الهمم وخشي الأئمة ضياع العلم دَوَّنوه) (فتح الباري) جـ 1 صـ 208.(2/219)
وسبب اختلاف السلف في كتابة الحديث تعارض الأدلة الواردة في المسألة فقد روى مسلم عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه) الحديث (صحيح مسلم بشرح النووي، 18/129). ومع هذا فقد أذن النبي صلى الله عليه وسلم لبعض الصحابة في الكتابة كعبدالله بن عمرو رضي الله عنهما، وذلك فيما رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال (مَا مِن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أحدٌُ أكثرَ حديثا عنه مِني، إلاما كان من عبدالله بن عمرو فإنه كان يكتب ولا أكتب) (حديث 113). وورد إذن النبي صلى الله عليه وسلم في الكتابة عنه صريحاً، وذلك يوم فتح مكة فقد خطب النبي صلى الله عليه وسلم خطبة الفتح فطلب أحد الصحابة أن تُكتب له هذه الخطبة، وذلك فيما رواه البخاري قال (فقام أبو شاه ٍ ــ رجل ٌُ من أهل اليمن ــ فقال: اكتبوا لي يارسول الله ؟، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اكتبوا لأبي شاه ٍ) الحديث (2434). وعلى هذا حَمَل العلماء حديث مسلم في النهي عن كتابة الحديث على أنه خاص بزمن نزول القرآن خشية التباسه بغيره أو أنه منسوخ بما ورد من الإذن في الكتابة. انظر (فتح الباري جـ 1 صـ 208).
ومع نهاية القرن الأول الهجري أخذ السلف في تدوين الحديث ثم دُوِّن الفقه بعد ذلك، ثم الأصول بعده.(2/220)
وإنما أخذ المسلمون في الكتابة خشية النسيان ولقصور الهمم عن الحفظ يدل على هذا ما أمر به عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه من جمع أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وتدوينها، حيث كتب إلى عماله يأمرهم بذلك زمن خلافته (99 ــ 101 هـ) ذكر هذا البخاري رحمه الله في كتاب العلم من صحيحه، في باب (كيف يقبض العلم ؟) قال: وكتب عمر بن عبدالعزيز إلى أبي بكر بن حزم (انظر ما كان من حديث رسول اللهص فاكتبه، فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء، ولاتقبل إلا حديث النبي صلى الله عليه وسلم، ولتُفْشوا العلم ولتجلسوا حتى يعَلَّم من لايَعْلَم، فإن العلم لايَهْلِك حتى يكون سِرّاً) أهـ. ومعنى دروس العلم أي اندثاره وضياعه، وأبو بكر بن حزم: تابعي فقيه استعمله عمر بن عبدالعزيز على إمرة المدينة وقضائها ولهذا كتب إليه.
ثالثا ــ بيان جواز الاعتماد على مايكتبه العلماء من العلم وشرط ذلك.
يدل على هذا:
1 ــ ماأورده البخاري في كتاب العلم من صحيحه في باب (مايُذكر في المناولة، وكتاب أهل العلم بالعلم إلى البلدان). وفيه: وقال أنس: نسخ عثمان المصاحف فبعث بها إلى الآفاق، ورأى عبدالله بن عمر ويحيى بن سعيد ومالك ذلك جائزاً، واحتج بعض أهل الحجاز في المناولة بحديث النبي صلى الله عليه وسلم حيث كتب لأمير السّريّة كتابا وقال: لا تقرأه حتى تبلغ مكان كذا وكذا، فلما بلغ ذلك المكان قرأه على الناس وأخبرهم بأمر النبي صلى الله عليه وسلم.(2/221)
ثم قال البخاري حدثنا إسماعيل بن عبدالله قال حدثني إبراهيم بن سعد عن صالح عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبدالله بن عتبة بن مسعود أن عبدالله بن عباس أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بكتابه رجلاً وأمره أن يدفعه إلى عظيم البحرين، فدفعه عظيمُ البحرين إلى كِسرى، فلما قرأه مزّقه. فحسبتُ أن ابن المُسيَّب قال: فدعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُمَزَّقوا كل ممزق. (حديث 64). وقائل (فحسبتُ...) هو ابن شهاب.
2 ــ وروى مسلم في كتاب اللباس من صحيحه عن أنس رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يكتب إلى كِسرى وقيصر والنجاشي، فقيل إنهم لايقبلون كتابا إلا بخاتم، فصاغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتما حَلْقَتُه فضّة، ونقش فيه محمد رسول الله).أهـ. وكان هؤلاء ملوك الأرض حينئذ وكتب إليهم النبيص يدعوهم إلى الإسلام.
3 ــ وروى البخاري في كتاب الزكاة من صحيحه عن أنس رضي الله عنه (أن أبا بكر رضي الله عنه كتب له هذا الكتاب لما وجّهه إلى البحرين: بسم الله الرحمن الرحيم، هذه فريضة الصدقة التي فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين، والتي أمر الله بها رسوله...) الحديث (1454). ومعنى فريضة الصدقة أي مقادير الزكاة وأنصبتها.
قلت: فلا خلاف بين أهل العلم أن مثل هذه الكتابة المذكورة في الأحاديث السابقة ــ تقوم بها الحجة ويجب العمل بما فيها، وهذا دليل جواز الاعتماد على مايكتبه العلماء من العلم، وشرطه: التحقق من نسبة الكتابة إلى العالم.
قال ابن حجر رحمه الله ــ في شرح الباب المشار إليه في صحيح البخاري ــ (قوله «باب ما يُذكر في المناولة». ولما فَرَغ من تقرير السّماع والعَرْض أردفه ببقية وجوه التحمل المعتبرة عند الجمهور.
فمنها المناولة: وصورتها أن يعطي الشيخُ الطالبَ الكتاب فيقول له: هذا سماعي من فلان، أو هذا تصنيفي فارْوِهِ عني. ــ إلى أن قال ــ(2/222)
والمكاتبة من أقسام التحمل: وهى أن يكتب الشيخ حديثه بخطه، أو يأذن لمن يثق به بكَتْبه، ويرسله بعد تحريره إلى الطالب، ويأذن له في روايته عنه.
وقد سوى المصنِّف بينها وبين المناولة، ورجّح قوم المناولة عليها لحصول المشافهة فيها بالإذن دون المكاتبة. وقد جوَّز جماعة من القدماء إطلاق الإخبار فيهما، والأولى ماعليه المحققون من اشتراط بيان ذلك. ــ إلى أن قال ــ
شرط قيام الحجة بالمكاتبة: أن يكون الكتاب مختوماً، وحامله مؤتمنا، والمكتوب إليه يعرف خط الشيخ، إلى غير ذلك من الشروط الدافعة لتوهّم التغيير، والله أعلم) (فتح الباري) جـ 1 صـ 154 ــ 155.
رابعا ــ بيان طرق تحمّل ما يكتبه العلماء من العلم والفرق بينها.
ما يكتبه العلماء من العلم يصل إلى طالب العلم إما باتصال في السند بين العالم والطالب وإما بانقطاع في السند. وفي كلا الحالين فإن الطالب لايسمعه من العالم (السَّماع) ولايقرأه عليه (العَرْض).
1 ــ طرق مايصل إلى الطالب مما كتبه العالم باتصال السند، منها
أ ــ المناولة: أن يعطي العالم كتابه للطالب ليرويه عنه.
ب ــ والمكاتبة: أن يكتب العالم كتابا ــ أو يأمر ثقة بكتابته ــ ويرسله مع ثقة إلى الطالب بحيث لايشك الطالب أن هذا كتاب العالم.
جـ ــ والإعلام: أن يخبر العالم الطالب أن هذا الكتاب كتابه.
د ــ والوصية: أن يوصي العالم عند سفره أو موته بكتبه أو بكتابه إلى شخص معين، بحيث لايشك الطالب في نسبة الكتاب إلى صاحبه.
2 ــ طرق مايصل إلى الطالب مما كتبه العالم بانقطاع في السند وهو طريق واحد يسمى الوِجادة، مصدر وَجَد، وبهذا الطريق نتحمل العلم من كتب العلم المنتشرة في هذا الزمان سواء كانت كتب تفسير أو حديث أو فقه أو غيرها. وهذا طريق مشروع لتحمّل العلم وروايته والعمل به إذا تحقق الطالب من نسبة الكتاب إلى صاحبه، وتفصيل ذلك فيما يلي:
خامسا ــ أقوال العلماء في جواز العمل بالوِجَادة(2/223)
1 ــ قال النووي رحمه الله (الوِجادة: وهى مصدر لوَجَد، مُوَلَّد غير مسموع من العرب. وهى أن يقف على أحاديث بخط راويها لا يرويها الواجد فله أن يقول وجدت أو قرأت بخط فلان أو في كتابه بخطه حدثنا فلان ويسوق الإسناد والمتن، أو قرأت بخط فلان عن فلان، هذا الذي استمر عليه العملُ قديماً وحديثاً، وهو من باب المنقطع، وفيه شوب اتصال، وجازف بعضهم فأطلق فيها حدثنا وأخبرنا، وأنكر عليه.
وإذا وجد حديثاً في تأليف شخص، قال: ذكر فلان أو قال فلان أخبرنا فلان وهذا منقطع لا شوب فيه، وهذا كله إذا وثق بأنه خطه أو كتابه، وإلا فليقل: بلغني عن فلان، أو وجدت عنه ونحوه، أو قرأت في كتاب: أخبرني فلان أنه بخط فلان، أو ظننت أنه خط فلان، أو ذكر كاتبه أنه فلان، أو تصنيف فلان، أو قيل بخط أو تصنيف فلان.ــ إلى أن قال ــ:
أما العمل بالوِجَادَةِ فنقل عن معظم المحدثين المالكيين، وغيرهم أنه لايجوز. وعن الشافعي ونُظَّار أصحابه جوازه، وقطع بعض المحققين الشافعيين بوجوب العمل بها عند حصول الثقة، وهذا هو الصحيح الذي لايتجه هذه الأزمان غيره.) أهـ (التقريب) للنووي صـ 21. وهو متن كتاب (تدريب الراوي) للسيوطي جـ 2 صـ 60 ــ 63.
2 ــ وقال السيوطي رحمه الله في تعريف الوجادة (قولهم وجادة: فيما أُخِذَ من العِلم من صحيفة من غير سماع ولا إجازة ولا مناولة.) ثم قال السيوطي:
(قال البلقيني: واحتج بعضهم للعمل بالوجادة بحديث: «أي الخلق أعجبُ إيماناً؟ قالوا: الملائكة، قال: وكيف لايؤمنون وهم عند ربهم ؟ قالوا: الأنبياء، قال: وكيف لايؤمنون وهم يأتيهم الوحي، قالوا: نحن، قال: وكيف لاتؤمنون وأنا بين أظهركم، قالوا. فمن يارسول الله ؟ قال: قوم يأتون من بعدكم يجدون صحفاً يؤمنون بما فيها».
قال البلقيني: وهذا استنباط حسن.(2/224)
قلت: المحتج بذلك هو الحافظ عماد الدين بن كثير، ذكر ذلك في أوائل تفسيره. والحديث رواه الحسن بن عرفة في جزئه من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وله طرق كثيرة أوردتها في الأمالي، وفي بعض ألفاظه «بل قوم من بعدكم يأتيهم كتاب بين لوحين يؤمنون به ويعملون بما فيه، أولئك أعظم منكم أجراً» أخرجه أحمد والدارمي والحاكم من حديث أبي جمعة الأنصاري وفي لفظ للحاكم من حديث عمر: يجدون الورق المعلم فيعملون بما فيه، فهؤلاء أفضل أهل الإيمان إيماناً.) أهـ (تدريب الراوي) جـ 2 صـ 64.
3 ــ وقال أبو الحسنات اللكنوي رحمه الله (ت 1304 هـ) ــ بعد كلامه عن أهمية الإسناد في نقل علوم الدين ــ قال رحمه الله (بقي ههنا أمر آخر وهو أنه ــ وإن كان لابد للإسناد في كل أمر من أمور الدين ــ لكن قد يقوم مقامَه نقل ُ مَن يُعتمد عليه، وتصريحُ من يُستند إليه، لاسيما في الأعصار المتأخرة، لفوات اهتمام الإسناد فيها بالشروط المقررة، فإن شُدد فيها بطلب الإسناد في كل أمرٍ فات المراد، فيُكتفى بتصريح مَن عليه الاعتماد.
ولهذا جوَّزوا العمل والإثبات بالأحاديث المدونة في الكتب المعتمدة، وإن لم يوجد لها عند العامل والمثبت طريق متصل إلى صاحب الحديث أو إلى مؤلف الكتب المدونة.
وجوَّزوا أيضا الاعتماد في المسائل الفقهية على نقل معتمدي الملة الحنيفية، وإن لم يوجد عند المفتي سند مسلسل إلى حضرات الأئمة العلية.
قال علي القاري في «مرقاة المفاتيح» ــ عند قول صاحب «المشكاة»: «وإني إذا نسبتُ الحديث إليهم كأني أسندت إلى النبي صلى الله عليه وسلم الخ...» ــ:(2/225)
عُلِمَ من كلام المصنف أنه يجوز نقل الحديث من الكتب المعتمدة التي اشتهرت وصحت نسبتها لمؤلفها كالكتب الستة وغيرها من الكتب المؤلفة، وسواء في جواز نقله مما ذُكر أكان نقله للعمل بمضمونه ــ ولو في الأحكام ــ أو للاحتجاج. ولايُشترط تعدد الأصل المنقول منه. ومااقتضاه كلام ابن الصلاح من اشتراطه حملوه على الاستحباب. ولكن يُشترط في ذلك الأصل أن يكون قد قُوبل على أصل له معتمد مقابلة صحيحة لأنه حينئذ يحصل به الثقة التي مدار الاعتماد عليها صحة ً واحتجاجا.
وعُلم من كلام المصنف أيضا أنه لا يُشترط في النقل من الكتب المعتمدة للعمل أو للاحتجاج أن يكون له به رواية إلى مؤلفيها، ومن ثم قال ابن بَرْهان: ذهب الفقهاء كافة إلى أنه لايتوقف العمل بالحديث على سماعه، بل إذا صحت عنده النسخة من السنن جاز العمل بها وإن لم يسمع. انتهى.
وقال ابنُ الهُمام في «فتح القدير» طريق نقله ــ أي المفتي عن المجتهد ــ أحد أمرين: إما أن يكون له سند، أو يأخذ من كتاب معروف تداولته الأيدي نحو كُتُب محمد بن الحسن ونحوها من التصانيف المشهورة للمجتهدين، لأنه بمنزلة الخبر المتواتر عنه أو المشهور، هكذا ذكر الرازي ــ إلى أن قال اللكنوي ــ
وفي «القُنية» ــ نقلا عن «أصول الفقه» لأبي بكر الرازي ــ: فأما ما يوجد من كلام رجل ــ ومذهبه معروف وقد تداولته النسخ ــ يجوز لمن نظر فيه أن يقول: قال فلانٌ: كذا وكذا، وإن لم يسمعه من أحد، نحو كتب محمد بن الحسن و «موطأ مالك» ونحوها من الكتب المصنفة في أصناف العلوم، لأن وجودها على هذا الوصف بمنزلة الخبر المتواتر والاستفاضة، لا يحتاج إلى إسناد. انتهى.
وفي «تدريب الراوي شرح تقريب النواوي»:
حكى الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني الإجماع على جواز النقل من الكتب المعتمدة، ولا يشترط اتصال السند إلى مصنفيها وذلك شامل لكتب الحديث والفقه.(2/226)
وقال الطبري في «تعليقه»: من وجد حديثا في كتابٍ صحيحٍ جاز له أن يرويه ويحتج به، وقال قوم من أصحاب الحديث: لا يجوز له أن يرويه لأنه لم يسمعه، وهذا غلط. وكذا حكاه إمام الحرمين في «البرهان» عن بعض المحدثين وقال: هم عصبة لا مبالاة بهم في حقائق الأصول ــ يعني المقتصرين على السماع، لا أئمة الحديث ــ.
وقال عز الدين بن عبدالسلام في جواب سؤال كتبه إليه أبو محمد بن عبدالحميد: وأما الاعتماد على كتب الفقه الصحيحة الموثوق بها فقد اتفق العلماء في هذا العصر على جواز الاعتماد عليها، والإسناد إليها، لأن الثقة قد حصلت بها كما تحصلُ بالرواية، ولذلك اعتمد الناس على الكتب المشهورة في النحو واللغة والطب وسائر العلوم لحصول الثقة بها وبُعْدِ التدليس، ومن زعم أن الناس اتفقوا على الخطأ في ذلك فهو أولى بالخطأ منهم، ولولا جواز الاعتماد على ذلك لتعطل كثير من المصالح المتعلقة بها، وقد رجع الشارع إلى قول الأطباء في صور، وليست كتبهم مأخوذة في الأصل إلا عن قوم كفار، ولكن لما بعد التدليس فيها اعتمد عليها، كما اعتمد في اللغة على أشعار العرب وهم كفار، لبعد التدليس.
قال: وكُتُب الحديث أولى بذلك من كتب الفقه وغيرها، لاعتنائهم بضبط النسخ وتحريرها، فمن قال: إن شرط التخريج من كتاب يتوقف على اتصال السند إليه فقد خرق الإجماع. انتهى) من كتاب (الأجوبة الفاضلة للأسئلة العشرة الكاملة) لأبي الحسنات محمد عبدالحي اللكنوي الهندي، بتعليق د.محمد عبدالفتاح أبي غدة، ط مكتب المطبوعات الإسلامية، ط 2، 1402 هـ، صـ 59 ــ 64.(2/227)
4 ــ وقال محمد بن إبراهيم الوزير رحمه الله (لو فرضنا والعياذ بالله خلو الزمان من الحفاظ والثقاة والرواة الأثبات لما تعذر الرجوع إلى السنة العزيزة، وذلك لأن الكتب الصحيحة المتقنة موجودة في المدارس الإسلامية، والعمل بما في الكتب التي عليها خطوط الثقاة الحفاظ شاهدة بالصحة جائِزٌُ عند كثير من أهل العلم وهو الذي يَقْوَي في النظر ويظهر عليه الدليل، بل هو الذي أجمع على جوازه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سيأتي، والعجب من المعترض كيف غفل عن ذلك وهو قول أئمة الزيدية والمعتزلة كما سيأتي، والعمل بهذا هو المعروف في علم الحديث بالوجادة وهو أحد أنواع علوم الحديث وقد ذكرها ابن الصلاح في علوم الحديث وطول الكلام فيها وحكى القول بوجوب العمل بها عن الإمام الشافعي وطائفة من نظار أصحابه في أصول الفقه قال ابن الصلاح رحمه الله وما قطع به هو الذي لايتجه غيره في الأعصار المتأخرة فإنه لو توقف العمل فيها على الرواية لانسد باب العمل بالمنقول لتعذر شرط الرواية فيها على ماتقدم في النوع الأول ــ إلى أن قال ــ إن الصحابة رضي الله عنهم عملوا بها والدليل على ذلك حديث عمرو بن حزم وقد ذكر طرقه الحافظ ابن كثير في إرشاده وقال بعد ذكر الاختلاف في بعض طرقه وعلى كل تقدير فهذا الكتاب متداول بين أئمة الإسلام قديما وحديثا يعتمدون عليه ويفزعون في مهمات هذا الباب إليه كما قال يعقوب بن سفيان لا أعلم في جميع الكتب كتابا أصح من كتاب عمرو بن حزم كان الصحابة والتابعون يرجعون إليه ويدعون آراءهم وصح عن ابن المسيب أن عمر ترك رأيه ورجع إليه قال ابن كثير رواه الشافعي والتابعون بإسناد صحيح إلى ابن المسيب ــ إلى أن قال ــ ظاهر كلام الحافظين يعقوب بن سفيان وابن كثير دعوى إجماع الصدر الأول على قبول حديث عمرو بن حزم وذلك يقتضى دعوى الإجماع على جواز العمل بالوجادة) أهـ (الروض الباسم جـ 1 صـ 33 ــ 35.(2/228)
5 ــ وقال الدكتور محمد عجاج الخطيب (الوجادة ــ بكسر الواو ــ مصدر مُوَلَّد لوَ جَد يجد، غير مسموع من العرب، اصطلح المحدثون على إطلاقه على ماأخذ من العلم من صحيفة، من غير سماع ولا إجازة ولا مناولة، كأن يجد شخص كتابا بخط من عاصره وعرف خطه سواء لقيه أم لم يَلْقَهُ أو بخط من لم يعاصره ولكنه استوثق من أن الكتاب صحيح النسبة إليه بشهادة أهل الخبرة أو بشهرة الكتاب إلى صاحبه أو بسند الكتاب المثبت فيه أو غير ذلك مما يؤكد نسبة الكتاب إلى صاحبه، فإذا ثبت عنده هذا فله أن يروي منه مايشاء على سبيل الحكاية لا على سبيل السماع.
وقد ثبت عن بعض السلف روايتهم عن الصحف والكتب، ومع هذا فقد كانت الرواية وجادةً في العصور المتقدمة نادرة وقليلة لأن جمهور أهل العلم كانوا يفضلون الرواية مشافهة بالسماع أو العرض، بل إن كثيرا من السلف عاب على من يروي من الصحف، وانتشرت بينهم عبارة (لا تقرؤوا القرآن على المصحفيِّين، ولا تحملوا العلم عن الصحفيين) حتى إن بعضهم كان يضعف مايروى من الكتب ــ إلى أن قال ــ
ولايجوز للراوي بالوجادة أن يعزو مايرويه إلى صاحب الكتاب إذا شك في نسبته إليه إلا بما يدل على شكه، كأن يقول: بلغني عن فلان، أو (وجدت في كتاب ظننت أنه كتاب فلان).
كل هذا فيما يتعلق بالرواية وجادة وأما ما يتعلق بالعمل فالصحيح الذي عليه المحققون من أهل العلم أنه يجب العمل بما يجده متى صح إسناده.
والوجادة الموثوق بها التي يطمئن إليها أهل العلم، بالتحقيق من نسبة الموجود إلى صاحبه بمختلف الطرق العلمية ــ لاتقل في قيمتها عن التحمل بالإجازة، لأن الإجازة على حقيقتها وجادة معها إذن من الشيخ بالرواية فحين يروي المرء بالوجادة بشرطها، ويبين أن مايرويه إنما هو قول فلان في كتاب كذا وكذا، فإنه ينقل الخبر بكل أمانة، وكل مافي الأمر عدم اتصال الإسناد بين الناقل والشيخ ومع هذا ففي نقله شبه اتصال السند بينهما.(2/229)
وليس لأحد أن يشك في قيمة التحمل عن طريق الوجادة الموثوق بها، ولا في صحة هذا التحمل حين يؤديه مَن نثق به، لأن جميع ما ننقله اليوم من الأحاديث النبوية الشريفة من الكتب الصحيحة، وجميع ماينقله أهل العلوم المختلفة من مؤلفاتها إنما هو ضرب من الوجادة ولو توقف العمل فيها على السماع والرواية لانسد باب العمل بالمنقول لتعذر شرط الرواية كما قال ابن الصلاح).أهـ (أصول الحديث) للدكتور محمد عجاج الخطيب، ط دار الفكر 1401 هـ، صـ 244 ــ 247.
فهذا كلام العلماء فيما يتعلق بمشروعية الرواية بالوجادة والعمل بها أي التعلم من الكتب ونذكر فيما يلي مايلزم المتعلم من الكتب من إرشادات.
سادسا ــ إرشادات هامة لمن يتعلّم من الكتب:
(تمهيد) إذا كُنت قد ذكرتُ (التعلم بمطالعة الكتب) في كيف يطلب العامى العلم ؟، فإننى أعنى هنا العامى الذي لديه نوع أهلية لمطالعة الكتب وفهم مافيها، وفهم الدليل الشرعي ومايدل عليه من فوائد. وهذه الأهلية متحققة بحمد الله تعالى في كثير من الشبان المتدينين الآن، وهذا النوع ــ وهو العامي الذي له نوع أهلية ــ ذكره ابن القيم في قوله: مسألة (إذا كان عند الرجل الصحيحان أو أحدهما أو كتاب من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم موثوق بما فيه، فهل له أن يفتى بما يجده فيه؟) عرض ابن القيم الأقوال فى هذه المسألة ثم قال (وهذا كله إذا كان ثَمَّ نوع أهلية ولكنه قاصر في معرفة الفروع وقواعد الأصوليِّين والعربية، وإذا لم تكن ثمَّة أهلية قط ففرضه ماقال الله تعالى «فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لاتعلمون») (اعلام الموقعين) جـ 4 صـ 234 ــ 235. وستأتى هذه المسألة بالتفصيل إن شاء الله فى باب أحكام المفتى، وإنما أوردنا هنا منها مايفيد تقسيم ابن القيم العامى إلى نوعين: نوع له ثمّة أهلية للنظر فى الكتب ونوع ليست له أهلية البتة.
بعد هذا التمهيد نذكر المقصود من هذه المسألة، وهى إرشادات هامة لمن يتعلم من الكتب، فنقول:(2/230)
1 ــ لا يلجأ المسلم إلى التعلم من الكتب إلا إذا انسدّ أمامه باب التلقى مشافهة من العلماء، فهذا هو الأصل فى التعلم كما ذكرنا أدلته فى الطريق الأول للتعلم. والحق أن الواقع المعاصر يضطر المسلم فى أحيان كثيرة إلى التعلم من الكتب لتعذر التلقى عن العلماء لأسباب منها:
* أن أغلب العلماء اليوم إنما يتعلمون بالوجادة (أي من الكتب) أيضا، فأسانيد تحمّل كتب السلف منقطعة اليوم في الأغلب الأعم، ومن كان له إسناد متصل يروى به كتابا من كتب السلف ككتب السنة الأصلية فإن هذا الإسناد المتصل عادة لاتكون له قيمة كبيرة لجهالة حال كثير من رجال السند المتأخرين بما يجعله فى حكم المنقطع، وذلك نظراً لتوقف تدوين الجرح والتعديل منذ زمن، وذلك بسبب اكتفاء العلماء بشهرة نسبة الكتب الهامة إلى أصحابها بما يغنى عن تحملها بالإسناد المتصل. فانحصرت أهمية العالم المُعَلِّم اليوم في الإرشاد إلى الكتب الجيدة وفهم المكتوب فيها.
* ومنها قَصْر تعليم العلم اليوم على طلاب المعاهد الشرعية، فيتعذر على غير طلابها تلقي العلم من علمائها الذين لم يعودوا يجلسون فى المساجد كما كان السلف، فإذا رغب مسلم من غير طلاب هذه المعاهد في التعلم فليس أمامه ــ عادة ــ إلا الكتب.
* ومنها أن مايدرس في بعض المعاهد وبعض البلدان من الكتب والمناهج قد لايكون هو الاختيار الأمثل، كمناهج الاعتقاد، فإن غالب مايدرس فى معظم المعاهد فى شتى البلدان هو اعتقاد الأشاعرة بما يشتمل عليه من التأويل فى الصفات والإرجاء فى الإيمان، فمن أراد تعلم الصواب (وهو اعتقاد أهل السنة) من طلاب هذه المعاهد وغيرهم فليس أمامه إلا الكتب.
* ومنها ندرة العلماء الأمناء الذين يوثق بعلمهم وفهمهم، هذا فضلا عن ندرة العلماء الذين يتكلمون فى النوازل خاصة مايتعلق منها بالسياسة والسلطان، لأسباب معروفة.(2/231)
* ومنها أن العلماء الأمناء كثيراً مايوجدون في بلد ٍ دون بلد ٍ، مع تعذر الرحلة إليهم على كثير من المسلمين، حتى لايجد هؤلاء أمامهم إلا التعلم من الكتب.
ومع ذلك، فقد ذكرت آنفا أن من الوسائل المستحدثة التي تقوم مقام التلقي مشافهة عن العلماء جزئيا: الأشرطة المسجلة لدروس العلماء وشروحهم لبعض كتب العلم الهامة، وإنما قلت: جزئياً، لأن هذه الوسيلة لاتسمح بالمراجعة والاستفسار.
2 ــ فإذا لجأ المسلم إلى التعلم من الكتب، فأهم مايُنصح به هو حسن اختيار الكتاب فى كل صنف من صنوف العلم. فقد تكون نجاته فى حسن الاختيار، وقد يكون هلاكه فى سوء الاختيار، وسوف نذكر أهمية إحسان اختيار الكتاب في الباب التالي (الرابع) إن شاء الله، كما سنذكر في الباب السابع الكتب المختلفة التي ننصح بقراءتها في كل صنف من صنوف العلم.
3 ــ فإذا أحسن طالب العلم اختيار الكتاب فى علم من العلوم، فإنه عادة مايلزمه إرشاد الذين سبقوه فى تعلم هذا العلم من العلماء ومن طلاب العلم المتقدمين، لفهم مصطلحات العلم الذي يدرسه وفهم موضوعاته. ولهذا قال الشاطبي (وهو معنى قول من قال «كان العلم فى صدور الرجال، ثم انتقل إلي الكتب، وصارت مفاتحه بأيدي الرجال» والكتب وحدها لاتفيد الطالب منها شيئا دون فتح العلماء) (الموافقات) جـ 1 صـ 97. وللتغلُّب ــ جزئيا ــ على هذه العقبة أنصح من لم يجد من يُعَرِّفُه معاني ما بالكتب بنصيحتين:(2/232)
إحداهما: ألا يبدأ دراسته لعلم من العلوم بدراسة متن أو مختصر موجز، وإنما يبدأ بكتاب متوسط، عند انعدام العالم المرشد. وذلك لأن المتون والمختصرات وضعت ليشرحها الشراح المعلِّمون، فإذا عُدِم هؤلاء فيلجأ إلى الشروح المتوسطة مباشرة. وإنما نصحنا هنا بالشروح المتوسطة لا المبسوطة المطوَّلة، لأن المتوسطة عادة ماتقتصر على ذكر أمهات مسائل الفَنِّ وأقوى الأقوال فيها فيسهل على المتبديء استيعابها، أما الشروح المطوّلة فتذكر المسائل الجلية والنادرة وتذكر الراجح والمرجوح من الأقوال وقد يخفى على المبتديء تمييز الجلي من النادر، والراجح من المرجوح فيشوَّش عقله ويعسر عليه الفهم والاستيعاب بما قد يجعله ينقطع عن متابعة الدراسة.
والنصيحة الثانية: أن يقرأ في أكثر من مصدر في نفس المادة في وقت واحد إذا انغلق عليه الفهم من المصدر الأول. فأحيانا تقرأ كتابا في مادة وتتوقف عند مصطلح لاتفهمه، فإذا راجعت كتابا آخر في نفس المادة فقد تجد شرح هذا المصطلح الغامض إما في صلب الكتاب أو في هامشه. وربما أرشدك في هامشه لمرجع ثالث يفيدك أكثر. وهذا الكلام يشبه جمع روايات الحديث الواحد، فقد تَرِدُ في إحدى روايات الحديث كلمة غريبة، أو رجل مبهم، أو مكان مبهم ويتبيّن المراد من كل هذا بمراجعة الروايات الأخرى لنفس الحديث.
وخلاصة ماسبق من إرشادات أن المتعلم من الكتب يُنصح بأمرين: حسن اختيار الكتاب، والبحث عمن يُفَهِّمه مصطلحات الكتاب ومعانيه. وقد جمع الشاطبي رحمه الله هاتين النصيحتين في كلامه عن الطريق الثاني للتعلم. فقال («الطريق الثاني» مطالعة كتب المُصَنِّفين، ومدوِّني الدواوين. وهو أيضا نافع في بابه بشرطين:(2/233)
«الأول» أن يحصل له من فهم مقاصد ذلك العلم المطلوب، ومعرفة اصطلاحات أهله، مايتم له به النظر في الكتب. وذلك يحصل بالطريق الأول من مشافهة العلماء أو مما هو راجع إليه، وهو معنى قول من قال «كان العلم في صدور الرجال، ثم انتقل إلى الكتب، وصارت مفاتحه بأيدي الرجال». والكتب وحدها لاتفيد الطالب منها شيئا، دون فتح العلماء، وهو مُشَاهدٌ معتاد.
«والشرط الثاني» أن يتحرى كتب المتقدمين من أهل العلم المراد، فإنهم أقعد به من غيرهم من المتأخرين، وأصل ذلك التجربة والخبر: أما التجربة فهو أمر مشاهد في أي علم كان، فالمتأخر لايبلغ من الرسوخ في علم ٍ ما مابلغه المتقدم ــ إلى أن قال ــ وأما الخبر ففي الحديث «خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم»، وفي هذا إشارة إلى أن كل قرن مع مابعده كذلك. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم «أول دينكم نبوة ورحمة ثم مُلك ورحمة، ثم مُلك وجبرية، ثم مُلك عضوض»، ولايكون هذا إلا مع قلة الخير وتكاثر الشر شيئا بعد شيء. ــ إلى أن قال ــ فلذلك صارت كتب المتقدمين وكلامهم وسيَرهم أنفع لمن أراد الأخذ بالاحتياط في العلم، على أي نوع ٍ كان، وخصوصا علم الشريعة) أهـ (الموافقات) جـ 1 صـ 97 ــ 99.
وبهذا نختم الكلام في هذه المسألة وهى (كيف يطلب العامي العلم ؟). ثم ننتقل إلى المسألة الثالثة في هذا الفصل.
******
المسألة الثالثة: ما يجب على العامي من تبليغ العلم
ونذكر فيها ثلاث مسائل: الأدلة على وجوب تلبيغ العامي للعلم، وشروط تبليغ العامي للعلم، وصور تبليغ العامي للعلم.
أولا: الأدلة على وجوب تبليغ العامي للعلم:(2/234)
1 ــ منها قول النبي صلى الله عليه وسلم (ليُبلِّغ الشاهد الغائب) الحديث متفق عليه، ولم يقيد البلاغ ببلوغ الغاية في العلم، ومعلوم أن الصحابة رضي الله عنهم كان فيهم العلماء (وهم القُرَّاء) وغير العلماء، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم (ألا سألوا إذا لم يعلموا، فإنما شفاء العِيّ السؤال) الحديث وقد سبق. فأمرهم صلى الله عليه وسلم جميعا بالتبليغ ولم يفرق بين عالم وغير عالم.
2 ــ ويؤكد هذا قوله صلى الله عليه وسلم (نضَّر الله امْرَأً سَمِع مقالتي فبلَّغها، فرُبَّ حامل فِقه غير فقيه، ورُبّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه) رواه أحمد بإسناد صحيح عن زيد بن ثابت رضي الله عنه، وموضع الدلالة منه قوله صلى الله عليه وسلم (غير فقيه) ومع هذا حَثّه على تبليغ العلم. قال ابن حجر رحمه الله (فيه الحثّ على تبليغ العلم، وأن الفهم ليس شرطا في الأداء) (فتح الباري) جـ 1 صـ 159.
ثانيا: شروط تبليغ العامي للعلم:
وشرطه: ضبط العامي لما ينقله من العلم. وأعلى الضبط أن يُبَلِّغ ماعلمه باللفظ الذي سمعه دون تصرف منه فيه وإن ظن أنه لايُخل بالمعنى. لأنه ليس من أهل ذلك، فإن الذين جوَّزوا رواية الحديث بالمعنى اشترطوا أن يكون الراوي فقيها عالما باللغة.
والدليل على ما ذكرناه من شرط:
1 ــ قول النبي صلى الله عليه وسلم (نضّر الله امرْأَ سمع منا شيئا فبلّغه كما سمعه، فرُب مُبَلَّغ أوعى من سامع) رواه الترمذي عن ابن مسعود رضي الله عنه، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
وموضع الدلالة في هذا الحديث، قوله صلى الله عليه وسلم (فبلّغه كما سمعه). وهذا يدل على شرط ضبط العامي لما ينقله من العلم إلى غيره، وهذا الشرط يحقق فائدتين:
الأولى: نشر العلم بقيام العالم وغير العالم بواجب التبليغ، فَيَعْظُم نشر العلم بهذا، خاصة في الأماكن التي تخلو من العلماء ويتعذر على أهلها الوصول إلى العلماء.
الثانية: الأمن من التحريف والتبديل، بضبط العامي لما ينقله.(2/235)
ثالثا: صور تبليغ العامي للعلم:
منها: التعليم والفتوى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
1 ــ التعليم: يُبلِّغ العامي العلم بتعليمه لغيره، بالشرط السابق، خاصة مَن هم في مسئوليته كأهله وخدمه. قال تعالى (قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة) التحريم، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته) الحديث متفق عليه.
قال أبو حامد الغزالي رحمه الله (وكل عامي عرف شروط الصلاة فعليه أن يعرِّف غيره، وإلا فهو شريك في الإثم، ومعلوم أن الإنسان لايولد عالما بالشرع وإنما يجب التبليغ على أهل العلم، فكل من تعلم مسألة واحدة فهو من أهل العلم بها ــ إلى أن قال ــ فحقّ على كل مسلم أن يبدأ بنفسه فيصلحها بالمواظبة على الفرائض وترك المحرمات، ثم يعلم ذلك أهل بيته، ثم يتعدى بعد الفراغ منهم إلى جيرانه، ثم إلى أهل محلته، ثم إلى أهل بلده، ثم إلى أهل السوادي المكتنف ببلده، ثم إلى أهل البوادي من الأكراد والعرب وغيرهم، وهكذا إلى أقصى العالم، فإن قام به الأدنى سقط عن الأبعد، وإلا حرج به على كل قادر عليه قريباً كان أو بعيداً، ولا يسقط الحرج مادام يبقى على وجه الأرض جاهل بفرض من فروض دينه وهو قادر على أن يسعى إليه بنفسه أو بغيره فيعلمه فرضه، وهذا شغل شاغل لمن يهمه أمر دينه يشغله عن تجزئة الأوقات في التفريعات النادرة والتعمق في دقائق العلوم التى هى من فروض الكفايات ولا يتقدّم على هذا إلا فرض عين أو فرض كفاية هو أهم منه) أهـ (إحياء علوم الدين) جـ 2 صـ 370 ــ 371.(2/236)
2 ــ الفتوى: هذه هى الصورة الثانية التي يُبَلِّغ العامي فيها العلم إلى غيره، وسوف نذكرها ــ إن شاء الله ــ في الباب الخاص بأحكام المفتي عند الكلام عن مراتب المفتين. وحاصلها أن العامي يجوز له أن يخبر غيره بفتوى العالم في مسألة ما، ويكون قول العامي في هذا من باب الإخبار لا الفتوى. وسيأتي هذا بالتفصيل في الباب الخامس إن شاء الله.
3 ــ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: إذ إن أول مراتب الإنكار: التعريف وهو تعليم، فللعامي أن ينكر فيما يعرف حكمه كالمعلوم من الدين بالضرورة من الفروض الواجبة والمحرمات المشهورة. لقوله صلى الله عليه وسلم (من رأى منكم منكراً فليغيره) الحديث رواه مسلم، وهو فرض كفاية وقد يتعيَّن في أحوال.
******
خاتمة هذا الفصل
في هذا الفصل المعقود لبيان (واجب العامي في طلب العلم وتبليغه) تكلمنا في ثلاثة موضوعات وهي:
الأول: وقت وجوب طلب فرض العين من العلم.
والثاني: كيف يطلب العامي العلم ؟ وأن له طريقين: التعلم من العلماء أو من الكتب.
والثالث: مايجب على العامي من تبليغ العلم.
وخلال حديثنا في هذا الفصل أشرنا إلى عدة موضوعات وأرجأنا الكلام فيها إلى أبواب قادمة لأنها وإن كانت مرتبطة بطلب العامي للعلم إلا أنها بحاجة إلى عرض مفصل لايناسبه هذا المقام فآثرنا إفرادها بأبواب مستقلة قادمة إن شاء الله، وهذه الموضوعات هي:
آداب العالم والمتعلم، وموضعها في الباب الرابع.
وأحكام المفتي والمستفتي وآدابهما، وموضعها في الباب الخامس.
والكتب التي ننصح بدراستها في صنوف العلم المختلفة، وموضعها في الباب السابع من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.(2/237)
الفصل الرابع
واجب الرجل في تعليم أهله
كان الفصل السابق (واجب العامي في طلب العلم وتبليغه) معقوداً لبيان مايجب على كل مسلم في خاصة نفسه.
أما هذا الفصل فهو معقود لبيان أن واجب المسلم لايقتصر على العناية بأمر نفسه فقط في طلب العلم، وإنما هو مكلف أيضا ــ مع هذا ــ بتعليم غيره، وقد أشرنا إلى هذا في المسألة الأخيرة من الفصل السابق (واجب العامي في تبليغ العلم)، وأول من يجب على المسلم تعليمهم هم أهله من زوجته وأبنائه ثم خدمِه وسائر من هو مسئول عنهم. وإذا أطلقنا لفظ (أهله) في هذا الفصل فلا نقصد قصره على الزوجة بل سائر من ذكرنا هنا، ولهذا سوف نشير إليهم بضمير جمع المذكر (هم) لا المؤنث (هن).
وسوف يشتمل هذا الفصل على أربع مسائل وهى: الأولى: الأدلة على مسئولية الرجل عن تعليم أهله، والثانية: كيف يعلِّمُ الرجلُ أهلَه؟.، والثالثة: مايجب أن يعلمه الرجلُ أهلَه، والرابعة: متى يبدأ تعليم الصغير؟.
******
المسألة الأولى: الأدلة على مسئولية الرجل عن تعليم أهله
ونذكر الأدلة على هذا من كتاب الله ثم من السنة ثم نذكر أقوال العلماء فيها.
أولا ـــ الأدلة من كتاب الله تعالى:
1 ــ منها قوله تعالى (ياأيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غِلاظ شِداد لا يعصون الله ماأمرهم ويفعلون مايُؤمرون) التحريم 6.(3/1)
قال ابن كثير رحمه الله (قال سفيان الثوري عن منصور عن رجل عن علي رضي الله عنه في قوله تعالى (قوا أنفسكم وأهليكم ناراً) يقول أدبوهم وعلموهم، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (قوا أنفسكم وأهليكم ناراً) يقول اعملوا بطاعة الله واتقوا معاصي الله وَأْمُروا أهليكم بالذكر ينجيكم الله من النار، وقال مجاهد (قوا أنفسكم وأهليكم ناراً) قال اتقوا الله وأوصوا أهليكم بتقوى الله، وقال قتادة: تأمرهم بطاعة الله وتنهاهم عن معصية الله وأن تقوم عليهم بأمر الله وتأمرهم به وتساعدهم عليه فإذا رأيت لله معصية قَذَعْتهم عنها وزجرتهم عنها، وهكذا قال الضحاك ومقاتل: حق المسلم أن يعلِّم أهله من قرابته وإمائه وعبيده مافرض الله عليهم ومانهاهم الله عنه. وفي معنى هذه الآية الحديث الذي رواه أحمد وأبو داود والترمذي من حديث عبدالملك بن الربيع بن سبرة عن أبيه عن جده قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «مروا الصبي بالصلاة إذا بلغ سبع سنين فإذا بلغ عشر سنين فاضربوه عليها» هذا لفظ أبي داود وقال الترمذي هذا حديث حسن، وروى أبو داود من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن رسول اللهص مثل ذلك. قال الفقهاء: وهكذا في الصوم ليكون ذلك تمريناً له على العبادة لكي يبلغ وهو مستمر على العبادة والطاعة ومجانبة المعاصي وترك المنكر، والله الموفق) (تفسير ابن كثير) جـ 4 صـ 391.
2 ــ وقوله تعالى (وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها) طه 132.
قال ابن كثير رحمه الله (وقوله «وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها» أي استنقذهم من عذاب الله بإقام الصلاة واصبر أنت على فعلها، كما قال تعالى « ياأيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً ».) (تفسير ابن كثير) جـ 3 صـ 171.(3/2)
3 ــ وقوله تعالى (ومن يرغب عن مِلّة إبراهيم إلا من سَفِه نفسه، ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين، إذ قال له ربه أسْلِم، قال أسلمت لرب العالمين، ووصى بها إبراهيمُ بنيه ويعقوبُ يابني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون، أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوبَ الموتُ إذ قال لبنيه ماتعبدون من بعدي، قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق، إلها واحداً ونحن له مسلمون) البقرة 130 ــ 133.
قال ابن كثير رحمه الله (وقوله «يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون» أي أحسِنوا في حال الحياة والزموا هذا ليرزقكم الله الوفاة عليه، فإن المرء يموت غالبا على ماكان عليه ويُبعث على ما مات عليه، وقد أجرى الله الكريم عادته بأن من قصد الخير وُفِّقَ له وُيِّسَر عليه ومن نوى صالحا ثبت عليه. وهذا لا يعارض ما جاء في الحديث الصحيح «إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى مايكون بينه وبينها إلا باع أو ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها. وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار حتى مايكون بينه وبينها إلا باع أو ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها» لأنه قد جاء في بعض روايات هذا الحديث «فيعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس ويعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس» وقد قال الله تعالى (فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذّب بالحسنى فسنيسِّره للعسرى) ــ ثم قال ابن كثير في قوله تعالى «أم كنتم شهداء...» يقول تعالى محتجا على المشركين من العرب أبناء إسماعيل وعلى الكفار من بني إسرائيل ــ وهو يعقوب بن إسحق بن إبراهيم عليهم السلام ــ بأن يعقوب لما حضرته الوفاة وصَّى بنيه بعبادة الله وحده لاشريك له، فقال لهم (ما تعبدون من بعدي، قالوا نعبد إلهك) (تفسيرابن كثير) جـ 1 صـ185 ــ 186.(3/3)
وموضع الدلالة في هذه الآيات: بيان حرص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام على وصية أبنائهم بالدين وشرائعه وعلى رأسها التوحيد. وقد أمرنا الله تعالى بالاقتداء بهم في قوله عزوجل (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده) الأنعام 90.
4ــ وقول الله تعالى (وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظُه يابني لاتُشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم، ووصّينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهناً على وهن وفصالُهُ في عامين أن اشكر لي ولوالديك إلىّ المصير، وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا، واتبع سبيل من أناب إلى ّ، ثم إلى مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون. يابني إنها إن تك مثقال حبة ٍ من خردل فتكن في صخرة أو في السموات أو في الأرض يأت بها الله، إن الله لطيف خبير. يابني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانْه عن المنكر واصبر على ماأصابك، إن ذلك من عزم الأمور، ولا تصعِّر خدّك للناس، ولاتمش في الأرض مرحاً إن الله لا يحب كل مختال فخور، واقصد في مشيك واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير) لقمان 13 ــ 19.
اشتملت موعظة لقمان لابنه على التحذير من الشرك وعلى الوصية بالصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم أوصاه بأصول مكارم الأخلاق مع والديه وفي ذات نفسه. وهذا مَثَلٌ ضربه الله للآباء ليسيروا على نهجه في موعظة أبنائهم، قال تعالى (لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب) يوسف 111.
قال ابن كثير رحمه الله (يقول تعالى مُخبراً عن وصية لقمان لولده... الذي هو أشفق الناس عليه وأحبهم إليه، فهو حقيقٌ أن يمنحه أفضل مايَعرِف، ولهذا أوصاه أولا بأن يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئا ثم قال محذراً له «إن الشرك لظلم عظيم» أي هو أعظم الظلم) (تفسير ابن كثير) جـ 3 صـ 444 باختصار يسير.(3/4)
(فائدة) اتفقت هذه الآيات المشتملة على وصية لقمان، والآيات قبلها المشتملة على وصية إبراهيم ويعقوب عليهما السلام على أن أهم مايُوصَى به الأبناء هو التوحيد مع تحذيرهم من الشرك. وقد دَلّ علي هذا أيضا قول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل لما أرسله إلي اليمن (إنك تقدم على قوم من أهل الكتاب فليكن أول ماتدعوهم إلى أن يوحّدوا الله تعالى فإذا عرفوا ذلك فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم، فإذا صلوا فأخبرهم أن الله افترض عليهم زكاة أموالهم تؤخذ من غنيّهم فتُرَد على فقيرهم، فإذا أقروا بذلك فخذ منهم وتَوَقّ كرائم أموال الناس) متفق عليه، واللفظ للبخاري (7372). فأوجب معرفة التوحيد قبل الفرائض إذ لاتصح ولاتقبل إلا به. وقد أشرنا إلى هذا فى الكلام عن صفة فرض العين من العلم، في الفصل الثانى من الباب الثانى.
وبعد، فقد كانت هذه بعض الأدلة من كتاب الله تعالى على مسئولية الرجل عن تعليم أهله.
ثانيا ــ الأدلة من السنة:
1 ــ منها حديث مالك بن الحويرث رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال لهم (ارجعوا إلى أهليكم فعلّموهم) الحديث رواه البخارى، وقد سبق.
2 ــ ومنها حديث وفد عبد القيس أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرهم عن شرائع الإيمان وقال لهم (احفظوه وأخبروا مَنْ وراءكم) الحديث رواه البخارى، وقد سبق.
3 ــ ومنها قوله صلى الله عليه وسلم (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، الإمام راع ومسئول عن رعيته، والرجل راع فى أهله ومسئول عن رعيته، والمرأة راعية فى بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسئول عن رعيته، فكلكم راع ومسئول عن رعيته) متفق عليه. وموضع الدلالة منه قوله صلى الله عليه وسلم (الرجل راع ومسئول عن رعيته).(3/5)
4 ــ وقوله صلى الله عليه وسلم (مُروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر ٍ، وفرِّقوا بينهم في المضاجع) رواه أبوداود بإسناد حسن عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضى الله عنه.
وراوه أبوداود والترمذي عن سَبْرة بن مَعْبَد الجهني رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (علِّموا الصبي الصلاة لسبع سنين، واضربوه عليها ابن عشر سنين) وقال الترمذي حديث حسن.
وقد سبق شرح هذا الحديث وبيان دلالته فى أول الفصل السابق في مسألة (وقت وجوب طلب العلم).
5 ــ وقال البخاري رحمه الله (وقيَّد ابنُ عباس عكرمة علي تعلُّم القرآن والسُّنن والفرائض (كتاب الخصومات ــباب 7).
قال ابن حجر ــ فى هذا الأثر المعلّق ــ (وصله ابن سعد في «الطبقات» وأبو نعيم في «الِحلية» من طريق حمّاد بن زيد عن الزبير بن الخِرِّيت عن عكرمة قال «كان ابن عباس يجعل فى رجلى الكَبْل» فذكره، والكبل بفتح الكاف وسكون الموحدة بعدها لام هو القيد) (فتح الباري) جـ 5 صـ 75.
والأثر يدل على حرص ابن عباس رضى الله عنهما على تعليم عكرمة وهو مولاه حتى أنه كان يُقَيِّده في رِجْله لأجل ذلك، فالحرص على تعليم الأبناء من باب أولى.
وبعد، فهذه هي الأدلة من السنة على وجوب تعليم الرجل أهله من النساء والأطفال وغيرهم. ثم نذكر أقوال العلماء فى المسألة.
ثالثا ــ أقوال العلماء في وجوب تعليم الرجل أهله:
1 ــ ابن حزم رحمه الله ــ بعد أن ذكر فرض العين من العلم ــ قال (فهذا كله لايسع جهله أحداً من الناس، ذكورهم وإناثهم، أحرارهم وعبيدهم وإمائهم، وفرض عليهم أن يأخذوا في تعلمّ ذلك من حين يبلغون الحلم وهم مسلمون، أو حين يُسلمون بعد بلوغهم الحلم، ويجبر الإمام أزواج النساء وسادات الأرقاء على تعليمهم ماذكرنا إما بأنفسهم وإما بالإباحة لهم لقاء مَن يعلمهم) (الإحكام) جـ 5 صـ 122.(3/6)
2 ــ الخطيب البغدادى رحمه الله، قال كلاماً مثل كلام ابن حزم هذا، ثم أفرد فصلاً للمسألة فقال (ماجاء في تعليم الرجال أولادهم ونساءهم، والسادات عبيدهم وإماءهم) وذكر فيه الأحاديث التي ذكرناها آنفا (كلكم راع) و (مروا الصبى بالصلاة ابن سبع).(الفقيه والمتفقه) جـ 1 صـ 46 ــ 47
3 ــ ابن قدامة رحمه الله قال (قال القاضي: يجب على وَلِىّ الصبى أن يعلّمه الطهارة والصلاة إذا بلغ سبع سنين ويأمره بها ويلزمه أن يؤدبه عليها إذا بلغ عشر سنين، والأصل في ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم «علّموا الصبي الصلاة ابن سبع سنين، واضربوه عليها ابن عشر سنين» رواه الأثرم وأبوداود والترمذى وقال حديث حسن وهذا اللفظ رواية الترمذى، ولفظ حديث غيره «مروا الصبي بالصلاة لسبع سنين، واضربوه عليها ابن عشر وفرقوا بينهم في المضاجع» وهذا التأديب المشروع فى حق الصبى لتمرينه على الصلاة كى يألفها ويعتادها ولايتركها عند البلوغ، وليست واجبة عليه فى ظاهر المذهب) (المغنى والشرح الكبير، 1/647). وقول ابن قدامة (وليست واجبة عليه) أى الصلاة ذاتها، وتصح من الصبى المميز ويُثاب عليها، كما سبق بيانه.
4 ــ النووي رحمه الله قال (قال الشافعي والأصحاب رحمهم الله على الأباء والأمهات تعليم أولادهم الصغار ما سيتعين عليهم بعد البلوغ فيعلمه الولى الطهارة والصلاة والصوم ونحوها ويعرّفه تحريم الزنا واللواط والسرقة وشرب المسكر والكذب والغيبة وشبهها: ويعرّفه أنّه بالبلوغ يدخل في التكليف ويعرِّفه مايبلغ به.
وقيل هذا التعليم مستحب والصحيح وجوبه وهو ظاهر نصّه كما يجب عليه النظر فى ماله وهذا أولى، وإنما المستحب مازاد على هذا من تعليم القرآن وفِقْه وأدب، ويعرّفه مايُصْلح به معاشه.(3/7)
ودليل وجوب تعليم الولد الصغير والمملوك قول الله عز وجل (يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً). قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه ومجاهد وقتادة معناه علّموهم ما ينجون به من النار وهذا ظاهر وثبت فى الصحيحين عن ابن عمر رضى الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال « كلكم راع ومسئول عن رعيته »
ثم أجرة التعليم في النوع الأول في مال الصبي فإن لم يكن له مال فَعَلى من تلزمه نفقته وأما الثاني فذكر الإمام أبومحمد الحسين بن مسعود البغوى صاحب « التهذيب » فيه وجهين وحكاهما غيره أصحهما فى مال الصبى لكونه مصلحة له: والثاني في مال الولي لعدم الضرورة إليه. واعلم أن الشافعى والأصحاب إنما جعلوا للأم مدخلا في وجوب التعليم لكونه من التربية وهي واجبة عليها كالنفقة والله أعلم.) (المجموع) جـ 1 صـ 26. وقول النووى ــ فى كلامه عن أجرة التعليم ــ: النوع الأول يعني العلم الواجب، وقوله النوع الثانى يعني العلم المستحب كما قسَّمه في كلامه السابق.
5 ــ شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قال (ويجب تعليم أولاد المسلمين ماأمر الله بتعليمهم إياه، وتربيتهم على طاعة الله ورسوله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (مروهم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر وفرّقوا بينهم في المضاجع)) (مجموع الفتاوى) جـ 11 صـ 504.
******
المسألة الثانية: كيف يُعلِّم الرجلُ أهله؟
يقوم الرجل بتعليم أهله ومَن هم في مسئوليته بوسيلة من ثلاث: أن يعلمهم بنفسه، أو أن يسأل العلماء نيابة عنهم، أو أن يمكِّنهم من طلب العلم. كالتالي:
1 ــ الوسيلة الأولى: أن يعلمهم بنفسه:
وذلك بأن يطلب الرجل ما يجب عليه من العلم وما يلزم أهله من العلم ثم يعلمهم ماتعلّمه، ودليله قول النبي صلى الله عليه وسلم لمالك بن الحويرث (ارجعوا إلى أهليكم فعلموهم) الحديث وذلك بعدما أقاموا عند النبي صلى الله عليه وسلم وتعلّموا، فأمرهم أن يعلموا أهليهم.(3/8)
والحديث كما رواه البخارى فى إحدى رواياته، عن مالك بن الحويرث رضى الله عنه قال: أتينا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ونحن شَبَبَةٌ متقاربون فأقمنا عنده عشرين يوماً وليلة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رحيما رفيقاً، فلما ظنَّ أنّا قد اشتهينا أهلنا ــ أوقد اشتقنا ــ سَأَلَنا عمن تركناه بعدنا، فأخبرناه، قال: «ارجعوا إلى أهليكم فأقيموا فيهم وعلّموهم ومروهم ــ وذكر أشياء أحفظها أو لا أحفظها ــ وصَلّوا كما رأيتموني أصلي، فإذا حضرت الصلاة فليؤذِّن لكم أحدكم وليؤمَِّكم أكبرُكم» (حديث 631).
2 ــ الوسيلة الثانية: أن يسأل العلماء نيابة عنهم:
فإذا أراد الرجل أن يعلِّم أهله شيئا يجهله، أو إذا نزلت بأهله نازلة يجهل حكمها، فيسأل العلماء نيابة عن أهله، ودليل الإنابة في السؤال والاستفتاء:
أ ــ ما رواه البخاري في باب (من استحيا فأمر غيره بالسؤال) من كتاب العلم في صحيحه، وروى فيه عن عليّ رضي الله عنه قال (كنتُ رجلا مَذّاءً، فأمرت المقداد أن يسأل النبى صلى الله عليه وسلم، فسأله: فقال: فيه الوضوء) (حديث 132). قال ابن حجر (« كنت مذّاء » وهو بتثقيل الذال المعجمة والمدّ، أى كثير المَذْى، وهو بإسكان المعجمة: الماء الذي يخرج من الرجل عند الملاعبة) (فتح البارى) جـ1 صـ 230.
ب ــ ومنها مارواه البخارى أيضا عن سهل بن سعد رضى الله عنه قال: جاء عُوًيْمر العجلاني إلى عاصم بن عدى، فقال أرأيت رجلاً وَجَد مع امرأتِه رجلا فيقتُله، أتقتلونه به؟، سَلْ لى ياعاصمُ رسول الله صلى الله عليه وسلم) الحديث (رقم 7304).
3 ــ الوسيلة الثالثة: أن يُمكِّن الرجل أهله من طلب العلم:
قال ابن حزم رحمه الله ــ في كلامه المذكور قريبا من قبل ــ (ويُجبر الإمام أزواج النساء وسادات الأرقاء على تعليمهم ما ذكرنا إما بأنفسهم، وإما بالإباحة لهم لقاء مَن يعلِّمهم) (الإحكام) جـ 5 صـ 122.(3/9)
ويكون هذا بأن يأذن الرجل لأهله بالذهاب إلى مجالس العلم بالمساجد وغيرها ويدل عليه:
أ ــ قول النبيص (لاتمنعوا إماء الله مساجد الله) متفق عليه.
ب ــ وعن أبى سعيد الخدرى رضى الله عنه قال: قالت النساء للنبي صلى الله عليه وسلم: غَلَبَنا عليك الرجالُ، فاجعل لنا يوماً من نفسك. فوعدهُنَّ يوماً لقيهُن فيه فوعظهن وأمرهن، فكان فيما قال لهن (مامنكن امرأةٌ تقدِّمُ ثلاثة من ولدها إلا كان لها حجابا من النار)، فقالت امرأة: واثنين؟، فقال (واثنين). رواه البخاري. وقال ابن حجر (ووقع فى رواية سهل بن أبى صالح عن أبيه عن أبى هريرة بنحو هذه القصة فقال « موعدكن بيت فلانة » فأتاهن فحدثهن ــ إلى أن قال ابن حجر ــ وفى الحديث ماكان عليه نساء الصحابة من الحرص على تعلم أمور الدين (فتح البارى) جـ 1 صـ 196. وتدل رواية أبى هريرة على جواز هذا فى غير المسجد.
جـ ــ وأورد البخارى فى كتاب العلم، باب (عظة الإمام النساء وتعليمهنَّ) وروى فيه عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: أشهد على النبى صلى الله عليه وسلم خرج ومعه بلال فظنَّ أنه لم يُسمِع، فوعظهُنَّ وأمرهُن بالصدقة، فجعلت المرأة تُلْقى القُرْطَ والخاتم، وبلال يأخذ فى طرف ثوبه. أ هـ. قال ابن حجر (قوله «باب عظة الإمام النساء نبّه بهذه الترجمة على أن ماسبق من الندب إلى تعليم الأهل ليس مختصّاً بأهلهن بل ذلك مندوب للإمام الأعظم ومن ينوب عنه) (فتح البارى) جـ 1 صـ 192.
هذا، ويمكن أن يضاف إلى هذه الوسائل الثلاث: استخدام الأشرطة المسجلة (الكاسيت) لدروس أهل العلم ومحاضراتهم في تعليم النساء وهن في بيوتهن.
(فائدة) إذا اقتضى طلب العلم الواجب عينا السفر لتحصيله لم يجز للوالد أن يمنع ولده، ويخرج الولد وإن لم يأذن أبواه، كما فى فرض العين من الجهاد وغيره من فروض العين.(3/10)
قال ابن عبد البر (قال اسحق بن راهوية: طلب العلم واجب ولم يصح فيه الخبر، إلا أن معناه أنه يلزمه طلب علم مايحتاج إليه من وضوئه وصلاته وزكاته إن كان له مال وكذلك الحج وغيره، قال: وماوجب عليه من ذلك لم يستأذن أبويه فى الخروج إليه، وماكان فضيلة لم يخرج إليه حتى يستأذن أبويه) قال ابن عبد البر: يريد إسحق والله أعلم أن الحديث فى وجوب طلب العلم فى أسانيده مقال لأهل العلم بالنقل ولكن معناه صحيح عندهم) أ هـ (جامع بيان العلم) جـ 1 صـ 9. وقد ذكرنا تصحيح الحديث في أول الباب الثاني. ويقصد إسحق رحمه الله بقوله (وما وجب عليه من ذلك) أى فرض العين من العلم، وبقوله (وماكان فضيلة) أى فرض الكفاية. ونقل ابن مفلح الحنبلي عن أحمد بن حنبل رحمه الله: أنه لايجب استئذان الوالدين في الخروج لطلب فرض العين من العلم، (الفروع) 6 / 199.
******
المسألة الثالثة: ما يجب أن يعلِّمه الرجلُ أهله
سواء كان الرجل سيعلم أهله بنفسه أو بتمكينهم من حضور مجالس العلم وسؤال العلماء. فإنّه مسئول عن أن يُحَصِّلَ أهله العلم الواجب عليهم بأن يأمرهم به ويحملهم عليه.
والمقصود بالعلم الواجب هنا: هو العلم الواجب العينى العام الذى سبق بيان أهم مفرداته في الفصل الثانى من الباب الثانى ومنها معرفة أركان الإسلام والإيمان، والتوحيد والكفر، ومعرفة أحكام العبادات، ومعرفة الواجبات الشرعية والحلال والحرام.
ويُضاف إلى هذا وجوب معرفة حكم النوازل على النحو الذي سبق تفصيله.
ومن جهة تعليم الأبناء أمور دينهم فننبه هنا على أهمية أن يبدأ هذا مبكراً مع بداية إدراك الطفل وتمييزه، ويتم تعليم الطفل أمور دينه بطريقتين:
أولا: بالقدوة والمحاكاة: ويؤثر في الطفل أمران:(3/11)
1 ــ البيت الذي ينشأ فيه الطفل: يجب أن يكون البيت خاليا من المنكرات التي نهت عنها الشريعة كممارسة شركيات القبور والأضرحة، وكفعل البدع المختلفة، وكاقتناء أدوات اللهو، واقتناء آنية الذهب والفضة، واقتناء الصور والتماثيل المنهي عنها، واقتناء الكلاب لغير غرض شرعي مباح، وكاختلاط الرجال والنساء، والتلفظ بالألفاظ البذيئة، وغيرها من المنكرات. إذ إن وجود هذه المنكرات في البيت يجعل الطفل يألفها ويتعودها، بخلاف ماإذا خلا البيت منها فتكون غير مألوفة للطفل بل تنفر نفسه منها.
2 ــ أخلاق الكبار: من الوالدين وغيرهم، إذ يكتسب الطفل كثيراً من سلوكه بمحاكاة الكبار الذين ينشأ بينهم. ومهما لقّنوه من آداب فلن يعمل بها مالم يرها واقعاً عمليا في سلوك الكبار.
ثانيا: بالتلقين والتعليم: ومن أهم ما يجب تعليمه للأطفال:
تعريفه بأركان الإيمان الستة. وعلى رأسها الإيمان بالله وأن الله تعالى فوق السماوات وأنه يرانا ويسمعنا، وأنه على كل شيء قدير، وأنه يثيب مَن أطاعه في الدنيا بالجنة يوم القيامة ويعاقب من عصاه بالنار. ومن الإيمان بالغيب تعريف الطفل بالبعث بعد الموت يوم القيامة وما فيه من الحساب والثواب والعقاب.
2 ــ تعليم الطفل محبة الله تعالى ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم، وعلامة المحبة تقديم ماأمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم به على كل أمر، واجتناب مانهى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم عنه. وتعليم الطفل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو القدوة الحسنة في كل أمر.
3 ــ تعليم الطفل محبة المؤمنين وبغض الكافرين، فالحب في الله والبغض في الله من أوثق عُرى الإيمان. وبهما تقوى شوكة المؤمنين وتضعف شوكة الكافرين.(3/12)
4 ــ تعليم الطفل الآداب الإسلامية: إذ إنها لاتكتسب إلا بالتمرين والتدريب وأفضله ماكان في الصغر. ومن هذه الآداب حفظ السمع والبصر واللسان من المنكرات، وتعويده الصدق وبيان قبح الكذب، وتعليمه توقير الكبار، وتعليمه آداب الطعام والشراب واللباس والتحية والاستئذان، وغيرها من الآداب الشرعية. مع تحذيره من المحرمات والمنكرات.
5 ــ تدريب الطفل على العبادات والواجبات: كالوضوء والصلاة والصيام، وحثه على الصدقة، وتدريب البنت على الستر والحشمة من صغرها لتألف الحجاب الشرعي.
6 ــ حفظ الأدعية المأثورة: كأدعية اليوم والليلة، وتحفظ بالتكرار.
7 ــ غرس حب الجهاد والشهادة في نفوس الأطفال: بأن يقرأ عليهم ماتيسر من السيرة النبوية والغزوات، وسير أبطال الإسلام. وتعريف الطفل بأعداء الإسلام ووجوب جهادهم.
8 ــ تصحيح المفاهيم الخاطئة التي يتلقاها الأطفال في المدارس: يجب أن يتابع أولياء الأمور ما يتلقاه أبناؤهم من دروس في المدارس فالتعليم العام في بلدان المسلمين الآن قد نشأ نشأة علمانية ومازال يسيطر عليه العلمانيون في معظم البلدان، وتشتمل مناهجه على أباطيل تصادم عقيدة المسلمين، كما تشتمل على أكاذيب وتحريف متعمد يهدف إلى إضعاف الوازع الديني عند النشء المسلم. فيجب إحباط مخططات العلمانيين ومَنْ خلفهم مِن الطواغيت، بتصحيح المفاهيم الخاطئة لدى الأطفال.
9 ــ تعليم الأطفال العلوم الشرعية: وعلى رأسها حفظ القرآن وتجويده، وحفظ الحديث، وهذا هو موضوع المسألة التالية إن شاء الله تعالى.
فهذا مايحضرني الآن في التنبيه على العناية بتعليم الأطفال أمور دينهم، وبالله التوفيق.
******
المسألة الرابعة: متى يبدأ تعليم الصغير؟
أطفال اليوم هم رجال الغد بإذن الله، وبقدر العناية بهم في التعليم والتربية بقدر مايصلح حال المسلمين بإذن الله تعالى.(3/13)
وقد ذكرنا مسئولية الرجل عن تعليم أهله وأولاده، والصبى لايعرف ماينفعه مما يضره فى مستقبل أيامه فى الدنيا والآخرة، ولهذا فمن الإحسان إلى الصبى إرشاده إلى ماينفعه وعلى رأس هذا تعليمه أمور دينه، وهذا واجب على ولىّ أمر الصبى كما سبق تقريره.
ومن الإحسان إلى الصبى التبكير فى تعليمه، فإن العلم في الصِّغَر كالنَّقش على الحجر، ومع أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قد أوجب على الأولياء تعليم الأبناء الصلاة وهم أبناء سبع سنين، وقد سبق هذا الحديث وشرحه، إلا أن هناك أدلة بيَّنت أن الصبى قد يدرك العلم ويحفظه في سِنٍّ مبكرة عن هذا، وفي هذه المسألة أخرج البخارى رحمه الله فى كتاب العلم من صحيحه (باب متى يصح سماع الصغير؟) وروى فيه عن محمود بن الربيع رضى الله عنه قال (عَقَلْتُ من النبى صلى الله عليه وسلم مَجَّةً مجَّها فى وجهي وأنا ابنُ خمس سنين من دَلْو) (حديث 77).(3/14)
وقال ابن حجر رحمه الله (قوله (عقلت) هو بفتح القاف أى حفظت، قوله (مَجَّةً) بفتح الميم وتشديد الجيم، والمَجُّ هو إرسال الماء من الفم، وقيل لايُسمى مجاً إلا إن كان على بُعد. وفَعَلَهُ النبى صلى الله عليه وسلم مع محمود إما مداعبةً معه أو ليبارك عليه بها كما كان ذلك من شأنه مع أولاد الصحابة ــ إلى أن قال ــ إن المقصود بلفظ السماع فى الترجمة هو أو ماينزل منزلته من نقل الفعل أو التقرير. ــ إلى أن قال ــ وفي هذا الحديث من الفوائد غير ماتقدم جواز إحضار الصبيان مجالس الحديث وزيارة الإمام أصحابه فى دورهم ومداعبة صبيانهم، واستدل به بعضهم على تسميع من يكون ابن خمس، ومن كان دونها يكتب له حضور. وليس فى الحديث ولافى تبويب البخارى مايدل علىه بل الذى ينبغي فى ذلك اعتبار الفهم، فمن فهم الخطاب سمع وإن كان دون ابن خمس وإلا فلا، وقال ابن رشيد: الظاهر أنهم أرادوا بتحديد الخمس أنها مظنة لذلك، لا أن بلوغها شرط لابد من تحققه، والله أعلم. وقريب منه ضبط الفقهاء سن التمييز بست أو سبع، والمرجَّح أنها مظنة لا تحديد. ومن أقوى ما يتمسك به في أن المراد فى ذلك الفهم فيختلف باختلاف الأشخاص ما أورده الخطيب من طريق أبى عاصم قال: ذهبت بابني ــ وهو ابن ثلاث سنين ــ إلى ابن جريج فحدّثه، قال عاصم:لابأس بتعليم الصبي الحديث والقرآن وهو فى هذا السن، يعني إذا كان فَهِماً. وقصة أبى بكر بن المقرى الحافظ فى تسميعه لابن أربع بعد أن امتحنه بحفظ سور من القرآن مشهورة) أهـ (فتح البارى) جـ 1 صـ 173.(3/15)
وقال النووي رحمه الله كلاماً قريباً من هذا، فقال (ونقل القاضى عياض رحمه الله أن أهل الصنعة حددوا أول زمن يصح فيه السّماع بخمس سنين، وعلى هذا استقر العمل والصواب اعتبار التمييز، فإن فَهِم الخطاب وردّ الجواب كان مُمَيِّزاً صحيح السماع وإلا فلا، ورُوي نحو هذا عن موسى بن هارون وأحمد بن حنبل) أهـ (التقريب) للنووى، صـ 15، في النوع الرابع والعشرين (كيفية سماع الحديث).
والمقصود من ذكر هذه المسألة إرشاد الآباء وغيرهم من الأولياء إلى اغتنام بدء تمييز الصبى للمبادرة بتحفيظه القرآن والحديث، إما أن يعلِّمه ولي أمره بنفسه أو يرسله إلى مكاتب تحفيظ القرآن أو يُحضر له شيخاً يعلمه كيفما تَيسَّر ذلك، وأوصى أولياء الأمور أن يحرصوا على هذا سواء فى أثناء العام الدراسى أو في الإجازات، ولا يتركوا أوقات فراغ أبنائهم تذهب سدى أو فيما يفسدهم من الاستماع إلى الملاهي ومشاهدتها، فإن الصبي يجهل مصلحته، وولي أمره مسئول عنه أمام الله تعالى (وكلكم راع ومسئول عن رعيته). فإذا التزم أولياءالأموربهذه الوصية قطعوا الطريق علي العلمانيين (اللادينيين) المتحكمين فى وسائل التوجيه (من التعليم والإعلام والثقافة) الذين يريدون إفساد النشء المسلم، ورجونا أن يكون جيل الغد جيلاً رشيداً ينهض بهذه الأمة.
وبهذا نختم الفصل الرابع المعقود لبيان واجب الرجل فى تعليم أهله وأولاده وخَدَمِهِ وكل من هو مسئول عنهم. رجاء أن يعرف كل مسلم مايجب عليه فى هذا وأن يعمل به فتبرأ ذمته أمام الله تعالى (يوم لاينفع مال ولابنون إلا من أتى الله بقلب سليم).، ورجاء أن يصلح حال الأسر المسلمة ونساء المسلمين وأبنائهم، بتعليمهم أمور دينهم ومايجب عليهم من حقوق الله تعالى وحقوق عباده، فيصلح بهذا حال هذه الأمة بإذن الله تعالى.
******
خاتمة الباب الثالث(3/16)
بعد بيان فضل العلم في الباب الأول، ثم بيان حكم طلب العلم في الباب الثانى وأن منه ماهو فرض عين ومنه ماهو فرض كفاية، أفردنا الباب الثالث لبيان كيفية طلب العلم.
وقد اشتمل الباب الثالث على أربعة فصول دلّت بمجموعها على أن التعليم مسئولية مشتركة بين الأئمة والعلماء والعامة، ثم فصّلنا واجب كل فريق منهم في فصل مفرد.
وهناك بعض الموضوعات أشرنا إليها بإجمال في الفصل الثالث من هذا الباب، وهى آداب العالم والمتعلم، وأحكام المفتي والمستفتي وآدابهما، والكتب التى ننصح بدراستها في صنوف العلم المختلفة. وهذه الموضوعات سوف نتكلم فيها في الأبواب القادمة من هذا الكتاب إن شاء الله.
الباب الرابع
آداب العالِم والمتعلم
الباب الرابع
آداب العالِم والمتعلم
(تمهيد)
اعلم أن التّفقّه في الدين وتحصيل العلوم الشرعية يعتمد على سببين أساسيين: سبب وهبي أي هبة من الله تعالى، وسبب كسبي أي باكتساب العبد وسعيه، وإليك بيانهما:
أولا: السبب الأول: سبُبُ وَهْبيٌُ:
أي هبة من الله تعالى لمن يشاء من عباده، فيُيَسِّر له سبيل التعلم ويشرح صدره للفهم والاستيعاب، وينفعه بعلمه، ويدل على هذا:
1 ــ قول الله تعالى (وربك يخلق مايشاء ويختار، ماكان لهم الخيرة) القصص 68، فهو سبحانه يختار لكل أمر مَن يصلح له من خلقه بسابق علمه تعالى، فهو سبحانه يختار مَن يفتح عليه بالعلم. ولما كان رأس العلم الرسالات فإن الله سبحانه يختار لها صفوة خلقه كما قال تعالى (الله يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس) الحج 75، وقال تعالى (الله أعلم حيث يجعل رسالته) الأنعام 124.
2 ــ وقوله تعالى (وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكُنَّا لحكمهم شاهدين، ففهَّمناها سليمان، وكلا آتينا حكما وعلما) الأنبياء 78 ــ 79، فبيَّن الله تعالى أنه آتى كُلاً من داود وسليمان عليهما السلام العلم، ثم اختص سبحانه سليمان عليه السلام بالفهم في هذه القضية.(3/17)
3 ــ وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (من يُرد الله به خيراً يفقِّهه في الدين، وإنما أنا قاسمٌُ، والله يُعطي، ولن تزال هذه الأمة قائمة على أمر الله لايضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله). رواه البخاري (حديث 71). فقولهص (يفقِّهه) يدل على أن الفقه عطية ٌُ من الله تعالى وليس بكسب العبد فقط، إذ لم يقل (يَتَفَقَّه)، وأكد هذا بقوله صلى الله عليه وسلم (وإنما أنا قاسم ٌُ، والله يُعطي) أي المعطي في الحقيقة هو الله. أما قوله صلى الله عليه وسلم (ولن تزال هذه الأمة قائمة على أمر الله) فالمراد طائفة من الأمة للقيد الوارد في رواية مسلم لهذا الحديث وفيه (لاتزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله) ومن هذه الطائفة أهل الفقه المذكورون في أول الحديث. فدل هذا الحديث على إثبات الخير لمن تفقّه في دين الله، وأن ذلك لايكون بالاكتساب فقط بل لمن يفتح الله عليه به، وأن من يفتح الله عليه بذلك لايزال جنسه موجوداً حتى يأتي أمر الله. كي لاتخلو الأرض من قائم لله بحجة ٍ ــ كما سبق بيانه في الباب السابق ــ وفي الحديث بشرى لطلاب العلم رجاء أن يكونوا من أصحاب هذا الوعد المبارك فينالوا بهذا مرتبة وراثة النّبوّة.
فهذه النصوص تدل على السبب الوهبي لتحصيل العلم والتفقه في الدين.
ثانيا: السبب الثاني: سبب ٌُ كسْبي ٌُ
أي باكتساب العبد وسعيه وجدِّه واجتهاده في تحصيل العلم والصبر على ذلك، ويدل على هذا:
1 ــ قوله صلى الله عليه وسلم (طلب العلم فريضة على كل مسلم) رواه ابن ماجه وصححه السيوطي.
2 ــ وقوله صلى الله عليه وسلم (ياأيها الناس تعلموا، إنما العلم بالتعلم) رواه الطبراني وابن أبي عاصم عن معاوية رضي الله عنه، وإسناده حسن (ذكره ابن حجر، فتح الباري، 1/161).
3 ــ وقول الله عزوجل (قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمني مما عُلمت رشدا) الكهف 66.(3/18)
ومن هذا الشرح يتضح أن السبب الوهبي متعلق بالإرادة القدرية لله تعالى، وأن السبب الكسبي متعلق بالإرادة الشرعية، والسعيد من تجتمع الإرادتان في حقه فيسعى في طلب العلم ويجدّ في تحصيله ويفتح الله عليه بفهم مايحصله ويبارك له في علمه فينتفع به وينفع الناس به. ولهذا قال أبو الدرداء رضي الله عنه (يرزُقُ اللهُ العلمَ السعداء، ويحرمه الأشقياء) (جامع بيان العلم، 1/57).
وكلامنا هنا عن السبب الكسبي للتفقه في الدين من وجهين، الوجه الأول: وهو بيان ترتب السبب الوهبي على السبب الكسبي، والوجه الثاني: وهو بيان مفردات السبب الكسبي.
أما الوجه الأول: وهو بيان ترتب السبب الوهبي على السبب الكسبي
فالمراد به بيان أن من سعى في طلب العلم وجَدَّ في تحصيله، وكانت له نيّة صالحة في ذلك ــ وهذا هو السبب الكسبي ــ فإنه يُرجى أن يوفقه الله تعالى في سعيه فيشرح صدره للفهم وينفعه بعلمه ــ وهذا هو السبب الوهبي ــ. وقد دل على هذا عدد من النصوص:
1 ــ منها قوله تعالى (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سُبُلَنا، وإن الله لمع المحسنين) العنكبوت 69. في هذه الآية رتّب الله تعالى هداية السبيل ــ وهو السبب الوهبي ــ على سبب كسبي مركب من أمرين: أحدهما: المجاهدة وهى السعي والاجتهاد في طلب العلم وغيره من الطاعات، والثاني: النية الصالحة بأن تكون هذه المجاهدة ابتغاء وجه الله لاشريك له، ولهذا قال تعالى (جاهدوا فينا) ولم يقل (جاهدوا) فقط، فوصف سبحانه المجاهدة التي تترتب عليها الهداية بأنها المجاهدة الخالصة لوجهه تعالى. ثم أكّد سبحانه ترتب هدايته على هذا بمعيته الخاصة المذكورة في قوله تعالى (وإن الله لمع المحسنين)، وفيها أكد الله تعالى معيته الخاصة لأهل الإحسان بالتوفيق والتأييد بأداتين من أدوات التوكيد وهما: إنّ واللام.(3/19)
2 ــ ومنها قوله تعالى (ولو أنهم فعلوا مايوعظون به لكان خيرا ً لهم وأشد تثبيتا،وإذاً لآتيناهم من لدنا أجراً عظيما ولهديناهم صراطا مستقيما) النساء 66 ــ 68، فدلت هذه الآيات على أن امتثال الأمر الشرعي (فعلوا مايوعظون به) سببٌُ للتثبيت والهداية والتوفيق (وأشد تثبيتا... ولهديناهم صراطا مستقيما)، مع مايُدّخر لصاحبه من ثواب الآخرة (لآتيناهم من لدنا أجراً عظيما)، ففي هذه الآيات رتّب اللهُ عطاءَه القدري على سعي العباد.
3 ــ ومنها قوله تعالى (إن الله لايُغيِّر مابقوم حتى يغيِّروا مابأنفسهم) الرعد 11، وتبين الآية أن الله تعالى يغيِّر حال العبد بعد أن يشرع العبد في تغيير حاله، إن خيراً فخير وإن شراً فشر، فإذا سعى العبد في الخير ــ ومنه طلب العلم بنية صالحة ــ سَهّل الله له سبيل الخير كما قال تعالى (ويزيد الله الذين اهتدوا هدى) مريم 76، وقال صلى الله عليه وسلم (ومن سلك طريقا يلتمس فيه علما سَهَّل الله له به طريقا إلى الجنة) الحديث رواه مسلم. وإذا سعى العبد في الشر وأصر عليه أضله الله كما قال تعالى (ويُضل الله الظالمين) إبراهيم 27، وقال تعالى (فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم) الصف 5، وقال تعالى (قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مداً) مريم 75، ونحوها من الآيات التي تبين ترتب القدر على الكسب، وكل من الكَسْب والوَهْب بقدر الله، قال تعالى (إنا كل شىء خلقناه بقدر) القمر 49.
وأما الوجه الثاني: وهو بيان مفردات السبب الكسبي
فهو موضوع هذا الباب، فقد ذكرنا في الأبواب السابقة فضل العلم وأهله، ثم حكم طلب العلم، ثم كيفية طلب العلم. وفي كيفية طلب العلم ذكرنا أن لذلك طريقين إما بالتلقي عن العلماء وإما بالأخذ من الكتب. هذه هى طرق اكتساب العلم. ولكل طريق من هذين آداب وإرشادات وضوابط نذكر بعضها في هذا الباب ونرجىء الكلام عن الكتب خاصة إلى باب قادم بإذن الله تعالى.(3/20)
أما هذا الباب فسنفرده للكلام في الآداب والإرشادات اللازمة للعالم ولطالب العلم على السواء لسلوك سبيل التعلم الصحيح تحملاً وأداءً، كسباً واجتهاداً، ويفتح الله تعالى على من يشاء من عباده، والله واسع عليم.
وقد أجملنا هذه الإرشادات تحت عنوان (آداب العالم والمتعلم) وقسمناها إلى ثلاثة فصول وهى:
الفصل الأول: آداب مشتركة بين العالم والمتعلم.
الفصل الثاني: آداب العالم المعلِّم.
الفصل الثالث: آداب المتعلم.
ونشرع في بيان المراد بحول الله تعالى وقوته.
الفصل الأول
آداب مشتركة بين العالم والمتعلم
وهى آداب تلزم كل مشتغل بالعلوم الشرعية، لاغنى عنها، سواء كان عالما أو متعلما، وسواء كان يتعلم بالتلقي عن العلماء أو بمطالعة الكتب، وبها ــ مع توفيق الله تعالى ــ يدرك طالب العلم مبتغاه.
ونذكر من هذه الآداب:
1 ــ إخلاص النيّة.……2 ــ الحرص على الوقت.
3 ــ الاشتغال بالأهم من العلوم.…4 ــ إحسان اختيار مصدر العلم.
5 ــ العمل بالعلم.……6 ــ الصبر على طلب العلم وتعليمه.
******
الأدب الأول: إخلاص النيّة في طلب العلم وتعليمه
إخلاص النيّة هو لب العبادة وشرط قبول الأعمال عند الله تعالى، وفساد النيّة وبال على صاحبه في الدنيا والآخرة. ولمعرفة حقيقة هذا الأمر وعِظم شأنه نذكر عدة مسائل لبيانه، وهى:
1 ــ تعريف النيّة.……2 ــ حقيقة النيّة.……3 ــ محل النيّة.
4 ــ الغرض الذي شرعت لأجله النيّة مع بيان أقسامها.
5 ــ الأعمال التي تؤثر فيها النيّة.……6 ــ تعريف الإخلاص وبيان حقيقته.
7 ــ التعبد بالإخلاص.………8 ــ بيان أن الإخلاص شرط في قبول الأعمال.
9 ــ علامات إخلاص النيّة في طلب العلم.…10 ــ فضائل إخلاص النيّة في طلب العلم.
11 ــ خطر فساد النيّة في طلب العلم.
أولا ــ تعريف النيّة:
يقال نوى الأمرَ نيَّة: أي قصدَهُ وعزم عليه، فالنيَّة: هى الإرادة والقصد، ولما كان محلها القلب، فالنيّة هى (قصد القلب وإرادته).(3/21)
هذا هو التعريف المختار من مجمل تعريفات أهل اللغة وأهل الفقه والحديث للنية، وانظر (مجموع فتاوي ابن تيمية) جـ 18 صـ 251.
وعَرَّفها البيضاوي بقوله (النيّة عبارة عن انبعاث القلب نحو مايراه موافقاً لغرض ٍ من جلب نفع أو دفع ضرٍّ حالاً أو مآلاً) (فتح الباري) جـ 1 صـ 13.
أما الإخلاص فهو أخص من النيّة، وهو أحد أقسامها، فكل إخلاص ٍ نيّة ٌُ، وليست كل نية إخلاصاً، كما سيأتي بيانه إن شاء الله في الكلام في أقسام النية وما بعده.
(فائدة): لم يرد لفظ (النيّة) في القرآن وإنما في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، أما القرآن فقد وردت فيه ألفاظ أخرى بمعنى النية، ومنها لفظ الابتغاء ولفظ الإرادة.
قال تعالى (ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله) الآية، البقرة 265.
وقال تعالى (وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى) الليل 19 ــ 20.
وقال تعالى (واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه) الكهف 28.
وقال تعالى (من كان يريد العاجلة عجّلنا له فيها مانشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنّم يصلاها مذموماً مدحوراً، ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكوراً) الإسراء 18 ــ 19.
ثانيا ــ حقيقة النيّة:
لما كانت النيّة هى إرادة القلب وقصده، فإنه لايتصور وجودها إلا بعلم قبلها، أى علم ٍ بالشيء المراد المقصود ــ سواء كان هذا العلم حقا أو باطلا كالجهل المركب، وسواء كان هذا العلم خيرا أم شراً ــ فإذا علمت النفسُ المرادَ وانعقدت إرادته في القلب، فإن الجوارح تنبعث لتحقيقه وهذا هو العمل وقد يقع العمل أو لا يقع بحسب القدرة عليه.
فالخلاصة: أن النية واقعة بين العلم والعمل.
وفي بيان هذا قال أبو حامد الغزالي رحمه الله (اعلم أن النيّة والإرادة والقصد عبارات متواردة على معنى واحد، وهو حالة ٌُ وصفة ٌُ للقلب يكتنفها أمران: علم، وعمل.
العلم: يَقْدُمه لأنه أصله وشرطه.(3/22)
والعمل: يتبعه لأنه ثمرته وفرعه، وذلك لأن كل عمل أعني كل حركة وسكون اختياري فإنه لا يتم إلا بثلاثة أمور: علم وإرادة وقدرة. لأنه لا يريد الإنسان ما لا يعلمه فلابد وأن يعلم، ولا يعمل مالم يُرِدْ فلابد من إرادة.
ومعنى الإرادة انبعاث القلب إلى مايراه موافقاً للغرض إما في الحال أو في المآل، فقد خلق الإنسان بحيث يوافقه بعض الأمور ويلائم غرضه، ويخالفه بعض الأمور، فيحتاج إلى جلب الملائم الموافق إلى نفسه ودفع الضارّ المنافي عن نفسه، فافتقر بالضرورة إلى معرفة وإدراك للشيء المضر والنافع حتى يجلب هذا ويهرب من هذا ــ إلى أن قال ــ فإذا انبعثت الإرادة انتهضت القدرة لتحريك الأعضاء فالقدرة خادمة للإرادة، والإرادة تابعة لحكم الاعتقاد والمعرفة. فالنيّة عبارة عن الصفة المتوسطة وهى الإرادة وانبعاث النفس بحكم الرغبة والميل إلى ماهو موافق للغرض إما في الحال وإما في المآل. فالمحرّك الأوّل هو الغرض المطلوب وهو الباعث، والغرض الباعث هو المقصد المنوي، والانبعاث هو القصد والنية، وانتهاض القدرة لخدمة الإرادة بتحريك الأعضاء هو العمل.) (إحياء علوم الدين) جـ 4 صـ 384 ـ 385.
ثالثا ــ محل النيّة:
النيّة عمل من أعمال القلب، فمحلها القلب باتفاق العلماء، انظر (مجموع فتاوي ابن تيمية، 18/263). والأدلة على هذا كثيرة منها:
قوله تعالى (ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم) البقرة 225.
وقوله تعالى (فعلم مافي قلوبهم فأنزل السكينة عليهم) الفتح 18.
وقوله تعالى (واعلموا أن الله يعلم مافي أنفسكم فاحذروه) البقرة 235.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن الله لاينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم) رواه مسلم. قال أبو حامد الغزالي رحمه الله (وإنما نظر إلى القلوب لأنها مظنة النيّة) (إحياء علوم الدين) جـ 4 صـ 382.
فإذا كانت النيّة محلها القلب فإنه يترتب على هذا مسألتان:(3/23)
الأولى: أنه لا يجب التلفظ بها عند الشروع في العمل، بل التلفظ بها بدعة، إذ لم يُؤْثَر في ذلك أثرٌُ عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة رضي الله عنهم، انظر (مجموع فتاوي ابن تيمية، 18/263)، فالنيّة عمل القلب لا اللسان.
الثانية: هل يؤاخذ العبد بالنيّة المجرّدة من العمل فيثاب عليها أو يُعاقب؟
وهذه المسألة فيها تفصيل يرفع الإشكال الوارد فيها بسبب الأدلة المتعارضة في الظاهر. فقد قال الله تعالى (ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم) البقرة 225. فمقتضى النص المؤاخذة بأعمال القلب، والنيّة منها باتفاق. والجواب أن أعمال القلب قسمان:
أ ــ أعمال قلبية محضة: ككفر الاعتقاد عند المنافق المظِهر للإسلام، وكالحسد فهذه الأعمال يؤاخذ بها العبد إجماعاً.
ب ــ أعمال محلها القلب وتتعدى إلى الجوارح: ومنها النية وهى قصد القلب، وهذه لايؤاخذ العبدُ بها إلا إذا بلغت مرتبة العزم، وإذا بلغت هذه المرتبة فلابد أن يظهر أثرها على الجوارح. وبيان هذا أن مايقع بالنفس من القصد والإرادة ينقسم إلى مراتب بحسب قوته، وهى:
* أضعفها: الخاطر: وهو مايخطر بالبال ويذهب في الحال وهو من الوسوسة.
* وفوقه: التردد (أو حديث النفس): وهو أن يخطر الأمر بالبال فتنفِر منه النفس ثم يعاودها فتنفر، وهكذا فلا يستقر.
* وفوقه: الهَمّ: وهو أن تميل النفس ُ إلى الأمر ولاتنفر منه ولكن لايُصمم على فعله، فالهمّ فيه ترجيح لقصد الفعل على تركه مع عدم العزم عليه.
* وفوقه ــ وهو أعلاها ــ العَزْم: وهو منتهى الهَمِّ، وهو أن تميل النفس إلى الأمر ولاتنفر منه بل يصمم على فعله تصميما جازماً. وهذا العزم سّماه عبدالله بن المبارك رحمه الله: الإصرار، وسّماه أحمد بن حنبل رحمه الله: هَمّ إصرار (وتُسمى المرتبة التي قبله في هذه الحالة: هَمّ خطرات)، وسّماه ابن تيمية رحمه الله: الإرادة الجازمة أو الإرادة التامة.(3/24)
وذكر ابن تيمية رحمه الله أن الإرادة الجازمة إذا وُجِدت معها القدرة وقع المقدور، وإذا وُجدت الإرادة الجازمة فلا يمنع وقوع المقدور إلا العجز، وهنا ذكر ابن تيمية فائدة أخرى: وهى أن الإرادة الجازمة لابد أن تظهر على الجوارح في لفظ أو إشارة أو حركة تعبر عن الإرادة، وإن عجز العبد عن فعل المُراد الأصلي.
ويجمع ماسبق قول رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن الله تجاوز لأمتي عَمّا وَسْوست ــ أو حدَّثت ــ به أنفسها، مالم تعمل به أو تكلَّم) متفق عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه، واللفظ للبخاري (حديث 6664). فهذا الحديث جمع مراتب النية ومايؤاخذ به العبد منها وما لايؤاخذ به:
فكل ماهو دون العزم (الإرادة الجازمة) ــ من الخاطر وحديث النفس وهَمّ الخطرات ــ معفو عنه غير مؤاخذ به.
أما العزم (الإرادة الجازمة) فمؤاخذ به، ولابد أن يظهر على الجوارح في حركة أو لفظ وهذا هو السِّر في قوله صلى الله عليه وسلم (مالم تعمل به أو تكلّم). فكل عمل أو كلام يُعبِّر عن الإرادة الجازمة ــ وإن لم يكن هو العمل المقصود نفسه بتمامه ــ يجعل العبد في محل المؤاخذة إن خيراً فخير، وإن شراً فشرٌُ، إذ لم يمنعه عن العمل الأصلي إلا العجز.(3/25)
ومما يدل على أن العبد يُجازى على الإرادة الجازمة إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، قوله صلى الله عليه وسلم (إنما الدنيا لأربعة نفر: عبد ٍ رزقه الله مالاً وعلماً فهو يتقي ربه فيه ويصل به رحمه، ويعلم لله فيه حقاً فهذا بأفضل المنازلِ، وعبد ٍ رزقه الله علماً ولم يرزقه مالاً فهو صادق النية يقول: لو أن لي مالاً لعملتُ فيه بعمل فلان فهو بنيّته فأجرهما سواء، وعبد ٍ رزقه الله مالاً ولم يرزقه علماً يخبط في ماله بغير علم، لايتقي فيه ربه ولايصل فيه رحمه، ولايعلم لله فيه حقاً، فهو بأخبث المنازل، وعبد ٍ لم يرزقه الله مالاً ولا علماً فهو يقول: لو أن لي مالاً لعملت فيه بعمل فلان، فهو بنيته فوزرهما سواء) رواه الترمذي ــ واللفظ له ــ وابن ماجة عن أبي كبشة الأنماري رضي الله عنه، وصححه الترمذي.
وفي هذا الحديث نصَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن الرجلين الثاني والرابع استحقا الثواب والإثم ــ على الترتيب ــ بمجرد النيّة (فهو بنيّته....)، والمقصود بها الإرادة الجازمة التي ظهرت من كلا الرجلين في كلام تكلماه، وهو قول كل منهما (لو أن لي مالاً لعملت فيه بعمل فلان)، فاستحقا الجزاء كاملا وإن لم يعملا العمل المراد بتمامه.
وهذا الكلام يُقال أيضا في قوله صلى الله عليه وسلم (من سأل الله الشهادة بصدق بلَّغه الله منازل الشهداء، وإن مات على فراشه) رواه مسلم. فهذا نال الثواب (بلوغ منازل الشهداء) وإن لم يقع منه العمل المراد (الشهادة) بنيّته (إرادته الجازمة) التي ظهرت في لفظ (سأل الله الشهادة بصدق).(3/26)
وهذا يُقال أيضا في الحديث المتفق عليه عن أبي بكرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار)، فقلت: يارسول الله، هذا القاتل فما بال المقتول؟، قال (إنه كان حريصا على قتل صاحبه) أهـ. ففي هذا الحديث استحق المقتول الوزر بإرادته الجازمة على قتل صاحبه، تلك الإرادة التي ظهرت في فعل ــ وهو المقاتلة ــ وإن لم يفعل المراد بتمامه وهو قتل صاحبه. ولايخفى أن الوعيد في هذا الحديث هو في حق من قاتل قتالا غير مشروع، أما مَنْ قاتل قتالا مشروعا كمن قاتل البغاة أو الخوارج أو الصائل فلا يدخل في هذا الوعيد بل هو مثاب مأجور. كما أن الوعيد في هذا الحديث معلّق على المشيئة كما قال تعالى (ويغفر مادون ذلك لمن يشاء) النساء، حسب القواعد المقررة في مذهب أهل السنة في أصحاب الكبائر.
وقِسْ على هذا جميع النصوص التي رتبت الجزاء على النيّة المجردة من العمل المراد الأصلي، فلابد من ظهور النيّة (الإرادة الجازمة) في قول أو حركة ليترتّب الجزاء. ومادون ذلك من مراتب القصد (كالخاطر وحديث النفس) فلا يؤاخذ به العبد.
ومن أراد مزيد بيان في هذه المسألة يراجع المصادر التالية:
(مجموع فتاوي ابن تيمية) جـ 10 صـ 720 ــ 768 و جـ 7 صـ 132 ــ 138 و صـ 340 ــ 341 و صـ 525 ــ 527، وجـ 6 صـ 574 ــ 575، و جـ 14 صـ 122 ــ 128.
و(فتح الباري) لابن حجر، جـ 11 صـ 323 ــ 329، وصـ 552.
و(الأشباه والنظائر الفقهية) للسيوطي، ط دار الكتب العلمية 1403هـ، صـ 33 ــ 34. وللسيوطي رحمه الله كتاب (الأشباه والنظائر في النحو)، وهو غير المقصود هنا.
رابعا ــ الغرض الذي شُرعت لأجله النيّة مع بيان أقسامها:
اعلم أن الغرض الذي شرعت لأجله النيّة هو التمييز. أي تمييز الأمور بعضها من بعض.
وتنقسم النيّة إلى قسمين أساسيين: نيّة تمييز عمل ٍ من عمل ٍ، ونيّة تمييز معمول ٍ له من معمول له.(3/27)
القسم الأول: النيّة التي تميِّز عملاً من عمل:
وبها تتميّز الأعمال التي تتشابه صورها في الظاهر وتلتبس ببعضها، ومن هذا القسم:
أ ــ نية تمييز العبادة من العادة: كالغُسل الواجب من غُسل التّبرد.
ب ــ نية تمييز رُتَب العبادات: كتمييز الفرض من النفل، والزكاة الواجبة من صدقة التطوع.
جـ ــ وهذه النيّة شرط في صحة جميع العبادات، لقوله صلى الله عليه وسلم (إنما الأعمال بالنيّات، وإنما لكل امرىء مانوى) الحديث متفق عليه.
د ــ نيّة إنشاء الوجوب: كنيّة التجارة في العروض المُقْتَنية توجب الزكاة فيها.
هـ ــ نيّة تمييز العمد من الخطأ: كالقتل العمد من القتل الخطأ في بعض الصور.
و ــ نيّة تمييز الحلال من الحرام في الأفعال المحتملة: كتمييز نكاح الرغبة من نكاح التحليل من المطلقة ثلاثا بغير اتفاق على التحليل، فصورتا النكاحين واحدة وتفرق بينهما النيّة.
ز ــ نيّة تمييز الألفاظ المحتملة (ألفاظ الكنايات) في معظم الأحكام الفقهية المبنية على الألفاظ: كالطلاق والعتق والوقف والقذف والأيمان والرِّدَّة بالقول، فالنيّة تميِّز اللفظ المحتمل (الكناية) فتحمله على الصريح أو تُهْدره.
القسم الثاني: النيّة التي تميّز بين معمول له ومعمول له:
فإذا كان المعمول له واحداً سميت نيّة خالصة، وسمي صاحبها مخلصاً، سواء كان المعمول له هو الله تعالى أم غيره، ولكن العادة جارية بتخصيص اسم الإخلاص بالعمل لله وحده أي بتجريد قصد التقرب إلى الله تعالى عن جميع الشوائب. فمن ذبح تقربا لله وحده فهو مخلص، ومن ذبح تقربا لغير الله من وثن ٍ أو جن ٍ فهو كافر.(3/28)
أما إذا كان المعمول له أكثر من واحد، فهى نيّة فيها تشريك، كالرياء: يعمل العبد لله تعالى وله غرض آخر كأن يحمده الناس. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (يقول الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري، تركْتُه وشِركَه) رواه مسلم. وهل يُبطل هذا الثواب بالكلية؟ ستأتي الاشارة إليه عند الكلام في الإخلاص إن شاء الله تعالى.
والخلاصة أن النية نوعان:
الأول: النيّة التي تميِّز بين عمل وعمل، أو نيّة المقصود من العمل. وهذا النوع من النيّة موضوعه كتب الفقه.
والثاني: النيّة التي تميِّز بين معمول له ومعمول له، أو نيّة المقصود بالعمل. وهذا النوع من النيّة موضوعه كتب الاعتقاد وكتب الرقائق.
والنوع الأول يترتب عليه صحة العمل في الظاهر، والنوع الثاني يترتب عليه قبول العمل في الباطن (في الحقيقة). هذا مع بقية الشروط في النوعين.
راجع: (مجموع فتاوي ابن تيمية) جـ 18 صـ 256، و (الأشباه والنظائر الفقهية) للسيوطي صـ 12 ــ 20.
خامسا ــ الأعمال التي تؤثر فيها النيّة:
تنقسم الأعمال إلى أقسام متعددة بأكثر من اعتبار:
1 ــ فتنقسم الأعمال من حيث الاختيار إلى أعمال اختيارية وأعمال غير اختيارية.
أ ــ أما الأعمال الاختيارية أي مايريده العبد ويختاره، فهذه تؤثر فيها النيّة.
ب ــ وأما الأعمال غير الاختيارية: فهى الأعمال التي ليس للعبد فيها إرادة ولاقصد، بل تقع منه بغيرقصد وبغير اختيار، فهذه لا نيّة فيها، ومثالها عمل الناسي والمخطيء والنائم. قال البخاري رحمه الله (قال النبي صلى الله عليه وسلم « لكل امريء مانوى »، ولانيّة للناسي والمخطيء) أهـ. كتاب العتق بصحيح البخاري ــ باب 6، (فتح الباري) جـ 5 صـ 160.
2 ــ وتنقسم الأعمال من حيث الجارحة إلى: أعمال القلب واللسان والجوارح.
أ ــ أما أعمال القلب المجردة: فلا تلزمها نيّة لئلا يلزم التسلسل.(3/29)
ب ــ وأما أعمال اللسان والجوارح: (الأقوال والأفعال) فتؤثر فيها النية إجمالاً.(فتح الباري) جـ 1 صـ13.
3 ــ وتنقسم الأعمال من حيث كونها أفعال أو تروك إلى:
أ ــ أفعال: وهذه تؤثر فيها النيّة.
ب ــ تروك: وهذه لاتلزمها نيّة، كإزالة النجاسة واجتناب المحرمات، فتصح بدون نيّة، فإن استحضر نية امتثال أمر الشارع أثيب. قال ابن حجر:(والتحقيق أن الترك المجرد لاثواب فيه، وإنما يحصل الثواب بالكَفّ الذي هو فعل النفس، فمن لم تخطر المعصية بباله أصلا ليس كمن خطرت فكفّ نفسه عنها خوفاً من الله تعالى) (فتح الباري) جـ 1 صـ 15. واستُدِل على ثواب من كف نفسه عن المعاصي بقوله تعالى (أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم) الحجرات.
4 ــ وتنقسم الأعمال من حيث مشروعيتها إلى طاعات ٍ ومعاص ٍ ومباحات. والنيّة تؤثر في الطاعات والمباحات ولا تؤثر في المعصية فلا تخرجها النية عن كونها معصية ولاتقلبها إلى طاعة، وإنما قد تزيد النيّة من إثم مرتكب المعصية.
قال أبو حامد الغزالي رحمه الله (اعلم أن الأعمال وإن انقسمت أقساما كثيرة من فعل وقول وحركة وسكون وجلب ودفع وفِكْر وذِكْر وغير ذلك مما لا يتصور إحصاؤه واستقصاؤه، فهى ثلاثة أقسام: معاص وطاعات ومباحات.(3/30)
القسم الأول: المعاصي، وهى لاتتغير عن موضوعها بالنيّة، فلا ينبغي أن يفهم الجاهل ذلك من عموم قوله عليه السلام «إنما الأعمال بالنيّات» فيظن أن المعصية تنقلب طاعة بالنيّة، كالذي يغتاب إنسانا مراعاة لقلب غيره، أو يُطعم فقيراً من مال غيره، أو يبني مدرسة أو مسجداً أو رباطا بمال حرام، وقصده الخير.. فهذا كله جهل، والنية لاتؤثر في إخراجه عن كونه ظلما وعدوانا ومعصية. بل قصده الخير بالشر ــ على خلاف مقتضى الشرع ــ شر آخر، فإن عرفه فهو معاند للشرع، وإن جهله فهو عاص ٍ بجهله، إذ طلب العلم فريضة على كل مسلم، والخيرات إنما يُعرف كونها خيرات بالشرع، فكيف يمكن أن يكون الشر خيراً؟ هيهات، بل المروِّج لذلك على القلب خفيّ الشهوة وباطن الهوى ــ إلى أن قال ــ والمقصود أن من قصد الخير بمعصية عن جهل فهو غير معذور، إلا إذا كان قريب العهد بالإسلام ولم يجد بعدُ مهلة للتعلم، وقد قال الله تعالى «فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون». ــ إلى أن قال ــ فإذن قوله عليه السلام: «إنما الأعمال بالنيّات» يختص من الأقسام الثلاثة بالطاعات والمباحات دون المعاصي، إذ الطاعة تنقلب معصية بالقصد، والمباح ينقلب معصية وطاعة بالقصد، فأما المعصية فلا تنقلب طاعة بالقصد أصلاً، نعم للنيّة دخل فيها وهو أنه إذا انضاف إليها قصود خبيثة تضاعف وزرها وعظم وبالها ــ كما ذكرنا ذلك في كتاب التوبة ــ.
القسم الثاني: الطاعات. وهى مرتبطة بالنيّات في أصل صحتها وفي تضاعف فضلها. أما الأصل، فهو أن ينوي بها عبادة الله تعالى لا غير، فإن نوى الرياء صارت معصية. وأما تضاعف الفضل: فبكثرة النيّات الحسنة فإن الطاعة الواحدة يمكن أن ينوي بها خيرات كثيرة فيكون له بكل نيّة ثواب، إذ كل واحدة منها حسنة ثم تضاعف كل حسنة عشر أمثالها. كما ورد به الخبر. ــ إلى أن قال ــ(3/31)
القسم الثالث: المباحات، وما من شىء من المباحات إلا ويحتمل نيّة أو نيّات يصير بها من محاسن القربات ويُنال بها معالي الدرجات، فما أعظم خسران مَن يغفل عنها ويتعاطاها تعاطي البهائم المهملة عن سهو ٍ وغفلة... الخ) (إحياء علوم الدين) جـ 4 صـ 388 ــ 391.
(فائدة) المعاصي لا تُباح بالنيّة وإنما بدليل شرعي خاص:
اعلم أن المعصية لاتُباح ولاتنقلب طاعة بالنيّة كما سبق في كلام أبي حامد الغزالي رحمه الله. واعلم أنه إذا جاز فعل بعض المعاصي في أحوال خاصة فإن هذا لايجوز إلا بدليل خاص مبيح لفعل المعصية لابمجرد النية. ومثال هذا:
أ ــ الكذب محرّم ومن الكبائر، ولكنه يجوز في ثلاثة مواضع بنص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لا بمجرد النية، وهذه المواضع هى: في الحرب، وفي الإصلاح بين الناس، وبين الرجل وزوجه كما رواه مسلم عن أم كلثوم بنت عقبة رضي الله عنها.
ب ــ أكل الميتة محرم ومن الكبائر، ولكنه يجوز للمضطر في مخمصة بنص كتاب الله تعالى لا بالنيّة، وقال تعالى (إنما حَّرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهلّ به لغير الله، فمن اضطر غير باغ ٍ ولا عاد ٍ فلا إثم عليه، إن الله غفور رحيم) البقرة 173. والدليل المبيح يقصر الرخصة على صورته ولايقاس عليه.(3/32)
وقد ذكرت هذه الفائدة بسبب فتوى قرأتُها لأحد المشايخ المعاصرين وهو الشيخ عبدالعزيز بن باز يجيز فيها للمسلم الترشيح لعضوية البرلمانات التشريعية في الدول المحكومة بالقوانين الوضعية، بنيّة الدعوة إلى الله في هذه البرلمانات ونحو ذلك، واستدل بحديث « إنما الأعمال بالنيّات ». فقد جاء بمجلة (لواء الإسلام) عدد 11/1409هـ (صـ 7 بالملحق) مايلي (لاحَرَج في الالتحاق بمجلس الشعب) رداً على سؤال حول شرعية الترشيح لمجلس الشعب، وحكم الإسلام في استخراج بطاقة انتخاب بنيّة انتخاب الدعاة والإخوة المتديّنين لدخول المجلس، أفتى فضيلة الشيخ عبدالعزيز بن باز بقوله (إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنما الأعمال بالنيّات وإنما لكل امريء ما نوى» لذا فلا حرج من الالتحاق بمجلس الشعب إذا كان المقصود من ذلك تأييد الحق وعدم الموافقة على الباطل لما في ذلك من نصر الحق والانضمام إلى الدعاة إلى الله. كما أنه لاحرج كذلك من استخراج البطاقة التي يستعان بها على انتخاب الدعاة الصالحين وتأييد الحق وأهله، والله ولي التوفيق) أهـ.
قلت: هذه الفتوى خطأ، لما نقلناه عن الغزالي من أن المعاصي لاتباح بالنيّة، والكفر أكبر المعاصي، والالتحاق بمجلس الشعب كفر فلا يُباح بالنيّة. فمجلس الشعب هو وسيلة تطبيق النظام الديمقراطي، ومعرفة حكم المشاركة فيه بالعضوية أو الانتخاب مبني على معرفة حكم الديمقراطية، وحكمها مبني على معرفة حقيقتها. إذ الفتوى هى معرفة الواجب في الواقع. فنبدأ ببيان حقيقة الديمقراطية ثم بيان حكمها وحكم المشاركة في هذه المجالس فنقول وبالله تعالى التوفيق:
حقيقة الديمقراطية:(3/33)
تمهيد: قال ابن تيمية رحمه الله (قال الفقهاء: الأسماء ثلاثة أنواع: نوع يُعرف حَدّه بالشرع كالصلاة والزكاة، ونوع يُعرف حدّه باللغة كالشمس والقمر، ونوع يعرف حده بالعرف، كلفظ القبض ولفظ المعروف في قوله «وعاشروهن بالمعروف») (مجموع الفتاوي) 13/82. وكرر هذا الكلام في مواضع منها: (مجموع الفتاوي) 7/286 و 19 / 235. ولما كان لفظ الديمقراطية لم يرد في الشرع ولا مما تعرفه العرب من لغتها، فلابد لمعرفة معناه وحقيقته من الرجوع إلى عُرف أهله الذين وضعوه، وفي هذا قال ابن القيم ــ في أحكام المفتي ــ (لايجوز له أن يفتي في الإقرار و الأيمان والوصايا وغيرها مما يتعلق باللفظ بما اعتاده هو من فهم تلك الألفاظ دون أن يعرف عرف أهلها والمتكلمين بها فيحملها على مااعتادوه وعرفوه وإن كان مخالفا لحقائقها الأصلية، فمتى لم يفعل ذلك ضَلَّ وأضَلّ) (اعلام الموقعين) 4 / 228. وهذا كله في بيان وجوب الرجوع إلى واضعي مصطلح الديمقراطية لمعرفة معناه، حتى لايقول أحد إنه يريد بها الشورى، أو إنه يريد بها الممارسة السياسية وغير ذلك من الأسماء التي تضيع معها الحقائق وبالتالي الأحكام.(3/34)
حقيقة الديمقراطية: لما كانت الديمقراطية مصطلحاً سياسيا غربياً فإنه ــ وبمقتضى التمهيد السابق ــ ينبغي الرجوع إلى أهله لمعرفة معناه الذي يترتب عليه معرفة حكمه. ومعنى الديمقراطية في عرف أهلها: هى سيادة الشعب، وأن السيادة سلطة عليا مطلقة غير محكومة بأي سلطة أخرى، وتتمثل هذه السلطة في حق الشعب في اختيار حكامه وحقه في تشريع مايشاء من القوانين، ويمارس الشعب هذه السلطة عادة بالإنابة بأن يختار نواباً عنه يمثلونه في البرلمان وينوبون عنه في ممارسة السلطة. جاء في موسوعة السياسة (تقوم كل الأنظمة الديمقراطية على أساس فكري واحد، وهو أن السلطة ترجع إلى الشعب وأنه هو صاحب السيادة، أي أن الديمقراطية في النهاية هى مبدأ السيادة الشعبية) (موسوعة السياسة) إعداد د. عبدالوهاب الكيالي، جـ 2 صـ 756، وقال في تعريف الديمقراطية النيابية (تعني أن الشعب ــ وهو صاحب السيادة ــ لايقوم بنفسه بممارسة السلطة التشريعية، وإنما يعهد بها إلى نواب عنه ينتخبهم لمدة معينة، وينيبهم عنه في ممارسة هذه السلطة باسمه. فالبرلمان في الديمقراطية النيابية هو الممثل للسيادة الشعبية وهو الذي يعبر عن إرادة الشعب من خلال مايصدره من تشريعات أو قوانين. وقد نشأ هذا النظام تاريخيا في انكلترا وفرنسا، ثم انتقل منهما إلى الدول الأخرى) (المرجع السابق) 2/757. ومما سبق يتضح أن الديمقراطية تتلخص في أنها سيادة الشعب، وأن السيادة تتلخص أساسا في الحق المطلق في التشريع الذي لايخضع لسلطة أخرى، وإليك بعض تعريفات السيادة: قال د. عبدالحميد متولي ــ أستاذ القانون الدستوري ــ (الديمقراطية يعبر عنها في الدساتير بمبدأ «سيادة الأمة»، و «السيادة» طبقاً لتعريفها هى سلطة عليا لا يوجد أعلى منها) (أنظمة الحكم في الدول النامية) د. متولي، ط 1985، صـ 625. وقال جوزيف فرانكل ــ سياسي غربي ــ (تعني السيادة: السلطة العليا التي لاتعترف بسلطة أعلى منها أو من ورائها(3/35)
تملك صلاحية إعادة النظر في قراراتها. وهذا المعنى الأساسي لم يلحقه التغيرعلى طول العصور الحديثة، وتعريف جان بودان للسيادة في عام 1576م، والذي مضمونه «أن السيادة هى السلطة العليا من فوق المواطنين والرعايا والتي لايقيدها القانون» بقي صحيحاً رغم أن مفهوم السيادة التي خصّ بها بودان الأمير في عصره قد انتقلت فيما بعد إلى الأمة) (العلاقات الدولية) لجوزيف فرانكل، مطبوعات تهامة 1984 م، صـ 25.
نشأة الديمقراطية المعاصرة
أما الديمقراطية فقد أرست دعائمها الثورة الفرنسية 1789م، وإن كان النظام النيابي البرلماني قد نشأ في انجلترا قبل ذلك بقرن كامل، ومن الناحية الفكرية فإن مبدأ سيادة الأمة ــ الذي هو أساس المذهب الديمقراطي ــ قد تبلور قبل الثورة الفرنسية بعدة عقود، وذلك في كتابات جون لوك ومونتسكيو وجان جاك روسو الذين أسسوا نظرية العقد الاجتماعي وهى أساس نظرية سيادة الأمة، وذلك كرد فعل وكمحاربة لنظرية التفويض الإلهي التي سادت أوروبا نحو عشرة قرون من الزمان، تلك النظرية التي كانت تقضي بأن الملوك يحكمون باختيار وتفويض من الله، فكان للملوك ــ بذلك ــ سلطان مطلق مدعومين في ذلك بتأييد البابوات، وقد عانت الشعوب الأوروبية من هذا الحكم المطلق أشد المعاناة، فكانت سيادة الأمة هى الخيار البديل أمامها للخروج من السلطان المطلق للملوك والبابوات الحاكمين بتفويض من الإله ــ بزعمهم ــ فالديمقراطية في أصل نشأتها هى تمرد على سلطان الله، لتعطي السلطان كل السلطان للإنسان ليصنع نظام حياته وقوانينه بنفسه دون أي قيود.(3/36)
ولم يكن الانتقال من نظرية التفويض الإلهي إلى نظرية سيادة الأمة انتقالا سلميا وإنما عبر ثورة من أشد الثورات دموية في العالم، وهى الثورة الفرنسية عام 1789م، والتي كان من شعاراتها (اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس)، ويقول د / سفر الحوالي (وتمخضت الثورة عن نتائج بالغة الأهمية، فقد ولدت لأول مرة في تاريخ أوربا المسيحية دولة جمهورية لا دينية تقوم فلسفتها على الحكم باسم الشعب «وليس باسم الله»، وعلى حرية التدين بدلا من الكثلكة، وعلى الحرية الشخصية بدلا من التقيد بالأخلاق الدينية، وعلى دستور وضعي بدلا من قرارات الكنيسة) (العلمانية) د / سفر الحوالي، صـ 169، ط جامعة أم القرى 1402هـ.
وقد ظهرت نظرية سيادة الأمة وحقها في وضع قوانينها بوضوح في مباديء الثورة الفرنسية ودستورها، فنصت المادة السادسة من إعلان الحقوق سنة 1789 م على أن (القانون هو التعبير عن إدارة الأمة)، أي ليس القانون تعبيرا عن إرادة الكنيسة أو إرادة الله، وفي إعلان حقوق الإنسان الصادر مع الدستور الفرنسي عام 1793م نصت المادة الخامسة والعشرين منه على أن (السيادة تتركز في الشعب). (نقلا عن مباديء القانون الدستوري) د / السيد صبري ــ صـ 52. ولذلك يقول د / عبدالحميد متولي (تعد مباديء ثورة 1789م الفرنسية أساس مباديء الديمقراطية الغربية) (أنظمة الحكم في الدول النامية) له، صـ 30.
حكم الديمقراطية وحكم نواب البرلمانات وناخبيهم:(3/37)
مناط الحكم على الديمقراطية هو كون السيادة فيها للشعب، بما تعنيه السيادة من كونها سلطة عليا لا تعترف بسلطة أعلى منها فهى تستمد سلطتها من ذاتها دون قيد ٍ من شيء، فتفعل ماتشاء وتشرّع ماتريد دون مراجعة أحد لها، وهذه هى صفة الله تعالى، كما قال تعالى (والله يحكم لامُعَقِّبَ لحكمه) الرعد 41، وقال تعالى (إن الله يحكم مايريد) المائدة 1، وقال تعالى (إن الله يفعل مايريد) الحج 14. ونخلص من هذا إلى أن الديمقراطية تخلع صفة الألوهية على الإنسان بمنحها إياه الحق المطلق في التشريع، فجعلته بذلك إلها مع الله وشريكا له في حق التشريع للخلق، وهذا كفر أكبر لاريب فيه. وبتعبير أدق فإن الإله الجديد في الديمقراطية هو هَوَى الإنسان، فيشرع مايراه بهواه غير مقيد بشيء، قال تعالى (أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا، أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام، بل هم أضلُّ سبيلا) الفرقان 43 ــ 44. وهذا يجعل من الديمقراطية دينا قائما بذاته السيادة فيه للشعب في مقابل دين الإسلام الذي السيادة فيه لله تعالى، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (السيد الله تبارك وتعالى) الحديث، رواه أبو داود في كتاب الأدب من سننه، وإسناده صحيح.(3/38)
وفي بيان ماتنطوي عليه الديمقراطية من تأليه للبشر، قال الأستاذ أبو الأعلى المودودي (قواعد المدنية الغربية: إن المدنية الحديثة التي يقوم في ظلها نظام الحياة الحالي بمختلف فروعه العقائدية والأخلاقية والاقتصادية والسياسية والثقافية ترتكز على دعائم ثلاث، هى المباديء الرئيسية الآتية: العلمانية، القومية، الديمقراطية. ــ إلى أن قال ــ أما المبدأ الثالث: الديمقراطية، أو تأليه الإنسان، فبانضمامه إلى المبدأين السابقين تكتمل الصورة التي تضم في إطارها محنة هذا العالم ومتاعبه، لقد قلت آنفا إن مفهوم الديمقراطية في المدنية الحديثة هو حاكمية الجماهير، أي أن يكون أفراد قطر من الأقطار أحراراً فيما يتعلق بتحقيق مصالحهم الاجتماعية، وأن يكون قانون هذا القطر تابعا لأهوائهم ــ إلى قوله ــ وإذا تأملنا المباديء الثلاثة الآن فإننا نجد: أن العلمانية قد حررت الناس من عبادة الله وطاعته وخشيته ومن الضوابط الخلقية الثابتة وألقت حبلهم على غاربهم وجعلتهم عبيداً لأنفسهم غير مسئولين أمام أحد. ثم تأتي القومية لتقدم لهم جرعات كبيرة من خمر الأنانية والكبرياء والاستعلاء وإحتقار الآخرين. وتأتي أخيراً الديمقراطية وتجلس هذا الإنسان ــ بعد أن أُطلق له العنان وصار أسير أهواء النفس وأخيذ نشوة الأنانية ــ على عرش التأليه، فتخوّل له جميع سلطات التشريع والتقنين، وتسخر له الجهاز الحكومي بكافة إمكانياته في الحصول على كل شيء يطلبه. ــ ثم قال المودودي ــ وإني أقول للمسلمين بصراحة إن الديمقراطية القومية العلمانية تعارض ماتعتنقوه من دين وعقيدة، وإذا استسلمتم لها فكأنكم تركتم كتاب الله وراء ظهوركم، وإذا ساهمتم في إقامتها أو إبقائها فستكونون بذلك قد خنتم رسولكم الذي أرسله الله إليكم ــ إلى قوله ــ فحيث يوجد هذا النظام فإننا لانعتبر الإسلام موجوداً وحيث وجد الإسلام فلا مكان لهذا النظام) من كتاب (الإسلام والمدنية الحديثة)(3/39)
للمودودي، ترجمة خليل الحامدي. وبعد هذا الكلام بقي أن يعلم القاريء أن جماعة المودودي، وهى الجماعة الإسلامية بباكستان قد اتخذت الديمقراطية منهجاً وشاركت في الانتخابات البرلمانية في باكستان ــ وهى دولة علمانية ــ في حياة المودودي وبعد وفاته وإلى اليوم. قال تعالى (لم تقولون مالا تفعلون، كبر مقتا عند الله أن تقولوا مالا تفعلون) الصف، وقال تعالى (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون) البقرة.
وإذا كان الشعب صاحب السيادة ــ في الديمقراطية ــ يمارس سيادته بواسطة نوابه في البرلمان. فإن كلا الفريقين واقع في الكفر: نواب البرلمانات ومن ينتخبونهم من الشعب لهذه المناصب.(3/40)
أما نواب البرلمان فسبب كفرهم هو أنهم هم أصحاب السيادة الفعلية فهم المشرعون للناس من دون الله سواء بوضع القوانين أو بإجازتها والموافقة عليها، وتنص جميع الدساتير العلمانية المعاصرة على أنه (يتولى البرلمان سلطة التشريع) سواء كان البرلمان يسمى بمجلس الشعب أو الجمعية الوطنية أو الكونجرس أو الجمعية التشريعية أو غير ذلك، وهذا يجعل النواب شركاء مع الله في ربوبيته، لقوله تعالى (أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين مالم يأذن به الله) الشورى 21، والدين ــ في أحد معانيه ــ هو نظام حياة الناس حقاً كان أو باطلاً لقوله تعالى (لكم دينكم ولي دين) فسمّى الله سبحانه ماعليه الكفار من الكفر ديناً. فمن شرع للناس فقد جعل نفسه إلها لهم وشريكا مع الله، هذا دليل. ودليل آخر على كفر هؤلاء النواب هو أنهم بتشريعهم للناس من دون الله قد نصبوا أنفسهم أربابا لهم من دونه سبحانه، وهذا الكفر بعينه كما قال تعالى (قل ياأهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولانشرك به شيئا ولايتخذ بعضنا بعضاً أربابا من دون الله) آل عمران 64، وقد كانت هذه الربوبية المذكورة في الآية بالتشريع من دون الله كما هى في قوله تعالى (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله) التوبة 31، وعن عدي بن حاتم رضي الله عنه ــ وكان نصرانيا فأسلم ــ قال أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ سورة براءة حتى أتى على هذه الآية (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله) قال: فقلت: يارسول الله إنا لم نتخذهم أربابا، قال: (بلى، أليس يحلون لكم ماحرم عليكم فتحلونه، ويحرمون عليكم ماأحل لكم فتحرمونه؟) فقلت: بلى، قال (فتلك عبادتهم). رواه أحمد والترمذي وقال حديث حسن. قال الألوسي في تفسير هذه الآية (الأكثرون من المفسرين قالوا: ليس المراد من الأرباب أنهم اعتقدوا أنهم آلهة العالم، بل المراد أنهم أطاعوهم في أوامرهم ونواهيهم) أهـ. وهذا كله(3/41)
يبين أن من شرّع للناس من دون الله، كأحبار اليهود ورهبان النصارى ونواب البرلمانات، فقد جعل نفسه رباً لهم، وكفى به كفراً مبيناً. ومَن كان مِن هؤلاء النواب راضيا بهذه الوظيفة الشركية للبرلمانات أو مشاركا فيها فهذا كفره ظاهر لاشك فيه، أما من يدعي من النواب أنه غير راض ٍ عن ذلك وأنه مادخل إلا للدعوة والإصلاح فهو كافر أيضا وقوله هذا ماهو إلا حيلة يخدع بها العوام والجهال وتقيّة يدرأ بها عن نفسه، أما سبب كفره فهو أن دخوله هذه البرلمانات إقرار منه بشرعية عملها ــ وهو التحاكم لآراء البشر ــ والتزام منه بمبادئها وبمباديء الدستور الذي قامت بموجبه، وهذا كله تحاكُم طَوْعي منه للطاغوت يكفر فاعله، فالله تعالى يقول (ومااختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله) الشورى 10، والديمقراطية تنص على أن: مااختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى نواب الشعب في البرلمان أو إلى عموم الشعب في الاستفتاء. وكل نواب مجلس الشعب ملتزمون بهذا المبدأ الكفري ولو أظهروا أدنى معارضة له لتم فصلهم من المجلس بموجب لائحته، ومن أظهر لنا الكفر أظهرنا له التكفير. ويكفر هذا الصنف أيضا لقوله تعالى (وقد نزّل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يُكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذاً مثلهم) النساء 140، وهذه البرلمانات مؤسسة على الكفر بآيات الله إذ كانت وظيفتها الأولى التشريع من دونه سبحانه، فمن قعد معهم فهو مثلهم في الكفر فكيف بمن التزم بقوانينها؟. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه) الحديث، متفق عليه، فكيف بمن لم يتق الكفر كهؤلاء النواب، كيف يسلم لهم دينهم؟، وكيف يريدون أن يكف الناس عن أعراضهم وهم متلبسون بالكفر؟.(3/42)
وهناك وظيفة كفرية أخرى لأعضاء البرلمانات يغفل عنها البعض، فليست وظيفتهم الوحيدة تولي سلطة التشريع من دون الله، بل تنص جميع الدساتير العلمانية المعاصرة على أن البرلمان هو الذي يقر السياسة العامة للدولة ويمارس الرقابة على أعمال السلطة التنفيذية أي الحكومة، وأن الحكومة مسئولة أمام البرلمان. وهذا يعني أن جميع ماتمارسه الحكومات من الكفر ــ كالحكم بالقوانين الوضعية واتباع المنهج العلماني (اللاديني) في السياستين الخارجية والداخلية وفي التعليم والإعلام والاقتصاد وغيرها ــ كل هذا يُقره أعضاء البرلمانات ويجيزون الحكومات في العمل به بل ولهم حق محاسبة الحكومة إذا حادت عن هذا الكفر، ولاشك في كفر من أقر الكفر أو أجاز العمل به. وقال الشيخ ابن باز نفسه في شرح الناقض الرابع من نواقض الإسلام العشرة التي جمعها شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب، قال ابن باز (ويدخل في ذلك أيضا كل من اعتقد أنه يجوز الحكم بغير شريعة الله في المعاملات والحدود أو غيرهما، وإن لم يعتقد أن ذلك أفضل من حكم الشريعة، لأنه بذلك يكون قد استباح ماحرَّم الله إجماعا، وكل من استباح ماحرّم الله مما هو معلوم من الدين بالضرورة كالزنا والخمر والربا والحكم بغير شريعة الله فهو كافر بإجماع المسلمين) أهـ (مجلة البحوث الإسلامية) الصادرة عن الرئاسة العامة للبحوث والدعوة والافتاء بالسعودية، العدد السابع، صـ 17 ــ 18. وفي رسالته (نقد القومية العربية) وصف الشيخ ابن باز الحكم بالقوانين الوضعية بأنه (هذا هو الفساد العظيم والكفر المستبين والردّة السافرة) صـ 50.(3/43)
فأعضاء البرلمانات مسئولون عن استمرار الحكومات في الحكم بالقوانين الوضعية، كما أنهم مسئولون عن تشريع مايستجد من هذه القوانين، وكلا الوظيفتين من الكفر الأكبر المستبين، (ظلمات بعضها فوق بعض). وهذا كله في بيان أسباب كفر أعضاء البرلمانات الراضي منهم والمعترض الذي يزعم أنه ما دخلها إلا للدعوة الإسلامية، وقد علمت أن هؤلاء المعترضين طُلب منهم عند بدء عملهم في البرلمان أن يؤدوا قَسَمَ البرلمان الذي ينص على الإقرار باحترام الدستور والقانون، فأدوا القَسَم وزادوا عليه (في غير معصية)، وهذا لايخرجهم من الكفر بل هو مزيد كفر لأنه استخفاف بدين الله، فكلمة (في غير معصية) إنما تقال في بيعة ولاة أمور المسلمين على كتاب الله وسنة رسوله في غير معصية كما وردت الآثار بذلك، لاتقال في الإقرار بالشرك، فمن قال (في غير معصية) مع إقراره بالشرك ــ وهو الالتزام بالدستور والقانون الوضعيَّيْن ــ فهو مستهزيء بدين الله، كمن يقول أشهد أن المسيح ابن الله في غير معصية، سواء بسواء، هذا مايتعلق بنواب البرلمانات.(3/44)
أما الذين ينتخبونهم من أفراد الشعب فيكفرون أيضا، لأنه بموجب الديمقراطية النيابية فإن الناخبين هم في الحقيقة إنما يوكلون النواب في ممارسة السيادة الشركية ــ التشريع من دون الله ــ نيابة عنهم، فالناخبون يمنحون النواب حق ممارسة الشرك، وينصبونهم ــ بانتخابهم ــ أربابا مشرعين من دون الله، قال تعالى (ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا، أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون) آل عمران 80، فإذا كان من يتخذ الملائكة والنبيين أربابا يكفر، فكيف بمن يتخذ النواب كذلك؟ ويرد هنا أيضا قوله تعالى (قل ياأهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولانشرك به شيئا ولايتخذ بعضنا بعضاً أربابا من دون الله) آل عمران 64، فاتخاذ الناس أربابا من دون الله هو الشرك والكفر بالله، وهذا مايفعله الذين ينتخبون نواب البرلمانات. قال الاستاذ سيد قطب رحمه الله ــ في كلامه عن الآية السابقة ــ (إن الناس في جميع النظم الأرضية يتخذ بعضهم بعضا أربابا من دون الله... يقع هذا في أرقى الديمقراطيات كما يقع في أحط الديكتاتوريات سواء.. إن أول خصائص الربوبية هو حق تعبد الناس، حق إقامة النظم والمناهج والشرائع والقوانين والقيم والموازين.. وهذا الحق في جميع الأنظمة الأرضية يدعيه بعض الناس ــ في صورة من الصور ــ ويرجع الأمر فيه إلى مجموعة من الناس على أي وضع من الأوضاع ــ وهذه المجموعة التي تُخْضع الآخرين لتشريعها وقيمها وموازينها وتصوراتها هي الأرباب الأرضية التي يتخذها بعض الناس أربابا من دون الله، ويسمحون لها بادعاء الألوهية والربوبية، وهم بذلك يعبدونها من دون الله، وإن لم يسجدوا لها ويركعوا، فالعبودية عبادة لا يتوجه بها إلا لله ــ إلى قوله: ــ والإسلام ــ بهذا المعنى ــ هو الدين عند الله، وهو الذي جاء به كل رسول من عند الله، لقد أرسل الله الرسل بهذا الدين ليخرجوا الناس من عبادة العباد الى عبادة(3/45)
الله، ومن جور العباد إلى عدل الله... فمن تولى عنه فليس مسلما بشهادة الله، مهما أوّل المؤولون، وضلل المضللون... (إن الدين عند الله الإسلام).. أ هـ (في ظلال القرآن لسيد قطب 1/ 604 ــ 704). فهذا ما يتعلق ببيان أسباب كفر الناخبين.
إن هذه البرلمانات العلمانية التي يتم فيها تقنين شرائع الكفر وإجازتها بل والإلزام بالعمل بها، هى اليوم أشبه شيء بمعابد المشركين التي ينصبون فيها آلهتهم ويمارسون فيها طقوسهم الشركية الوثنية. وإن كل من يعين على إقامة هذه البرلمانات ــ سواء بالاشتراك في عضويتها وهو مايفعله النواب أو باختيار أعضائها وهو مايفعله الناخبون أو بتزيين ذلك للناس ــ هو كافر.
وتنزيل هذه الأحكام على المعينين يكون وفق الضوابط المذكورة في (قاعدة التكفير) بمبحث الاعتقاد بالباب السابع من هذا الكتاب. وإشاعة العلم بأحكام هذه النازلة واجب على كل مشتغل بالعلم والدعوة ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيي عن بينة.(3/46)
والديمقراطية والمجالس البرلمانية ياإخواني هى من دين الكفار وأهوائهم، والرضا بها دخول في دينهم واتباع لملتهم وخروج من ملة الإسلام، وقال الله عزوجل (أو يعيدوكم في ملتهم ولن تفلحوا إذا أبدا) الكهف 20، وقال تعالى (ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ماجاءك من العلم إنك إذاً لمن الظالمين) البقرة 145، وقال الشيخ ابن باز نفسه (والظلم إذا أطلق يراد به الشرك الأكبر كما قال سبحانه (والكافرون هم الظالمون) البقرة 254) من (مجموع فتاوي ابن باز) 2/110 ــ 111، ومثله في 1/179، فلا ترجعوا على الأدبار كفاراً مرتدين، ولا يستخفنكم الشيطان ويمنِّيكم بتحقيق الحكم بالشريعة عن طريق مجالس الكفر هذه، قال تعالى (يعدهم ويمنّيهم، ومايعدهم الشيطان إلا غروراً) النساء 120. ولتعلموا ياإخواني أن الديمقراطية هى دين أمريكا التي تعتبر نفسها حامية الديمقراطية في العالم، والكونجرس (البرلمان) الأمريكي وضع تشريعاً يشترط تطبيق الديمقراطية في الدول التي تُمنح معونات أمريكية، وذلك لأن النظام الديمقراطي هو من أيسر الأنظمة التي تتيح لأمريكا التدخل في شئون الدول بطريقة قانونية وذلك بالسيطرة على أعضاء البرلمانات المشرِّعين، وإنجاح أعضاء معينين يتم بإغراء العامة الغوغاء بالمال. وقد تدخلت أمريكا في كثير من الانتخابات التشريعية ومنها على سبيل المثال تدخلها في الانتخابات الايطالية عام 1947، وفيها أصدر الرئيس الأمريكي ترومان مبدأه الشهير الذي سوّغ للمخابرات الأمريكية إنفاق مايزيد عن سبعين مليون دولار لإنجاح الحزب الديمقراطي المسيحي وإسقاط الحزب الشيوعي الإيطالي، وأمريكا تُعلن هذا وتفخر به، وتدخلت أمريكا مرة أخرى في الانتخابات الإيطالية عام 1976 وفيها أصدر وزير الخارجية الأمريكي هنري كيسنجر مبدأه للتدخل في الانتخابات الإيطالية، من كتاب (التاريخ السياسي الحديث) د. فايز صالح أبو جابر، ط دار البشير 1989، صـ 414 و 406. فهذا هو دين أمريكا،(3/47)
دين اليهود والنصارى، وهو ماحذّرنا من الوقوع فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله (لتتبعن سَنَن من كان قبلكم شبراً شبراً وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جُحر ضبٍّ لتبعتموهم) قالوا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال صلى الله عليه وسلم (فمن؟) الحديث متفق عليه.
وهذه يا إخواني: ماهى إلا حيلة خبيثة لصرف المسلمين عن الجهاد الواجب عليهم، جهاد الحكام المرتدين وغيرهم من الكافرين، فيأتي شياطين الإنس ليقولوا ولِمَ الجهاد والمشقة وصندوق الانتخابات هو الحل؟، وماعليك من واجب شرعي إلا أن تذهب لتلقي ورقة في الصندوق، وقد أفتى الشيخ ابن باز بجواز ذلك، وإن لم تفلح هذه الجولة فقد تفلح القادمة، ليفني الناس أعمارهم في ترقب ماتسفر عنه نتيجة صناديق الانتخابات. ولاشك في أن أسعد الناس بهذا المسلك الشيطاني هم الطواغيت على اختلاف أشكالهم، الذين ماسمحوا لبعض المنتسبين إلى الإسلام بدخول البرلمانات إلا لصرف المسلمين عن جهادهم وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في أكثر من موضع في كتابه (منهاج السنة النبوية) أن الإمامة تنعقد ببيعة أهل الشوكة ــ أي القوة ــ، فكذلك لن تقوم الحكومة الإسلامية في زماننا هذا إلا بالشوكة أي بالقوة، ولاتغتر بملايين البشر الذين يصوتون لصالح الذين يزعمون أنهم إسلاميون في الانتخابات النيابية، فإن هؤلاء الملايين لو طُلب منهم حمل السلاح والجهاد لأجل فرض حكم الإسلام لتسللوا لِواذاً، فأي شوكة في هؤلاء وقوة الجيوش مع الحكام الكافرين؟، والدولة لمن يملك القوة، والقوة: رجال وسلاح ثم مَدَد، فنتائج هذه الانتخابات البرلمانية ماهى إلا زيف ووهم لايستند إلى قوة فضلا عن أن يكون مستنداً لشرعية والديمقراطية ببرلماناتها وانتخاباتها ماهى إلا حيلة لتخدير الطاقات الإسلامية، وماهى إلا قناة لتصريف هذه الطاقات بعيداً عن عروش الطواغيت، قال تعالى (وقد مكروا مَكْرَهم وعند الله مكرُهم، وإن كان مكرُهم لتزول(3/48)
منه الجبال) إبراهيم 46.
والكفار على اختلاف أنواعهم يقولون بالديمقراطية مادامت تحقق مآربهم، فإذا تعارضت ومصالحهم كانوا أول من يهدمها، شأنهم في ذلك شأن الكافر الذي صنع صنما من العجوة ليعبده فلما جاع يوماً أكل الإهه الذي كان يعبده، والأمثلة على ذلك كثيرة من الشرق والغرب.
والخلاصة يا أخي المسلم أن أعضاء البرلمان أصحاب الحق في التشريع للناس هم في الحقيقة أرباب معبودون من دون الله، والذين ينتخبونهم من الناس هم إنما ينصبونهم أربابا من دون الله، وكلا الفريقين يكفر بهذا، قال تعالى (قل ياأهل الكتاب تعالوا إلى كلمة ٍ سواء ٍ بيننا وبينكم، ألا نعبد إلا الله ولانشركَ به شيئا، ولا يتخذ بعضنا بعضاً أربابا من دون الله، فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون) آل عمران 64، فلا يجوز دخول هذه المجالس ولا المشاركة في انتخاب أعضائها.
وإذ قد تبين لك أن المشاركة في هذه البرلمانات بالترشيح أو الانتخاب من الكفر الأكبر، وإذا كنا قد قلنا إن المعاصي لاتُباح بالنيّة وإنما بدليل خاص من الشريعة، فالكفر أشد من المعاصي وأكبر، فلا يُباح لا بالنية ولا للضرورة ولا للمصلحة، فالقول بالمصلحة وإن تحققت شروطها الشرعية إنما هو اجتهاد، ولا اجتهاد في مورد النص.
وقد زعم بعض الكفار أن نيتهم وقصدهم من الكفر التقرب إلى الله، فرَدّ الله عليهم قولهم وأكفَرَهم وأكذبهم، فلو كانوا يريدون القربى إلى الله لتقربوا إليه بما شرعه لا بما نهى عنه، وذلك في قوله تعالى(3/49)
(والذين اتخذوا من دونه أولياء مانعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى، إن الله يحكم بينهم فيما هم فيه يختلفون، إن الله لايهدي من هو كاذب كَفار) الزمر 3. وقال الشيخ ابن باز نفسه (وقد زعم المشركون أنهم قصدوا بعبادة الأنبياء والصالحين واتخاذهم الأصنام والأوثان آلهة مع الله، زعموا أنهم إنما أرادوا بذلك القربة والشفاعة إلى الله سبحانه، فردّ الله عليهم ذلك وأبطله بقوله عزوجل (ويعبدون من دون الله مالا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله، قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السموات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون) يونس 18، ثم ذكر آية سورة الزمر السابقة) أهـ (مجموع فتاوي الشيخ ابن باز) جـ 3 صـ 38.
فهذا نفسه هو حال من يدخل البرلمان ويقول قصده الدعوة إلى الله، هو كاذب كَفَّار، وإن سَمَّى إشراكه بالله دعوة ً إلى الله، فقد قال ابن القيم رحمه الله (ولو أوجب تبديل الأسماء والصور تبدل الأحكام والحقائق لفسدت الديانات وبُدِّلت الشرائع واضمحل الإسلام، وأي شيء نَفَعَ المشركين تسميتهم أصنامهم آلهة وليس فيها شيء من صفات الإلهية وحقيقتها؟، وأي شيء نفعهم تسميتهم الإشراك بالله تقرباً إلى الله؟ ــ إلى قوله ــ فهؤلاء كلهم حقيق أن يُتلى عليهم «إن هى إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ماأنزل الله بها من سلطان») (اعلام الموقعين) جـ 3صـ 130.(3/50)
وعلى هذا ففتوى الشيخ ابن باز هذه خطأ. وعليك بهذه الفائدة، اُشْدُد عليها يديك وهى أن (المعاصي لاتباح بالنية وإنما بدليل خاص). وقال أبو حامد الغزالي رحمه الله ــ في كلامه السابق ــ (فلا ينبغي أن يفهم الجاهل ذلك من عموم قوله عليه السلام « إنما الأعمال بالنيات » فيظن أن المعصية تنقلب طاعة بالنية ــ إلى قوله ــ فهذا كله جهل، والنية لاتؤثر في إخراجه عن كونه ظلماً وعدواناً ومعصية، بل قصدُه الخيرَ بالشر ــ على خلاف مقتضى الشرع ــ شر آخر، فإن عَرَفه فهو معاند للشرع، وإن جهله فهو عاص ٍ بجهله) (إحياء علوم الدين) جـ 4 صـ 388.
هذا، وإذا كنت قد ذكرت أن المعاصي لاتباح بالنية الحسنة وإنما بدليل شرعي خاص، فإن هذا لاينطبق على جميع المعاصي، فإن هناك محرمات لاتباح بحال، وهناك محرمات تباح في حال دون حال بدليل خاص، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية الفرق بين هذين القسمين، فقال رحمه الله (إن المحرمات قسمان:
أحدهما: ما يقطع بأن الشرع لم يبح منه شيئاً لا لضرورة ولا لغير ضرورة: كالشرك، والفواحش، والقول على الله بغير علم. والظلم المحض، وهى الأربعة المذكورة في قوله تعالى:(قل إنما حرم ربي الفواحش ماظهر منها ومابطن، والإثم والبغي بغير الحق، وأن تشركوا بالله مالم يُنَزّل به سلطاناً، وأن تقولوا على الله مالا تعلمون) ـ الأعراف 33 ــ.
فهذه الأشياء محرمة في جميع الشرائع، وبتحريمها بعث الله جميع الرسل، ولم يبح منها شيئاً قط، ولا في حال من الأحوال، ولهذا أنزلت في هذه السورة المكية، ونفي التحريم عما سواها، فإنما حرمه بعدها كالدم والميتة ولحم الخنزير حرمه في حال دون حال، وليس تحريمه مطلقاً.(3/51)
وكذلك «الخمر» يباح لدفع الغصة بالاتفاق، ويباح لدفع العطش في أحد قولي العلماء، ومن لم يبحها قال: إنها لاتدفع العطش، وهذا مأخذ أحمد. فحينئذ فالأمر موقوف على دفع العطش بها، فإن علم أنها تدفعه أبيحت بلا ريب. كما يباح لحم الخنزير لدفع المجاعة، وضرورة العطش الذي يرى أنه يهلكه أعظم من ضرورة الجوع، ولهذا يباح شرب النجاسات عند العطش بلا نزاع، فإن اندفع العطش وإلا فلا إباحة في شيء من ذلك.) (مجموع الفتاوي) 14/470 ــ 471.
وإذ قد تبين لك أن الديمقراطية من الشرك الأكبر لأن حقيقتها اتخاذ الناس أربابا مشرعين من دون الله، فإن الشرك ــ كما قال ابن تيمية رحمه الله ـــ من المحرمات القطعية التي لاتباح لا لضرورة ولا لغير ضرورة ولا للمصلحة، فقد قال ابن تيمية (وهذا لايجيء في الأنواع الأربعة، فإن الشرك والقول على الله بلا علم والفواحش ماظهر منها ومابطن والظلم: لايكون فيها شيء من المصلحة.) (مجموع الفتاوي 14 /476. فهذا هو ضابط مايباح من المعاصي بدليل خاص ومالا يباح منها بحال اللهم إلا في الإكراه الملجيء بشروطه المعتبرة شرعاً.(3/52)
وبكل أسف فقد تابع الشيخ ابن باز في إجازته المشاركة في البرلمانات الشركية بعض أهل العلم بدعوى أنها ضرورة، وهذا هو التقليد المحرم المذموم، والذي سنبسط فيه القول في الباب الخامس من هذا الكتاب إن شاء الله. وممن تابع ابن باز في هذا الدكتور سفر الحوالي (في شريط مسجل رقم 4661 ــ تسجيلات الهداية الإسلامية بالدمام ــ محاضرة 23 / 6 / 1412 هـ)، وقد خصصته بالذكر لسببين: أحدهما: أنه يُدرِّس للناس العقيدة ويعلم حقيقة الشرك وأنواعه، والثاني: أنه كتب كتابا في (العلمانية) بيّن فيه أصل الديمقراطية وحقيقتها الشركية. فكان بذلك من أولى الناس بألا يقع في هذا التقليد المذموم وهو التقليد بخلاف الدليل الشرعي. وإليك بعض كلامه عن الديموقراطية في كتابه (العلمانية) قال د. سفر الحوالي (صـ 687) (من هذه الشبهات استصعاب بعض الناس إطلاق لفظ الكفر أو الجاهلية على من أطلقهما الله تعالى عليه من الأنظمة والأوضاع والأفراد بذريعة أن هذه الأنظمة ــ لاسيما العلمانية الديموقراطية ــ لاتنكر وجود الله ولاتمانع في إقامة شعائر التعبد وبعض أفراد الأنظمة العلمانية يتلفظون بالشهادة ويقيمون الشعائر من صلاة وصيام وحج وصدقة ويحترمون رجال الدين (!) والمؤسسات الدينية... الخ. فكيف نستسيغ القول بأن العلمانية نظام جاهلي وأن المؤمنين بها جاهليون؟.(3/53)
ومن الواضح جداً أن الذين يلوكون هذه الشبهة لايعرفون معنى لا إله إلا الله ولا مدلول «الإسلام» وهذا على فرض حسن الظن بهم، وهو مالا يجوز في حق كثير من المثقفين الذين يتعللون بهذه العلل) وقال د. سفر أيضا (صـ 692 ــ 693) (وجدير بنا أن نقف قليلا عند قول شيخ الإسلام إن الردة عن شرائع الدين أعظم من خروج الخارج الأصلي عنها، لنقول: إن هذا هو ماأدركه المخطط اليهودي الصليبي كما سبق في وصية زويمر فقد يئس المخطط من إخراج المسلمين عن أصل دينهم إلى المذاهب الإلحادية والمادية فلجأ ــ بعد التفكير والتدبير ــ إلى ماهو أخبث وأخطر: لجأ إلى اصطناع أنظمة تحكم بغير ماأنزل الله وفي الوقت نفسه هى تدعي الإسلام وتظهر احترام العقيدة، فقتلوا إحساس الجماهير وضمنوا ولاءها وخَدّروا ضميرها، ثم انطلقوا يهدمون شريعة الله في مأمن من انتفاضتها، ولذلك لايجرؤ أرباب هذه الأنظمة على التصريح بأنهم ملحدون أو لا دينيون بينما يصرحون ــ مفتخرين ــ بأنهم «ديموقراطيون» مثلاً.) (العلمانية) ط جامعة أم القرى 1402 هـ. فهل يستقيم ــ مع كلامه هذا ــ أن يتابع ابن باز في فتواه؟.(3/54)
ولا يفوتني في هذا المقام أن أوصي كل من يفتي الناس ــ أيما كانت رتبته ــ بأن يكون ذا بصيرة في الواقع الذي يفتي فيه حتى لايخدعه المستفتي في عرض الواقع القبيح في ثوب حسن، كما ألبس هؤلاء الديمقراطية الشركية ثوب الدعوة إلى الله، فإن من شروط المفتي معرفة الواقع الذي يفتي فيه، كما قال ابن القيم ــ في أحكام المفتي ــ (الفائدة الرابعة والأربعون: يحرم عليه إذا جاءته مسألة فيها تَحَيُّل على إسقاط واجب أو تحليل محرم أو مكر أو خداع أن يعين المستفتي فيها، ويرشده إلى مطلوبه، أو يفتيه بالظاهر الذي يتوصل به إلى مقصوده، بل ينبغي له أن يكون بصيراً بمكر الناس وخداعهم وأحوالهم، ولاينبغي له أن يُحسن الظن بهم، بل يكون حذراً فَطِناً فقيهاً بأحوال الناس وأمورهم، يوازره فقهه في الشرع، وإن لم يكن كذلك زَاغَ وأزاغ، وكم من مسألة ظاهرها ظاهر جميل، وباطنها مكر وخداع وخداع وظلم، فالغرُّ ينظر إلى ظاهرها ويقضي بجوازه، وذو البصيرة ينقد مقصدها وباطنها، فالأول يروج عليه زَغَل المسائل كما يروج على الجاهل بالنقد زَغَلُ الدراهم، والثاني يخرج زيفها كما يخرج الناقد زَيْف النقود. وكم من باطل يُخرجه الرجلُ بحُسن لفظه وتنميقه وإبرازه في صورة حق، وكم من حق يخرجه بتهجينه وسوء تعبيره في صورة باطل، ومن له أدنى فطنة وخبرة لايخفى عليه ذلك، بل هذا أغلب أحوال الناس، ولكثرته وشهرته يُستغنى عن الأمثلة. بل من تأمل المقالات الباطلة والبِدَع كلها وجدها قد أخرجها أصحابها في قوالب مستحسنة وكَسَوْها ألفاظا يقبلها بها من لم يعرف حقيقتها) (اعلام الموقعين) جـ 4 صـ 229 ــ 230. ولنا عود إلى الكلام عن الديمقراطية في المبحث الثامن من الباب السابع بآخر هذا الكتاب إن شاء الله. هذا وبالله تعالى التوفيق.
ثم نتابع الكلام في بقية مباحث النيّة.
سادسا ــ تعريف الإخلاص وبيان حقيقته:(3/55)
ذكرنا في أقسام النية أنها قسمان: نيّة العمل، ونية المعمول له، والإخلاص متعلق بالقسم الثاني (نيّة المعمول له). فإذا كان المعمول له واحداً فهى نيّة خالصة، وإذا عمل العبد لأكثر من معمول له (أي أكثر من غرض) فهى نية غير خالصة أي فيها تشريك.
1 ــ ومن هنا يمكننا تعريف الإخلاص بأنه:
في اللغة: هو إفراد المعمول له بالقصد.
أو هو تخليص الغرض الباعث على العمل من المشاركة.
أما في الشرع: فالإخلاص هو قصد الله تعالى وحده بالعمل، طاعة له.
وعلى هذا فالإخلاص أخصّ من النيّة، فكل إخلاص هو نية، وليست كل نيّة إخلاصا، إذ النيّة هى قصد القلب أما الإخلاص فهو قصد مخصوص للقلب.
قال أبو حامد الغزالي رحمه الله (بيان أقاويل الشيوخ في الإخلاص: -
قال سهل رحمه الله: الإخلاص أن يكون سكون العبد وحركاته لله تعالى خاصة، وهذه كلمة جامعة محيطة بالغرض، وفي معناه قول إبراهيم بن أدهم: الإخلاص صدق النية مع الله تعالى. وقيل لسهل: أي شيء أشد على النفس؟ فقال: الإخلاص إذ ليس لها فيه نصيب.
وقال أبو عثمان: الإخلاص نسيان رؤية الخلق بدوام النظر إلى الخالق فقط، وهذه إشارة إلى آفة الرياء فقط.
وقيل: الإخلاص دوام المراقبة ونسيان الحظوظ كلها، وهذا هو البيان الكامل) (إحياء علوم الدين) جـ 4 صـ 402 ــ 403 باختصار.
2 ــ بيان حقيقة الإخلاص:(3/56)
قال أبو حامد الغزالي رحمه الله (اعلم أن كل شيء يتصور أن يشوبه غيره، فإذا صفا عن شوبه وخلص عنه سمي خالصاً، ويسمى الفعل المصفى المُخْلَص: إخلاصاً. قال الله تعالى:(مِنْ بين فْرث ٍ ودم لبناً خالصاً سائغاً للشاربين) فإنما خلوص اللبن أن لايكون فيه شوب من الدم والفرث ومن كل مايمكن أن يمتزج به، والإخلاص يضاده الإشراك، فمن ليس مخلصاً فهو مشرك إلا أن الشرك درجات، فالإخلاص في التوحيد يضاده التشريك في الإلهية. والشرك، منه خفي ومنه جلي، وكذا الإخلاص. والإخلاص وضدّه يتواردان على القلب فمحله القلب وإنما يكون ذلك في القصود والنيات. وقد ذكر حقيقة النية وأنها ترجع إلى إجابة البواعث، فمهما كان الباعث واحداً على التجرد سمي الفعل الصادر عنه إخلاصا بالإضافة إلى المنوي، فمن تصدّق وغرضه محض الرياء فهو مخلص، ومن كان غرضه محض التقرب إلى الله تعالى فهو مخلص. ولكن العادة جارية بتخصيص اسم الإخلاص بتجريد قصد التقرب إلى الله تعالى عن جميع الشوائب، كما أنّ الإلحاد عبارة عن الميل ولكن خصصته العادة بالميل عن الحق) (إحياء علوم الدين) جـ 4 صـ400.
سابعا ــ التعبّد بالإخلاص:
أمر الله تعالى عباده بالإخلاص
فقال تعالى (وماأمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين) البينة 5.
وقال تعالى (قل إني أُمرت أن أعبد الله مخلصاً له الدين) الزمر 11.
وقال تعالى (فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولايشرك بعبادة ربه أحداً) الكهف 110.
وإذا كان العبد مأموراً بإخلاص نيته لله تعالى وألا يبتغي بعمله وعبادته إلا رضوان الله تعالى، فإن إخلاصها بحاجة ٍ إلى علم ومجاهدة يُرزَقه السعداء ويُحْرَمه الأشقياء.
ولهذا قال أيوب السَّختياني رحمه الله (تخليص النيّات على العُمّال أشد عليهم من جميع الأعمال).
وقال سفيان الثوري رحمه الله (كانوا يتعلّمون النية للعمل كما تتعلمون العمل).(3/57)
وقال بعض العلماء: اطلب النية للعمل قبل العمل، وما دمت تنوي الخير فأنت بخير.
وقول أيوب السابق مذكور (بإحياء علوم الدين) جـ 4 صـ 399، وقول الثوري ومابعده بنفس المصدر صـ 384.
ثامنا ــ بيان أن الإخلاص شرط في قبول الأعمال:
قال تعالى (فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولايشرك بعبادة ربه أحداً) الكهف110، جمعت هذه الآية شرطي قبول العمل، وهما:
1 ــ الشرط الأول: الإخلاص، أي ألا يبتغي العبد بعمله إلا رضوان الله تعالى لايكون له فيه غرض آخر أو حظ من حظوظ النفس العاجلة أو الآجلة، وهذا الشرط هو المراد بقوله تعالى ــ في الآية السابقة ــ (ولايشرك بعبادة ربه أحداً). وإذا انتفى هذا الشرط لم يقبل الله تعالى العمل ولم ينتفع به وإن كان العمل ظاهِرُهُ الصحة في الدنيا، لقوله صلى الله عليه وسلم (يقول الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري، تركتُه وشركَه) رواه مسلم.
2 ــ الشرط الثاني: متابعة الشريعة، أي موافقة العمل للأحكام الشرعية، وهذا الشرط هو المراد بقوله تعالى ــ في الآية السابقة ــ (فليعمل عملا صالحا). وإذا انتفى هذا الشرط فسد العمل لقوله صلى الله عليه وسلم (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردّ) رواه مسلم.
قال ابن القيم رحمه الله (الأعمال أربعة: واحد مقبول، وثلاثة مردودة، فالمقبول ما كان لله خالصاً وللسنة موافقاً، والمردود مافقد منه الوصفان أو أحدهما، وذلك أن العمل المقبول هو ماأحبه الله ورضيه، وهو سبحانه إنما يحب ما أمَرَ به وما عُمِلَ لوجهه، وماعدا ذلك من الأعمال فإنه لايحبها، بل يمقتها ويمقت أهلها ــ إلى أن قال ــ
فإن قيل: فقد بان بهذا أن العمل لغير الله مردود غير مقبول، والعمل لله وحده مقبول، فبقي قسم آخر وهو أن يعمل العمل لله ولغيره، فلا يكون لله محضاً ولا للناس محضاً، فما حكم هذا القسم؟ هل يبطل العمل كله أم يبطل ماكان لغير الله ويصح ماكان لله؟.(3/58)
قيل: هذا القسم تحته أنواع ثلاثة، أحدها: أن يكون الباعث الأول على العمل هو الإخلاص، ثم يعرض له الرياء وإرادة غير الله في أثنائه، فهذا المعول فيه على الباعث الأول مالم يفسخه بإرادة جازمة لغير الله فيكون حكمه حكم قطع النية في أثناء العبادة وفسخها، أعني قطع ترك استصحاب حكمها، والثاني: عكس هذا، وهو أن يكون الباعث الأول لغير الله، ثم يعرض له قلب النية لله، فهذا لايحتسب له بما مَضَى من العمل، ويحتسب له من حين قَلَبَ نيته، ثم إن كانت العبادة لايصح آخرها إلابصحة أولها وجبت الإعادة، كالصلاة، وإلا لم تجب كمن أحرم لغير الله ثم قلب نيته لله عند الوقوف والطواف، الثالث: أن يبتدئها مُريداً بها الله والناس، فيريد أداء فَرْضِه والجزاء والشكور من الناس، وهذا كمن يصلى بالأجرة، فهو لو لم يأخذ الأجرة صلى، ولكنه يصلي لله وللأجرة، وكمن يحج ليسقط الفرض عنه ويقال فلان حج، أو يعطي الزكاة كذلك، فهذا لايُقبل منه العمل. وإن كانت النية شرطاً في سقوط الفرض وجبت عليه الإعادة، فإن حقيقة الإخلاص التي هى شرط في صحة العمل والثواب عليه لم توجد، والحكم المعلق بالشرط عَدَم عند عَدَمه، فإن الإخلاص هو تجريد القَصْد طاعة ً للمعبود، ولم يؤمر إلا بهذا. وإذا كان هذا هو المأمور به فلم يأت به بقي في عهدة الأمر، وقد دلت السنة الصريحة على ذلك كما في قولهص « يقول الله عزوجل يوم القيامة: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، فمن عمل عملا أشرك فيه غيري فهو كله للذي أشرك به » وهذا هو معنى قوله تعالى (فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحاً ولايشرك بعبادة ربه أحداً) أهـ (اعلام الموقعين) جـ 2 صـ 162 ــ 163.(3/59)
وقال أبو حامد الغزالي كلاما قريباً من هذا، فقال (بيان حكم العمل المشوب واستحقاق الثواب به: اعلم أن العمل إذا لم يكن خالصا لوجه الله تعالى بل امتزج به شوب من الرياء أو حظوظ النفس فقد اختلف الناس في أن ذلك هل يقتضي ثوابا أم يقتضي عقابا أم لايقتضي شيئا أصلا فلا يكون له ولا عليه؟... الخ) فراجعه في (إحياء علوم الدين) جـ 4 صـ 405.
تاسعا ــ علامات إخلاص النية في طلب العلم:
للإخلاص حد، وعلامات:
أما حَدُّه: فألا يبتغي طالب العلم بطلبه إلا رضوان الله تعالى.
وأما علاماته: فللإخلاص علامات، وهى أن يعمل في علمه بما يُرضي الله تعالى إذا كان مخلصا في الطلب مبتغيا رضوان الله وحده، وما يُرضي الله تعالى هو ماأمر به أهل العلم شرعا، للتلازم بين الإرادة الشرعية وصفة الرضا، فالله لايأمر عباده شرعا إلا بما يحبه ويرضاه، ومما أمر الله تعالى به أهل العلم:
1 ــ أن يكون قصده في طلب العلم أن يتحرى الحق والهدى ويطلبه، ولايكون قصده طلب ما يوافق هواه من الأدلة أو طلب العلم لينصر به بدعة ً أو مذهبا فاسداً، قال تعالى (وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولاتتبعوا السُّبل فتفرق بكم عن سبيله، ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون) الأنعام 153، وقال تعالى (ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولاتتبع أهواء الذين لايعلمون، إنهم لن يُغنوا عنك من الله شيئا، وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض والله ولي المتقين) الجاثية 18 ــ 19.
2 ــ أن يعمل العالم وطالب العلم بما تعلمه، لقوله تعالى (فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا، إنه بما تعملون بصير) هود 112. فإنْ لم يعمل بعلمه فهو من أهل مقت الله وغضبه وإن كان خزانة للعلم، قال تعالى (كَبُر مقتا عند الله أن تقولوا مالا تفعلون) الصف 3.(3/60)
3 ــ أن يُبَلِّغ ما عنده من العلم خاصة إذا رأي الحاجة داعية لذلك، وخاصة إذا طُلِب منه ذلك، قال تعالى (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه) آل عمران 187، وقال تعالى (ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لايقولوا على الله إلا الحق ودرسوا مافيه، والدار الآخرة خير للذين يتقون، أفلا تعقلون، والذين يُمَسِّكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنا لانُضيع أجر المصلحين) الأعراف 169 ــ 170، وقال تعالى (إن الذين يكتمون ماأنزلنا من البيِّنات والهدى من بعد مابيّناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون، إلا الذين تابوا وأصلحوا وبيّنوا، فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم) البقرة 159 ــ 160.
4 ــ أن يصبر على مايصيبه من جراء كل هذا، فهذا سبيل الأنبياء عليهم السلام، والعلماء ورثتهم، قال تعالى (يابني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ماأصابك إن ذلك من عزم الأمور) لقمان 17. وقال تعالى (أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لايفتنون، ولقد فتنا الذين من قبلهم، فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين) العنكبوت 2 ــ 3، وقال تعالى (وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون) السجدة 24.
وفي الجملة فعلامة الإخلاص هى متابعة الشريعة وألا يداخله شيء مما يُفسد النيّة مما سنذكره في (حادي عشر) إن شاء الله. فإن الإخلاص يتضمن دوام مراقبة الله تعالى ومن أدام المراقبة امتثل الأمر.
عاشرا ــ فضائل إخلاص النية في طلب العلم وغيره من الطاعات:
إخلاص النية لله تعالى في الأعمال سبب من أسباب التوفيق في الدنيا والآخرة، وقد أشرنا إلى هذا عند الكلام في ترتب الأسباب الوهبية على الأسباب الكسبية، فإنه لا مانع لما أعطى الله ولا مُعطي لما منع الله، وما عند الله تعالى لايُنال إلا بطاعته وبالإخلاص في طاعته.
أما ثواب الإخلاص وفضائله فنذكر منها:(3/61)
1 ــ قبول الله تعالى للعمل وإثابة صاحبه:
فالإخلاص أحد شرطي قبول العمل ــ كما سبق بيانه ــ وهو عمل من أعمال القلوب فلا يطلع عليه إلا الله تعالى، قال تعالى (ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم) البقرة 225، والعمل قد يكون صحيحا في الظاهر مجزئا عن صاحبه في الدنيا، ولكنه غير مقبول عند الله تعالى لآفَة ٍ مُخِلة ٍ بالإخلاص، فيلقى العبدُ ربَّه، فلا يجده في ميزان حسناته إذ لم يقبله الله لتخلّف الإخلاص، قال الله تعالى (وبدا لهم من الله مالم يكونوا يحتسبون) الزمر 47. فالعاقل الكيِّس من جاهد نفسه في الإخلاص كما يجاهدها في الأعمال كي يحظى بالقبول والرضوان.
قال تعالى (ألا لله الدين الخالص) الزمر 3، فإن لم يكن خالصا فليس لله ولايقبله ولاينفع صاحبه.
وقال تعالى (والذين يؤتون ماآتوْا وقلوبهم وَجِلة أنهم إلى ربهم راجعون، أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون) المؤمنون 60 ــ 61. روى الترمذي عن عائشة رضي الله عنها قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية « والذين يؤتون ماآتوْا وقلوبهم وَجِلة » قالت عائشة: أهم الذين يشربون الخمر ويسرقون؟ قال صلى الله عليه وسلم (لا، يابنت الصدِّيق، ولكنهم الذين يصومون ويُصَلُّون ويتصدّقون وهم يخافون أن لاتُقبل منهم، أولئك الذين يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون) أهـ.
2 ــ ومن ثواب الإخلاص التوفيق في العمل والسداد:
كما قال الله عزوجل (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا، وإن الله لمع المحسنين) العنكبوت 69، فمن عمل واجتهد (والذين جاهدوا)، مخلصاً لله تعالى (فينا)، هداه الله إلى السبيل ووفَّقه وسدَّده (لنهدينهم سبلنا)، وكان في معية الله الخاصة، معية التوفيق والتسديد والحفظ (وإن الله لمع المحسنين). ولهذا فإن التوفيق والسداد من علامات حُسن النية، وعكسه بعكسه والله تعالى أعلم.(3/62)
وقال تعالى (لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة، فعلم مافي قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحاً قريبا، ومغانم كثيرة يأخذونها) الفتح 18 ــ 19.
وقال تعالى (إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما، إن الله كان عليما خبيراً) النساء 35.
قال أبو حامد الغزالي رحمه الله (وكتب سالم بن عبدالله إلى عمر بن عبدالعزيز: اعلم أن عون الله تعالى للعبد على قدر النيّة، فمن تمَّت نيّته تم عون الله له، وإن نقصت نقص بقدره) (إحياء علوم الدين) جـ 4 صـ 384.
3 ــ ومن ثواب الإخلاص أن يحفظ الله صاحبه من غواية الشيطان:
قال تعالى ــ حاكيا عن إبليسـ (قال فبعزَّتك لأغوينهم أجمعين، إلا عبادك منهم المخلصين) صلى الله عليه وسلم 82 ــ 83.
وحكى أبو حامد الغزالي أثراً من الإسرائيليات في بيان أثر الإخلاص في قهر العبد للشيطان، ثم قال (هذه الحكايات تصديق قوله تعالى «إلا عبادك منهم المخلصين»، إذ لايتخلّص العبد من الشيطان إلا بالإخلاص. ولذلك كان معروف الكرخي رحمه الله تعالى يضرب نفسه ويقول: يانفس أخلصي تتخلّصي) (إحياء علوم الدين) جـ 4 صـ 398.
4 ــ ومن ثواب الإخلاص أن يكفي الله صاحبه شر الناس وكيدهم:
قال تعالى (أليس الله بكاف ٍ عبده) الزمر 36.
وقال تعالى (كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء، إنه من عبادنا المخلصين) يوسف 24.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من التمس رضا الله بسَخَط الناس كفاه الله مُؤنَة الناس، ومن التمس رضا الناس بسَخَط الله، وَكَله الله إلى الناس) الحديث رواه الترمذي عن عائشة رضي الله عنها.(3/63)
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه ــ في كتاب القضاء منه لأبي موسى الأشعري ــ (فمن خلصت نيته في الحق ولو على نفسه كفاه الله مابينه وبين الناس، ومن تزيَّن بما ليس فيه شانه الله) أهـ. قال ابن القيم رحمه الله في شرحه (هذا شقيق كلام النّبوة، وهو جدير بأن يخرج من مشكاة المحدَّث الملهم، وهاتان الكلمتان من كنوز العلم، ومن أحسن الإنفاق منهما نفع غيره، وانتفع غاية الانتفاع.) أهـ (اعلام الموقعين) جـ 2 صـ 159 ــ 160.
فهذه بعض فضائل الإخلاص، ويكفي أن الطاعة لاتُقْبل إلا به، ومن هذا طلب العلم، وأهل العلم هم أولى الناس باستحضار هذه المعاني دوما ومجاهدة النفس في امتثالها، قال تعالى (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لايعلمون، إنما يتذكر أولوا الألباب) الزمر 9.
حادي عشربيان خطر فساد النية في طلب العلم.
ومع معرفة فضائل الإخلاص يجب معرفة خطر فساد النية لتكتمل المعرفة بالعلم بَحُسْنِ الشئ وقُبْح ضده.
فالضِّدُّ يُظهر حسنه الضد..وبضدها تتميز الأشياء.
قال النووي رحمه الله (اعلم أن ماذكرناه من الفضل في طلب العلم إنما هو في من طلبه مريداً به وجه الله تعالى لا لغرض من الدنيا، ومن أراده لغرض دنيوي كمال أو رياسة أو منصب أو وجاهة أو شهرة أو استمالة الناس إليه أو قهر المناظرين أو نحو ذلك فهو مذموم * قال الله تعالى (من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وماله في الآخرة من نصيب). وقال تعالى (من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها مانشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحوراً) الآية: وقال تعالى (إن ربك لبالمرصاد) (المجموع) جـ 1 صـ 23.(3/64)
وذكر أبو حامد الغزالي رحمه الله أمثلة للأغراض التي تفسد الإخلاص في طلب العلم، فقال (أو يتعلم العلم ليسهل عليه طلب مايكفيه من المال أو ليكون عزيزاً بين العشيرة، أو ليكون عقاره أو ماله محروساً بعز العلم عن الأطماع. أو اشتغل بالدرس والوعظ ليتخلص من كرب الصمت ويتفرج بلذة الحديث. أو تكفل بخدمة العلماء الصوفية لتكون حرمته وافرة عندهم وعند الناس، أو لينال به رفقاً في الدنيا. أو كتب مصحفاً ليجوِّد بالمواظبة على الكتابة خطه. ــ إلى أن قال ــ فمهما كان باعثه هو التقرب إلى الله تعالى ولكن انضاف إلىه خطرة من هذه الخطرات، حتى صار العمل أخف عليه بسبب هذه الأمور، فقد خرج عمله عن حدّ الإخلاص وخرج عن أن يكون خالصاً لوجه الله تعالى وتَطَرَّق إليه الشرك. وقد قال تعالى: «أنا أغنى الشركاء عن الشركة».
وبالجملة، كل حظ من حظوظ الدنيا تستريح إليه النفس ويميل إليه القلب ــ قل أم كثر ــ إذا تطرق إلى العمل تَكدَّر به صفوه وزال به إخلاصه). (إحياء علوم الدين) جـ 4 صـ 400 ــ 402.
والخلاصة: أن من طلب العلم لغرض من أغراض الدنيا فقد فسد إخلاصه، أو نقص بحسبه، وقد ورد الوعيد في حق فاعله، ومن هذا:
أ ــ قال صلى الله عليه وسلم (من تعلّم علما مما يُبْتغى به وجه الله عزوجل لايتعلمه إلا ليصيب به عَرَضاً من الدنيا لم يجد عَرْف الجنة يوم القيامة) يعني ريحها، رواه أبو داود بإسناد صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه الحاكم والذهبي.
ب ــ وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(إن أول الناس يُقضى يوم القيامة عليه
رجل استُشهِدَ، فأُتيَ به فَعَرَّفَهُ نِعْمَتَهُ فَعَرَفها، قال:(فما عمِلت فيها؟) قال: قاتلت فيك حتى استُشهدتُ. قال: (كذبتَ، ولكنك قاتلتَ لأن يُقال جريء، فقد قيل ثم أُمِرَ به فسُحِبَ على وجهه حتى ألقي في النار(3/65)
ورجل تعلم العلم وعلّمه، وقرأ القرآن، فأُتِيَ به فَعَرَّفَهُ نِعْمَتَهُ فَعَرَفها، قال: (فما عمِلت َ فيها؟) قال: تعلمتُ العلم وعلمتُه، وقرأتُ فيك القرآن، قال: (كذبت ولكنك تعلمت ليقال عالم، وقرأت القرآن ليقال قارئ فقد قيل)، ثم أُمِرَ به فسُحِبَ على وجهه حتى ألقي في النار.
ورجل وَسَّع الله عليه وأعطاه من أصناف المال فأتُي به فعرفه نِعْمَتَه فعرفها، قال (فما عملت فيها؟) قال: ماتركتُ من سبيل تحبُّ أن يُنْفَقَ فيها إلا أنفقتُ فيها لك. قال:(كذبت، ولكنك فعلت ليقال جواد فقد قيل) ثم أُمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار.) رواه مسلم.
د ــ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ماذئبان جائعان أُرسِلا في غنم بأفسدَ لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه) رواه الترمذي والدرامي عن كعب بن مالك رضي الله عنه، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. ومعنى الحديث أن الحرص على المال والشرف يفسد الدين أشد من إفساد الذئبين الجائعين لحظيرة الغنم، فلا يسلَم للمرء دينه مع هذا الحرص، بل قد يذهب دينه بالكلية.وأورد أبو عمر بن عبدالبر رحمه الله في (جامع بيان العلم) باب (ذم الفاجر من العلماء وذم طلب العلم للمباهاة والدنيا). وروى فيه عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال:(لو أن حملة العلم أخذوه بحقه وما ينبغي لأحبهم الله وملائكته والصالحون ولَهَابَهُمُ الناس، ولكن طلبوا به الدنيا فأبغضهم الله وهانوا على الناس) أهـ
وروي أبو عمر عن حّماد بن سلمة رحمه الله قال:(من طلب الحديث لغير الله مَكَرَ به) أهـ (جامع بيان العلم) جـ 1 صـ 186 ــ 191.
وبهذا نختم كلامنا في إخلاص النية وهو الأدب الأول مما يلزم العالم والمتعلم، بل كل مسلم.
******
الأدب الثاني: الحرص على الوقت
أهمُ علامات العالم وطالب العلم: الحرصُ على الوقت، وكل مشتغل بالعلم غير حريص على وقته فاعلم أن علمه رقيق.(3/66)
وقد كان الكلام في هذا جديراً بالتقديم في أول هذا الفصل، لولا أن العمل لاخير فيه بغير إخلاص، فكان الكلام في الإخلاص جديراً بالتقديم من هذا الوجه.
قال الخطيب البغدادي رحمه الله (لاسبيل للعامي إلى الوقوف على ذلك ــ أي التفقّه في الدين ــ إلا بعد أن يتفقّه سنين كثيرة ويخالط الفقهاء المدّة الطويلة، ويتحقق طرق القياس ويعلم مايصححه ويُفسده، ومايجب تقديمه على غيره من الأدلة)(الفقيه والمتفقه) جـ 2 صـ 69.
فالمشتغلون بالعلم الشرعي إما طالب علم وهذا لايدرك بُغيته ولا يتفقه إلا بعد سنين طويلة ــ كما ذكر الخطيب ــ هذا إن هداه الله تعالى إلى السبيل الصحيح للتعلم، فكيف بمن يضل السبيل أو يتخبّط؟، وإما عالم قد تفقّه وهذا يلزمه الوقت للمحافظة على ما تعلمه حتى لاينساه، بل إن هذا واجب عليه، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (تعاهدوا القرآن، فو الذي نفسي بيده لَهُوَ أشدُّ تفصِّيا من الإبل في عُقُلِها) متفق عليه، فمراجعه القرآن حتى لايُنسى بحاجة إلى وقت، فكيف بغيره من العلوم؟ وكيف بمن كانت مهنته التدريس والفتوى وهو العالِم؟ فلا يقوم بهذا إلا من حرص على كل دقيقة ٍ من وقته. وهذا هو سر قولنا إن أهمَّ علامات العالم وطالب العلم: الحرص ُ على الوقت، فلا يتسنى طلب العلم والمحافظة عليه إلا بذلك.
قال الشافعي رحمه الله (صحبت الصوفية فلم استفد منهم سوى حرفين، أحدهما قولهم: الوقت سيف فإن قطعته وإلا قطعك. وذكر الكلمة الأخرى: ونفسك إن لم تشغلها بالحق وإلا شغلتك بالباطل) نقلا عن (الجواب الكافي) لابن القيم، صـ 184.
ونذكر فيما يلي مايُعين العالم وطالب العلم على حفظ الوقت وتوفيره للاشتغال بالعلم. فمما يُعين على ذلك.(3/67)
1 ــ الشروع في التعلم في الصِّغر: وهذا يقع على عاتق أولياء الأمور، فمن لم يُوجَّه إلى هذا في صباه يجب عليه أن يتدارك الأمر فور بلوغه، أو بعد ذلك إذا شرح الله صدره لطلب العلم، فكلما شرع في ذلك مبكراً كان أفضل، فالتفقه بحاجة إلى سنين طويلة، والتبكير يسمح بهذا، كما أن الصغير علائقه الشاغلة قليلة فيكون فارغ القلب والوقت وهذا أكبر عون على طلب العلم، وسيأتي الكلام في التعلم في الصغر وأهميته في آداب طالب العلم إن شاء الله.
2 ــ تقليل العلائق الشاغلة: بترك كل ما يشغل الوقت مما يمكن أن يستغنى عنه العبد ولايحتاج إليه حاجة حقيقية، وسنشرح هذا بالتفصيل فيما يلي عقب تعداد مايعين على حفظ الوقت إن شاء الله.
3 ــ ترجيح الاشتغال بالعلم على الاشتغال بالنوافل القاصرة، وسيأتي شرحه كذلك.
4 ــ قراءة سيَر العلماء الصالحين، للاقتداء بهم في هديهم وسيرتهم الحسنة وحرصهم على طلب العلم، وهذا موجود بكتب التراجم وكتب الطبقات والتاريخ.
5 ــ تنظيم الوقت وحسن استغلاله، فلا يدع ساعة تمر عليه إلا في درس أو حفظ أو مراجعة، حتى وهو يسير في الطريق لحاجته يمكنه استرجاع بعض درسه وحفظه، ومما يعين على هذا المذاكرة المشتركة مع الأصحاب في طلب العلم.
6 ــ الاشتغال بالأهم من العلوم الشرعية: فلا يليق بطالب العلم أن يسعى في توفير الوقت ثم يضيعه في طلب مالا يفيد ومالا ينفع من العلوم. ولأهمية هذا الأمر سنفرده بمبحث مستقل فيما يأتي إن شاء الله تعالى، فإن الاشتغال بالأهم من العلوم هو من باب حسن استثمار الوقت.(3/68)
7 ــ إحسان اختيار مصدر العلم، سواء كان هذا المصدر أستاذاً معلما أو كتابا يُدرس، فإذا وُفق الطالب لمعرفة أهم مايشتغل به من العلوم، فإنه يجب عليه أن يُحسن المصدرالذي سيتعلم منه هذه العلوم المهمة، حتى لايضيع وقته سُدى، ولأهمية هذا الأمر سنفرده بمبحث مستقل فيما يأتي إن شاء الله، فإنَّ حُسْنَ اختيار مصدر العلم من باب حُسْن استثمار الوقت.
هذه الأمور هى أهم مايعين طالب العلم على حفظ الوقت للتعلم، وسنتكلم بشئ من التفصيل في أمرين هنا، وهما تقليل العلائق وترجيح الاشتغال بالعلم على النوافل، أما الاشتغال بالأهم وحسن اختيار المصدر فسنذكرهما كآداب مستقلة بعد الحرص على الوقت.
أولا ــ تقليل العلائق الشاغلة:
العلائق الشاغلة: هى كل مايشغل العبد من أمور الدنيا، فتشغل وقته وقلبه وفكره، فكلما أمكن التَّخفف منها كان خيرا للعبد، إذ يعينه هذا على:
* فراغ وقته: وهذا ضروري لطلب العلم.
* وفراغ قلبه وفكره: وهذا ضروري لاستيعاب العلم وفهمه وحفظه.
* والاستهانة بأمر الدنيا كلما قلّت علائقه بها، فيعينه هذا على الجهر بالحق غير حريص على دنيا.(3/69)
ومما يدل على أن تقليل العلائق الشاغلة معين على طلب العلم، مارواه البخاري رحمه الله عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:(إن الناس يقولون: أكثَرَ أبو هريرة، ولولا آيتان من كتاب الله ماحدّثت حديثا، ثم يتلو «إن الذين يكتمون ماأنزلنا من البينات ــ إلى قوله ــ الرحيم»، إن إخواننا من المهاجرين كان يشغلهم الصَّفق بالأسواق، وإن إخواننا من الأنصار كان يشغلهم العمل في أموالهم، وإن أبا هريرة كان يلزمُ رسول الله صلى الله عليه وسلم بِشِبَع ِ بطنه، ويحضُر مالا يحضرون، ويحفظ مالا يحفظون) (حديث 118). ومعنى (أكثر) أي من رواية الحديث، ومعنى (الصفق) أي ضرب اليد على اليد وجرت به عادتهم عند عقد البيع، ومعنى (العمل في أموالهم) أراد زراعتهم إذ كانت هى مهنة الأنصار وفي رواية مسلم (كان يشغلهم عمل أرضيهم). وفي هذا الحديث ذكر أبو هريرة رضي الله عنه أن كثرة روايته للحديث ترجع لسببين:
أحدهما: خشية كتمان العلم، ومن هنا ذكر الآية، لئلا يَعُمَّه الوعيد الوارد في حق من كتم العلم.(3/70)
والثاني: تفرُّغه لطلب العلم لعدم سعيه في الكسب والارتزاق، في حين كان المهاجرون والأنصار يشغلهم ذلك، فتمكن بتفرغه من ملازمة النبي صلى الله عليه وسلم فحفظ من الأحاديث مالم يحفظه غيره. وقد شهد له الصحابة رضي الله عنهم بذلك، فقد قال ابن عمر لأبي هريرة رضي الله عنهم (كنت ألزمنا لرسول اللهص وأعرفنا بحديثه) رواه أحمد والترمذي وقال الترمذي حديث حسن. وهناك سبب آخر لكثرة حفظ أبي هريرة وهو دعاء النبي صلى الله عليه وسلم له (راجع حديث 119 بالبخاري). ولاخلاف في أن أبا هريرة أكثر الصحابة حديثا بإطلاق مع أنه لم يلازم النبي صلى الله عليه وسلم إلا ثلاث سنوات إذ قَدِمَ عام خيبر (7 هـ) قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بثلاث سنوات، كما أنه لاشك في أن أبا بكر رضي الله عنه أعلم الصحابة وأعرفهم بالنبي صلى الله عليه وسلم وأكثرهم ملازمة له. وإنما كثر تحديث أبي هريرة لأنه عاش طويلا (ت 59 هـ) فاحتاج الناس إلى الحديث، بخلاف أبي بكر رضي الله عنه (ت 13 هـ) وكان العهد قريبا بالنبي صلى الله عليه وسلم.
وفي هذا الحديث دلالة على أن التقلل من الدنيا والرضى باليسير منها ــ وهو ماسميناه تقليل العوائق ــ أمكن لحفظ العلم. انظر (فتح الباري) جـ 1 صـ 213 ــ 216، و (جامع بيان العلم) جـ 1 صـ 96 ــ 97، و (الفقيه والمتفقه) جـ 2 صـ 92 ــ 93.
وكان أبو هريرة رضي الله عنه من مساكين أهل الصفة كما أخبر عن نفسه (حديث 2047 بالبخاري في البيوع) وكان يتحمل الجوع وخشونة العيش في طلب العلم، قال أبوهريرة رضي الله عنه (لقد رأيتُني وإني لأخِرُّ فيما بين منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حجرة عائشة رضي الله عنها مغشياً علَيَّ، فيجيء الجائي فيضع رِجْلَهُ على عُنقي، ويرى أني مجنون، وما بي من جنون ما بي إلا الجوع) رواه البخاري.
وإليك أقوال بعض العلماء في أهمية تقليل العلائق لطالب العلم:(3/71)
1 ــ روى ابن عبدالبر عن مالك ــ رحمهما الله ــ قال (إن هذا الأمر لن يُنال حتى يُذاق فيه طعم الفقر وذكَرَ مانزل بربيعة من الفقر في طلب العلم، حتى باع خشب سقف بيته في طلب العلم وحتى كان يأكل ما يُلقى على مزابل المدينة من الزبيب وعصارة التمر) أهـ. وربيعة هو ابن أبي عبدالرحمن من شيوخ مالك رحمهم الله.
وقال ابن عبدالبر: قال سُحنون (لا يصلح العلم لمن يأكل حتى يشبع ولا لمن يهتم بغَسْل ثوبه) أهـ (جامع بيان العلم) جـ 1 صـ 96 ــ 97.
2 ــ وقال الخطيب البغدادي رحمه الله (باب حذف المتفقِّه العلائق: كان بعض الفلاسفة لايعلم أحداً يتعلق بشيء من الدنيا إلا ويقول: العلم أجَلُّ من أن يُشغل عنه بغيره ثم روى الخطيب بإسناده عن مُلَيح بن وكيع قال: سمعت رجلا يسأل أبا حنيفة بم يُستعان على الفقه حتى يُحفظ؟، قال: بجمع الهَمّ، قال: قلت وبم يُستعان على حذف العلائق؟، قال: تأخذ ُ الشيء عند الحاجة ولاتَزِدْ) (الفقيه والمتفقه) جـ 2 صـ 92 ــ 93.
3 ــ وقال أبو حامد الغزالي رحمه الله ــ في آداب طلب العلم ــ (أن يقلل علائقه من الاشتغال بالدنيا، ويبعد عن الأهل والوطن، فإن العلائق شاغلة وصارفة، «ماجعل الله لرجل من قلبين في جوفه» ــ الأحزاب 4 ــ ومهما توزّعت الفكرة قصرت عن دَرْك الحقائق، ولذلك قيل «العلم لا يعطيك بعضَهُ حتى تعطيَه كُلَّك، فإذا أعطيته كٌلّك فأنت من إعطائه إياك بعضه على خطر»، والفكرة المتوزّعة على أمور متفرقة كجدول تفرّق ماؤه فنشَّفت الأرض بعضه واختطف الهواء بعضه فلا يبقى منه مايجتمع ويبلغ المزدرع) (إحياء علوم الدين) جـ 1 صـ 63.(3/72)
4 ــ وقال النووي رحمه الله ــ في آداب طلب العلم ــ (وينبغي أن يقطع العلائق الشاغلة عن كمال الاجتهاد في التحصيل ويرضى باليسير من القوت ويصبر على ضيق العيش: قال الشافعي رحمه الله تعالى: لايطلب أحدٌُ هذا العلم بالملك وعز النفس فيُفلح ولكن من طلبه بِذُل النفس وضيق العيش وخِدْمة العلماء أفلح، وقال أيضا: لايدرك العلم إلا بالصبر على الذّل، وقال أيضا: لايصلح طلب العلم إلا لمفلس فقيل ولا الغني المكفي فقال ولا الغني المكفي، وقال مالك بن أنس رحمه الله: لايبلغ أحد من هذا العلم مايريد حتى يضر به الفقر ويؤثره على كل شئ، وقال أبو حنيفة رحمه الله: يُستعان على الفقه بجمع الهم ّ ويُستعان على حذف العلائق بأخذ اليسير عند الحاجة ولايزد، وقال إبراهيم الآجري: مَن طلب العلم بالفاقة ورث الفهم، وقال الخطيب البغدادي في كتابه الجامع لآداب الراوي والسامع: يستحب للطالب أن يكون عزبا ما أمكنه لئلا يقطعه الاشتغال بحقوق الزوجة والاهتمام بالمعيشة عن إكمال طلب العلم واحتج بحديث «خيركم بعد المائتين خفيف الحاذ وهو الذي لا أهل له ولا ولد» ــ إلى أن قال النووي ــ: هذا كله موافق لمذهبنا، فإن مذهبنا أن من لم يحتج إلى النكاح استحب له تركه، وكذا إن احتاج وعجز عن مؤنته) (المجموع) جـ 1 صـ 35. وقد أخذ النووي رحمه الله بهذا فلم يتزوج، وكذلك ابن تيمية رحمه الله، إلا أن الحديث المذكور ضعيف، وقد قال ابن القيم إن أحاديث مدح العزوبة كلها باطلة، وكذلك قال: إن أحاديث ذم الأولاد كلها كَذِب من أولها إلى آخرها، انظر (المنار المنُيف في الصحيح والضعيف) لابن القيم، ط مكتب المطبوعات الإسلامية 1390 هـ، صـ 127 و 109. وجعل كثير من الفقهاء للزواج الأحكام الخمسة (الوجوب والندب والإباحة والكراهة والتحريم) كما في كتاب (المغني) لابن قدامة رحمه الله (المغني والشرح الكبير) جـ 7 صـ 334 ــ 337، وفي كتاب (منار السبيل) لابن ضويان جـ 2 صـ 134.(3/73)
وفصَّل أبو حامد الغزالي ــ في أول كتاب النكاح بالإحياء ــ متى تختار العزوبة على الزواج؟ فتكلم عن فوائد النكاح وآفاته وأن الترجيح يختلف حسب حال الشخص (إحياء علوم الدين) جـ 2 صـ 27 ــ 40.
ومع هذا فقد ورد التحذير من الاشتغال بالأهل والولد عن طاعة الله كما في قوله تعالى (ياأيها الذين آمنوا لاتُلْهِكُم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله، ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون) المنافقون 9، وقال تعالى (ياأيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم فاحذروهم، وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم، إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم) التغابن 14 ــ 15.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن الولد مَبْخَلة مَجْهلة مَجْبنة) قال الهيثمي: رواه البزار ورجاله ثقات (مجمع الزوائد) جـ 8 صـ 158. ومعناه أن الولد يجعل الوالد يبخل ليدخر لولده، ويوقعه في الجهل لشَغْلِه عن طلب العلم، ويجعله يجبن لإحجامه عن الجهاد خشية القتل وضياع الولد من بعده. وهذا كله للتحذير (ومن يتق الله يجعل له مخرجا).
خلاصة ما سبق أن تقليل العلائق الشاغلة الصارفة هو من أنفع الأشياء لطالب العلم، ومما سبق من كلام السلف رحمهم الله تدرك أن تقليل العلائق يدور على عدة أمور أهمها.
1 ــ ترك فضول الكسب والقناعة باليسير من الرزق، ومما يعينه على هذا:
أ ــ ترك فضول المأكل أي مازاد عن الحاجة بما لايضر بدنه، فإن الإسراف في الأكل مدعاة للخمول وكثرة النوم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما ملأ آدمي وعاءً شراً من بطن، بحسب ابن آدم أكلات يُقمن صُلبَه، فإن كان لا محالة، فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنَفَسِه) رواه الترمذي وحسّنه.
ب ــ ترك فضول الملبس، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن البذاذة من الإيمان) رواه أبو داود وابن ماجة. والبذاذة هى رثاثة الهيئة وترك فاخر الثياب.(3/74)
جـ ــ ترك فضول المسكن: فعن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما قال: مَرَّ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نُعالِجُ خُصّاً لنا، فقال: (ماهذا؟)، فقلنا: قد وَهَى فنحن نصلحُه، فقال:(ماأري الأمر إلا أعجل من ذلك) رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح. و (الخُصّ) بيت من الخشب أو القصب، ومعنى (وَهَى) أي ضعف وتداعى للسقوط.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ليس لابن آدم حَقّ في سوى هذه الخصال، بيت يسكُنُه، وثوب يواري عورته، وجِلْفُ الخبز، والماء) رواه الترمذي وصححه عن عثمان بن عفان رضي الله عنه، وهذا الحديث مُفسِّر لقول الله تعالى (إن لك ألا تجوع فيها ولاتعرى وأنك لاتظمأ فيها ولاتضحى) طه 118 ــ 119 فهذه حاجة الإنسان.
2 ــ ترك النكاح لمن لا يحتاجه على النحو الذي أشرنا إليه من قبل، أو تأخير النكاح، وهذا أمر يقدّره كل شخص حسب حاله بالرجوع إلى المراجع المذكورة أعلاه.
3 ــ ترك فضول الكلام والصحبة والزيارات ونحوها مما يدخل تحت قوله صلى الله عليه وسلم (من حسن إسلام المرء تركُه مالا يَعْنيه) حديث حسن رواه الترمذي وغيره، وقال ابن رجب في شرحه (قال الحسن البصري رحمه الله: من علامة إعراض الله تعالى عن العبد أن يجعل شغله فيما لايعنيه، خذلاناً من الله عزوجل) (جامع العلوم والحكم) صـ 100. ونقل النووي عن الشافعي رحمه الله قوله (طلب فضول الدنيا عقوبة عاقب الله بها أهل التوحيد) (المجموع) جـ 1 صـ 12.
هذا مايتعلق بتقليل العلائق الشاغلة الصارفة عن طلب العلم.
ثانيا ــ ترجيح الاشتغال بالعلم على النوافل القاصرة على فاعلها:
قال الشافعي رحمه الله (طلب العلم أفضل من صلاة النافلة)، وقال أيضا (ماتُقُرِّب إلى الله تعالى بشيء بعد الفرائض أفضل من طلب العلم) أهـ (المجموع) جـ 1 صـ 12.
وترجيح الاشتغال بالعلم على النوافل مبني على ثلاث مقدمات:(3/75)
1 ــ المقدمة الأولى: أن الطاعات متفاضلة، فالطاعات هى شُعب الإيمان وهى متفاضلة، ففيها فاضل ومفضول، لقوله صلى الله عليه وسلم (الإيمان بضع وسبعون شُعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شُعبة من الإيمان) رواه مسلم. فقوله صلى الله عليه وسلم (فأفضلها... وأدناها) يدل على تفاضل هذه الشُعب، وهو مذهب أهل السنة.
2 ــ المقدمة الثانية: إذا ثبت تفاضل الطاعات، فالعلم أفضل من نوافل العبادة، ودليل هذا:
أ ــمن كتاب الله تعالى قوله عزوجل (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لايعلمون) الزمر9
ب ــ ومن السنة: قول رسول الله صلى الله عليه وسلم (فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم) الحديث، رواه الترمذي وقال حديث حسن. وقال صلى الله عليه وسلم (وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء) الحديث رواه أبو داود والترمذي، وصححه ابن حبان.
وعن الحسن البصري رحمه الله مُرسلا، قال: سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجُلين كانا في بني إسرائيل: أحدهما كان عالما يُصلي المكتوبة، ثم يجلس فيعلِّم الناس الخير، والآخر يصوم النهار ويقوم الليل، أيهما أفضل؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « فضل هذا العالم الذي يُصلي المكتوبة ثم يجلس فيُعلم الناس الخير على العابد الذي يصوم النهار ويقوم الليل كفضلي على أدْناكم » رواه الدارمي.
3 ــ المقدمة الثالثة: أن الاشتغال بالفاضل أولى من الاشتغال بالمفضول، لأن الأول أعظم أجراً، وقد قال الله تعالى (سابقوا إلى مغفرة ٍ من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض) الحديد 21، ولقوله تعالى (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض) آل عمران 133، ولقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (احرص على ماينفعك) الحديث رواه مسلم، فدَلَّ هذا على ترجيح الاشتغال بالأثْوب.(3/76)
بناءً على هذه المقدمات الثلاث: أن الطاعات متفاضلة، وأن العلم أفضل من نوافل العبادة، وأن الاشتغال بالفاضل مقدم على الاشتغال بالمفضول. يكون الاشتغال بالعلم أرجح من الاشتغال بنوافل العبادة.
وقد أفرد النووي رحمه الله لهذه المسألة بابا، ذكر فيه بعض الآثار ثم قال (وجاء عن جماعات من السلف ممن لم أذكره نحو ماذكرته، والحاصل أنهم متفقون على أن الاشتغال بالعلم أفضل من الاشتغال بنوافل الصوم والصلاة والتسبيح ونحو ذلك من نوافل عبادات البدن، ومن دلائله سوى ماسبق أن نفع العلم يعم صاحبه والمسلمين والنوافل المذكورة مختصة له ولأن العلم مُصَحِّح فغيره من العبادات مفتقر إليه ولاينعكس، ولأن العلماء ورثة الأنبياء ولايوصف المتعبدون بذلك، ولأن العابد تابع للعالم مقتد به مقلد له في عبادته وغيرها واجب عليه طاعته ولاينعكس، ولأن العلم تبقى فائدته وأثره بعد صاحبه والنوافل تنقطع بموت صاحبها. ولأن العلم صفة لله تعالى، ولأن العلم فرض كفاية أعني العلم الذي كلامنا فيه فكان أفضل من النافلة) (المجموع) جـ 1 صـ 20 ــ 22
وتعلق هذه المسألة (ترجيح الاشتغال بالعلم على النوافل) بمسألة حفظ الوقت هو من باب شغل الوقت بالأرجح والأكثر فائدة.(3/77)
والمتأمل في سِيَر العلماء الصالحين من السلف يجدهم من أشد الناس عملاً بالنوافل واجتهاداً فيها، وكان الله تعالى يبارك لهم في أوقاتهم وفي علمهم بإخلاصهم رحمهم الله جميعا، وإنما أردنا بإيراد هذه المسألة تنبيه طالب العلم عليها إذا احتاج للعمل بها. مع التنبيه على أنه لايدخل في هذا ترك أداء السنن الراتبة، فإن ترك أدائها مما يجرح عدالة العبد كما سيأتي في تعريف (العدالة) في الفصل التالي في (علامات العلماء الصالحين وعلماء السوء) إن شاء الله تعالى. وإنما النوافل التي يُقدَّم الاشتغال بالعلم عليها مثل: كثرة صلاة النوافل المطلقة والإكثار من الأذكار أو المداومة على صوم التطوع بما يُضْعِف الطالب عن الدراسة، والله تعالى أعلم.
وبهذا نختم الكلام في الأدب الثاني من آداب العالم والمتعلم وهو الحرص على الوقت.
******
الأدب الثالث: تقديم الاشتغال بالأهم من العلوم النافعة
لما كان حفظ الوقت والحرص عليه من أهم علامات طالب العلم، فاعلم أن طالب العلم لايكتمل فلاحه إلا إذا شغل هذا الوقت بالعلم النافع، فإن العلوم تتفاوت مراتبها، فإذا شغل وقته بغير النافع من العلوم فهو مغبون إذ إن الوقت هو رأس ماله في طلب العلم وقد ضيّعه فيما لاينفع، وعكسه بعكسه وهو الرابح الشاكر للنعم.
وقد دل الكتاب والسنة على تقسيم العلوم إلى نافع وغير نافع
1 ــ فمن كتاب الله تعالى:
في العلم النافع، قال تعالى (وقل رب زدني علما) طه 114.
وفي غير النافع، قال تعالى (ويتعلمون مايضرهم ولاينفعهم) البقرة 102، وقال تعالى (فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ماكانوا به يستهزءون) غافر 83.
2 ــ ومن السنة:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (اللهم إني أسألك علما نافعا وأعوذ بك من علم لاينفع) رواه ابن حبان بإسناد حسن عن جابر رضي الله عنه.(3/78)
وقال صلى الله عليه وسلم (اللهم إني أعوذ بك من علم لاينفع ومن قلب لايخشع ومن نفس لاتشبع ومن دعوة لا يُستجاب لها) رواه مسلم عن زيد بن أرقم رضي الله عنه.
ذكر ابن رجب الحنبلي رحمه الله هذه الأحاديث وغيرها وقال (ولذلك جاءت السنة بتقسيم العلم إلى نافع وغير نافع والاستعاذة من العلم الذي لاينفع وسؤال العلم النافع) أهـ (فضل علم السلف على علم الخلف) لابن رجب، ط دار الأرقم 1404هـ، صـ 17.
والخلاصة: أن العلم علمان: علم نافع وعلم غير نافع.
ثم إن العلم النافع قسمان: فاضل ومفضول
والواجب معرفة النافع ثم البدء بتعلم الفاضل منه (أي الأهم) فما دونه، ويدل على هذا الترتيب قول النبي صلى الله عليه وسلم ــ لمعاذ حين بعثه إلى اليمن ــ (إنك تقدم على قوم من أهل الكتاب، فليكن أول ماتدعوهم إلى أن يوحِّدوا الله تعالى فإذا عرفوا ذلك فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم، فإذا صلّوا فأخبرهم أن الله افترض عليهم زكاة أموالهم تؤخذ من غنيِّهم فتُرد على فقيرهم، فإذا أقروا بذلك فخُذ منهم وتوقَّ كرائم أموال الناس) متفق عليه واللفظ للبخاري (حديث 7372). فدلّ الحديث على وجوب تقديم الأهم على مادونه في الأهمية، خاصة إذا كان مابعده لايصح إلا به.
وبعد هذه الاستدلالات النَّصيَّة نذكر أقوال بعض السلف في التنبيه على الاشتغال بالأهم من العلوم:
1 ــ قال ابن عبدالبر رحمه الله: وروينا عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال (العلم أكثر من أن يُحاط به فخذوا منه أحسنه). وعن الشَعبي مثله. وأنشد محمد بن مصعب لابن عباس:
ماأكثر العلم وماأوسعه..من ذا الذي يقدر أن يجمعه
إن كنت لابد له طالبا..محاولا فالتمس أنفعه
(جامع بيان العلم) جـ 1 صـ 105 ــ 106.(3/79)
2 ــ وقال الشاطبي رحمه الله (من العلم ماهو من صُلْب العلم، ومنه ماهو من مُلَح العلم لا من صلبه، ومنه ماليس من صلبه ولا مُلَحه، فهذه ثلاثة أقسام. القسم الأول هو الأصل والمعتمد، والذي عليه مدار الطلب، وإليه تنتهي مقاصد الراسخين.... إلى آخر كلامه) راجعه في (الموافقات) جـ 1 صـ 77 ــ 78. وإنما بيّنا هنا تقسيمه العلوم إلى أهم ودونه.
3 ــ وقد عَدّ أبو الفرج بن الجوزي تقديم الأدنى على الأعلى والأهم من تلبيس الشيطان، فقال رحمه الله (في ذكر تلبيس إبليس على العلماء في فنون العلم.... فمن ذلك أن أحدهم يشتغل بالقراءات الشاذة وتحصيلها، فيفني أكثر عمره في جمعها، وتصنيفها والإقراء بها، ويشغله ذلك عن معرفة الفرائض والواجبات. فربما رأيت إمام مسجد يتصدى للإقراء ولايعرف مايفسد الصلاة. وربما حمله حب التصدر حتى لايرى بعين الجهل على أن يجلس بين يدي العلماء، ويأخذ عنهم العلم، ولو تفكروا لعلموا أن المراد حفظ القرآن وتقويم ألفاظه، ثم فهمه، ثم العمل به، ثم الإقبال على مايصلح النفس ويطهر أخلاقها، ثم التشاغل بالمهم من علوم الشرع، ومن الغبن الفاحش تضييع الزمان فيما غيره الأهم.) (تلبيس إبليس) صـ 165، ط مكتبة المدني.
4 ــ وقال ابن الجوزي أيضا (في الإعلام بما ينبغي تقديمه من المحفوظات: أول ماينبغي تقديمه مقدمة في الاعتقاد تشتمل على الدليل على معرفة الله سبحانه، ويذكر فيها مالابد منه، ثم يعرف الواجبات، ثم حفظ القرآن، ثم سماع الحديث.(3/80)
ولابد من حفظ مقدمة في النحو يقوم بها اللسان. والفقه عمدة العلوم، وجمع العلوم ممدوح إلا أن أقواماً أذهبوا الأعمار في حفظ النحو واللغة، وإنما يعرف بها غريب القرآن والحديث ومايفضل عن ذلك ليس بمذموم غير أن غيره أهم منه. وأن أقواماً أذهبوا أزمانهم في علوم القرآن فاشتغلوا بما غيره أصلح منه من الشواذ المهجورة، والعمر أنفس من تضييعه في هذا. وأن أقواماً أذهبوا أعمارهم في حفظ طرق الحديث ولعمري أن ذلك حسن إلا أن تقديم غير ذلك أهم. فترى أكثر هؤلاء المذكورين لايعرفون الفقه الذي هو ألزم من ذلك، ومتى أمعن طالب الحديث في السماع والكتابة ذهب زمان الحفظ، وإذا علت السن لم يقدر على الحفظ المهم، وإذا أردت أن تعرف شرف الفقه فانظر إلى مرتبة الأصمعي في اللغة، وسيبويه في النحو، وابن معين في معرفة الرجال، كم بين ذلك ومرتبة أحمد والشافعي في الفقه. ثم لو حضر شيخ مسن له إسناد لايعرف شيئاً من الفقه بين يديه شاب متفقه فجاءت مسألة: سكت الشيخ، وتكلم الشاب، وهذا يكفي في فضل الفقه. ولقد تشاغل خلق كثير من أصحاب الحديث بعلوم الحديث، وأعرضوا عن الفقه، فلما سئلوا عن مسألة في الأحكام افتضحوا. ــ إلى أن قال ــ ولو اتسع العمر لأمرتك باستقصاء كل علم إذ الكل ممدوح، فلما قصر العمر وجب تقديم المهم والأفضل) أهـ (الحث على حفظ العلم) لابن الجوزي، ط دار الكتب العلمية 1405 هـ، صـ 23 ــ 24.(3/81)
5 ــ وقريب مما ذكره ابن الجوزي ما قاله النووي رحمه الله (المطالعة بالأهم فالأهم: وأول مايبتديء به حفظ القرآن العزيز فهو أهم العلوم وكان السلف لايُعلمِّون الحديث والفقه إلا لمن حفظ القرآن وإذا حفظه فليحذر من الاشتغال عنه بالحديث والفقه وغيرهما اشتغالا يؤدي إلى نسيان شيء منه أو تعريضه للنسيان، وبعد حفظ القرآن يحفظ من كل فن مختصراً ويبدأ بالأهم ومن أهمها الفقه والنحو ثم الحديث والأصول ثم الباقي على ماتيسر، ثم يشتغل باستشراح محفوظاته ويعتمد من الشيوخ في كل فن أكملهم في الصفات السابقة، فإن أمكنه شرح دروس في كل يوم فعل وإلا اقتصر على الممكن من درسين أو ثلاثة وغيرها، فإذا اعتمد شيخاً في فن وكان لايتأذى بقراءة ذلك الفن على غيره فليقرأ أيضاً على ثان وثالث وأكثر مالم يتأذوا فإن تأذ المعتمد اقتصر عليه وراعى قلبه فهو أقرب إلى انتفاعه، وقد قدمنا أنه ينبغي أن لايتأذى من هذا، وإذا بحث المختصرات انتقل إلى بحث أكبر منها مع المطالعة المتقنة والعناية الدائمة المحكمة وتعليق مايراه من النفائس: والغرائب وحل المشكلات مما يراه في المطالعة أو يسمعه من الشيخ، ولا يحتقرن فائدة يراها أو يسمعها في أي فن كانت بل يبادر إلى كتابتها ثم يواظب على مطالعة ماكتبه وليلازم حلقة الشيخ وليعتن بكل الدروس ويعلق عليها ماأمكن فإن عَجَزَ اعتنى بالأهم) (المجموع) جـ 1 صـ 38 ــ 39.(3/82)
6 ــ وقال ابن خلدون رحمه الله (فصل... في أن كثرة التآليف في العلوم عائقة عن التحصيل: اعلم أنه مما أضرَّ بالناس في تحصيل العلم والوقوف على غاياته كثرة التآليف، واختلاف الاصطلاحات في التعاليم وتعدد طرقها ثم مطالبة المتعلم والتلميذ باستحضار ذلك وحينئذ يُسَلَّم له منصب التحصيل فيحتاج المتعلم إلى حفظها كلها أو أكثرها ومراعاة طُرقها، ولا يَفِيِ عُمْره بما كُتِب في صناعة ٍ واحدة ٍ إذا تجرد لها فيقع القصور ولابد دون رتبة التحصيل ــ إلى أن قال ــ وإلا فالظاهر أن المتعلم ولو قطع عمره في هذا كله فلا يفي له بتحصيل علم العربية مثلا الذي هو آلة من الآلات ووسيلة فكيف يكون في المقصود الذي هو الثمرة) (مقدمة ابن خلدون) صـ 531 ــ 532.
7 ــ وقال ابن خلدون أيضا (اعلم أن العلوم المتعارفة بين أهل العمران على صنفين: علوم مقصودة بالذات كالشرعيات من التفسير والحديث والفقه ــ إلى أن قال ــ وعلوم هى وسيلة آلية لهذه العلوم كالعربية والحساب وغيرهما ــ إلى أن قال ــ لأن المتعلمين اهتمامهم بالعلوم المقصودة أكثر من اهتمامهم بوسائلها فإذا قطعوا العمر في تحصيل الوسائل فمتى يظفرون بالمقاصد؟ فلهذا يجب على المعلِّميِن لهذه العلوم الآلية أن لا يستبحروا في شأنها ويُنبهوا المتعلم على الغرض منها ويقفوا به عنده) (المقدمة) صـ 536 ــ 537، ط دار القلم، 1978 م.
وبعد: فإذا ثبت أن هناك فاضلاً ومفضولاً في العلوم، وفي داخل كل علم، فإن تقديم الاشتغال بالأهم يعني الآتي:
1 ــ أنه يجب البدء بالأهم من الفروض العلمية، فيجب تعلم ماهو فرض عين من العلم قبل الاشتغال بفرض الكفاية.
2 ــ أنه في كل فرض يجب تقديم الاشتغال بأهم العلوم ثم ما يليه.(3/83)
3 ــ أنه في كل علم يجب تقديم الاشتغال بأهم مسائله، أي بالمسائل الواضحة الأساسية قبل تعلم المسائل الدقيقة. قال تعالى (ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلِّمون الكتاب وبما كنتم تدرسون) آل عمران 79، قال البخاري رحمه الله (ويقال: الربّاني الذي يُرَبِّي الناس بصِغار العلم قبل كباره). قال ابن حجر (والمراد بصغار العلم ماوضح من مسائله، وبكباره مادقّ منها، وقيل يعلمهم جزئياته، أو فروعه قبل أصوله، أو مقدماته قبل مقاصده) (فتح الباري) جـ 1 صـ 160 ــ 162.
وبهذا نختم الكلام في الأدب الثالث من آداب العالم والمتعلم، وهو تقديم الاشتغال بالأهم من العلوم النافعة.
******
الأدب الرابع: إحسان اختيار مصدر العلم
إذا حرص طالب العلم على وقته، ووفقه الله تعالى للاشتغال بالأهم من العلوم النافعة، فما زالت هناك خطوة بينه وبين وضع قدمه على الطريق الصحيح للتعلم.
وهذه الخطوة هى إحسان اختيار مصدر العلم الذي سيشتغل به، فإذا وفقه الله لإحسان الاختيار فقد وضع قدمه على الطريق الصحيح للتعلم، وإذا أساء الاختيار فإنه يمكن أن يفني عمره في مطالعة الغث الذي لانفع فيه بل قد يكون فيه ضلالُهُ في الدنيا وهلاكه في الآخرة مالم يتداركه الله برحمة منه.
ونصوغ المراد بيانه هنا في أربع مسائل وهى:
1 ــ المراد بمصدر العلم.
2 ــ الأدلة على وجوب إحسان اختيار مصدر العلم.
3 ــ كيف يُحسن الطالب اختيار مصدر العلم؟.
4 ــ آثار السلف في التنبيه على أهمية إحسان اختيار مصدر العلم.
أولاـ المراد بمصدر العلم.
ذكرنا في الباب الثالث (كيفية طلب العلم) أن التعلم ليس له إلا طريقان: إما من الرجال (العلماء) وإما من الكتب.
ومع أن التعلم ليس له إلا هذان الطريقان، إلا أن هناك بعض العوامل التي تؤثر فيهما تأثيراً كبيراً، أي تؤثر في اختيار العالم المعلِّم وفي اختيار الكتاب، ومن هذه العوامل:(3/84)
1 ــ البلد: للموطن الذي ينشأ فيه الإنسان تأثير كبير عليه، ومن هنا وجبت الهجرة على المسلم من دار الكفر إلى دار الإسلام حتى لايفتنه الكفار عن دينه ولينصر المسلمين بدار الإسلام، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين) الحديث رواه أبو داود والترمذي، وقال ابن حجر ــ في بلوغ المرام ــ إسناده صحيح، ورجح البخاري إرساله. أهـ، وقال الصنعاني ــ في سبل السلام ــ ورواه الطبراني موصولا. أهـ.
ومما يبيِّن تأثير الموطن على العبد ماورد في حديث قاتل المائة حين أراد التوبة، وفيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ثم سأل عن أعلم أهل الأرض، فدُلَّ على رجل ٍ عالم، فقال: إنه قتل مائة نفس فهل له من توبة؟، فقال: نعم، ومن يحول بينه وبين التوبة؟ انطلق إلى أرض كذا وكذا فإنَّ بها أُناسا يعبدون الله تعالى فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء ٍ) الحديث متفق عليه. فنصحه العالم بالتحول عن بلد السوء إلى البلد الصالح وأن هذا مما يعينه على التوبة وطاعة الله تعالى، وهذا لِمَا للمخالطة من تأثير عظيم على الإنسان حتى قيل إن عدوى الأخلاق أسرع من عدوى الأمراض.(3/85)
ونضرب مثالا يبين لك تأثير البلد على اختيار المعلِّم والكتاب. فطُلاَّب التعليم الديني في معظم بلدان المسلمين يدرسون العقائد على مذهب الأشاعرة، فلا يدرسون من التوحيد إلا توحيد الربوبية وهو توحيد المعرفة والاثبات أما توحيد الألوهية وهو توحيد العبادة فلا شأن لهم به، وتُدرَّس الصفات على مذهب الأشاعرة لا مذهب السلف، ويُدرَّس الإيمان على مذهب المرجئة. فإذا اجتمعت هذه الآفات تخرج الطالب منحرف العقيدة لا يُنكِر على عُبّاد القبور ولا على سُكّان القصور من الطواغيت لأنهم مؤمنون حسبما تعلَّمه مقرون بالربوبية لله، والعمل ليس من الإيمان، فهذا ضال مُضل مالم يتداركه الله برحمة ٍ. وهؤلاء هم الذين يتولون كثيراً من مناصب الوعظ والإرشاد لعوام المسلمين، فكيف يصلح حال الأمة والأمر كذلك؟.(3/86)
2 ــ الفرقة أو الطائفة أو الجماعة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (والذي نفسي بيده لتفترقن أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، فواحدة في الجنة واثنتان وسبعين في النار) قيل: يارسول الله من هم؟ قال: (هم الجماعة) وهو حديث صحيح رواه أصحاب السنن بألفاظ متقاربة، وقال ابن تيمية رحمه الله (الحديث صحيح مشهور في السنن والمسانيد كسنن أبي داود والترمذي والنسائي وغيرهم) (مجموع الفتاوي) جـ 3 صـ 345. فإذا نشأ المسلم بين فرقة ضالة أو جماعة إسلامية منحرفة فإنها تؤثر تأثيراً كبيراً على مايتعلمه فتوجِِّهه للتعلم من هذا المعلم وتمنعه من هذا، وتأمره بمطالعة كتب معينة وتمنعه من قراءة كتب معينة حتى تصبغه الفرقة أو الجماعة بصبغتها، فإذا كانت منحرفة كان من الضالين الهالكين مالم يتداركه الله برحمة ٍ منه.قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (مامن مولود إلا يولد على الفطرة، فأبَوَاه يُهوِّدانه وينصِّرانه) الحديث متفق عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه، فدل الحديث على أن عشيرة المرء (أبواه) تؤثر عليه أعظم تأثير حتى إنهم ليبدِّلون فطرته ويُغَيِّرون مِلَّته.
روى اللالكائي بإسناده عن يوسف بن أسباط قال (كان أبي قدَرِيّاً وأخوالي روافض فأنقذني الله بسفيان) (شرح اعتقاد أهل السنة) جـ 1 صـ 60. ويوسف بن أسباط من العُبَّاد الزهاد (ت 195 هـ)، وسفيان هو الثوري من أئمة الفقه والحديث (ت 161 هـ)، والقدرية هم المعتزلة نفاة القدر، والروافض الشيعة.
وبالمثل تؤثر الصُّحبة في الإنسان وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل) رواه الترمذي وقال حديث حسن عن أبي هريرة رضي الله عنه.
فهذه بعض العوامل المؤثِّرة في اختيار العالم أو الكتاب، ولهذا فإن المراد بمصدر العلم ــ في تنبيهنا على إحسان اختيارمصدر العلم ــ هو: ــ
1 ــ إحسان اختيار العالم الذي يتلقى عنه.
2 ــ إحسان اختيار الكتاب الذي يرجع إليه.(3/87)
3 ــ مراعاة حال بلده، فإن كانت بلد سوء فعليه الاحتراز من تأثيرها على اختيار المعلِّمِ والكتاب.
4 ــ مراعاة حال جماعته وطائفته، فإن كان متبعا لجماعة إسلامية منحرفة فإنه يجب عليه أن يعتزلها من باب هجر المبتدع، وإن كان منتميا لطائفة منحرفة لا يمكنه قطع صلته بها كعشيرته فإنه يجب عليه الاحتراز من تأثيرها على مايتعلمه.
ثانيا ــ الأدلة على وجوب إحسان اختيار مصدر العلم:
1 ــ قال الله عزوجل (ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولاتتبع أهواء الذين لا يعلمون) الجاثية 18. وفائدة الآية هنا هى أن يحرص طالب العلم على البحث عن الدليل الشرعى الدال على صحة مايتعلمه، هذا هو اتباع الشريعة، أما الأقوال والآراء التى لايشهد الدليل بصحتها أو التى ليس عليها دليل فهى من أهواء الذين لايعلمون.
2 ــ قال الله تعالى (وأن هذا صراطى مستقيما فاتبعوه ولاتتبعوا السُّبل فتفرق بكم عن سبيله، ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون) الأنعام 153. وفائدتها كالآية السابقة فقوله تعالى (صراطي مستقيما فاتبعوه) كقوله تعالى (شريعة من الأمر فاتبعها)، وقوله تعالى (ولاتتبعوا السبل) كقوله تعالى (ولاتتبع أهواء الذين لايعلمون).
عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال: كنا جلوساً عند النبى صلى الله عليه وسلم فخطّ خطاً هكذا أمامه فقال (هذا سبيل الله عز وجل)، وخط خطا عن يمينه وخط خطا عن شماله وقال (هذه سبُل الشيطان)، ثم وضع يده فى الخط الأوسط ثم تلا هذه الآية (وأن هذا صراطى مستقيما فاتبعوه ولاتتبعوا السُّبل فتفرق بكم عن سبيله، ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون) رواه أحمد والحاكم وصححه عن ابن مسعود.(3/88)
3 ــ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن أهل الكتاب قبلكم تفرقوا على اثنتين وسبعين فرقة فى الأهواء، ألا وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة فى الأهواء كلها فى النار إلا واحدة وهى الجماعة) الحديث رواه أحمد وأبو داود بإسناد صحيح عن معاوية رضي الله عنه. ورواه الترمذي عن عبدالله بن عمرو رضى الله عنهما وفيه وصف النبى صلى الله عليه وسلم الفرقة الناجية بأنها (ما أنا عليه وأصحابى) وهو حديث حسن لغيره.
وهذا الحديث يدل على أن هذه الأمة ستفترق إلى فرق شتى لامحالة، واحدة على الحق ــ على شريعة الله وصراطه المستقيم كما في الآيات السابقة ــ، واثنتين وسبعين فرقة على ضلالة ــ متبعين لأهواء الذين لايعلمون ولسبل الشيطان كما في الآيات السابقة ــ وقد وقع ما أخبر عنه النبى صلى الله عليه وسلم.
والحديث يدل على تفشى الضلالات فى هذه الأمة وأن الحق عزيز إذ لم تبق عليه إلا فرقة واحدة من ثلاث وسبعين، مصداقا لقوله تعالي (وإن تطع أكثرمن فى الأرض يضلّوك عن سبيل الله) الأنعام 116. وهذا يدل على وجوب توقىِّ الضلالات نظراً لكثرتها، ووجوب تحرِّيِ الحق وطلبه نظراً لندرته، والحق هو ما كانت عليه الجماعة الأولى النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضى الله عنهم، ولهذا قال الأوزاعى رحمه الله (العلم ماجاءعن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ومالم يجئ عن واحد منهم فليس بعلم) (جامع بيان العلم) جـ 1 صـ 160.(3/89)
وفى معنى هذا الحديث ــ حديث الفرق ــ حديث العِرباض بن سارية رضي الله عنه قال: وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة وَجلت منها القلوب وذرفت منها العيون، فقلنا: يارسول الله كأنها موعظة مودِّع فأوصِنا، قال (أوصيكم بتقوى الله عز وجل والسمع والطاعة وإن تأمَّر عليكم عبد، فإن من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيراً، فعليكم بسُنّتى وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار) رواه أبوداود والترمذى وقال حديث حسن صحيح.
4 ــ قال الله تعالى (ويوم يعض الظالم علي يديه يقول ياليتنى اتخذت مع الرسول سبيلا، ياويلتى ليتني لم أتخذ فلانا خليلا، لقد أضلّنى عن الذكر بعد إذ جاءنى، وكان الشيطان للإنسان خذولا) الفرقان 27 ــ 29.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إنما مَثَل الجليس الصالح وجليس السوء كحامل المِسْك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يُحْذِيَك وإما أن تبتاع منه وإما أن تجد منه ريحاً طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد منه ريحاً مُنْتنة) متفق عليه عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، ومعنى يحذيك أى يعطيك هبةً.
فالآية والحديث يَدُلاَّن على نفع الصحبة الصالحة وضرر الصحبة السيئة وخطرها، للتنبيه على حُسن اختيار الصحبة، فكيف بالمعلِّم المرشد والكتاب؟.(3/90)
وبعد: فقد دلت الآيات والأحاديث السابقة على وجوب تحرى الحق وطلبه، وعلى وجوب الاحتراز من الباطل، وذلك لأن هذه الأمة افترقت إلى فرق كل منها يدعى أنه على الحق، كما فشت البدع والأهواء والضلالات مُزَيَّنةً بزُخْرف من القول لتروج بين المسلمين، وطالب العلم سيلقى كل هذا أمامه فى صورة فرق إسلامية ومذاهب فقهية ومعاهد علمية وجماعات إسلامية وعلماء وكتب، منها ما هو حق ومنها ماهو باطل ومنها ما اختلط فيه الحق بالباطل. ثم إن الطالب مُطالب بتحرى الحق وطلبه ومطالب بتبيُّن الباطل والاحتراز منه. وإنما يعرضُ للطالب الحقُ والباطلُ فتنةً له وابتلاء وامتحاناً، قال تعالى (أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لايفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين) العنكبوت 2 ــ 3.
فإذا كان الأمر كذلك، فإن الميزان الذى توزن به المذاهب والأقوال هو كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ثم ما أجمع عليه سلف الأمة. قال تعالى (وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله) الشورى 10، وقال تعالى (فإن تنازعتم في شيء فردّوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر، ذلك خيرٌ وأحسن تأويلا) النساء 59، وقال تعالى (أفغير الله أبتغي حكما ً) الأنعام 114.
وبناء علي ماسبق يكون المراد بإحسان اختيار مصدر العلم هو أن يلتزم الطالب في تعلمه بما يلي:
1 ــ طلب الدليل الشرعى على صحة مايتلقَّاه من الأحكام والأقوال والآراء، فما أيده الدليل فهو الحق ومالادليل عليه فباطل مردود. والدليل هو قول الله تعالى وقول رسوله صلى الله عليه وسلم وما أجمع عليه المسلمون أو قياس صحيح على ذلك. وأن يفهم كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم كما فهِمهُما السلف الصالح من الصحابة والتابعين لهم بإحسان رضي الله عنهم.(3/91)
2 ــ معرفة الراجح من المرجوح من الأحكام والأقوال، فقد تدل الأدلة على صحة حكمين رغم تعارضهما، فلابد من معرفة الراجح منهما للأخذ به.
3 ــ اتباع مذهب السلف (أهل السنة والجماعة) في الاعتقاد والمنهج، لأنه المذهب الذي دلّت الأدلة على صحته ورجحانه، مع الاشتغال بعلوم السلف فى التفسير والحديث والفقه.
فإذا التزم الطالب بهذه المباديء الثلاثة استطاع أن يميِّز بين العالم الصالح وعالم السوء، وبين الكتاب الجيد والكتاب السييء، فيكون قد وضع قدمه على الطريق الصحيح للتعلم، قال تعالى (وأن هذا صراطى مستقيما فاتبعوه ولاتتبعوا السُّبل فتفرق بكم عن سبيله، ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون) الأنعام 153.
ونشرح هذه المباديء الثلاثة في المسألة التالية بشيء من التفصيل.
ثالثا ــ كيف يُحسن الطالب اختيار مصدر العلم؟.
سأذكر إن شاء الله تعالى الكتب التي أوصى بها فى فروع العلم فى باب مستقل، وإنما أذكر هنا المباديء الثلاثة التي أشرت إليها أعلاه بشئ من التفصيل بالإضافة إلى مسألة متعلقة بأقوال العلماء. فتكون المسائل المذكورة هنا أربعا وهى: طلب الدليل الشرعى، ومعرفة الراجح من المرجوح، واتباع مذهب السلف في الاعتقاد والمنهج، ومعرفة منزلة أقوال العلماء.
1 ــ طلب الدليل الشرعى على صحة ما تتعلمه:
الدليل هو: الكتاب والسنة والإجماع والقياس الصحيح، والأصل: الكتاب والسنة فهما حاكمان على الإجماع والقياس ــ وعلى غيرهما من الأدلة المختلف فى حجِّيتها ــ بالصحة أو بالفساد، إلا أن الإجماع الصحيح حقٌ دائما إذ لاتجتمع الأمة علي ضلالة.
قال تعالى (فإن تنازعتم فى شيء فردّوه إلى الله والرسول) النساء 59، أي إلى الكتاب والسنة، فهما حاكمان على ماعداهما.(3/92)
فما دلَّ الدليل على صحته مما تتلقاه عن المشايخ أو من الكتب فهو الحق الذي نتعبّد به وهى الشريعة التي أمرنا الله باتباعها، ومالم يشهد له الدليل فهو من الأهواء التي أمرنا الله باجتنابها، قال تعالى (ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولاتتبع أهواء الذين لايعلمون) الجاثية 18، وقال تعالى (فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم، ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله، إن الله لايهدي القوم الظالمين) القصص 50. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رَدُُّ) رواه مسلم، فكل حكم أو قول لم يعضده الدليل فهو باطل مردود.
روى الخطيب البغدادي عن الربيع بن سليمان قال سمعت الشافعي وَذكَر من يحمل العلم جزافا فقال (هذا مثل حاطب ليل يقطع حزمة حطب فيحملها ولعل فيها أفعى تلدغه وهو لايدري) قال الربيع: يعني الذين لايسألون عن الحجة من أين؟ أهـ. (الفقيه والمتفقّه) جـ 2 صـ 80. فهذا مثل ضربه الشافعي رحمه الله لمن يأخذ العلم دون أن يتبيَّن الصواب فيه، فيقبل الأقوال دون البحث عن الدليل عليها، ويقبل الحديث دون البحث في درجته، فإذا عمل بشيء من هذا وكان خطأ كان فيه هلاكه، كمن يجمع الحطب بالليل لايُبصر ما بداخله وقد تكون به حيّة فتلدغه.
والخلاصة: أن العلم المعتبر هو مادلّ الدليل على صحته، فاحرص في طلبك للعلم على أن تطلب الدليل على صحة ما تتلقاه عن المشايخ، وأن تبحث عن الدليل على صحة ماتقرأه في الكتب، فإن فعلت ذلك هُديت إلى الحق وحُفِظت من الزيغ والضلال بإذن الله تعالى.(3/93)
وتعتبر كتابات شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم رحمهما الله من خير مايُثَبِّت هذا المنهج لدى طالب العلم، فإنهما قلما يذكران قولا إلا ويُتْبعانه بدليله، فيتعَّود الطالب ــ مع كثرة قراءته في كتبهما ــ على هذا المنهج وهو طلب الدليل على مايتعلمه، فأنصح كل طالب للعلم بالإكثار من القراءة في كتبهما. وقد التزمت بهذا المنهج في كتاباتي ولله تعالى الفضل والمنة، فلا أذكر قولا إلا واتبعه بدليله من الكتاب والسنة وقول السلف ماأمكن ذلك. ولا أغفل ذكر الدليل أحيانا إلا لوضوحه أو لأنني ذكرته في موضع آخر، وذلك لأن الحجة في كتاباتنا إنما هى فيما نذكره من أدلة، وحتى يثبت هذا المنهج لدى القاريء.
2 ــ معرفة الراجح من المرجوح:
إذا طلبت الدليل على صحة ما تتلقاه من العلم، فقبِلتَ ماعضَّده الدليل ورددت مالم يدل عليه دليل. فستعرض لك بعد ذلك مرتبة أخرى من مراتب تحَرّي الحق وطلبه، وهى مرتبة التمييز بين الراجح والمرجوح من الأحكام وأقوال العلماء.
وذلك لأنه قلما توجد مسألة من مسائل الأحكام خاصة إلا وللعلماء فيها أقوال متعددة متعارضة، ولكل منهم دليله الذي يحتج به على قوله. فإذا كنت حريصا على طلب الدليل فهذه أقوال متعارضة لكل منها دليله ولايمكن العمل بها جميعا، فما الواجب في تلك الحال؟. والواجب هو الترجيح بين هذه الأقوال لمعرفة أقربها للحق وهو الراجح الذي يجب العمل به. وههنا مسائل ثلاث، وهى: ــ(3/94)
أ ــ أسباب اختلاف أقوال العلماء في المسائل رغم اتباعهم للأدلة: وهذا مبحث واسع لانفصِّله هنا ولكن نحيل القارئ على ماكتبه شيخ الإسلام ابن تيمية في هذه المسألة في رسالته (رفع الملام عن الأئمة الأعلام) والتي ذكر فيها عشرة أسباب لاختلاف العلماء، وهذه الرسالة مطبوعة مفردة، وموجودة بمجموع الفتاوي جـ 20 صـ 231 ــ 250، وقد يكون شيخ الإسلام نقل هذه الأسباب العشرة عن ابن حزم، فقد ذكرها ابن حزم بعينها في (الإحكام في أصول الأحكام) له جـ 2 صـ 129. ثم كتب في نفس الموضوع شاه ولي الله الدهلوي (ت 1176 هـ) رسالة (الإنصاف في بيان سبب الاختلاف) وهى مطبوعة. فهذه أهم مراجع الموضوع لمن شاء أن يراجعها. وقد بدأ الخلاف في الأحكام منذ عصر الصحابة رضي الله عنهم، إذ كان عند بعض الصحابة من حديث النبي صلى الله عليه وسلم ماليس عند البعض الآخر، وكان كل منهم يفتي بما بلغه من العلم فوقع الخلاف، وتفرَّق الصحابة في الأمصار وانتقل اختلافهم إلى التابعين فمن بعدهم، هذا في الأحكام أما في مسائل الاعتقاد فلم يقع خلاف بين الصحابة في أي مسئلة منها بحمد الله تعالى إلا مسألة واحدة وهى هل رأى النبي صلى الله عليه وسلم رَّبه ليلة المعراج أم لا؟ فيها قولان لعائشة وابن عباس رضي الله عنهم وعند التحقيق يتبيَّن أنه لاخلاف فيها وإنما اختلفت ألفاظهما. ذكر هذا شيخ الإسلام رحمه الله.(3/95)
وقد أورد البخاري رحمه الله في كتاب الاعتصام من صحيحه باب (الحُجة على من قال إن أحكام النبي صلى الله عليه وسلم كانت ظاهرة، وماكان يغيب بعضهم عن مشاهد النبي صلى الله عليه وسلم وأمور الإسلام) (فتح الباري) جـ 13 صـ 320. وأورد فيه بعض الأحاديث للدلالة على أن الصحابة لم يكونوا جميعا يحضرون جميع مشاهد النبي صلى الله عليه وسلم ومجالسه بحيث لايخفى على أحدهم شيء من السنة، بل كان واقعهم بخلاف هذا، فكان عند بعضهم من الأحاديث ماليس عند الآخر، وكانت بعض السنن تخفى عليهم.. هذا فيما يتعلق بأسباب الاختلاف.
ب ــ وجوب الترجيح بين الأقوال المتعارضة ووجوب اتباع القول الراجح منها وهو أقربها إلى الحق، ويدل على ذلك قوله تعالى (واتبعوا أحسن ماأنزل إليكم من ربكم) الزمر 55، وقوله تعالى (فبشِّر عبادِ الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله، وأولئك هم أولوا الألباب) الزمر 17 ــ 18. استدل شيخ الإسلام بهذه الآيات على وجوب اتباع الراجح (مجموع الفتاوي) جـ 13 صـ 114 ــ 115.
وقد أجمع الصحابة رضي الله عنهم على وجوب الترجيح بين الأدلة المتعارضة والعمل بالراجح منها، نقل هذا أبو حامد الغزالي في (المستصفى) جـ 2 صـ 394، ونقله الشوكاني في(إرشاد الفحول) صـ 254.
وقال ابن تيمية (أجمع العلماء على تحريم الحكم والفتيا بالهوى، وبقول أو وجه من غير نظر في الترجيح) (الاختيارات الفقهية) جمع البعلي، تحقيق الفقي، ط دار المعرفة، صـ 332.(3/96)
وقال ابن القيم (لايجوز للمفتي أن يعمل بما يشاء من الأقوال والوجوه من غير نظر في الترجيح ولايَعْتَد به، بل يكتفى في العمل بمجرد كون ذلك قولا قالَه إمام أو وجها ذهب إليه جماعة فيعمل بما يشاء من الوجوه والأقوال حيث رأى القول وَفْقَ إرادته وغرضه عمل به، فإرادته وغرضه هو المعيار وبها الترجيح، وهذا حرام باتفاق الأمة، وهذا مثل ماحكى القاضي أبو الوليد الباجي عن بعض أهل زمانه ممن نَصَبَ نفسَه للفتوى أنه كان يقول: إن الذي لصديقي عليّ إذا وقعت له حكومة أو فتيا أن أفتيه بالرواية التي توافقه، وقال: وأخبرني مَنْ أثق به أنه وقعت له واقعة فأفتاه جماعة من المفتيين بما يضره، وأنه كان غائبا فلما حضر سألهم بنفسه، فقالوا: لم نعلم أنها لك، وأفتوه بالرواية الأخرى التي توافقه، قال: وهذا مما لاخلاف بين المسلمين ممن يُعْتَد بهم في الإجماع أنه لايجوز، وقد قال مالك رحمه الله في اختلاف الصحابة رضي الله عنهم مخطئ ومصيب فعليك بالاجتهاد.
وبالجملة فلا يجوز العمل والإفتاء في دين الله بالتَّشَهِّي والتخيُّر وموافقة الغرض، فيطلب القول الذي يوافق غرضه وغرضَ مَنْ يُحابيه فيعمل به، ويفتي به، ويحكم به، ويحكم على عدوه ويفتيه بضده، وهذا من أفسق الفسوق وأكبر الكبائر، والله المستعان.) (اعلام الموقعين) جـ 4 صـ 211.
فلا يكفي للاتصاف بالعلم معرفة أدلة المسائل وأقوال العلماء، بل لابد مع ذلك من معرفة الصواب من الخطأ فيها ومعرفة مايُقدم ومايؤخر منها في الاستدلال لكل مسألة وهذا هو الترجيح الذي يجب أن يحرص طالب العلم على تعلمه، ولهذا قال ابن تيمية في وصف الفقيه (الفقيه: الذي سمع اختلاف العلماء وأدلتهم في الجملة، وعنده مايعرف به رجحان القول) (الاختيارات الفقهية) ط دار المعرفة صـ 333.(3/97)
هذا فيما يتعلق بوجوب الترجيح بين الأدلة والأقوال المتعارضة واتباع الراجح منها. وبهذا يتبيَّن فساد المبدأ القائل (نتعاون فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضا ً فيما اختلفنا فيه)، وهو المبدأ الذي وضعه محمد رشيد رضا صاحب تفسير المنار، ثم تبنّاه من بعده حسن البنا وجماعته (الإخوان المسلمون) فقولهم (نتعاون فيما اتفقنا عليه) إطلاقه خطأ وإنما الصواب ما قاله الله تعالى (وتعاونوا على البر والتقوى ولاتعاونوا على الإثم والعدوان) المائدة 3. وقولهم (يعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه) إطلاقه خطأ أيضا لأن الاختلاف نوعان: اختلاف تضاد واختلاف تنوّع، كما ذكرهما ابن تيمية (مجموع الفتاوي، 13/333 ومابعدها) ونقله عنه ابن أبي العز في شرح العقيدة الطحاوية (ط المكتب الإسلامي 1403هـ، صـ 581 ومابعدها)، والأول (اختلاف التضاد) لاعذر فيه فليس فيه إلا صواب وخطأ، والثاني (اختلاف التنوع) الناس منه في سعة وإن كان فيه فاضل ومفضول.أما اختلاف التضاد فيجب فيه بيان الصواب من الخطأ إذ كان هذا هو عمل الأنبياء عليهم السلام والعلماء ورثتهم فيه، كما قال تعالى (وماأنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه) النحل 64، وقال صلى الله عليه وسلم (من رأى منكم منكرا فليغيره) الحديث رواه مسلم، وقوله (منكرا) نكرة في سياق الشرط (مَنْ) فهى صيغة عموم تعم منكرات الأقوال كما تعم منكرات الأفعال. وبيان خطأ المخطيء هو مذهب جمهور علماء السلف ولم يخالف في هذا إلا القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق وعمر بن عبدالعزيز رضي الله عنهم إذ كانا يريان أن المرء في سعة أن يعمل بأي قول من أقوال الصحابة رضي الله عنهم، وذكر ابن عبدالبر أنهما لم يتابعا على هذا وأن مذهب جمهور العلماء أن الصحابة إذا اختلفوا فهم كما قال الإمام مالك (مخطيء ومصيب فعليك بالاجتهاد). انظر (جامع بيان العلم) لابن عبدالبر، جـ 2 صـ 78 وما بعدها.وقال ابن القيم (وقولهم «إن مسائل(3/98)
الخلاف لاإنكار فيها» ليس بصحيح، فإن الإنكار إما أن يتوجه إلى القول والفتوى أو العمل، أما الأول فإذا كان القول يُخالف سنة أو إجماعا شائعا وجب إنكاره اتفاقا، ـــ إلى قوله ــ وكيف يقول فقيه لا إنكار في المسائل المختلف فيها والفقهاء من سائر الطوائف قد صرّحوا بنقض حكم الحاكم إذا خالف كتابا أو سنة وإن كان وافق فيه بعض العلماء؟) (اعلام الموقعين) جـ 3 صـ 300. وقال الشاطبي (فربما وقع الإفتاء في المسئلة بالمنع، فيقال: لِمَ تمنع والمسئلة مختلف فيها؟، فيجعل الخلاف حجة في الجواز بمجرد كونها مختلف فيها، لا لدليل يدل على صحة مذهب الجواز). ثم قال الشاطبي (قال الخطابي: وليس الاختلاف حجة، وبيان السنة حجة على المختلفين من الأولين والآخرين. هذا مختصر ما قال. والقائل بهذا راجع إلى أن يتبع ما يشتهيه، ويجعل القول الموافق حجة له يدرأ بها عن نفسه، فهو قد أخذ القول وسيلة إلى اتباع هواه، لا وسيلة إلى تقواه، وذلك أبعد له من أن يكون ممتثلا ً لأمر الشارع، وأقرب إلى أن يكون ممن اتخذ إلهه هواه) أهـ (الموافقات) جـ 4 صـ 140 ــ 141، وسوف يأتي بسط القول في وجوب الترجيح وأن الاختلاف ليس حجة في الشريعة وذلك في القسم لخامس من الفصل الأول (أحكام المفتي) في الباب الخامس من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى. وإنما أردت التنبيه على فساد مبدأ (نتعاون فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه) إذ قد شاع هذا المبدأ في الناس وبعضهم يردده كأنه مبدأ مقطوع بصحته لاخلاف عليه، وكأنه آية أو حديث حجة في دين الله تعالى، وقد تبيّن لك فساد هذا المبدأ الذي يستخدمه البعض كثيرا ً لتبرير الأقوال والمذاهب الفاسدة وتمريرها لدى المسلمين حتى بلغ الأمر إلى جعل هذا المبدأ حجة في ارتكاب الشرك الأكبر كالالتحاق بالبرلمانات والترشيح لها ونحو ذلك.(3/99)
وبهذه المناسبة فإني أحذر إخواني المسلمين من وضع الشعارات المخترعة وترديدها، فقلما يسلم أصحاب الشعارات المخترعة من مخالفة الشريعة كما وقعت فيه سائر الفرق المبتدعة، وفي الكتاب والسنة الكفاية، ولكن الإعراض عنهما وهجرهما أحوج الناس إلى اختراع الشعارات، فكانت عقوبة قدرية لهم. قال الله عزوجل (أولَم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يُتلى عليهم، إن في ذلك لرحمة ً وذكرى لقوم ٍ يؤمنون) العنكبوت 51.
جـ ــ كيفية معرفة الراجح من المرجوح.
قال ابن تيمية رحمه الله (وإذا كان في المسألة قولان: فإن كان الإنسان يظهر له رجحان أحد القولين عمل به، وإلا قلَّد بعض العلماء الذين يُعتمد عليهم في بيان أرجح القولين، والله أعلم). (مجموع الفتاوي) جـ 20 صـ 207، ومثله في جـ 18 صـ 43.
اعلم أن الترجيح له وسائل لايخلو أي كتاب من كتب أصول الفقه من ذكرها، ومنها ماذكره الغزالي بآخر كتاب (المستصفى) ونقله عنه الآمدي بآخر كتابه (الإحكام في أصول الأحكام)، والشوكاني بآخر كتابه (إرشاد الفحول). وذكر أبو بكر الحازمي في كتابه (الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار) خمسين وجهاً للترجيح بين الأخبار المتعارضة.
فالإنسان إما أن يكون عالما مجتهداً فهذا له أن يرجح بين المتعارضات بنفسه بوسائل الترجيح التي قررها العلماء، وإما أن يكون عاميا فهذا فرضه سؤال العلماء الثقات، وإما أن يكون طالب علم مؤهل للنظر في كلام العلماء فهذا يدرك الترجيح بمطالعة كتب العلماء التي تعتني بالترجيح وبيان الراجح من المرجوح ككتاب (المغني) لابن قدامة المقدسي رحمه الله، ومجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، ونحوها من الكتب.
وبهذا نختم الكلام في الترجيح ومعرفة الراجح وهى المسألة الثانية من مسائل (كيف يُحسن الطالب اختيار مصدر العلم؟). وسنتكلم في الترجيح مرة أخرى إن شاء الله عند الكلام في أحكام المفتي في الباب الخامس.(3/100)
3 ــ اتباع مذهب السلف في الاعتقاد والاشتغال بعلومهم:
أما مذهب السلف في الاعتقاد وهو اعتقاد أهل السنة والجماعة فهو واجب الاتباع وهو وحده الحق وماعداه ضلال مبين، وذكرنا حديث الفِرَق الدال على هذا من قبل، وفيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة في الأهواء كلها في النار إلا واحدة وهى الجماعة) الحديث.
وأما ترجيح الاشتغال بعلوم السلف في التفسير والحديث والفقه فيدل عليه:
قول رسول الله صلى الله عليه وسلم (خير أمتي قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم) الحديث متفق عليه. فدلَّ الحديث على أن الخير في المتقدمين أكثر، وأن الخير يقل بمضِيّ الزمان، ويمتاز علم السلف بالآتي:
أ ــ أن الصواب فيه أكثر مما عند المتأخرين، لاعتماد السلف على المنقول من الكتاب والسنة وأقوال الصحابة والتابعين، بل لا صواب في كتب المتأخرين إلا المنقول عن السلف، وما خالف المنقول عنهم فهو من المحدثات المردودة وإن كثر القائلون بها. قال أبو حامد الغزالي (ومنها أن يكون شديد التوقي من محدثات الأمور وإن اتفق عليها الجمهور، فلا يغرنه إطباق الخلق على ماأُحدث بعد الصحابة رضي الله عنهم، وليكن حريصا على التفتيش عن أحوال الصحابة وسيرتهم وأعمالهم ــ إلى أن قال ــ واعلم تحقيقاً أن أعلم أهل الزمان وأقربهم إلى الحق أشبههم بالصحابة وأعرفهم بطريق السلف، فمنهم أخذ الدين. ولذلك قال علي رضي الله عنه « خيرنا أتبعنا لهذا الدين » لََمَّا قيل له: خالفت فلاناً. فلا ينبغي أن يُكترث بمخالفة أهل العصر في موافقة أهل عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم) (إحياء علوم الدين) جـ 1 صـ 95.(3/101)
وقال ابن تيمية (وعُلِمْ أن الضلال والتهوك إنما استولى على كثير من المتأخرين بنبذهم كتاب الله وراء ظهورهم، وإعراضهم عما بعث الله به محمداً صلى الله عليه وسلم من البينات والهدى، وتركهم البحث عن طريقة السابقين والتابعين) (مجموع الفتاوي) جـ 5 صـ 12.
ب ــ أن كلام السلف قليل مختصر، بخلاف كلام المتأخرين، وهذه من النعم التي يهبها الله تعالى لمن يشاء من عباده، وهى في السلف أكثر، وهى مما اختص به الله تعالى نبينا كما قال صلى الله عليه وسلم (بُعِثت بجوامع الكلم) الحديث رواه البخاري، وقال البخاري (وبلغني أن جوامع الكلم أن الله يجمع الأمور الكثيرة التي كانت تكتب في الكتب قبله في الأمر الواحد والأمرين ونحو ذلك). انظر الأحاديث (7013 و 7273). ومااختص الله به نبينا صلى الله عليه وسلم فللأمة منه نصيب، وهو في السلف أكثر.(3/102)
والخلاصة: أن كلام السلف مختصر كثير الفائدة، وخير الكلام ما قلّ ودلّ، فالاشتغال به أحفظ للوقت لاختصاره، وأجمع للفهم لكثرة فوائده، ولهذا فإن الاشتغال بعلم السلف أولى بل هو واجب، قال حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما (اتقوا الله يامَعْشر القّراء، وخذوا طريق من كان قبلكم، فلعمري لئن اتبعتموه فلقد سبقتم سبقاً بعيداً ولئن تركتموه يمينا وشمالا لقد ضللتهم ضلالا بعيدا) رواه ابن عبدالبر (جامع بيان العلم) جـ 2 صـ 97، ورواه البخاري بلفظ قريب (حديث 7282). وكل الطوائف الضالة قديما وحديثا إنما تتمكن من تضليل أتباعها بقطعهم عن علم السلف والآثار، وبهذا فقط يتمكنون من تفسير النصوص بأهوائهم وتأويلاتهم الفاسدة لتأييد ضلالاتهم، وصدق الله تعالى القائل (يُضل به كثيرا ويهدي به كثيرا) البقرة 26، والنجاة من هذا باتباع آثار السلف كما قال ابن مسعود رضي الله عنه (إنكم ستجدون أقواماً يزعمون أنهم يدعونكم إلى كتاب الله وقد نبذوه وراء ظهورهم فعليكم بالعلم، وإياكم والتبدع، وإياكم والتَّنطُّع، وإياكم والتعمق، وعليكم بالعتيق) رواه اللالكائي (شرح اعتقاد أهل السنة) جـ 1 صـ 87، والعتيق أي القديم.
ونُنَبِّه على أن من كان من المتأخرين عمدته على المنقول عن السلف فهو لاحق بهم في الفضل وفي تقديم الاشتغال بكتاباته كابن تيمية وابن القيم وأمثالهما رحمهم الله جميعا.(3/103)
وفي بيان فضل علم السلف قال ابن تيمية رحمه الله (قال تعالى « والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه، وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار، خالدين فيها أبدا ً ذلك الفوز العظيم » ــ التوبة 100 ــ فجعل التابعين لهم بإحسان مشاركين لهم فيما ذكر من الرضوان والجنة ــ إلى أن قال ــ فمن اتبع السابقين الأولين كان منهم، وهم خير الناس بعد الأنبياء، فإن أمة محمد خير أمة أخرجت للناس، وأولئك خير أمة محمد، كما ثبت في الصحاح من غير وجه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خير القرون القرن الذي بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم».
ولهذا كان معرفة أقوالهم في العلم والدين وأعمالهم خيرا ً وأنفع من معرفة أقوال المتأخرين وأعمالهم في جميع علوم الدين وأعماله، كالتفسير وأصول الدين، وفروعه، والزهد، والعبادة، والأخلاق، والجهاد، وغير ذلك، فإنهم أفضل ممن بعدهم كما دل عليه الكتاب والسنة، فالاقتداء بهم خير من الاقتداء بمن بعدهم، ومعرفة إجماعهم ونزاعهم في العلم والدين خير وأنفع من معرفة مايذكر من إجماع غيرهم ونزاعهم.
وذلك أن إجماعهم لايكون إلا معصوما ً، وإذا تنازعوا فالحق لايخرج عنهم، فيمكن طلب الحق في بعض أقاويلهم، ولا يحكم بخطأ قول من أقوالهم حتى يعرف دلالة الكتاب والسنة على خلافه، قال تعالى: (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم، فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول، إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر، ذلك خير وأحسن تأويلا).(3/104)
وأما المتأخرون الذين لم يتحروا متابعتهم وسلوك سبيلهم، ولا لهم خبرة بأقوالهم وأفعالهم، بل هم في كثير مما يتكلمون به في العلم ويعملون به، لايعرفون طريق الصحابة والتابعين في ذلك، من أهل الكلام والرأي والزهد والتصوف. ــ إلى قوله ــ لأن كثيرا ً من أصول المتأخرين محدث مبتدع في الإسلام مسبوق بإجماع السلف على خلافه، والنزاع الحادث بعد إجماع السلف خطأ قطعاً) (مجموع الفتاوي) جـ 13 صـ 23 ــ 26.
وقد كتب الحافظ ابن رجب الحنبلي رحمه الله رسالة في (بيان فضل علم السلف على علم الخلف) وهى مطبوعة.
4 ــ معرفة منزلة أقوال العلماء:
هذه مسألة متعلقة بما ذكرناه آنفا من طلب الدليل، وقد تبيّن لك مما سبق أن أقوال العلماء ليست بحجةٍ في دين الله تعالى ومن هنا عَرَّف العلماء التقليد بأنه (اتباع قول الغير بغير حجة)، والتقليد هو اتباع العامي لقول العالم، وإنما يجب طلب الدليل على صحة أقوالهم لتبيّن الصواب من الخطأ فيها. ولهذا يَحْسُن أن تحفظ هذه العبارة:
(أقوال العلماء يُحَتَجُّ لها لا يُحْتَجُّ بها).(3/105)
قال ابن تيمية (وقد يُراد بالشرع قول أئمة الفقه: كأبي حنيفة والثوري ومالك بن أنس والأوزاعي والليث بن سعد والشافعي وأحمد وإسحاق وداود وغيرهم، فهؤلاء أقوالهم يُحتج لها بالكتاب والسنة.) (مجموع الفتاوي) 11/ 264 ــ 265. وقال ابن القيم (وقول المفتي ليس بموجب للأخذ به، فإذا ذكر الدليل فقد حرم على المستفتي أن يخالفه.) (اعلام الموقعين) 4/260. يتبين من هذا أنه لاحجة في أقوال العلماء ذاتها، وإنما الحجة في الكتاب والسنة وماينبني عليهما من إجماع معتبر أو قياس صحيح، لقوله تعالى (ياأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم، فإن تنازعتم في شئ فردّوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر) النساء 59، وقد دلت هذه الآية على هذه الحجج الأربع، الكتاب (أطيعوا الله)، والسنة (وأطيعوا الرسول)، والإجماع (وأولي الأمر منكم) وهم العلماء في قول ٍ، والقياس (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول) فردّ المتنازع فيه إلى الكتاب والسنة هو القياس وهو رد مالم يرد فيه نص إلى ماورد فيه نص للعلة المشتركة بينهما. وهذه الأدلة الأربعة هى في قوة حجيتها حسب ترتيبها في هذه الآية التي دلت أيضا على أن الكتاب والسنة دليلان أصليان في حين أن الإجماع والقياس دليلان تابعان للأدلة الأصلية.
ويستفاد من معرفة منزلة أقوال العلماء وأنها ليست بحجة فائدتان:(3/106)
الأولى: ألا تقبل أقوال العلماء بغير دليل ولو بلغ أحدهم مرتبة الاجتهاد المطلق، إذ يجوز عليه الخطأ مع هذا، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر) الحديث متفق عليه، ومع كونه مأجوراً فقوله الخطأ مردود، لقوله صلى الله عليه وسلم (من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رَدّ) رواه مسلم. ولتعلم أن كثيراً من البدع والانحرافات عن الدين إنما سببها تقديم أقوال العلماء على النصوص، تجد فريقاً من الناس على ضلالة ويقولون قال بها فلان أو عمل بها فلان، والكتاب والسنة حجة على الأولين والآخرين. وهذا الكلام إنما هو في حق طالب العلم أو العامي الذي يفهم الدليل، أما من نزل عن هذه المرتبة من العوام فواجبه تقليد العالم، وتفصيل هذا في الباب الخامس إن شاء الله.
الثانية: إذا أردت الاحتجاج لمسألة ــ سواء في التعليم أو في المناظرة ــ فلا تحتج بقول فلان من العلماء وإن علا قدره ــ فهذا محض التقليد ــ وليس بحجة كما علمت، وإنما الحجة في الدليل.
فإن قيل: إذا كانت أقوال العلماء ليست حجة، فما فائدتها؟ فنقول فائدتها:
أولا: أقوال العلماء ترشد إلى مواضع الأدلة، التي تخفى على الطالب المبتدئ.
ثانيا: أقوال العلماء مُعينة على فهم الأدلة، بتفسير غريبها، والتنبيه على ناسخها من منسوخها، وعامها وخاصها، ومطلقها ومقيدها، وماينبغي جمعه من الأدلة وماينبغي ترجيحه. وهذا كله يخفى على الطالب والمبتديء.
ثالثا: أقوال العلماء إذا تعاضدت فهى مُشعرة بالقوة، وإذا اجتمعت ــ صارت إجماعا ــ فتكون حجة ً.
تنبيه: ما ذكرناه هنا من عدم حجِّية أقوال العلماء يُستثنى منه أقوال الخلفاء الراشدين وبقية الصحابة رضي الله عنهم، فأقوالهم إذا اجتمعت حجة قطعية ــ إجماع الصحابة ــ وإذا اختلفوا ففيه تفصيل يراجع بكتب أصول الفقه، باب قول الصحابي، وعلى سبيل المثال انظر (اعلام الموقعين) لابن القيم جـ 4 صـ 118 ــ 156، ففيه تفصيل جيد.(3/107)
ويتضح مما سبق ذكره في مسألة إحسان اختيار مصدر العلم أن صفات مصدر العلم الجيد ــ سواء كان عالما أوكتابا ــ هى:
1 ــ أن يكون في الاعتقاد على مذهب أهل السنة والجماعة، والاشتغال بكتب المتقدمين من أهل السنة خير من كتب المتأخرين. وقد جمع شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتاباته خلاصة ماكتبه المتقدمون مع بيان ماغمض منه، وإن امتاز المتقدمون بذكر الأقوال بالأسانيد. ثم إن جميع من كتب فى اعتقاد أهل السنة بعد شيخ الإسلام هم عالة على كتاباته، بدءاً من ابن القيم إلي ابن أبى العز الحنفى إلى السفاريني إلى علماء الدعوة النجدية حتى المعاصرين. فالاطلاع على كتب شيخ الإسلام ابن تيمية يغنى عن مطالعة السابق واللاحق في معظم مسائل الاعتقاد.
2 ــ وأما ماعدا الاعتقاد من العلوم كالتفسير وشروح الحديث وكتب الفقه وغيرهما من العلوم حتى الآداب والرقائق، فصفات المصدر الجيد هى:
أ ــ أن يكون كاتبه من علماء أهل السنة كابن قدامة، وابن تيمية، وابن القيم، وابن كثير رحمهم الله، فإن طالع الطالب لبعض العلماء الذين لديهم مخالفات لأهل السنة في بعض المسائل كالقاضى عياض والقرطبى والنووى وابن حجر رحمهم الله، فليكن الطالب على بيِّنة من مخالفاتهم في مسائل الصفات والإرجاء في الإيمان ليكون علي حذر منها، وسوف تأتي أمثلة لذلك في مبحث الاعتقاد بالباب السابع بهذا الكتاب إن شاء الله تعالى.
ب ــ والكتاب الذى كتبه فقيه خير من الكتاب الذى كاتبه غير فقيه.
جـ ــ والكتاب الذي يذكر الأقوال بأدلتها خير من الذي يذكر الأقوال مجردة من الأدلة.
د ــ والكتاب الذي يذكر الراجح من المرجوح خير من الذي يُطلق القول ويُلقي الطالب في حَيْرة، فلا يدري بأي قول منها يعمل.
هـ ــ ومن صفات الكتاب الجيد أن يشتمل علي معظم مسائل الفن بحيث يُغْنى عن غيره.(3/108)
و ــ والكتاب الذى تم تخريج أحاديثه والحكم عليها ببيان درجتها خير من الكتاب الذى لم تخرج أحاديثه، ليكون الطالب علي بصيرة من قوة الأدلة المذكورة وحُجيِّتها.
وبعد الكلام في كيف يُحسن الطالب اختيار مصدر العلم؟، نذكر بعض الآثار عن السلف في التنبيه علي أهمية إحسان اختيار مصدر العلم.
رابعا ــ آثار السلف فى التنبيه على أهمية إحسان اختيار مصدر العلم:
1 ــ حديث حذيفة بن اليمان رضى الله عنه فى رفع الأمانة وندرتها في الناس، وفيه قال (فيصبح الناس يتبايعون فلا يكاد أحدٌ يؤدى الأمانة، حتى يُقال: إن في بني فلان رجلا أميناً، وحتى يُقال للرجل: ماأجلَدَه ما أظرفه، ما أعقله ! وما في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان، ولقد أتى عَلَىّ زمانٌ وما أبالى أيَّكم بايعت، لئن كان مسلماً ليردَّنه علىَّ دينه ولئن كان نصرانيا أو يهوديا ليردَّنه على َّ ساعيه، وأما اليوم فما كنت أبايع منكم إلا فلانا وفلانا) الحديث متفق عليه. وقوله (أيكم بايعت) يعنى البيع والشراء لابيعة الإمامة لعدم جوازها للنصرانى، ومعنى (ليردَّنه) أى إلي الحق، ومعنى (ساعيه) أى القائم على النصرانى واليهودى سواء كان الوالى أو سيد الرقيق.
وقول حذيفة (ولقد أتى عَلَىّ زمان...) يشير إلى استفاضة الأمانة في الناس، إلى أن قال (أما اليوم فماكنت أبايع إلا فلانا وفلانا) يشير إلي نقص الأمانة حتى أنه لايكون في القوم إلا الرجل الأمين الواحد (إن في بني فلان رجلا أمينا) حتى أنه لايبايع إلا أناسا بأعينهم يطمئن لأمانتهم. لتحرِّيه واحتياطه فى طلب الأمانة وفي حفظ المال.
وحذيفة رضى الله عنه توفي عام 36 هـ فى أول خلافة علي رضي الله عنه، وكلامه هذا يدل على شدة تغيّر الأحوال عما عهده في صدر الإسلام، فكيف بالحال الآن؟.(3/109)
ودلالته في أنه إذا كان حفظ الدين مقدماً على حفظ المال فى الضرورات الخمس، فإن الاحتياط في طلب من تأخذ عنه علوم الدين أوجب من الاحتياط في معرفة أمانة مَن تعامله بالدينار والدرهم.
2 ــ وعن زياد بن حُدير قال: قال لى عُمرَ: هل تعرف مايهدم الإسلام؟ قال: قلت: لا ! قال (يهدمه زلّة العالِم، وجدالُ المنافق بالكتاب، وحكم الأئمة المُضِلين.) رواه الدرامى بإسناد صحيح. وقول عمر رضى الله عنه فيه التحذير من أصناف ممن يتكلمون فى العلم وليسوا من أهله (كالمنافق وكالأئمة المضلين) مع التحذير من زلة العالم.
3 ــ قال محمد بن سيرين رحمه الله (ت 110 هـ): (إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم) رواه مسلم في مقدمة صحيحه، وروى عنه أيضا قوله (لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة قالوا: سّموا لنا رجالكم، فيُنظر إلى أهل السُّنة فيؤخذ منهم وإلى أهل البدعة فلا يؤخذ منهم) أهـ. فدلّت أقواله على وجوب البحث في حال من يؤخذ عنهم العلم.(3/110)
4 ــ وروى اللالكائي رحمه الله بإسناده عن أيوب السَّختياني رحمه الله (ت 131 هـ) قال:(إن من سعادة الحَدَث والأعجمي أن يوفقهما الله لعالمٍ من أهل السنة) (شرح اعتقاد أهل السنة) جـ1 صـ 60. والحَدَث هو صغير السن، والأعجمي غير العربي، ويريد أن ينبِّه بذلك على أهمية إحسان اختيار مصدر العلم، وعلى أهمية البداية الصحيحة في التعلم بأن يكون هذا على أيدي علماء أهل السنة، لأن القلب إذا تعلق بضلالة وزَيْغ في بداية التعلم كان من العسير إزالتها عنه، ولهذا كان السلف ينهون عن مجالسة أهل البدع حتى لايعلق بالنفوس شيء من ضلالاتهم.روى أبو عبدالله بن بطة بإسناده عن عمرو بن قيس الملائي قال:(إذا رأيت الشاب أول ما ينشأ مع أهل السنة والجماعة فارْجه، وإذا رأيته مع أهل البدع فايئس منه، فإن الشاب على أول نشوءه) أهـ. ثم قال ابن بطة رحمه الله (فانظروا رحمكم الله من تَصْحبون وإلى من تجلسون، واعرفوا كل إنسان بخدنه وكل أحد بصاحبه، أعاذنا الله وإياكم من صحبة المفتونين، ولا جعلنا وإياكم من إخوان العابثين ولا من أقران الشياطين، وأستوهبُ الله لي ولكم عصمة من الضلال وعافية من قبيح الفعال) أهـ (الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية) لابن بطة، ط دار الراية 1409هـ، جـ 1 صـ 205 ــ 206. وعمرو بن قيس الملائي هو أبو عبدالله الكوفي، ثقة متقن، عابد، مات سنة بضع وأربعين ومائة هـ (تقريب التهذيب ــ ترجمة 661 بحرف العين).
5 ــ وقال الإمام مالك رحمه الله (ت 179 هـ):(لايؤخذ العلم عن أربعة: سفيه مُعلن السَّفه، وصاحب هوى يدعو إليه، ورجل معروف بالكذب في أحاديث الناس وإن كان لايكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم، ورجل له فضل وصلاح لايَعْرف مايُحدِّث به) رواه عنه ابن عبدالبر (جامع بيان العلم) جـ 2 صـ 48.(3/111)
6 ــ وقال البخاري رحمه الله (256 هـ) (تركت عشرة آلاف حديث لرجل ٍ فيه نظر، وتركت مثلها أو أكثر منها لغيره لي فيه نظر) (هدي الساري مقدمة فتح الباري) صـ 481.
7 ــ وقال الخطيب البغدادي رحمه الله (باب اختيار الفقهاء الذين يتعلم منهم: ينبغي للمتعلم أن يقصد من الفقهاء من اشتهر بالديانة وعُرِفَ بالستر والصيانة) (الفقية والمتفقه) جـ 2 صـ 96. وساق الخطيب بعض الآثار السابقة. وسوف نذكر إن شاء الله في الفصل الخاص بآداب العالم: صفات العلماء الصالحين وعلماء السوء لمعرفة من يؤخذ منه العلم ومن لا يؤخذ عنه أو يُحتاط في الأخذ عنه.
8 ــ ابن عدي الجرجاني (ت 365 هـ) في كتابه الكامل في الضعفاء، في فصل (صفة من لايؤخذ عنه العلم). روي بإسناده عن ابن المبارك رحمه الله (ت 181هـ) يقول: يكتب الحديث إلا عن أربعة:غَلاّط لايرجع، وكذّاب، وصاحب هوى يدعو إلى بدعته، ورجل لايحفظ فيُحِدِّث من حِفظه.أهـ.
وروى ابن عدي بإسناده عن أبي الزِّناد رحمه الله (تابعي، ت 130هـ) قال: أدركت بالمدينة مائة كلهم مأمون، لايؤخذ عنهم العلم، كان يُقال: ليس هم من أهله. أهـ.
وروي ابن عدي بإسناده عن إبراهيم النخعي رحمه الله (ت 96هـ) قال: كنا إذا أردنا أن نأخذ عن شيخ، سألناه عن مطعمه، ومشربه، ومدخله، ومخرجه، فإن كان على استواء أخذنا عنه، وإلا لم نأته.أهـ (الكامل في ضعفاء الرجال) ط، دار الفكر 1409 هـ، جـ 1 صـ 154 ــ 156.
9 ــ وقال ابن تيمية رحمه الله في أثر المعلم المرشد على الطالب:
(وهذا المذهب الذي يسميه السلف: قول « جهم » لأنه أول من أظهره في الإسلام وقد بيّنت إسناده فيه في غير هذا الموضع، أنه متلقى من الصابئة الفلاسفة، والمشركين البراهمة، واليهود السَّحرة. إلى أن قال في الكلام عن الصفات القرآنية ــ:(3/112)
فالأشعري والباقلاني وقدماؤهم يثبتونها، وبعضهم يقر ببعضها، وفيهم تجهّم من جهة أخرى، فإن الأشعري شرب كلام الجبّائي شيخ المعتزلة ونسبته في الكلام إليه متفق عليها عند أصحابه وغيرهم ــ إلى أن قال ــ
وأما الجويني ومن سلك طريقته: فمالوا إلى مذهب المعتزلة، فإن أبا المعالي كان كثير المطالعة لكتب أبي هاشم، قليل المعرفة بالآثار، فأثَّر فيه مجموع الأمرين. ــ إلى أن قال ــ
فابن عقيل إنما وقع في كلامه المادة المعتزلية بسبب شيخه أبي علي بن الوليد وأبي القاسم بن التبان المعتزليين، ولهذا له في كتابه « إثبات التنزيه »، وفي غيره كلام يضاهي كلام المريسي ونحوه.ـــ إلى أن قال ــ
والغزّالي في كلامه مادة فلسفية كبيرة بسبب كلام ابن سينا في «الشفا» وغيره، «ورسائل إخوان الصفا»، وكلام أبي حيان التوحيدي) (مجموع الفتاوي) جـ 6 صـ 51 ــ 54.
فقد رأيت من كلام ابن تيمية رحمه الله كيف تأثر كل من ذكرهم في كلامه السابق ــ كالأشعري والجويني وابن عقيل والغزالي وجهم ــ كيف تأثر كل منهم بشيخه أو بشيوخه الذين تتلمذ على أيديهم؟ بما أدّى إلى مخالفتهم لمذهب أهل السنة في قليل ٍ أو كثير. فليحذر كل امريء لنفسه.
فهذه بعض آثار السلف رحمهم الله في التنبية على أهمية إحسان اختيار مصدر العلم سواء كان ذلك شيخا معلما أو كتابا لما له من تأثير عظيم على الطالب.
وبهذا نختم الكلام في الأدب الرابع من آداب العالم والمتعلم، وهو إحسان اختيار مصدر العلم.
******
الأدب الخامس: العمل بالعلم(3/113)
لاينتفع العالم بعلمه مالم يعمل به، بل يبقى مذموما حتى يعمل بعلمه، فإذا عمل العبد بما تعلمه فهذا من علامات سعادته وصدقه، قال تعالى (من المؤمنين رجال صدقوا ماعاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر ومابدلوا تبديلا) الأحزاب 23، فجعل الله تعالى العمل مُصدِّقاً للقول، كما في قوله تعالى (إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا، وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، أولئك هم الصادقون) الحجرات 15.
والمراد هنا بيان ما يلي:
1 ــ بيان أن المقصود من العلم العمل.…2 ــ معنى العمل بالعلم.
2 ــ مدح من يعمل بعلمه.…4 ــ ذم من لم يعمل بعلمه.
1ــ بيان أن المقصود بالعلم العمل:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع، عن عمره فيما أفناه، وعن علمه ماذا عمل فيه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن جسمه فيما أبلاه) رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح عن أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه. فدلّ الحديث على أن العبد مسئول عن العمل بما يتعلمه.
وروى ابن عبدالبر عن سفيان الثوري رحمهم الله قال:(إنما يُتعلم العلم ليُتقى به الله، وإنما فُضِّل العلم على غيره لأنه يُتقى به الله) (جامع بيان العلم) جـ 1 صـ 192.
وقال الشاطبي رحمه الله (العلم الذي هو العلم المعتبر شرعا ــ أعني الذي مدح اللُه ورسولُه أهلَه على الإطلاق ــ هو العلم الباعث علي العمل الذي لايُخلي صاحبه جارياً مع هواه كيفما كان، بل هو المقيِّد لصاحبه بمقتضاه، الحامل له على قوانينه طوعا أو كرها) أهـ (الموافقات) جـ 1 صـ 69.
2ــ معنى العمل بالعلم:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (اللهم إني أسألك علما نافعا) الحديث رواه ابن حبان بإسناد حسن. والانتفاع بالعلم على قسمين: نفع لازم وهو أنه يعمل بعلمه في نفسه، ونفع متعد ٍ أي يتعدى نفعه إلى غيره من الناس فيعمل بعلمه في الناس. ولكل منهما مفردات.(3/114)
القسم الأول: العمل بالعلم في نفسه (النفع اللازم).
أ ــ وأول مايجب عليه من ذلك تصحيح اعتقاده إن كان به دَخَن، لقوله تعالى (فاعلم أنه لا إله إلا الله) محمد 19، وقال تعالى (هذا بلاغ للناس وليُنذروا به وليعلموا أنما هو إله واحد) إبراهيم 52، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (فليكن أول ماتدعوهم إليه أن يوحِّدوا الله) الحديث رواه البخاري. وقد سبق الكلام في هذا في بيان صفة فرض العين من العلم في الفصل الثاني من الباب الثاني.
ب ــ ثم إن عليه القيام بعبادات القلب من الخشية والتوكل والإنابة والمحبة والرجاء، وعبادات الجوارح فرضها ونفلها، قال تعالى (أمّن هو قانت آناء الليل ساجداً وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربِّه، قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لايعلمون، إنما يتذكر أولوا الألباب) الزمر 9، جمع الله تعالى عبادات القلب وعبادات الجوارح فى هذه الآية وجعلها سبحانه ثمرة العلم النافع، كما قال تعالى (ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلِّمون الكتاب وبما كنتم تدرسون) آل عمران 79.
جـ ــ ثم عليه مع ذلك تصحيح معاملاته والكف عن المحرمات والمشتبهات مع الزهد في الدنيا.القسم الثانى: العمل بالعلم فى الناس (النفع المتعدِّي)
أ ــ وذلك بنشره في الناس ابتداء بغيرسؤال وذلك بالتدريس والتعليم والوعظ، قال تعالي (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيِّنُنَّهُ للناس ولاتكتمونه) آل عمران.
ب ــ ونشره فى الناس بإجابة أسئلتهم، وذلك مقام الإفتاء.
جـ ــ والقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصدع بالحق.
د ــ ووقف علمه وكتبه لله تعالى بعد موته، لينتفع الناس وطلاب العلم به، فيجرى عليه ثواب ذلك.
هذا هو معنى العمل بالعلم، وقال الحسن البصرى رحمه الله (ابن آدم مايُغنى عنك ماجمعت من حكمة الحكماء وأنت تجرى في العمل مجرى السُّفهاء) رواه ابن عبد البر (جامع بيان العلم) جـ 2 صـ 9.(3/115)
وسيأتي إن شاء الله تعالى بيان مدح العاملين بعلمهم وذم من لم يعمل بعلمه عند الكلام في صفات العلماء الصالحين وعلماء السوء في الفصل التالي.
******
الأدب السادس: الصبر في طلب العلم وفي العمل به وتعليمه.
جميع ماذكرناه في هذا الفصل (آداب يشترك فيها العالم والمتعلم) من إخلاص النية والحرص على الوقت بقطع العلائق، والاشتغال بالأهم والبحث عنه، ثم العمل بعلمه في نفسه وفي الناس، كل هذا لايتمكن العبد من القيام به إلا بالصبر. قال تعالى (والعصر إن الإنسان لفى خسر، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر)، فإذا صبر العبد علي هذا كله نال المنزلة العالية فى الدنيا والآخرة، أما فى الدنيا فقد قال تعالى (وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون) السجدة 24، وأما فى الآخرة فقد قال تعالى (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب) الزمر 10.
ولا ينفك العالم وطالب العلم محتاجا إلي الصبرفى شتى أحواله:
1 ــ فيحتاج إلي الصبر علي طول مدة التعلم واحتمال المشقة فيه.
ذكرنا فى مسألة (الحرص على الوقت) قول الخطيب البغدادي أن التَّفقُّه لابد له من سنين طويلة، فإذا صبر الطالب على هذا نال المراد وإلا انقطع عن الطلب. والعالم أحوج إلى مواصلة التعلم من الطالب فإن الجهل يُسْتَقْبَح من العالم مالايستقبح من الطالب.
روى مسلم في صحيحه عن يحيى بن أبى كثير رحمه الله قال (لايُستطاع العلمُ براحة الجسم) أهـ.
وقيل للشعبى: من أين لك هذا العلم كله؟. قال: بنفي الاعتماد، والسير فى البلاد، وصبر كصبر الجماد، وبُكور كبكور الغُراب.
وقال الشاعر:
ألا لاتنال العلم إلا بستّة … سأنبيك عن مجموعها ببيان
ذكاءٌ وحرصٌ واصطبارٌُ وبُلغة… وإرشادُ أستاذ وطولُ زمانٍ(3/116)
وأورد ابن عبد البر في (جامع بيان العلم) باب (الحضّ على استدامة الطلب والصبر على اللأواء والنَّصب) وروى فيه عن الإمام مالك رحمه الله قال (لاينبغي لأحد يكون عنده العلم أن يترك التعلم).
وروي ابن عبد البر عن نعيم بن حماد قال: قيل لابن المبارك إلى متى تطلب العلم قال: حتى الممات إن شاء الله، وقيل له مرة أخري مثل ذلك فقال: لعل الكلمة التى تنفعنى لم أكتبها بعد ذلك.
وقال ابن عبد البر. سُئل سفيان بن عيينة مَنْ أحوج الناس إلى طلب العلم، قال: أعلمهم لأن الخطأ منه أقبح.
وقال ابن عبد البر: وكان الشافعي يقول.... وقالوا من لم يحتمل ذل التعلم ساعة بقى في ذل الجهل أبدا.
وقال ابن عبد البر:وقال قتادة: لوكان أحد يكتفي من العلم بشيء لاكتفى موسى عليه السلام ولكنه قال: هل أتبعك على أن تعلمني مما عُلِّمت رشداً. أ هـ (جامع بيان العلم) جـ 1 صـ 95 ـ100.
ومصداق هذا من كتاب الله تعالى: قوله عز وجل (وقل رب زدني علما) طه 114، قال العلماء (لم يأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بالاستزادة من شيء إلا العلم).فإذا كان إمام الأنبياء صلى الله عليه وسلم قد طلب الاستزادة من العلم فكيف بمن دونه من العلماء وطلبة العلم؟.
2 ــ ويحتاج العالم والطالب إلي الصبر على قطع العلائق وتقليلها، ومن هذا القناعة بالقليل من الرزق للتفرغ لطلب العلم.
روى البخارى عن أبي هريرة رضى الله عنه قال: إن الناس يقولون أكثر أبو هريرة، ولولا آيتان في كتاب الله ماحدّثت حديثا، ثم يتلو «إن الذين يكتمون ماأنزلنا من البينات والهدي ــ إلى قوله ــ الرحيم». إن إخواننا من المهاجرين كان يشغلهم الصَّفق بالأسواق، وإن إخواننا من الأنصار كان يشغلهم العمل فى أموالهم، وإن أبا هريرة كان يلزمُ رسول الله صلى الله عليه وسلم بِشِبَع بطنه، ويحضر ما لايحضرون، ويحفظ ما لايحفظون. أهـ (حديث 118).(3/117)
ورى ابن عبد البر بإسناده عن مالك رحمه الله قال: إن هذا الأمر لن يُنال حتى يُذاق فيه طعم الفقر، وذكر مانزل بربيعة من الفقر في طلب العلم حتى باع خشب سقف بيته في طلب العلم، وحتي كان يأكل مايُلقى على مزابل المدينة من الزبيب وعصارة التمر. (جامع بيان العلم) جـ 1 صـ 97.
3 ــ ويحتاج الطالب إلي الصبر على ما استغلق عليه فهمه حتى يفهمه.
ومن هذا ماورد في قصة موسى مع الخضر عليهما السلام في قوله تعالى (قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشدا، قال إنك لن تستطيع مَعِيَ صبرا، وكيف تصبر علي مالم تُحط به خبرا، قال ستجدني إن شاء الله صابرا ولاأعصي لك أمراً، قال فإن اتبعتني فلاتسئلني عن شيء حتى أُحدث لك منه ذكرا ــ إلى قوله تعالى ــ ذلك تأويل مالم تسطع عليه صبراً) الكهف 66 ــ 82.
4 ــ ويحتاج الطالب إلى الصبر على مشقة السفر والرحلة لطلب العلم إذا احتاج لذلك.
قال البخاري: (ورحل جابر بن عبد الله مسيرة شهر إلى عبد الله بن أُنيس فى حديث واحد) (فتح الباري) جـ 1 صـ 173.
وقال عبد الله بن مسعود رضى الله عنه (والله الذي لا إله غيره، ماأنزلت سورة من كتاب الله إلا أنا أعلم أين أنزلت، ولاأنزلت آية من كتاب الله إلا أنا أعلم فيمن أُنزلت، ولو أعلم أحداً أعلم منى بكتاب الله تبلُغُه الإبل لركبتُ إليه) متفق عليه واللفظ للبخارى (حديث 5002).
وروى ابن عبد البرعن يحيى بن سعيد: قال سعيد بن المسيب: إن كنت لأسير الليالي والأيام في طلب الحديث الواحد.
وقال ابن عبد البر: قال الشعبي: لو أن رجلا سافر من أقصى الشام إلى أقصي اليمن ليسمع كلمة حكمة مارأيت أن سفره ضاع. (جامع بيان العلم) جـ 1 صـ 94 ــ 95.
5 ــ ويحتاج الطالب إلي الصبر للتواضع فى أخذ العلم عمن هو دونه.
كثيرا ما يطلب الرجل العلم ممن هو دونه فى السِّن أو الحسب أو حتي العلم ولايتمكن من حمل نفسه على هذا إلا بالتواضع، فإن أنِفت نفسه من هذا آل أمره إلى الجهل.(3/118)
قال تعالى (هل أتبعك على أن تعلمني مما عُلِّمت رشدا) الكهف 66، فطلب موسى عليه السلام العلم ممن هو دونه منزلة وهو الخضر، ونقل ابن حجر عن القرطبى قوله (والخضر وإن كان نبيا فليس برسول باتفاق، والرسول أفضل من نبي ليس برسول ؛ ولو تنزلنا على أنه رسول فرسالة موسى أعظم وأمته أكثر فهو أفضل) (فتح البارى) جـ1 صـ221. ودليل أفضلية موسى عليه السلام من كتاب الله قوله تعالى (ياموسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتى وبكلامي) الأعراف 144، فكان موسى عليه السلام أفضل أهل زمانه.
وقال تعالى (وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون، وكان ربك بصيراً) الفرقان 20.
وقال تعالى (وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء مَنَّ الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين) الأنعام 53.
6 ــ ويحتاج العالم إلى الصبر على تعليم الناس وألا يزهد فيهم لضعفهم وفقرهم، فطُلاَّب الحق عادة مايكونون هم الضعفاء الفقراء غير المترفين.
قال تعالى (واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشىّ يريدون وجهه ولاتعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا) الكهف 28.
وقال تعالى (عبس وتولى أن جاءه الأعمى ومايدريك لعله يزكّى أو يذّكر فتنفعه الذكرى، أما من استغنى، فأنت له تصدى، وماعليك ألا يزكّى، وأما من جاءك يسعى وهو يخشى فأنت عنه تلهّى، كلا إنها تذكرة) عبس 1 ــ 11.
وفى أسئلة هرقل لأبي سفيان عن النبى صلى الله عليه وسلم، قال هرقل (وسألتك أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟، فذكرت أن ضعفاءهم اتبعوه، وهم أتباع الرسل) الحديث متفق عليه.
7 ــ ويحتاج العالم والطالب إلى الصبر في تبليغ الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
قال تعالى (ولقد كُذِّبت رسلٌ من قبلك فصبروا على ماكُذّبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرُنا ولامبدِّل لكلمات الله) الأنعام 34، فَقَرن الله تعالى الصبر على التكذيب والإيذاء بالدعوة إلى الحق.(3/119)
وقال تعالى (يابُني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانْهَ عن المنكر واصبر علي ماأصابك إن ذلك من عزم الأمور) لقمان 17، فَقَرن الله تعالى الصبر بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وفى الجملة فإن العالم وطالب العلم كلاهما لاينفك محتاجا إلى الصبر فى شتى أحواله، في طلبه للعلم، وفي عمله به، وفي تعليمه ونشره. وإذا كنا قد قلنا إن أهم علامات العالم وطالب العلم الحرص علي الوقت، فإن أهم زاد لهما الصبر، فإن صَبَرا بلغا المنزلة الرفيعة فى الدنيا والآخرة وإلا انقطعا، وربك يخلق مايشاء ويختار. والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
قال ابن القيم رحمه الله (طالب الله والدار الاخرة لا يستقيم له سيره وطلبه إلا بحبسين، حبس قلبه في طلبه ومطلوبه. وحبسه عن الالتفات إلي غيره، وحبس لسانه عما لايفيد وحبسه على ذكر الله ومايزيد فى إيمانه ومعرفته. وحبس جوارحه عن المعاصى والشهوات وحبسها على الواجبات والمندوبات فلا يفارق الحبس حتى يلقى ربه فيخلصه من السجن إلى أوسع فضاء وأطيبه ومتى لم يصبر على هذين الحبسين وفر منهما إلى فضاء الشهوات أعقبه ذلك الحبس الفظيع عند خروجه من الدنيا فكل خارج من الدنيا إما متخلص من الحبس وإما ذاهب إلى الحبس، وبالله التوفيق) (الفوائد) صـ 54.
ومصداق هذا من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله (حُفَّت الجنة بالمكاره، وحُفَّت النار بالشهوات) الحديث متفق عليه.
وقال ابن القيم أيضاً (فهى والله أيامك الخالية التي تجمع فيها الزاد لمعادك إما إلى الجنة وإما إلى النار، فإن اتخذت إليها سبيلا إلى ربك بلغت السعادة العظمى والفوز الأكبر في هذه المدة اليسيرة التي لا نسبة لها إلى الأبد وإن آثرت الشهوات والراحات واللهو واللعب انقضت عنك بسرعة وأعقبتك الألم العظيم الدائم الذي مُقَاساته ومعاناته أشق وأصعب وأدوم من معاناة الصبر عن محارم الله والصبر على طاعته ومخالفته الهوى لأجله) (الفوائد) صـ 0117(3/120)
وبهذا نختم الكلام في الصبر وهو الأدب السادس من الآداب اللازمة للعالم والمتعلم على السواء. وبه نختم الكلام في هذا الفصل، ثم نعرّج على الكلام فى الآداب الخاصة بالعالم إن شاء الله تعالى، وبالله التوفيق.
قال الله عز وجل (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا، وإن الله لمع المحسنين)العنكبوت 69.
الفصل الثاني
آداب العالِم المعلِّّم
ذكرنا في الباب الثالث (كيفية طلب العلم) مسئولية العلماء فى تعليم الأمة، وأن هذا واجب عليهم، ولأداء هذا الواجب آداب على العالم أن يتأدب بها فى نفسه وفي تدريسه ومع طلابه ليؤدى العاِلم واجبه علي خير وجه يرضى الله تعالى ويؤتي ثمرته مع طلابه.
والأدب ثمرة العلم وزينته، أما كونه ثمرته فهذا في حق من انتفع بعلمه وعمل به فتأدّب بما تعلمه من الآداب الشرعية فيثمر العلمُ الأدبَ، وأما كونه زينته فلأن الأدب يزيد من شرف صاحب العلم ويدعو غيره للاقتداء به والأخذ عنه، بخلاف من لم يتأدب بعلمه فيزهد الناس فيه ويزدرونه.
فالعلم والأدب متلازمان لاينفصلان، إذ إن العلم المبتغي به وجه الله تعالى باعث على الأدب والتواضع وحُسن الخُلق إذ كان الأنبياء عليهم السلام كذلك والعلماء ورثتهم.
ومن طلب العلم لغير الله لازَمَهُ سوء الخلق والعُجب والكِبر والطمع، إذ لو كان يبتغى بعلمه مرضاة الله تعالى لجاهد نفسه في ذات الله تعالى ليصلحها.
ولاشك أن العلماء أحق الناس بالتأدب بالآداب الشرعية، إذ إنهم حملة العلم وورثة الأنبياء عليهم السلام. وسوف نقسِّم المراد بيانه من آداب العالم في هذا الفصل إلي أقسام أربعة، هذا بالإضافة إلي ماذكرناه فى الفصل السابق من آداب يشترك فيها العالم والمتعلم.
القسم الأول: آداب العالم في نفسه ودَرْسِه.
القسم الثاني: آداب العالم في تدريسه.
القسم الثالث: آداب العالم مع طلابه.
القسم الرابع: بيان علامات العلماء الصالحين وعلماء السوء.
******(3/121)
القسم الأول: آداب العالم في نفسه ودَرْسِه
أولا: آدابه فينفسه:
قال العلامة بدر الدين بن جماعة رحمه الله (ت 733 هـ): (إن أهم مايبادر به اللبيب شرخ شبابه، ويَدْئب نفسه في تحصيله واكتسابه حسن الأدب الذى شهد الشرع والعقل بفضله، واتفقت الآراء والألسنة على شكر أهله، وإن أحق الناس بهذه الخصلة الجميلة وأَوْلاهُم بحيازة هذه المرتبة الجليلة: أهل العلم الذين حلوا به ذروة المجد والسناء، وأحرزوا به قصبات السبق إلى وراثة الأنبياء، لعلمهم بمكارم أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم وآدابه، وحسن سيرة الأئمة الأطهار، من أهل بيته وأصحابه، وبما كان عليه أئمة علماء السلف، واقتدى بهديهم فيه مشايخ الخلف.
قال ابن سيرين: كانوا يتعلمون الهَدْى كما يتعلمون العلم.
وقال الحسن: إن كان الرجل ليخرج فى أدب نفسه السنتين ثم السنتين.
وقال سفيان بن عيينة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الميزان الأكبر وعليه تعرض الأشياء على خُلُقِهِ، وسيرته، وهديه.فما وافقها فهو الحق، وماخالفها فهو الباطل.
وقال حبيب بن الشهيد لابنه: يابني ! صاحب الفقهاء والعلماء، وتعلم منهم وخذ من أدبهم فإن ذلك أحب إلىّ من كثير من الحديث.
وقال بعضهم لابنه يابنى ! لأن تتعلم باباً من الأدب أحب إلىّ من أن تتعلم سبعين بابا من أبواب العلم.
وقال مخلد بن الحسين لابن المبارك: نحن إلى كثير من الأدب أحوج منا إلى كثير من الحديث.) أهـ (تذكرة السامع والمتكلم فى أدب العالم والمتعلم) لابن جماعة، صـ 5.
وقال النووى رحمه الله (باب آداب المعلِّم:
هذا الباب واسع جداً وقد جمعت فيه نفائس كثيرة لايحتمل هذا الكتاب عُشْرها فأذكر فيها إن شاء تعالى نبذاً منه: فمن آدابه أدبه فى نفسه وذلك فى أمور.(3/122)
منها أن يقصد بتعلمه وجه الله تعالى ولايقصد توصلا إلي غرض دنيوى كتحصيل مال أو جاه أو شهرة أو سمعة أو تميز عن الأشياء أو تكثر بالمشتغلين عليه أو المختلفين إليه أو نحو ذلك، ولايشين علمه وتعليمه بشيء من الطمع فى رفق تحصل له من مشتغل عليه من خدمة أو مال أو نحوهما وإن قل ولو كان على صورة الهدية لولا اشتغاله عليه لما أهداها إليه. ودليل هذا كله ماسبق فى باب ذم من أراد بعلمه غير الله تعالى من الآيات والأحاديث، وقد صح عن الشافعى رحمه الله أنه قال وددت أن الخلق تعلموا هذا العلم على أن لاينسب إلىّ حرف منه، وقال رحمه الله تعالى ما ناظرت أحداً قط على الغلبة ووددت إذا ناظرت أحداً أن يظهر الحق على يديه، وقال ماكلمت أحداً قط إلا وددت أن يوفق ويسدد ويعان ويكون عليه رعاية من الله وحفظ. وعن أبى يوسف رحمه الله تعالى قال ياقوم أريدوا بعلمكم الله فأنى لم أجلس مجلساً قط أنوى فيه أن أتواضع إلا لم أقم حتى أعلوهم ولم أجلس مجلساً قط أنوي فيه أن أعلوهم إلا لم أقم حتى أفتضح.
ومنها أن يتخلق بالمحاسن التي ورد الشرع بها وحث عليها والخلال الحميدة والشيم المرضية التى أرشد إليها من التزهد في الدنيا والتقلل منها وعدم المبالاة بفواتها، والسخاء والجود ومكارم الأخلاق وطلاقة الوجه من غير خروج إلى حد الخلاعة، والحلم والصبر والتنزه عن دنيء. الاكتساب، وملازمة الورع والخشوع والسكينة والوقار والتواضع والخضوع واجتناب الضحك والإكثار من المزح. وملازمة الآداب الشرعية الظاهرة والخفية كالتنظيف بإزالة الأوساخ وتنظيف الإبط وإزالة الروائح الكريهة واجتناب الروائح المكروهة وتسريح اللحية.
ومنها الحذر من الحسد والرياء والإعجاب واحتقار الناس وإن كانوا دونه بدرجات وهذه أدواء وأمراض يبتلى بها كثيرون من أصحاب الأنفس الخسيسات.(3/123)
وطرِيقُهُ فى نفى الحسد أن يعلم أن حكمة الله تعالى اقتضت جعل هذا الفضل فى هذا الانسان فلا يعترض ولايكره مااقتضته الحكمة ولم يذم الله احترازاً من المعاصى.
وطريقه فى نفي الرياء أن يعلم أن الخلق لاينفعونه ولايضرونه حقيقة فلا يتشاغل بمراعاتهم فيتعب نفسه ويضر دينه ويحبط عمله ويرتكب سخط الله تعالى.
وطريقه في نفي الاعجاب أن يعلم أن العلم فضل من الله تعالى ومعه عارية فان لله ما أخَذَ وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى فينبغى أن لايعجب بشيء لم يخترعه وليس مالكا له ولا علي يقين من دوامه.
وطريقه فى نفي الاحتقار التأدب بما أدبنا الله تعالى قال الله تعالى (فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى) وقال تعالى (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) فربما هذا الذي يراه دونه أتقى لله تعالى وأطهر قلبا وأخلص نية وأزكى عملا ثم إنه لايعلم ماذا يختم له به ففى الصحيح «أن أحدكم يعمل بعمل أهل الجنة» الحديث نسأل الله العافية من كل داء.
ومنها استعماله أحاديث التسبيح والتهليل ونحوهما من الأذكار والدعوات وسائر الآداب الشرعيات.
ومنها دوام مراقبته لله تعالى في علانيته وسره محافظا على قراءة القرآن ونوافل الصلوات والصوم وغيرهما معوِّلا على الله في كل أمره معتمداً عليه مفوضاً فى كل الأحوال أمره إليه.
ومنها وهو من أهمها أن لا يذل العلم ولايذهب به إلى مكان ينتسب إلى من يتعلمه منه وإن كان المتعلم كبير القدر بل يصون العلم عن ذلك كما صانه السلف، وأخبارهم فى هذا كثيرة مشهورة مع الخلفاء وغيرهم، فإن دعت إليه ضرورة أو اقتضت مصلحة راجحة على مفسدة ابتذاله رجونا أنه لابأس به مادامت الحالة هذه، وعلى هذا يحمل ماجاء عن بعض السلف فى هذا.(3/124)
ومنها أنه إذا فعل فعلا صحيحاً جائزاً في نفس الأمر ولكن ظاهره أنه حرام أو مكروه أو مخل بالمروءة ونحو ذلك فينبغي له أن يخبر أصحابه ومن يراه يفعل ذلك بحقيقة ذلك الفعل لينتفعوا ولئلا يأثموا بظنهم الباطل ولئلا ينفروا عنه ويمتنع الانتفاع بعلمه، ومن هذا الحديث الصحيح «إنها صفية») أ هـ (المجموع) جـ 1 صـ 28 ــ 29. والحديث الأخير هو حديث الاعتكاف.
ثانيا ــ آداب العالم في درسه:
العالم من أحوج الناس إلى مواصلة الدرس والتعلم، فإن الجهل يستقبح منه مالا يستقبح من غيره، ولا يزال الطلا ب والناس يسألونه عما لا يعرفه فلا بد له من التعلم.(3/125)
وفي هذا يقول النووي رحمه الله (ومن آداب اشتغاله: فينبغي أن يزال مجتهداً في الاشتغال بالعلم قراءة وإقراءاً ومطالعة وتعليقاً ومباحثة ومذاكرة وتصنيفاً، ولا يستنكف من التعلم ممن هو دونه في سن أو نسب أو شهرة أودين أوفي علم آخر بل يحرص على الفائدة ممن كانت عنده وإن كان دونه في جميع هذا، ولا يستحيي من السؤال عما لم يعلم فقد روينا عن عمر وابنه رضي الله عنهما قالا: من رَقَ وجهه رق علمه. وعن مجاهد (لا يتعلم العلم مستح ٍ ولا مستكبر)، وفي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت (نعم النساء نساء الأنصار لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين) ــ الى أن قال ــ وينبغي أن يتعلم التصنيف إذا تأهل له فبه يطلع على حقائق العلم ودقائقه ويثبت معه لأنه يضطره إلى كثرة التفتيش والمطالعة والمراجعة والاطلاع على مُخْتَلف كلام الائمة ومُتَّفَقِهِ وواضحه من مشكله، وصحيحه من ركيكه وما لا اعتراض عليه من غيره وبه يتصف المحقق بصفة المجتهد وليحذر كل الحذر أن يشرع في تصنيف مالم يتأهل له فإن ذلك يضره في دينه وعلمه وعرِضه وليحذر أيضا من إخراج تصنيفه من يده إلا بعد تهذيبه وترداد نظره وتكريره، وليحرص على إيضاح العبارة وإيجازها فلا يوضح إيضاحاً ينتهي إلى الركاكة ولا يوجز إيجازاً يفضي إلى المحق والاستغلاق. وينبغي أن يكون اعتناؤه من التصنيف بما لم يُسبق إليه أكثر. والمراد بهذا أن لا يكون هناك مُصَنَّف يغني عن مصنفه في جميع أساليبه فإن أغنى عن بعضها فليصنف من جنسه ما يزيد زيادات يحتفل بها مع ضم ما فاته من الأساليب وليكن تصنيفه فيما يعم الانتفاع به ويكثر الاحتياج إليه) (المجموع) جـ 1 صـ 29 ــ 30.
فهذا بعض ما يتعلق بآداب العالم في نفسه وفي درسه، وبالله التوفيق.
******
القسم الثاني: آداب العالم في تدريسه(3/126)
ذكرنا في الباب الثالث (كيفية طلب العلم) أن تبليغ العالم للعلم بالتدريس والإفتاء والوعظ واجب وذكرنا أدلته هناك، كما ذكرنا أن تلقى الطلاب العلم على أيدي العلماء هو الأصل في التعلم، وفي هذا القسم نذكر الآداب المتعلقة بأداء هذا الواجب ألا وهو تدريس العالم العلم للناس، وذلك على النحو التالي:
أولا ــ حكم التعليم:
ذكرناه بأدلته في الباب الثالث، وبيّنا أنه واجب على من تأهل له، وهل هو فرض عين أم كفاية؟ فيقول النووي رحمه الله: (اعلم أن التعليم هو الأصل الذي به قوام الدين وبه يُؤْمَن إمحاق العلم فهو من أهم أمور الدين وأعظم العبادات وآكد فروض الكفاية: قال تعالى (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه) وقال تعالى (إن الذين يكتمون ما أنزلنا) الآية وفي الصحيح من طرق أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (ليبلغ الشاهد منكم الغائب) (المجموع) جـ 1 صـ 30.
وقال النووي أيضا:(تعليم الطالبين وإفتاء المستفتين فرض كفاية، فإن لم يكن هناك من يصلح إلا واحد تعيَّن عليه، وإن كان جماعة يصلحون فطُلِبَ ذلك من أحدهم فامتنع فهل يأثم ذكروا وجهين في المفتي والظاهر جريانهما في المعلم كالوجهين في امتناع أحد الشهود، والأصح لا يأثم) (المجموع) جـ1 صـ 27.
ثانيا ــ أجر المعلِّم:
ذكرناه بأدلته في الباب الثالث، وأن الأولى له يتبرع بالتعليم ولا يأخذ عليه أجراً إن كانت له كفاية، فإن كان محتاجاً فإن أجره على بيت المال لأن التعليم من المصالح العامة للمسلمين، فإن تعذر الأخذ من بيت المال وأجرى عليه أهل القرية أو المحلة رزقاً ليعلمهم جاز ذلك، وكذلك إن أخذ أجراً من رجل ليعلمه جاز، وأدلة ما سبق كالتالي:
1 ــ أما أن الأوْلى له التبرع بالتعليم وعدم أخذ الأجرة عليه، فمن وجهين:(3/127)
أحدهما: أن تبليغ العلم واجب شرعي كالصلاة والصيام، قال تعالى (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه) ال عمران 187، فلا يستحق الأجر على ما يجب عليه فعله، ذكره القرطبي في تفسيره جـ1 صـ 185.
الوجه الثاني: الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، كما قال أبو حامد الغزّالي (أن يقتدي بصاحب الشرع صلوات الله عليه وسلامه، فلا يطلب على إفادة العلم أجراً ولا يقصد به جزاء ولا شكرا ً، بل يعلم لوجه الله تعالى وطلباً للتقرب إليه ولا يرى لنفسه مِنَّة عليهم وإن كانت المنة لازمة عليهم، بل يرى الفضل لهم إذ هذبوا قلوبهم لأن تتقرب إلى الله تعالى بزراعة العلوم فيها، كالذي يُعيرك الأرض لتزرع فيها لنفسك زراعة فمنفعتك بها تزيد على منفعة صاحب الأرض، فكيف تقلده منة وثوابك في التعليم أكثر من ثواب المتعلم عند الله تعالى؟ ولولا المتعلم مانلت هذا الثواب فلا تطلب الأجر إلا من الله تعالى كما قال عز وجل (وياقوم لا أسألكم عليه مالاً إن أجري إلا على الله) هود29 (إحياء علوم الدين) جـ 1 صـ 70.
2 ــ وأما أخذه من بيت المال إن كان محتاجاً:
فلقيامه بأداء فرض الكفاية عن المسلمين فرزقه في بيت المال، قال الخطيب البغدادي (وعلى الإمام أن يفرض لمن نصب نفسه لتدريس الفقه والفتوى في الأحكام ما يُغنيه عن الاحتراف والتكسّب، ويجعل ذلك في بيت مال المسلمين) (الفقيه والمتفقه) جـ 2 صـ 164.(3/128)
ودليله صنيع الصحابة مع أبي بكر الصديق لما استُخلف رضي الله عنهم. روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت (لما استُخلف أبو بكر الصديق قال: لقد عَلِمَ قومي أن حرفتي لم تكن تعجزُ عن مَؤُنة أهلي، وشُغِلتُ بأمر المسلمين، فسيأكل آل أبي بكر من هذا المال وأَحترِفُ للمسلمين فيه) (حديث 2070). وقال ابن حجر في شرحه (في قصة أبي بكر أن القَدْر الذي كان يتناوله فُرِضَ له باتفاق من الصحابة، فروى ابن سعد بإسناد مرسل رجاله ثقات، قال «لما استخلف أبو بكر أصبح غاديا إلى السوق على رأسه أثواب يتجر بها، فلقيه عمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح فقال: كيف تصنع هذا وقد ولِّيت أمر المسلمين؟، قال: فمن أين أُطعم عيالي؟، قالوا: نَفْرِضُ لك، ففرضوا له كل يوم ٍ شطر شاة») (فتح الباري) جـ 4 صـ 305.
فتأمّل يرحمك الله، هذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه خير هذه الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم وأول الخلفاء الراشدين، فرض له الصحابة شطر شاه ــ أي نصف شاة ــ في اليوم، أما حكام هذا الزمان من الملوك والرؤساء فقد فرضوا لأنفسهم شطر أموال الأمة أو يزيد، ثم يطالبون شعوبهم بالتقشف وشد الأحزمة على البطون لأجل سداد ديون الأمة؟ !، ولاشك في أن ظلم هؤلاء الحكام إنما هو عقوبة قدرية لهذه الشعوب بسبب سكوتها عن الظلم وتركها السعي في إزالته وتغييره، قال تعالى (وكذلك نولي بعض الظالمين بعضاً بما كانوا يكسبون) الأنعام 129.(3/129)
3 ــ وأما أخذ المعلم أجرهُ من أهل محلة ٍ أو من رجل ليعلمه إن كان محتاجا وتعذر أخذه من بيت المال: فدليله قوله صلى الله عليه وسلم (إن أَحقَّ ماأخذتم عليه أجراً كتابُ الله) الحديث رواه البخاري (5737). قال ابن حجر (واستدل به الجمهور في جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن، وخالف الحنفية فمنعوه في التعليم وأجازوه في الرقى كالدواء. قالوا لأن تعليم القرآن عبادة والأجر فيه على الله، وهو القياس في الرقى إلا أنهم أجازوه فيها لهذا الخبر) (فتح الباري) جـ 4 صـ 453. وقوله (وأجازوه في الرقى) لأن الحديث السابق ورد في حق الرقية بفاتحة الكتاب.
وقد استدل الأحناف للمنَعْ من أخذ الأجر على تعليم القرآن بأدلة:
منها قوله تعالى (ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا) البقرة 41، ومافي معناها من الآيات، وقد وردت في حق بني اسرائيل الذين يكتمون صفة النبي صلى الله عليه وسلم والذين يأخذون الرشوة لتبديل الحق وتغييره، ولو قلنا إن عموم لفظها يدخل فيه أخذ الأجر على تعليم القرآن، فإن هذا العموم يخصصه الحديث المذكور (إن أحق ماأخذتم عليه أجراً كتاب الله).
ومما استدل به الأحناف أيضا بعض الأحاديث الضعيفة التي لاتقوم لهذا الحديث الصحيح، ذكر بعضها القرطبي رحمه الله فراجعها في تفسيره جـ 1 صـ 335.
قال ابن تيمية رحمه الله (ولهذا لما تنازع العلماء في أخذ الأجرة على تعليم القرآن ونحوه، كان فيه ثلاثة أقوال في مذهب الإمام أحمد وغيره: أعدلها أنه يُباح للمحتاج. قال أحمد: أجرة التعليم خيرٌُ من جوائز السلطان، وجوائز السلطان خيرُ ُ من صِلة الإخوان) (مجموع الفتاوي) جـ 30 صـ 192 ــ 193.
فإذا ثبت جواز أخذ الأجر على تعليم القرآن فإنه يجوز في تعليم غيره من العلوم الشرعية، إذ إن القرآن هو أساس جميع العلوم الشرعية واللغوية.
ثالثا ــ عدد مجالس التدريس:(3/130)
من آداب التدريس أن العالم ينبغي له ألا يُمِلَّ الطلاب بكثرة الدروس ولا بطول الدرس مالم تكن تلك رغبتهم، فإن المتكلم لا يَمَلّ كما يَمَلّ السامع. ولا ينبغي أن ينقطع عن التدريس مدة طويلة يتعذر على الطلاب معها الربط بين السابق واللاحق.
فعن أبي وائل شقيق بن سلمة قال: كان عبد الله بن مسعود يُذَكِّر الناس في كل خميس، فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن لوَدِدْتُ أنك ذكَّرتنا في كل يوم. قال: (أما إنه يمنعني من ذلك أني أكره أن أُمِلَّكُم، وإني أتخوّلُكم بالموعظة كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخوَّلنا بها مخافة السآمة علينا) متفق عليه. وأخرجه البخاري في باب (من جَعَل لأهل العلم أياماً معلومة) في كتاب العلم من صحيحه. قال ابن حجر في شرحه (يستفاد من الحديث استحباب ترك المداومة في الجد في العمل الصالح خشية الملال، وإن كانت المواظبة مطلوبة لكنها على قسمين: إما كل يوم مع عدم التكلف. وإما يوماً بعد يوم فيكون يوم الترك من أجل الراحة ليقبل على الثاني بنشاط، وإما يوم في الجمعة، ويختلف باختلاف الأحوال والأشخاص، والضابط الحاجة مع مراعاة وجود النشاط.) (فتح الباري) جـ 1 صـ 163.
وما ذكره ابن حجر من اختيارات وَرَدَ عن ابن عباس، وذلك فيما رواه البخاري عن عكرمة قال قال ابن عباس رضي الله عنهما (حَدِّث الناس كل جمعة مرة، فإن أبيت فمرتين، فإن أكثرت فثلاث مرات، ولا تُمِلَ الناس هذا القرآن، ولا أُلْفِينَّك تأتي القوم وهم في حديث من حديثهم فتقُص عليهم فتقطعُ عليهم حديثَهم فتُمِلَّهم، ولكن أنصت، فإذا أمروك فحدثهم وهم يشتهونه، وانظر السجع من الدعاء فاجتنبه، فإني عَهِدتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لا يفعلون إلا ذلك الاجتناب) (حديث 6337).
رابعاً ــ آداب الخروج إلى الدرس:(3/131)
قال الخطيب البغدادي رحمه الله (إذا أراد الفقيه الخروج إلى أصحابه ليذكُُُُُُُر لهم دروسهم فينبغي له أن يتفقد حاله قبل خروجه، فإن كان جائعاً أصاب من الطعام ما يُسَكِّن عنه فورة الجوع، وروي بإسناده عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (إذا كان أحدكم على الطعام فلا يعجل عنه حتى يقضى حاجته منه وإن أقيمت الصلاة).
قال الخطيب: وإن كان حَاقِنًا قضى حاجته، وروى بإسناده عن عبد الله بن الأرقم رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (إذا حضرت الصلاة وأراد الرجل الخلاء بدأ بالخلاء).
قال الخطيب: وإن كان ناعِساً لأمر أسهره أخّرَ تدريسه في تلك الحال، وأخذ حظه من نومه، وروي بإسناده عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (إذا نعس أحدكم في الصلاة فليرقد حتى يذهب عنه النوم، فإن أحدكم إذا صلى وهو ناعس لعله يذهب ليستغفر فيسبّ نفسه).
قال الخطيب: ولا يخرج إلا طيب النفس، فارغ القلب من كل ما يشغل السّر) (الفقيه والمتفقه) جـ 2 صـ 120 ــ 121.
وينبغي للعالم أن يراعي الأداب الشرعية الظاهرة عند خروجه إلى الدرس: من نظافة الثوب، وإزالة الأوساخ والروائح الكريهة واجتناب الروائح المكروهة، وتسريح اللحية، والإدهان بالطِّيب ونحو ذلك.
خامسا ًـ صفة مجلس الدرس:(3/132)
1 ــ قال النووي رحمه الله (وإذا وصل موضع الدرس صلى ركعتين، فإن كان مسجداً تأكد الحث على الصلاة، ويقعد مستقبلاً القبلة على طهارة، متربعاً إن شاء وإن شاء محتبياً وغير ذلك،ويجلس بوقار وثيابه نظيفة بيض، ولا يعتني بفاخر الثياب ولايقتصر على خُلُق ينسب صاحبه إلى قلة المروءة، ويحسن خلقه مع جلسائه ويوقر فاضلهم بعلم أو سن أو شرف أوصلاح ونحو ذلك، ويتلطف بالباقين ويرفع مجلس الفضلاء، ويكرمهم بالقيام لهم على سبيل الاحترام، وقد ينكر القيام من لا تحقيق عنده، وقد جمعت جزءاً فيه الترخيص ودلائله والجواب على ما يوهم كراهته0 وينبغي أن يصون يديه عن العبث، وعينيه عن تفريق النظر بلا حاجة، ويلتفت إلى الحاضرين التفاتا قصدا بحسب الحاجة للخطاب، ويجلس في موضع يبرز فيه وجهه لكلِّهم). (المجموع) جـ 1 صـ 33.
2 ــ ويجلس الطلاب في حلقة والعالم معهم بحيث يكون وجهه لكلهم، فقد أورد البخاري في كتاب العلم من صحيحه، باب (من قعد حيث ينتهي به المجلس، ومن رأى فُرْجَةً في الحلقة فجلس فيها) وفيه روى عن أبي واقد الليثي رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بينما هو جالس في المسجد والناس معه إذ أقبل ثلاثة نفر، فأقبل اثنان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وذهب واحد، قال فوقفا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأما أحدهما فرأى فرجة في الحلقة فجلس فيها، وأما الآخر فجلس خلفهم، وأما الثالث فأدبر ذاهبا، فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ألا أخبركم عن النفر الثلاثة؟ أمّا أحدهم فآوى إلى الله فآواه، وأما الآخر فاسْتَحْيا فاستحيا الله منه، وأما الآخر فأعرض فأعرض الله عنه) (حديث 66).
قال ابن حجر في شرحه (وفيه استحباب التحليق في مجالس الذكر والعلم، وفيه أن من سبق إلى موضع منها كان أحق به) (فتح الباري) جـ 1 صـ 157.(3/133)
3 ــ وذكر الخطيب البغدادي أن العالم يقرِّب منه أكثر الطلاب علما وأسرعهم فهما فَيُدْنِيهِ ويجعله مما يليه، واستدل على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم (ليلني منكم أولوا الأحلام والنهى ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم) الحديث. (الفقيه والمتفقه) جـ2 صـ 123. والحديث رواه مسلم.
4 ــ ولا بأس بأن يتكئ العالم في مجلسه إن احتاج إلى ذلك. ودليله ما روى البخاري عن أنس رضي الله عنه قال (بينما نحن جلوس مع النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد دخل رجل على جمل فأناخَهُ في المسجد ثم عَقَله، ثم قال لهم: أيكم محمد ــ والنبي صلى الله عليه وسلم مُتكئٌ بين ظهرانيهم ــ فقلنا: هذا الرجل الأبيض المتكيء) الحديث (63).
قال ابن حجر في شرحه (فيه جواز اتكاء الإمام بين أتباعه) (فتح الباري) جـ 1 صـ 150.
5 ــ ولا بأس بأن يجلس العالم في موضع مرتفع عن الطلاب لضرورة إسماعهم ونحوه وليس من التكبر في شيء، والأعمال بالنيات. ودليله ما روي البخاري في حديث جبريل عليه السلام، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال (كان النبي صلى الله عليه وسلم بارزاً يومًا للناس، فأتاه رجل فقال: ما الإيمان؟) الحديث (50).
قال ابن حجر في شرحه: قوله (كان النبي صلى الله عليه وسلم بارزا يوما للناس) أي ظاهرا لهم غير محتجب عنهم ولا ملتبس بغيره، والبروز الظهور. وقد وقع في رواية أبي فروة التي أشرنا إليها بيان ذلك، فإن أوله: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس بين أصحابه فيجيء الغريب فلا يدري أيهم هو، فطلبنا إليه أن نجعل له مجلسا يعرفه الغريب إذا أتاه، قال: فبنينا له دكانا من طين كان يجلس عليه. انتهى.واستنبط منه القرطبي استحباب جلوس العالم بمكان يختص به ويكون مرتفعا إذا احتاج لذلك لضرورة تعليم ونحوه. أ هـ (فتح الباري) جـ 1 صـ 116.
سادسا ــ آداب افتتاح الدرس:(3/134)
1 ــ ينبغي أن يستنصت الناس ــ أي يطلب منهم الصمت والإنصات ــ إن لم يكونوا كذلك لما رواه البخاري عن جرير رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له في حجة الوداع (استنصت الناس) الحديث (121).
2 ــ ثم يفتتح الدرس كما قال الخطيب البغدادي (وليكن أول ما يفتتح به الكلام التسمية والحمد لله..... ثم يتبع ذلك بذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم والصلاة عليه، وروى الخطيب بإسناده عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا يجلس قوماٌ مجلسا لا يذكرون الله ولايُصلَّون فيه على النبي صلى الله عليه وسلم إلا كان عليهم حسرة وإن دخلوا الجنة لمِاَ يرون من الثواب)..... واستحب أن يقرأ بعضهم سورة أو آيات من القرآن قبل تدريس الفقه أوبعده، وروى بإسناده عن أبي نضرة قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اجتمعوا تذاكروا العلم وقرأوا سورة.) (الفقيه والمتفقه) جـ2 صـ 123 ــ 126.
وقال النووي (ويقدِّم على الدرس تلاوة ما تيسر من القرآن ثم يُبَسْمل ويحمد الله تعالى ويصلى ويسلم على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يدعوللعلماء الماضين من مشايخه ووالديه والحاضرين وسائر المسلمين، ويقول حسبنا الله ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم إني أعوذ بك من أن أَضل أو أُضل أو أَزل أو أُزل أو أَظلم أو أُظلم أو أََجهل أو يُجهل علي) (المجموع) جـ 1 صـ 33 ــ 34.
سابعا ــ آداب إلقاء الدرس:
للتدريس صور: منها قراءة المعلم واستماع الطلاب، ومنها قراءة أحد الطلاب على المعلم واستماع الحاضرين (العَرْض) وفيه يصحح المعلم للطالب قراءته ويشرح ما يلزم شرحه كما سبق بيانه في الباب الثالث، وفي كل الأحوال فإن المعلم هو الضابط للتدريس، ويلزمه في درسه بعض الآداب نذكرمنها ما يلي:
1 ــ أن يخفض العالم صوته بحيث يُسمع الحاضرين، لقوله تعالى (واغضض من صوتك إن أنكر الاصوات لصوت الحمير) لقمان.(3/135)
ويجوز أن يرفع صوته للحاجة. لما رواه البخاري عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: تخلف عنا النبي صلى الله عليه وسلم في سفرة ٍ سافر ناها، فأدركنا وقد أرهقتنا الصلاة ونحن نتوضأ، فجعلنا نمسح على أرجلنا، فنادى بأعلى صوته (ويل للأعقاب من النار) مرتين أو ثلاث. أ هـ. قال ابن حجر في شرحه (استدل المصنف على جواز رفع الصوت بالعلم بقوله «فنادى بأعلى صوته» وإنما يتم الاستدلال بذلك حيث تدعو الحاجة إليه لبُعدٍ أو كثرة جمع أو غير ذلك، ويلحق بذلك ما إذا كان في موعظة كما ثبت ذلك في حديث جابر «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خطب وذكر الساعة اشتد غضبه وعلا صوته... الحديث» أخرجه مسلم. ولأحمد من حديث النعمان في معناه وزاد «حتى لو أن رجلا بالسوق لسمعه») (فتح الباري) جـ1 صـ 143. ومقام التدريس غير مقام الوعظ.
ولا بأس بأن يتخذ الشيخ مستمليا يبلغ عنه إذا اتسعت حلقة الدرس، فقد كان هذا من عادة السلف.
2 ــ أن يكرر كلامه حتى يفهم السامع، لما رواه البخاري عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم (أنه كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثا حتى تفهم عنه، وإذا أتى على قوم فسلم عليهم سَلَّم عليهم ثلاثا ً) (حديث 95). ولحديث عبد الله بن عمرو السابق وفيه (فنادى بأعلى صوته «ويل للأعقاب من النار» مرتين أو ثلاثا ً) الحديث. ونحوها من الأحاديث.(3/136)
3 ــ أن يُبيِّن المراد من كلامه وإن احتاج إلى ذكر ما يُستحى منه. قال النووي (إذا لم يكمل البيان إلا بالتصريح بعبارة يستحى في العادة من ذكرها، فليذكرها بصريح اسمها ولا يمنعه الحياء ومراعاة الأدب من ذلك، فإن إيضاحها أهم من ذلك، وإنما تستحب الكناية في هذا إذا عُلِم بها المقصود علما جليا) (المجموع) جـ 1 صـ 33. ومن أدلة ذلك ما رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا تُقبل صلاة من أحدث حتى يتوضأ) قال رجل من حضرموت: ما الحدث يا أبا هريرة؟ قال: فُسَاء أو ضُراط.أ هـ (حديث 135).
4 ــ أن يُبيِّن المراد من كلامه بضرب الأمثلة إن احتاج لذلك. ومن هذا قوله صلى الله عليه وسلم (لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا قوما نعالُهم الشّعر، وحتى تقاتلوا الترك صِغارَ الأعيُن حُمْرَ الوجوه ذُلْفَ الأنوف، كأن وجههم المجانُّ المطرقة) رواه البخاري (3587) ومن هذا أيضا ما رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءه أعرابي فقال: يا رسول الله إن امرأتي ولدت غلاما أسود، فقال (هل لك من إبل؟) قال: نعم،قال (ما ألوانها؟)، قال: حُمرٌ، قال (فيها من أورق؟)، قال: نعم، قال (فأنى كان ذلك؟)، قال: أراه عرقٌ نزعه، قال (فلعل ابنك هذا نزعه عرقٌ). (حديث 47 8 6)، والأورق هو الأسمر.(3/137)
5 ــ وإن احتاج إلى رسم الأشكال ليبيّن الفائدة جاز ذلك. ودليله مارواه البخارى عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه قال: خطَّ النبي صلى الله عليه وسلم خطاً مربعَّا، وخط خطاً فى الوسط خارجا منه، وخط خُططا صغاراً إلى هذا الذى فى الوسط من جانبه الذى في الوسط، وقال: هذا الإنسان، وهذا أجله محيطٌ به ــ أو قد أحاط به ــ وهذا الذى هو خارجٌ أمَلُه، وهذه الخطط الصغارُ الأعراض، فإن أخطأهُ هذا نَهشَهُ هذا، وإن أخطأهُ هذا نَهَشَهُ هذا) أهـ، قال ابن حجر (الخط: الرسم والشكل، والمربع: المستوى الزوايا) (فتح البارى) جـ 11 صـ 237. ورسم ابن حجر رحمه الله عدة أشكال محتملة لبيان المراد.
6 ــ ومن آداب العالم التيسير على الطلاب في التدريس، لقوله صلى الله عليه وسلم (يسِّروا ولاتُعسِّروا، وبَشِّروا ولاتنفِّروا) رواه البخاري عن أنس رضي الله عنه.
وقال ابن حجر فى شرحه (كذلك تعليم العلم ينبغى أن يكون بالتدرج، لأن الشيء إذا كان فى ابتدائه سهلا حُبِّب إلي من يدخل فيه وتلقاه بانبساط، وكانت عاقبته غالبا الازدياد بخلاف ضده) (فتح البارى) جـ 1 صـ 163.
ومن التيسير أن يُدَرِّس لكل طائفة ماتحتمله عقولها ومايناسب مرتبتها في طلب العلم، وأن يقرِّب الفائدة لأذهانهم ما أمكنه ذلك، ويشرح المعانى الغامضة، ويبدأ في تعليمهم بالمسائل الواضحة لا الدقيقة كما ذكرناه في معني العالم الرّبانى من قبل، ويبدأ في تعليمهم بالمتفق عليه من المسائل لا المختلف فيه، وبالراجح قبل المرجوح.(3/138)
7 ــ ومن آداب العالم مما يلحق بالتيسير على الطلاب ألا يدرِّس لهم مالم يتأهلوا لتلقيه ممالم يدرسوا مقدماته، وألا يدرِّس لهم ماقد يضرهم أكثر مما ينفعهم لقصور عقولهم عن إدراكه. وقد عقد البخارى رحمه الله بابين لبيان هذه المسألة فى كتاب العلم من صحيحه، وهما باب (من ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصُر فهمُ بعض الناس عنه فيقعوا فى أشدَّ منه)، وباب (من خَصَّ بالعلم قوماً دون قوم كراهية أن لايفهموا)، وروى فيه البخارى عن علىّ رضى الله عنه قال (حَدِّثوا الناس بما يعرفون أتحبّون أن يُكذَّب اللهُ ورسوله؟) (حديث 127). قال ابن حجر فى شرحه (وفيه دليل على أن المتشابه لاينبغى أن يذكر عند العامة. ومثله قول ابن مسعود «ما أنت محدثا قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة» رواه مسلم. وممن كره التحديث ببعض دون بعض أحمد فى الأحاديث التى ظاهرها الخروج على السلطان، ومالك فى أحاديث الصفات، وأبو يوسف فى الغرائب، ومن قبلهم أبو هريرة كما تقدم عنه فى الجرابين وأن المراد مايقع من الفتن، ونحوه عن حذيفة وعن الحسن أنه أنكر تحديث أنس للحجاج بقصة العرنيين لأنه اتخذها وسيلة إلى ماكان يعتمده من المبالغة فى سفك الدماء بتأويله الواهى وضابط ذلك أن يكون ظاهر الحديث يقوي البدعة وظاهره فى الأصل غير مراد، فالإمساك عنه عند من يخشى عليه الأخذ بظاهره مطلوب. والله أعلم) (فتح البارى) جـ 1 صـ 225.(3/139)
وترك تبليغ بعض العلم إنما يجوز فى بعض الأمور غير المتعلقة بالواجبات الشرعية وبيان الحلال والحرام، وعلى هذا حمل العلماء حديث أبى هريرة رضي الله عنه قال (حَفِظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين: فأما أحدهما فبثثتُه، وأما الآخر فلو بثثتُه قُطع هذا البُلعوم) رواه البخارى (حديث 120). ويقصد بالوعاءين أى نوعين من العلم، وبقطع البلعوم أى قطع رأسه بواسطة أهل الجور. قال ابن حجر (حمل العلماء الوعاء الذي لم يبثه على الأحاديث التي فيها تبين أسامى أمراء السوء وأحوالهم وزمنهم، وقد كان أبو هريرة يكنّى عن بعضه ولايصرِّح به خوفا على نفسه منهم، كقوله «أعوذ بالله من رأس الستين وإمارة الصبيان»، يشير إلي خلافة يزيد بن معاوية لأنها كانت سنة ستين من الهجرة، واستجاب الله دعاء أبى هريرة فمات قبلها بسنة ــ إلى أن قال نقلا عن ابن المنيّر ــ ويؤيد ذلك أن الأحاديث المكتومة لو كانت من الأحكام الشرعية ماوسِعه كتمانها لما ذكره فى الحديث الأول من الآية الدالة على ذم من كتم العلم) (فتح الباري) جـ 1 صـ 216 ــ 217.
وفى تفسير قوله تعالى (إن الذين يكتمون ماأنزلنا من البينات والهدى) الآية، ذكر القرطبى حديث أبى هريرة هذا ثم قال (قال علماؤنا: وهذا الذى لم يُبَيّنه أبو هريرة وخاف على نفسه فيه الفتنة أو القتل إنما هو مما يتعلق بأمر الفتن والنصّ علي أعيان المرتدين والمنافقين، ونحوهذا مما لايتعلق بالبيّنات والهدى، والله تعالى أعلم) (تفسير القرطبى) جـ 2 صلى الله عليه وسلم 186. هذا مايتعلق بأدب العالم فى مراعاة حال المخاطبين ومعرفة مايناسبهم من العلم.(3/140)
8 ــ ومن آدابه أن ينصح لهم ما أمكنه في بيان الحق من الباطل والصواب من الخطأ، لقوله صلى الله عليه وسلم (ما من عبد يسترعيه الله رعية فلم يُحطها بنصحه لم يجد رائحة الجنة) رواه البخاري عن معقل بن يسار رضي الله عنه. ولقوله صلى الله عليه وسلم (من أشار على أخيه بأمر يعلَمُ أن الرُّشْدَ في غيره فقد خانه) الحديث رواه أبو داود بإسناد حسن عن أبي هريرة رضي الله عنه.
ومن هذا الباب قول النووي (ويبين الدليل الضعيف لئلا يغتر به فيقول استدلوا بكذا وهو ضعيف لكذا، ويبين الدليل المعتمد ليُعتمد، ويبين له ما يتعلق بها من الأصول والأمثال والأشعار واللغات وينبههم على غلط من غلط فيها من المصنفين، فيقول هذا صواب وأما ما ذكره فلان فغلط أوضعيف قاصدا النصيحة لئلا يغتر به لا لتنقص للمصنف) (المجموع) جـ1 صـ 31.
9 ــ ومن آداب درسه أن يتجنب الإطالة لئلا تؤدي إلى الضّجر والملالة، ويُرخص في الإطالة إذا دعا إلى ذلك داعٍ. ذكره الخطيب (الفقيه والمتفقه) جـ2 صـ 124.
10 ــ ومن آداب درسه (أن يصون مجلسه والحاضرين عن سوء الأدب في المباحثة وإذا ظهر من أحدهم شئ من مبادئ ذلك تلطفه في دفعه قبل انتشاره ويذكرهم أن اجتماعنا ينبغي أن يكون لله تعالى فلا يليق بنا المنافسة والمشاحنة بل شأننا الرفق والصفاء واستفادة بعضنا من بعض واجتماع قلوبنا على ظهور الحق، وحصول الفائدة، وإذا سأل سائل عن أعجوبة فلا يسخرون منه) ذكره النووي(المجموع) جـ 1 صـ 34.(3/141)
11 ــ ويجوز أن يلجأ المعلِّم إلى الزّجر والتعنيف إذا اقتضى الأمر هذا، ولا يخالف ما ذكرناه من حاجة العالم إلى التحلي بالحلم والسكينة، فقد أورد البخاري في كتاب العلم من صحيحه باب (الغضب في الموعظة والتعليم إذا رأى ما يكره) وروى فيه عدة أحاديث منها ما رواه عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رجل يا رسول الله لا أكاد أدرك الصلاة مما يُطَوِّل بنا فلانٌ، فما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في موعظة أشدَّ غضباً من يومئذ، فقال (أيها الناس إنكم منفِّرون، فمن صلى بالناس فليخفِّف، فإن فيهم المريض والضعيف وذا الحاجة) (حديث 90) قال ابن حجر: (قصر المصنف الغضب على الموعظة والتعليم دون الحُكْم لأن الحاكم مأمور أن لايقضي وهو غضبان، والفرق أن الواعظ من شأنه أن يكون في صورة الغضبان لأن مقامه يقتضي تكلف الانزعاج لأنه في صورة المنذِر، وكذا المعلم إذا أنكر على من يتعلم منه سوء فهم ونحوه لأنه قد يكون أدعى للقبول منه، وليس ذلك لازما في حق كل أحد بل يختلف باختلاف أحوال المتعلمين، وأما الحاكم فهو بخلاف ذلك) (فتح الباري) جـ 1 صـ 187.
وروى البخاري عن محمد بن المنكدر قال: صلى جابر في إزارٍ عَقَدَهُ من قبل قفاه، وثيابه موضوعة على المِشْجَب، قال له قائل: تصلي في إزار واحد؟، فقال (إنما صنعتُ هذا ليراني أَحمقُ مِثلُك، وأيّنا كان له ثوبان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم؟) (حديث 352). وفي رواية مسلم (فأحببت ُ أن يراني الجُهّال مثلكم)0 قال ابن حجر (فكأنه قال: صنعته عمداً لبيان الجواز إما ليقتدي بي الجاهل ابتداء، أو يُنكِر عليّ فأعلمه أن ذلك جائز، وإنما أغلظ لهم في الخطاب زجراً عن الإنكارعلى العلماء، وليحثهم على البحث عن الأمورالشرعية) (فتح الباري) جـ 1 صـ 467 ــ 0468(3/142)
12 ــ ومن آداب العالم أنه إذا سُئل عما لا يعلمه أن يقول: لا أدري أو الله أعلم. قال النووي رحمه الله (وإذا سئل عن شيء لا يعرفه أو عرض في الدرس مالا يعرفه فليقل لا أعرفه أو لا أتحققه ولا يستنكف عن ذلك: فمن علم العالم أن يقول فيما لا يعلم لا أعلم أو الله أعلم: فقد قال ابن مسعود رضي الله عنه «يا أيها الناس من علم شيئا فليقل به، ومن لا يعلم فليقل الله أعلم، فإن من العلم أن يقول لما لا يعلم الله أعلم: قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم (قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين) رواه البخاري. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه «نُهينا عن التكلف» رواه البخاري. وقال «ينبغي للعالم أن يورث أصحابه لا أدري» ومعناه يكثر منها، وليعلم أن قول العالم لاأدري لا يضع منزلته بل هو دليل على عظم محله وتقواه وكمال معرفته، لأن المتمكن لا يضره عدم معرفته مسائل معدودة بل يستدل بقوله لا أدري على تقواه وأنه لا يجازف في فتواه، وإنما يمتنع مِن (لا أدري) من قَلّ علمه وقَصُرت معرفته وَضُعفت تقواه لأنه يخاف لقصوره أن يسقط من أعين الحاضرين وهو جهالة منه فإنه بإقدَامِه على الجواب فيما لا يعلمه يبوء بالإثم العظيم ولا يرفعه ذلك عما عرف له من القصور بل يستدل به على قصوره، لأنا إذا رأينا المحققين يقولون في كثير من الأوقات لا أدري وهذا لا يقولها أبداً علمنا أنهم يتورعون لعلمهم وتقواهم وأنه يجازف لجهله وقلة دينه فوقع فيما فرَّ عنه واتصف بما احترزمنه لفساد نيته وسوء طويته، وفي الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «المتشبع بما لم يُعط كلابس ثوبي زور») (المجموع) جـ 1 صـ 34.
ثامنا ــ آداب اختتام الدرس:(3/143)
1 ــ يستحب للمعلم إذا أراد أن يختم مجلسه أن يدعو بدعاء كفارة المجلس. هو ما رواه الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من جلس في مجلس فكثُر فيه لَغَطُه فقال قبل أن يقوم من مجلسه ذلك: سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، إلا غُفِرَ له ما كان في مجلسه ذلك).قال الترمذي: حديث حسن صحيح. ذكره الخطيب البغدادي (الفقيه والمتفقه) جـ 2 صـ 127.
2 ــ ويستحب أن يدعو لنفسه وللحاضرين بما رواه الترمذي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قلّما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم من مجلسه حتى يدعو بهؤلا ء الدعوات لأصحابه: (اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهوِّن به علينا مصائب الدنيا، اللهم متِّعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوَّتنا ما أحييتنا واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على مَن عادانا ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبرهمِّنا ولا مَبْلغ علمنا، ولا تسلط علينا من لا يرحمنا) قال الترمذي: حديث حسن.
هذا، ومن أراد الاستزادة من معرفة آداب التدريس وآداب مجلس العلم فليرجع إلى المراجع الآتية:
* (الجامع لأ خلاق الراوي وآداب السامع) للخطيب البغدادي (ت 463 هـ)، وله طبعتان إحداهما بتحقيق د. محمد عجاج الخطيب، والأخرى بتحقيق د. محمود الطحان.
* (أدب الإملاء والاستملاء) للعلامة أبي سعد السمعاني (ت 562 هـ) وهو صاحب كتاب (الأنساب) وكتابه (أدب الإملاء) طبعته دار الكتب العلمية 1401 هـ.
******
القسم الثالث ــ آداب العالم مع طُلاَّبه
يتلخص واجب العالم نحو الطلاب في أمرين: تأديبهم وتعليمهم.
أولا ــ واجب العلماء في تأديب الطلاب وتهذيبهم:(3/144)
قال النووي رحمه الله (وينبغي أن يؤدِّب المتعلم على التدريج بالآداب السنية والشيم المرضية ورياضة نفسه بالآداب والدقائق الخفية وتعود الصيانة في جميع أموره الكامنة والجلية0
فأول ذلك أن يحرضه بأقواله وأحواله المتكررات على الإخلاص والصدق وحسن النيات، ومراقبة الله تعالى في جميع اللحظات، وأن يكون دائما على ذلك حتى الممات، ويعرفه أنه بذلك تنفتح عليه أبواب المعارف، وينشرح صدره وتتفجر من قلبه ينابيع الحكم واللطائف، ويبارك له في حاله وعلمه ويوفق للإصابة في قوله وفعله وحكمه.
ويزهده في الدنيا ويصرفه عن التعلق بها والركون إليها والاغترار بها، ويذكره أنها فانية والآخرة آتية باقية والتأهب للباقي والإعراض عن الفاني هو طريق الحازمين ودأب عباد الله الصالحين.
وينبغي أن يرغبه في العلم ويذكره بفضائله وفضائل العلماء وأنهم ورثة الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، ولا رتبة في الوجود أعلى من هذه.
وينبغي أن يحنو عليه ويعتني بمصالحه كاعتنائه بمصالح نفسه وولده ويجريه مجرى ولده في الشفقة عليه والاهتمام بمصالحه والصبر على جفائه وسوء أدبه، ويعذره في سوء أدب وجفوة تعرض منه في بعض الأحيان فإن الإنسان معرض للنقائص.
وينبغي أن يحب له ما يحب لنفسه من الخير ويكره له ما يكره لنفسه من الشر: ففي الصحيحين «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه». وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال أكرم الناس عليّ جليسي الذي يتخطى الناس حتى يجلس إليّ لو استطعت ألا يقع الذباب على وجهه لفعلت، وفي رواية إن الذباب يقع عليه فيؤذيني) (المجموع) جـ 1 صـ 30 ــ 031
ثانيا ــ آداب العالم في تعليم الطلاب:
وقد ذكرنا كثيراً منها في القسم السابق (آداب التدريس) كالتيسير عليهم والتدريج في تعليمهم، وألا يُلقي إليهم مالم يتأهلوا له، وألا يُملهم بكثرة الدروس ولا بطولها، وألا يدخر جهداً في النصح لهم.(3/145)
قال النووي رحمه الله (ينبغي أن لا يمتنع من تعليم أحد لكونه غير صحيح النية فإنه يرجى له حسن النية وربما عسر في كثير من المبتدئين بالاشتغال تصحيح النية لضعف نفوسهم وقلة أنسهم بموجبات تصحيح النية فالامتناع من تعليمهم يؤدي إلى تفويت كثيرمن العلم مع أنه يرجي ببركة العلم تصحيحها إذا أنس بالعلم، وقد قالوا طلبنا العلم لغيرالله فأبى الله أن يكون إلا لله، معناه كانت عاقبته أن صار لله) (المجموع) جـ 1 صـ 30.
وقال النووي أيضاً (وينبغي أن يكون سمحاً ببذل ما حصَّله من العلم سهلاً بإلقائه إلى مبتغيه متلطفاً في إفادته طالبيه مع رفق ونصيحة وإرشاد إلى المهمات، وتحريض على حفظ ما يبذله لهم من الفوائد النفيسات، ولا يدخر عنهم من أنواع العلم شيئاً يحتاجون إليه إذا كان الطالب أهلا لذلك.
ولايلق إليه شيئاً لم يتأهل له لئلا يفسد عليه حاله فلو سأله المتعلم عن ذلك لم يُجبه ويعرفه أن ذلك يضره ولا ينفعه وأنه لم يمنعه ذلك شحاً بل شفقة ولطفاً.
وينبغي ألا يتعظم على المتعلمين بل يلين لهم ويتواضع فقد أُمِر بالتواضع لآحاد الناس، قال تعالى (واخفض جناحك للمؤمنين)، وعن عياض بن حمار رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الله أوحى إليّ أن تواضعوا» رواه مسلم. ــ إلى أن قال ــ
وينبغي أن يكون حريصاً على تعليمهم مهتما به مؤثراً له على حوائج نفسه ومصالحه مالم تكن ضرورة ويرحب بهم عند إقبالهم إليه لحديث أبي سعيد السابق، ويظهر لهم البشر وطلاقة الوجه ويحسن إليهم بعلمه وماله وجاهه بحسب التيسير، ولايخاطب الفاضل منهم باسمه بل بكنيته ونحوها، ففي الحديث عن عائشة رضي الله عنها «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكني أصحابه إكراما لهم وتسنية لأمورهم» وينبغي أن يتفقدهم ويسأل عمن غاب عنهم.) (المجموع) جـ 1 صـ 31.(3/146)
وقال النووي أيضا (وينبغي للمعلم أن يطرح على أصحابه ما يراه من مستفاد المسائل ويختبر بذلك أفهامَهم ويظهر فضل الفاضل ويثني عليه بذلك ترغيبا له وللباقين في الاشتغال والفكر في العلم وليتدربوا بذلك ويعتادوه، ولا يعنِّف من غلط منهم في كل ذلك إلا أن يرى تعنيفه مصلحه له، وإذا فرغ من تعليمهم أو إلقاء درس عليهم أمرهم بإعادته ليرسخ حفظهم له فإن أشكل عليهم منه شيء ما عَاوَدُوا الشيخ في إيضاحه) (المجموع) جـ 1 صـ 34.
وقال النووي (ومن أهم ما يؤمر به ألا يتأذى ممن يقرأ علىه إذا قرأ على غيره وهذه مصيبة يبتلى بها جهلة المعلمين لغباوتهم وفساد نيتهم، وهو من الدلائل الصريحة على عدم إرادتهم بالتعلم وجه الله تعالى الكريم، وقد قدمنا عن علي رضي الله عنه الإغلاظ في ذلك والتأكيد في التحذير منه، وهذا إذا كان المعلم الآخر أهلا فإن كان فاسقا أو مبتدعا أوكثير الغلط ونحو ذلك فليُحَذِّر من الاغترار به وبالله التوفيق.) (المجموع) جـ 1 صـ 35.
ومن آداب المعلم أيضا في تعليم الطلاب ما ذكره أبو حامد الغزالي رحمه الله قال (إن المتكفل ببعض العلوم ينبغي أن لا يقبح في نفس المتعلم العلوم التي وراءه، كمعلم اللغة إذ عادته تقبيح علم الفقه. ومعلم الفقه عادته تقبيح علم الحديث والتفسير، وأن ذلك نقل محض وسماع وهو شأن العجائزولا نظر للعقل فيه، ومعلم الكلام ينفرعن الفقه ويقول: ذلك فروع وهو كلام في حيض النسوان فأين ذلك من الكلام في صفة الرحمن؟ فهذه أخلاق مذمومة للمعلمين ينبغي أن تجتنب، بل المتكفل بعلم واحد ينبغي أن يوسع على المتعلم طريق التعلم في غيره، وإن كان متكفلا ً بعلوم فينبغي أن يراعي التدرج في ترقية المتعلم من رتبة إلى رتبة) (إحياء علوم الدين) جـ 1 صـ 71.(3/147)
ومن آداب التعليم أن يُوَجِّه المعلِّمُ التلميذَ إلى ما يراه مائلا إليه من العلوم ليتوسّع في دراسته، وهذا بعد استيفاء مباديء العلوم الأساسية، ويدل على هذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع حذيفة بن اليمان رضي الله عنهم0 فقد روى البخاري عن حذيفة قال (كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشّر مخافة أن يدركني) الحديث. قال ابن حجر في شرحه (قال ابن أبي جمرة: في الحديث حكمة الله في العباد كيف أقام كلا ً منهم فيما شاء، فحبَّب إلى أكثر الصحابة السؤال عن وجوه الخير ليعملوا بها ويبلغوها غيرهم، وحبب لحذيفة السؤال عن الشر ليجتنبه ويكون سببا في دفعه عمن أراد الله له النجاة، وفيه ِسعة صدرالنبي صلى الله عليه وسلم ومعرفته بوجوه الحِكَم كلها حتى كان يجيب كل من سأله بما يناسبه، ويؤخذ منه أن كل من حُبِّب إليه شئ فإنه يفوق فيه غيره، ومن ثم كان حذيفة صاحب السر الذي لا يعلمه غيره، حتى خُصَّ بمعرفة أسماء المنافقين وبكثير من الأمور الآ تية، ويؤخذ منه أن من أدب التعليم أن يعلم التلميذ من أنواع العلوم ما يراه مائلا إليه من العلوم المباحة، فإنه أجدر أن يسرع إلى تفهمه والقيام به) (فتح الباري) جـ 13 صـ 37.
وهذا آخر ما نذكره في آداب العالِم مع طُلاَّبه، وبالله تعالى التوفيق.
******
القسم الرابع: علامات العلماءالصالحين وعلماء السوء
(تمهيد) قال تعالى (ياأيها الذين آمنوا إن كثيراً من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله) التوبة 34.(3/148)
قال ابن كثير رحمه الله (قال السدِّي: الأحبار من اليهود والرهبان من النصارى، وهو كما قال، فإن الأحبار علماء اليهود كما قال تعالى (لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت)، والرهبان: عُبَّاد النصارى، والقسيسون علماؤهم كما قال تعالى (ذلك بأ ن منهم قسيسين ورهباناً). والمقصود التحذير من علماء السوء وعُبَّاد الضلال، كما قال سفيان بن عيينة: من فَسَد من علمائنا كان فيه شبه من اليهود، ومن فَسَد من عُبَّادنا كان فيه شبه من النصارى. وفي الحديث الصحيح «لتركبُنَّ سَنَن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة» قالوا: اليهود والنصارى؟ قال «فمن؟» وفي رواية: فارس والروم؟ قال «فمن الناس إلا هؤلاء؟» والحاصل التحذير من التشبه بهم في أقوالهم وأحوالهم، ولهذا قال تعالى (لَيَأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله) وذلك أنهم يأكلون الدنيا بالدين ومناصبهم ورياستهم في الناس يأكلون أموالهم بذلك ــ إلى أن قال ــ وقوله تعالى (ويصدون عن سبيل الله) أي وهم مع أكلهم الحرام يصدون الناس عن اتباع الحق ويَلْبسُون الحق بالباطل ويُظهرون لمن اتبعهم من الجهلة أنهم يدعون إلى الخير وليسوا كما يَزعمون بل هم دعاةٌ إلى النار ويوم القيامة لا يُنصرون) أ هـ (تفسير ابن كثير) جـ 2 صـ 350.(3/149)
تبين لك من الآية ومن قول النبي صلى الله عليه وسلم (لتركبُنَّ سنن من كان قبلكم) الحديث، أنه لابد من وجود علماء السوء في هذه الأمة، كما قال ابن كثير (والمقصود التحذير من علماء السوء). وإذا كان الأمر كذلك فلابد من معرفة العلامات الفارقة بين العلماء الصالحين وعلماء السوء، كما قال أبوحامد الغزالي رحمه الله (قد ذكرنا ما ورد من فضائل العلم والعلماء، وقد ورد في العلماء السوء تشديدات عظيمة دلّت على أنهم أشد الخلق عذابا يوم القيامة، فمن المهمات العظيمة معرفة العلامات الفارقةبين علماء الدنيا وعلماء الآخرة، ونعني بعلماء الدنيا علماء السوء) (إحياء علوم الدين) جـ1 صـ73.
بعد هذا التمهيد الذي يبين خطر الموضوع، سندرس فيه مسألتان بإذن الله تعالى، وهما: أهمية معرفة هذه العلامات، ثم بيان علامات العلماء الصالحين وعلماء السوء.
أولا:أهمية معرفة علامات العلماء الصالحين وعلماء السوء.
1 ــ انتفاع العالم وطالب العلم بها في نفسه، فيعرف علامات العلماء الصالحين ليحرص على التمسك بها، ويعرف علامات علماء السوء ليحرص على اجتنابها وليطَهِّر نفسه مما قد يكون علق بها من صفاتهم 20 ــ إحسان اختيار المعلِّم: على النحو الذي ذكرناه في أهمية إحسان اختيار مصدر العلم، ففيه نجاة الطالب وفلاحه أو ضلاله وهلاكه. فإذا عَلِمَ طالب العلم علامات العلماء الصالحين وعلماء السوء سَهُل عليه التمييز بين الفريقين، (ليهلك من هلك عن بّينة، ويحيى من حَيَّ عن بّينة) الأنفال 42.
فقد قال الله تعالى (إن جاءكم فاسق بنبأ ٍ فتبيَّنوا) الحجرات 6، فأمر سبحانه بالتوقف في قبول خبر الفاسق، فوجب على المسلمين معرفة حال العلماء لمعرفة من يُقبل خبره وفتواه في دين الله تعالى ممن لايُقبل خبره أو فتواه في الدين.(3/150)
ولهذا قال محمد بن سيرين رحمه الله (إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم)رواه مسلم في مقدمة صحيحه، وروى عنه أيضا قال:(لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة قالوا: سمّوا لنا رجالكم، فيُنظر إلى أهل السُّنة فيؤخذ منهم وإلى أهل البدعة فلا يؤخذ منهم) أهـ. فدَلَّ هذا على وجوب البحث في حال من يؤخذ عنهم العلم.
وروي ابن عَدِيّ الجرجاني بإسناده عن إبراهيم النخعي رحمه الله (ت 96 هـ) قال: (كنا إذا أردنا أن نأخذ عن شيخ، سألناه عن مطعمه، ومشربه، ومُدْخله، ومُخرجه، فإن كان على استواء أخذنا عنه، وإلا لم نأته) أهـ (الكامل في ضُعفاء الرجال) لابن عدي، ط دار الفكر، 1409هـ، جـ 1 صـ 154 ــ 156. وهذا مثال يبيّن الواجب على طالب العلم وكيف يجب عليه البحث عن الأمناء من أهل العلم ليأخذ عنهم دينه.
3 ــ إحسان الدلالة على المعلِّم: فكما يجب على المسلم البحث عن العالم الصالح ليأخذ عنه العلم ــ سواء كان من العلماء الأموات أو الأحياء ــ، فإنه يجب عليه إذا استشاره غيره أو أراد أن يدل غيره على عالم ٍ ألا يدله إلا على العلماء الصالحين، فوجب عليه معرفة علاماتهم ليَميِّزهم مِن علماء السوء. والمسلم إذا دَلَّ غيره على عالم فلا يخلو حاله عن أن يكون داعياً إلى هدى إذا دلّ على عالم صالح أو داعياً إلى ضلالة إذا دلّ على عالم سوء. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من دعاإلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لاينقص ذلك من أجورهم شيئا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لاينقص ذلك من آثامهم شيئا) رواه مسلم، وقال النووي في شرحه (وأن من دعا إلى هدىً كان له مثل أجور متابعيه، أو ضلالة ٍ كان عليه مثل آثام تابعيه سواء كان ذلك الهدى والضلالة هو الذي ابتدأه أم كان مسبوقا إليه، وسواء كان ذلك تعليم علم أو عبادة أو أدب أو غير ذلك) (صحيح مسلم بشرح النووي) جـ 6 صـ 227.(3/151)
ويدخل في هذا من يدلّ غيره على عالم ٍ ليتعلم منه أو على كتاب ٍ ليقرأه أو على جماعة ٍ ليتبعها، فإن دَلّه على خير فله أجر، وإن دَلَّه على شر ٍ فعليه وزر، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن العبد ليتكلم بالكلمة مايتبيّن فيها، يزِلُّ بها إلى النار أبعد مما بين المشرق والمغرب) الحديث متفق عليه. فوجب على كل مسلم التبيّن والتحرّي قبل أن يدل غيره على عالم أو كتاب أو جماعة، فقد يتكلم بكلمة يسخط الله بها عليه إلى يوم يلقاه كما صح الحديث بذلك.
بعد بيان أهمية معرفة علامات العلماء الصالحين وعلماء السوء، نشرع في بيان هذه العلامات بإذن الله.
ثانيا: علامات العلماء الصالحين وعلماء السوء.
ونذكر فيها: الإخلاص والعدالة والإصابة والعمل بالعلم والزهد في الدنيا والتواضع والخشية ولها صور كثيرة، فالعالم الصالح هو من اتصف بهذه العلامات وعالم السوء بعكسه.
1 ــ العلامة الأولى (الإخلاص): سبق الكلام فيه من قبل، وأنه قصدُ الله تعالى وحده بالعمل، وهو وإن كان من أعمال القلب إلا أن له علامات ظاهرة يستدل بها عليه، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ألا وإن في الجسد مُضغة ً إذا صَلَحت صَلَحَ الجسدُ كله، وإذا فسدت فَسَدَ الجسدُ كله، ألا وهى القلب) الحديث متفق عليه. فإذا خَشَع القلب خشعت الجوارح، وإذا أحب القلب ظهر أثره في الأعمال وكذلك إذا أبغض.
فالإخلاص في طلب العلم يظهر أثره في العلامات التالية: وهى العدالة والعمل بالعلم والزهد والتواضع والخشية، وكلما نقص إخلاصه كلما نقص حظه من هذه العلامات.(3/152)
قال أبو حامد الغزالي رحمه الله ــ في علامات العلماء الصالحين ـــ (فمنها أن لايطلب الدنيا بعلمه، فإن أقل درجات العالم أن يدرك حقارة الدنيا وخسّتها وكدورتها وانصرامها، وعِظَم الآخرة ودوامها وصفاء نعيمها وجلالة مُلْكِها ويعلم أنهما متضادتان، وأنهما كالضرتين مهما أرضيت إحداهما أسخطت الأخرى،.......... فإن من لا يعرف حقارة الدنيا وكدورتها وامتزاج لذاتها بألمها ثم انصرام ما يصفو منها فهو فاسد العقل. فإن المشاهدة والتجربة ترشد إلى ذلك فكيف يكون من العلماء مَن لاعقل له؟، ومن لايعلم عظم أمر الآخرة ودوامها فهو كافر مسلوب الإيمان فكيف يكون مِن العلماء مَن لا إيمان له ومن لا يعلم مضادة الدنيا للآخرة وأن الجمع بينهما طمع في غير مطمع؟ فهو جاهل بشرائع الأنبياء كلهم، بل هو كافر بالقرآن كله من أوّله إلى آخره، فكيف يعدّ من زمرة العلماء؟ ومن علم هذا كله ثم لم يؤثر الآخرة على الدنيا فهو أسير الشيطان قد أهلكته شهوته وغلبت عليه شقوته فكيف يعد مِن حزب العلماء مَن هذه درجته؟.
ولذلك قال الحسن رحمه الله: عقوبة العلماء موت القلب، وموت القلب طلب الدنيا بعمل الآخرة،...
وقال عمر رضي الله عنه: إذا رأيتم العالم محباً للدنيا فاتهموه على دينكم، فإن كل محب ٍ يخوض فيما أحب،...
وكان يحيى بن معاذ الرازي رحمه الله يقول لعلماء الدنيا: يا أصحاب العلم قصوركم قيصرية، وبيوتكم كسروية، وأثوابكم ظاهرية، وأخفافكم جالوتية، ومراكبكم قارونية، وأوانيكم فرعونية، ومآثمكم جاهلية، ومذاهبكم شيطانية فأين الشريعة المحمدية؟ قال الشاعر:
وراعي الشاة يحمي الذئب عنهافكيف إذا الرعاة لها ذئاب؟...(3/153)
وقد وصف الله علماء السوء بأكل الدنيا بالعلم، ووصف علماء الآخرة بالخشوع والزهد، فقال عزوجل في علماء الدنيا: (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمناً قليلاً)، وقال تعالى في علماء الآخرة: (وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وماأنزل إليكم وماأنزل إليهم خاشعين لله لايشترون بآيات الله ثمناً قليلاً أولئك لهم أجرهم عند ربهم) (إحياء علوم الدين) جـ 1 صـ 74 ــ 76 باختصار.
2 ــ العلامة الثانية (العدالة): العدالة صفة مُطالب بها آحاد المسلمين فكيف بالعلماء الذين هم ورثة الأنبياء؟.
فالعدالة من صفات العالم الصالح بل من شروط قبول قوله وفتواه في دين الله تعالى، والفسق من صفات عالم السوء الذي لايقبل قوله ولا فتواه في دين الله تعالى.
ونذكر فيما يلي تعريف العدالة ثم شروطها وضوابطها
أما تعريف العدالة:
فقيل هى (استواء أحوال المرء في دينه).
وقيل هى (مَلَكَة ــ أي هيئة راسخة في النفس ــ تمنع من اقتراف كبيرة، أو صغيرة دالّة على الخِسة، أو مباح يُخِل بالمروءة). قال السيوطي: وهذه أحسن عبارة في حدّها، وأضعفها قول من قال: اجتناب الكبائر والإصرار على الصغائر، لأن مجرد الاجتناب من غير أن تكون عنده ملكة وقوة تردعه عن الوقوع فيما يهواه غير كافٍ في صدق العدالة.أهـ (الأشباه والنظائر) ط دار الكتاب العربي 1407هـ، صـ 608.
وأما شروط العدالة وضوابطها فثلاثة: أداء الفرائض برواتبها، واجتناب المحرمات، واستعمال المروءة، وهذا بيانها:(3/154)
أ ــ أداء الفرائض برواتبها: فليس بعدل ٍ من داوم على ترك الرواتب، فإن تهاونه بها يدل على عدم محافظته على أسباب دينه، وربما جَرَّ إلى التهاون بالفرائض، وكذا ماوجب من صوم وزكاة وحج. وانخرام العدالة بالمداومة على ترك السنن الراتبة هو مذهب جماهير العلماء ولايشكل على ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم (أفلح إن صدق) الحديث، لمن اقتصر على الفرائض دون النوافل، فإنه قيّد فلاحه بالصدق في هذا وهو مالا يمكن الجزم به لآحاد الناس، هذا فضلا عما ثبت من أن التقصير في أداء الفرائض ينجبر بالنوافل، وقد جعل الله للواجبات حِميً من المندوبات للترهيب من ترك الواجب، كما جعل للمحرمات حِميً من المكروهات للترهيب من فعل المحرم، فإن من داوم على فعل المندوب كان لفعل الواجب أدوم، ومن داوم على ترك المكروه، كان للحرام أشد تركاً، وقد دل على هذا كله حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه (إن الحلال بيّن وإن الحرام بيّن) الحديث، متفق عليه.
ب ــ اجتناب المحرَّم: بأن لايأتي كبيرة ولايُدْمِن على صغيرة. لقوله تعالى (إن جاءكم فاسق بنبأ ٍ فتبيَّنوا) الحجرات 6، وقال تعالى في القاذف (ولاتقبلوا لهم شهادة أبدا، وأولئك هم الفاسقون) النور4، ويُقاس عليه كل مرتكب كبيرة لأنه مستخف بدينه ولايؤمَن من مثله الكذب على الله وعلى الناس.
والكبيرة هى: (مافيه حَدّ في الدنيا أو وعيد في الآخرة) وهذا قول أحمد بن حنبل رحمه الله، وزاد ابن تيمية رحمه الله (أو ماورد فيها لعنة أو غضب أو نفي إيمان). وهذا كله من الوعيد فمن لَعَنَهُ الله ُ أو غضب عليه فقد توعّده، فكأن ابن تيمية فصَّل ماأجمله أحمد. وأقول: ومن الكبائر ماورد النص بأنه كبيرة كأحاديث (أكبر الكبائر....) و(اجتنبوا السبع الموبقات....) و (بلى إنه لكبير.....)، ومن الكبائر ماورد النص بوصف صاحبه بالفسق كقوله تعالى (بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان) الحجرات 11.(3/155)
والصغيرة: ما دون ذلك، ولا تجرح العدالة بفعلها إلا إذا أكثر منها أو أدْمنها، قال تعالى (الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم) النجم 32.
جـ ــ استعمال المروءة: بفعل مايُجَمِّله ويُزَيِّنه من مكارم الأخلاق وترك مايُدنِّسه ويشينه مما يُستقبح عرفا لا شرعا (إذ إن المستقبح شرعا يلتحق بالكبائر والصغائر) أما المستقبح عرفا فمثل من يكشف من بدنه ماجرت العادة بتغطيته وإن لم يكن كشفُه حراما، وككشف الرأس بالبلاد التي جرت العادة فيها بتغطيته، والأكل بالأسواق بالبلاد التي يستقبح فيها ذلك، ولُبس الثياب المستنكرة، وحكاية المضحكات.
وأصل اعتبار المروءة ضمن شروط العدالة هو قول النبي صلى الله عليه وسلم (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت) رواه البخاري. فإن من لايستعمل المروءة بمخالفة عرف أهل بلده دل ذلك على عدم حيائه، ومن لم يستح يتوقع منه الكذب ونحوه للحديث (إذا لم تستح فاصنع ماشئت). ولايخفى أن العرف المعتبر هو مالا يخالف الشرع.
يُراجع في تعريف العدالة:(مجموع فتاوى ابن تيمية) جـ 15 صـ 356 ــ 358، و(منار السبيل) جـ 2 صـ 487 ــ 489.
إذا تبيَّن لك معنى العدالة وشروطها، فاعلم أن من نواقضها ترك فريضة أو ارتكاب كبيرة، ومن الكبائر: المحرمات التي ذكرنا بعضها في صفة فرض العين من العلم في الفصل الثاني من الباب الثاني، ومن الكبائر كتمان العلم والحق خاصة مع حاجة الناس لبيانه، وذلك للوعيد الوارد في حق من يكتم الحق، قال تعالى (أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون) البقرة 159.(3/156)
وكل من انخرمت عدالته بسبب ٍ أو بآخر فهو فاسق، لايجوز استفتاؤه ولايُقبل فتواه ولاخبره في دين الله تعالى، لأمر الله تعالى بالتوقف في قبول خبر الفاسق، قال تعالى (إن جاءكم فاسق بنبأ ٍ فتبيَّنوا) الحجرات 6، وقال تعالى (ولاتقبلوا لهم شهادة أبداً وأولئك هم الفاسقون) النور 4، هذا مع إخباره تعالى بحرمان الفاسقين من التوفيق وذلك في قوله تعالى (والله لايهدي القوم الفاسقين) التوبة 24 والصف 5. وقال الخطيب البغدادي (علماء المسلمين لم يختلفوا في أن الفاسق غير مقبول الفتوى في أحكام الدين وإن كان بصيراً بها) (الفقيه والمتفقه) جـ 2 صـ 156. وقال أبو عمرو ابن الصلاح (لا تصح فتيا الفاسق وإن كان مجتهداً مستقلاً، غير أنه لو وقعت له في نفسه واقعة عمل فيها باجتهاد نفسه ولم يستفت غيره) (أدب المفتي والمستفتي) لابن الصلاح صـ 107. وسيأتي مزيد تفصيل لهذه المسألة في الباب الخامس عند الكلام في العدالة ضمن شروط المفتي إن شاء الله تعالى.
والخلاصة: أن العدالة من صفات العالم الصالح، وأن الفسق من صفات عالم السوء وهو مانع من قبول خبره وفتواه في الدين.
3 ــ العلامة الثالثة (الإصابة في الفتوى): وهى من علامات العلماء الصالحين إذ تدل الإصابة في الفتوى على صفتين من صفات العلماء الصالحين، وهما:
أ ــ العلم وأنه ليس من الجُهَّال المتكلفين المدَّعين للعلم.
ب ــ والخشية: قال تعالى (إنما يخشى الله من عباده العلماء) فاطر 28، خاصة إذا كان العالِم يُستفتى فيما لايوافق هوى ذوي النفوذ والسلطان، فإذا جهر بالحق في ذلك، دل على تقواه وخشيته لله تعالى. قال تعالى (الذين يبلّغون رسالات الله ويخشونه ولايخشون أحداً إلا الله) الأحزاب 39، فهذه صفة الأنبياء عليهم السلام وهكذا ينبغي أن يكون ورثتهم من العلماء، يُبَلِّغون حكم الله ويخشونه ولايخشون أحداً غيره.(3/157)
قال البخاري: قال الحسن البصري رحمه الله (أخذ الله على الحكام أن لايتبعوا الهوى ولايخشوا الناس، ولايشتروا بآياته ثمنا قليلا، ثم قرأ (ياداود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولاتتبع الهوى فيُضلك عن سبيل الله، إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب). وقرأ (إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استُحفِظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء، فلا تخشوا الناس واخشون ولاتشتروا بآياتي ثمناً قليلا، ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) (كتاب الأحكام) من صحيح البخاري ــ باب 16 (فتح الباري) جـ 13 صـ146، والمقصود بالحكام القضاة وكل من حَكَم بين الناس.
جـ ــ والإصابة في الفتوى من علامات توفيق الله تعالى للعالم، أن يهديه الله لمعرفة الحق، لقوله تعالى (فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه) البقرة 213، وقوله تعالى (إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا) الأنفال 29، وقوله تعالى (ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كِفلين من رحمته ويجعل لكم نوراً تمشون به) الحديد 28، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من يُرد الله به خيراً يفقِّهه في الدين) الحديث متفق عليه.
وكأن هذا التوفيق الإلهي ثواب من الله تعالى للعالم المتَّصف بالعلم والخشية، من باب (الجزاء من جنس العمل) وهى قاعدة قدرية وشرعية كما قال ابن تيمية رحمه الله (الثواب والعقاب يكونان من جنس العمل في قَدَرِ الله وفي شرعه، فإن هذا من العدل الذي تقوم به السماء والأرض) (مجموع الفتاوى) جـ 28 صـ 119.
وبضد الإصابة في الفتوى: كثرة الخطأ والتخليط فيها فإنها من علامات علماء السوء إذ يدل كثرة الخطأ والتخليط على صفاتٍمَن اتصف بها كان من علماء السوء، وهى:(3/158)
أ ــ الجهل، وأنه ليس من العلماء المؤهلين لتبليغ دين الله تعالى، كما في حديث قبض العلم وفيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (اتخذ الناس رءوسا جُهّالا فسُئِلوا فأفتوا بغير علم فضلّوا وأضلّوا) الحديث متفق عليه.
ب ــ تعمّد الخطأ، فقد يكون الرجل عالما مُتْقِناً للعلم، ولكنه يتعمد الخطأ، وهذا له صور وله أسباب:
أما صور تعمّد الخطأ فمنها ماذكره الله تعالى في قوله (ولاتلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون) البقرة 42، وقوله تعالى (يحرِّفون الكلم عن مواضعه) النساء 46، وقوله تعالى (فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم) البقرة 79. هذه بعض صور تعمّد الخطأ وكلها تؤدي إلى تضليل الناس، وهذا موجود في الفرق الضالة قديما وحديثا، وفي علماء السوء في كل مِلّة وكل زمان ومكان، فلبس الحق بالباطل: منه الاستدلال بالنصّ في غير موضعه، وكتم الحق: بالامتناع عن الجهر به وتبليغه، وتحريف الكلم: منه التأويل الفاسد وتحميل النصوص مالا تحتمله من المعاني.
أما سبب تعمد الخطأ، فسبب واحد ــ وإن كانت له صور متعددة ــ وهو استحباب الحياة الدنيا والحرص عليها، ومن صور ذلك حب المال وكنزه وحب الجاه والمنصب، وإنما قلنا إنه سبب واحد إذ قد قرن الله تعالى تعمّد علماء السوء للخطأ باستحباب الدنيا كما في قوله تعالى (فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا) البقرة 79. وقوله تعالى (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولاتكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا، فبئس ما يشترون) آل عمران 187، وقال تعالى (إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله) التوبة 34.
وهكذا ترى أن الله تعالى قرن كتمان الحق والصد عن سبيله بشراء الثمن القليل وهى الدنيا ومتاعها، كما قال تعالى (قل متاع الدنيا قليل) النساء 77.(3/159)
وفي الجملة فإن كثرة الخطأ في الفتوى والتخليط فيها سواء كان ذلك عن جهل أو عن عمد فهو من علامات علماء السوء، فمن فعل ذلك عن عمد فهو من المغضوب عليهم ومن فعله عن جهل فهو من الضالين.
(فائدة) ليس من شرط العالم الصالح أن يعرف الأحكام كلها، كما ليس من شرطه ألا يخطيء.
أما الأول: فليس من شرطه معرفة الأحكام كلها، ولكن من شرطه مع ذلك أنه إذا سُئِل عما لا يعرفه أن يقول لا أدري أو لا أعلم أو الله أعلم. كما سبق بيانه في آداب إلقاء الدرس.
قال أبو حامد الغزّالي رحمه الله (وليس من شرط المفتي أن يجيب عن كل مسئلة، فقد سُئِل مالك رحمه الله عن أربعين مسئلة فقال في ست وثلاثين منها لا أدري، وكم توقف الشافعي رحمه الله بل الصحابة في المسائل، فإذاً لايشترط إلا أن يكون على بصيرة فيما يُفتي فيفتي فيما يَدري، ويَدري أنه يَدري، ويميِّز بين مالا يَدري وبين مايَدري، فيتوقف فيما لايدري، ويفتي فيما يدري) أهـ (المستصفى) جـ 2 صـ 354.(3/160)
وأما الثاني: فإذا كانت الإصابة في الفتوى من علامات العالم الصالح فالمراد بذلك أن يكون الغالب عليه الإصابة وليس من شرطه ألا يخطيء وإلا كان معصوما وهذا ممتنع. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر) متفق عليه، فبيّن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن العالم وإن بلغ مرتبة الاجتهاد في الشريعة فإن الخطأ جائز عليه، وأنه مأجور مع ذلك، ولايُمنع من الحكم والفتوى لكونه أخطأ، ولكن لايُعمل بما أخطأ فيه ولاينفذ إن كان حكماً، للحديث (من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رَدّ) رواه مسلم. قال ابن عبدالبر رحمه الله (وروى مالك بن أنس عن سعيد بن المسيب بلغه عنه أنه كان يقول: ليس من عالم ولاشريف ولاذي فضل إلا وفيه عيب، ولكن من كان فضله أكثر من نقصه ذهب نقصُه لفضله، كما أنه من غلب عليه نقصانه ذهب فضله. وقال غيره: لايسلم العالم من الخطأ فمن أخطأ قليلا وأصاب كثيرا ً فهو عالم، ومن أصاب قليلا وأخطأ كثيراً فهو جاهل) (جامع بيان العلم) جـ 2 صـ48.
وقال ابن تيمية رحمه الله (أنه لو قدر أن العالم الكثير الفتوى أخطأ في مائة مسألة لم يكن ذلك عيبا، وكل من سوى الرسول صلى الله عليه وسلم يصيب ويخطيء. ومن منع عالماً من الإفتاء مطلقاً، وحَكمَ بحبسه لكونه أخطأ في مسائل: كان ذلك باطلا بالإجماع.) (مجموع الفتاوي) جـ 27 صـ 301.(3/161)
وقال ابن تيمية أيضا (أنه لو قدر أن العالم الكثير الفتاوى أفتى في عدة مسائل بخلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابتة عنه. وخلاف ماعليه الخلفاء الراشدون: لم يجز منعه من الفتيا مطلقاً، بل يبين له خطؤه فيما خالف فيه. فما زال في كل عصر من أعصار الصحابة والتابعين ومن بعدهم من علماء المسلمين من هو كذلك. فابن عباس رضي الله عنهما كان يقول في «المتعة والصرف» بخلاف السنة الصحيحة، وقد أنكر عليه الصحابة ذلك، ولم يمنعوه من الفتيا مطلقاً بل بينوا له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم المخالفِة لقوله) (المرجع السابق) صـ 311.
والمقصود من إيراد هذه الفائدة: ألا يُظن سوء بعالم لمجرد خطأ أخطأه، خاصة إذا كان غالب حاله الإصابة، وألا يمتنع طالب العلم عن الأخذ عن عالم لنفس السبب فَيُحْرَم بذلك من خير كثير.
(فائدة أخرى) انتفاع الناس بعلم عالم ليس بمجرده دليلا على صلاحه.(3/162)
هذه من الأمور التي يحدث بسببها لَبْس شديد عند العوام، وكثيراً ماأنصح الناس بالاحتراز منها. فذات مرة نصحت رجلا باعتزال إحدى الجماعات الإسلامية المنحرفة، فقال لي: إن لهم عليه فضلا كبيراً فهو لم يعرف دينه ولم يلتزم به إلا بسببهم، فقلت له: ولو كان الأمر كذلك، فإنها جماعة سوء وهم نقلوك من شر ٍ كثير إلى شر قليل، وإنَّ هناك خيراً وراء ماأنت فيه وهم يحجبونك عن هذا الخير. ومرة أخرى سألني سائل عن رأيي في أحد الشيوخ، فقلت له: إنه زنديق ضال مُضِل، فقال لي: إنه يؤوي فئام من الشباب ويُنفق عليهم ويعلمهم العلم، فقلت له: ولو كان الأمر كذلك فإنه يختلق الشبهات لصد الشباب عن الجهاد في سبيل الله وصرفهم عن نصرة الدين، وهل هتك ستر المنافقين إلا الجهاد في سبيل الله فتخلّفوا عنه وصَدُّوا غيرهم واختلقوا الأعذار لتبرير قبيح صنيعهم، فهتك الله سترهم في سورة التوبة حتى سمّاها ابن عباس رضي الله عنهما بالفاضِحة التي فضحت المنافقين؟ (انظر تفسير القرطبي، 8 / 61).
ومنشأ اللبس في هذا هو الظن بأن العالم إذا نفع الناس بشيء من العلم فلابد أن يكون صالحا، وهذا ظن خطأ، فقد ينتفع الناس بعلم رجل وهو رجل سوء، ودليله قول النبي صلى الله عليه وسلم (إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر) الحديث متفق عليه، وهذا الظن يؤدي إلى ظن آخر أشد خطورة، وهو أنه إذا كان هذا العالم الذي يُنتفع بعلمه صالحا فلا شك في أن كل مايقوله صواب، هكذا يظن العوام، فيأخذ عالم السوء في تضليلهم بآرائه الفاسدة التي يدسها في ثنايا كلامه، ويخلط الحق بالباطل، والناس يظنونه كله حق، فيضلّون به.وإذا كنا قد قدّمنا أن العالم الصالح لاتشترط فيه الإصابة دائما، فكيف بعالم السوء؟.(3/163)
وقد نبّه العلماء على هذه المسألة حتى لاتلتبس على الناس، فقال أبو حامد الغزالي رحمه الله (ولولا حب الرئاسة لاندرس العلم. ولايدل ذلك على أن طالب الرئاسة ناج، بل هو من الذين قال صلى الله عليه وسلم فيهم: «إن الله ليؤيد هذا الدين بأقوام لاخلاق لهم»، وقال صلى الله عليه وسلم: «إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر»، فطالب الرئاسة في نفسه هالك وقد يصلح بسببه غيره إن كان يدعو إلى ترك الدنيا وذلك فيمن كان ظاهر حاله في ظاهر الأمر ظاهر حال علماء السلف، ولكنه يضمر قصد الجاه، فمثاله مثال الشمع الذي يحترق في نفسه ويستضيء به غيره فصلاح غيره في هلاكه، فأما إذا كان يدعو إلى طلب الدنيا فمثاله مثل النار المحرقة التي تأكل نفسها وغيرها. فالعلماء ثلاثة: إما مهلك نفسه وغيره وهم المصرحون بطلب الدنيا والمقبلون عليها، وإما مسعد نفسه وغيره وهم الداعون الخلق إلى الله سبحانه ظاهراً وباطناً، وإما مهلك نفسه مسعد غيره وهو الذي يدعو إلى الآخرة وقد رفض الدنيا في ظاهره وقَصْدُه في الباطن قبول الخلق وإقامة الجاه، فانظر من أي الأقسام أنت؟) (إحياء علوم الدين) جـ 1 صـ 61.
وقال ابن تيمية رحمه الله (كالشيخ الذي فيه كذب وفجور من الإنس قد يأتيه قوم كفار فيدعوهم إلى الإسلام فيسلمون ويصيرون خيراً مما كانوا وإن كان قصد ذلك الرجل فاسداً، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم «إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر، وبأقوام لا خلاق لهم» وهذا كالحجج والأدلة التي يذكرها كثير من أهل الكلام والرأي فإنه ينقطع بها كثير من أهل الباطل ويَقْوى بها قلوب كثير من أهل الحق، وإن كانت في نفسها باطلة فغيرها أبطل منها، والخير والشر درجات، فينتفع بها أقوام ينتقلون مما كانوا عليه إلى ما هو خير منه.(3/164)
وقد ذهب كثير من مبتدعة المسلمين: من الرافضة والجهمية وغيرهم إلى بلاد الكفار، فأسلم على يديه خلق كثير، وانتفعوا بذلك وصاروا مسلمين مبتدعين، وهو خير من أن يكونوا كفاراً، وكذلك بعض الملوك قد يغزوغزوا يظلم فيه المسلمين والكفار ويكون آثماً بذلك ومع هذا فيحصل به نفع خلق كثير كانوا كفارا فصاروا مسلمين، وذاك كان شراً بالنسبة إلى القائم بالواجب، وأما بالنسبة إلى الكفارفهو خير.
وكذلك كثير من الأحاديث الضعيفة في الترغيب والترهيب والفضائل والأحكام والقصص، قد يسمعها أقوام فينتقلون بها إلى خير مما كانوا عليه، وإن كانت كذبا) (مجموع الفتاوى) جـ 13 صـ 95 ــ 096
فإذا كان الأمر كذلك فإنه حَرِيّ بطالب العلم ألا يلتبس عليه ما قد يلتبس على العوام من هذا الأمر. والله سبحانه وتعالى يُضل من يشاء ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
4 ــ العلامة الرابعة (العمل بالعلم): العمل بالعلم من علامات العلماء الصالحين، فيعمل بعلمه في نفسه وفي أهله وفي الناس يعلمهم الخير وينهاهم عن الشر، وقد سبق الكلام في هذه المسألة في الآداب التي يشترك فيها العالم والطالب وذكرنا أن المقصود من العلم العمل، والعمل بالعلم من علامات الصدق والإخلاص والخشية.(3/165)
قال أبو حامد الغزالي ــ في علامات العالم الصالح ــ (ومنها أن لا يخالف فعله قوله بل لا يأمر بالشئ مالم يكن هو أول عامل به، قال تعالى «أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون»، وقال تعالى «كبر مقتا عند الله أن تقولوا مالا تفعلون» ــ إلى أن قال ــ وقال الفضيل بن عياض رحمه الله: بلغني أن الفسقة من العلماء يُبدأ بهم يوم القيامة قبل عَبَدة الأوثان. وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: ويلٌ لمن لا يعلم مرة وويلٌ لمن يعلم ولا يعمل سبع مرات. ــ إلى أن قال ــ وقال حاتم الأصم رحمه الله: ليس في القيامة أشد حسرة من رجل علّم الناس علماً فعملوا به ولم يعمل هو به ففازوا بسببه وهلك هو.) (إحياء علوم الدين) جـ1 صـ77 ــ 78.
وأما عالم السوء فمن علاماته ألا يعمل بعلمه، فإذا أضاف إلى ذلك العمل بخلاف علمه صارفتنة عظيمة وشراً مستطيراً بسبب تقليد العوام له في الشر. قال ابن تيمية رحمه الله (كما أن معلِّم الخير يُصلي عليه الله وملائكته، ويستغفر له كل شئ حتى الحيتان في جوف البحر والطير في جو السماء. وكذلك كذبهم في العلم من أعظم الظلم، وكذلك إظهارهم للمعاصي والبدع، التي تمنع الثقة بأقوالهم. وتصرف القلوب عن اتِّباعهم وتقتضي متابعة الناس لهم، هي من أعظم الظلم، ويستحقون من الذم والعقوبة عليها مالا يستحقه من أظهر الكذب والمعاصي والبدع من غيرهم.) (مجموع الفتاوى) جـ 28 صـ 187 ــ 188.
وقال ابن القيم رحمه الله (علماء السوء جلسوا على باب الجنة يدعون إليها الناس بأقوالهم، ويدعون إلى النار بأفعالهم، فكلما قالت أقوالهم للناس هلموا، قالت أفعالهم لا تسمعوا منهم، فلوكان ما دعوا إليه حقا كانوا أول المستجيبين له، فهم في الصورة أدِلاَّء وفي الحقيقة قُطَّاَع الطرق) (الفوائد) صـ 61.(3/166)
5 ــ العلامة الخامسة (الزهد في الدنيا) وهي متفرعة عن العمل بالعلم، فإن العلم النافع يدل صاحبه على إيثار الآخرة على الدنيا، فلا يتعلق من الدنيا إلا بالضروري وهذا الزهد0
وقال أبو حامد الغزالي ــ في علامات العالم الصالح ــ (ومنها أن يكون غير مائل إلى الترفه في المطعم والمشرب والتنعم في الملبس والتجمل في الأثاث والمسكن، بل يؤثر الاقتصاد في جميع ذلك ويتشبه فيه بالسلف رحمهم الله تعالى، ويميل إلى الاكتفاء بالأقل في جميع ذلك، وكلما زاد إلى طرف القلة ميله ازداد من الله قربه وارتفع في علماء الآخرة حزبه ــ إلى أن قال ــ والتحقيق فيه أن التزين بالمباح ليس بحرام، ولكن الخوض فيه يوجب الأنس به حتى يشق تركه، واستدامة الزينة لا تمكن إلا بمباشرة أسباب في الغالب يلزم من مراعتها ارتكاب المعاصي من المداهنة، ومراعاة الخلق ومراءاتهم وأمور أخر هي محظورة والحزم اجتناب ذلك، لأن من خاض في الدنيا لا يسلم منها البتة) (إحياء علوم الدين) جـ 1 صـ 81 ــ 82.وقد سبق قريبا الكلام في بيان اقتران قول الباطل والصد عن سبيل الله باستحباب الحياة الدنيا، إذ كلما أحب العالم الدنيا وجد أنه لا يصل إليها إلا بمداهنة أصحاب الدنيا وهم السلاطين والمترفين، فلا يتكلم إلا بما يرضيهم ولو كان كذبا أو باطل، ويتجنب الكلام فيما يسخطهم ولو كتم الحق وأضل الناس. ولهذا كان التقلل من الدنيا أسلم ــ خاصة ــ للعلماء، إذ يعينهم التقلل منها على الجهر بالحق. ولهذا قال بعض السلف (إذا رأيتم العالم محبا لدنياه فاتهموه على دينكم) ذكره ابن عبد البر (جامع بيان العلم) جـ1 صـ 193. ومصداق هذا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما ذئبان جائعان أرسلا في غنمٍ بأَفْسَدَ لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه) رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح عن كعب بن مالك رضي الله عنه.(3/167)
قال ابن القيم رحمه الله (كل من آثر الدنيا من أهل العلم واستحبها، فلا بد أن يقول على الله غير الحق في فتواه وحكمه، في خبره، وإلزامه، لأن أحكام الرب سبحانه كثيراً ما تأتي على خلاف أغراض الناس ولا سيما أهل الرياسة والذين يتبعون الشهوات، فإنهم لا تتم لهم أغراضهم إلا بمخالفة الحق ودفعه كثيراً، فإن كان العالم والحاكم محبين للرياسة متبعين للشهوات لم يتم لهما ذلك إلا بدفع ما يضاده من الحق، لاسيما إذا قامت له شبهة فتتفق الشبهة والشهوة ويثور الهوى فيخفى الصواب وينطمس وجه الحق، وإن كان الحق ظاهراً لا خفاء به ولا شبهة فيه أقدم على مخالفته وقال لي مخرج بالتوبة، وفي هؤلاء وأشباههم قال تعالى (فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات) وقال تعالى فيهم أيضاً (فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق ودرسوا ما فيه والدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون) فأخبر سبحانه أنهم أخذوا العرض الأدنى مع علمهم بتحريمه عليهم وقالواسُيغفر لنا وإن عَرَض لهم عرض آخر أخذوه فهم مُصرون على ذلك، وذلك هو الحامل لهم على أن يقولوا على الله غير الحق فيقولون هذا حكمه وشرعه ودينه وهم يعلمون أن دينه وشرعه وحكمه خلاف ذلك، أَوْ لا يعلمون أن ذلك دينه وشرعه وحكمه فتارة يقولون على الله مالا يعلمون، وتارة يقولون عليه ما يعلمون بطلانه.) (الفوائد) صـ 100.
6 ــ العلامة السادسة (التواضع وحسن الخلق) من علامات العلماء الصالحين، وهي من العمل بالعلم، أما علماء السوء فبضد ذلك، سيماهم الكِبر وسوء الخُلُق.
قال ابن عبدالبر (ومن أفضل آداب العالم تواضعه وترك الإعجاب بعلمه، ونبذ حب الرياسة. ورُوِي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «إن التواضع لا يزيد العبد إلا رفعة فتواضعوا يرفعكم الله». ــ إلى أن قال ــ(3/168)
وروينا عن أيوب السختياني أنه قال: ينبغي للعالم أن يضع التراب على رأسه تواضعاً لله، وقالوا: المتواضع من طلاب العلم أكثرعلما كما أن المكان المنخفض أكثرالبقاع ماء. ــ إلى أن قال ــ
وقال إبراهيم بن الأشعث سألت الفضيل بن عياض عن التواضع فقال: أن تخضع للحق وتنقاد له ممن سمعت ولو كان أجهل الناس لزمك أن تقبل منه. ــ إلى أن قال ــ
وعن مالك بن دينار قال: من تعلم العلم للعمل كَسَره، ومن تعلمه لغير العمل زاده فخراً)
(جامع بيان العلم) جـ 1 صـ 141 ــ 145.
وقول الفضيل بن عياض مستفاد من قول النبي صلى الله عليه وسلم (الكِبْر بَطَر الحق وغمط الناس) الحديث رواه مسلم. وبطر الحق أي ردُّ الحق وعدم قبوله، وغمط الناس أي احتقارهم، والتواضع بعكس هذا.
وقال ابن القيم (من علامات السعادة والفلاح أن العبد كلما زِيد في علمه زِيد في تواضعه ورحمته، وكلما زِيد في عمله زِيد في خَوْفه وحَذَرِه، وكلما زيد في عمره نقص من حرصه، وكلما زيد في ماله زيد في سخائه وبذله، وكلما زيد في قَدْرِه وجاهه زيد في قربه من الناس وقضاء حوائجهم والتواضع لهم.
وعلامات الشقاوة كلما زيد في علمه زيد في كبره وتيهه، وكلما زيد في عمله زيد في فخره واحتقاره للناس وحسن ظنه بنفسه، وكلما زيد في عمره زيد في حرصه، وكلما زيد في ماله زيد في بُخله وإمساكه، وكلما زيد في قدره زيد في كبره وتيهه، وهذه الأمور ابتلاء من الله وامتحان يبتلي بها عباده فيَسْعَدُ بها أقوام ويَشْقَى بها أقوام) (الفوائد) صـ 155.(3/169)
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (خَصْلتان لا تجتمعان في مُنَافِق: حُسْنُ سَمْتٍ، ولا فِقهٌ في دين) رواه الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه، وحُسْن السمت أي حسن الطريقة والسلوك. ذكر أبو حامد الغزالي هذا الحديث ثم قال (ولا تَشُكَّنَّ في الحديث لنفاق بعض فقهاء الزمان، فإنه ما أراد به الفقه الذي ظننته وسيأتي معنى الفقه، وأدنى درجات الفقيه أن يعلم أن الآخرة خير من الدنيا، وهذه المعرفة إذا صدقت وغلبت عليه بَرِئ َ بها من النفاق والرياء) (إحياء علوم الدين) جـ 1 صـ 16. ومعنى الحديث أنه يستدل على العالم الصالح باجتماع خصلتين فيه حُسن الخلق والسلوك مع الفقه في الدين وقد بيّن الغزالي المراد به. فإذا تخلفت إحدى الخصلتين لم يكن العالم صالحا بل يُخشى عليه النفاق ودل الحديث على أن بعض المتفقهة قد يكون منافقاً ويستدل عليه بسوء خلقه.
7 ــ العلامة السابعة (خشية الله تعالى) من علامات العالم الصالح، وهي من العمل بالعلم، وهي من أهم علامات الصلاح ولذا أخّرنا الكلام فيها، قال تعالى (إنما يخشى الله من عباده العلماء) فاطر28، والخشية من أعمال القلب ولها علامات ظاهرة يُستدل بها عليها وهى:(3/170)
أ ــ منها خشية الله في نفسه: وصورتها كما قال أبو حامد الغزالي رحمه الله (ومنها أن يكون حزيناً منكسراً مطرقاً صامتاً يظهر أثر الخشية على هيئته وكسوته وسيرته وحركته وسكونه ونطقه وسكوته لا ينظر إليه ناظرإلا وكان نظره مذكراً لله تعالى وكانت صورته دليلاً على عمله، فالجواد عينه مرآته، وعلماء الآخرة يعرفون بسيماهم في السكينة والذلة والتواضع، وقد قيل: ما ألبس الله عبداً لبسة أحسن من خشوع في سكينة فهي لبسة الأنبياء وسيما الصالحين والصديقين والعلماء، أما التهافت في الكلام والتشدق والاستغراق في الضحك والحدة في الحركة والنطق، فكل ذلك من آثار البطر والأمن والغفلة عن عظيم عقاب الله تعالى وشديد سخطه، وهو دأب أبناء الدنيا الغافلين عن الله دون العلماء به، وهذا لأن العلماء ثلاثة كما قال سهل التستري رحمه الله: عالم بأمر الله تعالى لابأيام الله وهم المفتون في الحلال والحرام وهذا لا يورث الخشية، وعالم بالله تعالى لا بأمر الله ولابأيام الله وهم عموم المؤمنين، وعالم بالله تعالى وبأمر الله تعالى وبأيام الله تعالى وهم الصديقون، والخشية والخشوع إنما تغلب عليهم، وأراد بأيام الله أنواع عقوباته الغامضة ونعمِهِ الباطنة التي أفاضها على القرون السالفة واللاحقة، فمن أحاط علمه بذلك عظم خوفه وظهر خشوعه. وقال عمر رضي الله عنه: تعلموا العلم وتعلموا للعلم السكينة والوقار والحلم وتواضعوا لمن تتعلمون منه وليتواضع لكم من يتعلم منكم ولا تكونوا من جبابرة العلماء فلا يقوم علمكم بجهلكم.) (إحياء علوم الدين) جـ 1 صـ 91.(3/171)
ب ــ ومن علامات الخشية متابعة الحق ابتغاء مرضات الله ومتابعة الدليل الشرعي وما كان عليه السلف وإن خالف الناس أو سخطوا عليه، فقد قال تعالى (فلا تخشوا الناس واخشونِ) المائدة 44. وقال أبو حامد الغزالي رحمه الله (ومنها، أن يكون شديد التوقي من محدثات الأمور وإن اتفق عليها الجمهور فلا يغرنه إطباق الخلق على ما أحدث بعد الصحابة رضي الله عنهم، وليكن حريصاً على التفتيش عن أحوال الصحابة وسيرتهم وأعمالهم، ــ إلى أن قال ــ واعلم تحقيقاً أن أعلم أهل الزمان وأقربهم إلى الحق أشبههم بالصحابة وأعرفهم بطريق السلف فمنهم أُخذ الدين. ولذلك قال علي رضي الله عنه: (خيرنا أتبعنا لهذا الدين) لَمَّا قيل له: خالفت فلاناً فلا ينبغي أن يكترث بمخالفة أهل العصر في موافقة أهل عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن الناس رأوا رأيا فيما هم فيه لميل طباعهم إليه ولم تسمح نفوسهم بالاعتراف بأن ذلك سبب الحرمان من الجنة فادعوا أنه لا سبيل إلى الجنة سواه. ولذلك قال الحسن: محدثان أحدِثا في الإسلام: رجل ذو رأي سيء زعم أن الجنة لمن رأى مثل رأيه، ومترف يعبد الدنيا لها يغضب ولها يرضى وإياها يطلب فارفضوهما إلى النار. وإن رجلا أصبح في هذه الدنيا بين مترف يدعوه إلى دنياه، وصاحب هوى يدعوه إلى هواه وقد عصمه الله تعالى منهما يحن إلى السلف الصالح يسأل عن أفعالهم ويقتفي آثارهم متعرض لأجر عظيم فكذلك كونوا.) (إحياء علوم الدين) جـ 1 صـ 95 ــ 096
وسوف تأتي الإشارة إلى هذه المسألة ــ متابعة ما دَلَّ عليه الدليل وما كان عليه السلف وإن خالف الجمهور ــ عند الكلام في بعض الموضوعات الفقهية كالإيمان وغيره، وذلك في الباب الخاص بالكتب التي ننصح بها إن شاء الله تعالى.(3/172)
أما علماء السوء فمن علاماتهم الحيدة عن الأدلة الصحيحة والأقوال الراجحة إلى تتبع رخص المذاهب المبنيّة على الأخذ بالأقوال المرجوحة لتبرير الأهواء والشهوات مع تأويلاتهم الفاسدة للنصوص واختلاق الحيل والشبهات لإسقاط الواجبات وارتكاب المحارم، قال تعالى (يخادعون الله والذين آمنوا، ومايخدعون إلا أنفسهم ومايشعرون) البقرة 9.
جـ ــ ومن علامات الخشية: الجهر بالحق وتبليغه للناس، وإن كان فيه التعرض للأذى من ذوي السلطان الذين لا يوافق الحق أهواءهم.فإن العالِم الذي يعلم الحق بين أمرين:
إما أن يبلِّغه كما أمر الله تعالى ويصبر على الأذى في هذا يبتغي الأجر من الله.
وإما أن يسكت فتسلم له دنياه، أو يداهن فتفتح عليه دنيا ذوي السلطان وأصحاب الشهوات.
والعالِم مبتلى ومختبر بهذا، قال تعالى(الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا) الملك 2، ولا يَدَع العالم السبيل الثاني ويسلك الأول إلا إذا تمكنت خشية الله تعالى من نفسه مع الإخلاص والتوكل واليقين.
ولهذا ــ ولما كان العالم مبتلى باختيار أحد السبيلين ــ فإن الله تعالى قَرَن البلاغ عنه بالتذكير بخشيته سبحانه وبالحضّ على الصبر على الأذى. فقال تعالى (الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحداً إلا الله) الأحزاب 39، وقال تعالى (يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانْهَ عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور) لقمان 17. كذلك فقد قَرَنَ اللهُ البلاغَ عنه والجهر بالحق بالنهي عن خشية الناس في هذا وبالتحذير من أخذ الثمن من متاع الدنيا مقابل السكوت والمداهنة، فقال تعالى (فلا تخشوا الناس واخشون، ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلا، ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) المائدة 44، وقد سبق ما نقله البخاري عن الحسن البصري رحمهما الله في هذه الآيات.
وهذه العلامة من أهم ما تُمَيِّز به بين العلماء الصالحين وعلماء السوء في كل زمان ومكان.
وبعد:(3/173)
فقد كان هذا موجزاً في بيان علامات العلماء الصالحين وعلماء السوء، ليستفيد به العالم في نفسه، وطالب العلم، وعموم المسلمين في معرفة من يُؤخذ عنه العلم ويُقبل قوله في الدين ممن لا يؤخذ عنه علم ولا يُقبل له قول.
وبه نختم الكلام في آداب العالم، ثم نعرّج على الكلام في آداب طالب العلم إن شاء الله تعالى، والله ولي التوفيق.
الفصل الثالث
آداب المتعلِّم
ذكرنا في الباب الثالث (كيفية طلب العلم) أن طالب العلم ليس أمامه إلا طريقان للتعلم: إما بالتلقي عن العلماء وإما بمطالعة الكتب، وأيما كان الطريق الذي يسلكه للتعلم فإنه لابد له من آداب يتأدب بها في تعلّمه، ليُكتب له التوفيق والفلاح في سعيه.
فالأدب عُدَّة المتعلم في طلبه للعلم، فبقدر أدبه بقدر ما يجود عليه أستاذه من علمه، وبقدر أدبه بقدر ما يستفيد من أقرانه في طلب العلم، وبقدر أدبه بقدر ما يفتح الله تعالى عليه في هذا وفي الفهم والاستيعاب إذ كان حُسْن الخلق مظنة التوفيق.
وسوف نقسِّم المراد بيانه من آداب طالب العلم في هذا الفصل إلى أقسام ثلاثة، هذا بالإضافة إلى ما ذكرناه من آداب يشترك فيها العالم والمتعلم في الفصل الأول من هذا الباب، أما أقسام هذا الفصل فهى:القسم الأول: آداب المتعلِّم في نفسه.
القسم الثاني: آداب المتعلِّم مع شيخه.
القسم الثالث: آداب المتعلِّم في درسه.
******
القسم الأول: آداب المتعلِّم في نفسه
ويرد فيها جميع ما نقلناه عن النووي رحمه الله في آداب العالم في نفسه، في الفصل السابق، فلا داعي لتكراره هنا.
إلا أننا نخُصُّ من هذه الآداب أموراً يحتاج إليها الطالب أكثر من غيره، وهى:
1 ــ الإخلاص:(3/174)
سبق الكلام عنه في الآداب المشتركة بين العالم والمتعلم، فلا نعيده، ولكن نذكر هنا كلام الغزّالي في تذكير المتعلم بالإخلاص، قال رحمه الله (أن يكون قصد المتعلم في الحال: تحلية باطنه وتجميله بالفضيلة، وفي المآل: القرب من الله سبحانه والترقي إلى جوار الملأ الأعلى من الملائكة والمقربين، ولايقصد به الرئاسة والمال والجاه ومماراة السفهاء ومباهاة الأقران) (إحياء علوم الدين) جـ 1 صـ 66.
فإذا داخله شيء من فساد النية بادر بتصحيحه أثناء تعلّمه.
2 ــ تنزيه النفس عن المعاصي الظاهرة والباطنة.
قال الله عزوجل (وذروا ظاهر الإثم وباطنه، إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا يقترفون) الأنعام 120، وقال تعالى (ولا تقربوا الفواحش ماظهر منها ومابطن) الأنعام 151، وقال تعالى (قل إنما حرّم ربي الفواحش ماظهر منها ومابطن) الأعراف 33، فجعل الله المعاصي الظاهرة والباطنة سواء في التحريم وفي الأمر باجتنابها، فقد يهتم العبد بالتنزه عن المعاصي الظاهرة ويُغفل الباطنة وهى أشد فتكاً، وهذا من الغفلة وفيه شبهة رياء إذ اهتم بما يطلع عليه الناس من المعاصي الظاهرة وأغفل التنزه عن المعاصي الباطنة التي لايطلع عليها إلا الله تعالى. قال تعالى (يستخفون من الناس ولايستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون مالا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا) النساء 108.
بعد هذا التمهيد نقول لطالب العلم خاصة ــ ولكل مسلم عامة ــ ينبغي أن تعلم أن اقتراف المعاصي مضاد للعلم النافع، فقد روى الخطيب البغدادي بإسناده عن ابن مسعود رضي الله عنه قال (إني لأحْسِبُ العبدَ ينسى العلم َ كان يعلمه بالخطيئة يعملها) أهـ (اقتضاء العلم العمل) للخطيب، ط المكتب الإسلامي 1397 هـ، صـ 61.(3/175)
وقال النووي (وينبغي أن يطهِّر قلبه من الأدناس ليصلح لقبول العلم وحفظه واستثماره، ففي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهى القلب». وقالوا: تطييب القلب للعلم كتطييب الأرض للزراعة) (المجموع) جـ 1 صـ 35.
ونقل النووي عن الشافعي رحمهما الله قوله (من أحب أن يفتح الله قلبه أو ينِوِّره فعليه بترك الكلام فيما لايعنيه، واجتناب المعاصي، ويكون له خبيئة فيما بينه وبين الله تعالى من عمل، وفي رواية: فعليه بالخلوة وقلة الأكل وترك مخالطة السفهاء وبُغض أهل العلم الذين ليس معهم إنصاف ولا أدب) (المجموع) جـ 1 صـ 13.
والتنزه عن المعاصي يشتمل على ماظهر منها ومابطن، الكبائر منها والصغائر.
فالمعاصي الظاهرة: منها معاصي اللسان من الغيبة والنميمة والسبّ والكذب، ومنها معاصي السمع والبصر، ومعاصي الفرج، وأكل الحرام والغش والظلم والخداع والبغي وغيرها.
والمعاصي الباطنة والتي كثيراً مايغفل عنها الإنسان منها الرياء والكِبْر والعُجب والحسد وسوء الظن وحب المعاصي وحب العصاة والظّلمة وغيرها.
ومع التنزه عن المعاصي يكون التحلي بمحاسن الأخلاق من باب التخلية والتحلية.
3 ــ التحليِّ بمحاسن الأخلاق:(3/176)
روى البخاري رحمه الله في كتاب بدء الوحي من صحيحه حديث السيدة عائشة رضي الله عنها في كيف بدأ الوحي؟، وفيه قالت: (حتى جاءه الحق وهو في غار حِراءٍ، فجاءه المَلَكُ فقال: اقرأ ــ إلى أن قالت ــ فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد رضي الله عنها فقال: زملوني. فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة وأخبرها الخبر: لقد خشيت على نفسي. فقالت خديجة كلا والله مايخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكلَّ، وتكسبُ المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق.) الحديث (رقم 3). والكَلَّ هو من لا يستقل بأمر نفسه، كما في قوله تعالى «وهو كَلّ على مولاه» النحل 76.
فلما خشي رسول الله صلى الله عليه وسلم على نفسه لما جاءه المَلَك أول مرة، بشَّرته السيدة خديجة رضي الله عنها بأن الله لايخزيه أبداً. قال ابن حجر (ثم استدلت على ماأقسمت عليه من نفي ذلك أبداً بأمر استقرائي وصفته بأصول مكارم الأخلاق، لأن الإحسان إما إلى الأقارب أو إلى الأجانب، وإما بالبدن أو بالمال، وإما على من يستقل بأمره أو من لايستقل، وذلك كله مجموع فيما وصفته به) (فتح الباري) جـ 1 صـ 24.(3/177)
يدل هذا الحديث على أن التمسك بمكارم الأخلاق مظنة التوفيق، وأن الله تعالى لايخزي من حَسُن خُلُقِه في نفسه ومع الناس بل يوفقه سبحانه ويسدِّدُه، ولهذا فقد قدّمت بذكر هذا الحديث لأنبِّه طالب العلم خاصة ــ وكل مسلم عامة ــ على أهمية التمسك بمكارم الأخلاق ومجاهدة النفس في اكتسابها إن كانت عارية عنها، فإنها مظنة التوفيق، وطالب العلم أحوج الناس إلى عون الله تعالى وتوفيقه، فإن الطالب قد يضل في اختيار المعلم أو الكتاب فيهلك أو يضيع بعض عمره سدى حتى يهتدي للمعلم الصالح والكتاب النافع، وقد يكون ضلالُهُ في طلب العلم عقوبة ً قدرية ً له من الله على فساد ِ قصده أو خبثِ سريرته، وقد يسلك الطالب سبيل الضلالة ويعتقده الحق عقوبة من الله تعالى (أفمن زُيِّن له سوء عمله فرآه حَسَناً، فإن الله يُضل من يشاء ويهدي من يشاء) فاطر 8، وقال تعالى (ويُضل الله الظالمين ويفعل الله مايشاء) إبراهيم 27.
فلا نجاة إذن إلا بالاستقامة ليكون الطالب من أهل الوعد المذكورين في قوله تعالى (والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم) محمد 17، وفي قوله تعالى (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين) العنكبوت 69.
والتحلي بمحاسن الأخلاق يشتمل على التحلي بما ظهر منها ومابطن:
فالمكارم الظاهرة: يأتي على رأسها الحياء فإنه أساسها بل أساس الخيرات كلها، ثم بر الوالدين، وصلة الأرحام، والرفق بالناس، والعفو واحتمال الأذي، وإغاثة الملهوف ونصرة المظلوم، والجود والكرم، وغيرها.
وأما المكارم الباطنة: فأولها الإخلاص، ثم الصدق، والتوكل، والصبر، وقصر الأمل، والزهد والورع، والحلم والأناة، والتواضع، وإحسان الظن بالمسلمين، وغيرها.
وإذا كان هناك خُلُق مما ذكرناه ينبغي التنبيه عليه على وجه الخصوص في هذا المقام فهو التواضع: وضده الكبر والتعالي على الناس والعُجب والفخر.(3/178)
فقد قال النووي في آداب المتعلم (وينبغي له أن يتواضع للعلم والمعلِّم، فبتواضعه يناله، وقد أُمرنا بالتواضع مُطلقا فهنا أولى، وقد قالوا: العلم حرب للمتعالي كالسيل حرب للمكان العالي. وينقاد لمعلمه ويشاوره في أموره ويأتمر بأمره كما ينقاد المريض لطبيب حاذق ناصح، وهذا أَوْلى لتفاوت مرتبتهما) (المجموع) جـ 1 صـ 35 ــ36.
وإنما أردنا التنبيه على التواضع خاصة لأن الكبر والعُجب يضادان التعلم، وإذا ابتلي بهما طالب العلم انقطع وحُرِمَ العلم، فإن الكبر يجعل معلمه يرغب عن تعليمه، كما أن العُجب يجعل الطالب يستغني عن طلب المزيد من العلم، وكلاهما يمنعانه من قبول العلم ممن هو دونه في رتبة ٍ أو سِنّ ٍ أو شرف ٍ. فصار التواضع خير زاد له في طلب العلم.
قال البخاري رحمه الله (وقال مجاهد: لايتعلم العلم مُسْتَحْي ٍ ولا مُستكبر). أما المستكبر فقد بيّنا سبب عدم تعلُّمِه، وأما المُسْتَحي فالمقصود به الحياء المذموم الذي يمنع الطالب من السؤال عما ينبغي السؤال عنه ليتعلم، ولهذا فقد أعقب البخاري قول مجاهد هذا بقولٍ لعائشة رضي الله عنها ليبين المراد بالحياء المذكور في قول مجاهد وأنه المذموم الذي يمنع من التعلم، فقال البخاري (وقالت عائشة رضي الله عنها: نِعْمَ النساءُ نساء الأنصار، لم يَمْنَعْهُن الحياءُ أن يتفقّهن في الدين).(كتاب العلم بصحيح البخاري ــ باب 50).
4 ــ طلب العلم في الصِّغر.
من أَجَلِّ نعمِ الله تعالى على عبد ٍ أن يوفِّقه لطلب العلم في الصِّغر، لما للتعلم في الصِّغر من فوائد هامة، منها: ــ
أ ــ أن الصغير أفرغ قلبا ووقتا، فيرسخ في نفسه مايتلقاه من العلم، ومن هنا قيل: إن التعلم في الصِّغر كالنقش على الحجر، وإن التعلم في الكِبَر كالنقش على الماء. والصغير أقدر على الحفظ من الكبير.(3/179)
ب ــ أن التفقه في الدين لابد له من طول المدة، أي التعلم لزمن طويل، نظراً لكثرة العلوم الشرعية وتشعبها وطولها، فكان التعلم في الصِّغر أعون على الإلمام بهذه العلوم بتفصيلاتها، التي يعسر الإلمام بها إذا ما تعلَّم في الكِبَر.
ولأهمية التعلم في الصِّغر لم يخل كتاب من الكتب التي تكلمت في موضوع العلم من التنبيه عليه، ومن هذا: ــ
أ ــ ما ذكره البخاري قال (قال عمر رضي الله عنه: تفقَّهوا قبل أن تَسودوا). قال البخاري: وبعد أن تسودوا، وقد تعلمَّ أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم في كِبَر سنِّهم. أهـ (كتاب العلم بصحيح البخاري ــ باب 15). والمقصود بالسيادة في قول عمر رضي الله عنه: الرياسة والولاية، وقد حَضَّ عمر على التفقّه قبلها لسببين، الأول: أن الولاية عادة ماتمنع من التعلم نظراً لشدة انشغال صاحبها مع أَنَفَتِه عن التعلم، والسبب الثاني: أن الجهل قبيح من صاحب الولاية مُهْلِك له ولغيره إذا سَاسَ الناس بغير علم. فإذا كان الصواب والأوْلي هو التعلم قبل السيادة فإن هذا لايكون إلا في الصِّغر.
ولئلا يفهم أحد من قول عمر أن السيادة مانعة من التفقه بإطلاق فقد عقَّب البخاري عليه قائلا (وبعد أن تسودوا) فمن فاته العلم قبل السيادة فلا يفوتنّه بعدها، ودَلّل البخاري على هذا بقوله (وقد تعلم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في كِبَر سِنّهم) فبيَّن أن كِبَر السن ليس مانعاً من التعلم وإن كان الأوْلى الشروع في هذا في الصِّغر. قال ابن حجر في شرح قول عمر رضي الله عنه (وقد فسّره أبو عبيد في كتابه «غريب الحديث» فقال: معناه تفقهوا وأنتم صغار، قبل أن تصيروا سادة فتمنعكم الأنفة عن الأخذ عمن هو دونكم فتبقوا جُهّالا) (فتح الباري) جـ 1 صـ 166.(3/180)
ب ــ وقال الخطيب البغدادي (ينبغي لمن اتسع وقته، وأصَحَّ الله له جسمه، وحَبَّب إليه الخروج عن طبقة الجاهلين، وألقى في قلبه العزيمة على التفقه في الدين أن يغتنم المبادرة إلى ذلك خوفا من حدوث أمر يقطعه عنه، وتجدد حال تمنعه منه. ثم روى الخطيب بإسناده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل وهو يعظه «اغتنم خمساً قبل خمس، شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك») (الفقيه والمتفقه) جـ 2 صـ 79.
وتكلّم بكلام قريب من هذا كل من:
أبو الحسن الماوردي رحمه الله، في كتابه (أدب الدنيا والدين) صـ 57.
وأبو عمر بن عبدالبر رحمه الله، في كتابه (جامع بيان العلم) في باب (فضل التعلم في الصِّغر والحضّ عليه)، جـ 1 صـ 81.
وابن خلدون رحمه الله، في (المقدمة) صـ 537 ــ 538.
وكما ترى فإن جميع من كتبوا في موضوع العلم من العلماء قد نبّهوا على أهمية الشروع في التعلم في الصِّغر، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
5 ــ تقليل العلائق:
وقد تحدثنا عنها في الفصل الأول من هذا الباب ضمن مايعين على الحرص على الوقت، وإنما أذكرها هنا لأنبه طالب العلم عليها فإنه أحوج إليها من العالم.
وكما ذكرنا فإن تقليل العلائق معين على:
أ ــ فراغ الوقت: وهو في غاية الأهمية لطالب العلم ويعينه على كثرة التحصيل.
ب ــ وفراغ القلب: وهو في غاية الأهمية لطالب العلم ويعينه على الفهم والحفظ.
جـ ــ والجهر بالحق: وهو من العمل بالعلم أيضاوبه يوفق اللهُ الطالبَ ويبارك في علمه.
أما عن كيفية تقليل العلائق فقد ذكرناها في الفصل الأول من هذا الباب (آداب يشترك فيها العالم والمتعلم).
6 ــ الصبر:(3/181)
ويقال فيه ما قيل في سابقه، فقد ذكرناه في الفصل الأول ونبهنا على أهميته لطالب العلم، ونؤكد على هذا هنا مرة أخرى، نظرا لشدة حاجة الطالب إلى الصبر لتحصيل العلم، فهو محتاج إلى الصبر على طول المدة اللازمة للتعلم، والصبر على ما يستغلق عليه فهمُه، والصبر على جفاء الأستاذ وشدته، والصبر على شظف العيش إن اضطر إليه ليتفرغ لطلب العلم، قال تعالى (قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمني مما عُلمت رشداً، قال إنك لن تستطيع معي صبراً وكيف تصبر على مالم تُحِط به خُبراً، قال ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا) الكهف، فلما طلب موسى عليه السلام التعلم، أرشده الخضر إلى أهم ما يلزم طالب العلم ألاوهو الصبر.
فهذه إشارة إلى أهم ما يلزم طالب العلم من آداب في نفسه.
******
القسم الثاني: آداب المتعلم مع شيخه
وفيه مسائل وهى:
1 ــ إحسان اختيار الشيخ المعلِّم:(3/182)
اعلم يا أخي المسلم أن شيخك الذي تأخذ عنه علم دينك هو دليلك إلى الجنة أو إلى النار، فأحْسِن اختيار الدليل، وقد قدمنا ما يبيِّن لك أهمية هذا الأمر وخطورته في الفصل الأول من هذا الباب تحت عنوان (إحسان اختيار مصدر العلم). كما قدمنا ما يعينك على التمييز بين العلماء الصالحين وعلماء السوء في الفصل الثاني من هذا الباب تحت عنوان (علامات العلماء الصالحين وعلماء السوء) فراجعه.قال الخطيب البغدادي رحمه الله (باب اختيار الفقهاء الذين يتعلم منهم: ينبغي للمتعلم أن يقصد من الفقهاء من اشتهر بالديانة، وعُرف بالستر والصيانة ــ إلى أن روى بإسناده ــ عن محمد بن سيرين قال «إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذوه». فيكون قد رسم نفسه بآداب العلم من استعمال الصبر والحلم، والتواضع للطالبين، والرفق بالمتعلمين، ولين الجانب، ومداراة الصاحب، وقول الحق، والنصيحة للخلق، وغير ذلك من الأوصاف الحميدة والنعوت الجميلة. ــ إلى أن قال ــ قال مالك بن أنس: إن هذا العلم دين فانظروا عن من تأخذون دينكم، لقد أدركت سبعين ممن يقول قال فلان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الأساطين وأشار إلى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فما أخذت عنهم شيئا، وإن أحدهم لو أوتمن على مال لكان أمينا لأنهم لم يكونوا من أهل هذا الشأن، ويقدم علينا محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب فيُزدَحم على بابه) (الفقيه والمتفقه) جـ 2 صـ 96 ــ 98.
2 ــ التواضع للشيخ المعلِّم:
ذكرنا التواضع في آداب الطالب في نفسه، ونذكره هنا للتنبيه على أهمية تواضع الطالب لشيخه، قال البخاري (وقال مجاهد: لايتعلم العلم مُسْتَحْي ٍ ولا مستكبر) (كتاب العلم بصحيح البخاري ــ باب 50).
3 ــ توقير الطالب للشيخ المعلم واحترامه له:(3/183)
ويدل عليه مارواه البخاري رحمه الله عن ابن عباس رضي الله عنهما قال (مكثتُ سنة أريد أن أسأل عمر بن الخطاب عن آية فما أستطيع أن أسأله هيبة له، حتى خرج حاجاً فخرجت معه، فلما رجعت وكنا ببعض الطريق، عدل إلى الأراك لحاجة له، قال فوقفت له حتى فرغ، ثم سرت معه فقلت له: ياأمير المؤمنين من اللتان تظاهرتا على النبي صلى الله عليه وسلم من أزواجه فقال: تلك حفصة وعائشة، قال فقلت: والله إن كنت لأريد أن أسألك عن هذا منذ سنة فما أستطيع هيبة لك، قال فلا تفعل، ماظننت أن عندي من علم فاسألني، فإن كان لي علم خبَّرتك به.) الحديث (4913).
قال النووي رحمه الله (وينبغي أن ينظر معلمه بعين الاحترام ويعتقد كمال أهليته ورجحانه على أكثر طبقته فهو أقرب إلى انتفاعه به ورسوخ ماسمعه منه في ذهنه، وقد كان بعض المتقدمين إذا ذهب إلى معلمه تصدَّق بشيء وقال اللهم استر عيب معلمي عني ولاتذهب بركة علمه مني، وقال الشافعي رحمه الله: كنت أصفح الورقة بين يدي مالك رحمه الله صفحا رفيقا هيبة له لئلا يسمع وقعها، وقال الربيع: والله مااجترأت أن أشرب الماء والشافعي ينظر إليّ هيبة له، وقال حمدان بن الأصفهاني: كنت عند شريك رحمه الله فأتاه بعض أولاد المهدي فاستند إلى الحائط وسأله عن حديث، فلم يلتفت إليه وأقبل علينا، ثم عاد لمثل ذلك فقال: أتستخف بأولاد الخلفاء، فقال شريك: لا ولكن العلم أجلّ عند الله تعالى من أن أضعه، فجثا على ركبتيه، قال شريك: هكذا يُطلب العلم.
وعن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه قال: من حق العالم عليك أن تسلم على القوم عامة وتخصه بالتحية، وأن تجلس أمامه، ولاتشيرن عنده بيدك، ولا تعمدن بعينك غيره، ولاتقولن قال فلان خلاف قوله، ولا تغتابن عنده أحدا، ولا تسار في مجلسه، ولاتأخذ بثوبه، ولا تلح عليه إذ كسل، ولاتشبع من طول صحبته فإنما هو كالنخلة تنتظر متى يسقط عليك منها شئ) (المجموع) جـ 1 صـ 36، والمهدي هو الخليفة العباسي.(3/184)
وقد أفرد الخطيب البغدادي بابا للمسألة بعنوان (باب تعظيم المتفقه الفقيه وهيبته إياه وتواضعه له) ذكر فيه حديث ابن عباس وأثر علي رضي الله عنهم. (الفقيه والمتفقه) جـ 2 صـ 98 ــ 99، وكذلك صنع ابن عبدالبر في باب (هيبة المتعلم للعالم) من (جامع بيان العلم) جـ 1 صـ 111.
ومن توقير العالم واحترامه: ــ
أ ــ أن تخفض صوتك في الحديث معه، واستدل بعض العلماء لهذا بقوله تعالى (ياأيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض) الحجرات 2. قال القرطبي (وكره بعض العلماء رفع الصوت في مجالس العلماء تشريفا لهم، إذ هم ورثة الأنبياء. وقال القاضي أبو بكر بن العربي: حرمة النبي صلى الله عليه وسلم ميتاً كحرمته حياً، وكلامه المأثور بعد موته في الرِّفعة مثالُ كلامه المسموع من لفظه، فإذا قرِيء كلامه وجب على كل حاضر ألا يرفع صوته عليه ولايَعرض عنه، كما كان يلزمه ذلك في مجلسه عند تلفظه به) (تفسير القرطبي) جـ16 صـ 307.
ب ــ ومن توقير الشيخ أن يجلس المتعلم بين يديه قعدة المتعلمين لا قعدة المعلِّمين فلا يمدّ رجله ولا يشيح بيده ولايتكيء ولايضحك ولايعبث.
جـ ــ ومن توقير الشيخ ألا يسبقه المتعلم بإجابة سؤال سائل، ونحو ذلك.
على أن ينبغي التنبيه على عدم المبالغة في توقير المشايخ بما يفضي إلى الغلوّ أو إلى الوقوع في محظور كاعتقاد عصمته وعدم مراجعته إذا أخطأ أو قبول آرائه بغير مستند شرعي ونحو ذلك.
4 ــ الصبر على الشيخ.(3/185)
قال النووي رحمه الله ــ في آداب المتعلم ــ (وينبغي أن يصبر على جفوة شيخه وسوء خلقه ولا يصده ذلك عن ملازمته واعتقاد كماله، ويتأول لأفعاله التي ظاهرها الفساد تأويلات صحيحة فما يعجز عن ذلك إلا قليل التوفيق، وإذا جفاه الشيخ ابتدأ هو بالاعتذار وأظهر أن الذنب له والعتب عليه فذلك أنفع له دينا ودنيا وأبقى لقلب شيخه، وقد قالوا من لم يصبر على ذل التعلم بقي عمره في عماية الجهل ومن صبر عليه آل أمره إلى عِزّ الآخرة والدنيا، ومنه الأثر المشهور عن ابن عباس رضي الله عنهما: ذللت طالبا فعززت مطلوباً) (المجموع) جـ 1 صـ 37 ــ 38.
5 ــ آداب الجلوس بين يدي الشيخ في مجلس العلم.
قال النووي رحمه الله (وألا يدخل عليه بغير إذن وإذا دخل جماعة قدموا أفضلهم وأسنهم.
وأن يدخل كامل الهيبة فارغ القلب من الشواغل متطهراً متنظفا بسواك وقص شارب وظفر وإزالة كريه رائحة.
ويسلم على الحاضرين كلهم بصوت يسمعهم إسماعا محققا: ويخص الشيخ بزيادة إكرام وكذلك يسلم إذا انصرف، ففي الحديث الأمر بذلك ولا التفات إلى من أنكره، وقد أوضحت هذه المسألة في كتاب الأذكار.
ولا يتخطى رقاب الناس ويجلس حيث انتهى به المجلس إلا أن يصرح له الشيخ أو الحاضرون بالتقدم والتخطي أو يعلم من حالهم إيثار ذلك، ولايقيم أحداً من مجلسه فإن آثره غيره بمجلسه لم يأخذه إلا أن يكون في ذلك مصلحة للحاضرين بأن يقرب من الشيخ ويذاكره مذاكرة ينتفع الحاضرون بها، ولايجلس وسط الحلقة إلا لضرورة، ولابين صاحبين إلا برضاهما، وإذا فسح له قعد وضَمَّ نفسه، ويحرص على القرب من الشيخ ليفهم كلامه فهما كاملا بلا مشقة وهذا بشرط ألا يرتفع في المجلس على أفضل منه.
ويتأدب مع رفقته وحاضري المجلس فإن تأدبه معهم تأدب مع الشيخ واحترام لمجلسه.
ويقعد قعدة المتعلمين لا قعدة المعلمين.(3/186)
ولا يرفع صوته رفعا بليغا من غير حاجة ولايضحك ولايكثر الكلام بلا حاجة، ولايعبث بيديه ولا غيرها ولايلتفت بلا حاجة بل يُقبل على الشيخ مصغيا إليه.
ولا يسبقه إلى شرح مسئلة أو جواب سؤال إلا أن يعلم من حال الشيخ إيثار ذلك ليستدل به على فضيلة المتعلم.
ولا يقرأ عليه عند شغل قلب الشيخ ومَلَله وغمه ونعاسه واستيفازه ونحو ذلك مما يشق عليه أو يمنعه استيفاء الشرح ولايسئله عن شيء في غير موضعه إلا أن يعلم من حاله أنه لايكرهه ولا يلح في السؤال إلحاحا مضجراً. ويغتنم سؤاله عند طيب نفسه وفراغه ويتلطف في سؤاله. ويحسن خطابه.
ولا يستحي من السؤال عما أشكل عليه بل يستوضحه أكمل استيضاح فمن رَقَّ وجهه رَقَّ علمه، ومن رق وجهه عند السؤال ظهر نقصه عند اجتماع الرجال.وإذا قال له الشيخ أفهمت فلا يقل نعم حتى يتضح له المقصود إيضاحا جليا لئلا يكذب ويفوته الفهم، ولايستحي من قوله لم أفهم لأن استثباته يحصل له مصالح عاجلة وآجلة، فمن العاجلة حفظه المسئلة وسلامته من كذب ونفاق بإظهاره فهم مالم يكن فهمه، ومنها اعتقاد الشيخ اعتناءه ورغبته وكمال عقله وورعه وملكه لنفسه وعدم نفاقه، ومن الآجلة ثبوت الصواب في قلبه دائما واعتياده هذه الطريقة المرضية والأخلاق الرضية) (المجموع) جـ 1 صـ 36 ــ 37.
فهذه إشارة إلى أهم ما يلزم طالب العلم من آداب مع شيخه، وليحرص الطالب على أن يتأدب بأدب شيخه من الهَدْى الصالح والسمت الحسن، ليحصِّل العلم والأدب معا من شيخه، وقد حكى بعض علماء السلف أنه كان يتردد على بعض الشيوخ أثناء طلبه للعلم وهو يعلم ما عندهم من العلم ولم يكن يتردد عليهم إلا ليتعلم منهم الأدب والخشوع والسمت الحسن، وهذا كان دأب السلف الصالح رحمهم الله.(3/187)
قال القاضي أبو يعلى رحمه الله (روى أبو الحسين بن المنادي بسنده إلى الحسين بن إسماعيل قال: سمعت أبي يقول «كنا نجتمع في مجلس الإمام أحمد زهاء على خمسة آلاف أو يزيدون، أقل من خمسمائة يكتبون، والباقي يتعلمون منه حُسْن الأدب وحُسْن السَّمْت» أهـ) نقلا عن مقدمة (شرح منتهى الإرادات) للشيخ البهوتي، ط دارالفكر، جـ 1 صـ 9.
******
القسم الثالث: آداب المتعلم في دَرْسِه
تحصيل الطالب للعلم الشرعي وبلوغه منزلة مَرْضية فيه له ست دعائم، لا تغني إحداها عن غيرها، وهي:
1 ــ التفرغ لطلب العلم، مع طول مدة الطلب، فإن لم يفعل فحظه من العلم قليل.
2 ــ الصبر، فإذا تيسر له التفرغ ولم يكن له صبر فلن يُحَصِّل العلم.
3 ــ الاشتغال بالأهم من العلوم، فإذا تيسر له التفرغ وصبر على التعلم، ثم اشتغل بعلوم غير أساسية كالتبحر في علوم التاريخ مع إهماله للعلوم الأساسية وهي التفسير والحديث والفقه، فهذا قد أهدر عمره.
4 ــ إحسان اختيار مصدر العلم: فيختار من الشيوخ أفضلهم علماً وديناً، ومن الكتب ما أثنى عليه الثقات. فإنه إذا تفرغ وصَبَر واشتغل بالأهم ثم أساء اختيار مصدر العلم فقد يضل ويزيغ وقد يذهب شطر عمره قبل أن يهتدي للصواب.
5 ــ التدرج في العلم: بأن يأخذ العلم شيئا فشيئا، ولا يأخذه دفعة واحدة فيثقل عليه فينقطع عنه، وهذا هو التّدرج في الكَمّ. كذلك لا يدرس علما حتى يدرس مقدماته أو يدرس العلم الممهِّد له، وهذا هو التدرج في الكيف.
6 ــ الحفظ: فإن قَدْر العالم بقدر محفوظاته، ولا وزن لمن إذا احترقت كتبه ذهب علمه. والحفظ يعتمد على النباهة والذكاء والسِّن، فإذا تيسرت لرجل الدعائم الخمس السابقة وأهدر الحفظ ــ خاصة مع قابليته له ــ فهو مغبون.
وقد تكلمنا عن الدعائم الأربعة الأولى من قبل، وسوف نتكلم فيما يلي بإذن الله عن الدعامتين الخامسة والسادسة مع غيرهما من آداب المتعلم في درسه، فتكون المسائل الآتي ذكرها هى:(3/188)
1 ــ التدرج في التعلم. ……2 ــ الحرص على طلب الحق.
3 ــ الاعتناء بالحفظ. ……4 ــ بيان ما يعين على الحفظ.
5 ــ أن ينصح لرفقته في طلب العلم. …6 ــ عدم التعجل في التصدي للإفتاء والتصنيف.
...........................................
أولا ــ التدرج في التعلم.
المقصود من التدرج في التعلم التيسير على المتعلم والرفق به حتى يستقر العلم في نفسه شيئاً بعد شئ. والتيسير والرفق مأمور بهما على العموم وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم (يسِّروا ولا تعسِّروا، وبشِّروا ولا تنفِّروا) الحديث متفق عليه، وقال صلى الله عليه وسلم (إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا يُنزع من شيء إلا شانه) رواه مسلم.
هذا على العموم، أما التدرج في التعلم على وجه الخصوص فدليله قوله تعالى (وقال الذين كفروا لولا نُزِّل عليه القرآن جملة واحدة، كذلك لنثبت به فؤادك ورتّلناه ترتيلا) الفرقان 032 وقوله تعالى (وقرآناً فرقناه لتقرأه على الناس على مُكثٍ ونزلناه تنزيلا) الإسراء 106. فالله تعالى لم ينزل القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم جملة واحدة وإنما فرقه فنزل منجماً على مدى ثلاث وعشرين سنة شيئا بعد شيء، ليثبت في القلوب.
فإذا ثبت أن التّدرج في التعلم صواب ومطلوب، فنقول إن التدرج نوعان: تدرج في الكمّ وتدرج في الكيف.
1 ــ التدرج في الكمّ ومعناه أن يدرس الطالب في كل يوم المقدار الذي يحتمله عقله ولا تملّه نفسه، وليكن هذا المقدارقليلا في البداية لتعويد النفس ثم يستزيد شيئا بعد شيء كلما تدربت نفسه على احتمال المزيد. فإن خالف هذا التدرج وأراد أخذ العلم جملة واحدة فربما انقطع ولم يحتمله عقله.
عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها وعندها امرأة، قال: من هذه؟ قالت: فلانة تَذْكُرُ من صلاتها، قال: (مه، عليكم بما تطيقون، فوالله لا يَمَلُّ اللهُ حتى تَمَلّوا)، وكان أحبُّ الدين إليه ماداوم صاحبه عليه. الحديث متفق عليه.(3/189)
روى أبو عمر بن عبد البر في باب (كيفية الرتبة في أخذ العلم) عن يونس بن يزيد قال: قال لي ابن شهاب (يا يونس لا تكابر العلم، فإن العلم أودية فأيها أخذت فيه قطع بك قبل أن تبلغه، ولكن خذه مع الأيام والليالي، ولا تأخذ العلم جملة، فإن من رام أخذه جملة ذهب عنه جملة، ولكن الشيء بعد الشيء مع الأيام والليالي) أ ّهـ (جامع بيان العلم) جـ 1 صـ 104.
هذا من ناحية التدرج فى التعلم من جهة الكمّ
2 ــ التدرج فى الكيف. وهو قسمان:
أحدهما: التدرج فى ترتيب العلوم: فلا ينتفع المرء بالتبحر فى دراسة أصول الفقه مثلاً قبل أن يدرس الفقه، فيجب عليه مراعاة الترتيب فى دراسة العلوم المختلفة. والصواب فى هذا أن يدرس مقدمة مختصرة فى الأصول ثم يدرس الفقه ثم يتوسع فى دراسة الأصول لتحصيل أدوات الاستنباط. وهكذا فى غيره من العلوم.
والثاني: التدرج فى دراسة كل علم على حدة: فيدرس في كل علم مختصراً يشتمل على أهم مسائله المتفق عليها بين العلماء، ثم يرتقى بعد ذلك إلى دراسة تفاريع المسائل والمختلف فيه والترجيح.
والتطبيقات العملية على هذا الكلام سنذكرها فيما نوصى به من كتب للدراسة في الباب السابع من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.
وقد أوصى بهذا التدرج في الكيف كلٌُ من أبي حامد الغزالي فى (إحياء علوم الدين) جـ 1 صـ 65 ــ 66، وابن خلدون في (المقدمة) صـ 533 ــ 536.
ثانيا ــ الحرص على طلب الحق.(3/190)
وهذا أمر يشبه إحسان اختيار مصدر العلم ولكنه غيره، فقد يُحسن العبد اختيار الشيخ أو الكتاب، ولكن وَلِهَوىً في نفسه يحمل مايتلقَّاه من العلم علي غير وجهه فلا يدرك الحق المراد منه، ومثال هذا ماوقع للخوارج فقد صاحبوا خير شيوخ أهل زمانه عليَّ بن أبي طالب رضي الله عنه، وقرأوا خير الكتب كتاب الله تعالى قراءة يحقر الصحابة رضى الله عنهم قراءتهم معها، لكنهم ضلوا ضلالا مبينا لأن قراءتهم لم تجاوز حناجرهم إلي الفهم والفقه، فَصَدَقَ فيهم قول الله تعالى (وننّزل من القرآن ماهو شفاء ورحمة للمؤمنين ولايزيد الظالمين إلا خساراً) الإسراء 82.
وما وقع للخوارج وقع لغيرهم من الفرق الضالة المبتدعة تأولوا القرآن على خلاف الحق وعلى خلاف مافهمه الصحابة والتابعون لهم بإحسان منه ليستدلوا به على باطلهم، ويروي عن ابن مسعود رضى الله عنه قوله (أنتم اليوم فى زمانٍ الهوي فيه تابع للعلم وسيأتي عليكم زمان يكون العلم فيه تابعا للهوى) (إحياء علوم الدين) جـ 1 صـ 96.
ولهذا ينبغى لطالب العلم أن يعتني بطلب الحق، ومما يعينه فى هذا:
1 ــ ألا يعتقد قبل أن يَسْتَدلّ، فإن المبتدعة اعتقدوا آراء فاسدة ثم بحثوا عن بعض الأدلة لتأييد معتقدهم، فوافقتهم بعض الأدلة واستعصت عليهم أخري فردّوها أو تأوّلوها على غير وجهها، فحملوا العلم علي أهوائهم.
2 ــ أن تبحث عن الدليل على صحة ماتتلقاه من العلم، فتقبل من الأقوال ماشهدت الأدلة بصحته وترد منها مالا يعضده الدليل. لقوله صلى الله عليه وسلم (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رَدُّ) الحديث رواه مسلم.(3/191)
3 ــ أن تفهم من الأدلة مافهمه السلف الصالح منها وهم الصحابة والتابعون لهم بإحسان رضى الله عنهم، فهذه طريقة أهل السنة والجماعة الفرقة الناجية. لامافهمه المبتدعة من الأدلة بتحريفها وتأويلها على غير وجهها. والطريق إلي معرفة مافهمه الصحابة من النصوص يكون بالرجوع إلى كتب التفسير بالمأثور، ودواوين السنة الأصلية كالكتب الستة والموطأ ومسند أحمد وشروحها.
وقال ابن تيمية رحمه الله (ولهذا تجد المعتزلة والمرجئة والرافضة وغيرهم من أهل البدع يفسرون القرآن برأيهم ومعقولهم وماتأولوه من اللغة، ولهذا تجدهم لايعتمدون على أحاديث النبى صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين وأئمة المسلمين، فلا يعتمدون لا على السنة، ولا على إجماع السلف وآثارهم، وإنما يعتمدون علي العقل واللغة، وتجدهم لايعتمدون علي كتب التفسير المأثورة والحديث، وآثار السلف وإنما يعتمدون على كتب الأدب وكتب الكلام التي وضعتها رؤوسهم، وهذه طريقة الملاحدة أيضا، إنما يأخذون مافي كتب الفلسفة، وكتب الأدب واللغة، وأما كتب القرآن والحديث والآثار، فلا يلتفتون إليها. هؤلاء يعرضون عن نصوص الأنبياء إذ هى عندهم لاتفيد العلم، وأولئك يتأولون القرآن برأيهم وفهمهم بلاآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وقد ذكرنا كلام أحمد فى إنكار هذا وجعله طريقة أهل البدع. وإذا تدبرت حججهم وجدت دعاوى لايقوم عليها دليل) (مجموع الفتاوي) جـ 7 صـ 199.(3/192)
4 ــ أن يُوطِّن الطالب نفسه على أن يثوب إلى الحق عندما يتبيّن له، ولا يصدَّنَّه عن ذلك كونه نشأ على خلاف الحق، كما لايصدَّنَّه عن ذلك كونه متبوعاً مطاعاً فى الباطل، فقد قال بعض الصالحين (لأن أكون ذَنَباً في الحق خيراً من أن أكون رأساً في الباطل). وقد قال تعالي (إن الذين اتقوا إذا مَسَّهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون) الأعراف 201، وقال تعالى (وإما يُنْسِيَنَّك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين) الأنعام 68.
وقد ذكر ابن تيمية رحمه الله أمثله لبعض الذين ثابوا إلى الحق فقال (وتجد عامة هؤلاء الخارجين عن منهاج السلف من المتكلمة والمتصوفة يعترف بذلك، إما عند الموت وإما قبل الموت، والحكايات في هذا كثيرة معروفة.
هذا أبو الحسن الأشعري: نشأ فى الاعتزال أربعين عاما يناظر عليه، ثم رجع عن ذلك وصرح بتضليل المعتزلة وبالغ في الرد عليهم.
وهذا أبو حامد الغزالي مع فرط ذكائه وتألهه ومعرفته للكلام والفلسفة، وسلوكه طريق الزهد والرياضة والتصوف، ينتهي فى هذه المسائل إلى الوقف والحيرة، ويحيل فى آخر أمره على طريقة أهل الكشف، وإن كان بعد ذلك رجع إلى طريقة أهل الحديث، وصنف «إلجام العوام عن علم الكلام».
وكذلك أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي قال في كتابه الذي صنفه فى أقسام اللذات: « لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية. فما رأيتها تشفى عليلا، ولاتروي غليلا، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن: أقرأ في الإثبات (الرحمن علي العرش استوى)، (إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه)، واقرأ في النفي (ليس كمثله شيء)، (ولايحيطون به علما)، (هل تعلم له سميا)، ثم قال: ومن جرب مثل تجربتى عرف مثل معرفتي وكان يتمثل كثيراً.
نهاية إقدام العقول عقال…وأكثر سعي العالمين ضلال
وأرواحنا فى وحشة من جسومنا……وحاصل دنيانا أذى ووبال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا……سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا(3/193)
وهذا إمام الحرمين ترك ماكان ينتحله ويقرره، واختار مذهب السلف وكان يقول: «يا أصحابنا لا تشتغلوا بالكلام ! فلو أني عرفت أن الكلام يبلغ بى إلى مابلغ مااشتغلت به»، وقال عند موته: «لقد خضت البحر الخضم، وخَلَّيت أهل الإسلام وعلومهم، ودخلت فيما نهوني عنه. والآن: إن لم يتداركني ربي برحمته فالويل لابن الجويني، وها أنا ذا أموت على عقيدة أمى.. أو قال ــ: عقيدة عجائز نيسابور».
وكذلك قال أبو عبد الله محمد بن عبد الكريم الشهرستاني: «أخبر أنه لم يجد عند الفلسفة والمتكلمين إلا الحيرة والندم»، وكان ينشد:
لعمري لقد طفت المعاهد كلها……وسيرت طرفى بين تلك المعالم
فلم أر إلا واضعا كف حائر …على ذقن، أو قارعاً سن نادم
وابن الفارض ــ من متأخرى الاتحادية ــ صاحب القصيدة التائية المعروفة «بنظم السلوك» وقد نظم فيها الاتحاد نظما رائق اللفظ، فهو أخبث من لحم خنزير في صينية من ذهب. وما أحسن تسميتها بنظم الشكوك ! الله أعلم بها وبما اشتملت عليه، وقد نَفَقَت كثيراً وبالغ أهل العصر فى تحسينها والاعتداد بما فيها من الاتحاد ــ لمّا حضرته الوفاة أنشد:
إن كان منزلتي فى الحب عندكم …ماقد لقيت فقد ضيعت أيامي
أمنية ظفرت نفسى بها زمناً …واليوم أحسبها أضغاث أحلام)
(مجموع الفتاوي) جـ 4 صـ 72 ــ 74.
فليحرص الطالب على طلب الحق، ولايقدِّم هواه ورأيه، بل يتبع الأدلة ويفهم منها مافهمه السلف الصالح.
ثالثا ــ الاعتناء بالحفظ
اعلم أن العلم المعتبر هو المحفوظ، وقد كانت عناية السلف رحمهم الله بالحفظ تامةً خاصة قبل شيوع كتابة العلم كما ذكرنا من قبل، ثم أخذوا فى الكتابة منذ أوئل القرن الثانى الهجرى لأجل تقييد المحفوظ ومراجعته، وظل الحفظ هو الأصل، وهو صفة هذه الأمة كما قال تعالى (بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم) العنكبوت 49.(3/194)
ومنزلة العبد فى الدنيا والآخرة بقدر مايحفظه من العلم ــ وقد سبق أن العلم المعتبر هو مايعمل به صاحبه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع به آخرين) الحديث رواه مسلم عن عمر رضى الله عنه، وهذا على العموم، أي في الدنيا والآخرة.
وقال صلى الله عليه وسلم (يقال لصاحب القرآن: اقرأ وارتق، ورتِّل كما كنت ترتِّل فى الدنيا، فإن منزلك عند آخر آية تقرؤها) رواه أبوداود والترمذى وقال حديث حسن صحيح عن عبد الله بن عمر رضى الله عنهما، فهذا في منزلة الحفّاظ فى الآخرة.
أما منزلتهم فى الدنيا، فكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله) الحديث رواه مسلم عن أبى مسعود رضى الله عنه.
وأما منزلتهم عند الموت، فكما ورد عن جابر رضى الله عنه قال (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لقتلي أُحُدٍ: أىُّ هؤلاء أكثرُ أخذاً للقرآن؟، فإذا أشير له إلى رجُلٍ قدَّمه فى اللحد قبل صاحبه) الحديث رواه البخاري.
هذا كله فى بيان أهمية الحفظ، وماتغني الكتب عن الرجل إذا احترقت أو سُرقت أو صار بمعزلٍ عنها، فيُحال بينه وبين علمه؟.(3/195)
قال أبو الفرج بن الجوزى رحمه الله ــ في كتابه «الحث على حفظ العلم» ــ (فإن الله عز وجل خَصَّ أمتنا بحفظ القرآن والعلم، وقد كان من قبلنا يقرأون كتبهم من الصحف، ولايقدرون على الحفظ، فلما جاء عزير فقد التوراة من حفظه، فقالوا: هذا ابن الله !؟ فكيف نقوم بشكر من خوّلنا أن ابن سبع سنين مِنّا، يقرأ القرآن عن ظهر قلب، ثم ليس فى الأمم ممن ينقل عن نبيه أقواله وأفعاله على وجه يحصل به الثقة إلا نحن، فإنه يَروي الحديث مِنا خالفٌ عن سالفٍ، وينظرون فى ثقة الراوي إلى أن يصل الأمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسائر الأمم يروون مايذكرونه عن صحيفة لايدري من كتبها، ولايعرف من نقلها، وهذه المنحة العظيمة نفتقر إلى حفظها، وحفظها بدوام الدراسة، ليبقى المحفوظ، ــ إلى أن قال ــ وفى الحديث: «يُقالُ لقاريء القرآن اقرأ، وارق، فمنزلك عند آخر آية تقرؤها»، وليس من حفظ نصف القرآن كمن حفظ الكل، ولا من حفظ مائة حديث كمن حفظ ألفاً. وعلى هذا فليس العلم إلا ما حصل بالحفظ.
قال عبد الرزاق بن همام: كل علم لايدخل مع صاحبه الحمام فلاتعده: وأنشد:
وليس بعلم ماحوى القمطر…ماالعلم إلا ماحواه الصدر)
(الحث علي حفظ العلم) لابن الجوزي، ط دار الكتب العلمية 1405 صـ 11 ــ 13. والبيت المذكور للخليل بن أحمد رحمه الله، ذكره ابن عبد البر (جامع بيان العلم) جـ 1 صـ 68.
وقال الماوردى رحمه الله (وربما استثقل المتعلم الدرس والحفظ، واتكل بعد فهم المعاني، على الرجوع إلى الكتب والمطالعة فيها عند الحاجة، فلا يكون إلا كمن أطلق ما صادَهُ ثِقة بالقدرة عليه، بعد الامتناع منه، فلا تُعْقِبه الثقة إلا خجلا، والتفريط إلا ندما. ــ إلى أن قال ــ والعرب تقول فى أمثالها حَرْفٌ في قلبك، خير من ألف في كتبك، وقالوا: لاخير في علم لايَعْبُرُ معك الوادي، ولايَعمُرُ بك النادي، وأنشدت عن الربيع، للشافعي رضى الله عنه:(3/196)
علمي معي حيثما يَمَّمْت يَتْبعنُى…قلبى وعاءٌ له لابطن صندوق
إن كنتُ فى البيت كان العلم فيه معيأو …كنت في السوق كان العلم في السوق)
(أدب الدنيا والدين) صـ 65. والأبيات المذكورة نسبها ابن عبد البر لمنصور الفقيه (جامع بيان العلم) جـ 1 صـ 69. وهذا كله فى بيان أهمية الحفظ.
رابعا ــ بيان مايُعين على حفظ العلم
اعلم أن الحفظ يعتمد على ركنين أساسيين:
أحدهما: تكرار الدرس مرات عديدة حتى يُحفظ.
والثاني: مراجعة المحفوظ كل فترة مناسبة حتى لايُنسى.
ولكل واحد من هذين الركنين أمور مساعدة على النحو التالي:
1 ــ الركن الأول للحفظ وهو التكرار حتى يَحْفظ، يُعين عليه
أ ــ التدرج فى مقدار مايريد حفظه، على النحو الذى ذكرناه آنفا في التدرج فى الكمِّ.
ب ــ فهم مايريد حفظه حتى يسهل عليه حفظه، ويستثنى من شرط الفهم تحفيظ القرآن للأطفال إذ قد درج المسلمون منذ القدم على تحفيظ الأطفال دون تفهيمهم المعاني للاستفادة من قابلية الأطفال الشديدة للحفظ في الصغر دون الفهم.
جـ ــ تكرار مايريد حفظه حتى يحفظه، قال ابن الجوزى رحمه الله (بيان طريق إحكام المحفوظ: الطريق فى إحكامه كثرة الإعادة، والناس يتفاوتون فى ذلك، فمنهم من يثبت معه المحفوظ مع قلة التكرار. ومنهم من لا يحفظ إلا بعد التكرار الكثير. فينبغي للإنسان أن يعيد بعد الحفظ ليثبت معه المحفوظ. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم « تعاهدوا القرآن فإنه أشد تفصيا من صدور الرجال من النَّعم مِن عَقْلها »0وكان أبو إسحاق الشيرازي: يعيد الدرس مائة مرة. وكان الكيا يعيد سبعين مرة. وقال لنا الحسن ابن أبي بكر النيسابوري الفقيه: لا يحصل الحفظ إلى حتى يعاد خمسين مرة.(3/197)
وحكى لنا الحسن: أن فقيهاً أعاد الدرس في بيته مراراً كثيرة، فقالت له عجوز في بيته قد والله حفظته أنا. فقال: أعيديه فأعادته فلما كان بعد أيام. قال: يا عجوز، أعيدي ذلك الدرس فقالت ما أحفظه. قال: أنا أكرر عد الحفظ لئلا يصيبني ما أصابك.) (الحث على حفظ العلم) صـ021
د ــ اختيار الوقت والمكان المناسبين للحفظـ. وقد أوصى العلماء ببعض الوصايا في هذا الشأن، ولكن مدار المسألة يعود إلى مراعاة نشاط النفس وفراغ القلب من الشواغل وهدوء المكان. ومما يرشد إلى الأوقات المناسبة قول النبي صلى الله عليه وسلم (إن الدين يسر، ولن يشادَّ الدين أحدٌ إلا غلبه، فسدِّدوا وقاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والرَّوحة وشيء من الدُّلجة) رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، وفي رواية له (سدِّدوا وقاربوا، واغدوا وروحوا وشيء من الدلجة، والقَصْد القصد تبلغوا).
قال النووي رحمه الله: (الغدوة) سَيْر أول النهار، و(الرَوْحة): آخر النهار، و(الدُّلْجة) آخر الليل، وهذا استعارة وتمثيل، ومعناه: استعينوا على طاعة الله بالأعمال في وقت نشاطكم، وفراغ قلوبكم بحيث تستلذون العبادة ولا تسأمون وتبلغون مقصودَكم، كما أن المسافر الحاذق يسير في هذه الأوقات ويستريح هو ودابته في غيرها، فَيَصلُ المقصودَ بغير تعب، والله أعلم. (رياض الصالحين ــ باب الاقتصاد في الطاعة).(3/198)
ومما أوصى به العلماء في أوقات الحفظ وأماكنه ما ذكره الخطيب البغدادي رحمه الله قال (اعلم أن للحفظ ساعات ينبغي لمن أراد الحفظ أن يراعيها وللحفظ أماكن ينبغي للمتحفظ أن يلزمها فأجود الأوقات الأسحار، ثم بعدها وقت انتصاف النهار، وبعدها الغدوات دون العشيات، وحفظ الليل أصلح من حفظ النهار، وقيل لبعضهم بم أدركت العلم؟ قال بالمصباح والجلوس إلى الصباح ــ إلى أن قال ــ وأجود أماكن الحفظ الغرف دون السفل، وكل موضع بعيد مما يلهي وخلا القلب فيه مما يفزعه فيشغله، أو يغلب عليه فيمنعه. وليس بالمحمود أن يتحفظ الرجل بحضرة النبات والخضرة ولا على شطوط الأنهار ولا على قوارع الطرق فليس يعدم في هذه المواضع غالبا ما يمنع من خلو القلب وصفاء السِّر.
وأوقات الجوع أحمد للتحفظ من أوقات الشبع، وينبغي للمتحفظ أن يتفقد من نفسه حال الجوع فإن بعض الناس إذا أصابه شدة الجوع والتهابه لم يحفظ، فليطفئ ذلك بالشئ الخفيف اليسير كمص الرمان وما أشبه ذلك، ولايكثر الأكل. ثم روى الخطيب بإسناده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (ما ملأ آدمي وعاءً شراً من بطنه، حسب ابن آدم أكلات يُقمن صلبه فإن كان لا محالة فثلثاً طعاماً، وثلثاً شراباً، وثلثاً لنفسه) (الفقيه والمتفقه) جـ 2 صـ 103 ــ 104. ونقله عنه النووي باختصار في (المجموع) جـ 1 صـ 37. ومعنى الغرف أي الحجرات العالية عن الأرض، والحديث المذكور (ما ملأ....) رواه الترمذي بلفظ قريب وقال حديث حسن.
2 ــ الركن الثاني للحفظ: مراجعة المحفوظ كل فترة مناسبة حتى لا يُنسى.
قال الزهري رحمه الله (إنما يُذْهِبُ العلمَ النسيانُ وقلة المذاكرة) أ هـ، رواه عنه بإسناده ابن عديّ في (الكامل في الضعفاء) جـ 1 صـ 59، ورواه ابن عبد البر في (جامع بيان العلم) جـ 1 صـ 108. ومما يعين على الاحتفاظ بالمحفوظ من العلم أمور أهمها: الكتابة، وتكرار المحفوظ، والعمل بالعلم، واجتناب المعاصي.(3/199)
أ ــ الكتابة: ونعني بها هنا أمرين:
أحدهما: أن يكتب الطالب بيده ما يحفظ في لوح أو ورق، كما يفعله الصبيان في مكتب تحفيظ القرآن، إذ يأمرهم المعلم بكتابة الآيات في اللوح، فهذه الكتابة مما يثبت الحفظ.
والثاني: أن يكون لدى الطالب كتاباً يحتوي على محفوظاته، إما من الكتب المتداولة الموثوق بصحتها، وإما ما كتبه بيده. ليرجع الطالب للكتاب إذا نسى بعض محفوظاته أو إذا اختلطت عليه. ويدل على أهمية هذا ما رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال (ما من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أحدٌ أكثر حديثا عنه مِنِّي، إلا ما كان من عبد الله بن عمرو، فإنه كان يكتُب ولا أكتبُ) (حديث 113). ومع هذا فإن أحاديث أبي هريرة المثبتة في دواوين السنة أكثر بكثير من أحاديث عبد الله بن عمرو لأسباب ذكرها ابن حجر، انظر (فتح الباري) جـ 1 صـ 207. ولكن قول أبي هريرة يدل على أهمية الكتابة في المحافظة على المحفوظ، ولهذا كان بعض السلف يقول: قيِّدوا العلم بالكتابة. قال الخطيب البغدادي (فإذا أتقن كل واحد منهم الدرس وحفظه فليكتبه، ويكون تعويله على حِفظه، فإن اضطرب عليه شيء من محفوظه رجع إلى كتابه فاستثبته منه. ثم روى الخطيب بإسناده عن الخليل بن أحمد قال: ما في الدفتر رأس مالك وما في قلبك التفقه، وأنشد:
ليس بعلمٍ ما حوى القمطر……ما العلم إلا ما وعاه الصدر)
(الفقيه والمتفقه) جـ 2 صـ 127.
ب ــ تكرار المحفوظ، أي مراجعة محفوظاته كل فترة مناسبة حتى لا ينساها، ولها صور:
* منها أن يكرر محفوظاته على نفسه.
* ومنها أن يكون له صاحب في طلب العلم يكرر كل منهما على الآخر ويصحح كل منهما للآخر خطأه، وهذا مما أُوصِى به لفائدته.(3/200)
* ومنها أن يتخذ التعليم وسيلة لتثبيت حفظه، فكلما علَّم غيره ماحفظه ثبت في قلبه، قال ابن عبد البر (قال الخليل بن أحمد: اجعل تعليمك دراسة لك، واجعل مناظرة العلم تنبيها بما ليس عندك، وأكثر من العلم لتَعْلَم، وأقلِل منه لتحفظ) (جامع بيان العلم) جـ 1 صـ 130. وروى ابن عبد البر عن الأعمش أن إسماعيل بن رجاء كان يجمع صبيان الكتّاب يحدثهم لئلا ينسى حديثه. وأن عطاء الخرساني كان إذا لم يجد أحداً أتى المساكين فحدثهم يريد بذلك الحفظ. (جامع بيان العلم) جـ 1 صـ 111.
جـ ــ العمل بالعلم، مما يثبته. روى ابن عبد البر عن وكيع قال (كنا نستعين على حفظ الحديث بالعمل به، وكنا نستعين على طلبه بالصوم) (جامع بيان العلم) جـ 2 صـ 132. وقال النووي ــ في آداب المتعلم ــ (وينبغي أن يستعمل ما يسمعه من أحاديث العبادات والآداب فذلك زكاة الحديث وسبب حفظه) (تدريب الراوي) جـ 2 صـ 144.
د ــ اجتناب المعاصي: من أسباب تثبيت الحفظ وقد سبق الكلام في هذا في أول آداب الطالب في نفسه، فإن العلم نور من الله، ونور الله لا يؤتاه عاص وإنما يؤتي الله نوره المتقين كما قال تعالى (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نوراً تمشون به) الحديد 28. وقال تعالى (ما يفتح الله للناس من رحمةٍ فلاممسك لها، وما يُمسك فلا مرسِلَ له من بعده) فاطر 2. وقال ابن عبد البر (وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: إني لأحسب الرجل ينسى العلم بالخطيئة يعملها، وإن العالم من يخشى الله، وتلا «إنما يخشى الله من عباده العلماء») (جامع بيان العلم) جـ 2 صـ 5. فاستعن على الحفظ بطاعة الله تعالى ولا تضيِّع علمك بالمعاصي.
وهذا كله في بيان ما يعين على حفظ العلم.
خامسا ــ نصح المتعلم لرفقته في طلب العلم.(3/201)
الصحبة الصالحة في طلب العلم من أعظم ما يعين الطالب في طلبه للعلم، وذلك بأن يكون له صاحب صالح أو أكثر يذاكر معه دروسه ويراجع عليه محفوظاته، فإذا أنعم الله تعالى على الطالب بهذا فينبغي أن يقوم مع أصحابه بآداب الصحبة في طلب العلم، ومنها ما ذكره النووي قال (وينبغي أن يرشد رفقته وغيرهم من الطلبة إلى مواطن الاشتغال والفائدة ويذكر لهم ما استفاده على جهة النصيحة والمذاكرة، وبإرشادهم يُبارَك له في علمه ويستنير قلبه وتتأكد المسائل معه مع جزيل ثواب الله عز وجل، ومن بخل بذلك كان بضده فلا يثبت معه وإن ثبت لم يثمر، ولا يحسد أحدا ً ولا يحتقره ولا يعجب بفهمه وقد قدمنا هذا في آداب المعلم.) (المجموع) جـ 1 صـ 039
ومن آداب الصحبة في طلب العلم أن يخبر الطالب أصحابه بما غابوا عنه من دروس الشيخ مما حضره هو، وقد بوّب البخاري على هذه المسألة في كتاب العلم من صحيحه، فقال: باب (التناوب في العلم)، وفيه روى عن عمر رضي الله عنه قال (كنت أنا وجارٌ لي من الأنصار في بني أمية بن زيد ــ وهى من عوالي المدينة ــ وكنّا نتناوب النزول على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ينزل يوما وأنزل يوماً، فإذا نزلت جئته بخبر ذلك اليوم من الوحي وغيره، وإذا نزل فعل مثل ذلك) الحديث (89). قال ابن حجر في شرحه (وفيه أن الطالب لا يَغْفَل عن النظر في أمر معاشه ليستعين على طلب العلم وغيره، مع أخذه بالحزم في السؤال عما يفوته يوم غيبته، لما عُلِمَ من حال عمر أنه كان يتعاني التجارة إذ ذاك) (فتح الباري) جـ 1 صـ 186.
سادسا ــ عدم التعجل في التصدي للإفتاء والتصنيف قبل الأهلية
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من أُفْتِىَ بغير علم كان إثمه على من أفتاه) الحديث رواه أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه بإسناد حسن.(3/202)
وقال الإمام مالك رحمه الله (من سُئل عن مسألة فينبغي له قبل أن يجيب فيها أن يعرض نفسه على الجنة والنار، وكيف يكون خلاصه في الآخرة ثم يجيب فيها) (اعلام الموقعين) جـ 4 صـ 218. ومصداق قول مالك من كتاب الله تعالى (مايلفظ من قولٍ إلا لديه رقيب عتيد) ق 18، وقال تعالى (ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم، يوم يقوم الناس لرب العالمين) المطففين 4ــ 6.
فاعلم يا أخي المسلم أن التصدي للإفتاء والتأليف أمر عظيم، ومن أصاب فيهما فأجره عظيم، ومن أقدم عليهما بغير علمٍ واكتمال أهلية وزره عظيم، بل عليه وزره ووزر من عمل بقوله الخطأ إلى يوم القيامة.
ثم اعلم أيضاً أن الإفتاء والتصنيف في العلوم الشرعية من فروض الكفاية، وإن كانت تتعين في أحوال.
وإنما قدّمت بهذا التمهيد لأُنَبِّه طالب العلم على ألا يتعجل فيتصدى لأمر لم يتأهل له، خاصة وأنني أرى اليوم عشرات الكتب لمؤلفين مشهورين وغير مشهورين مليئة بالأخطاء الشرعية بل بالضلالات بل بالكذب والتحريف المتعمد أحيانا، وستأتي الإشارة إلى بعض هؤلاء في الباب السابع الخاص بالكتب التي نوصي بها إن شاء الله، فلا تؤلف كتابا يكون زادك إلى النار، ولا تؤلف في أمر لم تستوعبه دراسةً ولا تؤلف في موضوع استوفى السلف دراسته ولن تأتي فيه بجديد بل قد تزِل فيه، وأنفع لك أن ترشد الناس إلى ما ألَّفه السلف في الموضوع من أن تكتب فيه.(3/203)
فإذا اقتضى الأمر التصنيف واكتملت الأهلية لذلك، فإن نفعه عظيم للطالب قبل غيره إذ يدعوه التصنيف إلى مزيد من البحث والتنقيب بما يعود عليه بالفائدة الجليلة. وفي هذا يقول النووي رحمه الله ــ في آداب المتعلم ــ (فإذا فعل ما ذكرناه وتكاملت أهليته واشتهرت فضيلته اشتغل بالتصنيف وجَدّ في الجمع والتأليف محققا كل ما يذكره متثبتا في نقله واستنباطه متحريا إيضاح العبارات وبيان المشكلات مجتنبا ً العبارات الركيكات والأدلة الواهيات، مستوعبا ً معظم أحكام ذلك الفن غير مخل بشيء من أصوله منبها على القواعد فبذلك تظهر له الحقائق وتنكشف المشكلات ويطلع على الغوامض وحل المعضلات ويعرف مذاهب العلماء والراجح والمرجوح ويرتفع عن الجمود على محض التقليد ويلتحق بالأئمة المجتهدين أو يقاربهم إن وُفِق لذلك وبالله التوفيق) (المجموع) جـ 1 صـ 039
وقال النووي أيضا ــ في كتابه «التقريب» في آداب طالب الحديث ــ (وليشتغل بالتخريج والتصنيف إذا تأهَّل له، وليعتنِ بالتصنيف في شرحه وبيان مُشْكِلهِ مُتْقَناً واضحا، فقلما يمهر في علم الحديث من لم يفعل هذا). قال السيوطي في شرحه (قال الخطيب: لا يتمهر في الحديث ويقف على غوامضه، ويستبين الخفي من فوائده إلا من جمع متفرقه، وألف مشتته، وضم بعضه إلى بعض، فإن ذلك مما يقوي النفس، ويثبت الحفظ، ويذكي القلب، ويشحذ الطبع، ويبسط اللسان ويجيد البيان، ويكشف المشتبه ويوضح الملتبس. ويكسب أيضا جميل الذكر ويخلده إلى آخر الدهر،
كما قال الشاعر:
يموت قومٌ فيحي العلم ذكرهم……والجهل يجعل أحياءً كأمواتِ) أهـ.
(تدريب الراوي) جـ 2 صـ 152 ــ 153.
وبهذا نختم الكلام في آداب المتعلم في درسه وتعلُّمِهِ، وبه نختم هذا الفصل الخاص بآداب المتعلم.
******
خاتمة الباب الرابع(3/204)
عقدنا هذا الباب لبيان آداب العالم والمتعلم، وقسّمناه إلى ثلاثة فصول، الأول منها كان لبيان الآداب المشتركة بين العالم والمتعلم، والثاني كان لبيان آداب العالم في نفسه وفي تدريسه ومع طلابه، مع بيان علامات العلماء الصالحين وعلماء السوء، أما الفصل الثالث فذكرنا فيه آداب طالب العلم في نفسه ومع شيخه ثم في درسه.
وذلك أننا كنا قد ذكرنا حكم طلب العلم في الباب الثاني، وبيّنا كيفية طلب العلم في الباب الثالث، ولما كان لطلب العلم آداب حتى يؤتي الطلب ثمرته فكان هذا الباب الرابع لبيان هذه الآداب. وبالله التوفيق.
الباب الخامس
أحكام المفتي
والمستفتي وآدابهما
الباب الخامس
أحكام المفتي والمستفتي وآدابهما
تقدم في الباب الثاني من هذا الكتاب (حكم طلب العلم) أن العلم منه ماهو فرض عين ومنه ماهو فرض كفاية. وأن فرض العين من العلم قسمان: منه مايجب تعلمه ابتداء وهى فروض العين من العبادات وما يزاوله العبد عادة من المعاملات، ومنه مايجب معرفة حكمه عند حدوثه إذا حدث وهى النوازل.
(التدريس والإفتاء)
فما يجب تعلمه ابتداء من فرض العين، وكذلك فرض الكفاية من العلم، فموضوعه التدريس، ويقوم به العالم المعلِّم.
وما يجب معرفة حكمه عند حدوثه وهى النوازل، فموضوعه الإفتاء، ويقوم به الفقيه المفتي. كذلك فإن من أهمل تعلم مايجب عليه عينا ابتداء فإنه يسأل المفتي عنه.
والفرق بين التدريس والإفتاء من وجهين:
الوجه الأول: من جهة علاقة الأحكام بالواقع.
فالمدرس: يذكر الأحكام مجردة، أما المفتي: فإنه ينزل الأحكام على وقائع معينة هى النازلة المسئول عن حكمها وهذا يحتاج إلى تبصر زائد عن حفظ الأحكام. (الرد على من أخلد إلى الأرض) للسيوطي، صـ 179.
والوجه الثاني: من جهة البسط والاختصار.(3/205)
فالتدريس: يعتمد على بسط الموضوعات واستيعاب مسائلها وذكر أدلتها وتفنيد آراء المخالفين على وجه يحصل معه إحاطة الطالب بالموضوع واستيعابه لمسائله. وقد يكون التدريس ابتداء من المعلِّم أو جوابا على سؤال الطالب.
أما الإفتاء: فلا يكون ابتداء وإنما إجابة على السؤال فقط، وهو يعتمد على الاختصار بذكر الحكم في مسألة معينة هى النازلة المسئول عنها، فإن بَسَط المفتي الجواب وفصَّل لغير ضرورة يقتضيها السؤال أو حال السائل فقد تحوّل إلى التعليم والتدريس.
قال أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله (بلغنا عن القاضي أبي الحسن الماوردي صاحب كتاب «الحاوى»، قال: إن المفتي عليه أن يختصر جوابه فيكتفي فيه بأنه يجوز أو لا يجوز، أو حق أو باطل، ولايعدل إلى الإطالة والاحتجاج ليفرِّق بين الفتوى والتصنيف، قال: ولو ساغ التجاوز إلى قليل لساغ إلى كثير ٍ، ولصار المفتي مُدَرِّسا ً، ولكل مقام مقال) أهـ (أدب المفتي والمستفتي) لابن الصلاح، صـ 141.
والعالم قد يكون معلماً في حال، وقد يكون مفتيا في حال آخر، وقد يجتمع له الحالان في المجلس الواحد.
أما مايتعلق بالتدريس من آداب تلزم العالم والمتعلم فقد سبق بيانها في الباب الرابع السابق.
وأما الإفتاء ومايتعلق به من أحكام وآداب فهو موضوع هذا الباب الخامس.
(المصادر الأساسية لهذا الباب)
أقدم ماوصلنا من المصنفات في أحكام المفتي والمستفتي هو كتاب (أدب المفتي والمستفتي) لأبي القاسم الصَّيْمَرِي الفقيه الشافعي المتوفي 386 هـ، وهو من شيوخ القاضي أبي الحسن الماوردي صاحب الأحكام السلطانية (ت 450 هـ).
ثم تناول بعض أحكام المفتي والمستفتي كلا من: الخطيب البغدادي (ت 463 هـ) في كتابه (الفقيه والمتفقِّه)، وأبو عمر بن عبدالبر (ت 463 هـ) في كتابه (جامع بيان العلم).(3/206)
وكعادته في جمع فوائد كتب المتقدمين جاء المحدِّث المشهور أبو عمرو بن الصلاح (ت 643 هـ) وجمع الفوائد التي أوردها الصَّيْمَرِي والخطيب وابن عبدالبر في كتابه (أدب المفتي والمستفتي)، وإن كان جُلّ اعتماده على كتاب الصيمري، وزاد على مافي هذه الكتب الثلاثة المتقدمة من كلام الماوردي والجويني وغيرهما مع ترجيحه لبعض الآراء في بعض المواضع. وطبعة (أدب المفتي) لابن الصلاح التي ننقل عنها في هذا الباب مطبوعة بتحقيق الدكتور موفق بن عبدالله بن عبدالقادر، ط مكتبة العلوم والحِكمَ بالمدينة، وعالم الكتب، الطبعة الأولى 1407هـ.
وكما صار كتابُهُ (مقدمة ابن الصلاح في علوم الحديث) أساسا لكل من كتب بعده في هذا الفن، فتناولوه بالشرح تارة وبالاختصار تارة وبالنظم تارة أخرى. فكذلك صار كتابه (أدب المفتي والمستفتي) أساسا ً لكل من كتب بعده في هذا الفن، ولعل هذا من حُسْن نَّيتِهِ أن كَتَبَ الله تعالى لكُتَُبه القبول في المسلمين فيجري عليه مثل ثواب كل من انتفع بكتبه إلى يوم القيامة، والله يرزق من يشاء بغير حساب.
وقد اعتمد على كتاب ابن الصلاح (أدب المفتي والمستفتي) ممن جاء بعده، كل من: ــ
1 ــ الإمام النووي (ت 676 هـ) حيث اختصر مسائل كتاب (أدب المفتي والمستفتي) لابن الصلاح، ولم يخرج عنها أو يخالفها إلا في القليل النادر، وأوردها في مقدمة كتابه (المجموع شرح المهذب) جـ 1 صـ 40 ــ 58 بعنوان (باب آداب الفتوى والمفتي والمستفتي) طبعة دار الفكر.
2 ــ العلامة ابن حمدان الحنبلي (ت 695 هـ) حيث أخذ كثيراً من مسائل كتاب (أدب المفتي والمستفتي) لابن الصلاح، وإن لم ينسبها ابنُ حمدان له، وأضاف عليها ابن حمدان مسائل خاصة باصطلاحات المذهب الحنبلي، وذلك في كتابه (صفة الفتوى والمفتي والمستفتي) وقد طبعه المكتب الإسلامي (ط 4، سنة 1404هـ).(3/207)
3 ــ شيخ الإسلام ابن تيمية (728 هـ) نقل في (مسودة الأصول) مسائل عن ابن الصلاح مثل أقسام المفتين.
4 ــ الإمام ابن القيم (ت 751 هـ). أخذ ابن القيم معظم مسائل كتاب ابن الصلاح وبعض المسائل عن ابن حمدان وعن ابن عبدالبر. وخلافا للنووي وابن حمدان لم يكتف ابن القيم بالنقل المجرد عن ابن الصلاح بل ناقش وانتقد ورجَّح، وأضاف الكثير من عنده. وقد أورد هذه المسائل ضمن الجزء الرابع من كتابه اعلام الموقعين صـ 157 ــ 266، بعنوان (فصل في فوائد تتعلق بالفتوى)، مطبوع بتحقيق محمد محيي الدين عبدالحميد.
5 ــ كذلك فقد نقل عن ابن الصلاح القاضي برهان الدين بن فرحون المالكي (ت 799 هـ) في كتابه (تبصرة الحكام) وإن كان كتابه في أحكام القضاء لا الإفتاء.
6 ــ الحافظ السيوطي 911هـ، في كتابه (الرد على من أخلد إلى الأرض وجهل أن الاجتهاد في كل عصر فرض)، وطبعته عندي ط دار الكتب العلمية 1403هـ.
فرحمة الله عليهم جميعا، وجمعنا الله وإياهم في دار الخلد والنعيم.
وبعد، فهذه المصادر هى أهم ماكُتب في أحكام المفتي والمستفتي بالإضافة إلى كتب أصول الفقه التي تفرد عادة بابا لأحكام الاجتهاد والإفتاء والتقليد.
ونحن في هذا الباب سيكون جُلّ اعتمادنا على كتاب (أدب المفتي والمستفتي) لابن الصلاح، وعلى الفصل الخاص بآداب الفتوى في اعلام الموقعين لابن القيم، هذا بالإضافة إلى بعض المصادر الأخرى التي سنذكرها إن شاء الله في مواضعها. وقد ننقل عن النووي أحيانا إذا كانت عبارته في اختصار كلام ابن الصلاح أوجز أو أوضح في بيان المراد.
أما عملنا في هذا الباب فيتركز في أمرين:
أحدهما: إعادة ترتيب مسائل الموضوع بجمع النظائر التي وردت متناثرة في كتب السلف تحت عنوان واحد.
والثاني: ذكر بعض الأدلة لترجيح قول على قول في بعض المواضع.(3/208)
والمقصد الأساسي من إيراد هذا الباب (أحكام المفتي والمستفتي وآدابهما) في كتابنا هذا، هو توجيه نظر المسلمين لخطورة هذا الأمر من وجوه:
أحدها: تعريف المسلمين بأن الإفتاء منصب لا بد له من أهلية معينة، فلا يقدم عليه كل من شاء، ولا يستفتي المسلم كلَ من شاء.
والثاني: تعريف المسلمين بوجوب الاستفتاء في النوازل وفي كل ما يجهلونه مما يجب عليهم معرفته، حتى لا يقدموا على عمل بغير علم فهذا محرم بالإجماع كما ذكرناه في الباب الثاني من وجوب العلم قبل العمل، إذ ْ قد غفل كثيرٌُ من المسلمين عن هذا الواجب.
والثالث: بيان مايلزم كل مِن المفتي والمستفتي مِن أحكام وآداب.
وسوف يشتمل هذا الباب إن شاء الله تعالى على فصلين:
الفصل الأول…: في أحكام المفتي وآدابه.
والفصل الثاني…: في أحكام المستفتي وآدابه.
والله تعالى المستعان وهو حسبنا ونعم الوكيل، ونشرع في بيان المراد بحوله تعالى وقوته.
الفصل الأول
أحكام المفتي وآدابه
تندرج مسائل هذا الفصل تحت ستة أقسام، وهى:
1 ـــ تعريفات هامة.……2 ـــ حكم الإفتاء.
3 ـــ صفة المفتي وشروطه.
4 ـــ مراتب المفتين.
5 ـــ وجوب الإفتاء بالحق وبالأقوال الراجحة.
6 ـــ أحكام الفتوى وآدابها.
******
القسم الأول: تعريفات هامة
يشتمل هذا القسم على مسألتين:
الأولى: تعريف معنى الإفتاء والمفتي والمستفتي والفتوى والاستفتاء والاجتهاد.
والثانية: الفرق بين الإفتاء والقضاء.
المسألة الأولى: التعريفات.
1 ــ الإفتاء: هو إجابة المفتي المستفتي بإخباره عن حكم مسألته.
أو إخبار المفتي المستفتي عن حكم مسألته.
أو إخبار المفتي المستفتي عن الواجب في الواقع، والواجب: هو الحكم الشرعي،والواقع: هو الحادثة المسئول عنها.
2 ــ المفتي: هو الفقيه المسئول المُخبِر عن الحكم الشرعي.
3 ــ المستفتي: هو السائل الذي يسأل المفتي، عاميا ً كان المستفتي أو فقيها.
4 ــ الاستفتاء: هو سؤال المستفتي عن حكم مسألته.(3/209)
5 ــ الفتوى: هى مايجيب به المفتي المستفتي، أو هى الحكم الشرعي في المسألة.
وأحيانا تستخدم الفتوى والإفتاء بمعنى واحد، ولكن على التحقيق معناهما كما سبق.
6 ــ الاجتهاد:
أ ــ في اللغة: مأخوذ من الجهد وهو المشقة والطاقة، فالاجتهاد في اللغة عبارة عن بذل المجهود واستفراغ الوسع في فعل من الأفعال، ولايستعمل إلا فيما فيه كلفة وجهد، فيقال اجتهد في حمل حجر الرَّحا ولايقال اجتهد في حمل خردلة.
ب ــ وفي الاصطلاح: الاجتهاد هو بذل الفقيه الوسع في نَيْل حكم شرعي عملي بطريق الاستنباط، والاجتهاد التام أن يبذل الوسع في الطلب بحيث يحس من نفسه بالعجز عن مزيد طلب.
فقولنا (بذل الفقيه) ليخرج غير الفقيه، فمهما بذل وسعه لايمسى فعله اجتهادا ً، والفقيه هو من تحققت فيه شرائط الاجتهاد على الصفة التي سيأتي ذكرها في (صفة المفتي) إن شاء الله.
وقولنا (بذل الوسع) ليخرج مايحصل مع التقصير، فإن المجتهد إن قصَّر في الاجتهاد يأثم.
وقولنا (حكم شرعي) ليخرج الحكم اللغوي والعقلي والحسِّي فلا يسمى من بذل وسعه في تحصيلها مجتهداً اصطلاحا.
وقولنا (عملي) ليخرج الحكم العلمي، فلا يسمى بذل الوسع في استنباطه اجتهادا ً عند الفقهاء، وإن كان يسمى اجتهادا ً عند المتكلمين.
وقولنا (بطريق الاستنباط) ليخرج نيل الأحكام من النصوص ظاهراً، أو حفظ المسائل، أو استعلامها من المفتي، أو بالكشف عنها في كتب العلم، فإن ذلك وإن كان يصدق عليه الاجتهاد اللغوي فإنه لايصدق عليه الاجتهاد الاصطلاحي.
7 ــ المجتهد: هو الفقيه المستفرغ لوسعه في تحصيل الأحكام الشرعية العملية بطريق الاستنباط، ولابد أن يكون بالغا عاقلا قد ثبتت له مَلَكة يقتدر بها على استخراج الأحكام من مآخذها. وإنما يتمكن من ذلك بشروط سيأتي ذكرها إن شاء الله في القسم الثالث من هذا الفصل (صفة المفتي وشروطه).(3/210)
والأصل في المفتي أن يكون مجتهدا ً. ويجوز استفتاء من قصَّر عن هذه الرتبة كما سيأتي ذكره إن شاء الله في القسم الرابع من هذا الفصل (مراتب المفتين).
وما سبق من تعريف الاجتهاد والمجتهد مقتبس من (المستصفى) للغزالي جـ 2 صـ 350، و(ارشاد الفحول) للشوكاني صـ 232 ــ 233.
المسألة الثانية: الفرق بين الإفتاء والقضاء.
سبق تعريف الإفتاء وأنه إجابة المفتي المستفتي عن حكم مسألته، أو هو الإخبار عن الحكم الشرعي في المسألة.
أما القضاء: فهو الإخبار عن الحكم الشرعي على سبيل الإلزام.
إذن فالمفتي والقاضي كلاهما مخبر عن الحكم الشرعي، ويزيد القاضي أن خبره مرتبط به إلزام، ومعنى الإلزام الأمر بتنفيذ الحكم.(أدب المفتي والمستفتي) لابن الصلاح صـ 106، و(اعلام الموقعين) لابن القيم جـ 1 صـ 36 ــ 38.
قال ابن فرحون المالكي رحمه الله (قال ابن رشيد: حقيقة القضاء الإخبار عن حكم شرعي على سبيل الإلزام. قال غيره: ومعنى قولهم قضى القاضي أي ألزم الحق أهله، والدليل على ذلك قوله تعالى « فلما قضينا عليه الموت» أي ألزمناه وحتَّمنا به عليه، وقوله تعالى « فاقض ماأنت قاض» أي ألزِم بما شئت واصنع ما بدا لك) (تبصرة الحكام) لابن فرحون، ط مكتبة الكليات الأزهرية 1406هـ، جـ 1 صـ 11. وقال ابن فرحون أيضا (وأما فيما عدا التنفيذ فالحاكم والمفتي فيه سواء) (تبصرة الحكام) جـ 1 صـ 131. ومعنى (الحاكم) أي القاضي كما في قوله صلى الله عليه وسلم (إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب...) الحديث متفق عليه.
وقال النووي رحمه الله (قال الزهري رحمه الله تعالى: القضاء في الأصل إحكام الشئ والفراغ منه، ويكون القضاء إمضاء الحكم، ومنه قوله تعالى «وقضينا إلى بني إسرائيل». وسُمِّي الحاكمُ قاضيا لأنه يُمضي الأحكام ويُحكمها. ويكون قضى بمعنى أوجب.
فيجوز أن يكون سُمي قاضيا لإيجابه الحكم على من يجب عليه.(3/211)
وسمي حاكما لمنعه الظالم من الظلم، يقال حكمتُ الرجلَ وأحكمته إذا منعته، وسُميت حكمة الدابة لمنعها الدابة من ركوبها رأسها، وسميت الحكمة حكمة لمنعها النفس من هواها) (صحيح مسلم بشرح النووي) جـ 12 صـ 2.
فالفرق الأساسي بين الإفتاء والقضاء هو في الإلزام وعدمه، فالمفتي يُخبر السائل عن الحكم الشرعي في مسألته ولكن لايأمر بتنفيذ هذا الحكم، أما القاضي فهو يخبر الخصوم بالحكم الشرعي في الدعوى ويأمر أهل الشوكة (من الشُّرَط وغيرهم) بتنفيذ الحكم. إلا أن هناك فروقا أُُخَر بين الإفتاء والقضاء ولكنها مترتبة على الإلزام من عدمه، إذ لما كان حكم القاضي واجب النفاذ ترتب على هذا التشديد في صفات القاضي والتشديد في قبوله أقوال الخصوم، وعلى هذا يمكن إجمال الفروق بين الإفتاء والقضاء فيما يلي:
1 ــ الإلزام: وقد سبق بيان معناه. وملخصه أن القاضي يأمر بتنفيذ ماحكم به، أما المفتي فلا يأمر بتنفيذ ماأفتى به. ولكن هل فتوى المفتي مُلْزِمة للسائل ديانة ً وإن لم يُلزم بها قضاءً؟ فيها تفصيل سيأتي ذكره في الفصل التالي (أحكام المستفتي) إن شاء الله.
2 ــ صفات المفتي والقاضي: ترتب على كون حكم القاضي مُلزِما ً واجب النفاذ التشديد في شروط القاضي.
فالمفتي والقاضي كلاهما يجب أن يكون: مسلماً، بالغا ً، عاقلاً، عدلاً، عالما ً (العلم الذي يتمكن معه من الاجتهاد في الشريعة). ثم يختلفان في ثلاثة شروط وهى:
الحرية: فالقاضي يشترط أن يكون حرا ً، أما المفتي فلا يشترط، ففتوى العبد صحيحة وجائزة مادام عدلا عالما.
الذكورة: فالقاضي يشترط أن يكون ذكراً عند جمهور العلماء وهو الراجح لقوله صلى الله عليه وسلم (لن يفلح قوم وَلّوا أمرهم امرأة) رواه البخاري، والقضاء ولاية، أما المفتي فلا يشترط فيه الذكورة، ففتوى المرأة جائزة ودواوين السنة مشحونة بأسئلة الصحابة والتابعين لعائشة وغيرها من أمهات المؤمنين رضي الله عنهن، وهذا إفتاء منهن.(3/212)
سلامة الحواس: كالبصر مشترطة في القاضي بالإجماع، أما المفتي فلا، فتجوز فتوى الأعمى والأخرس على ماسيأتي بيانه في صفة المفتي وشروطه، (أدب المفتي) لابن الصلاح صـ 106 ــ 107.
3 ــ النظر في طرق الإثبات الشرعية: نظراً لما يترتب على حكم القاضي من إلزام الخصوم بحكمه وتنفيذه فيهم فإنه يجب عليه أن يتثبت في قبول أقوالهم مالا يجب على المفتي، فيجب على القاضي احضار المدعي عليه بجانب المدعي، ويسألهما عن البينات والشهود وينظر في عدالة الشهود ويطلب اليمين ممن وجبت عليه، ثم يفصل في الدعوى على الوجه المفصل في كيفية القضاء. أما المفتي فإنه يقبل قول السائل ولايطلب منه شهودا ً ولايمينا ً ولايطلب المفتي من السائل إحضار بقية أطراف المسألة ليتحقق مما نُسب إليهم، وكل ما يفعله المفتي ليحترز من احتمال خطأ السائل أن يقول المفتي في أول جوابه (إن كان الأمر كما قال السائل فالجواب كذا وكذا.).
4 ــ فيمن يفتيه أو يحكم له: يجوز للمفتي أن يفتي نفسه أو قريبه وشريكه، ولايجوز للقاضي أن يحكم لنفسه أو لقريبه. وسيأتي تفصيل ذلك في حكم الإفتاء إن شاء الله.
5 ــ فيمن يتناوله قول كل منهما: قال ابن القيم رحمه الله (ولكن خطر المفتي أعظم من جهة أخرى، فإن فتواه شريعة عامة تتعلق بالمستفتي وغيره، وأما الحاكم فحكمه جزئي خاص لايتعدى إلى غير المحكوم عليه وله، فالمفتي يفتي حكما عاماً كلياً أن من فعل كذا ترتب عليه كذا، ومن قال كذا لزمه كذا، والقاضي يقضي قضاء معيناً على شخص معين، فقضاؤه خاص مُلزم، وفتوى العالم عامة غير ملزمة فكلاهما أجره عظيم، وخطره كبير) (اعلام الموقعين) 1/38.
6 ــ موضوعات الشريعة التي يتناولها كل منهما: المفتي يمكن أن يفتي في أي موضوع من موضوعات الشريعة فيفتي في مسائل الاعتقاد والتفسير وفي أحكام العبادات والمعاملات وغيرها.كما يشهد بذلك ــ على سبيل المثال ــ مجموع فتاوي شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.(3/213)
أما القاضي: فلا دخل له في المسائل العلمية المتنازع فيها، ولا يجوز أن يُلزم أحدا ً باجتهاده فيها بغير حجة من كتاب أو سنة أو إجماع. هذا ماذكره ابن تيمية (مجموع الفتاوي) جـ 3 صـ 238 ــ 240. وقال القرافي (اعلم أن العبادات كلها على الاطلاق لايدخلها الحكم البته بل الفتيا فقط) (الفروق) جـ 4صـ 48. وماقاله القرافي رحمه الله ليس على إطلاقه فقد استثنى هو منه بعض الصور كنصب الحاكم لأئمة الصلوات أو منعه للصلاة في بعض المواضع وأخذ الحاكم للزكاة في مواطن الخلاف. ويضاف إلى ماذكره حكم القاضي بالردة على جاحد العبادات أو تارك بعضها، وحكم الحكمين على المحرِم إذا قتل الصيد، وهذه كلها من مسائل العبادات. فالقاضي ليس له كثير تعلق بمسائل الاعتقاد والعبادات وإنما موضوعه الأساسي: المعاملات كالحقوق المالية بأنواعها والنكاح وتوابعه والحدود.
فهذه هى أهم الفروق بين الإفتاء والقضاء. فالفتيا أوسع من القضاء من جهة موضوعها وشروطها ومن تتناوله، والقضاء أوسع من جهة اشتماله على الفتيا مع الإلزام بها.
******
القسم الثاني: حكم الإفتاء
يشتمل هذا القسم على موضوعين أساسيين: أحدهما هو الحكم الأصلي للإفتاء، والثاني: أحكام فرعية للإفتاء، وفي كل منهما مسائل.
الموضوع الأول:الحكم الأصلي للإفتاء.
1 ــ الحكم الأصلي للإفتاء هو الوجوب، لأن الإفتاء إخبار عن حكم الشرع، وهذا الإخبار واجب وأدلة وجوبه هو الأمر بالإخبار والبيان، والوعيد لمن تركه، وهذا كله يفيد الوجوب.
قال تعالى (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولاتكتمونه) آل عمران 187
وقال تعالى (إن الذين يكتمون ماأنزلنا من البينات والهدي من بعد مابيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون، إلا الذين تابوا وأصلحوا وبيّنوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم) البقرة 159 ــ 160.(3/214)
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من سُئِل عن علم فكتمه أُلْجِم يوم القيامة بلجام من نار) رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن.
إلى غير ذلك من الأدلة التي ذكرناها في صدر الفصل الثاني من الباب الثالث للدلالة على أن تبليغ العلم واجب على العلماء فراجعها هناك إن شئت.
2 ــ فإذا كان الإفتاء واجبا، فوجوبه على الأمة هو على الكفاية، أي لايجب على كل مسلم أن يصير مفتيا مؤهلا للإفتاء، وإنما الواجب أن تقوم طائفة من المسلمين بالتأهل للإفتاء بما يكفي حاجة المسلمين، وهذا هو معنى الواجب الكفائي وقد سبق بيانه في الباب الثاني، فإذا كان عدد المؤهلين للإفتاء أقل مما يكفي المسلمين، أثِم المسلمون جميعهم حتى يقوم منهم من يسد حاجتهم في ذلك.
ودليل وجوب الافتاء على الكفاية لا على الأعيان، قوله تعالى (وماكان المؤمنون لينفروا كافة، فلولا نفر من كل فرقة ٍ منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون) التوبة 122.
3 ــ ويتأدي فرض الكفاية في الإفتاء: إذا تيسر لكل مسلم أن يجد مفتيا يفتيه بغير مشقة، إما في بلده وإما في مكان يمكنه الرحلة إليه بغير مشقة أي فيما دون مسافة القصر.
ويتم إيجاد هذا المفتي بأحد سبيلين: ــ
الأول: أن ينتدب إمام المسلمين مفتيا لكل بلدةٍ، لقوله صلى الله عليه وسلم (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته) الحديث متفق عليه. وقد سبق بيان أن هذا من واجبات الأئمة في الفصل الأول من الباب الثالث.
الثاني: أن يستقدم أهل البلدة مفتيا يسدّ حاجتهم، أو ينتدبوا بعض أهل البلدة لطلب العلم بما يسد حاجتهم لقوله تعالى (فلولا نفر من كل فرقة ٍ منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون) التوبة 122.(3/215)
قال ابن حزم رحمه الله (وكل من كان منا في بادية لايجد فيها من يعلمه شرائع دينه ففرض على جميعهم من رجل أو امرأة أن يرحلوا إلى مكان يجدون فيه فقيها يعلمهم دينهم، أو أن يُرحِّلوا إلى أنفسهم فقيها يعلمهم أمور دينهم، وإن كان الإمام يعلم ذلك فليرحِّل إليهم فقيها يعلمهم، قال الله تعالى: «ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة»، وبعث عليه السلام معاذا ً وأبا موسى إلى اليمن، وأبا عبيدة إلى البحرين، معلمين للناس أمور دينهم، ففرض ذلك على الأئمة. وقال تعالى: «فلولا نفر من كل فرقةٍ منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون») (الإحكام) جـ 5 صـ 118.
وقال ابن حزم أيضا (ثم فرض على كل جماعة مجتمعة في قرية أو مدينة أو دسكرة ــ وهى المجشرة عندنا ــ أو حلة أعراب أو حصن أن ينتدب منهم لطلب جميع أحكام الديانة أولها عن آخرها، ولتعلم القرآن كله، ولكتاب كل ما صَحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم من أحاديث الأحكام أولها عن آخرها وضبطها بنصوص ألفاظها، وضبط كل ماأجمع المسلمون عليه ومااختلفوا فيه ــ: من يقوم بتعليمهم وتفقيههم من القرآن والحديث والإجماع، ويكتفي بذلك على قدر قلّتهم أو كثرتهم بالآية التي تَلَوْنا في أول هذا الباب بحسب مايقدر أن يعمهم بالتعليم، ولايشقّ على المستفتي قصده) (الإحكام) جـ5 صـ 122 ــ 123. والآية التي يشير إليها ابن حزم هى قوله تعالى (فلولا نفر من كل فرقة..)الآية.
هذا مايتعلق ببيان معنى أن الافتاء فرض كفاية على الأمة، مع بيان كيف يتأدى هذا الفرض؟ وقد سبق في الفصل الثالث من الباب الثاني بيان كيف يتأدى فرض الكفاية من ناحية الكَمّ؟.
4 ــ أما وجوبه على الفقهاء المؤهلين: فإن الإفتاء قد يكون فرض عين أو فرض كفاية عليهم بحسب تفردهم أو تعددهم في المكان.(3/216)
قال ابن حمدان (الفتيا فرض عين إذا كان في البلد مفت ٍ واحد، وفرض كفاية إذا كان فيه مفتيان فأكثر، سواء حضر أحدهما أو هما، وسُئِلاً معا أو لا) (صفة الفتوى) صـ 6.
وقال ابن الصلاح (إذا استُفتِىَ المفتي وليس في الناحية غيره تعيّن عليه الجواب.
وإن كان في الناحية غيره، فإن حضر هو وغيره واستفتيا معا فالجواب عليهما على الكفاية،
وإن لم يحضر غيره فعند الحَلِيمي: تعيّن عليه بسؤاله جوابه، وليس له أن يحيله على غيره. والأظهر أن لا يتعين عليه بذلك، وقد سبقت روايتنا عن عبدالرحمن بن أبي ليلى أنه قال «أدركت عشرين ومائة من الأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يُسأل أحدهم عن المسألة، فيردُّها هذا إلى هذا، وهذا إلى هذا حتى ترجع إلى الأول») أهـ (أدب المفتي) صـ 108 ــ 109. وأبو عبدالله الحَلِيمي هو كبير الشافعيين بما وراء النهر (ت 403 هـ)، وابن أبي ليلى تابعي من أهل الكوفة (ت 83هوقيل 86 هـ).
والخلاصة:
أن الإفتاء فرض عين إذا لم يكن بالبلدة إلا مفت ٍ واحد، فيأثم بعدم الإفتاء.
وفرض كفاية إذا تعدد المفتون بالبلدة، ومعنى أنه فرض كفاية أنه له أن يفتي السائل وله أن يمتنع، وإذا امتنع لم يأثم، ذكره النووي (المجموع) جـ 1 صـ 27.
هذا هو الحكم الأصلي للإفتاء.
الموضوع الثاني: أحكام فرعية للإفتاء:
وفي هذا الموضوع مسائل وهى:
1 ــ متى يحرم الإفتاء؟
2 ــ متى يُكْره الإفتاء؟
3 ــ متى يجوز الامتناع عن الإفتاء؟
4 ــ هل للمفتي أن يفتي في مسائل الاعتقاد؟
5 ــ هل للمفتي أن يفتي في حادثة لم يتقدم فيها قول لأحد العلماء؟
6 ــ هل يجوز للقاضي أن يفتي؟
7 ــ هل يجوز للمفتي أن يفتي نفسه وقريبه وعدوَّه؟
المسألة الأولى: متى يحرم الإفتاء؟.
1 ــ يحرم الإفتاء على الجاهل غير المؤهل للإفتاء.(3/217)
قال ابن حمدان (وتحرم الفتوى على الجاهل بصواب الجواب، لقوله تعالى « ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام، لتفتروا على الله الكذب ») أهـ (صفة الفتوى) صـ 6.
وقال ابن القيم (مَنْ أفتى الناسَ وليس بأهل للفتوى فهو آثم عاص ٍ، ومن أقره من وُلاَة الأمور على ذلك فهو آثم أيضا.
قال أبو الفرج ابن الجوزي رحمه الله: ويلزم ولي الأمر منعهم كما فعل بنو أمية، وهؤلاء بمنزلة مَنْ يدل الركب، وليس له علم بالطريق، وبمنزلة الأعمى الذي يرشد الناس إلى القبلة، وبمنزلة من لا معرفة له بالطب وهو يطبُّ الناس، بل هو أسوأ حالا من هؤلاء كلهم، وإذا تعين على ولي الأمر منع مَنْ لم يحسن التطبُّب من مُدَاواة المرضى، فكيف بمن لم يعرف الكتاب والسنة ولم يتفقه في الدين؟.
وكان شيخنا رضي الله عنه شديدَ الإنكار على هؤلاء، فسمعته يقول: قال لي بعض هؤلاء: أجُعِلْتَ محتسباً على الفتوى؟ فقلت له: يكون على الخبازين والطباخين محتسب ولايكون على الفتوى محتسب؟.
وقد روى الإمام أحمد وابن ماجه عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعا: «مَنْ أفتى بغير علم كان إثم ذلك على الذي أفْتَاه»، وفي الصحيحين من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله لايَقْبِضُ العلم انتزاعا ينتزعه من صدور الرجال، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، فإذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤسَاء جهالا، فسُئِلوا فأفتوا بغير علم فضَلّوا وأضَلُّوا») أهـ (اعلام الموقعين) جـ 4 صـ 217، وقوله (شيخنا) يعني ابن تيمية رحمه الله.(3/218)
وقال النووي: (قال الخطيب ينبغي للإمام أن يتصفح أحوال المفتين فمن صلح للفتيا أقرّه ومن لا يصلح منعه ونهاه أن يعود وتواعده بالعقوبة إن عاد. وطريق الإمام إلى معرفة من يصلح للفتوى أن يسأل علماء وقته ويعتمد أخبار الموثوق بهم. ثم روى بإسناده عن مالك رحمه الله قال ماأفتيت حتى شهد لي سبعون أني أهل لذلك. وفي رواية ماأفتيت حتى سألت من هو أعلم مني هل يراني موضعا لذلك قال مالك ولاينبغي لرجل أن يرى نفسه أهلا لشئ حتى يسأل من هو أعلم منه) (المجموع) جـ 1 صـ 41.
2 ــ ويحرم الإفتاء على المفتي المؤهل إذا جهل حكم المسألة موضوع الاستفتاء.
قال ابن القيم (إذا نزلت بالحاكم أو المفتي النازلة فإما أن يكون عالما بالحق فيها أو غالبا على ظنه بحيث قد استفرغ وسعه في طلبه ومعرفته، أو لا، فإن لم يكن عالما ً بالحق فيها ولا غَلَبَ على ظنه لم يحل له أن يفتي، ولا يقضي بما لايعلم،ومتى أقدم على ذلك فقد تعرض لعقوبة الله، ودخل تحت قوله تعالى: (قل إنما حرم ربي الفواحش ماظهر منها ومابطن، والإثم والبغي بغير الحق، وأن تشركوا بالله مالم ينزل به سلطانا، وأن تقولوا على الله مالا تعلمون) فجعل القول عليه بلا علم أعْظَمَ المحرمات الأربع التي لاتُباح بحال، ولهذا حَصَر التحريم فيها بصيغة الحصر. ودخل تحت قوله تعالى: (ولاتتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين، إنما يأمركم بالسوء والفحشاء، وأن تقولوا على الله مالا تعلمون) ودخل في قول النبي صلى الله عليه وسلم «من أفتى بغير علم فإنما إثمه على من أفتاه») (اعلام الموقعين) جـ 4 صـ 173.
وقال ابن القيم أيضا (نص الإمام الشافعي وأحمد وغيرهما من الأئمة على أنه لايحل للرجل أن يفتي بغير علم، حكى في ذلك الإجماع) (اعلام الموقعين) جـ 4 صـ 210.
3 ــ ويحرم الإفتاء على المفتي إذا جهل العرف في بعض المسائل.(3/219)
قال ابن الصلاح (لايجوز له أنْ يفتي في الأيمان والأقارِير، ونحو ذلك ممَّا يتعلق بالألفاظ، إلاَّ إذا كان من أهل بلد اللاَّفِظِ بها، أو مُتنزِّلا ً منزلتَهم في الخبرة بمراداتهم من ألفاظهم وتعارفهم فيها، لأنهُ إذا لم يكن كذلك كثُر خطؤهُ عليهم في ذلك كما شهدت به التَّجربة، والله أعلم.) (أدب المفتي) صـ115.
وفصَّل ابن القيم فقال (لا يجوز له أن يفتي في الإقرار والأيمان والوصايا وغيرها مما يتعلق باللفظ بما اعتاده هو من فهم تلك الألفاظ دون أن يعرف عُرف أهلها والمتكلمين بها فيحملها على مااعتاده وعرفوه وإن كان مخالفا لحقائقها الأصلية، فمتى لم يفعل ذلك ضل وأضل، فلفظ الدينار عند طائفة اسم لثمانية دراهم، وعند طائفة اسم لاثنى عشر درهما، والدرهم عند غالب البلاد اليوم اسم للمغشوش، فإذا أقر لهم بدارهم أو حلف ليعطينه إياها أو أصدقها امرأة لم يجز للمفتي ولا للحاكم أن يلزمه بالخالصة، فلو كان فى بلد إنما يعرفون الخالصة لم يجز له أن يلزم المستحق بالمغشوشة، وكذلك فى ألفاظ الطلاق والعتاق، فلو جرى عرف أهل بلد أو طائفة فى استعمالهم لفظ الحرية فى العفة دون العتق فإذا قال أحدهم عن مملوكه «إنه حر» أو عن جاريته «إنها حرة»، وعادتُه استعمالُ ذلك فى العفة لم يخطر بباله غيرها لم يعتق بذلك قطعاً، وإن كان اللفظ صريحا عند مَنْ أَلِفَ استعماله فى العتق، وكذلك إذا جرى عرف طائفة فى الطلاق بلفظ التسميح بحيث لايعرفون لهذا المعنى غيره، فإذا قالت «اسمح لى» فقال «سمحت لك» فهذا صريح فى الطلاق عندهمـ إلى أن قال ــ وهذا باب عظيم يقع فيه المفتى الجاهل فيغرّ الناس، ويكذب علي الله ورسوله ويغيِّر دينه، ويحرِّم مالم يحرمه الله، ويوجب مالم يوجبه الله، والله المستعان) (اعلام الموقعين) جـ 4 صـ 228 ـــ 229.(3/220)
وقال ابن القيم أيضا (وعلى هذا أبداً تجىء الفتاوى فى طول الأيام، فمهما تجدد فى العرف فاعتبره، ومهما سقط فألْغِهِ، ولاتجمد علي المنقول فى الكتب طولَ عمرك، بل إذا جاءك رجل من غير إقليمك يستفتيك فلا تُجْرِهِ على عُرْف بلدك، وسَلْه عن عرف بلده فأجْرِهِ عليه وأفتِهِ به دون عرف بلدك والمذكور فى كتبك، قالوا: فهذا هو الحق الواضح، والجمود علي المنقولات أبداً ضلالٌ فى الدين وجهلٌ بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين، قالوا: وعلى هذه القاعدة تخرج أيمان الطلاق والعتاق وصيغ الصرائح والكنايات، فقد يصير الصريح كنايةً يفتقر إلي النية، وقد تصير الكناية صريحاً تستغنى عن النية ــ إلى أن قال ــ وهذا محض الفقه، ومن أفتي الناس بمجرد المنقول في الكتب على اختلاف عرفهم وعوائدهم وأزمنتهم وأمكنتهم وأحوالهم وقرائن أحوالهم فقد ضل وأضل) (اعلام الموقعين) جـ 3 صـ 89.
المسألة الثانية: متى يُكره الإفتاء؟
قال ابن الصلاح (ليس له أن يفتى فى كل حالةٍ تُغَيِّر خُلُقَه، وتشغل قلبه، وتمنعه من التثبت والتأمل، كحالة الغضب أو الجوع، أو العطش، أو الحزن، أو الفرح الغَاِلبِ، أو النعاس، أو الملالة، أو المرض، أو الحر المزعج، أو البرد المؤلم، أو مدافعة الأخبثين، وهو أعلم بنفسه، فمهما أحس باشتغال قلبه وخروجه عن حد الاعتدال أمسك عن الفُتْيا، فإن افتي فى شئ من هذه الأحوال وهو يرى أن ذلك لم يمنعه من إدراك الصواب، صحت فُتياه، وإن خاطر بها.) (أدب المفتى) صـ 113.
ونقله عنه ابن حمدان وزاد بعد قوله (وإن خاطر بها) قال ابن حمدان (فالتَّركْ أَولْى) (صفة الفتوي) صـ 34.(3/221)
ونقل ابن القيم أيضا كلام ابن الصلاح، وزاد عليه قوله (ولو حكم في مثل هذه الحالة فهل ينفذ حكمه أولا ينفذ؟ فيه ثلاثة أقوال: النفوذ، وعدمه، والفرق بين أن يعرض له الغضب بعد فهم الحكومة فينفذ وبين أن يكون سابقاً علي فهم الحكومة فلا ينفذ، والثلاثة فى مذهب الإمام أحمد رحمه الله تعالى) (اعلام الموقعين) جـ 4 صـ 227.
المسألة الثالثة: متي يجوز الامتناع عن الإفتاء؟
يجوز أن يمتنع المفتي عن إجابة السائل فى أحوال منها:
1 ــ عندما يكون الإفتاء فرض كفاية علي المفتى، أى لم يتعين عليه، علي النحو الذى فصّلناه سابقا.
2 ــ إذا سأل المستفتى عن مسألة لم تقع، لم تجب إجابته:
كان السلف رحمهم الله يكرهون السؤال عما لم يقع، ولايجيبون عنه، فقد روى أبو خيثمة زهير بن حرب ــ في كتاب العلم ــ قال حدثنا جرير عن ليث عن مجاهد عن ابن عمر قال (ياأيها الناس لاتسألوا عما لم يكن، فإن عمر كان يلعن أو يَسُبّ من يسأل عما لم يكن) أ هـ
وروى أبو خيثمة قال حدثنا عبد الرحمن بن مهدى حدثنا موسى بن على عن أبيه قال (كان زيد بن ثابت إذا سأله رجل عن شئ قال: آلله لكان هذا؟. فإن قال: نعم، تكلم فيه، وإلا لم يتكلم) أهـ
وهذا يرجع إلى مارواه سهل بن سعد رضى الله عنه قال (كَرِهَ رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها) متفق عليه.
ومن هنا قال ابن الصلاح (وإذا سأل العامى عن مسألة لم تقع، لم تجب مجاوبته) (أدب المفتى) صـ 109.
وقال ابن حمدان (إذا سأل عامى عن مسألة لم تقع لم تجب إجابته، لكن تستحب، وقيل يُكره، لأن بعض السلف كان لايتكلم فيما لم يقع. ــ إلى قوله ــ إن كان غرض السائل معرفة الحكم لاحتمال أن يقع له أو لمن سأل عنه: فلا بأس) (صفة الفتوى) صـ 30.(3/222)
وفصَّل ابن القيم وجعل ضابط الكلام فى هذه المسألة أمرين: هل فيها نص أم لا؟، وهل هى محتملة الوقوع أم لا؟. فقال (إذا سأل المستفتى عن مسألة لم تقع، فهل تستحب إجابته أو تُكره أو تخيّر؟. فيه ثلاثة أقوال، وقد حكى عن كثير من السلف أنه كان لايتكلم فيما لم يقع ــ إلى أن قال ــ والحق التفصيل:فإن كان فى المسألة نصٌّ من كتاب الله أو سنة عن رسوله صلى الله عليه وسلم أو أثر عن الصحابة لم يُكره الكلام فيها.وإن لم يكن فيها نص ولاأثر فإن كانت بعيدة الوقوع أو مقدرة لاتقع لم يستحب له الكلام فيها، وإن كان وقوعها غير نادر ولامستبعد وغرضُ السائل الإحاطة بعلمها ليكون منها علي بصيرة إذا وقعت استحب له الجواب بما يعلم، لاسيما إن كان السائل يتفقه بذلك ويعتبر بها نظائرها، ويفرع عليها، فحيث كانت مصلحة الجواب راجحة كان هو الأولى، والله أعلم) (اعلام الموقعين) جـ 4 صـ 221 ــ 222.
3 ــ إذا كان المستفتى يبحث عما يوافق غرضه من الفتوي لم تجب إجابته.(3/223)
قال ابن القيم (بل ولايجب عليه أن يفتي هذا الضرب من الناس، فإنهم لايستفتون ديانة، وإنما يستفتون توصلا إلى حصول أغراضهم بأى طريق اتفق، فلا يجب علي المفتي مساعدتهم، فإنهم لايريدون الحق، بل يريدون أغراضهم بأى طريق وافق، ولهذا إذا وجدوا أغراضهم فى أى مذهب اتفق اتبعوه في ذلك الموضع وتمذهبوا به، ــ إلى أن قال ــ وقال شيخنا رحمه الله مرة: أنا مخير بين إفتاء هؤلاء وتركهم، فإنهم لايستفتون للدين، بل لوصولهم إلي أغراضهم حيث كانت، ولو وجدوها عند غيري لم يجيئوا إلى، بخلاف من يسأل عن دينه، وقد قال الله تعالي لنبيه صلى الله عليه وسلم فى حق من جاءه يتحاكم إليه لأجل غرضه لا لالتزامه لدينه صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب (فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم، وإن تُعْرِضْ عنهم فلن يضروك شيئا) فهؤلاء لما لم يلتزموا دينه لم يلزمه الحكم بينهم، والله تعالى أعلم) (اعلام الموقعين) جـ 4 صـ 259 ــ 260. والكلام الذى نسبه ابن القيم لشيخه ابن تيمية رحمهما الله موجود بمجموع فتاوي ابن تيمية جـ 28 صـ 197 ــ 199. وقول شيخ الإسلام (أنا مُخَيَّر بين إفتاء هؤلاء وتركهم) واستدلاله بقوله تعالي (فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم) المائدة 42، لأن هذه الآية وردت فى حق الذين يستفتون للتوصّل لأغراضهم لالطلب الحق كما دَلّ علي هذا قوله تعالى ــ في الآية قبلها ــ (يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا) المائدة 41، وهذه صفة المنافقين كما قال تعالى في نفس الاية (من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم)، وقال تعالي (وإذا دعوا إلي الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون، وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين) النور 48 ــ 49. قال ابن تيمية رحمه الله (وكذلك لو كان المتحاكم إلى الحاكم والعالم: من المنافقين الذين يتخيَّرون بين القبول من الكتاب والسنة وبين ترك ذلك، لم يجب عليه الحكم بينهم. وهذا حجة كثير من(3/224)
السلف الذين كانوا لايُحِّدثون المعلنين بالبدع بأحاديث النبى صلى الله عليه وسلم) (مجموع الفتاوى) 28 / 198.
4 ــ إذا سأل المستفتى عما لايعنيه أو لايفيده فى دينه فلا يجب علي المفتي إجابته إذا كان ترك الإجابة لايترتب عليه تقصير المستفتي فى القيام بطاعة من الطاعات (المفروضة أو المندوبة)، وقد ضرب الشاطبى أمثلة للأسئلة المذمومة التي لايجب علي المفتي أن يجيب عنها، وذكرها بأدلتها في (الموافقات، جـ 4 صـ 313 ــ 318) ثم لخّص مافصَّله فقال رحمه الله (ويتبيّن من هذا أن لكراهية السؤال مواضع، نذكر منها عشرة مواضع:
(أحدها) السؤال عما لا ينفع في الدين. كسؤال عبد الله بن حذافة: من أبى، وروى فى التفسير أنه عليه الصلاة والسلام سئل مابال الهلال يبدُو رقيقا كالخيط، ثم لايزال ينمو حتى يصير بدرا ثم ينقص إلي أن يصير كما كان؟ فأنزل الله: (يسألونك عن الأهلة) الآية فأنما أجيب بما فيه من منافع الدين.
(الثاني) أن يسأل بعد مابلغ من العلم حاجته، كما سأل الرجل عن الحج أكل عام؟ مع أن قوله تعالى: (ولله على الناس حج البيت) قاض بظاهره أنه للأبد، لاطلاقه. ومثله سؤال بنى إسرائيل بعد قوله: (إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة).
(والثالث) السؤال من غير احتياج إليه في الوقت، وكأن هذا ــ والله أعلم ــ خاص بما لم ينزل فيه حكم، وعليه يدل قوله: « ذرونى ماتركتكم » وقوله « وسكت عن أشياء رحمة لكم لا عن نسيان فلا تبحثوا عنها ».
(والرابع) أن يسأل عن صعاب المسائل وشرارها. كما جاء فى النهى عن الأغلوطات.
(والخامس) أن يسأل عن علة الحكم وهو من قبيل التعبدات التى لايعقل لها معنى، أو السائل ممن لايليق به ذلك السؤال كما في حديث قضاء الصوم دون الصلاة.(3/225)
(والسادس) أن يبلغ بالسؤال إلى حد التكلف والتعمق وعلى ذلك يدل قوله تعالى: (قل ماأسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين) ولما سأل الرجل: ياصاحب الحوض هل ترد حوضك السباع؟ قال عمر ابن الخطاب: ياصاحب الحوض لاتخبرنا فإنا نرد علي السباع وترد علينا. الحديث.
(والسابع) أن يظهر من السؤال معارضة الكتاب والسنة بالرأى ولذلك قال سعيد: أعراقىٌ أنت؟ وقيل لمالك بن أنس الرجل يكون عالما بالسُّنة أيجادل عنها قال: لا ولكن يُخبِر بالسنة فإن قبلت منه وإلا سكت.
(والثامن) السؤال عن المتشابهات، وعلى ذلك يدل قوله تعالى (فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ماتشابه) الآية، وعن عمر بن عبدالعزيز: من جعل دينه عرضا للخصومات أسرع التنقل. ومن ذلك سؤال من سأل مالكا عن الاستواء، فقال الاستواء معلوم، والكيفية مجهولة، والسؤال عنه بدعة.
(والتاسع) السؤال عما شجر بين السلف الصالح، وقد سئل عمر بن عبدالعزيز عن قتال أهل صفين فقال: تلك دماء كفّ الله عنها يدي، فلا أحب أن يلطَّخ بها لساني.
(والعاشر) سؤال التعنُّت والإفحام وطلب الغلبة في الخصام. وفي القرآن في ذم نحو هذا (ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على مافي قلبه وهو ألد الخصام) وقال (بل هم قوم خصمون) وفي الحديث «أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم».
هذه جملة من المواضع التي يكره السؤال فيها، يقاس عليها ماسواها.وليس النهي فيها واحدا بل فيها ماتشتد كراهيته، ومنها مايخف، ومنها مايحرم ومنها مايكون محل اجتهاد. وعلي جملة منها يقع النهي عن الجدال في الدين كما جاء «إن المرِاءَ في القرآن كُفرٌُ»، وقال تعالى (وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم) الآية ! وأشباه ذلك من الآي أو الأحاديث. فالسؤال في مثل ذلك منهي عنه، والجواب بحسبه) أهـ (الموافقات) جـ 4 صـ 319 ــ 321.(3/226)
ويلحق بهذا ماذكرناه في آداب التدريس بالنسبة للعالم في الباب السابق، من أنه يجب أن يخاطب الناس على قدر عقولهم ولايحدث بكل الحق كل الناس ــ مالم يترتب على ترك التحديث تقصير الناس في أداء الواجبات ــ وذكرنا هناك أن البخاري رحمه الله بَوَّب لهذه المسألة في بابين من كتاب العلم في صحيحه وهما (باب من ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر فَهْمُ بعض الناس عنه فيقعوا في أشدّ منه)، و(باب من خصّ بالعلم قوما ً دون قوم ٍ كراهية أن لايفهموا). وقد أشار ابن القيم إلى نفس المسألة في (اعلام الموقعين) جـ 4 صـ 157 ــ 158. وهذا كله في الاختيار ــ كما ذكر البخاري ــ لا في الواجبات، حتى لا يحتج أحد بهذه الأدلة في كتمان العلم الواجب تبليغه والذي يترتب عليه القيام بالواجبات الشرعية، فإن التبليغ هو الأصل والاستثناء ماأشرنا إليه.
المسألة الرابعة: هل للمفتي أن يفتي في مسائل الاعتقاد؟.
وهذه المسألة متعلقة بالسابقة، إذ قد ذهب بعض العلماء إلى أن للمفتي أن يمتنع عن الإجابة في هذه المسائل والتي يسميها كثير من العلماء المتأخرين مسائل الكلام.(3/227)
قال ابن الصلاح (ليس له إذ استُفْتِيَ في شيء من المسائل الكلاميَّة أن يُفتي بالتَّفصيل، بل يمنع مستفتيه وسائر العامة من الخوض في ذلك أصلا ً، ويأمرهم بأن يقتصروا فيها على الإيمان جملة من غير تفصيل ٍ، ويقولوا فيها وفيما ورد من الآيات والأخبار المتشابهة: إن الثابت فيها في نفس الأمر كل ماهو اللائق فيها بجلال الله وكماله وتقديسه المُطْلَقين، وذلك هو معتقدنا فيها، وليس علينا تفصيله وتعيينه، وليس البحث عنه من شأننا، بل نَكِلُ علم تفصيله إلى الله تبارك وتعالى، ونصرف عن الخوض فيه قلوبنا وألسنتنا، فهذا ونحوه عند أئمة الفتوى هو الصواب في ذلك، وهو سبيل سلف الأمة، وأئمة المذاهب المعتبرة، وأكابر الفقهاء والصالحين، وهو أصون وأسلم للعامة وأشباههم، ممن يدغل قلبه بالخوض في ذلك، ومن كان منهم اعتقد اعتقادا باطلا ً تفصيلا ً، ففي إلزامه بهذا صرف له عن ذلك الاعتقاد الباطل بما هو أهون وأيسر وأسلم.
وإذا عَزَّر ولي الأمر من حاد منهم عن هذه الطريقة، فقد تأسى بعمر بن الخطاب رضي الله عنه في تعزيره صبيغ بن عسل الذي كان يسأل عن المتشابهات على ذلك.
والمتكلمون من أصحابنا معترفون بصحة هذه الطريقة، وبأنها أسلم لمن سلمت له، وكان الغزالي منهم في آخر أمره شديد المبالغة في الدعاء والبرهنة عليها.
وذكر شيخه الشيخ أبو المعالي في كتابه «الغياثي»: أن الإمام يحرص ما أمكنه على جمع عامة الخلق على سلوك سبيل السلف في ذلك. واستفتي الغزالي في كلام الله تبارك وتعالى فكان من جوابه: وأما الخوض في أن كلامه تعالى حرف وصوت أو ليس كذلك فهو بدعة، وكل من يدعو العوام إلى الخوض في هذا فليس من أئمة الدينِ، وإنمَّا هو من المضِلِّين ومثاله من يدعو الصبيان الذين لايعرفون السباحة إلى خوض البحر، ومن يدعو الزَّمِنَ المقعد إلى السفر في البراري من غير مركوب.(3/228)
وقال في «رسالة» له: الصواب للخلق كلهم إلا الشاذ النادر الذي لاتسمح الأعصار إلا بواحد منهم أو اثنين، سلوك مسلك السلف في الإيمان المرسل، والتصديق المجمل بكل ماأنزله الله تعالى، وأخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، من غير بحثٍ وتفتيش ٍ، والاشتغال بالتقوى ففيه شغل شاغل.
وفي كتاب «أدب المفتي والمستفتي» للصَّمْيري أبي القاسم: إن مما أجمع عليه أهل الفتوى أنَّ من كان موسوما ً بالفتوى في الفقه، لم ينبغ أن يضع خطَّهُ بفتوى في مسألة من الكلام، كالقضاء والقدر، والرؤية، وخلق القرآن، وكان بعضهم لايستتم قراءة مثل هذه الرقعة.
وحكى أبو عمر ابن عبدالبر الفقيه الحافظ الأندلسي: الامتناع من الكلام في كل ذلك عن الفقهاء والعلماء قديما وحديثا من أهل الحديث والفتوى، وقال: إنما خالف ذلك أهل البدع.
قال ابن الصلاح: (فإن كانت المسألة مما يؤمن في تفصيل جوابها من ضرر الخوض المذكور جاز الجواب تفصيلاً، وذلك بأن يكون جوابها مختصراً مفهوماً، فيما ليس له أطراف يتجاذبها المتنازعون، والسؤال عنه صادر من مسترشد ٍ خاص ٍ، منقاد ٍ، أو من عامة ٍ قليلة ٍ التنازع والمماراة، والمفتي ممن ينقادون لفتواه ونحو هذا، وعلى هذا ونحوه يُخَرَّج ماجاء عن بعض السلف من بعض الفتوى في بعض المسائل الكلامية، وذلك منهم قليل نادر، والله أعلم) أهـ (أدب المفتي) لابن الصلاح صـ 153 ــ 157.
وما نقله ابن الصلاح من أن الواجب على المفتي أن يأمر العامة بالإيمان المجمل دون خوض في التفاصيل، هو حق وصواب، إلا أن التفصيل واجب في مواضع،(3/229)
منها إذا شاعت بدعة ولم يمكن الرد عليها والتحذير منها إلا بالتفصيل، بل جعل أبو حامد الغزالي معرفة هذا من فرض العين من العلم كما نقلناه عنه في الباب الثاني ومما قاله (فإن كان في بلد ٍ شاع فيه الكلام وتناطق الناس بالبدع فينبغي أن يُصان في أول بلوغه عنها بتلقين الحق، فإنه لو ألقى إليه الباطل لوجبت إزالته عن قلبه وربما عَسُرَ ذلك) (إحياء علوم الدين) جـ 1 صـ 26 ومن هنا قال ابن تيمية (إن المسائل الخبرية العلمية قد تكون واجبة الاعتقاد، وقد تجب في حال دون حال، وعلى قوم دون قوم، وقد تكون مستحبة غير واجبة، وقد تستحب لطائفة أو في حال كالأعمال سواء. وقد تكون معرفتها مضرة لبعض الناس فلا يجوز تعريفه بها، كما قال علي رضي الله عنه «حَدِّثوا الناس بما يعرفون، ودعوا ما يُنكرون، أتحبون أن يُكذَّب الله ورسوله»، وقال ابن مسعود رضي الله عنه «مامن رجل يُحدِّث قوما ً حديثا لاتبلغه عقولهم إلا كان فتنة لبعضهم») (مجموع الفتاوى) جـ 6 صـ59.
المسألة الخامسة: هل للمفتي أن يفتي في حادثة لم يتقدم فيها قول لأحد العلماء؟.
قال ابن القيم (إذا حَدَثَتْ حادثة ليس فيها قول لأحد من العلماء، فهل يجوز الاجتهاد فيها بالإفتاء والحكم أم لا؟ فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: يجوز، وعليه تدل فتاوي الأئمة وأجوبتهم، فإنهم كانوا يُسألون عن حوادث لم تقع قبلهم فيجتهدون فيها، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر» وهذا يعم مااجتهد فيه مما لم يعرف فيه قول من قبله وماعرف فيه أقوالا واجتهد في الصواب منها، وعلى هذا درج السلف والخلف، والحاجة داعية إلى ذلك لكثرة الوقائع واختلاف الحوادث، ومن له مباشرة لفتاوي الناس يعلم أن المنقول وإن اتسع غاية الاتساع فإنه لايفي بوقائع العالم جميعا، وأنت إذا تأملت الوقائع رأيت مسائل كثيرة واقعة وهى غير منقولة، ولايعرف فيها كلام لأئمة المذاهب ولالأتباعهم.(3/230)
والثاني: لا يجوز له الإفتاء ولا الحكم، بل يتوقف حتى يظفر فيها بقائل، قال الإمام أحمد لبعض أصحابه: إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام.
والثالث: يجوز ذلك في مسائل الفروع، لتعلقها بالعمل، وشدة الحاجة إليها، وسهولة خطرها، ولايجوز في مسائل الأصول.
والحق التفصيل، وأن ذلك يجوز ــ بل يستحبُّ أو يجب ــ عند الحاجة وأهلية المفتي والحاكم، فإن عدم الأمران لم يجز، وإن وجد أحدهما دون الآخر احتمل الجواز، والمنع، والتفصيل، فيجوز للحاجة دون عدمها، والله أعلم.) (اعلام الموقعين) جـ 4 صـ 265 ــ 266.(3/231)
قلت: القول الثاني السابق وهو عدم جواز الإفتاء في حادثة لم يتقدم فيها قول لأحد العلماء، مع القول بخلو الزمان عن المجتهد المطلق منذ القرن الرابع الهجري وهو القول المشهور في المذهب الحنفي، كان هذا القول هو الذريعة التي تذرعت بها الدولة العثمانية ــ وكان المذهب الحنفي مذهبها الرسمي ــ للاقتباس من القوانين الإفرنجية الوضعية الكافرة، بحجة امتناع الفقهاء عن الاجتهاد في المسائل المستحدثة، وبدأ الاقتباس في القوانين التجارية والمدنية إلى أن تطرّق شيئا فشيئا إلى قانون العقوبات، فلم يأت عام 1840م حتى كانت الدولة العثمانية تطبق القانون الجنائي الفرنسي وألغيت الحدود الشرعية بعد ذلك، ولحقت بها بقية الولايات العثمانية في ذلك. وبهذا يتبيّن لك أن الدولة العثمانية كانت دولة كافرة منذ عام 1840م وليس منذ عام 1924م كما هو شائع بين كثير من الإسلاميين أنها كانت دولة خلافة إسلامية حتى ألغيت الخلافة بمقتضى قرارات مؤتمر لوزان عام 1924م حين وَضع مصطفى كمال أتاتورك دستوراً علمانيا لتركيا، فهذا كله ماهو إلا تحصيل حاصل، وإلا فقد كانت الدولة كافرة لحكمها بغير ماأنزل الله قبل هذا بثمانين سنة من عام 1840م، وهذا الظن الخاطيء سببه غفلة كثير من الإسلاميين عن سبيل المجرمين، ولم أر من نبَّه مبكرا ً على كفر الدولة العثمانية ــ فيما اطلعت ــ إلا علماء الدعوة النجدية من أحفاد شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهَّاب رحمه الله، فقد صرَّحوا بتكفير الدولة العثمانية مبكراً لحكمها بغير ماأنزل الله كما هو مذكور في (الدرر السنية في الأجوبة النجدية) جـ 7 ــ كتاب الجهاد، وفي (الرسائل المفيدة) للشيخ عبداللطيف بن عبدالرحمن بن حسن بن الشيخ محمد بن عبدالوهاب. وقد أشار الشيخ محمد الأمين الشنقيطي إلى خطورة دعوى اغلاق باب (الاجتهاد)، وأثر ذلك في تحكيم القوانين الوضعية في بلاد المسلمين، وذلك في تفسيره (أضواء البيان) جـ 7 صـ 580 ــ 583،(3/232)
فراجعه.
المسألة السادسة: هل يجوز للقاضي أن يفتي؟
اتفق العلماء على أن للقاضي أن يفتي في المسائل التي لاتعلّق لها بالأحكام القضائية كمسائل الطهارة والصلاة والزكاة والصوم والحج أي العبادات.
ثم اختلفوا في جواز فتياه في مسائل الأحكام القضائية كالحقوق المالية والنكاح وتوابعه والحدود وغيرها، فذهب الجمهور ــ كما حكاه ابن القيم ــ إلى جوازه، وذهب فريق من العلماء إلى منعه من الإفتاء في مسائل الأحكام دفعاً للتهمة عن القاضي إذ قد يختلف حكمه عن فتياه في نفس المسألة لدلائل ظهرت له في مجلس القضاء، فيؤدي اختلافه ــ وإن كان حقاً ــ إلى اتهام الخصوم له، كأن يُستفتى القاضي فيمن سرق نصاباً من حِرز مثله فيفتي بأن فيه القطع، ثم يظهر في مجلس القضاء أن السارق له شبهة مِلك في المتاع المسروق كأن يكون أبا أو شريكا للمسروق منه فهذه شبهة تدرأ الحدّ. وكأن يُستفتى فيمن قذف آخر بالزنا ولم يأت بأربعة شهداء فيفتي بأن فيه الحد ثم يظهر في مجلس الحكم أن المقذوف كافر، فهذا لا حَدّ فيه، ونحو ذلك. هذا ملخص المسألة، وإليك أقوال العلماء فيها.
قال ابن الصلاح رحمه الله (من كان من أهل الفتيا قاضيا فهو فيها كغيره. وبلغنا عن أبي بكر بن المنذر: أنه يُكره للقضاة أن تفتي في مسائل الأحكام دون مالا مجرى لأحكام القضاء فيه، كمسائل الطهارة، والعبادات. وقال: قال شريح: «أنا أقضي ولا أفتي».
ووجدت في بعض «تعاليق الشيخ أبي حامد الإسفرايني»: أن له أن يفتي في العبادات، وما لا يتعلق به الحكم. وأما فتياه في الأحكام فلأصحابنا فيه جوابان:
أحدهما: ليس له أن يفتي فيها، لأن لكلام الناس عليه مجالاً، ولأحد الخصمين عليه مقالاً.
والثاني: له ذلك، لأنه أهل لذلك، والله أعلم.) (أدب المفتي) صـ 107 ــ 108.(3/233)
وقال ابن القيم رحمه الله (لا فرق بين القاضي وغيره في جواز الإفتاء بما تجوز الفتيا به، ووجوبها إذا تعينت، ولم يزل أمر السلف والخلف على هذا فإن منصب الفتيا داخل في ضمن منصب القضاء عند الجمهور، ــ إلى أن قال ــ، وذهب بعض الفقهاء من أصحاب الإمام أحمد والشافعي إلى أنه يُكره للقاضي أن يفتي في مسائل الأحكام المتعلقة به، دون الطهارة والصلاة والزكاة ونحوها، واحتج أرباب هذا القول بأن فتياه تصير كالحكم منه على الخصم، ولايمكن نقضه وقت المحاكمة، قالوا: ولأنه قد يتغير اجتهاده وقت الحكومة أو تظهر له قرائن لم تظهر له عند الإفتاء، فإن أصرَّ على فُتياه والحكم بموجبها حكم بخلاف مايعتقد صحته، وإن حكم بخلافها طرق الخصم إلى تهمته والتشنيع عليه بأنه يحكم بخلاف مايعتقده ويفتي به) ثم ذكر ابن القيم أقوال القاضي شريح والشيخ أبي حامد الإسفرايني كما نقلها ابن الصلاح. (اعلام الموقعين) جـ 4 صـ 220 ــ 221. أما شريح فهو ابن الحارث القاضي، تابعي مخضرم، ولاّه عمر القضاء، توفي 78هـ. وأما الشيخ أبو حامد فمن كبار فقهاء الشافعية توفي 406هـ. وأما أبو بكر بن المنذر النيسابوري فَعَلَم ٌُ من أعلام الفقه، له كتب الإشراف والأوسط والإجماع، ت 318 هـ.(3/234)
وكما ترى فإن محل الخلاف هو فتيا القاضي في مسائل الأحكام المتعلقة بالقضاء، ولايوجد دليل شرعي على منعه من ذلك، إلا خشية التهمة عليه إذا اختلفت فتياه عن حكمه، ولاشك في أن اتقاء التهم مقصود شرعاً لقوله صلى الله عليه وسلم (فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه) الحديث متفق عليه، ولقوله صلى الله عليه وسلم (إنها صفية) الحديث رواه البخاري، فاتقاء الشبهات والتهم والظنون مطلوب شرعا. وللخروج من الخلاف يستحسن للقاضي ألا يفتي إلا في الأسئلة المكتوبة ويفتي كتابة ً مبتدئاً بقوله (إن كان الأمر كذلك فالحكم كذا)، فإذا اختلف حكمه عن فتواه في نفس المسألة لتفاصيل ظهرت له، واحتج الخصم بالفتوى، قال له القاضي قد كان سؤالك مجملاً وقد أخفيت التفاصيل التي يجب على القاضي البحث عنها بخلاف المفتي. ويكون السؤال والفتوى المكتوبان وثيقة، وهذا في الأسئلة التي قد تكون محل خصومات قضائية.
المسألة السابعة: هل يجوز للمفتي أن يفتي نفسه وقريبه وعدوّه؟
وسبب إيراد هذه المسألة هو أنها من الفروق بين المفتي والقاضي، فلزم التنبيه.فكلاهما لايجوز له أن يفتي أو يحكم على خصمه وعدوِّه. ويفترقان في النفس والقريب، فيجوز للمفتي أن يفتي نفسه وقريبه ولايجوز للقاضي أن يحكم لنفسه وقريبه للتهمة.(3/235)
قال ابن القيم (يجوز للمفتي أن يفتي أباه وابنه وشريكه ومن لاتقبل شهادته له،وإن لم يَجُز أن يشهد له ولايقضي له، والفرق بينهما أن الإفتاء يجري مجرى الرواية، فكأنه حكم عام، بخلاف الشهادة والحكم فإنه يخص المشهود له والمحكوم له، ولهذا يدخل الراوي في حكم الحديث الذي يرويه، ويدخل في حكم الفتوى التي يفتي بها، ولكن لايجوز له أن يحابي من يفتيه فيفتي أباه أو ابنه أو صديقه بشئ ويفتي غيرهم بضده محاباة، بل هذا يقدح في عدالته، إلا أن يكون ثم سبب يقتضي التخصيص غير المحاباة، ومثال هذا أن يكون في المسألة قولان قول بالمنع وقول بالإباحة، فيفتي ابنه وصديقه بقول الإباحة والأجنبي بقول المنع.
فإن قيل: هل يجوز له أن يفتي نفسه؟.
قيل: نعم، إذا كان له أن يفتي غيره، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم «استفت قلبك وإن أفتاك المُفْتُون» فيجوز له أن يفتي نفسه بما يفتي غيره به، ولا يجوز له أن يفتي نفسه بالرخصة وغيره بالمنع، ولايجوز له إذا كان في المسألة قولان قول بالجواز وقول بالمنع أن يختار لنفسه قول الجواز ولغيره قول المنع) (اعلام الموقعين) جـ 4 صـ 210 ــ 211.
هذا مايتعلق بالنفس والقريب، أما ما يتعلق بالخَصْم والعدو فقد قال ابن الصلاح (ووجدت عن القاضي الماوردي فيما جاوب به القاضي أبا الطيب الطبري عن ردِّه عليه في فتواه بالمنع عن التلقيب بملك الملوك مامعناه: إن المفتي إذا نابذ في فتواه شخصا معينا صار خصماً مُعانداً تُرَدُّ فتواه على من عاداه، كما تُردُّ شهادته) (أدب المفتي) صـ 106 ــ 107. والقاضي أبو الطيب الطبري من كبار فقهاء الشافعية، عاصر الماوردي، وتوفي كلاهما عام 450 هـ. وبهذا ينتهي الكلام في هذا القسم (حكم الإفتاء) وبالله تعالى التوفيق.
******(3/236)
القسم الثالث: صفة المفتي وشروطه
قال الخطيب البغدادي رحمه الله: (أول أوصاف المفتي الذي يلزم قبول فتواه أن يكون بالغا، لأن الصبي لاحكم لقوله. ثم يكون عاقلا، لأن القلم مرفوع عن المجنون لعدم عقله. ثم يكون عدلا ثقة لأن علماء المسلمين لم يختلفوا في أن الفاسق غير مقبول الفتوى في أحكام الدين وإن كان بصيراً بها وسواء كان حراً أو عبداً لأن الحرية ليست شرطا في صحة الفتوى. ثم يكون عالما بالأحكام الشرعية) (الفقيه والمتفقه) جـ 2 صـ 156.
وقال ابن الصلاح رحمه الله (أما شروطه وصفاته: أن يكون مكلفاً مُسلماً، ثقة مأموناً، متنزها من أسباب الفسق ومُسقطات المروءة، لأن من لم يكن كذلك فقوله غير صالح للاعتماد وإن كان من أهل الاجتهاد. ويكون فقيه النفس، سليم الذهن، رصين الفكر، صحيح التصرف والاستنباط مستيقظاً. ثم ينقسم وراء هذا إلى قسمين: مستقل، وغير مستقل) (أدب المفتي) صـ 85 ــ 86. وقوله (مكلفاً) أي بالغ عاقل، وقوله (مستقل وغير مستقل) أي في الاجتهاد في الشريعة كما سيأتي تفصيله إن شاء الله.
وقال ابن حمدان رحمه الله (ومن صفته وشروطه أن يكون مسلما عدلاً مكلفا فقيها مجتهدا يقظا صحيح الذهن والفكر والتصرف في الفقه وما يتعلق به.
أما اشتراط إسلامه وتكليفه وعدالته فبالإجماع، لأنه يخبر عن الله تعالى بحكمه، فاعتبر إسلامه وتكليفه وعدالته لتحصل الثقة بقوله، ويبني عليه كالشهادة والرواية.) (صفة الفتوى) صـ 13.
وقال ابن القيم رحمه الله (ذكر أبو عبدالله بن بطة في كتابه في الخلع عن الإمام أحمد أنه قال: لاينبغي للرجل أن ينصب نفسه للفتيا حتى يكون فيه خمس خصال، أولها: أن تكون له نية، فإن لم يكن له نية لم يكن عليه نور ولاعلى كلامه نور. والثانية: أن يكون له علم وحلم ووقار وسكينة. الثالثة: أن يكون قوياً على ماهو فيه وعلى معرفته. الرابعة: الكفاية وإلا مضغه الناس.الخامسة: معرفة الناس.(4/1)
وهذا مما يدل على جلالة أحمد ومحله من العلم والمعرفة، فإن هذه الخمسة هى دعائم الفتوى، وأي شئ نقص منها ظهر الخلل في المفتي بحسبه.) (اعلام الموقعين) جـ 4 صـ 199. وقوله (الثالثة: أن يكون قوياً على ماهو فيه) المراد به أن يكون عالما بالشريعة، وقوله (الرابعة: الكفاية) أراد أن يكون مستغنيا في رزقه عن الناس، وقوله (الخامسة: معرفة الناس) أراد به معرفة العرف والواقع الذي يعيشه، وسيأتي تفصيل هذا بإذن الله تعالى.
فهذه العبارات المنقولة عن السلف الصالح رحمهم الله تبيِّن صفات المفتي وشروطه مجملة، وسنقوم فيما يلي بإذن الله بترتيبها مع تفصيل بعضها. فنقول شروط المفتي ــ إثباتا ونفيا ــ هى:
1 ــ الإسلام.…2 ــ البلوغ.
3 ــ العقل.…4 ــ لا تُشترط الذكورة.
5 ــ لا تُشترط الحرية.……6 ــ لا تُشترط سلامة الحواس بإطلاق.
7 ــ العدالة.……8 ــ العلم الشرعي.
9 ــ علم الواقع (معرفة الناس وأعرافهم).
ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ
الشرط الأول: الإسلام
فلا يُقبل خبر الكافر ولا المرتد، لأمره تعالى بالتوقف في قبول خبر الفاسق ففي الكافر أولى، قال تعالى (إن جاءكم فاسق بنبأٍ فتبيّنوا) الحجرات 6. ولقوله تعالى (ياأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) النساء 59، وأولوا الأمر يدخل فيهم الأمراء والعلماء كما رجّحه ابن تيمية، وقوله (منكم) أي من المسلمين بدليل قوله تعالى (اثنان ذوا عدلٍ منكم أو آخران من غيركم) المائدة 106، فالكافر ليس منا فلا طاعة له ولايُقبل خبره.
الشرط الثاني: البلوغ:
لأن الصبي لاحكم لقوله كما ذكره الخطيب، وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم (رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يعقل) رواه أبو دواد عن عليّ رضي الله عنه، ورواه الترمذي وحسّنه، ورواه البخاري تعليقا عن علي بلفظ مقارب في الطلاق والحدود.
الشرط الثالث: العقل(4/2)
لأنه شرط التكليف للحديث السابق. ولكن المطلوب في المفتي ليس مجرد أن لايكون مجنونا أو معتوهاً، بل المطلوب فيه أمر أعلى من هذا: وهو رجحان العقل الذي وصفه ابن الصلاح بقوله (ويكون فقيه النفس، سليم الذهن، رصين الفكر، صحيح التصرف والاستنباط، مستيقظاً) (أدب المفتي) صـ 86.
وقال ابن حجر (وقال ابن حبيب عن مالك: «لا بد أن يكون القاضي عالما عاقلا». قال ابن حبيب: فإن لم يكن علمٌ فعقلٌ وورع، لأنه بالورع يقف، وبالعقل يسأل، وهو إذا طلب العلم وجده، وإذا طلب العقل لم يجده) (فتح البارى) جـ 13 صـ 146.
الشرط الرابع: لا تشترط الذكورة فتصح فتوى المرأة.
لا تشترط الذكورة، فتصح ــ مع بقية الشروط ــ فتوي الرجل والمرأة على السواء، لأن الفتوى كالرواية في تبليغ الدين لا كالشهادة. انظر (أدب المفتى) لابن الصلاح صـ 106، و(اعلام الموقعين) جـ 4 صـ 220.
الشرط الخامس: لا تشترط الحرية فتصح فتوى العبد.
لاتشترط الحرية، فتصح ــ مع بقية الشروط ــ فتوى الحرّ والعبد سواء، لأن الفتوى كالرواية لا كالشهادة التي يُتَشدد في شروطها للمشاحّة في حقوق العباد، انظر (أدب المفتى) لابن الصلاح صـ 106، و(اعلام الموقعين) جـ 4 صـ 220.
الشرط السادس: لا تشترط سلامة الحواس بإطلاق.
لا تشترط سلامة الحواس باطلاق، بل مهما أمكن المفتي أن يستمع إلى سؤال المستفتى وأن يجيب عنه ولو بالإشارة أو الكتابة فجائز. ولهذا قال ابن الصلاح (ولا بأس بأن يكون المفتى أعمى، أو أخرس مفهوم الإشارة أو كاتبا، والله أعلم) (أدب المفتى) صـ 107.
الشرط السابع: العدالة.
ونتكلم فى هذا الشرط عن مسألتين: الأولى تعريف العدالة، والثانية أقسام الناس من جهة العدالة مع بيان حكم إفتاء كل منهم.
المسألة الأولى: تعريف العدالة، وشروطها.
أما تعريف العدالة:
فقيل هى (استواء أحوال المرء في دينه).(4/3)
وقيل هى (مَلَكَة ــ أي هيئة راسخة في النفس ــ تمنع من اقتراف كبيرة، أو صغيرة دالّة على الخِسة، أو مباح يُخِل بالمروءة). قال السيوطي: وهذه أحسن عبارة في حدّها، وأضعفها قول من قال: اجتناب الكبائر والإصرار على الصغائر، لأن مجرد الاجتناب من غير أن تكون عنده ملكة وقوة تردعه عن الوقوع فيما يهواه غير كافٍ في صدق العدالة.أهـ (الأشباه والنظائر) ط دار الكتاب العربي 1407هـ، صـ 608.
وأما شروط العدالة وضوابطها فثلاثة: أداء الفرائض برواتبها، واجتناب المحرمات، واستعمال المروءة، وهذا بيانها:
أ ــ أداء الفرائض برواتبها: فليس بعدل ٍ من داوم على ترك الرواتب، فإن تهاونه بها يدل على عدم محافظته على أسباب دينه، وربما جَرَّ إلى التهاون بالفرائض، وكذا ماوجب من صوم وزكاة وحج. وانخرام العدالة بالمداومة على ترك السنن الراتبة هو مذهب جماهير العلماء ولايشكل على ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم (أفلح إن صدق) الحديث، لمن اقتصر على الفرائض دون النوافل، فإنه قيّد فلاحه بالصدق في هذا وهو مالا يمكن الجزم به لآحاد الناس، هذا فضلا عما ثبت من أن التقصير في أداء الفرائض ينجبر بالنوافل، وقد جعل الله للواجبات حِميً من المندوبات للترهيب من ترك الواجب، كما جعل للمحرمات حِميً من المكروهات للترهيب من فعل المحرم، فإن من داوم على فعل المندوب كان لفعل الواجب أدوم، ومن داوم على ترك المكروه، كان للحرام أشد تركاً، وقد دل على هذا كله حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه (إن الحلال بيّن وإن الحرام بيّن) الحديث، متفق عليه.
ب ــ اجتناب المحرَّم: بأن لايأتي كبيرة ولايُدْمِن على صغيرة. لقوله تعالى (إن جاءكم فاسق بنبأ ٍ فتبيَّنوا) الحجرات 6، وقال تعالى في القاذف (ولاتقبلوا لهم شهادة أبدا، وأولئك هم الفاسقون) النور4، ويُقاس عليه كل مرتكب كبيرة لأنه مستخف بدينه ولايؤمَن من مثله الكذب على الله وعلى الناس.(4/4)
والكبيرة هى: (ما فيه حَدّ في الدنيا أو وعيد في الآخرة) وهذا قول أحمد بن حنبل رحمه الله، وزاد ابن تيمية رحمه الله (أو ماورد فيها لعنة أو غضب أو نفي إيمان). وهذا كله من الوعيد فمن لَعَنَهُ الله ُ أو غضب عليه فقد توعّده، فكأن ابن تيمية فصَّل ماأجمله أحمد. وأقول: ومن الكبائر ماورد النص بأنه كبيرة كأحاديث (أكبر الكبائر....) و(اجتنبوا السبع الموبقات....) و (بلى إنه لكبير.....)، ومن الكبائر ماورد النص بوصف صاحبه بالفسق كقوله تعالى (بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان) الحجرات 11.
والصغيرة: مادون ذلك، ولا تجرح العدالة بفعلها إلا إذا أكثر منها أو أدْمنها، قال تعالى (الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم) النجم 32.
جـ ــ استعمال المروءة: بفعل مايُجَمِّله ويُزَيِّنه من مكارم الأخلاق وترك مايُدنِّسه ويشينه مما يُستقبح عرفا لا شرعا (إذ إن المستقبح شرعا يلتحق بالكبائر والصغائر) أما المستقبح عرفا فمثل من يكشف من بدنه ماجرت العادة بتغطيته وإن لم يكن كشفُه حراما، وككشف الرأس بالبلاد التي جرت العادة فيها بتغطيته، والأكل بالأسواق بالبلاد التي يستقبح فيها ذلك، ولُبس الثياب المستنكرة، وحكاية المضحكات.
وأصل اعتبار المروءة ضمن شروط العدالة هو قول النبي صلى الله عليه وسلم (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت) رواه البخاري. فإن من لايستعمل المروءة بمخالفة عرف أهل بلده دل ذلك على عدم حيائه، ومن لم يستح يتوقع منه الكذب ونحوه للحديث (إذا لم تستح فاصنع ماشئت). ولايخفى أن العرف المعتبر هو مالا يخالف الشرع.
يُراجع في تعريف العدالة:(مجموع فتاوى ابن تيمية) جـ 15 صـ 356 ــ 358، و(منار السبيل) جـ 2 صـ 487 ــ 489.
وقال ابن حمدان (والعدل من استمر على فعل الواجب والمندوب والصدق، وترك الحرام والمكروه والكذب، مع حفظ مروءته ومجانبة الريب والتهم بجلب نفع ودفع ضرر) (صفة المفتى) صـ 13.(4/5)
المسألة الثانية: أقسام الناس من جهة العدالة مع بيان حكم إفتاء كل منهم.
الإنسان من جهة معرفة عدالته: إما أن يكون مجهول الحال أو معلوم الحال.
1 ــ فمجهول الحال: هو من لا يُعرف حاله، ولا تُعرف عدالته، فهذا لا يجوز استفتاؤه.
2 ــ ومعلوم الحال: ثلاثة أقسام: العدل ومستور الحال والفاسق.
أ ــ أما العدل: فصفته كما سبق فى تعريف العدالة. وهو من عرفت عدالته من ظاهر حاله مع اختبار باطن حاله، فالعدل هو من عُرفت عدالته الظاهرة والباطنة. وهذا يجوز استفتاؤه.
ب ــ وأما هذا مستور الحال:فَعَرَّفه ابن الصلاح بقوله (وأما المستور وهو من كان ظاهرُهُ العدالة ولم تعرف عدالته الباطنة) (أدب المفتي) صـ 107. وعرّفه النووي بقوله (وأما المستور، وهو الذى ظاهره العدالة ولم تختبر عدالته باطنا) (المجموع) جـ 1 صـ 42. فالفرق بين العدل ومستور الحال هو في معرفة العدالة الباطنة من عدمها.
وعن حكم إفتائه: قال ابن الصلاح (ففى وجه ٍ لاتجوز فتياه كالشهادة) والأظهر أنها تجوز لأن العدالة الباطنة تعسُر معرفتها على غير الحكام، ففى اشتراطها حرجٌ على المستفتين، والله أعلم) (أدب المفتى) صـ 107. وقال ابن القيم (وفي جواز استفتاء مستور الحال وجهان: والصواب جواز استفتائه وإفتائه) (اعلام الموقعين) جـ 4 صـ 220.(4/6)
تنبيه: مدار أحكام الدنيا على الظاهر، فلا يُحكم على أحدٍ إلا بما ظهر منه، ونكل سرائر الناس إلى الله تعالى، هذا ما دلَّ عليه الكتاب والسنة وانعقد عليه إجماع الأمة. فليس المقصود بالعدالة الباطنة ــ فى الكلام السابق ــ الاطلاع علي سرائر الناس فهذا ليس إلا إلى الله تعالى، ولكن المقصود بها اختبار حال الشخص عن قرب عن طريق الصحبة والمعاملة وطول المعاشرة. ويدل على هذا مارواه سليمان بن حرب قال (شهد رجلٌ عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال له عمر: إنى لستُ أعرفك، ولايضرك أنى لا أعرفك فائتنى بمن يعرفك، فقال رجل: أنا أعرفه ياأمير المؤمنين، قال: بأى شئ تعرفه؟، فقال: بالعدالة، قال: هو جارك الأدنى تعرف ليله ونهاره ومدخله ومخرجه؟، قدل: لا، قال: فعامَلَك بالدرهم والدينار الذي يُستدل بهما على الورع؟، قال: لا، قال: فصاحَبَك فى السفر الذي يُستدل به على مكارم الأخلاق؟، قال: لا، قال: فلستَ تعرفه، ثم قال للرجل: ائتني بمن يعرفك) وهذا الأثر أخرجه أبو جعفر العقيلي وصححه أبو علي بن السَّكن كما قال الحافظ ابن حجر في (التلخيص الحبير) 4/197. فهذا أثر مُفصَّل يُبَيِّن المراد بالعدالة الباطنة وأنها الحكم على الشخص بعد اختبار حاله لا بمجرد ماظهر منه. فإنه لاتلازم بين العدالة الظاهرة والعدالة الباطنة، وقد يكون الشخص عدلاً في الظاهر فاسقا في الباطن، يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم ــ في وصف الخوارج ــ (يحقر أحدكم صلاته مع صلاته، وصيامه مع صيامه، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية) الحديث رواه البخاري، وقال ابن حجر في شرحه (وفيه أنه لايكتفى في التعديل بظاهر الحال، ولو بلغ المشهود بتعديله الغاية في العبادة والتقشف والورع حتى يُختبر باطن حاله) (فتح الباري) 12/302.(4/7)
جـ ــ الفاسق: وهو من انخرمت شروط العدالة فى حقه كأن يقصِّر فى فرض أو يفرِّط فى أداء الرواتب، أو يرتكب كبيرة، أو يدمن على صغيرة، أو لايراعي أسباب المروءة. قال ابن حمدان (وتفصيل ذلك فى كتب الفقه، وبالجملة كل مايأثم بفعله مرة يفسق بفعله ثلاثا، وإن كان كبيرة فمرة، وكل ماأسقط المروءة أسقط العدالة إذا كثُر، وإن لم يكثر لم يأثم به) (صفة الفتوى لابن حمدان) صـ 13.
أما عن حكم إفتائه: فلا يجوز استفتاؤه ولا تُقبل فتواه لأمر الله تعالى بالتوقف في قبول خبر الفاسق، قال تعالى (إن جاءكم فاسق بنبأ ٍ فتبينوا) الحجرات 6، وقال تعالى (ولاتقبلوا لهم شهادة أبداً وأولئك هم الفاسقون) النور 4، هذا مع إخباره تعالى بحرمان الفاسقين من التوفيق وذلك في قوله تعالى (والله لا يهدي القوم الفاسقين) التوبة 24 والصف 5. وقال الخطيب البغدادي (علماء المسلمين لم يختلفوا في أن الفاسق غير مقبول الفتوى في أحكام الدين وإن كان بصيراً بها) (الفقيه والمتفقه) جـ 2 صـ 156. وقال ابن الصلاح (لا تصح فتيا الفاسق وإن كان مجتهداً مستقلاً، غير أنه لو وقعت له في نفسِه واقعة عمل فيها باجتهاد نفسه ولم يستفت غيره) (أدب المفتي) صـ 107. وقال النووي (اتفقوا على أن الفاسق لا تصح فتواه، ونقل الخطيب فيه إجماع المسلمين: ويجب عليه إذا وقعت له واقعة أن يعمل باجتهاد نفسه) (المجموع) جـ 1 صـ 42. وقال ابن القيم (وأما فتيا الفاسق فإن أفتى غيره لم تُقبل فتواه، وليس للمستفتي أن يستفتيه، وله أن يعمل بفتوى نفسه، ولا يجب عليه أن يفتي غيره) (اعلام الموقعين) جـ 4 صـ 220.
ومع هذا فقد قال ابن القيم (وإذا عمَّ الفسوق وغلب على أهل الأرض فلو مُنِعت إمامة الفُسَّاق وشهاداتهم وأحكامهم وفتاويهم وولاياتهم لعُطّلت الأحكام وفَسَد نظام الخلق، وبطلت أكثرالحقوق، ومع هذا فالواجب اعتبار الأصلح فالأصلح) (اعلام الموقعين) جـ 4 صـ 220.(4/8)
(فائدة) في استفتاء أهل البدع: قال النووي (قال الصيمري: وتصحّ فتاوى أهل الأهواء والخوارج ومن لا نكفره ببدعته ولانفَسِّقه، ونقل الخطيب هذا، ثم قال: وأما الشراة والرافضة الذين يَسُبّون السلف الصالح ففتاويهم مردودة وأقوالهم ساقطة) (المجموع) جـ 1 صـ42.
قلت: وضابط هذا ألا يوجد أفضل منه أو مثله في العلم من أهل العدل كما سيأتي في أحكام المستفتي، وفيها نذكر إن شاء الله أنه يجب على كل مسلم معرفة حال من يستفتيه من جهة العدالة، خاصة مع تغير الأحوال وكثرة علماء السوء.
الشرط الثامن: العلم الشرعي:
الأصل في المفتي أن يكون مجتهداً في الشريعة، إذ لم يختلف المسلمون من السلف والخلف على جواز إفتاء المجتهد واستفتائه. وإن كانوا قد اختلفوا فيمن لم يكن مجتهداً، كما سيأتي ذكره في (مراتب المفتين).
وقد سبق تعريف (الاجتهاد) و (المجتهد) في القسم الأول من هذا الفصل، وأن الاجتهاد هو: بذل الفقيه الوِسع في نيل حكم شرعي عملي بطريق الاستنباط، وأن المجتهد هو هذا الفقيه الباذل وسعه، ولايتمكن من هذا إلا بمعرفة علوم معينة، هى علوم الاجتهاد، ولم يختلف العلماء في أنها خمسة علوم وهى:
1 ــ معرفة القرآن وعلومه.
2 ــ معرفة الحديث وعلومه، أي معرفة الحديث رواية ودراية، وتمييز مايحتج به من الحديث مما لا يحتج به.
3 ــ معرفة الإجماع والاختلاف، أي ماأجمع عليه العلماء قبله ومااختلفوا فيه، وأن يكون قادراً على معرفة الصواب فيما اختلفوا فيه، أي قادراً على الترجيح، قال ابن تيمية (الفقيه: الذي سمع اختلاف العلماء وأدلتهم في الجملة، وعنده مايعرف به رجحان القول) (الاختيارات الفقهية) ط دار المعرفة، صـ 333.
4 ــ معرفة اللغة العربية، نحوها وصرفها ومعانيها وأساليبها.
5 ــ معرفة أصول الفقه، خاصة القياس والتعارض والترجيح.(4/9)
وقد اختلفت عبارات العلماء في وصف هذه العلوم الخمسة كما اختلفوا في ترتيبها إلا أن كلامهم في مضمونه واحد. كذلك فقد أطلق بعض العلماء القول في القدر الواجب معرفته من كل علم، وحدد بعضهم هذا القدر.
وسوف أذكر ــ فيما يلي ــ أولا أقوال من أطلق القول ثم من حدّده، فأما الذين أطلقوا القول في وصف علوم المجتهد ومقدارها، فمنهم ــ حسب ترتيب وَفَيَاتهم ــ
1 ــ الإمام الشافعي رحمه الله (204 هـ) قال (لايحل لأحد أن يفتي في دين الله إلا رجلاً عارفا بكتاب الله بناسخه ومنسوخه، وبمحكمه ومتشابهه، وتأويله وتنزيله، ومكيه ومدنيه وما أريد به وفيما أنزل، ثم يكون بعد ذلك بصيراً بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناسخ والمنسوخ، ويعرف من الحديث ماعرف من القرآن، ويكون بصيراً باللغة، بصيراً بالشعر وبما يحتاج إليه للعلم والقرآن، ويستعمل مع هذا الإنصاف، وقلة الكلام، ويكون بعد هذا مشرفاً على اختلاف أهل الأمصار، وتكون له قريحة بعد هذا، فإذا كان هكذا فله أن يتكلم ويفتي في الحلال والحرام وإذا لم يكن هكذا فله أن يتكلم في العلم ولايفتي) أهـ (الفقيه والمتفقه) جـ 2 صـ 157.
2 ــ الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله (241 هـ) قال (ينبغي للرجل إذا حمل نفسه على الفتيا أن يكون عارفا بالسنن، عالما بوجوه القرآن، عالما بالأسانيد الصحيحة، وإنما جاء خلاف من خالف لقلة معرفتهم بما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في السنن، وقلة معرفتهم بصحيحها من سقيمها) (الفقيه والمتفقه) جـ 2 صـ 157.(4/10)
وقال ابن القيم (قال ــ أحمد ابن حنبل ــ في رواية ابنه صالح: ينبغي للرجل إذا حمل نفسه على الفتيا أن يكون عالما بوجوه القرآن، عالما بالأسنايد الصحيحة، عالما بالسنن. وقال في رواية أبي الحارث: لا تجوز الفتيا إلا لرجل عالم بالكتاب والسنة. وقال في رواية حنبل: ينبغي لمن أفتي أن يكون عالما بقول مَنْ تقدم، وإلا فلا يفتي. وقال في رواية يوسف بن موسى: أحِبُّ أن يتعلم الرجل كل ماتكلم فيه الناس. وقال في رواية ابنه عبدالله، وقد سأله عن الرجل يريد أن يسأله عن أمر دينه مما يبتلى به من الأيمان في الطلاق وغيره، وفي مصره من أصحاب الرأي، وأصحاب الحديث لا يحفظون، ولا يعرفون الحديث الضعيف ولا الإسناد القوي، فلمن يسأل؟ لهؤلاء أو لأصحاب الحديث على قلة معرفتهم؟ فقال: يسأل أصحاب الحديث، ولايسأل أصحاب الرأي، ضعيف الحديث خير من الرأي. وقال في رواية محمد بن عبيد الله بن المنادى، وقد سمع رجلا يسأله: إذا حفظ الرجل مائة ألف حديث يكون فقيها؟ قال: لا، قال: فمائتي ألف؟ قال: لا، قال: فثلاثمائة ألف؟ قال: لا، قال: فأربعمائة ألف؟ قال بيده هكذا، وحركها، قال حفيده أحمد بن جعفر بن محمد: فقلت لجدي: كم كان يحفظ أحمد، فقال: أجاب عن ستمائة ألف.
وقال عبدالله بن أحمد: سألت أبي عن الرجل يكون عنده الكتب المصنفة فيها قول رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين، وليس للرجل بصر بالحديث الضعيف المتروك ولا الإسناد القوي من الضعيف، فيجوز أن يعمل بما شاء ويتخير منها فيفتي به ويعمل به، قال: لا يعمل حتى يسأل مايأخد به منها فيكون يعمل على أمر صحيح، يسأل عن ذلك أهل العلم) (اعلام الموقعين) جـ 4 صـ 205 ــ 206.(4/11)
وكما ترى فقد اختلفت أقوال الإمام أحمد رحمه الله فيما يجب على المفتي حفظه من الحديث، فأجاز إفتاء صاحب الحديث وإن لم يكن حافظاً وأن هذا خير من الرأي، ثم أوجب عليه حفظ أربعمائة ألف حديث. وبيان ذلك أن الأول محمول على حال الضرورة، والثاني محمول على الكمال المطلوب للمفتي، فقد ذكر الشوكاني رحمه الله أقوال الإمام أحمد هذه، ثم قال: (قال بعض أصحابه: هذا محمول على الاحتياط والتغليظ في الفتيا أو يكون أراد وصف أكمل الفقهاء، فأما مالابد منه فقد قال أحمد رحمه الله: الأصول التي يدور عليها العلم عن النبي صلى الله عليه وسلم ينبغي أن تكون ألفا ومائتين) (ارشاد الفحول) صـ 233، ط 1، وستأتي بقية كلام الشوكاني إن شاء الله تعالى.
وقال القاضي أبو يعلى الحنبلي مثل ماقال الشوكاني، فقد ذكر رواية الأربعمائة ألف حديث هذه عن أحمد ثم قال (وظاهر هذا الكلام أنه لايكون من أهل الاجتهاد إذا لم يحفظ من الحديث هذا القدر الكثير الذي ذكره، وهذا محمول على الاحتياط والتغليظ في الفتوى) نقله ابن القيم في (اعلام الموقعين) جـ 1 صـ 45.
وقال القاضي بدر الدين الزركشي في (البحر المحيط في أصول الفقه) (ضبط بعضهم معرفة ما يحتاج إليه من السنن المتعلقة بالأحكام بثلاثة آلاف حديث). ثم قال وشدد أحمد بن حنبل فاشترط معرفة خمسمائة ألف حديث، قال الزركشي (وكان مراده بهذا العدد آثار الصحابة والتابعين، وطرق المتون، ولهذا قال: من لم يجمع طرق الحديث لم يحل له الحكم ولا الفتيا) نقل هذا السيوطي في (الرد على من أخلد إلى الأرض) صـ 151 ــ 152.(4/12)
وضبط ابن القيم الأمر فقال: (وسنة رسوله وهى بحمد الله تعالى مضبوطة محفوظة، وأصول الأحكام التي تدور عليها نحو خمسمائة حديث، وفرشها وتفاصيلها نحو أربعة آلاف حديث) (اعلام الموقعين) جـ 2 صـ 238. قلت: والحد الأدنى الذي ذكره ابن القيم هو عدة أحاديث كتاب (عمدة الأحكام) لعبدالغني المقدسي 600هـ (أحاديثه 407)، والفرش والتفصيل هو عدة أحاديث كتاب (منتقى الأخبار) لمجد الدين ابن تيمية 653هـ (أحاديثه 5029) وهو الذي شرحه الشوكاني في (نيل الأوطار)، فهذا مايلزم المجتهد من أحاديث الأحكام، وكذلك ذكر عبدالقادر بن بدران الحنبلي 1346 هـ أن أحاديث المنتقى تكفي المجتهد، انظر (المدخل إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل) لابن بدران، ط مؤسسة الرسالة 1401هـ، صـ 466. هذا والله تعالى أعلم.
3 ــ أبو محمد بن حزم رحمه الله (456 هـ) (المتأهبون لنذارة قومهم، ولتعليم المتعلم وفتيا المستفتي، وربما للحكم بين الناس ــ: ففرض عليهم تقصي علوم الديانة على حسب طاقتهم، من أحكام القرآن، وحديث النبي صلى الله عليه وسلم، ورُتَب النقل، وصفات النقلة، ومعرفة المسند الصحيح مماعداه من مرسل وضعيف، هذا فرضه اللازم له، فإن زاد إلى ذلك معرفة الإجماع والاختلاف، ومن أين قال كل قائل، وكيف يرد أقاويل المختلفين المتنازعين إلى الكتاب والسنة ــ: فحسن، وفرض عليه تعلم كيفية البراهين التي يتميز بها الحق من الباطل، وكيف يعمل فيما ظاهره التعارض من النصوص، وكل هذا منصوص في القرآن:
قال تعالى: «ليتفقهوا في الدين». فهذا إيجاب لتعلم أحكام القرآن وأحكام أوامر النبي صلى الله عليه وسلم، لأن هذين أصل الدين.
وقال تعالى «إن جاءكم فاسق بنبأٍ فتبينوا»، فوجب بذلك تَعَرّف عدول النقلة من فساقهم، وفقهائهم ممن لم يتفقه منهم.(4/13)
وأما معرفة الإجماع والاختلاف فقد زعم قوم أن هذا يجب بقوله تعالى:«أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم»، قال: ففرض علينا معرفة ما اتفق عليه أولوا الأمر منا، لأننا مأمورون بطاعتهم، ولا يمكننا طاعتهم إلا بعد معرفة إجماعهم الذي يلزمنا طاعتهم فيه.
وأما معرفة الاختلاف ومعرفة مايتنازعون فيه ومعرفة كيفية الرد إلى الكتاب والسنة فبقوله تعالى: «فإن تنازعتم في شىء فردوه إلى الله والرسول». ففرض علينا معرفة مايتنازعون فيه ومعرفة كيف يرد ذلك إلى الكتاب والسنة، لأننا إن لم نعرف الاختلاف ظننا أن القول الذي نسمعه من بعض العلماء لاخلاف فيه، فنتبعه دون أن نعرضه على القرآن والسنة، فنخطئ ونعصي الله تعالى إذ أخذنا قولا نهينا عن اتباعه. ــ إلى قوله ــ:
فأما معرفة كيفية إقامة البرهان فبقوله تعالى:«قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين». فلم نقل شيئا إلا ما قاله ربنا عزوجل وأوجبه علينا. والحمد لله رب العالمين. ــ إلى قوله ــ:
وقال تعالى «ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها»، ففرض علينا معرفة الناسخ من المنسوخ.(4/14)
وفرض على من قصد التفقّه في الدين كما ذكرنا أن يستعين على ذلك من سائر العلوم بما تقتضيه حاجته إليه في فهم كلام ربه تعالى، وكلام نبيه صلى الله عليه وسلم. قال تعالى: «وماأرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم» ففرض على الفقيه أن يكون عالما بلسان العرب ليفهم عن الله عزوجل، وعن النبي صلى الله عليه وسلم، ويكون عالما بالنحو الذي هو ترتيب العرب لكلامهم الذي به نزل القرآن، وبه يفهم معاني الكلام التي يُعبر عنها باختلاف الحركات وبناء الألفاظ، فمن جهل اللغة وهى الألفاظ الواقعة على المسميات، وجهل النحو الذي هو علم اختلاف الحركات الواقعة لاختلاف المعاني ــ: فلم يعرف اللسان الذي به خاطبنا الله تعالى ونبينا عليه السلام، ومن لم يعرف ذلك اللسان لم يَحِلّ له الفتيا فيه، لأنه يفتي بما لا يدري، وقد نهاه الله تعالى عن ذلك بقوله تعالى: «ولا تقف ما ليس لك به علم». وبقوله تعالى: «ومن الناس من يجادل في الله بغير علم». وبقوله تعالى: «هاأنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجُّون فيما ليس لكم به علم ». وقال تعالى: «وتقولون بأفواهكم ماليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم ».
وفرض على الفقيه أن يكون عالما بسير النبي صلى الله عليه وسلم ليعلم آخر أوامره وأولها، وحربه عليه السلام لمن حارب، وسِلْمه لمن سالم، وليعرف على ماذا حارب، ولماذا وضع الحرب. وحَرّم الدم بعد تحليله، وأحكامه عليه السلام التي حَكَم بها.(4/15)
فمن كانت هذه صفته، وكان وَرِعاً في فتياه، مشفقا على دينه، صليبا في الحق، حلت له الفتيا، وإلا فحرام عليه أن يفتي بين اثنين، أو أن يحكم بين اثنين، وحرام على الإمام أن يقلده حكما، أو يتيح له فتيا، وحرام على الناس أن يستفتوه، لأنه إن لم يكن عالما بما ذكرنا فلم يتفقه في الدين، وإن لم يكن مشفقا على دينه فهو فاسق، وإن لم يكن صليبا لم يأمر بمعروف ولانهى عن منكر) (الإحكام) لابن حزم جـ 5 صـ 124 ــ 126.
4 ــ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله (643 هـ): قال (المفتي المستقل، وشرطه: أن يكون مع ماذكرناه قيماً بمعرفة أدلة الأحكام الشرعية من الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس، وماالتحق بها على التفصيل، وقد فصلت في كتب الفقه، وغيرها. فتيسرت والحمد لله. عالماً بما يُشترط في الأدلة ووجوه دلالتها، وبكيفية اقتباس الأحكام منها، وذلك يُستفاد من علم أصول الفقه. عارفاً من علم القرآن، وعلم الحديث، وعلم الناسخ والمنسوخ، وعلمي النحو، واللغة، واختلاف العلماء واتفاقهم بالقدر الذي يتمكن به من الوفاء بشروط الأدلة والاقتباس منها، ذا دربةٍ وارتياض ٍ في استعمال ذلك، عالماً بالفقه، ضابطاً لأمهات مسائله وتفاريعه المفروغ من تمهيدها.
فمن جمع هذه الفضائل فهو المفتي المطلق المستقل الذي يتأدي به فرض الكفاية، ولن يكون إلا مجتهداً مستقلاً.
والمجتهد المستقل: هو الذي يستقل بإدراك الأحكام الشرعية من الأدلة الشرعية من غير تقليدٍ وتقيد ٍ بمذهب واحد.) (أدب المفتي) صـ 86 ــ 87.
وبعد: فقد كانت تلك أقوال العلماء في وصف علوم المجتهد الخمسة (الكتاب والسنة، والإجماع والخلاف، واللغة العربية، وأصول الفقه)، ولم يرد تحديد القدر المطلوب معرفته للمجتهد من هذه العلوم في الأقوال السابقة، وإنما ورد التحديد في أقوال غيرهم كأبي حامد الغزالي والشوكاني والصنعاني رحمهم الله، وسوف نكتفي بذكر قول الشوكاني في ذلك إذ ضمَّن كلامه قول الغزالي وزاد عليه،(4/16)
أما قول الغزّالي في علوم المجتهد فمذكور في كتابه (المستصفى) جـ 2 صـ 350 ــ 353.
وأما الشوكاني (ت 1255 هـ) فقال ــ في علوم المجتهد ــ
(«الأول» أن يكون عالما بنصوص الكتاب والسنة، فإن قصّر في أحدهما لم يكن مجتهداً ولا يجوز له الاجتهاد.
ولا يشترط معرفته بجميع الكتاب والسنة بل بما يتعلق منهما بالأحكام
قال الغزّالي وابن العربي والذي في الكتاب العزيز من ذلك قدر خمسمائة آية. ودعوى الانحصار في هذا المقدار إنما هى باعتبار الظاهر للقطع بأن في الكتاب العزيز من الآيات التي تُستخرج منها الأحكام الشرعية أضعاف أضعاف ذلك، بل من له فهم صحيح وتدبر كامل يستخرج الأحكام من الآيات الواردة لمجرد القصص والأمثال
* قيل ولعلهم قصدوا بذلك الآيات الدالة على الأحكام دلالة أولية بالذات لا بطريق التضمن والالتزام
* وقد حكى الماوردي عن بعض أهل العلم أن اقتصار المقتصرين على العدد المذكور إنما هو لأنهم رأوا مقاتل بن سليمان أفرد آيات الأحكام في تصنيف وجعلها خمسائة آية
* قال الأستاذ أبو منصور يشترط معرفة مايتعلق بحكم الشرع ولايشترط معرفة ما فيها من القصص والمواعظ. واختلفوا في القدر الذي يكفي المجتهد من السنة فقيل خمسائة حديث وهذا من أعجب مايقال فإن الأحاديث التي تؤخذ منها الأحكام الشرعية ألوف مؤلفة.
* وقال ابن العربي في المحصول هى ثلاثة آلاف
* وقال أبو على الضرير قلت لأحمد بن حنبل كم يكفي الرجل من الحديث حتى يمكنه أن يفتي يكفيه مائة ألف، قال: لا، قلت: ثلاثمائة ألف، قال: لا، قلت: أربعمائة ألف، قال: لا، قلت: خمسمائة ألف، قال: أرجو.
* قال بعض أصحابه هذا محمول على الاحتياط والتغليظ في الفتيا أو يكون أراد وصف أكمل الفقهاء فأما مالابد منه فقد قال أحمد رحمه الله الأصول التي يدور عليها العلم عن النبي صلى الله عليه وسلم ينبغي أن تكون ألفا ومائتين.(4/17)
* قال أبو بكر الرازي لايشترط استحضار جميع ماورد في ذلك الباب إذ لايمكن الإحاطة به ولو تصور لما حضر في ذهنه عند الاجتهاد جميع ماروي.
* وقال الغزالي وجماعة من الاصوليين يكفيه أن يكون عنده أصل بجمع أحاديث الأحكام كسنن أبي داود ومعرفة السنن للبيهقي أو أصل وقعت العناية فيه بجمع أحاديث الأحكام ويكتفي فيه ــ بمعرفته ــ بمواقع كل باب فيراجعه وقت الحاجة وتبعه على ذلك الرافعي، ونازعه النووي وقال لايصح التمثيل بسنن أبي داود فإنها لم تستوعب الصحيح من أحاديث الأحكام ولا معظمها وكم في صحيح البخاري ومسلم من حديث حُكْمي ليس في سنن أبي داود، وكذا قال ابن دقيق العيد في شرح العنوان: التمثيل بسنن أبي داود ليس بجيد عندنا لوجهين:
(الأول) أنها لاتحوي السنن المحتاج إليها.
(الثاني) أن في بعضها مالا يحتج به في الأحكام.انتهى.
ولا يخفاك أن كلام أهل العلم في هذا الباب من قبيل الإفراط وبعضه من قبيل التفريط، والحق الذي لاشك فيه ولاشبهة أن المجتهد لابد أن يكون عالما بما اشتملت عليه مجاميع السنة التي صنفها أهل الفن كالأمهات الست ومايلحق بها، مشرفا على مااشتملت عليه المسانيد والمستخرجات والكتب التي التزم مصنفوها الصحة، ولايشترط في هذا أن تكون محفوظة له مُستحضرة في ذهنه بل يكون ممن يتمكن من استخراجها من مواضعها بالبحث عنها عند الحاجة إلى ذلك، وأن يكون ممن له تمييز بين الصحيح منها والحسن والضعيف بحيث يعرف حال رجال الإسناد معرفة يتمكن بها من الحكم على الحديث بأحد الأوصاف المذكورة، وليس من شرط ذلك أن يكون حافظاً لحال الرجال عن ظهر قلب بل المعتبر أن يتمكن بالبحث في كتب الجرح والتعديل من معرفة حال الرجال، مع كونه ممن له معرفة تامة بما يوجب الجرح ومالا يوجبه من الأسباب وماهو مقبول منها وماهو مردود وماهو قادح من العلل وماهو غيرقادح.(4/18)
(الشرط الثاني) أن يكون عارفا بمسائل الإجماع حتى لا يفتي بخلاف ماوقع الإجماع عليه إن كان ممن يقول بحجية الإجماع ويرى أنه دليل شرعي، وقل أن يلتبس على من بلغ رتبة الاجتهاد ماوقع عليه الإجماع من المسائل.
(الشرط الثالث) أن يكون عالما بلسان العرب بحيث يمكنه تفسير ماورد في الكتاب والسنة من الغريب ونحوه، ولايشترط أن يكون حافظاً لها عن ظهر قلب بل المعتبر أن يكون متمكنا من استخراجها من مؤلفات الأئمة المشتغلين بذلك وقد قرّبوها أحسن تقريب وهذبوها أبلغ تهذيب ورتبوها على حروف المعجم ترتيبا لايصعب الكشف عنه ولايبعد الاطلاع عليه، وإنما يتمكن من معرفة معانيها وخواص تراكيبها ومااشتملت عليه من لطائف المزايا من كان عالما بعلم النحو والصرف والمعاني والبيان حتى يثبت له في كل فن من هذه مَلَكَة يستحضر بها كل مايحتاج إليه عند وروده عليه فإنه عند ذلك ينظر في الدليل نظراً صحيحا ويستخرج منه الأحكام استخراجا قويا. ومن جعل المقدار المحتاج إليه من هذه الفنون هو معرفة مختصراتها أو كتاب متوسط من المؤلفات الموضوعة فيها فقد أبعد، بل الاستكثار من الممارسة لها والتوسع في الاطلاع على مطولاتها مما يزيد المجتهد قوة في البحث وبصراً في الاستخراج وبصيرة في حصول مطلوبه. والحاصل أنه لابد أن تثبت له الملكة القوية في هذه العلوم وإنما تثبت هذه الملكة بطول الممارسة وكثرة الملازمة لشيوخ هذا الفن. قال الإمام الشافعي يجب على كل مسلم أن يتعلم من لسان العرب مايبلغه جهده في أداء فرضه. قال الماوردي ومعرفة لسان العرب فرض على كل مسلم من مجتهد وغيره.(4/19)
(الشرط الرابع) أن يكون عالما بعلم أصول الفقه لاشتماله على نفس الحاجة إليه، وعليه أن يطول الباع فيه ويطلع على مختصراته ومطولاته بما تبلغ به طاقته فإن هذا العلم هو عماد فسطاط الاجتهاد وأساسه الذي تقوم عليه أركان بنائه، وعليه أيضا أن ينظر في كل مسئلة من مسائله نظراً يوصله إلى ماهو الحق فيها فإنه إذا فعل ذلك تمكن من رد الفروع إلى أصولها بأيسر عمل وإذا قصر في هذا الفن صعب عليه الرد وخبط فيه وخلط. قال الفخر الرازي في المحصول وماأحسن ماقال إن أهم العلوم للمجتهد علم أصول الفقه انتهى. قال الغزالي إن أعظم علوم الاجتهاد يشتمل على ثلاثة فنون: الحديث واللغة وأصول الفقه.
إلى أن قال الشوكاني ــ وجعل قوم من جملة علوم الاجتهاد معرفة القياس بشروطه وأركانه، قالوا لأنه مناط الاجتهاد وأصل الرأي ومنه يتشعّب الفقه، وهو كذلك ولكنه مندرج تحت علم أصول الفقه، فإنه باب من أبوابه وشُعْبة من شعبه) أهـ (إرشاد الفحول) للشوكاني، الطبعة الأولى 1327 هـ،
صـ 233 ــ 235.
وزاد الغزّالي في كلامه عن الإجماع، قال: (وأما الإجماع فينبغي أن تتميز عنده مواقع الإجماع حتى لايفتي بخلاف الإجماع كما يلزمه معرفة النصوص حتى لايفتي بخلافها، والتخفيف في هذا الأصل أنه لايلزمه أن يحفظ جميع مواقع الإجماع والخلاف بل كل مسئلة يفتي فيها فينبغي أن يعلم أن فتواه ليس مخالفاً للإجماع، إما بأن يعلم أنه موافق مذهبا من مذاهب العلماء أيهم كان أو يعلم أن هذه واقعة متولدة في العصر لم يكن لأهل الإجماع فيها خوض فهذا القدر فيه كفاية) (المستصفى) جـ 2 صـ 351.
وزاد النووي قال (ثم لايُشترط أن يكون جميع الأحكام على ذهنه، بل يكفيه كونه حافظا المُعْظَم، متمكناً من إدراك الباقي عن قرب) (المجموع) جـ 1 صـ 42، نقله عن ابن الصلاح صـ 89.(4/20)
وبعد، فقد كانت تلك أقوال العلماء في صفة علوم المجتهد، ضمن الكلام عن شرط العلم الشرعي من شروط المفتي، ولاخلاف في أن من كانت هذه صفته جاز له أن يفتي وهو المفتي المجتهد، والاجتهاد أنواع سيأتي ذكرها في مراتب المفتين، وإنما اختلف العلماء فيمن لم يستوف هذه الصفة هل له أن يفتي؟ فيه تفصيل يأتي في الكلام عن مراتب المفتين إن شاء الله.
الشرط التاسع:علم الواقع (معرفة الناس وأعرافهم).
ذكرنا في أول هذا القسم مانقله ابن القيم عن أحمد بن حنبل أنه ينبغي أن تكون من صفات المفتي معرفة الناس (اعلام الموقعين) جـ 4 صـ 199. وفصَّل ابن القيم الكلام في هذا الشرط فقال (وأما قوله «الخامسة معرفة الناس» فهذا أصل عظيم يحتاج إليه المفتي والحاكم، فإن لم يكن فقيها فيه فقيها في الأمر والنهي ثم يطبق أحدهما على الآخر، وإلا كان مايُفْسِد أكثر مما يصلح، فإنه إذا لم يكن فقيها في الأمر له معرفة بالناس تَصَوَّر له الظالم بصورة المظلوم وعكسه، والمُحق بصورة المُبطل وعكسه، وراج عليه المكر والخداع والاحتيال، وتَصَوَّر له الزنديق في صورة الصِّديق، والكاذب في صورة الصادق، ولَبِس كل مُبطل ثوب زور تحتها الإثم والكذب والفجور، وهو لجِهله بالناس وأحوالهم وعوائدهم وعُرفياتهم لايميز هذا من هذا، بل ينبغي له أن يكون فقيها في معرفة مكر الناس وخداعهم واحتيالهم وعوائدهم وعرفياتهم، فإن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان والعوائد والأحوال، وذلك كله من دين الله كما تقدم بيانه، وبالله التوفيق.) (اعلام الموقعين) جـ 4 صـ 204 ــ 205، وله كلام قريب من هذا في (اعلام الموقعين) جـ 4 صـ 229 ــ 230، و جـ 1 صـ 87 ــ 88.(4/21)
هذا من ناحية معرفة الناس، أما معرفة العرف، فقد سبق القول في أحكام الإفتاء إنه لايجوز للمفتي أن يفتي في مسائل معينة مالم يكن عالما بالمراد بها في عرف الناس. ومن هذا قول ابن الصلاح رحمه الله (لا يجوز له أن يفتي في الأيمان والأقارير، ونحو ذلك مما يتعلق بالألفاظ إلا إذا كان من أهل بلد اللافظ بها، أو متنزلاً منزلتهم في الخبرة بمراداتهم من ألفاظهم وتعارفهم فيها، لأنه إذا لم يكن كذلك كثُر خطؤه عليهم في ذلك كما شهدت به التجربة والله أعلم) (أدب المفتي) صـ 115. وسبق أيضا في أحكام الإفتاء كلام ابن القيم في وجوب معرفة المفتي بالعرف من كتابه (اعلام الموقعين) جـ 3 صـ 89، وجـ 4 صـ 228 ــ 229، فراجعه هناك.
وبعد: فكانت تلك جملة شروط المفتي، وبقيت مسائل متعلقة بذلك ذكرها ابن القيم عن أحمد بن حنبل في وصفه للمفتي، قال أحمد رضي الله عنه (لاينبغي للرجل أن ينصب نفسه للفتيا حتى يكون فيه خمس خصال، أولها: أن تكون له نية، فإن لم يكن له نية لم يكن عليه نور ولا على كلامه نور. والثانية: أن يكون له علم وحلم ووقار وسكينة. الثالثة: أن يكون قويا على ماهو فيه وعلى معرفته. والرابعة: الكفاية وإلا مضغه الناس. الخامسة: معرفة الناس) (اعلام الموقعين) جـ 4 صـ 199.
وقد تكلمنا في شروط المفتي السابقة عن الصفة الثالثة (أن يكون قويا على ماهو فيه) والمراد به العلم بالشريعة، والصفة الخامسة (معرفة الناس).
ونتكلم هنا عن بقية الصفات التي ذكرها أحمد وهى النية والحلم والكفاية.
المسألة الأولى:أن تكون للمفتي نية صالحة.(4/22)
قال ابن القيم رحمه الله (فأما النية فهى رأس الأمر وعموده وأساسه وأصله الذي عليه يبني، فإنها روح العمل وقائدهُ وسائقه، والعمل تابع لها يُبني عليها، يصح بصحتها ويفسد بفسادها وبها يُستجلب التوفيق، وبعدمها يحصل الخذلان، وبحسبها تتفاوت الدرجات في الدنيا والآخرة، فكم بين مُريد بالفتوى وجه الله ورضاه والقرب منه وماعنده، ومريد بها وجهَ المخلوق ورَجاء منفعته ومايناله منه تخويفا أو طمعا ً، فيفتي الرجلان بالفتوى الواحدة وبينهما في الفضل والثواب أعظم مما بين المشرق والمغرب. هذا يفتي لتكون كلمة الله هى العليا ودينه هو الظاهر ورسوله هو المطاع، وهذا يفتي ليكون قوله هو المسموع وهو المشار إليه وَجَاهُهُ هو القائم سواء وافق الكتاب والسنة أو خالفهما، فالله المستعان.
وقد جرت عادة الله التي لاتبدل وسنته التي لاتُحول أن يُلْبسَ المخلص من المهابة والنور والمحبة في قلوب الخلق وإقبال قلوبهم إليه ماهو بحسب إخلاصه ونيته ومعاملته لربه، ويُلبِس المرائي اللابسَ ثوبي الزور من المَقْت والمَهَانة والبغضة ماهو اللائق به، فالمخلص له المهابة والمحبة، وللآخر المقت والبغضاء.) (اعلام الموقعين) جـ 4 صـ 199 ــ 200.
وقد سبق الكلام في النية بالتفصيل في أول الفصل الأول من الباب الرابع.
المسألة الثانية:أن يكون المفتي حليماً وقوراً.(4/23)
قال ابن القيم رحمه الله (وأما قوله: «أن يكون له حلم ووقار وسكينة» فليس صاحب العلم والفتيا إلى شىء أحْوَجَ منه إلى الحلم والسكينة والوقار، فإنها كسوة علمه وجماله، وإذا فقدها كان علمه كالبدن العارى من اللباس، وقال بعض السلف: ماقُرِن شئ إلى شئ أحسن من علم إلى حلم. والناس ههنا أربعة أقسام، فخيارهم من أوتي الحلم والعلم، وشرارهم من عدِمَهُما، والثالث من أوتى علماً بلا حلم، والرابع: عكسه فالحلم زينة العلم وبهاؤه وجماله. وضد الطيش والعجلة والحدة والتسرع وعدم الثبات، فالحليم لايستفزه البَدَوَات، ولايستخفه الذين لايعلمون، ولايُقلقه أهل الطيش والخفة والجهل. بل هو وقور ثابت ذو أناة يملك نفسه عند ورود أوائل الأمور عليه ولاتملكه أوائلها، وملاحظته للعواقب تمنعه من أن تستخفه دواعى الغضب والشهوة، فبالعلم تنكشف له مواقع الخير والشر والصلاح والفساد، وبالحلم يتمكن من تثبيت نفسه عند الخير فيؤثره ويصبر عليه وعند الشر فيصبر عنه، فالعلم يُعَرِّفه رُشْدَه والحلم يُثَبِّته عليه) (إعلام الموقعين) جـ4 صـ200.
المسألة الثالثة:أن تكون للمفتى كفاية
أى مال يغنيه، إما بكونه غنيا أو بأخذه من بيت المال، ولايجوز بحال أن يأخذ من أعيان من يفتيهم. وقد سبق الكلام فى أرزاق الفقهاء فى الباب الثالث عند الكلام فى واجب الإمام فى تعليم الرعية، وفى الباب الرابع عند الكلام فى آداب العالم فى تدريسه.
قال ابن القيم (وأما قوله «الكفاية والإ مضغه الناس» فإنه إذا لم يكن له كفاية احتاج إلي الناس وإلى الأخذ مما في أيديهم، فلا يأكل منهم شيئا إلا أكلوا من لحمه وعِرضه أضعافه) (اعلام الموقعين)
جـ 4 صـ 204.
قال ابن الصلاح (الأولى بالمتصدى للفتوى أن يتبرع بذلك) (أدب المفتى) صـ 114، وذلك اقتداء بصاحب الشرع صلى الله عليه وسلم، قال تعالى (قل لاأسألكم عليه أجراً) الشوري 23. وإنما يتمكن من هذا إذا كان غنيا وإلا أخذ رزقا من بيت المال.(4/24)
وعلى هذا فإن الأموال الواصلة إلى المفتى إما أن تكون أجراً أو هدية أو رزقا ولكل منها حكم. قال ابن القيم (فأما أخذه الأجرة فلا يجوز له، لأن الفتيا منصب تبليغ عن الله ورسوله، فلا تجوز المعاوضة عليه، كما لو قال له، لا أعلمك الإسلام أو الوضوء أو الصلاة إلا بأجرة، أو سئل عن حلال أو حرام فقال للسائل: لاأجيبك عنه إلا بأجرة، فهذا حرام قطعاً، ويلزمه رد العوض، ولايملكه.
وقال بعض المتأخرين: إن أجاب بالخط فله أن يقول للسائل: لايلزمنى أن أكتب لك خطى إلا بأجرة، وله أخذ الأجرة، وجعله بمنزلة أجرة الناسخ، فإنه يأخذ الأجرة على خطه، لا على جوابه، وخطه قدر زائد على جوابه.والصحيح خلاف ذلك، وأنه يلزمه الجواب مجاناً لله بلفظه وخطه، ولكن لايلزمه الورق ولا الحبر.
وأما الهدية ففيها تفصيل، فإن كانت بغير سبب الفتوى كمن عادته يهاديه أو من لايعرف أنه مفت فلا بأس بقبولها، والأَوْلَى أن يكافئ عليها، وإن كانت بسبب الفتوى، فإن كانت سبباً إلى أن يفتيه بما لايُفْتى به غيره ممن لايهدى له لم يجز له قبول هديته، وإن كان لافرق بينه وبين غيره عنده فى الفتيا بل يفتيه بما يفتى به الناس، كُره له قبول الهدية، لأنها تشبه المعاوضة على الإفتاء.
وأما أخذ الرزق من بيت المال فإن كان محتاجاً إليه جاز له ذلك، وإن كان غنيا عنه ففيه وجهان، وهذا فرع متردد بين عامل الزكاة وعامل اليتيم، فمن ألحقه بعامل الزكاة قال: النفع فيه عام، فله الأخذ، ومن ألحقه بعامل اليتيم منعه من الأخذ، وحكم القاضى فى ذلك حكم المفتى، بل القاضى أولى بالمنع والله أعلم) (اعلام الموقعين) جـ 4 صـ 231 ــ 232.(4/25)
أما جهة أخذ المفتي من بيت المال فلقيامه بمصلحة عامة وذكرنا دليله من قبل، وقد جمع ابن القيم أقوال من سبقه فى المسألة، إذ قد ذكرها الخطيب (الفقيه والمتفقه) جـ 2 صـ 164، وابن الصلاح (أدب المفتى) صـ 114 ــ 115، والنووى (المجموع) جـ1 صـ 46، وابن حمدان (صفة الفتوى) صـ 35. إلا أن هناك قولا فى أخذ الرزق من أهل البلدة إذا تعذر من بيت المال لم يذكره ابن القيم وذكره غيره كابن الصلاح قال (وذكر أبو القاسم الصيمرى: أنه لو اجتمع أهل البلد على أن جعلوا له رزقا من أموالهم ليتفرغ لفتاويهم جاز ذلك) (أدب المفتى) صـ 115. وقال الخطيب البغدادى (فإن لم يكن هناك بيت مال أو لم يفرض الإمام للمفتى شيئا واجتمع أهله على أن يجعلوا له من أموالهم رزقا ليتفرغ لفتاويهم وكتابات نوازلهم ساغ ذلك) (الفقيه والمتفقه) جـ 2 صـ 164. وهذا القول نقله النووى عن الصيمرى والخطيب كالمقرِّله، إلا أن ابن حمدان اعترض عليه فقال (وقيل لو اجتمع أهل بلد على أن يجعلوا له رزقا من أموالهم ليتفرغ لفتاويهم جاز، وهو بعيد) (صفة الفتوى) صـ 35.
قلت: والذي يتخرّج على القواعد العامة جواز ذلك، وهو يشبه أخذ الرزق من بيت المال لا أخذ الأجر من المستفتين.
وبهذا ينتهى الكلام فى صفة المفتي وشروطه وهو القسم الثالث من هذا الفصل.
******
القسم الرابع: مراتب المفتين
الذين يجوز إفتاؤهم واستفتاؤهم فى دين الله تعالى دائما أو للضرورة.
ماذكرناه في شرط العلم الشرعى فى (صفة المفتى وشروطه) هو الغاية المطلوبة، ومن حَصّلها فهو المفتي المجتهد المطلق، ولكن إذا تعذّر بلوغ هذه الغاية، فهل لايحل لمن لم يبلغها أن يفتى؟ وهل ينقطع الإفتاء مع تعذّر تحصيل هذه المرتبة؟.(4/26)
والجواب: أن الافتاء يجب ألا ينقطع، وإذا لم يوجد المجتهد المستقل فلمن دونه فى الرتبة أن يفتوا. ولهذا كان المفتون أصنافا: منهم من يسوغ إطلاق اسم المفتي عليه، ومنهم من ليس مفتيا وإن ساغ له أن يفتي أحيانا لتعذر استفتاء من هو أعلى منه فى الرتبة، وإذا أطلق اسم المفتى على هؤلاء فعلى سبيل التسامح.
وعلى هذا فإن مراتب الذين يجوز لهم أن يفتوا دائما أو أحيانا للحاجة هى كالتالى:
1 ـــ المفتى المجتهد المطلق المستقل.
2 ـــ المفتي غير المستقل (المنتسب لمذهب).
3 ـــ المجتهد فى باب أو مسألة من الفقه.
4 ـــ من تفقّه وقرأ كتابا من كتب الفقه.
5 ـــ من كان عنده كتب الحديث أو بعضها.
6 ـــ العامى إذا عرف حكم حادثة.
7 ـــ ما يجب على المستفتي إذا لم يجد أحداً يفتيه البته.
----------------
المرتبة الأولى:المفتي المجتهد المطلق المستقل:
ذكرنا صفة المجتهد في القسم السابق (صفات المفتى وشروطه) وذكرنا أن من شروطه العلم الشرعى الذي يمكّنه من الإجتهاد، وأن علوم المجتهد خمسة (الكتاب، والسنة، ومعرفة الإجماع والخلاف، واللغة العربية، وأصول الفقه). وذكرنا تفصيل ذلك هناك، ونذكر هنا ماأوجزه ابن الصلاح فى صفة المجتهد المستقل، قال (قِيِّما بمعرفة أدلة الأحكام الشرعية من الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس، وما التحق بها علي التفصيل، وقد فصلت في كتب الفقه، وغيرها. فتيسرت والحمد لله. عالما بمايشترط في الأدلة ووجوه دلالتها، وبكيفية اقتباس الأحكام منها، وذلك يُستفاد من علم أصول الفقه. عارفا من علم القرآن، وعلم الحديث، وعلم الناسخ والمنسوخ، وعلمى النحو، واللغة، واختلاف العلماء واتفاقهم بالقدر الذى يتمكن به من الوفاء بشروط الأدلة والاقتباس منها. ذا دُرْبةٍ وارتياض فى استعمال ذلك، عالما بالفقه، ضابطا لأمهات مسائله، وتفاريعه المفروغ من تمهيدها.(4/27)
فمن جمع هذه الفضائل فهو المفتى المطلق المستقل الذى يتأدى به فرض الكفاية، ولن يكون إلا مجتهدا مستقلا.
والمجتهد المستقل: هو الذي يستقل بإدراك الأحكام الشرعية من الأدلة الشرعية من غير تقليد وتقيد بمذهب أحد) (أدب المفتى) صـ 86 ــ87.
المرتبة الثانية: المفتى غير المستقل (أى المنتسب لمذهب).
وهؤلاء أقسام ثلاثة: اثنان مجتهدان والثالث مقلد.
1 ــ المفتى المجتهد المنتسب لمذهب فى طريقة الاستنباط لافى أحكامه وأدلته.
(وهو المفتي المجتهد المطلق غير المستقل)
أ ــ صفته: قال ابن القيم (مجتهد مقيد فى مذهب من ائتم به، فهو مجتهد في معرفة فتاويه وأقواله ومأخذه وأصوله، عارف بها، متمكن من التخريج عليها وقياس مالم ينص من ائتم به عليه على منصوصه من غير أن يكون مقلداً لإمامه لافى الحكم ولا فى الدليل، لكن سلك طريقه في الاجتهاد والفتيا ودعا إلى مذهبه ورتبه وقرره، فهو موافق له فى مقصده وطريقه معا.
وقد ادعى هذه المرتبة من الحنابلة القاضى أبو يعلى والقاضى أبو على بن أبى موسى فى شرح الإرشاد الذى له، ومن الشافعية خلق كثير، وقد اختلف الحنفية فى أبى يوسف ومحمد وزُفَر بن الهذيل، والشافعية فى المزنى وابن سريج وابن المنذر ومحمد بن نصر المروزى، والمالكية فى أشهب وابن عبد الحكم وابن القاسم وابن وهب، والحنابلة في أبي حامد والقاضى: هل كان هؤلاء مستقلين بالاجتهاد أو متقيدين بمذاهب أئمتهم؟ علي قولين، ومن تأمل أحوال هؤلاء وفتاويهم واختياراتهم علم أنهم لم يكونوا مقلدين لأئمتهم فى كل ماقالوه، وخلافهم لهم أظهر من أن ينكر، وإن كان منهم المستقل والمستكثر، ورتبة هؤلاء دون رتبة الأئمة فى الاستقلال بالاجتهاد) (اعلام الموقعين) جـ 4 صـ 212 ــ 213.
ب ــ حكم فتواه: قال ابن الصلاح (إذا عرفت هذا ففتوى المنتسبين فى هذه الحالة فى حكم فتوى المجتهد المستقل المطلق، يُعمل بها ويُعتد بها فى الإجماع والخلاف) (أدب المفتى) صـ 94.(4/28)
2 ــ المفتي المجتهد المقيد بمذهب من انتسب إليه لايتعداه إلى غيره.
أ ــ صفته: قال ابن القيم: (من هو مجتهد فى مذهب من انتسب إليه، مقرر له بالدليل، متقن لفتاويه، عالم بها، لكن لا يتعدى أقواله وفتاويه ولا يخالفها، وإذا وجد نص إمامه لم يعدل عنه إلى غيره البتة، وهذا شأن أكثر المصنفين فى مذاهب أئمتهم، وهو حال أكثر علماء الطوائف، وكثير منهم يظن أنه لاحاجة به إلى معرفة الكتاب والسنة والعربية لكونه مجتزيا بنصوص إمامه، فهى عنده كنصوص الشارع، قد اكتفى بها من كلفة التعب والمشقة، وقد كفاه الإمام استنباط الاحكام ومؤنة استخراجها من النصوص، وقد يري إمامه ذكر حكما بدليله، فيكتفى هو بذلك الدليل من غير بحث عن معارض له.
وهذا شأن كثير من أصحاب الوجوه والطرق والكتب المطولة والمختصرة، وهؤلاء لايدَّعُون الاجتهاد، ولايقرون بالتقليد، وكثير منهم يقول: اجتهدنا فى المذاهب فرأينا أقربها إلى الحق مذهب إمامنا، وكل منهم يقول ذلك عن إمامه، ويزعم أنه أولى بالاتباع من غيره، ومنهم من يغلو فيوجب اتباعه، ويمنع من اتباع غيره) (اعلام الموقعين) جـ 4 صـ 213.
ب ــ حكم فتواه: قال ابن الصلاح (وعلى هذه الصفة كان أئمة أصحابنا، أو أكثرهم، ومن كان هذا شأنه فالعامل بفُتياه مقلد ٌُ لإمامه. لاله، لأن معوله على صحة إضافة مايقوله إلي إمامه، لعدم إستقلاله بتصحيح نسبته إلي الشارع، والله أعلم) (أدب المفتى) صـ 95.(4/29)
وقال ابن الصلاح أيضا: (الذى رأيته من كلام الأئمة يشعر بأن من كانت هذه حالته ففرض الكفاية لايتأدى به، ووجهه أن مافيه من التقليد نقص وخلل فى المقصود، وأقول: إنه يظهر أنه يتأدى به فرض الكفاية فى الفتوى، وإن لم يتأد به فرض الكفاية فى إحياء العلوم التى منها استمداد الفتوى، لأنه قد قام فى فتواه مقام إمام مطلق، فهو يؤدى عنه ماكان يتأدى به الفرض حين كان حياً قائما بالفرض فيها، والتفريع على الصحيح فى أن تقليد الميت جائز) (أدب المفتى) صـ 96.
(فائدة) أقسام المجتهدين:
تبين لك مما سبق ذكره من مراتب المفتين أن المجتهدين ثلاثة أقسام: المجتهد المطلق المستقل، والمجتهد المطلق غير المستقل، والمجتهد المقيد. والفرق بينهم على النحو التالي:
فكل من حصَّل علوم الاجتهاد الخمسة ولديه القدرة على استنباط الأحكام من أدلتها التفصيلية، فهو مجتهد.
فإذا لم يتقيد في الاستنباط بالأدلة التفصيلية لمذهب معين فهو مجتهد مطلق، وإن تقيد في الاستنباط بأدلة مذهب معين فهو مجتهد مقيد بهذا المذهب وإنما يتقيد هذا بأدلة مذهب ٍ ما لتقصيره في بعض علوم الاجتهاد خاصة الحديث واللغة.
والمجتهد المطلق الذي لم يتقيد بأدلة مذهب معين قسمان، فإن لم يتقيد في الاستنباط أيضا بقواعد مذهب معين بل استقل لنفسه بقواعد خاصة فهو المجتهد المطلق المستقل، وإن التزم قواعد مذهب معين في الاستنباط فهو المجتهد المطلق غير المستقل أو المجتهد المطلق المنتسب. وبهذا تعلم أن المجتهد المطلق أعم من المجتهد المستقل، فكل مجتهد مستقل هو مجتهد مطلق، وليس كل مجتهد مطلق مجتهداً مستقلا.
فالذي يفرق بين المجتهد المطلق والمجتهد المقيد هو الالتزام بأدلة مذهب ٍ ما من عدمه.
أما الذي يفرق بين المجتهد المستقل وغير المستقل فهو الالتزام بقواعد مذهب ٍ ما في الاجتهاد والاستنباط من عدمه. انظر (الرد على من أخلد إلى الأرض) للسيوطي، صـ 112 ــ 116.(4/30)
وأما ترتيبهم حسب رتبتهم في الاجتهاد: فأعلاهم المجتهد المطلق المستقل، ويليه المجتهد المطلق غير المستقل ثم المجتهد المقيد.
واختلف العلماء في وجود أهل المرتبة الأولى في الدنيا بعد عصر أئمة المذاهب، فقال ابن الصلاح (643هـ): (ومنذ دهر طويل طُوِيَ بساط المفتي المستقل المطلق، والمجتهد المستقل، وأفضى أمر الفتوى إلى الفقهاء المنتسبين إلى أئمة المذاهب المتبوعة) (أدب المفتي) صـ 91، وعلى هذا القول أكثر العلماء. وخالف ابن القيم فقال: إن الأرض لايجوز أن تخلو من قائم لله بحجةٍ، فلا يجوز أن تخلو من هذا الصنف (اعلام الموقعين) جـ 2 صـ 212.
قلت: والراجح ــ والله تعالى أعلم ــ هو قول الجمهور، وهو تعذر وجود المجتهد المطلق المستقل في المتأخرين، لأن الاستقلال شرطه أن يأتي بقواعد جديدة في الاستنباط والاجتهاد، فقواعده الجديدة إما أن تكون حقاً أو باطلا، فإن كانت باطلة فليس بمجتهد، وإن كانت حقاً فإما أن يكون قد قال بها بعض أئمة السلف وهو قد عمل بها قصداً أو اتفاقا فهو ليس بمستقل، وإما أن تكون قواعده الجديدة لم يقل بها أحد من أئمة السلف فيكون مستقلاً وهذا ممتنع لأنه يعني أن ماقال به من حق قد غاب عن المتقدمين جميعهم، وهذا ممتنع للإجماع على أن الأمة لاتجتمع على ضلالة ولايغيب عنها الحق في عصر من العصور، قال السيوطي (فإن المستقل هو الذي استقل بقواعد لنفسه، يبني عليها الفقه خارجا عن قواعد المذاهب المقررة، وهذا شيء فُقد من دهر، بل لو أراده الإنسان اليوم لامتنع عليه ولم يجز له، نصّ عليه غير واحد. قال ابن بَرهان في كتابه في الأصول: أصول المذاهب وقواعد الأدلة منقولة عن السلف، فلا يجوز أن يحدث في الأعصار خلافها) إلى آخر ماذكره في (الرد على من أخلد إلى الأرض) صـ 112 ــ 113.(4/31)
ولا تلازم بين فقد المجتهد المستقل وانقطاع حجة الله على الخلق، فإن هذه الحجة تقوم بالمجتهد المطلق غير المستقل بل بمن دونه من كل عدلٍ ناقلٍ للعلم، والمجتهد المطلق المنتسب (غير المستقل) باق ٍ إلى أن تأتي أشراط الساعة الكبرى، ولا يجوز انقطاعه من الدنيا لاشرعا لأنه فرض كفاية ومتى قصّر أهل عصر حتى تركوه أثموا كلهم، كما لايجوز انقطاعه من الدنيا قدراً لصدق خبره صلى الله عليه وسلم (لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله) الحديث متفق عليه، وللإجماع على أن الأمة لا تجتمع على ضلالة، فلا تجتمع على ترك القيام بفرض الكفاية هذا.
أما فقد المجتهد المستقل فهو من نقص الخير في الدنيا وازدياد الشر، كما دل عليه قوله صلى الله عليه وسلم (خير أمتي قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم) الحديث متفق عليه، وقول أنس رضي الله عنه (اصبروا، فإنه لايأتي عليكم يوم إلا والذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم، سمعته من نبيكم صلى الله عليه وسلم) الحديث رواه البخاري. هذا والله تعالى أعلم.
3 ــ المفتى المقلد لمذهب من انتسب إليه.
وهذا هو الصنف الثالث من المفتين المنتسبين للمذاهب ــ بعد المجتهد المطلق المنتسب والمجتهد المقيد ــ وفي هذا الصنف نتكلم في أربع مسائل وهى: تعريف التقليد، وصفة المفتي المقلد، وهل يجوز للحي تقليد الميت؟، وحكم إفتاء المفتي المقلد.
أ ــ تعريف التقليد: سيأتي هذا بالتفصيل إن شاء الله في المسألة الثالثة عشرة في أحكام المستفتي ــ في الفصل التالي ــ ولهذا نذكره هنا إجمالا، فنقول:
التقليد: هو قبول قول مَنْ دون النبي صلى الله عليه وسلم بغير حجة.
والحجة: هى الدليل الشرعي، والمتفق عليه من الأدلة أربعة وهى الكتاب والسنة والإجماع المعتبر والقياس الصحيح على الكتاب أو السنة أو الإجماع.(4/32)
وعلى هذا فالتقليد ليس علماً، لأن العلم هو مادل عليه الدليل، والتقليد قبول قول بلا دليل. فالقائل بالتقليد: وهو المفتي المقلد قائل بغير علم، والعامل بالتقليد: وهو المستفتي المقلد عامل بغير علم.
راجع: (جامع بيان العلم) لابن عبدالبر، 2 / 37 و 117 و 26، و(ارشاد الفحول) للشوكاني صـ 246 ــ 247، و(اعلام الموقعين) لابن القيم 2 / 169.
ب ــ صفة المفتي المقلد: يتبين من التعريف السابق أن المفتي المقلد هو مَنْ يفتي بقول غيره من غير معرفة دليله أي من غير علمٍ بصحته من فساده، ولايفعل ذلك عادة إلا ثقة بمن ينقل عنه. ووصفه ابن القيم رحمه الله بقوله (طائفة تفقهت في مذاهب من انتسبت إليه، وحفظت فتاويه وفروعه، وأقرت على أنفسها بالتقليد المحض من جميع الوجوه، فإن ذكروا الكتاب والسنة يوماً مافي مسألة فعلى وجه التبرك والفضيلة لاعلى وجه الاحتجاج والعمل، وإذا رأوا حديثا صحيحا مخالفا لقول من انتسبوا إليه أخذوا بقوله وتركوا الحديث، وإذا رأوا أبابكر وعمر وعثمان وعليا وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم قد أفتوا بفتيا، ووجدوا لإمامهم فُتْيا تخالفها أخذوا بفتيا إمامهم وتركوا فتاوي الصحابة، قائلين: الإمام أعلم بذلك منا، ونحن قد قلدناه فلا نتعداه ولانتخطاه، بل هو أعلم بما ذهب إليه منا) (اعلام الموقعين) جـ 4 صـ 214.
ويتعلق بهذا القسم ــ المفتي المقلد ــ مسألتان، وهما: هل يجوز للحي تقليد الميت؟ وحكم فتوى هذا المفتي المقلد؟.
جـ ــ هل يجوز للحي تقليد الميت؟.
وسبب بحث هذه المسألة هنا، أن المفتي المقلد غالبا سينقل فتاوى من مات من العلماء والفقهاء.(4/33)
قال ابن القيم: (هل يجوز للحي تقليد الميت والعمل بفتواه من غير اعتبارها بالدليل الموجب لصحة العمل بها؟.فيه وجهان لأصحاب الإمام أحمد والشافعي، فمن منعه قال: يجوز تغيير اجتهاده لو كان حيا، فإنه كان يجدد النظر عند نزول هذه النازلة إما وجوباً وإما استحباباً، على النزاع المشهور، ولعله لو جَدَّد النظر لرجع عن قوله الأول. والثاني: الجواز، وعليه عمل جميع المقلدين في أقطار الأرض، وخيار مابأيديهم من التقليد تقليد الأموات، ومَنْ منع منهم تقليد الميت فإنما هو شئ يقوله بلسانه، وعمله في فتاويه وأحكامه بخلافه، والأقوال لاتموت بموت قائلها، كما لا تموت الأخبار بموت رُوَاتها وناقليها) (اعلام الموقعين) جـ 4 صـ 215 ــ 216.
وقال ابن القيم أيضا (هل يجوز للمفتي تقليد الميت إذا علم عَدَالته وأنه مات عليها من غير أن يسأل الحي؟ فيه وجهان لأصحاب أحمد والشافعي، أصحهما له ذلك، فإن المذاهب لاتبطل بموت أصحابها، ولو بطلت بموتهم لبطل مابأيدي الناس من الفقه عن أئمتهم، ولم يَسُغْ لهم تقليدهم والعمل بأقوالهم، وأيضاً لو بطلت أقوالهم بموتهم لم يُعْتَد بِهم في الإجماع والنزاع، ولهذا لو شهد الشاهدان ثم ماتا بعد الأداء وقبل الحكم بشهادتهما لم تبطل شهادتهما، وكذلك الراوي لاتبطل روايته بموته، فكذلك المفتي لاتبطل فتواه بموته) (اعلام الموقعين) جـ 4 صـ 260 ــ 261. وذكر النووي مثله في (المجموع) 1 / 55، وابن حمدان في (صفة الفتوى) صـ 70.
واختار الشوكاني المنع من تقليد الحي للميت ونسبه إلى الرازي في المحصول والغزالي في المنخول (ارشاد الفحول) صـ 250 ــ 251.
د ــ حكم إفتاء هذا المفتي المقلد؟.
قال ابن القيم: (لايجوز للمقلد أن يفتي في دين الله بما هو مقلد فيه وليس على بصيرة فيه سوى أنه قول مَنْ قلده دينه، هذا إجماع من السلف كلهم، وصرح به الإمام أحمد والشافعي رضي الله عنهما وغيرهما.(4/34)
قال أبو عمرو بن الصلاح: قطع أبو عبدالله الحَليِمي إمام الشافعيين بما وراء النهر والقاضي أبو المحاسن الروُّيَاني صاحبُ «بحر المذهب» وغيرهما بأنه لا يجوز للمقلد أن يفتي بما هو مقلد فيه.
وقال: وذكر الشيخ أبو محمد الجويني في شرحه لرسالة الشافعي عن شيخه أبي بكر القفال المروزي أنه يجوز لمن حفظ كلام صاحب مذهب ونصوصه أن يفتي به وإن لم يكن عارفاً بغوامضه وحقائقه، وخالفه الشيخ أبو محمد وقال: لايجوز أن يفتي بمذهب غيره إذا لم يكن متبحرا فيه عالما بغوامضه وحقائقه، كما لايجوز للعامِّي الذي جمع فتاوي المفتين أن يفتي بها، وإذا كان متبحرا فيه جاز أن يفتي به.
وقال أبو عمرو: من قال: «لا يجوز له أن يفتي بذلك» معناه لايذكره في صورة مايقوله من عند نفسه، بل يضيفه إلى غيره، ويحكيه عن إمامه الذي قلده، فعلى هذا مَنْ عددناه في أصناف المفتين المقلدين ليسوا على الحقيقة من المفتين، ولكنهم قاموا مقام المفتين، وادعوا عنهم فعُدّوا منهم، وسبيلُهم في ذلك أن يقولوا مثلا: مذهب الشافعي كذا وكذا، ومقتضى مذهبه كذا وكذا، وماأشبه ذلك، ومن ترك منهم إضافة ذلك إلى إمامه فإن كان ذلك اكتفاء منه بالمعلوم عن الصريح فلا بأس به.(4/35)
قال ابن القيم: (وماذكره أبو عمرو حسن، إلا أن صاحب هذه المرتبة يحرم عليه أن يقول «مذهب الشافعي» لما لايعلم أنه نصه الذي أفتي به، أو يكون شهرته بين أهل المذهب شهرة لا يحتاج معها إلى الوقوف على نصه ــ إلى أن قال ــ وأما قول الشيخ أبي عمرو «إن لهذا المفتي أن يقول هذا مقتضى مذهب الشافعي مثلا» فلعمر الله لايقبل ذلك من كل من نصب نفسه للفتيا حتى يكون عالماً بمأخذ صاحب المذهب ومداركه وقواعده جمعا وفرقا، ويعلم أن ذلك الحكم مطابق لأصوله وقواعده بعد استفراغ وسعه في معرفة ذلك فيها إذا أخبر أن هذا مقتضى مذهبه كان له حكم أمثاله ممن قال بمبلغ علمه، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها.) (اعلام الموقعين) جـ 4 صـ 195 ــ 196، ومانقله عن ابن الصلاح مذكور (بأدب المفتي) صـ 101 ــ 103. وأما الأعلام المذكورون فهم: الحَليِمي سبق ذكره. وأبو المحاسن عبدالواحد بن إسماعيل الرُّوَّياني من أئمة فقهاء الشافعية ت 502هـ. وأبو محمد الجويني هو والد إمام الحرمين ت 438هـ. وأبو بكر القفَّال المروزي عبدالله بن أحمد، شيخ الشافعية بخراسان، وهو القفال الصغير وليس هو القفال الكبير، ت 417 هـ.
وقال ابن القيم إن التقليد ليس علما، ولا تجوز الفتوى بغير علم لقوله تعالى (ولاتقف ماليس لك به علم) الإسراء، فلا تجوز الفتوى بالتقليد، ثم قال (هذه المسألة فيها ثلاثة أقوال لأصحاب أحمد:
أحدها: أنه لايجوز الفَتْوى بالتقليد: لأنه ليس بعلم، والفتوى بغير علم حرام، ولاخلاف بين الناس أن التقليد ليس بعلم، وأن المقلد لايُطْلَق عليه اسم عالم، وهذا قول أكثر الأصحاب وقول جمهور الشافعية.(4/36)
والثاني: أن ذلك يجوز فيما يتعلق بنفسه، فيجوز له أن يقلد غيره من العلماء إذا كانت الفَتْوى لنفسه، ولايجوزأن يقلد العالم فيما يفتي به غيره، وهذا قول ابن بَطَّة وغيره من أصحابنا، قال القاضي: ذكر ابنُ بَطَّة في مكاتباته إلى البرمكي: لايجوز له أن يفتي بما سمع من يفتي، وإنما يجوز أن يقلد لنفسه، فأما أن يقلد لغيره ويفتي به فلا.
والقول الثالث: أنه يجوز ذلك عند الحاجة وعدم العالم المجتهد، وهو أصح الأقوال، وعليه العمل، قال القاضي: ذكر أبو حَفْص في تعاليقه قال: سمعت أبا علي الحسن بن عبدالله النجاد يقول: سمعت أبا الحسين بن بشران يقول: ماأعِيبُ على رجل يحفظ عن أحمد خمسَ مسائل استند إلى بعض سَوَاري المسجد يفتي بها.) (اعلام الموقعين) جـ 1 صـ 45 ــ 46.
ويوافق القول الثالث والذي اختاره ابن القيم ما قاله ابن دقيق العيد رحمه الله (توقيف الفتيا على حصول المجتهد يفضي إلى حرج عظيم أو استرسال الخلق في أهويتهم، فالمختار أن الراوي عن الأئمة المتقدمين إذا كان عدلاً متمكنا من فهم كلام الإمام ثم حكى للمقلد قوله فإنه يكتفي به، لأن ذلك مما يغلب على ظن العامي أنه حكم الله عنده، وقد انعقد الإجماع في زماننا على هذا النوع من الفتيا) أهـ، نقله عنه الشوكاني واستنكره خاصة قوله (انعقد الإجماع) وقال الشوكاني إن الذين أجمعوا على هذا هم المقلدون لا المجتهدون، والمقلد ليس عالما فلا عبرة بإجماعه (إرشاد الفحول) صـ 251 ــ 252.(4/37)
قلت: وهو كما قال الشوكاني، وأضيف أن الإجماع لايصح إذا خالف النص، وقد دلت النصوص على تحريم الفتيا بغير علم أي بالتقليد، فالفتوى بالتقليد لاتجوز في الأصل، وإنما تجوز كاستثناء للضرورة كما قال ابن القيم (يجوز ذلك عند الحاجة وعدم العالم المجتهد، وهو أصح الأقوال). وفي هذه الحالة يكون المقلد الذي يفتي ــ كما قال الشيخ عزالدين بن عبدالسلام ــ (بأنه حامل فقه ليس بمفت ولا فقيه، بل هو كمن ينقل فتوى عن إمام من الأئمة، لايشترط فيه إلا العدالة وفهم ماينقله) نقله عنه السيوطي في (الرد على من أخلد إلى الأرض) صـ 92، ط دار الكتب العلمية 1403هـ.
فهذه أقسام المفتين غير المستقلين (أي المنتسبين إلى المذاهب)، وذكرت فيها ثلاثة أقسام: المجتهد المطلق المنتسب، والمجتهد المقيد، والمفتي المقلد. وقد سلك السيوطي ــ تبعا لابن الصلاح والنووي ــ مسلكا آخر في التقسيم، فقسّم المجتهد غير المستقل (المنتسب) إلى أربعة أقسام:
الأول: المجتهد المطلق: وهو الذي لم يقلد إمامه ولكن سلك طريقه في الاجتهاد.
والثاني: المجتهد المقيد: الذي يسمي مجتهد التخريج.
والثالث: مجتهد الترجيح.
والرابع: مجتهد الفتيا. (الرد على من أخلد إلى الأرض) صـ 115 ــ 116.
وهذه التقاسيم كلها استقرائية فلا مشاحة فيها.
المرتبة الثالثة: المجتهد في باب أو مسألة من الفقه، هل يجوز له أن يفتي؟.
جمهور العلماء على جواز تجزئة الاجتهاد، وأن الرجل قد يكون مجتهداً في باب أو مسألة من العلم دون بقية العلم. ويترتب على هذا الجواز: جواز إفتاء هذا فيما هو مجتهد فيه.(4/38)
إلا أن هناك مسألة قد تخفى على البعض هنا، وهى أن الاجتهاد في مسألة لاتكفي فيه معرفة جميع النصوص الواردة فيها من الكتاب والسنة، وكذلك أقوال العلماء فيها، بل لابد ــ بالإضافة إلى هذاـ من معرفة علوم اللغة وأصول الفقه حتى يتمكن الإنسان من الاستنباط، وإلى هذا أشار ابن تيمية والشوكاني رحمهما الله كما سيأتي في كلامهما إن شاء الله. فمن كان قادراً على الاستنباط فله أن يجتهد في المسألة التي جمع نصوصها والأقوال فيها دون غيرها من المسائل.
وإليك أقوال العلماء ــ حسب ترتيب وفياتهمفي جواز تجزئة الاجتهاد:
1 ــ ابن حزم رحمه الله، بعدما ذكر العلوم اللازمة للمفتي المجتهد ــ والتي نقلناها عنه في «صفة المفتي وشروطه» ــ قال (فحدّ الفقه هو المعرفة بأحكام الشريعة من القرآن، ومن كلام المرسل بها، الذي لاتؤخذ إلا عنه، وتفسير هذا الحد كما ذكرنا المعرفة بأحكام القرآن وناسخها ومنسوخها، والمعرفة بأحكام كلام الرسول صلى الله عليه وسلم ناسخه ومنسوخه، وماصح نقله مما لم يصح، ومعرفة ماأجمع العلماء عليه، ومااختلفوا فيه، وكيف يرد الاختلاف إلى القرآن وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم، فهذا تفسير العلم بأحكام الشريعة.(4/39)
وكل من علم مسألة واحدة من دينه على الرتبة التي ذكرنا جاز له أن يفتي بها، وليس جهله بما جَهِل بمانع من أن يفتي بما علم، ولا علمه بما عَلِم بمبيح له أن يفتي فيما جهل، وليس أحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا وقد غاب عنه من العلم كثير هو موجود عند غيره، فلو لم يُفْتِ إلا من أحاط بجميع العلم لما حل لأحد من الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفتي أصلا، وهذا لايقوله مسلم، وهو إبطال للدين، وكفر من قائله. وفي بعثة النبي صلى الله عليه وسلم الأمراء إلى البلاد ليعلموا الناس القرآن وحكم الدين ولم يكن أحد منهم يستوعب جميع ذلك، لأنه قد كان تنزل بعدهم الآيات والأحكام: بيان صحيح بأن العلماء وإنْ فاتهم كثير من العلم فإن لهم أن يفتوا ويقضوا بما عرفوا.
وفي هذا الباب أيضا بيان جلي على أن من علم شيئا من الدين علماً صحيحاً فله أن يفتي به، وعليه أن يطلب علم ماجهل مما سوى ذلك. ومن علم أن في المسألة التي نزلت حديثا قد فاته، لم يحل له أن يفتي في ذلك حتى يقع على ذلك الحديث.) (الإحكام) جـ 5 صـ 127 ــ 128.
وقول ابن حزم (ولم يكن أحد منهم يستوعب جميع ذلك) يعنى الصحابة رضي الله عنهم، وقد بَوَّب البخاري رحمه الله لهذه المسألة في كتاب الاعتصام من صحيحه في باب (الحجة على من قال إن أحكام النبي صلى الله عليه وسلم كانت ظاهرة، وماكان يغيب بعضهم عن مشاهد النبي صلى الله عليه وسلم وأمور الإسلام) (فتح الباري) جـ 13/320، وأقام فيه البخاري الأدلة على أن بعض السُّنن كانت تخفى على بعض الصحابة ويعلمها غيرهم لتفاوت ماعندهم من العلم، وكانوا ــ مع ذلك ــ يُفتون فيما علموه، وهذه حجة لمن أجاز تجزئة الاجتهاد وجواز الإفتاء معه، كما احتج بذلك ابن حزم رحمه الله.(4/40)
2 ــ أبو حامد الغزالي رحمه الله ــ بعدما ذكر علوم المجتهد ــ قال:(دقيقة في التخفيف يغفل عنها الأكثرون) اجتماع هذه العلوم الثمانية إنما يشترط في حق المجتهد المطلق الذي يفتي في جميع الشرع، وليس الاجتهاد عندي منصباً لايتجزأ، بل يجوز أن يقال للعالم بمنصب الاجتهاد في بعض الأحكام دون بعض، فمن عرف طريق النظر القياسي فله أن يفتي في مسألة قياسية وإن لم يكن ماهراً في علم الحديث، فمن ينظر في مسألة المشتركة يكفيه أن يكون فقيه النفس عارفا بأصول الفرائض ومعانيها وإن لم يكن قد حصل الأخبار التي وردت في مسئلة تحريم المسكرات أو في مسئلة النكاح بلا ولي فلا استمداد لنظر هذه المسئلة منها ولاتعلق لتلك الأحاديث بها فمن أين تصير الغفلة عنها أو القصور عن معرفتها نقصاً؟، ومن عرف أحاديث قتل المسلم بالذمي وطريق التصرف فيه فما يضره قصوره عن علم النحو الذي يعرِّف قوله تعالى «وامسحوا برؤسكم وأرجلكم إلى الكعبين» وقس عليه ما في معناه، وليس من شرط المفتي أن يجيب عن كل مسئلة فقد سُئل مالك رحمه الله عن أربعين مسئلة فقال في ستة وثلاثين منها لا أدري، وكم توقف الشافعي رحمه الله بل الصحابة في المسائل فإذاً لايشترط إلا أن يكون على بصيرة فيما يفتي، فيفتي فيما يدري ويدري أنه يدري، ويميز بين مالا يدري وبين ما يدري، فيتوقف فيما لايدري ويفتي فيما يدري) (المستصفى) جـ 2 صـ 353 ــ 354.(4/41)
3 ــ ابن الصلاح رحمه الله ــ بعد ماذكر علوم المجتهد المستقل ــ قال: (إنما يُشترط اجتماع العلوم المذكورة في المفتي المطلق في جميع أبواب الشرع، أما المفتي في باب خاصٍ من العلم، نحو علم المناسك، أو علم الفرائض، أو غيرهما. فلا يشترط فيه جميع ذلك، ومن الجائز أن ينال الإنسان منصب الفتوى والاجتهاد في بعض الأبواب دون بعض، فمن عرف القياس وطرقه وليس عالماً بالحديث فله أن يفتي في مسائل قياسية يعلم أنه لاتعلق لها بالحديث. ومن عرف أصول المواريث وأحكامها جاز أن يفتي فيها، وإن لم يكن عالماً بأحاديث النكاح، ولا عارفاً بما يجوز له الفتوى في غير ذلك من أبواب الفقه. قطع بجواز هذا الغزالي، وابن بَرهان، وغيرهما. ومنهم من منع من ذلك مُطلقاً. وأجازه أبو نصر بن الصَّبَّاغ، غير أنه خصصه بباب المواريث. قال: لأن الفرائض لا تنبني على غيرها من الأحكام، فأما ماعداها من الأحكام فبعضه مرتبط ببعض.
والأصحُّ أن ذلك لايختص بباب المواريث، والله أعلم.) (أدب المفتي) صـ 89 ــ 91. وابن بَرهَان هو أبو الفتح أحمد بن علي بن بَرْهان الأصولي فقيه شافعي، ت 518. وابن الصبّاغ هو أبو نصر عبدالسيد بن محمد بن عبدالواحد بن الصَّبَّاغ، من كبار أئمة الشافعية، ت 477 هـ.
4 ــ ابن تيمية رحمه الله قال: (والاجتهاد ليس هو أمراً واحداً لايقبل التجزي والانقسام، بل قد يكون الرجل مجتهداً في فن أو باب أو مسألة دون فن وباب ومسألة، وكل أحد فاجتهاده بحسب وسعه) (مجموع الفتاوي) جـ 20 صـ 212.(4/42)
إلا أن ابن تيمية أشار إلى أن هذا لا يتأتي إلا لمن حَصَّل العلوم اللازمة للاجتهاد، فقال: (وكذلك العامي إذا أمكنه الاجتهاد في بعض المسائل جاز له الاجتهاد فإن الاجتهاد منصب يقبل التجزي والانقسام، فالعبرة بالقدرة والعجز، وقد يكون الرجل قادراً في بعض عاجزاً في بعض، لكن القدرة على الاجتهاد لاتكون إلا بحصول علوم تفيد معرفة المطلوب، فأما مسألة واحدة من فن فيبعد الاجتهاد فيها، والله سبحانه أعلم.) (مجموع الفتاوي) جـ 20 صـ 204.
5 ــ ابن القيم رحمه الله قال: (الاجتهاد حالة تقبل التجزُّؤ والانقسام، فيكون الرجل مجتهداً في نوع من العلم مقلدا في غيره، أو في باب من أبوابه. كمن استفرع وُسعه في نوع العلم بالفرائض وأدلتها واستنباطها من الكتاب والسنة دون غيرها من العلوم، أو في باب الجهاد أو الحج، أو غير ذلك، فهذا ليس له الفَتْوى فيما لم يجتهد فيه، ولاتكون معرفته بما اجتهد فيه مُسَوغة له الإفتاء بمالا يعلم في غيره، وهل له أن يفتي في النوع الذي اجتهد فيه؟ فيه ثلاثة أوجه: أصحها الجواز، بل هو الصواب المقطوع به. والثاني: المنع. والثالث: الجواز في الفرائض دون غيرها.
فحجة الجواز أنه قد عرف الحق بدليله، وقد بذل جهده في معرفة الصواب، فحكمه في ذلك حكم المجتهد المطلق في سائر الأنواع.
وحجة المنع تعلق أبواب الشرع وأحكامه بعضها ببعض، فالجهل ببعضها مظنة للتقصير في الباب والنوع الذي قد عرفه، ولايخفى الارتباط بين كتاب النكاح والطلاق والعدَّة وكتاب الفرائض، وكذلك الارتباط بين كتاب الجهاد ومايتعلق به، وكتاب الحدود والأقضية والأحكام، وكذلك عامة أبواب الفقه.
ومن فرق بين الفرائض وغيرها رأي انقطاع أحكام قسمة المواريث ومعرفة الفروض ومعرفة مستحقها عن كتاب البيوع والإجارات والرهون والنِّضَال وغيرها، وعدم تعلقاتها، وأيضاً فإن عامة أحكام المواريث قَطْعية، وهى منصوص عليها في الكتاب والسنة.(4/43)
فإن قيل: فما تقولون فيمن بذل جهده في معرفة مسألة أو مسألتين، هل له أن يفتي بهما؟
قيل: نعم يجوز في أصح القولين، وهما وجهان لأصحاب الإمام أحمد، وهل هذا إلا من التبليغ عن الله وعن رسوله، وجزي الله من أعان الإسلام ولو بشطر كلمة خيراً، ومَنْعُ هذا من الإفتاء بما عَلِم خطَأ محض، وبالله التوفيق.) (اعلام الموقعين) جـ 4 صـ 216 ــ 217.
6 ــ ونقل السيوطي عن شيخ الإسلام سراج الدين البلقيني قوله (المُوَلّي في واقعة معينة يكفيه أن يعرف الحكم فيها بطريق الاجتهاد المعلَّق بتلك الواقعة، بناء على أن الاجتهاد يتجزأ وهو الأرجح) أهـ. ثم قال السيوطي (وكذا كل من ولاّه الإمام في جزئية معينة لايشترط فيه إلا الاجتهاد المتعلق بتلك الجزئية فقط، هذا مجموع كلام العلماء في ذلك) (الرد على من أخلد إلى الأرض) صـ 88 و 96.
7 ــ الشوكاني رحمه الله، بعدما عرض أقوال من أجاز تجزئة الاجتهاد وهم الأكثر، ومن منع منه، قال كلاما قريبا من كلام ابن تيمية وهو إنه وإن جاز تجزئة الاجتهاد إلا أنه لابد لمن يجتهد في مسألة من أن يستوفي العلوم اللازمة للاجتهاد، فقال: (ولا فرق عند التحقيق في امتناع تجزي الاجتهاد فإنهم قد اتفقوا على أن المجتهد لايجوز له الحكم بالدليل حتى يحصل له غلبة الظن بحصول المقتضي وعدم المانع وإنما يحصل ذلك للمجتهد المطلق، وأما من ادعى الاحاطة بما يحتاج إليه في باب دون باب أو في مسألة دون مسألة فلا يحصل له شئ من غلبة الظن بذلك لأنه لايزال يجوز الغير ماقد بلغ إليه علمه فإن قال قد غلب ظنه بذلك فهو مجازف وتتضح مجازفته بالبحث معه) (ارشاد الفحول) صـ 237. فالشوكاني ذهب إلى أبعد مما قاله ابن تيمية، فأجاز تجزئة الاجتهاد في الصورة ونفاه في الحقيقة إذ قصره على المجتهد المطلق، وهذا خلاف المقصود الذي ذهب إلى جوازه أكثر العلماء، والله أعلم.
فهذا ما يتعلق بحكم إفتاء المجتهد في باب أو في مسألة من مسائل الفقه.(4/44)
المرتبة الرابعة: من تفقّه وقرأ كتابا من كتب الفقه، هل يجوز له أن يفتي؟
قال ابن الصلاح: (إن قلت: من تفقه وقرأ كتاباً من كتب المذهب، أو أكثر، وهو مع ذلك قاصر لم يتصف بصفة أحد من أصناف المفتين الذين سبق ذكرهم، فإذا لم يجد العامي في بلده غيره فرجوعه إليه أولى من أن يبقى في واقعته مرتبكا في حيرته.
قلت: إن كان في غير بلده مُفت ٍ يجدُ السبيل إلى استفتائه فعليه التوصل إلى استفتائه بحسب إمكانه، على أن بعض أصحابنا، ذكر أنه إذا شغرت البلدة عن المفتين فلا يحل المقام فيها، وإن تعذر ذلك عليه ذكر مسألته للقاصر المذكور، فإن وجد مسألتهُ بعينها مسطورة في كتاب ٍ موثوق ٍ بصحته، وهو ممن يقبل خبره، نقل له حكمها بنصه، وكان العامي في ذلك مقلدا ً لصاحب المذهب، وهذا وجدته في ضمن كلام بعضهم، والدليل يعضده، ثم لايعد هذا القاصر بأمثال ذلك من المفتين، ولامن الأصناف المذكورة المستعار لهم سمة المفتين.
وإن لم يجد مسألته بعينها ونصها مسطورة فلا سبيل له إلى القول فيها قياساً على ما عنده من المسطورة، وإن اعتقده من قبيل قياس لافارق الذي هو نحو قياس الأمة على العبد في سراية العُتق، لأن القاصر معرض لأن يعتقد ما ليس من هذا القبيل داخلاً في هذا القبيل، وإنما استتب إلحاق الأمة بالعبد في سراية العتق في حق من عرف مصادر الشرع ومواردهُ في أحكام العتق بحيث استبان له أنه لافرق في ذلك بين الذكر والأنثى، والله أعلم.) (أدب المفتي) صـ104.
وقال ابن القيم (إذا تفقه الرجل وقرأ كتاباً من كتب الفقه أو أكثر وهو مع ذلك قاصر في معرفة الكتاب والسنة وآثار السلف والاستنباط والترجيح فهل يسوغ تقليده في الفتوى؟ فيه للناس أربعة أقوال: الجواز مطلقاً، والمنع مطلقاً، والجواز عند عدم المجتهد ولايجوز مع وجوده، والجواز إن كان مُطلعاً على مأخذ من يفتي بقولهم والمنع إن لم يكن مطلعاً.(4/45)
والصواب فيه التفصيل، وهو أنه إن كان السائل يمكنه التوصل إلى عالم يهديه السبيل لم يحل له استفتاء مثل هذا، ولايحل لهذا أن ينسب نفسه للفتوى مع وجود هذا العالم، وإن لم يكن في بلده أو ناحيته غيره بحيث لايجد المستفتي من يسأله سواه فلا ريب أن رجوعه إليه أولى من أن يقدم على العمل بلا علم، أو يبقى مرتبكا في حيرته مترددا في عماه وجهالته، بل هذا هو المستطاع من تقواه المأمور بها.
ونظير هذه المسألة إذا لم يجد السلطان من يوليه إلا قاضياً عارياً من شروط القضاء لم يعطل البلد عن قاض وولي الأمثل فالأمثل. ــ إلى أن قال: ــ
وكلام أصحاب أحمد في ذلك يخرج على وجهين، فقد منع كثير منهم الفتوى والحكم بالتقليد، وجوزه بعضهم لكن على وجه الحكاية لقول المجتهد كما قال أبو إسحاق بن شاقلا ــ وقد جلس في جامع المنصور فذكر قول أحمد أن المفتي ينبغي له أن يحفظ أربعمائة ألف حديث ثم يفتي ــ فقال له رجل: أنت تحفظ هذا؟ فقال: إن لم أحفظ هذا فأنا أفتي بقول من كان يحفظه، وقال أبو الحسن بن بشار من كبار أصحابنا: ماضر رجلا عنده ثلاث مسائل أو أربع من فتاوي الإمام أحمد يستند إلى هذه السارية ويقول: قال أحمد ابن حنبل.) (اعلام الموقعين) جـ 4 صـ 196 ــ 198.
فهذا مايتعلق بحكم إفتاء هذا القسم.
المرتبة الخامسة: من كان عنده كتب الحديث أو بعضها، هل يجوز له أن يفتي؟
ذهب ابن القيم رحمه الله إلى جواز إفتاء من كانت عنده كتب الحديث بشرطين:
1 ــ أن يكون له بصر بالتفريق بين الحديث المقبول والمردود، إما بنفسه وإما بسؤال غيره.
2 ــ أن تكون دلالة الحديث ظاهرة بيِّنة لكل من سمعه لايحتمل غير هذه الدلالة.
فإذا انخرم أحد هذين الشرطين، فليس له أن يفتي بالحديث قبل أن يسأل أهل العلم.(4/46)
وهناك شرط آخر ينبغي أن يضاف هنا، وهو ماذكره ابن الصلاح وابن القيم في المرتبة السابقة (وهو أنه إن كان السائل يمكنه التوصل إلى عالم يهديه السبيل لم يحلّ له استفتاء مثل هذا، ولايحل لهذا أن ينسب نفسه للفتوى مع وجود هذا العالم) (اعلام الموقعين) جـ 4 صـ 196. فإفتاؤه إنما جاز للضرورة.
أما الشرط الأول فذكره ابن القيم في قوله (وقال عبدالله بن أحمد: سألت أبي عن الرجل عنده الكتب المصنفة فيها قول رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين، وليس للرجل بَصَر بالحديث الضعيف المتروك ولا الإسناد القوي من الضعيف، فيجوز أن يعمل بما شاء ويتخير منها فيفتي به ويعمل به، قال: لايعمل حتى يسأل مايؤخذ به منها فيكون يعمل على أمر صحيح، يسأل عن ذلك أهل العلم.) (اعلام الموقعين) جـ 4 صـ 206. وذكره الخطيب البغدادي بإسناده في (الفقيه والمتفقه) جـ 2 صـ 98.
وأما الشرط الثاني فذكره ابن القيم في قوله (إذا كان عند الرجل الصحيحان أو أحدهما أو كتاب من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم موثوق بما فيه، فهل له أن يفتي بما يجده فيه؟
فقالت طائفة من المتأخرين: ليس له ذلك، لأنه قد يكون منسوخاً، أو له معارض، أو يفهم من دلالته خلاف مايدل عليه، أو يكون أمر ندب فيفهم منه الايجاب، أو يكون عاما له مخصص، أو مطلقاً له مقيد، فلا يجوز له العمل ولا الفتيا به حتى يسأل أهل الفقه والفتيا.(4/47)
وقالت طائفة: بل له أن يعمل به، ويفتي به، بل يتعين عليه، كما كان الصحابة يفعلون، إذا بلغهم الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وحَدَّث به بعضهم بعضا بادروا إلى العمل به من غير توقف ولابحث عن معارض، ولايقول أحد منهم قط: هل عمل بهذا فلان وفلان؟ ولو رأوا من يقول ذلك لأنكروا عليه أشد الإنكار، وكذلك التابعون، وهذا معلوم بالضرورة لمن له أدنى خبرة بحال القوم وسيرتهم، وطولُ العهد بالسنة وبُعْدُ الزمان وعتقها لايسوغ ترك الأخذ بها والعمل بغيرها، ولو كانت سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم لايسوغ العمل بها بعد صحتها حتى يعمل بها فلان أو فلان لكان قول فلان أو فلان عيارا على السنن، ومُزَكِّياً لها، وشرطا في العمل بها، وهذا من أبطل الباطل ــ إلى قوله ــ قالوا: والنَّسخ الواقع في الأحاديث الذي أجمعت عليه الأمة لايبلغ عشرة أحاديث البتة بل ولاشطرها، فتقدير وقوع الخطأ في الذهاب إلى المنسوخ أقل بكثير من وقوع الخطأ في تقليد من يصيب ويخطئ، ويجوز عليه التناقض والاختلاف.
إلى أن قال ابن القيم: والصواب في هذه المسألة التفصيل:
فإن كانت دلالة الحديث ظاهرة بيِّنة لكل من سمعه لايحتمل غير المراد فله أن يعمل به، ويفتي به، ولايطلب له التزكية من قول فقيه أو إمام، بل الحجة قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن خالفه من خالفه.
وإن كانت دلالته خفية لايتبين المراد منها لم يجز له أن يعمل، ولايفتي بما يتوهمه مُرادا حتى يسأل ويطلب بيانَ الحديث ووجهه.
وإن كانت دلالته ظاهرة كالعام على أفراده، والأمر على الوجوب، والنهي على التحريم، فهل له العمل والفتوى به؟ يخرج على الأصل وهو العمل بالظواهر قبل البحث عن المعارض، وفيه ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره: الجواز، والمنع، والفرق بين العام والخاص فلا يعمل به قبل البحث عن المخصص، والأمر والنهي فيعمل به قبل البحث عن المعارض.(4/48)
وهذا كله إذا كان ثَمَّ نوع أهلية ولكنه قاصر في معرفة الفروع وقواعد الأصوليين والعربية، وإذا لم تكن ثمة أهلية قط ففرضه ماقال الله تعالى:(فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لاتعلمون)، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا سألوا إذا لم يعلموا، إنما شفاء العِيِّ السؤالُ». وإذا جاز اعتماد المستفتي على ما يكتبه المفتي من كلامه أو كلام شيخه وإن علا وصعد فمن كلام إمامه، فلأن يجوز اعتماد الرجل على ماكتبه الثقات من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى بالجواز، وإذا قدر أنه لم يفهم الحديث كما لو لم يفهم فتوى المفتي فيسأل مَنْ يعرِّفه معناه، كما يسأل من يعرفه معنى جواب المفتي، وبالله التوفيق.) (اعلام الموقعين) جـ 4 صـ 234 ــ 236.
فهذا مايتعلق بحكم إفتاء من عنده كتب الحديث أو بعضها. وننبه مرة أخرى هنا على أن مثل هذا إنما يجوز إفتاؤه للضرورة عند عدم العالم المجتهد أو عند تعذر الوصول إليه.
المرتبة السادسة: العامي إذا عرف حكم حادثة، هل يجوز له أن يفتي فيها؟
العامي إذا عرف حكم حادثة، فَلَه حالان: إما أن يعرف الحكم بالدليل، وإما أن يعرفه على وجه التقليد لقول مفت ٍ فيها دون معرفة الدليل.
أولا: العامي إذا عرف حكم حادثة بدليلها.
قال ابن الصلاح (وذكر الماوردي في كتابه «الحاوي»: في العامي إذا عرف حكم حادثة بناء على دليلها ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه يجوز أن يفتي به، ويجوز تقليده فيه، لأنه قد وصل إلى العلم به، مثل وصول العالم إليه.
والثاني: يجوز ذلك إن كان دليلها من الكتاب والسنة.
والثالث: وهو أصحُها أنه لايجوز ذلك مطلقاً.) (أدب المفتي) صـ 103. فالمنع من الافتاء هو اختيار الماوردي وتابعه ابن الصلاح وكذلك النووي (المجموع) جـ 1 صـ 45.(4/49)
ومال ابن القيم إلى ترجيح الوجه الثاني أي الجواز إن كان الدليل كتاباً أو سنة، فقال (إذا عرف العامي حكم حادثة بدليلها فهل له أن يفتي به ويسوغ لغيره تقليده فيه؟ ففيه ثلاثة أوجه للشافعية وغيرهم، أحدها: الجواز، لأنه قد حصل له العلم بحكم تلك الحادثة عن دليلها كما حصل للعالم، وإن تميز العالم بقوة يتمكن بها من تقرير الدليل ودفع المعارض له، فهذا قدر زائد على معرفة الحق بدليله. والثاني: لا يجوز ذلك مطلقاً، لعدم أهليته للاستدلال، وعدم علمه بشروطه ومايعارضه، ولعله يظن دليلا ما ليس بدليل. والثالث: إن كان الدليل كتاباً أو سنة جاز له الإفتاء، وإن كان غيرهما لم يجز، لأن القرآن والسنة خطاب لجميع المكلفين، فيجب على المكلف أن يعمل بما وصل إليه من كتاب ربه تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ويجوز له أن يرشد غيره إليه ويدله عليه) (اعلام الموقعين) جـ 4 صـ 198 ــ 199.
ثانيا: العامي إذا عرف حكم حادثة على سبيل التقليد.
أي بغير حجة ولا دليل وإنما يحفظ فتوى المفتي في الحادثة. ولا خلاف في أن هذا العامي ليس له أن يفتي، ويجوز أن يُخبر بالفتوى، قال الخطيب البغدادي (ومتى أفتى فقيه رجلاً من العامة بفتوى، فواسع للعامي أن يُخبر بها، فأما أن يفتي هو فلا) (الفقيه والمتفقه) جـ 2 صـ 194.(4/50)
وقد أشرت إلى هذه المسألة في الفصل الثالث من الباب الثالث عند الكلام في واجب العامي في تبليغ العلم، وأن من صور تبليغه العلم إفتاءه أحيانا، وهى المرتبة السادسة من مراتب المفتين، وعلى الحقيقة فإن هذا ليس مفتياً ولكنه ناقلٌ للعلم ومُبلغٌ له، ويجب على العامي أن يحتاط فلا ينسب الفتوى لنفسه بل ينبه على أنه ناقل للدليل أو لفتوى عالم، فيقول سمعت فيها من الشيخ فلان كذا وكذا، أو يقول قرأت فيها في كتاب كذا: كذا وكذا. وهذا جائز للضرورة عندما لايجد المستفتي أحداً يفتيه إلا هذا العامي. وقال الشاطبي إنه عند خلو الزمان عن المجتهدين يتنزل النقل عن المجتهدين منزلة وجود المجتهدين، انظر كتابه (الاعتصام) جـ 2 صـ 266، ط دار المعرفة 1402هـ. وهذا الكلام يجري على كل من نقل عن المجتهدين سواء كان هذا العامي المذكور هنا، أو كان المفتي المقلد المذكور في المرتبة الثانية، أو كان المتفقه من الكتب المذكور في المرتبة الرابعة.
المرتبة السابعة: إذا لم يجد المستفتي أحداً يفتيه ألبتّه.
أي لم يجد المستفتي أحداً ممن ذكرناهم في المراتب الست السابقة، لا في بلده ولا في غيره، ولا يمكنه التوصل لأحد يفتيه، فما الواجب في حقه؟.
ذهب فقهاء الشافعية كإمام الحرمين وابن الصلاح وتابعه النووي إلى أنه لاتكليف عليه، ويفعل مايشاء، كمن لم تبلغه الدعوة، ولامؤاخذة عليه، وكذلك قال الشاطبي من المالكية.
وذهب ابن القيم إلى أنه يتقي الله مااستطاع ويفعل مايغلب على ظنه أنه الحق والصواب، فإن للحق أمارات، فإن لم يتبين له شئ فالأمر كما قال فقهاء الشافعية أعلاه.
(فائدة) خُلُوْ الأرض من الفقهاء المجتهدين فمن دونهم من المفتين يمكن أن يقع في إحدى صورتين:(4/51)
الصورة الأولى: الخُلُوّ المطلق، وذلك بانعدام وجود هؤلاء في جميع أقطار الأرض في نفس الوقت، وهذه الصورة لاتقع أبداً إلا قبيل قيام الساعة بعد ظهور علامات الساعة الكبرى، وعلى التحديد بعدما تهب الريح الطيبة التي تقبض أرواح جميع المؤمنين ثم يبقى شرار الخلق عليهم تقوم الساعة، كما في الحديث الذي رواه مسلم عن عبدالله بن عمرو، وهذا بعد نزول عيسى عليه السلام وموته بعد قتله للمسيح الدجال وبعد طلوع الشمس من مغربها وخروج الدابة إذ يتميزالمؤمن من الكافر، أما قبل هبوب هذه الريح فالعلم والعلماء باقون في الدنيا ولو على الندرة، وبهم تبقى حجة الله قائمة كما يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم (لاتزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لايضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس) الحديث متفق عليه، و(أمر الله) هو الريح الطيبة المذكورة، وفي الرواية الأخرى (حتى تقوم الساعة) أي قرب قيامها.
الصورة الثانية: الخُلُوّ النسبي، وذلك بانعدام وجود المجتهدين والمفتين في بقعة من الأرض، مع وجودهم في بقعةأخرى، وهذه الصورة جائزة الحدوث في أي وقت، وهى المقصودة بالبحث في مسألتنا هذه، ومثالها ماسمعته من بعض من ذهبَ إلى بلاد أوربا الشرقية هذه الأيام (أول عام 1412هـ) وبعد تحررها من سيطرة روسيا الشيوعية، أن الحكم الشيوعي بهذه البلاد كبولندا كان قد اتبع سياسة أدت إلى انقراض الأئمة والفقهاء بهذه البلاد مع منعه سفر المواطنين إلى الخارج، فأصبح المسلمون بهذه البلاد يقرّون بالشهادتين مع جهلهم التام بتفاصيل أحكام الشريعة وعجزهم عن الاستفتاء، فهذه صورة للمسألة المفترضة هنا، وهذا من الجهل الذي يُعذر به صاحبه لعدم التمكن من العلم، حتى أن المسلمات كن يتزوجن الرجال النصارى، وكان المسلمون يصلون في يومٍ واحد ٍ من الشهر ركعتين عن كل يوم من الشهر المنصرم، يرون هذا الدين.(4/52)
وقد افترض إمام الحرمين صورة مشابهة لهذا وهى صورة قوم ٍ منقطعين بجزيرة من الجزر، وستأتي في كلامه إن شاء الله.
ونذكر فيما يلي أقوال من أشرنا إليهم: إمام الحرمين، فابن الصلاح، والنووي مثله، فالشاطبي. ثم قول ابن القيم. ثم نختم المسألة بقول ابن تيمية فيها.
قال إمام الحرمين الجويني رحمه الله ــ «في خُلُوِّ الزمان عن أصول الشريعة» ــ قال (ومضمون هذه المرتبة تقديرُ دروس أصول الشريعة، وقد ذهبت طوائف من علمائنا إلى أن ذلك لايقع، فإن أصول الشريعة تبقى محفوظة على ممر الدهور، إلى نفخة الصور، واستمسكوا بقوله تعالى: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون).
وهذه الطريقة غيرُ مرضية، والآية في حفظ القرآن في التحريف والتبديل، والتصريف والتحويل، وقد وردت أخبار في انطواء الشريعة، وانطماس شرائع الإسلام، واندراس معالم الأحكام، بقبض العلماء، وقد قال صلى الله عليه وسلم «سيقبض العلم حتى يختلف الرجلان في فريضة، ولا يجدان من يعرف حكم الله تعالى فيها» ــ إلى أن قال ــ فإن فُرض ذلك قَدَّمنا على غرضنا من ذلك صورة ً. وهى أن طائفة في جزيرة من الجزائر، لو بلغتهم الدعوة، ولاحت عندهم دلالة النبوة، فاعترفوا بالوحدانية والنبوة، ولم يقفوا على شئ من أصول الأحكام، ولم يستمكنوا من المسير إلى علماء الشريعة، فالعقول على مذاهب أهل الحق لا تقتضي التحريم والتحليل، وليس عليها في مدرك قضايا التكليف تعويل ــ إلى أن قال ــ فمقدارُ الغرض فيه الآن أن الذين فرضنا الكلام فيهم لايلزمهم إلا اعتقاد التوحيد ونبوة النبي المبتعث، وتوطين النفس على التوصل إليه في مستقبل الزمان، مهما صادفوا أسباب الإمكان، ولسنا ننكر أن عقولهم تستحثهم في قضيات الجبلات على الانكفاف عن مقتضيات الردي، والانصراف عن موجبات التَّوي ولكنا لانقضي بأن حكم الله عليهم موجبُ عقولهم.(4/53)
فننعطف الآن على غرضنا، ونقول: إذا درست فروعُ الشريعة وأصولُها، ولم يبق معتصم يُرجع إليه، ويعول عليه، انقطعت التكاليف عن العباد، والتحقت أحوالهم بأحوال الذين لم تبلغهم دعوة، ولم تُنط بهم شريعة) أهـ (الغياثي) للجويني، تحقيق د. عبدالعظيم الديب، ط 2، 1401هـ، صـ 523 ــ 526.
وقال ابن الصلاح رحمه الله (إذا لم يجد صاحب الواقعة مفتياً ولا أحداً ينقل له حكم واقعته، لا في بلده ولا في غيره فماذا يصنع؟ قلت: هذه مسألة فترة الشريعة الأصولية، والسبيل في ذلك كالسبيل فيما قبل ورود الشرائع، والصحيح في كل ذلك القول بانتفاء التكليف عن العبد، فإنه لايثبت في حقه حكم، لا إيجاب، ولا تحريم، ولاغير ذلك، فلا يوأخذ إذن صاحب الواقعة بأي شئ صنعه فيها، وهذا مع تقرره بالدليل المعنوي الأصولي، يشهد له حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يدرس الإسلام كما يدرس وشيُ الثوب، حتى لا يدري ما صيام، ولا صلاة، ولا نسك، ولاصدقة، ويُسري على كتاب الله تعالى في ليلة. فلا يبقى في الأرض منهُ آية، وتبقى طوائف من الناس، الشيخ الكبير، والعجوز الكبيرة، يقولون: أدركنا آبائنا على هذه الكلمة لا إله إلا الله، فنحن نقولها» فقال صلة بن زفر، لحذيفة: «فما تُغني عنهم لا إله إلا الله، وهم لا يدرون ما صلاة، ولا صيام ولا نسك، ولا صدقة؟ فأعرض عنه حذيفة، فردها عليه ثلاثاً، كل ذلك يُعرض عنه حذيفة، ثم أقبل عليه في الثالثة، فقال: ياصلة ! تنجيهم من النار، تنجيهم من النار »، رواه أبو عبدالله ابن ماجة في «سننه».
والحاكم أبو عبدالله الحافظ في «صحيحه». وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. والله أعلم) (أدب المفتي) صـ 105 ــ 106، ونقله عنه النووي في (المجموع) جـ 1 صـ 58. هذا وقد وافق الذهبي الحاكم في تصحيح حديث حذيفة، وقال الحافظ ابن حجر: رواه ابن ماجة بسند قوي عن حذيفة (فتح الباري) 13/61.(4/54)
وقال الشاطبي رحمه الله (يسقط عن المستفتي التكليف بالعمل عند فقد المفتي، إذا لم يكن له به علم لا من جهة اجتهاد معتبر ولا من تقليد: والدليل على ذلك أمور:
«أحدها» أنه إذا كان المجتهد يسقط عنه التكليف عند تعارض الأدلة عليه على الصحيح ــ حسبما تبين في موضعه من الأصول ــ فالمقلد عند فقد العلم بالعمل رأسا أحق وأولى.
«والثاني» أن حقيقة هذه المسألة راجعة إلى العمل قبل تعلق الخطاب. والأصل في الأعمال قبل ورود الشرائع سقوط التكليف، إذ لاحكم عليه قبل العلم بالحكم، إذ شرط التكليف عند الأصوليين العلم بالمكلف به، وهذا غير عالم بالفرض، فلا ينتهض سببه على حال.
«والثالث» أنه لو كان مكلفا بالعمل لكان من تكليف مالا يُطاق، إذ هو مكلف بما لا يعلم، ولا سبيل له إلى الوصول إليه، فلو كلف به لكلف بما لا يقدر على الامتثال فيه، وهو عين المحال إما عقلا وإما شرعاً والمسألة بَيِّنة) (الموافقات) جـ 4 صـ 291.(4/55)
وقال ابن القيم رحمه الله (إذا نزلت بالعامي نازلة وهو في مكان لايجد من يسأله عن حكمها ففيه طريقان للناس، أحدهما: أن له حكم ماقبل الشرع، على الخلاف في الحظر والإباحة والوقف، لأن عدم المرشد في حقه بمنزلة عدم المرشد بالنسبة إلى الأمة. والطريقة الثانية: أنه يخرج على الخلاف في مسألة تعارض الأدلة عند المجتهد، هل يعمل بالأخف أو بالأشد أو يتخير؟. والصواب أنه يجب عليه أن يتقي الله مااستطاع، ويتحرى الحق بجهده ومعرفة مثله، وقد نصب الله تعالى على الحق أمارات كثيرة، ولم يسوِّ الله سبحانه وتعالى بين مايحبه وبين مايسخطه من كل وجه بحيث لايتميز هذا من هذا، ولابد أن تكون الفطر السليمة مائلة إلى الحق، مؤثرة له، ولابد أن يقوم لها عليه بعض الأمارات المرجحة ولو بمنام أو بإلهام، فإن قدر ارتفاع ذلك كله وعدمت في حقه جميع الأمارات فهنا يسقط التكليف عنه في حكم هذه النازلة، ويصير بالنسبة إليها كمن لم تبلغه الدعوة، وإن كان مكلفاً بالنسبة إلى غيره، فأحكام التكليف تتفاوت بحسب التمكن من العلم والقدرة، والله أعلم) (اعلام الموقعين) جـ 4 صـ 219 ــ220.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (وفي أوقات الفترات، وأمكنة الفترات: يُثاب الرجل على مامعه من الإيمان القليل، ويغفر الله فيه لمن لم تقم الحجة عليه مالا يغفر به لمن قامت الحجة عليه، كما في الحديث المعروف: «يأتي على الناس زمان لايعرفون فيه صلاة، ولاصياما، ولاحجا، ولاعمرة، إلا الشيخ الكبير، والعجوز الكبيرة. ويقولون: أدركنا آباءنا وهم يقولون لا إله إلا الله» فقيل لحذيفة بن اليمان: ماتغني عنهم لا إله إلا الله؟ فقال: تنجيهم من النار.) (مجموع الفتاوي) جـ 35 صـ 165. وذكر شيخ الإسلام مثله في (مجموع الفتاوي) جـ 11 صـ 407 ــ 408.(4/56)
وقال ابن تيمية أيضا: (وبالجملة لا خلاف بين المسلمين أن من كان في دار الكفر وقد آمن وهو عاجز عن الهجرة لا يجب عليه من الشرائع ما يعجز عنها بل الوجوب بحسب الامكان، وكذلك مالم يعلم حكمه، فلو لم يعلم أن الصلاة واجبة عليه وبقي مدة لم يُصَلِّ لم يجب عليه القضاء في أظهر قولي العلماء، وهذا مذهب أبي حنيفة وأهل الظاهر، وهو أحد الوجهين في مذهب أحمد.
وكذلك سائر الواجبات من صوم شهر رمضان وأداء الزكاة وغير ذلك. ولو لم يعلم تحريم الخمر فشربها لم يُحَدّ باتفاق المسلمين، وإنما اختلفوا في قضاء الصلوات. وكذلك لو عَامَل بما يستحله من ربا أو مَيْسر ثم تبين له تحريم ذلك بعد القبض: هل يفسخ العقد أم لا؟ كما لانفسخه لو فعل ذلك قبل الإسلام. وكذلك لو تزوج نكاحا يعتقد صحته على عادتهم، ثم لما بلغته شرائع الإسلام رأى أنه قد أخل ببعض شروطه، كما لو تزوج في عدة وقد انقضت، فهل يكون هذا فاسداً أو يقر عليه؟ كما لو عقده قبل الإسلام ثم أسلم.
وأصل هذا كله أن الشرائع هل تلزم من لم يعلمها أم لاتلزم أحداً إلا بعد العلم؟ أم يفرق بين الشرائع الناسخة والمبتدأة؟ هذا فيه ثلاثة أقوال ــ إلى أن قال ــ والصواب في هذا الباب كله: أن الحكم لايثبت إلا مع التمكن من العلم، وأنه لايقضي مالم يَعلم وجوبه) (مجموع الفتاوي) جـ 19 صـ 225 ــ 226.
فهذه أقوال العلماء في المسألة (مايفعل المستفتي إذا لم يجد من يفتيه البته؟.)، والقول الذي نطمئن إليه هو قول ابن القيم: أن المرء يتقي الله مااستطاع ويفعل مايظنه الحق، فإن عجز عن ذلك فلا تكليف عليه. فابن القيم لم يُسقط عنه التكليف ابتداء وإنما ألزمه بتحري الصواب قبل ذلك. وهذا هو ما تشهد له الأدلة الشرعية كما يلي:(4/57)
1 ــ فقوله إنه يتقي الله مااستطاع ويتحري الصواب، يشهد له قوله تعالى (فاتقوا الله ما استطعتم) التغابن 16، وقال ابن القيم إن الله قد جعل على الحق أمارات، وهذا يشهد له حديث وابصة بن مَعْبَد مرفوعا (البر مااطمأنت له النفس واطمأن إليه القلب، والإثم ماحاك في النفس وتردد في الصدر) الحديث، قال النووي في الأربعين: حديث حسن رويناه في مسندي الإمامين أحمد بن حنبل والدارمي بإسناد حسن.أهـ، وتعقبه الحافظ ابن رجب الحنبلي بتضعيف هذا الحديث وبين سبب ضعفه، ثم قال ابن رجب وقد روى هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه متعددة وبعض طرقه جيدة فخرجه الإمام أحمد وابن حبان في صحيحه من طريق يحيي بن أبي كثير عن زيد بن سلام عن جده ممطور عن أبي أمامة قال «قال رجل: يارسول الله ماالإثم؟ قال إذا حاك في صدرك شئ فدعه» وهذا إسناد جيد على شرط مسلم، فإنه خرج حديث يحيي بن كثير عن زيد بن سلام، وأثبت أحمد سماعه منه وإن أنكره ابن معين. وخرج الإمام أحمد من رواية عبدالله بن العلاء بن زيد قال: سمعت مسلم بن مسلم قال: سمعت أبا ثعلبة الخشني يقول «قلت يارسول الله أخبرني ما يحل لي وما يحرم عليّ، قال: البر ماسكنت إليه النفس واطمأن إليه القلب، والإثم مالم تسكن إليه النفس ولايطمئن إليه القلب وإن أفتاك المفتون» وهذا أيضا إسناد جيد، وعبدالله بن العلاء بن زبير ثقة مشهور، وخرجه البخاري، ومسلم ابن مسلم ثقة مشهور أيضا ــ إلى أن قال ابن رجب: ــ وقد صح عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال:«الإثم حَزَّاز القلوب»، واحتج به الإمام أحمد، ورواه عن جرير عن منصور عن محمد بن عبد الرحمن عن أبيه قال: قال عبدالله «إياكم وحزائز القلوب، وماحزّ في قلبك فدعه» قال أبو الدرداء «الخير في طمأنينة، والشر في ريبة». وروى ابن مسعود من وجه منقطع أنه قيل له: أرأيت شيئا في صدورنا لاندري حلال هو أم حرام؟ فقال «وإياكم والحكاكات فإنهن الإثم» والحك والحزّ(4/58)
متقاربان في المعنى، والمراد ماأثر في القلب ضِيقا وحَرَجاً ونفورا وكراهة.) أهـ (جامع العلوم والحكم) لابن رجب، ط دار الفكر، صـ 219 ــ 220.
وهذه النصوص يعضد بعضها بعضاً تشهد بأن للحق أمارات ومنها سكينة النفس وطمأنينة القلب، وللإثم أمارات ومنها ضيق القلب وتحرّجه. فإذا عدم المرء من يفتيه فليستفت قلبه.
2 ــ فإن لم يهتد المرء إلى شئ يميز به، فالأمر كما قال فقهاء الشافعية وغيرهم: إنه لاتكليف عليه وليفعل ما شاء في نازلته، وحكمه حكم من لم يبلغه الخطاب دون تقصير من جهته. وقد نزلت كثير من الشرائع ولم يعلم بها المسلمون الذين كانوا بالحبشة ومنهم من لم يعد إلى المدينة إلا في السنة السابعة (عام خيبر) ولم يؤاخذوا بما لم يبلغهم، ولم يكلفوا بقضاء شئ من ذلك. كما قال ابن تيمية رحمه الله إن من الأحوال المانعة من وجوب قضاء مافات من الواجبات: الجهل الذي يُعذر به لعدم بلوغ الخطاب، راجع (مجموع الفتاوي) جـ 22 صـ 23 و صـ 40 ومابعدها. وقد قال الله تعالى (إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لايستطيعون حيلة ولايهتدون سبيلا، فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم، وكان الله عفواً غفوراً) النساء 98 ــ 99.
فهذا ماأراه في هذه المسألة: أن العاجز عجزاً حقيقياً عن معرفة الشرع ــ لاعن تقصير في السؤال ولو بالارتحال ــ أنه يتقي الله مااستطاع ويتحرى الحق والصواب، فإن عجز فلا تكليف عليه، ولا إثم عليه، قال تعالى (فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم، وكان الله عفواً غفوراً) النساء 99، والله تعالى أعلم.
هذا ما يتعلق بالمستفتي إذا لم يجد أحداً يفتيه. وبهذا ينتهي الكلام في مراتب المفتين، ونختمه بفائدتين:
(الفائدة الأولى) وهى في حق المفتي، وهى (وجوب التَّوثق من الكتاب)(4/59)
وقد أشرنا إلى هذه الفائدة عند الكلام في الوجادة في الفصل الثالث من الباب الثالث، وقال النووي رحمه الله (لا يجوز لمن كانت فتواه نقلا لمذهب إمام إذا اعتمد الكتب أن يعتمد إلا على كتاب موثوق بصحته وبأنه مذهب ذلك الإمام. فإن وثق بأن أصل التصنيف بهذه الصفة لكن لم تكن هذه النسخة معتمدة فليستظهر بنسخ منه متفقة. وقد تحصل له الثقة من نسخة غير موثوق بها في بعض المسائل إذا رأي الكلام منتظما وهو خبير فَطِن لايخفى عليه لدربته موضع الاسقاط والتغيير.
فإن لم يجده إلا في نسخة غير موثوق بها، فقال أبو عمرو ينظر فإن وجده موافقا لأصول المذهب وهو أهل لتخريج مثله في المذهب لو لم يجده منقولا فله أن يفتي به فإن أراد حكايته عن قائله فلا يقل قال الشافعي مثلا كذا وليقل وجدت عن الشافعي كذا أو بلغني عنه ونحو هذا، وإن لم يكن أهلا لتخريج مثله لم يجز له ذلك فإن سبيله النقل المحض ولم يحصل مايجوز له ذلك وله أن يذكره لا على سبيل الفتوى مُفصِحا بحاله فيقول وجدته في نسخة من الكتاب الفلاني ونحوه.) (المجموع) جـ 1 صـ 46 ــ 47 وكلامه الأول منقول عن ابن الصلاح من كتابه (أدب المفتي) صـ 115 ــ 116.
(الفائدة الثانية) وهي في حق المستفتي.
وهو أنه لا يجوز له استفتاء من هو أدنى مرتبة إلا إذا عُدِم في حقه من هو أعلى مرتبة من المفتين، لقوله تعالى (فاتقوا الله مااستطعتم) التغابن، فإنَّ بعض مَن ذكرناهم في مراتب المفتين ليسوا مفتين على الحقيقة وإنما يجوز إفتاؤهم أحيانا للضرورة. ومايذكره بعض العلماء من أن المستفتي يستفتي مَن يشاء مِن المفتين فهذا إذا كانوا جميعا مستوفين للأهلية، كما سيأتي بيانه في الفصل القادم (أحكام المستفتي). أما إذا اختلفت الأهلية فلابد من استفتاء الأعلى مرتبة إن وُجِد وإلا فمن دونه فمن دونه.
وبهذا نختم الكلام في (مراتب المفتين) وهو القسم الرابع من هذا الفصل.
******(4/60)
القسم الخامس: وجوب الإفتاء بالحق وبالأقوال الراجحة
تحدثنا عن شرط العلم ضمن شروط المفتي في القسم الثالث من هذا الفصل، كما تحدثنا في القسم الثاني (حكم الإفتاء) عن أنه يحرم على المفتي أن يفتي بغير علم، أما هذا القسم فمعقود لبيان أمر أخص: وهو أن العلم الذي تجب الفتوى به ينبغي أن يكون:
1 ــ هو الحق الذي شهد به الدليل الشرعي من الكتاب والسنة والإجماع المعتبر والقياس الصحيح. وذلك لقوله تعالى (فاحكم بين الناس بالحق ولاتتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله، إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب) صلى الله عليه وسلم 26. فيجب على المفتي أن يفتي بالحق الذي شهدت به الأدلة.
2 ــ وهو الراجح من ضمن الأقوال المختلفة، وذلك لقوله تعالى (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول)النساء 59، وقوله تعالى لت (فبشِّر عبادِ الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب) الزمر 17 ــ 18. فيَحْرُم على المفتي والقاضي أن يتخيرا من الأقوال المختلفة كيفما شاءا، بل تجب الفتوى والحكم بالقول الراجح من الأقوال المتعارضة.
ويتعلق بالأمر الأول (وجوب الإفتاء بالحق) مسألة تحريم الإفتاء بالحِيَل، كما يتعلق بالأمر الثاني (وجوب الإفتاء بالراجح) مسألة تحريم الإفتاء بالمرجوح، ويتعلق بالأمرين معا مسألة نقض الفتوى المخالفة للحق.
وعلى هذا سوف يشتمل هذا القسم إن شاء الله تعالى على هذه المسائل الثلاث:
1 ــ تحريم الإفتاء بالحيل. …2 ــ تحريم الافتاء بالمرجوح.
3 ــ رد الفتوى المخالفة للحق.
المسألة الأولى: تحريم الإفتاء بالحِيَل لإسقاط الحق.(4/61)
قال أبو عمرو ابن الصلاح رحمه الله (ليحذر أن يميل في فتياه مع المستفتي أو مع خصمه، ووجوه الميل كثيرة لاتخفى، ومنها: أن يكتب في جوابه ماهو له، ويسكت عما هو عليه وليس له أن يبتديء في مسائل الدعاوي والبينات بذكر وجوه المخالص منها. وإذا سأله أحدهم وقال: بأي شيء تندفع دعوى كذا وكذا، أو بينة كذا وكذا؟ لم يجبه كيلا يتوصل بذلك إلى إبطال حق، وله أن يسأله عن حاله فيما ادعى عليه، فإذا شرحه له عرفه بما فيه من دافع وغير دافع. والله أعلم) (أدب المفتي) صـ 153.
وقال ابن القيم رحمه الله (يحرم عليه إذا جاءته مسألة فيها تحيل على إسقاط واجب أو تحليل محرم أو مكر أو خداع أن يعين المستفتي فيها، ويرشده إلى مطلوبه، أو يفتيه بالظاهر الذي يتوصل به إلى مقصوده، بل ينبغي له أن يكون بصيراً بمكر الناس وخِداعهم وأحوالهم، ولاينبغي له أن يحسن الظن بهم، بل يكون حذراً فَطِناً فقيهاً بأحوال الناس وأمورهم، يوازره فقهه في الشرع، وإن لم يكن كذلك زَاغَ وأزاغ، وكم من مسألة ظاهرُها ظاهر جميل، وباطنها مكر وخداع وظلم؟ فالغرُّ ينظر إلى ظاهرها ويقضي بجوازه، وذو البصيرة ينقد مقصدها وباطنها، فالأول يروج عليه زَغَل المسائل كما يروج على الجاهل بالنقد زَغَلُ الدراهم، والثاني يُخرج زيفها كما يخرج الناقد زَيْفَ النقود. وكم من باطل يخرجه الرجلُ بحسن لفظه وتنميقه وإبرازه في صورة حق؟ وكم من حق يخرجه بتهجينه وسوء تعبيره في صورة باطل؟ ومن له أدنى فطنة وخبرة لايخفى عليه ذلك، بل هذا أغلب أحوال الناس، ولكثرته وشهرته يستغني عن الأمثلة. بل من تأمل المقالات الباطلة والبِدَع كلها وجَدها قد أخْرَجها أصحابها في قوالب مستحسنة وكَسَوْها ألفاظا يقبلها بها مَنْ لم يعرف حقيقتها ــ إلى أن قال ــ(4/62)
والمقصود أنه لايحل له أن يفتي بالحيل المحرمة، ولايعين عليها، ولايدل عليها، فيضاد الله في أمره، قال الله تعالى:(ومكروا ومكر الله، والله خير الماكرين) وقال تعالى (ومكروا مكراً، ومكرنا مكراً، وهم لايشعرون، فانظر كيف كان عاقبة مكرهم، إنا دمرناهم وقومهم أجمعين) ــ إلى أن قال ــ وقال تعالى في حق أرباب الحيل المحرمة (ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم: كونوا قِرَدَةً خاسئين، فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها وموعظة للمتقين). وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « ملعون من ضَارَّ مسلما أو مكر به » وقال « لاتَرْتكبُوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل » وقال « المكر والخديعة في النار» (اعلام الموقعين) جـ 4 صـ 229 ــ 230. وقد أفاد كلام ابن القيم هذا: أن المفتي قد يفتي بالحيل قاصداً متعمداً، وقد يفتي بها بغير قصد منه ولكن بسبب خِداع المستفتي له بإظهاره الباطل في صورة حق ٍ فيروج ذلك على المفتي لغفلته. ومن هنا كان العلم بالواقع ومعرفة الناس من شروط المفتي كما ذكرناه في القسم الثالث من هذا الفصل.
وقال ابن القيم أيضا (لايجوز للمفتي تتبع الحيل المحرمة والمكروهة، ولاتتبع الرُّخص لمن أراد نفعه، فإن تتبع ذلك فَسَقَ، وحَرُم استفتاؤه، فإن حَسُن قصدُه في حيلة جائزة لاشبهة فيها ولا مفسدة لتخليص المستفتي بها من حَرَج جاز ذلك، بل استحب، وقد أرشد الله تعالى نبيه أيوب عليه السلام إلى التخلص من الحِنْثِ بأن يأخذ بيده ضِغْثاً فيضرب به المرأة ضربة واحدة. وأرشد النبي صلى الله عليه وسلم بلالاً إلى بيع التمر بدراهم ثم يشتري بالدراهم تمراً آخر فيتخلص من الربا، فأحْسَنُ المخارجِ ماخَلَّص من المآثم، وأقبح الحيل ماأوقع في المحارم، أو أسقط ماأوجبه الله ورسوله من الحق اللازم) (اعلام الموقعين) جـ 4 صـ 222.(4/63)
فهذا مايتعلق بتحريم الإفتاء بالحيل لاسقاط الحق بتحليل حرام أو تحريم حلال أو إعانة على باطل.
المسألة الثانية: وجوب الإفتاء بالراجح وتحريم الإفتاء بالمرجوح.
أشرنا إلى هذه المسألة عند الكلام في كيف يُحسن الطالب اختيار مصدر العلم؟ في الفصل الأول من الباب الرابع. وقلنا هناك إنه قلما توجد مسألة من مسائل الأحكام إلا وللعلماء فيها أقوال متعددة متعارضة ولكل منهم دليله الذي يحتج به على قوله، ولايمكن العمل إلا بأحد هذه الأقوال المتعارضة، فما ضابط اختيار القول الذي يعمل به، أهو الترجيح بين الأقوال للعمل بالراجح منها؟ أم هو مجرد التشهي والهوى فيعمل بأي الأقوال شاء؟. والجواب: أن الترجيح بين الأدلة المتعارضة وبين الأقوال المتعارضة واجبٌُ للعمل بالراجح منها. ونحن نذكر هنا إن شاء الله دليل الوجوب، ثم أقوال العلماء في وجوب العمل بالراجح، ثم نرد على شبهة معارضة لوجوب الترجيح.
أولا: أدلة وجوب الترجيح بين الأقوال المتعارضة ووجوب العمل بالراجح منها:
الراجح هو الأقوى من بين الأقوال المتعارضة، وإنما يستفيد قوته ورجحانه بموافقته للأدلة الشرعية على الوجه الذي يعرفه العلماء في الترجيح بينها.
ودليل وجوب الترجيح: قوله تعالى (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر) النساء 59، وقوله تعالى (وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله) الشورى 10. فالواجب رد كل مافيه تنازع من الأدلة أو الأقوال المتعارضة إلى الكتاب والسنة لمعرفة الصواب من الخطأ فيها ولمعرفة ما يُقَدَّم منها وما يؤخر، وهذا الرّد هو الترجيح، وقد استدل المزني وابن تيمية ــ فيما يأتي من كلامهما ــ بهذه الآية على وجوب الترجيح.(4/64)
ودليل وجوب الترجيح أيضا هو إجماع الصحابة رضي الله عنهم على ذلك وهو حجة قطعية، فقد قدّموا حديث وجوب الغُسل عند التقاء الختانين على حديث الماء من الماء، مع أن الحديثين صحيحان، وغير ذلك مما عملوا فيه بالترجيح، هذا ماقاله الشوكاني رحمه الله في (ارشاد الفحول) صـ 254، ونقله بنصه عن الغزَّالي رحمه الله كما هو مذكور في (المستصفى) جـ 2 صـ 394.
واستدل ابن تيمية أيضا على وجوب الترجيح بقوله تعالى (واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم) الزمر 55، وقوله تعالى (فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله، وأولئك هم أولوا الألباب) الزمر 17 ــ 18، ذكر شيخ الإسلام هذه النصوص ثم قال (فإذا كان أحد الدليلين هو الأرجح فاتباعه هو الأحسن، وهذا معلوم. فالواجب على المجتهد أن يعمل بما يعلم أنه أرجح من غيره، وهو العمل بأرجح الدليلين المتعارضين) (مجموع الفتاوي) جـ 13 صـ 114 ــ 115.
ثانيا: أقوال العلماء في وجوب العمل بالراجح، ونقلهم الإجماع على ذلك.
1 ــ قال ابن تيمية رحمه الله (أجمع العلماء على تحريم الحكم والفتيا بالهوى، وبقول ٍ أو وجه من غير نظر في الترجيح) (الاختيارات الفقهية) لابن تيمية، جمع البعلي، تحقيق الفقي، ط دار المعرفة، صـ 332.(4/65)
2 ــ وقال أبو عمرو ابن الصلاح رحمه الله (واعلم أن من يكتفي بأن يكون في فتياه أو عمله موافقاً لقول ٍ أو وجه ٍ في المسألة، ويعمل بما يشاء من الأقوال أو الوجوه من غير نظر في الترجيح، ولا تقيد ٍ به فقد جهل وخرق الإجماع، وسبيله سبيل الذي حكى عنه أبو الوليد الباجي المالكي من فقهاء أصحابه، أنه كان يقول: إن الذي لصديقي علي إذا وقعت له حكومة أن أفتيه بالرواية التي توافقه. وحكى عن من يثق به: أنه وقعت له واقعة وأفتى فيها وهو غائب جماعة من فقهائهم من أهل الصلاح بما يضره، فلما عاد سألهم فقالوا: ما علمنا أنها لك، وأفتوه بالرواية الأخرى التي توافقه. قال: وهذا مما لاخلاف بين المسلمين ممن يعتد به في الإجماع أنه لايجوز.
قلت: وقد قال إمامهم مالك رضي الله عنه في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم. «مُخطيء ومصيب، فعليك بالاجتهاد». وقال: ليس كما قال ناس: فيه توسعة. قلت: لا توسعة فيه بمعنى أنه يتخير بين أقوالهم من غير توقف على ظهور الراجح، وفيه توسعة بمعنى أن اختلافهم يدل على أن للاجتهاد مجالا فيما بين أقوالهم، وأن ذلك ليس مما يقطع فيه بقول واحدٍ متعين لا مجال للاجتهاد في خلافه. والله أعلم.) (أدب المفتي) صـ 125 ــ 126.(4/66)
3 ــ قال ابن القيم رحمه الله (لا يجوز للمفتي أن يعمل بما شاء من الأقوال والوجوه من غير نظر في الترجيح ولايَعْتَد به، بل يكتفى في العمل بمجرد كون ذلك قولا قاله إمام أو وجها ذهب إليه جماعة فيعمل بما يشاء من الوجوه والأقوال حيث رأي القول وَفْقَ إرادته وغرضه عمل به، فإرادته وغرضه هو المعيار وبها الترجيح، وهذا حرام باتفاق الأمة، وهذا مثل ماحكى القاضي أبو الوليد الباجي عن بعض أهل زمانه ممن نَصَبَ نفسه للفتوى أنه كان يقول: إن الذي لصديقي عليّ إذا وقعت له حكومة أو فتيا أن أفتيه بالرواية التي توافقه، وقال: وأخبرني مَنْ أثق به أنه وقعت له واقعة فأفتاه جماعة من المفتين بما يضره، وأنه كان غائبا فلما حضر سألهم بنفسه، فقالوا: لم نعلم أنها لك، وأفتوه بالرواية الأخرى التي توافقه، قال: وهذا مما لا خلاف بين المسلمين ممن يعتد بهم في الإجماع أنه لايجوز، وقد قال مالك رحمه الله في اختلاف الصحابة رضي الله عنهم مخطيء ومصيب فعليك بالاجتهاد.
وبالجملة فلا يجوز العمل والإفتاء في دين الله بالتّشَهِّي والتخير وموافقة الغرض فيطلب القول الذي يوافق غرضه وغرضَ مَنْ يٌحابيه فيعمل به، ويفتي به، ويحكم به، ويحكم على عدوه ويفتيه بضده، وهذا من أفسق الفسوق وأكبر الكبائر، والله المستعان.) (اعلام الموقعين) جـ 4 صـ211.(4/67)
4 ــ وقال ابن القيم أيضا (ليحذر المفتي الذي يخاف مقامه بين يدي الله سبحانه أن يفتي السائل بمذهبه الذي يقلده، وهو يعلم أن مذهب غيره في تلك المسألة أرجح من مذهبه وأصح دليلا، فتحمله الرياسة على أن يقتحم الفتوى بما يغلب على ظنه أن الصواب في خلافه، فيكون خائنا لله ورسوله وللسائل وغاشا له، والله لايهدي كيد الخائنين، وحرم الجنة على من لقيه وهو غاشٌُ للإسلام وأهله، والدين النصيحة، والغش مضاد للدين كمضادة الكذب للصدق والباطل للحق، وكثيرا ماترد المسألة نعتقد فيها خلاف المذهب فلا يسعنا أن نفتي بخلاف مانعتقده فنحكي المذهب الراجح ونرجحه، ونقول: هذا هو الصواب، وهو أولى أن يؤخذ به، وبالله التوفيق.) (اعلام الموقعين) جـ 4 صـ 177
5 ــ وقال ابن القيم رحمه الله (قال ابن هانيء: وقيل لأبي عبدالله: يكون الرجلُ في قرية فيُسأل عن الشئ الذي فيه اختلاف، قال: يفتي بما وافق الكتاب والسنة، ومالم يوافق الكتاب والسنة أمسك عنه) (اعلام الموقعين) جـ 4 صـ 206.(4/68)
6 ــ وقال ابن القيم أيضا (وإن سئل عن حكم الله من غير أن يقصد السائل قول فقيه معين، فههنا يجب عليه الإفتاء بما هو راجح عنده وأقرب إلى الكتاب والسنة من مذهب إمامه أو مذهب من خالفه، لايسعه غير ذلك، فإن لم يتمكن منه وخاف أن يؤدي إلى ترك الإفتاء في تلك المسألة لم يكن له أن يفتي بمالا يعلم أنه صواب، فكيف بما يغلب على ظنه أن الصواب في خلافه؟ ولايسع الحاكم والمفتي غير هذا البتة، فإن الله سائلهما عن رسوله وماجاء به، لا عن الإمام المعين وما قاله، وإنما يُسأل الناس في قبورهم ويوم معادهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم، فيقال له في قبره: ماكنت تقول في هذا الرجل الذي بُعِثَ فيكم؟ (ويوم يناديهم فيقول: ماذا أجبتم المرسلين) ولا يسأل أحد قط عن إمام ولاشيخ ولامتبوع غيره، بل يسأل عمن اتبعه واُئتم به غيره، فلينظر بماذا يجيب؟ وليعدَّ للجواب صوابا.) (اعلام الموقعين) جـ 4 صـ 236.
7 ــ وقال ابن القيم أيضا (إذا اعتدل عند المفتي قولان ولم يترجح له أحدهما على الآخر، فقال القاضي أبو يعلى: له أن يفتي بأيهما شاء، كما يجوز له أن يعمل بأيهما شاء، وقيل: بل يخير المستفتي فيقول له: أنت مخير بينهما، لأنه إنما يفتي بما يراه، والذي يراه هو التخير، وقيل: بل يفتيه بالأحوط من القولين.(4/69)
قلت: الأظهر أنه يتوقف، ولايفتيه بشئ حتى يتبين له الراجح منهما، لأن أحدهما خطأ، فليس له أن يفتيه بما لايعلم أنه صواب، وليس له أن يخيره بين الخطأ والصواب، وهذا كما إذا تعارض عند الطبيب في أمر المريض أمْرَانِ خطأ وصواب ولم يتبين له أحدهما لم يكن له أن يُقْدِم على أحدهما، ولايخيره، وكما لو استشاره في أمر فتعارض عنده الخطأ والصواب من غير ترجيح لم يكن له أن يشير بأحدهما ولايخيره، وكما لو تعارض عنده طريقان مهلكة وموصِّلة ولم يتبين له طريق الصواب لم يكن له الإقدام ولا التخيير، فمسائل الحلال والحرام أولى بالتوقف. والله أعلم.) (اعلام الموقعين) جـ 4صـ 238.
8 ــ وقال أبو إسحق الشاطبي رحمه الله (أما إذا كان اطلع على فتاويهم قبل ذلك وأراد أن يأخذ بأحدها فقد تقدم قبل هذا أنه لايصح له إلا الترجيح، لأن من مقصود الشريعة إخراج المكلف عن داعية هواه، حتى يكون عبداً لله، وتخييره يفتح له باب اتباع الهوى فلا سبيل إليه البتة) (الموافقات) جـ 4 صـ 262، ط دار المعرفة.
وقد أشار الشاطبي إلى أن الاختيار من الأقوال بدون ترجيح، هو إسقاط للتكاليف الشرعية بالهوى، وهذا يبين لك خطورة هذا المسلك، قال رحمه الله (وأيضا فإن ذلك يفضي إلى تتبع رُخَص المذاهب من غير استناد إلى دليل شرعي، وقد حكى ابن حزم الإجماع على أن ذلك فسق لا يحل، وأيضا فإنه مؤد ٍ إلى اسقاط التكليف في كل مسألة مختلف فيها، لأن حاصل الأمر مع القول بالتخيير أن للمكلف أن يفعل إن شاء ويترك إن شاء، وهو عين إسقاط التكليف، بخلاف ما إذا تقيد بالترجيح فإنه متبع للدليل، فلا يكون متبعا للهوى ولامسقطا للتكاليف) (الموافقات) جـ 4 صـ 134.
9 ــ وقال الشاطبي أيضا (إن الفقيه لا يحل له أن يتخيَّر بعض الأقوال بمجرد التشهي والأغراض من غير اجتهاد، ولا أن يفتي به أحداً، والمقلد في اختلاف الأقوال عليه مثل هذا المفتي) (الموافقات) جـ 4 صـ 140.(4/70)
وقال أيضا: (ولا ينجيه من هذا أن يقول مافعلت إلا بقول عالم، لأنه حيلة من جملة الحيل التي تنصبها النفس وقاية عن القال والقيل، وشبكة لنيل الأغراض الدنيوية) (الموافقات) جـ 4 صـ 144.
هذا، وقد أشرنا إلى كيفية معرفة الراجح من المرجوح من الأدلة والأقوال، وذلك في الفصل الأول من الباب الرابع في مسألة (كيف يُحسن الطالب اختيار مصدر العلم؟)، وتختلف الكيفية باختلاف الأهلية العلمية للشخص:
فالعالم المجتهد له أن يرجح بنفسه بين الأدلة والأقوال بطرق الترجيح التي بيَّنها العلماء.
أما العامي فيعرف الراجح بمراجعة من يثق بعلمه وأمانته من أهل العلم.
وأما طالب العلم فيعرف الراجح بمراجعة العلماء ــ شأنه في هذا كالعامي ــ أو بمطالعة كتب العلم التي تعتني بالترجيح: ككتب ابن عبدالبر (الاستذكار والتمهيد) وكتاب المغني لابن قدامة، ومجموع فتاوي ابن تيمية رحمهم الله، ونحوها من الكتب.
ثالثا: الرد على شبهة معارِضة لوجوب الترجيح.
ذكرت في الفصل الأول من الباب الرابع من هذا الكتاب، عند الكلام في كيف يُحسن الطالب اختيار مصدر العلم؟، ذكرت وجوب معرفة الطالب للراجح من المرجوح فيما يدرسه ليكون من الراسخين في العلم بإذن الله، وهناك ذكرت أن اختلاف أقوال العلماء يرجع فيما يرجع إلى اختلاف الصحابة رضي الله عنهم في مسائل الأحكام. فذهب بعض العلماء إلى أن اختلاف الصحابة حجة للاختلاف بعدهم، وأن المسلم في سعة ٍ من أن يأخذ بأي قول ٍ من أقوالهم، وأجروا هذا في اختلاف العلماء بعد الصحابة. ومما احتج به من ذهب هذا المذهب مايُروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (أصحابي كالنجوم بأيِّهم اقتديتم اهتديتم). وقد قال البزار وابن عبدالبر إن هذا الحديث لايصح (جامع بيان العلم) لابن عبدالبر جـ 2 صـ 90 ــ 91 وقال ابن حزم إنه حديث ساقط موضوع بلاشك (الإحكام) له جـ 5 صـ 73، وجـ 6 صـ 82 ــ 83.(4/71)
وقد ذكرت في مسألة (كيف يُحسن الطالب اختيار مصدر العلم؟) أن اختلاف الصحابة يرجع إلى ما كان يغيب عنهم من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم كما بَوَّب عليه البخاري في كتاب الاعتصام من صحيحه (فتح الباري) جـ 13 صـ 320. وقال أبو شامة عبدالرحمن بن إسماعيل المقدسي رحمه الله (ت 665هـ): (وقد كانت العلماء في الصدر الأول معذورين في ترك مالم يقفوا عليه من الحديث، بأن الأحاديث لم تكن حينئذ فيما بينهم مدونة، إنما كانت تتلقى من أفواه الرجال وهم متفرقون في البلدان. وقد زال ذلك العذر ولله الحمد بجمع الحُفَّاظ الأحاديث المحتج بها في كتب) أهـ، نقلا عن (الرد على من أخلد إلى الأرض) للسيوطي، ط دار الكتب العلمية 1403 هـ، صـ 144.(4/72)
فإذا غاب الحديث عن صحابي أو تابعي أو عالم من العلماء فقال قولاً في مسألة وقد صَحَّ الحديث بخلاف قوله، فالحجة في الحديث لا في قول الصحابي. وإذا قال صحابيان قولين متعارضين في مسألة، والحديث الصحيح يعضد أحدهما، فما عضّده الحديث هو القول الراجح منهما. هذا قول جمهور العلماء كما سيأتي في كلام ابن عبدالبر إن شاء الله. وهو الصواب المقطوع به لقول الله تعالى (فإن تنازعتم في شيء فردّوه إلى الله والرسول) النساء 59، فدلّت الآية على أن ماعدا قول الله وقول الرسول صلى الله عليه وسلم قابل للأخذ والترك، وأن معيار الأخذ بأقوال الصحابة والعلماء أو تركها هو موافقتها للكتاب والسنة من عدمه. وسيأتي استدلال المزني صاحب الشافعي رحمهما الله بآية النساء هذه على أن الاختلاف لايكون كله صوابا وإنما هو صواب وخطأ، وأن المرجع في معرفة ذلك الكتاب والسنة. واستدل ابن تيمية رحمه الله بنفس الآية على نفس المسألة، فقال (بل كل من سِوى الأنبياء يؤخذ من قوله ويُترك، ولاتجب طاعة من سوى الأنبياء في كل ما يقول، ولايجب على الخلق اتباعه والإيمان به في كل مايأمر به ويُخبر به، ولا تكون مخالفته في ذلك كفراً بخلاف الأنبياء، بل إذا خالفه غيره من نظرائِه وجب على المجتهد النظر في قوليهما، وأيهما كان أشبه بالكتاب والسنة تابَعَه، كما قال تعالى «ياأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم، فإن تنازعتم في شئ فردّوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر، ذلك خير وأحسن تأويلا») (مجموع الفتاوي) جـ 35 صـ120 ــ 121.
وقد تكلم في هذه المسألة ــ مسألة اختلاف الصحابة فَمَن بعدهم ابن حزم والخطيب البغدادي وابن عبد البر رحمهم الله بكلام متقارب، وما قاله ابن عبدالبر أجمع مما قال غيره، فنذكره هنا بعون الله تعالى
قال أبو عمر ابن عبد البر رحمه الله «باب جامع بيان ما يلزم الناظر في اختلاف العلماء».(4/73)
قال أبو عمر: اختلف الفقهاء في هذا الباب على قولين: أحدهما أن اختلاف العلماء من الصحابة ومن بعدهم من الأئمة رحمة واسعة وجائز لمن نظر في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأخذ بقول من شاء منهم، وكذلك الناظر في أقاويل غيرهم من الأئمة مالم يعلم أنه خطأ فإذا بان له أنه خطأ لخلافه نص الكتاب أو نص السنة أو إجماع العلماء لم يسعه اتباعه. فإذا لم يبين له ذلك من هذه الوجوه جاز له استعمال قوله وإن لم يعلم صوابه من خطائه وصار في حيز العامة التي يجوز لها أن تقلد العالم إذا سألته عن شئ وإن لم تعلم وجهه. هذا قول يروى معناه عن عمر بن عبدالعزيز والقاسم بن محمد وعن سفيان الثوري إن صح وقال به قوم، ومن حجتهم على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم «أصحابي كالنجوم فبأيهم اقتديتم اهتديتم»، وهذا مذهب ضعيف عند جماعة من أهل العلم وقد رفضه أكثر الفقهاء وأهل النظر ونحن نبين الحجة عليه في هذا الباب إن شاء الله.
ثم روي أبو عمر بإسناده عن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال (لقد نفع الله باختلاف أصحاب النبيص في أعمالهم لا يعمل العامل بعمل رجل منهم إلا رأي أنه في سعة ورأي أنه خير منه قد عمله. ورواه هارون بن سعيد الآيلي عن يحيي بن سلام الآيلي عن أفلح بن حميد عن القاسم بن محمد قال لقد أوسع الله على الناس باختلاف أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أي ذلك أخذت به لم يكن في نفسك منه شئ.
ثم روى أبو عمر بإسناده قول عمر بن عبدالعزيز ماأحب أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا لأنه لو كانوا واحداً كان الناس في ضيق وإنهم أئمة يقتدي بهم فلو أخذ رجل بقول أحدهم كان في سعة، قال أبو عمر هذا فيما كان طريقه الاجتهاد.(4/74)
إلى أن قال أبو عمر: فهذا مذهب القاسم بن محمد ومن تابعه وقال به قوم. وأما مالك والشافعي ومن سلك سبيلهما من أصحابهما وهو قول الليث بن سعد والأوزاعي وأبي ثور وجماعة أهل النظر أن الاختلاف إذا تدافع فهو خطأ وصواب. والواجب عند اختلاف العلماء طلب الدليل من الكتاب والسنة والإجماع والقياس على الأصول منها وذلك لايُعدَم، فإن استوت الأدلة وجب الميل مع الأشبه بما ذكرنا بالكتاب والسنة، فإذا لم يبين ذلك وجب التوقف ولم يجز القطع إلا بيقين، فإن اضطر أحد إلى استعمال شئ من ذلك في خاصة نفسه جاز له مايجوز للعامة من التقليد واستعمل عند افراط التشابه والتشاكل وقيام الأدلة على كل قول بما يعضده قوله صلى الله عليه وسلم «البر ما اطمأنت إليه النفس والإثم ماحاك في الصدر، فدع ما يريبك لما لا يريبك» هذا حال من لا يمعن النظر. وأما المفتون فغير جائز عند أحد ممن ذكرنا قوله أن يفتي ولايقضي حتى يتبين له وجه ما يفتي به من الكتاب أو السنة أوالإجماع أو ماكان في معنى هذه الأوجه.
ثم روى أبو عمر بإسناده عن أشهب قال: سئل مالك عن اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال خطأ وصواب فانظر في ذلك، وذكر يحيي بن إبراهيم بن مزين قال حدثني أصبغ قال قال ابن القاسم سمعت مالكا والليث يقولان في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس كما قال ناس فيه توسعة ليس كذلك، إنما هو خطأ وصواب. قال يحيي وبلغني أن الليث بن سعد قال إذا جاء الاختلاف أخذنا فيه بالأحوط. حدثنا عبدالرحمن بن يحيي قال حدثنا أحمد بن سعيد حدثنا محمد بن زيان قال حدثنا الحارث بن مسكين عن ابن مسكين عن ابن القاسم عن مالك أنه قال في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مخطئ ومصيب فعليك بالاجتهاد.(4/75)
ثم روي أبو عمر بإسناده عن المزني قال: قال الشافعي في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أصير منها إلى ماوافق الكتاب أو السنة أو الإجماع أو كان أصح في القياس، وقال في قول الواحد منهم إذا لم يحفظ له مخالفا منهم صرت إليه وأخذت به إن لم أجد كتابا ولا سنة ولا إجماعا ولا دليلا منها هذا إذا وجدت معه القياس، قال: وقَلَّ مايوجد ذلك. قال المزني فقد بين أنه قبل قوله بحجة ففي هذا مع اجتماعهم على أن العلماء في كل ٍ قرن ينكر بعضهم على بعض فيما اختلفوا فيه قضاء بين على أن لا يقال إلا بحجة وأن الحق في وجه واحد والله أعلم. قال أبو عمر وقد ذكر الشافعي في كتاب أدب القضاة أن القاضي والمفتي لا يجوز له أن يقضي ويفتي حتى يكون عالما بالكتاب وماقال أهل التأويل في تأويله وعالما بالسنن والآثار وعالما باختلاف العلماء حَسَن النظر صحيح الأود ورعاً مشاوراً فيما اشتبه عليه، وهذا كله مذهب مالك وسائر فقهاء المسلمين في كل مصر يشترطون أن القاضي والمفتي لايجوز أن يكون إلا في هذه الصفات. واختلف قول أبي حنيفة في هذا الباب فمرة قال أما أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فآخذ بقول من شئت منهم ولاأخرج عن قول جميعهم، وإنما يلزمني النظر في أقاويل من بعدهم من التابعين ومن دونهم قال أبو عمر جعل للصحابة في ذلك مالم يجعل لغيرهم وأظنه مال إلى ظاهر حديث أصحابي كالنجوم والله أعلم. وإلى نحو هذا كان أحمد بن حنبل يذهب. ذكر العقيلي قال حدثنا هارون بن على المقري قال حدثنا محمد بن عبدالرحمن الصيرفي قال قلت لأحمد بن حنبل إذا اختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسئلة هل يجوز لنا أن ننظر في أقوالهم لنعلم مع من الصواب منهم فنتبعه فقال لي لا يجوز النظر بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت كيف الوجه في ذلك قال تقلد أيهم أحببت. قال أبو عمر لم ير النظر فيما اختلفوا فيه خوفا من التطرق إلى النظر فيما شجر بينهم وحارب(4/76)
فيه بعضهم بعضا. وقد روي السمتي عن أبي حنيفة أنه قال في قولين للصحابة أحد القولين خطأ والمأثم فيه موضوع.
إلى أن قال أبو عمر: وقد ذكر المزني رحمه الله في هذا حُجَجاً أنا أذكرها هنا إن شاء الله. قال المزني: قال الله تبارك وتعالى (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) فذم الاختلاف، وقال (ولاتكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا) الآية، وقال (فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا)، وعن مجاهد وعطاء وغيرهما في تأويل ذلك قال: إلى الكتاب والسنة، قال المزني: فذم إليه الاختلاف وأمر عنده بالرجوع إلى الكتاب والسنة فلو كان الاختلاف من دينه ماذمه ولو كان التنازع من حكمه ماأمرهم بالرجوع عنده إلى الكتاب والسنة، قال: وروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال «احذروا زلة العالم»، وعن عمر ومعاذ وسلمان مثل ذلك في التخويف من زلة العالم. قال: وقد اختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فخطَّأ بعضهم بعضا ونظر بعضهم في أقاويل بعض وتعقبها ولو كان قولهم كله صوابا عندهم لما فعلوا ذلك، وقد جاء عن ابن مسعود في غير مسألة أنه قال: أقول فيها برأيي فإن يك صوابا فمن الله وإن يك خطأ فمني وأستغفر الله.(4/77)
إلى أن قال أبو عمر (باب ذكر الدليل في أقاويل السلف على أن الاختلاف خطأ وصواب، يلزم طلب الحجة عنده، وذكر بعض ماخطَّأ فيه بعضهم بعضاً وأنكره بعضهم على بعض عند اختلافهم وذِكر معنى قوله صلى الله عليه وسلم «أصحابي كالنجوم»). ثم روي أبو عمر بإسناده عن سعيد بن جبير قال قلت لابن عباس: إن نوفاً البكالي يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس موسى بني إسرائيل، فقال: كذب، حدثنا أُبيّ بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكر الحديث بطوله، قال أبو عمر: قد رد أبو بكر الصديق رضي الله عنه قول الصحابة في الردة وقال: والله لو منعوني عقالا مما أعطوه رسول الله صلى الله عليه وسلم لجاهدتهم عليه، وقطع عمر بن الخطاب اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في التكبير على الجنائز وردهم إلى أربع، وسمع سلمان بن ربيعة وزيد بن صوحان الضبي بن معبد مهلا بالحج والعمرة معا، فقال أحدهما لصاحبه: لهذا أضل من بعير أهله، فاخبر بذلك عمر فقال: لو لم يقولا شيئا هديت لسنة نبيك، وردَّت عائشة قول أبي هريرة تقطع المرأة الصلاة، وقالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وأنا معترضة بينه وبين القبلة، وردت قول ابن عمر الميت يعذب ببكاء أهله عليه، وقالت: وَهِم أبو عبدالرحمن أو أخطأ أو نسي، وكذلك قالت له في عُمَر رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ زعم ابن عمر أنه اعتمر أربع عمر، فقالت عائشة: هذا وهم منه على أنه قد شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عمره كلها مااعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ثلاثا، وأنكر ابن مسعود على أبي هريرة قوله من غسل ميتا فليغتسل ومن حمله فليتوضأ وقال فيه قولا شديدا وقال ياأيها الناس لاتنجسوامن موتاكم، وقيل لابن مسعود إن سلمان بن ربيعة وأبا موسى الأشعري قالا في بنت وبنت ابن وأخت أن المال بين البنت والأخت نصفان ولاشئ لبنت الابن وقالا للسائل وائت ابن مسعود فإنه سيتابعنا، فقال ابن مسعود: لقد ضللت إذا وما أنا(4/78)
من المهتدين بل أقضي فيها بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم للبنت النصف ولابنة الابن السدس تكملة للثلثين ومابقي فللاخت، وأنكر جماعة أزواج النبي صلى الله عليه وسلم على عائشة رضاع الكبير ولم تأخذ واحدة منهن بقولها في ذلك، وأنكر ذلك أيضا ابن مسعود على أبي موسى الأشعري وقال إنما الرضاعة ماأنبت اللحم والدم فرجع أبو موسى إلى قوله، وأنكر ابن عباس عَلَى عَلِي أنه أحرق المرتدين بعد قتلهم، واحتج ابن عباس بقوله صلى الله عليه وسلم «من بّدل دينه فاضربوا عنقه» فبلغ ذلك عليا فأعجبه قوله، قال أبو عمر لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقل فاضربوا عنقه ثم أحرقوه.(4/79)
إلى أن قال أبو عمر: هذا كثير في كتب العلماء وكذلك اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين ومن بعدهم من المخالفين ومارَدّ فيه بعضهم على بعض لايكاد يحيط به كتاب فضلا عن أن يجمع في باب وفيما ذكرنا منه دليل على ماعنه سكتنا، وفي رجوع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعضهم إلى بعض، ورَدّ بعضهم على بعض دليل واضح على أن اختلافهم عندهم خطأ وصواب ــ إلى أن قال ــ والصواب مما اختُلِفَ فيه وتَدَافَعَ وجه واحد، ولو كان الصواب في وجهين متدافعين ما خطأ السلف بعضهم بعضا في اجتهادهم وقضائهم وفتواهم، والنظر يأبى أن يكون الشئ وضده صوابا كله. ــ إلى قوله ــ وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنهُ: ردّوا الجهالات إلى السنة، وفي كتاب عمر إلى أبي موسى الأشعري: لايمنعنك قضاء قضيته بالأمس راجعت فيه نفسك وهُدِيتَ فيه لرشدك أن ترجع فيه إلى الحق فإن الحق قديم والرجوع إلى الحق أولى من التمادي في الباطل، وروى عن مطرف بن الشخير أنه قال: لو كانت الأهواء كلها واحداً لقال القائل لعل الحق فيه فلما تشعبت وتفرقت عرف كل ذي عقل أن الحق لايتفرق، وعن مجاهد (ولا يزالون مختلفين) قال أهل الباطل (إلا من رحم ربك) قال أهل الحق ليس بينهم اختلاف، وقال أشهب: سمعت مالكا يقول: ما الحق إلا واحد، قولان مختلفان لايكونان صواباً جميعا، ما الحق والصواب إلا واحد. قال أشهب: وبه يقول الليث. قال أبو عمر: الاختلاف ليس بحجة عند أحد علمته من فقهاء الأمة إلا من لابصر له ولا معرفة عنده ولاحجة في قوله.
ثم تكلم أبو عمر في حديث «أصحابي كالنجوم» وذكر أن إسناده لا تقوم به حجة، كما نقل عن البزار قوله إن إسناده لايصح. ومع هذا فقد قال: إن الحديث معناه صحيح من وجهين:(4/80)
أحدهما: أن الصحابة مؤتمنون على ما ينقلونه من حديث النبي صلى الله عليه وسلم، فيؤخذ عنهم كل ما يرونه. وهذا قول المزني، فقد قال رحمه الله في هذا الحديث «أصحابي كالنجوم» (إن صحَّ هذا الخبر فمعناه فيما نقلوه عنه وشهدوا به عليه فكلهم ثقة مؤتمن على ماجاء به، لايجوز عندي غير هذا، وأما ماقالوا فيه برأيهم فلو كان عند أنفسهم كذلك ماخَطَّأ بعضهم بعضاً ولا أنكر بعضهم على بعض، ولارجع منهم أحد إلى قول صاحبه، فتدبّر) أهـ.
الوجه الثاني: أن الصحابة كالنجوم في جواز اقتداء العامي الجاهل بقول أحدهم إذا لم يتبين له الصواب في غيره، كما يقلد العامي العالم. وقد ذكر هذا الوجه ابن عبدالبر فقال (لأن الاقتداء بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منفردين إنما هو لمن جهل مايسئل عنه ومن كانت هذه حاله فالتقليد لازم له، ولم يأمر أصحابه أن يقتدي بعضهم ببعض إذا تأولوا تأويلا سائغا جائزا ممكنا في الأصول، وإنما كل واحد منهم نجم جائز أن يقتدي به العامي الجاهل بمعنى ما يحتاج إليه من دينه وكذلك سائر العلماء مع العامة والله أعلم.) أهـ. انتهى المنقول من (جامع بيان العلم) لابن عبدالبر، جـ 2 صـ 78 ــ 90 باختصار وبتصرف يسير في الجزء الأخير.
وقول ابن عبد البر بجواز تقليد العامي لقول الصحابي أو لمذهب الصحابي مسألة خلافية سنذكرها في أحكام المستفتي إن شاء الله، إذ قد منع من ذلك بعض العلماء كإمام الحرمين وغيره فمنعوا تقليد العامة لمذاهب الصحابة وللمذاهب غير المتبوعة كمذهب الثوري والأوزاعي بحجة أن هذه المذاهب غير محررة ولم تخدم كما خدمت المذاهب المتبوعة، وفي تقليد المذاهب المتبوعة خلاف أيضا سيأتي ذكره.(4/81)
وفي هذه المسألة نفسها (وهى أن اختلاف الصحابة واختلاف العلماء بعدهم ليس توسعة، وليس حجة للتخيّر من أقوالهم، بل يجب الترجيح بينها) قال ابن حزم رحمه الله: (ففي بعض ماذكرنا كفاية لأن الله تعالى نص على أن الاختلاف شقاق، وأنه بغي، ونهى عن التنازع والتفرق في الدين وأوعد على الاختلاف بالعذاب العظيم، وبذهاب الريح، وأخبر أن الاختلاف تفرق عن سبيل الله، ومن عاج عن سبيل الله تعالى فقد وقع في سبيل الشيطان قال تعالى:«قد تبين الرشد من الغي» وقد نص تعالى على أن الاختلاف ليس من عنده ومعنى ذلك أنه تعالى لم يرض به، وإنما أراده تعالى أرادة كون، كما أراد الكفر وسائر المعاصى، فإن قال قائل: إن الصحابة قد اختلفوا وأفاضل الناس أفيلحقهم هذا الذم؟ قيل له وبالله تعالى التوفيق: كلا ما يلحق أولئك شئ من هذا، لأن كل امرئ منهم تحرى سبيل الله ووجهة الحق، فالمخطئ منهم مأجور أجراً واحداً لنيته الجميلة في إرادة الخير، وقد رفع عنهم الإثم في خطئهم لأنهم لم يتعمدوه ولا قصدوه، ولا استهانوا بطلبهم، والمصيب منهم مأجور أجرين، وهكذا كل مسلم إلى يوم القيامة فيما خفي عليه من الدين ولم يبلغه، وإنما الذم المذكور والوعيد الموصوف، لمن ترك التعلق بحبل الله تعالى الذي هو القرآن وكلام النبي بعد بلوغ النص إليه، وقيام الحجة به عليه وتعلق بفلان وفلان مقلداً عامداً للاختلاف، داعيا إلى عصبية وحمية الجاهلية، قاصدا للفرقة، متحريا في دعواه يرد القرآن والسنة إليها، فإن وافقها النص أخذ به، وإن خالفها تعلق بجاهليته وترك القرآن وكلام النبي صلى الله عليه وسلم فهؤلاء هم المختلفون المذمومون. وطبقة أخرى وهم قوم بلغت بهم رقة الدين وقلة التقوى إلى طلب ماوافق أهواءهم في قول كل قائل فهم يأخذون ماكان رخصة من قول كل عالم مقلدين له غير طالبين ماأوجبه النص عن الله تعالى، وعن رسوله صلى الله عليه وسلم. فإن قال قائل، فإذ لابد من مواقعة الاختلاف فكيف(4/82)
التخلص من هذا الذم الوارد في المختلفين؟، قيل له وبالله تعالى التوفيق: قد علمنا الله تعالى الطريق في ذلك، ولم يدعنا في لَبْس وله الحمد فقال تعالى: «وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولاتتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله» وقال تعالى: «واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا» وقال تعالى: «فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر» فإذا وردت الأقوال فاتبع كلام الله تعالى، وكلام نبيه صلى الله عليه وسلم الذي هو بيان عما أمرنا الله تعالى به، وماأجمع عليه جميع المسلمين، فهذا هو صراط الله تعالى وحبله الذي إذا تمسكت به أخرجك من الفرقة المذمومة، ومن الاختلاف المكروه، إن كنت تؤمن بالله واليوم الآخر كما قال تعالى. وهذا هو الذي أجمع عليه جميع أهل الإسلام قديما وحديثا، فإنه لم يكن قط مسلم إلا ومن عقده وقوله إن كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم فرض قبوله، وأنه لايحل لأحد معارضته بشئ من ذلك ولا مخالفته) (الإحكام) لابن حزم جـ 5 صـ 67 ــ 68.
والخلاصة: أن اختلاف الصحابة واختلاف العلماء من بعدهم ليس بحجة لاختيار أي قول ٍ من أقوالهم، بل الترجيح بين أقوالهم واجب لمعرفة الراجح منها للعمل به والفتوى والحكم به.
وفي بيان أن اختلاف العلماء ليس حجة للتخير من أقوالهم، وليس حجة في ترك الإنكار على من أخذ بأي قول ٍ دون نظر في الترجيح، يقول ابن القيم رحمه الله. (وقولهم «إن مسائل الخلاف لا إنكار فيها» ليس بصحيح، فإن الإنكار إما أن يتوجه إلى القول والفتوى أو العمل، أما الأول فإذا كان القول يُخالف سنة أو إجماعا شائعا وجب إنكاره اتفاقا، ــ إلى قوله ــ وكيف يقول فقيه لا إنكار في المسائل المختلف فيها والفقهاء من سائر الطوائف قد صرّحوا بنقض حكم الحاكم إذا خالف كتابا أو سنة وإن كان وافق فيه بعض العلماء؟) (اعلام الموقعين) جـ 3صـ 300.(4/83)
وقال الشاطبي رحمه الله (قال الباجي: وكثيراً ما يسألني من تقع له مسألة من الأيمان ونحوها «لعل فيها رواية؟» أو «لعل فيها رخصة»، وهم يَرَوْنَ أن هذا من الأمور الشائعة الجائزة، ولو كان تكرر عليهم إنكار الفقهاء لمثل هذا لما طولبوا به ولا طلبوه مني ولا من سواي. وهذا مما لاخلاف بين المسلمين ممن يُعتد به في الإجماع أنه لا يجوز ولايسوغ ولا يحلّ لأحد أن يفتي في دين الله إلا بالحق الذي يعتقد أنه حق، رضي بذلك من رضيه، وسخطه من سخطه). ثم قال الشاطبي (فربما وقع الإفتاء في المسألة بالمنع، فيقال: لِمَ تمنع والمسألة مختلف فيها؟، فيجعل الخلاف حجة في الجواز لمجرد كونها مختلفاً فيها، لا لدليل يدل على صحة مذهب الجواز). ثم قال الشاطبي (قال الخطابي: وليس الاختلاف حجة، وبيان السُّنَّة حجة على المختلفين من الأولين والآخرين. هذا مختصر ما قال. والقائل بهذا راجع إلى أن يتبع ما يشتهيه، ويجعل القول الموافق حجة له يدرأ بها عن نفسه، فهو قد أخذ القول وسيلة إلى اتباع هواه، لا وسيلة إلى تقواه، وذلك أبعد له من أن يكون ممتثلا لأمر الشارع، وأقرب إلى أن يكون ممن اتخذ إلهه هواه) أهـ (الموافقات) جـ 4 صـ 140ــ 141. وبعد:(4/84)
فقد أطنبتُ في بيان هذه المسألة، ألا وهى وجوب الترجيح بين الأدلة والأقوال المتعارضة، ووجوب الفتوى بالراجح منها والعمل به، وحرمة التخيّر من الأدلة والأقوال دون نظر في الترجيح كما نقل ابن تيمية إجماع العلماء على تحريم ذلك. وما أطنبت في بيان هذه المسألة إلا لأهميتها في تمييز الحق من الباطل، وتمييز الصواب من الخطأ. فما ضلَّت طائفة أو فرقة وما أخطأ عالم من العلماء إلا بإهمال هذا الأصل، وذلك بالاستدلال ببعض النصوص دون النظر فيما يعارضها أو فيما ينبغي أن يجمع معها. وقد يكون هذا عن عمد وهو شأن أهل الزيغ والضلال، وقد يكون عن خطأ وهو شأن أخطاء العلماء كما بيّنه ابن تيمية رحمه الله في رسالة (رفع الملام عن الأئمة الأعلام). ولا يكون الفقيه على الجادة حتى ينظر في الترجيح ويعمل به، كما قال ابن تيمية رحمه الله ــ في صفةالفقيه ــ (الفقيه: الذي سمع اختلاف العلماء وأدلتهم في الجملة، وعنده مايعرف به رجحان القول) (الاختيارات الفقهية) ط دار المعرفة،صـ 333.
وأضرب لك ــ من واقعنا المعاصر ــ بعض الأمثلة للاستدلال الفاسد بالنصوص، وللتخيُّر من النصوص ومن أقوال أهل العلم دون نظر في المعارِض وفي الترجيح، بما يؤدي إلى إسقاط التكاليف الشرعية وجعل الدين سيّالاً لاينضبط كما قال الشاطبي رحمه الله. ومن هذه الأمثلة:
* القول بأن الحكام المرتدين الحاكمين بغير شريعة الإسلام ليسوا كافرين، بل عملهم هذا كفر دون كفر كما روى عن بعض الصحابة والتابعين.
* والقول بوجوب طاعة هؤلاء الحكام، لقوله تعالى (ياأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) النساء 59.(4/85)
* والقول بتحريم الخروج على هؤلاء الحكام، لقوله صلى الله عليه وسلم (مَنْ رأى مِن أميره شيئا يكرهه فليصبر، فإن من خرج من السلطان شبراً مات ميتة جاهلية) متفق عليه. ولقول الألباني بأن الواجب التربية لا الخروج على الحكام، كما قال في تعليقه على متن العقيدة الطحاوية، وفيه بَدَّل الألباني في كلام شارح العقيدة الطحاوية، ووضع في كلامه كلمة التربية بدلاً من كلمة التوبة، وقد رددت على هذه الشبهة للألباني في كتابي (العمدة في إعداد العدة للجهاد في سبيل الله تعالى).
* والقول بتحريم قتال هؤلاء الحكام ماداموا يُصلّون، للحديث (قالوا يارسول الله ألا نقاتلهم؟، قال صلى الله عليه وسلم: لا ماصَلّوا) الحديث رواه مسلم.
وسوف تأتي إشارة موجزة إلى مسألة كفر الحكام الحاكمين بغير شريعة الإسلام في المبحث الثامن من الفصل الثالث من الباب السابع في آخر هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.
* والقول بجواز مشاركة الطواغيت في برلماناتهم التي هى مجالس تشريع الكفر، لفتوى الشيخ ابن باز بجواز ذلك بحسب نية فاعله، مع أنه كفر صريح لاتبيحه النية. كما ذكرته في أول الباب الرابع من هذا الكتاب.
* والقول بأن الجهاد في الإسلام للدفاع فقط، لقوله تعالى (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه) البقرة 194، ولقوله تعالى (فإن قاتلوكم فاقتلوهم) البقرة 191. ومع القول بأن الحرب الهجومية على الكفار وغزوهم في بلادهم (جهاد الطلب) لايجوز، لقوله تعالى (لا إكراه في الدين) البقرة 256، وقوله تعالى (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) الكهف 29، وقوله تعالى (فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر) الغاشية 21 ــ 22. ويريد القائلون بهذا أن يثبتوا أن الشريعة توافق القانون الدولي الذي يحرم الحرب الهجومية ويمنع ضم الأراضي بالقوة. وهذا القول كُفرُ ُ لاشك فيه لمخالفته الكتاب والسنة والإجماع.(4/86)
* والقول بجواز أخذ فوائد الإيداعات المالية بالبنوك، لأنها نسبة زهيدة، وأن المحرم من الربا ماكان أضعافا مضاعفة لقوله تعالى (ياأيها الذين آمنوا لاتأكلوا الربا أضعافا مضاعفة) آل عمران 130.
* والقول بجواز أخذ الفوائد الربوية من البنوك الأجنبية، لقول الأحناف بإباحة أخذ الربا من أهل الحرب في دار الحرب.
* والقول بجواز كشف وجه المرأة، لفتوى الألباني بأن ستر الوجه غير واجب، وسوف يأتي إن شاء الله بيان فساد قول الألباني هذا في الكلام عن الحجاب في المبحث الثامن من الفصل الثالث في الباب السابع، وفيه أذكر أن رأي الألباني في هذا هو غاية ماكان يطمح إليه قاسم أمين الملقب (بمحرر المرأة).
* والقول بإباحة المعازف وآلات الموسيقى والاستماع إليها، لقول ابن حزم بجوازها.
* والقول بجواز التمثيل، لقوله تعالى (فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشراً سواياً) مريم 17، ذكر هذا أحد الزنادقة.
* والقول بجواز لُبس الذهب والحرير للرجال، لقوله تعالى (قل من حَرّم زينة الله التي أخرج لعباده) الأعراف 32.
* والقول بجواز نكاح المتعة، لقوله تعالى (فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن) النساء 24. ويُروى عن ابن عباس جوازه.
* وقديما استدل الزنادقة على جواز اللواط بالعبد المملوك بقوله تعالى (والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ماملكت أيمانهم) المؤمنون 5 ــ 6، قالوا: والعبد المملوك مِن ملك اليمين، وبقوله تعالى (ولعبدٌُ مؤمنٌُ خير من مشرك ولو أعجبكم) البقرة 221، ذكر هذا ابن القيم في كتابه (إغاثة اللهفان) وقال لاشك في أن من ذهب إلى هذا الاستدلال أنه كافر مرتد.
* واستدل الحلولية على أن الله تعالى في كل مكان بقوله تعالى (وهو معكم أينما كنتم) الحديد 4، واستدلوا على أنه سبحانه وتعالى يحلّ في البشر بقوله تعالى (من يطع الرسول فقد أطاع الله) النساء 80.(4/87)
* واستدل اليهود بحقهم في أرض فلسطين بقوله تعالى (يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم) المائدة 21.
* واستدل النصارى على عقيدة التثليث بضمير الجمع الوارد في قوله تعالى (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) الحجر 9.
وكما ترى فإنه يمكن الاستدلال على الكفر والشرك والفسق والفجور والإباحية بنصوص مبتورة من الكتاب والسنة، ولهذا قال تعالى (يُضل به كثيراً ويهدي به كثيراً) البقرة 26، وقال تعالى (وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولايزيد الظالمين إلا خساراً) الإسراء 82.
كما يمكن الاستدلال على إسقاط الواجبات الشرعية واستباحة المحرمات بجمع أخطاء العلماء وزلاتهم. قال ابن عبدالبر (قال سليمان التيمي: إن أخذت برخصة كل عالم اجتمع فيك الشر كله.، قال ابن عبدالبر: هذا إجماع لا أعلم فيه خلافا) (جامع بيان العلم) جـ 2 صـ 92. وقال الشوكاني (وفي السنن للبيهقي عن الأوزاعي: من أخذ بنوادر العلماء خرج عن الإسلام. وروي عنه أنه قال: يُترك من قول أهل مكة المتعة والصرف، ومن قول أهل المدينة السَّماع وإتيان النساء في أدبارهن، ومن قول أهل الشام الحرب والطاعة. ومن قول أهل الكوفة النبيذ. وحكى البيهقي عن إسماعيل القاضي قال: دخلت على المعتضد فرفَعَ إليَّ كتابا لا نظر فيه، وقد جُمِعَ فيه الرُّخص من زلل العلماء وما احتج به كل منهم، فقلت: مُصَنِّف هذا زنديق، فقال: لم تصح هذه الأحاديث على ما رويت، ولكن من أباح المُسكر لم يُبح المتعة، ومن أباح المتعة لم يبح الغناء والمسكر، وما من عالم إلا وله زلة، ومن جمع زلل العلماء ثم أخذ بها ذهب دينه، فأمر المعتضد باحراق ذلك الكتاب) أهـ. (ارشاد الفحول) صـ 253.(4/88)
قال الشاطبي رحمه الله (ولذلك لاتجد فرقة من الفرق الضالة، ولاأحداً من المختلفين في الأحكام لا الفروعية ولا الأصولية يعجز عن الاستدلال على مذهبه بظواهر من الأدلة، وقد مَرّ من ذلك أمثلة، بل قد شاهدنا ورأينا من الفُسّاق من يستدل على مسائل الفسق بأدلة ينسبها إلى الشريعة المُنزّهة، وفي كتب التواريخ والأخبار من ذلك أطراف ماأشنعها في الافتئات على الشريعة، وانظر في مسألة التداوي من الخُمار في دُرّة الغواص للحريري وأشباهها، بل قد استدل بعض النصارى على صحة ماهم عليه الآن بالقرآن، ثم تحيَّل فاستدل على أنهم مع ذلك كالمسلمين في التوحيد، تعالى الله عما يقولون علوّاً كبيراً. فلهذا كله يجب على كل ناظر في الدليل الشرعي مراعاة مافهم منه الأولون، وماكانوا عليه في العمل به، فهو أحرى بالصواب، وأقوم في العلم والعمل) (الموافقات) جـ 3 صـ 76 ــ 77.
هذا من جهة الاستدلال الفاسد بالنصوص، أما تأويل النصوص وصرفها عن معانيها الحقيقية بغير دليل فهذا البحر الذي لاساحل له، وبه تم تأويل صفات الله تعالى لتعطيله عنها حتى آل التأويل والتعطيل إلى أنه ليس في السماء إله، ثم تأولت الباطنية البعث والجنة والنار وسائر الأحكام وقالوا كل هذه رموز لاحقيقة لها، وقالوا كيف يسوغ تأويل صفات الله ولايسوغ تأويل مادون ذلك من الأحكام وغيرها؟. ويعتبر كتاب ابن القيم (الصواعق المرسلة) من أحسن ماكتب في بيان فساد هذا كله.
وبعد، فإن ضوابط النجاة من الوقوع في الخطأ والضلال في هذا الشأن هى:
1 ــ فهم نصوص الكتاب والسنة كما فهمها السلف الصالح، فهذا هو الفرقان بين أهل السنة وأهل البدعة، وفهم السلف وما قالوه في النصوص موجود بكتب التفسير بالمأثور وفي كتب شروح الأحاديث.(4/89)
2 ــ جمع نصوص المسألة الواحدة، وطرق الجمع والتأليف بين النصوص معروفة لأهل العلم، وعكس الجمع هو الاستدلال ببعض النصوص دون البعض الآخر وهذا هو عمدة الفرق الضالة كالخوارج والمرجئة والمعتزلة، وهو يشبه حال من يؤمن ببعض ويكفر ببعض.
3 ــ الترجيح بين مايتعارض من النصوص وأقوال أهل العلم، والعمل بالراجح منها، وعدم اعتبار الاختلاف حجة لاختيار أي قول ٍ شاء.
4 ــ رد الفتوى ونقض الحكم المخالفين للحق والصواب، والحجر على من تكرر منه هذا بما يُشعر بتساهله واستخفافه بالدين، والتشهير به وتحذير المسلمين منه، وهذا هو موضوع المسألة التالية في هذا القسم.
المسألة الثالثة: رد الفتاوى ونقض الأحكام المخالفة للحق.
ودليله: قول رسول الله صلى الله عليه وسلم (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رَدٌّ) متفق عليه عن عائشة رضي الله عنها، وفي رواية لمسلم عنها مرفوعا (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رَدٌّ). ومعنى (رَدٌّ) أي مردود لاينفذ ولا يُعمل به.
وقد بَوّب البخاري رحمه الله لهذه المسألة في بابين من صحيحه:
فأورد في كتاب الأحكام من صحيحه، (باب إذا قضى الحاكم بجور أو خلاف أهل العلم فهو ردٌ) (فتح الباري) جـ 13 صـ 181.
وفي كتاب الاعتصام من صحيحه، (باب إذا اجتهد العامل ــ أو الحاكم ــ فأخطأ خلاف الرسول صلى الله عليه وسلم من غير علم ٍ فحكمه مردود، لقول النبي صلى الله عليه وسلم « من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رَدٌّ ») (فتح الباري) جـ 13 صـ 317.(4/90)
وقال القاضي شهاب الدين القرافي رحمه الله (كل شئ أفتي فيه المجتهد فخرجت فتياه على خلاف الإجماع أو القواعد أو النص أو القياس الجليّ السالم عن المعارض الراجح، لايجوز لمقلده أن ينقله للناس ولا يفتي به في دين الله تعالى، فإن هذا الحكم لو حكم به حاكم لنقضناه، ومالا نقرّه شرعا بعد تقرره بحكم الحاكم أولى أن لانقره شرعا إذا لم يتأكد، وهذا لم يتأكد فلا نقره شرعا، والفتيا بغير شرع حرام، فالفتيا بهذا الحكم حرام) أهـ (الفروق) للقرافي، جـ 2 صـ 109. وقوله (بعد تقرره بحكم الحاكم) يشير إلى أن حكم القاضي مُلزم، وقوله (إذا لم يتأكد) يشير إلى أن فتوى المفتي غير ملزمة للمستفتي، وسنشرح هذه المسألة في الفصل التالي إن شاء الله.
والمفتي إذا أخطأ في فتياه، له حالان:
1 ــ إما أن يكون أهلا للفتوى، خطأه يسير والغالب عليه الإصابة، فهذا مأجور على اجتهاده وإن أخطأ، ولكن لايُعمل بما أخطأ فيه بل يُرَدُّ، ولايمنع من الفتوى أو الحكم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر) متفق عليه عن عمرو بن العاص رضي الله عنه، فبيَّن الحديث أن القاضي وإن كان مجتهداً فإنه قد يخطئ.
وقال ابن تيمية رحمه الله (أنه لو قدر أن العالم الكثير الفتوى أخطأ في مائة مسألة لم يكن ذلك عيبا، وكل من سوى الرسول صلى الله عليه وسلم يصيب ويخطئ. ومن منع عالماً من الإفتاء مطلقاً، وحَكمَ بحبسه لكونه أخطأ في مسائل: كان ذلك باطلا بالإجماع.) (مجموع الفتاوي) جـ 27 صـ 301.(4/91)
وقال ابن تيمية أيضا (أنه لو قدر أن العالم الكثير الفتاوى أفتى في عدة مسائل بخلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابتة عنه. وخلاف ماعليه الخلفاء الراشدون: لم يجز منعه من الفتيا مطلقاً، بل يُبين له خطؤه فيما خالف فيه. فما زال في كل عصر من أعصار الصحابة والتابعين ومن بعدهم من علماء المسلمين من هو كذلك. فابن عباس رضي الله عنهما كان يقول في «المتعة والصرف» بخلاف السنة الصحيحة، وقد أنكر عليه الصحابة ذلك، ولم يمنعوه من الفتيا مطلقاً بل بينوا له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم المخالفة لقوله) (المرجع السابق) صـ 311.
2 ــ وإما أن يكون أهلا للفتوى ولكنه متساهل فيها أو لايكون أهلاً لها، وهذان الصنفان يجب على ولاة أمور المسلمين منعهما من الإفتاء، كما يجب تحذير المسلمين منهم.
قال النووي رحمه الله (قال الخطيب: ينبغي للإمام أن يتصفح أحوال المفتين فمن صلح للفتيا أقرّه ومن لا يصلح منعه ونهاه أن يعود وتواعده بالعقوبة إن عاد وطريق الإمام إلى معرفة من يصلح للفتوى أن يسأل علماء وقته ويعتمد أخبار الموثوق بهم. ثم روى بإسناده عن مالك رحمه الله قال: ما افتيت حتى شهد لي سبعون أني أهل لذلك. وفي رواية ما افتيت حتى سألت من هو أعلم مني هل يراني موضعا لذلك قال مالك ولاينبغي لرجل أن يرى نفسه أهلا لشئ حتى يسأل من هو أعلم منه) أهـ (المجموع) جـ 1 صـ 41. وهذا الكلام الذي نقله النووي عن الخطيب البغدادي موجود بكتاب الخطيب (الفقيه والمتفقه) جـ 2 صـ 153 ــ 154.
وقال ابن القيم رحمه الله (من أفتى الناس وليس بأهل للفتوى فهو آثم عاص ٍ، ومن أقره من وُلاة الأمور على ذلك فهو آثم أيضا.(4/92)
قال أبو الفرج ابن الجوزي رحمه الله: ويلزم ولي الأمر منعهم كما فعل بنو أمية، وهؤلاء بمنزلة مَنْ يدل الركب، وليس له علم الطريق، وبمنزلة الأعمى الذي يرشد الناس إلى القبلة، وبمنزلة من لامعرفة له بالطب وهو يطبُّ الناس، بل هو أسوأ حالا من هؤلاء كلهم، وإذا تعين على ولي الأمر منع مَنْ لم يُحسن التطبُّب من مُدَاواة المرضي، فكيف بمن لم يعرف الكتاب والسنة ولم يتفقه في الدين؟.
وكان شيخنا رضي الله عنه شديد الإنكار على هؤلاء، فسمعته يقول: قال لي بعض هؤلاء: أجُعِلْتَ محتسباً على الفتوى؟ فقلت له يكون على الخبَّازين والطباخين محتسب ولايكون على الفتوى محتسب؟) أهـ (اعلام الموقعين) جـ 4 صـ 217.
وقد ذكرنا هذا الكلام وأكثر منه في واجب الإمام في تصفح أحوال المفتين والمعلمين في الفصل الأول من الباب الثالث. ولنا عَوْد إلى هذا الموضوع عند الكلام في خطأ المفتي إن شاء الله تعالى.
وبهذا نختم الكلام في وجوب الإفتاء بالحق وبالأقوال الراجحة ورد الفتاوى المخالفة للحق، وهو القسم الخامس من هذا الفصل.
******
القسم السادس: أحكام الفتوى وآدابها
ونذكر في هذا القسم ــ إن شاء الله تعالى ــ مايتعلق بالفتوى من حين تلقي المفتي لسؤال المستفتي إلى حين الفراغ من الفتوى.
وسوف يشتمل هذا القسم على ثمانية موضوعات وهى:
الأول…: مسائل متعلقة بسؤال المستفتي.
والثاني…: مسائل متعلقة بكيفية الجواب.
والثالث …: مسائل متعلقة بصفة الجواب.
والرابع…: كيفية كتابة الفتوى.
والخامس…: آداب الفتوى.
والسادس…: حكم سؤال المفتي عما لايعلمه.
والسابع…: حكم إفتاء المفتي مع غيره.
والثامن…: حكم رجوع المفتي عن فتواه، وحكم خطئه فيها.
أولا: مسائل متعلقة بسؤال المستفتي.(4/93)
1 ــ قال النووي رحمه الله (قال الصيمري: وليس من الأدب كون السؤال بخط المفتي، فأما بإملائه وتهذيبه فواسع، وكان الشيخ أبو إسحاق الشيرازي قد يكتب السؤال على ورق ٍ له ثم يكتب الجواب) (المجموع) جـ 1 صـ 47 ــ 48.
قلت: لا شئ يمنع من كتابة المفتي للمستفتي سؤاله، بل هذا مندوب إليه إذا كان المستفتي أمياً أو بعيد الفهم، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (والله في عون العبد ماكان العبد في عون أخيه) الحديث رواه مسلم.
2 ــ وقال النووي رحمه الله (ليتأمل الرقعة تأملا شافيا وآخرها آكد فإن السؤال في آخرها، وقد يتقيد الجميع بكلمة في آخرها ويٌغفل عنها، قال الصيمري: قال بعض العلماء: ينبغي أن يكون توقفه في المسئلة السهلة كالصعبة ليعتاده وكان محمد بن الحسن يفعله، وإذا وجد كلمة مشتبهة سأل المستفتي عنها ونَقَطَها وشَكَلها، وكذا إن وجد لحنا فاحشا أو خطأ يحيل المعني أصلحه) (المجموع) جـ 1 صـ 48.
3 ــ وقال النووي رحمه الله (إذا لم يفهم المفتي السؤال أصلا ولم يحضر صاحب الواقعة فقال الصيمري: يكتب يزاد في الشرح ليجيب عنه، أو لم أفهم مافيها فأجيب، قال: وقال بعضهم لايكتب شيئا أصلا، قال: ورأيت بعضهم كتب في هذا يحضر السائل لنخاطبه شفاهاً. وقال الخطيب: ينبغي له إذا لم يفهم الجواب أن يرشد المستفتي إلى مفت ٍ آخر إن كان وإلا فليمسك حتى يعلم الجواب. قال الصيمري: وإذا كان في رقعة الاستفتاء مسائل فهم بعضها دون بعض أو فهمها كلها ولم يرد الجواب في بعضها أو احتاج في بعضها إلى تأمل أو مطالعة أجاب عما أراد وسكت عن الباقي وقال لنا في الباقي نظر أو تأمل أو زيادة نظر.) (المجموع) جـ 1 صـ 52.(4/94)
4 ــ قال ابن القيم رحمه الله (مما ينبغي التفطن له: إن رأى المفتي خلال السطور بياضا يحتمل أن يُلحق به مايفسد الجواب فليحترز منه، فربما دخل من ذلك عليه مكروه، فإما أن يأمر بكتابة غير الورقة، وإما أن يخط على البياض أو يشغله بشئ، كما يحترز منه كُتَّاب الوثائق والمكاتيب. وبالجملة فَلْيَكُنْ حَذِرا فَطِنا، ولا يحسن ظنه بكل أحد، وهذا الذي حَمَلَ بعض المفتين على أنه كان يقيد السؤال عنده في ورقة ثم يجيب في ورقة السائل، ومنهم من كان يكتب السؤال في ورقة من عنده ثم يكتب الجواب، وليس شئ من ذلك بلازم) (اعلام الموقعين) جـ 4 صـ 256.
وتكلم النووي في المسألة نفسِها فقال (وإن رأى بياضاً في أثناء سطر أو آخره خَطَّ عليه أو شَغَله، لأنه ربما قَصَدَ المفتي بالإيذاء فكتب في البياض بعد فتواه ما يُفسدها، كما بُلِيَ به القاضي أبو حامد المروروذي) (المجموع) جـ 1 صـ 48. وذكر ابن الصلاح ماجرى للقاضي أبي حامد فقال (كما بُليَ القاضي أبو حامد المروروذي بمثل ذلك إذ قصد مساءته بعض الناس، فكتب: ماتقول في رجل مات وخلف ابنة واختا لأم؟ ثم ترك بياضاً في آخر السطر موضع كلمة، ثم كتب في أول السطر الذي يليه: وترك ابن عم؟ فأفتى المفتي: للبنت النصف، والباقي لابن العم. فلمَّا أخذ خطه بذلك ألحق في موضع البياض: وأبٍ. وشنع عليه بذلك وكان ذلك سبب فتنة ثارت بين طائفتين من روء ساء البصرة) (أدب المفتي) صـ 138.(4/95)
5 ــ إذا تزاحم المستفتون على المفتي، فقال ابن الصلاح رحمه الله (يجب على المفتي عند اجتماع الرّقاع بحضرته أن يُقدِّم الأسبق فالأسبق، كما يفعلهُ القاضي عند اجتماع الخصوم، وذلك فيما يجبُ عليه فيه الإفتاء. وعند التَّساوي، أو الجهل بالسابق يُقدم بالقرعة. والصحيح أنه يجوز له تقديم المرأة والمسافر الذي شد رحله، وفي تأخيره تخلفه عن رفقته على من سبقهما، وإذا كثر المسافرون والنساء بحيث ُ يلحق غيرهم من تقديمهم ضرر كبير فيعود بالتقديم إلى السبق أو القرعة، ثم لايقدم من يقدمه إلا في فتيا واحدة، والله أعلم) (أدب المفتي) صـ 153. ونقله عنه النووي في (المجموع) جـ 1 صـ 50، وسائر مانقلناه عن النووي هنا نقله عن ابن الصلاح رحمهما الله.
ثانيا: مسائل متعلقة بكيفية الجواب.
المفتي يجيب المستفتي إما بالقول (شفاهة أو كتابة)، وإما بالفعل (بالإشارة المفهومة)، وزاد الشاطبي: وبالإقرار.
وإذا لم يعرف المفتي لسان السائل فيكفيه ترجمة ثقة واحد بينهما، وقيل لابد من اثنين.
وإليك أقوال العلماء في بيان هذا.
1 ــ كيفية إجابة المفتي المستفتي.
قال النووي (يلزم المفتي أن يبيِّن الجواب بياناً يزيل الإشكال، ثم له الاقتصار على الجواب شفاها، فإن لم يعرف لسان المستفتي كفاه ترجمة ثقة واحد لأنه خبر، وله الجواب كتابةً وإن كانت الكتابة على خطر، وكان القاضي أبو حامد كثير الهرب من الفتوى في الرقاع) (المجموع) جـ 1 صـ 47.
وقال ابن الصلاح (ولابأس بأن يكون المفتي أعمى، أو أخرس مفهوم الإشارة أو كاتبا، والله أعلم) (أدب المفتي) صـ 107.(4/96)
وإجابة الفتوى بالإشارة لاتقتصر على الأخرس، بل تجوز للمتكلم، وقد بوَّب البخاري لهذه المسألة في كتاب العلم من صحيحه قال (باب من أجاب الفتيا بإشارة اليد والرأس) وفيه روي عن ابن عباس رضي الله عنهما (أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئِل في حجته، فقال: ذبحتُ قبل أن أرمي، فأومأ بيده قال: ولاحرج، قال: حلقتُ قبل أن أذبح، فأومأ بيده: ولاحَرَج) (حديث 84)، كما روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (يُقبض العلم، ويظهر الجهل والفتن، ويكثر الهَرْج) قيل: يارسول الله وماالهرج؟، فقال: هكذا بيده فحرَّفها كأنه يريد القتل. (حديث 85)، وروي البخاري عن أسماء رضي الله عنها قالت (أتيت عائشة وهى تُصلي، فقلت: ما شأنُ الناس؟، فأشارت إلى السماء، فإذا الناس قيامٌُ، فقالت: سبحان الله، قلتُ: آية، فأشارت برأسها ــ أي نعم ــ) الحديث (رقم 86) وهو حديث صلاة الكسوف الطويل، والمراد بالآية في الحديث: كسوف الشمس. قال ابن حجر في شرح هذا الباب (الإشارة باليد مستفادة من الحديثين المذكورين في الباب أولا، وهما مرفوعان، وبالرأس مستفادة من حديث أسماء فقط، وهو من فعل عائشة فيكون موقوفاً لكن له حكم المرفوع، لأنها كانت تصلي خلف النبي صلى الله عليه وسلم وكان في الصلاة يرى من خلفه، فيدخل في التقرير) (فتح الباري) جـ 1 صـ 181.
وقال الشاطبي رحمه الله (الفتوى من المفتي تحصل من جهة القول والفعل والإقرار «فأما الفتوى بالقول» فهو الأمر المشهور، ولا كلام فيه«وأما بالفعل» فمن وجهين:
أحدهما: ما يُقصد به الإفهام في معهود الاستعمال، فهو قائم مقام القول المصرَّح به، كقوله عليه الصلاة والسلام «الشهر هكذا وهكذا وهكذا» وأشار بيديه. ــ ثم ذكر الشاطبي أحاديث البخاري السابقة، ثم قال ــ(4/97)
والثاني: ما يقتضيه كونه أسوة يقتدي به، ومبعوثا لذلك قصداً وأصله قول الله تعالى... «لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة».... والتأسي إيقاع الفعل على الوجه الذي فعله ــ إلى قوله ــ وإذا كان كذلك وثبت للمفتي أنه قائم مقام النبي صلى الله عليه وسلم ونائب مَنَابِهِ لزم من ذلك أن أفعاله محلٌُ للاقتداء أيضا، فما قصد بها البيان والإعلام فظاهر، ومالم يُقصد به ذلك فالحكم فيه كذلك أيضا. ــ إلى قوله ــ ولعل قائلا يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان معصوما، فكان عمله للاقتداء محلاً بلا إشكال، بخلاف غيره، فإنه محل للخطأ والنسيان والمعصية والكفر فضلا عن الإيمان، فأفعاله لايوثق بها، فلا تكون مقتدي بها.
فالجواب أنه إن اعتبر هذا الاحتمال في نصب أفعاله حجة للمستفتي فليعتبرمثله في نصب أقواله، فإنه يمكن فيها الخطأ والنسيان والكذب عمداً وسهواً لأنه ليس بمعصوم، ولما لم يكن ذلك معتبرا في الأقوال لم يكن معتبرا في الأفعال ولأجل هذا تُستعظم شرعاً زلة العالم كما تبين في هذا الكتاب وفي باب البيان. فحق على المفتي أن ينتصب للفتوى بفعله وقوله، بمعنى أنه لابد له من المحافظة على أفعاله حتى تجري على قانون الشرع ليتّخَذَ فيها أسوة.(4/98)
«وأما الإقرار» فراجع إلى الفعل، لأن الكف فعل، وكفُّ المفتي عن الإنكار إذا رأي فعلا من الأفعال كتصريحه بجوازه. وقد أثبت الأصوليون ذلك دليلاً شرعياً بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فكذلك يكون بالنسبة إلى المنتصب للفتوى. وماتقدم من الأدلة في الفتوى الفعلية جارٍ هنا بلا إشكال ومن هنا ثابر السلف على القيام بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولم يبالوا في ذلك بما ينشأ عنه من عود المضرَّات عليهم بالقتل فما دونه. ومن أخذ بالرخصة في ترك الإنكار فرّ بدينه واستخفى بنفسه، مالم يكن ذلك سبباً للإخلال بما هو أعظم من ترك الإنكار، فإن ارتكاب خير الشرين أولى من ارتكاب شرهما.) (الموفقات) جـ 4 صـ 246 ــ 251 باختصار.
قلت: اشتمل كلام الشاطبي رحمه الله على صواب وخطأ:
أما صوابه: فقوله إن الفتوى تكون بالقول، وبالفعل الذي يُقصد به الإفهام كإشارة اليد والرأس، وبالفعل الذي يُقصد به البيان والإعلام كأن يتوضأ المفتي ليعلم الجاهل كيفية الوضوء، فهذا كله صواب.
وأما الخطأ: فقوله إن أفعال المفتي التي لايُقصد بها إفهام المستفتي أو تعليمه أنها حجة شرعية، وكذلك قوله في إقرار المفتي بسكوته عما يسمعه أو يراه. فليس شئ من هذا حجة شرعية، وهناك فرق بين مايجب أن تكون عليه أفعال المفتي وإقراره وتأسي العامي به، وبين أن يكون فعله هذا وإقراره حجة شرعية، فهذا مالا دليل عليه.
والخلاصة: أن كيفية إجابة المفتي المستفتي تكون:
بالقول: شفاهة أو كتابة.
وبالفعل الذي يُقصد به الإفهام: كإشارة اليد والرأس.
وبالفعل الذي يُقصد به البيان والتعليم: كأن يتوضأ المفتي ويصلي ليعلم الجهال.
2 ــ الترجمة بين المفتي والمستفتي.
قال النووي تبعا لابن الصلاح رحمهما الله (فإن لم يعرف لسان المستفتي كفاه ترجمة ثقة واحد، لأنه خبر) (المجموع) جـ 1 صـ 47، (وأدب المفتي) لابن الصلاح صـ 134. ومعنى قوله (لسان المستفتي) أي لغته.(4/99)
وقال ابن القيم رحمه الله (إذا لم يعرف المفتي لسان السائل، أو لم يعرف المستفتي لسان المفتي، أجزأ ترجمة واحد بينهما، لأنه خبرٌُ محض فيكتفى بواحد ــ إلى قوله ــ
والرواية الثانية: لايُقبل في هذا الموضع أقل من اثنين، إجراءً لها مجرى الشهادة، وسلوكا بها سبيلها، لأنها تثبت الإقرار عند الحاكم، وتثبت عدالة الشهود وجرحهم، فافتقرت إلى العدد، كما لو شهد على إقراره شاهد واحد، فإنه لايكتفى به، وهذا بخلاف ترجمة الفتوى والسؤال، فإنه خبر مَحْض، فافترقا.) (اعلام الموقعين) جـ 4 صـ 255.
قلت: والصواب في هذا أنه يكتفى بواحد ثقة في الترجمة للمفتي، وهذا الذي رجَّحه ابن الصلاح والنووي وابن حمدان وابن القيم رحمهم الله، ولايجب مترجمان، ويدل على هذا مارواه البخاري عن أبي جمرة قال (كنت أترجم بين ابن عباس وبين الناس) الحديث (رقم 87). قال ابن حجر (قال ابن الصلاح: أصل الترجمة التعبير عن لغةٍ بلغةٍ ــ إلى أن قال ابن حجر ــ وقيل إن أبا جمرة كان يعرف الفارسية فكان يترجم لابن عباس بها. قال القرطبي: فيه دليل على أن ابن عباس كان يكتفي في الترجمة بواحد) (فتح الباري) جـ 1 صـ 130.(4/100)
هذا في الإفتاء أما في القضاء فالخطب أشد، وينبغي قصر الخلاف في عدد المترجمين على القضاء لا الإفتاء، والمسألة من جهة تعلقها بالقضاء خارجة عن موضوع هذا الفصل، وموضعها كتب القضاء في كتب الفقه، وبوَّب عليها البخاري رحمه الله في كتاب الأحكام من صحيحه، (باب ترجمة الحكام، وهل يجوز ترجمان واحد؟) وأورد فيه عدة أحاديث منها حديث أبي جمرة السابق، ولخص ابن حجر رحمه الله الأقوال في المسألة في قوله (قوله «باب ترجمة الحكام وهل يجوز ترجمان واحد؟» يشير إلى الاختلاف في ذلك، فالاكتفاء بالواحد قول الحنفية ورواية عن أحمد واختارها البخاري وابن المنذر وطائفة، وقال الشافعي وهى الرواية الراجحة عند الحنابلة «إذا لم يعرف الحاكم لسان الخصم لم يُقبل فيه إلا عدلين» لأنه نقل ماخفي على الحاكم إليه فيما يتعلق بالحكومة فيشترط فيه العدل كالشهادة، ولأنه أخبر الحاكم بما لم يفهمه فكان كنقل الإقرار إليه من غير مجلسه) (فتح الباري) جـ 13 صـ 186. وفي المسألة بالنسبة للحكام (القضاة) تفصيل وترجيح ليس هذا موضعه.
ثالثا: مسائل متعلقة بصفة الجواب (الفتوى)
وهى أربع عشرة مسألة:
1 ــ أن يفصّل جوابه.………2 ــ ألا يلقي المستفتي في حيرة.
3 ــ أن يفتي بلفظ النص بقدر الإمكان. …4 ــ ألا ينسب الحكم لله إلا بنص.
5 ــ هل يذكر دليل الفتوى؟……6 ــ هل يفتي بعلمه في الواقعة؟.
7 ــ التمهيد للحكم المستغرب. …
8 ــ الإجابة بأكثر مما سأل عنه المستفتي.
9ــ الإجابة بغير ماسأل عنه المستفتي.
10 ــ يحسن بالمفتي إذا منع أن يدل على المباح.
11 ــ إذا احتمل الجواب فهماً خطأ نبّه عليه.
12 ــ إذا كان الجواب على خلاف غرض المستفتي.
13 ــ التغليظ في الفتوى.
14 ــ الحلف على ثبوت الحكم.
المسألة الأولى: أن يكون الجواب واضحاً مفصلاً.(4/101)
قال الله عزوجل (فهل على الرسل إلا البلاغ المبين) النحل 35، والمبين هو الواضح المفصَّل، ولما كان (العلماء ورثة الأنبياء) فإنه يجب عليهم البلاغ المبين ومنه إجابة المستفتين، فيجب أن يكون الجواب واضحاً مفصلاً جامعا للفائدة المطلوبة مانعا من أن يُفهم منه غير المراد.
ويتعلق بالبيان والتفصيل أمران: أحدهما يتعلق بسؤال المستفتي، والثاني يتعلق بجواب المفتي، كالتالي:
1 ــ أما ما يتعلق بسؤال المستفتي: فهو تعيين المراد من سؤاله إذا كان يحتمل عدة صور، ليقع الجواب عن الصورة المرادة.
وفي هذا قال ابن القيم (إذا كان السؤال محتملا لصور عديدة، فإن لم يعلم المفتي الصورة المسئول عنها لم يجب عن صورة واحدة منها، وإن علم الصورة المسئول عنها فله أن يخصها بالجواب، ولكن يُقيِّدُ لئلا يتوهم أن الجواب عن غيرها فيقول: إن كان الأمر كيت وكيت، أو كان المسئول عنه كذا وكذا، فالجواب كذا وكذا، وله أن يُفرد كلَّ صورة بجواب، فيفصل الأقسام المحتملة، ويذكر حكم كل قسم، ومنع بعضهم من ذلك لوجهين، أحدهما: أنه ذريعة إلى تعليم الحيل، وفتح باب لدخول المستفتي وخروجه من حيث شاء، الثاني: أنه سبب لازدحام أحكام تلك الأقسام على فهم العاميِّ فيضيع مقصوده. والحق التفصيل، فيكره حيث استلزم ذلك، ولايكره ــ بل يستحب ــ إذا كان فيه زيادة إيضاح وبيان وإزالة لَبْس، وقد فصل النبي صلى الله عليه وسلم في كثير من أجوبته بقوله: إن كان كذا فالأمر كذا، كقوله في الذي وقع على جارية امرأته « إن كان استكرهها فهى حرة، وعليه لسيدتها مثلها، وإن كانت مطاوعة فهى له، وعليه لسيدتها مثلها وهذا كثير في فتاويه صلى الله عليه وسلم.) (اعلام الموقعين) جـ 4 صـ 255 ــ 256.
وقد ذكر ابن القيم رحمه الله أمثلة كثيرة للاستفسار من السائل والإجابة بحسب ذلك، فراجعها في (اعلام الموقعين) جـ 4 صـ 187 ــ 192.(4/102)
2 ــ وأما مايتعلق بجواب المفتي، فيجب أن يكون كما قال ابن الصلاح رحمه الله (يجب على المفتي حيث يجب عليه الجواب أن يبينه بياناً مزيحا للإشكال) (أدب المفتي) صـ 134.
وقال ابن الصلاح أيضا بلغنا عن القاضي أبي الحسن الماوردي صاحب كتاب «الحاوي»، قال: إن المفتي عليه أن يختصر جوابه فيكتفي فيه بأنه يجوز أو لايجوز، أو حق أو باطل، ولايعدل إلى الإطالة والاحتجاج ليفرق بين الفتوى والتصنيف، قال: ولو ساغ التجاوز إلى قليل لساغ إلى كثير، ولصار المفتي مدرسا، ولكل مقام مقال.
وذكر شيخه أبو القاسم الصيمري، عن شيخه القاضي أبي حامد المروروذي: «أنه كان يختصر في فتواه غاية مايمكنه، واستفتي في مسألة، قيل في آخرها: أيجوز ذلك أم لا؟ فكانت فتواه: لا، وبالله التوفيق».
قال ابن الصلاح: الاقتصار على لا أو نعم لايليق بِغَيّ العامة، وإنما يحسن بالمفتي الاختصار الذي لايخل بالبيان المشترط عليه دون مايخل به، فلا يدع إطالة لا يحصل البيان بدونها، فإذا كانت فتياه فيما يوجب القود أو الرجم مثلا فليذكر الشروط التي يتوقف عليها القود والرجم.
وإذا استفتي فيمن قال قولاً يكفر به، بأن قال: الصلاة لعب، أو الحج عبث، أو نحو ذلك. فلا يبادر بأن يقول: هذا حلال الدم ويُقتل. بل يقول: إذا ثبت عليه ذلك بالبينة أو الإقرار، استتابه السلطان، فإن تاب قبلت توبته، وإن أصر ولم يتب قُتل وفُعل به كذا وكذا، وبالغ في تغليظ أمره، وإن كان الكلام الذي قاله يحتمل أموراً لا يكفر ببعضها، فلا يطلق جوابه، وله أن يقول: ليُسأل عما أراد بقوله، فإن أراد كذا فالجواب كذا، وإن أراد كذا فالحكم فيه كذا، وقد سبق الكلام فيما شأنه التفصيل. وإذا استفتي عما يوجب التعزير، فليذكر قدر مايعزره به السلطان فيقول: يُضرب مابين كذا إلى كذا ولايُزاد على كذا، خوفا من أن يُضرب بفتواه إذا أطلق القول مالا يجوز ضربه، ذكره الصيمري.(4/103)
قال ابن الصلاح: وإذا قال: عليه التعزير بشرطه، أو القصاص بشرطه، فليس بإطلاق، وتقييده بشرطه يبعث من لايعرف الشرط من ولاة الأمر على السؤال عن شرطه، والبيان أولى. والله أعلم.) (أدب المفتي) صـ 141 ــ 142.
المسألة الثانية: لا يجوز للمفتي أن يلقي المستفتي في الحيرة.
هذه المسألة متعلقة بالسابقة، فإن تفصيل الجواب متضمن لعدم إلقاء المستفتي في الحيرة، وإنما أفردنا هذا بمسألة مستقلة للتنبيه عليه.
قال ابن الصلاح (إذا اقتصر في جوابه على حكاية الخلاف بأن قال: فيها قولان أو وجهان، أو نحو ذلك من غير أن يبين الأرجح، فحاصل أمره أنه لم يفت بشئ ٍ.
وأذكر أني حضرت بالموصل الشيخ الصدر المصنف أبا السعادات ابن الأثير الجزري رحمه الله، فذكر بعض الحاضرين عنده، عن بعض المدرسين: أنه أفتى في مسألة فقال: فيها قولان، وأخذ يُزري عليه.
فقال الشيخ ابن الأثير: كان الشيخ أبو القاسم بن البزري، وهو عَلاَّمة زمانه في المذهب إذا كان في المسألة خلاف واستفتي عنها يذكر الخلاف في الفتيا، ويقالُ له في ذلك، فيقول: لا أتقلد العهدة مختاراً لأحد الرَّأيين مُقتصراً عليه، وهذا حيد عن غرض الفتوى، وإذا لم يذكر شيئا أصلا فلم يتقلد العهدة أيضا، ولكنه لم يأت بالمطلوب حيث لم يُخلص السائل من عمايته. وهذا في ذلك كذلك.ــ إلى أن قال ــ وهكذا إذا قال المفتي في موضع الخلاف: يُرجعُ إلى رأي الحاكم. فقد عدل عن نهج الفتوى، ولم يُفت أيضا بشئ، وهو كما إذا استفتي فلم يُجب، وقال: استفتوا غيري. وحضرتُ بالموصل شيخها المفتي أبا حامد محمد بن يونس، وقد استفتي في مسألة فكتب في جوابها: إن فيها خلافاً. فقال بعض من حضر: كيف يعمل المستفتي؟(4/104)
فقال: يختار له القاضي أحد المذهبين، ثم قال: هذا يبنى على أن العامي إذا اختلف عليه اجتهاد اثنين فبماذا يعمل؟، وفيه خلاف مشهور. وهذا غير مستقيم ــ إلى قوله ــ فهذا فيه إحواج للمستفتي إلى أن يستفتي مرة أخرى ويسأل عن هذا أيضا، لأنه لايدري أن حكمه التخيُّر أو الأخذ بالأخف أو الأغلظ؟، فلم يأت إذن بما يكشف عن عَمَايته، بل زاده عماية وحَيْرة، على أن الصحيح في ذلك على ما سيأتي ذِكره إن شاء الله تعالى: إنه يجب عليه الأخذ بقول الأوثق منهما.) (أدب المفتي) صـ 130 ــ 134. ومعنى لفظ (أن حكمه التخيّر) ــ في كلامه السابق ــ أي ربما يظن المستفتي أن له أن يختار مايشاء من القولين الّذين ذكرهما له المفتي بقوله (فيها قولان).
وتكلم ابن القيم في المسألة نفسها فقال (لايجوز للمفتي الترويج وتخيير السائل وإلقاؤه في الإشكال والحيرة، بل عليه أن يبين بيانا مزيلا للإشكال، متضمنا لفصل الخطاب، كافيا في حصول المقصود، لايحتاج معه إلى غيره، ولايكون كالمفتي الذي سئل عن مسألة في المواريث فقال: يقسم بين الورثة على فرائض الله عزوجل وكتبه فلان، وسئل آخر عن صلاة الكسوف فقال: تصلى على حديث عائشة، وإن كان هذا أعلم من الأول. وسئل آخر عن مسألة من الزكاة فقال: أما أهل الايثار فيخرجون المال كله، وأما غيرهم فيخرج القدر الواجب عليه، أو كما قال. وسئل آخر عن مسألة فقال: فيها قولان، ولم يزد.(4/105)
قلت: وهذا فيه تفصيل، فإن المفتي المتمكن من العلم المضطلع به قد يتوقف في الصواب في المسألة المتنازع فيها فلا يقدم على الجزم بغير علم، وغاية مايمكنه أن يذكر الخلاف فيها للسائل، وكثيراً مايسأل الإمام أحمد رضي الله عليه وغيره من الأئمة عن مسألة فيقول: فيها قولان، أو قد اختلفوا فيها، وهذا كثير في أجوبة الإمام أحمد لسَعَة علمه وورعه، وهو كثير في كلام الإمام الشافعي رضي الله عنه، يذكر المسألة ثم يقول: فيها قولان.) (اعلام الموقعين) جـ 4 صـ 177 ــ 178.
المسألة الثالثة: ينبغي للمفتي أن يفتي بلفظ النصّ مهما أمكنه.
قال ابن القيم رحمه الله (ينبغي للمفتي أن يفتي بلفظ النص مهما أمكنه، فإنه يتضمن الحكم والدليل مع البيان التام، وقد كان الصحابة والتابعون والأئمة الذين سلكوا على منهاجهم يتحرون ذلك غاية التحري، حتى خلفت من بعدهم خُلوف رغبوا عن النصوص، واشتقوا لهم ألفاظا غير ألفاظ النصوص، فأوجب ذلك هجر النصوص، ولَمَّا كانت هى عصمة عهدة الصحابة وأصولهم التي إليها يرجعون كانت علومهم أصَحَّ من علوم مَنْ بعدهم، وخطؤهم فيما اختلفوا فيه أقل من خطأ من بعدهم، ثم التابعون بالنسبة إلى من بعدهم كذلك، وهلم جرا ولما استحكم هجران النصوص عند أكثر أهل الأهواء والبدع كانت علومهم في مسائلهم وأدلتهم في غاية الفساد والاضطراب والتناقض، وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سُئلوا عن مسألة يقولون: قال الله كذا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، أو فعل رسول الله كذا، ولايعدلون عن ذلك ماوجدوا إليه سبيلا قط) (اعلام الموقعين) جـ 4 صـ170، باختصار.
المسألة الرابعة: ينبغي ألا ينسب المفتي الحكمَ إلى الله إلا بنصّ ٍ.(4/106)
قال ابن القيم رحمه الله (لايجوز للمفتي أن يشهد على الله ورسوله بأنه أحل كذا أو حرمه أو أوجبه أو كرهه إلا لما يعلم أن الأمر فيه كذلك مما نص الله ورسوله على إباحته أو تحريمه أو كراهته. وأما ماوجد في كتابه الذي تلقاه عمن قلده دينه فليس له أن يشهد على الله ورسوله به، ويغر الناس بذلك، ولا علم له بحكم الله ورسوله.
قال غير واحد من السلف: ليحذر أحدكم أن يقول: أحل الله كذا، أو حرم الله كذا، فيقول الله له: كذبت، لم أحل كذا، ولم أحرمه.) (اعلام الموقعين) جـ 4 صـ 175.
المسألة الخامسة: هل يذكر المفتي دليل الفتوى؟.
اختلف العلماء في هذه المسألة بين مانع ومبيح وموجب لذكر الدليل.
1 ــ أما من منع من ذكر الدليل في الفتوى
فهو القاضي أبو الحسن الماوردي رحمه الله قال (لايذكر حجة ً ليفرق بين الفتيا والتصنيف، قال ولو ساغ التجاوز إلى قليل لساغ إلى كثير ولصار المفتي مدرِّساً) نقل هذا عنه النووي في (المجموع) جـ 1 صـ 52، وابن الصلاح في (أدب المفتي) صـ 152.(4/107)
وقد أنكر ابن القيم هذا القول أشد الإنكار فقال: (عاب بعض الناس ذكر الاستدلال في الفتوى وهذا العيب أولى بالعيب، بل جمالُ الفتوى وروحها هو الدليل، فكيف يكون ذكر كلام الله ورسوله وإجماع المسلمين وأقوال الصحابة رضوان الله عليهم والقياس الصحيح عيباً؟ وهل ذِكْر قول الله ورسوله إلا طراز الفتاوى؟ وقول المفتي ليس بموجب للأخذ به، فإذا ذكر الدليل فقد حرم على المستفتي أن يخالفه. وبرئ هو من عُهدة الفتوى بلا علم، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عن المسألة فيضرب لها الأمثال ويشبهها بنظائرها، هذا وقوله وحده حجة، فما الظن بمن ليس قوله بحجة ولايجب الأخذ به؟ وأحسن أحواله وأعلاها أن يسوغ له قبول قوله، وهيهات أن يسوغ بلا حجة، وقد كان أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سُئل أحدهم عن مسألة أفتى بالحجة نفسها، فيقول: قال الله كذا، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، أو فعل كذا، فيشفي السائل، ويبلغ القائل، وهذا كثير جداً في فتاويهم لمن تأملها، ثم جاء التابعون والأئمة بعدهم فكان أحدهم يذكر الحكم ثم يستدل عليه، وعلمه يأبي أن يتكلم بلا حجة، والسائل يأبى قبول قوله بلا دليل. ثم طال الأمد وبعد العهد بالعلم، وتقاصرت الهمم إلى أن صار بعضهم يجيب بنعم أو لا فقط، ولايذكر للجواب دليلا ولا مأخذاً، ويعترف بقصوره وفضل من يفتي بالدليل، ثم نزلنا درجة أخرى إلى أن وصلت الفتوى إلى عيب من يفتي بالدليل وذمه، ولعله أن يحدث للناس طبقة أخرى لايدري ماحالهم في الفتاوي، والله المستعان.) (اعلام الموقعين) جـ 4 صـ 260.
2 ــ وأما من أجاز ذكر الدليل في الفتوى.(4/108)
فابن الصلاح، وتابعه ابن حمدان والنووي على هذا، وننقل هنا عبارة ابن الصلاح، قال رحمه الله (ليس بمنكر أن يذكر المفتي في فتواه الحجة إذا كانت نصاً واضحا مختصراً مثل أن يسأل عن عدة الآيسة، فحسن أن يكتب في فتواه: قال الله تبارك وتعالى:(واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر). أو يسأل هل يطهر جلد الميتة بالدباغ؟ فيكتب: نعم يطهر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيما إهاب دُبغ فقد طهر» وأما الأقيسة وشبهها فلا ينبغي له ذكر شئ منها.
وفيما وجدناه عن الصيمري قال: لم تجر العادة أن يذكر في فتواه طريق الاجتهاد، ولا وجه القياس والاستدلال، اللهم إلا أن تكون الفتوى تتعلق بنظر قاض ٍ فيومئ فيها إلى طريق الاجتهاد، ويُلوح بالنكتة التي عليها بني الجواب، أو يكون غيره قد أفتى فيها بفتوى غلط فيها عنده، فيلوح بالنكتة التي أوجبت خلافه ليقيم عُذره في مخالفته.
قال ابن الصلاح: وكذلك لو كان فيما يُفتي به غُموض فحسن أن يلوح بحجته، وهذا التفصيل أولى مما سبق قريبا ذكره عن القاضي الماوردي من إطلاقه القول: بالمنع من تعرضه للإحتجاج.) (أدب المفتي) صـ 151 ــ 152. ونقله عنه النووي في (المجموع) جـ 1 صـ 52، ونقله ابن حمدان في (صفة الفتوى) صـ 66.
3 ــ وأما من أوجب ذكر الدليل في الفتوى(4/109)
فابن القيم، وذكر أنه اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، قال ابن القيم (ينبغي للمفتي أن يذكر دليل الحكم ومأخذه ماأمكنه من ذلك، ولا يُلقيه إلى المستفتي ساذجاً مجرداً عن دليله ومأخذه، فهذا لضيق عَطَنِه وقلة بضاعته من العلم، ومن تأمل فتاوي النبي صلى الله عليه وسلم الذي قولُه حجة بنفسه رآها مشتملة على التنبيه على حكمة الحكم ونظيره ووجه مشروعيته، وهذا كما سئل عن بيع الرطب بالتمر فقال «أيَنْقُصُ الرطب إذا جف؟» قالوا: نعم، فزجَرَ عنه، ومن المعلوم أنه كان يعلم نُقصانه بالجفاف، ولكن نَبَّههم على علة التحريم وسببه. ومن هذا قوُله لعمر وقد سأله عن قُبلة امرأته وهو صائم، فقال: «أرأيت لو تمضمضت ثم مَجَجْته، أكان يضر شيئا؟» قال: لا، فنبه على أن مقدمة المحظور لايلزم أن تكون محظورة، فإن غاية القُبْلة أنها مُقدمة الجماع، فلا يلزم من تحريمه تحريمُ مقدمته، كما أن وضع الماء في الفم مقدمة شربه، وليست المقدمة محرمة. ومن هذا قوله صلى الله عليه وسلم «لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها، فإنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم»، فذكر لهم الحكم، ونبههم على علة التحريم ــ إلى أن قال ــ وهذا هو الصواب الذي ندين الله به في المسألة، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية. والمقصود أن الشارع مع كون قوله حجة بنفسه يرشد الأمة إلى علل الأحكام ومداركها وحِكَمها، فورثته من بعده كذلك ــ إلى قوله ــ فينبغي للمفتي أن ينبه السائل على علة الحكم ومأخذه إن عرف ذلك، والإ حَرُمَ عليه أن يفتي بلا علم) (اعلام الموقعين) جـ 4 صـ 161 ــ 163.(4/110)
(فائدة) هذه المسألة وهى ذكر دليل الفتوى من عدمه، مبنية على موضوع (الاتباع والتقليد) والذي سنذكره في المسألة الثالثة عشرة من (أحكام المستفتي) في الفصل التالي إن شاء الله، والاتباع هو معرفة الحكم بدليله، والتقليد هو معرفة الحكم بغير دليل، وحاصل المسألة أن الاتباع واجب على المستفتي وأن التقليد إنما يجوز للضرورة، وهذا هو التحقيق في المسألة كما سيأتي تفصيله إن شاء الله، فإذا كان الاتباع واجبا على المستفتي فإن ذكر دليل الفتوى يكون واجبا على المفتي، إذ مالا يتم الواجب إلا به فهو واجب، هذا وبالله تعالى التوفيق.
المسألة السادسة: هل يفتي المفتي بعلمه في الواقعة محل السؤال؟.
وهو أن يعلم المفتي حقيقة واقعة معينة بالمعاينة أو بالسماع، ثم يأتيه سؤال عن هذه الواقعة يصورها بخلاف حقيقتها، فهل يفتي على قدر ماورد في السؤال وإن كان مخالفا للحقيقة، أم يفتي بالحقيقة التي يعلمها؟.
والجواب: أنه يجيب عن السؤال الوارد ثم يقول وإن كان الأمر كذا وكذا ــ ويذكر الحقيقة التي يعلمها ــ فالجواب كذا وكذا. وهذا ماذكره ابن الصلاح فقال (وإذا كان المكتوب في الرقعة على خلاف الصورة الواقعة وعَلِمَ المفتي بذلك، فليُفْتِ على ماوجد في الرقعة، وليقل: هذا إذا كان الأمر على ماذكر، وإن كان كيت وكيت، ويذكر ماعلمه من الصورة، فالحكم كذا وكذا) (أدب المفتي) صـ 144 ــ 145، ونقله عنه النووي في (المجموع) جـ 1 صـ 48.
المسألة السابعة: يُحسن بالمفتي أن يمهِّد للحكم المستغرب.(4/111)
قال ابن القيم رحمه الله (إذا كان الحكم مستغرباً جداً مما لم تألفه النفوسُ وإنما ألفت خلافه فينبغي للمفتي أن يُوطيء قبله مايكون مؤذناً به كالدليل عليه والمقدمة بين يديه، فتأمل ذكره سبحانه قصة زكريا وإخراج الولد منه بعد انصرام عَصْر الشبيبة وبلوغه السن الذي لايُولد فيه لمثله في العادة، فذكر قصته مقدمة بين يدي قصة المسيح وولادته من غير أب، فإن النفوس لما آنست بولد من بين شيخين كبيرين لايُولد لهما عادة سُهل عليها التصديقُ بولادة ولد من غير أب، وكذلك ذكر سبحانه قبل قصة المسيح مُوافاة مريم ورزقها في غير وقته وغير إبَّانه، وهذا الذي شجع نفس زكريا وحركها لطلب الولد وإن كان في غير إبانه، وتأمل قصة نسخ القبلة لما كانت شديدة على النفوس جدا كيف وَطَّأ سبحانه قبلها عدة موطئات، منها: ذكر النسخ، ومنها: أنه يأتي بخير من المنسوخ أو مثله، ومنها: أنه على كل شئ قدير، وأنه بكل شئ عليم، فعموم قدرته وعلمه صالح لهذا الأمر الثاني كما كان صالحا للأول. ومنها: تحذيرهم الاعتراض على رسوله كما اعترض على موسى، بل أمرهم بالتسليم والانقياد. ومنها: تحذيرهم بالإصغاء إلى اليهود، وأن لاتستخفهم شُبههم، فإنهم يودون أن يرُدُّوهم كفارا من بعد ماتبين لهم الحق. ــ إلى أن قال ــ والمقصود أن المفتي جدير أن يذكر بين يدي الحكم الغريب الذي لم يُؤْلَف مقدمات تؤنسُ به، وتدل عليه، وتكون توطئة بين يديه، وبالله التوفيق.) (اعلام الموقعين) جـ 4 صـ 163 ــ 164.
المسألة الثامنة: يجوز أن يجيب المفتي بأكثر مما سُئل عنه.(4/112)
قال ابن القيم رحمه الله (يجوز للمفتي أن يجيب السائل بأكثر مما سأله عنه، وهو من كمال نصحه وعلمه وإرشاده، ومن عَابَ ذلك فِلقِلة علمِه وضِيق عَطَنِه وضعف نصحه، وقد ترجم البخاري لذلك في صحيحه فقال: باب من أجاب السائل بأكثر مما سأل عنه، ثم ذكر حديث ابن عمر رضي الله عنهما مايلبس المحرم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يلبس القُمُصَ، ولا العمائم، ولا السراويلات، ولا الخفاف، إلا أن لايجد نعلين فيلبس الخفين وليقطعهما أسفل من الكعبين» فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عما يلبس المحرم، فأجاب عما لايلبس، وتضمن ذلك الجواب عما يلبس، فإن مالا يلبس محصور ومايلبسه غير محصور، فذكر لهم النوعين، وبين حكم لبس الخف عند عدم النعل، وقد سألوه عن الوضوء بماء البحر، فقال لهم «هو الطهور ماؤه الحل ميتته».) (اعلام الموقعين) جـ 4 صـ 158 ــ 159.
وقول ابن القيم (ومَنْ عَابَ ذلك) أي زيادة الجواب عن السؤال، يشير إلى بعض الأصوليين الذين قالوا: يجب أن يكون الجواب مطابقا للسؤال. وفي هذه المسألة بيان ذكره ابن حجر في شرحه لحديث ابن عمر رضي الله عنهما ــ الذي ذكره ابن القيم ــ وأخرجه البخاري في آخر كتاب العلم من صحيحه في (باب من أجاب السائل بأكثر مما سأله)، قال ابن حجر (قال ابن المنير: موقع هذه الترجمة التنبيه على أن مطابقة الجواب للسؤال غير لازم ــ إلى أن قال ابن حجر ــ وأما ماوقع في كلام كثير من الأصوليين أن الجواب يجب أن يكون مطابقا للسؤال فليس المراد بالمطابقة عدم الزيادة، بل المراد أن الجواب يكون مفيداً للحكم المسئول عنه، قاله ابن دقيق العيد) (فتح الباري) جـ 1 صـ 231.
المسألة التاسعة: متى يجيب المفتي بغير ماسُئِل عنه؟.(4/113)
قال ابن القيم (يجوز للمفتي أن يعدل عن جواب المستفتي عما سأله عنه إلى ماهو أنفع له منه، ولاسيما إذا تضمن ذلك بيان ماسأل عنه، وذلك من كمال علم المفتي وفقهه ونصحه، وقد قال تعالى (يسئلونك ماذا ينفقون، قل: ماأنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل، وماتفعلوا من خير فإن الله به عليم) فسألوه عن المنفَق فأجابهم بذكر المصرِف، إذ هو أهم مما سألوه عنه، ونبههم عليه بالسياق، مع ذكره لهم في موضع آخر، وهو قوله تعالى (قل العفو) وهو ماسهل عليهم إنفاقه ولايضرهم إخراجه، وقد ظن بعضهم أن من ذلك قوله تعالى (يسألونك عن الأهلة، قل: هى مواقيت للناس والحج) فسألوه عن سبب ظُهور الهلال خفياً ثم لايزال يتزايد فيه النور على التدريج حتى يكمل ثم يأخذ في النقصان، فأجابهم عن حكمة ذلك في ظهور مواقيت الناس التي بها تمامُ مصالحهم في أحوالهم ومعاشهم ومواقيت أكبر عبادتهم وهو الحج، وإن كانوا قد سألوا عن السبب فقد أجيبوا بما هو أنفع لهم مما سألوا عنه، وإن كانوا إنما سألوا عن حكمة ذلك فقد أجيبوا عن عين ماسألوا عنه. ولفظ سؤالهم محتمل) (اعلام الموقعين) جـ 4 صـ 158.
المسألة العاشرة: يُحسن بالمفتي إذا مَنَع أن يدل على المباح.(4/114)
قال ابن القيم (من فقه المفتي ونصحه إذا سأله المستفتي عن شئ فمنعه منه، وكانت حاجته تدعوه إليه، أن يدله على ماهو عوض له منه، فيسد عليه باب المحظور، ويفتح له باب المباح، وهذا لايتأتى إلا من عالم ناصح مشفق قد تاجر الله وعامله بعلمه، فمثاله في العلماء مثال الطبيب العالم الناصح في الأطباء يحمي العليل عما يضره، ويصف له ما ينفعه، فهذا شأن أطباء الأديان والأبدان، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «مابعث الله من نبي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير مايعلمه لهم، وينهاهم عن شر ما يعلمه لهم». وهذا شأن خُلُق الرسل وورثتهم من بعدهم، ورأيت شيخنا قدس الله روحه يتحرى ذلك في فتاويه مهما أمكنه، ومن تأمل فتاويه وجد ذلك ظاهراً فيها، وقد منع النبي صلى الله عليه وسلم بلالا أن يشتري صاعا من التمر الجيد بصاعين من الرديء، ثم دله على الطريق المباح، فقال «بِعِ الجميع بالدراهم، ثم اشتر بالدراهم جَنيباً» فمنعه من الطريق المحرم، وأرشده إلى الطريق المباح، ولما سأله عبدالمطلب بن ربيعة بن الحارث والفضل بن عباس أن يستعملهما في جباية الزكاة ليصيبا ما يتزوجان به منعهما من ذلك، وأمر محمية بن جزو ــ وكان عَلَى الخمس ــ أن يعطيهما ماينكحان به، فمنعهما من الطريق المحرم، وفتح لهما الطريق المباح، وهذا اقتداء منه بربه تبارك وتعالى، فإنه يسأله عبده الحاجة فيمنعه إياها، ويعطيه ماهو أصلح له وأنفع منها، وهذا غاية الكرم والحكمة.) (اعلام الموقعين) جـ 4 صـ 159 ــ 160. وكان عبدالمطلب والفضل أرادا من جباية الزكاة أن يحصلا على سهم العاملين عليها منها، فمنعهما النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك إذ إن الصدقة الواجبة (الزكاة) لاتحل لآل البيت، وهما منهم، وإن كانت تحل لهم صدقة التطوع كالشرب من الأسبلة الموقوفة ونحو ذلك، وأعطاهما النبي صلى الله عليه وسلم من الخمس (خمس الغنائم) لأنهما من ذوي القربى وهم من أهل الخمس كما(4/115)
قال تعالى (واعلموا أنما غنمتم من شئ فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى) الآية ــ الأنفال 41.
المسألة الحادية عشرة: إذا احتمل جواب المفتي فهماً خطأ نبَّه عليه.
قال ابن القيم رحمه الله (إذا أفتى المفتي للسائل بشيء ينبغي له أن ينبهه على وجه الاحتراز مما قد يذهب إليه الوهم منه من خلاف الصواب، وهذا باب لطيف من أبواب العلم والنصح والإرشاد، ومثال هذا قوله صلى الله عليه وسلم «لا يُقتلُ مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده» فتأمل كيف أتبع الجملة الأولى بالثانية رفعا لتوهم إهدار دماء الكفار مطلقا وإن كانوا في عهدهم، فإنه لما قال «لا يقتل مؤمن بكافر» فربما ذهب الوهم إلى أن دماءهم هَدَر، ولهذا لو قتل أحدَهم مسلمٌُ لم يقتل به، فرفع هذا التوهم بقوله «ولا ذو عهدٍ في عهده» ولقد خفيت هذه اللطيفة الحسنة عَلَى من قال: يقتل المسلم بالكافر المعاهد، وقَدَّر في الحديث: ولا ذو عهد في عهده بكافر، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم «لا تجلِسُوا على القبور ولا تُصلوا إليها» فلما كان نهيه عن الجلوس عليها نوع تعظيم لها عقبه بالنهي عن المبالغة في تعظيمها حتى تجعل قبلة، وهذا بعينه مشتق من القرآن، كقوله تعالى لنساء نبيه (يا نساء النبي لستُنَّ كأحد من النساء أن اتقيتن، فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض، وقلن قولا معروفا) فنهاهن عن الخضوع بالقول، فربما ذهب الوهم إلى الإذن في الإغلاظ في القول والتجاوز، فرفع هذا التوهم بقوله (وقلن قولا معروفا) ومن ذلك قوله تعالى (والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم، وما ألتناهم من عملهم من شيء) لما أخبر سبحانه بإلحاق الذرية ولا عمل لهم بآبائهم في الدرجة فربما توهم متوهم أن يُحط الآباء إلى درجة الذرية، فرفع هذا التوهم بقوله (وما ألتناهم من عملهم من شيء) أي مانقصنا من الآباء شيئا من أجور أعمالهم، بل رفعنا ذريتهم إلى درجتهم، ولم نَحُطَّهم إلى درجتهم بنقص أجورهم ــ إلى(4/116)
أن قال ــ وهذا كثير جداً في القرآن والسنة، وهو باب لطيف من أبواب فهم النصوص) (اعلام الموقعين) جـ 4 صـ 160 ــ 161.
المسألة الثانية عشرة: إذا كان الجواب على خلاف غرض المستفتي؟.
قال النووي رحمه الله (إذا ظهر للمفتي أن الجواب خلاف غرض المستفتي وأنه لايرضى بكتابته في ورقته فليقتصر على مشافهته بالجواب، وليحذر أن يميل في فتواه مع المستفتي أو خصمه ووجوه الميل كثيرة لاتخفى: ومنها أن يكتب في جوابه ماهو له ويترك ماعليه وليس له أن يبدأ في مسائل الدعوى والبينات بوجوه المخالص منها ــ إلى أن قال ــ قال الصيمري وينبغي للمفتي إذا رأى للسائل طريقا يرشده إليه أن ينبهه عليه يعني مالم يضر غيره ضرراً بغير حق، قال كمن حلف لاينفق على زوجته شهراً يقول يعطيها من صداقها أو قرضاً أو بيعاً ثم يبريها، وكما حكى أن رجلا قال لأبي حنيفة رحمه الله حلفت أني أطأ امرأتي في نهار رمضان ولا أكفِّر ولا أعصي، فقال: سافر بها) (المجموع) جـ 1 صـ 50.
وقال ابن القيم رحمه الله (قد تكرر لكثير من أهل الإفتاء الإمساك عما يفتون به مما يعلمون أنه الحق إذا خالف غَرَضَ السائل ولم يوافقه، وكثير منهم يسأله عن غرضه، فإن صادفه عنده كتب له، وإلا دَلَّهُ على مُفتٍ أو مذهب يكون غرضه عنده، وهذا غير جائز على الإطلاق، بل لا بد فيه من تفصيل:
فإن كان المسئول عنه من مسائل العلم والسنة أو من المسائل العِلْمِيَّات التي فيها نصٌُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يَسَع المفتي تركَه إلى غرض السائل، بل لايَسَعُه توقفه في الإفتاء به على غرض السائل، بل ذلك إثم عظيم، وكيف يسعه من الله أن يُقدَّم غرضَ السائل على الله ورسوله؟.(4/117)
وإن كانت المسألة من المسائل الاجتهادية التي يتجاذب أعنتها الأقوال والأقيسة، فإن لم يترجح له قول منها لم يسع له أن يترجح لغرض السائل، وإن ترجح له قول منها وظن أنه الحق فأولى بذلك، فإن السائل إنما يسأل عما يلزمه في الحكم ويَسَعُه عند الله، فإن عَرَفه المفتي أفتاه به سواء وافق غرضه أو خالفه، ولايسعه ذلك أيضا إذا علم أن السائل يدور على من يفتيه بغرضه في تلك المسألة فيجعل استفتاءه تنفيذاً لغرضه، لا تعبد الله بأداء حقه، ولايسعه أن يدله على غرضه أين كان، بل ولايجب عليه أن يفتي هذا الضرب من الناس، فإنهم لايستفتون ديانة، وإنما يستفتون توصلا إلى حصول أغراضهم بأي طريق اتفق) (اعلام الموقعين) جـ 4 صـ 258 ــ 259.
هذا وقد سبق في القسم الثالث من هذا الفصل (حكم الإفتاء) بيان أن هذا الصنف من المستفتين لايجب على المفتي أن يجيبهم وأنه مخيَّر في ذلك وذكرنا دليل ذلك هناك.
المسألة الثالثة عشرة: التغليظ في الفتوى.
وله صور:
منها ماذكره ابن الصلاح رحمه الله قال:(وقد يحتاج المفتي في بعض الوقائع إلى أن يشدد ويبالغ فيقول: هذا إجماع المسلمين. أو: لا أعلم في هذا خلافاً. أو: فمن خالف هذا فقد خالف الواجب وعدل عن الصواب. أو: فقد أثم وفسق. أو: على ولي الأمرِ أن يأخذ بهذا ولا يهمل الأمر. وماأشبه هذه الألفاظ على حسب ماتقضيه المصلحة وتوجبه الحال، والله أعلم.) (أدب المفتي) صـ 152.
المسألة الرابعة عشرة: الحَلِف على ثبوت الحكم عند المفتي.
هذه المسألة متعلقة بالسابقة وفرع منها، فإن حَلفِ المفتي على ثبوت الحكم عنده صورة من صور التشديد في الفتوى.(4/118)
قال ابن القيم رحمه الله (يجوز للمفتي والمناظر أن يحلف على ثبوت الحكم عنده، وإن لم يكن حلفه موجباً لثبوته عند السائل والمنازع، ليشعر السائل والمنازع له أنه على ثقة ويقين مما قال له، وأنه غير شاك فيه، فقد تناظر رجلان في مسألة، فحلف أحدهما على مايعتقده، فقال له منازعة: لايثبت الحكم بحلفك، فقال: إني لم أحلف ليثبت الحكم عندك، ولكن لأعلمك أني على يقين وبصيرة من قولي، وأن شبهتك لاتغير عندي في وجه يقيني بما أنا جازمٌُ به.
وقد أمرَ الله ُ نبيه صلى الله عليه وسلم أن يحلف على ثبوت الحق الذي جاء به في ثلاثة مواضع من كتابه، أحدها: قوله تعالى: (ويستنبئونك أحق هو؟ قل: أي وربِّي إنه لحق) والثاني: قوله تعالى (وقال الذين كفروا: لاتأتينا الساعة، قل: بلى وربي لتأتينكم عالم الغيب). والثالث: قوله تعالى (زعم الذين كفروا أن لَنْ يُبعثوا، قل بلى وربي لتُبْعثن).
وقد أقسم النبي صلى الله عليه وسلم على ماأخبر به من الحق في أكثر من ثمانين موضعا، وهى موجودة في الصحاح والمسانيد.
وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يحلفون على الفتاوى والرواية، فقال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه لابن عباس في مُتْعة النساء: إنك امرؤ تائه، فانظر ما تُفْتِى به في مُتْعَة النساء، فو الله وأشهد بالله لقد نهَى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم.) (اعلام الموقعين) جـ 4 صـ 165. ثم ذكر ابن القيم أمثلة لِحَلِف الأئمة في فتاويهم وأجوبتهم من باب التوكيد، فذكر أمثلة عن الشافعي وعن أحمد رحمهما الله.
وبهذه المسألة نختم الكلام في المسائل المتعلقة بصفة الجواب، وبالله التوفيق.
رابعا: كيفية كتابة الفتوى:(4/119)
وهذا إذا كان المفتي سيجيب كتابة ً، فقال ابن الصلاح رحمه الله (ينبغي أن يكتب الجواب بخط واضح وسط، ليس بالدقيق الخافي، ولا بالغليظ الجافي، وكذلك يتوسط في سطوره بين توسيعها وتضييقها وتكون عبارته واضحة صحيحة بحيث يفهمها العامة، ولا تزدريها الخاصة، واستحب بعضهم أن لا تتفاوت أقلامه، ولا يختلف خطه خوفاً من التزوير عليه، وكيلا يشتبه خطه.
قال الصيمري: وقل ماوجد التزوير على المفتي، وذلك أن الله تعالى حَرَس أمر الدين.
وإذا كتب الجواب أعاد نظره فيه خوفاً من أن يكون قد أخل بشيء منه، والله أعلم ــ إلى أن قال ــ
وفيما وجدناه عن أبي القاسم الصيمري: أن كثيراً من الفقهاء يبدأ في فتواه بأن يقول: الجواب وبالله التوفيق. وحذف ذلك آخرون. قال: ولو عمل فيما طال من المسائل وحذف فيما سوى ذلك لكان وجهاً، ولكن لايدع أن يختم جوابه بأن يقول: وبالله التوفيق، أو والله الموفق، أو والله أعلم.
قال: وكان بعض السلف إذا أفتى يقول: «إن كان هذا صوابا فمن الله، وإن كان خطأ فمِنِّي»، قال: وهذا معنى كُرِهَ في هذا الزمان لأن إضعاف نفس السائل، وإدخال قلبه الشك في الجواب.
قال: وليس يقبحُ منه أن يقول: الجواب عندنا، أو الذي عندنا، أو يقول: الذي نراه، كذا وكذا، لأنه من جملة أصحابه وأرباب مقالته. والله أعلم.) (أدب المفتي) صـ 138 ــ 140.
ونقل النووي معظم ماذكره ابن الصلاح، وزاد عليه بعض الفوائد، فقال:
(وإذا كان في الرقعة مسائل فالأحسن ترتيب الجواب على ترتيب السؤال ولو ترك الترتيب فلا بأس، ويشبه معنى قول الله تعالى (يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت). ــ إلى أن قال ــ(4/120)
قال الصيمري وعادة كثيرين أن يبدؤا فتاويهم: الجواب وبالله التوفيق، وحذف آخرون ذلك: قال ولو عمل ذلك فيما طال من المسائل واشتمل على فصول وحذف في غيره كان وجها (قلت) المختار قول ذلك مطلقا وأحسنه الابتداء بقول الحمد لله لحديث «كل أمرٍ ذي بال لا يبدأ بالحمد لله فهو أجذم» وينبغي أن يقوله بلسانه ويكتبه. ــ إلى أن قال ــ
قال وإذا اغفل السائل الدعاء للمفتي أو الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر الفتوى ألحق المفتي ذلك بخطه فإن العادة جارية به. ــ إلى أن قال ــ
وإذا ختم الجواب بقوله والله أعلم ونحوه مما سبق، فليكتب بعده كتبه فلان، أو فلان بن فلان الفلاني فينتسب إلى مايُعرف به من قبيلة أو بلده أو صفة. ــ إلى أن قال ــ
ينبغي إذا ضاق موضع الجواب أن لايكتبه في رقعة أخرى خوفا من الحيلة ولهذا قالوا يصل جوابه بآخر سطر ولايدع فرجة لئلا يزيد السائل شيئا يفسدها. وإذا كان موضع الجواب ورقة ملصقة كتب على الالصاق. ولو ضاق باطن الرقعة وكتب الجواب في ظهرها كتبه في أعلاها إلا أن يبتديء من أسفلها متصلا بالاستفتاء فيضيق الموضع فيتمه في أسفل ظهرها ليتصل جوابه، واختار بعضهم أن يكتب على ظهرها لا على حاشيتها والمختار عند الصيمري وغيره أن حاشيتها أولى من ظهرها، قال الصيمري وغيره والأمر في ذلك قريب) أهـ (المجموع) جـ 1 صـ 48 ــ 50. والحديث الذي ذكره ضعيف.
انتهى ما يتعلق بكيفية كتابة الفتوى.
خامسا: آداب الفتوى.
وفيها خمس مسائل وهى:
1 ــ الدعاء عند الإفتاء.… 2 ــ التأني عند الإفتاء.
3 ــ مشاورة الثقات. …4 ــ الصبر على المستفتي.
5 ــ الستر على المستفتي.
المسألة الأولى: الدعاء عند الإفتاء.
أي ما يدعو به المفتي عند الفتوى وهو غير ما يكتبه في ورقة الجواب من قوله (الجواب وبالله التوفيق) ونحو ذلك. أما مايدعو به سواء أفتى شفاهة أو كتابة فمنه:(4/121)
ماقال ابن الصلاح رحمه الله (روي عن مكحول، ومالك رضي الله عنهما: أنهما كانا لايُفتيان حتى يقولا: «لاحول ولا قوة إلا بالله».
ونحن نستحب للمفتي ذلك مع غيره. فليقل إذا أراد الإفتاء: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم) (ففهمناها سليمان، الآية). (رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري، واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي) لاحول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. سبحانك اللهم وحنانيك اللهم، اللهم لاتَنْسَنِي ولاتُنسنِي، الحمد الله أفضل الحمد، اللهم صَلِّ على محمد وعلى آله وسائر النبيين، والصالحين، وسلم، اللهم وفقني وأهدني وسددني، وأجمع لي بين الصواب والثواب، وأعذني من الخطأ والحرمان آمين.
فإن لم يأت بذلك عند كل فتوى، فليأت به عند أول فتيا يفتيها في يومه لما يُفتيه في سائر يومه مضيفاً إليه قراءة الفاتحة وآية الكرسي، وماتيسر، فإن من ثابر على ذلك كان حقيقاً بأن يكون موفقاً في فتاويه. والله أعلم.) (أدب المفتي) صـ 140 ــ 141.
وقال ابن القيم رحمه الله (حقيق بالمفتي أن يكثر الدعاء بالحديث الصحيح «اللهم ربَّ جبرائيل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم» وكان شيخنا كثير الدعاء بذلك، وكان إذا أشكلت عليه المسائل يقول «يا معلم إبراهيم علمني» ويكثر الاستعانة بذلك اقتداء بمعاذ بن جبل رضي الله عنه) أهـ. ثم ذكر ابن القيم بعض الأدعية التي ذكرها ابن الصلاح آنفا. (اعلام الموقعين) جـ 4 صـ 257 ــ 258.
المسألة الثانية: التأني عند الإفتاء.(4/122)
قال ابن الصلاح رحمه الله (ولما ذكرناهُ هاب الفُتيا من هابها من أكابر العلماء العاملين وأفاضل السَّالفين، والمخالفين، وكان أحدهم لاتمنعه شهرته بالأمانة، اضطلاعه بمعرفة المعضلات في اعتقاد من يسأله من العامة من أن يدافع بالجواب، أو يقول: لا أدري، أو يؤخر الجواب إلى حين يدري.
فروينا عن عبدالرحمن بن أبي ليلى أنه قال: «أدركت عشرين ومائة من الأنصار، من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يُسأل أحدهم عن المسألة، فيردها هذا إلى هذا، وهذا إلى هذا حتى ترجع إلى الأول». وفي رواية: «مامنهم من أحدٍ يحدث بحديث إلا ود أن أخاهُ كفاهُ إياه ولايستفتي عن شيء إلا ود أن أخاهُ كفاه الفُتيا».
وروينا عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: «من أفتى الناس في كل ما يستفتونه فهو مجنون». وعن ابن عباس رضي الله عنهما نحوه.
وروينا عن أبي حصين الأسدي أنه قال «إن أحدكم ليفتي في المسألة، ولو وردت على عمر بن الخطاب رضي الله عنه لجمع لها أهل بدر». وروي عن الحسن والشعبي مثله ــ إلى قوله ــ
وقال القاضي أبو القاسم الصيمري أحد الأئمة الشافعيين، ثم أبو بكر الخطيب الحافظ الفقيه الشافعي الإمام في علم الحديث: «قل من حرص على الفتوى، وسابق إليها، وثابر عليها إلا قل توفيقه، واضطرب في أمره، وإذا كان كارها لذلك غير مختار له، وماوجد مندوحة عنه، وقدر أن يحيد بالأمر فيه على غيره، كانت المعونة له من الله أكثر والصلاح في جوابه وفتاويه أغلب».
قال ذلك الصيمري أولا، ثم تلقاه عنه الخطيب فقاله في بعض تصانيفه.) أهـ. (أدب المفتي) صـ 74 ــ 84.
ويتعلق بالتأني عند الإفتاء المسألة التالية:(4/123)
(إذا أفتى في حادثة ثم استفتي في مثلها، فهل يفتي في الثانية بجواب الأولى أم يجب عليه تجديد النظر؟). قال النووي رحمه الله (إذا أفتى في حادثة ٍ ثم حدثت مثلها فإن ذكر الفتوى الأولى ودليلها بالنسبة إلى أصل الشرع إن كان مستقلا أو إلى مذهبه إن كان منتسباً أفتى بذلك بلا نظر. وإن ذكرها ولم يذكر دليلها ولا طرأ ما يوجب رجوعه، فقيل: له أن يفتي بذلك والأصح وجوب تجديد النظر، ومثله القاضي إذا حكم بالاجتهاد ثم وقعت المسألة) (المجموع) جـ 1 صـ 47. والمقصود بإيراد هذه المسألة التنبيه على أهمية التأني للمفتي فقد يتجدد له مزيد علم، أو يختلف العرف عند أصحاب الحادثتين المتشابهتين، أو يكون بين الحادثتين اختلاف ٌُ دقيقٌُ لايتفطن له إلا بالتأني. وغير ذلك من الأمور التي يدركها المتأني ويذهل عنها المتعجل.
المسألة الثالثة: مشاورة الثقات عند الإفتاء.
وأخبار عمر رضي الله عنه في هذا كثيرة مشهورة منها ماذكره ابن الصلاح آنفا «إن أحدكم ليفتي في المسألة، ولو وردت على عمر بن الخطاب رضي الله عنه لجمعَ لها أهل بدر».
وقال ابن الصلاح أيضا (يُستحب له أن يقرأ مافي الرقعة على من بحضرته ممن هو أهل لذلك، ويُشاورهم في الجواب ويُباحثهم فيه وإن كانوا دونه وتلامذته، لما في ذلك من البركة والاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم وبالسلف الصالح رضي الله عنهم.
اللهم إلا أن يكون في الرقعة مالا يحسن إبداؤه، أو ما لعل السائل يؤثر ستره، أو في إشاعته مفسدة لبعض الناس، فينفرد هو بقراءتها وجوابها. والله أعلم.) (أدب المفتي) صـ 138.
المسألة الرابعة: الصبر على المستفتي.(4/124)
قال ابن الصلاح رحمه الله (إذا كان المستفتي بعيد الفهم، فينبغي للمفتي أن يكون رفيقاً به صبوراً عليه، وحَسَن التأني في التَّفهم منه والتَّفهيم له، حَسَن الإقبال عليه، لاسيما إذا كان ضعيف الحال، محتسباً أجر ذلك، فإنه جزيل) (أدب المفتي) صـ 135. ويمكن أن يستدل لما ذكره ابن الصلاح بقوله تعالى (واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشيّ يريدون وجهه) الكهف 28، وقوله تعالى (عبس وتولى أن جاءه الأعمى ومايدريك لعله يزكى أو يذكر فتنفعه الذكرى، أما من استغنى فأنت له تصدى وماعليك ألا يزكى، وأما من جاءك يسعى وهو يخشى فأنت عنه تلهّى، كلاّ إنها تذكرة) عبس 1 ــ 11.
واستدل الخطيب البغدادي رحمه الله لذلك بدليل آخر وذلك فيما رواه بإسناده عن يحيي بن آدم قال سمعت تفسير هذه الآية (وأما السائل فلا تنهر)، قال (هو الرجل يسألك عن شيء من أمر دينه، فلا تَنْهره وأَجِبْه) أهـ (الفقيه والمتفقه) جـ 2 صـ 182.
المسألة الخامسة: الستر على المستفتي.
قد يكون في سؤال المستفتي ماينبغي ستره، كسِرّ ٍ من أسراره أو معصية اقترفها، فالواجب الستر عليه مالم يكن في ذلك إعانة على منكر.
ودليل ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم (من ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة) الحديث متفق عليه، واللفظ لمسلم.
وذكر ذلك ابن القيم في استحباب مشاورة المفتي للثقات، وفيه قال (هذا مالم يعارض ذلك مفسدة من إفشاء سر السائل أو تعريضه للأذى، أو مفسدة لبعض الحاضرين، فلا ينبغي له أن يرتكب ذلك، وكذلك الحكم في عابِرِ الرؤيا، فالمفتي والمعبر والطبيب يطلعون من أسرار الناس وعَوْرَاتهم على مالا يطلع عليه غيرهم، فعليهم استعمال الستر فيما لايحسن إظهاره.) (اعلام الموقعين) جـ 4 صـ 257.
وبهذا نختم الكلام في المسائل المتعلقة بآداب الفتوى، هذا وبالله تعالى التوفيق.
سادسا: حكم سؤال المفتي عما لا يعلمه.(4/125)
إذا سُئل المفتي عما لايعلمه، فله حالان: إما أن لايكون مطالباً بالجواب في الحال، أو يكون مُطالباً بالجواب في الحال.
الحال الأولى: إذا لم يكن مُطالباً بالجواب في الحال.
فله أن يؤخر الإجابة إلى حين النظر في المسألة إذا كان يرجو أن يدرك جوابها.
ودليله سكوت النبي صلى الله عليه وسلم عن الإجابة في مسائل حتى يُوحَى إليه فيها، وقد بوَّب البخاري رحمه الله لهذه المسألة في كتاب الاعتصام من صحيحه، في باب (ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يُسأل مما لم ينزل عليه الوحي فيقول لا أدري أو لم يُجب حتى ينزل عليه الوحي، ولم يقل برأي ولا قياس، لقوله تعالى «بما أراك الله») وفيه روى البخاري بسنده عن جابر قال (مَرِضتُ فجاءني رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني وأبو بكر وهما ماشيان وقد أَغميَ عَلَيَّ، فتوضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم صبَّ وَضوءَه عَلَيّ فأفقْت، فقلت: يارسول الله كيف أقضي في مالي، كيف أصنع في مالي؟. قال: فما أجابني بشيء حتى نزلت آيةُ الميراث) (حديث 7309). وروي البخاري عن ابن مسعود أن اليهود سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن الروح، قال ابن مسعود رضي الله عنه (فأمْسَكَ النبي صلى الله عليه وسلم فلم يَرُدَّ عليهم شيئا، فعلمتُ أنه يوحى إليه، فقمتُ مقامي، فلما نزل الوحيُ قال «ويسألونك عن الروح، قل الروح من أمر ربي، وما أوتيتم من العلم إلا قليلا». الحديث (4721). وموضع الدلالة في الحديث الأول قول جابر رضي الله عنه (فما أجابني بشيء)، وفي الحديث الثاني قول ابن مسعود رضي الله عنه (فأمْسَك النبي صلى الله عليه وسلم فلم يَرُد عليهم شيئا).
وهكذا المفتي إذا كان يرجو أن يصل إلى الجواب يؤخر رقعة السائل إلى حين يفتح الله عليه. قال ابن الصلاح رحمه الله. (وعن سَحْنون: أن رجلاً أتاه فسأله عن مسألة، فأقام يتردد إليه ثلاثة أيام، فقال له: مسألتي أصلحك الله، لي اليوم ثلاثة أيام؟.(4/126)
فقال له: وماأصنع لك ياخليلي؟ مسألتُك مُعضلة وفيها أقاويل، وأنا مُتحيِّر في ذلك.
فقال له: وأنت أصلحك الله لكل مُعضلة.
فقال له سنحون: هيهات يا ابن أخي ليس بقولك هذا أبُذلُ لك لحمي ودمي إلى النار، ما أكثر مالا أعرف، إن صبرتَ رجوتُ أن تنقلب بمسألتك، وإن أردت أن تمضي إلى غيري فامض تُجاب مسألتك في ساعة ٍ؟.
فقال له: إنما جئتُ إليك ولا أستفتي غيرك.
فقال له: فاصبر عافاك الله. ثم أجابهُ بعد ذلك) (أدب المفتي) صـ 81 ــ 82.
الحال الثانية: إذا كان مطالباً بالجواب في الحال.
وهو لايعلمه، فإما أن يقول الله أعلم، أو يقول لا أعلم، أو يقول لا أدري، ولكل قول ٍ دليله.
1 ــ أما قول (الله أعلم) فدليله:
قول ابن مسعود رضي الله عنه (ياأيها الناس، من عَلِمَ شيئا فليقل به، ومن لم يعلم فليقل: الله أعلم، فإن من العلم أن تقول لما لا تعلَم: الله أعلم، قال الله تعالى لنبيه «قل ماأسألكم عليه من أجرٍ، وما أنا من المتكلفين» الحديث متفق عليه.
وروي البخاري عن أبي بن كعب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم (قام مُوسى النبي خطيباً في بني إسرائيل، فسُئِل: أي الناس أعلم؟، فقال: أنا أعلم، فعَتب اللهُ عليه إذ لم يَرُدّ العلمَ إليه، فأوحى الله إليه أن عبداً من عبادي بمجمع البحرين هو أعلم منك) الحديث (رقم 122). قال ابن حجر في شرحه (قال ابن المنير: ظنَّ ابن بطال أن ترك موسى الجواب عن هذه المسألة كان أولى قال: وعندي أنه ليس كذلك، بل رد العلم إلى الله تعالى متعيّن أجاب أو لم يجب، فلو قال موسى عليه السلام «أنا، والله أعلم» لم تحصل المعاتبة، وإنما عوتب على اقتصاره على ذلك) (فتح الباري) جـ 1 صـ 219.
2 ــ وأما قول (لا أعلم) فدليله:(4/127)
من كتاب الله تعالى: جواب الملائكة الوارد في قوله تعالى (قالوا سبحانك لاعلم لنا إلا ماعلمتنا إنك أنت العليم الحكيم) البقرة 32، وجواب الأنبياء عليهم السلام الوارد في قوله تعالى (قالوا لا علم لنا إنك أنت علاّم الغيوب) المائدة 109.
وهو اختيار عمر بن الخطاب رضي الله عنه كما يدل عليه الحديث الذي رواه البخاري رحمه الله عن عُبيد بن عُمير رضي الله عنه قال: قال عمر رضي الله عنه يوماً لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: فيِمَ ترون هذه الآية نزلت «أَيَوَدُّ أحدكم أن تكون له جنة»؟ قالوا: الله أعلم. فغضب عمر فقال: قولوا نعلم أو لا نعلم) الحديث (رقم 4538).
3 ــ وأما قول (لا أدري) فدليله:
من كتاب الله تعالى: قوله تعالى (وإن أدري أقريب أم بعيد ماتوعدون) الأنبياء 109، وقوله تعالى (قل ماكنت بدعا من الرسل، وماأدري مايُفعل بي ولابكم) الأحقاف 9، وقوله تعالى (وإنا لاندري أشرٌُ أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشداً) الجن 10.
ومن السنة: قول رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا أدري الحدود كفارة لأهلها أم لا) قال ابن حجر: أخرجه الحاكم في المستدرك، والبزار من رواية مَعْمر عن ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبي هريرة، وهو صحيح على شرط الشيخين.(فتح الباري) جـ 2 صـ 66. وهذا الحديث منسوخ بحديث عبادة بن الصامت. راجع المصدر السابق.
ومنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سُئل عن خير البقاع في الأرض وشرها، قال (لا أدري)، حتى نزل جبريل عليه السلام فسأله فقال (لا أدري) إلى أن أعلمه الله عزوجل (أن خير البقاع المساجد وشرها الأسواق). قال الحافظ العراقي في تخريج أحاديث الإحياء: أخرجه أحمد وأبو يعلي والبزار والحاكم وصححه (الإحياء) جـ 1 صـ 85. وانظر أيضا (اعلام الموقعين) جـ 4 صـ 218، و (فتح الباري) جـ 13صـ 290.
فهذا مجمل مايجب على المفتي إذا سُئل عمالا يعلمه.
سابعا: حكم إفتاء المفتي مع غيره.(4/128)
للمفتي في إفتائه مع غيره حالان: أن يبدأ غيره بالفتوى ويُطلب منه الفتوى معه، أو أن يبدأ هو بالفتوى ويُطلب منه أن يدل على غيره ليفتي معه. وإليك بيان مايفعله في الحالين.
الحال الأولى: أن يبدأ غيره بالفتوى ثم يُطالب بالإفتاء معه.
وفي هذه الحال لايخلو مَنْ أفتى قبله من حال من ثلاث: إما أن يكون أهلاً للفتوى، وإما أن لايكون أهلا لها، وإما أن يكون مجهول الحال لايعرفه هذا المفتي.
1 ــ فإذا كان من أفتى قبله أهلا للفتوى.
فلا يخلو جوابه من حال من أربعة:
أ ــ أن يكون صوابا موفقا لما عند المفتي المسئول: فهنا إما أن يكتب المفتي المسئول بموافقته وإقراره لهذا الجواب وهو مايسمى بكَذْلَكَة المفتي (ومعناها: كذلك أُفتي)، وإما أن يكتب جوابا مستقلا. والذي ذهب إليه معظم من تكلموا في هذه المسألة أن الأَوْلى له الكذلكة بأن يكتب تحت فتوى الأول: هذا جواب صحيح وبه أقول أو يكتب جوابي مثل هذا. وإنما رجح العلماء الكذلكة على الجواب المستقل لأن فيها إعانة على البر والتقوى وشهادة للمفتي الأول بالصواب وبراءة من الحميّة والكبر.
واستثنى ابن القيم من الكذلكة ما إذا كانت المسألة خفيّة بحيث يُظن بالمكذلك أنه وافق من قبله تقليداً محضاً، فإن أمكنه إيضاح ماأشكله الأول وزيادة بيان أو ذكر قيد أو تنبيه على أمر ٍ أغفله فالجواب المستقل أولى، وإن لم يمكنه ذلك فإن شاء كَذْلَكَ وإن شاء أجاب استقلالا.
ب ــ أن يكون جواب من قبله خطأ قطعا: فينبغي أن ينبه على هذا الخطأ ثم يكتب الجواب الصواب، ويحسن أن تعاد الرقعة إلى المفتي الأول ليتنبه للخطأ.
جأن يكون جواب من قبله على خلاف مايراه غير أنه لايقطع بخطئه: فليقتصر على كتب جواب نفسه ولايتعرض لفتيا غيره بتخطئه ولا اعتراض.(4/129)
د ــ أن لايعلم المفتي أصواب جواب من قبله أم خطأ لعدم علمه بحكم المسألة؟. فلا يجوز له أن يُكذلك تقليداً له إذ لعله أن يكون قد غلط، ولو نُبِّه لرجع وهو معذور وليس المكذلك معذوراً بل مُفْت ٍ بغير علم، وقد أجمع العلماء على تحريم الإفتاء بغير علم. فالواجب على المفتي الثاني أن يمتنع عن الجواب أو يقول لا أدري أو لا أعلم كما ذكرناه في المسألة السابقة، أو يؤخر الجواب إن كان يرجو إدراك علم المسألة بالنظر في كتبه.
فهذا مايتعلق بما يصنعه المفتي الثاني في الأحوال المختلفة لجواب المفتي الأول إن كان الأول أهلاً للفتوى.
2 ــ فإذا كان من أفتى قبله ليس أهلا للفتوى.
فلا يجوز أن يكذلك الثاني، لأن في كذلكته تقريراً له على الإفتاء وهو كالشهادة له بالأهلية، وهو ليس بأهل وقد أتى منكراً بفتواه بغير علم فلا يجوز إقرار المنكر ولاتجوز معاونته على الإثم والعدوان.
وزاد بعض العلماء أن على المفتي الثاني أن يضرب على فتوى الأول غير الأهل، وأن ينتهر المستفتي ويزجره على عدم تحريه عمن هو أهل للفتوى وعلى استفتائه غير الأهل.
كما ذهب بعض العلماء كابن الصلاح والنووي تبعا للصيمري أن على الثاني أن يمتنع عن الجواب في الرقعة التي بها فتوى غير الأهل، مالم يخش فتنة فيكتب جوابه مستقلا. وذهب ابن القيم إلى وجوب الجواب مطلقا، قال (ولايأنف من الإخبار بدين الله الذي يجب عليه الإخبار به لكتابة مَنْ ليس بأهل، فإن هذا ليس عذراً عند الله ورسوله وأهل العلم في كتمان الحق، بل هذا نوع رياسة وكبر، والحق لله عزوجل) أهـ.
3 ــ وإن كان المفتي الأول غير معروف للثاني.
فقال النووي (وإن رأى فيها ــ أي في رقعة المستفتي ــ اسم من لايعرفه سأل عنه، فإن لم يعرفه فواسع أن يمتنع من الفتوى معه خوفا مما قلناه. قال: وكان بعضهم في مثل هذا يكتب على ظهرها، قال: والأولى في هذا الموضع أن يُشار على صاحبها بإبدالها فإن أبى ذلك أجابه شفاها.)أهـ(4/130)
وما ذكرناه في هذه الحال الأولى نقلناه عن (أدب المفتي) لابن الصلاح صـ 145 ــ 148، و (المجموع) للنووي جـ 1 صـ 51 ــ 52، و (اعلام الموقعين) لابن القيم جـ 4 صـ 208 ــ 210.
الحال الثانية: أن يبدأ هو بالفتوى ثم يُطالب بالدلالة على غيره.
وقد لايُستفتى ومع ذلك يُسئل عن غيره، وفي هذا قال ابن القيم: (في دلالة العالم المستفتي على غيره، وهو موضع خطر جداً، فلينظر الرجل مايحدث من ذلك فإنه متسبب بدلالته إما إلى الكذب على الله ورسوله في أحكامه أو القول عليه بلا علم، فهو معين على الإثم والعدوان وإما معين على البر والتقوى، فلينظر الإنسان إلى مَنْ يدل عليه وليتق الله ربه فكان شيخنا قدس الله روحه شديد التجنب لذلك، ودللت مرة بحضرته على مُفت ٍ أو مذهب، فانتهرني وقال: مالَكَ وله؟ دعه، ففهمت من كلامه إنك لتبُوء بما عساه يحصل له من الإثم ولمن أفتاه، ثم رأيت هذه المسألة بعينها منصوصة عن الإمام أحمد. قال أبو داود في مسائله: قلت لأحمد: الرجل يَسأل عن المسألة فأدله على إنسان يسأله؟ فقال: إذا كان ــ يعني الذي أرشدته إليه ــ متبعا ويفتي بالسنة، فقيل لأحمد: إنه يريد الاتباع وليس كل قوله يصيب، فقال أحمد: ومَنْ يصيب في كل شيء؟ قلت له: فرأى مالك، فقال: لاتتقلد في مثل هذا بشيء. قلت: وأحمد كان يدل على أهل المدينة ويدل على الشافعي ويدل على إسحاق ولاخلاف عنه في استفتاء هؤلاء، ولاخلاف عنه في أنه لايستفتي أهل الرأي المخالفون لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبالله التوفيق.) (اعلام الموقعين) جـ 4 صـ 207.
وملخص هذه الحال هو أنه إما أن يدل المستفتي على مفت ٍ متمكن أو يسكت، ودليله قوله تعالى (وتعاونوا على البر والتقوى ولاتعاونوا على الإثم والعدوان) المائدة 2، ودليله أيضا حديث (من دعا إلى هدى... ومن دعا إلى ضلالة)، الحديث.
ثامنا: حكم رجوع المفتي عن فتواه، وحكم خطئه فيها.
وهنا مسألتان:(4/131)
المسألة الأولى: حكم رجوع المفتي عن فتواه.
وهى ذات شقين: مايجب على المستفتي، ومايجب على المفتي بالرجوع.
1 ــ مايجب على المستفتي إذا رجع المفتي عن فتواه.
وهذا يعتمد على علم المستفتي بالرجوع، فإذا لم يعلم استمر في عمله على القول الأول قبل الرجوع، أما إذا علم المستفتي بالرجوع، فلا يخلو حاله من حال من ثلاث:
أ ــ إما أنه لم يعمل بعد بالقول الأول قبل الرجوع، فقال النووي (لم يجز له العمل به)
ب ــ وإما أنه قد عمل بالقول الأول ومازال مستمراً في العمل به، فقال النووي (وكذا إن نكح بفتواه واستمر على نكاح بفتواه ثم رجع، لزمه مفارقتها كما لو تغير اجتهاد من قلده في القِبْلة في أثناء صلاته)، زاد ابن حمدان (فإنه يتحول على الأصح).
جـ ــ وإما أنه قد عمل بالقول الأول وفرغ من العمل، فقال النووي (وإن كان عمل قبل رجوعه فإن خالف دليلاً قاطعاً لزم المستفتي نقض عمله ذلك، وإن كان في محل اجتهاد لم يلزمه نقضه لأن الاجتهاد لاينقض بالاجتهاد) أهـ.
ذكر النووي هذا ثم قال (وهذا التفصيل ذكره الصيمري والخطيب وأبو عمرو واتفقوا عليه ولا أعلم خلافه، وماذكره الغزَّالي والرازي ليس فيه تصريح بخلافه.) أهـ.
وقال أبو عمرو ابن الصلاح (وإذا كان المفتي إنما يُفتى على مذهب إمام معين، فإذا رجع لكونه بان له قطعاً أنه خالف في فتواه نص مذهب إمامه، فإنه يجب نقضه، وإن كان ذلك في محل الاجتهاد، لأن نص مذهب إمامه في حقه كنص الشارع في حق المفتي المجتهد المستقل) أهـ، وقد تابع ابن الصلاح على هذا كل من النووي وابن حمدان.(4/132)
وقد ذكر ابن القيم كل ماسبق ذكره في هذه المسألة وانتقده نقداً شديداً، خاصة الكلام الأخير لابن الصلاح، وملخص ماقاله ابن القيم أن المستفتي لايجب عليه ترك العمل بالقول الأول للمفتي ــ سواء كان قد عمل به أو لم يعمل به بعد ــ إلا إذا كان المفتي قد رجع عن هذا القول لمخالفته لنص كتاب أو سنة أو إجماع الأمة لا لمجرد مخالفته لقول إمام ٍ من الفقهاء، فقال ابن القيم مانصّه (ولم يوجب أحد من الأئمة نقض حكم الحاكم ولا إبطال فتوى المفتي بكونه خلاف قول زيد أو عمرو، ولايعلم أحد سوغ النقض بذلك من الأئمة والمتقدمين من أتباعهم، وإنما قالوا: ينقض من حكم الحاكم ماخالف نص كتاب أو سنة أو إجماع الأمة، ولم يقل أحد: ينقض من حكمه ما خالف قول فلان أو فلان، ويُنقض من فتوى المفتي مايُنقض من حكم الحاكم، فكيف يسوغ نقض أحكام الحكام وفتاوي أهل العلم بكونها خالفت قول واحد من الأئمة؟ ولاسيما إذا وافقت نصاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو فتاوي الصحابة) أهـ.وما ذكره ابن القيم هو الصواب ودليله قول النبي صلى الله عليه وسلم (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رَدّ) الحديث رواه مسلم. وقد ذكرنا مافيه من دلالة من قبل.(4/133)
ثم تكلم ابن القيم في طريق المستفتي إلى معرفة سبب رجوع المفتي عن قوله الأول، وهل هو لمخالفته لنص كتاب أو سنة أو إجماع أو لمخالفته لقول إمامه؟ فقال رحمه الله (وعندي في المسألة تفصيل، وأنه لايحرم عليه الأول بمجرد رجوع المفتي، بل يتوقف حتى يسأل غيره، فإن أفتاه بموافقة الأول استمر على العمل به، وإن أفتاه بموافقة الثاني، ولم يُفته أحد بخلافه، حرم عليه العمل بالأول، وإن لم يكن في البلد إلا مُفت ٍ واحد سأله عن رجوعه عما أفتاه به، فإن رجع إلى اختيار خلافه مع تسويغه لم يحرم عليه، وإن رجع لخطأ بَانَ له وأن ماأفتاه به لم يكن صوابا حرم عليه العمل بالأول، هذا إذا كان رجوعه لمخالفة دليل شرعي، فإن كان رجوعه لمجرد ما بان له أن ما أفتى به خلاف مذهبه لم يحرم على المستفتي ماأفتاه به أولا إلا أن تكون المسألة إجماعية) أهـ.
فهذا مايجب على المستفتي إذا رجع المفتي عن فتواه، وما ذكرناه منقول عن (أدب المفتي) لابن الصلاح صـ 109 ــ 110، و (المجموع) للنووي جـ 1 صـ 51 ــ 52، و(صفة الفتوى) لابن حمدانصـ 30 ــ 31، و (اعلام الموقعين) لابن القيم جـ 4 صـ 222 ــ 224.
2 ــ ما يجب على المفتي إذا رجع عن فتواه.
وهل يلزمه إعلام المستفتي بذلك؟. قال ابن الصلاح (ويلزم المفتي إعلامه برجوعه قبل العمل وكذا بعد العمل حيث يجب النقض) (أدب المفتي) صـ 110. وقوله (حيث يجب النقض) يدخل فيه ــ على قول ابن الصلاح ــ رجوع المفتي لتبيّنه مخالفة مذهب إمامه، أما ابن القيم فقد قصر وجوب النقض على مخالفة الكتاب أو السنة أو الإجماع. وإليك كلامه في هذا، قال رحمه الله (فإن قيل: فما تقولون لو تغيّر اجتهاد المفتي، فهل يلزمه إعلام المستفتي؟(4/134)
قيل: اختلف في ذلك، فقيل: لايلزمه إعلامه، فإنه عمل أولاً بما يسوغ له، فإذا لم يعلم بطلانه لم يكن آثماً فهو في سعة من استمراره، وقيل: بل يلزمه إعلامه، لأن مارجع عنه قد اعتقد بطلانه، وبان له أن ماأفتاه به ليس من الدين، فيجب عليه إعلامه، كما جرى لعبدالله بن مسعود حين أفتى رجلا بحل أم امرأته التي فارقها قبل الدخول، ثم سافر إلى المدينة وتبين له خلاف هذا القول، فرجع إلى الكوفة، وطَلب هذا الرجل، وفرق بينه وبين أهله، وكما جرى للحسن بن زياداللؤلؤي لما استفتى في مسألة فأخطأ فيها، ولم يعرف الذي أفتاه به، فاستأجر منادياً ينادي أن الحسن بن زياد استفتى في يوم كذا وكذا في مسألة فأخطأ فمن كان أفتاه الحسنُ بن زياد بشيء فليرجع إليه، ثم لبث أياماً لا يفتي حتى جاء صاحب الفتوى فأعلمه أنه قد أخطأ، وأن الصواب خلاف ماأفتاه به.
قال القاضي أبو يعلى في كفايته: من أفتى بالاجتهاد ثم تغير اجتهاده لم يلزمه إعلام المستفتي بذلك إن كان قد عمل به، وإلا أعلمه. والصواب التفصيل، فإن كان المفتي ظهر له الخطأ قطعاً لكونه خالف نصَّ الكتاب أو السنة التي لامعارض لها أو خالف إجماع الأمة فعليه إعلام المستفتي، وإن كان إنما ظهر له أنه خالف مجرد مذهبه أو نص إمامه لم يجب عليه إعلام المستفتي. وعلى هذا تخرج قصة ابن مسعود رضي الله عنه فإنه لما ناظر الصحابة في تلك المسألة، بينوا له أن صريح الكتاب يحرمها لكون الله تعالى أبهمها فقال تعالى (وأمهات نسائكم) وظن عبدالله أن قوله (اللاتي دخلتم بهن) راجع إلى الأول والثاني، فبينوا له أنه إنما يرجع إلى أمهات الربائب خاصة، فعرف أنه الحق، وأن القول بحلها خلافُ كتاب الله تعالى، ففرق بين الزوجين، ولم يفرق بينهما بكونه تبين له أن ذلك خلاف قول زيد أو عمرو، والله أعلم.) (اعلام الموقعين) جـ 4 صـ 224 ــ 225.
هذا ما يتعلق بحكم رجوع المفتي عن فتواه ومايجب عليه وعلى المستفتي في هذا.(4/135)
المسألة الثانية: حكم خطأ المفتي في فتواه.
قد يخطئ المفتي في فتواه وقد يتبين له الصواب فيرجع عن فتواه، وقد لايتبين له الصواب فلا يرجع عن فتواه. وسواء رجع أو لم يرجع، فإذا كان المستفتي قد عمل بفتواه في إتلاف نفس ٍ أو مال ٍ، ثم علم المستفتي أن هذه الفتوى خطأ، سواء أعلمه بذلك من أفتاه أو غيره، فهل يضمن المفتي ما أتلفه المستفتي عملاً بفتواه؟.
فقال الاستاذ أبو إسحاق الإسفرائني من الشافعية: يضمن المفتي إن كان أهلاً للفتوى وخالف القاطع. وإن لم يكن أهلاً فلا ضمان عليه لأن المستفتي قَصَّر في استفتائه وتقليده.
نقل هذا القول أبو عمرو ابن الصلاح وسكت عليه.
كما نقله النووي واستشكل ضمان المفتي المؤهل وذهب إلى أنه لايضمن إذ ليس في الفتوى إلزام ولا إلجاء.
كما نقل نفس القول ابن حمدان وحكى قولاً في تضمين المفتي غير المؤهل لأنه تصدى لما ليس هو له بأهل وغرَّ مَنْ استفتاه بتصدِّيه لذلك.(4/136)
وقد ذكر ابن القيم هذا كله ثم ذهب إلى عكس ماقاله أبو إسحاق الإسفرائني، فقال ابن القيم بتضمين المفتي غير المؤهل وعدم تضمين المؤهل. وحجته في هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم (مَنْ تَطَبَّبَ ولم يُعرف منه طب فهو ضامن) والحديث رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما، ورواه الحاكم وقال: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي. فقاس ابن القيم المفتي على الطبيب وقال بتضمين غير المؤهل كما ورد في الحديث وبعدم تضمين المؤهل عملا بمفهوم الحديث. قال ابن القيم رحمه الله (وإن عمل المستفتي بفتواه من غير حكم حاكم ولا إمام فأتلف نفساً أو مالاً: فإن كان المفتي أهلا فلا ضمان عليه، والضمان على المستفتي، وإن لم يكن أهلا فعليه الضمان، لقول النبي صلى الله عليه وسلم «مَنْ تَطَبَّبَ ولم يُعرف منه طب فهو ضامن» وهذا يدل على أنه إذا عرف منه طب وأخطأ لم يضمن، والمفتي أولى بعدم الضمان من الحاكم والإمام، لأن المستفتي مخير بين قبول فتواه وردها، فإن قوله لايلزم، بخلاف حكم الحاكم والإمام) (اعلام الموقعين) جـ 4 صـ 226.
قلت: وكل موضع لايضمن فيه المفتي فالضمان فيه على المستفتي فيدفع دية النفس أو بدل المال حسب الحال، لأن قول المفتي غير مُلزم له حُكما، ولأن المفتي غير منصوب من جهة إمام المسلمين حتى يقع ضمان خطئه على بيت المال، بل المستفتي مخير في استفتاء من يشاء من أهل العلم.
وما ذكرناه في هذه المسألة منقول عن (أدب المفتي) لابن الصلاح صـ 110 ــ 111، و(المجموع) للنووي جـ 1 صـ 45 ــ 46، و (صفة الفتوى) لابن حمدان صـ 31، و (اعلام الموقعين) لابن القيمجـ 4 صـ 225 ــ 226.(4/137)
وهنا أمر آخر لم يذكره السادة العلماء الذين نقلنا عنهم في مسألة ضمان خطأ المفتي، ألا وهو أن المستفتي لا يجوز له أن يعمل بفتوى المفتي في كل مايعرض له وينزل به، بل إن كانت النازلة في خاصة نفسه كمسألة في الطهارة أو الصلاة أو الزكاة أو الحج ونحو ذلك عمل بالفتوى، أما إذا كانت النازلة ليست خاصة بل في مسألة محل نزاع وخصومات مع آخرين أو يترتب عليها اتلاف نفس أو عضو ٍ أو أخذ مال الغير أو اتلافه فإنه يجب رفع هذه الخصومات إلى الحاكم (القاضي) لأن حكمه هو الذي يرفع النزاع فيها كما أن لديه صلاحية الإلزام بما حَكَم به وتنفيذه، وإذا أخطأ القاضي في الحكم بسبب من جهته ــ لامن جهة الشهود أو المُزَكِّين ــ فضمان خطأ القاضي: إما على بيت مال المسلمين وإما عليه، على قولين، انظر (المغني مع الشرح الكبير) 12 / 149 ــ 152.
(فائدة) بدعة نصب مفتي الديار.
قال العلامة عبدالقادر بن بدران الدمشقي الحنبلي 1346هـ (ومما ابتُدع في زماننا أنهم يجمعون أهل العمائم، فينتخبون مفتياً ويسمونه رئيس العلماء، ثم تقرره الحكومة مفتياً ويحصرون الفتوى فيه ــ إلى قوله ــ على أن اختصاص واحد بمنصب الإفتاء ــ لايقبل الحاكم الفتوى إلا منه ــ لم يكن معروفاً في القرون الأولى، وإنما كان الإفتاء موكولاً إلى العلماء الأعلام، واستمر ذلك إلى أن دخل السلطان سليم العثماني دمشق سنة اثنتين وعشرين وتسع مئة من الهجرة ــ 922هـ ــ وامتلكها، فرأى كثرة المشاغبات بين المدّعين للعلم، خصَّص إفتاء كل مذهب برجل ٍ من علمائه الأفاضل قطعا للمشاغبات، ثم طال الزمن فتولى هذا المنصب الجليل كثير ممن لايدري ماهى الأصول وماهى الفروع فوسِّد الأمر إلى غير أهله وأُعطِيَ القوس غير باريها) (المدخل إلى مذهب الإمام أحمد) لابن بدران، ط مؤسسة الرسالة 1401هـ، صـ 391.(4/138)
وبما ذكرناه في هذه المسألة نختم الكلام في (أحكام الفتوى وآدابها) وهو القسم السادس من الفصل الأول المعقود لبيان (أحكام المفتي وآدابه). وبه نختم الكلام في هذا الفصل. ثم نعرج على الكلام في (أحكام المستفتي وآدابه) وهو الفصل الثاني من الباب الخامس من هذا الكتاب. وبالله تعالى التوفيق.
الفصل الثاني
أحكام المستفتي وآدابه
ذكرنا في الباب الثاني من هذا الكتاب (حكم طلب العلم) أن العلم منه ماهو فرض عين ومنه ماهو فرض كفاية. وذكرنا أن فرض العين من العلم قسمان:
1 ــ ما يجب تعلمه ابتداء، وهذا نوعان:
أ ــ العلم الواجب العيني العام: الذي يجب على كل مسلم مكلف في كل زمان وكل مكان أن يتعلمه، وقد سبق في الباب الثاني بيان أهم مسائل هذا العلم، والتي على رأسها تعلم أركان الإيمان الستة وأركان الإسلام الخمسة.
ب ــ العلم الواجب العيني الخاص: وهذا يجب على شخص دون شخص بحسب مايمارسه من معاملات ومايمتهنه من مهنة. وضابطه: وجوب العلم قبل القول والعمل.
2 ــ ما يجب معرفة حكمه عند حدوثه إذا حدث: وهى النوازل، وضابطها أيضا: وجوب العلم قبل القول والعمل.
فيجب ألا يُقدم المسلم على قول أو عمل إلا بعلم أي بعد معرفة حكم ماهو مُقدم عليه، سواء كان ماهو مُقدم عليه مما يجب عليه من العبادات والمعاملات أو مما ابتُلي به من النوازل الحادثات.
فأما مايجب عليه تعلمه ابتداء فموضوعه التعلم وطلب العلم وقد سبق بيان كيفيته في الباب الثالث، كما سبق بيان آدابه في الباب الرابع من هذا الكتاب.
وأما مايجب عليه معرفة حكمه من النوازل فموضوعه الاستفتاء، وننبه هنا على أن ما فات المسلم تعلمه مما يجب عليه تعلمه ابتداء فإنه يندرج أيضا تحت الاستفتاء فيجب السؤال عنه.(4/139)
والاستفتاء أمر واقع بين شخصين سائل ومسئول، أما المسئول فهو المفتي وقد سبق بيان أحكامه وآدابه في الفصل السابق، وأما السائل فهو المستفتي ونذكر أحكامه وآدابه في هذا الفصل في عشرين مسألة مندرجة تحت أربعة أقسام، وهى:
أولا: مسائل متعلقة بصفة المستفتي وحكم الاستفتاء.
مسألة 1: صفة المستفتي.
مسألة 2: حكم الاستفتاء.
ثانيا: مسائل متعلقة بصفة من يستفتيه العامي.
مسألة 3: صفة من يستفتيه العامي.
مسألة 4: وجوب بحث المستفتي عن المفتي المؤهل، وبيان كيفية ذلك؟.
مسألة 5: مايجب على المستفتي إذا تعدد المفتون المؤهلون؟.
مسألة 6: مايجب على المستفتي إذا لم يجد ببلده من يفتيه؟.
مسألة 7: مايجب على المستفتي إذا لم يجد من يفتيه ألبته؟.
مسألة 8: هل يلزم العامي أن يتمذهب بمذهب معَيَّن؟.
ثالثا: مسائل متعلقة بصفة الاستفتاء.
مسألة 9: كتابة الاستفتاء.
مسألة 10: تأدب المستفتي مع المفتي.
مسألة 11: مايفعل من أراد استفتاء جمع من الفقهاء؟.
مسألة 12: الإنابة في الاستفتاء.
مسألة 13: هل يكتفي المستفتي بالتقليد المجرد أم يجب عليه طلب دليل الفتوى؟.
رابعا: مسائل متعلقة بالعمل بالفتوى.
مسألة 14: هل يجوز اعتماد المستفتي على خط المفتي؟.
مسألة 15: هل فتوى المفتي مُلزمة للمستفتي؟.
مسألة 16: مايفعل المستفتي إذا اختلف عليه مفتيان فأكثر؟.
مسألة 17: هل يجوز تقليد الميت؟.
مسألة 18: هل يجب على المستفتي تجديد الاستفتاء إذا تكررت الواقعة التي علم حكمها؟.
مسألة 19: مايجب على المستفتي إذا رجع المفتي عن فتواه؟.
مسألة 20: مايجب على المستفتي إذا أخطأ المفتي في فتواه؟.
ونشرح هذه المسائل فيما يلي بحول الله تعالى وقوته، فنقول وبالله التوفيق:
******
المسألة الأولى: صفة المستفتي
سبق في أول الفصل السابق تعريف المستفتي بأنه:
السائل الذي يسأل المفتي عن الحكم الشرعي في مسألته، عامياً كان المستفتي أو فقيهاً.(4/140)
وهذا التعريف أعمّ من التعريف الذي ذكره النووي رحمه الله حيث قال إن المستفتي هو (كل من لم يبلغ درجة المفتي فهو فيما يَسئل عنه من الأحكام الشرعية مستفت ٍ مقلد من يفتيه) (المجموع) جـ 1 صـ 54. فهو قد جعل المستفتي مرادفا للمقلد، ولاتلازم بينهما وإن كان هو الحال الأغلب، فقد يطلب المستفتي دليل الفتوى فيكون متبعا لامقلداً كما سيأتي التفريق بينهما في المسألة الثالثة عشرة إن شاء الله.
كما أن التعريف الذي ذكرناه أعم من التعريف الذي ذكره ابن حمدان رحمه الله حيث قال إن المستفتي هو (كل من لايصلح للفتيا من جهة العلم، وإن كان متميزاً) (صفة الفتوى) صـ 68. فهو قد قصر المستفتي على العامي الجاهل، وقد يكون المستفتي عالما مجتهداً يصلح للفتيا ولكنه يجهل حكم بعض المسائل فيستفتي فيها، كما قال ابن تيمية رحمه الله (فأما القادر على الاجتهاد فهل يجوز له التقليد؟ هذا فيه خلاف، والصحيح أنه يجوز حيث عجز عن الاجتهاد إما لتكافؤ الأدلة، وإما لضيق الوقت عن الاجتهاد، وإما لعدم ظهور دليل له، فإنه حيث عجز سقط عنه وجوب ماعجز عنه وانتقل إلى بدله وهو التقليد) (مجموع الفتاوي) جـ 20 صـ 204. وذكره القرطبي أيضا فقال رحمه الله (وعلى العالم أيضا فرض أن يقلد عالما مثله في نازلة خفي عليه فيها وجه الدليل والنظر، وأراد أن يجدد الفكر فيها والنظر حتى يقف على المطلوب فضاق الوقت عن ذلك، وخاف على العبادة أن تفوت أو على الحكم أن يذهب، سواء كان ذلك المجتهد الآخر صحابيا أو غيره، وإليه ذهب القاضي أبو بكر وجماعة من المحققين) (تفسير القرطبي) جـ 2 صـ212.
فلم ينحصر المستفتي إذاً في العامي الجاهل ولا في المقلد، بل كل من يسأل المفتي عن الحكم الشرعي في مسألته فهو مستفت ٍ.
وهذا ما يتعلق بصفة المستفتي.
******
المسألة الثانية
حكم الاستفتاء
الاستفتاء هو: سؤال المستفتي المفتي عن الحكم الشرعي في مسألته.(4/141)
فالاستفتاء سؤال، وهذا السؤال يختلف حكمه: فقد يكون واجبا وقد يكون مكروهاً، وبيان ذلك فيما يلي:
أولا: السؤال الواجب.
يكون الاستفتاء واجبا على المسلم يأثم بتركه، وذلك فيما يجهله مما يجب عليه معرفة حكمه. ومايجب عليه علمه ومعرفة حكمه هو فرض العين من العلم بأقسامه الثلاثة التي سبق بيانها في الفصل الثاني من الباب الثاني وهى:
* العلم الواجب العيني العام.
* العلم الواجب العيني الخاص.
* العلم بأحكام النوازل.
فكل ماجهله مما يجب عليه علمه، فقد وجب عليه تعلمه وذلك بالسؤال. ونذكر فيما يلي أدلة هذا الوجوب ثم أقوال العلماء في المسألة.
1 ــ أدلة وجوب الاستفتاء فيما يجهله مما يجب عليه علمه.
أ ــ منها قوله تعالى (فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) النحل 43، والأنبياء 7.
ب ــ ومنها قوله تعالى (وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به، ولو ردّوه إلى الرسول وإلى أولى الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم) النساء 83.
جـ ــومنها قول النبي صلى الله عليه وسلم (طلب العلم فريضة على كل مسلم) رواه ابن ماجة عن أنس رضي الله عنه وصححه السيوطي.
وقد سبقت هذه الأدلة وغيرها في الأبواب السابقة.
2 ــ أقوال العلماء في المسألة.
أ ــ قال الخطيب البغدادي رحمه الله: قال عبدالله بن المبارك رحمه الله (إنما طلب العلم فريضة أن يقع الرجل في شيء من أمر دينه يسأل عنه حتى يعلمه) (الفقيه والمتفقه) جـ 1 صـ 45، وذكره أيضا ابن عبدالبر في (جامع بيان العلم) جـ 1 صـ 10.(4/142)
ب ــ وروي الخطيب أيضا بإسناده عن علي بن الحسن بن شقيق قال: سألت عبدالله بن المبارك ما الذي يجب على الناس من تعلّم العلم؟ قال: أن لايُقدم الرجل على الشيء إلا بعلم يسأل ويتعلم، فهذا الذي يجب على الناس من تعلم العلم. وفسَّره قال: لو أن رجلاً ليس له مال لم يكن عليه واجبا أن يتعلم الزكاة، فإذا كان له مائتا درهم وجب عليه أن يتعلم كم يُخرج ومتى يُخرج وأين يضع؟، وسائر الأشياء على هذا. أهـ (الفقيه والمتفقه) جـ 1 صـ 45.
جـ ــ وقال الخطيب رحمه الله (أول مايلزم المستفتي إذا نزلت به نازلة أن يطلب المفتي ليسأله عن حكم نازلته، فإن لم يكن في محلته وجب عليه أن يمضي إلى الموضع الذي يجده فيه، فإن لم يكن ببلده لزمه الرحيل إليه وإن بعدت داره، فقد رحل غير واحد من السلف في مسألة) (الفقيه والمتفقه) جـ 2 صـ 177.
د ــ وقال النووي رحمه الله (ويجب عليه ــ أي العامي ــ الاستفتاء إذا نزلت به حادثة يجب عليه علم حكمها. فإن لم يجد ببلده من يستفتيه وجب عليه الرحيل إلى من يفتيه وإن بعدت داره، وقد رحل خلائق من السلف في المسألة الواحدة الليالي والأيام) (المجموع) جـ 1 صـ 54.
هـ ــ وقال ابن حمدان رحمه الله (ويجب الاستفتاء في كل حادثة له، ويلزم تعلم حكمها) (صفة الفتوى) صـ 68.
و ــ وقال القرطبي رحمه الله (فرض العامي الذي لايشتغل باستنباط الأحكام من أصولها لعدم أهليته فيما لايعلمه من أمر دينه ويحتاج إليه أن يقصد أعلم مَنْ في زمانه وبلده فيسأله عن نازلته فيمتثل فيها فتواه، لقوله تعالى «فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون»، وعليه الاجتهاد في أعلم أهل وقته بالبحث عنه حتى يقع عليه الاتفاق من الأكثر من الناس) (تفسير القرطبي) جـ 2 صـ 212.(4/143)
ز ــ وقال الشاطبي رحمه الله (إن المقلِّد إذا عرضت له مسألة دينية فلا يسعه في الدين إلا السؤال عنها على الجملة، لأن الله لم يتعبد الخلق بالجهل، وإنما تعبدهم على مقتضى قوله سبحانه «واتقوا الله ويعلمكم الله»، لا على مايفهمه كثير من الناس، بل على ما قرره الأئمة في صناعة النحو، أي إن الله يعلمكم على كل حال، فاتقوه. فكأن الثاني سبب في الأول، فترتب الأمر بالتقوى على حصول التعليم ترتباً معنوياً، وهو يقتضي تقدم العلم على العمل، والأدلة على هذا المعنى كثيرة، وهى قضية لانزاع فيها، فلا فائدة في التطويل فيها) (الموافقات) جـ 4 صـ 261 ــ 262.
فهذا ما يتعلق بالسؤال الواجب والاستفتاء الواجب.
ثانيا: السؤال المكروه.
يُكره السؤال في مواضع، ذكر منها الشاطبي عشرة مواضع، وقدَّم لذلك بمقدمة فقال رحمه الله (الإكثار من الأسئلة مذموم. والدليل عليه النقل المستفيض من الكتاب والسنة وكلام السلف الصالح.
من ذلك: قوله تعالى (ياأيها الذين آمنوا لاتسألوا عن أشياء إن تُبْد لكم تسؤكم) الآية ! وفي الحديث أنه عليه الصلاة والسلام قرأ:(ولله على الناس حج البيت) الآية ! فقال رجل: يارسول الله أكل عام؟ فأعرض، ثم قال: يارسول الله أكل عام؟ ثلاثا، وفي كل ذلك يُعْرض. وقال في الرابعة: «والذي نفسي بيده لو قلتها لوجبت، ولو وجبت ما قمتم بها، ولو لم تقوموا بها لكفرتم، فذروني ماتركتكم». وفي مثل هذا نزلت «لا تسألوا عن أشياء» الآية ! وكره عليه الصلاة والسلام المسائل وعابها ونهى عن كثرة السؤال وكان عليه الصلاة والسلام يكره السؤال فيما لم ينزل فيه حكم، وقال: «إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها، وحد حدوداً فلا تعتدوها، وعفا عن أشياء رحمة بكم لا عن نسيان فلا تبحثوا عنها».(4/144)
وقال ابن عباس: مارأيت قوما خيراً من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ما سألوه عن ثلاث عشرة مسألة حتى قُبض صلى الله عليه وسلم، كلهن في القرآن: (ويسألونك عن المحيض) (ويسألونك عن اليتامى) (يسألونك عن الشهر الحرام) ماكانوا يسألون إلا عما ينفعهم. يعني أن هذا كان الغالب عليهم. وفي الحديث: «إن أعظم المسلمين في المسلمين جرماً من سأل عن شيء لم يحرم عليه فحرم عليهم من أجل مسألته» وقال: «ذروني ماتركتكم، فإنما هلكَ منَ قَبْلَكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم». ــ إلى أن قال الشاطبي: وقد جاء عن عائشة أن امرأة سألتها عن قضاء الحائض الصوم دون الصلاة، فقالت لها: أحرورية أنت؟ انكاراً عليها السؤال عن مثل هذا. وقضى النبي صلى الله عليه وسلم في الجنين بغُرة فقال الذي قضى عليه: كيف أغرم مالا شرب ولا أكل، ولا شهق ولا استهل، ومثل ذلك بطل؟ فقال عليه الصلاة والسلام: «إنما هذا من إخوان الكهان». وقال ربيعة لسعيد في مسألة عقل الأصابع حين عظم جرحها واشتدت مصيبتها نقص عقلها؟ فقال سعيد: أعراقي أنت؟ فقلت بل عالم متثبت، أو جاهل متعلم فقال: هى السنة يا ابن أخي. وهذا كاف في كراهية كثرة السؤال في الجملة.
ويتبين من هذا أن لكراهية السؤال مواضع. نذكر منها عشرة مواضع
(أحدها) السؤال عما لا ينفع في الدين. كسؤال عبدالله بن حذافة: مَنْ أَبِي؟، وروي في التفسيرأنه عليه الصلاة والسلام سُئِل ما بال الهلال يبدوُ رقيقا كالخيط، ثم لايزال ينمو حتى يصير بدرا. ثم ينقص إلى أن يصير كما كان؟ فأنزل الله: (يسألونك عن الأهلة) الآية فأنما أجيب بما فيه من منافع الدين.
(والثاني) أن يسأل بعد مابلغ من العلم حاجته، كما سأل الرجل عن الحج أكل عام؟ مع أن قوله تعالى: (ولله على الناس حج البيت) قاض بظاهره أنه للأبد، لإطلاقه. ومثله سؤال بني إسرائيل بعد قوله: (إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة).(4/145)
(والثالث) السؤال من غير احتياج إليه في الوقت، وكأن هذا ــ والله أعلم ــ خاص بما لم ينزل فيه حكم، وعليه يدل قوله:«ذروني ما تركتكم» وقوله «وسكت عن أشياء رحمة لكم لا عن نسيان فلا تبحثوا عنها».
(والرابع) أن يسأل عن صعاب المسائل وشرارها. كما جاء في النهي عن الأغلوطات.
(والخامس) أن يسأل عن علة الحكم وهو من قبيل التعبدات التي لايعقل لها معنى، أو السائل ممن لا يليق به ذلك السؤال كما في حديث قضاء الصوم دون الصلاة.
(والسادس) أن يبلغ بالسؤال إلى حد التكلف والتعمق وعلى ذلك يدل قوله تعالى:(قل ماأسألكم عليه من أجر وماأنا من المتكلفين) ولما سأل الرجل يا صاحب الحوض هل ترد حوضك السباع؟ قال عمر بن الخطاب ياصاحب الحوض لاتخبرنا فإنا نرد على السباع وترد علينا، الحديث
(والسابع) أن يظهر من السؤال معارضة الكتاب والسنة بالرأي ولذلك قال سعيد: أعراقي أنت؟ وقيل لمالك بن أنس الرجل يكون عالما بالسنة أيجادل عنها؟ قال: لا ولكن يخبر بالسنة فإن قُبلت منه وإلا سكت.
(والثامن) السؤال عن المتشابهات، وعلى ذلك يدل قوله تعالى (فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه) الآية، وعن عمر بن عبدالعزيز: من جعل دينه عرضا للخصومات أسرع التنقل. ومن ذلك سؤال من سأل مالكا عن الاستواء، فقال: الاستواء معلوم، والكيفية مجهولة، والسؤال عنه بدعة.
(والتاسع) السؤال عما شجر بين السلف الصالح، وقد سئل عمر بن عبدالعزيز عن قتال أهل صفين فقال: تلك دماء كف الله عنها يدي. فلا أحب أن يلطخ بها لساني.
(والعاشر) سؤال التعنُّت والإفحام وطلب الغلبة في الخصام. وفي القرآن في ذم نحو هذا (ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على مافي قلبه وهو ألد الخصام)، وقال: (بل هم قوم خصمون)، وفي الحديث «أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم».(4/146)
هذه جملة من المواضع التي يكره السؤال فيها، يقاس عليها ماسواها. وليس النهي فيها واحدا بل فيها ماتشتد كراهيته، ومنها مايخف، ومنها مايحرم ومنها مايكون محل اجتهاد. وعلى جملة منها يقع النهي عن الجدال في الدين كما جاء «إن المراء في القرآن كفرٌ» وقال تعالى (وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم) الآية ! وأشباه ذلك من الآى أو الأحاديث. فالسؤال في مثل ذلك منهي عنه، والجواب بحسبه.) (الموافقات) جـ 4 صـ 313 ــ 321.
فهذا ما يتعلق بالمواضع التي يُكره فيها السؤال والاستفتاء. وبها نختم الكلام في حكم الاستفتاء، ومنه يتبين التقصير الواقع فيه كثير من المسلمين في هذا الزمان بتركهم الاستفتاء فيما يجب عليهم علم حكمه قبل الإقدام عليه من الأقوال والأعمال، وقد أطلنا الكلام في بيان (وجوب العلم قبل القول والعمل) في أول الباب الثاني من هذا الكتاب وذلك للأهمية البالغة لهذه المسألة.
(تنبيه) الفرق بين الاستفتاء والتقليد.
وجوب الاستفتاء على الجاهل لايعني وجوب التقليد عليه، ولايرادفه، فليس كل استفتاء تقليداً، فالمستفتي إذا قبل قول المفتي مجرداً من الدليل الشرعي فهذا التقليد (وهو قبول قول الغير بغير حجة، أما إذا طالب المفتي بالدليل الشرعي والحجة على قوله وفتواه فهذا الاتباع. فالاستفتاء قد يكون تقليداً وقد يكون اتباعاً، وإذا قلنا بوجوب الاستفتاء على العامي (أو الجاهل أو غير العالم) فلا يعني هذا وجوب التقليد عليه. فإن وجوب الاستفتاء في هذه الحال محل إجماع من العلماء لاخلاف فيه، أما التقليد ففيه خلاف، وسوف يأتي الكلام في الفرق بين الاتباع والتقليد في المسألة الثالثة عشرة من هذا الفصل إن شاء الله.
******
المسألة الثالثة: صفة من يستفتيه العامي
سبق الكلام في هذه المسألة في القسم الثالث من الفصل السابق عند الكلام في (صفة المفتي وشروطه)، وملخص ما سبق ذكره هناك:(4/147)
أنه يجب على المستفتي أن يستفتي المفتي المؤهل وهو المسلم المكلف (أي البالغ العاقل) العالم العدل، حراً كان أو عبداً، رجلاً كان أو امرأة.
قال الخطيب البغدادي رحمه الله: (أول أوصاف المفتي الذي يلزم قبول فتواه أن يكون بالغا لأن الصبي لاحكم لقوله. ثم يكون عاقلا، لأن القلم مرفوع عن المجنون لعدم عقله. ثم يكون عدلا ثقة لأن علماء المسلمين لم يختلفوا في أن الفاسق غير مقبول الفتوى في أحكام الدين وإن كان بصيراً بها، وسواء كان حراً أو عبداً لأن الحرية ليست شرطا في صحة الفتوى. ثم يكون عالما بالأحكام الشرعية) (الفقيه والمتفقه) جـ 2 صـ 156.
وقال ابن الصلاح رحمه الله (أما شروطه وصفاته: أن يكون مكلفاً مُسلماً، ثقة مأموناً، متنزها من أسباب الفسق ومُسقطات المروءة، لأن من لم يكن كذلك فقوله غير صالح للاعتماد وإن كان من أهل الاجتهاد. ويكون فقيه النفس، سليم الذهن، رصين الفكر، صحيح التصرف والاستنباط مستيقظاً. ثم ينقسم وراء هذا إلى قسمين: مستقل، وغير مستقل) (أدب المفتي) صـ 85 ــ 86. وقوله (مكلفاً) أي بالغ عاقل، وقوله (مستقل وغير مستقل) أي في الاجتهاد في الشريعة.
وقال ابن حمدان رحمه الله (ومن صفته وشروطه أن يكون مسلما عدلاً مكلفا فقيها مجتهدا يقظا صحيح الذهن والفكر والتصرف في الفقه ومايتعلق به.
أما اشتراط إسلامه وتكليفه وعدالته فبالإجماع، لأنه يخبر عن الله تعالى بحكمه، فاعتبر إسلامه وتكليفه وعدالته لتحصل الثقة بقوله، ويبني عليه كالشهادة والرواية.) (صفة الفتوى) صـ 13.
وأهم هذه الشروط هما شرطا العلم والعدالة. ودليل الأول قوله تعالى (فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) النحل 43، ودليل الثاني قوله تعالى (إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا) الحجرات 6.(4/148)
وقد سبق بيان صفة العلم الشرعي المشترط في المفتي وهو أن يبلغ درجة الاجتهاد، فإن تعذر سأل المستفتي لعدمٍ من هو دون المجتهد في العلم، على ما بيّناه في (مراتب المفتين) في الفصل السابق.
كما سبق تعريف العدالة في الباب الرابع وفي الفصل الأول من الباب الخامس، حيث نقلنا الاتفاق على جواز استفتاء معلوم العدالة، والاتفاق على المنع من استفتاء الفاسق ومجهول الحال، كما نقلنا ترجيح جواز استفتاء مستور الحال، وذلك في القسم الثالث من الفصل السابق.
قال الغزّالي رحمه الله (لايستفتي العامي إلا من عرفه بالعلم والعدالة) (المستصفى) جـ 2 صـ390.
وقال الآمدي رحمه الله (القائلون بوجوب الاستفتاء على العامي اتفقوا على جواز استفتائه لمن عرفه بالعلم وأهلية الاجتهاد والعدالة ــ إلى قوله ــ واختلفوا في جواز استفتاء من لم يعرفه بعلم ٍ ولا جهالة، والحق امتناعه على مذهب الجمهور، وذلك لأنه لا نأمن أن يكون حال المسئول كحال السائل في العامية المانعة من قبول القول) (الإحكام للآمدي، ط دار الكتاب العربي 1404 هـ، جـ4 صـ 237.
وقال الشاطبي رحمه الله (أن السائل لايصح له أن يسأل من لايُعتبر في الشريعة جوابه، لأنه إسنادُ أمر إلى غير أهله، والإجماع على عدم صحة مثل هذا، بل لايمكن في الواقع، لأن السائل يقول لمن ليس بأهل لِماَ سَئَل عنه: أخبرني عما لا تدري ! وأنا أسند أمري لك فيما نحن بالجهل به على سواء. ومثل هذا لايدخل في زمرة العقلاء، إذ لو قال له دلني في هذه المفازة على الطريق إلى الموضع الفلاني، وقد علم أنهما في الجهل بالطريق سواء لعُدَّ من زمرة المجانين. فالطريق الشرعي أولى، لأنه هلاك أخروي، وذلك هلاك دنيوي خاصة. والإطناب في هذا أيضاً غير محتاج إليه) (الموافقات) جـ 4 صـ 262.
فهذا ما يتعلق بصفة من يستفتيه العامي.
******
المسألة الرابعة: وجوب بحث المستفتي
عن المفتي المؤهل وبيان كيفية ذلك؟(4/149)
إذا كنا قد بيّنا في المسألة السابقة أنه يجب على المستفتي أن يستفتي المفتي المؤهل، فإنه يترتب على هذا الوجوب وجوب بحث المستفتي عن هذا المفتي المؤهل، لأن مالا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ويدل على هذا الوجوب:
1 ــ قوله تعالى (فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) النحل 43، فدلت الآية على وجوب البحث عن أهل الذكر لأجل سؤالهم، وذلك بدلالة إشارة النص.
2 ــ قوله تعالى (وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به، ولو ردّوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم، لعلمه الذين يستنبطونه منهم) النساء 83، فدلت الآية على وجوب البحث عن أولي الأمر من العلماء لرد الجهالات إليهم، وذلك بدلالة إشارة النص.
3 ــ قوله تعالى (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها) النساء 58، وهذا نص عام في الأمانات كلها، ومنها بل وعلى رأسها الإفتاء في دين الله تعالى، أنه يجب معرفة أهلها لأدائها إليهم.
4 ــ قوله صلى الله عليه وسلم ــ في حديث قبض العلم ــ (اتخذ الناس رءوساً جهالا فُسئِلوا فأفتوا بغير علم، فَضَلّوا وأضَلّوا) الحديث متفق عليه. وفيه وعيد لمن استفتى الجهال، ويدل على وجوب استفتاء العالم المؤهل ووجوب البحث عنه.
5 ــ وقال محمد بن سيرين رضي الله عنه (إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم) رواه مسلم في مقدمة صحيحه. وهذا الأثر يدل على أهمية التثبت في أمر من يؤخذ عنه الدين كالعالم والمفتي.
وإليك أقوال العلماء في وجوب بحث المستفتي عن المفتي المؤهل وكيفية ذلك:
1 ــ قال الخطيب البغدادي رحمه الله (وإذا قصد أهل محلة للاستفتاء عما نزل به فعليه أن يسأل من يثق بدينه ويسكن إلى أمانته عن أعلمهم وأمثلهم ليقصده ويؤم نحوه. فليس كل من ادعى العلم أحرزه، ولا كل من انتسب إليه كان من أهله) أهـ، ثم ذكر الخطيب قول ابن سيرين المذكور آنفا. (الفقيه والمتفقه) جـ 2 صـ 177.(4/150)
وحاصل قول الخطيب: أن طريق المستفتي إلى معرفة المفتي المؤهل يكون بسؤال العدول عن ذلك (فعليه أن يسأل من يثق بدينه... عن أعلمهم)، وليس بمجرد تصدي المفتي للإفتاء. إلا أن الخطيب لم يحدد عدد من يسألهم المستفتي عن المفتي، وهل يشترط التواتر في ذلك أم يكفي خبر الواحد العدل؟. وسيأتي بيان ذلك في كلام الغزالي والنووي إن شاء الله.
2 ــ قال أبوحامد الغزّالي رحمه الله (لايستفتي العامي إلا من عرفه بالعلم والعدالة أما من عرفه بالجهل فلا يسأله وفاقاً، وإن سأل من لايعرف جهله فقد قال قوم يجوز وليس عليه البحث، وهذا فاسد لأن كل من وجب عليه قبول قول غيره فيلزمه معرفة حاله.
فيجب على الأمة معرفة حال الرسول بالنظر في معجزته فلا يؤمن بكل مجهول يدعي أنه رسول الله، ووجب على الحاكم معرفة حال الشاهد في العدالة، وعلى المفتي معرفة حال الراوي،
وعلى الرعية معرفة حال الإمام والحاكم، وعلى الجملة كيف يسئل من يتصور أن يكون أجهل من السائل؟. فإن قيل إذا لم يعرف عدالة المفتي هل يلزمه البحث؟.
إن قلتم يلزمه البحث فقد خالفتم العادة لأن من دخل بلدة فيسأل عالم البلدة ولايطلب حجة على عدالته، وإن جوزتم مع الجهل فكذلك في العلم. قلنا من عرفه بالفسق فلا يسأله ومن عرفه بالعدالة فيسأله ومن لم يعرف حاله فليحتمل أن يقال لا يهجم بل يسأل عن عدالته أولاً فإنه لايأمن كذبه وتلبسه، ويحتمل أن يقال ظاهر حال العالم العدالة لاسيما إذا اشتهر بالفتوى ولايمكن أن يقال ظاهر حال الخلق العلم ونيل درجة الفتوى، والجهل أغلب على الخلق فالناس كلهم عوام إلا الأفراد بل العلماء كلهم عدول إلا الآحاد.
فإن قيل فإن وجب السؤال لمعرفة عدالته أو علمه فيفتقر إلى التواتر أم لايفتقر إليه؟ قيل يحتمل أن يقال ذلك ممكن، ويحتمل أن يقال يكفي غالب الظن الحاصل بقول عدل أو عدلين وقد جوز قوم العمل بإجماع نقله العدل الواحد وهذا يقرب منه من وجه.) أهـ.(المستصفى) جـ 2 صـ390.(4/151)
وحاصل قول الغزالي: أن المستفتي يعرف حال المفتي بالسؤال عنه، وتردد في الترجيح: هل يلزم تواتر الخبر في ذلك أم يكفي خبر العدل الواحد؟
3 ــ قال النووي رحمه الله (يجب عليه قطعا البحث الذي يعرف به أهلية من يستفتيه للإفتاء إذا لم يكن عارفا بأهليته، فلا يجوز له استفتاء من انتسب إلى العلم وانتصب للتدريس والإقراء وغير ذلك من مناصب العلماء بمجرد انتسابه وانتصابه لذلك. ويجوز استفتاء من استفاض كونه أهلا للفتوى. وقال بعض أصحابنا المتأخرين إنما يعتمد قوله أنا أهل للفتوى لاشهرته بذلك ولايكتفى بالاستفاضة ولا بالتواتر لأن الاستفاضة والشهرة بين العامة لا يوثق بها وقد يكون أصلها التلبيس. وأما التواتر فلا يفيد العلم إذا لم يستند إلى معلوم محسوس. والصحيح هو الأول لأن اقدامه عليها إخبار منه بأهليته فإن الصورة مفروضة فيمن وثق بديانته. ويجوز استفتاء من أخبر المشهور المذكور بأهليته. قال الشيخ أبو إسحاق المصنف رحمه الله وغيره يقبل في أهليته خبر العدل الواحد. قال أبو عمرو وينبغي أن نشترط في المخبر أن يكون عنده من العلم والبصر مايميز به الملتبس من غيره ولايعتمد في ذلك على خبر آحاد العامة لكثرة مايتطرق إليهم من التلبيس في ذلك) (المجموع) جـ 1 صـ 54، وذكر مثله ابن حمدان الحنبلي رحمه الله في (صفة الفتوى) صـ 68 ــ 69. والشيخ أبو إسحاق هو الشيرازي صاحب (المهذب) 476 هـ، وأبو عمرو هو ابن الصلاح.(4/152)
4 ــ وقال الشوكاني رحمه الله (إذا تقرر لك أن العامي يسأل العالم والمقصر يسأل الكامل، فعليه أن يسأل أهل العلم المعروفين بالدين وكمال الورع عن العالم بالكتاب والسنة العارف بما فيهما المطلع على مايحتاج إليه في فهمهما من العلوم الآلية حتى يدلوه عليه ويرشدوه إليه، فيسأله عن حادثته طالبا منه أن يذكر له فيها مافي كتاب الله سبحانه أو ما في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحينئذ يأخذ الحق من معدنه ويستفيد الحكم من موضعه ويستريح من الرأي الذي لايأمن المتمسك به أن يقع في الخطأ المخالف للشرع المباين للحق.ــ إلى أن قال ــ وقد ذكر أهل الأصول أنه يكفي العامي في الاستدلال على من له أهلية الفتوى بأن يرى الناس متفقين على سؤاله مجتمعين على الرجوع إليه، ولايستفتي من هو مجهول الحال كما صرح به الغزالي والآمدي وابن الحاجب وحكى في المحصول الاتفاق على المنع، وشرط القاضي إخبار من يوجب خبره العلم بكونه عالما في الجملة ولايكفي خبر الواحد والاثنين، وخالفه غيره في ذلك فاكتفوا بخبر عدلين وممن صرح بذلك صاحب فقال واشتراط تواتر الخبربكونه مجتهدا كما قاله الأستاذ غير سديد، واشترط القاضي وجماعة من المحققين امتحانه بالمسائل المتفرقة ومراجعته فيها فإن أصاب في الجواب غلب على ظنه كونه مجتهدا، وذهب جماعة من الشافعية إلى أنها تكفي الاستفاضة بين الناس. قال ابن برهان في الوجيز قيل يقول له أمجتهد أنت وأقلدك؟ فإن أجابه قلده قال وهذا أصح المذاهب. وجزم الشيخ أبو اسحق الشيرازي بأنه يكفيه خبر العدل الواحد عن فقهه وأمانته لأن طريقه طريق الاخبار انتهى) (ارشاد الفحول) ط 1، صـ 252. وأنبه على أنه يوجد سقط بالأصل بعد قول الشوكاني (وممن صرح بذلك صاحب...).(4/153)
وحاصل ما ذكره النووي والشوكاني ــ بعدما ذكرا الأقوال المختلفة في المسألة ــ أن طريق المستفتي لمعرفة المؤهل هو بالسؤال عنه، فيسأل عنه أهل الخبرة من أهل العلم والورع لا العامة لالتباس الأمور عليهم، وأنه يكفيه في هذا خبر العدل الواحد ولاتشترط الاستفاضة ولا التواتر فإن وُجِداَ فهذا مما يقوي الخبر وليس شرطا في صحته. وهذا هو مانرجحه في هذه المسألة، ويشهد لذلك ما رُوِيَ عن مالك رحمه الله أنه قال (ماأفتيت حتى شهد لي سبعون أني أهل لذلك) وفي رواية قال (ماأفتيت حتى سألت من هو أعلم مني هل يراني موضعا لذلك) ذكره النووي في (المجموع) جـ 1 صـ 41، نقلا عن الخطيب البغدادي رحمهم الله. وترجيحنا لهذا القول لاينفي صحة ماعداه خاصة إخبار المفتي عن نفسه إنه أهل للفتوى ويشهد لذلك قوله تعالى ــ حكاية عن يوسف عليه السلام ــ (قال اجعلني على خزائن الأرض إن حفيظ عليم) يوسف 55، وقول عبدالله بن مسعود رضي الله عنه (والله لقد علم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أني من أعلمهم بكتاب الله) الحديث رواه البخاري (رقم 5000)، وقال ابن مسعود رضي الله عنه أيضا (والله الذي لا إله غيره، ما أنزلت سورة من كتاب الله إلا أنا أعلم أين نزلت، ولا أنزلت آية من كتاب الله إلا أنا أعلم فيمن أنزلت، ولو أعلم أحداً أعلم مني بكتاب الله تبلغه الإبل لركبت إليه) رواه البخاري (حديث 5002) فإخبار الشخص الموثوق بدينه إنه أهل للفتوى معتبر مقبول.(4/154)
فهذا ما يتعلق بكيفية معرفة المستفتي بالمفتي المؤهل، وقد تبيّن لك أن مجرد انتصاب رجل للإفتاء لا يعني أنه أهل لذلك، فالمنصب لايجعل من ليس أهلاً أهلاً، كما يفعله الحكام الطواغيت اليوم حيث ينصب كل منهم مفتياً في بلده يجاريه في أهوائه ويسبغ عليه الشرعية، وكما تفعله كثير من الجماعات الإسلامية اليوم من إسناد الفتوى إلى أمرائها دون النظر في أهليتهم الشرعية. وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (والمنصب والولاية لايجعل من ليس عالماً مجتهداً، عالما مجتهداً، ولو كان الكلام في العلم والدين بالولايات والمنصب لكان الخليفة والسلطان أحق بالكلام في العلم والدين وبأن يستفتيه الناس ويرجعوا إليه فيما أشكل عليهم من العلم والدين) إلى آخر ما قاله. (مجموع الفتاوي) جـ 27 صـ 296 ــ 297. وقال تلميذه ابن القيم رحمه الله (وهذا الضرب إنما يُستفتون بالشكل لا بالفضل، وبالمناصب لا بالأهلية، قد غرهم عُكُوف مَنْ لاعلم عنده عليهم، ومسارعة أجهل منهم إليهم، تعجُّ منهم الحقوق إلى الله تعالى عجيجا، وتضج منهم الأحكام إلى من أنزلها ضجيجاً. فمن أقدم بالجرأة على ماليس له بأهل من فتيا أو قضاء أو تدريس، استحق اسم الذم، ولم يحل قبول فتياه ولاقضائه، هذا حكم دين الإسلام.) (اعلام الموقعين) جـ 4 صـ208.
******
المسألة الخامسة
مايجب على المستفتي إذا تعدّد المفتون المؤهلون؟
إذا تعدّد المفتون المؤهلون عند المستفتي فلا يخلو الأمر من أحد حالين:
الأول: أن يكون قد اطلع على أقوالهم في مسألته، والتي قد تكون متفقة أو مختلفة، وهذا الحال ليس هو موضوع بحثنا هنا، وسيأتي بحثه إن شاء الله في المسألة السادسة عشرة (مايفعل المستفتي إذا اختلف عليه مفتيان فأكثر؟.).(4/155)
الثاني: ألا يكون قد اطلع على أقوالهم، وأراد استفتاء أحدهم، فهل يجب عليه البحث في أحوالهم ليستفتي الأعلم والأورع منهم أم هو مخير في أن يستفتي أيهم شاء؟. وهنا أيضا لايخلو حال المستفتي من أحد أمرين: إما أن يكون قد علم الأوثق منهم أو لم يعلم. وسنذكر فيما يلي أقوال العلماء في المسألة ثم نذكر مانرجحه منها.
1 ــ قال الغزالي رحمه الله (إذا لم يكن في البلدة إلا مفت واحد وجب على العامي مراجعته، وإن كانوا جماعة فله أن يسأل من شاء ولايلزمه مراجعة الأعلم، كما فُعل في زمان الصحابة، إذ سأل العوام الفاضل والمفضول ولم يُحجر على الخلق في سؤال غير أبي بكر وعمر وغير الخلفاء. وقال قومٌُ: تجب مراجعة الأفضل، فإن استووا تخيَّر بينهم. وهذا يخالف إجماع الصحابة إذ لم يحجر الفاضل على المفضول الفتوى، بل لاتجب إلا مراجعة من عرفه بالعلم والعدالة، وقد عُرف كلهم بذلك) أهـ (المستصفى) جـ 2 صـ 390 ــ 391. فاختيار الغزالي أن المستفتي مخير في استفتاء من شاء من المفتين، ولايجب عليه استفتاء أفضلهم، عَلِمَه أو لم يعلمه، ماداموا جميعا مستوفين لأهلية الإفتاء من العلم والعدالة.
2 ــ وقال الآمدي رحمه الله (إذا حدثت حادثة، وأراد الاستفتاء عن حكمها.
فأما أن يكون في البلد مفت واحد، أو أكثر.
فإن كان الثاني، فقد اختلف الأصوليون.(4/156)
فمنهم من قال لايتخير بينهم حتى يأخذ بقول من شاء منهم، بل يلزمه الاجتهاد في أعيان المفتين من الأورع والأدين والأعلم وهو مذهب أحمد بن حنبل وابن سريج والقفال من أصحاب الشافعي وجماعة من الفقهاء والأصوليين، مصير منهم إلى أن قول المفتين في حق العامي ينزل منزلة الدليلين المتعارضين في حق المجتهد وكما يجب على المجتهد الترجيح بين الدليلين، فيجب على العامي الترجيح بين المفتين، إما بأن يتحفظ من كل باب من الفقه مسائل ويتعرف أجوبتها ويسأل عنها فمن أجابه أو كان أكثر إصابة اتبعه، أو بأن يظهر له ذلك بالشهرة والتسامع ولأن طريق معرفة هذه الأحكام إنما هو الظن، والظن في تقليد الأعلم الأدين أقوى فكان المصير إليه أولى.
وذهب القاضي أبو بكر وجماعة من الأصوليين والفقهاء إلى التخيير والسؤال لمن شاء من العلماء، وسواء تساووا أو تفاضلوا، وهو المختار.(4/157)
ويدل على ذلك أن الصحابة كان فيهم الفاضل والمفضول من المجتهدين فإن الخلفاء الأربعة كانوا أعرف بطريق الاجتهاد من غيرهم، ولهذا قال عليه السلام «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ» وقال عليه السلام «أقضاكم علي، وأفرضكم زيد، وأعرفكم بالحلال والحرام معاذ ابن جبل» وكان فيهم العوام ومن فرضه الاتباع للمجتهدين والأخذ بقولهم لا غير. ومع ذلك لم ينقل عن أحد من الصحابة والسلف تكليف العوام الاجتهاد في أعيان المجتهدين، ولا أنكر أحد منهم اتباع المفضول والاستفتاء له مع وجود الأفضل ولو كان ذلك غير جائز لما جاز من الصحابة التطابق على عدم إنكاره والمنع منه، ويتأيد ذلك بقوله عليه السلام (أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم) ولولا إجماع الصحابة على ذلك لكان القول بمذهب الخصوم أولى) أهـ. (الإحكام) للآمدي، جـ 4 صـ 241 ــ 242. فاختيار الآمدي كاختيار الغزالي، وقد استدل كلاهما بما جري عليه العمل زمان الصحابة دون إنكار من أحد فصار إجماعا على أن المستفتي مخير في استفتاء من شاء من المفتين مستوفي الأهلية. والحديث الأخير الذي ذكره الآمدي لايصح كما سبق بيانه.
3 ــ وقال النووي رحمه الله (إذا اجتمع اثنان فأكثر ممن يجوز استفتاؤهم، فهل يجب عليه الاجتهاد في أعلمهم والبحث عن الأعلم والأورع الأوثق ليقلده دون غيره؟.
فيه وجهان:
أحدهما: لا يجب، بل له استفتاء من شاء منهم، لأن الجميع أهل، وقد أسقطنا الاجتهاد عن العامي، وهذا الوجه هو الصحيح عند أصحابنا العراقيين، قالوا: وهو قول أكثر أصحابنا.
والثاني: يجب ذلك، لأنه يمكن هذا القدر من الاجتهاد بالبحث والسؤال وشواهد الأحوال، وهذا الوجه قول أبي العباس بن سريج واختيار القفال المروزي، وهو الصحيح عند القاضي حسين.
والأول أظهر، وهو الظاهر من حال الأولين.(4/158)
قال أبو عمرو رحمه الله: لكن متى اطلع على الأوثق فالأظهر أنه يلزمه تقليده كما يجب تقديم أرجح الدليلين وأوثق الروايتين، فعلى هذا يلزمه تقليد الأورع من العالِمِين والأعلم من الورعين، فإن كان أحدهما أعلم والآخر أورع قلّد الأعلم على الأصح) أهـ (المجموع) جـ 1 صـ 54 ــ 55، ولابن حمدان كلام قريب منه في (صفة الفتوى) صـ 69 ــ 70. واختيار النووي موافق للغزالي والآمدي، وزاد فائدة عن ابن الصلاح أنه متى علم الأوثق لزمه تقليده.
4 ــ وقال ابن القيم رحمه الله (فإن كان في البلد مفتيان أحدهما أعلم من الآخر فهل يجوز استفتاء المفضول مع وجود الفاضل؟ فيه قولان للفقهاء، وهما وجهان لأصحاب الشافعي وأحمد، فمن جَوَّز ذلك رأي أنه يقبل قوله إذا كان وَحْدَه، فوجود مَنْ هو أفضل منه لايمنع من قبول قوله كالشاهد، ومن منع استفتاءه قال: المقصودُ حصولُ مايغلب على الظن الإصابة، وغلبة الظن بفتوى الأعلم أقوى فيتعين، والحق التفصيل بأن المفضول إن ترجَّحَ بديانة أو وَرَع أو تحر للصواب، وعدم ذلك الفاضل فاستفتاء المفضول جائز إن لم يتعين، وإن استويا فاستفتاء الأعلم أولى، والله أعلم) (اعلام الموقعين) جـ 4 صـ 254 ــ 255.
وقال ابن القيم أيضا (هل يلزم المستفتي أن يجتهد في أعيان المفتين ويسأل الأعلم والأدين أم لايلزمه ذلك؟ فيه مذهبان كما سبق، وبينا مأخذهما، والصحيح أنه يلزمه، لأنه المستطاع من تقوى الله تعالى المأمور بها كلُّ أحد ٍ) (اعلام الموقعين) جـ 4 صـ 261. واختيار ابن القيم أنه لايجوز للمستفتي أن يستفتي من شاء من المفتين بل يلزمه البحث عن أفضلهم ليستفتيه. وهو نفس اختيار القرطبي في كلامه التالي، وهو مخالف لاختيارات من سبق ذكرهم.(4/159)
5 ــ قال القرطبي رحمه الله (فرض العامي الذي لايشتغل باستنباط الأحكام من أصولها لعدم أهليته فيما لا يعلمه من أمر دينه ويحتاج إليه أن يقصد أعلم من في زمانه وبلده فيسأله عن نازلته فيمتثل فيها فتواه، لقوله تعالى: «فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون»، وعليه الاجتهاد في أعلم أهل وقته بالبحث عنه، حتى يقع عليه الاتفاق من الأكثر من الناس.) (تفسير القرطبي) جـ 2 صـ 212.
6 ــ وذكر الشوكاني رحمه الله الوجهين في المسألة (التخيير، أو البحث عن الأعلم لأجل استفتائه) ولم يُرجِّح. (ارشاد الفحول) صـ 252.
والذي نختاره في هذه المسألة ماذكره الغزالي وغيره من أن المستفتي مخير في استفتاء من يشاء من المفتين المؤهلين وإن كان فيهم فاضل ومفضول. ومع أن ظاهر الأدلة كقوله تعالى (فاتقوا الله ما استطعتم) التغابن 16، وقوله صلى الله عليه وسلم (ما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم) الحديث متفق عليه، هذه الأدلة تؤيد القول الآخر بوجوب البحث عن الأعلم والأوثق لاستفتائه، إلا أنها أدلة عامة وهى معارضة بإجماع الصحابة على القول الأول (تخيير المستفتي) وهذا دليل خاص يقدم على العام، ومن هنا قال الآمدي ــ في آخر كلامه المذكور آنفا ــ (ولولا إجماع الصحابة على ذلك لكان القول بمذهب الخصوم أولى) (الإحكام) له جـ 4 صـ 242.
ومن الأقوال الحسنة التي تجمع بين الوجهين في المسألة، قول ابن الصلاح (لكن متى اطلع على الأوثق فالأظهر أنه يلزمه تقليده) (المجموع) للنووي جـ 1 صـ 54. فكأنه قال إن المستفتي إن لم يطلع على الأوثق فهو مخيَّر، فإذا علم أوثقهم لم يخيّر ويلزمه تقليده، ويكون هذا على الندب لا الوجوب للإجماع الذي تقدم ذكره. هذا والله تعالى أعلم.
******
المسألة السادسة
ما يجب على المستفتي إذا لم يجد ببلده من يفتيه؟
(الرحلة للاستفتاء)(4/160)
بيّنا في المسائل السابقة حكم الاستفتاء ووجوبه فيما يجب معرفة حكمه، كما بيّنا أنه يجب على المستفتي أن يتوثّق ممن يستفتيه من جهة أهليته للإفتاء، وأنه إذا تعدد المفتون المؤهلون فالمستفتي مخيّر في استفتاء من شاء منهم، أما إذا لم يجد المستفتي مفتيا مؤهلاً ببلده، فهذا موضوع هذه المسألة، والواجب عليه في هذه الحال أن يرحل إلى حيث يجد هذا المفتي، ونقيم فيما يلي الأدلة على وجوب هذه الرحلة من الكتاب والسنة ثم نذكر أقوال العلماء في ذلك.
أولا: من كتاب الله عزوجل.
1 ــ قول الله عزوجل (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون) التوبة 122. فهذا نص في وجوب الرحيل للتفقه إذا لم يمكن إلا بذلك، لأن النفار والرجوع لايكون إلا برحيل، وهذا على قول من قال إن الطائفة المتفقهة هى النافرة كالشافعي وابن حزم.
2 ــ قوله تعالى (فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لاتعلمون) النحل 43. دلت هذه الآية على وجوب الرحلة لأجل استفتاء المفتي الموهل (أهل الذكر) وذلك بدلالة الإشارة، لأنه إذا وَجَب على الجاهل سؤال أهل الذكر فقد وَجَب عليه السَّعي إليهم حيثما كانوا سواء كانوا ببلد المستفتي أو في غير بلده فيرحل إليهم، وهذا من باب مالا يتم الواجب إلا به فهو واجب إذا كان في القدرة والاستطاعة.
ثانيا: من السنة:(4/161)
1 ــ مارواه البخاري رحمه الله في باب (الرحلة في المسألة النازلة) في كتاب العلم من صحيحه، فقد روي بسنده عن عُقبة بن الحارث رضي الله عنه أنه تزوَّج ابنة ً لأبي إهاب بن عزيز، فأتته امرأة فقالت: إني قد أرضعت عقبة والتي تزوج، فقال لها عقبة: ماأعلم أنك أرضعتني، ولا أخبرتني، فركب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، فسأله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (كيف وقد قيل)؟. ففارقها عقبة ونكحت زوجاً غيره. أهـ. (حديث 88). ودلالته على مسألتنا في ارتحال عُقبة من مكة إلى المدينة ليستفتي رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسألته. قال ابن حجر رحمه الله في شرحه («فركب» أي من مكة لأنها كانت دار إقامته. والفرق بين هذه الترجمة وترجمة «باب الخروج في طلب العلم» أن هذا أخص وذاك أعم) (فتح الباري) جـ 1 صـ 185.(4/162)
2 ــ ومنها ما رواه البخاري أيضا ــ في كتاب العلم ــ بسنده عن عامر الشَّعبي قال حدثني أبو بُرْدة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ثلاثة ٌ لهم أجران: رجلٌ من أهل الكتاب آمَنَ بنبيه وآمن بمحمد صلى الله عليه وسلم، والعبد المملوك إذا أدى حق الله وحق مواليه، ورجل كانت عنده أمة ٌ فأدَّبها فأحْسن تأديبها، وعلمها فأحسن تعليمها، ثم أعتقها فتزوجها، فله أجران). ثم قال عامر: أعطيناكها بغير شيء، قد كان يُركب فيما دونها إلى المدينة.أهـ (حديث 97). ودلالة هذا الحديث على مسألتنا في قول الشعبي (قد كان يُركب فيما دونها إلى المدينة) أي لأجل الاستفتاء في هذه المسألة. والشعبي من كبار التابعين بالكوفة، وكان رجل من أهل خراسان قد سأله عمن يعتق أمَتَه ثم يتزوجها، فروي له الحديث المشتمل على جواب مسألته. وقول الشعبي (قد كان يُركب...) يبين ماكان عليه العمل في الصدر الأول من هذه الأمة من الرحلة لأجل الاستفتاء إذا لم يجد المستفتي من يفتيه ببلده. وكانت المدينة دار العلم وذلك قبل تفرق الصحابة في البلدان مع الفتوحات.
ثالثا: أقوال العلماء في المسألة:
1 ــ روي أبو عمر بن عبدالبر رحمه الله بإسناده عن إسحاق بن راهوية رحمه الله قال (طلب العلم واجب، ولم يصحّ فيه الخبر، إلا أن معناه أنه يلزمه طلب علم مايحتاج إليه من وضوئه وصلاته وزكاته إن كان له مال وكذلك الحج وغيره. قال: وما وجَبَ عليه من ذلك لم يستأذن أبويه في الخروج إليه، وماكان فضيلة لم يخرج إليه حتى يستأذن أبويه). قال ابن عبدالبر (يريد إسحاق والله أعلم أن الحديث في وجوب طلب العلم في أسانيده مقال لأهل العلم بالنقل، ولكن معناه صحيح عندهم) (جامع بيان العلم) جـ 1 صـ 9.(4/163)
وموضع الدلالة منه قول إسحاق رحمه الله (وما وجب عليه من ذلك لم يستأذن أبويه في الخروج إليه). وإنما لم يجب الاستئذان لأن طلب هذا العلم فرض عين، بمنزلة فرض العين من الجهاد، لايجب فيه استئذان الوالدين إذا اقتضى طلبه الخروج والرحلة.
2 ــ قال ابن حزم رحمه الله (وكل من كان منا في بادية لايجد فيها من يعلمه شرائع دينه ففرض على جميعهم من رجل أو امرأة أن يَرْحلوا إلى مكان يجدون فيه فقيهاً يعلمهم دينهم، أو أن يُرَحِّلوا إلى أنفسهم فقيها يعلمهم أمور دينهم) (الإحكام) جـ 5 صـ 118.
وقال ابن حزم أيضا (فإن لم يجدوا في محلتهم من يفقههم في ذلك كله كما ذكرنا ففرض عليهم الرحيل إلى حيث يجدون العلماء المحتوين على صنوف العلم، وإن بعدت ديارهم ولو أنهم بالصين، لقوله تعالى «فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم»، والنفار والرجوع لايكون إلا برحيل. ومن وَجَد في محلته من يفقهه في صنوف العلم كما ذكرنا فالأمة مجمعة على
أنه لا يلزمه رحيل في ذلك، إلا القصد إلى مسجد الفقيه أو منزله فقط، كما كان الصحابة يفعلون مع النبي صلى الله عليه وسلم) (الإحكام) جـ 5 صـ 123.
3 ــ وقال الخطيب البغدادي رحمه الله (أول مايلزم المستفتي إذا نزلت به نازلة أن يطلب المفتي ليسأله عن حكم نازلته، فإن لم يكن في محلته وَجَب عليه أن يمضي إلى الموضع الذي يجده فيه، فإن لم يكن ببلده لزمه الرحيل إليه وإن بعدت داره، فقد رحل غير واحد ٍ من السلف في مسألة) (الفقيه والمتفقه) جـ 2 صـ 177.
4 ــ وقال أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله (إن قلت: من تفقه وقرأ كتابا من كتب المذهب أو أكثر، وهو مع ذلك قاصر لم يتصف بصفة أحدٍ من أصناف المفتين الذي سبق ذكرهم، فإذا لم يجد العامي في بلده غيره فرجوعه إليه أولى من أن يبقى في واقعته مرتبكا في حيرته.(4/164)
قلت: إن كان في غير بلده مُفت ٍ يجد السبيل إلى استفتائه فعليه التوصل إلى استفتائه بحسب إمكانه، على أن بعض أصحابنا، ذكر أنه إذا شغرت البلدة عن المفتين فلا يحل المقام فيها، وإن تعذر ذلك عليه ذكر مسألته للقاصر المذكور) (أدب المفتي) صـ 104. وموضع الدلالة في قوله (إن كان في غير بلده مُفت ٍ يجد السبيل إلى استفتائه فعليه التوصل إلى استفتائه بحسب إمكانه) أهـ.
5 ــ وقال النووي رحمه الله (ويجب عليه الاستفتاء إذا نزلت به حادثة يجب عليه علم حكمها، فإن لم يجد ببلده من يستفتيه وجب عليه الرحيل إلى من يفتيه وإن بَعُدَت داره، وقد رحل خلائق من السلف في المسألة الواحدة الليالي والأيام) (المجموع) جـ 1 صـ 54.
وقال النووي أيضا (ولو خَلَتْ البلدة من مُفت ٍ فقيل يحرم المقام بها، والأصح لايحرم إن أمكن الذهاب إلى مُفْتٍ) (المجموع) جـ 1 صـ 27. وهو هنا يُعلق على ما ذكره ابن الصلاح من قول بعض الأصحاب (إنه إذا شغرت البلدة عن المفتين فلا يحل المقام بها). فقال النووي إن هذا ينجبر بالرحلة إلى حيث يوجد المفتون.
والخلاصة: أنه حيث وجب الاستفتاء، يجب على المستفتي أن يبحث عن المفتي المؤهل ليستفتيه، فإن لم يجده ببلده وجب عليه الرحيل إلى حيث يجده.
ولنا عود إلى هذه المسائل مرة أخرى إن شاء الله عند الكلام في مسألة العذر بالجهل، عند الكلام في التمكّن من العلم حيث سنذكر إن شاء الله أنه يدخل في التمكن القدرة على الرحلة إلى حيث يتعلم ويسأل، فإن كان قادراً ولم يرحل فهو مقصِّر، وسيأتي التعرض لمسألة التمكن من العلم في المسألة التالية إن شاء الله تعالى.
******
المسألة السابعة
ما يجب على المستفتي إذا لم يجد من يفتيه البته؟(4/165)
سبق ذكر هذه المسألة عند الكلام في مراتب المفتين في الفصل السابق (أحكام المفتي)، وإذا كنا قد بيّنا ــ فيما سبق ــ أن الواجب على المستفتي استفتاء المفتي المؤهل، فإن هذا يجب بحسب القدرة عليه، فإذا لم يجد المستفتي مفتيا مؤهلا لا ببلده ولا بالارتحال أو لا يمكنه الارتحال إليه، انتقل المستفتي إلى مَنْ دون المفتي المؤهل في الرتبة ــ كما ذكرناه في مراتب المفتين في الفصل السابق ــ فعند فقد المفتي المؤهل وهو المجتهد المستقل.
يستفتى المفتي غير المستقل (المنتسب لمذهب)، فإن لم يجده:
يستفتي المجتهد في باب أو مسألة إن كانت مسألته، فإن لم يجده:
يستفتي من تفقه وقرأ كتابا من كتب الفقه، فإن لم يجده:
يستفتي من كان عنده كتب الحديث أو بعضها، فإن لم يجده:
يستفتي العامي الذي يعرف حكم مسألته، فإن لم يجده:
فهذا هو موضوع مسألتنا (إذا لم يجد المستفتي من يفتيه ألبته) وهذه الصورة جائزة الحدوث في أي زمان، وهى صورة الخلو النسبي للأرض من المجتهدين والمفتين، في مقابل الخلو المطلق الذي لايقع إلا قبيل قيام الساعة كما ذكرناه بدليله في الفصل السابق.
وقد ذكرنا في الفصل السابق أن في هذه المسألة قولين:
القول الأول: قول فقهاء الشافعية كإمام الحرمين وابن الصلاح والنووي: أنه لاتكليف عليه ويفعل ما يشاء، كمن لم تبلغه الدعوة ولا مؤاخذة عليه. وكذلك قال الشاطبي من المالكية.
والقول الثاني: قول ابن القيم إنه يتقي الله مااستطاع ويفعل مايغلب على ظنه أنه الحق والصواب، فإن للحق أمارات، فإن لم يتبين له شيء فالأمر كما قاله فقهاء الشافعية آنفا.(4/166)
وقد ذكرنا أقوال الفريقين في الفصل السابق فلا داعي لإعادتها هنا، وذكرنا هناك أن القول الذي نطمئن إليه هو قول ابن القيم رحمه الله أنه يتقي الله مااستطاع ويفعل مايظنه الحق فإن عجز فلا تكليف عليه. فابن القيم لم يُسقط عنه التكليف ابتداء وإنما ألزمه بتحري الصواب قبل ذلك، وهذا هو ماتشهد له الأدلة الشرعية كما بيَّنا ذلك في الفصل السابق.
******
المسألة الثامنة
هل يلزم العاميّ أن يتمذهب بمذهب مُعَيَّن؟
تحدثنا في المسائل السابقة عن حكم الاستفتاء، وصفة المفتي، ومايفعل المستفتي إذا تعدّد عنده المفتون المؤهلون. ونتحدث في هذه المسألة عن التمذهب، وهل يلزم العامي أن يتمذهب بمذهب مُعيَّن؟، فلا يستفتي إلا فقيها من هذا المذهب الذي التزمه. أم لايلزمه ذلك؟.
وفي مسألتنا هذه (التمذهب) نبحث الموضوعات التالية:
1 ــ بيان أن التمذهب بمذهب معيّن من البدع الحادثة بعد القرون الثلاثة المفضّلة.
2 ــ بيان اختلاف العلماء في حكم التمذهب.
3 ــ الكلام في: من التزم مذهبا معينا هل له أن يتحول عنه؟.
أولا: بيان أن التمذهب بمذهب معين من البدع الحادثة بعد القرون الثلاثة المفضلة.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (خيرُ أمتي قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم) الحديث متفق عليه، فهذه هى القرون الثلاثة المفضّلة.(4/167)
والقرن: قد يراد به مدة من الزمان، وقد يراد به جيل من الناس (وهم أهل زمان واحد متقارب اشتركوا في أمرٍ من الأمور المقصودة). والمعنى الثاني هو المراد في هذا الحديث، فالمراد بقرن النبي صلى الله عليه وسلم: الصحابة، (ثم الذين يلونهم): هم التابعون، (ثم الذين يلونهم) هم اتباع التابعين. قال ابن حجر رحمه الله (واتفقوا أن آخر من كان من اتباع التابعين ممن يُقبل قوله من عاش إلى حدود العشرين ومائتين، وفي هذا الوقت ظهرت البدع ظهوراً فاشيا، وأطلقت المعتزلة ألسنتها، ورفعت الفلاسفة رءوسها، وامتُحن أهلُ العلم ليقولوا بخلق القرآن، وتغيّرت الأحوال تغيراً شديداً، ولم يزل الأمر في نقصٍ إلى الآن) (فتح الباري) جـ 7 صـ 6.
ولم يكن التمذهب معروفاً ولا معمولاً به في القرون الثلاثة المفضّلة، وإنما حدث بعد ذلك، ولو كان خيراً لعمل به أهل هذه القرون الذين شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالخيرية، فهو من البدع المحدثة بلاشك، ذكر هذا ابن حزم رحمه الله في (الإحكام) جـ 6 صـ 146.
قال ابن القيم رحمه الله (وأيضا فإنا نعلم بالضرورة أنه لم يكن في عصر الصحابة رجل واحد اتخذ رجلا منهم يقلده في جميع أقواله فلم يسقط منها شيئاً، وأسقط أقوال غيره فلم يأخذ منها شيئا. ونعلم بالضرورة أن هذا لم يكن في عصر التابعين ولا تابعي التابعين، فليكذبنا المقلدون برجل واحد سلك سبيلهم الوخيمة في القرون الفضيلة على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما حدثت هذه البدعة في القرن الرابع المذموم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم) (اعلام الموقعين) جـ 2 صـ 189.(4/168)
وقال الشيخ الشنقيطي رحمه الله (وأما نوع التقليد الذي خالف فيه المتأخرون الصحابة وغيرهم من القرون المشهود لهم بالخير، فهو تقليد رجل واحد معين دون غيره، من جميع العلماء. فإن هذا النوع من التقليد، لم يرد به نص من كتاب ولاسنة، ولم يقل به أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أحد من القرون الثلاثة المشهود لهم بالخير.
وهو مخالف لأقوال الأئمة الأربعة رحمهم الله. فلم يقل أحد منهم بالجمود على قول رجل واحد معين دون غيره، من جميع علماء المسلمين.
فتقليد العالم المعين من بدع القرن الرابع، ومن يدعي خلاف ذلك، فليعين لنا رجلا واحداً من القرون الثلاثة الأول، التزم مذهب رجل واحد معين ولن يستطيع ذلك أبداً، لأنه لم يقع البتة) (أضواء البيان) جـ 7 صـ 488 ــ 489.
ثانيا: بيان اختلاف العلماء في حكم التمذهب.
التمذهب: بمعنى التزام الشخص بأقوال مذهب معين لايخرج عنها في استفتائه وعمله، اختلف العلماء في حكمه بين مانع ومبيح وموجب له.
1 ــ أما من منع من التمذهب: فحجته أن التمذهب بدعة نشأت بعد القرون الثلاثة المفضّلة ولم يعمل به السلف، وأنه لايوجد دليل شرعي يوجب ذلك، وأن الحق لاينحصر في قول رجل وإلا لكان معصوماً ولامعصوم في هذه الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم، بل كل أحد ٍ بعده يؤخذ من قوله ويُترك، وأن الله تعبّدنا باتباع الحق لابقول فلان من العلماء فحيثما كان الحق اتبعناه سواء قاله فلان أو فلان، إلى آخر ما سيأتي في كلامهم. وممن قال بالمنع ابن القيم، وقال: يستفتي العامي من شاء من العلماء دون التقيد بمذهب معين، وإليك نص كلامه.
قال ابن القيم رحمه الله (هل يلزم العامي أن يتمذهب ببعض المذاهب المعروفة أم لا؟، فيه مذهبان:(4/169)
أحدهما: لايلزمه، وهو الصواب المقطوع به، إذ لا واجب إلا ما أوجبه الله ورسوله، ولم يوجب الله ولا رسوله على أحد ٍ من الناس أن يتمذهب بمذهب رجل من الأمة فيقلده دينه دون غيره، وقد انطوت القرون الفاضلة مبرأة أهلها من هذه النسبة، بل لايصح للعامي مذهب ولو تمذهب به، فالعامي لامذهب له، لأن المذهب إنما يكون لمن له نوع نظر واستدلال، ويكون بصيراً بالمذاهب على حَسَبه، أو لمن قرأ كتاباً في فروع ذلك المذهب وعرف فتاوي إمامه وأقواله، وأما مَنْ لم يتأهل لذلك البتة بل قال: أنا شافعي، أو حنبلي، أو غير ذلك، لم يصر كذلك بمجرد القول، كما لو قال: أنا فقيه، أو نحوي، أو كاتب، لم يصر كذلك بمجرد قوله.
يوضحه أن القائل إنه شافعي أو مالكي أو حنفي يزعم أنه متبع لذلك الإمام، سالك طريقه، وهذا إنما يصح له إذا سلك سبيله في العلم والمعرفة والاستدلال، فأما مع جهله وبعده جداً عن سيرة الإمام وعلمه وطريقه فكيف يصح له الانتساب إليه إلا بالدعوي المجردة والقول الفارغ من كل معنى؟ والعامي لايتصور أن يصح له مذهب، ولو تصور ذلك لم يلزمه ولا لغيره، ولا يلزم أحداً قط أن يتمذهب بمذهب رجل من الأمة بحيث يأخذ أقواله كلها ويدعُ أقوال غيره.
وهذه بدعة قبيحة حدثت في الأمة، لم يقل بها أحد من أئمة الإسلام، وهم أعلى رتبة وأجل قدراً وأعلم بالله ورسوله من أن يلزموا الناس بذلك، وأبعد منه قول من قال: يلزمه أن يتمذهب بمذهب عالم من العلماء، وأبعد منه قول من قال: يلزمه أن يتمذهب بأحد المذاهب الأربعة.(4/170)
فيالله العجب ! ماتت مذاهب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومذاهب التابعين وتابعيهم وسائر أئمة الإسلام، وبطلت جملة إلا مذاهب أربعة أنفس ٍ فقط من بين سائر الأئمة والفقهاء، وهل قال ذلك أحد من الأئمة أو دعا إليه أو دلت عليه لفظة واحدة من كلامه عليه؟ والذي أوجبه الله تعالى ورسوله على الصحابة والتابعين وتابيعهم هو الذي أوجبه على من بعدهم إلى يوم القيامة، لايختلف الواجب ولايتبدل، وإن اختلفت كيفيته أو قدره باختلاف القدرة والعجز والزمان والمكان والحال فذلك أيضا تابع لما أوجبه الله ورسوله، ومن صحح للعامي مذهبا قال: هو قد اعتقد أن هذا المذهب الذي انتسب إليه هو الحق، فعليه الوفاء بموجب اعتقاده، وهذا الذي قاله هؤلاء لو صح للزم منه تحريم استفتاء أهل غير المذهب الذي انتسب إليه، وتحريم تمذهبه بمذهب نظير إمامه أو أرجح منه، أو غير ذلك من اللوازم التي يدل فسادها على فساد ملزوماتها، بل يلزم منه أنه إذا رأي نص رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قول خلفائه الأربعة مع غير إمامه أن يترك النصَّ وأقوال الصحابة ويُقَدِّم عليها قول من انتسب إليه.
وعلى هذا فله أن يستفتي من شاء من أتباع الأئمة الأربعة وغيرهم، ولايجب عليه ولا على المفتي أن يتقيد بأحد من الأئمة الأربعة بإجماع الأمة ــ إلى أن قال: ــ
ولكن ليس له أن يتبع رخص المذاهب وأخْذُ غرضه من أي مذهب وجده فيه، بل عليه اتباع الحق بحسب الإمكان) أهـ (اعلام الموقعين) جـ 4 صـ 261 ــ 264.
2 ــ وأما من أوجبوا التمذهب: فحجتهم أنا لو تركنا العامي مخيّرا في استفتاء من يشاء من الفقهاء لأفضى به هذا إلى التلفيق وإلى تتبع رخص المذاهب، بما يؤدي إلى انحلال ربقة التكليف، فوجب إلزامه بمذهب معيّن يأخذ بُرخَصه وعزائمه.(4/171)
أما التلفيق: فكأن يتزوج بلا وليّ عملا بقول الأحناف، وبلا شهود عملا بقول المالكية. فلفّق قولا من المذهبين. مع أن نكاحه هذا باطل على المذهبين، فإن من لم يشترط الولي اشترط الشهود، ومن يشترط الشهود اشترط الولي.
وأما تتبع رخص المذاهب: فمثاله قول أحمد بن حنبل رحمه الله (لو أن رجلا عمل بقول أهل الكوفة في النبيذ، وأهل المدينة في السماع، وأهل مكة في المتعة كان فاسقا) أهـ. (ارشاد الفحول) صـ 253.
ومن هنا قال بعض العلماء بوجوب التزام العامي بمذهب معين، كما قال النووي رحمه الله (وبه قطع أبو الحسن الكيّا، وهو جارٍ في كل من لم يبلغ رتبة الاجتهاد من الفقهاء وأصحاب سائر العلوم، ووجهه أنه لو جاز اتباع أي مذهب شاء لأفضى إلى أن يلتقط رخص المذاهب متبعاً هواه ويتخيّر بين التحليل والتحريم والوجوب والجواز، وذلك يؤدي إلى انحلال ربقة التكليف بخلاف العصر الأول فإنه لم تكن المذاهب الوافية بأحكام الحوادث مهذبة وعرفت، فعلى هذا يلزمه أن يجتهد في اختيار مذهب يقلده على التعيين) (المجموع) جـ 1 صـ 55.
وعلى هذا فإن من قال بوجوب التمذهب ليس معه دليل إلا سد ذريعة الترخّص. وإلى هذا القول مال النووي ورجح للعامي التمذهب بمذهب الشافعي رحمه الله. وقد احتاط من قال بالمنع من التمذهب بأن قال أن عدم التمذهب لايُسّوِّغ للعامي تتبع رخص المذاهب كما في آخر الكلام السابق لابن القيم. وهذا إجماع لاخلاف فيه كما قال ابن عبدالبر (قال سليمان التيمي: إن أخذت برخصة كل عالم اجتمع فيك الشَّرُ كلُّه) قال ابن عبدالبر (هذا إجماع لا أعلم فيه خلافا) (جامع بيان العلم) جـ 2 صـ 92.(4/172)
3 ــ أما من أجاز التمذهب دون أن يوجبه: فمنهم ابن تيمية، فقد سُئل رحمه الله (ماتقول السادة العلماء أئمة الدين ــ رضي الله عنهم أجمعين ــ في رجل سئل إيش مذهبك؟ فقال: محمدي، أتبع كتاب الله وسنة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، فقيل له: ينبغي لكل مؤمن أن يتبع مذهباً ومن لامذهب له فهو شيطان ! فقال: إيش كان مذهب أبي بكر الصديق والخلفاء بعده رضي الله عنهم؟ فقيل له: لاينبغي لك إلا أن تتبع مذهباً من هذه المذاهب، فأيهما المصيب؟ أفتونا مأجورين !
فأجاب:
الحمد لله. إنما يجب على الناس طاعة الله والرسول، وهؤلاء أولوا الأمر الذين أمر الله بطاعتهم في قوله: (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) إنما تجب طاعتهم تبعاً لطاعة الله ورسوله لا استقلالا، ثم قال:(فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر، ذلك خير وأحسن تأويلا).
وإذا نزلت بالمسلم نازلة فإنه يستفتي من اعتقد أنه يفتيه بشرع الله ورسوله من أي مذهب كان، ولايجب على أحد من المسلمين تقليد شخص بعينه من العلماء في كل ما يقول، ولا يجب على أحد من المسلمين التزام مذهب شخص معين غير الرسول صلى الله عليه وسلم في كل مايوجبه ويخبر به، بل كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
واتباع شخص لمذهب شخص بعينه لعجزه عن معرفة الشرع من غير جهته إنما هو مما يسوغ له، ليس هو مما يجب على كل أحد إذا أمكنه معرفة الشرع بغير ذلك الطريق، بل كل أحد عليه أن يتقي الله مااستطاع، ويطلب علم ماأمر الله به ورسوله، فيفعل المأمور، ويترك المحظور. والله أعلم) (مجموع الفتاوي) جـ 20 صـ 208 ــ 209.(4/173)
وقال ابن تيمية أيضا (وإذا كان الرجل متبعا لأبي حنيفة أو مالك أو الشافعي أو أحمد: ورأي في بعض المسائل أن مذهب غيره أقوى فاتبعه كان قد أحسن في ذلك. ولم يقدح في دينه. ولا عدالته بلا نزاع، بل هذا أولى بالحق. وأحب إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ممن يتعصب لواحد معين، غير النبي صلى الله عليه وسلم، كمن يتعصب لمالك أو الشافعي أو أحمد أو أبي حنيفة، ويرى أن قول هذا المعين هو الصواب الذي ينبغي اتباعه، دون قول الإمام الذي خالفه.
فمن فعل هذا كان جاهلا ضالا، بل قد يكون كافراً، فإنه متى اعتقد أنه يجب على الناس اتباع واحد بعينه من هؤلاء الأئمة دون الإمام الآخر فإنه يجب أن يستتاب، فإن تاب وإلا قُتل، بل غاية مايقال: إنه يسوغ أو ينبغي أو يجب على العامي أن يقلد واحدا لا بعينه، من غير تعيين زيد ولا عمرو.
وأما أن يقول قائل: إنه يجب على العامة تقليد فلان أو فلان، فهذا لايقوله مسلم.
ومن كان مواليا للأئمة محباً لهم يقلد كل واحد منهم فيما يظهر له أنه موافق للسنة فهو محسن في ذلك) (مجموع الفتاوى) جـ 22 صـ 248 ــ 249.(4/174)
وقول شيخ الإسلام إن من أوجب اتباع عالم بعينه يستتاب وإلا قتل، يعني أنه يكفر بهذا القول، لأن حقيقة قوله أنه جعل هذا العالم رباً أو نبياً معصوماً، كما بينه ابن تيمية في قوله (ولو فُتح هذا الباب لوجب أن يُعرض عن أمر الله ورسوله، ويبقى كل إمام في أتباعه بمنزلة النبي صلى الله عليه وسلم في أمته، وهذا تبديل للدين يشبه ما عاب الله به النصارى في قوله «اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم، وماأمروا إلا ليعبدوا إلها واحداً لا إله إلا هو، سبحانه عما يشركون» ــ التوبة 31 ــ، والله سبحانه وتعالى أعلم) (مجموع الفتاوي) 20/216. وقال العلامة صالح بن محمد الفلاّني رحمه الله (1218هـ): (قال شيخ مشايخنا محمد حياة السندي: اللازم على كل مسلم أن يجتهد في معرفة معاني القرآن وتتبع الأحاديث وفهم معانيها وإخراج الأحكام منها، فإن لم يقدر فعليه أن يقلد العلماء من غير التزام مذهب، لأنه يشبه اتخاذه نبياً). قال الفلاني معقبا على ذلك: وقوله (يشبه اتخاذه نبياً... الخ » بل هو عين اتخاذه رباً، على ماتقدم في المقدمة عند تفسير قوله تعالى «اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله» الآية من حديث عدي بن حاتم وغيره) أهـ (ايقاظ همم أولي الأبصار) للفلاني، صـ 70.
وقال ابن تيمية أيضا ــ مُبَيِّنا قول الجمهور في المسألة ــ (وأصل هذه المسألة أن العامي هل عليه أن يلتزم مذهبا معيناً يأخذ بعزائمه ورخصه؟ فيه وجهان لأصحاب أحمد، وهما وجهان لأصحاب الشافعي، والجمهور من هؤلاء وهؤلاء لايوجبون ذلك، والذين يوجبونه يقولون: إذا التزمه لم يكن له أن يخرج عنه مادام ملتزما له أو مالم يتبين له أن غيره أولى بالالتزام منه.) (مجموع الفتاوي) جـ 20 صـ 222.(4/175)
وبعد: فهذه أقوال العلماء في حكم التمذهب: من قال بالمنع، ومن قال بالوجوب، ومن قال بالجواز. والذي نختاره من هذه الأقوال قول شيخ الإسلام ابن تيمية في المسألة أن التمذهب إنما هو مما يسوغ للحاجة من غير إيجاب، وأنه لايحل التقيد بالمذهب في مسألة ٍ ما إذا علم أن الحق الذي يشهد له الدليل بخلافه.
وسوف نذكر في الباب الخاص بالكتب التي نوصي بدراستها أن دراسة الفقه ينبغي أن تكون من خلال الكتب المذهبية نظراً لما توفره من منهج متدرج متكامل في الدراسة، وسيأتي بيان ذلك فيما بعد إن شاء الله تعالى.
ثالثا: من التزم مذهبا معينا هل يجوز أن يتحوّل عنه؟
والجواب: أنه يجب عليه ذلك إن كان تحوله إلى الحق بأن يظهر له أن غير مذهبه أولى بالاتباع في مسألة معينة، قال تعالى (اتبعوا ماأنزل إليكم من ربكم ولاتتبعوا من دونه أولياء) الأعراف 3، ولايجوز له التحول إن كان لمجرد تتبع رخص المذاهب.
قال ابن تيمية رحمه الله (ولا ريب أن التزام المذاهب والخروج عنها إن كان لغير أمر ديني مثل: أن يلتزم مذهبا لحصول غرض دنيوي من مال أو جاه ونحو ذلك: فهذا مما لا يحمد عليه، بل يذم عليه في نفس الأمر، ولو كان ماانتقل إليه خيرا مما انتقل عنه، وهو بمنزلة من لايُسلم إلا لغرض دنيوي، أو يهاجر من مكة إلى المدينة لامرأة يتزوجها أو دنيا يصيبها، وقد كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم رجل هاجر لامرأة يقال لها أم قيس، فكان يقال له: مهاجر أم قيس، فقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ مانوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه».(4/176)
وأما إن كان انتقاله من مذهب إلى مذهب لأمر ديني، مثل أن يتبين رجحان قول على قول، فيرجع إلى القول الذي يرى أنه أقرب إلى الله ورسوله: فهو مثاب على ذلك، بل واجب على كل أحد إذا تبين له حكم الله ورسوله في أمر أن لا يعدل عنه، ولا يتبع أحداً في مخالفة الله ورسوله، فإنَّ الله فرض طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم على كل أحد في كل حال، وقال تعالى: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم، ثم لايجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما)، وقال تعالى: (قل: إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم)، وقال تعالى: (وماكان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم) (مجموع الفتاوى) جـ 20 صـ 222 ــ 223. وأنبه على أن قصة مهاجر أم قيس قد قال ابن حجر إن الطبراني رواها بإسناد صحيح، ولكن لايوجد في طرق حديث هذه القصة مايدل على أن حديث (الأعمال بالنيات) سيق بسبب ذلك (فتح الباري) 1/10.
وقد سبق في الفصل السابق بيان أن المفتي يجب عليه أن يفتي بالقول الراجح وإن كان خلاف مذهبه، فكذلك المستفتي يجب عليه أن يعمل بالقول الراجح وإن كان خلاف مذهبه، وسوف يأتي الكلام فيما إذا اختلف على المستفتي مفتيان فأكثر وذلك في المسألة السادسة عشرة إن شاء الله.
أما إن كان ترك المذهب لأجل تتبع رخص المذاهب فإن هذا لا يجوز، ونقل ابن عبدالبر فيه الإجماع كما سبق قريبا.
وبهذا نختم الكلام في مسألة التمذهب.
******
المسألة التاسعة: كتابة الاستفتاء(4/177)
المسائل السابقة من الثالثة إلى الثامنة كانت كلها متعلقة بصفة من يستفتيه العامي، وإن كان هذا هو عنوان المسألة الثالثة إلا أن ما تلاها من مسائل متعلق بها، كالبحث عن المفتي المؤهل، ومايفعل إذا تعدد المفتون المؤهلون؟، ومايفعل إذا لم يجد من يفتيه ببلده أو لم يجده البته؟، وهل يلزمه التقيد باستفتاء فقهاء مذهب معين (التمذهب)؟. فهذه المسائل كلها متعلقة بصفة من يستفتيه العامي.
أما المسائل من التاسعة إلى الثالثة عشرة فمتعلقة بذات الإستفتاء، بدءًا من كتابة الاستفتاء، إلى تأدب المستفتي مع المفتي، إلى مايفعله من أراد استفتاء جمع من الفقهاء؟، إلى الإنابة في الاستفتاء، إلى هل يكتفي المستفتي بالتقليد أم يجب عليه طلب الدليل؟. ونبدأ هذه المسائل بكتابة الاستفتاء، فنقول وبالله التوفيق:
لا يجب كتابة الاستفتاء، فيجوز الاستفتاء شفاهة أو كتابة، وأسئلة الصحابة رضي الله عنهم للنبي صلى الله عليه وسلم كانت شفاهة لا كتابة فقد كانت الأمّية غالبة عليهم، وشهرة هذا الأمر تغني عن ضرب الأمثلة.
أما إذا أراد المستفتي كتابة سؤاله أو إذا طلب المفتي ذلك منه، فينبغي أن يراعي ماذكره العلماء في هذا الشأن، ومن هذا
قول النووي رحمه الله (ينبغي أن يكون كاتب الرقعة ممن يُحسن السؤال ويضعه على الغرض مع إبانة الخط واللفظ وصيانتهما عما يتعرض للتصحيف. قال الصيمري: يحرص أن يكون كاتبها من أهل العلم وكان بعض الفقهاء ممن له رياسة لايفتي إلا في رقعة كتبها رجل بعينه من أهل العلم ببلده)(4/178)
وقال النووي أيضا:(وتكون رقعة الاستفتاء واسعة ليتمكن المفتي من استيفاء الجواب واضحاً لا مختصراً مضراً بالمستفتي، ولايدع الدعاء في الرقعة لمن يستفتيه، قال الصيمري: فإن اقتصر على فتوى واحد قال ماتقول رحمك الله أو رضى الله عنك أو وفقك الله وسددك ورضي عن والديك، ولايحسن أن يقول رحمنا الله وإياك، وان أراد جواب جماعة قال ماتقولون رضي الله عنكم أو ما تقول الفقهاء سددهم الله تعالى، ويدفع الرقعة إلى المفتي منشورة ويأخذها منشورة فلا يحوجه إلى نشرها ولا إلى طيها.) (المجموع) جـ 1 صـ 57. وذكر ابن حمدان كلاما قريبا من هذا (صفة الفتوى) صـ 83 ــ 84.
******
المسألة العاشرة: تأدّب المستفتي مع المفتي
وأصل ذلك من كتاب الله قوله تعالى (إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً، لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزّروه وتوقروه وتسبّحوه بكرة وأصيلا) الفتح 8 ــ 9. ولما كان العلماء ورثة الأنبياء، فإن لهم نصيباً من التوقير الواجب للنبي صلى الله عليه وسلم، والتوقير هو الاحترام والإجلال والإعظام.
وأخصّ من هذا قوله صلى الله عليه وسلم (إن من إجلال الله تعالى إكرام ذي الشّيبه المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه، وإكرام ذي السلطان المُقْسط) حديث حسن رواه أبو داود عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
وروي أحمد بإسناد حسن عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (ليس مِن أمتي مَن لم يُجل كبيرنا ويرحم صغيرنا ويعرف لعالمنا) أهـ. وقوله (ويعرف لعالمنا) أي حقه.(4/179)
وفي تأدب المستفتي مع المفتي قال ابن حمدان رحمه الله (ينبغي للمستفتي التأدب مع المفتي، وأن يُجِلّه في خطابه وسؤاله ونحو ذلك، فلا يوميء بيده في وجهه، ولايقل له: ماتحفظ في كذا وكذا؟ أو ما مذهب إمامك فيه؟ ولايقل إذا أجابه: وهكذا قلت أنا، أو كذا وقع لي، ولايقل له: أفتاني فلان أو أفتاني غيرك بكذا وكذا، ولايقل إذا استفتى في رقعة: إن كان جوابك موافقا لمن أجاب فيها فاكتبه وإلا فلا تكتبه، ولايسأل وهو قائم أو مستوفز أو على حالة ضجر أو همِّ أو غير ذلك مما يشغل القلب.) (صفة الفتوى) صـ 83. وللنووي مثله في (المجموع) جـ 1 صـ57. وقوله (ولايسأل وهو قائم) هو من باب سد ذريعة احتمال الكِبر، وإلا فهذا جائز وقد بوّب عليه البخاري في كتاب العلم من صحيحه في باب من سأل وهو قائم عالما جالسا)، وفيه روي بسنده عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: جاء رجل ٌُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يارسول الله ما القتال في سبيل الله؟، فإن أحدنا يقاتل غضباً ويقاتل حميَّة، فرفع إليه رأسه ــ قال: وما رفع إليه رأسه إلا أنه كان قائما ــ فقال (من قاتل لتكون كلمة الله هى العليا فهو في سبيل الله عزوجل) (حديث 123). قال ابن حجر في شرحه (والمراد أن العالم الجالس إذا سأله شخص قائم لايُعدّ مِن باب مَنْ أحب أن يتمثل له الرجال قياما، بل هذا جائز، بشرط الأمن من الاعجاب، قاله ابن المنيِّر ــ إلى أن قال ابن حجر ــ وفي الحديث شاهد لحديث «الأعمال بالنيات»، وأنه لابأس بقيام طالب الحاجة عند أمن الكِبر) (فتح الباري) جـ 1 صـ 222.(4/180)
هذا، ويرد في هذه المسألة ماذكرناه في (آداب المتعلم مع شيخه) في الفصل الثالث من الباب الرابع، ومنها توقير الطالب للشيخ وذكرنا فيه حديث ابن عباس لما هاب أن يسأل عمر سؤالا لمدة سنة، وذكرنا فيه خفض الطالب صوته عند الشيخ وكيف استدل العلماء لذلك بقوله تعالى (لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولاتجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض) الحجرات 2، إلى آخر ماذكرناه هناك.
(فائدة) التأدب مع العلماء وتوقيرهم ذريعة إلى تعظيم ما يقولون به من الدين وامتثاله.
وعلى العكس من ذلك فإن الاستهانة بالعلماء والاستخفاف بهم مؤذن بالاستهانة بالدين والاستخفاف به، وكلاهما يكفر فاعله، لقوله تعالى (قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون، لاتعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم) التوبة 65 ــ 66، وسبب نزول هذه الآيات هو استهزاء المنافقين بعلماء الصحابة (القُرَّاء) فجعل الاستهزاء بالعلماء كالاستهزاء بالله وآياته ورسوله صلى الله عليه وسلم، وكلاهما يكفر فاعله. ولأجل سد ذرائع هذا الكفر كان التأدب مع العلماء وتوقيرهم واجبا من أجل تعظيم الدين نفسه.(4/181)
وأعداء الرسل من العلمانيين والحكام الطواغيت وغيرهم من شياطين الإنس يدركون هذه الحقيقة جيداً، ولهذا فإنهم يتخذون الاستهزاء بالعلماء والاستخفاف بهم سُلَّماً إلى غرس الاستخفاف بالدين في نفوس المسلمين، ويقوم المجرمون بالاستخفاف بالعلماء في صور شتى منها: إخراجهم في صور مضحكة أو مستنكرة في الصحف والمجلات وفي المسرحيات التمثيلية والأفلام السينمائية لغرس تحقيرهم والاستهانة بهم في نفوس المسلمين، ومنها وضع العلماء في درجات وظيفية متدنّية من جهة المرتبات والمزايا الأدبية لإذلالهم وتحقيرهم، ومن أوائل من اتبع هذه السياسة اللورد كرومر المندوب السامي البريطاني في مصر في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي كما ذكره الدكتور محمد محمد حسين في كتابه (الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر)، ومن وقتها والاستهانة بالعلماء وغيرهم من الرموز الدينية بشتى الصور أصبحت من السياسات الثابتة للحكومات العلمانية الكافرة بُغية إضعاف الوازع الديني في نفوس المسلمين.(4/182)
ولا شك في أن هذه السياسة قد أثمرت ثمارها الخبيثة في صور: منها شيوع الاستخفاف بالدين وبرموزه، ومنها قلة مبالاة الناس بالدين حتى أنهم ليقدمون على الأقوال والأعمال بغير علم ولايفكرون في استفتاء العلماء فيما هم مقدمون عليه أو متلبسون به إلا النادر من المسلمين، ومن الثمار الخبيثة لهذه السياسة انصراف النبهاء والأذكياء من أبناء المسلمين عن التعليم الديني إلى التعليم الدنيوي بسبب سوء أوضاع خريجي المعاهد الدينية مادياً وأدبياً في مقابل خريجي التعليم الدنيوي، فأصبح لايلتحق بالمعاهد الدينية إلا ضعاف الطلاب في الغالب بما أدى إلى الضعف العام في المستوى العلمي لخريجي هذه المعاهد وهذا معلوم مشاهد في شتى البلدان، وقارن هذا بأحوال السلف من كان منهم يحفظ مليوناً من الأحاديث كأحمد بن حنبل، ومن كان منهم يحفظ أكثر من نصف مليون حديث وهم كثير كالبخاري وغيره، ومن سُمى منهم (بصاعقة) لشدة حفظه وذكائه وهو محمد بن عبدالرحيم من شيوخ البخاري، ومن قيل عنه إن أحد أبويه كان جِنّياً على سبيل المبالغة لشدة حفظه وهو أبوبكر الأثرم من تلاميذ أحمد بن حنبل، وغيرهم كثير ممن ذكرهم الحافظ ابن رجب الحنبلي في كتابه (الحث على حفظ العلم) وفي غيره من كتب التراجم، ومن الثمار الخبيثة لهذه السياسة إذلال المنتسبين إلى العلم والدين حتى أن كثيراً منهم لايجرؤن على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولاعذر لهم في ذلك، فقد بلّغ الأنبياء عليهم السلام ماوجب عليهم من البلاغ برغم استهزاء أقوامهم بهم، قال تعالى (يا حسرة على العباد مايأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزءون) يس 30.
وقد وردت الشريعة بسد ذرائع هذا كله بما أوجبته من توقير العلماء وإجلالهم لما في ذلك من توقير للدين نفسه. هذا والله تعالى المستعان وهو حسبنا ونعم الوكيل.
******
المسألة الحادية عشرة
ما يفعل من أراد استفتاء جمع ٍ من الفقهاء؟(4/183)
يلجأ المستفتي إلى استفتاء جمع ٍ من الفقهاء عند إرادة التَّثبت من الفتوى، وذلك في المسائل الهامة أو العامة، أو إذا اختلف عليه مفتيان، أو إذا أفتاه مفتٍ بما لم تطمئن له نفسه، قال ابن حمدان (فلو استفتي فقيها فلم تسكن نفسه إليه، سأل ثانيا وثالثا حتى تسكن نفسه.... لقوله صلى الله عليه وسلم «استفت نفسك وإن أَفْتَوك وأفتوك» وقوله:«دع مايَريبك إلى مالا يَريبك» وقوله:«الإثم ما حاك في النفس» وقوله «الإثم حَزَّاز القلوب» فإن حصل السكون والطمأنينة بقول واحد وإلا زاد ليحصل ذلك) أهـ باختصار. (صفة الفتوى) صـ 56.
فإذا أراد استفتاء جمع من الفقهاء، فقال ابن حمدان (يبدأ بالأَسَنّ الأعلم من المفتين، وبالأولى فالأولى على ماسبق بيانه، وقيل: إذا أراد جمع الجوابات في رقعة، قدّم الأَسَنَّ والأعلم، وإذا أراد إفراد الجوابات في رقاع فلا يبالي بأيهم بدأ.) (صفة الفتوى) صـ 83، للنووي مثله في (المجموع) جـ 1 صـ57.
أما تقديم الأسَنّ (الأكبر): فدليله قوله صلى الله عليه وسلم ــ في قصة مُحيصة وحويصة ــ (كَبِّر كَبِّر) الحديث متفق عليه، أي ليبدأ الأكبر بالكلام وذلك عندما أراد الأصغر أن يتكلم. وقال صلى الله عليه وسلم (أراني في المنام أتسوَّك بسواك، فجاءني رجلان أحدهما أكبر من الآخر، فناولت السواك الأصغر، فقيل لي: كَبِّر، فدفعته إلى الأكبر منهما) رواه مسلم، ورواه البخاري معلقا.
وأما تقديم الأعلم: فدليله قوله صلى الله عليه وسلم (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله) الحديث رواه مسلم، وقال صلى الله عليه وسلم (ليَلني منكم أولوا الأحلام والنّهى ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم) الحديث رواه مسلم.
فينبغي تقديم من قدَّمه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
******
المسألة الثانية عشرة
الإنابة في الاستفتاء
يجوز للمستفتي أن يبعث ثقة يعتمد خبره ليستفتي نيابة عنه، لسبب ولغير سبب.(4/184)
ومن الأسباب الباعثة على ذلك: استحياء السائل من المفتي كما سيأتي في حديث إنابة عليّ للمقداد رضي الله عنهما، ومن ذلك كون السائل امرأة من ذوات الخدور، ومن ذلك كون المفتي في غير بلد المستفتي، فيرسل المستفتي رسولاً نيابة عنه، إلى غير ذلك من الأسباب.
ومن الأدلة على جواز الإنابة في الاستفتاء:
1 ــ عن عَلِيّ رضي الله عنه قال: كنت رَجُلاً مذَّاءً، فأمرت المقداد أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم، فسأله فقال (فيه الوضوء). رواه البخاري في باب (من استحيا فأمر غيره بالسؤال) من كتاب العلم في صحيحه. (حديث 132). ومعني (مَذّاء) أي كثير المذي.
2 ــ وروى البخاري في تفسير سورة النور وفي كتاب الاعتصام من صحيحه بسنده عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال "جاء عويمر العَجْلاني إلى عاصم بن عدي فقال: أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا فيقتُله، أتقتلونه به؟ سَلْ لي يا عاصم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فسأله، فكَرِه النبي صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها، فرجَع عاصم فأخبره أن النبي صلى الله عليه وسلم كَرِه المسائل، فقال عويمر: والله لآتين النبي صلى الله عليه وسلم. فجاء وقدأنزل الله تعالى القرآن خَلف عاصم، فقال له (قد أنزل الله فيكم قرآناً)، فدَعَا بهما فتقدما فتلاعََنَا) الحديث (7304).
فهذا ما يتعلق بجواز الإنابة في الاستفتاء.
******
المسألة الثالثة عشرة: الاتّباع والتقليد
أو هل يكتفى المستفتي بالتقليد المجرد أم يجب عليه طلب دليل الفتوى؟
لم يختلف العلماء في وجوب الاستفتاء على العامي حيث يجب، بل أجمعوا على ذلك، ثم اختلفوا هل يقلد المستفتي المفتي أي يقبل فتواه بدون دليل أم يطالبه بدليل الفتوى؟. فمنهم من أوجب التقليد ومنهم من أوجب الاتباع أي المطالبة بالدليل ومنهم من توسط.
ولبيان مذاهب العلماء في هذا، ندرس في هذه المسألة الموضوعات التالية:
1 ــ تعريف التقليد. ……2 ــ تعريف الاتباع.(4/185)
3 ــ القائلون بوجوب التقليد.…4 ــ القائلون بوجوب الاتباع.
5 ــ القائلون بوجوب الاتباع، مع جواز التقليد للضرورة.
6 ــ متى يُذَم المقلد؟
.................................................
أولا: تعريف التقليد.
وفيه ثلاث مسائل:
1 ــ تعريف التقليد.……
2 ــ تعريف الحجة.
3 ــ التقليد ليس علما.
1 ــ تعريف التقليد.
أ ــ التقليد في اللغة: هو جعل القلادة في العنق، والقلادة مايحيط بالعنق، ومنه تقليد الولاة: هو جعل الولايات قلائد في أعناقهم لكونها أمانات في أعناقهم.
ومنه تقليد الهَدْى: وهو مايُهدي للحرم بجعل قلادة في عنقه ليتميز عن غيره.
وشُبِّه بالقلادة كل ما يُتطوَّق وكل مايحيط بشئ، يُقال تقلَّد سيفه تشبيها بالقلادة وإن لم يعلقه حول عنقه.
(المفردات للراغب الأصفهاني صـ 411)، و(النهاية لابن الأثير، 4/99)، و(إرشاد الفحول للشوكاني، صـ 246)، و (أضواء البيان للشنقيطي، 7 / 485).
ب ــ التقليد في الاصطلاح: تدور تعريفات العلماء للتقليد حول معنى واحد وهو: قبول قول الغير من غير حجة أو من غير معرفة دليله.
والمقلَّد قد يكون مستفتياً أو مفتياً، أما المفتي المقلِّد فقد تكلمنا عنه في مراتب المفتين في الفصل السابق.
وأما المستفتي المقلِّد: فهو المستفتي الذي يقبل قول المفتي في مسألته من غير أن يعلم حجة المفتي أو دليله على فتواه، ومعنى قبول المستفتي لهذا القول اعتقاده له إن كان في المسائل الخبرية أو عمله بمقتضاه إن كان في المسائل العملية.
وسُمي هذا تقليداً، استعارة من المعنى اللغوي، كأن المستفتي المقلِّد جعل هذا الحكم كالقلادة في عنق المفتي، أي كأنه طوَّق المفتي مافي هذا الحكم من تبعه وإثم إن كان قد غشه وجعل ذلك في عنق المفتي، ومن هنا نشأ الخلاف بين أهل العلم في جواز التقليد، لأنه في حقيقته اعتقاد وعمل بغير علم.
وإليك أقوال العلماء في التعريف الاصطلاحي للتقليد وهى تدور حول ماذكرناه:(4/186)
(1) قال ابن حزم رحمه الله (التقليد: مااعتقده المرء بغير برهان صح عنده، لأن بعض من دون النبي صلى الله عليه وسلم قاله) (الإحكام) 6 / 60.
(2) وقال ابن عبدالبر رحمه الله (التقليد عند جماعة العلماء غير الاتباع، لأن الاتباع: هو أن تتبع القائل على مابان لك من فضل قوله وصحة مذهبه. والتقليد: أن تقول بقوله وأنت لاتعرفه ولا وجه القول ولامعناه) (جامع بيان العلم) 2/37.
وقال ابن عبدالبر أيضا (قال أبو عبدالله بن خويز منداد البصري المالكي: التقليد معناه في الشرع: الرجوع إلي قول لاحجة لقائله عليه، وذلك ممنوع منه في الشريعة. والاتباع: ماثبت عليه حجة. وقال في موضع آخر من كتابه: كل من اتبعت قوله من غير أن يجب عليك قوله لدليل يوجب ذلك فأنت مُقلّده، والتقليد في دين الله غير صحيح. وكل من أوجب عليك الدليل اتباع قوله فأنت متبعه. والاتباع في الدين مسوّغ والتقليد ممنوع)(جامع بيان العلم) 2/117.
(3) وقال الخطيب البغدادي رحمه الله (التقليد هو قبول القول من غير دليل) (الفقيه والمتفقه) 2/66.
(4) وقال القاضي عبدالوهاب المالكي رحمه الله (التقليد هو اتباع القول لأن قائلا قال به من غير علم بصحته من فساده) نقله السيوطي في كتابه (الرد على من أخلد إلى الأرض) ط دار الكتب العلمية 1403هـ، صـ 125.
(5) وقال أبو حامد الغزالي رحمه الله (التقليد هو قبول قول ٍ بلا حجة، وليس ذلك طريقا إلى العلم لافي الأصول ولا في الفروع) (المستصفى) جـ 2 صـ 387.
(6) وقال الشوكاني رحمه الله (التقليد هو العمل بقول الغير من غير حجة. فيخرج العمل بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، والعمل بالإجماع، ورجوع العامي إلى المفتي، ورجوع القاضي إلى شهادة العدول. فإنه قد قامت الحجة في ذلك.
أما العمل بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم وبالإجماع فقد تقدم الدليل على ذلك في مقصد السنة وفي مقصد الإجماع.(4/187)
وأما رجوع القاضي إلى قول الشهود فالدليل عليه مافي الكتاب والسنة من الأمر بالشهادة والعمل بها، وقد وقع الإجماع على ذلك.
وأما رجوع العامي إلى قول المفتي فللإجماع على ذلك.
إلى أن قال الشوكاني: وقال ابن الهُمام ــ في التحرير ــ التقليد: العمل بقول من ليس قوله إحدى الحجج بلا حجة. وهذا الحد ّ أحسن من الذي قبله) (إرشاد الفحول) صـ 246 ــ 247. وقد نبّه الشوكاني بما استثناه على أن قول النبي صلى الله عليه وسلم حجة في ذاته فالأخذ به ليس تقليداً، وكذلك الإجماع المعتبر حجة في ذاته، وكذلك قبول القاضي قول الشاهد بغير حجة ليس تقليدا لأن الله أمر القضاة بقبول شهادة الشهود العدول، وأما رجوع العامي إلى قول المفتي فالمقصود بذلك سؤال العامي للمفتي فهذا واجب عليه لقوله تعالى (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لاتعلمون) وللإجماع على ذلك، فالمقصود السؤال لاقبول قول المفتي بغير دليل فهذا محل النزاع هنا كما سيأتي بيانه.
وهذا الذي ذكره الشوكاني، ذكره الآمدي في (الإحكام) 4/227، وأغلب الظن أن كلاهما نقله عن أبي حامد الغزالي (المستصفى) 2/387.
2 ــ تعريف الحُجّة:
ورد في التعريفات السابقة أن التقليد هو قبول قولٍ بلا حجة. فما الحجة؟
الحُجَّة: هي ما يحتج به المرء على صحة قوله ومذهبه، وتسمى أيضا بالبرهان والسلطان. والمقصود بها هنا الدليل الشرعي على صحة قول المفتي.
وقد وردت هذه الأسماء كلها في كتاب الله تعالى كأسماء لما يُحتج به:
فالحجة: وردت في قوله تعالى (قل فلله الحجة البالغة) الأنعام 149، وقوله تعالى (وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه) الأنعام 83، وقوله تعالى (فلم تحاجّون فيم ليس لكم به علم) آل عمران 66. وغيرها من الآيات.
والبرهان: ورد في قوله تعالى (ياأيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم) النساء 174، وقوله تعالى (تلك أمانيّهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين) البقرة 111.(4/188)
والسلطان: ورد في قوله تعالى (أم أنزلنا عليهم سلطانا فهو يتكلم بما كانوا به يشركون) الروم 35، وقوله تعالى (أم لكم سلطان مبين فأتوا بكتابكم إن كنتم صادقين) الصافات 156.
فالبرهان والسلطان في هذه الآيات كلها بمعنى الحجة.
والحجة في الشريعة هى الأدلة الشرعية، والمتفق عليه منها أربعة: الكتاب والسنة والإجماع المعتبر والقياس الصحيح. والأصل في الأدلة: الكتاب والسنة ثم إنهما قد دلاّ على حُجّية الإجماع والقياس. قال تعالى (فإن تنازعتم في شئ فردّوه إلى الله والرسول) النساء 59. أي إلى الكتاب وإلى السنة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم بالإجماع. وإليك أقوال العلماء في بيان الحجج الشرعية:
أ ــ قال ابن عبد البر (قال الشافعي ليس لأحد أن يقول في شئ حلال ولا حرام إلا من جهة العلم، وجهة العلم مانص في الكتاب أو في السنة أو في الإجماع أو القياس على هذه الأصول مافي معناها. قال أبو عمر: أما الإجماع فمأخوذ من قول الله (ويتبع غير سبيل المؤمنين) لأن الاختلاف لا يصح معه هذا الظاهر، وقول النبي صلى الله عليه وسلم «لا تجتمع أمتي على ضلالة» وعندي أن إجماع الصحابة لا يجوز خلافهم والله أعلم لأنه لا يجوز على جميعهم جهل التأويل، وفي قول الله تعالى (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس) دليل على أن جماعتهم إذا اجتمعوا حجة على من خالفهم كما أن الرسول حجة على جميعهم ودلائل الإجماع من الكتاب والسنة كثير ليس كتابنا هذا موضعا لتقصيها وبالله التوفيق) (جامع بيان العلم) 2 / 26.(4/189)
ب ــ وقال أبو عمر بن عبدالبر (وقال محمد بن الحسن: العلم على أربعة أوجه ماكان في كتاب الله الناطق وماأشبهه، وماكان في سُنة رسول الله صلى الله عليه وسلم المأثورة وماأشبهها، وماكان فيما أجمع عليه الصحابة رحمهم الله وماأشبه، وكذلك مااختلفوا فيه لايخرج عن جميعه، فإن أوقع الاختيار فيه على قول فهو علم تقيس عليه ماأشبه، وماأستحسنه عامة فقهاء المسلمين وماأشبهه وكان نظيراً له قال: ولا يخرج العلم عن هذه الوجوه الأربعة. قال أبو عمر: قول محمد بن الحسن وماأشبهه يعني ماأشبه الكتاب وكذلك قوله في السنة وإجماع الصحابة يعني ماأشبه ذلك كله فهو القياس المختلف فيه الأحكام وكذلك قول الشافعي أو كان في معنى الكتاب والسنة هو نحو قول محمد بن الحسن ومراده من ذلك القياس عليها وليس هذا موضع القول في القياس وسنفرد لذلك بابا كافيا في كتابنا هذا إن شاء الله. وانكار العلماء للاستحسان أكثر من انكارهم للقياس وليس هذا موضع بيان ذلك.) (المصدر السابق).
فهذه هى الأدلة الشرعية المتفق عليها عند جمهور أهل العلم كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وهى الكتاب والسنة الصحيحة والإجماع المعتبر والقياس على النص والإجماع (مجموع الفتاوى) 11/339 ــ 341. وهذه الأدلة هى المقصودة بالحجة في قول العلماء في حد التقليد (هو قبول قول ٍ بلا حجة).
3 ــ التقليد ليس علما:
إذا كان التقليد هو (قبول قول بلا حجة) فهو ليس علما، لأن العلم هو ماثبت بالحجة، قال تعالى (إن عندكم من سلطان بهذا أتقولون على الله مالا تعلمون) يونس 68، فدلت الآية على أن من تكلم بسلطانٍ فقد تكلم بعلم وأن من تكلم بغير سلطان فقد قال بغير علم، والسلطان: الحجة كما سبق. وقال ابن تيمية (العلم ماقام عليه الدليل) (مجموع الفتاوي) 13/136. فإذا كان التقليد هو قبول قول ليس عليه حجة ولادليل، فليس هو بعلمٍ، وهذا لاخلاف عليه بين العلماء سواء منهم من أوجب التقليد أو حَرَّمه.(4/190)
أ ــ قال ابن عبدالبر (قال أهل العلم والنظر: حد العلم: التَّبيُّن وإدراك المعلوم على ماهو به، فمن بان له الشئ فقد علمه.، والمقلِّد لا علم له، ولم يختلفوا في ذلك) (جامع بيان العلم) 2 / 117.
ب ــ وقال أبو حامد الغزالي (التقليد هو قبول قول ٍ بلا حجة، وليس ذلك طريقاً إلى العلم لافي الأصول ولافي الفروع) (المستصفى) 2/387.
جـ ــ وقال القاضي عبدالوهاب المالكي (التقليد لايُثمر علماً، فالقول به ساقط، وهذا الذي قلناه قول كافة أهل العلم) نقله السيوطي في (الرد على من أخلد إلى الأرض) صـ 126.
د ــ وقال ابن القيم رحمه الله (التقليد ليس بعلم باتفاق أهل العلم) (اعلام الموقعين) 2/169، ومثله في (اعلام الموقعين) 1/45.
وفي الجملة فالمقلد قد قَبِل قولاً من غير علم بصحته من فساده.
ومن هنا نشأ الخلاف بين أهل العلم في جواز العمل بالتقليد، سواء في الإفتاء أو الاستفتاء.
فالمفتي المقلد، يفتي بالتقليد أي بغير علم، وهذا محرم لقوله تعالى (قل إنما حرَّم ربي ــ إلى قوله ــ وأن تقولوا على الله مالا تعلمون) الأعراف 33.
والمستفتي المقلد، قَبِل قولاً وعمل به بغير علم، وهذا محرم لقوله تعالى (ولاتقف ماليس لك به علم) الإسراء 36، أي لاتتبع ماليس لك به علم، وقد أسهبنا في أول الباب الثاني في بيان وجوب العلم قبل القول والعمل.
وسوف نذكر فيما يأتي أقوال العلماء من أجاز التقليد منهم ومن منع منه.
............................................
ثانيا: تعريف الاتباع
قد سبق تعريفه، وملخصه أنه اتباع القول الذي شهد الدليل بصحته، فيكون المتبع عاملا بعلم وعلى بصيرة بصحة مايعمل به ويكون متبعاً للدليل الشرعي.
قال تعالى (اتبعوا ماأنزل إليكم من ربكم ولاتتبعوا من دونه أولياء) الأعراف 3.
وقال تعالى (وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون) الأنعام 155.(4/191)
وقال تعالى (اتبع ماأوحي إليك من ربك) الأنعام 106، وقال تعالى (قل إنما اتبع مايوحى إلي من ربي) الأعراف 203.
فالعمل بالوحي من الكتاب والسنة هو الاتباع كما دلت عليه هذه الآيات.
قال ابن عبدالبر (الاتباع: هو أن تتبع القائل على مابان لك من فضل قوله وصحة مذهبه. والتقليد: أن تقول بقوله وأنت لاتعرفه ولا وجه القول ولا معناه) (جامع بيان العلم) 2/37.
وقال ابن عبدالبر (قال أبو عبدالله بن خويز منداد البصري المالكي: التقليد معناه في الشرع: الرجوع إلى قول لاحجة لقائله عليه، وذلك ممنوع منه في الشريعة، والاتباع: ماثبت عليه حجة. وقال في موضع آخر من كتابه: كل من اتبعت قوله من غير أن يجب عليك قوله لدليل يوجب ذلك فأنت مُقلده، والتقليد في دين الله غير صحيح. وكل من أوجب عليك الدليل اتباع قوله فأنت متبعه. والاتباع في الدين مسوّغ والتقليد ممنوع) (جامع بيان العلم) 2/117. فالاتباع هو العمل بالدليل الشرعي، ويكون المفتي مخبراً بالدليل.
هذا، وقد اعترض البعض على هذا الحد، وقالوا إن التقليد المذموم سُمِّي اتباعا أيضا في كتاب الله، كما في قوله تعالى (ولاتتبعوا من دونه أولياء) الأعراف 3، وقوله تعالى (إذ تبرأ الذين اتُبعوا من الذين اتَبعوا ورأوا العذاب) البقرة 166. ولامشاحة في الاصطلاح طالما عُلم المعنى وعُرِف الفرق بين الاتباع والتقليد. قال ابن حزم (وقد استحى قوم من أهل التقليد من فعلهم فيه، وهم يقرّون ببطلان المعنى الذي يقع عليه هذا الإسم، فقالوا: لانقلّد بل نتبع. قال ابن حزم: ولم يتخلصوا بهذا التمويه من قبيح فعلهم، لأن المحرَّم إنما هو المعنى فليسموه بأي اسم شاءوا) (الإحكام)6 / 60.
..........................................
ثالثا: القائلون بوجوب التقليد(4/192)
نعود فنذكِّر هنا مرة أخرى بأن الاستفتاء غير التقليد. وأنه لاخلاف بين العلماء في وجوب الاستفتاء على الجاهل حيث يجب، أما التقليد ففيه خلاف، وأن المستفتي قد يكون مُقلداً وقد يكون متبعاً، ولكن لما غلب التقليد على المستفتين فقد غلب اسم المقلِّد على المستفتي.
وسوف نذكر هنا أقوال من أوجبوا التقليد ثم نشير إلى أدلتهم مع الرد عليها.
1 ــ القائلون بوجوب التقليد
أي أنه يجب على العامي (الجاهل) قبول قول المفتي بغير حجة، وهؤلاء منهم من قال لايسأل عن الحجة، ومنهم من قال إن قول المفتي في حقه كالحجة والدليل الشرعي.
أ ــ قال الخطيب البغدادي رحمه الله (وأما الجواب عن تقليد العامي، فهو أن فرضه تقليد مَن هو مِن أهل الاجتهاد، وقال أبو علي الطبري: فرضه اتباع عالمه بشرط أن يكون عالمه مصيباً، كما يتبع عالمه بشرط أن لايكون مخالفا للنص. وقد قيل إن العامي يقلد أوثق المجتهدين في نفسه، ولايُكلف أكثر من ذلك لأنه لاسبيل له إلى معرفة الحق والوقوف على طريقه) (الفقيه والمتفقه) 2/65. ومانقله الخطيب عن أبي علي الطبري لايؤيد قوله بوجوب التقليد، بل حقيقة قول الطبري هو وجوب الاتباع، فإن العامي لايعلم أن عالمه مصيب غير مخالف للنص إلا إذا ذكر له الدليل، وهذا الاتباع.
ب ــ وقال الخطيب أيضا (ليس ينبغي للعامي أن يطالب المفتي بالحجة فيما أجابه به، ولا يقول لم ولا كيف؟. قال الله سبحانه وتعالى (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لاتعلمون) وفرق تبارك وتعالى بين العامة وبين أهل العلم فقال (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لايعلمون). فإن أحب أن تسكن نفسه بسماع الحجة في ذلك سأل عنها في زمان آخر ومجلس ثان أو بعد قبول الفتوى من المفتي مجردة.) (الفقيه والمتفقه) 2/180.
وقد تابعه على هذا ــ في أن لاينبغي للعامي مطالبة المفتي بالدليل ــ كلاً من النووي (المجموع، 1/57) وابن حمدان (صفة الفتوى، صـ 84).(4/193)
وزاد النووي (وقال السمعاني: لايُمنع من طلب الدليل وأنه يلزم المفتي أن يذكر له الدليل إن كان مقطوعا به ولايلزمه إن لم يكن مقطوعا به لافتقاره إلى اجتهاد يقصر فهم العامي عنه) قال النووي (والصواب الأول).
جـ ــ وقال الآمدي رحمه الله (العامي ومن ليس له أهلية الاجتهاد، وإن كان مُحصلا لبعض العلوم المعتبرة في الاجتهاد، يلزمه اتباع قول المجتهدين والأخذ بفتواه، عند المحققين من الأصوليين) (الإحكام) 4/234.
د ــ وقال الشاطبي رحمه الله (فتاوى المجتهدين بالنسبة إلى العوام كالأدلة الشرعية بالنسبة إلى المجتهدين والدليل عليه أن وجود الأدلة بالنسبة إلى المقلدين وعدمها سواء، إذ كانوا لايستفيدون منها شيئاً، فليس النظر في الأدلة والاستنباط من شأنهم، ولايجوز ذلك لهم ألبتة، وقد قال تعالى: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لاتعلمون) والمقلد غير عالم، فلا يصح له إلا سؤال أهل الذكر، وإليهم مرجعه في أحكام الدين على الإطلاق. فهم إذاً القائمون له مقام الشارع، وأقوالهم قائمة مقام الشارع.
وأيضا فإنه إذا كان فقد المفتي يسقط التكليف، فذلك مساو لعدم الدليل، إذ لاتكليف إلا بدليل، فإذا لم يوجد دليل على العمل سقط التكليف به، فكذلك إذا لم يوجد مفت في العمل فهو غير مكلف به. فثبت أن قول المجتهد دليل العامي. والله أعلم.) (الموافقات) 4/292 ــ 293.
2 ــ أدلة القائلين بوجوب التقليد والرد عليها.(4/194)
اعلم أن أئمة المذاهب الأربعة وغيرهم قد ذموا التقليد ونهوا عنه، ثم توسع ابن حزم (456هـ) في نقض التقليد، وكذلك ابن عبدالبر (463 هـ)، إلا أنه لايوجد أحد استوفى حجج المقلدين ورد عليها كما فعل ابن القيم رحمه الله (751هـ). وذلك في (اعلام الموقعين) جـ 2 صـ 182 ــ 260، وبدأ كلامه بقوله (فصل في عقد مجلس مناظرة بين مقلدٍ وبين صاحب حجة ــ وذكر ثمانين وجهاً في الرد على المقلدين ونقض التقليد، إلى أن قال ــ وقد أطلنا الكلام في القياس والتقليد وذكرنا من مآخذهما وحجج أصحابهما ومالهم وماعليهم من المنقول والمعقول مالا يجده الناظر في كتاب من كتب القوم من أولها إلى آخرها، ولايظفر به في غير هذا الكتاب أبداً) أهـ. وهو كما قال. ويلي ابن القيم في الجودة والاتقان ماذكره ابن حزم في إبطال التقليد (الباب السادس والثلاثون من كتابه الإحكام) جـ 5 صـ 59 ــ 182.
ثم إن جميع من تكلموا في الرد على المقلدين بعد ذلك هم عالة على هؤلاء. فالفلاّني (1218هـ) في كتابه (ايقاظ همم أولي الأبصار)، والشوكاني (1250هـ) في كتابه (القول المفيد) وغيره، وصديق حسن خان في كتابه (الدين الخالص) جـ 4، والشنقيطي في (أضواء البيان) جـ 7، كلهم نقلوا عن ابن عبدالبر وابن القيم، وكذلك فعل المعصومي في كتابه (هل المسلم ملزم باتباع مذهب معين؟).
ولسنا هنا بصدد بسط أدلة من أوجبوا التقليد فمن أراد ذلك فليطالع (اعلام الموقعين) لابن القيم، ولكنا نوجز هنا أهم مااستدلوا به. فقد قالوا إن وجوب التقليد يدل عليه النص والإجماع والمعقول (الإحكام) للآمدي، 4 / 234.
أ ــ أما النصوص التي استدلوا بها على وجوب التقليد.(4/195)
فمنها قوله تعالى (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لاتعلمون) النحل 43، قالوا فيجب على العامي الذي لايعلم أن يقبل ماأجابه به المفتي، وأجاب مَن منع مِن التقليد: بأن الذكر هو الكتاب والسنة، بدليل قوله تعالى ــ في الآية التالية لهذه ــ (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس مانزل إليهم) النحل 44، فأهل الذكر هم العالمون بالكتاب والسنة وأنهم يجب عليهم إذا سُئلوا أن يجيبوا بما علموه منهما كما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله (ليبلغ الشاهد الغائب) فعليهم تبليغ ماشاهدوه من العلم لا آراءهم المجردة.
ومنها قوله تعالى (فلولا نفر من كل فرقة ٍ منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون) التوبة 122. قال أنصار التقليد: فأوجب الله على الناس قبول قول الفقهاء، فأجاب مَن منع مِن التقليد: بأن الله أوجب على الفقهاء أن ينذروا قومهم، والإنذار لايكون إلا بالدليل الشرعي كما قال تعالى (قل إنما أنذركم بالوحي) الأنبياء 45.
وفي الجملة فما مِن نص استدل به أنصار التقليد إلا وقد رد عليه مَن منع مِن التقليد.(4/196)
ب ــ وأما الإجماع: فقال الآمدي (فهو أنه لم تزل العامة في زمن الصحابة والتابعين قبل حدوث المخالفين يستفتون المجتهدين ويتبعونهم في الأحكام الشرعية، والعلماء منهم يبادرون إلى إجابة سؤالهم من غير إشارة إلى ذكر الدليل، ولا ينهونهم عن ذلك من غير نكير، فكان إجماعا على جواز اتباع العامي للمجتهد مطلقاً) (الإحكام) 4/235. وهذا القول رد عليه ابن القيم بقوله (قولكم «إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فتحوا البلاد، وكان الناس حديثي عهد بالإسلام، وكانوا يفتونهم، ولم يقولوا لأحد منهم عليك أن تطلب معرفة الحق في هذه الفتوى بالدليل» جوابه أنهم لم يُفْتُوهم بآرائهم، وإنما بلغوهم ماقاله نبيهم وفعله وأمر به، فكان ماأفْتَوْهم به هو الحكم وهو الحجة، وقالوا لهم: هذا عهد نبينا إلينا، وهو عهدنا إليكم، فكان مايخبرونهم به هو نفس الدليل وهو الحكم، فإن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الحكم وهو دليل الحكم، وكذلك القرآن، وكان الناس إذ ذاك إنما يحرصون على معرفة ماقاله نبيهم وفَعَلَه وأَمَر به، وإنما تُبَلغهم الصحابة ذلك، فأين هذا من زمان ٍ إنما يحرص أشباه الناس فيه على ماقاله الآخر فالآخر، وكلما تأخر الرجل أخذوا كلامه؟) (اعلام الموقعين) 2/247.(4/197)
وقال الشوكاني أيضا في نقض كلام الآمدي وغيره ممن ادعى الإجماع على جواز التقليد، قال (وأعجب من هذا أن بعض المتأخرين ممن صنف في الأصول نسب هذا القول إلى الأكثر وجعل الحجة لهم الإجماع على عدم الإنكار على المقلدين. فإن أراد إجماع خير القرون ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم فتلك دعوى باطلة فإنه لا تقليد فيهم البتة، ولاعرفوا التقليد ولاسمعوا به بل كان المقصر منهم يسأل العالم عن المسئلة التي تعرض له فيفتيه بالنصوص التي يعرفها من الكتاب والسنة، وهذا ليس من التقليد في شئ بل هو من باب طلب حكم الله في المسئلة والسؤال عن الحجة الشرعية، وقد عرفت في أول هذا الفصل أن التقليد إنما هو العمل بالرأي لا بالرواية) (إرشاد الفحول) صـ 249.
جـ ــ وأما المعقول: فقولهم إن العامي لايفهم الأدلة فلا فائدة في ذكرها له، كما قال الخطيب البغدادي (لأنه لا سبيل له إلى معرفة الحق والوقوف عليه) (الفقيه والمتفقه) 2/65، وكما قال الشاطبي (إن وجود الأدلة بالنسبة إلى المقلدين وعدمها سواء، إذ كانوا لايستفيدون منها شيئا، فليس النظر في الأدلة والاستنباط من شأنهم، ولايجوز ذلك لهم البتة) (الموافقات) 4/293. وقالوا أيضا إنه لايجوز النظر في الأدلة إلا لمن كانت له أهلية الاجتهاد ولو كُلِّف العامة طلب رتبة الاجتهاد لتعطلت الحِرف والصنائع ولانقطع الحرث والنسل وخربت الدنيا لو اشتغل الناس بجملتهم بطلب العلم. ذكر هذا الغزالي في (المستصفى) 2/389، وتابعه الآمدي في (الإحكام) 4/235، وابن حمدان في (صفة الفتوى) صـ 53، وغيرهم.(4/198)
والجواب عن هذا: أن قولهم إن العامي لا يستفيد من الأدلة شيئا ولا يفهمها، قول مردود عليه بقوله تعالى (ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر) القمر، وقوله تعالى (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها) محمد 24، ولعل أفضل من رد هذا القول هو الشنقيطي في تفسير هذه الآية من سورة محمد صلى الله عليه وسلم إذ قال إن هذا خطاب توبيخ للكفار لإعراضهم عن تدبر القرآن فكيف بعوام المسلمين؟، أفليس من الأولى أن يكونوا مطالبين بتدبر القرآن وفهم الأدلة؟ هذا مجمل كلامه في (أضواء البيان) جـ 7 صـ 430. وذكر صالح الفُلاّني مثله في (ايقاظ همم أولي الأبصار) صـ 60 ــ 61، فقال إن الله تعالى وصف المشركين بأنهم (أولئك كالأنعام بل هم أضل) ومع هذا فقد أقام عليهم الحجة بكتابه الكريم فالاعتذار بأن العامة لايفهمون النصوص باطل قطعا. انتهى ماذكره ملخصاً. فالحقيقة إن إعراض العلماء عن ذكر الأدلة للعامة وتفهيمهم إياها جعل العامة يعرضون عن طلبها، والذي يبعد فهمه عن العامة من الأدلة أقل بكثير مما يمكنهم فهمه. ثم إن الذين حَرّموا التقليد وأوجبوا الاتباع لم يشترطوا أن يعرف العامي دليل الفتوى على التفصيل ويفهمه كفهم المفتي له. وإنما اكتفوا بأن يقول العامي للمفتي. أهكذا أمر الله ورسوله؟ فإن قال له: نعم قبل قوله. وسيأتي هذا في كلام ابن حزم وابن دقيق العيد إن شاء الله.(4/199)
وأما قولهم إن في تكليف العامة معرفة دليل الفتوى تكليفا لهم بطلب رتبة الاجتهاد، وهذا محال. فهذا قول مردود إذ لم يقل أحد إنه لايفهم أي دليل إلا مجتهد، فكثير من الأدلة يمكن للعامة فهمها دون عناء كما ذكرنا أعلاه، وهناك أدلة يمكن للعالم أن يقرِّب فهمها للعامة كما ذكرنا من قبل أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يضرب الأمثال أحيانا ليقرب فهم الجواب للسائل. كما أن العامي ليس مكلفا بمعرفة أدلة جميع مسائل الفقه أو معظمها كالمفتي، وإنما العامي يكفيه أن يعلم الدليل في مسألته ونازلته. بل قد قال ابن حزم وابن دقيق العيد إنه يكفيه أن يعلم أن ماأفتى به المفتي هو ماأمر به الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
فهذا مجمل مااحتج به من أوجب التقليد على العامة مع الرد عليهم بايجاز، ومنه تعلم أن من أوجب التقليد لا حجة له يستند إليها. ومن هنا قال الشوكاني (والحاصل أنه لم يأت من جوَّز التقليد فضلا عمن أوجبه بحجة ينبغي الاشتغال بجوابها قط) (إرشاد الفحول) صـ 249.
........................................
رابعا: القائلون بوجوب الاتباع
وهم الذين أوجبوا على المستفتي معرفة دليل الفتوى، وحَرَّموا التقليد ولم يرخصوا فيه بحال، فمنهم:
1 ــ ابن خويز منداد المالكي رحمه الله ــ كما نقل عنه ابن عبدالبر قوله ــ (والاتباع في الدين مسوغ والتقليد ممنوع) (جامع بيان العلم) 2/117. وقد سبق بطوله.
2 ــ ابن حزم رحمه الله، قال (ونحن لم ننكر فتيا العلماء للمستفتين، وإنما أنكرنا أن يؤخذ بها دون برهان يعضدها ودون ردّ لها إلى نص القرآن والسنة، لأن ذلك يوجب الأخذ بالخطأ، وإذا كان في عصره عليه السلام من يفتي بالباطل فهُم من بعد موته عليه السلام أكثر وأفشى، فوجب بذلك ضرورة أن نتحفظ من فتيا كل مفت ٍ، مالم تستند فتياه إلى القرآن والسنة والإجماع) (الإحكام) 6 /100 ــ 101.(4/200)
وقال ابن حزم أيضا (فالتقليد كله حرام في جميع الشرائع أولها عن آخرها، من التوحيد والنبوة والقدر والإيمان والوعيد والإمامة والمفاضلة وجميع العبادات والأحكام. فإن قال قائل: فما وجه قوله تعالى (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لاتعلمون)؟ قيل له وبالله التوفيق: إنه تعالى أمرنا أن نسأل أهل العلم عما حكم به الله تعالى في هذه المسألة، وماروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها، ولم يأمرنا أن نسألهم عن شريعة جديدة يحدثونها لنا من آرائهم، وقد بيّن ذلك عليه السلام بقوله « فليبلغ الشاهد الغائب ») (الإحكام) 6 /150 ــ 151.(4/201)
وقال ابن حزم أيضا (فإن قال قائل: فكيف يصنع العامي إذا نزلت به النازلة؟ فالجواب وبالله تعالى التوفيق: أنا قد بينا تحريم الله تعالى للتقليد جملة، ولم يخص الله تعالى بذلك عامياً من عالم، ولا عالماً من عامي، وخطاب الله تعالى متوجه إلى كل أحد، فالتقليد حرام على العبد المجلوب من بلده، والعامي، والعذراء المخدّرة، والراعي في شعف الجبال، كما هو حرام على العالم المتبحر ولافرق. والاجتهاد في طلب حكم الله تعالى ورسوله عليه السلام في كل ماخص المرء من دينه لازم لكل من ذكرنا، كلزومه للعالم المتبحر ولافرق. فمن قلّد مِن كل مَن ذكرنا فقد عصى الله عزوجل وأثم، ولكن يختلفون في كيفية الاجتهاد، فلا يلزم المرء منه إلا مقدار مايستطيع عليه، لقوله تعالى: (لايكلف الله نفسا إلا وسعها)، ولقوله تعالى (فاتقوا الله مااستطعتم) ــ إلى أن قال ابن حزم ــ فاجتهاد العامي إذا سأل العالم عن أمور دينه فأفتاه ــ: أن يقول له: هكذا أمر الله ورسوله: فإن قال له: نعم، أخذ بقوله، ولم يلزمه أكثر من هذا البحث، وإن قال له: لا، أو قال له: هذا قولي، أو قال له: هذا قول مالك أو ابن القاسم أو أبي حنيفة أو أبي يوسف أو الشافعي أو أحمد أو داود أو سمى له أحداً من صاحب أو تابع فمن دونهما غير النبي صلى الله عليه وسلم، أو انتهره أو سكت عنه، فحرام على السائل أن يأخذ بفتياه، وفرض عليه أن يسأل غيره من العلماء، وأن يطلبه حيث كان، إذ إنما يسأل المسلم من سأل من العلماء عن نازلة تنزل به ليخبره بحكم الله تعالى وحكم محمد صلى الله عليه وسلم في ذلك، ومايجب في دين الإسلام في تلك المسألة.) (الإحكام) 6 / 151 ــ 152.(4/202)
3 ــ وقال صالح بن محمد الفُلاّني (1218 هـ) في كتابه (إيقاظ همم أولي الأبصار) (نقل الأصفهاني في تفسيره عن الإمام ابن دقيق العيد ماملخصه ان اجتهاد العامي عند من قال به من العلماء هو إنه إذا سئل في هذه الاعصار التي غلب فيها الفتوى بالاختيارات البشرية غير المعصومة بل المختلفة المتضادة أن يقول للمفتي هكذا أمر الله تعالى ورسوله، فإن قال نعم أخذ بقوله ولم يلزمه أكثر من هذا البحث، ولايلزم المفتي أن يذكر له الآية والحديث ومادلا عليه واستُخرِج منها بطريق الأصول الصحيح. وإن قال له هذا قولي أو رأيي أو رأي فلان أو مذهبه فَعيَّن واحداً من الفقهاء أو انتهره أو سكت عنه فله طلب عالم غيره حيث كان يفتيه بحكم الله تعالى وحكم نبيه محمد صلى الله عليه وسلم في ذلك ومايجب في دين الإسلام في تلك المسئلة ومن تأمل أقوال السلف والأئمة الأربعة في الحث على أن لايستفتي إلا العالم بالكتاب والسنة عرف ماذكرناه.) (إيقاظ همم أولي الأبصار) ط دار المعرفة، صـ 39.
4 ــ وقال الشوكاني رحمه الله (1250 هـ) (وقد ذكرت نصوص الأئمة الأربعة المصرحة بالنهي عن التقليد في الرسالة التي سميتها «القول المفيد في حكم التقليد» فلا نطول المقام بذكر ذلك. وبهذا تعلم أن المنع من التقليد إن لم يكن إجماعا فهو مذهب الجمهور) (ارشاد الفحول) صـ 248 ــ 249.(4/203)
وقال الشوكاني أيضا (وأما ماذكروه من استبعاد أن يفهم المقصِّرون نصوص الشرع وجعلوا ذلك مسوّغا للتقليد، فليس الأمر كما ذكروه، فههنا واسطة بين الاجتهاد والتقليد، وهى سؤال الجاهل للعالم عن الشرع فيما يعرض له، لا عن رأيه البحت واجتهاده المحض. وعلى هذا كان عمل المقصِّرين من الصحابة والتابعين وتابعيهم، ومن لم يسعه ماوسع أهل هذه القرون الثلاثة الذين هم خير قرون هذه الأمة على الإطلاق فلا وسَّع الله عليه. وقد ذم الله تعالى المقلدين في كتابه العزيز في كثير من (إنا وجدنا آباءنا على أمة) و(اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله) و و(إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا) (ارشاد الفحول) صـ 249ــ250.
وقال الشوكاني أيضا (إذا تقرر لك أن العامي يسأل العالم، والمقصر يسأل الكامل، فعليه أن يسأل أهل العلم المعروفين بالدين وكمال الورع عن العالم بالكتاب والسنة العارف بما فيهما المطلع على مايحتاج إليه في فهمهما من العلوم الآلية حتى يدلّوه عليه ويرشدوه إليه، فيسأله عن حادثته طالبا منه أن يذكر له فيها مافي كتاب الله سبحانه أو مافي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحينئذ يأخذ الحق من معدنه، ويستفيد الحكم من موضعه، ويستريح من الرأي الذي لايأمن المتمسك به أن يقع في الخطأ المخالف للشرع) (ارشاد الفحول) صـ 252.
فهذه أقوال من أوجبوا الاتباع وحرّموا التقليد البته، وملخصها أن المستفتي يجب عليه أن يسأل المفتي عن حكم الشرع في مسألته وأن يسأله عن دليل قوله أو يكتفي بقول المفتي إن هذا حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم في مسألته وإن لم يذكر له عين الدليل. فإن لم يفعل المستفتي هذا فهو آثم.
.............................................
خامسا: القائلون بوجوب الاتباع مع جواز التقليد للضرورة
وهؤلاء منهم: ابن عبدالبر وابن تيمية وابن القيم والشنقيطي، وإليك أقوالهم:(4/204)
1 ــ قال ابن عبدالبر رحمه الله (باب فساد التقليد ونفيه، والفرق بين التقليد والاتباع).
(قد ذم الله تبارك وتعالى التقليد في غير موضع من كتابه فقال (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله)، وروى عن حذيفة وغيره قالوا لم يعبدوهم من دون الله ولكنهم أحلوا لهم وحرموا عليهم فاتبعوهم، وقال عدي بن حاتم: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب فقال لي «ياعدي ألقِ هذا الوثن من عنقك وانتهيت إليه وهو يقرأ سورة براءة حتى أتى على هذه الآية (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله) قال: قلت يارسول الله إنا لم نتخذهم أرباباً قال: بلى أليس يحلون لكم ماحرم عليكم فتحلونه ويحرمون عليكم ماأحل الله لكم فتحرمونه، فقلت: بلى، فقال: تلك عبادتهم»، حدثنا عبدالوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا ابن وضاح قال حدثنا يوسف بن عدي قال حدثنا أبو الأحوص عن عطاء بن السائب عن أبي البختري في قوله عزوجل (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله) قال إما أنهم لو أمروهم أن يعبدوهم من دون الله ماأطاعوهم ولكنهم أمروهم فجعلوا حلال الله حرامه وحرامه حلاله فأطاعوهم فكانت تلك الربوبية، قال وحدثنا ابن وضاح حدثنا موسى بن معاوية حدثنا وكيع حدثنا سفيان والأعمش جميعا عن حبيب ابن أبي ثابت عن أبي البختري قال: قيل لحذيفة في قوله (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله) أكانوا يعبدونهم، فقال لا ولكن كانوا يحلون لهم الحرام فيحلونه ويحرمون عليهم الحلال فيحرمونه. وقال جل وعز (وكذلك ماأرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم) فمنعهم الاقتداء بآبائهم من قبول الاهتداء فقالوا (إنا بما أرسلتم به كافرون) وفي هؤلاء ومثلهم قال الله جل وعز (إن شر الدوابَّ عند الله الصم البكم الذين لايعقلون) وقال (إذ تبرأ الذين(4/205)
اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرؤا منا كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم) وقال جل وعز عائبا لأهل الكفر وذاما لهم (ماهذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون قالوا وجدنا آباءنا كذلك يفعلون) وقال (إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا) ومثل هذا في القرآن كثير من ذم تقليد الآباء والرؤساء وقد احتج العلماء بهذه الآيات في ابطال التقليد ولم يمنعهم كفر أولئك من الاحتجاج بها، لأن التشبيه لم يقع من جهة كفر أحدهما وإيمان الآخر وإنما وقع التشبيه بين التقليدين بغير حجة للمقلد، كما لو قلد رجل فكفر، وقلد آخر فأذنب، فقلد آخر في مسئلة دنياه فأخطأ وجهها، كان كل واحد ملوما على التقليد بغير حجة لأن كل ذلك تقليد يشبه بعضه بعضا وإن اختلفت الآثام فيه: وقال الله جل وعز (وماكان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم مايتقون) وقد ثبت الاحتجاج بما قدمنا في الباب قبل هذا وفي ثبوته إبطال التقليد أيضا فإذا بطل التقليد بكل ماذكرنا وجب التسليم للأصول التي يجب التسليم لها وهى الكتاب والسنة أو ماكان في معناهما بدليل جامع بين ذلك. ــ ثم ذكر ابن عبدالبر بعض الآثار في ذم التقليد والنهي عنه، إلى أن قال ــ وهذا كله لغير العامة فإن العامة لابد لها من تقليد علمائها عند النازلة تنزل بها لأنها لاتتبين موقع الحجة ولاتصل بعدم الفهم إلى علم ذلك لأن العلم درجات لاسبيل منها إلى أعلاها إلا بنيل أسفلها وهذا هو الحائل بين العامة وبين طلب الحجة والله أعلم. ولم تختلف العلماء أن العامة عليها تقليد علمائها وأنهم المرادون بقول الله عزوجل (فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لاتعلمون) وأجمعوا على أن الأعمى لابد له من تقليد غيره ممن يثق بميزه بالقبلة إذا أشكلت عليه، فكذلك من لاعلم له ولا بصر بمعنى مايدين به لابد له من تقليد عالمه. وكذلك لم يختلف العلماء ان العامة(4/206)
لايجوز لها الفتيا وذلك والله أعلم لجهلها بالمعاني التي منها يجوز التحليل والتحريم والقول في العلم) (جامع بيان العلم) جـ 2 صـ 109 ـ 115.
وبهذا ترى أن ابن عبدالبر بعدما بيّن فساد التقليد وخطره عاد فنقض ماأسسه إذ أجاز التقليد للعامة وهم أكثر الأمة، وكأنه يحظر التقليد على المفتين فقط. ولم يوافقه من يأت ذكرهم على توسّعه في إجازة التقليد للعامة وإنما قصروه على حال الضرورة كما سيأتي في كلام ابن تيمية وابن القيم والشنقيطي وهو الذي نراه صوابا والله أعلم. كما رد الفُلاّني دعوى ابن عبدالبر الإجماع على جواز التقليد للعامة، فقال (وقال الحافظ أبو عمر بن عبدالبر: ولم يختلف العلماء أن العامة عليها تقليد علمائها وأنهم المرادون بقول الله عزوجل (فاسئلوا أهل الذكر) الخ، فيه نظر، فإن دعوى الإجماع فيه غير مُسَلم فقد نقل الأصفهاني في تفسيره عن الإمام ابن دقيق العيد ماملخصه أن اجتهاد العامي عند من قال به من العلماء هو أنه إذا سئل في هذه الأعصار التي غلب فيها الفتوى بالاختيارات البشرية غير المعصومة بل المختلفة المتضادة أن يقول للمفتي هكذا أمر الله تعالى ورسوله فإن قال نعم أخذ بقوله ولم يلزمه أكثر من هذا البحث ــ إلى قوله ــ ومن تأمل أقوال السلف والأئمة الأربعة في الحث على أن لايستفتي إلا العالم بالكتاب والسنة عرف مصداق ماذكرناه) إلى آخر مانقله الفلاني وقد ذكرناه من قبل (ايقاظ همم أولي الأبصار) صـ 39.
2 ــ شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قال:
(وكذلك المسائل الفروعية: من غالية المتكلمين والمتفقهة من يوجب النظر والاجتهاد فيها على كل أحد، حتى على العامة ! وهذا ضعيف، لأنه لو كان طلب علمها واجباً علي الأعيان فإنما يجب مع القدرة، والقدرة على معرفتها من الأدلة المفصلة تتعذر أو تتعسر على أكثر العامة.
وبازائهم من أتباع المذاهب من يوجب التقليد فيها على جميع من بعد الأئمة: علمائهم. وعوامهم.(4/207)
ومن هؤلاء من يوجب التقليد بعد عصر أبي حنيفة ومالك مطلقاً ثم هل يجب على كل واحد اتباع شخص معين من الأئمة يقلده في عزائمه ورخصه؟ على وجهين. وهذان الوجهان ذكرهما أصحاب أحمد والشافعي، لكن هل يجب على العامي ذلك؟
والذي عليه جماهير الأمة أن الاجتهاد جائز في الجملة، والتقليد جائر في الجملة، لايوجبون الاجتهاد على كل أحد ويحرمون التقليد، ولايوجبون التقليد على كل أحد ويحرمون الاجتهاد، وأن الاجتهاد جائز للقادر على الاجتهاد، والتقليد جائز للعاجز عن الاجتهاد. فأما القادر على الاجتهاد فهل يجوز له التقليد؟ هذا فيه خلاف، والصحيح أنه يجوز حيث عجز عن الاجتهاد: إما لتكافؤ الأدلة، وإما لضيق الوقت عن الاجتهاد، وإما لعدم ظهور دليل له، فإنه حيث عجز سقط عنه وجوب ما عجز عنه وانتقل إلى بدله وهو التقليد، كما لو عجز عن الطهارة بالماء.
وكذلك العامي إذا أمكنه الاجتهاد في بعض المسائل جاز له الاجتهاد، فإن الاجتهاد منصب يقبل التجزي والانقسام، فالعبرة بالقدرة والعجز، وقد يكون الرجل قادراً في بعض عاجزاً في بعض، لكن القدرة على الاجتهاد لاتكون إلا بحصول علوم تفيد معرفة المطلوب، فأما مسألة واحدة من فن فيبعد الاجتهاد فيها، والله سبحانه أعلم.) (مجموع الفتاوى) 20 /203 ــ 204.
وقال ابن تيمية أيضا (وهؤلاء الأئمة الأربعة رضي الله عنهم قد نهوا الناس عن تقليدهم في كل مايقولونه، وذلك هو الواجب عليهم، فقال أبو حنيفة: هذا رأيي وهذا أحسن مارأيت، فمن جاء برأي خير منه قبلناه، ولهذا لما اجتمع أفضل أصحابه أبو يوسف بمالك فسأله عن مسألة الصاع، وصدقة الخضروات، ومسألة الأجناس، فأخبره مالك بما تدل عليه السنة في ذلك، فقال: رجعت إلى قولك ياأباعبدالله، ولو رأي صاحبي ما رأيت لرجع إلى قولك كما رجعت.
ومالك كان يقول: إنما أنا بشر أصيب وأخطئ، فاعرضوا قولي على الكتاب والسنة، أو كلاما هذا معناه.(4/208)
والشافعي كان يقول: إذا صح الحديث فاضربوا بقولي الحائط، وإذا رأيت الحجة موضوعة على الطريق فهى قولي. وفي مختصر المزني لما ذكر أنه اختصره من مذهب الشافعي لمن أراد معرفة مذهبه قال: مع إعلامه نهيه عن تقليده وتقليد غيره من العلماء.
والإمام أحمد كان يقول: لاتقلدوني ولاتقلدوا مالكا ولا الشافعي ولا الثوري، وتعلموا كما تعلمنا. وكان يقول: من قلة علم الرجل أن يقلد دينه الرجال، وقال: لاتقلد دينك الرجال فإنهم لن يسلموا من أن يغلطوا.
وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين»، ولازم ذلك أن من لم يفقهه الله في الدين لم يرد به خيراً، فيكون التفقه في الدين فرضا. والتفقه في الدين: معرفة الأحكام الشرعية بأدلتها السمعية. فمن لم يعرف ذلك لم يكن متفقها في الدين، لكن من الناس من قد يعجز عن معرفة الأدلة التفصيلية في جميع أموره، فيسقط عنه ما يعجز عن معرفته لا كل ما يعجز عنه من التفقه، ويلزمه مايقدر عليه. وأما القادر على الاستدلال، فقيل: يحرم عليه التقليد مطلقاً، وقيل: يجوز مطلقاً، وقيل: يجوز عند الحاجة، كما إذا ضاق الوقت عن الاستدلال، وهذا القول أعدل الأقوال.) (مجموع الفتاوى) 20 / 211 ــ 212.
فهذا ابن تيمية رحمه الله قد قصر جواز التقليد على العاجز عن الاستدلال، وليس هذا حال جميع العامة، كما أن من أوجب الاتباع ــ كابن حزم والشوكاني ــ لم يوجب الاستدلال والاجتهاد على الجميع، فتأمل هذا الفرق بين الاتباع والاجتهاد، وأن أدنى مايحتاط المرء به لدينه في الاتباع هو أن يسأل المفتي أهكذا أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فإن قال نعم، قبل منه.(4/209)
3 ــأما ابن القيم رحمه الله فقد أشرنا من قبل إلى رده على المقلدة وإبطاله لحججهم، ومع هذا فقد قال إن التقليد إنما يباح للضرورة، فقال في الرد على أنصار التقليد (إن مَن ذكرتم مِن الأئمة لم يقلدوا تقليدكم، ولا سوّغوه بتَّة، بل غاية مانقل عنهم من التقليد في مسائل يسيرة لم يظفروا فيها بنص عن الله ورسوله، ولم يجدوا فيها سوى قول مَنْ هو أعلم منهم فقلدوه، وهذا فعل أهل العلم، وهو الواجب، فإن التقليد إنما يباح للمضطر، وأما من عَدَلَ عن الكتاب والسنة وأقوال الصحابة وعن معرفة الحق بالدليل مع تمكنه منه إلى التقليد فهو كمن عَدَل إلى المَيْتَة مع قُدْرته على المُذَكَّي، فإن الأصل أن لايقبل قول الغير إلا بدليل إلا عند الضرورة، فجعلتم أنتم حال الضرورة رأس أموالكم.) (اعلام الموقعين) 2/241.
وقال ابن القيم أيضا (وأما تقليد من بذل جَهْده في اتباع ماأنزل الله وخفي عليه بعضه فقلّد فيه من هو أعلم منه، فهذا محمود غير مذموم، ومأجور غير مأزور) (اعلام الموقعين) 2/169.
4 ــ الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله، في تفسير قول الله تعالى (أفلا يتدبرون القرآن، أم على قلوب أقفالها) من سورة محمد صلى الله عليه وسلم، قال رحمه الله (اعلم أن قول بعض متأخري الأصوليين: إن تدبر هذا القرآن العظيم، وتفهمه والعمل به. لايجوز إلا للمجتهدين خاصة، وأن كل من لم يبلغ درجة الاجتهاد المطلق بشروطه المقررة عندهم التي لم يستند اشتراط كثير منها إلى دليل من كتاب ولاسنة ولا إجماع ولاقياس جلي، ولاأثر عن الصحابة، قول لامستند له من دليل شرعي أصلا.
بل الحق لاشك فيه، أن كل من له قدرة من المسلمين، على التعلم والتفهم، وإدراك معاني الكتاب والسنة، يجب عليه تعلمهما، والعمل بما علم منهما.
أما العمل بهما مع الجهل بما يعمل به منهما فممنوع إجماعاً.(4/210)
وأما ما علمه منهما علماً صحيحاً ناشئاً عن تعلم صحيح، فله أن يعمل به، ولو آية واحدة أو حديثاً واحداً.
ومعلوم أن هذا الذم والإنكار على من لم يتدبر كتاب الله عام لجميع الناس.
ومما يوضح ذلك أن المخاطبين الأولين به الذين نزل فيهم هم المنافقون والكفار، ليس أحد منهم مستكملا لشروط الاجتهاد المقررة عند أهل الأصول، بل ليس عندهم شيء منها أصلا. فلو كان القرآن لا يجوز أن ينتفع بالعمل به، والاهتداء بهديه إلا المجتهدون بالاصطلاح الأصولي لما وبّخ الله الكفار وأنكر عليهم عدم الاهتداء بهداه، ولما أقام عليهم الحجة به حتى يحصلوا شروط الاجتهاد المقررة عند متأخري الأصوليين، كما ترى.
ومعلوم أن من المقرر في الأصول أن صورة سبب النزول قطعية الدخول، وإذاً فدخول الكفار والمنافقين، في الآيات المذكورة قطعي، ولو كان لايصح الانتفاع بهدي القرآن إلا لخصوص المجتهدين لما أنكر الله على الكفار عدم تدبرهم كتاب الله، وعدم عملهم به.
وقد علمت أن الواقع خلاف ذلك قطعاً، ولايخفى أن شروط الاجتهاد لاتشترط إلا فيما فيه مجال للاجتهاد، والأمور المنصوصة في نصوص صحيحة، من الكتاب والسنة، لايجوز الاجتهاد فيها لأحد، حتى تشترط فيها شروط الاجتهاد، بل ليس فيها إلا الاتباع. ــ إلى أن قال ــ ومن المعلوم، أنه لايصح تخصيص عمومات الكتاب والسنة، إلا بدليل يجب الرجوع إليه.
ومن المعلوم أيضا، أن عمومات الآيات والأحاديث، الدالة على حث جميع الناس، على العمل بكتاب الله، وسنة رسوله، أكثر من أن تحصى، كقوله صلى الله عليه وسلم:«تركت فيكم ماإن تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله وسنتي» وقوله صلى الله عليه وسلم «عليكم بسنتي» الحديث. ونحو ذلك مما لا يحصى.(4/211)
فتخصيص جميع تلك النصوص، بخصوص المجتهدين وتحريم الانتفاع بهدي الكتاب والسنة على غيرهم، تحريماً باتا يحتاج إلي دليل من كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولايصح تخصيص تلك النصوص بآراء جماعات من المتأخرين المقرين على أنفسهم بأنهم من المقلدين) (أضواء البيان) 7 /430 ــ 431. وقد أضفت لكلامه حرف (لم) في قوله (ومعلوم أن هذا الذم والإنكار على من يتدبر كتاب الله) إذ لايستقيم الكلام إلا بإضافة لم (على من لم يتدبر).
وقال الشنقيطي أيضا (وإن كان قصدهم أن تعلمهما صعب لايقدر عليه، فهم أيضا زعم باطل، لأن تعلم الكتاب والسنة، أيسر من تعلم مسائل الآراء والاجتهاد المنتشرة، مع كونها في غاية التعقيد والكثرة، والله جل وعلا يقول في سورة القمر مرات متعددة: (ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدّكر). ويقول تعالى في الدخان: (فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون). ويقول في مريم: (فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لداً). فهو كتاب ميسر، بتيسير الله، لمن وفقه الله للعمل به) (أضواء البيان) 7/435.
ثم تكلم الشنقيطي فيما يجوز من التقليد فقال: (أما التقليد الجائز الذي لايكاد يخالف فيه أحد من المسلمين فهو تقليد العامي عالماً أهلا للفتيا في نازلة ٍ نزلت به، وهذا النوع من التقليد كان شائعاً في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولاخلاف فيه.
فقد كان العامي، يسأل من شاء من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن حكم النازلة تنزل به فيفتيه فيعمل بفتياه.
وإذا نزلت به نازلة أخرى لم يرتبط بالصحابي الذي أفتاه أولا بل يسأل عنها من شاء من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يعمل بفتياه.) (أضواء البيان) 7 / 487.(4/212)
إلا أن الشنقيطي رحمه الله بيَّن بعد ذلك المراد بالتقليد الجائز في كلامه السابق، وهو ماكان محلاً للاجتهاد من المسائل، أما مافيه نص كتاب أو سنة أو إجماع فلا تقليد فيه، فقال رحمه الله (اعلم أن مما لابد منه معرفة الفرق بين الاتباع والتقليد، وأن محل الاتباع لايجوز التقليد فيه بحال.
وإيضاح ذلك: أن كل حكم ظهر دليله من كتاب الله، أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، أو إجماع المسلمين، لايجوز فيه التقليد بحال. لأن كل اجتهاد يخالف النص، فهو اجتهاد باطل، ولاتقليد إلا في محل الاجتهاد. لأن نصوص الكتاب والسنة، حاكمة على كل المجتهدين، فليس لأحد منهم مخالفتها كائنا من كان.
ولا يجوز التقليد فيما يخالف كتاباً أو سنة أو إجماعاً إذ لا أسوة في غير الحق.
فليس فيما دلت عليه النصوص إلا الاتباع فقط. ولااجتهاد، ولاتقليد فيما دل عليه نص، من كتاب أو سنة، سالم من المعارض.
والفرق بين التقليد والاتباع أمر معروف عند أهل العلم، لايكاد ينازع في صحة معناه أحد من أهل العلم. وقد قدمنا كلام ابن خويز منداد الذي نقله عنه ابن عبدالبر في جامعه. وهو قوله: التقليد معناه في الشرع الرجوع إلى قول لا حجة لقائله عليه، وذلك ممنوع منه في الشريعة، والاتباع ما ثبت عليه حجة. ــ إلى أن قال الشنقيطي ــ
وبهذا تعلم أن شروط المجتهد التي يشترطها الأصوليون إنما تشترط في الاجتهاد، وموضع الاتباع ليس محل اجتهاد، فجَعْل شروط المجتهد في المتبع مع تباين الاجتهاد والاتباع وتباين مواضعهما خلط وخبط، كما ترى.
والتحقيق أن اتباع الوحي لايشترط فيه إلا علمه بما يعمل به من ذلك الوحي الذي يتبعه.وأنه يصح علم حديث والعمل به، وعلم آية والعمل بها. ولايتوقف ذلك على تحصيل جميع شروط الاجتهاد. فيلزم المكلف أن يتعلم مايحتاج إليه من الكتاب والسنة، ويعمل بكل ماعلم من ذلك، كما كان عليه أول هذه الأمة، من القرون المشهود لها بالخير.) (أضواء البيان) 7 / 547 ــ 550.(4/213)
ورغم كلامه هذا، فقد أجاز الشنقيطي التقليد بالمعنى الاصطلاحي الذي قدمناه وذلك في حال الضرورة، فقال رحمه الله (لاخلاف بين أهل العلم، في أن الضرورة لها أحوال خاصة تستوجب أحكاماً غير أحكام الاختيار. فكل مسلم ألجأته الضرورة إلى شيء إلجاء صحيحاً حقيقياً، فهو في سعة من أمره فيه. وقد استثنى الله جل وعلا، حالة الاضطرار في خمس آيات من كتابه، ذكر فيها المحرمات الأربع التي هى من أغلظ المحرمات، تحريماً وهى الميتة والدم ولحم الخنزير وماأهلّ لغير الله به. فإن الله تعالى كلما ذكر تحريمها استثنى منها حالة الضرورة، فأخرجها من حكم التحريم. ــ ثم ذكر الآيات، وقال ــ
وبهذا تعلم أن المضطر للتقليد الأعمى اضطراراً حقيقياً، بحيث يكون لاقدرة له البتة على غيره مع عدم التفريط لكونه لاقدرة له أصلا على الفهم.
أو له قدرة على الفهم وقد عاقته عوائق قاهرة عن التعلم.
أو هو في أثناء التعلم ولكنه يتعلم تدريجاً لأنه لايقدر على تعلم كل مايحتاجه في وقت واحد.
أو لم يجد كفئا يتعلم منه ونحو ذلك فهو معذور في التقليد المذكور للضرورة. لأنه لا مندوحة له عنه.
أما القادر على التعلم المفرط فيه. والمقدم آراء الرجال على ماعلم من الوحي، فهذا الذي ليس بمعذور) (أضواء البيان) 7/553 ــ 555.
5 ــ رأي المؤلف (عبدالقادر بن عبدالعزيز) في مسألة الاتباع والتقليد:
رأيي في هذه المسألة أن الاتباع واجب على كل مسلم ولايجوز التقليد إلا للضرورة كما قال ابن القيم والشنقيطي وغيرهما، وهذا الرأي مبني على مقدمتين:(4/214)
المقدمة الأولى: أن الاتباع واجب على كل مسلم، ودليله ماذكرناه في أول الباب الثاني من (وجوب العلم قبل القول والعمل) وذكرنا أدلة ذلك من الكتاب والسنة والإجماع، ومنها قوله تعالى (ولاتقف ماليس لك به علم) الإسراء، وقوله صلى الله عليه وسلم (طلب العلم فريضة علي كل مسلم). فهذا خطاب لجميع المؤمنين لافرق بين عالم وعامي، فالكل مخاطب بألا يتبع ماليس له به علم، والكل مخاطب بطلب علم ماوجب عليه، وهو فرض العين من العلم. والعلم هو الدليل الشرعي كما ذكرنا، فمعرفة دليل القول والعمل واجب على كل مسلم، وهذا هو الاتباع.
المقدمة الثانية: أنه قد تبين لك مما سبق أنه لايوجد دليل شرعي واحد يوجب التقليد أو يجيزه، ــ كما قرره الشوكاني فيما نقلناه عنه ــ حتى يخصص هذا الدليل أدلة وجوب الاتباع المذكورة في المقدمة الأولى.
بناء على هاتين المقدمتين: يكون الاتباع واجباً على كل مسلم، ولهذا الاتباع مرتبتان في حق المستفتي، وهما:
المرتبة الأولى: لمن لديه قدرة على فهم الأدلة، فالاتباع الواجب عليه: أن يسأل المفتي عن دليل الفتوى من الكتاب أو السنة أو الإجماع أو القياس أو غيرها، ويعرف وجه الدلالة فيه على الحكم.
المرتبة الثانية: لمن يعجز عن فهم الأدلة، فالاتباع الواجب عليه: أن يسأل المفتي عن فتواه فيقول له: أهذا حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم؟، فإن أجابه بنعم، قَبِل فتواه. كما ذكره ابن حزم والشوكاني وابن دقيق العيد. والحق أن هذه المرتبة لايعجز عنها أحد، وإنما ينقص الناس أن يعلموا بوجوبها.(4/215)
وعلى هذا لا يبقى موضع لجواز التقليد إلا موضعاً واحداً، وهو عجز المستفتي عجزاً حقيقياً عن الوصول إلى من يفتيه بالدليل الشرعي تفصيلا كما في المرتبة الأولى أو إجمالا كما في المرتبة الثانية، مع قدرته على الوصول إلى من يفتيه بالتقليد بغير حجة ولا دليل. وبهذا تعلم أن الاتباع هو الحكم الأصلي وأن التقليد إنما هو استثناء للمضطر العاجز عن الاتباع بمرتبتيه.
ومع هذا فإن المقلد ــ حيث يسوغ له التقليد للضرورة ــ يأثم ويُذم في مواضع سيأتي ذكرها إن شاء الله.
وليس إيجابنا للاتباع إيجاباً للإجتهاد، لما ذكرناه من الفرق بينهما، خاصة فيما سبق من كلام الشنقيطي.
ويجب على كل مشتغل بالعلوم الشرعية أن يحض الناس على الاتباع وأن يبدأ بنفسه، كما يجب على الشبان المتدينين إحياء هذا الأمر، لنشر العلم ورفع الجهل، وقطع الطريق على أدعياء العلم الذين يضلون الناس بأهوائهم بغير علم. بهذا يصلح حال الأمة إذ لن يصلح آخرها إلا بما صلح به أولها، وبهذا لا يقع المسلمون في الذم الوارد في قوله تعالى (وقال الرسول يارب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً) الفرقان 30، والتوبيخ الوارد في قوله تعالى (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها) محمد 24. أما قول البعض إن المفتي قد يخدع المستفتي فيذكر له دليلا وهو خلاف الحق في المسألة ــ كما هو شأن الفرق المبتدعة ــ والمستفتي لايميز ذلك، فجوابه أن سنة الله تعالى في هذا أن الله يقيض له من يفضحه ويكشف ضلاله حتى يصير عبرة لأمثاله، قال تعالى (بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق) الأنبياء. هذا والله تعالى أعلم.
...................................................
سادسا: متى يُذم المقلد؟
يأثم المقلد في أحوال ويُنكر عليه فيها، منها:(4/216)
1 ــ إذا كان قادراً على الاجتهاد (الاستدلال) وعدل عنه إلى التقليد المحض، قال الشنقيطي رحمه الله (أما ماليس من التقليد بجائز بلا خلاف؟ فهو تقليد المجتهد الذي ظهر له الحكم باجتهاده، مجتهداً آخر يرى خلاف ماظهر له هو، للإجماع على أن المجتهد إذا ظهر له الحكم باجتهاده لايجوز له أن يقلد غيره المخالف لرأيه) (أضواء البيان) 7 / 488.
2 ــ إذا كان قادراً على الاتباع (أي السؤال عن دليل مسألته وفهمه) فاكتفى بالتقليد المحض. كما قال الشنقيطي رحمه الله (أما القادر على التعلم المفرّط فيه، والمقدّم آراء الرجال على ماعلم من الوحي، فهذا الذي ليس بمعذور) (أضواء البيان) 7 / 554 ــ 555. وإنما أثِمَ هذا لأنه ترك الاتباع الواجب عليه، وفعله هذا نوع من أنواع الإعراض عما أنزل الله تعالى، وقد ذكر ابن القيم من أنواع التقليد المحرّم (الإعراض عما أنزل الله وعدم الالتفات إليه اكتفاء بتقليد الآباء) (اعلام الموقعين) 2 / 168. وقال ابن تيمية رحمه الله (فكل من عَدَل عن اتباع الكتاب والسنة وطاعة الله والرسول إلى عادته وعادة أبيه وقومه فهو من أهل الجاهلية المستحقين للوعيد) (مجموع الفتاوي) 20/225.
3 ــ إذا ظهر للمقلد بالحجة والدليل أن الحق بخلاف قول من قلّده، فلم يرجع عنه، أثِمَ إثماً عظيماً، قال تعالى (وماكان لمؤمن ولامؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرآً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم، ومن يعص الله ورسوله، فقد ضل ضلالا مبينا ً) الأحزاب 36، ويُخشى على هذا المعانِد أن يزيغ الله قلبه ويطبع عليه، قال تعالى (فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم) الصف 5. وهذا والعياذ بالله شأن كثير من المقلدين. قال ابن حزم (وأما إن قامت عليه الحجة فعاند تقليداً ففاسق) (الإحكام) 6 / 154.(4/217)
وقال ابن تيمية (وكذلك من تبين له في مسألة من المسائل الحق الذي بعث الله به رسوله ثم عدل عنه إلى عادته، فهو من أهل الذم والعقاب) (مجموع الفتاوي) 20 / 225. وقال ابن تيمية أيضا (فمن صار إلى قولٍ مقلداً لقائله لم يكن له أن ينكر علي من صار إلى القول الآخر مقلداً لقائله، لكن إن كان مع أحدهما حجة شرعية وجب الانقياد للحجج الشرعية إذا ظهرت) (مجموع الفتاوي) 35 / 233.
وذكر ابن القيم من أنواع التقليد الحرام (التقليد بعد قيام الحجة وظهور الدليل على خلاف قول المقلد) (اعلام الموقعين) 2 / 168.
4 ــ إذا قلّد ــ من يجوز له التقليد ــ غيرَ مؤهل للفتيا أو لم يتحرّ أهلية من قلّده، وقد سبق الكلام في هذا في (صفة من يستفتيه العامي) ومابعدها من مسائل. وقال ابن القيم في أنواع التقليد المحرم (تقليد من لايعلم المقلد أنه أهلٌُ لأن يؤخذ بقوله) (اعلام الموقعين) 2/168.(4/218)
5 ــ إذا اعتقد المقلد وجوب تقليد شخص بعينه. قال ابن تيمية رحمه الله (فمن فعل هذا كان جاهلاً ضالا، بل قد يكون كافراً، فإنه متى اعتقد أنه يجب على الناس اتباع واحد بعينه من هؤلاء الأئمة دون الإمام الآخر فإنه يجب أن يُستتاب، فإن تاب وإلا قُتِل، بل غاية مايقال: إنه يسوغ أو ينبغي أو يجب على العامي أن يقلد واحداً لا بعينه، من غير تعيين زيد ولا عمرو. وأما أن يقول قائل: إنه يجب على العامة تقليد فلان أو فلان، فهذا لايقوله مسلم) (مجموع الفتاوي) 22/249. وقال ابن تيمية أيضا (ولو فتح هذا الباب لوجب أن يُعرض عن أمر الله ورسوله، ويبقى كل إمام في أتباعه بمنزلة النبي صلى الله عليه وسلم في أمته، وهذا تبديل للدين يشبه ماعاب الله به النصارى في قوله: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم، وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحداً لا إله إلا هو، سبحانه عما يشركون) ــ التوبة 31 ــ، والله سبحانه وتعالى أعلم، والحمد لله وحده.) (مجموع الفتاوي) 20 /216.
6 ــ ويُذم المقلد أيضا إذا ابتُلي بقولٍ آخر في مسألته فلم يتحرّ أيهما الصواب، وسيأتي تفصيل هذا في المسألة السادسة عشرة (إذا اختلف على المستفتي مفتيان أو أكثر) إن شاء الله تعالى.
وبهذا نختم الكلام في هذه المسألة (مسألة الاتباع والتقليد)، وبالله تعالى التوفيق.
******
المسألة الرابعة عشرة
هل يجوز اعتماد المستفتي على خط المفتي؟(4/219)
قال ابن القيم رحمه الله (يجوز له العمل بخط المفتي وإن لم يسمع الفتوى من لفظه إذا عرف أنه خطه أو أعْلَمَه به من يسكن إلى قوله، ويجوز له قبول قول الرسول إن هذا خطه وإن كان عبداً أو امرأة أو صبياً أو فاسقاً، كما يقبل قوله في الهدية والإذن في دخول الدار اعتماداً على القرائن والعرف، وكذا يجوز اعتماد الرجل على مايجده من كتابة الوقف على كتاب أو رباط، أو خَانٍ أو نحوه فيدخله وينتفع به، وكذلك يجوز له الاعتماد على مايجده بخط أبيه في برنامجه أن له على فلان كذا وكذا، فيحلف على الاستحقاق، وكذا يجوز للمرأة الاعتماد على خط الزوج أنه أبانها فلها أن تتزوج بناء على الخط، وكذا الوصي والوارث يعتمد على خط الموصي فينفذ مافيه وإن لم يشهد شاهدان، وكذا إذا كتب الراوي إلى غيره حديثا جاز له أن يعتمد عليه ويعمل به، ويرويه بناء على الخط إذا تيقن ذلك كله، هذا عمل الأمة قديما وحديثاً من عهد نبينا صلى الله عليه وسلم وإلى الآن، وإن أنكره من أنكره.
ومن العجب أن من أنكر ذلك وبالغ في إنكاره، ليس معه فيما يفتي به إلا مجرد كتاب قيل: إنه كتاب فلان، فهو يقضي به ويفتي ويُحل ويُحرم، ويقول: هكذا في الكتاب، والله الموفق.
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرسل كتبه إلى الملوك وإلى الأمم يدعوهم إلى الإسلام فتقوم عليهم الحجة بكتابه، وهذا أظهر من أن ينكر، وبالله التوفيق.) (اعلام الموقعين) 4/264 ــ 265.
وقول ابن القيم إنه يجوز قبول قول الرسول ــ بين المستفتي والمفتي ــ وإن كان فاسقاً. هذا غير سديد، فلا يجوز قبول خبر الفاسق، لقوله تعالى (إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا) الحجرات، وأدنى مافي الآية أن يتوقف في قبول خبر الفاسق.
******
المسألة الخامسة عشرة
هل فتوى المفتي مُلزمة للمستفتي؟(4/220)
سبق أن ذكرنا في أول هذا الباب في الفروق بين المفتي والقاضي: أن فتوى المفتي غير مُلزمة للمستفتي أما حكم القاضي فمُلزم للخصوم. فهذا إلزام قضائي متعلق بالسلطان بمعنى أن المفتي لايملك أن يجبر المستفتي على العمل بفتواه، أما القاضي فيملك اجبار الخصوم على تنفيذ حكمه بالقوة إذا اقتضى الأمر ذلك. وهذا هو معنى قول ابن القيم (والقاضي يقضي قضاء معيناً على شخص معيّن، فقضاؤه خاص مُلزِم، وفتوى العالِم عامة غير مُلزمة) (اعلام الموقعين) 1 / 38.
وعلى هذا يمكن القول بأن فتوى المفتي غير مُلزمة للمستفتي قضاءً، ولكن هناك إلزام آخر وهو مانتكلم عنه في هذه المسألة، وهو الإلزام الدِّياني بين العبد وربه، وهو إذا أفتاه المفتي فلم يعمل بفتواه هل يأثم فيما بينه وبين الله تعالى أم لا؟ فهذا الإلزام الدياني هو موضوع هذه المسألة، أي إذا كانت فتوى المفتي غير مُلزمة للمستفتي قضاءً فهل يلزمه العمل بها ديانةً؟
وسوف نذكر أقوال العلماء في المسألة ثم نلخّص حكمها:
1 ــ قال القرطبي رحمه الله (فرض العامي ّ ــ الذي لايشتغل باستنباط الأحكام من أصولها لعدم أهليته ــ فيما لايعلمه من أمر دينه ويحتاج إليه، أن يقصد أعلم مَنْ في زمانه وبلده فيسأله عن نازلته، فيمتثل فيها فتواه، لقوله تعالى (فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لاتعلمون) (تفسير القرطبي) 2 / 212.
2 ــ وقال الآمدي رحمه الله (العامي ومن ليس له أهلية الاجتهاد، وإن كان مُحصلا لبعض العلوم المعتبرة في الاجتهاد، يلزمه اتباع قول المجتهدين والأخذ بفتواه) (الإحكام) 4 / 234.
فقول القرطبي (فيمتثل فيها فتواه)، وقول الآمدي (يلزمه اتباع قول المجتهدين) يدل على أنهما يريان أن فتوى المفتي ملزمة للمستفتي، هكذا أجملا القول، وهناك من فصَّل في المسألة كالنووي وابن القيم.(4/221)
3 ــ قال النووي رحمه الله (قال الخطيب البغدادي: إذا لم يكن في الموضع الذي هو فيه إلا مفت واحد فأفتاه لزمه فتواه. وقال أبو المظفر السمعاني رحمه الله: إذا سمع المستفتي جواب المفتي لم يلزمه العمل به إلا بالتزامه، قال: ويجوز أن يقال إنه يلزمه إذا أخذ في العمل به، وقيل: يلزمه إذا وقع في نفسه صحته، قال السمعاني: وهذا أولى الأوجه. قال الشيخ أبو عمرو: لم أجد هذا لغيره وقد حكى هو بعد ذلك عن بعض الأصوليين أنه إذا أفتاه بما هو مختلف فيه خيّره بين أن يقبل منه أو من غيره ثم اختار هو أنه يلزمه الاجتهاد في أعيان المفتين ويلزمه الأخذ بفتيا من اختاره باجتهاده، قال الشيخ: والذي تقتضيه القواعد أن نفصل فنقول إذا أفتاه المفتي نظر فإن لم يوجد مفت آخر لزمه الأخذ بفتياه ولايتوقف ذلك على التزامه لا بالاخذ في العمل به ولابغيره ولا يتوقف أيضاً على سكون نفسه إلى صحته، وإن وجد مفت آخر فإن استبان أن الذي أفتاه هو الأعلم الأوثق لزمه ما أفتاه به بناء على الأصح في تعينه كما سبق، وإن لم يستبن ذلك لم يلزمه ماأفتاه بمجرد افتائه إذ يجوز له استفتاء غيره وتقليده، ولايعلم اتفاقهما في الفتوى فإن وجد الاتفاق أو حكم به عليه حاكم لزمه حينئذ) (المجموع) جـ 1 صـ 56. وقد نقل ابن حمدان هذا الكلام بنصه تقريبا (صفة الفتوى) صـ 81 ــ 82. كما نقل ابن القيم قريباً منه (اعلام الموقعين) 4 / 264.(4/222)
4 ــ وقال ابن القيم أيضا (لايجوز العمل بمجرد فتوى المفتي إذا لم تطمئن نفسه، وحَاكَ في صَدْره من قبوله، وتردد فيها، لقوله صلى الله عليه وسلم: «اسْتَفْت نَفْسَكَ وإن أفتاك الناسُ وأفْتَوْك» فيجب عليه أن يستفتي نفسه أولا، ولا تخلصه فتوى المفتي من الله إذا كان يعلم أن الأمر في الباطن بخلاف ماأفتاه، كما لا ينفعه قضاء القاضي له بذلك، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قضيت له بشئ من حق أخيه فلا يأخذه، فإنما أقْطَعُ له قطعة من نار» والمفتي والقاضي في هذا سواء، ولا يظن المستفتي أن مجرد فتوى الفقيه تبيح له ما سأل عنه إذا كان يعلم أن الأمر بخلافه في الباطن، سواء تردد أو حاك في صدره، لعلمه بالحال في الباطن، أو لشكه فيه، أو لجهله به، أو لعلمه جَهْلَ المفتي أو محاباته في فتواه أو عدم تقييده بالكتاب والسنة أو لأنه معروف بالفتوى بالحِيَل والرخص المخالفة للسنة وغير ذلك من الأسباب المانعة من الثقة بفَتْوَاه وسكون النفس إليها، فإن كان عدم الثقة والطمأنينة لأجل المفتي يسأل ثانياً وثالثاً حتى تحصل له الطمأنينة، فإن لم يجد فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها، والواجب تقوى الله بحسب الاستطاعة.) (اعلام الموقعين) 4 /254.
5 ــ أشار ابن الصلاح ــ في كلام النووي السابق ــ وكذلك ابن القيم إلى مسألة طمأنينة النفس كشرط لقبول الفتوى من عدمه، وهذا الكلام ليس على إطلاقه بل فيه تفصيل وتقييد، خاصة مع وضوح دليل الفتوى فلا مجال لاستفتاء النفس بل يجب الرضا والتسليم، يبيّن هذا ماذكره ابن رجب الحنبلي رحمه الله في شرح هذا الحديث.(4/223)
فعن وابصة بن معبد رضي الله عنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:(جئت تسأل عن البر والإثم؟.) قلت: نعم. قال (استفت قلبك، البر مااطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب، والإثم ماحاك في النفس وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك) قال النووي في الأربعين: حديث حسن رويناه في مسندي الإمامين أحمد بن حنبل والدارمي بإسناد حسن أ.هـ. وقال ابن رجب ففي إسناد هذا الحديث أمران يوجب كل منهما ضعفه ــ إلى أن قال ــ وقد روي هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه متعددة وبعض طرقه جيدة) (جامع العلوم والحكم) صـ 219.(4/224)
قال ابن رجب في شرحه (وهذا يدل على أن الله فطر عباده على معرفة الحق والسكون إليه وقبوله، وركز في الطباع محبة ذلك والنفور عن ضده، وقد يدخل هذا في حديث عياض بن حمار «إني خلقت عبادي حنفاء مسلمين، فأتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، فحرّمت عليهم ماأحللت لهم وأمرتهم أن يُشركوا بي مالم أنزل به سلطانا»، وقوله صلى الله عليه وسلم «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهوّدانه أو يُنصرانه أو يمجّسانه» الحديث ــ إلى أن قال ابن رجب ــ وقوله في حديث وابصة وأبي ثعلبة «وإن أفتاك المفتون» يعني أن ماحاك في صدر الإنسان فهو إثم وإن أفتاه غيره بأنه ليس بإثم، فهذه مرتبة ثانية، وهو أن يكون الشئ مستنكرا عند فاعله دون غيره وقد جعله أيضا إثما، وهذا إنما يكون إذا كان صاحبه ممن شرح صدره للإيمان، وكان المفتي يفتي له بمجرّد ظن ّ أو ميل إلى هوى من غير دليل شرعي، فأما ماكان مع المفتي به دليل شرعي فالواجب على المستفتي الرجوع إليه وإن لم ينشرح له صدره، وهذا كالرخصة الشرعية مثل الفطر في السفر والمرض وقصر الصلاة في السفر ونحو ذلك مما لا ينشرح به صدور كثير من الجهال فهذا لا عبرة به. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أحيانا يأمر أصحابه بما لا تنشرح به صدور بعضهم فيمتنعون من قوله فيغضب من ذلك، كما أمرهم بفسخ الحجّ إلى العمرة، فكرهه من كرهه منهم، وكما أمرهم بنحر هديهم والتحلل من عمرة الحديبية فكرهوه، وكرهوا مفاوضته لقريش على أن يرجع من عامِهِ وعلى أن من أتاه منهم يردّه إليهم. وفي الجملة فما ورد النص به فليس للمؤمن إلا طاعة الله ورسوله كما قال تعالى (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم) وينبغي أن يتلقى ذلك بانشراح الصدر والرضا، فإن ماشرعه الله ورسوله يجب الإيمان والرضا به والتسليم له كما قال تعالى (فلا وربك لايؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لايجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت(4/225)
ويسلموا تسليما) وأما ما ليس فيه نص من الله ولا رسوله ولا عمن يقتدي بقوله من الصحابة وسلف الأمة، فإذا وقع في نفس المؤمن المطمئنّ قلبه بالإيمان المنشرح صدره بنور المعرفة واليقين منه شئ وحكّ في صدره بشبهة موجودة، ولم يجد من يفتي فيه بالرخصة إلا من يخبر عن رأيه وهو ممن لايوثق بعلمه وبدينه بل هو معروف باتباع الهوى فهنا يرجع المؤمن إلى ماحاك في صدره وإن أفتاه هؤلاء المفتون.) (جامع العلوم والحكم) ط دار الفكر، صـ 221 ــ 223.
وقد تكلم الشاطبي بكلام طويل حسن في هذا الحديث «استفت قلبك» ونقل فيه قول الطبري، رحمهما الله، وذلك بكلام قريب مما ذكره ابن رجب، فراجعه إن شئت في (الاعتصام) للشاطبي جـ 2 صـ 153 ــ 163، ط دار المعرفة، 1402هـ.
خلاصة القول في هذه المسألة: هل فتوى المفتي مُلزمة للمستفتي ديانة ً؟
فتوى المفتي قد تكون مُلزمة للمستفتي، وقد يحرم عليه العمل بها، وقد يجب عليه أن يتوقف فيها، وبيان هذه الأحوال كالتالي:
1 ــ تكون فتوى المفتي ملزمة للمستفتي، ويجب عليه أن يعمل بها بشروط ثلاثة:
الشرط الأول: أن يكون المفتي ممن يوثق بعلمه وعدالته.
الشرط الثاني: أن يكون الاستفتاء ــ أي السؤال ــ مطابقاً لحقيقة الحال في الباطن.
الشرط الثالث: أن تكون الفتوى معتمدة على دليل شرعي معتبر، أو يخبره المفتي أن هذا هو حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
فإن استوفت الفتوى هذه الشروط صارت ملزمة للمستفتي ــ ديانة ــ ويجب عليه أن يقبلها ويعمل بها، وإن لم ينشرح صدره لها، بل يجب عليه شرعا أن ينشرح صدره لها.
أما دليل وجوب عمله بهذه الفتوى، فقوله تعالى (وماكان لمؤمن ولامؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم، ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا) الأحزاب 36، وقوله تعالى (إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم، أن يقولوا سمعنا وأطعنا، وأولئك هم المفلحون) النور 51.(4/226)
وأما دليل وجوب انشراح الصدر لمثل هذه الفتوى المشتملة على حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فقوله تعالى (فلا وربك لايؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لايجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليما) النساء 65.
2 ــ ويحرم العمل بفتوى المفتي في أحوال منها:
أ ــ إذا علم المستفتي أن الباطن والحقيقة بخلاف الفتوى. كأن يزوّر المستفتي سؤاله بطريقة تجعل المفتي يجيبه بالجواز والإباحة في شئ يعلم المستفتي أنه محرم عليه وأن المفتي سيجيبه بالتحريم لو أتى بالسؤال على وجهه الحقيقي، ونحو ذلك. ودليله قول النبي صلى الله عليه وسلم (إنما أنا بَشَرٌُ، وإنكم تختصمون إليَّ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي على نحو ما أسمع، فمن قضيت له بحق أخيه شيئا فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار) رواه البخاري عن أم سلمة رضي الله عنها (ح 7169).
ب ــ إذا علم المستفتي أن المفتي ليس أهلا للفتوى، كأن يكون المفتي جاهلا أو فاسقا.
جـ ــ إذا علم المستفتي أن الحجة والدليل بخلاف فتوى المفتي يحرم عليه العمل بها، كما ذكرناه في (متى يُذم المقلد؟)، في آخر المسألة الثالثة عشرة.
3 ــ ويتوقف المستفتي عن العمل بفتوى المفتي في أحوال، منها:
أ ــ إذا لم تطمئن نفسه للفتوى لشكّه في المفتي بسبب أنه يفتي برأيه لا بدليل، أو أفتاه بدليل غير صريح في الدلالة على الحكم، أو لعلمه بأن هذا المفتي يفتي بالحِيَل والرخص المخالفة للسنة، أو لكون هذا المفتي كثير الخطأ والتردد في الفتوى، وغير ذلك. فإذا شك في الفتوى للشك في المفتي فعليه أن يسأل ثانيا وثالثا حتى تحصل له الطمأنينة كما ذكرناه في أول المسألة الحادية عشرة، فإن لم يجد مفتيا ثانيا وثالثا فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها والواجب تقوى الله بحسب الاستطاعة.(4/227)
ب ــ إذا لم تطمئن نفسه للفتوى لشكه في مطابقة السؤال للحقيقة، فيجب عليه التوقف، والحظر هنا مقدم على الإباحة، لقوله صلى الله عليه وسلم (دع مايريبك إلى مالا يريبك) رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح، ولقوله صلى الله عليه وسلم (فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام) الحديث متفق عليه. فيجب التوقف في هذا الحال حتى يتبين المستفتي حقيقة مايُقدم عليه.
جـ ــ إذا اختلف عليه مفتيان في الفتوى، ولم يتبين أيهما أفتى بالصواب، وسيأتي بيان مايجب عليه في هذا الحال في المسألة التالية إن شاء الله.
وبهذا نختم القول في هذه المسألة، ومنه تعلم أن اطمئنان النفس معتبر في مواضع دون أخرى، وأنه لااعتبار له مع ظهور الحجة والدليل، هذا والله تعالى أعلم.
******
المسألة السادسة عشرة
ما يفعل المستفتي إذا اختلف عليه مفتيان فأكثر؟
قد يسأل العامي مفتيا فيفتيه فلا تطمئن نفسه فيسأل غيره، فيجيبه بخلاف الأول. أو قد يستفتي العامي ويفتيه المفتي ثم يخبره أحد الثقات أن مفتياً آخر يفتي بخلافه. أو قد يستفتي العامي ويعمل بالفتوى ثم تحدث له نفس المسألة مرة أخرى فيستفتي فقيهاً آخر فيفتيه بفتوى مخالفة للأولى.
ففي هذه الصور أو غيرها إذا اختلف على المستفتي مفتيان أو أكثر، فأفتاه كل منهم بفتوى مخالفة لما أفتى به الآخر في نفس المسألة، فما الواجب على المستفتي؟.
اختلفت أجوبة العلماء في هذا، وسنذكر أجوبتهم فيما يلي ثم نذكر مانراه صوابا إن شاء الله تعالى. ويتخرج من أجوبة العلماء ثمانية أقوال:
1 ــ القول الأول: يأخذ المستفتي بأغلظ القولين.
فيرجح القول بالحظر على الإباحة، ويرجح القول الأشد، لأن الحق ثقيل، ودليله قوله تعالى (إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا) المزمل 5.
2 ــ القول الثاني: يأخذ المستفتي بأيسر القولين.(4/228)
فيأخذ بأيسرهما وأسهلهما عليه، لأن الله تعالى قال (يريد الله بكم اليسر، ولايريد بكم العسر) البقرة 185، وقال تعالى (يريد الله أن يخفف عنكم) النساء 28، وقال تعالى (وما جعل عليكم في الدين من حرج) الحج 78. وقال صلى الله عليه وسلم (إن الله يحب أن يؤخذ برُخَصِهِ كما يحب أن تؤتى عزائمه) رواه أحمد بإسناد صحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما.
3 ــ القول الثالث: يجمع بين القولين إن أمكن
ذكره الخطيب البغدادي فقال (وإذا اختلف جواب المفتين على وجهين فينبغي للمستفتي أن يجمع بين الوجهين إذا أمكنه ذلك للاحتياط والخروج من الخلاف، مثاله أن يفتيه بعض الفقهاء أن الفرض عليه في الطهارة مسح جميع رأسه ويفتيه بعضهم أنه يجزئه مسح بعض الرأس وإن قَلَّ، فإذا مسح جميعه كان مؤديا فرضه على القولين جميعا.) (الفقيه والمتفقه) 2/203.
4 ــ القول الرابع: يقدم فتوى أهل الحديث على فتوى أهل الرأي.
ذكره ابن القيم عن أحمد بن حنبل رحمه الله أنه قال (يسأل أصحاب الحديث ولايسأل أصحاب الرأي، ضعيف الحديث خير من الرأي) (اعلام الموقعين) 4/205.
وننبه هنا على ماذكره ابن تيمية أن الحديث الضعيف عند أحمد هو الحسن في التقسيم المعروف الآن، لأن تقسيم الحديث إلى صحيح وحسن وضعيف لم يوضع إلا بعد أحمد، فأول من قال به الترمذي رحمه الله (مجموع الفتاوي) 18/52 و 249.
5 ــ القول الخامس: يسأل مفتياً ثالثا ويعمل بفتوى من وافقه.
أي إذا أفتى الثالث مثل الأول عمل بفتوى الأول، وإذا أفتى الثالث بفتوى الثاني عمل المستفتي بفتوى الثاني. لأنه بهذا يكون قد أخذ بقول مفتيين تعاضد قولاهما، كتعدد الأدلة والرواة لزيادة غلبة الظن. فهو ترجيح بالكثرة.
6 ــ القول السادس: يأخذ بقول الأعلم الأورع منهما.
ويعرف هذا بالترجيح بالدليل العام، وهو الأخذ بقول أوثق المفتين وأفضلهما. فإن كان أحدهما أعلم والآخر أورع، فعلى قولين.(4/229)
7 ــ القول السابع: يرجح المستفتي بين القولين ويأخذ بأرجحهما.
والمقصود بالأرجح مادل على صحته الدليل الشرعي، فيعمل به، لقوله تعالى (فإن تنازعتم في شئ فردّوه إلى الله والرسول) النساء 59.أي ردّوه إلى الكتاب والسنة بالإجماع. فيعمل بما دل عليه الدليل وإن كان قائله مرجوحاً في العلم والفضل، وهذا اختيار ابن حزم وابن تيمية وابن القيم والشاطبي وغيرهم.
ويعرف هذا بالترجيح بالدليل الخاص، في مقابل القول السادس الذي فيه الترجيح بالدليل العام. والدليل الخاص هو الحجة الشرعية، أما الدليل العام فهو صفة المفتي من العلم والورع.
قال ابن تيمية رحمه الله (والدليل الخاص الذي يُرجح به قول على قول أولى بالاتباع من دليل عام على أن أحدهما أعلم وأَدْيَن. وعلم الناس بترجيح قول على قول أيسر من علم أحدهم بأن أحدهما أعلم وأدْين، لأن الحق واحد ولابد) (الاختيارات الفقهية) لابن تيمية، جمع البعلي، ط دار المعرفة، صـ 333. وقال ابن عبدالبر رحمه الله (على أن القول لايصح لفضل قائله، وإنما يصح بدلالة الدليل عليه. وقد ذكر ابن مزين عن عيسى بن دينار، عن ابن القاسم عن مالك، قال: ليس كل ماقال رجل قولا وإن كان له فضل يتبع عليه لقول الله عزوجل «الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه») (جامع بيان العلم) 2/118.(4/230)
ومن هذا ترى أن الترجيح بالدليل الخاص مقدم علي الترجيح بالدليل العام، ويكفي في هذا قوله تعالى (فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول) النساء 59. ومن رد المتنازع فيه إلى الكتاب والسنة، مارواه البخاري عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني رضي الله عنهما قالا: جاء أعرابي فقال يارسول الله: اقض بيننا بكتاب الله، فقام خصمه فقال: صدق فاقض بيننا بكتاب الله. فقال الأعرابي: إن ابني كان عسيفا على هذا فزنى بامرأته، فقالوا لي: على ابنك الرجم، ففديت ابني منه بمائةٍ من الغنم ووليدة، ثم سألت أهل العلم فقالوا: إنما على ابنك جلدُ مائة ٍ وتغريبُ عام. فقال النبي صلى الله عليه وسلم (لأقضينّ بينكما بكتاب الله، أما الوليدة والغنم فَرَدُ ُ عليك، وعلى ابنك جلدُ مائة وتغريب عام، وأما أنت يا أُنيس ــ لرجل ــ فاغْدُ على امرأة هذا فارجمها) فغدا عليها أنيس فرجمها. حديث (7193 و 7194). وفي رواية (فإن اعترفت فارجمها، فاعترفت فرجمها). فهذا الأعرابي اختلفت عنده الأقوال في مسألته فردّها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهكذا يجب رد المتنازع فيه إلى كتاب الله وإلى سنة رسوله بعد وفاته صلى الله عليه وسلم.
8 ــ القول الثامن: يتخيّر المستفتي فيأخذ بقول أيهما شاء.(4/231)
وهذا قول أكثر الشافعية، فقال الخطيب البغدادي (وقيل يأخذ بقول مَن شاء مِن المفتين، وهو القول الصحيح، لأنه ليس من أهل الاجتهاد، وإنما عليه أن يرجع إلى قول عالم ثقة، وقد فعل ذلك فوجب أن يكفيه) (الفقيه والمتفقه) 2/204.وقال النووي (يتخير فيأخذ بقول أيهما شاء،وهذا هو الأصح عند الشيخ أبي إسحاق الشيرازي المصنف، وعند الخطيب البغدادي، ونقله المحاملي في أول المجموع عن أكثر أصحابنا، واختاره صاحب الشامل فيما إذا تساوى المفتيان في نفسه) (المجموع) 1/56. وقال الشوكاني إن القول بالتخيير هو قول أكثر أصحاب الشافعي، قال الشوكاني (واستدلوا باجماع الصحابة على عدم انكار العمل بقول المفضول مع وجود الأفضل) (إرشاد الفحول) صـ 252.
وهذا القول بالتخيير انتقده العلماء الذين قالوا بوجوب الترجيح على المستفتي إذا اختلفت عليه فتاوى المفتين. وإليك بعض أقوالهم في نقده.
قال ابن حزم رحمه الله (أما من قال: هو مخير، فقد أمره باتباع الهوى، وذلك حرام، وأخطأ بلاشك، وجعل الدين مردوداً إلى اختيار الناس يعمل بما شاء، وأجاز فيه الاختلاف، والله تعالى يقول:(ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيراً)، وقال تعالى (ولا تنازعوا فتفشلوا)، وقال تعالى:(ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله)، فالاختلاف ليس من أمر الله تعالى الذي أباحه وأمر به. وقد علمنا أن حكم الله تعالى في الدين حكم واحد، وإن سائر ذلك خطأ وباطل، فقد خيره هذا القائل في أخذ الحق أو تركه، وأباح له خلاف حكم الله تعالى، وهذا الباطل المتيقن بلاشك. فسقط هذا القول بالبرهان الضروري.
وأما من قال: يأخذ بالاثقل، فلا دليل على صحة قوله أيضا، كذلك قول من قال: يأخذ بالاخف، وكل قول بلا دليل فهى دعوى ساقطة، فإن احتج بقول الله عزوجل: (يريد الله بكم اليسر)، فقد علمنا أن كل ما ألزم الله تعالى فهو يسر، وبقوله تعالى:(وما جعل عليكم في الدين من حرج).(4/232)
قال ابن حزم: والذي نقول به وبالله تعالى التوفيق: إنه إن أفتاه فقيهان فصاعداً بأمور مختلفة نسبوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو غير فاسق بتركه قبول شئ منها، لأنه إنما يلزمه ماألزمه النص في تلك المسألة، وهو لم يدره بعد، فهو غير آثم بتركه ماوجب مما لم يعلمه حتى يعلمه، لكنه يتركهم ويسأل غيرهم،ويطلب الحق) (الإحكام) 6/160.
وقال الشاطبي رحمه الله (إنه ليس للمقلد أن يتخير في الخلاف، كما إذا اختلف المجتهدون على قولين فوردت كذلك على المقلد. فقد يعد بعض الناس القولين بالنسبة إليه مخيراً فيهما كما يخير في خصال الكفارة، فيتبع هواه ومايوافق غرضه دون مايخالفه، وربما استظهر على ذلك بكلام بعض المفتين المتأخرين، وقوّاه بما روي من قوله عليه الصلاة والسلام:« أصحابي كالنجوم» وقد مر الجواب عنه وإن صح فهو معمول به فيما إذا ذهب المقلد عفوا فاستفتي صحابياً أو غيره فقلده فيما أفتاه به فيما له أو عليه. وأما إذا تعارض عنده قولا مفتيين فالحق أن يقال: ليس بداخل تحت ظاهر الحديث، لأن كل واحد منهما متبع لدليل عنده يقتضي ضد مايقتضيه دليل صاحبه، فهما صاحبا دليلين متضادين، فاتباع أحدهما بالهوى اتباع للهوى، وقد مر مافيه، فليس إلا الترجيح بالأعلمية وغيرها. وأيضا فالمجتهدان بالنسبة إلى العامي كالدليلين بالنسبة إلى المجتهد، فكما يجب على المجتهد الترجيح أو التوقف كذلك المقلد. ولو جاز تحكيم التشهي والأغراض في مثل هذا لجاز للحاكم وهو باطل بالإجماع، وأيضا فإن في مسائل الخلاف ضابطاً قرآنيا ينفي اتباع الهوى جملة، وهو قوله تعالى: (فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول) وهذا المقلد قد تنازع في مسألته مجتهدان فوجب ردها إلى الله والرسول، وهو الرجوع إلى الأدلة الشرعية، وهو أبعد من متابعة الهوى والشهوة. فاختيار أحد المذهبين بالهوى والشهوة مضادٌُ للرجوع إلى الله والرسول. وهذه الآية نزلت على سبب فيمن اتبع هواه(4/233)
بالرجوع إلى حكم الطاغوت، ولذلك أعقبها بقوله: (ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أُنزل إليك) الآية ! وهذا يظهر أن مثل هذه القضية لا تدخل تحت قوله: «أصحابي كالنجوم» وأيضا فإن ذلك يفضي إلى تتبع رخص المذاهب من غير استناد إلى دليل شرعي، وقد حكى ابن حزم الإجماع على أن ذلك فسق لايحل. وأيضا فإنه مؤد إلى إسقاط التكليف في كل مسألة مختلف فيها، لأن حاصل الأمر مع القول بالتخيير أن للمكلف أن يفعل إن شاء ويترك إن شاء، وهو عين إسقاط التكليف، بخلاف ماإذا تقيد بالترجيح فإنه متبع للدليل، فلا يكون متبعاً للهوى ولامسقطا للتكليف) (الموافقات) 4 /132 ــ 134.
وقال الشاطبي أيضا (فإذا عرض العامي نازلته على المفتي فهو قائل له «أخرجني عن هواي ودلني على اتباع الحق» فلا يمكن ــ والحال هذه ــ أن يقول له: «في مسألتك قولان، فاختر لشهوتك أيهما شئت؟» فإن معنى هذا تحكيم الهوى دون الشرع، ولا ينجيه من هذا أن يقول مافعلت إلا بقول عالم، لأنه حيلة من جملة الحيل التي تنصبها النفس وقاية عن القال والقيل، وشبكة لنيل الأغراض الدنيوية، وتسليط المفتي العامي على تحكيم الهوى بعد أن طلب منه إخراجه عن هواه رميُُ ُ في عماية وجهل بالشريعة، وغش في النصيحة وهذا المعنى جارٍ في الحاكم وغيره والتوفيق بيد الله تعالى) (الموافقات) 4 / 143 ــ 144.
هذا ما قاله ابن حزم والشاطبي في نقد القول بالتخيير، والحق أن القول بالتخيير له موضع سنذكره فيما يلي إن شاء الله.
خلاصة القول في هذه المسألة:
ما يفعل المستفتي إذا اختلف عليه مفتيان فأكثر؟
عليه أن يخبر المفتيين أنهما اختلفت أقوالهما في المسألة:(4/234)
1 ــ فإن خيّراه في العمل بأي القولين إذا كانا من باب اختلاف التنوع، فهو في سعة من العمل بأي القولين، وهذا هو الموضع الذي يختار فيه المستفتي ولكن بعد أن يخبره المفتيان أنه مخير. كما في خصال كفارة اليمين فإنها على التخيير، وكما في عدد ركعات السنن الراتبة، وكما في أنواع الإحرام (الإفراد ــ القران ــ التمتع).
2 ــ وإن أمراه بالأخذ بالاحتياط أو الميل إلى جانب معين فَعَل.(المستصفى) للغزالي، 2/391.
3 ــ وإن أصرّا علي الخلاف، وكان خلافهما اختلاف تضاد، فعليه أن يسألهما عن حجة كل منهما:
أ ــ فإن أخبراه بحجتيهما واتسع عقله لفهمهما، فعليه الأخذ بالقول الذي حجته أرجح، وهذا هو الترجيح بالدليل الخاص.
ب ــ وإن أخبراه بحجتيهما ولم يتسع عقله لفهمهما، أخذ بقول أوثق المفتيين عنده، وهذا هو الترجيح بالدليل العام، قال ابن تيمية (وأما من كان عاجزاً عن معرفة حكم الله ورسوله، وقد اتبع فيها مَن هو مِن أهل العلم والدين، ولم يتبين له أن قول غيره أرجح من قوله، فهو محمود يُثاب لايُذم على ذلك ولايُعاقب) (مجموع الفتاوى) 20 /225.
جـ ــ فإن لم يفهم الحجتين، وتساوي المفتيان عنده في الفضل، فإن أمكنه الجمع بين القولين كما ذكره الخطيب البغدادي فعل. وإلا سأل غيرهما فإن لم يتمكن فعل ماتسكن له نفسه ويطمئن له قلبه، و (لايكلف الله نفساً إلا وسعها).
وبهذا ترى أن ضابط هذه المسألة
أنه إذا اختلفت فتاوى المفتين في مسألة ٍ ما
1 ــ فإذا كان اختلاف تنوع، وكلا القولين صواب: فالمستفتي مُخَيَّر في الأخذ بأيهما.
2 ــ وإذا كان اختلاف تضاد وتناقض.
أ ــ فإنه يرجح بالدليل الخاص، فإن لم يمكن.
ب ــ يرجح بالدليل العام، فإن لم يمكن.
جـ ــ جمع بين القولين، فإن لم يمكن.
د ــ واصل السؤال حتى يدرك الحق في مسألته، فإن لم يمكن.
هـ ــ فعل ما يطمئن له قلبه.
وبهذا نختم القول في هذه المسألة، والله تعالى أعلم، وبالله تعالى التوفيق
******(4/235)
المسألة السابعة عشرة
هل يجوز تقليد الميت؟
سبق الكلام في هذه المسألة ولكن في حق المفتي، وذلك في الفصل السابق عند الكلام في مراتب المفتين حيث ذكرنا منهم المفتي المقلد لمذهب من انتسب إليه.
أما المستفتي، فقد ذكرنا أن واجبه الاتباع لا التقليد ــ كما سبق في المسألة الثالثة عشرة ــ وأنه لايلجأ إلى التقليد إلا لضرورة كعجزه عن فهم الأدلة، وحتى هذا العذر تداركه بعض العلماء بقولهم إنه يكتفي في هذه الحال بسؤاله المفتي: أهذا حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم؟، فإن أجابه بنعم قَبِل فتواه. ويترتب على هذا أنه لايبقى عذر للتقليد إلا عذراً واحداً وهو عجز المستفتي عن الوصول إلى المفتي العالم المجتهد مع قدرته على استفتاء المفتي المقلد.
وبناء على هذا فإن مسألة تقليد المستفتي للميت يمكن أن ترد في صورتين:
الصورة الأولى: عندما يجب عليه استفتاء المفتي المقلد لعجزه عن الوصول إلى غيره.
وهذا المفتي المقلد قد يفتي تقليدا لبعض العلماء الأحياء أو الأموات، وفتواه جائزة للضرورة كما ذكرناه في حكمه في الفصل السابق، وملخصه ماقال ابن القيم (أنه يجوز ذلك عند الحاجة وعدم العالم المجتهد، وهو أصح الأقوال وعليه العمل) (اعلام الموقعين) 1/46.
الصورة الثانية: أن يعجز المستفتي عن الوصول إلى مفت مجتهد أو مقلد، ويمكنه الاطلاع على حكم مسألته في بعض كتب الفقه التي كتبها الأموات. فهذه أيضا صورة من صور تقليد المستفتي للميت. وهى جائزة للضرورة فرجوعه إليه أولى من أن يبقي في واقعته مرتبكا في حيرته. كما سبق بيانه في المرتبة الرابعة من مراتب المفتين في الفصل السابق.
******
المسألة الثامنة عشرة
تجديد الاستفتاء إذا تكررت نفس الواقعة(4/236)
قال النووي رحمه الله (إذا استفتى فأُفتِيَ ثم حدثت تلك الواقعة له مرة أخرى فهل يلزمه تجديد السؤال؟ فيه وجهان: أحدهما يلزمه لاحتمال تغير رأي المفتي، والثاني لايلزمه وهو الأصح لأنه قد عرف الحكم الأول والأصل استمرار المفتي عليه، وخصص صاحب الشامل الخلاف بما إذا قلد حيا وقطع فيما إذا كان ذلك خبراً عن ميت بأنه لايلزمه، والصحيح أنه لايختص فإن المفتي على مذهب الميت قد يتغير جوابه على مذهبه.) (المجموع) 1 / 57. وذكر ابن حمدان مثله في (صفة الفتوى) صـ 82، وكذلك ابن القيم في (اعلام الموقعين) 4 / 261.
وصاحب (الشامل) ــ الذي ذكره النووي ــ هو أبو نصر ابن الصبَّاغ، من فقهاء الشافعية، ت 477 هـ، رحمه الله تعالى.
قلت: والذي أراه في هذه المسألة ــ والله تعالى أعلم بالصواب ــ أن تجديد الاستفتاء قد يكون واجباً وقد يكون مستحبا أو مباحا، على النحو التالي:
1 ــ فيجب تجديد الاستفتاء إذا حدثت له الواقعة التي علم حكمها من قبل، وذلك إذا كان المفتي الأول مقلداً أفتاه تقليداً لعجزه عن الوصول إلى غيره، ثم وجد عند تجدد الواقعة من يفتيه بالاتباع (أي بالدليل الشرعي). لأن الواجب في حق المستفتي الاتباع وإنما تركه أولا للعجز فيجب عند تيسره، كما في المسألة الثالثة عشرة.
2 ــ ويستحب تجديد الاستفتاء إذا كان المفتي الأول مؤهلاً أفتاه بالاتباع ثم وجد عند تجدد الواقعة مفتيا أعلم وأوثق من الأول. وذلك لما ذكرناه في المسألة الخامسة من أن استفتاء الفاضل مع وجود المفضول مستحب لايجب إذا كانا مؤهّلَيْن.
3 ــ ويُباح تجديد الاستفتاء إذا لم يجد عند تجدد الواقعة إلا من أفتاه أولا، وهى الصورة التي ذكرها النووي وغيره، هذا والله تعالى أعلم.
******
المسألة التاسعة عشرة
ما يجب على المستفتي إذا رجع المفتي عن فتواه؟
سبق بحث هذه المسألة في آخر أحكام المفتي بالفصل السابق. وملخص ما ذكرناه:(4/237)
1 ــ أنه لايجب شيء على المستفتي حتى يعلم برجوع المفتي عن فتواه.
2 ــ فإن علم: فلا يجب عليه ترك العمل بالفتوى الأولى ــ سواء كان قد عمل بها أو لم يعمل بعد ــ إلا إذا تبيّن له أن المفتي قد رجع عنها لكونها خطأ لمخالفتها الدليل من الكتاب أو السنة أو الإجماع أو القياس الصحيح. فإذا علم المستفتي أن الفتوى الأولى خطأ مخالفة للدليل وجب عليه ترك العمل بها، أما إذا كان المفتي قد رجع عنها لتغير رأيه واجتهاده أو لوقوفه على قولٍ آخر في المذهب الذي يقلده، فلا يجب على المستفتي ترك العمل بالفتوى الأولى، إذ لايبطل إلا ماخالف الدليل، لقوله صلى الله عليه وسلم (من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد) متفق عليه.
3 ــ وطريق المستفتي لمعرفة هل الفتوى الأولى مخالفة للدليل أم لا؟، بأن يسأل المفتي الذي أفتاه أو يسأل غيره إن وجد. هذا والله تعالى أعلم.
راجع: (اعلام الموقعين) لابن القيم 4 / 222 ــ 224.
4 ــ فإذا كانت الفتوى الأولى خطأ، وعمل بها المستفتي فأتلف نفساً أو مالاً، وقد وجب ضمان النفس والمال. فعلى أيهما يجب الضمان: المفتي المخطئ أم المستفتي الذي عمل بفتواه؟. وهذا هو موضوع المسألة التالية.
******
المسألة العشرون
ما يجب على المستفتي إذا أخطأ المفتي في فتواه؟
سبق بحث هذه المسألة في آخر أحكام المفتي بالفصل السابق، ونلخص هنا مايجب على المستفتي في هذا:
1 ــ تعتبر الفتوى خطأ إذا ثبت مخالفتها للدليل الصحيح كما في المسألة السابقة.
2 ــ لا يجب على المستفتي شئ حتى يعلم بأن الفتوى التي أُفتي بها خطأ، سواء أعلمه بذلك المفتي الذي أفتاه أو غيره من أهل العلم.
3 ــ إذا ثبت لدى المستفتي خطأ الفتوى فيجب عليه عدم العمل بها إن لم يكن قد عمل بها بعد، ويجب عليه فسخ العمل إن كان مستمراً فيه، ويجب عليه الإعادة أو القضاء ونحوه إذا كان قد فرغ من العمل وكان الخطأ في ترك شيء من المأمورات، كما سبق بيانه في المسألة السابقة.(4/238)
4 ــ وإذا كان المستفتي قد عمل بالفتوى الخطأ في اتلاف نفس ٍ أو مال، وقد وجب ضمان النفس والمال ــ لعدم عفو أهل الاستحقاق ــ فعلى أيهما يجب الضمان؟.
والجواب: هو أنه إذا كان المفتي مؤهلاً للإفتاء فالضمان على المستفتي، وإن كان المفتي غير مؤهل فالضمان عليه. هذا مااختاره ابن القيم رحمه الله وهو مانرجحه في هذه المسألة، ودليله قوله صلى الله عليه وسلم (مَنْ تَطَبّبَ ولم يُعرف منه طب فهو ضامن) ــ رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما ورواه الحاكم وقال: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي. ــ فهذا نص في موضع النزاع يقاس فيه المفتي على الطبيب كما ذكره ابن القيم رحمه الله.
وقد كانت القواعد تقضي بتضمين المفتي المؤهل إذا كانت فتواه خطأ مخالفة للقطعي، وإنما لم يضمن لأن قوله غير مُلزم قضاءً كما قال ابن القيم، وقد أضفت إلى هذه المسألة في آخر الفصل السابق (أحكام المفتي) أن الأمور التي هى محل نزاع وخصومات مع آخرين يجب على المستفتي أن يرجع فيها إلى القاضي لا المفتي. وذكرت هناك على من يقع ضمان خطأ القاضي. والله تعالى أعلم.
راجع: (اعلام الموقعين) 4 / 225 ــ 226.
وبختام هذه المسألة نختم الكلام في (أحكام المستفتي وآدابه)، وبه نختم القول في الباب الخامس من هذا الكتاب (أحكام المفتي والمستفتي وآدابهما). والله تعالى أعلم، وبالله تعالى التوفيق.(4/239)
الباب السادس
الجهل والعذر به
(تمهيد) في بيان سبب الجدل القائم بشأن هذه المسألة.
تعتبر مسألة الجهل والعذر به من المسائل التي دار حولها جدل واختلاف كبيران وسط مايعرف بالصحوة الإسلامية المعاصرة.
وقد ارتبطت هذه المسألة ارتباطاً مباشراً بمسألة التكفير وضوابطه، وقد كثر الكلام في التكفير مع انتشار كتابات الأستاذ سيد قطب رحمه الله وكتابات علماء الدعوة النجدية ومااشتملت عليه من بيان نواقض الإسلام. فذهب فريق إلى تنزيل أحكام التكفير المطلقة الواردة بهذه الكتابات على المعينين دون اعتبار لموانع التكفير القائمة بهم، ونبّه فريق آخر إلى وجوب النظر في هذه الموانع ومنها الجهل في حق المعينين قبل الحكم بكفرهم.
وشرع كل فريق في إعداد الأبحاث الشرعية التي تؤيد وجهة نظره معتمداً على بعض النصوص من الكتاب والسنة وعلى بعض أقوال أهل العلم المؤيدة له، فجاءت بعض هذه الأبحاث على طرفي نقيض وبينها تعارض تام، وأحيانا ينقل الطرفان المختلفان نقولاً متعارضة تماما عن رجل ٍ واحد من أهل العلم.
والذي أدى إلى تناقض الأبحاث في هذه المسألة هو سوء الاستدلال بالنصوص الشرعية مع توجيه أقوال العلماء توجيها غير سليم بما يجعلها متناقضة، في حين أنه يمكن التأليف بينها لإرجاعها إلى أصل واحد أو معنى مشترك، وهذه هى الحقيقة، فإنه إزراءُ ُ بالسلف وعلماء هذه الأمة أن يُظن بهم أنهم لم يتعرضوا لبحث هذه المسألة والقطع فيها بقولٍ. وهذا الأصل الواحد والمعنى المشترك الذي تدور حوله النصوص الشرعية وأقوال العلماء في هذه المسألة هو الذي سوف نعني بإظهاره في بحثنا هنا إن شاء الله.(5/1)