وخلاصة هذه الفقرة أننا إذا أخطأنا وحكمنا لرجل بالإسلام -لما ظهر لنا من أمره- وليس كذلك، فلا يضيرنا هذا عند الله، وليس هذا بمدخله الجنة -إن لم يكن كذلك في الحقيقة والواقع- ولكننا -ولاشك- ملومين عند الله إن أخرجنا رجلا من الإسلام -وهو لم يفعل أو لم يقل ما يكون به كافرا- لتحذير الرسول السابق: [من قال لأخيه يا كافر وليس كما قال إلا حار عليه] أي رجع عليه الوصف.. لذلك كان الخطأ في العفو خيرا من الخطأ في العقوبة كما أسلفنا.(1/1)
هذا ويترتب على إخراج رجل من الإسلام أضرار ومفاسد عظيمة إذا لم يكن كافراً فعلا، فبالحكم على رجل بالكفر يستباح دمه وعرضه وماله، ويجب على المسلمين قتاله وقتله إن تمكنوا من ذلك، ولا يرث أهله تركته، ولا يدفن في مقابر المسلمين إن مات على ما حكمنا عليه به من الكفر والردة، ويجب تطليق امرأته إن كانت تحته مسلمة وهدم نكاحه، وإبطال شهادته مطلقا، ولا شك أن هذه أمور في غاية الخطورة إذا لم تكن في نصابها الصحيح، وذلك أن المؤمن محبوب عند الله سبحانه وتعالى، متوعد من يعتدي على شيء من حرماته بغضب الله وسخطه، بل إن المعتدي على دم المسلم مخلد في النار كما قال تعالى: {ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه، وأعد له جهنم وساءت مصيراً} ولذلك غضب الله على الخوارج وأمر رسول الله بقتلهم وقتالهم مع كثرة صلاتهم وصيامهم كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم: [يحقر أحدكم صلاته إلى صلاتهم، وصيامه إلى صيامهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية] ومروقهم من الدين إنما هو لاستحلالهم قتل المسلمين الذين استحلوا قتلهم بمعاصيهم وحكموا عليهم بالكفر وهم -أعني المحكوم عليهم- لم يكونوا كفارا في ميزان الله سبحانه وتعالى، ولذلك لم ينفع الخوارج اجتهادهم في العبادة مع قتلهم للمسلمين، ولهذا قلنا إن المفاسد العظيمة التي تتأتى من الجهل والخطأ بإخراج مسلم من الإسلام لا يعدلها شيء، لأنها في الحقيقة تعادل المروق من الدين والخلود في النار.(1/2)
وأما الحكم على مسلم بأنه مسلم -وليس كذلك- فإن مفاسده قليلة جدا، بل تكاد تنعدم إذا عرفنا حقيقة الفرق بين الكفر والإيمان، ولم نقر مسلما على أن يعمل باطلا أو يقول باطلا، فإذا أنكرنا على المسلم فعله الباطل، سواء كان شركا أو كفرا أو معصية، فإننا براء عند الله، ثم اتبعنا مع كل مسلم القواعد الشرعية في المعاملات، فلم نزوجه إلا إذا عرفنا صدقه وأمانته، ولم نشتر منه أو نتبايع معه إلا كذلك أيضا، فلا شك أننا نكون في أمان وعافية.
والمهم في هذا الصدد أن الخطأ في الحكم بالإسلام للمسلم الذي يُظهر شيئا من الإسلام خير من الخطأ في الحكم بالكفر على مسلم نخرجه من الدين وهو لا يستحق هذا الإخراج.
6 - من البدع قول من يقول:( لا نشهد لأحد بالإسلام إلا من عرفنا عقيدته)(1/3)
قدمنا فساد الطرائق المحدثة التي أحدثها أهل الابتداع والغلو ممن يتوقفون في الحكم بالإسلام لأحد من أهل القبلة حتى يعلموا رضي الله عن حقيقة معتقده في زعمهم، وهؤلاء يكفر بعضهم بعضا ويلعن بعضهم بعضا ولقد ناقشت كثيرين منهم فوجدت منهم دعاة إلى هذه الزندقة التي هم عليها طيلة ثلاث سنوات ومع ذلك لا يعلم في الأرض مسلما غير نفسه وهو مع ذلك يستحل دماء كل المسلمين المصلين وأموالهم وأعراضهم، ويقول لا يمنعني من السيطرة عليها وحيازتها إلا أنني غير متمكن فقط، ولكن إذا كنت متمكناً ورفض هؤلاء دعوتي استبحت دماءهم وأعراضهم ولم أعترف بصلاتهم ولا بصيامهم، وهذا ما قاله لي غير واحد منهم، ولاشك أن هؤلاء -كما قلت لبعضهم- قد أتوا بكفر ٍومروقٍ من الدين لم تأت من الناشئة الأولى من الخوارج، لأن هؤلاء لا يحاربون إلا أهل الصلاة والصلاح من المسلمين ولا يوجهون سهامهم إلا إلى أهل الدعوة والخير ولا يبدأون حربهم إلا في المساجد التي يستضعفون أهلها ولا ينفرون من شيء في الدنيا تنفيرهم من الصلاة في المساجد الموجودة حاليا بحجة أنها في ظل سلاطين كفرة، وبهذا يبدؤون حربهم لأهل الصلاة وأهل الصلاح.(1/4)
فهل ثمة في الأرض كفر ومروق من الدين أعظم من هذا، ومع ذلك يظن هؤلاء المارقون أنهم أكمل المؤمنين إيمانا، وأعظمهم درجة عند الله، ويعتقدون في أنفسهم أن لا فضل للصحابة عليهم في علم ولا عمل وأنهم قد يبلغون منزلة في الإيمان أبلغ من منزلة الرسول نفسه ولقد ناقشت بعضهم في هذا فجعل نفسه في منزلة الصحابة في فهمه للدين، وإذا ذكرته بالسلف والأئمة قال لك نحن رجال وهم رجال مع العلم أنني ناقشت بعضهم ماذا تحفظ من القرآن فلم سجد عنده إلا جزأين فقط، ولم يقرأ من القرآن إلا القليل فضلا عن حفظه وفهمه، وعامتهم لا يحسن من العربية شيئا، وليس عنده من الأحاديث إلا بضع أحاديث لا يعلم من فقهها وفهمها شيئا يذكر، ويستحلون لأنفسهم الكذب على المسلمين، وإظهار غير معتقدهم بحجة أنهم ضعفاء غير متمكنين، ويكفرون غيرهم بتأويل سائغ ولا يكفرون أنفسهم بالتحريف الكامل للدين والعقيدة، ويفسقون غيرهم بالمعصية اليسيرة ويرتكبون هم العظائم ويعتقدون أنهم ضعفاء مضطرون، ولا يرجعون في فقه القرآن والسنة إلى سلف صالح لهم أو عالم يعتد بعلمه، أو فقيه أو مجتهد بل كل منهم يعتقد في نفسه الاجتهاد وفهم الدين وأخذ الأحكام هكذا رأسا من الكتاب والسنة، ويحملون الآيات والأحاديث على معان بعيدة كل البعد عما وضعت له وسيقت من أجله فالله المستعان على هذه النائبة الجديدة في النفاق والكفر والمروق التي شتت شمل المسلمين ومزقت جماعتهم.. واعتقد كل جاهل منهم أنه جماعة المسلمين وأن كل من عداه من عموم المسلمين إما كفار يُستحل دماؤهم وأعراضهم، وإما جاهليون لا يحكم لأحد منهم بإسلامه حتى يدخل فيما دخل هو فيه من الكفر والزندقة والمروق من الدين وسب المسلمين وتكفيرهم، ولقد أضعت من أوقاتي أوقاتا طويلة في مناقشتهم ونصحهم فمنهم من هدى الله ورجع عن غيه وضلالته ومنهم من لم يزده نصحي إلا غواية {ومن يرد الله فتنته فلن تملك من الله شيئا}.(1/5)
والخلاصة أننا نحكم بالإسلام لكل من أظهر لنا شيئا من الدين دون التفتيش عن حقيقة معتقده وهل فهم إلا الله أم لم يفهم معناها، ونعامل المسلمين بما ظهر لنا من أحوالهم ونكل سرائرهم إلى عالم السرائر سبحانه وتعالى.
7 - متى يجوز استحلال دم المسلم
من المعلوم في الإسلام ضرورة أن ذم المسلم حرام على المسلمين، وقد علمنا أن المسلم هو من شهد الشهادتين أو أظهر شعيرة من شعائر الإسلام كالصلاة أو الإحرام ونحو ذلك، وفي ذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا] وكان اليوم يوم عرفة، وهو يوم من شهر ذي الحجة المحرم وأعظم يوم في العام كله حرمة في الإسلام، والبلد الذي قال فيه الرسول هذا الحديث هو مكة وهي بلد حرام إلى يوم القيامة.
متى يجوز قتل المسلم؟
وقد جاءت نصوص تبين الوقت والحال الذي يستحل فيه دم المسلم وأن ذلك محصور في ثلاث حالات فقط وهي الزنا مع الإحصان والنفس بالنفس، والردة، وذلك لحديث ابن مسعود في الصحيحين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لا يحل دم امرىء مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والمارق في الدين التارك الجماعة].
فالقصاص معلوم وهو قتل القاتل المتعمد، وأما الثيب الزاني فهو الرجل والمرأة إذا سبق لهما زواج ووقع منهما الزنا الذي يثبت باعتراف أو شهادة أربعة، وأما المارق في الدين فهو المرتد.(1/6)
وقد شرحنا الأحوال التي يحكم فيها على المسلم بالردة وأنها إعلانه للكفر أو إقامته لشعائره ولحوقه بالكفار، أو الخروج عن جماعة المسلمين بمعتقد يكفر صاحبه قد أقيمت عليه الحجة فيه، ولا مساغ للتأويل فيما ذهب إليه، أو من عمل عملا حكم الله على فاعله بالكفر يعمل ذلك متعمدا عالما بما يعمل قد أقيمت عليه الحجة وله مندوحة ألا يفعله -أعني أن لا يكون قد فعله مضطرا راهبا، أو راغبا- وكل ذلك أيضا مرهون باستتابته وهذه هي الحالات الثلاث التي يجوز فيها قتل المسلم وإهدار دمه.
متى يجوز قتال المسلم:
هناك فارق كبير بين قتل المسلم وقتاله، فالقتل معناه إهدار دمه والقضاء عليه، وأما القتال فهو دفع عدوان والتصدي لظلم وكف شر، وقد أجازت الشريعة المطهرة للمسلم أن يدفع الشر والعدوان عن نفسه وماله وعرضه ولو أدى ذلك إلى قتل المعتدي -ولو كان مسلما- ويدل لهذا آيات وأحاديث منها قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي يرويه البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: [من قُتِل دون ماله فهو شهيد] وفي الحديث أيضا أن رجلا قال لرسول الله: أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي قال: [لا تعطه]. قال: فإن أبى. قال: [قاتله]. قال فإن قتلني. قال [أنت في الجنة]. قال فإن قتلته. قال [هو في النار] وهذا نص في وجوب الدفع عن المال ولو أدى ذلك إلى قتل المعتدي، ولاشك أن الدفع عن النفس بطريق الأولى والأحرى وقد جاء منصوصاً عليه أيضا في قوله صلى الله عليه وسلم: [ومن قتل دون نفسه فهو شهيد] ولكن قتال المعتدي علينا غير قتله -أعني أنه يجب قتاله ودفعه وليس قتله- ومعنى القتال أن تدفع المسلم المعتدي على النفس والمال بما يندفع به، وهذا ما يسمى في الشريعة (بدفع الصائل) أي المعتدي على النفس أو العرض أو المال، وحكم هذا أن ندفعه بأيسر ما يندفع به فإذا اندفع بالسب دفعناه أو باليد أو العصا دفعناه، وإذا لم يندفع إلا بالسيف استعملناه.(1/7)
ويستوي في هذا الباب أن يكون الصائل أو المعتدي فردا واحدا أو جماعة وذلك لقوله تعالى: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله، فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين} فقوله تعالى: {فقاتلوا التي تبغي} نص في وجوب التصدي للفئة الباغية الظالمة حتى تثوب إلى رشدها وترجع إلى الحق وتذعن للصلح وتكف عن القتال والبغي.
وقد شُرِع القتال أيضا لكف البغاة القائمين في وجه السلطان المسلم المبايَع له ، كما قاتل علي بن أبي طالب من قام في وجهه بعد إقرار البيعة له وذلك بعد مقتل عثمان رضي الله عنه، ولهذا كف عن مقاتلة أصحاب الجمل بمجرد تركهم للقتال، ولم يجهز علي جريحهم، ولم يتبع الفار منهم، ولم يستحل دماءهم ونساءهم.
وكذلك جعل العلماء من هذا الباب قتال المتمالئين على ترك واجب أو فعل محرم كما قاتل أبو بكر مانعي الزكاة، وإن كان بعضهم لم يمتنع عن إقامة الصلاة ولكنهم لما تمالئوا على ترك فريضة ثابتة في الدين قاتلهم وقال: [لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة فإن الزكاة حق المال]. ومن هذا العرض يتبين لنا أن القتل غير القتال وأن القتل في ثلاث جرائم فقط منصوص عليها، وأما القتال فهو للبغي على الإمام أو على مجموعة المسلمين أو على فرد مسلم.
8 - أ: منهج أهل السنة في تقويم أخطاء الحكام
من أوائل الأمور التي وقع الخلاف فيها بين المسلمين أسلوب تغيير المنكر. فبالرغم من أن هناك اتفاقا عاما أو إجماعا بين المسلمين جميعا على أن المنكر يجب تغييره بوسيلة من الوسائل الثلاث: اليد واللسان والقلب، فإن المسلمين اختلفوا قديما في الأسلوب الذي يجب أو يستحب تغيير المنكر بواسطته، وكذلك اختلفوا أيضا في المواضع التي يجوز استعمال اليد -أي القوة- فيها، ومتى يجوز استخدام اللسان، وما الأوقات التي يعذر المسلم فيها إن أنكر بقلبه فقط؟؟.(1/8)
وبالرغم من أن المسلمين أيضا متفقين على وجوب اتباع الحكمة في كل ذلك إلا أن تفسير الحكمة يختلف من طائفة إلى أخرى، ومن فرد إلى فرد.
ويظهر هذا الاختلاف واضحا جليا في إنكار منكر الإمام المعلم للإسلام، فبينما رأى الخوارج والمعتزلة وجوب إنكار منكر الإمام بكل صورة من صور الإنكار: اليد واللسان والقلب، نجد أن أهل السنة وعلماء السلف قديما وحديثا قالوا بتحريم إنكار منكر الإمام المعلن للإسلام باليد، وأنه لا يجوز إنكار منكره إلا باللسان والقلب فقط.
مستند الخوارج والمعتزلة:
وقد استند الخوارج والمعتزلة ، فيما ذهبوا إليه من وجوب الخروج على الإمام المسلم بالسيف إذا انحرف أو ظلم أو خرج في نظرهم عما يعتقدونه من الذين استندوا في ذلك إلى عموم قوله صلى الله عليه وسلم: [من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان] (رواه مسلم) ،وقالوا إن هذا حديث عام ولم يخص فيه الرسول الإمام عن غيره ممن يعمل منكرا، وكذلك استدلوا بقول عمر بن الخطاب: [وإذا أسأت فقوموني!! فقال له رجل: لو رأينا فيك اعوجاجا لقومناه بسيوفنا!! فسكت عمر على ذلك، وهذا إقرار بجواز تقويم منكر الإمام العام وعوجه بالسيف.
مستند السلف وأهل السنة والجماعة:(1/9)
وقد رد علماء السنة والسلف على ما قاله الخوارج والمعتزلة في ذلك بقولهم: إن الرسول صلى الله عليه وسلم استثنى الإمام من تغيير مكره بالقوة، بل لم يجز أصلا إنكار منكره إلا باللسان فقط وقد جاء هذا في أحاديث كثيرة منها قوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن مسعود: [ستكون أثرة وأمور تنكرونها]! قالوا يا رسول الله فما تأمرنا؟ قال [تؤدون الحق الذي عليكم وتسألون الله الذي لكم] (رواه البخاري ومسلم) وكذلك حديث أم سلمة في مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم: [أنه يستعمل عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون فمن كره فقد برىء ومن أنكر فقد سلم، ولكن من رضي وتابع]، قالوا يا رسول الله أفلا نقاتلهم؟! قال صلى الله عليه وسلم: [لا، ما صلوا] ا.هـ(1/10)
قال أهل السنة والجماعة: وهذا نص في أن الإنكار على الإمام الذي يخلط في عمله وحكمه بين الحلال والحرام لا يجوز الخروج عليه بالسيف، بل إذا كره بقلبه فقد برئ، وإذا أنكر بلسانه فقد سلم ولكن من رضي وتابع كان مشاركا في الإثم والمعصية، وقد استفصل المسلمون رسول الله في جواز الخروج عليهم بالسيف حينئذ فأبى وقال: [لا، ما صلوا]، أي ما قاموا ملتزمين بالصلاة.. ويؤيد حديث أم سلمة هذا حديث عوف بن مالك في مسلم أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم ويصلون عليكم وتصلون عليهم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم] قيل يا رسول الله: أفلا ننابذهم بالسيوف فقال: [لا ما أقاموا فيكم الصلاة! وإذا رأيتم من ولاتكم شيئا تكرهونه فاكرهوا عمله، ولا تنزعوا يدا من طاعة وهذا نص ظاهر واضح أن الإمام -وإن استحق اللعن من المسلمين، وكان بغيضا إليهم مبغضا لهم- لا يجوز الخروج عليه بالسيف مادام أنه من جملة المصلين!! وقال أهل السنة من الجماعة أيضا والسلف قاطبة: إنه لا يجوز الخروج على الإمام الذي مازال يصلي إلا أن يكفر كفرا بواحا، والبواح هو العلانية الشائع أي أن يعلن ذلك ولا يكون مُسرا به لأهل خاصته مثلا، واستندوا في ذلك أيضا إلى حديث جنادة بن أبي أمية قال: دخلنا على عبادة بن الصامت وهو مريض فقلنا حدثنا -أصلحك الله- بحديث ينفع الله به سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: [دعانا رسول الله لله فبايعناه على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله قال: إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان] (متفق عليه) وهذا نص ظاهر في عدم جواز منازعة الإمام الأمر إلا أن يعلن الكفر علانية.(1/11)
وأما استدلال الخوارج والمعتزلة بقول عمر فلا حجة فيه لأنه لم يقل قوموني بالسيف وإنما قال: قوموني فقط، وقول القائل لعمر: رضي الله عنه: لو رأينا فيك اعوجاجا لقومناه بسيوفنا تطاول منه على أمير المؤمنين لم يشأ أن يرد عليه وهو في مقام الإمام وفي خطبته الأولى حتى لا يتهم بالدفاع عن نفسه، وإلا فهذا الأمر أشبه بين السلف مما هو معلوم من الدين بالضرورة.
8 - ب: منهج أهل السنة في تقويم أخطاء الحكام
لم يكتف أهل السنة والسلف بالاستدلال بالنصوص فقط لتأييد وجهتهم في عدم جواز إنكار منكر الإمام المسلم بالسيف والاكتفاء فقط باللسان والقلب.
أقول لم يكتفوا بالنصوص فقط بل أيدوا آراءهم بالأدلة العقلية أيضا، وكذلك فعل الخوارج والمعتزلة، فقد زعموا أن الخروج على الإمام بالسيف أدعى لاستئصال مادة الشر، وأرهب للأئمة حتى لا يجاوزوا القرآن والسنة، ويخافوا البطش بهم إن هم جاروا أو ظلموا.
وأما أهل السنة فإنهم قالوا: بل الضرر الواقع على جمهور المسلمين من ذلك أشد من انحراف الحاكم وظلمه، فإن السيف إذا وقع بين الأمة وقعت بسببه مفاسد كثيرة. فالإمام لابد وأن ينحاز له كثيرون معه، خاصة إذا كانت الشوكة بيده كالسلاح والجيوش وهؤلاء حتما سيتعصبون له ومن ذا يستطيع أن يصل إلى الإمام دون أن يقع القتل في مسلمين كثيرين يتترس بهم الإمام، وهذه الأحداث شواهد على ما نقول.. والأدهى من ذلك أن المنافقين من الحكام الذين يظهرون الإسلام.. وقد يبطنون غيره، سيتخذون من خروج بعض المسلمين عليهم ذريعة إلى التنكيل بالمسلمين عامة، واستئصال جذوره من المجتمع، والتضييق على دعاته، وقد فعلوا ومازالوا يفعلون ذلك عند كل بادرة يقام فيها في وجههم باليد والقوة.(1/12)
وهنا يقول الجاهلون الأغرار: وإذا كان الأمر كما تقول فمعنى هذا أن لا يُنشر الدين ولا يُنصر الإسلام بل ما يبنيه الدعاة في عام قد يهدمه السلطان المنافق في يوم، وهذا القول فيه من الجهل أمور كثيرة وذلك أن كلمة الحق أقوى من جبروت السلطان مهما كان، وصبر أهل الحق على حقهم وتعرضهم للأذى في سبيله وانتظارهم لفرج الله ورحمته كل ذلك من عوامل انكسار الباطل واندحاره مهما كان هذا الباطل.. وإذا فرضنا في السلطان النفاق وادعاء الإسلام زورا وبهتانا، فكيف إذا كان محبا للإسلام محبا للخير قد يحجم عن بعض تشاريعه لرغبة أو رهبة دنيوية، وقد يحب أن يسود الدين والفضيلة ولا يجد أعوانا للخير يعينونه في ذلك، وافتراض الشر دائما بالسلاطين من اتباع الظن ومن الحكم على القلوب التي لا يطلع عليها إلا الله ونحن نعلم أن القلوب بيد الله يصرفها كيف يشاء.
شهادة التاريخ:
والآن ماذا صنع الذين أرادوا تقويم عثمان رضي الله عنه بالسيف؟ وماذا صنع الذين خرجوا على علي؟ والعباسيون هل كانوا خيرا من الأمويين؟ وهل كان الشريف حسين الذي خرج على خلافة العثمانيين -على ما فيها- خيرا منهم؟ وماذا صنع الذين لا يفتأون يلوحون بقبضاتهم في الهواء ويزمجرون بها في السراديب.
ولاشك بعد كل ذلك أن الحوار والدعوة باللسان يجب أن تكون الوسيلة الوحيدة للإصلاح في أوساط هذه الأمة، ولا يجوز بتاتا أن توجه سيوف هذه الأمة إلا إلى أعدائها الحقيقيين من الكفار الأصليين المحاربين للمسلمين أو إلى الذين خرجوا بيقين من دائرة الإسلام والمسلمين.
9 - مفهوم الكفر البواح(1/13)
قد يثير الفصل السابق عن وسائل تغيير المنكر تساؤلات كثيرة، واعتراضات كثيرة أيضا، وقد ينبري للرد علينا بطرق غير مباشرة كثيرون، ومن أهم هذه الاعتراضات والشبهات التي قد أثيرت حول هذا الموضوع هي: ما مفهوم الكفر البواح؟ هل هو بأن يعلن الفرد عن نفسه أنه كافر؟ قالوا إن هذا لا يحصل عادة، وذهب هؤلاء المعترضون إلى أن الكفر البواح هو الخروج عن أحكام الدين، ولو في أمر واحد فقط، فقد قطع كلام هؤلاء في أن كل من خالف أحكام الإسلام ولو في قضية واحدة فهو كافر، وإن صلى وصام وأعلن أنه مسلم!! وهذا الذي توصل إليه هؤلاء المعترضون هو من أعظم الفساد في الأرض لأنه إخراج للمسلمين جميعا من الإسلام بل إخراج لأنفسهم أيضا منه لأنه لا يوجد فرد ما حاكما كان أو محكوما إلا وهو مقصر، أو خارج عن بعض أحكام الدين، وقد يكون هذا ضعفا أو تقصيرا أو جهلا أو خوفا أو غير ذلك.. ولو عرف هؤلاء الآثار المدمرة لفقههم المريض في هذه القضية الخطيرة لربما كفوا عن الكلام في العقائد دون روية وتبصر وتعلموا أيضا أن دراسة العقائد ومسائل الإيمان من أهم ما ينبغي على المسلمين فعله الآن، فليس كل من حمل بعض الحماس الديني، واستطاع أن ينقل بعض الأحاديث والآيات قد أصبح فقيها بها، وهذه أعظم مشكلاتنا في الوقت الحاضر: أنصاف وأرباع المتعلمين الذين يستعجلون الفتوى وخاصة في الأمور العقائدية الخطيرة!.(1/14)
والآن إليك بحول الله البيان لمفهوم (الكفر البواح) الذي عناه الرسول صلى الله عليه وسلم في حديثه الذي يرويه مسلم عن جنادة بن أمية، قال دخلنا على عبادة بن الصامت وهو مريض فقلنا: حدثنا أصلحك الله بحديث ينفع الله به، سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: [دعانا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فبايعناه، فكان فيما أخذ علينا أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا وأن لا ننازع الأمر أهله قال: إلا أن تروا كفرا بواحا، عندكم من الله فيه برهان] -انظر مختصر مسلم للمنذري ص331- فالبواح هو الظهور والإعلان وهو ضد الخفاء وبالرغم من أن الإسلام قد أمرنا أن نحكم للمسلم بالإسلام بأي ظاهر يدل على ذلك فإنه قد شدد جدا علينا أن نُخرج مسلما من جماعة المسلمين إلا بيقين مطلق لا يقبل الشك أبدا، فنحن نحكم بالإسلام للشخص إذا رأيناه يعمل أي عمل يدل على الإسلام، كالشهادتين والصلاة، ففي صحيح مسلم عن عتبان بن مالك أنه قال: [أصابني في بصري بعض الشيء فبعثت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أحب أن تأتيني فتصلي في منزلي، فأتخذه مصلى، قال: فأتى النبي صلى الله عليه وسلم ومن شاء الله من أصحابه فدخل وهو يصلي في منزلي وأصحابه يتحدثون بينهم، ثم أسندوا عظم ذلك وكبره إلى مالك بن دخشم، (أي أنهم اتهموا هذا الرجل بالنفاق وسوء الأفعال)، قالوا: -أي الصحابة- ودوا أنه دعا عليه رسول صلى الله عليه وسلم فهلك، أو أصابه شر.. فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته قال: [أليس يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟] قالوا إنه يقول ذلك وما هو في قلبه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لا يشهد أحد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فيدخل النار أو تطعمه] ، وهذا نص واضح في أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أصحابه عن الحكم بنفاق رجل ظهرت لهم منه أفعاله القبيحة، مادام أنه يشهد أن لا إله إلا الله.(1/15)
وكذلك جاء في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا غزا قوما انتظر إلى صلاة الفجر، فإن سمع أذانا كف عنهم، وإن لم يسمع أذانا هاجمهم، وهذا واضح أيضا أن الحكم بالإسلام يثبت للقوم إذا أعلنوا شعيرة من شعائر الإسلام، وهي الأذان، وأنهم يأخذوا بعض حقوق المسلمين، وهي عدم جواز الهجوم عليهم وقتالهم، وكذلك جاء النص القرآني في سورة الفتح الذي يعلن الل فيه أنه صرف المسلمين عن قتال الكفار في غزوة الحديبية لأن بمكة مسلمين مستترين، قال تعالى: {ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطئوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم ليدخل الله في رحمته من يشاء، لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما}، أي وتنحى هؤلاء المؤمنون وتميزوا وخرجوا عن مكة ولم يبق فيها إلا المشركون الخُلص لسلطناكم عليهم.. وهذا إعلان من الله لنا أن المؤمن - ولو كان مستترا أيضا - له كرامة المؤمنين في عدم جواز البطش بقومه، إلا إذا خرج من بين ظهرانيهم، فكيف بالذين يريدون الفتن في بلاد المسلمين، وأن يقتل المسلم أخاه، والحال أن هذه البلاد تقام فيها الصلاة وسائر العبادات؟!
والمهم من كل ذلك أن الحكم بالإسلام إنما هو للظاهر، وكف اليد عن المسلم حق له وإن لم يقل لا إله إلا الله إلا تحت السيف كما جاء في الحديث الصحيح عن أسامة بن زيد، قال: [بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحرقة فصبحنا القوم فهزمناهم، ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلا منهم فلما غشيناه قال: لا إله إلا الله، فكف الأنصاري عنه وطعنته برمحي حتى قتلته، فلما قدمنا (إلى المدينة) بلغ النبي صلى الله عليه وسلم ما فعلته، فقال: يا أسامة أقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله؟.. قلت: يا رسول الله كان متعوذا. قال: هلا شققت عن قلبه؟! فما زال يكررها حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم] (رواه البخاري ومسلم).(1/16)
وكذلك جاء مثل هذا عن المقداد بن الأسود أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: [أرأيت إن لقيت رجلا من الكفار فاقتتلنا، فضرب إحدى يدي بالسيف فقطعها، ثم لاذ مني بشجرة فقال: أسلمت لله. أأقتله يا رسول الله بعد أن قالها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تقتله، فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله، وإنك بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال] (متفق عليه) ومعنى هذا أن المسلم يكفر إذا قتل مسلما ومن مات مظلو ا بعد أن قال لا إله إلا الله فهو في الجنة.
ومعنى هذا كله ، أن الحكم بالإسلام لشخص ما يتحقق إذا أظهر شيئا من الإسلام، وأنه يُحكم له بذلك، ويأخذ أحكام الإسلام من وجوب الكف عن دمه وماله وعرضه، وأنه لا يجوز الحك بتاتا بأنه منافق، وإن أظهر بعض أعمال المنافقين، لأن النفاق قضية قلبية لا يطلع عليها إلا الله سبحانه.. وأن القرائن التي قد توحي بأن شخصا ما أعلن الإسلام لحاجة في نفسه، أو لمنفعة مادية لرغبة أو رهبة، لا يجوز التعويل عليها مطلقا، وإذا عرفنا هذا وتأكدنا منه بقي أن نعرف ما اليقين الذي يجوز به إخراج فرد ما أو جماعة ما من الإسلام، وإلحاقهم بالكفار، وإجراء أحكام الكفر عليهم؟
10 - التطرف آفة كل الشرائع(1/17)
نشرنا مقالا لأحد الإخوة أنحى فيه باللائمة على من يقول: إن هناك تطرفا دينيا، فقال: [كبرت كلمة تخرج من أفواههم]، وسفه أقوال الذين ناقشوا ظاهرة التطرف، فنسبوها إلى التفسخ وانتشار الموبقات، واستفحال الظلم، وتردي السياسات العربية في الخنوع أمام إسرائيل، والتفريط بالأوطان، ورد كذلك على الذين نسبوا هذه الظاهرة إلى غير ذلك من الأسباب، ولما كان المقال بوجهه الذي نشر به يُفهم منه أنه لا تطرف حاصل أو قد حصل في فهم الدين والعمل به، وكانت هذه مغالطة كبيرة قد تجعل كل فعل انتسب إلى الدين بأنه من الدين، حتى وإن كان خارجا عنه، وبعيدا عن آدابه وأحكامه، لهذا أحببنا أن نفصل القول في هذا الأمر تنزيها للدين، ووضعا للأمور في مواضعها.
الغلو والتشدد آفة في كل الشرائع:(1/18)
فنقول.. وبالله التوفيق ، إن الغلو والتشدد والتنطع آفة في كل الشرائع السماوية، فقد غالى النصارى في نبيهم عيسى ابن مريم صلوات الله وسلامه عليه حتى عبدوه وزعموا أنه الله، أو ابن الله وقال الله رداً عليهم: {يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فلا تقولوا ثلاثة، انتهوا خيرا لكم} الآيات، وكذلك كان من تشددهم وتنطعهم اتخاذهم الرهبانية دينا لم يشرعه الله عليهم، كما قال تعالى: {ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله} الآية.. وكذلك تشدد اليهود في تحري الحق في زعمهم، فشددوا على أنفسهم، فشدد الله عليهم في كثير من الشرائع التي ألزمهم بها، كما حدث في شأن البقرة التي أُمروا بذبحها، وبشأن الانقطاع عن العمل يوم السبت وغير ذلك، ولذلك جاء النبي صلى الله عليه وسلم محذرا من التنطع والتشدد في الدين، فقال صلى الله عليه وسلم: [هلك المتنطعون، هلك المتنطعون.. هلك المتنطعون]، وكان الدين الذي بعث به النبي صلى الله عليه وسلم هو الحنيفية السمحة، وقال صلى الله عليه وسلم: [يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا] وقالت عائشة رضي الله عنها: [ما خُير رسول الله بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما، فإن كان إثما كان أبعد الناس عنه].
التشدد والتنطع درجات:(1/19)
ولاشك أن التشدد والتنطع والتطرف في الدين درجات، فقد يكون في إلزام النفس بعبادة فوق الحد الذي شرعه الله، كمن يصوم النهار أبدا، أو يصلي الليل أبدا، ومثل هذا قال فيه الرسول: [أما أنا فأصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، فمن رغب عن سنتي فليس مني]!. وقد يكون بتحريم الحلال على النفس، كمن يحرم على نفسه الزواج مثلا تبتلأ، ولا شك في حرمة ذلك، ومثل هذا النوع من التشدد خفيف الضرر، قليل الأثر، بل هو أمر طبيعي فطري يجابه المتدين بمجرد انفتاح قلبه إلى الخير، وانشراح صدره للإسلام، كما قال صلى الله عليه وسلم: [لكل عابد شرة ثم فترة، فمن كانت فترته إلى سُنة فقد هُدي، ومن كانت فترته إلى بدعة فقد ضل]. والشرة هي النهم، وازدياد الرغبة، والمقصود هنا النهم إلى كثرة العبادة، ثم تأتي بعد ذلك الفترة وهي السكون والراحة، فمن سكن إلى عبادة مشروعة فقد اهتدى، ومن ابتدع عبادة ولازمها بعد ذلك فقد ضل، وعلى كل حال هذا النوع من التشدد ليس آفة وليس خطراً لأنه إلى أمد محدود وعلاجه سهل ميسور.(1/20)
ولكن التشدد والتطرف الذي هو آفة الآفات وغاية الشرور وسبيل هدم الدين وتمزيق جماعة المسلمين، هو الغلو في التكفير، والتنطع بإخراج المسلم من الإسلام بالمعصية التي لا تبلغ درجة الكفر، واستحلال دمه وماله بذلك. وهذا النوع من الغلو هو الذي فرق أمة الإسلام في عهدها الأول، فعن طريقه استحلت طائفة من المسلمين دم الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه، زاعمين أنه لا يسير على سنة الشيخين، واستحلوا بعد ذلك قتل علي بن أبي طالب رضي الله عنه، واستحلوا قتل معاوية وعمرو بن العاص، ثم حاربوا الخلفاء من بني أمية الواحد منهم بعد الآخر، وظل هذا دينهم في خلافة بني العباس، كل منهم يدعي نصر الدين، فيخرج مع مجموعة معه على المسلمين فيعمل فيهم القتل والتشريد، وفيهم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [يخرج من ضئضئي هذا قوم يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية.. لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد]، وقال في رواية: [يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان].
التطرف حديثا:
ولاشك أنه قد وقع بعض أفراد وجماعات من المسلمين المعاصرين في هاوية التطرف، وقد كتب الدكتور الشيخ يوسف القرضاوي كتابا في ذلك، ولما سئل عن التطرف قال: (ومبلغ هذا التطرف وغايته حين يسقط عصمة الآخرين، ويستبيح دماءهم وأموالهم، ولا يرى لهم حرمة ولا ذمة، وذلك إنما يكون حين يخوض لجة التكفير واتهام جمهور الناس بالخروج من الإسلام أو عدم الدخول فيه أصلا -كما هي أقوال بعضهم- وهذا يمثل قمة التطرف الذي يجعل صاحبه في واد وسائر الأمة في واد آخر).(1/21)
ويقول الأستاذ محمد الغزالي عن هذا الموضوع أيضا: (وعندما أبحث عن جراثيم الانحراف بين المتدينين أجد هذا اللون من "الفراعنة" وراء جملة المسالك التي نشجبها، ونضيق بأهلها، فالجماعة التي تحمل عنوان "التكفير والهجرة" مثلا تبنت أفكارها في السجون، ونمت أشواكها وراء القضبان.. هل أدافع بهذا القول عن التطرف.. لا.. فأي عالم مسلم يأبي العوج الفكري والانحرافات النفسية، إن ذات الشاب مختل المزاج، فصاحب الرسالة ما خُير بين أمرين إلا اختار أيسرهما، وهؤلاء الشباب ما خُيروا بين أمرين إلا اختاروا أصعبهما، والإسلام يقدم الدليل ويؤخر العنف، فما يلجأ إليه إلا كارها.. أما أولئك الشباب فقد نظروا إلى الأسلوب الذي عُوملوا به، واستبيحت به حرمتهم، فلم يروا أمامهم إلا السلاح). (العربي عدد يناير 1982م)
وبهذه الكلمات القليلة فسر الأستاذ الغزالي الظاهرة وبين أسبابها.
مخاطر العنف على حركة الجهاد الإسلامي:
ولاشك أن هذه الحركات الغوغائية البائسة التي يقوم بها بعض المتطرفين بين آن وآخر، تعطي السلطات السياسية التي تريد بالمسلمين شرا الدليل المادي لاستباحة حرمات المسلمين وتقتيلهم وتشريدهم، وبذلك يكون هؤلاء أعظم عونا للسلطات الجائرة، بل إن كثيرا من هذه السلطات تفتعل هي أحيانا مثل هذه الأعمال وتنسبها إلى الجماعات الإسلامية، فيكون هذا مبررا لاستئصال النبت الإسلامي الجديد.
11 - هل تتعارض المصلحة الشرعية والنص الشرعي أحيانا؟!(1/22)
قد يقابل العنوان السابق باستهجان أو استغراب ممن لم يخبر تجدد الوقائع واختلاف الأحوال، ويظن أن النص الشرعي لا يخالف المصلحة الشرعية مطلقا، وهذا خطأ لأن المصلحة الشرعية ثابتة بنصوص وقواعد شرعية أيضا.. أعني قد يتصور بليد الذهن وقاصر العلم أن نصا ما يجب أن يجري على إطلاقه، وفي كل الظروف والأحوال، وهذا خطأ، وذلك أن النصوص الشرعية مطلقة من حيث الزمان حقا، بمعنى أن ما شرعه الله في كتابه وعلى لسان رسوله هو تشريعه أبدا وإلى قيام الساعة، ولكن الله سبحانه وتعالى قد وضع قواعد وضوابط للتنفيذ والامتثال، كقوله تعالى: {لا يكلف الله نفسها إلا وسعها} ومعلوم أن وسع فلان غير وسع غيره ولذلك فالنص العام ينزل منازله بحسب الأفراد لا بحسب العموم، ولذلك جاءت الشريعة باستثناءات كثيرة للمضطر والمريض والمسافر والأعرج والأعمى، وذلك في الطعام والشراب والقتال، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإعلان الإسلام، وقول كلمة الكفر، والصلاة والصيام، وسائر العبادات، وهذا معلوم مشهور، ولكن ما يقع الخلاف فيه من أهل العلم هو تغليب المصلحة الشرعية على تنفيذ نص شرعي، والسبب في الخلاف حول هذه القضية: أن المصلحة الشرعية لا يراها الناس بمنظور واحد، وكذلك الاختلاط وامتزاج المصالح الخاصة أحيانا بالمصالح الشرعية، وكذلك لقصور الإنسان عن معرفة ما يصلح له في الحقيقة مما لا يصلح له..(1/23)
وعلى كل حال فالأخذ بالمصالح الشرعية من منهج الإسلام ومن أصوله الثابتة، ففي السنة غلب رسول الله صلى الله عليه وسلم جوانب المصلحة التي رآها، فقد شاور الصحابة في شأن أسرى بدر ، وكلهم أشار بما يرى أنه المصلحة للمسلمين، كما أشار عمر بأن يقتل الأسرى حتى لا يقوم للكفار قائمة بعد، وهذه مصلحة شرعية، وأشار أبوبكر وغيره بالإبقاء على حياتهم وأخذ فدية مالية منه ليتقوى بها المسلمون، ولعل الله أن يهدي الكفار، وهذه مصالح شرعية، وقد أخذ الرسول بما رآه مصلحة في نظره، وأقره الله على ذلك، وإن كان قد وجهه سبحانه أن المصلحة الحقيقية في الرأي الأول، وكذلك ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل المنافقين الذين أعلنوا الكفر كعبد الله ابن أبي والمستهزئين بالله ورسوله الذين نزل فيه قوله تعالى: {لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم}، ومع ذلك لم يطبق الرسول صلى الله عليه وسلم فيهم حكم المرتد، وذلك خوفا من أن يتكلم الناس أن محمدا يقتل أصحابه، كما جاء في حديث الصحيحين، وهذا ترك لإعمال نص وهو قوله صلى الله عليه وسلم: [من بدل دينه فاقتلوه] أخذاً بتلك المصلحة الشرعية، أو بالأحرى خوف مفسدة شرعية، وهي تكلم الناس أن محمدا يقتل أصحابه، وفي هذا تنفير عن الدين.
وكذلك ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم تنفيذ حد القذف الثابت في القرآن على عبدالله بن أبي بن سلول رأس الإفك ورأس المنافقين، وذلك حذرا من إعلانه الردة وتمزيق جماعة المسلمين وانتقاض أحوال المدينة على الرسول، إذ كان عبدالله بن أبي زعيما مسموعا مطاعا في قومه، ومازال كذلك حتى وفاته.(1/24)
وأما في حياة الصحابة رضوان الله عليهم، فقد أخذوا بكثير من المصالح الشرعية، ومن أشهر ذلك ما سنه عمر بن الخطاب رضي الله عنه في مسألة الخراج، وهي حبس الأرض المغنومة من الكفار على بيت المسلمين أبدا، وفرض ضريبة عليها وهي عشر ما يخرج منها ليكون في مصالح المسلمين العامة، وليس عند عمر في هذه القضية نص يحدد هذا الأمر، وإنما كان ذلك اجتهادا، ولاشك أنه اجتهاد صائب استفاد المسلمون منه طيلة حياة الدولة الإسلامية في عصور القوة والفتح، إذ كان دخل الخراج هو أعظم موارد بيت مال المسلمين، والذي توقف عليه إعداد الجيوش وإمداد المسلمين بالقوة العسكرية.
والحق أن الأخذ بالمصالح الشرعية عند الصحابة لم يكن فقط في قضايا السياسات والمعاملات، بل تعدى ذلك إلى قضايا العبادات، فقد أفتى عمر بن الخطاب وابن مسعود بوجوب ترك الصلاة للجنب الذي لم يجد ماء يغتسل به، وأنه يجوز له الصلاة ولو لم يجد الماء شهرا، وقد أفتوا بذلك خوفا من أن يتهاون الناس في غسل الجنابة، كما قال عمر: [يوشك إن أحللنا لهم ذلك أن يتركوا الغسل إذا برد عليهم الماء]، وكذلك أفتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه بوجوب إفراد الحج خوفا من هجران الناس للبيت في غير موسم الحج، وحملا للناس على أن يعتمروا في غير وقت الحج، وكذلك صلى عثمان رضي الله عنه بالناس في الحج الظهر والعصر أربعا خوفا من أن يظن الأعراب أن صلاة الظهر والعصر والعشاء ركعتين فقط.. وهذا قليل من كثير من اجتهاد الصحابة -رضوان الله عليهم- في الأخذ بالمصالح الشرعية في أمور العبادات، فضلا عن أمور المعاملات والسياسات.
12 - رأي الإمام ابن تيمية في تكفير المسلم(1/25)
قال الإمام ابن تيمية: " ولا يجوز تكفير المسلم بذنب فعله، ولا بخطأ أخطأ يه، كالمسائل التي تنازع فيها أهل القبلة، فإن الله تعالى قال: {آمن الرسول بما أنزل إليه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير}، وقد ثبت في الصحيح أن الله تعالى أجاب هذا الدعاء وغفر للمؤمنين خطأهم.
والخوارج المارقون، الذين أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتالهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -أحد الخلفاء الراشدين- واتفق على قتالهم أئمة الدين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، ولم يكفرهم علي بن أبي طالب وسعد بن أبي وقاص وغيرهما من الصحابة، بل جعلوهم مسلمين مع قتالهم، ولم يقاتلهم علي رضي الله عنه حتى سفكوا الدم الحرام، وانحازوا على أموال المسلمين، فقاتلهم لدفع ظلمهم وبغيهم، لا على أنهم كفار، ولهذا لم يسب حريمهم، ولم يغنم أموالهم.
وإذا كان هؤلاء الذين ثبت ضلالهم بالنص والإجماع لم يكفروا، مع أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بقتالهم، فكيف بطوائف المختلفين الذين اشتبه عليهم الحق في مسائل غلط فيها من هو أعلم منهم؟ فلا يحل لأحد من هذه الطوائف أن تكفر الأخرى، ولا تستحل دمها ومالها، وإن كانت فيها بدعة محققة، فكيف إذا كانت المكفرة لها مبتدعة أيضا؟.
والأصل أن دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم محرمة من بعضهم على بعض، لا تحل إلا بإذن الله ورسوله.. قال النبي صلى الله عليه وسلم لما خطبهم في حجة الوداع: [إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا وفي شهركم هذا]، وقال صلى الله عليه وسلم: [كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه].
وقال: [لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض]، وقال: [إذا قال المسلم لأخيه يا كافر! فقد باء بها أحدهما]، وهذه الأحاديث كلها في الصحاح.(1/26)
وإذا كان المسلم متأولا في القتال أو التكفير لم يُكفر بذلك، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن حاطب بن أبي بلتعة: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: [إنه شهد بدرا، وما يدريك أن الله قد اطلع على أهل بدر، فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم]؟ وهذا في الصحيحين.
وكذلك ثبت في الصحيحين عن أسامة بن زيد أنه قتل رجلا بعد ما قال: لا إله إلا الله، وعظم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لما أخبره، وقال: [يا أسامة أقتلته بعدما قال لا إله إلا الله؟ وكرر ذلك عليه حتى قال أسامة: تمنيت أني لم أكن أسلمت إلا يومئذ]، ومع هذا لم يوجب عليه قودا، ولا دية، ولا كفارة، لأن كان متأولا ، ظن جواز قتل ذلك القائل، لظنه أنه قالها تعوذا.
فهكذا السلف قاتل بعضهم بعضا من أهل الجمل وصفين ونحوهم ، وكلهم مسلمون مؤمنون، كما قال تعالى: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن طغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل واقسطوا إن الله يحب المقسطين}، فقد بين الله تعالى أنهم مع اقتتالهم، وبغي بعضهم على بعض أخوة مؤمنون، وأمر بالإصلاح بينهم بالعدل.
ولهذا كان السلف مع الاقتتال يوالي بعضهم بعضا موالاة الدين، لا يعادون كمعاداة الكفار، فيقبل بعضهم شهادة بعض، ويأخذ بعضهم ا علم عن بعض، ويتوارثون ويتناكحون ويتعاملون بمعاملة المسلمين بعضهم مع بعض، مع ما كان بينهم من القتال والتلاعن وغير ذلك.
وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم ، سأل ربه: [ألا يُهلك أمته بسنة عامة، فأعطاه ذلك، وسأله ألا سلط عليهم عدوا من غيرهم، فأعطاه ذلك، وسأله ألا يجعل بأسهم بينهم، فلم يُعطه ذلك]. وأخبر أن الله لا يسلط عليهم عدوا من غيرهم يغلبهم كلهم حتى يكون بعضهم يقتل بعضا، وبعضهم يسبي بعضا.(1/27)
وثبت في الصحيحين لما نزل قوله تعالى: {قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم} قال: [أعوذ بوجهك] {أو من تحت أرجلكم} قال: [أعوذ بوجهك] {أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض} وقال صلى الله عليه وسلم: [هاتان أهون].
هذا مع أن الله أمر بالجماعة والائتلاف، ونهى عن البدعة والاختلاف، وقال: {إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء}، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: [عليكم بالجماعة فإن يد الله على الجماعة]، وقال: [الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد].
13 - من أقوال الإمام ابن تيمية رحمه الله في السياسة الشرعية في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
قال رحمه الله ورضي الله عنه في كتابة الحسبة: "معلوم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإتمامه بالجهاد هو من أعظم المعروف الذي أمرنا به، ولهذا قيل: ليكن أمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر غير منكر، وإذا كان هو من أعظم الواجبات والمستحبات فالواجبات والمستحبات، لا بد أن تكون المصلحة فيها راجحة على المفسدة، إذ بهذا بُعِثت الرسل ونزلت الكتب، كالله لا يحب الفساد، بل كل ما أمر الله به فهو صلاح.(1/28)
وقد أثنى الله على الصلاح والمصلحين: {والذين آمنوا وعملوا الصالحات}، وذم المفسدين في غير موضع، فحيث كانت مفسدة الأمر والنهي أعظم من مصلحته لم تكن بما أمر الله به، وإن كان في ترك واجب وفعل محرم، إذ المؤمن عليه أن يتقي الله في عباده، وليس عليه هداهم، وهذا معنى قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم، لا يضركم من ضل إذا اهتديتم}، (المائدة: 105)، والاهتداء إنما يتم بأداء الواجب، فإذا قام المسلم بما يجب عليه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما قام بغيره من الواجبات لم يضره ضلال الضلال، وذلك يكون تارة بالقلب وتارة بال سان وتارة باليد، فأما القلب فيجب بكل حال إذ لا ضرر في فعله، ومن لم يفعله فليس هو بمؤمن، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: [وذلك أدنى -أو أضعف- الإيمان]، وقال: [ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل]، وقيل لابن مسعود: من ميت الأحياء؟ فقال: الذي لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا، وهذا هو المفتون الموصوف في حديث حذيفة بن اليمان.(1/29)
وهنا يغلط فريقان من الناس: فريق يترك ما يجب من الأمر والنهي تأويلا لهذه الآية، كما قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه في خطبته: إنكم تعدون هذه الآية: {عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم}، وأنكم تضعونها في غير موضعها، وإني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: [إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه]. والفريق الثاني من يريد أن يأمر وينهى إما بلسانه وإما بيده مطلقا من غير فقه وحلم وصبر ونظر فيما يصلح من ذلك وما لا يصلح، وما يقدر عليه وما لا يقدر، كما في حديث أبي ثعلبة الخشني: سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [بل ائتمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شُحا مطاعا وهوى متبعا ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه، ورأيت أمرا لا يدام لك به فعليك بنفسك ودع عنك أمر العوام، فإن من ورائك أيام الصبر، والصبر فيهن على مثل قبض على الجمر، للعامل فيهن كأجر خمسين رجلا يعملون مثل عمله]، فيأتي بالأمر والنهي معتقدا أنه مطيع في ذلك لله ورسوله، وهو معتد في حدوده، كما انتصب كثير من أهل البدع والأهواء كالخوارج والمعتزلة والرافضة وغيرهم ممن غلط فيما أتاه من الأمر والنهي والجهاد على ذلك، وكان فساده، أعظم من صلاحه، ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصبر على جور الأمة، ونهى عن قتالهم ما أقاموا الصلاة، وقال: [أدوا إليهم حقوقهم، وسلوا الله من حقوقكم] وقد بسطنا القول في ذلك في غير هذا الموضع.(1/30)
ولهذا كان من أصول أهل السنة والجماعة لزوم الجماعة، وترك قتال الأئمة، وترك القتال في الفتنة، وأما أهل الأهواء كالمعتزلة فيرون القتال للأئمة من أصول دينهم، ويجعل المعتزلة أصول دينهم خمسة: التوحيد الذي هو سلب الصفات، والعدل الذي هو التكذيب بالقدر، والمنزلة بين المنزلتين، وإنفاذ الوعيد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي منه قتال الأئمة..(1/31)
وقد تكلمت على قتال الأئمة في غير هذا الموضع، وجماع ذلك داخل القاعدة العامة فيما إذا تعارضت المصالح والمفاسد والحسنات والسيئات أو تزاحمت، فإنه يجب ترجيح الراجح منها فيما إذا ازدحمت المصالح والمفاسد وتعارضت المصالح والمفاسد، فإن الأمر والنهي وإن كان تضمنا لتحصيل مصلحة ودفع مفسدة فينظر في المعارض له، فإن كان الذي يفوت من المصالح أو يحصل من المفاسد أكثر لم يكن مأموراً به، بل يكون محرما إذا كانت مفسدته أكثر من مصلحته، لكن اعتبار مقادير المصالح والمفاسد هو بميزان الشريعة، فمتى قدر الإنسان على اتباع النصوص لم يعدل عنها، وإلا اجتهد برأيه لمعرفة الأشباه والنظائر، وقل أن تعوز النصوص من يكون خبيرا بها وبدلالتها على الأحكام، وعلى هذا إذا كان الشخص أو الطائفة جامعين بين معروف ومنكر بحيث لا يفرقون بينهما، بل إما أن يفعلوهما جميعاً أو يتركوهما جميعاً، لم يجز أن يؤمروا بمعروف ولا أن ينهوا عن منكر، بل ينظر فإن كان المعروف أكثر أُمر به، وإن استلزم ما هو دونه من المنكر، ولم ينه عن منكر يستلزم تفويت معروف أعظم منه، بل يكون النهي حينئذ من باب الصد عن سبيل الله والسعي في زوال طاعته وطاعة رسوله، وزوال فعل الحسنات، وإن كان المنكر أغلب نُهي عنه، وإن استلزم فوات ما هو دونه من المعروف، ويكون الأمر بذلك المعروف المستلزم للمنكر الزائد عليه أمراً بمنكر وسعيا في معصية الله ورسوله، وإن تكافأ المعروف والمنكر المتلازمان لم يؤمر بهما ولم ينه عنهما، فتارة يصلح الأمر، وتارة يصلح النهي، وتارة لا يصلح لا أمر ولا نهي، حيث كان المعروف والمنكر متلازمين، وذلك في الأمور المعينة الواقعة، وأما من جهة النوع فيؤمر بالمعروف مطلقا وينهى عن المنكر مطلقا، وفي الفاعل الواحد والطائفة الواحدة يؤمر بمعروفها ويُنهى عن منكرها، ويحمد محمودها ويذم مذمومها، بحيث لا يتضمن الأمر بمعروف فوات أكثر منه أو حصول منكر فوقه، ولا يتضمن النهي(1/32)
عن المنكر حصول أنكر منه أو فوات معروف أرجح منه، وإذا اشتبه الأمر استبان المؤمن حتى يتبين له الحق، فلا يقدم على الطاعة إلا بعلم ونية، وإذا تركها كان عاصيا، فترك الأمر الواجب معصية، وفعل ما نهى عنه من الأمر معصية، وهذا باب واسع ولا حول ولا قوة إلا بالله (الحسبة في الإسلام ص43،42،41). انتهي منه بلفظه.
الباب الثالث
شبهات وردود
1 - هل كان محمد بن عبد الوهاب خارجا عن الدولة العثمانية؟
نشرت مجلة المجتمع بعددها رقم 472 الصادر في 17 ربيع الثاني سنة 1400 الموافق 4/3/1980م مقالا منسوبا إلى راشد السالم بعنوان: (رجل لكل العصور.. محمد عبد الوهاب). وقد نسب كاتب المقال إلى محمد بن عبدالوهاب خروجه على السلطان المسلم في وقته، حيث يقول الكاتب: (ومحمد بن عبدالوهاب أبرز رجال التاريخ المعاصر المعروفين بالخروج على السلطان المنحرف عن منهج الله، سواء كان انحرافه جزئيا أم كليا...) ا.هـ.
ونسب الكاتب هذا الذي مدح به ابن عبدالوهاب في زعمه إلى الحسين بن علي رضي الله عنهما وابن الزبير وسعيد بن جبير، وذلك من الأقدمين، وقد أثنى أيضا بهذا وبغيره على طائفة من علماء الدعوة المحدثين كالأستاذ حسن البنا -رحمه الله- وسيد قطب، والأستاذ المودودي -رحمهم الله جميعا-.(1/33)
وحيث إن هذا الأمر الذي مدح به الكاتب هؤلاء الرجال -في زعمه- يخالف الحقيقة أولا، وكذلك يمس عقيدة من عقائد أهل السنة والجماعة ثانيا، وهي أن السلطان المسلم لا يخرج عليه بالسيف مطلقا حتى لا يقع السيف بين المسلمين، فإنني قد رأيت من واجبي إنصافا للحق ووضعا للأمور في نصابها، ودفاعا عن هؤلاء الذين ينسبون إلى الخروج على الأمة -وهم من ذلك براء- أن أذكر الموقف الحقيقي لهؤلاء، وأن أدافع عن عقيدة من عقائد أهل السنة والجماعة يراد الآن تشويهها وتغييرها، وذلك لدفع الشباب المؤمن إلى محاربة بني جلدتهم من المسلمين، وبالتالي استنزاف طاقاتهم وجهودهم، وتمزيق جهادهم، وتفشيل دعوتهم، ووضعهم في كارثة بعد كارثة، وذلك لتظل الأمة ضعيفة متناحرة، ويفرح أعداؤها بعد ذلك، ويتمكنون من أرضها وديارها.
وسواء كان الذين يكتبون هذه المقالات يعرفون الهدف النهائي من وراء دعوتهم المنحرفة أو لا يعرفون، فإنهم على كل حال يسهمون في دفع عجلة الإسلام إلى الوراء.
الإمام محمد بن عبد الوهاب داع ملتزم بالمنهج السلفي:(1/34)
فأما الإمام محمد بن عبد الوهاب الذي جعله صاحب المقال الآنف أبرز رجال التاريخ المعاصر المعروفين بالخروج على السلطان المنحرف عن منهج الله (حسب زعم القائل)، فإنه لم يكن كذلك بتاتا، فقد بدأ دعوته -كما يعلم الجميع- في البصرة وأخرج منها، ثم حريملة بلدته وأخرج منها، ثم في الدرعية التي احتضنه فيها أميرها محمد بن سعود، وعاهده هذا الأمير على أن نصر دعوته، وأن يجعل أسيافه في خدمة رسالته - فأين وكيف كان محمد بن عبدالوهاب في كل ذلك خارجا على السلطان؟! ولكن ما كادت دعوة ابن عبدالوهاب في التوحيد تنتشر حتى عاداه وعادى إمارة ابن سعود الأمراء حوله فبدأوه هم بالحرب والعداوة، فحاربهم دفاعا عن نفسه.. فهل كان في هذا خارجا على السلطان؟ ومعلوم أن الإمارات والمشيخات التي حاربت ابن عبدالوهاب كانت إمارات مستقلة، كأنها دول مستقلة في قلب هذه الجزيرة.(1/35)
وأما ما زعمه الكاتب أيضا من أن محمد بن عبدالوهاب خرج على السلطان العثماني عبدالحميد خان الأول وسليم خان الثالث، فهذا كذب محض واختلاق، فمعلوم لكل من قرأ شيئا من التاريخ أن الأشراف في مكة كانوا هم نواب السلطان العثماني في بلاد الحجاز، وهؤلاء الأشراف ما كادوا يسمعون بدعوة ابن عبدالوهاب في الجزيرة حتى خافوا على أنفسهم منها، ورأوا أنها ستسلبهم الإتاوات والسحت الذي يأخذونه من القبور المقامة في بلاد الحجاز، وعلموا أن من دعوة بن عبدالوهاب هدم القبور وتحريم الذبح لها والصلاة عندها، ولذلك سيروا جيوشهم الجيش تلو الجيش يحارب ابن عبدالوهاب في نجد، ولم يقم الشيخ بأكثر من رد العدوان عن نفسه وعن دعوته..(1/36)
فأين كان في هذا خارجا على السلطان!؟ ومع ذلك أرسل الشيخ محمد عبدالوهاب بوفد إلى الشريف أحمد بن سعيد شريف مكة، وكان على رأس هذا الوفد الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله الحصين، وكان مع هذا الوفد هدايا وتحف كثيرة، وكتب الشيخ ابن عبدالوهاب مع هذا الوفد كتابا للشريف أحمد قال فيه بالنص: (المعروض لديك أدام الله فضل نعمه عليك حضرة الشريف أحمد بن الشريف سعيد أعزه الله في الدارين، وأعز به دين جده سيد ا لثقلين أن الكتاب لما وصل إلى الخادم "يعني نفسه"، وتأمل ما فيه من الكلام الحسن رفع يديه بالدعاء إلى الله بتأييد الشريف لما كان قصده نصر الشريعة المحمدية ومن تبعها، وعداوة من خرج، وهذا هو الواجب على ولاة الأمور)، ثم يقول في ختام رسالته (فإذا كان الله سبحانه قد أخذ ميثاق الأنبياء إن أدركوا محمدا صلى الله عليه وسلم على الإيمان به ونصرته، فكيف بنا ياأمته؟ فلابد من الإيمان به، ولابد من نصرته، لا يكفي أحدهما عن الآخر، وأحق الناس بذلك وأولاهم أهل البيت الذي بعثه الله منهم، وشرفهم على أهل الأرض به، وأحق أهل البيت بذلك من كان من ذريته صلى الله عليه وسلم ، وغير ذلك يعلم الشريف أعزه الله أن غلمانك من جملة الخدام، ثم أنتم في حفظ الله وحسن رعايته] (انظر حياة محمد بن عبد الوهاب ص322).
فإذا كان الشيخ يجعل نفسه من جملة خدام الأشراف، فكيف يكون خارجاً على السلطان؟!.(1/37)
ومع هذا فقد جاء من الأشراف بعد ذلك من جمع العلماء من أهل السوء الذين أفتوا بكفر محمد بن عبدالوهاب وخروجه على الناس بدين جديد، وعدم جواز تمكين أتباعه من حج البيت، ولذلك مُنع أهل نجد من أهل الدعوة من الحج، ثم جهز الشريف غالب بعد ذلك جيشا كثيفا لحرب الشيخ ابن عبدالوهاب في نجد، ولما لم يستطيعوا أن يبلغوا غايتهم في إخماد الدعوة استعانوا بالسلطان العثماني الذي تباطأ في هذا الأمر، ثم أوعز إلى محمد علي والي مصر وأمره بقتال من سماهم بالوهابيين، وذلك عندما أفتى له علماء السوء أنهم كفار مارقون.. ومعلوم أيضا أن محمد علي جهز عدة جيوش لحرب أتباع الشيخ ابن عبدالوهاب، وكان ذلك بعد وفاة الشيخ.. فأين كان الشيخ ابن عبدالوهاب في كل ذلك خارجا على السلطان؟!.
هذا ومع أن الدولة العثمانية حاربت أتباع ابن عبدالوهاب بدعوى أنهم كفار عن طريق محمد علي باشا والي مصر، إلا أن أهل نجد والأمراء من أتباع الشيخ ابن عبدالوهاب لم يرفعوا لهم يدا من طاعة فيما يطيعون فيه الله ورسوله، وقد كتب الأمير عبدالله بن سعود مجموعة من الرسائل إلى محمد علي باشا والي مصر والسلطان محمود الغازي العثماني، يعلن في كل واحدة منها أنه عبد من عبيدهم ،وأنهم ما قاموا بدعوتهم في نجد إلا إصلاحا لأهلها، وإبعادا لهم عن الشرك والخرافة، وإقامة للصلاة والزكاة فيهم، وإنهم من جملة الأتباع والخدام للباب العالي العثماني ولواليه محمد علي باشا.
وهذه فصول من الرسالة التي أرسلها الأمير عبدالله ابن سعود إلى السلطان محمود الغازي:(1/38)
( بسم الله الرحمن الرحيم.. الحمد لله الذي جعل للداء العضال دواء، وحسم وألفي نيات الأعداء السيئة بالصلح والصلاح، اللذين كانا أول مانع من الوقوع في المهالك المهلكة، والصلاة والسلام على أشرف خلقه وأصفيائه محمد خاتم أنبيائه الذي بلغ أحسن أنبائه وبعد: فإني أطوف حول الكعبة آمال العبيد التي هي أعتاب دولة مولانا قطب دائرة الوجود، وروح جسد العالم الموجود، وملاذ الحاجز والبادي، ومحط رحال آمال الرائح والغادي، علم الأعلام ، إنسان عين أعيان الأنام، من نام في ظل عدله كل خائف، ولجأ إلى حماه كل عاقل عارف، ذي الأخلاق هي أرق من نسيم الصبا، مع الهيبة التي تحل من أجله الحبا، سلطان البرين، وخاقان البحرين، الذي برز بطلعته طالع السمو، السلطان ابن السلطان، سيدنا السلطان محمود الغازي، وأقدم عريضتي هذه المشتملة على الضراعة، وهي أنه لما كان عبدكم هذا من المسلمين الذين لا ينفكون عن أداء شروط الإسلام، التي هي إعلاء كلمة الشهادة وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصيام رمضان وحج بيت الله الحرام، ومنع الظلمة من الإضرار بالناس كف أيديهم) ا.هـ. ثم بعد ذلك سرد الأمير عبدالله بن سعود كيف أن أشراف مكة افتروا عليه عند السلطان العثماني لقتاله، وأنهم كتبوا عرائض مزورة إلى السلطات باسم الأمير سعود بن عبدالعزيز بن محمد تعلن العصيان، ورفض الحجاج الذين يأتون من الآفاق، ويتابع الأمير رسالته قائلا: (وعلى العموم فإن كل ما نسب إلى عبدكم هذا من أمور الطغيان والخروج كلها ناشئ عن خدعة الشريف المشار إليه "دسيسة"، ثم يقول في ختام رسالته: (قدمت عريضتي هذه التي هي أشهر من المثل السائر مصداقا لصداقتي على أن لا أنفك عن قيد الإطاعة، وأن أعد من عبيدكم القائمين بجميع خدمات الدولة العليا، فهي برهان قاطع يشهد بأني قائم بالدعوات في الأعياد والمحافل وعلى المنابر بدوام عمركم ودولتكم). (انظر الدولة السعودية الأولى لعبدالرحيم عبدالرحيم ص392-393).(1/39)
وأما كتاب الأمير عبد الله بن سعود أيضا إلى محمد علي باشا والي مصر، فقد كان وافيا مظهرا أن أتباع ابن عبد الوهاب لم يكونوا خوارج، فقد قال في كتابه بعد ديباجة طويلة ومدح لمحمد علي.
(وبعد فغير خاف على جنابكم حقيقة ما نحن عليه، وما ندعو الناس إليه: أننا جاهدنا الأعراب حتى أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وألزمناهم صيام رمضان وحج بيت الله الحرام: ومنعناهم عن ظلم العباد، والسعي في الأرض بالفساد، وعن قطع السبيل والتعرض لحجاج بيت الله الحرام من الوافدين، فبعد ذلك شكوا إلى والي مكة غالب ورمونا بالكذب والبهتان، وخرجونا (أي اتهمونا بأننا خوارج)، وبدعونا، وقالوا فينا ما نحن منه براء، فسير علينا بأجناد وعدد وعدة فأعجزه الله وله الحمد والمنة فقاتلناهم دفعا لشره، ومقابلة لفعله القبيح ومكره، فرده الله بغيظه لم ينل خيرا، واستولينا على الحرمين الشريفين وجدة وينبع، فلما تمكنا من أوطانه فعلنا معه كل جميل، وأقررناه على ما كان تحت يده من البلدان، ووجهنا مدخول البنادر إليه، وأكرمناه غاية الإكرام توقيرا للنسب الشريف، وتعظيما للبلد الحرام).. ثم يقول بعد أن بين مكر الشريف بهم وتزويره رسائل إلى السلطان العثماني باسمهم: (فعلمنا أنه مطلوب الدولة العلية صيانة الممالك الإسلامية، لاسيما الأقطار الحجازية، ومن أعظمها صيانة الحرمين الشريفين، والذود عن حماها الأحمى بلا ريب.. ومنها الدعاء بحضرة سلطان السلاطين -نصره الله تعالى- على المنابر، وكف يد الأذى عن الوارد إلى الممالك المحروسة والصادر).
فإذا كانت هذه هي صورة العلاقات القائمة بين أتباع الشيخ ابن عبدالوهاب بين الدولة العثمانية والوالي محمد علي باشا فكيف يقال بعد ذلك أن ابن عبدالوهاب خارج على السلطان العثماني وأن هذه هي عقيدة السلف؟!
2 - هل أمر حسن البنا بالخروج على حكم فاروق؟(1/40)
في الموضوع السابق نشرنا الجزء الأول من ردنا على مقال راشد السالم المنشور في جريدة المجتمع رقم ،472 والذي زعم فيه كاتبه أن محمد بن عبدالوهاب كان من أبرز رجال التاريخ المعاصرين المعروفين بالخروج على السلطات.. وقد فندنا هذا الزعم الباطل، وبينا حقيقة دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب، وأنه لم يكن في يوم من الأيام خارجيا، وقد جمع صاحب خط الشيخ محمد بن عبدالوهاب، ومن هؤلاء الأستاذ حسن البنا مؤسس [جماعة الإخوان المسلمين]، وحيث إن ذلك أيضا يناقض الحقيقة ويخالف الواقع، فإننا نتعرض هنا لبيان موقف الشيخ حسن البنا -رحمه الله- تجاه السلطة السياسية في عصره، مبينين إلى أي حد كان متعاونا ومؤيدا لها، بل وداعيا إلى تنصيب الملك فاروق خليفة للمسلمين، وكيف أنه لم يكتب ولم يعمل ما يناقض ذلك في حياته في الدعوة.
فقد ذكر الأستاذ حسن البنا عن نفسه في كتابه (مذكرات الدعوة والداعية) ص78 أنه في فترة وجوده بالإسماعيلية وشى به بعض الناس لدى السلطة واتهموه بالعيب في الذات الملكية، وأنه جرى معه تحقيق في هذه التهمة وثبت بطلانها وأنه كان يملي على طلبته موضوعات يثني فيها على شجاعة الملك ويعدد مآثره، كما أنه شجع العمال يوم مرور الملك بالإسماعيلية إلى تحيته، وقال لهم: (لازم تذهبوا إلى الأرصفة وتحيوا الملك حتى يفهم الأجانب في هذا البلد أننا نحترم ملكنا ونحبه فيزيد احترامنا عندهم) ا.هـ.
وذكر البنا أيضا في مذكراته (ص 235 و 237) أن جماعة الإخوان المسلمين اشتركت بعشرين ألف رجل مع جماعة الشبان المسلمين في احتفال تنصيب الملك فاروق ملكا على مصر بعد بلوغه الثامنة عشرة من عمره ورفع الوصاية عنه، وأنهم هتفوا بالبيعة للملك العظيم ورددوا شعارات إسلامية.(1/41)
وقد كتبت بعد ذلك مجلة (الإخوان المسلمون) مقالات كثيرة تدعو الملك فاروق إلى أن يكون خليفة للمسلمين، وكان كثير من هذه المقالات بقلم الأستاذ البنا نفسه، وبعضها بقلم الأستاذ صالح عشماوي ومحمد الشافعي، وقد كتب الأستاذ البنا مقالا بعنوان: (إلى مقام صاحب الجلالة الملك فاروق الأول) 6 جمادي الأولى سنة 1375 ومقالا بعنوان: (أيها الإخوان تجهزوا) يقول فيه: (وإن لنا في جلالة الملك المسلم أيده الله أملا محققا) وكتب مقالا آخر بعنوان: (ملك يدعو وشعب يجيب - إلى جلالة الملك الصالح فاروق الأول من الإخوان المسلمين)، وكل هذه المقالات داعية للملك فاروق أن يتبنى قضية الإسلام، وأن يكون قائدا للأمة وخليفة للمسلمين، ومع أن الاحتفالات التي كانت تقام للملك بمناسبات كثيرة، كان يتخللها أنواع من الفساد والرقص وشرب الخمر، فإن الإخوان في ذلك الوقت شجبوا ذلك ولم يؤيدوه، واستمروا على سياستهم في دعوة الملك فاروق إلى الإسلام، وتهيئة المناخ له ليتخذ الطريق إليه مع كتاب: (الإخوان المسلمون والجماعات الإسلامية في الحياة السياسية المصرية 1928 - 1948) للدكتور زكريا سليمان بيومي، يقول فيه في ص209: (وجاء زواج الملك سنة 1938 ليحدث ما يعكر صفو العلاقات بين جماعة الإخوان والملك، فقد اعتكفت عن المشاركة في حفل الزواج لما حدث به من اختلاط ورقص وخمور في وقت ينادونه فيه بأمير المؤمنين، وألقت اللوم في ذلك على الشيخ المراغي، وطالبته بالحرص على اللقب، وحض الملك والحكومة على تطبيق شريعة الإسلام، ولكن الجماعة مع ذلك أعلنت عن عدم تخليها عن تأييد الملك والسعي معه لتحقيق أمنية الخلافة) انتهى.
وقد استمر هذا الولاء من جانب جماعة (الإخوان المسلمين) ومؤسسها حسن البنا للحكم في مصر بالرغم من عدم الاستجابة الفعلية من القصر للنداءات المتكررة بحمل راية الإسلام وإعلان خلافته في الأرض.. أقول استمر هذا إلى مقتل الأستاذ حسن البنا.(1/42)
فقد كتب الأستاذ حسن البنا رسالته المشهورة (نحو النور) في رجب سنة 1366هـ - 1947م بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وكذلك نشرت جريدة (الإخوان المسلمون) القرار الذي أصدرته جماعة: (شباب محمد) - وهي جماعة منشقة عن الإخوان، وقد دعت في هذا القرار كافة الجماعات الإسلامية والأزهر لمبايعة الملك فاروق بالخلافة، وطالبته بالإعداد للجهاد والدعوة (العدد 73 في 8 شوال سنة 1364هـ الموافق 14/9/1945).
وفي رسالة الأستاذ البنا رحمه الله (نحو النور) التي هي بمثابة خطاب مطول أرسله إلى الملك فاروق، وكذلك إلى مصطفى النحاس وبقية الزعماء المصريين، قال الأستاذ البنا: (حضرة صاحب الجلالة الملك فاروق: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد: فإنما حملنا على التقدم بهذه الرسالة إلى مقامكم الرفيع رغبة أكيدة في توجيه الأمة التي استرعاكم الله أمرها، ووكل إليكم شأنها (في عهدها الجديد) توجيها صالحا تقيمها على أفضل المسالك.. ولسنا نبغي من وراء ذلك شيئا، إلا أن نكون قد أدينا الواجب وتقدمنا بالنصيحة.
ياصاحب الجلالة إن الله وكل إليكم أمر هذه الأمة، وجعل مصالحها ومستقبلها أمانة لديكم ووديعة عندكم، وأنتم مسئولون عن ذلك كله بين يدي الله تبارك وتعالى - (انظر رسالة نحو النور ص163 من مجموعة رسائل الشهيد حسن البنا).
وقال أيضا في هذه الرسالة مخاطبا الملك فاروق: (فكونوا أول من يتقدم باسم رسول الله صلى الله عليه وسلم بقارورة الدواء من طب القرآن لاستنقاذ العالم المعذب المريض) ص191
وقال أيضا: (وبعد فهذه رسالة الإخوان المسلمين نتقدم بها، وإنا لنضع أنفسنا ومواهبنا وكل ما نملك تحت تصرف أية هيئة أو حكومة تريد أن تخطو بأمة الإسلام نحو الرقي والتقدم، نجيب الدعاء ونكون الفداء، ونرجو بذلك أن نكون قد أدينا أمانتنا وقلنا كلمتنا، والدين النصيحة لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم..).(1/43)
وبعد فهذا موضوع يطول، وفيما سردناه كفاية وبيان، ورد على من زعم أن حسن البنا كان بطلا من أبطال الخروج على الحكام، حيث يقول في المقال الذي نحن بصدد الرد عليه: (كان محمد بن عبدالوهاب مجددا بمعنى الكلمة.. فهو بطل، كما أن حسن البنا بطل). ا.هـ.
ونحن نعتقد حقا أن محمد بن عبدالوهاب كان مجددا وبطلا أيضا، ولكنه لم يخرج على السلطان المسلم كما زعم كاتب المقال، وكذلك نعتقد أن حسن البنا بطل، ولكن ليس على غرار البطولة التي أراد صاحب المقال أن يخلعها عليه، وإنما بطولة الدعوة إلى الله بالحسنى والكلمة الطيبة.
الباب الرابع
الساحة الكويتية والتطرف والعنف(1/44)
الساحة الكويتية مثال رائع لمن يريد أن يعرف المدى الذي يمكن أن تصنعه الدعوة إلى الله وفق السياسة الشرعية، فعلى مدى عشر سنوات فقط من بدء الدعوة الفعلية في الساحة الكويتية، كان معظم الشباب قد توجه إلى المساجد، وكانت الفتيات اللاتي احتفلن بحرق العباءة وغطاء الوجه في عام 1957م، وذلك بجمع هذه العباءات في ساحة مدرسة ثانوية وحرقها وسط مهرجان يمثل قطع الصلة بالماضي، والانطلاق إلى عصر جديد بعيد عن التقيد بأخلاق الإسلام وعاداته.. هؤلاء الفتيات عُدن من جديد للباس الإسلام وأخلاقه، وبدأ ذلك بفتيات الجامعة.. اللاتي كن قد خرجن يوماً ما في مظاهرة يطالبن برفض التعليم الذي يستقل فيه الفتيان والفتيات بكلياتهم، ويطالبن بتعليم مختلط.. لقد كانت الدعوة الإسلامية التي تتبع السياسة الشرعية هي العامل الأول في هذا التحول المفاجئ، والفضل لله وحده سبحانه وتعالى.. ولم تكن القرارات الفوقية ولا القوانين التعسفية هي السبب في هذا الانقلاب الفكري، والتحول الثوري في العقليات والمفاهيم، علماً بأن هذا جميعه يحدث في بلد الدخل الفردي فيه هو أعلى دخل في العالم، ويمتلك فيه الأبناء والبنات أعظم حرية أسرية ليست موجودة في أي مكان في الدول العربية، وفي بلد متفتح على العالم أجمع، يسافر أبناؤه وبناته وشيبه وشبانه إلى كل دول العالم تقريبا، ويكاد ينزح عنه جميع أهله في فترع الصيف، حيث يجولون العالم شرقاً وغرباً، وهو سوق لكل أنواع المنتجات في العالم أجمع، وبالتالي هو سوق لكل الأفكار والعقائد والسياسات، ومع ذلك تنجح فيه الدعوة الإسلامية هذا النجاح الذي يكاد أن يكون منقطع النظير والشبيه، وكل ذلك في إطار دعوة سلمية علمية تعليمية دون أدنى إكراه أو ابتزاز.
لاشك أن هذا يرشدنا إلى أنه لو خُليَ بين الناس وبين الاختيار، وأعطينا الحرية للعقائد والأفكار، فإن دعوة الإسلام لا تقوم لها دعوة، ولا تنافسها عقيدة..(1/45)
ومن أجل ذلك كان حرصنا أن تبقى هذه الساحة الكويتية مكاناً آمنا لينمو الإسلام فيها النمو الطبيعي، وتتشربه نفوس أبنائه، ويتمثلونه بفطرتهم السليمة.
ولكننا كنا نصطدم بين الحين والآخر بما يعكر صفو هذا الهدوء، وبمن يريد أن يعتسف الأمور، ويقطع الطريق على ركب الدعوة الإسلامية السليمة.
فبعد قيام الثورة الإيرانية واستلامها الحكم في إيران، ظن بعض الذين لا يقرأون خلفيات الأحداث، ولا يطالعون عبر التاريخ، ظنوا أن الثورة الإيرانية إسلامية التوجه، وأنها الحليف الطبيعي لهم ضد الأنظمة التي لا تحكم بالإسلام، وأن الوقت قد حان لتفجير العالم الإسلامي من داخله لإقامة الخلافة الإسلامية.. كان هذا ظن بعض الناس في الأرض الإسلامية العربية، وقامت من أجل ذلك حركات وانتفاضات في كل بلد عربي تقريبا، وخاصة في مصر والسعودية وتونس وسوريا.
وابتدأت عناصر إيرانية من الذين هيأتهم إيران لما يسمونه بتصدير الثورة تتصل بالعناصر العربية المستعدة والمهيأة لهذا التفجير، وابتدأت ليبيا وسوريا وإيران تشكل حلفا واحدا لتفجير العالم الإسلامي، وسارع مستشرقون وعملاء لروسيا وأمريكا وإسرائيل يعقدون ندوات ويدعون لها شخصيات إسلامية مرموقة لمناقشة مستقبل الإسلام.. المهم أنه عقد ما بين سنة 1980 و1982 عدة مؤتمرات سرية وعلنية كلها تستهدف كيفية تفجير الثورة الإسلامية العالمية، وللأسف أن الذي تزعم ذلك هو الحكم في سوريا وليبيا وإيران. وكان الهدف معلوما بالطبع لذوي البصائر، وهو أن المقصود هو الحيلولة دون نمو نشاط إسلامي حقيقي في البلاد العربية، وقطع الطريق على قيام حكم إسلامي سني، لتكون القيادة الإسلامية في العالم بيد المد الشيعي والباطني الذي يمثله سوريا وليبيا وإيران.
ففي شهر ديسمبر سنة 1981 نشرت مجلة (الأوبزيرفر البريطانية) مقالا جاء فيه:(1/46)
"طار إلى لندن في نهاية الأسبوع الماضي ممثلو حركات إسلامية معارضة في عدة بلدان لعقد مؤتمر سري مدته ثلاثة أيام، يعتقد بأنه أول مؤتمر من نوعه يعقد على هذا المستوى.
ويشير المؤتمر إلى تطور في الانبعاث الذي يجتاح العالم الإسلامي، وذهب الممثلون إلى لندن لإعطاء إطار عمل تنظيمي واستراتيجية مشتركة إلى الحركة الكبيرة الواسعة النطاق للنشاط الإسلامي.
ورغم الجهود التي بذلت لإبقاء المؤتمر سريا، فإن من المعروف أنه ضم قادة جماعات وأحزاب معارضة إسلامية من غرب أفريقيا إلى الفلبين، ومن أفغانستان إلى تونس. ومن تلك البلدان حيث الحركات السرية الإسلامية أنشط، مثل مصر وسوريا والسودان والعراق، كانت بعض هذه الجماعات قد أقامت فعلا اتصالات فيما بينها، ويعتقد بأن مؤتمرات أصغر قد عقدت في مراكز أوروبية أخرى.
لكن مؤتمر لندن يوحي بظهور شيء أشبه بدولية إسلامية موجهة ضد الأنظمة الحاكمة في كثير من بلدان آسيا وأفريقيا والشرق الأوسط، وهذه الجماعات لديها الكثير من الأمور المشتركة، وإن كانت همومها مختلفة، وأعضاوها في كل بلد تقريبا من الشباب خاصة وبصورة غالبة، وهي تتركز في الجوامع والجامعات" ا.هـ (الوطن – الأربعاء 23/12/1981)(1/47)
وقبل هذا المؤتمر بشهرين تقريبا عقدت ندوة في أمريكا لمجموعة من المستشرقين والمهتمين بالدراسات الإسلامية، وكانت تحت عنوان (لماذا تتعثر حركات البعث الإسلامي)، وكانت النتيجة التي خلص لها المؤتمرون والذين كان فيهم عدد كبير من ممثلي الحركات والتنظيمات الإسلامية في العالم أن السبب في تأخر البعث الإسلامي أن الجماعات الإسلامية تهتم بقضايا هامشية كالتربية والتعليم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبذلك تتشتت جهودها، وأن عليها إذا أرادت النجاح أن تحصر هدفها في دائرة واحدة من دوائر الصراع، وهو صراع الحكام فقط والوصول إلى السلطة السياسية، لأنه عن طريق الوصول إلى السلطة السياسية تتعدل كل القوانين والنظم، والعجيب أن هذا المؤتمر الاستشراقي العلني الذي عقد في أمريكا، والمؤتمر السري للتنظيمات الإسلامية السرية الذي عقد في لندن، قد توصلا إلى نتائج واحدة تقريبا، كان من أطرفها أن الاتحاد السوفيتي ليس عدوا للمسلمين، وإنما عدوهم فقط هو أمريكا؟!.. أليس هذا من أعجب العجب!! واسمع ما تقوله جريدة الاكسبريس الفرنسية عن مؤتمر لندن السري الذي عقد في منتصف ديسمبر عام 1981: تقول:(1/48)
"ومهما يكن من أمر، فإن الأحزاب الإسلامية في العالم بأسره التقت في منتصف ديسمبر الماضي في مؤتمر سري جدا عقد في لندن، وضم ممثلين عن كل الحركات الإسلامية من ثوار الفلبين المسلمين إلى ممثلي الحركة الإسلامية في مصر. وقد أرسلت إيران وليبيا ممثلين عنهما إلى المؤتمر الذي ناقش مطولا مسألة العلاقة مع الاتحاد السوفيتي، وحول هذه النقطة يقول الجامعي التونسي عبدالكريم: (اسمع نحن لا ننظر للعلاقات مع السوفيات من نفس الزاوية التي تنظرون منها، إن عدونا هنا هو الرأسمالية والمستعمرون الذين ألقوا بنا في الوحل، وليسوا السوفيات، وليس السوفيات هم من يساندون اسرائيل ويذلون العرب، طبعا السوفيات كفار، ولكنهم ليسوا أعداء تاريخين لنا حتى الآن على الأقل)، ولكن ماذا كان هذا المؤتمر السري؟ هل كان نواة لأممية إرهابية إسلامية؟ يجيب الدكتور رمضان: (أقول لكم بكل صراحة أنه في البداية لم يكن لدينا أي تحديد لسبب اجتماعنا، وحتى عندما افترقنا لم يكن الجواب قد أصبح واضحا، إن الوضع معقد جدا)، وإنه لكذلك فعلا بالنسبة للإخوان المسلمين على الأقل بعد أن صارت جماعات متطرفة تتخطاهم بمدى تعصبها، مما جعلها أشد عرضة للوقوع في فخ الأعداء".
وتقول (الأوبزيرفر البريطانية) حول هذه النقطة أيضا:
"ومن الاستنتاجات الرئيسية التي توصل المؤتمر لها في مراجعته للوضع العالمي أنه على الرغم من حرب الاتحاد السوفياتي في أفغانستان، فإن الولايات المتحدة تأخذ مكان الاتحاد السوفياتي كعدو رئيسي للعالم الإسلامي".
وتقول أيضا:
"وفي المقابل اعتبر الاتحاد السوفياتي حكيما وموثوقا، ويخدم قضية السلام، واستمع المؤتمر إلى أن السوفيات في كثير من أرجاء العالم يسعون للحوار مع المسلمين، وقد قيل إن السوفيات يودون لو يفكون ارتباطهم بالمأزق الأفغاني" ا.هـ.(1/49)
ولا نستطيع بالطبع أن نقول إن كل الذين اجتمعوا في هذا المؤتمر، وشاركوا في تلك الندوات كانوا عملاء أو أعداء للإسلام، بل حتما كان منهم أناس مخلصون يحبون الخير لأمتهم، ولكن ذلك المؤتمر السري كان أكبر من أن يعرف أبعاده الحقيقية معظم الذين شاركوا فيه، بل إن رجلا كسعيد رمضان، وهو الداعية المشهور زوج بنت الأستاذ البنا والذي يعيش في اوروبا منذ عام 1954 تقريبا لم يعرف من وراء هذا المؤتمر؟ ولماذا انعقد؟ وعلى أى شيء انفض؟ حيث يقول كما نشرت عنه الاكسبريس الفرنسية:
"أقول لكم بكل صراحة: إنه في البداية لم يكن لدينا أي تحديد لسبب اجتماعنا، وحتى عندما افترقنا لم يكن الجواب قد أصبح واضحا.. وإن الوضع معقد جدا، وإنه لكذلك فعلا بالنسبة للإخوان المسلمين على الأقل بعد أن صارت جماعات متطرفة تتخطاهم بمدى تعصبها، مما يجعلها أشد عرضة للوقوع في فخ الأعداء" ا.هـ.
ولذلك أيضا لم يستطع سعيد رمضان تحديد هدف المجموعة التي قتلت السادات، حيث يقول في نفس مقال الجريدة الفرنسية: (في لندن التقينا بالدكتور سعيد رمضان زوج ابنة حسن البنا، وأحد المفكرين الرئيسيين للإخوان، سألناه: "ما رأيك يا دكتور بقتلة السادات؟ هل كانوا على حق في عمليتهم؟" بعد تردد أجاب رمضان: "يجب أن تدركوا أن اسم مجموعة (التكفير والهجرة) ليس سوى أحد اختراعات السلطة، وهذا يدل على المدى الذي بوساطته يمكن خلق أخبار ومعلومات من لا شيء.. لقد تصرف أولئك الشباب التعساء بهدي من إيمانهم وعواطفهم.. ولكن من يؤكد لنا أن كل العملية لم تكن مدبرة من الأساس؟ إن الوضع معقد جدا". ا.هـ.
ويقول أيضا: "إن الوضع معقد على هذا الصعيد"، كما يقول الدكتور رمضان: وهذا يسمح باللعب بالريح الإسلامية التي تهب على العالم الإسلامي، وحرفها في هذا الاتجاه أو ذاك، "ففي كل عمل للحركة الإسلامية" -يقول رمضان- "يوجد رجال مخلصون وآخرون من المندسين".(1/50)
وحتى نعلم ما هو الشعور العام الذي انفض عنه مؤتمر لندن الآنف الذكر، نقرأ هذه الفقرة الأخيرة من مقال الجريدة البريطانية:
"ولمواجهة الأخطار اتفق المؤتمرون المسلمون عليها على سياسة زيادة الضغط على الحكومات العربية لإرغامها على تغيير نهجها، وكما قال أحد المؤتمرين في مجلس خاص: (يجب أن نحطم الوضع الراهن قبل أن يحطمنا" ا.هـ.
ومرة ثانية أقول لم نشك قط في أن عددا كبيرا من الذين يحضرون هذه المؤتمرات يكونون أناسا مخلصين محبين للخير، يريدون إعزاز أمتهم ونهضتها، ولكن حتما كان هناك مندسون يريدون قطع طريق النهضة الإسلامية، وقتل هذه الصحوة في مهدها، وتحويل مسارها لتخدم في النهاية الأهداف الشيعية في المنطقة، وتستخدم فقط من أجل محاربة النفود الأمريكي، وتكون النتيجة هي أن يكون المسلمون أداة فقط يُستغلون.. ثم يتسلم الراية غيرهم.
لقد كنا نتابع هذه الأحداث ونحن مشفقون على الشباب الإسلامي المتوجه إلى الإسلام بنفوس منشرحة وصدور ملؤها الخير والإشراق والرغبة في العمل لنهضة أمته وتوحيد صفوفها، وكنا نعلم ما يدبر لهم في الخفاء، ولذلك رفعنا أصواتنا بالتحذير من الانسياق وراء الكلمات البراقة، وطالبنا الشباب دائما بتحديد الهدف جيدا، واتخاذ الوسيلة الصالحة للوصول إلى أهدافه، وتقدير كل خطوة قبل أن يخطوها، واتباع السياسة الشرعية في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، والحذر من الانزلاق نحو الفتنة التي تستأصل جهوده وتدمر ما بناه.(1/51)
وفي هذه الأثناء صدرت مجلة المجتمع بمقال رئيسي عرفت من أسلوبه أنه بقلم الأخ الدكتور عبدالله النفيسي، ثم علمت صدق ظني بعد ذلك من الأخ إسماعيل الشطي رئيس تحرير مجلة المجتمع، وبالرغم من أنني لا أتهم نية الكاتب، ولا أشك في صدقه، فهو أخ عزيز، ورجل فذ ذكي، إلا أنه كان متأثرا بالحُمى التي تغلي في شرايين طائفة من الشباب المسلم، الذي يرى ذل أمته وانهيارها، وتخاذل الحكام وقعودهم، ويرى أن الإصلاح بالطريقة التي من أجلها كتبنا هذه المقالات، ونشرنا هذا الكتاب بطيء جداً لا يوصل إلى نتيجة، وكان يريد -كما هي عادته- الحل الجذري، أو على حد تعبيره هو (وضع السكين في قاع الجرح) بدلا من علاجه بالمراهم والمجففات، وكان هذا المقال كما يلي بالنص:
"حصر دائرة الصراع:
الحركة الإسلامية في حالة حرب مع أعدائها الفعليين بكل ما تعنيه كلمة الحرب من قتل وتشريد وتدمير ومثلة وتعذيب وإعدام. هذه حقيقة لا تنتطح فيها عنزان، وإذا كان الأمر كذلك. وهو قطعاً كذلك فمن باب أولى فهم قوانين الحرب أو مبادئ الحرب بتعبير أدق، ومن أهم مبادئ الحرب: تحديد العدو الفعلي؟ وبالتالي ضخ القوى ضده لتلافي بعثرتها وتشتيتها، ومن يدخل الحرب دون أن يحدد –بدقة- العدو والقوى الموالية والرديفة له، فإنما هو يدخل متاهة ومفازة تتبعثر فيها القوى والطاقات، ولا تتحقق منها نتيجة. إذن لابد -لكي تكون الحرب ناجحة وتحقق أهدافها- من حصر دائرة الصراع وتوجيه كل الناس للهدف الصحيح، وبالكيفية الصحيحة.(1/52)
من هو العدو الفعلي واليومي للحركة الإسلامية؟ ومن هو المعوق الفعلي واليومي لمسيرة الحركة الإسلامية؟ ومن هو هذا العدو الذي يتسلح بالأجهزة المادية والإدارية والمالية والإعلامية، والذي يتمتع بـ (الشرعية) الواقعية في مواجهته للإسلام كدعوة وكحركة؟ وهل هذا العدو قوة مادية ظاهرة محسوسة وملموسة؟ أم أنه قوة خفية غير ظاهرة وغير محسوسة ولا ملموسة؟ وبقدر ما كانت الأسئلة محددة وواضحة، فهكذا ينبغي أن تكون الإجابة عليها.
إن العدو الفعلي واليومي للحركة الإسلامية هو الأنظمة، وأن المعوق الفعلي واليومي لمسيرة الحركة الإسلامية هو الأنظمة، وأن العدو الفعلي الذي يتسلح بالأجهزة المادية والإدارية والمالية والإعلامية، والذي يتمتع بـ (الشرعية) الواقعية في مواجهته للإسلام كدعوة وكحركة هو أيضا الأنظمة.
والأنظمة قوة مادية وظاهرة محسوسة وملموسة، وليست قوة خفية غير ظاهرة ولا محسوسة أو ملموسة. يرأس هذه الأنظمة رجال من لحم ودم وعظام، فيهم كل ضعف البشر، وخوف البشر، وارتجاف البشر، وفي طوعهم أجهزة يرأسها رجال أيضا، فيهم كل ما في أسيادهم من ضعف وخوف وانحدار وارتجاف، لا ينامون في الليل إلا تحت حراسة، ولا يأكلون الطعام إلا تحت حراسة، ولا يرتخون ويقهقهون في حضرة النساء إلا تحت حراسة. فالأنظمة إذن قوة واضحة نراها ليل نهار، وهي العقبة الكأداء أمام مسيرة الدعوة الإسلامية.(1/53)
إن معركة الحركة الإسلامية ليست هي مع الفتاة السافرة أو المتبرجة، وليست مع البرامج الهابطة في الأجهزة المرئية والمسموعة، وليست مع البنوك التي تمتص دماء الفقراء وتحقنها في كروش الأغنياء، ولست مع الحفلات الراقصة، ليست تلك هي معركة الحركة الإسلامية، ولا ينبغي أن تكون أو أن تحصر في هذه الدوائر الثانوية. إن المعركة الفعلية للحركة الإسلامية ينبغي أن تكون مع الأنظمة التي أفرزت هذا الواقع بتلك المواصفات، سواء الاقتصادية أو الاجتماعية أو الإعلامية. إن كل الظواهر السلبية في أي مجتمع من المجتمعات هي نتيجة طبيعية مفروزة من طبيعة النظام العام الذي يعيش في ظله المجتمع، وليست وليدة اختيارات فردية. إن تفشي الخمور والمخدرات والزنا واللواط -مثلا- في المجتمع الأميركي ليست نتيجة للاختيار الفردي بقدر ما هي نتيجة للنظام العام الذي يسود المجتمع الأميركي، والذي تقف على سنامه السلطة السياسية الأميركية، وما تمثله فعليا من مصالح القوى الاقتصادية، الاستثمارية والتجارية في ذلك المجتمع، بتعبير آخر إن الفرد الأميركي قابل للصلاح بقدر ما يصلح النظام العام الذي يعيش في ظله، بدليل أن العرب في الجاهلية كانت فيهم كل هذه المبادل وعندما صلح النظام العام عن طريق تأسيس دولة الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة صلح حال الفرد العربي في الجزيرة، وإن الفرد العربي اليوم قابل للصلاح، وقابل للالتزام بالإسلام وبشريعته بقدر ما يصلح النظام العام السياسي الذي يعيش رهينة في ظله.
وباختصار نقول إنه إذا أرادت الحركة الإسلامية أن تحقق شيئا من خلال منهج عملها الحالي -والذي تعوزه الكثير من المراجعات- فينبغي أولا حصر دائرة الصراع وتحديد العدو والهدف.(1/54)
إن بعثرة القوى الإسلامية في مواجهات جانبية من شأنها توسيع دائرة الصراع، وبالتالي تفريغ الطاقة الإسلامية في فراغ لن تتحصل منه فائدة تذكر لمجمل أهداف الدعوة. إن العدو الفعلي والمعوق الفعلي لمسيرة الدعوة هي الأنظمة، وليست الجماهير -بكل راياتها ومسمياتها- وإن العمل الإسلامي الذي يتحرك بمعزل عن هذه الحقيقة الجارحة لن يحقق أي نتيجة على المدى البعيد". ا.هـ.
وبعد أن قرأت هذا المقال ، وأنا أعيش أحزان أمتي وأفراحها، وعلمت المنعطف الخطير الذي يمكن أن يؤدي إليه نشر مثل هذا المقال، وهو أن ينصرف الشباب عما سماه المقال بالدوائر الثانوية والهامشية من العمل لتوجيه دفة الاقتصاد إلى الإسلام، وتحول الفتيات والفتيان إلى الدين الصحيح والتمسك بآداب الإسلام وأحكامه، فقد جعل المقال مثل هذا دوائر ثانوية، وبين أن عدو الأمة هو الأنظمة، ويجب حصر الحرب معهم فقط.. لقد كان المقال إعلان حرب على الأنظمة دون تحديد لماهية هذه الحرب ولا وسائلها ولا أهدافها ولا كيفيتها، ولا تعريف للمقصود بالأنظمة.. إنها حرب وكفى.
ورأيت أن من واجبي قطع الطريق على الفتنة قبل أن تبدأ، وإنقاذ الشباب من غرور الكلمة، وخمرة الحماسة الفارغة، وإيقاف كل متكلم عند كلمته ليوضح مراده، ويصدع بما يرى أنه حق، ولا يترك الناس في البلبلة والتخمين والاضطراب، فنشرت مقالا في جريدة الوطن التي أتولى شئونها الدينية بعد ذلك المقال بثلاثة أيام فقط وكان هذا نصه:
"ماذا تريد مجلة المجتمع بالتحديد؟(1/55)
في عدد الثلاثاء 13 محرم لعام 1402هـ الموافق 10/11/1981 في مقالها الرئيسي بعنوان (حصر دائرة الصراع) خرجت علينا مجلة المجتمع لتقول بالنص: (إن العدو الفعلي واليومي لمسيرة الحركة الإسلامية هو الأنظمة)، وتقول أيضا: (إن معركة الحركة الإسلامية ليست هي مع الفتاة السافرة أو المتبرجة، وليست مع البرامج الهابطة في الأجهزة المرئية والمسموعة، وليست مع البنوك التي تمتص دماء الفقراء وتحقنها في كروش الأغنياء، وليست مع دور السينما، وليست مع الحفلات الراقصة.. ليست هي تلك معركة الحركة الإسلامية، ولا ينبغي أن تكون أو أن تحصر في هذه الدوائر الثانوية.. إن المعركة الفعلية للحركة الإسلامية ينبغي أن تكون مع الأنظمة التي أفرزت هذا الواقع)، ثم تقول أيضا في نهاية المقال: (باختصار نقول إنه إذا أرادت الحركة الإسلامية أن تحقق شيئا من خلال منهج عملها الحالي، والذي تعوزه الكثير من المراجعات، فينبغي أولا حصر دائرة الصراع، وتحديد العدو والأهداف.
ونحن إزاء هذه الدعوة السافرة إلى الفتنة وتضليل الشباب المسلم والزج به فيما يريد أعداء الأمة من تدمير نفسه وأمته ووطنه الإسلامي، نريد أن نطرح بعض الأسئلة على مجلة المجتمع التي تتبنى اليوم الدعوة إلى الفتنة بكل أبعادها، علها ترشدنا إلى مخططها الجديد.
أولا: ماذا تعنون بالنظام؟
ماذا تعني مجلة المجتمع بكلمة الأنظمة؟ هل تعني بها الحكومات العربية الحالية؟ وهل تشمل دعوتها تدمير هذه الأنظمة وحربها كل الأنظمة العربية؟ أم بعضها دون بعضها؟.
وإذا كان المراد بالأنظمة هو الحكومات؟ فهل رئيس الدولة فقط هو الحكومة؟ أم الحكومة والوزراء؟ وما رأيهم في وكلاء الوزراء أيضا؟ هل هؤلاء من النظام أم خارجون عنه؟ وما رأيهم بأعضاء المجالس النيابية؟ هل هم جزء من النظام أم لا؟ وما القاعدة في تحديد العدو وغير العدو؟.(1/56)
وما رأي مجلة المجتمع في أفراد الجيوش العربية، وقوات الشرطة التي تحفظ الأنظمة وتحافظ على الأمن، هل هم داخلون في حكم الأنظمة أم لا؟ وهل إذا كانوا من الأنظمة فدمهم مهدور أيضا؟ وهل تستطيع (المجتمع) أن تفتينا في حكم الإسلام في دخول الجيش والشرطة؟ والعمل في الوزارات والمجالس النيابية.. هل هذه الأعمال جائزة أم محرمة؟.
ثانيا: ماذا تعنون تماما بكلمة حرب؟
تقول مجلة المجتمع: (لابد لكي تكون الحرب ناجحة وتحقق أهدافها من حصر دائرة الصراع وتوجيه كل الناس للهدف الصحيح، وبالكيفية الصحيحة)، ونحن نسأل الآن عن هذه الحرب الناجحة!! ماذا تعنون تماما بكلمة حرب؟ هل تعنون الاغتيالات السياسية؟ أم تعنون الثورة المسلحة؟ ومن الذي سيقود هذه الحرب؟ وما هي الكيفية الصحيحة التي تدعون إليها؟ وماذا تعنون بدعوة كل الناس إلى هذه الحرب؟ أي ناس هؤلاء؟ وكيف ستدعون؟ الناس أعن طريق مجلة المجتمع التي تتبع هيئة رسمية هي إحدى مؤسسات النظام؟!.
هذه بعض الأسئلة التي نوجهها –مخلصين- إلى القائمين على مجلة المجتمع ليعرفوا أولا بماذا ينطقون؟ وإلى أي شيء يدعون الناس.. وإذا كانت المجتمع قد أفلست من دعوة الشباب إلى الهداية والاستقامة، ودعوة الحكام إلى الاستقامة على أمر الله وتحكيم شريعته، ودعوة الشعوب إلى الدخول في الإسلام أقول إذا كانت مجلة المجتمع قد أفلست من ذلك فلتتق الله في الشباب الذي قد يفتر وينزلق إلى تدمير أمته ونفسه بهذا المسلك الخاطئ.(1/57)
باختصار (المجتمع) لا ترى جدوى من تحويل الفتاة السافرة إلى فتاة متحجبة عن طريق الإقناع ودعوة الخير، ولا ترى جدوى من إقامة بنوك إسلامية لتحل محل البنوك الربوية، ولا ترى جدوى من مزاحمة البرامج التافهة ببرامج هادفة في وسائل الإعلام، ولا ترى جدوى من كل هذا البناء للأمة بطريق الدعوى وشق طريق الخير والصبر على الأذى وتحمل الصعاب، وتنادي في الناس أن اتركوا كل ذلك، واحصروا دائرة الصراع في حرب الأنظمة!!.
للأسف أن يكون كل هذا التضليل باسم الإسلام، وأن ينسب كل هذا العبث إلى هدي الرسول الكريم وحكمته..".أ.هـ.
لقد جاء المقال -بحمد الله- في وقته تماما، فقد ساعد الشباب المسلم على الإفاقة السريعة، ووضع أيديهم رأسا على الخلل، واستطاعوا بعد ذلك تحديد الهدف والاتجاه بعد أن كادت تضل بهم الطرق.. وأعتقد أننا وصلنا بحمد الله من خلال مقالي ذلك إلى صحوة عامة، وتعريف بالأخطاء التي يمكن أن تقع فيها الدعوات، وأشعر وأنا أكتب هذه السطور بعد عامين تماما من هذا المقال، أنه كان نقطة فاصلة في توجيه مسار الدعوة في الكويت، وإن كنت تعرضت خلال هذين العامين لصنوف الأذى والسباب والشتائم والاتهام بالعمالة للسلطات والخيانة للإسلام، والله المستعان.. وعنده يلتقي الفرقاء والخصماء.(1/58)
المهم أن الساحة الكويتية حماها الله، وبقيت مكانا آمنا تسير في الدعوة الإسلامية سيرها الطبيعي الطيب، ويقوى عودها مع الأيام..ولم يستطع الذين دافعوا عن (مقال حصر دائرة الصراع) إلا أن يقولوا إن المقال لا يعني الكويت، وإنما يعني الأنظمة القمعية التي تحارب الدعوة كسوريا، وبالطبع كان هذا اعتذارا غير صحيح، لأنه في ظل تلك الأنظمة التي تحارب شباب الدعوة لا يهتم الشباب هناك بإقامة بنوك إسلامية، ولا بمحاربة السافرات، وبرامج التلفزيون، وإنما هم يلاحقون الحكام كما يلاحقهم الحكام.. والمقال لم يكن أصلا موجها لأولئك ولو كان موجها لهم لكان من باب تحصيل الحاصل، فضلا عن أن مجلة المجتمع لا تصل إلى سوريا حتى يكون المقال موجها للشباب هناك، وعلى كل حال فبالرغم من أننا لا نتهم نية الكاتب، إلا أننا نحاول دائما أن نفرق بين الخطأ والصواب.. لقد كان المقال خطأ بكل أبعاد كلمة خطأ، وكان الصواب بحمد الله ما قررناه، ونحمد الله سبحانه وتعالى أن كان لنا شرف التوجيه والإرشاد والترشيد والفضل لله وحده.. ويغفر الله لكل من أساء إلينا.. وسامح الله الجميع وعفا عنا وعنهم.
الباب الخامس
المفهوم الجديد للجهاد عند بعض الشباب المسلم
بدأ منذ عام 1375هـ - 1965م تقريبا فهم جديد لمعنى الجهاد في الإسلام، وهذا الفهم الجديد نشأ عن تصورات عقائدية، ولأسباب وأحداث سبقت ظهور هذا الفهم وصاحبته، ونستطيع أن نلخص ونوجز أبعاد هذا الفهم الجديد لمعنى كلمة الجهاد فيما يلي:
1 - المجتمع الذي نعيش فيه مجتمع كافر، لأنه استبدل القوانين الإسلامية بالوضعية، وأن مظاهر الانحلال والفساد دبت فيه، وأن المعروف قد أصبح منكرا والمنكر قد أضحى معروفاً.
2 - أفراد هذا المجتمع وحكوماته مرتدون مارقون، والمظاهر الإسلامية في هذا المجتمع مظاهر كاذبة مضللة منافقة، فشيوخ الدين ممالئون للسلطان الكافر.(1/59)
3 - والمساجد مساجد ضرار، لأنها تسير في ركاب الحاكم الذي يحكم بغير ما أنزل الله، والمؤسسات الإسلامية سواء كانت أهلية، كجمعيات الخير والبر، أو حكومية كوزارات الأوقاف والجامعات الإسلامية، حكمها حكم المجتمع ما دامت أنها تستظل بظل الحكومات الكافرة.
4 - الجهاد مفروض لتغيير هذا الواقع وإحلال شريعة الله مكان شريعة الكفر.
5 - كل الوسائل السلمية لا تُجدي فتيلا، ولا توصل للهدف السابق، لأن كل عمل سلمي للدعوة يقابل بالدعاية الحكومية الكافرة، لأنها تملك المال ووسائل الإعلام من تلفزيون وإذاعة وصحافة، وكذلك تمتلك المدارس والجامعات، والوظائف، وتستطيع بذلك أن تفعل ما تريد، ولأنها تهدم والدعاة يبنون فإنها تسبقهم حتماً ، لأن الهدم أسهل من البناء.
6 - مادام الحكام كفرة والجهاد واجبا، فقد وجب الخروج عليهم وقتالهم بالسلاح، لأن الرسول أمر عندئذ بالخروج عليهم، كما قال صلى الله عليه وسلم: [إلا أن تروا كفرا بواحاً عندكم من الله فيه برهان]، والحكم بغير ما أنزل الله كفر بواح.
7 - في القتال يجوز الخداع، لأن الرسول قال: [الحرب خدعة].
8 - ويجوز الاغتيال، لأنه أرسل من يغتال كعب بن الأشرف، وعبدالله بن سفيان، وغيرهما.
9 - يجوز إظهار خلاف ما يبطنه المسلم حتى يتمكن من قتل هؤلاء الأعداء.
10 - لا يجب في القتال أن تُرفع راية، أو يُعلن جهاد أو يُميز صف، لأن القتال فرض على كل أحد، والذي على الحق جماعة ولو كان وحده، فكيف لو كان هناك اثنان أو ثلاثة.
11 - يجوز قتل كل من تترس به الكافر ولو كان من المسلمين إذا كان لا يمكن قتل هذا الكافر إلا بهم وبذلك يجوز قتل الجنود والشرطة والجيش إذا حاولوا الدفاع عن الحكام الكفار.
12 - لا يجب إعلان القتال على الكفار، لأن رسول الله قاتل أقواما (وهم غارون) لا يعلمون بمقدمهم إليه.(1/60)
13 - ليس للنساء والأطفال حرمة، لأن أولاد الكفار من الكفار، وقد سئل الرسول عن أولاد الكفار ونسائهم يُقتلون في البيات (الهجوم الليلي) ، فقال: [هم منهم].
14 - يجوز قتل الكفار، وهم الحكام والشعوب الراضية ليلا ونهارا وبغير إعلام وإشعار لهم، ولو قُتل في ذلك نساؤهم وأطفالهم.
15 - أموال هؤلاء (الكفار) أعني المسلمين الذين يعيشون في هذا المجتمع يجوز أخذها بكل سبيل، لأن أموال الكفار غنيمة للمسلمين، فيجوز غصبها وسرقتها ونهبها.
16 - نساء الكفار (أعني المسلمين الذين يعيشون في ظل النظام الوضعي) حلال أيضا استرقاقهم وسبيهم.
17 - لأن النظام نظام كافر، فالدار التي نعيش فيها دار حرب، وبذلك تكون كل ديار المسلمين الآن ديار حرب، يجوز فيها ما يجوز في دار الحرب من القتل والسلب والنهب والغصب والخطف.
18 - لا تجوز الصلاة بالمساجد، لأن الدولة الكافرة هي التي تنفق عليها وتعين أئمتها ومؤذنيها.
19 - لا يجوز تولي أي ولاية في هذه الحكومات، لا وزارة، ولا عمل في جيش أو شرطة، أو تعليم أو صناعة، لأن كل عمل حكومي هو إعانة للحكم الكافر.
20 - جميع النصارى واليهود وأهل الملل الأخرى الذين يعيشون في بلادنا (بلاد الحرب) لا عهد لهم ولا أمان، لأنهم محاربون للمسلمين، وبالتالي هم حربيون، وليسوا مستأمنين أو معاهدين أو أهل ذمة.
21 - لا يوجد الآن حكم إسلامي قط في الأرض، ولذلك يجب العمل لإيجاد هذا الحكم.
22 - ليست هناك طريقة لإيجاد الحكم الإسلامي إلا بالحرب، والحرب تكون وفق المفاهيم والأحكام السابقة.
23 - لا يجوز أن نحكم بالإسلام لأحد، إلا من عرفنا حقيقة معتقده، وأنه يوافقنا في كل ما قلناه آنفا، وكل من لا يعتقد هذه العقيدة تماما كما نعتقد فهو كافر يجب إلحاقه بمعسكر العدو وحربه معه.(1/61)
24 - لا يجوز بتاتا تقديم حرب الاستعمار والكفار الخارجين كاليهود والأمريكيين والروس مثلا قبل حرب الأعداء القريبين، وهم هؤلاء الذين يُنسبون إلى الإسلام وليسوا كذلك!!
25 - أي شخص اختارته الجماعة التي تعتقد هذه الأفكار أميراً فهو أمير تجب طاعته وإن لم يعلم به غيرهم، فلا يشترط في الأمير العام الذي يعلن هذه الحرب، ويقوم بهذا الجهاد أن يكون ظاهرا ولا متمكناً، بل يكفي أن يبايعه رجل أو رجلان.
26 - الحكم الإسلامي هو ما في القرآن الكريم والحديث فقط، وفهم الصحابة ليس حجة علينا، وأقوال الأئمة والفقهاء ليست حجة، ويستطيع كل أحد أن يفهم القرآن والسنة ويستنبط منهما، وإن لم يدخل معهدا علميا أو جامعة أو تتلمذ على أي شيخ من الشيوخ، وفينا من هو أعلم من الصحابة، وأفقه من الأئمة!!
27 - يجوز الانبثاث في الجماعات الإسلامية العلنية القائمة لتحويل مسارها نحو هذا الفهم الجديد للإسلام.
الرد على هذا المفهوم الجديد للجهاد:
هذه هي خلاصة الفقه الجديد، أو المنهج الجديد للجهاد الذي تتبناه اليوم مجموعات شتى في أنحاء العالم الإسلامي، وعندي النصوص الكاملة لهذا الفقه من كتب هذه الطوائف الجديدة، ولا أشك أن بعض هؤلاء الذين جنح بهم فهمهم المريض إلى هذا الحد مخلصون محبون للخير، ولكن كم من مريد للخير لم يبلغه، ولا أشك أيضا في أن هناك من غير المخلصين، بل من الذين يريدون شراً بأمة الإسلام، وتحول ساحة الوطن الإسلامي إلى ساحة حرب حقيقية بين أبناء المسلمين أنفسهم، حيث يقتل بعضهم بعضا ويسبي بعضهم بعضا، بل ويغدر ويكذب ويغش ويتعلم النفاق الذي ليس بعده نفاق، واللؤم الذي ليس بعده لؤم قط.
وصفحات الكتاب السابقة كانت ردا على كل هذه الأفكار المنحرفة الجانحة، ونستطيع أن نوجز الرد على هذا الفكر هنا أيضا بما يلي:-
1 - متى يكون المسلم كافراً:(1/62)
لاشك أن تعميم القول بالكفر ليس بصحيح وهو مخالف لهدي القرآن والسنة، حيث أمرنا ألا نشهد إلا عن بينة.. وكيف نشهد أن مجتمعاً ما أصبح خاليا من الإسلام؟! والحال أن عامة أهله مسلمون، ممن يشهد أن لا إله إلا الله ويصلي ويصوم ويتقي الله عز وجل، ويتورع عن الحرام في مطعمه ومشربه ومأكله، وهو كذلك يكره الكفر والكافرين، ولا يرضي الله عنه ولا يوالي أعداء الدين، فكيف يكون أمثال هؤلاء كفاراً لمجرد سكناهم في بلد اختلطت فيها قوانين الكفر بقوانين الإسلام؟! علما بأن الله شهد بإسلام من يعيش في ديار الكفار مضطراً لا يستطيع الهجرة منها، كما قال تعالى: {إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا}، وهذا ودولة الإسلام قائمة في المدينة وما حولها، والأنصار يواسون ويفرحون بمن هاجر إليهم، ولا ينزل أحد من المهاجرين عند أنصاري إلا بقرعة.. فكيف الآن! وليس هناك من إمام يعلن أنه إمام المسلمين، وأن هلم إلى العيش في رحاب الإسلام، وأن هاجروا من الدار التي يستذل فيها المسلمون إلى الدار التي يعزون فيها!؟ هل في هذه الحالة يُسمى من يعيش في بلد يحكم بالقوانين الوضعية كافراً مرتدا لمجرد وجوده وسكناه في مثل هذه البلد؟ لاشك أن هذا قول من لم يفقه الدين، ولم يعرف الواقع.
2 - تعميم القول بكفر الحكام جميعاً خطأ:(1/63)
لا شك أن الأمة قد ورثت هذه الحالة البائسة بعد غزو عسكري لأراضيها وأوطانها استمر زمانا طويلا، ففي بعض بلاد المسلمين بقيت عساكر الكفار قرنا من الزمان، ومنها قرنين وأكثر، استطاع الكفار فيها وضع قوانين الكفر، وتغيير العقول والقلوب، وتربية جيل يؤمن بأفكاره وعقائده من أبناء المسلمين، وليسوا جميعا على موقف واحد من الدين، وموقف واحد من الكفار المستعمرين، فهناك حكام يصلون ويصومون، وقد ورثوا هذا التركة بكل ما فيها، وهم يتمنون التخلص من قوانين الكفر، وإحلال قوانين الإسلام مكانها، وهناك آخرون انسلخوا من الدين ظاهرا وباطناً، أو انسلخوا باطنا وأبقوا شيئا من ظاهر الدين على أنفسهم كالصلاة في الأعياد، وإرضاء المسلمين ببعض الكلمات كالبسملة والحوقلة.
ولا شك أن هذه الأصناف لا يجوز أن يكون الحكم عليها واحدا، وإلا كانت الشريعة غير حكيمة، والحال أن الشريعة حكيمة تُفرق بين المضطر وغيره، وبين المتأول والمتعمد، وبين المنافق والكافر، ولذلك فالحكم بالجملة على كل الحكام دفعة واحدة حكم يعوزه الصواب، وينقصه الحكمة، بل هو حكم متعد.. وقد رأينا وشاهدنا من حكام المسلمين من يتمنى ويسعى جاهدا لاستبدال قوانين الكفر بقوانين الإسلام، ومن يحب أن يسود الخير ويكثر أصحابه، كما أن منهم من هو بضد ذلك، فكيف يجوز أن يتساوى عندنا أهد الصدق والإيمان والصلاة بأهل النفاق والكفر ومحاربة الدين.
3 - قواعد الحكم بتكفير المسلم:
لاشك أيضا أن للتكفير أصولا بيناها سابقا، ونوجزها الآن، وهي: لا يجوز أن يُحكم بالكفر على مسلم إذا رأيناه يفعل مكفرا من المكفرات إلا بالضوابط الآتية:
أ – أن لا يكون جاهلا، فإذا كان جاهلا بحكم ما يفعله فلا يكفر حتى يتعلم وتُقام الحجة عليه.(1/64)
ب - أن لا يكون متأولاً يرى أن ما يفعله من مخالفة شرعية إنما هو لمصلحة أعظم أو درءا لمفسدة أعظم، كما ترك الرسول صلى الله عليه وسلم تنفيذ بعض الحدود درءاً لمفسدة أعظم، ونحو ذلك.
ج - أن لا يكون مضطرا ، كما قال تعالى: {لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين، ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة}.
والآيات في هذا المعنى -أعني الاضطرار- كثيرة جدا.
ووفق هذه الضوابط يكون الحكم على معين ما أنه كافر، وأما إلقاء الكلام على عواهنه، وتكفير الناس دون العلم بحقيقة حالهم، فهذا لا يقدم عليه إلا رقيق الدين، قليل التقوى والخوف من الله، حيث يقول صلى الله عليه وسلم: [من قال لأخيه يا كافر وليس كما قال إلا حار عليه].
4 - من ينفذ الحدود؟
لاشك أنه ليس هناك تلازم بين الحكم على شخص ما بالكفر والأمر بقتله أو قتله، وذلك أن تنفيذ القتل حداً كما هو في المرتد لا يجوز إلا للحاكم المسلم القائم الظاهر، أعني لا ينفذ الحدود إلا الإمام المسلم العام أو من ينوب عنه، وليس قتل المرتد هو من واجبات أو حقوق الأفراد، وإلا لقتل كل أحد من يريد قتله وزعم أنه مرتد، وهذه قضية إجماعية لا خلاف فيها بين المسلمين، أعني أن تطبيق الأحكام ليست للرعية وإنما هي للإمام، وذلك لأن ترك الرعية تقوم بتنفيذ العقوبات الشرعية (الحدود) يؤدي إلى الفوضى والفساد والاضطراب.
وبسبب الجهل بهذه النقطة حدث الفساد في الأرض من الجماعات التي تدعي نُصرة الدين والجهاد، لأنهم ظنوا أن قتل المرتدين وقتالهم هو من حقوقهم، وأنه مُسند إليهم، وبذلك استحلوا دماء مخالفيهم في عقيدتهم التي شرحناها آنفاً، بل قتل بعضهم بعضاً عند أدنى خلاف بينهم فيما يعتقدونه، ظانين أن هذا من باب تنفيذ الحكم على المرتد، والحال أنه لا ينفذ حكم الردة إلا إمام قائم معين أو من ينوب منابه ويسد مسده، وهذه كما ذكرنا مسألة مُجمَع عليها.(1/65)
5 - لا تلازم بين تكفير الحاكم والخروج عليه:
وقد ظن كثير من هؤلاء الشباب أيضا أن الحكم على حاكم ما، أو رئيس ما بالكفر يستلزم الخروج عليه بالسيف، وهذا خطأ أيضا، فليس كل حاكم كفر كفرا بواحا يلزم المسلمين الخروج عليه، مهما كانت الظروف والأحوال، بل إن الخروج عليه يستلزم اتباع السياسة الشرعية في ذلك، شأن ذلك شأن إنكار أي منكر من المنكرات، فكما لا يجوز إنكار المنكر بمنكر، ولا إزالة منكر يترتب على إزالته حدوث منكر أعظم منه، فكذلك الأمر في إنكار منكر الحاكم أو الرئيس الخارج على الدين المعلن للكفر، فمع الحكم بكفره فإن الخروج عليه بالسيف يستلزم أن يكون الخروج مؤديا إلى إزالة منكره دون أن يحدث ما هو شر من ذلك، كأن يأتي من هو أعظم منه شراً وبلاء على المسلمين، وكأن يحفزه ذلك إذا تمكن من الإفلات أن يستأسد على المسلمين، ويستبيح بيضتهم، ويهتك حرماتهم... وقد حدث هذا مراراً، فكم من حاكم ظالم أو فاجر، أو حتى كافر معلن للكفر قام عليه بعض الأفراد من أهل الحماسة الفارغة والغيرة الكاذبة، ففشلوا في تحقيق مآربهم، فكان هذا بلاء على المسلمين عامة، حيث استباح هذا الفاسق حمى المسلمين، وفضح حريمهم، ومزق جماعتهم، وتسلط بسيف القهر عليهم، فكان قيام مثل هؤلاء المغرورين المتحمسين الجاهلين بلاء على المسلمين وليس شفاء لأمراضهم، وإزاحة لعلتهم.
والمهم هنا البيان أنه لا تلازم بتاتا بين الحكم بكفر حاكم ما، والخروج عليه، نعم يجب اعتقاد وجوب الخروج عليه، ولكن لا يجوز تنفيذ هذا الواجب إلا وفق السياسة الشرعية الحكيمة، وهي ألا يُزال منكر بمنكر، وأن لا يترتب على إزالة هذا المنكر منكر أعظم منه.
6 - ديار المسلمين الآن ليست ديار حرب:
لاشك أن القول بأن ديار الإسلام الآن وأوطانهم ديار حرب قول فاجر، ليس عليه دليل من كتاب أو سنة أو فقه أو عقل أيضا، وذلك للأسباب الآتية:(1/66)
أ - أنه لا يجوز أن تكون هناك دار حرب إلا إذا كان هناك دار إسلام، والقائلون بأن بلاد المسلمين الآن هي ديار حرب نسوا أن يذكروا لنا أين ديار الإسلام، وذلك أن ديار الكفار لا تسمى ديار حرب إلا لوجود ديار الإسلام التي تعلن الحرب عليها، وتحوز المسلمين، وتحميهم، أما إذا انعدمت دار الإسلام التي تحمي المسلمين وتدافع عنهم، وينطلق منها جحافلهم وجيوشهم، فإنه ينعدم أيضا وجود دار حرب، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يسم مكة دار حرب عندما كان يسكنها قبل الهجرة، بل لم يفرض الله عليه الحرب إلا بعد أن تكونت ووجدت دار الإسلام أولا، وعلى الذين يقولون إن الدار الفلانية دار حرب أن يوجدوا دار الإسلام أولا كما أوجدها الرسول دون قتال وسفك دماء.
ب - أن القول بأن ديار الإسلام الآن وأوطانهم ديار حرب: معناه أن يتحول المسلمون إلى مجموعة من اللصوص والقتلة والمنافقين والمجرمين، وهذا ما حدث بالفعل مع الذين نادوا بذلك، فقد تحولوا بالفعل إلى قتلة بلا هدف ولا سياسة، ولصوص يسرقون ويغتصبون، بل استطاعوا أيضا استدراج الفتيات البريئات من أهلهن المسلمين بحجة أنهم كفار، وتزوجوا بهن دون ولاية أو تسجيل عقود!!.
بل قال لي بعض هؤلاء: لو تمكنت من مال أي شخص، ولو كان يصلي، ولو كان من أنصار السنة وأهل التوحيد لسرقت ماله، واغتصبت زوجته، لأن كل هؤلاء ليسوا مسلمين، ونحن في دار حرب ،ومالهم مباح!! وسألته، وكنا في مدينة (بنها) وتعداد سكانها ربع مليون نسمة تعلم في هذه المدينة مسلما قال: لا!!.. فانظر مقدار هذا الفهم، وقلت له أيضا: ما يمنعك من أخذ مال غيرك واسترقاق أطفاله، وسبي نسائه؟ قال: لأنني غير مُمَكن فقط، أي لأني لا أملك تنفيذ ما أعتقد به من إباحة أموال ونساء هؤلاء.
أقول.. لا شك أن القول بأن ديار المسلمين اليوم وأوطانهم ديار حرب يجعل ممن يقولون بهذا القول مجموعة من المنافقين، والقتلة، والمجرمين.(1/67)
ج - بالرغم من فظاعة وشر القول بأن ديار المسلمين الآن ديار حرب، إلا أن أصحاب هذا القول أيضا متناقضون فالمعروف أن دار الحرب لا تُقام فيها الحدود الشرعية، فمن شرب خمراً مثلا لا يُجلد، ومن سرق لا تقطع يده، وهذا أمر متفق عليه بين الفقهاء، وذلك حتى لا يلحق المسلم الذي يقع في معصية من المعاصي التي تستوجب حدا لا يلحق بالكفار، وللأسف أن أصحاب الفهم الجديد في الجهاد قد يتعللون عند مواجهتهم بالقول: لماذا تقتلون وتذبحون وتغتالون؟ يقولون نريد أن نقيم الحدود!! فكيف تكون مثل هذه حدود والحال أنتم تقولون إننا في دار حرب!! ودار الحرب لا تقام فيها الحدود، وكذلك لا يجوز إقامة حد في الإسلام إلا بتعيين إمام وقاض وشهود وتمكين للمتهم من الدفاع عن نفسه، فكيف يكون اغتيال شخص ما أو سرقة محل ما إقامة للحدود!!؟
ولا شك أن ديار المسلمين الآن وأوطانهم هي ديار إسلام مادام أهلها مسلمون، وإن غلب بعض أنظمة الكفر عليهم، وهم مطالبون بطاعة الحق فقط، ومأمورون بمعصية أنظمة الكفر وقوانينه لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وهم مأمورون بالسعي والجهاد بكل معاني الجهاد التي شرحناها للوصول إلى تطبيق شرع الله سبحانه وتعالى كاملا، واتباع السياسة الشرعية في سعيهم وجهادهم، هذا هو الدين القويم والصراط المستقيم.
7 - حكم القتال دون تمييز الصفوف:(1/68)
وأما القول بأنه يجوز قتال دون أن يتميز صف المسلمين من صفوف الكفار، فهو حرام وقول أعمى لا ينبني على فقه أو دين أو عقل، وهذه آيات القرآن، وأحاديث الرسول وتاريخ الصحابة والمسلمين كله شاهد أنه لا قتال إلا بعد تميز الصفوف، وانحياز أهل الإسلام إلى إمامهم وعلمهم، وانحياز أهل الكفر إلى قوادهم وجيشهم، فلم يأمر الله تعالى الرسول بالقتال إلا بعد أن تميز جيشه، وكانت له قاعدته في المدينة، وجماعته المستقلة التي تخرج وتبرز وحدها رافعة لواءها، معلنة أهدافها، معروفة أوصافها.. هذا هو الجهاد الإسلامي، صف مميز له هدف معلوم وراية مرفوعة ، وجماعة ظاهرة، وإمام قائم، وأما المجموعات السرية المختبئة في الجحور التي تخرج على الناس فجأة فتغدر وتقتل وتضرب على غير هدى فليسوا دعاة إسلام، وليس لفعلهم هذا شبه ولا مثال في كل تاريخ من يُقتدى به من أهل الإسلام.. وأما الاستدلال بأن الرسول غزا أقواما من بني المصطلق وهم غارون فنعم لقد فاجأهم الرسول، ولكن النذارة بلغتهم بأن الرسول قادم إليهم، وخرج الرسول صلى الله عليه وسلم وهو ذو علم، وصاحب جماعة وأمة، وله رسالة قد أبلغها في الآفاق، وجيش معروف، وأهداف واضحة، وقد أمر صلى الله عليه وسلم أن لا يحارب قوم حتى يدعوا إلى الإسلام أولا، فإن أبوا فالجزية، فإن أبوا فالحرب. (صحيح مسلم باب الإمارة). فهذه سنة رسول الله وسنة خلفائه الراشدين وسنة من يقتدي به من أهل الحق والدين.(1/69)
وأما أن الرسول قد أرسل من يغتال أفرادا من الكفار فنعم، فإن الإمام المسلم الظاهر له أن يرسل من يغتال من يؤذي المسلمين إذا لم يكن من يغضب له، وكان هو رأس شر، يموت الشر بموته ولا يستفحل بقتله، كما فعل الرسول مع كعب بن الأشرف، لأنه رجل واحد، رأس من رؤوس الشر، ليس له إلا جسد، ولا جيش وراءه ولا أمة تغضب له، وكذلك الحال مع عبدالله بن سفيان الذي كان يجمع للرسول أوباش الناس وأخلاطهم، وليس صاحب شرف أو قبيلة أو جماعة، فأرسل الرسول من يقتله وهو عبدالله بن أنيس، فتفرق كل هؤلاء الأوباش والأخلاط بعد أن قتله عبدالله بن أنيس رضي الله عنه.. وكذلك أرسل النبي من قتل سلام بن أبي الحقيق اليهودي بخيبر، لأنه رأس من رؤوس الشر إذا قُتل انتهى شر جماعته وخمدت نيرانهم، وقد كان.. فالاغتيال جائز في الإسلام إذا صدر الأمر به عن إمام ممكن وأمة قائمة، وكان الاغتيال لا يؤدي إلى ضرر أكبر منه.. ألا ترى كيف أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم حذيفة بن اليمان عندما أرسله ليأتي بخبر الكفار في الخندق، قال له الرسول: [اعرف الخبر ولا تحدث حدثا حتى تأتي]، كيف أن حذيفة أتاهم والريح تضربهم، والظلام يلفهم، وقد قال لهم أبو سفيان وقد كان قائدهم إني مرتحل.. ثم ركب ناقته ولم يفك وثاقها إلا بعد أن ركبها.. وقال حذيفة: لم يكن بيني وبينه شيء وأردت أن أقتله بسهم، ولكني تذكرت كلام رسول الله: [لا تُحدث حدثاً حتى تأتيني]، فأمسكت.. أرأيت لو قتل حذيفة بن اليمان أبا سفيان بن حرب في ذلك الوقت، مخالفا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! ماذا ستكون النتيجة؟! لا شك أن هذه الغزوة ما كانت لتنتهي على ذلك النحو، وهو رجوع الكفار إلى مكة، واكتفاء المسلمين بقتال الله عنهم، بل إن الكفار القرشيين لو قُتل رئيسهم ما كان لهم أن يرجعوا هكذا فرارا، بل كانوا سيرجعون ويمكثون ويقاتلون مهما كلفهم ذلك من أمر، وكان في هذا كل البلاء على المسلمين.(1/70)
والشاهد هنا أنه ليس كل شخص صالحاً لأن يغتال، بل للاغتيال أيضا في الإسلام أصوله وقواعده الشرعية، ولابد قبل إقدام الإمام المسلم عليه أن يقدر المصالح والمفاسد.. هذا هو شأن الاغتيال في الإسلام، فكيف يتناسب ذلك مع ما يفعله أفراد من الشباب الأغرار، تختمر عندهم فكرة ما أن فلانا عدوا لله أو أنه فعل كذا وكذا.. وقد يكون هذا بدفع من مخابرات الأنظمة الفاجرة، أو ممن يريد بالمسلمين شراً لإيقاع الفتن بينهم، فيغريهم بذلك، ويندفعون ليغتالوا، وقد ينجحوا في قتل غريمهم، ولكن الشر بعده يعم ويطم، وقد يفشلون فتكون الداهية أعظم.. فكيف يُقال والحال هذه إن مثل هذا جهاد، والحال أنه في معظمه غدر وإفساد واستبدال لشر أخف بشر أعظم.
8 - حكم تولي الولايات في الحكومات الكافرة:(1/71)
وأما القول بأن حكوماتنا هذه كافرة بإطلاق، فقد بينا حكمه آنفا، وأما القول بأن تولي الولايات في الحكومات الكافرة لا يجوز شرعاً ، فهذا أيضا لا دليل عليه من كتاب ولا سنة، بل الكتاب والسنة على غير ذلك، فقد تولى يوسف صلى الله عليه وسلم وهو نبي كريم القيام على خزائن الأرض في مصر وهو منصب مشابه لمنصب وزارة المالية الآن، وهو وإن كان في شرع من سبقنا، إلا أنه لم يأت في شرعنا ما يخالفه، نعم جاء نهي النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون المسلم جابياً أو شرطياً عند أئمة الجور (أحمد 4/133)، فلا يتعدى هذا إلا بدليل، وهو أنه يحرم أن يكون المسلم جابياً يجمع المكوس من الناس للحاكم ظلماً ، وكذلك أن يكون شرطياً يضرب الناس ليأخذ أموالهم، لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وأما في ولاية لا يكون المسلم فيها عاصياً لله، كأن يكون معلماً، أو صانعاً أو زارعاً، أو مدافعاً عن أمته بالحق، أو نحو ذلك من ولايات ووظائف الحق، فهذا لا شيء فيه إن شاء الله، ولو كان الحاكم كافراً، فكيف إذا كان مسلماً ظالماً لنفسه، جامعاً بين المعصية والطاعة، لا شك أن تولي الولايات التي تعين المسلمين وترفق بهم، وتحجب أعداء الله عن الإفساد في الأرض أولى من تركها لأهل الشر والفساد، وبطانة السوء الذين يفسدون ولا يصلحون.. وبالجملة فالمسلمون المخلصون هم أولى الناس بتولي الولايات وتقلد المناصب، وإزاحة أهل الشر والفسق، وتسيير شؤون المسلمين إلى الخير، وليس العكس، حيث ينزوي المسلمون ويبتعدون مفسحين المجال لغيرهم، تاركين شؤون المسلمين بيد أعدائهم، فإن هذا من أعظم الفساد والشر.. نعم لا يجوز للمسلم إذا كان في ولاية ما أو منصب ما أن يكون منفذا للشر، عاملا به، بل لابد وأن تكون له شخصيته وعمله، ولابد وأن يكون ائتماره بأمر الله أولا، وأن يكون عمله في طاعة الله وليس في معصيته.(1/72)
والخلاصة أنه يجوز للمسلم أن يعمل ولو عند كافر مادام أن عمله مباح، وهو من أعمال الخير، فكيف إذا كان في عمله تقوية لشأن المسلمين، ورفع لمنزلتهم، وإبعاد لأهل الشر والفساد عن حصون المسلمين، والتحكم بأعراضهم وأموالهم.
يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله: "وجميع الولايات الإسلامية إنما مقصودها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، سواء في ذلك ولاية الحرب الكبرى، مثل نيابة السلطنة، والصغرى، مثل ولاية الشرطة، وولاية الحكم، أو ولاية المال، وهي ولاية الدواوين المالية، وولاية الحسبة..(1/73)
لكن من المتولين من يكون بمنزلة الشاهد المؤتمن والمطلوب منه الصدق، مثل الشهود عند الحاكم، ومثل صاحب الديوان الذي وظيفته أن يكتب المستخرج والمصروف، والنقيب والعريف الذي وظيفته إخبار ذي الأمر بالأحوال، ومنهم من يكون بمنزلة الأمين المطاع والمطلوب منه العدل، مثل الأمير والحكم والمحتسب، وبالصدق في كل الأخبار، والعدل في الإنشاء من الأقوال والأعمال، تصلح جميع الأحوال، وهما قرينان كما قال الله تعالى: {وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً} (الأنعام:115)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر الظلمة: [من صدقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم فليس مني ولست منه ولا يرد علي الحوض، ومن لم يصدقهم بكذبهم ولم يعنهم على ظلمهم فهو مني وأنا منه وسيرد علي الحوض]، وفي الصحيحين عن النبي أنه قال: [عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يُكتب عند الله صديقاً، وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يُكتب عند الله كذاباً]، ولهذا قال سبحانه وتعالى: {هل أنبئكم على من تنزل الشياطين؟ تنزل علي كل أفاك أثيم} (الشعراء:221)، وقال: {لنسفعن بالناصية ناصية كاذبة خاطئة} (العلق:15) ، فلهذا يجب على كل ولي أمر أن يستعين بأهل الصدق والعدل، وإذا تعذر ذلك استعان بالأمثل فالأمثل، وإن كان فيه كذب وظلم، فإن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر، وبأقوام لا خلاف لهم، والواجب إنما هو فعل المقدور، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم أو عمر بن الخطاب رضي الله عنه: [من قلد رجلا على عصابة، وهو يجد في تلك العصابة من هو أرضى منه ، فقد خان الله وخان رسوله وخان المؤمنين]، فالواجب إنما هو الأرضى من الموجود، والغالب أنه لا يوجد كامل، فيفعل خير الخيرين، ويدفع شر الشرين، ولهذا كان عمر بن الخطاب يقول: "أشكو إليك جلَد الفاجر وعجز(1/74)
التقي"، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يفرحون بانتصار الروم والنصارى على المجوس، وكلاهما كافر، لأن أحد الصنفين أقرب إلى الإسلام، وأنزل الله في ذلك سورة الروم لما اقتتلت الروم وفارس والقصة مشهورة وكذلك يوسف الصديق كان نائبا لفرعون مصر وهو وقومه مشركون، وفعل من العدل والخير ما قدر عليه، ودعاهم إلى الإيمان بحسب الإمكان" ا.هـ. (الحسبة ص 6 و 7).
والشاهد فيما سقناه من كتاب الحسبة للإمام ابن تيمية -رحمه الله- أن المسلم عليه أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر بحسب استطاعته وتوليه الولايات التي يستطيع من خلالها أن يقوم بهذا الأمر.. وقد كان يوسف الصديق نائبا لفرعون مصر وهو وقومه مشركون وفعل يوسف من الخير ما قدر عليه وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر بحسب استطاعته، ولا شك أن هناك ولايات كثيرة يستطيع المسلم من خلالها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإن كان في ظلال حكم جائر، أو كافر، كوزارة التربية والتعليم، والأوقاف والدعوة، والشؤون، وغير ذلك.. اللهم إلا إذا كان المسلم في ولاية ما سببا لأمره بالمنكر ونهيه عن المعروف وصده عن سبيل الله، فإنه حينئذ لا يجوز له البقاء، ويحرم عليه العمل.
9 - منزلة العمل السلمي ، والدعوة والتربية في الإسلام:(1/75)
وأما القول بأن الدعوة السلمية، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يغني فتيلاً في الإسلام، فهو قول خاطئ جداً بعيد عن الصواب، فقد جعل الرسول صلى الله عليه وسلم أعلى درجات الجهاد قول كلمة حق عند سلطان جائر، حيث يقول صلى الله عليه وسلم: [أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر]، فكيف تكون كلمة الحق عند سلطان جائر هي أفضل الجهاد، ويقول قائل إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يغني فتيلاً، بل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو أصل الدين الأصيل، بل هو الذي من أجله جعل الله تبارك وتعالى المسلمين خير أمة أخرجت للناس، كما قال تعالى: {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله} الآية، فكيف يُقال إن الدعوة السلمية لا تجدي!! ولاشك أن الذين قالوا هذا القول لم يعرفوا الغايات التي من أجلها شرع الله الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهي أداء الأمانة التي حملها الله لأهل العلم، كما قال تعالى: {وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه} وقال تعالى: {إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون} الآيات.
والغاية الثانية هي هداية من كتب الله هدايته، والدعوة هي الطريق إلى ذلك.
والثالثة هي إقامة الحجة لله حتى ينقطع عذر الكافرين يوم القيامة أمام ربهم.
والرابعة من غايات الدعوة هي إقامة المجتمع المسلم، وتربية أفراده على الإسلام.
والخامسة هي الذب عن دين الله، ودفع الشبهات التي تعترض الناس وتحول بينهم وبينه، وكل هذه أهداف عظيمة لا تتأتى إلا بالدعوة والجهاد السلمي والتعليم والرد على الشبهات والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.(1/76)
وأما القتال، فمع أنه في نفسه من خير أعمال الإسلام وأفضلها، إلا أنه شرع دفاعاً عن حوزة الدين، وتحطيماً للسدود التي يضعها الظالمون في وجه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكسرا لشوكة الكافرين، وهو مع أهميته ومنزلته فإنه لا يجوز أن نُلغي به جهاد الكلمة، وبيان الحق، بل يجب أن يكون هذا في مكانه، وهذا في مكانه من هذه الشريعة المطهرة، وأما أن نُلغي هذا، ولا نوجه الشباب إلا للحرب فقط، ونجعل تعليمهم وتربيتهم في غرف مظلمة ولا يتعلمون إلا أساليب القتل والاغتيال، والتدمير، ولا يسمع الناس منهم كلمة حق، ثم نخرج بهم رأسا على الناس يقتلون ويخربون ويُفسدون دون أن يعلم الناس من هؤلاء؟ وماذا يريدون؟ وإلى أي شيء يدعون؟ فإن هذا من أكبر الباطل وأعظم الشر، وقد كتبنا فصلاً كاملاً من هذه الفصول عن أثر الدعوة السلمية بعنوان (الساحة الكويتية والتطرف والعنف)، فارجع إليه إن شئت.
10 - حكم غير المسلمين في أرض الإسلام:(1/77)
وأما القول بأن جميع النصارى والملل الأخرى، بل وجميع الطوائف عدا أهل السنة منهم لا عهد لهم أو أمان، ويجب قتلهم وقتالهم، فإن هذا أيضا من أعظم الشر والفساد.. ولا شك أن المسلمين اليوم ليسوا في وضع سياسي يسمح لهم بتطبيق ما طبقه المسلمون في عصورهم الزاهرة على أهل الذمة، كإلزامهم بزي خاص، وأخذ الجزية منهم، وعدم تمكينهم من إظهار شركهم وصلبانهم، أو بناء كنائس جديدة.. الخ، ولاشك أيضا أنه قد بينت طوائف تُنسب إلى الإسلام لعلها أشد شراً وفتكا وأذى من سائر الطوائف الأخرى وأن هؤلاء إن لم يعلنوا الحرب على المسلمين علانية، فإنهم سائرون فيها سراً بكل ما أوتوا من قوة فهم ممالئون لأعداء الله من الكفرة والمستعمرين، موالون لهم، هذا في غالب أحوالهم، إلا أنه يكون منهم أيضا من ولاؤه ومحبته لأهل وطنه من المسلمين، وقد أمرنا الله سبحانه وتعالى أن نشهد بالحق، وقال عن النصارى في وقت نزول الوحي على النبي محمد صلى الله عليه وسلم: {ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة} الآيات، ولاشك أن إعلان الحرب هكذا من الجماعات الإسلامية على كل الطوائف غير الإسلامية، وغير السنية، إنما هو عمل أحمق جاهل لا يقره دين ولا عقل، لأن غايته أن يحرض الحكومات القائمة على أهل التدين الصحيح، ويمَكن لأعداء الإسلام من ديار الإسلام أكثر من تمكنهم الآن، وإنما البصيرة أن يُدعى إلى الإسلام الدعوة الصحيحة، وأن يُحاوَل قدر الإمكان أن توضع الأمور في نصابها، فلا يتسلم أمور المسلمين أعداؤهم، ولا يكون في جيوشهم وشرطتهم من ولاؤه لغير هذه الأمة، ومن قلبه مع أعدائها، ومن يتسلط عليها بدافعٍ من كفره أو طائفيته.. والواجب على الشباب المسلم أن يقدر كل هذه الأمور، وأن يعرف كيف يضع الأمور في مواضعها الصحيحة.(1/78)
ولا شك أن الإسلام من خلال شريعته المطهرة لم يطارد غير المسلمين لكفرهم، بل حاربهم لعداوتهم وحربهم، ولما تخلوا عن العداوة والأذى ، فإن غير المسلمين عاشوا في بلاد الإسلام معززين مكرمين التكريم اللائق بهم، وهذه المسألة هي من أخطر ما تواجه الدعوة الإسلامية في الوقت الحاضر، وإن لم يعالجها الشباب المسلم بما تمليه المصالح الشرعية بعيداً عن الهوي والجهل والتعصب، فإن الريح ستعصف ببناء الإسلام، وستكون هذه الطوائف هي أعظم فتنة وبلاء على أمة الإسلام.
11 - من الذي يصح له الاجتهاد والاستنباط:
وأما القول بأن كل أحد قادر على فهم الكتاب والسنة والاستنباط منهما، وحل مشاكل الأمة، وخاصة هذه المشاكل العويصة التي تحتاج إلى أرضية فكرية وسعة اطلاع هائل، ومعرفة بأحوال العالم اليوم، وسياسات الدول والحكومات.. خاصة بعد هذا التشعب والتداخل واهتمام كل دولة بما يحدث في الأخرى، نظرا لأن العالم قد أصبح كالقرية الواحدة، وأصبحت حياة كل دولة ترتبط بصورة أو بأخرى بما في الدول الأخرى، فبترول المسلمين مثلاً يعيش أكثر من شطر العالم عليه، وما يحدث في بلادنا يهم بالضرورة كل من ترتبط حياته بهذه المادة الحيوية، وهكذا..
وفي خلال هذا التشابك يصبح معرفة ما يجب على المسلمين عمله ليس أمراً هيناً، بل يحتاج إلى فقه عظيم ودراسات كثيرة لا تتأتى للمبتدئين، ولا للمنعزلين عما يدور في هذا العالم.(1/79)
هذا ، وشروط الاجتهاد التي دونها فقهاؤنا كثيرة، منها: الإحاطة أو شبهها بالكتاب والسنة، ومعرفة فقه الفقهاء، وأصول الفقه، وقواعد اللغة، وأن يكون ذا عقل راشد، وفهم سليم، وتقوى لله عز وجل، وبُعدٍ عن الهوى، ومعرفة بالمصالح والمفاسد، ومعرفة بأحوال الناس.. فكيف يقال بعد ذلك إن كل أحد يستطيع الاجتهاد وتقرير ما يُصلح هذه الأمة.. للأسف إن معظم ما قرأته مما كتبه أهل الفقه الجديد في الاجتهاد كانت من كتابات أناس لم يتعدوا الثلاثين من أعمارهم، بل كان كثير منهم دون ذلك بكثير، بل وكثير من هؤلاء لم يتتلمذوا تتلمذاً صحيحاً على علماء، أو فقهاء بل إن كثيراً منهم لم يكد يعدو وجوده في إطار الإسلام الصحيح سنة أو سنتين، وكان قبل ذلك بعيداً كل البعد عن مشاكل المسلمين وأحوالهم، بل بعيداً بنفسه كذلك عن أخلاقهم وصفاتهم، فهل يعقل أن يحرم الله علماء الأمة جميعا الفهم الصحيح لمعاني الجهاد، ويمتن بذلك على أفراد من الشباب هذا شأنهم ومبلغهم من العلم.(1/80)
ومرة ثانية نقول: إن للاجتهاد أصوله وضوابطه، وإن أعظم الاجتهاد ما يكون منه في شؤون المسلمين السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فهذه أمور متجددة متغيرة، ويحتاج المفتي والمجتهد فيها أن يكون ملماً بمشكلاتها، وهذا عكس قضايا العبادات وشئون القربات، فإنها ثابتة لا تتغير.. أقول هذا لأنني رأيت كيف أن شابا صغيراً جمع نصوصاً عن كيفية وضع اليد في الصلاة بعد الركوع، وتتبع أقوال العلماء ثم رجح ما رآه، وظن بعد ذلك أنه مجتهد، وقال لي: أنا مجتهد لأنني اطلعت على أقوال العلماء في هذه المسألة، وكان هذا عندما بينت له ما معنى المجتهد، وطالبته بالمسائل التي اجتهد فيها، وكان له رأي، فذكر هذه المسألة ، فذكرت له أن هذه المسألة ليست الوحيدة في الصلاة، بل هناك في الصلاة وحدها أكثر من عشرة آلاف مسألة، فكيف بالصوم والحج وسائر العبادات الأخرى؟ وكيف بما وراء ذلك من شؤون المعاملات والسياسات.. لاشك أن الوصول إلى معرفة قضية واحدة أو عشر قضايا لا يجعل من الشاب مجتهداً، وإنما ذلك يحتاج إلى زمن طويل وعلم غزير بينا بعضه آنفا، ولست ممن يقول أنه لا يوجد الآن من يجتهد، بل لا يخلو وقت للإسلام إلا من قائم لله بحجة، كما قال صلى الله عليه وسلم: [لا تزال طائفة من أمتي على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك] (رواه مسلم).(1/81)
ولا شك أيضا أن الله سبحانه وتعالى قد كلفنا حدود استطاعتنا، ونحن لا نكلف أن نعمل إلا بما نظن وفق اجتهادنا أنه الحق، ومن الاجتهاد سؤال أهل العلم والشورى والنظر، وعدم الاستبداد بالرأي، ولو أن كل شاب متحمس يفعل ذلك، ويرجع إلى أهل العلم والرأي من المسلمين قبل أن يُقدِم على عمل ما من أعمال الجهاد والدعوة لصلحت أحوالنا ولوفقنا الله في أعمالنا، كما قال تعالى: {وأمرهم شورى بينهم} ولكن للأسف يخرج عليك كل يوم من لا فقه لهم ولا علم، ثم هم مستبدون برأيهم، ظانين أنهم قد بلغوا الغاية علماً وفهماً وجهاداً، والحال أنهم غير ذلك تماما.
وختاماً ، فإننا ننصح هؤلاء الشباب أن يتقوا الله في أمتهم، وأن يخافوه سبحانه، وأن لا يُقدموا على أمر ما حتى يشاوروا أهل العلم والرأي من المسلمين، ففي هذا الخير كل الخير لهم، وفي هذا التعجيل بنصر الإسلام وعزه.
الباب السادس
آراء بعض العلماء المعاصرين في السياسة الشرعية في الدعوة
أحببنا أن نختم هذه الفصول ببعض الآراء لأشهر رجال يعملون في حقل الدعوة الإسلامية في أيامنا هذه، وقد اخترنا من هؤلاء الأخيار الذين يشهد لهم الناس بالخير في طول البلاد الإسلامية وعرضها فضيلة الشيخ عبدالعزيز عبدالله بن باز، وأظنني لست بحاجة إلى تعريفه لأنه لا يجهله مسلم يعيش في عصرنا هذا، ويهتم بشيء من أمور المسلمين، ولا أحب أيضا أن أزكيه في هذا المقام، فبمقامه أكبر من تزكيتي مهما بلغت.. وأسأل الله أن يمد في عمره.. والعالم الجليل الثاني هو الأستاذ سيد سابق الداعية الجليل، صاحب كتاب فقه السنة الذي لا يكاد يخلو منه بيت طالب علم في العصر الحاضر، والعالم الثالث هو الأستاذ عمر التلمساني، ويكفيه أنه مازال منذ وفاة الأستاذ الهضيبي مرشد عام الإخوان المسلمين، مازال هو العضو الظاهر البارز كمرشد لجماعة الإخوان المسلمين، وإليك نصوص أقوالهم:(1/82)
1 - الشيخ عبد العزيز بن باز يرد على شبان مسلمين بأمريكا حول قضايا تكفير الحكام:
اتصل بعض الشباب المسلمين الذي يدرسون في أميركا بالشيخ عبدالعزيز بن باز يسألونه في بعض الأمور التي تهم المسلمين في كل مكان، وقد تفضل الشيخ بالرد عليهم هاتفيا، وفيما يلي مجمل الأسئلة وردود الشيخ عليها:
هناك من يقول بأن كتاب العقيدة الطحاوية لا يمثل عقيدة السلف، وأنه توجد فيه أخطاء، وبخاصة في الشرح، فهل هذا صحيح؟
الشيخ ابن باز: لا ، هذا ليس بصحيح، وفيه أخطاء قليلة نبه عليها الشارح، والتي طبع عليها أحمد الشاكر والشيخ ناصر الدين الألباني وشرحه طيب ومفيد وسلفي، وهو من تلاميذ ابن كثير رحمه الله والأخطاء قليلة في المتن ونبه عليها الشارح.
ما قولك في قول أبي جعفر الطحاوي: "ولا يكفر أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله"؟!.
المراد بذنب أي دون الشرك أي المعاصي هذا هو قول أهل السنة والجماعة، أنه لا يكفر مسلماً بذنب دون الشرك كالزنا والسرقة، وهذا ردهم على الخوارج، والطحاوي مصيب بذلك القول:
وأهل السنة والجماعة لا يرضون عن قول الخوارج بأن العاصي يخلد في النار، وكل كتب عقائد أهل السنة ينبه بها إلى هذه النقطة، وهذه هي عقيدة السلف، ومن خرج عن هذا فهو من عقيدة الخوارج والمعتزلة.
هل يدخل ضمن هذه القاعدة الحكام والمحكومون؟ أم أنها خاصة بالمحكومين فقط؟.
يدخل في هذه القاعدة الجميع: الحكام والمحكومون.
ما قولك في حاكم لا يحكم بما أنزل الله، وهو يعتقد بأنه مخطئ، آثم في عمله هذا؟
من يفعل هذا يكون عاصياً ، وقد أتى كبيرة، عظيمة إذا كان لا يستحله، ولكنه تابع الناس لمقاصد سياسية أو لمقاصد دنيوية، ويكون عاصيا وكافراً دون كفر، وظالما دون ظلم، فإذا استحله، أو قال بأن القانون أفضل أو مساويا يكون كافراً عند جميع المسلمين.(1/83)
هناك من الناس من يقول إن هذا شركه أكبر، لأنه نازع الله في خاصية من خصائص الألوهية، وهي أن الحاكمية لله.. فما رأيكم؟
الحكم لله بلا شك، وكذلك المال لله، ولكن من أخذ المال بغير حق كالسرقة والغصب لا يكفر، هكذا من حكم بشيء برشوة، أما إذا حكم مستحلاً كفر.
وإذا قلت بأن الحاكم لا يستحل هذا العمل، يقال إن هذه فتوى الشيخ عبدالعزيز بن باز في تعليقه على كتاب فتح المجيد، فالشيخ ابن باز كفرهم ولم يُفرق المستحل من غير المستحل، ويقال: بأنك علقت على هذا بقولك على الآية: {أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يقنون}.. إن مثل هذا، وشر منه من اتخذ كلام الفرنجة قوانين يتحاكمون بها في الدماء والفروج والأموال، ويقدمها على ما علم وتبين له من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهو بلا شك كافر مرتد إذا أصر عليها ولم يرجع إلى الحكم بما أنزل الله، ولا ينفعه أي اسم تسمى به، ولا أي عمل من ظواهر أعمال الصلاة والصيام ونحوها].. يقال بأن هذا هو كلامك في فتح المجيد.
ما أعلم أن لي تعليقا مثل هذا، ومن الذي نسبه إلي (هذا كلام حامد الفقي والله أعلم) أ.هـ.
هناك من الناس من يقول أنتم تضيعون أوقاتكم في بيان الشرك القديم، وهو التوسل بالقبور والاستغاثة بهم ، وتنسون الشرك الحديث، شرك الحاكمية أو شرك الحكام، وأولى عندهم الاشتغال بتكفير الحكام والعمل على الخروج عليهم من العمل في الدعوة في هذه الأيام.. فما قولكم في هذا؟
هذا غلط ، وهم مساكين، فالأولى تصحيح عقائد الناس وتبصيرهم، وتبيان لهم حقيقة الشرك والكفر من جهة الوثنية، ومن جهة الشيوعية، ومن جهة الإباحية، أما قولهم بالخروج على السلاطين، فهو من شأن الخوارج والمعتزلة، الخروج ليس فيه غير القتل والفساد، يقتلون ويُقتلون، فهم يبيدون أنفسهم ويبيدون الدعوة، وهذا فيه فساد عظيم.(1/84)
2 - رأي الشيخ سيد سابق حول السياسة الشرعية في الدعوة (تحقيق صحفي في جريدة الوطن)
كتب نبيل الصفار: الشيخ الفقيه "سيد سابق" أحد أبرز أقطاب الدعوة الإسلامية المعاصرة، وهو من أولئك الذين تمرسوا بالعمل الإسلامي مروراً بمراحله مداً وجزراً، قرابة الأربعين عاما. والشيخ الفقيه، من المقربين للإمام حسن البنا رحمه الله وقد كان فضيلته أحد مؤسسي الخلايا السرية المقاتلة للاحتلال الإنجليزي.
وسيد سابق في لقاء الشؤون الدينية في "الوطن" به يرسم خطوطا عريضة لشباب الانبثاقة الإسلامية المعاصرة، وهو عندما يتحدث عن بعض القضايا التي تعصف رياحها بالعمل الإسلامي، فإنما يضع يده على جراح توشك أن تتعمق وتغور في الأعماق، وتكاد تدمي أصحابها، وقد تتباين الآراء وتختلف في بعض ما يطرحه، ولكنها خطوة لابد منها لحوار إسلامي يرشد شباب الدعوة إلى الصراط المستقيم السوي في طريقٍ ملؤه الأشواك والعقبات.
في بداية اللقاء يطرح فضيلته عدة أسس وضوابط يرى أهميتها للدعوة المعاصرة، حيث يقول: الملاحظ أن هناك يقظة تُبشر بخير، ولكن هذه اليقظة تفتقر إلى ثلاثة أمور:
الأمر الأول: أنها تحتاج إلى توعية كاملة، فالحماس وحده لا يكفي والعاطفة الجياشة أيضا لا تكفي، بل لابد من أن يصحب ذلك الوعي الصحيح، والوعي بالظروف والمتطورات حولنا.
والأمر الثاني: أن هذه الانبثاقة الطيبة تحتاج إلى تنظيم، فكل جماعة هي صاحبة نية طيبة وقصد حسن، ولا أتهم هؤلاء في نواياهم ولا إخلاصهم، ولكنهم لا يأتون البيوت من أبوابها، فهؤلاء بحاجة إلى تنظيم، والحياة الآن مبنية على النظام، والنظام هو الذي يوفر لنا الجهد.. ومن الملاحظ أن كل جماعة تبدأ من حيث انتهت جماعة أخرى، ثم تأتي جماعة أخرى لتبدأ من جديد، وهكذا تستمر العملية "محلك سر".
والأمر الثالث: أن التنظيم يحتاج إلى قيادة، فالقيادة هي التي تضع الخطوات والأسس والقواعد الضامنة لنجاح الدعوة.(1/85)
فهذه الأمور الثلاثة هي التي تفتقر إليها الدعوة، ويجب على أي حركة من الحركات أن تبدأ واعية لأهدافها وغاياتها، عارفة بالأساليب والمعوقات، وكيف تستطيع أن تأخذ طريقها في وسط التيارات.
ويحدد الشيخ الداعية سيد سابق ملامح الخطوة التالية، وهي التي اصطلح على تسميتها تنظيميا "بالتجميع"، حيث يقول فضيلته: لدينا عمال وسيدات وشبان وجامعيون لهم تدين، ولكن كل من أولئك يسير في طريق دون أن يكون له تلاق مع البقية، فتكون النتيجة قليلة الثمر، فلابد أن يضاف "الوعي" بعضه إلى بعض، ويكون للعمال منهج يسيرون عليه، وللشباب منهج في كيفية مواجهة القيادات، ومعرفة تنمية الأطفال على الطريقة الإسلامية، ويجب أن نعرف ماذا نقدم للمرأة، فلابد من التناسق وفقا لقاعدة موجهة، بحيث يمكن أن تثمر على أساسها الدعوة.
لا صدام مع الأنظمة:
وحول طبيعة وملامح التحرك الذي يجب أن تصطبغ به هذه الانبثاقة الإسلامية يقول الشيخ سيد: في هذه الحركة، ينبغي ألا نصطدم بالحكومات، لأن الاصطدام يؤدي إلى نتيجة خطأ، وموقفنا من الحكومات إن كانت مسلمة، أن نطالبها بالعمل بالإسلام والمزيد منه، وإن لم تكن مسلمة، نطالبها بأن تعمل بالإسلام، ولكن لا ندخل معها في صدام!.
هناك بعض الآراء ترى أن الوضع الفاسد القائم، إنما هو بفعل الأنظمة الفاسدة، ولا يتغير هذا الواقع إلا بالمصادمة مع النظام الفاسد، فما رأيك؟(1/86)
المصادمة مع الحكومات خطر كبير لأن الحكومات عادة تملك المال والسلاح والقوة، وليس هناك قوة تستطيع أن تواجه هذه القوة، وعلى هذا تكون الدعوة التي تواجه الحكومات تقضي على نفسها بنفسها، فليس من الشجاعة أن أرى أسداً، وأقول أنا شجاع وأعبث بذيله، فليست تلك بشجاعة، والرسول عليه الصلاة والسلام، في ليلة من ليالي العقبة، جاءه الأنصار، وقالوا يا رسول الله: اسمح لنا أن نقتل الكفار كافة ونقضي على رؤوس الكفر، ولا يشرف النهار حتى تعلن الدعوة، وتكون ملكا، فقال الرسول عليه الصلاة والسلام: [لم أؤمر بهذا]، وكان بإمكان الرسول أن يقضي فعلا على كل الكفار، فهذا المنطق حق أريد به باطل، ولكن لابد من تربية الشعب الذي سيحمل الدعوة على أكتافه.. افرض أنني قتلت حاكماً أو اثنين أو ثلاثة، وأخذت الحكم، ولكن.. أين الشعب المهيأ الذي سيحمل الرسالة.
ويضيف الشيخ سابق: إن الانقلاب المقبول هو الانقلاب الشرعي الذي يأتي عن طريق الأمة نفسها، وهي التي تطالب الحاكم بالعمل الإسلامي، أو [بالتنحي عن الحكم] فإذا بلغ الشعب ذلك، وكانت عنده القدرة والاستعداد على الإطاحة بحكومة والإتيان بحكومة مثالية وممثلة للإسلام، عندئذ اشترط لهذا ثلاثة شروط هي: عدم سفك الدماء، وعدم تخريب البلاد، وعدم إضعاف الدولة أمام غيرها.
هل يُفهم من ذلك أن الدعوة الإسلامية التي لا ترى الأسس التي ذكرتها قد أخطأت سبيل التغيير السليم؟.(1/87)
يا سيدي ، ذلك أشبه "بغسل الدم بالبول"، وتغيير للخطأ بخطأ أكبر منه، ونحن غير مكلفين بذلك، وموقفنا "من الحكام" أن ندعوهم وننصحهم، وقد أخبرنا الرسول عليه السلام بثلاث مراحل: [من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان]، ولم يأمرنا الرسول بأن نقتل أنفسنا، ولنا الحق أن نقتل أنفسنا بشرف، وأما أن تقتل النفس نفسها، فهذه عملية انتحارية وليست بجهاد، فالجهاد ما شرعه الله، والرسول عندما أخبر أن الحكام سيغيرون ويبدلون، فقال الصحابة: أفلا نقاتلهم، قال الرسول عليه السلام: [لا، ما أقاموا الصلاة]!.
ولكن الرسول عليه السلام قال: [إلا أن تروا كفراً بواحاً]؟. نعم ، ولكن هذا مع ملاحظة الشروط التي ذكرتها. والحكم بغير ما أنزل الله، أليس من الكفر البواح؟
قد يكون ، ولكن يجب أن يكون عند القدرة على التغيير الذي لا يترتب عليه ضرر، وكما قلت فأنا لا أغسل الدم بالبول "وإلا يبقى ما عملتش حاجة، وزودت النجاسة"!.
لا اغتيال في الإسلام:
والشيخ سيد سابق لا يقر ما يسمى بالاغتيال السياسي، حيث يقول: لا يوجد في الإسلام اغتيال، الإسلام عنده النصيحة، وكلمة الحق التي تقال عند سلطان جائر، الرجل الذي قام إلى سلطان جائر فأمره ونهاه فقتله، "ماقالش قام إلى إمام جائر، فصوبه وموته"، ومن ناحية الحكم الشرعي، فالإسلام لا يرى هذا، إنما الإسلام يرى إعداد الأمة إعدادا كاملا، ثم الأمة هي التي تطالب بحقها، فإن كان لها حق وسكتت عنه فهي كالشيطان الأخرس، وإذا تكلمت تكون قد أدت الواجب الملقى على عاتقها، وربنا لا يكلفنا أكثر من طاقتنا.
وجد التطرف الديني طريقه في عهد الخلفاء الأوائل متمثلاِ بالخوارج الذي أخبر الرسول عليه السلام عنهم، فهل للتطرف وجود في محل العمل الإسلامي المعاصر؟.(1/88)
في الحقيقة لا أحسب أن هناك تطرفاً في زماننا، فذاك التطرف "الخوارج" تصرف مذهبي عقيدي، والعقيدة لها أصول، وشكلت مدرسة قائمة بذاتها لها فلسفتها، ولا يوجد عندنا ما يمكن تسميته بتطرف، ولكن كل ما يوجد أن لدى بعض الأخوة يقظة ضمير، وقوة إيمان، وحينما يجدون أنفسهم في وسط الجاهلية الموجودة، يشعرون بآلام كثيرة للفرق الكبير جدا بين ما يدينون به ويعتقدونه، وبين الواقع القذر، فيحصل لديهم نفور من هذه النقائص التي يرونها.
ما موقفنا من هذه الطائفة؟
هؤلاء جهلة ، ويجب أن يتم تعليمهم، ولا نرميهم بأكثر من الجهل.
منحرفون لا متطرفون:
هناك من الجماعات من ينسف عهد السلف الصالح، ولا يقرون له بمكانة، ولا يأخذون باجتهاد الخلفاء الراشدين أو الأئمة، ويعتزلون مساجد الدولة والمجتمعات، ألا يمكننا أن نسمي هذا تطرفاً؟
هؤلاء ليسوا متطرفين، وإنما هم منحرفون فعلاً، وبعيدون عن الإسلام، ويبدو لي أن الاستعمار يقظ، ويريد أن يوقع الفرقة بين المسلمين ليشغلهم عنه، ولذلك يقوم "بتصنيع ناس مخصوصين باسم الإسلام"، ويمد لهم، ويمكن لهم، وهم الذين روجوا هذه الأفكار، فيعمدون إلى تلقين الناس الأغرار الطيبين ذوي اليقظة والضمير الحي تلك الأفكار، في الوقت الذي يغيب فيه الإسلام، فيتلقون هذا دون أن يجدوا غيره، مشكلين مدرسة عقائدية جديدة، متبنين آراء غريبة جدا، دون الالتفات إلى أهل الرأي المخلصين، فهؤلاء كُونوا تكوينا خاصا ليكونوا نشازا في المجتمع الإسلامي والحركة الإسلامية، وباسم الدين، مثل جماعات التصوف، واتباع الطرق، الذين تم تكبيرهم في المجتمع الإسلامي ليكونوا معولا من معاول الهدم، وكذلك هؤلاء المتطرفون هم معول هدم، ولابد أن يكون هناك من يحركهم ولا نعرفه، والدليل على ذلك، أنهم يكثرون وينتشرون بشكل غير عادي، بينما يمضي دعاة الحق سنوات دون أن يتمكنوا من تجميع الناس حولهم، فكيف تمكن هؤلاء؟(1/89)
ألا تظن أن للحكومات يدا في تصنيع هؤلاء لأهداف ما؟
الدول تريد أن تشغل الناس بعضهم ببعض، فبدلا من أن تدخل معهم في معركة، تشغل حيزاً من الشباب بمثل ذلك، كجماعة القرآنيين، أو أصحاب السنن أو البدع، فالدولة تعرفهم وتتغاضى عنهم لتشغلهم عنها بما خلقوه لأنفسهم، أو بما خلقه العدو لهم.
عبد الناصر من الإخوان:
شيخ سيد ، من المعلوم أنك أحد أبرز الدعاة التنظيميين في دعوة الإخوان المسلمين في فترة مضت، وكان جمال عبدالناصر من ضمن المجموعة التي تعمل فيها، فهل كان جمال حقاً إخوانيا أم استغل الإخوان لصالحه؟!.
سأقول كلمة حق في ذلك، أولا جمال عبد الناصر كان من الإخوان المسلمين يقيناً، وقد بايع مع كمال الدين حسين في ليلة واحدة على المصحف والمسدس، وكان جمال تابعاً للخلايا السرية، وبقي كذلك حتى قامت الثورة، وكانت فكرة الخلايا السرية أساسا محاربة الإنجليز، فإذا استطاع الإنجليز القضاء على الهيكل الظاهري، فيكون وجود الخلايا السرية باقيا كقوة، وقد كان لي دوران في الهيكل التنظيمي للإخوان، في الجماعات السرية وكذلك الظاهرة، ولم يكن أتباع الظاهر يعلمون بأني مسؤول إحدى الجماعات السرية الباطنة، والتي يتبعها جمال عبدالناصر، وعندما قام جمال بالثورة مع الإخوان الذين يعرفونه، ونجحت ثورته بدأ الخلاف، وأساس الخلاف الدائر كان حول "من الذي سيحكم"؟! وعندما كبر بدأ يتنكر ويقول: "كنت بروح للشبان، وبروح للإخوان، وأروح لمصر الفتاة، وأروح للشيوعيين" والجماعة المحيطة به تكتب مذكرات كاذبة، ومضى في طريقه المعروف.
آراء الاستاذ عمر التلسماني حول بعض مسائل السياسة الشرعية في الدعوة حوار أجراه معه أحمد باقر:
جريدة (الوطن) الكويتية - الجمعة: 25 يونيو سنة 1982(1/90)
الأستاذ عمر التلمساني غني عن التعريف، فهو زعيم من زعماء حركة الإخوان المسلمين، عاصرها منذ نشأتها الأولى على يد الأستاذ حسن البنا، وتحمل في سبيل دعوته السجن والبلاء مرات كثيرة، وحول حركة الإخوان المسلمين والتطرف الديني والسياسة في مصر والعالم الإسلامي كان لنا هذا الحوار الشائق مع عمر التلمساني في شقته بالقاهرة يوم الجمعة الماضي.
يدور جدل كبير في أوساط الدعاة المسلمين عن كيفية الوصول إلى تطبيق الشريعة الإسلامية في مجتمعاتنا اليوم؟ وهناك أطراف متناقضة في فهم سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم في كيفية الوصول إلى تطبيق الشريعة في زماننا هذا، بل إن هناك من يفسر حركات الدعاة القديمة بتفسيرات كما يريدها وكما يشتهيها هو، فما هو التفسير الحقيقي لدعوة الإمام الشيخ حسن البنا [دعوة الإخوان المسلمين] من هذه القضية؟(1/91)
التلمساني: لو أن الشباب المشتغل بالدعوة الإسلامية قرأ كتاب الله قراءة مستبصرة، وألم بأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين والسلف الصالح لتبين طريقه في الدعوة إلى تطبيق شرع الله في العالم الإسلامي كله، ولكن هذا الشباب بحكم حماسه واندفاعه يريد أن يحقق تطبيق الشريعة الإسلامية ما بين يوم وليلة، ولو كان هذا في قدر الله سبحانه وتعالى لأنجى نبيه صلوات الله وسلامه عليه من كثير من المتاعب والإهانات التي وُجهت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم طوال مكثه في مكة، ولكن الله سبحانه وتعالى، وقد أراد لأتباع هذا الدين أن يُحكموا عقولهم، وأن يُدبروا أمورهم وفق منطق العقل السليم، ولا أريد أن تكون العاطفة بعيدة عن موازين العقل، ولكن كما يقول إمامنا الشهيد: (ألجموا نزوات العواطف بنظرات العقول)، لابد للمسلم أن يكون صاحب عاطفة ولابد أن يكون عاقلا وحصيفا وأريباً، وما أصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أن قال: [إن في المعاريض مندوحة لكل أريب].. الرسول عليه الصلاة والسلام المؤيد بالوحي من السماء، الذي أرسل الله له رسولا ليطبق الجبال على كفرة مكة فأبى هذا الرسول، وذهب إلى الطائف، فتسلط عليه غلمانها وسفهاؤها، ويقذف بالأحجار حتى يُدمى كعبه الشريف، فيأوى إلى حائط.. فماذا قال عليه الصلاة والسلام: [اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس].. محمد عليه الصلاة والسلام لم يكن ضعيف القوة، ولم يكن قليل الحيلة، ولم يكن هيناً، أشرف الخلق عند الله لم يكن في مركز الهوان..(1/92)
ولكنها سنة الدعوة، والله سبحانه وتعالى لم يرد لهذا الدين أن يسير طوال مدة التاريخ إلى أن تقوم الساعة على المعجزات والأمور الخارقة للعادة، ولكن الله سبحانه وتعالى أراد أن تكون نواميس هذا الدين وقواعده وطرقه وأساليبه متمشية مع المنطق العقلي البشري، الذي يهتدي بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.. لقد أوذي في مكة إيذاء شديداً، وكان يمر على آل ياسر، ومن أروع ما كان يقول: [صبراً آل ياسر، لا أملك لكم من الأمر شيئاً]، إن الرسول في هذه الكلمة عليه الصلاة والسلام يريد أن يقول للناس إنني مجرد من القوة التي أستطيع بها أن أدفع بها عن أصحابي الإساءة لهم، مع أنه لو قال: "يارب نج آل ياسر" لنجوا فوراً، ولكن الرسول عليه الصلاة والسلام يريد منا أن نعمل، وكتاب الله سبحانه وتعالى يريد منا أن نعمل، يقول: {وقل اعملوا} ، ولا شيء غير العمل، والنتائج إلى الله سبحانه وتعالى، أمرنا أن نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر، وجعل الفقهاء لهذا الأمر مقياسا وضوابط، وقالوا: إن كان الأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر يأتي بشر أكثر مما هو واقع فلا داعي لهذا، لأن الدين ينظر إلى المصلحة بدقة، وإلى الواقع بدقة، ولا يريد أن يكلف أحداً فوق طاقته، وحسبناً أن يقول الله سبحانه وتعالى: {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها}، فإذا كان في بلد من البلاد دعاة إسلاميون يدعون إلى الله سبحانه، فكيف يتبادر إلى أذهانهم أنهم يستعملون العنف في الدعوة إلى الله، ويقاومون حكومة وجيشا وشرطة وبوليسا، وهم مجردون من كل هذا؟.. إن الله ينهانا أن نلقي بأنفسنا إلى التهلكة بأنفسنا.(1/93)
ويستطرد الأستاذ التلمساني: إن صحابياً جليلاً هو البراء بن مالك أو البراء بن عازب كان جسوراً جسارة تفوق الحد، وهو الصحابي الذي قال للمسلمين حين اعتصم المرتدون بحديقة بني حنيفة: ضعوني في المنجنيق واقذفوا بي إلى الحديقة، وأفتح لكم الباب من الداخل.. ولكن، وعندما كان عمر أميرا للمؤمنين، قال لقائد الجيش سعد بن أبي وقاص حول هذا الصحابي الجليل: "لا تُوله إمرة سرية من السرايا على المسلمين أن يقدم بهم المهلكة".. إذن ليست الأمور متعلقة بالحماس والاندفاع.
وعندما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة كان يصلي إلى الكعبة، وفوق الكعبة ثلاثمائة وستون صنما.. محمد الذي جاء بالتوحيد كان يصلي إلى الكعبة وفوقها الأصنام لم يمد يده إلى صنم واحد، لأنه لا يستطيع تبعا للسنن الكونية في هذا الدين، فلما واتته القوة ونصره الله وأيده بنصره وبالمؤمنين، دخل مكة وكان يشير على الأصنام واحدا واحدا فتتهاوى إلى الأرض، هل كان يدين بالولاء إلى هذه الأصنام حتى يصلي إليها وهي فوق الكعبة؟ الجواب بالنفي، لكنه كان لا يملك شيئا، فقد كانت تنقصه القوة المادية التي يستطيع بها أن يفعل ما يريد، فلما اشتد الإيذاء وأُذِن له بالهجرة استقر في المدينة ودخل المدينة، فماذا فعل؟ تحالف مع اليهود، فلما نكثوا نكثوا على أنفسهم لم ينكثوا عليه.. تحالف مع اليهود رغم أنه هو الذي بلغنا قرآن الله سبحانه وتعالى الذي يقول: {لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا}، وفعل ذلك لأن منطق العقل يقضي بهذا، كان يعقد المحالفات مع المسلمين ومع غير المسلمين.. إذن أطلب من شباب هذا اليوم أن يجعل لعقله سيطرة على تفكيره قبل أن يندفع.. نحن لا نريد أن نقول له أطفىء حماسك، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: [نصرني الشباب]، شباب كل أمة هم عدتها في حاضرها وفي مستقبلها، ولكن لا نريد منهم أن يكونوا شباباً متهوراً، فالضرر في التهور أكثر من النفع.(1/94)
ثم هذا الشباب لو أنه جاد حقا في الوصول إلى الشريعة، والغد في كل أمة من الأمم لهذا الشباب، فبدلا من أن يُلقي بيده إلى التهلكة، ويصطدم مع القوة العادية التي تفوقه بمراحل، [وياليتها قوة داخلية، ولكنها قوة داخلية وخارجية]، فليحكم العقل، وليهتم بنشر الدعوة، ويصنع كل شاب من نفسه مسلما صحيحا، فلن تمضي عشر سنوات أو أكثر أو أقل حتى يكون هذا الشباب هو الذي يتولى أجهزة الحكم في الوطن الذي يقيم فيه، فإذا كان على رأس جهاز الشرطة مسلم تقي ينفذ أوامر الله، وعلى رأس الجيش تقي مسلم ينفذ أوامر الله، والقضاء والمالية والاقتصاد، والاجتماع، والأخلاق، والتعليم إذا كان على رأس كل جهاز من هذه الأجهزة مسلم فقد انتهى الأمر.. هو الذي سيدير وسيصل إلى ما يبتغي دون أن يخاطر بمن معه من الدعاة.
وأقول للشباب كن واسع الصدر طويل الأناة، لا تندفع، لا تجعل إنسانا يجرك إلى معركة خاسرة يحدد هو مكانها وزمانها.. هذا الكلام يستتبع مني أن أقول إن الاغتيالات تنتج من الآثار أسوأ مما يُنتجه عدم الاغتيال، لأنه إذا اغتيل حاكم له بطانة وله أنصار وله مستفيدون كل هؤلاء لا يجدون أمامهم إلا ضرب الدعوات الإسلامية في البلد التي حدث فيها الاغتيال، وياليتهم يُحكمون حتى القانون الوضعي، فلا يحاكمون إلا من اغتال.. لا.. إنهم يضربون الدعوة في جميع أشخاصها، ومن يدري أن حوادث الاغتيال قد تُدبر أحيانا لضرب الدعوة الإسلامية، وينساق إليها الشباب وهم معصوبو الأعين.(1/95)
ويسكت الأستاذ التلمساني ثم يستطرد: "تعالوا معنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض المواقف الأخرى.. يمسكه أعرابي بثوبه من عند عنقه ويجذبه حتى يؤثر الرداء في عنقه الشريف، ويقول: يا محمد إنكم قوم مطل، ويهم عمر بشبابه أن يستل سيفه فيقتله، فيقول محمد صلى الله عليه وسلم: [لا يا عمر لا يقول الناس أن محمدا يقتل أصحابه مُرْه بحسن الاقتضاء ومرني بحسن الأداء]، محمد عليه الصلاة والسلام يُسمي الأعرابي الذي يفعل فيه ما فعل من أصحابه، [لا يقولون محمدا يقتل أصحابه] ليست هذه من التصرفات التي يجب أن يتبعها شباب الجيل لنصرة هذه الدعوة، كل ما يطلب منهم وهو سهل ميسور أن يقيموا من أنفسهم ومن أصدقائهم ومن أهليهم مسلمين أتقياء.
ولو أن كل مجموعة من الشباب في حي من الأحياء أقامت من نفسها خادمة لهذا الحي، تزور أهله، وتقدم لهم المعونات في الأفراح والأحزان، تسأل عن مريضهم، تعينهم على نوائب الدهر، سيجدون من أهل الحي عطفاً وحباً ومودة، وسوف يستجيب هؤلاء لهذا الشباب بعد ذلك.
حقيقة تنظيم حسن البنا:
عدت أسأل: هل هذا رأيك فقط؟ أم هو كما تعتقد رأي حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان؟
وأجاب:
- هذا الرأي كونته من تعاليم الأستاذ حسن البنا، ومن قيادة الأستاذ حسن الهضيبي رحمة الله عليهما، فهما ما كانا يدعوان إلى صدام أبدا.
ولكن هناك من يقول إن الشيخ حسن البنا أسس التنظيم السري للصدام والانقلاب؟
- هذا مفهوم خاطئ، فقد نشأ هذا التنظيم أول ما نشأ لمقاومة الإنجليز المستعمرين في مصر، واليهود الذين نزلوا في فلسطين، ولو أنك اطلعت على القضايا التي عرضت على المحاكم، والأوراق التي ضبطت، لرأيت أن التخطيط للهجوم والحرب والصدام لا يتفق مع البلد الذي يقيم فيه هذا الشباب، ولكن طبيعة الأرض كانت تملي على هؤلاء الشباب أن يتدربوا تدريبا معيناً على طبيعة الأرض التي سيقاتلون عليها اليهود في فلسطين.(1/96)
هل كان اغتيال الشيخ حسن البنا كنتيجة سلبية للاغتيال السياسي الذي قام به بعض الدعاة؟.. يقال مثلا إن هناك بعض المتحمسين على أيام الشيخ حسن البنا، قام باغتيال النقراشي، فرد أعوان النقراشي باغتيال حسن البنا.
- هذا القول له جانب من الصحة، وحقيقة الأمر - ولعلي أعتذر إلى الشباب - بأني استشهد بغير مسلم.. بكتاب أو برسالة للدكتور [متشن] قال: إن الإخوان المسلمين لم يقتلوا النقراشي، ولكن النقراشي هو الذي قتل نفسه باستجابته إلى مطالب القصر والإنجليز - أعوان النقراشي - الذين كانوا يستفيدون منه قطعا، أرادوا أن يثبتوا أنهم رجال، وأنهم يثأرون، فاغتالوا عن طريق الحكومة التي كانت قائمة في ذلك الوقت الإمام الشيخ، واشترك فاروق في هذا الاغتيال، لأن الأستاذ البنا عندما نُقِل إلى مستشفى القصر العيني كان يمكن إسعافه، ولو أُسعف لنجا، ولكن حياته انتهت، وقدر الله لابد أن يتم، فأمر فاروق الأطباء أن يتركوه ينزف إلى أن مات.
إذن فقد كان اغتياله رداً من أعوان النقراشي؟
- التلمساني: هكذا حصل..
هل بلغت رأيك هذا إلى الشباب المسلم في مصر؟
- لقد ذهبت إلى جميع الكليات في الجامعات المصرية، وتحدثت معهم في هذا بمنتهى الوضوح، وقلت لهم: إن الحكومات تكره الأسر، وتعتبر أن هذه الأسر خطر عليها، وأنا علانية أدعوكم إلى تكوين الأسر ولكن في شكل وصورة واضحة.. خمسة أو ستة من شباب الحي يجتمعون ويتدارسون ما يصلحهم وما يضرهم، وما ينفع الحي الذي يقيمون فيه، وما يؤدي إلى تفضيله على غيره من نظافته وصحته وأحواله.. كنت أدعو إلى هذا، وكنت أصارحهم بأنني ضد الاغتيالات.
وماذا كان جوابهم؟(1/97)
- الكل كان يستمع، والدليل على أنهم كانوا يستمعون أن الأحداث الأخيرة أثبتت دائما أن أحدا من الإخوان المسلمين لم يشترك فيها، وكما سئلت أمام المدعي الاشتراكي هل كل الذين انحرفوا وتطرفوا بالمفاهيم الدينية من الإخوان المسلمين؟ أو كانوا من الإخوان المسلمين؟ إن هذا تجن على الحقيقة، لأن هذا الشباب لو وجد في صفوف الإخوان المسلمين متنفسا لأفكاره لبقي في الإخوان، واستعان بعددهم وكثرتهم، لكنه لم يجد متنفساً لآرائه في صفوف الجماعة، فخرج منها، وكون ما شاء.
إني لا أهاجم الجماعات، ولكني أقول يجب على هذا الشباب أن يحكم عقله.
تجربة السجن:
إذن من قام بهذه العمليات المتطرفة لم يكن من الإخوان المسلمين؟
- لم يكونوا من الإخوان المسلمين، ورئيس جمهورية مصر صرح بعد الاغتيال بأن الإخوان المسلمين بعيدون عن هذا الفعل.
هل كانت هناك محاولة فعلية لاغتيال جمال عبدالناصر في ميدان المنشية؟
- ثبت على لسان بعض الضباط الأحرار، وعلى لسان رئيس جمهورية مصر الأسبق محمد نجيب: أن هذه المؤامرة مدبرة من حاشية جمال عبدالناصر، ليوجدوا له شعبية من صفوف الشعب المصري.
إذن لم يكن السجن الأخير [المحنة الأخيرة] التي عشتموها في السجن.. هل كان فيها تعذيب كسابقتها أيام عبدالناصر مثلا؟
- أنا سجنت سجناً انفراديا وباعدوا بيني وبين العالم كله من يوم أن قبضوا علي، كل الذين قُبض عليهم أيام سبتمبر الماضي كانوا مع بعضهم بعضاً (عداي)، فقد وضعوني في مكان منعزل، ولم يضعوا معي مخلوقا، وقطعوا ما بيني وبين العالم، لا جرائد ولا مجلات ولا إذاعات ولا شيء بالمرة، ربما هناك تعذيب وقع، ولكني لم أر شيئا.
مستقبل مجلة الدعوة:
هل تتوقع أن يفرج مرة أخرى عن مجلة الدعوة؟ وهل تعود إلى نشاطها؟
- لقد صدر حكم لصالح المجلة أمس الخميس 17 يونيو.. صدر حكم برفع الأختام الموضوعة على دار المجلة في ميدان التوفيقية، وفي ميدان السيدة زينب.(1/98)
الحمد لله.. هذا شيء عظيم جدا -شيخ عمر- لأنه بعد إغلاق المجلة حدث لغط كثير لا نعلم أين الصحيح منه، فهناك من يأتي ويقول هذه آراء الشيخ عمر التلمساني، وهناك من ينفي أن تكون هذه آراء الشيخ عمر التلمساني، حتى إن بعض الصحف الإسلامية التي تصدر خارج مصر - بعد إغلاق مجلة الدعوة المصرية - ظهر فيها إعلان كبير يحذر من قبول أي حديث ينسب إلى الشيخ عمر التلمساني في الجرائد المصرية، فهل هذا صحيح؟ وخاصة أن هذا الإعلان نشر بعد مقابلتكم الشهيرة في آخر ساعة؟
- كل كلمة صدرت في الصحف المصرية، أو المجلات المصرية أنا مسؤول عنها، ورصدت كما قلتها، بلا تحريف ولا تجريح، سواء أرضى هذا الناس أو لم يرضهم، ليس هذا في حسباني، أنا إذا تحدثت أنظر إلى الله سبحانه وتعالى وحده، لا أنظر إلى بشر، وأقول ما أعتقد أنه الحق، قد يكون ما أعتقد أنه حق خطأ، ولكن أقول وأنا مؤمن أنه صواب وإذا تبين وجه الخطأ فيه - طبعاً الإنسان يجب أن يعدل عن الخطأ إلى الصواب - وإنه لم يحرف عني كلام ولم يزد علي أو يزيف علي الكلام.
المد الإسلامي لن يتوقف:
شيخ عمر: كانت فترة السبعين إلى الثمانين فترة ذهبية بالنسبة للدعوة الإسلامية في مصر، خاصة في شباب الجامعات، وأنا كنت طالبا في جامعة الإسكندرية في هذه الفترة، وعاصرت هذه الدعوة.. فهل تعتقد أن هذا المد قد توقف الآن بعد اغتيال السادات، والإجراءات الأخيرة التي فرضت على الشعب كرد فعل لهذا الإجراء؟ أم أن هذا المد مازال مستمراً؟(1/99)
- هذا المد لم يتوقف، ولن يتوقف لأنها دعوة الله سبحانه وتعالى، والذين يقومون بها ليسوا طلاب دنيا أبدا، كلهم يطلبون تطبيق شرع الله سبحانه وتعالى في البلاد الإسلامية، ولعل من أكبر انتصارات هذه الدعوة أن الفترة التي ذكرتها، اضطرت الحكم القائم حينذاك أن يرصد في المادة الثانية من الدستور أن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئىسي للتقنين في مصر، هذا النص لم يطبق إلى الآن، ولكنه انتصار للدعوة الإسلامية.. أن يجبر الذين يقاومون الدعوة الإسلامية أن يتستروا خلف الإسلام، معنى هذا أن الإسلام لا يزال الصخرة المنيعة التي يتستر خلفها كل من يريد أن يؤذي دعاة الله سبحانه وتعالى.
التطبيع:
كيف تفسر الأوضاع العربية الحالية؟ وما موقفكم كدعاة مسلمين تمثلون حركة إسلامية شهيرة جداً من قضية التطبيع مع اليهود مثلا؟
لقد كتبت في هذا الموضوع في مجلة الدعو،ة وذكرت حوالي عشرين سببا في وقف التطبيع.. بعنوان (التطبيع شر كله) وكان هذا المقال من بين المقالات التي أثارت العهد الماضي، وأنا أعتقد لو أن جميع المسلمين في البلاد الإسلامية قاطعوا كل ما هو يهودي سيبوء التطبيع بالفشل، وأقول إن المسلم إذا رؤي سائرا مع يهودي، أو مآكلا له، أو مصادقا له يعتبر آثماً عند الله سبحانه وتعالى، إن كانت هذه المؤاكلة أو المصادقة عن إخلاص بالنسبة له.
وبالنسبة لعودة مصر للصف العربي؟
- أيضا كتبت في هذا، واستغله العهد الماضي عندما قبض علي.. قال إن عمر يستعدي البلاد العربية على مصر، ولم أقل هذا، أنا قلت إنني سمعت أن المرحوم الملك خالد رجل طيب، فلو أن ربنا هداه وجمع جميع حكام المسلمين، ودعاهم إلى مؤتمر يعقد في مكة أو في المدينة بين رحاب البيت الحرام أو قبر الرسول عليه الصلاة والسلام، وتشاوروا في هدوء، لعلهم يصلون إلى نتيجة، فاعتبر العهد الماضي أن هذا استعداء للبلاد العربية على مصر!
لماذا.. هل استثنيت مصر من تسيء إليهم؟(1/100)
عدت أسأل: ما هي أخبار الشيخ المحلاوي؟ ألا يزال مقبوضاً عليه؟
وهل هو من الإخوان؟
- لا ليس من الإخوان تنظيماً ، ولكنه رجل فاضل أنا لا أقول فيه شيئاً.
و(السنانيري)؟ لقد التقيت به في الكويت قبل عدة سنوات، هل تعتقد أنه توفي من التعذيب؟ أو قتل قتلاً صريحاً كما قالت بعض المجلات الإسلامية؟
- لو قلت هذا أقوله بغير علم، لأني لم أحضر الحادث، "لا شفته وهو يشنق نفسه ولا شفته وهو يقتل.. فكيف أصدر حكماً؟! أنا أعرف كمال تماماً، وأعرف دينه، وأعرف تقواه وما كان عليه، وأعرف زهده وتجرده، كل هذا أعرفه عن المرحوم كمال السنانيري، إنما كيف أحكم كمسلم على قضية لم أحضر وقائعها، ولم أستمع فيها إلى كل الأطراف، وأعتقد أن الأيام كفيلة بإظهار الحقيقة.
والشيخ مصطفى مشهور؟
- موجود في أوروبا، خرج قبل الأحداث، فلما أعلنت الأحكام العرفية وحدث ما حدث فضل البقاء.
وأحداث أسيوط التي حدثت مع الاغتيال، ألم يقم بها الإخوان؟
لم يقم بها الإخوان، وصدقني إلى الآن لا أعرف تفاصيلها بالضبط، لم أسمع عن أحداثها إلا من الجانب الحكومي، والجانب الحكومي صورها بصورة ناس انحدروا من الجبل في يوم العيد وقتلوا الأبرياء.. هذا تصوير الحكومة، إنما هم ليسوا من الإخوان، وليس لدي علم بتفاصيل هذا الحادث.
صرحت أيام السادات وقلت "أنا ادعو الله ان يطيل حكمك".. نريد أن نعرف كيف حدث هذا التصريح ما هي خلفياته وماذا كنت تقصد فيه لأن هناك من فسره تفسيرات سيئة جداً؟(1/101)
للأسف الشديد أن هذا الاعتراض من بعض الناس مثل من يقول "ولا تقربوا الصلاة" أو كمن يقول "إني كفرت".. الذي حدث أنني دعيت إلى منتدى للفكر الإسلامي عقده السادات ودعيت بإلحاح ورفضت بإلحاح لدرجة عجزت عن مداومة الرد فقلت أحضر حاضر، فحضرت فلما بدأ ينهال علي بالاتهام بالتخريب والتحريض والاستثارة، وعيب يا عمر وما يصحش يا عمر يعني لدرجة وهو بيتكلم قلت له إن الكلام ده عليه رد اللي أنت بتقوله. قال لي لما أخلص رد علي. فلما خلص وقفت أرد عليه وكان من حديثي وأنا بكلمه قلت له في العهد اللي أنت حكمت فيه مصر وجدنا فرصة أن ندعو فيها إلى الله مطمئنين وكنت بذلك أرجو أن يطول عهدك إلى أطول فترة ممكنة ولكن هذا الكلام الذي قلته لو قاله غيرك لي لشكوته إليك أما أنت. محمد أنور السادات رئيس جمهورية مصر فلا أشكوك إلا إلى الله.. وكل من رآه يقول إن "البايب" الذي في فمه ارتعش فال اسحب شكواك فقلت لقد رفعت إلى الله وانتهى.. لا أظن أن الناس لو جمعوا بين هذا وذاك يستطيعون أن يقولوا هذه الدعوة بل على العكس هناك واحد من أنصار عصام العطار أخذ الكلمات من الجريدة وذهب لفرد من الإخوان في المسجد، وقال له كفر عمر التلمساني. قال له: لماذا؟ قال: إنه يقول للسادات إني أتمنى أن يطول حكمك أكبر مدة ممكنة؟ شوف المناسبة، شوف إيه الكلام! شوف إيه اللي قيل وبعدين احكم عليه، إنما كده كفرت على طول كده بالسهولة دي، هو لم يكن يتصور أني أقول له حاجة، لم يكن يتصور أن إنسانا في مصر يقف ويقول له هذا الكلام مواجهة، مش من ورائه.
هذا التصريح في الحقيقة ساهم بشكل أو بآخر في تزايد الخلافات التي حدثت بين التنظيم الدولي للإخوان، وبعض التنظيمات التي انشقت عن الإخوان كالتي ذكرتها قبل قليل؟(1/102)
والله شوف يا أخي أحمد يعني الرسول صلى الله عليه وسلم تحدث من هذا وقال: "الملتمسون للبراء العيب" يحاولون أن ينسبوا إلى أي أخ مسلم أي عيب.. ما حيلتي.. أنتم تشتموني، أنا لن أشتمكم.
وهناك من الدعاة من يقول لي أنك حاولت أن تلاين الحكم الخائن، ورغم ذلك حبسك.
فقلت له أنا لم ألاينهم تجارة ليبعدوا عني، لكن ألاينهم لأن هذه طبيعتي أولا، وأسلوب الدعوة الذي فهمته من حسن البنا وحسن الهضيبي في طريق تبليغ الدعوة، فسواء أكرموني أو أهانوني.. الوضع عندي واحد، هم على العكس عرضوا علي أني أكون عضوا في مجلس الشورى، وعرض علي السادات بإلحاح فرفضت بإلحاح ، وبعثت له أناسا من المقربين، وقلت له: أوعى تنزل اسمي في كشف المعينين في مجلس الشورى، لأني حاعتذر وأن هذا فيه إشكال وموقف سياسي مش ظريف بالنسبة لي وهم يحاولون أن يكرموني فلم أتأثر، فأنا لم أعاملهم بهذا الأسلوب حتى أكتسب ودهم أو عطفهم.. قطعاً لا، أنا في غنى أوله وآخره لرضاء الله سبحانه وتعالى.
انتهى الحديث الشائق والممتع، فشكرت الأستاذ عمر التلمساني وودعته على أمل أن ألقاه في زيارة أخرى بحول الله تعالى لنناقش قضايا أخرى مهمة من جوانب أعمال الدعاة إلى الله تعالى.(1/103)