فصول من السياسة الشرعية
في الدعوة إلى الله
تقديم
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد الأمين الذي أرسله تبارك وتعالى رحمة للعالمين، بشيرا للمؤمنين، ونذيرا للكافرين، وعلى آله وأصحابه، ومن سلك سبيله واهتدى بهديه إلى يوم الدين،
وبعد..
أخي المسلم: هذه فصول في السياسة الشرعية كتبتها بحمد الله في أوقات متفاوتة، ونشرت بعضا منها في الصحف، وبعضها الآخر كتبته أخيرا ولم أنشره، ثم رأيت بعد إلحاح بعض الأخوة أن أجمعه في هذا الكتاب الذي بين يديك، وذلك من أجل المساهمة في ترشيد الشباب المسلم المقبل على ربه ودينه، وقد ناقشت في هذه الفصول أهم القضايا التي تعترض الشباب المسلم في الوقت الحاضر كحكم المجتمع الذي يعيشون فيه هل هو مسلم أم كافر؟ وحكم الحكام الذين يحكمون في بلاد الإسلام الآن، والموقف الواجب منهم، وكيفية الجهاد والدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. كل ذلك مع البيان والاستشهاد من واقع المسلمين اليوم، والتدليل على كل قضية بما في الكتاب والسنة، مما يرشد إليها أو ينص عليها.. هذا وقد ضمنت هذه الفصول أيضا آراء وأقوالاً في السياسة الشرعية في الدعوة إلى الله لبعض علمائنا العاملين من السابقين كالإمام ابن تيمية -رحمه الله- والمعاصرين كإمامنا الجليل الشيخ ابن باز، والشيخ الفاضل سيد سابق، والأستاذ عمر التلمساني وكل ذلك لتستنير السبيل لسالكها ويتضح القصد والهدف، ويستطيع شباب أمة الإسلام إعزاز أمتهم ونصرها.(1/1)
واعلم -أخي المسلم- أن من أعظم الفتن التي تجابه المسلمين في العصر الحاضر فتنة التكفير، وأعني بها القول والاعتقاد الذي يعتقده ويقول به كثير من أبناء الأمة الإسلامية في أن المجتمع المعاصر مجتمع كافر (هكذا بإطلاق الكلمة) والرمي بالكفر لكل من فعل مكفرا دون نظر إلى الشروط والموانع، أعني الشروط التي لابد من توفرها ليكون فاعل المكفِّر كافرا، والموانع إن وجدت انتفى القول بالكفر.
ولقد كان من آثار إلقاء القول بالكفر على عواهنه أن رتب بعض من لا علم عندهم ولا فقه أن ديار الإسلام المعاصرة ديار حرب تستباح فيها الأموال والنساء، ولا تجوز فيها الجمعة ولا الجماعة، ولا حرمة فيها إلا لمن عرف معتقده على الحقيقة، واستبان أمره ظاهرا وباطنا.. وكذلك كان من آثار ذلك أن اعتقد وظن كل من يرى كفر المجتمع أنه وحده أو من يدين بدينه هم أهل الإيمان والإسلام فقط فسمى نفسه "جماعة المسلمين" وإن كان واحدا، وإن كانوا أكثر من ذلك، جعلوا أنفسهم جماعة المسلمين دون غيرهم ولذلك بايعوا أحدهم وأعطوه ما يعطى الإمام العام من الطاعة والنصح، ورأوا أن كل خارج عن بيعة أميرهم خارج عن الإسلام يستباح ماله وعرضه إذا قدر على ذلك.
ولقد كان من آثار هذه العقيدة أيضا أن نفي باب الاضطرار في الشريعة، وجعل الجاهل في التكليف كالعالم، والمتأول كالمعاند، ونفيت المصالح الشرعية جملة وتفصيلا، وجعلت الشريعة الإسلامية بلا حكمة ولا عقل، وعندما سنتعرض -إن شاء الله- لضرب أمثلة من الفقه الجديد الذي خرجت به الطائفة الجديدة التي تتزعم هذه الفتنة سنرى إلى أي حد تنتفي كل الحكم عن الشريعة المطهرة التي جعلها الله رحمة للعالمين.(1/2)
في زيارتي الأخيرة لمصر (كان ذلك في صيف سنة 1979) تلقيت أكثر من ألف سؤال حول موضوع واحد: هل الجاهل معذور أم لا؟ وكنت أقول سبحان الله، وهل الجاهل مكلف؟! والله يقول: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} ويقول تعالى: {وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون إن الله بكل شيء عليم} فكيف يكون الجاهل مكلفا قبل وصول العلم له؟! ولكن من فروع المشكلة (فتنة التكفير) أن كل إنسان على ظهر الأرض الآن مكلف بفروع الشريعة، ومسائل الإيمان وقضايا التوحيد صغيرها وكبيرها سواء أوصلت سمعه أم لم تصل، عرفها أم لم يعرفها، فالحجة قائمة على الجميع بلا استثناء، ولا عذر لأحد قط، وكنت أقول لهؤلاء الذين يردون مثل هذا القول سأعرض على أحدكم عشرات المسائل في التوحيد وأصول الدين أنتم تجهلونها الآن، فهل أنتم كفار بهذا؟!
ولقد كان أيضا من آثار القول بالكفر بإطلاقه القول بحرمة التعامل مع المجتمع، ووجوب العزلة عنه، والبدء في الدعوة إلى الإسلام من جديد كما بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أهل الجاهلية الأولى، بل لقد كان من آثار هذه الفتنة العقائدية ظهور الفتن الدموية التي تستباح فيها دماء كثير من المسلمين الغافلين.
ولهذا رأيت من واجبي تحديد البيان لرفع هذه الغمة -بحول الله ومشيئته- بعد أن كنت قد كتبت فصولا عن ذلك في كتاب الحد الفاصل بين الإيمان والكفر، وكتاب الولاء والبراء -نفع الله بهما من شاء من عباده- وكذلك أصدرنا بحمد الله رسالة (الطريق إلى ترشيد حركة البعث الإسلامي) التي كان لها قبول طيب بحمد الله وتوفيقه.
وهأنذا أجمع هذه الفصول لتكون بين أيدي الأخوة الحريصين على جمع وحدة هذه الأمة، ورفع لوائها، والوصول بها إلى المكانة التي يحبها الله لها وهي العزة والتمكين.. (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون).
وأسأل الله أن يتقبل عملي هذا ويرزقني فيه الإخلاص والتوفيق إنه سميع مجيب.(1/3)
عبد الرحمن عبد الخالق
الكويت: الاثنين 17 من محرم سنة 1404هـ
الموافق 24/10/1983م.
الباب الأول
مبادئ في الدعوة إلى الله
1 - أنواع الجهاد في سبيل الله:
من المسلمات عند دارس الإسلام أن هذا الدين دين زاحف وذلك أنه يجعل التبشير به والدعوة إليه واجبا على كل مسلم حسب استطاعته وذلك أن الإسلام الذي بعث به النبي محمد صلى الله عليه وسلم ليس دينا خاصا بشعب أو مدينة أو حقبة من الزمان بل هو دين عام للناس جميعا. كما قال سبحانه وتعالى: {قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا} وقال تعالى أيضا: {لأنذركم به ومن بلغ} أي ومن بلغته النذارة. ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعش ليبلغ الإسلام للناس جميعا وإنما بلغ من حوله من العرب وأرسل الكتب إلى ملوك الأرض حوله يدعوهم للدخول في دينه.. ولكن أصحابه وأنصاره وأتباعه من بعده قاموا بهذا الأمر امتثالا له ودخولا في قوله تعالى: {قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين}، فأتباع النبي صلى الله عليه وسلم هم وارثو هذه الدعوة، وهم المكلفون بحمل هذه الرسالة إلى العالمين.
وفي صدر الإسلام حيث تفجر نهر الدعوة إلى الله، وخرج المسلمون من هذه الجزيرة مبشرين ومنذرين استطاعوا نشر الإسلام في معظم المعمورة في أقل من نصف قرن من الزمان، ثم فترت همة الأمة وقل الدعاة المبشرون ولكن الأرض لم تخل منهم قط مصداقا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: [لا تزال طائفة من أمتي على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك] وأمر الله الذي عناه النبي صلى الله عليه وسلم هو ما فسره به في حديث آخر حيث قال: [حتى يقاتل آخرهم الدجال].(1/4)
ولقد كان الإسلام منتصرا في دعوته على سائر أديان الأرض ودعواتها طيلة ثلاثة عشر قرنا مضت ونعني بانتصاره ثبات أتباعه على دينهم واكتسابهم المزيد دائما من أهل الملل الأخرى، ولكن هذا الأمر تغير في القرن الرابع عشر الأخير حيث ابتدأت جموع المسلمين تنسلخ عن دينها انسلاخا عمليا أولا، ثم تبع ذلك الانسلاخ العقائدي والفكري، ولهذا أسباب عدة أهمها:
أن السيف والسلطان كان يحمي العقيدة في القرون السالفة ثم تغير هذا الأمر.
والسبب الثاني الهام أن الغزو الخارجي للإسلام والمسلمين كان أكثره غزوا عسكريا وأقله غزوا فكريا عقائديا، ثم تغير هذا فصاحب الغزو العسكري الاستعماري الحديث غزو عقائدي فكري هو أقوى أثرا وأشد فتكاً.
ولقد وجد أصحاب هذا الدين الإسلامي وأتباعه أنفسهم مبهورين بزخرف القول وحلاوة المنطق الذي صبغ الغزو الفكري العقائدي، كما وجدوا أنفسهم مبهورين حائرين أمام الغزو العسكري المنظم القوي الذي ضم آلات من آلات الدمار والحرب ما كان يحلم أهل الإسلام بها، وبالرغم من الكثرة العظيمة الهائلة للمسلمين في العالم ودخول بعض الأفراد والجماعات في الإسلام -كل يوم وإلى يومنا هذا- فإن هذا الدين يفقد مع كل طلعة شمس مواقع جديدة في فكر أهله وعقائدهم وذلك بفعل الدعاية المنظمة القوية لأهل الدعوات الباطلة الأخرى وللإعلام الخبيث الموجه إلى عقول المسلمين وقلوبهم، وليس هذا التراجع والهزيمة النفسية عند المسلمين مرده ضعف العقيدة ذاتها، وإنما مرده إلى قوة الرسالة الإعلامية الموجهة من أعداء المسلمين إلى نفوس المسلمين وقلوبهم، وضعف الرسالة الإعلامية الموجهة لهذا الغزو الفكري والعقائدي الخبيث.(1/5)
وأصدق تشبيه وأقربه لفهم القارىء هذه المقارنة: وهي أن نتصور جيشا مسلحا بأقوى أنواع الأسلحة وأفتكها وقد نظم صفوفه وأعد خططه إعدادا محكماً، ويواجه جيشا مشتتا متضارب الآراء ومعه أسلحة بدائية قديمة، وهكذا نجد الدعاة إلى الإسلام اليوم بوسائلهم القديمة وكلامهم المكرور وأساليبهم المنفرة وباختلافهم وتخاصمهم يواجهون دعايات الإلحاد والإباحية والمذاهب الهدامة بكلامهم المنمق وأساليبهم المتطورة، ووسائلهم الحديثة التي يسرتها علوم العصر، فنجد أن المعركة غير متكافئة ونجد أن النصر في النهاية لذلك الغزو الشرير، وهذا يعني التخلص التدريجي من عقائد الإسلام وأحكامه والتحول التدريجي إلى الكفر والانحلال.
وفي هذه الدراسة سيجد إخواني الذين شرفهم الله سبحانه بنعمة الجهاد والدعوة إلى الله سبحانه وتعالى الأصول والقواعد الضرورية للدعوة الناجحة المثمرة وللإعلام القوي المؤثر، وللطرق السليمة لمجابهة الإعلام الخبيث الموجه.
أنواع الجهاد في سبيل الله:
ماذا تعني هذه الكلمة "الجهاد في سبيل الله"؟!
تطلق هذه الكلمة كثيرا ولكن قليلا من الناس من يعي معناها على الحقيقة بالسعة والشمول الذي وردت به في الكتاب والسنة.
وخلاصة ذلك أن الجهاد مشتق من الجهد والجهد هو الطاقة والوسع، والجهاد هو المبالغة واستفراغ الوسع والطاقة في الحرب أو اللسان أو أي جهد يثمر إعلاء كلمة الله سبحانه وتعالى وإعزاز دينه.(1/6)
وبالمعنى اللغوي السابق يدخل القتال، وهو القمة في بذل الجهد وتدخل الدعوة باللسان ومقارعة الكفار بالقول والحجة كما قال تعالى: {ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيراً، فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهاداً كبيراً} والضمير في (به) يعود على كتاب الله سبحانه وتعالى.. ومعنى هذا أن الدعوة القولية جزء من الجهاد وهذا لا يختص بالكفار وحدهم بل وبالنصح لكل مسلم كما قال صلى الله عليه وسلم: [أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر] ولاشك أن السلطان المشار إليه في الحديث مسلم ولكنه ظالم فدعوته ونصحه بالقول من أفضل الجهاد عند الله سبحانه وتعالى ونستطيع على ضوء هذا التعريف للحهاد أن نقسمه إلى ثلاثة أقسام:
أولا: الإعلام وهو مطلق الإخبار وهذا المعنى الذي تردد كثيرا في القرآن بالتبشير والنذارة، وكذلك بالردود الكثيرة والحجج والبراهين الدامغة لشبهات الكافرين وافتراءاتهم، وهذا كله دعوة قولية.
ثانيا: التربية والتقويم ، وهما جانبان عظيمان من جوانب الجهاد، ويدخل فيهما أساليب كثيرة يشملها القول وغيره وسيأتي تفصيل هذا في حينه إن شاء الله تعالى.
ثالثاً: قتال الكفار وهو قمة الجهاد في سبيل الله والقتال له قواعده وفقهه وقد تنوسيت هذه القواعد وهذا الفقه بابتعاد الأمة عن رفع أعلامه وبعث جيوشه.
2 - النبي المعلم صلى الله عليه وسلم:
من أخص صفات النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان معلماً، وقد امتن الله علينا بهذا فقال جل وعلا: {لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين}.
فعمل النبي وجهاده مع إخوانه المؤمنين كان في تعليمهم الكتاب الحكمة وتزكيتهم وتطهيرهم وقراءة القرآن عليهم. وقد جاء معنى هذه الآية في آيات كثيرة من القرآن. فكيف استخدم النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأسلوب (التعليم) في دعوته؟!(1/7)
أ- كلنا نعرف أن النبي صلى الله عليه وسلم استخدم أولا العلاقات العامة فكان يعرض دعوته (بضاعته) على كل من يقابله ممن يظن أنهم يقبلون بها أولا في سرية الدعوة ثم جميع من يستطيع الوصول اليهم بعد أن أمره ربه بالجهر بالدعوة. وكان لابد من لقاء خاص مع المؤمنين به للتلقي والتعليم والتزكية فكانت دار الأرقم بن أبي الأرقم المدرسة الإسلامية الأولى. كان المسلمون يصلون إلى هذه الدار سراً، وإننا لنعجب من حيطة المسلمين وحذرهم في هذا الوقت كيف تمكنوا من أن يجتمعوا بهذه الدار ويتلقوا العلم من الرسول لعدة سنوات ولا يعلم بهم أحد غيرهم وذلك في دار وسط مكة.. المهم أن طلاب هذه المدرسة كانوا يصلون إليها في غاية الخفاء وقد كانوا أشتاتاً حر وعبد وشريف ووضيع وصغير وكبير ولنا أن نتصور ونتخيل تلك الدروس التي كان يعلمها النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الوقت، ولو كان المسلمون يملكون في ذلك الوقت الوسائل السمعية والبصرية للتعليم لكنا نملك أعظم ثروة في أساليب التعليم والتربية من أعظم معلم عرفته الأرض، ولكن حتى الأخبار الكاملة لهذه المدرسة لم تصلنا، فلم يصلنا الآن إلا أن النبي كان يعلم أصحابه هناك ويقرأ عليهم القرآن. لكن كيف كان يعلم؟ وكيف كان يبدأ درسه وينهيه؟ وكيف كان يناقش طلابه؟ وكيف عولجت مواضيع العقيدة والدعوة التي طرحها الرسول عليهم في تلك الفترة؟ لا نملك شيئاً كثيرا عن هذا..(1/8)
ولكننا نتخيل فقط أن تلك الدروس كانت في منتهى الحياة والنشوة الروحية والنفسية، والسمو والعزة التي تملأ هذه الفئة التي جلست تستشعر أنها تتلقى بواسطة الرسول عن الله سبحانه وتعالى خالق هذا الكون، وأنهم محاطون من قبل هذا الإله الواحد بالعناية والرعاية وأن عليهم أن يقوموا بأمره، وأنه ناصرهم ومؤيدهم ولنا أن نتصور كيف كانوا ينقلون مشاكل الدعوة إلى الرسول وينتظرون جواب الله عليها في لهفة وشوق وكيف كانوا يخرجون بعد كل اجتماع ودرس من هذه المدرسة الفريدة ورؤوسهم تطاول السماء عظمة وعزة، وظهورهم تنوء بالحمل الثقيل الذي حملوه من أمانة الدعوة والتبليغ.
ب- يبدو أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتصر على هذه المدرسة في مكة فقد كان يعلم أصحابه في بيته وفي منازلهم وفي الطرقات وفي رحلاته للدعوة فقد جاء في السيرة أنه كان يسمر كل ليلة (تقريبا) في منزل صديقه أبي بكر الصديق، وهذا ابن مسعود يأخذ السبع الطوال من القرآن من فم النبي صلى الله عليه وسلم، وكان من عادته صلى الله عليه وسلم أن يعلم بعض أصحابه ويده في أيديهم ثم يسمع منهم بعد أن يقرأ عليهم.
ولكن بعد أن تحول النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة كانت فرصة التعليم أكبر بل تحولت حياة النبي كلها تقريبا إلى تعليم، وكان المسجد أفضل مكان معدٍ لهذا ولم يكن أيضا المكان الوحيد.(1/9)
ج- وإذا طالعنا منهج النبي صلى الله عليه وسلم وأسلوبه في التعليم وجدنا أنه أكمل أسلوب عرفته الأرض للآن فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتمد في التعليم على الصحبة، وهذه الصحبة تقتضي المحبة والملازمة وهكذا كان أصحابه معه رضوان الله عليهم أجمعين وعلى قدر هذه الصحبة كانت الإفادة والتلقي، ولم يكن يتكلف في درسه شيئا أصلا لا طريقة للجلوس ولا زياً خاصا بحضور الدرس، ولا ميعادا معينا، فقد كان صلى الله عليه وسلم يحدث أصحابه وهو جالس أحيانا وهو واقف أحيانا وهو مضطجع أخرى كما جاء في الحديث: [ألا أدلكم على أكبر الكبائر؟ قلنا بلى يا رسول الله، قال: الشرك بالله، وعقوق الوالدين. وكان مضطجعا فجلس فقال: ألا وشهادة الزور ألا وشهادة الزور ألا وشهادة الزور..] الحديث، وهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ درسه مضطجعا وهنا تجاوز في قولنا بدأ درسه لأن دروسه لم يكن لها نقطة بدء بالمعنى المعروف الآن.
وكان صلى الله عليه وسلم يستخدم وسيلة الإيضاح المناسبة فكان يستخدم يديه وتعبيرات وجهه (في غير تمثيل أو اصطناع) وكان يرسم ما يريد أحيانا على الأرض كما رسم لهم صراط الله كخط مستقيم وسبل الشيطان بخطوط معوجة، وكما رسم لهم مربعا وقال هذا أجل الانسان ورسم دائرة في وسطه وقال هذا هو ابن آدم ورسم دائرة خارجة من المربع وقال هذا أمله ورسم خطوطاً معترضة بين الدائرة الوسطى (الإنسان) وبين الدائرة الخارجة (الأمل) وقال عن هذه الخطوط هذه الأعراض (أي المشاكل والحوادث التي تعرض للإنسان قبل الأجل). ويريد بهذا صلى الله عليه وسلم أن يصور أن الإنسان يموت قبل أن يصل إلى مراده وأمله فصورها بصورة حسية عجيبة.(1/10)
د- وكان صلى الله عليه وسلم يستعمل المواعظ بحذر شديد ولا يعظ إلا بين فترة وأخرى، وذلك أن الموعظة إذا كثرت تبلد الشعور والإحساس وتشيع الملل واحتقار النفس، وإذا كانت قليلة مناسبة أيقظت الشعور ووجهت إلى العمل (فمتى يعلم هذا معلمونا ومشايخنا الذين لا يحسنون إلا سب الناس وإلقاء المواعظ المكررة)!!؟
وكان يغضب أحيانا في موعظته إذا اقتضى الأمر هذا كما غضب على معاذ لما علم أنه يطيل الصلاة بأصحابه، وغضب على أسامة لما علم أنه قتل رجلا في الحرب بعد أن قال لا إله إلا الله.
هـ - وكان صلى الله عليه وسلم واسع الصدر في التعليم لم يعنف سائلا قط لسؤاله، ولا معترضا قط لاعتراضه فقد كان يسأل ويناقش ويغلظ عليه أحيانا في المسألة وكل هذا وهو حليم واسع الصدر وكان يأتيه الأعرابي الجاهل فيبول في المسجد فيقع الصحابة به فيقول لهم: [لا تزرموه.. دعوه حتى يتم بوله] فتركه ليكمل بوله في المسجد ثم يعلمه أن هذا لا يجوز لأن المسجد مكان وضع لعبادة الله والصلاة. وصلى معه أعرابي مرة فعطس أحد الصحابة فقال له الأعرابي: (يرحمك الله) فنظر الصحابي إليه أن اسكت فصرخ الأعرابي بأعلى صوته قائلا: (وا ثكل أماه ما لكم تنظرون إليَّ هكذا) وبعد أن انتهت الصلاة تبسم له الرسول صلى الله عليه وسلم وناداه وعلمه فقال الأعرابي: (اللهم ارحمني ومحمدا ولا ترحم معنا أحدا) فضحك النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: [لقد حجرت واسعا] أي ضيقت رحمة الله وهي واسعة تسع كل مؤمن، وخرج الأعرابي وهو يقول: بأبي هو وأمي مارأيت معلما قط ارحم منه، فوالله ما ضربني ولا شتمني ولا كهرني ولكن قال لي: إن هذه الصلاة لا يصلح لها شيء من كلام الناس.. الحديث.(1/11)
والمهم أن منهج النبي صلى الله عليه وسلم في التعليم كان أكمل المناهج ولو ذهبنا نتتبع وقائعه وحوادثه لطال بنا المقال، ولكن المهم التنبيه إلى بعض قواعد هذا المنهج النبوي الكريم في التعليم، وذلك أن التعليم هو أعظم أسلوب عُرف حتى الآن لنقل العلم وتهذيب الأخلاق وتزكيتها، وللتعليم قواعد وآداب لابد من مراعاتها، وصفات لابد وأن يتصف بها المعلم وطالب العلم حتى تكون هذه العملية كاملة تؤتي ثمارها، والتعليم في الدعوة غير التبليغ والإعلام.
3 - كيف حدث الانقلاب العقائدي والاجتماعي والسياسي والأخلاقي في صدر الإسلام:
هذا الانقلاب العقائدي الاجتماعي السياسي الأخلاقي والفكري الذي أحدثته دعوة النبي صلى الله عليه وسلم في معاصريه من العرب وغيرهم مخطىء من يظن أنه كان نتيجة لاستعمال السيف والقهر، وإنما كان نتيجة للدعوة والإعلام الناجح والتوفيق العظيم الذي يسَّره الله لخاتم أنبيائه محمد صلى الله عليه وسلم ، وهذا الانقلاب الذي أحدثته دعوة النبي صلى الله عليه وسلم في العرب شيء لا خلاف عليه بين الناس، وهذه الشهادة من دائرة المعارف البريطانية على هذه القضية: "جاء محمد بدعوة جديدة هي دعوة الإسلام، وكان هذا الرسول أوفر الأنبياء والشخصيات الدينية حظا من النجاح، فقد أنجز في عشرين عاما من حياته ما عجزت عن إنجازه قرون من جهود المصلحين من اليهود والنصارى، رغم السلطة الزمنية التي كانت تساند هؤلاء، ورغم أنه كان أمام الرسول تراث أجيال من الوثنية والخرافة والجهل والبغاء والربا والقمار، ومعاقرة الخمور، واضطهاد الضعفاء والحروب الكثيرة بين القبائل العربية، ومئات الشرور الأخرى (مادة قرآن - دائرة المعارف البريطانية)".
ويقول توماس أرنولد أيضا في كتابه الدعوة إلى الإسلام: " دخول الإسلام في المجتمع العربي لم يدل على مجرد القضاء على قليل من عادات بربرية وحشية فحسب، وإنما كان انقلابا كاملا لمثل الحياة التي كانت من قبل ".(1/12)
وليس هناك أوضح من هاتين الشهادتين -وهما من مصدرين غير إسلاميين- على مدى نجاح دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم وتغييرها لمناهج حياة الناس في عهده صلى الله عليه وسلم ، ودراستنا للأساليب والوسائل التي اتبعها النبي صلى الله عليه وسلم ترينا مدى اتباع النبي صلى الله عليه وسلم لأبلغ الأساليب وأحكمها في نجاح مهمته الإعلامية.. ودراستنا أيضا للوسائل التي استخدمها النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته سترينا مدى استفادة النبي صلى الله عليه وسلم من جميع الوسائ الإعلامية التي وجدت في عصره صلى الله عليه وسلم. ولاشك أن دراستنا الواعية لهذه القضايا سنستفيد منها عدة فوائد: -
الأولى: هي التأسي والاتباع، وهذا أمر واجب لقوله تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} وخاصة في هذا الأمر العظيم أمر الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى.
الثانية: أنا واثق أن دراستنا الفاحصة لهذا الجانب المهمل من جوانب سيرة النبي صلى الله عليه وسلم سيرشدنا إلى استخدام وسائل كثيرة استخدمها النبي صلى الله عليه وسلم وأصبحت الآن في حقل الدعوة الإسلامية نسيا منسيا، وكذلك سيرشدنا إلى الاستعمال الصحيح للوسائل والأساليب التي استخدمها النبي ومازالت تتخذ الآن، ولكنها تستخدم استخداما منفِّرا يصد عن سبيل الله سبحانه وتعالى.(1/13)
ولسنا نشك أن نجاح النبي صلى الله عليه وسلم معزو أولا وأخيرا إلى توفيق الله ورحمته، فهو الذي أتم نعمته وفضله عليه، وقوَّم خطواته خطوة خطوة، وأرشده بفضله وتوفيقه إلى اتباع الطرق، وأنزل عليه هذا القرآن الكريم الذي كان له الفضل الأول في انقياد القلوب وانشراحها لهذه الدعوة الإسلامية.. ولذلك فدراستنا لهذه القواعد والأساليب في دعوة النبي لا تعني أننا ندرس اجتهاد النبي الشخصي في نشر دعوته فقط، بل وأيضا القواعد الإسلامية التي اتبعها النبي وأوجبها الله سبحانه وتعالى عليه من فوق سبع سماواته ولا نشك أيضا أن اجتهاد النبي واجب الاتباع مادام أن الله سبحانه وتعالى قد أقره عليه.
والآن، هذا أوان بيان القواعد التي اتبعها النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته والتي كفلت تحطيم دعوة الإسلام لكل دعوات الجاهلية التي سادت في وقته صلى الله عليه وسلم.
أولا: الإسلام عقيدة عُليا:
لما جاء النبي صلى الله عليه وسلم بدعوته لم يقل يوما أن هذه الدعوة دعوة منافسة للدعوات القائمة، أو مشاركة لها في شيء أو على الأقل متعايشة مع غيرها من الدعوات ولقد دُعِي النبي صلى الله عليه وسلم كثيرا إلى لقاء بين دعوته ودعوات الجاهلية فيتنازل عن شيء من دينه ليتنازلوا عن شيء من دعوتهم، فكان رد الله سبحانه وتعالى وأمره له أن يقول:
{قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون، ولا أنتم عابدون ما أعبد ولا أنا عابد ما عبدتم، ولا أنتم عابدون ما أعبد لكم دينكم ولي دين}.
لقد جاء النبي صلى الله عليه وسلم ليقول للناس من أول يوم أن دعوته ورسالته هي الدعوة الوحيدة الواجبة الاتباع في كل شؤون الحياة، وأنه لا تنازل عن صغير أو كبير منها، ولا خلط بتاتا بين الحق الذي جاءت به والباطل المتلبس بكل دعوة غيرها. وجاءته الأوامر الكثيرة الصريحة في هذا الصدد، من هذا قوله تعالى:(1/14)
{وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك} الآيات، وحاول النبي صلى الله عليه وسلم في إبان دعوته أن يستميل أهل الكتاب من اليهود والنصارى إلى دينه فالأصل أنهم مؤمنون بالله وبعض أنبيائه، ومنهم من يؤمن بالبعث، فكان النبي يوافقهم في بدء حياته في المدينة فيما لم ينزل عليه فيه نص بالمخالفة، ولكن الله سبحانه وتعالى نهاه عن ذلك نهيا قاطعا حيث قال سبحانه: {ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى}.
وقال سبحانه وتعالى له أيضا: {قل آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط، وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون، فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا}... الآية.
فأمر بألا نسلم لأهل الكتاب إيمانهم إلا إذا كان إيمانا مطابقا لما جاء في من الله سبحانه وتعالى.
فانظر إلى هذا واعجب اليوم من المؤتمرات التي تُقام بين علماء من المسلمين ورهبان النصارى وقساوستهم لعمل لقاء بين العقيدتين وعقد صلح بين الحق والباطل.
الإسلام من أول يوم جاء ليقول للناس هذا الحق حده وكل ما سواه باطل، وهذا النور وحده وكل ما سواه ظلام، وجاء ليقول للناس: {فماذا بعد الحق إلا الضلال}؟! وهذا المعنى يتكرر في القرآن كثيرا بصورة عجيبة، انظر إلى قوله تعالى:
{يأيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا فالذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه وفضل ويهديهم إليه صراطا مستقيما}.(1/15)
{يا أيها الرسول بلِّغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين. قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم}، فينبغي ألا يكون اليهود والنصارى -وهم أقرب الناس إلى الإسلام- على شيء من الحق مطلقاً إلا إذا أقاموا التوراة والإنجيل.. وإقامتهم التوراة والإنجيل معناه الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم واتباع الإسلام ومصداق هذا قوله تعالى: {يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير - قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور..} الآيات.
وبهذا جاء النبي من أول يوم ليعلن كفر أهل الأرض جميعا -إلا من آمن بدعوته وحمل رسالته- وضلالهم وخلودهم في النار، ولم يخبِّىء النبي صلى الله عليه وسلم هذا الإعلان والإعلام من أول يوم، بل جابه به الناس جميعا: مشركي العرب واليهود والنصارى ومجوس فارس وجميع أمم الأرض.(1/16)
والثمرة الإعلامية التي استفادها النبي صلى الله عليه وسلم من وراء تفجيره لهذه القنبلة: أنه أثار اهتمام الناس جميعا وفتح آذانهم على الرغم منها، وكيف لا يسمع الناس له وهو يصرخ بأعلى صوته: أنتم كفار إن لم تسمعوا دعوتي وتستجيبوا لي.. الله خالقكم وربكم أرسلني إليكم. وأنا منذر للعالم أجمع، وديني هذا سيظهر على جميع الأديان ويحطم جميع العقائد والأوثان، إن هذا الكلام في هذا الوقت يسمع له الوادي والجبل والصخر الأصم فضلا عن الإنس والجن. وهكذا جعل النبي صلى الله عليه وسلم الدنيا جميعا آذانا لدعوته، ولم يضره بالطبع آثار هذه الدعوة وهذه الصراحة، فقد جرّت عليه الاتهام بالجنون، إذ كيف يعقل الناس في زمانه أن هذا النبي ومعه جماعة قليلة مستضعفة تستطيع أن تمشي آمنة في بلاد الروم وفارس وتعلن مخالفتها لعقيدة أولئك الملوك العظام، فضلا عن أن تدك هذه العروش وتقيم على أنقاضها حضارة أخرى للتوحيد.
لقد كانت هذه الدعوة من الغرابة والصراحة والقوة أن حملت الناس حملا على السماع لها.. وهذه هي المهمة الأولى في الرسالة الإعلامية الناجحة أن يسمع الناس لها.
4 - توثيق المصدر ضرورة إعلامية
يتوقف قبول الناس لأي رسالة إعلامية على مدى إيمانهم بصدق القائمين عليها، ونزاهتهم، وبعدهم عن الغرض. ففي اليوم الذي يثق الناس فيه بصاحب دعوة ما ويتأكدون من صدقه ونزاهته يقبلون كلامه ويدخلون في دعوته إذا وافقت اقتناعا ورضى.. وكثيرا ما يقتنع الناس بحق ما ولكنهم إذا شعروا بكذب قائله، أو علموا أن له غاية وهدفا وراء هذه الدعوة فإنهم ينفضُّون عن دعوته، ويصمُّون الآذان لها.(1/17)
ولذلك حرص النبي صلى الله عليه وسلم على توثيق مصدر رسالته الإعلامية منذ بدأها، ففي مراحل دعوته الأولى لم يدع إلا رجالا قد خالطوه وعرفوا صدقه وأمانته ونزاهته، وبعده عن الغرض. وفي أول لقاء إعلامي مع الناس كان أول عمل قام به هو أن وثّق مصدر رسالته، أعني أن أخذ إقرارا من الناس بصدقه وأمانته، فلقد وقف النبي صلى الله عليه وسلم على الصفا، ثم قال: [واصباحاه!! واصباحاه!!] -وهذه تعني عند العرب إنذاراً بالحرب والخطر- فاجتمع الناس حوله من كل شعب من شعاب مكة، وبعد أن تكامل وجودهم لديه ناداهم بأسماء بطونهم: [يابني هاشم، يا بني عبد مناف، يا بني لؤي.. يا بني فلان] ثم قال لهم: [لو قلت لكم أن خيلا خلف هذا الوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي؟!!] فقالوا: ما جربنا عليك كذبا!!.
وهكذا استطاع النبي صلى الله عليه وسلم أن يأخذ إقراراً جماعيا وهو أشبه بالإجماع على صدقه وأمانته وذلك من هذا الجمهور الذي يدعوه إلى الإسلام. وكان هذا الإقرار الجماعي هو الأرض التي وقف عليها النبي صلى الله عليه وسلم ليعلن دعوته إليهم، أو هو الباب الذي دلف النبي من خلاله إلى عقولهم وقلوبهم.(1/18)
إذا كان صدق المصدر شرطاً أساسياً في قبول أي خبر، وفي نشر أي رسالة إعلامية، فإنه لشرط لا غنى عنه مطلقا في الإسلام وللرسول بالذات وذلك أن كل ما يبلغه النبي صلى الله عليه وسلم ليس هناك من دليل مادي لإثباته غير دليل صدق النبي صلى الله عليه وسلم. فقد نتفق أن الإسلام دين يوافق العقل، ويوافق الفطرة، ويقبله كل ذوق سليم، ونفس مستقيمة، ولكن مع ذلك تبقي عقائد الإسلام وأخباره الغيبية عرضة للشك والريب، ما لم يكن المؤمن قد صدّق جازماً بصدق النبي صلى الله عليه وسلم ولذلك لم يكتف النبي صلى الله عليه وسلم بذلك الإقرار الجماعي على صدقه ممن يدعوهم إلى الإسلام، بل لم يترك مناسبة إلا وجدَّد لأتباعه وأعدائه على السواء أنه رسول الله صدقاً، وأنه لم يكن ليكذب على الله، وأن الذين آمنوا به ما آمنوا إلا تصديقا له، وإقرارا بأن ما جاء به هو الحق.
وهكذا كانت أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم كثيرا ما تصدر بـ (والله)، والذي نفسي بيده، وايم الله، ولا يكف عن قوله: لا ومقلب القلوب، أي ومقلب القلوب. يحلف ويقسم بكل هذه الأيمان إشعارا لمن يبلغهم أن ما يقوله حق وصدق.
وتقرأ القرآن فلا تكاد تجاوز صفحة من صفحاته إلا وقابلك قسم من الله على صدق نفسه سبحانه، وصدق رسوله صلى الله عليه وسلم ، وأن ما يأتيهم هو الحق الذي لا شبهة فيه، ولا ريب.
فمن ذلك قوله جل وعلا: { ذلك الكتاب لا ريب فيه}، وقوله: {ومن أصدق من الله حديثا} وقوله: {ومن أصدق من الله قيلا} ، وقوله: { فوربك لنحشرنهم والشياطين}، {فوربك لنسألهم أجمعين} وقوله: {قل إي وربي إنه الحق} ومثل هذه الآيات التي تصدر بالقسم كثيرة جدا.
وذلك للإلحاح على قضية واحدة وهي توثيق المصدر وبيان أن ما جاء به النبي حق وصدق.(1/19)
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أحيانا يخبر الناس بأشياء يستغربونها، ولا يكادون يصدقون بها فها هو البخاري يروي أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: [بينما رجل ممن كان قبلكم يركب بقرة إذ التفتت إليه فقالت: إني لم أخلق لهذا!!! فقال الناس سبحان الله: بقرة تتكلم!! فقال: إني لأؤمن بهذا وأبو بكر وعمر]، يقول هذا مؤكداً قوله وأنه لا يقول إلا حقاً.
ولذلك كان أول واجب على الدعاة إلى الإسلام أن يكونوا صادقين، بعيدين عن الغرض والهوى، ولذلك كان السقوط في هذه القضية سقوطاً كاملاً لدعوتهم. ولعل مما يحسن التدليل به هنا على انهيار الرسالة الإعلامية بالكذب هو تلك السياسية التي اتبعها الإعلام العربي في العقدين الأخيرين من هذا القرن تطبيقا لنظرية (جوبلز) في الإعلام وهي: اكذب ثم اكذب ولابد أن يصدقك الناس. فقد رأينا كيف وصل المواطن العربي إلى عدم الثقة بإعلانات وبلاغات حكوماته العسكرية وتصريحات زعمائه وكيف تحول إلى إذاعات العدو وبلاغاته.
وإذا كان الكذب مستنكرا مع غير المسلمين فإنه أشد نكرانا مع المسلمين ولذلك يعجب المرء منا طويلا وهو يرى أناسا ينتحلون الدعوة إلى الله سبحانه ثم يستحلون الكذب مع خصومهم ومنافسيهم وإخوانهم، زعما منهم أن هذا لمصلحة الدعوة، وليس من مصلحة الدعوة الإسلامية قط أن يتصف أربابها بالكذب.
5 - العلاقات العامة أسلوب من أساليب الدعوة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم(1/20)
عندما كلف الله رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم بدعوة الناس إلى دينه أوحى إليه (بالعلم) الذي يجب عليه نشره وإبلاغه للناس وهذه القضية لا اجتهاد مطلقا للرسول فيها، ولكن الله ترك للنبي صلى الله عليه وسلم حرية اتخاذ الوسيلة المناسبة لنشر هذا العلم وإبلاغه فلم يقل له مثلا ادع فلانا ثم فلانا، واستخدم هذه الوسيلة ولا تستخدم هذه الوسيلة، وإنما وضع له حدودا وضوابط عامة في هذا الصدد كما قال تعالى: {وأنذر عشيرتك الأقربين} فأمره أن يكون بدؤه بالعشيرة قبل عموم الناس. وقال له: {فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين} فنفَّذ الرسول هذا بأن صعد على الصفا وخطب في بطون قريش جميعها فكانت خطبته هذه تأويلا وتنفيذاً لأمر الله له بالصدع بالدعوة.. والشاهد أن الوسيلة التي اتخذها الرسول في مراحل دعوته إلى الله كانت من اجتهاده.
ولقد استخدم الرسول صلى الله عليه وسلم في دعوته جميع الوسائل المعروفة في عصره، فقد استخدم العلاقات العامة، والدروس الخاصة (دار الأرقم والمسجد) والخطبة، والمناداة، والاتصال الفردي والجمعي، والبعوث والسرايا، والرسائل إلى الملوك والأمراء والقصيدة الشعرية، والمشاعر والشعائر، والجدال والمناظرة، واستخدم الإسلام أسلوبا للدعوة جديدا على العرب -وكان أعظم أسلوب على الإطلاق، ومازال- وهو القرآن الكريم، ثم الحديث الشريف.. وسنتكلم بالتفصيل عن كل أسلوب من هذه الأساليب من حيث هو أسلوب للدعوة لا من حيث العلم (الموضوع) الذي يتضمنه هذا الأسلوب أو ذاك.
العلاقات العامة:(1/21)
عرف في الدراسات الحديثة (للإعلام) الآن وسيلة من أهم وسائل الترويج للأفكار وهي العلاقات العامة، ويستخدم هذه الوسيلة الآن المؤسسات الفكرية، والتجارية وأيضا التربوية والرياضية، فأي مؤسسة فكرية ناجحة الآن لابد لها من اتصالات بالوسط الذي يحيط بها، ويتعامل معها، ويشاركها نفس الغاية، وتكون مهمة هذه الاتصالات هو الترويج لبضاعتها الفكرية، وتعريف الناس بها أو التعاون مع المؤسسات المشابهة، أو التعرف على نواحي القصور في المؤسسة.. وهذا النوع من الأساليب الإعلامية ليس اختراعا ولكنه فقط اكتشاف لأسلوب فطري عرفه الإنسان منذ عرف نقل الأفكار منه إلى الآخرين وشعر بالحاجة إلى ذلك.. وكان هذا الأسلوب هو أول الأساليب التي استخدمها النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته. فقد عمد النبي صلوات الله وسلامه عليه إلى نشر رسالة الإسلام أولا في الوسط الذي يحيط به عن طريق العلاقات العامة فدعا أولاً زوجته، وخادمه، وابن عمه، وأصدقاءه، ومعارفه والتقى مع كل غريب ووافد إلى مكة في حج أو تجارة، سواء كانوا أفراداً أو وفوداً وجماعات واتصل بأقاربه وعشيرته جميعا ودعاهم إلى الإسلام اتصل بهم في أماكنهم وبيوتهم، وصنع لهم ولائم متكررة في منزله ودعاهم إلى الطعام ثم عرض عليهم رسالته، وهكذا فعل أيضا كل من آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم تقريبا.. وكان من أنشطهم في ذلك أبوبكر الصديق رضي الله عنه حيث آمن له سعد بن أبي وقاص وعبدالرحمن بن عوف، وعثمان بن عفان، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام وكثير من العبيد والموالي والضعفاء.(1/22)
وعن طريق هذه العلاقات العامة غشي رسول الله الأسواق التي كانت تقيمها العرب للتجارة والشعر وتبادل المعلومات فغشي عكاظ، ومنى وأماكن الحجيج، وسافر إلى الطائف ليعرض الإسلام على كبرائها ورؤسائها، وغشي الأماكن التي يتجمع أهل مكة فيها في الحرم وغيره، وفي المدينة كان يذهب أول الأمر إلى أماكن تجمع اليهود والمشركين من العرب ويعرض عليهم الإسلام، وأحيانا كانوا يردون عليه رداً قبيحاً، كما فعل عبدالله بن أبي بن سلول، وذلك قبل أن يسلم، قبل بدر حيث قال للنبي بعدما دعاه وهو في مجموعة من اليهود والمشركين والمسلمين: "يا هذا اجلس في رحالك فمن أتاك فحدثه ولا تغشنا في مجالسنا بما نكره!!".
فقام عبد الله بن رواحة -وكان مسلماً- وقال: "بل اغشنا يا رسول الله فإنا نحب ذلك". وسب عبدالله بن أبي بن سلول وكادت تنشب المعارك لذلك فهدَّأهم النبي صلى الله عليه وسلم ثم ذهب.
وهكذا استخدم النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأسلوب الفطري القديم من أساليب الدعوة وترويج الأفكار ولكن على خير وجه فلم يترك صغيراً ولا كبيراً حراً ولا عبداً التقى به إلا وأبلغه رسالة ربه، لم يمنعه من ذلك ضعف العبد وفقره، ولا صغر الغلام وضعفه وإنما بذل الإسلام لكل أحد يملك التمييز.. وكذلك لم يخص بدعوته الضعفاء والمساكين -وإن كانوا أسبق الناس إليها- وإنما تصدى أيضا للكبراء والملأ ، فدعاهم إلى الإسلام ورغبهم فيه.(1/23)
والشاهد من كل هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجلس في منزله وعلَّق لافتة في جداره تقول "هذه دار محمد رسول الله" أو {قل يأيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا} وانتظر حتى يقرأ الناس (لافتته) وإنما خرج من منزله داعياً ومبشراً ومنذراً في كل صوب يستطيع أن يصل إليه وعرض الإسلام على كل من قابله من حر وعبد وامرأة ورجل وشريف وضعيف لم يصده عن ذلك عزة الرسالة، وسوء الرد من كثير من الناس كأن يقال له "أما وجد الله غيرك حتى يرسله!!؟" وهذه كلمة لو قيلت اليوم لعالم من علمائنا حمل شهادة واحدة لما خرج إلى الناس بدعوة قط!! والعجب أيضا ممن يزعمون القيام بالدعوة واقتفاء أثر الرسول ويقولون نجلس في أماكننا ومن أراد الهداية فليأت إلينا!! بل وجب على كل من حمَّله الله علما من علوم الدين أن يغشى الناس في أماكنهم وأن يعرض عليهم بضاعته النظيفة الطيبة وأن يدعوهم إلى الخير الذي وفقه الله إليه.
وفي سبيل استخدام هذه الوسيلة (العلاقات العامة) لم يترك الرسول الذهاب إلى أسواق الجاهلية -مع ما فيها من المنكرات والآثام- ولم يترك أيضا بيوت الملأ والكبراء -مع ما فيها من ذلة للداعي واستهزاء به- ولم يترك النبي أيضا دعوة الكفار إلى منزله للطعام والشراب مع ما في هذا مما ينكره بعض المسلمين اليوم. وهذا كله أقوله لأدلل على فساد فهم الدعوة اليوم لدى كثير ممن يدعون إلى الله الذين اتخذوا الدعوة وظيفة وحرفة وشرفا وكهانة ولا يطمعون إلا في الدنيا، ولأبيِّن أيضا السبيل لمن أراد أن يقتفي أثر النبي المصلح الداعي إلى الله سبحانه وتعالى.
6 - أسلوب القرآن في عرض رسالة الإسلام:(1/24)
الأمور التي يدعو الإسلام إليها في غاية العظم، فالإسلام لا يأمر أتباعه بأمور تافهة أو ثانوية من حياتهم، بل إنه يفرض على أتباعه أن تكون حياتهم كلها من أجله، وموتهم في سبيله، وسيرهم في الحياة على نهجه. باختصار إن الإسلام يطلب من اتباعه أن يبيعوا أنفسهم وأموالهم لله، وأن يصبغوا حياتهم كلها بصبغته وأن يكونوا في قيامهم وقعودهم وتقلبهم (أحوالهم المختلفة) ملتزمين بشرائعه وأحكامه وآدابه.
ومن يطلب منك نفسك ومالك لابد وأن يقدم لك عند هذا الطلب عوضاً مكافئاً، وإلا كانت دعوته لك في غير محلها بل إن أي عاقل لا يرضى أن يُطلَب منه شيء من ماله دون عوض نافع له سواء كان عوضا ماديا أو معنويا فالمال لا ينفقه الناس ولا يتخلون عنه عادة إلا في سبيل منافعهم المادية المختلفة أو الشهرة والجاه والذكر، وكلها منافع معنوية، فكيف بمن يأتيك ويقول لك: ابذل مالك كله في هذا السبيل ولا تنفقه إلا حيث آمرك بل ولا تكتسبه إلا من حيث أرشدك، ولا تتصرف في شيء من أمورك إلا وفق هذه الشريعة وهذا المنهج. لاشك أن من يقول لك ذلك ولا يقدم لك مبررا معقولا ولا جزاء مجزيا فإنك ترفض كلامه وتهجر قوله.(1/25)
ولما كانت دعوة الإسلام لا ترضى من أتباعها بجزء من حياتهم، بل تطلب حياتهم كلها وما لهم كله وتصرفاتهم جميعها، وكان صاحب هذه الدعوة هو الله سبحانه وتعالى، وكان القرآن هو كلامه المتضمن دعوته هذه فإن الله قد أحاط دعوته بأسباب الأخذ بها حتى لا يترك لمعترض اعترضاً، ولا لمتكاسل مجالاً، ولا لمراوغ مهرباً، ولا عجب فإن الرب سبحانه هو الحكيم العليم، وكتابه هو الكتاب البلاغي المعجز نظماً ومعنى، ولذلك كان التزام الدعاة إلى الله بأسلوب القرآن في العرض لا أقول ضرورياً ، بل لا إلزام بغيره أصلاً، ولذلك قال الله سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم: {ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيراً، فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهاداً كبيراً} ، فالجهاد للدعوة إنما يكون بالقرآن عرضاً وتلاوة وشرحاً وتفسيراً، ولذلك كان نهج النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة الجمعة أن يفعل ذلك. فيروي مسلم بإسناده عن عمرة بنت عبدالرحمن عن أخت لعمرة قالت: "أخذت {ق - والقرآن المجيد} من في رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة، وهو يقرأ بها على المنبر في كل جمعة".. فهذه صحابية لا تحفظ سورة من القرآن إلا من كثرة ترديد النبي لها على المنبر يوم الجمعة، ومعلوم أن خطبة الجمعة كانت أهم عمل (إعلامي) في زمن النبي صلى الله عليه وسلم -كما سيأتي بعدُ إن شاء الله تعالى- ويروي مسلم أيضا بإسناده عن صفوان بن يعلي عن أبيه أنه سمع النبي يقرأ على المنبر: {ونادوا يا مالك}.
كيف عرض القرآن لدعوة الإسلام:
إذا تصفحت القرآن الكريم لتعلم كيف عرض الله سبحانه وتعالى الدعوة إلى الإسلام وجدت مصداقا لما حدثناك عنه آنفاً.(1/26)
فهذا أول أمر في القرآن قوله تعالى في سورة البقرة: {يأيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون. الذي جعل لكم الأرض فراشاً والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون. وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله..} الآيات.
وفي الآيات نرى أن الله دعا الناس إلى عبادته معلنا أنه ربهم، وأنه خالقهم، ومعنى هذا أن من حقه أن يأمر وأن يطاع سبحانه والدليل على ربوبيته وخلقه أنه خلق لهم الأرض حال كونها فراشاً وجعل لهم السماء بناء ومعنى ذلك أنها حافظة لهم من شرور فوقهم وهذه الشرور لم نعلمها على وجهها الصحيح إلا حديثا بعد معرفة ما يسمى بالأشعة الكونية القاتلة، والصواعق والنيازك المحرقة، وأنه أنزل من السماء ماء ليخرج به من الثمرات رزقاً لكم و.. و..(1/27)
ثم بيَّن سبحانه الغاية من هذه العبادة وهي التقوى والتقوى معناها أن تتقوا عذابه، إذ الواقع والمرتب على التكذيب.. وهذا تهديد وترغيب أيضاً لأن التقوى منزلة في الإيمان والتقرب أيضا ثم قدّم الدليل على صدق هذه الدعوى وهي صدق الرسول الذي جاء بهذا الكلام الذي يتحدى الله به الأولين والآخرين {وإن كنتم في ريب مما نزّلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين}. الآيات.. ثم عقَّب بأن كل محاولة لإثبات كذب الرسول مردها إلى الفشل وأنه لن تأتي الأيام إلا بما يصدَّق دعوته فقال: {فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين} وهذا أبلغ تهديد بالعذاب والنكال لمن لم يقبل هذه الدعوة، ثم بشَّر الطائعين فقال: {وبشِّر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل..} الآيات، وهذه البشرى ليست هناك في الأرض بشرى تعادلها لأنها تتضمن الحياة السرمدية في أهنأ مكان وأسعده وأي عاقل لا يتمنى ذلك!! وهكذا مع تفصيل هذا الكلام وتصوره تصورا صحيحا ووزنه وتقديره يجد العاقل نفسه أنه لا فكاك له من قبول هذه الدعوة والإذعان لها والدخول في طريقها، بل يجزم كل متبع لهذه الدعوة -إذا كان مؤمنا بها بحق- أن المجنون وحده هو الذي يرفض هذه الدعوة، وإذا لم يعترف هذا الرافض بسفهه وغروره وضياع عقله في هذه الدنيا فسيأتي وقت ليفعل ذلك وهذا عندما يعاين حقيقة الأخبار التي أخبر بها الله سبحانه وتعالى كما قال تعالى عن النار وأهلها: { تكاد تميّز من الغيظ كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير، قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذَّبنا وقلنا ما نزَّل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير، وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير}.(1/28)
ولا شك أن العاقل يقدَّر ما يسمع، وخاصة إذا كان موجَّها إليه، لا يجد حيلة ولا ذريعة في ترك الإذعان لهذه الدعوة، فكيف إذا انضاف لهذه الدعوة مئات من الآيات البليغة في هذا الصدد لتعالج هذا الموضوع من كل زاوية من زواياه.
وهذا العرض المعجز المدعَّم بالأدلة المحيطة بجوانب الأمر لا يتوقف على الأمور العامة الشاملة، بل يشمل جميع المواضيع والجزئيات والفرعيات التي يعرض لها القرآن. ولن تستطيع أن تقف على هذا وقوفاً كاملا إلا بالدراسة الواعية والتدبر لكتاب الله عز وجل. فانظر مثلا إلى الآيات النازلة في شأن الطلاق، أو الميراث، أو الجهاد، أو الصدقة والزكاة، لقد عالج القرآن كل موضوع من المواضيع السابقة.. إنه ليتركك في أمر كالطلاق تفكر ألف مرة قبل أن تقدم عليه، وفي أمر كالميراث تخشى أن تضع منه عودا في غير محله، ويجعلك في الجهاد والصدقة -إذا عقلت- تفضل ما أنفقته على ما بقي في يدك، وتفضل أن تموت الآن قبل الغد في سبيل الله.
وإذا قرأ المسلم الدارس كتاب الله وعرف ما فيه على هذا النحو، يعجب من العرض السخيف الذي تُعرَض به رسالة الإسلام اليوم على الناس من كثير ممن يتصدرون للدعوة والإرشاد والتوجيه.
7 – أ- كيف نقدم الإسلام للناس (الإسلام ليس عقيدة منافسة)(1/29)
إن من أكبر عوامل الفشل في الرسالة الإعلامية الإسلامية في العصر الحاضر أننا نبشر بالإسلام على أنه عقيدة ودعوة (أفضل) من غيرها من الدعوات القائمة، وأن الدعوات القائمة الآن لا تحقق الخير للناس كما يحقق الإسلام، وأن الإسلام (أفضل) من الرأسمالية والاشتراكية والشيوعية.. وأن.. وأن ، فهذا العرض السخيف مرفوض ممن لا يؤمن بعقيدة الإسلام، لأنهم يرون في الإسلام قيودا يرونها مناقضة لدعوى أن الإسلام يسعدهم، وهم يرون السعادة في اتباع أهوائهم وشهواتهم، ويرون أن ما يصرح به دعاة الإسلام الذين يعرضون الإسلام على هذا النحو ليس هناك في العصر الحاضر ما يؤيِّده ، ويرون أن استدلال الدعاة إلى الإسلام بسعادة القرون السابقة بحكم الإسلام لا ينسحب على العصر الحاضر، لأن وسائل الناس المادية وأفكارهم وعقائدهم قد تغيّرت وتطورت، ونعيب على هذه الدعوة أيضا ما يرون من أحوال المسلمين، حيث يعيشون في الشقاء والجهل والتأخر. ولاشك أن دعاة الإسلام المعاصرين لهم ردود على هذه الشبهات، كأن يقال مثلاً وإن الإسلام ليس مطبقا تطبيقاً سليماً في الوقت الحاضر، وإن الإسلام صالح لكل زمان ومكان، ولكن مما لا شك فيه أن هذه الدعوى أيضا حولها شبهات جديدة وهكذا يدور دعاة الإسلام في حلقة ودوامة من الردود والشبهات وتكون الغلبة بالطبع لأعداء هذا الدين لأنهم يملكون وسائل أقوى وأساليب أبلغ وبهذا يجهل الدعاة اليوم القاعدة الأولى من قواعد الإعلام الإسلامي الناجح وهو أن يعرض الإسلام على أنه العقيدة العليا بل العقيدة الواحدة المهتدية وأن غيره هو الضلال.(1/30)
يجب أن يُعرَض الإسلام على أنه لا خيار للناس في الأخذ به أو رده إن أرادوا النجاة من عقاب الله سبحانه وتعالى في الدنيا والآخرة، وما السعادة الدنيوية إلا ثمرة من ثمرات الإيمان.. ولاختلاف الناس في مفهوم السعادة، فنحن لا نجعلها فيصلا وغاية في قبولهم للإسلام أو رفضه، بل حتى لو شقوا بعد إيمانهم بعذاب الكفار وفتنتهم لهم، وجهادهم المتواصل في سبيل الله، فلا يجوز بتاتا أن يحملهم هذا على التخلي عن الإسلام لسواه.
باختصار: نحن لا نساوم الناس بالسعادة ليدخلوا في هذا الدين، فمقاييس السعادة غير متفق عليها بين البشر، ولكننا نعرض الإسلام في مقابل الهداية والفوز برضوان الله سبحانه وبأنه الطريق الذي لا خيار لأحد في تركه إذا أراد السلامة والنجاة، ولا يمنع هذا أن يبشرهم بالعزة والنصر والحياة الطيبة التي هي ثمرة من ثمرات الإيمان والعمل الصالح، وهذا الذي يجب علينا أن نسلكه إزاء عرض دعوة الإيمان وبيان أصول الإسلام يجب علينا أن نسلكه أيضا في عرض أحكامه وتشريعاته فمن الجهل المطبق أن تعرض تشريعات الإسلام لما تحقق من خير وما يترتب على رفضها من شر. فالقول بأن الصلاة تعلم النظام والنظافة وتقوي الأبدان، وأن الصوم يصح الجسم والخمر يضر بالمعدة ولحم الخنزير يحمل الأمراض والجراثيم و.. و.. هذا كله عرض سخيف يرد عليه أعداء الإسلام بأن المنافع التي تتحقق ببعض تعاليم الإسلام نستطيع تحقيقها بغيرها والأضرار التي تتحقق من بعض ما حرم الإسلام نستطيع تفاديها بالإقلال من تعاطيها مثلا، أو باستخدام العقاقير الحديثة والعلوم الحديثة في إصلاحها وتطهيرها.. الخ.(1/31)
وبهذا نجد أن طريقة العرض على هذا النحو مردوده وتحتاج إلى أن ندور مع المعارضين في دوامات طويلة من النقاش والردود والاستشهاد بأقوال الأطباء من شرقيين وغربيين، والخبراء الاجتماعيين والنفسيين والعلماء من كل حدب وصوب ويا للأسف لماذا لا نتمسك بكلام رب العالمين؟ باختصار اتخذ الإسلام عند عرضه لمسائل الإيمان موقفاً محدداً، وهو نقاش الكفار حول وحدانية الله سبحانه وتعالى وتفرّده بالخلق والإيجاد ورتب على هذا وجوب أن يكون هو الإله الواحد المعبود وحده المطاع وحده سبحانه وتعالى، ولذلك مكث رسول الله في مكة ما مكث يدعو إلى توحيد الله وعبادته وحده وكان النقاش حول هذا الموضوع وحده وما يلازمه من وجوب طاعته وحده وترك كل طاعة تخالف طاعته.
ولذلك نقول الدعوة إلى التوحيد أولا.. التوحيد بكل معانيه: توحيد الربوبية، والألوهية، وتوحيد أسمائه وصفاته سبحانه وتعالى.(1/32)
وأما الدعوة إلى الاتباع والشريعة والأحكام، فهي دعوة خاصة بالمؤمنين، ويجب على المؤمن أن يتعلم أن يقول عند أمر الله ونهيه: "سمعت وأطعت" ، ولا بأس بأن يتعلم المؤمن أثر العبادة والطاعة في نفسه ومجتمعه وأن يستمتع بثمرة ذلك فإن هذا من الخير المعجل للمؤمن في الدنيا. فاطمئنان قلب المؤمن بذكر الله سبحانه، وانتهاء الجريمة والقضاء على الشر بتطبيق الحدود الإسلامية، وكون الرخاء والخير منوطان بالطاعة، أقول بيان هذه الثمرات وقرن الدعوة الإسلامية لتطبيق شريعة الله بثمرات ذلك أمر لازم ولابد منه ولكن يجب أن نضع هذا في مواضعه وهو أن هذه الثمرات الدنيوية نتيجة للإيمان، وليس بلازم أن تتحقق في كل جيل فقد يجد بعض الجيل ثمرة الإيمان والطاعة من العز والتمكين والأمن في الدنيا، وقد لا يجدونها لوجود أسباب أخرى من غربة الإسلام مثلا وكثرة أعدائه، وتأخُّر النصر عن القائمين بالدعوة إليه. يقول جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه: آمنا برسول الله وصدّقناه، فمنا من مات لم يأخذ من أجره شيئا، منهم مصعب بن عمير قُتِل يوم أحد، فلم تجد ما نكفِّنه به إلا شمله إن غطينا بها رأسه بانت رجلاه، وإن غطينا بها رجليه بان رأسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [غطوا بها رأسه وضعوا على جليه من الإذخر]. وهكذا وُجِدَ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من مات في إبان دعوة الإسلام مجاهدا صابرا فقيرا، لم ينعم بليلة من ليالي الأمن ولا يوم من أيام الرفاهية، وإنما آمن ابتغاء تلك الثمرات العظيمة الأخرى التي تترتب على الإيمان بالله سبحانه وتعالى وهي الفوز برضوان الله وجنته والهداية إلى طريقه المستقيم.(1/33)
باختصار: إن الإسلام يعني الحياة والكفر يعني الموت.. إن الإسلام يعني البصر والسمع والعقل، والكفر يعني العمى والصمم وعدم العقل، كما قال سبحانه وتعالى مخبرا عن الكفار يوم القيامة: {وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير، فاعترفوا بذنبهم...} الآية، فأخبر تعالى أن الكفار لا عقل لهم ولا سمع في رفضهم لهذه الدعوة التي هي دعوة الحق والنور.
يجب أن يُعرَض الإسلام على الناس على أن الحياة بدونه دم وجهل وحمق وجاهلية، وخروج عن طاعة خالق هذا الكون سبحانه وتعالى. وتسخير للإنسان في غير ما خُلق له، فقد خلق ليعبد الله وحده لا شريك له سبحانه وتعالى، كما قال سبحانه: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} ، وبهذه الإحاطة نقدم الإسلام للناس.
7 - ب - كيف نُقرِّب رسالة الإسلام لفهم الناس؟
تعقيد العلوم الإسلامية حال دون الاستفادة منها استفادة كاملة، وأخرج علماء لا يستوعبون الأهداف العالية للإسلام ورسالته في الأرض، بل ويحصرونه في القضايا الجزئية التي لم يحسنوا غيرها، ولذلك اضطر هؤلاء العلماء إلى الحلول السطحية للمشكلات التي تواجهها الأمة، وذلك أنهم أرادوا أن يحكموا بواسطة الجزء الذي تعلموه على الكل الذي يواجهونه، ولذلك كان الإفتاء السياسي والاجتماعي والاقتصادي الذي يصدر عن علماء المسلمين بوجه عام ضيقاً سطحياً ، ولذلك أصبح الفكر الإسلامي -إلا في الحالات الشاذة- فكراً تابعاً ذليلاً للفكر السياسي والاجتماعي، والاقتصادي السائد. وكان من الواجب أن يكون الاجتهاد الإسلامي اجتهاداً رائداً موجِّهاً لسياسة الأمة واقتصادها ونظم الاجتماع فيها.(1/34)
ولذلك وجب على الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى أن يكونوا على مستوى حركة الأمة وواقعها، ولا يفترض بالضرورة أن تكون حركة الأمة موافقة للإسلام تماماً ولا أن يكون واقعهاً واقعاً إسلامياً راشداً، وإلا فما مهمة أهل العلم من المسلمين إن كان الناس سيسيِّرون هذا الدين تلقائيا عفوياً. هذا لا يتأتى إلا في مجتمع الملائكة، وأما في مجتمع البشر فلا.
ولا يمكن أن يكون العلماء على مستوى حركة الأمة وواقعها إلا إذا اتسمت بحوثهم وخطبهم ومحاضراتهم بالحكم على الواقع وترشيده، وكانت تصحيحا لحركة الأمة وسير حركتها في السياسة والاقتصاد والاجتماع والتعليم والتربية والأخلاق، وأما الاكتفاء بهذا الوعظ الأبله، والعيش في أمجاد الماضي ومثالياته -دون نقل هذه المثاليات والنظم والقوانين للعمل والتطبيق في الحاضر- يبدو هذا أمراً تافهاً للغاية.
وإذا كنا بصدد تسهيل مهمة فهم الإسلام وجعله -كما شاء الله- رسالة شعبية وعقيدة وخلقاً ومنهجاً للناس جميعا، فإنه يتحتّم علينا نفي التعقيد اللفظي والكهانة الدينية.. وخير ما يقال في هذا الصدد هو حديث النبي صلى الله عليه وسلم: [وأبغضكم مني وأبعدكم عني مجلساً يوم القيامة المتشدقون والمتفيقهون والمتحذلقون].
فالتشدق هو إدارة الكلام في الأشداق، وملء الفم به تفاصحاً خلق ذميم يعطل الفهم ولا ييسره، وكذلك التفيهق والتحذلق، بل الواجب على دعاة الإسلام وعلمائه أن يكونوا كما أمر الله رسوله: {قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين}.
ولتسهيل هذه المهمة الإعلامية بالإسلام يجب أن تتبع الخطوات الآتية:-
أولا: فهم الأهداف والحكم العالية من رسالة الإسلام في الأرض، ويعني هذا الإجابة عن الأسئلة الآتية:(1/35)
ما الحكمة التي خلقنا الله من أجلها؟ لماذا فرض الله هذا الدين بالذات؟ أعني لماذا أرسل الله الرسل وأنزل الكتب؟ ولماذا يجب على الناس أن يكونوا مسلمين؟ وما ثمرات ذلك؟ وما مضار النكوص عن تحمُّل هذه الأمانة؟.. والأجوبة السطحية على هذه الأسئلة لا تعني شيئا، بل لابد من استقراء الكتاب والسنة بفهم الإجابة الموضوعية عليها.
ثانياً: التصور الإسلامي الواضح للحلول لمشاكلنا الجزئية في السياسة والاقتصاد والاجتماع وشتى شؤون حياتنا، ولا يتأتى هذا التصور بالإجابات العمياء التي تصدر عن فراغ من العلم بالكتاب والسنة، أو فراغ من العلم بواقع الناس، أو رغبة خبيثة في تطويع الإسلام للواقع المنحرف.. بل لابد للإفتاء في هذه القضايا من العلم بالكتاب والسنة، ثم العلم بواقع الناس، ثم النزاهة ومراقبة الله في تطويع الواقع للدين، لا تطويع الدين للواقع.
ثالثا: بث هذا التصور الإسلامي في القضايا الجزئية بأسلوب البناء لا الهدم، أعني بإصلاح فساد المجتمع -ولو جزئياً- بدلا من انتظار انهياره الكامل لإقامة صرح الإسلام من جديد فالذين ينتظرون وصول المسلمين إلى حالة الانهيار الكامل وسقوط السلطات الحاكمة ليؤسِّسوا الخلافة الراشدة غوغائيون لا يفقهون الإسلام ولا يعرفون غاياته.. والمسلم يرحب بالإصلاح الجزئي ويسعى إليه وليس الإصلاح الجزئي هو هدفه النهائي بل هدف المسلم هو الإصلاح الشامل للبشرية كلها إن استطاع وقد دعا الله سبحانه وتعالى الكفار -وهم كفار- إلى كثير من الأوامر والفرعيات، كالتفكر في شأن الرسول وترك تقليد الآباء والأجداد، ورفع الظلم عن المسلمين. وعقد رسول الله الموادعات مع اليهود والنصارى والمشركين ولم يكن هذا هو نهاية مراده وأمله فيهم ومعهم ولا نهاية حركته ودعوته معهم أيضا فقد أتى وقت أنهيت فيه هذه العهود وألغيت فيه هذه المواثيق دون خيانة من الرسول -بالطبع- وابتدأ الرسول معهم صفحة جديدة من الجاد والدعوة.(1/36)
فالحركة الدائبة للدعاة المسلمين في الإصلاح الجزئي لأي ناحية من نواحي حياتنا العديدة، العبادية أو السياسية أو الاجتماعية أو الخلقية هو صلب الدعوة وطريقها. وأما النظريات (الخارجية) في بناء هيكلية دينية تعيش في فراغ اجتماعي ولا تتعامل مع المجتمع الذي سموه (جاهليا) إلا بالانقضاض والحرب فهو فكر مدمر للدعوة والإسلام وإن كنا نفترض الصدق في نيات حامليه ومروِّجيه، إلا أننا نخالفهم الرأي والاجتهاد ونرى أن الإصلاح الجزئي هو خطوة في الطريق للإصلاح الكلي، وقد قلت سابقا إن الإصلاح لا يعني تطويع الإسلام للواقع بل تطويع الواقع للإسلام والإسلام الذي ندعو إليه هو إسلام الكتاب والسنة.
وإسلام الكتاب والسنة أهم صفاته: أنه إسلام رشيد لا يُحابى أحداً ولا يشهد إلا بالحق لأنه من الله والله هو الحكم العدل سبحانه.
8 - أ - موقف المسلم من الحرب الإعلامية المضادة للإسلام:
منذ صدع النبي صلى الله عليه وسلم بدعوته والحرب الإعلامية المضادة له ولدعوته لم يهذأ أُوارها، وكان ومازال من أساليب المعارضين لدعوة النبي محمد صلى الله عليه وسلم إلقاء الشبهات حول هذا الدين، والبحث عن مطاعن فيه ينفذون من خلالها إلى صد الناس عنه، وتزهيد الناس فيه.
ولم تخل عقيدة للإسلام ولا شريعة له من اعتراض معترض وطعن طاعن، وتكاد أن تكون المطاعن والشبهات الجديدة ترديدا -ببغاوياً أحياناً- للشبهات والمطاعن القديمة، فقلوب الكافرين متشابهة في كل عصر ومصر، وشيطان الشبهات واحد.(1/37)
فقديماً اتهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالجنون، وأن القرآن الذي أوحي إليه ما هو إلا أساطير سطرها الأولون، وقالوا أيضا بل تعلمها من غلام رومي بمكة، وقالوا بل افتراها واختلقها من عند نفسه، وقد ساعده في هذا الافتراء قوم آخرون لا ندري عنهم، وقالوا بل هو ساحر يفرق بين المرء وزوجه والمرء وأخيه وأبيه، وقالوا ما أراد بهذا إلا ملكا ورئاسة، وقالوا بل أراد أن يبطل دين الآباء والأجداد، وأن يفرق جماعتنا، ويشيع الفتنة في مجتمعنا، وقالوا بل هو شاعر شأنه شأن زهير والنابغة، فانتظروا موته لتستريحوا كما مات أولئك وأصبحت رواياتهم وشعرهم تاريخا.
وقالوا أيضا في أصحابه الأقاويل، فقد زعموا أنهم من الأوباش والشذاذ وأهل الجرائم السابقة، وما تجمعوا حوله إلا لأغراض في أنفسهم، ويوم يحين الجد يتفرقون عنه ولا يبق حوله أحد. بل قالوا لو كان هذا الدين الذي جاء به محمد خيراً ما سبق هؤلاء إليه، فنحن لمكانتنا وشرفنا أحق بالخير وبالهداية منهم فما هؤلاء في ميزان الله؟..
وقالوا ما الآخرة التي يدعيها الرسول إلا وهم وخرافة ، فيستحيل عقلاً إعادة الحياة إلى عظام بالية قد أرمت، وضلت في الأرض.. وما الزقوم الذي يهددنا به الرسول إلا تمر يثرب بالزبد، ثم إن أشجار الزقوم هذه التي يدعي محمد أنها تنبت في النار دليل على كذبه، فإن النار تحرق الشجر فكيف ينبت فيها؟ ثم ما هؤلاء الملائكة عند الله إلا بناتاً. وإن كان على النار تسعة عشر منهم -كما يدعي محمد- فإننا نستطيع التغلب عليهم ثم نقفل النار فلا يدخلها أحد ممن يهددهم هذا الرسول وأما هذه الجنة فويل لهؤلاء المستضعفين لو فكروا أن يسبقونا إليها، فسندخلها قبلهم ونحرمهم منها.(1/38)
وانطلقوا حول النبي لا يسمعون آية من القرآن إلا استهزؤوا بها، ولا تقع حادثة يرونها في صالح إثمهم وفجورهم إلا عيَّروا الرسول بها، فقد عيَّروه بانتصار الفرس -دولة الأوثان- على الروم -دولة النصرانية والإنجيل- وذلك أنهم شبَّهوا أنفسهم بالوثنيين، وشبَّهوا الروم بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم وإن سمعوا أن أمته ستسود هللوا وصرخوا وصفروا وأخذوا هذا الكلام دليلا جديدا على جنون الرسول عندهم، وعلى أنه يتكلم بالخرافات والأماني لما يشاهدون من ضعفه وضعف أصحابه وهوانهم واستطاعتهم سحق المؤمنين به لو أرادوا!!.
وما كاد يخبرهم بخبر إسرائه إلى بيت المقدس حتى أعماهم الضحك، وأذهب صوابهم التندُّر والسخرية، ثم حملوا أمر إنقاذ المسلمين والمؤمنين بالرسول من هذا التخليط في نظرهم، فقاموا يناشدون المسلمين أن يرجعوا إلى دينهم ودين آبائهم وأن يتركوا هذا النبي الذي يهذي ويكذب، فليس أدلَّ على كذبه عندهم من أن يذهب في ليلة واحدة إلى الشام ثم يعود وهم يمكثون شهرا في الذهاب وشهراً في الروحة. وجاء ناصحهم إلى أبي بكر يزعم أنه يستنقذه من إفك محمد، فقال لهم ياقوم: إني أصدقه فيما هو أبعد من ذلك، إنني أصدقه في خبر السماء!! فتحيَّروا من هذا الكذب الصراح في نظرهم - وهذا الإيمان العميق في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
ولما حرَّم الله الميتة على المسلمين -وكانت العرب تأكلها- جادلوه بالقدر ، وأن الله هو الذي يميتها، فهل ما يذبحه الله في الليل بسكين من ذهب أقل شأنا وقدرا من الذي تذبحونه أنتم معشر المسلمين؟!(1/39)
وفي المدينة تعرض الإسلام والنبي لحملة أشد، فاليهود أهل الخسة والمكر والدهاء والكذب والبهتان يرمون كل يوم بشبهة، ويقذفون كل نهار بأراجيف، وضعاف الإيمان والمنافقون يسمعون لهؤلاء ويشيعون ما يقولون، البعض بقصد، والآخرون بغير قصد، وأحيانا يتعالى همسهم ويرتفع صوتهم، فيجابهون النبي بالتكذيب ويقولون: {وما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا} وهكذا انطلقت شبهات اليهود والمنافقين حول تحويل القبلة والإفك المفترى على الصديقة بنت الصديق رضي الله عنها وعن أبيها وكذلك حول أخبار النبي بنصر الله له وحول الصلاة {وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوا ولعبا} فما كانوا يسمعون المؤذن حتى يتعالى ضحكهم واستهزاؤهم وكل هذا أين؟ في المدينة المنورة وحول مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم!!.
ليس هذا فقط بل ما يخرج الرسول في غزوة حتى يقولون لن يعود منها ويشيعون بأنه قتل وفعل به الأعداء ما فعلوا، فيبكي النساء والأطفال في المدينة وضعفاء المسلمين، ولا يقعد هو مرة حتى يقولوا خاف وقعد وأرسل غيره!! ولا يُخلِّف رجلا كعلي بن أبي طالب حتى يقولوا: خشي على زوج ابنته وابن عمه لأنه سيقابل الروم.. ولن يعودوا.. ويلحق علي بن أبي طالب النبي باكيا، ويناشده أن يرحمه من أقاويل المنافقين، وأن يأخذه معه إلى تبوك وأن يُخلِّف غيره، فيقول له: [أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟! غير أنه لا نبي بعدي].(1/40)
هذه وتلك بعض من الحروب الإعلامية التي جابهها النبي صلى الله عليه وسلم في حياته، بل إنها نزر يسير منها فكيف بالحرب بعده منذ أبي بكر للآن؟! هذه الحرب المضادة للمسلمين والإسلام لم يهدأ أوارها ولم تطفأ نارها ولن تزال إلى يوم القيامة واليوم حول كل عقيدة عشرات الشبهات وحول كل شريعة آلاف الاعتراضات. فالصوم تعطيل للإنتاج، والزكاة نظام بالٍ لا يصلح لمتطلبات العصر ، ولذلك فالضرائب خير منه، والحج لا معنى له. بل هو إهدار للجهد والوقت، وقطع يد السارق وحشية، وقتل القاتل ليس عدلا بل هو انتقام والانتقام ينافي العدل.. زعموا إباحة الطلاق مشايعة للظلم، وتعدد الزوجات بدائية وهمجية والرق ينافي الإنسانية، بل يقولون الشريعة لا تصلح جملة لعصر الطائرة والصاروخ.. وصل الناس إلى القمر ومازلتم تصلُّون وتأمرون النساء بالحجاب؟!! ويتغامز بالمسلمين كل أفاك ويقولون: انظروا إلى لحاهم القذرة وثيابهم القصيرة وصلاتهم بالليل.. ثم يقولون: أتظنون أنكم بهذا سترجعون فلسطين؟! وستحررون الأقصى؟!.
(ب) موقف المسلم من الحرب الإعلامية المضادة للإسلام
لأن الشبهات والاعتراضات حول الإسلام بالغة عنان السماء، مسموعة ومقروءة كل يوم، ولأن هذه الشبهات والاعتراضات تشكل عند بعض الناس عقبة حقيقية تمنعهم من الإذعان للإسلام والإيمان به، والدخول في سلك المؤمنين، كان لابد من رد علمي شامل لأصول هذه الشبهات.
ولأن كثيرا من مثيري هذه الشبهات والاعتراضات لا يريدون بها إلا إشغالا للمسلمين وإنهاكا لقواهم وإهدارا لإمكانياتهم ورفعتهم، كان الواجب أن يقابل هؤلاء بما أمر الله سبحانه وتعالى، حيث يقول: {وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما} فأحيانا لا يكون في الوقت فسحة للرد على سخافات السخفاء واعتراضات العُمي البلهاء، وإلقاء حجر في فم كل كلب نابح، وصدق القائل:
لو كل كلب عوى ألقمته حجرا ... ... لأصبح الصخر مثقالاً بدينار(1/41)
أعني أن إشغال الأوقات بالردود على كل جاهل مضيعة للوقت، وهذان المسلكان أو قل الموقفان ضروريان لكل داع: -
(1) الرد العلمي الذي يعتمد الدليل والبرهان على شبهات المضللين، واعتراضات المعترضين.
(2) والصفح الجميل والإعراض بالحسنى عن جهالات الجهلاء وسفاهة السفهاء، وكلا الموقفين ثابتان بالكتاب والسنة.(1/42)
فدليل الموقف الأول هو هذا الحشد الهائل من آيات القرآن التي نزلت جميعها ردا على شبهات واعتراضات المشركين واليهود والنصارى، فلم يترك الله سبحانه وتعالى شبهة لهم إلا وكشف زيفها وبطلانها ولا اعتراضا إلا ودمغ القائلين به بالحق الذي لا يبقي معه إلا الإذعان أو الجحود والكفران. من هذا على سبيل المثال اتهام النبي بافتراء القرآن، قال تعالى: {فأتوا بعشر سور مثله مفتريات}، وقال: {ولو تقوَّل علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين} أي: كيف يسمح الله لمن يكذب عليه ولا يعاقبه بل يتركه يكذب ويفتري عليه؟! وقال أيضا: {وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذن لارتاب المبطلون} أي ما كنت قارئا ولا كاتبا حتى تنقل مثل هذه الأخبار عن الأمم السابقة، وقال: {قل لو شاء اله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون} أي: كيف أمكث فيكم أربعين سنة من عمري لا أنطق بكلمة من هذا ثم ابدأ في الكذب المطلق والافتراء على الله وقول هذه الآيات التي لم يكن عندي علم بشيء منها قط، وقال أيضا: {ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان} وقال: {وما كنت بجانب الطور إذ نادينا} –أي موسى– حتى تعلم ما دار هناك من حديث وقال: {وما كنت ثاويا في أهل مدين تتلو عليهم آياتنا} وقال: {وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون}، وذلك عن إخوة يوسف، وقال: {وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم}، وقال: {تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين}.. وهذا بعد أن ذكر الله سبحانه ما فعل بقوم نوح.(1/43)
وهكذا.. نجد أن الله لم يترك مناسبة إلا ورد فيها على هذا الاعتراض الذي يتوجه إلى صلب رسالة الرسول والتشكيك في أمانته وصدقه، وتحدى المجادلين والمكذبين له أن يأتوا بدليل واحد يثبت دعواهم في كذب الرسل، ولذلك لم يعد أمامهم إلا الإذعان أو الكفر والنكران، ولذلك قال تعالى عن المكذبين: { فإنهم لا يكذبونك ، ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون}.
وفي الاعتراض على البعث ناقشهم الله سبحانه وتعالى، وأتاهم بالدليل تلو الدليل لإثبات البعث والنشور، فقال لهم سبحانه وتعالى ما معناه: "إن البعث الذي تكذبون به لا يختلف عن النشأة الأولى التي تنسبونها إلى الله، وأن الذي تقرون له بخلق السموات والأرض -وهي أكبر من خلقكم- قادر على إعادتكم للحياة مرة ثانية بعد أن تموتوا، وأن إحياء الأرض بعد موتها لا يختلف عن خلق الحياة في الأجساد الميتة، ثم إن الرب سبحانه وتعالى قد أعاد إلى الحياة أناسا وبهائم وطيورا بأعيانها، كقتيل بني إسرائيل، وعزيز وحماره، وطيور إبراهيم، وموتى عيسى ابن مريم، وكل هذا ثابت لكم بالخبر الصادق الذي جاء على لسان محمد صلى الله عليه وسلم وفي الكتاب الذي تحداكم الله سبحانه وتعالى به.
وهكذا في كل الشئون العقائدية والإيمانية جادل القرآن أرباب الشبهات ودمغ باطلهم كما قال تعالى: {بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون}.(1/44)
وفي الأوقات التي يضعف فيها المسلمون يتعالى استهزاء الكفار بالإسلام وأهله، ويؤدبنا الله في مثل هذه الأوقات بآداب الإسلام من الصفح الجميل، والتذرع بالصبر، والإعراض عن الجاهلين، والفزع إلى الصلاة، والاستئناس في هذه الفرية بحب الله ومرضاته، وحسن التضرع إليه، كما قال تعالى: {وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق وإن الساعة لآتية فاصفح الصفح الجميل}، وكون الساعة آتية يعني أن كل مستهزىء سيبلغ جزاءه. وقال أيضا: {واصبر على ما يقولون واهجرهم هجراً جميلا}، وقال: {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين}، وكل من لم يعرف ربه وخالقه وخالق هذا الكون، وفيم خلق وإلى أين يسير فهو جاهل، وما أكثر هؤلاء الجهلة في عصرنا الحاضر وإن كانوا أمام الناس يحملون شهادات سموها (دكتوراه) وهم من أجهل الناس وأكفرهم وذلك بجحودهم لخالقهم سبحانه وتعالى: وهل هناك أظلم قلباً، وأعمى فؤاداً ممن لم يعرف خالقه وربه، وهل هناك أشد غباوة وإثما ممن لم يقدم شيئا لآخرته ينجو به من عذاب الله وسخطه؟!.
والشاهد: أن مقابلة هؤلاء الجاهلين بالصبر والصفح أحيانا، وبدمغ باطلهم أحيانا أخرى هو المنهج الرباني الذي يجب أن يلتزمه الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى، ولكل حدث حديث.
9 - عقبتان في سبيل الرسالة الإعلامية الإسلامية:
لنجاح أية رسالة إعلامية لابد من اتصافها بالسهولة واليسر فهماً وتطبيقاً، أعني أن المادة الإعلامية المراد نشرها إن لم تكن مادة ميسرة يفهمها عموم الناس على اختلاف ثقافاتهم وذكائهم وقدراتهم العقلية بقيت محصورة أو فاشلة..والرسالة الإسلامية (كمادة) يراد نشرها وإقناع الناس بها هي في ذاتها ميسرة سهلة فهماً وتطبيقاً.(1/45)
ولكن هذه ( المادة الإسلامية) أو لنسمها العلوم الإسلامية قد تعقدت تعقيدا سيئا للغاية وشوهت تشويها بليغا وبهذا التعقيد والتشويه تعثر الإعلام الإسلامي الذي يبغي نشر الإسلام وتعميم نوره في مشارق الأرض ومغاربها وهذه أهم أسباب هذا التعقيد والتشويه وبعض المظاهر من ذلك:-
1 - مادة الإسلام الأساسية (الكتاب والسنة) في غاية اليسر والسهولة فهما وحفظا وإدراكا، كما قال تعالى: {ولقد يسَّرنا القرآن للذكر فهل من مدّكر} وحديث النبي قد صيغ بلغة سهلة بليغة يستطيع الفرد العادي أن يفهمه بقليل من الشرح، وهذه المادة فهمها العرب في صدر الإسلام على اختلاف درجات ذكائهم، بل فهمها الأحرار والعبيد والنساء والصبية.. وإذا قارنا بين النبي والفيلسوف علمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأت بفلسفة عقلية يصعب على الفرد العادي تصورها وهضمها كما هو الشأن في كل الفلاسفة الذين لا يفقه كلامهم إلا الخاصة من الناس.(1/46)
ولكن الكتاب والسنة قد تناول علومهما المختلفة (العقائد)، والتشريع العملي، والأخلاق والسلوك) علماء اتخذوا الدين صناعة وحرفة لا هداية وخلقا، وكان هذا يقتضي أن يجعلوا هذه العلوم (كهانة) لا يعلمها غيرهم وبذلك تحوَّل كل فرع من هذه الفروع إلى كهانة حقيقية. فعلم العقائد والذي سمي بعلم الكلام أصبح مسائل فلسفية عقلية لا يستطيع أن يجاري العامة من الناس أهل هذا العلم في قليل ولا كثير بل يصاب المثقف العادي الذي لم يدرس هذا العلم بالدوار (وجع الرأس) لو حاول أن يقرأ منه صفحة كاملة، والفقه عُقِّدت قضاياه وطرق استنباطه تعقيدا، بحيث أصبحت مجرد قراءة الفاتحة قراءة سليمة في الصلاة تحتاج معها إلى أن تعرف وتحفظ ثماني عشرة قاعدة قد تفني شهرا من عمرك ولا تستطيع أن تستحضرها، ويسمونها في الفقه شروط قراءة الفاتحة في الصلاة!! وأنا أشهد أننا أمضينا عاماً كاملاً في الجامعة نتعلم فيه آداب قضاء الحاجة والفرق بين النجاسة والطهارة!! فمتى يتفرغ المتخرجون -وهم يحملون شهادات علمية دينية عالية- لدراسة نظام الإسلام الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والحضاري؟ أنا واثق أن هؤلاء يجهلون جهلا كاملاً كيف يمكن للإسلام أن يقيم نظامه الحضاري في العصر الراهن؟!.
وأما علوم الأخلاق والسلوك، فقد يظن البعض أن دعاة الإسلام والعلماء الحاليين، إلا من قد فهموه ودعوا إليه -والحق أن المؤلفات الإسلامية في هذا الصدد أيضا- هي في غاية التعقيد، بل والتخريف.. فللأسف إن التصوف الذي جعل واجبه الأول هو السمو الأخلاقي والنفسي قد أتى علماؤه والكاتبون فيه بنظريات مدمرة للأخلاق والقيم بل والحضارة بأسرها وقد ناقشنا هذا في كتاب الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة وسنزيد هذه القضية إيضاحا في جولة جديدة إن شاء الله تعالى.(1/47)
وبهذا أصبحت العلوم الإسلامية مجموعة من المعميات والأحاجي التي لا يستطيع الفرد العادي أن يلم إلا بنُتَفٍ يسيرة منها، ولذلك جهل كثير من المسلمين المعنى الشمولي للرسالة الإسلامية الخالدة، وبقي فهمهم محصورا في القضايا الجزئية التي مجَّتها الأسماع لكثرة تردادها في المناسبات والأعياد، والتي لا يُحسِن معظم الدعاة إلى الإسلام غيرها.
2 - وأما المشكلة الثانية التي تقف عقبة دون فهم الإسلام ونشر رسالته في العالمين ،فهي هذه النظرة الجزئية للإسلام من المتأصلين باسمه والمحسوبين عليه، فهؤلاء العلماء الذين يأخذون رواتبهم من مال الأمة لتفرغهم لنشر الإسلام وتعليم أهله، ينطلقون في دعوتهم من منطلقات ضيقة جدا هي المعرفة المحدودة التي درسوها -على الرغم منهم- في الجامعات حتى نالوا هذه الشهادات -العالية، والعالمية، والدكتوراه.. الخ هذه الألقاب والنعوت.. وهذه المنطلقات الضيقة لا تسعفهم على الإجابة عن أسئلة الناس واستفساراتهم في شؤون الحياة، فالإسلام ليس عبادة فقط، والعالم الذي يصعد المنبر يُسأَلُ من الناس في الصلاة والاقتصاد بشتى مشاكله والأخلاق والنظم والقوانين والسياسة، ويخشى إن قال في بعض هذه الأمور لا أدري أن يتَّهم بالجهل وقلة المعرفة، ويدفعه غروره واعتلاؤه المنبر فوق الناس، وحفاظه على وظيفته وهيبته أن يفتي في كل شيء، ويشمِّر عن ساعده في كل قضية، ومن هنا يأتي بالمضحكات وبالتفسيرات السطحية الضيقة التي تُنسَبْ بالطبع للإسلام وبذلك يضطر المثقف العادي أن يحكم على الإسلام بالتخلف والبعد عن المنطق والواقع، والصحيح أن التخلف والبعد عن المنطق هو في فتوى هؤلاء العلماء وخطبهم لا في الإسلام.(1/48)
وقد يزيد الأمر تعقيدا أو الطين بلَّة –كما يقولون- أن يتطوع الشيخ من نفسه لكسب (الشعبية والجماهيرية) أن يفتي ويخطب في هذه الأمور دون دراية وعلم، وبذلك يأتي بالدواهي العظيمة، وينظر الناس إلى الإسلام نظرة السخرية والامتعاض، والذي يُعقِّد هذه المشكلة أكثر من هذا أيضا أن كثيرا من هؤلاء العلماء والمشايخ لا يقدِّمون حلولهم لمشاكلنا، وآراءهم في السياسة والاقتصاد والاجتماع والأخلاق والدعوة على أنها فهمهم الذي توصلوا إليه لكلام الله وكلام رسوله بل على أنها حكم الله وحكم رسوله، وأن مخالفهم كافر ومارق وماجن.. الخ هذه النعوت التي يسمعها المصلون في كل جمعة تقريبا.. ولو تواضع هؤلاء العلماء وقالوا إنها غاية ما توصلوا إليه من اجتهاد وبحث، ووقفوا من العلم والمعرفة حيث هم فعلا، ولم يفتوا في قضية إلا بعد التحقيق فيها لكان للدعوة الإسلامية اليوم شأن آخر.
هاتان عقبتان أساسيتان تقفان في سبيل نشر الإسلام أو في سبيل الرسالة الإعلامية الإسلامية وما لم نعمل جميعا على إزالتهما فليس هناك أمل في نجاح رسالة الإسلام العالمية.
10 - الحرب الإعلامية
علمنا أن الإعلام في الإسلام جزء من الجهاد والدعوة، والإعلام يعني التعريف بالإسلام ونشر مبادئه وتعاليمه في العالمين، وتبشير المطيعين لهذه التعاليم بالجنة، وإنذار العاصين لها بالنار.. ومحاربة الأفكار والمبادئ المناوئة للإسلام.
ونحن نعيش اليوم في عصر أقل ما يوصف به أنه عصر الحروب الإعلامية والصراع البارد لنشر الأفكار والمبادئ، ولقد كان هذا من ثمرات الحرب العالمية الثانية واكتشاف الأسلحة الرهيبة الجديدة.(1/49)
لقد عرف العالم منذ وُجِد الإنسان صراع الخير والشر، والحق والباطل، هذا الصراع الذي كان نتيجة لاختلاف البشر وتباين عقائدهم واختلاف مصالحهم، وحب كل منهم -إلا من رحم الله- للعلو في الأرض وتحصيل أكبر قدر من الخير لنفسه ولو على حساب الآخرين، ورغبة كل منهم في إبعاد الشر عن نفسه ولو على رؤوس الآخرين.
ولقد أرسل الله سبحانه وتعالى رسله إلى أهل الأرض مبشرين ومنذرين ومعلمين للناس طريق ربهم -تبارك وتعالى- ليعبدوا الله وحده لا شريك له، وليقيموا العدل فيما بينهم، وقام الصراع بين حق الرسل واتباعهم وباطل المكذِّبين ومن على شاكلتهم وسيظل هكذا إلى قيام الساعة كما قال تعالى: {ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم}.
ولقد حارب البشر بعضهم بعضا أيضا لاستلاب أموالهم، واحتلال أراضيهم واستعبادهم، ولقد وجد أمثال هؤلاء أنفسهم في مأزق خطير بعد اختراع آلات الدمار الحديثة، ولذلك فكّر هؤلاء الشياطين في حروب أخرى يصلون من خلالها إلى مآربهم في استلاب خيرات الآخرين وعلوهم عليه، وكانت هذه الحرب الجديدة هي الحرب الإعلامية.. وهذه الحرب تزداد أهميتها يوماً بعد يوم للأمور الآتية:
أولا: إنها أصبحت بديلا لا مفر منه للحروب التقليدية القديمة فلقد كانت الحروب الساخنة هي الملجأ الذي يلجأ الأقوياء إليه لفرض أفكارهم وعقائدهم أو سلطانهم أو احتلال أراضي الآخرين وسلب الخيرات التي بين أيديهم، ولقد تصارع الأقوياء في الأرض فيما بينهم تسابقا على الفريسة وتسلطا على الآخرين، واليوم وجد الأقوياء من الدول الغاشمة أنفسهم على شفا الهلاك إن استخدموا ما بأيديهم من السلاح الذري وغيره ضد بعضهم بعضا في سبيل الاستعمار والسيطرة، ونشر المبادئ والأفكار والأنظمة.(1/50)
ثانياً: لقد برز الرأي العام (رأي الشعب) كقوة سياسية لها أثر في تغيير أنظمة الحكم وتبديل الرئاسات بعد انتشار مبادئ الحريات السياسية والشخصية، وبروز الأحزاب والجمعيات، وغياب العقائد القديمة في أحقية الحاكم بالحكم استنادا إلى التخصيص الإلهي.
ثالثا: لقد توسعت معاني الحرية الشخصية والسياسية في حياتنا الراهنة وتبع ذلك كثرة المذاهب والأفكار والعقائد، ووجد كل مذهب وعقيدة وفكرة نفسه مرغما على إجادة فن الإعلان والدعاية والإعلام ليجد لنفسه مكانا تحت الشمس في هذا العالم، وبذلك أصبحت الحرب الإعلامية من الأفكار والمبادئ قائمة على قدم وساق، ولذلك ازدهرت سوق الإعلام والدعاية.
رابعاً: إن توق الناس ولهفتهم إلى جديد من الاختراعات المادية عوَّدهم التبرُّمَ بالقديم والثورة عليه وهيأ نفوسهم إلى الاحتفال بالجديد دائما وفي غمرة هذه الانقلابات الخلقية تجددت المفاهيم والقيم والعقائد تجُّددَ النماذج الحديثة للمخترعات والسيارات والملابس، وبذلك بات الناس يجددون عقائدهم وأفكارهم تماما كما يغيرون نماذج سياراتهم، وزخرفة بيوتهم، وأزياءهم. والحرب بين أنصار القديم والجديد من الأفكار والعقائد والقيم حرب إعلامية.
خامساً: الوسائل الضخمة للإعلام التي يسَّرتها المخترعات الحديثة جعلت للدعاية والإعلام شيئا آخر، فلقد أصبح العالم الآن كقرية صغيرة أمام الموجات التي تنقل ليس الصوت فقط، بل الصوت والصورة، وبذلك تخطت الحروب الإعلامية الحدود السياسية لتدخل إلى عقر دار المخالفين، بل إلى مخادع الزوجات، وهكذا خلقت الآلات الحديثة (الراديو، التليفزيون، والصحافة) عالما جديدا هو عالم الصراع الفكري والإعلامي.
والإسلام -كعقيدة ونظام يتصل بحياة الناس صغيرها وكبيرها- يجد اليوم نفسه في صراع رهيب مع هذه الأنظمة والعقائد والأفكار الكثيرة الكثيرة، التي تملأ الأرض شرقا وغربا.(1/51)
ومن سوء حظ المسلمين في هذا العصر الرهيب أن أعداءهم قد سبقوا إلى امتلاك هذه الوسائل الرهيبة من وسائل الإعلام، وأجادوا فنونه إجادة خيالية تفوق الوصف، وبذلك يجد دعاة الإسلام أنفسهم اليوم في حرب إعلامية غير متكافئة، حرب قد امتلك فيها الباطل وسائل عظيمة لنشر أفكاره ومحو أفكار الآخرين وعقائدهم، ولم يبق في المسلمين إلا وسائل بدائية لا تقوى حتى على إبقاء ما لدى المسلمين من عقائد وإيمان، هذا فضلا عن أن معظم الدعاة -إن لم يكن كلهم- يجهلون الأساليب الحديثة للإعلام الناجح، فلا هم يملكون الوسيلة الإعلامية القوية المؤثرة، ولا هم يعلمون الأسلوب المثالي للإعلام الناجح، ونحن في هذه الدراسة نريد أن نبيِّن الأساليب الواجب اتباعها للدعاة إلى الله سبحانه وتعالى علهم يستطيعون مجابهة هذا الإعلام الخبيث الذي يريد استئصال دينهم وعقيدتهم.
11 - التعبئة الإعلامية(1/52)
لم يخصص النبي صلى الله عليه وسلم أناسا للوعظ والإرشاد، وآخرين للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفئة ثالثة للدعوة والتعليم، وإنما جعل من كل مسلم داعية، ومعلماً، وآمراً بالمعروف وناهيا عن المنكر، وحمَّل أمانة تبليغ العلم لكل من حمل علما، وبهذا عبَّأ المسلمين جميعا إعلاميا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [نضَّر الله امرءا سمع مقالتي فوعاها فأدَّاها كما سمعها، فرُبَّ مبلَّغ أوعى من سامع] وقال: [بلِّغوا عني ولو آية] وقال: [من رأى منكم منكراً فليغيِّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان] وجاء القرآن الكريم كتاب الله ليعلن للمسلمين أنهم جميعا أمة مرسلة إلى الناس، وأن شأنهم هو الدعوة حيث قال تعالى: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون} وقوله تعالى: {منكم} هنا ليس معناه التبعيض بل معناه ابتداء الغاية كما هو معلوم في القواعد، أي لتكونوا أمة يدعون إلى الخير كما أقول لك ليكن منك رجل صالح أعني لتكن أنت رجلا صالحا وجاء أيضا قوله تعالى: {كنتم خير أمة أُخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر، وتؤمنون بالله} أي هذه صفتكم: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله، ومعلوم أن الموصوف بصفة لا يكون موصوفا بها إلا إذا كانت ملازمة له فإذا انفكَّت عنه لم يوصف بهذا الوصف، ومعنى هذا أن الأمة الإسلامية لا تكون خير أمة إلا بتحقق هذه الأوصاف الثلاثة الآنفة.
وكذلك جاء قوله تعالى: {وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا} والشهادة على الناس من لوازمها العلم بما عند الناس، وإقامة الحجة عليهم، ولا تقوم الحجة إلا بالعلم والدعوة والجهاد والصبر.(1/53)
وهكذا عبَّأ القرآن المؤمنين جميعاً للجهاد والدعوة، وحمّل كل مسلم أمانة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحكم على الذي لا ينكر المنكر بوسيلة من وسائل الإنكار الثلاث: اليد واللسان والقلب ، أنه ليس على شيء من الدين، بل جرَّده من أقل الإيمان المنجِّي من عذاب الله وهو مقدار حبة الخردل، وبهذا جعل الله سبحانه وتعالى من كل فرد آمن مع الرسول داعية، ولم يحتج النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن يجعل فئة خاصة تتولى هذا الأمر.
وهذه التعبئة الإعلامية جعلت من كل فرد حارساً للشريعة وقائماً بأمر الله سبحانه وتعالى.
ولقيام الحق بهذه المهمة جُعِلَت "الحصانةُ" لكل من قال كلمة الحق سواء من اعترض بها على الحاكم أو من قذف بها في وجه شريف، فكل مبلِّغ عن الله ورسوله آمن مادام في دائرة الحق، ومادام أنه يملك الدليل.. وبهذا استقامت أمور الرعية في صدر الإسلام، وفي كل زمان كفل فيه الحاكم حق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله، ولم تفسد الأمور إلا بعد أن كُمِّمت الأفواه ومُنعت كلمة الحق من أن تصل إلى الظالمين، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكتف بأن يحمل أمانة الدعوة للمسلمين في اليسر، وإنما حمَّلهم هذه الأمانة في الشدة والعسر، فقال صلى الله عليه وسلم: [إن من أعظم الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر]، وبشر الذين يستشهدون في سبيل هذا النوع العظيم من الجهاد بأعظم شهادة فقال صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم: [سيد الشهداء حمزة، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله] وحذر من ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقال: [لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليسلطن عليكم ذلا فلا يرفعه عنكم حتى تعودوا إلى دينكم]، فجعل الذل نتيجة لترك جهاد الكلمة وجعل العودة إلى جهاد الكلمة هو العودة إلى الدين.(1/54)
فهل يقدِّر دعاة الإسلام اليوم جهاد الكلمة؟! وهل يعلم المسلمون أن الدعوة واجبة على كل فرد فيهم؟ وهل يعلم الذين يكتمون العلم ويشترون به الدنيا أن الله قال فيهم: {إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم}؟.
12 - لون من ألوان تحطيم الباطل
لم يكتف النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته ببيان الحق الذي يعتقده، والذي أمره الله سبحانه وتعالى بإبلاغه للناس، بل قام بهدم جميع الباطل من حوله عقيدة وفكرا ورجالا وقوميات ودولا، وواجه هذا كله جميعا، معلنا بصراحة ووضوح أن طريقه هو الطريق الوحيد الذي يجب على البشر جميعا اتباعه، ولا يجوز لهم بتاتا اختيار غيره، وإن كل هذه الطرق والسبل -غير طريقه- طرق وسبل باطلة، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه، وإنه لا تعايش مع هذا الباطل إلا بأن تكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى.
ولم يرض صلى الله عليه وسلم من أتباعه أن يعلنوا اعتناقهم لدينه وتصديقهم له دون كفرهم بكل دين سواه، وتكذيبهم كل ما يخالفه.. وأعلن القرآن لهم هذا صراحة وبلا مواربة، قال تعالى: {فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى}.
والطاغوت كل ما جاوز حده من معبود ومتبوع غير الله سبحانه وتعالى ورسوله، فلا عبادة إلا لله، ولا طاعة مطلقة إلا لله ورسوله، وكل ما سوى ذلك فلا قدسية له إلا بالمقدار الذي يقدسه الله ورسوله، وكل ما وضعه الله ورسوله فهو وضيع إلى يوم القيامة مهما عظَّمه الناس ورفعوه.(1/55)
وقام النبي صلى الله عليه وسلم مسفهاً عقائد قومه مستهزئا بآلهتهم، واصفاً عقولهم بكل نقيصة، وعيونهم وأسماعهم بالعمى والصمم، وحوَّل جهده إلى اليهود الذين زعموا احتكار الهداية واختصاصها بهم، فنشر فضائحهم وأخرج مخازيهم التي تعاهدوا دهورا على كتمها والتستر عليها حتى من أولادهم وجهلتهم، وجاءه النصارى يجادلون بالباطل فأفحمهم ببيان ضلالهم، وجهلهم في معبودهم ورسولهم وأحكام ملتهم، وهكذا لم يترك النبي صلى الله عليه وسلم مخالفا له إلا فاجأه بضلاله وتناقضه وجهله وعماه.
ترى القرآن يستهزىء من آلهة المشركين ويتهكم، فتراه يقول: {أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ألكم الذكر وله الأنثى تلك إذا قسمة ضيزى}.
فكأنه يقول لهم: يا معشر الأغبياء!! هل نظرتم إلى اللات والعزى (اللات صنم لرجل صالح كان يلت السويق للحاج، فلما مات نصبوه على قبره ودعوه من دون الله، والعزى بيت بالطائف كانوا يزعمون أن الجن تكلمهم منه)؟ وهل نظرتم أيضا وتفكرتم في شأن مناة هذه الثالثة الأخرى التي دعوتموها (ومناة حجر كان بساحل البحر قرب جدة وهو للأوس والخزرج خاصة)؟ ثم يسكت فلا يجيب عنها، وكأنه يقول ماذا في هذه الأحجار حتى تُدعى وتُسأل من دون الله؟! ثم يقول لهم هل يرزقكم الله بالذكور من ذريتكم ويختص نفسه بالإناث؟ (وقد زعموا أن الملائكة إناث وهن بنات الله! تعالى الله عن قولهم).
ثم يقول لهم: هذه قسمة جائرة أن تعطوا البنات لله، -وأنتم تكرهون البنات- وتختصوا أنفسكم بالبنين!! وكأنهم هم الذين يوزعون ويقسمون.. ومثل هذا الأسلوب البليغ -وكانت العرب تقدر الأساليب البليغة، وُتميِّز بين جيد الكلام ورديئه- يحطم عقائد الضلال تحطيماً.
ويأتي النبي إلى الأشخاص فيشوِّه سمعتهم بالحق لا بالباطل، ويصفهم بما هم فيه: {ولا تطع كل حلاف مهين، هماز مشاء بنميم، مناع للخير معتد أثيم، عتل بعد ذلك زنيم}.(1/56)
ومثل هذا الكلام غاية في بيان الفساد والجهل، وفي أن يُبقي من وُصِمَ به معيبا أبد الدهر، وإذا كان سيدا في قومه فلا قيام له ولا بقاء لسيادته بعد انطلاق هذه الكلمات من فم النبي الطاهر الذي لا ينطق عن الهوى، والذي جرَّب أعداؤه قبل أصدقائه معه الصدق، وأنه لا يُلقي الكلام على عواهنه.
ويأتي النبي صلى الله عليه وسلم إلى سيد مكة -رجل يكنيه قومه بأبي الحكم- فيبدل النبي كنيته التي تشعر بالحكمة والقيادة إلى أحط الكنى فيسميه "أبا جهل" وتصبح هذه الكنية الجديدة علماً عليه فلا يعرف إلا بها وبهذا ينهدم ركن من أركان الفساد والباطل ينهدم معنويا وينتظر المسلمون بعد ذلك أن يهلكه الله كما أهلك أسلافه من قبل.
ويأتي عم النبي أبو لهب فيعلن في جمع مكة الذي جمعه النبي لسماع أول إعلان بدعوته - يعلن العداوة، ويبدأ الرسول بالشر، ويقول له: "تبا لك سائر اليوم!! ألهذا جمعتنا؟!" فينزل القرآن بالهزء والسخرية به وبزوجته: {تبت يدا أبي لهب وتب ما أغنى عنه ماله وما كسب سيصلى نارا ذات لهب وامرأته حمالة الحطب في جيدها حبل من مسد}.
ويقرأ المسلمون في صلاتهم بالليل هذه الكلمات تثبيتاً لعقيدتهم، واستهزاء بأعدائهم، ويقف المشركون مشدوهين أمام هذا الأسلوب البليغ المعجز، الذي جاء يزلزل الأرض تحت أقدامهم، فلا عقائدهم هي العقائد المهتدية ولا رجالهم هم القدوة، ولا عقولهم وأحلامهم كما كانوا يعهدون: علماً وحجى وفهماً وأحلاما تزن الجبال، كما كانوا يظنون، بل كل ذلك داسه النبي بأقدامه وزلزل أركانه وبنيانه.. والعجب أن كل ذلك يحدث والنبي في قلة قليلة من المؤمنين!!.
13 - الإعلام الخبيث وموقف الإسلام منه
نعني بالإعلام الخبيث انتحال الكذب، وتلفيق الأقاويل، ونشر الإشاعة، وذلك لهدم العدو، وصرف الناس عن دعوته، وتخذيل أتباعه، وهذا النوع من أساليب الإعلام هو من أشدها فتكاً ، وأعظمها تدميرا وهدماً.(1/57)
وبالرغم من أن الإسلام منذ بدأ قابل أناسا استخدموا معه هذا الأسلوب الخسيس من أساليب الإعلام إلا أن طلله لم يبح لنا أن نعاملهم بالمثل، فنفتري الكذب كما يفعلونه، ونلفق الأقاويل كما يصفون، بل نعالج هذا ببيان زيف أقوالهم، وكذب ادعاءاتهم.. ولقد وقع الإعلام العربي في هذا الربع الأخير من هذا القرن في أحاييل هذا النوع الخبيث من الإعلام فقد انطلق الإعلام بوسائله المختلفة: الصحافة، والإذاعة، والتلفزيون إلى تضخيم قوة العرب، وإظهارها بغير حجمها، واستصغار قوة العدو وتحقيرها، وبيان تفكك مجتمع الأعداء، واختلاف قادته، وانهيار اقتصاده حتى ليكاد الفرد أن يشعر أن العدو زائل بنفخة واحدة، بل وبدون هذه النفخة.. إلخ، هذه المزاعم التي هدهدت الفرد العربي وأعاقته عن التفكير الجدي، ثم صحا من نومه على غير ذلك تماما، وبذلك انهار إيمانه بصدق الرسالة الإعلامية العربية، وابتدأ يثق بكلام عدوه.. والشاهد أن الإعلام الكاذب قد يظهر لمروجيه أنه نافع لهم بعض الوقت، ولكن مآله عليهم بالخسران المبين، وما كان الله ليحل لنا هذا الأسلوب من أساليب الحرب مع أعدائنا.
ولذلك وجدنا النبي صلى الله عليه وسلم لم يتبع مع أعدائه إلا الصدق المحض.
ولا يدخل في هذا الباب بالطبع بيان العيوب الحقيقية عند العدو، بل لا تقوم الرسالة الإعلامية الإسلامية مع العدو أصلا إلا على هذا الأسلوب، فبيان عوار الشرك والمشركين، وفضح اعوجاجهم، ونشر فضائحهم الحقيقية وظلمهم وغشمهم، وبيان فساد أخلاقهم وأعمالهم هو أهم أركان الرسالة الإعلامية الإسلامية.
ولذلك تنزل القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم ببيان فضائح اليهود والنصارى والمشركين والمنافقين، وأحيانا يُسمي أشخاصا بأعيانهم ويصفهم بما هم فيه من شرك وضلال وانحراف.(1/58)
والدعوة إلى الإسلام لا تعني فقط الدعوة المجردة إلى فضائل الإسلام ومحاسن عقيدته وشريعته، وبيان فساد ما يخالف هذه العقيدة من عقائد وتصورات وشرائع، بل يشمل أيضا الدفاع عن حملة هذا الدين وتصحيح مواقفهم، وتبرير أعمالهم بالحق لا بالباطل، وفضح مخازي أعدائهم وظلمهم وغشمهم.
فالإسلام لا يقوم من فراغ، ولكنه يقوم برجال يدافعون عنه ويؤمنون به، ويجاهدون في سبيله، وهؤلاء الرجال بشر لهم خطوهم وصوابهم، وضعفهم وقوتهم، وكذلك فأعداء الإسلام ليسوا أعداء وهميين خرافيين، ولكنهم بشر وقوى حقيقية تعيش على هذه الأرض، وتحارب الإسلام بأعمال وأساليب متطورة وغير منظورة.
والحرب الإعلامية مع هؤلاء الأعداء لا يجوز بتاتا أن تتخذ حملات الكذب والافتراء والتشويه، بل يجب أن تتخذ الصدق والأمانة المطلقة في النقل والحكاية، فتحميل العدو ما لم يقل، واتهامه بما ليس فيه، وإلقاء الكلام فيه على عواهنه، واستحلال الكذب عليه لأنه عدو ولأنه كافر.. كل هذا مناقض للإسلام الذي بُعث به محمد صلى الله عليه وسلم.
وللأسف! لقد وقعت طوائف كثيرة في هذا ممن ينتحلون الدعوة إلى الله سبحانه فكأن الله قد أباح لهم أعراض أعدائهم فرموهم بكل ما استطاعوا أن يرموهم به من العمالة للأجنبي والكفر والردة والمجون والخلاعة، وقد يكونون في كل ذلك متحاملين جاهلين.(1/59)
وليت الأمر اقتصر في هذا النوع من أنواع الإعلام الخبيث على رمي بعض المسلمين لأعدائهم بالكفر في غير محله، وبالعمالة للأجنبي بغير دليل، بل تعدى هذا إلى رمي بعضهم بعضاً بمثل هذه الأوصاف وأبشع منها فلا يكاد يحدث بين بعضهم بعضاً خلاف أو تنافس حتى تبدأ حرب الاتهامات والتشويه، وانتحال الكذب والافتراء، والرمي بالعمالة للأجنبي، والاستخدام (للسلطات) والقبض من الحكومات، ثم يتعدى هذا إلى التشكيك في النوايا والحكم على ذوات الصدور، ومكنونات الأفئدة.. وكثيراً ما يكون الدافع إلى كل هذا الكذب والافتراء ليس هو الخلاف والتنافس بل هو البدايات للدعوة والجهاد، وكأن الدعوة إلى الله لا تبدأ إلا من تشويه العاملين في صفوفها وانتحال الكذب والباطل على من سبق فيها.(1/60)
وبالطبع لا يدخل في "الإعلام الخبيث" النقد الموضوعي، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فالتقويم والنصح هو واجب كل مسلم نحو الإمام العام ونحو عامة المسلمين كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [الدين النصيحة (ثلاثاً) قلنا لمن؟ قال: لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم] فإظهار الخطأ الواقع والعيب المتعمد أمر ضروري حتى تتجنب الأمة أخطاءها ولا تقع في تقديس رجالها تقديساً يمنع عامة الناس أن يعرفوا خطأ المخطئ وإذا ضاع خطأ المخطئ فقد ضاع أيضا صواب المصيب، وذلك أنه إذا انتشرت أخطاء من نعظمهم ونحترمهم، وتُركَت دون بيان وتحذير، فإننا نصل حتماً إلى فوضى عامة يختلط فيها الصواب بالخطأ، بل ويصبح الخطأ أعظم رواجاً وأرجى قبولا، وذلك أن هذا الخطأ يحتمي بالأشخاص العظام الذين نحبهم ونحترمهم، ولذلك فإنه لا يجوز بتاتاً أن نسكت عن باطل مادام أن هذا الباطل يجد من يحمله ويروِّجه، استناداً إلى أن عظيماً قال به، وهذا الذي نقوله هو أعظم حق ضيَّعه من يعيشون على الدعوة إلى الله، لا من يعيشون للدعوة في سبيل الله، وللأسف! استعاض هؤلاء عن بيان الحق وإظهار النصح والتحذير من الأخطاء بالكذب المتعمد والتشويه الظالم واستخدام أسلوب [الإعلام الخبيث] الذي بيناه آنفاه وحذَّرنا منه.
وباختصار، فإنه لا يجوز بتاتاً للمسلمين في رسالتهم الإعلامية أن يتعمدوا الكذب على أعدائهم، وأن يلصقوا بهم تهمة باطلة، أو أن يصفوهم بوصف ليس فيهم، وإذا كان هذا مع العدو الكافر محرَّما ، فهو مع المسلم أشد حرمة وفتكاً [ولعن المؤمن كقتله].(1/61)
وأما إظهار العيوب الحقيقية، وبيان الظلم الواقع، فهو أمر مطلوب ومرغوب، سواء اتصف بهذا الظلم والعيب عدو كافر أو أخ مسلم، والاختلاف إنما يكون فقط في أسلوب بيان هذه العيوب، وباب الأساليب باب واسع لأنه يختلف من حالة إلى حالة ومن فرد إلى فرد، ولكل مقام مقال، والمهم أن أصل هذا المشروع، بل هو من قواعد الدعوة إلى الله وآدابها، وهذا ما امتازت به الدعوة السلفية عبر القرون وذلك أنها دعوة تتمسك بالحق ولا يطغى حب الفرد واحترامه وتقديسه فيها على بيان عيبه وخطئه إذا كان ثمة عيب وخطأ، كما قال عمر بن الخطاب وهو سيد من سادات السلف الصالح رضي الله عنه: "وإذا أسأت فقوِّموني" والتقويم يعني النصح وبيان الخطأ، ولذلك ناقشه الصحابة في أمور كثيرة، وردُّوا عليه في قضايا كثيرة، وليس بلازم أن يكون الحق مع الناصح، بل يلزمه أن يعتقد أو يغلب على ظنه على الأقل أن ما ينصح به حق.
وأما الكذب والافتراء والتشويه واتهام النيات التي لا يطَّلع عليها إلا الله، فهو أسلوب الماكرين والجاهلين والمفسدين، والله لا يصلح عمل المفسدين.
لا كلال ولا ملل
تُشبَّه الرسالة الإعلامية الموجَّهة للمؤمنين بالنهر في جريانه ونفعه، فطالما أن النهر يظل يجري طالما انتشر الري والنماء فيما حوله، فإذا توقف النهر عن الجريان توقفت الحياة حوله، وهكذا الرسالة الإعلامية للإسلام، طالما قام الداعون لها والمؤمنون بها بدعوتهم الدائمة المستمرة، طالما انتشر الدين والإسلام والفضيلة، وفي اليوم الذي تنقطع فيه الدعوة إلى هذا الدين سينقطع هذا الدين، ولا يقال في الأرض الله.. الله، ومعنى هذا أن الداعين إلى الإسلام لا يجوز بتاتاً أن يظنوا أنه سيأتي يوم يلقون فيه عصا التسيار ويركنون إلى الدنيا، ويظنون أن الناس يسيرون وفق ما سلف تبليغه ونشره.(1/62)
وتشبه الرسالة الإعلامية المضادة التي يجب أن يقابل بها الداعون للإسلام المحاربين له - تشبه هذه الرسالة الحرب الحقيقية، بل هي حرب حقيقية تتصارع فيها الأفكار والعقائد، وميدانها هو العقول والقلوب، وبالتالي الأخلاق والأنظمة، ونظم الاجتماع والسياسة والاقتصاد والتعليم والتربية.. هذه الميادين الإنسانية هي ميادين الحرب الإعلامية، بين الإسلام والكفر، وبين الحق والباطل، ولن يزال هذا الصراع إلى قيام الساعة، ليس بين الإسلام والكفر، بل وبين كل رأي ورأي، وفكر وفكر، ونظام ونظام.. فالعلوم الإنسانية مازالت ولا تزال ميداناً للصراع حتى قيام الساعة، وذلك بعكس العلوم الطبيعية التجريبية التي لا يختلف الناس كثيرا حول الحق والباطل فيها، لخضوعها للحس والبرهان التجريبي.
وفي اليوم الذي ينهي فيه أهل رسالة ما حربهم الإعلامية للنظريات والأفكار المضادة - في هذا اليوم يقضون على أنفسهم وعلى رسالتهم، وبالتالي على وجودهم وحضارتهم تماما، كما لو كان هناك جيشان متقاتلان تخلى جيش منهما عن سلاحه، وسلم نفسه وأرضه للجيش الآخر.
والمسلمون اليوم في مثل هذه الحالة، تماما، فقد ألقوا سلاحهم الإعلامي في وجه الأسلحة المضادة، وهجروا الأساس الذي قامت عليه حضارتهم الآنفة، واقتنعوا واستسلموا لغزو العدو الفكري والعقائدي، وسلَّموا مواقعهم الفكرية والعقائدية موقعاً موقعاً ، بل قام من أبناء هذه الحضارة الإسلامية من ينتحل فكر العدو ويدافع عنه، ويكون جنديا مخلصا في صفوف أعداء هذه الأمة.(1/63)
المهم من هاتين المقدمتين أن نعلم: أنه لا يجوز بتاتا في سبيل نشر الإسلام بين أبنائه أن نظن أن هذه العملية التعليمية الإعلامية يجب أن تهدأ، وأن يصيب أهلها الكلال أو الملل، وليس معنى هذا هو التكرار البليد الغبي لخطب الجمعة والاحتفالات بالمناسبات الدينية، وتكرار دروس مدارس التربية الإسلامية الممل الشائه، وإنما معناه الإبداع المستمر والحركة المتواصلة والتقليب الدائم، والعرض الجديد لمبادئ الإسلام الخالدة.. (ولهذا تفصيل في مقام آخر إن شاء الله تعالى). وكذلك لا يجوز بتاتا أن يظن حملة الرسالة الإعلامية الإسلامية المنافحة عن هذا الدين -والتي تعرض لهذا التهجم الشرس من أعدائه- أنه سيأتي يوم تهدأ فيه هذه الحرب وتخمد نارها، إلا إذا حكمنا على أنفسنا وحضارتنا بالدمار والاندثار.
وفي المعاني السابقة نزلت الآيات الكثيرة تأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصبر في الإبلاغ، وتكرار المرة تلو المرة، والاستمرار في الدعوة كما قال تعالى: {ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيراً فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهاداً كبيراً}، وقوله تعالى: {ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا} وقد أخذ القتال أشكالا وأنماطاً كثيرة عبر التاريخ، فمن الشعوبية السرية، إلى الحملات العسكرية، إلى الحملات الفكرية العلنية، إلى نبش جذور الإسلام والبحث عن خلع أسه وأساسه من النفوس والقلوب، ولذلك قال تعالى: {ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملَّتهم} الآية.(1/64)
باختصار: أهل الدعوة الإسلامية مطالبون بألا يتطرق الكلال إلى نفوسهم: وأن يعلموا أن رسالتهم الإعلامية بالإسلام رسالة أبدية مع المؤمنين بها، ومع المحادِّين والمحاربين لها، وأنهم مطالبون دائما بالتجديد والابتكار في أساليب العرض وأفانين القول، وأن الحق واحد قديم لا يتغير ولا يتبدل، وإنما تتغير الوسائل والأساليب وأنماط البيان والعرض، وأما هذا التكرار الغبي الأبله فإنه لا يزيد الناس إلا نفورا، وهناك فارق عظيم جدا بين الاستمرار الذكي الناجح، والمداومة الجادة الخلاَّقة، وبين هذه الأنماط الجامدة المحنطة، والموفق من وفقه الله سبحانه وتعالى.
15 - الدعوة إلى الله سبحانه شرف في الغاية، وطهارة في الوسيلة
الأهداف التي تريد الدعوة الإسلامية أن تصل إليها أهداف شريفة ، فمنها توجيه الناس إلى ربهم وخالقهم -سبحانه- ليعبدوه ويوحدوه، لقوله تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}، ولقوله تعالى أيضا: {ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} ومنها إقامة العدل في الأرض وفرض السلام والأمن لقوله تعالى: {ولقد أرسلنا رسلنا بالبيِّنات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط}، فالعدل بين الخلق مقرون بتحكيم شريعة الله والإذعان لأمره.(1/65)
ومن الغايات أيضاً إصلاح النفوس ، وإشاعة المحبة والتآلف والتعاطف بين أخوة الدين والعقيدة، والحق أن منافع الدين وغاياته الشريفة الطيبة كثيرة وعظيمة، ولكن السبل إلى تحقيق هذه الغايات في عالم الواقع شاق وصعب وطويل، وذلك لأن الله سبحانه وتعالى قد شاءت حكمته أن يبتلى الرسل والدعاة بال جرمين والمنافقين، كما قال تعالى: {وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً من المجرمين}، وقال: {ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين}، ولكن مع وجود العقبات العظيمة التي تقف في طريق الدعوة، فإن الله سبحانه وتعالى أمر المسلمين بطهارة الوسيلة التي يجب عليهم اتخاذها للوصول إلى أهدافهم، ونعن بطهارة الوسيلة استقامتها وبعدها عن المكر والخديعة إلا في الحروب، والبعد عن المداهنة والغدر والكذب مطلقاً، وكل هذا بالطبع حرام مع الأعداء والكفار كما هو مع الأصدقاء والمسلمين، ومن أهم الوسائل التي حرَّمها الله سبحانه وتعالى:
1 - المداهنة:
وهي إظهار الرضا عن باطل الخصم مع الاعتقاد أنه باطل، وانتظار فرصة أخرى لإعلان ذلك، قال تعالي لنبيِّه ا كريم: {ودّوا لو تُدهن فيدهنون} أي لو تصانعهم في دينك فيصانعوك في دينهم، كما قاله الحسن البصري –رحمه الله– والمداهنة غير اللين في الدعوة فاللين مطلوب والمداهنة مذمومة.. قال تعالى في اللين: {فقولا ل قولاً لينا لعله يتذكر أو يخشى} وهذا في دعوة فرعون إلى الإسلام.
2 - الغدر:(1/66)
والمقصود بالغدر نقض العهد بالسلم والهجوم على العدو مع قيام العهد بالأمان.. وفي صحيح البخاري أن هرقل سأل أبا سفيان عن النبي صلى الله عليه وسلم هل يغدر؟ قال: لا. وهذه شهادة من أبي سفيان رضي الله عنه حال كفره وقبل إسلامه. وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم طيلة حياته فلم يغدر قط وأوفى الأعداء عهودهم وقد أمر الله بذلك حتى مع تبييت نية الخيانة عندهم، كما قال تعالى: {وإما تخافن من قكم خيانة فانبذ إليهم على سواء، إن الله لا يحب الخائنين} ومعنى انبذ إليهم على سواء: أي أعلمهم أن عهدهم معه مقطوع ومرفوض قبل أن تفاجئهم بقتل أو قتال، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيان إثم الغادر: [يرفع لكل غادر لواء تحت استه يوم القيامة يقال فيه: هذه غدرة فلان ابن فلان]، وهذه فضيحة على رؤوس الأشهاد للغادرين. ولاشك أن المقصود بالغدر في الآيات والأحاديث السابقة هو نقض العهود مع الأعداء ولو كانوا كفاراً.
3 - الكذب:
ولا شك في تحريم الكذب كأسلوب من أساليب الدعوة إلى الله، ولم يُجِز النبي صلى الله عليه وسلم للمسلم أن يكذب على الكافر إلا في الحرب فقط، كما قال صلى الله عليه وسلم: [الحرب خدعة]، والحق أن الخداع والمكر في الحروب ممدوح وليس بمذموم، وأما المكر والخداع فيما عدا ذلك فهو مذموم، كما قال تعالى: {يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين} ولاشك أن من أعظم صفات النبي صلى الله عليه وسلم أثرا في قبول دعوته أنه كان صادقا أمينا حتى مع أعدائه ولذلك شهدوا بذلك قبل الرسالة وبعدها.
ولاشك أن الدعاة إلى الله إذا اتصفوا بأضداد هذه الصفات المذمومة فكانوا صرحاء صادقين لا يبطنون غير ما يظهرون ولا يغدرون ولا ينقضون عهداً ولا يخفرون ذمة ولا يفترون كذباً فإنهم بذلك على درب الرسول سائرون.
16 - حذار من الأخطاء:(1/67)
الإسلام مبدأ حق وعدل، لم يعتمد وسيلة في انتشاره إلا الإقناع والحجة والمنطق، وهذا ما يسمى في لغة الإعلام بالانتشار الذاتي.
وذلك أن هناك ثلاث وسائل فقط لنشر أي مبدأ وشيوعه وهي: الترغيب، وذلك بأن نقول مثلا للشخص إذا دخلت في هذه الجماعة أو اتخذت هذا المبدأ أعطيناك كذا وكذا، فيدخل الشخص في العقيدة أو الحزب رغبة فيما سيدر عليه ذلك من مال أو جاه أو منصب، والثاني هو التهديد كأن يقال للناس ادخلوا في هذا الدين وإلا أوقعنا بكم من العقوبة كذا وكذا، والثالث هو الاقناع بالفكرة والمبدأ أو الدين، فالشخص يدخل ديناً ما أو يعتقد عقيدة ما إذا علم مقدار الخير الذاتي الذي سيناله منها، أو مقدار الشر الذاتي الذي يناله من جراء تركها، ونعني (بالذاتي) هنا الذي تحققه نفس العقيدة.
فالمسلم يدخل في الدين راغباً وراهباً، راغبا في الثواب المترتب على القيام بتكاليف هذا الدين، وخائفا من العقوبة الحقيقية المترتبة على ترك هذا الدين.
والنبي صلى الله عليه وسلم بمكة لم يكن عنده من المال والمناصب ما يستطيع توزيعه ليدخل الناس في دينه، ولم يكن يملك السيف أو السوط الذي يرهب به من لا يستجيب له، ولذلك دخل من دخل في دينه اقتناعاً وإيماناً، ولم يظهر0النفاق إلا في المدينة لا لأن الرسول كان يوزع هناك المناصب لمن يدخل الدين، ولا لأنه كان يرهب من يعارضه، ولكن لأن النفوس الضعيفة تنحاز إلى من يرجون عنده النفع أو يخافون منه الضر.(1/68)
وإذا كان الدين ينتشر بالاقتناع الذاتي أو هكذا ينبغي أن يكون، فإن الأمور التي ينبغي أن يقتنع الناس بها كثيرة، وأهمها أمران: الأمر الأول مجموع العقائد والشرائع والأخلاق التي يدعو إليها الدين، والأمر الثاني هو السلوك العملي للدعاة بهذا الدين، وإذا كانت مجموعة العقائد والشرائع والأخلاق التي جاء بها الدين معصومة من الخطأ لأنها من الله سبحانه وتعالى، فإن الأفراد الذين يقومون بتطبيق هذه العقائد والشرائع والأخلاق غير معصومين، بل هم معرضون دائما للخطأ والصواب.
وإذا كان العدو الذي تحاول إقناعه بمبدئك ويحاول هو صرفك عن عقيدتك حريصا على معرفة أخطائك وتلمس عثراتك، فإن الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى يجب عليهم أن يكونوا حذرين من الأخطاء لأنها محسوبة عليهم، وإذا ارتكب الدعاة خطأ لا يستطيعون التخلص منه ولا تبريره ولا العبور فوقه، فمعنى ذلك أنهم قد وصلوا إلى طريق مسدود في حربهم الإعلامية، أعني أن أعداء الإسلام إذا نشروا مجموعة الأخطاء التي يرتكبها الدعاة إلى الله ولم يستطع هؤلاء الدعاة أن يتخلصوا من هذه الأخطاء، فإنهم بذلك يشلون حركتهم ويصرفون الناس عن طريقهم. وإذا كان أعداء الإسلام يلجؤون عادة إلى الكذب والافتراء والتشويه، فكيف إذا وجدوا من واقع أحوال الدعاة إلى الإسلام ما يكفيهم عناء الكذب والافتراء.
باختصار إذا أراد أصحاب أي دعوة أن يقفلوا الطريق في وجوه أنفسهم، وأن يفشلوا في رسالتهم الإعلامية، فما عليهم إلا أن يرتكبوا مجموعة من الأخطاء المتعمدة لا يستطيعون الاعتذار عنها، وبذلك يحصلون على تقاعد دائم وإلى الأبد.(1/69)
وكفار مكة الذين جابهوا دعوة النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يتمنون أن يجدوا خطأ واحدا يستطيعون إشهاره وتطييره مع الركبان في كل مكان ليحجبوا الناس عن دعوة النبي صلى الله عليه وسلم ، ولكنهم لم يجدوا هذا الخطأ، فقد التزم النبي والمسلمون معه بمكة جانب الصبر على الأذى، والرد بالحسنى على إساءة المجرمين {وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً} والدعوة والجدال بالتي هي أحسن، وبذلك جرَّدوا أعداءهم من أي ذريعة يستطيعون التذرع بها لقتلهم وإفنائهم، فما للمسلمين عندهم من جرم إلا أن قالوا ربنا الله!! وهل هي جريمة أن يعرف إنسان ربه، وأن يعبده دون ضغط أو إكراه أو إغراء من أحد.(1/70)
وعندما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم وتغيَّر تبعاً لهذه الهجرة موقف النبي صلى الله عليه وسلم وابتدأ إرسال السرايا والبعوث لقطع طريق قريش الشمالي إلى الشام والجنوبي إلى اليمن، كان من هذه السرايا الجنوبية سرية عبدالله بن جحش رضي الله عنه التي التقت بعير قادمة من اليمن لقريش عليها عبدالله بن الحضرمي، وكان ذلك في الليلة الأخيرة من شهر رجب، وهو شهر محرم فيه القتال في الجاهلية، وقد جاء الإسلام بإقرار هذا العرف الجاهلي لما فيه من مصالح عظيمة، وجد عبد الله بن جحش أنه إن هاجم قافلة ابن الحضرمي هاجمها في شهر حرام وإن صبر إلى الليلة التالية دخلت أرض الحرم ولا يجوز فيها قتال أبدا فاستشار أصحابه واستقر على مهاجمة القافلة فقتلوا ابن الحضرمي واستاقوا الغنائم إلى المدينة، ووجدت قريش بغيتها في هذا الأمر، وطيَّرت الركبان بأخبار اعتداء النبي صلى الله عليه وسلم على قافلتها في الشهر الحرام، وكانت العرب تُعظِّم الشهر الحرام أيما تعظيم ويلقى الجاهلي فيه قاتل أبيه وأخيه فلا يسل السيف في وجهه، وكان هذا الخطأ كافياً في صد الناس عن دعوة الإسلام.. ولما وصلت السرية المدينة قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام!!] وحزن النبي صلى الله عليه وسلم ، ولكن الله أنزل قرآنا ليعلمنا كيف نخرج من أخطاء الاجتهاد فقال تعالى: {يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه، قل قتال فيه كبير} أي القتال في الشهر الحرام كبيرة من الكبائر وبهذا الاعتراف امتص النبي صلى الله عليه وسلم غضب الناس ونقمتهم فمهما كان ذنبك عظيما ولكنك مستعد للاعتراف به والتنازل عنه فإنه يتحول إلى مخالفة صغيرة...(1/71)
وبعد هذه الامتصاص للنقمة قال تعالى: {وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله، والفتنة أشد من القتل} أي لقد ارتكبتم أيها الكفار (كفار مكة) ذنوبا أعظم من ذلك فقد صددتم الناس عن سبيل الله وكفرتم به وكفرتم بالمسجد الحرام والشهر الحرام، وأخرجتم أهل هذا المسجد الحرام منه واستحللتم دماءهم وفتنتوهم عن دينهم، هذه الفتنة أي التعذيب أكبر من القتل فهل تعدون أخطاء غيركم وتنسون أخطاء أنفسكم وبهذا رد الله سبحانه وتعالى سلاحهم عليهم وقتلهم به، ثم مسح الله سبحانه على أخطاء المجموعة المجتهدة فقال: {إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك سيرحمهم الله، والله غفور رحيم}.
وبذلك استطاع المسلمون العبور السريع فوق هذا الخطأ، فلم يتبجحوا بأنه صواب ويكابروا بالباطل، ولم تستطع دعاية العدو وأكاذيبه أن تصيبهم بعقدة الذنب وتقعدهم عن الدعوة، وإنما اعترفوا بخطئهم وتجاوزوه بمقارنته بالأخطاء العظيمة التي يرتكبها عدوهم معهم.
واليوم ابتلينا بمن يتصدر الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى فيستحلون الاغتيالات السياسية والأعمال الهمجية الغوغائية، والاستعانة على الباطل بالباطل، وإذا جئت تنصحهم وتقول لهم إن هذه أخطاء اتهموك بالكفر والزندقة والمروق ومخالفة سبيل المؤمنين والمجاهدين، وإن قلت لهم اعترفوا بأخطائكم لتتجاوزوها زعموا لأنفسهم وقادتهم العصمة أو أنكروا الحقائق وجادلوا بالباطل، ولولا أن الدين الذي يحتمون فيه عظيم -وقد نشره غيرهم- لما وجد أمثال هؤلاء طريقاً إلى قلوب الناس وعقولهم.
الباب الثاني
السياسة الشرعية في الدعوة إلى الله
1 - لا دعوة إلى الله إلا بالحكمة(1/72)
فرض الله على رسوله والمؤمنين به أن يدعوا إلى الله سبحانه وتعالى، ولكن الله قيَّد هذه الفرضية بالحكمة والبصيرة، كما قال سبحانه وتعالى: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن}، وقال أيضا: {قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين}.(1/73)
والحكمة تعني قواعد كثيرة وأصولا عظيمة بيَّنها لنا الله في كتابه وبيَّنها رسوله أيضا، إذ هو المبعوث بالحكمة صلى الله عليه وسلم ، وغاية الحكيم أن يضع كل أمر في نصابه وأن يصل إلى غايته بأسهل الطرق وأقل الأخطار والتضحيات وقد وضع علماء أصول الفقه وأصول الدعوة قواعد أخذوها بالنص من الكتاب والسنة أو بالاستنباط منهما والاستقراء ومن هذه القواعد: [لا يُلدَغ المؤمن من جحر مرتين] (متفق عليه)، وهي تفيد وجوب الحذر وعدم جواز الوقوع في نفس الخطأ مرتين، و(دفع المفاسد أولى من جلب المصالح)، وهذه القاعدة مستفادة من ترك الرسول صلى الله عليه وسلم لتحطيم الأصنام في مكة، وانتظار امتلاكه للقوة التي مكنته من تحطيمها عند الفتح، مع أنه صلى في مكة إلى الكعبة والأنصاب والأصنام منصوبة عليها، وكذلك صلى في المدينة إلى الكعبة بأمر الله والأصنام عليها، أيضا، وكذلك ترك النبي صلى الله عليه وسلم لهدم الكعبة وبنائها على قواعد إبراهيم، وذلك خوف الفتنة وارتداد العرب، كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي ترويه السيدة عائشة في البخاري: [لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية لهدمت الكعبة حجراً حجراً وبنيتها على قواعد أبي إبراهيم]، ولكنه خشي ارتداد العرب الذين كانوا يعظِّمون الكعبة، وقد يتهمون الرسول بتبديلها فتنفر قلوبهم، فهذا والذي قبله دليل على القاعدة الآنفة وهي: أن دفع المفاسد أولى من جلب المصالح،فلا شك أن في تحطيم الأصنام فائدة، ولكن المفاسد التي كانت ستحصل من وراء ذلك كثيرة عظيمة، فأيسرها إخراج الرسول من مكة في وقت لم يكن هناك بلد مهيأ لاستقباله، وكان من الممكن أيضا أن يقتل المسلمون ويضيق عليهم وبذلك يضيع الإسلام، ولاشك أن الإسلام يضيع بضياع المسلمين كما قال صلى الله عليه وسلم يوم بدر: [اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد] رواه البخاري.(1/74)
ولذلك فإن أعظم مصالح المسلمين يكمن في بقاء جماعة المسلمين، ولذلك شرع الله للمسلمين من السياسات ما يستطيعون حماية أنفسهم، كما أجاز لهم إخفاء معتقدهم أحيانا، وقول كلمة الكفر في الفتنة والاضطرار، وأجاز لهم الخداع في الحرب والاستعانة ببعض المشركين على بعض، ولكل هذا تفصيل إن شاء الله في مقام آخر. والمهم هنا أن قاعدة دفع المفاسد أولى من جلب المصالح قاعدة شرعية مقررة.
وكذلك قاعدة (لا يجوز تغيير المنكر بمنكر أكبر منه)، وذلك كقتل المسلم في معصية لأن قتله منكر أكبر من المعصية إلا أن تكون زنى بعد إحصان، أو قتل قاتل، أو قتل مرتد لا شبهة في ارتداده وكفره وأما غير ذلك فقتل المسلم جريمة أكبر من أي معصية يرتكبها غير الثلاث الآنفة.
ومن هذه القواعد أيضا (ارتكاب أخف الضررين) كما يدفع المسلمون ضرر احتلال الكفار لأرضهم بقتالهم ولاشك أن في القتال بعض الأضرار على المسلمين، من قتل وجراح وفقدان لبعض الأموال وهذا ولاشك مفاسد، ولكن هذه المفاسد أقل من المفسدة العظيمة الأخرى وهي وقوع المسلمين أذلاء تحت سلطة الكافرين. وهكذا إذا تتبعنا أصول الدعوة والفقه والجهاد رأينا أبوابا عظيمة من الحكمة والبصيرة، ولاشك أن اتباع هذه الأصول والقواعد يُبلِّغ المؤمنين غاياتهم من النصر والعز والتمكين.. والحكمة هي أعظم الأسباب التي يتوصل بها إلى ذلك، فمعلوم أن المسلمين لا ينصرون على أعدائهم، ولا يستطيعون نشر رسالتهم إلا إذا تحلَّوا وتمسكوا بهذه الحكمة، ولا يكفي أن نقول نحن مسلمون وكفى، ونبلِّغ الدين بأي صورة وبكل طريقة دون اتباع الحكمة لأن هذا قول جاهل أحمق، وهو أيضا منافٍ للإسلام الذي أمر بالحكمة وألزم بها.
ولذلك فأول واجب على الدعاة إلى الله أن يتعلموا الحكمة، والبصيرة حتى يفلحوا في دعوتهم ويرضوا ربهم سبحانه وتعالى.
2 - من الحكمة وضع القتال في موضعه الصحيح(1/75)
لما كانت الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى من ألزم الواجبات، وكانت هي الطريق إلى عز الأمة ونصرتها وجمع شملها وتوحيد كلمتها، كان واجبا على كل منا أن يعرف طريقها ويتعلم أسلوبها ويتخلق بأخلاق من اصطفاهم الله لحمل مشعلها وهداية الناس إلى طريقها، وهم الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وعلى رأسهم محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه، إذ هو رسولنا المباشر وهو أكمل الرسل منهجاً وطريقاً وأعظمهم حكمة وتابعا وهو المأمور بالقتال والجهاد الذي هو أعلى منازل الإسلام، ولم يباشر القتال رسول قبله أبدا لا موسى ولا عيسى ولا إبراهيم ولا نوح، وهم أولو العزم والقتال، وإن كان قد فرض في شريعة موسى، إلا أنه لم يتمكن من تطبيقه في حياته، ولا باشره عيسى في حياته أيضا، فأما موسى، فإن قومه عصوه وجبنوا وذلوا أن يقاتلوا كما قال تعالى عنهم: {قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ماداموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون}، ولذلك مات صلى الله عليه وسلم في التيه دون أن يتمكن من القتال الذي فرضه الله عليه وذلك بعصيان قومه وجبنهم.
وأما عيسى، فإنه لم يستطع أن يقاتل الكفار أيضاً لأنه لم يؤمن برسالته إلا قليل، وأحاط به أعداؤه من كل مكان، وألَّب اليهود عليه ملوك الرومان الوثنيين، وتآمروا على قتله لولا أن الله أنجاه وألقى شبهه على غيره ورفعه إلى السماء، كما قال تعالى: {إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إليّ ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ثم إليَّ مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون}. (آل عمران/55).
وأما نوح، فإنه لم يحارب لأن المؤمنين به كانوا قلة، فأهلك الله الكثرة التي عصته بالطوفان.(1/76)
وأما إبراهيم عليه السلام، فإنه لم يؤمن به إلا زوجته ولوط فقط، ولذلك لم يؤمر بقتال، بل أخرج من بلده في العراق وسكن بعد ذلك في فلسطين ورزقه الله ذرية صالحة مؤمنة، ثم عاش بقية عمره مع أقوام من الكفار لم يؤمنوا به، ولم يأمره الله بقتالهم.
وأما محمد صلى الله عليه وسلم فإن الله قد خصَّه بخير الأمم شجاعة وحمية ووفاء بالعهد وقياما بالحق، آمنوا به وعزروه ونصروه وحاربوا معه أعداءه الأحمر والأسود، لم يتخلف عنه إلا قليل من المنافقين، لامهم الله وفضحهم بجبنهم وتخاذلهم كما جاء ذلك في سورة التوبة.
والشاهد من كل ذلك أن رسولنا محمدا صلى الله عليه وسلم هو الرسول الخاتم الذي بعث بالرسالة التامة الشاملة، والذي باشر القتال بنفسه، فأكرمه الله بالنصر تارات، وابتلاه وأصحابه بالصبر تارات أخرى حتى يكمل لهم فرحة النصر وكرامة الصبر، وهدى الله على يديه الجم الغفير في حياته، وجعل أتباعه هم خير أتباع الأنبياء إلى قيام الساعة، وأمته خير الأمم، وهذا لا مجال لتفصيله هنا.
الدعوة إلى الله ومواقف الجاهلية:
ولكن مما يؤسف له أن الأمة الإسلامية بعد رسولنا صلى الله عليه وسلم ابتليت ببعض طوائف من الجاهلين والمارقين، الذين قاموا يزعمون نصر الدين، فكانوا بلاء ومحنة وشراً على الإسلام والمسلمين، وكان من هؤلاء من قام بنصر الدين جاهلا -وبحسن نية- يريد الحق فأخطأه بجهله وعصبيته، فرفع السيف على أهل الإسلام.. وكفَّروا المسلمين وفسَّقوهم وهم طوائف الخوارج المارقين، وهناك آخرون من الملاحدة الباطنية زعموا نصر الدين وحملوا رايته زورا، وزعموا نصرته، ووقع بسببهم بلاء عظيم أيضا، وهكذا ليس كل من جاهد في الإسلام كان من أهل الحق والإيمان، ومازالت الأمة تُبتلى بأمثال هذه الطوائف المارقة والضالة في كل عصورها، ويكون بسببها بلاء وشر مستطير.(1/77)
ولما كان المسلمون في أمس الحاجة إلى بيان الصراط المستقيم في الدعوة إلى الله سبحانه، لأنه هو سبيل نصر الدين وإعزاز المسلمين، ولم يكن كل من تصدى للدعوة والجهاد أهلا للفهم والمعرفة بهذا الطريق، أحببنا بيان بعض القواعد الهامة في هذا الصدد، لعل الله أن ينفع بها من شاء من عباده.
3 - متى نحكم لإنسان ما بالإسلام؟
نصل الآن إلى سؤال هام وهو: متى نحكم لرجل ما بالإسلام؟ والجواب أننا نحكم لشخص ما أو لقوم ما بالإسلام إذا ظهر لنا من أحوالهم أو في إشارة ترشد إلى ذلك ، كأن نجدهم يصلون أو يسيرون في طرقات المسلمين، أو يلبسون ملابسهم أو يسمون على طعامهم كالمسلمين، أو يشهدون أمامنا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.
والدليل على ذلك أن الله تعالى يقول: {ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مسلماً} ، وهذا من الله إنكار على بعض المسلمين الذين قتلوا في الحرب رجلا مع رفع يديه مستسلما للمسلمين شاهداً شهادة الإسلام، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأسامة بن زيد الذي قتل في الحرب رجلا بعد أن قال لا إله إلا الله: [أقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله! وما تفعل بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة!!]، فقال أسامة يا رسول الله إنما قالها متعوذا! فقال صلى الله عليه وسلم: [هلا شققت عن قلبه]!! وذلك أن هذا الرجل الذي قتله أسامة كان قتل طائفة من المسلمين، فلما علاه أسامة بالسيف قال: لا إله إلا الله! وفي هذه قرينة أكيدة تبلغ درجة الدليل أن مثل هذا كافر القلب، وأنه لم يقل ذلك إلا خوفا من السيف ومع ذلك أمرنا الرسول أن نكف عنه حتى مع عدم أمننا من انقلابه علينا بعد ذلك وقتاله لنا.
وهذا من أعظم الأدلة على أن لا إله إلا الله تحرم علينا دم قائلها حتى لو قطعنا بيقين أنه كاذب في هذه الكلمة.(1/78)
ومن الأدلة أيضا على وجوب معاملة الرجل معاملة المسلمين حتى لو لم يقم عندنا الدليل على إسلامه - حقيقة قول النبي صلى الله عليه وسلم: [وافش السلام على من عرفت ومن لم تعرف]، وقوله: [إن من علامات الساعة ألا يُسلِّم الرجل إلا على من يعرف]، فجعل هذا من المنكرات التي لا تظهر إلا قرب قيام الساعة، ولهذا قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من كافة الوفود التي جاءته إسلامها، وشهد لها بذلك، وعاملهم معاملة المسلمين، مع أن كثيرا منهم لم يكن الإيمان قد دخل قلوبهم بعد، وكثير منهم كذلك كان يجهل حقائق الإيمان، كما قال تعالى: {قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولمَّا يدخل الإيمان قلوبكم}، وهذه شهادة من الله سبحانه على أناس أنهم لم يدخل الإيمان في قلوبهم بعدُ ، ومع ذلك أمرهم سبحانه أن يقولوا: أسلمنا، ولاشك أن قولهم أسلمنا يلزم المؤمنين أن يعاملوهم بالإسلام، فيكفوا عن دمائهم، ويلقوا عليهم السلام ونحو ذلك من حقوق المسلم على المسلم.
وهذه الأدلة التي قدمناها في الرد على من زعم أن كل عربي وأعرابي في عهد النبي صلى الله عليه وسلم عندما قال: لا إله إلا الله كان يفهم معناها الحقيقي، بل كان هناك من جُفاة الأعراب من لا يفهم منها إلا كما يفهم أي جلف جاهل يعيش في أزماننا، ومع ذلك أمر رسول الله والمؤمنين أن يعاملوا أولئك بما ظهر منهم، وما أعلنوا من دينهم.(1/79)
والشاهد من كل ما قدمنا أننا نحكم لشخص ما أو جماعة ما بالإسلام بمجرد ظهور ما يدل على إسلامهم، كأن يشهدوا الشهادتين -حتى وإن لم يفقهوا معناها- أو يصلوا صلاة المسلمين، أو يصوموا صيامهم، أو حتى كانوا يلبسون ملابس المسلمين ويسيرون في طرقاتهم، فمأجور ولاشك من سلَّم على أمثال هؤلاء، ومن أمرهم بمعروف أو نهاهم عن منكر، أو أعانهم على خير وبر، أو ساعدهم، أو قام بشيء نافع لهم، حتى وإن كان يعتقد أنهم يجهلون حقيقة لا إله إلا الله، ولا يدركون حقيقة الدين ومفهومه الصحيح.
ولاشك أن حكمنا على أمثال هؤلاء لا يدخلهم الجنة كما قلنا آنفا، ولم يكلفنا الله عند هذه الشهادة أن نعرف حقيقة إيمانهم قبلها، لأننا نحكم له بالإسلام الظاهر لا بالإسلام الحقيقي الذي لا يعلمه ولن يعلمه على الحقيقة إلا الله سبحانه وتعالى.
ومهما بالغنا في معرفة إيمان شخص على الحقيقة فإننا لا ندرك ذلك، ولذلك كاه أصحاب النبي يخشون على أنفسهم أن يكونوا منافقين بالفعل، كما روى ابن أبي مُليكة قال: [ أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يخشى على نفسه من النفاق]!!. وقد صح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال لحذيفة - وكان النبي قد أعلمه بالمنافقين:
أما سماني رسول الله في المنافقين!! ولذلك أنكر ابن مسعود رضي الله عنه على من قال: أنا مؤمن، فقال: فليقل إنه من أهل الجنة!!.(1/80)
فإذا كانت حقيقة الدين في القلب بهذا الخفاء، فلا شك أن من يقول لا نشهد بالإيمان إلا لمن عرفنا حقيقة معتقده هو من أجهل الناس، لأنه لا يمكن أن يصل إلى حقيقة معتقد أحد، وليس هذا إلا لله سبحانه وتعالى المطَّلع على خفايا الصدور وحقائق القلوب، بل لا نحكم إلا بما ظهر لنا، ولا شك أن كل من أظهر شيئا من الدين حكمنا له بالإسلام، ووكَّلنا سريرته إلى الله تعالى، فإن كان عالما بحقيقة الإسلام فذاك، وإن كان جاهلا بحقيقة الإسلام علَّمناه مما علمنا الله - إن كان عندنا علم من ذلك.
ومن هذا الذي قدمنا بالأدلة من الكتاب والسنة وقواطع الدين، تعلم يقينا أن الذي يحكم على المسلمين المعاصرين بالكفر -بدعوى أنه لم يعلم حقيقة معتقدهم- نعلم أنه جاهل محدث في الدين حدثا عظيما لا يملك على فعله دليلا من كتاب أو سنة، بل إن فعله هذا يُعدّ كفرا، لأن من كفر مسلما فقد كفر، والحكم على جمهور المسلمين بالكفر لاشك أنه كفر، أو الانتظار والتبيّن والتوقف الذي ينادون به لاشك أيضا أنه زندقة وابتداع لا دليل عليه من كتاب أو سنة، بل أمرنا الكتاب والسنة بالحكم بالإسلام لكل من أظهر شيئا من الدين وأعلن الدخول في الإسلام حتى لو كان منافقا كاذبا كالأعراب الذين أعلنوا الإسلام ولم يفهموه ولم يعلموا حقائق الإيمان بعد، وكالمتعوذين الخائفين الذين قد يعلنون الإسلام خوفا من السيف، وكالطامعين المنافقين الذين قد يعلنون الإسلام ويخفكن من الكفر ما الله به عليم، وكل أولئك أمرنا الله أن نقبل علانيتهم وندع سرائرهم إلى الله سبحانه وتعالى، كما قبل النبي صلى الله عليه وسلم علانية المنافقين وعاملهم بذلك، ولم يعاملهم بما أظهر الله سبحانه وتعالى للنبي من أسرارهم0،وبما وقف عليه الرسول نفسه من أخبارهم، بل ترك معاقبتهم على سوء نيتهم لله سبحانه وتعالى.
4 - متى يجوز أن نحكم على المسلم بالكفر؟(1/81)
المسلم من أعلن شيئا من شعائر الإسلام: شهادة أو صلاة أو إحراما ونحو ذلك، ولو لم0نعلم شيئا عن صلاحه أو تقواه، وهذا المسلم المعلم للإسلام يجب أن نجري عليه أحكام الإسلام من إلقاء للسلام عليه ومحبته وموالاته ما لم يخرج من هذا الدين، ولا يجوز لنا أن نُخرِج مسلما من دائرة الإسلام إلا وفق القواعد الآتية:
أولا: أن يعلن الفرد عن نفسه أنه كافر، أو يلتحق بأعداء الإسلام في أرض الحرب فيكون معهم على المسلمين، أو يعبد عبادات الكفار، كمثل هذا لاشك في كفره وردته.
ثانيا: أن يقول قولا أو يعتقد عقيدة من عقائد الكفر غير متأول، كمن قال: إن الله في كل مكان ولم يشهد بأنه سبحانه وتعالى فوق عرشه وأن عرش الله فوق سماواته، أو من قال لا حكم لله إلا ف العبادات فقط وأما في السياسات والمعاملات فالحكم لنا أو للأمة، ومن ادعى أن بشرا غير الرسل معصومون عن الخطأ، وأنهم يشفعون عند الله وإن لم يأذن الله لهم، أو من ادعى علم الغيب أو شهد به لغير الله، أو من يطلعهم الله على الغيب من الرسل فقط، هذا وغيره من اعتقادات وأقوال حكم عامة السلف على كفر قائلها ومعتقدها، ولكنهم لا يكفرون قائلها ومعتقدها إلا إذا أقيمت عليه الحجة وعرف أن هذه العقيدة التي يعتقدها والقول الذي يقوله كفر بالله، وكان في ذلك غير متأول لآية من كتاب الله أو حديث من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم.(1/82)
ثالثاً: من عمل عملا حكم الله أو رسوله على فاعله بأنه كافر كمن حكم في قضية ما وهو يعلم أنه يحكم بغير حكم الله سبحانه وتعالى، حيث يقول سبحانه وتعالى: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} وكذلك من ترك الصلاة لقوله صلى الله عليه وسلم: [بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة]، وكذلك من رمى مسلماً بالكفر لقوله صلى الله عليه وسلم: [من قال لأخيه ياكافر وليس كما يقول إلا حار عليه] أي إلا رجع عليه الوصف، وكذلك من انتسب إلى غير أبيه وهو يعلمه، لقوله: [من انتسب لغير أبيه وهو يعلمه إلا كفر]. وهذه الأعمال وغيرها مما حكم الله ورسوله على فاعلها بالكفر، فلا شك أيضا أنه لا يُكفّر فاعلها إلا إذا كان عالما بأن ما يفعله مما نهى الله عنه وكفّر فاعله وذلك لقوله تعالى: {وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون} وكذلك أن لا يكون مضطرا في ضرورة ملجئة لا حيلة له معها.
وإن كان علماء المسلمين في مثل هذا الباب قد وقفوا موقفين من حيث الحكم بالكفر، فقال بعضهم من عمل عملا قد حكم الله على فاعله بالكفر فهو كافر كفرا مخرجا من ملة الإسلام، وإنّ صاحبه مخلد في النار.. وآخرون رأوا مثل هذه الأعمال كفرها دون كفر الاعتقاد، وهؤلاء لا يجعلون كفرا يخرج من ملة الإسلام إلا الكفر الاعتقادي فقط، وأما الكفر العملي فيرونه كفرا دون كفر لا يخرج من ملة الإسلام وهذا رأي ابن عباس من الصحابة وجمهور العلماء، ومنهم الأئمة الثلاثة أبو حنيفة ومالك والشافعي.
وعلى كل حال فلا يجوز الحكم على مسلم بعينه بمكفر من هذه المكفرات قبل إقامة الحجة عليه والإعذار إلى الله فيه، ومعرفة بواطن أموره ولماذا صنع مثل ذلك.(1/83)
ووفق هذه القواعد الثلاث نستطيع القول إن حكمنا على مسلم ما بأنه قد كفر يكون حكما صحيحا، وأما إطلاق القول على عواهنه في تكفير كل من فعل مكفّرا وإن لم تقم الحجة عليه، وكل من اعتقد عقيدة كفرية، وإن كان متأولا فلا شك أن هذا باطل وزور.
وأما إطلاق الحكم على مجتمعاتنا كلها بأنها كافرة وجاهلية وبالتالي على من لم يعرف من الإسلام بأنه كافر لأنه يعيش في مجتمع زعموه كافرا فلا شك أن مثل هذا من الضلال البيّن لأنه تكفير للمسلمين وهدم للإسلام.
5 - هل نستطيع معرفة المسلم على الحقيقة؟
اعلم أخي أن حكم الله وشهادته تختلف عن حكمنا وشهادتنا وذلك أن الله إذا حكم فإنما بعلمه الذي لا يخطئ ولا يأتيه باطل من بين يديه ولا من خلفه، وأما أحكامنا فهي قاصرة وظاهرية فقد نشهد ظاهرا لرجل بالإسلام ولا يكون مسلما بل منافقا يظهر لنا غير ما يبطن، وقد نشهد على رجل بالكفر والردة ولا يكون كذلك عند الله سبحانه وتعالى.. كما قال صلى الله عليه وسلم: [إذا كفّر الرجل أخاه فقد باء بها أحدهما]، في رواية: [إن كان كما قال وإلا رجعت عليه] فعلم بذلك أن المسلم قد يشهد عليه أخوه بالكفر وليس هو كذلك.
ثانيا: الخطأ في العفو خير من الخطأ في العقوبة:
لأن نخطئ في العفو خير من أن نخطئ في العقوبة أعني إذا أخطأنا وحكمنا عل رجل بالإسلام بما ظهر لنا من إظهاره لبعض شعائر هذا الدين، ولم يكن الرجل كذلك عند الله سبحانه وتعالى فلا يضيرنا ذلك ولسنا بهذا ملومين عند الله، ولكن إن حكمنا على أحد من المسلمين بالكفر وهو ليس كذلك عند الله سبحانه وتعالى فقد تورطنا وتعرضنا لسخط الله وغضبه بل قد نخرج بهذا من الإسلام الذي أردنا إخراج غيرنا منه.(1/84)
هذا ولم يأمرنا الله سبحانه وتعالى أن نشق قلوب الناس وأن نعرف حقيقة معتقدهم، وإنما أمرنا أن نحكم بما ظهر لنا من أحوالهم كما قال صلى الله عليه وسلم لخالد بن الوليد: [لم أؤمر أن أشق عن قلوب الناس] كذلك عندما ذكر عنه أن فلانا يقول بلسانه ما ليس في قلبه - (رواه مسلم) وكما قال أيضا صلى الله عليه وسلم لأسامة عندما قتل رجلا في الحرب شهد أن لا إله إلا الله عندما رفع السيف عليه قال النبي لأسامة: [أقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله، وما تفعل بلا إله إلا الله] فقال: يا رسول الله إنما قالها متعوذاً، فقال له صلى الله عليه وسلم: [هلا شققت عن قلبه؟!] وهذا استفهام استنكاري لأنه لو شق قلبه لم يعرف أمسلم هو أم كافر، وهل قال ما قال مؤمنا أم متعوذا خائفا من السيف فقط.
والمهم في هذا الصدد أن حكمنا بالإسلام لا يدخل أحدا الجنة، وحكمنا على رجل بالكفر والردة لا يدخله النار بالضرورة، فقد نخطئ في هذا وهذا كما قال صلى الله عليه وسلم: [إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو مه أهل الجنة] (متفق عليه).
والخطأ في الحكم على الناس لا يسلم منه أحد لأن الإيمان حقيقة قلبية لا يطَّلع عليها إلا علاَّم الغيوب سبحانه وتعالى، كما قال لنبيه: {ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم}.(1/85)