( حديث أنس رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان في غزاة، فقال: إن أقواما بالمدينة خلفنا، ما سلكنا شعبا ولا واديا إلا وهم معنا فيه، حبسهم العذر .
(حديث أبي كبشة الأنماري الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إِنَّمَا الدُّنْيَا لأَرْبَعَةِ نَفَرٍ عَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالاً وَعِلْماً فَهُوَ يَتَّقِى فِيهِ رَبَّهُ وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ وَيَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا فَهَذَا بِأَحسنِ الْمَنَازِلِ عند الله وَرجلٍ رَزَقَهُ اللَّهُ عِلْماً وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالاً فَهُوَ يَقُولُ لَوْ أَنَّ لي مَالاً لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلاَنٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ وهما في الأجرِ سَوَاءٌ ، وَرجلٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالاً وَلَمْ يَرْزُقْهُ عِلْماً فَهُوَ يَخْبِطُ في مَالِهِ لاَ يَتَّقِى فِيهِ رَبَّهُ وَلاَ يَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ وَلاَ يَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا فهو بِأَسوءِ الْمَنَازِلِ عند الله وَرجلٍ لَمْ يَرْزُقْهُ اللَّهُ مَالاً وَلاَ عِلْماً فَهُوَ يَقُولُ لَوْ أَنَّ لي مَالاً لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلاَنٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ وهما في الوزر سَوَاءٌ .
(12) وبالإخلاص يؤجر المرء ولو أخطأ كالمجتهد والعالم والفقيه، وهو نوى بالاجتهاد استفراغ الوسع وإصابة الحق لأجل الله، فلو لم يصب فهو مأجور على ذلك..
(حديث أبي هريرة في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران و إذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر .
(13) والمرء ينجو من الفتن بالإخلاص، ويجعل له حرز من الشهوات ومن الوقوع في براثن أهل الفسق والفجور، لذلك نجى الله يوسف عليه السلام من امرأة العزيز(1/402)
قال تعالى : {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [ يوسف : 24 ]
لقد مر في الأمة كثير من المخلصين كانت سيرتهم نبراساً لمن بعدهم وقدوة وخيراً، لذلك أبقى الله سيرتهم وذكرهم حتى يقتدي بهم من بعدهم وعلى رأس هؤلاء الأنبياء ، النبي محمد صلى الله عليه وسلم وحواريو الأنبياء والصحابة الذين فتحوا البلاد بإخلاصهم ومن بعدهم من التابعين..
[*] يقول عبدة بن سليمان:كنا مع سرية مع عبد الله بن المبارك في بلاد الروم، فلما التقى ساعة فطعنه ازدحم الناس عليه ليعرفوا من هو فإذا هو يلثم وجهه ، فإذا هو عبد الله بن المبارك فقال لائماً أأنت يا أبا عمر ممن يشنع علي.
[*] ويقول الحسن: إن كان الرجل جمع القرآن ولما يشعر به الناس، وإن كان الرجل لينفق النفقة الكثيرة ولما يشعر الناس به، وإن كان الرجل ليصلي الصلاة الطويلة في بيته ولم يشعر الناس به، ولقد أدركت أقواماً ما كان على الأرض من عمل يقدرون أن يعملونه في السر فيكون علانية أبداً.
لقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء ولا يسمع لهم صوت إن كان إلا همساً بينهم وبين ربهم {ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } [ الأعراف: 55]
[*] يقول علي بن مكار البصري الزاهد : (( لأن ألقى الشيطان أحب إلي من أن ألقى فلاناً أخاف أن أتصنع له فأسقط من عين الله)) فقد كان السلف يخشون من قضية المجاملات.
[*]قال الذهبي : يقول ابن فارس عن أبي الحسن القطان: (( أصبت ببصري وأظن أني عوقبت بكثرة كلامي أثناء الرحلة)) قال الذهبي: صدق والله فإنهم كانوا مع حسن القصد وصحة النية غالباً يخافون من الكلام وإظهار المعرفة.
[*] قال هشام الدستوائي: ((والله ما أستطيع أن أقول إني ذهبت يوماً قط أطلب الحديث أريد به وجه الله عز وجل)).(1/403)
[*] يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ((فمن خلصت نيته في الحق ولو على نفسه كفاه الله ما بينه وما بين الناس)).
(ومن عجائب المخلصين ما حصل لصاحب النفق، حاصر المسلمون حصناً واشتد عليهم رمي الأعداء ، فقام أحد المسلمين وحفر نفقاً فانتصر المسلمون، ولا يُعرَف من هو هذا الرجل، وأراد مَسْلَمَة أن يعرف الرجل لمكافأته،ولما لم يجده سأله بالله أن يأتيه، فأتاه طارق بليل وسأله شرطاً وهو أنه إذا أخبره من هو لا يبحث عنه بعد ذلك أبداً ، فعاهده، و كان يقول : (( اللهم احشرني مع صاحب النفق)).
(وعمل الخلوة كان أحب إلى السلف من عمل الجلوة ، وكان السلف يستحبون أن يكون للرجل خبيئة من عمل صالح لا يعلم عنها زوجة ولا غيرها، امتثالاً للحديثين الآتيين : (
(حديث الزبير بن العوام في صحيح الجامع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :من استطاع منكم أن يكون له خَبِءٌ من عمل صالح فليفعل .
خَِبٌِء من عمل صالح : أي من الأعمال الخفيّة التي لا يطّلع عليها أحد من الناس, خالية من الرياء, فتكون خالصة لله تبارك و تعالى مثل صلاة النافلة في جوف الليل أو صدقة السر أو أي عمل آخر من الأعمال الصالحة .
(حديث سعد ابن أبي وقاص في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي .
الغني : الغني عن الناس
الخفي : من لا يريد علواً في الأرض ولا مناصب ولا جاه. الخامل المنقطع إلى العبادة والانشغال بأمور نفسه.
(المجاهدة في إخفاء العمل :
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان الثوري قال : بلغني أن العبد يعمل العمل سراً فلا يزال به الشيطان حتى يغلبه فيكتب في العلانية، ثم لا يزال الشيطان به حتى يحب أن يحمد عليه فينسخ من العلانية فيثبت في الرياء.(1/404)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن فضيل بن عياض قال: لا يترك الشيطان الإنسان حتى يحتال له بكل وجه، فيستخرج منه ما يخبر به من عمله، لعله يكون كثير الطواف فيقول: ما كان أجلي الطواف الليلة، أو يكون صائما فيقول ما أثقل السحور أو ما أشد العطش، فإن استطعت أن لا تكون محدثاً ولا متكلماً ولا قارئاً، وإن كنت بليغاً، قالوا: ما أبلغه وأحسن حديثه وأحسن صوته، فيعجبك ذلك فتنتفخ ، وإن لم تكن بليغا ولا حسن الصوت قالوا ليس يحسن يحدث وليس صوته بحسن أحزنك وشق عليك، فتكون مرائيا، وإذا جلست فتكلمت ولم تبال من ذمك ومن مدحك من الله فتكلم .
[*] يقول حماد بن زيد : كان أيوب ربما حدث في الحديث فيرقّ وتدمع عيناه، فيلتفت و ينتخط ويقول ما أشد الزكام!!، فيظهر الزكام لإخفاء البكاء.
[*] قال الحسن البصري: ((إن كان الرجل ليجلس المجلس فتجيئه عبرته فيردها فإذا خشي أن تسبقه قام وذهب وبكى في الخارج)).
[*] يقول محمد بن واسع التابعي: (( إن كان الرجل ليبكي عشرين سنة وامرأته لا تعلم)).
(وللإمام الماوردي قصة في الإخلاص في تصنيف الكتب، فقد ألف المؤلفات في التفسير والفقه وغير ذلك ولم يظهر شيء في حياته لما دنت وفاته قال لشخص يثق به: الكتب التي في المكان الفلاني كلها تصنيفي وإنما إذا عاينت الموت و وقعت في النزع فاجعل يدك في يدي فإن قبضت عليها فاعلم أنه لم يقبل مني شيء فاعمد إليها وألقها في دجلة بالليل وإذا بسطت يدي فاعلم أنها قبلت مني وأني ظفرت بما أرجوه من النية الخالصة، فلما حضرته الوفاة بسط يده ، فأظهرت كتبه بعد ذلك.
(وكان علي بن الحسن يحمل الخبز بالليل على ظهره يتبع به المساكين بالظلمة ، فالصدقة تطفيء غضب الرب، وكان أهل بالمدينة يعيشون لا يدرون من أين معاشهم ، فلما مات عرفوا، و رأوا على ظهره آثاراً مما كان ينقله من القرب والجرب بالليل فكان يعول مائة بيت .(1/405)
(وهكذا كان أحدهم يدخل في فراش زوجته فيخادعها فينسل لقيام الليل وهكذا صام داود بن أبي هند أربعين سنة لا يعلم به أهله فكان يأخذ إفطاره ويتصدق به على المساكين ويأتي على العشاء..
مسألة : متى يكون إظهار العمل مشروعاً؟
[*] قال ابن قدامة: {فصل في بيان الرخصة في قصد إظهار الطاعات} قال: وفي الإظهار فائدة الإقتداء، ومن الأعمال ما لا يمكن الإسرار به كالحج والجهاد، والمظهر للعمل ينبغي أن يراقب قلبه حتى لا يكون فيه حب الرياء الخفي بل ينوي الإقتداء به {إذاً ينبغي أن نحسن نياتنا في الأعمال المظهرة لندفع الرياء وننوي الإقتداء لنأخذ الأجر}، قال ولا ينبغي للضعيف أن يخدع نفسه بذلك، ومثل الذي يظهره وهو ضعيف كمثل إنسان سباحته ضعيفة فنظر إلى جماعة من الغرقى فرحمهم فأقبل إليهم فتشبثوا به وغرقوا جميعاً.
(وفصل الخطاب في هذه المسألة أنها على التفصيل الآتي :
(1) الأعمال التي من السنة أن يكون عملها سرّاً يسرّ.
(2) الأعمال التي من السنة أن يظهرها يظهرها.
(3) الأعمال التي من الممكن أن يسرها أو يظهرها، فإن كان قوياً يتحمل مدح الناس وذمهم فإنه يظهرها وإن كان لا يقوى فيخفي لأن السلامة لا يعدلها شيء فليس له أن يكون كالمصباح يضيء للناس ويحرق نفسه ، فإذا قويت نفسه فلا بأس في الإظهار لأن الترغيب في الإظهار خير.
ورد عن بعض السلف أنهم كانوا يظهرون بعض أعمالهم الشريفة ليقتدى بهم كما قال بعضهم لأهله حين الاحتضار (( لا تبكوا علي فإني ما لفظت سيئة منذ أسلمت)).
[*] قال أبو بكر بن عياش لولده (( يا بني إياك أن تعصي الله في هذه الغرفة فإني ختمت القرآن فيها اثنتا عشرة ألف ختمة)) من أجل موعظة الولد، فمن الممكن أن يظهر المرء أشياء لأناس معينين مع بقاء الإخلاص في عمله لقصد صالح.(1/406)
(لله درَ أقوامٍ نُعِّمُوا في الدنيا بالإخلاص في الطاعة، وفازوا يوم القيامة بالربح في البضاعة ، وتنزهوا عن التقصير والغفلة والإضاعة ، ولبسوا ثياب التقى وارتدوا بالقناعة ، وداموا في الدنيا على السهر والمجاعة ، فيا فخرهم إذا قامت الساعة .
(لله در أقوام أخلصوا الأعمال وحققوها ، وقيدوا شهواتهم بالخوف وأوثقوها، وسابقوا الساعات بالطاعات فسبقوها، وخلصوا أعمالهم من أشراك الرياء وأطلقوها ، وقهروا بالرياضة أغراض النفوس الردية فمحقوها .
(ماذا قال بعض العلماء في الإخلاص..؟
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ
[*] قال إبراهيم بن أدهم : ما صدق الله عبداً أحب الشهرة.
[*] قال بعضهم: ينبغي للعالم أن يتحدث بنية وحسن قصد، فإن أعجبه كلامه فليصمت وإن أعجبه الصمت فلينطق. فإن خشي المدح فليصمت ولا يفتر عن محاسبة نفسه فإنها تحب الظهور والثناء.
[*] وسُئِل سهل بن عبد الله التستوري : أي شيء أشد على النفس؟ قال: الإخلاص لأنه ليس لها فيه نصيب. فمع الإخلاص تنسى حظوظ النفس.
[*]وقال سفيان: ما عالجت شيئاً أشد عليّ من نيتي إنها تنقلب علي. إذا أراد أن يجاهد نفسه يجد تقلبات، ولا يدري أهو في إخلاص أم رياء، وهذا طبيعي أن يشعر أنه في صراع لا تسلم له نفسه دائماً فهو يتعرض لهجمات من الشيطان ، والنفس الأمارة بالسوء، وهذا فيه خير، أما من اطمأنت نفسه بحاله فهذه هي المشكلة.
[*] قال ابن يحيى بن أبي كثير: تعلموا النية فإنها أبلغ من العمل.
[*] قال الزبيد اليامي: إني أحب أن تكون لي نية في كل شيء حتى في الطعام والشراب.
[*] عن داود الطائي : رأيت الخير كله إنما يجمعه حسن النية وكفاك به خيراً وإن لم تنضب. أي حتى وإن لم تتعب فإن ما حصلته من اجتماع نفسك لله وإخراج حظوظ النفس من قلبك ، هذا أمر عظيم.
[*] قال يعقوب: " المخلص من يكتم حسناته كما يكتم سيئاته " .(1/407)
[*] قال السوسي: " الإخلاص فَقْدُ رؤية الإخلاص، فإن مَنْ شاهد فى إخلاصه الإخلاص فَقد احتاج إخلاصه إلى إخلاص " . وما ذكر إشارة إلى تصفية العمل من العُجْب بالفعل ، فإن الإلتفات إلى الإخلاص، والنظر إليه عٌجْب ، وهو من جملة الآفات، والخالص ما صفا عن جميع الآفات .
[*] قال أيوب : " تخليص النيات على العُمّال أشد عليهم من جميع الأعمال " .
[*] وقال بعضهم : " إخلاص ساعة نجاة الأبد، ولكنّ الإخلاص عزيزٌ".
[*] وقيل لسهل: أى شىء أشد على النفس؟ قال : " الإخلاص ،إذ ليس لها فيه نصيب " .
[*] وقال الفُضَيْل : " ترك العمل من أجل الناس رياء ، والعملُ من أجل الناس شرك، والإخلاص : أن يعافيك الله منهما " .
(فضل النيّة :
[*] عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال : " أفضل الأعمال أداءُ ما افترض الله تعالى، والورعُ عما حرّم الله، وصدقٌ النية فيما عند الله تعالى " .
[*] وقال بعض السلف : رب عملٍ صغيرٍ تعظمه النية، وربّ عمل كبير تصغيره النية .
[*] وعن يحيى بن أبى كثير: " تعلّموا النية ، فإنها أبلغ من العمل " .
[*] وصحّ عن ابن عمر أنه سمع رجلاً عند إحرامه يقول : اللهم إني أريد الحج والعمرة فقال له : " أتُعْلم الناس ، أوَ ليس الله يعلم ما فى نفسك": وذلك لأن النية هي : قصد القلب ، ولا يجب التلفظ بها في شيء من العبادات وإنما يشرع في الحج والعمرة أن يقول : لبيك اللهم بحجة أو بعمرة أو بعمرة وحجة إن كان قارناً ، وهو الذي يسمى بالإهلال .
[*] قال داود: البر همة التقي، ولو تعلقت جميع جوارحه بحب الدنيا لردته يوماً نيته إلى أصلها.
[*] قال يوسف بن أسباط: تخليص النية من فسادها أشد على العاملين من طول الاجتهاد.
[*] قيل لنافع بن جبير : ألا تشهد الجنازة فقال: كما أنت حتى أنوي. أي انتظر حتى أجاهد نفسي .
[*] قال الفضيل: إنما يريد الله عز وجل منك نيتك وإرادتك.(1/408)
ومن أصلح الله سريرته أصلح الله علانيته ومن أصلح ما بينه وما بين الله أصلح الله ما بينه وبين الناس، وما أسر أحد سريرة إلا أظهرها الله في صفحات وجهه وفلتات لسانه.
والمخلص من يكتم حسناته كما يكتم سيئاته ومن شاهد في إخلاصه الإخلاص فإن إخلاصه يحتاج إلى إخلاص.
{ تنبيه } :( من أعظم الأشياء التي تكون عوناً بعد الله تعالى في حصول الإخلاص إخفاء العمل ، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبهما موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد ، ودرر الفرائد . (
(حديث سعد ابن أبي وقاص في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي .
الغني : الغني عن الناس
الخفي : من لا يريد علواً في الأرض ولا مناصب ولا جاه. الخامل المنقطع إلى العبادة والانشغال بأمور نفسه.
أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان الثوري قال : بلغني أن العبد يعمل العمل سراً فلا يزال به الشيطان حتى يغلبه فيكتب في العلانية، ثم لا يزال الشيطان به حتى يحب أن يحمد عليه فينسخ من العلانية فيثبت في الرياء.
(خطورة ترك العمل خوف الرياء :
هذا منزلق كشفه الفضيل بن عياض: ترك العمل لأجل الناس رياء والعمل من أجل الناس شرك والإخلاص أن يعافيك الله منهما.
[*] قال النووي رحمه الله تعالى :
من عزم على عبادة وتركها مخافة أن يراه الناس فهو مرائي" لأنه ترك لأجل الناس" لكن لو ترك العمل ليفعله في الخفاء. فمن ترك العمل بالكلية وقع في الرياء، وكذلك من كان يستحب في حقه إظهار العمل فليظهره كأن يكون عاملاً يقتدى به أو أن العمل الذي يعمله المشروع فيه الإظهار.(1/409)
{ تنبيه } :(من دعا إلى كتم جميع الأعمال الصالحة من جميع الناس ؛ هذا إنسان خبيث وقصده إماتة الإسلام، لذلك المنافقون إذا رؤوا أمر خير وسموه بالرياء، فهدفهم تخريب نوايا المسلمين وأن لا يظهر في المجتمع عمل صالح، فهؤلاء ينكرون على أهل الدين والخير إذا رؤوا أمراً مشروعاً مظهراً خصوصاً إذا أظهر عمل خير معرض للأذى فيظهره احتسابا لإظهار الخير فيستهدفه هؤلاء المنافقون فليصبر على إظهاره ما دام لله ، قال تعالى: (( الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم)).
(وينبغي أن نفرق بين الرياء ومطلق التشريك في العمل، فمتى يبطل العمل ؟ إذا حصل تشريك فيه ، ومتى يأثم ؟ ومتى لا يأثم؟
وفصل الخطاب أن المسألة على التفصيل الآتي : (
(1) أن يعمل لله ولا يلتفت إلى شيء آخر ( أعلى المراتب).
(2) أن يعمل لله ويلتفت إلى أمر يجوز الالتفات إليه ، مثل رجل صام مع نية الصيام لله أراد حفظ صحته، ورجل نوى الحج والتجارة، ورجل جاهد ونظر إلى مغانم، ورجل مشى إلى المسجد وقصد الرياضة، ورجل حضر الجماعة لإثبات عدالته وأن لا يتهم، فهذا لا يبطل الأعمال ولكن ينقص من أجرها ـ والأفضل أن لا تكون موجودة ولا مشركة في العمل ولا داخلة فيه أصلاً.
(3) أن يلتفت إلى أمر لا يجوز الالتفات إليه من الرياء والسمعة وحمد الناس طلباً للثناء ونحو ذلك فيكون علي التفصيل الآتي : (
(أ) إذا كان في أصل العمل فإنه يبطله كأن يصلي الرجل لأجل الناس.
(ب) أن يعرض له خاطر الرياء أثناء العمل فيدافعه ويجاهده، فعمله صحيح وله أجر على جهاده.
(جـ) أن يطرأ عليه الرياء أثناء العمل ولا يدافعه و يستمر معه وهذا يبطل العمل.(1/410)
(د) أن يكون عمله الصالح للدنيا فقط، فيصوم لأجل الحمية والرجيم ولا يطلب الأجر، ويحج للتجارة فقط، ويخرج زكاة أموال لتنمو، ويخرج للجهاد للغنيمة ، فهؤلاء أعمالهم باطلة قال تعالى : {مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا} [ الإسراء : 18]
(هـ) أن يكون عمله رياءً محضاً، وبالرياء يحبط العمل بل ويأثم به الإنسان، لأن هناك أشياء تبطل العمل ولا يأثم صاحبها كخروج ريح أثناء الصلاة، ومن الناس من يرائي في الفتوى للأغنياء والوجهاء وقد يكون لضعفه أمامهم
وقال تعالى : ( مَن كَان يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ ، أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ) { هود/15 ،16 }
) حديث أبي هريرة في صحيحي أبي داوود وابن ماجة) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة .
( حديث جابر في صحيح ابن ماجة) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لا تعلموا العلم لتباهوا به العلماء ولا تماروا به السفهاء و لا لتخيروا به المجالس فمن فعل ذلك فالنار.
[*] قال بعض السلف: (( إذا رأيت العالم على أبواب الغنى والسلطان فاعلم أنه لص)) ، أما الذي يذهب لقصد الإنكار والخير فلهو ما نوى.
(هناك أشياء تظن من الرياء وليست منه :
(1) إذا حمدك الناس على الخير بدون قصد فهذا عاجل بشرى المؤمنين.
(2) رجل رأى العابدين فنشط للعبادة لرؤيته من هو أنشط منه.
(3) تحسين وتجميل الثياب والنعل وطيب المظهر والرائحة.(1/411)
(4) كتم الذنوب وعدم التحدث بها ، فبعض الناس يظن أنك حتى تكون مخلصاً لابد من الإخبار بالذنوب، نحن مطالبون شرعاً بالستر، وكتم الذنوب ليس رياءً بل هو مما يحبّه الله، بل إن ظن غير ذلك تلبيس من الشيطان وإشاعة للفاحشة وفضح للنفس.
(5) اكتساب شهرة بغير طلبها، كعالم اشتهر وقصده منفعة الناس و بيان الحق ومحاربة الباطل والرد على الشبهات ونشر دين الله، فإن كانت هذه الأعمال وجاءت الشهرة تبعاً لها وليست مقصداً أصلياً فليس من الرياء.
(6) ليس من الرياء أن يشتهر المرء ولكن الشهرة يمكن أن توقع في الرياء!!
(علامات الإخلاص :
(1) الحماس للعمل للدين.
(2) أن يكون عمل السر أكبر من عمل العلانية.
(3) المبادرة للعمل واحتساب الأجر.
(4) الصبر والتحمل وعدم التشكي.
(5) الحرص على إخفاء العمل.
(6) إتقان العمل في السر.
(7) الإكثار من العمل في السر.
مسألة : علامات الإخلاص في البكاء من خشية الله؟
(أولاً: ألا تجد في نفسك محبةَ أن يمدحك الناس لبكائك أو يُثنوا عليك.
فإن أصابك هذا المرض ووجدت في نفسك حب مدح الناس لك والثناء عليك، فالعلاج أن تجيب على الأسئلة التالية، ثم تبلع الإجابات بماء الإخلاص:
س: هل سينفعك العباد بشيء يوم القيامة؟
س: هل سيقف معك أثناء العرض على الله من مدحك ليمدحك أمام الله ويدافع عنك؟
س: ثم هل تعلم أن الممدوح عند الناس قد يكون من شر الناس عند الله؟، فمدح الناس لك ليس مقياساً لقبول طاعاتك.
فلا تنشغل بمدح الناس أو ثنائهم فتتعب نفسك وتضر دينك ويحبط عملك كله.
(ثانياً: ألا تجد في قلبك عجباً بطاعتك :
فقد يبتعد الباكي عن أعين الناس، أو يداريه عنهم طلباً للإخلاص ولكن يتسرب العجب بالعمل إلى نفسه ويرى أنه قد عمل شيئاً عظيماً.
فإن أصابك هذا المرض ـ وهو العجب بالطاعة ـ فالعلاج أن تجيب على الأسئلة التالية أيضاً، وتفعل بها كسابقتها:
س: من صاحب الفضل عليك في هذا الأمر؟
س: من الذي رزقك شرف البكاء من خشيته؟(1/412)
س: هل المعقول فيمن يُعطى شيئاً لم يخترعه أو يصنعه أن يعجب به أم يبادر بشكر المعطي على تفضله وإنعامه؟
س: ثم هل تضمن حالك غداً؟
س: هل تضمن أنك ستستمر على الطاعة؟
س: هل تعلم أيختم لك بالخير أم بالشر؟
س: فهل يعقل أن تعجب بعمل أنت في شك من دوامه؟
نسأل الله الثبات.
(ثالثاً: ألا تجد في قلبك استصغاراً للآخرين أو احتقاراً لهم لأنك صاحب طاعة لم ينالوا شرفها.
فإن أصابك هذا المرض ـ وهو احتقار الآخرين ـ فالعلاج أن تجيب على الأسئلة التالية ثم تلحقها بسابقتها:
س: هل تعلم أن من تزدريه قد يكون أتقى لله منك وأطهر قلباً وأخلص نية وأزكى عملاً؟
س: هل تضمن أن الله قد قبل منك طاعة البكاء من خشيته؟
س: هل تعلم أن الله لعله قبل من هذا الرجل عملاً فأدخله به الجنة، وأنت قد تكون لم يقبل منك صرفاً ولا عدلاً؟
فإن أجبت على هذه الأسئلة وتخلصت من أمراض الإخلاص المذكورة فلا تظن أنك قد حققت الإخلاص، فتكون كالمريض الذي أخذ الدواء فظن أنه قد شفي.
اتهم نفسك دائماً.. واحذر أن تكون مرائياً من حيث لا تعلم.
واعلم أن من ادعى أنه حقق الإخلاص فهو رأس المرائين نعوذ بالله من ذلك.
(2) الدعاء:
[*](إن من المعلوم شرعاً أن الناس في أمس الحاجة إلى الدعاء لأنهم مفتقرون إلى الله تعالى في جلب مصالحهم ودفع مضارهم، في أمور دينهم ودنياهم، قال تعالى: {يا أيها النَّاسُ أنتُمُ الفُقراءُ إلى اللهِ واللهُ هوَ الغنيُّ الحَميدُ} [ فاطر /15 ]
ومما يوضح ذلك ويبينه الحديث الآتي :(1/413)
(حديث أبي ذرٍ في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : قال الله تعالى : يا عبادي ! إني حرمت الظلم على نفسي و جعلته بينكم محرما فلا تظالموا يا عبادي ! كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم ، يا عبادي ! كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم ، يا عبادي ! كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم ، يا عبادي ! إنكم تخطئون بالليل و النهار و أنا أغفر الذنوب جميعا فاستغفروني أغفر لكم ، يا عبادي ! إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني و لن تبلغوا نفعي فتنفعوني ، يا عبادي ! لو أن أولكم و آخركم و إنسكم و جنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا ، يا عبادي ! لو أن أولكم و آخركم و إنسكم و جنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا ، يا عبادي ! لو أن أولكم و آخركم و إنسكم و جنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر ، يا عبادي ! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله و من وجد غير ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسه .
(فلا يوجد مؤمن إلا ويعلم أن النافع الضار هو الله سبحانه ، وأنه تعالى يعطي من يشاء ، ويمنع من يشاء ، ويرزق من يشاء بغير حساب ، وأن خزائن كل شيء بيده ، وأنه تعالى لو أراد نفع عبد فلن يضره أحد ولو تمالأ أهل الأرض كلهم عليه ، وأنه لو أراد الضر بعبد لما نفعه أهل الأرض ولو كانوا معه . لا يوجد مؤمن إلا وهو يؤمن بهذا كله ؛ لأن من شك في شيء من ذلك فليس بمؤمن ، قال الله تعالى : {وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ }
[ يونس : 107] .(1/414)
فلا ينفع ولا يضر إلا الله تعالى { إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ } [ النحل : 53]
{ وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ } [ الإسراء : 67] سقطت كل الآلهة ، وتلاشت كل المعبودات وما بقي إلا الله تعالى { ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ }[ الإسراء : 67] {قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً } [الفتح :11]
لا يسمع دعاء الغريق في لجة البحر إلا الله . ولا يسمع تضرع الساجد في خلوته إلا . ولا يسمع نجوى الموتور المظلوم وعبرته تتردد في صدره ، وصوته يتحشرج في جوفه إلا الله . ولا يرى عبرة الخاشع في زاويته والليل قد أسدل ستاره إلا الله {وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى {7} اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى }[طه:8]
(وهذا يقتضي أن جميع الخلق مفتقرون إلى الله تعالى في جلب مصالحهم ودفع مضارهم في أمور دينهم ودنياهم،
قال تعالى: (يَأَيّهَا النّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَآءُ إِلَى اللّهِ وَاللّهُ هُوَ الْغَنِيّ الْحَمِيدُ) [فاطر / 15]
فالعباد لا يملكون لأنفسهم شيئاً من ذلك كله، وأن من لم يتفضل الله عليه بالهدى والرزق، فإنه يحرمها في الدنيا، ومن لم يتفضل الله عليه بمغفرة ذنوبه أوْبَقَتْه خطاياه في الآخرة (1) .
فجميعُ الخلق مفتقرون إلى الله، مفتقرون إلى الله في كل شؤونِهم وأحوالِهم، وفي كلِ كبيرةٍ وصغيره، وفي هذا العصرُ تعلقَ الناسُ بالناسِ، وشكا الناسُ إلى الناس، ولا بئسَ أن يُستعانُ بالناس في ما يقدرون عليه، لكن أن يكونَ المُعتمَدُ عليهم، والسؤال إليهم، والتعلقُ بهم فهذا هو الهلاكُ بعينه، فإن من تعلق بشيٍ وكلَ إليه.
__________
(1) جامع العلوم والحكم لابن رجب رحمه الله 2/37.(1/415)
(والإنسان لا يستغني عن ربه طرفة عين ولا أقل من ذلك، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يردد كثيرا: " لا تكلني إلى نفسي طرفة عين .
( حديث أبي بكرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: دعوات المكروب: اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين و أصلح لي شأني كله لا إله إلا أنت .
فقيراً جئتُ بابك يا إلهي.........ولستُ إلى عبادك بالفقيرِ
غنياً عنهمُ بيقينِ قلبي...........وأطمعُ منك في لفضلِ الكبيرِ
الهي ما سألتُ سواك عونا......فحسبي العونُ من ربٍ قديرِ
الهي ما سألتُ سواك عفوا.....فحسبي العفوُ من ربٍ غفورِ
الهي ما سألتُ سواك هديا.....فحسبي الهديُ من ربٍ بصيرِ
إذا لم أستعن بك يا الهي......فمن عونيِ سواك ومن مجيرِ
إن الفرار إلى الله، واللجوء إليه في كلِ حالٍ وفي كل كربٍ وهم، هو السبيلُ للتخلصَ من ضعفنا وفتورنا وذلنا و هواننا.
إن في هذه الدنيا مصائبَ ورزايا، ومحناً وبلايا، آلامُ تضيقُ بها النفوس، ومزعجاتُ تورث الخوفَ والجزع، كم في الدنيا من عينٍ باكيةٍ ؟
وكم فيها من قلب حزين؟
وكم فيها من الضعفاءِ والمعدومين، قلوبُهم تشتعل، ودموعُهم تسيل ؟ هذا يَشْكُ علةً وسقما، عزيزٌ قد ذل، وغنيٌ افتقر، وصحيحٌ مرض، رجل يتبرم من زوجه وولده، وآخرُ يشكُ ويئنُ من ظلمِ سيده.
وثالثٌ كسدة وبارت تجارته، شاب أو فتاة يبحث عن عروس، وطالب يشكو كثرة الامتحانات والدروس.
هذا مسحور وذاك مدين ،وأخر ابتليَ بالإدمان والتدخين، ورابعُ أصابه الخوفُ ووسوسةُ الشياطين.
وذاك حاجةً وفقرا.
وآخر هماً وقلقا.
تلك هي الدنيا، تضحكُ وتبكي، وتجمعُ وتشتت، شدةُ ورخاءُ وسراءٌ وضراءُ.
وصدق الله العظيم: (لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ). [ الحديد / 23 ](1/416)
فارفع يديك وأسل دمع عينيك، وأظهر فقرك وعجزك، واعترف بِذُلِكَ وضَعْفَك.
(والدعاء سلاحٌ عجيب ٌ فَعَّال وسهمٌ نافذ لا يخيب :
إن الحياة قد طبعت على كدر، وقلما يسلم الإنسان من خطر، مصائب وأمراض، حوادث وأعراض، أحزان وحروب وفتن، ظلم وبغي، هموم وغموم.
ويتقلب الناس في هذه الدنيا بين فرح وسرور ، و شدة وبلاء ، وفقر وغنى وتمر بهم سنين ينعمون فيها ، وتعصف بهم أخرى عجاف ، يتجرعون فيها الغصص أو يكتوون بنار البُعد والحرمان .
وهذه هي حقيقة الدنيا إقبال وإدبار فرح وحزن ، شدة ورخاء ، سقم وعافية إلا أن الله تعالى لطيف بعباده رحيم بخلقه، فتح لهم باباً يتنفسون منه الرحمة، وتنزل به على قلوبهم السكينة والطمأنينة، ألا وهو باب الدعاء.
ولا يزال المؤمن بخير ما تعلق قلبه بربه ومولاه ، كيف لا يكون كذلك وبيده سلاح لا كأي سلاح ، سلاح لا تصنعه مصانع الغرب أو الشرق , إنه أقوى من كل سلاح مهما بلغت قوته ودقته ، والعجيب في هذا السلاح أنه عزيز لا يملكه إلا صنف واحد من الناس, لا يملكه إلا المؤمنون الموحدون, إنه سلاح رباني ، سلاح الأنبياء والأتقياء على مرّ العصور.
سلاح نجى الله به نوحًا عليه السلام فأغرق قومه بالطوفان , ونجى الله به موسى عليه السلام من الطاغية فرعون, نجى الله به صالحًا, وأهلك ثمود, وأذل عادًا وأظهر هودَ عليه السلام, وأعز محمدًا صلى الله عليه وسلم في مواطن كثيرة.
سلاح حارب به رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أعتى قوتين في ذلك الوقت: قوة الفرس, وقوة الروم, فانقلبوا صاغرين مبهورين، كيف استطاع أولئك العرب العزَّل أن يتفوقوا عليهم وهم من هم, في القوة والمنعة, ولا يزال ذلكم السلاح هو سيف الصالحين المخبتين مع تعاقب الأزمان وتغير الأحوال ’ تلكم العبادة وذلكم السلاح هو الدعاء .
هذا السلاح يطفيء نيران الدبابات .
بل إن الاسرى يُفكون بهذا السلاح(1/417)
جاء مالك الأشجعى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أُسر ابنى عوف فقال له النبى صلى الله عليه وسلم أرسل إليه أن رسول الله يأمرك أن تكثر من قول : لا حول ولا قوة إلا بالله وكانوا قد شدوا قيده فسقط القيد فخرج فإذا هو بناقة لهم فركبها و أقبل فمر بغنم للعدو فاستاقها فجاء بها إلى أبيه وقص عليه الخبر فقال أبوه قف حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عنها ، فلما أخبره بذلك قال صلى الله عليه وسلم ( اصنع بها ما أحببت ونزل قول الله تعالى ( ومن يتق الله يجعل له مخرجا ) (1)
(والدعاء ينفع مما نزل و مما لم ينزل ، وسهمٌ لا يخيب وأعجز الناس من عجز عن الدعاء ، وإليك غيضٌ من فيض ونقطةٌ من بحر مما ورد في هذا :
( حديث عائشة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :لا يغني حذر من قدر و الدعاء ينفع مما نزل و مما لم ينزل و إن البلاء لينزل فيتلقاه الدعاء فيعتلجان إلى يوم القيامة .
(حديث أبي هريرة في صحيح الترمذي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ما من رجل يدعو بدعاء إلا استجيب له فإما أن يعجل له في الدنيا و إما أن يدخر له في الآخرة ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم أو يستعجل .
(حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب) أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيهَا إِثْمٌ وَلا قَطِيعَةُ رَحِمٍ إِلاَّ أعْطَاهُ اللَّهُ بِهَا إِحْدَى ثَلاث:ٍ إِمَّا أنْ تُعَجَّلَ لَهُ دَعْوَتُهُ، وَإِمَّا أنْ يَدَّخِرَهَا لَهُ فِي الآخِرَةِ، وَإِمَّا أنْ يَصْرِف عَنْهُ مِنْ السُّوءِ مِثْلَهَا" قَالُوا: إِذًا نُكْثِرُ، قَالَ :" اللَّهُ أكْثَرُ "0
__________
(1) - ابن جرير فى تفسيره(1/418)
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :إن أبخل الناس من بخل بالسلام وأعجز الناس من عجز عن الدعاء .
(أعجز الناس من عجز عن الدعاء) : أعظم ما يشق على المسلم أن يغلق عليه في الدعاء،
[*] قال عمر بن الخطاب :
" أني لا أحمل هم الإجابة ولكن أحمل همّ الدعاء" فاذا فتح على العبد في دعائه من معاني الحمد والثناء دعا الله وحسن الظن به والتعلق والرجاء به وتعظيم الرغبة مما عند الله والثقة بوعد الله فينبغي عليه أن يقبل على الدعاء وأن يصرف همته في ذلك لاسيما في الأزمان والأماكن الفاضلة , وعند نزول الضر وحصول الشدائد, ومن أكثر طرق هذا الباب فتح له, وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
[*] يقول جعفر الصادق رضي الله عنه :
عجبت لأربعة كيف يغفلون عن أربع:
عجبت لمن أصابه ضر كيف يغفل عن قول الله: (أَنّي مَسّنِيَ الضّرّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرّاحِمِينَ) [الأنبياء / 83]
والله سبحانه وتعالى يقول: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرّ) [الأنبياء / 84]
وعجبت لمن أصابه غم كيف يغفل عن قول الله: (لاَّ اله إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنّى كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) [ الأنبياء /87 ]
والله سبحانه وتعالى يقول: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمّ وَكَذالِكَ نُنجِى الْمُؤْمِنِينَ) [ الأنبياء /88 ]
وعجبت لمن يخاف كيف يغفل عن: (حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) [ آل عمران /173]
،والله تعالى يقول: (فَانْقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوء) [ آل عمران /174]
وعجبت لمن يمكر به الناس كيف يغفل عن (وَأُفَوّضُ أَمْرِى إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ) [ غافر /44 ]
، والله تعالى يقول: (فَوقَاهُ اللَّهُ سَيّئَاتِ مَا مَكَرُواْ وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوء الْعَذَابِ)
[ غافر /45 ](1/419)
أخى : أمن يجيب المضطر إذا دعاه ،
أخى : هل عندك أسير تريد فك أسره ،
أخى : ألست فى حاجة إلى الله ( يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله)
أخي : في كل ذلك عليك بالتضرع إلى الله ،،،،،،،،،
أخي الحبيب هل وقفت مع نفسك ؟
كم مرة انطرحت بين يدي الله ؟
كم مرة أحسستَ فيها بصدق المناجاة ؟
أليس لك حاجة بل حاجات إلى رب الأرض والسماوات ؟
أعجَزتَ أن تنفع نفسك بدعوة صالحة ؟ علّ الله أن ينفعك بها .
أخي من أدمن طرق الباب يوشك أن يفتح له ..... زد في الطرق يزاد لك في العطاء من رب الارض والسماوات .
إلهي :
كم لك سواي، وما لي سواك، عبيدك سواي كثير وليس لي سيد سواك ، فبفقري إليك وغناك عني ، وبقوتك وضعفي ، وبعزك وذلي ، إلا رحمتني وعفوت عني ، هذه ناصيتي الكاذبة الخاطئة بين يديك، أسألك مسألة المسكين ، وأبتهل إليك ابتهال الخاضع الذليل، وأدعوك دعاء الخائف الضرير، سؤال من خضعت لك رقبته، ورغم لك أنفه، وفاضت لك عينه، وذل لك قلبه، الله لا تعذب نفساً قد عذبها الخوف منك ، ولا تخرس لساناً كل ما يرويه عنك، ولا تقذ (أى لا تعمي) بصراً طالما بكى من مخافتك، ولا تخيب رجاء هو معلق بك ، ولا تحرق بالنار وجهاً سجد لعظمتك ، ولا تعذب بناناً كتب في طاعتك ولا لساناً دل الناس على شريعتك !! يا أرحم الراحمين !! يا الله .
اللهم يا موضع كل شكوى، ويا سمع كل نجوى، ويا شاهد كل بلوى، يا عالم كل خفية، و يا كاشف كل بلية، يا من يملك حوائج السائلين، ويعلم ضمائر الصامتين ندعوك دعاءَ من أشدت فاقته، وضعفت قوته، وقلت حيلته دعاء الغرباء المضطرين الذين لا يجدون لكشف ما هم فيه إلا أنت.
يا أرحم الراحمين أكشف ما بنا وبالمسلمين من ضعف وفتور وذل وهوان.
يا سامعا لكل شكوى أعن المساكين والمستضعفين وأرحم النساء الثكالى والأطفال اليتامى وذي الشيبة الكبير، إنك على كل شيء قدير.(1/420)
(ألم يأن لنا أن ننتبه إلى أن الدعاءُ أكرم شيء على الله، شرعه الله لحصول الخير ودفع الشر، فالدعاءُ سبب عظيم للفوز بالخيرات والبركات، وسببٌ لدفع المكروهات والشرورِ والكربات، والدعاءُ من القدَر ومن الأسبابِ النافعة الجالبة لكلِّ خير والدافعة لكل شرّ .
الدعاء به تُفرّجُ الشِّدّائد ، وتُنفّسُ الكُرب فكم سمعنا عمن أُغلقت في وجهه الأبواب ، وضاقت عليه الأرض بما رحبت ، ثم طَرَقَ باب مسبب الأسباب ، وألحّ على الله في الدعاء، ورفع إليه الشكوى ، وبكى فَفُتِحَتْ له الأبواب ، وانفرج ما به من شِدّة وضيق .
ألم تسمع قصة أولئك الثلاثة الذين دخلوا غاراً فأغْلَقَتْ عليهم الباب صخرةٌ عظيمة ، فما كان منهم إلا أن دعوا الله بصالح أعمالِهم وأخلصِها ، فانفرجت الصخرةُ وخرجوا يمشون .(1/421)
(حديث بن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (انطلق ثلاثة رهط ممن كان قبلكم، حتى أووا المبيت إلى غار فدخلوه، فانحدرت صخرة من الجبل فسدت عليهم الغار، فقالوا: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعو الله بصالح أعمالكم، فقال رجل منهم: اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت لا أغبق قبلهما أهلا ولا مالا، فناء بي في طلب شيء يوما، فلم أرح عليهما حتى ناما، فحلبت لهما غبوقهما فوجدتهما نائمين، وكرهت أن أغبق قبلهما أهلا أو مالا، فلبثت والقدح على يدي أنتظر استيقاظهما حتى برق الفجر، فاستيقظا فشربا غبوقهما، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة، فانفرجت شيئا لا يستطيعون الخروج، قال النبي صلى الله عليه وسلم: وقال الآخر: اللهم كانت لي بنت عم كانت أحب الناس إلي، فأدرتها عن نفسها فامتنعت مني، حتى ألمت بها سنة من السنين، فجاءتني فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تخلي بيني وبين نفسها، ففعلت حتى إذا قدرت عليها قالت: لا أحل لك أن تفض الخاتم إلا بحقه، فتحرجت من الوقوع عليها، فانصرفت عنها وهي أحب الناس إلي وتركت الذهب الذي أعطيتها، اللهم إن كنت فعلت ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها، قال النبي صلى الله عليه وسلم: وقال الثالث: اللهم إني استأجرت أجراء فأعطيتهم أجرهم غير رجل واحد ترك الذي له وذهب، فثمرت أجره حتى كثرت منه الأموال، فجاءني بعد حين، فقال: يا عبد الله أد إلي أجري، فقلت له: كل ما ترى من أجرك، من الإبل والبقر والغنم والرقيق، فقال: يا عبد الله لا تستهزئ بي، فقلت: إني لا أستهزئ بك، فأخذه كله فاستاقه فلم يترك منه شيئا، اللهم فإن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة فخرجوا يمشون).(1/422)
(ألم يأن لنا جميعاً أن نمد أيدينا إلى مالك الملك ، وإلى مَنْ بيده ملكوت كلّ شيء ، وهو يُجير ولا يُجار عليه ؟
ونقول :-
يا أمان الخائفين سبحانك ما أحلمك على من عصاك وما أقربك ممن دعاك وما أعطفك على من سألك وما أرافك بمن أملك، من الذي سألك فحرمته، ومن الذي فر إليك فطردته أو لجأ إليك فأسلمته ، أنت ملاذنا ومنجانا فلا نعول إلا عليك ولا نفر من خلقك ومنك إلا إليك يا أمان الخائفين .
فلماذا البخل على أنفسنا ؟
إلى متى العجز والكسل ؟
إن ما بيننا وبين السماء السابعة سوى مسافة دعوة مظلوم .
وما بيننا وبين باب ذي المنن سوى قَرْعِهِ وإدامة ذلك .
(فادع يا أخي وزد في الدعاء بالليل والنهار فلن تخيب دعواتك فإن الدعاء سهمٌ لا يخيب :
(حديث أبي هريرة في صحيح الترمذي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ما من رجل يدعو بدعاء إلا استجيب له فإما أن يعجل له في الدنيا و إما أن يدخر له في الآخرة ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم أو يستعجل .
(حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب) أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيهَا إِثْمٌ وَلا قَطِيعَةُ رَحِمٍ إِلاَّ أعْطَاهُ اللَّهُ بِهَا إِحْدَى ثَلاث:ٍ إِمَّا أنْ تُعَجَّلَ لَهُ دَعْوَتُهُ، وَإِمَّا أنْ يَدَّخِرَهَا لَهُ فِي الآخِرَةِ، وَإِمَّا أنْ يَصْرِف عَنْهُ مِنْ السُّوءِ مِثْلَهَا" قَالُوا: إِذًا نُكْثِرُ، قَالَ :" اللَّهُ أكْثَرُ "0
أتهزأُ بالدعاءِ وتزدريهِ ... وما تدري بما صنع الدعاءُ
سهامُ الليلِ لا تُخطي ولكن ... لها أمدٌ وللأمدادِ انقضاءُ
(فضائل الدعاء :(1/423)
( الدعاء له فضلٌ عظيم وأجرٌ جسيم ، وللدعاء فضائل لا تحصى، وثمرات لا تعد،وهو طريق النجاة، وسلم الوصول، ومطلب العارفين، ومطية الصالحين، ومفزع المظلومين، وملجأ المستضعفين، به تُستجلب النعم، وبمثله تُستدفع النقم ، والدعاء سبب لتفريج الهموم وزوال الغموم، وانشراح الصدور، وتيسير الأمور، وفيه يناجي العبدُ ربّه، ويعترف بعجزه وضعفه، وحاجته إلى خالقه ومولاه ، والدعاء سلاحٌ متين وحرزٌ مكين وسهمٌ صائبٌ لا يخطئ ، والموفق من وفق للدعاء ، والدعاء شعيرة جليلة، وعبادة فاضلة، بل هو من أفضل العبادات ، ما أشد حاجة العباد إليه، وما أعظم ضرورتهم إليه، لا يستغني عنه المسلم بحال من الأحوال ،والدعاء ومن أعظم مقامات الألوهية، ومن أعظم ما يرفع البلاء والعقوبات بإذن الله سبحانه وتعالى، بل إن الله عز وجل أخبر إن الدعاء هو العبادة، لأنه ركنها الركين، وأساسها المتين، وقال سبحانه: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ). [سورة غافر، الآية: 60].
وحقيقة الدعاء هو طلب الحاجة ممن يملكها، ونحن محتاجون دائما والله معط متفضل، ونحن فقراء والله الغني، إن هذا التوجه إلى الملك هو العبادة .
وسمى الله تعالى الدعاء عبادة، و تكفل بالإجابة لمن دعا، (وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ). [سورة التوبة، الآية: 111]. (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً). [سورة النساء، الآية: 122]. فقد قال سبحانه: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إذا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ). [سورة البقرة، الآية: 186].(1/424)
(وقد سأل أعرابي الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أقريب ربنا فنناجيه، أم بعيد فنناديه؟! فسكت النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إذا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ). [سورة البقرة، الآية: 186].
[*] قال ابن كثير في تفسيره على الآية: المراد أنَّه تعالى لا يُخَيِّبُ دُعَاءَ دَاعٍ ولا يُشْغَلُهُ عنه شيء، بل هو سَمِيعُ الدُّعَاءِ، ففيه تَرْغِيبٌ في الدُّعَاءِ وأنه لا يَضِيعُ لَدَيْهِ سُبْحَانَهُ0
{ تنبيه } :( قول الله جل وعلا: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ
(في هذه الآية لفتة عجيبة ينبغي أن ننتبه وأن نلتفت إليها:
ما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن سؤال إلا وكان الجواب من الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله جل وعلا: قل يا محمد كذا وكذا قال الله: يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [البقرة:189] .. وَيَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ [البقرة:219] .. يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ [البقرة:217] .. وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً [البقرة:222] .. يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ [الأنفال:1] .. يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ [الأحزاب:63]
(إلا في هذه الآية، فلم يقل ربنا جل وعلا لنبيه صلى الله عليه وسلم: وإذا سألك عبادي عني فقل، لا والله، وإنما تولى الله جل وعلا بذاته العلية الإجابة على عباده، فقال سبحانه: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ [البقرة:186] ولم يقل: قل: يا محمد إني قريب،
لماذا؟(1/425)
حتى لا تكون هناك واسطة بين العبد وبين الله جل وعلا، ولو كانت هذه الواسطة هي رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا واسطة بين العبد وبين الله، ادع الله جل وعلا في أي وقت شئت، ارفع أكف الضراعة إلى الله، لا تسأل نبياً ولا تسأل ولياً، وإنما سل الله الواحد القهار، ارفع أكف الضراعة إليه في أي وقت شئت، بل وفي أي مكان شئت، لترى الله جل وعلا سميعاً بصيراً مجيب الدعاء. : وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ [البقرة:186] لا سؤال إلا منه، ولا طلب إلا منه، ولا رجاء إلا فيه، ولا توكل إلا عليه، ولا تفويض إلا إليه، ولا استعانة إلا به، ولا استغاثة إلا به، ولا ذبح إلا له، ولا نذر إلا له، ولا حلف إلا به، ولا طواف إلا ببيته جل وعلا، فلتكن عقيدتك وليكن توحيدك وإيمانك، أن ترفع إلى الله أكف الضراعة، بقولك: اللهم إني أبرأ من الثقة إلا بك، ومن الأمل إلا فيك، ومن التسليم إلا لك، ومن التفويض إلا إليك، ومن التوكل إلا عليك، ومن الصبر إلا على بابك، ومن الذل إلا في طاعتك، ومن الرجاء إلا لما في يديك الكريمتين، ومن الرهبة إلا لجلالك العظيم: (إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله).
الجأ إلى الله جل وعلا، واعلم بأن الله سميع قريب يجيب الدعاء، يسمع دبيب النملة السوداء، تحت الصخرة الصماء، في الليلة الظلماء، قال تعالى: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ [المجادلة:1] تقول أمنا عائشة رضي الله عنها: [والله لقد كنت في جانب الغرفة فما سمعت حوار المجادلة، وسمعه الله من فوق سبع سماوات] نعم إنه السميع القريب المجيب: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا [المجادلة:1]..(1/426)
(وبَيَّنَ تعالى أنَّه يُنْعِمُ على من تَوَجَهَ إليه بالدُّعَاء، بِنِعْمَةِ الإجابة ولايَرُدُّهُ خائباً فقال { وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ } ( 75 ـ الصافات )
[*] قال ابن الجوزي في تفسيره زَادُ اَلْمَسِيرِ على الآية الكريمة { نَادَانَا } أي دَعَانَا، وقال الرازي: هذه اللفظة العظيمة { فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ } تدل على أن الإجابة من النِّعَمِ العظيمة، فسبحانه عبَّر عن ذاته بصيغة اَلْجَمْعِ فقال { نَادَانَا } والقَادِرُ العَظِيمُ لا يَلِيقُ به إلا الإحْسَانُ العظيم، وسبحانه أعَادَ صيغة الجَمْعِ في قوله { فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ } ليدل على تَعْظِيمِ تلك النِّعْمَةِ، لا سيما وقد وُصِفَتُ تلك الإجابة بأنَّها نِعْمَتُ الإجابة، والفَاءُ في قوله تعالى { فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ } يدل على أنَّ حُصُولَ هذه الإجابة مُتَرَتِبٌ على ذلك الدُّعَاءِ ، وهذا يدل على أن الدُّعَاءَ بالإخْلاَصِ سَبَبٌ لِحُصُولِ الإجَابَةِ (1) 0
(حديث سلمان في صحيح أبي داوود والترمذي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال إن ربكم حيي كريم يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفرا .
قال العلماء: لا يَخْفَى أنَّ الكَرَمَ والحَيَاءَ إذا اجْتمَعَا يَكْونُ صَاحِبْهُمَا كَمَنْ يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ أنَّ يَتْرُكَ العَطَاءَ مِنَ السَّائِلِينَ والضُّعَفَاءِ (2) 0
ولله درُّ من قال :
أتهزأُ بالدعاءِ وتزدريهِ ... وما تدري بما صنع الدعاءُ
سهامُ الليلِ لا تُخطي ولكن ... لها أمدٌ وللأمدادِ انقضاءُ
(فالدعاء نعمةٌ عظيمة ، وَمِنَّةٌ عميمة ، امتن الله تعالى بها على عباده، حيث أمرهم بالدعاء، ووعدهم بالإجابة والإثابة .
__________
(1) بتصرف يسير عن تفسير الرازي على الآية ( 75 ـ الصافات ) 0
(2) أنظر شرح سنن ابن ماجه للسندي ، حديث رقم : 3855 0(1/427)
وشأن الدعاء عظيم، ونفعه عميم، ومكانته عالية في الدين، فما استجلبت النعم بمثله، ولا استدفعت النقم بمثله؛ ذلك أنه يتضمن توحيد الله، وإفراده بالعبادة دون من سواه، وهذا رأس الأمر، وأصل الدين.
(فما أشد حاجة العباد إلى الدعاء، بل ما أعظم ضرورتهم إليه؛ فالمسلم في هذه الدنيا لا يستغني عن الدعاء بحال من الأحوال.
فإن كان راعيًا ولاه الله رعية فما أحوجه إلى الدعاء؛ كي يثبت الله سلطانه، ويعينه على استعمال العدل في رعيته، ويحببه إلى رعيته، ويحبب الرعية إليه.
وإن كان داعيًا إلى الله _ تعالى _ فما أشد حاجته لدعاء ربه، وسؤاله الإعانةَ، والقبول، والتوفيق، والتسديد؛ ليثبت على الحق، ويصبر على عثار الطريق ومشاقه، ولتصيخ له الأسماع، وتَصْغى إليه الأفئدة .
وإن كان مجاهدًا في سبيل الله _ فما أعظم حاجته للدعاء، الذي يطلب به النصر، ويستنزل السكينة والثبات في اللقاء، ويسأل ربه خذلان الأعداء، وإنزال الرعب في قلوبهم، وهزيمتَهم، وتفرق كلمتهم .
وإن كان مريضًا فما أشد فاقته وأعظم حاجته للدعاء؛ ليستشفي به من مرضه، ويسأل به كشف كربته، وأن يمن الله عليه بالشفاء والعافية.
وبالجملة فالمسلمون _ بل ومن في الأرض كلهم جميعًا _ بأمسِّ الحاجة للدعاء، وإخلاصه لرب الأرض والسماء؛ ليصلوا بذلك إلى خيري الدنيا والآخرة ، فلن يهلك مع الدعاء أحد، فالسعيد من وفق لذلك، والمحروم من حرم لذة العبادة، أو أيس من رحمة الله وكان من القانطين ، من وفق للدعاء فقد وفق للقول السديد، والعمل الرشيد .
عجبت لمن ترك الدعاء ووقف بباب البشر وهو يعلم أن دعاؤهم هباء ، لا يجلب مرغوباً، ولا يمنع مكروهاً، ولكن لا عجب فليس كل أحدٍ يوفقُ للخير .(1/428)
(واعلم علم اليقين أنه بدعوةٍ تتقلب الأحوال، فالعقيم يولد له، والسقيم يُشفى، والفقير يُرزق، والشقي يسعد، بدعوةٍ واحدةٍ أُغرق أُهل الأرض جميعهم إلا من شاء الله: وَقَالَ نُوحٌ رَّبّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً [نوح:26]، وهلك فرعون بدعوة موسى وقال موسى: رَبَّنَا إِنَّكَ ءاتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِى الْحياةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الألِيمَ [يونس:88]، ووهب ما وهب لسليمان بغير حساب بسؤال ربه الوهاب، وشفى الله أيوب من مرضه بتضرعه أَنّى مَسَّنِىَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [الأنبياء:83]، وأغيث نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر بالملائكة، بتَبتُّلِه إلى موالاه، مع قلة العدد وذات اليد، إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مّنَ الْمَلَئِكَةِ مُرْدِفِينَ [الأنفال:9].
(فإذا كان الدعاء بهذه المنزلة العالية والمكانة الرفيعة _ فأجدر بالعبد أن يتفقه فيه، وأن يلم بشيء من أحكامه _ ولو على سبيل الإجمال _ ؛ حتى يدعو ربه على بصيرة وهدى، بعيدًا عن الخطأ والاعتداء؛ فذلك أرجى لقبول دعائه، وإجابة مسألته.
(فلا شيء أكرم على الله من الدعاء ، ما استجلبت النِّعم، ولا استدفعت النقم بمثله، به تفرج الهموم، وتزول الغموم، كفاه شرفا قرب الله من عبده حال الدعاء، وأعجز الناس من عجز عن الدعاء، وأضعفهم رأياً وأدناهم همة من تخلّف عن النداء، الدعاء هو عين المنفعة ورجاء المصلحة، ودعاءُ المسلم بين يدي جواد كريم يعطي ما سُئل، إما معجّلاً وإما مؤجّلاً .
[*] يقول ابن حجر -رحمه الله-: "كل داع يستجاب له، لكن تتنوع الإجابة، فتارة تقع بعين ما دعا به، وتارةً بعِوضه".(1/429)
(وللدعاء فضائل عظيمة، وثمرات جليلة، وأسرار بديعة، وهاك فضائل الدعاء جملةً وتفصيلا:
[*](أولاً فضائل الدعاء جملةً :
(1) أن الدعاء طاعة لله وامتثال لأمره تعالى :
(2) السلامة من الكبر:
(3) الدعاء هو العبادة :
(4) الدعاء أكرم شيء على الله :
(5) الدعاء سبب لدفع غضب الله :
(6) الدعاء دليل على التوكل على الله :
(7) الدعاء وسيلة لكبر النفس وعلو الهمة:
(8) الدعاء سلامة من العجز، ودليل على الكياسة:
(9) ثمرة الدعاء مضمونة بإذن الله :
(10) الدعاء سبب لدفع البلاء قبل نزوله:
(11) الدعاء سبب لرفع البلاء بعد نزوله:
(12) الدعاء يفتح للعبد باب المناجاة ولذائذها :
(13) حصول المودة بين المسلمين :
(14) الدعاء من صفات عباد الله المتقين :
(15) الدعاء سبب للثبات والنصرعلى الأعداء :
(16) الدعاء مَفْزَعُ المظلومين، وملجأ المستضعفين :
(17) الدعاء دليل على الإيمان بالله، والاعتراف له بالربوبية، والألوهية، والأسماء والصفات:
(18) وربنا سبحانه لا يعبأ بعباده لولا ضراعتهم إليه .
(19) والدعاء من صفات أنبياء الله وأصفيائه .
(20) الدعاء نفعه عميم ، نفعه يلحق الأحياء في دنياهم، والأمواتَ في لحودهم .
(21) الدعاء بإذن الله تعالى كفيلٌ بدفع البلاء ، ويمنع وقوع العذاب والهلاك .
(22) الدعاء أيضاً به يُستنزلُ النصر من الله العلي القدير :
(23) الدعاء يؤكد ثقة العبد بربه، حين يوقن بالإجابة :
[*](ثانياً فضائل الدعاء تفصيلا :
(1) أن الدعاء طاعة لله وامتثال لأمره تعالى :
قال تعالى :( وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) [ غافر/60 ]
وقال تعالى :( وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) [الأعراف/29 ]
فالداعي مطيع لله ، مستجيب لأمره.
(2) السلامة من الكبر:
قال تعالى : (وَقَالَ رَبّكُمْ ادْعُونِيَ أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنّ الّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنّمَ دَاخِرِينَ) [غافر / 60](1/430)
[*] قال الإمام الشوكاني في هذه الآية: والآية الكريمة دلت على أن الدعاء من العبادة؛ فإنه سبحانه وتعالى أمر عباده أن يدعوه، ثم قال:[إن الذين يستكبرون عن عبادتي].
فأفاد ذلك أن الدعاء عبادة، وأن ترك دعاء الرب _سبحانه_ استكبار، ولا أقبح من هذا الاستكبار.
وكيف يستكبر العبد عن دعاء من هو خالق له، ورازقه، وموجده من العدم، وخالق العالم أجمع، ورازقه، ومحييه، ومميته، ومثيبه، ومعاقبه؟!
فلا شك أن هذا الاستكبار طرف من الجنون، وشعبة من كفران النعم. (1)
(3) الدعاء هو العبادة :
قال تعالى: (وَمَن يَدْعُ مَعَ اللّهِ إِلَهَا آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبّه إِنّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ) [سورة: المؤمنون - الآية: 117]
(حديث النعمان ابن بشير في صحيحي أبي داوود والترمذي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : الدعاء هو العبادة .
[*] قال في تُحْفَةِ الأحْوَذِي بشرح جامع الترمذي (2) :
إنَّ الدُّعَاءَ هو الْعِبَادَةُ سَوَاءٌ اُسْتُجِيبَ أوْ لَمْ يُسْتَجَبْ لأنَّهُ إِظْهَارُ الْعَبْدِ الْعَجْزَ وَالاحْتِيَاجَ مِنْ نَفْسِهِ وَالاعْتِرَافَ بِأنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى إجَابَتِهِ كَرِيمٌ لا بُخْلَ لَهُ ولا فَقْرَ ولا اِحْتِيَاجَ لَهُ إِلَى شَيْءٍ حَتَّى يَدَّخِرَ لِنَفْسِهِ وَيَمْنَعَهُ مِن عِبَادِهِ، ثُمَّ قال: اِسْتُدِلَّ بِالآيةِ عَلَى أنَّ الدُّعَاءَ عِبَادَةٌ لأنَّهُ مَأْمُورٌ بِهِ وَالْمَأْمُورُ بِهِ عِبَادَةٌ، ثُمَّ نَقَلَ عن الطِّيبِيُّ أنَّه قال: الدُّعَاءُ هو إِظْهَارُ غَايَةِ التَّذَلُّلِ وَالافْتِقَارِ إِلَى اللَّهِ وَالاسْتِكَانَةِ لَهُ وَمَا شُرِعَتْ الْعِبَادَاتُ إِلاَّ لِلْخُضُوعِ لِلْبَارِي سُبْحَانَهُ وَإِظْهَارِ الافْتِقَارِ إليهِ تَعَالىَ0
__________
(1) تحفة الذاكرين للشوكاني ص28.
(2) أنظر باب: الدعوات عن رسول الله، حديث رقم: 3294 0(1/431)
[*] وقال الفَخْرُ الرَّازي (1) : لا مَقْصُودَ من جميع التَّكَالِيفِ إلا مَعْرِفَةُ ذُلِّ العُبُودِيَةِ وعِزَّ الرُّبوبِيَةِ، فإذا كان الدُّعَاءُ مُسْتَجْمِعاً لهذين المَقَامَيْنِ، لا جَرَمَ كان الدُّعَاءُ أعْظَمَ أنواع العبادات 0
[*] وقال الشوكاني (2) : الآية الكريمة دَلَّتْ على أن الدُّعَاءَ من العبادة، فإنه سبحانه وتعالى أمَرَ عباده أن يَدْعُوهُ ثم قال: { إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي } فأفاد ذلك أن الدُّعَاءَ عِبَادَةٌ، وأنَّ تَرْكَ دُعَاءُ الرَّبِّ سبحانه اسْتِكْبَارٌ ، ولا أقْبَحَ من هذا الاسْتِكْبَار 0
[*] وقال الفَخْرُ الرَّازي (3) : من المعلوم بالضرورة أن الإنسان لا يَنْتَفِعُ في يوم القيامة إلا بطاعة الله تعالى، فلا جَرَمَ كان الاشتغال بالطَّاعَةِ مِنْ أهَمِّ اَلْمُهِمَاتِ، ولَمَّا كان أشرف أنواع الطَّاعات الدُّعَاءُ والتَّضَرُعُ، لا جَرَمَ أمَرَ الله سبحانه وتعالى به في هذه الآية فقال: { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أسْتَجِبْ لَكُمْ }0
[*] وقال السِنْدِيُّ في شرحه لِسُنَنِ ابن مَاجَه :
الدُّعَاءُ من وظائف العبودية بل أعلاها00 ومن يعلم أن حقيقة العبادة إظُهَارُ التَّذَلُلِ والاِفْتِقَارِ والاِسْتِكَانَةِ، والدُّعَاءُ في ذلك في الغاية القصوى، يَظْهَرُ له سِرُّ كَوْنَ الدُّعَاءِ مُخُّ العِبَادَةِ (4) 0
__________
(1) أنظر تفسير الرازي على الآية ( 55 ـ الأعراف ) 0
(2) أنظر تحفة الذاكرين ، ص 28 0
(3) أنظر تفسيره على الآية ( 60 ـ الأعراف ) 0
(4) أنظر شرح السندي لسنن ابن ماجه على الحديث رقم : 3817 ، وحديث " الدعاء مخ العبادة " رواه الترمذي وضعفه الألباني 0(1/432)
[*] وقال الشيخ علي الحُذَيْفِيُّ : الدُّعَاءُ تتحقق به عبادة ربِّ العالمين؛ لأنه يتضمَّن تَعَلُّقَ القلبِ بالله تعالى، والإخلاص له، وعدم الاِلْتِفَاتِ إلى غير الله عزّ وجلّ في جَلْبِِ النَّفْعِ ودَفْعِ الضُّرِ، ويتضمَّن الدُّعَاءُ اليقين بأن الله قدير لا يُعجزه شيء00 ويتضمَّن الدّعاءُ اِفْتِقَارَ العبدِ وشِدَّةَ اضطرارِه إلى ربّه، وهذه المعَاني العظيمةُ هي حقيقةُ العِبادة (1) 0
(فالدعاء من أعظم العبادة لله تعالى ، لأن فيه إظهاراً للذل والفاقة والحاجة إلى الله عز وجل ، وفيه خضوع وخشوع له سبحانه من عبده الذي يدعوه .
(فإذا علمت أن الدُّعَاءَ عِبَادَةٌ، فالأصل فيها: الاِتِّباَعُ وَعَدَمِ الاِعْتِدَاءِ، والاِتِّباَعُ في عِبَادَةِ الدُّعَاء يَجْمَعُ لك أجْرَيْنِ: أجْرُ الدُّعَاءِ، وأجْرُ الاِتِّباَعِ 0
{ تنبيه } :( الذي يتأمل في قوله - صلى الله عليه وسلم - ( الدعاء هو العبادة) يتضح له وضوحاً جلياً كيف أن الله تعالى كرمه فياضٌ وجوده متتابع حيث جعل سؤال عباده له لقضاء حوائجهم من أعظم العبادات وأجلِّ القربات فعظَّم الرغبة عندهم في الدعاء حتى قال ( الدعاء هو العبادة) ، بل وذم ترك الدعاء وعدَّه استكباراً عليه وهدده بأشدِ أنواع التهديد حيث قال تعالى: (وَقَالَ رَبّكُمْ ادْعُونِيَ أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنّ الّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنّمَ دَاخِرِينَ)
__________
(1) من خطبة الجمعة في المسجد النبوي بالمدينة المنورة لفضيلة الشيخ : علي الحذيفي بتاريخ : 13- 4-1424هـ وهي بعنوان : فضل الدعاء وآدابه ، يمكن قراءتها أو الاستماع إليها عبر موقع : www.alminbar.net على الشبكة العنكبوتية 0(1/433)
(والدعاءُ تتحقَّق به عبادةُ ربِّ العالمين؛ لأنَّه يتضمَّن تعلّقَ القلب بالله تعالى، والإخلاصَ له، وعدمَ الالتفات إلى غير الله عز وجل في جلبِ النفع ودفع الضرّ، ويتضمَّن الدعاءُ اليقينَ بأنّ الله قدير لا يُعجزه شيء، عليم لا يخفى عليه شيء، رحمن رحيم، حيّ قيّوم، جواد كريم، محسِن ذو المعروف الذي لا ينقطع أبداً، لا يُحَدُّ جودُه وكرمه، ولا ينتهي إحسانُه ومعروفه، ولا تنفد خزائن بركاته.
فالدعاء استعانة من عاجز ضعيف بقوي قادر، واستغاثة من ملهوف برب قادر، وتوجه ورجاءٌ إلى مصرِّفِ الكون ومدبِّر الأمر، لِيُزيلَ عِلَّة، أو يَرْفَعَ مِحْنَة، أو يَكْشِفَ كُرْبَة، أو يُحَقِّقَ رجاءً أو رَغْبَة...قائلاً(
يا أمان الخائفين سبحانك ما أحلمك على من عصاك وما أقربك ممن دعاك وما أعطفك على من سألك وما أرأفك بمن أمَلك، من الذي سألك فحرمته، ومن الذي فر إليك فطردته أو لجأ إليك فأسلمته ، أنت ملاذنا ومنجانا فلا نعول إلا عليك ولا نفر من خلقك ومنك إلا إليك يا أمان الخائفين .
إن المؤمن حين يستنفذ الأسبابَ في عمل مشروع، ويستعصي عليه الأمرُ، والأسبابُ لا تُوصِلُهُ إلى ما يسْعَى من أجْلِهِ، ينقلُ الأمر كلَّهُ منْ قدُراتِهِ هو إلى قدرة الله، ويفزَعُ إلى الله تعالى واهبِ الأسباب ويقولُ: يا رب، ويدعو... فالأسباب إذا تخلَّتْ فلن يتخلى عنه الله... فهو سبحانه يجيب دعوة المضطرين...
فلأجلِ هذه الصفات العظيمة وغيرِها يُرجى ربُّنا ويُدعى، ويسأله من في السموات والأرض حاجاتِهم باختلاف لغاتِهم فما أعظمَ شأنَ الدعاء، وما أجلَّ آثارَه .
فالدعاء من أعظم العبادات ، فيه يتجلى الإخلاص والخشوع ، ويظهر صدق الإيمان, وتتمحص القلوب, وهو المقياس الحقيقي للتوحيد ، ففي كلامٍ لشيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ: إذا أردت أن تعرف صدق توحيدك فانظر في دعائك.
(4) الدعاء أكرم شيء على الله :(1/434)
(حديث أبي هريرة في صحيحي الترمذي وابن ماجة ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ليس شيء أكرم على الله من الدعاء .
[*] قال في تُحْفَةُ الأحوذي بشرح جامع الترمذي: لأنَّ فِيهِ إظْهَارَ الفَقْرِ والعَجْزِ والتَّذلُّلِِ والاعْتَرَافِ بِقِوَةِ الله وقُدْرَتِهِ 0
[*] وقال العلماء: اِحْتَلَّ الدعاء تلك المنزلة العظيمة والمكانة الكريمة لِدَلاَلَتِهِ على قُدْرَةِ الله تعالى الغَنِيِّ الجَوَادِ الكَرِيمِ وعَجْزِ الدَّاعِي الفَقِيرِ إلى الله تَعَالَى (1) 0
اَلْدُّعَاء مِنْ أعْظَمِ أنْوَاعِ اَلْعِبَادَاتِ:
[*] قال ابن رَجَبٍ: اعلم أن سُؤالَ الله عَزَّ وجَلَّ دُونَ خَلْقِهِ هو اِلْمُتَعَيِنُ، لأن السؤال فيه إظهار الذُلِّ من السائل والمَسْكَنَةِ والحَاجَةِ والافْتِقَارِ، وفيه الاعتراف بِقُدْرَةِ المَسْؤولِ على رَفْعِ هذا الضُّرِّ ونَيْلِ المطلوب، وجَلْبِ المَنَافِعِ ودَرْءِ المَضَارِ، ولا يَصْلُحُ الذُلُّ والافْتِقَارُ إلا لله وحده لأنه حقيقة العبادة (2) 0
[*] قال الشوكاني في هذا الحديث: قيل وجه ذلك أنه يدل على قدرة الله_تعالى_ وعجز الداعي.
والأولى أن يقال: أن الدعاء لمَّا كان هو العبادة، كان أكرم على الله من هذه الحيثية؛ لأن العبادة هي التي خلق الله _سبحانه_ الخلق لها، كما قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنّ وَالإِنسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ) [سورة: الذاريات - الأية: 56]
(ولمّا كان الدّعاءُ هو العِبادة فإنّه لا يكون إلا لله وحدَه، فلا يُدعَى من دون الله ملكٌ مقرَّب، ولا نبيّ مرسَل، ولا وليّ ولا جنّيّ، قال الله تعالى: (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ اللَّهِ أَحَدًا) [ الجن /18 ]
،
__________
(1) أنظر فيض القدير الحديث رقم 7602 ، ج 5 ، ص 443 0
(2) أنظر جامع العلوم والحكم (ص180، 181).(1/435)
وقال تبارك وتعالى: (وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ الها ءاخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقّ وَلاَ يَزْنُونَ) [ الفرقان /68 ]
، ومن دعَا مخلوقًا من دون الله نبيًّا أو ملكًا أو وليًّا أو جنّيًّا أو ضريحًا ونحوَه فقد وقَع في الشّرك الأكبر، قال الله تعالى: (وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهَا ءاخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبّهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ) [ المؤمنون / 117 ]
وقال تبارك وتعالى: (وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مّنَ الظَّالِمِينَ * َإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [ يونس/106 ، 107 ]
وقال تَبارك وتعالى: (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلاَء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ * الُواْ سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ) [ سبأ / 40 ،41 ]
وقال تبارك وتعالى: (لَهُ دَعْوَةُ الْحَقّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَىْء إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاء لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِى ضَلَالٍ) [ الرعد / 14 ]
[*] قال ابن رجب رحمه الله :(1/436)
والله سبحانه يحبُّ أن يُسأل ، ويُرغبُ إليه في الحوائج ، ويُلحُّ في سؤاله ودعائه ، ويغضب على من لا يسأله ، ويستدعي من عباده سؤالَه ، وهو قادر على إعطاء خلقه كلهم سؤلهم من غير أن ينقص من ملكه شيء ، والمخلوق بخلاف ذلك ، يكره أن يسأل ويحب أن لا يسأل ؛ لعجزه وفقره وحاجته ، ولهذا [*] قال وهب بن منبه - لرجل كان يأتي الملوك - : ويحك تأتي من يغلق عنك بابَه ، ويظهر لك فَقْرَه ، ويواري عنك غناه ، وتدع من يفتح لك بابه نصف الليل ونصف النهار ، ويظهر لك غناه ، ويقول ادعني أستجب لك .
[*] وقال طاووس لعطاء :
إياك أن تطلب حوائجك إلى من أغلق بابه دونك ، ويجعل دونها حجّابَه ، وعليك بمن بابُه مفتوح إلى يوم القيامة ، أمرك أن تسألَهُ ، ووعدك أن يجيبَك (1) .
(5) الدعاء سبب لدفع غضب الله : فمن لم يسألِ الله يغضبْ عليه .
(حديث أبي هريرة في صحيحي الترمذي وابن ماجة ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال من لم يسال الله يغضب عليه .
[*] قال ابن القيم رحمه الله تعالى :
" وهذا يدلّ على أن رضاه في سؤاله وطاعته ، وإذا رضي الرّبّ تبارك وتعالى ، فكلّ خير في رضاه ، كما أنّ كلّ بلاء ومصيبة في غضبه " .
ففي هذا الحديث دليل على أن الدعاء من العبد لربه من أهم الواجبات، وأعظم المفروضات؛ لأن تجنب ما يغضب الله منه لا خلاف في وجوبه. (2)
[*] قال يحي ابن معاذ:
يا من يغضب على من لا يسأله لا تمنع من سألك .
ولقد أحسن من قال:
لا تسألنَّ بُنَيَّ آدمَ حاجةً ... وسل الذي أبوابُهُ لا تحجبُ
اللهُ يغضبُ إن تركت سؤالَه ... وبنيُّ آدمَ حين يُسألُ يغضبُ
وبنيُّ آدمَ حين يُسألُ يغضبُ
(6) الدعاء دليل على التوكل على الله : فَسِرُّ التوكل على الله وحقيقتُهُ هو اعتماد القلب على الله وحده .
وأعظم ما يتجلى التوكل حال الدعاء؛ ذلك أن الداعي حال دعائه مستعين بالله، مفوض أمره إليه وحده دون سواه.
__________
(1) - جامع العلوم والحكم (1/481) .
(2)(1/437)
ثم إن التوكل لا يتحقق إلا بالقيام بالأسباب المأمور بها، فمن عطَّلها لم يصح توكله، والدعاء من أعظم هذه الأسباب إن لم يكن أعظمها.
(7) الدعاء وسيلة لكبر النفس وعلو الهمة: فبالدعاء تكبر النفس وتشرف، وتعلو الهمة وتتسامى؛ ذلك أن الداعي يأوي إلى ركن شديد، ينزل به حاجاته، ويستعين به في كافة أموره، وبهذا يقطع الطمع مما في أيدي الخلق، فيتخلص من أسرهم، ويتحرر من رقهم، ويسلم من مِنَّتِهم؛ فالمنة تصدع قناة العزة، وتنال نيلها من الهمة.
وبالدعاء يسلم من ذلك كله، فيظل مهيب الجناب، موفور الكرامة، وهذا رأس الفلاح، وأسُّ النجاح.
[*] قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وكلما قوي طمع العبد في فضل الله ورحمته لقضاء حاجته ودفع ضرورته_ قويت عبوديته له، وحريته مما سواه؛ فكما أن طمعه في المخلوق يوجب عبوديته له_ فيأسه منه يوجب غنى قلبه عنه. (1)
(8) الدعاء سلامة من العجز، ودليل على الكياسة:
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :إن أبخل الناس من بخل بالسلام و أعجز الناس من عجز عن الدعاء .
(أعجز الناس من عجز عن الدعاء) : أعظم ما يشق على المسلم أن يغلق عليه في الدعاء،
[*] قال عمر بن الخطاب :
" أني لا أحمل هم الإجابة ولكن أحمل همّ الدعاء" فاذا فتح على العبد في دعائه من معاني الحمد والثناء دعا الله وحسن الظن به والتعلق والرجاء به وتعظيم الرغبة مما عند الله والثقة بوعد الله فينبغي عليه أن يقبل على الدعاء وأن يصرف همته في ذلك لاسيما في الأزمان والأماكن الفاضلة , وعند نزول الضر وحصول الشدائد, ومن أكثر طرق هذا الباب فتح له, وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
فأضعف الناس رأيًا، وأدناهم همة، وأعماهم بصيرة_من عجز عن الدعاء؛ ذلك أن الدعاء لا يضره أبدًا، بل ينفعه.
__________
(1)(1/438)
(9) ثمرة الدعاء مضمونة بإذن الله : فإذا أتى الداعي بشرائط الإجابة فإنه سيحصل على الخير، وسينال نصيبًا وافرًا من ثمرات الدعاء ولا بد.
(حديث أبي هريرة في صحيح الترمذي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ما من رجل يدعو بدعاء إلا استجيب له فإما أن يعجل له في الدنيا و إما أن يدخر له في الآخرة ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم أو يستعجل .
ففي ما مضى من الأحاديث دليل على أن دعاء المسلم لا يهمل، بل يعطى ما سأله، إما معجلاً، وإما مؤجلاً، تفضلاً من الله_جل وعلا .
[*] قال ابن حجر : كل داع يستجاب له، لكن تتنوع الإجابة؛ فتارة تقع بعين ما دعا به، وتارة بعِوَضِهِ. (1)
(وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الله تعالى يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفرا .
(حديث سلمان في صحيح أبي داوود والترمذي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال إن ربكم حيي كريم يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفرا .
(10) الدعاء سبب لدفع البلاء قبل نزوله:
[*] قال ابن القيم رحمه الله تعالى في الجواب الكافي :
والدعاء من أنفع الأدوية وهو عدو البلاء يدافعه ويعالجه ويمنع نزوله ويرفعه أو يخففه إذا نزل ، وله مع البلاء ثلاث مقامات أحدها أن يكون أقوي من البلاء فيدفعه الثاني أن يكون أضعف من البلاء فيقوى عليه البلاء فيصاب به العبد ولكن قد يخففه وإن كان ضعيفا الثالث أن يتقاوما ويمنع كل واحد منهما صاحبه .
(حديث سلمان في صحيح الترمذي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لا يرد القضاء إلا الدعاء و لا يزيد في العمر إلا البر .
[*] قال الشوكاني عن هذا الحديث: فيه دليل على أنه_سبحانه_ يدفع بالدعاء ما قد قضاه على العبد، وقد وردت بهذا أحاديث كثيرة .
وقال: والحاصل أن الدعاء من قدر الله_ عزَّ وجلَّ _ فقد يقضي على عبده قضاءً مقيدًا بأن لا يدعوه، فإذا دعاه اندفع عنه .
(11) الدعاء سبب لرفع البلاء بعد نزوله:
__________
(1)(1/439)
( حديث عائشة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :لا يغني حذر من قدر و الدعاء ينفع مما نزل و مما لم ينزل و إن البلاء لينزل فيتلقاه الدعاء فيعتلجان إلى يوم القيامة .
ومعنى يعتلجان: أن يتصارعان، ويتدافعان.
(ولهذا يجدر بالعبد إذا وجد من نفسه النشاط إلى الدعاء والإقبال عليه أن يستكثر منه؛ فإنه مجاب، وتقضى حاجته بفضل الله، ورحمته، فإنَّ فَتْحَ أبواب الرحمة دليل على إجابة الدعاء.
(12) الدعاء يفتح للعبد باب المناجاة ولذائذها : فقد يقوم العبد لمناجاة ربه، وإنزال حاجاته ببابه _ فَيُفْتَح على قلبه حال السؤال والدعاء من محبة الله ، ومعرفته، والذل والخضوع له، والتملق بين يديه _ ما ينسيه حاجته، ويكون ما فتح له من ذلك أحبَّ إليه من حاجته، بحيث يحب أن تدوم له تلك الحال، وتكون آثر عنده من حاجته، ويكون فرحه بها أعظمَ من فرحه بحاجته لو عجلت له وفاته تلك الحال. (1)
[*] قال بعض العُبَّاد: إنه لتكون لي حاجةٌ إلى الله، فأسأله إياها، فيفتح لي من مناجاته، ومعرفته، والتذلل له، والتملق بين يديه _ ما أحبُّ معه أن يُؤخِّر عني قضاءها، وتدوم لي تلك الحال . (2)
(13) حصول المودة بين المسلمين : فإذا دعا المسلم لأخيه المسلم في ظهر الغيب_ استجيبت دعوته، ودل ذلك على موافقة باطنه لظاهره، وهذا دليل التقوى والصدق والترابط بين المسلمين، فهذا مما يقوي أواصر المحبة، ويثبت دعائمها، قال تعالى: (إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرّحْمََنُ وُدّاً) [ مريم / 96]
يعني: يَوَدُّن، ويُوَدُّن، يُحِبُّن، ويُحَبُّن، والدعاء _ بلا شك _ من العمل الصالح.
__________
(1) انظر مدارج السالكين لابن القيم، 2/229.
(2) مدارج السالكين، 2/229.(1/440)
(14) الدعاء من صفات عباد الله المتقين : قال _ جلَّ شأنه _ عن أنبيائه _ عليهم السلام: ( إِنّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُواْ لَنَا خاشِعِينَ) [ الأنبياء / 90]
[*] وقال عن عباده الصالحين: (وَالّذِينَ جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاّ لّلّذِينَ آمَنُواْ رَبّنَآ إِنّكَ رَءُوفٌ رّحِيمٌ) [الحشر / 10] إلى غير ذك من الآيات في هذا المعنى.
(15) الدعاء سبب للثبات والنصرعلى الأعداء :
قال تعالى عن طالوت وجنوده لما برزوا لجالوت وجنوده : (وَلَمّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) [البقرة /250]
فماذا كانت النتيجة؟
[فهزموهم بإذن الله وقتل داود جالوت] [البقرة /251]
(16) الدعاء مَفْزَعُ المظلومين، وملجأ المستضعفين :
فالمظلوم _ أو المستضعف _ إذا انقطعت به الأسباب، وأغلقت في وجهه الأبواب، ولم يجد من يرفع عنه مظلمته، ويعينه على من تسلط عليه وظلمه، ثم رفع يديه إلى السماء، وبث إلى الجبار العظيم شكواه _ نصره الله وأعزه، وانتقم له ممن ظلمه ولو بعد حين.
(ولهذا دعا نوح _ عليه السلام _ على قومه عندما استضعفوه، وكذَّبوه، وردُّا دعوته.
(وكذلك موسى _ عليه السلام _ دعا على فرعون عندما طغى، وتجبر، وتسلط، ورفض الهدى ودين الحق؛ فاستجاب الله لهما، وحاق بالظالمين الخزي في الدنيا، وسوء العذاب في العقبى.
وكذلك الحال بالنسبة لكل من ظُلِم، واستُضْعِف؛ فإنه إن لجأ إلى ربه، وفزع إليه بالدعاء _ أجابه الله، وانتصر له وإن كان فاجرًا.(1/441)
( حديث ا بن عباس في الصحيحين ) قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمعاذٍ ابن جبل حين بعثه إلى اليمن : إنك ستأتي قوماً أهل كتاب ، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمسَ صلواتٍ في كل يومٍ وليلة ، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقةً تؤخذ من أغنيائهم فتُردُ على فقرائهم ، فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائمَ أموالهم ، واتقِ دعوةَ المظلومِ فإنه ليس بينه وبين الله حجاب .
(حديث خزيمة بن ثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : اتقوا دعوة المظلوم فإنها تُحْمَلُ على الغمام يقول الله : و عزتي و جلالي لأنصرنك و لو بعد حين .
(حديث ابن عمر في صحيح الجامع) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال اتقوا دعوة المظلوم فإنها تصعد إلى السماء كأنها شرارة .
(حديث أبي هريرة في صحيح الجامع) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : دعوة المظلوم مستجابة و إن كان فاجرا ففجوره على نفسه .
{ تنبيه } :( واعلموا بأن الله تعالى لا يرد دعوة المظلوم ولو كانت من كافر، لا تقولوا بأن هذا كافر لا حرمة له، نعم. لا حرمة له؛ لأنه كافر نجس، ولكن لا تظلمه، ولا تأكل عليه حقه، ولا تأخذ منه حقه، أعطه حقه كاملاً موفوراً غير منقوص ولا تظلمه، فلو دعا عليك وهو كافر لاستجاب الله دعوته، وكفره على نفسه، وفجوره على نفسه، أما دعوة المظلوم فيرفعها الله فوق الغمام، ويقول لها: (وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين) وكانت وصية النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ وهو ذاهب إلى اليمن: (واتق دعوة المظلوم -وكم من الناس لا يهتم بها، ولا يأبه لها- فإنه ليس بينها وبين الله حجاب).
لا تظلمن إذا ما كنت مقتدراً فالظلم ترجع عقباه إلى الندم
تنام عيناك والمظلوم منتبه يدعو عليك وعين الله لم تنم(1/442)
اعلم بأن الله يمهلك ولا ينساك ولا يغفل عنك، فإن كنت ظالماً لأحد من عباد الله ولأحد من خلق الله كافراً كان أو مسلماً، فرد إليه المظلمة قبل أن يأتي يوم لا درهم فيه ولا دينار، ولا مناصب ولا كراسي ولا وزارات، ويؤخذ من حسناتك -يا عبد الله- فتعطى لمن ظلمت، حتى إذا ما فنيت حسناتك أُخذ من سيئات من ظلمتهم في الدنيا فطرحت عليك، فطرح صاحب المظالم على وجهه في النار، وهذا هو المفلس، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!
[*] قال الإمام الشافعي وما أجمل ما قال :
وربَّ ظلومٍ قد كفيت بحربه ... فأوقعه المقدور أيَّ وقوعِ
فما كان لي الإسلامُ إلا تعبدًا ... وأدعيةً لا تُتَّقى بدروع
وحسبك أن ينجو الظلومُ وخلفه ... سهامُ دعاءٍ من قِسيِّ ركوع
مُرَيَّشة بالهدب من كل ساهرٍ ... منهلة أطرافها بدموع (1)
وقال:
أتهزأ بالدعاء وتزدريه ... وما تدري بما صنع الدعاءُ
سهام الليل لا تخطي ولكن ... له أمدٌ وللأمد انقضاءُ (2)
(وإذا تقطعت بك -أيها المظلوم- الأسباب، وأُغلقت في وجهك الأبواب، فاقرع أبواب السماء، وُبثَّ إلى الجبار اللأواء، فهو مفزع المظلومين، وملجأ المستضعفين، وَعَدَ بنصرة الملهوف، وإجابة المظلوم، ظَلَم رجل سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- فقال سعد: (اللهم أعم بصره، وأطل عمره، عرضه للفتن)،
(قال الراوي : فأنا رأيته بعد قد عمي بصره، وقد سقط حاجبه على عينيه من الكبر، ويقول: كبير مفتون أصابته دعوة سعد.
__________
(1) ديوان الشافعي، تحقيق: د. محمد عبدالمنعم خفاجي، ص109.
(2) ديوان الشافعي، ص75.(1/443)
(فيا ويل من وجهت له سهام المظلومين، ورفعت عليه أيدي المستضعفين، فاصبر -أيها المصاب- على ما قدر، فالنصر مع الصبر، والفرج مع الكرب، واليسر مع العسر، والبلاء المحض هو ما يشغلك عن ربك، وأما ما يقيمك بين يديه ففيه كمالك وعزك، وإذا أقبل اليسر، وحل الفرج، وزالت الغموم، وما أقربَ الأمر، فاحمد الله على ما كشف، ففي الحمد شكر وزيادة نِعَم، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ [غافر:60].
(17) الدعاء دليل على الإيمان بالله، والاعتراف له بالربوبية، والألوهية، والأسماء والصفات: فدعاء الإنسان لربه متضمن إيمانه بوجوده، وأنه غني، سميع، بصير، كريم، رحيم، قادر، مستحق للعبادة وحده دون من سواه.
(18) وربنا سبحانه لا يعبأ بعباده لولا ضراعتهم إليه ، قُلْ مَا يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبّى لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً [الفرقان:77]
(19) والدعاء من صفات أنبياء الله وأصفيائه ، إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِى الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُواْ لَنَا خاشِعِينَ [الأنبياء:90]، وإمام الحنفاء يقول: وَأَدْعُو رَبّى عَسَى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَاء رَبّى شَقِيّا [مريم:48].
(20) الدعاء نفعه عميم، نفعه يلحق الأحياء في دنياهم، والأمواتَ في لحودهم، (حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث : إلا من صدقةٍ جارية أو علمٍ ينتفع به أو ولدٌ صالحٌ يدعو له .
(21) الدعاء بإذن الله تعالى كفيلٌ بدفع البلاء ، ويمنع وقوع العذاب والهلاك، وهو سلاح المؤمن، لا شيء من الأسباب أنفع ولا أبلغ في حصول المطلوب منه، هو عدو البلاء، يدافعه ويعالجه، ويمنع نزوله، ويرفعه أو يخففه إذا نزل،(1/444)
فالدعاء - بإذن الله - كفيل بدفع البلاء إذا صدر من قلب مؤمن متقٍ خاشعٍ مخبتٍ لله عز وجل ، ومن لسان متضرع، ومن كف صادق لله عز وجل. يقول الله عز وجل: (وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إذا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ). [سورة الأنعام، الآيات: 42- 45].
(فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ). [سورة الأنعام، الآيات: 43].
( والمعنى : فهلا إذا رأوا العقوبة تنزل بجيرانهم، يشردون من أوطانهم، تستلب أموالهم، تنتهك حرماتهم، تحتل بلادهم، تهدم مقدساتهم تحتل بلادهم، فهلا إذا رأوا ذلك رجعوا وجأروا إلى الله .
هلا تابوا وتركوا ما القوم عليه سائرون خشية أن يصيبهم ما أصابهم؟!.
لا، ولكنهم لجّوا في طغيانهم يعمهون، فترى أهل الربا على الربا، وأهل التلفاز على التلفاز، وأهل الخنا على الخنا، وأهل الغناء على الغناء، وأهل ترك الصلاة على تركها، والنساء المتبرجات هن هن، فلم يغيروا ولم يبدلوا هذا وإنهم يرون عقوبة الله عز وجل.(1/445)
أخرج الإمام أحمد في تفسير هذه الآية: (فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إذا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ). [سورة الأنعام، الآيات: 44]. عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا رأيت الله يُعْطِي العبدَ من الدنيا على مَعاصيه ما يُحِبُّ، فإنما هو اسْتِدْرَاج. ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إذا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ) . [سورة الأنعام، الآيات: 44].
وقال سبحانه وتعالى: (فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ). [سورة يونس، الآية: 98]. ذلك أن قوم يونس عليه السلام لما عصوا، وخرج نبيهم ذي النون مغاضباً، وترك قومه ووعدهم بالعقوبة بعد ثلاث ليالي، وقد علموا أنّه لا يكذب لأنه نبي من عند الله عزّ وجل، فخشوا العقوبة وأخذوا نساءهم وأطفالهم وأنعامهم وإبلهم وبقرهم وغنمهم، وجأروا إلى الله عز وجل ثلاثة أيام، وقيل: أربعين ليلة، ونادوا الله سبحانه وتعالى بأسمائه، واستغاثوا، وتابوا إلى الله عزّ وجل، فصرف الله سبحانه وتعالى عنهم العقوبة، وقد أوشكت أن تحل بهم.(1/446)
(والحاصل أنّ الدعاء بإذن الله نافع في رفع البلاء ودفع العقوبة إذا ما صدر من قلب مؤمن صادق لله عز وجل. ولقد كان نبيكم عليه الصلاة والسلام أفزعُ الناس إلى الدعاء، وخصوصاً إذا ألمت مصيبة أو نزلت نازلة، حتى أنه إذا رأى تغيّراً في أفق الجو لجأ إلى الله عز وجل بالدعاء، وجأر إلى الله سبحانه وتعالى بالتضرّع: (ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ). [سورة الأعراف، الآية: 55].(1/447)
واسمعوا واقرأوا قصته صلى الله عليه وسلم عند غزوة الأحزاب، وفي بدر لما خرج لملاقاة المشركين، فقد بات ليلته والناس نائمون، بات ليلته كلها وهو يدعو الله عزّ وجل، وقد وعده الله عزّ وجل أن ينصره، ومع ذلك بات يدعو الله طيلة تلك الليلة، يدعو الله بقلب خاشع، وبكف ضارع يجأر إلى الله عز وجل، ويبكي ويتضرع، ويمرّغ وجهه بين يدي رب العالمين في ظلمات الليالي صلوات الله عليه، ففي الحديث "لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ نَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ أَلْفٌ وَأَصْحَابُهُ ثَلَاثُ مِائَةٍ وَتِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا فَاسْتَقْبَلَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقِبْلَةَ ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ فَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي اللَّهُمَّ آتِ مَا وَعَدْتَنِي اللَّهُمَّ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ لَا تُعْبَدْ فِي الْأَرْضِ فَمَا زَالَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ مَادًّا يَدَيْهِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ فَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ فَأَلْقَاهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ ثُمَّ الْتَزَمَهُ مِنْ وَرَائِهِ وَقَالَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ كَفَاكَ مُنَاشَدَتُكَ رَبَّكَ فَإِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ). [سورة الأنفال، الآية: 9]."
والقصص مشهورة ومعروفة، فحينما يلجأ العبد إلى ربّه وقت الشدة، ويكشف الله عزّ وجل عنه ما يجد: (أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إذا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ). [سورة النمل، الآية: 62].(1/448)
وقد ذُكر عن بعض الصالحين وغيرهم أنهم دعوا الله عز وجل وقت الشدة، وقد صدقوا اللجأ والاضطرار إلى الله عز وجل، فرفع الله عز وجل عنهم البلاء.
[*] وقد ذُكر عن أيوب السختياني عليه رحمة الله، وهو أحد رجال الصحيحين، وأحد الأئمة الأثبات أنّه خرج مع قومه وأهل بلده في الحج، فأصابهم في الصحراء عطش شديد، ونفدت مياههم، فقالوا له: يا أيوب، ألا تستغيث الله عز وجل لنا؟! قال: ومن أنا حتى استغيث الله عز وجل لكم؟! فألحوا عليه، وحلفوا، فاقسم عليهم أن لا يخبروا أحداً بما يحصل . فقالوا: نعم فخط خطاً بعمامته، ودعا الله عزّ وجل، فما أن فرغ من دعائه حتى ثارت تلك الخطة التي خطها بعمامته ماءاً، وشربوا وسقوا، وانصرفوا إلى حجهم.
(وفي رواية عن سعيد ابن عنبسة قال: بينما رجل جالس وهو يعبث بالحصى ويحذف به إذ رجعت حصاة منه عليه فصارت في أذنه، فجهدوا بكل حيلة فلم يقدروا على إخراجها، فبقيت الحصاة في أذنه مدة وهي تألمه، فبينما هو ذات يوم جالس إذ سمع قارئ يقرأ: (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ ).
فقال الرجل: يا رب أنت المجيب وأنا المضطر فأكشف عني ما أنا فيه، فنزلت الحصاة من أذنه في الحال.
(وروى البيهقي في فضائل الأعمال عن حماد ابن سلمة أن عاصما ابن أبي إسحاق شيخ القراء في زمانه قال: أصابتني خصاصة -أ ي حاجة وفاقة - فجئت إلى بعض إخواني فأخبرته بأمري فرأيت في وجهه الكراهة، فخرجت من منزله إلى الصحراء ثم وضعت وجهي على الأرض وقلت يا مسبب الأسباب، يا مفتح الأبواب، يا سمع الأصوات، يا مجيب الدعوات، يا قاضي الحاجات اكفني بحلالك عن حرامك وأغنني بفضل عن من سواك. يلح على الله بهذا الدعاء.(1/449)
قال فوالله ما رفعت رأسي حتى سمعت وقعت بقربي، فرفعت رأسي فإذا بحدأة طرحت كيسا أحمر فأخذت الكيس فإذا فيه ثمانون دينارا وجوهرا ملفوفا بقطنة، فبعت الجواهر بمال عظيم، وأبقيت الدنانير فاشتريت منها عقارا وحمدت الله تعالى على ذلك.
لا تعجب أيها الأخوة، إن ربي لسميع الدعاء، ومن يتوكل على الله فهو حسبه.
والقصص في ذلك كثيرة ومشهورة.
والحاصل - يا عباد الله - أن المسلم في مثل هذه الأحوال، وفي مثل هذه الظروف عليه أن يلجا إلى الله بالدعاء والتضرع .
وما أحسن ما قال الشاعر
لا تسألن بُني ابن ادم حاجة ** وسل الذي أبوابه لا تحجب
الله يغضب إن تركت سؤاله ** وبُنيّ آدم حين يُسأل يغضب
سبحانه وتعالى ، نسال الله تعالى أن يجعلنا أفقر عباده إليه، وأغنى خلقه عمن سواه.
(22) الدعاء أيضاً به يُستنزلُ النصر من الله العلي القدير :
فالمؤيد بالوحي – عليه الصلاة والسلام كان يجتهد في استنزال النصر بالدعاء .(1/450)
(حديث بْن عَبّاسٍ رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين ) قال : حَدّثَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ قال : لَمّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ نَظَرَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلَىَ الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ أَلْفٌ وَأَصْحَابُهُ ثَلاَثُمِائةٍ وَتِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلاً فَاسْتَقْبَلَ نَبِيّ اللّهِ صلى الله عليه وعلى آله وسلم الْقِبْلَةَ ثُمّ مَدّ يَدَيْهِ فَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبّهِ : اللّهُمّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي . اللّهُمّ آتِ مَا وَعَدْتَنِي . اللّهُمّ إنْ تَهْلِكْ هََذِهِ الْعِصَابَةُ مِنْ أَهْلِ الإِسْلاَمِ لاَ تُعْبَدْ فِي الأَرْضِ ، فَمَا زَالَ يَهْتِفُ بِرَبّهِ مَادّاً يَدَيْهِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ ، حَتّىَ سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ ، فَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ فَأَخَذَ رِدَاءَ هُ فَأَلْقَاهُ عَلَىَ مَنْكِبَيْهِ ، ثُمّ الْتَزَمَهُ مِنْ وَرَائِهِ وَقَالَ : يَا نَبِيّ اللّهِ كَذَاكَ مُنَاشَدَتَكَ رَبّكَ (1) فَإنّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ ، فَأَنْزَلَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ : ( إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ ) [ الأنفال/9 ]
فاستجاب الله دعاء نَبِيِّه صلى الله عليه وعلى آله وسلم ونصره على أعدائه .
(23) الدعاء يؤكد ثقة العبد بربه، حين يوقن بالإجابة :
(حديث أبي هريرة في صحيح الترمذي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ادعوا الله و أنتم موقنون بالإجابة و اعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من قلبٍ غافلٍ لاه .
والدعاء تعبير عن نفس الإنسان، وعن سماحته، وعن إيمانه وخلقه، فالدعاء يدرب على الدعاء للآخرين، حتى للمخالفين، مما يدرب على العفو والتسامح والحب والإيمان.
__________
(1) - وفي رواية لمسلم (كفاك مناشدتك ربك ) ، وهي كذلك في المسند (1/32) وغيره ، ويُنظر شرح النووي على مسلم (12/434 ) .(1/451)
(فادع الله تعالى أن يلين قلبك، وأن يرزقك نعمة البكاء من خشيته، واغتنم أوقات الاستجابة وأحوالها: كوقت السحر، وساعة الجمعة وهي آخر ساعة بعد العصر قبل صلاة المغرب، وبين الأذان والإقامة، وفي السجود، وفي السفر، وأثناء الصيام، ووقت الإفطار، وغيرها من أوقات وأحوال الاستجابة.
(3) السعي لتحصيل حلاوة الإيمان :
فإن من ثمرات حلاوة الإيمان البكاء من خشية الله (ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه). كما في الحديث الآتي : (
((حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :(سَبْعَةٌ يُظِلّهُمُ الله في ظِلّهِ يَوْمَ لاَ ظِلّ إِلاّ ظِلّهُ: إِمَامٌ عَادِلٌ، وَشَابٌ نَشَأَ في ِعِبَادَةِ الله، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلّقٌ في المَسْاجِدِ، وَرَجُلاَنِ تَحَابّا في الله اجْتَمعَا عَلَيه وَتَفَرّقَا عليه ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امرأة ذَاتُ منصبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ إِنّي أَخَافُ الله ، وَرَجُلٌ تَصَدّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتّى لا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ الله خَالِياً فَفَاضَتْ عَيْنَهُ )
وقد ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - أحوال تحصيل حلاوة الإيمان كما في الحديث الآتي : (
((حديث أنس الثابت في الصحيحين) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان : أن يكون الله و رسوله أحب إليه مما سواهما و أن يحب المرء لا يحبه إلا لله و أن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار .
فحب الله تعالى يجلب حلاوة الإيمان، فكيف نحب الله تعالى ؟(1/452)
نحب الله بمطالعة أسمائه وصفاته، وآثار فضله وإنعامه على خلقه، ورحمته بهم، ونحبه بقراءة كلامه ـ وهو القرآن ـ بتدبر، والتقرب إلى الله بالنوافل، ودوام الذكر بالقلب واللسان، ونحبه بالخلوة به وقت النزول الإلهي في الثلث الأخير من الليل لمناجاته وتلاوة كلامه، ونحبه بطاعته فيما أمر به والابتعاد عما نهى عنه.
وحب النبي - صلى الله عليه وسلم - يجلب حلاوة الإيمان، فكيف نحب النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟
نحبه بمطالعة سيرته، ومعرفة شمائله وأخلاقه، والتشبه به في الظاهر والباطن، وطاعته فيما أمر به، والابتعاد عما نهى عنه.
وكذلك حب عباد الله الصالحين حباً مجرداً من أغراض الدنيا (لا يحبه إلا لله) يجلب حلاوة الإيمان.
وبغض الكفر بمعرفة مظاهره، وصور الشرك، وعواقب الكفر للحذر منه، ومعاداة الكفار والبراء منهم.. كل ذلك يجلب حلاوة الإيمان.
فاحرص على ذلك تكن من الراشدين بإذن الله.
(4) تعلُّم العلم الشرعي ، وخصوصاً علم العقيدة :
قال تعالى: { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء } [فاطر : 28].
وقال تعالى: { قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا، وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً، وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا } [(107- 109) سورة الإسراء].
وقال أحد السلف في تفسير هذه الآية: (من أوتي من العلم ما لا يبكيه لخليق ألا يكون أوتي علماً ينفع، لأن الله نعت العلماء فقال: { قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ.. } الآية).
فالعلم الشرعي يورث في القلب خشية ورهبة..
وعلم العقيدة والتوحيد خصوصاً يزيد الإيمان ويورث في القلب ما لا يورثه غيره من العلوم.(1/453)
فاحرص على تعلم علم العقيدة وعض عليه بالنواجذ .
(5) ذكر الموت، وما بعده من أهوال :
إن من أعظم الأسباب الجالبة للبكاء من خشية الله ذكر الموت، وما بعده من أهوال وهاك صفوة مسائل ذكر الموت :
(كيف تتناسى الموت ؟
(الإكثار من ذِكْرِ الموت :
(فوائد ذكر الموت :
(الأسباب الباعثة على ذكر الموت :
وهاك تفصيل ذلك في إيجازٍ غيرِ مُخِّل : (
(كيف تتناسى الموت ؟
إن الناس في هذه الحياة في غفلة، وأملهم فيها عريض، ولا بد من إلجام النفس بتذكيرها بمصيرها، لتعمر الآخرة بالدنيا ، وإن الموت حقيقة قاسية رهيبة، تواجه كل حي فلا يملك لها رداً، وهي تتكرر في كل لحظة ويواجهها الجميع دون استثناء، قال تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [العنكبوت:57]، إنها نهاية الحياة واحدة فالجميع سيموت لكن المصير بعد ذلك يختلف، فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ [الشورى:7]، وفي الموت عظة وتذكير وتنبيه وتحذير، وكفى به من نذير، والموت هو الخطب الأفظع والأمر الأشنع والكأس التي طعمها أكره وأبشع، وأنه الحادث الأهدم للذات والأقطع للراحات والأمنيات.
ولكننا مع الأسف الشديد نسيناه أو تناسيناه وكرهنا ذكره ولقياه مع يقيننا أنه لا محالة واقع وحاصل ، والعجب من عاقل يرى استيلاء الموت على أقرانه وجيرانه وكيف يطيب عيشه! وكيف لا يستعد له! إن المنهمك في الدنيا، المُكِّبَ على غرورها المحب لشهواتها يغفل قلبه لا محالة عن ذكر الموت، وإذا ذُكّر به كرهه ونفر منه، ومن لم يتذكر الموت اليوم ويستعد له فاجأه في غده وهو في غفلة من أمره وفي شغل عنه.
[*](كتب بعض الحكماء إلى رجل من إخوانه: يا أخي احذر الموت في هذه الدار قبل أن تصير إلى دار تتمنى فيها الموت فلا تجده.
[*](وكان عمر بن عبد العزيز يجمع كل ليلة الفقهاء فيتذاكرون الموت والقيامة والآخرة ثم يبكون حتى كأن بين أيديهم جنازة.(1/454)
[*](وقال إبراهيم التيمي : شيئان قطعا عني لذة الدنيا ذكر الموت، والوقوف بين يدي الله عز وجل.
[*](وقال كعب : من عرف الموت هانت عليه مصائب الدنيا وهمومها.
[*](وقال أشعث: كنا ندخل على الحسن فإنما هو ذكر النار وأمر الآخرة وذكر الموت.
[*](وقالت صفية رضي الله عنها: إن امرأة اشتكت إلى عائشة رضي الله عنها قسوة قلبها. فقالت لها: أكثري ذكر الموت يرق قلبك، ففعلت فرق قلبها فجاءت تشكر عائشة رضي الله عنها.
[*] قال مالك بن ينار: لو يعلم الخلائق ماذا يستقبلون غداً ما لذوا بعيش أبداً.
وما خاف مؤمن اليوم إلا أمن غداً بحسن اتعاظه وصلاح عمله وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد ، ودرر الفرائد . (
( حديث شداد بن أوس رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :قال الله تعالى: وعزتي و جلالي لا أجمع لعبدي أمنين و لا خوفين إن هو أمنني في الدنيا أخفته يوم أجمعُ عبادي و إن هو خافني في الدنيا أمنته يوم أجمعُ عبادي .
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:(1/455)
( قال اللّه تعالى وعزتي وجلالي لا أجمع لعبدي أمنين ولا خوفين : إن هو أمنني في الدنيا أخفته يوم أجمع عبادي ، وإن هو خافني في الدنيا أمنته يوم أجمع عبادي ) فمن كان خوفه في الدنيا أشد كان أمنه يوم القيامة أكثر وبالعكس وذلك لأن من أعطى علم اليقين في الدنيا طالع الصراط وأهواله بقلبه فذاق من الخوف وركب من الأهوال ما لا يوصف فيضعه عنه غداً ولا يذيقه مرارته مرة ثانية وهذا معنى قول بعض العارفين لأنه لما صلى حر مخالفة القوى في الدنيا لم يذقه اللّه كرب الحر في العقبى . قال القرطبي : فمن استحى من اللّه في الدنيا مما يصنع استحى اللّه عن سؤاله في القيامة ولم يجمع عليه حياءين كما لم يجمع عليه خوفين وقال الحرالي : نار الحق في الدنيا للمعترف رحمة من عذاب النار تفديه من نار السطوة في الآخرة ومحمد عليه الصلاة والسلام يعطى الأمن يوم القيامة حتى يتفرغ للشفاعة وما ذاك إلا من الخوف الذي كان علاه أيام الدنيا فلم يجتمع عليه خوفان فكل من كان له حظ من اليقين فعاين منه ما ذاق من الخوف سقط عنه من الخوف بقدر ما ذاق هنا قال العارفون : والخوف خوفان خوف عقاب وخوف جلال والأول يصيب أهل الظاهر والثاني يصيب أهل القلوب والأول يزول والثاني لا يزول أهـ .
ولكن كثيراً من الناس مع الأسف الشديد يضيع عمره في غير ما خلق له، ثم إذا فاجأه الموت صرخ رَبِّ ارْجِعُونِ [المؤمنون:99] ولماذا ترجع وتعود لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ [المؤمنون:100] وأين أنت عن هذا اليوم أيها الغافل؟ ألا تعمل وأنت في سعة من أمرك وصحة في بدنك، ولم يدن منك ملك الموت بعد.
إن ما نراه في المقابر أعظم وأكبر معتبر، فحامل الجنازة اليوم محمول غداً لا محالة ، ومن يرجع من المقبرة إلى بيته اليوم سيرجع عنه غداً ويُترك وحيداً فريداً في قبره مرتهناً بعمله، إن خيراً فخير وإن شراً فشر.(1/456)
وحيداً فريداً في التراب وإنما *** قرين الفتى في القبر ما كان يعمل
ولكن ما أقل من اتعظ وما أنذر من اجتهد، إن كان من قصر أمله، وجعل الموت أمام ناظريه عمل بلا شك للآخرة واستفاد من كل لحظة من لحظات عمره في طاعة ربه وتحسر على كل وقت أضاعه بدون عمل صالح يقربه إلى الله، وهو لما قدم من عمل فرح مسرور بالانتقال إلى الدار الآخرة وهذا هو المغبوط حقاً.
قال لقمان لابنه: ( يا بني أمرٌ لا تدري متى يلقاك استعد له قبل أن يفجأك .
[*] وقال بعض السلف: اعلم أنه لو لم يكن بين يدي العبد المسكين كرب ولا هول ولا عذاب سوى سكرات الموت بمجردها لكان جديراً بأن يتنغص عليه عيشه ويتكدر عليه سروره ويفارقه سهوه وغفلته، وحقيق بأن يطول فكره ويعظم له استعداده، كيف ونحن نعلم أن وراء الموت القبر وظلمته، والصراط ودقته والحساب وشدته، أهوال وأهوال لا يعلم عظمها إلا بالله.
للموت فاعمل بجد أيها الرجل *** واعلم بأنك من دنياك مرتحل
إلى متى أنت في لهو وفي لعب *** تمسي وتصبح في اللذات مشتغل
اعمل لنفسك يا مسكين في مهل *** ما دام ينفعك التذكار والعمل
(الإكثار من ذِكْرِ الموت :
إن الموت حقيقة لم يجادل بها أحد والجميع مقتنع تمام الاقتناع بأنه سيموت ولكن قُلْ : من يضع الموت نصب عينيه ؟ وذكر الموت يرقق القلب ويزهد في الدنيا ، ولذا أمرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - بالاكثار من ذكر الموت كما في الأحاديث الآتية : (
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أكثروا ذكر هاذم اللذات يعني الموت.
[*] قال العلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:(1/457)
قَوْلُهُ: ( أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ ) بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ: أَيْ قَاطِعَهَا .، قَالَ مَيْرَكُ صَحَّحَ الطِّيبِيُّ بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ حَيْثُ قَالَ شَبَّهَ اللَّذَّاتِ الْفَانِيَةَ وَالشَّهَوَاتِ الْعَاجِلَةَ ثُمَّ زَوَالَهَا بِبِنَاءٍ مُرْتَفِعٍ يَنْهَدِمُ بِصَدَمَاتٍ هَائِلَةٍ, ثُمَّ أَمَرَ الْمُنْهَمِكَ فِيهَا بِذِكْرِ الْهَادِمِ لِئَلَّا يَسْتَمِرَّ عَلَى الرُّكُونِ إِلَيْهَا, يَشْتَغِلَ عَمَّا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنَ الْفِرَارِ إِلَى دَارِ الْقَرَارِ انْتَهَى كَلَامُهُ، لَكِنْ قَالَ الْإِسْنَوِيُّ فِي الْمُهِمَّاتِ: الْهَاذِمُ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ هُوَ الْقَاطِعُ كَمَا قَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا .أهـ
[*](قال الإمام القرطبي رحمه الله : "قال علماؤنا: قوله عليه السلام: أكثروا ذكر هاذم اللذات كلام مختصر وجيز، وقد جمع التذكرة وأبلغ في الموعظة، فإن من ذكر الموت حقيقة ذكره نغص عليه لذته الحاضرة، ومنعه من تمنيها في المستقبل، وزهده فيما كان منها يؤمل، ولكن النفوس الراكدة، والقلوب الغافلة، تحتاج إلى تطويل الوعاظ، وتزويق الألفاظ، وإلا ففي قوله عليه الصلاة والسلام: (أكثروا ذكر هاذم اللذات)مع قوله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران:185]، ما يكفي السامع له، ويشغل الناظر فيه". أهـ
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أكثروا ذكر هاذم اللذات: الموت فإنه لم يذكره أحد في ضيق من العيش إلا وسعه عليه و لا ذكره في سعة إلا ضيقها عليه .
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
( أكثروا ذكر هاذم ) بذال معجمة قاطع وبمهملة مزيل وليس مراداً هنا كذا في روض السهيلي قال ابن حجر وفي ذا النفي نظر
( اللذات ) الموت(1/458)
( فإنه لم يذكره أحد في ضيق من العيش إلا وسعه عليه ولا ذكره في سعة إلا ضيقها عليه ) قال العسكري لو فكر البلغاء في قول المصطفى صلى اللّه عليه وسلم ذلك لعلموا أنه أتى بهذا القليل على كل ما قيل في ذكر الموت ووصف به نظماً ونثراً ولهذا كان عيسى عليه السلام إذا ذكر عنده الموت يقطر جلده دماً قيل ولا يدخل ذكر الموت بيتاً إلا رضي أهله بما قسم لهم وقال أبو نواس . ألا يا ابن الذين فنوا وماتوا * أما واللّه ما ماتوا لتبقى وقال أبو حمزة الخراساني : من أكثر ذكر الموت حبب إليه كل باق وبغض إليه كل فان . وقال القرطبي : ذكر الموت يورث استشعار الانزعاج عن هذه الدار الفانية والتوجه في كل لحظة إلى الآخرة الباقية ثم إن الإنسان لا ينفك عن حالين ضيق وسعة ونعمة ومحنة فإن كان في حال ضيق ومحنة فذكر الموت يسهل عليه ما هو فيه من الاغترار بها والركون إليها . وقال الغزالي : الموت خطر هائل وخطب عظيم وغفلة الناس عنه لقلة فكرهم فيه وذكرهم له ومن يذكره ليس يذكره بقلب فارغ بل مشغول بالشهوات فلا ينجع ذكره فيه فالطريق أن يفرغ قلبه عن كل شيء إلا ذكر الموت الذي هو بين يديه كمن يريد السفر فإذا باشر ذكر الموت قلبه أثر فيه فيقل حركته وفرحه بالدنيا وينكسر قلبه وأنفع طريق فيه أن يذكر أشكاله فيتذكر موتهم ومصرعهم تحت التراب ويتذكر صورهم في أحوالهم ومناصبهم التي كانوا عليها في الدنيا ويتأمل كيف محى التراب حسن صورهم وتبددت أجزاؤهم في قبورهم ويتموا أولادهم وضيعوا أموالهم وخلت مجالسهم وانقطعت آثارهم .
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح ابن ماجة) قال : أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت عليك السلام ، فقال لا تقل عليك السلام فإن عليك السلام تحية الميت ،قلت يا رسول الله أي المؤمنين أفضل قال أحسنهم خلقا قال فأي المؤمنين أكيس قال أكثرهم للموت ذكرا وأحسنهم لما بعده استعدادا أولئك الأكياس .(1/459)
فإذا تفكر الإنسان أنه سينتقل من قصره إلى قبره ، ومن التنعم بالطعام والشراب إلى التمرغ في التراب ، ومن أنس العشرة إلى وحشة الوحدة ، ومن الفراش الوثير إلى المصرع الوبيل ، وأن الدود سيكون أنيسه ، ومنكر ونكير جليسه . إذا تفكر في سكرات الموت وأنها أشد من ضرب بالسيوف ونشر بالمناشير وقرض بالمقاريض .
[*](كان بعض الصالحين ينادي بليل على سور المدينة: الرحيل الرحيل. فلما توفي فقد صوته أمير المدينة، فسأل عنه فقيل: إنه قد مات فقال:
ما زال يلهج بالرحيل وذكره *** حتى أناخ ببابه الجمال
فأصابه مستيقظاً متشمراً *** ذا أهبة لم تلهه الآمال
[*](وكان يزيد الرقاشي يقول لنفسه: ويحك يا يزيد! من ذا يصلي عنك بعد الموت؟ من ذا يصوم عنك بعد الموت؟ من ذا يترضى ربك عنك بعد الموت؟ ثم يقول: أيها الناس! ألا تبكون وتنوحون على أنفسكم باقي حياتكم؟ مَن الموت طالبه.. والقبر بيته.. والتراب فراشه.. والدود أنيسه.. وهو مع هذا ينتظر الفزع الأكبر.. كي يكون حاله؟ ) ثم يبكي رحمه الله.
[*](وقال التميمي رحمه الله : شيئان قطعا عني لذة الدنيا: ذكر الموت، وذكر الموقف بين يدي الله تعالى .
[*](وكان عمر بن عبدالعزيز رحمه الله تعالى يجمع العلماء فيتذكرون الموت والقيامة والآخرة، فيبكون حتى كأن بين أيديهم جنازةَ !!
[*](وقال الدقاق رحمه الله تعالى : من أكثر من ذكر الموت أكرم بثلاثة أشياء: تعجيل التوبة، وقناعة القلب، ونشاط العبادة، ومن نسي الموت عوقب بثلاثة أشياء: تسويف التوبة، وترك الرضى بالكفاف، والتكاسل في العبادة.
[*](وقال الحسن رحمه الله تعالى : إن هذا الموت قد أفسد على أهل النعيم نعيمهم، فالتمسوا عشياً لا موت فيه .(1/460)
إخواني : أكثروا من ذكر هاذم اللذات ، وتفكروا في انحلال بناء الذات ، وتصوروا مصير الصور إلى الرفات ، وأَعدوا عدةً تكفي في الكفات، واعلموا أن الشيطان لا يتسلط على ذاكر الموت وإنما إذا غفل القلب عن ذكر الموت دخل العدو من باب الغفلة 0
[*](أورد الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه المواعظ عن الحسن البصري رحمه الله تعالى قال : : إن الموت فضح الدنيا فلم يترك لذي لُب به فرحاً .
(وقال أيضاً :
[*](قال يزيد بن تميم : من لم يردعه الموت والقرآن ثم تناطحت عنده الجبال لم يرتدع 0
[*] وسُئل ابن عياض عن ما بال الآدمي تُستنزع نفسه وهو ساكت وهو يضطرب من القرصة قال : لأن الملائكة توقفه 0
يا بن آدم مثل تلك الصرعة قبل أن تذر كل غرة فتتمنى الرجعة وتسأَل الكرة كَم من محتضر تمنَّى الصحة للعمل هيهات حقر عليه بلوغ الأَمل أَو ما يكفي في الوعظ مصرعه أو ما يشفي من البيان مضجعه 00 أما فاته مقدوره بعد إِمكانه 00 أَما أنت عن قليل في مكانة أما اعتبرت بمن رحل أما وعظتك العبر أما كان لك سمعٌ ولا بصر 0
(عباد الله هذه الأيام مطايا، فأين العدة قبل المنايا ، أين الأنفة من دار الأذايا ،أين العزائم أرضيتم بالدنايا، إن بلية الهوى لا تشبه البلايا، وإن خطيئة الإصرار لا كالخطايا ، يا مستورين ستظهر الخبايا،سرية الموت لا تشبه السرايا، قضية الزمان ليست كالقضايا ،راعي السلامة يقتل الرعايا ، رامي المنون يصمي الرمايا ، ملك الموت لا يقبل الهدايا .
(أين آباؤك مروا وسلكوا ، أين أقرانك أما رحلوا وانصرفوا ، أين أرباب القصور أما أقاموا في القبور وعكفوا ،أين الأحباب هجرهم المحبون وصدفوا ، فانتبه لنفسك فالمتيقظون قد عرفوا، فستحملك الأهل إلى القبور وربما مروا فانحرفوا .(1/461)
(يا من لا يتعظ بأبيه ولا بابنه ، يا مؤثراً للفاني على جودة ذهنه ، يا متعوضا عن فرح ساعة بطول حزنه ، يا مسخطاً للخالق لأجل المخلوق ضلالاً لإفنه ، أمالك عبرة فيمن ضعضع مشيد ركنه ، أما رأيت راحلاً عن الدنيا يوم ظعنه، أما تصرفت في ماله أكف غيره من غير إذنه ، أما انصرف الأحباب عن قبره حين دفنه ، أما خلا بمسكنه في ضيق سجنه، تنبه والله من وسنه لقرع سنه،ولقى في وطنه ما لم يخطر على ظنه ، يا ذلة مقتول هواه يا خسران عبد بطنه .
(أوَ مَا علمت الموت للخلائق مبيد أما تراه قد مزقهم في البيد أما داسهم بالهلاك دوس الحصيد لا بالبسيط ينتهون ولا بالتشديد ،أين من كان لا ينظر بين يديه، أين من أبصر العبر ولم ينتفع بعينيه، أين من بارز بالذنوب المطلع عليه.
(كم من ظالم تعدى وجار، فما راعى الأهل ولا الجار بينا هو يعقد عقد الإصرار حل به الموت فحل من حلته الأزرار (فَاعْتَبِرُواْ يَأُوْلِي الأبْصَارِ)
(ما صحبه سوى الكفن إلى بيت البلى والعفن لو رأيته وقد حلت به المحن وشين ذلك الوجه الحسن فلا تسأل كيف صار (فَاعْتَبِرُواْ يَأُوْلِي الأبْصَارِ)
(سال في اللحد صديده وبلى في القبر جديده وهجره نسيبه ووديده وتفرق حشمه وعبيده والأنصار (فَاعْتَبِرُواْ يَأُوْلِي الأبْصَارِ)
(أين مجالسه العالية أين عيشته الصافية أين لذاته الحالية كم كم تسفى على قبره سافية ذهبت العين وأخفيت الآثار (فَاعْتَبِرُواْ يَأُوْلِي الأبْصَارِ)
(تقطعت به جميع الأسباب وهجره القرناء والأتراب وصار فراشه الجندل والتراب وربما فتح له في اللحد باب النار (فَاعْتَبِرُواْ يَأُوْلِي الأبْصَارِ)
(خلا والله بما كان صنع واحتوشه الندم وما نفع وتمنى الخلاص وهيهات قد وقع وخلاه الخليل المصافي وانقطع واشتغل الأهل بما كان جمع وتملك الضد المال والدار (فَاعْتَبِرُواْ يَأُوْلِي الأبْصَارِ)(1/462)
(تدبروا أموركم تدبر ناظر أين السلطان الكبير القاهر كم جمع في مملكته من عساكر وكم بنى من حصون ودساكر وكم تمتع بحلل وأساور وكم علا على المنابر ثم آخر الأمر إلى المقابر العاقل .
(أين الوالدون وما ولدوا ، أين الجبارون وأين ما قصدوا ،أين أرباب المعاصي على ماذا وردوا، أما جنوا ثمرات ما جنوا وحصدوا ،أما قدموا على أعمالهم في مآلهم ووفدوا، أما خلوا في ظلمات القبور بكوا والله وانفردوا ،أما ذلوا وقلوا بعد أن عتوا ومردوا، أما طلبوا زادا يكفي في طريقهم ففقدوا، أما حل الموت فحل عقد ما عقدوا ،عاينوا والله كل ما قدموا ووجدوا ،فمنهم أقوام شقوا وأقوام سعدوا.
(أيها المتيقظون وهم نائمون ،أتبنون مالا تسكنون، وتجمعون ما لا تأكلون، كونوا كيف شئتم فستنقلون (ثُمّ إِنّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيّتُونَ)
(يا مقيمين سترحلون، يا مستقرين ما تتركون، يا غافلين عن الرحيل ستظعنون ،أراكم متوطنين تأمنون المنون (ثُمّ إِنّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيّتُونَ)
(طول نهاركم تلعبون ، وطول ليلكم ترقدون، والفرائض ما تؤدون ،وقد رضيتم عن الغالي بالدون ،لا تفعلوا ما تفعلون (ثُمّ إِنّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيّتُونَ)
(أما الأموال فتجمعون ، والحق فيها ما تخرجون وأما الصلاة فتضيعون وإذا صليتم تنقرون أترى هذا إلى كم يكون (ثُمّ إِنّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيّتُونَ)
(أين العتاة المتجبرون، أين الفراعنة المتسلطون أين أهل الخيلاء المتكبرون قدروا أنكم صرتم كهم أما تسمعون (ثُمّ إِنّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيّتُونَ)
(ما نفعتهم الحصون،ولا رد المال المصون ،هبت زعزع الموت فكسرت الغصون، قدروا أنكم تزيدون عليهم ولا تنقصون (ثُمّ إِنّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيّتُونَ)
(تقلبوا من اللذات في فنون، وأخرجهم البطر إلى الجنون ،فأتاهم ما هم عنه غافلون، (ثُمّ إِنّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيّتُونَ)(1/463)
(لو حصل لكم كل ما تحبون ،ونما جميع ما تؤتون ،ونلتم من الأماني ما تشتهون، أينفعكم حين ترحلون (ثُمّ إِنّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيّتُونَ)
(إلى متى وحتى متى تنصحون ،وأنتم تكسبون الخطايا وتجترحون أأمنتم وأنتم تسرحون ذئب هلاك فلا تبرحون (ثُمّ إِنّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيّتُونَ)
(لا تفرحوا بما تفرحون ، فإنه لغيركم حين تطرحون، وإياكم من يراكم من يراكم تمرحون، قد خسرتم إلى الآن فما تربحون (ثُمّ إِنّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيّتُونَ)
(أخي الحبيب:
أذكر الموت ولا أرهبه ... إن قلبي لغليط كالحجر
أطلب الدنيا كأني خالد ... وورائي الموت يقفو بالأثر
وكفى بالموت فاعلم واعظاً ... لمن الموت عليه قدر
والمنايا حوله ترصده ... ليس ينجي المرء منهن المفر
(فوائد ذكر الموت :
لذكر الموت له فوائد لا تحصى، وثمرات لا تعد ، وله أهمية كبرى، وثمرات جليلةمنها ما يلي : (
(1) أنه يحث على الاستعداد للموت قبل نزوله.
(2) أن ذكر الموت يقصر الأمل ، وطول الأمل من أعظم أسباب الغفلة.
(3) أنه يزهد في الدنيا ويرضي بالقليل منها وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد ، ودرر الفرائد . (
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أكثروا ذكر هاذم اللذات: الموت فإنه لم يذكره أحد في ضيق من العيش إلا وسعه عليه و لا ذكره في سعة إلا ضيقها عليه .
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
( أكثروا ذكر هاذم ) بذال معجمة قاطع وبمهملة مزيل وليس مراداً هنا كذا في روض السهيلي قال ابن حجر وفي ذا النفي نظر
( اللذات ) الموت(1/464)
( فإنه لم يذكره أحد في ضيق من العيش إلا وسعه عليه ولا ذكره في سعة إلا ضيقها عليه ) قال العسكري لو فكر البلغاء في قول المصطفى صلى اللّه عليه وسلم ذلك لعلموا أنه أتى بهذا القليل على كل ما قيل في ذكر الموت ووصف به نظماً ونثراً ولهذا كان عيسى عليه السلام إذا ذكر عنده الموت يقطر جلده دماً قيل ولا يدخل ذكر الموت بيتاً إلا رضي أهله بما قسم لهم وقال أبو نواس . ألا يا ابن الذين فنوا وماتوا * أما واللّه ما ماتوا لتبقى وقال أبو حمزة الخراساني : من أكثر ذكر الموت حبب إليه كل باق وبغض إليه كل فان . وقال القرطبي : ذكر الموت يورث استشعار الانزعاج عن هذه الدار الفانية والتوجه في كل لحظة إلى الآخرة الباقية ثم إن الإنسان لا ينفك عن حالين ضيق وسعة ونعمة ومحنة فإن كان في حال ضيق ومحنة فذكر الموت يسهل عليه ما هو فيه من الاغترار بها والركون إليها . وقال الغزالي : الموت خطر هائل وخطب عظيم وغفلة الناس عنه لقلة فكرهم فيه وذكرهم له ومن يذكره ليس يذكره بقلب فارغ بل مشغول بالشهوات فلا ينجع ذكره فيه فالطريق أن يفرغ قلبه عن كل شيء إلا ذكر الموت الذي هو بين يديه كمن يريد السفر فإذا باشر ذكر الموت قلبه أثر فيه فيقل حركته وفرحه بالدنيا وينكسر قلبه وأنفع طريق فيه أن يذكر أشكاله فيتذكر موتهم ومصرعهم تحت التراب ويتذكر صورهم في أحوالهم ومناصبهم التي كانوا عليها في الدنيا ويتأمل كيف محى التراب حسن صورهم وتبددت أجزاؤهم في قبورهم ويتموا أولادهم وضيعوا أموالهم وخلت مجالسهم وانقطعت آثارهم .
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح ابن ماجة) قال : أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت عليك السلام ، فقال لا تقل عليك السلام فإن عليك السلام تحية الميت ،قلت يا رسول الله أي المؤمنين أفضل قال أحسنهم خلقا قال فأي المؤمنين أكيس قال أكثرهم للموت ذكرا وأحسنهم لما بعده استعدادا أولئك الأكياس .(1/465)
فإذا تفكر الإنسان أنه سينتقل من قصره إلى قبره ، ومن التنعم بالطعام والشراب إلى التمرغ في التراب ، ومن أنس العشرة إلى وحشة الوحدة ، ومن الفراش الوثير إلى المصرع الوبيل ، وأن الدود سيكون أنيسه ، ومنكر ونكير جليسه . إذا تفكر في سكرات الموت وأنها أشد من ضرب بالسيوف ونشر بالمناشير وقرض بالمقاريض .
فأكثر أخي الكريم، من ذكر هادم اللذات، واعلم أنه آت لا محالة، واستعد للحساب وامتحان القبر.
(4) أنه يرغّب في الآخرة وَيُنَشِطُ في العبادة.
(5) أنه يهوّن على العبد مصائب الدنيا.
(6) أنه يمنع من الأشر والبطر والتوسع في لذات الدنيا.
(7) أنه يحث على التوبة واستدراك ما فات.
(8) أنه يرقق القلوب ويدمع الأعين، ويجلب باعث الدين، ويطرد باعث الهوى.
(9) أنه يدعو إلى التواضع وترك الكبر والظلم.
(10) أنه يدعو إلى سل السخائم ومسامحة الإخوان وقبول أعذارهم.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن يحيى بن معاذ قال : من أكثر ذكر الموت لم يمت قبل أجله ويدخل عليه ثلاث خصال من الخير: أولها المبادرة إلى التوبة، والثانية القناعة برزق يسير، والثالثة النشاط في العبادة. ومن حرص على الدنيا فإنه لا يأكل فوق ما كتب الله له ويدخل عليه من العيوب ثلاث خصال: أولها أن تراه أبداً غير شاكر لعطية الله له، والثاني لا يواسي بشيء مما قد أعطى من الدنيا. والثالث يشتغل ويتعب في طلب ما لم يرزقه الله حتى يفوته عمل الدين.
(الأسباب الباعثة على ذكر الموت :
(1) زيارة القبور :
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) قال * زار النبي - صلى الله عليه وسلم - قبر أمه فبكى وأبكى من حوله فقال استأذنت ربي في أن أستغفر لها فلم يؤذن لي واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي فزوروا القبور فإنها تذكر الموت .(1/466)
(حديث بريدة الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكركم الآخرة .
(حديث البراء رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجه ) قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة فجلس على شفير القبر فبكى حتى بل الثرى ثم قال يا إخواني لمثل هذا فأعدوا .
(2) زيارة مغاسل الأموات ورؤية الموتى حين يغسلون.
(3) مشاهدة المحتضرين وهن يعانون سكرات الموت وتلقينهم الشهادة.
(4) تشييع الجنائز والصلاة عليها وحضور دفنها.
(5) تلاوة القرآن، ولا سيما الآيات التي تذكر بالموت وسكراته كقوله تعالى: وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ [ ق:19]
(6) الشيب والمرض، فإنهما من رسل ملك الموت إلى العباد.
(7) الظواهر الكونية التي يحدثها الله تعالى تذكيراً لعباده بالموت والقدوم عليه سبحانه كالزلازل والبراكين والفيضانات والانهيارات الأرضية والعواصف المدمرة.
(8) مطالعة أخبار الماضين من الأمم والجماعات التي أفناهم الموت وأبادهم البلى.
(6) زيارة القبور :
إن من أعظم الأسباب الجالبة للبكاء من خشية الله تعالى زيارة القبور لما فيها من عِظةِ الموت ، وتذكر أن الدنيا فانية وأن الآخرة هي الباقية وأن الموت ما منه فوت .
مسألة : ما هو حكم زيارة القبور؟
تسن زيارة القبور للرجال دون النساء
وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد ، ودرر الفرائد . (
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) قال * زار النبي - صلى الله عليه وسلم - قبر أمه فبكى وأبكى من حوله فقال استأذنت ربي في أن أستغفر لها فلم يؤذن لي واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي فزوروا القبور فإنها تذكر الموت .(1/467)
(حديث بريدة الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكركم الآخرة .
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لعن الله زوَّرات القبور .
(حديث البراء رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجه ) قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة فجلس على شفير القبر فبكى حتى بل الثرى ثم قال يا إخواني لمثل هذا فأعدوا .
(حديث هانىء مولى عثمان رضي الله عنه الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة ) قال : كان عثمان إذا وقف على قبر يبكي حتى يبل لحيته ، فقيل له : تذكر الجنة والنار ولا تبكي وتبكي من هذا ؟ قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن القبر أول منازل الآخرة فإن نجا منه فما بعده أيسر منه وإن لم ينج منه فما بعده أشد منه ، وقال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما رأيت منظراً قطُّ إلا والقبر أفظع منه " .
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لعن الله زوَّرات القبور .
مسألة : فإن قال قائل أن قوله - صلى الله عليه وسلم - (زوَّرات القبور) للمبالغة فما الجواب ؟
الجواب من وجهين :
(الأول) : أن كلمة زوَّرات تأتي للمبالغة وتأتي للنسبة كبنّاء ونجّار فيكون الأمر محتملاً للمبالغة أو النسبة ، والدليل إذا طرقه الإحتمال بطل به الإستدلال
(الثاني) ثبت عند الترمذي أيضاً لفظ لعن الله زائرات القبور . فإذا لعنت الزائرات فالزوّارات من باب أولى .
(آداب زيارة القبور :
مسألة : ما هي آداب زيارة القبور؟
[*](آداب زيارة القبور :
(1) إذا وصل إلى المقابر يدعو بالدعاء المأثور :(1/468)
(حديث بريدة الثابت في صحيح مسلم ) قال * كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر فكان قائلهم السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وإنا إن شاء الله للاحقون أسأل الله لنا ولكم العافية .
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح ابن ماجة) قال : أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت عليك السلام ، فقال لا تقل عليك السلام فإن عليك السلام تحية الميت ،قلت يا رسول الله أي المؤمنين أفضل قال أحسنهم خلقا قال فأي المؤمنين أكيس قال أكثرهم للموت ذكرا وأحسنهم لما بعده استعدادا أولئك الأكياس .
(2) تحقيق المقصود منها وهي تذكرة الموت والاعتبار والاستعداد للموت :
(3) إذا مر المسلم بقبور الظالمين فعليه أن يبكي ويذكر ما كانوا عليه ويتفكر في عاقبة الظالمين .
(حديث بن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح البخاري): أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم، لا يصيبكم ما أصابهم).
(4) الدعاء للأموات :
(حديث عائشة الثابت في صحيح مسلم ):أنها قالت كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلما كان ليلتها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخرج من آخر الليل إلى البقيع فيقول السلام عليكم دار قوم مؤمنين وأتاكم ما توعدون غدا مؤجلون وإنا إن شاء الله بكم لاحقون اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد .
(ما يحرم عند القبور :
مسألة : ما هي الأمور التي يحرم فعلها عند القبور؟
[*](الأمور التي يحرم فعلها عند القبور :
(1) يحرم الذبح عند القبور :
(حديث أنس الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لا عقر في الإسلام .(1/469)
{تنبيه} : معنى العقر : أصل العقر ضرب قوائم البعير أو الشاة بالسيف وهو قائم فنهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عنه لأنهم كانوا إذا مات الميت عقروا عند قبره شاةً أو بعيراً ويقولون إنه كان يعقر للأضياف فيكافيه بمثل صنيعه بعد وفاته .
(2) يحرم تجصيص القبر والبناء عليه :
(حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح مسلم ) قال * نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يجصص القبر وأن يقعد عليه وأن يبنى عليه .
(يجصص) : تبيضه بالجص وهوالجير المعروف بعد بنيه .
الشاهد : أن الأصل في النهي التحريم ، ثم إن بنيه وتجصيصه يجعله مشرفاً وهذا مخالفاً لهدي النبي - صلى الله عليه وسلم - .
(حديث أبي الهياج الأسدي الثابت في صحيح مسلم ) قال : قال لي علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه ألا أبعثك على ما بعثني به رسول الله ، ألا تدع صورةً إلا طمستها ولا قبراً مشرفاً إلا سويته .
(3) يحرم الجلوس على القبر :
(حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح مسلم ) قال * نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يجصص القبر وأن يقعد عليه وأن يبنى عليه .
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - * لأن يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه فتخلص إلي جلده خير له من أن يجلس على قبر .
وذلك لأن القبر بيت الميت المسلم وحرمته ميتاً كحرمته حياً (لحديث عائشة الثابت في صحيح أبي داود) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : كسر عظم الميت ككسره حياً .
(4) يحرم أن يكتب على القبر شيء :
(حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح ابن ماجة) قال * نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يكتب على القبر شيئ .(1/470)
{ تنبيه } :( والعلة في ذلك أن الكتابة على القبر تؤدي إلى تعظيمه و تعظيمه يكون سبباً في الشرك ولذا كان النهي حماية لجناب التوحيد وسداً لكل طريقٍ يجر إلى الشرك والعياذ بالله تعالى .
(5) يحرم الصلاة إليها :
(حديث كنّاز بن الحصين الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها .
والأصل في النهي التحريم
(6) يحرم الصلاة عندها ولو بدون استقبال :
( حديث أبي سعيد الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال * الأرض كلها مسجد إلا الحمام والمقبرة .
(7) يحرم بناء المساجد عليها :
(حديث عائشة الثابت في الصحيحين) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في مرضه الذي مات فيه : لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا من قبور أنبيائهم مساجد ، يحذر مما صنعوا .
( حديث أبي هريرية الثابت في صحيحيأبي داود) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : * لا تجعلوا بيوتكم قبورا ولا تجعلوا قبري عيدا وصلوا على فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم .
(8) يحرم السفر إليها :
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لا تُشدُّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام ومسجد الرسول والمسجد الأقصى
(9) يحرم إيقاد السرج عليها لكونه بدعة لا يعرفها السلف الصالح ومن المعلوم شرعا أن كل بدعةٍ ضلالة كما أن فيها إضاعة المال في غير معنى شرعي .
(حديث العرباض بن سارية الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي)أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أوصيكم بتقوى الله و السمع و الطاعة و أن أمر عليكم عبد حبشي فإنه من يعش منكم بعدي فسيري اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي و سنة الخلفاء المهديين الراشدين تمسكوا بها و عضوا عليها بالنواجذ و إياكم و محدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة و كل بدعة ضلالة .(1/471)
الشاهد : قوله - صلى الله عليه وسلم - [ و إياكم و محدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة و كل بدعة ضلالة]
(حديث المغيرة بن شعبة الثابت في الصحيحين) قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (إن الله حرم عليكم: عقوق الأمهات ووأد البنات، ومنع وهات. وكره لكم: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال).
الشاهد : قوله - صلى الله عليه وسلم - [وإضاعة المال]
(10) يحرم كسر عظام الميت لأن حرمته ميتاً كحرمته حيا .
(لحديث عائشة الثابت في صحيح أبي داود) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : كسر عظم الميت ككسره حياً .
(عِظةُ القبور :
زيارتك للمقبرة تجعلك تتفكر أن هذا مآلك شئت أم أبيت فيدفعك هذا إلى أن تقدم إلى مثل هذه الحفرة ، تقدم ما يجعلها عليك روضة من رياض الجنة بإذن الله .
[*](قال عبدالحق الأشبيلي: ( فينبغي لمن دخل المقابر أن يتخيل أنه ميت، وأنه قد لحق بهم، ودخل معسكرهم، وأنه محتاج إلى ما هم إليه محتاجون، وراغب فيما فيه يرغبون، فليأت إليهم ما يحب أن يؤتى إليه، وليتحفهم بما يحب أن يتحف به، وليتفكر في تغير ألوانهم، وتقطع أبدانهم، ويتفكر في أحوالهم، وكيف صاروا بعد الأنس بهم والتسلي بحديثهم، إلى النفار من رؤيتهم، والوحشة من مشاهدتهم وليتفكر أيضاً في انشقاق الأرض وبعثرة القبور، وخروج الموتى وقيامهم مرة واحدة حفاة عراة غرلاً، مهطعين إلى الداعي، مسرعين إلى المنادي .
[*](قال محمد بن صبيح: ( بلغنا أن الرجل إذا وضع في قبره، فعذب أو أصابه ما يكره، ناداه جيرانه من الموتى: يا أيها المتخلف في الدنيا فبعد إخوانه! أما كان لذلك فينا معتبر؟ أما كان لك في تقدمنا إياك فكرة؟ أما رأيت انقطاع أعمالنا وأنت في المهل؟ فهلا استدركت ما فات إخوانك!!.
[*](شيع الحسن رحمه الله :جنازة فجلس على شفير القبر فقال : إن أمراً هذا آخره لحقيق أن يزهد في أوله، وإن أمراً هذا أوله لحقيق أن يخاف آخره .(1/472)
[*](ووعظ عمر بن عبدالعزيز يوماً أصحابه فكان من كلامه أنه قال: إذا مررت بهم فنادهم إن كنت منادياً، وادعهم إن كنت داعياً، ومر بعسكرهم، وانظر إلى تقارب منازلهم.. سل غنيهم ما بقي من غناه؟.. واسألهم عن الألسن التي كانوا بها يتكلمون، وعن الأعين التي كانوا للذات بها ينظرون.. واسألهم عن الجلود الرقيقة، والوجوه الحسنة، والأجساد الناعمة، ما صنع بها الديدان تحت الأكفان؟!.. أكلت الألسن، وغفرت الوجوه، ومحيت المحاسن، وكسرت الفقار، وبانت الأعضاء، ومزقت الأشلاء فأين حجابهم وقبابهم؟ وأين خدمهم وعبيدهم؟ وجمعهم وكنوزهم؟ أليسوا في منازل الخلوات؟ أليس الليل والنهار عليهم سواء؟ أليسوا في مدلهمة ظلماء؟ قد حيل بينهم وبين العمل، وفارقوا الأحبة والمال والأهل.
[*](وكان يزيد الرقاشي يقول لنفسه: "ويحك يا يزيد! من ذا يصلي عنك بعد الموت؟ من ذا يصوم عنك بعد الموت؟ من ذا يترضى عنك بعد الموت؟ ثم يقول: أيها الناس! ألا تبكون وتنوحون على أنفسكم باقي حياتكم.. من الموت موعده.. والقبر بيته.. والثرى فراشه.. والدود أنيسه.. وهو مع هذا ينتظر الفزع الأكبر.. كيف يكون حاله؟!"، ثم بكي رحمه الله.
(فيا ساكن القبر غداً! ما الذي غرك من الدنيا؟ أين دارك الفيحاء ونهرك المطرد؟ وأين ثمارك اليانعة؟ وأين رقاق ثيابك؟ وأين طيبك وبخورك؟ وأين كسوتك لصيفك وشتائك؟.. ليت شعري بأي خديك بدأ البلى.. يا مجاور الهلكات صرت في محلة الموت.. ليت شعري ما الذي يلقاني به ملك الموت عند خروجي من الدنيا..وما يأتيني به من رسالة ربي.. ثم انصرف رحمة الله فما عاش بعد ذلك إلا جمعة.
(أخي الحبيب:
تفكر في الذين رحلوا.. أين نزلوا؟ وتذكر القوم نوقشوا وسئلوا.. ولقد ودوا بعد الفوات لو قبلوا.. ولكن هيهات هيهات وقد قبروا.
أما اعتبرت بمن رحل ، أما وعظتك العبر ، أما كان لك سمعٌ ولا بصر .(1/473)
[*](أورد الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى في كتابه أهوال القبور عن عمر بن عبد العزيز خرج مع جنازة فلما دفنها قال : دعوني حتى آتي قبور الأحبة قال : فأتاهم فجعل يدعوا ويبكي إذ هتف به التراب: يا عمر لا تسألني عما فعلت بالأحبة وما فعلت بهم ؟ قال : مزقت الأكفان وأكلت اللحم ، شدخت المقتلين ، وأكلت الحدقتين ، ونزعت الكفين من الساعدين ، والساعدين من العضدين والعضدين من المنكبين ، والمنكبين من الصلب ، والقدمين من الساقين ، والساقين من الفخذين ، والفخذين من الورك ، والورك من الصلب ، قال : وعمر يبكي فلما أراد أن ينهض قال له التراب : يا عمر ألا أدلك على أكفان لا تبلى ؟ قال : وما هي : تقوى الله والعمل الصالح .
[*](وأورد الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى في كتابه أهوال القبور عن ميمون بن مهران قال : خرجت مع عمر بن عبد العزيز إلى المقابر فلما نظر إلى القبور بكى ثم قال يا أيوب هذه قبور أبائي بني أمية ، كأنهم لم يشركوا أهل الدنيا في لذاتهم وعيشتهم ، أما تراهم صرعى فدخلت بهم المثلات ، واستحكم فيهم البلاء ، فأصابت الهوام في أبدانهم مقيلاً ، ثم بكى حتى غشي عليه ثم أفاق فقال : فانطلق بنا فو الله ما أعلم أحداً أنعم ممن صار إلى هذه القبور وقد أمن من عذاب الله عز وجل .
[*](وأورد الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى في كتابه أهوال القبور عن ثابت البناني أنه دخل المقابر فبكى فقال : بليت أجسامهم وبقيت أخبارهم فالعهد قريب ، واللقاء بعيد .
[*](روى ابن أبي الدنيا بإسناده عن سلام بن صالح قال : فُقِدَ الحسن ذات يوم فلما أمسى قال له أصحابه : أين كنت ؟ قال : كنت اليوم عند إخوان لي إن نسيت ذكروني ، وإن غبت عنهم لم يغتابوني ، فقال له أصحابه : نعم الإخوان والله هؤلاء يا أبا سعيد دلنا عليهم قال : هؤلاء أهل القبور.(1/474)
[*](وروى ابن أبي الدنيا بإسناده عن عبد الواحد بن زيد أن الحسن قال لأصحابه ، وهم في المقابر هم أهل محلة قد كفى من جلس إليهم الكلام وله في الجلوس إليهم الموعظة و الاعتبار .
[*](روى ابن أبي الدنيا بإسناده عن عمارة المغربي قال : قال لي محمد بن واسع : ما أعجب إلى منزلك قلت ! وما يعجبك من منزلي وهو عند القبور ؟! قال : وما عليك يكفون الأذى ، ويذكرون الآخرة .
[*](أورد الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى في كتابه أهوال القبور عن الحسن أنه مر على مقبرة فقال : يا لهم من عسكر ما أسكتهم ، وكم فيهم من مكروب.
[*](أورد الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى في كتابه أهوال القبور عن
مالك بن دينار قال : خرجت أنا وحسان بن أبي سنان نزور المقابر فلما أشرف عليها سبقته عبرته ، ثم أقبل عليّ فقال : يا يحيى هذه عساكر الموتى ينتظرون بها من بقي من الأحياء ثم يصاح بهم صيحة ، فإذا هم قيام ينظرون ، فوضع مالك يده على رأسه ، وجعل يبكي .
[*](أورد الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى في كتابه أهوال القبور عن حسين الجعفي قال : أتى رجل قبراً محفوراً ، فاطلع في اللحد ، فبكى واشتد بكاؤه قال : أنت والله بيتي حقاً ، والله إن استطعت لأعمرنك .
[*](أورد الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى في كتابه أهوال القبور عن عطاء السلمي أنه كان إذا جن عليه الليل خرج ، فوقف على القبور ، ثم قال : يا أهل القبور متم فوا موتاه ثم بكى ثم قال : يا أهل القبور عاينتم ما علمتم فوا عملاه ثم يبكي فلا يزال كذلك حتى يصبح .
[*](أورد الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى في كتابه أهوال القبور عن علي بن أحمد قال : كان الأسود بن كلثوم يخرج إلى المقابر إذا هدأت العيون ، فيقول . يا أهل الغربة والتربة ، يا أهل الوحدة والبلى ، ثم يبكي حتى يكاد يطلع الفجر ، ثم يرجع إلى أهله .(1/475)
[*](قال الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى في كتابه أهوال القبور :
كان العمري الزاهد يلازم المقابر ومعه كتاب لا يفارقه فقيل له في ذلك ، قال : ما شيء أوعظ من قبر ولا آنس من كتاب ولا أسلم من الوحدة .
[*](أورد الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى في كتابه أهوال القبور عن أبي محرز الطفاوي قال : كفتك القبور مواعظ الأمم السالفة .
(ولله درُ أبي العتاهية حيث قال :
إني سألت التراب : ما فعلت بعدي بجسد وقع فيه الدود متعفرة
فأجابني : صيرت ريحهم يؤذيك بعد روائح عطرة
وأكلت أجساداً منعمة كان النعيم يهزها نضرة
لم يبق غير جماجم عريت بيض تلوح أو أعظم نخرة
[*](روى ابن أبي الدنيا بإسناده عن أبي إسحاق : شهدت جنازة رجل من إخواني منذ خمسين سنة فلما دفن وسوي عليه التراب وتفرق الناس ، جلست إلى بعض تلك القبور ففكرت فيما كانوا فيه من الدنيا وانقطاع ذلك كله عنهم فأنشدت أقول :
سلام على أهل القبور الدوارس ... كأنهم لم يجلسوا في المجالس
ولم يشربوا من بارد الماء شربة ... ولم يأكلوا من بين رطب ويابس
ألا خبروني : أين قبر ذليلكم ... وقبر العزيز الباذخ المتمارس
وغلبتني عيناي فقمت وأنا محزون .
[*](وروى أبو نعيم بإسناد له أن داود الطائي اجتاز على مقبرة وامرأة عند قبر تقول هذين البيتين فسمعها فكان ذلك سبب توبته يعني سبب انقطاعه عن الدنيا وأسبابها وانشغاله بالآخرة والاستعداد لها . وسمع بكر العابد امرأة عند قبر تقول:
واعمراه ليت شعري بأي خديك بدأ البلى وأي عينيك سالت قبل الأخرى ، فخر بكر مغشياً عليه . أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب " ذكر الأموات " .(1/476)
[*](وروى ابن أبي الدنيا في كتاب " الخائفين " عن محمد بن الحسين عن عبد الله بن موسى قال :كان الحسين بن صالح إذا صعد المنارة ـ يعني ليؤذن ـ أشرف على المقابر فإذا نظر إلي الشمس تمور على القبور صرخ حتى يسقط مغشياً عليه ، فيحمل وينزل به ، وشهد يوماً جنازة فلما قرب الميت ليدفن نظر إلى اللحد فارتاع عرقاً ، ثم مال ، فغشي عليه ، فحمل على سرير الميت ، فرد إلى منزله .
(وذكر بإسناد عن عيسى بن يونس ـ وذكر الحسين بن صالح ـ فقال : قل ما كنت أجيء في وقت صلاة إلا رأيته مغشيا عليه ينظر إلى المقبرة فيصرخ ويغشى عليه .
(وبإسناده عن عمر بن درهم القريعي دخل المقابر وهو معصوب العين وابنه يقوده فوطىء على قبر وقال يا بني أين أنا ؟ قال في الجبان يا أبتاه قال : هاه ثم خر ميتا فحمل إلى أهله من المقابر ميتا ، فغسل ، ثم رد إلى المقابر، فدفن .
[*](روى ابن أبي الدنيا في كتاب " القبور" بإسناد له أن امرأة بالمدينة كانت تزهو فدخلت يوما المقابر ، فرأت جمجمة ، فصرخت ثم رجعت منيبة ، فدخل عليها نساؤها فقلن ما هذا ؟ فقالت : بكى قلبي لذكر الموت لما رأيت جماجم خوف القبور، ثم قالت : أخرجن من عندي فلا تأتين منكن امرأة إلا امرأة ترغب في خدمة الله عز وجل ثم أقبلت على العبادة حتى ماتت .
[*](وروى ابن أبي الدنيا بإسناده عن عيسى الخواص أن رجلا من الصدر الأول دخل المقابر ، فمر بجمجمة بادية من بعض القبور ، فحزن حزنا شديدا ، ثم واراها ، ثم التفت فلم ير إلا القبور ، فحدث نفسه فقال : لو كشفت عن بعضهم فسألته ما رأى قال فأتى في منامه فقيل له : لا تغتر بتشييد القبور من فوقهم ، فإن القوم بليت خدودهم في التراب فمن بين مسرور ينتظر ثواب الله عز وجل وبين مغموم آسفا على عقابه ، فإياك والغفله عما رأيت ، فاجتهد الرجل بعد ذلك اجتهادا شديدا حتى مات .(1/477)
[*](أورد الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى في كتابه أهوال القبور عن سلمه البصري قال : وقف رجل على قبر قد بني بناء حسنا ، فجعل يتعجب من حسنه ، فلما كان في ليلة أتاه آت في منامه فوقف عليه ، وإذا رجل قد انمحت آثار وجهه فقال شعرا :
أعجبك القبر وحسن البناء ... والجسم فيه قد حواه البلاء
فاسأل الأموات عن حالهم ... ينبأك عن ذاك ذهاب الجلاء
قال : ثم ولى فاتبعته ، فدخل الجبان ، فأتى ذلك القبر ، فانساب فيه .
[*](أورد الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى في كتابه أهوال القبور عن الفضيل بن عياض قال : رأيت رجلاً يبكي ، قلت : وما يبكيك ؟ قال : أبكاني كلامه قلت : ما هو ؟ قال : كنا وقوفاً في المقابر فأنشدوا :
أتيت القبور فسألناها ... أين المعظم والمحتقر
وأين المذل بسلطانه ... وأين القوي إذا ما قدر
ففاتوا جميعاً فما مخبر ... وماتوا جميعاً ومات الخبر
فيا سائلي عن أناس مضوا ... أما لك في ما مضى معتبر
تروح وتغدو وأبلاك الثرى ... فتمحو محاسن تلك الصور
[*](وأورد الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى في كتابه أهوال القبور أن بعض الوزراء أوصى أن يكتب على قبره :
« أيها المغرور في الدنيا بعز يقينه ، وبأهل وبمال وبقصرٍ تبتنيه ، كم عليها قد سحبنا ذيل سلطان منيته ، يحسب الأقدار تجري بخلود ترتجيه ، إذا طواك الموت طياً فاعتبرنا نحن فيه » .
[*](روى ابن أبي الدنيا بإسناده عن عبد الله بن صدقة بن مرداس البكري عن أبيه عن شيخ حدثه بقرية من بلاد أنطابلس قال : كان ثلاثة إخوة : أمير يصحب السلطان ويؤمر على المدائن والجلوس ، وتاجر موسر مطاع من ناحيته ، وزاهد قد تخلى لنفسه وتخلى لعبادة ربه . قال : فحضرت العابد الوفاة فاجتمع عنده إخوانه فقال لهما إذا مت فغسلاني وكفناني وادفناني على نشز من الأرض واكتبا على قبري :
وكيف يلذ العيش من هو عالم ... بأن إله الخلق لا بد سائله
فيأخذ منه مظلمة لعباده ... ويجزيه بالخير الذي هو فاعله(1/478)
فإذا أنتما فعلتما ذلك فأتياني كل يوم لعلكما أن تتعظا . قال : ففعلا ذلك ، فكان أخوه يركب في جنده حتى يقف على القبر فيقرأ ما على عليه ويبكي فلما كان اليوم الثالث وأراد أن ينصرف سمع هدة من داخل القبر ، كاد أن ينصدع لها قلبه، فانصرف مذعوراً فزعاً فلما كان من الليل رأى أخاه في منامه فقال له أي أخي ما الذي سمعت من قبرك ؟ قال تلك هدة المقمعة قيل لي رأيت : مظلوما ، فلم تنصره ، فأصبح مهموما فدعا أخاه وخاصته وقال : ما أرى أراد بما أوصى أن يكتب على قبره غيري ، وإني أشهدكم أن لا أقيم بين ظهرانيكم أبدا ، قال : فترك الإمارة ولزم الكتابة وكتب إلى عبد الملك بن مروان في ذلك ، فكتب أن خلوه وما أراد ، فحضرته الوفاة وهو في جبل مع بعض الرعاة فبلغ أخاه فأتاه فقال له إذا مت فادفني إلى جنب أخي وأكتب على قبري :
وكيف يلذ العيش من كان موقنا ... ... بأن المنايا بغتة ستعاجله
فتسلبه ملكا عظيما ... ... وتسكنه البيت الذي هو أهله
ثم تعاهدني ثلاثة بعد موتي ، وادعو الله لي لعل الله أن يرحمني ، ومات ففعل به أخوه ذلك فلما كان في اليوم الثالث وأراد أن ينصرف سمع وجبة في قبره كاد أن يذهل عقله ، فرجع حزينا قلقا . فلما كان في الليل إذا بأخيه في منامه قد أتاه قال . فقلت له : أي أخي أتيتنا زائرا قال : يا أخي هيهات بعد المزار فلا مزار ، وأطمأنت بنا الدار قلت : يا أخي كيف أنت ؟ قال : بخير ما أجمع التوبة لكل خير . قال : فكيف أخي ؟ قال : ذلك مع الأئمه الأبرار . قلت : وما أمرنا وراءكم . قال : من قدم شيئا وجده ؛ فاغتنم وجدك قبل نقلك ، فأصبح أخوه معتزلا ففرق ماله وقسمه وباعه ، وأقبل على طاعة ربه ، ونشأ له ابن كأهنأ الشباب وجها وجمالاً فأقبل على المكاسب والتجارة حتى بلغ منها الغاية ، وحضرت الوفاة أباه وقال له : إذا مت تذكر القبور والتفكر في أحوالهم .
مسألة : ما هي فوائد زيارة القبور ؟
(فوائد زيارة القبور :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ(1/479)
لزيارة القبور فوائد كثيرة منها ما يلي: (
(1) تذكر الموت والآخرة.
(2) تقصر الأمل.
(3) تزهد في الدنيا.
(4) ترقق القلوب.
(5) تدمع الأعين.
(6) تدفع الغفلة.
(7) تورقث الخشية.
(8) تورث الاجتهاد في العبادة.
قال محمد بن واسع لرجل: ( ما أعجب إلى منزلك! فقال: وما بعجبك من منزلي وهو عند القبور؟ قال: وما عليك، يكفون الأذى ويذكرون الآخرة!!.
(الفرق بين زيارة الموحدين للقبور، وزيارة المشركين :
[*](قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه إغاثة اللهفان :
(أما زيارة الموحدين: فمقصودها ثلاثة أشياء:
أحدها: تذكر الآخرة والاعتبار والاتعاظ. وقد أشار النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم إلى ذلك بقوله: "زُورُوا الْقُبُورَ، فَإٍنّهَا تُذَكرُكُمُ الآخِرَةَ".
الثاني: الإحسان إلى الميت، وأن لا يطول عهده به، فيهجره، ويتناساه، كما إذا ترك زيارة الحي مدة طويلة تناساه، فإذا زار الحي فرح بزيارته وسر بذلك، فالميت أولى ، لأنه قد صار في دار قد هجر أهلها إخوانهم وأهلهم ومعارفهم، فإذا زاره وأهدى إليه هدية: من دعائه، أو صدقة، أو أهدى قربة، ازداد بذلك سروره وفرحه، كما يسر الحي بمن يزوره ويهدى له ، ولهذا شرع النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم للزائرين أن يدعوا لأهل القبور بالمغفرة والرحمة، وسؤال العافية فقط ، ولم يشرع أن يدعوهم، ولا يدعو بهم، ولا يصلى عندهم.
الثالث: إحسان الزائر إلى نفسه باتباع السنة، والوقوف عند ما شرعه الرسول صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، فيحسن إلى نفسه وإلى المزور.
(وأما الزيارة الشركية فأصلها مأخوذ عن عباد الأصنام.(1/480)
قالوا: الميت المعظم الذي لروحه قرب ومنزلة ومزية عند الله تعالى لا يزال تأتيه الألطاف من الله تعالى وتفيض على روحه الخيرات. فإذا علق الزائر روحه به، وأدناها منه فاض من روح المزور على روح الزائر من تلك الألطاف بواسطتها، كما ينعكس الشعاع من المرآة الصافية والماء ونحوه على الجسم المقابل له.
قالوا: فتمام الزيارة أن يتوجه الزائر بروحه وقلبه إلى الميت، ويعكف بهمته عليه، ويوجه قصده كله وإقباله عليه، بحيث لا يبقى فيه التفات إلى غيره. وكلما كان جمع الهمة والقلب عليه أعظم كان أقرب إلى انتفاعه به.
وقد ذكر هذه الزيارة على هذا الوجه ابن سينا والفارابي وغيرهما. وصرح بها عباد الكواكب في عبادتها.
وقالوا: إذا تعلقت النفس الناطقة بالأرواح العلوية فاض عليها منها النور.
وبهذا السر عبدت الكواكب واتخذت لها الهياكل، وصنفت لها الدعوات، واتخذت الأصنام المجسدة لها. وهذا بعينه هو الذي أوجب لعباد القبور اتخاذها أعياداً، وتعليق الستور عليها، وإيقاد السرج عليها، وبناء المساجد عليها. «وهو الذي قصد رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم إبطاله ومحوه بالكلية، وسد الذرائع المفضية إليه». فوقف المشركون في طريقه وناقضوه في قصده. وكان صلى الله تعالى عليه وآله وسلم في شق، وهؤلاء في شق.
وهذا الذي ذكره هؤلاء المشركون في زيارة القبور هو الشفاعة التي ظنوا أن آلهتهم تنفعهم بها وتشفع لهم عند الله تعالى.
قالوا: فإن العبد إذا تعلقت روحه بروح الوجيه المقرب عند الله وتوجه بهمته إليه وعكف بقلبه عليه صار بينه وبينه اتصال، يفيض به عليه منه نصيب مما يحصل له من الله. وشبهوا ذلك بمن يخدم ذا جاه وحظوة وقرب من السلطان، فهو شديد التعلق به. فما يحصل لذلك من السلطان من الإنعام والإفضال ينال ذلك المتعلق به بحسب تعلقه به.(1/481)
فهذا سر عبادة الأصنام، «وهو الذي بعث الله رسله، وأنزل كتبه بإبطاله، وتكفير أصحابه ولعنهم». وأباح دماءهم وأموالهم وسبى ذراريهم، وأوجب لهم النار. والقرآن من أوله إلى آخره مملوء من الرد على أهله، وإبطال مذهبهم.
قال تعالى: {أَمِ اتخَذُوا مِنْ دُونِ الله شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ * قُلْ للهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّموَاتِ وَالأَرْضِ} [الزمر:43-44].
فأخبر أن الشفاعة لمن له ملك السموات والأرض، وهو الله وحده. فهو الذي يشفع بنفسه إلى نفسه ليرحم عبده. فيأذن هم لمن يشاء أن يشفع فيه. فصارت الشفاعة في الحقيقة إنما هي له، والذي يشفع عنده إنما يشفع بإذنه له وأمره بعد شفاعته سبحانه إلى نفسه وهى إرادته من نفسه أن يرحم عبده. وهذا ضد الشفاعة الشركية التي أثبتها هؤلاء المشركون ومن وافقهم، وهى التي أبطلها الله سبحانه في كتابه، بقوله تعالى:(1/482)
{وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِى نَفْسٌ عَنْ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُهَا شفَاعَةٌ} [البقرة: 123] وقوله {يَا أَيُّهَا الّذِينَ آمَنُوا أَنُفْقِوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِىَ يوْمٌ لا بَيْعٌ فِيه وَلا خُلّةُ وَلا شَفَاعَةٌ} [البقرة: 254] وقال تعالى: {وَأَنْذِرْ بِهِ الّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِى وَلا شَفِيعٌ لَعَلّهُمْ يَتّقُونَ} [الأنعام: 51] وقال: {اللهُ الّذِى خَلَقَ السَّموَات وَالأَرْضَ بَيْنَهُمَا فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ ثم اُسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَالَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِىٍّ وَلا شَفِيعٍ} [السجدة: 4]. فأخبر سبحانه أنه ليس للعباد شفيع من دونه، بل إذا أراد الله سبحانه رحمة عبده أذن هو لمن يشفع فيه. كما قال تعالى:{مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ} [يونس: 3]. وقال: {مَنْ ذَا الّذِى يَشْفَعَ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِه} [البقرة: 255] فالشفاعة بإذنه ليست شفاعة من دونه، ولا الشافع شفيع من دونه، بل شفيع بإذنه.
والفرق بين الشفيعين، كالفرق بين الشريك والعبد المأمور.
فالشفاعة التى أبطلها الله: شفاعة الشريك فإنه لا شريك له، والتي أثبتها: شفاعة العبد المأمور الذي لا يشفع ولا يتقدم بين يدي مالكه حتى يأذن له. ويقول: اشفع في فلان. ولهذا كان أسعد الناس بشفاعته سيد الشفعاء يوم القيامة أهل التوحيد، الذين جردوا التوحيد وخلصوه من تعلقات الشرك وشوائبه، وهم الذين ارتضى الله سبحانه.
قال تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لَمِنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28]، وقال: {يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحمنُ وَرَضِى لَهُ قَوْلاً} [طه: 109](1/483)
فأخبر أنه لا يحصل يومئذ شفاعة تنفع إلا بعد رضاء قول المشفوع له، وإذنه للشافع فيه، فأما المشرك فإنه لا يرتضيه، ولا يرضى قوله، فلا يأذن للشفعاء أن يشفعوا فيه فإنه سبحانه علقها بأمرين: رضاه عن المشفوع له، وإذنه للشافع، فما لم يوجد مجموع الأمرين لم توجد الشفاعة.
وسر ذلك: أن الله له الأمر كله وحده، فليس لأحد معه من الأمر شيء، وأعلى الخلق وأفضلهم وأكرمهم عنده: هم الرسل والملائكة المقربون، وهم عبيد محض، لا يسبقونه بالقول، ولا يتقدمون بين يديه، ولا يفعلون شيئاً إلا بعد إذنه لهم، وأمرهم. ولاسيما يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً، فهم مملوكون مربوبون، أفعالهم مقيدة بأمره وإذنه. فإذا أشرك بهم المشرك، واتخذهم شفعاء من دونه، ظناً منه أنه إذا فعل ذلك تقدموا وشفعوا له عند الله، فهو من أجهل الناس بحق الرب سبحانه وما يجب له ويمتنع عليه فإن هذا محال ممتنع، شبيه قياس الرب تعالى على الملوك والكبراء، حيث يتخذ الرجل من خواصهم وأوليائهم من يشفع له عندهم فى الحوائج.
وبهذا القياس الفاسد عبدت الأصنام، واتخذ المشركون من دون الله الشفيع والولي.
والفرق بينهما هو الفرق بين المخلوق والخالق، والرب والمربوب، والسيد والعبد، والمالك والمملوك، والغنى والفقير، والذى لا حاجة به إلى أحد قط، والمحتاج من كل وجه إلى غيره.(1/484)
فالشفعاء عند المخلوقين: هم شركاؤهم، فإن قيام مصالحهم بهم، وهم أعوانهم وأنصارهم، الذين قيام أمر الملوك والكبراء بهم، ولولاهم لما انبسطت أيديهم وألسنتهم فى الناس، فلحاجتهم إليهم يحتاجون إلى قبول شفاعتهم، وإن لم يأذنوا فيها ولم يرضوا عن الشافع، لأنهم يخافون أن يردوا شفاعتهم، فتنتقض طاعتهم لهم، ويذهبون إلى غيرهم. فلا يجدون بداً من قبول شفاعتهم على الكره والرضا. فأما الغنى الذي غناه من لوازم ذاته، وكل ما سواه فقير إليه بذاته. وكل من في السماوات والأرض عبد له، مقهورون بقهره، مصرفون. بمشيئته ، لو أهلكهم جميعاً لم ينقص من عزه وسلطانه وملكه وربوبيته وإلهيته مثقال ذرة.
قال تعالي: {لَقَدْ كَفَرَ الّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الَمْسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِى الأَرْضِ جَمِيعاً وَللهِ مُلْكُ السَّموَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يخلق ما يشاء وَاللهُ عَلَى كَل شَىءٍ قَدِيرٌ} [المائدة: 17]، وقال سبحانه في سيدة آي القرآن: آية الكرسي: {لَهُ مَا فِى السَّموَاتِ وَمَا فِى الأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِى يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255]، وقال: {قل لله الشّفَاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّموَاتِ وَالأَرْضِ} [الزمر: 44].
فأخبر أن حال ملكه للسموات والأرض يوجب أن تكون الشفاعة كلها له وحده، وأن أحداً لا يشفع عنده إلا بإذنه، فإنه ليس بشريك، بل مملوك محض، بخلاف شفاعة أهل الدنيا بعضهم عند بعض.(1/485)
فتبين أن «الشفاعة التي نفاها الله سبحانه في القرآن هي هذه الشفاعة الشركية » التي يعرفها الناس، ويفعلها بعضهم مع بعض، ولهذا يطلق نفيها تارة، بناءً على أنها هي المعروفة المتعاهدة عند الناس، ويقيدها تارة بأنها لا تنفع إلا بعد إذنه، وهذه الشفاعة في الحقيقة هي منه، فإنه الذي أذن، والذي قبل، والذي رضا عن المشفوع والذي وفقه لفعل ما يستحق به الشفاعة وقوله.
فمتخذ الشفيع مشرك، لا تنفعه شفاعته، ولا يشفع فيه، ومتخذ الرب وحده إلهه ومعبوده ومحبوبه، ومرجوه، ومخوفه الذي يتقرب إليه وحده، ويطلب رجاءه، ويتباعد من سخطه هو الذي يأذن الله سبحانه للشفيع أن يشفع فيه.
قال تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ شُفَعَاءَ؟}، إلى قوله: {قُلْ للهِ الشّفَاعَةُ جَمِيعاً} [الزمر: 43-44]، وقال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ الله قُلْ أتُنَبئُونَ اللهَ بمَا لا يعْلمُ فى السَّموَاتِ وَلا فِى الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس: 18]، فبين سبحانه أن المتخذين شفعاء مشركون، وأن الشفاعة لا تحصل باتخاذهم هم، وإنما تحصل بإذنه للشافع، ورضاه عن المشفوع.(1/486)
وسر الفرق بين الشفاعتين: أن شفاعة المخلوق للمخلوق، وسؤاله للمشفوع عنده، لا يفتقر فيها إلى المشفوع عنده، لا خلقاً، ولا أمراً، ولا إذناً، بل هو سبب محرك له من خارج، كسائر الأسباب التي تحرك الأسباب، وهذا السبب المحرك قد يكون عند المتحرك لأجله ما يوافقه كمن يشفع عنده في أمر يحبه ويرضاه، وقد يكون عنده ما يخالفه كمن يشفع إليه في أمر يكرهه، ثم قد يكون سؤاله وشفاعته أقوى من المعارض، فيقبل شفاعة الشافع. وقد يكون المعارض الذي عنده أقوى من شفاعة الشافع، فيردها ولا يقبلها، وقد يتعارض عنده الأمران، فيبقى متردداً بين ذلك المعارض الذي يوجب الرد، وبين الشفاعة التي تقتضى القبول، فيتوقف إلى أن يترجح عنده أحد الأمرين بمرجح، فشفاعة الإنسان عند المخلوق مثله: هي سعى في سبب منفصل عن المشفوع إليه يحركه به، ولو على كره منه، فمنزلة الشفاعة عنده منزلة من يشفع يأمر غيره، أو يكرهه على الفعل، إما بقوة وسلطان، وإما يرغبه شفاعته، فلا بد أن يحصل للمشفوع إليه من الشافع إما رغبة ينتفع بها، وإما رهبة منه تندفع عنه بشفاعته. وهذا بخلاف الشفاعة عند الرب سبحانه، فإنه ما لم يخلق شفاعة الشافع، ويأذن له فيها، ويحبها منه، ويرضى عن الشافع، لم يمكن أن توجد، والشافع لا يشفع عنده لحاجة الرب إليه، ولا لرهبته منه، ولا لرغبته فيما لزمه، وإنما يشفع عنده مجرد امتثال أمره وطاعته له، فهو مأمور بالشفاعة، مطيع بامتثال الأمر، فإن أحداً من الأنبياء والملائكة وجميع المخلوقات لا يتحرك بشفاعة ولا غيرها إلا بمشيئة الله تعالى، وخلقه، فالرب سبحانه وتعالى هو الذي يحرك الشفيع حتى يشفع، والشفيع عند المخلوق هو الذي يحرك المشفوع إليه حتى يقبل، والشافع عند المخلوق مستغن عنه في أكثر أموره، وهو في الحقيقة شريكه، ولو كان مملوكه وعبده.(1/487)
فالمشفوع عنده محتاج إليه فيما يناله منه من النفع بالنصر، والمعاونة وغير ذلك، كما أن الشافع محتاج إليه فيما يناله منه: من رزق، أو نصر، أو غيره، فكل منهما محتاج إلى الآخر.
ومن وفقه الله تعالى لفهم هذا الموضع ومعرفته، تبين له حقيقة التوحيد والشرك، والفرق بين ما أثبته الله تعالى من الشفاعة وبين ما نفاه وأبطله، {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نوراً فماله مِنْ نُورٍ} [النور: 40].
(استحباب تذكر القبور والتفكير في أحوالهم :
(حديث ابن مسعود في صحيح الترمذي) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : استحيوا من الله تعالى حق الحياء ، قلنا يا نبي الله إنا لنستحي والحمد لله ، قال : ليس ذاك ولكن الاستحياء من الله حق الحياء أن تحفظ الرأس و ما وعى والبطن و ما حوى وتذكر الموت و البِلى و من أراد الآخرة ترك زينة الدنيا فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء .
[*] قال العلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:
( اسْتَحْيُوا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ ) أَيْ حَيَاءً ثَابِتًا لَازِمًا صَادِقًا قَالَهُ الْمُنَاوِيُّ، وَقِيلَ أَيِ اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ
( قُلْنَا يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنَّا لَنَسْتَحْيِي ) لَمْ يَقُولُوا حَقَّ الْحَيَاءِ اعْتِرَافًا بِالْعَجْزِ عَنْهُ
( وَالْحَمْدُ لِلَّهِ ) أَيْ عَلَى تَوْفِيقِنَا بِهِ
( قَالَ لَيْسَ ذَاكَ ) أَيْ لَيْسَ حَقَّ الْحَيَاءِ مَا تَحْسَبُونَهُ بَلْ أَنْ يَحْفَظَ جَمِيعَ جَوَارِحِهِ عَمَّا لَا يَرْضَى
( وَلَكِنَّ الِاسْتِحْيَاءَ مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ أَنْ تَحْفَظَ الرَّأْسَ ) الجزء السابع أَيْ عَنِ اسْتِعْمَالِهِ فِي غَيْرِ طَاعَةِ اللَّهِ بِأَنْ لَا تَسْجُدَ لِغَيْرِهِ وَلَا تُصَلِّيَ لِلرِّيَاءِ وَلَا تَخْضَعَ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ وَلَا تَرْفَعَهُ تَكَبُّرًا(1/488)
( وَمَا وَعَى ) أَيْ جَمَعَهُ الرَّأْسُ مِنَ اللِّسَانِ وَالْعَيْنِ وَالْأُذُنِ عَمَّا لَا يَحِلُّ اسْتِعْمَالُهُ
( وَتَحْفَظَ الْبَطْنَ ) أَيْ عَنْ أَكْلِ الْحَرَامِ
( وَمَا حَوَى ) أَيْ مَا اتَّصَلَ اجْتِمَاعُهُ بِهِ مِنَ الْفَرْجِ وَالرِّجْلَيْنِ وَالْيَدَيْنِ وَالْقَلْبِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْأَعْضَاءَ مُتَّصِلَةٌ بِالْجَوْفِ، وَحِفْظُهَا بِأَنْ لَا تَسْتَعْمِلَهَا فِي الْمَعَاصِي بَلْ فِي مَرْضَاةِ اللَّهِ تَعَالَى ( وَتَتَذَكَّرَ الْمَوْتَ وَالْبِلَى ) بِكَسْرِ الْبَاءِ مِنْ بَلِيَ الشَّيْءُ إِذَا صَارَ خَلَقًا مُتَفَتِّتًا يَعْنِي تَتَذَكَّرَ صَيْرُورَتَكَ فِي الْقَبْرِ عِظَامًا بِالْبَيِّنَةِ
( وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا ) فَإِنَّهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ حَتَّى لِلْأَقْوِيَاءِ قَالَهُ الْقَارِي. وَقَالَ الْمُنَاوِيُّ: لِأَنَّهُمَا ضَرَّتَانِ فَمَتَى أَرْضَيْتَ إِحْدَاهُمَا أَغْضَبْتَ الْأُخْرَى ( فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ ) أَيْ جَمِيعَ مَا ذُكِرَ.
520- وخرج ابن أبى الدنيا بإسناد عن الضحاك قال : قال رجل يا رسول الله من أزهد الناس ؟ قال : "من لم ينس القبر والبلى , وترك فضل الدنيا [ الدنية ] وآثر ما يبقى على ما يفنى , ولم يعد غداً من أيامه , وعد نفسه من أهل القبور " .
وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد ، ودرر الفرائد . (
( حديث بن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح البخاري ) قال:أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل). وكان ابن عمر يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك .(1/489)
[*](روى ابن أبي الدنيا بإسناده عن أبي سريج الشامي قال : قال عمر بن عبد العزيز لرجل من جلسائه : يا فلان قد أرقت الليل متفكراً , قال : فيما يا أمير المؤمنين ؟ قال في القبر وساكنه , لو رأيت بعد ثالثه في القبر لاستوحشت من قربه بعد طوال الأنس منك بناحيته , ولرأيت بيتاً تجول فيه الهوام , ويجري فيه الصديد وتخترقه الديدان مع تغير الرائحة وبلى الأكفان بعد حسن الهيئة وطيب الرائحة ونقاء الثوب قال : ثم شهق شهقة خر مغشياً .
[*](أورد الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى في كتابه أهوال القبور عن
محمد بن كعب القرظي قال : بعثت إلى عمر بن عبد العزيز فقدمت إليه فأدمت النظر إليه فقال : يا ابن كعب إنك لتنظر إلي نظراً ما كنت تنظره إليَّ بالمدينة قلت : أجل يا أمير المؤمنين , يعجبني ما حال من لونك وما حال من جسمك قال : فكيف بك يا ابن كعب لو رأيتني بعد ثالثة في القبر , وقد ثبتت عيناي على وجنتي , وخرج الصديد والدود من منخري , لكنت لي أشد نكرة .
[*](أورد الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى في كتابه أهوال القبور عن
وهب بن الورد قال : بلغنا أن رجلاً فقيهاً دخل على عمر بن عبد العزيز فقال : سبحان الله ,كأنه تعجب من أمره الذي هو عليه , وقال له : تغيرت بعدنا ! فقال له : وبينت ذلك فعلاً ، فقال له : الأمر أعظم من ذلك , فقال له : يا فلان فكيف لو رأيتني بعد ثلاث , وقد أدخلت قبري ، وقد خرجت الحدقتان فسالت على الخدين وتقلصت الشفتان عن الأسنان , وانفتح الفم , ونتأ البطن فعلا الصدر , وخرج الصديد من الدبر .(1/490)
[*]( وروى أبو نعيم الحافظ بإسناده أن عمر بن عبد العزيز شيع مرة جنازة من أهله , ثم أقبل على أصحابه ووعظهم , فذكر الدنيا فذمها وذكر أهلها , وتنعمهم فيها , وما صاروا إليه بعدها من القبور , فكان من كلامه أنه قال : إذا مررت بهم فنادهم إن كنت مناديا , وادعهم إن كنت داعياً ومر بعسكرهم , وانظر إلى تقارب منازلهم , سل غنيهم : ما بقي من غناه ؟ وسل فقيرهم : ما بقي من فقره ؟ واسألهم عن الألسن التي كانوا بها يتكلمون ، وعن الأعين التي كانوا للذات بها ينظرون ، وسلهم عن الجلود الرقيقة والوجوه الحسنة والأجساد الناعمة ما صنع بها الديدان تحت الأكفان ، وأكلت اللحمان وعفرت الوجوه ، ومحت المحاسن ، وكسرت الفقارة ، وبانت الأعضاء ، ومزقت الأشلاء ، وأين حجابهم وقبابهم ؟ وأين خدمهم وعبيدهم وجمعهم وكنوزهم وكأنهم ما وطئوا فراشا ًولا وضعوا هنا متكأ ، ولا غرسوا شجراً ولا أنزلوهم من اللحد قراراً ، أليسوا في منازل الخلوات؟(1/491)
أليس الليل والنهار عليهم سواء ؟ أليسوا في مدلهمة ظلماء ، قد حيل بينهم وبين العمل ، وفارقوا الأحبة ، وكم من ناعم وناعمة أضحوا ووجوههم بالية ، وأجسادهم من أعناقهم بائنة ، أوصالهم ممزقة ، وقد سالت الحدق على الوجنات ، وامتلأت الأفواه دماً وصديداً ، ودبت دواب الأرض في أجسادهم ، ففرقت أعضاءهم ، ثم لم يلبثوا إلا يسيراً حتى عادت العظام رميماً ، فقد فارقوا الحدائق وصاروا بعد السعة إلى المضائق ، قد تزوجت نساءهم ، وترددت في الطرق أبناؤهم ، وتوزعت القرابات ديارهم وقراهم ، فمنهم والله الموسع له في قبره الغض الناظر فيه المتنعم بلذته ، يا ساكن القبر غداً ما الذي غرك من الدنيا أين دارك الفيحاء ونهرك المطرد ؟ وأين ثمارك اليانعة ؟ وأين رقاق ثيابك وأين طيبك ونحورك ، وأين كسوتك لصيفك ولشتاءك ؟؟ أما رأيته قد زل به الأمر ، فلما يدفع عن نفسه دخلاً وهو يرشح عرقاً ويتلمظ عطشاً ، يتقلب في سكرات الموت وغمرته ، جاء الأمر من السماء ، وجاء غالب القدر والقضاء ، هيهات : يا مغمض الوالد والأخ والولد ، وغاسله ، يا مكفن الميت ويا مدخله في القبر ، وراجعاً عنه ، ليت شعري بأي خديك بدأ البلى يا مجاور الهلكات صرت في محلة الموت ، ليت شعري ما الذي يلقاني به ملك الموت عند خروجي من الدنيا وما يأتيني به من رسالة ربي ، ثم انصرف فما عاش بعد ذلك إلا جمعة .
(وقد روي عنه من وجوه متعددة أنه قال في آخر خطبة خطبها - رحمة الله عليه - " ألا ترون أنكم في أسلاب الهالكين ، ثم يرمها بعدكم الباقون كذلك حتى يرد إلى خير الوارثين ، وفي كل يوم تشيعون غادياً ورائحاً قد قضى نحبه فتودعونه ، وتدعونه في صدع من الأرض غير ممهد ولا موسد ، قد فارقه الأحباب وخلع الأسباب وسكن التراب ، وواجه الحساب ، غنياً عما خلف ، فقيراً إلى ما قدم .
وكان ينشد هذه الأبيات :
من كان حين تصيب الشمس جبهته ... أو الغبار يخالف الشين والشعثا(1/492)
و يألف الظل كي تبقى بشاشته ... فكيف يسكن يوماً راغماً جدثاً
في ظل مقفرة غبراء مظلمة ... يطيل تحت الثرا في غمه اللبثا
تجهزي بجهاز تبلغين به ... يا نفس قبل الردى لم تخلقي عبثا
[*](أورد الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى في كتابه أهوال القبور عن
أن النصر بن المنذر قال لإخوانه : زوروا الآخرة بقلوبكم ، وشاهدوا الموقف بتوهمكم ، وتوسدوا القبور بقلوبكم ، واعلموا أن ذلك كائن لا محالة ، فاختار لنفسه امرؤٌ ما أحب من المنافع والضرر .
[*](وأورد الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى في كتابه أهوال القبور عن
مضر بن عيسى قال : رحم الله قوماً زاروا إخوانهم بقلوبهم في قبورهم وهم قيام في ديارهم ، يشيرون إلى زيارتهم بالفكر في أحوالهم .
[*](وأورد الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى في كتابه أهوال القبور عن
هشام الدستوائي قال : ربما ذكرت الميت إذا كفن في أكفانه فأعظ نفسي .
(ولله درُ ابن المبارك حيث قال :
إن الذي دفن الأباعد ... و الأقربين صاعداً فصاعداً
عساك يوماً تذكر الملاحدا ... يا من يرمي أن يكون خالدا
شربت فاعلمه حديداً بارداً ... لا بد تلقى طيباً و زائداً
(أحوال السلف في تذكر القبور والتفكير في أحوالهم :
لقد كان السلف الصالح رحمهم الله تعالى مثالاً يُحْتَذى به في تذكر القبور والتفكير في أحوالهم والاعتبار بهم ، وهآنذا أذكر لك كلاماً حُقَّ له أن يُنْقَشَ على الصدور وأن يُكْتَبَ بماء الذهب من عمر ابن عبد لعزيز رحمه الله تعالى الذي ملأ الدنيا زهداً وكفافاً وقناعةً وعدلاً ، ثم من كلام غيره من أئمة الهدى وأعلام التقى ومصابيح الدجى ، من حلية الأولياء وأعلام النبلاء وحراس العقيدة وحماة السنة وأشياع الحق وأنصار دين الله عز وجل مثل الإمام ابن رجب وابن أبي الدنيا وغيرهم ممن ملأ الدنيا زهداً وكفافاً وقناعةً وعدلاً وعلماً وعملاً : ((1/493)
[*](أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عبد الله بن عياش، عن أبيه: أن عمر بن عبد العزيز شيع جنازة، فلما انصرفوا تأخر عمر وأصحابه ناحية عن الجنازة، فقال له أصحابه: يا أمير المؤمنين جنازة أنت وليها تأخرت عنها فتركتها وتركتها ؟ فقال: نعم، ناداني القبر من خلفي يا عمر بن عبد العزيز ألا تسألني ما صنعت بالأحبة ؟ قلت: بلى، قال: خرقت الأكفان، ومزقت الأبدان، ومصصت الدم وأكلت اللحم، ألا تسألني ما صنعت بالأوصال؟ قلت: بلى، قال: نزعت الكفين من الذراعين، والذراعين من العضدين، والعضدين من الكتفين، والوركين من الفخذين، والفخذين من الركبتين، والركبتين من الساقين، والساقين من القدمين، ثم بكى عمر فقال: ألا إن الدنيا بقاؤها قليل، وعزيزها زليل، وغنيها فقير، وشبابها يهرم، وحيها يموت، فلا يغرنكم إقبالها مع معرفتكم بسرعة إدبارها، والمغرور من اغتر بها، أين سكانها الذين بنوا مدائنها، وشققوا أنهارها، وغرسوا أشجارها، وأقاموا فيها أياماً يسيرة، غرتهم بصحتهم، وغزوا بنشاطهم، فركبوا المعاصي، إنهم كانوا والله في الدينا مغبوطين بالأموال على كثرة المنع، محسودين على جمعه، ما صنع التراب بأبدانهم، والرمل بأجسادهم، والديدان بعظامهم وأوصالهم، كانوا في الدنيا على أسرة ممهدة، وفرش منضدة، بين خدم يخدمون، وأهل يكرمون، وجيران يعضدون، فإذا مررت فنادهم إن كنت منادياً، وادعهم إن كنت داعياً، ومر بعسكرهم، وانظر إلى تقارب منازلهم التي كان بها عيشهم، وسل غنيهم ما بقى من غناه، وسل فقيرهم ما بقى من فقره، وسلهم عن الألسن التي كانوا بها يتكلمون، وعن الأعين التي كانت إلى اللذات بها ينظرون، وسلهم عن الجلود الرقيقة، والوجوه الحسنة، والأجساد الناعمة، ما صنع بها الديدان ؟ محت الألوان، وأكلت اللحمان، وعفرت الوجوه، ومحت المحاسن، وكسرت الفقار وأبانت الأعضاء، ومزقت الأشلاء، وأين حجالهم وقبابهم، وأين خدمهم وعبيدهم، وجمعهم ومكنوزهم،(1/494)
والله ما زودوهم فراشاً، ولا وضعوا هناك متكأً، ولا غرسوا لهم شجراً، ولا أنزلوهم من اللحد قراراً، أليسوا في منازل الخلوات والفلوات أليس الليل والنهار عليهم سواء ؟ أليس هم في مدلهمة ظلماء ؟ قد حيل بينهم وبين العمل، وفارقوا الأحبة. فكم من ناعم وناعمة أصبحوا ووجوهم بالية، وأجسادهم من أعناقهم نائية، وأوصالهم ممزقة، قد سالت الحدق على الوجنات، وامتلأت الأفواه دماً وصديداً، ودبت دواب الأرض في أجسادهم ففرقت أعضاءهم، ثم لم يلبثوا والله إلا يسيرا حتى عادت العظام رميماً، قد فارقوا الحدائق، فصاروا بعد السعة إلى المضايق، قد تزوجت نساؤهم، وترددت في الطرق أبناؤهم، وتوزعت القرابات ديارهم وتراثهم، فمنهم والله الموسع له في قبره، الغض الناضر فيه، المتنعم بلذته. يا ساكن القبر غداً مالذي غرك من الدنيا، هل تعلم أنك تبقى أو تبقى لك، أين دارك الفيحاء، ونهرك المطرد، وأين ثمرك الناضر ينعه وأين رقاق ثيابك وأين طيبك وأين بخورك، وأين كسوتك لصيفك وشتائك، أما رأيته قد نزل به الأمر فما يدفع عن نفسه وجلا، وهو يرشح عرقاً، ويتلمظ عطشاً، يتقلب من سكرات الموت وغمراته، جاء الأمر من السماء، وجاء غالب القدر والقضاء، جاء من الأمر والأجل ما تمتنع منه، هيهات هيهات، يا مغمض الوالد والأخ والولد وغاسله، يا مكفن الميت وحامله، يا مخليه في القبر وراجعاً عنه، ليت شعري كيف كنت على خشونة الثرى، يا ليت شعري بأي خديك بدأ البلى، يا مجاور الهلكات صرت في محلة الموتى، ليت شعري مالذي يلقاني به ملك الموت عند خروجي من الدنيا، وما يأتيني به من رسالة ربي، ثم تمثل:
تسر بما يفنى وتشغل بالصبا ... كما غر باللذات في النوم حالم
نهارك يا مغرور سهو وغفلة ... وليلك نوم والردى لك لازم
وتعمل فيما سوف تكره غبه ... كذلك في الدنيا تعيش البهايم
ثم انصرف فما بقى بعد ذلك إلا جمعه.(1/495)
[*](وأخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أسد بن زيد قال: كنا مع عمر بن عبد العزيز في جنازة، فلما أن دفن الميت ركب بغلة له صغيرة ثم جاء إلى قبر فركز عليه المقرعه فقال: السلام عليك يا صاحب القبر، قال عمر فنادانى مناد من خلفى وعليك السلام يا عمر بن عبد العزيز عم تسأل ؟ فقلت، عن ساكنك وجارك، قال: أما البدن فعندي، والروح عرج به إلى الله عز وجل ما أدري أي شيء حاله، قلت أسألك، عن ساكنك وجارك ؟ قال: دمغت المقلتين، وأكلت الحدقتين، ومزقت الأكفان، وأكلت الأبدان .
[*](وأخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أبي قرة، قال: خرج عمر بن عبد العزيز على بعض جنائز بني مروان، فلما صلى عليها وفرغ، قال لأصحابه: توقفوا، فوقفوا، فضرب بطن فرسه حتى أمعن في القبور وتوارى عنهم، فاستبطأه الناس حتى ظنوا، فجاء وقد احمرت عيناه، وانتفخت أوداجه، قالوا: يا أمير المؤمنين أبطأت علينا ؟ قال: أتيت قبور الأحبة، قبور بني آبائي فسلمت عليهم فلم يردوا السلام، فلما ذهبت أقفى ناداني التراب فقال: ألا تسألني يا عمر عليهم ما لقيت الأحبة؟ قلت: وما لقيت الأحبة؟ قال: خرقت الأكفان، وأكلت الأبدان، ونزعت المقلتين، فذكر نحوه. وزاد: فلما ذهبت أقفي ناداني: يا عمر عليك بأكفان لا تبلى، قلت: وما أكفان لا تبلى ؟ قال: اتقاء الله، والعمل الصالح.
[*](وأخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أبي صالح الشامى، قال: قال عمر بن عبد العزيز:
أنا ميت وعز من لا يموت ... قد تيقنت أنني سأموت
ليس ملك يزيله الموت ملكا ... إنما الملك ملك من لا يموت(1/496)
[*](وأخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن مفضل بن يونس، قال: قال عمر بن عبد العزيز: لقد نغص هذا الموت على أهل الدنيا ما هم فيه من غضارة الدنيا وزهوتها، فبينا هم كذلك وعلى ذلك أتاهم جاد من الموت فاخترمهم مما هم فيه، فالويل والحسرة هنا لك لمن لم يحذر الموت، ويذكره في الرخاء فيقدم لنفسه خيراً يجده بعدما فارق الدنيا وأهلها، قال: ثم بكى عمر حتى غلبه البكاء فقام.
[*](أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن جابر بن نوح، قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى بعض أهل بيته، أما بعد فإنك إن استشعرت ذكر الموت في ليلك أو نهارك بغض إليك كل فان، وحبب إليك كل باق. والسلام.
[*](وأخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أسماء بن عبيد قال: دخل عنبسة بن سعيد بن العاص على عمر بن عبد العزيز، فقال: يا أمير المؤمنين إن من كان قبلك من الخلفاء كانوا يعطون عطايا منعتناها، ولي عيال وضيعة، أفتأذن لي أن أخرج إلى ضيعتي وما يصلح عيالي ؟ فقال عمر: أحبكم إلينا من كفانا مؤنته. فخرج من عنده فلما صار عن الباب قال عمر: أبا خالد أبا خالد، فرجع. فقال: أكثر من ذكر الموت فإن كنت في ضيق من العيش وسعه عليك، وإن كنت في سعة من العيش ضيقه عليك.
[*](وأخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عن جعونة، قال: قال عمر بن عبد العزيز: يا أيها الناس إنما أنتم أغراض تنتضل فيها المنايا، إنكم لا تؤتون نعمة إلا بفراق أخرى، وأية أكلة ليس معها غصة، وأية جرعة ليس معها شرقة، وإن أمْس شاهد مقبول قد فجعكم بنفسه، وخلف في أيديكم حكمته، وإن اليوم حبيب مودع وهو وشيك الظعن، وإن غداً آت بما فيه، وأين يهرب من يتقلب في يدي طالبه، إنه لا أقوى من طالب، ولا أضعف من مطلوب. إنما أنتم سفر تحلون عقد رحالكم في غير هذه الدار، إنما أنتم فروع أصول قد مضت فما بقاء فرع بعد ذهاب أصله.(1/497)
[*](وأخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عبيد الله بن العيزار، قال: خطبنا عمر بن عبد العزيز بالشام على منبر من طين، فحمد الله وأثنى عليه، ثم تكلم بثلاث كلمات فقال: أيها الناس أصلحوا سرائركم تصلح علانيتكم، واعملوا لآخرتكم تكفوا دنياكم، واعلموا أن رجلاً ليس بينه وبين آدم آب حي لمغرق له في الموت. والسلام عليكم.
[*](وأخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أبي الحسن المدائني، قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى عمر بن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة يعزيه على ابنه: أما بعد، فإنا قوم من أهل الآخرة أسكنا الدنيا، أموات أبناء أموات، والعجب لميت يكتب إلى ميت يعزيه عن ميت. والسلام.
[*](وأخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عبد الله بن المفضل التميمي، قال: آخر خطبة خطبها عمر بن عبد العزيز أن صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، فإن ما في أيديكم أسلاب الهالكين، وسيتركها الباقون كما تركها الماضون، ألا ترون أنكم في كل يوم وليلة تشيعون غادياً أو رائحاً إلى الله تعالى، وتضعونه في صدع الأرض ثم في بطن الصدع، غير ممهد ولا موسد، قد خلع الأسلاب، وفارق الأحباب، وأسكن التراب، وواجه الحساب، فقير إلى ما قدم أمامه، غنى عما ترك بعده. أما والله إني لأقول لكم هذا وما أعرف من أحد من الناس مثل ما أعرف من نفسي، قال: ثم قال بطرف ثوبه على عينه فبكى ثم نزل، فما خرج حتى أخرج إلى حفرته.(1/498)
[*](وأخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن شعيب بن صفوان، عن عيسى أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى رجل: أما بعد: فإني أوصيك بتقوى لله، والانشمار لما استطعت من مالك وما رزقك الله إلى دار قرارك، فكأنك والله ذقت الموت وعاينت ما بعده بتصريف الليل والنهار فإنهما سريعان في طي الأجل ونقص العمر، لم يفتهما شىء إلا أفنياه، ولا زمن مرا به إلا أبلياه، مستعدان لمن بقى بمثل الذي أصاب من قد مضى، فنستغفر الله لسيء أعمالنا، ونعوذ به من مقته إيانا على ما نعظ به مما نقصر عنه.
[*](وأخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أبو ربيعة عبيد الله بن عبيد بن عدى الكندي، عن أبيه، عن جده، قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى بعض عماله، أما بعد: فكأن العباد قد عادوا إلى الله ثم ينبئهم بما عملوا ليجزى الذين أساءوا بما عملوا، ويجزى الذين أحسنوا بالحسنى، فإنه لا معقب لحكمه ولا ينازع في أمره، ولا يقاطع في حقه الذي استحفظه عباده وأوصاهم به، وإني أوصيك بتقوى الله، وأحثك على الشكر فيما اصطنع عندك من نعمة، وآتاك من كرامة، فإن نعمه يمدها شكره، ويقطعها كفره، أكثر ذكر الموت الذي لا تدري متى يغشاك، ولا مناص ولا فوت، وأكثر من ذكر يوم القيامة وشدته، ثم كن مما أوتيت من الدنيا على وجل، فإن من لا يحذر ذلك ولا يتخوفه توشك الصرعة أن تدركه في الغفلة، وأكثر النظر في عملك في دنياك بالذي أمرت به، ثم اقتصر عليه، فإن فيه لعمري شغلاً عن دنياك، ولن تدرك العلم حتى تؤثره على الجهل، ولا الحق حتى تذر الباطل فنسأل الله لنا ولك حسن معونته، وأن يدفع عنا وعنك بأحسن دفاعه برحمته.(1/499)
[*](وأخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن ميمون بن مهران، قال: خرجت مع عمر بن عبد العزيز إلى المقبرة، فلما نظر إلى القبور بكى ثم أقبل علي فقال: يا أبا أيوب هذه قبور آبائي بني أمية كأنهم لم يشاركوا أهل الدنيا في لذتهم وعيشهم. أما تراهم صرعى قد خلت بهم المثلات، واستحكم فيهم البلاء، وأصابت الهوام في أبدانهم مقيلاً. ثم بكى حتى غشى عليه، ثم أفاق فقال: انطلق بنا فوالله ما أعلم أحداً أنعم ممن صار إلى هذه القبور وقد أمن عذاب الله.
(أين من ربح في متاجر الدنيا واكتسب، أين من أعطى وأولى ثم والى ووهب، أما رحل عن قصره الذهب فذهب ، أما نازله التلف وأسره العطب، أنفعه بكاء من بكى أو ندب من ندب، أما ندم على كل ما جنى وارتكب، أما توقنون أن طالبه لكم في الطلب تدبروا قول ناصحكم صدق أو كذب.
(يا من في حلل جهله يرفل ويميس ، يا مؤثراً الرذائل على أنفس نفيس ، يا طويل الأمل ماذا صنع الجليس، يا كثير الخطايا أشْمَتَّ إبليس ،من لك إذا فاجأك مُذِلُ الرئيس ،واحتوشتك أعوان ملك الموت وحمى الوطيس ، ونقلت إلى لحد مالك فيه إلا العمل أنيس .(1/500)
[*](وأخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن إسماعيل بن إبراهيم بن أبي حبيبة: أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى بعض عماله، أما بعد: فإني أوصيك بتقوى الله ولزوم طاعته، فإن بتقوى الله نجا أولياء الله من سخطه، وبها تحقق لهم ولايته، وبها رافقوا أنبيائهم، وبها نضرت وجوههم، وبها نظروا إلى خالقهم، وهي عصمة في الدنيا من الفتن، والمخرج من كرب يوم القيامة، ولم يقبل ممن بقى إلا بمثل ما رضي عمن مضى ولمن بقى عبرة فيما مضى، وسنة الله فيهم واحدة، فبادر بنفسك قبل أن تؤخذ بكظمك، ويخلص إليك كما خلص إلى من كان قبلك، فقد رأيت الناس كيف يموتون وكيف يتفرقون، ورأيت الموت كيف يعجل التائب توبته وذا الأمل أمله، وذا السلطان سلطانه، وكفى بالموت موعظة بالغة، وشاغلاً عن الدنيا، ومرغباً في الآخرة، فنعوذ بالله من شر الموت وما بعده، ونسأل الله خيره وخير ما بعده، ولا تطلبن شيئاً من عرض الدنيا بقول ولا فعل تخاف أن يضر بآخرتك، فيزري بدينك، ويمقتك عليه ربك، واعلم أن القدر سيجري إليك برزقك، ويوفيك أملك من دنياك بغير مزيد فيه بحول منك ولا قوة، ولا منقوصاً منه بضعف. إن أبلاك الله بفقر فتعفف في فقرك وأخبت لقضاء ربك، واعتبر بما قسم الله لك من الإسلام، ما ذوى منك من نعمة الدنيا فإن في الإسلام خلفاً من الذهب والفضة من الدنيا الفانية. اعلم أنه لن يضر عبداً صار إلى رضوان الله وإلى الجنة ما أصابه في الدنيا من فقر أو بلاء، وأنه لن ينفع عبداً صار إلى سخط الله و وإلى النار ما أصاب في الدنيا من نعمة أو رخاء، ما يجد أهل الجنة من مكروه أصابهم في دنياهم، ما يجد أهل النار طعم لذة نعموا بها في دنياهم، كل شيء من ذلك كأن لم يكن.(2/1)
تشيعون غادياً أو رائحاً إلى الله قد قضى نحبه، وانقضى أجله، وتغيبونه في صدع من الأرض، ثم تدعونه غير متوسد ولا متمهد، فارق الأحبة، وخلع الأسلاب، وسكن التراب، وواجه الحساب، مرتهناً بعمله، فقيراً إلى ما قدم، غنياً عما ترك، فاتقوا الله قبل نزول الموت، وانقضاء موافاته، وأيم الله إني لأقول لكم هذه المقالة وما أعلم عند أحد منكم من الذنوب أكثر مما أعلم عندي، وأستغفر الله وأتوب إليه.
[*](وأخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن يعقوب بن عبد الرحمن، عن أبيه قال: خطب عمر بن عبد العزيز هذه الخطبة، وكان آخر خطبة خطبها، حمد الله وأثنى عليه ثم قال: إنكم لم تخلقوا عبثاً، ولم تتركوا سدى، وإن لكم معاداً ينزل الله فيه ليحكم بينكم ويفصل بينكم، وخاب وخسر من خرج من رحمة الله وحرم جنة عرضها السموات والأرض، ألم تعلموا أنه لا يأمن غداً إلا من حذر الله اليوم وخافه وباع نافداً بباق، وقليلاً بكثير، وخوفاً بأمان ، ألا ترون أنكم في أسلاب الهالكين، وستصير من بعدكم للباقين، وكذلك حتى تردوا إلى خير الوارثين.
ثم إنكم تشيعون كل يوم غادياً ورائحاً، قد قضى نحبه، وانقضى أجله، حتى تغيبوه في صدع من الأرض، في شق صدع، ثم تتركوه غير ممهد ولا موسد، فارق الأحباب، وباشر التراب، ووجه للحساب، مرتهن بما عمل، غني عما ترك، فقير إلى ما قدم. فاتقوا الله وموافاته وحلول الموت بكم، أما والله إني لأقول هذا وما أعلم عند أحد من الذنوب أكثر مما عندي وأستغفر الله، وما منكم من أحد يبلغنا حاجته لا يسع له ما عندنا إلا تمنيت أن يبدأ بي وبخاصتي حتى يكون عيشنا وعيشه واحداً، أما والله لو أردت غير هذا من غضارة العيش لكان اللسان به ذلولاً، وكنت بأسبابه عالماً، ولكن سبق من الله كتاب ناطق، وسنة عادلة، دل فيها على طاعته، ونهى فيها عن معصيته، ثم رفع طرف ردائه فبكى وأبكى من حوله.(2/2)
[*](وأخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن ميمون بن مهران أنه قال: دخلت على عمر بن عبد العزيز يوماً وعنده سابق البربري الشاعر، وهو ينشد شعراً، فانتهى في شعره إلى هذه الأبيات:
فكم من صحيح بات للموت آمناً ... أتته المنايا بغتة بعد ما هجع
فلم يستطع إذ جاءه الموت بغتة ... فراراً ولا منه بقوته امتنع
فأصبح تبكيه النساء مقنعاً ... ولا يسمع الداعى وإن صوته رفع
وقرب من لحد فصار مقيله ... وفارق ما قد كان بالأمس قد جمع
فلا يترك الموت الغنى لماله ... ولا معدماً في المال ذا حاجة يدع
قال: فلم يزل عمر يبكى ويضطرب حتى غشى عليه، فقمنا فانصرفنا عنه.
[*](وأخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن خالد بن يزيد العمري، قال: سمعت وهيب بن الورد يقول: كان عمر بن عبد العزيز كيراً ما يتمثل بهذه الأبيات:
يرى مستكيناً وهو للهو ماقت ... به عن حديث القوم ما هو شاغله
وأزعجه علم عن الجهل كله ... وما عالم شيئاً كمن هو جاهله
عبوس عن الجهال حين يراهم ... فليس له منهم خدين يهازله
تذكر ما يبقى من العيش آجلاً ... فأشغله عن عاجل العيش آجله
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن يحيى بن معاذ قال : من أكثر ذكر الموت لم يمت قبل أجله ويدخل عليه ثلاث خصال من الخير: أولها المبادرة إلى التوبة، والثانية القناعة برزق يسير، والثالثة النشاط في العبادة. ومن حرص على الدنيا فإنه لا يأكل فوق ما كتب الله له ويدخل عليه من العيوب ثلاث خصال: أولها أن تراه أبداً غير شاكر لعطية الله له، والثاني لا يواسي بشيء مما قد أعطى من الدنيا. والثالث يشتغل ويتعب في طلب ما لم يرزقه الله حتى يفوته عمل الدين.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عبد الله، قال: سمعت القداح يذكر أن عمر بن عبد العزيز كان إذا ذكر الموت انتفض انتفاض الطير، وبكى حتى تجري دموعه على لحيته.(2/3)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عمر بن ذر، قال: قال عمر بن عبد العزيز: لولا أن تكون بدعة لحلفت أن لا أفرح من الدنيا بشىء ابداً حتى أعلم ما في وجوه رسل ربي إلى عند الموت، وما أحب أن يهون على الموت لأنه آخر ما يؤجر عليه المسلم.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن ميمون بن مهران أنه قال: دخلت على عمر بن عبد العزيز يوماً وعنده سابق البربري الشاعر، وهو ينشد شعراً، فانتهى في شعره إلى هذه الأبيات:
فكم من صحيح بات للموت آمناً أتته المنايا بغتة بعد ما هجع
فلم يستطع إذ جاءه الموت بغتة فراراً ولا منه بقوته امتنع
فأصبح تبكيه النساء مقنعاً ولا يسمع الداعى وإن صوته رفع
وقرب من لحد فصار مقيله وفارق ما قد كان بالأمس قد جمع
فلا يترك الموت الغنى لماله ولا معدماً في المال ذا حاجة يدع
قال: فلم يزل عمر يبكى ويضطرب حتى غشى عليه، فقمنا فانصرفنا عنه.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن خالد بن يزيد العمري، قال: سمعت وهيب بن الورد يقول: كان عمر بن عبد العزيز كثيراً ما يتمثل بهذه الأبيات:
يرى مستكيناً وهو للهو ماقت ... به عن حديث القوم ما هو شاغله
وأزعجه علم عن الجهل كله ... وما عالم شيئاً كمن هو جاهله
عبوس عن الجهال حين يراهم ... فليس له منهم خدين يهازله
تذكر ما يبقى من العيش آجلاً ... فأشغله عن عاجل العيش آجله
[*](أورد الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى في كتابه أهوال القبور عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير : كان أبو بكر الصديق يقول في خطبته : أين الوضاءة الحسنة وجوههم ، المعجبون بشبابهم ، الذين كانوا لا يعطون الغلبة في مواطن الحرب ، أين الذين بنوا المدائن وحصنوها بالحيطان قد تضعضع بهم ، وصاروا في ظلمات القبور الوحا الوحا النجا النجا .(2/4)
[*](وروى ابن أبي الدنيا عن الحسن أنه مر به شاب ، وعليه بردة له حسنة فقال : ابن آدم معجب بشبابه ، معجب بجماله كأن القبر قد وارى بدنك وكأنك لاقيت عملك ، ويحك ذا وقلبك ، فإن حاجة الله إلى عباده صلاح قلوبهم .
[*](أورد الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى في كتابه أهوال القبور عن الحسن قال : يومان وليلتان لم تسمع الخلائق بمثلهن قط : يوم تبيت مع أهل القبور ولم تبت ليلة قبلها ، وليلة صبيحتها يوم القيامة ويوم يأتيك البشير من الله تعالى ، إما بالجنة أو النار ، ويوم تعطى كتابك بيمينك وإما بشمالك .
[*](أورد الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى في كتابه أهوال القبور عن عمر بن ذر أنه كان يقول في مواعظه : لو علم أهل العافية ما تضمنته القبور من الأجساد البالية لجدوا واجتهدوا في أيامهم الخالية خوفاً من يوم تتقلب فيه القلوب والأبصار .
[*](أورد الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى في كتابه أهوال القبور عن مطرف بن عبد الله بن الشخير قال : القبر منزل بين الدنيا والآخرة ، إن خيراً فخير وإن شراً فشر .
[*](أورد الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى في كتابه أهوال القبور عن الحسن قال : أوذنوا بالرحيل ، وجلس أولهم على آخرهم وهم يلعبون وقال رجل لبعض السلف : أوصني قال : عسكر الموتى ينتظرونك .
[*](أورد الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى في كتابه أهوال القبور عن الحسن أنه شهد جنازة فاجتمع عليه الناس ، فقال : اعملوا لمثل هذا اليوم ـ رحمكم الله ـ فإنما هم إخوانكم يقدمونكم ، وأنتم بالأثر ، أيها المخلف بعد أخيه إنك الميت غداً ، والباقي بعدك ، والميت في أثرك أولاً بأول حتى توافوا جميعاً قد عمكم الموت واستويتم جميعاً في كربة وعصصة ، ثم تخليتم إلى القبور ، ثم تنتشرون جميعاً ثم تعرضون على ربكم عز وجل .(2/5)
[*](أورد الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى في كتابه أهوال القبور عن مسروق قال: ما من بيت خير للمؤمن من لحده قد استراح من أمر الدنيا أو من عذاب الله.
[*](أورد الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى في كتابه أهوال القبور عن بشر بن الحارث قال : نعم المنزل القبر لمن أطاع الله .
[*](أورد الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى في كتابه أهوال القبور عن خالد بن أحمد بن أسد قال : أخذت بيدي على جبلة يوماً فأتينا أبا العتاهية فوجدناه في الحرم فانتظرناه فلم يلبث أن جاء فدخل عليه إبراهيم بن مقاتل بن سهل وكان جميلاً فتأمله أبو العتاهية وقال متمثلاً :
يا حسان الوجوه سوف تموتون ... وتبلى الوجوه تحت التراب
فأقبل علي بن جبلة فقال :
أكتب يا مربي شبابه للتراب ... سوف يأكل البلى بعض الثياب
يا ذوي الوجوه الحسان المصونات ... وأجسامها الغضاض الرطاب
أكثروا من نعيمها أو أقلوا ... سوف تهدونها لعفر التراب
قد نعتك الأيام نعياً صحيحاً ... تفارق الإخوان والأصحاب
فقال أبوالعتاهية : قل يا حامد ، قلت : معك ومع أبي الحسن ، قال : نعم فقلت :
يا مقيمين رحلوا للذهاب ... أشفير القبور وحطوا الركاب
نعموا الأوجه الحسان ... فما صونكموها إلا بعفر التراب
و ألبسوا ناعم الثياب ... ففي الحفر تعرون من جمع الثياب
قد ترون الشباب كيف يموتون ... إذا استنضروا بماء الشباب
[*](أورد الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى في كتابه أهوال القبور عن
محمد بن خلف قال : سمعت أبي قال : رجعنا من ميت مع ابن السماك يقول :
تمر أقاربي جنبات قبري ... كأن أقاربي لا يعرفوني
وذووا الأموال يقتسمون مالي ... ولا يألون أن جحدوا ديوني
قد أخذوا سهامهم و عاشوا ... فبالله ما أسرع ما نسوني
قال : وأنشدني أبو جعفر القرشي :
تناجيك أجداث وهن سكوت ... وساكنها تحت التراب خفوت
يا جامع الدنيا لغير بلاغة ... لمن تجمع الدنيا وأنت تموت
قال : وأنشدني الثقفي من قوله :(2/6)
أما ترى الموت ما ينفك مختطفاً ... من كل ناحية نفساً ينجو بها
قد يعضت أملاً كانت تؤمله ... وقام في الحي ناعيها وباكيها
وأسكنوا الترب تبلى فيه أعظمهم ... بعد النضارة ثم الله يحييها
وصار ما جمعوا فيها وما ادخروا ... بين الأقارب يحويه أدابيها
فاختر لنفسك من أيام مدتها ... واستغفر الله لما أسلفته فيها
ولما انصرف الناس من جنازة داود الطائي رحمه الله أنشد السماك رحمه الله .
انصرف الناس إلى دورهم ... وغودر الميت في رمسه
مرتهن النفس بأعماله ... لا يرتجي الإطلاق من حبسه
لنفسه صالح أعماله ... و ما سواها فعلى نفسه
قف بالمقابر وانظر إن وقفت بها ... لله درك ماذا تستر الحفر
ففيهم لك يا مغرور موعظة ... وفيهم لك يا مغتر معتبر
قال أبو العتاهية :
رويدك يا ذا القصر في شرفاته ... فإنه عنه تسحب و تدعج
ولا بد من بيت انقطاع ووحشة ... وإن غرك البيت الأنيق المبهج
[*](روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه القبور عن مالك بن دينار يقول خرجت أنا وزين القراء حسان بن أبي حسان نزور المقابر فلما أشرف عليها سبقته عبرة ثم أقبل علي فقال يا مالك هذه عساكر الموتى ينتظر بها من يقي من الأحياء ثم يصاح بهم فإذ هم قيام ينظرون قال فوضع مالك يده على رأسه وجعل يبكي ويقول واي ازان روز واي ازان روز يعني ويل من ذلك اليوم ويل من ذلك اليوم.
[*](روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه القبور عن أبو عاصم الحنطي قال كنت أمشي مع محمد بن واسع فأتينا على المقابر فدمعت عيناه ثم قال لي يا أبا عاصم لا يغرنك ما ترى من خمودهم فكأنك بهم قد وثبوا من هذه الأجداث فمن بين مسرور ومغموم.
[*](روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه القبور عن أبي جعفر الفراء قال كان الحسن بن صالح إذا صعد الصومعة يشرف على أهل القبور فيقول ما أحسن ظاهرك إنما الدواهي بواطنك.(2/7)
[*](روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه القبور عن حجاج الأسود ونحن في جنازة في الجبان قال رأيت في المنام كأني دخلت المقابر وإذا أنا بأهل القبور نيام في قبورهم وقد تشققت عنهم الأرض فمنهم النائم على التراب ومنهم النائم على القباطي ومنهم النائم على السندس والإستبرق ومنهم النائم على الديباج ومنهم النائم على الريحان ومنهم النائم كهيئة المتبسم في نومه ومنهم من أشرق لونه ومنهم حائل اللون قال فبكيت عندما رأيت منهم ثم قلت في منامي رب لو شئت سويت بينهم في الكرامة فنادى مناد من بين تلك القبور يا حجاج هذه منازل الأعمال قال فاستيقظت من كلمته فزعا.
[*](روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه القبور عن سلام بن أبي مطيع قال كنا مع محمد بن واسع في جنازة فأسرعوا بها المشي فانتهينا إلى الجبان ولم تتلاحق الناس فانتظروا بها حتى تلاحقوا قال فصلينا عليها ثم انتهينا بها إلى القبر فوضعت وجئت إلى محمد بن واسع فسمعته يقول لرجل إلى جنبه كل يوم ينقل منا إلى المقابر نقلة وكأنك بهذا الأمر قد تمم كاد آخرنا حتى يلحق بأولنا.
[*](روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه القبور عن نهيم العجلي عن رجل من البصريين قال شهدت الحسن في جنازة واجتمع إليه الناس فقال اعملوا لمثل هذا اليوم رحمكم الله فإنهم إخوانكم تقدموكم وأنتم بالأثر أيها المتخلف بعد أخيه أنت الميت غدا قبل الباقي بعدك والباقي بعدك هو الميت في إثرك أولا فأولا حتى يوافوا جميعا قد عمكم الموت فاستويتم جميعا في غصصه وكربه حتى حللتم جميعا القبور ثم تنشرون جميعا ثم تعرضون على الله وجلا ثم تنفس فخر مغشيا عليه.(2/8)
[*](روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه القبور عن عبد الله بن طلحة بن محمد التيمي قال سمعت سعيد بن السائب الطائفي يقول ونحن في جنازة والله ما ترك الموت للنفس سرورا في أهل ولا ولد والله لقد نقص الموت على المؤمنين الموسع لهم من هذه الدنيا حتى ضيق ذلك عليهم فرفضوه مسرورين برفضه ثم سبقته دمعته فقام.
[*](روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه القبور عن سلمان بن صالح قال فقد الحسن ذات يوم فلما أمسى قال له أصحابه أين كنت اليوم قال كنت عند إخوان لي إن نسيت ذكروني وإن غبت عنهم لم يغتابوني فقال له أصحابه هم الإخوان والله هؤلاء يا أبا سعيد دلنا عليهم قال هؤلاء أهل القبور.
[*](روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه القبور عن ميمون بن مهران قال دخلت على عمر بن عبد العزيز وعنده سابق البربري الشاعر وهو ينشده شعرا فانتهى في شعره إلى هذه الأبيات :
فكم من صحيح بات للموت آمنا أتته المنايا بغتة بعد ما هجع
فلم يستطيع إذا جاءه الموت بغتة فرارا ولا منه بقوته امتنع
فأصبح يبكيه النساء مقنعا ولا يسمع الداعي وإن صوته رفع
وقرب من لحد فصار مقيله وفارق ما قد كان بالأمس قد جمع
فلا يترك الموت الغني لماله ولا معدما في المال ذا حاجة يدع
فلم يزل عمر يضطرب ويبكي حتى غشي عليه قال فقمنا وانصرفنا عنه.
(ولله درُ من قال :
ماذا تقول وليس عندك حجة لو قد أتاك منغص اللذات
ماذا تقول إذا دعيت فلم تجب وإذا سئلت وأنت في غمرات
ماذا تقول وليس حكمك جائزا فيما تخلفه من التركات
ماذا تقول إذا حللت محلة ليس الثقات لأهله بثقات
[*](روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه القبور عن يزيد الرقاشي قال : انظروا إلى هذه القبور سطورا بأفناء الدور تدانوا في خططهم وقربوا في مزارهم وبعدوا في لقائهم سكنوا فأوحشوا وعمروا فأخربوا فمن سمع بساكن موحش وعامر مخرب عن أهل القبور.(2/9)
[*](روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه القبور عن المفضل بن يونس قال بلغنا أن عمر بن عبد العزيز قال لمسلمة بن عبد الملك يا مسلمة من دفن أباك قال مولاي فلان قال فمن دفن الوليد قال مولاي فلان قال فأنا أحدثك ما حدثني به حدثني أنه لما دفن أباك والوليد فوضعهم في قبورهم ذهب ليخلي العقد عنهم وجد وجوههم قد حولت في أقفيتهم فانظر يا مسلمة إذا أنا مت فدفنتني فالتمس وجهي فانظر هل ترى بي ما نزل بالقوم أو هل عوفيت من ذلك قال مسلمة فلما مات عمر ووضعته في قبره فلمست وجهه فإذا هو مكانه.
[*](روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه القبور عن عمرو بن ميمون قال سمعت عمر بن عبد العزيز يقول كنت فيمن دلى الوليد بن عبد الملك في قبره فنظرت إلى ركبتيه قد جمعتا إلى عنقه فقال ابنه عاش والله أبي عاش ورب الكعبة فقلت عوجل أبوك ورب الكعبة قال فاتعظ بها عمر بعده.
[*](روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه القبور عن شعيب بن أبي حمزة قال كتب عمر بن عبد العزيز إلى بعض مدائن الشام أما بعد فكم للتراب في جسد ابن آدم من مأكل وكم للدود في جوفه من طريق مخترق وإني أحذركم ونفسي أيها الناس العرض.
[*](روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه القبور عن محمد بن حرب المكي قال قدم علينا أبو عبد الرحمن العمري العابد واجتمعنا إليه وأتاه وجوه أهل مكة قال فرفع رأسه فلما نظر إلى القصور المحدقة بالكعبة فإذا بأعلى صوته يا أصحاب القصور المشيدة اذكروا ظلمة القبور الموحشة يا أهل التنعم والتلذذ اذكروا الدود والصديد وبلى الأجسام في التراب قال ثم غلبته عيناه فقام.
(7) قراءة القرآن بتدبر، والإكثار من الذكر :
(فضل تدبر القرآن الكريم ومعانيه وأحكامه :(2/10)
ينبغي عند قراءة القرآن أن يتدبّر القارئ ويتأمل في معاني القرآن وأحكامه، لأن هذا هو المقصود الأعظم والمطلوب الأهم، وبه تنشرح الصدور وتستنير القلوب، قال تعالى: {كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته } [سورة ص: 29].
في هذه الآية بين الله تعالى أن الغرض الأساس من إنزال القرآن هو التدبر والتذكر لا مجرد التلاوة على عظم أجرها .
وفَقُهَ الصحابةُ رضي الله عنهم شرع الله وسنة رسوله فكانوا لا يتعجَّلون مجرد التلاوة دون تدبر، بل كانوا لا يجاوزون عشر آيات حتى يعلموا معانيهن والعمل بهن (رواه الطبري في تفسيره عن ابن مسعود رضي الله عنه). ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ختم القرآن في أقل من ثلاث لأنه لن يتحقق تدبره وفقهه .
(حديث عبد الله بن عمرو الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لا يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث .
(وكان الصحابة رضي الله عنهم لا يتعجلون حفظ القرآن (وهو نافلة) دون تدبره (وهو فرض عين)، بل ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم مات ولم يحفظ القرآن من الصحابة غير أربعة على اختلاف في أسماء اثنين منهم، وبمجموع الروايات لا يكاد الحفاظ من الصحابة يتجاوز عددهم العشرة، ووصف غيرهم بالقرَّاء لا يعني حفظه كله.
[*] قال ابن مسعود رضي الله عنه : (إنَّا صعب علينا حفظ القرآن وسهل علينا العمل به، وإن من بعدنا يسهل عليهم حفظ القرآن ويصعب عليهم العمل به) الجامع لأحكام القرآن 1/75.
[*] وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (كان الفاضل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدر هذه الأمة لا يحفظ من القرآن إلا السورة ونحوها ورزقوا العمل بالقرآن) الجامع لأحكام القرآن 1/76.(2/11)
(وكانوا يحذرون مما آل إليه الحال اليوم في جميع بلاد المسلمين عربًا وعجمًا؛ فقد أمر عمر رضي الله عنه عامله في العراق أن يفرض للحفاظ في الديوان، فلما بلغه أن سبع مئة حفظوا القرآن قال: (إني لأخشى أن يسرعوا إلى القرآن قبل أن يتفقَّهوا في الدين) وكتب إلى عامله ألا يعطيهم شيئاً (عن مالك في العتبية).
(وكانوا يتعلمون الإيمان قبل القرآن ثم يتعلمون القرآن (كما في الحديث الآتي :
(حديثُ جندب ابن عبد الله صحيح ابن ماجة ) قال كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ونحن فتيانٌ حزَاوِرَة ، فتعلمنا الإيمانَ قبل أن نتعلم القرآن ، ثم تعلمنا القرآنَ فازددنا به إيمانا .
وتَنْزِلُ السورة فيتعلَّمون حلالها وحرامها وآمرها وزاجرها. (كما في: بيان مشكل الآثار للطحاوي 4/44 عن ابن عمر رضي الله عنهما.) حتَّى لقد ورد عن عمر رضي الله عنه أنه تعلَّم سورة البقرة في اثنتي عشرة سنة. (الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 1/76، ط: دار الكتاب العربي بيروت).
[*] قال الحسن البصري رحمه الله: (نزل القرآن ليتدبر ويعمل به فاتخذوا تلاوته عملاً) مفتاح دار السعادة لابن القيم (1/187 مكتبة الرياض الحديثة.) [*] وقال ابن القيم رحمه الله في تفسير قول الله تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ} [البقرة: 78]: (ذم الله المحرفين لكتابه والأميين الذين لا يعلمون منه إلا مجرد التلاوة وهي الأماني) بدائع التفسير: 1/300. وذكر الشوكاني رحمه الله من تفسيرها: (لا علم لهم إلا مجرد التلاوة دون فهم وتدبر) فتح القدير 1/104.(2/12)
[*] وقال ابن كثير رحمه الله في تفسير قول الله تعالى: {الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} [البقرة: 121]: قال ابن مسعود رضي الله عنه: (والذي نفسي بيده إن حق تلاوته أن يحل حلاله ويحرم حرامه ويقرأه كما أنزله الله ولا يحرف الكلم عن مواضعه ولا يتأوَّل منه شيئًا على غير تأويله)، وعن عمر رضي الله عنه: (هم الذين إذا مروا بآية رحمةٍ سألوها من الله، وإذا مروا بآية عذابٍ استعاذوا منها). ولم يفسرها أحد من الفقهاء في الدين بالتجويد أو الحفظ مجردًا عن التدبر.
[*] وقال ابن القيم رحمه الله في تفسير قول الله تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآَنَ مَهْجُورًا} [الفرقان: 30]: (هجر القرآن أنواع)، وذكر منها: (هجر تدبره وتفهمه ومعرفة مراد الله منه) (بدائع التفسير).
[*] وقال ابن كثير رحمه الله تعالى :
(وترك تدبره وتفهمه من هجرانه) (مهذَّب تفسيره، ط: دار السلام 678). وقال ابن القيم رحمه الله في تفسير قول الله تعالى: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} [طه: 123]: (وهذه المتابعة هي التلاوة التي أثنى الله على أهلها... فتلاوة اللفظ جزء مسمى التلاوة المطلقة وحقيقة اللفظ إنما هي الاتباع... والمقصود التلاوة الحقيقية وهي تلاوة المعنى واتباعه... وتلاوة المعنى أشرف من تلاوة اللفظ، وأهلها هم أهل القرآن الذين لهم الثناء في الدنيا والآخرة) مفتاح دار السعادة 1/42.
[*] وقال ابن القيم رحمه الله: (فقراءة آية بتفكر وتفهم خير من قراءة ختمة بغير تدبر وتفهم، وأنفع للقلب وأدعى إلى حصول الإيمان وحلاوة القرآن)،
[*] وروي عن أيوب عن أبي جمرة قال: قلت لابن عباس: إني سريع القراءة، إني أقرأ القرآن في ثلاث، قال: (لأن أقرأ سورة من القرآن في ليلة فأتدبرها وأرتلها أحب إلي من أن أقرأ القرآن كما تقرأ) 1/187.(2/13)
[*] وقال ابن تيمية رحمه الله: (والمطلوب من القرآن هو فهم معانيه والعمل به فإن لم تكن هذه همة حافظه لم يكن من أهل العلم والدين) (مجموع الفتاوى: 23/55)
(معنى التدبر :
[*] قال ابن القيم رحمه الله تعالى : التدبر تحديق ناظر القلب إلى معانيه، وجمع الفكر على تدبره وتعقله. وقيل في معناه: هو التفكر الشامل الواصل إلى أواخر دلالات الكلم ومراميه البعيدة .
[*] قال السيوطي رحمه الله تعالى : صفة التدبر أن يشغل القارئ قلبه بالتفكر في معنى ما يتلفظ به فيعرف معنى كل آية، ويتأمل الأوامر والنواهي، ويعتقد قبول ذلك، فإن كان قصر عنه فيما مضى من عمره اعتذر واستغفر، وإذا مر بآية عذاب أشفق وتعوّذ، أو تنزيه نزّه وعظّم، أو دعاء تضرع وطلب .
(وصفة ذلك: أن يشغل قلبه بالتفكر في معنى ما يلفظ به، فيعرف معنى كل آية، ويتأمل الأوامر والنواهي، فإن كان مما قصر عنه فيما مضى اعتذر واستغفر، وإذا مرّ بآية رحمة استبشر وسأل، أو عذاب أشفق وتعوّذ، أو تنزيه نزّه وعظّم، أو دعاء تضرّع وطلب .
وقد ورد الحث الشديد في الكتاب العزيز ، وفى السنة الصحيحة على التدبر في معاني القرآن والتفكر في مقاصده وأهدافه .
قال تعالى: (أَفَلاَ يَتَدَبّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىَ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ ) [ محمد / 24]
وفى هذه الآية الكريمة توبيخ عظيم على ترك التدبر في القرآن .
(والسنة الصحيحة طافحةٌ بما يحث على تدبر القرآن منها ما يلي :
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه.
[*] قال علي : لا خير في عبادة لا فقه فيها، ولا في قراءة لا تدبر فيها.(2/14)
[*] وقال ابن عباس ما: لأن أقرأ إذا زلزلت والقارعة أتدبرهما، أحب إليّ من أقرأ البقرة وآل عمران تهذيرا.
[*] وقال ابن مسعود : من أراد علم الأولين والآخرين، فليتدبر القرآن .
وقد بات الكثير من السلف يتلو أحدهم آية واحدة ليلة كاملة، يرددها ليتدبر ما فيها، وكلما أعادها انكشف له من معانيها، وظهر له من أنوارها، وفاض عليه من علومها وبركاتها.
[*] قال الأحنف بن قيس : عرضت نفسي على القرآن، فلم أجد نفسي بشيء أشبه مني بهذه الآية وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ [ التوبة/ 102]
{ تنبيه } :( واقعنا هو تطبيق جزء من الحديث وهو التلاوة أما الدراسة والتدبر فهي - في نظر بعضنا - تؤخر الحفظ وتقلل من عدد الحروف المقروءة فلا داعي لها .
( حديث حذيفة في صحيح مسلم) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ البقرة وآل عمران والنساء في ركعة ، لا يمر بآيةِ رحمةٍ إلا سأل ولا بآيةِ عذاب إلا استجار .
( حديث حذيفة رضي الله عنه الثابت في صحيح النسائي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة فافتتح البقرة ثم المائة فمضى ثم المائتين فمضى فقلت يصلي بها في ركعة فمضى فافتتح النساء فقرأها ثم افتتح آل عمران فقرأها يقرأ مترسلا إذا مر بآية فيها تسبيح سبح وإذا مر بسؤال سأل وإذا مر بتعوذ تعوذ ثم ركع فقال سبحان ربي العظيم فكان ركوعه نحوا من قيامه ثم رفع رأسه فقال سمع الله لمن حمده فكان قيامه قريبا من ركوعه ثم سجد فجعل يقول سبحان ربي الأعلى فكان سجوده قريبا من ركوعه .
(هذا تطبيق نبوي عملي للتدبر ظهر أثره بالتسبيح والسؤال والتعوذ.
وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يهتم اهتماماً بالغاً بتدبر القرآن وكان أحياناً لا يزال يردد آيةً حتى يصبح(2/15)
(حديث أبي ذر في صحيحي النسائي وابن ماجة) قال قام النبي - صلى الله عليه وسلم - بآيةٍ يرددها حتى أصبح ، والآية قال تعالى: (إِن تُعَذّبْهُمْ فَإِنّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)
[المائدة / 118]
(فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدم التدبر على كثرة التلاوة، فيقرأ آية واحدة فقط في ليلة كاملة .
وقد تأسى أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - به في ذلك فردد تميم بن أوس آيةً حتى أصبح والآية هي( أَمْ حَسِبَ الّذِينَ اجْتَرَحُواْ السّيّئَاتِ أَن نّجْعَلَهُمْ كَالّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ سَوَآءً مّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ) {الجاثية/21 )
[*] قال محمد بن كعب القرظي :
لأن أقرأ في ليلتي حتى أصبح بـ (إذا زلزلت) و (القارعة) لا أزيد عليهما أحب إليَّ من أن أهذَّ القرآن ليلتي هذّاً. أو قال: أنثره نثرا ً.
[*] قال ابن القيم : ليس شيء أنفع للعبد في معاشه ومعاده من تدبر القرآن وجمع الفكر على معاني آياته؛ فإنها تطلع العبد على معالم الخير والشر بحذافيرها وعلى طرقاتهما وأسبابهما وثمراتهما ومآل أهلهما، وتتل في يده مفاتيح كنوز السعادة والعلوم النافعة، وتثبت قواعد الإيمان في قلبه، وتريه صورة الدنيا والآخرة والجنة والنار في قلبه، وتحضره بين الأمم، وتريه أيام الله فيهم، وتبصره مواقع العبر.
وتشهده عدل الله وفضله وتعرفه ذاته وأسماءه وصفاته وأفعاله وما يحبه وما يبغضه وصراطه الموصل إليه وقواطيع الطريق وآفاته، وتعرفه النفس وصفاتها ومفسدات الأعمال ومصححاتها، وتعرفه طريق أهل الجنة وأهل النار وأعمالهم وأحوالهم وسيماهم ومراتب أهل السعادة وأهل الشقاوة .(2/16)
فتشهده الآخرة حتى كأنه فيها، وتغيبه عن الدنيا حتى كأنه ليس فيها، وتميز له بين الحق والباطل في كل ما يختلف فيه العالم، وتعطيه فرقاناً ونوراً يفرق به بين الهدى والضلال، وتعطيه قوة في قلبه وحياة واسعة وانشراحاً وبهجة وسروراً فيصير في شأن والناس في شأن آخر؛ فلا تزال معانيه تنهض العبد إلى ربه بالوعد الجميل.
وتحذره وتخوفه بوعيده من العذاب الوبيل، وتهديه في ظلم الآراء والمذاهب إلى سواء السبيل، وتصده عن اقتحام طرق البدع والأضاليل، وتبصره بحدود الحلال والحرام وتوقفه عليها؛ لئلا يتعداها فيقع في العناء الطويل، وتناديه كلما فترت عزماته.
تقدمَ الركبُ، وفاتك الدليل، فاللحاقَ اللحاقَ، والرحيلَ الرحيلَ فاعتصم بالله واستعن به وقل: {حسبي الله ونعم الوكيل.
(إنَّ المؤمن عندما يُحسن قراءة القرآن وتدبره يقف على زاد عظيم من معانيه ودلالاته وهداياته، ونحن في عصرنا الحاضر أحوج ما نكون إلى القرآن العظيم، نتلوه ونتدَّبره، نفهمه ونفسِّره، نحيا به ونتعامل معه، نصلح أنفسنا ومجتمعاتنا على هديه، ونقيم مناهج حياتنا على أسسه ومبادئه وتوجيهاته.
[*] يقول الإمام الآجري رحمه الله تعالى :
ألا ترون رحمكم الله إلى مولاكم الكريم، كيف يحثُّ خلقه على أن يتدبروا كلامه، ومن تدبَّر كلامه عرف الربّ عز وجل، وعرف عظيم سلطانه وقدرته، وعرف عظيم تفضله على المؤمنين، وعرف ما عليه من فرض عبادته، فألزم نفسه الواجب، فحذر ممَّا حذَّره مولاه الكريم، ورغب فيما رغَّبه فيه، ومن كانت هذه صفته عند تلاوته للقرآن وعند استماعه من غيره ، كان القرآن له شفاء، فاستغنى بلا مال ، وعزَّ بلا عشيرة ، وأنس بما يستوحش منه غيره، وكان همُّه عند تلاوة السورة إذا افتتحها: متى أتعظ بما أتلوه ؟ ولم يكن مراده: متى أختم السورة ؟ وإنَّما مراده: متى أعقل من الله الخطاب؟ متى أزدجر؟ متى أعتبر؟ لأنَّ تلاوته للقرآن عبادة، والعبادة لا تكون بغفلة .(2/17)
[*] عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنَّه قال في القرآن الكريم:
لا تهذوا القرآن هذا لشعر ولا تنثروه نثر الدقل - أي التمر الرديء وفي رواية الرمل - قفوا عند عجائبه وحركوا به القلوب ولا يكن هم أحدكم آخر السورة .
[*] وقال الحسن البصري رحمه الله :
"الزموا كتاب الله وتتبعوا ما فيه من الأمثال، وكونوا فيه من أهل البصر، رحم الله عبداً عرض نفسه وعمله على كتاب الله، فإن وافق كتابَ الله حمد الله وسأله الزيادة، وإن خالف كتاب الله أعتب نفسه ورجع من قريب".
(إنَّ التمسك بكتاب الله عزّ وجل تلاوة وتدبراً، عملاً والتزاماً، سبيلُ السعادة في الدارين الدنيا والآخرة، وطريق الفلاح فيهما،
[*] قال ابن عباس رضي الله عنهما:
"تكفل الله لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه أن لا يَضِلَّ في الدنيا ولا يشقى في الآخرة. ثم قرأ قوله تعالى:( فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى) [ طه 123 : 126 ]
(وإذا نظرنا في سير الصحابة ومن بعدهم من سلف هذه الأمة؛ نجدهم قد تلقوا هذا القرآن الكريم مدركين مدى الشرف الذي حباهم الله به، فأقبلوا عليه يحفظونه ويرتلونه آناء وأطراف النهار، جعلوه غذاء أرواحهم وقوت قلوبهم وقرة أعينهم، نفذوا أحكامه وأقاموا حدوده وطبقوا شرائعه، طهرت به نفوسهم وصلحت به أحوالهم، ودعوا الناس إليه ورغبوهم فيه .
[*] عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنَّه قال في القرآن الكريم:
لا تهذوا القرآن هذا لشعر ولا تنثروه نثر الدقل - أي التمر الرديء وفي رواية الرمل - قفوا عند عجائبه وحركوا به القلوب ولا يكن هم أحدكم آخر السورة .(2/18)
[*] قال عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما : ( لقد عشنا دهرا طويلا وأحدنا يؤتى الإيمان قبل القرآن فتنزل السورة على محمد صلى الله عليه وسلم فيتعلم حلالها وحرامها وآمرها وزاجرها ، وما ينبغي أن يقف عنده منها ، ثم لقد رأيت رجالا يؤتى أحدهم القرآن قبل الإيمان ، فيقرأ ما بين الفاتحة إلى خاتمته لا يدري ما آمره ولا زاجره وما ينبغي أن يقف عنده منه ، ينثره نثر الدقل !! ) ..
[*] قال الحسن البصري: والله! ما تدبُّره بحفظ حروفه وإضاعة حدوده حتى إن أحدهم ليقول: قرأت القرآن كله، ما يُرى له القرآنُ في خُلُق ولا عمل. قال تعالى: {أفلا يتدبرون القرآن... } النساء: 82.
[*] وقال الحسن أيضاً: نزل القرآن ليُتَدَبَّر ويعمل به؛ فاتخذوا تلاوته عملاً. أي أن عمل الناس أصبح تلاوة القرآن فقط بلا تدبر ولا عمل به .
[*] قال ابن كثير: (يقول الله تعالى آمراً عباده بتدبر القرآن وناهياً لهم عن الإعراض عنه وعن تفهم معانيه المحكمة وألفاظه البليغة: أفلا يتدبرون القرآن)، فهذا أمر صريح بالتدبر والأمر للوجوب. قال تعالى: {الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به}...
[ البقرة: 121]
روى ابن كثير عن ابن مسعود قال: والذي نفسي بيده! إن حق تلاوته أن يحل حلاله ويحرم حرامه ويقرأه كما أنزله الله .
[*] وقال الشوكاني : يتلونه: يعملون بما فيه، ولا يكون العمل به إلا بعد العلم والتدبر. قال تعالى: {ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون} [ البقرة: 78]
[*] قال الشوكاني: وقيل: (الأماني: التلاوة) أي: لا علم لهم إلا مجرد التلاوة دون تفهم وتدبر.
[*] وقال ابن القيم رحمه الله تعالى : ذم الله المحرفين لكتابه والأميين الذين لا يعلمون منه إلا مجرد التلاوة وهي الأماني . قال الله تعالى: {وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا} [ الفرقان: 30 ]
[*] قال ابن كثير :(2/19)
وترك تدبره وتفهمه من هجرانه، وقال ابن القيم: هجر القرآن أنواع... الرابع: هجر تدبره وتفهمه ومعرفة ما أراد المتكلم به منه .
وحتى نتدبر القرآن فعلينا بمراعاة الآتي :
(1) مراعاة آداب التلاوة من طهارة ومكان وزمان مناسبين وحال مناسبة وإخلاص واستعاذة وبسملة وتفريغ للنفس من شواغلها وحصر الفكر مع القرآن والخشوع والتأثر والشعور بأن القرآن يخاطبه.
(2) التلاوة بتأنٍ وتدبر وانفعال وخشوع، وألا يكون همه نهاية السورة، الوقوف أمام الآية التي يقرؤها وقفةً متأنيةً فاحصةً مكررةً، النظرة التفصيلية في سياق الآية: تركيبها - معناها - نزولها - غريبها – دلالاتها.
(3) ملاحظة البعد الواقعي للآية؛ بحيث يجعل من الآية منطلقاً لعلاج حياته وواقعه، وميزاناً لمن حوله وما يحيط به.
(4) العودة إلى فهم السلف للآية وتدبرهم لها وتعاملهم معها والاطلاع على آراء بعض المفسرين في الآية .
(5) النظرة الكلية الشاملة للقرآن، الالتفات للأهداف الأساسية للقرآن .
(6) الثقة المطلقة بالنص القرآني وإخضاع الواقع المخالف له .
(7) معايشة إيحاءات النص وظلاله ولطائفه، الاستعانة بالمعارف الثقافات الحديثة، العودة المتجددة للآيات، وعدم الاقتصار على التدبر مرة واحدة؛ فالمعاني تتجدد، ملاحظة الشخصية المستقلة للسورة، التمكن من أساسيات علوم التفسير.
القراءة في الكتب المتخصصة في هذا الموضوع مثل كتاب: (القواعد الحسان لتفسير القرآن) للسعدي، وكتاب (مفاتيح للتعامل مع القرآن) للخالدي، وكتاب (قواعد التدبر الأمثل لكتاب الله - عز وجل) لعبد الرحمن حبنكة الميداني، وكتاب (دراسات قرآنية) لمحمد قطب .
(فوائد تدبر القرآن :(2/20)
(1) التدبر في القرآن غاية من غايات إنزاله: يقول الله تعالى: { كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب } [ص:29]. ومدح الحق جل وعلا من تدبر وانتفع، فذكر من صفات عباد الرحمن: { وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً } (الفرقان:73)
(وذم من لا يتدبرون القرآن وأنكر عليهم فقال تعالى: { أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها } [محمد24].
(2) التدبر من علامات الإيمان: { الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله } ، { الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به }
(3) التدبر يزيد الإيمان: { إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون } .
(4) تدبر القرآن من النصيحة لكتاب الله، قال - صلى الله عليه وسلم - : (الدين النصيحة)
(حديث تميم ابن أوس الداريِّ الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : الدين النصيحة قالوا : لمن يا رسول اللّه قال : للّه وكتابه ورسوله وأئمة المسلمين وعامتهم .
(5) ترك التدبر يؤدي إلى قسوة القلب: قال تعالى: (أَلَمْ يَأْنِ لِلّذِينَ آمَنُوَاْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقّ وَلاَ يَكُونُواْ كَالّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مّنْهُمْ فَاسِقُونَ) [ الحديد : 16]. وهو من أنواع هجر القرآن الذي شكاه النبي - صلى الله عليه وسلم - لربه: (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً) [ الفرقان:30]
(8) سماع القراءة الخاشعة للقرآن الكريم :(2/21)
فإنها من الأسباب الجالبة للبكاء من خشية الله تعالى وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد ، ودرر الفرائد . (
(حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعبد الله بن مسعود : (اقْرأ عَليَّ القُرْآن، فَإِنِّي أُحبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي) فقرأ عليْهِ من سُورة النِّساء حتّى بلغ قوله: (( فَكَيفَ إِذاَ جِئنَاَ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَاَ بِكَ عَلى هَؤلاء شَهِيدا))، قال : (حَسْبُكَ الآن). فالتفتُ إليه فَإِذَاَ عَيْنَاهُ تَذْرِفَان .
فاستمع إلى القراءة الخاشعة للقرآن الكريم عن طريق الشرائط المسجلة، فاستمع إن شئت إلى تلاوة محمد صديق المنشاوي يجوب بك بحار الخشية..
واستمع إن شئت إلى تلاوة أحمد العجمي، وابك ولا تمنع دموعك..
واستمع إن شئت إلى مشاري راشد أو أبي بكر الشاطري أو غيرهم من أصحاب التلاوة الخاشعة فستجد لذلك بإذن الله أثره العظيم في لين القلب ورقته.
(9) الإكثار من قراءة كتب الرقائق ، وسماع المواعظ عن طريق الدروس أو الشرائط المسجلة :
فأما كتب الرقائق: فاحرص على أن تكون لأهل السنة المستدلين بالكتاب والسنة وأقوال السلف، وإياك ثم إياك وكتب الصوفية وأهل البدع، فهي تزيدك بعداً ووحشة أضعاف ما تفيدك.
فاحرص على قراءة النسخ المحققة من كتب الإمام ابن القيم [مدارج السالكين]، و[الفوائد]، و[مفتاح دار السعادة]، و[الداء والدواء أو الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي] وغيرها.
وكذلك كتب الشيخ أحمد فريد ومن أروعها: [البحر الرائق في الزهد والرقائق]، و[التقوى الغاية المنشودة والدرة المفقودة]، و[تذكير النفوس المؤمنة بأسباب حسن الخاتمة وسوء الخاتمة]، وغيرها.(2/22)
واحرص على حضور مجالس الوعظ لمن عرف بموافقة السنة واستدلاله بالصحيح من الأحاديث، فالمواعظ سياط تضرب بها القلوب فتؤثِّر في القلوب كتأثير السياط في البدن.
كان الحسن البصري إذا خرج إلى الناس فكأنه رجل عاين الآخرة، ثم جاء يُخبر عنها، وكانوا إذا خرجوا من عنده خرجوا وهم لا يعدون الدنيا شيئاً..
وكان سفيان الثوري يتعزَّى بمجالسه عن الدنيا..
وكان أحمد لا تُذكر الدنيا في مجالسه، ولا تُذكر عنده..
فإن عجزت أن تجد مجالس للوعظ فإن الله رزقنا نعمة لم يعطها لسلفنا وهي نعمة الشرائط المسجلة، فاحرص على سماع شرائط المواعظ للمشايخ: محمد حسين يعقوب، ومحمد حسان، ونبيل العوضي، وإبراهيم الدويش، وعلي القرني، ومحمد العريفي، وخالد الراشد، وغيرهم ممن عرف بموافقته لأهل السنة والاستدلال بالصحيح من الأحاديث وحسن الأسلوب والصدق في التعبير.
(10) محاسبة النفس :
إن من أهم الأسباب الجالبة للبكاء من خشية الله محاسبة النفس ، وهاك صفوة مسائل محاسبة النفس .
(تعريف المحاسبة :
(هل حاسبت نفسك يوماً ما :
(امقت نفسك في جنب الله :
( أقسام محاسبة النفس :
(القسم الأول : محاسبة النفس قبل العمل :
(القسم الثاني : محاسبة النفس بعد العمل:
( كيفية محاسبة النفس ؟
(الأدلة على مشروعية المحاسبة :
( أهمية محاسبة النفس :
(مخاطرُ ترك المحاسبة :
(فوائد محاسبة النفس :
(أركان المحاسبة :
(الأسباب المعينة على محاسبة النفس :
ودونك تفصيل ذلك في إيجازٍ غير مُخِّل : (
(تعريف المحاسبة :
(المحاسبة في اللغة: مصدر من حاسب يحاسب مأخوذ من حسب حسبتُ الشيء أحسبه حسباناً وحساباً إذا عددته والحساب والمحاسبة عدُّك الشيء.
فالحاصل أن العدّ هو معنى المحاسبة في اللغة، فكأنك إذا جئت تطبقه بالمعنى الاصطلاحي عدّ السيئات.. عدّ العيوب.. وهكذا..(2/23)
[*] عرّف الماوردي المحاسبة فقال: أن يتصفح الإنسان في ليله ما صدر من أفعال نهاره فإن كان محموداً أمضاه وأتبعه بما شاكله وضاهاه ، وإن كان مذموماً استدركه إن أمكن وإن لم يمكن فيتبعها بالحسنات لتكفيرها وينتهي عن مثلها في المستقبل .
(وعرّف بعضهم المحاسبة بأنها: قيام العقل على حراسة النفوس من الخيانة ليتفقد زيادتها ونقصانها، وأنه يسأل عن كل فعل يفعله لمَ فعلته ، فإن كان لله مضى فيه و إن كان لغير الله امتنع عنه وأنه يلوم نفسه على التقصير والخطأ وإذا أمكن المعاقبة أو صرفها إلى الحسنات الماحية .
(هل حاسبت نفسك يوماً ما :
(أخي الحبيب:
حاسب نفسك في خلوتك وتفكر في انقراض مدتك واعمل في زمان فراغك لوقت شدتك وتدبر قبل الفعل ما يملى في صحيفتك وانظر : هل نفسك معك أو عليك في مجاهدتك لقد سعد من حاسبها وفاز والله من حاربها وقام باستيفاء الحقوق منها وطالبها وكلما ونت عاتبها وكلما تواقفت جذبها وكلما نظرت في آمال هواها غلبها 0
(أخي الحبيب :
هل خلوت بنفسك يوماً فحاسبتها عما بدر منها من الأقوال والأفعال؟ وهل حاولت يوماً أن تَعُدَّ سيئاتك كما تَعُدَّ حسناتك؟ بل هل تأملت يوماً طاعاتك التي تفتخر بذكرها ؟! فإن وجدت أن كثيراً منها مشوباً بالرياء والسمعة وحظوظ النفس فكيف تصبر على هذه الحال، وطريقك محفوف بالمكارة والأخطار؟! وكيف القدوم على الله وأنت محمل بالأثقال والأوزار؟ قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ 18 وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [الحشر:19،18]. وقال تعالى: وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ [الزمر:54](2/24)
[*](وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ( حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وطالبوا بالصدق في الأعمال قبل أن تطالبوا وزنوا أعمالكم قبل أن توزنوا فإنه أهون عليكم في الحساب غداً وتزينوا للعرض الأكبر : ( يَومَئِذٍ تُعرَضُونَ لَا تَخفَى مِنكُم خَافِيَةٌ ) [ الحاقة : 18]
[*](وقال الحسن البصري رحمة الله : ( أيسر الناس حساباً يوم القيامة الذين حاسبوا أنفسهم لله عز وجل في الدنيا فوقفوا عند همومهم وأعمالهم فإن كان الدين لله هموا بالله وإن كان عليهم أمسكوا وإنما يثقل الحساب على الذين أهملوا الأمور فوجدوا الله قد أحصى عليهم مثاقيل الذر فقالوا : ( يَا وَيلَتَنَا مَالِ هَذَا الكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرةً إِلَّا أَحصَاها ) [ الكهف : 49]
[*](وقال أبو بكر البخاري : ( من نفر عن الناس قل أصدقاؤه ومن نفر عن ذنوبه طال بكاؤه ومن نفر عن مطعمه طال جوعه وعناؤه ونقل توبة بن المعلم أنه نظر يوماً وكان محاسباً لنفسه فإذا هو ابن ستين إلا عاماً فحسبها أياماً فإذا هي إحدى وعشرون ألف يوم وخمسمائة يوم فصرخ وقال : يا ويلتي ! ألقى المليك بإحدى وعشرين ألف ذنب وخمسمائة ذنب فكيف ولى في كل يوم عشرون ألف ذنب ثم خر مغشياً عليه فإذا هو ميت فسمعوا هاتفاً يقول : يا لها من ركضة إلى الفردوس الأعلى 0
وقد مدح الله تعالى أهل طاعته بقوله تعالى : { ْ إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ماَ آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ }
(المؤمنون الآية 57 - 61) .(2/25)
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة ) قالت : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية: (وَالّذِينَ يُؤْتُونَ مَآ آتَواْ وّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) [ المؤمنون : 60] قالت عائشة هم الذين يشربون الخمر ويسرقون قال لا يا بنت الصديق ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون وهم يخافون أن لا يقبل منهم أولئك الذين يسارعون في الخيرات .
(أخي الحبيب :
كان السلف الصالح رحمهم الله تعالى يتقربون إلى الله بالطاعات، ويسارعون إليه بأنواع القربات، ويحاسبون أنفسهم على الزلات، ثم يخافون ألا يتقبل الله أعمالهم، وإن المؤمن يفجأه الشيء ويعجبه فيقول: والله إني لأشتهيك، وإنك لمن حاجتي، ولكن والله ما من صلة إليك، هيهات هيهات، حيل بيني وبينك ، ويفرط منه الشيء فيرجع إلى نفسه فيقول: ما أردت إلى هذا؟ مالي ولهذا؟ والله لا أعود إلى هذا أبداً، إن المؤمنين قوم أوقفهم القرآن، وحال بينهم وبين هلكتهم، إن المؤمن أسير في الدنيا يسعى في فكاك رقبته، لا يأمن شيئاً حتى يلقى الله، يعلم أنه مأخوذ عليه في سمعه وفي بصره، وفي لسانه وفي جوارحه، مأخوذ عليه في ذلك كله.
[*] فهذا الصديق رضي الله عنه: كان يبكي كثيراً، ويقول: ابكوا، فإن لم تبكروا فتباكوا، وقال: والله لوددت أني كنت هذه الشجرة تؤكل وتعضد.
[*] وهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه: قرأ سورة الطور حتى بلغ قوله تعالى: إن عذاب ربك لواقع [الطور:7]. فبكى واشتد في بكاؤه حتى مرض وعادوه. وكان يمر بالآية في ورده بالليل فتخيفه، فيبقى في البيت أياماً يعاد، يحسبونه مريضاً، وكان في وجهه خطان أسودان من البكاء!!.
وقال له ابن عباس رضي الله عنهما: مصر الله بك الأمصار، وفتح بك الفتوح وفعل، فقال عمر: وددت أني أنجو لا أجر ولا وزر!!.(2/26)
[*] وكتب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إلى بعض عماله: (حاسب نفسك في الرخاء قبل حساب الشدة، فإن من حاسب نفسه في الرخاء قبل حساب الشدة، عاد أمره إلى الرضا والغبطة، ومن ألهته حياته، وشغلته أهواؤه عاد أمره إلى الندامة والخسارة .
[*] وهذا عثمان بن عفان ـ ذو النورين ـ رضي الله عنه: كان إذا وقف على القبر بكى حتى تبلل لحيته، وقال: لو أنني بين الجنة والنار لا أدري إلى أيتهما يؤمر بي، لاخترت أن أكون رماداً قبل أن أعلم إلى أيتهما أصير!!.
[*] وهذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه: كان كثير البكاء والخوف،والمحاسبة لنفسه. وكان يشتد خوفه من اثنتين: طول الأمل واتباع الهوى. قال: فأما طول الأمل فينسى الآخرة، وأما اتباع الهوى فيصد عن الحق.
[*] وقال الحسن رحمه الله تعالى : لا تلقي المؤمن إلا بحساب نفسه: ماذا أردت تعملين؟ وماذا أردت تأكلين؟ وماذا أردت تشربين؟ والفاجر يمضي قدماً لا يحاسب نفسه.
(وقال أيضاً :إن العبد لا يزال بخير ما كان له واعظ من نفسه، وكانت المحاسبة همته.
(وقال أيضاً : المؤمن قوام على نفسه، يحاسب نفسه لله، وإنما خف الحساب يوم القيامة على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا، وإنما شق الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة.
[*] وقال قتادة في قوله تعالى: وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا [الكهف:28] أضاع نفسه وغبن، مع ذلك تراه حافظاً لماله، مضيعاً لدينه.
[*] وقال ميمون بن مهران: لا يكون العبد تقياً حتى يكون لنفسه أشد محاسبة من الشريك لشريكه، ولهذا قيل: النفس كالشريك الخوان، إن لم تحاسبه ذهب بمالك.(2/27)
[*] وذكر الإمام أحمد عن وهب قال: مكتوب في حكمة آل داود: حق على العاقل ألا يغفل عن أربع ساعات: ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يخلوا فيها مع إخوانه الذين يخبرونه بعيوبه ويصدقونه عن نفسه، وساعة يخلي فيها بين نفسه وبين لذاتها فيما يحل ويجعل، فإن في هذه الساعة عوناً على تلك الساعات وإجماماً للقلوب.
[*] وكان الأحنف بن قيس يجئ إلى المصباح، فيضع إصبعه فيه ثم يقول: حس يا حنيف، ما حملك على ما صنعت يوم كذا؟ ما حملك على ما صنعت يوم كذا؟
[*] وقال مالك بن دينار: رحمه الله عبداً قال لنفسه: ألست صاحبة كذا؟ ألست صاحبة كذا؟ ثم ألزمها، ثم خطمها، ثم ألزمها كتاب الله عز وجل، فكان لها قائداً.
[*] وقال ابن أبي ملكية: أدركت ثلاثين من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كلهم يخاف النفاق على نفسه، ما منهم أحد يقول إنه على إيمان جبريل وميكائيل!!
(أخي الحبيب : ترقب واعظ الله في قلبك ، واستفد من مواعظه أيما استفادة واجعل له من سمعك مسمعاً ومن قلبك موقعاً ، وقل له بلسان حالك سمعاً وطاعة ، ولك الشكر والامتنان وعلى الخضوع والإذعان ، وامتثل خشية الرحمن وامتثال القرآن وجنب نفسك العصيان والخذلان واستحواذ الشيطان قَبلَ أن تقولَ نفسٌ : يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ ، فيقالُ : هَيْهَاتَ فَاتَ زَمَنُ الإِمْكَانِ ، انتهى الزمان وفات الأوان .
(واعظ الله في القلب :(2/28)
(حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ضرب الله مثلا صراطا مستقيما وعن جنبتي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة وعلى الأبواب ستور مرخاة وعند رأس الصراط يقول استقيموا على الصراط ولا تعوجوا ، وفوق ذلك داع يدعو كلما هم عبد أن يفتح شيئا من تلك الأبواب قال : ويحك لا تفتحه فإنك إن تفتحه تلجه ثم فسره فأخبر أن الصراط هو الإسلام وأن الأبواب المفتحة محارم الله وأن الستور المرخاة حدود الله والداعي على رأس الصراط هو القرآن والداعي من فوقه هو واعظ الله في قلب كل مؤمن .
فهلا استجبت ـ أخي المسلم ـ لواعظ الله في قلبك؟ وهلا حفظت حدود الله ومحارمه؟ وهلا انتصرت على عدو الله وعدوك، قال تعالى: إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدواً إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير [فاطر:6]
[*] قال خالد بن معدان - رضي الله عنه - قال: ما من من عبد إلا وله عينان في وجهه يبصر بهما أمر الدنيا، وعينان في قلبه يبصر بهما أمر الآخرة، فإذا أراد الله بعبد خيراً، فتح عينيه اللتين في قلبه، فأبصر بهما ما وعد الله بالغيب، وإذا أراد به غير ذلك، تركه على ما فيه ثم قرأ: أم على قلوب أقفالها [ محمد:24]
(امقت نفسك في جنب الله :
إن مما يعين بعد الله تعالى على محاسبة النفس أن تمقت نفسك في جنب الله تعالى :
[*](كان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقول: رحم الله امرأً أهدى إلي عيوبي وكان يسأل سلمان عن عيوبه، فلما قدم عليه قال: ما الذي بلغك عني مما تكرهه .
قال: أعفني يا أمير المؤمنين فألح عليه، فقال: بلغني أنك جمعت بين إدامين على مائدة وأن لك حلتين حلة بالنهار وحلة بالليل.
قال: وهل بلغك غير هذا ؟ قال: لا، قال: أما هذان فقد كفيتهما، وكان يسأل حذيفة ويقول له: أنت صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في معرفة المنافقين فهل ترى علي شيئا من آثار النفاق.(2/29)
فهو على جلالة قدره وعلو منصبه هكذا كانت تهمته لنفسه رضي الله عنه.
«فكل من كان أرجح عقلا وأقوى في الدين وأعلى منصبًا، كان أكثر تواضعًا»، وأبعد عن الكبر والإعجاب وأعظم اتهامًا لنفسه، وهذا يعتبر نادرًا يعز وجوده.
فقليل في الأصدقاء من يكون مخلصًا صريحًا بعيدًا عن المداهنة متجنبًا للحسد يخبرك بالعيوب ولا يزيد فيها ولا ينقص وليس له أغراض يرى ما ليس عيبا عيبًا أو يخفي بعضها.
قيل لبعض العلماء، وقد اعتزل الناس وكان منطويًا عنهم: لِمَ امتنعت عن المخالطة؟ فقال: وماذا أصنع بأقوام يخفون عني عيوبي.
فكانت شهوة صاحب الدين في التنبيه على العيوب، عكس ما نحن عليه، وهو أن أبغض الناس إلينا الناصحين لنا والمنبهين لنا على عيوبنا، وأحب الناس إلينا الذي يمدحوننا مع أن المدح فيه أضرار عظيمة كالكبر والإعجاب والكذب.
وهذا دليل على ضعف الإيمان فإن الأخلاق السيئة أعظم ضررًا من الحيات والعقارب ونحوها.
ولو أن إنسانًا نبهك على أن في ثوبك أو خفك أو فراشك حية أو عقربًا لشكرته ودعوت له وأعظمت صنيعه ونصيحته واجتهدت واشتغلت في إبعادها عنك وحرصت على قتلها.
وهذه ضررها على البدن فقط ويدوم ألمها زمن يسير وضرر الأخلاق الرديئة على القلب ويخشى أن تدوم حتى بعد الموت ولا نفرح بمن ينبهنا عليها ولا نشتغل بإزالتها.
بل نقابل نصح الناصح بقولنا له: تبكيتًا وتخجيلاً وأنت فيك وفيك ناظر نفسك ولا عليك منا كلٌ أبصر بنفسه.
ونشتغل بالعداوة معه عن الانتفاع بنصحه بدل ما نشكره على نصحه لنا بتنبيهه لنا على عيوبنا، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
(أخي الحبيب:
عُد على نفسك باللوم والمقت واحذرها فكم ضيعت عليك من وقت ، واندم على زمان الهوى فمن كيسك أنفقت ، ونادها يا محل كل بلية فقد والله صدقت 0(2/30)
[*](روى وهب بن منبه : أن رجلاً صام سبعين سنة يأكل كل سنة إحدى عشرة تمرة وطلب حاجة من الله فلم يعطها فأقبل على نفسه فقال : من قبلك بليت لو كان فيك خيراً أعطيت فنزل إليه ملك فقال : إن ساعتك هذه التي ازدريت فيها على نفسك خير من عبادتك وقد أعطاك الله حاجتك 0
[*](وقال فضيل بن عياض : أخذت بيد سفيان بن عيينة في هذا الوادي فقلت له : إن كنت تظن أنه قد بقي على وجه الأرض شر مني ومنك فبئس ما ترى 0
إخواني : من تفكر في ذنوبه تاب ورجع ومن تذكر قبيح عيوبه ذل وخضع، ومن علم أن الهوى يسكن تصبر ومن تلمح إساءته لم يتكبر 0
[*](كان يزيد الرقاشي يقول : والهفاه سبق العابدون وقطع بي وكان قد صام أثنين وأربعين سنة 0
(يا من نسي العهد القديم وخان ، من الذي سواك في صورة الإنسان من الذي غذاك في أعجب مكان ، من الذي بقدرته استقام الجثمان الذي بحكمته أبصرت العينان ،من الذي بصنعته سمعت الأذنان ،من الذي وهب العقل فاستبان للرشد وبان ، من الذي بارزته بالخطايا وهو يستر العصيان ، مَنِ الذي تركت شكره فلم يؤاخذ بالكفران ، إلى كم تخالفه وما يصبر على الخلاف الأبوان ، وتعامله بالغدر الذي لا يرضاه الإخوان ، وتنفق في خِلافه ما عَزَّ وهان ، ولو علم الناس منك ما يعلم : ما جالسوك في مكان ، فارجع إليَّه ما دمت في زمن الإمكان ، وتب إليه فإنه الرحيم الرحمن ، عساه أن يعفو عما سلف وكان من الذنوب والعصيان .
يا نفس : بادري بالأوقات قبل انصرامها واجتهدي في حراسة ليالي الحياة وأيامها فكأنك بالقبور وقد تشققت وبالأمور وقد تحققت وبوجوه المتقين وقد أشرقت وبرءوس العصاة وقد أطرقت 0 يا نفس : أما الورعون فقد جدلوا وأما الخائفون فد استعدوا وأما الصالحون فقد راحوا وأما الواعظون فقد صاحوا 0(2/31)
يا نفس : اتعبي قليلاً تستريحي في الفردوس كثيراً كأنك بالتعب قد مضى وبحرصك من اللعب قد مضى وثمر الصبر قد أثمر حلاوة الرضا لا يطمعن البطال في إدراك الأبطال هيهات أن يدرك البطل المجتهد من غاب حين النزال فما شهد حفت الجنة بالمكاره فلا يوصل إليها إلا بالمضض كذلك كل محبوب يلذ وكل عرض من غير مشقة وإلا متى لم يبعد على طالبٍ المشقة : العلم لا يحصل إلا بالنصب والمال لا يجمع إلا بالتعب واسم الجواد لا يناله بخيل ولا يلقب بالشجاع إلا بعد تعب طويل 0 لَولا المشَقَة سادَ الناس كُلَهُم الجود يفقر والإِقبالُ قتَّالُ
(أخي الحبيب:
(أو ما علمت أن معالي الأُمور لا تنال بالفتور ، وإنما تنال بالجد والاجتهاد والتشمرِ ليومِ المعاد ، وخلعِ الراحة واستفراغ الوسع في الطاعة ، أو ما علمت أن من جد وجد ومن زرع حصد ، وليس من سهر كمن رقد والأمور تحتاج إلى وثبة أسد ، فإذا عزمت فبادر وإذا هممت فثابر ، واعلم أنه لا يدرك المفاخر من كان في الصف الآخر .
يا ضعيف العزم : أين أنت والطريق نصب فيه " آدم " وناح لأجله " نوح " ورمي في النار " الخليل " واضطجع للذبح " اسحاق " وبيع " يوسف " بدراهم بخس ونشر بالمناشير " زكريا " وذبح الحصور " يحيى " وضني بالبلاء " أيوب " وزاد على القدر بكاء " داود " وتنغص في الملك عيش " سليمان " وتخير بأرني " موسى " وهام مع الوحوش " عيسى " وعالج الفقر " محمد " .
( أقسام محاسبة النفس :
[*] قال ابن القيم رحمه الله : ومحاسبة النفس نوعان: نوعٌ قبل العمل ونوعٌ بعده.
(القسم الأول : محاسبة النفس قبل العمل :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
أن يقف عند أول همه وإرادته، ولا يبادر بالعمل حتى يتبين له رجحان العمل به على تركه، [*] قال الحسن رحمه الله: رحم الله عبداً وقف عند همه فإن كان لله مضى وإن كان لغيره تأخر.(2/32)
هذا النوع من المحاسبة مهم جداً في إيقاع الأعمال على الإخلاص، بدون المحاسبة هذه تقع الأعمال بغير الإخلاص فيهلك الإنسان وهو يعمل ( عَامِلَةٌ نّاصِبَةٌ * تَصْلَىَ نَاراً حَامِيَةً) [ الغاشية 3 ،4]، فما استفاد من العمل شيء مع أن ظاهره أعمال صالحة لكن لأنها ليست لله.
وكذلك ينظر ثانياً إذا تحركت نفسه لعمل من الأعمال وقف، هل هذا العمل مقدور عليه أو غير مقدور، فإن كان غير مقدور تركه حتى لا يضيع الوقت، وإن كان مقدوراً عليه وقف وقفة أخرى ونظر هل فعله خير من تركه أو تركه خير من فعله، فإن كان فعله خير من تركه عمله وإن كان تركه خيراً من فعله ..،وإذا كان فعله فيه مصلحة..هل سيفعله الآن والباعث عليه الله وإرادة وجهه أو الباعث عليه أمر آخر (جاه المخلوق وثنائهم ومالهم).
وهذه المحاسبة مهمة جداً في وقاية النفس من الشرك الخفي، الأول يقيها من الشرك الأكبر والأصغر ويقيها أيضاً من الشرك الخفي، ولئلا تعتاد النفس الشرك وتقع في مهاوي الرياء،
(لذلك فإن هناك أربع مقامات يحتاج إليها العبد في محاسبة نفسه قبل العمل :
(1) هل هو مقدور له.
(2) هل فعله خير من تركه.
(3) هل هو يفعله لله.
(4) ما هو العون له عليه.
والاستعانة طبعاً بالله (( إياك نعبد وإياك نستعين)).
(القسم الثاني : محاسبة النفس بعد العمل:
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
وهو على ثلاثة أنواع:
أولاً: محاسبتها على طاعة قصرت فيها من حق الله، مثل تفويت خشوع في الصلاة وخرق الصيام ببعض المعاصي أو فسوق وجدال في الحج، كيف أوقع العبادة؟هل على الوجه الذي ينبغي؟هل وافق السنة؟هل نقص منها؟ وحق الله في الطاعة ستة أمور كما يلي : (
(1) الإخلاص في العمل.
(2) النصيحة لله فيه.
(3) متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم .
(4) أن يحسن فيه ويتقن فيه.
(5) أن يشهد منّة الله عليه فيه أنه جاء توفيق من الله وتيسير للعمل الصالح وإعانة منه.(2/33)
(6) أن يشهد تقصيره بعد العمل الصالح، وأنك مهما عملت لله فأنت مقصر.
فيحاسب العبد نفسه هل وفى هذه المقامات حقها؟
ثانياً: محاسبة على عمل كان تركه خير من فعله، كمن يشتغل بمفضول ففاته الفاضل، مثل أن يشتغل بقيام الليل فتفوته صلاة الفجر، أو يشتغل بأذكار وغيرها أفضل منها، كما قال صلى الله عليه وسلم لأم المؤمنين: [ لقد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرات لو وُزِنَت بما قلتِ لوزنتهن: سبحان الله عدد خلقه،سبحان الله رضا نفسه، سبحان الله زنة عرشه، سبحان الله مداد كلماته].
( حديث ابن عباس رضي الله عنهما الثابت في صحيح أبي داوود ) قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند جويرية وكان اسمها برة فحول اسمها فخرج وهي في مصلاها ورجع وهي في مصلاها فقال لم تزالي في مصلاك هذا قالت نعم قال قد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرات لو وزنت بما قلت لوزنتهن سبحان الله وبحمده عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته .
ثالثاً: محاسبة على أمر معتاد مباح لمَ فعله؟ هل أراد به الله أم الدار الآخرة؟ فيكون رابحاً، أو أراد به الدنيا وعاجلها؟ فيخسر ذلك الربح ويفوته الظفر به.
فالمحاسبة تولد عنده أرباح مهمة يحتاجها يوم الحساب، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر: [ أن الذي ينفق نفقة على أهله يحتسبها تكون له صدقة] كما في الحديث الآتي : (
(حديث أبي مسعود الأنصاري الثابت الثابت في الصحيحين) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :( إذا أنفق الرجلُ على أهله يحتسبها فهو له صدقة )
، وأراد لفت النظر إلى أن ما ينفقه الناس على أهلهم بالعادة إذا كان فيه نية حسنة فليس خارجاً عن الصدقة بل داخل فيها وأجرها، حتى يتشجع الناس للإنفاق على أهليهم ولا يبخلوا على أولادهم ، بل يحتسبون الأجر بدون إسراف ولا تقتير.(2/34)
[*] قال الحسن : " المؤمن قوَّام على نفسه ، يحاسب نفسه لله ، وإنما خف الحساب يوم القيامة على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا ، وإنما شق الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر على غير محاسبة " .
إن المؤمن يفاجئه الشيء ويعجبه فيقول : والله إني لأشتهيك ، وإنك لمن حاجتي، ولكن والله ما من حيلة إليك ، هيهات حيل بيني وبينك ويفرط منه الشيء فيرجع إلى نفسه فيقول : ما أردت إلى هذا ؟ ! ما لي ولهذا ؟ّ والله لا أعود إلى هذا أبداً . إن المؤمنين قوم أوقفهم القرآن وحال بين هلكتهم ، إن المؤمن أسير في الدنيا يسعى في فكاك رقبته ، لا يأمن شيئاً حتى يلقى الله ، يعلم أنه مأخوذ عليه في سمعه، وفي بصره ، وفي لسانه ، وفي جوارحه ، مأخوذ عليه في ذلك كله .
[*] قال مالك بن دينار: " رحم الله عبداً قال لنفسه : ألست صاحبة كذا؟ ألست صاحبة كذا؟ ثم ذمها ، ثم خطمها ، ثم ألزمها كتاب الله عز وجل، فكان لها قائداً " .
فحق على الحازم المؤمن بالله وباليوم الآخر أن لا يغفل عن محاسبة نفسه، والتضييق عليها في حركاتها وسكناتها ، وخطراتها، فكل نفس من أنفاس العمر جوهرة نفيسة ، يمكن أن يشترى بها كنزاً من الكنوز لا يتناهي نعيمه أبد الآباد ، فإضاعة هذه الأنفاس ، أو اشتراء صاحبها بها مما يجلب هلاكه خسران عظيم لا يسمح بمثله إلا أجهل الناس وأحمقهم وأقلهم عقلاً ، وإنما يظهر له حقيقة هذا الخسران يوم التغابن ، قال تعالى: { يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا } (آل عمران : من الآية 30) .
( كيفية محاسبة النفس ؟
[*] قال ابن القيم رحمه الله – مختصر كلامه- :(2/35)
أن يبدأ بالفرائض فإذا رأى فيها نقص تداركه ثم المناهي "المحرمات" فإذا عرف أنه ارتكب منها شيئاً تداركه بالتوبة والاستغفار والحسنات الماحية ثم يحاسب نفسه على الغفلة عما خُلِق له، فإن رأى أنه غفل عما خُلِق له فليتدارك ذلك بالذكر والإقبال على الله ويحاسب نفسه على كلمات الجوارح من كلام اللسان ومشي الرجلين وبطش اليدين ونظر العينين وسماع الأذنين ماذا أردتُ بهذا ولمن فعلته وعلى أي وجه فعلته؟
(فيبدأ بالفرائض ، ويجب أن نعرف أن جنس الواجبات في الشريعة أعلى من ترك المحرمات، كلاهما لابد منه ، لكن للفائدة فجنس فعل الواجب أعلى في الشريعة وأكثر أجراً من جنس ترك المحرم، لأن الواجبات هي المقصود الأصلي وهذه المحرمات ممنوعة، ولكن ما هو الأصل؟ أن تقوم بالواجبات، فأول ما يبدأ بالفرائض فإن رأى منها نقصاً تداركه ( الوضوء-الصلاة-الصيام بدون نية- كفارة اليمين)..، فاستدراك الخطأ في الواجبات نتيجة للمحاسبة، وهناك تقصير يمكن استدراكه وهناك آخر لا.
(ثم المحرمات والمناهي..، فهناك أمور تحتاج التوقف الفوري( كسب حرام – عمل حرام)، وأشياء تدارُكها( التخلص من الأموال الحرام بعد التوبة-أكل حقوق العباد فيعيد المال إلى أصحابه)، وبعضها يحتاج إلى التحلل منها وطلب السماح ، وهناك أشياء لا يمكن تداركها إلا بالتوبة والندم وعقد العزم على عدم العودة والإكثار من الحسنات الماحية لأن الله تعالى قال: (وَأَقِمِ الصّلاَةَ طَرَفَيِ النّهَارِ وَزُلَفاً مّنَ الْلّيْلِ إِنّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السّيّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَىَ لِلذّاكِرِينَ) [ هود: 114]
ثم يحاسب نفسه على الغفلة عما خُلِق له(الانغماس في الملاهي والألعاب مع أنها ليست حرام)، فيتدارك ذلك بأن يأتي بفترات طويلة تفوقها في الذكر والعبادة والأعمال الصالحة لتعويض الغفلة التي حدثت..(2/36)
وهناك طريقة أخرى للمحاسبة وهي محاسبة الأعضاء، ماذا فعلت برجلي ؟بيدي؟ بسمعي؟ ببصري ؟ بلساني ؟، المحاسبة على الأعضاء تعطي نتيجة فيكون الاستدراك بإشغال الأعضاء في طاعة الله، ثم المحاسبة على النوايا (ماذا أردت بعملي هذ ا؟ وما نيتي فيه؟.
والقلب من الأعضاء ولابد له من محاسبة خاصة لصعوبة المحاسبة في النوايا لأنها كثيراً ما تتقلب فسمّي القلب قلباً من تقلّبه..
وينبغي للعبد كما أن له في أول نهاره توصية لنفسه بالحق أن يكون له في آخر نهاره ساعة يطالب نفسه فيها ويحاسبها على جميع حركاتها وسكناتها كما يفعل التجار في الدنيا مع الشركاء.
(فينبغي للعبد أن يحاسب نفسه مثل محاسبة الشريك الشحيح لشريكه ، وهي صفة مهمة للمحاسبة؛ أن الإنسان يدقق مع نفسه ويفتّش الأمور تفتيشاً بالغاً، فقد يتناسى أشياء وهي خطيرة، ومع النفس لا تصلح المسامحة [ رحم الله امرءاً سمحاً إذا باع سمحاً إذا اشترى سمحاً إذا قضى سمحاً إذا اقتضى ]، نعم يفوّت للناس ولكن مع نفسه لا يفوّت..! فينبغي أن يكون هناك تدقيق زائد للنفس إذا أراد صلاحها .
(ومعاقبة النفس على التقصير مهمة بإلزامها بالفرائض والواجبات والمستحبات بدلاً من المحرمات التي ارتكبتها،والعجب أن الإنسان يمكن أن يعاقب عبده وأمته وأهله وخادمته وسائقه والموظف عنده على سوء الخلق والتقصير ولكن لا يعاقب نفسه على ما صدر عن نفسه من سوء العمل .
مسألة : ما هي العقوبات ، في قولنا يعاقب نفسه على التقصير ؟
الجواب :اسم العقوبات فيها تسامح وتجوّز، العقوبات المقصود منها أنك تلزم نفسك بطاعات، ولنضرب لذلك أمثلة من السلف كيف كانوا يعاقبون أنفسهم:
(عاقب عمر بن الخطاب رضي الله عنه نفسه حين فاتته صلاة العصر في جماعة بأن تصدّق بأرض قيمتها مائتي ألف درهم!!(2/37)
(ابن عمر رضي الله عنهما كان إذا فاتته صلاة في جماعة أحيا تلك الليلة كلها، وأخّر ليلة صلاة المغرب حتى طلع كوكبان فاعتق رقبتين مع أن وقت الصلاة لم يخرج..!!
(ابن أبي ربيعة فاتته ركعتا سنة الفجر فأعتق رقبة!!
والتقصير عند السلف من أصحاب النفوس العالية ليس ترك واجب أو فعل محرم ، لكن تقصير في واجب و مستحب، أي فوات طاعة مثلاً أو أذكار وأوراد، والمعاقبة بأن يضاعف الأذكار والأوراد .
والنفس لا تستقيم إلا أن تُجَاهد وتُحَاسَب و تُعَاقَب..، ومما يعين على معاقبة النفس أو إرغام النفس على استدراك النقص؛ التأمُّل في أخبار المجتهدين . وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة : (
(حديث عبد الله بن عمرو الثابت في صحيح أبي داود) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من قام بعشر آيات لم يكتب من الغافلين و من قام بمائة آية كتب من القانتين و من قام بألف آية كتب من المقنطرين .
ومن تأمل في حال السلف وماذا كانوا يفعلون مع ندرة النماذج هذه في هذا الزمان لعله يقود إلى معاقبة النفس بإلزامها بمزيد من العبادات والمستحبات إذا قصّرت..
[*] قالت امرأة مسروق : ما كان يوجد مسروق إلا وساقاه منتفختان من طول الصلاة، والله إن كنت لأجلس خلفه فأبكي رحمة له.
[*] وقال أبو الدرداء : لولا ثلاث ما أحببت العيش يوماً واحداً ، الظمأ لله بالهواجر ، والسجود لله في جوف الليل، ومجالسة قوم ينتقون أطايب الكلام كما ينتقى أطايب الثمر.
[*] وأم الربيع كانت تشفق على ولدها من كثرة بكائه وسهره في العبادة فنادته(يا بني لعلك قتلت قتيلاً) قال(نعم يا أماه) قال(فمن هو حتى نطلب أهله فيعفو عنك، فو الله لو يعلمون ما أنت فيه لرحموك وعفوا عنك) قال( يا أماه..هي نفسي!!).(2/38)
[*] قال القاسم بن محمد : غدوت يوماً وكنت إذا غدوت بدأت بعائشة رضي الله عنها أسلم عليها، فغدوت يوماً إليها فإذا هي تصلّي الضحى وهي تقرأ ( فمن ّ الله علينا ووقانا عذاب السموم ) وتبكي وتدعو وتردد الآية وقمت حتى مللت وهي كما هي فلما رأيت ذلك ذهبت إلى السوق فلما فرغت من حاجتي رجعت إليها فوجدتها كما هي ففرغت ورجعت وهي تردد الآية وتبكي وتدعو!
هذه القلوب، سريعة الذنوب، لابد من قرعها ومطالعة ما فيها،
(ومن قواعد المحاسبة توبيخ النفس : لأنها مادامت أمارة بالسوء فتحتاج إلى شدة وتوبيخ والله أمر بتزكيتها وتقويمها ، فهي تحتاج إلى سلاسل ولا تنقاد إلا بسلاسل القهر إلى العبادة ولا تمتنع عن الشهوات إلا بهذه السلاسل ولا تنفطم عن اللذات إلا بهذا الحزم معها، فإن أهملت نفسك جمحت وشردت وإن لازمتها بالتوبيخ والمعاتبة والملامة كانت هي النفس اللوامة ويُرجى أن ترتقي بعد ذلك إلى النفس المطمئنة.
كيف يحاسب الإنسان نفسه ؟ بماذا يذكر نفسه؟ بنقصها..بخستها ودناءتها وما تدعو إليه من الحرام وترك الواجب والتفريط في حق الله..
(الأدلة على مشروعية المحاسبة :
قال تعالى: (يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اتّقُواْ اللّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مّا قَدّمَتْ لِغَدٍ وَاتّقُواْ اللّهَ إِنّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلاَ تَكُونُواْ كَالّذِينَ نَسُواْ اللّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُولََئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [ الحشر : 19] تنظر أي تفكر وتتفكر.(2/39)
[*] يقول الشيخ عبد الرحمن بن سعدي – رحمه الله - : يأمر الله تعالى عباده المؤمنين بما يوجبه الإيمان ويقتضيه من لزوم تقواه سراً وعلانية في جميع الأحوال وأن يراعوا ما أمرهم الله به من أوامره وحدوده وينظروا مالهم وما عليهم وماذا حصلوا عليه من الأعمال التي تنفعهم أو تضرهم يوم القيامة فإنهم إذا جعلوا الآخرة نصب أعينهم وقبلة قلوبهم واهتموا للمقام بها اجتهدوا في كثرة الأعمال الموصلة إليها وتصفيتها من القواطع والعوائق التي توقف عن السير أو تعوقهم أو تصرفهم، وإذا علموا أن الله خبير بما يعملون لا تخفى عليه أعمالهم ولا تضيع لديه ولا يهملها أوجب لهم الجد والاجتهاد.
(وقال الشيخ عن هذه الآية: وهذه الآية الكريمة أصل في محاسبة العبد نفسه وأنه ينبغي له أن يتفقدها فإن رأى زللاً تداركه بالإقلاع عنه والتوبة النصوح والإعراض عن الأسباب الموصلة إليه وإن رأى نفسه مقصراً في أمر من أوامر الله بذل جهده واستعان بربه في تتميمه وتكميله وإتقانه ويقايس بين منن الله عليه وبين تقصيره هو في حق الله فإن ذلك يوجب الحياء لا محالة، والحرمان كل الحرمان أن يغفل العبد عن هذا الأمر ويشابه قوماً نسوا الله وغفلوا عن ذكره والقيام بحقه وأقبلوا على حظوظ أنفسهم وشهواتها فلم ينجحوا ولم يحصلوا على طائل بل أنساهم الله مصالح أنفسهم وأغفلهم عن منافعها وفوائدها فصار أمرهم فرطاً فرجعوا بخسارة الدارين وغبنوا غبناً لا يمكن تداركه ولا يجبر كسره لأنهم هم الفاسقون.
وقد قال تعالى في كتابه العزيز : ( وَتُوبُوَاْ إِلَى اللّهِ جَمِيعاً أَيّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ) [ النور: 31]، فإذاً ينبغي على العبد أن ينظر في حاله ويحاسبها ويتوب من التقصير فالمحاسبة تقود إلى التوبة قال تعالى: (إِنّ الّذِينَ اتّقَواْ إِذَا مَسّهُمْ طَائِفٌ مّنَ الشّيْطَانِ تَذَكّرُواْ فَإِذَا هُم مّبْصِرُونَ) [ الأعراف : 201](2/40)
ولا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يحاسب نفسه أشد من محاسبة شريكه(( والشريكان يتحاسبان عند نهاية العمل))، ورُوي عن عائشة رضي الله عنها أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال لها عند الموت :[ماأحد من الناس أحب إليّ من عمر]، ثم قال : كيف قلت؟ فأعادت عليه كلامه، فقال: [لا أحد أعزّ عليّ من عمر]. فانظر كيف نظر بعد الفراغ من الكلمة فتدبرها وأبدلها بكلمة أخرى لأنه رآها أنسب وأحسن وأدق وأصدق..
[*] قال الحسن البصري رحمه الله: [ المؤمن قوّام على نفسه يحاسبها لله وإنما خفّ الحساب على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا، وإنما شقّ الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة] ثم قال: [ المؤمن يفجأه الشيء يعجبه فيقول والله إنك تعجبني وإنك من حاجتي ولكن هيهات !حيلي بيني وبينك!]، هذا نموذج من الحساب لشيء يعرض للإنسان مزيّن ويعجبه وتميل إليه نفسه ولكنه يتركه لأنه ليس من مصلحته في الآخرة ، [ ويفرط منه الشيء فيرجع إلى نفسه فيقول ماذا أردتِ بهذا؟!!]، يفرط أي يسبق ويحصل ويقع.
قال أنس بن مالك رضي الله عنه سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوماً وقد خرج وخرجت معه حتى دخل حائطاً فسمعته يقول بيني وبينه جدار[ يا أمير المؤمنين!بخٍ!بخٍ!والله لتتقين الله أو ليعذبنّك!]، فهو يذكر نفسه بأن هذا اللقب أمير المؤمنين لا يغني عنه من الله شيئاً..
[*] قال الحسن البصري رحمه الله في قوله تعالى: ((ولا أقسم بالنفس اللوامة)): [ لا يلقى المؤمن إلا وهو يعاتب نفسه، ماذا أردت بكلمتي؟ماذا أردت بأكلتي؟ماذا أردت بشربتي؟والفاجر يمضي قدماً لا يعاتب نفسه].
[*] وقال مالك بن دينار رحمه الله : رحم الله عبداً قال لنفسه ألستِ صاحبة كذا ؟ ألست صاحبة كذا؟ألست صاحبة كذا؟ ثم ذمّها ثم خطمها ثم ألزمها كتاب الله تعالى فكان لها قائداً. وهذا من حساب النفس.
[*] وقال ميمون بن مهران: [ التقي أشد محاسبة لنفسه من سلطان غاشم ومن شريك شحيح].(2/41)
[*] وقال إبراهيم التميمي: [مثلت نفسي في الجنة آكل من ثمارها وأشرب من أنهارها وأعانق أبكارها ثم مثلت نفسي في النار آكل من زقومها وأشرب من صديدها وأعالج سلاسلها وأغلالها فقلت لنفسي : يا نفس أي شيء تريدين؟قالت: أريد أن أرد إلى الدنيا فأعمل صالحاً، قال:فأنتِ في الأمنية فاعملي إذاً لتكوني في الجنة في ذلك النعيم].
[*] قال ابن القيم في إغاثة اللهفان: [إن سائر أمراض القلب إنما تنشأ من جانب النفس فالمواد الفاسدة كلها إليها تنصبّ ثم تنبعث منها إلى الأعضاء وأول ما تنال القلب].
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في خطبة الحاجة: (( الحمد لله نستعينه ونستهديه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا)) كما في الحديث الآتي : (
(حديث ابن مسعود الثابت في صحيح السنن الأربعة) علمنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطبة الحاجة ( الحمد لله نستعينه ونستغفره ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ثم يقرأ ثلاث آيات
*يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون >! !<
* يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا >! !<
* يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون >! !< يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما >!
وقد استعاذ صلى الله عليه وسلم من شرها عموماً ومن شر ما يتولد منها من الأعمال ومن شر ما يترتب على ذلك من المكاره والعقوبات وجمع الاستعاذة من سيئات النفس وسيئات الأعمال فهذا معناه أن هناك أمرين:
(1) أعوذ بك من هذا النوع من الأعمال.(2/42)
(2) المراد به عقوبات الأعمال التي تسوء صاحبها.
فاستعاذ من صفة النفس وعملها أو استعاذ من العقوبات وأسبابها ويدخل العمل السيء في شر النفس لأن النفس الشريرة تولد سيء العمل فاستعاذ منهما جميعاً..
وهذا العمل الذي يسوء صاحبه يوم القيامة وهذه النفس الشريرة التي تأمر بسيء العمل؛لابد من محاسبتها وقد اتفق السالكون إلى الله على اختلاف طرقهم وتباين سلوكهم على أن النفس قاطعة بين القلب وبين الوصول إلى الرب وأن لا يُدخل على الله سبحانه ولا يوصل إليه إلا بعد الظفر بالنفس وكفها عن الشر فإن الناس قسمين:
القسم الأول : قسم ظفرت به نفسه فملكته وأهلكته وصار طوعاً لنفسه الشريرة الأمّارة بالسوء تحت أوامرها ويعمل على هواها.
القسم الثاني : قسم ظفروا بأنفسهم فقهروها فصارت طوعاً لهم منقادة لأمرهم.
قال بعض أهل الإيمان والحكمة: (( انتهى سفر الطالبين إلى الظفر بأنفسهم فمن ظفر بنفسه؛ أفلح وأنجح، ومن ظفرت به نفسه خسِر وهلك)).
قال الله تعالى :
{ فَأَمَّا مَن طَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى } ( النازعات: الآية : 37-41 ) .
ومن لم يحاسب نفسه فاته من الخير بقدر ما فاته من المحاسبة ولذلك على المسلم أن يصون نفسه عن المحرمات ويبتعد عن الشبهات ولا سيما أهل العلم فمن لم يصن نفسه بهذا لم ينفعه علمه لأن العلم للعمل كالسلاح للمجاهد فإذا لم يستعمله ماذا يفيده؟!، وكالأطعمة المدخرة للجائع إذا لم يأكل منها فبماذا تنفعه؟!
يحاول نيل المجد والسيف مغمدٌ : ويأمل إدراك العُلا وهو نائم!(2/43)
والحاصل : أنه بدون محاسبة لا يمكن الوصول والذي لا يصون نفسه عن ما يخرم المروءة وعن ما يُكره بعد ما يصونها عن الحرام فهذا إنسان هالك ، فصيانة النفس أصل الفضائل لأن من أهمل نفسه إتكالاً على العلم الذي عنده ( وهذه آفة ينزلق إليها بعض طلبة العلم) ربما لا يحاسبون أنفسهم إتكالاً إلى العلم الذي عندهم فربما يكون هنا الجاهل أو العامي أفضل من هذه الجهة لأنهم يحسون أن أنفسهم قاصرة فيحاسبون ويفتشون ، أما بعض الناس الذي يطغيهم العلم فلا يحاسبون أنفسهم ويتكلون على العلم الذي معهم لأنه يرون به رفعة درجة فلماذا يحاسبون فيتركون الحساب والمحاسبة فتظهر القبائح والعورات فيكون الحسد منهم واتباع الهوى والتنازلات في الفتاوى والأخطاء.
فلذلك محاسبة العلماء لأنفسهم وطلبة العلم ينبغي أن تكون أشد ما تكون لأنه إن حاسب نفسه انتفع ونفع الناس وإذا ترك محاسبة نفسه ضلّ وأضلّ، الجاهل لا يقتدي به أحد، لكن هذا الذي ينصب نفسه قدوة في الدعوة والعلم ثم لا يحاسب نفسه يُهلك..!
أيها العالم إياك الزلل ... واحذر الهفوةَ والخطبَ الجلل
هفوة العالم مستعظمة ... إذ بها أصبح في الخلق مثل!
وعلى زلّته عمدتهم ... فبها يحتج بها من أخطأ وزلّ
لاتقل يستر عليّ العلم زلّتي ... بل بها يحصل في العلم خلل
إن تكن عندك مستحقرة ... فهي عند الله والناس جبل
ليس من يتبعه العلم في ... كل ما دقّ من الأمر وجلّ
مثل من يدفع عنه جهله ... إن أتى فاحشة قيل قد جهل
انظر الأنجم مهما سقطت ... من رآها وهي تهوي لم يُبل
فإذا الشمس بدت كاسفة ... وَجِل الخلق لها كل الوجل
وتراءت نحوها أبصارهم ... في انزعاجٍ واضطرابٍ ووجل
وسرى النقص لهم من نقصها ... فغدت مظلمة منها السُبُل
وكذا العالِم في زلّته ... يفتن العالم طُرّاً و يُضِلّ!(2/44)
فنحن نرى الآن نماذج كثيرة من إضلال بعض هؤلاء في الفتاوى المتساهلة لأنهم لا يحاسبون أنفسهم وبالتالي يقعون في المزالق وما استقطبهم أهل الشر إليه من الأفخاخ التي نصبوها لهم فقعوا فيها وجاملوا على حساب الدين..
فينبغي على كل الناس أن يحاسبوا أنفسهم الذين عندهم علم والذين ليس لديهم علم، فالذي لديه علم يحاسب نفسه هل عمل به؟وهل هو يقوم به لله؟ وهل يبلغه؟أم يكتمه؟ وهل هو مقصّر فيه؟ وهل عبد ربه به؟وهل بذله للناس صحيحاً أم راعة أهواء بعض القوم فسهّل لهم أشياء بزعمه؟، أما صاحب الجهل فيحاسب نفسه، كيف يعبد الله على جهل؟متى يزيل الجهل؟كيف يزيله؟إلى متى يبقى؟كيف يتعلم؟ وبماذا يبدأ.... وهكذا..
والنفس تدعو إلى الطغيان وإيثار الحياة الدنيا، والرب يدعو العبد إلى خوفه ونهي النفس عن الهوى والقلب بين الداعيين، يميل إلى هذا الداعي مرة وإلى هذا مرة وهذا موضع الابتلاء والمحنة..
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه كلاماً مشهوراً محذراً من الإهمال في محاسبة النفس وأنه يقود إلى الهلاك يوم القيامة : [ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوا أنفسكم (أعمالكم) قبل أن توزنوا فإنه أهون عليكم في الحساب غداً أن تحاسبوا أنفسكم اليوم]، وقال صلى الله عليه وسلم : ((من نوقش الحساب عُذِّب))، فكيف يتلافى المرء مناقشة الحساب غداً؟!!، بمحاسبة النفس اليوم.
والحساب اليسير صاحبه ناجٍ وسينقلب إلى أهلها مسروراً، أما حاسبناها حساباً شديداً وعذبناها عذاباً نكراً فهذا الحساب الشديد نتيجة عدم المحاسبة الآن..
وتزينوا للعرض الأكبر((يومئذٍِ تعرضون لا تخفى منكم خافية))، فقال الحسن رحمه الله : (( لا تلقى المؤمن إلا ويحاسب نفسه ، ماذا أردتِ تعملين؟ماذا أردتِ تشربين؟ماذا أردتِ تأكلين؟))، وقال قتادة في قوله (وكان أمره فرطاً): [ أضاع نفسه وغُبِن]، يحفظ ماله ويضيع دينه!(2/45)
قال الحسن: « إن العبد لايزال بخير ما كان له واعظ من نفسه وكانت المحاسبة من همته».
ويوجد واعظ في قلب كل مسلم إذا أراد أن يدخل في باب حرام قال: ويلك لا تفتحه، إنك إن تفتحه تلجه!، لا تزح الستار عن باب الحرام، إنك لو نظرت انجذبت، ويلك لا تفتحه، إنك إن تفتحه تلجه!..
قال ميمون بن مهران: « النفس كالشّريك الخوّان إن لم تحاسبه؛ ذهب بمالك! ».
المحاسبة وقت الرخاء سهلة بالنسبة للمحاسبة في وقت الشدة، فرحم الله عبداً قال لنفسه ألستِ صاحبة كذا وكذا؟! هذا نوع من الحساب على المعاصي ، وحساب على النوايا كقولك ماذا أردتِ بالعمل والأكلة والشربة..
( أهمية محاسبة النفس :
[*](قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين :
وفي هذه المنزلة يحتاج السالك إلى تمييز ما له مما عليه ليستصحب ما له ويؤدى ما عليه وهو (المحاسبة) وهي قبل (التوبة) في المرتبة .
(وقال أيضاً رحمه الله تعالى :
ومن منزلة (المحاسبة) يصح له نزول منزلة (التوبة) لأنه إذا حاسب نفسه عرف ما عليه من الحق فخرج منه وتنصل منه إلى صاحبه وهي حقيقة التوبة فكان تقديم (المحاسبة) عليها لذلك أولى.
ولتأخيرها عنها وجه أيضا وهو أن (المحاسبة) لا تكون إلا بعد تصحيح التوبة.
والتحقيق : أن التوبة بين محاسبتين محاسبة قبلها تقتضي وجوبها ومحاسبة بعدها تقتضي حفظها فالتوبة محفوفة بمحاسبتين وقد دل على المحاسبة قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَد} [الحشر: 18] فأمر سبحانه العبد أن ينظر ما قدم لغد وذلك يتضمن محاسبة نفسه على ذلك والنظر هل يصلح ما قدمه أن يلقى الله به أو لا يصلح؟.(2/46)
والمقصود من هذا النظر: ما يوجبه ويقتضيه من كمال الاستعداد ليوم المعاد وتقديم ما ينجيه من عذاب الله ويبيض وجهه عند الله وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا وتزينوا للعرض الأكبر {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} أو قال: "على من لا تخفى عليه أعمالكم".انتهى .
(ومن هنا يتضح أنه حق على الحازم المؤمن بالله واليوم الآخر ألا يغفل عن محاسبة نفسه والتضييق عليها في حركاتها وسكناتها وخطراتها وخطواتها، فكل نَفَس مِنْ أنفاس العمر جوهرة نفيسة يمكن أن يشتري بها كنز من الكنوز لا يتناهى نعيمه أبد الآباد. فإضاعة هذه الأنفاس، أو اشتراء صاحبها ما يجلب هلاكه خسران عظيم، لا يسمح بمثله إلا أجهل الناس وأحمقهم وأقلهم عقلاً، وإنما يظهر له حقيقة هذا الخسران يوم التغابن يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا [آل عمران:30]
، إن محاسبة النفس هو طريق استقامتها، وكمالها، وفلاحها، وسعادتها، يقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر:18]
[*] قال ابن كثير في تفسيره: وقوله: وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ أي حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وانظروا ماذا ادّخرتم لأنفسكم من الأعمال الصالحة ليوم معادكم وعرضكم على ربكم.
[*] وروى الإمام أحمد في كتاب الزهد عن عمر بن الخطاب أنه قال: ( حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا، فإنه أهون عليكم في الحساب غداً، أن تحاسبوا أنفسكم اليوم، وتزيّنوا للعرض الأكبر يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ [الحاقة:18] ،(2/47)
[*] ونقل ابن القيم عن الحسن أنه قال: ( المؤمن قوّام على نفسه يحاسب نفسه لله، وإنما خفّ الحساب يوم القيامة على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا، وإنما شقّ الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة ).
[*] وقال وهب فيما ذكره الإمام أحمد رحمه الله: ( مكتوب في حكمةآل داود: حق على العاقل، أن لا يغفل عن أربع ساعات: ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يخلو فيها مع إخوته الذين يخبرونه بعيوبه ويَصدقونه عن نفسه، وساعة يتخلى فيها بين نفسه وبين لذاتها فيما يحل ويجمل، فإن في هذه الساعة عوناً على تلك الساعات وإجماماً للقلوب ).
[*] وقال ميمون بن مهران: ( لا يكون العبد تقياً حتى يكون لنفسه أشد محاسبة من الشريك لشريكه ولهذا قيل: النفس كالشريك الخوّان إن لم تحاسبه ذهب بما لك .
[*] وكتب عمر بن الخطاب إلى بعض عماله: ( حاسب نفسك في الرخاء قبل حساب الشدة، فإن من حاسب نفسه في الرخاء قبل حساب الشدة عاد أمره إلى الرضى والغبطة، ومن ألهته حياته وشغلته أهواؤه عاد أمره إلى الندامة والخسارة ) [أخرجه البيهقي في الوهد وابن عساكر].
[*] ونقل ابن الجوزي في ذم الهوى عن السلمي قال: سمعت أبا الحسين الفارسي يقول: سمعت أبا محمد الحريري يقول: من استولت عليه النفس صار أسيراً في حكم الشهوات محصوراً في سجن الهوى. وحرَّم الله على قلبه الفوائد، فلا يستلذ كلامه ولا يستحليه، وإن كثر ترداده على لسانه .(2/48)
[*] وقال الشيخ عبد العزيز السلمان رحمه الله في كتابه موارد الظمآن: ( فإذا علم أنه مناقش في الحساب عن مثاقيل الذر، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة أحوج ما يكون إلى الحسنات، وغفران السيئات، تحقق أنه لا ينجيه من هذه الأخطار إلا إعتماده على الله، ومعونته على محاسبة نفسه ومراقبتها ومطالبتها في الأنفاس والحركات، ومحاسبتها في الخطرات واللحظات، فمن حاسب نفسه قبل أن يحاسب خف في القيامة حسابه وحضر عند السؤال جوابه وحسن متقلبه ومآبه.
[*] قال ابن قدامة في منهاج القاصدين: واعلم أن أعدى عدو لك نفسك التي بين جنبيك، وقد خلقت أمارة بالسوء، مَيَّالَةً إلى الشر، وقد أُمِرْتَ بتقويمها وتزكيتها وفطامها من مواردها وأن تقودها بسلاسل القهر إلى عبادة ربها، فإن أهملتها جمحت وشردت ولم تظفر بها بعد ذلك وإن لزمتها بالتوبيخ رجونا أن تصير مطمئنة، فلا تغفلن من تذكيرها.
[*] كان توبة بن الصمة من المحاسبين لأنفسهم فحسب يوماً، فإذا هو ابن ستين سنة، فحسب أيامها، فإذا هي أحد وعشرون ألف يوم وخمسمائة يوم، فصرخ وقال: يا ويلتي! ألقى ربي بأحد وعشرين ألف ذنب؟ كيف وفي كل يوم آلاف من الذنوب؟ ثم خر مغشياً عليه، فإذا هو ميت، فسمعوا قائلاً يقول: يا لك ركضة إلى الفردوس الأعلى .
{ تنبيه } :(ومن أنفع فوائد المحاسبة «الاطلاع على عيوب النفس ومقتها في جنب الله تعالى» .
[*](قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه إغاثة اللهفان :
وفى محاسبة النفس عدة مصالح منها:
الاطلاع على عيوبها، ومن لم يطلع على عيب نفسه لم يمكنه إزالته، فإذا اطلع على عيبها مقتها في ذات الله تعالى .
[*](روى الإمام أحمد عن أبى الدرداء رضي الله عنه قال: "لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يمقت الناس في جنب الله، ثم يرجع إلى نفسه فيكون لها أشد مقتا".
[*](وقال مُطرِّف بن عبد الله: "لولا ما أعلم من نفسي لقَليْتُ الناس".(2/49)
[*](وقال مصرف في دعائه بعرفة: "اللهم لا ترد الناس لأجلى".
[*](وقال بكر بن عبد الله المزني: "لما نظرت إلى أهل عرفات ظننت أنهم قد غفر لهم، لولا أني كنت فيهم".
[*](وقال أيوب السختياني: "إذا ذكر الصالحون كنتُ عنهم بمعزل".
[*](ولما احتضر سفيان الثوري دخل عليه أبو الأشهب، وحماد بن سلمة، فقال له حماد: "يا أبا عبد الله، أليس قد أمنت مما كنت تخافه؟ وتقدم على من ترجوه، وهو أرحم الراحمين، فقال: يا أبا سلمة، أتطمع لمثلي أن ينجو من النار؟ قال: إي والله، إني لأرجو لك ذلك".
[*](وذكر زيد عن مسلم بن سعيد الواسطي قال: أخبرني حماد بن جعفر بن زيد: أن أباه أخبره قال: "خرجنا في غزاة إلى كابل، وفى الجيش: صِلة بن أشيم، فنزل الناس عند العتمة، فصلوا ثم اضطجع فقلت: لأرمقن عمله، فالتمس غفلة الناس، حتى إذا قلت: هدأت العيون وثب فدخل غيضة قريبا منا، فدخلت على أثره، فتوضأ، ثم قام يصلي، وجاء أسد حتى دنا منه، فصعدت في شجرة فتراه التفت أو عده جروا؟ فلما سجد قلت: الآن يفترسه، فجلس ثم سلم ثم قال: أيها السبع، اطلب الرزق من مكان آخر. فولى وإن له لزئيرا، أقول: تصدع الجبال منه. قال فما زال كذلك يصلي حتى كان عند الصبح جلس، فحمد الله تعالى بمحامد لم أسمع بمثلها، ثم قال: اللهم إني أسألك أن تجيرني من النار، ومثلي يصغر أن يجترئ أن يسألك الجنة، قال: ثم رجع وأصبح كأنه بات على الحشايا، وأصبحت وبي من الفترة شيء الله به عالم".
[*](وقال يونس بن عبيد: "إني لأجد مائة خصلة من خصال الخير ما أعلم أن في نفسي منها واحدة".
وقال محمد بن واسع: "لو كان للذنوب ريح ما قدر أحد يجلس إلى".(2/50)
[*](وذكر ابن أبى الدنيا عن الخلد بن أيوب قال: "كان راهب في بنى إسرائيل فى صومعة منذ ستين سنة. فأتِيَ في منامه. فقيل له: إن فلانا الإسكافي خير منك- ليلة بعد ليلة- فأتى الإسكافي، فسأله عن عمله. فقال: إني رجل لا يكاد يمر بى أحد إلا ظننته أنه فى الجنة وأنا فى النار، ففضل على الراهب بإزرائه على نفسه".
[*](وذكر داود الطائي عند بعض الأمراء؛ فأثنوا عليه فقال: "لو يعلم الناس بعض ما نحن فيه ما ذل لنا لسان بذكر خير أبدا".
[*](وقال أبو حفص : "من لم يتهم نفسه على دوام الأوقات ولم يخالفها في جميع الأحوال، ولم يجرها إلى مكروهها فى سائر أوقاته، كان مغرورا، ومن نظر إليها باستحسان شيء منها فقد أهلكها".
(وقال أيضاً رحمه الله تعالى :
ومقت النفس في ذات الله من صفات الصديقين، ويدنو العبد به من الله سبحانه في لحظة واحدة أضعاف أضعاف ما يدنو به بالعمل.
[*](ذكر ابن أبي الدنيا عن مالك بن دينار قال: "إن قوما من بني إسرائيل كانوا في مسجد لهم في يوم عيد، فجاء شاب حتى قام على باب المسجد، فقال: ليس مثلي يدخل معكم، أنا صاحب كذا، أنا صاحب كذا؛ يزري على نفسه، فأوحى الله عز وجل إلى نبيهم: إن فلانا صديق".
[*](وأورد الإمام أحمد عن وهب: "أن رجلا سائحا عبد الله عز وجل سبعين سنة. ثم خرج يوما فقلل عمله وشكا إلى الله تعالى منه. واعترف بذنبه فأتاه آت من الله عز وجل فقال: إن مجلسك هذا أحب إلي من عملك فيما مضى من عمرك".
قال أحمد: وحدثنا عبد الصمد، أبو هلال، عن قتادة قال: قال عيسى ابن مريم عليه السلام: "سلوني، فإني لين القلب، صغير عند نفسي".
[*](وذكر أحمد أيضا عن عبد الله بن رباح الأنصاري قال "كان داود عليه السلام ينظر أغمص حلقة في بني إسرائيل فيجلس بين ظهرانيهم، ثم يقول: يا رب مسكين بين ظهراني مساكين".(2/51)
[*](وذكر عن عمران بن موسى القصير قال: قال موسى عليه السلام: "يا رب أين أبغيك؟ قال: ابغنى عند المنكسرة قلوبهم، فإني أدنو منهم كل يوم باعا، ولولا ذلك انهدموا".
[*](وفى كتاب الزهد للإمام أحمد: "أن رجلا من بنى إسرائيل تعبد ستين سنة في طلب حاجة. فلم يظفر بها. فقال في نفسه: والله لو كان فيك خير لظفرت بحاجتك، فأتى في منامه، فقيل له: أرأيت ازدراءك على نفسك تلك الساعة؟ فإنه خير من عبادتك تلك السنين".
(ومن فوائد محاسبة النفس : أنه يعرف بذلك حق الله تعالى عليه . ومن لم يعرف حق الله تعالى عليه فإن عبادته لا تكاد تجدي عليه، وهى قليلة المنفعة جدا.
[*](أورد الإمام أحمد عن وهب قال: "بلغني أن نبي الله موسى عليه السلام مر برجل يدعو ويتضرع، فقال: يا رب ارحمه، فإني قد رحمته، فأوحى الله تعالى إليه: لو دعاني حتى تنقطع قواه ما استجيب له حتى ينظر في حقي عليه".
فَمِنْ أنفع ما للقلب النظر في حق الله على العبد. فإن ذلك يورثه مقت نفسه، والإزدراء عليها، ويخلصه من العجب ورؤية العمل، ويفتح له باب الخضوع والذل والانكسار بين يدي الله، واليأس من نفسه، وأن النجاة لا تحصل له إلا بعفو الله ومغفرته ورحمته، فإن من حقه «أن يطاع ولا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر» .
فمن نظر في هذا الحق الذي لربه عليه علم عِلْمَ اليقين أنه غير مؤد له كما ينبغي، وأنه «لا يسعه إلا العفو والمغفرة » ، وأنه إن أحيل على عمله هلك.
فهذا محل نظر أهل المعرفة بالله تعالى وبنفوسهم، وهذا الذي أيأسهم من أنفسهم، وعلق رجاءهم كله بعفو الله ورحمته.
وإذا تأملت حال أكثر الناس وجدتهم بضد ذلك، ينظرون في حقهم على الله، ولا ينظرون في حق الله عليهم. ومن هاهنا انقطعوا عن الله، وحجبت قلوبهم عن معرفته، ومحبته، والشوق إلى لقائه، والتنعم بذكره، وهذا غاية جهل الإنسان بربه وبنفسه.(2/52)
فمحاسبة النفس هو نظر العبد في حق الله عليه أولا، ثم نظره هل قام به كما ينبغي ثانيا؟ وأفضل الفكر الفكر في ذلك؛ فإنه يُسَيِّر القلبَ إلى الله ويطرحه بين يديه ذليلا خاضعًا منكسراً كسراً فيه جبره، ومفتقرًا فقراً فيه غناه. وذليلاً ذلاً فيه عزه، ولو عمل من الأعمال ما عساه أن يعمل؛ فإذا فاته هذا فالذي فاته من البر أفضل من الذي أتى.(2/53)
(إخواني حاسبوا أنفسكم قبل الحساب ، وأعدوا للسؤال جواب ، وللجواب صواب ، واحفظوا بالتقوى بِتَقْوَى اللهِ الملك العَلام الحَيِّ القَيُّومِ الذي لا يَنَامُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ أَحْسَنَ فَعَلَيْهِ بالتمام ، وَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ أساء فَلْيَخْتِم بالحسنى ، فالعمل بالختام ، أَما أَوضح لكم الطريق المُوصِلَ إلى دَارِ السلام ، أَما بعث إليكم مُحَمَّدًا - صلى الله عليه وسلم - لتبليغ الشَّرَائِعَ وَالأحْكَامِ ، أَما أَنْزَلَ عَلَيْهِ الذِّكْرَ لِيُبَيّنَ لِلنَّاسِ مَا أَوْدَعَهُ فِيهِ مِنْ الأَحْكَام ، أَمَا دَعَاكُمْ إِلى التَّوَكّلِ عَلَيْهِ وَالاعْتِصَامِ ، أَمَّا حَثَّكُم إلى العَمَلَ فِيمَا يُقَرِّبُ إلى دَارِ السَّلامِ ، أَمَّا حَذَّرَكُمْ عَوَاقِبَ مَعَاصِيهِ وَنَهَاكُمْ عَنْ الآثَامِ ، أَمَا أنْذَركُم هَوْلَ يَوْمٍ أَطْوَلَ الأَيَّامِ ، اليَوْمُ الذي يَشِيبُ فِيهِ الوِلْدَانْ ، وَتَنْفَطِرُ فِيهِ السَّمَاءُ ، وَتَنْكَدِرُ فِيهِ النُّجُومِ ، وَتَظْهَرُ فِيهِ أَمُورٌ عِظَامٌ ، أَمَّا خَوَّفكمُ مَوَارِدُ الحَمَامِ ، أَمَا ذَكَّرَكُمْ مَصَارِعَ مَنْ قَبْلَكُمْ مِنْ الأَنَامِ ، أَمَا أَمَدَّكُم بالأبْصَارِ وَالأَسْمَاعِ وَصِحَّةِ الأَجْسَامِ ، أَمَا وَعَدَكَمُ بِقَبُولِ تَوْبَةِ التَّائِبِينَ رَحْمَةً مِنْهُ جَرَتْ بِهِ الأَقْلامُ ، فَوَاللهِ لَحُقَّ لِهَذَا الرَّبِ العَظِيمِ أَنْ يُطَاعَ فَلا يُعْصَى عَلَى الدَّوَامِ ، فَيَا أَيُّهَا الشُّيُوخُ بَادِرُوا فَمَا لِلزرْعِ إِذَا أَحْصَدَ إلا الصِّرَامُ ، وَيَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ جُدُّوا في العَمَلِ فُرَبُّ امْرئٍ مَا بَلَغَ التَّمَامَ ، وَاحْذَرُوا عِقَابَ رَبِّكُم يَوْمَ يُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ .(2/54)
( لله درُ أقوامٍ حبسوا النفوس في سجن المحاسبة، وبسطوا عليها ألسن المعاتبة، ومدوا نحوها أكف المعاقبة،وتحق لمن بين يديه المناقشة والمطالبة ،فارتفعت بالمعاتبة عيوبهم .
(مخاطرُ ترك المحاسبة :
إن غياب محاسبة النفس نذير غرق العبد في هواه، وما أردى الكفار في لجج العمى إلا ظنهم أنهم يمرحون كما يشتهون بلا رقيب، ويفرحون بما يهوون بلا حسيب، قال سبحانه عنهم: إِنَّهُم كَانُواْ لا يَرجُونَ حِسَاباً [النبأ:27]
والاطلاع على عيب النفس ونقائصها ومثالبها يلجمها عن الغي والضلال، ومعرفة العبد نفسه وأن مآله إلى القبر يورثه تذللاً وعبودية لله، فلا يُعجب بعمله مهما عظم، ولا يحتقر ذنباً مهما صغر، يقول أبو الدرداء رضي الله عنه: ( لا يتفقه الرجل كل الفقه حتى يمقت الناس في جنب الله، ثم يرجع إلى نفسه فيكون لها أشد مقتاً ) [أخرجه عبدالرزاق في المصنف:11/255، وابن أبي شيبة في المصنف:7/ 110)، والطبري في تفسيره:1/258، وأبو نعيم في الحلية:1/211]
يُحكى أن رجلاً كان يحاسب نفسه، فحسب يوماً سني عمره، فوجدها ستين سنة. فحسب أيامها، فوجدها واحداً وعشرين ألف يوم وخمسمائة يوم.
فصرخ صرخة، و خرّ مغشياً عليه. فلما أفاق قال: يا ويلتاه، أنا آتي ربي بواحد وعشرين ألف ذنب وخمسمائة ذنب؟!
يقول هذا لو كان يقترف ذنباً واحداً في كل يوم، فكيف بذنوب كثيرة لا تحصي؟
ثم قال: آه عليّ، عمرت دنياي، وخربت أخراي، وعصيت مولاي، ثم لا أشتهي النقلة من العمران إلى الخراب. وأنشد:
منازل دنياك شيّدتها *** وخرّبت دارك في الآخرة
فأصبحت تكرهها للخراب *** وترغب في دارك العامرة(2/55)
(أخي الحبيب : إذا جالست الناس فكن واعظاً لقلبك، فالخلق يراقبون ظاهرك، والله يراقب باطنك، ومن صحح باطنه في المراقبة والإخلاص زين الله ظاهره في المجاهدة والفلاح. والتعرف على حق الله وعظيم فضله ومنه وتذكر كثرة نعمه وآلائه يطأطىء الرأس للجبار جل وعلا، ويدرك المرء معه تقصيره على شكر النعم، وأنه لا نجاة إلا الرجوع إليه، وأن يطاع فلا يعصى، وأن يشكر فلا يكفر .
وإن أضرَّ ما على المكلف إهمال النفس وترك محاسبتها والاسترسال خلف شهواتها حتى تهلك، وهذا حال أهل الغرور الذين يغمضون عيونهم عن المعاصي ويتكلون على العفو، وإذا فعلوا ذلك سهُلت عليهم مواقعة الذنوب والأنس بها والله يقول: يَأَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الكَرِيمِ [الانفطار:6]، يقول الحسن البصري رحمه الله: ( لا يليق بالمؤمن إلا أن يعاتب نفسه فيقول لها: ماذا أردت بكلمتي؟ ماذا أردت بأكلتي؟ وأما الفاجر فيمضي قدماً لا يعاقب نفسه ) [أخرجه أحمد في الزهد:281، وعزاه في الدر المنثور:8/343 إلى عبد بن حميد وابن أبي الدنيا في محاسبة النفس].(2/56)
فالمؤمن قَوَّامٌ على نفسه يحاسبها، قال عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُم طَائِفٌ مِّنَ الشَّيطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبصِرُونَ [الأعراف:201] وإنما خف الحساب على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا، وشق الحساب على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة، فتوق الوقوع في الزلة، فترك الذنب أيسر من طلب التوبة، وأنبها على التقصير في الطاعات، فالأيام لا تدوم، ولا تعلم متى تكون عن الدنيا راحلاً، وخاطب نفسك قائلا : ماذا قَدَّمَت في عام أدبر؟ وماذا أعددت لعام أقبل؟ يقول الفاروق رضي الله عنه: ( حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا ) [أخرجه ابن المبارك في الزهد:103، وابن أبي شيبة في المصنف:7/ 96، وأبو نعيم في الحلبة:1/ 52، وعلق بعضه الترمذي في الرقاق:2459 بنحوه، وأورده الألباني في السلسلة الضعيفة:1201]
(أخي الحبيب : انتبه أخي من غفلتك وأفق من سُباتك العظيم فالليل والنهار يباعدان من الدنيا ويقربان إلى الآخرة، فكيف بك إذا دق ناقوس الرحيل، وتهيأ الركب للمسير، فوضعوا الزاد، وملئت المزاد ، أترضى أن تكون رفيق قومٍ لهم زادٌ وأنت بغير زاد ، فطوبى لعبد انتفع بعمره، وحاسب نفسه محاسبةَ الشريك الشحيح على ما مضى، فكل يوم تغرب فيه شمسه ينذرك بنقصان عمرك، والعاقل من اتعظ بأمسه، واجتهد في يومه، واستعد لغده، فخذ الأهبة لآزف النقلة، وأعد الزاد لقرب الرحلة، وخير الزاد التقوى، وأعلى الناس عند الله منزلة أخوفهم منه.سبحانه .
يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَلتَنظُر نَفسٌ مَّا قَدَّمَت لِغَدٍ وَاتَّقُواْ اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِير بِمَا تَعمَلُونَ [الحشر:18](2/57)
(أخي الحبيب : إن الليل و النهار رأس مال المؤمن؛ ربحها الجنة، وخسرانها النار. والسنة شجرة: الشهور فروعها، والأيام أغصانها، والساعات أوراقها، والأنفاس ثمارها. فمن كانت أنفاسه في طاعة؛ فثمرته شجرة طيبة، ومن كانت أنفاسه في في معصية؛ فثمرته حنظل والعياذ بالله، ومن زرع الشوك لا يجني عنباً .
[*] قال ابن مسعود رضي رضي الله عنه: إنكم في ممر من الليل والنهار، في آجال منقوصة، وأعمال محفوظة، والموت يأتي بغتة. فمن يزرع خير فيوشك أن يحصد رغبة، ومن زرع شراً فيوشك أن يحصد ندامة، ولكل زارع ما زرع.
[*] قال الحسن رحمه الله تعالى : ابن آدم، إنك بين مطيتين يوضعانك: الليل إلى النهار، والنهار إلى الليل، حتى يسلمانك إلى الآخرة. فمن أعظم خطراً منك؟.
ياهذا، إنك لم تزل في هدم عمرك منذ خرجت من بطن أمك. وإنما أنت أيام معدودة، كلما ذهب يوم ذهب بعضك.
[*] وسأل الفضيل رجلاً: كم أتت عليك؟ قال: ستون سنة. فقال: فأنت منذ ستين سنة تسير إلى ربك، ويوشك أن تبلغ. فقال الرجل: إنا لله وإنا إليه راجعون.
[*] وكان يزيد الرقاشي يقول لنفسه: ويحك يا يزيد، من ذا الذي يصلي عنك بعد الموت؟ من ذا الذي يصوم عنك بعد الموت؟ من ذا الذي يرضي ربك عنك بعد الموت؟ ثم يقول: أيها الناس، ألا تبكون وتنوحون على أنفسكم باقي حياتكم؟.
ولله در القائل:
إذا كنت أعلم علماً يقيناً *** بأن جميع حياتي كساعة
فلم لا أكون ضنيناً بها *** وأجعلها في صلاح وطاعة؟
طوبى لمن سمع ووعى، وحقق ما ادَّعى، ونهى النفس عن الهوى، وعلم أن الفائز من ارعوى، وأن ليس للإنسان إلا ما سعى، اللَّهُمَّ يا فالقَ الحب والنَّوَى ، يا مُنْشِئَ الأجْسَادِ بَعْدَ البلَى , وفقنا لحفظ الرأس وما وعى ، والبطن وما حوى وأن نتذكر الموت والبلى فنستحي من الله حق الحيا .
(والمحاسبة تصدر من التأمل في هذه النصوص :(2/58)
قال تعالى: (يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النّاسُ أَشْتَاتاً لّيُرَوْاْ أَعْمَالَهُمْ * فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرّةٍ خَيْراً يَرَهُ) [ الزلزلة 6: 7]
والمحاسبة انطلاقاً من آثار قوله تعالى: (يَوْمَ تَجِدُ كُلّ نَفْسٍ مّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدّ لَوْ أَنّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَاً بَعِيداً وَيُحَذّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَاللّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ) [ آل عمران : 30]
والمحاسبة تنطلق من الإيمان باليوم الآخر وأن الله يحاسب فيه الخلائق وقد حذرنا الله ذلك اليوم فقال تعالى: (وَاتّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمّ تُوَفّىَ كُلّ نَفْسٍ مّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ) [البقرة : 281]
والمحاسبة تنطلق من الإيمان بأسماء الله وصفاته وأنه تعالى الرقيب المهيمن المطّلع على ما تعمل كل نفس وأنه شهيد على أعمالنا فهو الشهيد على أعمال عباده، جعل علينا كراماً كاتبين يحصون أعمالنا قال تعالى: (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَوَيْلَتَنَا مَا لِهََذَا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِراً وَلاَ يَظْلِمُ رَبّكَ أَحَداً) [سورة: الكهف - الأية: 49]
والمحاسبة تنطلق من إيمان الإنسان بالهدف، بالغرض، أن يعلم أنه لأي شيء خُلِق قال تعالى: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ) [ المؤمنون : 115]
قال تعالى: (أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى) [ القيامة : 36](2/59)
(ومحاسبة النفس طريقة المؤمنين وسمة الموحدين وعنوان الخاشعين ، فالمؤمن متق لربه محاسب لنفسه مستغفر لذنبه ، يعلم أن النفس خطرها عظيم، وداؤها وخيم ، ومكرها كبير وشرها مستطير، فهي أمارة بالسوء ميالة إلى الهوى،داعية إلى الجهل، قائدة إلى الهلاك،توّاقة إلى اللهو إلا من رحم الله، فلا تُترك لهواها لأنها داعية إلى الطغيان ، من أطاعها قادته إلى القبائح ، ودعته إلى الرذائل،وخاضت به المكاره،تطلعاتها غريبة،وغوائلها عجيبة،ونزعاتها مخيفة، وشرورها كثيرة، فمن ترك سلطان النفس حتى طغى فإن له يوم القيامة مأوىً من جحيم قال تعالى: (فَأَمّا مَن طَغَىَ * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدّنْيَا * فَإِنّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَىَ * وَأَمّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ وَنَهَى النّفْسَ عَنِ الْهَوَىَ * فَإِنّ الْجَنّةَ هِيَ الْمَأْوَىَ ) [النازعات 37: 41]
(فوائد محاسبة النفس :
ولمحاسبة النفس فوائد عظيمة ومزايا جسيمة منها ما يلي : (
(1) الاطلاع على عيوب نفسه : ومن لم يطلع على عيوب نفسه لم يمكنه إزالتها ،والمرء حين يطّلع على عيوب نفسه يكتشف أشياء تدهشك ولا يفقه الرجل حتى يمقت نفسه ويحتقرها في جنب الله .
[*] قال أبو الدرداء: " لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يمقت الناس في جنب الله ، ثم يرجع إلى نفسه فيكون أشد لها مقتاً " .
[*] وكان بعض السلف يقول في دعائه في عرفة ( اللهم لا ترد الناس لأجلي)! ،
[*] وقال محمد بن واسع : لو كان للذنوب ريحٌ ما قدر أحد أن يجلس إلىّ .
مع أنه من كبار العباد في هذه الأمة .
[*] قال يونس بن عبيد: " إني لأجد مائة خصلة من خصال الخير ما أعلم أن في نفسى منها واحدة " .
[*] دخل حمّاد بن سلمة على سفيان الثوري وهو يحتضر فقال: ( يا أبا عبد الله أليس قد أمنت مما كنت تخافه وتقدم على من ترجوه وهو أرحم الراحمين؟!) قال: (يا أبا سلمة أتطمع لمثلي أن ينجو من النار) قال: (إي والله إني لأرجو لك ذلك).(2/60)
[*] وقال جعفر بن زيد: ( خرجنا في غزاة إلى كابل وفي الجيش صلة بن أشيم فنزل الناس عند العتمة فصلوا ثم اضطجع فقلت: لأرمقنّ عمله، فالتمس غفلة الناس فانسلّ وثبا فدخل غيظة (مجموعة أشجار ملتفة) قريب منا، فدخلت على أثره فتوضأ ثم قام يصلي فجاء أسد حتى دنا منه فصعدت في شجرة فتراه التفت إليه أو عدّه جرو! فلما سجد قلت الآن يفترسه فجلس ثم سلّم ثم قال: ( أيها السبع اطلب الرزق من مكان آخر)، فولّى وإن له زئيراً، فمازال كذلك يصلي حتى كان الصبح فجلس يحمد الله وقال: (اللهم إني أسألك أن تجيرني من النار ومثلي يستحي أن يسألك الجنة)! ثم رجع وأصبح وكأنه بات على حشاياً ، أما أنا فأصبح بي ما الله به عليم من هول ما رأيت!
[*] وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : (اللهم اغفر لي ظلمي وكفري)، فقال قائل: ( يا أمير المؤمنين هذا الظلم فما الكفر؟) قال: (إن الإنسان لظلوم كفّار)، فإذا تمعّن الإنسان حال السلف عرف حاله والبعد الشديد مابينه وبينهم.
(2) مقارنة حال بحال فينكشف التقصير العظيم .
(أوما علمت أنه لا سكون للخائف ،ولا قرار للعارف،كلما ذكر العارف تقصيره ندم على مصابه ،وإذا تصور مصيره حذر مما في كتابه ،وإذا خطر العتاب بفنائه فالموت من عتابه، فهو رهين القلق بمجموع أسبابه .
(عجبت لنفوسٍ تعرف حقائق المصير ، ولا تعرف عوائق التقصير ، كيف رضيت بالزاد اليسير ، وقد علمت طول المسير ،أم كيف أقبلت على التبذير ،وقد حُذِّرَتْ غاية التحذير ، أما تخاف زَلَلَ التعثير إذا حوسبت على القليل والكثير .(2/61)
(يا مفرطاً في ساعاته بالليل والنهار ، لو علمت ما فات شابهت دموعك الأنهار، يا طويل النوم عُدِمْتَ خيرات الأسحار،لو رأى طرفك ما نال الأبرار ،حار يا مخدوعاً بالهوى ساكناً في دار ،قد حام حول ساكنها طارق الفناء ودار، سار الصالحون فاجتهد في اتباع الآثار، واذكر بظلام الليل ظلام القبر وخلو الديار ،وحارب عدواً قد قتلك بالهوى واطلب الثار ،فقد أريتك طريقاً إن سلكتها أمنت العثار، فإن فزت بالمراد فالصيد لمن أثار.
(3) ومن التفكر في العيوب أن الإنسان ينظر في عمله ما دخل عليه فيه من العُجب والغرور فيرى نفس كاد أن يهلك ومهما عمل فهو مقصِّر.
(4) أن يخاف الله عز وجل .
(5) ومما يعين على المحاسبة استشعار رقابة الله على العبد وإطلاعه على خفاياه وأنه لا تخفى عليه خافية قال تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) [ ق : 16]
وقال تعالى: (وَاعْلَمُوَاْ أَنّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِيَ أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوَاْ أَنّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ) [ البقرة : 235]
وما أردى الكفار في لجج العمى إلا ظنهم أنهم يمرحون كما يشتهون بلا رقيب، ويفرحون بما يهوون بلا حسيب، قال سبحانه عنهم: إِنَّهُم كَانُواْ لا يَرجُونَ حِسَاباً [النبأ:27]
(6) ومن فوائد المحاسبة التفكر في الأسئلة يوم القيامة وأن تعلم أنك مسئول يوم القيامة ، ليس سؤال المذنبين فقط، قال تعالى: (لّيَسْأَلَ الصّادِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ وَأَعَدّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً أَلِيماً) [ الأحزاب : 8]
وإذا كان الصادقين سيسألهم الله عن صدقهم فما بالك بغيرهم؟! قال تعالى: (فَلَنَسْأَلَنّ الّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنّ الْمُرْسَلِينَ) [ الأعراف : 6] وحتى الرسل يُسألون..!!!(2/62)
(7) ومن فوائد المحاسبة أن يعرف حق الله تعالى عليه، فإن ذلك يورثه مقت نفسه ، والإزراء عليها ويخلصه من العجب ورؤية العمل ، ويفتح له باب الخضوع والذل والانكسار بين يدى ربه ، واليأس من نفسه ، وأن النجاة لا تحصل له إلا بعفو الله ومغفرته ورحمته ، فإن من حقه أن يطاع فلا يعصى وأن يذكر فلا يُنسى وأن يُشكر فلا يُكفر .
(أركان المحاسبة :
[*](قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين :
قال صاحب المنازل "المحاسبة لها ثلاثة أركان :
أحدها: أن تقايس بين نعمته وجنايتك".
يعني تقايس بين ما من الله وما منك فحينئذ يظهر لك التفاوت وتعلم أنه ليس إلا عفوه ورحمته أو الهلاك والعطب.
وبهذه المقايسة تعلم أن الرب رب والعبد عبد ويتبين لك حقيقة النفس وصفاتها وعظمة جلال الربوبية وتفرد الرب بالكمال والإفضال وأن كل نعمة منه فضل وكل نقمة منه عدل وأنت قبل هذه المقايسة جاهل بحقيقة نفسك وبربوبية فاطرها وخالقها فإذا قايست ظهر لك أنها منبع كل شر وأساس كل نقص وأن حدها الجاهلة الظالمة وأنه لولا فضل الله ورحمته لتزكيته لها ما زكت أبدا ولولا هداه ما اهتدت ولولا إرشاده وتوقفه لما كان لها وصول إلى خير البتة وأن حصول ذلك لها من بارئها وفاطرها وتوقفه عليه كتوقف وجودها على إيجاده فكما أنها ليس لها
من ذاتها كمال الوجود فليس لها من ذاتها إلا العدم عدم الذات وعدم الكمال فهناك تقول حقا "أبوء لك بنعمتك على وأبوء بذنبي".
ثم تقايس بين الحسنات والسيئات فتعلم بهذه المقايسة أيهما أكثر وأرجح قدرا وصفة.
وهذه المقايسة الثانية مقايسة بين أفعالك وما منك خاصة.
قال: "وهذه المقايسة تشق على من ليس له ثلاثة أشياء نور الحكمة وسوء الظن بالنفس وتمييز النعمة من الفتنة".
يعني أن هذه المقايسة والمحاسبة تتوقف على نور الحكمة وهو النور الذي نور الله به قلوب أتباع الرسل وهو نور الحكمة فبقدره ترى التفاوت وتتمكن من المحاسبة.(2/63)
ونور الحكمة ههنا: هو العلم الذي يميز به العبد بين الحق والباطل والهدى والضلال والضار والنافع والكامل والناقص والخير والشر ويبصر به مراتب الأعمال راجحها ومرجوحها ومقبولها ومردودها وكلما كان حظه من هذا النور أقوى كان حظه من المحاسبة أكمل وأتم.
وأما سوء الظن بالنفس : فإنما احتاج إليه لأن حسن الظن بالنفس يمنع من كمال التفتيش ويلبس عليه فيرى المساويء محاسن والعيوب كمالا فإن المحب يرى مساويء محبوبه وعيوبه كذلك.
فعين الرضا عن كل عيب كليلة كما أن عين السخط تبدي المساويا
ولا يسيء الظن بنفسه إلا من عرفها ومن أحسن ظنه بنفسه فهو من أجهل الناس بنفسه.
وأما تمييز النعمة من الفتنة فليفرق بين النعمة التي يرى بها الإحسان واللطف ويعان بها على تحصيل سعادته الأبدية وبين النعمة التي يرى بها الاستدراج فكم من مستدرج بالنعم وهو لا يشعر مفتون بثناء الجهال عليه مغرور بقضاء الله حوائجه وستره عليه وأكثر الخلق عندهم أن هذه الثلاثة علامة السعادة والنجاح ذلك مبلغهم من العلم.
فإذا كملت هذه الثلاثة فيه عرف حينئذ أن ما كان من نعم الله عليه بجمعه على الله فهو نعمة حقيقة وما فرقه عنه وأخذه منه فهو البلاء في صورة النعمة والمحنة في صورة المنحة فليحذر فإنما هو مستدرج ويميز بذلك أيضا بين المنة والحجة فكم تلتبس إحداهما عليه بالأخرى!.
فإن «العبد بين مِنَّةٍ من الله عليه وحجةٍ مِنْه عليه» ولا ينفك عنهما فالحكم الديني متضمن لمنته وحجته قال تعالى {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ}[ آل عمران : 164] وقال تعالى {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ} [ الحجرات : 17]
وقال تعالى :{فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ}[ الأنعام : 149].(2/64)
والحكم الكوني أيضا متضمن لمنته وحجته فإذا حكم له كونا حكما مصحوبا باتصال الحكم الديني به فهو مِنَّة عليه وإن لم يصحبه الديني فهو حجة مِنْه عليه.
وكذلك حكمه الديني إذا اتصل به حكمه الكوني فتوفيقه للقيام به منة منه عليه وإن تجرد عن حكمه الكوني صار حجة منه عليه فالمنة: باقتران أحد الحكمين بصاحبه والحجة في تجرد أحدهما عن الآخر فكل علم صحبه عمل يرضى الله سبحانه فهو منة وإلا فهو حجة.
وكل قوة ظاهرة وباطنة صحبها تنفيذ لمرضاته وأوامره فهي منة وإلا فهي حجة.
وكل حال صحبه تأثير في نصرة دينه والدعوة إليه فهو منة منه وإلا فهو حجة.
وكل مال اقترن به إنفاق في سبيل الله وطاعته لا لطلب الجزاء ولا الشكور فهو منة من الله عليه وإلا فهو حجة.
وكل فراغ اقترن به اشتغال بما يريد الرب من عبده فهو منة عليه وإلا فهو حجة.
وكل قبول في الناس وتعظيم ومحبة له اتصل به خضوع للرب وذل وانكسار ومعرفة بعيب النفس والعمل وبذل النصيحة للخلق فهو منة وإلا فهو حجة.
وكل بصيرة وموعظة وتذكير وتعريف من تعريفات الحق سبحانه إلى العبد اتصل به عبرة ومزيد في العقل ومعرفة في الإيمان فهي منة وإلا فهي حجة.
وكل حال مع الله تعالى أو مقام اتصل به السير إلى الله وإيثار مراده على مراد العبد فهو منة من الله وإن صحبه الوقوف عنده والرضا به وإيثار مقتضاه من لذة النفس به وطمأنيتها إليه وركونها إليه فهو حجة من الله عليه.
فليتأمل العبد هذا الموضع العظيم الخطر ويميز بين مواقع المنن والمحن والحجج والنعم فما أكثر ما يلتبس ذلك على خواص الناس وأرباب السلوك 2:213 {وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}[ البقرة : 213].
الركن الثاني من أركان المحاسبة :
وهي أن تميز ما للحق عليك من وجوب العبودية والتزام الطاعة واجتناب المعصية وبين ما لك وما عليك فالذي لك: هو المباح الشرعي فعليك حق ولك حق فأد ما عليك يؤتك ما لك.(2/65)
ولا بد من التمييز بين ما لك وما عليك وإعطاء كل ذي حق حقه.
وكثير من الناس يجعله كثيرا مما عليه من الحق من قسم ماله فيتحير بين فعله وتركه وإن فعله رأى أنه فضل قام به لاحق أداه.
وبإزاء هؤلاء من يرى كثيرا مما له فعله وتركه من قسم ما عليه فعله أو تركه فيتعبد بترك ما له فعله كترك كثير من المباحات ويظن ذلك حقا عليه أو يتعبد بفعل ما له تركه ويظن ذلك حقا عليه.
مثال الأول: من يتعبد بترك النكاح أو ترك أكل اللحم أو الفاكهة مثلا أو الطيبات من المطاعم والملابس ويرى لجهله أن ذلك مما عليه فيوجب على نفسه تركه أو يرى تركه من أفضل القرب وأجل الطاعات وقد أنكر النبي صلى الله عليه وسلم على من زعم ذلك ففي الصحيح "أن نفرا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم سألوا عن عبادته في السر؟ فكأنهم تقالوها فقال أحدهم: أما أنا فلا آكل اللحم وقال الآخر أما أنا فلا أتزوج النساء وقال الآخر أما أنا فلا أنام على فراش فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم مقالتهم فخطب وقال: ما بال أقوام يقول أحدهم: أما أنا فلا آكل اللحم ويقول الآخر أما أنا فلا أتزوج ويقول الآخر: أما أنا فلا أنام على فراش؟ لكني أتزوج النساء وآكل اللحم وأنام وأقوم وأصوم وأفطر فمن رغب عن سنتي فليس مني" فتبرأ ممن رغب عن سنته وتعبد لله بترك ما أباحه لعباده من الطيبات رغبة عنه واعتقادا أن الرغبة عنه وهجره عبادة فهذا لم يميز بين ما عليه وما له.
ومثال الثاني : من يتعبد بالعبادات البدعية التي يظنها جالبة للحال والكشف والتصرف ولهذه الأمور لوازم لا تحصل بدونها البتة فيتعبد بالتزام تلك اللوازم فعلا وتركا ويراها حقا عليه وهي حق له وله تركها كفعل الرياضات والأوضاع التي رسمها كثير من السالكين بأذواقهم ومواجيدهم واصطلاحاتهم من غير تمييز بين ما فيها من حظ العبد والحق الذي عليه فهذا لون وهذا لون.
(ومن أركان المحاسبة: ما ذكره صاحب المنازل فقال:(2/66)
"الثالث أن تعرف أن كل طاعة رضيتها منك فهي عليك وكل معصية عيرت بها أخاك فهي إليك".
رضاء العبد بطاعته دليل على حسن ظنه بنفسه وجهله بحقوق العبودية وعدم عمله بما يستحقه الرب جل جلاله ويليق أن يعامل به.
وحاصل ذلك: أن جهله بنفسه وصفاتها وآفاتها وعيوب عمله وجهله بربه وحقوقه وما ينبغي أن يعامل به يتولد منهما رضاه بطاعته وإحسان ظنه بها ويتولد من ذلك: من العجب والكبر والآفات ما هو أكبر من الكبائر الظاهرة من الزنا وشرب الخمر والفرار من الزحف ونحوها.
«فالرضا بالطاعة من رعونات النفس وحماقتها».
«وأرباب العزائم والبصائر أشد ما يكونون استغفارا عقيب الطاعات لشهودهم تقصيرهم فيها وترك القيام لله بها كما يليق بجلاله وكبريائه» وأنه لولا الأمر لما أقدم أحدهم على مثل هذه العبودية ولا رضيها لسيده.
وقد أمر الله تعالى وفده وحجاج بيته بأن يستغفروه عقيب إفاضتهم من عرفات وهو أجل المواقف وأفضلها فقال 2:198، 199 {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ، ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[ البقرة / 198،199] وقال تعالى {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ}[ آل عمران : 17](2/67)
قال الحسن: "مدوا الصلاة إلى السحر ثم جلسوا يستغفرون الله عز وجل" وفي الصحيح "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سلم من الصلاة استغفر ثلاثا ثم قال: اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام" وأمره الله تعالى بالاستغفار بعد أداء الرسالة والقيام بما عليه من أعبائها وقضاء فرض الحج واقتراب أجله فقال في آخر سورة أنزلت عليه {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ، وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً}.
ومن ههنا فهم عمر وابن عباس رضي الله عنهم أن هذا أجَلُ رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه به فأمره أن يستغفره عقيب أداء ما كان عليه «فكأنه إعلام بأنك قد أديت ما عليك ولم يبق عليك شيء فاجعل خاتمته الاستغفار» كما كان خاتمة الصلاة والحج وقيام الليل وخاتمة الوضوء أيضا أن يقول بعد فراغه "سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين".
(الأسباب المعينة على محاسبة النفس :
هناك أسباب تعين الإنسان على محاسبة نفسه وتسهل عليه ذلك منها:
(1) معرفته أنه كلما اجتهد في محاسبة نفسه اليوم استرح من ذلك غداً، وكلما أهملها اليوم اشتد عليه الحساب غداً.
(2) معرفته أن ربح محاسبة النفس ومراقبتها هو سكنى الفردوس، والنظر إلى وجه الرب سبحانه، ومجاورة الأنبياء والصالحين وأهل الفضل.
(3) النظر فيما يؤول إليه ترك محاسبة النفس من الهلاك والدمار، ودخول النار والحجاب عن الرب تعالى ومجاورة أهل الكفر والضلال والخبث.
(4) صحبة الأخيار الذين يحاسبون أنفسهم ويطلعونه على عيوب نفسه، وترك صحبة من عداهم.
(5) النظر في أخبار أهل المحاسبة والمراقبة من سلفنا الصالح.
(6) زيارة القبور والتأمل في أحوال الموتى الذين لا يستطيعون محاسبة أنفسهم أو تدرك ما فاتهم.(2/68)
(7) حضور مجالس العلم والوعظ والتذكير فإنها تدعو إلى محاسبة النفس.
(8) قيام الليل وقراءة القرآن والتقرب إلى الله تعالى بأنواع الطاعات.
(9) البعد عن أماكن اللهو والغفلة فإنها تنسي الإنسان محاسبة نفسه.
(10) ذكر الله تعالى ودعاؤه بأن يجعله من أهل المحاسبة والمراقبة، وأن يوفقه لكل خير.
(11) سوء الظن بالنفس ومقتها في جنب الله تعالى ، فإن حسن الظن بالنفس ينسي محاسبة النفس، وربما رأى الإنسان ـ بسب حسن ظنه بنفسه ـ عيوبه ومساوئه كمالاً.
(11) الخشوع في الصلاة:
إن من أهم الأسباب الجالبة للبكاء من خشية الله الخشوع في الصلاة وهاك صفوة مسائل الخشوع في الصلاة .
[*](تعريف الخشوع :
(فضل الخشوع :
(حكم الخشوع :
(محل الخشوع :
(إخفاء الخشوع :
(الطرق الموصلة الخشوع :
(نماذج من خشوع السلف :
[*](تمام الخشوع :
وهاك تفصيل ذلك في إيجازٍ غيرِ مُخِّل : (
[*](تعريف الخشوع :
(الخشوع في اللغة :
هو الخضوع والسكون . قال :{ وَخَشَعَت الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً}
[ طه : 108] أي سكنت.
(والخشوع في الاصطلاح:
هو حضور القلب وخضوعه وانكساره بين يدي الله تعالى .
[*] قال ابن رجب الحنبلي رحمه الله :
"أصل الخشوع لين القلب ورقنه وسكونه وخضوعه وانكساره وحرقته،فإذا خشع القلب تبعه خشوع جميع الجوارح والأعضاء،لأنها تابعة له " [الخشوع لابن رجب،ص17] فالخشوع محله القلب ولسانه المعبر هو الجوارح . فمتى اجتمع في قلبك أخي في الله – صدق محبتك لله وأنسك به واستشعار قربك منه، ويقينك في ألوهيته وربوبيته ،وحاجتك وفقرك إليه.متى اجتمع في قلبك ذلك ورثك الله الخشوع وأذاقك لذته ونعيمه تثبيتاً لك على الهدى ،قال تعالى :{ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى}[محمد: 17]
وقال تعالى :{ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [ العنكبوت :69](2/69)
فاعلم أخي الكريم – أن الخشوع هو توفيق من الله جل وعلا،يوفق إليه الصادقين في عبادته ،المخلصين المخبتين له ،العاملين بأمره والمنتهين بنهيه. فمن لم يخشع قلبه بالخضوع لأوامر الله لا يتذوق لذة الخشوع ولا تذرف عيناه الدموع لقسوة قلبه وبعده عن الله .قال تعالى { ِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ} [العنكبوت:45] ،فالذي لن تنهه صلاته عن المنكر لا يعرف إلى الخشوع سبيلاُ،ومن كان حاله كذلك ،فإنه وإن صلى لا يقيم الصلاة كما أمر الله جل وعلا ، قال تعالى:{ َاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة : 45]
واعلم أخي المسلم بأن الخشوع واجب على كل مصل .قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ويدل على وجوب الخشوع قول الله جل وعلا،قال تعالى:{ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ }[المؤمنون:1-2]
[ الفتاوى 22/254]
(فضل الخشوع :
(1) إن الله سبحانه قد امتدح الخاشعين في مواضع كثيرة من كتابه فقال: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ [ المؤمنون:2،1]،
قال ابن كثير رحمه الله تعالى :
[*] و" الخشوع : هو السكون والطمأنينة والتؤدة والوقار والتواضع والحامل عليه الخوف من الله ومراقبته . " تفسير ابن كثير ط. دار الشعب 6/414
وقال: وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ [ البقرة:45]،
وقال: خَاشِعِينَ لِلّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَناً قَلِيلاً [ آل عمران:199]،
وقال: وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ [ الأنبياء:90]،
وقال: وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً [ الإسراء:109].(2/70)
(ولما كان الخشوع صفه يمتدح الله بها عبادة المؤمنين ،دل على فضله ومكانته عند الله ،ودل على حب الله الأهل الخشوع والخضوع ،لأن الله سبحانه لا يمدح أحداً بشيء إلا وهو يحبه ويحب من يتعبده به .
وقد ذكر الله الخاشعين والخاشعات في صفات عباده الأخيار وأخبر أنه أعد لهم مغفرة وأجرا عظيماً
قال تعالى: (إِنّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصّادِقِينَ وَالصّادِقَاتِ وَالصّابِرِينَ وَالصّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدّقِينَ وَالْمُتَصَدّقَاتِ والصّائِمِينَ والصّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذّاكِرِينَ اللّهَ كَثِيراً وَالذّاكِرَاتِ أَعَدّ اللّهُ لَهُم مّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) [الأحزاب / 35]
(ولذ كان من السبعة الذين يُظِلّهُمُ الله في ظِلّهِ ظِلّ إِلاّ ظِلّهُ [وَرَجُلٌ ذَكَرَ الله خَالِياً فَفَاضَتْ عَيْنَهُ]
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت الثابت في الصحيحين) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :(سَبْعَةٌ يُظِلّهُمُ الله في ظِلّهِ ظِلّ إِلاّ ظِلّهُ يَوْمَ لاَ: إِمَامٌ عَادِلٌ، وَشَابٌ نَشَأَ في ِعِبَادَةِ الله، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلّقٌ في المَسْاجِدِ، وَرَجُلاَنِ تَحَابّا في الله اجْتَمعَا عَلَيه وَتَفَرّقَا عليه ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امرأة ذَاتُ منصبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ إِنّي أَخَافُ الله ، وَرَجُلٌ تَصَدّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتّى لا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ الله خَالِياً فَفَاضَتْ عَيْنَهُ )
(ووجه الدلالة من الحديث:
أن الخاشع في صلاته يغلب على حاله البكاء في الخلوة أكثر من غيرها,فكان بذلك ممن يظلهم الله في ظله يوم القيامة.(2/71)
(ولو لم يكن للخشوع إلا فضل الانكسار بين يدي الله،وإظهار الذل والمسكنة له ,لكفى بذلك فضلاً ،وذلك لأن الله جل جلاله إنما خلقنا للعبادة
قال تعالى : {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات56 :]
وأفضل العبادات ما كان فيها الانكسار والذل الذي هو سرها ولبها.ولا يتحقق ذلك إلا بالخشوع .
الخشوع: يورث انكساراً بين يدي الرب، وحُرقةً من المعاصي والسيئات؛ لأن القلب إذا خشع سكنت خواطره، وترفعت عن الأمور الدنيئة همته، وتجرد من اتباع الهوى مسلكه،
الخشوع: يجعل العبد ينكسر ويخضع لله، ويزول ما فيه من التعاظم والترفع، والتعالي والترفع، والتعالي والتكبر، وتلك درجات في قلوب الناس تتفاوت بتفاوت الإيمان في قلوبهم، وسيطرة الإسلام على نفوسهم.
الخشوع: هو السكون والطمأنينة والتؤدة والوقار والتواضع والخضوع.
(2) والخشوع علم نافع؛ لأن العلم النافع ما أوجب خشية القلوب، لذا: كان يستعيذ من علم لا ينفع، وقلب لا يخشع، ونفس لا تشبع، ودعوة لا تُسمع، فإن القلب الذي لا يخشع: علمه لا ينفع، ودعاؤه لا يسمع.
(حديث زيد ابن أرقم في صحيح مسلم ) قال كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : اللهم آت نفسي تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها ، اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع ومن قلب لا يخشع ومن نفس لا تشبع ومن دعوة لا يستجاب لها .
(وهذا العلم النافع نادر وجوده سريع فقده
فهو أول ما يرفع من الأمة، كما جاء في الحديث الآتي :
( حديث أبي الدرداء رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :أول شيء يرفع من هذه الأمة الخشوع حتى لا ترى فيها خاشعا .
وبذهاب الخشوع تكون العبادة بغير روح، وهذا أمر يورث الخوف على القلب، وتفقده دائماً.(2/72)
(3) وفضائل الخشوع كثيرة: فهو يقرب القلب من الله، فيمتلئ نوراً، فينتفع صاحبه بآيات الله الشرعية، والكونية، ويكون له في كل نظرة عِبرة، وعَبْرة. ويقي صاحبه من غوائل العجب والغرور والإدلال والرياء. وبه تُستنزل رحمة الله (تعالى)،
وأعظمها: حصول البشرى ((وَبَشِّرِ المُخْبِتِينَ)) [الحج: 34]،
وبه ينال الأجر العظيم، فالخشوع طريق الفلاح الموصل إلى الجنة: ((قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ)) [المؤمنون: 1، 2]، ثم قال: ((أُوْلَئِكَ هُمُ الوَارِثُونَ * الَذِينَ يَرِثُونَ الفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)) [المؤمنون: 10، 11]
(حكم الخشوع :
والراجح في حكم الخشوع أنه واجب .
[*]قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى :
قال تعالى: (وَاسْتَعِينُواْ بِالصّبْرِ وَالصّلاَةِ وَإِنّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاّ عَلَى الْخَاشِعِينَ) [البقرة / 45]
وهذا يقتضي ذم غير الخاشعين .. والذم لا يكون إلا لترك واجب أو فعل محرّم وإذا كان غير الخاشعين مذمومين دلّ ذلك على وجوب الخشوع .. ويدل على وجوب الخشوع فيها أيضا قوله تعالى : ( قد أفلح المؤمنون . الذين هم في صلاتهم خاشعون .. - إلى قوله - أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون ) أخبر سبحانه وتعالى أن هؤلاء هم الذين يرثون فردوس الجنة وذلك يقتضي أنه لا يرثها غيرهم .. وإذا كان الخشوع في الصلاة واجبا وهو المتضمن للسكون والخشوع (هكذا في الأصل ولعلها الخضوع ) فمن نقر نقر الغراب لم يخشع في سجوده وكذلك من لم يرفع رأسه في الركوع ويستقر قبل أن ينخفض لم يسكن لأن السكون هو الطمأنينة بعينها فمن لم يطمئن لم يسكن ومن لم يسكن لم يخشع في ركوعه ولا في سجوده ومن لم يخشع كان آثما عاصيا .. ويدل على وجوب الخشوع في الصلاة أن النبي صلى الله عليه وسلم توعد تاركيه كالذي يرفع بصره إلى السماء فإنه حركته ورفعه وهو ضد حال الخاشع ..(2/73)
[ مجموع الفتاوى 22/553-558 ]
(محل الخشوع :
محل الخشوع : القلب .
وثمرته: تظهر على الجوارح، ولذا قيل: إذا ضرع القلب، خشعت الجوارح، وذلك لأن القلب مَلِك البدن، وأمير الأعضاء، تصلح بصلاحه، وتفسد بفساده، فالأعضاء تابعة للقلب فإذا فسد خشوعه بالغفلة والوساوس فسدت عبودية الأعضاء والجوارح فإن القلب كالملك والأعضاء كالجنود له فبه يأتمرون وعن أمره يصدرون فإذا عُزل الملك وتعطّل بفقد القلب لعبوديته ضاعت الرعية وهي الجوارح.
ولهذ قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ألا و إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله و إذا فسدت فسد الجسد كله ألا و هي القلب .
(حديث النعمان بن بشير الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :الحلال بين و الحرام بين و بينهما أمور مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لعرضه و دينه و من وقع في الشبهات وقع في الحرام كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه ألا و إن لكل ملك حمى ألا و إن حمى الله تعالى في أرضه محارمه ألا و إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله و إذا فسدت فسد الجسد كله ألا و هي القلب .
(منزلة الخشوع من الإيمان :
الخشوع من الإيمان؛ الذي هو في القلب، وإنما يزيد الإيمان بحياة القلب، وذلك بالاشتغال بالعلم النافع والعمل الصالح، كما أنه ينقص بمرض القلب، ويذهب بموته، وذلك بالانصراف إلى الشبهات والشهوات، فعلى المسلم أن يتعاهد قلبه في جميع أحواله ليدفع عنه القسوة؛ فإنها إذا استبدت به منعته الخشوع.(2/74)
والله (عز وجل) يريد من عباده الترقي في سُلَّمِ الإيمان، ودرجات اليقين، ولذا: عاتب المؤمنين الذين لم يبلغوا قمة الخشوع؛ حيث تدل حركتهم البطيئة على ضعف لا يرضاه الله للعصبة المؤمنة حاملة المنهج الرباني، لتبليغه للناس كافة؛ عاتبهم فقال: ((أََلَمْ يَاًنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ)) [الحديد: 16]،
وفي الآية تلويح بما كان عليه أهل الكتاب من قسوة أورثتهم الفسق في الأعمال، ومن هنا كان التحذير الشديد من مآلهم، حيث طال عليهم الزمان، واستمرت بهم الغفلة، فاضمحل إيمانهم، وذهب إيقانهم.
وقد رأينا ثمرة هذا الخشوع الإيماني في حياة سيد الخاشعين صلى الله عليه وسلم، الذي كان له في الانكسار لله (تعالى) والذل بين يديه أكمل الأحوال، فقد رؤي يصلي، وفي صدره أزيز كأزيز الرحى ـ أي الطاحون ـ من البكاء .
(حديث عبد الله بن الشخير الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) قال : أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي فسمعت لصدره أزيزاً كأزيز المرجل من البكاء .
وكذا صاحبه الصديق (رضي الله عنه) كان وجلاً رقيقاً، إذا صلى أو قرأ القرآن بكى ، وأما الفاروق فيكفيك أنه مرض مرة لسماع القرآن وعاده الناس في مرضه لا يدرون ما به!، وقد أصاب سهمٌ أحدَ الصحابة وهو في صلاته فأزاله ورماه وأتمّ صلاته.
ومن السلف من كان يقوم في الصلاة كأنه عمود تقع الطيور على رأسه من شدة سكونه وإطالته، ولهم في ذلك أحوال يطول منها عجبنا؛ لأننا لا نرى ذلك في واقع حياتنا .
(إخفاء الخشوع :
التظاهر بالخشوع ممقوت ، ومن علامات الإخلاص : إخفاء الخشوع(2/75)
كان حذيفة رضي الله عنه يقول : إياكم وخشوع النفاق فقيل له : وما خشوع النفاق قال : أن ترى الجسد خاشعا والقلب ليس بخاشع .
وقال الفضيل بن عياض
: كان يُكره أن يُري الرجل من الخشوع أكثر مما في قلبه . ورأى بعضهم رجلا خاشع المنكبين والبدن فقال : يافلان ، الخشوع هاهنا وأشار إلى صدره ، لاهاهنا وأشار إلى منكبيه . [ المدارج 1/ 521]
[*] وقال ابن القيم رحمه الله تعالى مبيّناً الفرق بين خشوع الإيمان وخشوع النفاق : " خشوع الإيمان هو خشوع القلب لله بالتعظيم و الإجلال و الوقار و المهابة و الحياء ، فينكسر القلب لله كسرة ملتئمة من الوجل و الخجل و الحب و الحياء و شهود نعم الله و جناياته هو ، فيخشع القلب لا محالة فيتبعه خشوع الجوارح . و أما خشوع النفاق فيبدو على الجوارح تصنعا وتكلفا والقلب غير خاشع ، و كان بعض الصحابة يقول : أعوذ بالله من خشوع النفاق ، قيل له : و ما خشوع النفاق ؟ قال : أن يرى الجسد خاشعا والقلب غير خاشع . فالخاشع لله عبد قد خمدت نيران شهوته ، و سكن دخانها عن صدره ، فانجلى الصدر و أشرق فيه نور العظمة فماتت شهوات النفس للخوف و الوقار الذي حشي به و خمدت الجوارح و توقر القلب و اطمأن إلى الله و ذكره بالسكينة التي نزلت عليه من ربه فصار مخبتا له ، و المخبت المطمئن ، فإن الخبت من الأرض ما اطمأن فاستنقع فيه الماء ، فكذلك القلب المخبت قد خشع واطمأن كالبقعة المطمئنة من الأرض التي يجري إليها الماء فيستقر فيها ، و علامته أن يسجد بين يدي ربه إجلالا له و ذلا و انكسارا بين يديه سجدة لا يرفع رأسه عنها حتى يلقاه . فهذا خشوع الإيمان ، وأما القلب المتكبر فإنه قد اهتز بتكبره و ربا فهو كبقعة رابية من الأرض لا يستقر عليها الماء .(2/76)
و أما التماوت و خشوع النفاق فهو حال عند تكلف إسكان الجوارح تصنعا و مراءاة و نفسه في الباطن شابة طرية ذات شهوات و إرادات فهو يتخشع في الظاهر و حية الوادي و أسد الغابة رابض بين جنبيه ينتظر الفريسة .
[ كتاب الروح ص:314 ط. دار الفكر - الأردن . ]
(الطرق الموصلة الخشوع :
إن مما يحصّل به المسلم الخشوع :
(1) تلقي أوامر الله (تعالى) بالقبول والامتثال، وعدم معارضتها بشهوة أو رأي.
(2) الحرص على الإخلاص، وإخفاء الأعمال عن الخلق قدر المستطاع، ومطالعة عيوب النفس ونقائص الأعمال ومفسداتها من الكبر والعجب والرياء وضعف الصدق، والتقصير في إكمال العمل وإتمامه.
(3) الإشفاق من رد الأعمال وعدم قبولها.
(4) مشاهدة فضل الله وإحسانه، والحياء منه؛ لإطلاعه على تفاصيل ما في القلوب، وتذكر الموقف والمقام بين يديه، والخوف منه، وإظهار الضعف والافتقار إليه والتعلق به دون غيره.
(5) طلب هدايته وتوفيقه وتسديده.
(6) ومن أعظم الطرق: معرفة الله (جل جلاله) بأسمائه الحسنى وصفاته العلا.. والعلم النافع، وهو: العلم بآيات الله الكونية والشرعية، الذي يربط القلب بالله.
وكذلك الإكثار من ذكر الموت، والجنة والنار، والإكثار من ذكر الله تضرعاً وخِيفة،ودعائه تضرعاً وخُفية، فإن ذلك أعظم إيماناً وأبلغ في الأدب، والتعظيم، والتضرع، والخشوع، والإخلاص، وجمعية القلب على الله تعالى)
ويمكن تحصيل ذلك كله بالإقبال على كتاب الله الكريم، مع تعاهد التلاوة، وإدامة النظر، وطول التأمل وكثرة التدبر، الذي يورث الصلة بالله (تعالى)، والمسارعة في الطاعات، واستباق الخيرات، وهو الأمر الذي لأجله أنزل الله القرآن الكريم.
(آثار الخشوع:
يضفي الخشوع على الأفراد والأمم آثاراً كثيرة، منها:
(1) أنه يبعث الحياة في العمل، فيؤتي ثمرته المرجوة وغايته المقصودة.
(2) أنه يجعل العبادة محببة للنفس، خفيفة غير ثقيلة.(2/77)
(3) المسارعة إلى الإذعان للحق والدعوة إليه، وبذل غاية الوسع في التعليم والدعوة والتربية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
(4) توحيد المشاعر والاتجاهات والمقاصد نحو الله (تعالى) لا شريك له، فيتوجه العمل والنشاط والعبادة نحو غاية واحدة، فيحصل من ذلك: (
ـ إحياء الأمة وقوتها وانتصارها، بصلاة الخاشعين ودعائهم وإخلاصهم، ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.
وقد لمسنا آثار الخشوع في حياة سلف هذه الأمة الذين قاموا بأمر الله خير قيام، وحملوا لواء العلم والعبادة والدعوة، وما كان ليحصل ذلك لولا ما تحمله قلوبهم من تعظيم الله ومحبته وخشيته.
وإذا لم يكن الخشوع صفة الدعاة وحالهم، فإن الخطْب جلل، والمصيبة عظيمة، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
(نماذج من خشوع السلف :
كان عبد الله بن الزبير يسجد حتى تنزل العصافير على ظهره ولا تحسبه إلا حائط .
لو رأيت ابن الزبير يصلي كأنه غصن شجرة تهزها الريح والمنجنيق يقع هاهنا وهاهنا وكأنه لا يبالي.
(وذكر بعضهم أن حجراً من المنجنيق وقع على شرفة المسجد فطارت فلقة منها فمرت بين لحية ابن الزبير وحلقه، وهو قائم يصلي، فما زال عن مقامه، ولا عرف ذلك في صوته، ولا قطع لها قراءته، ولا ركع دون ما كان يركع، فكان إذا دخل في الصلاة خرج من كل شيء إليها.
(روي أن ابن الزبير كان يوماً يصلي فسقطت حية من السقف تطوقت على بطن ابنه هاشم ، فصرخ النسوة وانزعج أهل المنزل، واجتمعوا على قتل الحية، فقتلوها وسَلِم الولد، فعلوا هذا كله وابن الزبير في الصلاة لم يلتفت، ولا درى بما جرى لابنه حتى سلَّم.
(وركع ابن الزبير يوماً فقرأ البقرة وآل عمران والنساء والمائدة وما رفع رأسه.
(وقال يحيى بن وثاب: ( كان ابن الزبير إذا سجد وقعت العصافير على ظهره، تصعد وتنزل، ولا تراه إلا جذم حائط .(2/78)
(روي عن حاتم الأصم أنه سئل عن صلاته،فقال:إذا حانت الصلاة،أسبغت الوضوء ، وأتيت الموضع الذي أريد الصلاة فيه،فأقعد فيه حتى تجتمع جوارحي،ثم أقوام ‘لي صلاتي ،وأجعل الكعبة بين حاجبي ،والصراط تحت قدمي ،والجنة عن يميني،والنار عن شمالي ،وملك الموت ورائي ،وأظنها آخر صلاتي ،ثم أقوم يسن يدي الرجاء والخوف ,أكبر تكبيراُ بتحقيق ,وأقرأ بترتيل ،وأركع وكوعاً بتواضع وأسجد سجوداً بتخشع..وأتبعها الإخلاص ،ثم لا أدري أقبلت أم لا؟.
[*] قال علي بن الفضيل: ( رأيت الثوري ساجداً فطفت سبعة أسابيع - أي 49 شوطاً - قبل أن يرفع رأسه)
[*] قال ابن وهب: ( رأيت الثوري في الحرم بعد المغرب صلّى ثم سجد سجدة فلم يرفع حتى نودي بالعشاء.
[*] قال أبو بكر بن عياش: ( رأيت حبيب بن أبي ثابت ساجداً، فلو رأيته قلت: ميت . يعني من طول السجود.
[*] كان طلق بن حبيب لا يركع في صلاته إذا افتتح سورة (البقرة) حتى يبلغ (العنكبوت). وكان يقول: أشتهي أن أقوم حتى يشتكي صلبي.
(ومنهم: من إذا دخل في الصلاة خشع قلبه، وسكنت جوارحه، حتى يظن من رآه أنه جماد، بل إن الطير قد يظن ذلك المصلي حائطاً، فيقع على ظهره لشدة سكونه، وهذا السكون دليل على الراحة التي يجدها المصلي في صلاته، إذ لو لم يجد فيها راحة لم يسكن هذا السكون، فإن المرء إذا كان على وضع لا راحة له فيه تكثر حركته، والتفاته، وعبثه.
قال ثابت البناني: ( كنتُ أَمُرُّ بعبد الله بن الزبير وهو يصلي خلف المقام، كأنه خشبة منصوبة لا يتحرك .
قال الأعمش: ( كان إبراهيم إذا سجد كأنه حائط، ينزل على ظهره العصافير .
وكان مسلم بن يسار إذا صلّى كأنه وتد لا يميل لا هكذا ولا هكذا. وقيل: إذا صلى كأنه ثوب ملقى.
[*] قال ميمون بن مهران:
ما رأيت مسلم بن يسار ملتفتا في صلاة قط ولقد انهدمت ناحية من المسجد ففزع أهل السوق لهدتها وإنه لفي المسجد يصلي فما التفت.(2/79)
وعنه أيضا [ أن مسلم بن يسار كان إذا دخل إلى المنزل سكتوا فإذا قام إلى الصلاة تكلموا وضحكوا.
(ومنهم: من إذا دخل في الصلاة انشغل بها عما حوله، حتى لا يشعر بما يحدث عنده وقريباً منه وإن كان عظيماً، ومتى عظمت محبة الشخص لأمر، فإنه ينشغل به حتى عن نفسه، ألم تر كيف قطع النسوة أيديهن لما رأين يوسف فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ [يوسف:31] دهشن برؤيته عن أنفسهم فلم يشعرن بتقطيع أيديهن.
من المصلين من يجد في صلاته لذة تشغله عما حوله، فمنهم من لا يشعر بوقوع شيء أصلاً، ومنهم من يشعر بذلك لكنه لا يلتفت إليه، ولا يعبأ به، فكأنه لم يشعر، لقوة حضوره في صلاته، وانصرافه لها، وعدم اهتمامه بما سواها وانشغاله عنه.
قال ميمون بن مهران: ما رأيت مسلم بن يسار ملتفتاً في صلاة قط، ولقد انهدمت ناحية من المسجد ففزع أهل السوق لهدمها، وإنه في المسجد يصلي فما التفت. ولما هنئ بسلامته عجب وقال: ما شعرت.
(ومنهم: من يصيبه في صلاته وجع شديد وألم، فلا يلتفت له، ويستمر في صلاته، قد أنسته لذة الصلاة شدة الوجع، حتى كأنه لا يحس به.
(ففي إحدى الغزوات قام رجل من الأنصار يصلى ليلاً، فرماه أحد المشركين بسهم فنزعه واستمر في صلاته، فرماه بسهم ثان فنزعه واستمر في صلاته، فرماه بسهم ثالث فنزعه وركع وسجد وأتم صلاته. ثم أنبه صاحبه، فلما رأى ما به من الدم قال: سبحان الله! ألا أنبهتني أول ما رمى؟! قال: كنت في سورة أقرؤها فلم أحب أن أقطعها.
فانظر كيف صبر على تلك السهام، وتحمَّل ألم الجراح، ولم تطب نفسه أن يقطع قراءته لتلك السورة حتى أتمّها. فكم من لذة يجدها هذا الرجل في صلاته. وكم من راحة وسرور، نسي معه تعب السفر، ومشقة الطريق، وهون عليه ضرب السهام.
[*] الربيع ابن خيثم :(2/80)
عن بكر بن ماعز قال أعطي الربيع فرساً أو اشترى فرساً بثلاثين ألفاً فغزا عليها قال ثم أرسل غلامه يحتش وقام يصلي وربط فرسه فجاء الغلام فقال يا ربيع أين فرسك قال سرقت يا يسار قال وأنت تنظر إليها قال : ( نعم يا يسار أني كنت أناجي ربي عز وجل فلم يشغلني عن مناجات ربي شيء اللهم انه سرقني ولم أكن لأسرقه اللهم إن كان غنياً فاهده وإن كان فقيراً فاغنه ) ، ثلاث مرات
[*] عن بن فروخ قال : ( كان الربيع بن خيثم إذا كان الليل ووجد غفلة الناس خرج إلى المقابر فيجول في المقابر يقول : ( يا أهل القبور كنتم وكنا ، فإذا أصبح كأنه نشر من أهل القبور .
(ومن خشوعهم أنهم كانوا يتأثرون جداً بالجنائز :
قال ثابت البناني : كنا نتبع الجنازة فما نرى إلا متقنعا باكيا أو متقنعا متفكرا .
(علو الهمة في الخشوع :
[*]قال الجنيد : الخشوع تذلل القلوب لعلام الغيوب.
[*] قال ابن كثير:
والخشوع في الصلاة إنما يحصل لمن فرّغ قلبه لها.. واشتغل بها عما عداها ، وآثرها على غيرها ، وحينئذ تكون راحة له وقرة له.
[*] قال سعيد بن جبير في قوله تعالى :
( الذين هم في صلاتهم خاشعون) يعني : متواضعون. لا يعرف من عن يمينه ولا من عن شماله ولا يلتفت من الخشوع لله تعالى.
• صار لرب العرش حين صلاته نجيّا فيا طوباه لو كان يخشع
[*] قال بعض السلف :
الصلاة كجارية تهدى إلى ملك من الملوك ، فما الظن بمن يهدى إليه جارية شلاء أو عوراء ...فكيف بصلاة العبد والتي يتقرب بها إلى الله.
[*] كان ذو النون يقول في وصف العبّاد :
لو رأيت أحدهم وقد قام إلى صلاته ، فلما وقف في محرابه ، واستفتح كلام سيده، خطر على قلبه أن ذلك المقام هو المقام الذي يقوم فيه الناس لرب العالمين ، فانخلع قلبه وذهل عقله.
[*](تمام الخشوع :
أن يخضع القلب لله ويذل له ، فيتم بذلك خضوع العبد بباطنه وظاهره لله عز وجل ،(2/81)
(وذلك لأن القلب أمير البدن. فإذا خشع القلب .. خشع السمع والبصر والوجه وكل الأعضاء.. حتى الكلام.
ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه : ( خشع لك سمعي وبصري ومخي وعظمي).
( حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا ركع كان كلامه في ركوعه أن يقول اللهم لك ركعت وبك آمنت ولك أسلمت وأنت ربي خشع سمعي وبصري ومخي وعظمي لله رب العالمين .
( حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح النسائي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا ركع قال اللهم لك ركعت وبك آمنت ولك أسلمت وعليك توكلت أنت ربي خشع سمعي وبصري ودمي ولحمي وعظمي وعصبي لله رب العالمين .
[*] قال الحسن رحمه الله:
إياك أن ينظر الله إليك وتنظر إلى غيره .. وتسأل الله الجنة وتعوذ به من النار.. وقلبك ساه لا تدري ما تقول بلسانك.
[*] كان خلف بن أيوب لا يطرد الذباب عن وجهه في الصلاة فقيل له :كيف تصبر؟. قال : بلغني أن الفسّاق يتصبرون تحت السياط ليقال : فلان صبور. وأنا بين يدي ربي ، أفلا أصبر على ذباب يقع علي؟.!!
[*](احذر خشوع النفاق :
[*] قال أبو الدرداء
: استعيذوا بالله من خشوع النفاق. قالوا: وما خشوع النفاق؟ قال : أن ترى الجسد خاشعا والقلب ليس بخاشع.
{ تنبيه } : ( الخشوع عزيزٌ في هذه الأمة وقد أخبر النبي أن أول شيء يرفع من هذه الأمة الخشوع .
( حديث أبي الدرداء رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :أول شيء يرفع من هذه الأمة الخشوع حتى لا ترى فيها خاشعا .
(12) الخوف من عدم قبول الأعمال :(2/82)
إن من أهم الأسباب الجالبة للبكاء من خشية الله الخوف من عدم قبول الأعمال ومن يضمن أن الله تعالى قد قبل عمله ، وهذا النوع من الخوف هو الذي نغص عيش الصالحين وأطار نوم المتقين ، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد ، ودرر الفرائد . (
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة ) قالت : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية (وَالّذِينَ يُؤْتُونَ مَآ آتَواْ وّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنّهُمْ إِلَىَ رَبّهِمْ رَاجِعُونَ) [المؤمنون: 60] قالت عائشة هم الذين يشربون الخمر ويسرقون قال لا يا بنت الصديق ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون وهم يخافون أن لا يقبل منهم أولئك الذين يسارعون في الخيرات .
((أُوْلََئِكَ يُسَارِعُونَ فِي) [المؤمنون: 61])) قال الحسن: عملوا لله بالطاعات واجتهدوا فيها وخافوا أن ترد عليهم ..
إن المؤمن جمع إحساناً وخشية، وإن المنافق جمع إساءة وأمناً..!
إن المؤمن جمع إحساناً وخشية، وإن المنافق جمع إساءة وأمناً..!
والتخويف من عذاب الله أحد مهمات الرسل: قال تعالى {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنذِرُوا هُزُوًا} [ الكهف : 56 ] والإنذار هو الإعلام بالشيء الذي يخيف ، فالإنذار في لغة العرب كما قال الراغب الأصفهاني في مفرداته: الإنذار إخبار فيه تخويف كما أن التبشير إخبار فيه سرور.
(13) عدم الإكثار من الضحك :
فإن كثرة الضحك تميت القلب بنص السنة الصحيحة كما في الحديث الآتي : ((2/83)
(( حديث أبي هريرة الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : اتق المحارم تكن أعبد الناس و ارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس و أحسن إلى جارك تكن مؤمنا و أحب للناس ما تحب لنفسك تكن مسلما و لا تكثر الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب .
وموت القلب يمنع دمع العين.
(14) الزهد في الدنيا :
إن من أهم الأسباب الجالبة للبكاء من خشية الله الزهد في الدنيا، وهاك صفوة مسائل الزهد في الدنيا.
(تعريف الزهد :
(حقيقة الزهد :
(درجات الزهد وأقسامه :
(حكم الزهد :
(فضائل الزهد :
(أقوال السلف في الزهد :
(حاجة الناس إلى الزهد :
(كيف يزهد العبد في الدنيا ويرغب في الآخرة :
(خصال الزهد :
(رأس الزهد ووسط الزهد وآخر الزهد :
(علامات الزهد :
(ما ليس بزهد ويتوهم أنه زهد :
(الأسباب المعينة على الزهد في الدنيا :
وهاك تفصيل ذلك في إيجازٍ غيرِ مُخِّل : (
(تعريف الزهد :
الزهد هو :انصراف الرغبة عن الشيء إلى ما هو خير منه، ولا بد أن المرغوب عنه مرغوباً فيه بوجه من الوجوه فمن رغب عما ليس مطلوباً في نفسه لا يسمى زاهداً فتارك الحجر والتراب وما أشبهه لا يسمى زاهداً وإنما يسمى زاهداً من ترك الدراهم والدنانير.
فالزهد انصراف الرغبة عن الدنيا لحقارتها والإقبال على الآخرة والرغبة فيها لنفاستها ، والدنيا كالثلج الموضوع في الشمس لا يزال في الذوبان إلى الانقراض ،والآخرة كالجوهر الذي لا فناء له ، وبقدر اليقين بالتفاوت بين الدنيا والآخرة تقوى الرغبة في البيع . (وقد تعددت عبارات السلف من أئمة الهدى وأعلام التقى ومصابيح الدجى ، من حلية الأولياء وأعلام النبلاء ، من الأضواء اللامعة والنجوم الساطعة في تعريف الزهد في الدنيا وكلها تدور على عدم الرغبة فيها وخلو القلب من التعلق بها.
وهاك غيضٌ من فيض مما ورد في ذلك :
[*] قال الإمام أحمد : الزهد في الدنيا قصر الأمل.(2/84)
[*] وقال سفيان الثوري : الزهد في الدنيا قصر الأمل، ليس بأكل الغليظ ولا لبس العبا.
[*] وقال سفيان ابن عيينة : الزهد في الدنيا الصبر وارتقاب الموت.
[*] قال الحسن البصري : ليس الزهد في الدنيا بتحريم الحلال ، ولا إضاعة المال ، ولكن أن تكون بما في يد الله أوثق منك بما في يدك .
[*] وقال ابن الجلاّء : الزهد هو النظر إلى الدنيا بعين الزوال لتصغر في عينك فيسهل عليك الإعراض عنها .
[*] وقال إبراهيم ابن أدهم رحمه الله تعالى : الزهد فراغ القلب من الدنيا لا فراغ اليد .
وقال بعضهم :الزهد هو انصراف الرغبة عن الشيء إلى ما هو خير منه، وهو ترك راحة الدنيا طلباً لراحة الآخرة وأن يخلو قلبك مما خلت منه يداك .
[*] وقال عبدالواحد بن زيد: الزهد في الدينار والدرهم.
[*] وسئل الجنيد عن الزهد فقال : استصغار الدنيا، ومحو آثارها من القلب.
[*] وقال أبو سليمان الداراني: الزهد: ترك ما يشغل عن الله.
(أجمع تعريف للزهد :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
هذه التعريفات للزهد والتي عرفها أئمة الهدى وأعلام التقى ومصابيح الدجى ، من حلية الأولياء وأعلام النبلاء ، من الأضواء اللامعة والنجوم الساطعة بينها اختلاف تنوع وليس اختلاف تضاد ، ولا شك أن الزهد يشملها جميعا ، ولعل أجمع تعريف للزهد هو ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حيث قال : " الزهد: هو ترك ما لا ينفع في الآخرة " ، وهذا يشمل ترك ما يضر ، وترك ما لا ينفع ولا يضر .
،ويعين العبد على ذلك علمه أن الدنيا ظل زائل، وخيال زائر فهي كما قال تعالى: {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا} [ الحديد : 20] ، و سماها الله {مَتَاعُ الْغُرُورِ} و نهى عن الاغترار بها ، لذلك تجد الزاهد ينأى بنفسه عن الدنيا وعزف عنها فهو لا يصانع ولا يضارع ولا يتبع المطامع.(2/85)
وبيَّن الله تبارك وتعالى في القرآن حقارة الدنيا وسرعة زوالها واستصغار شأنها ، وحثهم على عمل ما خلقوا لأجلها وهي العبادة فقال تعالى : ( يَأَيَّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الغَرُورْ )[ فاطر:5] .
وقال أيضاً: ( وَمَا هَذِهِ الحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَ لَعِبٌ وَإِنَّ الدَارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُون ) [ العنكبوت :64]
وقال تعالى : (المَالُ وَالبَنُونَ زِيْنَةُ الحَيَاةِ الدًّنْيَا وَالبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوابَاً وَخَيْرٌ أَمَلاً ) [ الكهف :64]
وأخبرنا عن سوء عاقبة المغترين ، وحذرنا مثل مصارعهم وذم من رضي بها واطمأن إليها، ولعلمه أن وراءها داراً أعظم منها قدراً وأجل خطراً، وهي دار البقاء، يضاف إلى ذلك معرفته وإيمانه الحق بأن زهده في الدنيا لا يمنعه شيئاً كتب له منها، وأن حرصه عليها لا يجلب له ما لم يقض له منها، فمتى تيقن ذلك ترك الرغبة فيما لا ينفع في الدار الآخرة ، فأما ما ينفع في الدار الآخرة فالزهد فيه ليس من الدين بل صاحبه داخل في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [ المائدة:87 ]
(حقيقة الزهد :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
مسألة : ماذا نعني بالزهد ؟
نعني بالزهد استصغار الدنيا، والحذر من طغيانها وسيطرتها على القلب.(2/86)
طلب عمر بن عبد العزيز رحمه الله النصيحة من الحسن رحمه الله تعالى، فكتب إليه الحسن: إن رأس ما هو مصلحك ومصلح به على يديك : الزهد في الدنيا، وإنما الزهد باليقين ، واليقين بالتفكر ، والتفكر بالاعتبار ، فأنت إذا فكرت في الدنيا لم تجدها أهلاً أن تبيع بها نفسك ، ووجدت نفسك أهلا أن تكرمها بهوان الدنيا ، فإن الدنيا دار بلاء ومنزل قُلْعَةٍ.( أي دار رحيل وانتقال).
وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبهما موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد ، ودرر الفرائد . (
( حديث أبي أيوب رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجة ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :إذا قمت في صلاتك فَصَلِ صلاةَ مُوَدِّعٍ و لا تكلم بكلام تَعْتَذِرُ منه وأجْمِع اليأس عما في أيدي الناس .
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
( إذا قمت في صلاتك ) أي شرعت فيها
( فصل صلاة مودع ) أي إذا شرعت فيها فأقبل على الله وحده ودع غيره لمناجاة ربك ( ولا تكلم ) بحذف إحدى التاءين تخفيفاً
( بكلام تعتذر منه ) أي لا تتكلم بشيء يوجب أن يطلب من غيرك رفع اللوم عنك بسببه
( وأجْمِع اليأس عما في أيدي الناس ) أي اعزم وصمم على قطع الأمل مما في يد غيرك من جميع الخلق فإنه يريح القلب والبدن . وإذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله قال الراغب : وأكثر ما يقال أجمع فيما يكون جمعا يتوصل إليه بالفكر نحو { أجمعوا أمركم وشركاءكم }
والإياس : القنوط وقطع الأمل
( تنبيه ) من البين أن كلا من الكلام المحوح للعذر والإياس مما في أيدي الناس مأمور به لا بقيد القيام إلى الصلاة . أهـ(2/87)
(حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب ) قال : أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم رجلٌ فقال : يا رسول الله : أوصني وأوجز، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " عليك بالإياس مما في أيدي الناس ، وإياك مما يعتذر منه".
فمن زهد في الدنيا رنا بطرفه وقلبه نعيم الجنات ، وجوار الكبير المتعال.
(والزهد في الدنيا هو ما كان عليه رسول الله وأصحابه، فهو ليس بتحريم الطيبات وتضييع الأموال، ولا بلبس المرقع من الثياب، ولا بالجلوس في البيوت وانتظار الصدقات، فليس الزهد أن ترفض المال وأن تكون فقيراً ، أن تكون عالةً على الناس ، أن تكون يدك هي السفلى ، ولكن الزهد أن تكسب المال وأن تجعله بيديك لا بقلبك فإن المؤمن القوي خيرٌ وأحبُ إلى الله من المؤمن الضعيف .
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :المؤمن القوي خير وأحب إلي الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كان كذا وكذا ولكن قل قدر الله وما شاء فعل فإن لو تفتح عمل الشيطان .
ولا شك أن العمل الحلال والكسب الحلال والنفقة الحلال عبادة يتقرب بها العبد إلى الله ، بشرط أن تكون الدنيا في الأيدي، ولا تكون في القلوب، وإذا كانت الدنيا في يد العبد لا في قلبه، استوى في عينه إقبالها وإدبارها ، فلم يفرح بإقبالها، ولم يحزن على إدبارها.
[*] قال ابن القيم في وصف حقيقة الزهد:
وليس المراد ـ من الزهد ـ رفضها ـ أي الدنيا ـ من الملك، فقد كان سليمان وداود - عليهما السلام- من أزهد أهل زمانهما، ولهما من المال والملك والنساء مالهما.
وكان نبينا من أزهد البشر على الإطلاق وله تسع نسوة.
وكان علي بن أبي طالب، وعبدالرحمن بن عوف، والزبير وعثمان - رضي الله عنهم- من الزهاد مع ما كان لهم من الأموال.(2/88)
فلو نظرنا إلى العشرة المبشرين بالجنة لوجدنا أن أكثرهم كانوا من أصحاب رؤوس الأموال الطائلة ومن التجار، فهذا أبو بكر وعثمان وعبد الرحمن بن عوف لو نظرنا إليهم بمنظار العصر لقيل عنهم أنهم من أصحاب الملايين، فهل تخلف أحدهم عن غزوة مع رسول الله ؟ هل ألهاهم التكاثر فمنعوا الإنفاق في سبيل الله؟ كلا والله ثم كلا، هل سعوا للرئاسة والتفاخر وتزكية النفس وطلب المدح؟ لا والله ما فعلوا، بل هم أبعد الأمة عن هذه الأمور، وكانوا يجودون بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله ولنصرة دينه ولنصرة النبي صلى الله عليه وسلم.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن بشر بن الحارث، قال: قيل لسفيان الثوري: أيكون الرجل زاهداً ويكون له المال؟ قال: نعم، إن كان إذا ابتلى صبر وإذا أعطى شكر.
[*] قال يونس بن ميسرة : " ليس الزهادة فى الدنيا بتحريم الحلال ، ولا إضاعة المال، ولكن الزهادة فى الدنيا أن تكون بما فى يد الله أوثق منك بما فى يدك، وأن تكون حالك فى المصيبة وحالك إذا لم تصب بها سواء وأن يكون مادحكم وذامّكم فى الحق سواء " .
ففسر الزهد فى الدنيا بثلاثة أشياء كلها من أعمال القلوب لامن أعمال الجوارح، ولهذا كان أبو سليمان يقول : لاتشهد لأحد بالزهد .
أحدها : أن يكون العبد بما فى يد الله أوثق منه بما فى يد نفسه، وهذا ينشأ من صحة اليقين وقوته ، قيل لأبى حازم الزاهد: ما مالك ؟ قال : " مالان لا أخشى معهما الفقر : الثقة بالله ، واليأس مما فى أيدى الناس ".
وقيل له : أما تخاف الفقر ؟ فقل : " أنا أخاف الفقر ومولاى له ما فى السموات ، وما فى الأرض ، وما بينهما ، وما تحت الثرى ؟ " .
[*] قال الفضيل رحمه الله : أصل الزهد : الرضى عن الله عزّ وجلّ .(2/89)
(وقال : القنوع هو الزاهد، وهو الغنى ، فمن حقق اليقين، وثق بالله فى أموره كلها ، ورضى بتدبيره له ، وانقطع عن التعلق بالمخلوقين رجاءاً وخوفاً ، ووضعه ذلك من طلب الدنيا بالأسباب المكروهة، ومن كان كذلك كان زاهداً حقاً ، وكان من أغنى الناس ، وإن لم يكن له شىء من الدنيا ، كما قال عمار - رضي الله عنه - : كفى بالموت واعظاً ، وكفى باليقين غنى، وكفى بالعبادة شغلاً " .
[*] وقال ابن مسعود - رضي الله عنه - : " اليقين أن لا تُرضى الناس بسخط الله، ولا تحسد أحداً على رزق الله ، ولا تلم أحداً على مالم يؤتك الله ، فإن رزق الله لا يسوقه حرص حريص ، ولا يرده كراهية كاره، فإن الله يقسطه ، وعلمه ، وحكمته ، جعل الروح والفرح فى اليقين والرضى، وجعل الهم والحزن فى السخط والشك " .
الثانى : أن يكون العبد إذا أصيب بمصيبة فى دنياه : من ذهاب مال، أو ولد، أو غير ذلك ، أرغب فى ثواب ذلك مما ذهب منه من الدنيا أن يبقى له، وهذا أيضاً ينشأ من كمال اليقين.
[*] قال علىّ كرم الله وجهه : " من زهد فى الدنيا هانت عليه المصيبات ". وقال بعض السلف : لولا مصائب الدنيا لوردنا الآخرة من المفاليس .
الثالث : أن يستوى عند العبد مادحه وذامه فى الحق، وإذا عظمت الدنيا فى قلب العبد اختار المدح وكره الذم ، وربما حمله ذلك على ترك كثير من الحق خشية الذم، على فعل كثير من الباطل رجاء المدح.
فمن استوى عنده حامده وذامه فى الحق دلّ على سقوط منزلة المخلوقين من قلبه وامتلاه من محبة الحق، وما فيه رضى مولاه، كما قال ابن مسعود - رضي الله عنه - : " اليقين أن لا ترضى الناس بسخط الله " .
وقد مدح الله عزّ وجلّ الذين يجاهدون فى سبيله ، ولا يخافون لومة لائم، وقد ورد عن السلف روايات أخرى فى تفسير الزهد.(2/90)
قال الحسن : " الزاهد الذى إذا رأى أحداً قال : هو أزهد منى ". وسئل بعضهم – أظنه الإمام أحمد – عمن معه مال هل يكون زاهداً ؟ قال : " إن كان لايفرح بزيادته ولا يحزن بنقصه فهو زاهد " .
فالزاهد من أتته الدنيا راغمة صفواً عفواً وهو قادر على التنعم بها من غير نقصان جاه وقبح اسم ولا فوات حظ للنفس، فتركها خوفاً من أن يأنس بها، فيكون آنساً بغير الله ومحباً لما سوى الله، ويكون مشركاً في حب الله تعالى غيره. أو تركها طمعاً في ثواب الله في الآخرة فترك التمتع بأشربة الدنيا طمعاً في أشربة الجنة، وترك التمتع بالسراري والنسوان طمعاً في الحور العين، وترك التفرج في البساتين طمعاً في بساتين الجنة وأشجارها، وترك التزين والتجمل بزينة الدنيا طمعاً في زينة الجنة، وترك المطاعم اللذيذة طمعاً في فواكه الجنة وخوفاً من أن يقال له: " أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا" فآثر في جميع ذلك ما وعد على ما تيسر له في الدنيا عفواً صفواً لعلمه بأن ما في الآخرة خير وأبقى، وأن ما سوى هذا فمعاملات دنيوية لا جدوى لها في الآخرة أصلاً.(2/91)
(لقد وعى سلفنا الصالح تلك المعاني ، وقدروها حقّ قدرها ، فترجموها إلى مواقف مشرفة نقل التاريخ لنا كثيرا منها ، وكان حالهم ما قاله الحسن البصري رحمه الله : " أدركت أقواما وصحبت طوائف ما كانوا يفرحون بشيء من الدنيا إذا أقبل ، ولا يأسفون على شيء منها إذا أدبر ، وكانت في أعينهم أهون من التراب ، كان أحدهم يعيش خمسين سنة أو ستين سنة لم يُطوَ له ثوبٌ ، ولم يُنصب له قدرٌ ، ولم يجعل بينه وبين الارض شيئاً، ولا أمَرَ مَنْ فى بيته بصنعة طعام قط ، فإذا كان الليل ، فقيام على أقدامهم يفترشون وجوههم ، تجرى دموعهم على خدودهم يناجون ربهم فى فكاك رقابهم ، كانوا إذا عملوا الحسنة دأبوا فى شكرها، وسألوا الله أن يقبلها، وإذا عملوا السيئة أحزنتهم ، وسألوا الله أن يغفرها، فلم يزالوا على ذلك ، ووالله : ما سلموا من الذنوب ولا نجوا إلا بالمغفرة ، فرحمة الله عليهم ورضوانه ".
لقد نظروا إليها بعين البصيرة ، ووضعوا نُصب أعينهم قول الله تعالى : { يا أيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور } (فاطر : 5 ) ، وقوله : { واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح } ( الكهف : 45 ) ، فهانت عليهم الدنيا بكلّ ما فيها ، واتخذوها مطيّة للآخرة ، وسبيلاً إلى الجنّة .
ومن أحسن ما قيل في الزهد كلام الحسن أو غيره: ليس الزهد في الدنيا بتحريم الحلال ولا إضاعة المال، ولكن أن تكون بما في يد الله أوثق منك بما في يدك.
فالزهد ليس تجنب المال بالكلية بل تساوي وجوده وعدمه.
فقد كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يأكل اللحم والحلوى والعسل ، ويحب النساء والطيب والثياب الحسنة .
[*] جاء رجل إلى الحسن فقال : إن لي جاراً لا يأكل الفالوذج، فقال الحسن: ولم؟ قال: يقول: لا أؤدي شكره، فقال الحسن: إن جارك جاهل، وهل يؤدي شكر الماء البارد؟.(2/92)
[*] وقد سئل الإمام أحمد: أيكون الإنسان ذا مال وهو زاهد، قال: نعم، إن كان لا يفرح بزيادته ولا يحزن بنقصانه،أهـ
[*] قال بشر الحافي : قل لمن طلب الدنيا ، تهيأ للذل.
قال بشر بن الحارث: قيل لسفيان الثوري : أيكون الرجل زاهدا ويكون له المال؟ قال : نعم إذا ابتلي صبر ، وإذا أعطي شكر.
هذا هو حقيقة الزهد فالزاهد لا يفرح من الدنيا بموجود ، ولا يأسف منها على مفقود امتثالاً لقوله تعالى : {لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [ الحديد : 23]
[*] وقال الحسن : ليس الزهد بإضاعة المال ولا بتحريم الحلال، ولكن أن تكون بما في يد الله أوثق منك بما في يد نفسك، وأن تكون حالك في المصيبة، وحالك إذا لم تصب بها سواء، وأن يكون مادحك وذامك في الحق سواء .
ويشهد لذلك الأحاديث الآتية :
(حديث عمرو بن العاص في صحيح الأدب المفرد) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : نعم المال الصالح للمرء الصالح .
(حديث يسار بن عُبيد في صحيح ابن ماجة) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لا بأس بالغنى لمن اتقى و الصحة لمن اتقى خير من الغنى و طيب النفس من النعيم .(2/93)
(حديث أبي كبشة الأنماري في صحيحي الترمذي وابن ماجة ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إِنَّمَا الدُّنْيَا لأَرْبَعَةِ نَفَرٍ عَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالاً وَعِلْماً فَهُوَ يَتَّقِى فِيهِ رَبَّهُ وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ وَيَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا فَهَذَا بِأَحسنِ الْمَنَازِلِ عند الله وَرجلٍ رَزَقَهُ اللَّهُ عِلْماً وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالاً فَهُوَ يَقُولُ لَوْ أَنَّ لي مَالاً لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلاَنٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ وهما في الأجرِسَوَاءٌ ، وَرجلٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالاً وَلَمْ يَرْزُقْهُ عِلْماً فَهُوَ يَخْبِطُ في مَالِهِ لاَ يَتَّقِى فِيهِ رَبَّهُ وَلاَ يَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ وَلاَ يَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا فهو بِأَسوءِ الْمَنَازِلِ عند الله وَرجلٍ لَمْ يَرْزُقْهُ اللَّهُ مَالاً وَلاَ عِلْماً فَهُوَ يَقُولُ لَوْ أَنَّ لي مَالاً لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلاَنٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ وهما في الوزر سَوَاءٌ .
هذه هي حقيقة الزهد، وعلى هذا فقد يكون العبد أغنى الناس لكنه من أزهدهم؛ لأنه لم يتعلق قلبه بالدنيا، وقد يكون آخر أفقر الناس وليس له في الزهد نصيب؛ لأن قلبه يتقطع على الدنيا.
مسألة : هل الزهد لبس الثياب المرقعة ، وصيام الدهر ، والابتعاد عن المجتمع ، أو غير ذلك ؟
الجواب :(2/94)
"ليس الزهد لبس المرقع من الثياب ، ولا اعتزال الناس والبعد عن المجتمع ، ولا صيام الدهر ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم سيد الزاهدين ، وكان يلبس الجديد من الثياب ، ويتزين للوفود وفي الجمع والأعياد ، ويخالط الناس ، ويدعوهم إلى الخير ويعلمهم أمور دينهم ، وكان ينهى أصحابه رضي الله عنهم عن صيام الدهر ، وإنما الزهد التعفف عن الحرام ، وما يكرهه الله تعالى ، وتجنب مظاهر الترف والإفراط في متع الدنيا ، والإقبال على عمل الطاعات ، والتزود للآخرة بخير الزاد ، وخير تفسير له سيرة النبي صلى الله عليه وسلم العملية .
وبالله التوفيق ، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم" انتهى .
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء .
الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز ... الشيخ عبد الرزاق عفيفي ... الشيخ عبد الله بن غديان ... الشيخ عبد الله بن قعود .
"فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء" (24/369) .
(درجات الزهد وأقسامه :
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن إبراهيم بن أدهم: الزهد ثلاثة أصناف، فزهد فرض، وزهد فضل، وزهد سلامة، فالفرض الزهد في الحرام، والفضل الزهد في الحلال، والسلامة الزهد في الشبهات.
[*] وقال الغزالي رحمه الله في الإحياء :
الزهد في نفسه يتفاوت بحسب تفاوت قوته على درجات ثلاث:
- الدرجة الأولى وهي السفلى : منها أن يزهد في الدنيا وهو لها مشته وقلبه إليها مائل ونفسه إليها ملتفتة، ولكنه يجاهدها ويكفها، وهذا يسمى المتزهد، وهو مبدأ الزهد في حق من يصل إلى درجة الزهد بالكسب والاجتهاد، والمتزهد يذيب أولاً نفسه ثم كيسه والزاهد أولاً يذيب كيسه ثم يذيب نفسه في الطاعات لا في الصبر على ما فارقه، والمتزهد على خطر، فإنه ربما تغلبه نفسه وتجذبه شهوته فيعود إلى الدنيا وإلى الاستراحة بها في قليل أو كثير.(2/95)
- الدرجة الثانية: الذي يترك الدنيا طوعاً لاستحقاره إياها بالإضافة إلى ما طمع فيه، كالذي يترك درهماً لأجل درهمين، فإنه لا يشق عليه ذلك وإن كان يحتاج إلى انتظار قليل، ولكن هذا الزاهد يرى لا محالة زهده ويلتفت إليه، كما يرى البائع المبيع ويلتفت إليه فيكاد يكون معجباً بنفسه وبزهده، ويظن في نفسه أنه ترك شيئاً له قدر لما هو أعظم قدراً منه، وهذا أيضاً نقصان.
- الدرجة الثالثة وهي العليا: أن يزهد طوعاً ويزهد في زهده فلا يرى زهده، إذ لا يرى أنه ترك شيئاً ، لأنه عرف أن الدنيا لا شيء فيكون كمن ترك خزفة وأخذ جوهرة، فلا يرى ذلك معاوضة، ولا يرى نفسه تاركاً شيئاً والدنيا بالإضافة إلى الله تعالى نعيم الآخرة أخس من خزفة بالإضافة إلى جوهرة، فهذا هو الكمال في الزهد. وسببه كمال المعرفة، ومثل هذا الزهد آمن من خطر الالتفات إلى الدنيا، كما أن تارك الخزفة بالجوهرة أمن من طلب الإقالة في البيع.
فهذا تفاوت درجات الزهد، وكل درجة من هذه أيضاً لها درجات، إذ تصبر المتزهد يختلف ويتفاوت أيضاً باختلاف قدر المشقة في الصبر، وكذلك درجة المعجب بزهده بقدر التفاته إلى زهده.
(وأما انقسام الزهد بالإضافة إلى المرغوب فيه أيضاً على ثلاث درجات:
- الدرجة السفلى : أن يكون المرغوب فيه النجاة من النار ومن سائر الآلام كعذاب القبر، ومناقشة الحساب وخطر الصراط وسائر ما بين يدي العبد من الأهوال .
- الدرجة الثانية: أن يزهد رغبة في ثواب الله ونعيمه واللذات الموعودة في جنته من الحور والقصور وغيرها، وهذا زهد الراجين، فإن هؤلاء ما تركوا الدنيا قناعة بالعدم والخلاص من الألم بل طمعوا في وجود دائم ونعيم سرمد لا آخر له.(2/96)
- الدرجة الثالثة وهي العليا: أن لا يكون له رغبة إلا في الله وفي لقائه، فلا يلتفت قلبه إلى الآلام ليقصد الخلاص منها ولا إلى اللذات ليقصد نيلها والظفر بها، بل هو مستغرق الهم بالله تعالى؛ وهو الذي أصبح وهمومه هم واحد؛ وهو الموحد الحقيقي الذي لا يطلب غير الله تعالى؛ لأن من طلب غير الله فقد عبده، وكل مطلوب معبود، وكل طالب عبد بالإضافة إلى مطلبه، وطلب غير الله من الشرك الخفي، وهذا زهد المحبين وهم العارفون لأنه لا يحب الله تعالى خاصة إلا من عرفه، وكما أن من عرف الدينار والدرهم وعلم أنه لا يقدر على الجمع بينهما لم يحب إلا الدينار، فكذلك من عرف الله وعرف لذة النظر إلى وجهه الكريم وعرف أن الجمع بين تلك اللذة وبين لذة التنعم بالحور العين والنظر إلى نقش القصور وخضرة الأشجار غير ممكن، فلا يحب إلا لذة النظر ولا يؤثر غيره، ولا تظنن أن أهل الجنة عند النظر إلى وجه الله تعالى يبقى للذة الحور والقصور متسع في قلوبهم، بل تلك اللذة بالإضافة إلى لذة نعيم أهل الجنة كلذة ملك الدنيا والاستيلاء على أطراف الأرض ورقاب الخلق بالإضافة إلى لذة الاستيلاء على عصفور واللعب به، والطالبون لنعيم الجنة عند أهل المعرفة وأرباب القلوب كالصبي الطالب للعب بالعصفور التارك للذة الملك، وذلك لقصوره عن إدراك لذة الملك لا لأن اللعب بالعصفور في نفسه أعلى وألذ من الاستيلاء بطريق الملك على كافة الخلق .أهـ
[*] قال الإمام أحمد رحمه الله : الزهد على ثلاثة أوجه : الأول ترك الحرام. وهو زهد العوام . والثاني ترك الفضول من الحلال وهو زهد الخواص والثالث : ترك ما يشغل عن الله وهو زهد العارفين .
(حكم الزهد :
مسألة : ما حكم الزهد ؟
[*] قال ابن القيم رحمه الله الزهد أقسام:
1ـ زهد في الحرام وهو فرض عين.
2ـ وزهد في الشبهات، وهو بحسب مراتب الشبهة، فإن قويت التحق بالواجب،
إن ضعفت كان مستحباً.(2/97)
3ـ وزهد في الفضول، وهو زهد فيما لا يعني من الكلام والنظر والسؤال واللقاء وغيره.
4ـ وزهد في الناس.
5ـ وزهد في النفس، بحيث تهون عليه نفسه في الله.
6ـ وزهد جامع لذلك كله، وهو الزهد فيما سوى الله وفي كل ما يشغلك عنه.
وأفضل الزهد إخفاء الزهد.. والقلب المعلق بالشهوات لا يصح له زهد ولا ورع.
(فضائل الزهد :
للزهد فضائلُ عظيمة ومزايا جسيمة والكتاب والسنة طافحان بما يدل على فضائل الزهد ، وإليك غيضٌ من فيض ونقطةٌ من بحر مما ورد في فضائل الزهد :
(1) من أعظم فضائل الزهد امتثال أمر الله تعالى :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
إن الذي يمعن النظر في كتاب الله تعالى إذا تَفَكَّر جلياً وتأمَّل ملياً يجد لا محالة أن الله تعالى الزهد في الدنيا وذم الرغبة فيها في غير موضع فقال تعالى: {وَفَرِحُواْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ } [ الرعد: 26] ، وقال عز وجل: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [ يونس:24]، وقال: {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [ الحديد: 23](2/98)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن إبراهيم بن أدهم قال : على القلب ثلاثة أغطية، الفرح والحزن والسرور، فإذا فرحت بالموجود فأنت حريص، والحريص محروم، وإذا حزنت على المفقود فأنت ساخط، والساخط معذب، وإذا سررت بالمدح فأنت معجب، والعجب يحبط العمل. ودليل ذلك كله قوله تعالى: ( لّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ عَلَىَ مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآ آتَاكُمْ وَاللّهُ لاَ يُحِبّ كُلّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ) [ الحديد : 23]
وقال تعالى حاكياً عن مؤمن آل فرعون أنه قال: {يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} [ غافر: 39]
وقال تعالى : { بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى } ( الأعلى : 16-17 )
وقال تعالى : { تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ } ( الأنفال: من الآية : 67 ) .
(2) التأسي بالنبي - صلى الله عليه وسلم - سيد الزاهدين وإمام العابدين :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
إن من يطالع سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - سيد الأولين والآخرين يعلم علم اليقين الذي لا يخالطه شك أنه - صلى الله عليه وسلم - سيد الزاهدين وإمام العابدين و يعلم كيف كان صلى الله عليه وسلم يرقع ثوبه، ويخصف نعله، ويحلب شاته، وما شبع من خبز الشعير يومين متتابعين حتى قبض، وكان لربما ظل اليوم يتلوى لا يجد من الدَقَل [ ردئ التمر ] ما يملأ بطنه ، وهاك غيضاً من فيض ونقطةً من بحر مما ورد في ذلك : (
( حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يخيط ثوبه و يخصف نعله و يعمل ما يعمل الرجال في بيوتهم .
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير :(2/99)
( كان يخيط ثوبه ويخصف نعله ويعمل ما يعمل الرجال في بيوتهم ) من الاشتغال بمهنة الأهل والنفس إرشاداً للتواضع وترك التكبر لأنه مشرف بالوحي والنبوة ومكرم بالمعجزات والرسالة وفيه أن الإمام الأعظم يتولى أموره بنفسه وأنه من دأب الصالحين .
( حديث عائشة رضي الله عنهاالثابت في صحيح الترمذي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يفلي ثوبه و يحلب شاته و يخدم نفسه .
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير :
( كان يفلي ثوبه ) بفتح فسكون من فلى يفلي كرمي يرمي ومن لازم التفلي وجود شيء يؤذي في الجملة كبرغوث وقمل فدعوى أنه لم يكن القمل يؤذيه ولا الذباب يعلوه دفعت بذلك وبعدم الثبوت ومحاولة الجمع بأن ما علق بثبوته من غيره لا منه ردت بأنه نفي أذاه وأذاه غذاؤه من البدن وإذا لم يتغذ لم يعش
( ويحلب شاته ويخدم نفسه ) عطف عام على خاص فنكتته الإشارة إلى أنه كان يخدم نفسه عموماً وخصوصاً قال المصري : ويجب حمله على أحيان فقد ثبت أنه كان له خدم فتارة يكون بنفسه وتارة بغيره وتارة بالمشاركة وفيه ندب خدمة الإنسان نفسه وأن ذلك لا يخل بمنصبه وإن جل .
(حديث أبي هريرة في صحيح البخاري) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ما بعث الله نبيا إلا رعى الغنم ، قال أصحابه وأنت ؟ فقال نعم كنت أرعاها على قراريط َ لأهل مكة.
[*] قال الإمام ابن حجر في الفتح :
( ما بعث الله نبيا إلا رعى الغنم ) :(2/100)
قال العلماء الحكمة في إلهام الأنبياء من رعى الغنم قبل النبوة أن يحصل لهم التمرن برعيها على ما يكلفونه من القيام بأمر أمتهم ولأن في مخالطتها ما يحصل لهم الحلم والشفقة لأنهم إذا صبروا على رعيها وجمعها بعد تفرقها في المرعى ونقلها من مسرح إلى مسرح ودفع عدوها من سبع وغيره كالسارق وعلموا اختلاف طباعها وشدة تفرقها مع ضعفها واحتياجها إلى المعاهدة ألفوا من ذلك الصبر على الأمة وعرفوا اختلاف طباعها وتفاوت عقولها فجبروا كسرها ورفقوا بضعيفها وأحسنوا التعاهد لها فيكون تحملهم لمشقة ذلك أسهل مما لو كلفوا القيام بذلك من أول وهلة لما يحصل لهم من التدريج على ذلك برعي الغنم وخصت الغنم بذلك لكونها أضعف من غيرها ولأن تفرقها أكثر من تفرق الإبل والبقر لإمكان ضبط الإبل والبقر بالربط دونها في العادة المألوفة ومع أكثرية تفرقها فهي أسرع انقياد من غيرها وفي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم لذلك بعد أن علم كونه أكرم الخلق على الله ما كان عليه من عظيم التواضع لربه والتصريح بمنته عليه وعلى إخوانه من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليه وعلى سائر الأنبياء
( كنت أرعاها على قراريط َ لأهل مكة ) :
يعني كل شاة بقيراط يعني القيراط الذي هو جزء من الدينار أو الدرهم .
( حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في الصحيحين ) قالت : " ما شبع آل محمد - صلى الله عليه وسلم - منذ قدم المدينة من خبز بُرٍ ثلاث ليال تباعاً حتى قبض " .
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت الثابت في الصحيحين) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا .
قوتاً : أي شيءٌ يسدُ الرمق .
[*] قال الإمام ابن حجر في الفتح :
قوتاً :أي اكفهم من القوت بما لا يرهقهم الى ذل المسألة ولا يكون فيه فضول تبعث على الترفه والتبسط في الدنيا وفيه حجة لمن فضل الكفاف لأنه إنما يدعو لنفسه وآله بأفضل الأحوال .(2/101)
( حديث عبد الله بن عمر الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (قد أفلح من أسلم ورُزق كفافاً و قنَّعه الله بما آتاه .
[*] قال الإمام النووي في شرح صحيح مسلم :
ورُزق كفافاً : الكفاف الكفاية بلا زيادة ولا نقص، وفيه فضيلة هذه الأوصاف :
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
( قد أفلح من أسلم ورزق كفافاً ) أي ما يكف عن الحاجات ، ويدفع الضرورات والفاقات ، ولا يلحقه بأهل الترفهات . قال القاضي : الفلاح الفوز بالبغية
( وقنعه اللّه بما آتاه ) بمد الهمزة أي جعله قانعاً بما أعطاه إياه ولم يطلب الزياد لمعرفته أن رزقه مقسوم لن يعدو ما قدر له والفلاح الفوز بالبغية في الدارين والحديث قد جمع بينهما والمراد بالرزق الحلال منه فإن المصطفى صلى اللّه تعالى عليه وعلى آله وسلم مدح المرزوق وأثبت له الفلاح وذكر الأمرين وقيد الثاني بقنع أي رزق كفافاً وقنعه اللّه بالكفاف فلم يطلب الزيادة وأطلق الأوّل ليشمل جميع ما يتناوله الإسلام ذكره الطيبي وصاحب هذه الحالة معدود من الفقراء لأنه لا يترفه في طيبات الدنيا بل يجاهد نفسه في الصبر على القدر الزائد على الكفاف فلم يفته من حال الفقراء إلا السلامة من قهر الرجال وذل المسألة .
(حديث عبيد الله بن محصن الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :( من أصبح منكم آمناً في سربه معافى في جسده عنده قوتُ يومه فكأنما حيزت له الدنيا .
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
( من أصبح منكم آمنا في سربه ) بكسر السين على الأشهر أي في نفسه وروي بفتحها أي في مسلكه وقيل بفتحتين أي في بيته
( معافى في جسده ) أي صحيحاً بدنه(2/102)
( عنده قوت يومه ) أي غذاؤه وعشاؤه الذي يحتاجه في يومه ذلك ، يعني من جمع اللّه له بين عافية بدنه وأمن قلبه حيث توجه وكفاف عيشه بقوت يومه وسلامة أهله فقد جمع اللّه له جميع النعم التي من ملك الدنيا لم يحصل على غيرها فينبغي أن لا يستقبل يومه ذلك إلا بشكرها بأن يصرفها في طاعة المنعم لا في معصية ولا يفتر عن ذكره
( فكأنما حيزت ) بكسر المهملة
( له الدنيا ) أي ضمت وجمعت
( بحذافيرها ) أي بجوانبها أي فكأنما أعطي الدنيا بأسرها ، ومن ثم قال نفطويه : إذا ما كساك الدهر ثوب مصحة * ولم يخل من قوت يحلى ويعذب فلا تغبطن المترفين فإنه * على حسب ما يعطيهم الدهر يسلب وقال : إذا القوت يأتي لك والصحة والأمن * وأصبحت أخا حزن فلا فارقك الحزن وفيه حجة لمن فضل الفقر على الغنى .
( حديث سلمان الفارسي رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ليكف الرجل منكم كزاد الراكب .
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
( ليكف الرجل منكم ) من الدنيا(2/103)
( كزاد الراكب ) يعني ليكفك من الدنيا ما يبلغك إلى الآخرة فالمؤمن يتزود منها والفاجر يستمتع فيها والأصل أن من امتلأ قلبه بالإيمان استغنى عن كثير من مؤن دنياه واحتمل المشاق في تكثير مؤن أخراه ، وفيه تنبيه على أن الإنسان مسافر لا قرار له فيحمل ما يبلغه المنزلة بين يديه مرحلة مرحلة ويقتصر عليه وفي بعض الكتب المنزلة ابن آدم خذ من الددنيا ما شئت وخذ من الهم أضعافه . ( تنبيه ) كان بعض العارفين إذا انقضى فصل الشتاء أو الصيف يتصرف في الثياب الذي يلبسها في ذلك الفصل ولا يدخرها إلى الفصل الآخر وهو مقام عيسوي فإن المسيح عليه السلام لم تكن له ثياب تطوى زيادة على ما عليه من جبة صوف أو قطن وكانت مخدته ذراعيه وقصعته بطنه ووضع لبنة على لبنة من طين تحت رأسه فقال له ابليس قد رغبت يا عيسى في الدنيا بعد ذلك الزهد فرمى بهما واستغفر وتاب ، وكان أبو حذيفة يقول : أحب الأيام إلي يوم يأتيني الخادم فيقول : ما في بيتنا اليوم شيء نأكله ، هذا تأكيد شديد في الترغيب في الزهد ، قال العلائي : والباعث عليه قصر الأمل ولهذا أشار إليه بقوله كزاد الراكب تشبيهاً للإنسان في الدنيا بحال المسافر . أهـ
(وكان يربط الحجر على بطنه من الجوع :
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يربط الحجر على بطنه من الغرث .
الغرث : الجوع(2/104)
(حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب ) قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فرأيته متغيرا ؟ فقلت بأبي أنت ما لي أراك متغيرا قال ما دخل جوفي ما يدخل جوف ذات كبد منذ ثلاث ، قال فذهبت فإذا يهودي يسقي إبلا له فسقيت له على كل دلو بتمرة فجمعت تمرا فأتيت به النبي صلى الله عليه وسلم فقال من أين لك يا كعب فأخبرته فقال النبي صلى الله عليه وسلم أتحبني يا كعب قلت بأبي أنت نعم ، قال إن الفقر أسرع إلى من يحبني من السيل إلى معادنه وإنه سيصيبك بلاء فأعد له تجفافا ، قال ففقده النبي صلى الله عليه وسلم فقال ما فعل كعب قالوا مريض فخرج يمشي حتى دخل عليه فقال له أبشر يا كعب فقالت أمه هنيئا لك الجنة يا كعب فقال النبي صلى الله عليه وسلم من هذه المتألية على الله عز وجل قلت هي أمي يا رسول الله ، قال ما يدريك يا أم كعب لعل كعبا قال ما لا ينفعه ومنع ما لا يغنيه .
وكان - صلى الله عليه وسلم - يمر على أهله الهلال ثم الهلال ثم الهلال لا يوقد في بيتهم النار، طعامهم الأسودان: التمر والماء
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في الصحيحين ) أنها قالت لعروة: ابن أختي، إن كنا لننظر إلى الهلال، ثم الهلال، ثلاثة أهلة في شهرين، وما أوقدت في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار. فقلت: يا خالة، ما كان يُعَيِّشُكُم؟ قالت: الأسودان التمر والماء، إلا أنه قد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم جيران من الأنصار، كانت لهم منائح، وكانوا يمنحون رسول الله صلى الله عليه وسلم من ألبانهم فيسقينا .
[*] قال الإمام ابن حجر في الفتح :
إن كنا لننظر إلى الهلال، ثم الهلال، ثلاثة أهلة في شهرين : المراد بالهلال الثالث هلال الشهر الثالث وهو يرى عند انقضاء الشهرين وبرؤيته يدخل أول الشهر الثالث .
وما أوقدت في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار : لا يوقد في شيء من بيوته نار لا لخبز ولا لطبخ .(2/105)
ما كان يُعَيِّشُكُم ؟ بضم أوله يقال أعاشه الله أي أعطاه العيش .
الأسودان التمر والماء : الأسودان يطلق على التمر والماء والسواد للتمر دون الماء فنعتا بنعت واحد تغليبا وإذا اقترن الشيئان سميا باسم أشهرهما .
منائح : جمع منيحة بنون وحاء مهملة
( حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري ) قال : ما أكل النبي صلى الله عليه وسلم خبزاً مرققاً، ولا شاة مسموطة حتى لقي الله .
[*] قال الحافظ بن حجر في الفتح :
ما أكل النبي صلى الله عليه وسلم خبزاً مرققاً : وأكل المرقق إنما هو لدفع طيبات الدنيا اختيارا لطيبات الحياة الدائمة .
ولا شاة مسموطة : المسموط الذي ازيل شعره بالماء المسخن وشوى بجلده أو يطبخ وإنما يصنع ذلك في الصغير السن الطري وهو من فعل المترفين من وجهين أحدهما المبادرة إلى ذبح ما لو بقي لازداد ثمنه وثانيهما أن المسلوخ ينتفع بجلده في اللبس وغيره .
( حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري ) قال : ما علمت النبي صلى الله عليه وسلم أكل على سُكُرُّجَةٍ قطُّ، ولا خُبِزَ له مرقَّق قطُّ، ولا أكل على خِوَان قطُّ. قيل لقتادة: فعلى ما كانوا يأكلون؟ قال: على السُّفَر.
[*] قال صاحب تحفة الأحوذي :
( سُكُرُّجَةٍ) بِضَمِّ السِّينِ وَالْكَافِ وَالرَّاءِ وَالتَّشْدِيدِ إِنَاءٌ صَغِيرٌ يُؤْكَلُ فِيهِ الشَّيْءُ الْقَلِيلُ مِنَ الْأُدْمِ وَهِيَ فَارِسِيَّةٌ، وَأَكْثَرُ مَا يُوضَعُ فِيهِ الْكَوَامِخُ وَنَحْوُهَا كَذَا فِي النِّهَايَةِ.(2/106)
قَالَ الْعِرَاقِيُّ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ: تَرْكُهُ الْأَكْلَ فِي السُّكُرُّجَةِ إِمَّا لِكَوْنِهَا لَمْ تَكُنْ تُصْنَعُ عِنْدَهُمْ إِذْ ذَاكَ أَوِ اسْتِصْغَارًا لَهَا؛ لِأَنَّ عَادَتَهُمْ لِلِاجْتِمَاعِ عَلَى الْأَكْلِ أَوْ لِأَنَّهَا كَانَتْ تُعَدُّ لِوَضْعِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي تُعِينُ عَلَى الْهَضْمِ وَلَمْ يَكُونُوا غَالِبًا يَشْبَعُونَ فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ حَاجَةٌ بِالْهَضْمِ انْتَهَى.
(عَلَى خِوَانٍ) بِكَسْرِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَيُضَمُّ أَيْ مَائِدَةٍ.
( حديث ابن عباس رضي الله عنهما الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يجلس على الأرض و يأكل على الأرض و يعتقل الشاة و يجيب دعوة المملوك على خبز الشعير .
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
( كان يجلس على الأرض ) أي من غير حائل
( ويأكل على الأرض ) من غير مائدة ولا خوان إشارة إلى طلب التساهل في أمر الظاهر وصرف الهمم إلى عمارة الباطن وتطهير القلوب وتأسى به أكابر صحبه فكانوا يصلون على الأرض في المساجد ويمشون حفاة في الطرقات ولا يجعلون غالباً بينهم وبين التراب حاجزاً في مضاجعهم قال الغزالي : وقد اتنهت النوبة الآن إلى طائفة يسمون الرعونة نظافة ويقولون هي مبنى الدين فأكثر أوقاتهم في تزيين الظاهر كفعل الماشطة بعروسها والباطن خراب ولا يستنكرون ذلك ولو مشى أحدهم على الأرض حافياً أو صلى عليها بغير سجادة مفروشة أقاموا عليه القيامة وشددوا عليه النكير ولقبوه بالقذر وأخرجوه من زمرتهم واستنكفوا عن مخالطته فقد صار المعروف منكراً والمنكر معروفاً
( ويعتقل الشاة )أي يجعل رجليه بين قوائمها ليحلبها إرشاداً إلى التواضع وترك الترفع .(2/107)
( ويجيب دعوة المملوك على خبز الشعير ) زاد في رواية والإهالة السنخة أي الدهن المتغير الريح وعلمه ذلك أنها بإخبار الداعي أو للعلم بفقره ورثاثة حاله أو مشاهدة غالب مأكوله ونحو ذلك من القرابين الخالية فكان لا يمنعه ذلك من إجابته وإن كان حقيراً وهذا من كمال تواضعه ومزيد براءته من سائر صنوف الكبر وأنواع الترفع .
( وكان يقول: (اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة
(حديث سهل بن سعد رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخندق، وهم يحفرون، ونحن ننقل التراب على أكتادنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم لا عيش الا عيش الآخرة فاغفر للمهاجرين والأنصار).
( حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيح مسلم ) قالت: إنما كان فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ينام عليه أدماً حشوه ليف.
[*] قال الإمام النووي في شرح صحيح مسلم :
وفي الحديث ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من الزهادة في الدنيا والإعراض عن متاعها وملاذها وشهواتها وفاخر لباسها ونحوه واجتزائه بما يحصل به أدنى التجزية في ذلك كله، وفيه الندب للاقتداء به صلى الله عليه وسلم في هذا وغيره.
[*] وقال العلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:
وَالْأَدَمُ بِفَتْحَتَيْنِ: اسْمٌ لِجَمْعِ الْأَدِيمِ وَهُوَ الْجِلْدُ الْمَدْبُوغُ عَلَى مَا فِي الْمُغْرِبِ(2/108)
(حَشْوُهُ لِيفٌ) : قَالَ فِي الْقَامُوسِ: لِيفُ النَّخْلِ بِالْكَسْرِ مَعْرُوفٌ. وَقَالَ فِي الصُّرَاحِ لِيفٌ بِالْكَسْرِ يوست درخت خرما. وَفِي الْحَدِيثِ جَوَازُ اتِّخَاذِ الْفِرَاشِ،، وَالْوِسَادَةِ وَالنَّوْمِ عَلَيْهَا وَالِارْتِفَاقِ بِهَا، قَالَهُ النَّوَوِيُّ. قَالَ الْقَارِيُّ: الْأَظْهَرُ أَنَّهُ يُقَالُ فِيهِ بِالِاسْتِحْبَابِ لِمُدَاوَمَتِهِ عَلَيْهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلِأَنَّهُ أَكْمَلُ لِلِاسْتِرَاحَةِ الَّتِي قُصِدَتْ بِالنَّوْمِ لِلْقِيَامِ عَلَى النَّشَاطِ فِي الْعِبَادَةِ.
(حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة ) قال نام رسول الله صلى الله عليه وسلم على حصير فقام وقد أثر في جنبه قلنا يا رسول الله لو اتخذنا لك وطاء فقال ما لي وللدنيا ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها .
[*] قال صاحب تحفة الأحوذي :
( فَقَامَ ) أَيْ عَنِ النَّوْمِ
( وَقَدْ أَثَّرَ ) أَيْ أَثَّرَ الْحَصِيرُ
( لَوِ اتَّخَذْنَا لَكَ وِطَاءً ) بِكَسْرِ الجزء السابع الْوَاوِ وَفَتْحِهَا كَكِتَابٍ وَسَحَابٍ أَيْ فِرَاشًا وَكَلِمَةُ ( لَوْ ) تَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ لِلتَّمَنِّي وَأَنْ تَكُونَ لِلشَّرْطِيَّةِ وَالتَّقْدِيرُ لَوِ اتَّخَذْنَا لَكَ بِسَاطًا حَسَنًا وَفِرَاشًا لَيِّنًا لَكَانَ أَحْسَنَ مِنَ اضْطِجَاعِكَ عَلَى هَذَا الْحَصِيرِ الْخَشِنِ(2/109)
( مَالِي وَلِلدُّنْيَا ) قَالَ الْقَارِي: مَا نَافِيَةٌ أَيْ لَيْسَ لِي أُلْفَةٌ وَمَحَبَّةٌ مَعَ الدُّنْيَا وَلَا لِلدُّنْيَا أُلْفَةٌ وَمَحَبَّةٌ مَعِي حَتَّى أَرْغَبَ إِلَيْهَا، وَأَنْبَسِطُ عَلَيْهَا وَأَجْمَعُ مَا فِيهَا وَلَذَّتِهَا أَوِ اسْتِفْهَامِيَّةٌ أَيْ: أَيُّ أُلْفَةٍ وَمَحَبَّةٍ لِي مَعَ الدُّنْيَا أَوْ أَيُّ شَيْءٍ لِي مَعَ الْمَيْلِ إِلَى الدُّنْيَا أَوْ مَيْلِهَا إِلَيَّ فَإِنِّي طَالِبُ الْآخِرَةِ وَهِيَ ضَرَّتُهَا الْمُضَادَّةُ لَهَا. قَالَ وَاللَّامُ فِي لِلدُّنْيَا مُقْحَمَةٌ لِلتَّأْكِيدِ إِنْ كَانَ الْوَاوُ بِمَعْنَى مَعَ وَإِنْ كَانَ لِلْعَطْفِ فَالتَّقْدِيرُ مَالِي مَعَ الدُّنْيَا وَمَا لِلدُّنْيَا مَعِي
( {اسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا} (1) ) وَجْهُ التَّشْبِيهِ سُرْعَةُ الرَّحِيلِ وَقِلَّةُ الْمُكْثِ وَمِنْ ثَمَّ خَصَّ الرَّاكِبَ.
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيح الترغيب والترهيب ) قالت دخلت علي امرأة من الأنصار فرأت فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم قطيفة مثنية فبعثت إلي بفراش حشوه الصوف فدخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ما هذا يا عائشة قالت قلت يا رسول الله فلانة الأنصارية دخلت فرأت فراشك فذهبت فبعثت إلي بهذا فقال رُدِّيْه يا عائشة فو الله لو شئت لأجرى الله معي جبال الذهب والفضة .
( حديث أبي بردة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) قال * دخلت على عائشة فأخرجت إلينا إزارا غليظا مما يصنع باليمن وكساء من التي يسمونها الملبدة قال فأقسمت بالله إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبض في هذين الثوبين .
[*] قال الإمام النووي في شرح صحيح مسلم :
__________
(1) - سنن أبي داود اللباس (4104).(2/110)
الملبدة : قال العلماء الملبد بفتح الباء وهو المرقع، يقال: لبدت القميص ألبده بالتخفيف فيهما، ولبدته ألبده بالتشديد، وقيل هو الذي ثخن وسطه حتى صار كاللبد.
( حديث عمرو بن الحارث رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري ) قال: ما ترك النبي صلى الله عليه وسلم دينارا، ولا درهما، ولا عبدا، ولا أمة، إلا بغلته البيضاء التي كان يركبها، وسلاحه، وأرضا جعلها لابن السبيل صدقة .
{ تنبيه } : (وهذا مثل أعلى في الزهد في الدنيا والتقلل من متاعها , فلقد كان بإمكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يكون أغنى رجل في العرب وربما في العالم , فلقد أفاء الله تعالى عليه في الغزوات أموالا عظيمة, ويكفي مثالا على ذلك غزوة حنين حيث كان يعطي الرجل الواحد مابين جبلين من الغنم والإبل, وأعطى عددا من زعماء العرب وأكابرهم كل واحد مائة من الإبل ولم يدخر لنفسه من ذلك شيئا, والْتَحق - صلى الله عليه وسلم - بالرفيق الأعلى وهو على تلك الصفة المذكورة من التقشُّف والزهد البالغ .
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( لو أن عندي مثلَ أحدٍ ذهباٍ ما يسرني أن لا يمَّر عليَّ ثلاث وعندي منه شيءٌ إلا شيءٌ أرْصُدُه لدين .
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير .
( لو أن عندي مثلَ أحدٍ) أي جبل أحد
( ذهباً ) بالنصب على التمييز قال ابن مالك بوقوع التمييز بعد مثل قليل وجواب لو
( ما يسرني ) من السرور بمعنى الفرح
( أن لا يمر عليَّ ) بالتشديد
( ثلاث ) من الليالي ويجوز الأيام بتكلف
( وعندي منه شيء ) أي من الذهب ، وفي التقييد بثلاث مبالغة في سرعة الإنفاق
( إلا شيء أرصده ) بضم الهمزة وكسر الصاد أعدَّه(2/111)
( لدين ) أي أحفظه لأداء دين لأنه مقدم على الصدقة واستثنى الشيء من الشيء لكون الثاني مقيداً خاصاً ورفعه لكونه جواب لو في حكم النفي وجعل لو هنا للتمني متعقب بالرد وخص الذهب بضرب المثل لكونه أشرف المعادن وأعظم حائل بين الخليقة وبين فوزها الأكبر يوم معادها وأعظم شيء عصى اللّه به وله قطعت الأرحام وأريقت الدماء واستحلت المحارم ووقع التظالم وهو المرغب في الدنيا المزهد في الآخرة وكم أميت به من حق وأحيي به من باطل ونصر به ظالم وقهر به مظلوم فمن سره أن لا يكون عنده منه شيء فقد آثر الآخرة .
(3) أن الله تعالى وصف أهله بالعلم وهو غاية الثناء :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
قال تعالى : {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ } [ القصص 79،80]
(4) أن الله تعالى وصف الكفار أنهم يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ
قال تعالى : { وَوَيْلٌ لِّلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} * الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُوْلَئِكَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ} [ إبراهيم 2، 3]
(فمفهومه أن المؤمن هو الذي يتصف بنقيضه وهو أن يستحب الآخرة على الحياة الدنيا.
(5) من كانت الآخرة همّه جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة بنص السنة الصحيحة :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ(2/112)
( حديث أنس بن مالك رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من كانت الآخرة همّه جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة ، ومن كانت الدنيا همّه جعل الله فقره بين عينيه ، وفرَّق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قُدِّر له .
[ من كانت الآخرة همّه ] : يعني: أي شغله الشاغل ،يعمل لها ويرغب فيها عن الآخرة ،كان جزائه ما يلي :
جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة :
[ ومن كانت الدنيا همّه ] : فالإنسان مخلوق من أجل العبادة، فإذا نسي هذا الأمر وأصبح نهماً على الدنيا يريد أن يجمعها من أي جهة كانت، وأصبحت هذه الدنيا همه الوحيد فهذا جزاؤه [جعل الله فقره بين عينيه ، وفرَّق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قُدِّر له ]
[جعل الله فقره بين عينيه ] : يعني: أنه دائماً مستحضر الفقر يرى الفقر بين عينيه، مهما وجد معه من المال،
[ وفرَّق عليه شمله ] : فالذي يجمع لك الأمور ويؤلف بين القلوب هو الله سبحانه وتعالى، فالإنسان يجمع من شمال ويمين وربنا يفرق عليه هذا كله ما دام همه الوحيد .
[ولم يأته من الدنيا إلا ما قُدِّر له ] : فلا تتعب نفسك وتحملها فوق طاقتها فتقصر في عبادة الله سبحانه، وتقول: المال المال، ولكن ابحث عن المال من حلال، واحذر الحرام، واحذر أن تضيع الدين وتضيع الطاعة فيضيع منك الجميع الدنيا والآخرة.
(حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجه ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من جعل الهموم هماً واحدا هم المعاد كفاه الله هم دنياه، ومن تشعبت به الهموم في أحوال الدنيا لم يبال الله في أي أوديته هلك .(2/113)
من جعل الهموم هماً واحدا هم المعاد : ولو أن كلاً منا في قلبه الآخرة، فسيدرك أن الله سبحانه على كل عمل يقوم به، فإنه إذا قام للصلاة تذكر: الله سيحاسبني على هذه الصلاة فيحسنها، وإذا صام أحسن الصيام، وإذا عمل أي عمل من الأعمال أتقن ذلك العمل، ولا من أجل أن يأخذ الجزاء من الناس، ليس من أجل أن يترقى، ولكن ابتغاء مرضات الله سبحانه وتعالى؛ لأن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه، فإذا كانت الآخرة على بال الإنسان دائماً فإن الله سوف يكفيه أمر دنياه، قال: (كفاه الله هم دنياه).
ومن تشعبت به الهموم : يعني: نسي الآخرة وبدأ يفكر يريد أن يأكل ويشرب ويلبس ويريد كذا وكذا، ويعمل طول النهار وهو يفكر في أمور الدنيا، ناسياً ربه سبحانه فهذا يكون حاله كما في الحديث:
( لم يبال الله في أي أوديته هلك ) : يعني: في أي مكان هلك لا يبالي الله عز وجل به. فالمؤمن قريب من الله، والله يحبه ويفرح بتوبته وبإقباله عليه، أما الإنسان البعيد عن الله سبحانه وتعالى فإن يهلك في أي واد لا يبالي الله به.
(6) إن من خير الناس من يشنأ الدنيا ويحب الآخرة بنص السنة الصحيحة :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
( حديث عبد الله ابن عمرو رضي الله عنهما الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : خير الناس ذو القلب المخموم و اللسان الصادق قيل: ما القلب المخموم ؟ قال: هو التقي النقي الذي لا إثم فيه و لا بغي و لا حسد قيل: فمن على أثره ؟ قال: الذي يشنأ الدنيا و يحب الآخرة قيل: فمن على أثره ؟ قال: مؤمن في خلق حسن .فمن على أثره ؟ قال: الذي يشنأ الدنيا و يحب الآخرة : ومفهوم هذا أن شر الناس الذي يحب الدنيا.
كلمات ينبغي أن تكتب بماء الذهب، ونور لا يخرج إلا من مشكاة النبوة، إنها دعوة لإرشاد النفس إلى طريق الخير دعوة امتزجت بالإخلاص المحض .(2/114)
( مخموم القلب ): يقال: خممت الشيء إذا كنسته، وخممت البيت إذا كنسته، مخموم القلب أي أنه يزيل ما علق بقلبه أول بأول، مثلما تكنس البيت وتزيل ما به من النجاسات والقاذورات.
( هو التقي النقي الذي لا إثم فيه و لا بغي و لا حسد ): فعلى المسلم أن يربي نفسه على خلق العفو والصفح ، وسلامة الصدر من شوائب الغل والحسد ، ذلك الحسد الآفة العظيمة والمرض العضال ، من سَلِمَ منه فقد سلم ، وهو مثل الغيرة يثير الحقد والكراهية ، ويدفع إلى تمني وقوع الأذى للشخص المحسود .
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان الثوري. قال قال عيسى بن مريم عليه السلام: حب الدنيا رأس كل خطيئة، والمال فيه داء كثير، قيل: يا روح الله: ما داؤه ؟ قال: لا يؤدي حقه، قالوا: فإن أدى حقه. قال: لا يسلم من الفخر والخيلاء، قالوا: فإن سلم من الفخر والخيلاء ؟ قال: يشغله استصلاحه عن ذكر الله.(2/115)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن إبراهيم بن أدهم يقول: ليس من أعلام الحب أن تحب ما يبغض حبيبك، ذم مولانا الدنيا فمدحناها، وأبغضها فأحببناها، وزهدنا فيها فآثرناها ورغبنا في طلبها، وعدكم خراب الدنيا فحصنتموها، ونهيتم عن طلبها فطلبتموها، وأنذركم الكنوز فكنزتموها دعتكم إلى هذه الغرارة دواعيها، فأجبتم مسرعين مناديها، خدعتكم بغرورها ومنتكم، فأنفذتم خاضعين لأمنيتها تتمرغون في زهواتها، وتتمتعون في لذاتها، وتتقلبون في شهواتها، وتتلوثون بتبعاتها، تنشبون بمخالب الحرص عن خزائنها، وتحفرون بمعاول الطمع في معادنها، وتبنون بالغفلة في أماكنها وتحصنون بالجهل في مساكنها، تريدون أن تجاوروا الله في داره، وتحطوا رحالكم بقربه، بين أوليائه وأصفيائه، وأهل ولايته، وأنتم غرقى في بحار الدنيا حيارى، ترتعون في زهواتها، وتتمتعون في لذاتها، وتتنافسون في غمراتها، فمن جَمْعِها ما تشبعون، ومن التنافس فيها ما تَمِلُّون، كذبتم و الله أنفسكم وغرتكم ومنتكم الأماني، وعللتكم بالتواني، حتى لا تعطوا اليقين من قلوبكم، والصدق من نياتكم، وتتنصلون إليه من مساوىء ذنوبكم وتعصوه في بقية أعماركم ، أما سمعتم الله تعالى يقول في محكم كتابه : ( أَمْ نَجْعَلُ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتّقِينَ كَالْفُجّارِ ) [ ص : 28]. لا تنال جنته إلا بطاعته، ولا تنال ولايته إلا بمحبته، ولا تنال مرضاته إلا بترك معصيته، فإن الله تعالى قد أعد المغفرة للأوابين، وأعد الرحمة للتوابين، وأعد الجنة للخائفين، وأعد الحور للمطيعين، وأعد رؤيته للمشتاقين، قال تعالى: ( وَإِنّي لَغَفّارٌ لّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحَاً ثُمّ اهْتَدَىَ ) [ طه : 82]. من طريق العمى إلى طريق الهدى .
(7) إن الزهد في الدنيا من أسباب نيل حب الله تعالى الذي هو غاية كل مؤمن :(2/116)
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
(حديث سهل بن سعد الثابت في صحيح ابن ماجة) قال أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلٌ فقال يا رسول الله : دلني على عملٍ إذا عملته أحبني الله وأحبني الناس فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ازهد في الدنيا يحبك الله وازهد فيما عند الناس يحبك الناس .
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
( ازهد ) من الزهد بكسر أوله وقد يفتح ، وهو لغة : الإعراض عن الشيء احتقاراً ، وشرعاً الاقتصار على قدر الضرورة مما يتيقن حله . وقيل أن لا يطلب المفقود حتى يفقد الموجود
( في الدنيا ) باستصغار جملتها واحتقار جميع شأنها لتحذير الله تعالى منها واحتقاره لها ، فإنك إن فعلت ذلك
( يحبك الله ) لكونك أعرضت عما أعرض عنه ولم ينظر إليه منذ خلقه . وفي إفهامه أنك إذا أحببتها أبغضك ، فمحبته مع عدم محبتها ولأنه سبحانه وتعالى يحب من أطاعه ، ومحبته مع محبة الدنيا لا يجتمعان ، وذلك لأن القلب بيت الرب فلا يحب أن يشرك في بيته غيره ، ومحبتها الممنوعة هي إيثارها بنيل الشهوات لا لفعل الخير والتقرب بها ،والمراد بمحبته غايتها من إرادة الثواب ، فهي صفة ذاتية أو الإثابة فهي صفة فعلية ( وازهد فيما عند الناس ) منها
( يحبك الناس ) لأن قلوبهم مجبولة على حبها مطبوعة عليها ومن نازع إنساناً في محبوبه كرهه وقلاه ، ومن لم يعارضه فيه أحبه واصطفاه ولهذا قال الحسن البصري لا يزال الرجل كريماً على الناس حتى يطمع في دنياهم فيستخفون به ويكرهون حديثه . وقيل لبعض أهل البصرة : من سيدكم؟ قال الحسن ، قال بم سادكم؟ قال : احتجنا لعلمه واستغنى عن دنيانا
ماأعظم هذه الوصية النبوية ، وما أشد حاجتنا إلى فهمها ، والعمل بمقتضاها ، حتى ننال بذلك المحبة بجميع صورها .(2/117)
{ تنبيه } :( الزهد سبباً للمحبة، فمن أحبه الله تعالى فهو في أعلى الدرجات؛ فينبغي أن يكون الزهد في الدنيا من أفضل المقامات، ومفهومه أيضاً أن من محب الدنيا متعرض لبغض الله تعالى .
( أقوال السلف في الزهد :
ولما كان صلى الله عليه وسلم هو الأسوة والقدوة، فقد سار على دربه الأفاضل، فعن على رضي الله عنه أنه قال: طوبى للزاهدين في الدنيا والراغبين في الآخرة أولئك قوم اتخذوا الأرض بساطاً، وترابها فراشاً، وماءها طيباً، والكتاب شعاراً، والدعاء دثاراً، ورفضوا الدنيا رفضاً.
[*] وكتب أبو الدرداء إلى بعض إخوانه، أما بعد: فإني أوصيك بتقوى الله، والزهد في الدنيا، والرغبة فيما عند الله، فإنك إذا فعلت ذلك أحبك الله لرغبتك فيما عنده، وأحبك الناس لتركك لهم دنياهم، والسلام .
[*] وقال أبو الدرداء حين تولى القضاء في الشام :
في خلافة عثمان ، أصبح أبو الدرداء واليا للقضاء في الشام ، فخطب بالناس يوما وقال : يا أهل الشام ، أنتم الإخوان في الدين ، والجيران في الدار ، والأنصار على الأعداء ، و لكن مالي أراكم لا تستحيون ؟؟
تجمعون مالا تأكلون ، وتبنون مالا تسكنون ، وترجون مالا تبلغون ، قد كانت القرون من قبلكم يجمعون فيوعون ، ويؤملون فيطيلون ، ويبنون فيوثقون ، فأصبح جمعهم بورا ، وأملهم غرورا ، وبيوتهم قبورا أولئك قوم عاد ، ملئوا ما بين عدن إلى عمان أموالا وأولادا .
ثم ابتسم بسخرية لافحة: من يشتري مني تركة أل عاد بدرهمين ؟!
[*] وعن عروة بن الزبير أن أم المؤمنين عائشة جاءها يوماً من عند معاوية ثمانون ألفاً، فما أمسى عندها درهم، قالت لها جاريتها: فهلا اشتريت لنا منه لحماً بدرهم؟ قالت: لو ذكرتني لفعلت .
[*] قال ابن مسعود رضي الله عنه: الدنيا دار من لا دار له، ومال من لا مال له، ولها يجمع من لا علم له.
(وقال أيضاً : ركعتين من زاهد قلبه خير له وأحب إلى الله من عبادة المتعبدين المجتهدين إلى آخر الدهر أبداً سرمداً.(2/118)
(وقال ابن مسعود لأصحابه : أنتم أكثر صلاة وصوماً وجهاداً من أصحاب محمد ، وهم كانوا خيراً منكم ، قالوا : كيف ذلك ؟ قال : كانوا أزهد منكم في
الدنيا وأرغب منكم في الآخرة.
[*] وقال عمر رضي الله عنه: الزهادة في الدنيا راحة القلب والجسد.
( ولما قدم عمر رضي الله عنه الشام تلقاه الجنود وعليه إزار وخفان وعمامة، وهو آخذ برأس راحلته يخوض الماء، فقالوا: يا أمير المؤمنين، يلقاك الجنود وبطارقة الشام وأنت على حالتك هذه، فقال: (إنا قوم أعزنا الله بالإسلام، فلن نلتمس العز بغيره) ودخل رجل على أبي ذر رضي الله عنه فجعل يقلب بصره في بيته، فقال يا أبا ذر: ما أرى في بيتك متاعاً، ولا أثاثاً، فقال: إن لنا بيتاً نوجه إليه صالح متاعنا وقال: إن صاحب المنزل لا يدعنا فيه.
[*] وقال على رضي الله عنه : تزوجت فاطمة ومالي ولها فراش إلا جلد كبش، كنا ننام عليه بالليل، ونعلف عليه الناضح (البعير) بالنهار ومالي خادم غيرها، ولقد كانت تعجن، وإن قصتها لتضرب حرف الجفنة من الجهد الذي بها.
(وقال أيضاً : إن الدنيا قد ارتحلت مدبرة، وإن الآخرة قد ارتحلت مقبلة، ولكل منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب وغداً حساب ولا عمل، وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [البقرة:197]
[*] وكان عمرو بن العاص – رضي الله عنه- يخطب بمصر ويقول: ما أبعد هديكم من
هدي نبيكم صلى الله عليه وسلم، أما هو فكان أزهد الناس في الدنيا وأما أنتم فأرغب الناس فيها.
[*] ولما حضرت الوفاة معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: اللهم إنك تعلم أني لم أكن أحب الدنيا وطول البقاء فيها لكرى الأنهار، ولا لغرس الأشجار، ولكن لظمأ الهواجر، ومكابدة الساعات، ومزاحمة العلماء بالركب عند حلق الذكر.(2/119)
[*] وقد ذكر الإمام أحمد أن أفضل التابعين علماً سعيد بن المسيب، أما أفضلهم على جهة العموم والجملة فأويس القرني، وكان أويس يقول: توسدوا الموت إذا نمتم و اجعلوه نصب أعينكم إذا قمتم،
[*] وقال الفضيل : حرام على قلوبكم أن تصيب حلاوة الإيمان حتى تزهدوا في الدنيا.
[*] وقال أبو داود : كانت مجالس أحمد مجالس الآخرة لا يذكر فيها شيء من أمر الدنيا ، ما رأيته ذكر الدنيا قط .
[*] قال مالك بن دينار : يقولون : مالك زاهد . أي زهد عند مالك ، وله جبة وكساء . إنما الزاهد عمر بن عبدالعزيز أتته الدنيا فاغرة فتركها.
[*] وصية إمام الزاهدين إبراهيم بن أدهم :
قيل لسلطان الزاهدين إبراهيم بن أدهم { أوصنا بما ينفعنا فقال :
* إذا رأيتم الناس مشغولين بامر الدنيا فاشتغلوا بأمر الآخرة .
* وإذا اشتغلوا بتزيين ظواهرهم فاشتغلوا بتزيين بواطنكم.
* وإذا اشتغلوا بعمارة البساتين والقصور فاشتغلوا بعمارة القبور .
* وإذا اشتغلوا بخدمة المخلوقين فاشتغلوا بخدمة رب العالمين .
* و إذا اشتغلوا بعيوب الناس فاشتغلوا بعيوب أنفسكم .
* واتخذوا من الدنيا زادا يوصلكم الى الآخرة فإنما الدنيا مزرعة الآخرة .
[*] وكان كثير من السلف يعرض لهم بالمال الحلال، فيقولون: لا نأخذه، نخاف أن يفسد علينا ديننا .
[*] وكان حماد بن سلمة إذا فتح حانوته وكسب حبتين قام .
[*] وكان سعيد بن المسيب يتجر في الزيت، وخلف أربعمائة دينار، وقال: إنما تركتها لأصون بها عرضي وديني.
[*] وقال سفيان الثورى: الزهد في الدنيا قصر الأمل، ليس بأكل الغليظ ولا بلبس العباءة.
(وقال أيضا ً : إذا زهد العبد في الدنيا أنبت الله الحكمة في قلبه، وأطلق بها لسانه، وبصره عيوب الدنيا وداءها ودواءها.
(وقال أيضا ً : عليك بالزهد يبصرك الله عورات الدنيا، وعليك بالورع يخفف الله عنك حسابك، ودع ما يريبك إلى مالا يريبك، وادفع الشك باليقين يسلم لك دينك.(2/120)
(وقال أيضا ً : لا تصلح القراءة إلا بالزهد، واغبط الأحياء بما تغبط به الأموات، أحبهم على قدر أعمالهم، وذل عند الطاعة، واستعص عند المعصية.
(وقال أيضا ً : لا يكون للقراءة ملح حتى يكون معها زهد.
[*] وقال الشافعي في ذم الدنيا والتمسك بها : وما هي إلا جيفة مستحيلة عليها كلاب همهن اجتذابها فإن تجتنبها كنت سلما لأهلها وان تجتذبها نازعتك كلابها.
[*] وكان أبو سليمان الداراني يقول: كل ما شغلك عن الله، من أهل ومال وولد فهو مشئوم طويت الدنيا عمن هم أفضل منا .
ويكفي أن في الزهد التأسي برسول الله صلي اله عليه وسلم وصحابته الكرام، كما أن فيه تمام التوكل على الله، وهو يغرس في القلب القناعة، إنه راحة في الدنيا وسعادة في الآخرة.
[*] وقال عبدالله بن عون : إن من كان قبلنا كانوا يجعلون للدنيا ما فضل عن آخرتهم، وإنكم تجعلون لآخرتكم ما فضل عن دنياكم.
[*] قال الحسن البصري رحمه الله : " أدركت أقواما وصحبت طوائف ما كانوا يفرحون بشيء من الدنيا إذا أقبل ، ولا يأسفون على شيء منها إذا أدبر ، وكانت في أعينهم أهون من التراب "
[*] وقال الحسن : دخلنا على صفوان بن محيريز وهو في بيت من قصب قد مال عليه فقيل له : لو أصلحته . فقال : كم من رجل قد مات ، وهو قائم على حاله.
[*] وكان الحسن البصري إذا ذكر له صاحب الدنيا يقول : والله ما بقيت له ولا بقي لها. لقد أخرج منها في خرق.
[*] وقال الحسن رحمه الله : والله لقد أدركت سبعين بدرياً أكثر لباسهم الصوف. [*] قال إبراهيم التيمي : كم بينكم وبين القوم ؟ أقبلت عليهم الدنيا فهربوا منها ، وأدبرت عنكم فاتّبعتموها.
[*] وقال بلال بن سعد: كفى به ذنباً أن الله تعالى يزهدنا في الدنيا ونحن نرغب فيها.(2/121)
(والزاهد يحبه الله ويحبه الناس فإن امتلكت فاشكر، وأخرج الدنيا من قلبك، وان افتقرت فاصبر فقد طويت عمن هم أفضل منك، فقد كان نبيك صلي الله عليه وسلم ينام على الحصير حتى يؤثر في جنبه، ومات وفي رف أم المؤمنين عائشة حفنة من الشعير تأكل منها، وكنت إذا دخلت بيوت رسول الله صلي الله عليه وسلم نلت السقف، وخطب عمر بن الخطاب وهو خليفة المؤمنين وعليه إزار به اثنتا عشرة رقعة لقد طويت الدنيا عنهم ولم يكن ذلك لهوانهم على الله، بل لهوان الدنيا عليه سبحانه. فهي لا تزن عنده جناح بعوضه، وركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها.
فلا تأس ولا تجزع على ما فاتك منها، ولا تفرح بما أتاك؛ فالمؤمن لا يجزع من ذلها ولا يتنافس في عزها له شأن وللناس شان، وكن عبداً لله في عسرك ويسرك ومنشطك ومكرهك، وسواء أقبلت عليك الدنيا أو أدبرت فإقبالها إحجام، وإدبارها إقدام، والأصل أن تلقاك بكل ما تكره فإذا لاقتك بما تحب فهو استثناء.
(وفصل الخطاب في فضائل الزهد : هو ما قاله الفضيل ابن عياض : جعل الخير كله في بيت وجعل مفتاحه الزهد في الدنيا .
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الفضيل بن عياض قال : لا يسلم لك قلبك حتى لا تبالي من كل الدنيا، وقيل للفضيل: ما الزهد في الدنيا ؟ قال: القنع وهو الغنى، وقيل: ما الورع ؟ قال: اجتناب المحارم. وسئل ما العبادة ؟ قال: أداء الفرائض. وسئل عن التواضع قال: أن تخضع للحق، وقال: أشد الورع في اللسان، وقال: التعبير كله باللسان لا بالعمل. وقال: جعل الخير كله في بيت وجعل مفتاحه الزهد في الدنيا. وقال: قال الله عز وجل: إذا عصاني من يعرفني سلطت عليه من لا يعرفني.
(حاجة الناس إلى الزهد :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
إن الزهد في الدنيا ليس من نافلة القول، بل هو أمر لازم لكل من أراد رضوان الله تعالى والفوز بجنته، ويكفي في فضيلته أنه اختيار نبينا محمد وأصحابه،(2/122)
[*] قال ابن القيم رحمه الله : لا تتم الرغبة في الآخرة إلا بالزهد في الدنيا، فإيثار الدنيا على الآخرة إما من فساد في الإيمان، وإما من فساد في العقل، أو منهما معاً.
ولذا نبذها رسول الله وراء ظهره هو وأصحابه، وصرفوا عنها قلوبهم، وهجروها ولم يميلوا إليها، عدوها سجناً لا جنة، فزهدوا فيها حقيقة الزهد، ولو أرادوها لنالوا منها كل محبوب، ولوصلوا منها إلى كل مرغوب، ولكنهم علموا أنها دار عبور لا دار سرور، وأنها سحابة صيف ينقشع عن قليل، وخيال طيف ما استتم الزيارة حتى أذن بالرحيل.
(كيف يزهد العبد في الدنيا ويرغب في الآخرة :
[*] قال ابن القيم -رحمه الله- : لا تتم الرغبة في الآخرة إلا بالزهد في الدنيا ، ولا يستقيم الزهد في الدنيا إلا بعد نظرين صحيحين :
النظر الأول : النظر في الدنيا ، وسرعة زوالها وفنائها ، واضمحلالها ، ونقصها ، وخستها ، وألم المزاحمة عليها ، والحرص عليها ، وما في ذلك من الغصص والنغص ، والأنكاد ، وآخر ذلك الزوال ، والانقطاع ، مع ما يعقب من الحسرة والأسف ، فطالبها لا ينفك من هم قبل حصولها ، وهم في حال الظفر بها ، وغم وحزن بعد فواتها ، فهذا أحد النظرين.
النظر الثاني : النظر في الآخرة ، وإقبالها ، ومجيئها ولابد ، ودوامها ، وبقائها ، وشرف ما فيها من الخيرات ، والمسرات ، والتفاوت الذي بينه وبين ما ههنا ، فهي كما قال تعالى : ( وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ) [ الأعلى :17].
فهي خيرات كاملة دائمة ، وهذه خيالات ناقصة منقطعة مضمحلة.
فإذا تم له هذان النظران آثر ما يقتضي العقل إيثاره ، وزهد فيما يقتضي الزهد فيه ، فكل أحدٍ مطبوع على أن لا يترك النفع العاجل واللذة الحاضرة إلى النفع الآجل واللذة الغائبة المنتظرة ، إلا تبين له فضل الآجل على العاجل ، وقويت رغبته في الأعلى الأفضل.
فإذا آثر الفاني الناقص ، كان ذلك إما لعدم تبين الفضل له ، وإما لعدم رغبته في الأفضل.(2/123)
وكل واحد من الأمرين يدل على ضعف الإيمان ، وضعف العقل والبصيرة فإن الراغب في الدنيا الحريص عليها المؤثر لها ، إما أن يُصَدِّق بأن ما هناك أشرف وأفضل وأبقى ، وإما أن لا يصدق . فإن لم يصدق بذلك كان عادمًا للإيمان رأسًا ، وإن صدق بذلك ولم يؤثره كان فاسد العقل ، سيء الاختيار لنفسه ، وهذا تقسيم حاضر ضروري ، لا ينفك العبد من أحد القسمين منه ، فإيثار الدنيا على الآخرة إما من فساد في الإيمان ، وإما من فساد في العقل ، وما أكثر ما يقوم منهما ، ولهذا نبذها رسول الله صلى الله عليه وسلم وراء ظهره هو وأصحابه ، وصرفوا عنها قلوبهم ، وأطرحوها ولم يألفوها ، وهجروها ولم يميلوا إليها ، وعَدُّوها سجنًا لا جنة ، فزهدوا فيها حقيقة الزهد ، ولو أرادوها لنالوا منها كل محبوب ، ولوصلوا منها إلى كل مرغوب ، فقد عرضت عليه مفاتيح كنوزها فردها ، وفاضت على أصحابه فآثروا بها ، ولم يبيعوا حظهم من الآخرة بها ، وعلموا أنها معبر لا ممر، لا دار مقام ومستقر ، وأنها دار عبور لا دار سرور، وأنها سحابة صيف تنقشع عن قليل ، وخيال طيف ما استتم الزيارة حتى أذّن بالرحيل.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ما لي وللدنيا ، إنما أنا كراكب قال في ظل شجرة ، ثم راح وتركها)0
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( ما الدنيا في الآخرة، إلا كما يدخل أحدكم إصبعه في اليم ، فلينظر بما ترجع) 0
وقد توعد سبحانه أعظم الوعيد لمن رضي بالحياة الدنيا واطمأن بها ، وغفل عن آياته ، ولم يرج لقائه ، فقال : ({إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النُّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ). [ يونس:7، 8].
من كتاب (خواطر إيمانية)لـ د/أحمد فريد(2/124)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن شقيق بن إبراهيم البلخي قال : سبعة أبواب يسلك بها طريق الزهاد: الصبر على الجوع بالسرور لا بالفتور، بالرضا لا بالجزع، والصبر على العرى بالفرح لا بالحزن، والصبر على طول الصيام بالتفضل لا بالتعسف، كأنه طاعم ناعم، والصبر على الذل بطيب نفسه لا بالتكره، والصبر على البؤس بالرضا لا بالسخط، وطول الفكرة فيما يودع بطنه من المطعم والمشرب، ويكسو به ظهره من أين، وكيف، ولعل، وعسى. فإذا كان في هذه الأبواب السبعة فقد سلك صدرا من طريق الزهاد وذلك الفضل العظيم.
(خصال الزهد :
- الخصال المطلوبة في تحقق الزهد :
تعددت أقوال السلف من أئمة الهدى وأعلام التقى ومصابيح الدُجى في خصال الزهد وهاك صفوة ماقالوه في خصال الزهد : (
[*] قال يحيى بن معاذ: لا يبلغ أحد حقيقة الزهد حتى يكون فيه ثلاث خصال :
عمل بلا علاقة ، وقول بلا طمع، وعز بلا رياسة .
[*] وقال بعض الحكماء : الزهد خمس خصال : الثقة بالله ، والتبرى عن الخلق، الإخلاص في العمل ، واحتمال الظلم ، والقناعة في اليد
[*] ومن أحسن ما قيل في خصال الزهد ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال » الزهد ثلاثة أحرف ( زاي وهاء ودال ) ، فالزاي زاد للمعاد ، والهاء هدي للدين ، والدال دوام على الطاعة « . وفي موضع آخر ، قال » الزهد ثلاثة أحرف ، الزاي ترك الزينة ، والهاء ترك الهوى ، والدال ترك الدنيا..
(ومن خصال الزهد : أن يميل على الهوى ولا يميل مع الهوى ، والثانية ينقطع الزاهد إلى الزهد بقلبه، وأن يذكر كلما خلا بنفسه كيف مدخله في قبره وكيف مخرجه :(2/125)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن شقيق البلخي قال : ثلاث خصال هي تاج الزاهد، الأولى أن يميل على الهوى ولا يميل مع الهوى، والثانية ينقطع الزاهد إلى الزهد بقلبه، والثالثة أن يذكر كلما خلا بنفسه كيف مدخله في قبره وكيف مخرجه، ويذكر الجوع والعطش والعرى، وطول القيامة والحساب والصراط، وطول الحساب والفضيحة البادية، فإذا ذكر ذلك شغله عن ذكر دار الغرور، فإذا كان ذلك كان من محبى الزهاد ومن أحبهم كان معهم.
( عشرةٌ من خِصال الزهد :(2/126)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن شقيق بن إبراهيم قال : عشرة أبواب من الزهد يسمى الرجل فيها زاهدا إذا فعلها، فإذا خالفها سمى متزهدا، والمتزهد الذي يتشبه بالزهاد في رؤيته وسمعته وخشوعه وقوله، ومدخله ومخرجه، ومطعمه وملبسه، ومركبه، وفعله وحرصه، وحب الدنيا يشهد عليه بخلافه، ترى رضاه رضا الراغبين، وبساطه في كلامه وعجلته بساط الراغبين، وحسده وبغيه وتطاوله وكبره وفخره وسوء خلقه وحفا لسانه وطول خوضه فيما لا يعنيه يدل على نفاق المتزهد، لا على خشوع الزاهد، فاحذر من هذه الصفة، وإذا وجدت فيمن يزعم أنه زاهد الخصال التي أصفها لك فارج له أن يكون في بعض طريق الزهاد، إذا أسرته حسنة وساءته سيئة، وكره أن يحمد بما لم يفعل من البر، فأما إذا لم يفعل يكره هذه كما يكره لحم الخنزير والميتة والدم، وإذا عرف هذه الخصال صرف فيها نهاره وساعاته وليلته وساعاتها، نقص أمله وطال غمه بما أمامه، فإذا شغل نفسه بغير ما خلق له طال حزنه، وعلم أنه مفتون وترك من شغله عن الطاعة في تلك الساعة، فبهذا يجدون حلاوة الزهد، وبه يحترزون من حزب الشيطان، وإن ذكر الله عندهم أحلى من العسل، وأبرد من البرد وأشفى من الماء العذب الصافي عند العطشان في اليوم الصائف، وتكون مجالستهم مع من يصف لهم بالزهاد ويعظهم أحب إليهم وأشهى عندهم ممن يعطيهم الدنانير والدراهم عند الحاجة وذلك بقلوبهم لا بألسنتهم، وأن يخلو أحدهم بالبكاء على ذنوبه وعلى الخوف الشديد أن لا يقبل منه ما يعمل، ويظهر للناس من التبسم والنشاط كأنه ذو رغبة لا ذو رهبة، وأن لا يحدث نفسه أنه خير من أحد من أهل قبلته: وأن يعرف ذنوبه ولا يعرف ذنوب غيره، فإذا كانت فيه هذه الأبواب العشرة كان في طريق الزهاد، فأرجو أن يسلكه إن شاء الله، وسبعة أبواب تتلو هذه الأبواب، التواضع لله بالقلب لا بالتصنع، والخضوع للحق طوعا لا بالاضطرار، وحسن المعاشرة مع من ابتلى بمعاشرتهم لا لرغبة(2/127)
فيما عندهم، والهرب من المنكبين على الدنيا كهرب الحمار من البيطار والنفور عنها كنفور الحمار من زئير السبع، وطلب العافيه من كل ما يخاف عقابه ولا يرجو ثوابه، ومجالسة البكائين على الذنوب، والرحمة لنفسه ولأنفسهم، ومخاطبة العالمين بظاهره لا بقلبه، ولا يتخوف من الكائن بعد الموت والأهوال والشدائد، فإذا فعل ذلك سلك طريق الزهاد ونال أفضل العبادة .
(ومن خصال الزهد : الخوف والرجاء والرغبة والرهبة والسخاء وسلامة الصدر واليقين التام :
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن إبراهيم بن أدهم: أقرب الزهاد من الله عز وجل أشدهم خوفا، وأحب الزهاد إلى الله أحسنهم له عملا، وأفضل الزهاد عند الله أعظمهم فيما عنده رغبة، وأكرم الزهاد عليه أتقاهم له، وأتم الزهاد زهدا أسخاهم نفسا وأسلمهم صدرا، وأكمل الزهاد زهدا أكثرهم يقينا .
(ومن خصال الزهد : أن الزاهد يعزف عن القيل والقال ويضع نصب عينيه ومحط نظره وقِبلة قلبه الوحيين الشريفيين الكتاب والسنة الصحيحة يتمسك بهما ويعض عليهما بالنواجذ ، وينشغل بهما عن غيرهما ، ويستمد من نورهما نوراً ومن ضيائهما لمعاناً ليُضئ له الطريق ، وينشغل عن مخالطة أهل الدنيا بقوله تعالى : ( لأيّ يَوْمٍ أُجّلَتْ * لِيَوْمِ الْفَصْلِ * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ ) [ المرسلات 12: 15] . يوم يقال: ( اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَىَ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً ) [ الإسراء : 14].(2/128)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم في حلية الأولياء عن إبراهيم بن أدهم قال : الزاهد يكتفي من الأحاديث والقال والقيل وما كان وما يكون بقول الله تعالى: ( لأيّ يَوْمٍ أُجّلَتْ * لِيَوْمِ الْفَصْلِ * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ ) [ المرسلات 12: 15] . يوم يقال:( اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَىَ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً )[ الإسراء : 14]. قال إبراهيم: فبلغني أن الحسن قال في قوله: كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا. لكل آدمي قلادة فيها نسخة عمله، فإذا مات طويت وقلدها، فإذا بعث نشرت. وقيل:اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً .
(ومن خصال الزاهد وهو يصلي :
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن رباح بن الهروي، قال: مر عصام بن يوسف بحاتم الأصم وهو يتكلم في مجلسه، فقال: يا حاتم تحسن تصلي ؟ قال: نعم قال: كيف تصلي ؟ قال حاتم: أقوم بالأمر وأمشي بالخشية وأدخل بالنية وأكبر بالعظمة وأقرأ بالترتيل والتفكر وأركع بالخشوع وأسجد بالتواضع وأجلس للتشهد بالتمام وأسلم بالسبل والسنة وأسلمها بالإخلاص إلى الله عز وجل وأرجح على نفسي بالخوف أخاف أن لا يقبل مني وأحفظه بالجهد إلى الموت، قال: تكلم فأنت تحسن لصلي.
( ومن أخص صفات الزهد هو العلم بالتوحيد لأن التوحيد مُقَدَّمٌ على العمل والأصل الذي يترتب عليه غيره إذ لا ينفعُ مع الشركِ عمل ، وإذا لم يكن الزاهد على علم بالتوحيد ربما يقع في الشرك وهو لايدري فلا ينفعه الزهد حينئذ .
قال تعالى :(فَاعْلَمْ أَنّهُ لاَ إِلََهَ إِلا اللّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ) ( محمد / 19 )(2/129)
( حديث ا بن عباس في الصحيحين ) قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمعاذٍ ابن جبل حين بعثه إلى اليمن : إنك ستأتي قوماً أهل كتاب ، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمسَ صلواتٍ في كل يومٍ وليلة ، فإن هم أطاعوا لك بذلك
فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقةً تؤخذ من أغنيائهم فتُردُ على فقرائهم ، فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائم أموالهم ، واتقِ دعوةَ المظلومِ فإنه ليس بينه وبين الله حجاب .
الشاهد : قوله - صلى الله عليه وسلم - فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لاإله إلا الله وأن محمداً رسول الله فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات ، فجعل إخبارهم بالصلاةِ معلقٌ على قبولِ التوحيد فإن لم يقبلوه فلا تخبرهم ، وذلك لأن التوحيد مُقَدَّمٌ على العمل والأصلُ الذي يترتب عليه غيره إذ لا ينفع مع الشركِ عمل .
(حديثُ جندب ابن عبد الله صحيح ابن ماجة ) قال كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ونحن فتيانٌ حزَاوِرَة ، فتعلمنا الإيمانَ قبل أن نتعلم القرآن ، ثم تعلمنا القرآنَ فازددنا به إيمانا .
معنى حزاوره : جمع حَزْوَر وهو الغلام إذا اشتد وقوى .
[*] قال الشيخ حافظ ابن أحمد الحكمي في سلم الوصول :
أولُ واجبٍِ على العبيدِ ... معرفةُ الرحمنِ بالتوحيدِ
إذ هو من كل الأوامرِ أعظمُ ... وهو نوعان أيا من يفهمُ(2/130)
( ومن أخص صفات الزهد الفقه ، فإنه لا يصلح زهد إلا بفقه ، لأن الفقه ميزانٌ صحيح ومقياسٌ دقيقٌ معتبر يطَّلع الإنسان من خلاله على حقيقة الزهد وحقيقة الدنيا فيرغب عنها وحقيقة الآخرة فيرغب فيها فيرزقه الله تعالى التوفيق والسداد ، ويعصمه من الشطط ، ولأنه إذا لم يتفقه في دين الله تعالى لربما فعل أشياء ظناً منه أنها من الزهد وليس الأمر كذلك ، لجهله ثم إنه وبفقه الأحكام سيُصححُ عمله الذي سيلقي به ربه ولا سبيل له إلى تصحيح عمله الذي سيلقي به ربه إلا عن طريق الفقه .
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان ابن عيينة: لا تصلح عبادة إلا بزهد، ولا يصلح زهد إلا بفقه، ولا يصلح فقه إلا بصبر.
[*] وأخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عمران القصير، قال: سألت الحسن، عن شيء فقلت: إن الفقهاء يقولون كذا وكذا فقال: وهل رأيت فقيهاً بعينك ؟ إنما الفقيه الزاهد في الدنيا، البصير بدينه، المداوم على عبادة ربه عز وجل.(2/131)
( ومن أخص صفات الزهد التحلي بالفضائل والتخلي عن الرذائل إذ لا معنى للزهد الذي هو من أفضل أبواب تزكية النفس إلا بالتحلي بالفضائل من قراءة القرآن والذكر والدعاء والاستغفار وقيام الليل وبر الوالدين وصلة الرحم والإحسان إلى الجار وعدم إيذائه و إكرام الضيف والتعاون على البر والتقوى والتحلي بآداب الصحبة والأخوة ومعاشرة الخلق و بذل النصيحة وقضاء حوائج المسلمين وخدمتهم وصنع المعروف و شكر المعروف و الحب في الله تعالى والحرص على مجالسة الصالحين ورحمة الصغير وتوقير الكبير وضبط اللسان وحسن الخلق والحِلمِ والأناة و الرفق واحتمال الأذى والعفو والإعراض عن الجاهلين و التواضع وخفض الجناح وإيثار الخمول وعدم الشهرة والصمت وقلةِ الكلام والصدق والحياء والجود والسخاء والإنفاق في وجوه الخير والإيثار والمواساة في السَنَةِ والمجاعة ومجاهدة النفس والهوى ، وكذلك لايتم تحقيق الزهد إلا بالتخلي عن الرذائل من اجتناب الغش والخداع للمسلمين و اجتناب الغدر للمسلمين و اجتناب ظلم العباد فإنه بئس الزاد ليوم المعاد و اجتناب مجالس الظالمين و اجتناب إيذاء المسلمين و اجتناب التباغض والتقاطع والتدابر واجتناب الحسد واجتناب احتقار المسلمين واجتناب التجسس على المسلمين وعدم تتبع عورات المسلمين وزلاتهم والتخلي عن رذيلة كثرة الكلام والتخلي عن رذيلة التحدث بكل ما سمع والتخلي عن الكذب والتخلي عن الغناء والاحتراز منه والتخلي والاحتراز من الشعر المحرم والتخلي عن رذيلة الغيبة والتخلي عن رذيلة النميمة والتخلي عن رذيلة ذي الوجهين والاحتراز من فحش القول وبذاءة اللسان و التخلي عن رزيلة الغضب والتخلي عن رذيلة السباب والتخلي عن آفة التكلم فيما لا يعنيه والتخلي عن آفة كثرة المزاح والتخلي عن رذيلة شهادة الزور وحفظ اللسان من قذف المحصنات والعياذ بالله والتخلي عن الجدال العقيم والتخلي عن شهوة الخصومة وحفظ اللسان من الحلف بغير الله وحفظ(2/132)
اللسان عن الحلف بالأمانة وحفظ اللسان عن الحلف باللات والعزى وحفظ اللسان عن الحلف بالله كذباً وحفظ اللسان عن اليمين الغموس وحفظ اللسان من المدح المذموم وحفظ اللسان من اللعن وحفظ اللسان من إخلاف الوعد والتخلي عن رزيلة الكبر والعياذ بالله والاحتراز من رذيلة العجب والعياذ بالله والتخلي من رذيلة البخل والعياذ بالله والاحتراز من رذيلة الحرص والطمع ، وسيأتي بسط ذلك في كتاب الآداب إن شاء الله تعالى .
(الزاهد والراغب لا يجتمعان بغيتهما مخالفة، وهواهما شتى :
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن شقيق البلخي قال : والزاهد والراغب كرجلين يريد أحدهما المشرق والآخر يريد المغرب، هل يتفقان على أمر واحد وبغيتهما مخالفة، وهواهما شتى ؟ دعاء الراغب: اللهم ارزقني مالا وولدا وخيرا وانصرني على أعدائي وادفع عني شرورهم وحسدهم وبغيهم وبلاءهم وفتنهم آمين. ودعاء الزاهد: اللهم ارزقني علم الخائفين. وخوف العاملين ويقين المتوكلين. وتوكل الموقنين. وشكر الصابرين. وصبر الشاكرين. وإخبات المغلبين. وإنابة المخبتين. وزهد الصادقين. وألحقني بالشهداء والأحياء المرزوقين. آمين رب العالمين. هذا دعاؤه هل من شيء من دعاء الراغب يحيط به ؟ لا والله هذا طريق وذاك طريق.
(رأس الزهد ووسط الزهد وآخر الزهد :(2/133)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أبي تراب الزاهد، قال: جاء رجل إلى حاتم الأصم، فقال: يا أبا عبد الرحمن أي شيء رأس الزهد ووسط الزهد وآخر الزهد فقال: رأس الزهد الثقة بالله، ووسطه الصبر، وآخره الإخلاص، قال حاتم: وأنا أدعو الناس إلى ثلاثة أشياء: إلى المعرفة وإلى الثقة وإلى التوكل، فأما معرفة القضاء فإن تعلم أن القضاء عدل منه فإذا علمت أن ذلك عدل منه فإنه لا ينبغي لك أن تشكو إلى الناس أو تهتم أو تسخط، ولكنه ينبغي لك أن ترضى وتصبر. وأما الثقة فالإياس من المخلوقين، وعلامة الإياس أن ترفع القضاء من المخلوقين فإذا رفعت القضاء منهم استرحت منهم واستراحوا منك، وإذا لم ترفع القضاء منهم فإنه لابد لك أن تتزين لهم وتتصنع لهم، فإذا فعلت ذلك فقد وقعت في أمر عظيم، وقد وقعوا في أمر عظيم، وتصنع فإذا وضعت عليهم الموت فقد رحمتهم وأيست منهم، وأما التوكل فطمأنينة القلب بموعود الله تعالى، فإذا كنت مطمئنا بالموعود استغنيت غنى لا تفتقر أبداً.(2/134)
قال حاتم: والزهد اسم والزاهد الرجل، وللزهد ثلاث شرايع، أولها الصبر بالمعرفة والاستقامة على التوكل والرضاء بالعطاء، فأما تفسير الصبر بالمعرفة فإذا أنزلت الشدة أن تعلم بقلبك أن الله عز وجل يراك على حالك وتصبر وتحتسب وتعرف ثواب ذلك الصبر، ومعرفة ثواب الصبر أن تكون مستوطن النفس في ذلك الصبر، وتعلم أن لكل شيء وقتا، والوقت على وجهين إما أن يجيء الفرج وإما أن يجيء الموت، فإذا كان هذان الشيئان عندك فأنت حينئذ عارف صابر، وأما الاستقامة على التوكل فالتوكل إقرار باللسان وتصديق بالقلب، فإذا كان مقرا مصدقاً أنه رازق لا شك فيه فإنه يستقيم، والاستقامة على معنيين، أن تعلم أن شيئاً لك وشيئاً لغيرك، وأن كل شيء لك لا يفوتك، والذي لغيرك لا تنالله ولو احتلت بكل حيلة، فإذا كان مالك لا يفوتك فينبغي لك أن تكون واثقا ساكنا فإذا علمت أنك لا تنال ما لغيرك فينبغي لك أن لا تطمع فيه. وعلامة صدق هذين الشيئين أن تكون مشتغلا بالمعروض. وأما الرضا بالعطاء فالعطاء ينزل على وجهين عطاء تهوى أنت فيجب عليك الشكر والحمد، وأما العطاء الذي لا تهوى فيجب عليك أن ترضى وتصبر.
(علامات الزهد :
[*] قال الإمام الغزالي رحمه الله في الإحياء :(2/135)
اعلم أنه قد يظن أن تارك المال زاهد، وليس كذلك؛ فإن ترك المال وإظهار الخشونة سهل على من أحب المدح بالزهد، فكم من الراهبين من ردوا أنفسهم كل يوم إلى قدر يسير من الطعام ولازموا ديراً لا باب له، وإنما مسرة أحدهم معرفة الناس حاله ونظرهم إليه ومدحهم له، فذلك لا يدل على الزهد دلالة قاطعة، بل لا بد من الزهد في المال والجاه جميعاً حتى يكمل الزهد في جميع حظوظ النفس من الدنيا بل قد يدعي جماعة الزهد مع لبس الأصواف الفاخرة والثياب الرفيعة، كما قال الخواص في وصف المدعين إذ قال: وقوم ادعوا الزهد ولبسوا الفاخر من اللباس يموهون بذلك على الناس ليهدى إليهم مثل لباسهم، لئلا ينظر إليهم بالعين التي ينظر بها إلى الفقراء فيحتقروا فيعطوا كما تعطى المساكين، ويحتجون لنفوسهم باتباع العلم وأنهم على السنة، وأن الأشياء داخلة إليهم وهم خارجون منها وإنما يأخذون بعلة غيرهم. هذا إذا طولبوا بالحقائق وألجئوا إلى المضايق، وكل هؤلاء أكلة الدنيا بالدين لم يعنوا بتصفية أسرارهم ولا بتهذيب أخلاق نفوسهم، فظهرت عليهم صفاتهم فغلبتهم فادعوها حالاً لهم، فهم مائلون إلى الدنيا متبعون للهوى. فهذا كله كلام الخواص رحمه الله؛ فإذن معرفة الزهد أمر مشكل، بل حال الزهد على الزاهد مشكل.
وينبغي أن يعول في باطنه على ثلاث علامات:
- العلامة الأولى: أن لا يفرح بموجود ولا يحزن على مفقود، كما قال تعالى: " لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم " بل ينبغي أن يكون بالضد من ذلك: وهو أن يحزن بوجود المال ويفرح بفقده.
- العلامة الثانية: أن يستوي عنده ذامه ومادحه، فالأول علامة الزهد في المال والثاني علامة الزهد في الجاه.(2/136)
- العلامة الثالثة: ان يكون أنسه بالله تعالى والغالب على قلبه حلاوة الطاعة إذ لا يخلو القلب عن حلاوة المحبة إما محبة الله، وهما في القلب كالماء والهواء في القدح، فالماء إذا دخل خرج الهواء ولا يجتمعان، وكل من أنس بالله اشتغل به ولم يشتغل بغيره، ولذلك قيل لبعضهم: إلى ماذا أفضى بهم الزهد؟ فقال: إلى الأنس بالله؛ فأما الأنس بالدنيا وبالله فلا يجتمعان.
[*] قال يحيى بن معاذ : الدنيا كالعروس، ومن يطلبها يحرص على زينتها و الزاهد يسخم أي يسود وجهها، وينتف شعرها، ويخرق ثوبها، والعارف مشتغل بالله تعالى عنها.
(ما ليس بزهد ويتوهم أنه زهد :
- متعلقات الزهد خمسة أشياء وهي :
1- المال: وليس المراد من الزهد في المال رفضه وعدم السعي لكسبه وتجميعه، وإنما نعم المال الصالح للمرء الصالح، فالمال قد يكون نعمة إذا حصل عليه صاحبه من الحلال وأعانه على طاعة الله سبحانه وتعالى وأنفقه في رضوان الله وفي نصرة قضايا الإسلام والمسلمين ، فعلى سبيل المثال أبو بكر الصديق وعبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان وعمرو بن العاص كانوا من كبار الأثرياء وكانوا يستخدمون أموالهم في طاعة ربهم، أما المال الذي يفسد صاحبه فيدفعه إلى الطغيان والظلم ونشر الفاحشة فإن ذلك المال يكون نقمة على صاحبه، يقول الله تعالى:( كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى). [العلق:6،7].
2- الملك والرئاسة: ليس المراد من الزهد أيضًا رفض الملك والرياسة والوزارة وعدم المشاركة في الحياة السياسية وتركها لأراذل القوم ، فسليمان وداود عليهما السلام كانا من أزهد الناس في زمانهما، ولهما من الملك والأموال والنساء ما لا يعلمه إلا الله ، كذلك كان يوسف عليه السلام وزيرا على خزائن الأرض قال:( رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ ) [يوسف: 101].(2/137)
وإنما الملك الذي يطغى صاحبه ويجعله فاسدا مستبدا هو الذي نهى الله عنه، يقول سبحانه:( ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الملك ) [البقرة:852].
3- المظهر: فليس من الزهد أن يكون الرجل أشعث أغبر، رث الملابس ، كريه الرائحة ، حاله وسخ ينفر كل من يراه ، ف إن الله جميل يحب الجمال .
(حديث ابن مسعود في صحيح مسلم) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر قيل : إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا و نعله حسنة قال : إن الله جميل يحب الجمال الكبر بَطَرُ الحقِ و غَمطُ الناس .
4- ما في أيدي الناس: ويقصد بذلك الزهد عما في أيدي الناس وعدم استشرافه أو التطلع إليه أوالطمع فيه أو محاولة الإستيلاء عليه يطرق غير شرعية، وفي هذا يقول صلى الله عليه وسلم : «ازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس»
(حديث سهل بن سعد الثابت في صحيح ابن ماجة) قال أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلٌ فقال يا رسول الله : دلني على عملٍ إذا عملته أحبني الله وأحبني الناس فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ازهد في الدنيا يحبك الله وازهد فيما عند الناس يحبك الناس .
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
( ازهد ) من الزهد بكسر أوله وقد يفتح ، وهو لغة : الإعراض عن الشيء احتقاراً ، وشرعاً الاقتصار على قدر الضرورة مما يتيقن حله . وقيل أن لا يطلب المفقود حتى يفقد الموجود
( في الدنيا ) باستصغار جملتها واحتقار جميع شأنها لتحذير الله تعالى منها واحتقاره لها ، فإنك إن فعلت ذلك(2/138)
( يحبك الله ) لكونك أعرضت عما أعرض عنه ولم ينظر إليه منذ خلقه . وفي إفهامه أنك إذا أحببتها أبغضك ، فمحبته مع عدم محبتها ولأنه سبحانه وتعالى يحب من أطاعه ، ومحبته مع محبة الدنيا لا يجتمعان ، وذلك لأن القلب بيت الرب فلا يحب أن يشرك في بيته غيره ، ومحبتها الممنوعة هي إيثارها بنيل الشهوات لا لفعل الخير والتقرب بها ، والمراد بمحبته غايتها من إرادة الثواب ، فهي صفة ذاتية أو الإثابة فهي صفة فعلية ( وازهد فيما عند الناس ) منها
( يحبك الناس ) لأن قلوبهم مجبولة على حبها مطبوعة عليها ومن نازع إنساناً في محبوبه كرهه وقلاه ، ومن لم يعارضه فيه أحبه واصطفاه ولهذا قال الحسن البصري لا يزال الرجل كريماً على الناس حتى يطمع في دنياهم فيستخفون به ويكرهون حديثه . وقيل لبعض أهل البصرة : من سيدكم؟ قال الحسن ، قال بم سادكم؟ قال : احتجنا لعلمه واستغنى عن دنيانا
ماأعظم هذه الوصية النبوية ، وما أشد حاجتنا إلى فهمها ، والعمل بمقتضاها ، حتى ننال بذلك المحبة بجميع صورها .
( حديث أبي أيوب رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجة ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :إذا قمت في صلاتك فَصَلِ صلاةَ مُوَدِّعٍ و لا تكلم بكلام تَعْتَذِرُ منه وأجْمِع اليأس عما في أيدي الناس .
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
( إذا قمت في صلاتك ) أي شرعت فيها
( فصل صلاة مودع ) أي إذا شرعت فيها فأقبل على الله وحده ودع غيره لمناجاة ربك ( ولا تكلم ) بحذف إحدى التاءين تخفيفاً
( بكلام تعتذر منه ) أي لا تتكلم بشيء يوجب أن يطلب من غيرك رفع اللوم عنك بسببه
( وأجْمِع اليأس عما في أيدي الناس ) أي اعزم وصمم على قطع الأمل مما في يد غيرك من جميع الخلق فإنه يريح القلب والبدن . وإذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله قال الراغب : وأكثر ما يقال أجمع فيما يكون جمعا يتوصل إليه بالفكر نحو { أجمعوا أمركم وشركاءكم }(2/139)
واليأس : القنوط وقطع الأمل
( تنبيه ) من البين أن كلا من الكلام المحوح للعذر والإياس مما في أيدي الناس مأمور به لا بقيد القيام إلى الصلاة . أهـ
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء قال سفيان الثوري: الزهد في الدنيا هو الزهد في الناس، وأول الزهد في الناس زهدك في نفسك.
(حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب ) قال : أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم رجلٌ فقال : يا رسول الله : أوصني وأوجز، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " عليك بالإياس مما في أيدي الناس ، وإياك مما يعتذر منه".
فمن زهد في الدنيا رنا بطرفه وقلبه نعيم الجنات ، وجوار الكبير المتعال.
{ تنبيه } :( فإن جاء من الناس للعبد شيء بدون استشراف نفس أو طمع أو تحايل فلا بأس به.
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) قال : سمعت عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقول: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعطيني العطاءَ، فأقولُ أعطهِ من هو أفقر مني فقال: (خذه، إذا جاءك من هذا المال شيءٌ، وأنت غير مشرفٍ ولا سائل، فخُذهُ، وما لا، فلا تُتْبعِه نفسك)
5- النفس: ويقصد بذلك عدم إعجاب المرء بنفسه فيظن أنه سيخرق الأرض، أو يبلغ الجبال طولاً، فيتكبر بمنصبه أو بما أعطاه الله من صورة على خلق الله، وإنما يتواضع ويخفض جناحه للمؤمنين، كما أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم(واخفض جناحك للمؤمنين) [الحجر:88] ( من تواضع أحدٌ لله إلا رفعه الله) .
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ما نقصت صدقةٌ من مال ، وما زاد الله عبداً بعفوٍ إلا عزا ، وما تواضع أحدٌ لله إلا رفعه الله )
(الأسباب المعينة على الزهد في الدنيا :
لما كان الزهد في الدنيا مطلبٌ ثمين لنيل حب الله تعالى كما في الحديث الآتي :(2/140)
(حديث سهل بن سعد الثابت في صحيح ابن ماجة) قال أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلٌ فقال يا رسول الله : دلني على عملٍ إذا عملته أحبني الله وأحبني الناس فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ازهد في الدنيا يحبك الله وازهد فيما عند الناس يحبك الناس .
لذا وجب علينا أن نتعرف على الأسباب المعينة على الزهد في الدنيا وأن نتمسك بها وأن نعض عليها بالنواجذ ، وهاك الأسباب المعينة على الزهد في الدنيا:
[*](الأسباب المعينة على الزهد في الدنيا:
(1) النظر في الدنيا وسرعة زوالها وفنائها ونقصها وخستها وما في المزاحمة عليها من الغصص والنغص والأنكاد.
(2) النظر في الآخرة وإقبالها ومجيئها ودوامها وبقائها وشرف ما فيها من الخيرات.
(3) الإكثار من ذكر الموت والدار الآخرة.
(4) تشييع الجنائز والتفكر في مصارع الآباء والإخوان وأنهم لم يأخذوا في قبورهم شيئاً من الدنيا ولم يستفيدوا غير العمل الصالح.
(5) التفرغ للآخرة والإقبال على طاعة الله وإعمار الأوقات بالذكر وتلاوة القرآن.
(6) إيثار المصالح الدينية على المصالح الدنيوية:
(7) البذل والإنفاق وكثرة الصدقات :
(8) ترك مجالس أهل الدنيا والاشتغال بمجالس الآخرة :
(9) الإقلال من الطعام والشراب والنوم والضحك والمزاح.
(10) مطالعة سير الزاهدين وبخاصة سيرة النبي وأصحابه:
(إخفاء البكاء :
وبالتأمل في سيرة هؤلاء الصالحين الباكين من خشية الله تعالى نجد أنهم اشتركوا في صفة واحدة على تنوع عباداتهم واجتهاداتهم في طاعة الله تعالى تلك الصفة هي الإخلاص المنافي للرياء فلقد كانوا رضي الله عنهم أبعد الناس عن أن يراهم أحد حال البكاء حرصاً منهم أن لا يدخل العُجْب قلوبهم فتبطل عبادتهم وتراهم شددوا بلسان الحال والمقال على هذه الصفة ابتغاء نيل الأجر كاملاً غير منقوص من رب العالمين لا من مدح المادحين .
[*] قال الحسن البصري :(2/141)
إن كان الرجل ليجلس المجلس فتجيئه عبرته فيردها فإذا خشي أن تسبقه قام .
وقال عبد الكريم بن رشيد : كنت في حلقه الحسن فجعل رجل يبكى وارتفع صوته فقال الحسن إن الشيطان ليبكى هذا الآن .
[*] وكان أيوب السختيانى في ثوبه بعض الطول لستر الحال وكان إذا وعظ فرقَّ فَرَقَ من الرياء فيمسح وجهه ويقول : ما أشد الزكام .
[*]وقال حماد بن زيد : دخلنا على محمد بن واسع في مرضه نعودة قال فجاء يحيى البكاء يستأذن عليه فقالوا : يا أبا عبد الله هذا أخوك أبو سلمه على الباب قال: من أبو سلمه؟ قالوا : يحيى قال : من يحيى ؟ قالوا : يحيى البكاء قال حماد : وقد علم أنه يحيى البكاء فقال شر أيامكم يوم نسبتم فيه إلى البكاء .
[*] وعن القاسم بن محمد قال :
كنا نسافر مع ابن المبارك فكثيراً ما كان يخطر ببالي فأقول في نفسي بأي شيء فضل هذا الرجل علينا حتى اشتهر في الناس هذه الشهرة إن كان يصلى آنا نصلى وإن كان يصوم آنا نصوم وإن كان يغزو فآنا نغزو وإن كان يحج آنا لنحج قال فكنا في بعض مسيرتا في طريق الشام ليله نتعشى في بيت إن طفئ السراج فقام بعضنا فأخذ السراج وخرج يستصبح فمكث هنيهة ثم جاء بالسراج فنظرت إلى وجه ابن المبارك ولحيته قد ابتلت من الدموع فقلت في نفسي بهذه الخشية فضل هذا الرجل علينا ولعله حين فقد السراج فصار إلى ظلمه ذكر القيامة .
(سيد البكائين والناس أجمعين حبيبنا محمد - صلى الله عليه وسلم - :
لم يكن بكاؤه بشهيق ورفع صوت، ولكن كانت عيناه تدمعان حتى تسيل الدموع، ويسمع لصدره أزيز.
وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبكي عند سماع القرآن:(2/142)
((حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعبد الله بن مسعود : (اقْرأ عَليَّ القُرْآن، فَإِنِّي أُحبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي) فقرأ عليْهِ من سُورة النِّساء حتّى بلغ قوله: (( فَكَيفَ إِذاَ جِئنَاَ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَاَ بِكَ عَلى هَؤلاء شَهِيدا))، قال : (حَسْبُكَ الآن). فالتفتُ إليه فَإِذَاَ عَيْنَاهُ تَذْرِفَان .
وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبكي في الصلاة:
((حديث عبيد بن عمير رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب ) أنه قال لعائشة: أخبرينا بأعجب شيء رأيتيه من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فسكتت ثم قالت: لمَّا كانت ليلة من الليالي قال: «يا عائشة ذريني أتعبد الليلة لربي» قلت: والله إني أحب قربك وأحب ما يسرك، قالت: فقام فتطهَّر ثم قال يصلِّي، قالت: فلم يزل يبكي صلى الله عليه وسلم حتى بلّ حِجْره، قالت: وكان جالساً فلم يزل يبكي صلى الله عليه وسلم حتى بل لحيته، قالت: ثم بكى حتى بل الأرض، فجاء بلال يُؤذنه بالصلاة، فلما رآه يبكي قال: يا رسول الله تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك و ما تأخر؟ قال: «أفلا أكون عبداً شكوراً؟ لقد أُنزلت عليَّ الليلة آية ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها: { إن في خلق السموات والأرض} (سورة آل عمران، الآية: 190) .
(( حديث عبد الله بن الشخير الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) قال : أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي فسمعت لصدره أزيزاً كأزيز المرجل من البكاء .(2/143)
((حديث عبيد بن عمير رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب ) أنه قال لعائشة: أخبرينا بأعجب شيء رأيتيه من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فسكتت ثم قالت: لمَّا كانت ليلة من الليالي قال: «يا عائشة ذريني أتعبد الليلة لربي» قلت: والله إني أحب قربك وأحب ما يسرك، قالت: فقام فتطهَّر ثم قال يصلِّي، قالت: فلم يزل يبكي صلى الله عليه وسلم حتى بلّ حِجْره، قالت: وكان جالساً فلم يزل يبكي صلى الله عليه وسلم حتى بل لحيته، قالت: ثم بكى حتى بل الأرض، فجاء بلال يُؤذنه بالصلاة، فلما رآه يبكي قال: يا رسول الله تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك و ما تأخر؟ قال: «أفلا أكون عبداً شكوراً؟ لقد أُنزلت عليَّ الليلة آية ويل لمن قرأها ولميتفكر فيها: { إن في خلق السموات والأرض} (سورة آل عمران، الآية: 190) .
(وكان يبكي عند القبور:
((حديث البراء رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجه ) قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة فجلس على شفير القبر فبكى حتى بل الثرى ثم قال يا إخواني لمثل هذا فأعدوا .
(بكاء أصحاب النبي رضي الله عنهم :
((حديث أنس رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة ما سمعت مثلها قط قال: (لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا). قال فغطى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوههم لهم خنين .
ومعنى الحديث : لو أنكم علمتم ما أعلمه من عظمة الله عز وجل، وانتقامه ممن يعصيه، لطال بكاؤكم وحزنكم وخوفكم مما ينتظركم ، ولما ضحكتم أصلاً ، فالقليل هنا بمعنى المعدوم، وهو مفهوم من السياق .
(بكاء أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - :(2/144)
اشتهر عنه البكاء في الصلاة حتى أن السيدة عائشة لما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (مروا أبا ((حديث أبي موسى الثابت في الصحيحين) قال : مروا أبا بكر فليصل بالناس قالت عائشة إنه رجل رقيق إذا قام مقامك لم يستطع أن يصلي بالناس . قال مروا أبا بكر فليصل بالناس ، فعادت فقال مُري أبا بكر فليصل بالناس فإنكن صواحب يوسف ، فأتاه فصلى بالناس في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - .
(بكاء عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - :
كان بكاؤه يسمع من آخر الصفوف، فقد قال عبد الله بن شداد: (سمعت نشيج عمر وأنا في آخر الصفوف يقرأ { إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ } [(86) سورة يوسف]).
((حديث أنس رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة ما سمعت مثلها قط قال: (لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا). قال فغطى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوههم لهم خنين .
ومعنى الحديث : لو أنكم علمتم ما أعلمه من عظمة الله عز وجل، وانتقامه ممن يعصيه، لطال بكاؤكم وحزنكم وخوفكم مما ينتظركم ، ولما ضحكتم أصلاً ، فالقليل هنا بمعنى المعدوم، وهو مفهوم من السياق .
(بكاء أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - :
اشتهر عنه البكاء في الصلاة حتى أن السيدة عائشة لما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (مروا أبا ((حديث أبي موسى الثابت في الصحيحين) قال : مروا أبا بكر فليصل بالناس قالت عائشة إنه رجل رقيق إذا قام مقامك لم يستطع أن يصلي بالناس . قال مروا أبا بكر فليصل بالناس ، فعادت فقال مُري أبا بكر فليصل بالناس فإنكن صواحب يوسف ، فأتاه فصلى بالناس في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - .
(بكاء عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - :
كان بكاؤه يسمع من آخر الصفوف، فقد قال عبد الله بن شداد: (سمعت نشيج عمر وأنا في آخر الصفوف يقرأ { إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ } [(86) سورة يوسف]).(2/145)
( بكاء عثمان بن عفان - رضي الله عنه - :
كان إذا وقف على قبر بكى حتى يبل لحيته، فقيل له: (تذكر الجنة والنار ولا تبكي، وتبكي من هذا؟) قال: (إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن القبر أول منازل الآخرة، فإن نجا منه فما بعده أيسر منه، وإن لم ينج فما بعده أشد منه").
( بكاء عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - :
(( حديث إبراهيم بن عبد الرحمن بن الثابت في صحيح البخاري ) : أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أتي بطعام، وكان صائما، فقال: قتل مصعب بن عمير، وهو خير مني، كفن في بردة: إن غطي رأسه بدت رجلاه، وإن غطي رجلاه بدا رأسه. وأراه قال: وقتل حمزة، وهو خير مني، ثم بسط لنا من الدنيا ما بسط، أو قال: أعطينا من الدنيا ما أعطينا، وقد خشينا أن تكون حسناتنا عجلت لنا، ثم جعل يبكي حتى ترك الطعام.
( بكاء سلمان الفارسي - رضي الله عنه - :
يقول: (أبكاني ثلاث: فراق الأحبة محمد وحزبه، وهول المطلع عند غمرات الموت، والوقوف بين يدي رب العالمين حين لا أدري إلى النار انصرافي أم إلى الجنة).
[*] وعن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال : لأن أدمع دمعه من خشيه الله عز وجل أحب إلى من أن أتصدق بألف دينار .
[*] كان ابن عمر إذا قرأ: { ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله } بكى حتى يغلبه البكاء .
(نماذج من بكاء السلف :
[*] قال حماد بن زيد : رأيت ثابتا يبكي حتى تختلف أضلاعه .
[*] وقال جعفر بن سليمان : بكى ثابت البناني حتى كادت عينه تذهب ، فجاؤوا برجل يعالجها ، فقال : أعالجها على أن تطيعني . قال : وأي شيء ؟ قال : على أن لا تبكي . ، فقال : فما خيرهما إذا لم يبكيا ، وأبى أن يتعالج .
وقرأ ثابت : { تطلع على الأفئدة } قال تأكله إلى فؤاده وهو حي لقد تبلغ فيهم العذاب ثم بكى وأبكى من حوله .
وقال حماد بن سلمة : قرأ ثابت : { أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا } وهو يصلي صلاة الليل ينتحب ويرددها .(2/146)
[*] وقال الثورى : جلست ذات يوم أحدث ومعنا سعيد بن السائب الطائفي فجعل سعيد يبكى حتى رحمته فقلت : يا سعيد ما يبكيك وأنت تسمعني أذكر أهل الخير وفعالهم ؟ فقال : يا سفيان وما يمنعني من البكاء إذا ذكرت مناقب أهل الخير وكنت عنهم بمعزل ؟ قال سفيان : حق له أن يبكى .
[*] وقال أبو مُسهر كان الأوزاعى رحمه الله يحيى الليل صلاه وقرآنا وبكاء وأخبرنى بعض إخوانى من أهل بيروت أن أمه كانت تدخل منزل الأوزاعي وتتفقد موضع مصلاه فتجده رطباً من دموعه في الليل.
[*] وعن القاسم بن محمد البغدادى قال كنت جار معروف الكرخى فسمعته ليله في السحر ينوح ويبكى وينشد :
أي شيء تريد منى الذنوب *** شغفت بي فليس عنى تغيب
ما يضر الذنوب لو أعتقتني *** رحمه لي فقد علاني المشيب
[*] عن بشير قال بت عند الربيع ذات ليلة فقام يصلي فمر بهذه الآية (( أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون )) قال فمكث ليلته حتى أصبح ما يجوز هذه الآية إلى غيرها ببكاء شديد .
عن نسير بن ذعلوق قال : ( كان الربيع بن خيثم يبكي حتى يبل لحيته من دموعه فيقول أدركنا قوماً كنا في جنوبهم لصوصاً .
[*] عن سفيان قال بلغنا عن أم الربيع بن خيثم كانت تنادي ابنها ربيع تقول يا ربيع ألا تنام فيقول يا أمه من جن عليه الليل وهو يخاف السيئات حق له ألا ينام قال فلما بلغ ورأت ما يلقى من البكاء والسهر نادته فقالت يا بني لعلك قتلت . قتيلا قال نعم يا والدة قد قتلت قتيلا ، فقالت ومن هذا القتيل يا بني حتى نتحمل إلى أهله فيغتفرك والله لو يعلمون ما تلقى من السهر والبكاء بعد لقد رحموك فقال يا والدة هو نفسي .
[*] قال الحسن البصري :(2/147)
بلغنا أن الباكي من خشيه الله لا تقطر من دموعه قطره حتى تعتق رقبته من النار وقال أيضاً : لو أن باكيا بكى في ملأ من خشية الله لرحموا جميعا وليس شيء من الأعمال إلا له وزن إلا البكاء من خشية الله فإنه لا يقوم الله بالدمعة منه شيء وقال : ما بكى عبد إلا شهد عليه قلبه بالصدق أو الكذب .
[*] وقال أبو جعفر الباقر :
ما اغرورقت عين عبد بمائها إلا حرم الله وجه صاحبها على النار فإن سالت على الخدين لم يرهق وجهه قتر ولا ذله وما من شيء إلا وله جزاء إلا الدمعة فإن الله يكفر بها بحور الخطايا ولو أن باكيا بكى من خشية الله في أمه رحم الله تلك الأمة.
وقال كعب الأحبار :
لأن أبكى من خشية الله فتسيل دموعي على وجنتي أحب إلى من أن أتصدق بوزني ذهبا .
[*] وعن أبى معشر قال : رأيت عون بن عبد الله في مجلس أبى حازم يبكى ويمسح وجهه بدموعه فقيل له لم تمسح وجهك بدموعك ؟ قال : بلغني أنه لا تصيب دموع الإنسان مكانا من جسده إلا حرم الله عز وجل ذلك المكان على النار .
[*] روى أحمد بن سهل قال : قدم علينا سعد بن زنبور فأتيناه فحدثنا قال : كنا على باب الفضيل بن عياض فاستأذنا عليه فلم يؤذن لنا فقيل لنا إنه لا يخرج إليكم أو يسمع القرآن قال وكان معنا رجل مؤذن وكان صيتا فقلنا له : إقرأ فقرأ [ألهاكم التكاثر] ورفع بها صوته فأشرف علينا الفضيل وقد بكى حتى بل لحيته بالدموع ومعه خرقه ينشف بها الدموع من عينيه وأنشأ يقول
بلغت الثمانين أو جزتها *** فماذا أؤمل أو أنتظر
أتى ثمانون من مولدى *** وبعد الثمانين ما ينتظر
عَّلتنى السنون فأبليننى *** ......................
قال ثم خنقته العبره وكان معنا على بن خشرم فأتمه لنا يقول
علتنى السنون فأبليننى *** فرقت عظامى وكل البصر
[*] ابن المنكدر :(2/148)
* كان محمد بن المنكدر :ذات ليله قائم يصلى إذ استبكى فكثر بكاؤه حتى فزع له أهله فسألوه : ما الذي أبكاك؟ فاستعجم عليهم فتمادى في البكاء فأرسلوا إلى أبى حازم وأخبروه بأمره فجاء أبو حازم إليه فإذا هو يبكى فقال : يا أخي ما الذي أبكاك ؟ قد رعت أهلك فقال له إني مرت بي آيه من كتاب الله عز وجل قال : ما هي ؟ قال : قول الله تعالى [وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون ] قال فبكى أبو حازم معه واشتد بكاؤهما فقال بعض أهله لأبى حازم جئناك لتفرج عنه فزدته ، فأخبرهم ما الذي أبكاهما .
[*] الإمام الحجة الحافظ هشام الدستوائي .
وقال شاذ بن فياض : بكى هشام الدستوائي حتى فسدت عينه ، فكانت مفتوحة ، وهو لا يكاد يبصر بها .
[*] قال الحارث بن سعيد كنا عند مالك بن دينار وعنده قارىء يقرأ [ إذا زلزلت الأرض زلزالها ] فجعل مالك ينتفض وأهل المجلس يبكون حتى انتهى القارىء إلى [ فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره ] فجعل مالك يبكى ويشهق حتى غشى عليه فحمل بين القوم صريعاً .
* أُتِىَ الحسن البصرى بكوز من ماء ليفطر عليه فلما أدناه إلى فيه بكى وقال ذكرت أمنية أهل النار قولهم [أن أفيضوا علينا من الماء] وذكرت ما أجيبوا به [إن الله حرمهما على الكافرين] .
[*] وعن إبراهيم بن الأشعث قال كنا إذا خرجنا مع الفضيل في جنازة لا يزال يعظ ويذكر ويبكى حتى لكأنه يودع أصحابه ذاهب إلى الآخرة حتى يبلغ المقابر فيجلس فكأنه بين الموتى جلس من الحزن والبكاء حتى يقوم وكأنه رجع من الآخرة يخبر عنها .
[*] وعن عاصم قال : سمعت شقيق بن مسلمه يقول وهو ساجد رب اغفر لي رب اغفر لي إن تعف عنى تعف عنى تطولا من فضلك وإن تعذبني تعذبني غير ظالم لي قال ثم يبكى حتى أسمع نحيبه من وراء المسجد .(2/149)
(ذاك والله هو الإيمان الحق الذي ليس بالتمني ولا بالتحلي ولكن ما وقر في القلب وصدقة العمل وهؤلاء هم أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولاهم يحزنون وإن لم يكن هؤلاء أولياء الله فليس لله ولى .
الفهرس(
الموضوع ... رقم الصفحة
فصلٌ في منزلة الإنابة : ... 1
(تعريف الإنابة : ... 1
(فضائل منزلة الإنابة : ... 2
(أقسام الإنابة : ... 5
(علامات الإنابة: ... 6
فصلٌ في منزلة التقوى : ... 7
(تعريف التقوى : ... 8
(كيف يستدل على تقوى الرجل ؟ ... 14
(علاقة العلم بالتقوى : ... 15
(مراتب التقوى : ... 15
(منزلة التقوى : ... 16
(وصايا السلف بعضهم بالتقوى : ... 28
(علامات التقوى : ... 30
(وسائل تحصيل التقوى : ... 30
( الأسباب الباعثة على التقوى: ... 31
( كيف تكون تقيّاً ؟ ... 32
(من ثمرات التقوى : ... 34
(صفات المتقين : ... 39
(تعريف الاستقامة : ... 42
(إذا استقام القلب استقامت الجوارح : ... 45
(حكم الاستقامة : ... 45
(أدلة الاستقامة : ... 45
(حاجتنا إلى الاستقامة : ... 47
الموضوع ... رقم الصفحة
(الاستقامة على الدين ظاهراً وباطناً : ... 49
(الاستمرار على الاستقامة والتقصير فيها: ... 53
(واقع الاستقامة في حياة الناس : ... 56
( مقامات الدين التي يطالب بها العبد في الاستقامة : ... 57
(فضل الاستقامة : ... 58
(حقيقة الاستقامة : ... 61
(الأمور التي تُعِينُ على تحقيق الاستقامة؟ ... 61
(ما تتحقق به الإستقامة : ... 64
(القوادح في الإستقامة : ... 68
(مرض نقص الاستقامة : ... 69
(أسباب الاستقامة : ... 92
(ثمار الاستقامة ونتائجها : ... 99
(درجات الاستقامة : ... 103
(متعلقات الاستقامة : ... 110
(أقسام الاستقامة : ... 111
( فصلٌ في منزلة التفكر : ... 113
( تعريف التفكر : ... 113
(أقسام التفكر : ... 128
(فضل التفكر : ... 131
صورٌ مشرقة من تفكر الصحابة ... 135
( فصلٌ في منزلة التذكر : ... 136
(فضل منزلة التذكر : ... 136
(أبنية التذكر : ... 138
الموضوع ... رقم الصفحة
فصلٌ في منزلة الاعتصام ... 140
فصلٌ في منزلة الفرار ... 141
فصلٌ في منزلة الرياضة ... 143
(تعريف منزلة الرياضة : ... 143
(الفرق?بين?الرياضة?و?الترويض?? ... 147(2/150)
(فضل منزلة الرياضة : ... 149
(درجات?الرياضة?? ... 151
( فصلٌ في منزلة المحبة والخوف والرجاء : ... 158
(العلاقة بين المحبة والخوف والرجاء : ... 159
(أولاً : محبة الله عز وجلّ : ... 160
( منزلة المحبة : ... 161
( تعريف المحبة : ... 161
علامات محبة الله تعالى للعبد ... 162
علامات العبد الدالة على محبته لله تعالى ... 164
ما هي الأسباب الجالبة لمحبة الله تعالى ؟ ... 172
أحوال يحب الله تعالى أهلها ... 191
مسائل هامة في المحبة ... 194
لوازم محبة الله تعالى ... 196
الآثار الواردة في محبة الله تعالى ... 198
ثانياً الخوف والرجاء ... 198
أهمية الخوف والرجاء ... 199
متى يُعَدُ الخوف أفضل من الرجاء ... 199
تعريف الخوف ... 200
الموضوع ... رقم الصفحة
(الخشية أخص من الخوف : ... 202
(منازل الخوف ودرجاته : ... 205
(الخوف المحمود الصادق ؟ ... 207
(هل الخوف مقصودٌ لذاته ؟ ... 207
(هل الخوف أفضل أم المحبة ؟ ... 207
(حكم الخوف من الله : ... 208
فضائل الخوف ... 210
ثمرات الخوف من الله ... 214
الأسباب الجالبة للخوف ... 221
موانع الخوف ... 243
(أنواع الخوف : ... 246
(تعريف الرجاء : ... 247
(الفرق بين الرجاء والتمني : ... 249
(الرجاء ضد اليأس : ... 252
[*](درجات الوصول إلى تحقيق الرجاء : ... 252
(الرجاء دواء يحتاج له رجلان : ... 253
ثمرات الرجاء ... 254
أنواع الرجاء ... 256
(علامة الرجاء في العبد : ... 257
[*](درجات الرجاء : ... 259
(أنواع الرجاء من حيث الراجي : ... 261
(الخوف المحمود والرجاء المحمود : ... 266
فصلٌ في منزلة الخشوع ... 267
الموضوع ... رقم الصفحة
[*](تعريف الخشوع : ... 267
(فضل الخشوع : ... 268
(حكم الخشوع : ... 271
(محل الخشوع : ... 271
(إخفاء الخشوع : ... 273
(الطرق الموصلة الخشوع : ... 274
(نماذج من خشوع السلف : ... 275
[*](تمام الخشوع ... 279
فصلٌ في منزلة البكاء من خشية الله ... 280
(فضل البكاء من خشية الله : ... 280
(السبب في جفاف العين عن البكاء : ... 284
(السبل الميسرة للبكاء من خشية الله تعالى : ... 317
(إخفاء البكاء : ... 537(2/151)
(سيد البكائين والناس أجمعين حبيبنا محمد - صلى الله عليه وسلم - : ... 538
(بكاء أصحاب النبي رضي الله عنهم : ... 539
(نماذج من بكاء السلف : ... 541(2/152)