فماذا فعل المسلمون لما انتصروا على خصومهم؟ ماذا قال النبي عليه الصلاة والسلام لما انتصر على قريش وفتح مكة؟ ألم يصفح عنهم؟ وينس ما فعلوه به؟
وماذا فعل المسلمون لما انتصروا على كسرى وقيصر؟ هل خانوا العهود، وهل انتهكوا الأعراض؟ وهل قتلوا الشيوخ والأطفال والنساء؟
وماذا فعل صلاح الدين لما انتصر على الصليبين؟ ألم ينعم على قائدهم بالعفو؟ ألم يعالجه، ويطلق سراحه.
فهذه المواقف وأمثالها كثيرة في تاريخ المسلمين، مما كان لها أبلغ الأثر في محبة الناس للإسلام، والدخول فيه عن قناعة ويقين.
أفغير المسلمين يقوم بمثل هذا؟ الغرب يقدم لنا مثل هذه النماذج؟
الجواب ما تراه وتسمعه؛ فمن أين خرج هتلر، وموسوليني، ولينين، وستالين، ومجرمو الصرب؟ أليست أوربا هي التي أخرجت هؤلاء الطواغيت الشياطين الذين قتلوا الملايين من البشر، والذين لاقت البشرية منهم الويلات إثر الويلات؟ ألا يعد أولئك هم طلائع حضارة أوربا؟ فمن الهمج العتاة القساة الأجلاف إذاً؟
ثم من الذي صنع القنابل النووية والجرثومية، وأسلحة الدمار الشامل؟ ومن الذين لوثوا الهواء بالعوادم، والأنهار بالمبيدات؟ ومن الذي يدعم اليهود وهم في قمة الإرهاب والتسلط والظلم؟ .
أما آن لكثير من مثقفينا أن يصحوا من رقدتهم؟ وألا ينظروا إلى الغرب بعين عوراء متغافلين عن ظلمه، وإفلاسه الروحي؟
هذه هي حال كثير من مثقفينا، ومع ذلك تجدهم يتصدرون وسائل الإعلام، ويتطرقون لقضايا الأمة.
ولو صُرف النظر عن ناحيتهم، وترك حبلُهم على غاربهم_لهبطوا بكثير من شبابنا في خسار يهتز له قلب عدوهم شماتةً وفرحاً.
والنفوس التي تتزحزح عن الإيمان قيد شعرة تبتعد عن مراقي الفلاح سبعين خريفاً.(1/395)
فلا بد إذاً من أن نكون على مرقبة من دعايتهم، وننفق ساعات في التنبيه على أغلاطهم؛ لعلهم ينصاعون إلى رشدهم، أو لعل الأمة تحذر عاقبة هذا الذي يبدو على أفواههم (1) .
فحقيق على هؤلاء أن يؤوبوا إلى رشدهم، وأن يقدموا لأمتهم ما يرفع عنها الذلة والتبعية، وأن يبحثوا في سبل رقيها وفلاحها.
وإن من أعظم ما يعينهم على ذلك أن يدرسوا الإسلام دراسة واعية متأنية من مصادره الأصيلة، وأن يكون لديهم من الشجاعة الأدبية والأمانة العلمية_ما يبعثهم إلى الرجوع إلى الحق والاعتزاز به.
أما السير في ركاب الغرب، والأخذ بكل ما يصدر منه دونما تمحيص فذلك محض الهوان، وعنوان التخلي عن العزة والكرامة؛ فالأمة العزيزة هي التي تعرف مقدار ما تعطي، ومقدار ما تأخذ، ونوع ما تعطي ونوع ما تأخذ، وهي التي تعد نفسها بكل ما أوتيت من قوة؛ حتى تحمي رأيها فيما تأخذ وما تدع، وما تعطي وما تمنع.
(ورحم الله الشيخ محمد الخضر حسين إذ يقول:
كنا بدورَ هداية ما من سَنَىً ... إلا ومن أنوارها يستوقدُ
كنا بحورَ معارف ما من حُلىً ... إلا ومن أغوارها يُتصيَّدُ
كنا جلاء للصدور من القذى ... ولواؤنا بيد السعادة يُعْقَدُ
ما صافحت راحاتنا دوحاً ذوى ... إلا وأينع منه غصنٌ أغيدُ
ومن احتمى بطرافنا السامي الذُّرا ... آوى إلى الحرم الذي لا يضهد
لا يمْتري أهْلُ التمدن أنهم ... لو لم يسيروا إثرنا لم يصعدوا
فَسلوا متى شئتم سَراتَهُمُ فما ... من أمة إلا لنا فيها يدُ
لا فخر في الدنيا بغير مجادة ... تعنو لها الأمم العظام وتسجد
لكننا لم نرعَ فيها حُرْمةً ... بذمامها منا الرقاب تُقلَّد
أخذت مطيَّات الهوى تحدو بنا ... في كل لاغية كساعة نُولد
حتى انزوى من ظلها الممدود ما ... فيه مقام يستطاب ومقعدُ
أبناءَ هذا العصر هل من نهضة ... تشفي غليلاً حرُّه يتصعَّدُ (2)
__________
(1) انظر محمد رسول الله وخاتم النبيين للشيخ محمد الخضر حسين ص190.
(2) خواطر الحياة ص105_106.(1/396)
(ورحم الله الأديب الكبير مصطفى صادق الرافعي إذ يقول:
فأين الذي رفعته الرماح ... وأين الذي شيدته القُضُبْ
وأين شواهقُ عزٍّ لنا ... تكاد تمس ذراها السحب
لقد أشرق العلم من شرقنا ... وما زال يَضْؤُلُ حتى غرب
وكنا صعدنا مراقي المعالي ... فأصبح صاعدُنا في صبب
وكم كان منا ذوو همة ... سمت بهمُ لمعالي الرتب
وكم من هِزَبْرٍ تهز البرايا ... بوادره إن ونى أو وثب
وأقْسمُ لولا اغترار العقول ... لما كفَّ أربابها عن أرب
ولولاَ الذي دَبَّ ما بينهم ... لما استصعبوا في العلا ما صَعُب (1)
(ج) التوبة الإعلامية: فالإعلام في كثير من بلاد المسلمين يروِّج للرذيلة، ويزري بالعفة والفضيلة، فتراه يصب في قالب العشق والصبابة، والترف والهزل، ويسعى لتضليل الأمة عن رسالتها الخالدة.
فجدير بإعلام المسلمين أن تكون له شخصيته المتميزة، وأن يكون داعية إلى كل خير وفلاح.
وواجب على كل إعلامي مسلم أن يتضلع بمسؤوليته، وأن يدرك حجم الأمانة الملقاة على عاتقه، فهو يرسل الكلمة فتسير بها الركبان؛ فله غنمها، وعليه غرمها.
(د) التوبة من التبرج: تلك السنة الإبليسية الجاهلية التي فتحت على المسلمين باب شر مستطير.
ففي أكثر بلدان المسلمين تخلت النساء عن الحجاب، وأخذن بالتبرج، والتهتك، والتبذل، والسفور على تفاوت فيما بين البلدان.
وهذا الصنيع نذير شر وشؤم، ومؤذن لعنة وعذاب؛ ذلك أن التبرج موجب لفساد الأخلاق، وضيعة الآداب، وشيوع الجرائم والفواحش، وانعدام الغيرة، واضمحلال الحياء.
وبسببه تتحطم الروابط الأسرية، وتنعدم الثقة بين أفرادها.
وهذا التبرج لم يكن معروفاً عند المسلمين، وإنما هو سنة جاهلية انقطعت بالإسلام.
قال تعالى مخاطباً نساء المسلمين: (وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى) [الأحزاب: 33]
__________
(1) إيوان الألمعي شرح ديوان الرافعي حققه أسامة محمد السيد ص 22.(1/397)
وفي العصور المتأخرة دخل التبرج على المسلمين بسبب الإعراض عن هداية الدين، وبسبب الحملات الضارية على المرأة المسلمة؛ كي تتخلى عن وقارها وحيائها وحشمتها ودينها.
كما دخل على المسلمين من باب التقليد الأعمى للغرب ومحاولة اللحاق بركابه؛ لئلا يقال: متخلفون رجعيون!
وإذا أنكر منكر على أولئك الذين يدعون إلى التبرج والسفور وصموه بالتخلف والرجعية؛ فهل تقليد الغرب في مستهجن عاداته إلا التخلف بعينه؟ أو ليس هذا التقليد مما يزيد الشعوب المقلدة وهناً على وهن؟ !
وإذا أردت الدليل على أن التبرج تخلف عن ركب الحضارة فانظر إلى انحطاط خصائص الجنس البشري في الهمج من العراة الذين لا يزالون يعيشون في المتاهات والأدغال على حال تقرب من البهيمية؛ فإنهم لا يأخذون طريقهم في مدارج الحضارة إلا بعد أن يكتسوا ويستطيع المراقب لحالهم في تطورهم أن يلاحظ أنهم كلما تقدموا في الحضارة زادت نسبة المساحة الكاسية من أجسادهم.
كما يلاحظ أن الحضارة الغربية في انتكاسها تعود في هذا الطريق القهقرى درجة بعد درجة حتى ينتهي الأمر إلى العري الكامل في مدن العراة التي أخذت في الانتشار بعد الحرب العالمية الأولى، ثم استفحل داؤها في السنوات الأخيرة.
ونحن إذا احتجنا إلى الاستفادة من خبرة الغرب، وتفوقه في الصناعات الآلية التي كانت سبباً في مجده وسيادته_فمن المؤكد أننا لسنا في حاجة إلى استيراد قواعد في السلوك والتربية والأخلاق التي تدل الأمارات والبوادر على أنها ستؤدي إلى تدمير حضارته، والقضاء عليها قضاء تاماً في القريب العاجل.
إننا في حاجة إلى مواد البناء؛ لأن لدينا من عوامل الضعف والهدم ما يكفي، ومن مصائبنا نحن الشرقيين أننا لا نأخذ المصائب كما هي، بل نزيد عليها ضعفنا فإذا هي رذائل مضاعفة.(1/398)
ومع ذلك تجد من أبناء جلدتنا من لا يصيخون السمع إلى هداية الدين، بل هم يلحدون في آيات الله، فيميلون بها عن وجهها حيناً، ويجادلون فيها أشد المجادلة حيناً آخر.
في الوقت الذي يخضعون لهذه المزاعم الداعرة، ويرونها فوق النقاش والمراء.
هؤلاء قوم لا تقوم عندهم الحجة بالقرآن والسنة، ولكنها تقوم بهذه الظنون والأوهام؛ فإذا عارضتهم بالثابت من الشرع_وهم يزعمون أنهم مسلمون لووا رؤوسهم، وقالوا: نحدثك في العلم فتحدثنا في الدين؟ وكأن هذه الأوهام عندهم أثبت من الشرع المطهر.
أترى فرقاً بين هؤلاء وبين أمم خلت من قبلهم من الضالين كانوا يقولون إذا ذُكِّروا بآيات الله: (قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ) [الأنفال: 31] ؛و قال تعالى : (لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ) [النحل: 25]
وبالجملة فإن الحقيقة الماثلة للعيان تقول: بأن التبرج أقرب الوسائل إلى تلويث الأعراض، ونكد العيش، وأنه إلى ابتذال المرأة أقرب منه إلى كرامتها، وإلى عنائها أقرب منه إلى راحة بالها (1) .
[*](قال الأديب الكبير مصطفى صادق الرافعي : وما هو الحجاب إلا حفظ روحانية المرأة للمرأة، وإغلاء سعرها في الاجتماع، وصونها من التبذل الممقوت (2) .
(وقال أيضاً : وأساس الفضيلة في الأنوثة الحياء؛ فيجب أن تعلم الفتاة أن الأنثى متى خرجت من حيائها وتهجَّمت؛ أي توقَّحت، أي تبذَّلت_استوى عندها أن تذهب يميناً، أو تذهب شمالاً، وتهيأت لكل منهما ولأيهما اتفق.
__________
(1) انظر رسائل الإصلاح للشيخ محمد الخضر حسين 2/223 وحصوننا مهددة من داخلها د. محمد محمد حسين ص69_80.
(2) وحي القلم1/195.(1/399)
وصاحبات اليمين في كنف الزوج، وظل الأسرة، وشرف الحياة، وصاحبات الشمال ما صاحبات الشمال...؟ (1) .
(وقال أيضاً : فكل ما تراه من أساليب التجميل والزينة على وجوه الفتيات وأجسامهن في الطرق_فلا تَعُدَّنَّه من فرط الجمال، بل من قلة الحياء (2) .
وإذا كان الأمر كذلك فإنه يجب على الأمَّة المسلمة أن تتوب من التبرج والسفور، وأن تحاربه بكل ما أوتيت من قوة.
وأن تدعو في الوقت نفسه إلى لزوم الحجاب والحشمة للمرأة المسلمة؛ ففي الحجاب العفة، والستر، والطهر، والسلامة من الفتنة، والنجاة من الوعيد وغير ذلك من فضائل الحجاب.
كما يجب على المرأة المسلمة أن تحافظ على حجابها، وأن تعتز به، وألا تلتفت إلى دعاوى المبطلين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون، وأن يكون حجابها مستوعباً جميع بدنها بما في ذلك الوجه والكفان، وألا يكون الحجاب زينة في نفسه، وأن يكون صفيقاً لا يشف، وأن يكون فضفاضاً غير ضيق، وألا يكون مُبخَّراً مطيباً، وألا يشبه لباس الرجل، أو الكافرات، وألا يكون لباس شهرة.
فإذا كانت كذلك فأحْرِ بها أن تسعد في نفسها، وأن تسعد الأمة بها.
(هـ) التوبة من التقصير في الدعوة إلى الله: فأمة الإسلام هي الأمة القوامة على الأمم، وهي الشاهدة على الأولين والآخرين.
والبشرية جمعاء بأمسّ الحاجة إلى هداية الإسلام.ومع ذلك تجد التقصير في جانب الدعوة إلى الله.
والتبعة في ذلك تقع على أهل العلم بخاصة؛ فما بال كثير منهم يعرف مناهج الصلاح، ويبصر طائفة من قومه يتهافتون على عماية، أو يهيمون في جهالة ولا تنهض به الهمة؛ ليعمل على إفاقتهم من سكرتهم، وإراءتهم معالمَ فوزهم؟ .
وما بال الخلاف يدب في صفوف كثير من الدعاة، فيفشلهم، ويذهب ريحهم؟
وما بال كثير منهم يخطىء سبيل الحكمة، ويؤثر مصلحته على مصلحة الأمة؟
__________
(1) وحي القلم1/302.
(2) وحي القلم1/302.(1/400)
وما بال كثير منهم ينزوي وينطوي على نفسه غير مكترث بمصير الأمة، وغير مبال بوعيد الله لمن كتم العلم؟
إن السكوت عن الدعوة جرم عظيم، وذنب يجب التوبة منه؛ ذلك أنه إذا انزوى العارفون بوجوه الإصلاح رفع البغي لواءه، وبقي إخوان الفساد يترددون على أماكن المنكرات.
والبغي يضرب على الأمة الذلةَ والمسكنةَ، والانهماكُ في المنكرات يميت خصال الرجولة من نحو الشجاعة، وشدة البأس، والبذل في سبيل الخير.
وإذا تفشى وباء الفساد تداعت الأخلاق الفاضلة إلى سقوط، ونضب ماء الحياء من الوجوه، ووهنت رابطة الاتحاد في القلوب، وتضاءلت الهمم عن معالي الأمور، وقلَّت الرغبة في الآداب والعلوم.
وما عاقبة الأمة المصابة بالذل والإحجام، والجهل والتفرق، وقلة الإنفاق في سبيل البر إلا الدمار.
ولا يحسب الذين ينقطعون عن إرشاد الضالين ووعظ المسرفين أن إقبالهم على شأنهم، واقتصارَهم في العمل الصالح على أنفسهم يجعلهم في منجاة من سوء المنقلب الذي ينقلب إليه الفاسقون.
فالذي جرت به سنة الله في الأمم أن وباء الظلم والفسوق إذا ضرب في أرض، وظهر في أكثر نواحيها لا تنزل عقوبته بديار الظالمين أو الفاسقين خاصة، بل تتعداها إلى ما حولها، وترمي بشرر يلفح وجوه جيرانهم الذين تخلوا عن نصيحتهم، ولم يأخذوا على أيديهم.
قال تعالى : (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) [الأنفال:25]
فإذا كَثُرَ الخبث هلك الناس وفيهم الصالحون بنص السنة الصحيحة كما في الحديثين الآتيين: (
( حديث زينب بنت جحش رضي الله عنها الثابت في الصحيحين ) أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها فزعا يقول: (لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه وحلق بإصبعه الإبهام والتي تليها، قالت زينب بنت جحش: فقلت: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: (نعم، إذا كثر الخبث).(1/401)
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في السلسلة الصحيحة ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إذا ظهر السوء في الأرض أنزل الله عز وجل بأسه بأهل الأرض ، وإن كان فيهم صالحون ، يصيبهم ما أصاب الناس ، ثم يرجعون إلى رحمة الله .
فأين النوعية المصلحة التي تكفل الله بإنجائها إذا حلَّ العذاب بأهل القرى: قال تعالى: (فَلَماّ نَسُواْ مَا ذُكّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُوَءِ وَأَخَذْنَا الّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ) [الأعراف:165].
إن من البلية في سكوت أهل العلم أن العامة يتخذونه حجة على إباحة الأشياء أو استحسانها؛ فإذا نهيتهم عن بدعة سيئة، وسقت إليهم الدليل على قبحها ومخالفتها لما شرع الله_كان جوابهم أنهم فعلوها بمرأى أو مسمع من فلان من أهل العلم ولم يعترض فعلهم بإنكار!.
ومن أثر التهاون بالإرشاد أن يتمادى المفسدون في لهوهم، ولا يقفوا في اتباع شهواتهم عند غاية؛ فتقع أعين الناس على هذه المناكر كثيراً، فتألفها قلوبهم، حتى لا يكادوا يشعرون بقبح منظرها، أو يتفكروا في سوء عاقبتها.
ومن أثر هذا أن يقبل عليهم الحق بنوره الساطع ووجهه الجميل، فتجفل منه طباعهم، وتجفوه أذواقهم لأول ما يُشْرف عليها (1) .
وإذا كان الأمر كذلك كان لزاماً على الأمة أفراداً وجماعات أن تتوب من التقصير في الدعوة إلى الله، وأن يقوم كل فرد بحسبه بما أوجب الله عليه من نصرة دين الله، هذا بلسانه، وهذا بقلمه، وهذا بماله، وهذا بجاهه، ولكل وجهة هو موليها، وقد علم كل أناس مشربهم.
هذه بعض الأخطاء التي تقع في باب التوبة، وسيأتي_ضمناً_في الفصل الآتي مزيد بيان لبعض الأخطاء.
(مسائلٌ هامة في التوبة :
...
مسألة : ما هي التوبة الواجبة والتوبة المستحبة ؟
__________
(1) الكلام في هذه الفقرة أكثره مستفاد من كتاب: الدعوة إلى الإصلاح للشيخ محمد الخضر حسين ص101و115_118.(1/402)
التوبة الواجبة تكون من فعل المحرمات وترك الواجبات، والمستحبة تكون من فعل المكروهات، وترك المستحبات .
فمن اقتصر على التوبة الأولى كان من الأبرار المقتصدين، ومن تاب التوبتين كان من السابقين المقربين، ومن لم يأت بالأولى كان من الظالمين: إما الكافرين، وإما الفاسقين (1) .
مسألة : ما هي التوبة النصوح ؟
التوبة النصوح: هي الخالصة، الصادقة، الناصحة، الخالية من الشوائب، والعلل ، وهي التي تكون من جميع الذنوب؛ فلا تدع ذنباً إلا تناولته، وهي التي يجمع صاحبها العزم والصدق بكليته عليها؛ بحيث لا يبقى عنده تردد، ولا تلوُّمٌ، ولا انتظار، وهي التي تقع؛ لمحض الخوف من الله، وخشيته، والرغبة فيما لديه، والرهبة مما عنده؛ فليست لحفظ الجاه، والمنصب، والرياسة، ولا لحفظ الحال، أو القوة، أو المال، ولا لاستدعاء حمد الناس، أو الهرب من ذمهم، أو لئلا يتسلط عليه السفهاء، ولا لقضاء النهمة من الدنيا، أو للإفلاس والعجز، ونحو ذلك من العلل التي تقدح في صحتها، وخلوصها لله تعالى ، فمن كانت هذه حاله غفرت ذنوبه كلها، وإذا حسنت توبته بدل الله سيئاته حسنات (2) .
مسألة : إذا تاب العبد من بعض الذنوب مع إصراره على بعضها الآخر ، فهل تُقْبل توبته مما تاب منه ؟
الجواب : الواجب على العبد أن يتوب من جميع الذنوب صغيرها وكبيرها ، فإذا تاب من بعضها مع إصراره على بعضها الآخر قبلت توبته مما تاب منه، ما لم يُصرَّ على ذنب آخر من نوعه.
أما إذا تاب من ذنب مع مباشرة ذنب آخر لا تعلق له به ولا هو من نوعه صحت توبته مما تاب منه.
مثال ذلك أن يتوب من الربا ، وهو مصر على السرقة وشرب الخمر، فتقبل توبته من الربا.
__________
(1) انظر جامع الرسائل لابن تيمية1/227.
(2) انظر مدارج السالكين1/316_317، وفتح الباري11/105.(1/403)
أما إذا تاب من نوع من أنواع الربا وهو مصر على نوع آخر منه، أو تاب من نوع منه، وانتقل إلى نوع آخر فلا تقبل توبته كحال من يتوب من ربا الفضل وهو مصر على ربا النسيئة، أو أن ينتقل من ربا الفضل إلى ربا النسيئة، وكحال من يتوب من الزنا بامرأة، وهو مصر على الزنا بأخرى؛ فإن توبته لا تصح؛ فهو لم يتب في الحقيقة من الذنب، وإنما عدل عن نوع منه إلى نوع آخر.
وقد يتصور أن يتوب الإنسان من الكثير من الذنوب دون القليل؛ لأن لكثرة الذنوب تأثيراً في كثرة العقوبة، وصعوبة التوبة (1) .
وبالجملة فكل ذنب له توبة خاصة، وهي فرض منه لا تتعلق بالتوبة من غيره؛ فهذه هي التوبة الخاصة .
وحكمها أنها تصح فيما تاب منه؛ شريطة أن يكون التائب باقياً على أصل الإيمان.
وسر المسألة أن التوبة تتبعض كالمعصية؛ فيكون تائباً من وجه دون وجه كالإسلام والإيمان (2) .
وهذا هو قول جمهور أهل السنة والجماعة (3) .
ثم إن على العبد إذا وفقه الله لترك ذنب من الذنوب أن يسعى في التخلص من الباقي؛ لأن الإصرار على الذنوب يقود إلى ذنوب أخرى؛ فالحسنة تهتف بأختها، والسيئة كذلك.
مسألة : كيف يتوب من اغتصب مالاً ؟
أما توبة من اغتصب مالا فعليه رد هذا المال لأصحابه ، فإن تعذر عليه رده لجهله بأصحابه ، أو لانقراضهم ، أو لغير ذلك فعليه أن يتصدق بتلك الأموال عن أربابها،فإذا كان يوم استيفاء الحقوق كان له الخيار بين أن يجيزوا ما فعل ، وتكون أجورها لهم ، وبين ألا يجيزوا ويأخذوا من حسناته بقدر أحوالهم ويكون ثواب تلك الصدقة له إذا لا يبطل الله سبحانه ثوابها.
فقد روى عن ابن مسعود - رضي الله عنه - اشترى من رجل جارية ودخل يزن له الثمن فذهب رب الجارية ، فإن رضي فالأجر له وإن أبى فالأجر لى وله من حسناتي بقدره .
__________
(1) انظر إحياء علوم الدين4/40.
(2) انظر مدارج السالكين 1/285.
(3) انظر فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن رجب الحنبلي1/157.(1/404)
مسألة : كيف يتوب من عاوض غيره معاوضة محرمة وقبض العِوض كبائع الخمر والمُغَنَّي وشاهد الزور ثم تاب والعوض بيده ؟
الجواب :
وأما توبة من عاوض غيره معاوضة محرمة وقبض العِوض كبائع الخمر والمُغَنَّي وشاهد الزور ثم تاب والعوض بيده على قولين لأهل العلم كما يلي : (
فقالت طائفة يرده إلي مالكه إذ هو عينُ ماله ، ولم يقبضه بإذن الشارع ولا حصل لربه في مقابلته نفعٌ مباح، وقالت طائفة – بل وهو أصوب القولين -:بل توبته بالتصدق به وكيف يرد إلى دافعه مالاً استعان به على معاصي الله ؟ وهكذا توبة من اختلط ماله الحلال بالحرام وتعذر عليه تمييزه أن يتصدق بقدر الحرام ويطيب باقي ماله والله أعلم .
مسألة : إنسان يعمل في المصانع التابعة لشركات أجنبية والمختلطة من حيث التوقيت في العمل ، ومن حيث الجنسين وما يتبع ذلك من محادثات ومزح وما إلى ذلك ومشاهدة أشياء محرمة وفواحش تقع بين بعض الشبان وبعض الفتيات خصوصا عند العمل ليلا ، وكان يحصل على أجره كل شهر ، والآن وقد ترك العمل منذ سنتين ، وبقي لدي أشياء كان قد اشتراها من تلك الرواتب التي كان يتقاضاها ، منها آلة خياطة كان يخيط عليها الملابس للفتيات ، وكان لا يهتم لاحتشام هذه الملابس ، بل كان يخيط كل ما تريده زبوناته ، ولكنه الآن تاب إلى الله عز وجل ، ولم يعد يفعل ذلك . فما حكم تلك الأموال التي كان يتقاضاها ، وما حكم ما بقي من الأشياء التي اشتراها بذلك المال ، وكيف يتصرف فيها ، ومنها آلة الخياطة ، وبعض الذهب ، وبعض الأثاث والمفروشات ؟
الجواب :
أولا : نحمد الله تعالى أَنْ مَنَّ عليك بالتوبة ، ورزقك الإنابة ، فوالله إن خير ما يكسبه المرء في دنياه صدق الرجوع إلى الله ، ومن أراد الله به خيرا فتح له باب الذل والانكسار والافتقار ، وأراه عيوب نفسه وجهلها وظلمها وتعديها حدوده ، وألان قلبه إلى التوبة والاستغفار والندم على الذنب والتفريط .(1/405)
فقد كان عملك في الأماكن المختلطة وفي صنع وإنتاج ما يستعمل على الوجه الحرام من المحرمات التي تمنعها الشريعة الإسلامية ، حفظا للدين ، وصيانة لمجتمعات المسلمين ، والتزاماً بحدود الله ، وتعظيماً لشرعه ، ومعرفةً لقدره عز وجل .
[*](قال ابن القيم في "الوابل الصيب" (ص/32) :
" وأما علامات تعظيم المناهي : فالحرص على التباعد من مظانها وأسبابها وما يدعو إليها ، ومجانبة كل وسيلة تقرب منها ، كمن يهرب من الأماكن التي فيها الصور التي تقع بها الفتنة خشية الافتتان بها ، وأن يدع ما لا بأس به حذرا مما به بأس ، وأن يجانب الفضول من المباحات حشية الوقوع في المكروهات ، ومجانبة مَن يجاهر بارتكابها ويحسنها ويدعو إليها ويتهاون بها ولا يبالي ما ركب منها ، فإن مخالطة مثل هذا داعية إلى سخط الله تعالى وغضبه ، ولا يخالطه إلا من سقط من قلبه تعظيم الله تعالى وحرماته " انتهى .
ثانيا : خياطة الملابس النسائية الفاضحة - لمن تلبسها في المعصية وتستعملها في الفتنة – من الأعمال المحرمة ؛ لما فيها من الإعانة على المنكر ، والواجب على المسلم تعظيم حدود الله فلا يرضى أن يعصى الرب تعالى من طريقه ، ولا يقبل أن يكون من أعوان الشيطان وحزبه.
[*](قال ابن تيمية في "شرح العمدة" (4/387) :
" وكل لباس يغلب على الظن أن يستعان بلبسه على معصية فلا يجوز بيعه وخياطته لمن يستعين به على المعصية والظلم ، وكذلك كل مباح في الأصل علم أنه يستعان به على معصية " انتهى .
(وقال أيضا – كما في "مجموع الفتاوى" (22/141) :
" إذا أعان الرجل على معصية الله كان آثما ؛ لأنه أعان على الإثم والعدوان ، ولهذا لعن النبى صلى الله عليه وسلم الخمر ، وعاصرها ، ومعتصرها ، وحاملها ، والمحمولة إليه ، وبائعها ، ومشتريها ، وساقيها ، وشاربها ، وآكل ثمنها .(1/406)
وأكثر هؤلاء كالعاصر والحامل والساقي إنما هم يعاونون على شربها ، ولهذا ينهى عن بيع السلاح لمن يقاتل به قتالا محرما : كقتال المسلمين ، والقتال فى الفتنة " انتهى .
[*](وقال ابن حزم في "المحلى" (7/522) :
" ولا يحل بيع شيء ممن يوقن أنه يعصي الله به أو فيه , وهو مفسوخ أبدا :
كبيع كل شيء يعصر ممن يوقن بها أنه يعمله خمرا ، وكبيع المملوك ممن يوقن أنه يسيء ملكته ، أو كبيع السلاح أو الخيل : ممن يوقن أنه يعدو بها على المسلمين ، أو كبيع الحرير ممن يوقن أنه يلبسه , وهكذا في كل شيء ; لقول الله تعالى : (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرّ وَالتّقْوَىَ وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) [المائدة: 2]
والبيوع التي ذكرنا تعاون ظاهر على الإثم والعدوان بلا تطويل , وفسخها تعاون على البر والتقوى .
فإن لم يوقن بشيء من ذلك فالبيع صحيح ; لأنه لم يعن على إثم , فإن عصى المشتري الله تعالى بعد ذلك فعليه " انتهى باختصار.
[*](وجاء في "الموسوعة الفقهية" (2/73) :
" لا يجوز احتراف ما يؤدي إلى الحرام أو ما يكون فيه إعانة عليه , كالوشم : لما فيه من تغيير خلق الله ، وككتابة الربا : لما فيه من الإعانة على أكل أموال الناس بالباطل ، ونحو ذلك " انتهى .
ثالثا : التوبة من المال الحرام شرطها التخلص منه ، وذلك بصرفه في مصالح المسلمين ، وفي أوجه البر المختلفة .
[*](قال ابن تيمية رحمه الله – كما في "مجموع الفتاوى" (22/142) :
" ومن أخذ عِوضًا (أجرة) عن عين محرمة ، أو نفع استوفاه ، مثل : أجرة حَمَّال الخمر ، وأجرة صانع الصليب ، وأجرة البَغِيّ ، ونحو ذلك ، فليتصدق بها ، وليتب من ذلك العمل المحرم ، وتكون صدقته بالعوض (الأجرة) كفارة لما فعله ؛ فإن هذا العوض لا يجوز الانتفاع به ؛ لأنه عوض خبيث " انتهى .
[*](وجاء في "الفروع" (2/666) لابن مفلح :
" والواجب في المال الحرام التوبة وإخراجه على الفور " انتهى .(1/407)
فالواجب عليكِ تقدير ما حصلته من أجرة خياطة ثياب النساء المتبرجات ، ثم إخراجه للفقراء والمساكين رجاء تكفير الإثم والمعصية السابقة .
أما الأموال التي حصلتِها من العمل في المصنع – ومنها آلة الخياطة - فلا يجب عليك إخراجها ولا التخلص منها ؛ لأن الحرام لم يتعلق بأصل العمل ، بل بالاختلاط الذي صاحبَه ، وهو أمر خارجٌ عن أصله ، اللهم إلا إذا كان عمل المصنع في الحرام ، كمصانع الخمور والدخان والآلات المحرمة ، فيجب عليك حينذ إخراج الأجرة التي أخذتها منه .
وإن ضاق عليك الحال ، ولم تتمكني من إخراج جميع المال الذي حصلته من خياطة الملابس المحرمة ، فلا حرج عليك من إبقاء ما تحتاجين إليه .
[*](قال شيخ الإسلام ابن تيمية – كما في "مجموع الفتاوى" (29/308) :
" فإن تابت هذه البغي وهذا الخَمَّار وكانوا فقراء ، جاز أن يُصرف إليهم من هذا المال قدر حاجتهم ، فإن كان يقدر يتجر أو يعمل صنعة كالنسج والغزل ، أعطي ما يكون له رأس مال " انتهى .
(ماذا يفعل التائب إذا اختلطت أمواله الحرام بأمواله الحلال :
مسألة: ماذا يفعل بالمال الذي ربحه من تجارة الدخان ، وكذلك إذا احتفظ بأمواله الأخرى الحلال ؟
الجواب : الحمد لله ،
من تاجر بالمحرمات كبيع آلات اللهو والأشرطة المحرمة والدخان وهو يعلم حكمها ثم تاب يصرف أرباح هذه التجارة المحرمة في وجوه الخير تخلصاً لا صدقة ، لأن الله طيب لا يقبل إلا طيباً .
وإذا اختلط هذا المال الحرام بأموال أخرى حلال كصاحب البقالة الذي يبيع الدخان مع السلع المباحة ، فإنه يقدر هذا المال الحرام تقديراً باجتهاده ، ويخرجه بحيث يغلب على ظنه أنه نقى أمواله من الكسب الحرام ، والله يعوضه خيراً وهو الواسع الكريم .
وعلى وجه العموم فإن من لديه أموالاً من كسب حرام ، وأراد أن يتوب فالمسألة على التفصيل الآتي :(1/408)
(1) كافراً عند كسبها فلا يُلزم عند التوبة بإخراجها لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يُلزم الصحابة بإخراج ما لديهم من الأموال المحرمة لما أسلموا .
(2) وأما إن كان عند كسبه للحرام مسلماً عالماً بالتحريم فإنه يُخرج ما لديه من الحرام إذا تاب .
مسألة : إذا تاب العبد من الذنب هل يرجع إلى ما كان عليه قبل الذنب من الدرجة التي حطه عنها الذنب أو لا يرجع إليها ؟
الجواب :
قالت طائفة : يرجع إلى درجته لأن التوبة تجب الذنب بالكلية وتصيره كأن لم يكن لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له بنص السنة الصحيحة كما في الحديث الآتي : (
( حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : الندم توبة و التائب من الذنب كمن لا ذنب له .
وقالت أخرى : لا يعود إلى درجته وحاله لأنه لم يكن في وقوف ، وإنما كان في صعود، فبالذنب صار في هبوط ، فإذا تاب نقص عليه ذلك القدر الذي كان مستعداً به للترقي .(1/409)
[*] قال شيخ الإسلام ابن تيمية : والصحيح : أن من التائبين من لا يعود إلى درجته ، ومنهم من يعود إلى أعلى منها فيصير خيراً مما كان قبل الذنب ، وكان داود بعد التوبة خيراً منه قبل الخطيئة ، وهنا مثلٌ مضروب : رجل مسافر سائر على الطريق بطمأنينة وأمْن فهو يعدو مرة ويمشى أخرى ، ويستريح تارة وينام أخرى فبينما هو كذلك إذ عرض له في سيره ظل ظليل ، وماء بارد ومقيل ، وروضة مزهرة ، فدعته نفسه إلى النزول على تلك الأماكن فنزل عليها ، فوثب عليه منها عدو فأخذه وقيده ومنعه عن السير ، فعاين الهلاك وظن أنه منقطع به، وأنه رزق الوحوش والسباع ، وأنه قد حيل بينه وبين مقصده الذي يؤمه، فبينما هو على ذلك تتقاذفه الظنون ، إذ وقف على رأسه والده الشفيق القادر فحل كتافه وقيوده ، وقال له : اركب الطريق واحذر هذا العدو فإنه على منازل الطريق لك بالمرصاد، واعلم أنك ما دمت حاذراً منه متيقظاً له لا يقدر عليك فإذا غفلت وثبت عليك ، وأنا متقدمك إلى المنزل وفرط لك فاتبعني على الأثر ، فإذا كان هذا السائر كيساً فطناً لبيباً حاضر الذهن والعقل استقبل سيره استقبالا آخر أقوى من الأول ، وأتم وأشتد حذره وتأهب لهذا العدو ،وأعد له عدته ، فكان سيره الثاني أقوى من الأول وخيراً منه ووصوله إلى المنزل أسرع وأن غفل عن عدوه ، وعاد إلى مثل حاله الأول من غير زيادة ولا نقصان ولا قوة حذر ولا استعداد، عاد كما كان ، وهو معرض لما عرض له أولاً ، وإن أورثه ذلك توانياً في سيره وفتوراً ، وتذكراً لطيب مقيله وحسن ذلك الروض أو عذوبتة مائه لم يعد إلى مثل سيره ونقص عما كان .
(هل تصح التوبة ممن أصيب بمرض لا يرجى شفاؤه ؟
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ(1/410)
مسألة : رجل له ذنوب كثيرة ، أصيب بمرض خطير وحاول العلاج فلم يستفيد وقال له الأطباء إنه لا علاج لديهم لحالته ، وهو الآن نادم ويريد التوبة فهل تصح توبته وهو مصاب بهذا المرض القاتل الذي لا يرجى شفاؤه ؟
الجواب:
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في لقاء الباب المفتوح 53/73 :
نعم تصح التوبة من إنسان أيس من حياته ، إما بمرض لا يرجى شفاؤه كمرض السرطان مثلاً ، وإما بتقديمه للقتل كرجل قدم ليقتص منه ، حتى ولو كان السياف على رأسه ، وإما من إنسان محصن زنى واستحق الرجم ، وحتى لو كانت الحجارة قد جمعت لرجمه ، فإنه تصح توبته ، لأن الله تعالى يقبل توبة الإنسان ما لم يغرغر بروحه ، لقوله تعالى : (إِنّمَا التّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلّذِينَ يَعْمَلُونَ السّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلََئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً) [ النساء : 17] ومعنى قوله : يتوبون من قريب : أي يتوبون قبل الموت ، لقوله تعالى بعد هذه الآية : (وَلَيْسَتِ التّوْبَةُ لِلّذِينَ يَعْمَلُونَ السّيّئَاتِ حَتّىَ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنّي تُبْتُ الاَنَ) [النساء: 18]، ولكن التوبة لابد لها من شروط خمسة : الإخلاص ، والندم على ما فعل ، والإقلاع عنه في الحال ، والعزم على أن لا يعود في المستقبل ، وأن تكون التوبة في الوقت الذي تقبل فيه ، أي بأن تكون قبل الموت أو قبل طلوع الشمس من مغربها .
(هل تصح توبة العاجز عن المعصية ؟
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
مسألة : هل تصح توبة العاجز عن المعصية ؟
الجواب :
توبة العاجز عن المعصية: إذا حيل بين العاصي وبين أسباب المعصية، فعجز عنها، بحيث يتعذر وقوعها منه فهل تصح توبته إذا تاب؟(1/411)
وذلك كحال السارق إذا قطعت أطرافه الأربعة، وكالزاني إذا جُبَّ، أو عجز عن ممارسة الزنا، وكحال من وصل إلى حد بطلت معه دواعيه إلى معصية كان يرتكبها، كمن يحكم عليه بالسجن المؤبد، أو كمن حكم عليه بالقتل وهو ينتظر موعد التنفيذ، ونحو ذلك مما شاكله وجرى مجراه؛ فهل للواحد من هؤلاء توبة مع أنه قد حيل بينه وبين ما كان يفعله من معاصٍ؟
والجواب: أن له توبة إن شاء الله تعالى فالتوبة ممكنة صحيحة إذا أتى بها على وجهها، ولا يؤاخذ بما يرد على قلبه من وساوس تُزَيّن له المعصية، وتمنيه بالرجوع إليها.
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :إن الله تجاوز لأمتي عما وسوست، أو حدثت به أنفسها، ما لم تعمل به أو تكلَّم .
[*](قال ابن القيم رحمه الله تعالى بعد أن ذكر الأقوال والخلاف في هذه المسألة: =القول الثاني: وهو الصواب أن توبته ممكنة، بل واقعة؛ فإن أركان التوبة مجتمعة فيه، والمقدور له منها الندم، وفي المسند مرفوعاً: الندم توبة.
( حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : الندم توبة و التائب من الذنب كمن لا ذنب له .
فإذا تحقق ندمُه على الذنب، ولومُه نفسَه عليه فهذه توبة، وكيف يصح أن تسلب التوبة عنه مع شدة ندمه على الذنب، ولومه نفسَه؟ ولا سيما ما يتبع ذلك من بكائه، وحزنه، وخوفه، وعزمه الجازم، ونيته أنه لو كان صحيحاً والفعل مقدوراً له لما فعله.
وإذا كان الشارع قد نزَّل العاجز عن الطاعة منزلة الفاعل لها إذا صحت نيته كقوله في الحديث الصحيح :
(حديث أبي قتادة في الصحيحين) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إذا مرض العبد أو سافر كتب الله تعالى له ما كان يعمله وهو صحيحٌ مقيم .
وفي الصحيح أيضاً عنه:(1/412)
(حديث أنس في الصحيحين) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن بالمدينة أقواما، ما سرتم مسيرا، ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم . قالوا: يا رسول الله، وهم بالمدينة؟ قال: وهم بالمدينة، حبسهم العذر.
[*] قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح :
والمراد بالعذر : ما هو أعم من المرض وعدم القدرة على السفر .
(وقال أيضاً :وفيه أن المرء يبلغ بنيته أجر العامل إذا منعه العذر عن العمل .أهـ
وله نظائر في الحديث فتنزيل العاجز عن المعصية التارك لها قهراً مع نيته تركَها اختياراً لو أمكنه منزلةَ التارك المختار أولى (1) .
(ثم قال رحمه الله تعالى: يوضحه: أن مفسدة الذنب التي يترتب عليها الوعيد تنشأ من العزم عليه تارة، ومن فعله تارة.
ومنشأ المفسدة معدوم في حق هذا العاجز فعلاً وعزماً، والعقوبة تابعة للمفسدة.
وأيضاً فإن هذا تعذر منه الفعل ما تعذر منه التمني والوداد؛ فإذا كان يتمنى ويود لو واقع الذنب، ومن نيته: أنه لو كان سليماً لباشره فتوبته بالإقلاع عن هذا الوداد، والتمني، والحزن على فوته؛ فإن الإصرار مُتَصَور في حقه قطعاً، فَيُتصَوَّر في حقه ضده، وهو التوبة، بل هي أولى بالإمكان والتصورِ من الإصرار، وهذا واضح (2) .
(ثم بين رحمه الله تعالى الفرق بين العاجز وبين المعاين فقال: والفرق بين هذا وبين المعاين ومن ورد القيامة أن التكليف قد انقطع بالمعاينة وورود القيامة، والتوبة إنما تكون في زمن التكليف، وهذا العاجز لم ينقطع عنه التكليف؛ فالأوامر والنواهي لازمة له، والكف متصور منه عن التمني، والوداد، والأسفِ على فوته، وتبديل ذلك بالندم والحزن على فعله، والله أعلم (3) .
إذا تقرر هذا فإنه يحسن التنبيه على مسألة وهي أن الشيطان ربما وسوس لهذا العاجز التائب، وألقى في قلبه أنه لم يتب إلا لعجزه، وأن توبته كاذبة غير مقبولة.
__________
(1) مدارج السالكين 1/ 296.
(2) مدارج السالكين 1/ 296_297.
(3) مدارج السالكين 1/ 297.(1/413)
وربما قال له ذلك رفقة السوء.
فالواجب على التائب في مثل هذه الحالة أن يحسن ظنه بربه، وأن يستعيذ بالله من وساوس شياطين الجن والإنس، وأن يأتي بالتوبة على نحو ما ذكر في الأسطر الماضية.
(هل يجزم التائب النادم بأنّ توبته قد قُبلت ؟
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
مسألة :إذا استكمل التائب شروط التوبة بينه وبين نفسه ، فهل يجزم أن توبته قد قبلت أم يرجو فقط ؟
الجواب :
الصحيح أنهلا أحد يجزم بقبول التوبة بل يرجو فقط .
(هل القسم شرط في التوبة ؟
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
مسألة : هل القسم شرط في التوبة ؟
الجواب :
إن المولى جلت قدرته ، وعظم سلطانه ، لا يتعاظمه ذنب أن يغفره مهما كان هذا الذنب ، ما دام أن العبد قد تاب منه , قال تعالى : ( قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) [ الزمر: 53 ]
فباب التوبة مفتوح ما لم يعاين المرء الموت ، وما لم تطلع الشمس من مغربها .
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر .
[*] قال العلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:
َ( إِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ ) مِنَ الْغَرْغَرَةِ أَيْ مَا لَمْ تَبْلُغِ الرُّوحُ إِلَى الْحُلْقُومِ يَعْنِي مَا لَمْ يَتَيَقَّنْ بِالْمَوْتِ فَإِنَّ التَّوْبَةَ بَعْدَ التَّيَقُّنِ بِالْمَوْتِ لَمْ يُعْتَدَّ بِهَا .
( حديث أبي موسى رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:إن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها .(1/414)
[*] قال الإمام النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم :
هذه الأحاديث ظاهرة في الدلالة لها، وأنه لو تكرر الذنب مائة مرة أو ألف مرة أو أكثر وتاب في كل مرة قبلت توبته وسقطت ذنوبه، ولو تاب عن الجميع توبة واحدة بعد جميعها صحت توبته.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
( إن اللّه تعالى يبسط يده بالليل ) أي فيه
( ليتوب مسيء النهار ) مما اجترح فيه وهو إشارة إلى بسط يد الفضل والإنعام لا إلى الجارحة التي هي من لوازم الأجسام فالبسط في حقه عبارة عن التوسع في الجود والتنزه عن المنع عند اقتضاء الحكمة
( ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل ) يعني يقبل التوبة من العصاة ليلاً ونهاراً أي وقت كان فبسط اليد عبارة عن قبول التوبة ومن قبل توبته فداه بأهل الأديان يوم القيامة كما مر ويجيء في خبر وفيه تنبيه على سعة رحمة اللّه وكثرة تجاوزه عن المذنبين ولا يزال كذلك
( حتى تطلع الشمس من مغربها ) فإذا طلعت منه غلق باب التوبة قال في المطامح : ومن أنكر طلوعها من مغربها كفر وسمعت عن بعض أهل عصرنا أنه ينكره نعوذ باللّه من الخذلان انتهى وأنت خبير بأن جزمه بالتكفير لا يكاد يكون صحيحاً سيما في حق العامة لأنه لم يبلغ مبلغ المعلوم من الدين بالضرورة ومجرد وروده في أخبار صحاح لا يوجب التكفير فتدبر .
(فعلى المسلم أن يغتنم هذه الفرصة وهذا الفضل العظيم من الله جل جلاله ويعجل بالتوبة ما دام في زمن الإمهال ولا يسوف بالتوبة .(1/415)
ولكن يجب أن تكون هذه التوبة توبة نصوحا , كما قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) [التحريم : 8]
وهآنذا أُبَيِّن لك شروط التوبة الصادقة جملةً وتفصيلا: (
(أولاً : شروط التوبة الصادقة جملةً :
(1) الإخلاص لله تعالى :
(2) الإقلاع عن المعصية:
(3) الاعتراف بالذنب:
(4) الندم على ما سلف من الذنوب والمعاصي :
(5) العزم على عدم العودة:
(6) التحلل من المظالم :
(7) أن تصدر في زمن قبولها:
(ثانيا : شروط التوبة الصادقة تفصيلا :
(1) الإخلاص لله تعالى :
فيكون الباعث على التوبة حب الله وتعظيمه ورجاؤه والطمع في ثوابه، والخوف من عقابه، لا تقرباً الى مخلوق، ولا قصداً في عرض من أعراض الدنيا الزائلة، ولهذا قال سبحانه: إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُواْ بِاللّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لِلّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ [النساء:146]
(2) الإقلاع عن المعصية:
فلا تتصور صحة التوبة مع الإقامة على المعاصي حال التوبة، أما إن عاود الذنب بعد التوبة الصحيحة، فلا تبطل توبته المتقدمة، ولكنه يحتاج الى توبته جديدة وهكذا.
[*](قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين :
وأما الإقلاع: فتستحيل التوبة مع مباشرة الذنب.
(3) الاعتراف بالذنب:
إذ لا يمكن أن يتوب المرء من شئ لا يعده ذنباً.
(4) الندم على ما سلف من الذنوب والمعاصي :(1/416)
ولا تتصور التوبة إلا من نادم حزين آسف على ما بدر منه من المعاصي، لذا لا يعد نادماً من يتحدث بمعاصيه السابقة ويفتخر بذلك ويتباهى بها، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد ، ودرر الفرائد . (
(حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجه ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : "الندم توبة .
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
( الندم توبة ) أي هو معظم أركانها لأن الندم وحده كاف فيها من قبيل الحج عرفة وإنما كان أعظم أركانها لأن الندم شيء متعلق بالقلب ، والجوارح تبع له فإذا ندم القلب انقطع عن المعاصي فرجعت برجوعه الجوارح .
( تتمة ) قال في الحكم : من علامة موت القلب عدم الحزن على ما فاتك من المرافقات وترك الندم على ما فعلته من الزلات . ( فائدة ) من ألفاظهم البليغة مخلب المعصية يقص بالندامة وجناح الطاعة يوصل بالإدامة .
( حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : الندم توبة و التائب من الذنب كمن لا ذنب له .
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:(1/417)
( الندم توبة والتائب من الذنب كمن لا ذنب له ) قال الغزالي : إنما نص على أن الندم توبة ولم يذكر جميع شروطها ومقدماتها لأن الندم غير مقدور للعبد فإنه قد يندم على أمر وهو يريد أن لا يكون والتوبة مقدورة له مأمور بها فعلم أن في هذا الخبر معنى لا يفهم من ظاهره وهو أن الندم لتعظيم اللّه وخوف عقابه مما يبعث على التوبة النصوح فإذا ذكر مقدمات التوبة الثلاث وهي ذكر غاية قبح الذنوب وذكر شدة عقوبة اللّه وأليم غضبه وذكر ضعف العبد وقلة حيلته يندم ويحمله الندم على ترك اختيار الذنب وتبقى ندامته بقلبه في المستقبل فتحمله على الابتهال والتضرع ويجزم بعدم العود إليه وبذلك تتم شروط التوبة الأربعة فلما كان الندم من أسباب التوبة سماه باسمها .
(5) العزم على عدم العودة:
فلا تصح التوبة من عبد ينوي الرجوع الى الذنب بعد التوبة، وإنما عليه أن يتوب من الذنب وهو يحدث نفسه ألا يعود إليه في المستقبل.
(6) ردّ المظالم الى أهلها:
فإن كانت المعصية متعلقة بحقوق الآدميين وجب عليه أن يرد الحقوق الى أصحابها إذا أراد أن تكون توبته صحيحة مقبولة ؛
(حديث أبي هريرة في صحيح البخاري) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من كانت له مظلمة لأحد من عرضه أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه .
فهذا الذنب يتضمن حقين : حق الله وحق الآدمي ، فالتوبة منه بتحلل الآدمي لأجل حقه ، والندم فيما بينه وبين الله لأجل حقه .
مسألة : إذا كانت المظلمة بقدح في الآدمي بغيبة ، أو بقذف، فهل يُشترط إعلامه؟
الجواب :
العلماء في ذلك على قولين كما يلي : (
القول الأول : اشترطوا الإعلام ، واحتجوا بالحديث الآتي : ((1/418)
(حديث أبي هريرة في صحيح البخاري) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من كانت له مظلمة لأحد من عرضه أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه .
والقول الآخر: أنه لا يشترط الإعلام، بل يكفي توبته بينه وبين الله، وأن يذكر المغتاب أو المقذوف في مواضع غيبته، أو قذفه بضد ما ذكره به، ويستغفر له، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية ، احتج لذلك بأن إعلامه مفسدة محضة لا تتضمن مصلحة، وما كان هكذا فإن الشارع لا يبيحه فضلا عن أن يوجبه أو يأمر به .
(7) أن تصدر في زمن قبولها:
وهو ما قبل حضور الأجل، وطلوع الشمس من مغربها ، وتأمل في الحديثين الآتيين بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيهما واجعل لهما من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيهما من غرر الفوائد ، ودرر الفرائد . (
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر .
[*] قال العلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:
َ( إِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ ) مِنَ الْغَرْغَرَةِ أَيْ مَا لَمْ تَبْلُغِ الرُّوحُ إِلَى الْحُلْقُومِ يَعْنِي مَا لَمْ يَتَيَقَّنْ بِالْمَوْتِ فَإِنَّ التَّوْبَةَ بَعْدَ التَّيَقُّنِ بِالْمَوْتِ لَمْ يُعْتَدَّ بِهَا .
( حديث أبي موسى رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:إن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها .
[*] قال الإمام النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم :(1/419)
هذه الأحاديث ظاهرة في الدلالة لها، وأنه لو تكرر الذنب مائة مرة أو ألف مرة أو أكثر وتاب في كل مرة قبلت توبته وسقطت ذنوبه، ولو تاب عن الجميع توبة واحدة بعد جميعها صحت توبته.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
( إن اللّه تعالى يبسط يده بالليل ) أي فيه
( ليتوب مسيء النهار ) مما اجترح فيه وهو إشارة إلى بسط يد الفضل والإنعام لا إلى الجارحة التي هي من لوازم الأجسام فالبسط في حقه عبارة عن التوسع في الجود والتنزه عن المنع عند اقتضاء الحكمة
( ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل ) يعني يقبل التوبة من العصاة ليلاً ونهاراً أي وقت كان فبسط اليد عبارة عن قبول التوبة ومن قبل توبته فداه بأهل الأديان يوم القيامة كما مر ويجيء في خبر وفيه تنبيه على سعة رحمة اللّه وكثرة تجاوزه عن المذنبين ولا يزال كذلك
( حتى تطلع الشمس من مغربها ) فإذا طلعت منه غلق باب التوبة قال في المطامح : ومن أنكر طلوعها من مغربها كفر وسمعت عن بعض أهل عصرنا أنه ينكره نعوذ باللّه من الخذلان انتهى وأنت خبير بأن جزمه بالتكفير لا يكاد يكون صحيحاً سيما في حق العامة لأنه لم يبلغ مبلغ المعلوم من الدين بالضرورة ومجرد وروده في أخبار صحاح لا يوجب التكفير فتدبر .
(وبهذا يُعْلَمٍ أنه ليس من شرط التوبة عدم العود إلى الذنب , وإنما شرطه العزم الجازم الصادق على أن لا يعود ،
فإن تاب العبد من الذنب الذي هو عليه ثم لعب به الشيطان ونكص على عقبيه ـ ولا حول ولا قوة إلا بالله ـ فلا ييأس من روح الله ، وليجدّ في التوبة مرة أخرى فإن الله يقبله ، فهو سبحانه واسع الفضل عظيم المغفرة .
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر .
[*] قال العلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:(1/420)
َ( إِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ ) مِنَ الْغَرْغَرَةِ أَيْ مَا لَمْ تَبْلُغِ الرُّوحُ إِلَى الْحُلْقُومِ يَعْنِي مَا لَمْ يَتَيَقَّنْ بِالْمَوْتِ فَإِنَّ التَّوْبَةَ بَعْدَ التَّيَقُّنِ بِالْمَوْتِ لَمْ يُعْتَدَّ بِهَا .
( حديث أبي موسى رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:إن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها .
[*] قال الإمام النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم :
هذه الأحاديث ظاهرة في الدلالة لها، وأنه لو تكرر الذنب مائة مرة أو ألف مرة أو أكثر وتاب في كل مرة قبلت توبته وسقطت ذنوبه، ولو تاب عن الجميع توبة واحدة بعد جميعها صحت توبته.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
( إن اللّه تعالى يبسط يده بالليل ) أي فيه
( ليتوب مسيء النهار ) مما اجترح فيه وهو إشارة إلى بسط يد الفضل والإنعام لا إلى الجارحة التي هي من لوازم الأجسام فالبسط في حقه عبارة عن التوسع في الجود والتنزه عن المنع عند اقتضاء الحكمة
( ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل ) يعني يقبل التوبة من العصاة ليلاً ونهاراً أي وقت كان فبسط اليد عبارة عن قبول التوبة ومن قبل توبته فداه بأهل الأديان يوم القيامة كما مر ويجيء في خبر وفيه تنبيه على سعة رحمة اللّه وكثرة تجاوزه عن المذنبين ولا يزال كذلك
( حتى تطلع الشمس من مغربها ) فإذا طلعت منه غلق باب التوبة قال في المطامح : ومن أنكر طلوعها من مغربها كفر وسمعت عن بعض أهل عصرنا أنه ينكره نعوذ باللّه من الخذلان انتهى وأنت خبير بأن جزمه بالتكفير لا يكاد يكون صحيحاً سيما في حق العامة لأنه لم يبلغ مبلغ المعلوم من الدين بالضرورة ومجرد وروده في أخبار صحاح لا يوجب التكفير فتدبر .(1/421)
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال فيما يحكي عن ربه عز وجل : أذنب عبد ذنبا فقال اللهم اغفر لي ذنبي فقال تبارك وتعالى أذنب عبدي ذنبا فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب ثم عاد فأذنب فقال أي رب اغفر لي ذنبي فقال تبارك وتعالى عبدي أذنب ذنبا فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب ثم عاد فأذنب فقال أي رب اغفر لي ذنبي فقال تبارك وتعالى أذنب عبدي ذنبا فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب أعمل ما شئت فقد غفرت لك .
ولكن ينبغي على المسلم العاقل أن يكون صادق التوبة مع الله ، صادق العزم على عدم العودة مرة أخرى ، نادمًا على ما قد جناه ، ولا تكون توبته بلسانه فقط دون جوارحه ، فهذه توبة الكذابين .
وأما القسم أو النذر بأن لا يفعل العبد هذا الذنب مرة أخرى , فلا حاجة إليه , فالتوبة النصوح تحصل باجتماع الشروط السابقة .
( من اشترى شقة بالربا فكيف يتوب من فعله ؟
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
مسألة : كنت قد اشتريت شقة قبل عامين عن طريق أحد البنوك الربوية ، فدفعت خمسة آلآف دينار أردني والباقي دفعهم البنك ، وكان سعر الشقة 27 ألف دينار ، وتم الاتفاق على دفع أقساط شهرية لمدة ( 92 ) شهراً ، وقيمة القسط الواحد ( 208 ) دينار أردني ، والآن أريد أن أتخلص من البنك وأتوب إلى الله ، مع العلم أن الأقساط المدفوعة حتى الآن ( 13000 ) دينار أردني . فما هو الحل الأنسب للتخلص من هذا الذنب ؟ مع العلم أني لا أملك أن أدفع باقي سعر الشقة ، وأن سعر الشقق في الأردن تضاعف هذه الأيام ، أي : أني لو عرضت شقتي للبيع ستباع بسعر مضاعف - ؟.
الجواب :
أولاً : نسأل الله أن يوفقك للتوبة من التعامل بالربا ؛ فإن الربا من كبائر الذنوب ، والمتعامل به مستحق للوعيد الشديد .(1/422)
قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ . فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ ) [ البقرة278،279]
وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد ، ودرر الفرائد . (
(حديث جابر في صحيح مسلم) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لعن الله آكل الربا و موكله و كاتبه و شاهديه وقال هم فيه سواء .
[*] قال الإمام النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم :
لعن الله آكل الربا و موكله و كاتبه و شاهديه وقال هم فيه سواء : هذا تصريح بتحريم كتابة المبايعة بين المترابيين والشهادة عليهما وفيه تحريم الإعانة على الباطل والله أعلم
ثانياً :
ومن تمام توبتك أن تتخلص من الفوائد الربوية التي تدفعها للبنك ، فإن كانت تلك الفوائد يمكن أن تزول عنك أو يزول بعضها : فينبغي أن تعجل دفع أقساطهم ولو ببيع بيتك ، أما إن كانت الفوائد الربوية قد لزمتك ولم يعد بإمكانك الفكاك منها ، ولا تقليلها ، فلا حرج عليك من الانتفاع بالبيت ، إما بالسكن فيه ، أو تأجيره ، أو غير ذلك من أوجه الانتفاع .
ونسأل الله تعالى أن يتقبل توبتك ويوفقك لما يجبه ويرضاه .
(كسب أموالا محرمة واشترى بها شقة فهل يتخلص منها :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
مسألة : كان رجلٌ يعمل في وظيفة قبل الزواج واكتسب فيها بعض المال غير الحلال ، وبعد فترة من الزمان جمع هذه الأموال واشترى شقة سكنية واشترك في نصف سيارة نقل ، وهذا كل ما يملكه ، وبعد الزواج عاهدت الله أن لا يدخل في بيته مالا حراما ، وترك العمل ، وتاب إلى الله ، فماذا يفعل في الشقة والسيارة ؟
الجواب :(1/423)
أولا :نسأل الله تعالى أن يتقبل توبتك ، وأن يرزقك الرزق الحلال الطيب .
واعلم أن من شروط التوبة : رد المظالم إلى أهلها ، فإذا كان شيء من هذا المال أخذ بغير رضا ، كالسرقة أو الغش والخداع ، فيلزم رد المال إلى أصحابه ، فإن لم يمكن الوصول إليهم أو إلى ورثتهم بعد البحث والتحري ، فإنك تتصدق به على نية أنه لهم ، فإن جاء صاحبه يوما من الدهر ، فإنك تخيره بين رد المال إليه ويكون ثواب الصدقة لك ، أو إمضاء الصدقة ويكون ثوابها له .
ثانيا :أما إذا كانت الأموال المحرمة قد أخذت في معاوضات أو أعمال محرمة ، على وجه التراضي ، كثمن الخمر ، وأجرة الغناء والزمر والكهانة وكتابة الربا وشهادة الزور ونحو ذلك من الأعمال المحرمة ، ففيها تفصيل :
أ – فما كسبه الإنسان من ذلك وهو جاهل بتحريمه ، فإنه له ، ولا يلزمه التخلص منه ؛ لقول الله تعالى في الربا بعد نزول تحريمه : ( فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) البقرة/275 .
ب- وإن كان يعلم تحريم هذا المال ، لكنه أنفقه وذهب ، فإذا تاب الإنسان فلا شيء عليه .
ج – إذا كان المال باقيا ، فإنه يلزم التخلص منه بإنفاقه في وجه الخير ، إلا إذا كان محتاجا فإنه يأخذ منه قدر الحاجة ، ويتخلص من الباقي .
(وقد سئل علماء اللجنة الدائمة للإفتاء :
أسأل سماحتكم عن فتوى شاعت بين الناس عن أحد العلماء ، بأن الشخص إذا كسب مالا من صنع الخمر أو بيعه أو بيع المخدرات ، وتاب إلى الله سبحانه وتعالى فإن هذا المال المكتسب عن طريق صنع الخمر أو بيعه أو بيع المخدرات وترويجها فإنه حلال .
فأجابوا : " إذا كان حين كسب الحرام يعلم تحريمه ، فإنه لا يحل له بالتوبة ، بل يجب عليه التخلص منه بإنفاقه في وجوه البر وأعمال الخير " انتهى .
"فتاوى اللجنة الدائمة" (14/33) .(1/424)
[*](قال ابن القيم رحمه الله : " إذا عاوض غيره معاوضة محرمة وقبض العوض ، كالزانية والمغني وبائع الخمر وشاهد الزور ونحوهم ثم تاب والعوض بيده . فقالت طائفة : يرده إلى مالكه ؛ إذ هو عين ماله ولم يقبضه بإذن الشارع ولا حصل لربه في مقابلته نفع مباح .
وقالت طائفة : بل توبته بالتصدق به ولا يدفعه إلى من أخذه منه ، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية ، وهو أصوب القولين ... " انتهى من "مدارج السالكين" (1/389) .
وقد بسط ابن القيم الكلام على هذه المسألة في "زاد المعاد" (5/778) وقرر أن طريق التخلص من هذا المال وتمام التوبة إنما يكون : " بالتصدق به ، فإن كان محتاجا إليه فله أن يأخذ قدر حاجته ، ويتصدق بالباقي " انتهى .
[*](وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " فإن تابت هذه البَغِيّ وهذا الخَمَّار ، وكانوا فقراء جاز أن يصرف إليهم من هذا المال قدر حاجتهم ، فإن كان يقدر يتّجر أو يعمل صنعة كالنسيج والغزل ، أعطي ما يكون له رأس مال " انتهى من "مجموع الفتاوى" (29/308) .
وعليه ؛ فإن كنت بحاجة إلى الشقة ونصيبك من سيارة النقل ، فنرجو أن يعفو الله عنك ، ولا يلزمك التخلص من شيء من ذلك .
وعليك بالاجتهاد في الأعمال الصالحة والإكثار من الصدقة ، فإن الله تعالى يقول : ( وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى ) [طه:82 ]
والله أعلم .
(الحكم في من سب دين رجل مسلم :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ
مسألة :هل تجب الكفارة على من سب مسلما .كالقول لمسلم : لعن دين أمك ؟
الجواب :
أولا :سب الدين أو الملة أو الإسلام كفر أكبر ، بإجماع أهل العلم ، يُستتاب صاحبه فإن تاب وإلا قتل ، عياذا بالله من ذلك .(1/425)
وأما سب دينِ شخصٍ مسلمٍ معين ، كقوله : يلعن دينك ، أو دين أمك – والحال أن أمّه مسلمة - فظاهره سب الدين أيضا ، وهو كفر كما سبق ، وأبدى بعض أهل العلم احتمالا ، وهو أن يكون مراده حالة الشخص وتدينه ، وهذا قد يؤخذ من القرائن المحيطة ، فحينئذ يعزر ويؤدب ، وبكل حال فإنه يستتاب ويراجع .
جاء في "الموسوعة الفقهية" (24/139) : " اتفق الفقهاء على أن من سب ملة الإسلام أو دين المسلمين يكون كافرا , أما من شتم دين مسلم ، فقد قال الحنفية كما جاء في جامع الفصولين : ينبغي أن يكفر من شتم دين مسلم , ولكن يمكن التأويل بأن المراد أخلاقه الرديئة ومعاملته القبيحة لا حقيقة دين الإسلام فينبغي أن لا يكفر حينئذ " انتهى .
وقال الشيخ عليش المالكي : " وفيه أيضا [أي البرزلي] نزلت مسألة وهي أن رجلا كان يزدري الصلاة وربما ازدرى المصلين وشهد عليه ملأ كثير من الناس منهم من زكي ومنهم من لم يزك ، فمن حمله على الازدراء بالمصلين لقلة اعتقاده فيهم فهو من سباب المسلم فيلزمه الأدب على قدر اجتهاد الحاكم ، ومن يحمله على ازدراء العبادة فالأصوب أنه ردة لإظهاره إياه وشهرته به كهذه المسألة المذكورة ، لا زندقة ويجرى على أحكام المرتد ا هـ .
قلت : يؤخذ من هذا الحكم فيمن سب الدين أو الملة أو المذهب وهو يقع كثيرا من بعض سفلة العوام كالحمّارة والجمّالة والخدامين وربما وقع من غيرهم وذلك أنه إن قصد الشريعة المطهرة والأحكام التي شرعها الله تعالى لعباده على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم فهو كافر قطعا ، ثم إن أظهر ذلك فهو مرتد يستتاب فإن تاب وإلا قتل ، وإن لم يظهره فهو زنديق يقتل ولو تاب .(1/426)
وإن قصد حالة شخص وتديّنه فهو سب المسلم ففيه الأدب باجتهاد الحاكم ، ويفرق بين القصدين بالإقرار والقرائن ، وبعضهم يجعل القصد الثاني كالأول في الحكم ، ففي البدر عن بهرام في مبحث الردة : إذا قال تارك الصلاة لمن قال له صل : إذا دخلت الجنة فأغلق الباب خلفك ، فإن أراد أن الصلاة لا تأثير لها في الدين فقد ارتد اتفاقا ، وإن أراد أن صلاة القائل لا تأثير لها لكونها لم تنهه عن الفحشاء والمنكر ففي ردته قولان ا هـ . ومن المعلوم أن من الدين والملة القرآن العزيز ، وسبه كفر كما ذكره البرزلي في مواضع " انتهى من "فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك" (2/346).
والاحتمال الذي ذكره ، ربما وقع نادرا ، وإلا فالأصل أن لعن دين الشخص هو لعن للإسلام ، ولا يقدم على هذا إلا متهور مجترئ على حدود الله ، مقتحم لهذه المهلكة العظيمة ، ولندرة هذا الاحتمال فإن الشيخ عليش رحمه الله لم يذكره في موضع آخر ، حيث سئل ما نصه : " ( ما قولكم ) في رجل لعن دين آخر ، وفي آخر لعن مذهبه ، وفي آخر قال له : يلعن مذهبك مذهب القطط ، هل يرتدون أفيدوا الجواب .
فأجبت بما نصه : الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله ، نعم قد ارتدوا بذلك ، واستحقوا القتل إن لم يتوبوا اتفاقا ؛ لأن سب الدين أو المذهب لا يقع إلا من كافر ، ولأنه أشد من الاستخفاف به الموجب للكفر ، ولأنه داخل في القسم الثاني المتقدم عن ابن عبد السلام والقرافي وابن رشد وغيرهم ، والله سبحانه وتعالى أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم ". انتهى من "فتح العلي المالك" (2/355).
ثانيا :كفارة السب ، سواء كان سبا للدين أو للشخص ، هي التوبة النصوح ، فمن تاب تاب الله عليه ، إلا أن الساب يستحق التعزير والتأديب . سئل النووي رحمه الله : " ماذا يجب على من يقول للمسلم : يا كلب ، أو يا خنزير ، ونحوه من الألفاظ القبيحة هل يأثم ؟.(1/427)
فأجاب : الحمد لله ، يأثم ويعزر ، وعليه التوبة . والله أعلم ". انتهى من "فتاوى النووي" ص 224
(من تاب وعليه حقوق مالية ولم يستطع أداءها :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
مسألة : من تاب وعليه حقوق مالية ولم يستطع أداءها كيف يكون مصيره في الآخرة؟
الجواب :
فصل الخطاب في هذه المسألة أنها على التفصيل الآتي :
(1) إن لم يكن صادق النية في السداد أو كان عاصياً بالتزامها فإن ظواهر السنن الصحيحة تقتضي ثبوت المطالبة بالظلامة .
وعليه تُحمل الأحاديث الآتية : (
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذ يريد إتلافها أتلفه الله).
[*] قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح :
(أدى الله عنه ) : ولابن ماجة وابن حبان والحاكم من حديث ميمونة ما من مسلم يدان دينا يعلم الله أنه يريد أداءه إلا أداه الله عنه في الدنيا وظاهره يحيل المسألة المشهورة فيمن مات قبل الوفاء بغير تقصير منه كأن يعسر مثلا أو يفجأه الموت وله مال مخبوء وكانت نيته وفاء دينه ولم يوف عنه في الدنيا ويمكن حمل حديث ميمونة على الغالب والظاهر أنه لا تبعة عليه والحالة هذه في الآخرة بحيث يؤخذ من حسناته لصاحب الدين بل يتكفل الله عنه لصاحب الدين كما دل عليه حديث الباب وأن خالف في ذلك بن عبد السلام والله أعلم .
(أتلفه الله) : ظاهره أن الإتلاف يقع له في الدنيا وذلك في معاشه أو في نفسه وهو علم من أعلام النبوة لما نراه بالمشاهدة ممن يتعاطى شيئا من الأمرين وقيل المراد بالإتلاف عذاب الآخرة قال بن بطال فيه الحض على ترك استشكال أموال الناس والترغيب في حسن التأدية إليهم عند المداينة وأن الجزاء قد يكون من جنس العمل .(1/428)
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : نفسُ المؤمن معلقةٌ بدينه حتى يُقضى عنه .
[*] قال العلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:
( نَفْسُ الْمُؤْمِنِ مُعَلَّقَةٌ ) قَالَ السُّيُوطِيُّ أَيْ: مَحْبُوسَةٌ عَنْ مَقَامِهَا الْكَرِيمِ، وَقَالَ الْعِرَاقِيُّ أَيْ: أَمْرُهَا مَوْقُوفٌ لَا حُكْمَ لَهَا بِنَجَاةٍ، وَلَا هَلَاكٍَ حَتَّى يُنْظَرَ هَلْ يُقْضَى مَا عَلَيْهَا مِنَ الدَّيْنِ أَمْ لَا.انْتَهَى، وسَوَاءٌ تَرَكَ الْمَيِّتُ وَفَاءً أَمْ لَا كَمَا صَرَّحَ بِهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا، وَشَذَّ الْمَاوَرْدِيُّ فَقَالَ: إِنَّ الْحَدِيثَ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ يُخَلِّفُ وَفَاءً، كَذَا فِي قُوتِ الْمُغْتَذِي، وقَالَ الشَّوْكَانِيُّ فِي النَّيْلِ: فِيهِ الْحَثُّ لِلْوَرَثَةِ عَلَى قَضَاءِ دَيْنِ الْمَيِّتِ، وَالْإِخْبَارُ لَهُمْ بِأَنَّ نَفْسَهُ مُعَلَّقَةٌ بِدَيْنِهِ حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ، وهَذَا مُقَيَّدٌ بِمَنْ لَهُ مَالٌ يُقْضَى مِنْهُ دَيْنُهُ، وأَمَّا مَنْ لَا مَالَ لَهُ، وَمَاتَ عَازِمًا عَلَى الْقَضَاءِ للدين ، فَقَدْ وَرَدَ فِي الْأَحَادِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقْضِي عَنْهُ، بَلْ ثَبَتَ أَنَّ مُجَرَّدَ مَحَبَّةِ الْمَدْيُونِ عِنْدَ مَوْتِهِ لِلْقَضَاءِ مُوجِبَةٌ لِتَوَلِّي اللَّهِ سُبْحَانَهُ لِقَضَاءِ دَيْنِهِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ وَلَمْ يَقْضِ مِنْهُ الْوَرَثَةُ الميت .(1/429)
أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ مَرْفُوعًا: {مَنِ ادَّانَ بِدَيْنٍ فِي نَفْسِهِ وَفَاؤُهُ، وَمَاتَ تَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَى غَرِيمَهُ بِمَا شَاءَ، وَمَنِ ادَّانَ بِدَيْنٍ، وَلَيْسَ فِي نَفْسِهِ وَفَاؤُهُ، وَمَاتَ، اقْتَصَّ اللَّهُ لِغَرِيمِهِ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} وَأَخْرَجَ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: {الدَّيْنُ دَيْنَانِ. فَمَنْ مَاتَ ، وَهُوَ يَنْوِي قَضَاءَهُ فَأَنَا وَلِيُّهُ، وَمَنْ مَاتَ، وَلَا يَنْوِي قَضَاءَهُ فَذَلِكَ الَّذِي يُؤْخَذُ مِنْ حَسَنَاتِهِ، لَيْسَ يَوْمَئِذٍ دِينَارٌ، وَلَا دِرْهَمٌ}
(2) أما إذا استدان في مواضع يباح له الاستدانة واستمر عجزه عن الوفاء حتى مات أو أتلف شيئاً خطأ وعجز عن غرامته حتى مات : فالظاهر أن هذا لا مطالبة في حقه في الآخرة إذ لا معصية منه ، والمرجو أن الله تعالى يعوِّض صاحب الحق ...
وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد ، ودرر الفرائد . (
( حديث ميمونة رضي الله عنها الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من ادان دينا ينوي قضاءه أداه الله عنه .
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
( من ادّان ديناً ينوي ) أي وهو ينوي كما جاء مصرحاً به في رواية صحيحة
( قضاءه أداه اللّه عنه يوم القيامة ) بأن يرضي خصماءه ، وقال الغزالي : الشأن في صحة النية فهي معدن غرور الجهال ومزلة أقدام الرجال .
(من أخبر عن نفسِه أنَّه كفر، فما الحُكمُ ، وكيف يتوب :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ
مسألة : في خِصامٍ حادٍّ ، أخبر عن نفسِه أنَّه كفر، فما الحُكمُ ، وكيف يتوب؟(1/430)
حينَما ازدادَ نقاشِي مع أحدِ أقاربي لفظت بقولِ : "أنا كفرت " ، ولطمتُ على وجهي ، مع العِلمِ أَنِّي نادمٌ على ما حدث ، فأريدُ التوجيهَ والإرشادَ ، وما حكمُ الدينِ في ذلك ؟ وهل عليَّ كفارة ؟.
الجواب :
إنَّا للهِ وإنَّا إليه راجعون ، ونسألُ الله العفوَ والعافيةَ في الدنيا والآخرة ، ونسألُه حسنَ الختامِ والوفاةَ على الإيمان .
اعلم - أخي السائل - بأنَّك وقعتَ في أعظمِ ذنبٍ وأقبحِ معصيةٍ ، وهي معصيةُ الكفرِ والردَّةِ ، والعياذ بالله تعالى .
وهذه الكلمةُ التي ذكرتَ عن نفسِك ، صريحةٌ في الكفرِ والردةِ ، والعلماءُ يقولون :
عندَ ظهورِ لفظِ الكفرِ يُحكَمُ بالردةِ (إن كان يعلم معنى الكلمة) ، ولا يُسأل عن نيته ، كما قالَ تعالى :
( وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ ) التوبة/65 .
فأخبرَ سبحانَه أنهم كفروا بعدَ إيمانهم ، مع قولِهم : إنا تكلمنا من غيرِ اعتقاد ، بل كنَّا نخوض ونلعب .
قال ابنُ نُجَيم :
" إنَّ من تكلَّمَ بكلمةِ الكفرِ هازلا أو لاعبًا كفرَ عند الكلِّ ، ولا اعتبارَ باعتقادِه " انتهى .
"البحر الرائق" (5/134) ، وانظر : "نواقض الإيمان القولية والعملية" (ص95) .
[*](وقال الشيخُ ابنُ عثيمين :
" وإن أتى بقولٍ يُخرجُه عن الإسلامِ ، مثلَ أن يقول : هو يهوديٌّ أو نصرانيٌّ أو مجوسيٌّ أو بريءٌ من الإسلام ، أو من القرآنِ أو النبيِّ عليه الصلاةُ والسلامُ فهو كافرٌ مرتدٌ ، نأخذه بقولِه هذا " انتهى .
"الشرح الممتع" (6/279) .
والردُّة أمرُها خطيرٌ وشأنُها عظيم ، فقد اختلفَ العلماءُ فيمن ارتدَّ ثم تاب ، هل يبقى له من ثوابِ أعمالِه السابقةِ شيءٌ ، أم تحبط كلُّها بالردة ؟
وقد سئلَ الشيخُ الفوزانُ السؤالَ التالي :(1/431)
ما الحكمُ فيمن ارتدَّ عن الإسلامِ ثم عاد إليه ، هل يعيدُ ما فاتُه من أعمالٍ من أركانِ الإسلامِ ، كالحجِّ والصومِ والصلاةِ ، أم تكفي توبتُه وعودتُه إلى الإسلامِ ؟
فأجابَ :
" الصحيحُ من قولي العلماء : أن المرتدَّ إذا عادَ إلى الإسلامِ ، ودخلَ في الإسلامِ مرةً أخرى تائبًا منيبًا للهِ تعالى ، فإنه لا يعيدُ الأعمالَ التي أدَّاها قبلَ الردةِ ؛ لأنَّ اللهَ سبحانَه وتعالى اشترطَ لحبوطِ الأعمالِ بالردَّةِ أن يموتَ الإنسانُ عليها .
قالَ تعالى : ( وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) [البقرة :217 ]
فَشَرَطَ لحبوطِ الأعمالِ استمرارَ الإنسانِ على الردةِ حتى يموتَ الإنسانُ عليها ، فدلت الآيةُ بمفهومِها على أنَّ الإنسانَ لو تابَ فإنَّ أعمالَه التي أدَّاها قبلَ الردةِ تكونُ صحيحةً ومُجزيةً إن شاءَ الله تعالى " انتهى .
"المنتقى من فتاوى الفوزان" (5/429) .
وأما لطم الوجه فهو من أعمال الجاهلية التي حذرنا منها النبي صلى الله عليه وسلم , كما في الحديث الآتي : (
(حديث ابن مسعود الثابت في الصحيحين) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ليس منا من لطم الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية .
وهذا يدل على أن لطم الخدود كبيرة من كبائر الذنوب .
وحيث قد ندمت على ما فعلت فنرجو من الله تعالى أن يقبل توبتك , فعليك أن تنطق الشهادتين لتدخل بذلك في الإسلام بعد أن خرجت منه , ولْتحسن العمل , وعليك بحفظ اللسان , فإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً فيهوى بها في النار سبعين خريفاً . كما في الحديث الآتي : ((1/432)
(حديث أبي هريرة في صحيح البخاري) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالا يرفعه الله بها درجات و إن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالا يهوي بها في جهنم .
وأما الكفارة ، فليس هناك كفارة لما بدر منك إلا التوبة والندم والعزم على عدم العودة إلى ذلك .
(لا يشترط لصحة التوبة الوضوء ولا الغسل :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
مسألة : هل يشترط لصحة التوبة الوضوء ولا الغسل ؟
الجواب :
لا يخلو واحد من البشر من الخطأ والذنب ، وخير هؤلاء هو من يسارع إلى التوبة ، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد ، ودرر الفرائد . (
( حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ .
[*] قال العلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:
( كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ ) أَيْ كَثِيرُ الْخَطَأِ أَفْرَدَ نَظَرًا إِلَى لَفْظِ الْكُلِّ، وَفِي رِوَايَةٍ خَطَّاءُونَ نَظَرًا إِلَى مَعْنَى الْكُلِّ، قِيلَ أَرَادَ الْكُلَّ مِنْ حَيْثُ هُوَ كُلٌّ أَوْ كُلَّ وَاحِدٍ. وَأَمَّا الْأَنْبِيَاءُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فَإِمَّا مَخْصُوصُونَ عَنْ ذَلِكَ، وَإِمَّا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ صَغَائِرَ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى فَإِنَّ مَا صَدَرَ عَنْهُمْ مِنْ بَابِ تَرْكِ الْأَوْلَى، أَوْ يُقَالُ: الزَّلَّاتُ الْمَنْقُولَةُ عَنْ بَعْضِهِمْ الجزء السابع مَحْمُولَةٌ عَلَى الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ قَصْدٌ إِلَى الْعِصْيَانِ قَالَهُ الْقَارِي(1/433)
( وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ ) أَيِ الرَّجَّاعُونَ إِلَى اللَّهِ بِالتَّوْبَةِ مِنَ الْمَعْصِيَةِ إِلَى الطَّاعَةِ. أهـ
والسهو والتقصير من طبع الإنسان، ومن رحمة الله بهذا الإنسان الضعيف أن يفتح له باب التوبة، وأمره بالإنابة إليه، والإقبال عليه، كلما غلبته الذنوب ولوثته المعاصي.. ولولا ذلك لوقع الإنسان في حرج شديد، وقصرت همته عن طلب التقرب من ربه، وانقطع رجاؤه من عفوه ومغفرته.
وأوجب الله سبحانه وتعالى التوبةَ على عباده فقال : ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ) [التحريم:8 ]
وأخبر الله تعالى أنه يقبل التوبة من عباده ، وأنه يعفو عنهم ، بل يبدل سيئاتهم حسنات ، قال الله تعالى : ( وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ) [الشورى:25 ]، وقال : ( إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً ) [الفرقان: 70] .
ولم يوجب الله تعالى على التائب وضوءً ولا غسلاً ، سواء كان محدِثاً حدثاً أصغر أو أكبر ، لا قبل التوبة ولا بعدها ، إلا إن تاب من كفر أو ردَّة .
قال علماء اللجنة الدائمة :
لا يلزم الغسل بعد التوبة الصادقة من المعاصي ؛ لأن الأصل عدم مشروعية ذلك ، ولا نعلم دليلاً يخالف هذا الأصل إلا إذا كانت التوبة من كفر فإنه يشرع لمن أسلم أن يغتسل ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم " أمر بذلك قيس بن عاصم لما أسلم " ، رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وصححه ابن السكن . " فتاوى اللجنة الدائمة " ( 5 / 317 ) .
(ما معنى التوبة من قريب :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ(1/434)
مسألة : ما معنى التوبة من قريب والمقصودة في قوله تعالى (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً) [النساء: 17] ؟
الجواب :
التوبة من قريب هي التوبة في الحياة ما لم يغرغر العبد، أي ما دامت روحه في جسده لم تبلغ الحلقوم والتراقي، فهنا تقبل توبته.
[*](قال ابن رجب رحمه الله تعالى: وأما التوبة من قريب فالجمهور على أن المراد بها التوبة قبل الموت؛ فالعمر كله قريب، ومن تاب قبل الموت فقد تاب من قريب، ومن لم يتب فقد بعد كل البعد كما قيل:
فهم جيرةُ الأحياء أما قرارهم ... فَدَانٍ وأما الملتقى فبعيد
فالحي قريب، والميت بعيد من الدنيا على قربه منها؛ فإن جسمه في الأرض يبلى، وروحه عند الله تُنَعَّم أو تُعذَّب، ولقاؤه لا يرجى في الدنيا (1) .
أما إذا عاين العبد أمور الآخرة، وانكشف له الغطاء، وشاهد الملائكة، فصار الغيب عنده شهادة فإن الإيمان والتوبة لا تنفعه في تلك الحال.
قال تعالى : (وَلَيْسَتْ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً) [النساء: 18]
فسوَّى الله عز وجل بين من تاب عند الموت، ومن مات من غير توبة .
والمراد بالتوبة عند الموت التوبة عند انكشاف الغطاء، ومعاينة المحتضر أمور الآخرة، ومشاهدة الملائكة_كما مرَّ_ (2) .
[*](قال ابن رجب رحمه الله تعالى: وروى ابن أبي الدنيا بإسناده عن علي قال: لا يزال العبد في مهل من التوبة ما لم يأته ملك الموت يقبض روحه؛ فإذا نزل ملك الموت فلا توبة حينئذ.
__________
(1) لطائف المعارف ص 380.
(2) انظر لطائف المعارف ص 382_383.(1/435)
وبإسناده عن الثوري قال: قال ابن عمر: التوبة مبسوطة ما لم ينزل سلطان الموت.
وعن الحسن قال: التوبة معروضة لابن آدم ما لم يأخذ ملك الموت بكظمه (1) .
(نقض التوبة:
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
مسألة : كيف تُنْقَصُ التوبة ؟
الجواب :
إذا تاب العبد من ذنب ثم عاد إليه مرة أخرى يكون ناقضاً للتوبة؛ فيلزمه حينئذ أن يجدد التوبة.
ولا يرجع إليه في هذه الحالة إثم الذنب الذي تاب منه، والعائد إليه إنما هو إثم الذنب الجديد المستأنف لا الماضي؛ لأن الماضي قد ارتفع بالتوبة، وصار بمنزلة ما لم يعملْه.
قال تعالى : في وصف المتقين في سورة آل عمران: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [آل عمران: 135]
وجاء في الحديث المرفوع إلى النبي": =إن الله يحب العبد المفتَن التوَّاب (2) .
[*](قال ابن القيم تعليقاً على هذا الحديث: قلت: وهو الذي كلما فتن بالذنب تاب منه، فلو كانت معاودته تبطل توبته لما كان محبوباً للرب، ولكان ذلك أدعى إلى مقته (3) .
__________
(1) لطائف المعارف ص 383.
(2) رواه عبد الله بن أحمد في زوائده على المسند 1/80, 103وفي زوائده على فضائل الصحابة 2/697، وأبو يعلى الموصلي (483) من طريق أبي عمرو البجلي عن عبد الملك بن سفيان الثقفي عن أبي جعفر محمد بن علي عن محمد بن الحنيفة عن أبيه به مرفوعاً، وإسناده ضعيف؛ فالثقفي مجهول، وأبو عمرو البجلي متروك، قال ابن حبان: لا يحل الاحتجاج به، كما في تعجيل المنفعة ص 508.
ورواه الحارث بن أبي أسامة في مسنده_كما في بغية الباحث2/ 972_من طريق آخر عن محمد ابن الحنفية به، ولكنه من طريق محمد بن عمر الواقدي وهو متروك.
(3) (3) (1) مدارج السالكين 1/292.(1/436)
(وقال أيضاً: قالوا: وأما استمرار التوبة فشرط في صحة كمالها ونفعها لا شرط في صحة ما مضى منها (1) .
(وقال أيضاً: ونكتة المسألة أن التوبة حسنة، ومعاودة الذنب سيئة؛ فلا تبطل معاودته هذه الحسنة كما لا تبطل ما قارنها من الحسنات (2) .
وعلى هذا فلا يجوز للعبد إذا تاب ثم ابتلي بالذنب أن يدع التوبة، ويستمر على ذنوبه، بحجة أنه نقض توبته.
بل عليه أن يتوب وأن يرجع إلى ربه؛ فمعاودة الذنب مبغوض لله من جهة معاودة الذنب، محبوب من جهة التوبة والحسنات السابقة (3) .
(رجوع الحسنات إلى التائب بعد التوبة:
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
مسألة : إذا كان للعبد حسنات ثم عمل بعدها سيئات استغرقت حسناتِه القديمة وأبطلتها، ثم تاب بعد ذلك توبةًً نصوحاً فهل تعود إليه حسناته القديمة ؟
إذا كان للعبد حسنات ثم عمل بعدها سيئات استغرقت حسناتِه القديمة وأبطلتها، ثم تاب بعد ذلك توبةًً نصوحاً عادت إليه حسناته القديمة، ولم يكن حكمه حكم المستأنف لها.
بل يقال له: تُبْتَ على ما أسلفت من خير؛ فالحسنات التي فعلتها في الإسلام أعظم من الحسنات التي يفعلها الكافر في كفره: من عتاق، وصدقة، وصلة (4) .
( حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) قال: يا رسول الله، أرأيت أشياء، كنت أتحنث بها في الجاهلية، من صدقة، أو عتاقة، وصلة رحم، فهل فيها من أجر؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أسلمت على ما سلف من خير.
[*](قال ابن حجر رحمه الله تعالى في شرح هذا الحديث: لا مانع من أن يضيف الله إلى حسناته في الإسلام ثواب ما كان صدر منه في الكفر؛ تفضلاً، وإحساناً (5) .
__________
(1)
(2)
(3) انظر مدارج السالكين 1/293وطريق الهجرتين لابن القيم ص407_416.
(4) انظر مدارج السالكين 1/293.
(5) فتح الباري 3/354.(1/437)
[*](وقال ابن القيم مبيناً العلة في ذلك: وذلك لأن الإساءة المتخللة بين الطاعتين قد ارتفعت بالتوبة، وصارت كأنها لم تكن؛ فتلاقت الطاعتان، واجتمعتا، والله أعلم (1) .
(هل التوبة تُرْجِعْ العبدَ إلى حاله قبل معصيته؟
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
مسألة : إذا كان للعبد حال أو مقام مع الله، ثم نزل عنه لذنب ارتكبه ثم تاب منه؛ فهل يعود بعد التوبة إلى مثل ما كان أو لا يعود؟ أو يعود إلى أنقصَ من رتبته؟ أو يعود خيراً مما كان؟
الجواب :
أن هذه المسألة قد اختلف فيها السلف على أقوال شتى، ومن أحسن من أجاب على تلك المسألة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى فلقد فَصَلَ الخطاب في هذه المسألة بكلام كافٍ شاف.
[*](قال ابن القيم رحمه الله تعالى في معرض كلامه على المسألة الماضية: وجرت هذه المسألة بحضرة شيخ الإسلام ابن تيمية فسمعته يحكي هذه الأقوال الثلاثة حكاية مجردة؛ فإما سألته، وإما سئل عن الصواب منها فقال: الصواب أن من التائبين من يعود إلى مثل حاله، ومنهم من يعود إلى أكمل منها، ومنهم من يعود إلى أنقص مما كان؛ فإن كان بعد التوبة خيراً مما كان قبل الخطيئة وأشد حذراً، وأعظم تشميراً، وأعظم ذلاً وخشية وإنابة عاد إلى أرفع مما كان.
وإن كان قبل الخطيئة أكمل في هذه الأمور ولم يعد بعد التوبة إليها عاد إلى أنقص مما كان عليه.
وإن كان بعد التوبة مثل ما كان قبل الخطيئة رجع إلى منزلته.
هذا معنى كلامه (2) .
__________
(1) مدارج السالكين 1/293، وانظر فتح الباري لابن رجب1/160_163.
(2) طريق الهجرتين ص 407.(1/438)
وعلى هذا فإنه ينبغي التفطن لهذه المسألة خصوصاً من كان له حال مع الله، وكان ذا خشية، وعلم، وتألُّه، وإنابة، ومسارعة إلى الخيرات، ثم طاف به طائف من الشيطان، فَأزَلَّه، وأغواه، وطوَّح به عن قصد السبيل، أو أنزله عن منزلته السابقة؛ ففقد أنسه بربه، ودب إليه الضعف والفتور، وترك ما كان يقوم به من خير ومسارعة.
وهذه مسألة تعتري كثيراً من الناس، فيستسلمون لها، ويركنون إلى خاطر اليأس من العودة إلى الحال السابقة، فيظنون أن لا رجعة إلى ما كانوا عليه من الخير والقرب من الله.
فعلى من وقعت له تلك الحال ألا يستسلم للشيطان، وألا ييأس من رجوعه إلى ما كان عليه من منزلة، بل عليه أن يجتهد بالتوبة النصوح، وأن يشمر عن ساعد الجد؛ لتدارك ما فات بالأعمال الصالحات؛ فلربما عاد إلى مقامه السابق، بل ربما عاد أكمل مما كان عليه.
وليس ذلك ببعيد على من كان ذا نفس شريفة، وهمة عالية، (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ) [الرعد: 11]
ولا بعد من خير وفي الله مطمع ... ولا يأس من روح وفي القلب إيمان
(على كل عضو توبة:
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
مسألة : هل يكون على كل عضو توبة ؟
الجواب :
الصحيح أنه على كل عضو توبة فتوبة العين كفها عن النظر إلى الحرام، وتوبة الأذن كفها عن سماع الحرام، وتوبة الرجل كفها عن المشي إلى الحرام، وتوبة اليد كفها عن فعل الحرام، وتوبة القلب تخليصه من كل ما ينافي سلامته من الشرك، والحسد، والغل، والحقد، ونحو ذلك...
(فعل معصية من المعاصي لا يُسَوِّغُ فعل غيرها:
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
مسألة : إذا ابتلي العبد بمعصية من المعاصي فهل ذلك لا يسوغ له فعل غيرها؛ بحجة أنه لم يتب بعد، أو لم يستقم استقامة حقة .
الجواب :
إذا ابتلي العبد بمعصية من المعاصي فإن ذلك لا يسوغ له فعل غيرها؛ بحجة أنه لم يتب بعد، أو لم يستقم استقامة حقة .(1/439)
فسماع الحرام لا يسوغ رؤية الحرام، وأكل الربا لا يسوغ شرب الخمر، وهكذا...
(فعل المحرمات لا يسوّغ ترك الطاعات:
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ
مسألة : إذا ابتلي العبد ببعض المحرمات كأكل الربا، أو سماع الحرام، أو شرب الخمر ـ والعياذ بالله ـ فهل ذلك يسوغ له ترك الصلاة مثلاً ؟
الجواب :
إذا ابتلي العبد ببعض المحرمات كأكل الربا، أو سماع الحرام، أو شرب الخمر ـ والعياذ بالله ـ فإن ذلك لا يسوغ له ترك الصلاة مثلاً لأن الشيطان قد يلقي في قلب ذلك العاصي أنه منافق؛ إذ كيف يصلي وهو مصر على ارتكاب بعض المعاصي؟ .
وما يريد عدو الله من ذلك إلا زيادة الإثم على العاصي، أو إخراجه من دائرة المعصية إلى دائرة الكفر.
ثم إن ترك الأوامر أعظم من ارتكاب المناهي.
[*](قال سهل بن عبدالله رحمه الله تعالى : ترك الأمر عند الله أعظم من ارتكاب النهي؛ لأن آدم نهي عن أكل الشجرة فأكل منها، فتاب عليه، وإبليس أمر أن يسجد لآدم فلم يسجد، فلم يتب عليه (1) .
[*](وقال ابن تيمية رحمه الله تعالى : الصبر على أداء الطاعات أكمل من الصبر على اجتناب المحرمات، وأفضل؛ فإن مصلحة فعل الطاعة أحب إلى الشارع من مصلحة ترك المعصية، ومفسدة عدم الطاعة أبغضُ إليه وأكره من مفسدة وجود المعصية (2) .
[*](ولقد علق ابن القيم رحمه الله تعالى على كلمة سهل بكلام عظيم.
قال: قلت: هذه مسألة عظيمة لها شأن، وهي أن ترك الأوامر أعظم عند الله من ارتكاب المناهي، وذلك من وجوه عديدة (3) .
ثم شرع في ذكر ثلاثة وعشرين وجهاً بين من خلالها صحة القاعدة السابقة (4) .
__________
(1) مدارج السالكين 2/156.
(2) الفوائد لابن القيم ص173.
(3) الفوائد لابن القيم ص173.
(4) انظر الفوائد ص173_186.(1/440)
ثم قال بعد أن سرد تلك الوجوه: وسر هذه الوجوه أن المأمور به محبوبه، والمنهي عنه مكروهه، ووقوع محبوبه أحب إليه من فوات مكروهه، وفوات محبوبه أكره إليه من وقوع مكروهه، والله أعلم (1) .
(فعل المعاصي لا يسوغ المجاهرة بها أو الدعوة إليها:
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
لأن ذلك أشنع في الجرم، وأبعد عن المعافاة.
[*] وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد ، ودرر الفرائد . (
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملاً، ثم يصبح وقد ستره الله، فيقول: يا فلان، عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه، ويصبح يكشف ستر الله عنه.
[*] قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح : أي لكن المجاهرون بالمعاصي لا يعافون .
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
( كل أمتي معافى ) اسم مفعول من العافية وهو إما بمعنى عفى اللّه عنه وإما سلمه اللّه وسلم منه
( إلا المجاهرين ) أي المعلنين بالمعاصي المشتهرين بإظهارها الذين كشفوا ستر اللّه عنهم وروي المجاهرون بالرفع ووجهه بأن معافى في معنى النفي فيكون استثناء من كلام لغو موجب والتقدير لا ذنب لهم إلا المجاهرون ثم فسر المجاهر بأنه
( وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملاً، ثم يصبح وقد ستره الله، فيقول: يا فلان، عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه، ويصبح يكشف ستر الله عنه)
__________
(1) الفوائد ص186.(1/441)
فيؤاخذ به في الدنيا بإقامة الحد وهذا لأن من صفات اللّه ونعمه إظهار الجميل وستر القبيح فالإظهار كفران لهذه النعمة وتهاون بستر الله قال النووي : فيكره لمن ابتلي بمعصية أن يخبر غيره بها بل يقلع ويندم ويعزم أن لا يعود فإن أخبر بها شيخه أو نحوه مما يرجو بإخباره أن يعلمه مخرجاً منها أو ما يسلم به من الوقوع في مثلها أو يعرفه السبب الذي أوقعه فيها أو يدعو له أو نحو ذلك فهو حسن وإنما يكره لانتفاء المصلحة وقال الغزالي : الكشف المذموم إذا وقع على وجه المجاهرة والاستهزاء لا على السؤال والاستفتاء بدليل خبر من واقع امراته في رمضان فجاء فأخبر المصطفى صلى اللّه عليه وسلم فلم ينكر عليه .
[*](قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
هناك قسم ثالث فاسق مارد ماجن ، يتحدث بالزنى افتخاراً والعياذ بالله ، يقول : إنه سافر إلى البلد الفلاني ، وإلى البلد الفلاني ، وفجر وفعل وزنى بعدة نساء ، وما أشبه ذلك ، يفتخر بهذا.
هذا يجب أن يستتاب فإن تاب وإلا قتل ؛ لأن الذي يفتخر بالزنى مقتضى حاله أنه استحل الزنى والعياذ بالله ، ومن استحل الزنى فهو كافر ." شرح رياض الصالحين"( 1 / 116 )
ولا شك أن المعاصي درجات والإثم يتفاوت فيها بحسب حال العاصي أثناء المعصية وحاله بعدها ، فليس المتخفي بمعصيته المستتر بها كالمجاهر، وليس النادم بعدها كالمفتخر بها .
[*](قال ابن القيم رحمه الله :
وبالجملة فمراتب الفاحشة متفاوتة بحسب مفاسدها ، فالمتخذ خدناً من النساء والمتخذة خدناً من الرجال أقل شرّاً من المسافح والمسافحة مع كل أحدٍ ، والمستخفي بما يرتكبه أقل إثماً من المجاهر المستعلن ، والكاتم له أقل إثماً من المخبِر المحدِّث للناس به ، فهذا بعيد من عافية الله تعالى وعفوه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " كل أمتي معافى إلا المجاهرين ... " .
" إغاثة اللهفان " ( 2 / 147 ) .
الخدن والخدنة : العشيق والعشيقة .(1/442)
والأصل : أن يُعقب المسلمُ ذنبه بتوبة واستغفار وندم وعزم على عدم العوْد لها ، لا أن يُعقبها بافتخار ومجاهرة وحديث بها .
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن العبد إذا أخطاء خطيئة نُكِتَت في قلبه نكته سوداء فإن هو نزع و استغفر و تاب صقل قلبه وإن عاد زيد فيها حتى تعلو على قلبه و هو الران الذي ذكر الله تعالى فذلك الران الذي ذكره الله في كتابه (كَلاّ بَلْ رَانَ عَلَىَ قُلُوبِهِمْ مّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ) [المطففين : 14] .
(مفاسد المجاهرة بالمعاصي :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
(1) أنها استخفاف بأوامر الله عز وجل ونواهيه.
(2) أنها تؤدي إلى إلفِ المعصية واعتياد القبائح واستمرائها وكأنها أمور عادية لا شيء فيها.
(3) أنها بمثابة دعوة للغير إلى ارتكاب المعاصي وإشاعة الفساد ونشر للمنكرات.
(4) أنها ربما أدت إلى استحلال المعصية فيكفر بذلك والعياذ بالله.
(5) أنها دليل على سوء الخلق والوقاحة وقلة أدب صاحبها.
(6) أنها دليل على قسوة القلب واستحكام الغفلة من قلب المجاهر.
(صورٌ من المجاهرة بالمعاصي والعياذ بالله :
إن صور المجاهرة بالمعاصي ـ في هذا العصر ـ كثيرة جداً، لا يمكن استقصاؤها في هذه العجالة، غير أننا نشير إلى أمثلة من ذلك، وهاك بعض صور المجاهرة بالمعاصي: (
(هذا رجل يتحدث أمام الملأ عن سفرته وما تخللها من فسق وفجور، فيتفاخر بذلك في المجالس ويحسب أن ذلك من الفتوة وكمال الرجولة، وهو - والله - من الذلة والمهانة وضعة النفس وخبث الباطن وضعف الإيمان جداً وقسوة القلب.
(وهذا شاب يتحدث عن مغازلاته ومغامراته. .
(وهذه فتاة تتحدث عن علاقاتها الآثمة عبر الهاتف. .
(وهذا صاحب عمل يعطي زملائه دروسا مجانية في ظلم العمال وأكل أموالهم. .
(وهذا عامل يكشف ستر الله عليه فيتحدث عن سرقته لصاحب العمل ويعلم أصدقائه بعض الحيل في ذلك.(1/443)
(ومنها الدعوة إلى وحدة الأديان وتصحيح عقائد الكفر.
(ومنها الاحتفال بأعياد الكفار وإعلان ذلك في الصحف والمجلات والقنوات مثل الاحتفال بالكريسمس وعيد الحب وعيد الأم وغيرها.
( ومنها خروج المرأة أمام الملأ متعطرة ومتزينة.
( ومنها خروج المرأة وهي تلبس العباءة القصيرة أو المزركشة أو الشفافة، أو تلبس البنطال أو الكعب العالي وتجاهر بذلك أمام الملأ.
(ومنها خلوة المرأة بالسائق الأجنبي أمام الملأ، وكذلك خلوتها بالبائعين في الأسواق والمحلات التجارية.
( ومنها ممارسة عادة التدخين أمام الملأ.
( ومنها إسبال الثياب للرجال.
( ومنها حلق اللحى، والمجاهرة تشمل الحالق والمحلوق.
( ومنها قص الشعر على مثال أهل الكفر.
( ومنها تشبه النساء بالرجال والرجال بالنساء.
( ومنها سفر المرأة وحدها بدون محرم.
( ومنها ترك الرجال لصلاة الجماعة بدون عذر.
( ومنها لبس الرجال للذهب والحرير.
( ومنها السباب واللعن عمدا أمام الملأ.
( ومنها تعاطي بعض الشباب - هداهم الله - أنواع المعاكسات في الأسواق والشوارع والحدائق وأماكن الترفيه وغيرها.
( ومنها لبس الشباب للشورت الذي يظهر الفخذين والسير به في الشوارع، وكذلك لبس السلاسل والفانيلات التي عليها صور خليعة.
( ومنها إتلاف السيارات بالتفحيط والتطعيس.
( ومنها الإفطار في رمضان عمدا أمام الملأ بدون عذر.
( ومنها مزاولة أنشطة تجارية محرمة كالبنوك الربوية ومحلات أشرطة الغناء ومحلات الشيشة والجراك وغيرها.
( ومنها قيام بعض الشباب بالضرب على آلات الطرب والموسيقى في البر أو في المنتزهات وغيرها.
( ومنها إزعاج الناس بأصوات المغنين والمغنيات عبر الراديو أو التلفاز.
(ومنها استخدام بعض الكتاب الصحف والمجلات منبرا للطعن في الإسلام والمسلمين.
( ومنها الغيبة والنميمة؛ لأنها لا تكون عادة إلا أمام الملأ.
( ومنها السخرية والاستهزاء بأهل الدين والعفاف من الرجال و النساء، ووسمهم بالتخلف والرجعية.(1/444)
هذه إرشادات سريعة وعلى مثلها فقس، والحر تكفيه الإشارة، وليس المطلوب هو ترك المجاهرة بالمعاصي فقط، ولكن المطلوب هو ترك المعاصي كلها ولو سراً، لأنها قبيحة العواقب، سيئة المنتهى.
(فِعْلُ المعاصي لا يسوغ للإنسان بغضَ الطاعةِ وأهلِها :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
مسألة : هل فِعْلُ المعاصي يسوغ للإنسان بغضَ الطاعةِ وأهلِها، وحبَّ المعصيةِ وأهلها ؟
الجواب :
فِعْلُ المعاصي لا يسوغ للإنسان بغضَ الطاعةِ وأهلِها، وحبَّ المعصيةِ وأهلها: بل يجب عليه أن يجاهد نفسه على حب الطاعة وأهلها وإن كان مقصراً فيها ولم يلحق بأهلها، وأن يبغض المعصية وإن كان واقعاً فيها ومعدوداً من أهلها؛ فالمرء يحشر مع من أحب، ويؤجر على حب الخير وبغض الشر.
[*](قال الشافعي رحمه الله تعالى متواضعاً:
أحب الصالحين ولست منهم ... لعلي أن أنال بهم شفاعه
وأكره مَنْ تجارته المعاصي ... ولو كنا سواء في البضاعه (1)
( إساءة فلان من الناس لا تسوغ للإنسان الإساءة :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
مسألة : هل إساءة فلان من الناس تسوغ للإنسان الإساءة ؟
الجواب :
إساءة فلان من الناس لا تسوغ للإنسان الإساءة، وإساءة الأمس لا تسوغ إساءة اليوم: فلا يسوغ للإنسان أن يسيء بحجة أن فلاناً من الناس قد أساء؛ فكلٌّ مسؤولٌ عن نفسه، وكلُّ نفسٍ بما كسبت رهينة.
كذلك إساءة الإنسان في وقت ما لا تسوغ له أن يسيء، أو أن يستسهل الإساءة في وقت آخر.
[*](قال ابن حزم رحمه الله تعالى : لم أرَ لإبليس أصْيَدَ ولا أقبح من كلمتين ألقاها على ألسنة دعاته، إحداهما: اعتذار من أساء بأن فلاناً أساء قبله .
والثانية: استسهال الإنسان أن يسيء اليوم؛ لأنه قد أساء أمس ، أو أن يسيء في وجه ما؛ لأنه قد أساء في غيره .
__________
(1) ديوان الإمام الشافعي تحقيق الزعبي ص56.(1/445)
فقد صارت هاتان الكلمتان عذراً مسهلتين للشر، ومدخلتين له في حد ما يعرف، ويحمل (1) ولا ينكر (2) .
(فعل المعاصي لا يسوغ الاستهانة بها:
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
مسألة : هل فعل المعاصي يسوغ الاستهانة بها ؟
الجواب :
فعل المعاصي لا يسوغ الاستهانة بها: فإذا ابتلي العبد بمعصية من المعاصي لم يسغ له أن يستهين بها، ولو كانت صغيرة في نظره ؛ فلا يليق به أن ينظر إلى صغر المعصية، ولكن ينظر إلى عِظَمِ من عصاه؛ فالاستهانة بالذنوب والمعاصي دليل الجهل، وقلة وقار الله في القلب.
وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد ، ودرر الفرائد . (
( حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري موقوفاً ) إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مرّ على أنفه، فقال له هكذا .
[*] وقال بعض السلف: لا تنظر الى صغر المعصية ولكن انظر الى من عصيت.
[*](قال ابن حجر رحمه الله تعالى في قوله: إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه: قال ابن أبي جمرة: السبب في ذلك أن قلب المؤمن مُنَوَّر؛ فإذا رأى من نفسه ما يخالف ما ينور به قلبه عظم الأمر عليه.
والحكمة من التمثيل بالجبل أن غيره من المهلكات قد يحصل التسبب إلى النجاة منه، بخلاف الجبل إذا سقط على الشخص لا ينجو منه عادة.
وحاصله أن المؤمن يغلب عليه الخوف؛ لقوة ما عنده من الإيمان؛ فلا يأمن العقوبة بسببها، وهذا شأن المسلم أنه دائم الخوف والمراقبة، يستصغر عمله الصالح، ويخشى من صغير عمله السيىء+ (3) .
__________
(1) هكذا في الأصل، ولعلها يَجمُل، أو يَحِلّ.
(2) الأخلاق والسير لابن حزم ص31.
(3)(1/446)
(وقال ابن حجر في قوله: =وإن الفاجر، يرى ذنوبه كذباب..: أي ذنبه سهل عنده، لا يعتقد أنه يحصل له بسببه كبير ضرر، كما أن ضرر الذباب عنده سهل، وكذا دفعه عنه (1) .
(وقال في قوله: فقال به هكذا: أي نحَّاه بيده أو دفعه: هو من إطلاق القول على الفعل، قالوا: وهو أبلغ (2) .
(وقال في قوله: بيده على أنفه: هو تفسير منه لقوله فقال به.
[*](قال المحب الطبري رحمه الله تعالى : إنما كانت هذه صفة المؤمن؛ لشدة خوفه من الله ومن عقوبته؛ لأنه على يقين من الذنب، وليس على يقين من المغفرة.
[*](وقال ابن أبي جمرة: السبب في ذلك أن قلب الفاجر مظلم؛ فوقوع الذنب خفيف عنده، ولهذا تجد من يقع في المعصية إذا وعظ يقول: هذا سهل.
(وقال: ويستفاد من الحديث أن قلة خوف المؤمن ذنوبه، وخفته عليه يدل على فجوره.
(وقال: والحكمة في تشبيه ذنوب الفاجر بالذباب كون الذباب أخف الطير، وأحقره، وهو مما يعاين ويدفع بأقل الأشياء.
(وقال: وفي ذكر الأنف مبالغة في اعتقاده خفة الذنب عنده؛ لأن الذباب قلما ينزل على الأنف، وإنما يقصد غالباً العين.
(وقال: وفي إشارته بيده تأكيد للخفة أيضاً لأنه بهذا القدر اليسير يدفع ضرره (3) .
[*](قال ابن حجر رحمه الله تعالى : قال ابن بطال: يؤخذ منه أنه ينبغي أن يكون المؤمن عظيم الخوف من الله تعالى من كل ذنب صغيراً كان أو كبيراً؛ لأن الله_تعالى_قد يعذب على القليل؛ فإنه لا يُسأل عما يفعل_سبحانه وتعالى (4) .
( حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري ) قال: إنكم لتعملون أعمالاً، هي أدق في أعينكم من الشعر، إن كنا لنعدها على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من الموبقات.
والحاصل أنه لا يجوز للمؤمن أن يستهين بذنب مهما صغُر؛ فإن امرأة دخلت النار في هرة.
__________
(1)
(2) (4) (5) فتح الباري 11/108.
(3) فتح الباري 11/108_109.
(4) فتح الباري 11/109.(1/447)
( حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : دخلت امرأة النار في هرة ربطتها، فلم تطعمها، ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض .
لا تحقرن من الذنوب أقلها ... إن القليل إلى القليل كثير (1)
(فعل المعاصي لا يسوغ التهاون بالطاعات اليسيرة:
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
مسألة : هل فعل المعاصي يسوغ التهاون بالطاعات اليسيرة ؟
الجواب :
فقد مر قبل قليل أن فعل المحرمات لا يسوغ ترك الطاعات، ومر في الفقرة الماضية أن فعل المعاصي لا يسوغ الاستهانة بها.
والحديث في هذه الفقرة مكمل للحديث في الفقرتين المذكورتين؛ فكما أنه لا يجوز للإنسان ترك الواجبات، ولا الاستهانة بالمحرمات فكذلك لا يليق به أن يتهاون بالطاعات اليسيرة؛ بحجة أنه واقع في أمور كبيرة؛ فقد يعمل عملاً يسيراً في نظره كإماطة الأذى عن الطريق، وكصلة الأرحام، أو العطف على المساكين فيكون ذلك سبباً لمغفرة ذنوبه، خصوصاً إذا قام بقلبه الإخلاص، وصدق الإقبال؛ فالأعمال لا تتفاضل بصورها وعددها، وإنما تتفاضل بتفاضل ما في القلوب؛ فتكون صورتها العملية واحدة، وبينهما في التفاضل كما بين السماء والأرض.
ومما يقرر هذا المعنى، ويشهد له ما جاء في حديث البغي.
غفر لأمرأة مومسة، مرت بكلب على رأس ركي، يلهث، قال: كاد يقتله العطش، فنزعت خفها، فأوثقته بخمارها، فنزعت له من الماء، فغفر لها بذلك .
__________
(1) الزهر الفاتح ص84.(1/448)
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :بينما رجل يمشي بطريق، اشتد عليه العطش، فوجد بئراً فنزل فيها، فشرب ثم خرج، فإذا كلب يلهث، يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ بي، فنزل البئر فملأ خفه ثم أمسكه بفيه، فسقى الكلب فشكر الله له فغفر له). قالوا: يا رسول الله، وإن لنا في البهائم أجراً؟ فقال: في كل ذات كبد رطبة أجر.
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : بينما كلب يُطيف (1) برُكيَّة (2) كاد يقتله العطش؛ إذ رأته بغيٌّ من بغايا بني إسرائيل، فنزعت موقها (3) واستقت له به، فسقته إياه، فَغُفر لها به .
[*](قال ابن القيم رحمه الله تعالى في تقرير هذا المعنى : وقريب من هذا ما قام بقلب البغي التي رأت ذلك الكلب، وقد اشتد به العطش يأكل الثرى، فقام بقلبها ذلك الوقت مع عدم الآلة، وعدم المعين، وعدم من ترائيه بعملها ما حملها على أن غَرَّرَت بنفسها في نزول البئر، وملء الماء في خفها، ولم تعبأ بتعرضها للتلف، وحَمْلِها خُفَّها بفيها وهو ملآن، حتى أمكنها الرقيُّ من البئر، ثم تواضعها لهذا المخلوق الذي جرت عادة الناس بضربه، فأمسكت له الخف بيدها حتى شرب من غير أن ترجو منه جزاء ولا شكوراً؛ فأحرقت أنوار هذا القدر من التوحيد ما تقدم منها من البغاء، فَغُفر لها.
فهكذا الأعمال والعمال عند الله، والغافل في غفلة من هذا الإكسير (4) الكيماوي الذي إذا وضع منه مثقال ذرة على قناطير من نحاس الأعمال قلبها ذهباً والله المستعان (5) .
__________
(1) يطيف: يدور حولها.
(2) الركية: البئر.
(3) الموق: الخف.
(4) يقصد به الإخلاص، والإكسير مادة يقولون إنها وضعت مع النحاس أو غيره من المعادن حولته إلى ذهب.
(5) مدارج السالكين1/341.(1/449)
(والحاصل أن الذي يبتلى بفعل المعاصي لا يسوغ له ترك الأعمال الصالحة ولو كانت يسيرة في نظره؛ فلربما كان ذلك سبباً في ترجح كفة حسناته.
(انقلاب الكبيرة صغيرة وانقلاب الصغيرة كبيرة:
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
مسألة : هل من الممكن أن تنقلب الذنوب الصغيرة إلى كبيرة ؟
الجواب :
قد تنقلب الذنوب الصغيرة إلى كبيرة وقد تنقلب الذنوب الكبيرة إلى صغيرة ، وهذه مسألة ينبغي التفطن لها؛ فقد يقترن بالكبيرة من الحياء، والخوف، والاستعظام لها ما يُلْحِقُها بالصغائر.
وقد يقترن بالصغيرة من قلة الحياء، وعدم المبالاة، وترك الخوف، والاستهانة بها ما يُلْحقُها بالكبائر، بل يجعلها في أعلى رتبها.
وهذا أمر مرجعه إلى ما يقوم بالقلب، وهو قدر زائد على مجرد الفعل، والإنسان يعرف ذلك من نفسه ومن غيره (1) .
فالصغائر من الذنوب تكبر وتعظم بأسباب منها (2) :
(أ) الإصرار والمواظبة: ولذلك قيل: لا صغيرة مع إصرار، ولا كبيرة مع استغفار.
فالعفو عن كبيرة قد انقضت، ولم يتبعها مثلها أرجى من العفو عن صغيرة يواظب العبد عليها.
ومثال ذلك قطرات من الماء تقع على حجر متواليات؛ فإنها تؤثر فيه.
ولو جمعت تلك القطرات في مرة، وصبت عليه لم تؤثر.
( حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل .
(ب) استصغار الذنب: فإن الذنب كلما استعظمه العبدُ صَغُر عند الله تعالى وكلما استصغره العبد كَبُر عند الله؛ فإن استعظامه يصدر عن نفور القلب منه، وكراهيته له .
وإنما يعظم الذنب في قلب المؤمن؛ لعلمه بجلال الله تعالى فإذا نظر إلى عظمة من عصى رأى الصغيرة كبيرة .
__________
(1) انظر مدارج السالكين 1/337.
(2) انظر إحياء علوم الدين4/32_33، ومنهاج القاصدين ص282_284، ومدارج السالكين 1/337_343.(1/450)
( حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري ) قال: إنكم لتعملون أعمالاً، هي أدق في أعينكم من الشعر، إن كنا لنعدها على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من الموبقات.
والحاصل أنه لا يجوز للمؤمن أن يستهين بذنب مهما صغُر؛ فإن امرأة دخلت النار في هرة.
( حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : دخلت امرأة النار في هرة ربطتها، فلم تطعمها، ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض .
[*](وقال بلال بن سعد رحمه الله تعالى : =لا تنظر إلى صغر الخطيئة، ولكن انظر إلى عظمة من عصيت (1) .
[*](وقال الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى : بقدر ما يصغر عندك الذنب يعظم عند الله، وبقدر ما يعظم عندك يصغر عند الله (2) .
[*](وقال الأوزاعي رحمه الله تعالى : =كان يقال: إن من الكبائر أن يعمل الذنب فيحتقره (3) .
(جـ) الفرح بالمعصية: كأن يفرح بفعلها، ويتمدح بها، كما يقول: أما رأيتني كيف مزقت عرض فلان، وذكرت مساويه حتى خَجَّلْته، أو أن يقول التاجر: أما رأيت كيف روَّجت عليه الزائف، وكيف خدعته، وغبنته؛ فهذا وأمثاله تكبر به المعاصي؛ فكلما غلبت حلاوة المعصية عند العبد كبرت، وعظم أثرها .
(د) الاغترار بحلم الله: وستره، وإمهاله إياه، وهو لا يدري أن ذلك قد يكون مقتاً؛ ليزداد بالإمهال إثماً.
وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد ، ودرر الفرائد . (
(حديث عقبة ابن عامر الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إذا رأيت الله تعالى يعطي العبد من الدنيا ما يحب وهو مقيمٌ على معاصيه فإنما ذلك منه استدراج .
__________
(1) منهاج القاصدين ص282.
(2) ذم الهوى لابن الجوزي ص184.
(3) التوبة لابن أبي الدنيا ص78.(1/451)
[*](قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى : ما من عبد أطلق نفسه في شيء ينافي التقوى وإن قلَّ إلا وجد عقوبته عاجلة أو آجلة.
ومن الاغترار أن تسيء، فترى إحساناً؛ فتظن أنك قد سومحت، وتنسى (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) [النساء: 123] (1)
(وقال أيضاً: =واعلم أنه من أعظم المحنِ الاغترارُ بالسلامة بعد الذنب؛ فإن العقوبة تتأخر، ومن أعظم العقوبة ألا يحس الإنسان بها، وأن تكون في سلب الدين، وطمس القلوب، وسوء الاختيار للنفس، فيكون من آثارها سلامة البدن، وبلوغ الأغراض (2) .
[*](وقال الغزالي رحمه الله تعالى : واعلم أنه لا يذنب العبد ذنباً إلا ويَسْوَدُّ وجه قلبه، فإن كان سعيداً أُظهر السواد على ظاهره؛ لينزجر، وإن كان شقياً أخفي عنه؛ حتى ينهمك، ويستوجب النار (3) .
(هـ) أن يكون المذنب ممن يُقْتَدى به: فإذا عُلِمَ منه الذنب كبر عند الله، لأنه مُتَّبَعٌ عليه، فيموت، ويبقى شره مستطيراً؛ فطوبى لمن إذا مات ماتت معه ذنوب؛ فعلى من يُقتدى به وظيفتان: إحداها: ترك الذنب، والثانية: إخفاؤه إذا أتاه.
وكما تتضاعف أوزار هؤلاء إذا اتبعوا على الذنوب كذلك تتضاعف حسناتهم إذا اتبعوا على الخير.
قال تعالى : (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيما) [الأحزاب: 30،31]
(ارتكاب الذنوب لا يُسَوِّغُ ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
__________
(1) صيد الخاطر ص313.
(2) صيد الخاطر ص314_315.
(3) إحياء علوم الدين4/54.(1/452)
كثيرٌ من الناس إذا قصَّر في الطاعة، أو وقع في المعصية ترك الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله؛ بحجة أنه مُقَصِّر، وأنه يفعل خلاف ما يأمر به، وأنه يخشى أن يدخل في الوعيد لمن دعا وترك ما يدعو إليه كما في قوله تعالى : (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ) [البقرة: 44]، وقوله: (كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ) [الصف: 3]
وهذا خطأ يجب على المسلم أن يحذره ويتجنبه ؛ فترك أحد الواجبين ليس مسوغاً لترك الآخر، والذم الوارد في النصوص إنما هو لترك المعروف، لا للأمر بالمعروف.
قال تعالى :(لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ)
[المائدة:77،78]
فانظر كيف نعى الله عليهم ترك التناهي مع أنهم مشتركون في المنكر؛ فلا يجوز للمسلم أن يجمع بين إساءتين ، وإلا لتعطل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
[*](قال ابن حزم رحمه الله تعالى : ولو لم يَنْهَ عن الشر إلا من ليس فيه شيء منه ، ولا أمر بالمعروف إلا من استوعبه لما نهى أحد عن شر، ولا أمر بخير بعد النبي" (1) .
[*](وقال النووي رحمه الله تعالى : قال العلماء: ولا يشترط في الآمر والناهي أن يكون كامل الحال، ممتثلاً ما يأمر به، مجتنباً ما ينهى عنه، بل عليه الأمر وإن كان مُخِلاً بما يأمر به، والنهي وإن كان متلبساً بما ينهى عنه؛ فإنه يجب عليه شيئان: أن يأمر نفسه، وينهاها، ويأمر غيره، وينهاه؛ فإذا أخل بأحدهما كيف يباح له الإخلال بالآخر؟ (2) .
__________
(1) الأخلاق والسيرص92.
(2) صحيح مسلم بشرح النووي 2/23.(1/453)
[*](قال سعيد بن جبير رحمه الله تعالى : لو كان المرء لا يأمر بالمعروف، ولا ينهى عن المنكر حتى لا يكون فيه شيء ما أمر أحد بمعروف، ولا نهى عن منكر (1) .
[*](قال الإمام مالك رحمه الله تعالى معلقاً على قول سعيد بن جبير: وصدق سعيد؛ ومن ذا الذي ليس فيه شيء (2) .
[*](وقال الحسن لمُطَرّف بن عبدالله رحمهما الله تعالى : عظْ أصحابك.
فقال: إني أخاف أن أقول ما لا أفعل!
قال: يرحمك الله، وأيُّنا يفعل ما يقول؟ يود الشيطان أنه قد ظفر منا بهذا؛ فلم يأمر أحد بمعروف، ولم ينه أحد عن منكر (3) .
[*](وقال الطبري رحمه الله تعالى : وأما من قال: لا يأمر بالمعروف إلا من ليست فيه وصمة، فإن أراد أنه الأوْلى فجيِّد، وإلا فيستلزم سد باب الأمر بالمعروف إذا لم يكن هناك غيره (4) .
(وعلى هذا فعلى من وقع في معصية ، أو قصَّر في طاعة ألا يدع الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، والدعوة إلى الله حسب قدرته واستطاعته؛ فلربما اهتدى على يده عاص ، أو أسلم كافر، أو تسبب في ذلك؛ فكان له من الأجر مثل ما لهم من غير أن ينقص ذلك من أجورهم .
ولا يفهم مما سبق أنه لا بأس في ترك المعروف وفعل المنكر للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر.
بل يجب عليه فعل المعروف، وترك المنكر؛ لأنه يعرض نفسه لغضب الله عند التساهل في هذا.
بل ينبغي له أن يكون أولَ ممتثل لما يأمر به، وأولَ مُنْتَهٍ عما ينهى عنه.
__________
(1) تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن1/367.
(2) تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن1/367.
(3) تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن1/367.
(4) فتح الباري 13/53.(1/454)
وغاية ما في الأمر أن فعل المعروف، وترك المنكر ليس شرطاً للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فلا يقال لمن أمر بالمعروف، ولم يفعله أو نهى عن المنكر، وفعله: لا تأمر بالمعروف، ولا تنهَ عن المنكر، وإنما يقال له: داوم على أمرك ونهيك، واتق الله فيما تأتي وما تذر (1) .
وإذا كان هذا في شأن من هو عاص أو مقصر فكيف إذا كان الشخص ذا علم، وصلاح وهو مقصر بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟
فعليه أن يتوب من ذلك، وأن يستدرك ما فات؛ لأن الله سائله عن علمه ماذا عمل به ، قال تعالى : (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) [هود: 7]
(كل من عصى الله فهو جاهل، وكل من أطاعه فهو عالم:
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
قال الله تعالى : (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً) [النساء: 17]
[*](قال ابن رجب رحمه الله تعالى : وعمل السوء إذا انفرد يدخل جميع السيئات صغيرها وكبيرها.
والمراد بالجهالة الإقدام على السوء وإن علم صاحبه أنه سوء؛ فإن كل من عصى الله فهو جاهل ، وكل من أطاعه فهو عالم، وبيانه من وجهين: (
أحدهما: أن من كان عالماً بالله تعالى وعظمته وكبريائه وجلاله فإنه يهابه، ويخشاه؛ فلا يقع منه مع استحضار ذلك عصيانُه كما قال بعضهم: لو تفكر الناس في عظمة الله تعالى ما عصوه.
وقال آخر: كفى بخشية الله علماً، وكفى بالاغترار به جهلاً.
والثاني : أن من آثر المعصية على الطاعة فإنما حمله على ذلك جهله، وظنه أنها تنفعه عاجلاً باستعجال لذتها، وإن كان عنده إيمان؛ فهو يرجو التخلص من سوء عاقبتها، والتوبة في آخر عمره.
__________
(1) انظر شبهات حول الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر د. فضل إلهي ص20_24.(1/455)
وهذا جهل محض ؛ فإنه تعجل الإثم والخزي، ويفوته عز التقوى، وثوابها، ولذة الطاعة.
وقد يتمكن من التوبة بعد ذلك، وقد يعاجله الموت بغتة، فهو كجائع أكل طعاماً مسموماً لدفع جوعه الحاضر، ورجا أن يتخلص من ضرره بشرب الدرياق (1) بعده، وهذا لا يفعله إلا جاهل.
وقد قال تعالى في حق الذين يؤثرون السحر: (وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنْ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُون وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) [البقرة: 102،103]
والمراد أنهم آثروا السحر على التقوى والإيمان؛ لما رجوا فيه من منافع الدنيا المعجلة مع علمهم أنهم يفوتهم بذلك ثواب الآخرة.
وهذا جهل منهم؛ فإنهم لو علموا لآثروا الإيمان والتقوى على ما عداهما، فكانوا يحرزون أجر الآخرة، ويأمنون عقابها، ويتعجلون عز التقوى في الدنيا، وربما وصلوا إلى ما يأملونه أو إلى خير منه وأنفع؛ فإن أكثر ما يطلب بالسحر قضاءُ حوائجَ محرمةٍ أو مكروهة عند الله عز وجل .
والمؤمن المتقي يعوضه الله في الدنيا خيراً مما يطلبه الساحر ويؤثره مع تعجيله عز التقوى وشرفها، وثواب الآخرة وعلو درجاتها؛ فتبين بهذا أن إيثار المعصية على الطاعة إنما يحمل عليه الجهل؛ ولذلك كان كل من عصى الله جاهلاً، وكل من أطاعه عالماً، وكفى بخشية الله علماً، وبالاغترار به جهلاً (2) .
(من أخفى خبيئة ألبسه الله ثوبها:
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ
__________
(1) الدرياق لغة في الترياق، والتِّرياق: بكسر التاء دواء السموم، وهو فارسي معرب.
(2) لطائف المعارف ص380_381.(1/456)
هذه مسألة عظيمة؛ فمن أخفى خبيئة ألبسه الله ثوبها، ومن أضمر شيئاً أظهره الله عليه، سواء كان ذلك خيراً أو شراً؛ فالجزاء من جنس العمل، (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) [النساء: 123]
[*](قال أبو حازم رحمه الله تعالى : لا يُحْسِن عبد فيما بينه وبين الله تعالى إلا أحسن الله فيما بينه وبين العباد، ولا يُعَوِّر (1) فيما بينه وبين الله تعالى إلا عوَّر الله فيما بينه وبين العباد، ولَمُصَانَعَةُ وجه واحد أيسر من مصانعة الوجوه كلها؛ إنك إذا صانعت الله مالت الوجوه كلُّها إليك، وإذا أفسدت ما بينك وبينه شنأتك (2) الوجوه كلها (3) .
[*](وقال المعتمر بن سليمان رحمه الله تعالى : إن الرجل يصيب الذنب في السر، فيصبح وعليه مذلته (4) .
[*](قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى : نظرت في الأدلة على الحق سبحانه وتعالى فوجدتها أكثر من الرمل ، ورأيت من أعجبها: أن الإنسان قد يخفي ما لا يرضاه الله عز وجل فيظهره الله سبحانه عليه ولو بعد حين ، وينطق الألسنة به، وإن لم يشاهده الناس .
وربما أوقع صاحبَه في آفة يفضحه بها بين الخلق ؛ فيكون جواباً لكل ما أخفى من الذنوب ، وذلك؛ ليعلم الناس أن هنالك من يجازى على الزلل، ولا ينفع من قَدَره وقدرته حجاب ولا استتار، ولا يضاع لديه عمل.
وكذلك يخفي الإنسان الطاعة، فتظهر عليه، ويتحدث الناس بها، وبأكثر منها، حتى إنهم لا يعرفون له ذنباً، ولا يذكرونه إلا بالمحاسن؛ لِيُعْلَمَ أن هنالك ربَّاً لا يُضيع عَمَلَ عامل.
وإن قلوب الناس لَتَعْرِفُ حال الشخص، وتحبه، أو تأباه، وتذمه، أو تمدحه وفْقَ ما يتحقق بينه وبين الله_تعالى_فإنه يكفيه كلَّ همٍّ، ويدفع عنه كل شر.
__________
(1) يعوِّر: يهدم ويفسد.
(2) شنأتك: أبغضتك.
(3) سير أعلام النبلاء للذهبي 6/100.
(4) روضة المحبين ص439.(1/457)
وما أصلح عبد ما بينه وبين الخلق دون أن ينظر إلى الحق إلا انعكس مقصوده، وعاد حامده ذامَّاً (1) .
(وقال أيضاً : إن للخلوة تأثيراتٍ تَبيْنُ في الجلوة؛ كم من مؤمن بالله عز وجل يحترمه عند الخلوات، فيترك ما يشتهي؛ حذراً من عقابه، أو رجاءً لثوابه، أو إجلالاً له؛ فيكون بذلك الفعل كأنه طرح عوداً هنديَّاً على مجمر، فيفوح طيبه، فيستنشقه الخلائق، ولا يدرون أين هو.
وعلى قدر المجاهدة في ترك ما يهوى تقوى محبتُه، أو على مقدار زيادة دفع ذلك المحبوب المتروك يزيد الطيب، ويتفاوت تفاوتَ العود.
فترى عيون الخلق تعظِّم هذا الشخص، وألسنتهم تمدحه، ولا يعرفون لِمَ، ولا يقدرون على وصفه؛ لبعدهم عن حقيقة معرفته .
وقد تمتد هذه الأراييح (2) بعد الموت على قدرها؛ فمنهم من يذكر بالخير مدة مديدة ثم ينسى، ومنهم من يذكر مائة سنة ثم يخفى ذكره، وقبره، (3) ومنهم أعلام يبقى ذكرهم أبداً.
وعلى عكس هذا من هاب الخلق، ولم يحترم خلوته بالحق فإنه على قدر مبارزته بالذنوب، وعلى مقادير تلك الذنوب_يفوح منه ريح الكراهة، فتمقته القلوب.
فإن قلَّ مقدار ما جنى قل ذكر الألسن له بالخير، وبقي مجرد تعظيمه.
وإن كثر كان قصارى الأمر سكوت الناس عنه لا يمدحونه، ولا يذمونه.
وربَّ خالٍ بذنب كان سبب وقوعه في هُوَّة شِقْوة في عيش الدنيا والآخرة، وكأنه قيل له: ابق بما آثرت؛ فيبقى أبداً في التخبيط.
فانظروا إخواني إلى المعاصي أثَّرت، وعَثَّرت.
[*](قال أبو الدرداء رحمه الله تعالى : إن العبد ليخلو بمعصية الله تعالى فيلقي الله بغضه في قلوب المؤمنين من حيث لا يشعر.
فتلمحوا ما سطرته، واعرفوا ما ذكرته، ولا تهملوا خلواتكم ولا سرائركم؛ فإن الأعمال بالنية، والجزاء على مقدار الإخلاص (4) .
__________
(1) صيد الخاطر ص 108_109.
(2) الأراييح: يعني الروائح الزكية.
(3) لا يضره إذا خفي قبره.
(4) صيد الخاطرص301_302.(1/458)
[*](وقال ابن الجوزي رحمه الله تعالى : إنه بقدر إجلالكم لله عز وجل يجلكم، وبمقدار تعظيم قدره واحترامه يعظم أقداركم وحرمتكم.
ولقد رأيت والله من أنفق عمره في العلم إلى أن كَبِرت سنُّه، ثم تعدى الحدود، فهان عند الخلق، وكانوا لا يلتفتون إليه مع غزارة علمه، وقوة مجاهدته.
ولقد رأيت من كان يراقب الله عز وجل في صبوته مع قصوره بالإضافة إلى ذلك العالم فَعَظَّم اللهُ قدره في القلوب، حتى عَلِقَتْهُ، ووصفته بما يزيد على ما فيه من الخير.
ورأيت من كان يرى الاستقامة إذا استقام (1) ، وإذا زاغ مال عنه اللطف.
ولولا عموم الستر، وشمول رحمة الكريم لافتضح هؤلاء المذكورون، غير أنه في الأغلب تأديب، أو تلطف في العقاب (2) .
(التوبة طريق السعادة :
لا ريب أن الوقوف على سر السعادة ومعناها الحقيقي من أعظم الدوافع للتوبة النصوح ، والإقبال على الله عز وجل ، ذلك أن من أعظم الدوافع لفعل المعاصي وترك الطاعات هو البحث عن السعادة والراحة؛ فالعالم بأسره مؤمنه وكافره، وبره وفاجره يبتغي السعادة ويروم طرد الهم والقلق .
ولكن ما أقل من يهتدي إلى ذلك السبيل ، وما أكثر من يحيد عنه يمنة ويسرة.
كل من في الوجود يطلب صيداً ... غير أن الشباك مختلفات
فأكثر الناس عشيت بصائرهم أو عميت عن حقيقة السعادة وسرها الأعظم ، فلا سعادة عندهم إلا سعادة المشاهير من أهل الفن، والمال، والرياضة، والوجاهة، والرياسة وغير ذلك من الأمور التي تأخذ بالألباب.
ولا يعرفون السعادة إلا بإطلاق الشهوات، والتمتع بسائر الملذات، وإذا فاتهم ذلك قالوا: على الدنيا العفاء .
هذه نظرة هؤلاء للسعادة؛ فهل تلك النظرة صائبة؟ وهل أهل الفن، والمال، والرياضة، والوجاهة، والرياسة سعداء حقَّاً؟ وهل المجتمعات التي أطلقت لنفسها الشهوات، وتمتعت بسائر الملذات سعيدة حقَّاً؟
__________
(1) أي كانت أموره مستقيمة ميسرة عند استقامته مع ربه.
(2) صيد الخاطر ص336_337.(1/459)
والجواب عن ذلك إنما يكون بالنظر إلى أحوال أولئك وأقوالهم؛ لتستبين حقيقة الأمر؛ فإليك نبذة عن أحوال أولئك مع السعادة فيما يلي من أسطر:
أولاً: حال أهل الفن مع السعادة:
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ
إن أهل الفن أنفسهم من مغنين وممثلين يعرفون بأن السعادة في وادٍ وهم في وادٍ، آخر؛ فالشقاء، والتعاسة، والحرمان، والحسد، والعذاب النفسي، والخوف من السقوط، والحذر من فقدان الحظوة عند الجمهور، كل ذلك طابع حياتهم باعترافاتهم أنفسهم.
وإليك هذه النماذج من أحوال أهل الفن:
(1) أسمهان : هذا هو الاسم الفني الذي اشتهرت به المطربة الفنانة السورية آمال الأطرش، تلك المرأة التي تربت عند أهلها في جبل الدروز، وبدأت حياتها الفنية وهي شابة في الغناء، فذاع صيتها واشتهرت وسط المعجبين والحاسدين.
وكانت مبهورة بالغرب لكنها لم تستطع في بداية أمرها أن تعيش مثل الغربيين؛ لأنها تربت في مجتمع محدود.
ثم انتقلت وهي صغيرة إلى مجتمع أكثر انفتاحاً وهو مجتمع القاهرة في الأربعينات الميلادية، وكانت تملك قدرة نادرة على الإغراء، وكانت طبقات صوتها تُوائِم مختلف الطبقات الموسيقية مما جعلها منافساً قوياً لأم كلثوم.
هذه المرأة عاشت حياة الشقاء، فلقد تزوجت زواجاً تعيساً، ثم انفصلت عن زوجها وابنتها وعملت لحساب الإنجليز، وكانت تطمح بهوليود.
وقصة هذه المرأة يطول ذكرها، فلقد كثر الجدال في شأنها وكتب حولها كتابات عديدة، وآخر أمرها أنها وجدت غريقة داخل سيارتها الرولس رويس في قناة متفرعة عن نهر النيل في الدلتا شمال القاهرة، وكان عمرها آنذاك اثنتين وثلاثين سنة، ولا تزال ملابسات موتها غامضة إلى يومنا هذا (1) .
(2) أم كلثوم : تلك المرأة التي سموها كوكب الشرق، وقالوا: إنها ظاهرة فنية عجيبة، وقالوا: إن حبَّ العرب لها يوازي حبهم لفلسطين، وقالوا: إنها ريحانة العصر.
__________
(1) انظر جريدة الرياض عدد 10940.(1/460)
تلك المرأة التي طارت شهرتها في الغناء، ونظم لها الكتاب والشعراء القصائد الطوال المليئة بالهيام والغرام؛ ليسهر معها الناس حتى تباشير الصبح .
حتى لقد بلغ الأمر أن قال المذيع أحمد سعيد خلال حرب حزيران يخاطب الشعوب العربية وكأنهم أغنام ، والمعركة على أشدها مع إسرائيل : بشرى يا عرب، بشرى يا عرب، فتصور الناس أن نصراً حاسماً قد حققوه.
ولكن الصدمة كانت موجعة حين سمعوا بشارته تقول: أم كلثوم معكم في المعركة .
مسخوا الحق والحقيقة لما ... صار صوت الإعلام فيهم =سعيد+
يزرع البحر والهواء وعوداً ... لا يبالي ألا يكون حصيدُ
شرعهُ الزور والضلال =مذيعا ً+ ... إن يوم الهوان والذل عيدُ
وبعد نكبة حزيران غنتنا كوكب شرقنا أغنية بعنوان : ليلتي وحلم حياتي .
وقد سهرت معها شعوب من أمتنا طول الليلة حتى ثملت، وتخدرت، سهرت معها وجرح النكبة راعف ينزف، وذل الهزيمة من فوق رؤوسنا يَنْصَبُّ.
وكوكبنا تغني ولسان حالها يقول: هذه ليلتي التي أرقبها وأتمناها، هذه ليلتي التي ضاع فيها ما كان باقياً من فلسطين، وأسر فيها الأقصى، واحتلت فيها قدس الإسلام.
لقد وقفت كوكب الشرق تغني للمترفين والدمُ البريء يسيل على كل رابية، والعار الأسود يُجلِّلُ جباه المخدرين ممن راحت تصفع وجوههم وهم لا يشعرون: هذه ليلتي وحلم حياتي .
إن مما يؤلم النفس، ويفتت الكبد أن الكثير من شبابنا اتخذوا من هذه الأغاني ملاذاً ومهرباً مما يلاقون من ضنك وشدة في حياتهم مَرَدُّه بعدهم عن الله فظنوا أن ذلك ينسيهم الشقاء؛ فرددوا أغاني الفنانين والفنانات، فازدادوا شقاء فوق شقاء؛ فالسعادة التي توهموها ما هي إلا سعادة قشور، سعادة لذة عابرة مخدرة تخفي وراءها الآلام والهموم.
ثم إن فاقد الشيء لا يعطيه؛ فها هي كوكب الشرق تعيش التعاسة والشقاء، والحرمان (1) .
__________
(1) انظر قصائد إلى المرأة لحسني أدهم جرار ص 20 22.(1/461)
يقول الكاتب مصطفى أمين: رأيت أم كلثوم بعد أن كونت ثروة ضخمة وهي تقول: إنها مستعدة أن تدفع نصف ما تملك؛ لتأكل بيضة واحدة مرة كل يوم؛ فقد منعها الأطباء سنوات طويلة من أكل البيض الذي كانت تعشقه وتهواه.
وأذكر دائماً أن أم كلثوم كانت تقول لي دائماً: إن أيام فقرها الشديد في قريتها كانت أسعد أيامها عندها (1) .
أما موت هذه المرأة فقد كان عبرة للمعتبرين؛ فقد أماتها الله عضواً عضواً ولأيام؛ علَّ أدعياء الفن الخنوعين يعتبرون (2) .
ويا ليت هذه المسكينة لما ماتت دفنت معها سيئاتها، وإنما هي تبعث بصورة مستمرة إما عن طريق الإذاعات ووسائل الإعلام، أو عن طريق المعجبين الذين يقتنون أغانيها.
ولقد أحسن الشاعر يوسف العظم حين قال في قصيدة عنوانها: خدريهم يا كوكب الشرق :
كوكب الشرق لا تذوبي غراماً ... ودلالاً وحرقة وهُياما
لا ولا تنفثي الضياع قصيداً ... عبقرياً أو ترسلي الأنغاما
فدماء الأحباب في كل بيت ... تتنزى وتبعث الآلآما
وجراح الأقصى جراح الثكالى ... ودموع الأقصى دموع اليتامى
لم تغَنّي يوم التشرد حزناً ... لا ولم تدخلي علينا الخياما
أو تغني لشعبنا يرقب الفجر ويغري براحتيه الظلاما
لا تغني الخيام يا كوكب الشر ... ق وتسقي من راحتيه المداما
ففلسطين لا تحب السكارى ... وربى القدس لا تريد النياما
كوكب الشرق ضاع قومي لما ... تاه في حبك القطيع وهاما
لو دعوتِ العربيد للزهد لبَّى ... أو دعوت الزنديق للنسك صاما
منحوك الإعجاب يا ويح قومي ... وعلى الصدر علقوك الوساما
ناوليهم من راحتيك كؤوساً ... وامنحيهم من ناظريك ابتساما
واجعلي الفن ردةً وضياعاً ... لا أحاسيس أمة تتسامى
ودَعيهم في كل واد يهيمو ... ن سكارى ونكِّسي الأعلاما
خدريهم باللحن يا كوكب الشر ... ق وصوغي من لحنك استسلاما (3)
__________
(1) تجاربهم مع السعادة للأستاذ عبد لله الجعيثن ص 102.
(2) انظر قصائد المرأة ص 22.
(3) ديوان في رحاب الأقصى ص 213، وانظر إلى قصائد إلى المرأة ص 23.(1/462)
(3) عبدالحليم حافظ: الفنان المصري الذي اشتهر بهذا الاسم، واسمه عبدالحليم شبانة، وإنما سمي بذلك، لأن مكتشفه اسمه حافظ عبدالوهاب .
هذا الفنان الذي بلغ أوج مجده في الستينات والسبعينات الميلادية، حيث حفلت به وسائل الإعلام، ورفعت من شأنه، ولقبته بألقاب كثيرة، ومن أشهرها العندليب الأسمر .
فما حال ذلك الإنسان الذي ترى الجماهير أنه يسعدها، ويزيل همومها؟ .
إنه قطعة من التعاسة والشقاء؛ فهو لم يتزوج طيلة حياته، وهو مصاب بمرض البلهارسيا الذي لازمه أغلب فترات حياته حتى مات.
هذا الرجل الذي يراجع المستشفيات والأطباء كثيراً حتى لقد كان يأتي أحياناً لتجارب أغانيه يقاد بالعربة؛ حيث لا يستطيع السير على قدميه.
هذا الرجل الذي كان يسيطر عليه الحزن، حتى إنه لما سألته صحفية فرنسية عن سبب الحزن في أغانيه قال: إن الحزن عصير حياتنا.
يقول الكاتب مصطفى أمين: ورأيت عبد الحليم حافظ وهو يلعب بالذهب رأيته شقياً تعيساً معذباً محسوراً محروماً؛ لأنه لا يستطيع أن يمد يده إلى طبق الطعمية ويقول لي هامساً: من يعطيني هذه ويأخذ كل أموالي (1) .
هذه نبذة عن هذا الرجل الذي تعلق به الملايين من الناس حتى إن منهم من انتحر لما توفي.
والأمثلة من هذه القبيل كثيرة جداً، ولعل هذا غيضٌ من فيض ونقطةٌ من بحر فهل اعتبرت بمن رحل ، أما وعظتك العبر ، أما كان لك سمعٌ ولا بصر .
ثانياً: حال أهل المال مع السعادة:
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
هناك وهْمٌ يسيطر على كثير من الناس؛ حيث يظنون أن السعادة قائمة على المال والغنى.
__________
(1) تجاربهم مع السعادة ص 102.(1/463)
والحقيقة الماثلة للعيان تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن المال وحده لا يوجد السعادة وإن كان يعين على تحققها إن كانت موجودة في الأصل؛ فإن لم تكن موجودة نابعة من أعماق النفس بسبب الرضا، والقناعة، والإيمان، وحسن التدبير فإن المال لا يوجدها؛ فالسعادة تنبع من داخل النفس أكثر مما تنبع من الظروف الخارجية من مال ونحوه.
بل إن كثيراً من الأغنياء يشقون مع أنهم غارقون في النعيم إلى الأذقان وبلغ غناهم عنان السماء ، وكثيراً من الفقراء يسعدون غاية السعادة مع ما هم فيه من شظف العيش، وقلة ذات اليد.
وذلك كثير مشاهد؛ فماذا يغني المال وحده؟
ثم إن المال عرضة للزوال؛ فكم من الأغنياء من أصبحوا فقراء بين عشية وضحاها، وكم من الفقراء من أصبحوا أغنياء ما بين طرفة عين وانتباهتها؛ فما بُني على ما يتبدل فهو عرضة للزوال.
فلا يدري الفقير متى غناه ... ولا يدري الغني متى يعيل
أضف إلى ذلك ما يلقاه الغني من الغم والهم في جمع المال، وخوف الخسارة، وكثرة الترحال، ونحو ذلك.
ثالثاً: حال أهل الوجاهة مع السعادة:
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
إذا كانت الوجاهة داعية لسخاوة الإنسان بجاهه، بحيث يبذل الجاه في سبيل الخير من نحو الشفاعات الحسنة، من إحقاق حق، ونصرة مظلوم، وإعانة الضعيف فتلك وجاهة نافعة جالبة للسعادة.
قال تعالى : (مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا) [ النساء: 85 ]
وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد ، ودرر الفرائد . (
(حديث أبي موسى الثابت الثابت في الصحيحين) قال ، كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أتاه طالبُ حاجةٍ أقبل على جُلسائه فقال : ( اشفعوا تؤجروا ويقضي الله على لسان نبيه ما أحب )(1/464)
(أما إذا كانت الوجاهة للرياء والسمعة، ولأجل أن يتردد الذكر على الألسنة وفي المجالس، أو الصحف فإنها شقاء أيما شقاء؛ فأهلها يعانون من تبعاتها، ويلاقون الأمرَّين من ويلاتها؛ فهذه أموال تبذل فيما لا طائل تحته، ولا فائدة من ورائه، وهذه مجاملات تأخذ نصيبها من وقت الوجيه وصحته وسعادته الحقة.
ثم ما حال الوجيه إذا زلت به القدم، ونزلت به المكانة؟
إنها الحسرة والندامة إن لم يكن ذا نفس كريمة وإيمان وصبر.
رابعاً: حال أهل الرياسة مع السعادة:
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
وإذا أتيت إلى أهل الرياسات، وذوي المناصب العالية، والرتب الرفيعة لم تجد السعادة الحقة عندهم إلا في القليل النادر، وعند القليل منهم؛ ذلك لأنهم رؤوس، والرأس كثير الأذى، ولأن الرياسة هَمٌّ في الدنيا، وحسرة وندامة في الآخرة إن لم يقم صاحبها بحقها.
ثم إن صاحب المنصب والرياسة قلما يفارقه الهم؛ خوفاً على رياسته أن تزول، وإذا زالت بقي محسوراً معذباً يقرع سنه، ويقلب كفيه ما لم يكن ذا مروءة صادقة، وديانة حقة؛ فذلك لا تطيش به الولاية في زهو، ولا ينزل به العزل في حسرة.
وكثير من أهل الرياسة يعربون عن مدى ما يعانون، وعن قلة نصيبهم من السعادة الحقة؛ فها هو الملك حسين بن طلال الذي تربع على عرش الأردن مدة تزيد على خمس وأربعين سنة، قضى معظمها في ريعان شبابه؛ حيث تولى الملك وعمره ست عشرة سنة، وتوفي في الثالثة والستين من عمره بعد صراع مرير مع مرض السرطان، ها هو يقول في الفصل الأخير من كتابه مهنتي كملك الذي روى فيه ذكرياته، والأحداث التي مرت به في حياته حتى مرحلة السبعينات الميلادية:(1/465)
إنني أعتقد بأن من العسير جداً إدراك السعادة في هذه الدنيا سواء كان المرء ملكاً أم إنساناً عادياً؛ ما هي السعادة بالنسبة للأغلبية العظمى من الناس؟ إنها الحصول على عمل مغرٍ ممتع، وعلى راتب جيد، وأسرة لطيفة تستعذبها النفس، والقيام بالرحلات من وقت إلى آخر، وأن يكون للمرء بعض الأصدقاء، وأن يساعد الناس، ويساعدوه.
لقد نلت كل ذلك، وما زال كل ذلك في متناول يدي، ولكن هل يعني هذا حقاً أنني سعيد؟
لا أعتقد ذلك، نعم لقد كانت حياتي خصبة مليئة كما قلت ولربما لم يعرف مثلها إلا القليل من الناس، لقد عرفت السراء والضراء، ولعل الضراء رجحت على السراء، وعانيت لحظات في غاية الشدة، ومرت بي فترات في أقصى درجات الضيق، ومرت بي أوقات كنت أشعر فيها بأنني في منتهي العزلة، وعرفت الحداد والأحزان، والنادر من الفرح، والقليل من السعادة، لقد عرفت كل ما يمكن أن يعرفه كائن بشري: الجوع، والعطش، والإذلال، والهزيمة، والنادر من اليسار والبحبوحة، والقليل من السلام والراحة والابتهاج .
(إلى أن قال:إن حياتي الخاصة والعائلية غير منظمة؛ فأعباء الدولة تحول بيني وبين أن أكون لهذه الكائنات الإنسانية العزيزة الغالية بالقدر الذي أرغب وأتوق إليه، وطالما اضطررت أن أخيب آمالهم في الوقت الذي ينتظرونني فيه؛ لتناول طعام الغداء معي، فأحتبس نفسي مع زائر أجنبي، أو سياسي أردني، ثم في حوالي الساعة الرابعة أو الخامسة بعد الظهر أطلب إحضار بعض الشطائر لآكلها وأنا منهمك في عملي.
أما في المساء فإنني أغادر مائدة العمل في الساعة الثامنة أو التاسعة، ويكون أولادي عندها قد استسلموا إلى الرقاد، وتبقى في انتظاري زوجتي وأولادي ليمنحوني الحرارة التي افتقدتها، والتي أشعر بأنني في مسيس الحاجة إليها (1) .
__________
(1) الشرق الأوسط عدد (7376) في 21/ 10 / 1419هـ.(1/466)
ثم إن المنصب قد يكون سبباً في هلاك صاحبه، أو تشرده، وشماتة الأعداء به؛ فها هو شاه إيران الذي كان يتبختر كالطاووس كبراً وتيهاً، والذي كان يتقلب في الترف والنعيم، والذي أقام حفلاً ليعيد فيه ذكرى مرور ألفين وخمسمائة سنة على قيام الدولة الفارسية، وأراد من ذلك مسخ الإسلام، وبسط سلطانه على الخليج، ومن ثم العالم العربي؛ ليلتقي مع اليهود، كيف كانت نهايته؟
لقد أزيح عن سلطانه، وجُرد من كافة امتيازاته، وبعد ذلك تشرد، وطرد، ولم يجد بلداً يؤيه، وظل على هذه الحال حتى مات شريداً طريداً بعيداً عن وطنه بعد أن أضناه الهم، وفتك به السرطان.
أما أولاده، وأهله، وحاشيته فقد أصبحوا شذر مذر، متفرقين في عدة قارات!!.
وهذا رئيس الفلبين السابق فيرديناند ماركوس الذي بلغ الغاية في الترف، والنعيم، والتجبر؛ ماذا كانت نهايته؟ .
لقد أذاقه الله ألواناً من العذاب، والتعاسة، والشقاء؛ حيث انقلبت حاله رأساً على عقب؛ حيث سلب منه منصبه، وتنكر له أسياده، وأصحابه، فصار شريداً طريداً لا يملك الرجوع إلي بلده الذي كان يتربع على عرشه، حتى إذا جاءته الوفاة لم يستطع الحصول على أشبار قليلة في بلده؛ ليوارى فيها بعد موته (1) .
وقبل أولئك ماذا كان من أمر زعيم النازية أدولف هتلر؟ ذلك المستبد العاتي المتجبر، الذي كان يهذي ويحلم بإنشاء امبراطورية تضم جميع أنحاء العالم، والذي تسبب في مقتل خمسٍ وثلاثين مليوناً في سبيل الوصول إلى غايته المنشودة، والذي كان يزهو بنفسه ويتلاعب بعواطف الجماهير، ويحركها كيف يشاء، والذي كاد أن يسيطر على العالم في أوائل العقد الخامس من القرن العشرين الميلادي؛ فماذا كانت حياته؟ وكيف كانت نهايته؟
أما حياته فقد كانت مزيجاً من الشقاء، والمرض، والحرمان العاطفي، والألم العقلي.
__________
(1) انظر السعادة بين الوهم والحقيقة للشيخ د. ناصر العمر ص 20_21.(1/467)
وتفاصيل حياته غريبة ومثيرة، وليس هذا مجال بسطها (1) .
أما نهايته فكانت في 30 نيسان أبريل عام 1945م، عندما أطلق الرصاص على نفسه؛ خوفاً من سقوطه على أيدى الحلفاء، وتوفي وعمره 56 سنة، وقبل أن يقدم على الانتحار وفي أيامه الأخيرة مرت به لحظات حرجة مريرة.
يقول (ألبرت سبير) وزير التسليح في حكومة هتلر النازية عن تلك الأيام: في الأسابيع الأخيرة من حياته بدا هتلر منهاراً، وقد سحقته قسوة الأحداث التي قهرته تدريجياً خلال السنوات السابقة، كذلك أصبح أكثر تقبلاً وتحملاً للمعارضة (2) .
ويقول: كان هتلر في هذه اللحظات يعطي الانطباع بأنه رجل تحطمت كافة أهدافه وآماله، رجل أصبح يدور في مداره الراسخ بسبب الطاقة المخزونة في داخله فقط.
بل إنه كان في الواقع قد تخلى عن كل سلطاته، واستسلم لما قد يأتي به القدر.
وكان في ذلك الوقت يذوي ويذبل مثل رجل عجوز، كانت شفتاه ترتجفان، وكان يسير منحنياً، ويجر ساقيه جراً، حتى صوته أصبح متهدجاً، وفقد براعته، واستبداديته القديمة، وقد اختفت قوة صوته، ليحل محلها صوت متلعثم بلا أيَّة نبرة مميزة، وكانت لا تزال تنتابه نوبات من العناد، لكنها نوبات عناد مؤقتة وعابرة.
وقد أصبح مظهره العام شاحباً، ووجهه متورماً، وملابسه التي كانت تبدو أنيقة في الماضي أصبحت عرضة للإهمال في فترة حياته الأخيرة، وقد لُطِّخت ببقايا الطعام الذي كان يتناوله بيد مرتعشة (3) .
وبعد هذا كله أقدم على الانتحارـ كما مر قبل قليل ـ فذهب غير مأسوف عليه، بل كلما ذكر ذكر معه الإجرام، والتسلط، والجبروت.
خامساً: حال أهل الرياضة مع السعادة:
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
الرياضة ـ وخصوصاً كرة القدم ـ معشوقة الجماهير، ومحط أنظارهم.
__________
(1) انظر لماذا انتحر هؤلاء لهاني الخَيِّر ص 45_48.
(2) لماذا انتحر هؤلاء ص 49.
(3) لماذا انتحر هؤلاء ص 50 وانظر ص 51.(1/468)
ونجوم الرياضة لهم القدْحُ المعلى من الشهرة وبُعْد الصيت في هذا العصر.
وكثير من الناس يظن أن نجوم الرياضة أسعد الناس؛ لما ينعمون به من الشهرة، وحب الجماهير، وربما طغيان الغنى.
والحقيقة المُبْصَرَةُ تقول غير هذا؛ فلو كشفت عن سالفة هؤلاء، وتبينت حقيقة أمرهم لعلمت أنهم في واد والسعادة الحقة في واد؛ ولأدركت أن ما هم فيه من إظهار للسرور والبهجة أنها سعادة عابرة مؤقتة تخفي وراءها الآلام، والمتاعب والأتراح؛ ذلك أن اللاعب ينتقل من معسكر إلى معسكر، ومن استعداد لمباراة إلى استعداد لأخرى، ومن سفر إلى بلد إلى سفر آخر.
وهذه إصابة تقض مضجعه وتؤرق جفنه، وتلك صحافة تقذع في نقده، وتبالغ في سبه، أو التعريض به، وهذه اضطرابات تصيبه قبل كل مباراة، وتلك كآبة تخيم عليه عند كل هزيمة، وذلك جمهور لا يرحمه إذا لم يقم بدوره كما ينبغي، وهؤلاء حسدة يكيدون له ويتربصون به الدوائر، وذاك خوف وقلق من فقدان مكانته.
ثم ما حال ذلك النجم اللامع إذا انخفض مستواه، وما حاله إذا اعتزل أو اضطر إلى ذلك؟
إنه يلاقي كل كنود وجحود حتى من أقرب الأقربين إليه.
ثم كم يحرم من الأنس بأهله؟ وكم يحرم أهله منه؟
إذاً فليست السعادة عند هؤلاء، وإن تظاهروا بها، وظن بعض الناس أنهم أحقُّ الناس وأهلُها، وإن كانوا_أيضاً_متفاوتين في الشقاء وقلة السعادة.
ولنأخذ مثالاً واحداً على مدى ما يعانيه نجوم الرياضة؛ ألا وهو اللاعب الأرجنتيني دييجو مارادونا الذي يعد أشهر لاعب في تاريخ كرة القدم العالمية تقريباً؛ فما حال ذلك الإنسان مع السعادة؟(1/469)
إنه مع شهرته وغناه قطعة من التعاسة والضياع، فمنذ أن تسلطت عليه الأضواء وهو ينتقل من شقاء إلى شقاء؛ فلقد كان يلعب في ناديه بوكاجونيورز الأرجنتيني، ثم انتقل إلى نادي برشلونة الأسباني، وهناك أصيب إصابة بالغة نغَّصت عليه حياته، واستمر علاجه مدة طويلة، ثم انتقل بعد ذلك إلى نادي نابولي الإيطالي، وبعد ذلك توالت عليه المشكلات والإصابات، وصار خلاف بينه وبين عشيقته، ثم لجأ إلى المخدرات، وترك الرياضة، ثم رجع إليها مرة أخرى، وفي إحدى مباريات كأس العالم اكتشف أنه قد تعاطى المنشطات فحرم من اللعب، وها هو إلى يومنا هذا من هوة إلى هوة.
والأمثلة من هذا القبيل كثيرة، والمجال لا يتسع لأكثر من ذلك.
سادساً: حال المجتمعات البعيدة عن الله مع السعادة:
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
هناك من يرى أن السعادة لا تتحقق إلا بإتباع النفوس هواها، وإرسالها مع كافة رغائبها وشهواتها؛ بحيث لا يبقى عليها حسيب ولا رقيب، ولا يقف في طريقها دين، أو عرف، أو نحو ذلك؛ فهذا سر السعادة، وتلك جنة الفردوس عند أولئك.
ولهذا ترى نفراً غير قليل من هؤلاء يدعو إلى الإباحية، وإلى فتح أبواب الحرية؛ لتتخلص المجتمعات من كبتها وعقدها، ولتنعم بالسعادة كما يزعمون!
فهل هذا الكلام صحيح؟ وهل تلك المجتمعات الكافرة تنعم بالسعادة حقاً؟
والجواب ما تراه وتسمعه؛ فها هي أمم الكفر قد فتحت أبواب الحرية على مصاريعها؛ فلم يَعُدْ يَرْدَعُها دين، أو يَزُمُّها ورعٌ، أو يحميها حياء؛ فمن كفر وإلحاد إلى مجون، وخلاعة وإباحية مطلقة، ومن خمور ومخدرات إلى زناً، ولواط، وشذوذ بكافة أنواعه مما يخطر بالبال، ومما لا يخطر؛ فكيف تعيش تلك الأمم؟ وهل وصلت للسعادة المنشودة؟
والجواب: لا؛ فما زادهم ذلك إلا شقاء وحسرة؛ فسنة الله عز وجل في الأمم هي سنته في الأفراد؛ فمتى أعرضت عن دينه القويم أصابها ما أصابها بقدر بعدها وإعراضها.(1/470)
ولهذا تعيش تلك الأمم حياة شقية تعيسة صعبة معقدة؛ حيث يشيع فيها القلق، والاضطراب، والتفكك، والقتل، والسرقة، والشذوذ، والاغتصاب، والمخدرات، وأمراض الجنس، وتفقد فيها الطمأنينة، والراحة، والمحبة، والبر، والصلة، والتعاطف، والتكافل إلى غير ذلك من المعاني الجميلة.
قال تعالى : (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) [ طه: 124]
كيف تسعد تلك الأمم وفي داخل كل إنسان منها أسئلة محيرة؟ من خلق الحياة؟ وما بدايتها؟ وما نهايتها؟ وما سر تلك الروح التي لو خرجت لأصبح الإنسان جماداً؟
إن هذه الأسئلة قد تهدأ في بعض الأحيان؛ بسبب مشاغل الحياة، ولكنها لا تلبث أن تعود مرة أخرى.
وكيف لا تحرم تلك الأمم السعادة وهي تعيش بلا دين يزكي نفوسها، ويضبط عواطفها، ويردعها عن التمادي في باطلها، ويسد جوعتها بالتوجه إلى فاطرها؟
إن الكنيسة بتعاليمها المحرفة لا تستطيع أن تجيب عن الأسئلة الماضية بدقة ووضوح، ولا تملك منهجاً يزكي النفوس، ويقنع العقول، وتسير عليه أمور الناس بانتظام.
ولقد زاد هذا الأمر ضراوة بعد أن تراجعت الكنيسة أمام ضربات الإلحاد.
فما أغنت الحرية المزعومة والإباحية المطلقة عن تلك المجتمعات فتيلاً أو قطميراً، ولا جلبت لها السعادة الحقة، ولا الحياة الكريمة.
ولهذا يبحث الناس هناك عما يريحهم من هذا العناء والشقاء؛ فمنهم من يلجأ إلى المخدرات والمهدئات التي تضاعف البلاء، وتزيد في الشقاء (1) .
__________
(1) انظر أفول شمس الحضارة الغربية من نافذة المخدرات لمصطفى فوزي غزال؛ ففيه ذكر لانتشار المخدرات في بريطانيا، وأمريكا، وألمانيا، وإيطاليا وأسبانيا.(1/471)
ومنهم من يروي غليله بالشذوذ الجنسي، حتى يفقد إنسانيته وصحته؛ ويكون عرضة للإصابة بأمراض الشذوذ المتنوعة كالزهري (1) ، والسيلان (2) ،
__________
(1) الزهري: هو أحد ثمار الشذوذ الجنسي، وقد عرف مع نهاية القرن الخامس عشر الميلادي، وهو عادة يصيب الإنسان دون سائر المخلوقات، وتسببه جرثومة اسمها =تريبوينما باليديم+ وهي جرثومة صغيرة ودقيقة جداً، بحيث لا ترى بالعين المجردة.
أما عن أسباب هذا المرض فإنه لا يوجد له سبب غير العلاقة الجنسية المحرمة، والوطء في نكاح غير صحيح، ولا يمكن أن يحدث نتيجة وطء حلال.
أما أعراضه فمنها ما يظهر على شكل تقرحات على الأعضاء التناسلية، ومنها ما يكون داخلياً فيظهر على الكبد، والأمعاء، والمعدة، والبلعوم، والرئتين، والخصيتين.
أما الآثار التي يتركها على قلب المريض فكبيرة ورهيبة؛ فهو يسبب الشلل، وتصلب الشرايين، والعمى، والذبحة الصدرية، والتشوهات الجسمية، وسرطان اللسان، والسل في بعض الأحيان.
وهذا المرض سريع العدوى وانتشاره يزداد ويتضاعف خصوصاً في أمريكا وأوربا. انظر الأمراض الجنسية عقوبة إلهية د. عبد الحميد القضاة ص 41_50، ولماذا حرم الله هذه الأشياء د. محمد كمال عبد العزيز ص 20_21، والأمراض الجنسية أسبابها وعلاجها د. محمد علي البار ص 305_361،
والأمراض الجنسية د. نبيل الطويل ص 38_77، والانحرافات الجنسية وأمراضها د. فايز الحاج ص 143_156، والفاحشة الأضرار الأسباب سبل الوقاية والعلاج للكاتب ص 43_44.
(2) السيلان ويعد أكثر الأمراض الجنسية شيوعاً في العالم؛ إذ يبلغ عدد المصابين به سنوياً حسب تقرير منظمة الصحة العالمية لعام 1975م_250مليون شخص، ولقد أوضحت الدراسات الميدانية أن الشاذين جنسياً_وعددهم في الولايات المتحدة الأمريكية حالياً قد جاوز الثمانية عشر مليوناً_هم أكثر الناس إصابة بالأمراض الجنسية.
وقد يصاب بالسيلان 200_500 مليون شخص كل عام معظمهم في ريعان الشباب، وهذا المرض يسمى في بعض البلاد العربية =التعقيبة+ وفي بعضها الآخر =الردة+ ، وينتقل نتيجة اتصال جنسي مباشر، ونكاح في فرج محرم، ولا يمكن أن ينتقل إلى عفيف أو عفيفة، وهذا المرض يحدث التهابات شديدة في الأعضاء التناسلية، ويصحبه قيح وصديد كريه الرائحة، ويعد من أهم الأسباب التي تؤدي إلى العقم، ويسبب ضيق مجرى البول، والتهابات في القناة الشرجية، ويمكن لجرثومة هذا المرض أن تصل إلى أي مكان في الجسم عندما تدخل الدورة الدموية، وحينئذ تسبب التهاب الكبد والسحايا، والتهابات أخرى في القلب وصماماته. انظر تفاصيل هذا المرض في: الأمراض الجنسية أسبابها وعلاجها ص 277_292، والأمراض الجنسية عقوبة إلهية ص 51_53، والانحرافات الجنسية وأمراضها ص 136_142، والثقافة الجنسية د. هاني عرموش ص 115_124، والأمراض الجنسية لسيف الدين شاهين ص 51_52، والفاحشة للكاتب ص 44_45.(1/472)
والهربس (1) ،
__________
(1) الهربس: ذلك المرض الذي فرض نفسه شبحا مرعبا في نفوس المنغمسين في العلاقات المحرمة، فلقد أوضح تقرير لوزارة الصحة الأمريكية أن الهربس لا علاج له حتى الآن، وأنه يفوق في خطورته مرض السرطان، ويبلغ عدد المصابين به في الولايات المتحدة عشرين مليون شخص، وتقدر عدد الإصابة به في بريطانيا بمائة ألف شخص سنوياً.
وهذا المرض حاد جدا، ويتميز بتقرحات شديدة حمراء اللون، تكبر وتتكاثر بسرعة، ويسببه فيروس =هربس هومنس+ وينتقل بالاتصال الجنسي إلى الأعضاء التناسلية أو الفم عند الشاذين، وتبدأ أعراضه عند الرجل بالشعور بالحكة، فتهيج المنطقة، وتظهر البثور والتقرحات على مقدمة القضيب، والقضيب نفسه، وعلى منطقة الشرج عند الذين يلاط بهم، وهذه البثور الصغيرة الحجم الكثيرة العدد يكبر حجمها، ويزداد ألمها، وتتآكل، فتلتهب من البكتريا المحيطة، فيزداد المرض تعقيدا، ويخرج منه سائل يشبه البلازما، ثم صديد، وربما يمتد الالتهاب إلى الفخذ، ومنطقة العانة، فتتضخم الغدد اللمفاوية، وتصبح مؤلة جداً، وأضرار الهربس لا تقف عند حد الأعضاء التناسلية فحسب، بل إنها تتعدى ذلك إلى سائر أعضاء الجسم، وله مضاعفات شديدة، فقد ينتقل إلى الدماغ، وإصابة الدماغ مميتة في أغلب الحالات أكثر من 90%، ومما يؤكد خطورته_أيضاً_أنه لا يقتصر على الأعراض الجسدية؛ إذ المرض يحدث أعراضاً نفسية وعصبية ربما كانت أخطر بكثير من الأعراض الأخرى.
ويذكر د. مورس_أخصائي أمراض الهربس_أن نتيجة الدراسة التي قام بها في بريطانيا تشير إلى أن انتشار هذا المرض يزداد يوما بعد يوم، وأن أكثر الإصابات تقع بين الشباب والشابات الذين تتراوح أعمارهم ما بين 15_30 سنة، وأن هذا المرض يتناسب طردياً مع الجنس وطرق ممارسته، وازدياده في المجتمع بطرق غير صحيحة، فيما يقل عند الذين يحبون العفاف ويسعون إليه. انظر الأمراض الجنسية عقوبة إلهية ص 90، والأمراض الجنسية أسبابها وعلاجها ص 225_260، والفاحشة ص 46_48.(1/473)
والإيدز (1) ،
__________
(1) الإيدز: وما أدراك ما الإيدز، ذلك المرض الخطير الذي أصاب العالم_عموماً، والغربي خصوصا_بسببه موجة من الذعر والخوف، فلقد عرف هذا المرض حديثاً، فأصبح يهدد إنسان الغرب وحضارة الغرب بالفناء.
وخطورة هذا المرض ترجع لسرعة انتشاره، وقلة علاجه أو انعدامه بالكلية، ولكثرة المصابين به، وللغموض المريع الذي يكتنفه، لدرجة أن الأسئلة حوله كثيرة، وإجابات المختصين قليلة.
وكلمة =إيدز+ هي عبارة عن الأحرف الأولى للكلمات التي يكون منها اسم هذا المرض باللغة الإنجليزية، ومعناه في العربية =انهيار أو نقص المناعة المكتسبة+ ذلك أن الله_عز وجل_أودع جسم الإنسان مناعة تضاد وتكافح مختلف الأمراض التي تغزو الجسم، فإذا ما أصيب الإنسان بمرض الإيدز فإنه لا يكاد يحتمل مكافحة أدنى الأمراض، وربما قضى عليه أقلها ضرراً؛ إذ تنهار لدى المصاب بالإيدز وسائل الدفاع، فيصبح فريسة سهلة لشتى الأمراض.
وقد ذكر المختصون أن نسبة 95% من المصابين بهذا المرض أنهم ممن يمارسون الشذوذ الجنسي، وأن نسبة قليلة منهم هم من مرضى المخدرات، كما ذكر المختصون_أيضا_أن تسعة أعشار المصابين بالإيدز يموتون خلال ثلاث سنوات من بداية المرض، أنا عدد المصابين فإنه يزداد بشكل مستمر، ولهذا خيم الرعب على أهل الدعارة في أمريكا وبريطانيا، وإيطاليا، والبرازيل، وكافة أنحاء العالم.
ولقد انتشر الرعب_على وجه الخصوص_في هوليود_مدينة السينما العالمية_خاصة بعدما أصيب بالإيدز الممثل الشهير_روك هدسون_صديق الرئيس الأمريكي السابق رونالد ريجان، حيث خيم الذعر المميت على أجواء هوليود، وجعل حياة أولئك تعتمد على المهدئات والمسكنات، أو على مزيد من المخدرات التي تشم الكوكايين، أو التي تدخن كالحشيش، وما حالهم هذه إلا كما قال المجنون:
تداويت من ليلى بليلى من الهوى كما يتداوى شارب الخمر بالخمر
انظر تفاصيل الحديث عن الإيدز في: الأمراض الجنسية أسبابها وعلاجها ص 131_223، والجنس وأمراضه د. عبد الناصر نور الله ص 23_29، وقصة الإيدز د. نجيب الكيلاني، والفاحشة للكاتب ص 48_51.(1/474)
وما يسمى بـ =فيروس الحب (1) ، وما يصاحب هذه الأمراض من ضيق وتكدر.
ومنهم من يروي غلته بالسطو، والسرقة؛ حتى إن الناس هناك لا يكادون يأمنون على أموالهم، وممتلكاتهم؛ بل لقد أصبحت السرقة تعتمد على الدراسة والتكنولوجيا الحديثة؛ المجهزة بأحدث الوسائل والأساليب، القائمة على أحدث المبتكرات والتخطيط لكل عملية سطو (2) .
__________
(1) فيروس الحب: وقبل أن يفيق العالم من هول الصدمة التي أحدثها الإيدز إذا بمرض جديد يحل في ساحة الشذاذ، وهذا المرض أشد وطأة، وأعظم افتراساً من مرض الإيدز، بل إن الإيدز_كما يؤكد الدكتور كينيث مور مكتشف هذا المرض الجديد_يعد لعبة أطفال مقارنة بهذا المرض الجديد. وقد سماه مكتشفه د. مور بـ: فيروس الحب، أما أعراض هذا المرض فإنه بعد ستة أشهر من استلام الجسم لهذا الفيروس العجيب يمتلئ جسم المريض بأكمله بالبثور، والقروح، والتقيحات، ويستمر نزيف المريض إلى أن يموت، ومما يجعل هذا الفيروس خطيراً أنه يستمر ساكنا إلى لحظة معينة هي لحظة جيشان الهرمونات التي تتوافق مع تهيج الجسم عند ممارسة الجنس، وهذا المرض ليس كغيره من أمراض الجنس التي لا تنتقل إلا عن طريق الدم، أو السوائل، أو الممارسات الجنسية، وإنما ينتقل بشتى الطرق، فربما انتشر بسبب النفس، وينتقل عبر الهواء وعبر الممارسات العاطفية العابرة، كالتقبيل، والاحتضان، وتشبيك الأيدي. انظر الفاحشة للكاتب ص 51_53.
(2) انظر في تفصيل الحديث عن السرقة إلى كتاب: أفول شمس الحضارة الغربية من نافذة الجرائم، لمصطفى فوزي غزال من ص 56_83 ففيه ذكر لأنواع السرقات، وطرقها، وأرقامها.(1/475)
ومنهم من يسلك طريق القتل ليتشفى من المجتمع، ويطفىء نار حقده، فتراه يتحين الفرص، وينتهز الغرة؛ ليهجم على ضحية يفقدها الحياة، ثم يبحث عن ضحية أخرى، بل لقد أصبح القتل عند بعضهم متعة، ونوعاً من اللذة، وكثيراً ما يكون القتل لأتفه الأسباب، حتى إن الواحد قد يقتل أقرب الأقربين (1) إليه.
__________
(1) من الأخبار الغربية في هذا أن أمريكياً يشتغل بتقطير الخمور ارتكب جريمة بشعة؛ حيث قتل ولديه اللذين تترواح أعمارهما بين الثانية والرابعة، ثم قتل زوجته، وصديقا له، وأصاب واله الذي يبلغ من العمر 84سنة برصاص في رأسه، وقد استخدم في جريمته مسدساً وسكيناً، وألقي القبض عليه واعترف بأنه تعاطى كمية من الخمور التي يقطرها. انظر المرجع السابق ص 8، والأمثلة على ذلك كثيرة جداً.
هذا ومعدلات الجريمة في ارتفاع، ففي أمريكا تجاوزت أكثر من عشرة أضعاف في السنوات الأخيرة، وأصبح معدل الجريمة جريمة قتل كل دقيقتين، وجريمة اغتصاب كل عشرين دقيقة، وجرائم أخرى دون اغتصاب أي بالتفاهم بين المجرمين على حساب الأسرة والمجموع البشري وتتم دون أن يمكن حصرها.
وفي ألمانيا تضاعفت جرائم القتل الناري عشرة أضعاف، وفي سنة 1969م سجلت إحصائيات الجرائم أكثر من ألفي جريمة قتل، وفي عام 1970م وصلت إلى 2500 جريمة، وفي عام 1971م وصلت إلى 3000، والزيادة مطردة.
وفي بريطانيا ارتفع إحصاء الجريمة في السنوات الأخيرة من 15759 إلى 41088 جريمة سنة 1970م، وربما وصلت الآن إلى خمسين ألفاً، وجرائم السطو ارتفعت في عامين لتبلغ نصف مليون جريمة.
ولا مجال للاستطراد في هذا الشأن؛ فالنتيجة سيئة للغاية؛ ولا غرو في ذلك طالما أن الناس بعيدون عن الله، ويحكمون بغير شرع الله. انظر أفول شمس الحضارة الغربية من نافذة الجرائم ص 5_55، ففيه تفصيل لذلك وذكر للأسباب.(1/476)
ومنهم من يبلغ به الشقاء والهم غايته؛ فلا يجد ما يسعده، أو يريحه من همومه وغمومه، ولا يرى ما ينفس به كربته، أو يعينه على تحمل أعباء حياته؛ فيلجأ حينئذ إلى الانتحار؛ رغبة في التخلص من الحياة بالكلية.
ولقد أصبح الانتحار سمة بارزة في تلك المجتمعات، وصارت نسبته تتزايد وتهدد الحضارة الغربية بأكملها.
ولقد أقلق كثرة الانتحار علماء الاجتماع في تلك البلاد؛ حيث أصبح عدد المنتحرين يفوق عدد القتلى في الحروب، وفي حوادث السيارات.
أما طرق الانتحار فتأخذ أساليب متنوعة؛ فهذا ينتحر بالغرق، وذاك بالحرق، وهذا بابتلاع السموم، وذاك بالشنق، وهذا بإطلاق الرصاص على نفسه، وذاك بالتردي من شاهق، وهكذا (1) .
أما أسباب الانتحار فمعظمها تافهة حقيرة، لا تستدعي سوى التغافل، وغض الطرف عنها؛ فهذا ينتحر بسبب الإخفاق في امتحان الدراسة أو الوظيفة، وذاك بسبب وفاة المطرب الذي يحبه، أو هزيمة الفريق الذي يميل إليه، وهذا ينتحر بسبب وفاة عشيقته، وهذه تنتحر بسبب تخلي عشيقها عنها، بل ومنهم من انتحر بعدما توفي كلبه كما فعل (جاك أشورت) وكان عمره 46 سنة (2) .
__________
(1) انظر لماذا انتحر هؤلاء ص 42.
(2) ويرجع الدكتور مالك بدري معظم أسباب الانتحار إلى الاضطرابات النفسية فيقول: =ارتفعت نسبة الانتحار في أمريكا حتى وصلت حوالي 70000 أمريكي كل عام، وكانت أكبر الزيادات في نسبة الانتحار بين شباب العقد الثالث، ويعزى ذلك إلى ازدياد الاضطرابات النفسية بينهم بشكل عام، وإلى مرض الاكتئاب النفسي والعقلي بشكل خاص، ولم تستطيع الثورة الجنسية، ولا الانغماس في المسكرات والمخدرات التي يصرف عليها الشعب الأمريكي بلايين الدولارات كل عام، ولم تستطع العقاقير المهدئة التي يبتلع منها الأمريكيون مئات الأطنان كل عام لم تستطع كل هذا أن يأتي بالسعادة النفسية المنشودة+ أفول شمس الحضارة الغربية من نافذة الجرائم ص 106_107.(1/477)
بل إن هناك من ينتحر بلا سبب ظاهر، ويبقى السبب الأول للانتحار وهو الكفر بالله، وما يستتبعه من الضنك، والشدة، وقلة التفكير في المصير.
والغريب في الأمر أن نسبة كبيرة من المنتحرين ليسوا من الفقراء؛ حتى يقال: إنهم انتحروا بسبب قلة ذات اليد، وإنما هم من الطبقات المغرقة في النعيم والبعيدة الصيت والشهرة، والرفيعة الجاه والمنصب، بل وينتشر في طبقات المثقفين (1) .
ومما يلفت النظر أن أشد البلاد انحلالاً أكثرها انتحاراً (2) .
__________
(1) انظر على سبيل المثال إلى كتاب: لماذا انتحر هؤلاء لهاني الخير، وكتاب كيف سقطوا لمجدي كامل ففيهما ذكر لنماذج كثيرة من هذا النمط، وسيأتي إيراد لبعض تلك النماذج في الفصل الآتي إن شاء الله.
(2) فالولايات المتحدة_على سبيل المثال_تحظى بنصيب الأسد في عدد المقدمين عل الانتحار؛ فقد بلغ عددهم في عام واحد ما يقارب الربع مليون شخص، أي بمعدل 120 شخصاً يومياً.
... أما في بريطانيا وحدها فقد بلغ عدد ضحايا الانتحار 40ألف شخص خلال عام واحد. انظر أفول شمس الحضارة الغربية ص 104.
وأما في فرنسا فالنسبة تزايد، وإليك مثالاً قريباً في هذا الشأن، حيث جاء في صحيفة الشرق الأوسط في العدد 7376، في 21/10/1419هـ ما نصه:
=12 ألف منتحر سنوياً في فرنسا+
وتحت هذا العنوان ذكرت الصحيفة ما يلي: =قالت وزارة الصحة الفرنسية: إن الانتحار هو ثالث أهم أسباب الوفاة بين الأشخاص الذين تقل أعمارهم عن 70 عاماً في فرنسا، وأنه كل 43دقيقة تقع حالة انتحار، وأضافت الوزارة في تقرير لها أن 12ألف شخص يقتلون أنفسهم كل عام، وأن 160ألف شخص آخرين يحاولون الانتحار لكنهم يخفقون، ويأتي الانتحار بعد السرطان وأمراض القلب، وقبل حوادث السيارات كسبب رئيس للوفاة في فرنسا، وقالت الوزارة: إن الانتحار كان أهم أسباب للوفاة بين الأشخاص الذين تراوحت أعمارهم بين 15_24عاماً في عام 1993م.
وبدأت الحكومة الفرنسية في فبراير شباط 1998م حملة قومية تستمر ثلاثة أعوام؛ لخفض معدلات الانتحار الذي تضاعفت على مدى الأعوام الخمسة والعشرين الماضية+ .
وهكذا تتزايد نسبة الانتحار في الدول الراقية مادياً كالسويد وسويسرا وغيرها.
وهكذا أصبحت الحياة في ديار الغرب لا تطاق؛ فالأسرة في حالة اضطراب ونزاع، وكذا الشارع والمصنع، والملعب والملهى؛ حيث انتشرت الاضطرابات العقلية، والنفسية، وعم القلق وساد الاكتئاب واليأس والملل من الحياة؛ رغم أن تلك الشعوب تعيش حرية كاملة من نساء، وخمور، ومخدرات، ونح ذلك.
ومع هذا فمرض الاكتئاب يدب في أوصالهم، ويأكل قلوبهم. انظر أفول شمس الحضارة الغربية ص 116و 119.(1/478)
ومن الأشياء التي استحدثوها لمحاربة التخفيف من الانتحارات المتزايدة_إنشاء مركز يتلقى مكالمات المقدمين على الانتحار، أو من لديهم مشكلة عاطفية، أو الذين يعانون من ضيق الصدر.
وهذه الخدمات تقدم ليلاً ونهاراً وبالمجان (1) .
والعجيب في الأمر أن يكون للانتحار مؤيدون وأنصار، حيث تكونت في بريطانيا جمعية للمنتحرين، وأصدرت كُتَيِّباً وأخذت توزعه على أعضائها الذين يحبذون ويؤيدون حق المرضى بالانتحار عندما يتألمون، وعندما يقرر الطبيب أن حالتهم ميؤوس منها.
وقد نَص الكتيب على الوسائل السريعة والفعالة وغير المؤلمة التي يمكن أن تساعد الساعين إلى الانتحار على تنفيذ رغبتهم! (2) .
فلماذا ينتحر هؤلاء؟ ولماذا يستبد بهم الألم، ويذهب بهم كل مذهب؟
والجواب: أنهم فقدوا السبب الأعظم للسعادة، ألا وهو الإيمان بالله_عز وجل_فلم تغن عنهم حريتهم شيئاً، ولم يجدوا ما يطفىء لفح الحياة وهجيرها وصخبها؛ فلا يكادون يحتملون أدنى مصيبة تنزل بهم (3) .
__________
(1) انظر أفول شمس الحضارة الغربية من نافذة الجرائم ص 109و 111.
(2) انظر أفول شمس الحضارة الغربية من نافذة الجرائم ص 109و 111.
(3) قارن أحوال الأمم الكافرة، وما تعيشه من ضيق، وإقدام على الانتحار بأحوال المسلمين في شتى بقاع الأرض؛ حيث يقل عند المسلمين الانتحار، بل لا تكاد تذكر له نسبة في بعض بلدانهم مع ما يلاقي كثير منهم من ظلم، وفقر، ومرض.
ومع ذلك فإن إيمانهم_مهما ضعف_يحميهم_بإذن الله_عن الاسترسال مع الأوهام، أو الإقدام على الانتحار.
هذا عند عوام المسلمين فضلا عن خواصهم من العلماء العاملين، والعباد القانتين.
وهذا ما أدهش كثيراً من كتاب الغرب ومفكريه، وإليك هذه المقالة التي تحمل العنوان التالي:
=عشت في جنة الله+
والتي كتبها الكاتب الغربي المشهور (ر. ن. س. بودلي) ، والذي أورد مقالته (ديل كارنيجي) في كتابه (دع القلق وابدأ الحياة) ص 291_295، يقول بودلي: =في عام 1918م وليت ظهري العالم الذي عرفته طيلة حياتي، ويممت شطر أفريقيا الشمالية الغربية؛ حيث عشت بين الأعراب في الصحراء، وقضيت هناك سبعة أعوام، أتقنت خلالها لغة البدو، وكنت أرتدي زيهم، وآكل من طعامهم، وأتخذ مظاهرهم في الحياة، وغدوت مثلهم أمتلك أغناماً، وأنام كما ينامون في الخيام، وقد تعمقت في دراسة الإسلام، حتى أنني ألفت كتابا عن محمد"عنوانه (الرسول)
وكانت تلك الأعوام السبعة التي قضيتها مع هؤلاء البدو الرحل من أمتع سني حياتي، وأحفلها بالسلام، والاطمئنان، والرضا بالحياة.
وقد تعلمت من عرب الصحراء كيف أتغلب على القلق؛ فهم بوصفهم مسلمين يؤمنون بالقضاء والقدر، وقد ساعدهم هذا الإيمان على العيش في أمان، وأخذ الحياة مأخذاً سهلاً هيناً، فهم لا يتعجلون أمراً، ولا يلقون بأنفسهم بين براثن الهم قلقاً على أمر.
إنهم يؤمنون بما قدر يكون، وأن الفرد منهم لن يصيبه إلا ما كتب الله له.
وليس معنى هذا أنهم يتواكلون، أو يقفون في وجه الكارثة مكتوفي الأيدي كلا+ .
ثم أردف قائلاً: =ودعني أضرب لك مثلاً لما أعنيه: هبت ذات يوم عاصفة عاتية حملت رمال الصحراء وعبرت بها البحر الأبيض المتوسط، ورمت بها وادي (الرون) في فرنسا، وكانت العاصفة حارة شديدة الحرارة، حتى أحسست كأن شعر رأسي يتزعزع من منابته؛ لفرط وطأة الحر، وأحسست من فرط القيظ كأنني مدفوع إلى الجنون.
ولكن العرب لم يشكوا إطلاقاً، فقد هزوا أكتافهم، وقالوا كلمتهم المأثورة: (قضاء مكتوب) .
لكنهم ما إن مرت العاصفة حتى اندفعوا إلى العمل بنشاط كبير، فذبحوا صغار الخراف قبل أن يودي القيظ بحياتها، ثم ساقوا الماشية إلى الجنوب نحو الماء، فعلوا هذا كله في صمت وهدوء، دون أن تبدو من أحدهم شكوى.
قال رئيس القبيلة_الشيخ_: لم نفقد الشيء الكبير؛ فقد كنا خليقين بأن نفقد كل شيء، ولكن حمداً له وشكراً؛ فإن لدينا نحو أربعين في المائة من ماشيتنا، وفي استطاعتنا أن نبدأ من جديد+ .
ثم قال بودلي: =وثمة حادثة أخرى، فقد كنا نقطع الصحراء بالسيارة يوماً، فانفجر أحد الإطارات، وكان السائق قد نسي استحضار إطار احتياطي، وتولاني الغضب، وانتابني القلق و الهم، وسألت صحبي من الأعراب: ماذا عسى أن نفعل؟
فذكروني بأن الاندفاع إلى الغضب لن يجدي فتيلاً، بل هو خليق أن يدفع الإنسان إلى الطيش والحمق.
ومن ثم درجت بنا السيارة وهي تجري على ثلاثة إطارات ليس إلا، ولكنها ما لبثت أن كفت عن السير، وعلمت أن البنزين قد نفذ.
وهنالك_أيضا_لم تثر ثائرة أحد من رفاقي الأعراب، ولا فارقهم هدوؤهم، بل مضوا يذرعون الطريق سيراً على الأقدام+ .
وبعد أن استعرض (بودلي) تجربته مع عرب الصحراء علق قائلاً: =أقنعتني الأعوام السبعة التي قضيتها في الصحراء بين الأعراب الرحل أن الملتاثين ومرضى النفوس، والسكرين الذين تحفل بهم أمريكا وأوربا ما هم إلا ضحايا المدنية التي تتخذ السرعة أساسا لها، إنني لم أعان شيئا من القلق قط وأنا أعيش في الصحراء، بل هنالك في جنة الله وجدت السكينة والقناعة والرضا+ .
وأخيراً ختم كلامه بقوله: =وخلاصة القول أنني بعد انقضاء سبعة عشرة عاماً على مغادرتي الصحراء ما زلت أتخذ موقف العرب حيال قضاء الله، فأقبل الحوادث التي لا حيلة لي فيها بالهدوء والامتثال والسكينة.
ولقد أفلحت هذه الطباع التي اكتسبتها من العرب في تهدئة أعصابي أكثر مما تفلح آلاف المسكنات والعقاقير الطبية+ .(1/479)
فهل اطلع على تلك الحال من يريدون أن تكون بلاد الإسلام كتلك البلاد تهتكاً، وتوقحاً، ودعارة، وفساداً؟
وهل يريدون أن يكون مصير بلاد الإسلام كذلك المصير؟
إن كانوا لم يطلعوا فتلك مصيبة، وإن كانوا مطلعين فالمصيبة أعظم.
(تنبيه حول معنى السعادة :
وبعد أن تبين من خلال ما مضى حال أكثر الناس مع السعادة فهل يعني ذلك أن يتخلى الناس عن دنياهم، وجميع ملذاتهم، ووجاهاتهم، ورياساتهم؟
وهل يفهم من ذلك أن يعيش الواحد منهم مجانباً للزينة، ميت الإرادة عن التعلق بشهواته على الإطلاق؟
والجواب: لا؛ ليس الأمر كذلك؛ فلا بد للناس من دنياهم؛ فالإسلام أَذِنَ في اكتساب الأموال، وحث على العمل، ونعى البطالة، ولم يَحْرم الناس أن يستمتعوا بحياتهم، وأن يروحوا الخاطر بنعيمها؛ شريطة الاقتصاد.
قال تعالى :(قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ) [الأعراف: 32]
وقال في الآية التي قبلها: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) [الأعراف: 31]
فلا ينافي السعادة أن يستمتع الإنسان بما أباح الله له، وليس من شرط السعادة أن يتخلى الإنسان عن جميع شهواته.
وليس من شرطها كذلك أن يتخلى الإنسان عن دينه، ويطلق العنان لنزواته وشهواته.
بل إن شرط السعادة الأعظم أن يكون الإنسان متمسكاً بدينه، عاضاً عليه بالنواجذ؛ فذلك سر السعادة، وينبوعها الأعظم.
وحينئذ تكون الشهرة، والمال، والجاه، والرياسة أسباباً للسعادة، ومكملات لها؛ لأنها اعتمدت على ركن ثابت لا يتغير، ولا يحول؛ فلا يُلَامُ الإنسان بعد ذلك أن يكون ذا شهرة، أو مال، أو وجاهة أو رياسة.
وإذا اطلعت على أثر يقتضي البعد عن الوجاهة فإنه مصروف إلى الحرص في طلبها، والتصنع لإحراز سمعة في المجامع الحافلة، والبلاد القاصية.(1/480)
أما إذا اندفعت همة الرجل إلى المكارم؛ بجاذب ابتغاء الفضيلة، وطفق ذكره يتسع على حسب مساعيه الحميدة فذلك خير من العزلة، والاختباء في زوايا الخمول .
بل لا يُلَامُ الإنسان إذا سعى للرياسة إذا كان يرى من نفسه الكفاءة والقدرة، ولا يريد أن يتخذ من رياسته حبالة لا يتعدى نفعها إلى الأمة، وإنما يريد نشر الخير، وبسط العدل، ورفع الظلم؛ فذلك موعود بالتسديد والإعانة في الدنيا، وبالإظلال في ظل عرش الرحمن في الآخرة يوم لا ظل إلا ظله.
ثم إن الآيات الواردةَ في سياق التزهيد والحط من متاع الحياة الدنيا لا يقصد منها ترغيب الإنسان ليعيش مجانباً للزينة، ميت الإرادة عن التعلق بشهواته على الإطلاق.
وإنما يقصد منها حِكَمٌ أخرى، كتسلية الفقراء الذين لا يستطيعون ضرباً في الأرض، ومنْ قَصُرت أيديهم عن تناولها، لئلا تضيق صدورهم على آثارها أسفاً.
ومنها تعديل الأنفس الشاردة، وانتزاع ما في طبيعتها من الشَّرَه والطمع؛ لئلا يخرجا بها عن قصد السبيل، ويتَطَوَّحا بها في الاكتساب إلى طرق غير لائقة؛ فاستصغار متاع الدنيا، وتحقير لذائذها في نفوس الناس يرفعهم عن الاستغراق فيها، ويُكْبرُ بهممهم عن جعلها قبلة يولون وجوههم شطرها أينما كانوا.
ومتى عكف الإنسان على ملاذِّ الحياة، ولم يصْحُ قلبُه عن اللهو بزخارفها ماتت عواطفه، ونسي أو تناسى من أين تؤتى المكارم والمروءة، ودخل مع الأنعام في حياتها السافلة.(1/481)
وبالجملة فإن تقوى الله عز وجل والإقبال عليه بالكلية هو أصل السعادة، وسرها، وكل سعادة بدون ذلك فهي مبتورة أو وهمية، وإن اجتمعت حولها أسباب السعادة الأخرى؛ فالسعادة ينبوع يتفجر من القلب لا غيث يهطل من السماء، والنفس الكريمة الراضية التقية الطاهرة من أدران الرذائل وأقذارها سعيدة حيثما حلت، وأنى وجدت: في القصر وفي الكوخ، في المدينة وفي القرية، في الأنس وفي الوحشة، في المجتمع وفي العزلة، بين القصور والدور وبين الآكام والصخور؛ فمن أراد السعادة الحقة فلا يسأل عنها المال والحسبَ، والفضة والذهب، والقصور والبساتين، والأرواح والرياحين.
بل يسأل عنها نفسه التي بين جنبيه؛ فهي ينبوع سعادته وهنائه إن شاء، ومصدر شقائه وبلائه إن أراد (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) [الشمس: 9_10]
وما هذه الابتسامات التي تُرى متلألأة من أفواه الفقراء والمساكين، والمحزونين والمتألمين؛ لأنهم سعداء في عيشهم، بل لأنهم سعداء في أنفسهم.
وما هذه الزفرات التي تُسمع متصاعدة من صدور الأغنياء والأثرياء وأصحاب العظمة والجاه؛ لأنهم أشقياء في عيشهم، بل لأنهم أشقياء في أنفسهم.
وما كدَّر صفاء هذه النفوس، وأزعج سكونها وقرارها، وسلبها راحتها وهناءها مثلُ البعد عن الله عز وجل .
ولا أنار صفحتها، ولا جلَّى ظلمتها، ولا كشف غَمَّاءها كالإقبال على الله تبارك وتعالى (1) .
فمن أراد السعادة العظمى فليقبل على ربه بكلِّيَّته، حبَّاً، وذكراً، وإنابة، وخوفاً، ورجاء، ونحو ذلك من سائر العبوديات.
[*](قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى : من أراد السعادة الأبدية فليلزم عتبة العبودية (2) .
__________
(1) انظر إلى مؤلفات مصطفى لطفي المنفلوطي الكاملة المقتبسة ص 225، والحرية في الإسلام للشيخ محمد الخضر حسين ص 32و 38_39، ومناهج الشرف للشيخ محمد الخضر حسين ص 53_54.
(2) مدارج السالكين 1/ 429.(1/482)
(وقال أيضاً : فليس في الكائنات ما يسكن العبد إليه، ويطمئن به، ويتنعم بالتوجه إليه إلا الله سبحانه .
ومن عبد غير الله وإن أحبه، وحصل به مودة في الحياة الدنيا ونوع من اللذة فهو مفسدة لصاحبه أعظم من مفسدة التذاذ أكل الطعام المسموم (1) .
(وقال أيضاً :فإن حقيقة العبد قلبه وروحه، وهي لا صلاح لها إلا بإلهها الله الذي لا إله إلا هو؛ فلا تطمئن بالدنيا إلا بذكره، وهي كادحة إليه كدحاً فملاقيته، ولا بد لها من لقائه، ولا صلاح لها إلا بلقائه.
ولو حصل للعبد لذات أو سرور بغير الله فلا يدوم ذلك، بل ينتقل من نوع إلى نوع، ومن شخص إلى شخص، ويتنعم بهذا في وقت، وفي بعض الأحوال، وتارة يكون ذلك الذي يتنعم به والتذ غير مُنعم ولا ملتذ له، بل قد يؤذيه اتصاله به، ووجوده عنده.
أما إلهه الحق فلا بد له منه في كل حال، وكل وقت، وأينما كان فهو معه (2) .
[*](وقال ابن حزم رحمه الله تعالى : تطلبت غرضاً يستوي الناس كلهم في استحسانه وفي طلبه فلم أجده إلا واحداً، وهو طرد الهم.
فلما تدبرته علمت أن الناس كلهم لم يستووا في استحسانه فقط، ولا في طلبه فقط، ولكن رأيتهم على اختلاف أهوائهم ومطالبهم وتباين هممهم وإراداتهم لا يتحركون حركة أصلاً إلا فيما يرجون به طرد الهم، ولا ينطقون بكلمة أصلاً إلا فيما يعانون به إزاحته عن أنفسهم؛ فمن مخطىء وجْهَ سبيله، ومن مقارب للخطأ، ومن مصيب وهو الأقل من الناس في الأقل من أموره (3) .
__________
(1) مجموع الفتاوى 1/ 24.
(2) مجموع الفتاوى 1/ 24_25.
(3) الأخلاق والسير ص 14.(1/483)
(إلى أن قال :وليس في العالم مذ كان إلى أن يتناهى أحد يستحسن الهم، ولا يريد طرده عن نفسه، فلما استقر في نفسي هذا العلم الرفيع، وانكشف لي هذا السر العجيب، وأنار الله تعالى لفكري هذا الكنز العظيم بحثت عن سبيل موصلة على الحقيقة إلى طرد الهم الذي هو المطلوب للنفس الذي اتفق عليه جميع أنواع الإنسان الجاهل منهم والعالم، والصالح والطالح على السعي له، فلم أجدها (1) التوجه إلى الله عز وجل بالعمل للآخرة.
وإلا فإنما طلب المال طلابُه؛ ليطردوا به همَّ الفقر عن أنفسهم، وإنما طلب الصوت (2) من طلبه؛ ليطرد به عن نفسه هم الاستعلاء عليها، وإنما طلب اللذات من طلبها؛ ليطرد بها عن نفسه هم فوتها، وإنما طلب العلم من طلبه؛ ليطرد به عن نفسه هم الجهل، وإنما هش إلى سماع الأخبار ومحادثة الناس من يطلب ذلك؛ ليطرد بها عن نفسه همَّ التوحد، ومغيب أحوال العالم منه، وإنما أكل من أكل، وشرب من شرب، ونكح من نكح، ولبس من لبس، ولعب من لعب، واكتن (3) من اكتن، وركب من ركب، ومشى من مشى، وتودع من تودع؛ ليطردوا عن أنفسهم أضداد هذه الأفعال، وسائر الهموم.
وفي كل ما ذكرنا لمن تدبره هموم حادثة لابد لها من عوارض تعرض في خلالها، وتعَذُّر ما يتعذر منها، وذهاب ما يوجد منها، والعجز عنه لبعض الآفات الكائنة، وأيضاً نتائج سوء تنتج بالحصول على ما حصل عليه من كل ذلك من خوف منافس، أو طعن حاسد، أو اختلاس راغب، أو اقتناء عدوِّ مع الذم والإثم وغير ذلك.
__________
(1) هكذا وردت في الأصل، ولعل الصواب: إلا في التوجه.
(2) الصوت: الذكر الحسن.
(3) اكتن: سكن واستتر.(1/484)
ووجدت العمل للآخرة سالماً من كل عيب، خالياً من كل كدر موصلاً إلى طرد الهم على الحقيقة، ووجدت العامل للآخرة إن امتحن بمكروه في تلك السبيل لم يهتم، بل يُسَر؛ إذ رجاؤه في عاقبة ما ينال به عون له على ما يطلب، وزايد في الغرض الذي إياه يقصد، ووجدته إن عاقه عما هو بسبيله عائق لم يهتم؛ إذ ليس مؤاخذاً بذلك، فهو غير مؤثر فيما يطلب، ورأيته إن قُصد بالأذى سُرَّ، وإن نكبته نكبة سُرَّ، وإن تعب فيما سلك فيه سُرَّ؛ فهو في سرور أبداً، وغيره بخلاف ذلك أبداً؛ فاعلم أنه مطلوب واحد، وهو طرد الهم، وليس إليه إلا طريق واحد، وهو العمل لله تعالى فما عدا هذا فضلال وسخف (1) .
(من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه :
لا ريب أن للشهوات سلطاناً على النفوس، واستيلاءً وتمكناً في القلوب؛ فتركها عزيز، والخلاص منها شاق عسير، ولكن من اتقى الله كفاه، ومن استعان به أعانه، ومن يتوكل على الله فهو حسبه.
وكلما ازدادت الرغبة في المحرم، وتاقت النفس إلى فعله، وكثرت الدواعي إلى الوقوع فيه عظم الأجر في تركه، وتضاعفت المثوبة في مجاهدة النفس على الخلاص منه.
وإنما يجد المشقة في ترك المألوفات والعوائد من تركها لغير الله .
وأما من تركها مخلصاً لله فإنه لا يجد في تركها مشقة إلا أول وهلة؛ ليمتحن أصادق هو في تركها أم كاذب؛ فإن صبر على تلك المشقة قليلاً استحالت لذة، فمن ذاق طعم الاستقامة فلن يبغى بها بدلاً، ولا عنها حولاً.
ألا ترى إلى الصبي الذي اعتاد ثدي أمه كيف سكوتُه بذلك الثدي، وكيف حنينه إليه إذا فقده، وكيف فرحه به إذا هو وجده؟
فكذلك النفس الشهوانية؛ فإذا فطم الصبي انفطم حتى لا يلتفت إلى الثدي بعد ذلك؛ لأنه وجد طعم ألوان الأطعمة؛ فلا يحن إلى لبن أمه .
__________
(1) الأخلاق والسير ص 14_16.(1/485)
وكذلك النفس إذا وجدت لذة العبادة، وذاقت طعم الإيمان، وبرد اليقين، واستشعرت رَوْح قرب الله، وجميل نظره_لم تَحنَّ إلى تلك الشهوات (1) .
من ذاق طعم نعيم القوم يدريه ... ومن دراه غدا بالروح يشريه
وكل هذا محسوس مجرب، وإنما يقع غلط أكثر الناس أنه قد أحس بظاهر من لذات أهل الفجور وذاقها، ولم يذق لذات أهل البر، ولم يخبرها (2) .
ثم إن من ترك لله شيئاً عوَّضه الله خيراً منه، والعوضُ من الله أنواع مختلفة، وأجل ما يُعَوَّض به الإنسان أن يأنس بالله، وأن يرزق محبته عز وجل وطمأنينة القلب بذكره، ورضاه عن ربه تبارك وتعالى مع ما يلقاه من جزاء في هذه الدنيا، وما ينتظره من الجزاء الأوفى في العقبى (3) .
وفيما يلي ذكر لنماذج تؤكد هذا المعنى .
أولاً: نماذج لأمور من تركها لله عوضه الله خيراًً منها :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
(1) من ترك مسألة الناس ورجاءهم، وإراقة ماء الوجه أمامهم، وعلق رجاءه بالله دون من سواه عَوَّضَه خيراً مما ترك، فرزقه حرية القلب، وعزة النفس، والاستغناء عن الخلق ومن يستعفف يعفه الله وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد ، ودرر الفرائد . (
__________
(1) انظر الفوائد ص 160، وأدب النفس للحكيم الترمذي ص 34_35.
(2) جامع الرسائل لابن تيمية 2/ 363.
(3) انظر الفوائد ص 159_160.(1/486)
( حديث أَبِي سَعِيدٍ الثابت في الصحيحين) أَنّ نَاساً مِنَ الأنْصَارِ سَأَلُوارسول الله - صلى الله عليه وسلم - فَأَعْطَاهُمْ، ثُمّ سَألُوه فَأَعْطاهُمْ، حتى نَفِد ما عنده فقال : َ مَا يَكُونُ عِنْدِي مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ أَدّخِرَهُ عَنْكُمْ، وَمَنْ يستعفف يُعِفّهُ الله، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ الله، وَمَنْ يَتَصَبّرْ يُصَبّرْهُ الله، وَمَا أُعْطِيَ أحَدٌ عطاءاً خَيْراً وَأَوْسَعَ مِنَ الصّبْرِ )
(2) ومن ترك الاعتراض على قدر الله، فسلَّم لربه في جميع أمره رزقه الله الرضا واليقين، وأراه من حسن العاقبة ما لا يخطر له ببال.
(3) ومن ترك الذهاب للعرافين والسحرة رزقه الله الصبر، وصدق التوكل، وتَحَقُّقَ التوحيد.
(4) ومن ترك التكالب على الدنيا جمع الله له أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا راغمة.
(5) ومن ترك الخوف من غير الله، وأفرد الله وحده بالخوف، وسلَّم له نفسه سَلِمَ من الأوهام، وأمَّنه الله من كل شيء، فصارت مخاوفه أمناً وبرداً وسلاماً، ولم يبق لخوف المخلوقين في قلبه موضع؛ لأنه سلم نفسه لربه، وأودعها عنده، وأحرزها في حرزه، وجعلها تحت كنفه، حيث لا تنالها يدُ عدوٍّ عاد، ولا بغيُ باغ عات.
(6) ومن ترك الكذب، ولزم الصدق فيما يأتي، وما يذر_هُدي إلى البر، وكان عند الله صديقاً، ورزق لسان صدق بين الناس، فسوَّدوه، وأكرموه، وأصاخوا السمع لقوله.
(7) ومن ترك المراء وإن كان مُحقَّاً ضُمن له بيت في ربض الجنة، وسلم من شر اللجاج والخصومة، وحافظ على صفاء قلبه، وأمن من كشف عيوبه.
وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد ، ودرر الفرائد . ((1/487)
(حديث أبي أمامة في صحيح أبي داود) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنا زعيم بيت في ربض الجنة لمن ترك المراء و إن كان محقا و بيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب و إن كان مازحا و بيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه .
(8) ومن ترك الغش في البيع والشراء زادت ثقة الناس به، وكثر إقبالهم عليه، ونال رضا ربه.
(9) ومن ترك الربا، وكسب الخبيث بارك الله له في رزقه، وفتح له أبواب الخيرات.
(10) ومن ترك النظر إلى المحرم عوَّضه الله فراسة صادقة، ونوراً وجلاءً، ولذة يجد حلاوتها في قلبه، وسلم ـ في الوقت نفسه ـ من تبعات إطلاق البصر.
(11) ومن ترك البخل، وآثر التكرم والسخاء أحبه الناس، واقترب من الله ومن الجنة، سلم من الهم، والغم، وضيق الصدر، وترقى في مراتب الكمال، ومدارج الفضيلة قال تعالى :( وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ) [ الحشر: 9]
(12) ومن ترك الكبر، ولزم التواضع كمل سؤدده، وعلا قدره، وتناهى فضله وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد ، ودرر الفرائد . (
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ما نقصت صدقةٌ من مال ، وما زاد الله عبداً بعفوٍ إلا عزا ، وما تواضع أحدٌ لله إلا رفعه الله )
(ولله درُ من قال :
وأحسن أخلاق الفتى وأتمها ... تواضعه للناس وهو رفيع (1)
(13) ومن ترك المنام ودفأه ولذته، وقام للصلاة_عوضه الله فرحاً، ونوراً، ونشاطاً، وأنساً.
(14) ومن ترك التدخين، وكافة المسكرات، والمخدرات أعانه الله، وأمده بألطاف من عنده، وعوضه صحة وسعادة حقيقية لا تلك السعادة العابرة الوهمية.
__________
(1) غذاء الألباب للسفاريني 2/ 233.(1/488)
(15) ومن ترك العشق، وقطع أسبابه التي تمده، وتجرع غصص الهجر ونار البعاد في بداية أمره، وأقبل على الله بكُلّيته رُزِق السلوَّ، وعزة النفس، وسلم من اللوعة، والذلة، والأسر، ومُلىء قلبه حرية ومحبة لله عز وجل تلك المحبة التي تلم شعث القلب، وتسد خلته، وتشبع جوعته، وتغنيه من فقره؛ فالقلب لا يسر ولا يفلح، ولا يطيب، ولا يسكن، ولا يطمئن إلا بعبادة ربه، وحبه، والإنابة إليه.
(16) ومن ترك الانتقام والتشفي مع قدرته على ذلك عوضه الله انشراحاً في الصدر، وفرحاً في القلب؛ ففي العفو من الطمأنينة، والسكينة، والحلاوة، وشرف النفس، وعزها، وترفعها ما ليس شيء منه في المقابلة والانتقام
وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد ، ودرر الفرائد . (
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ما نقصت صدقةٌ من مال ، وما زاد الله عبداً بعفوٍ إلا عزا ، وما تواضع أحدٌ لله إلا رفعه الله )
(17) ومن ترك صحبة السوء التي يظن أن بها منتهى أنسه، وغايةَ سروره عوضه الله أصحاباً أبراراً، يجد عندهم المتعة والفائدة، وينال من جراء مصاحبتهم خيري الدنيا والآخرة.
(18) ومن ترك كثرة الطعام سلم من البطنة، وسائر الأمراض، وضياع الأوقات؛ لأن من أكل كثيراً شرب كثيراً، فنام كثيراً، فخسر كثيراً.
(19) ومن ترك المماطلة بالدَّين يسر الله أمره، وسدد عنه، وكان في عونه.
(20) ومن ترك الغضب حفظ على نفسه عزتها وكرامتها، ونأى بها عن ذل الاعتذار ومغبة الندم، ودخل في زمرة المتقين
قال تعالى: (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النّاسِ وَاللّهُ يُحِبّ الْمُحْسِنِينَ) [ آل عمران: 134] 21(1/489)
(حديث معاذ ابن أنس في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من كظم غيظا و هو قادر على أن يُنْفِذَه دعاه الله على رءوس الخلائق حتى يخيره من الحور ما شاء .
(21) ومن ترك الوقيعة في أعراض الناس، والتعرض لعيوبهم ومغامزهم عُوِّض بالسلامة من شرهم، ورزق التبصر في عيوب نفسه.
المرء إن كان مؤمناً ورعاً ... أشغله عن عيوب الورى ورعه
كما السقيم العليل أشغله ... عن وجع الناس كلهم وجعه (1)
(22) ومن ترك مجاراة السفهاء، وأعرض عن الجاهلين حمى عرضه، وأراح نفسه، وسلم من سماع ما يؤذيه ، قال تعالى : (خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ) [ الأعراف: 199]
(23) ومن ترك الحسد سلم من أضراره المتنوعة؛ فالحسد داء عضال، وسم قتَّال ومسلك شائن، وخلق لئيم، ومن لؤمه أنه موكل بالأدنى فالأدنى من الأقارب، والأكفاء، والخلطاء، والمعارف، والإخوان.
(24) ومن ترك سوء الظن بالناس سلم من تشوش القلب، واشتغال الفكر، ومعاداة الناس؛ فإساءة الظن تجلب الكدر، وتعكر الصفو، وتفسد المودة.
(25) ومن اطَّرح الدعة والكسل، وأقبل على الجد والعمل_علت همته، وبورك له في وقته، فنال الخير الكثير في الزمن اليسير.
فمن هجر اللذات نال المنى ومن ... أكبَّ على اللذات عضَّ على اليد (2)
(26) ومن ترك قطيعة أرحامه، فواصلهم، وتودد إليهم، وقابل إساءتهم بالإحسان إليهم_بسط له الله في رزقه، ونَسَأ له في أثره، ولا يزال معه ظهير من الله ما دام على تلك الصلة.
(27) ومن ترك العقوق، فكان بَرَّاً بوالديه أدخله الجنة، ورزقه الله الأولاد البررة في الدنيا.
(28) ومن ترك تطلُّب الشهرة، وحبَّ الظهور رفع الله ذكره، ونشر فضله، وأتته الشهرة تجرر أذيالها.
__________
(1) ديوان الإمام الشافعي جمعه وعلق عليه محمد عفيف الزعبي ص 56.
(2) غذاء الألباب 2/ 451.(1/490)
(29) ومن ترك العبوس والتقطيب، واتصف بالبشر والطلاقة لانت عريكته، ورقَّت حواشيه، وكثر محبوه، وقلَّ شانؤوه.
(30) وبالجملة فمن ترك لله شيئاً عوضه الله خيراً منه؛ فالجزاء من جنس العمل (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه) [الزلزلة: 7]
( ثانياً: نماذج لأناس تركوا أشياء لله فعوضهم الله خيراً منها:
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ
المثال الأول: نبي الله يوسف عليه السلام :
لقد قص علينا القرآن العظيم ما وقع ليوسف عليه السلام مع امرأة العزيز؛ وما لو اجتمع كله أو بعضه لغيره لربما أجاب الداعي.
بل إن من الناس من يذهب بنفسه إلى مواطن الفتن، ويسعى لحتفه بظلفه، ثم يبوء بعد ذلك بالخسران المبين في الدنيا والآخرة إن لم يتداركه الله برحمته.
لقد أخبرنا الله عز وجل عن عشق امرأة العزيز ليوسف عليه السلام وما راودته، وكادته به.
وأخبر عن الحال التي صار إليها يوسف، بصبره وعفته، وتقواه، مع أن الذي ابتلي به أمر لا يصبر عليه إلا من صبَّره الله؛ فإن مواقعة الفعل بحسب قوة الداعي وزوال المانع، وكان الداعي ههنا في غاية القوة، وذلك من وجوه: (1)
أحدها ما ركبه الله سبحانه في طبع الرجل من ميله إلى المرأة، كما يميل العطشان إلى الماء، والجائع إلى الطعام، حتى إن كثيراً من الناس قد يصبر عن الطعام والشراب، ولا يصبر عن النساء.
وهذا لا يذم إذا صادف حِلاً، بل يحمد.
الثاني أن يوسف عليه السلام كان شاباً، وشهوة الشاب، وحدَّته أقوى.
الثالث أنه كان عزباً، ليس له زوجة ولا سُرِّية تعوضه، وتكسر ثورة الشهوة.
__________
(1) انظر الجواب الكافي 487_490، ومدارج السالكين 2/ 156، وطريق الهجرتين ص 380.(1/491)
الرابع أنه كان في الظاهر مملوكاً لها في الدار؛ فقد اشتري بثمن بخس دراهم معدودة، والمملوك لا يتصرف في أمر نفسه، وليس وازعه كوازع الحر، والمملوك كذلك يدخل، ويخرج، ويحضر معها، ولا يُنكر عليه؛ فكان الأنس سابقاً على الطلب، وهو من أقوى الدواعي.
الخامس أنه كان غريباً، وفي بلاد غربة، والغريب يتأتَّى له في بلد غربته من قضاء الوطر ما لا يتأتى له في وطنه، وبين أهله ومعارفه.
السادس أن المرأة كانت ذات منصب وجمال؛ بحيث إن كل واحد من هذين الأمرين يدعو إلى مواقعتها.
السابع أنها غير ممتنعة ولا أبيَّة؛ فإن كثيراً من الناس يزيل رغبته في المرأة إباؤها وامتناعها؛ لما يجد في نفسه من ذل الخضوع والسؤال لها.
الثامن أنها طلبت، وأرادت، وراودت، وبذلت الجهد، فكَفَتْه مؤنة الطلب، وذل الرغبة إليها، بل كانت هي الراغبة الذليلة، وهو العزيز المرغوب إليه.
وكثير من الناس يداخله الزهو إذا أشارت إليه المرأة باليد أو بطرف العين.
التاسع أنه في دارها، وتحت سلطانها وقهرها؛ بحيث يخشى إن لم يطاوعْها أن تؤذيه؛ فاجتمع له داعي الرغبة والرهبة.
العاشر أنه في مأمن من الفضيحة؛ فلا يخشى أن تنم عليه هي ولا أحد من جهتها؛ فإنها هي الطالبة الراغبة، وقد غلّقت الأبواب، وغيبت الرقباء.
الحادي عشر أنها قد أخذت كامل زينتها، وتهيأت غاية ما يمكن، وقالت: (هيت لك) وفي قراءة هئت لك .
الثاني عشر أنها استعانت عليه بأئمة المكر والاحتيال، وهن النسوة التي أرته إياهن؛ حيث شكت حالها إليهن، لتستعين بهن عليه، فاستعان هو بالله عليهن فقال: (وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنْ الْجَاهِلِينَ) [يوسف:33]
الثالث عشر أنها توعدته بالسجن والصغار، وهذا نوع إكراه؛ إذ هو تهديدُ مَنْ يغلب على الظن وقوع ما هدد به؛ فيجتمع داعي الشهوة وداعي السلامة من ضيق السجن والصغار.(1/492)
الرابع عشر أن الزوج لم يظهر من الغيرة والنخوة ما يفرق به بينهما، ويبعد كلاً منهما عن صاحبه.
بل غاية ما قابلها به أن قال ليوسف: (يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا) [يوسف: 29] وللمرأة: (وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنْ الْخَاطِئِينَ) [يوسف: 29]
وشدة الغيرة للرجل من أقوى الموانع، وهذا لم يظهر منه غيرةٌ.
ومع هذه الدواعي كلها صبر يوسف اختياراً وإيثاراً لما عند الله، فآثر مرضاة الله، وخوفه، وحمله حبُّه لله أن اختار السجن على الزنا (قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) [يوسف: 33]
وعلم أنه لا يطيق صرف ذلك عن نفسه، وأن ربَّه تعالى إن لم يعصمه ويصرف عنه كيدهن صبا إليهن بطبعه، وكان من الجاهلين.
وهذا من كمال معرفته بربه، وبنفسه.
فماذا كانت العاقبة؟
لقد نال العز والسلطان، ونال الذكر الحسن، والثناء الجميل.
هذا في الدنيا، وإن له في الآخرة للجنة.
المثال الثاني: امرأة فرعون:
لما رفضت أبهة الملك، وآثرت الإيمان بالله_عز وجل_على ما يدعو إليه فرعون_بنى لها الله بيتاً في الجنة، ونجاها من فرعون وعمله، ونجاها من القوم الظالمين.
(المثال الثاني: امرأة فرعون:
لما رفضت أبهة الملك، وآثرت الإيمان بالله عز وجل على ما يدعو إليه فرعون بنى لها الله بيتاً في الجنة، ونجاها من فرعون وعمله، ونجاها من القوم الظالمين .
المثال الثالث: مؤمن آل ياسين:
لما ترك ما عليه قومه من الضلال المبين، وقال لهم: (إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلْ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنْ الْمُكْرَمِينَ) [يس: 25_27]
{ تنبيه } :( وحتى يتضح أن التوبة طريق السعادة وضوحاً جلياً فإنني أعرض لك الصورة العامة لأحوال العصاة وما فيها من التعاسة والشقاء ثم أعرض لك نماذج لبعض أحوال العصاة .
(أولاً: الصورة عامة لأحوال العصاة :(1/493)
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
النظر في حال العصاة يُقْصِر عن التمادي في الذنوب، ويقود العاقل إلى المبادرة إلى التوبة النصوح؛ فللعصاة نصيب غير منقوص من الذلة، والهوان، والصغار، والضنك، والشدة، والشقاء، والعذاب؛ فالمعصية تورث ذلك ولا بد؛ فإن العز كل العز، والسعادة كل السعادة إنما تكون بطاعة الله عز وجل .
قال تعالى : (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً) [فاطر: 10]
أي فليطلبها من الله؛ فإنه لا يجدها إلا في طاعته (1) .
[*](قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى في حال من يتطلع، ويمد طرفه إلى أرباب الدنيا: فإياك إن تنظر إلى صورة نعيمهم؛ فإنك تستطيبه؛ لبعده عنك، ولو قد بلغته كرهته، ثم في ضمنه من محن الدنيا والآخرة ما لا يوصف؛ فعليك بالقناعة مهما أمكن ففيها سلامة الدنيا والدين.
وقد قيل لبعض الزهاد وعنده خبز يابس : كيف تشتهي هذا؟ فقال: أتركه حتى أشتهيه (2) .
[*](قال الحسن رحمه الله تعالى في العصاة: إنهم وإن طقطقت بهم البغال، وهملجت بهم البراذين إن ذل المعصية لا يفارق قلوبهم؛ أبى الله إلا أن يُذلَّ من عصاه (3) .
فأهل المعصية يجدون في أنفسهم الذلة، والشقاء، والخوف، حتى وإن رآهم الناس بخلاف ذلك، ولو تظاهروا بالسعادة والسرور، ولو كانوا من الشهرة وبعد الصيت بمكان عال، ولو كانت الدنيا طوع أيمانهم وشمائلهم؛ فالذل والضنك لا يفارقهم، بل يزيد كلما زادوا بعداً عن ربهم.
[*](قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى : ولهذا تجد القوم الظالمين أعظم الناس فجوراً، وفساداً، وطلباً لما يروِّحون به أنفسهم من مسموع، ومنظور، ومشموم، ومأكول، ومشروب ، ومع هذا فلا تطمئن قلوبهم بشيء من ذلك ،هذا فيما ينالونه من اللذة، وأما ما يخافونه من الأعداء فهم أعظم الناس خوفاً، ولا عيشة لخائف.
__________
(1) انظر الجواب الكافي ص 165.
(2) صيد الخاطر ص 372.
(3) الجواب الكافي ص 165.(1/494)
وأما العاجز منهم فهو في عذاب عظيم، لا يزال في أسف على ما فاته، وعلى ما أصابه.
أما المؤمن فهو مع مقدرته له من الإرادة الصالحة، والعلوم النافعة ما يوجب طمأنينة قلبه، وانشراح صدره بما يفعله من الأعمال الصالحة، وله من الطمأنينة وقرة العين ما لا يمكن وصفه.
وهو مع عجزه أيضاً له من أنواع الإرادات الصالحة، والعلوم النافعة التي يتنعم بها ما لا يمكن وصفه (1) .
[*](قال ابن القيم رحمه الله تعالى متحدثاً عن أضرار المعاصي: ومنها المعيشة الضنك في الدنيا وفي البرزخ، والعذابُ في الآخرة.
قال تعالى : (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) [طه: 124]
وفسرت المعيشة الضنك بعذاب القبر، ولا ريب أنه من المعيشة الضنك، والآية تتناول ما هو أعم منه، وإن كانت نكرة في سياق الإثبات؛ فإن عمومها من حيث المعنى؛ فإنه_سبحانه_رتب المعيشة الضنك على الإعراض عن ذكره.
فالمعرض عنه له من ضنك المعيشة بحسب إعراضه، وإن تنعم في الدنيا بأصناف النعم؛ ففي قلبه من الوحشة، والذل والحسرات التي تقطِّع القلوب، والأماني الباطلة، والعذاب الحاضر ما فيه، وإنما يواريه عنه سكراتُ الشهوات والعشق، وحب الدنيا والرياسة، وإن لم يَنْضمَّ إلى ذلك سكر الخمر؛ فسُكْرُ هذه الأمور أعظم من سكر الخمر؛ فإنه يفيق صاحبه ويصحو، وسكر الهوى وحبِّ الدنيا لا يصحو صاحبه إلا إذا كان صاحبه في عسكر الأموات.
فالمعيشة الضنك لازمة لمن أعرض عن ذكر الله الذي أنزله على رسوله"في دنياه، وفي البرزخ، ويوم معاده (2) .
__________
(1) جامع الرسائل 2/ 363.
(2) الجواب الكافي ص 296.(1/495)
ولقد عبر عن ذلك المعنى فريق كبير من الذين انحرف بهم المسار عن دين الله، ولو ذهبنا نستعرض أقوالهم لطال بنا المقام، وفيما يلي ذكر لبعض أولئك من المُحْدَثين، ممن طارت شهرتهم، وبَعُدَ صيتهم، أو طغى غناهم وتَرَفُهم، سواء من الفلاسفة والمفكرين، أو من الفنانين والمطربين، أو غيرهم.
فأقوال هؤلاء وأحوالهم تنبيك عما في دخائل نفوسهم مع أن الناظر في أحوالهم بادىء الرأي يظن أنهم والسعادة رضيعا لبان .
(ثانياً: نماذج لبعض أحوال العصاة:
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
(1) الفيلسوف الألماني المشهور (فريدريك نيتشه):
بعد أن ألغى من فكره عقيدة الإيمان بالله، وحكمة الابتلاء في هذه الحياة، وأن وراء هذه الحياة حياة أخرى هي دار الخلود، والجزاء والحساب، ها هو يعرب عن دخيلة نفسه، وما يعانيه من شقاء وعذاب، فيقول: إنني أعلم جيداً لماذا كان الإنسان هو الوحيد الذي يضحك؛ لأنه الذي يعاني أشد العناء؛ فاضطره ذلك أن يخترع الضحك (1) .
(2) الفيلسوف الإنجليزي (هربارت سبنسر):
ذلك الرجل الذي تدرس نظرياته التربوية في معظم بلاد العالم .
لما دنا من الموت نظر وراءه يستعرض حياته، فإذا هي في نظره أيام تنقضي كلها في كسب الشهرة الأدبية دون أن يتمتع بشيء من الحياة نفسها؛ فضحك من نفسه، وسخر، وتمنى لو أنه قضى أيامه الدابرة في حياة بسيطة سعيدة.
ولما حضرته الوفاة كان على يقين بأنه لم يعمل في حياته إلا عبثاً (2) .
(3) الفيلسوف (أرثر شوبنهور):
__________
(1) كواشف زيوف في المذاهب الفكرية المعاصرة للشيخ عبد الرحمن الميداني ص 560.
(2) كواشف زيوف ص 560_561.(1/496)
فيلسوف التشاؤم الألماني الملحد، عندما عزل عن تصوره مسألة الإيمان بالله، واليوم الآخر، ورفض حكمة الابتلاء نظر إلى الحياة نظرة ملؤها التشاؤم، ورأى أن طيبات الحياة كلها عبث، وأن مقاصد الناس تسير إلى الإخفاق، ومن أقواله في ذلك: =إننا لو تأملنا الحياة المصطخبة لرأينا الناس جميعاً يشتغلون بما تتطلبه من حاجة وشقاء، ويستنفذون كل قواهم؛ لكي يرضوا حاجات الدنيا التي لا تنتهي، ولكي يمحوا أحزانها الكثيرة (1) .
(4) جان بول سارتر:
الفيلسوف الفرنسي الملحد الوجودي، عندما كفر بالله، واليوم الآخر أصبح ينظر إلى الحياة من منظوره الوجودي المادي، فلا يرى الوجود كله إلا من دوائر القلق، والمتاعب، والغثيان، والآلام.
وكتب في ذلك جملة قصص ومسرحيات ضَمَّنها آراءه الفلسفية الوجودية التي تتقيأ المكاره، والتي أبرز فيها الحياة تافهة حقيرة مخيفة مملوءة بالشقاء، مشحونة بالآلام، مع أنه دعا إلى التحلل والإباحة والانطلاق من جميع القيود.
وحين حضره الموت سأله من كان عنده: ترى إلى أين قادك مذهبك؟ فأجاب في أسىً عميق ملؤه الندم: إلى هزيمة كاملة (2) .
(5) بريجيت باردو:
الممثلة الفرنسية المشهورة، قال لها صحفي: لقد كنتِ في يوم من الأيام رمزاً للتحرر والفساد.
فأجابته قائلة: هذا صحيح كنت كذلك، كنت غارقة في الفساد الذي أصبحت في يوم ما رمزاً له.
__________
(1) كواشف زيوف ص 561.
(2) كواشف زيوف ص 359و 562، وانظر الوجودية للكاتب ص 15_16.(1/497)
لكن المفارقة أن الناس أحبوني عارية، ورجموني عندما تبت (1) ، عندما أشاهد الآن أحد أفلامي السابقة فإنني أبصق على نفسي، وأقفل الجهاز فوراً، كم كنت سافلة، ثم تواصل قائلة: قمة السعادة للإنسان الزواج، وإذا رأيتُ امرأة مع رجل، ومعهما أولاد أتساءل في سري: لماذا أنا محرومة من مثل هذه النعمة؟ (2) .
(7) مارلين مونرو:
ممثلة الإغراء الأمريكية التي تعد أشهر ممثلة في تاريخ هوليود، والتي يقولون عنها: إنها أسطورة هوليود التي لا يخبو نورها، ولا ينطفىء وهجها، ولا ينقطع الحديث عنها (3) .
هذه المرأة تركت الدنيا منذ سبعة وثلاثين عاماً، حيث توفيت في الخامس من أغسطس عام 1962م في ظروف غامضة؛ فماذا كانت حياة تلك المشهورة التي ملأت الدنيا وشغلت الناس في حياتها وبعد وفاتها، والتي تركت الدنيا في أوج شهرتها، وعزِّ بريقها، وشرخ شبابها، والتي لا يزال الحديث مستمر اً عنها؟
هل هي سعيدة في حياتها؟ وهل أغنت عنها شهرتها؟
لعل حديثها عن نفسها يكون أبلغ وأوقع، تقول عن نفسها: إنها نشأت في جو يخيم عليه الحزن، وتحاصره الكآبة، فلم تعرف لها أباً، ولم تجد لها أمَّاً حنوناً، ولم يُرَبِّتْ أحد على كتفها ليقول لها كما يقال للصغار : أنت طفلة جميلة.
وتعترف بأن الرجل الذي كتب اسمه في شهادة ميلادها على أنه أبوها هو أحد عشاق أمِّها الذي ربما اختارته بطريقة عشوائية كأب للمولودة الجديدة (4) .
__________
(1) تعني: اعتزلت، وإلا فهي لم تتب إلى الله.
(2) انظر دور المرأة المسلمة في المجتمع، إعداد لجنة المؤتمر النسائي الأول ص 47_48.
(3) كيف سقطوا ص 115.
(4) (2) كيف سقطوا ص 115_116.(1/498)
وتقول مارلين: إن الملجأ كان مأواها في سن مبكرة بعد إصابة أمها باضطرابات عقلية شديدة، وبعد الملجأ تلقتها أسر كثيرة لرعايتها، حتى استقرت في النهاية عند سيدة عجوز تدعى (آنالودور) ظلت معها حتى الدراسة الثانوية، واكتشفت العجوز أن الفتاة كبرت، وأصبحت رائعة الجمال بطريقة جعلت الشباب في مدينة لوس أنجلوس يلاحقونها أينما ذهبت، فدبرت زواجها من شاب يدعى (جيم دوجرتي) ولكنها لم تحبه، ولم تشعر بالسعادة معه، وهنا بدأت العمل في السينما، وشعر الزوج بالغيرة، وانتهى الأمر بالطلاق، وبدأت مارلين تصعد أول درجات الشهرة كممثلة (1) .
ثم بعد ذلك وصلت إلى قمة الشهرة، فاشتعلت الغيرة والحقد كما تقول مارلين في نفوس كثيرين، ولم تشعر كما تقول بدفء المشاعر، وصدق النوايا.
وتقول: إنها تتمنى أن تخرج مع أناس لا يتوقعون منها شيئاً، وإنما يخرجون معها كنوع من الحب.
وتعترف مارلين أنها لم تحب أياً من أزواجها الثلاثة (جيم دوجرتي، وجوتي هايد، وجود يبمابيوم) وأن الرجل الوحيد الذي أحبته هو الكاتب المسرحي الأمريكي آثر ميلر، ولكن الزواج كما تقول أفسد هذا الحب، فقررا الانفصال، والطلاق، والاحتفاظ بالصداقة.
وتؤكد مارلين أن أسوأ شيء في حياتها هو محاولة الكثيرين استغلالها، حتى أقرب الأقربين (2) .
الجدير بالذكر أن حياة تلك المرأة كانت سلسلة من الفضائح التي كانت مسؤولة عن بعضها، ولا يد لها في بعضها الآخر.
وأشهر ما كان من ذلك علاقتها بالرئيس الأمريكي جون كنيدي، ثم تخليه عنها لما تولى الرئاسة، ثم علاقتها بأخيه روبرت كنيدي.
ولقد سببت لها تلك العلاقات متاعب كثيرة، بل لقد قيل: إن لآل كنيدي يداً في موتها (3) .
وأخيراً كيف كانت نهاية تلك المرأة؟
__________
(1)
(2) كيف سقطوا ص 115_116.
(3) انظر كيف سقطوا ص 116_123.(1/499)
لقد وجدوها جثة هامدة في منزلها، واكتشف المحقق الذي تناول قضيتها أنها ماتت منتحرة، ووجد رسالة محفوظة في صندوق الأمانات في مانهاتن في نيويورك، وهذه الرسالة ألقت بعض الضوء على انتحار مارلين مونرو؛ إذ وجد على غلافها كلمة تطلب عدم فتح الرسالة قبل وفاتها.
ولما فتح المحقق الرسالة، وجدها مكتوبة بخط مارلين مونرو بالذات، وهي موجهة إلى فتاة تطلب نصيحة مارلين عن الطريق إلى التمثيل.
قالت مارلين في رسالتها إلى الفتاة، وإلى كل من ترغب العمل في السينما: احذري المجد، احذري كل من يخدعك بالأضواء؛ إني أتعس امرأة على هذه الأرض؛ لم أستطع أن أكون أماً، إني أفَضِّل البيت، والحياة العائلية الشريفةَ على كل شيء، إن سعادة المرأة الحقيقية في الحياة العائلية الشريفة الطاهرة، بل إن هذه الحياة العائلية لهي رمز سعادة المرأة، بل الإنسانية.
وتقول في النهاية: لقد ظلمني الناس، وإن العمل في السينما يجعل المرأة سلعة رخيصة تافهة مهما نالت من المجد والشهرة الزائفة.
إني أنصح الفتيات بعدم العمل في السينما وفي التمثيل؛ إن نهايتهن إذا كن عاقلات كنهايتي (1) .
هذه هي حال تلك المرأة، وهذه نصائحها المجانية تقدمها في نهاية مطافها؛ فما أكثر العبر، وما أقل المعتبر؛ فهل من مدكر؟
(7) كريستينا أوناسيس:
تلك الفتاة اليونانية، ابنة التاجر الكبير الشهير أوناسيس الذي يملك الأموال الطائلة، والجزر، والأساطيل.
هذه الفتاة مات أبوها، وقبل ذلك ماتت أمها، وبينهما مات أخوها؛ فبقيت هي الوريثة الوحيدة مع زوجة أبيها لتلك الثروات الهائلة.
لقد ورثت عن أبيها ما يزيد على خمسة آلاف مليون ريال، وتملك أسطولاً بحرياً ضخماً، وجزراً كاملة، وشركات طيران.
__________
(1) انظر حضارة الإسلام العدد الثالث للمجلد الثالث ص 331، وانظر المرأة بين الفقه والقانون للسباعي ص 315_316.(1/500)
أليست المقاييس لدى كثير من الناس تقول: إنها أسعد امرأة في العالم؟ ! بلى، ولكن الحقيقة تقول غير ذلك، والدليل على ذلك تفاصيل حياتها وما مر بها من بؤس، وتعاسة، وشقاء.
ومما مرت به من ذلك إخفاقها في الزواج أربع مرات، حيث تزوجت أربعة رجال من أربع دول، فلقد تزوجت برجل أمريكي ثم انفصلت عنه بعد شهور، ثم تزوجت برجل يوناني، ثم انفصلت عنه بعد عدة شهور، ثم انتظرت طويلاً تبحث عن السعادة، ثم تزوجت برجل شيوعي، وعندما سألها الناس والصحفيون: أنت تمثلين الرأسمالية؛ فكيف تتزوجين بشيوعي؟
قالت: أبحث عن السعادة.
وبعد الزواج ذهبت معه إلى روسيا، وبما أن النظام هناك لا يسمح بامتلاك أكثر من غرفتين، ولا يسمح بخادمة فقد جلست تخدم نفسها في غرفتيها، فجاءها الصحفيون وهم يتابعونها في كل مكان فسألوها: كيف يكون هذا؟ قالت: أبحث عن السعادة!
وعاش معها زوجها سنة ثم انفصلت عنه.
وبعد ذلك أقيمت حفلة في فرنسا، وسألها الصحفيون: هل أنت أغنى امرأة في العالم؟
قالت: نعم أنا أغنى امرأة، ولكني أشقى امرأة!
وآخر فصل من فصول قصتها أنها تزوجت برجل فرنسي، وبعد فترة يسيرة أنجبت منه بنتاً ثم انفصلت عنه، وعاشت بقية حياتها في تعاسة وهمّ.وأخيراً وجدوها جثة هامدة في شاليه في الأرجنتين، وذلك في 19/11/1988م، وكان عمرها آنذاك 37 سنة، ولا يُعْلم أماتت مِيتَةً طبيعية، أم أنها قتلت، أم انتحرت، حتى إن الطبيب الأرجنتيني أمر بتشريح جثتها ثم دفنت في جزيرة أبيها.
فهل أغنى عن هذه مالها؟ وهل وجدت السعادة؟ (1) .
فماذا لو كانت مؤمنة بالله، واليوم الآخر، عاملة بما يرضي الله_عز وجل_مسلطة مالها على هلكته بالحق، أتراها تشقى بمالها؟
الجواب: لا، بل سيكون ذلك من أعظم أسباب سعادتها.
(8) الفنانة الإيطالية العالمية داليدا:
__________
(1) انظر لماذا انتحر هؤلاء ص 140_143، والسعادة بين الوهم والحقيقة ص 10_13، وتجاربهم مع السعادة ص 111_114.(2/1)
التي وصلت مبيعات أغانيها إلى 85 مليون اسطوانة، والتي غنت 400 أغنية بالفرنسية، و 200 أغنية بالإيطالية، و 20 أغنية بلغات مختلفة منها الألمانية، والأسبانية، واليابانية، والعربية.
داليدا التي حققت في إحدى عشرة سنة إعجازاً فنياً جعلها تحصل على:
أ_جائزة الأوسكار العالمي للأسطوانة عام 1974م.
ب_الأسطوانة البلاتينية لشركة بني لوكس عام 1975م.
جـ_جائزة أكاديمية الأسطوانة بفرنسا عام 1975م.
د_جائزة برافو عام 1985م.
هـ_جائزة الأوسكار التي حصلت عليها 5 مرات من إذاعة مونت كارلو.
و_عدة جوائز من إذاعة لوكسمبرج بدأتها في عام 1970م.
ز_في عام 1968م منحت ميدالية باريس، وميدالية رئاسة الجمهورية الفرنسية التي قدمها لها الرئيس الفرنسي آنذاك شارل ديجول، والتي لم يحصل عليها أي فنان من قبل.
داليدا التي تركت للدنيا أغاني كثيرة، خلفت ثروة تقدر بأكثر من 30 مليون فرنك فرنسي.
فماذا كانت حياتها في الحقيقة ؟ وهل وجدت السعادة والراحة والاستقرار؟
الجواب : لا؛ فلقد عاشت حياة تعيسة، فلم تؤسس أسرة، ولم تنجب طفلاً، أو طفلة، مع أن الإنجاب كان حلم حياتها.
ولقد كانت مدمنة للمخدرات، التي تلجأ إليها للخلاص من الاكتئاب، والوحدة، والعذاب النفسي كما قال ذلك أحد أقاربها .
ولهذا حاولت الانتحار عام 1967م ، محاولة اللحاق بحبيبها (لويفي تانكر) الذي قتل نفسه بمسدسه، فلم تطق العيش بدونه، فجرعت مواد سامة؛ رغبة في الانتحار، ولكن محاولتها باءت بالإخفاق.
وذات ليلة دخلت خادمتها إلى غرفتها، وخيل إليها أنها نائمة في فراشها، فاقتربت منها؛ لكي توقظها، نادت فلم يأتها الرد، فنادتها أخرى، فلم يأتها الرد، أخيراً هزت كتفها، وابتعدت عنها، وصرخت: سيدتي ماتت.
بعد ذلك نظرت الخادمة إلى يدي داليدا، فوجدت في إحداهما ورقة، فانتزعتها من بين أصابعها، فقرأت ما فيها وإذا بها قد كتبت:
الحياة لا تحتمل، سامحوني؛ الحياة أصبحت بالنسبة لي مستحيلة .(2/2)
نظرت الخادمة إلى يدها الأخرى، فوجدتها تقبض على كأس فارغ، اتضح فيما بعد أن السيدة المنتحرة كانت ترتوي من هذه الكأس؛ لعلمها أن الخمر تساعد على سرعة سريان المفعول للحبوب المخدرة التي تعاطتها بكثرة؛ كي تنهي حياتها في لحظة.
حدث هذا في اليوم الثالث من شهر مايو من عام 1987م، وعمرها أربع وخمسون سنة (1) .
تُرى لو أن هذه المرأة تعرف رَبَّاً تلجأ إليه، وصلاة تفزع إليها، وديناً يضبط تصرفاتها وعواطفها، ترى هل تكون هذه نهايتها؟ .
(9) الليدي ديانا سبنسر:
تلك المرأة الإنجليزية التي نالت من الشهرة ما لم تنله امرأة في القرن العشرين، حيث تزوجت بولي عهد بريطانيا الأمير تشارلز عام 1980م_1400هـ، وأقيم حفل الزواج الكبير في قصر بكنجهام، وشاهد العالم ذلك الحفل عبر شاشات التلفاز.
ومنذ ذلك الحين والإعلام العالمي بكافة وسائله لا يفتأ يذكر اسمها، ويتابع أخبارها، وينشر صورها.
وظل الناس يتابعون كل دقيقة وجليلة من أمرها، حتى أصبح كثير من نساء العالم يقلدنها في شتى أحوالها، حتى في مشيتها، وتسريحة شعرها، وطريقة ابتسامتها، ونوع ملبوسها، ونحو ذلك من شؤونها.
وعلى مدى سنوات طويلة كان لدى الشعب البريطاني، وسائر شعوب العالم اعتقاد بأن ديانا وتشارلز هما أسعد زوجين على وجه الأرض، كيف لا وقد امتلكا جميع مباهج الحياة_في نظر الأكثرين_؟
فالشهرة، والمجد، والثراء، والنفوذ، والمستقبل الذي ينتظر الذرية كل هذه الأمور نصب أعين الزوجين.
ولكن هذا الاعتقاد لم يكن صائباً، وكل القصص والحكايات الوردية التي صنعها خيال الناس لم يكن لها أي نصيب من الواقع؛ فلقد استيقظ العالم ذات صباح من شهر مايو 1992م على فضيحة مدوية عصفت بتلك الخيالات، وطوحت بها مكاناً قصياً؛ فقد ظهر كتاب جديد في بريطانيا تحت عنوان (ديانا القصة الحقيقية).
__________
(1) انظر: فنانون ومخدرات، لعاطف النمر ص29_34، ولماذا انتحر هؤلاء ص 136_139.(2/3)
وهذا الكتاب يروي قصة إخفاق ذلك الزواج التاريخي، ويكشف تعاسة ديانا وشقاءها، ومحاولتها الانتحار في عام 1989م بعد أن يئست من حياتها.
ويذكر الكتاب أحد المواقف التي زلزلت كيان الأميرة، وجعلتها تحيا أسوأ أيامها؛ فعندما رآها تشارلز تبكي لوفاة والدها، وعدم وجوده بجانبها عنَّفها، ووبخها، وقال لها بمنتهى القسوة: اخرجي من أحزانك بسرعة؛ فلا وقت لدينا لهذه الأحاسيس.
ولم يكن هذا الموقف هو الأخير؛ فقد توالت عبارات الأمير تشارلز، وإهاناته البالغة لديانا، حتى قررت التخلص من حياتها، خاصة بعد الأنباء التي أشارت إلى وجود علاقة غرامية بين الأمير وبين سيدة أخرى تدعى كاميلا فلورز، ومن ثم ابتلعت ديانا كل ما لديها من حبوب مهدئة؛ رغبة في التخلص من حياتها، إلا أن قدرها لم يحن بعد، فنجت من الموت.
ولم يكن صدور ذلك الكتاب نهاية المطاف؛ فقد بدأت الصحف تكشف جوانب أخرى، وأسراراً جديدة تعكس إخفاق الزوجين في تجاوز خلافاتهما، واستعادة ما كان بينهما من صفاء في بداية حياتهما الزوجية.
وكشفت صحيفة صنداي إكسبرس النقاب عن أن الأميرة ديانا تعاني من كوابيس مرعبة، وأحلام مخيفة تداهمها ليلاً في نومها؛ لتحيل حياتها إلى عذاب لا يتوقف، وشقاء لا ينقطع.
وأضافت الصحيفة أن ديانا تتلقى العلاج؛ للتخلص من هذه الكوابيس والأحلام المزعجة التي يرى الطبيب المعالج أنها تعكس مدى ما تعانيه الأميرة في حياتها من مصاعب، وما تعجز عن تحقيقه من رغبات مكبوتة.
وقالت: إن الأميرة التعسة بلغت درجة من الشقاء والضيق الشديد اضطرت معها إلى اللجوء إلى طبيب نفسي كي يعالجها.
وأكدت الصحيفة أن الأميرة أسرعت عقب تدهور صحتها؛ بسبب الكوابيس والأحلام المزعجة إلى الطبيب النفساني الشهير آلان ماكجلاشان.
وتقول الصحيفة: إن ديانا ترى في نومها وحوشاً غريبة تثير الرعب والهلع، وترى مشاهد بحرية مخيفة تزلزل كيانها، وترتعد لها فرائصها.(2/4)
وأكدت بأن الأمير تشارلز نفسه بدأ يشعر بالقلق إزاء ما يجري لزوجته التي أصبحت تقطع نومها؛ لتنهض مذعورة لما تراه.
وبعد ذلك زادت المشكلات بينها وبين زوجها، وحاولت والدة تشارلز الملكة إليزابيث تهدئة الأمر، وحث الزوجين على تجاوز خلافاتهما، والتوقف عند هذا الحد.
ورغم ذلك فقد اتفق الطرفان على أن حياتهما على هذا النمط أصبحت مستحيلة، ولكن الطلاق ثقيل، خصوصاً على نفس تشارلز؛ لأنه سيؤدي إلى فقدانه وفقدان أبنائه من بعده حق الجلوس على العرش؛ حيث لا يجوز دستورياً أن يكون الملك مطلقاً.
ولأن الأمير عَيْنُه على العرش، وليس لديه أية فكرة للتنازل عنه_فقد قرر ألا يطلق.
أما الأميرة التعيسة فلم يعد لديها سوى ولديها هاري وويليام يملآن الفراغ والوحدة التي تقاسيها، ولا تريد أن تُطَلَّق؛ حتى لا يفقدا حق الجلوس على عرش بريطانيا في المستقبل ومن أجل هذا قررا الانفصال دون طلاق؛ ليبدأ كل منهما حياته بالطريقة التي يحبها (1) .
وبعد هذا اعترف الزوجان بالخيانة الزوجية، وأصبحت ديانا تترامى من أحضان عشيق إلى عشيق، إلى أن آل بها الأمر إلى آخر واحد منهم وهو عماد الفايد.
وآخر فصل من فصول حياة تلك المرأة هو تلك النهاية المؤلمة التي أودت بحياتها عندما كانت في فرنسا بصحبة عشيقها عماد الفايد، حيث ركبا في السيارة التي خرجت بهما من الفندق الذي كانا يقيمان فيه، فلما خرجا إذا بعدسات المصورين تضيق عليهما الطريق، فأسرع السائق هروباً من المصورين، فوقع الحادث الذي أودى بحياة ديانا وعماد الفايد.
فماذا أغنى الثراء؟ وماذا أغنت الشهرة؟ وماذا أغنى الجاه؟
(10) مادونا:
تلك الفنانة الأمريكية الشهيرة، التي نالت من المال والشهرة والانطلاق ما جعلها أشهر فنانة في هذا العصر تقريباً.
__________
(1) انظر تفاصيل الحديث في هذا الشأن إلى كتاب: كيف سقطوا ص11_18.(2/5)
فشهرتها قد طبقت الخافقين؛ لأن وسائل الإعلام تحفل بها وأمثالها.وثرواتها تقدر بـ 130 مليون دولار، ولديها تعاقدات كثيرة للعمل خلال السنوات الخمس القادمة ربما درت عليها أكثر من 90 مليون دولار؛ فهل هي سعيدة بذلك؟ وهل وجدت الراحة والاستقرار؟
إن مادونا نفسها تعترف بصراحة أن كل ذلك لم يحقق لها السعادة أبداً، بل على العكس من ذلك؛ فهي الآن تعيش حالة اكتئاب عميق، وذلك بعد أن اكتشفت أنه لم يبق بينها وبين سن الأربعين سوى ثلاث سنوات، ذلك السن المتعارف عليه لدى الأطباء بأنه آخر فرصة للإنجاب بالنسبة للمرأة دون مشكلات.
ولقد صرحت مؤخراً لمجلة نمساوية بأنها نادمة ندماً شديداً على السنوات التي أضاعتها وراء الغناء هنا وهناك دون أن تفكر أن تتزوج من جديد بعد زواجها الأول الذي لم يستمر، ودون أن تفكر في إنجاب طفل أو أكثر يملأون عليها حياتها بعد أن تنصرف عنها الأضواء.
وتقول: إنها تخشى أن تقضي بقية حياتها لا تعيش إلا مع الحيوانات الأليفة، أو مع أناس تستأجرهم؛ ليكونوا حولها دون أن يكونوا من دمها ولحمها، وليس من بينهم زوج يحبها وتحبه بإخلاص.
وتضيف مادونا بأنها تملك المال الوفير ولكنه لن يسعدها بقدر ما سيسعدها أن تجد زوجاً مناسباً.
فهذه اعترافات واحدة من شهيرات نساء هذا العصر، وليتها عرفت أن البديل لشقاء الحياة المادية يوجد في الإسلام الذي كفل السعادة لمعتنقيه بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى (1) .
(11) مايكل جاكسون:
ملك البوب، المغني الأمريكي الراقص، الذي يعد أشهر مغنٍّ في العالم، والذي يملك الملايين، ويحوز النصيب الأوفى من الحضور الجماهيري.
ذلك الرجل الذي تملأ شهرته الآفاق، وتنتشر أغانيه المسموعة والمرئية في أنحاء العالم.
ذلك الرجل الذي يقلده_ومع بالغ الأسف_فئام من شباب المسلمين، يقلدونه في حركاته، ورقصاته، وقصات شعره، ونوع ملابسه.
فما حال ذلك الإنسان؟
__________
(1) انظر مجلة الرابطة عدد 399 في المحرم 1419هـ.(2/6)
الذي يبدو للعيان أول وهلة أن ذلك الإنسان يعيش في أعلى درجات السعادة؛ لأن أسبابها_في نظر كثيرين_متوافرة فيه، مجتمعة له.
ولكن الحقيقة تقول غير ذلك، حيث جاء في جريدة الرياض عدد، 11321 وتاريخ 9_3_1420هـ تقرير يحمل العنوان التالي:
يصرخ كطفل، وفكر في الانتحار مايكل جاكسون يعاني من حالة اكتئاب شديدة وتحت هذا العنوان جاء مايلي:
يعاني مايكل جاكسون من حالة اكتئاب شديدة، لدرجة أن والدته تقول لأصدقائه: إنه بدأ ينهار، وقد أقنعته في النهاية بأن يبدأ سراً علاجاً نفسانياً بالمنزل .
وكشف مصدر مقرب أن مايكل منزعج بشدة من مجموعة أشياء تركته في حالة انهيار؛ فهو لا يستطيع أن يتخلص من صورة أنه يسيء معاملة الأطفال، كما أن حياته العملية تبدو مجمدة، وهو في حالة شجار مع إخوته بعدما حنث بوعده في الانضمام مجدداً من أجل جولة لفرقة جاكسون فايف .
وهو يعاني من المشاكل الشخصية الأخرى التي يحاول معالجتها، ووالدته كاثرين في حالة انزعاج شديد عليه؛ فهي تطلبه هاتفياً يومياً؛ للتأكد من أنه على ما يرام، وأنه لا يحاول القيام بشيء أحمق؛ حيث إنها تخشى من لجوئه للانتحار.
وكان المغني البالغ من العمر أربعين عاماً اعترف في مقابلة أنه قد فكر في الانتحار.
وكانت والدته قد اندفعت إلى منزله عدة مرات مؤخراً، وجلست بجواره طوال الليل؛ خوفاً من أن يقتل نفسه .
وتضيف الصحيفة قائلة: والآن أقنعته والدته بمراجعة طبيب نفساني؛ لأنها تعتقد أن ذلك ينقذ حياته.
وذكرت والدته لأحد أصدقائه أن مايكل يصرخ كالطفل، وهو في حاجة إلى مساعدة مهنية متخصصة، وقد وعدني أخيراً بأنه سيراجع طبيباً نفسانياً، ولكنه يريد أن يتم ذلك بصورة سرية جداً؛ حتى لا يعتقد الناس أنه مصاب بالجنون .
ترى هل سيخرجه الطبيب النفساني من حالته الكئيبة؟ لا أظن ذلك؛ لأن الطبيب نفسه يريد من يخرجه من حالته إلا إذا كان مسلماً مؤمناً بالله عز وجل .
(المقصود من ذكر هذه النماذج :(2/7)
المقصود من ذكر هذه النماذج إنما هو أخذ العبرة والعظة ليس إلا.
وإلا فهم سيفضون إلى ما قدموا، وسيقفون أمام حكم عدل.
ثم إن نزول البلايا والمصائب لا يختص به أحد دون أحد؛ فقد تنزل بالبر والفاجر، والمسلم والكافر.
ولكنْ فرقٌ بين نزولها على البر المؤمن، وبين نزولها على الفاجر أو الكافر؛ فالمؤمن البر يستقبلها برضا وسرور؛ فترتفع بها درجاته في الدنيا والآخرة.
وكلما زيد في بلاء المؤمن فصبر واحتسب ورضي أعانه الله، ولطف به، وأنزل عليه من السكينة والرضا، واليقين، والقوة ما لا يخطر ببال.
أما الفاجر والكافر، فيستقبلها بهلع، وجزع، فتزداد مصائبه، وتكون من عاجل العقوبة له.
فأين أحوال أولئك العصاة مِنْ أحوال مَن اعتصموا بالله، وهُدوا إلى صراطه المستقيم؟
[*](فهذا عمر بن عبدالعزيز رحمه الله تعالى يقول: أصبحت ومالي سرور إلا في مواضع القضاء والقدر (1) .
[*](وهذا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى يقول لما أودع غياهب السجن: ما يصنع بي أعدائي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري، أين رحت فهي معي لا تفارقني؛ أنا حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة (2) .
(وقال أيضاً :إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة (3) .
(وقال أيضاً :الإنسان في الدنيا يجد في قلبه بذكر الله، وذكر محامده، وآلائه وعبادته من اللذة ما لا يجده بشيء آخر (4) .
__________
(1) جامع العلوم والحكم لابن رجب 1/ 287، وانظر سيرة عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم ص 97.
(2) ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب 2/ 402، وانظر الوابل الصيب لابن القيم ص 69.
(3) الوابل الصيب ص 69، وانظر الشهادة الزكية في ثناء الأئمة على ابن تيمية لمرعي الكرمي الحنبلي ص 34.
(4) منهاج السنة النبوية لابن تيمية 5/ 389.(2/8)
وكما قال أحد العباد عن حاله: إنه ليمر بالقلب أوقات أقول فيها: إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيش طيب (1) .
وقال آخر: إنه ليمر بالقلب أوقات يهتز فيها طرباً بأنسه بالله، وحبه له+ (2) .
وقال آخر: =مساكين أهل الغفلة؛ خرجوا من الدنيا وما ذاقوا أطيب ما فيها (3) .
وقال آخر: لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف (4) .
[*](وقال إبراهيم بن أدهم رحمه الله تعالى : نحن والله الملوك الأغنياء، نحن الذين قد تعجلنا الراحة في الدنيا، لا نبالي على أي حال أصبحنا وأمسينا إذا أطعنا الله عز وجل (5) .
[*](وقال مالك بن دينار رحمه الله تعالى : ما تنعم المتنعمون بمثل ذكر الله (6) .
[*](وقال ابن القيم متحدثاً عن شيخه ابن تيمية رحمهما الله تعالى : وكان يقول في محبسه في القلعة: لو بذلت ملء هذه القلعة ذهباً ما عدل عندي شكر هذه النعمة، أو قال: ما جزيتهم على ما تسببوا إلي فيه من الخير ونحو هذا.وكان يقول في سجوده وهو محبوس: اللهم أعني على ذكرك، وشكرك، وحسن عبادتك، ما شاء الله.
وقال لي مرة: المحبوس من حُبس قلبه عن ربه تعالى والمأسور من أسره هواه.
ولما دخل القلعة، وصار داخل سورها نظر إليه، وقال: (فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ) [الحديد: 31]
__________
(1) (3) (4) (5) إغاثة اللهفان لابن القيم ص 567.
(2)
(3)
(4)
(5) حلية الأولياء لأبي نعيم 7/ 370، ومواعظ الإمام إبراهيم بن أدهم للشيخ صالح الشامي ص94_95.
(6) حيلة الأولياء 2/ 358، ومواعظ الإمام مالك بن دينار للشيخ صالح الشامي ص 18.(2/9)
ويواصل ابن القيم حديثه عن ابن تيمية فيقول: =وعلم الله ما رأيت أحداً أطيب عيشاً منه قط، مع ما كان فيه من ضيق العيش، وخلاف الرفاهية والنعيم، بل ضدها، ومع ما كان فيه من الحبس، والتهديد، والإرهاق، وهو مع ذلك من أطيب الناس عيشاً، وأشرحهم صدراً، وأقواهم قلباً، وأسرِّهم نفساً، تلوح نضرة النعيم على وجهه.
وكنا إذا اشتد بنا الخوف، وساءت منا الظنون، وضاقت بنا الأرض أتيناه، فما هو إلا أن نراه، ونسمع كلامه، فيذهب ذلك كله، وينقلب انشراحاً، وقوة، ويقيناً، وطمأنينة؛ فسبحان من أشهد عباده جنته قبل لقائه، وفتح لهم أبوابها في دار العمل، فآتاهم من روحها، ونسيمها، وطيبها_ما استفرغ قواهم لطلبها، والمسابقة إليها (1) .
(أروع القصص للتائبين :
إن قصص التائبين لها تأثير بالغ في ترقيق القلوب لأنها تهز القلوب وتجعل الإنسان منحوب ويقلع عن الإثم والحوب ويهرع إلى علام الغيوب ، هي قصصٌ تُفري الأكباد وتذيب الأجساد وتحملُ على الجد والاجتهاد والتشمر لإعداد الزاد ليوم المعاد ،قصصٌ تُبكِي الصخور وتشرح الصدور وتُجَافِيك من دار الغرور وتُحَفِزُكَ إلى فعل المأمور وترك المحظور والصبر على المقدور والبعد عن دواهي الأمور ، عسى ربُك أن يرزقك عملاً متقبلاً مبرور ، ترى في هذه القصص مدى صدق التوبة وجريان الدموع في التوبة والرجوع ، فتأملها بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد ، ودرر الفرائد، ونحن بتوفيق الله تعالى نذكر نوعين من قصص التائبين هما كما يلي :
أولاً : قصصٌ للتائبين من القرون السابقة :
ثانياً : قصصٌ للتائبين المعاصرين لأنها أوقع في النفس :
ودونك القصص بين يديك (
أولاً : قصصٌ للتائبين من القرون السابقة :
وقد انتقينا بتوفيق الله تعالى أروع القصص وأبلغها من كتاب التوابين لابن قدامة المقدسي رحمه الله تعالى :
__________
(1) الوابل الصيب ص 69_70.(2/10)
(توبة فتى من الأزدكان عن التأنث والتخنث:
[*] أورد ابن قدامة المقدسي في كتابه التوابين عن رجاء بن ميسور المجاشعي قال « كنا في مجلس صالح المري وهو يتكلم فقال لفتى بين يديه اقرأ يا فتى فقرأ الفتى » (وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الأَزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ) [غافر : 18](2/11)
( فقطع صالح عليه القراءة وقال : كيف يكون لظالم حميم أو شفيع والمطالب له رب العالمين إنك والله لو رأيت الظالمين وأهل المعاصي يساقون في السلاسل والأنكال إلى الجحيم حفاة عراة مسودة وجوههم مزرقة عيونهم ذائبة أجسادهم ينادون يا ويلنا يا ثبورنا ماذا نزل بنا ماذا حل بنا ، أين يذهب بنا ماذا يراد منا والملائكة تسوقهم بمقامع النيران فمرة يجرون على وجوههم ويسحبون عليها منكبين ومرة يقادون إليها مقرنين من بين باك دما بعد انقطاع الدموع ومن بين صارخ طائر القلب مبهوت ، إنك والله لو رأيتهم على ذلك لرأيت منظرا لا يقوم له بصرك ولا يثبت له قلبك ولا تستقر لفظاعة هوله على قرار قدمك ، ثم نحب وصاح يا سوء منظراه يا سوء منقلباه وبكى وبكى الناس فقام فتى من الأزدكان به تأنيث فقال أكل هذا في القيامة يا أبا بشر ؟ قال : نعم والله يا ابن أخي وما هو أكثر لقد بلغني أنهم يصرخون في النار حتى تنقطع أصواتهم فما يبقى منهم إلا كهيئة الأنين من المدنف ، فصاح الفتى إنا لله واغفلتاه عن نفسي أيام الحياة واأسفا على تفريطي في طاعتك يا سيداه واأسفا على تضييعي عمري في دار الدنيا ثم بكى واستقبل القبلة ، فقال : اللهم إني أستقبلك في يومي هذا بتوبة لا يخالطها رياء لغيرك ، اللهم فاقبلني على ما كان في واعف عما تقدم من فعلي وأقلني عثرتي وارحمني ومن حضرني وتفضل علينا بجودك وكرمك يا أرحم الراحمين ، لك ألقيت معاقد الآثام من عنقي وإليك أنبت بجميع جوارحي صادقا لذلك قلبي ، فالويل لي إن لم تقبلني ، ثم غلب فسقط مغشيا عليه فحمل من بين القوم صريعا فمكث صالح وإخوته يعودونه أياما ثم مات والحمد لله ، فحضره خلق كثير يبكون عليه ويدعون له فكان صالح كثيرا ما يذكره في مجلسه فيقول : بأبي قتيل القرآن وبأبي قتيل المواعظ والأحزان قال فرآه رجل في منامه قال ما صنعت قال عمتني بركة مجلس صالح فدخلت في سعة رحمة الله التي وسعت كل شيء. »(2/12)
(توبة رجل عما جنت يداه :
[*] أورد ابن قدامة المقدسي في كتابه التوابين عن إبراهيم بن الحارث قال « كان رجل كثير البكاء فقيل له في ذلك فقال أبكاني تذكري ما جنيت على نفسي حين لم أستحي ممن شاهدني وهو يملك عقوبتي فأخرني إلى يوم العقوبة الدائمة وأجلني إلى يوم الحسرة الباقية والله لو خيرت أيما أحب إليك تحاسب ثم يؤمر بك إلى الجنة أو يقال لك كن ترابا لاخترت أن أكون ترابا. »
(توبة مُلْهِي أهل المدينة عن اللهو على يد والدته:(2/13)
[*] أورد ابن قدامة المقدسي في كتابه التوابين عن صالح بن عمر قال : حدثني أبي قال « كان بالمدينة امرأة متعبدة ولها ولد يلهو وهو مُلْهِي أهل المدينة وكانت تعظه وتقول يا بني اذكر مصارع الغافلين قبلك وعواقب البطالين قبلك اذكر نزول الموت فيقول : إذا ألحت عليه كفي عن التعذال واللوم واستيقظي من سنة النوم إني وإن تابعت في لذتي قلبي وعاصيتك في لومي أرجو من أفضاله توبة تنقل من قوم إلى قوم فلم يزل كذلك حتى قدم أبو عامر البناني واعظ أهل الحجاز ووافق قدومه رمضان فسأله إخوانه أن يجلس لهم في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجابهم وجلس ليلة الجمعة بعد انقضاء التراويح واجتمع الناس وجاء الفتى فجلس مع القوم فلم يزل أبو عامر يعظ وينذر ويبشر إلى أن ماتت القلوب فرقا واشتاقت النفوس إلى الجنة فوقعت الموعظة في قلب الغلام فتغير لونه ثم نهض إلى أمه فبكى عندها طويلا ثم قال زممت للتوبة أجمالي ورحت قد طاوعت عذالي وأبت والتوبة قد فتحت من كل عضو لي أقفالي لما حدا الحادي بقلبي إلى طاعة ربي فك أغلالي أجبته لبيك من موقظ نبه بالتذكار أغفالي يا أم هل يقبلني سيدي على الذي قد كان من حالي، واسوءتا إن ردني خائبا ربي ولم يرض بإقبالي ثم شمر في العبادة وجد وكان لا يفطر إلا بعد التراويح ولا ينام إلا بعد طلوع الشمس فقربت إليه أمه ليلة إفطاره فامتنع وقال : أجد ألم الحُمى فأظن أن الأجل قد أزف ثم فزع إلى محرابه ولسانه لا يفتر من الذكر فبقي أربعة أيام على تلك الحال ثم استقبل القبلة يوما وقال : إلهي عصيتك قوياً وأطعتك ضعيفاً وأسخطتك جَلَدَاً وخدمتك نَحِيْفَا فليت شعري هل قبلتني ثم سقط مغشيا عليه فانشج وجهه فقامت إليه أمه فقالت : يا ثمرة فؤادي وقرة عيني رد جوابي ، فأفاق فقال يا أماه هذا اليوم الذي كنت تحذريني وهذا الوقت الذي كنت تخوفيني ، فيا أسفي على الأيام الخوالي يا أماه إني خائف على نفسي أن يطول في النار حبسي ، بالله(2/14)
عليك يا أماه قومي فضعي رجلك على خدي حتى أذوق طعم الذل لعله يرحمني ، ففعلت وهو يقول هذا جزاء من أساء ثم مات رحمه الله ،
قالت أمه : فرأيته في المنام ليلة الجمعة وكأنه القمر فقلت يا ولدي ما فعل الله بك ؟
فقال : خيرا رفع درجتي ، قلت فما كنت تقول قبل موتك ؟ قال هتف بي هاتف أجب الرحمن فأجبت ، قلت فما فعل أبو عامر ؟ فقال : هيهات أين نحن من أبي عامر حل أبو عامر في قبةٍ وطدها ذو العرش للناس بين جوار كالدمى خرد يسقينه بالكاس والطاس يقلن بالترخيم خذها فقد هنيتها يا واعظ الناس. »
(توبة دينار العيار عن المعاصي على يد والدته :
[*] أورد ابن قدامة المقدسي في كتابه التوابين أن رجلا « كان يُعْرَفُ بدينار العيار كانت له والدة تعظه ولا يتعظ فمر في بعض الأيام بمقبرة كثيرة العظام فأخذ منها عظما نخرا فانفت في يده ففكر في نفسه وقال لنفسه : ويحك كأني بك غدا قد صار عظمك هكذا رفاتا والجسم ترابا وأنا اليوم أقدم على المعاصي ، فندم وعزم على التوبة ورفع رأسه إلى السماء وقال : إلهي إليك ألقيت مقاليد أمري فاقبلني وارحمني ثم مضى نحو أمه متغير اللون منكسر القلب فقال يا أماه : ما يصنع بالعبد الآبق إذا أخذه سيده ؟(2/15)
فقالت: يخشن ملبسه ومطعمه ويغل يده وقدمه ، فقال أريد جبة من صوف وأقراصا من شعير وتفعلين بي كما يفعل بالآبق لعل مولاي يرى ذلي فيرحمني ، ففعلت ما طلب فكان إذا جنه الليل أخذ في البكاء والعويل ويقول لنفسه ويحك يا دينار ألك قوة على النار كيف تعرضت لغضب الجبار وكذلك إلى الصباح ، فقالت له أمه في بعض الليالي : ارفق بنفسك فقال دعيني أتعب قليلا لعلي أستريح طويلا ، يا أمي إن لي موقفا طويلا بين يدي رب جليل ولا أدري أيؤمر بي إلى الظل الظليل أو إلى شر مقيل إني أخاف عناء لا راحة بعده وتوبيخا لا عفو معه ، قالت فاسترح قليلا فقال الراحة أطلب أتضمنين لي الخلاص قالت فمن يضمنه لي قال فدعيني وما أنا عليه كأنك يا أماه غدا بالخلائق يساقون إلى الجنة وأنا أساق إلى النار ، فمرت به في بعض الليالي في قراءته (فَوَرَبّكَ لَنَسْأَلَنّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) [الحجر 92: 93] ففكر فيها وبكى وجعل يضطرب كالحَيْة حتى خر مغشيا عليه فجاءت أمه إليه ونادته فلم يجبها فقالت: قرة عيني أين الملتقى ؟
فقال بصوت ضعيف : إن لم تجديني في عرصة القيامة فاسألي مالكا عني ثم شهق شهقة مات فيها فجهزته وغسلته وخرجت تنادي أيها الناس هلموا إلى الصلاة على قتيل النار فجاء الناس فلم ير أكثر جمعا ولا أغزر دمعا من ذلك اليوم. »
(توبة رجل عن حب مغنية شغلته عن الله :(2/16)
[*] أورد ابن قدامة المقدسي في كتابه التوابين عن علي بن الحسين قال « كان لنا جار من المتعبدين قد برز في الاجتهاد فصلى حتى تورمت قدماه وبكى حتى مرضت عيناه فاجتمع إليه أهله وجيرانه فسألوه أن يتزوج فاشترى جارية وكانت تغني وهو لا يعلم فبينا هو ذات يوم في محرابه يصلي رفعت الجارية صوتها بالغناء فطار لبه فرام ما كان عليه من العبادة فلم يطق فأقبلت الجارية عليه فقالت يا مولاي لقد أبليت شبابك ورفضت لذات الدنيا أيام حياتك فلو تمتعت بي فمال إلى قولها واشتغل باللذات عما كان فيه من التعبد ، فبلغ ذلك أخا له كان يوافقه على العبادة فكتب إليه : بسم الله الرحمن الرحيم من الناصح الشفيق والطبيب الرفيق إلى من سلب حلاوة الذكر والتلذذ بالقرآن والخشوع والأحزان بلغني أنك اشتريت جارية بعت بها من الآخرة حظك فإن كنت بعت الجزيل بالقليل والقرآن بالقيان فإني محذرك هادم اللذات ومنغص الشهوات وموتم الأولاد فكأنه قد جاء على غرة فأبكم منك اللسان وهدم منك الأركان وقرب منك الأكفان واحتوشك الأهل والجيران وأحذرك من الصيحة إذا جثت الأمم لهول ملك جبار فاحذر يا أخي ما يحل بك من ملك غضبان ثم طوى الكتاب وأنفذه إليه ، فوافاه الكتاب وهو في مجلس سروره فغص بريقه وأذهله ذلك فنهض مبادرا من مجلس سروره وكسر آنيته وهجر جاريته وآلى أن لا يطعم الطعام ولا يتوسد المنام ،
قال الذي وعظه : فلما مات رأيته في المنام بعد ثلاث فقلت ما فعل الله بك ؟ قال : قدمنا على رب كريم أباحنا الجنة وقال : الله عوضني ذو العرش جارية حوراء تسقيني طورا وتهنيني تقول لي اشرب بما قد كنت تأملني وقر عينا مع الولدان والعيين يا من تخلى عن الدنيا وأزعجه عن الخطايا وعيد في الطواسين. »
(توبة شاب وامرأته على يد سري السقطي :(2/17)
[*] أورد ابن قدامة المقدسي في كتابه التوابين عن سري السقطي قال « كنت يوما أتكلم بجامع المدينة فوقف علي شاب حسن الشباب فاخر الثياب ومعه أصحابه فسمعني أقول في وعظي : عجبا لضعيف يعصي قويا ، فتغير لونه وانصرف فلما كان من الغد جلست في مجلسي وإذا بالفتى قد أقبل فسلم وصلى ركعتين وقال : يا سري سمعتك بالأمس تقول عجبا لضعيف يعصي قويا فما معناه ؟ فقلت : لا أقوى من الله ولا أضعف من العبد وهو يعصيه فنهض فخرج ثم أقبل من الغد وعليه ثوبان أبيضان وليس معه أحد فقال يا سري كيف الطريق إلى الله ؟ فقلت إن أردت العبادة فعليك بصيام النهار وقيام الليل وإن أردت الله فاترك كل شيء سواه تصل إليه وليس إلا المساجد والخراب والمقابر فقام وهو يقول والله لا سلكت إلا أصعب الطرق وولى خارجا فلما كان بعد أيام أقبل إلي غلمان كثير فقالوا ما فعل أحمد بن يزيد الكاتب فقلت لا أعرفه إلا أن رجلا جاءني من صفته كذا وكذا فجرى لي معه كذا كذا ولا أعلم حاله فقالوا : نقسم عليك بالله متى عرفت حاله فعرفنا ودلوني على داره فبقيت سنة لا أعرف له خبرا فبينا أنا ذات ليلة بعد عشاء الآخرة جالسا في بيتي إذا بطارق يطرق الباب فأذنت له بالدخول فإذا بالفتى عليه قطعة من كساء في وسطه وأخرى على عاتقه ومعه زنبيل فيه نوى فقبل بين عيني وقال لي : يا سري أعتقك الله من النار كما أعتقتني من رق الدنيا ، فأومأت إلى صاحبي أن امض إلى أهله فأخبرهم فمضى وإذا بزوجته قد جاءت ومعها ولده وغلمانه فدخلت وألقت ولده في حجره وعليه حلي وحلل وقالت له يا سيدي أرملتني وأنت حي وأيتمت ولدك وأنت حي ، قال سري : فنظر إلي وقال يا سري ما هذا وفاء ثم أقبل عليها فقال والله إنك لثمرة فؤادي وحبيبه قلبي وإن هذا ولدي لأعز الخلق علي غير أن هذا سري أخبرني أن من أراد الله قطع كل ما سواه ثم نزع ما على الصبي فقال : ضعي هذا في الأكباد الجائعة والأجساد العارية وخرق قطعة من كسائه فلف فيها(2/18)
الصبي ، فقالت المرأة : لا أرى ولدي في هذه الحال وانتزعته منه فحين رآها قد اشتغلت به نهض وقال ضيعتم علي ليلتي بيني وبينكم الله وولى خارجا وضجت الدار بالبكاء فقالت إن عدت سمعت له خبرا فأعلمني فقلت نعم ، فلما كان بعد أيام أتت عجوز فقالت يا سري بالشونيزية غلام يسألك الحضور ، فمضيت فإذا به مطروح في تربة تحت رأسه لبنة فسلمت عليه ففتح عينيه وقال يا سري ترى تغفر تلك الجنايات ؟فقلت نعم ، قال يغفر لمثلي ؟ قلت نعم ، قال أنا غريق قلت هو منجي الغرقى ، فقال علي مظالم فقلت في الخبر أنه يؤتى بالتائب يوم القيامة معه خصومه فيقال لهم خلوا عنه فإن الله تعالى يعوضكم فقال يا سري معي دراهم من لقط النوى إذا أنا مت فاشتر لي ما أحتاج إليه وكفني ولا تعلم أهلي لئلا يغيروا كفني بحرام ، قال سري فجلست عنده قليلا ففتح عينيه فقال (لِمِثْلِ هََذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ) [الصافات: 61] ثم مات فأخذت الدراهم وجئت فاشتريت ما يحتاج إليه وسرت نحوه فإذا الناس يهرعون فقلت ما الخبر؟ فقيل مات ولي من أولياء الله نريد أن نصلي عليه فجئت فغسلته ودفناه فلما كان بعد مدة نفذ أهله يستعلمون خبره فأخبرتهم بموته فأقبلت امرأته باكية فأخبرتها بحاله فسألتني أن أريها قبره فقلت أخاف أن تغيروا أكفانه قالت لا والله فأريتها القبر فبكت وأمرت بإحضار شاهدين فأحضرتهما وأعتقت جواريها وأوقفت عقارها وتصدقت بمالها ولزمت قبره حتى ماتت. »
(توبة امرأة بارعة الجمال أرادت أن تفتن الربيع بن خيثم :(2/19)
[*] أورد ابن قدامة المقدسي في كتابه التوابين أن قوماً أمروا امرأة ذات جمال بارع أن تتعرض للربيع بن خيثم لعلها تفتنه وجعلوا لها إن فعلت ذلك ألف درهم فلبست أحسن ما قدرت عليه من الثياب وتطيبت بأطيب ما قدرت عليه ثم تعرضت له حين خرج من مسجده فنظر إليها فراعه أمرها فأقبلت عليه وهي سافرة فقال لها الربيع : كيف بك لو قد نزلت الحمى بجسمك فغيرت ما أرى من لونك وبهجتك،أم كيف بك لو قد نزل بك ملك الموت فقطع منك حبل الوتين أم كيف بك لو سألك منكر ونكير ، فصرخت صرخة فسقطت مغشيا عليها فو الله لقد أفاقت وبلغت من عبادة ربها ما أنها كانت يوم ماتت كأنها جذع محترق.
(توبة جار لأحمد بن حنبل رحمه الله :
[*] أورد ابن قدامة المقدسي في كتابه التوابين عن جعفر الصائغ قال « كان في جيران أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل رجل ممن يمارس المعاصي والقاذورات فجاء يوما إلى مجلس أحمد يسلم عليه فكأن أحمد لم يرد عليه ردا تاما وانقبض منه ، فقال له يا أبا عبد الله لم تنقبض مني ؟ فإني قد انتقلت عما كنت تعهدني برؤيا رأيتها ، قال : وأي شيء رأيت» قال « رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم كأنه على علو من الأرض وناس كثير أسفل جلوس قال فيقوم رجل منهم إليه فيقول ادع لي فيدعو له حتى لم يبق من القوم غيري قال فأردت أن أقوم فاستحيت من قبيح ما كنت عليه ، قال لي : يا فلان لم لا تقوم إلي فتسألني أدعو لك ؟
قال : قلت يا رسول الله يقطعني الحياء لقبيح ما أنا عليه ، فقال : إن كان يقطعك الحياء فقم فسلني أدع لك فإنك لا تسب أحدا من أصحابي ، قال فقمت فدعا لي فانتبهت وقد بغض الله إلي ما كنت عليه » قال « فقال لنا أبو عبد الله يا جعفر يا فلان حدثوا بهذا واحفظوه فإنه ينفع. »
(توبة أبي عمر بن علوان عن نظره إلى امرأة :(2/20)
[*] أورد ابن قدامة المقدسي في كتابه التوابين عن أبي عمرو بن علوان يقول خرجت يوما في حاجة فرأيت جنازة فتبعتها لأصلي عليها ووقفت في جملة الناس حتى تدفن فوقعت عيني على امرأة مسفرة من غير تعمد فلمحت بالنظر واسترجعت واستغفرت الله تعالى وعدت إلى منزلي فقالت لي عجوز : يا سيدي مالي أرى وجهك أسود فأخذت المرآة فنظرت فإذا وجهي أسود فرجعت إلى سري أنظر من أين دهيت فذكرت النظرة فانفردت في موضع أستغفر الله تعالى وأسأله الإقالة أربعين يوما فخطر في قلبي أن زر شيخك الجنيد فانحدرت إلى بغداد فلما جئت الحجرة التي هو فيها طرقت الباب فقال ادخل يا أبا عمرو تذنب بالرحبة ويستغفر لك ببغداد .
(توبة رجل عن الشراب والعود بسماع آيات من القرآن :
[*] أورد ابن قدامة المقدسي في كتابه التوابين عن أبي هاشم المذكر قال: أردت البصرة فجئت إلى سفينة أكتريها وفيها رجل ومعه جارية فقال الرجل ليس هاهنا موضع فسألته الجارية أن يحملني فحملني فلما سرنا دعا الرجل بالغداء فوضع فقال أنزلوا ذلك المسكين ليتغدى فأنزلت على أني مسكين فلما تغدينا قال يا جارية هاتي شرابك فشرب وأمرها أن تسقيني فقلت رحمك الله إن للضيف حقا فتركني ، فلما دب في النبيذ قال يا جارية هاتي العود وهاتي ما عندك فأخذت العود وغنت تقول وكنا كغصني بانة ليس واحد يزول على الخلان عن رأي واحد تبدل بي خلا فخاللت غيره وخليته لما أراد تباعدي فلو أن كفي لم تردني أبنتها ولم يصطحبها بعد ذلك ساعدي ألا قبح الرحمن كل مماذق يكون أخا في الخفض لا في الشدائد ثم التفت إلي فقال : أتحسن مثل هذا فقلت : أحسن خيرا منه فقرأت (إِذَا الشّمْسُ كُوّرَتْ * وَإِذَا النّجُومُ انكَدَرَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ سُيّرَتْ) [التكوير 1: 3] فجعل الشيخ يبكي فلما انتهيت إلى قوله تعالى (وَإِذَا الصّحُفُ نُشِرَتْ) [التكوير: 10](2/21)
قال الشيخ يا جارية اذهبي فأنت حرة لوجه الله تعالى وألقى ما معه من الشراب في الماء وكسر العود ثم دنا إلي فاعتنقني وقال يا أخي أترى الله يقبل توبتي فقلت (إِنّ اللّهَ يُحِبّ التّوّابِينَ وَيُحِبّ الْمُتَطَهّرِينَ) [البقرة: 222]
قال فواخيته بعد ذلك أربعين سنة حتى مات قبلي فرأيته في المنام فقلت له إلى ما صرت ؟ قال إلى الجنة قلت بم صرت إلى الجنة ؟ قال بقراءتك علي (وَإِذَا الصّحُفُ نُشِرَتْ) [التكوير: 10] .
(توبة شيخ مُهَلَبِّي وجاريته عن الشراب والضرب بالعود:
[*] أورد ابن قدامة المقدسي في كتابه التوابين عن إسماعيل بن عبدالله الخزاعي قال « قدم رجل من المهالبة من البصرة أيام البرامكة في حوائج له فلما فرغ منها انحدر إلى البصرة ومعه غلام له وجارية فلما صار في دجلة إذا بفتى على ساحل دجلة عليه جبة صوف وبيده عكازة ومزود ، قال فسأل الملاح أن يحمله إلى البصرة ويأخذ منه الكراء ، قال فأشرف الشيخ المهلبي فلما رآه رق له فقال : للملاح قرب واحمله معك على الظلال فحمله فلما كان في وقت الغداء دعا الشيخ بالسفرة وقال للملاح قل للفتى ينزل إلينا فأبى عليه ، فلم يزل يطلب إليه حتى نزل فأكلوا حتى إذا فرغوا ذهب الفتى ليقوم فمنعه الشيخ حتى توضؤوا ثم دعا بزكرة فيها شراب فشرب قدحا ثم سقى الجارية ثم عرض على الفتى فأبى وقال : أحب أن تعفيني ، قال قد أعفيناك، اجلس معنا وسقى الجارية وقال هاتي ما عندك فأخرجت عودا لها في كيس فهيأته وأصلحته ثم أخذت فغنت ، فقال يا فتى تحسن مثل هذا قال أحسن ما هو أحسن من هذا فافتتح الفتى بسم الله الرحمن الرحيم (قُلْ مَتَاعُ الدّنْيَا قَلِيلٌ وَالاَخِرَةُ خَيْرٌ لّمَنِ اتّقَىَ وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً * أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مّشَيّدَة) [النساء 77: 78](2/22)
وكان الفتى حسن الصوت قال فرج الشيخ بالقدح في الماء وقال أشهد أن هذا أحسن مما سمعت فهل غير هذا ؟ قال نعم (وَقُلِ الْحَقّ مِن رّبّكُمْ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ إِنّا أَعْتَدْنَا لِلظّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوجُوهَ بِئْسَ الشّرَابُ وَسَآءَتْ مُرْتَفَقاً) [الكهف: 29]
قال فوقعت من قلب الشيخ موقعا قال فأمر بالركزة فرمى بها وأخذ العود فكسره ثم قال يا فتى هل هاهنا فرج قال نعم (قُلْ يَعِبَادِيَ الّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىَ أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رّحْمَةِ اللّهِ إِنّ اللّهَ يَغْفِرُ الذّنُوبَ جَمِيعاً إِنّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرّحِيمُ) [الزمر: 53]
قال فصاح الشيخ صيحة خر مغشيا عليه فنظروا فإذا الشيخ قد ذاق الموت وقد قاربوا البصرة قال فضج القوم بالصراخ واجتمع الناس وكان رجلا من المهالبة معروفا فحمل إلى منزله فما رأيت جنازة كانت أكثر جمعا منها قال فبلغني أن الجارية المغنية تدرعت الشعر وفوق الشعر جبة صوف وجعلت تقوم الليل وتصوم النهار فمكثت بعده أربعين ليلة ثم مرت بهذه الآية في بعض الليالي (وَقُلِ الْحَقّ مِن رّبّكُمْ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ إِنّا أَعْتَدْنَا لِلظّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوجُوهَ بِئْسَ الشّرَابُ وَسَآءَتْ مُرْتَفَقاً) [الكهف: 29] قال فأصبحوا فأصابوها ميتة. »
(توبة أعرابي لسماع آية من القرآن :(2/23)
[*] أورد ابن قدامة المقدسي في كتابه التوابين عن الأصمعي قال « أقبلت ذات يوم من المسجد الجامع بالبصرة فبينا أنا في بعض سككها إذ طلع أعرابي جلف جاف على قعود له متقلد سيفه وبيده قوس فدنا وسلم وقال لي ممن الرجل ؟ قلت من بني الأصمع ، قال أنت الأصمعي ؟ قلت نعم ، قال ومن أين أقبلت ؟ قلت من موضع يتلى فيه كلام الرحمن قال وللرحمن كلام يتلوه الآدميون؟ قلت : نعم ، قال اتل علي شيئا منه ، فقلت له انزل عن قعودك فنزل وابتدأت بسورة الذاريات فلما انتهيت إلى قوله تعالى: (وَفِي السّمَآءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ) [الذاريات : 22] قال « يا أصمعي هذا كلام الرحمن قلت إي والذي بعث محمدا بالحق إنه لكلامه أنزله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم فقال لي حسبك ثم قام إلى ناقته فنحرها وقطعها بجلدها وقال أعني على تفريقها ففرقناها على من أقبل وأدبر ثم عمد إلى سيفه وقوسه فكسرهما وجعلهما تحت الرحل وولى مدبرا نحو البادية وهو يقول (وَفِي السّمَآءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ) [الذاريات : 22]
فأقبلت على نفسي باللوم وقلت لم تنتبه لما انتبه له الأعرابي فلما حججت مع الرشيد دخلت مكة فبينا أنا أطوف بالكعبة إذ هتف بي هاتف بصوت دقيق فالتفت فإذا أنا بالأعرابي نحيلا مصفارا فسلم علي وأخذ بيدي وأجلسني من وراء المقام وقال لي اتل كلام الرحمن فأخذت في سورة الذاريات فلما انتهيت إلى قوله تعالى» (وَفِي السّمَآءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ) [الذاريات : 22] « صاح الأعرابي وجدنا ما وعدنا ربنا حقا ثم قال وهل غير هذا قلت نعم يقول الله عز وجل (فَوَرَبّ السّمَآءِ وَالأرْضِ إِنّهُ لَحَقّ مّثْلَ مَآ أَنّكُمْ تَنطِقُونَ) [الذاريات : 23] فصاح الأعرابي وقال يا سبحان الله من الذي أغضب الجليل حتى حلف ألم يصدقوه حتى ألجؤوه إلى اليمين قالها ثلاثا وخرجت فيها روحه »
(توبة لبيب العابد عن قتل الحيات :(2/24)
[*] أورد ابن قدامة المقدسي في كتابه التوابين عن القاضي أبي علي التنوخي قال « كان ينزل بباب الشام من الجانب الغربي ببغداد رجل مشهور بالزهد والعبادة يقال له لبيب العابد وكان الناس ينتابونه فحدثني لبيب قال : كنت مملوكا روميا لبعض الجند فرباني وعلمني العمل بالسلاح فصرت رجلا ومات مولاي بعد أن أعتقني فتوصلت إلى أن جعلت رزقه لي وتزوجت امرأته وقد علم الله تعالى أني لم أرد بذلك إلا صيانتها وأقمت معها مدة فاتفق أني رأيت يوما حية داخلة إلى جحرها فأمسكت ذنبها لأقتلها فوثبت علي فنهشت يدي فشلت ومضى زمن طويل على هذا فشلت يدي الأخرى بغير سبب أعرفه ثم جفت رجلاي ثم عميت ثم خرست فكنت على هذه الحال سنة كاملة لم يبق لي جارحة صحيحة إلا سمعي أسمع به ما أكره وأنا طريح على ظهري لا أقدر على كلام ولا إيماء ولا حركة أسقى وأنا ريان وأترك وأنا عطشان وأطعم وأنا شبعان وأمنع وأنا جائع ، فلما كان بعد سنة دخلت امرأة على زوجتي فقالت كيف أبو علي لبيب فقالت لها زوجي لا حي فيرجى ولا ميت فيسلى ، فأقلقني ذلك وآلم قلبي ألما شديدا فبكيت وضججت إلى الله تعالى في سري ودعوت وكنت في جميع تلك العلل لا أجد ألما في نفسي فلما كان في بقية ذلك اليوم ضرب علي جسدي ضربانا شديدا كاد يتلفني ولم يزل على ذلك إلى أن دخل الليل وانتصف أو جاز فسكن الألم قليلا فنمت فما أحسست إلا وقد انتبهت وقت السحر وإحدى يدي على صدري وقد كانت طول السنة مطروحة على الفراش لا تنشال أو تشال فحركتها فتحركت ففرحت فرحا شديدا وقوي طمعي في تفضل الله بالعافية فحركت الأخرى فتحركت فقبضت إحدى رجلي فانقبضت فرددتها فرجعت وفعلت بالأخرى مثل ذلك فَرُمْت الانقلاب فانقلبت وجلست وَرُمْت القيام فقمت ونزلت عن السرير الذي كنت مطروحا عليه وكان في بيت من الدار فمشيت ألتمس الحائط في الظلمة إلى أن وقعت يدي على الباب وأنا لا أطمع في بصري فخرجت إلى صحن الدار فرأيت السماء والكواكب(2/25)
تزهر فكدت أموت فرحا وانطلق لساني بأن قلت يا قديم الإحسان لك الحمد ثم صحت بزوجتي فقالت أبو علي فقلت الساعة صرت أبا علي اسرجي فأسرجت فقلت جيئيني بمقراض فجاءت به فقصصت شاربا كان لي على زي الجند فقالت لي زوجتي ما تصنع الآن يعيبك رفقاؤك فقلت بعد هذا لا أخدم أحدا غير ربي فانقطعت إلى الله عز وجل وخرجت من الدار ولزمت عبادة ربي قال وكانت هذه الكلمة يا قديم الإحسان لك الحمد قد صارت عادته يقولها في حشو كلامه وكان يقال إنه مجاب الدعوة. »
(توبة المعتصم ورجوعه عن قتل تميم بن جميل:(2/26)
[*] أورد ابن قدامة المقدسي في كتابه التوابين عن أحمد بن أبي دواد قال « ما رأيت رجلا قط أشرف على الموت فما شغله ولا أذهله عما يريد حتى بلغه وخلصه الله عز وجل إلا تميم بن جميل فإني رأيته بين يدي المعتصم وقد بسط له النطع وانتضي له السيف وكان رجلا جسيما وسيما فأحب المعتصم أن يستنطقه لينظر أين منظره من مخبره فقال له تكلم فقال : أما إذ أذن أمير المؤمنين فالحمد لله الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين السجدة ، يا أمير المؤمنين جبر الله بك صدع الدين ولم بك شعث المسلمين إن الذنوب تخرس الألسنة وتخلع الأفئدة وأيم الله لقد عظمت الجريرة وانقطعت الحجة وساء الظن ولم يبق إلا عفوك أو انتقامك ثم أنشأ يقول أرى الموت بين السيف والنطع كامنا يلاحظني من حيث ما أتلفت وأكبر ظني أنك اليوم قاتلي وأي امرىء مما قضى الله يفلت وأي امرىء يدلي بعذر وحجة وسيف المنايا بين عينيه مصلت وما جزعي من أن أموت فإنني لأعلم أن الموت شيء مؤقت ولكن خلفي صبية قد تركتهم وأكبادهم من حرها تتفتت فإن عشت عاشوا سالمين بغبطة أذود العدى عنهم وإن مت ماتوا كأني أراهم حين أنعى إليهم وقد لطموا تلك الخدود وصوتوا قال فاستعبر المعتصم ثم قال يا تميم قد عفوت عن الهفوة ووهبتك للصبية ثم أمر به ففك خديده وخلع عليه وعقد له على سقي الفرات. »
(توبة لص من اللصوص عن التعرض للناس :(2/27)
[*] أورد ابن قدامة المقدسي في كتابه التوابين عن أمة الملك بنت هشام بن حسان قالت « خرج عطاء الأزرق إلى الجبان يصلي بالليل فعرض له لص فقال اللهم اكفنيه قال فجفت يداه ورجلاه قال فجعل يبكي ويصيح والله لا أعود أبدا ، قال فدعا الله له فأطلق قال فاتبعه اللص فقال له أسألك بالله من أنت ؟ قال أنا عطاء فلما أصبح سأل تعرفون رجلا صالحا يخرج بالليل إلى الجبان يصلي قالوا نعم عطاء السلمي قال فذهب إلى عطاء السلمي إلى الخربة فدخل عليه وقال إني جئتك تائبا من قصتي كذا وكذا فادع الله لي قال فرفع عطاء السلمي يديه إلى السماء وجعل يبكي ويقول ويحك ليس أنا ذاك عطاء الأزرق . »
(توبة نباش عن نبش القبور :
[*] أورد ابن قدامة المقدسي في كتابه التوابين عن إسحاق الفزاري قال « كان رجل يكثر الجلوس إلينا ونصف وجهه مغطى فقلت له إنك تكثر الجلوس إلينا ونصف وجهك مغطى أطلعني على هذا فقال تعطيني الأمان قلت نعم قال كنت نباشا فدفنت امرأة فأتيت قبرها فنبشت حتى وصلت إلى اللبن ثم رفعت اللبن فضربت بيدي إلى الرداء ثم ضربت بيدي إلى اللفافة فمددتها فجعلت تمدها هي فقلت أتراها تغلبني فجثيت على ركبتي فمددت فرفعت يدها فلطمتني وكشف وجهه فإذا أثر خمس أصابع في وجهه فقلت له ثم مه قال ثم رددت عليها لفافتها وإزارها ثم رددت التراب وجعلت على نفسي أن لا أنبش ما عشت قال فكتبت بذلك إلى الأوزاعي فكتب إلي الأوزاعي ويحك سله عمن مات من أهل التوحيد ووجهه إلى القبلة أحول وجهه أم ترك وجهه إلى القبلة قال فجاءني الكتاب فقلت له أخبرني عمن مات من أهل الإسلام أترك وجهه على ما كان أم ماذا فقال أكثر ذلك حول وجهه عن القبلة فكتبت بذلك إلى الأوزاعي فكتب إلي إنا لله وإنا إليه راجعون ثلاث مرات أما من حول وجهه عن القبلة فإنه مات على غير السنة. »
(توبة شاب مسرف على نفسه على يد إبراهيم بن أدهم :(2/28)
[*] أورد ابن قدامة المقدسي في كتابه التوابين أن رجلا جاء إلى إبراهيم بن أدهم فقال له يا أبا إسحاق إني مسرف على نفسي فاعرض علي ما يكون لها زاجرا ومستنقذا لقلبي ، قال : إن قبلت خمس خصال وقدرت عليها لم تضرك معصية ولم توبقك لذة قال هات يا أبا إسحاق ؟
قال أما الأولى : فإذا أردت أن تعصي الله عز وجل فلا تأكل رزقه ، قال فمن أين آكل وكل ما في الأرض من رزقه قال له يا هذا أفيحسن أن تأكل رزقه وتعصيه قال لا .
هات الثانية ؟ قال وإذا أردت أن تعصيه فلا تسكن شيئا من بلاده قال الرجل هذه أعظم من الأولى يا هذا إذا كان المشرق والمغرب وما بينهما له فأين أسكن قال يا هذا أفيحسن أن تأكل رزقه وتسكن بلاده وتعصيه قال لا.
هات الثالثة ؟ قال إذا أردت أن تعصيه وأنت تحت رزقه وفي بلاده فانظر موضعا لا يراك فيه مبارزا له فاعصه فيه ، قال يا إبراهيم كيف هذا وهو مطلع على ما في السرائر قال يا هذا أفيحسن أن تأكل رزقه وتسكن بلاده وتعصيه وهو يراك ويرى ما تجاهره به قال لا ، هات الرابعة ؟ قال إذا جاءك ملك الموت ليقبض روحك فقل له أخرني حتى أتوب توبة نصوحا وأعمل لله عملا صالحا قال لا يقبل مني قال يا هذا فأنت إذا لم تقدر أن تدفع عنك الموت لتتوب وتعلم أنه إذا جاء لم يكن له تأخير فكيف ترجو وجه الخلاص .
قال هات الخامسة ؟ قال إذا جاءتك الزبانية يوم القيامة ليأخذونك إلى النار فلا تذهب معهم قال لا يدعونني ولا يقبلون مني قال فكيف ترجو النجاة إذا قال له يا إبراهيم حسبي حسبي أنا أستغفر الله وأتوب إليه ولزمه في العبادة حتى فرق الموت بينهما. »
(توبة عاصي في جوف الليل وموته لسماع آية من القرآن فيها ذكر النار :(2/29)
[*] أورد ابن قدامة المقدسي في كتابه التوابين عن منصور بن عمار قال « حججت حجة فنزلت سكة من سكك الكوفة فخرجت في ليلة مظلمة فإذا بصارخ يصرخ في جوف الليل وهو يقول إلهي وعزتك وجلالك ما أردت بمعصيتي مخالفتك وقد عصيتك إذ عصيتك وما أنا بناكلك جاهل ولكن خطيئة عرضت لي أعانني عليها شقائي وغرني سترك المرخي علي وقد عصيتك بجهدي وخالفتك بجهلي ولك الحجة علي فالآن من عذابك من يستنقذني وبحبل من أتصل إذا قطعت حبلك مني واشباباه واشباباه قال فلما فرغ من قوله تلوت آية من كتاب الله (نَاراً وَقُودُهَا النّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاّ يَعْصُونَ اللّهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) [ التحريم : 6] فسمعت حركة شديدة ثم لم أسمع بعدها حسا فمضيت فلما كان من الغد رجعت في مدرجتي إذا بجنازة قد وضعت وإذا بعجوز كبيرة فسألتها عن أمر الميت ولم تكن عرفتني فقالت هذا رجل لا جزاه الله إلا جزاءه مر بابني البارحة وهو قائم يصلي فتلا آية من كتاب الله فلما سمعها ابني تفطرت مرارته فوقع ميتا.
(توبة منازل بن لاحق :(2/30)
[*] أورد ابن قدامة المقدسي في كتابه التوابين عن الحسن بن علي رضي الله عنهما قال « بينما أنا أطوف مع أبي حول البيت في ليلة ظلماء وقد رقدت العيون وهدأت الأصوات إذ سمع أبي هاتفا يهتف بصوت حزين شجي وهو يقول يا من يجيب دعا المضطر في الظلم يا كاشف الضر والبلوى مع السقم قد نام وفدك حول البيت وانتبهوا وأنت عينك يا قيوم لم تنم هب لي بجودك فضل العفو عن جرمي يا من إليه أشار الخلق في الحرم إن كان عفوك لا يدركه ذو سرف فمن يجود على العاصين بالكرم قال فقال أبي : يا بني أما تسمع صوت النادب لذنبه المستقيل لربه الحقه فلعل أن تأتيني به فخرجت أسعى حول البيت أطلبه فلم أجده حتى انتهيت إلى المقام وإذا هو قائم يصلي فقلت أجب ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأوجز في صلاته واتبعني فأتيت أبي فقلت هذا الرجل يا أبت فقال له أبي ممن الرجل ؟ قال من العرب قال وما اسمك ؟ قال منازل بن لاحق قال وما شأنك ؟ وما قصتك ؟ قال وما قصة من أسلمته ذنوبه وأوبقته عيوبه فهو مرتطم في بحر الخطايا فقال له أبي علي ذلك فاشرح لي خبرك قال كنت شابا على اللهو والطرب لا أفيق عنه وكان لي والد يعظني كثيرا ويقول يا بني احذر هفوات الشباب وعثراته فإن لله سطوات ونقمات ما هي من الظالمين ببعيد وكان إذا ألح عليَّ بالموعظة ألححت عليه بالضرب فلما كان يوم من الأيام ألح علي بالموعظة فأوجعته ضربا فحلف بالله مجتهدا ليأتين بيت الله الحرام فيتعلق بأستار الكعبة ويدعو علي فخرج حتى انتهى إلى البيت فتعلق بأستار الكعبة وأنشأ يقول يا من إليه أتى الحجاج قد قطعوا عرض المهامه من قرب ومن بعد ، إني أتيتك يا من لا يخيب من يدعوه مبتهلا بالواحد الصمد هذا منازل لا يرتد عن عققي فخذ بحقي يا رحمان من ولدي وشل منه بحول منك جانبه يا من تقدس لم يولد ولم يلد ، قال فو الله ما استتم كلامه حتى نزل بي ما ترى ثم كشف عن شقه الأيمن فإذا هو يابس قال فأبت ورجعت ولم أزل(2/31)
أترضاه وأخضع له وأسأله العفو عني إلى أن أجابني أن يدعو لي في المكان الذي دعا علي قال فحملته على ناقة عشراء وخرجت أقفو أثره حتى إذا صرنا بوادي الأراك طار طائر من شجرة فنفرت الناقة فرمت به بين أحجار فرضخت رأسه فمات فدفنته هناك وأقبلت آيسا وأعظم ما بي ما ألقاه من التعيير أني لا أعرف إلا بالمأخوذ بعقوق والديه فقال له أبي أبشر فقد أتاك الغوث فصلى ركعتين ثم أمره فكشف عن شقه بيده ودعا له مرات يرددهن فعاد صحيحا كما كان وقال له أبي لولا أنه قد كان سبقت إليك من أبيك في الدعاء لك بحيث دعا عليك لما دعوت لك ، قال الحسن وكان أبي يقول لنا احذروا دعاء الوالدين فإن في دعائهما النماء والانجبار والاستئصال والبوار. »
(توبة شاب عن الانهماك في الدنيا :(2/32)
[*] أورد ابن قدامة المقدسي في كتابه التوابين عن جعفر بن سليمان قال « مررت أنا ومالك بن دينار بالبصرة فبينا نحن ندور فيها مررنا بقصر يعمر وإذا شاب جالس ما رأيت أحسن وجها منه وإذا هو يأمر ببناء القصر ويقول افعلوا واصنعوا فقال لي مالك ما ترى إلى هذا الشاب وإلى حسن وجهه وحرصه على هذا البناء ما أحوجني إلى أن أسأل ربي أن يخلصه فلعله يجعله من شباب الجنة يا جعفر ادخل بنا إليه قال جعفر فدخلنا فسلمنا فرد السلام ولم يعرف مالكا فلما عرفوه إياه قام إليه فقال حاجة قال كم نويت أن تنفق على هذا القصر قال مائة ألف درهم قال ألا تعطيني هذا المال فأضعه في حقه وأضمن لك على الله تعالى قصرا خيرا من هذا القصر بولدانه وخدمه وقبابه وخيمه من ياقوتة حمراء مرصع بالجواهر ترابه الزعفران وملاطه المسك أفيح من قصرك هذا لا يخرب لا تمسه يدان ولم يبنه بناء قال له الجليل كن فكان قال أجلني الليلة وبكر علي غدوة قال جعفر فبات مالك وهو يفكر في الشاب فلما كان في وقت السحر دعا وأكثر من الدعاء فلما أصبحنا غدونا فإذا بالشاب جالس فلما عاين مالكا هش إليه ثم قال ما تقول في ما قلت بالأمس قال تفعل قال نعم فأحضر البدر ودعا بدواة وقرطاس ثم كتب بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما ضمن مالك بن دينار لفلان بن فلان إني ضمنت لك على الله قصرا بدل قصرك بصفته كما وصفت والزيادة على الله واشتريت لك بهذا المال قصرا في الجنة أفيح من ظل ظليل بقرب العزيز الجليل ثم طوى الكتاب ودفعه إلى الشاب وحملنا المال فما أمسى مالك وقد بقي عنده مقدار قوت ليلة فما أتى على الشاب أربعون ليلة حتى صلى مالك ذات يوم الغداة فلما انفتل فإذا بالكتاب في المحراب موضوع فأخذه مالك فنشره فإذا في ظهره مكتوب بلا مداد هذه براءة من الله العزيز الحكيم لمالك بن دينار إنا وفينا الشاب القصر الذي ضمنت له وزيادة سبعين ضعفا قال فبقي مالك متعجبا وأخذ الكتاب فقمنا فذهبنا إلى منزل الشاب(2/33)
فأقبلنا فإذا الباب مسود والبكاء في الدار فقلنا ما فعل الشاب قالوا مات بالأمس فأحضرنا الغاسل فقلنا أنت غسلته قال نعم قال مالك فحدثنا كيف صنعت قال قال لي قبل الموت إذا أنا مت وكفنتني اجعل هذا الكتاب بين كفني وبدني فجعلت الكتاب بين كفنه وبدنه ودفنته معه فأخرج مالك الكتاب فقال الغاسل هذا الكتاب بعينه والذي قبضه لقد جعلته بين كفنه وبدنه بيدي قال فكثر البكاء فقام شاب فقال يا مالك خذ مني مائتي ألف درهم واضمن لي مثل هذا قال هيهات كان ما كان وفات ما فات والله يحكم ما يريد فكلما ذكر مالك الشاب بكى ودعا له. »
(توبة جندي صاحب قصر عن الغناء والملاهي :(2/34)
[*] أورد ابن قدامة المقدسي في كتابه التوابين عن إسحاق الهروي قال « كنت مع ابن الخيوطي بالبصرة فأخذ بيدي وقال قم حتى نخرج إلى الأبلة فلما قربنا إلى الأبلة ونحن نمشي على شاطىء الأبلة في الليل والقمر طالع مررنا بقصر لجندي فيه جارية تضرب بالعود وفي جانب القصر في ظل القمر فقير بخرقتين فسمع الفقير الجارية وهي تقول كل يوم تتلون غير هذا بك أجمل فصاح الفقير وقال أعيديه فهذا حالي مع الله تعالى قال فنظر صاحب الجارية إلى الفقير فقال لها اتركي العود وأقبلي عليه فإنه صوفي فأخذت تقول والفقير يقول هذا حالي مع الله والجارية تردد إلى أن صاح الفقير صيحة وخر مغشيا عليه فحركناه فإذا هو ميت فلما سمع صاحب القصر بموته نزل فأدخله إلى القصر واغتممنا وقلنا هذا يكفنه من غير وجهه فصعد الجندي وكسر كل ما كان بين يديه فقلنا ما بعد هذا إلا خير ومضينا إلى الأبلة فبتنا وأعلمنا الناس فلما أصبحنا رجعنا إلى القصر وإذا الناس مقبلون من كل وجه إلى الجنازة كأنما نودي في البصرة حتى خرج القضاة والعدول وغيرهم وإذا الجندي يمشي خلف الجنازة حافيا حاسرا حتى دفن فلما هم الناس بالانصراف قال الجندي للقاضي والشهود اشهدوا أن كل جارية لي حرة لوجه الله تعالى وكل ضياعي وعقاري حبيس في سبيل الله ولي في صندوق أربعة آلاف دينار وهي في سبيل الله ثم نزع الثوب الذي كان عليه فرمى به وبقي في سراويله فقال القاضي عندي مئزران من وجههما تقبلهما فقال شأنك فأخذهما فاتزر بواحد واتشح بالآخر وهام على وجهه فكان بكاء الناس عليه أكثر منه على الميت. »
( توبة الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى :(2/35)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الفضل بن موسى قال كان الفضيل بن عياض شاطرا يقطع الطريق بين أبيورد وسرخس وكان سبب توبته أنه عشق جارية فبينا هو يرتقي الجدران إليها إذ سمع تاليا يتلو " (أَلَمْ يَأْنِ لِلّذِينَ آمَنُوَاْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللّهِ وَمَا ) [ الحديد : 16] " فلما سمعها قال بلى يا رب قد آن فرجع فآواه الليل إلى خربة فإذا فيها سابلة فقال بعضهم نرحل وقال بعضهم حتى نصبح فإن فضيلاً على الطريق يقطع علينا، قال : ففكرت وقلت أنا أسعى بالليل في المعاصي وقوم من المسلمين ها هنا يخافوني وما أرى الله ساقني إليهم إلا لأرتدع اللهم إني قد تبت إليك وجعلت توبتي مجاورة البيت الحرام .
قال الإمام الذهبي تعليقا على القصة :
وبكل حال : فالشرك أعظم من قطع الطريق ، وقد تاب من الشرك خلق صاروا أفضل الأمة ، فنواصي العباد بيد الله ، وهو يضل من يشاء ، ويهدي إليه من أناب .
(توبة المجوسي علي يد الحسن البصري :
[*](أورد الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في بحر الدموع عن الحسن البصري رضي الله عنه أنه قال : ( دخلت على بعض المجوس وهو يجود بنفسه عند الموت، وكان حسن الجوار، وكان حسن السيرة، حسن الأخلاق، فرجوت أن الله يوفقه عند الموت، ويميته على الإسلام، فقلت له : ما تجد، وكيف حالك ؟ فقال : لي قلب عليل ولا صحة لي، وبدن سقيم، ولا قوة لي، وقبر موحش ولا أنيس لي، وسفر بعيد ولا زاد لي، وصراط دقيق ولا جواز لي، ونار حامية ولا بدن لي , وجنّة عالية ولا نصيب لي، ورب عادل ولا حجة لي .
قل الحسن : فرجوت الله أن يوفقه، فأقبلت عليه، وقلت له : لم لا تسلم حتى تسلم ؟ قال : إن المفتاح بيد الفتاح، والقفل هنا، وأشار إلى صدره وغشي عليه .
قال الحسن : فقلت : إلهي وسيدي ومولاي، إن كان سبق لهذا المجوسي عندك حسنة فعجل بها إليه قبل فراق روحه من الدنيا، وانقطاع الأمل .(2/36)
فأفاق من غشيته، وفتح عينيه، ثم أقبل وقال : يا شيخ، إن الفتاح أرسل المفتاح . أمدد يمناك، فأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله، ثم خرجت روحه وصار إلى رحمة الله .
(توبة شاب عندما مر بالمقابر فرأى عظما ناخرة :
[*](قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه التبصرة :
كان لبعض العصاة أمٌ تعظه ولا ينثني فمر يوماً بالمقابر فرأى عظما ناخرة فمسه فانفت في يده فأنفت نفسه فقال لنفسه أنا غدا هكذا فعزم على التوبة فرفع رأسه إلى السماء وقال يا إلهي اقبلني وارحمني ثم رجع إلى أمه حزينا فقال يا أماه ما يصنع بالآبق إذا أخذه سيده فقالت يغل قدميه ويديه ويخشن ملبسه ومطعمه قال يا أماه أريد جبة من صوف وأقراصا من شعير وافعلي بي ما يفعل بالعبد الآبق من مولاه لعل مولاي يرى ذلي فيرحمني ففعلت به ما طلب فكان إذا جن عليه الليل أخذ في البكاء والعويل فقالت له أمه ليلة يا بني ارفق بنفسك فقال يا أماه إن لي موقفاً طويلا بين يدي رب جليل فلا أدري أيؤمر بي إلى ظل ظليل أو إلى شر مقيل إني أخاف عناء لا راحة بعده أبداً وتوبيخاً لا عفو معه ، قالت فاسترح قليلاً فقال الراحة أطلب يا أماه كأنك بالخلائق غداً يساقون إلى الجنة وأنا أساق إلى النار فمرت به ليلة في تهجده هذه الآية (فَوَرَبّكَ لَنَسْأَلَنّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) [الحجر 92، 93]
فتفكر فيها وبكى واضطرب وغشي عليه فجعلت أمه تناديه ولا يجيبها فقالت له قرة عيني أين الملتقى فقال بصوت ضعيف إن لم تجديني في عرصةِ القيامة فسلي مالكاً عني ثم شهق شهقة فمات رحمه الله فخرجت أمه تنادي أيها الناس هلموا إلى الصلاة على قتيل النار فلم ير أكثر جمعا ولا أغزر دمعا من ذلك اليوم هذه والله علامة المحبين وأمارات الصادقين وصفات المحزونين .(2/37)
سبحان من وفق للتوبة أقواماً ثبت لهم على صراطها أقداماً ، كفوا الأكف عن المحارم احتراما ، وأتعبوا في استدراك الفارط عظاماً ، فكفر عنهم ذنوباً وآثاماً ، ونشر لهم بالثناء على ما عملوا أعلاما .
( ثانياً : قصصٌ للتائبين المعاصرين لأنها أوقع في النفس :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
إنّ قصص التائبين لا تنقضي ، وأخبارهم لا تنتهي ، فمع إشراقة شمس كلّ يوم جديد يتوب إلى الله تائب ، ويؤوب إلى حظيرة الإيمان آيب، فطوبى لمن بادر بالتوبة النصوح قبل خروج الروح ، وأَخَذ من صحته لسقمه ومن حياته لموته ، ومن شبابه لهرمه ، ومن غناه لفقره .
، وإن مما لا شك فيه أن قصصٌ التائبين المعاصرين أوقع في النفس ، لذلك انتقينا منها أشد القصص تأثيراً ، قصصٌ تظهر فيها دموع التوابين وأنين المذنبين ونشيج الأوابين وعبرات المنينين ، وجه مدفون بين كفين ملأى بالدموع.. قلبٌ يرتجف كورقة خريفية مآلها السقوط.. دموعٌ تنهمر بغزارة في صمت رهيب.. تنهار من مآقي عينه كالسيول الجارفة مشبعة بمرارة مضنية.. آلام غائرة مستكنة في قرارة نفسه.. هموم وغموم رابضة على قلبه.. ! الليل يتأوه لحزنه.. لكربه.. موجاتٌ من الندم والحسرة تهدر أعماقه بل تمتد فتقبض أنفاسه..! كم عصفت به أعاصير الهوى فحركت مركبه حيث شاءت.. حيث العوج الخُلقي.. حيث السطو على العواطف.. حيث تلّون القلب بالأقذار..!
كم انتابه ذاك السعار الملهوف.. وتلك الشهوات المجنونة فبصمت على آثارها.. كم مرة خلع فيها خير لباس.. لباس التقوى، وتدثر بذلك الثوب الخلِق.. البالي.. القذر.. المزركش بتلك الخطايا..!
كم خطفته تلك النشوة المؤقتة إلى منزلقٍ خطير.. بل إلى منحدر سحيق حيث التمرغ بأوحال الخطايا والآثام..!
ها هي مقابر الأحزان تلتف حول عنقه.. ها هو بين الحين والحين يحمل الأكفان المثقلة بأجساد الذكريات النتنة.. العفنة..
،(2/38)
وغالب هذه القصص من كتاب (العائدون إلى الله) لمحمد بن عبد العزيز المسند فإنه كتاب عظيم النفع جداً في هذا المجال ، جزى الله جَامِعَه خَيْرَ الجزاء وأنعم عليه بنعمٍ فوق ما يخطر ببال أو يدور في الخيال ، وقد قمت بتقسيمها إلى ثلاث أقسام رئيسية كما يلي :
(
(القسم الأول : توبة الشيوخ والعلماء :
( القسم الثاني : توبة الفنانين والفنانات :
(القسم الثالث : توبة أناسٍ غارقين في المعاصي إلى الأذقان :
وهاك القصص بين يديك : (
(القسم الأول : توبة الشيوخ والعلماء :
(القسم الأول : توبة الشيوخ والعلماء :
(توبة الشيخ أحمد القطان (1) :
الشيخ أحمد القطان من الدعاة المشهورين والخطباء المعروفين يروي قصة توبته فيقول:
إن في الحياة تجارب وعبراً ودروساً ... لقد مررت في مرحلة الدراسة بنفسية متقلّبة حائرة ... لقد درست التربية الإسلامية في مدارس التربية ـ ولا تربية ـ ثمانية عشر عاماً.
وتخرجت بلا دين ... وأخذت ألتفت يميناً وشمالاً: أين الطريق؟ هل خلفت هكذا في الحياة عبثاً؟.. أحس فراغاً في نفسي وظلاماً وكآبةً.. أفر إلى البر ... وحدي في الظلام لعلي أجد هناك العزاء، ولكن أعود حزيناً كئيباً.
وتخرجت في معهد المعلمين 1969م وفي هذه السنة والتي قبلها حدث في حياتي حدث غريب تراكمت فيه الظلمات والغموم إذ قام الحزب الشيوعي باحتوائي ونشر قصائدي في مجلاتهم وجرائدهم ، والنفخ فيها ، وأخذوا يفسرون العبارات والكلمات بزخرف من القول يوحي به بعضهم إلى بعض حتى نفخوا فيّ نفخة ظننت أنني أن الإمام المنتظر؟
وما قلت كلمة إلا وطبّلوا وزمّروا حولها ... وهي حيلة من حيلهم ، إذا أرادوا أن يقتنصوا ويفترسوا فرداً ينظرون إلى هويته وهوايته ماذا يرغب ... يدخلون عليه من هذا المدخل.
__________
(1) هذه القصة ذكره الشيخ في محاضرة له بعنوان (تجاربي في الحياة)(2/39)
رأوني أميل على الشعر والأدب فتعهّدوا بطبع ديواني نشر قصائدي وعقدوا لي الجلسات واللقاءات الأدبية الساهرة ... ثم أخذوا يدسون السم في الدسم.
يذهبون بي إلى مكتبات خاصة ثم يقولون: اختر ما شئت من الكتب بلا ثمن فأحم كتباً فاخرة أوراقاً مصقولة ... طباعة أنيقة عناوينها: (أصول الفلسفة الماركسية)، (المبادئ الشيوعية) وهكذا بدءوا بالتدريج يذهبون بي إلى المقاهي الشعبية العامة، فإذا جلست معهم على طاولة قديمة تهتز ... أشرب الشاي بكوب قديم وحولي العمال ... فإذا مرّ رجل بسيارته الأمريكية الفاخرة قالوا: انظر، إن هذا يركب السيارة من دماء آبائك وأجدادك ... وسيأتي عليك اليوم الذي تأخذها منه بالثورة الكبرى التي بدأت وستستمر ... إننا الآن نهيئها في (ظفار) ونعمل لها، وإننا نهيئها في الكويت ونعمل لها، وستكون قائداً من قوادها.
وبينما أنا اسمع هذا الكلام أحسّ أن الفراغ في قلبي بدأ يمتلئ بشيء لأنك إن لم تشغل قلبك بالرحمن أشغله الشيطان ... فالقلب كالرحى ... يدور ... فإن وضعت به دقيقاً مباركاً أخرج لك الطحين الطيب وإن وضعت فيه الحصى أخرج لك الحصى.
ويقدّر الله سبحانه وتعالى بعد ثلاثة شهور أن نلتقي برئيس الخلية الذي ذهب إلى مصر وغاب شهراً ثم عاد.
وفي تلك الليلة أخذوا يستهزئون بأذان الفجر ... كانت الجلسة تمتد من العشاء إلى الفجر يتكلمون بكلام لا أفهمه مثل (التفسير المادي للتاريخ) و (الاشتراكية والشيوعية في الجنس والمال) ... ثم يقولون كلاماً أمرّره على فطرتي السليمة التي لا تزال ... فلا يمرّ ... أحس أنه يصطدم ويصطكّ ولكن الحياء يمنعني أن أناقش فأراهم عباقرة ... مفكرين ... أدباء ... شعراء ... مؤلفين كيف أجرؤ أن أناقشهم فأسكت .
ثم بلغت الحالة أن أذّن المؤذّن لصلاة الفجر فلما قال (الله أكبر) أخذوا ينكّتون على الله ثم لما قال المؤذن (أشهد أن محمّدا رسول الله) أخذوا ينكّتون على رسول الله، صلى الله عليه وسلم.(2/40)
وهنا بدأ الانفعال الداخلي والبركان الإيماني الفطري يغلي وإذا أراد الله خيراً بعباده بعد أن أراه الظلمات يسرّ له أسباب ذلك إذا قال رئيس الخلية: لقد رأيت الشيوعية الحقيقية في لقائي مع الأبنودي الشاعر الشعبي بمصر وهو الوحيد الذي رأيته يطبّقها تطبيقاً كاملاً.
فقلت: عجباً ... ما علامة ذلك؟!!.
قال: (إذا خرجنا في الصباح الباكر عند الباب فكما أن زوجته تقبله تقبلني معه أيضاً وإذا نمنا في الفراش فإنها تنام بيني وبينه ... ) هكذا يقول ... والله يحاسبه يوم القيامة فلما قال ذلك نَزَلَتْ ظلمة على عينيّ وانقباض في قلبي وقلت في نفسي: أهذا فكر؟!! أهذه حرية؟!! أهذه ثورة؟!! لا وربّ الكعبة إن هذا كلام شيطاني إبليسي!!
ومن هنا تجرأ أحد الجالسين فقال له: يا أستاذ مادمت أنت ترى ذلك فلماذا لا تدع زوجتكم تدخل علينا نشاركك فيها؟ قال: (إنني ما أزال أعاني من مخلفات البرجوازية وبقايا الرجعية ، وسيأتي اليوم الذي نتخلص فيه منه جميعا...)
ومن هذه الحادثة بدأ التحول الكبير في حياتي إذ خرجت أبحث عن رفقاء غير أولئك الرفقاء فقدّر الله أن ألتقي باخوة في (ديوانية)
كانوا يحافظون على الصلاة... وبعد صلاة العصر يذهبون إلى ساحل البحر ثم يعودون وأقصى ما يفعلونه من مأثم أنهم يلعبون (الورقة).
ويقدّر الله أن يأتي أحدهم إلىّ ويقول: يا أخ أحمد يذكرون أن شيخاً من مصر اسمه (حسن أيوب) جاء إلى الكويت ويمدحون جرأته وخطبته، ألا تأتي معي؟ قالها من باب حبّ الاستطلاع..
فقلت: هيا بنا.. وذهبت معه وتوضأت ودخلت المسجد وجلستُ وصليتُ المغرب ثم بدأ يتكلم وكان يتكلم واقفاً لا يرضى أن يجلس على كرسي وكان شيخاً كبيراً شاب شعر رأسه ولحيته ولكن القوة الإيمانية البركانية تتفجر من خلال كلماته لأنه كان يتكلم بأرواح المدافع لا بسيوف من خشب.(2/41)
وبعد أن فرغ من خطبته أحسستُ أني خرجت من عالمٍ إلى عالمٍ آخر.. من ظلمات إلى نور لأول مرة أعرف طريقي الصحيح وأعرف هدفي في الحياة ولماذا خلقت وماذا يراد مني وإلى أين مصيري..
وبدأت لا أستطيع أن أقدم أو أؤخر إلا أن أعانق هذا الشيخ وأسلّم عليه.
ثم عاد هذا الأخ يسألني عن انطباعي فقلت له: اسكت وسترى انطباعي بعد أيام..
عدتُ في الليلة نفسها واشتريت جميع الأشرطة لهذا الشيخ وأخذتُ أسمعها إلى أن طلعتِ الشمس ووالدتي تقدم لي طعام الإفطار فأردّه ثم طعام الغداء وأنا أسمع وأبكي بكاءً حارّاً وأحسّ أني قد ولدتُ من جديد ودخلتُ عالماً آخر وأحببتُ الرسول صلى الله عليه وسلم، وصار هو مثلي الأعلى وقدوتي وبدأتُ أنكبُ على سيرته قراءةً وسماعاً حتى حفظتها من مولده إلى وفاته صلى الله عليه وسلم، فأحسستُ أنني إنسان لأول مرة في حياتي وبدأت أعود فأقرأ القرآن فأرى كل آية فيه كأنها تخاطبني أو تتحدث عني (أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النّاسِ كَمَن مّثَلُهُ فِي الظّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مّنْهَا ) [الأنعام : 122] نعم.. لقد كنت ميتاً فأحياني الله ... ولله الفضل والمنة ... ومن هنا انطلقتُ مرة ثانية إلى أولئك الرفقاء الضالين المضلين وبدأت أدعوهم واحداً واحداً ولكن ... (إِنّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلََكِنّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) [القصص : 56] ... أما أحدهم فقد تاب بإذن الله وفضله، ثم ذهب إلى العمرة فانقلبتْ به السيارة ومات وأجره على الله.
وأما رئيس الخلية فقابلني بابتسامة صفراء وأنا أناقشه أقول له: أتنكر وجود الله؟!! وتريد أن تقنعي بأن الله غير موجود؟!! فابتسم ابتسامة صفراء وقال: يا أستاذ أحمد.. إنني أحسدك لأنك عرفت الطريق الآن.. أما أنا فاتركني.. فإن لي طريقي ولك طريقك.. ثم صافحني وانصرفت وظل هو كما هو الآن؟(2/42)
وأما البقية فمنهم من أصبح ممثلاً ومنهم من أصبح شاعراً يكتب الأغاني وله أشرطة (فيديو) يلقي الشعر وهو سكران... وسبحان الذي يُخرج الحي من الميت... ومن تلك اللحظة بدأت أدعو إلى الله رب العالمين.
(توبة والد الشيخ أحمد القطان :
الشيخ أحمد القطان -جزاه الله خيراً ـ كان هو السبب ـ بعد توفيق الله في هداية والده يروي لنا القصة فيقول (1)
أصيب والدي رحمه الله بمرض في الغوص حيث كانوا على ظهر سفينة فضربتهم صاعقة..
فقد كانوا داخلين في شط العرب يحملون التمور وكانت هناك سفينة كويتية معطلة تحتاج إلى بعض التصليح فطلب ربّان هذه السفينة من ربّان السفينة الأخرى التي فيها والدي أن يساعده فيجر معه (المحمل) حتى يخرجه من المكان الضحل إلى المكان العميق. فوعده أن يساعده في وقت آخر بعد أن يستقي الماء ويجره إلى المكان العميق إلا أنه كان مستعجلاً وكان محمّلا بضاعة ثقيلة فلم يف بوعده إذ (خطف) بالليل خفية وترك صاحبه الذي وعده قال والدي رحمه الله : فلما خرجنا من الخليج العربي جاءت سحابة فوق السفينة فبرقت ورعدت ونزلت منها صاعقة على الشراع فاحترق كله..
فكان والدي ممن أصيب بهذه الصاعقة إذ أصيب بمرض أشبه بالشلل .
وكان التجار يلومون ربان السفينة ويقولون له: لو أنك ساعدت ذلك الرجل صاحب السفينة المعطلة لما حدث ما حدث... ولكن... قدرّ الله وما شاء فعل...
ثم عادوا بوالدي رحمه الله إلى بيته وأصبح مقعداً لا يستطيع المشي وأكل ما عنده من مدخرات حتى أصبح يخرج وهو يزحف إلى الشارع لعله يجد من يجود عليه ولو بكسرة خبز.
__________
(1) هذه القصة ذكرها الشيخ في درس له بعنوان: (سلامة الصدر من الأحقاد),(2/43)
ولما بلغت به هذه الحالة وامتد مرضه ما يقارب العشر سنوات وهو جالس البيت بلا علاج وصفوا له شيخاً من المنتسبين للدين يقرأ على الناس الآيات والأحاديث للاستشفاء. واستدعي ذلك الشيخ الذي يسمونه (الملا) وكان أول سؤال وجّهه إلى والدي مع الأسف الشديد : كم تدفع على هذه القراءة؟!فقال والدي رحمه الله : أنا رجل فقير ومقعد وليس معي في جيبي إلا هذه النصف روبية هي ثمن طعامي أنا ووالدتي.. فقال (الملا) هذه لا تكفي .. وطلب أكثر من ذلك.. فلما لم يعطه والدي ما يريد خرج ولم يقرأ عليه شيئاً.
وهنا أحسّ والدي بامتعاض شديد وتولد عنده ردّ فعل عنيف جعله يكره الدين ويكره من ينتسب إلى هذا الدين... وأصبحت هذه الحادثة دائماً على لسانه لاسيما وأنه كان فصيحاً وذكياً يقول الشعر ويضرب الأمثال.. فسلط تلك الفصاحة وذلك الذكاء للسخرية بالمتدينين بسبب ذلك الموقف الذي وقفه ذلك الملا.
ومرت الأيام...
ويقدر الله جل وعلا أن يأتيه رجل فيقول له: لماذا لا تذهب إلى المستشفى (الأمريكاني) الذي يمدحه الناس ويثنون عيه وفيه طبيب جيد اسمه سكيدر... الخ وهو مستشفى تابع لإرساليات التبشير (النصرانية) التي تعمل لتنصير المسلمين أو إخراجهم من دينهم على الأقل..
فقال والدي ولكن كيف أستطيع الوصول إلى هذا المستشفى وهو بعيد عني بيتي وأنا لا أستطيع المشي .
ولم تكن في ذلك الوقت مواصلات تنقلهم كما هو الآن إلا عند أناس يعدون على الأصابع ومن هؤلاء المعدودين ذلك المستشفى المذكور حيث كان يملك سيارة وعند الدكتور سكيدر..
وعند أذان الفجر زحف والدي رحمه الله على فخذيه من بيته إلى المستشفى (الأمريكاني) فما وصله زحفاً إلا قبيل الظهر وكان ذلك في فصل الصيف.(2/44)
يقول رحمه الله : فلما وصلت إلى جدار المستشفى لم تبق فيّ قطرة ماء لا في فمي ولا في عيني ولا جسمي... وأحسست أن الشمس تحرقني وأكاد أموت حتى إني لا أستطيع أن أتكلم أو أصرخ أنادي.. فدنوت من الجدار ونمت وبدأت أتشهد استعداداً للموت .
يقول: ثم أغمي عليّ وظننت أني متّ فلما فتحت عيني إذا أنا في بيتي وبجواري دواء..
قال: فسألت الناس الذين كانوا يعالجون في المستشفى : ماذا حدث؟ فقالوا: إن الناس قد أخبروا الطبيب بأن هناك رجلاً قد أغمي عليه عند جدار المستشفى فنظر من النافذة فرآه فنزل مع الممرضين وحملوه ودخلوا به ثم بعد ذلك قام بتشخيصه تشخيصاً كاملاً حتى عرف المرض وأعطاه حقنة ثم بعد ذلك أعطاه الدواء وحمله بسيارته الخاصة وأوصله إلى البيت .
قال والدي رحمه الله : فلما وضعتُ يدي في جيبي وجدتُ بها خمس روبيات فسألت: من الذي وضع هذه الروبيات في جيبي؟ فقالت الوالدة وضعها الدكتور الذي أحضرك إلى هنا!!!.
وهنا يظهر الفرق الكبير بين ما فعله هذا (المبشر) النصراني وبين ما فعله ذلك (الملا) سامحه الله .
إن هذا النصراني لم يدعُ والدي إلى دينه بطريقة مباشرة وإنما أحسن معه المعاملة لكي يستميل قلبه ومن أصول الإرساليات التبشيرية (التنصيرية) التي تدرس لهم وقرأناه في الكتب ودرسناها نحن أنه ليس من الشرط أن تجعل المسلم نصرانياً.. إن جعلته نصرانياً فهذا تشريف للمسلم (هكذا يقولون) ولكن إذا عجزت أن تجعله نصرانياً فاحرص على أن تتركه بلا دين فإن تركته بلا دين فقد حققت المطلب الذي نريد.(2/45)
الشاهد أن الوالد رحمه الله شُفي وقام يمشي وظل ذلك الطبيب يزوره في كل أسبوع مرة ويتلطف معه ويمسح عليه وينظفه ويعالجه إلى أن تحسنت صحته وقام يمشي وبدأ يعمل ثم بعد تزوج فلما رزقه الله بابنه الأول ـ وهو أنا ـ ظل ولاؤه لهذا الطبيب لدرجة أنني لما بلغت الخامسة من عمري وبدأت أعقل بعض الأمور كان يأخذني كل أسبوع في زيارة مخصصة إلى ذلك الدكتور ويلقنني منذ الصغر ويقول: انظر إلى هذا الرجل الذي أمامك. إنه هو سبب شفاء والدك.. هذا الذي كان يعالجني في يوم من الأيام ويضع في جيبي خمس روبيات بينما يرفض (الملا) علاجي لأني لا أملك هذه الروبيات..ثم يأمرني بتقبيل يده.. فأقوم أنا وأقبل يده.
واستمرت هذه الزيارة المخصصة لذلك الدكتور إلى أن بلغت العاشرة من عمري.. في كل أسبوع زيارة وكأنها عبادة.. يدفعني إليه دفعاً لكي أقبّل يده.
ثم بعد ذلك استمر والدي يسخر من المتدينين ويستهزئ بهم، فلما هداني الله إلى الطريق المستقيم وأعفيت لحيتي بدأ يسخر ويستهزئ باللحية.
فقلت في نفسي: إنه من المستحيل أن أنزع صورة ذلك (الملا) من رأسه وصورة ذلك الدكتور من رأسه أيضاً إلا أن أحسن المعاملة معه أكثر من (الملا) وأكثر من الدكتور وبدون ذلك لن أستطيع .
فظللت أنتظر الفرصة المناسبة لذلك طمعاً في هداية والدي. وجاءت الفرصة المنتظرة.. ومرض الوالد مرضاً عضالاً.. وأصبح طريح الفراش في المستشفى حتى إنه لا يستطيع الذهاب إلى مكان قضاء الحاجة إذا أراد ذلك وكنتُ أنا بجواره ليلاً ونهاراً فقلتُ في نفسي هذه فرصة لا تقدّر بثمن.
وفي تلك الحال كان رحمة الله عليه يتفنّن في مطالبة يختبرني هل أطيعه أم لا؟(2/46)
ومن ذلك أنه في جوف الليل كان يأمرني بأن أحضر له نوعاً من أنواع الفاكهة لا يوجد في ذلك الوقت فأذهب وأبحث في كل مكان حتى أجدها في تلك الساعة المتأخرة ثم أقدمها له فلا يأكلها.. فإذا أراد أن يقضي الحاجة لا يستطيع القيام فأضع يدي تحت مقعدته حتى يقضي حاجته في يدي.. ويتبول في يدي.. وأظل واضعاً يدي حتى ينتهي من قضاء الحاجة، وهو يتعجّب من هذا السلوك... ثم أذهب إلى دورة المياه وأنظف يدي مما أصابهما.
وقد تكررت هذه الحادثة في كل عشر دقائق مرة.. نظراً لشدة المرض حتى أنني في النهاية لم أتمكن من وضع يدي كلما تبرز أو تبول.. لكثرة ذلك.
فلما رأى والدي هذا التصرف يتكرر مني أكثر من مرة أخذ يبكي.. فكان هذه البكاء فاتحة خير وإيمان في قلبه.. ثم قال لي: إنني ما عرفت قيمتك إلا في هذه اللحظة.
ثم سألني: هل جميع هؤلاء الشباب المتدينين مثلك؟.. قلت له: بل أحسن مني، ولكنك لا تعرفهم.. وكانوا يزورونه ويسلمون عليه.
فبدأ يصلي ويصوم ويحب الدين ويذكر الله.. ولا يفتر لسانه عن ذكر الله وقول لا إله إلا الله محمد رسول الله وأسبغ الله عليه هذا الدين فقلتُ: سبحان الله.. حقاً إن الدين هو المعاملة.
(توبة الشيخ سعيد بن مسفر القحطاني :
في لقاء مفتوحٍ مع الشيخ سعيد بن مسفر ـ حفظه الله ـ طلب منه بعض الحاضرين أن يتحدث عن بداية هدايته فقال:
حقيقةً.. لكل هداية بداية ... ثم قال بفطرتي كنت أؤمن بالله، وحينما كنتُ في سن الصغر أمارس العبادات كان ينتابني شيء من الضعف والتسويف على أمل أن أكبر وأن أبلغ مبلغ الرجال فكنتُ أتساهل في فترات معينة بالصلاة فإذا حضرتُ جنازة أو مقبرة، أو سمعتُ موعظةً في مسجد ازدادتْ عندي نسبة الإيمان فأحافظ على الصلاة فترة معينة مع السنن ثم بعد أسبوع أو أسبوعين أترك السنن... وبعد أسبوعين أترك الفريضة حتى تأتي مناسبة أخرى تدفعني إلى أن أصلى..(2/47)
وبعد أن بلغت مبلغ الرجال وسن الحلم لم أستفد من ذلك المبلغ شيئاً وإنما بقيت على وضعي في التمرد وعدم المحافظة على الصلاة بدقة لأن من شبّ علي شيء شاب عليه.
وتزوجت... فكنت أصلي أحياناً وأترك أحياناً على الرغم من إيماني الفطري بالله.. حتى شاء الله تبارك وتعالى في مناسبة من المناسبات كنت فيها مع أخ لي في الله وهو الشيخ سليمان بن محمد بن فايع بارك الله فيه ، وهذا كان في سنة 1387هـ نزلت من مكتبي وأنا مفتش في التربية الرياضية وكنتُ ألبس الزي الرياضي والتقيتُ به على باب إدارة التعليم وهو نازل من قسم الشئون المالية فحييته لأنه كان زميل الدراسة وبعد التحية أردتُّ أن أودعه فقال لي إلى أين؟ ـ وكان هذا في رمضان ـ فقلت له: إلى البيت لأنام.. وكنت في العادة أخرج من العمل ثم أنام إلى المغرب ولا أصلى العصر إلا إذا استيقظت قبل المغرب وأنا صائم..(2/48)
فقال لي: لم يبق على صلاة العصر إلا قليلاً فما رأيك لو نتمشى قليلا؟ فوافقته على ذلك ومشينا على أقدامنا وصعدنا إلى السد (سد وادي أبها) ـ ولم يكن آنذاك سداً ـ وكان هناك غدير وأشجار ورياحين طيبة فجلسنا هناك حتى دخل وقت صلاة العصر وتوضأنا وصلينا ثم رجعنا وفي الطريق ونحن عائدون ... ويده بيدي قرأ علي حديثاً كأنما أسمعه لأول مرة وأنا قد سمعته من قبل لأنه حديث مشهور ... لكن حينما كان يقرأه كان قلبي ينفتح له حتى كأني أسمعه لأول مرة ... هذا الحديث هو حديث البراء بن عازب رضي الله عنه الذي رواه الإمام أحمد في مسنده وأبو داود في سننه قال البراء رضي الله عنه: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار فانتهينا إلى القبر ولم يُلحد فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلسنا حوله وكأن على رؤوسنا الطير وفي يده عود ينكت في الأرض فرفع رأسه فقال: استعيذوا بالله من عذاب القبر ـ قالها مرتين أو ثلاثاً ـ ثم قال (إن المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزل إليه ملائكة من السماء بيض الوجوه..) الحديث.
فذكر الحديث بطوله من أوله إلى آخره وانتهى من الحديث حينما دخلنا أبها وهناك سنفترق حيث سيذهب كل واحد منا إلى بيته فقلت له: يا أخي من أين أتيت بهذا الحديث؟ قال: هذا الحديث في كتاب رياض الصالحين فقلت له: وأنت أي كتاب تقرأ ؟ قال أقرأ كتاب الكبائر للذهبي.. فودعته.. وذهبتُ مباشرة إلى المكتبة ـ ولم يكن في أبها آنذاك إلا مكتبة واحدة وهي مكتبة التوفيق ـ فاشتريتُ كتاب الكبائر وكتاب رياض الصالحين وهذان الكتابان أول كتابين أقتنيهما.
وفي الطريق وأنا متوجه إلى البيت قلت لنفسي: أنا الآن على مفترق الطريق وأمامي الآن طريقان الطريق الأول طريق الإيمان الموصل إلى الجنة، والطريق الثاني طريق الكفر والنفاق والمعاصي الموصل إلى النار وأنا الآن أقف بينهما فأي الطريقين أختار؟(2/49)
العقل يأمرني باتباع الأول ... والنفس الأمارة بالسوء تأمرني باتباع الطريق الثاني وتمنيني وتقول لي: إنك مازلت في ريعان الشباب وباب التوبة مفتوح إلى يوم القيامة فبإمكانك التوبة فيما بعد.
هذه الأفكار والوساوس كانت تدور في ذهني وأنا في طريق إلى البيت... وصلتُ إلى البيت وأفطرت وبعد صلاة المغرب صليت العشاء تلك الليلة وصلاة التراويح ولم أذكر أني صليت التراويح كاملة إلا تلك الليلة.. وكنت قبلها أصلي ركعتين فقط ثم أنصرف وأحياناً إذا رأيت أبي أصلي أربعاً ثم أنصرف.. أما في تلك الليلة فقد صليت التراويح كاملةً.. وانصرفت من الصلاة وتوجهت بعدها إلى الشيخ سليمان في بيته، فوجدته خارجاً من المسجد فذهبت معه إلى البيت وقرأنا في تلك الليلة ـ في أول كتاب الكبائر ـ أربع كبائر الكبيرة الأولى الشرك بالله والكبيرة الثانية السحر والكبيرة الثالثة قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق والكبيرة الرابعة كبيرة ترك الصلاة وانتهينا من القراءة قبل وقت السحور فقلت لصاحبي: أين نحن من هذا الكلام فقال: هذا موجود في كتب أهل العلم ونحن غافلون عنه.. فقلت: والناس أيضاً في غفلة عنه فلابدّ أن نقرأ عليهم هذا الكلام.
قال: ومن يقرأ ؟ قلت له: أنت. قال: بل أنت واختلفنا من يقرأ وأخيراً استقر الرأي علي أن أقرأ أنا.
فأتينا بدفتر وسجّلنا فيه الكبيرة الرابعة كبيرة ترك الصلاة. وفي الأسبوع نفسه، وفي ويوم الجمعة وقفت في مسجد الخشع الأعلى الذي بجوار مركز الدعوة بأبها ـ ولم يكن في أبها غير هذا الجامع إلا الجامع الكبير ـ فوقفت فيه بعد صلاة الجمعة وقرأت على الناس هذه الموعظة المؤثرة التي كانت سبباً ولله الحمد في هدايتي واستقامتي وأسأل الله أن يثبتنا وإياكم على دينه إنه سميع مجيب.
(توبة المفكر سيد قطب رحمه الله (1) :
__________
(1) انظر كتاب (شيد قطب...من القرية إلى المشنقة) لعادل حمودة.(2/50)
في قرية صغير في صعيد مصر ولد سيد قطب رحمه الله، ونشأ في أسرة متدينة متوسطة الثراء، وقد حرص والداه على تحفيظه القرآن الكريم في صغره، فما أتمّ العاشرة إلا وقد حفظه كاملاً ..
ولما بلغ التاسعة عشرة عاش فترة من الضياع، وصفها بنفسه بأنه كانت (فترة إلحاد) حيث قال: (ظللت ملحداً أحد عشر عاماً حتى عثرت على الطريق إلى الله، وعرفت طمأنينة الإيمان.
وفي سنة 1948م غادر سيد القاهرة متوجهاً إلى أمريكا في بعثة لوزارة المعارف آنذاك، فكانت تلك الرحلة هي بداية الطريق الجديد الذي هداه الله إليه، ووفقه لسلوكه والسير فيه.
كان سفره على ظهر باخرة عبرت به البحر المتوسط والمحيط الأطلسي... وهناك على ظهر الباخرة، جرت له عدة حوادث أثرت في حياته فيما بعد، وحددت له طريقه، ولذلك ما إن غادر الباخرة في الميناء الأمريكي الذي وصل إليه، وما إن وطئت قدماه أرض أمريكا حتى كان قد عرف طريقه، وحدد رسالته، ورسم معالم حياته في الدنيا الجديدة.
والآن ... لنترك الحديث لسيد ليخبرنا عما حدث له على ظهر السفينة يقول:
(منذ حوالي خمسة عشر عاماً ... كنا ستة نفر من المنتسبين إلى الإسلام، على ظهر سفينة مصرية تمخر بنا عباب المحيط الأطلسي إلى نيويورك، من بين عشرين ومائة راكب وراكبة ليس فيهم مسلم.
وخطر لنا أن نقيم صلاة الجمعة في المحيط على ظهر السفينة!
والله يعلم أنه لم يكن بنا أن نقيم الصلاة ذاتها أكثر مما كان بنا حماسة دينية إزاء مبشر كان يزاول عمله على ظهر السفينة، وحاول أن يزاول تبشيره معنا!
وقد يسر لنا قائد السفينة ـ وكان إنجليزياً ـ أن نقيم صلاتنا، وسمح لبحارة السفينة وطهاتها وخدمها ـ وكلهم نوبيون مسلمون ـ أن يصلي منهم معنا من لا يكون في (الخدمة) وقت الصلاة.
وقد فرحوا بهذا فرحاً شديداً إذ كانت هذه هي المرة الأولى التي تقام فيها صلاة الجمعة على ظهر السفينة.(2/51)
وقمت بخطبة الجمعة، وإمامة الصلاة، والركاب الأجانب معظمهم متحلقون، يرقبون صلاتنا!
وبعد الصلاة جاءنا كثيرون منهم يهنئوننا على نجاح (القداس)!! فقد كان هذا أقصى ما يفهمونه من صلاتنا.
ولكن سيدة من هذا الحشد ـ عرفنا فيما بعد أنها يوغسلافية مسيحية (1) هاربة من جحيم (تيتو) وشيوعيته ـ كانت شديدة التأثر والانفعال، تفيض عيناها بالدمع، ولا تتمالك مشاعره ... جاءت تشد على أيدينا بحرارة وتقول ـ في إنجليزية ضعيفة ـ إنها لا تملك نفسها من التأثر العميق بصلاتنا هذه، وما فيها من خشوع، ونظام وروح ... الخ (2)
وبعد ذلك كله ... وفي ظلال هذه الحالة الإيمانية، راح سيد يخاطب نفسه قائلا:
(أأذهب إلى أمريكا وأسير فيها سير المبتعثين العاديين، الذين يكتفون بالأكل والنوم، أم لابدّ من التميز بسمات معينة؟!
وهل غير الإسلام والتمسك بآدابه، والالتزام بمناهجه في الحياة وسط المعمعان المترف المزوّد بكل وسائل الشهوة واللذة الحرام؟...)
قال: ورأيت أن أكون الرجل الثاني، (المسلم الملتزم)، وأراد الله أن يمتحنني هل أنا صادق فيما اتجهت إليه أم هو مجرد خاطرة؟!
وكان ابتلاء الله لي بعد دقائق من اختياري طريق الإسلام، إذ ما إن دخلتُ غرفتي حتى كان الباب يقرع ... وفتحتُ ... فإذا أنا بفتاة هيفاء جميلة، فارعة الطول، شبه عارية، يبدو من مفاتن جسمها كل ما يغري ... وبدأتني بالإنجليزية قائلة: هل يسمح لي سيدي بأن أكون ضيفة عنده هذه الليلة؟
فاعتذرتُ بأن الغرفة معدة لسرير واحد، وكذا السرير لشخص واحد ... فقالت: وكثيراً ما يتسع السرير الواحد لاثنين!!
__________
(1) المسيح عليه السلام، بريء منهم، بعد أن حرفوا دينهم والصحيح أن يقال نصرانية.
(2) الظلال 3، 1786.(2/52)
واضطررت أمام وقاحتها ومحاولتها الدخول عنوة لأن أدفع الباب في وجهها لتصبح خارج الغرفة، وسمعت ارتطامها بالأرض الخشبية في الممر، فقد كانت مخمورة ... فقلت: الحمد لله ... هذا أول ابتلاء ... وشعرتُ باعتزاز ونشوة، إذ انتصرت على نفسي ... وبدأت تسير في الطريق الذي رسمته لها (1) ...
ولقد واجه سيد رحمه الله ابتلاءات كثيرة بعد ذلك ولكنه تغلّب عليها وانتصر على نفسه الأمارة بالسوء!
ولما وصل إلى أمريكا، يحدثنا عما رأى فيقول: ولقد كنت ـ في أثناء وجودي في الولايات المتحدة الأمريكية ـ أرى رأي العين مصداق قول الله تعالى: (فَلَمّا نَسُواْ مَا ذُكّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلّ شَيْءٍ حَتّىَ إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أُوتُوَاْ أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مّبْلِسُونَ) [الأنعام : 44] فإن المشهد الذي ترسمه الآية مشهد تدفق كل شيء من الخيرات والأرزاق بلا حساب، لا يكاد يتمثل في الأرض كلها كما يتمثل هناك!
وكنت أرى غرور القوم بهذا الرخاء الذي هم فيه ... وشعورهم بأنه وَقف على الرجل الأبيض ... وطريقة تعاملهم مع الملونين في عجرفة مرذولة، وفي وحشية كذلك بشعة ... وفي صلف على أهل الأرض كلهم، كنتُ أرى هذا كله فأذكر هذه الآية ... وأتوقع سنة الله ... وأكاد أرى خطواتها وهي تدبّ إلى الغافلين (2) .
وبعد سنتين قضاهما سيد في أمريكا، عاد رحمه الله إلى مصر ... ولكنه عاد رجلاً آخر ... رجلاً مؤمناً ملتزماً صاحب رسالة ودعوة وغاية.
رحم الله سيداً وأسكنه فسيح جناته وعفا عنا وعنه.
(توبة الشرطيين شهدا إعدام سيد قطب رحمه الله (3) :
إن في بذل العلماء والدعاة والمصلحين أنفسهم في سبيل الله حياة للناس، إذا علموا صدقهم؛ وإخلاصهم لله عز وجلّ.
__________
(1) انظر (أمريكا من الداخل بمنظار سيد قطب)، للدكتور صلاح الخالدي.
(2) الظلال 2، 1091 باختصار.
(3) )) مجلة الدعوة السعودية/ العدد 1028/ بقلم: محمد المجذوب، باختصار.(2/53)
ومن هؤلاء الدعاة والمفكرين.. (سيد قطب) رحمه الله، فقد كان لمقتله أثر بالغ في نفوس من عرفوه وعلموا صدقه، ومنهم اثنان من الجنود الذين كُلفّوا بحراسته وحضروا إعدامه.
يروي أحدهما القصة فيقول:
هناك أشياء لم تكن نتصورها هي التي أدخلت التغيير الكلي على حياتنا..
في السجن الحربي كنا نستقبل كل ليلة أفراداً أو مجموعات من الشيوخ والشباب والنساء، ويقال لنا: هؤلاء من الخونة الذين يتعاونون مع اليهود ولابدّ من استخلاص أسرارهم.. ولا سبيل إلى ذلك إلا بأشدّ العذاب. وكان ذلك كافياً لتمزيق لحومهم بأنواع السياط والعصي.. كنا نفعل ذلك ونحن مُوقنون إننا نؤدي واجباً مقدّساً ... إلا أننا ما لبثنا أن وجدنا أنفسنا أمام أشياء لم نستطع لها تفسيراً، لقد رأينا هؤلاء (الخونة)، مواظبين على الصلاة أثناء الليل وتكاد ألسنتهم لا تفتر عن ذكر الله حتى عند البلاء.
بل إن بعضهم كان يموت تحت وقع السياط، أو أثناء هجوم الكلاب الضارية عليهم، وهو مبتسمون على الذكر.
ومن هنا ... بدأ الشك يتسرب إلى نفوسنا ... فلا يعقل أن يكون مثل هؤلاء المؤمنين الذاكرين من الخائنين المتعاملين مع أعداء الله.
واتفقتُ أنا وأخي هذا سراً على أن نتجنب إيذائهم ما وجدنا إلى ذلك سبيلا ، وأن نقدم لهم كل ما نستطيع من العون.
ومن فضل الله علينا أن وجودنا في ذلك السجن لم يستمر طويلاً ... وكان آخر ما كُلفنا به من عمل هو حراسة الزنزانة التي أفرد فيها أحدهم وقد وصفوه لنا بأنه أخطرهم جميعاً، أو أنه رأسهم المفكر وقائدهم المدبر (1)
وكان قد بلغ به التعذيب إلى حد لم يعد قادراً معه على النهوض، فكانوا يحملونه إلى المحكمة العسكرية التي تنظر في قضيته.
__________
(1) هو سيد رحمه الله(2/54)
وذات ليلة جاءت الأوامر بإعداده للمشنقة، وأدخلوا عليه أحد الشيوخ!!! ليذكره ويعظه!!! وفي ساعة مبكرة من الصباح التالي، أخذت أنا وأخي بذراعيه نقوده إلى السيارة المغلقة التي سبقنا إليها بعض المحكومين الآخرين ... وخلال لحظات انطلقت بنا إلى مكان الإعدام ... ومن خلفنا بعض السيارات العسكرية تحمل الجنود المدججين بالسلاح للحفاظ عليهم ...
وفي مثل لمح البصر أخذ كل جندي مكانه المرسوم محتضناً مسدسه الرشاش، وكان المسئولون هناك قد هيئوا كل شيء ... فأقاموا من المشانق مثل عدد المحكومين ... وسيق كل منهم إلى مشنقة المحددة، ثم لفّ حبلها حول عنقه، وانتصب بجانب كل واحدة (العشماوي) الذي ينتظر الإشارة لإزاحة اللوح من تحت قدمي المحكوم.. ووقف تحت كل راية سوداء الجندي المكلف برفعها لحظة التنفيذ.
كان أهيب ما هنالك تلك الكلمات التي جعل يوجهها كل من هؤلاء المهيئين للموت إلى إخوانه، يبشره بالتلاقي في جنة الخلد، مع محمد وأصحابه، ويختم كل عبارة الصيحة المؤثرة: الله أكبر والله الحمد.
في هذه اللحظات الرهيبة سمعنا هدير سيارة تقترب، ثم لم تلبث أن سكت محركها، وفتحت البوابة المحروسة، ليندفع من خلالها ضابط من ذوي الرتب العالية، وهو يصيح بالجلادين: مكانكم!
ثم تقدم نحو صاحبنا الذي لم نزل إلى جواره على جانبي المشنقة، وبعد أن أمر الضابط بإزالة الرباط عن عينه، ورفع الحبل عن عنقه، جعل يكلمه بصوت مرتعش :
يا أخي.. سيد.. إني قادم إليك بهدية الحياة من الرئيس الحليم الرحيم، كلمة واحدة تدليها بتوقيعك، ثم تطلب ما تشاء لك ولإخوانك هؤلاء.
ولم ينتظر الجواب، وفتح الكراس الذي بيده وهو يقول: اكتب يا أخي هذه العبارة فقط: (لقد كنت مخطئاً وإني أعتذر...).
ورفع سيد عينه الصافيتين، وقد غمرت وجهه ابتسامة لا قدرة لنا على وصفها.. وقال للضابط في هدوء عجيب: أبداً.. لن أشتري الحياة الزائلة بكذبة لن تزول!
قال الضابط بلهجة يمازجها الحزن... ولكنه الموت يا سيد.(2/55)
وأجاب سيد: (يا مرحباً بالموت في سبيل الله..)، الله أكبر!! هكذا تكون العزة الإيمانية، ولم يبق مجال للاستمرار في الحوار، فأشار الضابط للعشماوي بوجوب التنفيذ.
وسرعان ما تأرجح جسد سيد رحمه الله وإخوانه في الهواء... وعلى لسان كل منهم الكلمة التي لا نستطيع لها نسياناً، ولم نشعر قط بمثل وقعها في غير ذلك الموقف، (لا إله إلا الله، محمد رسول الله...)
وهكذا كان هذا المشهد سبباً في هدايتنا واستقامتنا، فنسأل الله الثبات .
(توبة الشيخ عادل الكلباني (1) :
جامع الملك خالد بأم الحمام من المعالم البارزة في مدينة الرياض ، مئات المصلين يقصدون هذا المسجد في رمضان وغيره ، ليستمعوا إلى الشيخ عادل الكلباني (إمام المسجد) بصوته الخاشع الجميل ، ونبرته الحزينة المؤثرة، وكغيره من شباب الصحوة كانت له قصة مع الهداية، يرويها لنا فيقول:
لم أكن ضالاًّ بدرجة كبيرة نعم.. كانت هناك كبائر وهفوات أرجعها إلى نفسي أولا، ثم إلى الأسرة والمجتمع.
لم يأمرني أحد بالصلاة يوماً، لم ألتحق بحلقة أحفظ فيها كتاب الله، عشتُ طفولتي كأي طفل في تلك الحقبة، لَعِبٌ ولهوٌ وتلفاز و(دنّانة) و (سيكل) ومصاقيل و (كعابة)، وتتعلق بالسيارات، ونجوب مجرى البطحاء، ونتسكع في الشوارع بعد خروجنا من المدرسة، ونسهر على التلفاز والرحلات وغيرها.
لم نكن نعرف الله إلا سَمَاعاً، ومن كانت هذه طفولته فلابدّ أن يشبّ على حب اللهو والمتعة والرحلات وغيره، وهكذا كان .
__________
(1) كتبها لي بنفسه جزاء الله خيراً.(2/56)
وأعتذر عن التفصيل والاسترسال ، وأنتقل بكم إلى بداية التعرف على الله تعالى، ففي يوم من الأيام قمتُ بإيصال والدتي لزيارة إحدى صديقاتها لمناسبة ما ـ لا أذكر الآن ـ المهم أني ظللت أنتظر خروجها في السيارة، وأدرتُ جهاز المذياع، فوصل المؤشر ـ قَدَراً ـ إلى إذاعة القرآن الكريم ، وإذ بصوت شجي حزين، يُرتل آيات وقعتْ في قلبي موقعها السديد لأني أسمعها لأول مرة: (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ) [ ق : 19]. صوت الشيخ محمد صديق المنشاوي رحمه الله ، كان مؤثراً جداً.
صحيح أني لم أهتدي بعدها مباشرة، لكنها كانت اللبنة الأولى لهدايتي، وكانت تلك السنة سنة الموت، مات فيها عدد من العظماء والسياسيين والمغنين، وظل معي هاجس الموت حتى كدت أصاب بالجنون ، أفزع من نومي ، بل طار النوم من عيني ، فلا أنام إلا بعد أن يبلغ الجهد مني مبلغه . أقرأ جميع الأدعية، وأفعل جميع الأسباب ولكن لا يزال الهاجس.
بدأت أحافظ على الصلاة في وقتها مع الجماعة، وكنت فيها متساهلا، ولكن كنت أهرب من الصلاة، أقطعها، خوفاً من الموت. كيف أهرب من الموت؟ كيف أحِيدُ منه؟ لم أجد إلا مفراً واحداً، أن أفرُّ إلى الله، من هو الله ؟ إنه ربي.. إذن فلأتعرّف عليه.
تفكرت في القيامة.. في الحشر والنشر.. في السماء ذات البروج.. في الشمس وضحاها.. في القمرِ إذا تلاها، وكنت أقرأ كثيراً علماً بأني كنتُ محباً لكتاب الله حتى وأنا في الضلالة.. ربما تستغربون أني حفظتُ بعض السور في مكان لا يُذكر بالله أبداً.(2/57)
عشتُ هذه الفترة العصيبة التي بلغت سنين عدداً حتى شمَّرت عن ساعد الجدِّ، ورأيت فعلاً أن لا ملجأ من الله إلا إليه، وأن الموت آت لا ريب فيه، فليكن المرء منا مستعداً لهذا: (يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اتّقُواْ اللّهَ حَقّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنّ إِلاّ وَأَنْتُمْ مّسْلِمُونَ) [آل عمران: 102]. تفكروا ـ إخواني ـ في هذه الآية ترَوا عجباً، تفكروا في كل ما حولكم من آيات الله، وفي أنفسكم، أفلا تبصرون؟ عقلاً ستدركون أن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور.. فكيف ـ إذن ـ يكون الحل ؟.. أن نعود إلى الله ، أن نتوب إليه، أن نعمل بطاعته.
المهم أني عدت إلى الله ، وأحببت كلامه سبحانه، ومع بداية الهداية بدأ ارتباطي الحقيقي بكتاب الله العظيم ، كنتُ كلما صليتُ خلف إمام أعجبتني قراءته أو الآيات التي قرأها، أعود مباشرة إلى البيت لأحفظها، ثم عُيِّنتُ إماماً بجامع صلاح الدين بالسليمانية، وصليت بالناس في رمضان صلاة التراويح لعام 1405هـ نظراً من المصحف، وبعد انتهاء الشهر عاهدتُ الله ثم نفسي أن أحفظ القرآن وأقرأه عن ظهر قلب في العام القادم بحول الله وقوته، وتحقق ذلك، فقد وضعت لنفسي جدولاً لحفظ القرآن بدأ من فجر العاشر من شهر شوال من ذلك العام، واستمر حتى منتصف شهر جماد الآخرة من العام الذي بعده (1406هـ)، في هذه الفترة أتممت حفظ كتاب الله ولله الحمد والمنة .
وقد كانت (نومة بعد الفجر) عائقاً كبيراً في طريقي آنذاك، كنت لا أستطيع تركها إطلاقاً إلى أن أعانني الله ، وعالجتها بالجد والمثابرة والمصابرة، حتى أني كنت أنام أحيانا والمصحف على صدري، ومع الإصرار والمجاهدة أصبحت الآن لا أستطيع النوم بعد صلاة الفجر إطلاقاً.(2/58)
ثم وفقني الله فعرضت المصحف على شيخي فضيلة الشيخ أحمد مصطفى أبو حسين المدرس بكلية أصول الدين بالرياض، وفرغت من ذلك يوم الثلاثاء 19رمضان 1407هـ، وكتب لي الشيخ إجازة بسندها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، برواية حفص عن عاصم، ولعل الله أن يوفقني لإتمام العشر بحوله وقوته.
هذه قصتي مع القرآن ونصيحتي لكل من يريد أن يحفظ القرآن أن يحفظ القرآن.
وكلمة في ذيل القصة أشير فيها إلى مسئولية الأسرة في تربية الابن، ومسئولية المجتمع، ومسئولية الفرد نفسه، في التفكر والبحث عن الحقيقة والعمل بها.
ثم أشير إلى أهمية كتاب الله، هذا الكتاب العظيم الذي يطبع بالملايين، وتصدر التسجيلات الإسلامية مئات الأشرطة منه.. تريدون الخير في الدنيا عليكم به، تريدون الخير في الآخرة عليكم به.. فوالله الذي رفع السماوات بغير عَمَدٍ لا أجد في شخصي شيئاً أستحق به أن أصدّر في المجالس، أو أن يشار إليّ ببنان مسلم، أو أن يحبني شخص وهو لم يَرَني ... إلا بفضل كتاب الله عليّ.. ما أهون هذا العبد الأسود على الناس لولا كتاب الله بين جنبيه.. وكلما تذكرت هذا لا أملك دمعة حَرَّى تسيل على مُقْلَتي فألجأ إلى الله داعياً أن يكون هذا القرآن أنيساً لي يوم أموت، وحين أوسَّد في التراب دفيناً، وحين أُبعث من قبري إلى العرض على ربي.
أرجوه ـ جلت قدرته ـ أن يقال لي: اقرأ وارق، ورتّل كما كنت تُرتل في الدنيا فإن منزلتك عند آخر آية كنت تقرؤها.
وأسأله ـ جلت قدرته ـ أن أكون مع السّفرَة الكرام البَررة، وأن يجعل حب الناس لي عنوان محبته، ورفعهم لي رفعة لدرجتي في الجنة إنه جواد كريم.
ثم اسمعوا ما قاله القحطاني رحمه الله في نونيته:
أنت الذي أدنيتني وحبوتني ... وهديتني من حيرة الخذلان
وزرعت لي بين القلوب محبةً ... والعطف منك برحمة وحنان
ونشرت لي في العالمين محاسناً ... وسترت عن أبصارهم عصياني
وجعلت ذكري في البرية شائعاً ... حتى جعلت جميعهم إخواني(2/59)
والله لو علموا قبيح سريرتي ... لأبى السلام علي من يلقاني
ولأعرضوا عني ومَلوا صُحْبَتي ... ولبُؤت بعد قرابة بهوانٍ
لكن سترت معايبي ومثالبي ... وحَلِمتَ عن سقطي وعن طغياني
فلك المحامد والمدائح كلها ... بخواطري وجوارحي ولساني
أخوكم
العبد الفقير إلى رحمة ربه المنان
أبو عبد الله عادل بن سالم الكلباني
(توبة شيوعي (1) :
قال سيد قطب رحمه الله تعالى: (إن أقصى مدى أتصوره للمد الشيوعي لن يتجاوز جيلنا هذا الذي نحن فيه وأوائل الجيل القادم إذا سارت الأمور سيرتها الحالية) (2) .
هذا ما تصوره سيد رحمه الله قبل ما يقارب من ثلاثين عاماً، فلم تمضِ سنوات معدودة حتى كانت الشيوعية قد سقطت وأفلس أصحابها.
وأترككم الآن مع صاحبنا ليروي لنا رحلته من الشيوعية مروراً بالصوفية وانتهاءً بالعقيدة السلفية النقية،
يقول:
كنت شيوعياً داعياً إلى الإلحاد، جنّدتُ كثيراً من الشباب ـ من الجنسين ـ في الأحزاب الشيوعية، وترقيتُ في مراتبها حتى وصلتُ إلى مرتبةٍ عاليةٍ، ثم تبيَن لي سخف هذه العقيدة وهذا الفكر وضلاله ومصادمته للفطرة الإنسانية، فقررتُ تركه إلى غير رجعة، فبحثتُ عن الإسلام فوجدته ـ بحسب فمهي الوراثي ـ عند المتصوفة؛ فاعتنقتُ الطريقة السمانية، ومؤسسها في الأصل من طيبة الطيبة، ومقرها الآن بالسودان، وهذه الطريقة تعتقد من العقائد الكفرية ما الله به عليم، ولها مؤلفات درستُ أهمها، وكنت أعتقدُ أني قد أحسنتُ صنعاً، وفرح أهلي وأصدقائي من الطرق الأخرى بتركي للحزب الشيوعي واختياري لطريقة آبائي وأجدادي، وترقيتُ في هذه الطريقة حتى وصلتُ إلى مرتبة (شيخ) وأُجزتُ في أخذ العهد على المريدين (!!)، وإرشاد العباد من الجنسين، وإعطاء الأوراد المبتدعة، وعلاج المرضى ]الجن[ ... الخ.
وحصلتْ لي بعض الخوارق للعادة فكنتُ أظنها ـ والناس كذلك ـ تكريماً من الله وهي في الحقيقة إضلال الشيطان وتلبيسهم.
__________
(1) ) كتبها لي بنفسه.
(2) ) نحو مجتمع إسلامي ص 39 ط 6.(2/60)
ولا أجد حرجاً أن أقول أنني قد استفدتُ من الحزب الشيوعي كثرة الإطلاع والجدال، الأمر الذي جعلني أتطاول وأقرأ ـ لمجرد النقد ـ كتاب (صيانة الإنسان من وسوسة الشيخ دحلان)، وهو كتاب قيم في الرد على المتصوفة والخرافيين، فكانت النتيجة تركي للطريقة السمانية، وبدأتُ أقرأ في كتب مَن كنت أبغضهم بغضي للشيطان أو أشد، وهم الآن من أحب الناس إليّ كشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وابن عبد الوهاب عليهم رحمة الله جميعاً وغيره من أصحاب العقيدة السلفية النقية، والحمد لله الذي هداني لهذا وما كنتُ لأهتدي لو لا أن هداني الله، وإني بهذه المناسبة أنصح إخواني المسلمين لا سيما من ابتلوا باتباع هذه الطرق وهذه الأحزاب بأن يُعملوا عقولهم ويتجردوا للحق، ويحذروا من الدجاجلة والمخرفين، ولا يقولوا كما قال أهل الجاهلية: (قَالُوَاْ إِنّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا عَلَىَ أُمّةٍ وَإِنّا عَلَىَ آثَارِهِم مّهْتَدُونَ) [الزخرف: 22] والله الهادي إلى سواء السبيل. (1)
(توبة قبوري (2) :
__________
(1) ) يراجع في موضوع الصوفية كتاب (الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة) لبعد الرحمن عبد الخالق.
(2) ) حدثني بها بنفسه..(2/61)
قال ابن القيم رحمه الله: (ومن أعظم مكائد الشيطان التي كاد بها أكثر الناس، وما نجا منها إلا من لم يرد الله فتنته؛ ما أوحاه قديماً وحديثاً إلى حزبه وأوليائه من الفنتة بالقبور، حتى آل الأمر فيها إلى أن عُبد أربابها من دون الله، وعُبدت قبورهم واتخذتْ أوثاناً، وبُنيت عليها الهياكل والأنصاب...) إلى أن قال: (فلو رأيتَ غلاة المتخذين لها عيداً؛ وقد نزلوا عن الأكوار والدواب إذا رأوها من مكان بعيد، فوضعوا لها الجباه، وقبّلوا الأرض وكشفوا الرؤوس، وارتفعتْ أصواتهم بالضجيج، وتباكوا حتى تسمع لهم النشيج، ورأوا أنهم قد أربوا في الربح على الحجيج، فاستغاثوا بمن لا يُبدي ولا يُعيد، ونادوا.. ولكن من مكان بعيد، حتى إذا دنوا منها صلوا عند القبر ركعتين، ورأوا أنه قد أحرزوا من الأجر فوق أجر من صلى إلى القبلتين، فتراهم حول القبر رُكّعاً سُجّداً يبتغون فضلاً من الميت ورضواناً، وقد ملئوا أكفّهم خيبة وخسراناً، فلغير الله بل للشيطان ما يُراق هناك من العبرات، ويرتفع من الأصوات، ويُطلب من الميت الحاجات، ويُسأل من تفيرج الكُربات، وإغناء ذوي الفاقات، ومعافاة أولي العاهات والبليات، ثم انثنوا بعد ذلك حول القبر طائفين تشبيهاً له بالبيت الحرام، ثم أخذوا في التقبيل والاستلام، أرأيت الحجر الأسود وما يُفعل به وفدُ بيت الله الحرام؟ ثم عفّروا لديه تلك الجباه والخدود، التي يعلم الله أنها لم تُغفَّر مثل بين يديه في السجود، ثم قرّبوا لذلك الوثن القرابين، وكانت صلاتهم ونسكهم وقربانهم لغير الله رب العالمين..).
(إلى أن قال رحمه الله: (هذا ولم نتجاوز فيما حكيناه عنهم، ولا استقصينا جميع بدعهم وضلالهم؛ إذ هي فوق ما يخطر بالبال، أو يدور في الخيال، وهذا كان مبدأ عبادة الأصنام في قوم نوح...) (1)
__________
(1) ) إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان لبن القيم ج 1 ص 182/194 باختصار وتصرف. وهو كتاب عظيم جدير بكل مسلم أن يقرأه.(2/62)
أخي القارئ: بعد هذه المقدمة الرائعة والتي لا أجد مزيداً عليها؛ أتركك الآن مع صاحب القصة ليحدثنا عن رحلته،
يقول:
نشأت في مجتمع قبوري وبيئة قبورية قي قرية من قرى باكستان كانت تسمى (مدينة الأولياء) لكثرة ما فيها من الأضرحة والقبور... منذ نعومة أظفاري كنت أرى والدي ووالدتي وإخوتي الكبار وسائر أقربائي، بل سائر مَنْ في قريتنا يذهبون إلى ما يسمى بالولي أو السيد، حتى بلغتْ بهم السفاهة إلى أن يذهبوا إلى غرفة خالية، فيها سرير ليس عليه أحد، ويزعمون أنه ضريح الولي الحي الذي لا يموت، وينسون قول الله عز وجل: (إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَآءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُواْ مَا اسْتَجَابُواْ لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلاَ يُنَبّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ) [ فاطر:14] كنت أشاركهم في شركهم وطقوسهم وخرافاتهم، حتى أصبحت تلك الخرافات عقيدة راسخة في قلبي، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه..) الحديث.
فلو مِتُّ على هذه العقيدة لكنتُ من أهل النار: (إنه من يُشرك بالله فقد حرّم الله عليه الجنةَ ومأواه النار وما للظالمين من أنصار).
ظللتُ على هذه العقيدة الشركية حتى بعد أن أصبحتُ زوجاً وأباً، فكنتُ أربّي أولادي على هذه العقيدة.. أحملهم إلى ضريح الولي المزعوم فأحلق شعر أحدهم هناك تقرباً وتبركاً(!!!)، وأحمل معي الهدايا والقربات والذبائح والنذور، وأرش الماء على القبر...(2/63)
ولئن كان غيري متعلماً، فقد كنتُ أمياً جاهلاً، حتى يسّر الله لي القدوم إلى هذه البلاد. مهبط الوحي ومنبع الرسالة، فلم أجد فيها ما كنتُ معتاداً عليه من الأضرحة والقبور ومظاهر الشرك، ومع ذلك لم أفكر في تغيير عقيدتي الباطلة، كنتُ متعلقاً بتلك الأضرحة وإن كانت بعيدة عني، وليس أعجب من ذلك أنني لم أكن أصلي الصلوات المفروضة، بل حتى الجمعة لا أحضرها، وأدخن بشراهة، وأرتكبُ كثيراً من المحرمات..! فليس بعد الكفر ذنباً.
ويشاء الله عزّ وجلّ أن ألتقيَ بأحد الدعاة الباكستانيين مَن الذين درسوا في هذه البلاد، وبعد محاورات لم تدم طويلاً استطاع أن ينتشلني من أوحال الشرك وغَوره السحيق، إلى رياض التوحيد في علو سامق، حيث استنشقت عبير الإيمان الصحيح، وها أنذا اليوم أنظر إلى أهلي وقومي من هذا العلو، أمد لهم يدي، أحاول انتشالهم من مستنقعات الشرك الآسنة: (ومن يشرك بالله فكأنما خرَّ من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق).
(توبة الشيخ محمد جميل زينو من ضلالات الصوفيّة :
الشيخ محمّد جميل زينو – حفظه الله – عرفناه من خلال مؤلّفاته النافعة التي تُعنى بنشر العقيدة السلفيّة، وبيانها بأسلوب واضح ميسر ، وقد نفع الله بهذه المؤلّفات ، وهدى بها من الضلال بإذنه .. وللشيخ قصّته مع الهداية إلى هذه العقيدة الصحيحة ، وقد رواها بنفسه (1) ، فقال : (
__________
(1) - انظر : كتابه ( كيف اهتديت ) ، وقد أطال في ذكر قصّته والتعليق على أحداثها ، وقد ذكرتها هنا باختصار وتصرّف يسير .(2/64)
ولدتُ في مدينة حلب بسورية .. ولمّا بلغتُ العاشرة من عمري التحقتُ بمدرسة خاصّة تعلّمت فيها القراءة والكتابة ، ثم التحقت بمدرسة دار الحفّاظ لمدّة خمس سنين حفظت خلالها القرآن الكريم كاملاً ولله الحمد ، ثمّ التحقت بما يسمّى آنذاك بالكليّة الشرعيّة التجهيزيّة ـ وهي الآن الثانوية الشرعيّة ـ وهي تابعة للأوقاف الإسلامية ، وهذه المدرسة تجمع بين تدريس العلوم الشرعيّة والعصريّة .
وأذكر أنّني درست فيها علم التوحيد في كتاب اسمه : (( الحصون الحميديّة )) والذي يقرّر فيه مؤلّفه توحيد الربوبيّة ، وأنّ لهذا العالم ربّاً وخالقاً !.. وقد تبيّن لي فيما بعد خطأ هذا المنهج في تقرير العقيدة ، فإنّ المشركين الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا مقرّين بأنّ الله هو الخالق الرازق : (( وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ )) ( الزخرف : 87) ، بل إنّ الشيطان الذي لعنه الله كان مقرّاً بذلك ؛ (( قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي )) ( الحجر : 39) .
أمّا توحيد الإله الذي هو الأساس والذي به ينجو المسلم ، فلم أدرسه ولا كنت أعلم عنه شيئاً .
كنت نقشبنديّاً :(2/65)
لقد كنت منذ الصغر أحضر الدروس وحلقات الذكر في المساجد ، وقد شاهدني شيخ الطريقة النقشبندية فأخذني إلى زاوية المسجد ، وبدأ يعطيني أوراد الطريقة النقشبندية ، ولكن لصغر سنّي لم أستطع أن أقوم بها ، لكنّي كنت أحضر مجالسهم مع أقاربي في الزوايا ، وأستمع إلى ما يردّوونه من أناشيد وقصائد ، وحينما يأتي ذكر اسم الشيخ كانوا يصيحون بصوت مرتفع ، فيزعجني هذا الصوت المفاجئ ، ويسبب لي الرعب والهلع ، وعند ما تقدّمت بي السنّ بدأ قريب لي يأخذني إلى مسجد الحيّ لأحضر معه ما يسمّى بالختم ، فكنّا نجلس على شكل حلقة ، فيقوم أحد الشيوخ ويوزّع علينا الحصى ويقول : (( الفاتحة الشريفة ، الإخلاص الشريف )) ، فنقرأ بعدد الحصى سورة الفاتحة وسورة الإخلاص ، والاستغفار والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بالصيغة التي يحفظونها ، ويجعلون ذلك آخر ذكرهم . ثم يقول الشيخ الموكّل ، لأنّ الشيخ ـ بزعمهم ـ هو الذي يربطهم بالله ؛ فيهمهمون ، ويصيحون ، ويعتريهم الخشوع ، حتّى إنّ أحدهم ليقفز فوق رؤوس الحاضرين كأنّه البهلوان من شدّة الوجد .. إلى آخر ما كانوا يفعلونه من البدع المحدثة التي ما أنزل الله بها من سلطان .
كيف اهتديت إلى التوحيد ؟
كنت أقرأ على شيخي الصوفيّ حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما ، وهو قول النبيّ صلى الله عليه وسلم : (( إذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله .. ))
فأعجبني شرح الإمام النوويّ رحمه الله حين قال : ( ثمّ إن كانت الحاجة التي يسألها لم تجر العادة بجريانها على أيدي خلقه ، كطلب الهداية والعلم، وشفاء المرضى، وحصول العافية ، سأل ربّه ذلك . وأمّا سؤال الخلق ، والاعتماد عليهم فمذموم )) .
فقلت للشيخ : هذا الحديث وشرحه يفيدان عدم جواز الاستعانة بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله .
فقال لي : بل تجوز !!(2/66)
قلت له : وما الدليل ؟ فغضب الشيخ ، وصاح قائلاً : إنّ عمّتي كانت تقول : يا شيخ سعد ( وهو من الأولياء المزعومين الأموات ) فأقول لها : يا عمّتي ، وهل ينفعك الشيخ سعد ؟ فتقول : أدعوه فيتدخّل على الله فيشفيني !!
قلت له : إنّك رجل عالم ، قضيت عمرك في قراءة الكتب ، ثمّ تأخذ عقيدتك من عمّتك الجاهلة !!
فقال لي : عندك أفكار وهّابيّة ! (نسبة إلى الشيخ المجدد محمّد بن عبد الوهّاب رحمه الله ) .
وكنت لا أعرف شيئاً عن الوهّابية إلا ما أسمعه من المشايخ ، فيقولون عنهم : إنّهم مخالفون للناس ، لا يؤمنون بالأولياء وكراماتهم المزعومة ، ولا يحبّون الرسول صلى الله عليه وسلم ، إلى غير ذلك من التهم الكثيرة الكاذبة التي لا حقيقة لها .
فقلت في نفسي ؛ إن كانت الوهّابيّة تؤمن بالاستعانة بالله وحده ، وأنّ الشافي هو الله وحده ، فلا بدّ أن أتعرّف عليها .
وبحثت عن هذه الجماعة ، فاهتديت إليها ، كان لهم لقاء مساء كلّ خميس يتدارسون فيه التفسير والفقه والحديث ، فذهبت إليهم بصحبة أولادي وبعض الشباب المثقّف .. دخلنا غرفة كبيرة ، وجلسنا ننتظر الدرس ، وبعد برهة من الزمن دخل الشيخ ، فسلّم علينا ، ثمّ جلس على مقعده ، ولم يقم له أحد ، فقلت في نفسي ، هذا الشيخ متواضع ، لا يحب القيام له.(2/67)
وبدأ الشيخ درسه بقوله : إنّ الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره .. إلى آخر الخطبة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتتح بها خطبه ودروسه ، ثمّ بدأ يتكلّم باللغة العربية الفصحى ، ويورد الأحاديث ، ويبيّن صحّتها وراويها ، ويصلّي على النبيّ صلى الله عليه وسلم كلّما ذكر اسمه . وفي ختام الدرس وجّهت له الأسئلة فكان يجيب عليها بالدليل من الكتاب والسنّة ، ويناقشه بعض الحاضرين فلا يردّ سائلاً أو متكلماً ، ثمّ قال في آخر درسه : الحمد لله ، إنّنا مسلمون سلفيون ، وبعض الناس يقولون إنّنا وهّابيون ، فهذا تنابز بالألقاب ، وقد نهانا الله عن ذلك بقوله : (( وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ )) ( الحجرات : 11) .
ولمّا انتهى الشيخ من درسه ، خرجنا ونحن معجبين بعلمه وتواضعه ، وسمعت أحد الشباب يقول : هذا هو الشيخ الحقيقيّ .
ومن هنا بدأت رحلتي إلى التوحيد الخالص ، والدعوة إليه ، ونشره بين الناس اقتداء بسيّد البشر صلى الله عليه وسلم . وإنّي لأحمد الله عزّ وجلّ الذي هداني لهذا ، وما كنت لأهتدي لولا أن هداني الله ، والحمد لله أوّلاً و آخراً .
( القسم الثاني : توبة الفنانين والفنانات :
( القسم الثاني : توبة الفنانين والفنانات :
(توبة الممثلة شمس البارودي (1) :
في حوار أجرته إحدى الصحف مع شمس البارودي الممثلة المعروفة التي اعتزلت التمثيل وردّاً على سؤال عن سبب هدايتها قالت:
__________
(1) من كتابها (رحلتي من الظلمات إلى النور) من ص 16-29.(2/68)
البداية كانت في نشأتي.. والنشأة لها دور مهم ، والدي بفضل الله رجل متدين، التدين البسيط العادي.. وكذلك كانت والدتي ـ رحمهما الله ـ كنت أصلي ولكن ليس بانتظام.. كانت بعض الفروض تفوتني ولم أكن أشعر بفداحة ترك فرض من فروض الصلاة.. وللأسف كانت مادة الدين في المدارس ليست أساسية وبالطبع لم يكن يرسب فيها أحد ولم يكن الدين عِلماً مثل باقي العلوم الأخرى الدنيوية.. وعندما حصلت على الثانوية العامة كانت رغبتي إما في دخول كلية الحقوق أو دراسة الفنون الجميلة، ولكن المجموع لم يؤهلني لأيهما.. فدخلت معهد الفنون المسرحية، ولم أكمل الدراسة فيه حيث مارست مهنة التمثيل.. وأشعر الآن كأنني دفعت إليها دفعاً.. فلم تكن في يوم من الأيام حلم حياتي ولكن بريق الفن والفنانين والسينما والتليفزيون كان يغري أي فتاة في مثلي سني ـ كان عمري آنذاك 16-17 سنة ـ خاصة مع قلة الثقافة الدينية الجيدة.
وأثناء عملي بالتمثيل كنت أشعر بشيء في داخلي يرفض العمل حتى أنني كنت أظل عامين أو ثلاثة دون عمل حتى يقول البعض: إنني اعتزلت..
والحمد لله كانت أسرتي ميسورة الحال من الناحية المادية فلم أكن أعمل لحاجة مادية.. وكنت أنفق العائد من عملي على ملابسي ومكياجي وما إلى ذلك.. استمر الوضع حتى شعرت أني لا أجد نفسي في هذا العمل.. وشعرتُ أن جمالي هو الشيء الذي يُستغل في عملي بالتمثيل.. وعندها بدأت أرفض الأدوار التي تُعرض عليً، والتي كانت تركز دائماً على جمالي الذي وهبني الله إياه وعند ذلك قلّ عملي جداً.. كان عملي بالتمثيل أشبه بالغيبوبة.. كنت أشعر أن هناك انفصاماً بين شخصيتي الحقيقية والوضع الذي أنا فيه.. وكنت أجلس أفكر في أعمالي السينمائية التي يراها الجمهور.. ولم أكن أشعر أنها تعبّر عني، وأنها أمر مصطنع، كنت أحسّ أنني أخرج من جلدي.(2/69)
وبدأت أمثل مع زوجي الأستاذ حسن يوسف في أدوار أقرب لنفسي فحدثت لي نقلة طفيفة من أن يكون المضمون لشكلي فقط بل هناك جانب آخر. أثناء ذلك بدأت أواظب على أداء الصلوات بحيث لو تركت فرضاً من الفروض استغفر الله كثيراً بعد أن أصلّيه قضاءً.. وكان ذلك يحزنني كثيراً.. كل ذلك ولم أكن ألتزم بالزي الإسلامي.
وقبل أن أتزوج كنتُ أشتري ملابس من أحدث بيوت الأزياء في مصر وبعد أن تزوجت كان زوجي يصحبني للسفر خارج مصر لشراء الملابس الصيفية والشتوية!!.. أتذكر هذا الآن بشيء من الحزن، لأن مثل هذه الأمور التافهة كانت تشغلني.
ثم بدأت أشتري ملابس أكثر حشمةً، وإن أعجبني ثوب بكمّ قصير كنت أشتري معه (جاكيت) لستر الجزء الظاهر من الجسم.. كانت هذه رغبة داخلية عندي.
وبدأت أشعر برغبة في ارتداء الحجاب ولكن بعض المحيطين بي كانوا يقولون لي: إنكِ الآن أفضل!!!.
بدأت أقرأ في المصحف الشريف أكثر.. وحتى تلك الفترة لم أكن قد ختمت القرآن الكريم قراءة، كنت أختمه مع مجموعة من صديقات الدراسة.. ومن فضل الله أنني لم تكن لي صداقات في الوسط الفني، بل كانت صداقاتي هي صداقات الطفولة، كنت أجتمع وصديقاتي ـ حتى بعد أن تزوجت ـ في شهر رمضان الكريم في بيت واحدة منا نقرأ الكريم ونختمه وللأسف لم تكن منهن من تلتزم بالزي الشرعي.
في تلك الفترة كنت أعمل دائماً مع زوجي سواء كان يمثل معي أو يُخرج لي الأدوار التي كنت أمثلها.. وأنا أحكي هذا الآن ليس باعتباره شيئاً جميلاً في نفسي ولكن أتحدث عن فترة زمنية عندما أتذكرها أتمنى لو تمحى من حياتي ولو عدت إلى الوراء لما تمنيت أبداً أن أكون من الوسط الفني!!(2/70)
كنت أتمنى أن أكون مسلمة ملتزمة لأن ذلك هو الحق والله تعالى يقول: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنّ وَالإِنسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات: 56] كنت عندما أذهب إلى المصيف أتأخر في نزول البحر إلى ما بعد الغروب ومغادرة الجميع للمكان إلا من زوجي، وأنا أقول هذا لأن هناك من تظن أن بينها وبين الالتزام هُوَّةٌ واسعة ولكن الأمر بفضل الله سهل وميسور فالله يقول في الحديث القدسي: (ومن تقرب إلىّ شبراً تقربت إليه ذراعاً ومن تقرب إلى ذراعاً تقربتُ إليه باعاً، ومن أتاني يمشي أتيته هرولةً).
وكانت قراءاتي في تلك الفترة لبرجسون وسارتر وفرويد وغيرهم من الفلسفات التي لا تقدم ولا تؤخر وكنت أدخل في مناقشات جدلية فلسفية وكانت عندي مكتبة ولكني أحجمت عن هذه القراءات دون سبب ظاهر.
كانت عند رغبة قوية في أداء العمرة وكنت أقول في نفسي: إنني لا أستطيع أن أؤدي العمرة إلا إذا ارتديت الحجاب لأنه غير معقول أن أذهب لبيت الله دون أن أكون ملتزمة بالزي الإسلامي.. لكن هناك من قلنَ لي: لا.. أبداً.. هذا ليس شرطاً.. كان ذلك جهلاً منهن بتعاليم الإسلام لأنهن لم يتغير فيهن شيء بعد أدائهن للعمرة.
وذهب زوجي لأداء العمرة ولم أذهب معه لخوفي أن تتأخر ابنتي عن الدراسة في فترة غيابي.. ولكنها أصيبت بنزلة شعبية وانتقلت العدوى إلى ابني ثم انتقلت إليّ فصرنا نحن الثلاثة مرضى فنظرت إلى هذا الأمر نظرة فيها تدبر وكأنها عقاب على تأخري عن أداء العمرة.
وفي العام التالي ذهبت لأداء العمرة وكان ذلك سنة 1982م في شهر (فبراير) وكنتُ عائدة في (ديسمبر) من باريس وأنا أحمل أحدث الملابس من بيوت الأزياء.. كانت ملابس محتشمة.. ولكنها أحدث موديل.. وعندما ذهبتُ واشتريت ملابس العمرة البيضاء كانت أول مرة ألبس الثياب البيضاء دون أن أضع أي نوع من المساحيق على وجهي ورأيت نفسي أكثر جمالا..(2/71)
ولأول مرة سافرت دون أن أصاب بالقلق على أولادي لبُعدي عنهم وكانت سفرياتي تصيبني بالفزع والرعب خوفاً عليهم.. وكنت آخذهم معي في الغالب.
وذهبتُ لأداء العمرة مع وفد من هيئة قناة السويس.. وعندما وصلتُ إلى الحرم النبوي بدأت أقرأ في المصحف دون أن أفهمَ الآيات فهماً كاملاً لكن كان لدي إصرار على ختم القرآن في المدينة ومكة.. وكانت بعض المرافقات لي يسألنني: هل ستتحجبين ؟ وكنت أقول: لا أعرف.. كنت أعلق ذلك الأمر على زوجي.. هل سيوافق أم لا... ولم أكن أعلم أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
وفي الحرم المكي وجدت العديد من الأخوات المسلمات اللائى كُنَّ يرتدين الخمار وكنت أفضل البقاء في الحرم لأقرأ القرآن الكريم وفي إحدى المرات أثناء وجودي في الحرم بين العصر والمغرب التقيتُ بإحدى الأخوات وهي مصرية تعيش في الكويت اسمها (أروى) قرأتْ عليّ أبياتاً من الشعر الذي كتبته هي فبكيت، لأنني استشعرت أنها مسّت شيئاً في قلبي وكنت في تلك الفترة تراودني فكرة الحجاب كثيراً ولكن الذي من حولي كانوا يقولون لي: انتظري حتى تسألي زوجك.. لا تتعجلي ... أنت مازلتِ شابة ... الخ) ولكن كانت رغبتي دائماً في ارتداء الحجاب قالت الأخت (أروى):
فليقولوا عن حجابي ... لا وربي لن أبالي
قد حماني فيه ديني ... وحباني بالجلال
زينتي دوماً حيائي ... واحتشامي هو مالي
ألأني أتولى ... عن متاعٍ لزوالِ
لامني الناس كأني ... أطلب السوء لحالي
كم لمحت اللوم منهم ... في حديث أو سؤال
وهي قصيدة طويلة أبكي كلما تذكرتها ... استشعرت تتحدث بلسان حالي ... وأنها مست شغاف قلبي.(2/72)
وبعد ذلك ذهبت لأداء العمرة لأخت لي من أبي توفيت وكنت أحبها كثير رحمها الله وبعد أداء العمرة لم أنم تلك الليلة واستشعرت بضيق في صدري رهيب وكأن جبال الدنيا تجثم فوق أنفاسي ... وكأن خطايا البشر كلها تخنقني ... كل مباهج الدنيا التي كنت أتمتع بها كأنها أوزار تكبلني ... وسألني والدي عن سبب أرقي فقلت له: أريد أن أذهب إلى الحرم الآن ... ولم يكن الوقت المعتاد لذهابنا إلى الحرم قد حان ولكن والدي وكان مجنداً نفسه لراحتي في رحلة العمرة صحبني إلى الحرم ... وعندما وصلنا أديتُ تحية المسجد وهي الطواف وفي أول شوط من الأشواط السبعة يسّر الله لي الوصول إلى الحجر الأسود ولم يحضر على لساني غير دعاء واحد ... لي ولزوجي وأولادي وأهلي وكل من أعرف ... دعوت بقوة الإيمان ... ودموعي تنهمر في صمت ودون انقطاع ... طوال الأشواط السبعة لم أدعُ إلا بقوة الإيمان وطوال الأشواط السبعة أصل إلى الحجر الأسود وأقبّله، وعند مقام إبراهيم عليه السلام وقفت لأصلي ركعتين بعد الطواف وقرأت الفاتحة، كأني لم أقرأها طوال حياتي واستشعرت فيها معانٍ اعتبرتها منة من الله، فشعرت بعظمة فاتحة الكتاب ... وكنت أبكي وكياني يتزلزل ... في الطواف استشرت كأن ملائكة كثيرة حول الكعبة تنظر إلي ... استشعرت عظمة الله كما لم أستشعرها طوال حياتي.
ثم صليت ركعتين في الحِجر وحدث لي الشيء نفسه كل ذلك كان قبل الفجر ... وجاءني والدي لأذهب إلى مكان النساء لصلاة الفجر عندها كنت قد تبدلت وأصبحت إنسانة أخرى تماماً. وسألني بعض النساء: هل ستتحجّبين يا أخت شمس؟ فقلت: بإذن الله ... حتى نبرات صوتي قد تغيرت ... تبدلت تماماً ... هذا كل ما حدث لي ... وعدتُّ ومن بعدها لم أخلع حجابي ... وأنا الآن في السنة السادسة منذ ارتديته وأدعو الله أن يُحسن خاتمتي وخاتمتنا جميعاً أنا وزوجي وأهلي وأمة المسلمين جمعاء.
(توبة الراقصة هالة الصافي (1) :
__________
(1) المجلة العربية: العدد 140.(2/73)
روت الفنانة الراقصة، المعروفة، هالة الصافي، قصة اعتزالها الفن وتوبتها، والراحة النفسية التي وجدتها عندما عادت إلى بيتها وحياتها، وقالت: بأسلوب مؤثر عبر لقاء صحفي معها:
(في أحد الأيام كنت أؤدي رقصة في أحد فنادق القاهرة المشهورة، شعرت وأنا أرقص بأنني عبارة عن جثة،، دمية تتحرك بلا معنى، ولأول مرة أشعر بالخجل وأنا شبه عارية، أرقص أمام الرجال ووسط الكؤوس.
تركت المكان، وأسرعت وأنا أبكي في هستيريا حتى وصلت إلى حجرتي وارتديت ملابسي.
انتابني شعور لم أحسه طيلة حياتي مع الرقص الذي بدأته منذ كان عمري 15 سنة، فأسرعت لأتوضأ وصليت، وساعتها شعرت لأول مرة بالسعادة والأمان، ومن يومها ارتديت الحجاب على الرغم من كثرة العروض، وسخرية البعض.
أديت فريضة الحج، ووقفت أبكي لعل الله يغفر لي الأيام السوداء..).
وتختتم قصتها المؤثرة قائلة: (هالة الصافي ماتت ودفن معها ماضيها، أما أنا فاسمي سهير عابدين، أم كريم، ربة بيت، أعيش مع ابني وزوجي، ترافقني دموع الندم على أيام قضيتها من عمري بعيداً عن خالقي الذي أعطاني كل شيء.
إنني الآن مولودة جديدة، أشعر بالراحلة والأمان بعد أن كان القلق والحزن صديقي، بالرغم من الثراء والسهر واللهو).
وتضيف: (قضيت كل السنين الماضية صديقة للشيطان، لا أعرف سوى اللهو الرقص، كنت أعيش حياة كريهة حقيرة، كنت دائماً عصبية، والآن أشعر أنني مولودة جديدة، أشعر أنني في يد أمينة تحنو علي وتباركني، يد الله سبحانه وتعالى).
(توبة الممثل المغربي المشهور سعيد الزياني (1) :
في مكة أم القرى ، شرفها الله ومن جوار بيت الله الحرام، وفي العشر الأخيرة من رمضان، حدثنا الممثل سابقاً، والداعية حالياً، الأخ سعيد الزياني عن قصة رجوعه إلى الله، وهدايته إلى الطريق المستقيم، فقال:
__________
(1) هذه القصة كتبها لي أحد الاخوة الثقات وقد سمعها بنفسه من الأخ سعيد(2/74)
نشأت في بيت من بيوت المسلمين، ولما بلغتُ من المراهقة كنتُ أحلم ـ كما كان يحلم غيري من الشباب المراهق ـ بتحقيق شيئين مهمين في نظري آنذاك، وهما: الشهرة والمال، فقد كنت أبحث عن السعادة وأسعى إلى الحصول عليها بأية طريقة كانت.
في بداية الأمر،. التحقتُ بالإذاعة المغربية، وشاركتُ في تقديم بعض الفقرات التي تربط بين البرامج، ثم تقدمت فأصبحت أقدّم برامج خاصة حتى اكتسبتُ خبرة في هذا المجال، ثم اتجهت إلى التلفزيون وتدرجت فيه حتى أصبحت مقدماً من الدرجة الأولى ـ وهي أعلى درجة يحصل عليها مذيع أو مقدم ـ وأصبحت أقدِّم نشرات الأخبار، والكثير من برامج السهرة والمنوعات وبرامج الشباب، واشتهرت شهرة كبيرة لم يسبقني إليها أحد، وأصبح اسمي على كل لسان، وصوتي يُسمع في كل بيت.
وعلى الرغم من هذه الشهرة إلا أني كنت غير سعيد بهذا.. كنت أشعر بضيق شديد في صدري، فقلت في نفسي لعلي أجد السعادة في الغناء.. وبالفعل، فقد ساعدتني شهرتي في الإذاعة والتلفزيون أن أقدم من خلال أحد البرامج التلفزيونية أغنية قصيرة كانت هي البداية لدخول عالم الغناء.
ودخلتُ عالم الغناء، وحققت شهرة كبيرة في هذا المجال، ونَزَل إلى الأسواق العديد بل الآلاف من الأشرطة الغنائية التي سجلتها بصوتي.(2/75)
وعلى الرغم من ذلك كله كنت أشعر بالتعاسة والشقاء، وأحس بالملل وضيق الصدر، وصدق الله إذ يقول: (فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيّقاً حَرَجاً كَأَنّمَا يَصّعّدُ فِي السّمَآءِ) [الأنعام :125] فقلت في نفسي: إن السعداء هم الممثلون والممثلات ، فأردتُّ أن أشاركهم في تلك السعادة، فاتجهت إلى التمثيل، وأصبحت ممثلاً من الدرجة الأولى، فكنت لا أمثل إلا أدوار البطولة في جميع الأعمال التي أقدمها.. والحقيقة ودون مبالغة أصبحت شخصاً متميزاً في بلدي، فلا أركب إلا أغلى السيارات وأفخمها، ولا ألبس إلا الملابس الثمينة.. مكانتي الاجتماعية أصبحت راقية، فأصدقائي هم كبار الشخصيات من الأمراء وغيرهم، فكنت أنتقل بين القصور، من قصر إلى قصر، وتُفتح لي الأبواب وكأني صاحب تلك القصور.
ولكن.. وعلى الرغم من ذلك كله، كنت أشعر بأني لم أصل إلى السعادة التي أبحث عنها.
وفي يوم من الأيام.. أجرى معي أحد الصحفيين لقاء صحفياً طويلا، وكان من بين الأسئلة التي وجهها إليّ هذا السؤال: (الفنان سعيد الزياني.. من المصادفات أن اسمك ينطبق على حياتك.. فاسمك سعيد، ما تقول في ذلك؟
(وكان الجواب:
(في الحقيقة أن ما تعتقده ويعتقده كثير من الناس غير صحيح، فأنا لستُ سعيداً في حياتي، واسمي في الحقيقة لا يزال ناقصاً، فهو يتكون من ثلاثة أحرف وهي: س، ع، ي: (سعي)، وأنا ما زلت أسعى، أبحث عن الحرف الأخير، وهو حرف (الدال) ليكتمل اسمي وتكتمل سعادتي، وإلى الآن لم أجده، وحين أجده سوف أخبرك).
وقد أجري معي هذا اللقاء وأنا في قمة شهرتي وثرائي.. ومرت الأيام والشهور والأعوام.. وكان لي شقيق يكبرني سناً، هاجر إلى بلجيكا.. كان إنساناً عادياً إلا أنه كان أكثر مني التزاماً واستقامة، وهناك في بلجيكا التقى ببعض الدعاة المسلمين فتأثر بهم وعاد إلى الله على أيديهم.(2/76)
فكرتُ في القيام برحلة سياحية إلى بلجيكا أزور فيها أخي فأمر عليه مرور الكرام، ثم أواصل رحلتي إلى مختلف بلاد العالم .
سافرت إلى بلجيكا، والتقيتُ بأخي هناك، ولكني فوجئت بهيئته المتغيرة، وحياته المختلفة، والأهم من ذلك، السعادة التي كانت تشع في بيته وحياته، وتأثرتُ كثيراً بما رأيتُ، إضافةً إلى العلاقات الوثيقة التي تربط بين الشباب المسلم في تلك المدينة، وقد قابلوني بالأحضان، ورحّبوا بي أجمل ترحيب، ووجهوا لي الدعوة لحضور مجالسهم واجتماعاتهم والتعرف عليهم بصورة قوية.
أجبت الدعوة، وكنت أشعر بشعور غريب وأنا أجلس معهم، كنتُ أشعر بسعادة عظيمة تغمرني لم أشعر بها من قبل، ومع مرور الأيام قمتُ بتمديد إجازتي لكي تستمر هذه السعادة التي طالما بحثتُ عنها فلم أجدها.
وهكذا.. كنت أشعر بالسعادة مع هؤلاء الأخيار تزداد يوماً بعد يوم، والضيق والهم والشقاء يتناقص يوماً بعد يوم.. حتى امتلأ صدري بنور الإيمان، وعرفتُ الطريق إلى الله الذي كنت قد ضللت عنه مع ما كنت أملكه من المال والثراء والشهرة، وأدركت من تلك اللحظة أن السعادة ليست في ذلك المتاع الزائل، إنما هي في طاعة الله عز وجل: (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىَ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنّهُ حَيَاةً طَيّبَةً وَلَنَجْزِيَنّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) [النحل : 97] وقال تعالى: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمَىَ) [طه: 124] امتدت إجازتي عند أخي أكثر من سنتين، وأرسلتُ رسالة إلى الصحفي الذي سألني السؤال السابق، وقلت له:
الأخ........ رئيس تحرير صحيفة......... في جريدة..........(2/77)
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، .. أود أن أذكّرك بالسؤال الذي سألتني فيه عن السعادة، وذلك في يوم....... وتاريخ........ وقد أجبت بالجواب التالي:....... ووعدتك أن أخبرك متى ما وجدت حرف (الدال)، والآن: يطيب لي ويسعدني ويشرفني أن أخبرك بأني قد وجدتُ حرف الدال المُتمم لاسمي حيث وجدته في الدين والدعوة.. وأصبحت الآن (سعيد) حقاً.
شاع الخبر بين الناس، وبدأ أعداء الدين والمنافقون يطلقون عليّ الإشاعات، ويرمونني بالتهم، ومنهم من قال: إنه أصبح عميلاً لأمريكا أو لروسيا... إلى غير ذلك من الإشاعات المغرضة.. كنتُ أستمعُ إلى هذه الإشاعات فأتذكر دائماً ما قوبل به الأنبياء والرسل والدعاة على مرّ العصور والدهور، وعلى رأسهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وصحابته الكرام ـ رضي الله عنهم أجمعين ـ فازداد ثباتاً وإيماناً ويقيناً، وأدعو الله دائماً: (رَبّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لّدُنْكَ رَحْمَةً إِنّكَ أَنْتَ الْوَهّابُ) [آل عمران : 8]
(توبة الممثلة هالة فؤاد (1) :
(أرى أنني ارتكبت معصية وخطأ كبيراً في حق ربي وديني، وعلى هذا الأساس أتمنى أن يغفر الله لي ويسامحني).
هذا ما قالته الممثلة (سابقاً) هالة فؤاد بعد توبتها واعتزالها الفن، وارتدائها الحجاب، وإعلانها التفرغ التام لرعاية زوجها وأولادها وبيتها، تروي قصتها فتقول:
(منذ صغري وبداخلي شعور قوي يدفعني إلى تعاليم الدين، والتمسك بالقيم والأخلاق الحميدة، وبالتحديد: عندما كنت في المرحلة الإعدادية.
__________
(1) مجلة (كل الناس)، العدد/85، والكواكب، العدد/2056.(2/78)
كنت لا أحب حياة الأضواء، أو الظهور في المجتمعات الفنية، وكانت سعادتي الكبرى أن أظل داخل منزلي، ولكن النفس الأمارة بالسوء والنظر إلى الآخرين وتلك التبريرات الشيطانية كانت وراء اتجاهي لهذا الطريق (1) .
وشاء الله سبحانه وتعالى أن يبتليني بمصيبة أعادتني إلى فطرتي، وتبين لي من خلالها الضلال من الهدى، في لحظةٍ كنت فيها قاب قوسين أو أدنى من الموت، وذلك أثناء عملية الولادة الأخيرة، حيث سدت المشيمة عنق الرحم، وكان الأطباء يستخدمون معي الطلق الصناعي قبل الولادة بثلاثة أيام، وحدث نزيف شديد هدد حياتي بخطر كبير، فأجريت لي عملية قيصرية، وبعد العملية ظللت أعاني من الآلام، وفي اليوم السابع، الذي كان من المفروض أن أغادر فيه المستشفى، فوجئت بألم شديد في رجلي اليمنى، وحدث ورم ضخم، وتغير لونها، وقال لي الأطباء: إنني أصبحت بجلطة.
وأنا في هذه الظروف شعر بإحساس داخلي يقول لي: إن الله لن يرضى عنكِ ويشفيك إلا إذا اعتزلت التمثيل، لأنك في داخلك مقتنعة أن هذا التمثيل حرام، ولكنك تزينينه لنفسك، والنفس أمّارة بالسوء، ثم إنك في النهاية متمسكة بشيء لن ينفعك.
أزعجني هذا الشعور، لأنني أحب التمثيل جداً، وكنت أظن أني لا أستطيع الحياة بدونه، وفي نفس الوقت خفت أن أتخذ خطوة الاعتزال ثم أتراجع عنها مرة أخرى، فيكون عذابي شديداً.
المهم عدتُّ إلى بيتي، وبدأت أتماثل للشفاء، والحمد لله، رجلي اليمنى بدأ يطرأ عليها تحسن كبير، ثم فجأة وبدون إنذار انتقلت الآلام إلى رجلي اليسرى، وقد شعرت قبل ذلك بآلام في ظهري، ونصحني الأطباء بعمل علاج طبيعي، لأن عضلاتي أصابها الارتخاء نتيجة لرقادي على السرير، وكانت دهشتي أن تنتقل الجلطة إلى القدم اليسرى بصورة أشد وأقوى من الجلطة الأولى.
__________
(1) هكذا يراد لأجيالنا المسلمة، أن تتجه للفن والتمثيل، لتنصرف عما خلقت من أجله من عبادة الله وحده، والجهاد في سبيله، فمتى نتنبه لذلك.(2/79)
كتب لي الطبيب دواء، وكان قوياً جداً، وشعرت بآلام شديدة جداً في جسمي، واستخدم معي أيضاً حقناً أخرى شديدة لعلاج هذه الجلطة في الشرايين، ولم أشعر بتحسن، وازدادت حالتي سوءاً، وهنا شعرت بهبوط حاد، وضاعت أنفاسي، وشاهدت كل من حولي في صورة باهتة، وفجأة سمعت من يقول لي قولي: (لا إله إلا الله) لأنك تلفظين أنفاسك الأخيرة الآن، فقلت: (أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله).
نطقتُ الشهادة، وفي هذه اللحظة تحدثتُ مع نفسي وقلتُ لها: سوف تنزلين القبر، وترحلين إلى الله والدار الآخرة، فكيف تقابلين الله ، وأنت لم تمتثلي لأوامره، وقضيتِ حياتك بالتبرج، والوقوف في مواقف الفتنة من خلال العمل بالتمثيل ؟ ماذا ستقولين عند الحساب؟ هل ستقولين إن الشيطان قد هزمني.
نعم، لقد رأيت الموت فعلاً، ولكن للأسف، كلنا نتناسى لحظ الموت، ولو تذكر كل إنسان تلك اللحظة فسوف يعمل ليوم الحساب، يجب أن نتثقف دينياً حتى لا نكون مسلمين بالوراثة، ويجب أن نتعمق في دراسة القرآن والسنة والفقه، وللأسف فإننا نعاني من (أمية دينية)، ولابدّ من تكاتف كل الجهات لتثقيف المجتمع دينياً، ولن يتم ذلك من خلال تقديم برنامج واحد أو برنامجين .
وباختصار، قمت بمحاكمة سريعة لنفسي في تلك اللحظات ثم شعرت فجأة بأنني أسترد أنفاسي، وبدأت أرى كل من يقف بوضوح تام.. أصبح وجه زوجي شديد الاحمرار، وبكى بشدة، وأصبح والدي في حالة يُرثى لها، أما والدتي فقد قامت في ركن من الحجرة تصل وتدعو الله .
سألت الطبيب: ماذا حدث؟!
قال: (احمدي ربنا، لقد كُتب لك عُمر جديد).
بدأت أفكر في هذه الحادثة التي حدثتْ لي وأذهلتِ الأطباء بالإضافة إلى من حولي... فكرت في الحياة كم هي قصيرة، ولا تستحق منا كل هذا الاهتمام، فقررت أن أرتدي الحجاب وأكون في خدمة بيتي وأولادي، والتفرغ لتنشئتهم النشأة الصحيحة، وهذه أعظم الرسالات).(2/80)
وهكذا عادت هالة إلى ربها، وأعلنت قرارها الأخير باعتزال مهنة التمثيل، تلك المهنة المهينة التي تجعل من المرأة دمية رخيصة يتلاعب بها أصحاب الشهوات وعبيد الدنيا، إلا أن هذا القرار لم يَرق لكثير من أولئك التجار (تجار الجنس) فاتهموها بالجنون، وأنها إنما تركت التمثيل بسبب المرض وعجزها عن المواصلة، فترد على هؤلاء وتقول:
(إن هناك في (عالم الفن) مَن هم أكثر مني (نجومية)!! شهرةً، وقد تعرضوا لتجارب أقسى كثيراً مما تعرضتُ له، ولكنهم لم يتخذوا نفس القرار).
ثم تضيف: (والغريب أن الوسط الفني) قد انقسم أمام قراري هذا إلى قسمين: فالبعض قدم لي التهنئة، والبعض الآخر اتهموني بالجنون، فإذا كان الامتثال لأوامر الله جنوناً، فلا أملك إلا أن أدعو لهم جميعاً بالجنون الذي أنا فيه).
وفي معرض حديثها عن حاله قبل التوبة، وموقفها من زميلاتها اللاتي سبقنها إلى التوبة والالتزام تقول:
(لقد كنت أشعر بمودة لكل الزميلات اللاتي اتخذن مثل هذا القرار، كهناء ثروت، وميرفت الجندي... وكنت أدعو الله أن يشرح لما يحب، وأن يغلقه عما لا يحب، وقد استجاب الله دعائي وشرح صدري لما يحب).
وفي ختام حديثها تقول:
(هالة فؤاد الممثلة توفيت إلى غير رجعة، وهالة فؤاد الموجودة حالياً لا علاقة لها بالإنسانة التي رحلت عن دنيانا).
هذه هي قصة الممثلة هالة فؤاد مع الهداية كما ترويها بنفسها، ونحن بانتظار المزيد من العائدين إلى الله من (الفنانين) وغيرهم، اللاحقين بركب الإيمان قبل فوات الأوان، فمن العائد الجديد يا ترى؟؟
(توبة أشهر عارضة أزياء فرنسية (1) :
(فابيان) عارضة الأزياء الفرنسية، فتاة في الثامنة والعشرين من عمرها، جاءتها لحظة الهداية وهي غارقة في عالم الشهرة والإغراء والضوضاء.. انسحبت في صمت.. تركتْ هذا العالم بما فيه، وذهبتْ إلى أفغانستان لتعمل في تمريض جرحى المجاهدين الأفغان وسط ظروف قاسية وحياة صعبة.
__________
(1) جريدة المسلمون العدد 238.(2/81)
تقول فابيان:
(لولا فضل الله عليّ ورحمته بي لضاعت حياتي في عالم ينحدر فيه الإنسان ليصبح مجرد حيوان كل همه إشباع رغباته وغرائزه بلا قيم ولا مبادئ).
ثم تروي قصتها فتقول:
(منذ طفولتي كنت أحلم دائماً بأن أكون ممرضة متطوعة، أعمل على تخفيف الآلام للأطفال المرضى، ومع الأيام كبرت، ولفتّْ الأنظار بجمالي ورشاقتي، وحرّضني الجميع ـ بما فيهم أهلي ـ على التخلي عن حلم طفولتي، واستغلال جمالي في عمل يدرّ عليّ الربح المادي الكثير، والشهرة والأضواء، وكل ما يمكن أن تحلم به أية مراهقة، وتفعل المستحيل من أجل والوصول إليه.
وكان الطريق أمامي سهلاً ـ أو هكذا بدا لي ـ ، فسرعان ما عرفت طعم الشهرة، وغمرتني الهدايا الثمينة التي لم أكن أحلم باقتنائها.
ولكن كان الثمن غالياُ.. فكان يجب عليّ أولاً أن أتجرد من إنسانيتي، وكان شرط النجاح وتألق أن أفقد حساسيتي وشعوري، وأتخلى عن حيائي الذي تربيت عليه، وأفقد ذكائي، ولا أحاول فهم أي شيء غير حركات جسدي، وإيقاعات الموسيقى، كما كان عليّ أن أحرم من جميع المأكولات اللذيذة وأعيش على الفيتامينات الكيميائية والمقويات والمنشطات، وقبل كل ذلك أن أفقد مشاعري تجاه البشر... لا أكره.. لا أحب... لا أرفض أي شيء .
إن بيوت الأزياء جعلت مني مجرد صنم متحرك مهمته العبث بالقلوب والعقول.. فقد تعلمتُ كيف أكون باردة قاسية مغرورة فارغة من الداخل، لا أكون سوى إطار يرتدي الملابس، فكنتُ بذلك، بل كلما تألّقت العارضة في تجردها من بشريتها وآدميتها زاد قدرها في هذا العالم البارد... أما إذا خالفت أيّاً من تعاليم الأزياء فتُعرِّض نفسها لألوان العقوبات التي يدخل فيها الأذى النفسي والجسماني أيضاً.
وعشت أتجول في العالم عارضة لأحدث الموضة بكل ما فيها من تبرج وغرور ومجاراة لرغبات الشيطان في إبراز مفاتن المرأة دون خجل أو حياء).
وتواصل (فابيان) حديثها فتقول:(2/82)
(لم أكن أشعر بجمال الأزياء فوق جسدي المفرغ ـ إلا من الهواء والقسوة ـ بمهانة النظرات واحتقارهم لي شخصيّاً واحترامهم لما أرتديه.
كما كنت أسير وأتحرك.. وفي كل إيقاعاتي كانت تصاحبني كلمة (لو).. وقد علمت بعد إسلامي أن لو تفتح عمل الشيطان.. وقد كان ذلك صحيحاً، فكنا نحيا في عالم الرذيلة بكل أبعادها، والويل لمن تعترض عليها وتحاول الاكتفاء بعملها فقط).
وعن تحولها المفاجئ من حياة لاهية عابثة إلى أخرى جادة نقول:
(وكان ذلك أثناء رحلة لنا في بيروت المحطمة، حيث رأيتُ كيف يبني الناس هناك الفنادق والمنازل تحت قسوة المدافع، وشاهدت بعيني انهيار مستشفى للأطفال في بيروت، ولم أكن وحدي، بل كان معي زميلاتي من أصنام البشر وقد اكتفين بالنظر بلا مبالاة كعادتهن.
ولم أتمكن من مجاراتهن في ذلك.. فقد انقشعت عن عيني في تلك اللحظة غُلالة الشهرة والمجد والحياة الزائفة التي كنت أعيشها، واندفعت نحو أشلاء الأطفال في محاولة لإنقاذ من بقي منهم على قيد الحياة.
ولم أعد إلى رفاقي في الفندق حيث تنتظرني الأضواء، وبدأت رحلتي نحو الإنسانية حتى وصلت إلى طريق النور وهو الإسلام.
وتركتُ بيروت وذهبتُ إلى باكستان، وعند الحدود الأفغانية عشت الحياة الحقيقية، وتعلمتُ كيف أكون إنسانة.
وقد مضى على وجودي هنا ثمانية أشهر قمت فيها بالمعاونة في رعاية الأسر التي تعاني من دمار الحروب، وأحببت الحياة معهم، فأحسنوا معاملتي.
وزاد اقتناعي بالإسلام ديناً ودستوراً للحياة من خلال معايشتي له، وحياتي مع الأسر الأفغانية والباكستانية، وأسلوبهم الملتزم في حياتهم اليومية، ثم بدأت في تعلّم اللغة العربية، فهي لغة القرآن، وقد أحرزت في ذلك تقدماً ملموساً.
وبعد أن كنت أستمد نظام حياتي من صانعي الموضة في العالم، أصبحت حياتي تسير تبعاً لمبادئ الإسلام وروحانياته.(2/83)
وتصل (فابيان) إلى موقف بيوت الأزياء العالمية منها بعد هدايتها، وتؤكد أنها تتعرض لضغوط دنيوية مكثفة، فقد أرسلوا عروضاً بمضاعفة دخلها الشهري إلى ثلاثة أضعافه فرفضت بإصرار.. فما كان منهم إلا أن أرسلوا إليها هدايا ثمينة لعلها تعود عن موقفها وترتد عن الإسلام.
وتمضي قائلة:
(ثم توقفوا عن إغرائي بالرجوع.. ولجئوا إلى محاولة تشويه صورتي أمام الأسر الأفغانية، فقاموا بنشر أغلفة المجلات التي كانت تتصدرها صوري السابقة أثناء عملي كعارضة للأزياء، وعلقوها في الطرقات وكأنهم ينتقمون من توبتي، وحاولوا بذلك، الوقيعة بيني وبني أهلي الجدد، ولكن خاب ظنهم والحمد لله).
وتنظر (فابيان) إلى يديها وتقول:
(لم أكن أتوقع يوماً أن يدي المرفهة التي كنت أقضيها وقتاً طويلاً في المحافظة على نعومتها سأقوم بتعريضها لهذه الأعمال الشاقة وسط الجبال، ولكن هذه المشقة زادت من نصاعة وطهارة يدي، وسيكون لها حسن الجزاء عند الله سبحانه وتعالى إن شاء الله).
(توبة المغني البريطاني كات ستيفنز :
هذا الرجل كما يروي عن نفسه ولد في لندن قلب العالم الغربي، وتعلم في مدرسة كاثوليكية علمته مفهوم النصرانية للحياة والعقيدة، وما يفترض أن يعرفه عن الله، وعن المسيح عليه السلام وعن القدر، والخير، والشر.(2/84)
كانت الحياة حول هذا الرجل مادية كلها، فكانت أجهزة الإعلام تعلم الناس بأن الغنى هو الثروة الحقيقية، وأن الفقر هو الضياع الحقيقي؛ فما كان منه إلا أن اختار طريق الغنى، فالتمس الغنى بالغناء، فبلغ قمة الشهرة، وأصبحت الأموال طوع يمينه وشماله، حينئذ بدأ القلق ينتابه خشية السقوط؛ فلجأ إلى الخمر، وبدأ يكره الحياة، واعتزل الناس، وأصيب بالسل، ونقل إلى المستشفى ثم بدأ يفكر في ما هو عليه، فلم يقتنع تماماً بتعاليم الدين النصراني، وبدأ يبحث عن السعادة التي لم يجدها في الغنى ولا في الشهرة، ولا في الكنيسة، فطرق باب البوذية، والفلسفة الصينية، فلم يجد السعادة، ثم انتقل إلى الشيوعية، ولكنه شعر بأنها لا تتفق مع الفطرة، فاتجه إلى العقاقير المهدئة؛ ليقطع هذه السلسلة القاسية من الحيرة، ثم رجع مرة أخرى إلى عالم الغناء.
وفي عام 1975م أهداه شقيقه الأكبر نسخة من القرآن، ثم بحث عن ترجمة لمعاني القرآن؛ ففكر في الإسلام الذي يعد في الغرب زوراً وبهتاناً رمزاً للعنصرية والعرقية.
يقول كات ستيفنز: ومن أول وهلة شعرت أن القرآن يبدأ بـ: (بسم الله) وليس باسم غير الله، وعبارة (بسم الله الرحمن الرحيم) كانت مؤثرة في نفسي، ثم تستمر الفاتحة فاتحة الكتاب: (الحمد لله رب العالمين) الحمد لله خالق العالمين (1) .
ثم بعد ذلك تبين له أن القرآن يدعو إلى عبادة الله والإيمان باليوم الآخر، ويبين حقيقة الإنسان، وبدايته ونهايته، وتبين له الفارق بين القرآن وبين الإنجيل الذي كتب على أيدي مؤلفين مختلفين .
ولقد حاول أن يبحث عن أخطاء في القرآن ولكنه لم يجد، ومن هنا بدأ يعرف ما هو الإسلام حقيقة.
يقول: لقد أجاب القرآن على كل تساؤلاتي، وبذلك شعرت بالسعادة؛ سعادة العثور على الحقيقة.
__________
(1) العائدون إلى الله للشيخ محمد المسند 2/22.(2/85)
وبعد قراءة القرآن الكريم كله خلال عام كامل بدأت أطبق الأفكار التي قرأتها فيه فشعرت بذلك أنني المسلم الوحيد في العالم .
ثم فكرت كيف أكون مسلماً حقيقياً، فاتجهت إلى مسجد لندن، وأشهرت إسلامي وقلت: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله.
حين ذلك أيقنت أن الإسلام الذي اعتنقته رسالة ثقيلة، وليس عملاً سهلاً ينتهي بالشهادتين (1) .
ثم يواصل حديثه قائلاً: لقد ولدت، وعرفت إلى أين أسير مع إخواني من عباد الله المسلمين، ولم أقابل أحداً منهم من قبل، ولو قابلت مسلماً يحاول أن يدعوني للإسلام لرفضت دعوته بسبب أحوال المسلمين المزرية، وما تشوهه أجهزة إعلامنا في الغرب، بل حتى أجهزة الإعلام الإسلامية كثيراً ما تشوه الحقائق الإسلامية، وكثيراً ما تقف وتؤيد افتراءات أعداء الإسلام العاجزين عن إصلاح شعوبهم التي تدمرها الآن الأمراض الأخلاقية، والاجتماعية وغيرها.
لقد اتجهت للإسلام من أفضل مصادره، وهو القرآن الكريم، ثم بدأت أدرس سيرة الرسول"وكيف أنه بسلوكه وسننه علم المسلمين الإسلام، فأدركت الثروة الهائلة في حياة الرسول"وسنته، لقد نسيت الموسيقى، وسألت إخواني: هل أستمر؟ فنصحوني بالتوقف، فالموسيقى تشغل عن ذكر الله، وهذا خطر عظيم.
لقد رأيت شباباً يهجرون أهلهم، ويعيشون في جو الأغاني والموسيقى، وهذا لا يرضاه الإسلام الذي يحث على بناء الرجال.
وأما الملايين التي كسبتها في عملي السابق وهو الغناء فوهبتها كلها للدعوة الإسلامية (2) .
هذه هي خلاصة قصة المغني البريطاني المشهور كات ستيفنز الذي رفض الشهرة والملايين، بعد أن هداه الله إلى طريق الحق.
__________
(1) العائدون إلى الله 2/24_25.
(2) العائدون إلى الله 2/ 25_26.(2/86)
وبعد أن أسلم سمى نفسه (يوسف إسلام) وأصبح همه الأول نصرة الدين والدعوة إليه، ولقد أطلق لحيته حتى إنها تكاد تكسو صدره، ولقد سمعته يتلو آيات مباركات من سورة البقرة من آخر الجزء الأول وبداية الجزء الثاني بصوت عذب شجي، فنسأل الله أن يثبته على دين الحق.
(توبةالممثلة هناء ثروت:
الممثلة المصرية المشهورة، التي عاشت في عالم الفن فترة من الزمن، حتى منَّ الله عليها بالتوبة.
هذه الممثلة روت قصتها بنفسها، وأفادت بأن هناك أسباباً دفعتها إلى الدخول في عالم الفن؛ حيث لم يقم والداها بتربيتها كما ينبغي؛ إذ كانا مشغولين بأعمالهما؛ فلم تجد الرعاية التامة؛ حيث تلقفتها دور الحضانة قبل أن تبلغ الثالثة من عمرها.
تقول: كنت أعيش في قلق، وتوتُّر، وخوف من كل شيء؛ فانعكس ذلك على تصرفاتي الفوضوية الثائرة في المرحلة الابتدائية في محاولة لجذب الانتباه إلى شخصي المهمل أسرياً، بيد أن شيئاً ما أخذ يلفت الأنظار إليَّ بشكل متزايد.
أجل فقد حباني الله جمالاً، ورشاقة، وحنجرة غرّيدة جعلت معلمة الموسيقى تلازمني بصفة شبه دائمة تستعيدني الأدوار الغنائية الراقصة منها والاستعراضية التي أشاهدها في التلفاز، حتى غدوت أفضل من تقوم بها في الحفلات المدرسية.
ولا أزال أحتفظ في ذاكرتي بأحداث يوم كُرّمْتُ فيه، لتفوقي في الغناء والرقص والتمثيل على مستوى المدارس الابتدائية في بلدي.
احتضنتني (الأم ليليان) مديرة مدرستي ذات الهوية الأجنبية، وغمرتني بقبلاتها قائلة لزميلة لها: لقد نجحنا في مهمتنا!
إنها وأشارت إليَّ من نتاجنا، وسنعرف كيف نحافظ عليها؛ لتكمل رسالتنا!
لقد صور لي خيالي الساذج آنذاك أني سأبقى دائماً مع تلك المعلمة، وهذه المديرة، وأسعدني أن أجد بعضاً من حنان افتقدته، وإن كنت قد لاحظت أن عطفهما من نوع غريب، تَكَشَّفَتْ لي أبعاده ومراميه بعدئذ، وأفقت على حقيقة هذا الاهتمام المستورد .(2/87)
وبعد ذلك تدرجت في عالم الفن حتى أصبحت ممن يشار إليهم بالبنان.
تقول عن نفسها في تلك المرحلة: كانت تمتلكني نشوة مسكرة وأنا أرفل في الأزياء الفاخرة، والمجوهرات النفيسة، والسيارات الفارهة، كانت تطربني المقابلات والتعليقات الصحفية، ورؤية صوري الملونة وهي تحتل أغلفة المجلات، وواجهات المحلات، حتى وصل الأمر بي إلى أن تعاقد معي متعهدو الإعلانات والدعايات؛ لاستخدام اسمي ـ اسمي فقط ـ لترويج مستحضراتهم وبضائعهم.
كانت حياتي بعمومها موضع الإعجاب والتقليد في أوساط المراهقات، وغير المراهقات على السواء.
وبالمقابل كان تألقي هذا موطن الحسد والغيرة التي شب أوارها في نفوس زميلات المهنة (1) .
(إلى أن تقول: قد تتساءل صغيرتي: وهل كنت سعيدة حقاً يا أمي؟ !
ابنتي الحبيبة لا تدري بأني قطعة من الشقاء والألم؛ فقد عرفت وعشت كل ما يحمل قاموس البؤس والمعاناة من معان وأحداث .
وتضيف قائلة: بات مألوفاً رؤيتي ساهمة واجمة، وقد أصبحت دمية يلهو بها أصحاب المدارس الفكرية على اختلاف انتماءاتها العقائدية لترويج أغراضهم ومراميهم عن طريق أمثالي من المخدوعين والمخدوعات، واستبدالنا بمن هم أكثر إخلاصاً، أو إذا شئت (عمالة) في هذا الوسط الخطر، والمسؤول عن الكثير من توجهات الناس الفكرية.
وجدت نفسي شيئاً فشيئاً أسقط في عزلة نفسية قائظة، زاد عليها نفوري من أجواء الوسط الفني ـ كما يُدعى ـ معرضة عن جلساته، وسهراته الصاخبة التي يرتكب فيها الكثير من التفاهات والحماقات باسم الفن أو الزمالة.
لم يحدث أن أبطلت التعامل مع عقلي في ساعات خلوتي لنفسي وأنا أحاول تحديد الجهة المسؤولة عن ضياعي وشقائي، أهي التربية الأسرية الخاطئة؟ أم التوجيه المدرسي المنحرف؟ أم هي جنايات وسائل الإعلام؟ أم كل ذلك معاً؟ .
لقد توصلت ـ أيامها ـ إلى تصميم وعزم يقتضي تجنيب أولادي
__________
(1) العائدون إلى الله 2/ 29_30.(2/88)
مستقبلاً ما ألقاه من تعاسة مهما كان الثمن غالياً؛ إذ يكفي المجتمع أني قُدّمت ضحية على مذبح الإهمال والتآمر والشهوات (1) .
وبعد ذلك تزوجت بالممثل محمد العربي الذي كان متململاً من حياة الفن، حريصاً على تطليق الشهرة التي حصل عليها من جراء الفن.
وبعد زواجهما قاما بزيارة للأراضي المقدسة، وطلقا حياة الفن والتعاسة إلى غير رجعة، فالتزمت هناء ثروت الحجاب، وكرست جهدها لرعاية زوجها وأولادها.
أما زوجها فقد أكرمه الله ـ كما تقول ـ بحسن التفقه في دينه، وتعليم الناس في المسجد.
وتقول: أولادي الأحباء لم يعرفوا بعد أن أباهم في عمامته، وأمهم في جلبابها كانا ضالين فهداهما الله، وأذاقهما حلاوة التوبة والإيمان (2) .
وبعد أن منَّ الله عليها بالتوبة والهداية توالت الأقلام المسعورة، والحملات الضارية محاولة ردها عن دينها، وفتنتها في توبتها، وذلك بعرض أفلامها السافرة، والكتابة عنها، وتشويه سمعتها، إلا أنها بتوفيق من الله صمدت أمام ذلك كله.
تقول ثبتها الله : ومن المضحك أن أحد المنتجين عرض على زوجي أن أقوم بتمثيل أفلام وغناء أشعار يلصقون بها مسمى دينية، ولا يعلم هؤلاء المساكين أن إسلامي يربأ بي عن مزاولة ما يخدش كرامتي، أو ينافي عقيدتي.
نعم لقد كانت هجرتي لله، وإلى الله (3) .
(توبةالممثل محسن محيي الدين وزوجته الممثلة نسرين:
لقد من الله على هذين بالتوبة من الفن، فوجدا الحياة السعيدة الآمنة.
يقول محسن محيي الدين بعد اتخاذه قرار ترك الفن: هذا القرار إن شاء الله لا رجعة فيه؛ لأني اتخذته بكامل اقتناعي وإرادتي، وندمت لأني تأخرت فيه حتى الآن؛ فالأضواء ليست غالية حتى أحن إليها مرة أخرى؛ فالشهرة والمال والأضواء لا تساوي ركعتين لله (4) .
__________
(1) العائدون إلى الله 2/ 31.
(2) العائدون إلى الله2/37.
(3) العائدون إلى الله2/37.
(4) العائدون إلى الله 4/ 17.(2/89)
(ثم يضيف: إننا اعتزلنا ونحن في القمة الزائفة؛ فقد كان قرارنا بعد مهرجان القاهرة السينمائي الذي أقيم في العام الماضي، وبعد النجاح الكبير الذي حققناه، وليس لأننا لم نجد أدواراً نمثلها كما يقول البعض.
وقد أدركنا الحقيقة التي يجب أن يدركها الجميع وهي أن الإنسان مهما طال عمره فمصيره إلى القبر، ولا ينفعه في الآخرة إلا عمله الصالح (1) .
وتقول زوجته نسرين: الحمد لله، كان يومي يضيع دون إحساس بالسعادة، ودون أن أشعر بالسلام، والآن ليس لدي وقتٌ كاف؛ لأن هناك أموراً كثيرة نافعة يجب اللحاق بها، لقد وجدت السلام الداخلي (2) .
(توبة الشيخ سليمان الثنيان (المخرج السينمائي سابقا) (3) :
من الهندسة الكيميائية والإخراج السينمائي بألمانيا إلى كلية الشريعة بالرياض، هذه باختصار رحلة الشيخ سليمان الثنيان من الضياع والتخبط إلى الهداية والإيمان .
كانت البداية.. ابتعاث الدكتور سليمان الثنيان إلى ألمانيا لدراسة الهندسة الكيميائية، وهناك حدث التحول الأول في حياته، حيث وجد أن دراسة الكيمياء ليست كافية، وأراد أن يدرس شيئاً جديداً يستطيع التأثير من خلاله، فنصحه عددٌ من الأساتذة الألمان بدراسة الفن والتخصص في الإخراج السينمائي ، وبروح التحدي استطاع أن يستكمل دراسة الهندسة الكيميائية، وفي نفس الوقت كان يدرس السينما والتلفزيون والمسرح.
ثماني سنوات قضاها في دراسة هذه الفنون، وضع خلالها منهجاً للدراسة يتيح له الحصول على المعلومات والمهارة الفائقة في مجال الإخراج وذلك بمساعدة متخصصين ألمان ودرس في عدة معاهد فنية وفي الأكاديمية الوطنية للسينما والمسرح والتليفزيون.
__________
(1) العائدون إلى الله 4/ 17_18.
(2) العائدون إلى الله 4/ 18.
(3) سمعتها منه بنفسي.(2/90)
ونترك الحديث للدكتور الثنيان ليحدثنا عن رحلته يقول: لم أترك مجالاً يحتاجه المخرج إلا ودخلته، فقد التحقتُ بمدارس ركوب الخيل وقيادة السفن ودخلتُ معاهد التمثيل والموسيقى، ودرستُ أنواع الصوت وجزئيات الإضاءة والمؤثرات الصوتية والملابس والديكور، وبذلك أنهيتُ المرحلة الأولى بنجاح، وبدأتُ المرحلة الثانية التي تميزتْ بالممارسة العملية من إخراج وتصوير وعمليات مسرحية وإنتاج فكري وكتابة قصص، وباليوم والساعة أنهيتُ هذه المرحلة، وبنهايتها انهالتْ عليّ العروض من (مسرح شلرد) ومن بعض الشركات لكي أعمل فيها كمخرج أو مساعد مخرج أو ممثل لفترة معينة.
ولكني لم أستجب لهذه العروض ... فقد حدث تحول ثان في حياتي، فقد التقيتُ بمدير عام التليفزيون السعودي في ذلك الوقت الذي طلب مني العودة مع وعدٍ منه بأنني سوف أنتج أشياء جديدة، ولم تكن طموحاتي هي مجرد إخراج فيلم أو مسرحية، وإنما كنتُ أريد أن أقوم بأعمال أُسمِعُ من خلالها كلمة الإسلام والمسلمين للعالم أجمع، ومن هنا كانت استجابتي السريعة بالعودة.
عملتُ في التليفزيون السعودي أربع سنوات، ومثلتُ بلادي في مؤتمر (جينس) بميونج وكان حول دور التليفزيون في تربية الشباب، وفي عام 1396هـ، قررتُ أن أترك مجال الإعلام، لأنني وجدتُ أنني لن أحقق طموحي من خلال الإعلام التليفزيوني، فالسينما كانت أحبُ إلى نفسي، لأن إمكاناتها هائلة، وكانت (المادة) تقف حائلاً أمام تحقيق هذا الطموح، حيث إنني لم أجد إلا المال المشروط بالربح التجاري .(2/91)
سنة ونصف السنة قضيتها بعد ذلك في حالة تردد، جاءتني الكثير من العروض التجارية ورفضتها تماماً، وفي إحدى رحلاتي من القصيم إلى الرياض حدث التحول الثالث، كان الوقت ضحى، وكنت في سيارتي، حيث رأيت سروراً عظيماً، وشعرتُ كأنني كنتُ مغمض العينين وأزيحتِ الغشاوة عني، لقد رأيتُ الدنيا من جديد وكدتُّ أطير فرحاً تعذبتُّ عاماً ونصف العام وها هو الخير أراه أمامي أصابني شيء من البكاء والضحك من شدة سعادتي، فقررتُ أن أستدرك بقية عمري وأن أتصل بالله سبحانه وتعالى ورأيت أنه لابدّ من العلم، وهذا ما تعودتُّه منذ طفولتي، فأنا لا أعمل شيئاً إلا بالعلم، وحتى أحقق ذلك عزمت على دراسة الشريعة والعلم الشرعي دراسة متعمقة.
انطلقت إلى كلية الشريعة وأنا في غاية الفرح والنشوة، قالوا لي: لك أن تقدم للدراسات العليا إن شئت. قلتُ لهم: لا.. أريد أن أبدأ الرحلة من أولها، أي من الصف الأول. وهذا ما حدث.. انتظمتُ في الدراسة حتى حصلتُ على البكالوريوس. دون أن أتغيبَ يوماً واحداً وبعد ذلك حصلتُ على الماجستير، ثم جاءت مرحلة الدكتوراه، وانتهيتُ منها في فترة وجيزة.
توقع الجميع ألا أصمد في دراسة الشريعة لصعوبتها، خاصةً وأنني ـ في رأيهم ـ تعودت على الشهرة والمال، وقالوا لي: ستعرف يوماً أنك أخطأت الطريق، ولن تتحمل الكراسي الخشبية التي تجلس عليها لتدرس الشريعة، ولكن بحمد الله حدث العكس، لم يكن يمر يوم إلا وتزداد رغبتي في الدراسة، ولم أندم لحظة واحدة على تغيير مسار حياتي.
ثم يضيف: إني مستعد في أي لحظة أن أعود إلى الإعلام، إذا ناسب ما أريد، دعني أقول لك رأيي فيما يطرح حالياً من أفلام في السوق العربية، كثير من هذه الأفلام كلام فارغ وعمل رخيص لا يستحق العرض وبذل المال، وضياع الوقت في مشاهدتها، إنها تسلب العقل وتضيع الفكر، وتجعل الإنسان يتخبط دون وعي أو بصيرة.(2/92)
لم أر مثيلاً للدول العربية في تخبطها في إنتاج الأفلام. كلٌ ينتج ما يريد دون ضوابط أخلاقية أو دينية أو اجتماعية، أنها أفلام هابطة في معناها وتعبيرها وفي طريقة عرضها وأبعادها.
ثم يعقب الدكتور الثنيان بقوله: إنني مستعد أن أستغنى عن أدوار النساء تماماً، وقد جربت ذلك في مسرحية (خادم سيدين) حيث استغنيت فيها عن النساء تماما، واستعضت عن الموسيقى بمؤثرات وأشياء خاصة بالإيقاع تغني عن الموسيقى، بل أضعاف ما تعطيه الموسيقى.
ويضيف: إنني أستطيع أن ألغي دور أمرأة وأعوّضه بما هو أحسن منه، وأخرج أي عمل بواسطة الرجال، ويكون ذا تأثير وقوة ومتعة للمشاهد، وأجمع فيه بين الفكر والعلم والمتعة. وهذا هو النموذج مسرحية (خادم سيدين)، وهي في الأصل مليئة بالنساء والمواقف الطريفة، وقد استبعدت أدوار النساء منها، وجعلتها بالعربية الفصحى، وأعجب الناس بها.
وعموماً فإن تجربة المسرح الذي من العنصر النسائي ليست تجربة جديدة بل هي تجربة يتميز بها المسرح السعودي بعامة والذي استطاع على امتداد ثلاثين عاماً على الأقل أن يقدم عشرات المسرحيات التي تخلو من العنصر النسائي، وقد نجح في هذا تماماً بل إن أمريكا مسرحاً يقدم تجارب جيدة وهو يخلو من النساء أيضاً، المهم هو الفن ليس المرأة.
(توبة الممثلة نورا :
جاءت إلى مكة المكرمة لأداء العمرة والاستغفار بعد اعتزالها التمثيل منذ عدة أشهر.. كانت لا تفارق الحرم إلا لماماً، ولا يبرح المصحف الشريف يدها، ولا تكف عن البكاء.(2/93)
إنها الممثلة (نورا) سابقاً، وشاهيناز قدري حالياً وهو اسمها الحقيقي.. وجواباً على سؤال وُجّه إليها عن رحلتها مع التوبة قالت: (إنها لحظة كانت من أعظم لحظات حياتي.. عدتُّ فيها من غربتي.. وولدتُ فيها من جديد حينما ذهبتُ مع صديقة لي لمقابلة عالم جليل، وكان من المقرر أن يمتد اللقاء لمدة ساعة، ولكنه امتد لمدة ساعات سمعت فيها ـ مع غيري من المسلمين والمسلمات ـ ما لم أسمعه من قبل.. وارتعدتْ فرائصي واهتز كياني وأنا أسمع كلمات الشيخ عن الإسلام والمعصية والتوبة، والطريق الخطأ والطريق الصواب.. فعدتُّ مع صديقتي إلى منزلي وأنا أرتعش، وأحسست بزلزال رهيب في أنحاء جسمي.. وفي اليوم الثاني ـ وعلى الفور ـ توجهتُّ إلى مسجد من مساجد القاهرة حيث الداعية الكبيرة شمس البارودي وهناء ثروت، وجلست أقرأ القرآن وأتفقه في دين الله والسنة المطهرة، وداومتُ على ذلك بصفة مستمرة ودون انقطاع.
وفي لحظة روحانية قررتُ وحسمتُ أمري بأن أكون مسلمةً مؤمنةً تائبةً إلى ربها، وأن أقطع كل صلتي بالتمثيل.
وتخلصتُ والحمد لله من كل ارتباطي الفنية مع المخرجين والمنتجين وكل ما يتعلق بالفن، بلا رجعة.. فمن يعرف طريق الله لن يجد له بديلاً.
وأنا الآن والحمد لله أعيش من رزق حلال طيب، أسأل الله عز وجل أن يبارك فيه).
وحول الشبهة التي يثيرها البعض من أن توبة الفنانين نتيجة تهديد من جهات ما أجابت:
(أنا عن نفسي رجعتُ إلى الله، وتبتُ وندمتُ خوفاً منه سبحانه واقتناعاً بما أفعل وليس خوفاً من تهديد مطلقاً ولا يخفى علينا جميعاً الحملة الشعواء لهذه الأقلام المغرضة التي تخشى الإسلام وقوّته)
وسُئلتْ: من واقع تجربتك الفنية هل تعتقدين أن الفن حرام ؟ فأجبت: (إن الفن والله تعالى أعلم بالنسبة للنساء حرام حرام لأن المرأة عورة، وفن هذه الأيام فن مبتذل فيه إسفاف.. ولن يكون رسالة سامية مطلقاً.. فهو بعيد كل البعد عن الإسلام).(2/94)
هذا هو ملخص ما قالته الممثلة التائبة نورا بعد اعتزالها الفن والتمثيل.. وأني بهذه المناسبة أنصح كل فتاة تتخذ من هؤلاء (الفنانين) قدوة لها، أو تفكر في الزج بنفسها في وسط تلك الأجواء العفنة؛ أن تقف طويلاً وتمعن النظر في أحوالهم وأقوال التائبين منهم وألا تغتر بما هم فيه من المظاهر الجوفاء وبريق الشهرة الخادع، فما هو إلا كظل زائل أو سراب كاذب سرعان ما يزول فتنكشف الحقيقة.
(توبة الراقصة زيزي مصطفى (1) :
عشرون عاماً من عمرها قضتها في حياة الرقص والمجون والعبث ، وفي (( عرفات )) عرفت طريق الحق وذاقت حلاوة الإيمان ، فكانت التوبة :
تقول زينب مصطفى ( زيزي مصطفى سابقاً )) في بداية حديثها :
ظروفي الماديّة العصيبة هي التي جعلتني أعمل في هذا المجال حوالي عشرين سنة ، فأنا أعول أمّي المريضة ، وأخواتي البنات ، وليس لي مصدر آخر للرزق (2) .
ثمّ لم أكن أدري أنّ هذا العمل حرام! ولم يكلّمني أحد في ذلك ، وظللت على هذه الحال حتّى أنجبت ابنتي الوحيدة .
ثمّ تضيف :
بعد إنجابي لابنتي هذه حدثت تحوّلات جذريّة في حياتي ..
فجأة ، ودون سابق إنذار بدأت أصلّي وأشكر الله على هذه النعمة ـ نعمة الإنجاب ـ ، ثمّ بدأت أفكّر لأوّل مرّة أنّه لا بدّ أن أنفق على ابنتي من حلال ، ولا أدري من أين جاءني هذا الشعور ، الذي يعني أنّ عملي حرام ، وأنّ المال الذي أجنيه من ورائه حرام .
وبدأت أشعر بتغيّرات نفسية دون أن أدري مصدرها .
__________
(1) - مجلّة الأسرة ، العدد : 50( بتصرّف يسير )) .
(2) - يقول تعالى : (( ومن يتق الله يجعل له مخرجاً * ويرزقه من حيث لا يحتسب .. ) ( الطلاق : 2، 3) وفي المثل : تجوع الحرّة ولا تأكل بثدييها .(2/95)
وشيئاً فشيئاً بدأت أتوضّأ ، وأنتظم في أداء الصلاة ، وبدأت أدخل في نوبات بكاء حادّ ومتواصل أثناء صلاتي ، دون أن أدري لذلك سبباً .ومع كلّ هذه البكاء ، وتلك الصلاة ، كنت أذهب إلى صالة الرقص ، لأنّني ملتزمة بعقد ، وفي مسيس الحاجة إلى ما يدرّه عليّ من دخل .
وظللت على هذه الحال : أصلّي ، وأبكي ، وأذهب إلى الصلاة ، حتّى شعرت بأنّ الله سبحانه وتعالى يريد لي التوبة من هذا العمل ، عندها أحسست بكرهي الشديد للبدلة التي أرتديها أثناء عملي .
كنت كثيراً ما أستفتي قلبي : هل بدلة الرقص التي أرتديها يمكن أن أنزل بها إلى الشارع ؟ فكنت أجيب نفسي ، وأقول : طبعاً لا ، وبعد عشرين سنة من الرقص ، لم يمنعني عملي المحرّم أن أميّز بين الحلال والحرام . إنّ الحلال والحرام بداخلنا ، ونعرفهما جيداً حتّى دون أن نسأل أهل العلم .
لكنّ الشيطان يزيّن لنا طريق الحرام حتّى يغرقنا فيه .
كانت هناك رسائل ذات معنى أرسلها الله سبحانه لي حتّى أستيقظ من الغفلة التي أحاطتني من كلّ جانب .
كان الحادث الذي تعرّضت له هو أوّل هذه الرسائل .. وبسبب هذا الحادث قُطع الشريان الذي بين الكعب والقدم ، وقال لي أحد الأطباء : بحسب التقرير ، وحسب العلم الذي تعلّمناه ، سوف تعيشين بقيّة حياتك على عكّاز .
وبعد فكّ الضماد وجدتني أسير بطريقة طبيعية وسليمة مع تساوي قدميّ كما أفادت التقارير الطبيّة .
اعتبرت ذلك رسالة لها معنى من الله سبحانه وتعالى وأنّ قدرته المعجزة فوق كلّ شيء ،فقد نجوت من موت محقّق ، ونجوت من عمليّات كثيرة في قدمي كان من الممكن أن أعيش بعدها عاجزة .
أمّا الرسالة الثانيّة فقد كانت أشدّ وضوحاً ، أرسلها الله إليّ عن طريق صديقة ابنتي في المدرسة عند ما عيّرتها بمهنتي ، وجاءت ابنتي تبكي ، فبكيت معها ، وتأكدّ لي أنّ مهنتي غير مقبولة في المجتمع .(2/96)
ثم جاءت الرسالة الثالثة ، وكان لها صوت عالٍ بداخلي ، فكثيراً ما كنت أحدّث نفسي أنّني أريد أن أربّي ابنتي من مال حلال ، وأن أعلّمها القيم والمثل والأخلاق الفاضلة ، وكنت أسخر من نفسي ، وأقول : وأيّ قيم سوف أعلّمها ابنتي وأنا أقوم بذلك العمل .
ثمّ مرضت ابنتي ، فكنت أهرع إلى سجّادة الصلاة .. أركع ، وأسجد ، وأدعو الله أن يشفيها . وبعد أن شفيت ، كان لا بدّ من التفكير في الاعتزال النهائي ، لأنّه لا يجتمع في قلب المؤمن إيمان وفجور ، ولأنّ الصورة أصحبت واضحة تماماً أمامي ، ولا تحتاج إلى تفسير آخر .
وفي الأيّام الأخيرة كنت أشعر شعوراً حقيقيّاً بالشوك يشكّني في جسدي كلّما ارتديت بدلة الرقص ، وفي مرّة من المرّات كنت أصلّي ، وأبكي ، وأدعو الله أن يتوب عليّ من هذا العمل الذي يبغضه ، وفجأة .. وأثناء دعائي وتضرّعي بين يدي الله قمت من فوري لأتوجّه إلى خزانة ملابسي ، وفتحتها ، ونظرت إلى بدل الرقص باحتقار شديد ، وقلت بصوت عالٍ أشبه بالصراخ : لن أرتديكِ بعد اليوم . وكرّرت هذه الجملة كثيراً ، وأنا أبكي كما لم أبكِ من قبل . وبعد هذه النوبة البكائية شعرت براحة نفسيّة عجيبة ، تسري في أنحاء جسدي ، وتُدخلني في حالة إيمانية أخرى مكّنتني من التخلّص من حياتي السابقة بيسر وسهولة ، ولو كنت في أمسّ الحاجة إلى المال الذي أعول به نفسي ، وأمّي ، وأخواتي ، وابنتي .
لقد جاء قرار الاعتزال من أعماقي ، وسبقه وقت أمضيته في التفكير والبكاء ، ومراجعة النفس ، حتّى رسوت على شاطيء اليقين بعد حيرة وعذاب ، وشهرة زائفة ، وعمل مُرهِق مجرّد من الإنسانية والكرامة ، كلّه ابتذال ومهانة وعريّ ، وعيون شيطانيّة زائغة تلتهم جسدي كلّ ليلة ، ولا أقدر على ردّها .
هذه الرجعة إلى طريق النور منّة من الله سبحانه وتعالى وحده ، فهو الذي امتنّ عليّ بها ، وليس لأحد من الخلق أيّ فضل فيها .(2/97)
ثمّ أديت العمرة مرّتين ، وفي المرّة الثانية بعد أن عدت إلى بلدي ، قرّرت الاعتزال النهائي ، وبعدها بشهرين فقط كتب الله لي الحجّ ، وفهمت بأنه مكافأة من الله عزّ وجلّ ، وفي الحجّ ، ونحن على صعيد عرفات الطاهر ، بكيت بكاء أشبه بالهستيريا ، حتّى بكى لبكائي جميع من في الخيمة ، ثمّ عدت من الحجّ بحجاب كامل ، أدعو الله أن يغفر لي ، وأن يسامحني ، لأنّني كنت في غفلة ، لا أدرك ما أعمله حرام ، ولم يعظني أحد في ذلك .
لم يعجب اعتزالي أولئك المهتمّين بالفن ، وبدأت العروض المغرية تنهال عليّ بأكثر ممّا أتوقّع ، واعتقدت في نفسي أنّ هذه العروض ما هي إلا اختبارات حقيقيّة من الله تعالى ليختبر صدق إيماني ؛ هل أنا صادقة في توبتي أم أنّها لحظات مؤقّتة ، وأعود بعدها لأنجذب من جديد لهذه العروض الشيطانية ، ووقفت أتحدّاهم بالرفض ، وأتحدّى نفسي ، وأوّل هذه العروض التي رفضتها كانت بمبلغ ضخم للعمل في مسرحية مع ممثل مشهور تستمّر عروضه المسرحية لسنوات عديدة . وثاني هذه العروض جاءني من شركة سياحية لا أعرف لحساب من تعمل ، إذ عرضت عليّ أن أذهب إلى ألمانيا لتعليم الرقص الشرقي بمبلغ عشرة آلاف دولار شهريّاً ، وسيّارات أحدث موديل ، وشقّة فخمة في حي راقٍ بألمانيا . رفضت كلّ ذلك ولم يصدّقوا ، فاتّصلوا بي وأملوا حججهم : كيف ترفضين عرضاً كهذا ؟ فسوف تعملين بالحجاب ، ثمّ إنّ الفتيات اللاتي ستقومين بتعليمهنّ لسن على دينك ، فلماذا ترفضين ؟! وكان ردّي : إنّ كلّ بنت صغيرة ، أو فتاة يافعة سوف أقوم بتعليمها سوف آخذ وزرها حتى لو كانت غير مسلمة .
أمّا السؤال الأكثر وقاحة ، الذي لم أكن أتوقّعه ، فقد قيل له : إذا كنت اعتزلتِ ، حذا حذوك راقصات ، فأين يذهب الرقص الشرقي ؟! (1) .
__________
(1) - فليذهب إلى الجحيم .(2/98)
وأسئلة أخرى أكثر سخافة وفضوليّة ، مثل : من أين تدبّرين أمورك ؟ وتربيّن ابنتكِ ؟ فأجبتهم بالرفض القاطع من أجل أن أعيش بقية عمري تحت مظلّة الإيمان ، وقلت : أنا سعيدة بوضعي الجديد ، وقانعة به ، وسوف يرزقني ربّي ، ولن يتخلّى عنّي بعد أن منّ عليّ بالتوبة .
أمّا العرض الأكثر إغراء الذي لم أتوقَّعه في حياتي البتّة ، فقد تلقّيته من أحد الغيورين (!) على اندثار الرقص الشرقيّ بخمسين ألف دولار نظير إحياء ليلة واحدة من الرقص ، أحييه وسط النساء فقط ، ولمدّة ساعتين ، وكان جوابي الصارم : لا ، وألف لا ، لأنّ هذه المحاولة دوافعها مفهومة لي ، فإذا كان أكبر أجر تلقّيته في حياتي أثناء عملي في دول أوربيّة كان ألفين أو ثلاثة أو أربعة آلاف دولار ، نظير عقد كامل لمدّة معينة ؛ فلماذا يعرض عليّ هذا المبلغ نظير إحياء ليلة واحدة ؟! المقصود هو إخراجي من حجابي ، ومن دائرة إيماني التي ولجت فيها عن صدق ويقين .
بعد هذا الرفض الأخير أصابهم اليأس ، وتوقّفوا عن محاولاتهم الدنيئة لإغرائي بالابتعاد عن طريق النور الذي سلكته و رضيته ، والحمد لله على كلّ حال ..
(توبة الممثلة هدى رمزي (1) :
الطريق إلى الله عز وجل مفتوح أمام التائبين ، ومهما كانت الذنوب والآثام فرحمة الله قد وسعت كلّ شيء ، وهو القائل سبحانه : ((قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ )) [ الزمر : 53] .
هكذا بدأت الممثلة التائبة هدى رمزي حديثها للمجلّة ، أمّا رحلتها إلى الهداية فترويها بقولها :
__________
(1) - مجلّة الدعوة ، العدد : 1507 ( بتصرّف ) .(2/99)
منذ نشأتي الأولى وأنا في الوسط الفنّي ، فوالدي كان منتجاً ومخرجاً ، وشقيقي الأكبر كذلك ، وبعد تخرّجي من كليّة الإعلام ـ قسم الإذاعة والتلفزيون ـ سلكت طريق الفنّ لعدّة سنوات ، ظللت خلالها أفكّر كثيراً في جدوى هذا العمل المليء بالذنوب .
كنت في رحلة بحث متواصلة عن الفضيلة ، وتزوجت عدّة مرّات بحثاً عن تلك القيم الزائفة ، المفقودة في حياتي ، ورحت أقرأ واستمع كثيراً لشتّى الآراء والأفكار ، حتى شاهدت حديثاً لأحد المشايخ المعروفين في التلفزيون ، ومن فرط تأثّري به حاولت الاتصال بهذا الداعية الجليل .. وبالفعل أعطاني عدّة كتب ، وحدّثني كثيراً عن قيم الإسلام السامية دون أن يصرّح ، ومن تلقاء نفسي وجدت أنّ حظيرة الإسلام هي أفضل ما يمكن اللجوء إليه ، وبعد قراءات واتّصالات مع الشيخ قررّت اعتزال هذا العفن نهائياً ، وإعلان توبتي إلى الله عزّ وجلّ ، واكتشفت أنّ هذا التصرّف هو ضالّتي المنشودة التي كنت أبحث عنها منذ سنوات ، ثم وجدتها والحمد لله .
وأنا الآن أقضي معظم وفتي في قراءة القرآن وكتب الفقه حتّى أعوّض ما فاتني من علوم الدين الضرورية التي لا يسع مسلم الجهل بها .
أمّا ما أنوي عمله – إن شاء الله – فهو تأسيس دار لتشغيل الفتيات المسلمات ، وتعليمهن أصول دينهنّ ودنياهنّ أيضاً حتى يستطعن مواجهة الحياة وتربية النشء ، كما أنوي أيضاً – إن شاء الله – تأسيس دار للأيتام ورعايتهم ، لأنّ كافل اليتيم له أجر عظيم عند الله تعالى ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( أنا وكافل اليتيم في الجنّة كهاتين )) وأشار بأصبعه ؛ السبّابة والتي تليها وأنا أطمع في تلك المكانة الرفيعة .
أما رأيها في الفنّ بشكله الحالي ، فتقول :(2/100)
إنّ الوضع القائم الآن باسم الفنّ حرام بكلّ المقاييس ، ولا يمكن أن يسمّى فنّاً ، بل هو عفن وفساد ، ومجون واختلاط ، ودمار للأخلاق والمجتمعات ، فهو لا يخدم المجتمع ، ولا يقدّم قيماً ولا مثلاً للشباب ، فيكف يكون حلالاً . نحن نقول حرام بعد أن خضنا تجربته ، وعندنا الدليل والحجّة على ذلك ، فما يجري فيما يسمّى بالوسط الفنّي حالياً لا يمكن أن يمتّ للدين بصلة ، فالإسلام يحضّنا على الالتزام والصدق والنقاء والفضيلة ، والفنّ اليوم يدعو إلى ضدّ ذلك .
وفي نصيحة للاتي لا زلن في ذلك الوسط تقول :
أقول لهنّ : إنّ الطريق إلى الله خير وأبقى ، وهو دائماً مفتوح للتائبين ، وحين ترجعن إلى حظيرة الدين ستعلمن أنّ ما يقدّم باسم الفنّ ما هو إلا عفن ، ولا علاقة له بالدين ، بل هو من المحرّمات والفساد المنهي عنه ، لأنّه علاوة على كونه لهواً لا يفيد شيئاً فهو أيضاً يعتمد المحرّمات سبيلاً ، ويكرّس الخطيئة ، ولا يهدف إلى الصالح العام، فتبن إلى الله ، فهو توّاب رحيم .
أمّا اللاتي تبن ثمّ عدن إلى غيّهن ، فأقول لهن ما قاله الله – عزّ وجلّ – في سورة التوبة : (( وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ )) ( التوبة : 115) .
فهؤلاء كان في نفوسهن مطمع ومرض ، ولما لم يمكنهن مما أردن ، عدن إلى الشيطان )) .
هذا ما قالته الفنانة سابقاً هدى رمزي عما يسمى بالوسط الفني ، وهو كلام قيم يبين حقيقة ما يجري في ذلك الوسط العفن الذي تتحدث عنه كثيراً وسائل الإعلام ، وتلمع أهله !ّ!
(توبة الممثلة سهير البابلي ( (1) ) :
من الفنانات اللاتي التحقن مؤخراً بركب الإيمان ، الممثلة سهير البابلي ، تحدّثنا عن رحلتها إلى الإيمان فتقول :
__________
(1) - مجلّة الدعوة ، العدد الصادر في : 2/ 3/ 1414هـ ، وجريدة المسلمون ، العدد : 439( بتصرف ) .(2/101)
منذ خمس سنوات أحسست بأنّ في حياتي شيئاً خاطئاً ، ولكن حبّي لعملي كان كبيراً ، فطغى على هذه الأحاسيس في داخلي ، فكانت تطفو على السطح بين آن وآخر، وزادت تلك الأحاسيس عمقاً في داخلي منذ عامين ، فبدأت أغيّر أنماط حياتي بالمزيد من التقرب إلى الله ، فحاولت التعرف على كتاب الله أوّلاً ، وأخذت أقرأ ، وأستفسر ، وأعمل بقول المولى الكريم ، (( فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ )) ( النحل : 43) . فكنت ألجأ إلى العلماء لأستفسر عمّا يستعصي عليّ فهمه من آيات وأحاديث ، فاكتشفت أنه ليس هناك ما هو أجمل ولا أفضل من التقرّب إلى الله ، وبكيت ودعوت الله أن يهديني ، ويأخذ بيدي إلى طريق الحقّ ، حتّى كان يوم من الأيّام التي لا أنساها ، كنت على موعد مع درس من دروس الإيمان من أحد الدعاة ، فإذا باللقاء يمتدّ لأكثر من ثلاث ساعات ، شعرت فيها بشعور يصعب عليّ تفسيره . وعدت إلى منزلي ، وصليت الظهر ، وبكيت كما لم أبكِ من قبل ، ودعوت الله أن يلهمني رشدي ، وأن يباعد بيني وبني الشيطان .
وأمسكت بالمصحف ، وقرأت قوله تعالى : (( سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ )) ( النور : 1 )
فكان قرار الحجاب الذي نبع عن عقيدة وعزيمة ، بعد ما علمت بفرضيّته ، ودون مناقشة ، امتثلت لأمر الله .
أما زملائي سابقاً في الوسط الفني فأقول لهم بإحساس إيماني صادق ، إنّ طريق الإيمان هو ثمرة الدنيا والآخر ، وإن طاعة الله خير من الدنيا وما فيها .
وأقول لهم أنتم تعيشون في تيه وضياع ، وتعايشون الغفلة والدمار ، وإني أدعو لهم بالهداية .
(القسم الثالث : توبة أناسٍ غارقين في المعاصي إلى الأذقان :
(القسم الثالث : توبة أناسٍ غارقين في المعاصي إلى الأذقان :
(توبة شاب عاق لأمه (1) :
__________
(1) هذه القصة نشرت في جريدة البلاد /عدد9021/ إعداد عبد العزيز الحمدان.(2/102)
ح. ح. م. شابّ ذهبت إلى الخارج ... تعلم وحصل على شهادات عالية ثم رجع إلى البلاد ... تزوج من فتاة غنية جميلة كانت سبباً في تعاسته لولا عناية الله ... يقول ح. ح. م:
مات والدي وأنا صغير فأشرفتْ أمي على رعايتي ... عَمِلَتْ خادمة في البيوت حتى تستطيع أن تصرف علي، فقد كنت وحيدها ... أدخلتني المدرسة وتعلمتُ حتى أنهيت الدراسة الجامعية ... كنت بارّاً بها ... وجاءت بعثتي إلى الخارج فودّعتني أمي والدموع تملأ عينيها وهي تقول لي: انتبه يا ولدي على نفسك ولا تقطعني من أخبارك ... أرسل لي رسائل حتى أطمئن على صحتك.
أكملتُ تعليمي بعد مضي زمن طويل ورجعت شخصاً آخر قد أثّرتْ فيه الحضارة الغربية ... رأيتُ في الدين تخلفاً ورجعية ... وأصبحتُ لا أؤمن إلا بالحياة المادية والعياذ بالله .
وتحصلتُ على وظيفة عالية وبدأت أبحث عن الزوجة حتى حصلت عليها وكانت والدتي قد اختارت لي فتاة متدينة محافظة ولكني أبيتُ إلا تلك الفتاة الغنية الجميلة لأني كنتُ أحلم بالحياة (الأرستقراطية) (كما يقولون) ... وخلال ستة أشهر من زواجي كانتْ زوجي تكيد لأمي حتى كرهتُ والدتي ... وفي يوم من الأيام دخلت البيت وإذا بزوجي تبكي فسألتها عن السبب فقالت لي: شوف يا أنا يا أمك في هذا البيت ... لا أستطيع أن أصبر عليها أكثر من ذلك.
جنّ جنوني وطردتُّ أمي من البيت في لحظة غضب فَخَرجَتْ وهي تبكي وتقول: أسعدك الله يا ولدي.
وبعد ذلك بساعات خَرجتُ أبحث عنها ولكن بلا فائدة ... رجعتُ إلى البيت واستطاعت زوجتي بمكرها وجهلي أن تنسيني تلك الأم الغالية الفاضلة.
انقطعت أخبار أمي عني فترة من الزمن أُصِبْتُ خلالها بمرض خبيث دخلت على إثره المستشفى ... وعَلِمتْ أمي بالخبر فجاءت تزورني، وكانت زوجتي عندي وقبل أن تدخل علي طردتْها زوجتي وقالت لها: ابنك ليس هنا ... ماذا تريدين منا ... اذهبي عنا ... رجعت أمي من حيث أتت!.(2/103)
وخرجتُ من المستشفى بعد وقت طويل انتكستْ فيه حالتي النفسية وفقدت الوظيفة والبيت وتراكمت علي الديون وكل ذلك بسبب زوجتي فقد كانت ترهقني بطلباتها الكثيرة ... وفي آخر المطاف ردت زوجتي الجميل وقالت: مادمتَ قد فقدت وظيفتك ومالك ولم يعد لك مكان في المجتمع فإني أعلنها لك صريحة: أنا لا أريد ... طلقني.
كان هذا الخبر بمثابة صاعقة وقعتْ على رأسي ... وطلقتها بالفعل ... فاستيقظتُ من السُّباتِ الذي كنت فيه.
خرجتُ أهيم على وجهي أبحث عن أمي وفي النهاية وجدتها ولكن أين وجدتها؟!! كانت تقبع في أحد الأربطة تأكل من صدقات المحسنين.
دخلت عليه ... وجدتها وقد أثر عليها البكاء فبدت شاحبة ... وما إن رأيتها حتى ألقيتُ بنفسي عند رجليها وبكيتُ بكاءً مرّاً فما كان منها إلا أن شاركتني البكاء.
بقينا على هذه الحالة حولي ساعة كاملة ... بعدها أخذتُّها إلى البيت وآليت على نفسي أن أكون طائعاً لها وقبل ذلك أكون متبعاً لأوامر الله ومجتنباً لنواهيه.
وها أنا الآن أعيش أحلى أيامي وأجملها مع حبيبة العمر: أمي حفظها الله وأسأل الله أن يُديم علينا الستّر والعافية.
(توبة فتاة نصرانية (1) :
(سناء) فتاة مصرية نصرانية، كتب الله لها الهداية واعتناق الدين الحق بعد رحلة طويل من الشكّ والمعاناة، تروي قصة هدايتها فتقول:
(نشأت كأي فتاة نصرانية مصرية على التعصب للدين النصراني، وحرص والديَّ على اصطحابي معهما إلى الكنيسة صباح كل يوم أحد لأقبّل يد القس، وأتلو خلفه التراتيل الكنسية، وأستمع إليه وهو يخاطب الجمع ملقناً إياهم عقيدة التثليث، ومؤكداً عليهم بأغلظ الإيمان أن غير المسيحيين مهما فعلوا من خير فهم مغضوب عليهم من الربّ، لأنهم ـ حسب زعمه ـ كفرة ملاحدة.
__________
(1) مجلة الفيصل، العدد 165 (بتصرف).(2/104)
كنت أستمع إلى أقوال القس دون أن أستوعبها، شأني شأن غيري من الأطفال، وحينما أخرج من الكنيسة أهرع إلى صديقتي المسلمة لألعب معها، فالطفولة لا تعرف الحقد الذي يزرعه القسيس في قلوب الناس.
كبرت قليلاً، ودخلت المدرسة، وبدأت بتكوين صداقات مع زميلاتي في مدرستي الكائنة بمحافظة السويس ... وفي المدرسة بدأت عيناي تتفتحان على الخصال الطيبة التي تتحلّى بها زميلاتي المسلمات، فهن يعاملني معاملة الأخت، ولا ينظرن إلى اختلاف ديني عن دينهن، وقد فهمت فيما بعد أن القرآن الكريم حث على معاملة الكفار ـ غير المحاربين ـ معاملة طيب طمعاً في إسلامهم وإنقاذهم من الكفر، قال تعالى: (لاّ يَنْهَاكُمُ اللّهُ عَنِ الّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرّوهُمْ وَتُقْسِطُوَاْ إِلَيْهِمْ إِنّ اللّهَ يُحِبّ الْمُقْسِطِينَ) [الممتحنة: 8] إحدى زميلاتي المسلمات ربطتني بها على وجه الخصوص صداقة متينة، فكنت لا أفارقها إلا في حصص التربية الدينية، إذ كنت ـ كما جرى النظام ـ أدرس مع طالبات المدرسة النصرانيات مبادئ الدين النصراني على يد معلمة نصرانية.
كنت أريد أن أسأل معلمتي كيف يمكن أن يكون المسلمون ـ حسب افتراضات المسيحيين ـ غير مؤمنين وهو على مثل هذا الخُلق الكريم وطيب المعشر؟! لكني أم أجرؤ على السؤال خشية إغضاب المعلمة حتى تجرأت يوماً وسألت، فجاء سؤالي مفاجأةً للمعلمة التي حاولت كظم غيظها، وافتعلت ابتسامة صفراء رسمتها على شفيتها وخاطبتني قائلة: (إنك مازلت صغيرة ولم تفهمي الدنيا بعد، فلا تجعلي هذه المظاهر البسيطة تخدعك عن حقيقة المسلمين كما نعرفها نحن الكبار ... ).
صَمَتُّ على مضض على الرغم من رفضي لإجابتها غير الموضوعية، وغير المنطقية.(2/105)
وتنتقل أسرة أعز صديقاتي إلى القاهرة، ويومها بكينا لألم الفراق، وتبادلنا الهدايا والتذكارات، ولم تجد صديقتي المسلمة هدية تعبر بها عن عمق وقوة صداقتها لي سوى مصحف شريف في علبة قطيفة أنيقة صغيرة، قدمتها لي قائلة: (لقد فكرتُ في هدية غالية لأعطيك إياها ذكرى صداقة وعمر عشنا سوياّ فلم أجد هذا المصحف الشريف الذي يحتوي على كلام الله).
تقبّلت هدية صديقتي المسلمة شاكرة فرحة، وحرصت على إخفائها عن أعين أسرتي التي ما كانت لتقبل أن تحمل ابنتهم المصحف الشريف.
وبعد أن رَحَلَتْ صديقتي المسلمة، كنت كلما تناهى إليّ صوت المؤذن، منادياً للصلاة، وداعياً المسلمين إلى المساجد، أعمد إلى إخراج هدية صديقتي وأقبلها وأنا أنظر حولي متوجسة أن يُفاجأني أحد أفراد الأسرة، فيحدث لي ما لا تُحمد عُقباه.
ومرت الأيام، وتزوجت من (شماس) كنيسة العذراء مريم، ومع متعلقاتي الشخصية، حملت هدية صديقتي المسلمة (المصحف الشريف)، وأخفيته بعيداً عن عيني زوجي، الذي عشت معه كأي امرأة شرقية وفيّة ومخلصة وأنجبت منه ثلاثة أطفال.
وتوظفت في ديوان عام المحافظة، وهناك التقيتُ بزميلات مسلمات متحجبات، ذكرني بصديقتي الأثيرة، وكنت كلما علا صوت الأذان من المسجد المجاور، يتملكني إحساس خفي يخفق له قلبي، دون أن أدري لذلك سبباً محدداً، إذ كنت لا أزال غير مسلمة، ومتزوجة من شخص ينتمي إلى الكنيسة بوظيفة يقتات منها، ومن مالها يطعم أسرته.
وبمرور الوقت، وبمجاورة زميلات وجارات مسلمات على دين وخلق بدأت أفكر في حقيقة الإسلام والمسيحية، وأوازن بين ما أسمعه في الكنيسة عن الإسلام والمسلمين، وبين ما أراه وألمسه بنفسي، وهو ما يتناقض مع أقوال القس والمتعصبين النصارى.(2/106)
بدأت أحاول التعرف على حقيقة الإسلام، وأنتهز فرصة غياب زوجي لأستمع إلي أحاديث المشايخ عبر الإذاعة والتلفاز، لعلي أجد الجواب الشافي لما يعتمل في صدري من تساؤلات حيري، وجذبتني تلاوة الشيخ محمد رفعت، والشيخ عبد الباسط عبد الصمد للقرآن الكريم، وأحسستُ وأنا أستمع إلى تسجيلاتهم عبر المذياع أن ما يرتلانه لا يمكن أن يكون كلام بشر، بل هو وحي إلهي.
وعمدتُ يوماً أثناء وجود زوجي في الكنيسة إلى دولابي، وبيد مرتعشة أخرجتُ كنزي الغالية (المصحف الشريف)، فتحته وأنا مرتبكة، فوقعت عيناي على قوله تعالى: (إِنّ مَثَلَ عِيسَىَ عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ) [آل عمران: 59] ارتعشت يدي أكثر، وتصبب وجهي عرقاً، وسرتْ في جسمي قشعريرة، وتعجبت لأني سبق أن استمعت إلى القرآن كثيراً في الشارع والتلفاز والإذاعة، وعند صديقاتي المسلمات، لكني لم أشعر بمثل هذه القشعريرة التي شعرت بها وأنا أقرأ من المصحف الشريف مباشرةً بنفسي.
هممتً أن أواصل القراءة إلا أن صوت أزيز مفتاح زوجي وهو يفتح باب الشقة حال دون ذلك، فأسرعت وأخفيت والمصحف الشريف في مكانه الأمين، وهرعت لأستقبل زوجي.
وفي اليوم التالي لهذه الحادثة ذهبتُ إلى عملي، وفي رأسي ألف سؤال حائر، إذ كانت الآية الكريمة التي قرأتها وضعتْ الحد الفاصل لما كان يؤرقني حول طبيعة عيسى عليه السلام، أهو ابن الله كما يزعم القسيس ـ تعالى الله عما يقولون ـ أم أنه نبي كريم كما يقول القرآن؟! فجاءت الآية لتقطع الشك باليقين، معلنة أن عيسى، عليه السلام، من صلب آدم، فهو إذا ليس ابن الله، فالله سبحانه وتعالى: (لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحدٌ).
تساءلت في نفسي عن الحلّ وقد عرفت الحقيقة الخالدة، حقيقة أن (لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله)، أيمكن أن أشهر إسلامي؟! وما موقف أهلي مني، بل ما موقف زوجي ومصير أبنائي؟!(2/107)
طافت بي كل هذه التساؤلات وغيرها وأنا جالسة على مكتبي أحاول أن أؤدي عملي لكني لم أستطع، فالتفكير كاد يقتلني، واتخاذ الخطوة الأولى أرى أنها ستعرضني لأخطار جمة أقلّها قتلي بواسطة الأهل أو الزوج والكنيسة.
ولأسابيع ظللتُ مع نفسي بين دهشة زميلاتي اللاتي لم يصارحني بشيء، إذ تعودنني عاملة نشيطة، لكني من ذلك اليوم لم أعد أستطيع أن أنجز عملاً إلا بشق الأنفس.
وجاء اليوم الموعود، اليوم الذي تخلصتُ فيه من كل شك وخرف وانتقلت فيه من ظلام الكفر إلى نور الإيمان فبينما كنتُ جالسة ساهمة الفكر، شاردة الذهن، أفكر فيما عقدتُّ العزم عليه، تناهى إلى سمعي صوت الأذان من المسجد القريب داعياً المسلمين إلى لقاء ربهم وأداء صلاة الظهر، تغلغل صوت الأذان داخل نفسي، فشعرت بالراحة النفسية التي أبحث عنها، وأحسست بضخامة ذنبي لبقائي على الكفر على الرغم من عظمة نداء الإيمان الذي كان يسري في كل جوانحي، فوقفتُ بلا مقدما لأهتف بصوت عالٍ بين ذهول زميلاتي: (أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله)، فأقبل عليّ زميلاتي وقد تحيرنَ من ذهولهن، مهنئات باكيات بكاء الفرح، وانخرطتُ أنا أيضا معهن في البكاء، سائلة الله أن يغفر لي ما مضى من حياتي، وأن يرضى عليّ في حياتي الجديدة.
كان طبيعياً أن ينتشر خبر إسلامي في ديوان المحافظة، وأن يصل إلى أسماع زملائي وزميلاتي النصارى، اللواتي تكلفن ـ بين مشاعر سخطهن ـ بسرعة إيصاله إلى أسرتي وزوجي، وبدأن يرددنَ عني مدّعين أن وراء القرار أسباب لا تخفى.
لم آبه لأقوالهن الحاقدة، فالأمر الأكثر أهمية عندي من تلك التخرصات: أن أشهر إسلامي بصورة رسمية، كي يصبح إسلامي علناً، وبالفعل توجهتُ إلى مديرية الأمن حيث أنهيتُ الإجراءات اللازمة لإشهار إسلامي.(2/108)
وعدتُ إلى بيتي لأكتشف أن زوجي ما إن علم بالخبر حتى جاء بأقاربه وأحرق جميع ملابسي، واستولى على ما كان لديّ من مجوهرات ومال وأثاث، فلم يؤلمني ذلك، وإنما تألمت لخطف أطفالي من قَبَل زوجي ليتخذ منهم وسيلة للضغط عليّ للعودة إلى ظلام الكفر... آلمني مصير أولادي، وخفتُ عليهم أن يتربوا بين جدران الكنائس على عقيدة التثليث، ويكون مصيرهم كأبيهم في سقر.
رفعتُ ما اعتمل في نفسي بالدعاء إلى الله أن يعيد إلىّ أبنائي لتربيتهم تربية إسلامية، فاستجاب الله دعائي، إذ تطوع عدد من المسلمين بإرشادي للحصول على حكم قضائي بحضانة الأطفال باعتبارهم مسلمين، فذهبت إلى المحكمة ومعي شهادة إشهار إسلامي، فوقفت المحكمة مع الحق، فخيرتْ زوجي بين الدخول في الإسلام أو التفريق بينه وبيني، فقد أصبحتُ بدخولي في الإسلام لا أحلُّ لغير مسلم، فأبى واستكبر أن يدخل في دين الحق، فحكمتِ المحكمة بالتفريق بيني وبينه، وقضتْ بحقي في حضانة أطفالي باعتبارهم مسلمين، لكونهم لم يبلغوا الحُلم، ومن ثم يلتحقون بالمسلم من الوالدين.
حسبت أن مشكلاتي قد انتهت عند هذا الحد، لكني فوجئت بمطاردة زوجي وأهلي أيضاً، بالإشاعات والأقاويل بهدف تحطيم معنوياتي ونفسيتي، وقاطعتني الأسر النصرانية التي كنت أعرفها، وزادت على ذلك بأن سعت هذه الأسر إلى بث الإشاعات حولي بهدف تلويث سمعتي، وتخويف الأسر المسلمة من مساعدتي لقطع صلتهن بي.
وبالرغم من كل المضايقات ظللتُ قوية متماسكة، مستمسكة بإيماني، رافضة كل المحاولات الرامية إلى ردَّتي عن دين الحق، ورفعتُ يديّ بالدعاء إلى مالك الأرض والسماء، أن يمنحني القوة لأصمد في وجه كل ما يشاع حولي، وأن يفرّج كربي.(2/109)
فاستجاب الله دعائي وهو القريب المجيب، وجاءني الفرج من خلال أرملة مسلمة، فقيرة المال، غنية النفس، لها أربع بنات يتامى وابن وحيد بعد وفاة زوجها، تأثرتْ هذه الأرملة المسلمة للظروف النفسية التي أحياها، وتملكها الإعجاب والإكبار لصمودي، فعرضتْ عليّ أن تزوجني بابنها الوحيد (محمد) لأعيش وأطفالي معها ومع بناتها الأربع، وبعد تفكير لم يدم طويلاً وافقتُ، وتزوجتُ محمداً ابن الأرملة المسلمة الطيبة.
وأنا الآن أعيش اليوم مع زوجي المسلم (محمد) وأولادي، وأهل الزوج في سعادة ورضا وراحة بال، على الرغم مما نعانيه من شظف العيش، وما نلاقيه من حقد زوجي السابق، ومعاملة أسرتي المسيحية.
ولا أزال بالرغم مما فَعَلَته عائلتي معي أدعو الله أن يهديهم إلى دين الحق ويشملهم برحته مثلما هداني وشملني برحمته، وما ذلك عليه سبحانه وتعالى بعزيز.
(توبة رجل في بانكوك (1) :
(بانكوك) بلد الضياع والفساد ... بلد العربدة والفجور بلد المخدرات والهلاك أنه رمز لذلك كله.
مئات الشباب ... بل والشيوخ يذهبون إلى بانكوك يبحثون عن المتعة الحرام فيعودون وقد خسروا الراحة والحياة السعيدة ... خسروا دينهم ودنياهم ... ... وبعضهم يعود وقد خسر الدنيا والآخرة يعود جنازة قد فارق الحياة ويا لها من خاتمة بئيسة!!
وفيما يلي قصة لرجل قد بدأ الشّيبُ يَشتعلُ في رأسه ذهب إلى هناك تاركاً زوجته وأولاده ولكنه استيقظ في النهاية يروي قصته فيقول:
__________
(1) هذه القصة نشرت في جريدة المسلمون العدد (202).(2/110)
لم أخجل من الشيب الذي زحف إلى رأسي ... لم أرحم مستقبل ابنتي الكبرى التي تنتظر من يطرق الباب طالباً يدها للزواج ... لم أعبأ بالضحكات الطفولية لابنتي الصغرى التي كانت تضفي السعادة والبهجة على البيت ... لم أتلفت إلى ولدي ذي الخمسة عشر ربيعاً والذي أرى فيه أيام صباي وطموحات شبابي وأحلام مستقبلي ... وفوق كل هذا وذاك لم أهتم بنظرات زوجتي ... شريكة الحلو والمرّ وهي تكاد تسألني إلى أين ذلك الرحيل المفاجئ .
شيئا واحداً كان في خاطري وأنا أجمع حقيبة الضياع لأرحل ... قفز هذا الشيء فجأة ليصبح هو الحلم والأمل ... ليصبح هو الخاطر الوحيد ... وميزان الاختيارات الأقوى.
ما أقسى أن يختار المرء تحت تأثير الرغبة ... وما أفظع أن يسلك طريقاً لا هدف له فيه سوء تلبية نداء الشيطان في نفسه وهكذا أنا ... كأنه لم تكفني ما تمنحه زوجتي إياي ... تلك المرأة الطيبة التي باعت زهرة عمرها لتشتري فقري ... وضحت كثيراً لتشبع غروري الكاذب ... كانت تمر عليها أيام وهي تقتصر على وجبة واحدة في اليوم لأن مرتبي المتواضع من وظيفتي البسيطة لم يكن يصمد أمام متطلبات الحياة.
صبرت المسكينة ... وقاست كثيراً حتى وقفت على قدمي ... كنت أصعد على أشلاء تضحياتها ... نسيتُ أنها امرأة جميلة صغيرة ... يتمناها عشرات الميسورين واختارتني لتبني مني رجلاً ذا دنيا واسعة في عالم الأعمال يسانده النجاح في كل خطوة من خطواته.
وفي الوقت الذي قررّت فيه أن ترتاح تجني ثمرات كفاحها معي فوجئتْ بي أطير كأن عقلي تضخم من أموالي ... وكأني أعيش طيش المراهقة التي لم أعشها في مرحلتها الحقيقية.
بدأت يومي الأول في بانكوك ... وجه زوجتي يصفع خيالي كلما هممتُ بالسقوط هل هي صيحات داخلية من ضمير يرفض أن ينام ... أم هو عجز (الكهولة) الذي شل حركتي.(2/111)
(إنك لا تستطيع شيئاً ... أعرض نفسك على الطبيب) عبارة صفعتني بها أول عثرة فنهضت وقد أعمى الشيطان البصيرة ولم يعد همي سوى رد الصفعة ... توالت السقطات وتوالى الضياع ... كنت أخرج كل يوم لأشتري الهلاك وأبيع الدين والصحة ومستقبل الأولاد وسلامة الأسرة ... ظننت أنني الرابح والحقيقة أنني الخاسر الضائع الذي فقد روحه وضميره وعاش بسلوك البهائم يغشى مواطن الزلل.
أخذت أتجرع ساعات الهلاك في بانكوك كأنني أتجرّع السم الزعاف ... أشرب كأس الموت ... كلما زلّت القدم بعثرات الفساد ... لم تعد في زمني عظة ولم يسمع عقلي حكمة.
عشت غيبوبة السوء يزينها لي مناخ يحمل كل أمراض الخطيئة ... مرت سبعة أيام أصبحت خلالها من مشاهير رواد مواطن السوء ... يُشار إلي بالبنان ... فأنا رجل الأعمال (الوسيم) الذي يدفع أكثر لينال الأجمل!
أحياناً كان همي الوحيد منافسة الشباب القادمين إلى بانكوك في الوجاهة ... في العربدة ... في القوة ... أعرفهم جيداً ... لا يملكون جزءاً يسيراً مما أملكه لكنهم كانوا يلبسون (أشيك) مما ألسبه لذا كنت اقتنص فوراً الفريسة التي تقع عليها أعينهم ... وعندها أشعر أنني انتصرت في معركة حربية وفي النهاية سقطت سقطة حولتني إلى بهيمة ... فقدت فيها إنسانيتي ولم أعد أستحق أبوتي ... فكانت الصفعة التي أعادت إلى الوعي ... قولوا عني ما تشاءون ... اصفعوني ... ابصقوا في وجهي ... ليتكم كنتم معي في تلك الساعة لتفعلوا كل هذا ... أي رعب عشته في تلك اللحظات وأي موت تجرعته.
أقسم لكم أنني وضعت الحذاء في فمي لأن هذا أقل عقاب أستحقه ... رأيت فجأة وجه زوجتي يقفز إلى خيالي ... كانت تبتسم ابتسامة حزينة ... وتهز رأسها أسفاً على ضياعي ... رأيت وجه ابنتي الكبرى التي بلغت سن الزواج تلومني وهي تقول: ما الذي جعلك تفعل كل هذا فينا وفي نفسك؟! ورأيت لأول مرة صحوة ضميري ولكنها صحوة متأخرة ... جمعت حقيبة الضياع التي رحلت بها من بلدي ... قذفتها بعيداً ... وعدت مذبوحاً من الوريد إلى الوريد.(2/112)
ها أنذا أبداً أولى محاولتي للنظر في وجه زوجتي ... أدعو الله أن يتوب علي ... وأن يلهم قلبها نسيان ما فعلته في حقها وحق أولادنا. ولكن حتى الآن لم أسامح نفسي ... ليتكُم تأتون إلىّ وتصفعوني بأحذيتكم أنني أستحق أكثر من ذلك.
(توبة شاب رأى الموت بعينيه (1)
شاب من ضحايا رفقاء السوء، كانت له صولات وجولات في عالم الضياع والمخدرات، حدثت في حياته حادثة أيقظته من غفلته، وأعادته إلى خالقه، التقيتُ به في أحد مساجد الرياض، فحدثني عن قصته، فقال:
نشأتُ في بيت متدين جدّاً، في حي من أحياء مدينة الرياض، والدي رحمه الله كان شديد التدين، فلم يكن يسمح بدخول شيء من آلات اللهو والفساد إلى البيت.
ومضتِ الأيام، وتجاوزت مرحلة الطفولة البريئة، ولما بلغت الرابعة عشرة من عمري ـ وكنت في السنة الثانية من المرحلة المتوسطة ـ حدث في حياتي حادث كان سبباً في تعاستي وشقائي فترة من الزمن، فقد تعرفت على (شلة) من رفقاء السوء، فكانوا ينتظرون الفرصة المناسبة لإيقاعي في شباكهم (2) .
وجاءت الفرصة المناسبة، فترة الامتحانات، فجاءوني بحبوب بيضاء منبهة، فكنت أسهر عدداً من الليالي المتواليات في المذاكرة دون أن يغلبني نعاسٌ، أو أشعر بحاجة إلى نوم، وانتهتِ الامتحانات، ونجحتُ بتفوق!!
__________
(1) هذه القصة رواها لي هذا الشاب بنفسه.
(2) مصاحبة الأشرار من أعظم الأسباب التي تؤدي إلى الانحراف والفساد والبعد عن الله والوقوع في المعاصي والذنوب وربما الكفر، وبالمقابل فإن مصاحبة الأخيار من أعظم أسباب الهداية والصلاح والقرب من الله. فالواجب الحذر من رفقاء السوء.(2/113)
وبعد الامتحانات داومت على تعاطي هذه الحبوب البيضاء، فأرهقني السهر، وتعبتُ تعباً شديداً، فجاءني أولئك (الشياطين)، وقدموا لي في هذه المرة حبوباً حمراء (مخدرات)، وقالوا لي: إنها تطرد عني السهر وتجلبُ لي النوم والراحة، ولم أكن ـ لصغر سني ـ أدرك حقيقة هذه اللعبة، وهذا التآمر وهذا المكر الخبيث من هؤلاء الشياطين، شياطين الإنس.
أخذت أتعاطى هذه الحبوب الحمراء يومياً وبالعشرات، وبقيتُ على هذه الحال ثلاث سنوات تقريباً أو أكثر، وفشلت في دراستي، ولم أتمكن من إتمام المرحلة المتوسطة من الدراسة والحصول على الشهادة ، فصرتُ أنتقل من مدرسة إلى مدرسة عليّ أحصل عليها، ولكن دون جدوى، وبعد هذا الفشل الذريع الذي كان سببه هذه الحبوب المشؤومة، فكرتُ في الانتقال إلى مدينة أخرى، حيث يقيم عمي وأولاده في محاولة أخيرة لإتمام الدراسة.
وفي ليلة من ليالي الشتاء البرادة ـ وكان والدي قد اشترى سيارة جديدة ـ أخذت هذه السيارة دون علم والدي، واتجهتُ إلى تلك المدينة، وكنتُ أحمل في جيبي كمية كبيرة من الحبوب الحمراء.
وفي الطريق توقفت عند بعض الأصحاب، وفي تلك الليلة أسرفتُ في تناول هذه الحبوب حتى أصبحتُ في وضع يرثى له.
وقبيل الفجر، ركبتُ السيارة وانطلقت في طريقي، وما هي إلا دقائق حتى غبتُ عن الدنيا ولم أفق إلا وأنا في المستشفى في حالة سيئة، قد كسرت ساقي اليمنى، وأصبحت بجروح كثيرة، بعد أن مكثت في غرفة الإنعاش ثمانٍ وأربعين ساعةً، فقد كان حادثاً شنيعاً حيث دخلتُ بسيارتي تحت سيارة نقل كبيرة، ومن رحمة الله بي أن كتب لي الحياة، ومنحنى فرصة جديدة، لعلي أتوب وأقلع عمّا أنا فيه، ولكن شيئاً من ذلك لم يحدث.
نقلت من المستشفى إلى بيت والدي بالرياض، وفي البيت كنت أتعاطى هذه الحبوب النكدة.
قد تسألني وتقول: كيف تحصل على هذه الحبوب، وأنت على فراش المرض؟(2/114)
فأقول: لقد كان أولئك الشياطين يأتون إليّ في البيت فيعرضون علي بضاعتهم، فأشتري منهم، بالرغم من حالتي السيئة.
بقيتُ على هذه الحال أياماً، حتى أحسست بتحسن بسيط، وكانت فكرة السفر تراودني حتى تلك اللحظة أملاً في إكمال دراستي المتوسطة.
وفي عصر أحد الأيام، وبعد أن تناولت كمية كبيرة من هذه الحبوب، خرجت أتوكأ على عكازي وأخذت أبحث عن سيارة تنقلني إلى المدينة، حاولت أن أوقف عدداً من السيارات إلا أن أحداً لم يقف لي، فذهبت إلى موقف سيارات الأجرة واستأجرت سيارة أوصلتني إلى هناك.
وهناك، بادرت بالتسجيل في إحدى المدارس المتوسطة بعد جهود بذلها عمي وغيره في قبولي، وحصلتُ على شهادة الكفاءة، وكنت أثناء الدراسة مستمراً على تعاطي المسكرات، إلا أنني تركتُ المخدرات ووقعتُ في الشراب (الخمر)، وفي الوقت نفسه كنت أقوم بترويج تلك الحبوب الحمراء، وبيعها بسعر مضاعف، ولم أكن أدرك فداحة هذا الأمر وخطورته، فقد كان همي جمع المال ـ أسأل الله أن يتوب عليّ ـ .
ثم وقعتُ بعد ذلك في الحشيش وأدمته، وكنت أتعاطاه عن طريق التدخين، فكنت أذهب إلى المدرسة وأنا في حالة هستيرية فأرى الناس من حولي كأنهم ذباب أو حشرات صغيرة، لكني لم أكن أتعرض لأحد، لأن الذي يتعاطى هذا البلاء يكون جباناً يخاف من كل شيء.
بقيت على هذه الحال سنتين تقريباً، وكنت آنذاك أسكن بمفردي في بيت يقع في مكان ناءٍ في طرف البلد.
وفي يوم من الأيام جاءني اثنان من شياطين الإنس الذين أعرفهم ـ وكان أحدهم متزوجاً ـ فأوقفت سيارتي وركبت معهم، وكان ذلك بعد صلاة العصر، فأخذنا ندور وندور في شوارع البلد.
وبعد جولة دامت عدة ساعات، أوقفوني عند سيارتي، فركبتها واتجهت إلى البيت فلم أستطع الوصول إليه، فقد كنت في حالة سكر شديد.
ظللت مدة ساعتين أو أكثر أبحث عن البيت فلم أجده!!!(2/115)
وفي نهاية المطاف وبعد جهد جهيد وجدته... فلما رأيته فرحتُ فرحاً شديداً، فلما هممتُ بالنزول من السيارة أحسستُ بألم شديد جداً في قلبي، وبصعوبة بالغة نزلت ودخلت البيت، وفي اللحظات تذكرت الموت.
نعم، والله أيها الاخوة لقد تذكرتُ الموت كأنه أمامي يريد أن يهجم عليّ، ورأيت أشياء عجيبة أعجز عن وصفها الآن فقمتُ مسرعاً ومن غير شعور، ودخلت دورة المياه وتوضأت، وبعد خروجي من الدورة عدتُّ وتوضأت ثانية.. ثم أسرعت إلى إحدى الغرف وكبرت ودخلت في الصلاة، وأتذكر أني قرأت في الركعة الأولى بالفاتحة، و (قل هو الله أحد) ولا أتذكر ما قرأته في الركعة الثانية.
المهم أنني أديت تلك الصلاة بسرعة شديد قبل أن أموت!!
وألقيت بنفسي على الأرض، على جنبي الأيسر، واستسلمت للموت، فتذكرت تلك اللحظات أنني سمعت أن الميت من الأفضل أن يوضع على جنبه الأيمن فتحولت إلى الجنب الأيمن، وأنا أحس بأن شيئاً ما يهز كياني هزاً عنيفاً.
ومرت في خاطري صور متلاحقة من سجل حياتي الحافل بالضياع والمجون، وأيقنت أن روحي قد أوشكت على الخروج.
ومرّت لحظات كنت أنتظر فيها الموت، وفجأة حرّكتُ قدمي فتحركتْ، ففرحتُ بذلك فرحاً شديداً، ورأيت بصيصاً من الأمل يشعّ من بين تلك الظلمات الحالكة، فقمت مسرعاً وخرجت من البيت وركبت سيارتي، وتوجهت إلى بيت عمي .
دفعت الباب ودخلت، فوجدتهم مجتمعين يتناولون طعام العشاء، فألقيت بنفسي بينهم.
قام عمي فزعاٍ وسألني: ما بك؟!!
فقلت له: إن قلبي يؤلمني.(2/116)
فقام أحد أبناء عمي، وأخذني إلى المستشفى، وفي الطريق أخبرته بحالي وأنني قد أسرفت في تعاطي ذلك البلاء، وطلبتُ منه أن يذهب بي إلى طبيب يعرفه، فذهب بي إلى مستوصف أهلي، فلما كشف عليّ الطبيب وجد حالتي في غاية السوء حيث بلغت نسبة الكحول في جسمي 94%، فامتنع عن علاجي، وقال لابدّ من حضور رجال الشرطة، وبعد محاولات مستمرة وإلحاح شديد وإغراءات وافق على علاجي، فقاموا بتخطيط للقلب ثم بدءوا بعلاجي.
كان والدي في ذلك الوقت موجوداً في تلك المدينة، فلما علم أني في المستشفى جاء ليزورني، وقد رأيته وقف فوق رأسي فلما شم رائحتي ضاق صدره فخرج ولم يتكلم .
أمضيت ليلة تحت العلاج، وقبل خروجي نصحني الطبيب بالابتعاد عن المخدرات، وأخبرني بأن حالتي سيئة جداً.
وخرجت من المستشفى، وأحسست بأني قد منحت حياة أخرى جديدة، وأراد الله بي خيراً، فكنت فيما بعد كلما شممت رائحة الحشيش أصابني مثل ما أصابني في تلك الليلة وتذكرت الموت، فأطفئ السيجارة، وكنتُ كلما نمت بالليل أشعر بأن أحداً يوقظني ويقول لي: قم، فأستيقظ وأنا أنتفض من الخوف، فأتذكر الموت والجنة والنار والقبر، كما كنت أتذكر صاحبين لي من رفقاء السوء لقيا حتفهما قبل وقت قصير، فأخاف أن يكون مصيري كمصيرهما، فكنت أقوم آخر الليل فأصلي ركعتين ـ ولم أكن أعرف صلاة الوتر في ذلك الحين ـ ثم بدأت أحافظ على الصلوات المفروضة ، وكنتُ كلما شممت رائحة الحشيش أو الدخان أتذكر الموت فأتركهما.
وبقيت على هذه الحال أربعة أشهر أو أكثر حتى قيض الله لي أحد الشباب الصالحين فالتقطني من بين أولئك الأشرار، وأخذني معه إلى مكة المكرمة لأداء العمرة، وبعدها ولله الحمد تبت إلى الله وعدت إليه.
ونصيحتي للشباب المسلم أن يحذروا كل الحذر من شياطين الإنس، ورفقاء السوء، الذين كانوا سبباً في شقاقي وتعاستي سنوات طويلة، ولولا رأفة الله ورحمته حيث أنقذني من بين أيديهم لكنت من الخاسرين.(2/117)
وأسال الله أن يتوب عليّ، وعلى جميع المذنبين والعاصيين إنه توّاب رحيم.
(توبة امرأة مغربية بعد إصابتها بالسرطان وشفائها منه في بيت الله (1)
(ليلى الحلوة) امرأة مغربية، أصيبت بالمرض الخبيث (السرطان)، فعجز الأطباء عن علاجها، ففقدت الأمل إلا بالله الذي لم تكن تعرفه من قبل، فتوجهت إليه في بيته الحرام، وهناك كان الشفاء، والآن ـ عزيزي القارئ ـ أتركك مع الأخت ليلى لتروي تفاصيل قصتها بنفسها، فتقول:
منذ تسع سنوات أصبتُ بمرض خطير جداً ، وهو مرض السرطان ، والجميع يعرف أن هذا الاسم مخيف جداً وهناك في المغرب لا نسميه السرطان، وإنما نسميه (الغول) أو (المرض الخبيث).
أصبتُ بالتاج الأيسر، وكان إيماني بالله ضعيفاً جداً، كنتُ غافلة عن الله تعالى ، وكنت أظن أن جمال الإنسان يدوم طوال حياته، وأن شبابه وصحته كذلك، وما كنت أظن أبداً أني سأصاب بمرض خطير كالسرطان ، فلما أصبتُ بهذا المرض زلزلني زلزالاً شديداً، وفكرت في الهروب، ولكن إلى أين؟! ومرضي معي أينما كنت، فكرت في الانتحار، ولكني كنتُ أحب زوجي وأولادي، وما فكرت أن الله سيعاقبني إذا انتحرت، لأني كنت غافلة عن الله كما أسلفت.
وأراد الله سبحانه وتعالى أن يهديني بهذا المرض، وأن يهديني بي كثيراً من الناس فبدأت الأمور تتطور.
__________
(1) هذه القصة نقلتها من شريط مسجل بصوتها هي. (باختصار).(2/118)
لما أصبتُ بهذا المرض رحلت إلى بلجيكا، وزرت عدداً من الأطباء هناك، فقالوا لزوجي لابدّ من إزالة الثدي.. وبعد ذلك استعمال أدوية حادّة تُسقط الشعر وتزيل الرموش والحاجبين، وتعطي لحية على الوجه، كما تسقط الأظافر والأسنان، فرفضتُ رفضاً كلياً، وقلت: إني أفضل أن أموت بثديي وشعري وكل ما خلق الله بي ولا أشوّه، وطلبتُ من الأطباء أن يكتبوا لي علاجاً خفيفاً ففعلوا. فرجعتُ إلى المغرب، واستعملتُ الدواء فلم يؤثر علىّ ففرحتُ بذلك، وقلت في نفسي: لعل الأطباء قد أخطئوا، وأني لم أصب بمرض السرطان .
ولكن بعد ستة أشهر تقريباً، بدأت أشعر بنقص في الوزن، لوني تغير كثيراً وكنت أحس بالآلام، كانت معي دائماً، فنصحني طبيبي في المغرب أن أتوجه إلى بلجيكا، فتوجهت إلى هناك.
وهناك، كانت المصيبة، فقد قال الأطباء لزوجي: إن المرض قد عمّ، وأصيبت الرئتان، وأنهم الآن ليس لديهم دواء لهذه الحالة.. ثم قالوا لزوجي من الأحسن أن تأخذ زوجتك إلى بلدها حتى تموت هناك.
فُجِعَ زوجي بما سمع، وبدلاً من الذهاب إلى المغرب ذهبنا إلى فرنسا حيث ظننا أننا سنجد العلاج هناك، ولكنا ولم نجد شيئاً، وأخيراً حرصنا على أن نستعين بأحد هناك لأدخل المستشفى وأقطع ثديي وأستعمل العلاج الحاد.
لكن زوجي يذكر شيئاً كنا قد نسيناه ، وغفلنا عنه طوال حياتنا، لقد ألهم الله زوجي أن نقوم بزيارة إلى بيت الله الحرام، لنقف بين يديه سبحانه ونسأله أن يكشف ما بنا من ضرّ، وذلك ما فعلنا.
خرجنا من باريس ونحن نهلل ونكبر، وفرحتُ كثيراً لأنني لأول مرة سأدخل بيت الله الحرام، وأرى الكعبة المشرفة، واشتريتُ مصحفاً من مدينة باريس، وتوجهنا إلى مكة المكرمة.(2/119)
وصلنا إلى بيت الله الحرام، فلما دخلنا ورأيتُ الكعبة بكيتُ كثيراً لأنني ندمت على ما فاتني من فرائض وصلاة وخشوع وتضرع إلى الله، وقلت: يا رب.. لقد استعصى علاجي على الأطباء، وأنت منك الداء ومنك الدواء، وقد أُغْلِقَتْ في وجهي جميع الأبواب، وليس لي إلا بابك فلا تُغْلِقْه في وجهي وطفتُ حول بيت الله، وكنت أسأل الله كثيراً بأن لا يخيبني، وأن يخذلني، وإن يحيّر الأطباء في أمري.
وكما ذكرت آنفاً، فقد كنت غافلة عن الله، جاهلة بدين الله، فكنت أطوف على العلماء والمشايخ الذين كانوا هناك، وأسألهم أن يدلوني على كتب وأدعية سهلة وبسيطة حتى أستفيد منها، فنصحوني كثيراً بتلاوة كتاب الله والتضلع من ماء زمزم ـ والتضلع هو أن يشرب الإنسان حتى يشعر أن الماء قد وصلى أضلاعه ـ كما نصحوني بالإكثار من ذكر الله، والصلاة على رسوله صلى الله عليه وسلم.
شعرت براحة نفسية واطمئنان في حرم الله، فطلبتُ من زوجي أن يسمح لي بالبقاء في الحرم، وعدم الرجوع إلى الفندق، فأذن لي.
وفي الحرم كان بجواري بعض الأخوات المصريات والتركيات كنَّ يرينني أبكي كثيراً، فسألنني عن سبب بكائي فقلت: لأنني وصلتُ إلى بيت الله، وما كنت أظن أني سأحبه هذا الحب، وثانياً لأنني مصابة بالسرطان.(2/120)
فلازمنني ولم يكن يفارقنني، فأخبرتهن أنني معتكفة في بيت الله، فأخبرن أزواجهن ومكثن معي، فكنا لا ننام أبداً، ولا نأكل من الطعام إلا القليل، لكنا كنا نشرب كثيراً من ماء زمزم، والنبي صلى الله عليه وسلم، يقول: (ماء زمزم لما شرب له)، إن شربتَه لتشفى شفاك الله، وإن شربته لظمأك قطعه الله، وإن شربته مستعيذاً أعاذك الله، فقطع الله جوعنا، وكنا نطوف دون انقطاع، حيث نصلي ركعتين ثم نعاود الطواف، ونشرب من ماء زمزم ونكثر من تلاوة القرآن، وهكذا كنا في الليل والنهار لا ننام إلا قليلاً، عندما وصلتُ إلى بيت الله كنت هزيلة جداً، وكان في نصفي الأعلى كثير من الكويرات والأورام، التي تؤكد أن السرطان قد عمّ جسمي الأعلى، فكنّ ينصحنني أغسل نصفي الأعلى بماء زمزم، ولكني كنت أخاف أن ألمس تلك الأورام والكويرات، فأتذكر ذلك المرض فيشغلني ذلك عن ذكر الله وعبادته، فغسلته دون أن ألمس جسدي.
وفي اليوم الخامس ألحّ عليّ رفيقاتي أن أمسح جسدي بشيء من ماء زمزم فرفضتُ في بداية الأمر، لكني أحسستُ بقوة تدفعني إلى أن آخذ شيئاً من ماء زمزم وأمسح بيدي على جسدي، فخفت في المرة الأولى، ثم أحسست بهذه القوة مرة ثانية، فترددت ولكن في المرة الثالثة ودون أن أشعر أخذت يدي ومسحت بها على جسدي وثديي الذي كان مملوءاً كله دماً وصديداً وكويرات، وحدث ما لم يكن في الحسبان، كل الكويرات ذهبت ولم أجد شيئاً في جسدي، لا ألماً ولا دماً ولا صديداً.
فاندهشتُ في أول الأمر، فأدخلت يدي في قميصي لأبحث عما في جسدي فلم أجد شيئاً من تلك الأورام، فارتعشتُ، ولكن تذكرتُ أن الله على كل شيء قدير، فطلبت من إحدى رفيقاتي أن تلمس جسدي، وأن تبحث عن هذه الكويرات، فصحن كلهن دون شعور: الله أكبر الله أكبر.(2/121)
فانطلقتُ لأخبر زوجي، ودخلتُ الفندق، فلما وقفتُ أمامه مزقتُ قميصي وأنا أقول، انظر رحمة الله، وأخبرته بما حدث فلم يصدق ذلك، وأخذ يبكي ويصيح بصوت عالٍ ويقول: هل علمتِ أن الأطباء أقسموا على موتك بعد ثلاثة أسابيع فقط؟ فقلت له: إن الآجال بيد الله سبحانه وتعالى ولا يعلم الغيب إلا الله .
مكثنا في بيت الله أسبوعاً كاملاً، فكنت أحمد الله وأشكره على نعمه التي لا تُحصى، ثم زرنا المسجد النبوي بالمدينة المنورة ورجعنا إلى فرنسا.
وهناك حار الأطباء في أمري واندهشوا وكادوا يُجنّون، وصاروا يسألونني هل أنت فلانة؟! فأقول لهم: نعم ـ بافتخار ـ وزوجي فلان، وقد رجعت إلى ربي، وما عدت أخاف من شيء إلا من الله سبحانه، فالقضاء قضاء الله، والأمر أمره.
فقالوا لي: إن حالتك غريبة جداً وإن الأورام قد زالت، فلابد من إعادة الفحص.
أعادوا فحصي مرة ثانية فلم يجدوا شيئاً وكنت من قبل لا أستطيع التنفس من تلك الأورام، ولكن عندما وصلت إلى بيت الحرام وطلبت الشفاء من الله ذهب ذلك عني.
بعد ذلك كنتُ أبحث عن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وعن سيرة أصحابه رضي الله عنهم وأبكي كثيراً، كنت أبكي ندماً على ما فاتني من حُب الله ورسوله، وعلى تلك الأيام التي قضيتها بعيدة عن الله عز وجل، وأسأل الله أن يقبلني وأن يتوب عليّ وعلى زوجي وعلى جميع المسلمين.
(توبة فتاة من عالم الأزياء إلى كتب العلم والعقيدة (1)
إن إفساد المرأة المسلمة وإخراجها من دينها من أهم ما يسعى إليه أعداء الإسلام باسم (تحرير المرأة)، ذلك أن المرأة هي المدرسة التي تتربى فيها الأجيال وتتخرج، وبفسادها تفسد الأجيال.
يقول (يوبه) المأسوني سنة 1879م :
__________
(1) هذه القصة كتبتها لي هذه التائبة بنفسها.(2/122)
(تأكدوا تماماً أننا لسنا منتصرين على الدين إلا يوم تشاركنا المرأة فتمشي في صفوفنا)، ولكي تمشي المرأة في صفوفهم أخذوا يحيكون المؤامرات، والمخططات ليلاً ونهاراً، ومنها إشغال المرأة بالتوافه من الأمور كالاهتمام الزائد باللباس والزينة والتجمل، وإغراق الأسواق بمجلات الأزياء المتخصصة التي تحمل في طياتها آخر ما تفتّق عن العبقرية اليهودية (1) من الأزياء العارية الفاتنة، و(الموديلات) الرخيصة الماجنة التي تتنافى مع ما أمر الله به المرأة من الحشمة والعفاف والستر، وقد قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من تشبه بقوم فهو منهم).
والآن سنقف قليلاً مع إحدى الأخوات، لتحدثنا عن رحلتها مع عالم الأزياء والجمال الزائف إلى عالم آخر، عالم الكتب وطلب العلم، فتقول:
عشتُ بداية حياتي في ضلال وضياع وغفلة، بين سهر على معاصي الله ، وتأخير للصلاة عن وقتها، ونوم وخروج إلى الحدائق والأسواق ، ومع ذلك كله فقد كنت أصلي أصوم، وأحاول أن ألتزم بأوامر الشرع التي تعلمتها منذ نعومة أظفاري، حتى أني ـ في المرحلة المتوسطة ـ كنت أعدّ ملتزمة بالنسبة لغيري من الفتيات الأخريات، ولكن حب المرأة للزينة والجمال والشهرة وميلها الغريزي إليه كان من أكبر مداخل الشيطان عليّ .
فقد كنتُ مفتونة جدّاً بالأناقة وحبّ ابتكار (الموديلات) التي قد يستصغرها البعض ويقول: إنها ليست بمعصية، ولكني أقول: إنها قد تكون من أكبر المعاصي، فقد كانت هي وقتي كله، كنت أفكر فيها عند الطعام والشراب والنوم والسفر، وأثناء الحصص المدرسية، حتى الاختبارات، مع حرصي الشديد على المذاكرة والتفوق حيث كنت من الأوائل على المرحلة بكاملها .
__________
(1) (بيوت الأزياء الكبرى يهودية وكذلك بيوت الزينة، واليهود يكسبون مها كسباً مضاعفاً، يكسبون أرباحاً خيالية لا تدرها الصناعات الأخرى، ويكسبون سريان الفساد كالسم في مجتمع الأميين (غير اليهود). (محمد قطب/ مذاهب فكرية ص 150، الهامش.(2/123)
وأعظم من ذلك ، أن مثل هذه الأمور التافهة كانت تشغل تفكيري حتى في الصلاة والوقوف بين يدي الله ، فإذا انتهيتُ من الصلاة بدأت في وصف الموديل الذي فكرت به في الصلاة لأختي، وهي كذلك .
وأذكر مرة أني حضرت زواجاً لإحدى قريباتي، وحزتْ على إعجاب الكثيرات من بنات جيلي من إطراء ومديح بطريقة اللبس مما زاد من غروري ، وجعلني أتحسر وأتألم لِمَ لم ألبس أفضل لأحوز على مديح أكثر، وأخذت أتحسر لمدة سنة تقريباً.
قد تستغربون ذلك، ولكن هذا كله بسبب الصديقات المنحلات اللاتي كنت أختارهنّ، فكنت بالنسبة لهن ملتزمة .
وفي نهاية المرحلة الثانوية يسر الله لي طريق الهداية ، فقد كنت أذهب أثناء الاختبارات إلى مصلى المدرسة لأذاكر مع صديقاتي ، فأجد هناك بعض حلقات العلم فأجلس إليها وأستمع أنا وزميلاتي ، فأثر ذلك فيّ ، مما جعلني بعد التخرج ودخول الجامعة ألتحق بقسم الدراسات الإسلامية .
وفي الجامعة، تعرفتُ على أخوات صالحات، وبفضل الله ثم بفضل أخواتي الصالحات ومجالس الذكر والإلحاح في الدعاء أعانني الله على أن استبدل حب الدنيا بطلب العلم، حتى أني أنسى حاجتي للطعام والشراب مع طلب العلم، ولا أزكي نفسي ولكن الله يقول: (وَأَمّا بِنِعْمَةِ رَبّكَ فَحَدّثْ) [ الضحى : 11] كما أصبحت بعد الالتزام أشعر بسعادة تغمر قلبي فأقول: بأنه يستحيل أن يكون هناك إنسان أقل مني التزاماً أن يكون أسعد مني، ولو كانت الدنيا كلها بين عينيه، ولو كان من أغنى الناس .
وهكذا تمت رحلتي من السهر على الفيديو والأفلام الماجنة إلى كتب العقيدة والحديث وأبحاث الفقه.
ومن النوم إلى الظهيرة إلى هدي النبي صلى الله عليه وسلم، في النوم فالإنسان محاسب على وقته، وعليه استغلال كل دقيقة، فإذا كنت في وضع لا يسمح لي بطلب العلم فلساني لا يفتر ـ والله الحمد ـ من ذكر الله والاستغفار.(2/124)
وفي الختام أسأل الله لي ولجميع المسلمين والمسلمات الهداية والثبات.. فأكثر ما ساعدني على الثبات ـ بعد توفيق الله ـ هو إلقائي للدروس في المصلى ، بالإضافة إلى قراءتي عن الجنة بأن فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، من اللباس والجمال والزينة، والأسواق، والزيارات بين الناس، وهذه من أحب الأشياء إلى قلبي.
فكنت كلما أردت أن أشتري شيئاً من الملابس التي تزيد على حاجتي أقول: ألبسها في الآخرة أفضل.
فتذكري للجنة ونعيمها من أكثر الأسباب المرغبة لي في ترك ملذات الدنيا طمعاً في الحصول عليها كاملةً في الآخرة بإذن الله.
ومن أكثر الأسباب المرغبة لي في ترك المعاصي تذكري للصراط، وأهوال يوم القيامة، وأن الأعمال تعرض على الله أمام جميع الخلائق، وهناك تكون الفضيحة.
(توبة شاب كان يتعرض للنساء (1) :
إنها قصة مؤثرة، يرويها أحد الغيورين على دين الله يقول:
خرجت ذات يوم بسيارتي لقضاء بعض الأعمال ، وفي إحدى الطرق الفرعية الهادئة قابلني شاب يركب سيارة صغيرة، لم يرني، لأنه كان مشغولاً بملاحقة بعض الفتيات في تلك الطريق الخالية من المارّة .
كنتُ مسرعاً فتجاوزته، فلما سرت غير بعيد قلت في نفسي : أأعود فأنصح ذلك الشاب! أم أمضي في طريقي وأدعه يفعل ما يشاء ؟
وبعد صراع داخلي دام عدة ثوانٍ فقط اخترتُ الأمر الأول.
عدتُ ثانية، فإذا به قد أوقف سيارته وهو ينظر إليهن ينتظر منهن نظرة أو التفاته، فدخلن في أحد البيوت.
أوقفت سيارتي بجوار سيارته، نزلت من سيارتي واتجهت إليه، سلمت عليه أولاً، ثم نصحته فكان مما قلته له: تخيل أن هؤلاء الفتيات أخواتك أو بناتك أو قريباتك فهل ترضى لأحد من الناس أن يلاحقهن أو يؤذيهن؟
كنت أتحدث إليه وأنا أشعر بشيء من الخوف، فقد كان شابّاً ضخماً ممتلئ الجسم، كان يستمع إليّ وهو مطرق الرأس، لا ينبس ببنت شفة .
__________
(1) هذه القصة رواها لي أحد الاخوة فكتبتها ثم عرضتها على صاحبها فأجازها.(2/125)
وفجأة التَفَتَ إليّ، فإذا دمعة قد سالتْ على خده، فاستبشرتُ خيراً، وكان ذلك دافعاً لي لمواصلة النصيحة، لقد زال الخوف مني تماماً، وشددتُّ عليه في الحديث حتى رأيت أني قد أبلغت في النصيحة .
ثم ودّعته لكنه استوقفني، وطلب مني أن أكتب له رقم هاتفي وعنواني، وأخبرني أنه يعيش فراغاً نفسياً قائلاً، فكتبتُ له ما أراد .
وبعد أيام جاءني في البيت ، لقد تغير وجهه وتبدلتْ ملامحه، فقد أطلق لحيته وشعَّ نور الإيمان من وجهه .
جلستُ معه، فجعل يحدثني عن تلك الأيام التي قضاها في (التسكع) في الشوارع والطرقات وإيذاء المسلمين والمسلمات، فأخذت أسليه، وأخبرته بأن الله سبحانه واسع المغفرة، وتلوت عليه قوله تعالى: (قُلْ يَعِبَادِيَ الّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىَ أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رّحْمَةِ اللّهِ إِنّ اللّهَ يَغْفِرُ الذّنُوبَ جَمِيعاً إِنّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرّحِيمُ) [ الزمر : 53]. فانفرجتْ أسارير وجهه، واستبشر خيراً، ثم ودعني وطلب مني أن أردّ الزيارة، فهو في حاجة إلى من يعينه على السير في الطريق المستقيم، فوعدته بالزيارة، مضت الأيام وشُغلت ببعض مشاغل الحياة الكثيرة، وجعلت أسوّف في زيارته. وبعد عدة أيام، وجدت فرصة وذهبت إليه.
طرقت الباب ، فإذا بشيخ كبير يفتح الباب وقد ظهرت عليا آثار الحزن والأسى، إنه والده.
سألته عن صاحبي، أطرق برأسه إلى الأرض، وصَمَتَ برهةً، ثم قال بصوت خافت: يرحمه الله ويغفر له، ثم استطرد قائلا: حقاً إن الأعمال بالخواتيم .
ثم أخذ يحدثني عن حاله وكيف أنه كان مفرطاً في جنب الله بعيدًا عن طاعة الله، فمنّ الله عليه بالهداية قبل موته بأيام، لقد تداركه الله برحمته قبل فوات الأوان.
فلما فرغ من حديثه عزيته ومضيت، وقد عاهدتُ الله أن أبذل النصيحة لكل مسلم.
(توبة مدمن (1) :
يقول هذا التائب:
__________
(1) عكاظ، العدد 8641.(2/126)
(كان المنعطف الأول في حياتي في سن مبكرة جداً حيث كان عمري آنذاك ست سنوات لا غير، وقبل أن أعي الحياة وأدركها كما ينبغي صحوت على (مأساة عائلية).
لقد طلّق والدي أمي، وانفصلتْ عنه، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل ازداد الأمر تعقيداً حينما قررتْ أمي أن تتزوج.. واختار أبي زوجة أخرى، فأصبحت تائهاً، ضائعاً بين الاثنين.. وكما يقولون: (أمران أحلاهما مر).. فعند أبي كنت أقابل بمقالب زوجة أبي، أما عند أمي فكان زوج أمي يكشر عن أنيابه دائماً في وجهي، ومن الطريف أنني كنت دائماً حاضراً عند كليهما، وكنت أيضاً غائباً عن كليهما.. فكنتُ الحاضر الغائب، والموجود المفقود.
ومع هذه الظروف العائلية غير الطبيعية، ومع التفكك والاضمحلال الأسري، سقطتُ في هوة الإدمان مع رفقاء السوء، ووجدتُ معهم الملاذ الذي افتقدته، والعطف والاهتمام اللذين حرمت منهما، طبعاً لم يكن عطفاً واهتماماً خالصاً لوجه الله، وإنما من أجل الوصول إلى أغراضهم الخبيثة .
أصبحتُ أقضي معظم وقتي مع أولئك الأشرار ما بين شرب وتعاطٍ وإدمان، وحينما يسألني أبي أين كنت؟ أقول له عند أمي، وحينما تستفسر أمي عن غيابي، أقول لها كنت عند أبي، وهكذا يظن كلاهما أنني موجود، وكنت مفقوداً ويعتقد كلاهما أني حاضر، وكنت في تلك الأثناء الغائب الوحيد.. الغائب عن الحياة.. الساقط في التيه والضياع.
كان هذا هو المنعطف الذي ألقى بي في هاوية الإدمان، ولكن كيف خرجت إلى شط الأمان؟
تلك قصة أخرى سأرويها لكم:
ففي ليلة من الليالي، وبعد سهرة تطايرت فيها الرؤوس، وتلاعبت بها المخدرات، خرجنا من (الوكر) لكي نتنفس الهواء العليل ليزيدنا طرباً على طرب!! ونشوة إلى نشوة!! وبينما كنا في سعادة موهومة غامرة، وغيابات كاذبة، إذ بالسيارة تنقلب عدة مرات.
كنا أربعة من الشياطين داخل السيارة، توفي الثلاثة ولم يبق إلا أنا نجوت بأعجوبة.. بفضل الله تعالى.(2/127)
ومكثتُ في المستشفى عشرة أيام كاملة ما بين الحياة والموت، غيبوبة كاملة تماماً، كتلك التي كنتُ أحياها من قبل.
وأفقتُ من الغيبوبة الصغرى عقب الحادث، على حقيقة الغيبوبة الكبرى التي كنتُ أحياها، واكتشفتْ نفسي من جديد، وشعرت بالإيمان بعد أن مات الإحساس لديّ، وعدتُ إلى الله ضارعاً مستغفراً حامداً شاكراً لأنه تولاني وأنقذني من موتتين: موت السيارة، وموت الإدمان، وخرجت من المستشفى إلى المسجد مباشرةً، وقطعتُ كل صلتي بالماضي، وأحمد الله أنني دخلتُ المسجد بدلاً من السجن، والقرآن الكريم هو أوفى صديق لي الآن يلازمني وألازمه.
هذه قصتي باختصار، وأنصح إخواني الشباب وغيرهم بالحذر من رفقاء السوء، الذين يلبسون للناس جلود الضأن من اللين، ألسنتهم أحلى من العسل، وقلوبهم قلوب الذئاب، كما أنصحهم بالبعد عن المخدرات فإنها رأس كل خطيئة، والله الموفق .
(توبة طبيب نصراني وإسلامه على يد داعية مسلم (1) :
جي ميشيل (36 سنة) مسئول هيئة تنصيرية جاءت من ألمانيا الغربية للعمل في الصومال، ولأن البعثة جاءت للعمل فكان لابدّ من تسميتها بعثة (المشروع الوطني لمحاربة أمراض العمى) كان ميشيل من النابغين في الإشراف على فريق التمريض، لذلك لم يفاجأ بخبر تعيينه مسئولاً للبعثة إضافةً إلى إدارة المشروع، تحركت البعثة في منتصف عام 1978م وأمامها خريطة للتنصير في القرن الإفريقي تحت لافتة: (محاربة أمراض العمى). حديث (ميشيل) يأتي عذباً صافياً لأنه نابع من القلب، ولأن حديثي يختلف بالتأكيد عن حديث (ميشيل) من حيث الصدق والإحساس سأتركه لكم:
يقول جي ميشيل:
__________
(1) جريدة المسلمون، عدد/260.(2/128)
سعادتي بالصومال والصوماليين كانت كبيرة، ربما لحسن استقبالهم لنا، وربما لإحساسنا بمدى الفقر الذي يعانونه في الوقت الذي يعتزون فيه بأنفسهم، كما لو كانوا من أثرى الأثرياء، ربما لوجوههم الطيبة التي تستطيع رغم سمرتها أن تترجم كل حركة أو إشارة صادرة منها بسهولة.
أشياء كثيرة كانت وراء فرحتي بمكان المهمة.
يبدو أنني في زحمة انشغالي بالعمل وفرحتي واحترامي للشعب الصومالي نسيتُ مهمتي الأصلية، التي جئت وجاء الفريق من أجلها! فبسرعة عجيبة كان لي أصدقاء مسلمون يسألون عني وأسأل عنهم، تفانيت في محاربة أمراض العمى، وأشرفت على علاج عشرات الحالات، وكانت كلمات المديح والإطراء تخرج من كل الأفواه أثناء مروري على أي تجمع أو في أي شارع، كنت أفهم كلماتهم رغم أنها صادرة بلغة غير لغتي لكنها لغة الإحساس، في زحمة ذلك كله وبعد خمسة أشهر من النجاح الباهر في محاربة العمى جاءتني برقية من قصر رئاسة المنظمة الألمانية التي تتولى تنفيذ المشروع من ألمانيا!
قلت لنفسي: لعلها بشرى سارة فقد أمروني بالعودة فوراً، ربما ليشكروني على التفاني في العمل، وربما ليقدموا لي ولأفراد الفريق هدايا أو أوسمة. لم أستطيع أن أفسر طلبهم العجيب بضرورة توجهي إلى إنجلترا لأخذ دورة جديدة تساعدني في إنجاح مهمتي، إن مهمتي ناجحة تماماً والعمل هناك يمضي بصورة رائعة فما جدوى هذه الدورة مع رجل مثلي كان الأول على كل الدورات السابقة؟ لم أستطع التفسير وبالتالي لم أستطع الرد بأكثر من نعم. سافرت إلى إنجلترا وأمضيت هناك شهراً كاملاً، وعدتُ إلى ألمانيا الغربية وأنا أتوق إلى أوامر بعودتي إلى الصومال، وبعد أسبوع جاء الأمر: توجه إلى تنزانيا! ومرة أخرى لا أجد تفسيراً لتوجهي إلى تنزانيا رغم نجاحي في الصومال، ولأنني لم أناقشهم في سبب ذلك. اطمأنوا تماماً لي وأرسلوا لي برقية بعد أربعة أسابيع يطلبون فيها عودتي إلى الصومال، وبكيتُ فرحاً!(2/129)
عدتُ إلى الصومال بعد خمسة أشهر من الانقطاع عن الوجوه الطيبة والقلوب الدافئة، التحقتُ بالمشروع على الفور، ومارستُ عملي وإشرافي، كانتْ فرحةُ الصوماليين بعودتي تكاد تقترب من فرحة مريض بمرض في عينه وتم علاجه، ولولا اتهامي بالمبالغة لقلتُ أن فرحتهم بي كانت كفرحة الأعمى بعودة البصر إلى عينيه، هذا ما أحسستُ به خاصةً من صديقي (محمد باهور).
دعاني (محمد باهور) لزيارة منزله، وهناك كان الترحيب بي من أسرته ومن جيرانه رائعاً، وفوجئتُ أثناء جلوسي معهم برجل يتحدث الإنجليزية بشكل جيد، فرحتُ كثيراً بذلك وفرحت أكثر عندما علمتُ أنه والد (محمد) ها هي الفرصة تتحقق وها هو الجزء الثاني والأهم في مهمتي إلى الصومال سيتحقق! إن اللغة تقف عائقاً كبيراً في عملية التنصير لكن وجود مثل هذا الرجل سيساعدني كثيراً في شرح أبعاد التبشير بالنصرانية خاصةً وأن هذا الرجل يحترمه الجميع ويقدّرونه بصورة تكاد تقترب من الخوف!
وبدأتُ مع هذا الرجل الذي توقعتُ أن يكون مفتاحَ التبشير والتنصير في المنطقة كلها، قلت لنفسي فلأبدأ معه بالحديث عن الأديان عموماً وأنتقل للحديث عن الإنجيل وعن المسيح الذي أدركتُ واكتشفتُ أكثر من مرة أن المسلمين جميعاً يحبونه ويعترفون به! ولا أدري ماذا حدث وكيف اكتشف هذا الرجل أن حديثي معه سيكون عن الأديان! قبل أن أبدأ حديثي وجدته ممسكاً بنسخة من (القرآن) في يديه وسألني : أتعرفُ هذا الكتاب ؟ ابتسمتُ ولم أجب خشية إثارته أو التلميح له بمهمتي ! مرة أخرى أحسستُ أن الرجل يدرك ما يدور بعقلي منحني فرصةَ الخروج من المأزق وبدأ هو يتحدث عن الإنجيل وعن المسيح، وطلب مني أن أوجه له أي سؤال أريد الإجابة عنه سواء في الإنجيل أو في القرآن! قلت: كيف؟ قال: في القرآن كل شيء!(2/130)
انتهتْ زيارتي وعدتُ إلى عملي ثم إلى مقر إقامتي وأنا أفكر في كيفية اختراق عقل وفكر هذا الرجل، إنني لو نجحتُ في ذلك سأكون بلا شك قد قطعتُ شوطاً كبيراً وسيسهل بعد ذلك اصطياد الواحد تلو الآخر عدتُ إلى بعض النشرات والكتيبات، وسخرتُ من نفسي وأنا أشعر وكأني تلميذ مقبل على امتحان خطير! طمأنت نفسي وقلت: إنها مهمة بسيطة ويبدو أنني أضخّمها أكثر من اللازم، إن السيطرة على تفكير رجل مثل والد محمد مسألة سهلة، هي بالتأكيد سهلة وخرجتُ إلى عملي، أنهيته وبدأتُ في البحث عن (محمد باهور) طامعاً في وعد بزيارة جديدة حتى ألتقي بالرجل (المفتاح).
كان الموعد وكان اللقاء وكانت البداية المباغتة: فور جلوسي سألني الرجل عن طبيعة مهنتي فقلتُ: الطب! قال لي: إن (القرآن الكريم) يشرح بالتفصيل عملية (الخلق) و (النشأة) وكل ما يحدثُ في الإنسان من تغيرات! قلتُ: كيف؟ وكأن الرجل كان ينتظر الإشارة الخضراء، اندفع يتحدثُ بلغة إنجليزية جيدة، وليس هذا مهماً، لكن المهم أنه كان يتحدث بإحساس شديد لكل كلمة تخرج من فمه. أقول لكم بصراحة أنني دهشتُ لدرجة الانبهار بكتاب (عمره) أكثر من 1400 عام يتحدث عن كيفية نمو الجنين في رحم المرأة! لقد درستُ لسنوات طويلة وتدربتُ تدريباً شاقّاً وأعرف مراحل نمو الجنين، لكن ما ذكره هذا الرجل شدني كثيراً وقد آلمني ذلك كثيرا!!
كالعادة طمأنت نفسي وهدأتُ من روعها حتى أستطيع النوم، أوكلتُ بعض مهامي في العمل للفريق، وبدأت أفكر كيف أنجح في الجزء الثاني من المهمة (التنصير) مثلما نجحتُ في الجزء الأول منها (محاربة أمراض العمى) ، صحيح أنني أحب الصومال والصوماليين، لكنني أحب عملي وأحب النصرانية فلماذا لا أجذبهم إليها.(2/131)
من جديد اضطررتُ لأن أطلب محمد (محمد باهور) أن أزوره ، لكنني قبل أن أطلب منه ذلك فوجئتُ به يطلب مني أن أزور والده يومياً إن أمكنني ذلك لأنه يريدني ويحب دائماً الجلوس معي! فرحتُ في البداية لكنني قلتُ لنفسي: كيف أفرح وأنا حتى الآن لم أتمكن من السيطرة عليه، إنه هو البادئ دائماً فلماذا لا أبدأ أنا بالهجوم أو بالغزو؟
لن أحكي لكم تفاصيل ما حدث في الزيارة الثالثة والرابعة والخامسة لقد وجدتني محاصراً تماماً، أذهب إلى الرجل وأنا مستعد تماماً للمواجهة لكن حديثه وصدقه وقدرته الفائقة على الشرح والتوضيح جعلتني أبدو أمامه تلميذاً يسمع دروساً في الدين لأول مرة .
لم أكن أدري أنني مراقب منذ أول زيارة إلى منزل والد (محمد باهور) ويبدو أن المراقبة كانت دقيقة للغاية حتى أنها وصلتْ إلى أن يواجهني أفراد الفريق الطبي ويطلبون مني عدم الذهاب إلى هذا المنزل أو الاتصال بهذه العائلة.
اكتملتْ المراقبة وتوِّجتْ بقرار صادر من ألمانيا الغربية ينص على ضرورة مغادرتي للمعسكر! وقبيل تنفيذ الأمر بيوم واحد اكتشفتُ وجود قرار آخر ينقل (محمد باهور) من عمله إلى مكان آخر!
لم تكن هناك قوة تستطيع أن تمنعني من أن أحب (محمد باهور) وأحب والده وأسرته وأحب الصوماليين جميعاً، مكثتُ في مقديشو أياماً معدودة، وكنت أتسلل ليلاً وأركب شاحنة أخرى حتى أصل إلى منزل عائلة (محمد) لكن ذلك لم يدم طويلاً، فقد قام رئيس فريق العمل الألماني بدفع أموال كبيرة لبعض مسئولي الأمن بالمنطقة، وذلك لمنعي من الوصول إلى هذه المنطقة، وعندما نجحتُ في إقناع مسؤولين آخرين على قدر من التقوى والجدية في العمل كان الخبر المؤلم، لقد تم اعتقال (محمد) لعلاقته بي!(2/132)
بكيتُ كثيراً من أجل (محمد) وتألمتُ كثيراً من عدم تمكني من مواصلة المشوار مع والده للنهاية، كنت أريد أن أصل إلى نهاية، أو بمعنى أوضح إلى بداية، فإما نهاية للشكوك التي بدأتْ تتسرب إلى عقلي من حديث هذا الرجل، وإما بداية لرحلة جديدة! أثناء ذلك جاءتني برقية أخرى من ألمانيا تطلب مني مغادرة الصومال خلال أيام والانتقال إلى كينيا لتقضية (إجازة ممتعة)!
تعللت بضرورة أخذ بعض أوراقي من مكان المعسكر وأبلغت مسؤول الأمن بذلك، وفور دخولي توجهتُ إلى منزل (محمد باهور).
وجدتُ في المنزل فرحة غير عادية، قال لي الوالد لقد جئتَ مع إطلالة شهر الخير والبركة، سألتُه عن هذا الشهر فقال إنه رمضان! تناولت وجبة (السحور) معهم وقبيل الفجر شاهدتُّ المنطقة كلها تخرج للصلاة! مكثتُ معهم يوماً كاملاً واضطررتُ احتراماً لمشاعرهم أن أصوم لأول مرة في حياتي يوماً كاملاً عن الطعام والشراب!
وفي (نيروبي) وجدتُ في المطار من يستقبلني ويخبرني بأنني سأقيم في منزل كبير بدلاً من الفندق، وكانت الحفاوة بي واضحة، لكنني بعد عدة أسابيع أخبرتُ بخبر آخر أشد ألماً. جاءت البرقية تقول: (لن تستطيع العودة مرة أخرى إلى الصومال لأسباب أمنية)! لماذا؟ كيف؟ ولمصلحة من هذا القرار؟ لم أجد من يجيبني عن تساؤلاتي. هدأتُ قليلاً وأنا أذكر موقف (محمد) ووالده وأسرته معي وأتذكرُ كل الوجوه الصومالية التي التقيتُ بها. ووصلتني رسالة ساخنة من والدي يطالبني فيها بالعودة إلى ألمانيا بأسرع ما يمكن، كانت سطور الرسالة تقول أو توحي بأن والدي تلقى ما يفيد خطورة موقفي إذا سافرتُ إلى الصومال!
اكتشفتُ كذلك أن الرئاسة في ألمانيا الغربية لديها تقرير مفصل عني وعن تحركاتي الكاملة، واتخذت قراري!
قارنتُ بين ما يحدث في ألمانيا وما يحدث في الصومال من لهفة الناس عليّ وقلقهم البالغ وسؤالهم المستمر عني وأغلقتُ بابي على نفسي ورحتُ أراجع الدروس التي سمعتها من والد محمد.(2/133)
جهزتُ ورقة بيضاء ناصعة وأحضرت القلم وكتبتُ هذه البرقية إلى رئاستي في ألمانيا الغربية: اطمئنوا تماماً كل شيء على ما يرام. سأعتنق الإسلام.
وضعتُ رسالتي في صندوق البريد لأنهي رحلة من القلق والتوتر، كنتُ أشعر وأنا أتوجه إلى صندوق البريد وكأنني عريس في يوم زفاف، وتوجهتُ إلى أصدقائي في (نيروبي) قلتُ لهم: قررتُ العودة إلى الصومال مهما كلفني ذلك! سأعود حتى ولو أدى ذلك إلى قتلي! كان من الطبيعي ألا أجد شيئاً أنفذ به قراري بالعودة، بعت حاجاتي وملابسي كلها باستثناء ما أرتديه، وثلاثة أحذية كنتُ أحضرتها معي، وتمكنتُ من تحصيل سعر التذكرة إلى الإيمان! نعم فقد وصلتُ إلى مقديشو ومنها إلى منزل الوالد (باهور) وفور أن عانقني قلتُ هامساً: (أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله)!.
لم يكن لدي وقتاً للفرح، عكفتُ على الدراسة والحفظ الجيد للقرآن الكريم والأحاديث الشريفة وكان إعجاب الصوماليين بي شديداً ولأن المسؤولين في المنطقة جزء من نسيج هذا الشعب فقد نجحوا في استصدرا قرار يسمح لي بالتحرك والانتقال والتعايش مع الصوماليين في أي وقت وفي أي مكان كشقيق وأخ مسلم اسمه الجديد (عبد الجبار). الآن فقط فكرتُّ في المشروع الذي كنا نقوم بتنفيذه لقد توقف المشروع بحمد الله دون أن ينجح في الجزء الثاني أو الأول منه وهو الخاص بالتنصير، لكنه حقّق نجاحات باهرة في الجزء الخاص بالعلاج، لذلك لم أفاجأ بموافقة الدكتور عبد الله نصيف الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة على أن أواصل العمل في المشروع في وجهه الجديد وجه الخير والعمل الخالص لوجه الله، وها أنا أعود!).
(توبة الزعيم الشيوعي تروتسكي :(2/134)
وهو من أبرز الشخصيات في الحزب الشيوعي، ومن كبار منظري الشيوعية، ويعد الرجل الثاني بعد لينين، وقد تولى الشؤون الخارجية بعد الثورة، وأسندت إليه شؤون الحرب، وكان يهودياً، واسمه الحقيقي بروستالين، ولد سنة 1879م، واغتيل سنة 1940م.
ومع أن هذا الرجل له شهرته الواسعة، ومع كثرة ما كتب عنه إلا أنه ومع بالغ الأسف قل أن يذكر خبر اعتناقه للإسلام.
جاء في مجلة الهداية الإسلامية الجزء السابع من المجلد الأول ما نصه: تروتسكي يعتنق الإسلام في بيئة تجهل الإسلام .
وتحت هذا العنوان كتبت: نقلت الصحف خبر اعتناق تروتسكي الزعيم البولشفي للإسلام وهو منفي في تركيا، وجاء في حديث إسلامه أنه على إثر شفائه من مرضه في الأستانة دعا مفتي الأستانة فأجاب دعوته، وشهد اجتماعهما مندوب جريدة وقت التركية، فقال تروتسكي: كنت يهودياً غير أن مبادئي لم ترق لبعض الحاخامين فحرموني من ديانتي، ولكني لم أُعِرْ حرماني هذا اهتماماً كثيراً؛ لأن مبادىء الدين الإسرائيلي لم تكن لتروقني فلم أحْتَجَّ، ولم أعارض.
وأما الآن وأنا أتقدم في السن فإني أشعر كغيري من الناس بأني في حاجة إلى إيمان ودين سماوي، ففكرت في وقت ما أن أصبح مسيحياً غير أني عدلت عن ذلك؛ لكراهيتي اعتناق دين القياصرة المستبدين وراسبوتين الراهب الشرّير؛ فلم يبقَ أمامي غير الدين الإسلامي الذي دققت في البحث في شرائعه فوجدت فيه مزايا حسنة، منها أنه يحض على المناقشة والمباحثة في أصوله، ولذا سأعتنق الإسلام، وسيتناول فضيلة المفتي العشاء معي، ثم يبدأ بتلقيني الشرائع الإسلامية (1) .
وبعد إيراد هذا الخبر علق صاحب مجلة الهداية الإسلامية الشيخ محمد الخضر حسين×على هذا الخبر قائلاً: يحدثنا تروتسكي أنه اعتنق الإسلام بعد أن دقق البحث في حقائق شريعته الغراء.
__________
(1) الهداية الإسلامية لمحمد الخضر حسين، جمعه وحققه علي الرضا الحسيني ص 163، وانظر جريدة الأهرام عدد 19أبريل نيسان سنة 1929م.(2/135)
ومن نظر إلى أن تروتسكي نشأ في منبت غير إسلامي، وأُشْرِب مذهباً ذا مبادىء لا تلائم طبيعة الدين الحنيف، ثم وقع في بيئة أخذ مترفوها يفسقون عن الإسلام وثق بأن مثل تروتسكي إنما يسلم على سلطان من الحجة مبين .
ولا عجب أن يهتدي تروتسكي للإسلام، ويزيغ عنه نفر ترددوا على معاهد شريعته بضع سنين؛ فإن هؤلاء النفر لم ينظروا في حقائقه نظر الباحث النبيه، وما كانت تعاليمه إلا كالصور تقع على ظاهر قلوبهم دون أن تخالط سرائرها؛ فما هم من أولئك الذين يتجافون عنه بجهالة مطلقة ببعيد.
ولنا الأمل في أن تُصلح طرق التأليف والتعليم، فيسهل على كل ناشىء يدرس حقائق الشريعة أن يصل إلى لبابها، وينفذ إلى بالغ حكمتها.
ولو عُني القائمون على شؤون الدين بترجمة محفوفة بالاستدلال وبيان الحكمة لأصبح عدد المعتنقين للإسلام من أمثال تروتسكي غير قليل (1) .
(توبة السفاح (2) :
هكذا كان يُلقب لكثرة جرائمه، التي لم تقف عند حد، فقد كان مضرب المثل في الجريمة والإرهاب، الكل يرهبه ويخافه، كان الناس يقولون: لو استقام العصاة والمجرمون كلهم ما استقام فلان -ـ يعنونه ـ فسبحان من بيده قلوب العباد.. من كان يُصدّق أن مثل هذا القلب القاسي سَيَلِيْنُ في يوم من الأيام؟! لكنها إرادة الله عزّ وجلّ، ومشيئته قال تعالى: (اعْلَمُوَاْ أَنّ اللّهَ يُحْيِي الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيّنّا لَكُمُ الاَيَاتِ لَعَلّكُمْ تَعْقِلُونَ) [ الحديد : 17]، وقد روى لي قصته كاملة يوم أن هداه الله، فإذا فيها أمور عظام تقشعر منها الأبدان، وتمتعض لهولها القلوب، اقتصرت منها على ما يحسن ذكره في مثل هذا المقام،
قال عفا الله عنا وعنه:
__________
(1) الهداية الإسلامية ص 163_164.
(2) ) رواها لي بنفسه.(2/136)
توفي والدي قبل أن أتم التاسعة من عمري، وكنت أكبر أولاده فانتقلتْ أمي إلى بيت أبيها (جدي لأمي)، أما أنا فاستقر بي المقام عند أعمامي، في بيت جدّي لأبي، كنتُ بينهم كاللقيط، الذي لا يعرف نسبه، أو كاليتيم على مائدة اللئام، بل لقد كنتُ كذلك، وكأنهم لم يسمعوا قول الله عز وجل: (فأمّا اليتيمَ فلا تَقْهَرْ) أو ما ورد في الأثر: (خير بيت في المسلمين فيه يتيم يُحسن إليه، وشر بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يُساء إليه).
وليتَ الأمر اقتصر على ذلك؛ بل كانت التهم دائماً توجه إليّ.. بالسرقة.. والفساد... وغير ذلك، في الوقت الذي كنت فيه أشد الحاجة إلى العطف والحنان واليد الرحيمة المشفقة، كنت أرى الآباء وهم يقبلون أبناءهم ويلاعبونهم، ويشترون لهم الحلوى واللُّعب والثياب الجديدة، أما أنا... فتدمع عيني، ويتقطع قلبي ألماً وحسرة.
أصبحتُ أكره كل من حولي.. انتظر اللحظة السانحة لأنتقم من الجميع.
وحين بلغتُ سن الخامسة عشرة بدأتُ التمردَ.. تلفتُّ يميناً وشمالاً فلم أجد إلا رفقاء السوء، فانخرطتُ معهم في غيهم، وتعلمتُ منهم التدخيَن والسهرَ إلى أوقات متأخرة، وعلم عمي أنني أصبحتُ مدخناً فضربني دون مفاهمة وطردني من البيت وكأنه ينتظر هذه اللحظة، فلجأتُ إلى بيت جدي لأمي حيث تقيم والدتي، ولم تكن والدتي مع اخوتها في بيت جدي أحسن حالاً مني، فقد كانوا يعاملونها هي الأخرى كالخادمة في البيت فهي التي تطبخ وتنظف وتغسل و... ولا أنسى مرة أنني دخلتُ عليها وأنا في أوج انحرافي وهي تبكي ألماً وتقول: يا بني، اعقل وعد إلى رشدك، وابحث لك عن وظيفة تنقذني بها من هذا العذاب، فلم أكن ألقي لها بالاً.(2/137)
وَعَمِلْتُ مع أخوالي في الزراعة والحرث تحت الضرب والتهديد، فضاقتْ بي الدنيا، فاقترضتُ من والدتي بعض المال، فاشتريتُ به سيارة، وتوظفتُّ في إحدى الشركات، فتعرفتُ على رفقاء جدد عرّفوني على المخدرات وأنواع أخرى من الشرور، فلما علمتْ والدتي أصابها الهمُ والحزن والمرض، وفزعَتْ إلى عمي وخالي لنصحي وإنقاذي قبل فوات الأوان، لكنهم انهالوا عليّ ضرباً وما هكذا تكون النصيحة؛ فلم أزدد إلا بعداً وتمرداً وتمادياً في الانحراف، وعرفتُ طريق الهروب من البيت، فكنتُ أقضي وقتي كله مع رفقاء السوء، ولم أعد أفرق بين الحلال والحرام، أما العقوق وقسوة القلب فقد بلغت فيها حداً لا يوصف.. وأذكر مرة أنني دخلتُ على والدتي وهي تبكي وقد أعياها المرض وشحب وجهها ـ فشتمتها، وقذفتها بكلام جارح جداً وخرجتُ، وكأن شيئاً لم يكن، أسأل الله أن يعفو عني بمنه وكرمه.. فلكِ الله يا أمي الحبيبة، ما ذنبك؟ وقد ربيتيني وأنفقتِ عليّ، وربما كانت هدايتي بسبب دعوة صالحة في جوف الليل خرجتْ من قلبك الطاهر.. (قتل الإنسان ما أكفره)
واشتهرتُ بالغناء والعزف على العود ـ وكان صوتي جميلاً ـ.. ثم بالتفحيط وما يصاحبه من أمور لا تخفى على الكثيرين حتى أُطلِقَ علىَّ لقب السفاح لكثرة الجرائم التي كنت أقوم بها، فكان لا يركب معي إلا الكبار الذين لا يخافون على أنفسهم، أما البقية فكانون يلوذون بالفرار.
ودخلتُ السجن مرات عديدة، فلما أراد الله هدايتي هيأ لذلك الأسباب؛ فقد كان لي صديق عزيز، كنتُ أحبه كثيراً، فقد كان جميل الوجه، بهي الطلعة، فلم تكن هذه المحبة في الله، بل كانت مع الله، فسألت عنه يوماً فقيل لي إنه أدخل المستشفى في العناية المركزة، وهو في حالة خطرة جداً من جرّاء حادث مروع، فانطلقتُ مسرعاً لزيارته، فلما رأيته لم أكد أعرفه؛ فقد ذهب جماله وبهاؤه، وصار منظره مخيفاً مفزعاً، فكنت كلما رأيته أبكي من هول ما أرى..!(2/138)
فلم تمض أيام معدودة حتى قيل أنه مات، فبكيتُ يومين كاملين خوفاً من الموت فكان هذا الحدث فاتحة خير لي، وكنتُ عندما أتوضأ أحس براحة نفسية عظيمة، وأتذكر الموت وسكراته وشدائده فأعزم على التوبة إلى الله قبل حلول الأجل.
وألقى الله في نفسي بعض المعاصي كلها، وحبب إليّ الإيمان والعمل الصالح، فجمّعتُ ما عندي من أشرطة الغناء والباطل وذهبتُ إلى مكتب الدعوة فاستبدلتها بأشرطة إسلامية نافعة.
أما والدتي الحبيبة فقد عدتُّ إليها، وأخذتها معي معززةً مكرمةً، وطلبت منها العفو والسماح، فبكتْ فرحاً وسروراً، وحَمِدَتِ الله عزّ وجلّ على هدايتي، فما كانت تظن أن ذلك سيحدث في يوم من الأيام.
ولكن هل تركني رفقاء السوء؟؟
كلا، بل كانوا يزورونني، ويدعونني إلى الرجوع ما كنتُ عليه في الماضي، ويقولون لي: لا توسوس، ارجع إلى الفن، أين العزف؟ أين الشهرة؟ أين... وأخذوا يذكرونني بالعود والغناء والتفحيط والأمور التي أستحي من ذكرها، بل إن بعضهم ـ والعياذ بالله ـ لم يستح أن يعرض نفسه عليّ مقابل الرجوع!! فأي ضلال أعظم من هذا الضلال؟.
ومضتْ شهور فغرني أحد السفهاء ودعاني إلى جلسة عود؛ فعزفت؛ لأني كنت حديث عهد بالتزام، وبدأتُ أضعف شيئاً فشيئاً، حتى عدتُ إلى سماع الغناء، وذات ليلة رأيت فيما يرى النائم أن ملك الموت قد هجم عليّ، فأخذتُ أذكر الله، وأحاول النطق بالشهادة، فحلفتُ بالله إن أصبحتُ حياً أن أتوب إلى الله توبة نصوحاً ولا أنصح أحداً بمفردي، لأن الأول قد غرني، فلما أصبح الصباح قمتُ بتحطيم جميع أشرطة الغناء، وقصّرتُ ثوبي، وعزمتُ على الاستقامة الحقة، وقد مضى على ذلك الآن أربع سنوات ولله الحمد والمنّة.
أما حالي بعد التوبة فإني أشعر الآن بسعادة لا يعلمها إلا الله، وقد أشرق وجهي بنور الطاعة وذهب سواده وظلمته، وأحبني من كان يبغضني أيام الغفلة، أما والدتي الحبيبة فقد شفيَتْ من جميع الأمراض ولله الحمد.(2/139)
ومما زادني فرحاً وسروراً ما أجابني به أحد العلماء حينما سألته عن ذنوبي السابقة فقال: إن الله قد وعد بتبديل سيئات التائبين حسنات، فلله الحمد والمنة الذي لم يجعل منيتي قبل توبتي..
(توبة شاب ماجن (1) :
الشباب هم عماد الأمة وذخيرتها الحية، وأملها المرتقب، ومستقبلها المنشود، لذا؛ فإن الأعداء لا يألون جهداً في تحطيم نفوس الشباب وهدم أخلاقهم بشتى السبل والوسائل..
يقول المستشرق شاتلي : (وإذا أردتم أن تغزوا الإسلام وتكسروا شوكته، وتقضوا على هذه العقيدة التي قضتْ على كل العقائد السابقة واللاحقة لها، والتي كانتْ السبب الأول والرئيس لعزة المسلمين وشموخهم، وسيادتهم وغزوهم للعالم.. إذا أردتم غزو هذا الإسلام، فعليكم أن توجهوا جهود هدمكم إلى نفوس الشباب المسلم والأمة الإسلامية؛ بإماتة روح الاعتزاز بماضيهم وتاريخهم وكتابهم: القرآن، وتحويلهم عن كل ذلك بواسطة نشر ثقافتكم وتاريخكم، ونشر روح الإباحية، وتوفير عوامل الهدم المعنوي، وحتى لو لم نجد إلا المغفلين منهم والسذج والبسطاء لكفانا ذلك، لأن الشجرة يجب أن يتسبب في قطعها أحد أغصانها..) (2) .
وما كان للأعداء أن يحققوا شيئاً لو تمسك المسلمون بدينهم وصبروا عليه، لأن الله يقول: (وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتّقُواْ لاَ يَضُرّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) [آل عمران : 120] يقول هذا التائب :
__________
(1) ) رواها أحد زملائه، وقد سمعها منه بنفسه.
(2) ) انظر: كتاب (الغارة على العالم الإسلامي).(2/140)
كنتُ في ضلال وضياع وفجور، تربيتُ كسائر الناس على طاعة الوالدين، لكني لم أكن أعرف الصلاة وكذلك سائر العبادات إلا رياءً... تعلمتُ التدخين في سن مبكرة، فكنتُ أدخن كثيراً.. لم أكن أعرف عن قضايا المسلمين شيئاً؛ اللهم إلا القضية الفلسطينية.. وعند دراستي في الجامعة تعرفتُ على شاب أبيض ذي لحية سوداء صغيرة، لا تفارق الابتسامة محياه.. لا أدري لماذا كنتُ أكرهُ هذا الشابَ وأحقد عليه.. ربما لأنه كان دائماً ينصحني، ويحثّني على ترك التدخين، وكل ما يُغضب الله..
وفي يوم من الأيام، حضر إلى الجامعة وبيده بعض المنشورات عن المجاهدين، وما أن اطلعتُ عليها حتى سَرَتْ في نفسي رعشةٌ وقشعريرةٌ لم أدرِ لها سبباً، لكنها سرعان ما زالت بعد دقائق معدودة..
وذات يوم، كان الوقت عصراً وكنتُ أستمع إلى أغنية في المذياع، وصوت المؤذن يجلجل في الآفاق منادياً لصلاة العصر، ولكن:
فلا الأذان أذان في منارته ... ... إذا تعالى، ولا الآذان آذانُ
كنتُ أنا والجدار متشابهين في القسوة والجمود وعدم الإجابة... وبعد انتهاء الأغنية، جاءت الأخبار، فأستمع إليها وإلى أخبار المسلمين في البوسنة والهرسك وما يتعرضون له من القتل والتشريد؛ فلم ألقِ لذلك بالاً.
وفي الصباح، ذهبتُ إلى الجامعة كالعادة، فقابلني أحد رفقاء السوء، وعرض عليّ (فلماً) خليعاً فأخذتُه مسروراً، وسهرتُ تلك الليلة لمشاهدته، وهكذا في كل صباح كنا نتبادل هذه الأفلام المدمرة بيننا في الجامعة وللأسف الشديد..!! فكيف يمكن للمسلمين أن يتقدموا على أعدائهم وهذا حال شبابهم.
وجاء اليوم الموعود، فإذا بذلك الشاب الذي كنتُ لا أطيقه يأتيني ويقول لي: هل تريد فلماً؟ فقلتُ له متعجباً: أعندك؟!.. قال: نعم. قلتُ: هات.
وأخذتُ الفلم، وفي الوقت الذي كنتُ أقضيه في السهر لمشاهدة تلك الأفلام؛ سهرتُ على هذا الفيلم الجديد الذي لا أدري ما محتواه.. كنتُ أظنه كتلك الأفلام التي أعرفها.. ولكن كانت المفاجأة.(2/141)
تسجيلات قرطبة الإسلامية تقدم:
الصليب يتحدى
كان هذا هو عنوان الشريط..
ثم توالت بعد ذلك الصور المفزعة.. دماء... أشلاء.. أجساد ممزقة.. أعضاء متناثرة... نساء ثكالى.. أطفال حيارى... دمار وخراب....
أحلَّ الكفر بالإسلام ضيماً ... يطول به على الدين النحيب
فحق ضائع وحمىً مباح ... وسيف قاطع ودمث صبيبُ
وكم من مسلم أمسى سليباً ... ومسلمة لها حرمُ سليب
وكم من مسجد جعلوه ديراً ... على محرابه نُسب الصليب
أمور لو تأملهن طفل ... لطفل في مفارقه المشيبُ
أتسبى المسلماتُ بكل ثغر ... وعيش المسلمين إذاً يطيبُ
أما لله والإسلام حقُ ... يدافع عنه شبان وشيبُ
فقل لذوي البصائر حيث كانوا ... أجيبوا الله ويحكم.. أجيبوا
لم أتمالك نفسي من البكاء.. أحسستُ برعشة تسري في أوصالي.. كنتُ أتخيل نفسي واحداً من هؤلاء، وقد ذُبحت من الوريد إلى الوريد، ورُسم على صدري الصليب.. يا إلهي.. ألهذه الدرجة بلغ الحقد الصليبي على هؤلاء الغُزّل، لا لشيء.. إلا لأنهم مسلمون..؟؟!! (وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد).
لم أنم تلك الليلة من شدة الخوف.. استلقيتُ على فراشي وأنا لا أدري ماذا أصنع.. نظرتُ من حولي، فإذا بضوء القمر الخافت قد تسرب من خلال النافذة، وألقى بأشعته الفضية على طاولة مكتبي الذي أذاكر عليه.. وإذا بي ألمح مصحفي القديم الذي تقطعتْ بعض أوراقه من الإهمال.. فأسرعتُ إلى أخذه وبدأتُ أقرأ فيه حتى وصلتُ إلى آية الكرسي من سورة البقرة.. (الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم..) فتوقفتُ عن القراءة ثم انهمرتْ عيناي بالدموع، فلم أتوقف عن البكاء إلا على صوت المؤذن وهو يجلجل في الآفاق.. (.. الله أكبر.. الله أكبر..) .. فقمتُ مسرعاً، وذهبتُ إلى المسجد خائفاً ترتعد فرائصي.. فدخلتُ دورة المياه، فوجدتُ شيخاً كبيراً يتوضأ، فطلبتُ منه أن يعلمني الوضوء والصلاة، وكانت تلك الحادثة هي نقطة التحول في حياتي..(2/142)
(توبة مُعاكِسة (1) :
إنّ المعاكسات التي تحدث بين الجنسين لهي من أعظم البلايا وأخطرها على الفرد والمجتمع ، وما أكثر ضحايا هذه المعاكسات من الجنسين ، وبخاصّة النساء ، ولنستمع إلى هذه التائبة لتروي لنا تجربتها المرّة مع هذه المعاكسات .. تقول :
تزوجت في سنّ مبكرة ، وكنت مخلصة لزوجي غاية الإخلاص ، حتّى كنت معه كالطفلة المدلّلة ، أفعل كلّ ما يأمرني به ، على الرغم من أنّي نشأت في أسرة ثريّة كنت فيها أُخدَم ولا أَخدِم ، كان أبي قد طلّق أمّي فتزوّجتْ بغيره ، وتزوّج هو بغيرها ، فكان من نتائج ذلك أن فقدت حنان الأمّ، كما فقدت التوجيه السليم .
كان زوجي يذهب لزيارة أهله في كل أسبوعين فيمكث يومين ، فأنتهزها فرصة للذهاب إلى بيت عمّي القريب من بيتنا ، فكنت أجد من زوجة عمّي حناناً غريباً ، وعطفاً زائداً حيث كانت تعطيني كل ما أطلب ، لكنّها لم تكن مستقيمة ، فقد كانت تذهب بي إلى الأسواق ، وإلى هنا وهناك ، وتفعل أشياء مخلّة بالأدب لا ترضي الله تعالى ، فسرت على نهجها ، والصاحب ساحب كما يقولون ، ومن تلك اللحظات تغيّرت الفتاة الوديعة الغافلة إلى فتاة مستهترة متمّردة على كل من حولها ، كانت زوجة عمّي ـ هداها الله ـ دائماً تغريني بأنّ خروج المرأة من بيتها حريّة ، ورفع صوتها للحصول على مطالبها أفضل وسيلة ، فصرت أستهزئ بكل من يذكّرني بالله أو يدعوني إليه .. ألهو كما أشاء ، وألعب كما أحبّ على الرغم من أنّي زوجة ، ولي أولاد ، لكنّي لم أكن أبالي ، ولم يقف الأمر عند هذا ، بل رحت أجمع حولي صديقات سيئات الأخلاق ، كن دائماً يدعونني إلى الحفلات والأفراح ، والخروج إلى الأسواق بلا سبب يُذكر ، وبما أنّي كنت أكثرهن ذكاء وجمالاً وتمرّداً ، وأقلهن حياءً ، كنت أنا الزعيمة .
وأدهى من ذلك أنّني كنت أعتقد في السحر، وأستعين بالمشعوذين مع خطورة ذلك على العقيدة.
__________
(1) - كتبتها لي بنفسه .(2/143)
وفي يوم من الأيام جاءتني امرأة من نساء الجيران ، ولم أكن أهتمّ بمن يسكن حولي ، ولا أحبّ الاختلاط بهم ، ولكنّ هذه المرأة تعلّقت بي ، وأصّرت على زيارتي ، وبما أنّها كانت صالحة وملتزمة فقد كرهت الجلوس معها ، وكنت دائماً أحاول الهروب منها ، لكنّها كانت لا تيأس ، وتقول لي : لقد صلّيت صلاة الاستخارة (1) . هل أنزل عندك مرّة أخرى أم لا ، فيقدّر الله لي النزول ورؤيتك .
ومرّت الأيام ـ حوالي الشهرين ـ مرّة تكلّمني ، ومرّات لا تستطيع أن تقابلني ، وكانت تذهب كلّ يوم بعد العصر لتعلّم النساء القرآن في المسجد المجاور لنا ، وكلّما رآها زوجي دعا الله أن أكون مثلها ، وكانت هي تدعوني إلى الذهاب معها إلى المسجد ، ولكنّي كنت أعتذر بأعذار واهية ، حتى لا أذهب ، وكانت دائماً تقول لي : إنّي والله أقوم من الليل أصلي ، فأدعو الله لكِ بالهداية ، وعند ما أتقلّب في فراشي أذكرك فأدعو الله لكِ ، وذلك لما تفرّسَتْه فيّ من الذكاء ، وقوّة الحجّة ، وفصاحة اللسان ، والقدرة على جذب الناس حولي .
وجاء يوم ذَهَبَتْ فيه خادمتي إلى بلدها ، وكنت بانتظار مجيء أخرى ، فجاءتني جارتي وأنا منشغلة ببعض أعمال البيت ، فاقترحت عليّ الاستغناء عن الخادمة ، وكان موعد قدومها عصر ذلك اليوم ، فقدر الله عزّ وجل أن يتأخّر قدومها أسبوعاً كاملاً ، فكانت جارتي تأتيني فتجدني في البيت ، فتساعدني في بعض الأعمال ، وتُسرّ بي سروراً كبيراً ، وكنت أنا في الوقت نفسه قد أحببتها، ورأيتها امرأة مرحة، لا كما كنت أتصوّر ، فإنّ زوجي من الملتزمين ، ولكنّه كان دائماً عابس الوجه ، مقطّب الجبين ، فكنت أظن أنّ ذلك هو دأب الملتزمين جميعاً ، حتّى رأيت هذه المرأة وعاشرتها ، فتغيّرت الصورة التي كانت في ذهني عن الملتزمين .
__________
(1) - صلاة الاستخارة من أعظم أسباب التوفيق والبركة وتيسير الأمور .(2/144)
وبعد ذلك بأيام توفيت قريبة لي ، فذهبت للعزاء ، فإذا امرأة كانت تتكلّم عن الموت ، وما يجري للإنسان عند موته بدءاً من سكرات الموت وخروج الروح ، ومروراً بالقبر وما فيه من الأهوال والسؤال ، وانتهاءً بدخول الجنّة أو النار .. عندها توقفت مع نفسي قائلة .. إلى متى الغفلة ، والموت يطلبنا في كل وقت وفي كل مكان ، وفكّرت .. وفكرت ، فكانت هذه هي البداية ، وفي صباح اليوم التالي وجدت نفسي وحيدة ولأول مرة أحس بالخوف .. فقد تذكرت وحدة القبر وظلمته ووحشته ، فكنت ألجأ إلى جارتي المخلصة لتسليني ، فكانت تجيء إليّ بالكتب الوعظية النافعة ، فكنت عند ما أقرأها أحسّ وكأنّني أنا المخاطبة بما فيها ، خاصّة فيما يتعلّق بمحاسبة النفس ، وظللت أقرأ وأقرأ حتّى شرح الله صدري للهدى والحقّ ، وذقت طعم الإيمان ، عندها أحسست بالسعادة الحقيقيّة التي كنت أفتقدها من قبل ، وتغيّرت نظرتي للحياة ، فلم أعد تلك الإنسانة اللاهية العابثة المستهترة ، وابتعدت عن رفيقات السوء ، وكرهت الأسواق ، بل كرهت الخروج من المنزل إلّا لحاجة أو ضرورة ماسّة ، والتحقت بدار الذكر لتحفيظ القرآن الكريم ، وهذا كلّه بفضل الله ثمّ بفضل الصحبة الصالحة ، والدعوات المخلصة بظهر الغيب من جارتي وزوجي ، ولله الحمد والمنّة .
(توبة فتاة من شرك المعاكسات (1) :
تقول هذه الفتاة :
__________
(1) - كتبتها لي بنفسها .(2/145)
أنا فتاة في الخامسة عشرة من عمري : كنت أعيش حياتي بشكل طبيعي ، سواء الأسرية أو الاجتماعية أو المدرسيّة ، وقد تجاوزت المرحلة الابتدائية – ولله الحمد – بخير وسلام ، ولم أتأثّر بشيء كان يحصل آنذاك ، وأظنّ أن السبب في ذلك هو صغر سنّي ، وعدم فهمي للحياة على حقيقتها ، فما بدأت حياة الضلال والتخبط والجهل إلا في المرحلة المتوسطة ، كنت أضل يوماً بعد يوم بشكل غير واضح ، ودون أن أشعر بذلك ، كانت البداية بعض المعاصي الصغيرة التي لا يعاقب عليها الشرع بشدة ، إلى أن وقعت في ذنب كبير أحسست بأن نفسي قد احترقت بسببه ، وكانت الخطوة الأولى مكالمة هاتفية من مجهول ، كنت في تلك الليلة وحدي في غرفتي أذاكر دروسي ، أختي كانت نائمة ، وأخي كان في مدينة أخرى ، ووالدي غير موجود ، أما والدتي فلم يكن همّها إلا حضور المناسبات والحفلات والتجمّعات النسائية ، مما شغلها عن أمور بيتها ، المهم أنني كنت وحدي أذاكر دروسي في جو من الهدوء والسكينة والطمأنينة ، وكنت حقاً أذاكر رغبة في طلب العلم ، والله يعلم ما في نفسي ..
وفجأة ... رنّ جرس الهاتف .. ولم يكن أمامي إلا أن أردّ عليه ، فليس في البيت غيري وأختي النائمة ، فإذا بصوت ذئب من ذئاب البشر ينبعث من سماعة الهاتف ، يخاطبني بأرق عبارة ، لم أعتد ذلك قط ، لذا شعرت بشيء من الخوف والرهبة تسري في أوصالي ، حتى لو كان غرض ذلك المتكلم شريفاً .
قال لي : أهذا بيت فلان ؟ قلت : لا .. النمرة خطأ .. وهو يعلم أن النمرة خطأ ، حتى صارحني بذلك ، ثم طلب مني أن أكلمه .. فقلت له : وماذا تريد ؟ قال أريد التعرف عليك ! .
في البداية رفضت هذا الأمر بشده ، فأنا لم أعتد هذا النوع من المكالمات ، ولم أجرّبها من قبل ، مع أن بعض زميلاتي في المدرسة كن قد جرّبنها كثيراً ! حتى إنّي كنت أتحاشى الجلوس معهن ، وما كنت أظن أنني في يوم من الأيام سأصبح واحدة منهن ..(2/146)
إحداهن كانت تدرس معي في نفس الفصل .. أخبرتها بالأمر طالبة المشورة ـ و بئس المستشار ـ فلم تتردد في تشجيعي في السير في ذلك الطريق بكل عزم وإصرار ، لا سيّما وأن هذا الأمر بالنسبة لها شيء هيّن ، أما أنا فهو عندي شيء غريب لا أعرفه ، ولم أجرّبه قط في حياتي .. الشيء الغريب الذي أستغربه من نفسي هو : كيف أنّني استمعت إلى نصائحها الشيطانية ، مع أني أخاف هذا النوع من المكالمات الهاتفية خوفاً شديداً .. حقاً إنه شيء غريب .. لا أدري أين ذهب عقلي آنذاك .. لقد نسيت مراقبة الله لي ، بل لقد نسيت نفسي ، حتى غاب عني الشعور بالخوف من الله ، وزالت عني الرهبة من تلك المكالمات فأصبحت وكأنها شيء لا حرج فيه ، أو كما صورته لي صديقتي أنه مجرد لهو ، وتسلية ، وتنفيس عن النفس !! ، ونسيت المصادر الأساسية الواجب تحكيمها ، كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، كل ذلك غاب عني في تلك اللحظات ، وبما أنني قد عرفت أن هذا الشيء منتشر بين الشباب والفتيات ، قلت في نفسي : ولِمَ لا أجرّب ذلك ، فربما أجد فيه السعادة التي أبحث عنها .. .
وبالفعل .. بدأت علاقتي الهاتفية مع ذلك الشابّ ( الذئب ) ، فكنت في كل صباح أنقل لزميلتي في المدرسة كل ما يجري بيني وبينه من أحاديث وأحداث ، فكانت تشجعني ، وترشدني إلى بعض الأقوال والتصرفات ، وأنا أنقل له على لساني ما كانت تقول لي ، حتى إني بعد توبتي وتذكري لتلك الأيام شعرت وكأني كالبلهاء أسمع كلامها ، أو كالخاتم في يدها تديره كيف شاءت ..(2/147)
وفي يوم من الأيام ، وأثناء ما كنت أحكي لصديقتي ما دار بيني وبين ذلك الشاب من حوار ليلة أمس ، سمعتني إحدى صديقاتي الصالحات ، فامتعض وجهها ، وحاولت نصحي ، وإبعادي عن تلك الصديقة ، كنت في بعض الأحيان أشعر بشيء يشدني ويدفعني إلى سماع نصائحها وتصديقها ، لكن تأثير صديقة السوء كان أقوى ، فما كان من تلك الأخت الفاضلة ـ بعد أن عجزت عن تقويمي ـ إلا أن أخبرت أختي التي تكبرني في السن ، وتفوقني خبرة في الحياة ، ومن رحمة الله بي أن أختي هذه كانت من النوع الذي يحافظ على الأسرار ويكتمها ، فرأت أن تنصحني قبل أن تخبر أبي وأمي ، فكانت تقص عليّ بعض القصص التي تبين أضرار هذه المكالمات ومخاطرها ، إلا أن لم أكن أصدق ذلك ، فقد كانت تلك الصديقة ( صديقة السوء )) تقف هي والشيطان حاجزاً منيعاً يحول دون وصول صوت أختي إلى أذني أو بالأصح إلى قلبي ، إلا أن أختي لم تيأس من صلاحي ، فكانت تبذل قصارى جهدها لإنقاذي من الحفرة التي وقعت فيها ، والتي حفرها لي شياطين الإنس ، والعناد إلى أن جاءت لحظة الهداية ، كانت قاسية جداً ، بل كانت فاضحة .. ففي يوم من الأيام .. وبينما كنت مشغولة بمكالمة ذلك الشيطان الإنسي إذ بأخي الأكبر الذي عاد من سفره يستمع إلى المكالمة بكل إنصات .. يا للفضيحة .. في تلك اللحظة شعرت بأنني قد انتهيت فعلاً .. ذبت خوفاً وخجلاً .. لا أكون كاذبة إذا قلت إن ذلك الشعور ليس خوفاً من أخي وردة فعله ،أو إخباره لأهلي ، إنما كان ذلك خوفاً من الله عز وجل وحياء منه ، وندماً على تلك الأيام التي ضيّعتها في غير طاعة الله عز وجل ، وشغلتها بالمعاصي والذنوب ..
المهمّ أنّني بعد تلك الحادثة عزمت على التوبة النصوح ، وترك كل ما يخدش ويجرح إسلامي ، وإيماني ، والعمل على ما يرضى الله دائماً ، والشعور بمراقبته في كل أمر وحين .
وإنّي أعتقد أن من أسباب ضلالي وانحرافي ما يلي :(2/148)
أولاً : سنّ المراهقة ، فلا شك أن هذا السن يساعد على الانحراف ، لا سيما في غياب التوجيه السليم ، والقدوة الحسنة ..
ثانياً : رفقاء السوء، وكما في المثل ( الصاحب ساحب ) ، يسحبك إلى ما هو عليه من خير أو شر ، ويجعلك مثله .
ثالثاً : انشغال الأهل عن أولادهم ، وإهمال مراقبتهم ومصاحبتهم ، وهذا ما حدث لي تماماً ، لولا ما حصل من أخي وأختي جزاهما الله خيراً ..
وأخيراً فإني أحمد الله عز وجل على هدايته لي بعد الضلال الكبير الذي عشته ، وانحرافي عن الصراط المستقيم ، ولو أن النهاية كانت قاسية ومؤلمة كما يظهر لبعض الناس ، لكنها أفضل من قسوة وعقوبة الآخرة ..
هذه نماذج لبعض أحوال التائبين ، وما وجدوه من الأنس والنعيم والطمأنينة لما أقبلوا على الله، وآثروا محابه عز وجل .
ولا عجب في ذلك؛ لأنه لا نعيم ولا أنس إلا بالله، وبمحبته، والإقبال عليه.
[*](قال ابن القيم رحمه الله تعالى : وأما محبة الرب سبحانه فشأنها غير الشأن؛ فإنه لا شيء أحب إلى القلوب من خالقها وفاطرها؛ فهو إلهها، ومعبودها، ووليها، ومولاها، وربها، ومدبرها، ورازقها، ومميتها، ومحييها؛ فمحبته نعيم النفوس، وحياة الأرواح، وسرور النفس، وقوت القلوب، ونور العقول، وقرة العيون، وعمارة الباطن؛ فليس عند القلوب السليمة والأرواح الطيبة، والعقول الزاكية أحلى، ولا ألذ، ولا أطيب، ولا أسرَّ، ولا أنعم من محبته، والأنس به، والشوق إلى لقائه.
والحلاوة التي يجدها المؤمن في قلبه فوق كل حلاوة، والنعيم الذي يحصل له بذلك أتم من كل نعيم، واللذة التي تناله أعلى من كل لذة (1) .
(إلى أن قال: ووجدان هذه الأمور وذوقُها هو بحسب قوة المحبة وضعفها، وبحسب إدراك جمال المحبوب، والقرب منه، وكلما كانت المحبة أكمل، وإدراك المحبوب أتم، والقرب منه أوفر_كانت الحلاوة، واللذة، والسرور، والنعيم أقوى.
__________
(1) إغاثة اللهفان ص 567.(2/149)
فمن كان بالله سبحانه وأسمائه، وصفاته أعرف، وفيه أرغب، وله أحب، وإليه أقرب وجد من هذه الحلاوة في قلبه ما لا يمكن التعبير عنه، ولا يعرف إلا بالذوق والوجد.
ومتى ذاق القلب ذلك لم يمكنه أن يقدم عليه حباً لغيره، ولا أنساً به.
وكلما ازداد له حباً ازداد له عبودية، وذلاً، وخضوعاً ورقَّاً له وحرية عن رق غيره (1) .
(إلى أن قال: وما من مؤمن إلا وفي قلبه محبة لله تعالى وطمأنينة بذكره، وتنعم بمعرفته، ولذة وسرور بذكره، وشوق إلى لقائه، وأنس بقربه، وإن لم يَحُسَّ به؛ لاشتغال قلبه بغيره، وانصرافه إلى ما هو مشغول به؛ فوجود الشي غير الإحساس والشعور به (2) .
(إلى أن قال : إذا عرف هذا فالعبد في حال معصيته واشتغاله عنه بشهوته ولذته تكون تلك اللذة والحلاوة الإيمانية قد استترت عنه، وتوارت، أو نقصت، أو ذهبت؛ فإنها لو كانت موجودة لما قدم عليها لذة أو شهوة (3) .
(توبةُ الأمة :
إن الأمة تمر بأحوال غريبة، وأهوال عصيبة، فالخطوب تحيط بها، والأمم من كل مكان تتداعى عليها .
وإن مما يلفت النظر في هذا الشأن غفلة الأمة عن التوبة؛ فإذا تحدث متحدثٌ عن التوبة تبادر إلى الذهن توبة الأفراد فحسب، أما توبة الأمة بعامة فقلَّ أن تخطر ببال أو تدور في الخيال ، وهذا ضربٌ من الخبال ، بل هو من السفه والضلال لأنه يجمع بين سوء الحال وقبح الفِعال .
وهذا من الأخطاء في باب التوبة؛ ذلك أن سنته عز وجل في الأفراد، وفي مغفرته للتائبين وعفوه عن المذنبين هي سنته سبحانه في الأمم والشعوب.
__________
(1) إغاثة اللهفان ص 567.
(2) إغاثة اللهفان ص 568.
(3) إغاثة اللهفان ص 568.(2/150)
فالأمة التي تعود إلى طريق الرشاد، وتَصْدُق في التوبة والإنابة إلى رب العباد يفتح الله لها، ويرفع من شأنها، ويعيدها إلى عزتها ومجدها، وينقذها من وهدتها التي انحدرت إليها، وينجيها من الخطوب التي تحيط بها؛ نتيجة الذنوب التي ارتكبتها، والمنكرات التي أشاعتها من شرك، وبدع، وحكم بغير ما أنزل الله، وموالاة لأعداء الله، وخذلان لأوليائه، وتقصير في تبليغ دعوة الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتركٍ للصلوات ونحو ذلك مما هو مؤذن بالعقوبة، وحلول اللعنة كالربا والفسوق، والمجون، ونقص المكاييل وغير ذلك.
فإذا تابت إلى ربها متعها الله بالحياة السعيدة، وجعل لها الصولة والدولة، ورزقها الأمن والأمان، ومكن لها في الأرض .
قال تعالى :(وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً ) [النور: 55]
وإذا أردت مثالاً على توبة الأمة من القرآن الكريم فانظر إلى قوله تعالى : ( فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ) [يونس: 98]
وهؤلاء القوم الذين ذكروا في هذه الآية هم قوم يونس
عليه السلام وقريتهم هي نينوى التي تقع شرقي مدينة الموصل في شمالي العراق.(2/151)
ومعنى الآية كما يقول المفسرون : أن قوم يونس عليه السلام لما أظلهم العذاب، وظنوا أنه قد دنا منهم، وأنهم قد فقدوا يونس _ قذف الله في قلوبهم التوبة، وفرقوا بين كل أنثى وولدها، وعَجُّوا إلى الله أربعين ليلة أي رفعوا أصواتهم بالتلبية والدعاء فلما علم الله منهم صدق التوبة كشف عنهم العذاب، وقال: (وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ) [يونس: 98]
أي لم نعاجلهم بالعقوبة، فاستمتعوا بالحياة الدنيا إلى حين مماتهم وقت انتهاء أعمارهم.
فما أحوج أمتنا اليوم أن تعج إلى الله منيبة تائبة، ليرضى عنها، ويرفع عنها ما هي فيه من الذلة، والمهانة، والخيبة، والتبعية لأعدائها.
(هذا ومما يجب على الأمة في توبتها زيادة على ما مضى ما يلي :
(1) التوبة من الإسراف:
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ
فالإسراف نذير شؤم، ومؤذن هلاك؛ فهو يفضي إلى الفاقة، وينزل بأهله إلى طبقة المقلين أو المعدمين ، والإسراف في الترف ينبت في النفوس أخلاقاً مرذولة من نحو الجبن، والجور، وقلة الأمانة، والإمساك عن البذل في وجوه الخير.
أما أن الإسراف في الترف يدعو إلى الجبن فلأنَّ شِدَّةَ تعلق النفوس بالزينة واللذائذ يقوِّي حرصها على الحياة، ويحملها هذا الحرصُ على تجنب مواقع الحروب، وإن كانت مواقف شرف وذود عن الدين، والنفس، والمال، والعرض.
وأما أن الإسراف في الترف يسهل على النفوس ارتكاب الجور فلأن المنغمس في الترف يحرص على اكتساب المال ليشبع شهواته، فلا يبالي أن يأخذه من طرق غير مشروعة، فيمد يده إلى الاستيلاء على ما في يد غيره من طريق الرشوة، أو من طريق الغصب إن كان ذا سلطان وقوة .
وأما أنه يَذْهَبُ بالأمانة فلأن الغريق في الترف إنما همُّه الوصولُ إلى زينة أو لذة، أو مطعم ونحوه كثيراً ما تدفعه هذه الشهوات إلى أن يخون من ائتمنه، فيمد يده إلى المال الذي ائتُمن عليه، وينفقه في شهواته الطاغية.(2/152)
وأما أنه يمسك الأيدي عن فعل الخير فلأن من اعتاد الترف حتى أخذ بمجامع قلبه كان أعظم قصدِه من جمع المال إنفاقَه فيما يَلَذُّه من مأكول، أو يتزين به من نحو ملبوس أو مفروش ، لذلك كان الغالبُ على المترفين المسرفين قبضَ أيديهم حيث بسط غيرهم يده؛ إسعاداً لذوي الحاجات من الفقراء والمنكوبين، أو إجابة لما تدعو إليه المروءة والمكارم.
ومن هنا نستبين أن للإسراف سيئةً أخرى هي قطع صلة التعاطف والتوادد بين كثير من أفراد الأمة.
ولهذا تجد من الموسرين المترفين من ينفق الأموال الطائلة في سبيل لذَّاته وشياطينه، وإذا سئل بذل القليل في مشروع جليل أعرض ونأى بجانبه.
هذا وللإسراف في الترف أثر كبير في إهمال النصيحة والدعوة إلى الحق؛ ذلك أن من اعتاد التقلب في الزينة، وألفت نفسُه العيش الناعم_ يغلب عليه الحرص على هذا الحال؛ فيتجنب المواقف التي يمكن أن تكون سبباً لفوات بعض النعيم.
وللإسراف أثر في الصحة؛ فقد دلت المشاهدات على أن المسرف في نحو المأكل والمشرب لا يتمتع بالصحة التي يتمتع بها المقتصدون فيما يأكلون ويشربون.
والإسراف في الترف يقل معه النبوغ في العلم؛ ذلك أن النفس المحفوفة بالرفاهية من كل جانب يضعف طموحها إلى اللذات العقلية؛ لأنها في لذة قد تشغلها أن تطلب لذة كلذة العلوم طلباً يبلغ بها مرتبة العبقرية.
ومن الجلي أن مرتبة العبقرية لا تُدْرك إلا باحتمال مصاعب، واقتحام أخطار، والمسرفُ في الترف ضعيف العزيمة لا يثبت أمام المكاره والشدائد.
هذه بعض مضار الإسراف؛ فحق الأمة التي تريد النهوض من كبوتها أن تقلع عن الإسراف في الرفاهية، وتضع مكان الإسراف بذلاً في وجوه البر والإصلاح؛ فمما تشكو منه الأمة إطلاق الأيدي بإنفاق المال في غير جدوى، وتدبير المال على غير حكمة وحسن تقدير.(2/153)
قال العلامة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي : إن أمة تنفق الملايين في الشهر على القهوة والدخان، وتنفق مثلها على المحرمات، وتنفق مثلها على البدع الضارة، وتنفق أمثال ذلك كله على الكماليات التي تنقص الحياة ولا تزيد فيها، ثم تدَّعي الفقر إذا دعاها داعي العلم لما يحييها لأمة كاذبة على الله، سفيهة في تصرفاتها .
(وقال أيضاً :المال الذي تنفقه في المحرمات يسوقك إلى النار، والمال الذي تبدده في الشهوات يجلب لك العار، والمال الذي تدخره للورثة الجاهلين تهديه إلى الأشرار، وتبوء أنت بالتبار والخسار.
أما المال الذي تحيي به العلم، وتميت به الجهل فهو الذي يتوجك في الدنيا بتاج الفخار، وينزلك عند الله منزلة الأبرار.
ولا يعني التحذير من الإسراف في الترف أن يكون الناس على سنة واحدة من الإعراض عن الزينة والملاذِّ؛ فقد قال تعالى :( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ ) [الأعراف: 32]
وإنما المقصود من ذلك الدعوةُ إلى أخذ النفوس بالاقتصاد، وحمايتها من الإفراط في الزينة واللذيذ من العيش .
ولهذا سلكت هداية القرآن الكريم بالناس هذا الطريق القويم، وهو طريق الاقتصاد؛ فبعد أن أمر في آيات كثيرة بالإنفاق في وجوه الخير نهى عن الإسراف نهياً بالغاً، فقال
تعالى : (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً ) [الإسراء: 29]
وألحق المبذرين بقبيل الشياطين فقال تعالى (إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ )[الإسراء: 27]
وَعَدَهُمْ في زمرة من يستحقون بغضه فقال عز وجل : (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) [الأعراف: 31](2/154)
وأثنى على عباده المؤمنين بفضيلة الاقتصاد فقال: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً ) [الفرقان: 67]
وإذا كان الإسراف يوقع الأفراد والجماعات في مضارّ كثيرة كان واجباً على أولياء الأمور ودعاة الإصلاح أن يتعاونوا على الجهاد في هذا السبيل؛ حتى يبتعد الناس عن الإسراف في مآكلهم، ومشاربهم، وملابسهم، ومراكبهم، ومساكنهم، وأمتعة بيوتهم.
وحين يُحذَّر من عواقب الإسراف، ويُدعى إلى الاقتصاد يبين أنه لا فضيلة في الاقتصاد إلا بعد أن يؤدي الرجل حق المال من نحو النفقات الواجبات عليه لأقاربه، والزكوات المفروضة لأهلها، وبعد أن يبسط يده بالإعانة على بعض المصالح العامة كإنشاء مساجد، أو مدارس، أو مستشفيات، أو ملاجىء، أو إعداد وسائل الاحتفاظ بسيادة الأمة والدفاع عن حقوقها.
(2) التوبة من التبعية الثقافية والفكرية:
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
إنَّ مما يؤسف عليه، ويندى له جبين الحق ما يُرى من حال كثير من مثقفينا ومفكرينا؛ فلا تراهم يرفعون بالإسلام رأساً، ولا يَهُزُّون لنصرته قلماً، ولا يحفلون إلا بزبالة أفكار الغرب، ولا يثقون إلا بما يصدر من مشكاته.
إن كثيراً من هؤلاء الذين تخرجوا في المؤسسات الحضارية الغربية، وعاشوا في المجتمعات الإسلامية يجهلون الإسلام جهلاً كاملاً.
ولا يعني ذلك الجهل أنهم لم يسمعوا بالإسلام، أو أنهم لم يحفظوا في صغرهم شيئاً من الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة، أو أنهم لم يسجدوا لله يوماً من الأيام سجدة، أو لم يعرفوا أخبار رسول الله"وصحابته الكرام رضوان الله عليهم .
لا، ليس الأمر كذلك، وإنما المقصود أن هؤلاء يجهلون نظرة الإسلام إلى الكون، والحياة، والإنسان.
ويجهلون حقائق الإسلام، وشرائعه الحكيمة، ومقاصده النبيلة.
ويجهلون قيم الإسلام،ومُثُلَه،وأخلاقه، وخصائص حضارته، وتطوراتها، ومراحلها.(2/155)
ويجهلون أسباب تقدم المسلمين في التاريخ، وأسباب تأخرهم.
ويجهلون القوى التي حاربتهم، والمؤامرات التي نسجت عبر التاريخ للقضاء عليهم.
فهؤلاء الذين نسميهم مثقفين ومفكرين عندما واجهو الغرب، وحضارته، وفنه، وأدبه لم يواجهوه إلا بعقولٍ خواء، وأفئدةٍ هواء، ونفوس مجردة من معاني الأصالة والعزة والأنفة؛ فلم يواجهوا الحضارة الحاضرة مواجهة مدركة، فاحصة، مقوّمة.
وإنما واجهوها مواجهة سطحية تنطلق من مواطن الجهل، والذلة، والشعور بالهزيمة، فانبهروا بكل ما فيها دونما تمييز بين الحق والباطل، والضار والنافع؛ فنكسوا رؤوسهم حِطَّةً أمام الغرب.
ولهذا تراهم يَهُشُّون ويطربون إذا ذكر اسم فرويد، أو نيتشه، أو ت. إس إليوت، أو ماركيز، أو غيرهم من مفكري الغرب على اختلاف توجهاتهم ومدارسهم الفكرية.
وإذا ذكر الله ورسوله اشمأزت قلوبهم، واستولى عليهم الشعور بالهزيمة والذلة.
ومن هنا فإن مثقفينا في فروع الحياة كلها إلا من رحم ربك قد نقشوا ما عند الغربيين، وظنوا أنه لا ثقافة إلا ثقافتهم، ولا أدب إلا أدبهم، ولا واقع إلا واقعهم؛ فهم جهلوا الإسلام وحضارته، وعرفوا كل شيء عن الغرب .
وأكثر هؤلاء لا يتبرؤون من الإسلام، بل يصرحون بانتمائهم للأمة الإسلامية.
ولكنهم يفهمون الإسلام من إطار المفهوم الغربي للدين.
والمفهوم الغربي للدين يتلخص في أن الدين عبارة عن رابطة فردية خاصة بين الإنسان وربه؛ فالإنسان يؤمن بمجموعة من القيم والأخلاق التي يستقيها من إيمانه بالله، تصوغ شخصيته، وتجعل منه إنساناً اجتماعياً يستقيم سلوكه العام في إطار الإيمان الديني.
أما الحياة بشمولها فإنها في نظرهم لا بد أن تخضع لحركة العقل المتغير عبر الزمان والمكان.(2/156)
[*](يقول الدكتور محسن عبدالحميد_ أحد علماء العراق _ : من خلال عشرات المواقف الأليمة جداً التي مرت في حياتي التدريسية، والتي أثبتت لي بشكل قطعي هذا الجهل العام بين كثير من مثقفينا للإسلام أروي الحوادث الآتية:
(في محاضرة عامة لاقتصادي مسلم استعرض المذاهب الاقتصادية كلها منذ أقدم العصور إلى العصر الحديث في مختلف الملل والنحل، ولم يتطرق إلى الإسلام أو حضارته في مجال الاقتصاد منهجاً وعلماً.
فلما سُئل عقب انتهاء المحاضرة عن سبب ذلك قال بالحرف الواحد: أنا متأسف؛ لأنني لا أعرف عن وجهة نظر الإسلام في هذا الموضوع شيئاً.
ولما أهدي له فيما بعد كتاب حول أحكام الاحتكار في الفقه الإسلامي تعجب كثيراً، وذكر أنه لم يكن يظن أن الفقهاء بحثوا مثل هذه الموضوعات.
(وحضرت مرة مناقشة رسالة علمية في الفقه الجنائي الإسلامي مقارناً بالفقه الجنائي الغربي استغرب مناقش قانوني في اللجنة أن يكون فقهاء المسلمين قد ناقشوا بعمق نظرية قانونية كان هو يعتقد أنها نظرية غربية صِرْفة.
(وكنا نتناقش يوماً في غرفة الأساتذة حول وضع المرأة في الإسلام؛ فانبرى أحد المختصين في علم الاجتماع فقال: إن الإسلام ظلم المرأة عندما جعل الرجل قوَّاماً عليها.
فلما سألناه: ما المعنى اللغوي للقوامة في الآية الكريمة حتى نحدد موقفنا منه تلعثم ولم يعرف معناها.
فقال له أحدنا: كيف تصدر يا أستاذ هذا الحكم الظالم على الإسلام وأنت لا تعرف معنى القوامة؟
ثم إن نظرة كثير من أولئك تجاه المسلمين وقضاياهم هي هي نظرة الغرب؛ فالغرب يرى أن الإسلام دين قسوة وهمجية، وأن أهله قساة عتاة أجلاف غلاظ الأكباد.
وينطلي هذا الهراء على كثير من أولئك المثقفين، فيسايرون أعداءهم، ويسيرون في ريحهم، وما علموا أن الإسلام دين العدل والرحمة، وأن أمة الإسلام خير أمة أخرجت للناس.(2/157)
وما الحسام الذي يأمر الإسلام بانتضائه للجهاد في سبيل الله إلا كمبضع طبيب ناصح يشرط به جسم العليل؛ لينزف دمه الفاسد؛ حرصاً على سلامته.
وما الجهاد دفعاً كان أو طلباً إلا تخليص للعباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ، وما هو إلا وسيلة للحياة الكريمة العزيزة الطيبة.
وأمة الإسلام خير أمة جاهدت في سبيل الله فانتصرت، وغلبت فرحمت، وحكمت فعدلت، وساست فأطلقت الحرية من عقالها، وفجرت ينابيع المعارف بعد نضوبها.
واسأل التاريخ؛ فإنها قد استودعته من مآثرها الغرِّ ما بَصُر بضوئه الأعمى، وازدهر في الأرض ازدهار الكواكب في كبد السماء.
فماذا فعل المسلمون لما انتصروا على خصومهم ؟ ماذا قال النبي عليه الصلاة والسلام لما انتصر على قريش وفتح مكة؟ ألم يصفح عنهم؟ وينس ما فعلوه به؟
وماذا فعل المسلمون لما انتصروا على كسرى وقيصر؟ هل خانوا العهود، وهل انتهكوا الأعراض؟ وهل قتلوا الشيوخ والأطفال والنساء؟
وماذا فعل صلاح الدين لما انتصر على الصليبين؟ ألم يُنْعِم على قائدهم بالعفو؟ ألم يعالجه، ويطلق سراحه؟
فهذه المواقف وأمثالها كثيرة في تاريخ المسلمين، مما كان لها أبلغ الأثر في محبة الناس للإسلام، والدخول فيه عن قناعة ويقين.
أفَغَيْرَ المسلمين يقوم بمثل هذا؟ آلغرب يقدم لنا مثل هذه النماذج؟
الجواب ما تراه وتسمعه؛ فمن أين خرج هتلر، وموسوليني، ولينين، وستالين، ومجرمو الصرب؟ أليست أوربا هي التي أخرجت هؤلاء الطواغيت الشياطين الذين قتلوا الملايين من البشر، والذين لاقت البشرية منهم الويلات إثر الويلات؟ ألا يُعَدُّ أولئك هم طلائع حضارة أوربا؟ فمن الهمج العتاة القساة الأجلاف إذاً؟
ثم من الذي صنع القنابل النووية والجرثومية، وأسلحة الدمار الشامل؟ ومن الذين لوثوا الهواء بالعوادم، والأنهار بالمبيدات؟ ومن الذي يدعم اليهود وهم في قمة الإرهاب والتسلط والظلم؟(2/158)
وماذا صنعت أو تصنعه أمريكا من التسلط، والصلف، وهي التي تدعي أنها حاملة لواء السلام؟
فماذا صنعت بأطفال أفغانستان وشعبه البائس، وماذا ستفعله في العراق وغيره.
أما آن لكثير من مثقفينا أن يصحوا من رقدتهم؟ وألا ينظروا إلى الغرب بعين عوراء متغافلين عن ظلمه، وإفلاسه الروحي؟
هذه هي حال كثير من مثقفينا، ومع ذلك تجدهم يتصدرون وسائل الإعلام، ويتطرقون لقضايا الأمة.
ولو صُرف النظر عن ناحيتهم، وترك حبلُهم على غاربهم لهبطوا بكثير من شبابنا في خسار يهتز له قلب عدوهم شماتةً وفرحاً.
والنفوس التي تتزحزح عن الإيمان قيد شعرة تبتعد عن مراقي الفلاح سبعين خريفاً.
فلا بد إذاً من أن نكون على مرقبة من دعايتهم، وننفق ساعات في التنبيه على أغلاطهم؛ لعلهم ينصاعون إلى رشدهم، أو لعل الأمة تحذر عاقبة هذا الذي يبدو على أفواههم.
فحقيق على هؤلاء أن يؤوبوا إلى رشدهم، وأن يقدموا لأمتهم ما يرفع عنها الذلة والتبعية، وأن يبحثوا في سبل رقيها وفلاحها.
وإن من أعظم ما يعينهم على ذلك أن يدرسوا الإسلام دراسة واعية متأنية من مصادره الأصيلة، وأن يكون لديهم من الشجاعة الأدبية والأمانة العلمية ما يبعثهم إلى الرجوع إلى الحق والاعتزاز به.
أما السير في ركاب الغرب، والأخذ بكل ما يصدر منه دونما تمحيص فذلك محض الهوان، وعنوان التخلي عن العزة والكرامة؛ فالأمة العزيزة هي التي تعرف مقدار ما تعطي، ومقدار ما تأخذ، ونوع ما تعطي ونوع ماتأخذ، وهي التي تعد نفسها بكل ما أوتيت من قوة؛ حتى تحمي رأيها فيما تأخذ وما تدع، وما تعطي وما تمنع.
(3) التوبة الإعلامية:
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ
فالإعلام في كثير من بلاد المسلمين يروِّج للرذيلة، ويزري بالعفة والفضيلة، فتراه يصب في قالب العشق والصبابة، والترف والهزل، ويسعى لتضليل الأمة عن رسالتها الخالدة.
فجدير بإعلام المسلمين أن تكون له شخصيته المتميزة، وأن يكون داعية إلى كل خير وفلاح.(2/159)
وواجب على كل إعلامي مسلم أن يتضلع بمسؤوليته، وأن يدرك حجم الأمانة الملقاة على عاتقه، فهو يرسل الكلمة فتسير بها الركبان؛ فله غنمها، وعليه غرمها.
(4) التوبة من التفرق والتدابر:
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
فالناظر في أحوال الأمة يرى عجباُ؛ فأعداؤها يحيطون بها من كل جانب، ويكيدون لها ويتربصون بها الدوائر، ومع ذلك ترى الفرقة، والتدابر، والتنافر؛ فالعقوق، والقطيعة، وإساءة الظن، وقلة المراعاة لحقوق الأخوة في الله تشيع في أوساط المسلمين ، ولا ريب أن ذلك مما يسخط الله عز وجل ومما يفرح الأعداء، ويذهب الريح، ويورث الفشل.
فواجب على الأمة أن تجمع كلمتها على الحق، وأن ينبري أهل العلم والفضل والإصلاح لرأب الصدع، ونبذ الفرقة.
قال ربنا تبارك وتعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * ) [آل عمران : 102،103]
(5) التوبة من التبرج:
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
تلك السنة الإبليسية الجاهلية التي فتحت على المسلمين باب شر مستطير.
ففي أكثر بلدان المسلمين تخلت النساء عن الحجاب، وأخذن بالتبرج، والتهتك، والتبذل، والسفور على تفاوت فيما بين البلدان.
وهذا الصنيع نذير شر وشؤم، ومؤذن لعنة وعذاب؛ ذلك أن التبرج موجبٌ لفساد الأخلاق، وضيعة الآداب، وشيوع الجرائم والفواحش، وانعدام الغَيْرَة، واضمحلال الحياء ، وبسببه تتحطم الروابط الأسرية، وتنعدم الثقة بين أفرادها.(2/160)
وهذا التبرج لم يكن معروفاً عند المسلمين، وإنما هو سنة جاهلية انقطعت بالإسلام.
قال تعالى مخاطباً نساء المسلمين (وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى) [الأحزاب: 33]
وفي العصور المتأخرة دخل التبرج على المسلمين بسبب الإعراض عن هداية الدين ، وبسبب الحملات الضارية على المرأة المسلمة؛ كي تتخلى عن وقارها وحيائها وحشمتها ودينها.
كما دخل على المسلمين من باب التقليد الأعمى للغرب ومحاولة اللحاق بركابه؛ لئلا يقال: متخلفون رجعيون!
وإذا أنكر منكر على أولئك الذين يدعون إلى التبرج والسفور وصموة بالتخلف والرجعية؛ فهل تقليد الغرب في مستهجن عاداته إلا التخلف بعينه؟ أو ليس هذا التقليد مما يزيد الشعوب المقلدة وهناً على وهن وضعفاً على ضعف وخَوَراً منقطع النظير ؟ !
وإذا أردت الدليل على أن التبرج تخلف عن ركب الحضارة فانظر إلى انحطاط خصائص الجنس البشري في الهمج من العراة الذين لا يزالون يعيشون في المتاهات والأدغال على حالٍ تقرب من البهيمية؛ فإنهم لا يأخذون طريقهم في مدارج الحضارة إلا بعد أن يكتسوا.
ويستطيع المراقب لحالهم في تطورهم أن يلاحظ أنهم كلما تقدموا في الحضارة زادت نسبة المساحة الكاسية من أجسادهم.
كما يلاحظ أن الحضارة الغربية في انتكاسها تعود في هذا الطريق القهقرى درجة بعد درجة حتى ينتهي الأمر إلى العري الكامل في مدن العراة التي أخذت في الانتشار بعد الحرب العالمية الأولى، ثم استفحل داؤها في السنوات الأخيرة.
ونحن إذا احتجنا إلى الاستفادة من خبرة الغرب، وتفوقه في الصناعات الآلية التي كانت سبباً في مجده وسيادته فمن المؤكد أننا لسنا في حاجة إلى استيراد قواعد في السلوك والتربية والأخلاق التي تدل الأمارات والبوادر على أنها ستؤدي إلى تدمير حضارته، والقضاء عليها قضاءًا تاماً في القريب العاجل.(2/161)
إننا في حاجة إلى مواد البناء؛ لأن لدينا من عوامل الضعف والهدم ما يكفي، ومن مصائبنا نحن الشرقيين أننا لا نأخذ المصائب كما هي، بل نزيد عليها ضعفنا فإذا هي رذائل مضاعفة فيتسع الخرق على الراقع ويستعصي الداء فلا ينفع دواء .
ومع ذلك تجد من أبناء جلدتنا من لا يصيخون السمع إلى هداية الدين، بل هم يلحدون في آيات الله، فيميلون بها عن وجهها حيناً، ويجادلون فيها أشد المجادلة حيناً آخر.
في الوقت الذي يَخْضعون لهذه المزاعم الداعرة، ويرونها فوق النقاش والمراء.
هؤلاء قوم لا تقوم عندهم الحجة بالقرآن والسنة، ولكنها تقوم بهذه الظنون والأوهام؛ فإذا عارضتهم بالثابت من الشرع ـ وهم يزعمون أنهم مسلمون ـ لووا رؤوسهم، وقالوا: نحدثك في العلم فتحدثنا في الدين؟ وكأن هذه الأوهام عندهم أثبت من الشرع المطهر، نعوذ بالله من الخبال ومن السفه والضلال ، فإن عقولهم عقولٌ خواء، وأفئدتهم وأفئدةٌ هواء .
أترى فرقاً بين هؤلاء وبين أمم قد خلت من قبلهم من الضالين كانوا يقولون إذا ذُكِّروا بآيات الله: (قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ) [الأنفال: ]31؛ (لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ) [النحل:25]
(وبالجملة فإن الحقيقة الماثلة للعيان تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن التبرج أقرب الوسائل إلى تلويث الأعراض، ونكد العيش، وأنه إلى ابتذال المرأة أقرب منه إلى كرامتها، وإلى عنائها أقرب منه إلى راحة بالها.
[*](قال الأديب الكبير مصطفى صادق الرافعي :وما هو الحجاب إلا حفظ روحانية المرأة للمرأة، وإغلاء سعرها في الاجتماع، وصونها من التبذل الممقوت.(2/162)
(وقال أيضاً : وأساس الفضيلة في الأنوثة الحياء؛ فيجب أن تعلم الفتاة أن الأنثى متى خرجت من حيائها وتهجَّمت؛ أي توقَّحت، أي تبذَّلت استوى عندها أن تذهب يميناً، أو تذهب شمالاً، وتهيأت لكل منهما ولأيهما اتفق.
وصاحبات اليمين في كنف الزوج، وظل الأسرة، وشرف الحياة، وصاحبات الشمال ما صاحبات الشمال...؟.
(وقال أيضاً :فكل ما تراه من أساليب التجميل والزينة على وجوه الفتيات وأجسامهن في الطرق فلا تَعُدَّنَّه من فرط الجمال، بل من قلة الحياء .
وإذا كان الأمر كذلك فإنه يجب على الأمَّة المسلمة أن تتوب من التبرج والسفور، وأن تحاربه بكل ما أوتيت من قوة.، وأن تدعو في الوقت نفسه إلى لزوم الحجاب والحشمة للمرأة المسلمة؛ ففي الحجاب العفة، والستر، والطهر، والسلامة من الفتنة، والنجاة من الوعيد وغير ذلك من فضائل الحجاب.
كما يجب على المرأة المسلمة أن تحافظ على حجابها، وأن تعتز به، وألا تلتفت إلى دعاوى المبطلين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون ويضرون ولا ينفعون ، قاتلهم الله أنى يؤفكون ، وأن يكون حجابه مستوعبا جميع بدنها بما في ذلك الوجه والكفان، وألا يكون الحجاب زينة في نفسه، وأن يكون صفيقاً لا يشف، وأن يكون فضفاضاً غير ضيق، وألا يكون مُبخَّراً مطيباً، وألا يشبه لباس الرجل، أو الكافرات، وألا يكون لباس شهرة.
فإذا كانت كذلك فأحْرِ بها أن تسعد في نفسها، وأن تَسعدَ الأمةُ بها.
(5) التوبة من التقصير في الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
فأمة الإسلام هي الأمة القَوَّامةُ على الأمم، وهي الشاهدة على الأولين والآخرين ، والبشرية جمعاء بأمسّ الحاجة إلى هداية الإسلام، ومع ذلك تجد التقصير في جانب الدعوة إلى الله.(2/163)
والتبعة في ذلك تقع على أهل العلم بخاصة؛ فما بال كثير منهم يعرف مناهج الصلاح، ويبصر طائفة من قومه يتهافتون على عماية، أو يهيمون في جهالة ولا تنهض به الهمة؛ ليعمل على إفاقتهم من سكرتهم، وإراءتهم معالمَ فوزهم؟.
وما بال الخلاف يدب في صفوف كثير من الدعاة، فيفشلهم، ويذهب ريحهم؟
وما بال كثير منهم يخطىء سبيل الحكمة، ويؤثر مصلحته الخاصة على مصلحة الأمة؟
وما بال كثير منهم ينزوي وينطوي على نفسه غير مكترث بمصير الأمة، وغير مبال بوعيد الله لمن كتم العلم؟
وما بال الشرك يضرب بجرانه في كثير من بلاد المسلمين على مرأى ومسمع من أهل العلم دون أن يُغيَّر أو ينكر؟
وما بال القبور تشيد، وتعظم، ويطاف عليها، وتهدى لها النذور، ويدعى أصحابها من دون الله عز وجل ؟
إن السكوت عن الدعوة جرم عظيم، وذنب يجب التوبة منه؛ ذلك أنه إذا انزوى العارفون بوجوه الإصلاح رفع البغي لواءه، وبقي إخوان الفساد يترددون على أماكن المنكرات.
والبغيُ يضرب على الأمة الذلةَ والمسكنةَ، والانهماكُ في المنكرات يميت خصال الرجولة من نحو الشجاعة، وشدة البأس، والبذل في سبيل الخير.
وإذا تفشى وباء الفساد تداعت الأخلاق الفاضلة إلى سقوط، ونضب ماء الحياء من الوجوه، ووهنت رابطة الاتحاد في القلوب، وتضاءلت الهمم عن معالي الأمور، وقلَّت الرغبة في الآداب والعلوم.
وما عَاقِبَةُ الأمة المصابة بالذل والإحجام، والجهل والتفرق، وقلة الإنفاق في سبيل البر إلا الدمار.(2/164)
ولا يحسب الذين ينقطعون عن إرشاد الضالين، ووعظ المسرفين أن إقبالهم على شأنهم، واقتصارَهم في العمل الصالح على أنفسهم يجعلهم في منجاة من سوء المنقلب الذي ينقلب إليه الفاسقون؛ فالذي جرت به سنة الله في الأمم أن وباء الظلم والفسوق إذا ضرب في أرض، وظهر في أكثر نواحيها لا تنزل عقوبته بديار الظالمين أو الفاسقين خاصة، بل تتعداها إلى ما حولها، وترمي بشرر يلفح وجوه جيرانهم الذين تخلوا عن نصيحتهم، ولم يأخذوا على أيديهم.
قال تعالى :( وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) [الأنفال: 25]
فإذا كَثُرَ الخبث هلك الناس وفيهم الصالحون بنص السنة الصحيحة كما في الحديث الآتي : (
( حديث زينب بنت جحش رضي الله عنها الثابت في الصحيحين ) أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها فزعا يقول: (لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه وحلق بإصبعه الإبهام والتي تليها، قالت زينب بنت جحش: فقلت: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: (نعم، إذا كثر الخبث).
ومن البلية في سكوت أهل العلم أن العامة يتخذونه حجة على إباحة الأشياء أو استحسانها؛ فإذا نهيتهم عن بدعة سيئة، وسقت إليهم الدليل على قبحها ومخالفتها لما شرع الله كان جوابهم أنهم فعلوها بمرأى أو مسمع من فلان من أهل العلم ولم يعترض فعلهم بإنكار!.
(ومن أثر التهاون بالإرشاد أن يتمادى المفسدون في لهوهم، ولا يقفوا في اتباع شهواتهم عند غاية؛ فتقع أعين الناس على هذه المناكر كثيراً، فتألفها قلوبهم، حتى لا يكادوا يشعرون بقبح منظرها، أو يتفكرون في سوء عاقبتها ، فَإِلْفُ المعصية والعياذ بالله أمره خطير وشره مستطير أشر من البرص وأضر من الجرب فهو داءٌ عضال ومرضٌ قتَّال يضرب القلب ويفتك به ويعميه عن رؤية الحقيقة على ما هيتها .(2/165)
ومن أثر هذا أن يقبل عليهم الحق بنوره الساطع ووجهه الجميل، فتجفل منه طباعهم، وتجفوه أذواقهم لأول ما يُشْرف عليها.
وإذا كان الأمر كذلك كان لزاماً على الأمة أفراداً وجماعات أن تتوب من التقصير في الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن يقوم كل فرد بحسبه بما أوجب الله عليه من نصرة دين الله.
هذا بلسانه، وهذا بقلمه، وهذا بماله، وهذا بجاهه، ولكلٍ وجهةٌ هو موليها، وقد علم كل أناس مشربهم.
ومما ينبغي التنبيه عليه أن ارتكاب الذنوب لا يُسَوَّغُ ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله: فكثيرٌ من الناس إذا قصَّر في الطاعة، أو وقع في المعصية ترك الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله؛ بحجة أنه مُقَصِّر، وأنه يفعل خلاف ما يأمر به، وأنه يخشى أن يدخل في الوعيد لمن دعا وترك ما يدعو إليه كما في قوله تعالى : (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ ) [البقرة: 44 ]، وقوله: (كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ) [الصف: 3]
وهذا خطأ يجب على المسلم أن يحذره ويتجنبه؛ فترك أحد الواجبين ليس مُسَوِّغَاً لترك الآخر، والذم الوارد في النصوص إنما هو لترك المعروف، لا للأمر بالمعروف.
قال تعالى : (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) [المائدة : 78، 79]
فانظر كيف نعى الله عليهم ترك التناهي مع أنهم مشتركون في المنكر؛ فلا يجوز للمسلم أن يجمع بين إساءتين، وإلا لتعطل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.(2/166)
[*](قال ابن حزم رحمه الله تعالى : ولو لم يَنْهَ عن الشر إلا من ليس فيه شيء منه، ولا أمر بالمعروف إلا من استوعبه لما نهى أحد عن شر، ولا أمر بخير بعد النبي ".
[*](وقال النووي رحمه الله تعالى : قال العلماء: ولا يشترط في الآمر والناهي أن يكون كامل الحال، ممتثلاً ما يأمر به، مجتنباً ما ينهى عنه، بل عليه الأمرُ وإن كان مُخِلاً بما يأمر به، والنهيُ وإن كان متلبساً بما ينهى عنه؛ فإنه يجب عليه شيئان: أن يأمر نفسه، وينهاها، ويأمر غيره، وينهاه؛ فإذا أخل بأحدهما كيف يباح له الإخلال بالآخر؟
[*](قال سعيد بن جبير رحمه الله تعالى : لو كان المرء لا يأمر بالمعروف، ولا ينهى عن المنكر حتى لا يكون فيه شيء ما أمر أحد بمعروف، ولا نهى عن منكر.
[*](قال الإمام مالك رحمه الله تعالى معلقاً على قول سعيد بن جبير: وصدق سعيد؛ ومن ذا الذي ليس فيه شيء (1) .
[*](وقال الحسن لمُطَرّف بن عبدالله رحمهما الله تعالى : عظْ أصحابك.
فقال: إني أخاف أن أقول ما لا أفعل!
قال: يرحمك الله، وأيُّنا يفعل ما يقول؟ يود الشيطان أنه قد ظفر منا بهذا؛ فلم يأمر أحد بمعروف، ولم ينه أحد عن منكر (2) .
[*](وقال الطبري رحمه الله تعالى : وأما من قال: لا يأمر بالمعروف إلا من ليست فيه وصمة، فإن أراد أنه الأوْلى فجيِّد، وإلا فيستلزم سد باب الأمر بالمعروف إذا لم يكن هناك غيره (3) .
(وعلى هذا فعلى من وقع في معصية ، أو قصَّر في طاعة ألا يدع الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، والدعوة إلى الله حسب قدرته واستطاعته؛ فلربما اهتدى على يده عاص ، أو أسلم كافر، أو تسبب في ذلك؛ فكان له من الأجر مثل ما لهم من غير أن ينقص ذلك من أجورهم .
ولا يفهم مما سبق أنه لا بأس في ترك المعروف وفعل المنكر للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر.
__________
(1) تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن1/367.
(2) تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن1/367.
(3) فتح الباري 13/53.(2/167)
بل يجب عليه فعل المعروف، وترك المنكر؛ لأنه يعرض نفسه لغضب الله عند التساهل في هذا.
بل ينبغي له أن يكون أولَ ممتثل لما يأمر به، وأولَ مُنْتَهٍ عما ينهى عنه.
وغاية ما في الأمر أن فعل المعروف، وترك المنكر ليس شرطاً للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فلا يقال لمن أمر بالمعروف، ولم يفعله أو نهى عن المنكر، وفعله: لا تأمر بالمعروف، ولا تنهَ عن المنكر، وإنما يقال له: داوم على أمرك ونهيك، واتق الله فيما تأتي وما تذر (1) .
وإذا كان هذا في شأن من هو عاص أو مقصر فكيف إذا كان الشخص ذا علم، وصلاح وهو مقصر بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟
فعليه أن يتوب من ذلك، وأن يستدرك ما فات؛ لأن الله سائله عن علمه ماذا عمل به ، قال تعالى : (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) [هود: 7]
(نظرة في حال المجتمعات البعيدة :
بعد أن تبين لنا حاجة الأمة إلى التوبة، وإلى التميز، والحذر من تقليد الأعداء الكفار في مستهجن العادات ، هذه نظرة في حال المجتمعات البعيدة عن الله؛ فهناك من يرى أن السعادة لا تتحقق إلا بإتْباع النفوس هواها، وإرسالها مع كافة رغائبها وشهواتها؛ بحيث لا يبقى عليها حسيب ولا رقيب، ولا يقف في طريقها دين، أو عرف، أو نحو ذلك؛ فهذا سر السعادة، وتلك جنة الفردوس عند أولئك.
ولهذا ترى نفراً غير قليل من هؤلاء يدعو إلى الإباحية، وإلى فتح أبواب الحرية؛ لتتخلص المجتمعات من كبتها وعقدها، ولتنعم بالسعادة كما يزعمون!
فهل هذا الكلام صحيح؟ وهل تلك المجتمعات الكافرة تنعم بالسعادة حقاً؟
__________
(1) انظر شبهات حول الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر د. فضل إلهي ص20_24.(2/168)
والجواب ما تراه وتسمعه؛ فها هي أمم الكفر قد فتحت أبواب الحرية على مصاريعها؛ فلم يَعُدْ يَرْدَعُها دين، أو يَزُمُّها ورعٌ، أو يحميها حياء؛ فَمِنْ كفر وإلحاد إلى مجون، وخلاعة وإباحية مطلقة، ومن خمور ومخدرات إلى زناً، ولواط، وشذوذ بكافة أنواعه مما يخطر بالبال، ومما لا يخطر؛ فكيف تعيش تلك الأمم؟ وهل وصلت للسعادة المنشودة؟
والجواب: لا؛ فما زادهم ذلك إلا شقاءًا وحسرةً؛ فسنة الله عز وجل في الأمم هي سنته في الأفراد؛ فمتى أعرضت عن دينه القويم أصابها ما أصابها بقدر بعدها وإعراضها.
ولهذا تعيش تلك الأمم حياة شقية تعيسة صعبة معقدة؛ حيث يشيع فيها القلق، والاضطراب، والتفكك، والقتل، والسرقة، والشذوذ، والاغتصاب، والمخدرات، وأمراض الجنس، وتفقد فيها الطمأنينة، والراحة، والمحبة، والبر، والصلة، والتعاطف، والتكافل إلى غير ذلك من المعاني الجميلة.
قال تعالى : (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ) [طه: 124]
كيف تسعد تلك الأمم وفي داخل كل إنسان منها أسئلة محيرة؟ من خلق الحياة؟ وما بدايتها؟ وما نهايتها؟ وما سر تلك الروح التي لو خرجت لأصبح الإنسان جماداً؟
إن هذه الأسئلة قد تهدأ في بعض الأحيان؛ بسبب مشاغل الحياة، ولكنها لا تلبث أن تعود مرة أخرى.
وكيف لا تحرم تلك الأمم السعادة وهي تعيش بلا دين يزكي نفوسها، ويضبط عواطفها، ويردعها عن التمادي في باطلها، ويسد جوعتها بالتوجه إلى فاطرها؟
إن الكنيسة بتعاليمها المُحَرَفَة لا تستطيع أن تجيب عن الأسئلة الماضية بدقة ووضوح، ولا تملك منهجاً يزكي النفوس، ويقنع العقول، وتسير عليه أمور الناس بانتظام.
ولقد زاد هذا الأمر ضراوة بعد أن تراجعت الكنيسة أمام ضربات الإلحاد.
فما أغنت الحرية المزعومة والإباحية المطلقة عن تلك المجتمعات فتيلاً أو قطميراً، ولا جلبت لها السعادة الحقة، ولا الحياة الكريمة.(2/169)
ولهذا يبحث الناس هناك عما يريحهم من هذا العناء والشقاء؛ فمنهم من يلجأ إلى المخدرات والمهدئات التي تضاعف البلاء، وتزيد في الشقاء.
ومنهم من يروي غليله بالشذوذ الجنسي، حتى يفقد إنسانيته وصحته؛ ويكون عرضة للإصابة بأمراض الشذوذ المتنوعة كالزهري، والسيلان، والهربس، والإيدز، وما يصاحب هذه الأمراض من ضيق وتكدر.
ومنهم من يروي غلته بالسطو، والسرقة؛ حتى إن الناس هناك لا يكادون يأمنون على أموالهم، وممتلكاتهم؛ بل لقد أصبحت السرقة تعتمد على الدراسة والتكنولوجيا الحديثة؛ المجهزة بأحدث الوسائل والأساليب، القائمة على أحدث المبتكرات والتخطيط لكل عملية سطو.
ومنهم من يسلك طريق القتل؛ ليتشفى من المجتمع، ويطفىء نار حقده، فتراه يتحين الفرص، وينتهز الغِرَّة؛ ليهجم على ضحية يفقدها الحياة، ثم يبحث عن ضحية أخرى.
بل لقد أصبح القتل عند بعضهم متعة، ونوعاً من اللذة.
وكثيراً ما يكون القتل لأتفه الأسباب، حتى إن الواحد قد يقتل أقرب الأقربين إليه.
ومنهم من يبلغ به الشقاء والهم غايته؛ فلا يجد ما يسعده، أو يريحه من همومه وغمومه، ولا يرى ما ينفس به كربته، أو يعينه على تحمل أعباء حياته؛ فيلجأ حينئذ إلى الانتحار؛ رغبة في التخلص من الحياة بالكلية.
ولقد أصبح الانتحار سمة بارزة في تلك المجتمعات، وصارت نسبته تتزايد وتهدد الحضارة الغربية بأكملها.
ولقد أقلق كثرة الانتحار علماء الاجتماع في تلك البلاد؛ حيث أصبح عدد المنتحرين يفوق عدد القتلى في الحروب، وفي حوادث السيارات.
أما طرق الانتحار فتأخذ أساليب متنوعة؛ فهذا ينتحر بالغرق، وذاك بالحرق، وهذا بابتلاع السموم، وذاك بالشنق، وهذا بإطلاق الرصاص على نفسه، وذاك بالتردي من شاهق، وهكذا.(2/170)
أما أسباب الانتحار فمعظمها تافهة حقيرة، لا تستدعي سوى التغافل، وغض الطرف عنها؛ فهذا ينتحر بسبب الإخفاق في امتحان الدراسة أو الوظيفة، وذاك بسبب وفاة المطرب الذي يحبه، أو هزيمة الفريق الذي يميل إليه، وهذا ينتحر بسبب وفاة عشيقته، وهذه تنتحر بسبب تخلي عشيقها عنها، بل ومنهم من انتحر بعدما توفي كلبه كما فعل (جاك أشورت ) وكان عمره 46 سنة.
بل إن هناك من ينتحر بلا سبب ظاهر، ويبقى السبب الأول للانتحار وهو الكفر بالله، وما يستتبعه من الضنك، والشدة، وقلة التفكير في المصير.
والغريب في الأمر أن نسبة كبيرة من المنتحرين ليسوا من الفقراء؛ حتى يقال: إنهم انتحروا بسبب قلة ذات اليد، وإنما هم من الطبقات المغرقة في النعيم والبعيدة الصيت والشهرة، والرفيعة الجاه والمنصب، بل وينتشر في طبقات المثقفين.
ومما يلفت النظر أن أشد البلاد انحلالاً أكثرها انتحاراً.
ومن الأشياء التي استحدثوها لمحاربة التخفيف من الانتحارات المتزايدة إنشاءُ مركز يتلقى مكالمات المُقْدِمين على الانتحار، أو من لديهم مشكلة عاطفية، أو الذين يعانون من ضيق الصدر.
وهذه الخدمات تقدم ليلاً ونهاراً وبالمجان.
والعجيب في الأمر أن يكون للانتحار مؤيدون وأنصار، حيث تكونت في بريطانيا جمعية للمنتحرين، وأصدرت كُتَيِّباً وأخذت توزعه على أعضائها الذين يحبذون ويؤيدون حق المرضى بالانتحار عندما يتألمون، وعندما يقرر الطبيب أن حالتهم ميؤوس منها.
وقد نَص الكتيب على الوسائل السريعة والفعالة وغير المؤلمة التي يمكن أن تساعد الساعين إلى الانتحار على تنفيذ رغبتهم!.
فلماذا ينتحر هؤلاء؟ ولماذا يستبد بهم الألم، ويذهب بهم كل مذهب؟
والجواب: أنهم فقدوا السبب الأعظم للسعادة، ألا وهو الإيمان بالله عز وجل فلم تغن عنهم حريتهم شيئاً، ولم يجدوا ما يطفىء لفح الحياة وهجيرها وصخبها؛ فلا يكادون يحتملون أدنى مصيبة تنزل بهم.(2/171)
فهل اطلع على تلك الحال من يريدون أن تكون بلاد الإسلام كتلك البلاد تهتكاً، وتوقحاً، ودعارة، وفساداً؟
وهل يريدون أن يكون مصير بلاد الإسلام كذلك المصير؟
إن كانوا لم يطلعوا فتلك مصيبة، وإن كانوا مطلعين فالمصيبة أعظم.
الفهرس(
الموضوع ... رقم الصفحة
باب تزكية النفوس ... 1
(معنى تزكية النفوس : ... 4
(اهتمام السلف بتزكية النفوس : ... 4
(معالمُ في منهج السلوك والأخلاق عند السلف : ... 5
(قضية التزكية : ... 9
(أقسام التزكية: ... 13
(منزلة التزكية في الدين : ... 13
(أهمية تزكية النفوس : ... 15
(حاجتنا إلى التزكية : ... 17
(تحصيل السعادة في تزكية النفوس: ... 18
(حكم تزكية النفوس : ... 20
(كيفية تزكية النفس : ... 21
(وسائل تزكية النفس : ... 24
(معرفة الطريق الموصل إلى تلك التزكية : ... 32
(كيفية سياسة النفس في تزكيتها : ... 34
(أقسام التزكية: ... 32
(تلازم القوتين العلمية والعملية للسير في الطريق : ... 35
(وقوع التناقض بين القوة العلمية والقوة العملية: ... 36
(أقسام العباد بالنسبة للقوتين «العلمية والعملية» ... 37
(منازل التزكية : ... 45
(صفوة منازل تزكية النفوس : ... 50
(المنازل الأساسية للتزكية : ... 51
(فصلٌ في منزلة اليقظة : ... 51
( فصلٌ في منزلة العزم : ... 57
( فصلٌ في منزلة الفكرة : ... 58
( فصلٌ في منزلة البصيرة : ... 58
( فصلٌ في منزلة القصد : ... 61
( فصلٌ في منزلة المحاسبة : ... 62
(تعريف المحاسبة : ... 63
(هل حاسبت نفسك يوماً ما : ... 64
(امقت نفسك في جنب الله : ... 68
( أقسام محاسبة النفس : ... 71
(القسم الأول : محاسبة النفس قبل العمل : ... 71
(القسم الثاني : محاسبة النفس بعد العمل: ... 72
( كيفية محاسبة النفس ؟ ... 74
(الأدلة على مشروعية المحاسبة : ... 77
( أهمية محاسبة النفس : ... 83
(مخاطرُ ترك المحاسبة : ... 90
(فوائد محاسبة النفس : ... 94
(أركان المحاسبة : ... 96
(الأسباب المعينة على محاسبة النفس : ... 101
( فصلٌ في منزلة التوبة : ... 102
(تعريف التوبة : ... 104
(الفرق بين التوبة والاستغفار : ... 105
(العلاقة بين المحاسبة والتوبة : ... 105(2/172)
(ذم تسويف التوبة : ... 106
(كلنا ذوو خطأ : ... 109
(أين طريق النجاة ؟ ... 110
(الترغيب في التوبة : ... 110
(حاجتنا إلى التوبة على الدوام : ... 113
(باب التوبة مفتوح : ... 116
(أجناس الذنوب التي يُتَابُ منها : ... 119
(تقسيم الذنوب : ... 144
( كيف ينظر الإنسان إلى الذنب : ... 147
(ماهية الصغائر والكبائر : ... 149
(خطر الاستهانة بالصغائر : ... 150
(الفرق بين تكفير السيئات ومغفرة الذنوب : ... 152
(كيفية التوبة؟ ... 153
( كيفية التوبة من بعض الكبائر الشائعة : ... 161
(شروط التوبة الصادقة: ... 247
(توبة العبد محفوفة بتوبتين من الله سابقة ولاحقة : ... 260
(مبدأ التوبة ومنتهاها : ... 261
(علامات قبول التوبة : ... 262
(فضل الله تعالى على التائب العائد : ... 265
(منزلة التوبة في الدين : ... 269
(التوبة النصوح : ... 273
(فضائل التوبة : ... 274
(أسرار التوبة ولطائفها : ... 282
(أمور تعين على التوبة : ... 290
(أخطاء في باب التوبة : ... 362
(مسائلٌ هامة في التوبة : ... 355
(التوبة طريق السعادة : ... 407
(من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه : ... 429
(أروع القصص للتائبين : ... 452
(توبةُ الأمة : ... 571
(نظرة في حال المجتمعات البعيدة : ... 587(2/173)
( فصلٌ في منزلة الإنابة :
[*](عناصر الفصل :
(تعريف الإنابة :
(فضائل منزلة الإنابة :
(أقسام الإنابة :
(علامات الإنابة:
وهاك تفصيل ذلك في إيجازٍ غيرِ مُخِّل : (
(تعريف الإنابة :
مسألة : ما هو تعريف الإنابة ؟
الإنابة هي الرجوع إلى الله وانصراف القلب بكليته إليه سبحانه والعبد المنيب محب لربه خاضع له خاشع ذليل .
[*](قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين :
قال صاحب المنازل:
"الإنابة في اللغة:
الرجوع وهي ههنا الرجوع إلى الحق .
وهى ثلاثة أشياء: «الرجوع إلى الحق إصلاحا كما رجع إليه اعتذارا»« والرجوع إليه وفاء كما رجع إليه عهدا» « والرجوع إليه حالا كما رجعت إليه إجابة"».
لما كان التائب قد رجع إلى الله بالاعتذار والإقلاع عن معصيته كان من تتمة ذلك: رجوعه إليه بالاجتهاد والنصح في طاعته كما قال: {إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً}[الفرقان :70]
وقال تعالى : {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا} [البقرة :160]
« فلا تنفع توبة وبطالة فلا بد من توبة وعمل صالح»: « ترك لما يكره وفعل لما يحب « تخل عن معصيته وتحل بطاعته».
وكذلك الرجوع إليه بالوفاء بعهده كما رجعت إليه عند أخذ العهد عليك فرجعت إليه بالدخول تحت عهده أولا فعليك بالرجوع بالوفاء بما عاهدته عليه ثانيا والدين كله: عهد ووفاء فإن الله أخذ عهده على جميع المكلفين بطاعته فأخذ عهده على أنبيائه ورسله على لسان ملائكته أو منه إلى الرسول بلا واسطة كما كلم موسى وأخذ عهده على الأمم بواسطة الرسل وأخذ عهده على الجهال بواسطة العلماء فأخذ عهده على هؤلاء بالتعليم وعلى هؤلاء بالتعلم ومدح الموفين بعهده وأخبرهم بما لهم عنده من الأجر فقال تعالى : {وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً}[محمد :10] وقال: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً}[الإسراء : 34](1/1)
وقال: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} [ النحل : 91]
وقال : {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا}[ البقرة : 177].
وهذا يتناول عهودهم مع الله بالوفاء له بالإخلاص والإيمان والطاعة وعهودهم مع الخلق.
وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم: أن من علامات النفاق (الغدر بعد العهد).
فما أناب إلى الله عز وجل من خان عهده وغدر به كما أنه لم ينب إليه من لم يدخل تحت عهده فالإنابة لا تتحقق إلا بالتزام العهد والوفاء به.
وقوله: « والرجوع إليه حالا كما رجعت إليه إجابة"».
أي هو سبحانه قد دعاك فأجبته بلبيك وسعديك قولا فلا بد من الإجابة حالا تصدق به المقال فإن الأحوال تصدق الأقوال أو تكذبها وكل قول فلصدقه وكذبه شاهد من حال قائله فكما رجعت إلى الله إجابة بالمقال فارجع إليه إجابة بالحال .
قال الحسن رحمه الله: "ابن آدم لك قول وعمل وعملك أولى بك من قولك ولك سريرة وعلانية وسريرتك أملك بك من علانيتك".
(فضائل منزلة الإنابة :
مسألة : ما هو فضائل منزلة الإنابة ؟
(للإنابة فضلٌ عظيم وأجرٌ جسيم ، فهي نعمةٌ عظيمة ، وَمِنَّةٌ جسيمة ، نعمة كبرى، ومنحة عظمى ، ، له فضائل لا تحصى، وثمرات لا تعد ، وله أهمية كبرى، وثمرات جليلة، وفضائل عظيمة، وأسرار بديعة ، وهو طريق النجاة، وسلم الوصول، ومطلب العارفين، ومطية الصالحين، ومن أعظم ما تكلم عنها العالم الحبر العلامة الضياء اللامع والنجم الساطع الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى ، فقد كان من حلية الأولياء وأعلام النبلاء وحراس العقيدة وحماة السنة وأشياع الحق وأنصار دين الله عز وجل ، حاملُ لواء السنة وناصرها وقامع البدعة ودامغها .
[*](قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين :
فإذا استقرت قدمه في منزل (التوبة) نزل بعده منزل (الإنابة) وقد أمر الله تعالى بها في كتابه وأثنى على خليله بها فقال: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ}[ الزمر : 54](1/2)
وقال تعالى : {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ}[هود :75] وأخبر أن آياته إنما يتبصر بها ويتذكر أهل الإنابة فقال تعالى : {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا} إلى أن قال {تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ}[ ق : 8،6]
وقال تعالى : {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقاً وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَنْ يُنِيبُ}[غافر :13]
وقال تعالى : {مُنِيبِينَ إليه وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [الروم :31].
(فمنيبين) منصوب على الحال من الضمير المستكن في قوله {فَأَقِمْ وَجْهَكَ} لأن هذا الخطاب له ولأمته أي أقم وجهك أنت وأمتك منيبين إليه نظيره قوله تعالى : {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [ الطلاق :1] ويجوز أن يكون حالا من المفعول في
قوله {فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} أي فطرهم منيبين إليه فلو خلو وفطرهم لما عدلت عن الإنابة إليه ولكنها تحول وتتغير عما فطرت عليه كما قال صلى الله عليه وسلم "ما من مولود إلا يولد على الفطرة" وفي رواية: "على الملة حتى يعرب عنه لسانه" وقال عن نبيه داود : {فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ}[ ص: 24]
وأخبر أن ثوابه وجنته لأهل الخشية والإنابة فقال : (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ، هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ، مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ، قال تعالى: (ادْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ ذَلِكَ يَوْمُ الُخُلُودِ) [ق 31: 34]
وأخبر سبحانه أن البشرى منه إنما هي لأهل الإنابة فقال: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى}[الزمر : 17].(1/3)
وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد ، ودرر الفرائد . (
( حديث ابن عباس رضي الله عنهما الثابت في صحيح الترمذي ) قال : كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَدْعُو يَقُولُ رَبِّ أَعِنِّي وَلَا تُعِنْ عَلَيَّ وَانْصُرْنِي وَلَا تَنْصُرْ عَلَيَّ وَامْكُرْ لِي وَلَا تَمْكُرْ عَلَيَّ وَاهْدِنِي وَيَسِّرْ الْهُدَى لِي وَانْصُرْنِي عَلَى مَنْ بَغَى عَلَيَّ رَبِّ اجْعَلْنِي لَكَ شَكَّارًا لَكَ ذَكَّارًا لَكَ رَهَّابًا لَكَ مِطْوَاعًا لَكَ مُخْبِتًا إِلَيْكَ أَوَّاهًا مُنِيبًا رَبِّ تَقَبَّلْ تَوْبَتِي وَاغْسِلْ حَوْبَتِي وَأَجِبْ دَعْوَتِي وَثَبِّتْ حُجَّتِي وَسَدِّدْ لِسَانِي وَاهْدِ قَلْبِي وَاسْلُلْ سَخِيمَةَ صَدْرِي .
[*] قال العلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:
(رَبِّ أَعِنِّي وَلَا تُعِنْ عَلَيَّ ) : أَيْ عَلَى أَعْدَائِي فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا مِنَ النَّفْسِ وَالشَّيْطَانِ وَالْجِنِّ وَالْإِنْسِ .
( وَامْكُرْ لِي وَلَا تَمْكُرْ عَلَيَّ ) قَالَ الطِّيبِيُّ: الْمَكْرُ الْخِدَاعُ وَهُوَ مِنَ اللَّهِ إِيقَاعُ بَلَائِهِ بِأَعْدَائِهِ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ، وَقِيلَ هُوَ اسْتِدْرَاجُ الْعَبْدِ بِالطَّاعَةِ فَيَتَوَهَّمُ أَنَّهَا مَقْبُولَةٌ وَهِيَ مَرْدُودَةٌ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: الْمَكْرُ الْحِيلَةُ وَالْفِكْرُ فِي دَفْعِ عَدُوٍّ بِحَيْثُ لَا يَشْعُرُ بِهِ الْعَدُوُّ، فَالْمَعْنَى: ( اللَّهُمَّ اهْدِنِي إِلَى طَرِيقِ دَفْعِ أَعْدَائِي عَنِّي وَلَا تَهْدِ عَدُوِّي إِلَى طَرِيقِ دَفْعِهِ إِيَّاهُ عَنْ نَفْسِهِ ) كَذَا فِي الْمِرْقَاةِ .
( وَاهْدِنِي ) أَيْ دُلَّنِي عَلَى الْخَيْرَاتِ .(1/4)
( وَيَسِّرْ لِي الْهُدَى ) أَيْ وَسَهِّلِ اتِّبَاعَ الْهِدَايَةِ أَوْ طُرُقَ الدَّلَالَةِ حَتَّى لَا أَسْتَثْقِلَ الطَّاعَةَ وَلَا أَشْتَغِلَ عَنِ الطَّاعَةِ .
( وَانْصُرْنِي عَلَى مَنْ بَغَى عَلَيَّ ) أَيْ ظَلَمَنِي وَتَعَدَّى عَلَيَّ .
( رَبِّ اجْعَلْنِي لَكَ شَكَّارًا ) أَيْ كَثِيرَ الشُّكْرِ عَلَى النَّعْمَاءِ وَالْآلَاءِ، وَتَقْدِيمُ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ لِلِاهْتِمَامِ وَالِاخْتِصَاصِ أَوْ لِتَحْقِيقِ مَقَامِ الْإِخْلَاصِ
( لَكَ ذَكَّارًا ) أَيْ كَثِيرَ الذِّكْرِ .
( لَكَ رَهَّابًا ) أَيْ كَثِيرَ الْخَوْفِ
( لَكَ مِطْوَاعًا ) بِكَسْرِ الْمِيمِ مِفْعَالٌ لِلْمُبَالَغَةِ أَيْ كَثِيرَ الطَّوْعِ وَهُوَ الِانْقِيَادُ وَالطَّاعَةُ
( لَكَ مُخْبِتًا ) أَيْ خَاضِعًا خَاشِعًا مُتَوَاضِعًا مِنَ الْإِخْبَاتِ قَالَ فِي الْقَامُوسِ: أَخْبَتَ خَشَعَ
( إِلَيْكَ أَوَّاهًا ) أَيْ مُتَضَرِّعًا فَعَّالٌ لِلْمُبَالَغَةِ مِنْ أَوَّهَ تَأْوِيهًا وَتَأَوَّهَ تَأَوُّهًا إِذَا قَالَ أَوْهُ أَيْ قَائِلًا كَثِيرًا لَفْظَ أَوْهُ وَهُوَ صَوْتُ الْحَزِينِ. أَيِ اجْعَلْنِي حَزِينًا وَمُتَفَجِّعًا عَلَى التَّفْرِيطِ أَوْ هُوَ قَوْلُ النَّادِمِ مِنْ مَعْصِيَتِهِ الْمُقَصِّرِ فِي طَاعَتِهِ وَقِيلَ الْأَوَّاهُ الْبَكَّاءُ
( مُنِيبًا ) أَيْ رَاجِعًا قِيلَ التَّوْبَةُ رُجُوعٌ مِنَ الْمَعْصِيَةِ إِلَى الطَّاعَةِ، وَالْإِنَابَةُ مِنَ الْغَفْلَةِ إِلَى الذِّكْرِ وَالْفِكْرَةِ، وَالْأَوْبَةُ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْحُضُورِ وَالْمُشَاهَدَةِ قَالَ الطِّيبِيُّ: وَإِنَّمَا اكْتَفَى فِي قَوْلِهِ أَوَّاهًا مُنِيبًا بِصِلَةٍ وَاحِدَةٍ لِكَوْنِ الْإِنَابَةِ لَازِمَةً لِلتَّأَوُّهِ وَرَدِيفًا لَهُ فَكَأَنَّهُ شَيْءٌ وَاحِدٌ .(1/5)
( رَبِّ تَقَبَّلْ تَوْبَتِي ) أَيْ بِجَعْلِهَا صَحِيحَةً بِشَرَائِطِهَا وَاسْتِجْمَاعِ آدَابِهَا فَإِنَّهَا لَا تَتَخَلَّفُ عَنْ حَيِّزِ الْقَبُولِ .
( وَاغْسِلْ حَوْبَتِي ) بِفَتْحِ الْحَاءِ وَيُضَمُّ أَيِ امْحُ ذَنْبِي .
( وَأَجِبْ دَعْوَتِي ) أَيْ دُعَائِي .
( وَثَبِّتْ حُجَّتِي ) أَيْ عَلَى أَعْدَائِكَ فِي الدُّنْيَا وَالْعُقْبَى وَثَبِّتْ قَوْلِي وَتَصْدِيقِي فِي الدُّنْيَا وَعِنْدَ جَوَابِ الْمَلَكَيْنِ.
( وَسَدِّدْ لِسَانِي ) أَيْ صَوِّبْهُ وَقَوِّمْهُ حَتَّى لَا يَنْطِقَ إِلَّا بِالصِّدْقِ وَلَا يَتَكَلَّمَ إِلَّا بِالْحَقِّ .
( وَاهْدِ قَلْبِي ) أَيْ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ .
( وَاسْلُلْ ) بِضَمِّ اللَّامِ الْأُولَى أَيْ أَخْرِجْ مِنْ سَلَّ السَّيْفَ إِذَا أَخْرَجَهُ مِنَ الْغِمْدِ
( سَخِيمَةَ صَدْرِي ) أَيْ غِشَّهُ وَغِلَّهُ وَحِقْدَهُ.
(أقسام الإنابة :
مسألة : ما هي أقسام الإنابة ؟
[*](قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين :
و(الإنابة) إنابتان : إنابة لربوبيته وهي إنابة المخلوقات كلها يشترك فيها المؤمن والكافر والبر والفاجر قال الله تعالى: {وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إليه} [الروم :33]
فهذا عام في حق كل داع أصابه ضر كما هو الواقع وهذه (الإنابة) لا تستلزم الإسلام بل تجامع الشرك والكفر كما قال تعالى في حق هؤلاء : {ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ، لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ} [الروم :34،33]
فهذا حالهم بعد إنابتهم.
و(الإنابة الثانية) إنابة أوليائه وهي إنابة لإلهيته إنابة عبودية ومحبة.
وهي تتضمن أربعة أمور: «محبته والخضوع له والإقبال عليه والإعراض عما سواه»
فلا يستحق اسم (المنيب) إلا من اجتمعت فيه هذه الأربعة وتفسير السلف لهذه اللفظة يدور على ذلك.(1/6)
وفي اللفظة معنى الإسراع والرجوع والتقدم و (المنيب) إلى الله: المسرع إلى مرضاته الراجع إليه كل وقت المتقدم إلى محابه.
(علامات الإنابة:
مسألة : ما هي علامات الإنابة ؟
[*](قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين :
(ومن علامات الإنابة: ترك الاستهانة بأهل الغفلة والخوف عليهم مع فتحك باب الرجاء لنفسك فترجو لنفسك الرحمة وتخشى على أهل الغفلة النقمة ولكن ارج لهم الرحمة واخش على نفسك النقمة فإن كنت لا بد مستهينا بهم ماقتاً لهم لانكشاف أحوالهم لك ورؤية ما هم عليه فكن لنفسك أشد مقتا منك لهم وكن لهم أرجى لهم لرحمة الله منك لنفسك.
قال بعض السلف: لن تفقه كل الفقه حتى تمقت الناس في ذات الله ثم ترجع إلى نفسك فتكون لها أشد مقتا.
وهذا الكلام لا يفقه معناه إلا الفقيه في دين الله فإن من شهد حقيقة الخلق وعجزهم وضعفهم وتقصيرهم بل تفريطهم وإضاعتهم لحق الله وإقبالهم على غيره وبيعهم حظهم من الله بأبخس الثمن من هذا العاجل الفاني لم يجد بدا من مقتهم ولا يمكنه غير ذلك البتة ولكن إذا رجع إلى نفسه وحاله وتقصيره وكان على بصيرة من ذلك: كان لنفسه أشد مقتا واستهانة فهذا هو الفقيه.
(وأما الاستقصاء في رؤية علل الخدمة: فهو التفتيش عما يشوبها من حظوظ النفس «وتمييز حق الرب منها من حظ النفس» ولعل أكثرها أو كلها أن تكون حظا لنفسك وأنت لا تشعر.
فلا إله إلا الله كم في النفوس من علل وأغراض وحظوظ تمنع الأعمال: أن تكون لله خالصة وأن تصل إليه ! وإن العبد ليعمل العمل حيث لا يراه بشر البتة وهو غير خالص لله ويعمل العمل والعيون قد استدارت عليه نطاقا وهو خالص لوجه الله ولا يميز هذا إلا أهل البصائر وأطباء القلوب العالمون بأدوائها وعللها.(1/7)
«فبين العمل وبين القلب مسافة» وفى تلك المسافة قطاع تمنع وصول العمل إلى القلب فيكون الرجل كثير العمل وما وصل منه إلى قلبه محبة ولا خوف ولا رجاء ولا زهد في الدنيا ولا رغبة في الآخرة ولا نور يفرق به بين أولياء الله وأعدائه وبين الحق والباطل ولا قوة في أمره فلو وصل أثر الأعمال إلى قلبه لاستنار وأشرق ورأى الحق والباطل وميز بين أولياء الله وأعدائه وأوجب له ذلك المزيد من الأحوال.
«ثم بين القلب وبين الرب مسافة» وعليها قطاع تمنع وصول العمل إليه من كبر وإعجاب وإدلال ورؤية العمل ونسيان المنة وعلل خفية لو استقصى في طلبها لرأى العجب ومن رحمة الله تعالى: سترها على أكثر العمال إذ لو رأوها وعاينوها لوقعوا فيما هو أشد منها من اليأس والقنوط والاستحسار وترك العمل وخمود العزم وفتور الهمة .
( فصلٌ في منزلة التقوى :
التقوى شيء عظيم ومنزلة سامية وهي أساس الدين ولا حياة إلا بها بل إن الحياة بغيرها لا تُطاق بل هي أدنى من حياة البهائم فليس صلاحٌ للإنسان إلا بالتقوى ، هي كنزٌ عزيز لئن ظفرت به فكم تجد فيه من جوهر شريف وخيرٍ كثير ورزق كريم وفوز كبير وغنمٍ جسيم وملكٍ عظيم، فكأن خيرات الدنيا والآخرة جُمِعَت فجُعِلَت تحت هذه الخصلة الواحدة التي هي التقوى..!
... وتأمل ما في القرآن من ذكرها، فكم عُلِّق بها من خير، وكم وُعِد عليها من خير وثواب، وكم أضيف إليها من سعادة..!
... هذه التقوى ظلالٌ طاب العيش فيها..هذه التقوى حياة كريمة .. فما هي وما تعريفها وكيف تحصل التقوى وما هي ثمراتها وما درجاتها وما هي الأسباب المعينة عليها..؟
[*](عناصر الفصل :
(تعريف التقوى :
(كيف يستدل على تقوى الرجل ؟
(علاقة العلم بالتقوى :
(مراتب التقوى :
(منزلة التقوى :
(وصايا السلف بعضهم بالتقوى :
(علامات التقوى :
(وسائل تحصيل التقوى :
( الأسباب الباعثة على التقوى:
( كيف تكون تقيّاً ؟
(من ثمرات التقوى :
(صفات المتقين :(1/8)
ودونك تفصيل ذلك في إيجازٍ غير مُخِّل : (
(تعريف التقوى :
التقوى هي الاسم من التقى والمصدر الاتقاء وهي مأخوذة من مادة وقى فهي من الوقاية، وهي ما يحمي به الإنسان نفسه ، وتدل على دفع شيء عن شيء لغيره، فالوقاية ما يقي الشيء ، ووقاه الله السوء وقاية أي حفظه..
... وأما المعنى الشرعي : فقد ذكر العلماء في تعريفها عدة عبارات فمن ذلك قولهم..
(أن تجعل بينك وبين ما حرم الله حاجباً وحاجزاً..
(امتثال أوامر الله واجتناب النواهي فالمتقون هم الذين يراهم الله حيث أمرهم، ولا يقدمون على ما نهاهم عنه..
[*] قال ابن رجب رحمه الله : وأصل التقوى أن يجعل العبد بينه وبين ما يخافه ويحذره وقاية تقيه منه، فتقوى العبد لربه أن يجعل بينه وبين ما يخشاه من ربه، من غضبه وسخطه وعقابه وقاية تقيه من ذلك، وهو فعل طاعته واجتناب معاصيه .
[*] وقال القشيري: فالتقوى جماع الخيرات. وحقيقة الاتقاء: التحرر بطاعة الله من عقوبته، وأصل التقوى: اتقاء الشرك، ثم بعد ذلك اتقاء المعاصي والسيئات، ثم بعد ذلك اتقاء الشبهات، ثم بعد ذلك ترك الفضلات .
[*] وقال ابن مسعود في معنى قوله تعالى: (ا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ ) (آل عمران:102): أن يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر.
وقال سهل بن عبدالله: من أراد أن تصح له التقوى فليترك الذنوب كلها.
[*] وقال الروذباري: التقوى: مجانبة ما يبعدك عن الله.
( والتقوى هي الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والقناعة بالقليل ، والاستعداد ليوم الرحيل..
(التقوى أن يجعل المسلم بينه وبين ما يخشاه من ربه من غضبه وسخطه وعقابه وقاية تقيه من ذلك وذلك بفعل طاعته واجتناب معاصيه..(1/9)
("وقد سأل عمر رضي الله عنه أُبَي بن كعب فقال له: ما التقوى؟ فقال أُبَي : يا أمير المؤمنين أما سلكت طريقاً فيه شوك؟ قال: نعم.. قال: ما فعلت؟ ..قال عمر: أشمّر عن ساقي وأنظر إلى مواضع قدمي وأقدم قدما وأؤخر أخرى مخافة أن تصيبني شوكة..فقال أُبَي بن كعب: تلك التقوى..! "، فهي تشمير للطاعة ونظر في الحلال والحرام وورع من الزلل ومخافة وخشية من الكبير المتعال سبحانه وتعالى..
(فالتقوى هي أساس الدين، وبها يرتقى إلى مراتب اليقين، هي زاد القلوب والأرواح فبها تقتات وبه تتقوى وعليها تستند في الوصول والنجاة..
قال ابن المعتز :
خَلِّ الذنوبَ صغيرها ... وكبيرها ذاك التقى
واصنع كَمَاشٍ فوق أرض الشوك ... يَحْذرُ ما يرى
لا تحقِرنَّ صغيرةً ... إن الجبالَ من الحصى
(وتارة تضاف التقوى إلى اسم الله عز وجل كقوله { واتقوا الله}، فإذا أضيفت التقوى إليه سبحانه فالمقصود اتقوا سخطه وغضبه،ليس المقصود اتقوا القرب منه ولا اتقوا شرعه لكن اتقوا عذابه وسخطه ، وعن ذلك ينشأ عقابه الدنيوي والأخروي كما قال تعالى: ( وَيُحَذّرْكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ ) [ آل عمران : 28]، و قال تعالى: ( هُوَ أَهْلُ التّقْوَىَ وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ) [ المدثر : 56]، هو أهلٌ أن يتقى وأن يخشى وأن يهاب وأن يجلّ وأن يعظّم سبحانه وتعالى وأن يعظم في صدور عباده حتى يعبدوه ويطيعوه لأنه المستحق للجلال والإكرام وهو صاحب الكبرياء والعظمة وقوة البطش..
(وتارة تضاف التقوى إلى عقاب الله أو إلى مكان العقاب كالنار قال تعالى: (وَاتّقُواْ النّارَ الّتِيَ أُعِدّتْ لِلْكَافِرِينَ) [ آل عمران : 131] ، أو إلى زمان العقاب كيوم القيامة قال تعالى: (وَاتّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمّ تُوَفّىَ كُلّ نَفْسٍ مّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ) [ البقرة : 281](1/10)
ويدخل في التقوى الكاملة فعل الواجبات وترك المحرمات والشبهات، وربما دخل فيها أيضاً فعل المندوبات وترك المكروهات والمشتبهات فقول الله تعالى :{ آلم * ذلك الكتاب لا ريب فيه هدىً للمتقين} يشمل ذلك كله..
[*] قال ابن القيم رحمه الله : في التقوى في تعريفها الشرعي: حقيقتها العمل بطاعة الله إيماناً واحتساباً أمراً ونهياً، فيفعل ما أمر الله به إيماناً بالآمر وتصديقاً بوعده ، ويترك ما نهى الله عنه إيماناً بالناهي وخوفاً من وعيده..
[*] قال طلق بن حبيب: إذا وقعت الفتنة فأطفئوها بالتقوى، قالوا: و ما التقوى؟قال: أن تعمل بطاعة الله، على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله، على نورٍ من الله، تخاف عقاب الله.."وهذا من أحسن ما قيل في حدّ التقوى"..
والتقوى أيضاً امتثال الأوامر واجتناب النواهي وتكون على ثلاث مراتب هي ما يلي : (
(1) التوقّي من العذاب المخلّد صاحبه و هو المشرك الكافر، وذلك باتباع التوحيد وكلمة التوحيد وهي المقصودة بقوله تعالى: ( وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التّقْوَىَ ) [ الفتح : 26]
أن تتقي كل ما يكون سبب للعذاب في النار ولو لبرهة يسيرة من كبائر وصغائر، وهو المتعارف عليه في الشرع.
(2) أن يتنزه العبد عن ما يشغل نفسه عن الله تعالى ولو كان مباحات تشغله عن السير لله أو تُبَطّيء سيره، فهذه مرتبة الكُمّل وهذه المرتبة العالية فإن الانشغال بالمباحات يشغل القلب عن الله عز وجل وربما يؤدي إلى القسوة وبالتالي يؤدي إلى الوقوع في المكروهات والمكروهات تؤدي للوقوع في المحرمات، وهذا مسلسل يعرفه الإنسان من نفسه في عدد من الأحيان.
قال بعض الواعظين: " اعلم أولاً بارك الله في دينك وزاد يقينك أن التقوى في قول أهل إصلاح الباطن تنزيه القلب عن الذنب حتى تحصل لك من قوة العزم على تركه وقاية بينك وبين سائر المعاصي، وتتوطّن نفسك على ترك كل قبيح".
( و التقوى تُطلَق في القرآن الكريم على عدد من الأمور :(1/11)
(1) تأتي بمعنى الخشية والهيبة كما قال تعالى : ( وَإِيّايَ فَاتّقُونِ ) [ البقرة : 41] أي اخشوني وهابوني، وكذلك في قوله : (وَاتّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ) [ البقرة : 281] أي خافوا هذا اليوم وما فيه .
(2) تأتي بمعنى الطاعة والعبادة كقوله تعالى : (يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اتّقُواْ اللّهَ حَقّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنّ إِلاّ وَأَنْتُمْ مّسْلِمُونَ) [ آل عمران : 102] يعني أطيعوه حق الطاعة واعبدوه حق العبادة، وهو قول مجاهد: أن يطاع فلا يُعصَى وأن يُذكر فلا يُنسى وأن يُشكر فلا يُكفَر.
(3) تطلق على التنزه عن الذنوب وهذه هي الحقيقة في تعريف التقوى في الاصطلاح،قال تعالى: (وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللّهَ وَيَتّقْهِ فَأُوْلََئِكَ هُمُ الْفَآئِزُون) [ النور : 52]، يتقه أي يترك المعاصي والذنوب، فترك الطاعة والخشية ثم ذكر التقوى فعلمنا أن حقيقة التقوى شيء إضافي غير الطاعة والخشية في هذا النص وهو تنزيه القلب عن كل قبيح.
(4) وكذلك يقال في مراتب التقوى أو حالات التقوى:
(أ) اتقاء الشرك.2
(ب) اتقاء البدعة.3
(ج) اتقاء المعصية. ،
والله عز وجل ذكر التقوى ثلاث مرات في آية واحدة ، فقال تعالى: (لَيْسَ عَلَى الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوَاْ إِذَا مَا اتّقَواْ وَآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ ثُمّ اتّقَواْ وَآمَنُواْ ثُمّ اتّقَواْ وّأَحْسَنُواْ وَاللّهُ يُحِبّ الْمُحْسِنِينَ) [ المائدة : 93]، فهذا التكرار ليس تكراراً مجرداً ، فقال بعضهم: التقوى الأولى تقوى عن الشرك، والثانية تقوى عن البدعة، والثالثة عن المعاصي، ويقابل الأولى التوحيد، والثانية السنة، والثالثة الطاعة ، فجمع بين هذه المنازل الثلاث (منزلة الإيمان ومنزلة السنة ومنزلة الاستقامة والطاعة ).(1/12)
وكذلك التقوى يدخل فيها كما تقدم الحذر من المكروهات والمشتبهات ، فلا يبلغ العبد درجة المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذراً مما به بأس، ومن الناس من يتقي نفسه الخلود في النار،هذه همته، ولا يتقي المعاصي التي تدخله جهنم ولو حيناً من الدهر فيقر بالتوحيد ويصدق بالرسول صلى الله عليه وسلم، ويقول أنا مسلم ، و يأتي بأركان الإسلام والإيمان لكن لا يحرص على أن يقي نفسه دخول النار بالكلية فيفرط في واجبات ويفعل محرمات..، فينبغي أن يعلم أي درجة من التقوى هو عليها ، وهذا لا يستحق صاحبه اسم المتقي بإطلاق.لماذا..؟ لأنه متعرض للعذاب مستحق للعقاب بما يفعله إلا أن يتداركه الله برحمته ويدخل في المشيئة، لأن أهل التوحيد ممكن أن يدخلوا في المشيئة، أي يعفو الله عنهم وإن شاء عذبهم بحسب أعمالهم حتى يخرجوا من النار يوماً من الأيام.
ومن الناس من يتقي الكفر وكبائر الذنوب ويعمل طاعات و يفعل واجبات، لكن لا يمتنع من الصغائر ولا يكثر من النوافل، فهذا أقرب للنجاة لكن لا تستطيع أن تطلق عليه أيضاً أنه شخص تقي أو متقي وقد قال تعالى : قال تعالى: (إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفّرْ عَنْكُمْ سَيّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مّدْخَلاً كَرِيماً) [ النساء : 31]، وقوله صلى الله عليه وسلم : ((الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات)) كما جاء في الحديث الآتي : (
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : الصلواتُ الخمس والجمعةُ إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفراتٌ لما بينهنَّ إذا اجتنبت الكبائر .
،(1/13)
لكن قد لا تكفي، قد تكون الصغائر كثيرة جداً بحيث أن هذه لا تكفي للتكفير، ولم يأخذ هذا الشخص جُنّته من النار ووقايته منها بالكامل فهناك تقصير ووقوع في الصغائر، وقد يؤدي إلى الاجتراء على الكبائر فيما يُستَقبل. ... ولذلك قال تعالى: (يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اتّقُواْ اللّهَ حَقّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنّ إِلاّ وَأَنْتُمْ مّسْلِمُونَ) [ آل عمران : 102]، يعني كلها ، ليس أن تتقي الخلود فقط في جهنم، أو تتقي الكبائر فقط ، بل لابد من اتقاء الصغائر أيضاً، اتقاء كل مايؤدي للدخول في النار، أن تجعل بينك وبين النار جنّة حصينة بهذه الطاعات.
[*] قال أبو الدرداء رضي الله عنه : ((تمام التقوى أن يتقي اللهَ العبدُ حتى يتقيه من مثقال ذرة وحتى يترك ما يرى أنه حلال خشية أن يكون حراماً))، طبعاً ليس المقصود أن يترك كل الحلال لكن الحذر يقتضي أحياناً ترك شيء من المباح خشية الوقوع في الحرام، ورَع.فإن الله قد بين للعباد أنه من يعمل مثقال ذرة شرّاً يره، فلابد أحياناً حتى تتقي الذرة من الشر أن توسع الدائرة لتبتعد، ولذلك" لا يرتع غنمه فيه وإنما يبتعد عنه ألا وإن لكل ملكٍ حمى وإن حمى الله محارمه"، ومن اقترب من الحمى أوشك أن يقع فيه.
[*] وقال الحسن رحمه الله : ما زالت التقوى بالمتقين حتى تركوا كثيراً من الحلال مخافة الحرام.
[*] وقال الثوري: إنما سمّوا متقين لأنهم اتقوا ما لا يُتقى" ما لا يُتقى عادة أو ما لا يتقيه أكثر الناس".
فالمتقون تنزهوا عن أشياء من الحلال مخافة أن يقعوا في الحرام فسمّاهم الله متقين، والمتقي أشد محاسبة لنفسه من محاسبة الشريك لشريكه، ولذلك يخلي جميع الذنوب ويتركها كما قال ابن المعتز:
خَلِّ الذنوبَ صغيرها ... وكبيرها ذاك التقى
واصنع كَمَاشٍ فوق أرض الشوك ... يَحْذرُ ما يرى
لا تحقِرنَّ صغيرةً ... إن الجبالَ من الحصى(1/14)
لكن هنا مسألة مهمة وهي فائدة العلم في قضية التقوى، لابد أن تعرف أولاً ما هو الذي تتقيه..
(1) أن تبين لك ما يجب عليك أن تتقي، تعلم أحكام الدين، تعلم الحلال والحرام..
(2) وكذلك قد الإنسان من جهله يمتنع من حلال خالص ظناً منه أنه حرام ، من الجهل ولا يكون في هذا ورع ولا تقوى ولكن حرمان نفس بدون فائدة..
قال بعضهم:"إذا كنت لا تحسن تتقي ؛ أكلت الربا، وإذا كنت لا تحسن تتقي؛ لقيتك امرأة ولم تغض بصرك، وإذا كنت لا تحسن تتقي ؛ وضعت سيفك على عاتقك" ، أي تدخل في الفتن بالجهل، ودخل مسلمين كُثر عبر التاريخ الإسلامي في معارك بين المسلمين لو كان عندهم علم وفقه ما دخلوا فيها، مع أن بعضهم قد يتورع عن أشياء دقيقة جداً ، لكن في الدماء لم يتورع للجهل.
(مسألة الاستصغار التي تقع من كثر من الناس للذنوب ويراها سهلة وليست بشيء، كذباب وقع على أنفه فقال به هكذا فطار، (( إياكم ومحقرات الذنوب))، كما جاء في الحديث الآتي : (
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في السلسلة الصحيحة ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : يا عائشة ! إياك ومحقرات الذنوب ؛ فإن لها من الله طالبا .
( حديث سهل بن سعد رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إياكم و محقرات الذنوب فإنما مثل محقرات الذنوب كمثل قوم نزلوا بطن واد فجاء ذا بعود و جاء ذا بعود حتى حملوا ما أنضجوا به خبزهم و إن محقرات الذنوب متى يؤخذ بها صاحبها تهلكه .
فالنبي صلى الله عليه وسلم حذر منها وشبهها بالأعواد التي يجمعها المسافر أو النازل في مكان فيجمع الأعواد فيوقد ناراً فهذه أعواد ممكن أن توقد عليه نار جهنّم!
[*] قال الإمام أحمد رحمه الله : "التقوى هي ترك ما تهوى لما تخشى " فتترك هواك لأن لك خشية من العذاب ويوم طويل ، و قيل أيضاً في التقوى : " أن لا يراك حيث نهاك ولا يفتقدك حيث أمرك" .
(كيف يستدل على تقوى الرجل ؟(1/15)
مسألة : كيف يستدل على تقوى الرجل ؟
قال بعض أهل العلم :
يستدل على تقوى الرجل بثلاثة أشياء :
(1) حسن التوكل فيما لم ينل
(2) وحسن الرضا فيما قد نال
(3) وحسن الصبر على ما قد مضى.
وقال خالد بن شوذب: شهدت الحسن، وأتاه فرقد السبخي وعليه جبة صوف، فأخذ الحسن بتلابيبه ثم قال: يا فرقد! – مرتين أو ثلاثا – إن التقوى ليس في هذا الكساء، إنما التقوى ما وقر في القلب وصدقه العمل.
(علاقة العلم بالتقوى :
والتقوى لا تقوم إلا على ساق العلم، فالجاهل لا يمكن أن يكون تقيا، لأنه لا يعلم ما يتقى وما لا يتقى، وهذا غاية التخليط.
قال الإمام ابن رجب: وأصل التقوى: أن يعلم العبد ما يتقى ثم يتقى .
وقال بكر بن خنيس: كيف يكون متقيا من لا يدري ما يتقي.
وقال معروف: إذا كنت لا تحسن تتقي: أكلت الربا. وإذا كنت لا تحسن تتقي: لقيتك امرأة فلم تغض بصرك. وإذا كنت لا تحسن تتقي: وضعت سيفك على عاتقك أي: شهرت سيفك وقاتلت في الفتنة.
(مراتب التقوى :
[*] قال الإمام ابن القيم رحمه الله:
التقوى ثلاث مراتب:
إحداها: حمية القلب والجوارح عن الآثام والمحرمات. الثانية: حميتهما عن المكروهات. الثالثة: الحمية عم الفضول وما لا يعني. فالأولى: تعطي العبد حياته، والثانية: تفيد صحته وقوته، والثالثة: تكسبه سروره وفرحه وبهجته.
(منزلة التقوى :
وأما بالنسبة لمنزلة التقوى وشرف هذه المنزلة فإنه شيء عظيم ويكفي أن التقوى وصية الله للأولين والآخرين ، قال تعالى: ( وَلَقَدْ وَصّيْنَا الّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيّاكُمْ أَنِ اتّقُواْ اللّهَ ) [ النساء : 131](1/16)
[*] قال القرطبي رحمه الله : الأمر بالتقوى كان عاماً لجميع الأمم، وقال بعض أهل العلم: هذه الآية هي رحى آي القرآن كله، لأن جميعه يدور عليها، فما من خير عاجل ولا آجل، ظاهر ولا باطن إلا وتقوى الله سبيل موصل إليه ووسيلة مبلّغة له، وما من شر عاجل ولا ظاهر ولا آجل ولا باطن إلا وتقوى الله عز وجل حرز متين وحصن حصين للسلامة منه والنجاة من ضرره.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الشافعي قال :
يريد المرء أن يعلى مناه ويأبى الله إلا ما أرادا
يقول المرء فائدتي ومالي وتقوى الله أفضل ما استفادا
[*] قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في حديث (( اتقِ الله حيثما كنت)): " ما أعلم وصية أنفع من وصية الله ورسوله لمن عقلها واتبعها قال تعالى: { وَلَقَدْ وَصّيْنَا الّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيّاكُمْ أَنِ اتّقُواْ اللّهَ }، ووصى النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً لما بعثه إلى اليمن فقال : يا معاذ اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن "..(1/17)
وكان معاذ رضي الله عنه من النبي صلى الله عليه وسلم بمنزلة عالية فإنه قال له : يا معاذ والله إني لأحبك، وإذا كان يحب معاذ فهل ستكون الوصية وصية عابرة؟ ، والإنسان يجتهد في وصية من يحب أكثر من اجتهاده في وصية من لا يحبه تلك المحبة، ومعاذ أقسم له النبي صلى الله عليه وسلم أنه يحبه فكيف ستكون الوصية له؟، ستكون وصية عظيمة جداً ، ولذلك قال له : يا معاذ .. اتقِ الله حيثما كنت..، وهو من كبار الصحابة وسادات القوم وأعلم الأمة بالحلال والحرام وكان النبي صلى الله عليه وسلم يثق به جداً وأرسله لمناطق كثيرة ولليمن وولاّه وجعله قاضياً وحاكماً، و يحشر يوم القيامة أمام العلماء برتوة معاذ بن جبل ، بعثه داعياً ومفتياً وحاكماً إلى أهل اليمن، وكان يُشبّه بإبراهيم عليه السلام لأن ابن مسعود رضي الله عنه كان يقول :إن معاذاً كان أمة قانتاً لله حنيفاً ولم يكن من المشركين..، وابن مسعود من قدامى المهاجرين ورأس في العلم و الزهد و يشهد لمعاذ بهذه الشهادة ومع ذلك يقول له صلى الله عليه وسلم : ((يا معاذ اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن )).
[*] قال العلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:(1/18)
( اتَّقِ اللَّهَ ) أسَيْ بِالْإِتْيَانِ بِجَمِيعِ الْوَاجِبَاتِ وَالِانْتِهَاءِ عَنْ سَائِرِ الْمُنْكَرَاتِ, فَإِنَّ التَّقْوَى أَسَاسُ الدِّينِ وَبِهِ يَرْتَقِي إِلَى مَرَاتِبِ الْيَقِينِ ( حَيْثُ مَا كُنْتَ ) أَيْ فِي الْخَلَاءِ وَفِي النَّعْمَاءِ وَالْبَلَاءِ, فَإِنَّ اللَّهَ عَالِمٌ بِسِرِّ أَمْرِكَ كَمَا أَنَّهُ مُطَّلِعٌ عَلَى ظَوَاهِرِكَ, فَعَلَيْكَ بِرِعَايَةِ دَقَائِقِ الْأَدَبِ فِي حِفْظِ أَوَامِرِهِ وَمَرَاضِيهِ, وَالِاحْتِرَازِ عَنْ مَسَاخِطِهِ وَمَسَاوِيهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ( وَأَتْبِعْ ) أَمْرٌ مِنْ بَابِ الْإِفْعَالِ وَهُوَ مُتَعَدٍّ إِلَى مَفْعُولَيْنِ ( السَّيِّئَةَ ) الصَّادِرَةَ مِنْ صَغِيرَةٍ وَكَذَا كَبِيرَةٍ عَلَى مَا شَهِدَ بِهِ عُمُومُ الْخَبَرِ وَجَرَى عَلَيْهِ بَعْضُهُمْ لَكِنْ خَصَّهُ الْجُمْهُورُ بِالصَّغَائِرِ ( الْحَسَنَةَ ) صَلَاةً أَوْ صَدَقَةً أَوِ اسْتِغْفَارًا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ ( تَمْحُهَا ) أَيْ تَدْفَعُ الْحَسَنَةُ السَّيِّئَةَ وَتَرْفَعُهَا, وَالْإِسْنَادُ مَجَازِيٌّ, وَالْمُرَادُ يَمْحُو اللَّهُ بِهَا آثَارَهَا مِنَ الْقَلْبِ أَوْ مِنْ دِيوَانِ الْحَفَظَةِ, وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَرَضَ يُعَالَجُ بِضِدِّهِ فَالْحَسَنَاتُ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ( وَخَالِقِ النَّاسَ ) أَمْرٌ مِنَ الْمُخَالَقَةِ مَأْخُوذٌ مِنَ الْخُلُقِ مَعَ الْخَلْقِ أَيْ خَالِطْهُمْ وَعَامِلْهُمْ ( بِخُلُقٍ حَسَنٍ ) أَيْ تَكَلَّفْ مُعَاشَرَتَهُمْ بِالْمُجَامَلَةِ فِي الْمُعَامَلَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ نَحْوِ طَلَاقَةِ وَجْهٍ, وَخَفْضِ جَانِبٍ, وَتَلَطُّفٍ وَإِينَاسٍ, وَبَذْلِ نَدًى, وَتَحَمُّلِ أَذًى, فَإِنَّ فَاعِلَ ذَلِكَ يُرْجَى لَهُ فِي الدُّنْيَا الْفَلَاحُ, وَفِي الْآخِرَةِ الْفَوْزُ بِالنَّجَاةِ وَالنَّجَاحِ.(1/19)
[*] وقال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير :
( اتق الله ) بامتثال أمره وتجنب نهيه
( حيثما كنت ) أي وحدك أو في جمع فإن كانوا أهل بغي أو فجور فعليك بخويصة نفسك أو المراد في أي زمان ومكان كنت فيه رآك الناس أم لا فإن الله مطلع عليك واتقوا الله إن الله كان عليكم رقيباً ، والخطاب لكل من يتوجه إليه الأمر فيعم كل مأمور وأفراد الضمير باعتبار كل فرد وما زائدة بشهادة رواية حذفها وهذا من جوامع الكلم فإن التقوى وإن قل لفظها كلمة جامعة فحقه تقدس أن يطاع فلا يعصى ويذكر فلا ينسى ويشكر فلا يكفر بقدر الإمكان ، ومن ثم شملت خير الدارين إذ هي تجنب كل منهي عنه وفعل كل مأمور به فمن فعل ذلك فهو من المتقين الذين أثنى عليهم في كتابه المبين ثم نبه على تدارك ما عساه يفرط من تقصيره في بعض الأوامر والتورط في بعض النواهي فقال ( واتبع ) بفتح الهمزة وسكون المثناة فوق وكسر الموحدة ألحق ( السيئة ) الصادرة منك صغيرة وكذا كبيرة كما اقتضاه ظاهر الخبر والحسنة بالنسبة إليها التوبة منها فلا ملجئ لقصره على الصغيرة كما ظن وأيا مّا كان فالحسنات تؤثر في السيئات بالتخفيف منها يعني ألحق ( الحسنة ) إياها صلاة أو صدقة أو استغفاراً أو تسبيحاً أو غيرها ( تمحها ) أي السيئة المثبتة في صحيفة الكاتبين وذلك لأن المرض يعالج بضده كالبياض يزال بالسواد وعكسه { إن الحسنات يذهبن السيئات } يعني فلا يعجزك إذا فرطت منك سيئة أن تتبعها حسنة كصلاة قال ابن عربي : والحسنة تمحو السيئة سواء كانت قبلها أو بعدها وكونها بعدها أولى إذ الأفعال تصدر عن القلوب وتتأثر بها فإذا فعل سيئة فقد تمكن في القلب اختيارها فإذا أتبعها حسنة نشأت عن اختيار في القلب فتمحو ذلك وظاهر قوله تمحها أنها تزال حقيقة من الصحيفة وقيل عبر يه عن ترك المؤاخذة ثم إن ذا يخص من عمومه السيئة المتعلقة بآدمي فلا يمحها إلا الاستحلال مع بيان جهة الظلامة إن أمكن ولم يترتب(1/20)
عليه مفسدة وإلا فالمرجو كفاية الاستغفار والدعاء ( وخالق الناس بخلق ) بضمتين ( حسن ) بالتحريك أي تكلف معاشرتهم بالمجاملة من نحو طلاقة وجه وحلم وشفقة وخفض جانب وعدم ظن السوء بهم وتودد إلى كل كبير وصغير وتلطف في سياستهم مع تباين طباعهم ، يقال فلان يتخلق بغير خلقه أي يتكلف وجمع هذا بعضهم في قوله : وأن تفعل معهم ما تحب أن يفعلوه معك فتجتمع القلوب وتتفق الكلمة وتنتظم الأحوال وذلك جماع الخير وملاك الأمر ، والخلق بالضم الطبع والسجية وعرفاً ملكة نفسانية تحمل على فعل الجميل وتجنب القبيح كذا ذكره البعض هنا وليس بصواب فإنه تفسير لمطلق الخلق بالخلق الحسن وهو فاسد وقد تكفل حجة الإسلام بتعريفه على طرف التمام فقال : الخلق هيئة للنفس تصدر عنها الأفعال بسهولة وسر من غير حاجة إلى فكر وروية فإن كانت الهيئة بحيث تصدر عنها الأفعال الجميلة المحمودة عقلاً وشرعاً سميت الهيئة التي هي المصدر خلقاً حسناً وإن كان الصادر عنها الأفعال القبيحة سميت الهيئة التي هي المصدر خلقاً سيئاً وحسن [ ص 121 ] الخلق وإن كان جلياً لكن في الحديث رمز إلى إمكان اكتسابه وإلا لما صح الأمر به كما سيجيء إيضاحه والأمر به عام خص بمستحقه فخرج الكفرة والظلمة فأغلظ عليهم ثم هذا الحديث من القواعد المهمة لإبانته لخير الدارين وتضمنه لما يلزم المكلف من رعاية حق الحق والخلق . وقال بعضهم : وهو جامع لجميع أحكام الشريعة إذ لا يخرج عنه شيء وقال آخر فصل فيه تفصيلاً بديعاً فإنه اشتمل على ثلاثة أحكام كل منها جامع في بابه ومترتب على ما قبله ( تنبيه ) قال الراغب : الفرق بين الخلق والتخلق أن التخلق معه استثقال واكتساب ويحتاج إلى بعث وتنشيط من خارج والخلق معه استخفاف وارتياح ولا يحتاج إلى بعث من خارج .
مسألة : ما ذا نفهم من وصية النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ رضي الله عنه بالتقوى مع أن معاذ بهذه المنزلة ؟(1/21)
أن المرء محتاج للتقوى ولو كان أعلم العلماء، وأتقى الأتقياء، يحتاج إلى التقوى لأن الإنسان تمر به حالات، ويضعف في حالات، يحتاج إلى التقوى للثبات عليها ، يحتاج إلى التقوى للازدياد منها. اتق الله حيثما كنت، في السر والعلانية، أتبع السيئة الحسنة تمحها، لماذا بدأ بالسيئة؟ ، لأنها هي المقصودة الآن، عند التكفير الاهتمام يكون بالسيئة، لا لفضلها ، ولكن لأنها المشكلة التي ينبغي حلّها. وخالق الناس بخلق حسن..، هناك أشياء بين العبد وخالقه وبينه والناس، هذه وصية جامعة. والكيّس لا يزال يأتي من الحسنات بما يمحو به السيئات، و ليس المقصود الآن هو فعل الحسنات ، وإنما كيف تكفر السيئة، لذلك بدأ فيها، وإلا فقد دلّ على حسنات كثيرة في أحاديث أخرى ولم يذكر السيئة فيها ، لأن المقصود تعليم الناس الحسنات، لكن هنا المقصود تعليم الناس كيفية تكفير السيئة.
الطبيب متى تناول المريض شيئاً مضر أمره بما يصلحه، وكأن الذنب للعبد حتمٌ ولذلك قال: (( اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها))، إذاً تحرص على التقوى وإذا حصل وأذنبت تعرف الطريق، اعمل الحسنات لتمحو ما ارتكبت من السيئات. فهذه الوصية لحقوق الله وحقوق عباده من النبي صلى الله عليه وسلم وهو كذلك صلى الله عليه وسلم أوصى أصحابه لما أحسوا بدنو أجله ، كما جاء في الحديث الآتي : (
(حديث العرباض بن سارية في صحيح أبي داوود والترمذي) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال أوصيكم بتقوى الله و السمع و الطاعة و أن أمر عليكم عبد حبشي فإنه من يعش منكم بعدي فسيري اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي و سنة الخلفاء المهديين الراشدين تمسكوا بها و عضوا عليها بالنواجذ و إياكم و محدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة و كل بدعة ضلالة .
فالحاصل : أول شيء بدأ به تقوى الله ،
(والتقوى هي رأس كل شيء بنص السنة الصحيحة كما جاء في الحديث الآتي : ((1/22)
( حديث أبي سعيد رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع )أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :أوصيك بتقوى الله تعالى فإنه رأس كل شيء و عليك بالجهاد فإنه رهبانية الإسلام و عليك بذكر الله تعالى و تلاوة القرآن فإنه روحك في السماء و ذكرك في الأرض .
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:(1/23)
( أوصيك بتقوى اللّه فإنه رأس الأمر كله وعليك بتلاوة القرآن وذكر اللّه فإنه ذكر لك في السماء ) يعني يذكرك الملأ الأعلى بسببه بخير ( ونور لك في الأرض ) أي بهاء وضياء يعلو بين أهل الأرض وهذا كالمشاهد المحسوس فيمن لازم تلاوته بشرطها من الخشوع والتدبر والإخلاص . قال الزمخشري : فعلى كل ذي علم أن لا يغفل عن هذه المنة والقيام بشكرها ( وعليك بطول الصمت ) أي الزم السكوت ( إلا في خير ) كتلاوة وعلم وإنذار مشرف على هلاك وإصلاح بين الناس ونصيحة وغير ذلك ( فإنه مطردة للشيطان ) أي مبعدة له ( عنك ) يقال طردته أبعدته كما في الصحاح وغيره وهو مطرود وطريد واطرده السلطان بالألف أمر بإخراجه عن البلد . وقال الزمخشري : طرده أبعده ونحاه وهو شريد طريد ومشرد مطرد .(1/24)
قال ابن السكيت : طرده نفاه وقال له اذهب عنا ( وعون لك على أمر دينك ) أي ظهير ومساعد لك عليه ( إياك وكثرة الضحك فإنه يميت القلب ) أي يغمسه في الظلمات فيصيره كالأموات قال الطيبي : والضمير في أنه وفي فإنه يميت واقع موقع الإشارة أي كثرة الضحك تورث قسوة القلب وهي مفضية إلى الغفلة وليس موت القلب إلا الغفلة ( ويذهب بنور الوجه ) أي بإشراقه وضيائه وبهائه قال الماوردي : واعتياد الضحك شاغل عن النظر في الأمور المهمة مذهل عن الفكر في النوائب المسلمة وليس لمن أكثر منه هيبة ولا وقار ولا لمن وسم به خطر ولا مقدار وقال حجة الإسلام : كثرة الضحك والفرح بالدنيا سم قاتل يسري إلى العروق فيخرج من القلب الخوف والحزن وذكر الموت وأهوال القيامة وهذا هو موت القلب { وفرحوا بالحياة الدنيا وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع } ( عليك بالجهاد ( 1 ) فإنه رهبانية أمتي ) كما تقرر وجهه فيما قبله ( أحب المساكين ) المراد بهم ما يشمل الفقراء كما سبق في أمثاله ( وجالسهم ) فإن مجالستهم ترق القلب وتزيد في التواضع وتدفع الكبر ( انظر إلى من ) هو ( تحتك ) أي دونك في الأمور الدنيوية ( ولا تنظر إلى من هو فوقك ) فيها ( فإنه أجدر ) أي أحق وأخلق يقال هو جدير بكذا أي خليق وحقيق ( أن لا تزدري نعمة اللّه عندك ) كما سبق بتوجيهه أما في الأمور الأخروية فينظر إلى من فوقه ( صل قرابتك ) بالإحسان إليهم ( وإن قطعوك ) فإن قطيعتهم ليست عذراً لك في قطيعتهم ( قل الحق ) أي الصدق يعني مر بالمعروف وانه عن المنكر ( وإن كان مُرّاً ) أي وإن كان في قوله مرارة أي مشقة على القائل فإنه واجد أي ما لم يخف على نفسه أو ماله أو عرضه مفسدة فوق مفسدة المنكر الواقع . قال الطيبي : شبه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لمن يأباه بالصبر فإنه مرّ المذاق لكن عاقبته محممودة .(1/25)
قال بعض العارفين : من أمراض النفس التي يجب التداوي منها أن يقول الإنسان أنا أقول ولا أبالي وإن كره المقول له من غير نظر إلى الفضول ومواطنه ثم تقول : أعلنت الحق وعز عليه ويزكي نفسه ويجرح غيره ومن لم يجعل القول في موضعه أدى إلى التنافر والتقاطع والتدابر ثم إن بعد هذا كله [ ص 77 ] لا يكون ذلك إلا ممن يعلم ما يرضي اللّه من جميع وجوهه المتعلقة بذلك المقام لقوله سبحانه وتعالى { لا خير في كثير من نجواهم } الآية ثم قال : { ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات اللّه } ثم زاد في التأكيد في قول الحق قوله ( لا تخف في اللّه لومة لائم ) أي كن صلباً في دينك إذا شرعت في إنكار منكر وأمر بمعروف وامض فيه كالمسامير المحماة لا يرعك قول قائل ولا اعتراض معترض ( ليحجزك عن الناس ما تعلم من نفسك ) أي ليمنعك عن التكلم في أعراض الناس والوقيعة فيهم ما تعلم من نفسك من العيوب فقلما تخلو أنت من عيب يماثله أو أقبح منه وأنت تشعر أو لا تشعر ( ولا تجد عليهم فيما يأتون ) أي ولا تغضب عليهم فيما يفعلونه معك يقال وجد عليه موجدة غضب ( وكفى بالمرء عيباً أن يكون فيه ثلاث خصال أن يعرف من الناس ما يجهل من نفسه ) أي يعرف من عيوبهم ما يجهله من نفسه ( ويستحي مما هو فيه ) أي ويستحي منهم أن يذكروه مما هو فيه من النقائص مع إصراره عليها وعدم إقلاعه عنها ( ويؤذي جليسه ) بقول أو فعل ولهذا روي أن أبا حنيفة كان يحيي نصف الليل فمرّ يوماً في طريق فسمع إنساناً يقول هذا الرجل يحيي الليل كله فقال : أرى الناس يذكرونني بما ليس فيَّ فلم يزل بعد ذلك يحيي الليل كله وقال : أنا أستحي من اللّه أن أوصف بما ليس فيَّ من عبادته ( يا أبا ذر لا عقل كالتدبير ) أي في المعيشة وغيرها والتدبير نصف المعيشة ( 2 ) ( ولا ورع كالكف ) أي كف اليد عن تناول ما يضطرب القلب في تحليله وتحريمه فإنه أسلم من أنواع ذكرها المتورعون من التأمل في أصول المشتبه والرجوع إلى دقيق(1/26)
النظر عما حرمه اللّه ( ولا حسب ) أي ولا مجد ولا شرف ( كحسن الخلق ) بالضم إذ به صلاح الدنيا والآخرة وناهيك بهذه الوصايا العظيمة القدر الجامعة من الأحكام والحكم والمعارف ما يفوق الحصر فأعظم به من حديث ما أفيده .
(والتقوى جماع كل خير بنص السنة الصحيحة كما جاء في الحديث الآتي : (
(حديث أبي سعيد رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب ) قال :جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أوصني ، قال عليك بتقوى الله فإنها جماع كل خير .
(وقد أمر النبي بالتقوى سراً وعلانية بنص السنة الصحيحة كما جاء في الحديث الآتي : (
(حديث أبي ذر رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أوصيك بتقوى الله تعالى في سر أمرك و علانيته و إذا أسأت فأحسن و لا تسألن أحدا شيئا و لا تقبض أمانة و لا تقض بين اثنين .
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير :
( أوصيك بتقوى اللّه في سر أمرك وعلانيته ) أي في باطنه وظاهره والقصد الوصية بإخلاص التقوى وتجنب الرياء فيها قال حجة الإسلام : وإذا أردنا تحديد التقوى على موضع علم السر نقول الحد الجامع تبرئة القلب عن شر لم يسبق عنك مثله بقوة العزم على تركه حتى يصير كذلك وقاية بينك وبين كل شر قال : وهنا أصل أصيل وهو أن العبادة شطران اكتساب وهو فعل الطاعات واجتناب وهو تجنب السيئات وهو التقوى وشطر الاجتناب أصلح وأفضل وأشرف للعبد من الاكتساب يصوموا نهارهم ويقوموا ليلهم واشتغل المنتبهون أولو البصائر والاجتناب إنما همتهم حفظ القلوب عن الميل لغيره تعالى والبطون عن الفضول والألسنة عن اللغو والأعين عن النظر إلى ما لا يعنيهم
( وإذا أسأت فأحسن ) { إن الحسنات يذهبن السيئات }
( ولا تسألن أحداً ) من الخلق(1/27)
( شيئاً ) من الرزق ارتقاء إلى مقام التوكل فلا تعلق قلبك بأحد من الخلق بل بوعد اللّه وحسن كفايته وضمانه { وما من دابة في الأرض إلا على اللّه رزقها } وقد قال أهل الحق : ما سأل إنسان الناس إلا لجهله باللّه تعالى وضعف يقينه بل إيمانه وقلة صبره وما تعفف متعفف إلا لوفور علمه باللّه وتزايد معرفته به وكثرة حيائه منه
( ولا تقبض أمانة ) وديعة أو نحوها مصدر أمن بالكسر أمانة فهو أمين ثم استعمل في الأعيان مجازاً فقيل الوديعة أمانة ونحو ذلك والنهي للتحريم إن عجز عن حفظها وللكراهة إن قدر ولم يثق بأمان نفسه وإن وثق بأمانة نفسه فإن قدر ووثق ندب بل إن تعين وجب
( ولا تقض بين اثنين ) لخطر أمر القضاء وحسبك في خطره خير من ولي القضاء فقد ذبح بغير سكين والخطاب لأبي ذر وكان يضعف عن [ ص 76 ] ذلك كما صرح به في الحديث .
( والتقوى هي الميزان الصحيح والمقياس الدقيق المعتبر لتفضيل الناس بعضهم على بعض :
(حديث جابر رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : يا أيها الناس ! إن ربكم واحد ، وإن أباكم واحد ، ألا لا فضل لعربي على عجمي ، ولا لعجمي على عربي ، ولا لأحمر على أسود ، ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } ، ألا هل بلغت ؟ قالوا: بلى يا رسول الله ! قال: فيبلغ الشاهد الغائب .
(وكان النبي صلى الله عليه وسلم كان يسألها في دعائه كما جاء في الحديث الآتي : (
(حديث ابن مسعود في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول : اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى .
وكما في دعاء السفر الآتي : ((1/28)
(حديث ابن عمر في صحيح مسلم ) أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا استوى على بعيره خارجا إلى سفر كبر ثلاثا ثم قال ! سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون >! اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى ومن العمل ما ترضى اللهم هون علينا سفرنا هذا واطو عنا بعده اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر وكآبة المنظر وسوء المنقلب في المال والأهل وإذا رجع قالهن وزاد فيهن آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون .
والنبي صلى الله عليه وسلم أوصى مسافراً فقال: (( أوصيك بتقوى الله والتكبير على كل شرف)) كما في الحديث الآتي : (
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة ) أن رجلا قال يا رسول الله إني أريد أن أسافر فأوصني قال عليك بتقوى الله والتكبير على كل شرف .
فالحاصل : أن التقوى في السفر بالذات لها طعم خاص، فالمسافر يغيّر مكانه وحاله، وقد يكون في بلاد الغربة لا يخشى مما يخشى منه في بلده وموطنه، ولا يخشى فضيحة لو عرف، لكن في بلده يخاف الفضيحة، لذلك كانت ملازمة التقوى في السفر مهمة جداً.
وعلى كل حال الإنسان يسأل الله التقوى في السفر والحضر والنبي صلى الله عليه وسلم كان يقول : (( اللهم آت نفوسنا تقواها وزكها أنت خير من زكّاه أنت وليها ومولاها)).
(حديث زيد ابن أرقم في صحيح مسلم ) قال كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : اللهم آت نفسي تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها ، اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع ومن قلب لا يخشع ومن نفس لا تشبع ومن دعوة لا يستجاب لها .
(جميع الرسل الكرام كانوا يوصون بالتقوى :
قال تعالى: (إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلاَ تَتّقُونَ) [ الشعراء : 106]
و قال تعالى: (إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلاَ تَتّقُونَ) [ الشعراء : 124](1/29)
و قال تعالى: (إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلا تَتّقُونَ) [ الشعراء : 142]
و قال تعالى: (إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتّقُونَ) [ الشعراء : 161] ،
و قال تعالى: (إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلاَ تَتّقُونَ) [ الشعراء : 177]،
فهذه إذاً منزلة التقوى عرفناها من خلال الوصايا والإنذارات والدعوة التي أطلقها الرسل لأقوامهم.
(التقوى خير لباس..، فالتقوى أجمل لباس يتزين به العبد قال تعالى: (يَابَنِيَ آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللّهِ لَعَلّهُمْ يَذّكّرُونَ) [ الأعراف : 26]،
منّ الله بهذا عليهم ، والمنّة تقتضي الإباحة، إذا جاء الأمر في سياق الامتنان يفيد الإباحة، مثلاً قال تعالى: (وَهُوَ الّذِي سَخّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا ) [ النحل : 14]،
ما دام ذكرها في مقام المنّة؛ أفاد الإباحة، لأنه لا يمتنّ على عباده بما حرّم عليهم وإنما يمتنّ عليهم بما أحلّ لهم فقال { يَا بَنِيَ آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً }، ولكن ذكرهم في ذات الوقت بما هو أهم ، فقال في لباس معنوي غير اللباس الحسّي أنفس منه وأعلى { وَلِبَاسُ التّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ } ، واللباس يستر العورات فهو اللباس الأصلي، والريش هو ما يُتجمَّل به ، فلما أخبرهم بما يسترون به ظاهرهم ؛ نبّههم إلى ما يسترون به باطنهم، لما أرشدهم إلى ما يزينون به ظاهرهم؛ نبههم إلى ما يزينون به بواطنهم فقال: {ولباس التقوى ذلك خير}.
(ولله درُّ من قال :
إذا المرء لم يلبس ثياباً من التقى ... تقلب عُرياناً وإن كان كاسياً
وخيرُ لِباسِ المرء طاعة ربه ... ولا خير فيمن كان لله عاصياً(1/30)
لباس التقوى العمل الصالح، الحياء، السمت الحسن، العلم ، لكن البعض فهم قال هذا لباس التقوى الخشن من الثياب..!، يلبس الإنسان ما وجد، نعم.. يتواضع في الملبس، ومن ترك اللباس تواضعاً لله؛ فإن الله سبحانه وتعالى يكافئه يوم القيامة بالحلل العظيمة وبالحور العين.
(أهل التقوى هم أولياء الله :
قال تعالى: (أَلآ إِنّ أَوْلِيَآءَ اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * الّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتّقُونَ) [ يونس 62: 63]
و قال تعالى: (إِنّهُمْ لَن يُغْنُواْ عَنكَ مِنَ اللّهِ شَيْئاً وَإِنّ الظّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَاللّهُ وَلِيّ الْمُتّقِينَ) [ الجاثية : 19]،
فالمتقون هم أصحاب الولاية حقاً، المجتهدون في فعل الطاعات والنوافل (( ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه)) كما جاء في الحديث الآتي : (
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : قال الله تعالى من عاد لي ولياً فقد آذنته بالحرب ، وما تقرب إلىَّ عبدي بشيءٍ مما افترضته عليه ، وما يزال عبدي يتقرب إليِّ بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله الذي يمشي بها ، ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنَّه ، وما ترددتُ عن شيءٍّ أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته .(1/31)
(ومن هنا يتبين كذب ودجل ادعاء من قالوا أنهم أولياء الصوفية وهم يرقصون ويضربون بالطبل في الموالد، ويتمايلون ويتساقطون ويزعمون الصرع، ويعاشرون المردان والنسوان كما نقل عنهم العلماء ، هؤلاء هم مشايخ الصوفية، ويقولون نحن أولياء الله ، ويستغاث بهم..!!،سجدوا خلف من يزعمون أنه ولي فأطال السجود في الصلاة ثم رفعوا رؤوسهم فإذا هو ساجد، ورفعوا رؤوسهم أخر ى فإذا هو كذلك، وبعد الصلاة قالوا خشينا عليك فأراهم كمّي ثوبه مبتلة بالماء قالوا أين كنت ؟ قال: استنجد بي ناس في عرض البحر على وشك الغرق فأنجدتهم ثم عدت إلى صلاتي..!،فإذاً مسألة الأولياء هؤلاء قصة طويلة في عالم الخرافة والبدع ولذلك الله عز وجل جعل لنا فرقاناً نفرق به بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان..، فقال تعالى: (أَلآ إِنّ أَوْلِيَآءَ اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * الّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتّقُونَ) [ يونس 62: 63]
و قال تعالى: ( إِلاّ الْمُتّقُونَ وَلََكِنّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ) [ الأنفال : 34]
(وجعل الله عز وجل التقوى هي الميزان عنده في التفاضل بين الناس :
قال تعالى: ( إِنّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللّهِ أَتْقَاكُمْ إِنّ اللّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) [ الحجرات : 13]
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) قال : قيل يا رسول الله، من أكرم الناس؟ قال: (أتقاهم). فقالوا: ليس عن هذا نسألك، قال: (فيوسف نبي الله، ابن نبي الله، ابن نبي الله، ابن خليل الله). قالوا: ليس عن هذا نسألك، قال: (فعن معادن العرب تسألون؟ خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام، إذا فقهوا).
فالفضل والكرم إنما هو بتقوى الله لا بغيره من الانتساب للقبائل ولذلك كما قال الشاعر:
فقد رفع الإسلام سلمان فارسٍ
وقد وضع الكفر الشريف أبا لهب
وذُكِر أن سلمان رضي الله عنه كان يقول:
أبي الإسلام لا أبَ لي سواه : إذا افتخروا بقيسٍ أو تميمِ(1/32)
(ومن شرف التقوى أن الله أمر بالتعاون من أجلها :
قال تعالى: ( وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرّ وَالتّقْوَىَ وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتّقُواْ اللّهَ إِنّ اللّهَ شَدِيدُ آلْعِقَابِ ) [ المائدة : 2]، ومصالح العباد لا تتم إلا بها. وكذلك فإن التقوى منبع الفضائل فالرحمة والوفاء والصدق والعدل والورع والبذل والعطاء كلها من ثمرات شجرة التقوى إذا أينعت في قلب المؤمن وهي الأنس من الوحشة والمنجية من عذاب الله ،
(ولله درُّ من قال :
ألا فاسلك إلى المولى سبيلا ... ولا تطلب سوى التقوى دليلا
وسر فيها بجد وانتهاض ... تجد فيها المنى عرضا وطولا
ولا تركن إلى الدنيا وعوّل ... على مولاك واجعله وكيلا
وان أحببت أن تعتزّ عزا ... يدوم فكن له عبدا ذليلا
وواصل من أناب إليه واقطع ... وصال المسرفين تكن نبيلا
ولا تفني شبابك واغتنمه ... ومثل بين عينيك الرحيلا
ولا تصل الدنيا واهجر بنيها ... على طبقاتهم هجرا جميلا
وعامل فيهم المولى بصدق ... يضع لك في قلوبهم القبولا
(وصايا السلف بعضهم بالتقوى :
(ولم يزل السلف الصالح يتواصون بها وهاك غيضٌ من فيض مما ورد في ذلك :
[*] كان أبو بكر يقول في خطبته : ((أوصيكم بتقوى الله))، ولم حضرت الوفاة دعا بالوصية لعمر وقال : ((اتقِ الله يا عمر ))،
[*] و كتب عمر بها لابنه فقال: ((أما بعد فإني أوصيك بتقوى الله عز وجل))،
[*] واستعمل علي بن أبي طالب رضي الله عنه رجلاً على سرية فقال: (( أوصيك بتقوى الله الذي لا بد لك من لقائه )) ،(1/33)
[*] وكتب عمر بن عبد العزيز إلى رجل : (( أوصيك بتقوى الله عز وجل التي لا يقبل غيرها ولا يرحم إلا أهلها ولا يثيب إلا عليها فإن الواعظين بها كثير والعاملين بها قليل، جعلنا الله وإياك من المتقين ))، ولما ولّي خطب حمد الله وأثنى عليه وقال: (( أوصيكم بتقوى الله عز وجل فإن تقوى الله عز وجل خلف من كل شيء وليس من تقوى الله خلف))، التقوى يمكن أن تعوّض أي شيء ، لكن إذا فقدت لا يعوضها شيء.
[*] وقال رجل ليونس بن عُبَيد أوصني قال : (( أوصيك بتقوى الله والإحسان فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون))،
[*] وكتب رجل من السلف إلى أخيه : (( أوصيك وأنفسنا بالتقوى فإنها خير زاد الآخرة والأولى واجعلها إلى كل خير سبيلك ومن كل شر مهربك، فقد توكل الله عز وجل لأهلها بالنجاة مما يحذرون والرزق من حيث لا يحتسبون))،
[*] وكتب ابن السمّاك الواعظ إلى أخٍ له : ((أما بعد أوصيك بتقوى الله الذي هو نجيُّك في سريرتك، و رقيبك في علانيتك، فاجعل الله من بالك على كل حال، في ليلك ونهارك وخف الله بقدر قربه منك وقدرته عليك، واعلم أنك ليس تخرج من سلطانه إلى سلطان غيره، ولا من ملكه إلى ملك غيره ، فليعظم منه حذرك، و ليكثر منه وجلك والسلام)).
(ولم يزل السلف الصالح يتواصون بها وهاك غيضٌ من فيض مما ورد في ذلك :
[*] كان أبو بكر يقول في خطبته : ((أوصيكم بتقوى الله))، ولم حضرت الوفاة دعا بالوصية لعمر وقال : ((اتقِ الله يا عمر ))،
[*] و كتب عمر بها لابنه فقال: ((أما بعد فإني أوصيك بتقوى الله عز وجل))،
[*] واستعمل علي بن أبي طالب رضي الله عنه رجلاً على سرية فقال: (( أوصيك بتقوى الله الذي لا بد لك من لقائه )) ،(1/34)
(ودخل عليٌ رضي الله عنه المقبرة فقال : يا أهل القبور ما الخبر عندكم، إن الخبر عندنا أن أموالكم قد قسمت وأن بيوتكم قد سكنت وأن زوجاتكم قد زوجّت ، ثم بكى ثم قال: والله لو استطاعوا أن يجيبوا لقالوا إنا وجدنا أن خير الزاد التقوى.
[*] وكتب عمر بن عبد العزيز إلى رجل : (( أوصيك بتقوى الله عز وجل التي لا يقبل غيرها ولا يرحم إلا أهلها ولا يثيب إلا عليها فإن الواعظين بها كثير والعاملين بها قليل، جعلنا الله وإياك من المتقين ))، ولما ولّي خطب حمد الله وأثنى عليه وقال: (( أوصيكم بتقوى الله عز وجل فإن تقوى الله عز وجل خلف من كل شيء وليس من تقوى الله خلف))، التقوى يمكن أن تعوّض أي شيء ، لكن إذا فقدت لا يعوضها شيء.
[*] وقال رجل ليونس بن عُبَيد أوصني قال : (( أوصيك بتقوى الله والإحسان فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون))،
[*] وكتب رجل من السلف إلى أخيه : (( أوصيك وأنفسنا بالتقوى فإنها خير زاد الآخرة والأولى واجعلها إلى كل خير سبيلك ومن كل شر مهربك، فقد توكل الله عز وجل لأهلها بالنجاة مما يحذرون والرزق من حيث لا يحتسبون))،
[*] وكتب ابن السمّاك الواعظ إلى أخٍ له : ((أما بعد أوصيك بتقوى الله الذي هو نجيُّك في سريرتك، و رقيبك في علانيتك، فاجعل الله من بالك على كل حال، في ليلك ونهارك وخف الله بقدر قربه منك وقدرته عليك، واعلم أنك ليس تخرج من سلطانه إلى سلطان غيره، ولا من ملكه إلى ملك غيره ، فليعظم منه حذرك، و ليكثر منه وجلك والسلام)).
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم في حلية الأولياء عن فضالة بن عبيد أنه كان يقول: لأن أعلم أن الله تقبل مني مثقال حبة من خردل أحب إلي من الدنيا وما فيها، لأن الله تعالى يقول: إنما يتقبل الله من المتقين .
(علامات التقوى :
للتقوى علاماتٌ واضحة وسماتٌ جلية منها ما يلي : ((1/35)
(1) إذا تخلّص من آفات الغفلة والاستخفاف بالمنكر من الأقوال والأفعال، والضيق بالمنكر إذا حصل، والتأذي منه إذا وقع، والفزع إلى الله طالباً الخلاص، هذا من صفات المتقين، إذا هو نفسه وقع في المعصية لا يمكن أن يستريح حتى يعود إلى الله طالباً الصفح والمغفرة مما ألمّ به والدليل على ذلك قوله عز وجل : قال تعالى: (إِنّ الّذِينَ اتّقَواْ إِذَا مَسّهُمْ طَائِفٌ مّنَ الشّيْطَانِ تَذَكّرُواْ فَإِذَا هُم مّبْصِرُونَ) [ الأعراف : 201]، فلا يمكن أن يجدوا أمناً ولا طمأنينة إلا بالخروج من تلك الحال وذلك بالاستغفار والتوبة إلى الله.
(2) التقي دائماً يذكر ربه، لأن ذكر الله مطردة للشيطان والوسوسة، مطهرة لكل ما يدخل في الإنسان من رجس أو دنس من كلاب الشهوات أو الشبهات التي تغير على قلبه قال تعالى: (إِنّمَا الْمُؤْمِنُونَ الّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَىَ رَبّهِمْ يَتَوَكّلُونَ * الّذِينَ يُقِيمُونَ الصّلاَةَ وَمِمّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلََئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) [ الأنفال - 2: 4]
(وسائل تحصيل التقوى :
يمكن تقسيم التقوى إلى قسمين: واجبة ومستحبة.
(أما الواجبة:(1/36)
فلا يمكن أن تتحقق إلا بفعل الواجبات وترك المحرمات والشبهات، وأعظم الواجبات: الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، وأعظم المحرمات : الشرك بالله والكفر بجميع أنواعه. قال تعالى:(الم~ (1)ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) (البقرة 1-4)
[*] قال معاذ بن جبل: ينادى يوم القيامة: أين المتقون؟ فيقومون في كنف من الرحمن لا يحتجب منهم ولا يستتر، قالوا له: من المتقون؟ قال: قوم اتقوا الشرك وعبادة الأوثان، وأخلصوا لله بالعبادة.
[*] وقال الحسن: المتقون اتقوا ما حرم عليهم، وأدوا ما افترض عليهم.
[*] وقال عمر بن عبد العزيز: ليس تقوى الله بصيام النهار ولا بقيام الليل والتخليط فيما بين ذلك، ولكن تقوى الله: ترك ما حرم الله، وأداء ما افترض الله، فمن رزق بعد ذلك خيرا، فهو خير إلى خير.
(وأما التقوى المستحبة:
فهي تكون بفعل المندوبات وترك المكروهات، وربما بالغ المتقي في التنزه عن بعض ما هو حلال مخافة الوقوع في الحرام.
قال أبو الدرداء رضي الله عنه: تمام التقوى أن يتقي الله العبد،حتى يتقيه من مثقال ذرة، وحتى يترك بعض ما يرى أنه حلال، خشية أن يكون حرام يكون بينه وبين الحرام.
وقال الحسن: ما زالت التقوى بالمتقين حتى تركوا كثيرا من الحلال مخافة الحرام.
وقال الثوري: إنما سموا متقين لأنهم اتقوا ما لا يتقى.
خل الذنوب صغيرها وكبيرها ذاك التقى واصنع كماش فوق أر ض الشوك يحذر ما يرى لا تحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى
( الأسباب الباعثة على التقوى:(1/37)
(1) كثرة العبادة: لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة:21)
(2) أداء العبادة على الوجه الأكمل: لقوله تعالى: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى) (البقرة:203 )
(3) الجدية في التعامل مع شرع الله تعالى: لقوله تعالى: ( خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة: 63 )
(4) تطبيق الحدود الشرعية: بقوله تعالى: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة:179)
(5) إقامة شعائر الإسلام والتحلي بمكارم الأخلاق: لقوله تعالى: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) (البقرة:177)
(6) الصيام: لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة:183)
(7) تعظيم شعائر الله: لقوله تعالى: (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) (الحج:32)
(8) العدل: لقوله تعالى: ( اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ) (المائدة: 8 )(1/38)
(9) العفو: لقوله تعالى: ( وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) (البقرة : 237)
(10) تعظيم الرسول وتوقيره: لقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى) (الحجرات: 3)، وذلك يشمل الرسول حيا وميتا، ويكون عدم رفع الأصوات عليه ميتا باحترام سنته، وانتهاج طرقته، وعدم مجاوزة هديه إلى غيره من زبالات الأذهان ونخالات الأفكار والمذاهب والآراء.
وبالجملة: فجميع الطاعات من أسباب حصول التقوى، وجميع المعاصي من معوقات حصول التقوى، كما قال طلق بن حبيب رضي الله عنه: التقوى: أن تعمل بطاعة الله، على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله، على نور من الله تخاف عقاب الله.
( كيف تكون تقيّاً ؟
1- أن تحب الله أكثر من أي شيء.
2- أن تستشعر مراقبة الله دائماً.
3- أن تعلم عاقبة المعاصي.
4- أن تتعلم كيف تقاوم هواك وتتغلب عليه.
5- أن تدرك مكائد الشيطان و وساوسه.
وهذه الأشياء سهلة بالقول وصعبة في التطبيق..، فبعض الناس يغفل وينسى مراقبة الله له،وينسى حديث (( اعبد الله كأنك تراه))..
ولله درُّ من قال :
إذا ما خلوتَ الدهرَ يوماً فلا تقل ... خلوتُ ولكن قل عليّ رقيب
ولا تحسبنّ الله يغفلُ ساعةً ... ولا أن ما يخفى عليه يغيبُ
وأما مسألة معرفة ما في الحرام من المفاسد والآلام فإن الإنسان يكفي أن يتأمل فيما حصل للكبار، و ما حصل للأقوام السابقة، ما الذي أخرج الأبوين من الجنة؟ من دار النعيم واللذة والسرور إلى دار الآلام والأحزان..؟؛ المعصية..!..فالحرام يترتب عليه مفاسد ومصائب..
وما الذي أخرج إبليس من ملكوت السماء وطرده ولعنه ومسخ باطنه وظاهره فجعله في أقبح صورة وبدّله بالقرب بعداً وبالرحمة لعنة وبالجنّة ناراً تلظّى فهان على الله غاية الهوان وصار فاسقاً مجرماً قاد البشرية إلى كل فساد وشرّ؟؛ المعصية..!(1/39)
ما الذي أغرق أهل الأرض جميعهم حتى علا الماء فوق رؤوس الجبال..؟ ،
ما الذي سلّط الريح العقيم على قوم عاد حتى ألقتهم صرعى على سطح الأرض..؟
وما الذي أرسل على قوم ثمود الصيحة حتى قطّعت قلوبهم في أجوافهم..؟، ما الذي رفع قرية سدود..قرية قوم لوط..حتى سمعت الملائكة نباح كلابهم ، ثم قلبها عليهم فجعل عاليها سافلها، وأتبعها بحجارة وجعل مكانها شيئاً منتناً لا يكاد يوجد فيه حياة..؟،
وما الذي أرسل على قوم شعيب عذاب الظُّلّة، لما صار فوق رؤوسهم أمطرهم ناراً تلظّى..؟،
وما الذي أغرق فرعون وقومه في البحر ثم نقلت أرواحهم إلى جهنم تعرض عليها صباح مساء؟ فالأجساد للغرق والأرواح للحرق والموعد يوم القيامة..!
فتأمل ما في الذنوب من الآلام والمصائب ؛ يقود إلى التقوى ولو كان فيها لذّة..
(ولله درُّ من قال :
تفنى اللذاذة ممن نال لذتها ... من الحرام ويبقى الإثم والعارُ
تبقى عواقبُ سوءٍ من مَغَبَّتها ... لا خيرَ في لذةٍ من بعدها النارُ
وكذلك فالإنسان لابد أن يتعلم كيف يغالب هواه وابتداءً من معالجة الخواطر، أول ما تأتي الخاطرة بالمعصية أو بالشر يطردها، وهذا هو العلاج الناجح ؛ أن الإنسان يدافع الهوى والخاطرة ويتغلّب عليها، ولا بأس أن يفطم نفسه عن المعاصي ولو كان ذلك شيئاً مكروهاً بالنسبة له، فالصبر على الحرام ليس سهلاً بل فيه ألم لكن يعقبه لذّة وراحة يوم الدنيا..
ولاشك أن هذا كما تقدم فيه غصّة في البداية لكن أحسن من الشوك والغسلين والضريع يوم القيامة والإنسان أحياناً يترك المعاصي شهامة ورجولة لو تأمل ما فيها من الخسّة..
وأغضُ طَرْفِي إن بدت لي جارتي ... حتى يواري جارتي مأواها
إذا كان هذا العربي قبل الإسلام يفاخر انه يغض طرفه عن جارته فبعد الإسلام كيف يجب أن نكون..؟، إذا كان الفرد يمكن أن يترك بعض المعاصي خجلاً من الناس.. فما باله إذا فكر من جهة الله..؟ سيكون الترك أعظم..!(1/40)
ثم يجب على المرء أن يعرف مكائد إبليس لكي يتقيه وإبليس له عدة طرق في إغواء الناس فينبغي أن ينظر فيها، كيف يشغله مثلاً بالمفضول عن الفاضل وهذا أنزل المراتب وكيف يبدأ به من الشرك أولاً..!
(من ثمرات التقوى :
للتقوى ثمرات وفوائد جليلة فمن ذلك ما يلي :
(1) البشرى ..سواء كانت ثناء من الخلق، أو رؤيا صالحة، من الملائكة عند الموت، قال تعالى: (أَلآ إِنّ أَوْلِيَآءَ اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * الّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَىَ فِي الْحَياةِ الدّنْيَا وَفِي الاَخِرَةِ ) [ يونس 62: 64].ذهبت النبوة وبقيت المبشرات، فإن أثنى الناس عليه لعمل ما قصد إظهاره فإن هذا من عاجل بشرى المؤمن بنص السنة الصحيحة كما جاء في الحديث الآتي : (
( حديث أبي ذر رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) قال : قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم * أرأيت الرجل يعمل العمل من الخير ويحمده الناس عليه قال تلك عاجل بشرى المؤمن .
(2) نصرة الله للمتقي وتأييده له وتسديده قال تعالى: ( وَاتّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنّ اللّهَ مَعَ الْمُتّقِينَ ) [ البقرة : 194]، والمعيّة هذه معية نصرة وتأييد وتسديد، وهو سبحانه وتعالى أعطاها للأنبياء المتقين فقال لموسى وهارون (قَالَ لاَ تَخَافَآ إِنّنِي مَعَكُمَآ أَسْمَعُ وَأَرَىَ) [ طه : 46]، و قال تعالى: (قَالَ كَلاّ إِنّ مَعِيَ رَبّي سَيَهْدِينِ) [ الشعراء : 62] فهو معه فلا يخاف.
(3) التوفيق للعلم: لقوله تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ [ البقرة: 282](1/41)
فيعلمكم الحلال والحرام ومصالحكم وحفظ أموالكم وما أمركم وما نهاكم عنه ويعلمكم كل ما تحتاجون إليه ، ومن أسباب نقصان العلم و نقص الحفظ وذهاب المسائل وعدم انفتاح النفس للعلم وعدم الحماسة للعلم؛ المعاصي فهي تصد النفس عن العلم. ومن أسباب تحصيل العلم وانفتاح الذهن والقلب والحماس له؛ التقوى.
(4) الهداية للصواب والتمييز بين الحق والباطل: لقوله تعالى: إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً [ الأنفال: 29] الفرقان في اللغة الذي يفرّق بين الليل والنهار، كالصبح يفرق بين الحق والباطل.
(5) تكفير الذنوب وتعظيم أجر المتقين: لقوله تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً [ الطلاق:5]
وقال تعالى: (وَلَوْ أَنّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُواْ وَاتّقَوْاْ لَكَفّرْنَا عَنْهُمْ سَيّئَاتِهِمْ وَلأدْخَلْنَاهُمْ جَنّاتِ النّعِيمِ) [ المائدة : 65] وقال تعالى: ( وَمَن يَتّقِ اللّهَ يُكَفّرْ عَنْهُ سَيّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً) [ الطلاق : 5]
(6) مغفرة الذنوب : لقوله تعالى: وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً [ النساء: 129]
(7) تسهيل الأمور وتيسيرها : لقوله تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً [ الطلاق:4]
(8) أنها المخرج من كل ضيق ومصدر للرزق من حيث لا يحتسب المتقي، لأن الله وعد و وعد الله لا يتخلف قال تعالى: ( وَمَن يَتّقِ اللّهَ يَجْعَل لّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ ) [ الطلاق 2، 3]. وهذه مهمة جداً في شحّ الوظائف. وحتى يأتيك البديل المباح بعد تركك للعمل المحرّم ينبغي أن تتقي الله في جميع أمورك.
(9) الرزق الواسع دون عناء أو مشقة: لقوله تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [ الطلاق:3،2](1/42)
(10) محبة الله والملائكة للعبد، ومحبة الناس لهذا العبد، قال تعالى: (بَلَىَ مَنْ أَوْفَىَ بِعَهْدِهِ وَاتّقَى فَإِنّ اللّهَ يُحِبّ الْمُتّقِينَ) [ آل عمران : 76]، قال تعالى: (إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرّحْمََنُ وُدّاً) [ مريم : 96] أي مودة منه ومن الملائكة وفي قلوب العباد، وإذا أحبه نادى جبريل أن يحبه، ويحبه أهل السماء ثم يحبه أهل الأرض كما في الحديث الآتي : (
(حديث أبي هريرة الأشعري في الصحيحين) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :إذا أحب الله عبدا نادى جبريل : إن الله يحب فلانا فأحبه فيحبه جبريل فينادي جبريل في أهل السماء : إن الله يحب فلانا فأحبوه فيحبه أهل السماء ثم يوضع له القبول في الأرض .
(11) نيل الجزاء وعدم إضاعة العمل: لقوله تعالى: إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [ يوسف:90]
(12) التقوى سبب قبول العمل وهذا من أعظم الأشياء قال تعالى: ( إِنّمَا يَتَقَبّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتّقِينَ) [ المائدة : 27] أجاب بها الأخ الصالح أخاه الفاجر الذي قتله.
[*] وكان بعض السلف يقول: لو أعلم أن الله تقبّل مني سجدة واحدة لتمنّيت الموت لأن الله يقول { إنما يتقبل الله من المتقين}.
(13) الأمن والمنزلة الرفيعة: لقوله تعالى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ [ الدخان:51]
(14) تنوع الجزاء وتعدد اللذات: لقوله تعالى: إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَاباً (32) وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً (33) وَكَأْساً دِهَاقاً [النبأ 31-34]
(15) القرب من الله تعالى يوم القيامة مع التمتع باللقاء والرؤية: لقوله تعالى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [ القمر:55،54](1/43)
الحادية والعشرون: سلامة الصدر: لقوله تعالى: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [ الزخرف:67]
(16) إصلاح العمل مع المغفرة: لقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [ الأحزاب:71،70]
(17) البصيرة وسرعة الانتباه: لقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ [ الأعراف:201]
الرابعة والعشرون: عظم الأجر: لقوله تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ [ آل عمران:172]
(18) الفوز: لقوله تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ [ النور:52]
(19) التفكر والتدبر: لقوله تعالى: إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ [ يونس:6]
(20) التقوى سبب للنجاة من عذاب الدنيا والآخرة : قال تعالى: (وَنَجّيْنَا الّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يتّقُونَ) [ فصلت : 18]
وقال تعالى: وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى [ الليل:17]
وقال تعالى: (ثُمّ نُنَجّي الّذِينَ اتّقَواْ وّنَذَرُ الظّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً) [ مريم : 72]،
(21) الفوز بالخيرية: لقوله تعالى: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [ البقرة:197]
(22) حسن العاقبة: لقوله تعالى: فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ [ هود:49]
(23) الفوز بولاية الله: لقوله تعالى: وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ [الجاثية:19 ]
(24) حصول الفلاح: لقوله تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [ البقرة:189](1/44)
(25) الفوز بالجنة: لقوله تعالى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ [ الذاريات:15]
(26) يرزق بركات من السموات والأرض، والبركة تكثير القليل ، الكثرة، الزيادة، الخير ، العافية، قال تعالى: (وَلَوْ أَنّ أَهْلَ الْقُرَىَ آمَنُواْ وَاتّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مّنَ السّمَآءِ وَالأرْضِ ) [ الأعراف : 96]، وهذا معناه أنه وسّع عليهم في الخير ويسّره لهم بسبب التقوى ، و قال تعالى: (وَأَلّوِ اسْتَقَامُواْ عَلَى الطّرِيقَةِ لأسْقَيْنَاهُم مّآءً غَدَقاً) [ الجن : 16]، وكذلك إذا لم تحصل التقوى ؛ يظهر الفساد في الأرض قال تعالى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النّاسِ) [ الروم : 41] ويحصل التلوث والأمراض والسرطانات { لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الّذِي عَمِلُواْ لَعَلّهُمْ يَرْجِعُونَ } جزاءً ونكالا ، وتُنزع البركة بالمعصية.
(27) الحفظ من كيد الأعداء ، فإن الإنسان لا يخلو من عدو حاسد قال تعالى: ( وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتّقُواْ لاَ يَضُرّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) [ آل عمران : 120] فيدفع الله عنه شر الأشرار وكيد الفجار باستعمال التقوى.(1/45)
(28) حفظ الأبناء من بعدهم قال تعالى: (وَلْيَخْشَ الّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرّيّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتّقُواّ اللّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً) [ النساء : 9]، فأرشد الله الآباء الذين يخشون ترك ذرية ضعاف بالتقوى في سائر شؤونهم لكي يحفظ أبناءهم، ويغاثون بالرعاية الإلهية بل يحفظ فروع الفروع..!، قال تعالى: (وَأَمّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبّكَ أَن يَبْلُغَآ أَشُدّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مّن رّبّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عّلَيْهِ صَبْراً) [ الكهف : 82] ولكن هناك أمر مهم وهو { وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً }
(29) التزكية بالكرامة: لقوله تعالى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [ الحجرات:13]
(فحفظ الله الأبناء بصلاح ذلك الأب..
[*] يقول محمد بن المنكدر: إن الله ليحفظ بالرجل الصالح ولده وولد و لده وقريته التي هو فيها والدويرات التي حولها فما يزالون في حفظ الله وستره ..،
[*] قال ابن المسيب: يا بني إني لأزيد في صلاتي من أجلك رجاء أن أُحفَظ فيك وتلا الآية {وكان أبوهما صالحا}،طبعاً هو يصلي لله، وابن المسيب أفقه من أن يرجو على عمله فقط ثواباً دنيوياً ولكنه يرجو تبعاً للثواب الأخروي أمراً في الدنيا والله تعالى كريم يعطي أموراً في الدنيا والآخرة على العبادات.(1/46)
(30) العز والفوقية فوق الخلق يوم القيامة غير عز الدنيا قال تعالى: (زُيّنَ لِلّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَاةُ الدّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الّذِينَ آمَنُواْ وَالّذِينَ اتّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) [ البقرة : 212]، فيورثون الجنة بالتقوى كما قال تعالى: (وَسَارِعُوَاْ إِلَىَ مَغْفِرَةٍ مّن رّبّكُمْ وَجَنّةٍ عَرْضُهَا السّمَاوَاتُ وَالأرْضُ أُعِدّتْ لِلْمُتّقِينَ) [ آل عمران : 133] و قال تعالى: (تِلْكَ الْجَنّةُ الّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً) [ مريم : 63]، وهؤلاء المتقون لا يذهبون إلى الجنة مشياً وإنما يذهبون ركباناً موقرين مكرمين قال تعالى: (وَأُزْلِفَتِ الْجَنّةُ لِلْمُتّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ) [ ق : 31] وقال تعالى: (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتّقِينَ إِلَى الرّحْمََنِ وَفْداً) [ مريم : 85]، والوفد يكرم يذهب بهم إلى ملك الملوك سبحانه وتعالى ، فيدخلهم جنته قال تعالى: (إِنّ لِلْمُتّقِينَ مَفَازاً) [ النبأ : 31]، يدخلهم الأنهار قال تعالى: (إِنّ الْمُتّقِينَ فِي جَنّاتٍ وَنَهَرٍ) [ القمر : 54]
والدار الآخرة للمتقين يوم القيامة، ويجمع الإنسان بأحبابه إذا اتقى ربه قال تعالى: (الأخِلاّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوّ إِلاّ الْمُتّقِينَ) [ الزخرف : 67]، وهؤلاء على سرر متقابلين كما قال تعالى: (إِنّ الْمُتّقِينَ فِي جَنّاتٍ وَعُيُونٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ * وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مّنْ غِلّ إِخْوَاناً عَلَىَ سُرُرٍ مّتَقَابِلِينَ) [ الحجر 45: 47] فيأتون إلى الجنة زمراً زمراً، مجموعات ووفود إلى الله تعالى مكرمين قال تعالى: (وَسِيقَ الّذِينَ اتّقَوْاْ رَبّهُمْ إِلَى الّجَنّةِ زُمَراً ) [ الزمر : 73]
(صفات المتقين :(1/47)
(1) ذكر الله من صفاتهم أنهم يؤمنون بالغيب إيماناً جازماً ، قال تعالى: ( ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لّلْمُتّقِينَ * الّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ) [ البقرة 2: 3]
(2) يتحرون الصّدق في الأقوال والأعمال قال تعالى: (وَالّذِي جَآءَ بِالصّدْقِ وَصَدّقَ بِهِ أُوْلََئِكَ هُمُ الْمُتّقُونَ) [ الزمر : 33]، الذي جاء بالصدق هو محمد صلى الله عليه وسلم ، والذي صدق به قيل هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه .و قال تعالى: ( أُولََئِكَ الّذِينَ صَدَقُوآ وَأُولََئِكَ هُمُ الْمُتّقُونَ ) [ البقرة : 177]، هذا بيان أن المتقي يصدق.
(3) يعظمون شعائر الله قال تعالى: (ذَلِكَ وَمَن يُعَظّمْ شَعَائِرَ اللّهِ فَإِنّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ) [ الحج : 32]، وما معنى تعظيم شعائر الله؟؛ أن المرء يعظم حرمات ربه فلا ينتهكها،ويعظّم أوامر الله فيأتي بها على وجهها، ويأتي بأنفس الأشياء، فلو طُلِب منه هدي في الحج أو أضحية استسمنه واستحسنه وأتى به على أحسن وأنفس وأغلى ما يجد ، هذا من تعظيم شعائر الله. وكان إشعار الهدي وهو تعليمه بعلامة حتى لا يؤخذ أو إذا ضاع يُعرف هذا ما يفعله الحاج من السنة.(1/48)
(4) يتحرون العدل ويحكمون به قال تعالى: (يَا أَيّهَآ الّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوّامِينَ للّهِ شُهَدَآءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىَ أَلاّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتّقْوَىَ وَاتّقُواْ اللّهَ إِنّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [ المائدة : 8].الآية أساساً في المشركين والمشركون يبُكرَهون ويبغضُون لأجل شرك والكفر ومع ذلك أمرنا أن نعدل فيهم. وعلي بن أبي طالب لما اختصم مع يهودي ، حكم عليه القاضي لما لم يأتِ ببينة، وسُلّمت الدرع لليهودي، فاندهش اليهودي كيف يُحكم له على أمير المؤمنين، و الدرع كان لعلي رضي الله عنه ولم تكن له بيّنة، قال شهودي الحسن والحسين، قال لا تجوز شهادة الأبناء للأب، قال سيّدا شباب أهل الجنة، قال هذا في الجنّة..، فمن دهشة اليهودي مما رأى قاليا أمير المؤمنين أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله ، الدرع درعك ، سقطت منك وأنت خارج إلى صفّين ، فاختلستها. إذاً إذا رأى الكفار عدل المسلمين يمكن أن يسلموا.
(5) المتقين يتبعون سبيل الأنبياء والصادقين والمصلحين يكونون معهم، قال تعالى: (يََأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اتّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصّادِقِينَ) [ التوبة : 119]، فأهل الصدق هم أصحاب المتقين وإخوانهم ورفقاءهم وأهل جلوسهم وروّاد منتدياتهم.
يدع مالا بأس به حذراً مما به بأس تأسياً بالنبي - صلى الله عليه وسلم - كما في الحديث الآتي : (
(حديث علي الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : دَعْ ما يريبك إلى ما لا يريبك فإن الصدق طمأنينة و الكذب ريبة .
فتمام التقوى أن تتقي الله حتى تترك أحياناً ما ترى بعض الحلال خشية أن تكون حراماً، النبي صلى الله عليه وسلم كان يرى تمرة فيريد أن يأكلها فيتركها لأنه يخشى أن تكون سقطت من تمر الصدقة .(1/49)
وهذا أصل من أصول الورع، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يمر بتمرة فلا يأكلها خشية أن تكون من الصدقة .
( حديث أنس رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم بتمرة في الطريق، قال: (لولا أني أخاف أن تكون من الصدقة لأكلتها).
والورع يجب أن يكون ورعاً صحيحاً ، فبعض الناس يفعلون الكبائر ثم يتورعون عن الأشياء اليسيرة..!." عجبتُ لكم يا أهل العراق تقتلون ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تسألون عن دم البعوض"..!!!، فلذلك ينبغي أن يكون الورع على أساس، امرئ ترك المحرمات ثم هو آخذ في الإعراض عن المشتبهات، ولذلك لما سُئِل الإمام أحمد رحمه الله عن رجل يشتري البقل ويشترط الخوصة أنه يخشى أن تكون هذه التي تربط بها حزمة البقل غير داخلة في البيع فيشترط على البائع ذلك..،قال : ما هذه المسائل..؟!!!، قالوا :فلان يفعل ذلك..إبراهيم بن أبي نعيم..قال: هذا نعما..هذا رجل يليق بحاله .. رجل متقي جداً. وهو الذي سُئِل رحمه الله عن رجل له زوجة وأمه تأمره بطلاقها فقال : (( إن كان برّ أمه في كل شيء حتى لم يبقَ إلا طلاق زوجته؛ يفعل، ولكن إن كان يبرها بطلاق زوجته ثم يقوم إلى أمه بعد ذلك فيضربها فلا يفعل..!)).
( فصلٌ في منزلة الاستقامة :
[*](عناصر الفصل :
(تعريف الاستقامة :
(إذا استقام القلب استقامت الجوارح :
(حكم الاستقامة :
(أدلة الاستقامة :
(حاجتنا إلى الاستقامة :
(الاستقامة على الدين ظاهراً وباطناً :
(الاستمرار على الاستقامة والتقصير فيها:
(واقع الاستقامة في حياة الناس :
( مقامات الدين التي يطالب بها العبد في الاستقامة :
(فضل الاستقامة :
(حقيقة الاستقامة :
(الأمور التي تُعِينُ على تحقيق الاستقامة؟
(ما تتحقق به الإستقامة :
(القوادح في الإستقامة :
(مرض نقص الاستقامة :
(أسباب الاستقامة :
(ثمار الاستقامة ونتائجها :
(درجات الاستقامة :
(متعلقات الاستقامة :
(أقسام الاستقامة :(1/50)
وهاك تفصيل ذلك في إيجازٍ غيرِ مُخِّل : (
(تعريف الاستقامة :
الاستقامة في اللغة (1) :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
ضد الاعوجاج والانحراف فالشَّيء المستقيم هو المعتدل الذي لا اعوجاج فيه، وهذا يأتي في الحِسِّيَات، تقول: هذا طريق مستقيم و هذا طريق مُعْوَجٌّ.
الاستقامة في الشرع :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
لأئمة الدين في تعريف الاستقامة وحدها ألفاظ وأقوال مختلفة، ذات دلالة واحدة، والأقوال هي :(
[*]( سئل أبو بكر الصديق رضي الله عنه عن الاستقامة، فقال: "أن لا تشرك بالله شيئاً".
[*]( وقال عمر رضي الله عنه: "أن تستقيم على الأمر والنهي، ولا تروغ روغان الثعلب".
[*](وقال عثمان رضي الله عنه: "إخلاص العمل لله".
[*](وعرفها علي رضي الله عنه: "بأنها أداء الفرائض".
[*](وقال الحسن البصري رحمه الله: "استقاموا على أمر الله، فعملوا بطاعته، واجتنبوا معصيته".
[*](وقال مجاهد رحمه الله: "استقاموا على شهادة أن لا إله إلا الله حتى لحقوا بالله".
[*](وقال ابن زيد وقتادة رحمهما الله: "الاستقامة على طاعة الله".
[*]( وقال سفيان الثوري رحمه الله: "العمل على وفاق القول".
[*](وقال الربيع بن خيثم رحمه الله: "الإعراض عما سوى الله".
[*](وقال الفضيل بن عياض رحمه الله: "الزهد في الفانية، والرغبة في الباقية".
[*](وقال ابن تيمية رحمه الله: "الاستقامة على محبة الله وعبوديته، وعدم الالتفات عنه يمنة أويسرى".
[*]( وقال شيخ الإسلام الهروي رحمه الله: "الاجتهاد في اقتصاد".
مفاد هذه التعريفات، وحقيقتها، ومدلولها :
الاستقامة من الكلمات الجامعة المانعة، كالبر، والخير، والعبادة، فلها تعلق بالقول، والفعل، والاعتقاد.
[*](قال الإمام القرطبي رحمه الله: هذه الأقوال وإن تداخلت فتلخيصها: اعتدلوا على طاعة الله، عقداً، وقولاً، وفعلاً، وداوموا على ذلك.
__________
(1) ) انظر: التعريفات للجرجاني ص37 .(1/51)
[*](وقال ابن القيم رحمه الله تعالى : فالاستقامة كلمة جامعة، آخذة بمجامع الدين، وهي القيام بين يدي الله على حقيقة الصدق والوفاء.
والاستقامة تتعلق بالأقوال والأفعال، والأحوال، والنيات، فالاستقامة فيها، وقوعها لله، وبالله، وعلى أمر الله).
فحقيقة هذه التعريفات تُتَرجم في الآتي :
أولاً: الإيمان الصادق بالله عز وجل.
ثانياً: الاتباع الكامل والاقتداء التام بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال الفضيل بن عياض رحمه الله في تفسير قوله تعالى: "خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً"، قال: أخلصه وأصوبه؛ قيل له: ما أخلصه وأصوبه؟ قال: أن يكون العمل خالصاً لله عز وجل، وموافقاً لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أوكما قال.
ثالثاً: أداء الواجبات: "ما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحبُّ إليَّ مما افترضته عليه" الحديث، وفعل الواجبات أفضل من ترك المحرمات.
رابعاً: الانتهاء عن المحرمات والمكروهات.
خامساً: الإكثار من النوافل والتطوعات: "لا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنتُ سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به" الحديث.
سادساً: المداومة على أعمال الخير: "أحب العمل إلى الله أدومه" الحديث، وقالت عائشة رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كان عمله ديمة".
سابعاً: التوسط والاعتدال، فخير الأمور الوسط، وعمل قليل في سبيل وسنة خير من كثير في بدعة، والاعتدال لا يعني التسيب والانفلات، فبين التشدد، والالتزام، والتفلت فروق دقيقات.
ثامناً: حفظ الجوارح وسجن اللسان.
تاسعاً: السعي لتزكية النفس: "قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا. وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا".
عاشراً: الاجتهاد في طاعة الله عز وجل، وفي نيل مرضاته قدر الطاقة، إذ لا يكلف الله نفساً إلا وسعها.(1/52)
(وفصل الخطاب في تعريف الاستقامة : أن معنى الاستقامة لزوم طاعة الله تعالى وهي المواظبة على التقوى بدوام امتثال الأوامر واجتناب النواهي ولذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى : «أعظم الكرامة لزوم الاستقامة » والاستقامة وسط بين الغول والتقصير ، وكلاهما منهي عنه شرعاً، وهى من جوامع الكلم فهي كلمة جامعة آخذة بمجامع الدين فهي تجمع الدين كله ولهذا أوصى بها النبي - صلى الله عليه وسلم - وكانت دليلاً أوفى على جوامع كَلِمِه - صلى الله عليه وسلم - كما في الحديث الآتي : (
( حديث سفيان بن عبد الله الثقفي رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) أنه قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - قُلْ لِي فِي الْإِسْلَامِ قَوْلًا لَا أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا بَعْدَكَ ؟ قَالَ : قُلْ آمَنْتُ بِاللَّهِ ثم اسْتَقِمْ .
(حديث ثوبان رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجه ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : استقيموا ولن تحصوا واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن .
(إذا استقام القلب استقامت الجوارح :
أصل الاستقامة في القلب ، فإذا استقام القلب استقامت الجوارح؛ لأن القلب ملك الأعضاء وهي جنوده ورعاياه. كما أن من أعظم الجوارح تأثيرًا في استقامة العبد اللسان ؛ فإنه ترجمان القلب والمعبر عنه ، وقد دلنا النبي صَلى عليه وسلم على هذه القضية الكبيرة كما في الحديث الآتي : (
(حديث أبي سعيدٍ في صحيح الترمذي) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تكفر اللسان فتقول : اتق الله فينا فإنما نحن بك فإن استقمت استقمنا و إن اعوججت اعوججنا .
(حكم الاستقامة :(1/53)
أمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم وأتباعه أن يلتزموا الاستقامة عقيدة وشريعة ، هدياً ومنهجاً ، ويجتنبوا الطغيان ، ويحذروا أهواء أولياء الشيطان ، قال الله تعالى : فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } [ سورة هود :112] [*](قال ابن كثير رحمه الله : " يأمر الله – تعالى – رسوله وعباده المؤمنين بالثبات والدوام على الاستقامة ، وذلك من أكبر العون على النصر على الأعداء ، ومخالفة الأضداد ، وينهى عن الطغيان وهو البغي ؛ فإنه مصرعة حتى ولو على مشرك ، وأعلم تعالى أنه بصير بأعمال العباد لا يغفل عن شيء ، ولا يخفى عليه شيء ".
(أدلة الاستقامة :
لقد حث الله تعالى على الاستقامة، وأمر بها عباده، وجاءت الدعوة إلى الاستقامة في مواطن من القرآن الكريم، منها ما يلي : (
(1) الأمر المباشر للنبي صلى الله عليه وسلم (فَاسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [هود: 112]
وقوله تعالى: (فَاسْتَقِيمُوَاْ إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لّلْمُشْرِكِينَ) [فصلت: 6]
(2) ومنها الحثُ على الاستقامة والحضُ عليها وبيان النتائج المترتبة عليها، كما في قوله تعالى : (إِنّ الّذِينَ قَالُواْ رَبّنَا اللّهُ ثُمّ اسْتَقَامُواْ تَتَنَزّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ أَلاّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِالْجَنّةِ الّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ) [فصلت : 30]
وقوله تعالى: (إِنّ الّذِينَ قَالُواْ رَبّنَا اللّهُ ثُمّ اسْتَقَامُواْ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) [ الأحقاف: 13]
(وقد أورد الماوردي في الآية خمسة أوجه:
أحدها: ثم استقاموا على أن الله ربهم وحده.
الثاني: استقاموا على طاعته وأداء فرائضه.
الثالث: على إخلاص الدين والعمل إلى الموت.(1/54)
الرابع: ثم استقاموا في أفعالهم كما استقاموا في أقوالهم.
الخامس: ثم استقاموا سرًّا كما استقاموا جهرًا.
والحق أن ذلك كله داخل في معنى الاستقامة.
(3) أمرنا الله تعالى أن ندعو بالهداية إلى الصراط المستقيم في كل ركعة قال تعالى: (اهْدِنَا الصّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) [الفاتحة: 6]
ولذا كان أنفعُ دعاء هو (اهدنا الصراط المستقيم ) ولذا نقوله في كل ركعةٍ من الصلوات .
(4) والله تعالى يتولى الهداية إلى الاستقامة وهي هداية التوفيق التي لا يملكها إلا الله تعالى ، لا يملكها نبيٌ مرسل ولا مَلَكٌ مُقَرَّب ، قال تعالى: (وَإِنّ اللّهَ لَهَادِ الّذِينَ آمَنُوَاْ إِلَىَ صِرَاطٍ مّسْتَقِيمٍ) [الحج: 54]
(5) والنبي - صلى الله عليه وسلم - يتولى الهداية إلى الاستقامة وهي هداية الإرشاد : قال تعالى: (وَإِنّكَ لَتَهْدِيَ إِلَىَ صِرَاطٍ مّسْتَقِيمٍ) [الشورى: 52]
( حديث سفيان بن عبدالله الثقفي رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) أنه قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - قُلْ لِي فِي الْإِسْلَامِ قَوْلًا لَا أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا بَعْدَكَ ؟ قَالَ : قُلْ آمَنْتُ بِاللَّهِ ثم اسْتَقِمْ . (حديث ثوبان رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجه ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : استقيموا ولن تحصوا واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن .
(ولن تحصوا) :
[*](قال الإمام السندي في حاشيته على ابن ماجة : أي ولن تطيقوا وأصل الإحصاء العدل والإحاطة به لئلا يغفلوا عنه فلا يتكلوا على ما يوفون به ولا ييأسوا من رحمته فيما يذرون عجزا وقصورا لا تقصيرا وقيل معناه لن تحصوا ثوابه .(1/55)
(اعلموا أن خير أعمالكم الصلاة ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن ) : أَيْ إِنْ لَمْ تُطِيقُوا بِمَا أُمِرْتُمْ بِهِ مِنْ الِاسْتِقَامَة فَحَقّ عَلَيْكُمْ أَنْ تَلْزَمُوا فَرْضهَا وَهِيَ الصَّلَاة الْجَامِعَة لِأَنْوَاعِ الْعِبَادَات الْقِرَاءَة وَالتَّسْبِيح وَالتَّهْلِيل وَالْإِمْسَاك عَنْ كَلَام الْغَيْر وَالْأَحَادِيث فِي خَيْر الْأَعْمَال جَاءَتْ مُتَعَارِضَة صُورَة فَيَنْبَغِي التَّوْفِيق بِحَمْلِ خَيْر أَعْمَالكُمْ عَلَى مَعْنَى مِنْ خَيْر أَعْمَالكُمْ كَمَا يَدُلّ عَلَيْهِ حَدِيث اِبْن عُمَر .
(حاجتنا إلى الاستقامة :
إنَّ الاستِقامة على أَمَر الله غَايةٌ جليلة ، وَهَدَفٌ في هذه الحياة ينبغي لِكُلِّ مُسلم أن يسعى إليه ، فإنَّ مِنْ رَحْمَة الله - سبحانه وتعالى - أَنَّه يَأْمُرنا بالأمر ويبيِّن لنا كيفية الامتثال به ، والحاجة إلى الاستقامة حاجة ماسّة .
يقول الله تعالى: (( فاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ)) [هود:112].
(هذا الأمر مُرَتَّبٌ على ما قبله وهو قوله تعالى :(( وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ)) [هود:111] .
أي : كلُ إنسان سَيُوَفَّى عمله، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر، فإذا كان الأمر كذلك (فاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ ) لأنها طريق السعادة والفلاح والفوز .
وقوله تعالى : ((فاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ )) : الأمر هنا للنبي أولاً : ثم لأتباعه (( ومن تاب معك ))
أي : ومن آمن معك بأن تابوا من الشرك فأمنوا بالله ورسوله وصاروا مع النبي صلى الله عليه وسلم مؤمنين به وبما جاء به .
(ثم إن الأمر بالاستقامة هو التي شيَّب النبي - صلى الله عليه وسلم - :
[*] قال الإمام القرطبي رحمه الله في تفسيره :
(فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)(1/56)
قوله تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} : الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ولغيره. وقيل: له والمراد أمته؛ قاله السدى. وقيل: "استقم" اطلب الإقامة على الدين من الله واسأله ذلك. فتكون السين سين السؤال، كما تقول: استغفر الله أطلب الغفران منه. والاستقامة الاستمرار في جهة واحدة من غير أخذ في جهة اليمين والشمال؛ فاستقم على امتثال أمر الله. وفي صحيح مسلم عن سفيان بن عبدالله الثقفي قال: قلت يا رسول الله قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك! قال: "قل آمنت بالله ثم استقم" . وروى الدارمي أبو محمد في مسنده عن عثمان بن حاضر الأزدي قال: دخلت على ابن عباس فقلت أوصني! فقال: نعم! عليك بتقوى الله والاستقامة، اتبع ولا تبتدع.
{وَمَنْ تَابَ مَعَكَ} أي استقم أنت وهم؛ يريد أصحابه الذين تابوا من الشرك ومن بعده ممن اتبعه من أمته.
[*](قال ابن عباس رضي الله عنهما : ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم آية هي أشد ولا أشق من هذه الآية عليه، ولذلك قال لأصحابه حين قالوا له: لقد أسرع إليك الشيب! فقال: "شيبتني هود وأخواتها" . وقد تقدم في أول السورة. وروي عن أبي عبدالرحمن السلمي قال سمعت أبا علي السري يقول: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقلت: يا رسول الله! روي عنك أنك قلت: "شيبتني هود" . فقال: "نعم" فقلت له: ما الذي شيبك منها؟ قصص الأنبياء وهلاك الأمم! فقال: "لا ولكن قوله: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} .
{وَلا تَطْغَوْا} نهى عن الطغيان والطغيان مجاوزة الحد؛ ومنه {إِنَّا لَمَّا طَغَا الْمَاءُ} . وقيل: أي لا تتجبروا على أحد. فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}(1/57)
قوله تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ولغيره. وقيل: له والمراد أمته؛ قاله السدى. وقيل: "استقم" اطلب الإقامة على الدين من الله واسأله ذلك. فتكون السين سين السؤال، كما تقول: استغفر الله أطلب الغفران منه. والاستقامة الاستمرار في جهة واحدة من غير أخذ في جهة اليمين والشمال؛ فاستقم على امتثال أمر الله. وفي صحيح مسلم عن سفيان بن عبدالله الثقفي قال: قلت يا رسول الله قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك! قال: "قل آمنت بالله ثم استقم" . وروى الدارمي أبو محمد في مسنده عن عثمان بن حاضر الأزدي قال: دخلت على ابن عباس فقلت أوصني! فقال: نعم! عليك بتقوى الله والاستقامة، اتبع ولا تبتدع. {وَمَنْ تَابَ مَعَكَ} أي استقم أنت وهم؛ يريد أصحابه الذين تابوا من الشرك ومن بعده ممن اتبعه من أمته. قال ابن عباس ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم آية هي أشد ولا أشق من هذه الآية عليه، ولذلك قال لأصحابه حين قالوا له: لقد أسرع إليك الشيب! فقال: "شيبتني هود وأخواتها" . وقد تقدم في أول السورة. وروي عن أبي عبدالرحمن السلمي قال سمعت أبا علي السري يقول: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقلت: يا رسول الله! روي عنك أنك قلت: "شيبتني هود" . فقال: "نعم" فقلت له: ما الذي شيبك منها؟ قصص الأنبياء وهلاك الأمم! فقال: "لا ولكن قوله: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} .
{وَلا تَطْغَوْا} نهى عن الطغيان والطغيان مجاوزة الحد؛ ومنه {إِنَّا لَمَّا طَغَا الْمَاءُ} . وقيل: أي لا تتجبروا على أحد.
(الاستقامة على الدين ظاهراً وباطناً :(1/58)
إن الالتزام بالإسلام والاستقامة على دين الله هو ظاهرٌ وباطن ، هو مخبرٌ ومظهر، هو حقيقة وجوهر كما أنه شكل ومظهر ينتج ويظهر على المسلم في الخارج، ونحن نريد أن يكون التزامنا بالإسلام داخلي وخارجي، شيء يقر في القلب فينعكس على التصرفات وعلى الأعمال.. أعمال القلب وأعمال الجوارح. ينبغي أن نعالج القلب قبل أن نعالج العادات والتقاليد والملابس مع أن الكل من الدين، لكن هناك أولويات، ونحن نوقن بالارتباط بين الظاهر والباطن، ونحن نعتقد أن هناك مضغة في الجسد إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله. نعتقد أن تحكيم الشريعة في كل شيء يقود إلى إصلاح الظاهر والباطن، وأن ديننا قد أمر بإصلاح الظاهر والباطن، والله سبحانه وتعالى قال: وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ [الأنعام:120] لم يقل: ذروا ظاهر الإثم فقط، ولا قال: ذروا باطن الإثم فقط، قال: ذروا ظاهر الإثم وباطنه، فظاهر الإثم كل ما يظهر للناس من البذاءة والفحش والسب واللعن والشتم.. ونحو ذلك. وباطن الإثم كل ما يكون في القلب.. من الحقد والحسد والعجب والغش واحتقار الخلق..(1/59)
ونحو ذلك: وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ [الأنعام:120] الباطن مهم جداً والظاهر مهم كذلك، ولولا أن الظاهر مهم ما جاءت الشريعة بأحكام اللباس وسنن الفطرة والزينة والشعر والانتعال والنظافة وكل أمرٍ من الأمور التي تميز المسلم ظاهرياً عن غير المسلم، ولما شرعت الشريعة لنا وجوب مخالفة أهل الكتاب وغير المسلمين حتى في صبغ الشعر وفي الصلاة حفاة بغير نعال، وفي اللحية والشارب وغير ذلك، حتى نهينا عن التشبه بالحيوانات والبهائم، والذين يطيلون شواربهم اليوم مخالفون للهدي النبوي الذي أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بقوله وحذرنا: (من لم يأخذ من شاربه؛ فليس منا) يجب قص ما طال عن الشفة، وأولئك النسوة اللاتي أطلن أظافرهن مثل الوحوش وصبغنها بالمناكير الحمراء وغيرها، هؤلاء المتشبهات بالحيوانات والبهائم والوحوش الكاسرة هن على استعداد بالخدش بها في أقرب مناسبة تقوم بها قائمة. إذاً أيها الإخوة! الظاهر أمر عظيم وليس هناك في الإسلام شيء اسمه قشور ولب، والذين ينادون بتقسيم الإسلام إلى قشور ولباب أناسٌ ضالون مخطئون، الإسلام كلٌ لا يتجزأ.. الإسلام يؤخذ كله ويطبق كله، ومع الأسف فإن الناس اليوم يغترون بالظاهر، وليت أن ظاهر الأكثرية ظاهراً إسلامياً؛ إذاً لقلنا: إنهم على الأقل قد امتثلوا شيئاً من الدين، لكن الناس اليوم يعتنون بالمظاهر.. في الثياب والحفلات والزينات والطعام والشراب والسياحة، حتى العبادات إذا سمعوا قارئاً يقرأ بصوتٍ جميل، قال: صوتٌ رائع، ويجعلون حجهم سياحة، وعمرتهم أكل وحكايات في الحرم، هذا حالهم. وطائفة أخرى من الناس دخلوا في الدين ظاهرياً؛ فهذا أطال لحيته وأعفاها، والتزم الثوب بطوله الشرعي الذي لا ينزل عن الكعبين، ولكن قلبه ينطوي على أنواع من المفاسد، والأمور العظيمة، ولذلك التصرفات الناتجة عنه والتعامل مع الناس بل مع زوجته وأولاده في البيت وأقربائه وجيرانه من أسوأ ما يمكن.(1/60)
وأناسٌ قد أخذوا بنصيبٍ من هذا وهذا الالتزام الظاهري والباطني، ولكن عندهم نقص، نحن كلنا مقصرون ولذلك هذه دعوة حقيقة للالتزام بالإسلام ظاهراً وباطناً. ولسنا من الذين ينخدعون بالظاهر، ولا بالذين يقومون الناس على الظاهر، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان جالساً وعنده رجل، فمر رجلٌ فقال النبي عليه الصلاة والسلام للرجل الذي عنده: (ما رأيك في هذا؟ فقال: يا رسول الله! هذا رجلٌ من أشراف الناس، هذا والله حري إن خطب أن ينكح، وإن شفع أن يشفع، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم مر رجلٌ آخر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للجالس عنده: ما رأيك في هذا؟ فقال: يا رسول الله! هذا رجلٌ من فقراء المسلمين، هذا حري إن خطب ألا ينكح، وإن شفع ألا يشفع، وإن قال ألا يسمع لقوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا خيرٌ من ملء الأرض مثل هذا) هذا الضعيف المستضعف خيرٌ من ملأ الأرض من أمثال هذا الذي تقول عنه: إنه من أشراف الناس. ولما كانت امرأة من بني إسرائيل ترضع صبياً لها، أقبل رجلٌ ذو شارة حسنة وهيئة وفخامة ولباس وحشم، فقالت: اللهم اجعل ابني مثل هذا، فترك الصبي الثدي، وأقبل وقال: اللهم لا تجعلني مثله، أنطقه الله في المهد، ونحن اليوم في خضم هذه الجاهلية التي يتعارك فيها ومعها؛ فإننا نحتاج إلى شخصيات إسلامية قوية ذات إيمان وإخلاص ذات علم وعمل: وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً [النساء:66] نحتاج إلى أناسٍ يتمسكون بالدين ظاهراً وباطناً.. نحتاج إلى أناس لا يلعبون بالدين، وإنما يكونون صادقين مع الله سبحانه وتعالى في تمسكهم به، وقلنا أن الناس اليوم قد اهتموا بالمظاهر السيئة، وبعضهم عنده مظاهر طيبة وبواطن سيئة، ولكن الأكثرية بعيدون عن شرع الله..(1/61)
يلعبون بهذا الدين لعباً، وهؤلاء هم الذين ذمهم الله سبحانه وتعالى، فقال: أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحىً وَهُمْ يَلْعَبُونَ [الأعراف:98] ... مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ [الأنبياء:2] ... فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ * الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ [الطور:11-12]، والله عز وجل يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ * وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ [المائدة:57-58].. وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا [الأنعام:70]. هذه النوعية التي تلعب بالدين ابتداءً من العقيدة:
فالإيمان قول وعمل واعتقاد، والذين يقولون: إن الإيمان بالقلب فقط هم أناسٌ يلعبون بالدين، ويتخذونه لعباً ولهواً، هؤلاء الذين يتحايلون على شرع الله قد عرفناهم، وقد جاءت تصريحاتهم موافقة لما في قلوبهم من الاستهزاء بالدين.. هؤلاء الذين سموا الربا فوائد وعوائد استثمار، والذي سموا الخمر مشروبات روحية، والذين سموا الرقص والموسيقى والغناء والتماثيل فن، والذين سموا الرشوة أتعاب، هؤلاء الذين يلعبون بالدين قد عرفناهم، وميزناهم جيداً في الواقع، هؤلاء الذين يتتبعون الرخص ويضربون كلام العلماء بعضه ببعض، هؤلاء يلعبون بالنار، الذين يفتون في المجالس في الأهواء ويتكلمون في الدين يخبطون بغير علم .(1/62)
قد عرفنا الذين يقولون: لِمَ يأخذ رجل أربعة نسوة ولا تأخذ المرأة إلا واحد؟ فلماذا لا تأخذ المرأة أكثر من رجل؟ قد عرفنا هؤلاء. أيها الإخوة! نريد أن نلقي الضوء على عقيدتنا وتصرفاتنا نحن؛ نحن الذين نرى أننا نريد الصراط المستقيم والهداية، نسعى للتمسك بهذا الدين.. نريد أن نرى أنفسنا على ضوء الشريعة، الشريعة أمرتنا بأي شيء؟ هل أمرتنا بجزء من الإسلام أو أمرتنا بالإسلام كله؟ هل قالت: أسلموا في وقت الرخاء، ثم تراجعوا في وقت الشدة؟ بماذا طالبتنا الشريعة؟ ما هو المنهج والموقف من هذه الشريعة؟ قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [البقرة:208-209].. ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً [البقرة:208] كلكم ادخلوا في الإسلام أو ادخلوا أنتم جميعاً في شعائر الإسلام كلها، لا تتركوا شعيرة إلا وطبقتوها بما تستطيعون: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286] اعملوا بجميع الأعمال ووجوه البر: وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ [الأعراف:170] فالله عز وجل قال: يُمسِّكون بالكتاب، فيها معنى التكرير والتكثير للتمسك، هذا الفرق بين يمسِكون بالكتاب ويمسِّكون بالكتاب، إنها صيغة القبض على الكتاب بقوة وجد وصرامة، وهذه الصورة هي التي يريد الله منا أن نأخذ بها كتابه، ونحن نعلم كما علمنا الله ورسوله أن الجد والقوة في أخذ الدين شيء والتعنت والتنطع والغلو والتطرف هو شيء آخر، ولذلك نحن نعلم جيداً الذين يوجهون إلينا سهام التطرف والتنطع بلفظة الأصولية اليوم، نعرفهم ونميزهم ونعرف معنى التمسك بالدين على وجهه صحيح.(1/63)
إن الجد والقوة والصرامة لا تنافي اليسر، لكنها تنافي التميع.. إنها لا تنافي سعة الأفق، لكنها تنافي الاستهتار.. لا تنافي مراعاة الواقع، لكنها تنافي أن يكون الواقع هو الحكم على الشريعة، لأن الدين يقول: إن الشريعة هي الحكم على الواقع، وليس العكس. والله سبحانه وتعالى علمنا ونبهنا إلى أن كتابه الكريم هذا قولٌ فصل وما هو بالهزل، بل هو حقٌ وجد، ليس فيه سائبة هزلٍ بل كله جدٌ محض، هو فاصل بين الحق والباطل قد بلغ الغاية في ذلك، فليس بالهزل ولم ينزل باللعب، ويجب أن يكون مهيباً في الصدور: خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:63] خذوا ما ألزمناكم من.
(الاستمرار على الاستقامة والتقصير فيها:
المؤمن مُطَالَبُ بدوام الاستقامة ، ولذلك يسألها ربه في كل ركعة من صلاته : قال تعالى: (اهْدِنَا الصّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) [الفاتحة: 6] ، ولما كان من طبيعة الإنسان أنه قد يقصر في امتثال الأوامر واجتناب النواهي، وهذا خروج عن الاستقامة إذ الاستقامة هي المواظبة على التقوى بلزوم امتثال الأوامر واجتناب النواهي على الدوام ، لذلك أرشده الشرع إلى ما يعيده لطريق الاستقامة ، فقال تعالى مشيراً إلى ذلك : ( فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوه ُ) [ فصلت : 6] ، فأشار إلى أنه لابد من تقصير في الاستقامة المأمور بها ، وأن ذلك التقصير يُجْبَرُ بالاستغفار المقتضي للتوبة والرجوع إلى الاستقامة.
وقال صلى الله عليه وسلم:(اتق الله حيثما كنت ، وأتبع السيئة الحسنة تمحها) كما في الحديث الآتي : (
( حديث أبي ذر رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي )أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن .(1/64)
الشاهد : قوله - صلى الله عليه وسلم - [ اتق الله حيثما كنت ] : أي واظب على التقوى على الدوام وفي كل وقتٍ وحين ، وهذه هي الاستقامة بحذافيرها .
[*] قال العلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:
( اتَّقِ اللَّهَ ) أسَيْ بِالْإِتْيَانِ بِجَمِيعِ الْوَاجِبَاتِ وَالِانْتِهَاءِ عَنْ سَائِرِ الْمُنْكَرَاتِ, فَإِنَّ التَّقْوَى أَسَاسُ الدِّينِ وَبِهِ يَرْتَقِي إِلَى مَرَاتِبِ الْيَقِينِ ( حَيْثُ مَا كُنْتَ ) أَيْ فِي الْخَلَاءِ وَفِي النَّعْمَاءِ وَالْبَلَاءِ, فَإِنَّ اللَّهَ عَالِمٌ بِسِرِّ أَمْرِكَ كَمَا أَنَّهُ مُطَّلِعٌ عَلَى ظَوَاهِرِكَ, فَعَلَيْكَ بِرِعَايَةِ دَقَائِقِ الْأَدَبِ فِي حِفْظِ أَوَامِرِهِ وَمَرَاضِيهِ, وَالِاحْتِرَازِ عَنْ مَسَاخِطِهِ وَمَسَاوِيهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ( وَأَتْبِعْ ) أَمْرٌ مِنْ بَابِ الْإِفْعَالِ وَهُوَ مُتَعَدٍّ إِلَى مَفْعُولَيْنِ ( السَّيِّئَةَ ) الصَّادِرَةَ مِنْ صَغِيرَةٍ وَكَذَا كَبِيرَةٍ عَلَى مَا شَهِدَ بِهِ عُمُومُ الْخَبَرِ وَجَرَى عَلَيْهِ بَعْضُهُمْ لَكِنْ خَصَّهُ الْجُمْهُورُ بِالصَّغَائِرِ ( الْحَسَنَةَ ) صَلَاةً أَوْ صَدَقَةً أَوِ اسْتِغْفَارًا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ ( تَمْحُهَا ) أَيْ تَدْفَعُ الْحَسَنَةُ السَّيِّئَةَ وَتَرْفَعُهَا, وَالْإِسْنَادُ مَجَازِيٌّ, وَالْمُرَادُ يَمْحُو اللَّهُ بِهَا آثَارَهَا مِنَ الْقَلْبِ أَوْ مِنْ دِيوَانِ الْحَفَظَةِ, وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَرَضَ يُعَالَجُ بِضِدِّهِ فَالْحَسَنَاتُ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ( وَخَالِقِ النَّاسَ ) أَمْرٌ مِنَ الْمُخَالَقَةِ مَأْخُوذٌ مِنَ الْخُلُقِ مَعَ الْخَلْقِ أَيْ خَالِطْهُمْ وَعَامِلْهُمْ ( بِخُلُقٍ حَسَنٍ ) أَيْ تَكَلَّفْ مُعَاشَرَتَهُمْ بِالْمُجَامَلَةِ فِي الْمُعَامَلَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ نَحْوِ طَلَاقَةِ وَجْهٍ,(1/65)
وَخَفْضِ جَانِبٍ, وَتَلَطُّفٍ وَإِينَاسٍ, وَبَذْلِ نَدًى, وَتَحَمُّلِ أَذًى, فَإِنَّ فَاعِلَ ذَلِكَ يُرْجَى لَهُ فِي الدُّنْيَا الْفَلَاحُ, وَفِي الْآخِرَةِ الْفَوْزُ بِالنَّجَاةِ وَالنَّجَاحِ.
[*] وقال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير :
( اتق الله ) بامتثال أمره وتجنب نهيه
( حيثما كنت ) أي وحدك أو في جمع فإن كانوا أهل بغي أو فجور فعليك بخويصة نفسك أو المراد في أي زمان ومكان كنت فيه رآك الناس أم لا فإن الله مطلع عليك واتقوا الله إن الله كان عليكم رقيباً ، والخطاب لكل من يتوجه إليه الأمر فيعم كل مأمور وأفراد الضمير باعتبار كل فرد وما زائدة بشهادة رواية حذفها وهذا من جوامع الكلم فإن التقوى وإن قل لفظها كلمة جامعة فحقه تقدس أن يطاع فلا يعصى ويذكر فلا ينسى ويشكر فلا يكفر بقدر الإمكان ، ومن ثم شملت خير الدارين إذ هي تجنب كل منهي عنه وفعل كل مأمور به فمن فعل ذلك فهو من المتقين الذين أثنى عليهم في كتابه المبين ثم نبه على تدارك ما عساه يفرط من تقصيره في بعض الأوامر والتورط في بعض النواهي فقال(1/66)
( واتبع ) بفتح الهمزة وسكون المثناة فوق وكسر الموحدة ألحق ( السيئة ) الصادرة منك صغيرة وكذا كبيرة كما اقتضاه ظاهر الخبر والحسنة بالنسبة إليها التوبة منها فلا ملجئ لقصره على الصغيرة كما ظن وأيا مّا كان فالحسنات تؤثر في السيئات بالتخفيف منها يعني ألحق ( الحسنة ) إياها صلاة أو صدقة أو استغفاراً أو تسبيحاً أو غيرها ( تمحها ) أي السيئة المثبتة في صحيفة الكاتبين وذلك لأن المرض يعالج بضده كالبياض يزال بالسواد وعكسه { إن الحسنات يذهبن السيئات } يعني فلا يعجزك إذا فرطت منك سيئة أن تتبعها حسنة كصلاة قال ابن عربي : والحسنة تمحو السيئة سواء كانت قبلها أو بعدها وكونها بعدها أولى إذ الأفعال تصدر عن القلوب وتتأثر بها فإذا فعل سيئة فقد تمكن في القلب اختيارها فإذا أتبعها حسنة نشأت عن اختيار في القلب فتمحو ذلك وظاهر قوله تمحها أنها تزال حقيقة من الصحيفة وقيل عبر يه عن ترك المؤاخذة ثم إن ذا يخص من عمومه السيئة المتعلقة بآدمي فلا يمحها إلا الاستحلال مع بيان جهة الظلامة إن أمكن ولم يترتب عليه مفسدة وإلا فالمرجو كفاية الاستغفار والدعاء ( وخالق الناس بخلق ) بضمتين ( حسن ) بالتحريك أي تكلف معاشرتهم بالمجاملة من نحو طلاقة وجه وحلم وشفقة وخفض جانب وعدم ظن السوء بهم وتودد إلى كل كبير وصغير وتلطف في سياستهم مع تباين طباعهم ، يقال فلان يتخلق بغير خلقه أي يتكلف وجمع هذا بعضهم في قوله : وأن تفعل معهم ما تحب أن يفعلوه معك فتجتمع القلوب وتتفق الكلمة وتنتظم الأحوال وذلك جماع الخير وملاك الأمر ، والخلق بالضم الطبع والسجية وعرفاً ملكة نفسانية تحمل على فعل الجميل وتجنب القبيح كذا ذكره البعض هنا وليس بصواب فإنه تفسير لمطلق الخلق بالخلق الحسن وهو فاسد وقد تكفل حجة الإسلام بتعريفه على طرف التمام فقال : الخلق هيئة للنفس تصدر عنها الأفعال بسهولة وسر من غير حاجة إلى فكر وروية فإن كانت الهيئة بحيث تصدر عنها الأفعال(1/67)
الجميلة المحمودة عقلاً وشرعاً سميت الهيئة التي هي المصدر خلقاً حسناً وإن كان الصادر عنها الأفعال القبيحة سميت الهيئة التي هي المصدر خلقاً سيئاً وحسن [ ص 121 ] الخلق وإن كان جلياً لكن في الحديث رمز إلى إمكان اكتسابه وإلا لما صح الأمر به كما سيجيء إيضاحه والأمر به عام خص بمستحقه فخرج الكفرة والظلمة فأغلظ عليهم ثم هذا الحديث من القواعد المهمة لإبانته لخير الدارين وتضمنه لما يلزم المكلف من رعاية حق الحق والخلق . وقال بعضهم : وهو جامع لجميع أحكام الشريعة إذ لا يخرج عنه شيء وقال آخر فصل فيه تفصيلاً بديعاً فإنه اشتمل على ثلاثة أحكام كل منها جامع في بابه ومترتب على ما قبله ( تنبيه ) قال الراغب : الفرق بين الخلق والتخلق أن التخلق معه استثقال واكتساب ويحتاج إلى بعث وتنشيط من خارج والخلق معه استخفاف وارتياح ولا يحتاج إلى بعث من خارج .
(واقع الاستقامة في حياة الناس :(1/68)
أيها الإخوة! عند النظر للواقع الذي نعيش فيه الآن، نرى أن أكثر الناس على غير دين الله، وأكثرهم يصدون عن سبيل الله، وفي وسط هذه الظلمات قامت الدعوة بدين الله لإخراج الناس من الظلمات إلى النور، وهي لا تزال في تقدمٍ وانتشارٍ ولله الحمد. إن بوادر اليقظة الإسلامية التي تعم اليوم أرجاء العالم الإسلامي وحتى الأقليات الإسلامية في بلدان كثر هي أمر واقع، وإن ظهور علامات التدين على كثيرٍ من الأشخاص لا شك أنه نتيجة لهذه الصحوة وظهور هذه اليقظة هو أمرٌ من أمر الله سبحانه وتعالى ، ونحن مع فرحنا واستبشارنا بهذه النعمة الإلهية من ظهور أمر الدين وانتشاره؛ فإننا في نفس الوقت نحذر حذراً عظيماً مما يخالط هذه الصحوة، وهؤلاء الناس الذين تظهر عليهم بوادر الاستقامة ومظاهرها، الخشية العظيمة التي نخشاها على أنفسنا وعلى الآخرين من فشو الأمراض الباطنة ونقص الاستقامة الذي هو عيب أي عيب، فإن الكثير ضعف عندهم معيار الالتزام، وتقلص المفهوم الحقيقي للتمسك بهذا الدين، ولقد ظهرت علامات التدين على كثيرٍ من الأشخاص تأثراً بالجو العام، وإذعاناً لبعض الفتاوى، أو حماساً بعد سماع موعظة أو محاضرة، فهؤلاء الذين يغشون اليوم التجمعات الإسلامية من هم هؤلاء؟ ما هي صفاتهم؟ ما مقدار تمسكهم بهذا الدين؟ لا بد أن ننقد أنفسنا لنصحح الواقع، ولا بد أن نعلم مواطئ أقدامنا ومواقعنا حتى ننظر هل نحن على الصراط المستقيم أم أنه يوجد عندنا من الانحرافات ما يجب علينا أن نصححه ؟ فهذا بيان للحقيقة، وتنبيه للغافلين، ونصيحة للمقصرين، وكلنا مقصرون ، إن بيان الاستقامة أمر مهم؛ لأننا لن نسلم إلا إذا جئنا الله بقلب سليم، وكذلك فإننا لا نريد أن نكون عقبة في طريق التزام الناس بالإسلام.. لا نريد أن نكون منفرين عن شرع الله..(1/69)
لا نريد أن يكون عندنا من التصرفات ما يكون سداً بين الناس وبين الدخول في هذا الدين والشريعة، فكم من الكفرة لما رأوا بعض التصرفات من بعض المسلمين عدلوا عن الدخول في دين الله، وكم من العامة الذين رأوا تصرفات بعض الذين عندهم شيء من الالتزام الظاهر حملوا على هذا الدين وعلى هذه الاستقامة، وقالوا: هؤلاء المتدينون انظروا إليهم ماذا يفعلون! هل تريدون أن نكون مثل هؤلاء؟ والناس كثيرٌ منهم جهلة، لا يفرقون بين الإسلام والمسلمين، يقولون: الإسلام هو هذه التصرفات التي نراها من المسلمين.. الاستقامة والالتزام والتدين هو هذه المعاملة التي نلقاها من المتدينين.. الناس عندهم هذا المبدأ وهم لا يميزون، ليتهم يعرفون الرجال بالحق، لكنهم مع الأسف يعرفون الحق بالرجال! ولذلك فإن كثيراً منهم يكون عنده تصورات خاطئة وقناعات مغلوطة عن حقيقة الاستقامة مما يرونه من تصرفات بعض المتدينين في الظاهر.
( مقامات الدين التي يطالب بها العبد في الاستقامة :
[*](قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين :
«المطلوب من العبد الاستقامة وهي السداد فإن لم يقدر عليها فالمقاربة» فإن نزل عنها: فالتفريط والإضاعة .أهـ .
وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد ، ودرر الفرائد . (
( حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : سددوا وقاربوا، واعلموا أنه لن يُدخل أحدكم عمله الجنة، وأن أحب الأعمال أدومها إلى الله وإن قل .
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :إن الدين يسر و لن يُشادَّ الدين أحد إلا غلبه فسددوا و قاربوا و أبشروا و استعينوا بالغدوة و الروحة و شيء من الدلجة .(1/70)
الشاهد : قوله - صلى الله عليه وسلم - [ سددوا و قاربوا ] : فالسداد : الوصول إلى حقيقة الاستقامة ، أو هو الإصابة في جميع الأقوال والأعمال والمقاصد.
وقوله : ( قاربوا ) أي: اجتهدوا في الوصول إلى السداد ، فإن اجتهدتم ولم تصيبوا فلا يفوتكم القرب منه ، فما لا يُدْرك كُلُهُ لا يُتْرَك جُلُه ، فهما مرتبتان يطالب العبد بهما : السداد ، وهي الاستقامة ، فإن لم يقدر عليها فالمقاربة ، وما سواهما تفريط وإضافة ، والمؤمن ينبغي عليه أن لا يفارق هاتين المرتبتين ، وليجتهد في الوصول إلى أعلاهما ، كالذي يرمي غرضاً يجتهد في إصابته ، أو القرب منه حتى يصيبه.
[*](قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين تعليقاً على هذا الحديث :
فجمع في هذا الحديث مقامات الدين كلها فأمر بالاستقامة وهي السداد والإصابة في النيات والأقوال والأعمال وأخبر في حديث ثوبان: أنهم لا يطيقونها فنقلهم إلى المقاربة وهي أن يقربوا من الاستقامة بحسب طاقتهم كالذي يرمي إلى الغرض فإن لم يصبه يقاربه ومع هذا فأخبرهم: أن الاستقامة والمقاربة لا تنجي يوم القيامة فلا يركن أحد إلى عمله ولا يعجب به ولا يرى أن نجاته به بل إنما نجاته برحمة الله وعفوه وفضله
«فالاستقامة كلمة جامعة آخذة بمجامع الدين» وهي القيام بين يدي الله على حقيقة الصدق والوفاء بالعهد والاستقامة تتعلق بالأقوال والأفعال والأحوال والنيات فالاستقامة فيها: «وقوعها لله وبالله وعلى أمر الله»
قال بعض العارفين : كن صاحب الاستقامة لا طالب الكرامة فإن نفسك متحركة في طلب الكرامة وربك يطالبك بالاستقامة .
وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله تعالى روحه يقول:أعظم الكرامة لزوم الاستقامة .
(ثم تأمل في الحديث الآتي أيضاً بعين البصيرة : ((1/71)
( حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن المسلم المسدد يدرك درجة الصّوَّام القوَّام بآيات الله بحسن خلقه، وكرم ضريبته .
وكرم الضريبة :أي كرم الطباع .. وهذا يدل على أن الصيام والقيام وحدهما ليسا كافيين، بل أن حُسن الخلق أهم .
(فضل الاستقامة :
الاستقامة، وما أدراك ما الاستقامة، ثم ما أدراك ما الاستقامة، إنها أس الديانة، وسبيل السلامة، إذ هي أكبر كرامة في الدنيا، المفضية إلى الكرامة الأبدية وهي الجنة: "فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ".
[*](قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى : "أعظم الكرامة لزوم الاستقامة"، فلو مشى المرء على الماء، أوطار أوتربع في الهواء، ما دل ذلك على قبول الله له حتى يستقيم على أمر الله ونهيه، إذ هو الضابط الوحيد للكرامة.
حُكِي للإمام الشافعي رحمه الله ما قاله الليث بن سعد، فقيه مصر ومفتيها في زمانه: "لو رأيتم الرجل يمشي على الماء فلا تعتدوا به ولا تغتروا به حتى تعرضوه على كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم"، فقال: "لقد قصَّر الليث، لو رأيتم الرجل يمشي على الماء، أويطير في الهواء، فلا تعتدوا به ولا تغتروا به حتى تعرضوه على كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن الشيطان يطير من المشرق إلى المغرب".
أمر بهذه الخطورة والأهمية فيه فلاح الدنيا والآخرة، ينبغي لكل مسلم عاقل أن يسعى لتحقيقه في نفسه، ويحرص على أن ينال منه حظه، فما لا يدرك كله لا يترك جله، ، والعاقل من حاسب نفسه قبل أن تُحاسب، ووزن أعماله بميزان الشرع قبل أن توزن عليه، وتزيَّن ليوم العرض الأكبر، كما قال عمر بن الخطاب، الناصح البصير.
وهاك بعض فضائل الاستقامة : (
(1) قد ذكر الله سبحانه فضل الاستقامة، وأنها سبيل السعادة في غير ما موضع من كتابه :(1/72)
قال تعالى : (( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)) [الأحقاف:13-14].
فالله تعالى قد أثنى على أهل الاستقامة، وَوَعَدَهُم بالأجر الجزيل.
وقال : (( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ)) [فصلت:30].
لقد وعدهم الله ، ووعد الله حق.. إذا ما استقاموا أن تتنزل عليهم الملائكة وهي تنادي أن لا تخافوا.. ولاتحزنوا.. وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون.. فالحزن بعيد عمن استقام.. والخوف بعيد عنه.. وله البشرى..
(2) وأهل الاستقامة لهم الرزق الحسن قال تعالى: (وَأَلّوِ اسْتَقَامُواْ عَلَى الطّرِيقَةِ لأسْقَيْنَاهُم مّآءً غَدَقاً) [الجن : 16]
وما الطريقة التي تريد الآية الاستقامة عليها سوى الطريقة التي سار عليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فهو أول من سلك طريقة الاستقامة قدوة لهذه الأمة مستجيبا لأمر الله تعالى: ” قال تعالى: (فَاسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ)) [هود: 112] ” وليس ذلك وحده.. بل: ” (وَمَن تَابَ مَعَكَ) ” .. وطريق الاستقامة هذه تسير بعكس طريق الطغيان (وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)
... يؤكد الله ذلك مرة أخرى على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بقوله تعالى: (فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ وَلاَ تَتّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ) [الشورى: 15].(1/73)
كما أمره أن يخاطب الناس يدعوهم للاستقامة: ” قال تعالى: (قُلْ إِنّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ يُوحَىَ إِلَيّ أَنّمَآ إِلََهُكُمْ إِلََهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوَاْ إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لّلْمُشْرِكِينَ) [ فصلت : 6] وهكذا يتضح الطريق أمام المؤمن.. فليس له أن يسلك طريقا سواه.. أدع.. استقم كما أُمرت.. ولا تَتبع أهواء الكافرين والفاسقين والمنافقين.. ثم الحذر أن تزل القدم بالفتنة فيزيغ المرء عن الصراط المستقيم.. ففيما أنزل الله على رسوله الحق.. كل الحق.. وليس غير الحق. ومن ثم تكون الاستقامة خير من ألف كرامة.
(3) إن الاستقامة من شأنها أن ترقى بالإنسان ، وتصل به إلى الذُّرْوَةِ من الكمال ، وتحفظ عقله وقلبه من أن يتطرق إليهما الفساد، وتصون نفسه من التردي في حمأة الرذيلة.
وإذا سيطرت الرغبة في الاستقامة على جماعة وسادت بينهم، حسنت أحوالهم، واستقامت أمورهم، وعمهم الأمن والسلام ، وإذا ضعفت الرغبة في الاستقامة ضعف الإقبال على الخير، وعظم التورط في الإثم وفشا المنكر، وتعرض الفرد والجماعة للانحراف والخطايا والانحلال الذي يعقبه سلب الحرية والاستقلال.
ولهذا اهتم الإسلام بالاستقامة اهتمامًا كبيرا، وأولاها عناية خاصة، لأنها الاستقامة تجمع الدين كله ولهذا أوصى بها النبي - صلى الله عليه وسلم - وكانت دليلاً أوفى على جوامع كَلِمِه - صلى الله عليه وسلم - كما في الحديث الآتي : (
( حديث سفيان بن عبد الله الثقفي رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) أنه قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - قُلْ لِي فِي الْإِسْلَامِ قَوْلًا لَا أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا بَعْدَكَ ؟ قَالَ : قُلْ آمَنْتُ بِاللَّهِ ثم اسْتَقِمْ .
(حديث ثوبان رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجه ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : استقيموا ولن تحصوا واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن .
(حقيقة الاستقامة :(1/74)
الاستقامة تتضمن في الشرع أمرين:
(1) السَّير على الطريق.
(2) الاستمرار و الثبات عليه حتى الممات .
فالأول: السير على الطريق :
وهذا المعنى يُفَسِّرُهُ قوله تعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ )) [آل عمران:102] .
اتقوه حق التقوى بحسب الاستطاعة ، قال تعالى: (( فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ)) [التغابن:16].
والثاني: الاستمرار والثبات عليه حتى الممات :
وذلك في قوله تعالى: (( وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ )) [آل عمران:102] .
فهذا يتضمن الأمر بالدوام والاستمرار .
والمعنى: استقيموا واثبتوا على التقوى حتى يأتيكم الموت وأنتم على ذلك، كما في الحديث الآتي : (
( حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنْ النَّارِ وَيَدْخُلَ الْجَنَّةَ فلتأته مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْتِي إِلَى النَّاسِ مَا يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ .
الشاهد : قوله - صلى الله عليه وسلم - [فلتأته مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ] أي يواظب على التقوى حتى الممات .
{ تنبيه } :( ومن هنا يتضح أن الاستقامة هي المواظبة على التقوى حتى الممات .
(الأمور التي تُعِينُ على تحقيق الاستقامة؟
الاستقامة على أمر الله نعمة عظيمة، ودرجة رفيعة، ومنة عالية، فتحقيقها يحتاج إلى جد، واجتهاد، وصبر، واحتساب، ودعاء، وتضرع، وإخبات، وتوفيق، واحتراز.
وأهم المعينات على تحقيق ذلك بعد توفيق الله عز وجل ما يأتي : (
أولاً: الدعاء والتضرع، وسؤالها بجد وإخلاص :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
ولأهمية ذلك أمرنا بقراءة الفاتحة في كل ركعة ، لما فيها من سؤال الصراط المستقيم المخالف لأصحاب الجحيم .(1/75)
فالدعاء هو العبادة، وهو سلاح المستضعفين، وعدة الصالحين، ولا يعجز عنه إلا المخذولين، فالله سبحانه وتعالى مالك الهداية والاستقامة، فلا تُطلب إلا من مالكها.
ثانياً: الاشتغال بالعلم الشرعي :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
فالعلم قائد والعمل تبع له: قال تعالى: (فَاعْلَمْ أَنّهُ لاَ إِلََهَ إِلا اللّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ) [محمد: 19]، فأمر بالعلم قبل العمل.وينبغي أن يبدأ بصغار العلم قبل كباره، ويشرع في الأهم ثم المهم، وأن يتلقى من مشايخ أهل السنة الموثوق بدينهم وعقيدتهم وعلمهم، "إن هذا العلم دين، فانظروا ممن تأخذون دينكم"، كما قال مالك وغيره.
ثالثاً: الحرص على التمسك بالسنة :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
إن الحرص على التمسك بالسنة هو سفينة النجاة، والحذر كل الحذر من البدع والاقتراب من المبتدعين، فإن ذلك هو الداء العظيم، والضلال المبين، بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الحديثين الآتيين : (
(حديث عائشة في صحيح مسلم) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد .
(حديث عائشة في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد .
رابعاً: مراقبة الله في السر والعلن :
خامساً: مجاهدة النفس، والهوى، والشيطان، وعدم الغفلة عن ذلك، ومحاسبتها في كل وقت وحين، وعلى الجليل والحقير.
سادساً: الإكثار من تلاوة القرآن، ومحاولة حفظه أوما تيسر منه، والمداومة على ورد ثابت.
سابعاً: الإكثار من ذكر الله عز وجل، والمداومة على أذكار الصباح والمساء، وأذكار وأدعية المناسبات المختلفات، فمن لم يوفق للغزو والجهاد، ولا لصيام الهواجر وقيام الليالي، فلا يفوتنه أن يعوض عن ذلك بلسانه.(1/76)
(حديث ابن عباس رضي الله عنهما الثابت في صحيح الترغيب والترهيب) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من عجز منكم عن الليل أن يكابده وبخل بالمال أن ينفقه وجبن عن العدو أن يجاهده فليكثر ذكر الله .
ثامناً: الحرص على سلامة القلب، والحذر من أمراض القلب المعنوية، كالحسد، والرياء، والنفاق، والشك، والحرص، والطمع، والعُجْب، والكِبْر، وطول الأمل، وحب الدنيا، فإنها أخطر من أمراضه الحسية، وهي سبب لكل رزية.
تاسعاً: التقلب بين الخوف والرجاء، في حال الصحة والشباب يغلب جانب الخوف، وعند المرض ونزول البلاء وعند الاحتضار يغلب جانب الرجاء.
عاشراً: مزاحمة العلماء بالركب، والقرب منهم، والحرص على الاستفادة منهم، واقتباس الأدب والسلوك قبل العلم والمعرفة.
أحد عشر: دراسة السيرة النبوية، وتراجم الأصحاب والعلماء، يعين على تزكية النفوس والترقي بها، "فإن التشبه بالرجال فلاح".
الثاني عشر: الحرص على معاشرة الأخيار، فالمرء على دين خليله، والطيورعلى أشكالها تقع، قال تعالى: (الأخِلاّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوّ إِلاّ الْمُتّقِينَ) [الزخرف: 67].
(حديث أبي هريرة في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يُخالل .
(حديث أبي سعيد في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال تصاحب إلا مؤمنا و لا يأكل طعامك إلا تقي .
(حديث أبي موسى في الصحيحين) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : مثل الجليس الصالح و الجليس السوء كحامل المسك و نافخ الكير ، فحامل المسك إما أن يُحْذِيَك وإما أن تبتاع منه وإما تجد منه ريحا طيبة ، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك أو تجد منه ريحا خبيثة .
الثالث عشر: الإكثار من ذكر الموت وتوقعه في كل وقت وحين، فهو أقرب إلى أحدنا من شراك نعله.(1/77)
الرابع عشر: القناعة بما قسم الله، والرضا بذلك، والنظر إلى من هو دونك وليس إلى من هو أرفع منك في شأن الدنيا، أما في شأن الدين: "وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ".
الخامس عشر: الخوف والحذر من سوء الخاتمة.
السادس عشر: سؤال الله والاستعاذة به من الفتن، ما ظهر منها وما بطن.
السابع عشر: الاستفادة من الوقت، والحرص عليه، فما العمر إلا أيام، وساعات، وثوان.
الثامن عشر: تجديد التوبة والإنابة، مع تحقيق شروطها والحرص على أن تكون توبة نصوحاً.
(ما تتحقق به الإستقامة :
تتحقق الاستقامة بأمور :
الأمر الأول : أداء الفرائض والواجبات :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
وهذه الفرائض والواجبات التي فرضها الله على عباده على مراتب:
أولًا: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله .
فالتوحيد هو أوجب الواجبات، وأعظم الحسنات، وأفضل الطاعات، فالتوحيد مقدمٌ على العمل والأصل الذي يترتب عليه غيره إذ لا ينفع مع الشرك عمل ، وهو أول ما أمر الله به عباده، وهو حقه عليهم، وهو مفتاح دعوة الرسل، ، وتحقيق ذلك بعبادة الله وحده لا شريك له وإخلاص الدين له ويتبع ذلك تحقيق متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم فإن ذلك مقتضى الشهادتين .
ثانيًا: الصلوات الخمس : وهي قرينة التوحيد في الكتاب والسُّنَّة.
ثالثاً: الزكاة، والصيام، الحج، هذه أركان الإسلام .
رابعاً: الواجبات الأخرى كـ"الجهاد في سبيل الله، الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وحقوق العباد" كلها تدخل في الفرائض، فتكون مما يتحقق الاستقامة.
إذًا: الاستقامة إنما تتحقق بأداء حقوق الله، وحقوق العباد.
الأمر الثاني مما يحقق الاستقامة : النَّوافل .
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ(1/78)
ولاشك أَنَّ الْمُحَافَظَة عَلى النَّوافل مِنْ كمال الاستقامة، ومِنْ حكمة الله أَنْ شَرَّع لعباده نوافل الطاعات في جميع العبادات "الصلاة، الصدقة، الصيام، الحج" وسائر الطاعات التي فرضها الله على عباده، شرع من جنسها ما هو تطوع ، والنوافل هي أحبُ ما يُتَقربُ به إلى الله تعالى بعد الفريضة بنص السنة الصحيحة كما في الحديث الآتي : (
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : قال الله تعالى من عاد لي ولياً فقد آذنته بالحرب ، وما تقرب إلىَّ عبدي بشيءٍ مما افترضته عليه ، وما يزال عبدي يتقرب إليِّ بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله الذي يمشي بها ، ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنَّه ، وما ترددتُ عن شيءٍّ أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته .
الأمر الثالث مما يحقق: اجتناب المحرمات .
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ
واجتناب المحرمات يكون بامتثال المأمورات، واجتناب المحظورات، فالتوحيد – مثلاً- لابد فيه مِنْ تَرك الشِّرك، والشِّرك أعظم الذنوب، وتأتي بعده كبائر الذنوب، وتأتي بعده ذنوب على مراتبها في القبح والتحريم التي لابد من تَوَقِّيْها لتحقيق الاستقامة.
ويدخل في الاستقامة ترك الحرام البَيِّن، وترك المتشابه! كما في الحديث الآتي : ((1/79)
(حديث النعمان بن بشير الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :الحلال بين و الحرام بين و بينهما أمور مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لعرضه و دينه و من وقع في الشبهات وقع في الحرام كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه ألا و إن لكل ملك حمى ألا و إن حمى الله تعالى في أرضه محارمه ألا و إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله و إذا فسدت فسد الجسد كله ألا و هي القلب .
كثيرٌ مِنْ النَّاس لا يبالي إذا لم يكن الشيء من الحرام البَيِّن، وممن يُقَال فِيهِ إِنَّ هذا حرام ، أو يُفْتَى بِأَنَّه حرام فَإِنَّه لَا يَدَعَهُ !!
وهذا ينبئ عن ضعف الإيمان وضعف التقوى .
فإن صحيح الإيمان، وصحيح التقوى هو مَنْ تَجَنَّب الحرام، واتقى الوقوع في الشبهات، فضلًا عن الوقوع في الحرام ؛ فاجتناب الذرائع، وما يُقَرِّبُ إلى الحرام مطلوب ((فَمَنْ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ )) .
الأمر الرابع: ترك المكروهات وترك فضول المباحات .
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
بعد ما علمنا أن حقيقة الاستقامة تشمل امتثال جميع المأمورات، واجتناب جميع المحرَّمات، ومن كمالها أداء النوافل ، وهي أيضًا على مراتب في الفضل وفي التأكد، أيضًا من كمالها ترك المكروهات، وترك فضول المباحات .
وعلى ذلك : فأهل الاستقامة ليسوا على مرتبة واحدة، فيهم المقربون، وفيهم المقتصدون، وهم لا يخرجون عن وصف الاستقامة، أما الظالمون لأنفسهم فإنهم ليسوا من أهل الاستقامة المطلقة؛ لأنهم مُخَلِّطون (( خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً)) [التوبة:102] .
فلم يكونوا مستقيمين الاستقامة التي أمر الله بها، عندهم تفريط، وبهذا نعلم أن الاستقامة تتفاوت، ويتفاضل فيها أهلها .(1/80)
الخامس: الاستمرار على طريق الاستقامة حتى الموت .
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
فمن المعلوم أن كثيراً من الناس ممن يسير على طريق طالباً لأمر يستطيل الطريق فلا يطيق السير وأضرب لهذا مثلاً في السير على الطريق الحسي فمن المعلوم قد ينطلق جَمْعٌ كثيرٌ من الناس للوصول إلى مطالب وحظوظ، فمنهم من يكون عنده صدق في الطلب، وعزم صادق، وعنده يقين بحصول المطلوب، وهو من مطالب الحياة، ومنهم من يكون ضعيف فيتقاعس، وربما رجع من الطريق، وربما سار ببطء، فمِن مفهوم الاستقامة التي أمرنا الله بها، وأثنى بها على المؤمنين الثبات والدوام حتى الممات، فالذي آمن، وسار على الطريق، ثم انحرف يمينًا، أو شمالًا بإفراط، أو تفريط، أو رجع فما استقام، لابد لتحقق الاستقامة من الاستمرار؛ لأن من تراجع لا يصل إلى مطلوبه، ولهذا أكَّد الله هذا بقوله:(( وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ )) ، وفي الحديث، ((فلتأته مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ)) كما تقدَّم معنا .
بما يشتمل عليه اسم الإيمان من الأفعال أو التروك.
السادس: عدم الانحراف:
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ
وتتضمن الاستقامة أيضًا ـ وهو مما يدخل في السير على الطريق ـ عدم الانحراف .
والانحراف : خلاف الاستقامة .
والانحراف في طريق الدين : إما أن يكون إلى إفراط أو إلى تفريط، وإما أن يكون هناك تجاوز لحدود الله "غلو، طغيان" وإما تفريط، وتقاعس، وتراجع، وانحراف .
فأما الإفراط: فإنه يكون بتعدي حدود الله ، قال تعالى: (( تلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا)) [البقرة:229] .
هذا في الأوامر، ولا تتعدى المباح، ولا تتجاوز ما شَرَعَ الله إلى الغلو والابتداع في الدين.
ومن التفريط : الغلو في الدين في كل شرائعه، لابد من الوقوف عند الحدود، (( تلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا)) [البقرة :229].(1/81)
وأيضًا: قال (( تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا)) [البقرة:187] .
فالقُرب من حدوده التي نهانا عنها تفريط، وتعدِّي الحدود إفراط، وكلاهما خلاف الاستقامة.
فالاستقامة تقتضي الوقوف عند حدود الله التي أذن فيها من واجب، ومستحب، ومباح، وَتَجنُّب الحدود التي نهى الله عنها، فنهى عن القرب منها .
إذًا: السَّير إلى الله لابد أن يكون في الطريق الوسط، وهو الذي يُسمَّى في النصوص الصراط.
ما هو الصراط ؟
الصراط : هو دين الله، هو الإسلام، هو القرآن.
دين الله هو الصراط الذي نَصَبَهُ الله للعباد طريقًا يسيرون عليه إليه سبحانه .
فالعبد في ضرورة إلى هداية الله، وهدايةُ الله لهذا الصراط يتضمن الاستقامة (( اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ))[الفاتحة:6].
اهدنا: أَوْجَبَ الله علينا أن نستهديه الصراط في كل ركعة ، ((اهدِنَا)) هذا أوجب وأفضل وأنفع دعاء .
والهداية هنا تشمل نوعين:
(1) هداية الدلالة والإرشاد.
(2) هداية التوفيق، وهداية التوفيق تتضمن الثبات على الطريق .
(القوادح في الإستقامة :
لمَّا أمر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - بالاستقامة ، نهاه عن ضِدِّها، وهو الطغيان، والمَيْل إلى الكافرين والظالمين، والفاسقين والمنافقين، قال تعالى: (فَاسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [هود: 112]
والطغيان ضد الاستقامة، تجاوز، وإفراط، وتعدِّي لحدود الله، وإمعان أيضًا في الباطل، قال: (وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [هود: 112]
فقوله تعالى : ((إِنّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)) فيه وعد ووعيد، وإذا كان سبحانه بصيراً بما يعمله العباد، فإنه سيجزيهم بما علمه، ورآه من أعمالهم التي وقعت منهم حقيقة، على الخير خيرًا، وعلى الشرِ بما يستحقون .
قال تعالى: ((وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ)) .(1/82)
الركون : هو المَيْل، وهو أيضًا ضد الاستقامة .
والاستقامة تتضمن مفاصلة أعداء الله، وبُغْضَ أعداء الله، والحذرَ من طاعة أعداء الله، قال تعالى: (( وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً)) [الأحزاب:48].
وطاعتهم من الركون إليهم .
قوله تعالى : ((فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ)) [هود:113]. فيه وعيد شديد وتهديد لمن ركن إلى الظالمين وينبغي أن يُعلم أن أكثر ما يطلق عليه اسم الظلم في القرآن الشرك، قال تعالى: (( وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِّنَ الظَّالِمِينَ)) [يونس:106] .
وقال: (( إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)) [لقمان:13] .
ويشمل الظلم أنواع الظلم، وقد يُراد به في بعض المواضع ما دون الشرك، مثل الآية التي أَشَرْتُ إلى معناها، قال تعالى: ((ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ)) [فاطر:32].
هذه الأصناف هي أصناف المؤمنين بالكتاب وبالرسول، منهم الظالم لنفسه المُخلِّط، ومنهم المقتصد وهو المتوسط، ومنهم السابق بالخيرات وهم المقربون .
(مرض نقص الاستقامة :
(خطورة مرض نقص الاستقامة :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ(1/83)
إن مرض نقص الاستقامة داء ٌ عضال ومرض قتَّال أمره خطير وشره مستطير أشر من البرص وأضر من الجرب كالسرطان يأكل الخلايا ، ومثل السوس الذي ينخر عظامهم من الداخل ، ، إن تأثير مرض نقص الاستقامة على النفس أسوء من مرض نقص المناعة على الجسد ، فإن الأشياء الجسدية ابتلاء، أما الأشياء التي تكون في الدين؛ فإن مصيبة الدين لا تعدلها مصيبة ، إن مرض نقص الاستقامة أودى بالإيمان في وادٍ سحيق ، مرض نقص الاستقامة هو الذي شَوَّه صورة الإسلام وشوَّه جمال الإسلام في أعين الناظرين إلى بعض الذين يزعمون التدين ، مرض نقص الاستقامة هو الذي سبب الانتكاس حقيقة، والارتداد على الأعقاب، والنكوص على الأدبار ، مرض نقص الاستقامة هوالذي أوجد عناصر مُشَوَّهة تزعم الانتساب إلى الدين، وليس عندها منه إلا النزر اليسير ، مرض نقص الاستقامة هوالذي جعل بعض الناس يقولون: نحن نلتزم بالإسلام إلى حدٍ معين لأنه لا طاقة لنا بأخذ الدين كله، والذين يقولون: ما عندنا استعداد لتقديم التضحيات.
(صور مرض نقص الاستقامة :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
مرض نقص الاستقامة له عدة صور منها ما يلي : (
(1) عدم الاستعداد لتقديم التضحيات :(1/84)
أيها الإخوة! الذي يسير معك ثم يقول: ليس عندي استعدادٌ لإكمال المشوار، أنت تطالبنا بأمورٍ لا طاقة لنا بها، والحقيقة أنك تطالبهم بالدين، ليس عندنا استعداد للتضحية والتقديم والعمل لهذا الدين، نحن نريد أن نكون طيبين في أنفسنا، مصلين مزكين صائمين نحج ونعتمر، نذكر الله وندعو، لكن أن نقدم تضحيات لهذا الدين ليس عندنا استعداد، أن نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر ونتحمل الأذى ليس عندنا استعداد.. هل هؤلاء فعلاً أصحاب تدين حقيقي؟ إذا احتاجت الدعوة إلى الله إلى إنفاق وبذل أموال وبذل أنفس وبذل جهد وبذل الأعمار تراجعوا، فقالوا: إن أموالنا نحتاج إليها، وأوقاتنا نحتاج إليها، إننا لا نصبر على الأذى، ولا نتحمل ولا نطيق، حتى الأذى الكلامي لا يريدون سماعه، ثم يقولون: نحن متدينون، هذا الالتزام البارد وهذه الاستقامة الناقصة لا تغني شيئاً، فإذا كَثُرَ الخبث هلك الناس وفيهم الصالحون بنص السنة الصحيحة كما في الحديثين الآتيين: (
( حديث زينب بنت جحش رضي الله عنها الثابت في الصحيحين ) أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها فزعا يقول: (لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه وحلق بإصبعه الإبهام والتي تليها، قالت زينب بنت جحش: فقلت: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: (نعم، إذا كثر الخبث).
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في السلسلة الصحيحة ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إذا ظهر السوء في الأرض أنزل الله عز وجل بأسه بأهل الأرض ، وإن كان فيهم صالحون ، يصيبهم ما أصاب الناس ، ثم يرجعون إلى رحمة الله .
فأين النوعية المصلحة التي تكفل الله بإنجائها إذا حلَّ العذاب بأهل القرى: قال تعالى: (فَلَماّ نَسُواْ مَا ذُكّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُوَءِ وَأَخَذْنَا الّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ) [الأعراف:165].(1/85)
(2) الرياء والنفاق في الأعمال:
إن الذين يتحركون بعباداتٍ جسدية ليس فيها إخلاص ولا روح ولا توجه لله، بل إن الكثير من أعمالهم يغشاها الرياء والنفاق، هؤلاء يجب أن يعودوا إلى الله ويتوبوا إليه من هذا الخطر العظيم وهذا السوس الذي نخر عظامهم من الداخل، والذي أودى بعباداتهم وقلل أجرها أو أعدمها بالكلية، الذين لا يصلون إلا مع الناس، ولا يطيلون الصلاة والخشوع إلا أمام الناس، الذين لا يتعلمون العلم إلا للمباهاة، الذين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأنهم:
وتأمل في الأحاديث الآتية لتعلم مدى خطر الداء العِضال والمرضِ القتَّال (الرياء) على العمل : (
(حديث أبي هريرة الثابت في صحيحي أبي داوود وابن ماجة)أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة .
( حديث جابر الثابت في صحيح ابن ماجة) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لا تعلموا العلم لتباهوا به العلماء ولا تماروا به السفهاء و لا لتخيروا به المجالس فمن فعل ذلك فالنار.
(حديث جندب بن عبد الله في الصحيحين) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من سمَّع سمَّع الله به ومن يرائي يرائي الله به .(1/86)
(حديث أبي هريرة الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها قال قاتلت فيك حتى استشهدت قال كذبت ولكنك قاتلت لأن يقال جريء فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها قال تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن قال كذبت ولكنك تعلمت العلم ليقال عالم وقرأت القرآن ليقال هو قارئ فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها قال ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك قال كذبت ولكنك فعلت ليقال هو جواد فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه ثم ألقي في النار .
(حديث أبي أمامة في صحيح النسائي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن الله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً وابتُغيَ به وجهه .
(حديث أبي سعيد في صحيح ابن ماجة) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال ؟ " . قالوا : بلي . قال : " الشرك الخفي ، يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته ، لما يري من نظر رجل .
(3) عدم مقاومة للنفس وهواها :(1/87)
الذين يقولون: إننا مستعدون للالتزام والاستقامة على الأمور التي لا مغالبة للنفس فيها ولا مقاومة، نحن نطلق اللحى ونقصر الثياب، ولا نشعر أن هناك شهوة نريد أن نقاومها، لكن لا تطلب منا غض البصر عن المرأة الأجنبية؛ هذا أمرٌ صعب، لا تطلب منا ترك الغناء؛ لأنه شيءٌ قد تأصل في نفوسنا.. هل هؤلاء الناس صابرون على منهج الله؟!! أين الصبر بأنواعه؟ أليس الصبر على طاعة الله نوع، والصبر عن معصية الله نوعٌ آخر، والصبر على أقدار الله وقضائه نوعٌ ثالث؟ أم أنهم لا يصبرون عن الأشياء التي فيها شهوات ومقاومة على النفس، ويقولون: الأمور التي فيها سهولة نعملها من الدين، والأمور التي فيها مشقة وصعوبة نتركها، هل هؤلاء الناس صادقون في استقامتهم أم أنهم مرضى؟!
(4) الخلل في معيار الحرام :
إن الذين يفعلون أنواعاً من المحرمات وقد فقدوا معيار الحرام بدرجاته، فيرون أشياء كبيرة وعظيمة وهم يعملون أكبر منها وأعظم، الذين يرون ـ مثلاً ـ أن حلق اللحية أمرٌ خطير، وهو أمرٌ خطير فعلاً ومحرم في الشريعة، لكنهم يتساهلون جداً في الغيبة وهم يعلمون مدى خطورته كما في النصوص الآتية :
قال تعالى: (وَلاَ يَغْتَب بّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتّقُواْ اللّهَ إِنّ اللّهَ تَوّابٌ رّحِيمٌ) [الحجرات / 12]
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أتدرون ما الغيبة ؟ قالوا الله ورسوله أعلم . قال : ذكرك أخاك بما يكره ، قيل أفرأيت إن كان في أخي ما أقول ؟ قال : إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته و إن لم يكن فيه فقد بهته .
(حديث عائشة في صحيحي أبي داوود والترمذي ) قالت قلت للنبي - صلى الله عليه وسلم - حبكَ من صفية كذا وكذا – تعني قصيرة – فقال : لقد قلتِ كلمةً لو مُزِجَت بماء البحر لمزجته .(1/88)
*معنى مزجته : أي خالطته مخالطةً شديدةً يتغير بها طعمه أو ريحه لشدة نتنها وقبحها ، وهذا من الزجر .
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيح الترغيب والترهيب ) أنه اعتل بعير لصفية بنت حيي وعند زينب فضل ظهر فقال النبي صلى الله عليه وسلم لزينب أعطيها بعيرا فقالت : أنا أعطي تلك اليهودية فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهجرها ذا الحجة والمحرم وبعض صفر .
( حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي ) قال : بلغ صفية أن حفصة قالت بنت يهودي فبكت فدخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم وهي تبكي فقال ما يبكيك ؟ فقالت قالت لي حفصة إني بنت يهودي فقال النبي صلى الله عليه وسلم إنك لابنة نبي وإن عمك لنبي وإنك لتحت نبي ففيم تفخر عليك ثم قال اتقي الله يا حفصة .
(حديث سعيد ابن زيد في صحيح أبي داود) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أربى الربا الاستطالة في عِرض المسلم بغير حق .
(حديث أبي برزة في صحيح أبي داوود ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : يا معشر من آمن بلسانه و لم يدخل الإيمان قلبه ! لا تغتابوا المسلمين و لا تتبعوا عوراتهم ، فمن اتبع عوراتهم يتبع الله عورته ، ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته .
(حديث أنس في صحيح أبي داود) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لما عرج بي ربي عز و جل مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجههم و صدورهم فقلت : من هؤلاء يا جبريل ؟ قال : هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس و يقعون في أعراضهم .
(حديث المستورد ابن شداد في صحيح أبي داود) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من أكل برجل مسلم أكلة فإن الله يطعمه مثلها من جهنم و من اكتسى برجل مسلم ثوبا فإن الله يكسوه مثله من جهنم و من قام برجل مسلم مقام سمعة و رياء فإن الله يقوم به مقام سمعة و رياء يوم القيامة .
(ما يصنع من سمع غيبة أخيه ؟(1/89)
(حديث أبي في صحيح الترمذي) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من ردَّ عن عرض أخيه رد الله عن وجهه النار يوم القيامة .
(حديث أسماء بنت يزيد في صحيح الجامع) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ?من ذب عن عرض أخيه بالغيبة كان حقا على الله أن يعتقه من النار .
(حديث جابر في صحيح أبي داوود ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :ما من امرئ يخذل امرءا مسلما في موطن ينتقص فيه من عرضه و ينتهك فيه من حرمته إلا خذله الله تعالى في موطن يحب فيه نصرته و ما من أحد ينصر مسلما في موطن ينتقص فيه من عرضه و ينتهك فيه من حرمته إلا نصره الله في موطن يحب فيه نصرته .
فكم الذين يقعون في الغيبة ويستطيلون في أعراض إخوانهم وهم يزعمون أنهم أهل صلاح وتدين؟ يأكلون لحم إخوانهم كالذي يأكل لحم أخيه ميتاً، وأسوؤهم على الإطلاق ، وقد ظهرت نابتة في عصرنا هذا كما ظهرت في عصور الإسلام السابقة ، وهم الذين يقعون في أعراض الدعاة إلى الله وأهل العلم، فيستطيلون في أعراض الدعاة إلى الله ويتهمونهم بشتى التهم بحجة الإصلاح، ويلبسون الغيبة لباس النصيحة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخبر في الحديث القدسي الذي يرويه عن ربه عز وجل: (من عادى لي ولياً؛ فقد آذنته بالحرب) كما في الحديث الآتي : (
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : قال الله تعالى من عاد لي ولياً فقد آذنته بالحرب ، وما تقرب إلىَّ عبدي بشيءٍ مما افترضته عليه ، وما يزال عبدي يتقرب إليِّ بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله الذي يمشي بها ، ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنَّه ، وما ترددتُ عن شيءٍّ أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته .(1/90)
فإذا قام يعادي أولياء الله، الذين قاموا لله بالحجة، ونصحوا الأمة، وحذروا وبينوا يُقام عليهم بالتشهير والشتم والتنقص ويُترك أعداء الله سالمين، هؤلاء معادين لأولياء الله، هل هم مستقيمون على الشريعة فعلاً أم أن عندهم مرضاً داخلياً مستشرٍ مثل السرطان يأكل الخلايا من الداخل؟! الذين يتساهلون في النميمة، ولا يعدون خطورة النميمة كخطورة أمرٍ آخر مثل الإسبال، فيرون الإسبال شيئاً كبيراً وهو كبيرٌ فعلاً عند الله، فالله يحرق من الإنسان الجزء الذي يكون أسفل من كعبه كما في الحديث الآتي : (
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ما أسفل الكعبين من الإزار ففي النار .
(حديث أبي ذر الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة و لا ينظر إليهم و لا يزكيهم و لهم عذاب أليم : المسبل إزاره و المنان الذي لا يعطي شيئا إلا منه و المنفق سلعته بالحلف الكاذب .
فالمسبلون تحت المشيئة إذا كانوا من أهل التوحيد، لكن النظر إلى هذا الأمر على أنه أمرٌ خطير، والنميمة ونقل كلام الناس بعضهم إلى بعض للإفساد بينهم لا يعتبرونه أمراً خطيراً، فهؤلاء أناسٌ مغفلون عندهم جهلٌ أو هوى. الذي يزعم أنه متمسك بالشريعة في الظاهر هو مفلسٌ أشد الإفلاس، وتأمل في الحديث الآتي لتتطلع بنفسك على خطورة المفلس : (
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أتدرون من المفلس ؟ قالوا : المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع . فقال : إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاةٍ و صيام و زكاة و يأتي وقد شتم هذا و قذف هذا و أكل مال هذا و سفك دم هذا و ضرب هذا فيُعطِى هذا من حسناته و هذا من حسناته فإن فنيت حسناتُه قبل أن يُقضَى ما عليه أُخذ من خطاياهم فطُرحت عليه ثم طُرح في النار .(1/91)
إذاً هناك أناس يذهبون إلى مكة فيحجون ويعتمرون ويقرءون القرآن ويبكرون ربما إلى المساجد لكن في الوقت نفسه عندهم من أنواع الظلم لإخوانهم وللمسلمين ولعباد الله عموماً ما يأكل حسناتهم أكلاً، فيأتون يوم القيامة من المفلسين.
(5) ومظاهر نقص الاستقامة سوء الخلق :
هؤلاء الذين يقولون: نحن متدينون، لكن عندهم من سوء الخلق ما أفسد عليهم تدينهم، لديهم أخلاق سوقية فهم يتعاملون مع الناس بشراسة وعناد وقبح وفحش، عندهم من الكبر في أنفسهم ما هو أكثر من كثيرٍ من المعاصي والموبقات والفواحش، عندهم عنجهية واحتقار للخلق، هؤلاء وإن كان مظهرهم حسناً لكن الله سبحانه وتعالى سيحاسبهم على سوء الخلق ن وإن سوء الخلق ليفسد العمل كما يفسد الخل العسل بنص بنص السنة الصحيحة كما في الحديث الآتي : (
( حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أحب الناس إلى الله أنفعهم و أحب الأعمال إلى الله عز و جل سرور تدخله على مسلم أو تكشف عنه كربة أو تقضي عنه دينا أو تطرد عنه جوعا و لأن أمشي مع أخي المسلم في حاجة أحب إلي من أن أعتكف في المسجد شهرا و من كف غضبه ستر الله عورته و من كظم غيظا و لو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه رضا يوم القيامة و من مشى مع أخيه المسلم في حاجته حتى يثبتها له أثبت الله تعالى قدمه يوم تزل الأقدام وإن سوء الخلق ليفسد العمل كما يفسد الخل العسل .(1/92)
هؤلاء الذين يعاملون آباءهم وأمهاتهم بفضاضة وغضاضة، ويعاملون زوجاتهم أسوأ المعاملة، ويظلمون أولادهم، كيف يكون هؤلاء متدينون ومستقيمون فعلاً وهم بهذه الطريقة؟ لقد قلنا: إن السفهاء من الناس إذا رأوا هؤلاء يقولون: هذا هو التدين المطلوب الذي تقولون لنا عنه وتأمروننا به؟! فيكون سيئ الخلق من الذين يصدون عن سبيل الله ، الذي يزعم أنه مستقيم على الشريعة ولكنه ظالمٌ للناس.. للعمال، للخدم، للمراجعين، للزملاء ، اتقوا دعوة المظلوم فإنها غايةٌ في الخطورة كما في الأحاديث الآتية : (
( حديث ا بن عباس في الصحيحين ) قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمعاذٍ ابن جبل حين بعثه إلى اليمن : إنك ستأتي قوماً أهل كتاب ، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمسَ صلواتٍ في كل يومٍ وليلة ، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقةً تؤخذ من أغنيائهم فتُردُ على فقرائهم ، فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائمَ أموالهم ، واتقِ دعوةَ المظلومِ فإنه ليس بينه وبين الله حجاب .
(حديث خزيمة بن ثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : اتقوا دعوة المظلوم فإنها تُحْمَلُ على الغمام يقول الله : و عزتي و جلالي لأنصرنك و لو بعد حين .
(حديث ابن عمر في صحيح الجامع) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال اتقوا دعوة المظلوم فإنها تصعد إلى السماء كأنها شرارة .
(حديث أبي هريرة في صحيح الجامع) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : دعوة المظلوم مستجابة و إن كان فاجرا ففجوره على نفسه .
(6) من مظاهر نقص الاستقامة الكذب وخلف الوعد والفجور في الخصومة.(1/93)
الذي يقول: إن عنده تدين واستقامة؛ لكنه إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، والذين يكذبون في الحديث كثرٌ جداً، وبعضهم مع الأسف قد يكون عنده من لبوس التدين ما عنده، لكنه يكذب في الحديث، بل قد يكذب على النبي صلى الله عليه وسلم، ويكذب على العلماء، وقد علمنا أن من هؤلاء من يجلس في المجالس ويقول: هذا حديث صحيح أخرجه فلان وفلان، وقال فيه فلان كذا، وهو كذاب ما في كلامه حرفٌ واحدٌ صحيح، أو الذين يجترئون على العلماء في المجالس ويقولون: الشيخ الفلاني أفتى بكذا، وقال: إنها حلال، والشيخ الفلاني حرمها، وقال: إنها حرام، وهو كذاب ما سمع الفتوى من الشيخ، ولم يتثبت منها وليس عنده طريقٌ صحيح من العالم، ومع ذلك ينقل على لسان الشيخ ما ينقل. الذين يكذبون في الفتوى ويكذبون على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم وينسبون الأحاديث إلى النبي عليه الصلاة والسلام وهم ليسوا متأكدين فعلاً من صحتها، هل هؤلاء مستقيمون على الشريعة أم أن عندهم مرضاً خطيراً هو مرض نقص الاستقامة؟ وهذا الذي إذا وعد أخلف، يخلف وليس عنده عذر، ويخلف دون اعتذار، ماذا يسمى؟ والذي يتخلف عن الموعد بدون عذر، والذي لو وعدك الساعة السابعة يخرج من بيته الساعة السابعة، وإخلاف الموعد درجات، فقد يخلف بالكلية، وقد يخلف جزءاً منه، لماذا تعد؟ وإذا وعدت لماذا لا تثبت على الموعد؟وإذا لم تستطع لماذا لا تعتذر؟ أليس هذه من صفات المنافق بنص السنة الصحيحة ؟
(حديث أبي هريرة في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب و إذا وعد أخلف و إذا ائتمن خان .
(حديث عبد الله ابن عمرو في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أربعٌ من كن فيه كان منافقا خالصا و من كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها : إذا ائتمن خان و إذا حدث كذب و إذا عاهد غدر و إذا خاصم فجر .(1/94)
هذا الكذاب الذي يقول لك أشياء لم تحصل، ويقول لك من القصص ما يخترعه، هذا هو الكذاب الذي يكذب فتبلغ كذبته الآفاق ، إن الذين إذا أتوا أهل الخير جلسوا معهم، وأعطوهم من الكلام الطيب ما يقنعونهم به أنهم مثلهم وأنهم على طريقتهم وأنهم متدينون فعلاً، ثم إذا ذهبوا إلى أهل الشر جلسوا معهم وشاركوهم، وقالوا لهم من الكلام ما يدل على أنهم مثلهم ومن شيعتهم، هل هؤلاء مستقيمون على الشريعة؟! أليس هذا هو ذي الوجهين الذي حذَّر النبي منه كما في الأحاديث الآتية : (
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : تجد من شرار الناس يوم القيامة عند الله ذا الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه .
(حديث عمار ابن ياسر في صحيح أبي داود) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال من كان له وجهان في الدنيا كان له يوم القيامة لسانان من نار .
(حديث أبي هريرة في صحيح الأدب المفرد) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لا ينبغي لذي الوجهين أن يكون أميناً .(1/95)
(هؤلاء الذين يلعبون على الحبلين ويظنون أنهم حكماء، وأنه من الذكاء والفطنة والحنكة أن تسايس أهل الدين وتسايس أهل الفسق، وأن تكون مع هؤلاء بالألفاظ الطيبة والكلام الحسن والسمت الحسن، ثم تذهب إلى أهل الشر، فتكون مثلهم وتشاركهم في منكراتهم، هؤلاء الذين إذا ذهبوا إلى أهل الشر قالوا: إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ [البقرة:14] نحن إنما نأتي هؤلاء المتدينين ما يناسبهم ، تجد أحدهم من سوء التعامل أنه إذا حدث بينه وبين أخيه خصومة؛ فجر في الخصومة، ثم هجر أخاه المسلم هجراً تاماً، لا يسلم عليه إذا لقيه، ولا يجلس معه في مجلس، ولا يزوره ولا يرد سلامه مع أنه مسلم مثله، لو ترك السلام عليه؛ لأنه صاحب بدعة؛ لقلنا: أحسنت، لو ترك السلام عليه؛ لأنه صاحب منكر ظاهر؛ لقلنا له: في الله هجرت، لكن من أجل الدنيا يهجرون إخوانهم المسلمين ويقطعونهم قطعاً، ويبتونهم بتاً، هل هؤلاء من المستقيمين على شرع الله أم أن عندهم مرضاً في الاستقامة؟
أين هم من تحذير النبي - صلى الله عليه وسلم - من هجر المسلم :
( حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :لا يحل لرجل أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال، يلتقيان: فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام .
( حديث أبي خراش السلمي رضي الله عنه الثابت في صحيح أبي داوود ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من هجر أخاه سنة فهو كسفك دمه.
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : تُفتحُ أبواب الجنة يوم الاثنين و يوم الخميس فيغفر فيها لكل عبد لا يشرك بالله شيئا إلا رجلا كانت بينه و بين أخيه شحناء فيقال : انظروا هذين حتى يصطلحا .(1/96)
فإذاً الذين يقطعون حبال الوصل مع إخوانهم المسلمين في الله هل هؤلاء من المستقيمين على شرع الله فعلاً؟ وبالمناسبة نقول: إنه لو انقطعت أخبار أخيك عنك لا لشحناء ولا لبغضاء، وانقطعت صلتك به لانشغالك وليس لعداوة؛ فإنك لا تكون هاجراً له، لكن احرص على وصل أخيك المسلم، لكن من أجل الدنيا تقطع أخاك المسلم فتهجره سنين ولا تسلم عليه! وهذا متفشٍ وكثير، ودقق في أحوال الناس واستمع للأخبار تجد ذلك عياناً بياناً.
(7) من مظاهر نقص الاستقامة: الكبر :
تجد الذين عندهم كبر يحرصون على صدور المجالس ولا يجلس حيث انتهى به المجلس، فيرتكبون أمراً حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح بقوله: (اتقوا هذه المذابح أي: المحاريب، حضور المجالس، تواضعوا لله)
( حديث ابن عمرو رضي الله عنهما الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : اتقوا هذه المذابح ـ يعني المحاريب ـ .
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
( اتقوا هذه المذابح ) جمع مذبح قال في الفردوس وغيره(1/97)
( يعني المحاريب ) أي تجنبوا تحري صدور المجالس يعني التنافس فيها ، ووقع للمصنف أنه جعل هذا نهياً عن اتخاذ المحاريب في المساجد والوقوف فيها وقال : خفي على قوم كون المحراب بالمسجد بدعة وظنوا أنه كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن في زمنه ولا في زمن أحد من خلفائه بل حدث في المائة الثانية مع ثبوت النهي عن اتخاذه ثم تعقب قول الزركشي المشهور أن اتخاذه جائز لا مكروه ولم يزل عمل الناس عليه بلا نكير بأنه لا نفل في المذهب فيه وقد ثبت النهي عنه انتهى ، أقول وهذا بناء منه على ما فهمه من لفظ الحديث أن مراده بالمحراب ليس إلا ما هو المتعارف في المسجد الآن ولا كذلك فإن الإمام الشهير المعروف أي بابن الأثير قد نص على أن المراد بالمحاريب في الحديث صدور المجالس قال ومنه حديث أنس كان يكره المحاريب أي لم يكن يحب أن يجلس في صدور المجالس ويرتفع على الناس انتهى . واقتفاه في ذلك جمع جازمين به ولم يحكوا خلافه منهم الحافظ الهيثمي وغيره وقال الحراني : المحراب صدر البيت ومقدمه الذي لا يكاد يوصل إليه إلا بفضل منه وقوة جهد وفي الكشاف في تفسير { كلما دخل عليها زكريا المحراب } ما نصه : قيل بنى لها زكريا محراباً في المسجد أي غرفة تصعد إليها بسلم وقيل المحراب أشرف المجالس ومقدمها كأنها وضعت في أشرف موضع في بيت المقدس وقيل كانت [ ص 145 ] مساجدهم تسمى المحاريب انتهى وقال في تفسير { يعملون له ما يشاء من محاريب } المحاريب المساكن والمجالس الشريفة سميت به لأنه يحامى عليها ويذب عنها وقيل المساجد انتهى وفي الأساس مررت بمذبح النصارى ومذابيحهم وهي محاريبهم ومواضع كتبهم ونحوها المناسك للمتعبدات وهي في الأصل المذابح انتهى ، وفي الفائق المحراب المكان الرفيع والمجلس الشريف لأنه يدافع عنه ويحارب دونه ومنه قيل محراب الأسد لمأواه وسمي القصر والغرفة المنيفة محراباً انتهى بنصه . وفي القاموس المذابح المحاريب والمقاصير .(1/98)
بيوت النصارى والمحراب الغرفة وصدر البيت وأكرم مواضعه ومقام الإمام من المسجد والموضع ينفرد به الملك ، وقال الكمال ابن الهمام في الفتح بعد ما نقل كراهة صلاة الإمام في المحراب لما فيه من التشبه بأهل الكتاب والامتياز عن القوم ما نصه لا يخفى أن امتياز الإمام مفرداً مطلوب في الشرع في حق المكان حتى كان التقدم واجباً عليه وغاية ما هنا كونه في خصوص مكان ولا أثر لذلك فإنه بنى في المساجد المحاريب من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو لم تبن لكانت السنة أن يتقدم في محاذاة ذلك المكان لأنه يحاذي وسط الصف وهو المطلوب إذ قيامه في غير محاذاته مكروه وغايته اتفاق الملتين في بعض الأحكام ولا بدع فيه على أن أهل الكتاب إنما يخصون الإمام بالمكان المرتفع كما قيل فلا تشبه انتهى .
وهاك النصوص الواردة في ذم الكبر لتحترز منه :
قال تعالى: (تِلْكَ الدّارُ الاَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأرْضِ وَلاَ فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتّقِينَ) [سورة: القصص - الآية: 83]
وقال تعالى: (وَلاَ تُصَعّرْ خَدّكَ لِلنّاسِ وَلاَ تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحاً إِنّ اللّهَ لاَ يُحِبّ كُلّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) [سورة: لقمان - الآية: 18]
(حديث ابن مسعود في صحيح مسلم) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرةٍ من كبر فقال رجل : إن الرجل يحب أن يكون ثوبُه حسنا و نعله حسنة قال : إن الله جميل يحب الجمال الكبر بَطَرُ الحقِ و غمطُ الناس .
بَطَرُ الحقِ : التكبر على الحق وعدم قبوله
غمطُ الناس : احتقارهم وازدرائهم
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جر إزاره بَطَرا .(1/99)
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة و لا يزكيهم و لا ينظر إليهم و لهم عذاب أليم : شيخ زان و ملك كذاب و عائل مستكبر .
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : قال الله تعالى : العزُ إزاري والكبرياءُ ردائي فمن نازعني عذبته .
اجلس حيث ينتهي بك المجلس، هذا الذي مهما كانت هيأته ومظهره.. هذا الذي يجد في نفسه حنقاً لو أنه لم يقم له في صدر المجلس ليجلس، فأين يكون موقعه من الاستقامة؟ ولو كانت سيماهم سيماء أهل الخير، لكنه يرتكب منكراً ومعصية. إن الذين عندهم نوع من الكبر يظنون أن نوعاً معيناً خاصاً من الدماء يجري في عروقهم، وأنهم من نسلٍ غير نسل آدم، وأنهم من طبقة من البشر ليست كباقي طبقات الناس الذين لو جاءهم خاطبٌ يخطب منهم احتقروه، وقالوا: كيف تتجرأ أصلاً أن تطرق بابنا وأنت تعلم أننا أصحاب حسب ونسب وشرف وأنت حقير؟ هؤلاء ما هو موقعهم من الاستقامة مهما كانت أشكالهم وصورهم،
وأين هم من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الآتي : (
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيحي الترمذي ) قالَ: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - : «إذَا خَطَبَ إلَيْكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ، فَزَوّجُوهُ. إلاّ تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ في الأرْضِ وفَسَادٌ عَرِيضٌ».
إذا كنت تخشى مفاسد وقطيعة داخل العائلة؛ إذاً اعتذر بأدب، أما أن يحتقر خلق الله لماذا يتقدم أصلاً للزواج؛ لأنك ترى في نفسك خاصية من دون عباد الله، وكأنك لست لآدم الذي هو من تراب: (كلكم لآدم وآدم من تراب) فهذه النوعية من البشر أين موقعهم من الاستقامة؟
(8) من مظاهر نقص الاستقامة: أذية الجار :(1/100)
إن الذين يشتكي منهم جيرانهم من أنواع الأذى التي يعاملونهم بها ويؤذونهم بها، هل هؤلاء مؤمنون حقاً ، أين هو من وصية النبي بالجار وتحذيره من أذى الجار :
(حديث عائشة في الصحيحين) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيُوَرِثُه .
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من كان يؤمن بالله و اليوم الآخر فلا يؤذ جاره ، ومن من كان يؤمن بالله و اليوم الآخر فليكرم ضيفه ، ومن من كان يؤمن بالله و اليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت .
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن قيل: يا رسول الله ومن ؟ قال : الذي لا يأمن جارة بوائقة "
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه .
(9) من مظاهر نقص الاستقامة أذية المصلين في المساجد :
إن الذين يضايقون خلق الله في المساجد بالروائح الكريهة من روائح البصل والثوم ونحوه، أو يتنخم في المسجد نخامة تصيب بدن أخيه أو ثوب أخيه، كيف هو؟
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يبصق أمامه فإنما يناجي الله تبارك و تعالى ما دام في مصلاه و لا عن يمينه فإن عن يمينه ملكا و ليبصق عن يساره أو تحت قدمه فيدفنها .
( حديث سعد ابن أبي وقاص رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :إذا تنخم أحدكم وهو في المسجد فليغيب نخامته لا تصيب جلد مؤمن أو ثوبه فتؤذيه.
حتى هذه الأشياء الإسلام يراعي فيها مشاعر المسلمين.
(10) من مظاهر نقص الاستقامة ظلم الزوجة :(1/101)
إن الذي تكون عنده زوجة فيظلمها ويأكل حقها، فلا يدع لزوجته شيئاً من راتبها إلا ويأخذه في آخر الشهر، حتى رواتب الصيف ومكافئة نهاية الخدمة يأخذها بدون رضاها وهو ما اشترط عليها في العقد شيئاً، فيأخذ مال أخيه المسلم بغير حق، هذا كيف يكون حاله؟ هؤلاء الذين يظهرون بالبشاشة في وجوه إخوانهم، ثم يكونون من أسوء خلق الله في التعامل مع زوجاتهم. الذي يكون عنده أكثر من زوجة وهو يهمل إحداهن ويغيب عنها، ويتركها ولا ينفق عليها، ويقول: أنت موظفة أنفقي على نفسك، كأن الشريعة قالت: إذا كانت الزوجة موظفة فالنفقة عليها، والشريعة ما قالت هذا، وربما أدخل أولاد هذه في مدارس خاصة، وترك أولاد تلك ونحو ذلك، تفريط بدون سبب شرعي ، وقد ورد النكير الشديد في السنة الصحيحة على من كان له زوجتان فمال إلى أحدهما كما في الحديث الآتي : (
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح السنن الأربعة ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :من كانت له امرأتان فمال إلا إحداهما جاء يوم القيامة وشقه مائل .
جزاءً وفاقاً لظلمه لزوجته، وكذلك الزوجة التي تظلم زوجها، فترفض خدمته وتتعالى عليه أو تقول: راتبي أكثر من راتبك، و شهادتي أعلى من شهادتك، وتطلب الطلاق منه من غير ما بأس؛ فحرام عليها رائحة الجنة، ومهما كان حجابها وشكلها؛ فإن استقامتها ليست بكاملة.
(11) من مظاهر نقص الاستقامة مماطلة الأجراء :
إن الذين يستأجرون الأجراء ويماطلونهم و لا يعطونهم حقوقهم، ويخصمون عليهم من الرواتب والمستحقات والبدلات، ويقف في طريقه إذا أراد أن يعف نفسه ، أين هم من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الآتي : (
(حديث ابن عمر رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجه ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :
أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه .(1/102)
هؤلاء استقامتهم ليست بكاملة. إن الذين يقترضون الأموال ويستدينون، وهم يعلمون أنهم لن يؤدوا هذه الأمانة، ويتساهلون في الاستدانة، مهما كانت أشكالهم وصورهم ومظاهرهم، أين هم من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الآتي : (
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذ يريد إتلافها أتلفه الله).
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : نفسُ المؤمن معلقةٌ بدينه حتى يُقضى عنه .
وبعض الناس الآن يتساهلون في الدين وهو يعلم أنه لن يرد، وإن كان عنده مال يماطل ويقول: لا أريد أن تنزل مدخراتي عن مستوى كذا، إذا ارتفعت فوق كذا؛ رددت إليك مالك، هؤلاء المماطلين عليهم أن يعلموا أن استقامتهم ناقصة مهما كانوا.
(12) من مظاهر نقص الاستقامة عدم أخذ الدين بالقوة :(1/103)
ونحن أيها الإخوة! نعاني و نعاني كثيراً من عدم أخذ الدين بالقوة كما أمرنا الله، نعاني من تسيبات، حتى على مستوى الصحوة توجد أنواعٌ من الغثائية والتفريط، فهذا إغراق في الضحك، وتضييع للأوقات في النكت والطرائف وليس نكت بمعنى الفوائد لكنها نكت بمعنى آخر فيه إغراق في الضحك، والنبي صلى الله عليه وسلم قد علمنا بأن كثرة الضحك تميت القلب، فأين استشعار المسئولية تجاه هذا الدين؟ وأين حديث: (لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً). نحن اليوم نعاني على مستوانا الداخلي من أنواع التسيب وعدم الجدية في طلب العلم، فهناك من الشباب من لا صبر له على القراءة ولا اهتمام له بحضور حلق الذكر والعلم، ولا دافع عنده للسؤال عن الأحكام الشرعية وتعلم دين الله، ولو سئل عن دليلٍ شرعيٍ في حجاب المرأة ما عرفه، أو في حكم الزنا ما أثبته، وكل كلامه: أو كما قال أو كما قال. والذين يشتغلون ببعض أنواع الملهيات من الألعاب وغيرها ويجعلون جُل وقتهم فيها ويتركون العمل لهذا الدين والسعي لنصرة الدين والدعوة للدين، فهؤلاء فقههم في دين الله ضعيف. إن واقع المجالس اليوم التي نجلس فيها مع أنواع القضايا التي تثار في هذه المجالس والمواضيع التي تطرق تحتاج إلى مراجعة كبيرة، ليتهم يتناقشون في مسائل في العلم، أو يعرضون شيئاً من أحوال المسلمين، أو يفكرون في حلول مشكلات المجتمع، أو يتداولون الخبرات، أو يذكرون شيئاً؛ ليزدادوا به إيماناً! وإنما مجالسهم لهوٌ ولعب وسهر وتضييع لصلاة الفجر.. ساعات طويلة تنفق من العمر. إن مرض نقص الاستقامة قد أصاب مجالسنا إصابات بالغة، وجعل هذه المجالس قليلة الخير نادرة الفائدة، ولو كان هناك استقامة صحيحة لصارت المجالس مثمرة.
(13) من مظاهر نقص الاستقامة تمييع الأخوة الإسلامية :(1/104)
إن مرض نقص الاستقامة قد انعكس كذلك على مفهوم الأخوة الإسلامية فميعه، وصارت العلاقات كثيراً ما تكون استئناسات وترويحات وتبادل للألفاظ العاطفية، وخلطة زائدة، وأضرار سلبية، وانخفاض إيمان، وتعلق بغير الله، ووصول إلى درجات العشق.. و نحو ذلك وإعراض عن الجلوس مع من يستفيد منهم، ومع من يكون عندهم علمٌ نافع، وإنما التقوقع على فلانٍ واحدٍ أو اثنين أو أكثر وترك البقية والحرمان -حرمان النفس من فوائد جمة- وإنما هي شجين وعواطف تنطلق بلا حساب.
(14) من مظاهر نقص الاستقامة التهاون في السنن والمستحبات :(1/105)
إن مرض نقص الاستقامة قد أدى إلى حصول تهاونٍ بالسنن والمستحبات، وهناك قسمان: نقص الكمال الواجب ونقص الكمال المستحب، فأما نقص كمال الاستقامة الواجب فقد ذكرنا أمثلة منه كثيرة، ولكن ينبغي أن ننتبه لمرض نقص كمال الاستقامة المستحب. الكمال كمالان: كمال واجب لا بد أن يؤتى به ، وكمال مستحب ولكن التفريط والتضييع أدى إلى الوقوع في أنواع من التهاونات. فأقول: إن مرض نقص الاستقامة قد أدى فيما أدى إلى الاستهانة بالسلوك، حتى السواك ورص الصفوف التي يعتبرها بعض الناس أشياء ثانوية وجانبية، أي: أنهم يمكن أن يهملوها، مع أنك يا أخي المسلم لو تتبعت الأحاديث الواردة في السواك لرأيت أمراً عجباً، وقد صنف بعض العلماء كتباً في السواك فقط، والذي يتتبع هذا الأمر يخرج بانطباع أن الشريعة تريد تكميل المسلم وإحاطته من جميع الجوانب، وأن تجعله في أحسن صورة، لكن بعض الناس يصرون على الإهمال والتضييع لهذه السنن، ويقولون: هذه قشور، اترك وابتعد ، نحن لم نقل: اجعلها أولويات في الدعوة، أو قدمها على ما هو أعظم منها من الأعمال، لكن ألا تعملها وتتركها نهائياً، والذي حصل من أنواع التأخرات والتهاونات في السنن أدى إلى أشياء سيئة، فمثلاً: التهاون في النوافل وهو أمرٌ غاية في الخطورة والتفريط فإن النوافل من الأسباب الجابهة لمحبة الله تعالى ثم هي مِنةٌ من الله تعالى لتكميل نقص الفريضة بنص السنة الصحيحة كما في الحديث الآتي : ((1/106)
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : قال الله تعالى من عاد لي ولياً فقد آذنته بالحرب ، وما تقرب إلىَّ عبدي بشيءٍ مما افترضته عليه ، وما يزال عبدي يتقرب إليِّ بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله الذي يمشي بها ، ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنَّه ، وما ترددتُ عن شيءٍّ أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته .
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح السنن الأربعة) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله الصلاة فإن صلحت فقد أفلح و أنجح و إن فسدت فقد خاب و خسر و إن انتقص من فريضة قال الرب : انظروا هل لعبدي من تطوع ؟ فيكمل بها ما انتقص من الفريضة ثم يكون سائر عمله على ذلك .
[ثم يكون سائر عمله على ذلك ] أي: لو نقص من الزكاة؛ يكمل من الصدقة، لو حدث رفث وفسوق وجدال في الحج؛ يكمل من حج النافلة، فكيف نضيع النوافل إذا كانت النوافل مهمة في تكميل النقص الحاصل في الصلوات الواجبة والفرائض؟ وكذلك التهاون في الصدقات وصيام النافلة وغيرها من العبادات. ومن الأشياء التي تحدث في هذا الجانب أيضاً: التكاسل عن التبكير للصلاة، وخاصة صلاة الجمعة وصلاة الجماعة، ولقد هدد النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الآتي : (
(حديث أبي سعيد الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : تقدموا فأتموا بي و ليأتم بكم من بعدكم ولا يزال قوم يتأخرون حتى يؤخرهم الله عز وجل .
( حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه الثابت في صحيح أبي داوود ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : احضروا الذكر وادنوا من الإمام؛ فإن الرجل لا يزال يتباعد حتى يؤخر في الجنة وإن دخلها.(1/107)
وكذلك يوقع في أخطاء، فمن الأخطاء التي يوقع فيها مثلاً: الإسراع أثناء الحضور إلى المسجد إسراعاً يخل بالخشوع، مع أن السنة الإتيان إلى المسجد بالسكينة والوقار: كما في الحديث الآتي : (
(حديث أبي قتادة الثابت في الصحيحين) بينما نحن نصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ سمع جلبة رجال فلما صلى قال ما شأنكم ؟ قالوا استعجلنا إلى الصلاة قال فلا تفعلوا إذا أتيتم الصلاة فعليكم بالسكينة فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا .
فلماذا يركض؟ ولماذا يستعجل؟ ولماذا يجري فيدخل في الصف لاهثاً لا يلتقط أنفاسه إلا بصعوبة، فيفوت عليه الخشوع وحسن القراءة؟ قد نقع في أخطاء من جهة التطويل في الإمامة مخالفين قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الآتي :
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا صلى أحدكم للناس فليخفف فإن منهم الضعيف والسقيم والكبير وإذا صلى لنفسه فليطوِّل ما شاء.
(حديث أبي مسعودٍ الأنصاري في الصحيحين) قال ،قال رجل يا رسول الله لا أكاد أدرك الصلاة مما يطوِّل بنا فلان فما رأيت رسول الله أشد غضباً من يومئذٍ فقال يا أيها الناس إنكم منفرون فمن صلى بالناس فليخفف فإن فيهم المريض والضعيف وذا الحاجة .
(حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) أن معاذ بن جبل كان يصلي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم يرجع فيؤم قومه ، فصلى العشاء فقرأ بالبقرة فانصرف الرجل فكأن معاذاً تناول منه فبلغ ا لنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : ( فتانٌ فتانٌ فتانٌ) أو قال( فاتناً فاتناً فاتناً) وأمر بسورتين من أوسط المفصل .
والمقصود التطويل غير الشرعي، أما أداء الصلاة كما أمر الله وإتقانها كما عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا من اتباع السنة.(1/108)
ومن الأمور التي يحصل فيها تفريط أيضاً في قضايا المستحبات: عدم التورع عن المشتبهات والوقوع في الشبه، وهذا يؤدي إلى الوقوع في الحرام، وهذا يقول لك: هذا مطلي بالذهب، وهذا يقول: هذا كذا، وموقفنا الصحيح إن كان فعلاً عندنا استقامة جادة على الشريعة أن نترك هذه المشتبهات
(حديث النعمان بن بشير الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :الحلال بين و الحرام بين و بينهما أمور مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لعرضه و دينه و من وقع في الشبهات وقع في الحرام كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه ألا و إن لكل ملك حمى ألا و إن حمى الله تعالى في أرضه محارمه ألا و إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله و إذا فسدت فسد الجسد كله ألا و هي القلب .
( حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : اجعلوا بينكم و بين الحرام سترا من الحلال من فعل ذلك استبرأ لعرضه و دينه و من أرتع فيه كان كالمرتع إلى جنب الحمى يوشك أن يقع فيه و إن لكل ملك حمى و إن حمى الله في الأرض محارمه .
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
( اجعلوا بينكم وبين الحرام ستراً ) أي وقاية(1/109)
( من الحلال ) وهو واحد الستور قال الزمخشري : من المجاز رجل مستور وهتك الله ستره اطلع على مساويه وفلان لا يستتر من الله بستر أي لا يتقي الله فإن ( من فعل ذلك ) أي جعل بينه وبين الحرام ستراً فقد ( استبرأ ) بالهمز وقد تخفف طلب البراءة ( لعرضه ) بصونه عما يشينه ويعيبه وفي المختار الاستبراء عبارة عن التبصر والتعرف احتياطاً ( ودينه ) عن الذم الشرعي والعرض بكسر العين موضع المدح والذم من الإنسان كما قاله بعض الأعيان قال الزمخشري : تقول اعترض فلان عرضي إذا وقع فيه وتنقصه ومن زعم كالشهاب ابن حجر الهيثمي أن المراد هنا الحسب وما يعده الإنسان من مفاخره ومفاخر آبائه فكأنه نقله من لغة غير ناظر إلى ما يلائم السياق في هذا المحل بخصوصه ومقصود الحديث أن الحلال إذا خيف أن يتولد من فعله خور شرعي في نفسه أو أهله أو سلفه تعين تجنبه ليسلم من الذم والعيب والعذاب ويدخل في زمرة المتقين ( ومن أرتع فيه ) أي أكل ما شاء وتبسط في المطاعم والملابس كيفما أحب يقال رتعت الماشية أكلت ما شاءت قال الزمخشري : من المجاز رتع القوم أكلوا ما شاءوا في رغد وسعة ( كان كالمرتع ) بضم الميم وكسر التاء ( إلى جنب الحمى ) أي جانبه من إطلاق المصدر على المفعول أي المحمي وهو الذي لا يقربه أحد احتراماً لمالكه . قال الراغب : وأصل الجنب الجارحة ثم يستعار في الناحية التي تليها كعادتهم في استعمال سائر الجوارح لذلك نحو اليمين والشمال .(1/110)
وقال الزمخشري : حميت المكان منعته أن يقرب فإذا امتنع وعز قلت أحميته أي صيرته حمى فلا يكون حمىإلا بعد الحماية ومن المجاز حميته أن يفعل كذا إذا منعته ( يوشك ) بضم المثناة تحت وكسر المعجمة مضارع أوشك بفتحها وهو من أفعال المقاربة وقد وضع لدنو الخبر مثل كاد وعسى في الاستعمال فيجوز أوشك زيد يجيء وأوشك أن يجيء زيد على الأوجه الثلاثة معناه هنا يسرع أو يقرب ( أن يقع ) بفتح القاف فيه وفي ماضيه ( فيه ) أي تأكل ماشيته منه فيعاقب والوقوع في شيء السقوط فيه وكل سقوط شديد يعبر عنه به فكما أن الراعي الخائف من عقوبة السلطان يبعد لاستلزام القرب الوقوع المترتب عليه العقاب فكذا حمى الله أي محارمه التي حظرها لا ينبغي قرب حماها ليسلم من ورطتها ومن ثم قال الله تعالى { تلك حدود الله فلا تقربوها } فنهى عن المقاربة حذراً من المواقعة إذ القرب من الشيء يورث داعية وميلاً يأخذ بمجامع القلب ويلهيه عما هو مقتضى الشرع ، وقد حرمت أشياء كثيرة لا مفسدة فيها لكونها تجر إليها ( وإن لكل ملك ) من ملوك العرب ( حمى ) يحميه عن الناس فلا يقربه أحد خوفاً من سطوته كان الواحد من أشرفهم إذا أراد أن يترك لقومه مرعى استعوى كلباً فما بلغه صوته من كل جهة حظره على غيره ( وإن حمى الله في الأرض ) في رواية في أرضه ( محارمه ) معاصيه كما في رواية أبي داود من دخل حماه بارتكاب شيء منها استحق العقوبة ومن قارب يوشك أن يقع فيه فالمحتاط لنفسه ولدينه لا يقاربه ولا يفعل ما يقربه منه وهذا السياق من المصطفى صلى الله عليه وسلم إقامة برهان عظيم على تجنب الشبهات . أهـ
إن كثرة النزول إلى الأسواق، وما فيها من المنكرات وغشيان أماكن الاختلاط لغير حاجة ما هو إلا نقص في الاستقامة فإن أبغض البلاد إلى الله أسواقها بنص السنة الصحيحة كما في الحديث الآتي : ((1/111)
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أحب البلاد إلى الله مساجدها و أبغض البلاد إلى الله أسواقها .
(15) من مظاهر نقص الاستقامة حصول الطفرات والانتكاسات :
وأقول: إن مرض نقص الاستقامة قد أدى فيما أدى إليه حصول الطفرات التي ليست مؤسسة على تقوى من الله ورضوان، وحماس على غير أساس، فينقطع الطريق بالإنسان ولم يؤسس نفسه كما يريد الله عز وجل، ولذلك ترى الرجل حين يصعد فجأة من عالم الجاهلية إلى عالم الدين والعبادة، ثم يهبط فجأة وتهوي به ريح الانتكاس في وادٍ سحيق، وسبب ذلك: أن تحصيل الاستقامة يحتاج إلى تربية .. تحصيل الاستقامة يحتاج إلى وسط إسلامي .. تحصيل الاستقامة يحتاج إلى إخوة في الله يجالسهم .. تحصيل الاستقامة يحتاج إلى حلق ذكر يغشاها .. تحصيل الاستقامة يحتاج إلى تربية جماعية وفردية .. تحصيل الاستقامة يحتاج إلى تناصح بيننا، ولذلك فهؤلاء الذين تحدث عندهم نوع من الحماسة بعد الخطبة أو محاضرة أو شريط يستمع إليه يخفق في الوصول إلى الهدف وينكص و يرجع؛ لأنه لم يعرف كيفية تحصيل الاستقامة الكاملة ولا الطريق إلى ذلك، هو الذي يريد أن يكون فرداً لا صلة بينه وبين إخوانه، ولا يريد أن يكون مع الجماعة، ويد الله مع الجماعة.
(16) من مظاهر نقص الاستقامة عدم التفاعل مع قضايا المسلمين :(1/112)
ومن آثار نقص الاستقامة ألا نتفاعل مع قضايا المسلمين، ولا نعرف أخبار إخواننا المسلمين، ولا نمد يد العون لإخواننا المسلمين! مسلمون يشردون وآخرون يقتلون وفئة يسجنون وغيرهم يعذبون، ونحن حتى الدعاء بخلنا به، فهل هذه الاستقامة صحيحة؟ وأين مفهوم الجسد الواحد الذي حثَّ عليه الإسلام؟ ونحن نتكئ على الأرائك نتبرد ونأكل من الملذات، فهذا واحد لا يأتي بالحلوى إلا من البحرين، وعنده مشاوير خاصة من أجل الحلوى، ولو أخذت وقتاً طويلاً أو قصيراً فالأمر عادي، ولو ضاعت صلاة الجماعة فذلك ليس مهم، يعني: أحياناً نضرب في تحصيل لذائذنا أكباد الإبل، ونمتطي ونرحل، ولأجل صلاة أو حلقة علم لا نبذل شيئاً من الوقت فهذا من نقص الاستقامة.
(17) من مظاهر نقص الاستقامة التعلق بالدنيا :
إن التخلي عن الزهد والاهتمام بالمظهر والثياب والعطور والأرياش والتنعم والتحف في البيوت من الأشياء المشغلة؛ لأنها تؤدي إلى التعلق بالدنيا، والتعلق بالدنيا ينافي الاستقامة، فمفهوم الزهد أيضاً ناقص، والذي تكون استقامته كاملة يكون زهده كبيراً، فعندنا اهتمام بالمظاهر.. إسراف.. تضييع أموال.. كماليات، هذا يقول: أشتري قارباً بثلاثين ألفاً، من أجل إذا كانت هناك تمشية أتمشى.. هل هذا فكر مرة أخرى وراجع نفسه هل القرار هذا صحيح؟ أليس هناك مجالات أحسن وأفضل وأكثر أجراً لتضع فيها هذه الأموال؟ إذاً: هناك قضايا كثيرة تحصل ولكن محاسبة النفس ضعيفة، ولأجل ذلك فإنه تخترقنا كثيرٌ من سهام الشيطان.
(18) من مظاهر نقص الاستقامة بقاء رواسب الجاهلية عند الإنسان :(1/113)
من نقص الاستقامة أن توجد عند الإنسان رواسب من الجاهلية لا يسعى لتخليص نفسه منها، ولذلك فانحرافه من أسهل ما يكون، فقد تكون له علاقات محرمة لا يقطعها، وصور موجودة لا يتلفها، وأفلامٌ سيئة لا يتخلص منها، وأرقام هواتف لا زال يحتفظ بها، كل ذلك من أثر مرض نقص الاستقامة، ولو أنه جلس في مجلس فظهرت على الشاشة مباراةٌ لكرة القدم؛ لانخرط في التشجيع وانهمك به، واتخذ جانباً معيناً وصارت القضية قضية مهمة عنده، هذا لنقص استقامته، وأقرب نوعية للانتكاس هي هذه النوعية.
(19) من مظاهر نقص الاستقامة عدم القيام بواجب الإصلاح والإنكار:(1/114)
من آثار نقص الاستقامة عدم الاهتمام بالبيت وإصلاح البيوت، ويكون هذا الإنسان الذي يزعم الاستقامة شبه معطل ليس عنده طاقات يبذلها لله.. لا إنكار منكرات، ولا قيام لله بواجب الذب عن شريعته، وربما لو أن المجلس حصل فيه اتهامٌ للإسلام أو طعنٌ في الدين ما قامت له قائمة ولا تحرك له رمشٌ ولا اختلج فيه عرق؛ لأن من الخذلان ـ والعياذ بالله ـ ما يمنعه عن الدفاع عن بيضة الدين وحفظ هذه الشريعة. أن تمر بالمنكر فلا تنكره، لماذا؟ أتخشى الناس؟! فالله أحق أن تخشاه: (فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [آل عمران:175] أين إنكار المنكر ولو بالكلام؟ إن لم تستطع باليد فبالكلام، وماذا يضرك لو تكلمت؟ ثم إننا مطالبون بالنصيحة والكلام والصبر على الأذى: (يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) [لقمان:17]. إلقاء التبعات على العلماء والخطباء والقول إنهم مسئولون عن تصحيح الانحرافات.. أنا مسلم عادي ما عندي شيء مقصوص الأجنحة لا أستطيع أن أفعل شيئاً، من قال ذلك؟ أنت يمكن أن ترى منكرات لا يراها أولئك العلماء والخطباء، وأن تكون في بيئات لا يأتي إليها العلماء والخطباء، وأنت تجلس في أوساط ومجالس لا يغشاها أولئك القوم؛ فعليك المسئولية والتبعية، فلماذا التخاذل عن إنكار المنكر؟ لماذا الاستسلام للدعة والخشية من أن يرد عليك أو يقال فيك كلمة؟ أين النصيحة؟ (الدين النصيحة) النصيحة لله أن تذب عن دينه وشريعته.. أن تقوم له سبحانه.. النصيحة لرسوله صلى الله عليه وسلم.. النصيحة لكتاب الله، أين النصيحة لكتاب الله وهم في المجلس يتكلمون على الإسلام وأنت ساكت؟ أين أنت من حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - الآتي : (
من مظاهر نقص الاستقامة: ضياع الأوقات في الأسفار.(1/115)
وكذلك نعاني أيضاً من ضياع الأوقات في الأسفار التي لا طائل من ورائها، وحياة الاصطياف التي يعملها كثيرٌ من الناس لا مصلحة شرعية فيها، بل فيها كثيرٌ من المضرة وإنفاق الأموال الكثيرة، ويحصل فيها من قسوة القلب ورؤية المنكر ما يجعل الإنسان مختل الإيمان.. ينزل إيمانه إلى الحضيض.. يرجع من الإجازة لم يزدد إيماناً وإنما نقص إيمانه ونقص دينه وفرط في أشياء كثيرة.
(20) مظاهر أخرى مخالفة للاستقامة:(1/116)
ينبغي أن تكون استقامتنا على الدين استقامة صحيحة كاملة واعية، أن نمسك بهذا الدين فعلاً، لا نترك إلقاء السلام على الناس بحجة أنهم غير متمسكين، وأن عندهم نوعاً من الفسق؛ بل أفشوا السلام وأطعموا الطعام، وابتسامتك في وجه أخيك صدقة، دع الغيبة التي تكون بخلاف النصيحة، ودع التظاهر بالانشغال وليس عندك شيء لتبدي نفسك شخصاً مهماً، واترك الضعف والوهن، ودافع عن عرض أخيك المسلم، أليس من السوء كل السوء أن كافراً يستهزئ بمسلم مثلاً وتضحك أنت مشاركةً لهذا الكافر؟ أليس من الخلل في الاستقامة أن يكون عندنا السرعة في الحكم على الآخرين وانطلاقه من الهوى والعاطفة؟ أليس بخلاف الاستقامة أن نحكم بالنيات بالفساد ولا يعلم النيات إلا الله، ولم يظهر لنا هذا الرجل شيء؟ وينبغي أن نحمل أمر أخينا المسلم على أحسنه، أليس مما ينافي الاستقامة إهدار الأموال العامة من المياه والكهرباء وغيرها ولو كنت أنت لا تدفع الفواتير؟ أليست هذه ملك لبيت مال المسلمين في الأصل وإن فرط فيها من فرط وضيع فيها من ضيع، فهل أنت تشارك المفرطين والمضيعين؟ أليس مما ينافي الاستقامة أن نتشدد مع من تحتنا من الناس بشيء لا تأمر به الشريعة بحجة الحزم في العمل، وننفر الناس من أهل الدين مع أن المسألة لا تساوي كل هذا الأمر من الحملة والعقاب؟ أليس مما ينافي الاستقامة أن يتأخر الإنسان من عمله ويخرج قبل الوقت ويتكلم مع بقية زملائه، والمراجعون يقفون في الطوابير، فيترك العمل ويعطل العالم؟
(أسباب الاستقامة :
للاستقامة أسباب جوهرية منها ما يلي : (
(1) من أهم أسباب الاستقامة إرادة الله لهذا العبد الهداية :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ(1/117)
وهي هداية التوفيق والتي هي بمعنى خلق الهداية في قلب العبد وشرح صدره للإسلام ، وتوفيقه للطاعة والعمل الصالح ، وهذه الهداية لا يملكها إلا الله تعالى وحده ، لا يملكها نبيٌ مُرسل ولا مَلَكٌ مُقَرَب ، قال تعالى: (إِنّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلََكِنّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) [القصص: 56] ، و تأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد ، ودرر الفرائد . (
(حديث سعيد ابن المسيَّب عن أبيه الثابت في الصحيحين) قال لما حضرت أبا طالبٍ الوفاة جاءه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوجد عنده أبا جهل وعبد الله بن أمية بن المغيرة فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : يا عم قل لا إله إلا الله كلمةً أشهد لك بها عند الله ، فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية : يا أبا طالب أترغبُ عن ملةِ عبد المطلب ؟ ، فلم يزل رسول الله يعرضها عليه ويعيدُ له تلك المقالة حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم هو على ملةِ عبد المطلب وأبى أن يقول لا إله إلا الله ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أما والله لأستغفرنَّ لك ما لم أُنه عنك فأنزل الله تعالى: (مَا كَانَ لِلنّبِيّ وَالّذِينَ آمَنُوَاْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوَاْ أُوْلِي قُرْبَىَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيّنَ لَهُمْ أَنّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ) [سورة: التوبة - الآية: 113]
مسألة : ما الحكمة من عدم هداية أبي طالب على يدِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟(1/118)
الحكمةُ في عدم هدايةِ أبي طالب على يدِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - حكمةٌ بالغةٌ قضاها الله تعالى يستوجب الحمد على اقتضاها وهي أن يوقن العباد أن هداية التوفيق التي بمعنى خلق الهداية في قلب العبد لا يملكها إلا الله تعالى ، فهي إليه سبحانه مصروفة وعلى مشيئته موقوفة قال تعالى: (مَن يَهْدِ اللّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مّرْشِداً)
[الكهف /17 ]
و قال تعالى: (لّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلََكِنّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلاّ ابْتِغَآءَ وَجْهِ اللّهِ وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ) [البقرة / 272 ]
وقال تعالى: (إِنّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلََكِنّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) [ القصص/56 ]
ولو كان أحدٌ غير الله تعالى يملك هداية التوفيق لكان أولى بها النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي هو أفضل الأنبياء والمرسلين ، وهذه نقطة عقدية في غاية الأهمية لمعالجة مسألة هامة وهي ( أن لا نجعل للنبي - صلى الله عليه وسلم - منزلةً فوق منزلته ولا منزلةً هي من خصائص الله تعالى ) فمن اعتقد أن أحداً غير الله يملك هداية التوفيق فهو أضلُ من حمار أهله .
(2) صحة الإيمان واليقين :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
لأن الانحراف والفتور والتراجع ينشأ عن ضعف اليقين، كلما كان الإيمان أقوى كلما تحققت الاستقامة، وتكاملت، وتمت، قال تعالى: (( فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقّ))[الروم:60].
فاليقين يحمل على الصبر، والصبر هو قاعدة الاستقامة ، فكل من الصبر واليقين عماد للاستقامة .
فالاستقامة والسير على الطريق، وامتثال الأوامر، واجتناب النواهي تفتقر إلى اليقين والصبر.(1/119)
فما يُؤْتَى الإنسان إلا من ضعف إيمانه، ومن ضعف يقينه، ومن ضعف صبره.
(3) الإخلاص لله تعالى ومتابعة السنة :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
وهما شرطا قبول العمل المتلازمين ، قال تعالى : (قُلْ إِنّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ يُوحَىَ إِلَيّ أَنّمَآ إِلََهُكُمْ إِلََهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ رَبّهِ
وقال تعالى :(وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) (البينة : الآية : 5) .
(حديثُ أبي هريرةَ صحيح مسلم ) : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال - قال الله تعالى : أنا أغنى الشركاءِ عن الشرك ، من عمل عملاً أشركَ فيه معي غيري تركته وشركه
(حديثُ جندب ابن عبد الله في الصحيحين ) : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال من سمَّعَ سمَّعَ الله به ومن يُرائي يُرائي الله به .
(حديثُ أبي أُمامة صحيح النسائي ) : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال إن الله تعالى لا يقبلُ من العملِ إلا ما كان خالصاً وابتُغيَ به وَجهُهُ .
(4) محاسبة النفس:
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
قال تعالى: (يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اتّقُواْ اللّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مّا قَدّمَتْ لِغَدٍ وَاتّقُواْ اللّهَ إِنّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [سورة: الحشر - الأية: 18]
[*](قال ابن كثير رحمه الله تعالى : أي حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وانظروا ماذا ادخرتم لأنفسكم من الأعمال الصالحة ليوم معادكم وعرضكم على ربكم. اهـ.
فالمحاسبة تحفظ المسلم من الميل عن طريق الاستقامة.
(5) حفظ الجوارح عن المحرمات:
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ(1/120)
وأهمها: اللسان فيحفظه عن الكذب والغيبة والنميمة وغيرها، ويحفظ بصره عن المحرمات ، وليكن نصب عينيه قوله تعالى: (وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنّ السّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) [الإسراء : 36]
وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد ، ودرر الفرائد . (
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من كان يؤمن بالله و اليوم الآخر فلا يؤذ جاره ، ومن من كان يؤمن بالله و اليوم الآخر فليكرم ضيفه ، ومن من كان يؤمن بالله و اليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت .
(حديث عقبة بن عامر في صحيح الترمذي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : قلت يا رسول الله ما النجاة ؟ قال أملك عليك لسانك وليسعك بيتك وابك على خطيئتك .
(حديث أبي سعيدٍ في صحيح الترمذي) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تكفر اللسان فتقول : اتق الله فينا فإنما نحن بك فإن استقمت استقمنا و إن اعوججت اعوججنا .
( حديث أبي بكر رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ليس شيء من الجسد إلا و هو يشكو ذرب اللسان .
(حديث أبي هريرة في صحيح البخاري) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالا يرفعه الله بها درجات و إن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالا يهوي بها في جهنم .
(حديث سهل بن سعد في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال من يضمن لي ما بين لحييه و ما بين رجليه أضمن له الجنة .(1/121)
(حديث أبي هريرة في صحيحي الترمذي وابن ماجة ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن أكثر ما يدخل الناس الجنة ؟ قال : تقوى الله وحسن الخلق , وسئل عن أكثر ما يدخل الناس النار ؟ قال الفم والفرج .
(حديث معاذ في صحيحي الترمذي وابن ماجة ) قال قلت يا رسول الله أخبرني بعملٍ يُدخلني الجنة ويباعدني من النار ؟ قال لقد سألتني عن عظيم و إنه ليسير على من يسره الله عليه تعبد الله لا تشرك به شيئا و تقيم الصلاة المكتوبة و تؤتي الزكاة المفروضة و تصوم رمضان و تحج البيت ; ألا أدلك على أبواب الخير ؟ الصوم جنة و الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار و صلاة الرجل في جوف الليل ; ألا أخبرك برأس الأمر وعموده و ذروة سنامه ؟ رأس الأمر الإسلام و عموده الصلاة و ذروة سنامه الجهاد ; ألا أخبرك بملاك ذلك كله ؟ كف عليك هذا - و أشار إلى لسانه - قال : يا نبي الله ! و إنا لمؤاخذون بما نتكلم به ؟ قال : ثكلتك أمك يا معاذ ! و هل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم .
(6) معرفة خطوات الشيطان للحذر منها:
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ
قال تعالى: (يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشّيْطَانِ وَمَن يَتّبِعْ خُطُوَاتِ الشّيْطَانِ فَإِنّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَآءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُمْ مّنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلََكِنّ اللّهَ يُزَكّي مَن يَشَآءُ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [سورة: النور - الأية: 21]
(7) طلب العلم الشرعي :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ(1/122)
والمقصود به علم الكتاب والسنة ، لأنه الوسيلة لمعرفة الله تعالى وكتابه والعلم بما جاء به الرسول من الكتاب والحكمة والتبصر فيهما ، التدبر لهما، تدبر القرآن يُورِث معرفة بما أمر الله به وبما نهى عنه،وفي القرآن الترغيب والترهيب والوعد والوعيد ، فالعلم بهذه النصوص واستشعارها واستحضارها من أسباب الاستقامة، أن تَعْلَم أن الله أمرك، أن تعلم عاقبة الطاعة، وعاقبة المعصية وعاقبة تركها،فالعلم بذلك واستشعاره من أسباب الطاعة .
والانحراف إما أن يكون لعدم العلم أو لعدم اليقين، وعدم الإيمان التام، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم - : (( لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ)) كما في الحديث الآتي : (
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن .
الزاني المسلم ما يَكْفُر بزناه، لكنه يفتقد الإيمان الوازع، فالزاني ما زنى والشارب ما شرب والسارق ما سرق إلا عندما زال عنه الإيمان الرادع، الذي يحمل على الكفِّ، فقد يتوفر هذا الإيمان فتحصل الاستقامة باجتناب ما حَرَّمَ الله، وهكذا في المأمورات، فالإيمان هو الوازع، وهو يقوم على العلم .
(8) الدعاء :
ـــ ـــ ـــ ـــ
فيسأل الإنسان ربه الثبات "يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، اللهم اهدني الصراط المستقيم" فالدعاء الواجب والمستحب يتضمن سبب من أسباب الاستقامة.
ومن الأدعية:
(حديث ابن مسعود في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول : اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى .
( حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه الثابت في صحيحي أبي داوود و النسائي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : قل اللهم اهدني وسددني .(1/123)
فسؤال الهداية، وسؤال الثبات، واستمداد العون من الله هي من أسباب الاستقامة
وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد ، ودرر الفرائد . (
( حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه الثابت في صحيحي أبي داوود و النسائي ) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيده وقال يا معاذ والله إني لأحبك والله إني لأحبك فقال أوصيك يا معاذ لا تدعن في دبر كل صلاة تقول اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك .
فبدون هداية الله وعونه وتوفيقه لا يصل الإنسان إلى شئ، ولا يقوى على شيء، لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
(9) اختيار الصحبة الصالحة :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
لأن الجليس الصالح يعين صاحبه على الطاعة وعلى طلب العلم ، وينهيه على أخطائه ، أما الجليس السيء فعلى العكس من ذلك تماماً ، قال تعالى: (الأخِلاّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوّ إِلاّ الْمُتّقِينَ) [سورة: الزخرف - الأية: 67]
فالصحبة الصالحة الذين يُذَكِّرون الإنسان إذا نسي، ويأمرونه بما يجب عليه، وينكرون عليه إذا انحرف، ويعينونه إذا كَسُلَ، قال تعالى: (( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ)) [التوبة:71].
والجليس الصالح كله منافع كما في الحديث الآتي : (
(حديث أبي موسى في الصحيحين) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : مثل الجليس الصالح و الجليس السوء كحامل المسك و نافخ الكير ، فحامل المسك إما أن يُحْذِيَك وإما أن تبتاع منه وإما تجد منه ريحا طيبة ، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك أو تجد منه ريحا خبيثة .
ولا تنسى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - علمنا أن المرء على دين خليله كما في الحديث الآتي : ((1/124)
(حديث أبي هريرة في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يُخالل .
(حديث أبي سعيد في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال تصاحب إلا مؤمنا و لا يأكل طعامك إلا تقي .
(10) الارتباط بالقرآن تلاوة وحفظا وتدبرا وعملا :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
قال الله تعالى: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا) [الإسراء: 9]، أي: إن هذا القرآن يهدي للحالة التي هي أقوم الحالات، وإلى الطريقة التي هي أعدل الطرق.
وأكد الله على هذا المعنى في موضع آخر من كتابه فقال: (إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ * لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ) [التكوير:27، 28]، فهذا القرآن بيان وهداية للناس من أراد منهم الهداية والرشاد والاستقامة، قال الله تعالى: (إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) [الأنعام:36].
وهذا حذيفة رضي الله عنه ينادي فيقول: (يا معشر القراء، اسْتَقِيمُوا، فقد سبقتم سبقا بعيدا، فإن أخذتم يمينا وشمالا لقد ضللتم ضلالاً بعيدًا) رواه البخاري في كتاب الاعتصام، باب الاقتداء بسنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (6739).
(ثمار الاستقامة ونتائجها :(1/125)
جعل الله لمن استقام على دينه فضائل عظيمة ومنازل كريمة، قال سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآَخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ) [فصلت:30-32].
(1) تتنزل عليهم الملائكة:
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
مستفاداً من قوله تعالى (تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ)، تتنزل بالبشرى من عند الله بالسرور والحبور في مواطن ثلاثة، قال وكيع: "البشرى في ثلاثة مواطن: عند الموت، وفي القبر، وعند البعث".
(2) الطمأنينة والسكينة:
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
مستفاداً من قوله تعالى (أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا)، لا تخافوا مما أنتم مقدمون عليه، ولا تحزنوا على ما فاتكم من أمور الدنيا من أهل وولد ومال، وقال عطاء: "لا تخافوا ردّ ثوابكم فإنه مقبول، ولا تحزنوا على ذنوبكم فإني أغفرها لكم".
(3) البشرى بالجنة :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ
مستفاداً من قوله تعالى (وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ)، ويا لها من منزلة عظيمة ونعمة جسيمة.
(4) مغفرة الذنوب :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ
مستفاداً من قوله تعالى (نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ)، قال ابن كثير: "غفور لذنوبكم، رحيم بكم، حيث غفر وستر ورحم ولطف".
(5) سعة الرزق وهناء العيش :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
مستفاداً من قوله تعالى (وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا) [الجن:16]، الغدق: هو الكثير، وهو سعة الرزق. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (أينما كان الماء كان المال).(1/126)
وقوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ) [الأعراف:96].
(6) السعادة في الدنيا والآخرة :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
فأهل الإيمان هم في نعيم في الدنيا، وفي البرزخ، وفي الآخرة.
[*](كما قال ذلك ابن القيم رحمه الله في قوله تعالى: (( إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ)) [الانفطار:13] .
نعيم في الدنيا؛ بما يجعله الله في قلوبهم من السرور وقرة العين، والفرح بالإسلام، وبالإيمان وبالقرآن، وفي البرزخ يفتح للمؤمن باب إلى الجنة فيأتيه من روحها وطيبها ويصير عليه قبره روضة من رياض الجنة ، وفي الآخرة في جنات النعيم ، في نعيم مقيم في مقعد صدق عند مليك مقتدر .
(7) نعيم القلب :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
أخي لو رأيت أهل الاستقامة بين ساجد لله وراكع, وذليل مخمول متواضع , منكس الطرف من الخوف خاشع , تتجافى جنوبهم عن المضاجع ..
[*](قال بعض السلف " إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة ".
وقد تمثلت في حياة شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله فقال " أنا جنتي وبستاني في صدري أنى رحت فهي معي , إن قتلي شهادة وسجني خلوة وإخراجي من بلدي سياحة ".
(8) التسليم :
ـــ ـــ ـــ ـــ
فأهل الاستقامة مسلِّمين أمرهم لله تعالى يؤدون واجباتهم في الأرض , ويتوكلون على الله في السماء, يستعلون على الدنايا ويتركون مصيرهم إلى الله , يسعون للرزق بكل ما أوتوا من قوة ويتركون النتيجة لله . وينفقون مما أعطاهم الله , ويتركون حساب الغد إلى الله , ويسيرون مع الأقدار , مؤمنين بأنه لن يصيبهم إلا ما كتب الله لهم , ويحتملون الشدة ويصبرون على الضراء , في سبيل الله , ويرجون من الله الخير .
(9) الرضا بالمقدور :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ(1/127)
المستقيمون رسخ الإيمان بالقدر في نفوسهم فيعلمون أن ما قَدَّره الله عليهم فإنما هو لحكمةٍ بالغةٍ قضاها يستوجب الحمد على اقتضاها , فيرضون تمام الرضا بالمقدور .
كان عروة بن الزبير رحمه الله في سفر فظهرت غرغرينة ثم ترقى به الوجع . وقدم على الوليد وهو في محمل , فقال يا أبا عبد الله اقطعها , قال دونك الطبيب . فقال اشرب المرقد – الخمر – فلم يفعل . فقطعها من نصف الساق , فما زاد أن يقول : حس حس , فقال الوليد ما رأيت شيخاً قط أصبر من هذا ... وأصيب عروة بابنه محمد في ذلك السفر , ركضته بغلة في اصطبل , لم يسمع منه في ذلك كلمة .
فلما كان بوادي القرى قال : " لقد لقينا من سرنا هذا نصبا " اللهم كان لي بنون سبعة , فأخذت واحداً وأبقيت لي ستة , وكان لي أطراف أربعة , فأخذت طرفاً وأبقيت ثلاثة , ولئن ابتليت لقد عافيت , ولئن أخذت لقد أبقيت .
(10) سلامة الصدر :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
ومن ثمرات الاستقامة على دين الله سلامة الصدر , وعدم حمل الغل والبغضاء لعباد الله المؤمنين , فهو يحب لهم ما يحب لنفسه .
وانظر إلى سلامة صدر الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله حيث قال عن المعتصم يوم فتح عمورية "هو في حل من ضربي" وقال :"كل من ذكرني ففي حل إلا مبتدعاً وقد جعلت أبا إسحاق في حل, ورأيت الله يقول: "وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم". وأمر النبي صلى اله عليه وسلم أبا بكر رضي الله عنه بالعفو في قصة مسطح. ثم قال:" وما ينفعك أن يعذب الله أخاك في سبيلك؟!" .
(11) البصيرة في الدعوة إلى الله :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
قال تعالى: (قُلْ هََذِهِ سَبِيلِيَ أَدْعُو إِلَىَ اللّهِ عَلَىَ بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [يوسف : 108](1/128)
والبصيرة هي : قوة الإدراك والفطنة والعلم والخبرة. فمن استقام على دين الله رزق البصيرة في الدين والدعوة فصار يدعو إلى الله على بصيرة ويقين وبرهان وعلم
(12) القدرة على الحب الخالص :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
نعم فالحب الخالص سمة بارزة وثمرة يانعة من ثمرات الاستقامة على دين الله "
وتأمل في الحديث الآتي : (
( حديث أنس رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه .
ومن حبه للناس أنه يحب الخير لهم, ويدعوهم إلى الخير. إنه حين يأمر وينهى ويصنع ذلك لأنه يحب للناس الهدى ويحب الخير لهم, وهو كريم ذو مروءة تنفعل نفسه بآلام الناس فيسرع إلى نجدتهم.
(درجات الاستقامة :
الاستقامة على ثلاث درجات كما يلي :
(الدرجة الأولى (الاستقامة على الاجتهاد في الاقتصاد):
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ
الاستقامة على الاجتهاد في الاقتصاد. لا عادياً رسم العلم، ولا متجاوزاً حد الإخلاص، ولا مخالفاً نهج السنة [ منازل السائرين ـ ص 43 ]
هذه درجة تتضمن ستة أمور:
(1،2) عملاً واجتهاداً فيه ، وهو بذل المجهود.
(3) اقتصاداً ، وهو السلوك بين طرفي الإفراط، وهو الجور على النفوس، والتفريط بالإضاعة.
(4) وقوفاً مع ما يرسمه العلم لا وقوفاً مع داعي الحال .
(5) إفراد المعبود بالإرادة، وهو الإخلاص.
(6) ووقوع الأعمال على الأمر، وهو متابعة السنة.
فبهذه الأمور الستة تتم لأهل هذه الدرجة استقامتهم. وبالخروج عن واحد منها يخرجون عن الاستقامة: إما خروجاً كلياً، وإما خروجاً جزئياً.(1/129)
والسلف يذكرون هذين الأصلين كثيراً ـ وهما الاقتصاد في الأعمال، والاعتصام بالسنة ـ فإن الشيطان يشم قلب العبد ويختبره ، فإن رأى فيه داعية للبدعة، وإعراضاً عن كمال الانقياد للسنة: أخرجه عن الاعتصام بها. وإن رأى فيه حرصاً على السنة، وشدة طلب لها: لم يظفر به من باب اقتطاعه عنها، فأمره بالاجتهاد، والجور على النفس، ومجاوزة حد الاقتصاد فيها، قائلاً له: إن هذا خير وطاعة. والزيادة والاجتهاد فيها أكمل ، فلا تفتر مع أهل الفتور، ولا تنم مع أهل النوم، فلا يزال يحثه ويحرضه. حتى يخرجه عن الاقتصاد فيها ، فيخرج عن حدها، كما أن الأول خارج هذا الحد. فكذا هذا الآخر خارج عن الحد الآخر.
(وهذا حال الخوارج الذين يحقر أهل الاستقامة صلاتهم مع صلاتهم، وصيامهم مع صيامهم. وقراءتهم مع قراءتهم. وكلا الأمرين خروج عن السنة إلى البدعة. لكن هذا إلى بدعة التفريط والإضاعة. والآخر إلى بدعة المجاوزة والإسراف ، وكلاً من الإفراط والتفريط في السوءِ سواءا .
[*](قال بعض السلف: ما أمر الله بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان، إما إلى تفريط، وإما إلى مجاوزة، وهي الإفراط، ولا يبالي بأيهما ظفر: زيادة أو نقصان.
وتأمل في الحديث الآتي ـ الذي يدعو إلى الاقتصاد في العمل ـ بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد ، ودرر الفرائد . (
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح الترغيب والترهيب ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لكل عمل شِرَّة ولكل شرة فترة فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد هلك .
قال له ذلك حين أمره بالاقتصاد في العمل ، فكل الخير في اجتهاد باقتصاد، وإخلاص مقرون بالاتباع .
وقوله - صلى الله عليه وسلم - (شِرَّة) الشرة : بكسر الشين المعجمة وتشديد الراء أي حرصا على
الشيء ونشاطاً ورغبة في الخير أو الشر.(1/130)
وقوله (لكل شرة فترة) الفترة بفتح الفاء وسكون التاء أي وهنا وضعفاً من الفتور ،
والمقصود أن من سلك طريق التوسط والاعتدال نجا وأفلح لأنه يمكنه الدوام على ما ابتدأ من العمل ، ومن غلا واشتد أولاً ثم فرط و أعرض أو أفرط فجاوز الحد الشرعي فقد هلك .
وهذا الحديث أصلٌ في الوسطية والاقتصاد في العمل من غير إفراطٍ ولا تفريط ، والسنة طافحةٌ بالحث على ذلك منها ما يلي : (
( حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق .
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
( إن هذا الدين متين ) أي صلب شديد
( فأوغلوا ) أي سيروا
( فيه برفق ) من غير تكلف ولا تحملوا على أنفسكم ما لا تطيقونه فتعجزوا وتتركوا العمل والإيغال كما في النهاية السير الشديد والوغول الدخول في الشيء أهـ
والظاهر أن المراد في الحديث السير لا يفيد الشدة إذ لا يلائم السياق وقال الغزالي : أراد بهذا الحديث أن لا يكلف نفسه في أعماله الدينية ما يخالف العادة بل يكون بتلطف وتدريج فلا ينتقل دفعة واحدة إلى الطرف الأقصى من التبدل فإن الطبع نفور ولا يمكن نقله عن أخلاقه الرديئة إلا شيئاً فشيئاً حتى تنفصم تلك الصفات المذمومة الراسخة فيه ومن لم يراع التدريج وتوغل دفعة واحدة ترقى إلى حالة تشق عليه فتنعكس أموره فيصير ما كان محبوباً عنده ممقوتاً وما كان مكروهاً عنده مشرباً هنيئاً لا ينفر عنه وهذا لا يعرف إلا بالتجربة والذوق وله نظير في العادات فإن الصبي يحمل على التعليم ابتداء قهراً فيشق عليه الصبر عن اللعب والصبر مع العلم حتى إذا انفتحت بصيرته وأنس بالعلم انقلب الأمر فصار يشق عليه الصبر عن العلم . أهـ
قال بعض الصحابة: اقتصاد في سبيل وسنة، خير من اجتهاد في خلاف سبيل وسنة، فاحرصوا أن تكون أعمالكم على منهاج الأنبياء عليهم السلام وسنتهم.(1/131)
( حديث أبي أمامة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (صنفان من أمتي لن تنالهما شفاعتي: إمام ظلوم، و كل غال مارق .
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
( صنفان من أمتي) أي نوعان
( إمام ظلوم ) أي سلطان كثير الظلم للرعية
( وكل غال ) في الدين
( مارق ) منه .
(حديث عائشة الثابت في الصحيحين) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : خيرُ الأعمال أدومها وإن قل .
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ألم أُخبر أنك تقوم الليل وتصومُ النهار ؟ قال إني أفعلُ ذلك ، قال فإنك إذا فعلت ذلك هجمت عينك ونَفَهَتْ نفسك وإن لنفسك حقاً ولأهلك حقاً فصم وأفطر وقم ونم .
(حديث أنس الثابت في الصحيحين) قال : دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسجد فإذا حبلٌ ممدود بين ساريتين فقال ما هذا ؟ قالوا هذا حبلٌ لزينب فإذا فترت تعلقت ، قال حلوه ليصل أحدكم نشاطه فإذا فتر فليرقد .
(حديث عائشة الثابت في الصحيحين) كانت عندي امرأةٌ من بني أسد فدخل عليَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال من هذه ؟ قلت فلانة لا تنام من الليل – تذكر من صلاتها - فقال مَهْ ؟ عليكم ما تطيقون من الأعمال فإن الله لا يمل الله حتى تملوا .
{ تنبيه } :مَهْ كلمة نهي وزجر بمعنى ما هذا ؟
( حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : سددوا وقاربوا، واعلموا أنه لن يُدخل أحدكم عمله الجنة، وأن أحب الأعمال أدومها إلى الله وإن قل .
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :إن الدين يسر و لن يُشادَّ الدين أحد إلا غلبه فسددوا و قاربوا و أبشروا و استعينوا بالغدوة و الروحة و شيء من الدلجة .(1/132)
(حديث أنس الثابت في الصحيحين) جاء ثلاثةُ رهطٍ إلى بيوت النبي - صلى الله عليه وسلم - يسألون عن عبادة النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما أخبروا كأنهم تقاُّلوها وقالوا : أين نحن من النبي - صلى الله عليه وسلم - قد غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر قال أما أنا أصلي الليل أبداً ، وقال آخر : وأنا أصوم الدهر أبداً ، وقال آخر : وأنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً ، فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : أنتم الذين قلتم كذا وكذا ، أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني .
(حديث أنس الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن هذا الدين متينٌ فأوغلوا فيه برفق .
(حديث ابن مسعود الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : هلك المتنطعون، قالها ثلاثاً .
{ تنبيه } :المتنطعون المتعمقون المتشددون في غير موضع التشديد .
(حديث ابن عباس رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة .
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
( الحنيفية السمحة ) أي الشريعة المائلة عن كل دين باطل
قال ابن القيم : جمع بين كونها حنيفية وكونها سمحة فهي حنيفة في التوحيد سمحة في العمل وضد الأمرين الشرك وتحريم الحلال وهما قربتان وهما اللذان عابهما اللّه في كتابه على المشركين في سورة الأنعام والأعراف .(1/133)
(حديث حنظلة بن الربيع الأُسيدي الثابت في صحيح مسلم ) قال لقيني أبو بكر فقال كيف أنت يا حنظلة قال قلت نافق حنظلة قال سبحان الله ما تقول قال قلت نكون عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأى عين فإذا خرجنا من عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات فنسينا كثيرا قال أبو بكر فوالله إنا لنلقى مثل هذا فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قلت نافق حنظلة يا رسول الله فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما ذاك ؟ قلت يا رسول الله نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأى عين فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيرا فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والذي نفسي بيده إن لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم ولكن يا حنظلة ساعة وساعة ثلاث مرات .
وكذلك الرياء في الأعمال يخرجه عن الاستقامة. والفتور والتواني يخرجه عنها أيضاً.
(الدرجة الثانية ( استقامة الأحوال ) :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
استقامة الأحوال ، وهي شهود الحقيقة لا كسباً ، ورفض الدعوى لا علماً ، والبقاء مع نور اليقظة لا تحفظاً [ منازل السائرين – ص 43]
يعني أن استقامة الحال بهذه الثلاثة.
أما "شهود الحقيقة" فالحقيقة حقيقتان: حقيقة كونية، وحقيقة دينية، يجمعهما حقيقة ثالثة، وهي مصدرهما ومنشؤهما، وغايتهما، وأكثر أرباب السلوك من المتأخرين: إنما يريدون بالحقيقة الحقيقة الكونية ، وشهودها هو شهود تفرد الرب بالفعل ، وأن ما سواه محل جريان أحكامه وأفعاله، فهو كالحفير الذي محل لجريان الماء حسب.
وعندهم أن شهود هذه الحقيقة والفناء فيها غاية السالكين .(1/134)
ومنهم: من يشهد حقيقة الأزلية والدوام، وفناء الحادثات وطَيَّهَا في ضمن بساط الأزلية والأبدية، وتلاشيها في ذلك ، فيشهدها معدومة، ويشهد تفرد موجدها بالوجود الحق بالحق، وأن وجود ما سواه رسوم وظلال.
فالأول: شهد تفرده بالأفعال ، وهذا شهد تفرده بالوجود.
وصاحب الحقيقة الدينية في طور آخر ، فإنه في مشهد الأمر والنهي، والثواب والعقاب، والمولاة والمعاداة، والفرق بين ما يحبه الله ويرضاه، وبين ما يبغضه ويسخطه ، فهو في مقام الفرق الثاني الذي لا يحصل للعبد درجة الإسلام ـ فضلا عن مقام الإحسان ـ إلا به.
فالمعرض عنه صفحاً لا نصيب له في الإسلام البتة ، وهو كالذي كان الجنيد يوصي به أصحابه، فيقول: "عليكم بالفرق الثاني" وإنما سُمِّي ثانيا ، لأن الفرق الأول: فرق بالطبع والنفس ، وهذا فرق بالأمر.
والجمع أيضاً جمعان: جمع في فرق، وهو جمع أهل الاستقامة والتوحيد، وجمع بلا فرق ، وهو جمع أهل الزندقة والإلحاد.
فالناس ثلاثة: صاحب فرق بلا جمع، فهو مذموم ناقص مخذول.
وصاحب جمع بلا فرق ، وهو جمع أهل الزندقة، والإلحاد، فصاحبه ملحد زنديق.
وصاحب فرق وجمع، يشهد الفرق في الجمع، والكثرة في الوحدة، فهو المستقيم الموحد الفارق. وهذا صاحب الحقيقة الثالثة، الجامعة للحقيقتين الدينية والكونية. فشهود هذه الحقيقة الجامعة: هو عين الاستقامة.
وأما شهود الحقيقة الكونية، أو الأزلية، والفناء فيها: فأمر مشترك بين المؤمنين والكفار، فإن الكافر مقر بقدر الله وقضائه، وأزليته وأبديته، فإذا استغرق في هذا الشهود وفني به عن سواه: فقد شهد الحقيقة.
وأما قوله "لا كسبا" أي يتحقق عند مشاهدة الحقيقة: أن شهودها لم يكن بالكسب ، لأن الكسب من أعمال النفس ، فالحقيقة لا تبدو مع بقاء النفس ، إذ الحقيقة فردانية أحدية نورانية ، فلا بد من زوال ظلمة النفس ، ورؤية كسبها، وإلا لم يشهد الحقيقة.(1/135)
وأما "رفض الدعوى لا علماً" ف "الدعوى" نسبة الحال وغيره إلى نفسك وإنِّيَّتُك ، فالاستقامة لا تصح إلا بتركها، سواء كانت حقاً أو باطلاً. فإن الدعوى الصادقة تطفئ نور المعرفة، فكيف بالكاذبة ؟
وأما قوله "لا علماً" أي لا يكون الحامل له على ترك الدعوى مجرد علمه بفساد الدعوى، ومنافاتها للاستقامة. فإذا تركها يكون تركها لكون العلم قد نهى عنها. فيكون تاركاً لها ظاهراً لا حقيقة، أو تاركها لها لفظاً، قائماً بها حالاً ، لأنه يرى أنه قد قام بحق العلم في تركها ، فيتركها تواضعاً ، بل يتركها حالاً وحقيقة كما يترك من أحب شيئاً تضره محبته حبه حالاً وحقيقة ، وإذا تحقق أنه ليس له من الأمر شيء كما قال الله عز وجل لخير خلقه على الإطلاق: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذّبَهُمْ فَإِنّهُمْ ظَالِمُونَ) [آل عمران: 128] ترك الدعوى شهوداً وحقيقة وحالاً.
وأما "البقاء مع نور اليقظة" فهو الدوام في اليقظة، وأن لا يطفئ نورها بظلمة الغفلة بل يستديم يقظته ، ويرى أنه في ذلك المُنشغلُ بالله المأخوذ عن نفسه، حفظاً من الله له ، لا أن ذلك حصل بتحفظه واحترازه.
فهذه ثلاثة أمور: يقظة، واستدامة لها، وشهود أن ذلك بالحق سبحانه لا بك. فليس سبب بقائه في نور اليقظة بحفظه. بل بحفظ الله له.
وكأن الشيخ يشير إلى أن الاستقامة في هذه الدرجة لا تحصل بكسب ، وإنما هو مجرد موهبة من الله. فإنه قال في الأولى "الاستقامة على الاجتهاد" وفي الثانية "استقامة الأحوال، لا كسباً ولا تحفظاً".
ومنازعته في ذلك متوجهة. وأن ذلك مما يمكن تحصيله كسباً يتعاطى الأسباب التي تهجم بصاحبها على هذا المقام.
نعم الذي ينفى في هذا المقام: شهود الكسب، وأن هذا حصل له بكسبه. فنفي الكسب شيء ونفي شهوده شيء آخر.
الدرجة الثالثة (استقامة بترك رؤية الاستقامة ):
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ(1/136)
استقامة بترك رؤية الاستقامة، وبالغيبة عن تطلب الاستقامة بشهود إقامة وتقويمه الحق.
هذه الاستقامة معناها: الذهول بمشهوده عن شهوده ، فيغيب بالمشهود المقصود سبحانه عن رؤية استقامته في طلبه، فإن رؤية الاستقامة تحجبه عن حقيقة الشهود.
وأما "الغيبة عن تطلب الاستقامة" فهو غيبته عن طلبها بشهود إقامة الحق للعبد، وتقويمه إياه، فإنه إذا شهد أن الله هو المقيم له والمقوم ، وأن استقامته وقيامه بالله، لا بنفسه ولا بطلبه: غاب بهذا الشهود عن استشعار طلبه لها.
وهذا القدر من موجبات شهود معنى اسمه "القيوم" وهو الذي قام بنفسه فلم يحتج إلى أحد ، وقام كل شيء به. فكل ما سواه محتاج إليه بالذات ، وليست حاجته إليه معللة بحدوث. كما يقول المتكلمون. ولا بإمكان، كما يقول الفلاسفة المشاءون ، بل حاجته إليه ذاتية، وما بالذات لا يعلل.
نعم الحدوث والإمكان دليلان على الحاجة ، فالتعليل بهما من باب التعريف. لا من باب العلل المؤثرة . والله أعلم.
(متعلقات الاستقامة :
الاستقامة تتعلق بالأقوال والأفعال والأحوال والنيات، فالاستقامة فيها، وقوعها لله وبالله وعلى أمر الله.
[*](قال بعض أهل العلم : كن صاحب الاستقامة، لا طالب الكرامة؛ فإن نفسك متحركة في طلب الكرامة، وربك يطالب بالاستقامة.
والاستقامة للحال بمنزلة الروح من البدن، فكما أن البدن إن خلا عن الروح فهو ميت فكذلك الحال إذا خلا عن الاستقامة فهو فاسد ، وكما أن حياة الأحوال بها، فزيادة أعمال الزاهدين أيضاً ونورها وذكاؤها بها، فلا ذكاء للعمل ولا صحة بدونها.(1/137)
[*](قال ابن القيم رحمه الله تعالى : "من هُدِيَ في هذه الدار إلى صراط الله المستقيم الذي أرسل به رسله وأنزل به كتبه، هُدِيَ هناك إلى الصراط المستقيم الموصل إلى جنته دار ثوابه ، وعلى قدر ثبوت قدم العبد على هذا الصراط الذي نصبه الله لعباده في هذه الدار، يكون ثبوت قدمه على الصراط المنصوب على متن جهنم، وعلى قدر سيره على هذا الصراط يكون سيره على ذاك الصراط، ولينظر العبد الشبهات والشهوات التي تعوقه عن سيره على هذا الصراط المستقيم؛ فإنها الكلاليب التي بجنتي ذاك الصراط تخطه وتعوقه عن المرور عليه فإن كثرت هنا، وقويت فكذلك هي هناك: }وما ربك بظلام للعبيد .
(أقسام الاستقامة :
إن الاستقامة تشمل الدين كله ، ودونك أقسامها :
( القسم الأول ) استقامة السرائر :
( القسم الثاني ) الاستقامة في الأصول :
( القسم الثالث ) الاستقامة في العبادات :
( القسم الرابع ) الاستقامة في اجتناب المعاصي:
( القسم الخامس ) الاستقامة في العادات :
( القسم السادس ) الاستقامة في المعاملات :
( القسم السابع ) الاستقامة في تزكية النفوس :
وهاك تفصيل ذلك في إيجازٍ غيرِ مُخِّل : (
( القسم الأول ) استقامة السرائر :
يتعلق باستقامة الأعمال الباطنة كالنية والإخلاص والتزام التقوى ومحبة الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم والتوبة إلى الله عز وجل واليقين به والرضا بما قدر والصبر على البلاء وااشكر عند الرخاء والتوكل على الله والقناعة والزهد والخوف والرجاء.
( القسم الثاني ) الاستقامة في الأصول :(1/138)
يضم الاستقامة فيما يتخذ المؤمن من منهاج ودليل عمل يستند إلى المعرفة بالله تعالى . فعلى المؤمن أن يعتبر القرآن مصدره الأول ثم سنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ، ثم بعد ذلك يأتي الاجتهاد ولزوم الجماعة وعدم إطاعة مخلوق في معصية الله تعالى وأن لا يكون إمعة ويجتنب البدع وسبل المشركين والمنافقين . وعلى المؤمن أن ييسر ولا يعسر وأن يتقن عمله ويستغل أوقاته ويتسامح مع من خالفه فيما اختلف فيه الفقهاء وأهل العلم ويستخير ربه في أمور دنياه وآخرته.
( القسم الثالث ) الاستقامة في العبادات :
هو باب العبادات والتي تأتي في مقدمتها الصلاة والصيام والزكاة والحج لمن استطاع إليه سبيلا ، وليست العبادات تلك فحسب ، فالطهارة عبادة وتلاوة القرآن عبادة وطلب العلم عبادة ، وكذلك الذكر والدعاء والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله والتفكر في خلق الله والشكر على نعمائه.. كل هذه من العبادات.
( القسم الرابع ) الاستقامة في اجتناب المعاصي:
ويتضمن اجتناب المعاصي التي نهى عنها الله ورسوله وأسس تحديد الإثم . فالكبائر التي حرم الله تعالى كعقوق الوالدين وقطع الأرحام وأكل مال اليتيم وقتل النفس التي حرم الله والخمر والميسر والزنا وقول الزور والسحر وقذف المحصنات والتخنث ولبس الذهب والحرير للرجال وتشبه النساء بالرجال وتركهن الحجاب والخيانة والكذب والظلم والغش واللعن والاحتكار.
( القسم الخامس ) الاستقامة في العادات :
ويتضمن مكارم الأخلاق من صدق وحسن خلق وحياء وحفظ اللسان وتواضع وغض للبصر وسخاء ورحمة لعباد الله وترك الجدال وما لا يعني.
( القسم السادس ) الاستقامة في المعاملات :(1/139)
ويتضمن أن يحب المرء لأخيه ما يحب لنفسه ، وحب الصالحين وبذل النصح والعدل بالحكم والإحسان إلى الجار وذوي الأرحام والرفق في كل شيء وخاصة للمرء مع أهل بيته وطاعة المرأة لزوجها ورعايتها لولدها وأداء الأمانات والإيفاء بالوعود.
( القسم السابع ) الاستقامة في تزكية النفوس :
ويتضمن تزكية النفوس ، فقد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها . فاجتناب التكبر والرياء ومحاسبة النفس وترك الحسد وسوء الظن وذكر الموت .
( فصلٌ في منزلة التفكر :
[*](عناصر الفصل :
( تعريف التفكر :
(أقسام التفكر :
(فضل التفكر :
(صورٌ مشرقة من تفكر الصحابة - رضي الله عنهم - :
وهاك تفصيل ذلك في إيجازٍ غير مُخِّل : (
( تعريف التفكر :
- التفكر لغة: مأخوذ من مادة- ف ك ر -التي تدل كما يقول ابن فارس رحمه الله من علماء اللغة : على تردد القلب في الشيء، يقال تفكر إذا ردد قلبه معتبراً، ولفظ التفكر مصدر، وفكر مصدرها التفكير ، والفكر هو التأمل وإعمال الخاطر في الشيء، فالتفكر هو تصرف القلب في معاني الأشياء لدرك المطلوب..
- أما التفكر شرعا :
[*](قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه التبصرة :
قال تعالى: (قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ) [يونس: 101]
إخواني ليس المراد بالنظر إلى ما في السموات والأرض ملاحظته بالبصر وإنما هو التفكر في قدرة الصانع .(1/140)
[*](وأورد ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه التبصرة عن أم الدرداء رضي الله عنها أنها قالت تفكر لحظة خير من قيام ليلة وقيل لها ما كان أفضل عمل أبي الدرداء قالت التفكر، وقال ابن عباس ركعتان مقتصدتان في تفكر خير من قيام ليلة ، وقال الحسن ما زال أهل العلم يعودون بالتفكر على التذكر وبالتذكر على التفكر ويناطقون القلوب حتى نطقت فإذا لها أسماع وأبصار فنطقت بالحكمة وضربت الأمثال، فأورثت العلم وقال الفكر مرآة تُريك حسناتك وسيئاتك وقال من لم يكن كلامه حكمة فهو لغو ومن لم يكن سكوته تفكراً فهو سهو ومن لم يكن نظره اعتباراً فهو لهو.
(وقال أيضاً رحمه الله تعالى :
وجاء في تفسير قوله تعالى: (سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الّذِينَ يَتَكَبّرُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقّ) [الأعراف: 146]
قال أمنع قلوبهم من التفكر في أمري وكان لقمان يجلس وحده ويقول طول الوحدة أفهم للتفكر وطول التفكر دليل على طريق الجنة ، وقال وهب بن منبه ما طالت فكرة امرىءٍ قط إلا علم ولا علم إلا عمل ، وبينما أبو شريح العابد يمشي جلس فتقنع بكسائه وجعل يبكي فقيل له ما يبكيك قال تفكرت في ذهاب عمري وقلة عملي واقتراب أجلي، وبينا داود الطائي في سطح داره في ليلة قمراء تفكر في ملكوت السموات والأرض فوقع إلى سطح جاره فلما أفاق قال ما علمت بذلك .
[*](ووضع الإمام ابن القيم رحمه الله قاعدة جليلة في التفكر: أصل الخير والشر من قبل التفكر فإن الفكر مبدأ الإرادة والطلب في الزهد والترك والحب والبغض وأنفع الفكر ما يلي : (
(1) الفكر في مصالح المعاد .
(2) وطرق اجتلابها .
(3) وفي دفع مفاسد المعاد..،
(4) وفي طرق اجتنابها..،فهذه أربعة أفكار هي أجل الأفكار ويليها أربعة هي ما يلي : (
(1) فكر في مصالح الدنيا..
(2) وطرق تحصيلها..
(3) وفكر في مفاسد الدنيا..
(4) وطرق الاحتراز منها، فعلى هذه الأقسام الثمانية دارت أفكار العقلاء.(1/141)
قال: ورأس القسم الأول الفكر في آلاء الله ونعمه وأمره ونهيه وطرق العلم به وبأسمائه وصفاته من كتابه وسنة نبيه وما والاهما، وهذا الفكر يثمر لصاحبه المحبة والمعرفة فإذا فكر في الآخرة وشرفها ودوامها وفي الدنيا وخستها وفنائها يثمر له ذلك الرغبة في الآخر ة والزهد في الدنيا، وكلما فكر في قصر الأمل وضيق الوقت أورثه ذلك الجد والاجتهاد وبذل الوسع في اغتنام الوقت .
وقد ذكر الله سبحانه وتعالى التفكر في كتابه مقروناً بذكر الأمثال والنعم و المخلوقات وكذلك ما نراه في هذا الكون من قدرته عز وجل وهذه بعض الآيات التي فيها الأمر بالتفكر أو مدح المتفكرين أو أنه خلق أشياء للمتفكرين.. (
( قال تعالى: (أَيَوَدّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنّةٌ مّن نّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلّ الثّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرّيّةٌ ضُعَفَآءُ فَأَصَابَهَآ إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيّنُ اللّهُ لَكُمُ الاَيَاتِ لَعَلّكُمْ تَتَفَكّرُونَ) [ البقرة : 266] فهذا الرجل قلبه متعلق بالبستان من حيث:
(1) أنه جنة وليس مزرعة صغيرة.
(2) أن فيها أشجار متنوعة .. نخيل وأعناب.
(3) أن فيها أشجار نفيسة وأعلاها قيمة وقدراً.. النخيل والأعناب.
(4) أن الماء الذي في هذه الجنة لا يستخرج من الآبار بالمجهود الكبير بل إن هناك أنهار تجري في هذه الجنة.
(5) أصابه الكبر.. والإنسان إذا أصابه الكبر يحتاج إلى شيء يعود إليه بالمال دون أن يتعب فيه كثيراً.
(6) له ذرية ضعفاء صغار مرضى فهو يخشى أن يموت والأولاد أين مصدر رزقهم.. لا يوجد إلا هذه الجنة.
فدرجة تعلقه بهذه الجنة كبير جداً، فكيف يكون شعوره وخيبة أمله والإحباط إذ أصابها إعصار فيه نار فاحترقت..؟..كبير جداً..، فكر لماذا ضرب المثل ولأي شيء ساق هذا المثل..؟(1/142)
إنه مثل ضربه الله للذي يعمل أعمالاً كثيرة.. صدقات وغيرها ولكنه يرائي..، يوم القيامة يأتي في غمرة الأهوال وهو محتاج إلى كل حسنة فيرى أعماله التي عملها في الدنيا وأمامه النار من تلقاء وجهه والشمس دانية من رأسه وفي العرق والصراط مضروب على جهنم ولا ينجو إلا بعمل صالح فجعل الله أعماله كلها هباءً منثوراً في وقت هو أحوج ما يكون إلى الحسنات فكيف يكون إحباطه وذله وخيبة أمله في ذلك الوقت..، ما الذي ينشئ الانقياد والسعي للإخلاص في العمل؟ التفكر في مثل هذه الآيات..
قال تعالى: (إِنّ فِي خَلْقِ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلاَفِ الْلّيْلِ وَالنّهَارِ لاَيَاتٍ لاُوْلِي الألْبَابِ * الّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكّرُونَ فِي خَلْقِ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ رَبّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النّارِ * رَبّنَآ إِنّكَ مَن تُدْخِلِ النّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ) [آل عمران 190: 192]
( قال تعالى: (إِنّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدّنْيَا كَمَآءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السّمَآءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأرْضِ مِمّا يَأْكُلُ النّاسُ وَالأنْعَامُ حَتّىَ إِذَآ أَخَذَتِ الأرْضُ زُخْرُفَهَا وَازّيّنَتْ وَظَنّ أَهْلُهَآ أَنّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَآ أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لّمْ تَغْنَ بِالأمْسِ كَذَلِكَ نُفَصّلُ الاَيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكّرُونَ) [ يونس : 24]
( قال تعالى: (اللّهُ الّذِي رَفَعَ السّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمّ اسْتَوَىَ عَلَى الْعَرْشِ وَسَخّرَ الشّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلّ يَجْرِي لأجَلٍ مّسَمّى يُدَبّرُ الأمْرَ يُفَصّلُ الاَيَاتِ لَعَلّكُمْ بِلِقَآءِ رَبّكُمْ تُوقِنُونَ) [ الرعد : 2](1/143)
( قال تعالى: (هُوَ الّذِي أَنْزَلَ مِنَ السّمَاءِ مَآءً لّكُم مّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ * يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ الزّرْعَ وَالزّيْتُونَ وَالنّخِيلَ وَالأعْنَابَ وَمِن كُلّ الثّمَرَاتِ إِنّ فِي ذَلِكَ لاَيَةً لّقَوْمٍ يَتَفَكّرُونَ * وَسَخّرَ لَكُمُ اللّيْلَ وَالْنّهَارَ وَالشّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْنّجُومُ مُسَخّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ إِنّ فِي ذَلِكَ لاَيَةً لّقَوْمٍ يَذّكّرُونَ * وَهُوَ الّذِي سَخّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ) [ النحل 10: 14]
( قال تعالى: (وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاّ رِجَالاً نّوحِيَ إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ * بِالْبَيّنَاتِ وَالزّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذّكْرَ لِتُبَيّنَ لِلنّاسِ مَا نُزّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلّهُمْ يَتَفَكّرُونَ) [ النحل : 44]
يتفكرون في القرآن والتبيان السنة ، فيتفكرون في القرآن والسنة.
( قال تعالى: (أَوَلَمْ يَتَفَكّرُواْ فِيَ أَنفُسِهِمْ مّا خَلَقَ اللّهُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاّ بِالْحَقّ وَأَجَلٍ مّسَمّى وَإِنّ كَثِيراً مّنَ النّاسِ بِلِقَآءِ رَبّهِمْ لَكَافِرُونَ * قال تعالى: (أَوَلَمْ يَسيرُواْ فِي الأرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوَاْ أَشَدّ مِنْهُمْ قُوّةً وَأَثَارُواْ الأرْضَ وَعَمَرُوهَآ أَكْثَرَ مِمّا عَمَرُوهَا وَجَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيّنَاتِ فَمَا كَانَ اللّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلََكِن كَانُوَاْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) [ الروم : 9](1/144)
فالحاصل أن التفكر في النفوس والتفكر في مصائر الأقوام البائدة مجال آخر للتفكر.
( قال تعالى: (لاَ يَسْتَوِيَ أَصْحَابُ النّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنّةِ أَصْحَابُ الْجَنّةِ هُمُ الْفَآئِزُونَ * لَوْ أَنزَلْنَا هََذَا الْقُرْآنَ عَلَىَ جَبَلٍ لّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مّتَصَدّعاً مّنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنّاسِ لَعَلّهُمْ يَتَفَكّرُونَ) [ الحشر 20: 21].
فليتفكر الإنسان في هذا القرآن وقوته لو أنزل على جبل لَنْهَدّ فماذا ينبغي أن يكون أثره على نفسه؟
وكان النبي صلى الله عليه وسلم مثلاً أعلى في التفكر وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة : (
لما قام من الليل ينظر في السماء ويقرأ ، فقراءة الآيات من سورة آل عمران في الليل سنة قبل صلاة الليل ، وهذه من السنن المهجورة
( حديث ابن عباس رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين ) قال: بت عند خالتي ميمونة، فتحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أهله ساعة ثم رقد، فلما كان ثلث الليل الآخر قعد، فنظر إلى السماء فقال: {إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب}. ثم قام فتوضأ واستن، فصلى إحدى عشرة ركعة، ثم أذن بلال فصلى ركعتين، ثم خرج فصلى الصبح .
... (وفائدة التفكر تكثير العلم واستجلاب المعرفة لأنه إذا اجتمع في القلب اجتمعت المعلومات الأساسية وازدوجت على ترتيب مخصوص أثمرت معرفة أخرى، فالمعرفة نتاج المعرفة ، فإذا حصلت معرفة أخرى وازدوجت مع معرفة أخرى حصل نتاج آخر!..فالعلماء من أين أنتجوا انتاجهم وأحاكم الفقه والأحكام المستنبطة والتفسير..؟ جزء كبير خرج من التأمل في آيات الله والتأمل في الأحداث والوقائع..!
(الأمور المشكلة والمستعصيات كيف حُلّت..؟!(1/145)
أبو حنيفة قالوا له هذا شخص وهذا أخوه عقدنا لهما على أختين لما صارت الدخلة بالخطأ دخل الأخ الأول على زوجة الثاني ودخل الأخ الثاني على زوجة الأول و وطئها تلك الليلة و لم يكتشفوا ذلك إلا في الصباح ، الحل يحتاج لتفكر وتدبر ، تعال يا فلان هل أعجبتك المرأة التي دخلت بها؟ رضيت بها؟ نعم، وأنت يافلان؟ نعم، يا فلان طلق فلانة التي عقدت عليها ويا فلان طلق فلانة ثم عقد لكل منهم على الأخرى!
(والجمع بين النصوص كيف حُلّت..؟!
كيف نجمع بين قوله تعالى: ( وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىَ ) [الزمر : 7] وبين قوله - صلى الله عليه وسلم - (الميت يعذب ببكاء أهله عليه)(بما نيح عليه)..؟!!
فيفكر العلماء .. يقولون هذا خاص بالكافر مثلاً ..هذا إذا كان راضياً بالنياحة و هو يعلم بما يفعلون بالعادة و لم ينههم قبل موته..وهكذا..
(من وسائل زيادة الإيمان التفكر في آيات الله في الكون.. في الآفاق .. في النفس.. قال تعالى: (أَوَلَمْ يَتَفَكّرُواْ فِيَ أَنفُسِهِمْ مّا خَلَقَ اللّهُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاّ بِالْحَقّ وَأَجَلٍ مّسَمّى وَإِنّ كَثِيراً مّنَ النّاسِ بِلِقَآءِ رَبّهِمْ لَكَافِرُونَ) [الروم : 8] ..
فيما خلق الله..، فهذه الميادين في التفكر مهم جداً للإنسان المسلم والتفكر رأس المال وينتج بضاعة عظيمة جداً..
(فالثمرة الخاصة للتفكر هي العلم.. وإذا حصل العلم في القلب تغير حال القلب.. وإذا تغير حال القلب تغيرت أعمال الجوارح ..، فالعلم تابع للفكر فالفكر هو المبدأ ينتج علماً والعلم ينتج حال في القلب من الخشية والإحساس بالتقصير في حق الله والرغبة والجد .. ينتجها العلم فيؤدي إلى زيادة أعمال الجوارح لأن القلب يأمر الجوارح بالعمل..، فيصلح الإنسان ويعلو شأنه ويتحسن حاله من نتيجة التفكر..(1/146)
(ومحبة الله تحصل من التفكر في النعم..لأن النفس مجبولة على محبة من أحسن إليها..وكذلك فإن التفكر وسيلة لفهم الشريعة ووسيلة للفقه في الدين ( ومن يرد الله به خيراً يفقهه في الدين).. وهكذا تحصل البصيرة بالتفكر..
مسألة : ما هو التفكر في النفس..؟
الجواب : أن التفكر في النفس يشمل أن يتفكر في خلق الله كيف خلق نفس الإنسان وجسده، والتفكر في النفس أيضاً يشمل التفكر في عيوبها وهذا مهم جداًً ولا يمكن عمل تقويم وتصحيح وتعديل وتحسين إلا بعد التفكر ، وإذا كان فكره صحيحاً عرف العيوب واكتشف الأخطاء وبالتالي يمتنع عن الوقوع فيما وقع فيه سابقاً من الأخطاء ويجتهد في تحصيل ما يستر به عيوب نفسه .. غضب شديد .. حاد الطبع .. عجول.. متهور .. عصبي.. جبان .. خواف.. ظلوم .. معتدي.. باغي.. متعدي .. يفري بلسانه في أعراض الخلق.. وهكذا..، كذلك يفكر في حال عائلته وأسرته وأولاده كيف يحسن من أحوالهم ما هي الثغرات فيه؟
لو أردنا أن نصلح أحوال المسلمين ..المصلحين الكبار والمجددين الذين مروا على العالم الإسلامي ماذا فعلوا؟.. بالتأكيد أول ما فعلوا هو النظر في حال المسلمين.. ماذا ينقصهم؟ أين الخلل؟ ما هي الثغرات؟..ثم شمروا في تحصيل أسباب القوة والارتقاء بحال المسلمين و سد الثغرات.. جهل ..شرك.. معاصي..
(ومن التفكر.. التفكر في خلق الله تعالى.. فإن فيه من العجائب والغرائب الدالة على حكمة الله وقدرته وجلاله شيء يهون الناظرين والمتفكرين والموجودات منقسمة إلى أشياء معروفة و غير معروفة..، ومجال العلم التجريبي والدنيوي أن يكتشف الأشياء غير المعروفة وهي موجودة مما خلق الله عز وجل : (وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ) [النحل : 8]..
وقال تعالى: (سُبْحَانَ الّذِي خَلَق الأزْوَاجَ كُلّهَا مِمّا تُنبِتُ الأرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمّا لاَ يَعْلَمُونَ) [ يس : 36](1/147)
و قال تعالى: (عَلَىَ أَن نّبَدّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لاَ تَعْلَمُونَ) [الواقعة : 61]..
( والتفكر في مخلوقات الله قد أمر الله به وأنه سبحانه وتعالى مدح عباده قال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [ آل عمران190 :191]
وأمر في التفكر وحث عليه قال تعالى: (أَوَلَمْ يَتَفَكّرُواْ فِيَ أَنفُسِهِمْ ) [ الروم : 9]
مسألة : لماذا يتفكرون في خلق السموات والأرض..؟
[*] قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله :
" ليستدلوا بها على المقصود منها ودل هذا على أن التفكر عبادة من صفات أولياء الله العارفين فإذا تفكروا عرفوا أن الله لم يخلقها عبثاً فيقولون{ ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك} يعني نزهناك عن كل ما لا يليق بك"، بعض الناس تفكره فقط إلى حد إتقان الصنعة وأنها صنعة جميلة لكن المقصود الأعظم ليس فقط التعجب من دقة الصنع بل لشيء وراء ذلك..
(وقد حثنا النبي - صلى الله عليه وسلم - على التفكر في آلاء الله كما في الحديث الآتي : (
( حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : تفكروا في آلاء الله و لا تفكروا في الله .
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
( تفكروا في آلاء اللّه ) أي أنعمه التي أنعم بها عليكم قال القاضي : والتفكر فيها أفضل العبادات(1/148)
( ولا تفكروا في اللّه ) فإن العقول تحير فيه فلا يطيق مد البصر إليه إلا الصديقون ثم لا يطيقون دوام النظر بل سائر الخلق أحوال أبصارهم بالإضافة إلى جلاله كبصر الخفاش بالإضافة إلى الشمس فلا يطيقه البتة نهاراً ويتردد ليلاً لينظر في بقية نور الشمس فحال الصديقين كحال الإنسان في النظر إلى الشمس فإنه يقدر على نظرها ولا يطيق دوامه فإنه يفرق البصر ويورث الدهش فكذا النظر إلى ذات اللّه يورث الحيرة والدهش واضطراب العقل فالصواب أن لا يتعرض لمجاري الفكر في ذاته وصفاته لأن أكثر العقول لا
( تنبيه ) قال الراغب : نبه بهذا الخبر على أن غاية معرفة الإنسان ربه أن يعرف أجناس الموجودات جواهرها وأعراضها المحسوسة والمعقولة ويعرف أثر الصنعة فيها وأنها محدثة وأن محدثها ليس إياها ولا مثلاً لها بل هو الذي يصح ارتفاع كلها بعد بقائه ولا يصح بقاؤها وارتفاعه ولما كان معرفة العالم كله يصعب على المكلف لقصور الأفهام عن بعضها واشتغال البعض بالضروريات جعل تعالى لكل إنسان من نفسه وبدنه عالماً صغيراً أوجد فيه مثال كل ما هو موجود في العالم الكبير ليجري ذلك من العالم مجرى مختصر عن كتاب بسيط يكون مع كل أحد نسخة يتأملها حضراً وسفراً وليلاً ونهاراً فإن نشط وتفرغ للتوسع في العلم نظر في الكتاب الكبير الذي هو العالم فيطلع منه على الملكوت ليقرر علمه وإلا فله مقنع بالمختصر { وفي أنفسكم أفلا تبصرون } أهـ .
وقد أمرك الله في التدبر في نفسك في كتابه العزيز فقال: قال تعالى: (وَفِيَ أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ) [ الذاريات : 21]
وذكر أنك مخلوق من نطفة قذرة قال تعالى: (قُتِلَ الإِنسَانُ مَآ أَكْفَرَهُ * مِنْ أَيّ شَيءٍ خَلَقَهُ * مِن نّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدّرَهُ * ثُمّ السّبِيلَ يَسّرَهُ) [عبس 17: 20]
و قال تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مّن تُرَابٍ ثُمّ إِذَآ أَنتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ) [ الروم : 20](1/149)
و قال تعالى: (أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مّن مّنِيّ يُمْنَىَ * ثُمّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوّىَ * فَجَعَلَ مِنْهُ الزّوْجَيْنِ الذّكَرَ وَالاُنثَىَ ) [ القيامة 37: 39] ،
و قال تعالى: (أَلَمْ نَخْلُقكّم مّن مّآءٍ مّهِينٍ * فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مّكِينٍ * إِلَىَ قَدَرٍ مّعْلُومٍ ) [ المرسلات 20: 22]
و قال تعالى: (أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنّا خَلَقْنَاهُ مِن نّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مّبِينٌ) [ يس : 77] و قال تعالى: (إِنّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن نّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً) [الإنسان : 2] ثم ذكر كيف جعل النطفة علقة والعلقة مضغة والمضغة عظاماً كما قال سبحانه : و قال تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مّن طِينٍ * ثُمّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مّكِينٍ * ثُمّ خَلَقْنَا النّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) [ المؤمنون 12: 14]
فتكرير ذكر النطفة في الكتاب العزيز ليس ليُسمَع لفظه ويترك التفكر في معناه..!(1/150)
انظر إلى النطفة وهي قطرة من الماء قذرة لو تُرِكت ساعة ليضربها الهواء فسدت وأنتنت كيف أخرجها رب الأرباب من الصلب والترائب ؟و كيف جمع بين الذكر والأنثى وألقى الألفة والمحبة في قلوبهم؟ وكيف قادهم بسلسلة المحبة والشهوة إلى الاجتماع وكيف استخرج النطفة من الرجل بحركة الوقاع وكيف استجلب دم الحيض من أعماق العروق و جمعه في الرحم ثم كيف خلق المولود من النطفة وسقاه بماء الحيض وغذاه حتى نما وربا و كيف جعل النطفة وهي بيضاء مشرقة علقة حمراء ثم كيف جعلها مضغة ثم كيف قسم أجزاء المضغة و هي متساوية متشابهة إلى العظام والأعصاب والعروق والأوتار واللحم ثم كيف ركب من اللحوم والأعصاب والعروق الأعضاء الظاهرة، فدوّر الرأس وشقّ السمع والبصر و الأنف والفم وسائر المنافذ ثم مد اليد والرجل وقسم رؤوسها بالأصابع وقسم الأصابع بالأنامل، ثم كيف ركب الأعضاء الباطنة من القلب والمعدة والكبد والطحال والرئة والرحم والمثانة والأمعاء، كل واحد على شكل مخصوص، ومقدار مخصوص ، لعمل مخصوص، ثم كيف قسم كل عضو من الأعضاء بأقسام أخر، فركب العين من سبع طبقات لكل طبقة وصف مخصوص وهيئة مخصوصة لو فقدت طبقة منها أو زالت صفة من صفاتها تعطلت العين عن الإبصار وهكذا..(1/151)
فانظر الآن إلى العظام وهي أجسام صلبة قوية كيف خلقها من نطفة سخيفة رقيقة ثم جعلها قواماً للبدن وعماداً له ثم قدرها بمقادير مختلفة و أشكال مختلفة فمنه صغير وكبير وطويل مستدير و مجوف ومصمت وعريض ودقيق ولما كان الإنسان محتاج إلى الحركة بجملة بدنه وببعض أعضائه لم يجعل عظمه عظماً واحداً بل عظاماً كثيرة بينها مفاصل حتى تتيسر بها الحركة وقدر شكل كل واحدة منها على وفق الحركة المطلوبة بها ثم وصل مفاصلها وربط بعضها ببعض بأوتار أنبتها من أحد طرفي العظم وألصقه بالعظم الآخر كالرباط له ثم خلق في أحد طرفي العظم زوائد خارجة منه وفي الأخرى حفراً غائصة فيه موافقة لشكل الزوائد لتدخل فيها و تنطبق عليها فصار العبد إن أراد تحريك جزء من بدنه لم يمتنع عليه ولولا المفاصل لتعطل عليه ذلك..(1/152)
فتلك النعمة العظيمة ( على كل سلام من أحدكم صدقة) ثلاث مائة وستون مفصل تجزيء عنها ركعتي الضحى>..فلننظر كيف خلق عظام الرأس وكيف جمعها وركبها وقد ركبها من خمسٍ وخمسين عظم مختلفة الأشكال والصور فألف بعضها إلى بعض بحيث استوى به كرة الرأس كما ترى ، وليس المقصود من ذكر أعداد العظام أن يعرف عددها فإن هذا علم قليل يعرفه الأطباء والمشرحون إنما الغرض أن ينظر في مدبرها وخالقها كيف قدرها ودبرها وخالف بين أشكالها وأقدارها وخصصها بهذا العدد المخصوص لأنه لو زاد عليها واحداً لكان وبالاً على الإنسان يحتاج إلى قلعه ولو نقص منها واحداً لكان نقصاناً يحتاج إلى جبره، فالطبيب ينظر فيها ليعرف وجه العلاج في جبرها ، وأهل البصائر ينظرون فيها ليستدلوا على جلالة خالقها ومصورها فشتّان بين النظرين..، وكذلك التفكر في أمر هذه الأعصاب والعروق والأوردة والشرايين و عددها ومنابتها وانشعابها فانظر الآن إلى ظاهر الإنسان وباطنه، فترى به من العجائب والصنعة ما يقضى به العجب وكل ذلك صنعه الله في قطرة ماء قذرة، فترى من هذا صنعه في قطرة ماء فما صنعه في ملكوت السموات وكواكبه؟ وما حكمته في أوضاعها و أشكالها ومقاديرها وأعدادها واجتماع بعضها وتفرق بعضها واختلاف صورها وتفاوت مشارقها ومغاربها..؟
(فلا تظنن أن ذرة من ملكوت السموات تنفك عن حكمة بل هي أحكم خلقاً وأتقن صنعاً :
قال تعالى: (أَأَنتُمْ أَشَدّ خَلْقاً أَمِ السّمَآءُ بَنَاهَا) [ النازعات : 27]
و قال تعالى: (لَخَلْقُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النّاسِ وَلََكِنّ أَكْثَرَ النّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ) [ غافر : 57]،(1/153)
فارجع الآن إلى النطفة وتأمل حالها أولاً وما صارت إليه ثانياً وتأمل أنه لو اجتمعت الجن والإنس على أن يخلقوا للنطفة سمعاً أو بصراً أو عقلاً أو قدرة أو علماً أو روحاً أو يخلقوا فيها عظماً أو عرقاً أو عصباً أو جلداً أو شعراً ..هل يقدرون على ذلك؟ بل لو أرادوا أن يعرفوا كنه حقيقته لربما عجزوا عن بعضه!< والذي يعملونه في الاستنساخ هو تلاعب بخلق الله قال تعالى: ( وَلأَمُرَنّهُمْ فَلَيُغَيّرُنّ خَلْقَ اللّهِ وَمَن يَتّخِذِ الشّيْطَانَ وَلِيّاً مّن دُونِ اللّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مّبِيناً) [ النساء : 119](1/154)
وحتى الذبابة فلا يستطيعون أن يخلقوها من عدم فصارت قمة تطورهم الطبي التلاعب في الخلق، وزرع بويضة ملقحة لإنسان في قرد أو كلب و زرع بويضة ملقحة لكلب في رحم امرأة..هذه هي التجارب الطبية! فالعجب منك لو نظرت إلى صورة إنسان مصوّر على حائط، تأنّق النقاش في تصويرها حتى قرب ذلك من صورة الإنسان وقال الناظر إليها كأنه إنسان، تعجبت من صنعة النقاش وحذقه وخفة يده وتمام فطنته وعظم في قلبك محله مع أنك تعرف أن تلك الصورة إنما تمت بالصبغ والقلم واليد وأن كل ما فعله أنه جعل الصبغ على هذا الحائط على ترتيب مخصوص وأنت تستعجب من النقاش والرسام فكيف بالذي جعل من النطفة القذرة التي كانت معدومة فخلقها في الأصلاب والترائب وأخرج منها هذا الشكل الحسن وقدرها فأحسن تقديرها وصورها فأحسن تصويرها ورتب عروقها وأعصابها وجعل لها مجاري لغذائها ليكون ذلك سبب بقائها وجعل البطن حاوياً لآلات الغذاء والرأس جامعاً للحواس وهكذا جعل في الأذنين وجعل في الأنف حاسة الشم ليستدل صاحبه باستنشاق الروائح على مطاعمه وأغذيته و يميز الطيب من الخبيث..، وهكذا إذا تأملت في الشفتين و حسن لونها وشكلها لتنطبق على الفم فتسد منفذه و ليتم بها حروف الكلام وخلق الحنجرة وهيأها لخروج الصوت وخرج اللسان قدرة للحركات والتقطيعات لتتقطع الأصوات في مخارج مختلفة تختلف بها الحروف ليتسع بها طريق النطق لكثرتها، ثم خرج الحناجر مختلفة الأشكال في الضيق والسعة والخشونة والملاسة وصلابة الجوهر ورخاوته والطول والقصر حتى اختلفت بسببه الأصوات فلا يتشابه صوتان بل يظهر بين كل صوتين فرقاً حتى يميز السامع بعض الناس عن بعض بمجرد الصوت في الظلمة.. إلى غير ذلك من الآلاء والنعم..(1/155)
(ثم تفكر في ما يحدث في خلق الجنين في الرحم في ظلمات ثلاث..ولو كشف الغطاء والغشاء وامتد البصر لرأيت التخطيط والتصوير يظهر عليها شيئاً فشيئاً ولا ترى المصوّر و لا آلته فهل رأيت مصوراً أو فاعلاً لا ترى آلته ومع ذلك يتشكل خلقه سبحانه وتعالى..
ثم من تمام رحمته أنه لما ضاق الرحم عن الصبي لما كبر كيف هداه السبيل حتى تنكّس و انقلب وتهيأ للخروج وتحرك وخرج من ذلك المضيق وطلب المنفذ كأنه عاقل بصير بما يحتاج إليه، ثم لما خرج واحتاج إلى الغذاء كيف هداه إلى التقام الثدي ، ثملما كان بدنه سخيفاً لا يحتمل الأغذية الكثيفة كيف دبر له في اللبن اللطيف المستخرج بين الفرث والدم شيئاً سائغا خالصاً، وكيف خلق الثديين وجعل فيهما اللبن و أنبت منهما حلمتين على قدر ما ينطبق عليهما فم الصبي ..قدر الحلمة على قدر فتحة الفم في الصبي ثم فتح في حلمة الثدي ثقباً ضيقاً جداً حتى لا يخرج اللبن منه إلا بعد المص تدريجاً فإن الطفل لا يطيق منه إلا القليل ثم كيف هداه إلى الامتصاص حتى يستخرج من ذلك المضيق اللبن الكثير عند شدة الجوع، ثم انظر إلى عطفه ورحمته ورأفته كيف أخّر خلق الأسنان إلى تمام الحولين، لأنه في الحولين لا يتغذى إلا باللبن فيستغني عن السن وإذا كبر لم يوافقه اللبن السخيف ، و يحتاج إلى طعام غليظ ويحتاج الطعام إلى المضغ والطحن فأنبت له الأسنان في وقت الحاجة..فسبحانه كيف أخرج تلك العظام الصلبة في تلك اللثاة اللينة ثم حنن قلوب الوالدين عليها للقيام بتدبيره في الوقت الذي كان عاجزاً عن تدبير نفسه..، فلو لم يسلط الله الرحمة على قلوبهما لكان الطفل أعجز الخلق عن تدبير نفسه ، ثم انظر كيف رزقه القدرة والتمييز والعقل والهداية تدريجاً..حتى يتكامل فيصير مراهقاً ثم شاباً ثم شيخاً إما شاكراً أو كفوراً .(1/156)
قال تعالى: (هَلْ أَتَىَ عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مّنَ الدّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مّذْكُوراً * إِنّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن نّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً * إِنّا هَدَيْنَاهُ السّبِيلَ إِمّا شَاكِراً وَإِمّا كَفُوراً) [ الإنسان 1: 3]
(فتأمل وتفكر في عظمة الرب سبحانه وتعالى وهذا في شيء واحد من مخلوقاته وهو الإنسان وفي الإنسان أشياء كثيرة أخرى وكثير منها غير معلوم للآن فما بالك فيما جعل في الأرض في أكنافها وأنهارها وجبالها وهيأ السكن للساكن و جعل الأرض فراشاً وكيف جعلها كفاتاً وأنه أرساها بالجبال الرواسي وأودع فيها المياه وفجر العيون وأسال الأنهار و جعل خزانات جوفية {و ما أنتم له بخازنين}، وهكذا ترى في البوادي والأزهار والثمار والمعادن والجواهر وانقسامها إلى خسيس و ثمين وهكذا جعل منها ما يصنعه الإنسان من حاجته وحتى الحلي والنفط والكبريت و القار وحتى الملح الذي يحتاجه لتطييب طعامه و ما في هذه الحيوانات من الأمور العظيمة والتناسب الدقيق الهندسي فترى العنكبوت يبني بيته على طرف نهر فيطلب أولاً موضعين متقاربين بينهما فرجة بمقدار ذراع فما دونها حتى يمكنه أن يصل بالخيط بين طرفيه ثم يبتديء ويلقي اللعاب الذي هو خيطه على جانب ليلتصق به ثم يغدو إلى الجانب الآخر فيحكم الطرف الآخر من الخيط ثم كذلك يتردد ثانياً وثالثاً ويجعل بعد ما بينهما متناسباً تناسباً هندسياً حتى إذا أحكم معاقد القمط ورتب الخيوط كالسدى اشتغل باللُحمة (الكسوة)، فيضع اللحمة على السدى ويضيف بعضه إلى بعض ويحكم العقد على مواضع التقاء اللحمة بالسدى و يراعي في جمع ذلك تناسب الهندسة ويجعل ذلك شبكة يقع فيها البقّ والذباب و يقعد في زاوية مترصداً لوقوع الصيد في الشبكة فإذا وقع الصيد بادر إلى أخذه وأكله فإن عجز عن الصيد كذلك طلب لنفسه زاوية من حائط ووصل بين طرفي الزاوية بخيط ثم علق نفسه فيها بخيط(1/157)
آخر وبقي منكساً في الهوا ء ينتظر ذبابة تطير ، فإذا طارت رمى بنفسه إليها فأخذه ولفّ خيطه على رجليه وأحكمه ثم أكله وما من حيوان صغير ولا كبير إلا وفيه من العجائب ما لا يحصى.. ، أفترى أنه تعلم هذه الصنعة من نفسه؟أو تكون من نفسه؟أو علمه آدمي؟
فإذاً البصير يرى في هذا الحيوان الصغير من عظمة الخالق المدبر وجلاله وكمال قدرته وحكمته ما تتحير فيه الألباب والعقول فضلاً عن سائر الحيوانات ، وإذا رأيت حيواناً غريباً ولو دوداً تجدد التعجب .. وقال سبحان الله..!
والإنسان أعجب من الحيوانات..ومع ذلك إذا رأى حيواناً عجيباً تعجب وليس يتعجب من نفسه..!
وهكذا ما خلقه الله في البحار وما يكون في قيعانها وفي السحاب وما يجتمع فيها من المطر وكيف ينزل وفي ملكوت السموات والأرض..،
(والتفكر في أمور الآخرة من الأمور المهمة جداً ، وحيث أننا ما رأينا الآخرة ولا عشنا فيها ولا عندنا الآن من ثمار الجنة شيء ولا سلاسل النار شيء، لكن عندنا من النصوص الشرعية ما يصف لنا بدقة بالغة كيف سيكون الحال يوم القيامة وهذه الأوصاف والتفاصيل من رحمة الله حتى نجد شيء نتفكر فيه، فلذلك كلما ازداد علمك بتفاصيل ما في اليوم الآخر كلما ازدادت حركة القلب في التفكر في هذه التفاصيل ، ولذلك لما سأل ابن المبارك ذاك لما رآه يتفكر قال له أين بلغت ؟ قال : الصراط..، التفكر كان يأخذ وقت طويل جداً عند العلماء والأولياء بل كانوا يقدمون التفكر على صلاة الليل..
[*] قال يوسف بن أسباط :
قال لي سفيان بعد العشاء: ناولني المطهرة- الإناء الذي يتوضأ به- فناولته ، فأخذها بيمينه ووضع يساره على يده فبقي مفكراً ونمت ثم قمت وقت الفجر فإذا المطهرة في يده كما هي..فقلت هذا الفجر قد طلع.. فقال : لم أزل منذ ناولتني المطهرة أتفكر في الساعة..
لماذا ذكر الله أشراط الساعة ..؟(1/158)
لتكون مجالاً للتفكر.. لا بد أن تشغلنا هذه القضايا دائماً و هذا من الخلل الموجود فينا أننا لا نتأمل..المشكلة أن مجالات التفكر اليوم يا في الحرام والعشق والحب والغرام أو في الدنيا فقط..طغت الحياة الدنيا على الناس.. فصار التفكير نادر في القضايا المهمة التي عليها مدار السعادة..
[*] وجاء عن سفيان الثوري :
أنهم كانوا جلوساً في مجلس فانطفأ السراج فعمّت الظلمة الغرفة فبعد ذلك أشعلوه فوجدوا سفيان رحمه الله دموعه انهمرت كثيراً فقالوا مالك؟ قال : تذكرت القبر..
فنظراً لأن قلوبهم حية ممكن أي مشهد أوحدث يصير في الواقع يربطه مباشرة بالآخرة والقبر..
[*] وأحد السلف كان على تنور فرن خباز فوقف ينظر في النار التي في التنور..ثم جعلت دموعه تنهمر فبكى بكاء حاراً..فقيل له مالك؟ قال: "ذكرت النار"..
[*] قال ابن عباس:" ركعتان مقتصدتان في تفكر خير من قيام ليلة بلا قلب"..
[*] قال عمر بن عبد العزيز:" الفكرة في نعم الله عز وجل من أفضل العبادات"..
[*] وبكى عمر يوماً فسئل عن ذلك فقال:" فكرت في الدنيا ولذاتها وشهواتها فاعتبرت منها بها ، ما تكاد شهواتها تنقضي حتى تكدرها مرارتها ولئن لم يكن فيها عبرة لمن اعتبر ، إن فيها مواعظ لمن ادّّكر"..
فمن رحمة الله أنه جعل لذات الدنيا مهما عظُمت فيها تنغيص وتكدير حتى لا يستسلم العباد إليها ومع ذلك يستسلمون إليها!
[*] وسأل عبد الله بن عتبة أم الدرداء ما كان أفضل عبادة أبي الدرداء؟ قالت: "التفكر والاعتبار"..
نور الإيمان التفكر.. أفضل العمل الورع والتفكر.. تفكر ساعة خير من قيام ليلة..
[*] كتب الحسن إلى عمر بن عبد العزيز: " اعلم أن التفكر يدعو إلى الخير والعمل به والندم على الشر يدعو إلى تركه"..
[*] وعن محمد بن كعب القرظي: " لئن أقرأ في ليلتي حتى أصبح بإذا زلزلت والقارعة لا أزيد عليهما وأتردد فيهما وأتفكر أحب إلي من أن أهذ القرآن ليلتي هذّاً أو أنثره نثراً"..(1/159)
[*] قال وهب: " ما طالت فكرة امرئ قط إلا علم وما علم امرئ قط إلا عمل"..
[*] قال فضيل: " الفكر مرآة تريك حسناتك وسيئاتك"..
عودوا قلوبكم البكاء وقلوبكم التفكر..
ولله درُّ من قال :
إني رأيت عواقب الدنيا ... فتركت ما أهوى لما أخشى
فكرت في الدنيا وعالمها ... فإذا جميع أمورها تفنى
وبلوت أكثر أهلها فإذا ... كلُ امرئٍ في شأنه يسعى
أسمى منازلها وأرفعها ... في العز أقربها من المهوى
تعفو مساويها محاسنها ... لا فرق بين النعي والبشرى
وقد مررت على القبور ... فما ميزت بين العبد والمولى
أتراك تدري كم رأيت ... من الأحياء ثم رأيتهم موتى ؟
فالإنسان عليه أن يديم التفكر ويطيله لأنه يوصل إلى مرضاة الله وانشراح الصدر وسكينة القلب ويورث الخوف و الخشية من الله ويورث العلم والحكمة والبصيرة ويحيي القلوب و يصير هناك اعتبار واتعاظ من سير السابقين.. هذا التفكر.. العمل القلبي العظيم..نسأل الله أن يجعلنا من الذين يتفكرون ومن الذين يعقلون ومن الذين يتدبرون..
(أقسام التفكر :
[*](قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه التبصرة :
واعلم أن التفكر ينقسم إلى قسمين أحدهما يتعلق بالعبد والثاني بالمعبود جل جلاله .
(فأما المتعلق بالعبد فينبغي أن يتفكر هل هو على معصية أم لا فإن رأى زلة تداركها بالتوبة والاستغفار ثم يتفكر في نقل الأعضاء من المعاصي إلى الطاعات فيجعل شغل العين العبرة وشغل اللسان الذكر وكذلك سائر الأعضاء ثم يتفكر في الطاعات ليقوم بواجبها ويجبر واهنها ثم يتفكر في مبادرة الأوقات بالنوافل طلباً للأرباح ويتفكر في قصر العمر فينتبه حذراً أن يقول غداً يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله ثم يتفكر في خصال باطنة فيقمع الخصال المذمومة كالكبر والعجب والبخل والحسد ويتولى الخصال المحمودة كالصدق والإخلاص والصبر والخوف وفي الجملة يتفكر في زوال الدنيا فيرفضها وفي بقاء الآخرة فيعمرها .(1/160)
[*](وأورد ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه التبصرة عن النضر بن المنذر أنه قال لإخوانه «زوروا الآخرة في كل يوم بقلوبكم ،وشاهدوا الموت بتوهمكم ،وتوسدوا القبور بفكركم ،واعلموا أن ذلك كائن لا محالة فمختار لنفسه ما أحب من المنافع والضرر، أيام حياته»
(وأما المتعلق بالمعبود جل جلاله : فقد منع الشرع من التفكر في ذات الله عز وجل وصفاته كما في الحديث الآتي : (
( حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : تفكروا في آلاء الله و لا تفكروا في الله .
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
( تفكروا في آلاء اللّه ) أي أنعمه التي أنعم بها عليكم قال القاضي : والتفكر فيها أفضل العبادات
( ولا تفكروا في اللّه ) فإن العقول تحير فيه فلا يطيق مد البصر إليه إلا الصديقون ثم لا يطيقون دوام النظر بل سائر الخلق أحوال أبصارهم بالإضافة إلى جلاله كبصر الخفاش بالإضافة إلى الشمس فلا يطيقه البتة نهاراً ويتردد ليلاً لينظر في بقية نور الشمس فحال الصديقين كحال الإنسان في النظر إلى الشمس فإنه يقدر على نظرها ولا يطيق دوامه فإنه يفرق البصر ويورث الدهش فكذا النظر إلى ذات اللّه يورث الحيرة والدهش واضطراب العقل فالصواب أن لا يتعرض لمجاري الفكر في ذاته وصفاته لأن أكثر العقول لا(1/161)
( تنبيه ) قال الراغب : نبه بهذا الخبر على أن غاية معرفة الإنسان ربه أن يعرف أجناس الموجودات جواهرها وأعراضها المحسوسة والمعقولة ويعرف أثر الصنعة فيها وأنها محدثة وأن محدثها ليس إياها ولا مثلاً لها بل هو الذي يصح ارتفاع كلها بعد بقائه ولا يصح بقاؤها وارتفاعه ولما كان معرفة العالم كله يصعب على المكلف لقصور الأفهام عن بعضها واشتغال البعض بالضروريات جعل تعالى لكل إنسان من نفسه وبدنه عالماً صغيراً أوجد فيه مثال كل ما هو موجود في العالم الكبير ليجري ذلك من العالم مجرى مختصر عن كتاب بسيط يكون مع كل أحد نسخة يتأملها حضراً وسفراً وليلاً ونهاراً فإن نشط وتفرغ للتوسع في العلم نظر في الكتاب الكبير الذي هو العالم فيطلع منه على الملكوت ليقرر علمه وإلا فله مقنع بالمختصر { وفي أنفسكم أفلا تبصرون } أهـ .
[*](قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه التبصرة تعليقاً على قول النبي - صلى الله عليه وسلم - تفكروا في آلاء الله و لا تفكروا في الله :(1/162)
فإنكم لن تقدروا قدره فلم يبق إلا النظر في الآثار التي تدل على المؤثر وجميع الموجودات من آثار قدرته وأعجب آثاره الآدمي فإنك «إذا تفكرت في نفسك كفى وإذا نظرت في خلقك شفى» أليس قد فعل في قطرة من ماء ما لو انقضت الأعمار في شرح حكمته ما وفت ، كانت النقطة مغموسة في دم الحيض ومقياس القدرة يشق السمع والبصر خلق منها ثلاثمائة وستين عظماً وخمسمائة وتسعاً وعشرين عضلة كل شيء من ذلك تحته حكمة ، فالعين سبع طبقات وأربعة وعشرون عضلة لتحريك حدقة العين وأجفانها لو نقصت منها واحدة لاختل الأمر ، وأظهر في سواد العين على صغره صورة السماء مع اتساعها وخالف بين أشكال الحناجر في الأصوات وسخر المعدة لإنضاج الغذاء والكبد لإحالته إلى الدم والطحال لجذب السوداء والمرارة لتناول الصفراء كلها والعروق كالخدم للكبد تنفذ منها الدماء إلى أطراف البدن، فيا أيها الغافل ما عندك خبر منك فما تعرف من نفسك إلا أن تجوع فتأكل وتشبع فتنام وتغضب فتخاصم، فبماذا تميزت على البهائم ؟!(1/163)
ارفع بصر فكرك إلى عجائب السموات فتلمح الشمس في كل يوم في منزل فإذا انخفضت برد الهواء وجاء الشتاء وإذا ارتفعت قوي الحر وإذا كانت بين المنزلتين اعتدل الزمان والشمس مثل الأرض مائة ونيفاً وستين مرة ، وأصغر الكواكب مثل الأرض ثماني مرات، ثم اخفض بصرك إلى الأرض ترى فجاجها مذللة للتسخير فامشوا في مناكبها وتفكروا في شربها بعد جدبها بكأس القطر ، وتلمح خروج النبات يرفل في ألوان الحلل على اختلاف الصور والطعوم والأراييح ، وانظر كيف نزل القطر إلى عرق الشجر ثم عاد ينجذب إلى فروعها ويجري في تجاويفها بعروق لا تفتقر إلى كلفة ، فلا حَظَ للغافل في ذلك إلا سماع الرعد بأذنه ورؤية النبات والمطر بعينيه ، كلا لو فتح بصر البصيرة لقرأ على كل قطرة ورقة خطاّ بالقلم الإلهي تعلم أنها رزق فلان في وقت كذا ، ثم انظر إلى المعادن لحاجات الفقير إلى المصالح فمنها مودع كالرصاص والحديد ومنها مصنوع بسبب غيره كالأرض السبخة يجمع فيها ماء المطر فيصير ملحاً ، وانظر إلى انقسام الحيوانات ما بين طائر وماش وإلهامها ما يصلحها، وانظر إلى بعد ما بين السماء والأرض كيف ملأ ذلك الفراغ هواء لتستنشق منه الأرواح وتسبح الطير في تياره إذا طارت ،وانظر بفكرك إلى سعة البحر وتسخير الفلك فيه وما فيه من دابة .
قال يحيى بن أبي كثير خلق الله ألف أمة فأسكن ستمائة في البحر وأربعمائة في البر واعجبا لك لو رأيت خطأ مستحسن الرقم لأدركك الدهش من حكمة الكاتب وأنت ترى رقوم القدرة ولا تعرف الصانع فإن لم تعرفه بتلك الصنعة فتعجب كيف أعمى بصيرتك مع رؤية بصرك .
(فضل التفكر :(1/164)
الحمد لله الذي ارتفع فوق العالمين ذاتاً وقدراً.. وتمجد فوق خلقه وعلاهم عزة وقهراً.. وأمر بإعمال التدبر في آياته ومخلوقاته قلباً وفكراً فصارت قلوب الطالبين في بيداء كبريائه حيرى .. كلما اهتزت لنيل مطلوبها ردتها سُبحات الجلال قسراً .. وإذا همت بالانصراف آيسة نوديت من سرادقات الجمال صبراً صبراً.. ثم قيل لها أجيلي في ذل العبودية منك فكراً.. وإن طلبتِ وراء الفكر في صفاتكِ أمراً..فانظري في نعم الله تعالى وأياديه كيف توالت عليكِ تترى.. وجددي لكل نعمة منها ذكراً وشكراً.. وتأملي في بحار المقادير كيف فاضت على العالمين خيراً وشراً ونفعاً وضراً وعسراً ويسراً وفوزاً وخسراً وجبراً وكسراً وطياً ونشراً وإيماناً وكفراً وعرفاناً ونكراً.. ، والحمد لله الذي جعل لنا فيما خلق تفكراً وأمراً عظيماً وأنعامه تتوالى علينا وتترى .. والصلاة على محمد سيد ولد ابن آدم وإن كان لم يعد سيادته فخراً.. صلاة تبقى لنا في عرصات القيامة عدة وذخراً.. وعلى آله وصحبه الذين أصبح كل واحد منهم في سماء الدين بدراً.. ولطوائف المسلمين صدراً.. وسلم تسليماً كثيراً.. أما بعد..
فإن التفكر من أعمال القلوب العظيمة وهو مفتاح الأنوار ومبدأ الإبصار و شبكة العلوم والفهوم وأكثر الناس قد عرفوا فضله ولكن جهلوا حقيقته وثمرته وقليل منهم الذي يتفكر ويتدبر وقد أمر الله تعالى في التفكر والتدبر في كتابه العزيز في مواضع لا تحصى و أثنى على المتفكرين قال تعالى: (الّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكّرُونَ فِي خَلْقِ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ رَبّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النّارِ) [ آل عمران : 191](1/165)
(حديث عبيد بن عمير رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب ) أنه قال لعائشة رضي الله عنها أخبرينا بأعجب شيء رأيته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال : فسكتت ثم قالت لما كان ليلة من الليالي قال يا عائشة ذريني أتعبد الليلة لربي ، قلت والله إني أحب قربك وأحب ما يسرك ، قالت : فقام فتطهر ثم قام يصلي، قالت فلم يزل يبكي حتى بل حِجْرَه ، قالت وكان جالسا فلم يزل يبكي صلى الله عليه وسلم حتى بل لحيته،
قالت ثم بكى حتى بل الأرض فجاء بلال يؤذنه بالصلاة فلما رآه يبكي قال يا رسول الله تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر قال : أفلا أكون عبدا شكورا ،لقد نزلت علي الليلة آية ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها (إِنّ فِي خَلْقِ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلاَفِ الْلّيْلِ وَالنّهَارِ لاَيَاتٍ لاُوْلِي الألْبَابِ) [ آل عمران : 190]
ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها.
[*] وعن محمد بن واسع أن رجلاً من أهل البصرة ركب إلى أم ذر بعد موت أبي ذر فسألها عن عبادة أبي ذر فقالت : "كان نهاره أجمع في ناحية البيت يتفكر".
[*] قال الحسن:" تفكر ساعة خير من قيام ليلة".
[*] قال الفضيل:" الفكر مرآة تريك حسناتك وسيئاتك".
قيل لإبراهيم إنك تطيل الفكر فقال:" الفكرة مخ العقل".
[*] قال سفيان بن عيينة : "إذا المرء كانت له فكرة؛ ففي كل شيء له عبرة" .
(وقال أيضاً : التفكر مفتاح الرحمة، ألا ترى أنه يتفكر فيتوب.
[*] وقال الحسن: "من لم يكن كلامه حكمة فهو لهو، و من لم يكن سكوته تفكراً فهو سهو، ومن لم يكن نظره اعتباراً فهو لهو".
وفي قوله تعالى : قال تعالى: (سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الّذِينَ يَتَكَبّرُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقّ ) [ الأعراف : 146]
قال : أمنع قلوبهم التفكر في أمري .
وكان عدد من أهل العلم والحكمة يطيلون الجلوس والتفكر.(1/166)
[*] وقال عبد الله بن المبارك يوماً لسهل بن عدي لما رآه ساكتاً متفكراً: أين بلغت؟قال: الصراط!
[*] وقال بشر :" لو تفكر الناس في عظمة الله ما عصوا الله عز وجل".
[*] وقال ابن عباس : "ركعتان مقتصدتان في تفكر خيرٌ من قيام ليلة بلا قلب".
وبينما كان أبو شريح يمشي إذ جلس فتقنع بكسائه فجعل يبكي فقيل له ما يبكيك؟ قال:" تفكرت في ذهاب عمري وقلة عملي واقتراب أجلي".
[*] وقال أبو سليمان : "عودوا أعينكم البكاء وقلوبكم التفكر".
[*] وقال :" الفكر في الدنيا حجاب عن الآخرة و عقوبة لأهل الولاية، والفكر في الآخرة يورث الحكمة ويحي القلوب. ومن الذكر يزيد الحب ومن التفكر يزيد الخوف".
[*] وقال ابن عباس: "التفكر في الخير يدعو إلى العمل به والندم على الشر يدعو إلى تركه. وإذا كان هم العبد وهواه في الله عز وجل جعل الله صمته تفكراً وكلامه حمداً" .
[*]وقال الحسن:"إن أهل العقل لم يزالوا يعودون بالذكر على الفكر ، وبالفكر على الذكر حتى استنطقوا قلوبهم فنطقت بالحكمة".
[*] وكان داود الطائي رحمه الله على سطح في ليلة قمراء فتفكر في ملكوت السموات والأرض وهو ينظر إلى السماء ويبكي حتى وقع في دار جار له، فوثب صاحب الدار من فراشه وبيده سيف ظن أنه لصّ، فلما نظر إلى داود رجع ووضع السيف وقال من ذا الذي طرحك من السطح ، قال: ما شعرت بذلك.
وأشرف المجالس وأعلاها الجلوس مع الفكرة في التأمل في أسماء الله وصفاته، وجنته وناره ، و نعيمه وعذابه ، وآخرته وآلائه وآياته المسطورة في كتابه والمنثورة في كونه وما خلق سبحانه و تعالى ، وما ألذ هذه المجالس وما أحلاها وما أطيبها لمن رزقها،
[*] وقال الشافعي رحمه الله: استعينوا على الكلام بالصمت وعلى الاستنباط بالفكر. وكان الشافعي رحمه الله : من أقوى الناس عقلاً وأجودهم استنباطاً، ومن القلائل الذين مروا في الأمة الإسلامية بهذه المنزلة،(1/167)
(وقال أيضاً: صحة النظر في الأمور نجاة من الغرور والعزم على الرأي سلامة من التفريط والندم والفكر يكشفان عن الحزم والفطنة و مشاورة الحكماء ثبات في النفس وقوة في البصيرة ، ففكر قبل أن تعزم وتدبر قبل أن تهجم وشاور قبل أن تقدم.
(وقال أيضاً : الفضائل أربع، إحداها الحكمة وقوامها الفكرة والثانية العفة وقوامها التغلب على الشهوة والثالث القوة و قوامها التغلب على الغضب ، والرابعة العدل وقوامه في اعتدال قوى النفس .
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان الثوري قال :بصر العينين من الدنيا، وبصر القلب من الآخرة، وإن الرجل ليبصر بعينه فلا ينتفع ببصره وإذا أبصر بالقلب انتفع.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن يوسف بن أسباط: قال لي سفيان الثوري وأنا وهو في المسجد: يا يوسف ناولني المطهرة أتوضأ، فناولته، فأخذها بيمينه ووضع يساره على خده، ونمت فاستيقظت وقد طلع الفجر فنظرت إليه فإذا المطهرة في يده على حالها، فقلت: يا أبا عبد الله قد طلع الفجر، قال: لم أزل منذ ناولتني المطهرة أتفكر في الآخرة إلى هذه الساعة.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن شقيق بن إبراهيم قال : المؤمن مشغول بخصلتين، والمنافق مشغول بخصلتين، المؤمن بالعبر والتفكر، والمنافق مشغول بالحرص والأمل .
(صورٌ مشرقة من تفكر الصحابة - رضي الله عنهم - :
(تفكر الصحابي أبي ريحانة - رضي الله عنه - :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ(1/168)
أخرج ابن المبارك في الزهد عن ضَمْرة بن حبيب عن مولى لأبي ريحانة الصحابي رضي الله عنه أن أبا ريحانة قفل من غزوة له، فتعشى ثم توضأ وقام إلى مسجده فقرأ سورة، فلم يزل في مكانه حتى أذَّن المؤذن، فقالت له امرأته: يا أبا ريحانة غزوت فتعبت، ثم قدمت أفما كان لنا نصيب؟ قال: بلى والله، لكن لو ذكرتك لكان لك عليَّ حق، قالت: فما الذي شغلك؟ قال: التفكر فيما وصف الله في جنته وذاتها حتى سمعت المؤذن. كذا في الإصابة .
(تفكر أبي ذر - رضي الله عنه - :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
وأخرج أبو نُعيم في الحلية عن محمد بن واسع: أن رجلاً من البصرة ركب إلى أم ذرَ رضي الله عنها بعد وفات أبي ذر رضي الله عنه يسألها عن عبادة أبي ذر، فأتاها فقال: جئتك لتخبريني عن عبادة أبي ذر رضي الله تعالى عنه، قالت: كان النهار أجمع خالياً يتفكَّر.
(تفكر أبي الدرداء - رضي الله عنه - :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ(1/169)
وأخرج أبو نُعيم في الحلية عن عون بن عبد الله بن عتبة قال: سألت أم الدرداء رضي الله عنها ما كان أفضل عمل أبي الدرداء؟ قالت: التفكر والاعتبار، وعنده أيضاً عنه قال: قيل لأم الدرداء: ما كان أكثر عمل أبي الدرداء رضي الله عنه؟ قالت: الاعتبار. وعن سالم بن أبي الجَعْد نحوه إلا أنه قال: فقالت: التفكر، وأخرجه أحمد نحو الحديث الأول عن عون كما في صفة الصفوة ، وعندهما أيضاً عن أبي الدرداء أنه قال: تفكُّر ساعة خير من قيام ليلة، وأخرجه ابن سعد مثله، وعند ابن عساكر عن أبي الدرداء قال: من الناس مفاتيح للخير مغاليق للشر ولهم بذلك أجر، ومن الناس مفاتيح للشر مغاليق للخير وعليهم بذلك إصْر، وتفكر ساعة خير من قيام ليلة. كذا في الكنز . وأخرج أبو نُعيم في الحلية عن حبيب بن عبد الله أن رجلاً أتى أبا الدرداء وهو يريد الغزو فقال: يا أبا الدرداء عن حبيب بن عبد الله أن رجلاً أتى أبا الدرداء وهو يريد الغزو فقال: يا أبا الدرداء أوصني، فقال: اذكر الله في السّراء يذكرك في الضرّاء، وإذا أشرفت على شيء من الدنيا فانظر إلى ما يصير. وعنده أيضاً عن سالم بن أبي الجَعْد قال: مرّ ثوران على أبي الدرداء وهما يعملان، فقام أحدهما ووقف الآخر فقال أبو الدرداء: إنَّ في هذا لمعتبراً؛ وأخرج أحمد أيضاً الحديث الأول عن حبيب نحوه، كما في صفة الصفوة .
( فصلٌ في منزلة التذكر :
[*](عناصر الفصل :
(فضل منزلة التذكر :
(أبنية التذكر :
وهاك تفصيل ذلك في إيجازٍ غيرِ مُخِّل : (
(فضل منزلة التذكر :
مسألة : ما هي فضل منزلة التذكر ؟(1/170)
(لمنزلة التذكر فضلٌ عظيم وأجرٌ جسيم ، فهي نعمةٌ عظيمة ، وَمِنَّةٌ جسيمة ، نعمة كبرى، ومنحة عظمى ، ، له فضائل لا تحصى، وثمرات لا تعد ، وله أهمية كبرى، وثمرات جليلة، وفضائل عظيمة، وأسرار بديعة ، وهو طريق النجاة، وسلم الوصول، ومطلب العارفين، ومطية الصالحين، ومن أعظم ما تكلم عنها العالم الحبر العلامة الضياء اللامع والنجم الساطع الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى ، فقد كان من حلية الأولياء وأعلام النبلاء وحراس العقيدة وحماة السنة وأشياع الحق وأنصار دين الله عز وجل ، حاملُ لواء السنة وناصرها وقامع البدعة ودامغها .
[*](قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين :
ثم ينزل القلب منزل (التذكر) وهو قرين الإنابة قال الله تعالى 40 :13 {وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَنْ يُنِيبُ} وقال تعالى: (تَبْصِرَةً وَذِكْرَىَ لِكُلّ عَبْدٍ مّنِيبٍ) [ق : 8]
وهو من خواص أولي الألباب كما قال تعالى: {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ} [الرعد :19]
وقال تعالى : 2 :269 {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُو الأَلْبَابِ}[البقرة :269]
و(التذكر) و(التفكر) منزلان يثمران أنواع المعارف وحقائق الإيمان والإحسان والعارف لا يزال«يعود بتفكره على تذكره وبتذكره على تفكره»حتى يفتح قُفْلَ قلبه بإذن الفتاح العليم .
قال الحسن البصري: "ما زال أهل العلم يعودون بالتذكر على التفكر وبالتفكر على التذكر ويناطقون القلوب حتى نطقت".
قال صاحب المنازل :
"التذكر فوق التفكر لأن التفكر طلب والتذكر وجود".
يريد أن التفكر التماس الغايات من مباديها كما قال: "التفكر تلمس البصيرة واستدراك البغية".
وأما قوله: "التذكر وجود" فلأنه يكون فيما قد حصل بالتفكر ثم غاب عنه بالنسيان فإذا تذكره وجده فظفر به.(1/171)
و(التذكر) تفعل من الذكر وهو ضد النسيان وهو حضور صورة المذكور العلمية في القلب واختير له بناء التفعل لحصوله بعد مهلة وتدرج كالتبصر والتفهم والتعلم.
فمنزلة (التذكر) من (التفكر) منزلة حصول الشيء المطلوب بعد التفتيش عليه ولهذا كانت آيات الله المتلوة والمشهودة ذكرى كما قال في المتلوة {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرائيلَ الْكِتَابَ، هُدىً وَذِكْرَى لأُولِي الأَلْبَابِ} [غافر : 54] وقال عن القرآن: {وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} [الحاقة : 48]
وقال في آياته المشهودة: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ، وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ، تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ}[ق/5 : 8]
ف(التبصر) آلة البصر و(التذكرة) آلة الذكر وقرن بينهما وجعلهما لأهل الإنابة لأن العبد إذا أناب إلى الله أبصر مواقع الآيات والعبر فاستدل بها على ما هي آيات له فزال عنه الإعراض بالإنابة والعمى بالتبصرة والغفلة بالتذكرة لأن التبصرة توجب له حصول صورة المدلول في القلب بعد غفلته عنها فترتب المنازل الثلاثة أحسن ترتيب ثم إن كلا منها يمد صاحبه ويقويه ويثمره.
وقال تعالى في آياته المشهودة: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ}[ق/36، 37]
والناس ثلاثة: رجل قلبه ميت فذلك الذي لا قلب له فهذا ليست هذه الآية ذكرى في حقه.(1/172)
الثاني: رجل له قلب حي مستعد لكنه غير مستمع للآيات المتلوة التي يخبر بها الله عن الآيات المشهودة: إما لعدم ورودها أو لوصولها إليه ولكن قلبه مشغول عنها بغيرها فهو غائب القلب ليس حاضرا فهذا أيضا لا تحصل له الذكرى مع استعداده ووجود قلبه.
والثالث : رجل حي القلب مستعد تليت عليه الآيات فأصغى بسمعه وألقى السمع وأحضر قلبه ولم يشغله بغير فهم ما يسمعه فهو شاهد القلب ملق السمع فهذا القسم هو الذي ينتفع بالآيات المتلوة والمشهودة.
فالأول: بمنزلة الأعمى الذي لا يبصر.
والثاني: بمنزلة البصير الطامح ببصره إلى غير جهة المنظور إليه فكلاهما لا يراه.
والثالث: بمنزلة البصير الذي قد حدق إلى جهة المنظور وأتبعه بصره وقابله على توسط من البعد والقرب فهذا هو الذي يراه.
فسبحان من جعل كلامه شفاء لما في الصدور.
(أبنية التذكر :
مسألة : ما هي أبنية التذكر ؟
[*](قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين :
قال صاحب المنازل:
"أبنية التذكر ثلاثة : «الانتفاع بالعظة» «والاستبصار بالعبرة» «والظفر بثمرة الفكرة"».
(الانتفاع بالعظة: هو أن يقدح في القلب قادح الخوف والرجاء فيتحرك للعمل طلبا للخلاص من الخوف ورغبة في حصول المرجوّ.
و(العظة) هي الأمر والنهي المعروف بالترغيب والترهيب.
و(العظة) نوعان: عظة بالمسموع وعظة بالمشهود فالعظة بالسموع: الانتفاع بما يسمعه من الهدى والرشد والنصائح التي جاءت على يد الرسل وما أوحى إليهم وكذلك الانتفاع بالعظة من كل ناصح ومرشد في مصالح الدين والدنيا.
و(العظة) بالمشهود: الانتفاع بما يراه ويشهده في العالم من مواقع العبر وأحكام القدر ومجاريه وما يشاهده من آيات الله الدالة على صدق رسله.(1/173)
(وأما استبصار العبرة: فهو زيادة البصيرة عما كانت عليه في منزل التفكر بقوة الاستحضار لأن التذكر يعتقل المعاني التي حصلت بالتفكر في مواقع الآيات والعبر فهو يظفر بها بالتفكر وتنصقل له وتنجلي بالتذكر فيقوي العزم على السير بحسب قوة الاستبصار لأنه يوجب تحديد النظر فيما يحرك المطلب إذ الطلب فرع الشعور فكلما قوي الشعور بالمحبوب اشتد سفر القلب إليه وكلما اشتغل الفكر به ازداد الشعور به والبصيرة فيه والتذكر له.
(وأما الظفر بثمرة الفكرة: فهذا موضع لطيف.
(وللفكرة ثمرتان : حصول المطلوب تماما بحسب الإمكان والعمل بموجبه رعاية لحقه فإن العقل حال التفكر كان قد كل بأعماله في تحصيل المطلوب فلما حصلت له المعاني وتخمرت في القلب واستراح العقل: عاد فتذكر ما كان حصله وطالعه فابتهج به وفرح به وصحح في هذا المنزل ما كان فاته في منزل التفكر لأنه قد أشرف عليه في مقام التذكر الذي هو أعلى منه فأخذ حينئذ في الثمرة المقصودة وهي العمل بموجبه مراعاة لحقه فإن العمل الصالح: هو ثمرة العلم النافع الذي هو ثمرة التفكر.
وإذا أردت فهم هذا بمثال حسي: فطالب المال ما دام جادا في طلبه فهو في كلال وتعب حتى إذا ظفر به استراح من كد الطلب وقدم من سفر التجارة فطالع ما حصله وأبصره وصحح في هذه الحال ما عساه غلط فيه في حال اشتغاله بالطلب فإذا صح له وبردت غنيمته له أخذ في صرف المال في وجوه الانتفاع المطلوبة منه والله أعلم .
( فصلٌ في منزلة الاعتصام :
(منزلة الاعتصام :(1/174)
(للاعتصام فضلٌ عظيم وأجرٌ جسيم ، فهي نعمةٌ عظيمة ، وَمِنَّةٌ جسيمة ، نعمة كبرى، ومنحة عظمى ، ، له فضائل لا تحصى، وثمرات لا تعد ، وله أهمية كبرى، وثمرات جليلة، وفضائل عظيمة، وأسرار بديعة ، وهو طريق النجاة، وسلم الوصول، ومطلب العارفين، ومطية الصالحين، ومن أعظم ما تكلم عنها العالم الحبر العلامة الضياء اللامع والنجم الساطع الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى ، فقد كان من حلية الأولياء وأعلام النبلاء وحراس العقيدة وحماة السنة وأشياع الحق وأنصار دين الله عز وجل ، حاملُ لواء السنة وناصرها وقامع البدعة ودامغها .
[*](قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين :
ثم ينزل القلب منزل الاعتصام .
هو نوعان: «اعتصام بالله» «واعتصام بحبل الله»
قال الله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران : 103]
وقال: {وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ}[الحج : 78]
و(الاعتصام) افتعال من العصمة وهو التمسك بما يعصمك ويمنعك من المحذور والمخوف فالعصمة: الحمية والاعتصام: الاحتماء ومنه سميت القلاع: العواصم لمنعها وحمايتها.
ومدار السعادة الدنيوية والأخروية: على الاعتصام بالله والاعتصام بحبله ولا نجاة إلا لمن تمسك بهاتين العصمتين.
(فأما الاعتصام بحبله: فإنه يعصم من الضلالة .
(والاعتصام به: يعصم من الهلكة .
فإن السائر إلى الله كالسائر على طريق نحو مقصده فهو «محتاج إلى هداية الطريق والسلامة فيها» فلا يصل إلى مقصده إلا بعد حصول هذين الأمرين له فالدليل كفيل بعصمته من الضلالة وأن يهديه إلى الطريق والعدة والقوة والسلاح التي بها تحصل له السلامة من قطاع الطريق وآفاتها.
فالاعتصام بحبل الله: يوجب له الهداية واتباع الدليل .(1/175)
والاعتصام بالله يوجب له القوة والعدة والسلاح والمادة التي يستلئم بها في طريقه ولهذا اختلفت عبارات السلف في الاعتصام بحبل الله بعد إشارتهم كلهم إلى هذا المعنى.
(فقال ابن عباس : "تمسكوا بدين الله".
(وقال ابن مسعود: "هو الجماعة" وقال: "عليكم بالجماعة فإنها حبل الله الذي أمر به وإن ما تكرهون في الجماعة والطاعة خير مما تحبون في الفرقة".
(وقال مجاهد وعطاء: "بعهد الله"
(وقال قتادة والسدي وكثير من أهل التفسير: "هو القرآن".
(وقال مقاتل : "بأمر الله وطاعته ولا تفرقوا كما تفرقت اليهود والنصارى".
(ثم ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله الحديث الآتي :
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن الله يرضى لكم ثلاثا ويكره لكم ثلاثا فيرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ويكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال .
( فصلٌ في منزلة الفرار :
(منزلة الفرار :
(للفرارِ فضلٌ عظيم وأجرٌ جسيم ، فهي نعمةٌ عظيمة ، وَمِنَّةٌ جسيمة ، نعمة كبرى، ومنحة عظمى ، ، له فضائل لا تحصى، وثمرات لا تعد ، وله أهمية كبرى، وثمرات جليلة، وفضائل عظيمة، وأسرار بديعة ، وهو طريق النجاة، وسلم الوصول، ومطلب العارفين، ومطية الصالحين، ومن أعظم ما تكلم عنها العالم الحبر العلامة الضياء اللامع والنجم الساطع الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى ، فقد كان من حلية الأولياء وأعلام النبلاء وحراس العقيدة وحماة السنة وأشياع الحق وأنصار دين الله عز وجل ، حاملُ لواء السنة وناصرها وقامع البدعة ودامغها .
[*](قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين :
ومن منازل {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} "منزلة الفرار".
قال الله تعالى: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّه}[الذاريات : 50](1/176)
وحقيقة الفرار: الهرب من شيء إلى شيء ،وهو نوعان: فرار السعداء وفرار الأشقياء.
(ففرار السعداء: الفرار إلى الله عز وجل .
(وفرار الأشقياء: الفرار منه لا إليه.
وأما الفرار منه إليه: ففرار أوليائه .
قال ابن عباس في قوله تعالى : {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} فروا منه إليه واعملوا بطاعته وقال سهل بن عبد الله: "فروا مما سوى الله إلى الله"
وقال آخرون: "اهربوا من عذاب الله إلى ثوابه بالإيمان والطاعة".
{ تنبيه } :( إن الذي يمعن النظر في آية الذاريات قال تعالى: (فَفِرّوَاْ إِلَى اللّهِ إِنّي لَكُمْ مّنْهُ نَذِيرٌ مّبِينٌ) [الذاريات : 50] يجد أنها من أعجب الآيات وذلك لان «الفرار يكون من وليس إلى» لأن الذي يفر خائف هارب ، كما في الآيات الآتية : (
قال تعالى: (لَوِ اطّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوْلّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً) [الكهف: 18]
و قال تعالى: (قُلْ إِنّ الْمَوْتَ الّذِي تَفِرّونَ مِنْهُ فَإِنّهُ مُلاَقِيكُمْ) [الجمعة: 8]
«الله تعالى هو الوحيد الذي تفر منه إليه»
لأن الله تعالى قال : (يَمَعْشَرَ الْجِنّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ فَانفُذُواْ لاَ تَنفُذُونَ إِلاّ بِسُلْطَانٍ) [الرحمن: 33]
هذا تمام الإحاطة بالعباد ، فإذا أردت أن تفر منه إلى من تفر؟؟؟
وهو محيط بكل شيء ستفر منه إليه ، ولذلك فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - يأمرنا أن نعلن الفرار كل يوم منه إليه كما في الحديث الآتي : ((1/177)
(( حديث البراء رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوئك للصلاة ثم اضطجع على شقك الأيمن ثم قل : اللهم إني أسلمت نفسي إليك وألجأت ظهري إليك وفوضتُ أمري إليك ، رغبةً ورهبةً إليك ، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك ، اللهم آمنت بكتابك الذي أنزلت وبنبيك الذي أرسلت ، فإن مت من ليلتك فأنت على الفطرة ، واجعلهن آخر ما تتكلمُ به .
(فبقولنا هذا الذكر قبل النوم فإننا نعلن الفرار إلى الله .
( فصلٌ في منزلة الرياضة :
[*](عناصر الفصل :
(تعريف منزلة الرياضة :
(الفرق بين الرياضة و الترويض :
(فضل منزلة الرياضة :
(درجات الرياضة :
وهاك تفصيل ذلك في إيجازٍ غيرِ مُخِّل : (
( تعريف منزلة الرياضة :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ
«منزلة الرياضة هي تمرين النفس على الصدق والإخلاص»
[*](قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين :
ومن منازل {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}: "منزلة الرياضة".
هي تمرين النفس على الصدق والإخلاص .أهـ .
قال صاحب المنازل: "هي تمرين النفس على قبول الصدق".
وهذا يراد به أمران :
(تمرينها على قبول الصدق إذا عرضه عليها في أقواله وأفعاله وإرادته فإذا عرض عليها الصدق قبلته وانقادت له وأذعنت له.
(والثاني : قبول الحق ممن عرضه عليه قال الله تعالى : {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [الزمر : 33 ]
«فلا يكفي صدقك بل لا بد من صدقك وتصديقك للصادقين» فكثير من الناس يصدق ولكن يمنعه من التصديق كبر أو حسد أو غير ذلك.أهـ
ومما يجب أن يُعلم أن الرياضة تحتاج إلى صبر وطول نفس .
(قال أحد العلماء :(1/178)
تحضرني قصة أحد علماء الأزهر الكبار الذي صار شيخ الأزهر في أول حياته طلب العلم فلم يفلح ثم عزف عن العلم وهو جالس يوما في مكان ، فإذا بنملة تصعد إلى جدار ، فلما وصلت إلى مكان ما وقعت ، أعادت الكرة فوقعت ، أعادت الكرة فوقعت ، فعدّ محاولاتها فكانت ثلاثا و ثمانين محاولة ، فهذه النملة علّمته درسا لا يُنسى ، فالإنسان ينبغي أن يصمِّم ، لي قريب أمه حريصة على أن ينال أعلى درجة ، ففي الشهادة الثانوية لم ينجح ، أصرّت على أن يعيد الامتحان مرة تلو المرة حتى نجح في المرة الخامسة ولازالت أمه تشد عضده إلى أن أصبح طبيباً ناجحاً .
أخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجته ومدمن قرع الأبواب أن يلجا
فالحاصل أن الإنسان يحتاج إلى تصميم و إلى صدق في الطلب ، فالرياضة تعويد النفس على الصدق والإخلاص ، الصدق له معان عديدة ، من معاني الصدق أن يأتي كلامك مطابقا للواقع ، هذا الصدق الإخباري ، و المعنى الأخطر أن يكون واقعك مطابقا لقولك ، أن يأتي القول مطابقا للواقع هذا صدق الإخبار ، أما أن يأتي العمل مطابقا للواقع هذا صدق التطبيق ، لذلك قال تعالى: (يََأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اتّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصّادِقِينَ) [التوبة: 119]
هنا ليس معنى " الصادقين " هم الذين يصدقون إذا حدّثوا ، الذين تأتي أعمالهم مطابقة لأقوالهم «فكلٌّ يدّعي أنه مؤمن بالآخرة ، لكن لو تفحصت أعمال الناس لا تجد أثرا لهذا الادّعاء إطلاقا» ، فهؤلاء يكذبون بأعمالهم لا بأقوالهم ، هم يتكلمون كلاما طيبا ، وإذا أخبروك أخبروك صادقين ، و لكن أعمالهم لا تؤكد صدق كلامهم ، فمنزلة الرياضة التمرين على الصدق و الإخلاص ، عملك مطابق لادعائك و قولك ، و يأتي الإخلاص ليبيِّن نزاهتك عن مطلب سوى الله عزوجل .
(قال أحد العلماء :(1/179)
سألني أخ من ما علامة الإخلاص ؟ قلت له : علامة الإخلاص أن يستوى ظاهرك مع باطنك و أن تستوي علانيتك مع سرك ، و أن تستوي خلوتك مع جلوتك ، أنت إنسان واحد ، في خلوتك وفي جلوتك ، في بيتك و أمام الناس ، في سرك و علانيتك ، أروع ما في الإنسان هذا التوحُّد ، لا يوجد ازدواجية ، للمنافق موقفان ، موقف معلَن وموقف حقيقي ، قال تعالى :
قال تعالى: (وَإِذَا لَقُواْ الّذِينَ آمَنُواْ قَالُوَا آمَنّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىَ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوَاْ إِنّا مَعَكْمْ إِنّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ وَيَمُدّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) [البقرة 14: 15]
إذًا التدريب على أن تأتي أعمالك مطابقة لأقوالك ، كأن تقول : أنا مؤمن بالآخرة ، هنا ينبغي ألاَ تقبل درهما واحدا من حرام ، النبي عليه الصلاة و السلام رأى على سريره تمرة ، فقال : يا عائشة لولا أن تكون من تمر الصدقة لأكلتها ، تمرة في بيته و على السرير ، و لكن داخله الشك لعلها من تمر الصدقة ، لذلك
قالوا : ركعتان من ورع خيرٌ من ألف ركعة من مخلط ، و قالوا : من لم يصده ورعه عن معصية الله إذا خلا لم يعبأ الله بشيٍْ من عمله .
وعلى هذا فإذا كانت أعمالك تأتي مطابقة لأقوالك فأنت صادق ، يستوي سرك مع علانيتك وظاهرك مع باطنك وخلوتك مع جلوتك فأنت مخلص ، و علامة أخرى للإخلاص ، أنك إذا فعلت عملا طيبا تبتغي به وجه الله وحده لا تعبأ كثيرا بمدح الناس لك ، بل لا تستجدي منهم المديح ، يستوي عندك أنهم ذكروا أو لم يذكروا ، شكروا أو لم يشكروا ، قدّروا أو لم يقدِّروا ، لا تعلِّق أهمية على ردود الفعل ، لكن ليس معنى هذا ألاّ تبالي بسمعتك ، النبي عليه الصلاة و السلام كان حريصاً على سمعته ، كما في الحديث الآتي : ((1/180)
( حديث صفية بنت حيي رضي الله عنها الثابت في الصحيحين ) قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم معتكفا فأتيته أزوره ليلا، فحدثته ثم قمت فانقلبت، فقام معي ليقلبني، وكان مسكنها في دار أسامة بن زيد، فمر رجلان من الأنصار، فلما رأيا النبي صلى الله عليه وسلم أسرعا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (على رسلكما، إنها صفية بنت حيي). فقالا: سبحان الله يا رسول الله، قال: (إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما سوءا، أو قال: شيئا).
[*] قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح :
(وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما سوءا، أو قال: شيئا ) خشيَ عليهما أن يوسوس لهما الشيطان ذلك لأنهما غير معصومين فقد يفضى بهما ذلك إلى الهلاك فبادر إلى اعلامهما حسما للمادة وتعليما لمن بعدهما إذا وقع له مثل ذلك . أهـ
وهذا درس بليغ لنا ، «عوِّد نفسك أن توضِّح و تبيِّن» ،
(قال أحد العلماء :
أذكر إنساناً جاء إلى محله التجارى امرأة رحّب بها كثيراً ، عنده ضيف في المكتب ، قال لي : غريب ، ليس هذا من أخلاق فلان ، قلت له : هذه أخته يقينا ، أنا لا أعرفها ، و لكني أعرفه ورعا ، كان الأولى أن يدخل إلينا و يقول : جاءت أختي ، حتى لا يستغرب الضيف هذا الترحيب ، لأن المؤمن يتكلم مع المرأة التي تحل له كلاماً عادياً جدا دون زيادة ، ودون إلانة قول. إذن هناك صدق الأقوال و صدق الأعمال ، و حيثما وردت كلمة الصادقين في الأعمّ الأغلب تعني صدق الأعمال ، و قلما تجد إنسانا تأتي أفعاله مطابقة لأقواله .(1/181)
(و مستوى آخر من الصدق ، ألاّ ترد الحق ، قد يأتي إنسان يقول لك : هذا الذي قلته غير صحيح ، و الصواب هو كذا ، و الدليل هو الآية و الحديث ، فإن لم تقل له جزاك الله خيرا ، فقد أكرمتني بهذه النصيحة ، فأنت لست صادقا ، إذا كان في الإمكان أن تردّ الحقّ و أن تستنكف عن قبوله و أن تستعلي عن أن تأخذه من إنسان تظنه دونك ، لكن المؤمن الصادق يتعلم و لو من غلام أبو حنيفة النعمان كان يمشي في الطريق فرأى غلاما أمامه حفرة ، قال له : يا غلام
إياك أن تسقط ، فقال له الغلام : بل أنت يا إمام إياك أن تسقط ، إني إن سقطت سقطت وحدي ، وإنك إن سقطت سقط معك العالم .
إذا كان الإنسان قدوة وأخطأ يكون ارتكب عملا خطيرا جدا ، لأن هذا المثل الأعلى اهتز ، أن تتعامل مع ألف إنسان ، يصيبون و يخطئون ، ولكن إذا كان في ذهنك مثل أعلى ، تعلق عليه أملاً كبيراً تراه إنساناً مستقيماً ، إذا أخطأ فتلك قاصمة الظهر ، أنت ترضى أن يخطئ الناس جميعاً ، إلا مثلك الأعلى الذي تقتدي به و تراه في موطن منزّه عن كل خطأ ، فإن رأيته يخطئ عمداً فتلك الطامة الكبرى ، لا أحد معصوم إلا النبي ، المؤمن غير معصوم ، و لكنه لا يرتكب الكبائر وليس معنى هذا أنه يصر على الصغائر ، المؤمن غير معصوم ، لا يمكن أن يصر على صغيرة مهما بدت صغيرة ، وقّافا عند كتاب الله ، سريعا ما يتراجع و يستغفر و يشكر الذي نصحه ، لذلك قالوا : النبي معصوم و الولي محفوظ ، النبي لا يفعل خطأ ، بينما الولي لا يضره خطؤه ، لأنه سريعا ما يتوب منه و يستغفر ، قال تعالى: (وَالّذِي جَآءَ بِالصّدْقِ وَصَدّقَ بِهِ أُوْلََئِكَ هُمُ الْمُتّقُونَ) [الزمر: 33](1/182)
جاء بالصدق أي أفعاله تؤكد أقواله ، كان صادقاً ، وعظمة الأنبياء في صدقهم ، الأنبياء فعلوا المعجزات ، لا لأنهم فوق البشر ، هم بشر ، ولولا أنه تجري عليهم خصائص البشر لما كانوا سادة البشر ، و لكن الأنبياء فعلوا ما قالوا ، وأيُّ إنسان يفعل ما يقول له تأثير يشبه السحر ، موقف عظيم في معركة بدر كانت الرواحل قليلة والعدد قريب من ألف ، و الرواحل ثلاثمائة ، فالنبي أعطى توجيها " كل ثلاثة على راحلة ، قال: وأنا وعلي و أبو لبابة على راحلة ، القائد العام للجيش يعامل نفسه كما يعامل الجندي ، فركب الناقة وانتهت نوبته في الركوب ، و جاء دور عليّ و أبي لبابة ، فتوسلا إليه أن يبقى راكبا ، فقال عليه الصلاة و السلام قولة تكتب بماء الذهب : ما أنتما بأقوى مني على السير ، و لا أنا بأغنى منكما عن الأجر .." أنا مفتقر إلى أجر المشي ، و أنا قوي البنية ، قادر على المسير ، لو تخلق الناس بهذه الأخلاق لكنا في حياة غير هذه الحياة .
(الفرق بين الرياضة و الترويض :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
مسألة : ما الفرق بين الرياضة و الترويض ؟
الجواب :
الفرق بين الرياضة و الترويض فرق كبير جدا ، الوحوش تُروّض ، بينما الإنسان يتريّض فالرياضة من الترييض ، التدريب ، الوحوش تروَّض ، أي تدرَّب بحسب طريقتها ، قد تقول : فلان يده ملطّخة بدماء الجريمة ، و فلان مضرّج بدماء الشهادة ، فالتضريج غير التلطيخ ، الدم الذي يُسفك في حرام أو في جريمة ، نقول : ملطّخ بدم الجريمة ، أما الدم الذي يُبذل في سبيل عقيدة أو هدف نبيل نقول : مضرّج ، فهذه المنزلة أساسها ما ورد عن النبي عليه الصلاة في الحديث الآتي : (
(حديث أبي هريرة في صحيح الجامع) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال إنما العلم بالتعلم و إنما الحلم بالتحلم و من يتحر الخير يعطه و من يتق الشر يُوَقَّه .
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:(1/183)
( إنما العلم ) أي تحصيله
( بالتعلم ) بضم اللام على الصواب كما قاله الزركشي ويروى بالتعليم أي ليس العلم المعتبر إلا المأخوذ عن الأنبياء وورثتهم على سبيل التعليم وتعلمه طلبه واكتسابه من أهله وأخذه عنهم حيث كانوا فلا علم إلا بتعلم من الشارع أو من ناب عنه منابه وما تفيده العبادة والتقوى والمجاهدة والرياضة إنما هو فهم يوافق الأصول ويشرح الصدور ويوسع العقول ثم هو ينقسم لما يدخل تحت دائرة الأحكام ومنه ما لا يدخل تحت دائرة العبادات وإن كان مما يتناوله الإشارة ومنه ما لا تفهمه الضمائر وإن أشارت إليه الحقائق في وضوحه عند مشاهده وتحققه عند متلقيه فافهم قال ابن مسعود تعلموا فإن أحدكم لا يدري متى يحتاج إليه وقال ابن سعد ما سبقنا ابن شهاب للعلم إلا أنه كان يشد ثوبه عند صدره ويسأل وكنا تمنعنا الحداثة وقال الثوري من رق وجهه رق علمه وقال مجاهد لا يتعلم مستحي ولا متكبر وقيل لابن عباس بما نلت هذا العلم قال بلسان سؤول وقلب عقول
( وإنما الحلم بالتحلم ) أي ببعث النفس وتنشيطها إليه قال الراغب : الحلم إمساك النفس عن هيجان الغضب والتحكم إمساكها عن قضاء الوطر إذا هاج الغضب
( ومن يتحر الخير يعطه ) أي ومن يجتهد في تحصيل الخير يعطه اللّه تعالى إياه(1/184)
( ومن يتق الشر يوقه ) زاد الطبراني والبيهقي في روايتيهما ثلاث من كن فيه لم يسكن الدرجات العلى ولا أقول لكم الجنة من تكهن أو استقسم أو ردّه من سفر تطير ( تنبيه ) قال بعضهم : ويحصل العلم بالفيض الإلهي لكنه نادر غير مطرد فلذا تمم الكلام نحو الغالب قال الراغب : الفضائل ضربان نظري وعملي وكل ضرب منها يحصل على وجهين أحدهما بتعلم بشرى يحتاج إلى زمان وتدرب وممارسة ويتقوى الإنسان فيه درجة فدرجة وإن فيهم من يكفيه أدنى ممارسة بحسب اختلاف الطبائع في الذكاء والبلادة ، والثاني يحصل [ ص 570 ] بفيض إلهي نحو أن يولد إنسان عالماً بغير تعلم كعيسى ويحيى عليهما الصلاة والسلام وغيرهما من الأنبياء عليهم السلام الذين حصل لهم من المعارف بغير ممارسة ما لم يحصل لغيرهم وذكر بعض الحكماء أن ذلك قد يحصل لغير الأنبياء عليهم السلام في الفيئة بعد الفيئة وكلما كان يتدرب فقد يكون بالطبع كصبي يوجد صادق اللّهجة وسخياً وجريئاً وآخر بعكسه وقد يكون بالتعلم والعادة فمن صار فاضلاً طبعاً وعادة وتعلماً فهو كامل الفضيلة ومن كان رذلاً فهو كامل الرذيلة . أهـ
(فالإنسان في البدايات ليس حليما لكن يتصنع الحلم ، بعد التصنع المستمر يصبح الحلم عنده طبعا ، كان تكلفا فصار طبعا ، إنسان في الأصل ليس كريما يتصنع الكرم إلى أن ينقلب التصنع إلى طبع ، الإنسان ليس عليما ، يتعلم إلى أن يصبح العلم عنده ثابتا فهذا معنى الحديث إنما العلم بالتعلم ، و إنما الحلم بالتحلم ،......"
فليس هناك علم من دون تعلم ، كما يدّعي بعض الناس أن هناك علما يأتي من قِبل الله مباشرة ، هناك وحي يأتي الأنبياء ، و هناك علم يتأتى من التعلم ، و هناك فهم دقيق لكتاب الله عزوجل ، هذه خصيصة يمنحها الله لبعض عباده الصالحين ، قال تعالى :
(فَفَهّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ) [الأنبياء: 79](1/185)
أن يُؤتى فهما في القرآن ، فهناك وحي ، هذا متعلق بالأنبياء و المرسلين ، و هناك فهم لكتاب الله فضلٌ من الله عزوجل ، و هناك تعلم .
(فضل منزلة الرياضة :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ
وللرياضة فضلٌ عظيم وأجرٌ جسيم ، فهي نعمةٌ عظيمة ، وَمِنَّةٌ جسيمة ، نعمة كبرى، ومنحة عظمى ، ، له فضائل لا تحصى، وثمرات لا تعد ، وله أهمية كبرى، وثمرات جليلة، وفضائل عظيمة، وأسرار بديعة ، وهو طريق النجاة، وسلم الوصول، ومطلب العارفين، ومطية الصالحين لأنها تجعل الإنسان يترقى نحو الأفضل دائماً بتمرين نفسه وترويضها على خصال الخير ، فإن من يتحر الخير يعطه و من يتق الشر يُوَقَّه بنص السنة الصحيحة وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد ، ودرر الفرائد . (
(حديث أبي هريرة في صحيح الجامع) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال إنما العلم بالتعلم و إنما الحلم بالتحلم و من يتحر الخير يعطه و من يتق الشر يُوَقَّه .
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
( إنما العلم ) أي تحصيله(1/186)
( بالتعلم ) بضم اللام على الصواب كما قاله الزركشي ويروى بالتعليم أي ليس العلم المعتبر إلا المأخوذ عن الأنبياء وورثتهم على سبيل التعليم وتعلمه طلبه واكتسابه من أهله وأخذه عنهم حيث كانوا فلا علم إلا بتعلم من الشارع أو من ناب عنه منابه وما تفيده العبادة والتقوى والمجاهدة والرياضة إنما هو فهم يوافق الأصول ويشرح الصدور ويوسع العقول ثم هو ينقسم لما يدخل تحت دائرة الأحكام ومنه ما لا يدخل تحت دائرة العبادات وإن كان مما يتناوله الإشارة ومنه ما لا تفهمه الضمائر وإن أشارت إليه الحقائق في وضوحه عند مشاهده وتحققه عند متلقيه فافهم قال ابن مسعود تعلموا فإن أحدكم لا يدري متى يحتاج إليه وقال ابن سعد ما سبقنا ابن شهاب للعلم إلا أنه كان يشد ثوبه عند صدره ويسأل وكنا تمنعنا الحداثة وقال الثوري من رق وجهه رق علمه وقال مجاهد لا يتعلم مستحي ولا متكبر وقيل لابن عباس بما نلت هذا العلم قال بلسان سؤول وقلب عقول
( وإنما الحلم بالتحلم ) أي ببعث النفس وتنشيطها إليه قال الراغب : الحلم إمساك النفس عن هيجان الغضب والتحكم إمساكها عن قضاء الوطر إذا هاج الغضب
( ومن يتحر الخير يعطه ) أي ومن يجتهد في تحصيل الخير يعطه اللّه تعالى إياه(1/187)
( ومن يتق الشر يوقه ) زاد الطبراني والبيهقي في روايتيهما ثلاث من كن فيه لم يسكن الدرجات العلى ولا أقول لكم الجنة من تكهن أو استقسم أو ردّه من سفر تطير ( تنبيه ) قال بعضهم : ويحصل العلم بالفيض الإلهي لكنه نادر غير مطرد فلذا تمم الكلام نحو الغالب قال الراغب : الفضائل ضربان نظري وعملي وكل ضرب منها يحصل على وجهين أحدهما بتعلم بشرى يحتاج إلى زمان وتدرب وممارسة ويتقوى الإنسان فيه درجة فدرجة وإن فيهم من يكفيه أدنى ممارسة بحسب اختلاف الطبائع في الذكاء والبلادة ، والثاني يحصل [ ص 570 ] بفيض إلهي نحو أن يولد إنسان عالماً بغير تعلم كعيسى ويحيى عليهما الصلاة والسلام وغيرهما من الأنبياء عليهم السلام الذين حصل لهم من المعارف بغير ممارسة ما لم يحصل لغيرهم وذكر بعض الحكماء أن ذلك قد يحصل لغير الأنبياء عليهم السلام في الفيئة بعد الفيئة وكلما كان يتدرب فقد يكون بالطبع كصبي يوجد صادق اللّهجة وسخياً وجريئاً وآخر بعكسه وقد يكون بالتعلم والعادة فمن صار فاضلاً طبعاً وعادة وتعلماً فهو كامل الفضيلة ومن كان رذلاً فهو كامل الرذيلة أهـ .
(وهذا الورع يُتَعَلَّم ، كما قال الضحّاك بن عثمان رحمه الله : (أدركت الناس وهم يتعلمون الورع وهم اليوم يتعلمون الكلام) ، والإنسان إذا تورّع لن يعدم الحلال ولا يظن أنه سيضيق على نفسه ضيقاً لا مخرج منه فإنه يلتمس الورع الشرعي مثلما تقدم.
(درجات الرياضة :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ(1/188)
(قال العلماء : " الرياضة على ثلاث درجات ؛ رياضة عامة و هي تهذيب الأخلاق بالعلم وتصفية الأعمال بالإخلاص ، و توفير الحقوق في المعاملات ، أخلاقك يوجهها العلم ، وأعمالك يتوجها الإخلاص ، و معاملاتك يضبطها أداء الحقوق ، إن تكلم فهو صادق ، و إن تعامل مع الناس تعامل بخلق كريم ، فورد عن النبي عليه الصلاة و السلام : من عامل الناس فلم يظلمهم ، و حدثهم فلم يكذبهم ووعدهم فلم يخلفهم فهو ممن كملت مروءته و ظهرت عطالته ووجبت أخوته و حرمت غيبته .." تهذيب الأخلاق بالعلم ، و تصفية الأعمال بالإخلاص ، و توفير الحقوق في المعاملات .
الأخلاق حركة الإنسان ، تحرك ، تاجر ، باع ، اشترى ، عزى ، هنأ، تنزه ، سافر ، نام تزوج ، طلق ، الحركة ما الذي ينظمها عند المؤمن ؟ الأخلاق التي جاء بها النبي ، كنت أقول دائما : القرآن كون ناطق ، و الكون قرآن صامت ، و النبي عليه الصلاة و السلام قرآن يمشي وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد ، ودرر الفرائد . (
(( حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيح الجامع ) قالت: كان خُلُقٌه القرآن .
[*] قال المناوي في فيض القدير : أي ما دل عليه القرآن من أوامره ونواهيه ووعده ووعيده إلى غير ذلك. وقال القاضي: أي خلقه كان جميع ما حصل في القرآن. فإن كل ما استحسنه وأثنى عليه ودعا إليه فقد تحلى به، وكل ما استهجنه ونهى عنه تجنبه وتخلى عنه. فكان القرآن بيان خلقه. انتهى. وقال في الديباج: معناه العمل به والوقوف عند حدوده والتأدب بآدابه والاعتبار بأمثاله وقصصه وتدبره وحسن تلاوته.أهـ(1/189)
إن تكلم فهو صادق ، و إن تعامل مع الناس تعامل بخلق كريم ، المؤمن الصادق يضبط أموره ، و يعتقد اعتقاداً جازماً بأنه مكلف ، العلم بالتعلم ، و إنما الحلم بالتحلم ،......" إذا غضبت في هذه المرة ، في المرة الثانية كن حليما ، هذه المرة تسرعت ، في المرة الثانية كن متأنيا .
فحركة الحياة يضبطها العلم بالسنة ، الإنسان أحيانا يكون في دعوة ، أكل ، وهناك عشرون آخرون يأكلون ، شبع ، انسحب من المائدة انسحابه يحرج الباقين ، شبعت ابق في مكانك و لا تأكل هناك إنسان جاء متأخراً ، و هناك إنسان جائع ، و هناك إنسان يأكل ببطء ، أنت أحرجته ، فالسنة ألاّ تقوم عن الطعام إلا بعد أن ينتهي آخر إنسان ، لست مكلفا أن تتابع الطعام ، و لكن ينبغي ألاّ تقوم عن الطعام حتى ينتهي آخر إنسان ، هذا من السنة ، فما الذي يضبط لك سلوكك ؟ السُّنة ، أحيانا تجد شخصاً جالساً مع عمه ، والد زوجته ، يدخل في موضوع العلاقات الحميمة بينه و بين زوجته ، هذه ابنته ، لما صهره يتكلم كلاما متعلقا بالعلاقات الزوجية ، الأب يخجل ، قد يذهب به التخيل ، فمن السُّنة ألاّ تتحدث أمام والد الفتاة أو إخوتها عن موضوعات في العلاقة الزوجية ، هكذا من السنة فكلما تعلمت عن سنة النبي العملية شيئا و طبقته جاء علمك ضابطا لسلوكك .
فالأخلاق تُهذب بالعلم ، فهذا نبي هذه الأمة ، يعلمك التواضع ، وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد ، ودرر الفرائد . (
((حديث عِياضِ بن حمار الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن الله أوحى إليَّ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد و لا يبغي أحد على أحد .(1/190)
((حديث أبي هريرة الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ما نقصت صدقة من مال و ما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا و ما تواضع أحد لله إلا رفعه الله .
((حديث أنس الثابت في الصحيحين) أنه مرَّ على صبيان فسلَّم عليهم وقال:كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعله .
((حديث الأسود بن يزيد الثابت في صحيح البخاري) قال سُئلت عائشةُ رضي الله تعالى عنها ما كان يصنع النبي - صلى الله عليه وسلم - في بيته ؟ قالت : كان يكون في مهنة أهله فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة .
(( حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يخيط ثوبه و يخصف نعله و يعمل ما يعمل الرجال في بيوتهم .
(( حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيح الترمذي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يفلي ثوبه و يحلب شاته و يخدم نفسه .
((حديث أبي هريرة الثابت في صحيح البخاري) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ما بعث الله نبيا إلا رعى الغنم ، قال أصحابه وأنت ؟ فقال نعم كنت أرعاها على قراريط َ لأهل مكة.
((حديث أبي هريرة الثابت في صحيح البخاري) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لو دُعِيتُ إلى ذراعٍ أو كُرَاعٍ لأجبت و لو أُهْدِيَ إليَّ ذراعٍ أو كُرَاعٍ لقبلت .
((حديث أنس الثابت في صحيح البخاري) قال : كانت ناقةٌ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - تسمى العضباء وكانت لا تُسبق ، فجاء أعرابي على قَعُودٍ له فسبقها فاشتد ذلك على المسلمين فقالوا : سُبقت العضباء ! قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن حقا على الله تعالى أن لا يرفع شيئا من أمر الدنيا إلا وضعه .
(( حديث أبي جُحَيفة رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (إني لا آكل متكئاً).(1/191)
( حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :حرم على النار كل هين لين سهل قريب من الناس .
{ تنبيه } :( والسبب في ذلك أن الإتكاء حال الأكل من صفات المتكبرين والعياذ بالله .
((حديث عبد الله بن بسر رضي الله عنه الثابت في صحيحي أبي داوود وابن ماجة ) قال: أهديت للنبي شاة فجثى رسول الله على ركبتيه يأكل فقال أعرابي ما هذه الجلسة فقال إن الله جعلني عبدا كريما ولم يجعلني جبارا عنيدا .
((حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : آكل كما يأكل العبد و أجلس كما يجلس العبد .
((حديث أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجه ) قال أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل فكلمه فجعل ترعد فرائصه فقال له هون عليك فإني لست بملك إنما أنا ابن امرأة تأكل القديد .
{ تنبيه } :( وكلما زاد تواضع طالب العلم زاد مقدار الحكمة عنده وتعلم العلم ومتى تكبر قلَّت حكمته ومنع العلم
((حديث أبي هريرة الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ما من آدمي إلا في رأسه حكمة بيد ملك فإذا تواضع قيل للملك ارفع حكمته و إذا تكبر قيل للملك : دع حكمته .
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
( ما من آدمي ) من زائدة كما سبق وهي هنا تفيد عموم النفي وتحسين دخول ما على النكرة
( إلا في رأسه حكمة ) [ ص 467 ] وهي بالتحريك ما يجعل تحت حنك الدابة يمنعها المخالفة كاللجام والحنك متصل بالرأس
( بيد ملك ) موكل به .
( فإذا تواضع ) للحق والخلق .
( قيل للملك ) من قبل اللّه تعالى .
( ارفع حكمته )أي قدره ومنزلته يقال فلان عالي الحكمة ، فرفعها كناية عن الأعذار .(1/192)
( فإذا تكبر قيل للملك ضع حكمته ) كناية عن إذلاله فإن من صفة الذليل تنكيس رأسه فثمرة التكبر في الدنيا الذلة بين عباد اللّه وفي الآخرة نار الإيثار وهي عصارة أهل النار كما جاء في بعض الأخبار .أهـ
(فأنت قد تكون مدير شركة و عندك مستخدَم ، هذا المستخدم في الدنيا مستخدم ، أما في الآخرة فقد يكون أعلى منك درجة عند الله عزوجل ، فالإسلام يعلمك التواضع و يعلمك الإنصاف .
توفير الحقوق أيضا من الرياضة ، الأخلاق تهذب بالعلم ، و الأعمال تتوج بالإخلاص والحقوق تتوافر بالمعاملة ، أو تعطي ما أُمرت به من حقوق الله و العباد كاملة غير منقوصة ، الآن قليل من الناس يموت والده فيوزِّع التركة بالعدل التام ،له أختان متزوجتان لاترثان البيت الذي يسكنه الأخ ثمنه اثنا عشر مليوناً يقول لأخته ، تعالي اجلسي ، من منعكِ ؟ هذا بيت العائلة لما الأب مات لم يعد بيت العائلة ، صار بيت الورثة ، فهذه الأخت لها حق في هذا البيت ، عملياً لا تُعطى شيئاً ، حتى أثاث البيت يكون من نصيب الأخ و لا يوزع على الإناث منه شيئاً ، فالبطولة أن تؤدِّي الحقوق .
(قال أحد العلماء :(1/193)
أعرف أخاً من إخواننا ، كلما يسلم عليّ أكبره ، له أخت فقط ، أخته متزوجة وزوجها له بيت ، و دخله جيد ، و ليست بحاجة أبداً ، بيت الأب يسكنه الابن مع والدته ، قال لي : واللهِ قيّمت البيت على أنه فارغ ، لا على أنه مستأجر و أعطيت أختي حصتها بالكمال و التمام ، وقال أيضاً : لي قريبة تزوجت في سن متأخرة ، من رجل له أولاد صالحون ، فقالت لأولاد زوجها : واللهِ والدكم قبل أن يموت وهب لي شفهياً مبلغ خمسمائة ألف يستثمرها عند فلان ، قال لي : هذه لكِ فقالوا : سمعاً و طاعة ، و قالوا للمستثمر أعطها إيصالا باسمها بدل إيصال والدي ، واللهِ شيء جيد ببساطة ، لكن من دون دليل مادي ، مهرها خمسة عشر ألف ، أعطوها إياه بالتمام و الكمال قبل توزيع الإرث ، بعد أيام جاؤوا فقالوا : سألنا عالماً ، فقال : لا بد أن يُعطى المهر على السعر المعاصر، فأعطوها مقابله مائة و ثمانين ألف ليرة ، و كل حاجاتها مؤمّنة بعد وفاة والدهم ، ثم اشتروا لها بيتا بما تملك ، وأسّسوه لتسكنه ، هم لم يفعلوا إلا الحق ، ولكن لأن العمل نادر صار يلفت النظر هذا شيء طبيعي ، حقوق ، فالإنسان إذا لم يؤد الحقوق فلا مقطوع عن الله عزوجل .
توفير الحقوق في المعاملة أن تعطي به من حق الله و حقوق العباد كاملا موفورا غير منقوص ، قال رجل لسيدنا عمر : أتحبُّني ؟ قال له : واللهِ لا أحب، قال له : هل يمنعك بغضك لي من أن تعطيني حقي ؟ قال له : لا واللهِ ، قال له : إذًا إنما يأسف على الحب النساء " ليس هناك مشكلة ، فأن تصحح العمل بالعلم ، وأن تصحح النية بالإخلاص ، وأن تؤدي الحقوق لأصحابها بالتمام والكمال ، هذه هي الرياضة ، هذه المنزلة التي أدخلها صاحب المدارج ، مدارج السالكين في منازل إياك نعبد و إياك نستعين .(1/194)
عندنا رياضة بمستوى أعلى ، رياضة المؤمنين ، قال : هناك رياضة خاصة ، هناك إنسان متفوق ، من خصائص هذه الرياضة قطع ما يفرق قلبك عن الله ، كل شيء يصرفك عن الله تقطعه هذه رياضة ، حتى المباحات ، شيء مباح ، لكن قلبك تعلق به ، دعه ، لأن الله عزوجل هو المقصود قال : قطع ما يفرق قلبك عن الله بالجمع عليه ، والإقبال بكليتك عليه ، حاضرا معه ، بقلبك كله ، لا تلتفت إلى غيره ، هذه مرتبة أعلى .
هناك شيء آخر الإنسان أحيانا يتعلق برأي و يبحث له عن أدلة ، هذا موقف خطأ ، الأصل أن متعلق بالحق و أن تسعى لتطبيقه ، أينما كان الحق.
أيها الإخوة ، «رياضة الخاصة أن تقطع كل ما يبعدك عن الله» ، قطع ما يفرق قلبك عن الله بالجمع عليه ، و الإقبال بكليتك عليه ، هناك نقطة ثانية ، أن تحكِّم العلم لا أن تحكِّم الحال ، الإنسان أحيانا يكون له إقبال على الله شديد ، يعيش من الغمرة من الحال المسعد ، هذه الغمرة من الحال المسعد قد تحمله على أن يقول شيئا غير صحيح ، فهو دائما يحكِّم العلم بالحال ، ولا يحكّم الحال بالعلم الحال خطير ، سمِّي حالا لأنه يحول ، مثلا ، هذا الذي فَقَدَ ناقته وهو في الصحراء فأيقن بالهلاك وبكى ، تأمل قصته في الحديث الآتي : (
(( حديث أنس بن مالك رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لله أشد فرحاً بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته أرض فلاة فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه فأيس منها فأتى شجرة فاضطجع في ظلها قد أيس من راحلته فبينما هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح : اللهم أنت عبدي وأنا ربك ،أخطأ من شدة الفرح " .
حاله الشديد بالعثور على ناقته أخلّ توازنه فقال كلاماً كفراً ، هناك من يلتفت إلى قلبه و يتصل بربه ، فيشعر بنشوة كبيرة جدا ، هذه تبعده عن العلم ، فيحكِّم حاله لعلمه ، و الأولى أن يحكِّم علمه بحاله .(1/195)
والحال أنواع ؛ هناك حال شيطاني ، إذا دخل أحدهم بيتاً مثلاً و استطاع أن يأخذ منه مليون ليرة ، الطريقة سهلة ، و لم ينتبه أحد ، فلو قعدت مع هذا السارق ، تجد إشراقة في وجهه ، لأنه حقق هدفه ، فهل يُسمى هذا الحال راقياً ، كل إنسان يحقق هدفاً و لو كان خسيساً يشعر بنشوة ، أما نحن فعندنا العلم يتحكم في الحال ، «العلم حكَم على الحال» ، وليس الحال حكما على العلم ، هناك أناس كثيرون أحوالهم تتحكم بعلمهم ، تأخذه نشوة فيتكلم كلاما غير صحيح ، قد يستعلي و قد يطعن في الآخرين ، أساسه نشوة ، فمن لوازم رياضة الخاصة أن علمه متحكم بحاله ، و ليس العكس .
أما هناك رياضة خاصة الخاصة ، هؤلاء المتفوقون ، مرتبتهم مرتبة الامتياز ، قال : هذه المرتبة «لا يرى إلا الله ، لا يرى عمله» ، حتى لو أن الله عز وجل أجرى على يده خيرا كبيرا لا يرى عمله ، قال : ألم تكونوا ضلالاً فهداكم الله بي ، ما قال : فهديتكم ، هداكم الله بي ، حتى الإنسان في المرتبة العالية لا يرى عمله ، يرى فضل الله عليه ، حتى لو كنت مستقيماً ، لو أنك في زمن الفتنة تجاهد نفسك و هواك ، لولا أن الله عزوجل أعانك على الاستقامة لما كنت مستقيما ، و الدليل سيدنا يوسف ، حينما قال :
قال تعالى: (قَالَ رَبّ السّجْنُ أَحَبّ إِلَيّ مِمّا يَدْعُونَنِيَ إِلَيْهِ وَإِلاّ تَصْرِفْ عَنّي كَيْدَهُنّ أَصْبُ إِلَيْهِنّ وَأَكُن مّنَ الْجَاهِلِينَ) [يوسف: 33]
أي عفّتي بمعونتك يا رب ، عفتي و استقامتي و ورعي بدعم منك ، من أنا لولا دعمك لي هذا مستوى عال جدا ، حتى بالتفوق ، حتى بالإيجابيات ، حتى بالإنجازات لا ترى إلا فضل الله عليك.
(قال أحد العلماء :(1/196)
مرة كنت في جلسة ، وهناك إنسان فيه روح من الدعابة اللطيفة أضحك من في المجلس مرتين أو ثلاثا ، قلت لهم : اشكروا الله على هذا الضحك ، قالوا : ولِم ؟ قلت لهم : لأن الذي أضحككم قادر على أن يبكيكم ، أضحككم ، لأنه يوجد ما يسيئكم من مرض أو هم و غم ، فإذا ضحك الإنسان معنى ذلك أن الله سمح له أن يضحك ، فكلما تفوقت عند الله عزوجل ترى فضل الله عليك .
إذا كنت في كل حال معي فعن حمل زادي أنا في غنى
فأنتم هو الحق لا غيركم يا ليت شعري أنا من أنا
تتلاشى ذاتك أمام عظمة الله ، عبّر عنها علماء القلوب بالفناء ، أنت ليس لك وجود ، النبي الكريم حدّثنا عن أعماله العظيمة ، قال : هذه جهد مقل ، فكلما كبرت عند الله ، رأيت فضله و لم تر عملك ، وكلما صغرت عند الله رأيت فضلك و عملك و لم تر فضل الله عليك .
( فصلٌ في منزلة المحبة والخوف والرجاء :
[*](عناصر الفصل :
(العلاقة بين المحبة والخوف والرجاء :
(أولاً : محبة الله عز وجلّ :
( منزلة المحبة :
( تعريف المحبة :
[*](علامات محبة الله تعالى للعبد :
[*](علامات العبد الدالة على محبته لله تعالى :
[*](ما هي الأسباب الجالبة لمحبة الله تعالى ؟
[*](أحوال يحب الله تعالى أهلها :
[*](مسائل هامة في المحبة :
[*]( لوازم محبة الله تعالى :
[*](الآثار الواردة في محبة الله تعالى :
(ثانياً الخوف والرجاء :
(أهمية الخوف والرجاء :
(متى يُعَدُ الخوف أفضل من الرجاء :
(تعريف الخوف :
(الخشية أخص من الخوف :
(منازل الخوف ودرجاته :
(الخوف المحمود الصادق ؟
(هل الخوف مقصودٌ لذاته ؟
(هل الخوف أفضل أم المحبة ؟
(حكم الخوف من الله :
[*](فضائل الخوف :
[*](ثمرات الخوف من الله :
[*](الأسباب الجالبة للخوف :
[*](موانع الخوف :
(أنواع الخوف :
(تعريف الرجاء :
(الفرق بين الرجاء والتمني :
(الرجاء ضد اليأس :
[*](درجات الوصول إلى تحقيق الرجاء :
(الرجاء دواء يحتاج له رجلان :
[*](ثمرات الرجاء :(1/197)
[*](أنواع الرجاء :
(علامة الرجاء في العبد :
[*](درجات الرجاء :
(أنواع الرجاء من حيث الراجي :
(الخوف المحمود والرجاء المحمود :
وهاك تفصيلَ ذلك في إيجازٍ غيرِ مُخِّل : (
(العلاقة بين المحبة والخوف والرجاء :
هذه المنزلة هي ثلاث منازل متلازمة متلاصقة متداخلة هي مقامات الإيمان الثلاثة «المحبة والخوف والرجاء» والتي لا يصح الإيمان بدونها .
[*] قال مكحول الدمشقي رحمه الله تعالى ، وكان من الأئمة الصالحين وكان لأهل الشام كالحسن البصري للبصرة :
من عبد الله بالحب والخوف والرجاء فهو صدِّيق
و من عبد الله بالحب فقط فهو زنديق
و من عبد الله بالخوف فقط فهو حروري
و من عبد الله بالرجاء فقط فهو مُرْجِئي
[*](قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين :
قال الله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [ الإسراء: 57 ]
فابتغاء الوسيلة إليه : طلب القرب منه بالعبودية والمحبة فذكر مقامات الإيمان الثلاثة التي عليها بناؤه : الحب والخوف والرجاء .
(وقال أيضاً رحمه الله تعالى :
القلب في سيره إلى الله عز وجل بمنزلة الطائر فالمحبة رأسه والخوف
والرجاء جناحاه فمتى سلم الرأس والجناحان فالطير جيد الطيران ،ومتى قطع الرأس مات الطائر ومتى فقد الجناحان فهو عرضة لكل صائد وكاسر، ولكن السلف استحبوا أن يقوى في الصحة جناح الخوف على جناح الرجاء ،وعند الخروج من الدنيا يقوى جناح الرجاء على جناح الخوف هذه طريقة أبي سليمان وغيره.
قال: ينبغي للقلب أن تكون الغالب عليه الخوف فإن غلب عليه الرجاء فسد.
وقال غيره: أكمل الأحوال: اعتدال الرجاء والخوف وغلبة الحب فالمحبة هي المركب والرجاء حاد والخوف سائق والله الموصل بمنه وكرمه.
(أولاً : محبة الله عز وجلّ :
( منزلة المحبة :(1/198)
[*] قال الإمام ابن القيم رحمه الله في كتابه مدارج السالكين عن المحبة:
المنزلة التي فيها تنافس المتنافسون، وإليها شخص العاملون، وإلى عملها شمَّر السابقون، وعليها تفانى المحبون، وبروح نسيمها تروح العابدون، وهي قوت القلوب، وغذاء الأرواح، وقرة العيون وهي الحياة التي من حرمها فهو من جملة الأموات، والنور الذي من فقده فهو في بحار الظلمات، والشفاء الذي من عدمه حلت بقلبه جميع الأسقام، واللذة التي من لم يظفر بها فعيشه كله هموم وآلام، تالله لقد ذهب أهلها بشرف الدنيا والآخرة، إذ لهم من معية محبوبهم أوفر نصيب. أهـ
والمحبة هي الرأس والخوف والرجاء هما الجناحان والعبد يسير إلى الله بالمحبة والخوف والرجاء .
والمحبة هي الحياة التي من حرمها فهو من جملة الأموات، والنور الذي من فقده فهو في بحار الظلمات ،والشفاء الذي من عدمه حلت بقلبه جميع الأسقام واللذة التي من لم يظفر بها فعيشه كله هموم وآلام ، فهي روح الإيمان والأعمال والمقامات والأحوال التي متى ما خلت منها فهي كالجسد الذي لا روح فيه.
فهي تحمل أثقال السائرين إلى بلاد لم يكونوا إلا بشق الأنفس بالغيها ،وتوصلهم إلى منازل لم يكونوا بدونها أبداً واصليها، وتبوءهم من مقاعد الصدق مقامات لم يكونوا لولاها داخليها ، وهي مطايا القوم التي مسراهم على ظهورها دائماً إلى الحبيب، وطريقهم الأقوم الذي يبلغهم إلى منازلهم الأولى من قريب.
تالله لقد ذهب أهلها بشرف الدنيا والآخرة إذ لهم من معية محبوبهم أوفر نصيب وقد قضى الله يوم قدر مقادير الخلائق بحكمته البالغة أن المرء مع من أحب..، فيالها من نعمة على المحبين سابغة. ... تالله لقد سبق القوم السعاة وهم على ظهور الفرش نائمون وقد تقدموا الركب بمراحل وهم في سيرهم واقفون. [ من كلام ابن القيم في المحبة ]
( تعريف المحبة :(1/199)
(المحبة في اللغة : من الحب ، قيل المحبة أصلها الصفاء لأن العرب تقول لصفاء بياض الأسنان ونضارتها حبب الأسنان ، وقيل إنها مأخوذة من الحباب الذي يعلو الماء عند المطر الشديد فعلى هذا المحبة غليان القلب عند الاهتياج إلى لقاء المحبوب، وقيل المحبة مشتقة من اللزوم والثبات ومنه أحب البعير إذا برك.
حلّت عليه بالفلاة ضربة * * * ضرب بعير السوء إذا أحبَّ
أي إذا أقام في المقام ولزمه فكأن المحب قد لزم قلبه محبوبه فلم يرم عنه انتقالاً، وقيل بل المحبة مأخوذة من القلق والاضطراب ومنه سمي القرط حباً لقلقه في الأذن واضطرابه كما قال الشاعر:
تبيت الحية النضناض منه * * * مكان الحب تستمع السرار
وقيل مأخوذة من الحب جمع حبة وهو لباب الشيء وخالصه وأصله فإن الحب أصل النبات والشجر وقيل بل مأخوذة من الحِب الذي هو إناء واسع يوضع فيه الشيء فيمتلئ به بحيث لا يسع غيره وكذلك قلب المحب ليس فيه سعة لغير محبوبه. وقيل مأخوذة من حبة القلب وهي سويداءه ويقال ثمرته فسميت المحبة بذلك لوصولها إلى حبة القلب.
وأياً ما كان فإن هذه الصفات تجتمع في المحب وتكون مما يشعر به،
و محبة الله هي التي نتحدث عنها وهي أمر هائل جسيم وفضل غامر جزيل لا يقدر على إدراك قيمته إلا من عرف الله بصفاته كما وصف نفسه .
[*](علامات محبة الله تعالى للعبد :
العلامات التي إذا وجدت في العبد أو أحس بها تدل على أن الله يحبه..
(1) حسن التدبير له فيربيه من الطفولة على أحسن نظام ويكتب الإيمان في قلبه وينور له عقله فيجتبيه لمحبته ويستخلصه لعبادته فيشغل لسانه بذكره وجوارحه بطاعته ، فيتبع كل ما يقربه إلى محبوبه و هو الله عز وجل ويجعله الله نافراً من كل ما يباعد بينه وبينه ثم يتولى هذا العبد الذي يحبه بتيسير أموره من غير ذلّ للخلق فييسر أموره من غير إذلال، ويسدد ظاهره وباطنه، ويجعل همه هماً واحداً بحيث تشغله محبته عن كل شيء.(1/200)
(2) الرفق بالعبد والمراد اللين واللطف والأخذ بالأسهل وحسن الصنيع.
(3) القبول في الأرض والمراد قبول القلوب لهذا العبد الذي يحبه الرب والميل إليه والرضا عنه والثناء عليه كما جاء في الحديث الآتي : (
(حديث أبي هريرة الأشعري في الصحيحين) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :إذا أحب الله عبدا نادى جبريل : إن الله يحب فلانا فأحبه فيحبه جبريل فينادي جبريل في أهل السماء : إن الله يحب فلانا فأحبوه فيحبه أهل السماء ثم يوضع له القبول في الأرض .
(4) الابتلاء : فإنه من علامات محبة الله تعالى للعبد كما جاء في الحديث الآتي : (
( حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن عظم الجزاء مع عظم البلاء و إن الله تعالى إذا أحب قوما ابتلاهم فمن رضي فله الرضا و من سخط فله السخط .
( حديث سعد ابن أبي وقاص رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل يبتلى الرجل على حسب دينه فإن كان في دينه صلبا اشتد بلاؤه و إن كان في دينه رقة ابتلي على قدر دينه فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض و ما عليه خطيئة .
فيبتليهم بأنواع البلاء حتى يمحصهم من الذنوب ، ويفرغ قلبوهم من الشغل بالدنيا غيرة منه عليهم ، فالله يغار ومن صفاته الغيرة ، يغار أن يشتغل العبد الذي يحبه بغيره فلا يريد أن يشتغل بالدنيا فيبتليه ويتلذذ العبد بالبلاء ويصبر ولا يجد وقتاً وإمكاناً للاشتغال بالدنيا التي تصرفه عن الله فلا يقع العبد فيما يضره في الآخرة، ويبتليه بضنك من المعيشة أو كدر من الدنيا أو تسليط أهلها ليشهد صدقه معه في المجاهدة ، قال تعالى: (وَلَنَبْلُوَنّكُمْ حَتّىَ نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ) [ محمد : 31](1/201)
وهذا الابتلاء على حسب قدر الإيمان ومحبة الله للعبد بنص السنة الصحيحة كما جاء في الحديث الآتي : (
( حديث سعد ابن أبي وقاص رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل يبتلى الرجل على حسب دينه فإن كان في دينه صلبا اشتد بلاؤه و إن كان في دينه رقة ابتلي على قدر دينه فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض و ما عليه خطيئة .
(حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجه ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال أشد الناس بلاء الأنبياء ، ثم الصالحون ، إن كان أحدهم ليبتلى بالفقر حتى ما يجد أحدهم إلا العباءة التي يحويها ، وإن كان أحدهم ليفرح بالبلاء كما يفرح أحدكم بالرخاء .
(5) يوفقه لعملٍ صالحٍ قبل الموت بنص السنة الصحيحة كما جاء في الحديث الآتي : (
(حديث أنس الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن الله إذا أحب عبداً استعمله ، قالوا كيف يستعمله يا رسول الله ؟ قال : يوفقه لعملٍ صالحٍ قبل الموت .
( حديث أبي عنبة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إذا أراد الله بعبد خيرا عسله قيل: و ما عسله ؟ قال: يفتح له عملا صالحا قبل موته ثم يقبضه عليه .
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
( إذا أراد الله بعبد خيراً عسله ) بفتح العين والسين المهملتين تشدّد وتخفف أي طيب ثناءه بين الناس من عسل الطعام يعسله إذا جعل فيه العسل ذكره الزمخشري
( قيل ) أي قالوا يا رسول الله
( وما عسله ) أي ما معناه(1/202)
( قال يفتح له عملاً صالحاً قبل موته ثم يقبضه عليه ) فهذا من كلام الراوي لا المصطفى صلى الله عليه وسلم شبه ما رزقه الله من العمل الصالح الذي طاب ذكره وفاح نشره بالعسل الذي هو الطعام الصالح الذي يحلو به كل شيء ويصلح كل ما خالطه ذكره الزمخشري ، قال الحكيم الترمذي فهذا عبد أدركته دولة السعادة فأصاب حظه ومراده بعد ما قطع عمره في رفض العبودية وتعطيلها وعطل الحدود وأهمل الفرائض فلما قرب أوان شخوصه إلى الحق أدركته السعادة بذلك الحظ الذي كان سبق له فاستنار الصدر بالنور وانكشف الغطاء فأدركته الخشية وعظمت مساويه عنده فاستقام أمره فعمل صالحاً قليلاً فأعطى جزيلاً .
[*](علامات العبد الدالة على محبته لله تعالى :
لما كانت المحبة خفية في القلب سهُل أن يدّعيها كل أحد قال تعالى: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنّصَارَىَ نَحْنُ أَبْنَاءُ اللّهِ وَأَحِبّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُمْ بَشَرٌ مِمّنْ خَلَقَ) [ المائدة : 18]،
فما أسهل الدعوى وأعز الحقيقة، فلا ينبغي أن يغتر الإنسان بتلبيس الشيطان وخداع النفس إذا ادعت نفسه محبة الله ما لم يمتحنها بالعلامات ويطالبها بالبراهين ، والمحبة شجرة طيبة أصلها ثابتة وفرعها في السماء ، وثمارها تظهر في القلب والجوارح كدلالة الثمار على الأشجار والدخان على النار وهذه العلامات كثيرة منها ما يلي : (
(1) حب لقاء الله تعالى فإنه لا يتصور أن يحب القلب محبوباً إلا ويحب لقاءه ومشاهدته كما جاء في الحديث الآتي : (
(حديث عائشة الثابت في الصحيحين) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه و من كره لقاء الله كره الله لقاءه .(1/203)
فالمحب الصادق يذكر محبوبه دائماً والموعد الذي بينهما للقاء، ولا ينسى موعد لقاء حبيبه ، و ماهو موعد اللقاء؟ ، هناك موعدان ، الأول الموت و الثاني يوم القيامة، والثالث اللقاء في الجنة والنظر إلى وجه الرب. إذاً فالموت هو الموعد الأول للقاء مع الله وليس معنى هذا أن العبد يريد الموت الآن وأنه يتمناه ويدعو به على نفسه، لكن إذا نزل الموت بالعبد الصالح أحب نزوله ، لأنه سيفضي به الآن إلى لقاء الله وما أعد له من الثواب والنعيم ويكون بقرب ربه قال تعالى: (إِنّ الْمُتّقِينَ فِي جَنّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مّقْتَدِرِ) [ القمر : 55] ، يريد أن يكون عند ربه وأن يصل إليه من الألطاف والإنعام بعد الموت من الله ما يصل ، فضلاً عن ما يكون له من الجزاء العظيم في الجنة ، فمحبة لقاء الله تعالى ولما علم الله عز وجل شوق عباده المحبين له والمطيعين ضرب لهم موعداً بينه وبينهم وهو الموت قال تعالى: (مَن كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ اللّهِ فَإِنّ أَجَلَ اللّهِ لاَتٍ وَهُوَ السّمِيعُ الْعَلِيمُ) [ العنكبوت : 5]
(2) أن يكون أنسه بالخلوة ومناجاة الله تعالى وتلاوة كتابه فيواظب على التهجد ويغتنم هدوء الليل وصفاء الوقت بانقطاع العوائق ، فإن أقل درجات التنعم بمناجاة الحبيب فمن كان النوم والاشتغال بالحديث ألذّ عنده من مناجاة الليل فكيف تصح محبته؟، فإن المحب يتلذذ بخدمة محبوبه وتصرفه في طاعته وكلما كانت المحبة أقوى كانت لذة الطاعة والخدمة أكمل ولذا جعلت قرةُ عين النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة بنص السنة الصحيحة كما جاء في الحديث الآتي : (
( حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح النسائي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : حبب إلي من الدنيا الطيب والنساء وجعلت قرة عيني في الصلاة .
( جعلت قرة عيني في الصلاة ) :
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:(1/204)
لأنه كان حالة كونه فيها مجموع الهم على مطالعة جلال اللّه وصفاته فيحصل له من آثار ذلك ما تقر به عينه ( تنبيه ) سئل ابن عطاء اللّه هل هذا خاص بنبينا صلى اللّه عليه وسلم أم لغيره منه شرب فقال : قرة العين بالشهود على قدر المعرفة بالمشهود وليس معرفة كمعرفته فلا قرة عين كقرته انتهى ومحصوله أنه ليس من خصائصه صلى اللّه عليه وسلم لكنه أعطي في هذا المقام أعلاه وبذلك صرح الحكيم الترمذي فقال : إن الصلاة إلى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كلهم فلمحمد صلى اللّه عليه وسلم من ربه تعالى بحر ولما سواه أنهار وأودية فكل إنما ينال من الصلاة [ ص 349 ] من مقامه فالأنبياء ثم خلفاؤهم الأولياء ينالون من الصلاة مقاماً عالياً وليس للعباد والزهاد والمتقين فيه إلا مقام الصدق ومجاهدة الوسوسة ومن بعدهم من عامة المسلمين لهم مقام التوحيد في الصلاة والوساوس معهم بلا مجاهدة والأنبياء وأعاظم الأولياء في مفاوز الملكوت وليس للشيطان أن يدخل تلك المفاوز وما وراء المفاوز حجب وبساتين شغلت القلوب بما فيها عن أن يخطر ببالهم ما وراءها ، أهـ .(1/205)
فقرة العين كما قال ابن القيم فوق المحبة، فجعل النساء والطيب مما يحبه، وأخبر أن قرة العين التي يطمئن القلب بالوصول إليها ومحض لذته وفرحه وسروره و بهجته إنما هو بالصلاة التي هي صلة بالله وحضور بين يديه ومناجاة له واقتراب منه فكيف لا تكون قرة العين؟ وكيف تقر عين المحب بسواها؟ومن قرة عينه بصلاته في الدنيا ؛ قرة عينه بقربه من ربه عز وجل في الآخرة وقرة عينه به أيضاً في الدنيا ومن قرت عينه بالله قرت به كل عين، ومن لم تقر عينه بالله تقطعت نفسه على الدنيا حسرات، فقرة عين المحب ولذته ونعيم روحه في طاعة محبوبه بخلاف المطيع كرهاً، المتحمل للخدمة ثقلاً ، الذي يرى أنه لولا ذل القهر ما أطاع فهو يتحمل طاعته كالمكره الذي أذله مكرِهه وقاهره بخلاف المحب الذي يعد طاعة محبوبه قوتاً ونعيماً ولذة وسروراً فهذا ليس الحامل له على الطاعة والعبادة والعمل ذل الإكراه، بل تكون دواعي قلبه وجواذبه منساقة إلى الله طوعاً ومحبة وإيثاراً كجريان الماء في منحدره ، يتم تلقائياً بكل يسر وسهولة، وهذا حال المحبين الصادقين فإن عبادتهم طوعاً ومحبة ورضا ففيها قرة عيونهم وسرور قلوبهم ولذة أرواحهم.
(فالحاصل : أن العبد إذا أحب ربه عمل له بيسر وسهولة منقاداً طائعاً مستلذاً .
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن إبراهيم بن أدهم أنه قال ذات يوم: لو أن العباد علموا حب الله عز وجل لقل مطعمهم ومشربهم وملبسهم وحرصهم، وذلك أن ملائكة الله أحبوا الله فاشتغلوا بعبادته عن غيره، حتى أن منهم قائماً وراكعاً وساجداً منذ خلق الله تعالى الدنيا ما التفت إلى من عن يمينه وشماله، اشتغالاً بالله عز وجل وبخدمته.(1/206)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن إبراهيم بن أدهم في قوله تعالى: ( فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذُنِ اللّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ) [ فاطر : 32 ] قال: السابق مضروب بسوط المحبة، مقتول بسيف الشوق، مضطجع على باب الكرامة، والمقتصد مضروب بسوط الندامة، مقتول بسيف الحسرة مضطجع على باب العفو، والظالم لنفسه مضروب بسوط الغفلة، مقتول بسيف الأمل مضطجع على باب العقوبة.
مسألة : كيف نوفّق بين هذا الكلام وبين ما يجده الإنسان من المشاق في القيام لصلاة الفجر وتحمل المكاره التي يرغم نفسه عليها إرغاماً، و يرغم نفسه أحياناً على الطاعات ، هل معنى ذلك أن هذا إنسان لا يحب الله ؟
الجواب: أن الوصول إلى مرحلة يكون فيها العابد لربه كالماء الذي يجري في المنحدرات؛ هذه لا تتم من أول الأمر ولا يصل إليها العبد من أول العبادة والعمل ، بل يصل إليها بعد تدريب ومكابدة ومشقة ومجاهدة، ولذلك فإن اللذة والتنعم بالطاعة تحصل بعد الصبر على التكره والتعب أولاً، فإذا صبر وصدق في صبره وصل إلى مرحلة اللذة التي تكون العبادة بعدها عنده كجريان الماء في منحدره، ولذلك قال بعض السلف: ( كابدت نفسي في قيام الليل عشرين سنة، وتلذذت به بقية عمري).ومن عرف هذا عرف الطريق إلى محبة الله كيف يكون أوله وآخره وماذا سيلقى وأعد نفسه لهذا وهذه مسألة في غاية الأهمية.(1/207)
ولا يزال السالك عرضة للفتور والانتكاس والآفات حتى يصل إلى هذه الحالة ( ففترة المشقة تكون مصحوبة باحتمالات انتكاس وفتور وبرود وآفات حتى يصل إلى مرحلة اللذة بالطاعة، ويمكن للفرد أن يشعر أنه يتلذذ بالطاعة أحياناً وتشق عليه أحياناً، وأن نفسه تتقلب حتى تستقر على التلذذ بالطاعة دائماً. فواضح إذاً أن العمل لله والعبادة مراتب ودرجات ومن فقه التدرج هذا عرف كيف يصل، أما الذي لا يعرف عن هذا الموضوع شيئاً فعباداته كلها تقليد وليس عنده تصور لقضية البدء والاستمرار وما يحصل في الطريق من آفات ثم الوصول بعد ذلك في النهاية إلى هذه المرحلة العظيمة التي تسهل عليه بعدها كل مشقة وتهون عليه كل صعوبة) فحين إذٍ يصير نعيمه في سيره ولذته في اجتهاده وعذابه في فتوره وتوقفه عن العبادة فترى أشد الأشياء عليه ضياع شيء من وقته ووقوفه عن سيره ولا سبيل إلى هذا إلا بالحب الذي يدفعه إلى العمل( ولذلك تجد بعض العابدين إذا مرض ينزعج جداً ويتألم من المرض، لا لأجل ألم المرض ، ولكن لأجل أنه قطعه عن العبادة التي كان متعوداً عليها فتصبح القواطع عن العمل أكره شيء عنده ، ولذلك عوضه الله بالأجر،" كما جاء في الحديث الآتي : (
(حديث أبي قتادة في الصحيحين) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إذا مرض العبد أو سافر كتب الله تعالى له ما كان يعمله وهو صحيحٌ مقيم .
(فالحاصل : أن علامة المحبة كمال الأنس بمناجاة المحبوب وكمال التنعم بالخلوة وكمال الاستيحاش من كل ما ينغص عليه الخلوة.(1/208)
(3) أن يكون صابراً على المكاره، والصبر من آكد المنازل في طريق المحبة وألزمها للمحبين ، وهم أحوج إلى منزلة الصبر من كل منزلة، فإن قيل كيف تكون حاجة المحب إليه ضرورية مع منافاته لكمال المحبة ، فإنه لا يكون إلا مع منازعات النفس النفس لمراد المحبوب؟ قيل: هذه هي النكتة ولب الموضوع والقصد والفائدة التي لأجلها كان الصبر من آكد المنازل في طريق المحبة وأعلقها به وبه يعلم صحيح المحبة من معدومها وصادقها من كاذبها فإنه بقوة الصبر على المكاره في مراد المحبوب يعلم صحة المحبة ومن هنا كانت محبة أكثر الناس كاذبة لأنهم كلهم ادعوا محبة الله تعالى فحين امتحنهم بالمكاره انخلعوا عن الحقيقة ولم يثبت إلا الصابرون ، فلولا تحمل المشاق وتجشّم المكاره بالصبر ماثبتت صحة الدعوة وقد تبين أن أعظم الناس محبة لله أشدهم صبراً وهذا ماوصف الله به أولياءه وخاصة فقال عن عبده أيوب لما ابتلاه { ِنّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً } فهذه العلاقة بين الصبر والمحبة{ نّعْمَ الْعَبْدُ إِنّهُ أَوّابٌ }، وأمر أحب الخلق إليه بالصبر لحكمه وأخبر أن الصبر لا يكون إلا لله ، فيصبر لله و الصبر لا يكون إلا بالله ، قال تعالى: (وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاّ بِاللّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مّمّا يَمْكُرُونَ) [ النحل : 127]
(4) من العلامات أن لا يقدم العبد شيئاً على الله لا ولده ولا والده ولا الناس وتأمل في الأحايث الآتية بعين البصيرة : (
(حديث أنس في الصحيحين) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان : أن يكون الله و رسوله أحب إليه مما سواهما و أن يحب المرء لا يحبه إلا لله و أن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار .
(حديث أنس في الصحيحين) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين".(1/209)
(حديث عمر في صحيح البخاري) أن عمر رضي الله عنه للنبي - صلى الله عليه وسلم - : " إنك لأحب إلى من كل شيء إلا من نفسي. قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : لا والذي نفسي بيده ، حتى أكون أحب إليك من نفسك . قال : الآن والله لأنت أحب إلى من نفسي . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - الآن يا عمر "
(فالحاصل : أن من العلامات أن لا يقدم العبد شيئاً على الله لا ولده ولا والده ولا الناس ولا أي شهوة، ومن آثر على الله شيئاً من المحبوبات فقلبه مريض، و إذا كان العبد مؤثراً ما أحبه الله على ما يحبه هو فيكون عند ذلك مقاوماً لداعي الهوى معرضاً عن الكسل مواظباً على الطاعة متقرباً بالنوافل فيظهر الطاعة ولذلك قال الشاعر:
تعصي الإله وأنت تزعم حبه *** هذا محال في القياس بديع
لو كان حبك صادقاً لأطعته***إن المحب لمن يحب مطيع
وهذه ملاحظة مهمة تهم الدعاة في التعامل مع المدعوين وهي أن العصيان لا ينافي أصل المحبة إنما يضاد كمالها. فالمحبة كالإيمان لها أصل ولها كمال، فبحسب المعاصي ينقص الكمال، وإذا دخل المرء في مرحلة الشك والنفاق الأكبر ذهب الأصل وانخلع وانعدم، فالذي ليس في قلبه محبة لله هذا كافر مرتد ومنافق نفاق أكبر، ليس له من الدين نصيب، أما العصاة لا يقال لهم أنه ليس عندهم محبة لله بل يقال محبتهم لله ناقصة وعلى هذا يعَاملون والدليل على هذا الحديث الآتي : (
( حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري ) : أن رجلاً على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان اسمه عبد الله، وكان يلقب حماراً، وكان يضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد جلده في الشراب، فأتي به يوما فأمر به فجلد، فقال رجل من القوم: اللهم العنه، ما أكثر ما يؤتى به؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تلعنوه، فو الله ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله).(1/210)
يحب الله ورسوله : يعني عنده أصل المحبة ، وعنده نقص بقدر ما عصا. ولأن هذا صحابي فلا نتكلم فيه في ذاته بل وإنما الشاهد الإتيان بالحديث لنبين أن المعصية لا تنفي أصل المحبة ، وقد يكون الرجل قد تاب وختم له بخير فنحفظ حقوق صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم حتى الذين عصوا منهم، ومعروف أن الحدود تكفر المعاصي. وهذا ما ينبغي التعامل به مع صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم حتى الذين ورد في الأحاديث أنهم وقعوا في المعاصي، فإنهم عند الله بمكان عظيم حتى العاصي منهم كان يخرج للجاهد و يقدم نفسه وروحه فداء لله ورسوله، وعندهم طاعات عظيمة قد تكون أكب بكثير مما فعلوا من السيئات.
(5) أن يكون مولعاً بذكر الله تعالى ، لا يفتر لسانه ولا يخلو عنه قلبه ، فإن من أحب شيئاً أكثر من ذكره بالضرورة ومن ذكر ما يتعلق به.فيحب عبادته وكلامه وذكره وطاعته وأولياءه. ولقد أمر الله تعالى عباده بذكره في أخوف المواضع قال تعالى: (يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُوَاْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيراً لّعَلّكُمْ تُفْلَحُونَ) [الأنفال : 45]
تحت ظلال السيوف وقعقعات السيوف ولا تشغلكم عن ذكر ربكم. فعلامة المحبة الصادقة ذكر المحبوب عند الرغب والرهب، وحتى العرب في الجاهلية كان المرء يفتخر بالأشعار أنه ذكر محبوبته في الحرب و تحت وقع السلاح . وأهل الإيمان أولى بهذا منهم بحبهم للرحمن وأكثر مما يفعله العاشقون والضلاّل مع محبوبينهم .ومن الذكر الدال على صدق المحبة سبق ذكر المحبوب إلى قلب المحبوب ولسانه عند أول يقظة من منامه وآخر شيء يذكره قبل أن ينام مرة أخرى، وهذه من فوائد أذكار النوم والاستيقاظ.(1/211)
(6) المحب الصادق إذا ذكر الله خالياً وجل قلبه وفاضت عيناه من خشية الله قال تعالى: (إِنّمَا الْمُؤْمِنُونَ الّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَىَ رَبّهِمْ يَتَوَكّلُونَ) [ الأنفال : 2]
(7) أن يغار لله فيغضب لمحارمه إذا انتهكها المنتهكون و لحقوقه إذا تهاون بها المتهاونون فهذه هي غيرة المحب حقاً، والدين كله تحت هذه الغيرة فأقوى الناس ديناً وأعظمهم محبة لله أعظمهم غيرة على حرمات الله، ولذلك ينكرون المنكرات ويمنعونها غيرة ، لأن محبوبهم لا يرضى بهذا فهم لا يرضون به ولا يرضون بحصوله ويسعون في تغييره.
(8) محبة كلام الله عز وجل، فإذا أردت أن تعلم ماعندك وعند غيرك من محبة الله فانظر محبة القرآن من قلبك فإن من المعلوم أن من أحب محبوباً كان كلامه وحديثه أحب شيء إليه ، فلا شيء عند المحبين أحلى من كلام محبوبهم فهو لذة قلوبهم وغاية مطلوبهم، ومن هنا كان عكوف هؤلاء المحبين لله على كتاب الله، تلاوة وتفسيراً وتدبراً والاستشهاد به في كل موقف. يكثرون من القراءة نظراً وحفظاً. فيكثرون التلاوة ينتج عنها التعلق بكلام المحبوب والإكثار منه .
(9) أن يتأسف على ما يفوته من طاعة الله وذكره، فترى أشد الأشياء عليه ضياع شيء من وقته فإذا فاته ورده وجد لفواته ألماً أعظم من تألم الحريص على ماله من فوات ماله وسرقة ماله وضياع ماله، وبادر إلى قضائه في أقرب فرصة كما كان يفعل الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم كما جاء في الحديث الآتي : (
( حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيح مسلم ) قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عمل عملاً أثبته وكان إذا نام من الليل أو مرض صلّى من النهار اثنتا عشرة ركعة .(1/212)
(10) أن يستقل في حق محبوبه جميع أعماله ولا يراها شيئاً، ولا يرى أن ما عبده به وأطال وصبر عليه أنه بذل شيئاً، فلا يراه قط إلا بعين النقص والإزدراء ويرى شأن محبوبه أعظم من كل ما عمل من أجله وأعلى قدراً فلا يرضى بعمله، بل يتهم عمله ويحتقره ويخشى أنه ما وفّى حق محبوبه بل ويتوب إليه من النقص. لذلك بعد الصلاة يقول أستغفر الله ، فهو دائم الاستغفار للنقص الحاصل في عبادة الرب. وكلما ازداد حباً لله ازداد معرفة بحقه فاستقل عمله أكثر. فكلما ازداد حبّاً ازداد عملاً واحتقاراً لما عمل امتثالاً لقوله تعالى : قال تعالى: (وَالّذِينَ يُؤْتُونَ مَآ آتَواْ وّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنّهُمْ إِلَىَ رَبّهِمْ رَاجِعُونَ) [ المؤمنون : 60]
[*](ما هي الأسباب الجالبة لمحبة الله تعالى ؟
إن من المعلوم شرعاً أن محبة الله تعالى لا تنال إلا بالعمل وليس بمجرد الزعم أو القول الخالي من العمل الدال على صدقه ، وفي الجملة «ليس الإيمان بالتمني ولكن ما وقر في القلب وصدَّقه العمل » ، فإلى من إراد أن يرقى من منزلة المحب لله، إلى منزلة المحبوب من الله، أقدم لك هذه الأسباب العشرة التي ذكرها الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - في كتابه العظيم ( مدارج السالكين ) مع شرح مختصر لها.
ودونك الأسباب الجالبة لمحبة الله تعالى جملةً وتفصيلاً : (
(أولاً : الأسباب الجالبة لمحبة الله تعالى جملةً :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
السبب الأول: قراءة القرآن بالتدبر والتفهم لمعانيه وما أريد به، كتدبير الكتاب الذي يحفظه العبد ويشرحه ليتفهم مراد صاحبه منه.
السبب الثاني: التقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض، فإنها موصلة إلى درجة المحبوب بعد المحبة .
السبب الثالث: دوام ذكره على كل حال، بالسان والقلب والعمل والحال، فنصيبه من المحبة على قدر نصيبه من الذكر.(1/213)
السبب الرابع: إيثار محابه على محابك عند غلبات الهوى والتسنم إلى محابه وإن صعب المرتقى.
السبب الخامس: مطالعة القلب لأسمائه وصفاته، ومشاهدتها ومعرفتها، وتقلبه في رياض هذه المعرفة، فمن عرف الله بأسمائه وأفعاله، أحبه لا محالة.
السبب السادس: مشاهدة بره وإحسانه، وآلائه ونعمه الباطنة والظاهرة فإنها داعية إلى محبته.
السبب السابع: وهو من أعجبها: انكسار القلب بكليته، بين يدي الله تعالى، وليس في التعبير عن المعنى غير الأسماء والعبارات.
السبب الثامن: الخلوة به وقت النزول الإلهي، لمناجاته وتلاوة كلامه والوقوف بالقلب والتأدب بأدب العبودية بين يديه، ثم ختم ذلك بالاستغفار والتوبة.
السبب التاسع: مجالسة المحبين الصادقين، والتقاط أطايب ثمرات كلامهم كما ينتقي أطايب الثمر، ولا تتكلم إلا إذا ترجحت مصلحة الكلام وعلمت أن فيه مزيداً لحالك ومنفعة لغيرك.
السبب العاشر: مباعدة كل سبب يحول بين القلب وبين الله عز وجل.
(ثانياً : الأسباب الجالبة لمحبة الله تعالى تفصيلا :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
السبب الأول: قراءة القرآن بتدبر والتفهم لمعانيه، وما أريد به، كتدبير الكتاب الذي يحفظه العبد ويشرحه ليتفهم مراد صاحبه منه.
قال تعالى: (أَفَلاَ يَتَدَبّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىَ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ) [ محمد : 24]
نعم فمن أحب أن يكلمه الله تعالى فليقرأ كتاب الله، قال الحسن بن على: إن من كان قبلكم رأوا القرآن رسائل من ربهم فكانوا يتدبرونها بالليل، ويتفقدونها في النهار .
[*] قال ابن الجوزي رحمه الله: ينبغي لتالي القرآن العظيم أن ينظر كيف لطف الله تعالى بخلقه في إيصاله معاني كلامه إلى أفهامهم وأن يعلم أن ما يقرأه ليس من كلام البشر، وأن يستحضر عظمة المتكلم سبحانه، بتدبر كلامه .
قال الإمام النووي رحمه الله: أول ما يجب على القارىء، أن يستحضر في نفسه أنه يناجي الله تعالى.(1/214)
ولهذا فإن رجلاً من أصحاب النبي استجلب محبة الله بتلاوة سورة واحدة وتدبرها ومحبتها، هي سورة الإخلاص التي فيها صفة الرحمن جل وعلا فظل يرددها في صلاتة، فلما سُئل عن ذلك قال: ؟. فقال: إني أحبها، فقال: حبك إياها ادخلك الجنة .
( حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري ) قال : كان رجل من الانصار يؤمهم في مسجد قباء، وكان كلما افتتح سورة يقرأ بها لهم في الصلاة مما يقرأ به، افتتح: {قل هو الله أحد}. حتى يفرغ منه، ثم يقرأ سورة أخرى معها، وكان يصنع ذلك في كل ركعة، فكلمه أصحابه فقالوا: إنك تفتتح بهذه السورة، ثم لا ترى أنها تجزئك حتى تقرأ بأخرى، فأما أن تقرأ بها وأما أن تدعها وتقرأ بأخرى، فقال: ما أنا بتاركها، إن أحببتم أن أؤمكم بذلك فعلت، وإن كرهتم تركتكم، وكانوا يرون أنه من أفضلهم وكرهوا أن يؤمهم غيره، فلما أتاهم النبي صلى الله عليه وسلم أخبروه الخبر، فقال: يا فلان ما يمنعك أن تفعل ما يأمرك به أصحابك، وما يحملك على لزوم هذة السورة في كل ركعة ؟. فقال: إني أحبها، فقال: حبك إياها ادخلك الجنة .
وينبغي أن نعلم أن المقصود من القراءة هو التدبر، وإن لم يحصل التدبر إلا بترديد الآية فليرددها كما فعل النبي وأصحابه.
[*] فقد روى أبو ذر عن النبي أنه قام ليلة بآية يرددها: إن تُعَذّبهُم فَإِِنّهُم عِبَادُكَ وَإن تَغفِر لَهُم فَإنّكَ أنتَ العَزِيز الحَكيمُ [المائدة:118]
[*] وقام تميم الداري بآية وهي قوله تعالى: أَم حَسِبَ الّذِينَ اجتَرَحُوا السّيِئَاتِ أن نّجعَلَهُم كَالّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ سَوَآءً مّحيَاهُم وَمَمَاتُهُم سَآءَ مَا يَحكُمُون [الجاثية:21]
(فينبغي عند قراءة القرآن أن يتدبّر القارئ ويتأمل في معاني القرآن وأحكامه، لأن هذا هو المقصود الأعظم والمطلوب الأهم، وبه تنشرح الصدور وتستنير القلوب، قال تعالى: {كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته } [سورة ص: 29].(1/215)
في هذه الآية بين الله تعالى أن الغرض الأساس من إنزال القرآن هو التدبر والتذكر لا مجرد التلاوة على عظم أجرها .
وفَقُهَ الصحابةُ رضي الله عنهم شرع الله وسنة رسوله فكانوا لا يتعجَّلون مجرد التلاوة دون تدبر، بل كانوا لا يجاوزون عشر آيات حتى يعلموا معانيهن والعمل بهن (رواه الطبري في تفسيره عن ابن مسعود رضي الله عنه). ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ختم القرآن في أقل من ثلاث لأنه لن يتحقق تدبره وفقهه .
(حديث عبد الله بن عمرو الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لا يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث .
(وكان الصحابة رضي الله عنهم لا يتعجلون حفظ القرآن (وهو نافلة) دون تدبره (وهو فرض عين)، بل ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم مات ولم يحفظ القرآن من الصحابة غير أربعة على اختلاف في أسماء اثنين منهم، وبمجموع الروايات لا يكاد الحفاظ من الصحابة يتجاوز عددهم العشرة، ووصف غيرهم بالقرَّاء لا يعني حفظه كله.
[*] قال ابن مسعود رضي الله عنه :(إنَّا صعب علينا حفظ القرآن وسهل علينا العمل به، وإن من بعدنا يسهل عليهم حفظ القرآن ويصعب عليهم العمل به)
[الجامع لأحكام القرآن 1/75]
[*] وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (كان الفاضل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدر هذه الأمة لا يحفظ من القرآن إلا السورة ونحوها ورزقوا العمل بالقرآن) [الجامع لأحكام القرآن 1/76]
(وكانوا يحذرون مما آل إليه الحال اليوم في جميع بلاد المسلمين عربًا وعجمًا؛ فقد أمر عمر رضي الله عنه عامله في العراق أن يفرض للحفاظ في الديوان، فلما بلغه أن سبع مئة حفظوا القرآن قال: (إني لأخشى أن يسرعوا إلى القرآن قبل أن يتفقَّهوا في الدين) وكتب إلى عامله ألا يعطيهم شيئاً (عن مالك في العتبية).
(وكانوا يتعلمون الإيمان قبل القرآن ثم يتعلمون القرآن كما في الحديث الآتي : ((1/216)
(حديثُ جندب ابن عبد الله صحيح ابن ماجة ) قال كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ونحن فتيانٌ حزَاوِرَة ، فتعلمنا الإيمانَ قبل أن نتعلم القرآن ، ثم تعلمنا القرآنَ فازددنا به إيمانا .
وتَنْزِلُ السورة فيتعلَّمون حلالها وحرامها وآمرها وزاجرها. (كما في: بيان مشكل الآثار للطحاوي 4/44 عن ابن عمر رضي الله عنهما.) حتَّى لقد ورد عن عمر رضي الله عنه أنه تعلَّم سورة البقرة في اثنتي عشرة سنة. (الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 1/76، ط: دار الكتاب العربي بيروت).
[*] قال الحسن البصري رحمه الله: (نزل القرآن ليتدبر ويعمل به فاتخذوا تلاوته عملاً) مفتاح دار السعادة لابن القيم (1/187 مكتبة الرياض الحديثة.)
[*] وقال ابن القيم رحمه الله في تفسير قول الله تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ} [البقرة: 78]: (ذم الله المحرفين لكتابه والأميين الذين لا يعلمون منه إلا مجرد التلاوة وهي الأماني) بدائع التفسير: 1/300. وذكر الشوكاني رحمه الله من تفسيرها: (لا علم لهم إلا مجرد التلاوة دون فهم وتدبر) فتح القدير 1/104.
[*] وقال ابن كثير رحمه الله في تفسير قول الله تعالى: {الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} [البقرة: 121]: قال ابن مسعود رضي الله عنه: (والذي نفسي بيده إن حق تلاوته أن يحل حلاله ويحرم حرامه ويقرأه كما أنزله الله ولا يحرف الكلم عن مواضعه ولا يتأوَّل منه شيئًا على غير تأويله)، وعن عمر رضي الله عنه: (هم الذين إذا مروا بآية رحمةٍ سألوها من الله، وإذا مروا بآية عذابٍ استعاذوا منها). ولم يفسرها أحد من الفقهاء في الدين بالتجويد أو الحفظ مجردًا عن التدبر.(1/217)
[*] وقال ابن القيم رحمه الله في تفسير قول الله تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآَنَ مَهْجُورًا} [الفرقان: 30]: (هجر القرآن أنواع)، وذكر منها: (هجر تدبره وتفهمه ومعرفة مراد الله منه) (بدائع التفسير).
[*] وقال ابن كثير رحمه الله تعالى :
(وترك تدبره وتفهمه من هجرانه) (مهذَّب تفسيره، ط: دار السلام 678). وقال ابن القيم رحمه الله في تفسير قول الله تعالى: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} [طه: 123]: (وهذه المتابعة هي التلاوة التي أثنى الله على أهلها... فتلاوة اللفظ جزء مسمى التلاوة المطلقة وحقيقة اللفظ إنما هي الاتباع... والمقصود التلاوة الحقيقية وهي تلاوة المعنى واتباعه... وتلاوة المعنى أشرف من تلاوة اللفظ، وأهلها هم أهل القرآن الذين لهم الثناء في الدنيا والآخرة) مفتاح دار السعادة 1/42.
[*] وقال ابن القيم رحمه الله: (فقراءة آية بتفكر وتفهم خير من قراءة ختمة بغير تدبر وتفهم، وأنفع للقلب وأدعى إلى حصول الإيمان وحلاوة القرآن)،
[*] وروي عن أيوب عن أبي جمرة قال: قلت لابن عباس: إني سريع القراءة، إني أقرأ القرآن في ثلاث، قال: (لأن أقرأ سورة من القرآن في ليلة فأتدبرها وأرتلها أحب إلي من أن أقرأ القرآن كما تقرأ) 1/187.
[*] وقال ابن تيمية رحمه الله: (والمطلوب من القرآن هو فهم معانيه والعمل به فإن لم تكن هذه همة حافظه لم يكن من أهل العلم والدين) (مجموع الفتاوى: 23/55)
(معنى التدبر :
[*] قال ابن القيم رحمه الله تعالى : التدبر تحديق ناظر القلب إلى معانيه، وجمع الفكر على تدبره وتعقله. وقيل في معناه: هو التفكر الشامل الواصل إلى أواخر دلالات الكلم ومراميه البعيدة .(1/218)
[*] قال السيوطي رحمه الله تعالى : صفة التدبر أن يشغل القارئ قلبه بالتفكر في معنى ما يتلفظ به فيعرف معنى كل آية، ويتأمل الأوامر والنواهي، ويعتقد قبول ذلك، فإن كان قصر عنه فيما مضى من عمره اعتذر واستغفر، وإذا مر بآية عذاب أشفق وتعوّذ، أو تنزيه نزّه وعظّم، أو دعاء تضرع وطلب .
(وصفة ذلك: أن يشغل قلبه بالتفكر في معنى ما يلفظ به، فيعرف معنى كل آية، ويتأمل الأوامر والنواهي، فإن كان مما قصر عنه فيما مضى اعتذر واستغفر، وإذا مرّ بآية رحمة استبشر وسأل، أو عذاب أشفق وتعوّذ، أو تنزيه نزّه وعظّم، أو دعاء تضرّع وطلب .
وقد ورد الحث الشديد في الكتاب العزيز ، وفى السنة الصحيحة على التدبر في معاني القرآن والتفكر في مقاصده وأهدافه .
قال تعالى: (أَفَلاَ يَتَدَبّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىَ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ ) [ محمد / 24]
وفى هذه الآية الكريمة توبيخ عظيم على ترك التدبر في القرآن .
(والسنة الصحيحة طافحةٌ بما يحث على تدبر القرآن منها ما يلي :
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه.
[*] قال علي : لا خير في عبادة لا فقه فيها، ولا في قراءة لا تدبر فيها.
[*] وقال ابن عباس رضي الله عنهما : لأن أقرأ إذا زلزلت والقارعة أتدبرهما، أحب إليّ من أقرأ البقرة وآل عمران تهذيرا.
[*] وقال ابن مسعود : من أراد علم الأولين والآخرين، فليتدبر القرآن .
وقد بات الكثير من السلف يتلو أحدهم آية واحدة ليلة كاملة، يرددها ليتدبر ما فيها، وكلما أعادها انكشف له من معانيها، وظهر له من أنوارها، وفاض عليه من علومها وبركاتها.(1/219)
[*] قال الأحنف بن قيس : عرضت نفسي على القرآن، فلم أجد نفسي بشيء أشبه مني بهذه الآية وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ [ التوبة/ 102]
{ تنبيه } :( واقعنا هو تطبيق جزء من الحديث وهو التلاوة أما الدراسة والتدبر فهي - في نظر بعضنا - تؤخر الحفظ وتقلل من عدد الحروف المقروءة فلا داعي لها .
( حديث حذيفة في صحيح مسلم) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ البقرة وآل عمران والنساء في ركعة ، لا يمر بآيةِ رحمةٍ إلا سأل ولا بآيةِ عذاب إلا استجار .
( حديث حذيفة رضي الله عنه الثابت في صحيح النسائي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة فافتتح البقرة ثم المائة فمضى ثم المائتين فمضى فقلت يصلي بها في ركعة فمضى فافتتح النساء فقرأها ثم افتتح آل عمران فقرأها يقرأ مترسلا إذا مر بآية فيها تسبيح سبح وإذا مر بسؤال سأل وإذا مر بتعوذ تعوذ ثم ركع فقال سبحان ربي العظيم فكان ركوعه نحوا من قيامه ثم رفع رأسه فقال سمع الله لمن حمده فكان قيامه قريبا من ركوعه ثم سجد فجعل يقول سبحان ربي الأعلى فكان سجوده قريبا من ركوعه .
(هذا تطبيق نبوي عملي للتدبر ظهر أثره بالتسبيح والسؤال والتعوذ.
وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يهتم اهتماماً بالغاً بتدبر القرآن وكان أحياناً لا يزال يردد آيةً حتى يصبح
(حديث أبي ذر في صحيحي النسائي وابن ماجة) قال قام النبي - صلى الله عليه وسلم - بآيةٍ يرددها حتى أصبح ، والآية قال تعالى: (إِن تُعَذّبْهُمْ فَإِنّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)
[المائدة / 118]
(فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدم التدبر على كثرة التلاوة، فيقرأ آية واحدة فقط في ليلة كاملة .(1/220)
وقد تأسى أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - به في ذلك فردد تميم بن أوس آيةً حتى أصبح والآية هي( أَمْ حَسِبَ الّذِينَ اجْتَرَحُواْ السّيّئَاتِ أَن نّجْعَلَهُمْ كَالّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ سَوَآءً مّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ) {الجاثية/21 )
[*] قال محمد بن كعب القرظي :
لأن أقرأ في ليلتي حتى أصبح بـ (إذا زلزلت) و (القارعة) لا أزيد عليهما أحب إليَّ من أن أهذَّ القرآن ليلتي هذّاً. أو قال: أنثره نثرا ً.
[*] قال ابن القيم : ليس شيء أنفع للعبد في معاشه ومعاده من تدبر القرآن وجمع الفكر على معاني آياته؛ فإنها تطلع العبد على معالم الخير والشر بحذافيرها وعلى طرقاتهما وأسبابهما وثمراتهما ومآل أهلهما، وتتل في يده مفاتيح كنوز السعادة والعلوم النافعة، وتثبت قواعد الإيمان في قلبه، وتريه صورة الدنيا والآخرة والجنة والنار في قلبه، وتحضره بين الأمم، وتريه أيام الله فيهم، وتبصره مواقع العبر.
وتشهده عدل الله وفضله وتعرفه ذاته وأسماءه وصفاته وأفعاله وما يحبه وما يبغضه وصراطه الموصل إليه وقواطيع الطريق وآفاته، وتعرفه النفس وصفاتها ومفسدات الأعمال ومصححاتها، وتعرفه طريق أهل الجنة وأهل النار وأعمالهم وأحوالهم وسيماهم ومراتب أهل السعادة وأهل الشقاوة .
فتشهده الآخرة حتى كأنه فيها، وتغيبه عن الدنيا حتى كأنه ليس فيها، وتميز له بين الحق والباطل في كل ما يختلف فيه العالم، وتعطيه فرقاناً ونوراً يفرق به بين الهدى والضلال، وتعطيه قوة في قلبه وحياة واسعة وانشراحاً وبهجة وسروراً فيصير في شأن والناس في شأن آخر؛ فلا تزال معانيه تنهض العبد إلى ربه بالوعد الجميل.(1/221)
وتحذره وتخوفه بوعيده من العذاب الوبيل، وتهديه في ظلم الآراء والمذاهب إلى سواء السبيل، وتصده عن اقتحام طرق البدع والأضاليل، وتبصره بحدود الحلال والحرام وتوقفه عليها؛ لئلا يتعداها فيقع في العناء الطويل، وتناديه كلما فترت عزماته.
تقدمَ الركبُ، وفاتك الدليل، فاللحاقَ اللحاقَ، والرحيلَ الرحيلَ فاعتصم بالله واستعن به وقل: {حسبي الله ونعم الوكيل.
(إنَّ المؤمن عندما يُحسن قراءة القرآن وتدبره يقف على زاد عظيم من معانيه ودلالاته وهداياته، ونحن في عصرنا الحاضر أحوج ما نكون إلى القرآن العظيم، نتلوه ونتدَّبره، نفهمه ونفسِّره، نحيا به ونتعامل معه، نصلح أنفسنا ومجتمعاتنا على هديه، ونقيم مناهج حياتنا على أسسه ومبادئه وتوجيهاته.
[*] يقول الإمام الآجري رحمه الله تعالى :
ألا ترون رحمكم الله إلى مولاكم الكريم، كيف يحثُّ خلقه على أن يتدبروا كلامه، ومن تدبَّر كلامه عرف الربّ عز وجل، وعرف عظيم سلطانه وقدرته، وعرف عظيم تفضله على المؤمنين، وعرف ما عليه من فرض عبادته، فألزم نفسه الواجب، فحذر ممَّا حذَّره مولاه الكريم، ورغب فيما رغَّبه فيه، ومن كانت هذه صفته عند تلاوته للقرآن وعند استماعه من غيره ، كان القرآن له شفاء، فاستغنى بلا مال ، وعزَّ بلا عشيرة ، وأنس بما يستوحش منه غيره، وكان همُّه عند تلاوة السورة إذا افتتحها: متى أتعظ بما أتلوه ؟ ولم يكن مراده: متى أختم السورة ؟ وإنَّما مراده: متى أعقل من الله الخطاب؟ متى أزدجر؟ متى أعتبر؟ لأنَّ تلاوته للقرآن عبادة، والعبادة لا تكون بغفلة .
[*] عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنَّه قال في القرآن الكريم:
لا تهذوا القرآن هذا لشعر ولا تنثروه نثر الدقل - أي التمر الرديء وفي رواية الرمل - قفوا عند عجائبه وحركوا به القلوب ولا يكن هم أحدكم آخر السورة .
[*] وقال الحسن البصري رحمه الله :(1/222)
"الزموا كتاب الله وتتبعوا ما فيه من الأمثال، وكونوا فيه من أهل البصر، رحم الله عبداً عرض نفسه وعمله على كتاب الله، فإن وافق كتابَ الله حمد الله وسأله الزيادة، وإن خالف كتاب الله أعتب نفسه ورجع من قريب".
(إنَّ التمسك بكتاب الله عزّ وجل تلاوة وتدبراً، عملاً والتزاماً، سبيلُ السعادة في الدارين الدنيا والآخرة، وطريق الفلاح فيهما،
[*] قال ابن عباس رضي الله عنهما:
"تكفل الله لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه أن لا يَضِلَّ في الدنيا ولا يشقى في الآخرة. ثم قرأ قوله تعالى:( فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى) [ طه 123 : 126 ]
(وإذا نظرنا في سير الصحابة ومن بعدهم من سلف هذه الأمة؛ نجدهم قد تلقوا هذا القرآن الكريم مدركين مدى الشرف الذي حباهم الله به، فأقبلوا عليه يحفظونه ويرتلونه آناء وأطراف النهار، جعلوه غذاء أرواحهم وقوت قلوبهم وقرة أعينهم، نفذوا أحكامه وأقاموا حدوده وطبقوا شرائعه، طهرت به نفوسهم وصلحت به أحوالهم، ودعوا الناس إليه ورغبوهم فيه .
[*] عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنَّه قال في القرآن الكريم:
لا تهذوا القرآن هذا لشعر ولا تنثروه نثر الدقل - أي التمر الرديء وفي رواية الرمل - قفوا عند عجائبه وحركوا به القلوب ولا يكن هم أحدكم آخر السورة .(1/223)
[*] قال عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما : ( لقد عشنا دهرا طويلا وأحدنا يؤتى الإيمان قبل القرآن فتنزل السورة على محمد صلى الله عليه وسلم فيتعلم حلالها وحرامها وآمرها وزاجرها ، وما ينبغي أن يقف عنده منها ، ثم لقد رأيت رجالا يؤتى أحدهم القرآن قبل الإيمان ، فيقرأ ما بين الفاتحة إلى خاتمته لا يدري ما آمره ولا زاجره وما ينبغي أن يقف عنده منه ، ينثره نثر الدقل !! ..
[*] قال الحسن البصري: والله! ما تدبُّره بحفظ حروفه وإضاعة حدوده حتى إن أحدهم ليقول: قرأت القرآن كله، ما يُرى له القرآنُ في خُلُق ولا عمل. قال تعالى: (أَفَلاَ يَتَدَبّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً) [ النساء : 82]
[*] وقال الحسن أيضاً: نزل القرآن ليُتَدَبَّر ويعمل به؛ فاتخذوا تلاوته عملاً. أي أن عمل الناس أصبح تلاوة القرآن فقط بلا تدبر ولا عمل به .
[*] قال ابن كثير: (يقول الله تعالى آمراً عباده بتدبر القرآن وناهياً لهم عن الإعراض عنه وعن تفهم معانيه المحكمة وألفاظه البليغة: أفلا يتدبرون القرآن)، فهذا أمر صريح بالتدبر والأمر للوجوب ، قال تعالى: (الّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقّ تِلاَوَتِهِ أُوْلََئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ)
[ البقرة: 121]
[*] روى ابن كثير عن ابن مسعود قال: والذي نفسي بيده! إن حق تلاوته أن يحل حلاله ويحرم حرامه ويقرأه كما أنزله الله .
[*] وقال الشوكاني : يتلونه: يعملون بما فيه، ولا يكون العمل به إلا بعد العلم والتدبر. قال تعالى: {ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون} [ البقرة: 78]
[*] قال الشوكاني: وقيل: (الأماني: التلاوة) أي: لا علم لهم إلا مجرد التلاوة دون تفهم وتدبر.(1/224)
[*] وقال ابن القيم رحمه الله تعالى : ذم الله المحرفين لكتابه والأميين الذين لا يعلمون منه إلا مجرد التلاوة وهي الأماني . قال تعالى: (وَقَالَ الرّسُولُ يَرَبّ إِنّ قَوْمِي اتّخَذُواْ هََذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً) [ الفرقان: 30 ]
[*] قال ابن كثير :
وترك تدبره وتفهمه من هجرانه، وقال ابن القيم: هجر القرآن أنواع... الرابع: هجر تدبره وتفهمه ومعرفة ما أراد المتكلم به منه .
وحتى نتدبر القرآن فعلينا بمراعاة الآتي :
(1) مراعاة آداب التلاوة من طهارة ومكان وزمان مناسبين وحال مناسبة وإخلاص واستعاذة وبسملة وتفريغ للنفس من شواغلها وحصر الفكر مع القرآن والخشوع والتأثر والشعور بأن القرآن يخاطبه.
(2) التلاوة بتأنٍ وتدبر وانفعال وخشوع، وألا يكون همه نهاية السورة، الوقوف أمام الآية التي يقرؤها وقفةً متأنيةً فاحصةً مكررةً، النظرة التفصيلية في سياق الآية: تركيبها - معناها - نزولها - غريبها – دلالاتها.
(3) ملاحظة البعد الواقعي للآية؛ بحيث يجعل من الآية منطلقاً لعلاج حياته وواقعه، وميزاناً لمن حوله وما يحيط به.
(4) العودة إلى فهم السلف للآية وتدبرهم لها وتعاملهم معها والاطلاع على آراء بعض المفسرين في الآية .
(5) النظرة الكلية الشاملة للقرآن، الالتفات للأهداف الأساسية للقرآن .
(6) الثقة المطلقة بالنص القرآني وإخضاع الواقع المخالف له .
(7) معايشة إيحاءات النص وظلاله ولطائفه، الاستعانة بالمعارف الثقافات الحديثة، العودة المتجددة للآيات، وعدم الاقتصار على التدبر مرة واحدة؛ فالمعاني تتجدد، ملاحظة الشخصية المستقلة للسورة، التمكن من أساسيات علوم التفسير.
القراءة في الكتب المتخصصة في هذا الموضوع مثل كتاب: (القواعد الحسان لتفسير القرآن) للسعدي، وكتاب (مفاتيح للتعامل مع القرآن) للخالدي، وكتاب (قواعد التدبر الأمثل لكتاب الله عز وجل) لعبد الرحمن حبنكة الميداني، وكتاب (دراسات قرآنية) لمحمد قطب .(1/225)
(فوائد تدبر القرآن :
(1) التدبر في القرآن غاية من غايات إنزاله: يقول الله تعالى: { كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب } [ص:29]. ومدح الحق جل وعلا من تدبر وانتفع، فذكر من صفات عباد الرحمن: { وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً } (الفرقان:73)
(وذم من لا يتدبرون القرآن وأنكر عليهم فقال تعالى: { أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها } [محمد24].
(2) التدبر من علامات الإيمان: { الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله } ، { الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به }
(3) التدبر يزيد الإيمان: { إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون } .
(4) تدبر القرآن من النصيحة لكتاب الله، قال - صلى الله عليه وسلم - : (الدين النصيحة)
(حديث تميم ابن أوس الداريِّ الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : الدين النصيحة قالوا : لمن يا رسول اللّه قال : للّه وكتابه ورسوله وأئمة المسلمين وعامتهم .
(5) ترك التدبر يؤدي إلى قسوة القلب: قال تعالى: (أَلَمْ يَأْنِ لِلّذِينَ آمَنُوَاْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقّ وَلاَ يَكُونُواْ كَالّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مّنْهُمْ فَاسِقُونَ) [ الحديد : 16]. وهو من أنواع هجر القرآن الذي شكاه النبي - صلى الله عليه وسلم - لربه: (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً)
[ الفرقان:30]
السبب الثاني: التقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض، فإنها موصلة إلى درجة المحبوب بعد المحبة.(1/226)
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
وذلك لأنها توصل إلى درجة المحبة وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد ، ودرر الفرائد . (
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : قال الله تعالى من عاد لي ولياً فقد آذنته بالحرب ، وما تقرب إلىَّ عبدي بشيءٍ مما افترضته عليه ، وما يزال عبدي يتقرب إليِّ بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله الذي يمشي بها ، ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنَّه ، وما ترددتُ عن شيءٍّ أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته .
فتضمن هذا الحديث الإلهي الشريف حصر أسباب محبة الله في أمرين : أداء فرائضه، والتقرب إليه بالنوافل. وأخبر سبحانه أن أداء الفرائض أحب ما يتقرب إليه المتقربون ثم بعدها النوافل، وأن المحب يستكثر من النوافل ، لا يزال يكثر منها حتى يصير محبوباً لله فإذا صار محبوباً شغلته المحبة عن أي أفكار وخواطر أخرى أجنبية غريبة عن العبادة فلا تخطر على باله وإذا جاءت تنصرف وتنطرد بسرعة ، لأنه صار عنده من مراقبة الله ما يمنع هذه الأفكار من الورود ويكون عنده من المهابة والعظمة لربه ما يمنع من الانشغال بأي شيء أجنبي عن العبادة، ويكون عنده من الإجلال لله والأنس به والشوق إليه ما يجعله دائماً ذاكراً تالياً عابداً عاملاً .(1/227)
فإذا قيل أن هناك أناس وهذا أكثر حال المسلمين، يستكثرون من النوافل و هم مقصرون في الواجبات ويقترفون المعاصي فما الحل؟ ليس الحل في ترك النوافل فبتركها يزداد حاله سوءاً فالنوافل تجبر النقص، بل الحل في البقاء على النوافل لكن يصلح حال الواجبات و يصلح حال ترك المحرمات فيمتنع عن المحرمات ويزيد في النوافل. وفي الحديث كما قال ابن حجر عظم قدر الصلاة فإنه ينشأ عنها محبة الله للعبد الذي يتقرب بها وذلك لأنها محل المناجاة والقربى ، ولا واسط فيها بين العبد وربه، ولا شيء أقر لعين العبد منها ومن كانت قرة عينه في شيء فإنه يود أنه لا يفارقه ولا يخرج منه لأن فيه نعيمه وبه تطيب حياته وهذا للعابد. إذاً المحافظة على الصلاة فرضاً ونفلاً من أعظم ما يجلب المحبة ومنها قيام الليل. ولا تكاد تجد فريضة إلا وله نوافل ( الصلاة- الصيام – الزكاة- الحج- صلة الرحم والبر بالوالدين)حتى المرء إذا قصّر في الواجب وجد ما يعوّض به ، لكن لا يمكن للمرء أن يشتغل بالنوافل ويترك الواجبات وهذا من خلل التصور واضطراب الميزان وخلل المنهج.
(وقد بين هذا الحديث صنفان من الناجين الفائزين.
(الصنف الأول: المحب لله مؤد لفرائض الله، وقافٌ عند حدوده.
(الصنف الثاني: المحبوب من الله متقرب إلى الله بعد الفرائض بالنوافل. ( وهذا مقصود ابن القيم رحمه الله بقوله: ( فإنها موصلة إلى درجة المحبوبية بعد المحبة ).
[*] قال ابن رجب الحنبلي رحمه الله: ولياء الله المقربون قسمان:
ذكر الأول، ثم قال: الثاني: من تقرب إلى الله تعالى بعد أداء الفرائض بالنوافل، وهم أهل درجة السابقين المقربين، لأنهم تقربوا إلى الله بعد الفرائض بالإجتهاد في نوافل الطاعات، والإنكاف عن دقائق المكروهات بالورع، وذلك يوجب للعبد محبة الله كما قال تعالى في الحديث القدسي: لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فمن أحبه الله رزقه محبته وطاعته والحظوة عنده.(1/228)
والنوافل المتقرب بها إلى الله تعالى أنواع: وهي الزيادات على أنواع الفرائض كالصلاة والزكاة والصيام والحج والعمرة.
السبب الثالث: دوام ذكره على كل حال، بالسان والقلب والعمل والحال، فنصيبه من المحبة على قدر نصيبه من الذكر.
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
وليعلم أن نصيبه من المحبة على حسب نصيبه من هذا الذكر ، ولهذا أمر تعالى بالإكثار من ذكره , وأنه سبب للفلاح قال تعالى: (يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُوَاْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيراً لّعَلّكُمْ تُفْلَحُونَ) [الأنفال: 45]،وأثنى على أهل الذكر ومدحهم وأخبر نبيه صلى الله عليه وسلم أنه فوق منزلة الجهاد، وجعل الله هذا الذكر حتى بعد العبادات العظيمة وخاتمة الأعمال الصالحة وبعد الصيام قال تعالى: ( وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدّةَ وَلِتُكَبّرُواْ اللّهَ عَلَىَ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ) [ البقرة : 185]، والحج قال تعالى: (فَإِذَا قَضَيْتُمْ مّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ ) [ البقرة : 200]، والصلاة قال تعالى: (فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصّلاَةَ فَاذْكُرُواْ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِكُمْ ) [ النساء : 103]، والجمعة إذا انقضت قال تعالى: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصّلاَةُ فَانتَشِرُواْ فِي الأرْضِ وَابْتَغُواْ مِن فَضْلِ اللّهِ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيراً لّعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ) [ الجمعة : 10]،وهكذا..، فالذكر هذا مقارن للأعمال الصالحة{ قال تعالى: ( وَأَقِمِ الصّلاَةَ لِذِكْرِيَ) [ طه : 14] }، و بناء على ذلك فإن ذكر الله تعالى من أعظم ما يوصل إلى محبته عز وجل ..
السبب الرابع: إيثار محابه على محابك عند غلبات الهوى والتسنم إلى محابه وإن صعب المرتقى.
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ(1/229)
[*] قال ابن القيم في شرح هذه العبارة: ( إيثار رضى الله على رضى غيره، وإن عظمت فيه المحن، وثقلت فيه المؤن، وضعف عنه الطول والبدن ).
وقال رحمه الله: ( إيثار رضى الله عز وجل على غيره، وهو يريد أن يفعل ما فيه مرضاته، ولو أغضب الخلق، وهي درجة الإيثار وأعلاها للرسل عليهم صلوات الله وسلامه، وأعلاها لأولى العزم منهم، وأعلاها لنبينا محمد .
وذا كله لا يكون إلا لثلاثة:
1 ـ قهر هوى النفس.
2 ـ مخالفة هوى النفس.
3 ـ مجاهدة الشيطان وأوليائه.
[*] قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ( يحتاج المسلم إلى أن يخاف الله وينهي النفس عن الهوى، ونفس الهوى والشهوة لا يعاقب عليه، بل على أتباعه والعمل به، فإذا كانت النفس تهوى وهو ينهاها، كان نهيه عبادة لله، وعملاً صالحاً ) [10/635 مجموع الفتاوى]
السبب الخامس: مطالعة القلب لأسمائه وصفاته، ومشاهدتها ومعرفتها، وتقلبه في رياض هذه المعرفة، فمن عرف الله بأسمائه وأفعاله، أحبه لا محالة.
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
[*] قال ابن القيم رحمه الله: لا يوصف بالمعرفة إلا من كان عالماً بالله وبالطريق الموصل إلى الله، وبآفاتها وقواطعها، وله حال مع الله تشهد له بالمعرفة. فالعارف هو من عرف الله بأسمائه وصفاته وأفعالة، ثم صدق الله في معاملته، ثم أخلص له في قصده ونيته .
فمن جحد الصفات فقد هدم أساس الإسلام والإيمان وأتلف شجرة الإحسان فضلاً عن أن يكون من أهل العرفان.
ومن أول الصفات فكأنما يتهم البيان النبوي للرسالة بالتقصير إذ لا يمكن أن يترك النبي أهم أبواب الإيمان بحاجه إلى إيضاح وإفصاح من غيره لإظهار المراد المقصود الذى لم تبينه العبادات في النصوص.
وثبت عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: { إن لله تسعاً وتسعون اسماً من أحصاها دخل الجنة .(1/230)
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :إن لله تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة .
السبب السادس: مشاهدة بره وإحسانه، وآلائه ونعمه الباطنة والظاهرة فإنها داعية إلى محبته.
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
العبد أسير الإحسان فالإنعام والبر واللطف، معاني تسترق مشاعره، وتستولي على أحاسيسه، وتدفعه إلى محبة من يسدي إليه النعمة ويهدي إليه المعروف. ولا منعم على الحقيقة ولا محسن إلا الله، هذه دلالة العقل الصريح والنقل الصحيح، فلا محبوب في الحقيقة عند ذوي البصائر إلا الله تعالى، ولا مستحق للمحبة كلها سواه، وانتدب لنصرته وقمع أعدائه، وأعانه على جميع أغراضه، وإذا عرف الإنسان حق المعرفة، علم أن المحسن إليه هو الله سبحانه وتعالى فقط، وأنواع إحسانه لا يحيط بها حصر: وإِن تَعُدُوا نِعمَتَ اللّهِ لاَ تُحصُوهَآ إنّ الإِِنسَانَ لَظََلُومٌ كَفّارٌ [إبراهيم:34]
قال سيد قطب رحمه الله في الظلال [6/3646،3645]: ( فأما الأفئدة ) فهي هذه الخاصية التي صار بها الإنسان، وهي قوة الإدراك والتمييز والمعرفة التي استخلف به الإنسان في هذا الملك العريض، والتي حمل بها الأمانة التي أشفقت من حملها السماوات والأرض والجبال، أمانة الإيمان الاختياري والاهتداء الذاتي والاستقامة الإرادية على منهج الله القويم.
ولا يعلم أحد ماهيّة هذه القوة ولا مركزها داخل الجسم أو خارجه فهي سر الله في الإنسان، لم يعلمه أحد سواه.
وعلى هذه الهبات الضخمة التي أعطيها الإنسان لينهض بتلك الأمانة الكبرى فإنه لم يشكر قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ [المؤمنون:78] وهو أمر يثير الخجل والحياة عند التذكير به. كما يذكرهم القرآن في هذا المجال ويذكر كل جاحد و كافر لا يشكر نعمة الله عليه، وهو لا يوفيها حقها ولو عاش للشكر دون سواه!!
ستجيب ما في الكون من آياته *** عجبٌ عُجاب لو تَرى عَيناك(1/231)
السبب السابع: وهو من أعجبها: انكسار القلب بكليته، بين يدي الله تعالى، وليس في التعبير عن المعنى غير الأسماء والعبارات.
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ
والإنكسار بمعنى الخشوع، وهو الذل والسكون.
قال تعالى: وَخَشَعَتِ الأَصوَاتُ لِلرّحمَنِ فَلاَ تَسمَعُ إِلاهَمساً [طه:108]
[*] يقول الراغب الأصفهاني: ( الخشوع: الضراعة، وأكثر ما يستعمل الخشوع فيما يوجد على الجوارح، والضراعة أكثر ما تستعمل فيما يوجد في القلب، ولذلك قيل إذا ضرع القلب: خشعت جوارحة.
[*] وقال ابن القيم: ( الحق أن الخشوع معنى يلتئم من التعظيم والمحبة والذل والانكسار.
وقد كان للسلف في الخشوع بين يدي الله أحوال عجيبة، تدل على ما كانت عليه قلوبهم من الصفاء والنقاء.
[*] كان عبدالله بن الزبير رضي الله عنهما إذا قام في الصلاة كأنه عود، من الخشوع، وكان يسجد فتنزل العصافير على ظهره لاتحسبه إلا جزع حائط.
[*] وكان علي بن الحسين رضي الله عنهما إذا توضأ اصفّر لونه، فقيل له: ما هذا الذي يعتادك عند الوضوء. قال: ( أتدرون بين يدي من أريد أن أقوم؟ ).
السبب الثامن: الخلوة به وقت النزول الإلهي، لمناجاته وتلاوة كلامه والوقوف بالقلب والتأدب بأدب العبودية بين يديه، ثم ختم ذلك بالاستغفار والتوبة.
قال تعالى: تَتَجافى جُنُوبُهُم عَنِ المَضاجِعِ يَدعون ربهم خوفاً وَطَمَعاً وَمِمّا رَزَقناهُم يُنفِقُونَ [السجدة:16]
إن أصحاب الليل هم بلا شك من أهل المحبة، بل هم من أشرف أهل المحبة، لأن قيامهم في الليل بين يدي اللّه تعالى يجمعُ لهم جلّ أسباب المحبة التي سبق ذكرها.
ولهذا فلا عجب أن ينزل أمين السماء جبريل عليه السلام على أمين الأرض محمد صلى اللّه عليه وسلم ويقول له: ( وأعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل وعزه استغناؤه عن الناس .(1/232)
( حديث سهل بن سعد الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أتاني جبريل فقال : يا محمدُ عِش ما شئت فإنك ميت و أحبب من شئت فإنك مفارِقُه ، و اعمل ما شئت فإنك مجزيٌ به ، و اعلم أن شرفَ المؤمن قيامُهُ بالليل و عزَّه استغناؤه عن الناس .
[*] قال الحسن البصري رحمه اللّه: ( لم أجد من العبادة شيئاً أشد من الصلاة في جوف الليل فقيل له: ما بال المجتهدين من أحسن الناس وجوهاً فقال لأنهم خلوا بالرحمن فألبسهم من نوره .
السبب الثامن: الخلوة به وقت النزول الإلهي، لمناجاته وتلاوة كلامه والوقوف بالقلب والتأدب بأدب العبودية بين يديه، ثم ختم ذلك بالاستغفار والتوبة.
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
وتلاوة كلامه والوقوف بتأدب معه بأدب العبودبة استغفاراً وتوبة قال تعالى: (تَتَجَافَىَ جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ)[السجدة :16]
و قال تعالى: (أَمّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَآءَ اللّيْلِ سَاجِداً وَقَآئِماً يَحْذَرُ الاَخِرَةَ وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنّمَا يَتَذَكّرُ أُوْلُو الألْبَابِ) [ الزمر : 9]
إن أصحاب الليل هم بلا شك من أهل المحبة، بل هم من أشرف أهل المحبة، لأن قيامهم في الليل بين يدي اللّه تعالى يجمعُ لهم جلّ أسباب المحبة التي سبق ذكرها.
ولهذا فلا عجب أن ينزل أمين السماء جبريل عليه السلام على أمين الأرض محمد صلى اللّه عليه وسلم ويقول له: ( وأعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل وعزه استغناؤه عن الناس .(1/233)
( حديث سهل بن سعد الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أتاني جبريل فقال : يا محمدُ عِش ما شئت فإنك ميت و أحبب من شئت فإنك مفارِقُه ، و اعمل ما شئت فإنك مجزيٌ به ، و اعلم أن شرفَ المؤمن قيامُهُ بالليل و عزَّه استغناؤه عن الناس .
[*] قال الحسن البصري رحمه اللّه: ( لم أجد من العبادة شيئاً أشد من الصلاة في جوف الليل فقيل له: ما بال المجتهدين من أحسن الناس وجوهاً فقال لأنهم خلوا بالرحمن فألبسهم من نوره .
السبب التاسع: مجالسة المحبين الصادقين، والتقاط أطايب ثمرات كلامهم كما ينتقي أطايب الثمر، ولا تتكلم إلا إذا ترجحت مصلحة الكلام وعلمت أن فيه مزيداً لحالك ومنفعة لغيرك.
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
( حديث معاذ رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :قال الله تعالى: وجبت محبتي للمتحابين في و المتجالسين في و المتباذلين في و المتزاورين في .
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
( قال اللّه تعالى وجبت ) وفي رواية حقت
( محبتي للمتحابين فيّ والمتجالسين فيّ ) أي يتجالسون في محبتي بذكري وكان الجنيد أبداً مشغولاً في خلوته فإذا دخل إخوانه خرج وقعد معهم ويقول لو أعلم شيئاً أفضل من مجالستكم ما خرجت إليكم وذلك لأن لمجالسة الخواص أثراً في صفاء الحضور ونشر العلوم ما ليس لغيرهم
( والمتباذلين فيّ ) أي بذل كل واحد منهم لصاحبه نفسه وماله في مهماته في جميع حالاته كما فعل الصديق رضي اللّه عنه ببذل نفسه ليلة الغار وماله حتى تخلل بعباءة لا لغرض من الدنيا ولا لدار القرار(1/234)
( والمتزاورين فيّ ) زاد الطبراني في روايته والمتصادقين فيّ وذلك لأن قلوبهم لهت عن كل شيء سواه فتعلقت بتوحيده فألف بينهم بروحه وروح الجلال أعظم شأناً أن يوصف فإذا وجدت قلوبهم نسيم روح الجلال كادت تطير من أماكنها شوقاً إليه وهم محبوسون بهذا الهيكل فصاروا في [ ص 486 ] اللقاء يهش بعضهم لبعض ائتلافاً وتلذذاً وشوقاً لمحبوبهم الأعظم فمن ثم وجب لهم الحب ففازوا بكمال القرب قال ابن عربي : قد أعطاني اللّه من محبته الحظ الأوفر واللّه إني لأجد من الحب ما لو وضع على السماء لانفطرت وعلى النجوم لانكدرت وعلى الجبال لسيرت والحب على قدر التجلي والتجلي على قدر المعرفة لكن محبة العارف لا أثر لها في الشاهد . أهـ
فمحبة المسلم لأخيه المسلم في الله، ثمرة لصدق الإيمان وحسن الخلق وهي سياج واق، ويحفظ الله به قلب العبد، ويشد فيه الإيمان حتى لا يتفلت أو يضعف.
السبب العاشر: مباعدة كل سبب يحول بين القلب وبين الله عز وجل.
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
فالقلب إذا فسد فلن يجد المرء فائدة فيما يصلحه من شؤون دنياه ولن يجد نفعاً أو كسباً في أخراه. قال تعالى: يَومَ لَا يَنفَعُ مَالٌ ولاَ بَنُوُنَ إِلاّ مَن أَتَى اللهَ بِقَلبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88]
[*](أحوال يحب الله تعالى أهلها :
(1) قال تعالى: (وَأَنْفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَاْ إِنّ اللّهَ يُحِبّ الْمُحْسِنِينَ) [ البقرة : 195]، فالعبد يندفع للإحسان لأنه إن صار من جملة المحسنين نال المحبة.
(2) وقال تعالى: ( إِنّ اللّهَ يُحِبّ التّوّابِينَ وَيُحِبّ الْمُتَطَهّرِينَ) [ البقرة : 222]، الحرص على الطهارة الباطنة والظاهرة.
(3) وقال تعالى: قال تعالى: ( وَاللّهُ يُحِبّ الصّابِرِينَ) [ آل عمران : 146](1/235)
(4) وقال تعالى: ( إِنّ اللّهَ يُحِبّ الْمُتَوَكّلِينَ) [ آل عمران : 159]
(5) وقال تعالى: (يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبّهُمْ وَيُحِبّونَهُ أَذِلّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [ المائدة : 54]، وما هي صفاتهم ؟ أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون في الحق لومة لائم..
(6) وأخبر الله تعالى أنه يحب المتقين ، قال تعالى: (بَلَىَ مَنْ أَوْفَىَ بِعَهْدِهِ وَاتّقَى فَإِنّ اللّهَ يُحِبّ الْمُتّقِينَ) [ آل عمران : 76]
(7) وأخبر أنه يحب المقسطين، أصحاب العدل الذين يعدلون في أهليهم والولايات التي يتولونها والمناصب التي يتبوءونها قال تعالى: ( وَأَقْسِطُوَاْ إِنّ اللّهَ يُحِبّ الْمُقْسِطِينَ) [ الحجرات : 9]
(8) أخبر تعالى أنه يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص.
قال تعالى: (إِنّ اللّهَ يُحِبّ الّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنّهُم بُنْيَانٌ مّرْصُوصٌ) [ الصف : 4]
(9) (حديث سعد ابن أبي وقاص في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي .
الغني : الغني عن الناس
الخفي : من لا يريد علواً في الأرض ولا مناصب ولا جاه. الخامل المنقطع إلى العبادة والانشغال بأمور نفسه.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان الثوري قال : بلغني أن العبد يعمل العمل سراً فلا يزال به الشيطان حتى يغلبه فيكتب في العلانية، ثم لا يزال الشيطان به حتى يحب أن يحمد عليه فينسخ من العلانية فيثبت في الرياء.(1/236)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عاملوا الله عز وجل بالصدق في السر، فإن الرفيع من رفعه الله، وإذا أحب الله عبداً أسكن محبته في قلوب العباد.
(10) ( حديث عمران بن حصين رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن الله إذا أنعم على عبد نعمة يحب أن يرى أثر نعمته على عبده .
، من غير إسراف وخيلاء ثم يتوسط ولا يبخل على نفسه .
{ تنبيه } :(تقييد إظهار نعمة الله على العبد ما لم يخالطه إسراف أو مخيلة :
(حديث عبد الله ابن عمرو رضي الله عنهما الثابت في صحيح ابن ماجه ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : كلوا واشربوا وتصدقوا والبسوا ما لم يخالطه إسراف أو مخيلة .
(11) ( حديث معاذ رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : قال الله تعالى : وجبت محبتي للمتحابين في و المتجالسين في و المتباذلين في و المتزاورين في .
فالحب في الله والزيارة في الله والمجالسة في الله والتعاون على البر والتقوى والتواصي بالحق والصبر واجلس بنا نؤمن ساعة ومجالس الذكر تنال بها محبة الله،
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أن رجلا زار أخا له في قرية أخرى فأرصد الله على مدرجته ملكا فلما أتى عليه قال أين تريد قال أريد أخا لي في هذه القرية ، قال هل لك عليه من نعمة تربها قال لا غير أني أحبه في الله ، قال فإني رسول الله إليك إن الله قد أحبك كما أحببته فيه .
(وكلما زادت المحبة بين المؤمنين كان هذا أقرب إلى الله :
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ما تحاب رجلان في الله ؛ إلا كان أحبهما إلى الله عز وجل أشدهما حبا لصاحبه .(1/237)
(12) ( حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري ) قال : كان رجل من الانصار يؤمهم في مسجد قباء، وكان كلما افتتح سورة يقرأ بها لهم في الصلاة مما يقرأ به، افتتح: {قل هو الله أحد}. حتى يفرغ منه، ثم يقرأ سورة أخرى معها، وكان يصنع ذلك في كل ركعة، فكلمه أصحابه فقالوا: إنك تفتتح بهذه السورة، ثم لا ترى أنها تجزئك حتى تقرأ بأخرى، فأما أن تقرأ بها وأما أن تدعها وتقرأ بأخرى، فقال: ما أنا بتاركها، إن أحببتم أن أؤمكم بذلك فعلت، وإن كرهتم تركتكم، وكانوا يرون أنه من أفضلهم وكرهوا أن يؤمهم غيره، فلما أتاهم النبي صلى الله عليه وسلم أخبروه الخبر، فقال: يا فلان ما يمنعك أن تفعل ما يأمرك به أصحابك، وما يحملك على لزوم هذة السورة في كل ركعة ؟. فقال: إني أحبها، فقال: حبك إياها ادخلك الجنة .
(13) (حديث سهل بن سعد الثابت في صحيح ابن ماجة) قال أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلٌ فقال يا رسول الله : دلني على عملٍ إذا عملته أحبني الله وأحبني الناس فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ازهد في الدنيا يحبك الله وازهد فيما عند الناس يحبك الناس .
وبالجملة فالله يحب الصالحات، ويبغض كل منكر ومعصية.
نسأل الله أن يرزقنا محبته وأن يجعل حبه أحب إلينا من الماء البارد على الظمأ وأن يجعلنا ممن يقوم ويعمل بما يحب سبحانه وتعالى.
[*](مسائل هامة في المحبة :
مسألة : هل يجوز لمسلم تعزية الكافر وهو معه في العمل؟(1/238)
الجواب: يعزيه دون أن يدعو لكافر بالرحمة فلا يقول مثلاً غفر الله لأبيك وأبوه كافر، فلا يجوز الدعاء للكافر بالمغفرة والرحمة قال تعالى: (مَا كَانَ لِلنّبِيّ وَالّذِينَ آمَنُوَاْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوَاْ أُوْلِي قُرْبَىَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيّنَ لَهُمْ أَنّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ) [ التوبة : 113]، وإنما يقال جبر الله مصيبتك، عوضك الله خيراً منه، اصبر هذه حال الدنيا ، ونحو ذلك، يعزيه ويغتنم الفرصة لدعوته إلى الله.فيقال له مثلاً اتعظ بالموت الذي حصل لقريبك وأن تستعد له بالتوحيد، وأنك تعتنق الدين الذي لا يقبل الله غيره حتى تنجو.
مسألة : هل محبة الدنيا هي من الشرك ؟
الجواب: ( حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح النسائي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : حبب إلي من الدنيا الطيب والنساء وجعلت قرة عيني في الصلاة .
حبب إلي من الدنيا الطيب والنساء : إذاً هناك أشياء في الدنيا محبتها ليست من الشرك لأن النبي صلى الله عليه وسلم أحبها ، ولذلك يجوز للإنسان أن يحب أشياء من الدنيا مادامت ليست محرمة، فلا يجوز أن يحب المرء الزنا والرشوة والخمر، ولكن يحب زوجاته والزرع والطيب و أكلة معينة ، هذا حب طبيعي، لكن إذا طغى هذا الحب على محبة الله ، فضحى بمرضاة الله من أجل الزوجة وسرق من أجل الطيب، فهنا تكون هذه المحبة الدنيوية معصية غير جائزة، وهناك محبة شركية تُخرج عن الملة، إذا أحب غير الله أكثر من الله ، محبة عبودية فهنا يخرج عن الدين.
مسألة : ما هي المحبة وما لوازمها وما هي أنواعها ؟
المقصود بالمحبة : هو استقرار حب الله تعالى في قلب العبد ، وبعد أن يستقر حب الله في القلب ينبغي أن يدل على صدق المحبة بالتقرب إلى الله تعالى بالأعمال الصالحة وامتثال أمره واجتناب نهيه .
[وأجمع ما قيل في المحبة](1/239)
[*] قال أبو بكر الكتاني : جرت مسألة في المحبة بمكة أعزها الله تعالى أيام الموسم _ فتكلم الشيوخ فيها _ وكان الجُنَيد بن محمد أصغرهم سناً فقالوا : هات ما عندك يا عراقي ، فأطرق رأسه ودمعت عيناه ثم قال : عبدٌ ذاهبٌ عن نفسه متصلٌ بذكر ربه ، قائمٌ بأداء حقوقه ، ناظرٌ إليه بقلبه ، أحرقت قلبُه أنوار هيبته ، فإذا تكلم فبالله وإذا تحرك فبأمر الله وإذا سكن فمع الله ، فهو بالله ولله ومع الله ، فبكى الشيوخ وقالوا ما على هذا مزيد ، جزاك الله خيراً يا تاج العارفين .
{ تنبيه } :( إن الذي يمعن النظر قي قول الجُنَيد بن محمد رحمه الله تعالى يجد أن المحبة أصل الأعمال كلها وإليك تفصيل ذلك :
[عبدٌ ذاهبٌ عن نفسه متصلٌ بذكر ربه] : أي منشغلٌ بذكر الله تعالى عن نفسه
[ناظرٌ إليه بقلبه] : وهذا مقام الإحسان
[أحرقت قلبُه أنوار هيبته] تضمنت خوف العبودية والتعظيم
[فإذا تكلم فبالله وإذا تحرك فبأمر الله وإذا سكن فمع الله ، فهو بالله ولله ومع الله] تضمنت ذكر الله وامتثال أوامره واجتناب نهيه في السكون والحركة .
ولا شك أن عبادة الله مبنية على المحبة ، بل هي حقيقة العبادة ، إذ لو تعبدت بدون محبة صارت عبادتك قشراً لا روح فيها ، فإذا كان الإنسان في قلبه محبة لله وللوصول إلى جنته ، فسوف يسلك الطريق الموصل إلى ذلك .
[*]( لوازم محبة الله تعالى :
[1] إفراد محبة العبودية به سبحانه وتعالى وأن من أشرك مع الله تعالى شيئاً آخر في محبة العبودية كان ذلك شركاً .
قال تعالى: (وَمِنَ النّاسِ مَن يَتّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبّونَهُمْ كَحُبّ اللّهِ وَالّذِينَ آمَنُواْ أَشَدّ حُبّاً للّهِ وَلَوْ يَرَى الّذِينَ ظَلَمُوَاْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنّ الْقُوّةَ للّهِ جَمِيعاً وَأَنّ اللّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ) [سورة: البقرة - الآية: 165]
(ومن الناس (. من تبعيضية(1/240)
قوله : )أ مَن يَتّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً ( . جمع ند ، وهو الشبية والنظير .
قوله : ) يحبونهم كحب الله ( . أي : في كيفيته ونوعه ، فالنوع أن يحب غير الله محبة عبادة .
والكيفية : أن يحبه كمحبة الله أو أشد ، حتى إن بعضهم يعظم محبوبه ويغار له أكثر مما يعظم الله ويغار له ، فلو قيل : أحلف بالله ، لحلف ، وهو كاذب ولم يبال ، ولو قيل : احلف بالند ، لم يحلف ، وهو كاذب ، وهذا شرك أكبر .
وقوله : )كحب الله ( أي يحبون هذه الأنداد كمحبة الله ، فيجعلونها شركاء لله في المحبة ، لكن الذين آمنوا أشد حباً لله من هؤلاء لله ، وهذا هو الصواب .
الثاني : أن المعنى كحب الله الصادر من المؤمنين .
أي : كحب المؤمنين لله ، فيحبون هذه الأنداد كما يحب المؤمنون الله – عز وجل - ، وهذا وإن احتمله اللفظ ، لكن السياق يأباه ، لأنه لو كان المعنى ذلك ، لكان مناقضاً لقوله تعالى فيما بعد : ) والذين أمنوا أشد حباً لله ( .
وكانت محبة المؤمنين لله أشد ، لأنها محبة خالصة ليس فيها شرك ، فمحبة المؤمنين أشد من حب هؤلاء لله .
قال تعالى: (قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَآ أَحَبّ إِلَيْكُمْ مّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبّصُواْ حَتّىَ يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) [التوبة / 24]
[2] محبة رسوله وتقديم محبة رسوله على المال والولد والناس أجمعين
(حديث أنس في الصحيحين) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان : أن يكون الله و رسوله أحب إليه مما سواهما و أن يحب المرء لا يحبه إلا لله و أن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار .(1/241)
(حديث أنس في الصحيحين) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين".
(حديث عمر في صحيح البخاري) أن عمر رضي الله عنه للنبي - صلى الله عليه وسلم - : " إنك لأحب إلى من كل شيء إلا من نفسي. قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : لا والذي نفسي بيده ، حتى أكون أحب إليك من نفسك . قال : الآن والله لأنت أحب إلى من نفسي . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - الآن يا عمر "
[3] أن يحب في الله ويبغض في الله تعالى :
(حديث أبي أمامة في صحيح أبي داود) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من أحب لله و أبغض لله و أعطى لله و منع لله فقد استكمل الإيمان .
(حديث ابن عباس في صحيح الجامع) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أوثق عرى الإيمان : الموالاة في الله و المعاداة في الله و الحب في الله و البغض في الله عز و جل .
أنواع المحبة :
(والمحبة تنقسم إلى قسمين :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ
(القسم الأول : محبة عبادة ، وهي التي توجب التذلل والتعظيم ، وأن يقوم بقلب الإنسان من إجلال المحبوب وتعظيمه ما يقتضي أن يمتثل أمره ويجتنب نهيه ، وهذه خاصة بالله ، فمن أحب مع الله غيره محبة عبادة ، فهو مشرك شركاً أكبر،ويعبر العلماء عنها بالمحبة الخاصة .
(القسم الثاني : محبة ليست بعبادة في ذاتها ، وهذه أنواع :
النوع الأول : المحبة لله وفي الله ، وذلك بأن يكون الجالب لها محبة الله ، أي : كون الشيء محبوباً لله تعالى من أشخاص ، كالأنبياء ، والرسل ، والصديقين ، والشهداء ، والصالحين .
أو أعمال ، كالصلاة ، والزكاة ، وأعمال الخير ، أو غير ذلك .
وهذا النوع تابع للقسم الأول الذي هو محبة الله .
النوع الثاني : محبة إشفاق ورحمة ، وذلك كمحبة الولد . والصغار ، والضعفاء ، والمرضى .(1/242)
النوع الثالث : محبة إجلال وتعظيم لا عبادة ، كمحبة الإنسان لوالده ، ولمعلمه ، ولكبير من أهل الخير .
النوع الرابع : محبة طبيعية ، كمحبة الطعام، والشراب ، والملبس ، والمركب ،والمسكن .
[*](الآثار الواردة في محبة الله تعالى :
[*] قال فتح الموصلى : " المحب لا يجد للدنيا لذة ، ولا يغفل عن ذكر الله طرفة عين " .
[*] وقال بعضهم : " المحب طائر القلب، كثير الذكر، متسبب إلى رضوانه بكل سبيل يقدر عليها من الوسائل والنوافل دأباً وشوقاً " .
وأنشد بعضهم :
وكن لربك ذا حب لتخدمه إن المحبين للأحباب خُدّامُ
[*] وأوصت امرأة من السلف أولادها فقالت لهم : " تعودوا حب الله وطاعته ، فإن المتقين ألفوا بالطاعة فاستوحشت جوارحهم من غيرها، فإن عرض لهم الملعون بمعصية مرت المعصية بهم محتشمة فهم لها منكرون".
وأنشد ابن المبارك :
تعصى الإله وأنت تزعم حبه هذا لعمري في القياس شنيع
لو كان حبك صادقاً لأطعته إن المحب لمن يحب مطيع
(ثانياً الخوف والرجاء :
(أهمية الخوف والرجاء :
مسألة : ما أهمية الخوف والرجاء ؟
الخوف والرجاء ركنا محبة الله تعالى وهما للعبد كالجناحين للطائر ، والخوف والرجاء متلازمان فخوفٌ بلا رجاء يأسٌ وقنوط ، ورجاءٌ بلا خوف أمنٌ وغرور ، وقد وصف الله تعالى عباده المخلصين بالخوف والرجاء
قال تعالى: (إِنّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُواْ لَنَا خاشِعِينَ) [سورة: الأنبياء - الآية: 90]
و قال تعالى: (تَتَجَافَىَ جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) [سورة: السجدة - الآية: 16](1/243)
فالخوف للنفس سائق والرجاء لها قائد إن ونت على قائدها حثها سائقها وإن أبت على سائقها حركها قائدها مزيح الرجاء يسكن حر الخوف وسيف الخوف يقطع سيف ـ سوف ـ وإن تفكر في الإنعام شكر وأصبح للهم قد هجر وإن نظر في الذنوب حذر وبات جوف الليل يعتذر وأنشد : أَظلَت عَلينا مِنكَ يوماً سَحابةً أَضَاءَت لَنا برقاً وأَمطَرتنا فَلا غيمَها فيائسٌ طامعٌ ولا غَيثَها باقي فيروى عطاشها .
(متى يُعَدُ الخوف أفضل من الرجاء :
مسألة : متى يُعَدُ الخوف أفضل من الرجاء ؟
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الفضيل بن عياض قال : الخوف أفضل من الرجاء مادام الرجل صحيحاً، فإذا نزل به الموت فالرجاء أفضل من الخوف يقول: إذا كان في صحته محسناً عظم رجاؤه عند الموت، وحسن ظنه. إذا كان في صحته مسيئاً ساء ظنه عند الموت ولم يعظم رجاؤه.
وفصل الخطاب في هذه المسألة :
أن الخوف أفضل من الرجاء مادام الإنسان صحيحاً ليكون له بمثابة السوط المانع من معصية الله تعالى وينشطه على العبادة
و الرجاء أفضل من الخوف في حالة المرض أو الاحتضار للأسباب الآتية :
[1] لأنه إذا غلَّب الرجاء على الخوف في حالة المرض أو الاحتضار فإن العبد يحب لقاء الله تعالى ومن أحب لقاء الله أحب الله لقاءه
(حديث أبي هريرة في صحيح البخاري) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه و من كره لقاء الله كره الله لقاءه .
[2] لأن تغليب الرجاء على الخوف في حالة المرض أو الاحتضار يجعل العبد حسن الظن بالله تعالى
(حديث جابر في صحيح مسلم) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لا يموتن أحد منكم إلا و هو يحسن الظن بالله تعالى .
ولما احتُضِر الإمام أحمد قال لأولاده ولمن حضر احتضاره : حدثوني بأخبار الرجاء لعلي ألقى الله وأنا أُحسن الظن به .
(تعريف الخوف :(1/244)
الخوف : من مادة خوف التي تدل على الذعر والفزع في اللغة العربية، خفت الشيء خوفاً وخيفة وخوّف الرجل جعل الناس يخافونه (({إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [ آل عمران : 175 ] أي يجعلكم تخافون أولياءه أي يخوّفكم بأوليائه.
والخوف توقع مكروه لعلامة مظنونة أو معلومة، وهو ضد الأمن ويستعمل في الأمور الدنيوية أو الآخروية فهو توقع حلول مكروه أو فوات محبوب،اضطراب القلب وحركته أو فزعه من مكروه يناله أو محبوب يفوته.
(والخوف شرعاً :هو الانخلاع من طمأنينة الأمن وتألم القلب واحتراقه بسبب توقع مكروه في الاستقبال .
[*] قال ابن قدامة: اعلم أن الخوف عبارة عن تألم القلب واحتراقه بسبب توقع مكروه في الاستقبال .
مثال ذلك: من جنى على ملك جناية ثم وقع في يده فهو يخاف القتل ويجوّز العفو "احتمالات" ولكن يكون تألم قلبه بحسب قوة علمه بالأسباب المفضية إلى قتله وتفاحش جنايته وتأثيرها عند الملك،وبحسب ضعف الأسباب يضعف الخوف،وقد يكون الخوف لا عن سبب جناية بل عن صفة الذي يُخاف عظمة وجلالاً فإنه إذا علم أن الله سبحانه وتعالى لو أهلك العالمين لم يبالي ولم يمنعه مانع فبحسب معرفة الإنسان بعيوب نفسه وبجلال الله وأنه لا يسأل عما يفعل يكون الخوف على حسب هذا فهو مطالعة القلوب لسطوات الله عز وجل ونقمه فيولد في القلب الخوف"خوف الوعيد".
{ تنبيه } :( الخوف القاصر يدعو إلى الغفلة والجرأة على الذنب والإفراط في الخوف يدعو إلى اليأس والقنوط . والخوف المحمود هو الحسنة بين السيئتين و هو ما حجزك عن معصية الله تعالى .
(ولذلك قيل : ليس الخائف من يبكى ويمسح عينيه ، بل من يترك ما يخاف أن يعاقب عليه ،وقيل لذي النون المصري: متى يكون العبد خائفاً ؟ قال : " إذا نزل نفسه منزلة السقيم الذي يحتمي مخافة طول السقام ".(1/245)
فالخوف المحمود يحرق الشهوات المحرمة فتصير المعاصى المحبوبة عنده مكروهة ، كما يصير العسل مكروهاً ، عند من يشتهيه إذا عرف أن فيه سماً ، فتحرق الشهوات بالخوف ، وتتأدب الجوارح ، ويحصل في القلب الخضوع والذلة والاستكانة ويفارقه الكبر والحقد والحسد ، بل بصير مستوعب الهم بخوفه، والنظر في خطر عاقبته ، فلا يتفرغ لغيره، ولا يكون له شغل إلا المراقبة والمحاسبة والمجاهدة ، والضنة بالأنفاس واللحظات ، ومؤاخذة النفس بالخطرات ، والخطوات والكلمات ، ويكون حاله حال من وقع في مخلب سبع ضار ،لا يدري أنه يغفل عنه فيفلت، أو يهجم عليه فيهلك ، فيكون بظاهره وباطنه مشغولاً بما هو خائف منه لا متسع فيه لغيره ، فهذا حال من غلبه الخوف .
قال تعالى : (إِنّمَا الْمُؤْمِنُونَ الّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) [ الأنفال : 2]
قال الله تعالى : { ْ إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ماَ آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ } (المؤمنون الآية 57 - 61) .
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة ) قالت : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية: (وَالّذِينَ يُؤْتُونَ مَآ آتَواْ وّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) [ المؤمنون : 60] قالت عائشة هم الذين يشربون الخمر ويسرقون قال لا يا بنت الصديق ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون وهم يخافون أن لا يقبل منهم أولئك الذين يسارعون في الخيرات .
وقال تعالى: (إِنّمَا ذَلِكُمُ الشّيْطَانُ يُخَوّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مّؤْمِنِينَ)
[آل عمران: 175](1/246)
(حقيق بمن علم ما بين يديه ،وتيقن أن العمل يحصى عليه ،وأنه لا بد من الرحيل عمل لديه، إلى موقف صعب يساق إليه ،يتجافى عن مضطجع البطالة بجنبيه .
[*](أورد ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه التبصرة عن حاتم الأصم أنه قال : من خلا قلبه من ذكر أخطار أربعة فهو مغتر فلا يأمن الشقاء .
الأول : خطر يوم الميثاق حين قال الله تعالى هؤلاء في الجنة ولا أبالي وهؤلاء في النار ولا أبالي ولا يعلم في أي الفريقين كان .
والثاني : حين خلق في ظلمات ثلاث فنودي الملك بالشقاء والسعادة ولا يدري أمن الأشقياء هم أم من السعداء .
والثالث : ذكر هول المطلع ولا يدري أيبشر برضا الله تعالى أو بسخطه .
والرابع : يوم يصدر الناس أشتاتا ولا يدري أي الطريقين يسلك به فمحقوق لصاحب هذه الأخطار أن لا يفارق الحزن قلبه .
بكى عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه ليلة فأطال فسئل عن بكائه فقال ذكرت مصير القوم بين يدي الله عز وجل فريق في الجنة وفريق في السعير ثم صرخ وغشي عليه .
(الخشية أخص من الخوف :
فإن الخشية للعلماء بالله قال تعالى :(إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} [ فاطر : 28] ،فالخشية خوفاً مقروناً بمعرفة ..، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ((إني أتقاكم لله وأشدكم له خشية))، فالخوف لعامة المؤمنين والخشية للعلماء والعارفين، وعلى حسب قدر العلم والمعرفة يكون الخوف والخشية..
فصاحب الخوف يلجأ إلى الهرب، وصاحب الخشية يلجأ إلى الاعتصام بالعلم ،
[*](قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين :
و(الخشية) أخص من الخوف فإن الخشية للعلماء بالله قال الله تعالى : {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء}[فاطر :28] فهي خوف مقرون بمعرفة وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إني أتقاكم لله وأشدكم له خشية".(1/247)
[*] وقال الشيخ ابن عثيمين – رحمه الله - : (( الخشية خوف مبني على العلم بعظمة من يخشى وكمال سلطانه))..
فإذا خفت من شخص لا تدري هل يقدر عليك أم لا فهذا خوف وإذا خفت من شخص تعلم أنه قادر عليك فهذه خشية..
[*] قال ابن القيم – رحمه الله - : (( في مثلهما مثل من لا علم له بالطب ومثل الطبيب الحاذق، فالأول يلجأ إلى الحمية والهرب لقلة معرفته والآخر يلتجئ إلى الأدوية )) فالخشية خوف مبني على علم..
وقد ورد الخوف في القرآن على وجوه منها ما يلي : (
(1) القتل والهزيمة : (({وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ } [ النساء : 83 ]، (({وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ } [ البقرة : 155 ].
(2) الحرب والقتال: (({فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ } [ الأحزاب : 19 ] إذا انجلت الحرب ،( فَإِذَا جَاء الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ } [ الأحزاب : 19 ]
(3) العلم والدراية :(({فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا } [ البقرة : 182 ] أي علم .
(إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ )} [ البقرة : 229] أي يعلما، (({وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى } [ النساء : 3 ] أي علمتم.
(4) النّقْص: (({أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [ النحل : 47 ]
(5) الرعب والخشية من العذاب والعقوبة : (({تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [ السجدة : : 16 ](1/248)
[*] قال ابن قدامة: (( اعلم بأن الخوف سوط الله يسوق الله به عباده إلى المواظبة على العلم والعمل لينالوا بهما رتبة القرب من الله عز وجل، والخوف سراج القلوب به يبصر ما فيه من الخير والشر))..
وكل أحد إذا خفته هربت منه إلا الله عز وجل فإنك إذا خفته هربت إليه ، فالخائف هارب من ربه إلى ربه فأين المفر..؟!!!، وما فارق الخوف قلباً إلا خربه فإذا سكن الخوف القلوب أحرق مواضع الشهوات فيها وطرد الدنيا عنها..
فكم أطلق الخوف من سجين في لذته كانت قد استحكمت عليه سكرته وكم فك من أسير للهوى ضاعت فيه همته وكم أيقظ من غافل التحف بلحاف شهوته وكم عاق لوالديه رده الخوف عن معصيته، وكم من فاجر في لهوه قد أيقظه الخوف من رقدته، وكم من عابدٍ لله قد بكى من خشيته وكم من منيب إلى الله قطع الخوف مهجته وكم من مسافر إلى الله رافقه الخوف في رحلته وكم من محبٍّ لله ارتوت الأرض من دمعته، فلله ما أعظم الخوف لمن عرف عظيم منزلته..
والخوف ليس مقصوداً لذاته ، ليس المقصود أن نخاف لأجل أن نخاف بل نخاف ليكون الخوف وسيلة تصلح أحوالنا.
لو كان الخوف مقصوداً لذاته لما ذهب عن أهل الجنة!!، فليس فيها عمل ولا اجتهاد في العبادات ومقاومة للهوى والشهوات كان الخوف من أهلها ذاهب (( لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون)).
ومن خاف اليوم أمِنَ غداً.. ومن أمِن اليوم خاف غداً.
والخوف يتعلق بالأفعال ، والمحبة تتعلق بالذات والصفات، ولهذا تتضاعف محبة المؤمنين لربهم إذا دخلوا دار النعيم ولا يلحقهم فيها خوف.
[*] قال ابن رجب رحمه الله تعالى : (( والله خلق الخلق ليعرفوه ويعبدوه ويخشوه ونصب الأدلة الدالة على عظمته وكبريائه ليهابوه ويخافوه خوف الإجلال ووصف لهم شدة عذابه ودار عقابه التي أعدها لمن عصاه ليتقوه بصالح الأعمال )).(1/249)
لذلك كرر الله سبحانه وتعالى ذكر النار وما أعده الله فيها لأعدائه من العذاب والنكال وما احتوت عليه من الزقوم والضريع والحميم والسلاسل والأغلال إلى غير ذلك مما فيه من العظائم والأهوال ودعا عباده بذلك إلى خشيته وتقواه وامتثال والمسارعة إلى ما يأمر به ويحبه ويرضاه واجتناب ما ينهى عنه ويكرهه ويأباه، فمن تأمل الكتاب الكريم وأدار فكره فيه وجد ذلك العجب العجاب وكذلك السنة الصحيحة المفسّرة للقرآن وكذلك سير السلف الصالح أهل العلم والإيمان من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، من تأملها علم أحوال القوم وما كانوا عليه من الخوف والخشية والإخبات وأن ذلك هو الذي رقاهم إلى تلك الأحوال الشريفة والمقامات الساميات من شدة الاجتهاد في الطاعة والكف عن المحرمات ودقائق الأعمال المكروهات فضلاً عن المحرمات..
(منازل الخوف ودرجاته :
القدر الواجب من الخوف ما حمل على أداء الفرائض واجتناب المحارم فإن زاد على ذلك، بحيث صار باعثاً للنفوس على التشمير في نوافل الطاعات والكف عن دقائق الكروهات (يعني فعل المستحبات وترك المكروه والشبهة)، كان ذلك خوفاً محموداً فإن تزايد الخوف بحيث أدّى إلى مرض أو موت أو همٍّ لازم أو قعود عن العمل بحيث يقطع السعي عن اكتساب الفضائل المطلوبة المحبوبة إلى الله عز وجل لم يكن خوفاً محموداً.
بعض الناس من شدة خوفهم من العذاب والنار يصابون باليأس والإحباط والقعود عن العمل ويقولون لا فائدة!!..، ليس هذا هو المطلوب ..، وهذه الزيادة مذمومة.لأن اليأس من روح الله من الكبائر بنص السنة الصحيحة كما في الحديث الآتي : (
( حديث ابن عباس رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : الكبائر: الشرك بالله و الإياس من روح الله و القنوط من رحمة الله .(1/250)
(فالخوف المحمود : ما حجزك عن معاصي الله وحملك على فعل المستحبات وفعل الواجبات قبلها وعلى ترك الشبهات والمكروهات وترك المحرمات قبلها وهناك خوف ضعيف أقل من هذا ، لا يؤدي إلى ترك المحرمات كلها أو فعل الواجبات كلها فهو خوف ناقص..
ذكر البخاري في قوله : (باب الخوف من الله عز وجل ).
[*] قال ابن حجر رحمه الله تعالى : هو من المقامات العليّة وهو من لوازم الإيمان ، قال الله تعالى : (({إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [ آل عمران : 175 ]
وقال تعالى : (({فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي } [ البقرة : 150 ]
وقال تعالى : ( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء ) [ فاطر : 28 ]
وكلما كان العبد أقرب إلى ربه كان أشد له خشية ممن دونه ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أخشى الناس وأتقاهم لله تعالى بنص السنة الصحيحة كما في الحديث الآتي : (
(حديث أنس الثابت في الصحيحين) جاء ثلاثةُ رهطٍ إلى بيوت النبي - صلى الله عليه وسلم - يسألون عن عبادة النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما أخبروا كأنهم تقاُّلوها وقالوا : أين نحن من النبي - صلى الله عليه وسلم - قد غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر قال أما أنا أصلي الليل أبداً ، وقال آخر : وأنا أصوم الدهر أبداً ، وقال آخر : وأنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً ، فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : أنتم الذين قلتم كذا وكذا ، أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني .(1/251)
وقد وصف الله الملائكة بقوله : (({يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ*} [ النحل : 50 ]، والأنبياء بقوله : (({الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} [ الأحزاب : 39 ] ، وإنما كان خوف المقربين أشد لأنهم يطالبون بما لا يطالب به غيرهم فيراعون تلك المنزلة ولأن الواجب لله منه الشكر على المنزلة فيضاعف بالنسبة لعلو تلك المنزلة..
فالعبد إن كان مستقيماً فمن أي شيء يخاف؟!!، فخوفه من سوء العاقبة لقوله تعالى : (وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ ) [ الأنفال : 24 ]، وكذلك يخاف من نقصان الدرجة..
وإن كان مائلاً منحرفاً وعاصياً فخوفه من سوء فعله و ينفعه ذلك مع الندم والإقلاع..
(الخوف المحمود الصادق ؟
ينفع الخوف مع الندم والإقلاع، فإن الخوف ينشأ من معرفة قبح الجناية والتصديق بالوعيد أو أن يحرم التوبة أو لا يكون ممن شاء الله أن لا يغفر له.
مسألة : ما هو الخوف المحمود الصادق ؟
[*](قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين :
والخوف المحمود الصادق: ما حال بين صاحبه وبين محارم الله عز وجل فإذا تجاوز ذلك خيف منه اليأس والقنوط.
قال أبو عثمان: "صدق الخوف هو الورع عن الآثام ظاهرا وباطنا".
وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول: "الخوف المحمود: ما حجزك عن محارم الله".
(هل الخوف مقصودٌ لذاته ؟
مسألة : هل الخوف مقصودٌ لذاته ؟
[*](قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين :
والخوف ليس مقصودا لذاته بل هو مقصود لغيره قصد الوسائل ولهذا يزول بزوال المخوف فإن أهل الجنة لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
(هل الخوف أفضل أم المحبة ؟
مسألة : هل الخوف أفضل أم المحبة ؟
[*](قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين :(1/252)
والخوف يتعلق بالأفعال والمحبة تتعلق بالذات والصفات ولهذا تتضاعف محبة المؤمنين لربهم إذا دخلوا دار النعيم ولا يلحقهم فيها خوف ولهذا كانت منزلة المحبة ومقامها أعلى وأرفع من منزلة الخوف ومقامه".
(حكم الخوف من الله :
الخوف من الله واجب، وهو من أجل منازل الطريق وأنفعها للقلب وهو فرض على كل أحد .
[*](قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين :
ومن منازل {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} منزلة (الخوف).
وهى من أجل منازل الطريق وأنفعها للقلب وهي فرض على كل أحد.
(أدلة وجوب الخوف :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
قال تعالى : {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}
[ آل عمران : 175 ]
[*] قال ابن سعدي رحمه الله تعالى : وفي هذه الآية وجوب الخوف من الله وحده وأنه من لوازم الإيمان فعلى قدر إيمان العبد يكون خوفهم من الله .
وقال تعالى : { وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ } [ البقرة : 40 ]
والأصل في الأمر الوجوب
وقال تعالى : (({فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي } [ البقرة : 150 ]
[*] قال ابن سعدي رحمه الله تعالى : أمر الله بخشية الله التي هي رأس كل خير فمن لم يخشَ الله لم ينكفّ عن معصته ولم يمتثل أمره .
إن الله امتدح أهل الخوف ، فقال: { إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ} [ المؤمنون : 57 ] إلى قوله تعالى { أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون :61 ](1/253)
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة ) قالت : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية (وَالّذِينَ يُؤْتُونَ مَآ آتَواْ وّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنّهُمْ إِلَىَ رَبّهِمْ رَاجِعُونَ) [المؤمنون: 60] قالت عائشة هم الذين يشربون الخمر ويسرقون قال لا يا بنت الصديق ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون وهم يخافون أن لا يقبل منهم أولئك الذين يسارعون في الخيرات .
((أُوْلََئِكَ يُسَارِعُونَ فِي) [المؤمنون: 61])) قال الحسن: عملوا لله بالطاعات واجتهدوا فيها وخافوا أن ترد عليهم ..
إن المؤمن جمع إحساناً وخشية، وإن المنافق جمع إساءة وأمناً..!
إن المؤمن جمع إحساناً وخشية، وإن المنافق جمع إساءة وأمناً..!
والتخويف من عذاب الله أحد مهمات الرسل: قال تعالى {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنذِرُوا هُزُوًا} [ الكهف : 56 ] والإنذار هو الإعلام بالشيء الذي يخيف ، فالإنذار في لغة العرب كما قال الراغب الأصفهاني في مفرداته: الإنذار إخبار فيه تخويف كما أن التبشير إخبار فيه سرور.
(وقد وصف الله تعالى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم بأنه نذير في مواضع كثيرة..
( حديث أبي موسى رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :مثلي و مثل ما بعثني الله به كمثل رجل أتى قوما فقال: يا قوم إني رأيت الجيش بعيني و إني أنا النذير العريان فالنجاء النجاء فأطاعه طائفة من قومه فأدلجوا و انطلقوا على مهلهم فنجوا و كذبته طائفة منهم فأصبحوا مكانهم فصبحهم الجيش فأهلكهم و اجتاحهم فذلك مثل من أطاعني فاتبع ما جئت به و مثل من عصاني و كذب بما جئت به من الحق .
[*] قال الإمام ابن حجر رحمه الله في الفتح :(1/254)
النذير العريان : أصله أن رجلا من خثعم طرقه عدوهم فسلبه ثيابه فأنذر قومه فكذبوه فاصطلموا وقيل لأن العادة أن ينزع ثوبه ويلوح به ليري من بعد وشرطه أن يكون على مكان عال فصل .
وقد كان العرب إذا رأى أحدهم جيشاً يغير على قبيلته قد اقترب وهو في الخارج ولا تدري قبيلته جاء يركض ويخلع ثيابه وهو يصرخ حتى يبين لهم هول المصيبة التي ستنزل بهم وفداحة الخطر ، وهذه أشد أنواع النذارات عند العرب.
وقال تعالى : (وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ} [ الحجر : 89 ]
وقال تعالى : ( فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} [ الذاريات : 50 ]
(وكان من أوائل أوامر الرسول صلى الله عليه وسلم الإنذار ( يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * {قُمْ فَأَنذِرْ} [ المدثر : 1،2]، خوف الناس عذاب الله جهنم ، بأس الله وانتقامه..، قال القرطبي: خوف أهل مكة وحذرهم العذاب إن لم يسلموا.
(وقد وصف الله العذاب في كتابه في عدة مواضع لتحقيق الخوف في نفوس عباده ليتقوه ، كما قال تعالى: { لَهُم مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ} [ الزمر : 16 ]
[*] قال ابن كثير: (يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ) إنما يقص خبر هذا الكائن لا محالة ليخوّف به عباده. قال : لينزجروا عن المحارم والمآثم.
( يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ) أي اخشوا بأسي وسطوتي وعذابي ونقمتي.
وبين سبحانه أن ما يرسله من الآيات لتصديق الأنبياء عليهم السلام كناقة صالح إنما يرسله من أجل التخويف( وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا ) [ الإسراء : 59 ]
(كذلك الآيات الكونية كالخسوف والكسوف وغيرها.(1/255)
(وكذلك قال الله في البرق والرعد: ( هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ ) [ الرعد : 12 ].
[*](فضائل الخوف :
(1) جمع الله عز وجلّ لأهل الخوف الهدى والرحمة، والعلم، والرضوان، فقال تعالى : { هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ } (الأعراف: من الآية 154 ) .
وقال تعالى : { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء } (فاطر: من الآية 28) .
وقال عز وجل: { رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ } [البينة: من الآية 8] .
(2) وقد أمر الله عز وجل بالخوف، وجعله شرطاً في الإيمان، فقال عز وجل : { ْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [ آل عمران: من الآية 175].
[*] قال ابن جرير: لا تخافوا أيها المؤمنين المشركين ولا يعظمن عليكم أمرهم ولا ترهبوا جمعهم مع طاعتكم إياي فأطعتموني واتبعتم أمري وإني متكلف لكم بالنصر والظفر ولكن خافوني واتقوني أن تعصوني أن تخالفوا أمري فتهلكوا إن كنتم مؤمنين فالله عز وجل أولى أن يخاف منه من الكفار والمشركين.
فلذلك لا يتصور أن ينفك مؤمن عن خوف وإن ضعف، ويكون ضعف خوفه بحسب ضعف معرفته وإيمانه .
( حديث أبي سعيد رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أن رجلا كان قبلكم، رغسه الله مالا، فقال لبنيه لما حضر: أي أب كنت لكم؟ قالوا: خير أب، قال: فإني لم أعمل خيرا قط، فإذا مت فأحرقوني، ثم اسحقوني، ثم ذروني في يوم عاصف، ففعلوا، فجمعه الله عز وجل فقال: ما حملك؟ قال: مخافتك، فتلقاه برحمته .
( حديث عبد الرحمن بن جبرالثابت في صحيح البخاري ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (ما أُغبرت قدما عبد في سبيل الله فتمسه النار).(1/256)
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :لا يلج النار رجل بكي من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع ولا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم .
( حديث ابن عباس رضي الله عنهما الثابت في صحيح الترمذي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : عينان لا تمسهما النار عين بكت من خشية الله وعين باتت تحرس في سبيل الله .
ومن تأمل أحوال الصحابة رضى الله عنهم ومن بعدهم من الصالحين من سلف هذه الأمة ،وجدهم في غاية العمل مع غاية الخوف، ونحن جمعنا بين التقصير بل التفريط والأمن.
(فالصحابة - رضي الله عنهم - ابتلاهم الله تعالى بابتلاء عظيم ليظهر الذي لا يخاف من الذي يخاف في الصيد ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) [ المائدة : 94 ] . ... ليختبرنكم الله أيها المؤمنون ببعض الصيد في حال الإحرام كي يعلم أهل طاعة الله والإيمان به المنتهون إلى حدوده وأمره ونهيه، يختبر ليظهر من الذي يخاف الله والذي لا يخافه(1/257)
[ لِيَعْلَمَ اللّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ ] : يعني يبتليهم بالصيد يغشاهم في رحالهم، يتمكنون من أخذه بالأيدي والرماح سراً وجهراً ومحرم عليهم الصيد في الإحرام لتظهر طاعة من يطيع منهم في سره وجهره ومن لا يطيع ، أما الصحابة فنجحوا في ذلك ، وأما اليهود ففشلوا عندما حرم الله عليهم الصيد يوم السبت فاستحلوا محارم الله بأدنى الحيل، فنصبوا الشباك يوم الجمعة وسحبوها يوم الحد، فلم يخافوا الله فهلكوا. ... فالمرء قد يتعرض أحياناً لمعصية أو شهوة والوقوع فيها يسير جداً وقد تكون الفضيحة مأمونة ((لِيَعْلَمَ اللّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ))،وكما في قصة يوسف وامرأة العزيز، هنا يكون الاختبار والبلاء.
(وهاك صورٌ مشرقة من خوف الصحابة ومن بعدهم من السلف الصالح: (
[*] فهذا الصديق - رضي الله عنه - يقول : وددت أني شعرة في جنب عبد مؤمن ، وكان إذا قام إلى الصلاة كأنه عود من خشية الله عز وجل .
[*] وهذا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قرأ سورة الطور حتى بلغ: { إنّ عَذابَ ربِكَ لَواقِعٌ } [الطور: 7] . بكى واشتد بكاؤه حتى مرض وعادوه ، وقال لابنه وهو يموت : ويحك ضع خدى على الأض عساه يرحمنى ثم قال : ويل أمى لم يغفر لى –ثلاثاً –ثم قضى ، وكان يمر بالآية في ورده بالله تخيفه فيبقى في البيت أياماً يعاد يحسبونه مريضاً ، وكان في وجهه خطان أسودان من كثرة البكاء.
[*] وقال له ابن عباس : " مصّر لله بك الأمصار،وفتح بك الفتوح وفعل " فقال : " وددت أن أنجو لا أجر ولا وزر " .
[*] وهذا عثمان بن عفان - رضي الله عنه - كان إذا وقف على القبر يبكى حتى يبل لحيته، قال : " لو أننى بين االجنة والنار ولا أدرى إلى أيتهما أصير لاخترت أن أكون رماداً قبل أن أعلم إلى أيتهما أصير " .(1/258)
[*] وهذا أبو الدرداء - رضي الله عنه - كان يقول : " لو تعلمون ما أنتم لاقون بعد الموت، ماأكلتم طعاماً على شهوة ،ولا شربتم شراباً على شهوة أبداً ، ولا دخلتم بيتاً تستظلون به ، ولخرجتم إلى الصعيد تضربون صدوركم وتبكون على أنفسكم ، ولوددت إنيشجرة تعضد ثم تؤكل " .
[*] وكان ابن عباس رضي الله عنهما أسفل عينيه مثل الشراك البالى من كثرة الدموع.
[*] وقال علىّ –كرم الله وجهه- قد سلّم من صلاة الفجر، وقد علاه كآبة وهو يقلب يده : " لقد رأيت أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم أر اليوم شيئاً يشبههم ، لقد كانوا يصبحون شعثاً صفراً غبراً بين أعينهم أمثال ركب المعزى ، قد باتوا سجداً وقياما يتلون كتاب الله ، يراوحون بين جباههم وأقدامهم ، فإذا أصبحوا ذكروا الله تمادوا كما يميد الشجر في يوم الربح، وهملت أعينهم بالدموع حتى يتبل ثيابهم ، والله فكأتى بالقوم باتوا غافلين". ثم قام فما رؤى بعد ذلك ضاحكاً حتى ضربه ابن ملجم .
[*] وقال موسى بن مسعود : " كنا إذا جلسنا إلى سفيان كأن النار قد أحاطت بنا لما نرى من خوفه وجزعه ".
[*] ووصف أحدهم الحسن فقال: " كان إذا أقبل فكأنما أقبل من دفن حميمه، وإذا جلس فكأنه أسير أمر بقطع رقبته، وإذا ذكرت النار فكأنها لم تخلق إلا له " .
[*] ورُوى أن زرارة بن أبى أوفي صلّى بالناس الفجر بسورة المدثر، فلما قرأ قوله تبارك وتعالي: { فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ } (المدثر: الآية 8-9) . أخذته شهقة فمات .
[*] عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن قال : " ابكوا فإن لم تبكو فتباكوا، فوالذينفسى بيده : لو يعلم العلم أحدكم لصرخ حتى ينقطع صوته ، وصلى حتى ينكسر صلبه " .
[*] قال الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى : " من خاف الله دله الخوف على كل خير".(1/259)
[*] وقال يحيى بن معاذ رحمه الله تعالى :" ما من مؤمن يعمل سيئة إلا ويلحقها جنتان: خوف العقاب ، ورجاء العفو " .
[*] وقال الحسن البصرى رحمه الله تعالى : " إن المؤمنين قوم ذلت منهم – والله- الأسماع والأبصار وزالجوارح حتى يحسبهم الجاهل مرضى وإنهم والله الأصحاء، ولكن دخلهم من الخوف مالم يدخل غيرهم ومنعهم من الدنيا علمهم بالآخرة فقالوا : الحمد الله الذي أذهب عنا الخوف، أما – والله – ما أحزنهم ما أحزن الناس ولا تعاظم في قلوبهم شيء طلبوا به الجنة إنه من لم يتعز بعزاء الله تقطعت نفسه على الدنيا حسرات ومن لم ير لله عليه نعمة في غير مطعم أو شرب فقد قل علمه وحضر عذابه " .
(3) الخوف من الله عبادة قامت في قلب النبي صلى الله عليه وسلم فارتفعت نفسه عن المحرمات والمحظورات لأنه يخاف رب الأرض والسموات قال تعالى : ( قُلْ إِنِّيَ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ} [ الأنعام : 15،16 ] . فهو يخشى عذاب الله ولا يتعد حدوده.
(4) الخوف من الله من صفات أولي الألباب قال تعالى : ( أَفَمَن يَعْلَمُ أَنّمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبّكَ الْحَقّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَىَ إِنّمَا يَتَذَكّرُ أُوْلُواْ الألْبَابِ * الّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ * وَالّذِينَ يَصِلُونَ مَآ أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ) [الرعد 19: 21] .
(فالخوف من الله يدل على أن صاحبه صاحب عقل ، من أولي الألباب أي راجح العقل يعرف الشيء الذي يخوّف حقاً.
[*](ثمرات الخوف من الله :
(أولاً ثمرات الخوف من الله في الدنيا :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ(1/260)
(1) من أسباب التمكين في الأرض، وزيادة الإيمان والطمأنينة لأنك إذا حصل لك الموعود وثقت أكثر ، قال تعالى: (وَقَالَ الّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنّكُمْ مّنْ أَرْضِنَآ أَوْ لَتَعُودُنّ فِي مِلّتِنَا فَأَوْحَىَ إِلَيْهِمْ رَبّهُمْ لَنُهْلِكَنّ الظّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنّكُمُ الأرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ) [ إبراهيم 13، 14]
(فالخوف من الله يؤدي إلى التمكين في الأرض والانتصار على الأعداء وأن يهلك الله عدوهم ويخزيهم ويورث المؤمنين أرضهم وديارهم.
(2) يبعث على العمل الصالح والإخلاص فيه وعدم طلب المقابل في الدنيا فلا ينقص الأجر في الآخرة قال تعالى: ( إِنّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللّهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَآءً وَلاَ شُكُوراً * إِنّا نَخَافُ مِن رّبّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً) [الإنسان 9 ، 10]
و قال تعالى: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوّ وَالاَصَالِ * رِجَالٌ لاّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَإِقَامِ الصّلاَةِ وَإِيتَآءِ الزّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأبْصَارُ) [النور 36، 37]، أي تضطرب وتتقلب وهذا هو الذي دفعهم للعمل ، يريدون النجاة ويحذرون الهلاك ويخافون أن يأتوا وكتبهم بشمالهم.
{ تنبيه } : (من خاف الله انقاد له كل شيء :(1/261)
[*](أورد الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في بحر الدموع عن بعض الصالحين رضي الله عنهم : أتيت إبراهيم بن أدهم لأزوره، فطلبته في المسجد، فلم أجده، فقيل لي : إنه خرج الآن من المسجد، فخرجت في طلبه، فوجدته في بطن وادٍ نائمًا في زمان الحر، وحيّة عظيمة عند رأسه، وفي فم الحيّة غصن من الياسمين، وهي تشرّد عنه الذباب، فبقيت متعجبًا من ذلك، وإذا بالحية قد أنطقها الله الذي أنطق كل شيء، فقالت لي : مم تتعجب أيها الرجل ؟ فقلت لها، من فعلك هذا , وأكثر تعجبي من كلامك وأنت عدوة لبني آدم . فقالت لي : والله العظيم، ما جعلنا الله أعداء إلا للعاصين، وأما أهل طاعته، فنحن لهم منقادون .
[*](أورد الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في بحر الدموع عن عبد الله بن عبد الرحمن قال : حج سفيان الثوري مع شيبان الراعي، فعرض لهم أسد في بعض الطرق، فقال له سفيان : أم ترى كيف قطع علينا الطريق، وأخاف الناس . قال شيبان : لا تخف، فلما سمع الأسد كلام شيبان، بصبص إليه، وأخذ شيبان بأذنه وفركها، فبصبص وحرك ذنبه وولى هاربا، فقال سفيان : ما هذه الشهرة يا شيبان ؟ قال : أو هذه شهرة يا سفيان ؟ لولا مكان الشهرة لوضعت زادي على ظهره حتى أتيت مكة .
(ثانياً ثمرات الخوف من الله في الآخرة :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
(1) الخوف من الله يجعل الإنسان في ظل العرش يوم القيامة بنص السنة الصحيحة كما في الحديث الآتي : ((1/262)
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت الثابت في الصحيحين) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :(سَبْعَةٌ يُظِلّهُمُ الله في ظِلّهِ يَوْمَ لاَ ظِلّ إِلاّ ظِلّهُ: إِمَامٌ عَادِلٌ، وَشَابٌ نَشَأَ في ِعِبَادَةِ الله، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلّقٌ في المَسْاجِدِ، وَرَجُلاَنِ تَحَابّا في الله اجْتَمعَا عَلَيه وَتَفَرّقَا عليه ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امرأة ذَاتُ منصبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ إِنّي أَخَافُ الله ، وَرَجُلٌ تَصَدّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتّى لا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ الله خَالِياً فَفَاضَتْ عَيْنَهُ )
وظاهر الحديث أنه يقولها بلسانه ليزجر المرأة عن فعلها وليذكر نفسه ويصر على موقفه ولا يتراجع بعد إعلان المبادئ،
((ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه)) : الخشية الموجبة لدمع العين تؤدي إلى أن النار لا تمس العين يوم القيامة.
(2) الخوف من الله من أسباب المغفرة : وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة : (
( حديث أبي سعيد رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أن رجلا كان قبلكم، رغسه الله مالا، فقال لبنيه لما حضر: أي أب كنت لكم؟ قالوا: خير أب، قال: فإني لم أعمل خيرا قط، فإذا مت فأحرقوني، ثم اسحقوني، ثم ذروني في يوم عاصف، ففعلوا، فجمعه الله عز وجل فقال: ما حملك؟ قال: مخافتك، فتلقاه برحمته .
تأمل سعة رحمة الله تعالى وكيف أن الله تعالى عذره بجهله وشفع له خوفه من ربه وإلا فالذي ينكر البعث كافر.
(3) الخوف من الله يؤدي إلى الجنة :
قال تعالى: (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنّتَانِ) [الرحمن : 46]
[*] قال الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسيره :
قال ابن شَوْذب، وعطاء الخراساني: نزلت هذه الآية: { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ } في أبي بكر الصديق.(1/263)
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا محمد بن مصفى، حدثنا بَقيَّة، عن أبي بكر بن أبي مريم، عن عطية بن قيس في قوله: { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ } : نزلت في الذي قال: أحرقوني بالنار ، لعلي أضل الله، قال: تاب يوما وليلة بعد أن تكلم بهذا، فقبل الله منه وأدخله الجنة.
والصحيح أن هذه الآية عامة كما قاله ابن عباس وغيره، يقول تعالى: ولمن خاف مقامه بين يدي الله، عز وجل، يوم القيامة، { وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى } [ النازعات:40 ]، ولم يطغ، ولا آثر الدنيا، وعلم أن الآخرة خير وأبقى، فأدى فرائض الله، واجتنب محارمه، فله يوم القيامة عند ربه جنتان، كما قال البخاري، رحمه الله .
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : جنتان من فضة، آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب، آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبر، على وجهه في جنة عدن .
وثبت في رواية حماد بن سلمة عن ثابت البناني عن أبي بكر بن أبي موسى عن أبيه قال حماد لا أعلمه إلا قد رفعه قال جنتان من ذهب للمقربين ومن دونهما جنتان من ورق لأصحاب اليمين أخرجه الطبري وابن أبي حاتم ورجاله ثقات .
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : «مَنْ خَافَ أَدْلَجَ وَمَنْ أَدْلَجَ بَلَغَ المَنْزِلَ أَلاَ إِنّ سِلْعَةَ الله غَالِيَةٌ أَلاَ إِنّ سِلْعَةَ الله الْجَنّةُ».
والمعنى : أي الذي يخاف من إغارة العدو وقت السحر يسير من أول الليل(1/264)
(أدلج) : فبلغ المنزل والمأمن والمطلب، وهذا مثل ضربه الرسول صلى الله عليه وسلم لسالك الآخرة فإن الشيطان على طريقه والنفس الأمارة بالسوء والأماني الكاذبة وأعوان إبليس ، فإن تيقظ في مسيره وأخلص النية في عمله أمن من الشيطان وكيده ومن قطع الطريق عليه، هذه سلعة الله التي من دخلها كان من الآمنين .
(4) الخوف من الله يرفع الخوف عن الخائف يوم القيامة بنص السنة الصحيحة كما في الحديث الآتي : (
( حديث شداد بن أوس رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :قال الله تعالى: و عزتي و جلالي لا أجمع لعبدي أمنين و لا خوفين إن هو أمنني في الدنيا أخفته يوم أجمعُ عبادي و إن هو خافني في الدنيا أمنته يوم أجمعُ عبادي .
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير :
( قال اللّه تعالى وعزتي وجلالي لا أجمع لعبدي أمنين ولا خوفين : إن هو أمنني في الدنيا أخفته يوم أجمع عبادي ، وإن هو خافني في الدنيا أمنته يوم أجمع عبادي )(1/265)
فمن كان خوفه في الدنيا أشد كان أمنه يوم القيامة أكثر وبالعكس وذلك لأن من أعطى علم اليقين في الدنيا طالع الصراط وأهواله بقلبه فذاق من الخوف وركب من الأهوال ما لا يوصف فيضعه عنه غداً ولا يذيقه مرارته مرة ثانية وهذا معنى قول بعض العارفين لأنه لما صلى حَرَ مخالفة القوى في الدنيا لم يذقه اللّه كرب الحر في العقبى . قال القرطبي : فمن استحى من اللّه في الدنيا مما يصنع استحى اللّه عن سؤاله في القيامة ولم يجمع عليه حياءين كما لم يجمع عليه خوفين وقال الحرالي : نار الحق في الدنيا للمعترف رحمة من عذاب النار تفديه من نار السطوة في الآخرة ومحمد عليه الصلاة والسلام يعطى الأمن يوم القيامة حتى يتفرغ للشفاعة وما ذاك إلا من الخوف الذي كان علاه أيام الدنيا فلم يجتمع عليه خوفان فكل من كان له حظ من اليقين فعاين منه ما ذاق من الخوف سقط عنه من الخوف بقدر ما ذاق هنا قال العارفون :والخوف خوفان خوف عقاب وخوف جلال والأول يصيب أهل الظاهر والثاني يصيب أهل القلوب والأول يزول والثاني لا يزول .
[*] قال الإمام ابن القيم رحمه الله: ومن تأمل أحوال الصحابة رضي الله عنهم وجدهم في غاية العمل مع غاية الخوف، ونحن جمعنا بين التقصير، بل التفريط والأمن.
هكذا يقول الإمام ابن القيم رحمه الله عن نفسه وعصره، فماذا نقول نحن عن أنفسنا وعصرنا؟!
(5) الخوف من الله سبب للنجاة من كل سوء :
( حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ثلاث منجيات: خشية الله تعالى في السر و العلانية و العدل في الرضا و الغضب و القصد في الفقر و الغنى و ثلاث مهلكات: هوى متبع و شح مطاع و إعجاب المرء بنفسه .
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
( ثلاث منجيات ) من عذاب اللّه تعالى
( خشية اللّه في السر والعلانية ) أي خوفه تعالى
(والعدل في الرضى والغضب ) العادل من لا يميل في الهوى فيجور في الحكم(1/266)
( والقصد في الفقر والغنى ) أي التوسط فيهما
( وثلاث مهلكات ) أي يردين فاعلهنّ في الهلاك
( هوى متبع وشح مطاع ) قال ابن الأثير : هو أن يطيعه صاحبه في منع الحقوق التي أوجبها اللّه عليه في ماله يقال أطاعه يطيعه فهو مطيع وطاع له يطوع ويطيع فهو طائع أي أذعن وأقرّ والاسم الطاعة
( وإعجاب المرء بنفسه ) قال القرطبي : وهو ملاحظة لها بعين الكمال والاستحسان مع نسيان منة اللّه فإن وقع على الغير واحتقره فهو الكبر قال الغزالي : أحذرك ثلاثاً من خبائث القلب هي الغالبة على متفقهة العصر وهي مهلكات وأمّهات لجملة من الخبائث سواها الحسد والرياء والعجب فاجتهد في تطهير قلبك منها فإن عجزت عنه فأنت عن غيره أعجز ولا تظن أنه يسلم لك بنية صالحة في تعلم العلم وفي قلبك شيء من الحسد والرياء والعجب فأما الحسد فالحسود هو الذي ينشق عليه إنعام اللّه على عبد من عباده بمال أو علم أو محبة أو حظ حتى يحب زوالها عنه وإن لم يحصل له شيء فهو المعذب الذي لا يرحم [ ص 307 ] فلا يزال في عذاب فالدنيا لا تخلو عن كثير من أقرانه فهو في عذاب في الدنيا إلى موته ولعذاب الآخرة أشد وأكبر وأما الهوى المتبع فهو طلبك المنزلة في قلوب الخلق لتنال الجاه والحشمة وفيه هلك أكثر الناس وأما العجب فهو الداء العضال وهو نظر العبد إلى نفسه بعين العز والاستعظام ونظره لغيره بعين الاحتقار وثمرته أن يقول أنا وأنا كما قال إبليس ونتيجته في المجالس التقدم والترفع وطلب التصدر وفي المحاورة الاستنكاف من أن يرد كلامه وذلك مهلك للنفس في الدنيا والآخرة قال الزمخشري : الإعجاب هو فتنة العلماء وأعظم بها من فتنة وقال في العوارف : وما نقل عن جمع كبار من كلمات مؤذنة بالإعجاب فهو بسقيا السكر وانحصارهم في مضيقه وعدم خروجهم لفضاء الفقر في ابتداء أمرهم فإنه إذا حدق صاحب البصيرة نظره علم أنه من استراق النفس قال عند نزول الوارد على القلب والنفس عند الاستراق المذكور تظهر(1/267)
بصفتها فتصدر عنها تلك الكلمات كقول بعضهم ما تحت خضر السماء مثلي وقول بعضهم أسرجت وألجمت وطفت في أقطار الأرض وقلت هل من مبارز فلم يخرج إليّ أحد فهذا كله يطفح عليهم حال السكر فيحتمل .
{ تنبيه } :(فهذه الخشية هي التي تحفظ العبد وتنجيه من كل سوء لأنه قال ووعد الله لا يخلف وهذا رسوله (منجيات) وعمّم تشمل الدنيا والآخرة.
(6) الخوف من الله يجعل الإنسان ممدوحاً مثني عليه ويكفيه فخراً أن يدخل في أصحاب الأسماء والألقاب الشريفة قال تعالى: ( تَتَجَافَىَ جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مّآ أُخْفِيَ لَهُم مّن قُرّةِ أَعْيُنٍ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) [ السجدة 16، 17]
قال تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} [ الزمر : 9 ]
قال تعالى: (وَالّذِينَ هُم مّنْ عَذَابِ رَبّهِم مّشْفِقُونَ * إِنّ عَذَابَ رَبّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ) [ المعارج 27، 28]
وأثنى الله على أقرب عبادة وهم الأنبياء لخوفهم منه قال تعالى: { إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِين َ} [ الأنبياء : 90 ]
وأثنى الله على الملائكة لخوفهم منه قال تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ*} [ النحل : 50 ]
[*] قال ابن القيم : من ثمرات الخوف أن يقمع الشهوات ويكدّر اللذات فتصير المعاصي المحبوبة عنده مكروهة مكدرة.
وليس المقصود تكدير اللذائذ المباحة ، الرسول صلى الله عليه وسلم استمتع وهو سيد الخائفين على قدر (( حبب إليه من الدنيا الطيب والنساء)).(1/268)
تكدر اللذات المحرمة بتذكر عذاب الله و وعيده لمن وقع فيها فتتكدر لذته المحرمة بتذكر مابها من عذاب.
[*] قال ابن القيم –رحمه الله- :
كما يصير العسل مكروهاً عند من يشتهيه إذا علم أن فيه سمّاً ، فتحترق الشهوات بالخوف وتتأدب الجوارح و يذل القلب ويستكين ويفارقه الكبر والحقد والحسد ويصير مستوعب الهم لخوفه والنظر في خطر عاقبته فلا يتفرغ لغيرع ولا يكون له شغل إلا المراقبة والمحاسبة والمجاهدة والظنّة(البخل) بالأنفاس واللحظات ومؤاخذة النفس في الخطرات والخطوات والكلمات ويكون حاله (الخائف) كم وقع في مخالب سبع ضار لا يدري أيغفل عنه فيفلت أو يهجم عليه فيهلكه ولا شغل له إلا ما وقع فيه ، فقوة المراقبة والمحاسبة بحسب قوة الخوف وقوة المعرفة بجلال الله تعالى وصفاته وبعيوب نفسه وما بين يديها من الأخطار والأهوال.
[*]وقال ابن قدامة رحمه الله:
فضيلة كل شيء بقدر إعانته على طلب السعادة وهي لقاء الله تعالى والقرب منه، فكل ما أعان على ذلك فهو فضيلة ((ولمن خاف مقام ربه جنتان)).
(7) الخوف من الله من أباب نيل الرضا من الله قال تعالى: {جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} (8) سورة البينة
[*](الأسباب الجالبة للخوف :
الخوف ليس مقصوداً لذاته بل لما بعده من فعل الواجبات وعدم تركها والبعد عن المحرمات وعدم ارتكابها وإذا زاد يمكن أن يكون فعل مستحبات وترك مشتبهات وإذا زاد أكثر يصبح مذموماً وإذا نقص عن هذا يكون أيضاً ناقصاً لا يؤدي إلى النتيجة المطلوبة، فمن الأسباب الجالبة للخوف ما يلي : (
(1) سابق الذَّنب الذي وقع فيه.
(2) حذر التقصير في الواجبات.
(3) الخوف من المصير أن يكون على ما يكره.(1/269)
(4) إجلال الله و تعظيمه قال تعالى :{يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ*} [ النحل : 50 ].
والملائكة خوفهم من الله شديد جداً قال تعالى: (وَلاَ تَنفَعُ الشّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتّىَ إِذَا فُزّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُواْ مَاذَا قَالَ رَبّكُمْ قَالُواْ الْحَقّ وَهُوَ الْعَلِيّ الْكَبِيرُ) [سبأ: 23]
فالله إذا تكلم بالكلمة في السماء من أوامره ضربت الملائكة بأجنحتها خضوعاً لقوله، فأصدرت صوتاً عظيماً كجرّ السلسلة العظيمة على الصخرة ثم يغشاهم من الفزع ما يغشاهم ورجعوا إلى حالة يستطيعون فيها الكلام قالوا ماذا قال ربكم تناقلت الأوامر قالوا الحق، فإذاً إجلال الله يقتضي الخوف والهيبة منه جل وعلا وهذه أهمية معرفة أسماء الله وصفاته.
( حديث جابر رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:مررت ليلة أسري بي بالملأ الأعلى و جبريل كالحِلْسِ البَالِي من خشية الله تعالى .
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:(1/270)
( مررت يوم أسري بي بالملأ الأعلى وجبريل كالحلس البالي من خشية اللّه تعالى ) بمهملتين أولاهما مكسورة كساء رقيق على ظهر البعير تحت قتبه ، زاد الطبراني في بعض طرقه فعرفت فضل علمه باللّه عليَّ اهـ . شبهه به لرؤيته لاصقاً بما لطى به من هيبة اللّه تعالى وشدة فرقه منه وتلك الخشية التي تلبس بها هي التي ترقيه في مدارج التبجيل والتعظيم حتى دعي في التنزيل بالرسول الكريم ، وعلى قدر خوف العبد من الرب يكون قربه . وفيه كما قال الزمخشري دليل على أن الملائكة مكلفون مدارون على الأمر والنهي والوعد والوعيد كسائر المكلفين وأنهم بين الخوف والرجاء . قال الحكيم الترمذي : وأوفر الخلق حظاً من معرفة اللّه أعلمهم به وأعظمهم عنده منزلة وأرفعهم درجة وأقربهم وسيلة والأنبياء إنما فضلوا على الخلق بالمعرفة لا بالأعمال ، ولو تفاضلوا بالأعمال لكان المعمرون من الأنبياء وقومهم أفضل من نبينا صلى اللّه عليه وسلم وأمته .
(5) الخوف من الله يتعلق بقضيتين..
أ – الخوف من عذابه..
ب – الخوف من الله..
الناس العامة ينزعون إلى الخوف من النار أكثر ، وأهل الفقه والعلم خوفهم من الله قبل خوفهم من ناره لأن العامة قد يكون فهمهم وعلمهم قليل وبساطة فأحياناً لا يتذكر من كل القضية إلا النار، وقد لا يستوعب أن الخوف من الله قبل الخوف من ناره أول وأكبر وأعظم ولذلك قال ابن قدامة رحمه الله: (( في مقامي الخوف المقام الأول الخوف من عذاب الله وهذا خوف عامة الناس وهذا النوع من الخوف يحصل بالإيمان بالجنة والنار وكونهما جزاءين على الطاعة والمعصية ، المقام الثاني الخوف من الله نفسه عز وجل وهو خوف العلماء والعارفين لأنه يكفيهم فقط ثلاث كلمات قال تعالى :{ وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ } [ آل عمران : 30 ] ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : ((أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له ))
كما في الحديث الآتي : ((1/271)
(حديث أنس الثابت في الصحيحين) جاء ثلاثةُ رهطٍ إلى بيوت النبي - صلى الله عليه وسلم - يسألون عن عبادة النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما أخبروا كأنهم تقاُّلوها وقالوا : أين نحن من النبي - صلى الله عليه وسلم - قد غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر قال أما أنا أصلي الليل أبداً ، وقال آخر : وأنا أصوم الدهر أبداً ، وقال آخر : وأنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً ، فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : أنتم الذين قلتم كذا وكذا ، أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني .
وقال الله تعالى: { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء } [ فاطر : 28 ]
لأنه لما كملت معرفتهم بربهم وأسمائه وصفاته أثرت الخوف ففاض الأثر على القلب ثم ظهر على الجوارح بهذه الأعمال.
(6) تتأمل النجاة لمن ، وتقارن نفسك بصفاتهم قال تعالى : {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} [ طه : 82 ]. و كما في سورة العصر حيث أقسم الله أن الناس في خسران واستثنى {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [ العصر : 3 ]. وكما في قوله تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [ السجدة : 13 ] . هذه الآية تورث الخوف حيث أقسم الله أنه ليملأ جهنم فينخلع القلب والله تعالى يقول: {وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا} [ مريم : 71 ](1/272)
وقيل لفلان لم تبكي؟ قال لأني أعلم يقيناً أنني سآتي على جهنم ولكن ليس لدي يقين أنني سأنجو منها..!!، وفي مسألة قبول العمل أيضاً والله تعالى يقول : {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [ المائدة : 27 ] . فإذا حصل الخوف حصلت أسباب النجاة.
(7) تدبر كلام الله ورسوله والنظر في سيرته :
[*] قال ابن القيم : لأنه سيد الخائفين وإمام المتقين وأخشاهم لله فإذا تدبر المسلم كلام الله وسنة نبيه شهد قلبه أموراً من صفات الله وعقوباته وانتقامه و كيف خاف الأنبياء والملائكة والصالحون، وليس شيء أنفع للعبد في معاشه ومعاده وأقرب إلى نجاته من تدبر القرآن وإطالة التأمل وجمع الفكر على معاني آيات الكتاب العزيز فلا تزال معانيه تنهض العبد إلى ربه بالوعد الجميل وتحذره وتخوفه بوعيده من العذاب الوبيل وتحثه على التضمرّ والتخفف للقاء اليوم الثقيل)). يقول ابن الجوزي: (( والله لو أن مؤمناً عاقلاً قرأ سورة الحديد وآخر سورة الحشر وآية الطرسي وسورة الإخلاص بتفكر وتدبر لتصدّع قلبه من خشية الله وتحيّر من عظمة الله ربّه)).
(8) التفكر في عظمة الله سبحانه وتعالى :
فإنه من تفكر في ذلك خاف الله لا محالة لأن التفكر يوقعه على صفات الله جل جلاله وكبريائه ومن شهد قلبه عظمة الله وكبرياءه علم شأن تحذيره عندما قال: قال تعالى :{ وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ } [ آل عمران : 30 ]
أي خافوه واخشوه بما أبدى لكم من صفاته وأسمائه وعدله عز وجل ، وقال تعالى : {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [ الزمر : 67 ]
يمجد الرب نفسه، أنا الجبار الملك، أنا المتكبر العزيز الكريم..،(1/273)
(حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) قال : جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد، إنا نجد: أن الله يجعل السماوات على إصبع والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلائق على إصبع، فيقول أنا الملك، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه تصديقا لقول الحبر، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون}.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :(يقبض الله الأرض، ويطوي السماوات بيمينه، ثم يقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض).
(9) التفكر في الموت وشدته وأنه لا مفر منه قال تعالى : {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ } [ الجمعة : 8 ] ، فهذا يوجب الخوف من الله
ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأمرنا بأن نكثر من ذكر هادم اللذات كما في الحديث الآتي : (
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أكثروا ذكر هاذم اللذات .
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أكثروا ذكر هاذم اللذات: الموت فإنه لم يذكره أحد في ضيق من العيش إلا وسعه عليه و لا ذكره في سعة إلا ضيقها عليه .
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
( أكثروا ذكر هاذم ) بذال معجمة قاطع وبمهملة مزيل وليس مراداً هنا كذا في روض السهيلي قال ابن حجر وفي ذا النفي نظر
( اللذات ) الموت(1/274)
( فإنه لم يذكره أحد في ضيق من العيش إلا وسعه عليه ولا ذكره في سعة إلا ضيقها عليه ) قال العسكري لو فكر البلغاء في قول المصطفى صلى اللّه عليه وسلم ذلك لعلموا أنه أتى بهذا القليل على كل ما قيل في ذكر الموت ووصف به نظماً ونثراً ولهذا كان عيسى عليه السلام إذا ذكر عنده الموت يقطر جلده دماً قيل ولا يدخل ذكر الموت بيتاً إلا رضي أهله بما قسم لهم وقال أبو نواس . ألا يا ابن الذين فنوا وماتوا * أما واللّه ما ماتوا لتبقى وقال أبو حمزة الخراساني : من أكثر ذكر الموت حبب إليه كل باق وبغض إليه كل فان . وقال القرطبي : ذكر الموت يورث استشعار الانزعاج عن هذه الدار الفانية والتوجه في كل لحظة إلى الآخرة الباقية ثم إن الإنسان لا ينفك عن حالين ضيق وسعة ونعمة ومحنة فإن كان في حال ضيق ومحنة فذكر الموت يسهل عليه ما هو فيه من الاغترار بها والركون إليها . وقال الغزالي : الموت خطر هائل وخطب عظيم وغفلة الناس عنه لقلة فكرهم فيه وذكرهم له ومن يذكره ليس يذكره بقلب فارغ بل مشغول بالشهوات فلا ينجع ذكره فيه فالطريق أن يفرغ قلبه عن كل شيء إلا ذكر الموت الذي هو بين يديه كمن يريد السفر فإذا باشر ذكر الموت قلبه أثر فيه فيقل حركته وفرحه بالدنيا وينكسر قلبه وأنفع طريق فيه أن يذكر أشكاله فيتذكر موتهم ومصرعهم تحت التراب ويتذكر صورهم في أحوالهم ومناصبهم التي كانوا عليها في الدنيا ويتأمل كيف محى التراب حسن صورهم وتبددت أجزاؤهم في قبورهم ويتموا أولادهم وضيعوا أموالهم وخلت مجالسهم وانقطعت آثارهم .
(10) التفكر فيما بعد الموت :
في القبر وأهواله فإنه يرقّ القلب ويُدْمِع العين ويُذّكِر الآخرة ، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة : ((1/275)
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) قال * زار النبي - صلى الله عليه وسلم - قبر أمه فبكى وأبكى من حوله فقال استأذنت ربي في أن أستغفر لها فلم يؤذن لي واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي فزوروا القبور فإنها تذكر الموت .
(حديث بريدة الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكركم الآخرة .
وما ترك النبي صلى الله عليه وسلم فرصة إلا ذكَّر أصحابه بالموت وما بعده .
(حديث البراء رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجه ) قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة فجلس على شفير القبر فبكى حتى بل الثرى ثم قال يا إخواني لمثل هذا فأعدوا .
(وهكذا سار السلف من بعد نبيهم صلى الله عليه وسلم يذكرون الموت ويُذكّرون الناس به.. فهذا أويس القرني رحمه الله يخاطب أهل الكوفة قائلاً : يا أهل الكوفة توسدوا الموت إذا نمتم ، واجعلوه نصب أعينكم إذا قمتم .
إنَّ في ذكر الموت أعظم الأثر في إيقاظ النفوس وانتشالها من غفلتها ، فكان الموت أعظم المواعظ .
قيل لبعض الزهَّاد : ما أبلغ العظات ؟ قال : النظر إلى محلة الأموات .
وقال آخر : من لم يردعه القرآن والموت فلو تناطحت الجبال بين يديه لم يرتدع .
(من استعدَّ للموت جدَّ َفي العمل ، وقصَّر الأمل .
[*] يقول اللبيدي : رأيت أبا اسحاق في حياته يُخرج ورقة يقرؤها دائماً ، فلما مات نظرت في الورقة فإذا مكتوب فيها : أحسن عملك فقد دنا أجلك .. أحسن عملك فقد دنا أجلك.
إنَّ الذي يعيش مترقباً للنهاية يعيش مستعداً لها ، فيقلُّ عند الموت ندمه وحسراته.
(لذا قال شقيق البلخي رحمه الله : استعد إذا جاءك الموت أن لا تصيح بأعلى الصوت تطلب الرجعة فلا يستجاب لك .(1/276)
التذكير بالموت يحصل به إيقاظ القلوب من سباتها ، وزجر النفوس عن التمادي في غيها وشهواتها ، فيزيد الصالح في صلاحه ، وأن يستيقظ الغافل قبل حسرته وقبل مماته .
[*] قال عون بن عبدالله : كم من مستقبل يوماً لا يستكمله ومنتظر غد لا يبلغه لو تنظرون إلى الأجل ومسيره لأبغضتم الأمل وغروره .
... [*] وكان عمرو بن عتبة بن فرقد يخرج على فرسه فيقف ليلا على القبور فيقول يا أهل القبور قد طويت الصحف وقد رفعت الاعمال ثم يبكي ثم يصفن بين قدميه حتى يصبح ثم يرجع فيشهد صلاة الصبح .
(11) التفكر في ما إذا قدم إلى القيامة وأهوالها وحديث البعث والنشور إلى ذبح الموت : قال تعالى : {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [ لقمان : 33 ]، فلفت النظر يقوي مراقبة العبد ربه.
(12) التفكر في ما إذا دخل أهل النار النار..، ماذا يوجد فيها من الأهوال في شدة عذابها؟!!..، قال تعالى: (إِنّهَا لإِحْدَى الْكُبَرِ) [المدثر: 35].
[*] قال الحسن رحمه الله تعالى : كبرت منذرة داهية عظيمة أعظم الدواهي ما أنذرت الخلائق بشيء قط أفظع منها.
وكيف قرت لأهل العلم أعينهم
أو استلذوا لذيذ النوم أو هجعوا
والموت ينذرهم جهراً علانية
لو كان للقوم أسماع لقد سمعوا
أفي الجنان وفوز لا انقطاع له
أم الجحيم فلا تبقي ولا تدع
لينفع العلم قبل الموت عالمه
قد سأل قوم بها الرجعى فما رجعوا(1/277)
(13) تفكر العبد في ذنوبه وأنه نسيه والله تعالى أحصاها ولا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاه، وأن الله يمكن أن يعطيه النعم استدراجاً قال تعالى : {وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا} [ الكهف : 36 ] ، في قصة صاحب الجنتين .
(حديث عقبة ابن عامر الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إذا رأيت الله تعالى يعطي العبد من الدنيا ما يحب وهو مقيمٌ على معاصيه فإنما ذلك منه استدراج .
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
( إذا رأيت الله تعالى ) أي علمت أنه
( يعطي العبد ) عبر بالمضارع إشارة إلى تجدد الإعطاء وتكرره
( من الدنيا ) [ ص 355 ] أي من زهرتها وزينتها
( ما يحب ) أي العبد من نحو مال وولد وجاه
( وهو مقيم ) أي والحال أنه مقيم
( على معاصيه ) أي عاكف عليها ملازم لها
( فإنما ذلك ) أي فاعلموا أنما إعطاؤه ما يحب من الدنيا
( منه ) أي من الله(1/278)
( استدراج ) أي أخذ بتدريج واستنزال من درجة إلى أخرى ، فكلما فعل معصية قابلها بنعمة وأنساه الاستغفار فيدنيه من العذاب قليلاً قليلاً ثم يصبه عليه صباً . قال إمام الحرمين : إذا سمعت بحال الكفار وخلودهم في النار فلا تأمن على نفسك فإن الأمر على خطر ، فلا تدري ماذا يكون وما سبق لك في الغيب ، ولا تغتر بصفاء الأوقات فإن تحتها غوامض الآفات . وقال علي كرم الله وجهه : كم من مستدرج بالإحسان وكم من مفتون بحسن القول فيه . وكم من مغرور بالستر عليه ، وقيل لذي النون : ما أقصى ما يخدع به العبد؟ قال : بالألطاف والكرامات { سنستدرجهم من حيث لا يعلمون } وفي الحكم : خف من وجود إحسانه إليك ودوام إساءتك معه أن يكون ذلك استدراجاً . والاستدراج الأخذ بالتدريج لا مباغتة . والمراد هنا تقريب الله العبد إلى العقوبة شيئاً فشيئاً ، واستدراجه تعالى للعبد أنه كلما جدد ذنباً جدد له نعمة وأنساه الاستغفار فيزداد أشراً وبطراً فيندرج في المعاصي بسبب تواتر النعم عليه ظاناً أن تواترها تقريب من الله ، وإنما هو خذلان وتبعيد .
(حديث أبي موسى في الصحيحين) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن الله تعالى لَيملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته .
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
( إن اللّه تعالى ليملي ) بفتح اللام الأولى أي ليمهل والإملاء الإمهال والتأخير وإطالة العمر
( للظالم ) زيادة في استدراجه ليطول عمره ويكثر ظلمه فيزداد عقابه كما قال تعالى : {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [ آل عمران : 178 ] فإمهاله عين عقابه .
( حتى إذا أخذه ) أي أنزل به نقمته(1/279)
( لم يفلته ) أي لم يفلت منه أو لم يفلته منه أحد أي لم يخلصه أبداً بل يهلكه لكثرة ظلمه بالشرك فإن كان مؤمناً لم يخلصه مدة طويلة بقدر جنايته ، وقول بعضهم معنى لم يفلته لم يؤخره تعقبه ابن حجر بأنه يفهم أن الظالم إذا صرف عن منصبه أو أهين لا يعود إلى غيره والمشاهد في بعضهم بخلافه فالأولى جعله غالبياً من الإفلات وهو خروج من مضيق وتمام الحديث في البخاري : ثم قرأ { وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد } وفيه تسلية للمظلوم ووعيد للظالم وأنه لا يغتر بالإمهال فإنه ليس بإهمال .
(14) التفكر في عاقبة محقرات الذنوب التي يحقرها الناس : وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة : (
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في السلسلة الصحيحة ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : يا عائشة ! إياك ومحقرات الذنوب ؛ فإن لها من الله طالبا .
( حديث سهل بن سعد رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إياكم و محقرات الذنوب فإنما مثل محقرات الذنوب كمثل قوم نزلوا بطن واد فجاء ذا بعود و جاء ذا بعود حتى حملوا ما أنضجوا به خبزهم و إن محقرات الذنوب متى يؤخذ بها صاحبها تهلكه .
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
( إياكم ومحقرات الذنوب ) أي صغائرها لأن صغارها أسباب تؤدي إلى ارتكاب كبارها كما أن صغار الطاعات أسباب مؤدّية إلى تحري كبارها قال الغزالي : صغائر المعاصي يجر بعضها إلى بعض حتى تفوت أهل السعادة بهدم أصل الإيمان عند الخاتمة اهـ . وإن اللّه يعذب من شاء على الصغير ويغفر لمن شاء الكبير ثم إنه ضرب لذلك مثلاً زيادة في التوضيح فقال :(1/280)
( فإنما مثل محقرات الذنوب كمثل قوم نزلوا بطن واد فجاء ذا بعود وجاء ذا بعود حتى حملوا ما أنضجوا به خبزهم وإن محقرات الذنوب متى يؤخذ بها صاحبها تهلكه ) يعني أن الصغائر إذا اجتمعت ولم تكفر أهلكت ولم يذكر الكبائر لندرة وقوعها من الصدر الأول وشدة تحرزهم عنها فأنذرهم مما قد لا يكترثون به وقال الغزالي : تصير الصغيرة [ ص 128 ] كبيرة بأسباب منها الاستصغار والإصرار فإن الذنب كلما استعظمه العبد صغر عند اللّه وكلما استصغره عظم عند اللّه لأن استعظامه يصدر عن نفور القلب منه وكراهته له وذلك النفور يمنع من شدة تأثيره به واستصغاره يصدر عن الألفة به وذلك يوجب شدة الأثر في القلب المطلوب تنويره بالطاعة والمحذور تسويده بالخطيئة وقال الحكيم : إذا استخف بالمحقرات دخل التخلط في إيمانه وذهب الوقار وانتقص من كل شيء بمنزلة الشمس ينكسف طرف منها فبقدر ما انكسف ولو كرأس إبرة ينقص من شعاعها وإشراقها على أهل الدنيا وخلص النقصان إلى كل شيء في الأرض فكذا نور المعرفة ينقص بالذنب على قدره فيصير قلبه محجوباً عن اللّه فزوال الدنيا بكليتها أهون من ذلك فلا يزال ينقص ويتراكم نقصانه وهو أبله لا ينتبه لذلك حتى يستوجب الحرمان .
(15) أن يعلم العبد أنه قد يحال بينه وبين التوبة بموت مفاجيء ، تسويف، شبهات ، إصرار على المعصية والشهوات، فتنة مضلّة، والحسرة حينها لا تنفع قال تعالى: (حَتّىَ إِذَا جَآءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبّ ارْجِعُونِ * لَعَلّيَ أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلاّ إِنّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَا وَمِن وَرَآئِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَىَ يَوْمِ يُبْعَثُونَ) [ المؤمنون 99،100]
و قال تعالى: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ } [ مريم : 39 ](1/281)
(16) التفكر في سوء الخاتمة حينئذ قال تعالى:{فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمْ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} [ محمد : 27 ] ، وملك الموت كيف يسحب روح الفاجر فيتقطع فيها كل عرق و عصب وكيف يجعل في كفه من النار وحنوط له من جهنم..
(17) تجالس ناس يكسبونك خشية وخوف من الله من الصالحين والعلماء المتقين : قال تعالى:{وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [ الكهف : 28 ] ، صاحب أصحاب الخشية، رقة قلب إذا سمعوا الذكر وتلين قلوبهم قال تعالى: (({ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاء وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} (23) سورة الزمر)). واقرأ سيرهم فاصحب أنفاسهم..
أهل الحديث هم أهل الرسول
وإن لم يصحبوا نفسه أنفاسه صحبوا
(18) مطالعة سير الخائفين من الله ..
[*] ابن عباس رضي الله عنه كان تحت عينيه خطّان كالشراكان الباليان أخاديد من الدموع.
[*] وعمر بن الخطاب رضي الله عنه قرأ آيات فمرض مرض عاده الناس من بعده ، وكان يقول : (( يا ليتني كنت شجرة تؤكل)).
عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: (( ياليتني كنت هذه التبنة))((يا ليتني لم أكن شيئاً مذكوراً))(( ياليت أمي لم تلدني )) (( لو مات جمل ضياعاً على جانب الفرات لخشيت أن يسألني عنه الله يوم القيامة)).
ويقول: (( لو نادى منادٍ من السماء يا أيها الناس إنكم داخلون الجنة كلكم إلا واحداً لخفت أن أكون أنا هو))..!!(1/282)
[*] وعائشة رضي الله عنها : تقرأ قوله تعالى : {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [ الطور : 27 ] في صلاتها فتبكي وتبكي {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [ المائدة : 118 ]
وكانت تقول : عائشة رضي الله عنها تقول: (( يا ليتني كنت نسياً منسياً)).
[*] وأبو بكر رضي الله عنه : يمسك لسانه ويقول (( هذا الذي أوردني المهالك))،
[*] وعثمان بن عفان رضي الله عنه يقول : (( وددت لو أنني لو مت لم أبعث)) وهو الذي كان يقطع الليل تسبيحاً وقرآناً ويتخرق مصحفه من كثر ما قرأ به ، ومات ودمه على المصحف شهيداً..
[*] وعلي رضي الله عنه يقول: (( لقد رأيت أصحاب محمد فما أرى اليوم شيئاً يشبههم لقد كانوا يصبحون شعثاً غبراً بين أعينهم أمثال ركب المعزى قد باتوا لله سجداً وقياماً – أثر في الجلد فخشنه مثل ركب المعزى- يتلون كتاب ربهم يراوحون بين جباههم وجنوبهم فإذا أصبحوا ذكروا الله عزوجل مادوا كما يميد الشجر في يوم الريح وهملت أعينهم حتى تبل ثيابهم والله لكأن القوم باتوا غافلين..
[*] وأبو عبيدة رضي الله عنه يقول: (( وددت لو كنت كبشاً فذبحني أهلي وأكلوا لحمي وحسوا مرقي)).
[*] وعمران بن حصين رضي الله عنه يقول: (( يا ليتني كنت رماداً تذروه الرياح)).
[*] وحذيفة رضي الله عنه يقول (( وددت أن لي إنسان يكون في مالي ذم أغلق علي بابي فلا يدخل علي أحد حتى ألحق بالله)).
[*] وأبو هريرة رضي الله عنه : يغشى عليه ثلاث مرات وهو يحدث بحديث أول ثلاث تسعّر بهم النار ..
[*] وعمر بن عبد العزيز : يبكي ويبكي حتى تغلبه عيناه ثم ينام ..تسأله زوجته فيقول {قُلْ إِنِّيَ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [ الأنعام : 15 ]
فتبكي فاطمة وتقول : (( اللهم أعذه من النار)).
(19) سماع المواعظ وبعض الخطب:(1/283)
ومن أهم الأسباب الجالبة للخوف سماع المواعظ وبعض الخطب فما أشد ضرورة العبد المسلم إلى المواعظ التي تثبت قلبه في زمن حار فيه الكثير من الناس فانغمسوا في القيم الهابطة التي غزت العقول و القلوب و المجتمعات ولا يتم ذلك إلا بمجالسة الصالحين ، الذين بمجالستهم ترق القلوب سواء كان هذا شيخاً لك يعلمك الخير أو كان صديقاً يساعدك على ما يقربك إلى الله .
[*] قال الحافظ ابن رجب رحمه الله :
وكانت مجالس النبي صلى الله عليه و سلم مع أصحابه عامتها مجالس تذكير بالله و ترغيب و ترهيب ، إما بتلاوة القرآن أو بما آتاه الله من الحكمة و الموعظة الحسنة و تعليم ما ينفع في الدين كما أمره الله تعالى في كتابه أن يذكر و يعظ و يقص، و أن يدعوا إلى سبيل ربه بالحكمة و الموعظة الحسنة، و أن يبشر و ينذر وسماه الله قال تعالى: (يَأَيّهَا النّبِيّ إِنّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشّراً وَنَذِيراً * وَدَاعِياً إِلَى اللّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مّنِيراً) [ الأحزاب 45،46] و التبشير و الإنذار هو الترغيب و الترهيب فلذلك كانت تلك المجالس توجب لأصحابها رقة القلوب و الزهد في الدنيا و الرغبة في الآخرة .
فالموعظة سبيل للهدى و الرحمة و الشفاء لما في الصدور كما قال تعالى: (يَأَيّهَا النّاسُ قَدْ جَآءَتْكُمْ مّوْعِظَةٌ مّن رّبّكُمْ وَشِفَآءٌ لّمَا فِي الصّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤْمِنِينَ) [ يونس : 57] لأجل ذلك أمر الله تبارك و تعالى بها نبيه عليه الصلاة و السلام فقال تعالى ( َعِظْهُمْ وَقُل لّهُمْ فِيَ أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً) [ النساء :63]
[*] وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد ، ودرر الفرائد . ((1/284)
(حديث العرباض بن سارية في صحيحي أبي داوود والترمذي ) قال لعرباض: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ثم أقبل علينا ، فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب ، فقال قائل: يارسول الله ، كأن هذه موعظة مُوَدِّع ، فماذا تعهد إلينا ؟ فقال: "" أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة ، وإن عبدا حبشيا فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا ، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ ، وإياكم ومحدثات الأمور ، فإن كل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة.
[*] قال العلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:
( ذَرَفَتْ ) أَيْ دَمَعَتْ
( وَوَجِلَتْ ) بِكَسْرِ الْجِيمِ أَيْ خَافَتْ
( كأن هذه موعِظَةُ مُوَدِّعٍ ) بِالْإِصَافَةِ فَإِنَّ الْمُوَدِّعَ بِكَسْرِ الدَّالِ عِنْدَ الْوَدَاعِ لَا يَتْرُكُ شَيْئًا مِمَّا يُهِمُّ الْمُوَدَّعَ بِفَتْحِ الدَّالِ أَيْ كَأَنَّكَ تُوَدِّعُنَا بِهَا لِمَا رَأَى مِنْ مُبَالَغَتِهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي الْمَوْعِظَةِ
( فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا ) أَيْ فَبِأَيِّ شَيْءٍ تُوصِينَا
( وَإِنْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ ) أَيْ وَإِنْ تَأَمَّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ كَمَا فِي رِوَايَةِ الْأَرْبَعِينَ لِلنَّوَوِيِّ أَيْ صَارَ أَمِيرًا أَدْنَى الْخَلْقِ فَلَا تَسْتَنْكِفُوا عَنْ طَاعَتِهِ أَوْ لَوِ اسْتَوْلَى عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ فَأَطِيعُوهُ مَخَافَةَ إِثَارَةِ الْفِتَنِ، وَوَقَعَ فِي بَعْضِ نُسَخِ أَبِي دَاوُدَ: وَإِنْ عَبْدًا حَبَشِيًّا بِالنَّصْبِ أَيْ وَإِنْ كَانَ الْمُطَاعُ عَبْدًا حَبَشِيًّا.(1/285)
قَالَ الْخَطَّابِيُّ: يُرِيدُ بِهِ طَاعَةَ مَنْ وَلَّاهُ الْإِمَامُ عَلَيْكُمْ وَإِنْ كَانَ عَبْدًا حَبَشِيًّا وَلَمْ يُرِدْ بِذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ عَبْدًا حَبَشِيًّا، وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ الْأَئِمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ وَقَدْ يُضْرَبُ الْمَثَلُ فِي الشَّيْءِ بِمَا لَا يَكَادُ يَصِحُّ فِي الْوُجُودِ كَقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم - {مَنْ بَنَى لِلَّهِ مَسْجِدًا وَلَوْ مِثْلَ مَفْحَصِ قَطَاةٍ بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ،} وَقَدْرُ مَفْحَصِ الْقَطَاةِ لَا يَكُونُ مَسْجِدًا لِشَخْصٍ آدَمِيٍّ وَنَظَائِرُ هَذَا الْكَلَامِ كَثِيرَةٌ ( وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ إِلَخْ ).(1/286)
وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ: {وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ} . قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ فِي كِتَابِ جَامِعِ الْعُلُومِ: وَالْحِكَمِ فِيهِ تَحْذِيرٌ لِلْأُمَّةِ مِنَ اتِّبَاعِ الْأُمُورِ الْمُحْدَثَةِ الْمُبْتَدَعَةِ وَأَكَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَالْمُرَادُ بِالْبِدْعَةِ مَا أُحْدِثَ مِمَّا لَا أَصْلَ لَهُ فِي الشَّرِيعَةِ يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَأَمَّا مَا كَانَ لَهُ أَصْلٌ مِنَ الشَّرْعِ يَدُلُّ عَلَيْهِ فَلَيْسَ بِبِدْعَةٍ شَرْعًا وَإِنْ كَانَ بِدْعَةً لُغَةً فَقَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ لَا يَخْرُجُ عَنْهُ شَيْءٌ وَهُوَ أَصْلٌ عَظِيمٌ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ، وَأَمَّا مَا وَقَعَ فِي كَلَامِ السَّلَفِ مِنَ اسْتِحْسَانِ بَعْضِ الْبِدَعِ، فَإِنَّمَا ذَلِكَ فِي الْبِدَعِ اللُّغَوِيَّةِ لَا الشَّرْعِيَّةِ، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ عُمَرَ - رضي الله عنه - فِي التَّرَاوِيحِ: نِعْمَتِ الْبِدْعَةُ هَذِهِ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ إِنْ كَانَتْ هَذِهِ بِدْعَةً فَنِعْمَتِ الْبِدْعَةُ، وَمِنْ ذَلِكَ أَذَانُ الْجُمُعَةِ الْأَوَّلُ زَادَهُ عُثْمَانُ لِحَاجَةِ النَّاسِ إِلَيْهِ وَأَقَرَّهُ عَلِيٌّ وَاسْتَمَرَّ عَمَلُ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: هُوَ بِدْعَةٌ الجزء السابع وَلَعَلَّهُ أَرَادَ مَا أَرَادَ أَبُوهُ فِي التَّرَاوِيحِ، انْتَهَى مُلَخَّصًا.(1/287)
( فَمَنْ أَدْرَكَ ذَلِكَ ) أَيْ زَمَنَ الِاخْتِلَافِ الْكَثِيرِ ( فَعَلَيْهِ بِسُنَّتِي ) أَيْ فَلْيَلْزَمْ سُنَّتِي ( وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ ) فَإِنَّهُمْ لَمْ يَعْمَلُوا إِلَّا بِسُنَّتِي فَالْإِضَافَةُ إِلَيْهِمْ إِمَّا لِعَمَلِهِمْ بِهَا أَوْ لِاسْتِنْبَاطِهِمْ وَاخْتِيَارِهِمْ إِيَّاهَا قَالَهُ الْقَارِي.(1/288)
وَقَالَ الشَّوْكَانِيُّ فِي الْفَتْحِ الرَّبَّانِيِّ: إِنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ قَدْ أَطَالُوا الْكَلَامَ فِي هَذَا وَأَخَذُوا فِي تَأْوِيلِهِ بِوُجُوهٍ أَكْثَرُهَا مُتَعَسِّفَةٌ، وَالَّذِي يَنْبَغِي التَّعْوِيلُ عَلَيْهِ وَالْمَصِيرُ إِلَيْهِ هُوَ الْعَمَلُ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ هَذَا التَّرْكِيبُ بِحَسْبِ مَا تَقْتَضِيهِ لُغَةُ الْعَرَبِ، فَالسُّنَّةُ هِيَ الطَّرِيقَةُ فَكَأَنَّهُ قَالَ الْزَمُوا طَرِيقَتِي وَطَرِيقَةَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، وَقَدْ كَانَتْ طَرِيقَتُهُمْ هِيَ نَفْسُ طَرِيقَتِهِ، فَإِنَّهُمْ أَشَدُّ النَّاسِ حِرْصًا عَلَيْهَا وَعَمَلًا بِهَا فِي كُلِّ شَيْءٍ. وَعَلَى كُلِّ حَالٍ كَانُوا يَتَوَقَّوْنَ مُخَالَفَتَهُ فِي أَصْغَرِ الْأُمُورِ فَضْلًا عَنْ أَكْبَرِهَا. وَكَانُوا إِذَا أَعْوَزَهُمُ الدَّلِيلُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم - عَمِلُوا بِمَا يَظْهَرُ لَهُمْ مِنَ الرَّأْيِ بَعْدَ الْفَحْصِ وَالْبَحْثِ وَالتَّشَاوُرِ وَالتَّدَبُّرِ، وَهَذَا الرَّأْيُ عِنْدَ عَدَمِ الدَّلِيلِ هُوَ أَيْضًا مِنْ سُنَّتِهِ لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ {حَدِيثُ مُعَاذٍ لَمَّا قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِمَ تَقْضِي ؟ قَالَ: بِكِتَابِ اللَّهِ. قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَجِدْ قَالَ: فَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَجِدْ قَالَ: أَجْتَهِدُ رَأْيِي قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِهِ} (1) أَوْ كَمَا قَالَ.
__________
(1) - صحيح مسلم الأيمان (1668),سنن الترمذي الْأَحْكَامِ (1364),سنن النسائي الجنائز (1958),سنن أبي داود العتق (3958),سنن ابن ماجه الأحكام (2345),مسند أحمد (4/438).(1/289)
وَهَذَا الْحَدِيثُ وَإِنْ تَكَلَّمَ فِيهِ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فَالْحَقُّ أَنَّهُ مِنْ قِسْمِ الْحَسَنِ لِغَيْرِهِ وَهُوَ مَعْمُولٌ بِهِ وَقَدْ أَوْضَحْتُ هَذَا فِي بَحْثٍ مُسْتَقِلٍّ. فَإِنْ قُلْتَ: إِذَا كَانَ مَا عَمِلُوا فِيهِ بِالرَّأْيِ هُوَ مِنْ سُنَّتِهِ لَمْ يَبْقَ لِقَوْلِهِ " {وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ ثَمَرَةٌ "} ، قُلْتُ: ثَمَرَتُهُ أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ لَمْ يُدْرِكْ زَمَنَهُ - صلى الله عليه وسلم - وَأَدْرَكَ زَمَنَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ أَوْ أَدْرَكَ زَمَنَهُ وَزَمَنَ الْخُلَفَاءِ، وَلَكِنَّهُ حَدَثَ أَمْرٌ لَمْ يَحْدُثْ فِي زَمَنِهِ فَفَعَلَهُ الْخُلَفَاءُ، فَأَشَارَ بِهَذَا الْإِرْشَادِ إِلَى سُنَّةِ الْخُلَفَاءِ إِلَى دَفْعِ مَا عَسَاهُ يَتَرَدَّدُ فِي بَعْضِ النُّفُوسِ مِنَ الشَّكِّ وَيَخْتَلِجُ فِيهَا مِنَ الظُّنُونِ. فَأَقَلُّ فَوَائِدِ الْحَدِيثِ أَنَّ مَا يَصْدُرُ عَنْهُمْ مِنَ الرَّأْيِ وَإِنْ كَانَ مِنْ سُنَنِهِ كَمَا تَقَدَّمَ وَلَكِنَّهُ أَوْلَى مِنْ رَأْيِ غَيْرِهِمْ عِنْدَ عَدَمِ الدَّلِيلِ. وَبِالْجُمْلَةِ فَكَثِيرًا مَا كَانَ - صلى الله عليه وسلم - يُنْسَبُ الْفِعْلُ أَوِ التَّرْكُ إِلَيْهِ أَوْ إِلَى أَصْحَابِهِ فِي حَيَاتِهِ مَعَ أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ لِنِسْبَتِهِ إِلَى غَيْرِهِ مَعَ نِسْبَتِهِ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مَحَلُّ الْقُدْوَةِ وَمَكَانُ الْأُسْوَةِ فَهَذَا مَا ظَهَرَ لِي فِي تَفْسِيرِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَلَمْ أَقِفْ عِنْدَ تَحْرِيرِهِ عَلَى مَا يُوَافِقُهُ مِنْ كَلَامِ أَهْلِ الْعِلْمِ فَإِنْ كَانَ صَوَابًا فَمِنَ اللَّهِ وَإِنْ كَانَ خَطَأً فَمِنِّي وَمِنَ الشَّيْطَانِ وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الْعَظِيمَ. انْتَهَى كَلَامُ الشَّوْكَانِيِّ.(1/290)
وَقَدْ ذَكَرْنَا كَلَامَ صَاحِبِ سُبُلِ السَّلَامِ فِي بَيَانِ مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ فِي بَابِ أَذَانِ الْجُمُعَةِ، وَقَالَ الْقَارِي فِي الْمِرْقَاةِ قِيلَ: هُمُ الْخُلَفَاءُ الْأَرْبَعَةُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ -رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ-؛ لِأَنَّهُ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-: قَالَ الْخِلَافَةُ بَعْدِي ثَلَاثُونَ سَنَةً وَقَدِ انْتَهَى بِخِلَافَةِ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ. قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: وَصَفَ الرَّاشِدِينَ بِالْمَهْدِيِّينَ؛ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ مُهْتَدِيًا فِي نَفْسِهِ لَمْ يَصْلُحْ الجزء السابع أَنْ يَكُونَ هَادِيًا لِغَيْرِهِ لِأَنَّهُ يُوقِعُ الْخَلْقَ فِي الضَّلَالَةِ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُ: وَهُمُ الصِّدِّيقُ وَالْفَارُوقُ وَذُو النُّورَيْنِ وَأَبُو تُرَابٍ عَلِيٌّ الْمُرْتَضَى -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- أَجْمَعِينَ؛ لِأَنَّهُمْ لَمَّا كَانُوا أَفْضَلَ الصَّحَابَةِ الخلفاء الأربعة وَوَاظَبُوا عَلَى اسْتِمْطَارِ الرَّحْمَةِ مِنَ الصَّحَابَةِ النَّبَوِيَّةِ وَخَصَّهُمُ اللَّهُ بِالْمَرَاتِبِ الْعَلِيَّةِ، وَالْمَنَاقِبِ السُّنِّيَّةِ، وَوَطَّنُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى مَشَاقِّ الْأَسْفَارِ وَمُجَاهَدَةِ الْقِتَالِ مَعَ الْكُفَّارِ.
أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِمَنْصِبِ الْخِلَافَةِ الْعُظْمَى وَالتَّصَدِّي إِلَى الرِّيَاسَةِ الْكُبْرَى لِإِشَاعَةِ أَحْكَامِ الدِّينِ، وَإِعْلَاءِ أَعْلَامِ الشَّرْعِ الْمَتِينِ رَفْعًا لِدَرَجَاتِهِمْ، وَازْدِيَادًا لِمَثُوبَاتِهِمْ، انْتَهَى.
( عَضُّوا ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ ( عَلَيْهَا ) أَيْ عَلَى السُّنَّةِ(1/291)
( بِالنَّوَاجِذِ ) جَمْعُ نَاجِذَةٍ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ وَهِيَ الضِّرْسُ الْأَخِيرُ، وَقِيلَ: هُوَ مُرَادِفُ السِّنِّ وَقِيلَ هُوَ النَّابُ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا تَكَامَلَتِ الْأَسْنَانُ فَهِيَ ثِنْتَانِ وَثَلَاثُونَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ ثَنَايَا، وَهِيَ أَوَائِلُ مَا يَبْدُو لِلنَّاظِرِ مِنْ مُقَدَّمِ الْفَمِ، ثُمَّ أَرْبَعٌ رُبَاعِيَّاتٌ، ثُمَّ أَرْبَعُ أَنْيَابٍ، ثُمَّ أَرْبَعُ ضَوَاحِكَ، ثُمَّ اثْنَا عَشَرَ أَضْرَاسٍ، وَهِيَ الطَّوَاحِنُ، ثُمَّ أَرْبَعُ نَوَاجِذَ، وَهِيَ أَوَاخِرُ الْأَسْنَانِ كَذَا نَقَلَهُ الْأَبْهَرِيُّ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْأَضْرَاسَ عِشْرُونَ شَامِلَةً لِلضَّوَاحِكِ وَالطَّوَاحِنِ وَالنَّوَاجِذِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالْعَضُّ كِنَايَةٌ عَنْ شِدَّةِ مُلَازَمَةِ السُّنَّةِ وَالتَّمَسُّكِ بِهَا فَإِنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ شَيْئًا أَخْذًا شَدِيدًا يَأْخُذُ بِأَسْنَانِهِ أَوِ الْمُحَافَظَةِ عَلَى الْوَصِيَّةِ بِالصَّبْرِ عَلَى مُقَاسَاةِ الشَّدَائِدِ، كَمَنْ أَصَابَهُ أَلَمٌ لَا يُرِيدُ أَنْ يُظْهِرَهُ فَيَشْتَدُّ بِأَسْنَانِهِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ.
[*] الشاهد من الحديث :
قوله - صلى الله عليه وسلم - موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب :
(موعظة) من الوعظ و هو النصح و التذكير بالعواقب، و أتى لنا بكلام دال على التخويف بطريق النصيحة والتذكير بالعواقب لأجل ترقيق القلوب ، و التنوين في موعظة للتعظيم و التفخيم أي بموعظة عظيمة بليغة.
(وجلت): بكسر الجيم أي خافت منها القلوب
( وذرفت) بفتح الذال المعجمة و الراء أي سالت منها العيون أي دموعها و في ذلك إشارة إلى أن تلك الموعظة أثرت في نفوسهم و أخدت بمجامعهم ظاهرا و باطنا ، و هذا دليل على كمال معرفتهم و مراعاتهم لربهم.
[*] وقال ابن القيم رحمه الله :(1/292)
الانتفاع بالعظة: هو أن يقدح في القلب قادح الخوف و الرجاء فيتحرك للعمل طلبا للخلاص من الخوف و رغبة في حصول المرجوا.
وها هو الإمام الذهبي رحمه الله يبين أهمية الرقائق و المواعظ في تليين القلب و صفائه:"قال كنا عند أبي شريح فكثرت المسائل، فقال: قد درنت قلوبهم فقوموا إلى خالد بن حميد المهري استقلوا قلوبكم،وتعلموا هذه الرغائب و الرقائق فإنها تجدد العبادة و تورث الزهادة و تجر الصداقة و اقلوا المسائل فإنها في غير ما نزل نفسي القلب و تورث العداوة.
فينبغي للمتعلم أن يقصد من العلماء من اشتهر بالديانة وعرف بالستر والصيانة ، يقول ابن سيرين : إنما هذا العلم دين فانظروا عن من تأخذون .
والمفترض أن يستفيد طالب العلم رقة القلب من شيخه .
كما أن من الإخوان من مصاحبتهم ترقق القلب ، " ما أعطي عبد بعد الإسلام خيرا من أخ صالح ، فإذا رأى أحدكم وداً من أخيه فليستمسك به" عمر بن الخطاب .
(20) العلم بالله وأسمائه وصفاته :
فإذا عرف الإنسان ربه ..كيف يعصيه ؟ كيف يعصي ربه وهو يعلم أنه صائر إليه موقوف بين يديه ؟
وكذلك يعرف أسماء الله وصفاته حق المعرفة بأن يؤمن بها ويستحضرها في قلبه ،يستحضرها في قلبه عند الطاعة فيقبل إليها ، وعند المعصية فيحجم عنها .
ومعرفة أسماء الله وصفاته ترقق القلب ، فإذا علم بسمع الله تعالى وبصره وعلمه المطلق حفظ لسانه وجوارحه وخطرات قلبه عن كل مالا يرضي الله ،
[*] قال ابن القيم في مفتاح دار السعادة (2/90):
(وعلمه ـ ويقصد العبد ـ بسمعه تعالى وبصره وعلمه وأنه لا يخفى عليه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وأنه يعلم السر وأخفى ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ، يثمر له حفظ لسانه وجوارحه وخطرات قلبه عن كل ما لا يرضي الله وأن يجعل تعلق هذه الأعضاء بما يحبه الله و يرضاه فيثمر له ذلك الحياء باطنا ، ويثمر له الحياء اجتناب المحرمات والقبائح " اهـ .(1/293)
وإذا عرف أن الله هو الجبار العزيز شديد العقا ب لم يجرؤ أن يبارزه بالمعصية وإذا علم أن الله هو الرحمن الرحيم الغفور الودود رجا رحمة ربه وأحب خالقه .
فإذا عرف الله بأسمائه وصفاته أحب ربه سبحانه وخافه ورجاه فلا يكون في قلبه مكان لحب غيره أو مكان لخوف غيره أو مكان لرجاء غيره .
وليس من معرفة أسماء الله وصفاته أن نجعلها دافعا لنا للمعصية فنقول : إن الله غفور رحيم مما يدفعنا إلى أن نعصيه وننسى أنه أيضا سبحانه شديد العقاب .
(21) الدعاء.
وذلك مقصود في دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم يسأل الله أن يرزقه الخشية وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة : (
(حديث ابن عمر في صحيح الترمذي ) قال قلما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقوم من مجلسٍ حتى يدعو بهؤلاء الكلمات : اللهم اقسم لنا من خشيتك ما يحول بيننا و بين معاصيك و من طاعتك ما تبلغنا به جنتك و من اليقين ما تُهوِّنُ به علينا مصيبات الدنيا و متعنا بأسماعنا و أبصارنا و قوتنا ما أحييتنا و اجعله الوارث منا و اجعل ثأرنا على من ظلمنا و انصرنا على من عادانا و لا تجعل مصيبتنا في ديننا و لا تجعل الدنيا أكبر همنا و لا مبلغ علمنا و لا تسلط علينا من لا يرحمنا .
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
( اللّهم اقسم لنا ) أي اجعل لنا قسمة ونصيباً
( من خشيتك ) أي خوفك والخشية الخوف أو خوف مقترن بتعظيم
( ما يحول ) أي يحجب ويمنع
( بيننا وبين معاصيك ) لأن القلب إذا امتلأ من الخوف أحجمت الأعضاء جميعها عن ارتكاب المعاصي وبقدر قلة الخوف يكون الهجوم على المعاصي فإذا قلَّ الخوف جداً واستولت الغفلة كان ذلك من [ ص 133 ] علامة الشقاء ومن ثم قالوا المعاصي بريد الكفر كما أن القبلة بريد الجماع والغناء بريد الزنا والنظر بريد العشق والمرض بريد الموت وللمعاصي من الآثار القبيحة المذمومة المضرة بالعقل والبدن والدنيا والآخرة ما لا يحصيه إلا اللّه(1/294)
( ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك ) أي مع شمولنا برحمتك وليست الطاعة وحدها مبلغة بدليل خبر : لن يدخل أحدكم الجنة بعمله قالوا : ولا أنت يا رسول اللّه؟ قال : ولا أنا إلا أن يتغمدني اللّه برحمته
( ومن اليقين ) أي وارزقنا من اليقين بك وبأنه لا راد لقضائك وقدرك
( ما تهون ) أي تسهل
( علينا مصائب الدنيا ) بأن نعلم أن ما قدرته لا يخلو عن حكمة ومصلحة واستجلاب مثوبة وأنك لا تفعل بالعبد شيئاً إلا وفيه صلاحه
( ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا واجعله الوارث منا ) قال القاضي : الضمير في اجعل للمصدر اجعل الجعل والوارث هو المفعول الأول ، ومنا في محل المفعول الثاني بمعنى اجعل الوارث من نسلنا لا كلالة خارجة عنا أو الضمير للتمتع ومعناه اجعل تمتعنا بها باقياً عنا موروثاً لمن بعدنا أو محفوظاً لنا ليوم الحاجة وهو المفعول الأول والوارث مفعول ثان ومنا صلة أو الضمير لما سبق من الأسماع والأبصار والقوة وإفراده وتذكيره وتأنيثه بتأويل المذكور ومعنى وراثتها لزومها له عند موته لزوم الوارث له
( واجعل ثأرنا على من ظلمنا ) أي مقصوراً عليه ولا تجعلنا ممن تعدى في طلب ثأره فأخذ به غير الجاني كما في الجاهلية أو اجعل إدراك ثأرنا على من ظلمنا فندرك به ثأرنا
( وانصرنا على من عادانا ) أي ظفرنا عليه وانتقم منه
( ولا تجعل مصيبتنا في دينينا ) أي لا تصيبنا بما ينقص ديننا من أكل حرام واعتقاد سوء وفترة في عبادة
( ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ) فإن ذلك سبب للّهلاك وفي إفهامه أن قليل الهم بما لا بد منه من أمر المعاش مرخص فيه بل مستحب
( ولا مبلغ علمنا ) بحيث تكون جميع معلوماتنا الطرق المحصلة للدنيا والعلوم الجالية لها بل ارزقنا علم طريق الآخرة(1/295)
( ولا تسلط علينا من لا يرحمنا ) أي لا تجعلنا مغلوبين للظلمة والكفرة أو لا تجعل الظالمين علينا حاكمين أو من لا يرحمنا من ملائكة العذاب في القبر والنار وغيرهما ذكره كله القاضي . قال الطيبي : فإن قلت بين لي تأليف هذا النظم وأي وجه من الوجوه المذكورة أولى قلت أن تجعل الضمير للتمتع والمعنى اجعل ثأرنا مقصوراً على من ظلمنا ولا تجعلنا ممن تعدى في طلب ثأره وتحمل من لا يرحمنا علي ملائكة العذاب في القبر وفي النار لئلا يلزم التكرار فتقول إنما خص البصر والسمع بالتمتع من الحواس لأن الدلائل الموصلة إلى معرفته تعالى وتوحيده إنما تحصل من طريقهما لأن البراهين إنما تكون مأخوذة من الآيات المنزلة وذلك بطريق السمع أو من الآيات المقصوصة في الآفاق والأنفس وذلك بطريق البصر فسأل التمتع بهما حذراً من الانخراط في سلك الذين ختم اللّه على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولما حصلت المعرفة ترتب عليها العبادة فسأل القوة ليتمكن بها من عبادة ربه ثم إنه أراد أن لا ينقطع هذا الفيض الإلهي عنه لكونه رحمة العالمين فسأل بقاء ذلك ليستن بسنته بعده فقال : واجعل ذلك التمتع وارثاً باقياً منا .
(حديث عمار ابن ياسر في صحيح النسائي) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يدعو بهذا الدعاء اللهم بعلمك الغيب و قدرتك على الخلق أحيني ما علمت الحياة خيرا لي و توفني إذا علمت الوفاة خيرا لي ، اللهم و أسألك خشيتك في الغيب و الشهادة و أسألك كلمة الحق في الرضا و الغضب وأسألك القصد في الفقر و الغنى و أسألك نعيما لا ينفد و قرة عين لا تنقطع و أسألك الرضا بالقضاء و أسألك برد العيش بعد الموت و أسألك لذة النظر إلى وجهك و الشوق إلى لقاءك في غير ضراء مضرة و لا فتنة مضلة اللهم زينا بزينة الإيمان و اجعلنا هداة مهتدين .
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:(1/296)
( اللّهم بعلمك الغيب ) الباء للاستعطاف والتذلل أي أنشدك بحق علمك ما خفي على خلقك مما استأثرت به
( وقدرتك على الخلق ) أي جميع المخلوقات من إنس وجن وملك وغيرها
( أحيني ما علمت الحياة خيراً لي وتوفني إذا علمت الوفاة خيراً لي ) عبر بما في الحياة لاتصافه بالحياة حالاً وبإذا الشرطية في الوفاة لانعدامها حال التمني أي إذا آل الحال أن تكون الوفاة بهذا الوصف فتوفني
( اللّهم وأسألك خشيتك ) عطف على محذوف واللّهم معترضة
( في الغيب والشهادة ) أي في السر والعلانية أو المشهد والمغيب فإن خشية اللّه رأس كل خير والشأن في الخشية في الغيب لمدحه تعالى من يخافه بالغيب
( وأسألك كلمة الحق ) أي النطق بالحق
( في الرضا والغضب ) أي في حالتي رضا الخلق مني وغضبهم علي فيما أقوله فلا أداهن ولا أنافق أو في حالتي رضاي وغضبي بحيث لا تلجئني شدّة الغضب إلا النطق بخلاف الحق ككثير من الناس إذا اشتد غضبه أخرجه من الحق إلى الباطل
( وأسألك القصد ) أي التوسط
( في الغنى والفقر ) وهو الذي ليس معه إسراف ولا تقصير فإن الغنى يبسط اليد ويطفىء النفس والفقر يكاد أن يكون كفراً فالتوسط هو المحبوب المطلوب
( وأسألك نعيماً لا ينفد ) أي لا ينقضي وذلك ليس إلا نعيم الآخرة
( وأسألك قرة عين ) بكثرة النسل المستمر بعدي أو بالمحافظة على الصلاة لقوله وجعلت قرة عيني في الصلاة
( لا تنقطع ) بل تستمر ما بقيت الدنيا وقيل أراد قرّة عينه أي بدوام ذكره وكمال محبته والأنس به . قال بعضهم : من قرت عينه باللّه قرت به كل عين
( وأسألك الرضا بالقضاء ) أي بما قدرته لي في الأزل لأتلقاه بوجه منبسط وخاطر منشرح وأعلم أن كل قضاء قضيته خير فلي فيه خير . قال العارف الشاذلي : البلاء كله مجموع في ثلاث خوف الخلق وهم الرزق والرضا عن النفس والعافية والخير مجموع في ثلاث الثقة باللّه في كل شيء والرضا عن اللّه في كل شيء واتقاء شرور الناس ما أمكن(1/297)
( وأسألك برد العيش بعد الموت ) برفع الروح إلى منازل السعداء ومقامات المقربين والعيش في هذه الدار لا يبرد لأحد بل محشو بالغصص والنكد والكدر ممحوق بالآلام الباطنة والأسقام الظاهرة
( وأسألك لذة النظر إلى وجهك ) أي الفوز بالتجلي الذاتي الأبدي الذي لا حجاب بعده ولا مستقر للكمل دونه وهو الكمال الحقيقي قيد النظر باللذة لأن النظر إلى اللّه إما نظر هيبة وجلال في عرصات القيامة أو نظر لطف وجمال في الجنة إيذاناً بأن المسؤول هذا
( والشوق إلى لقائك ) قال ابن القيم : جمع في هذا الدعاء بين أطيب ما في الدنيا وهو الشوق إلى لقائه وأطيب ما في الآخرة وهو النظر إليه ولما كان كلامه موقوفاً على عدم ما يضر في الدنيا ويفتن في الدين قال
( في غير ضراء مضرة ) قال الطيبي : متعلق الظرف مشكل ولعله يتصل بالقرينة الأخيرة وهي الشوق إلى لقائك . سأل شوقاً إليه في الدنيا بحيث يكون في ضراء غير مضرة أي شوقاً لا يؤثر في سلوكي وإن ضرني مضرة ما ، قال : إذا قلت أهدى الهجر لي حلل البلا * تقولين لولا الهجر لم يطب الحب وإن قلت كربي دائم قلت إنما * يعد محباً من يدوم له كرب ويجوز اتصاله بقوله أحيني إلى آخره . ومعنى ضراء مضرة : الضر الذي لا يصبر عليه
( ولا فتنة مضلة ) أي موقعة [ ص 147 ] في الحيرة مفضية إلى الهلاك . وقال القونوي : الضراء المضرة حصول الحجاب بعد التجلي والتجلي بصفة تستلزم سدل الحجب والفتنة المضلة كل شبهة توجب الخلل أو تنقص في العلم والشهود
( اللّهم زينا بزينة الإيمان ) وهي زينة الباطن ولا معول إلا عليها لأن الزينة زينتين زينة البدن وزينة القلب وهي أعظمها قدراً وإذا حصلت حصلت زينة البدن على أكمل وجه في العقبى ولما كان كمال العبد في كونه عالماً بالحق متبعاً له معلماً لغيره قال(1/298)
( واجعلنا هداة مهتدين ) وصف الهداة بالمهتدين لأن الهادي إذا لم يكن مهتدياً في نفسه لم يصلح كونه هادياً لغيره لأنه يوقع الناس في الضلال من حيث لا يشعر وهذا الحديث أفرد بالشرح .
[*](موانع الخوف :
الخوف تمنعه أشياء منها المعاصي، الدنيا، الرفقة السيئة، الغفلة وتبلّد الإحساس..
الخوف القاصر نوع خطير من الخوف ، وهو أن يحضر موعظة ويسمع ويتأثر ثم يمشي..
هذا خوف لا يكفي وإنما العبرة بما إذا وقع نفع و دخل واستقر..
فالمطلوب الخوف المستمر.الموثر وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة : (
(حديث العرباض بن سارية في صحيحي أبي داوود والترمذي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أوصيكم بتقوى الله و السمع و الطاعة و أن أمر عليكم عبد حبشي فإنه من يعش منكم بعدي فسيري اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي و سنة الخلفاء المهديين الراشدين تمسكوا بها و عضوا عليها بالنواجذ و إياكم و محدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة و كل بدعة ضلالة .
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة ما سمعت مثلها قط قال: (لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا). قال فغطى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوههم لهم خنين .
ومعنى الحديث : لو أنكم علمتم ما أعلمه من عظمة الله عز وجل، وانتقامه ممن يعصيه، لطال بكاؤكم وحزنكم وخوفكم مما ينتظركم ، ولما ضحكتم أصلاً ، فالقليل هنا بمعنى المعدوم، وهو مفهوم من السياق .(1/299)
( حديث أبي ذر رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أَطَّتْ السَّمَاءُ وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ مَا فِيهَا مَوْضِعُ أَرْبَعِ أَصَابِعَ إِلَّا وَمَلَكٌ وَاضِعٌ جَبْهَتَهُ سَاجِدًا لِلَّهِ وَاللَّهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا وَمَا تَلَذَّذْتُمْ بِالنِّسَاءِ عَلَى الْفُرُشِ وَلَخَرَجْتُمْ إِلَى الصُّعُدَاتِ تَجْأَرُونَ إِلَى اللَّهِ .
[*] قال لعلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:
( أَطَّتِ السَّمَاءُ ) بِتَشْدِيدِ الطَّاءِ مِنَ الْأَطِيطِ, وَهُوَ صَوْتُ الْأَقْتَابِ, وَأَطِيطُ الْإِبِلِ أَصْوَاتُهَا وَحَنِينُهَا عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ أَيْ صَوَّتَتْ
( وَحُقَّ ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ وَيَسْتَحِقُّ وَيَنْبَغِي
( لَهَا أَنْ تَئِطَّ ) أَيْ تُصَوِّتَ
( مَا فِيهَا ) أَيْ لَيْسَ فِي السَّمَاءِ جِنْسُهَا ( مَوْضِعُ أَرْبَعِ أَصَابِعَ ) بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ فَاعِلُ الظَّرْفِ الْمُعْتَمِدِ عَلَى حَرْفِ
( إِلَّا وَمَلَكٌ ) أَيْ فِيهِ مَلَكٌ
( وَاضِعٌ جَبْهَتَهُ لِلَّهِ سَاجِدًا ) قَالَ الْقَارِي: أَيْ مُنْقَادًا لِيَشْمَلَ مَا قِيلَ إِنَّ بَعْضَهُمْ قِيَامٌ وَبَعْضَهُمْ رُكُوعٌ وَبَعْضَهُمْ سُجُودٌ, كَمَا قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْهُمْ أَوْ خَصَّهُ بِاعْتِبَارِ الْغَالِبِ مِنْهُمْ, أَوْ هَذَا مُخْتَصٌّ بِإِحْدَى السَّمَاوَاتِ.(1/300)
قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : أَيْ أَنَّ كَثْرَةَ مَا فِيهَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ قَدْ أَثْقَلَهَا حَتَّى أَطَّتْ, وَهَذَا مَثَلٌ وَإِيذَانٌ بِكَثْرَةِ الْمَلَائِكَةِ, وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّةَ أَطِيطٌ وَإِنَّمَا هُوَ كَلَامُ تَقْرِيبٍ أُرِيدَ بِهِ تَقْرِيرُ عَظَمَةِ اللَّهِ تَعَالَى, انْتَهَى، قَالَ الْقَارِي: مَا الْمُحْوِجُ عَنْ عُدُولِ كَلَامِهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنَ الْحَقِيقَةِ إِلَى الْمَجَازِ مَعَ إِمْكَانِهِ عَقْلًا وَنَقْلًا حَيْثُ صَرَّحَ بِقَوْلِهِ: {وَأَسْمَعُ مَا لَا تَسْمَعُونَ} (1) مَعَ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَطِيطُ السَّمَاءِ صَوْتُهَا بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّحْمِيدِ وَالتَّقْدِيسِ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ
(وَمَا تَلَذَّذْتُمْ بِالنِّسَاءِ عَلَى الْفُرُشِ ) بِضَمَّتَيْنِ جَمْعُ فِرَاشٍ
( ولَخَرَجْتُمْ ) أَيْ مِنْ مَنَازِلِكُمْ ( إِلَى الصُّعُدَاتِ ) بِضَمَّتَيْنِ أَيِ الطُّرُقِ وَهِيَ جَمْعُ صُعُدٍ وَصُعُدٌ جَمْعُ صَعِيدٍ كَطَرِيقٍ وَطُرُقٍ وَطُرُقَاتٍ وَقِيلَ هِيَ جَمْعُ صُعْدَةٍ كَظُلْمَةٍ وَهِيَ فِنَاءُ بَابِ الدَّارِ وَمَمَرُّ النَّاسِ بَيْنَ يَدَيْهِ, كَذَا فِي النِّهَايَةِ، وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالصُّعُدَاتِ هُنَا الْبَرَارِيُّ وَالصَّحَارِي
( تَجْأَرُونَ إِلَى اللَّهِ ) أَيْ تَتَضَرَّعُونَ إِلَيْهِ بِالدُّعَاءِ لِيَدْفَعَ عَنْكُمُ الْبَلَاءَ .
(فالخوف إذا باشر قلب العبد فاض أثره على الجوارح وظهر، وليس أنه كان شيئاً سريعاً وذهب..
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها إن السفينة لا تجري على اليبس
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ما رأيت مثل النار نام هاربها ولا مثل الجنة نام طالبها .
__________
(1) - الترمذي الزهد (2312),ابن ماجه الزهد (4190),أحمد (5/173).(1/301)
[*] قال لعلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:
( نَامَ هَارِبُهَا ) حَالٌ إِنْ لَمْ تَكُنْ رَأَيْتُ مِنْ أَفْعَالِ الْقُلُوبِ وَإِلَّا فَهُوَ مَفْعُولٌ ثَانٍ
( وَلَا مِثْلَ الْجَنَّةِ نَامَ طَالِبُهَا ) أَيِ النَّارُ شَدِيدَةٌ وَالْخَائِفُونَ مِنْهَا نَائِمُونَ غَافِلُونَ وَلَيْسَ هَذَا شَأْنَ الْهَارِبِ بَلْ طَرِيقُهُ أَنْ يُهَرْوِلَ مِنَ الْمَعَاصِي إِلَى الطَّاعَاتِ كَذَا فِي التَّيْسِيرِ. وَقَالَ فِي اللَُمَعَاتِ: مَا رَأَيْتُ مِثْلَ النَّارِ أَيْ شِدَّةً وَهَوْلًا يَنَامُ هَارِبُهَا وَمِنْ شَأْنِ الْهَارِبِ مِنْ مِثْلِ هَذَا الشَّيْءِ أَنْ لَا يَنَامَ وَيَجِدَّ فِي الْهَرَبِ وَذَلِكَ بِالْتِزَامِ الطَّاعَةِ وَاجْتِنَابِ الْمَعَاصِي، وَلَا مِثْلَ الْجَنَّةِ أَيْ بَهْجَةً وَسُرُورًا نَامَ طَالِبُهَا، وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَنَامَ وَلَا يَغْفُلَ عَنْ طَلَبِهَا وَيَعْمَلَ عَمَلًا يُوصِلُ إِلَيْهَا، انْتَهَى.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
( ما رأيت مثل النار ) قال الطيبي : مثل هنا كما في قولك مثلك لا يبخل
( نام هاربها ) حال إن لم يكن رأيت من أفعال القلوب وإلا فنام هاربها مفعول ثان له ( ولا مثل الجنة نام طالبها ) يعني النار شديدة والخائفون منها نائمون غافلون وليس هذا طريق الهارب بل طريقه أن يهرول من المعاصي إلى الطاعات ، وفيه معنى التعجب أي ما أعجب حال النار الموصوفة بشدة الأهوال وحال الهارب منها مع نومه وشدة غفلته والاسترسال في سكرته ، وما أعجب حال الجنة الموصوفة بهذه الصفات وحال طالبها الغافل عنها .
[*] قال ابن تيمية –رحمه الله - :
كل عاصٍ لله فهو جاهل وكل خائف منه فهو عالم مطيع ، الخائف من الله يبادر إلى الخيرات قبل الممات ويغتنم الأيام والساعات..
(أنواع الخوف :
مسألة : ما هي أنواع الخوف ؟
الخوف أقسام :(1/302)
الأول : خوف العبادة والتذلل والتعظيم والخضوع ، وهو ما يسمى بخوف السر.
وهذا لا يصلح إلا لله – سبحانه - ، فمن أشرك فيه مع الله غيره ؛ فهو مشرك شركاً أكبر ، وذلك مثل : مَن يخاف من الأصنام أو الأموات ، أو من يزعمونهم أولياء ويعتقدون نفعهم وضرهم ؛ كما يفعله بعض عباد القبور: يخاف من صاحب القبر أكثر مما يخاف الله.
الثاني : الخوف الطبيعي والجبلي ؛ فهذا في الأصل مباح ، لقوله تعالى عن موسى : ) فخرج منها خائفاً يترقب ( ، وقوله عنه أيضاً : ) رب إني قتلت منهم نفساً فأخاف أن يقتلون ( ، لكن إن حمل على ترك واجب أو فعل محرم ؛ فهو محرم ، وإن استلزم شيئاَ مباحاً كان مباحاً ، فمثلاً من خاف من شيء لا يؤثر عليه وحمله هذا الخوف على ترك صلاة الجماعة مع وجوبها ؛ فهذا الخوف محرم ، والواجب عليه أن لا يتأثر به .
وإن هدده إنسان على فعل محرم ، فخافه وهو لا يستطيع أن ينفذ ما هدده به ، فهذا خوف محرم لأنه يؤدي إلى فعل محرم بلا عذر ، وإن رأى ناراً ثم هرب منها ونجا بنفسه ؛ فهذا خوف مباح ، وقد يكون واجباً إذا كان يتوصل به إلى إنقاذ نفسه .
{ تنبيه } :( أنه يجب على المرء أن يجعل الخوف من الله فوق كل خوف ، وأن لا يبالي بأحد في شريعة الله تعالى ، وأن يعلم أن من التمس رضا الله تعالى وإن سخط الناس عليه ؛ فالعاقبة له ، وإن التمس رضا الناس وتعلق بهم وأسخط الله ؛ انقلبت عليه الأحوال ، ولم ينل مقصوده بل حصل له عكس مقصوده ، وهو أن يسخط الله عليه ويسخط عليه الناس .
(حديث عائشة في صحيح الترمذي) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من التمس رضا الله بسخط الناس كفاه الله مؤنة الناس و من التمس رضا الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس .(1/303)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الفضيل بن عياض قال : من خاف الله تعالى لم يضره شيء ومن خاف غير الله لم ينفعه أحد. وسألله عبد الله بن مالك، فقال: يا أبا علي ما الخلاص مما نحن فيه ؟ فقال له:أخبرني من أطاع الله عز وجل هل تضره معصية أحد ؟ قال: لا، قال: فمن عصى الله سبحانه وتعالى هل تنفعه طاعة أحد ؟ قال: لا، قال: فهو الخلاص إن أردت الخلاص.
(تعريف الرجاء :
مسألة : ما هو الرجاء ؟
الرجاء هو ارتياح القلب وابتهاجه لتوقع محمود في المستقبل ، وهذا المحمود قام العبد بما يجب عليه نحوه ولم يبقى إلا فضل الله سبحانه لحصول هذا المأمول ، والرجاء حادٍ يحدو القلوب إلى بلاد المحبوب (الجنة) .
قال تعالى : { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } (الزمر : الآية 53 ) .
وقوله عز وجل : { وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ } (الرعد :من الآية 6 ) .
قال تعالى : { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } (الزمر : الآية 53 ) .
وقوله عز وجل : { وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ } (الرعد :من الآية 6 ) .(1/304)
(حديث ابن عباس رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين ):أن أناسا من أهل الشرك، كانوا قد قتلوا وأكثروا، وزنوا وأكثروا، فأتوا محمدا صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن الذين تقول وتدعو إليه لحسن، لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة، فنزل: {والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون}. ونزل: {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله}.
(حديثُ أنس صحيح الترمذي) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : يَقُولُ: «قالَ الله تَبَارَكَ وتعَالى: يا ابنَ آدَمَ إِنّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى ما كانَ فِيكَ وَلاَ أُبَالِي. يا ابنَ آدَمَ لَوْ بَلَغَت ذُنُوبُكَ عَنَانَ السّمَاءِ ثُمّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ وَلاَ أُبَالِي. يا ابنَ آدَمَ إنّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الأرْضِ خَطَايَا ثُمّ لَقِيتَنِي لاَ تُشْرِكُ بي شَيْئاً لأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً» .
(حديثُ أنس في الصحيحين ) : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعاذَ رَدِيفه على الرحل ، قال يا معاذ : قال لبيك يا رسول الله وسعديك ، قال : ، يا معاذ ، قال لبيك يا رسول الله وسعديك (ثلاثاً) قال : ما من أحدٍ يشهدُ أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صدقاً من قلبه إلا حرَّمه الله على النار ، قال يا رسول الله أفلا أخبرُ به الناسَ فيستبشرون ؟ قال : إذاً يتكلوا . وأخبر بها معاذ ٌ عند موته تأثما ً.
(حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) قال : قدم على النبي صلى الله عليه وسلم سبي، فإذا امرأة من السبي قد تحلب ثديها تسقي، إذا وجدت صبياً في السبي أخذته، فألصقته ببطنها وأرضعته، فقال لنا النبي صلى الله عليه وسلم: (أترون هذه طارحة ولدها في النار). قلنا: لا، وهي تقدر على أن لا تطرحه، فقال: (لله أرحم بعباده من هذه بولدها).(1/305)
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن الله لما قضى الخلق، كتب عنده فوق عرشه: إن رحمتي سبقت غضبي).
(حديث أَنَسٍ رضي الله عنه الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة ) «أَنّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - دَخَلَ على شَاب وهُوَ في المَوْتِ فقَالَ كَيْفَ تَجِدُكَ؟ قالَ والله يا رسولَ الله إنّي أرْجُو الله وإنّي أَخَافُ ذُنُوبِي. فقَالَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - لاَ يَجْتَمِعَانِ في قَلْبِ عَبْد في مِثْلِ هَذَا المَوْطِنِ إلاّ أَعْطَاهُ الله مَا يَرْجُو، وآمَنَهُ مِمّا يَخَافُ».
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (إن الله خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة، فأمسك عنده تسعاً وتسعين رحمة، وأرسل في خلقه كلهم رحمة واحدة، فلو يعلم الكافر بكل الذي عند الله من الرحمة لم ييأس من الجنة، ولو يعلم المؤمن بكل الذي عند الله من العذاب لم يأمن من النار).
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم وَلَجَاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم .
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :إن الله يدني المؤمن، فيضع عليه كنفه ويستره، فيقول: أتعرف ذنب كذا: أتعرف ذنب كذا؟ فيقول: نعم أي رب، حتى إذا قرره بذنوبه، ورأى في نفسه أنه هلك، قال: سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم، فيعطى كتاب حسناته. وأما الكافر والمنافق، فيقول الأشهاد: {هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين}.(1/306)
( حديث أبي موسى رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:إن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها .
( حديث أبي موسى رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إذا كان يوم القيامة دفع الله عز وجل إلى كل مسلم يهوديا أو نصرانيا فيقول هذا فكاكك من النار .
[*] قال النووي رحمه الله تعالى :
ومعنى هذا الحديث ما جاء في حديث أبي هريرة لكل أحد منزل في الجنة ومنزل في النار، فالمؤمن إذا دخل الجنة خلفه الكافر في النار لاستحقاقه ذلك بكفره، ومعنى فكاكك من النار أنك كنت معرضا لدخول النار وهذا فكاكك لأن الله تعالى قدر لها عددا يملؤها فإذا دخلها الكفار بكفرهم وذنوبهم صاروا في معنى الفكاك للمسلمين.
(الفرق بين الرجاء والتمني :
لا يكون الرجاء إلا مع عمل صالح وإلا كان أمناً وغروراً ، فاسم الرجاء إنما يصدق على انتظار محبوب تمهدت جميع أسبابه الداخلة تحت اختيار العبد، ولم يبق إلا ما ليس يدخل تحت اختيار العبد، وهو فضل الله تعالى بصرف القواطع والمفسدات ، فالعبد إذا بذر الإيمان ، وسقاه بماء الطاعات ، وطهّر قلبه من شوك الأخلاق الرديئة، وانتظر من فضل الله تعالى تثبيته على ذلك إلى الموت، وحسن الخاتمة المفضية إلى المغفرة، كان انتظاره رجاءاً حقيقياً .
قال تعالى: (إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ وَالّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أُوْلََئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللّهِ وَاللّهُ غَفُورٌ رّحِيمٌ) [سورة: البقرة - الآية: 218]
يعنى أولئك يستحقون أن يرجوا رحمة الله، وما أراد به تخصيص وجود الرجاء لأن غيرهم أيضاً قد يرجو ولكن خصص بهم استحقاق الرجاء.(1/307)
ومن كان رجاؤه هادياً له إلى الطاعة، زاجراً له عن المعصية، فهو رجاء صحيح، ومن كان رجاؤه داعياً له إلى البطالة والانهماك في المعاصي فهو غرور .
أما مَنْ ينهمك في المعاصي مع رجاء العفو من غير توبة، فهذا غرور، وحاله كحال من يبذر البذور في الصخور ويستنبت النبات في الهواء أو كمن يزرع السيئات ويريدها حسنات يوم القيامة، ألا فليعلم أن من زرع الشوك لا يجني عنباً .
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها *** إن السفينة لا تجري على اليبسِ
( فيا عجباً لرجلٍ ترك الصلاة وارتكب المحرمات، فلمَّا قيل له: فلان، ما هذا؟ قال: الله غفور رحيم! ألا فليعلم أن الله تعالى يقول: وَإِنِّى لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهتَدَى [طه:82]، فأين التوبة والعمل الصالح ؟
[*] قال الإمام الحسن البصري رحمه الله تعالى :
إن قوماً ألهتهم الأماني حتى خرجوا من الدنيا وما لهم من حسنة ، ويقول أحدهم إني أُحسن الظن بربي ، وكذب لو أحسن الظن لأحسن العمل وتلا قوله تعالى: (وَذَلِكُمْ ظَنّكُمُ الّذِي ظَنَنتُم بِرَبّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مّنَ الُخَاسِرِينَ) [سورة: فصلت - الآية: 23]
[*] وقال يحيى بن معاذ رحمه الله تعالى : إن من أعظم الاغترار التمادي في الذنوب مع رجاء العفو من غير توبة ، وتوقع القرب من الله بغير طاعة ، ثم قال : عملٌ كالسراب وقلبٌ من التقوى خراب ، وذنوباً بعدد الرمل والتراب ثم تطمع في الكواعب الأتراب هيهات هيهات أنت سكران بغير شراب .(1/308)
[*]وقد علم علماء القلوب : أن الدنيا مزرعة الآخرة ، والقلب كالأرض والإيمان كالبذور فيها ، والطاعة جارية مجرى تقليب الأرض وتطهيرها، ومجرى حفر الأنهار وسياقة الماء إليها ويوم القيامة يوم الحصاد، فمن زرع خيراً وجد خيراً، ومن زرع الشوك لا يجني عنباً ، والقلب المستهتر بالدنيا المستغرق بها كالأرض السبخة التي لا ينمو فيها البذر، ويوم القيامة هو الحصاد، ولا يحصد أحد إلا ما زرع، ولا ينمو بذر إلا من بذر الإيمان، وقلما ينفع إيمان مع خبث القلب ، وسوء أخلاقه، وكما لا ينمو بذر في أرض سبخة فينبغي أن يقاس رجاء العبد المغفرة برجاء صاحب الزرع ، فكل من طلب أرضاً طيبة ، وألقى فيها بذراً طيباً غير عفن ولا مسوس ثم أمده بما يحتاج إليه في أوقاته، ثم نقى الشوك والحشيش وكل ما يمنع نبات البذرة أو يفسده، ثم جلس منتظرا من فضل الله تعالى دفع الصواعق والآفات المفسدة، إلى أن يتم الزرع ويبلغ غايته، سُمي انتظاره رجاءاً ، وإن بث البذر في ارض صلبة سبخة مرتفعة لا تصل إليها الماء، ولم يشتغل بتعهد البذر أصلاً ثم انتظر الحصاد منه، سمي انتظاره حمقاً وغرواً لا رجاءاً فإن من زرع الشوك لا يجني عنباً.
( مما ينبغي أن يُعلم أن من رجا شيئاً استلزم رجاؤه ثلاثة أمور :
الأول : محبة ما يرجوه .
الثاني: خوفه من فواته .
الثالث : سعيه في تحصيله .
أما رجاء لا يقارنه شيء من ذلك فهو من باب الأماني، والرجاء شيء والأمانى شيء آخر .
وكل راجِ خائف ، والسائر على الطريق إذا خاف أسرع السير مخافة الفوات .
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : «مَنْ خَافَ أَدْلَجَ وَمَنْ أَدْلَجَ بَلَغَ المَنْزِلَ أَلاَ إِنّ سِلْعَةَ الله غَالِيَةٌ أَلاَ إِنّ سِلْعَةَ الله الْجَنّةُ».(1/309)
قال تعالى : (({لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا} [ النساء : 123 ] ليس الإيمان بالتمنّي ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل الحسن .
والرجاء ضروري للسائر إلى الله والعابد لو فارقه لحظة تلف أو كاد يتلف لأن المسلم يدور ما بين ذنب يرجو غفرانه، وعيب يرجو إصلاحه، وعمل صالح يرجو قبوله، واستقامة يرجو حصولها و ثباتها، وقرب من الله يرجو الوصول إليه، لذلك كان الرجاء من أقوى الأسباب التي تعين المرء على السير إلى ربه والثبات على الدين ، وهذا زمن الفتن والشهوات والمحن والشبهات.
(الرجاء ضد اليأس :
الرجاء الذي هو ضد اليأس ، واليأس هو تذكر فوات رحمة الله وقطع القلب عن التماسها وهو معصية { يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ } [ يوسف : 87 ] قالها يعقوب عليه السلام لأبنائه..
[*](درجات الوصول إلى تحقيق الرجاء :
(1) ذكر سوابق فضل الله على العبد، وأن الله له علينا فضائل سابقة..
(2) ذكر وعد الله من جزيل ثوابه وعظيم كرمه وجوده بدون سؤال من العبد استحقاق فإن الله يعطي بدون أن يكون العبد مستحقاً إذا استقام الإنسان.
(3) أن تذكر نعم الله عليك في أمر دينك وبدنك ودنياك في الحال(الآن) وأن يمدك بالألطاف والنعم من غير استحقاق ولا سؤال.
(4) ذكر سعة رحمة الله تعالى وأنها سبقت غضبه وأنه الرحمن الرحيم الغني الكريم الرؤوف بعباده المؤمنين لذلك تحقيق الرجاء يقوم على معرفة أسماء الله وصفاته.(1/310)
وقد علم أرباب القلوب أن الدنيا مزرعة الآخرة والقلب كالأرض لابد لها من بذر وكذلك لابد للقلب من طاعات والأرض لابد لها من تعاهد وسقي بالماء وحفر أنهار وسوق الماء إليها وكذلك القلب لابد له من تعاهد وأن يسقى بماء الطاعة والعبادة وكذلك الأرض تحتاج حتى تنبت إلى صيانتها عن الأشياء الضارة ، وترى المزارع ينتقي الدغل فينتزعه من أرض حتى لا يؤذي زرعه والمؤمن ينقي قلبه من أي شبهة وشهوة حتى لا تفسد عليه زروع الطاعة التي سقاها بماء العبودية..
وقلّ أن ينفع إيمان مع خبث القلب كما لا ينمو البذر في الأرض السبخة إذاً ينبغي أن يقاس رجاء العبد برجاء صاحب الزرع فكل من طلب أرضاً طيبة وألقى بذراً جيداً وسقى وتعاهدها بالرعاية ثم جلس ينتظر فضل الله ..، انتظار هذا يسمى رجاءً، أما إن بذر في أرض سبخة مرتفعة لا يصلها الماء ، هذا غبي أحمق، أما إن بذر في أرض طيبة ولكن لا يصلها الماء وقال أنتظر المطر.، انتظار هذا تمنّي وليس رجاء..!
الرجاء يصدق على انتظار محبوب تمهّدت أسبابه الداخلة تحت اختيار العبد ولم يبق إلا ما ليس في اختيار وإرادة العبد..
لذلك فالإنسان يبذل من الطاعات والعبادات وينتظر فضل الله أن يثبته وأن لا يزله ولا يزيغه حتى الممات ولا يضله حتى يلقاه وهو راضٍ عنه.(1/311)
الراجي إنسان عنده مواظبة على الطاعات قائم بمقتضيات الإيمان ، يرجو من الله أن لا يزيغه وأن يقبل عمله ولا يردّ عليه، وأن يضاعف أجره و يثيبه ، فهو باذل للأسباب التي يستطيعها يرجو رحمة ربه، ولذلك يكون الذي يقطع البذور ولا يتعاهدها بماء الطاعات أو يترك القلب مشحوناً برذائل الأخلاق منهمكاً في لذات الدنيا ثم يطلب المغفرة يكون حمقاً وغروراً {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا } [ الأعراف : 169 ]، والكافر صاحب الجنة قال(({وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا} [ الكهف : 36 ] ، فهو صاحب أماني ولا أعمال صالحة عنده(( ما أظن الساعة قائمة))..!
(الرجاء دواء يحتاج له رجلان :
(1) رجل غلب عليه اليأس حتى ترك العبادة و جزم أنه ليس هناك فائدة..
(2) رجل غلب عليه الخوف حتى أضرّ بنفسه وأهله، فتعدّى خوفه الحد الشرعي المطلوب فلابدّ أن يعدّل ويمدّ بشيء يحدث موازنة وهو الرجاء الذي هو حالة طبيعية عند المؤمن.
فبعض الناس الكلام معه في الرجاء دواء، أما العاصي المغرور المتمني على الله مع الإعراض عن العبادة لا ينفع معه أبداً دواء الرجاء، ولو استعملت معه الرجاء لزدته ضلالاً..، لا ينفع له إلا دواؤ الخوف، فيوعظ بسياط الخوف ويقرّع المنايا، هذا المتمني المتساهل المفرط، فلا يصلح معه أن تحدثه عن الرجاء ، وهذا أمر مهم ينبغي أن يتنبه له الوُعّاظ..(1/312)
[*] قال بعض العلماء: يجب أن يكون واعظ الناس متلطفاً معهم ناظراً إلى مواضع العلل معالجاً كل علة بما يليق بها وهذا الزمان لا ينبغي أن يستخدم فيه مع الخلق أسباب الرجاء بل المبالغة في التخويف وإنما يذكر الواعظ فضيلة وأسباب الرجاء إذا كان المقصود استمالة القلوب إليه لإصلاح المرضى)، التخويف ولكن بحيث لا تصل إلى تيئيسهم من رحمة الله..
[*] قال علي رضي الله عنه : (( إنما العالم الذي لا يقنط الناس من رحمة الله ولا يأمّنهم مكر الله))..
لابد أن يكون هناك توازن وحسب حال الناس، فإذا كانوا ميّالين إلى التفريط والمعاصي والتساهل غلّب التخويف وإذا كان عندهم خوف زائد ويأس من رحمة الله غلّب الرجاء.
[*](ثمرات الرجاء :
[*](قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين :
(«الرجاء حاد يحدو القلوب إلى بلاد المحبوب»وهو الله والدار الآخرة ويطيب لها السير.أهـ
ومن ثمرات الرجاء ما يلي : (
(1) يورث طريق المجاهدة بالأعمال.
(2) يورث المواظبة على الطاعات كيفما تقلبت الأحوال.
(3) يشعر العبد بالتلذذ والمداومة على الإقبال على الله والتنعّم بمناجاته والتلطف في سؤاله والإلحاح عليه.
(4) أن تظهر العبودية من قبل العبد والفاقة والحاجة للرب وأنه لا يستغني عن فضله وإحسانه طرفة عين.
(5) أن الله يحب من عباده أن يسألوه ويرجوه ويلحّوا عليه لأنه جواد كريم أجود من سُئِل وأوسع من أعطي وأحب ما إلى الجواد الكريم أن يسأله الناس ليعطيهم ومن لا يسأل الله يغضب عليه والسائل عادة يكون راجٍ مطالب أن يُعطى فمن لم يرجو الله يغضب عليه، فمن ثمرات الرجاء التخلّص من غضب الرب.
(6) الرجاء حادٍ يحدو بالعبد في سيره إلى الله فيطيب المسير ويحث على السير ويبعثه على الملازمة، فلولا الرجاء بـ(المضاعفة-رحمة الله-الأجور والثواب المضاعف-الجنة والنعيم) ما سار أحد، والقلب يحركه الحب ويزعجه الخوف ويحدوه الرجاء.(1/313)
(7) يطرح على عتبة محبة الله عزوجل ويلقيه في دهليزها فكلما اشتد رجاؤه وحصل له ما يرجوه؛ ازداد حباً لربه وشكراً له ورضا، وهذا من مقتضيات وأركان العبودية.
(8) الرجاء يبعث العبد على مقام الشكر لأنه يحفزه للوصول إلى مقام الشكر للنعم وهو خلاصة العبودية.
(9) الرجاء يوجب المزيد من التعرف على أسماء الله وصفاته .
الخوف مستلزم للرجاء والرجاء مستلزم للخوف عند المؤمن، لأن كل خائف راجي وكل راجي خائف، ولهذا حسن وقوع الرجاء في مواضع يحسن فيه وقوع الخوف (( مالكم لا ترجون لله وقاراً))..قال المفسرين: مالكم لا تخافون لله عظمة ، فكل راجٍ خائف من فوات مرجوّه، هذا يفسّر لنا كيف أن الرجاء مرتبط بالخوف وأن الراجي خائف أن يفوت مطلوبه ورحمة الله وجنته.
انظر إلى التداخل العجيب بين مقامات الإيمان في قلب المؤمن، والخوف بلا رجاء يأس وقنوط..!!!
قال تعالى: (( قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله )) أي لا يخافون وقائع الله بهم كما وقعت في الأمم الذين من قبلهم من التدمير والإهلاك.
(10) ثم إن العبد إذا تعلق قلبه برجاء ربه فأعطاه ما رجاه فحصل المطلوب يحصل مزيد من التشجّع وسؤال المزيد والإقبال على الله وهكذا لا يزال العبد في ازدياد في الإيمان والقرب من الرحمن.
(11) على قدر رجاء العباد وخوفهم يكون فرحهم يوم القيامة بحصول المرجو الأعظم وهو نيل رضا الرب والجنة ورؤية الله فيها .
وكذلك فإن الله يريد من العبد أن يكمل نفسه بمراتب العبودية من الذل والانكسار لله والتوكل عليه والاستعانة به والخوف منه والصبر على أقداره والشكر له وعلى إنعامه ولذلك يقدر الذنب على العبد لتكمل مراتب العبودية عند العبد فيستغفر العبد، فلولا الذنب ما حصل انكسار ولا توبة، يبتليهم بالذنوب ليعالج ما في قلوبهم بالانكسار وطلب التوبة فينكسر بين يدي الله فيتحقق معنى مهم جداً جداً من معاني العبودية..!!(1/314)
كيف تتحقق العبودية إذا لم يكن هناك انكسار وذل وخضوع..؟!!، أحياناً لا يصدر الانكسار والذل هذا إلا بذنب يتوب منه العبد ويعرف تقصيره والبلية التي وقع فيها وحجم المعصية.
الرجاء فيه انتظار وترقّب وتوقع لفضل الله عزوجل فيتعلق القلب أكثر بخالقه..
[*](أنواع الرجاء :
الرجاء ثلاث أنواع، نوعان محمودان ونوع غرور مذموم..
النوع الأول : رجاء رجل عمل بطاعة الله على نور من الله فماذا يرجو؟ ثواب الله..
النوع الثاني : رجل أذنب ذنوباً ثم تاب منها فماذا يرجو؟ يرجو مغفرة الله ومحو الذنوب والتجاوز عنها وسترها..
النوع الثالث : رجل متمادي في التفريط والمعاصي والسيئات ويرجو رحمة ربه والمغفرة بلا عمل!! فهذا غرور وتمني ورجاء كاذب لا يعتبر رجاء محموداً أبداً..
والمؤمن عندما يسير إلى الله له نظران: نظر إلى نفسه وعيوبه وآفات عمله من العجب والرياء والاغترار بالعمل وهذا يفتح عليه باب الخوف من الله، وينقله بعد ذلك إلى سعة كرم الله وفضله وبره ومغفرة ذنوبه ويفتح له باب الرجاء،وهذا هو النظر الثاني ولهذا قيل في حد الرجاء وتعريفه هو النظر إلى سعة رحمة الله عز وجل ولابد من الموازنة بين الخوف والرجاء كما قال العلماء: (( العبد في سيره إلى الله كالطائر يطير بجناحين، جناحي الطائر إذا استويا استوى الطائر وتم طيرانه وإذا نقص أحدهما اختلّ نوعاً ما وإذا ذهب الجناحان صار الطائر في حدّ الموت))، ما هما الجناحان في سير العبد إلى ربه؟
الجواب : هما الخوف والرجاء.
(علامة الرجاء في العبد :
[*] سُئِل أحمد بن عاصم رحمه الله :
ما علامة الرجاء في العبد؟
قال: أن يكون إذا أحاط به الإحسان أُلهِم الشكر راجياً لتمام النعم عليه في الدنيا والآخرة وتمام عفوه عنه في الآخرة..
وهنا علماء القلوب أصحاب النظر والتأمل في الأمور الإيمانية اختلفوا..، أي الرجاءين أعظم..؟ رجاء الثواب والأجر من المحسن؟ أو رجاء المغفرة من التائب المسيء؟!!!(1/315)
فرجحت طائفة رجاء المحسن لقوة أسباب الرجاء معه ، فعنده طاعات و أسبابه قوية فيرجو على حقّ، والأخرى رجحت رجاء المذنب لأن رجاءه من انكسار ومسكنة مقرون بذلة رؤية الذنب واستحضار المعصية خالص من العجب والاغترار بالعمل ، والحاصل أن كلا القولين له حظ من النظر، فكلا الرجاءين محمود ولابد من تحصيلهما معاً ولا يستغنى بهذا عن هذا ، لأن المسلم إما أن يكون في طاعة يرجو قبولها أو معصية يريد غفرانها ومحوها.
أسباب قوة الرجاء على حسب قوة المعرفة بالله وأسمائه وصفاته وغلبت رحمته غضبه، ولولا روح الرجاء لتعطلت عبودية القلب والجوارح وهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً..، بل لولا روح الرجاء لما تحركت الجوارح بالطاعة ولولا ريحه الطيبة لما جرت سفن الأعمال في بحر إرادات العبد وعلى حسب المحبة وقوتها يكون الرجاء(العلاقة بين المحبة والرجاء) وكل محب راجٍ خائف بالضرورة فهو يرجو من يحبه أن يعطيه ما ينفعه ويخاف أن يسقط من عينه وأن يطرده وأن يبعده ويحتجب عنه لذلك خوف المحب شديد ورجاؤه عظيم ، لكن هل إذا وصل إلى محبوبه ينتهي الرجاء أم لا..؟!!أم يشتد..؟!! وماذا يحصل له بالموت..؟!!
المؤمن قبل الموت عنده رجاء وخوف عظيمين، أما إذا مات قالوا أن خوفه ورجاؤه ذاتي للمحبة ، يرجو ربه قبل لقائه والوصول إليه فإذا لقيه ووصل إليه بالموت اشتد الرجاء له بما يحصل له بهم من حياة روحه ونعيم قلبه من الألطاف، فالرجاء بما عند الله يزداد ، وعنده أعمال صالحة يريد عليها الأجر والثواب والخوف أيضاً يزيد لأن الموت قرّبه إلى النار، والقبر أول منازل الآخرة، فقد دخل إلى المرحلة الخطيرة جداً..(1/316)
لذلك لا يمكن أن تقول أن الميت تنقطع مشاعره بل يمكن أن تعظم !!مشاعرهم متضاعفة لأنهم اقتربوا إلى دار الخلد..إلى نعيم أو عذاب.. فيمكن أن تكون بهذا في القبر فمن الآن زّود نفسك بالطاعات واترك المعاصي لتزيد عندك أسباب الرجاء وتأمن في القبر ، الخوف في القبر مصيبة، إذ يخاف من سوء المطلع والذي يمكن أن يرتكس فيه إذا قامت الساعة ويدخله من عذاب الله فإذاً الآن هو الآن يشتد في العمل حتى إذا لقي الله صار طلبه للجنة وأمن الخوف..
الكفار ما حالهم في قبورهم..؟
آل فرعون ، فرعون وجنوده، (({النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [ غافر : 46 ] معناها أنهم الآن في قبورهم خوفهم يتضاعف كل يوم!!وهم يعرفون في أي حفرة سيقعون فكيف الآن خوفهم وذعرهم..؟!! نسأل الله السلامة والعافية.
وإذا وصل العبد إلى ربه ولقيه ازداد رجاؤه إذا كان محسناً لأن الأجير إذا جاء وقت الراتب ازداد رجاؤه في الذي سيحصل عليه فإذا قدم العباد هؤلاء المحسنون على الله وكلما مضى زمن كلما ازداد رجاؤهم فيما سيحصلون عليه وينتظرونه في قبورهم (( ربي أقم الساعة)) كي يرجع إلى أهله ومال لأنه فتح له باب إلى الجنة في القبر فهو يأتيه من النعيم والطيب فيقال له: (( اسكن ونم كنومة العروس لا يوقظه إلا أحب الناس إليه)).
[*](درجات الرجاء :
الرجاء درجات، درجة أرفع من درجة، ومراتب بعضها فوق بعض :
(الدرجة الأولى :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ(1/317)
رجاء يبعث العامل على الاجتهاد بالعبادة بل يولد عنده اللذة بالعبادة ولو كانت شاقة أو صعبة فيتلذذ بها ويترك المناهي، ومن عرف القدر المطلوب هان عليه ما يبذل فيه ومن رجا الأرباح العظيمة في سفره هانت عليه مشقة السفر ، كذلك المحب الصادق الذي يسعى في مرضاة الرب تهون عليه مشقة صلاة الفجر والوضوء في البرد ومشقة الجهاد و مشقة الحج والعمرة وطلب العلم وتكرار الحفظ وانتصاب الجسم في الليل وجوع الصيام.. ، بل تنقلب إلى لذّة..!!
فالدرجات العملية في التعبد لله: مشقة ومن ثم لذة،
[*] يقول أحد العلماء: " كابدت قيام الليل عشرين سنة ثم تنعمت به عشرين سنة"، فالمرء لا يصل أحياناً إلى لذة العبادة إلا بعد أن يذوق مشقتها، فإذا قوي تعلق الرجاء بالعوض سمحت الطباع بترك العادات وترك الراحة، فالإنسان مفطور أن لا يترك محبوباً إلا لمحبوب أعظم منه .
(الدرجة الثانية:
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
المجاهدون لأنفسهم بترك مألوفاتها واستبدال مألوفات هي خير منها فرجاؤهم أن يبلغوا مقصودهم بالهمة وهذا يلزم له العلم وهو الوقوع على الأحكام الدينية لأن رجاؤهم متعلق بحصول ذلك لهم ولابد من علم وبذل الجهد بالمعرفة والتعلّم وأخذ النفس بالوقوف عند الحدود طلباً وقصداً..
(الدرجة الثالثة :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ
رجاء أرباب القلوب لقاء الخالق والاشتياق إليه سبحانه وتعالى وهذا الذي يمكن أن يزهّد الإنسان في الدنيا تماماً (أعلى الأنواع) ، ( فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [ الكهف : 110 ] ، (({مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [ العنكبوت : 5 ] ، هذا الرجاء (اللقيا) محض الإيمان وزبدته وإليه تشخص أبصار العابدين المجتهدين وهو الذي يسليهم ولذلك ضرب الله لهم أجل تسكن إليه نفوسهم..(1/318)
وتأمل في قول عمير بن حمام الأنصاري بعين البصيرة لما ذكر لهم الرسول صلى الله عليه وسلم : (قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض) اشتاقت نفسه إلى لقيا الله فقال: (لئن عشت حتى آكل هذه التميرات إنها لحياة طويلة) فقاتل حتى قُتِل ولقي الله شهيداً ..
فلما علم الله شوق هذه الطائفة من عباده وهم الندرة والقلة وأن نفوسهم تضطرب حتى تلقها؛ضرب لهم موعداً تسكن إليه نفوسهم وتعمل حتى تقدم إلى الله.
[*] سئل شيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن تيمية رحمه الله عن قول علي رضي الله عنه : ( لا يرجون عبدٌ إلا ربه ولا يخافنّ إلا ذنبه) فقال: الحمد لله،هذا الكلام يؤثر عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وهو من أحسن الكلام وأبلغه وأتمه فإن الرجاء يكون للخير والخوف يكون من الشر والعبد إنما يصيبه الشر بذنوبه (({وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} [ الشورى : 30 ](1/319)
(لذلك قال علي رضي الله عنه : (لا يخافن عبد إلا ذنبه ) وإن سلط عليه مخلوق فما سلط عليه إلا بذنوبه (({وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} [ الأنعام : 129] فليخف الله وليتب من ذنوبه التي ناله بها ما ناله كما في الأثر: ( يقول الله: أنا الله مالك الملوك قلوب الملوك ونواصيهم بيدي من أطاعني جعلتهم عليه رحمة ومن عصاني جعلتهم عليه نقمة فلا تشتغلوا بسبّ الملوك وأطيعوني أعطّف قلوبهم عليكم)، فإن الراجي يطلب حصول الخير ودفع الشر ولا يأتي بالحسنات إلا الله ولا يذهب السيئات إلا الله (({وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [ يونس : 107] ، {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [ فاطر : 2 ]
والرجاء مقرون بالتوكل، فإن المتوكل يطلب ما رجاه من حصول المنفعة ودفع المضرة، والتوكل لا يجوز إلا على الله(({وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ } [ إبراهيم : 12 ]
( ومن توكل على غير الله ورجاه خذل من جهته وحرم إن لم يكن في الدنيا؛ في الآخرة حين يقال: اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤونهم فاطلبوا منهم الأجر..!، (({مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [ العنكبوت : 41 ](1/320)
(({وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِّيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا} * {كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} [ مريم : 81،82] ، فمن عمل لغير الله رجاء أن ينتفع بما عمل له كانت صفقته خاسرة، قال تعالى: (({وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [ النور : 39 ]
فالذين كفروا أعماله كرماد اشتدت به الريح أي أصبح أخف من التراب في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شيء، (({وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا} [ الفرقان : 23 ] فكل عمل باطل إلا ما أريد به وجه الله ومن عمل لغير الله ورجاه بطل سعيه.
(أنواع الرجاء من حيث الراجي :
الراجي يكون راجياً تارة بعمل يعمله لمن يرجوه، وتارة باعتماد قلبه عليه والتجائه إليه وسؤاله فذاك نوع من العبادة وهذا نوع من الاستعانة فإذاً(({إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [ الفاتحة : 5 ] .
والكتاب والسنة الصحيحة طافحان بالحث على ( ) منها ما يلي : (
(1) بيان رجاء المؤمنين وهو الرجاء المصحوب بعمل : (({إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللّهِ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [ البقرة : 218 ] ، الذين صدقوا بالله ورسوله وما جاء به وتركوا ديارهم وأحبابهم وأوطانهم وتغربوا عن أمصارهم وتحولوا عن بيوتهم هجرة إلى اللخ وجاهدوا بأنفسهم وأموالهم وقدموا وبذلوا وقاتلوا وحاربوا وتحملوا الجراحات وألم طريق الجهاد والمخمصة والجوع والظمأ والنصب ؛ هؤلاء يرجون رحمة الله عنهم الله ويطمعون أن يرحمهم فيدخلهم جنته سبحانه وتعالى..(1/321)
(2) الله عز وجل فتح باب الرجاء لعباده حتى في مغفرة أي ذنب كما قال تعالى : {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا } [ النساء : 48 ] فهذه الآية قيل أنها نزلت بعد قوله تعالى : {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } [ الزمر : 53 ] فقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم والشرك؟ فكره رسول الله ذلك فنزلت هذه الآية((إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ)) والمقصود أن الله لا يغفر للمشرك إذا مات على الشرك، ولا يدخل المشرك تحت المشيئة وأما إذا تاب المشرك فإن الله يغفر له ذنبه حتى لو كان الشرك.. والآية في المشيئة وليست في نفي المغفرة عن التائب عن الشرك..
(3) (({قُل لِّمَن مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُل لِلّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } [ الأنعام : 12 ] [*] قال ابن جرير: قضى أنه بعباده رحيم فكيف تتمثل هذه الرحمة؟ قال: لا يعجل عليهم العقوبة مع أنهم مستحقون بل يصبر ويحلم ويقبل منهم الإنابة والتوبة فهذا يعلقهم بالرجاء(({وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [ الأنعام : 54 ] ،(1/322)
[*] قال ابن جرير: فتأويل الكلام إذا كان الأمر على ما وصفنا وإذا جاءك يا محمد القوم الذين يصدقون بتنزيلنا وأدلتنا فيقرون بذلك قولاً وعملاً مسترشديك عن ذنوبهم التي سلفت منهم بيني وبينهم هل لها من توبة؟ فلا تيأسهم منها وقل لهم سلام عليكم أمنة الله لكم من ذنوبكم أن يعاقبكم عليها أي عليكم الأمان لن يعاقبكم بعد توبتكم منها ..، كتب ربكم على نفسه الرحمة أي قضى الرحمة بخلقه سبحانه وتعالى..
(({وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} * {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [ التوبة : 102،103 ]
[*] قال ابن جرير: يعني جل ثناؤه بالعمل الصالح الذي خلطوه والعمل السيء اعترافهم بذنوبهم وتوبتهم منها، والآخر السيء تخلفهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرج غازياً عسى الله أن يتوب عليهم ،وعسى من الله واجبة، يعني سيتوب فعلاً وحقاً.
(4) الرجاء مفتوح حتى في أمور الدنيا ، يرجو مال ، ولد ، زواج،وظيفة، زوال مرض، وجود مفقود، فيعقوب عليه السلام علم أبناءه الرجاء حتى في المفقودات الدنيوية (({يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ } [ يوسف : 87 ] ،
[*] قال ابن جرير: حين طمع يعقوب في يوسف قال لبنيه يا بني اذهبوا للموضع الذي جئتم منه وخلفتم أخويكم به ولا تيأسوا من روح الله ولا تقنطوا من أن يروّح الله عنا ما نحن فيه من الحزن و يفرّحنا برؤيتهما إنه لا ييأس من روح الله ولا يقنط من فرجه ورحمته ولا يقطع الرجاء منه إلا القوم الكافرون.(1/323)
(5) (({قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } [ الزمر : 53 ] فلا تيأسوا من رحمة الله أن الله يغفر لكم ذنوبكم كلها ولا يبقي منها شيئاً ولا نصفها ولا بعضها ولا الكبائر فقط وليس الخطاب للذين عندهم معاصي قليلة بل أسرفوا وكثرت معاصيهم وكبائرهم وصغائرهم، لا تقنطوا من رحمة الله ، فهذا أمر من الله بالرجاء، فالكريم إذا أمر بالرجاء لا يليق به إلا الكرم ، فابذل السبب، واستغفر وتب توبة حقيقية وامتنع عن الذنوب وأصلح واستقبل حياة نظيفة واندم على ما فات واعزم على أن لا تعود إليه.
(6) (حديث أنس في صحيح الترمذي) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : قال الله تعالى : يا ابنَ آدَمَ إِنّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى ما كانَ فِيكَ وَلاَ أُبَالِي. يا ابنَ آدَمَ لَوْ بَلَغَت ذُنُوبُكَ عَنَانَ السّمَاءِ ثُمّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ وَلاَ أُبَالِي. يا ابنَ آدَمَ إنّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الأرْضِ خَطَايَا ثُمّ لَقِيتَنِي لاَ تُشْرِكُ بي شَيْئاً لأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً» .
معنى عنان السماء : قيل هو السحاب وقيل هو ما عَنَّ لك منها أي ما ظهر لك منها .
هذا الرجاء العظيم الذي يفتحه الله عز وجل ، هذا فتح باب الرجاء للعباد .
(7) إن الإنسان له عند الموت أحوال في الخوف والرجاء خاصة مبنية على حسن ظنه بالله: كما في الحديث الآتي : ((1/324)
(حديث أبي هريرة في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : قال الله تعالى أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني ، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، وإن ذكرني في ملأٍ ذكرته في ملٍ خيرٌ منهم ، وإن تقَّرب إليَّ شبرا تقربت إليه ذراعا وإن تقرب إليَّ ذراعا تقربت إليه باعا و إن أتاني مشيا أتيته هَرْوَلَةً .
قادر على أن أعمل به ما ظن أني عامل به ، لذلك الثلاثة الذين خلفوا لما ظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه تاب الله عليهم، فبالنسبة للموت يجب أن نجهز أنفسنا لتلك اللحظات لتفيض أرواحنا ونحن نحسن الظن بالله، والرسول صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بثلاث أيام أعطى الأمة هذه الوصية: (( لا يموتنّ أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله عز وجل)) كما في الحديث الآتي : (
(حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله .
، فهذا تحذير من القنوط وحث على الرجاء عند الخاتمة..
(لهذا كان بعض السلف يأمر بنيه عند الموت أن تقرأ عليه آية الرحمة ؛ حتى تطلع روحه وهو محسن الظن بالله أن يغفر له ويرحمه ويتقبله ويستقبله بالإنعام ، وكذلك فإن الإنسان إذا صدق بالتوبة ولو تكرر الذنب فإن الله يغفر له ما أذنب، وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئاً بنص السنة الصحيحة كما في الحديث الآتي : (
( حديثُ معاذ ابن جبل في الصحيحين ) قال : كنتُ رَدِيفَ النبي - صلى الله عليه وسلم - على حمارٍ يُقَالُ له عُفَيْر ، فقال لي يا معاذ : أتدري ما حقُ اللهِ على العبادِ وما حقُ العبادِ على الله ؟ قلتُ الله ورسوله أعلم . قال فإن حق الله على العبادِ أن يعبدوه ولا يشرِكوا به شيئاً ، وحقُ العبادِ على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئاً ، قلتُ يا رسولَ الله أفلا أبشِّرْ به الناس ؟ قال لا تبشرْهم فيتكلوا .(1/325)
هذا دليل كما قال ابن رجب: قال العلماء: يؤخذ من منع معاذ من تبشير الناس لئلا يتكلوا أن أحاديث الرخص لا تشاع في عموم الناس لئلا يقصر فهمهم عن المراد بها،
[*] يقول ابن رجب: وقد سمعها معاذ فلم يزدد إلا اجتهاداً في العمل ، وخشية لله عز وجل فأما من لم يبلغ منزلته فلا يأمن أن يقصر اتكالاً على ظاهر الخبر ..
ومعاذ من العشرة المبشرين بالجنة ، وفقيه لا يخشى عليه..
كذلك عثمان فقد قال عنه صلى الله عليه وسلم : (( ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم)) ،ماذا فعل ..؟!، لقد ازداد في الخير والبر والطاعات، هذه النفوس الله يعلم لو بشرهم برضوانه فإنهم لن يتركوا الخير ولن ينتكسوا، لذلك فأحاديث الرخص لا تشاع في عموم الناس ففيهم قلة فقه في الدين ويحتاجون عند التفريط إلى التخويف..
ثم إن الشرك شرك أكبر وأصغر وخفي، ومن الذين ينجو منه؟ ، ثم إن الحديث مقيد عند العلماء بالآيات و الأحاديث الأخرى التي فيها التعذيب على المعصية، وبعض العلماء حملوها على ترك دخول نار الشرك، لأن جهنم فيها دركات(نار الشرك ، نار الكبائر، نار المعاصي...) حملوه حتى لا يفهم خطأ على أنه لا يدخل نار الشرك..
القاعدة العامة : {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا} [ النساء : 123 ] ، فالسلف خوفتهم هذه الآية جداً فلذلك كانوا يعملون ويخافون..
ومن أحاديث الرجاء التي تقال لإنسان مذنب تاب، وبالرغم من التوبة صار عنده نوع من اليأس والإحباط ويرى ذنوبه كبيرة وليس هناك فائدة من العمل، فهو كما يظن محكوم عليه بالنار الحديث الآتي : ((1/326)
(حديث ابن عمر في الصحيحين) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن الله تعالى يدني المؤمن فيضع عليه كنفه ويستره ، يقول : أتعرف ذنب كذا ؟ أتعرف ذنب كذا ؟ فيقول : نعم أي رب حتى إذا قرره بذنوبه و رأى في نفسه أنه قد هلك قال : سترتها عليك في الدنيا و أنا أغفرها لك اليوم; و أما المنافق والكافر فيقول الأشهاد : هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين .
( حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن رجلا أصاب من امرأة قبلة، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فأنزلت عليه: {وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين}. قال الرجل: ألي هذه؟ قال: (لمن عمل بها من أمتي).
تصريح أن الحسنات تكفر السيئات، وهل هي حسنات معينة كالصلوات الخمسة؟ أو هي الحسنات مطلقاً كما قال العلماء وبعضهم بهذا وبعضهم بهذا..
في مرض الموت قيل للشافعي كيف أصبحت يا أبا عبد الله؟ قال : أصبحت من الدنيا راحلاً ولأخواني مفارقاً ولكأس المنية شارباً ولا أدري أءلى الجنة تسير روحي فأهنيها أم إلى النار فأعزيها ثم أنشأ يقول..
ولما قسى قلبي وضاقت مذاهبي ... جعلت الرجا لعفوك سُلَّما
تعاظمني ذنبي فلما قرنته ... بعفوك ربي كان عفوك أعظم
(حديث عائشة الثابت في الصحيحين) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه و من كره لقاء الله كره الله لقاءه .
(الخوف المحمود والرجاء المحمود :
مسألة : ما هو الخوف المحمود وما هو الرجاء المحمود ؟
الخوف المحمود هو ما حجزك عن معصية الله تعالى ، والرجاء المحمود أن لا يخرجك إلى الأمن ، فلا يجعلك تأمن مكر الله تعالى فإن جعلك تأمن مكر الله فإن ذلك خسران وضلال .
( فصلٌ في منزلة الخشوع :(1/327)
إن منزلة الخشوع من أعظم المنازل ، فللخشوع فضلٌ عظيم وأجرٌ جسيم ، فهي نعمةٌ عظيمة ، وَمِنَّةٌ جسيمة ، نعمة كبرى، ومنحة عظمى ، شأنه عظيم، ونفعه عميم، له فضائل لا تحصى، وثمرات لا تعد ، وله أهمية كبرى، وثمرات جليلة، وفضائل عظيمة، وأسرار بديعة ، وهو طريق النجاة، وسلم الوصول، ومطلب العارفين، ومطية الصالحين وهاك صفوة مسائل الخشوع .
[*](تعريف الخشوع :
(فضل الخشوع :
(حكم الخشوع :
(محل الخشوع :
(إخفاء الخشوع :
(الطرق الموصلة الخشوع :
(نماذج من خشوع السلف :
[*](تمام الخشوع :
وهاك تفصيل ذلك في إيجازٍ غيرِ مُخِّل : (
[*](تعريف الخشوع :
(الخشوع في اللغة :
هو الخضوع والسكون . قال :{ وَخَشَعَت الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً}
[ طه : 108] أي سكنت.
(والخشوع في الاصطلاح:
هو حضور القلب وخضوعه وانكساره بين يدي الله تعالى .
[*] قال ابن رجب الحنبلي رحمه الله :
"أصل الخشوع لين القلب ورقنه وسكونه وخضوعه وانكساره وحرقته،فإذا خشع القلب تبعه خشوع جميع الجوارح والأعضاء،لأنها تابعة له " [الخشوع لابن رجب،ص17] فالخشوع محله القلب ولسانه المعبر هو الجوارح . فمتى اجتمع في قلبك أخي في الله – صدق محبتك لله وأنسك به واستشعار قربك منه، ويقينك في ألوهيته وربوبيته ،وحاجتك وفقرك إليه.متى اجتمع في قلبك ذلك ورثك الله الخشوع وأذاقك لذته ونعيمه تثبيتاً لك على الهدى ،قال تعالى :{ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى}[محمد: 17]
وقال تعالى :{ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [ العنكبوت :69](1/328)
فاعلم أخي الكريم – أن الخشوع هو توفيق من الله جل وعلا،يوفق إليه الصادقين في عبادته ،المخلصين المخبتين له ،العاملين بأمره والمنتهين بنهيه. فمن لم يخشع قلبه بالخضوع لأوامر الله لا يتذوق لذة الخشوع ولا تذرف عيناه الدموع لقسوة قلبه وبعده عن الله .قال تعالى { ِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ} [العنكبوت:45] ،فالذي لن تنهه صلاته عن المنكر لا يعرف إلى الخشوع سبيلاُ،ومن كان حاله كذلك ،فإنه وإن صلى لا يقيم الصلاة كما أمر الله جل وعلا ، قال تعالى:{ َاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة : 45]
واعلم أخي المسلم بأن الخشوع واجب على كل مصل .قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ويدل على وجوب الخشوع قول الله جل وعلا،قال تعالى:( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ )[المؤمنون:1-2]
[ الفتاوى 22/254]
(فضل الخشوع :
(1) إن الله سبحانه قد امتدح الخاشعين في مواضع كثيرة من كتابه فقال: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ [ المؤمنون:2،1]،
قال ابن كثير رحمه الله تعالى :
[*] و" الخشوع : هو السكون والطمأنينة والتؤدة والوقار والتواضع والحامل عليه الخوف من الله ومراقبته . " تفسير ابن كثير ط. دار الشعب 6/414
وقال: وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ [ البقرة:45]،
وقال: خَاشِعِينَ لِلّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَناً قَلِيلاً [ آل عمران:199]،
وقال: وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ [ الأنبياء:90]،
وقال: وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً [ الإسراء:109].(1/329)
(ولما كان الخشوع صفه يمتدح الله بها عبادة المؤمنين ،دل على فضله ومكانته عند الله ،ودل على حب الله الأهل الخشوع والخضوع ،لأن الله سبحانه لا يمدح أحداً بشيء إلا وهو يحبه ويحب من يتعبده به .
وقد ذكر الله الخاشعين والخاشعات في صفات عباده الأخيار وأخبر أنه أعد لهم مغفرة وأجرا عظيماً
قال تعالى: (إِنّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصّادِقِينَ وَالصّادِقَاتِ وَالصّابِرِينَ وَالصّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدّقِينَ وَالْمُتَصَدّقَاتِ والصّائِمِينَ والصّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذّاكِرِينَ اللّهَ كَثِيراً وَالذّاكِرَاتِ أَعَدّ اللّهُ لَهُم مّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) [الأحزاب / 35]
(ولذ كان من السبعة الذين يُظِلّهُمُ الله في ظِلّهِ ظِلّ إِلاّ ظِلّهُ [وَرَجُلٌ ذَكَرَ الله خَالِياً فَفَاضَتْ عَيْنَهُ]
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت الثابت في الصحيحين) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :(سَبْعَةٌ يُظِلّهُمُ الله في ظِلّهِ ظِلّ إِلاّ ظِلّهُ يَوْمَ لاَ: إِمَامٌ عَادِلٌ، وَشَابٌ نَشَأَ في ِعِبَادَةِ الله، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلّقٌ في المَسْاجِدِ، وَرَجُلاَنِ تَحَابّا في الله اجْتَمعَا عَلَيه وَتَفَرّقَا عليه ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امرأة ذَاتُ منصبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ إِنّي أَخَافُ الله ، وَرَجُلٌ تَصَدّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتّى لا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ الله خَالِياً فَفَاضَتْ عَيْنَهُ )
(ووجه الدلالة من الحديث:
أن الخاشع في صلاته يغلب على حاله البكاء في الخلوة أكثر من غيرها,فكان بذلك ممن يظلهم الله في ظله يوم القيامة.(1/330)
(ولو لم يكن للخشوع إلا فضل الانكسار بين يدي الله،وإظهار الذل والمسكنة له ,لكفى بذلك فضلاً ،وذلك لأن الله جل جلاله إنما خلقنا للعبادة
قال تعالى : {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات56 :]
وأفضل العبادات ما كان فيها الانكسار والذل الذي هو سرها ولبها.ولا يتحقق ذلك إلا بالخشوع .
الخشوع: يورث انكساراً بين يدي الرب، وحُرقةً من المعاصي والسيئات؛ لأن القلب إذا خشع سكنت خواطره، وترفعت عن الأمور الدنيئة همته، وتجرد من اتباع الهوى مسلكه،
الخشوع: يجعل العبد ينكسر ويخضع لله، ويزول ما فيه من التعاظم والترفع، والتعالي والترفع، والتعالي والتكبر، وتلك درجات في قلوب الناس تتفاوت بتفاوت الإيمان في قلوبهم، وسيطرة الإسلام على نفوسهم.
الخشوع: هو السكون والطمأنينة والتؤدة والوقار والتواضع والخضوع.
(2) والخشوع علم نافع؛ لأن العلم النافع ما أوجب خشية القلوب، لذا: كان يستعيذ من علم لا ينفع، وقلب لا يخشع، ونفس لا تشبع، ودعوة لا تُسمع، فإن القلب الذي لا يخشع: علمه لا ينفع، ودعاؤه لا يسمع.
(حديث زيد ابن أرقم في صحيح مسلم ) قال كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : اللهم آت نفسي تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها ، اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع ومن قلب لا يخشع ومن نفس لا تشبع ومن دعوة لا يستجاب لها .
(وهذا العلم النافع نادر وجوده سريع فقده
فهو أول ما يرفع من الأمة، كما جاء في الحديث الآتي :
( حديث أبي الدرداء رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :أول شيء يرفع من هذه الأمة الخشوع حتى لا ترى فيها خاشعا .
وبذهاب الخشوع تكون العبادة بغير روح، وهذا أمر يورث الخوف على القلب، وتفقده دائماً.(1/331)
(3) وفضائل الخشوع كثيرة: فهو يقرب القلب من الله، فيمتلئ نوراً، فينتفع صاحبه بآيات الله الشرعية، والكونية، ويكون له في كل نظرة عِبرة، وعَبْرة. ويقي صاحبه من غوائل العجب والغرور والإدلال والرياء. وبه تُستنزل رحمة الله (تعالى)،
وأعظمها: حصول البشرى ((وَبَشِّرِ المُخْبِتِينَ)) [الحج: 34]،
وبه ينال الأجر العظيم، فالخشوع طريق الفلاح الموصل إلى الجنة: ((قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ)) [المؤمنون: 1، 2]، ثم قال: ((أُوْلَئِكَ هُمُ الوَارِثُونَ * الَذِينَ يَرِثُونَ الفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)) [المؤمنون: 10، 11]
(حكم الخشوع :
والراجح في حكم الخشوع أنه واجب .
[*]قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى :
قال تعالى: (وَاسْتَعِينُواْ بِالصّبْرِ وَالصّلاَةِ وَإِنّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاّ عَلَى الْخَاشِعِينَ) [البقرة / 45]
وهذا يقتضي ذم غير الخاشعين .. والذم لا يكون إلا لترك واجب أو فعل محرّم وإذا كان غير الخاشعين مذمومين دلّ ذلك على وجوب الخشوع .. ويدل على وجوب الخشوع فيها أيضا قوله تعالى : ( قد أفلح المؤمنون . الذين هم في صلاتهم خاشعون .. - إلى قوله - أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون ) أخبر سبحانه وتعالى أن هؤلاء هم الذين يرثون فردوس الجنة وذلك يقتضي أنه لا يرثها غيرهم .. وإذا كان الخشوع في الصلاة واجبا وهو المتضمن للسكون والخشوع (هكذا في الأصل ولعلها الخضوع ) فمن نقر نقر الغراب لم يخشع في سجوده وكذلك من لم يرفع رأسه في الركوع ويستقر قبل أن ينخفض لم يسكن لأن السكون هو الطمأنينة بعينها فمن لم يطمئن لم يسكن ومن لم يسكن لم يخشع في ركوعه ولا في سجوده ومن لم يخشع كان آثما عاصيا .. ويدل على وجوب الخشوع في الصلاة أن النبي صلى الله عليه وسلم توعد تاركيه كالذي يرفع بصره إلى السماء فإنه حركته ورفعه وهو ضد حال الخاشع ..(1/332)
[ مجموع الفتاوى 22/553-558 ]
(محل الخشوع :
محل الخشوع : القلب .
وثمرته: تظهر على الجوارح، ولذا قيل: إذا ضرع القلب، خشعت الجوارح، وذلك لأن القلب مَلِك البدن، وأمير الأعضاء، تصلح بصلاحه، وتفسد بفساده، فالأعضاء تابعة للقلب فإذا فسد خشوعه بالغفلة والوساوس فسدت عبودية الأعضاء والجوارح فإن القلب كالملك والأعضاء كالجنود له فبه يأتمرون وعن أمره يصدرون فإذا عُزل الملك وتعطّل بفقد القلب لعبوديته ضاعت الرعية وهي الجوارح.
ولهذ قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ألا و إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله و إذا فسدت فسد الجسد كله ألا و هي القلب .
(حديث النعمان بن بشير الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :الحلال بين و الحرام بين و بينهما أمور مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لعرضه و دينه و من وقع في الشبهات وقع في الحرام كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه ألا و إن لكل ملك حمى ألا و إن حمى الله تعالى في أرضه محارمه ألا و إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله و إذا فسدت فسد الجسد كله ألا و هي القلب .
(منزلة الخشوع من الإيمان :
الخشوع من الإيمان؛ الذي هو في القلب، وإنما يزيد الإيمان بحياة القلب، وذلك بالاشتغال بالعلم النافع والعمل الصالح، كما أنه ينقص بمرض القلب، ويذهب بموته، وذلك بالانصراف إلى الشبهات والشهوات، فعلى المسلم أن يتعاهد قلبه في جميع أحواله ليدفع عنه القسوة؛ فإنها إذا استبدت به منعته الخشوع.(1/333)
والله (عز وجل) يريد من عباده الترقي في سُلَّمِ الإيمان، ودرجات اليقين، ولذا: عاتب المؤمنين الذين لم يبلغوا قمة الخشوع؛ حيث تدل حركتهم البطيئة على ضعف لا يرضاه الله للعصبة المؤمنة حاملة المنهج الرباني، لتبليغه للناس كافة؛ عاتبهم فقال: ((أََلَمْ يَاًنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ)) [الحديد: 16]،
وفي الآية تلويح بما كان عليه أهل الكتاب من قسوة أورثتهم الفسق في الأعمال، ومن هنا كان التحذير الشديد من مآلهم، حيث طال عليهم الزمان، واستمرت بهم الغفلة، فاضمحل إيمانهم، وذهب إيقانهم.
وقد رأينا ثمرة هذا الخشوع الإيماني في حياة سيد الخاشعين صلى الله عليه وسلم، الذي كان له في الانكسار لله (تعالى) والذل بين يديه أكمل الأحوال، فقد رؤي يصلي، وفي صدره أزيز كأزيز الرحى ـ أي الطاحون ـ من البكاء .
(حديث عبد الله بن الشخير الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) قال : أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي فسمعت لصدره أزيزاً كأزيز المرجل من البكاء .
وكذا صاحبه الصديق (رضي الله عنه) كان وجلاً رقيقاً، إذا صلى أو قرأ القرآن بكى ، وأما الفاروق فيكفيك أنه مرض مرة لسماع القرآن وعاده الناس في مرضه لا يدرون ما به!، وقد أصاب سهمٌ أحدَ الصحابة وهو في صلاته فأزاله ورماه وأتمّ صلاته.
ومن السلف من كان يقوم في الصلاة كأنه عمود تقع الطيور على رأسه من شدة سكونه وإطالته، ولهم في ذلك أحوال يطول منها عجبنا؛ لأننا لا نرى ذلك في واقع حياتنا .
(إخفاء الخشوع :
التظاهر بالخشوع ممقوت ، ومن علامات الإخلاص : إخفاء الخشوع(1/334)
كان حذيفة رضي الله عنه يقول : إياكم وخشوع النفاق فقيل له : وما خشوع النفاق قال : أن ترى الجسد خاشعا والقلب ليس بخاشع .
وقال الفضيل بن عياض
: كان يُكره أن يُري الرجل من الخشوع أكثر مما في قلبه . ورأى بعضهم رجلا خاشع المنكبين والبدن فقال : يافلان ، الخشوع هاهنا وأشار إلى صدره ، لاهاهنا وأشار إلى منكبيه . [ المدارج 1/ 521]
[*] وقال ابن القيم رحمه الله تعالى مبيّناً الفرق بين خشوع الإيمان وخشوع النفاق : " خشوع الإيمان هو خشوع القلب لله بالتعظيم و الإجلال و الوقار و المهابة و الحياء ، فينكسر القلب لله كسرة ملتئمة من الوجل و الخجل و الحب و الحياء و شهود نعم الله و جناياته هو ، فيخشع القلب لا محالة فيتبعه خشوع الجوارح . و أما خشوع النفاق فيبدو على الجوارح تصنعا وتكلفا والقلب غير خاشع ، و كان بعض الصحابة يقول : أعوذ بالله من خشوع النفاق ، قيل له : و ما خشوع النفاق ؟ قال : أن يرى الجسد خاشعا والقلب غير خاشع . فالخاشع لله عبد قد خمدت نيران شهوته ، و سكن دخانها عن صدره ، فانجلى الصدر و أشرق فيه نور العظمة فماتت شهوات النفس للخوف و الوقار الذي حشي به و خمدت الجوارح و توقر القلب و اطمأن إلى الله و ذكره بالسكينة التي نزلت عليه من ربه فصار مخبتا له ، و المخبت المطمئن ، فإن الخبت من الأرض ما اطمأن فاستنقع فيه الماء ، فكذلك القلب المخبت قد خشع واطمأن كالبقعة المطمئنة من الأرض التي يجري إليها الماء فيستقر فيها ، و علامته أن يسجد بين يدي ربه إجلالا له و ذلا و انكسارا بين يديه سجدة لا يرفع رأسه عنها حتى يلقاه . فهذا خشوع الإيمان ، وأما القلب المتكبر فإنه قد اهتز بتكبره و ربا فهو كبقعة رابية من الأرض لا يستقر عليها الماء .(1/335)
و أما التماوت و خشوع النفاق فهو حال عند تكلف إسكان الجوارح تصنعا و مراءاة و نفسه في الباطن شابة طرية ذات شهوات و إرادات فهو يتخشع في الظاهر و حية الوادي و أسد الغابة رابض بين جنبيه ينتظر الفريسة .
[ كتاب الروح ص:314 ط. دار الفكر - الأردن . ]
(الطرق الموصلة الخشوع :
إن مما يحصّل به المسلم الخشوع :
(1) تلقي أوامر الله (تعالى) بالقبول والامتثال، وعدم معارضتها بشهوة أو رأي.
(2) الحرص على الإخلاص، وإخفاء الأعمال عن الخلق قدر المستطاع، ومطالعة عيوب النفس ونقائص الأعمال ومفسداتها من الكبر والعجب والرياء وضعف الصدق، والتقصير في إكمال العمل وإتمامه.
(3) الإشفاق من رد الأعمال وعدم قبولها.
(4) مشاهدة فضل الله وإحسانه، والحياء منه؛ لإطلاعه على تفاصيل ما في القلوب، وتذكر الموقف والمقام بين يديه، والخوف منه، وإظهار الضعف والافتقار إليه والتعلق به دون غيره.
(5) طلب هدايته وتوفيقه وتسديده.
(6) ومن أعظم الطرق: معرفة الله (جل جلاله) بأسمائه الحسنى وصفاته العلا.. والعلم النافع، وهو: العلم بآيات الله الكونية والشرعية، الذي يربط القلب بالله.
وكذلك الإكثار من ذكر الموت، والجنة والنار، والإكثار من ذكر الله تضرعاً وخِيفة،ودعائه تضرعاً وخُفية، فإن ذلك أعظم إيماناً وأبلغ في الأدب، والتعظيم، والتضرع، والخشوع، والإخلاص، وجمعية القلب على الله تعالى)
ويمكن تحصيل ذلك كله بالإقبال على كتاب الله الكريم، مع تعاهد التلاوة، وإدامة النظر، وطول التأمل وكثرة التدبر، الذي يورث الصلة بالله (تعالى)، والمسارعة في الطاعات، واستباق الخيرات، وهو الأمر الذي لأجله أنزل الله القرآن الكريم.
(آثار الخشوع:
يضفي الخشوع على الأفراد والأمم آثاراً كثيرة، منها:
(1) أنه يبعث الحياة في العمل، فيؤتي ثمرته المرجوة وغايته المقصودة.
(2) أنه يجعل العبادة محببة للنفس، خفيفة غير ثقيلة.(1/336)
(3) المسارعة إلى الإذعان للحق والدعوة إليه، وبذل غاية الوسع في التعليم والدعوة والتربية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
(4) توحيد المشاعر والاتجاهات والمقاصد نحو الله (تعالى) لا شريك له، فيتوجه العمل والنشاط والعبادة نحو غاية واحدة، فيحصل من ذلك: (
ـ إحياء الأمة وقوتها وانتصارها، بصلاة الخاشعين ودعائهم وإخلاصهم، ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.
وقد لمسنا آثار الخشوع في حياة سلف هذه الأمة الذين قاموا بأمر الله خير قيام، وحملوا لواء العلم والعبادة والدعوة، وما كان ليحصل ذلك لولا ما تحمله قلوبهم من تعظيم الله ومحبته وخشيته.
وإذا لم يكن الخشوع صفة الدعاة وحالهم، فإن الخطْب جلل، والمصيبة عظيمة، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
(نماذج من خشوع السلف :
كان عبد الله بن الزبير يسجد حتى تنزل العصافير على ظهره ولا تحسبه إلا حائط .
لو رأيت ابن الزبير يصلي كأنه غصن شجرة تهزها الريح والمنجنيق يقع هاهنا وهاهنا وكأنه لا يبالي.
(وذكر بعضهم أن حجراً من المنجنيق وقع على شرفة المسجد فطارت فلقة منها فمرت بين لحية ابن الزبير وحلقه، وهو قائم يصلي، فما زال عن مقامه، ولا عرف ذلك في صوته، ولا قطع لها قراءته، ولا ركع دون ما كان يركع، فكان إذا دخل في الصلاة خرج من كل شيء إليها.
(روي أن ابن الزبير كان يوماً يصلي فسقطت حية من السقف تطوقت على بطن ابنه هاشم ، فصرخ النسوة وانزعج أهل المنزل، واجتمعوا على قتل الحية، فقتلوها وسَلِم الولد، فعلوا هذا كله وابن الزبير في الصلاة لم يلتفت، ولا درى بما جرى لابنه حتى سلَّم.
(وركع ابن الزبير يوماً فقرأ البقرة وآل عمران والنساء والمائدة وما رفع رأسه.
(وقال يحيى بن وثاب: ( كان ابن الزبير إذا سجد وقعت العصافير على ظهره، تصعد وتنزل، ولا تراه إلا جذم حائط .(1/337)
(روي عن حاتم الأصم أنه سئل عن صلاته،فقال:إذا حانت الصلاة،أسبغت الوضوء ، وأتيت الموضع الذي أريد الصلاة فيه،فأقعد فيه حتى تجتمع جوارحي،ثم أقوام ‘لي صلاتي ،وأجعل الكعبة بين حاجبي ،والصراط تحت قدمي ،والجنة عن يميني،والنار عن شمالي ،وملك الموت ورائي ،وأظنها آخر صلاتي ،ثم أقوم يسن يدي الرجاء والخوف ,أكبر تكبيراُ بتحقيق ,وأقرأ بترتيل ،وأركع وكوعاً بتواضع وأسجد سجوداً بتخشع..وأتبعها الإخلاص ،ثم لا أدري أقبلت أم لا؟.
[*] قال علي بن الفضيل: ( رأيت الثوري ساجداً فطفت سبعة أسابيع - أي 49 شوطاً - قبل أن يرفع رأسه)
[*] قال ابن وهب: ( رأيت الثوري في الحرم بعد المغرب صلّى ثم سجد سجدة فلم يرفع حتى نودي بالعشاء.
[*] قال أبو بكر بن عياش: ( رأيت حبيب بن أبي ثابت ساجداً، فلو رأيته قلت: ميت . يعني من طول السجود.
[*] كان طلق بن حبيب لا يركع في صلاته إذا افتتح سورة (البقرة) حتى يبلغ (العنكبوت). وكان يقول: أشتهي أن أقوم حتى يشتكي صلبي.
(ومنهم: من إذا دخل في الصلاة خشع قلبه، وسكنت جوارحه، حتى يظن من رآه أنه جماد، بل إن الطير قد يظن ذلك المصلي حائطاً، فيقع على ظهره لشدة سكونه، وهذا السكون دليل على الراحة التي يجدها المصلي في صلاته، إذ لو لم يجد فيها راحة لم يسكن هذا السكون، فإن المرء إذا كان على وضع لا راحة له فيه تكثر حركته، والتفاته، وعبثه.
قال ثابت البناني: ( كنتُ أَمُرُّ بعبد الله بن الزبير وهو يصلي خلف المقام، كأنه خشبة منصوبة لا يتحرك .
قال الأعمش: ( كان إبراهيم إذا سجد كأنه حائط، ينزل على ظهره العصافير .
وكان مسلم بن يسار إذا صلّى كأنه وتد لا يميل لا هكذا ولا هكذا. وقيل: إذا صلى كأنه ثوب ملقى.
[*] قال ميمون بن مهران:
ما رأيت مسلم بن يسار ملتفتا في صلاة قط ولقد انهدمت ناحية من المسجد ففزع أهل السوق لهدتها وإنه لفي المسجد يصلي فما التفت.(1/338)
وعنه أيضا [ أن مسلم بن يسار كان إذا دخل إلى المنزل سكتوا فإذا قام إلى الصلاة تكلموا وضحكوا.
(ومنهم: من إذا دخل في الصلاة انشغل بها عما حوله، حتى لا يشعر بما يحدث عنده وقريباً منه وإن كان عظيماً، ومتى عظمت محبة الشخص لأمر، فإنه ينشغل به حتى عن نفسه، ألم تر كيف قطع النسوة أيديهن لما رأين يوسف فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ [يوسف:31] دهشن برؤيته عن أنفسهم فلم يشعرن بتقطيع أيديهن.
من المصلين من يجد في صلاته لذة تشغله عما حوله، فمنهم من لا يشعر بوقوع شيء أصلاً، ومنهم من يشعر بذلك لكنه لا يلتفت إليه، ولا يعبأ به، فكأنه لم يشعر، لقوة حضوره في صلاته، وانصرافه لها، وعدم اهتمامه بما سواها وانشغاله عنه.
قال ميمون بن مهران: ما رأيت مسلم بن يسار ملتفتاً في صلاة قط، ولقد انهدمت ناحية من المسجد ففزع أهل السوق لهدمها، وإنه في المسجد يصلي فما التفت. ولما هنئ بسلامته عجب وقال: ما شعرت.
(ومنهم: من يصيبه في صلاته وجع شديد وألم، فلا يلتفت له، ويستمر في صلاته، قد أنسته لذة الصلاة شدة الوجع، حتى كأنه لا يحس به.
(ففي إحدى الغزوات قام رجل من الأنصار يصلى ليلاً، فرماه أحد المشركين بسهم فنزعه واستمر في صلاته، فرماه بسهم ثان فنزعه واستمر في صلاته، فرماه بسهم ثالث فنزعه وركع وسجد وأتم صلاته. ثم أنبه صاحبه، فلما رأى ما به من الدم قال: سبحان الله! ألا أنبهتني أول ما رمى؟! قال: كنت في سورة أقرؤها فلم أحب أن أقطعها.
فانظر كيف صبر على تلك السهام، وتحمَّل ألم الجراح، ولم تطب نفسه أن يقطع قراءته لتلك السورة حتى أتمّها. فكم من لذة يجدها هذا الرجل في صلاته. وكم من راحة وسرور، نسي معه تعب السفر، ومشقة الطريق، وهون عليه ضرب السهام.
[*] الربيع ابن خيثم :(1/339)
عن بكر بن ماعز قال أعطي الربيع فرساً أو اشترى فرساً بثلاثين ألفاً فغزا عليها قال ثم أرسل غلامه يحتش وقام يصلي وربط فرسه فجاء الغلام فقال يا ربيع أين فرسك قال سرقت يا يسار قال وأنت تنظر إليها قال : ( نعم يا يسار أني كنت أناجي ربي عز وجل فلم يشغلني عن مناجات ربي شيء اللهم انه سرقني ولم أكن لأسرقه اللهم إن كان غنياً فاهده وإن كان فقيراً فاغنه ) ، ثلاث مرات
[*] عن بن فروخ قال : ( كان الربيع بن خيثم إذا كان الليل ووجد غفلة الناس خرج إلى المقابر فيجول في المقابر يقول : ( يا أهل القبور كنتم وكنا ، فإذا أصبح كأنه نشر من أهل القبور .
(ومن خشوعهم أنهم كانوا يتأثرون جداً بالجنائز :
قال ثابت البناني : كنا نتبع الجنازة فما نرى إلا متقنعا باكيا أو متقنعا متفكرا .
(علو الهمة في الخشوع :
[*]قال الجنيد : الخشوع تذلل القلوب لعلام الغيوب.
[*] قال ابن كثير:
والخشوع في الصلاة إنما يحصل لمن فرّغ قلبه لها.. واشتغل بها عما عداها ، وآثرها على غيرها ، وحينئذ تكون راحة له وقرة له.
[*] قال سعيد بن جبير في قوله تعالى :
( الذين هم في صلاتهم خاشعون) يعني : متواضعون. لا يعرف من عن يمينه ولا من عن شماله ولا يلتفت من الخشوع لله تعالى.
• صار لرب العرش حين صلاته نجيّا فيا طوباه لو كان يخشع
[*] قال بعض السلف :
الصلاة كجارية تهدى إلى ملك من الملوك ، فما الظن بمن يهدى إليه جارية شلاء أو عوراء ...فكيف بصلاة العبد والتي يتقرب بها إلى الله.
[*] كان ذو النون يقول في وصف العبّاد :
لو رأيت أحدهم وقد قام إلى صلاته ، فلما وقف في محرابه ، واستفتح كلام سيده، خطر على قلبه أن ذلك المقام هو المقام الذي يقوم فيه الناس لرب العالمين ، فانخلع قلبه وذهل عقله.
[*](تمام الخشوع :
أن يخضع القلب لله ويذل له ، فيتم بذلك خضوع العبد بباطنه وظاهره لله عز وجل ،(1/340)
(وذلك لأن القلب أمير البدن. فإذا خشع القلب .. خشع السمع والبصر والوجه وكل الأعضاء.. حتى الكلام.
ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه : ( خشع لك سمعي وبصري ومخي وعظمي).
( حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا ركع كان كلامه في ركوعه أن يقول اللهم لك ركعت وبك آمنت ولك أسلمت وأنت ربي خشع سمعي وبصري ومخي وعظمي لله رب العالمين .
( حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح النسائي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا ركع قال اللهم لك ركعت وبك آمنت ولك أسلمت وعليك توكلت أنت ربي خشع سمعي وبصري ودمي ولحمي وعظمي وعصبي لله رب العالمين .
[*] قال الحسن رحمه الله:
إياك أن ينظر الله إليك وتنظر إلى غيره .. وتسأل الله الجنة وتعوذ به من النار.. وقلبك ساه لا تدري ما تقول بلسانك.
[*] كان خلف بن أيوب لا يطرد الذباب عن وجهه في الصلاة فقيل له :كيف تصبر؟. قال : بلغني أن الفسّاق يتصبرون تحت السياط ليقال : فلان صبور. وأنا بين يدي ربي ، أفلا أصبر على ذباب يقع علي؟.!!
[*](احذر خشوع النفاق :
[*] قال أبو الدرداء
: استعيذوا بالله من خشوع النفاق. قالوا: وما خشوع النفاق؟ قال : أن ترى الجسد خاشعا والقلب ليس بخاشع.
{ تنبيه } : ( الخشوع عزيزٌ في هذه الأمة وقد أخبر النبي أن أول شيء يرفع من هذه الأمة الخشوع .
( حديث أبي الدرداء رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :أول شيء يرفع من هذه الأمة الخشوع حتى لا ترى فيها خاشعا .
(فصلٌ في منزلة البكاء من خشية الله :(1/341)
إن منزلة البكاء من خشية الله من أعظم المنازل ، فللخشوع فضلٌ عظيم وأجرٌ جسيم ، فهي نعمةٌ عظيمة ، وَمِنَّةٌ جسيمة ، نعمة كبرى، ومنحة عظمى ، شأنه عظيم، ونفعه عميم، له فضائل لا تحصى، وثمرات لا تعد ، وله أهمية كبرى، وثمرات جليلة، وفضائل عظيمة، وأسرار بديعة ، وهو طريق النجاة، وسلم الوصول، ومطلب العارفين، ومطية الصالحين وهاك صفوة مسائل البكاء من خشية الله .
[*](عناصر الفصل :
(فضل البكاء من خشية الله :
(السبب في جفاف العين عن البكاء :
(السبل الميسرة للبكاء من خشية الله تعالى :
(إخفاء البكاء :
(سيد البكائين والناس أجمعين حبيبنا محمد - صلى الله عليه وسلم - :
(بكاء أصحاب النبي رضي الله عنهم :
(نماذج من بكاء السلف :
وهاك تفصيل ذلك في إيجازٍ غيرِ مُخِّل : (
(فضل البكاء من خشية الله :
(1) لقد أثنى الله في كتابة الكريم في أكثر من موضع على البكائين من خشيته قال تعالى: (وَيَخِرّونَ لِلأذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً) [الإسراء / 109]
قال تعالى: (إِذَا تُتْلَىَ عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرّحْمََنِ خَرّواْ سُجّداً وَبُكِيّاً) [مريم / 58]
والسنة طافحةٌ بما يدل على فضل البكاء من خشية الله تعالى منها ما يلي :
((حديث أبي هريرة الثابت في الصحيحين) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : سبعةٌ يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله : إمام عادل و شاب نشأ في عبادة الله و رجل قلبه معلق في المساجد ، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، و رجل دعته امرأة ذات منصب و جمال فقال : إني أخاف الله و رجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه و رجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه .
[*] قال القرطبي : فيض العين بحسب الذاكر وما ينكشف له فبكاؤه خشيه من الله تعالى حال أوصاف الجلال وشوقاً إليه سبحانه حال أوصاف الجمال .(1/342)
فيوم يشتد الكرب على الخلق، وتدنو الشمس من الرءوس، ويغرق الناس في عرقهم، يكون الباكون من خشية الله ضمن سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله.
(2) الباكون من خشية الله لا يدخلون النار، بل ولا تمسهم:
(( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :لا يلج النار رجل بكي من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع ولا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم .
قال المباركفوري في تحفة الأحوذي :
قوله [ لا يلج ] من الولوج أي لا يدخل [ رجل بكى من خشيه الله ] فإن الغالب من الخشية امتثال الطاعة واجتناب المعصية [ حتى يعود اللبن في الضرع ]
هذا من باب التعليق بالمحال كقوله تعالى: (حَتّىَ يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ) [ الأعراف / 40] أهـ
فكما أن رجوع اللبن في الضرع بعد حلبه أمر يستحيل وقوعه فكذلك دخول الباكين من خشية الله النار أمر يستحيل وقوعه.
(( حديث ابن عباس رضي الله عنهما الثابت في صحيح الترمذي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : عينان لا تمسهما النار عين بكت من خشية الله وعين باتت تحرس في سبيل الله .
قال المباركفوري في تحفة الأحوذي :
[ عينان لا تمسهما النار] أي لا تمس صاحبهما فعبر بالجزء عن الجملة وعبر بالمس إشارة إلى امتناع ما فوقه بالأولى [عين بكت من خشيه الله] وهى مرتبه المجاهدين مع النفس التائبين عن المعصية سواء كان عالماً أو غير عالم [وعين باتت تحرس في سبيل الله] وهى مرتبة المجاهدين في العبادة وهى شاملة لأن تكون في الحج أو طلب العلم أو الجهاد أو العبادة والأظهر أن المراد به الحارس للمجاهدين لحفظهم عن الكفار .
(3) الباكون من خشية الله يفوزون بحب الله تعالى لهم:(1/343)
(( حديث أبي أمامة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ليس شيء أحب إلى الله من قطرتين وأثرين قطرة من دموع في خشية الله وقطرة دم تهراق في سبيل الله وأما الأثران فأثر في سبيل الله وأثر في فريضة من فرائض الله .
فاللهم ارزقنا حبك ولا تحرمنا فنكون من الخاسرين.
(4) الباكون من خشية الله يفوزون بشجرة طوبى في الجنة:
(( حديث ثوبان رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : طوبى لمن ملك لسانه و وسعه بيته و بكى على خطيئته .
وقد وصف النبي - صلى الله عليه وسلم - شجرة طوبى كما في الحديث الآتي : (
(( حديث أبي سعيد رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : طوبى شجرة في الجنة مسيرة مائة عام ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها.
(5) الباكون من خشية الله يفوزون بامتثالهم أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالبكاء:
((حديث عقبة بن عامر في صحيح الترمذي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : قلت يا رسول الله ما النجاة ؟ قال أملك عليك لسانك وليسعك بيتك وابك على خطيئتك .
فمن امتثل هذا الأمر فاز بشرف طاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - .
(6) الباكون من خشية الله يحظون بالاقتداء بالأنبياء الذين أنعم الله عليهم:
قال تعالى: { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا } [(58) سورة مريم].
تُتلَى عليهم آيات الله، فتَلقى الآيات قلوبَ أفضل البشر..
تخر القلوب ساجدة..
ثم تهوى الأبدان..
تلامس الهامات الثرى..
و.. تسيل دموع الشوق والمحبة والإجلال.. ودموع الخوف والخشية..(1/344)
فاللهم { اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ } [(6، 7) سورة الفاتحة].
(7) الباكون من خشية الله يزيدهم الله إيماناً:
فمعتقد أهل السنة والجماعة أن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، والبكاء من خشية الله من أشرف الطاعات وأحبها إلى الله ولها أثرها البين في زيادة الإيمان.
(8) الباكون من خشية الله يرزقهم الله من حيث لا يحتسبون ويجعل لهم المخرج من كل ضيق:
قال تعالى: { وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ }
[(2-3) سورة الطلاق].
(9) الباكون من خشية الله يجعل الله لهم من أمرهم يسراً:
قال تعالى: { وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا } [(4) سورة الطلاق].
11. الباكون من خشية الله يتذكرون بكاءهم في الدنيا وخوفهم من ربهم تعالى بعد دخولهم الجنة:
فما أعظمها من لذة وما أجمله من موقف ذلك الذي حكاه الله عنهم، قال تعالى: { وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ، قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ، فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ، إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ }
[(25-28) سورة الطور].
(السبب في جفاف العين عن البكاء :
إن جفاف العين عن البكاء داء ٌ عضال ومرض قتَّال أمره خطير وشره مستطير أشر من البرص وأضر من الجرب كالسرطان يأكل الخلايا ، ومثل السوس الذي ينخر عظامهم من الداخل .
إنه داء المعصية..
فالمعصية حائل بين العين وبين البكاء،
وحري بنا أن أن نحيط علما بخطر بالمعاصي لنجتنبها ونكون على حذرٍ منها ، وإليك أهم عناصرها :
(ذم المعاصي :
(قبح آثار المعاصي :
(توبيخ العاصي :
(الأدوية التي تزهدك في المعاصي :
(كيفية الوقاية من الذنوب :
( كيف أتخلص من المعاصي :(1/345)
(التحذير من المجاهرة بالمعصية :
(مفاسد المجاهرة بالمعاصي :
(صورٌ من المجاهرة بالمعاصي والعياذ بالله :
وهاك تفصيل ذلك في إيجازٍ غيرِ مُخِّل : (
(ذم المعاصي :
(أخي الحبيب:
(كم أكبَّت المعاصي رؤوساً على مناخرها في الجحيم، وأسلمتهم إلى مقاساة العذاب الأليم، وجرعتهم بين أطباق النار كؤوس الحميم، وكم أخرجت من شاء الله من العلم والدين كخروج الشعرة من العجين، وكم أزالت من نعمة، وأحلَّت من نقمة، وكم أنزلت من معْقل عزِّهِ عزيزاً فإذا هو في الأذلين، ووضعت من شريف رفيع القدر والمنصب فإذا هو في أسفل سافلين، وكم كشفت من عورة، وأحدثت من روعة، وأعقبت من ألم، وأحلت من ندم، وكم أضرمت من نار حسرات أحرقت فيها الأكباد، وأذهبت قدراً كان للعبد عند الله وفي قلوب العباد، وكم جلبت من جهد البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء؛ فقلَّ أن يفارقها زوال نعمة، أو فجاءة نقمة، أو تحويل عافية، أو طُروق بلية، أو حدوث رزية؛ فلو سألت النِّعَم ما الذي أزالك؟ والنِّقم ما الذي أدالك؟ والهمومَ والأحزان ما الذي جلبك؟ والعافية ما الذي أبعدك وجنَّبك؟ والستر ما الذي كشفك؟ والوجه ما الذي أذهب نورك وكسفك؟ والحياة ما الذي كدَّرك؟ وشمس الإيمان ما الذي كوَّرك؟ وعزة النفس ما الذي أذلَّك؟ وبالهوان بعد الأكرام بدَّلك _ لأجابتك بلسان الحال اعتباراً إن لم تجب بالمقال حواراً.
(أخي الحبيب:(1/346)
اعلم علم اليقين الذي لا يخالطه شك أن المعاصي تضر بالقلب والبدن ضرراً بليغاً فوق ما يخطر ببال أو يدور في الخيال ، نعوذ بالله الكبير المتعال من سوء الحال وقُبح الفِعال ونعوذ به من السفه والضلال ، فالمعاصي للقلب والبدن داء ٌ عضال ومرض قتَّال أمرها خطير وشرها مستطير أشر من البرص وأضر من الجرب ضررها كضرر السرطان يأكل الخلايا ، ومثل السوس الذي ينخر عظامهم من الداخل ،ومن تفكَّر ملياً وتأمل جلياً لم يجد في الدنيا و الآخرة شر ولا داء إلا سببه الذنوب والمعاصي .
فما الذي أخرج الأبوين من الجنة، دار اللذة والنعيم والبهجة والسرور إلى دار الآلام والأحزان والمصائب؟ وما الذي أخرج إبليس من ملكوت السماء وطرده ولعنه، ومسخ ظاهره وباطنه، فجعل صورته أقبح صورة وأشنعها، وباطنه أقبح من صورته وأشنع، وبُدِّل بالقرب بعداً، وبالرحمة لعنة، وبالجمال قبحاً، وبالجنة ناراً تلظى، وبالإيمان كفراً، وبموالاة الولي الحميد أعظم عداوة ومشاقة، وبرجل التسبيح والتهليل رجل الكفر والشرك والكذب والزور والفحش، وبلباس الإيمان لباس الكفر والفسوق والعصيان، فهان على الله غاية الهون، وسقط من عينه غاية السقوط، وحل عليه غضب الرب تعالى فأهواه، ومقته أكبر المقت فأرداه، فصار قواداً لكل فاسق ومجرم. رضي لنفسه بالقيادة بعد تلك العبادة والسيادة؟ فعياذاً بك اللهم من مخالفة أمرك، وارتكاب نهيك.
وما الذي أغرق أهل الأرض كلهم حتى علا الماء فوق رؤوس الجبال؟ وما الذي سلط الريح على قوم عاد حتى ألقتهم موتى على وجه الأرض كأنهم أعجاز نخل خاوية؟ وما الذي أرسل على قوم ثمود الصيحة حتى قطعت قلوبهم في أجوافهم، وماتوا عن آخرهم؟
وتأمل في الحديثين الآتيين بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيهما واجعل لهما من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيهما من غرر الفوائد ، ودرر الفرائد . ((1/347)
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :إن الله يغار، وغيرة الله أن يأتي المؤمن ما حرم الله .
( حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :لا أحد أغير من الله، ولذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا شيء أحب إليه المدح من الله، ولذلك مدح نفسه .
[*](أورد الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في بحر الدموع أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : لا يغرّنّكم قول الله عز وجل : { مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا } [ الأنعام 160 ] ، فإن السيئة وإن كانت واحدة، فإنها تتبعها عشر خصال مذمومة :
أولها : إذا أذنب العبد ذنبًا، فقد أسخط الله وهو قادر عليه .
والثانية : أنه فرّح إبليس لعنه الله .
والرابعة : أنه تقرّب من النار .
والخامسة : أنه قد آذى الحفظة .
والثامنة : أنه قد أحزن النبي صلى الله عليه وسلم في قبره .
والتاسعة : أنه أشهد على نفسه السماوات والأرض وجميع المخلوقات بالعصيان .
والعاشرة : أنه خان جميع الآدميين، وعصى رب العالمين .
[*](قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه ذم الهوى :
واعلم وفقك الله أن المعاصي قبيحة العواقب سيئة المنتهى وهي
وإن سر عاجلها ضر آجلها ولربما تعجل ضرها فمن أراد طيب عيشه فليلزم التقوى .
[*](أورد الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه ذم الهوى عن الأصمعي عن أبيه قال كان شيخ يدور على المجالس ويقول من سره أن تدوم له العافية فليتق الله تعالى .
فمتى رأيت وفقك الله تكديراً في حال فتذكر ذنباً قد وقع .
[*](قال الفضيل بن عياض : إني لأعصى الله فأعرف ذلك في خلق دابتي وجاريتي(1/348)
[*](وقال أبو سليمان الداراني : من صفى صفي له ومن كدر كدر عليه ومن أحسن في ليله كوفىء في نهاره ومن أحسن في نهاره كوفيء في ليله . أهـ
(فيا من يريد دوام العيش على البقاء ، دم على الإخلاص والنقاء وإياك والمعاصي فالعاصي في شقاء، والمعاصي تذل الإنسان وتخرس اللسان وتغير الحال المستقيم وتحل الاعوجاج مكان التقويم 0
(قبح آثار المعاصي :
إن للمعاصي آثارٌ سيئة وعواقب وخيمة وقد تصل العقوبة إلى عمى البصيرة والعياذ بالله فيصير الإنسان هائماً في الضلال ، يتقاعس عن التكليف ولا ينفع فيه وعظٌ ولا تسويف ، يعيش حياته جيفةً بالليل حمارٌ بالنهار ، يعيش عيش البهائم بالليل نائم وبالنهار هائم ، لا يعرفُ من الإسلام إلا اسمه ولا من المصحفِ إلا رسمه .
[*](قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه ذم الهوى :
اعلم أن العقوبة تختلف فتارة تتعجل وتارة تتأخر وتارة يظهر أثرها وتارة يخفى ،
وأطرف العقوبات مالا يحس بها المعاقب وأشدها العقوبة بسلب الإيمان والمعرفة ودون ذلك موت القلوب ومحو لذة المناجاة منه وقوة الحرص على الذنب ونسيان القرآن وإهمال الاستغفار ونحو ذلك مما ضرره في الدين .
وربما دبت العقوبة في الباطن دبيب الظلمة إلى أن يمتلىء أفق القلب فتعمى البصيرة .
وأهون العقوبة ما كان واقعا بالبدن في الدنيا وربما كانت عقوبة النظر في البصر فمن عرف لنفسه من الذنوب ما يوجب العقاب فليبادر نزول العقوبة بالتوبة الصادقة عساه يرد ما يرد .
ومن آثار المعاصي ما يلي : (
(1) حرمان العلم فالعلم نور يقذفه الله فى القلب و المعصية تطفى ذلك النور
(2) وحشة يجدها العاصي فى قلبة بينه و بين الله لا توازنها ولا تقارنها لذة أصلا ولو اجتمعت له لذات الدنيا بأسرها لم تف بتلك الوحشة وهذا لا يحس بها الا من كان فى قلبة حياة .(1/349)
(3) وحشة تحصل بينه و بين الناس لاسيما اهل الخير منهم و كلما قويت تلك الوحشة ابتعد عنهم و عن مجالسهم و حرم بركة الانتفاع بهم.
(4) تعسير أموره عليه فلا يتوجه لأمر إلا يجده مغلقا دونه أو متعسرا عليه.
(5) ظلمة يجدها فى قلبه حقيقة يحس بها كما يحس بظلمة الليل.
(6) المعاصي توهن القلب و البدن فالفاجر و إن كان قوى البدن فإنة أضعف شئ عند الحاجة.
(7) المعاصي تؤدى الى حرمان الطاعة فإنها تصد عن طاعة تكون بدل المعصية.
(8) المعاصي تقصر العمر و تمحق بركته فالبر كما يزيد العمر فالفجور يقصر العمر.
(9) المعاصي تزرع أمثالها ويولد بعضها بعضاً حتى يعز على العبد مقاطعتها و الخروج منها.
(10) المعاصي تضعف القلب عن إرادته فتقوى إرادة المعصية و تضعف إرادة التوبة.
(11) المعاصي باستمرار فعلها تصير عادة فلا يستقبح من يفعلها حتى يفتخر أحدهم بالمعصية و يحدث بها من لم يعلم أنة عملها.
(12) المعصية سبب لهوان العبدعلى ربه و سقوطه من عينه
(13) العاصي يجعل غيره من الناس و الدواب يعود عليهم شؤم ذنبه فيحترق هو و غيره بشؤم الذنوب و الظلم.
(14) المعصية تورث الذل فإن العز فى طاعة الله لا محال
(15) المعاصي تدخل العبد تحت لعنة الرسول صلى الله عليه و سلم كما لعن آكل الربا و لعن شارب الخمر و لعن الواشمةو المستوشمة وغيرهم.
(16) المعاصي تؤدي الى الحرمان من دعاء الرسول صلى الله عليه و سلم و دعاء الملائكة.
(17) تحدث المعاصي فى الأرض أنواعا من فساد المياه و و الهواء و الزروع و الثمار و المساكن و ما يحل بها من الخسف و الزلازل و يمحق بركتها.
(18) تطفئ المعاصي من القلب نار الغيرة.
(19) المعاصي تذهب الحياء الذى هو مادة حياة القلب.
(20) المعاصي تضعف فى القلب تعظيم الرب جل جلالة.
(21) المعاصي تستدعى نسيان الله لعبده و تركه و تخليته بينه و بين نفسه و شيطانه.
(22) العاصي يلقى فى قلبه الرعب و الخوف دائما.(1/350)
(23) ينصرف العاصي عن صحته واستقامته فتجده مريضاً معلولاً لا ينتفع بالأغذية التي بها حياته و صلاحه.
(24) العاصي دائما أسير مسجون مقيد فى يد شيطانه .
[*](أورد الخرائطي رحمه الله تعالى في اعتلال القلوب أن سفيان الثوري كثيرا يتمثل بهذين البيتين :
تفنى اللذاذة ممن نال صفوتها ... من الحرام ويبقى الوزر والعار
تبقى عواقب سوء في مغبتها ... لا خير في لذة من بعدها النار
[*](أورد الخرائطي رحمه الله تعالى في اعتلال القلوب عن مالك بن دينار قال : « بينما أنا أطوف ، بالبيت فإذا بجويرية متعبدة متعلقة بأستار الكعبة وهي تقول : » يا رب ، كم من شهوة ذهبت لذتها ، وبقيت تبعتها ، يا رب ، أما كان لك أدب إلا بالنار ، وتبكي ، فما زالت مقامها حتى طلع الفجر ، فلما رأيت ذلك وضعت يدي على رأسي صارخا أقول : ثكلت مالكا أمه ، وعدمته جويرية من الليلة قد تطلبه »
(توبيخ العاصي :
(أيها العاصي ما أغدرك !
(تسأل الله فيعطيك ، فتستعين بما أعطاك على معصيته ، أو أمنت أن يهتك سترك أو يغضب عليك غضبةً لا يرضى بعدها أبدا ، كيف أمنت هذه الحالة ويمكن وقوعها لا محالة ، أراك ضعيف اليقين يا مؤثر الدنيا على الدين .
( إلى متى تستمر على عصيانه ، وقد غذاك برزقه وإحسانه ، أما خلقك بيده ؟ أما نفخ فيك من روحه ؟ أما علمت فعله بمن أطاعه، وأخذي لمن عصاه ؟ أما تستحي تذكره في الشدائد وفي الرخاء تنساه ؟ عين بصيرتك أعماها الهوى .
هذا حال من لم تؤثر فيه الموعظة، فإلى كم هذا التواني ؟ إن تبت من ذنبك، آتيتك أماني .
اترك دارًا صفوها كدر، وآمالها أماني
( يا من يسير بعمره وقد تعدّى الحدود، إبك على معصيتك فلعلك مطرود . يا من عمره ينتهب وليس الماضي يعود، قد أسمعتك المواعظ من أرشادها نصحًا، وأخبرك الشيب أنك بالموت تقصد وتنحّا، وناداك لسان الاعتبار : { يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا } [ الانشقاق 6 ] .(1/351)
[*](قال مالك بن دينار رحمه الله تعالى : دخلت على جار لي وهو في الغمرات يعاني عظيم السكرات، يُغمى عليه مرة، ويفيق أخرى، وفي قلبه لهيب الزفرات، وكان منهمكًا في دنياه، متخلفًا عن طاعة مولاه، فقلت له : يا أخي، تب إلى الله، وارجع عن غيّك، عسى المولى أن يشفيك من ألمك، ويعافيك من مرضك وسقمك، ويتجاوز بكرمه عن ذنبك . فقال : هيهات هيهات ! قد دنا ما هو آت، وأنا ميّت لا محالة، فيا أسفي على عمر أفنيته في البطالة . أردت أن أتوب مما جنيت، فسمعت هاتفًا يهتف من زاوية البيت : عاهدناك مرارًا فوجدناك غدارًا .
نعوذ بالله من سوء الخاتمة، ونستغفره من الذنوب المتقادمة .
( يا أسير دنياه، يا عابداً لهواه، يا مَوْطِن الخطايا، ويا مِسْتَودِعَ الرزايا، اذكر ما قدّمت يداك، وكن خائفًا من سيدك ومولاك أن يطّلع على باطن زللك وجفاك، فيصدك عن بابه، ويبعدك عن جنابه، ويمنعك عن مرافقة أحبابه، فتقع في حضرة الخذلان، وتتقيد بشرك الخسران، وكلما رُمت التخلص من غيّك وعناك، صاح بك لسان الحال وناداك :
إليك عنا فما تحظى بنجوانا ... يا غادرًا قد لها عنا وقد خانا
أعرضت عنا ولم تعمل بطاعتنا ... وجئت تبغي الرضا والوصل قد بانا
بأي وجه نراك اليوم تقصدنا ... وطال ما كنت في الأيام تنسانا
يا ناقض العهد ما في وصلنا طمع ... إلا لمجتهد بالجدّ قد دانا
(كم عاهدته مرارًا فوجدك غدارًا، أراك ضعيف اليقين ، يا مؤثر الدنيا على الدين .
(أيا كثير الشقاق ،يا قليل الوفاق ،يا مرير المذاق ،يا قبيح الأخلاق ، يا عظيم التواني قد سار الرفاق ، يا شديد التمادي قد صعب اللحاق ، إخلاصك معدم وما للنفاق نفاق ، معاصيك في إدراك والعمر في إمحاق ، وساعي الأجل مجد كأنه في سباق ، لا الوعظ يزجرك ولا الموت ينذرك ما تطاق .(1/352)
(يا من نسي العهد القديم وخان ، من الذي سواك في صورة الإنسان ، من الذي غذاك في أعجب مكان ، من الذي بقدرته استقام الجثمان ، الذي بحكمته أبصرت العينان ،من الذي بصنعته سمعت الأذنان ، من الذي وهب العقل فاستبان للرشد وبان ، من الذي بارزته بالخطايا وهو يستر العصيان ، مَنِ الذي تركت شكره فلم يؤاخذ بالكفران ، إلى كم تخالفه وما يصبر على الخلاف الأبوان ، وتعامله بالغدر الذي لا يرضاه الإخوان ، وتنفق في خِلافه ما عَزَّ وهان ، ولو علم الناس منك ما يعلم : ما جالسوك في مكان ، فارجع إليَّه ما دمت في زمن الإمكان ، وتب إليه فإنه الرحيم الرحمن ، عساه أن يعفو عما سلف وكان من الذنوب والعصيان .
(يا مخدوعاً قد غُبِن ، يا مفتوناً قد فُتِن ، مَنْ لكَ إذا سُوِّيَ عليك اللَبِن .
(يا حليف النوم والوسادة ، يا أسير الشهوات وقد نسي مَعَادَه ، يا قليل الزاد مع قُربِ مماته ، أما آن لك أن تفِيق من تلك الرُقَادة ، لقد ربح القوم وأنت نائم ، وَخِبْتَ ورجعوا بالغنائم ، بالليل نائم وبالنهار هائم وتعيش عيش البهائم ، ثم تدعي أنك فاهم وأنت لا شك واهم .
( يا مَنْ شاب وما تاب ، أموقنٌ أنت أم مُرْتاب ، مَنْ آمن بالسؤالِ فليُعدَّ له جواب ، وللجواب صواب .
(يا مَنْ كلما طال عمره زاد ذنبه ، يا مَنْ كلما ابيض شَعْرُه اسوَّدَ بالآثام قلبه .
( يا مَنْ ضيَّعَ عمرَه في غير طاعة ، يا مَنْ بضاعته التسويف والتفريط فَبِئْسَت البضاعة ، إلى متى هذا التسويف ، ولا ينفعُ فيك وعظٌ ولا تعنيف ، إذا وُعِظت لم تنتفع وإذا رُدِعْتَ لم ترتدع ، وإذا لم تجد جواباً قلت لم أقتنع ، هذا كتاب الله لو أُنزل على جبلٍ رأيته يتصدع ، ومع ذلك فلا قلبٌ لك يخشع ولا عينُ تدمع ، أين الخشوع والخضوع أين البكاء وجَرَيانُ الدموع أين التوبةُ والرجوع .(1/353)
(أما بان لك العيب ، أما أنذرك الشيب ، وما في نُصحه ريب ، أما اعتبرت بمن رحل أما وعظتك العبر أما كان لك سمعٌ ولا بصر 0
(إلى متى هذا التواني، يا مغروراً بالأماني .
(إلى متى هذا الإعراض والعمر في انقراض .
(إلى متى هذا التقصير ، وإلى البلى المصير ، أو ما علمت أن العمر قصير ولم يبق منه إلا اليسير ، فتزود للسفر الطويل ، ولا تتكلم بغير تفكير ولا تعمل بغير تدبير ، ولا يشغلنك أحدٌ عن جد المَسِيْر ، ولا تُضَيِّعُ الأوقات النفيسة في الأفعال الخسيسة ، الدنيا ساعة فاجعلها طاعة والنفس طماعة فَرَوِّضْهَا القناعة .
(أو ما علمت أن معالي الأُمور لا تنال بالفتور ، وإنما تنال بالجد والاجتهاد والتشمرِ ليومِ المعاد ، وخلعِ الراحة واستفراغ الوسع في الطاعة ، أو ما علمت أن من جد وجد ومن زرع حصد ، وليس من سهر كمن رقد والأمور تحتاج إلى وثبة أسد ، فإذا عزمت فبادر وإذا هممت فثابر ، واعلم أنه لا يدرك المفاخر من كان في الصف الآخر .
(أيها العبد انظر بعين فكرك وعقلك ، هل تجد سبيلا لخلاص مثلك ، مع إقامته على فعلك ، أين اعتبارك بانطلاق أسلافك ، أين فكرك في فراق ألافك ،متى تنتقل على قبيح خلافك .
(يا كثير السيئات غدا ترى عملك ، يا هاتك الحرمات إلى متى تديم زللك ، أما تعلم أن الموت يسعى في تبديد شملك أما تخاف أن تؤخذ على قبيح فعلك .
(يا مبارزا بالذنوب خذ حذرك وتوق عقابه بالتقى فقد أنذرك ، وخل الهوى فإنه كما ترى إلى الردى صَيَرَك .(1/354)
(يا من يرجو الثواب بغير عمل ، ويرجئ التوبة بطول الأمل ، أتقول في الدنيا قول الزاهدين ، وتعمل فيها عمل الراغبين ،لا بقليل منها تقنع ولا بكثير منها تشبع، لا تثق من الرزق بما ضُمِنَ لك ، ولا تعمل من العمل ما فرض عليك ، تستكثر من معصية غيرك ما تحقره من نفسك ، أما تعلم أن الدنيا كالحية لين لمسها والسم الناقع في جوفها، يهوى إليها الصبي الجاهل ويحذرها ذو اللب العاقل، كيف تقر بالدنيا عين من عرفها وما أبعد أن يفطم عنها من ألفها .
(واعجباً لك من راحل تركت الزاد في غير رحلك ، أين فطنتك ويقظتك وتدبير عقلك .
(أما بارزت بالقبيح فأين الحَزَن ،أما علمت أن الحق يعلم السر والعلن ،ستعرف خبرك يوم ترحل عن الوطن وستنتبه من رقادك ويزول هذا الوسن.
(اجتهد في تقوية يقينك قبل خسر موازينك ، وقم بتضرعك وخيفتك قبل نشر دواوينك، وتَقَرَب إليه في ضعفك ولينك .
(قل للمذنبين تأملوا العواقب ، الآثام تبقى وتفنى الأطايب ، والذنوب تحصى وما يغفل الكاتب، والسهم مفوق والرامي صائب، واللذات وإن نيلت فبعدها المصائب ، فليتدبر العاقل وليحضر الغائب .
(يا مشغولاً بذنوبك، يا مغموراً بعيوبك، يا غافلا عن مطلوبك ، كيف نسيت قبيح مكتوبك ، لا بد عن سؤالك عن مطعومك ومشروبك ، ألا تتفكر في فراقك لمحبوبك ألا تتذكر النعش قبل ركوبك .
(يا من يبارز مولاه بما يكره ، ويخالفه في أمره آمناً مكره ، وينعم عليه وهو ينسى شكره ، والرحيل قد دنا وماله فيه فكرة ، يا من قبائحه ترفع عشياً وبكرة ، يا قليل الزاد ما أطول السفرة ، والنقلة قد دنت والمصير الحفرة ،(1/355)
(متى تعمل في قلبك المواعظ متى تراقب العواقب وتلاحظ ، أما تحذر من أوعد وهدد ، أما تخاف من أنذر وشدد ، متى تضطرم نار الخوف في قلبك وتتوقد ،إلى متى بين القصور والتواني تتردد، متى تحذر يوماً فيه الجلود تشهد، متى تترك ما يفنى رغبة فيما لا ينفد ، متى تهب بك ريح الخوف كأنك غصن يتأود ،البدار البدار إلى الفضائل ،والحذار الحذار من الرذائل فإنما هي أيام قلائل .
(يا سكران الهوى وإلى الآن ما صحا ،يا مفنياً زمانه الشريف لهوا ومرحا ، يا معرضا عن لوم من لام وعتب من لحا ، متى يعود هذا الفاسد مصلحا، متى يرجع هذا الهالك مفلحا ،لقد أتعبت النصحاء الفصحاء ،أما وُعِظْتَ بما يكفي أما رأيت من العبرة ما يشفي، فانظر لنفسك قبل أن يعمى الناظر، وتفكر في أمرك بالقلب الحاضر ولا تساكن الفتور فإنك إلى مسكن القبور صائر، فالحي للممات والجمع للشتات والأمر ظاهر .(1/356)
(يا من يُدعى إلى نجاته فلا يجيب ، يا من قد رضي أن يخسر ويخيب ، إن أمرك طريف وحالك عجيب ،اذكر في زمان راحتك ساعة الوجيب ، ويحك إن الحق حاضر ما يغيب، تحصى عليك أعمال الطلوع وأفعال المغيب، ضاعت الرياضة في غير نجيب ،سيماك تدل وما يخفى المريب، لا بد لغربان الفراق من نعيب، أنساكن الغفلة ولغيرنا نعيب ،يا من سِلَعَهُ كلها معيب اذكر يوم الفزع والتأنيب لا بد والله من فراق العيش الرطيب ، والتحاف البلى مكان الطيب ، واعجباً للذات بعد هذا كيف تطيب، ويحك أحضر قلبك لوعظ الخطيب ، تذكر من قد أصيب ،كيف نزل بهم يوم عصيب ، وانتبه لأحظ الحظ والنصيب ، واحترز فعليك شهيد ورقيب، ستخرج والله من هذا الوادي الرحيب ،ولا ينفعك البكاء والنحيب، لا بد من يوم يتحير فيه الشبان والشيب ،ويذهل فيه الطفل للهول ويشيب، يا من عمله كله رديء فليته قد شيب ، كيف بك إذا أحضرت في حال كئيب ،وعليك ذنوب أكثر من رمل كثيب، والمهيمن الطالب والعظيم الحسيب ،فحينئذ يبعد عنك الأهل والنسيب ،النوح أولى بك يا مغرور من التشبيب، أتؤمن أم عندك تكذيب، أم تراك تصبر على التعذيب،كأنك بدمع العين ومائها قد أذيب، اقبل نصحي وأقبل على التهذيب يا مطالباً بأعماله ،يا مسئولاً عن أفعاله،يا مكتوباً عليه جميع أقواله، يا مناقشاً على كل أحواله، نسيانك لهذا أمر عجيب، أتسكن إلى العافية وتساكن العيشة الصافية وتظن أيمان الغرور واقية لا بد من سهم مصيب .
(يا متحيرا في طريقه قد بان البيان،يا بليد الاعتبار وقد أنذره الأقران ،يا من تقرع قلبه المواعظ وهو قاس ما لان ،لو حضرت بالذهن كفاك زجر القرآن.
(يا من راح في المعاصي وَغَدَا ، ويقول سأتوب اليوم أو غدا، كيف تجمع قلباً قد صار في الهوى مبددا ، كيف تلينه وقد أمسى بالجهل جلمدا، كيف تحثه وقد راح بالشهوات مقيداً، لقد ضاع قلبك فاطلب له ناشدا ، تفكر بأي وجه تتلقى الردى تذكر ليلة تبيت في القبر منفرداً.(1/357)
(يا من في حلل جهله يرفل ويميس ، يا مؤثراً الرذائل على أنفس نفيس ، يا طويل الأمل ماذا صنع الجليس، يا كثير الخطايا أشْمَتَّ إبليس ،من لك إذا فاجأك مُذِلُ الرئيس ،واحتوشتك أعوان ملك الموت وحمى الوطيس ، ونقلت إلى لحد مالك فيه إلا العمل أنيس .
(يا من عمره كلما زاد نقص ، يا من يأمن الموت وكم قد قنص، يا مائلاً إلى الدنيا هل سلمت من نغص، يا مُفَرِّطَاً في الوقت هلا بادرت الفرص، يا من إذا ارتقى في سلم الهدى فلاح له الهوى نكص ،من لك يوم الحشر إذا نُشرت القصص، ذنوبك كثيرة جمة، ونفسك بغير الصلاح مهتمة ،وأنت في المعاصي إمام وأمة، يا من إذا طلب في المتقين لم يوجد ثمة، متى تنقشع هذه الظلمة والغمة، يا من قد أعماه الهوى ثم أصمه، يا من لا يفرق بين المديح والمذمة،يا من باع فَرَحَه ثم اشترى غَمَه، يا عقلاً خرباً يحتاج إلى مرمة .
(يا من يجول في المعاصي قلبه وهمه ،يا مؤثر الهوى على التقى لقد ضاع حزمه، يا معتقدا صحته فيما هو سقمه ، يا من كلما زاد عمره زاد إثمه ،يا طويل الأمل وقد رق عظمه، أما وعظك الزمان وزجرك ملمه ،أين الشباب قل لي قد بان رَسْمُه، أين زمان المرح لم يبق إلا اسمه ، أين اللذة ذهب المطعوم وطعمه، كيف يقاوي المقاوي والموت خصمه ، كيف خلاص من قد أغرق فيه سهمه، يا لديغ الأمل قد بالغ فيه سمه،يا قليل العبر وقد رحل أبوه وأمه، يا من سيجمعه اللحد عن قليل ويضمه ، كيف يوعظ من لا يعظه عقله ولا فهمه، كيف يوقظ من نام قلبه لا عينه ولا جسمه.
(يا من قد سارت بالمعاصي أخباره ، يا من قد قبح إعلانه وإسراره ، فقيراً يا من الهدى أهلكه إعساره، أتؤثر الخسران قل لي أو تختاره ،يا كثير الذنوب وقد دنا إحضاره ،يا مأسورا في حبس الزلل لا ينفعه إحصاره، نقدك بهرج إذا حك معياره، كم رد على مثلك درهمه وديناره، يا محترقاً بنار الهوى متى تخبو ناره .(1/358)
(أيها المقيم على الخطايا والعصيان، التارك لما أمرك الرحمن، المطيع للغويّ الفتان، إلى متى أنت على جرمك مصرّ، ومما يقرّبك إلى مولاك تفرّ ؟ تطلب من الدنيا ما لا تدركه، وتتقي من الآخرة ما لا تملكه، لا أنت بما قسم الله من الرزق واثق، ولا أنت بما أمرك به لاحق .
يا أخي، الموعظة، والله لا تنفعك، والحوادث لا تردعك . لا الدهر يدعك، ولا داعي الموت يسمعك، كأنك يا مسكين لم تزل حيًا موجودًا، كأنك لا تعود نسيًا مفقودًا .
فاز، والله، المُخِفُّون من الأوزار، وَسَلَمَ المتقون من عذاب النار، وأنت مقيم على كسب الجرائم والأوزار .
(أخي الحبيب:
أعرض عن غيّك وهواك وأقبل مولاك الذي خلقك فسوَّاك ويعلم سِرَك ونجواك ، وواصل بقية العمر بوظائف الطاعات، واصبر على ترك عاجل الشهوات، فالفرار أيها المكلف كل الفرار من مواصلة الجرائم والأوزار، فالصبر على الطاعة في الدنيا أيسر من الصبر على النار .
(ولله درُ من قال :
أمولاي إني عبد ضعيف ... أتيتك أرغب بما لديك
أتيتك أشكو مصاب الذنوب ... وهل يشتكى الضر إلا إليك
فمنّ بعفوك يا سيّدي ... فليس اعتمادي إلا عليك
[*](قال بعض الأخيار لولده لما حضرته الوفاة : يا بنيّ، اسمع وصيتي، واعمل ما أوصيك به . قال نعم يا أبت .
قال يا بنيّ : اجعل في عنقي حبلًا، وجرّني إلى محرابي، ومرّغ خدي على التراب، وقل : هذا جزاء من عصى مولاه، وآثر شهوته وهواه، ونام عن خدمة مولاه .
قال : فلما فعل ذلك به، رفع طرفه إلى السماء وقال : إلهي وسيدي ومولاي، قد آن الرحيل إليك، وأزف القدوم عليك، ولا عذر لي بين يديك، غير أنك الغفور وأنا العاصي، وأنت الرحيم وأنا الجاني، وأنت السيد وأنا العبد، ارحم خضوعي وذِلتي بين يديك، فإنه لا حول ولا قوة إلا بك .
قال : فخرجت روحه في الحال، فإذا بصوت ينادي من زاوية البيت سمعه كل من حضر وهو يقول : تذلل العبد لمولاه، واعتذر إليه مما جناه، فقرّبه وأدناه وجعل الجنة مأواه .
(أخي الحبيب:(1/359)
( أما آن لك أن تنتبه من غفلتك .
(أما آن لك أن تُصْلِحَ الفاسدَ وتُرَقِّعَ الخَرْقَ وَتَسُدُ الثّغْر .
( أما آن لك أن تؤاخذ نفسك بتقصيرها وتحاسبها على تفريطها .
( أما آن لك أن تخلع عنك الكسل وترتدي ثوب الجد والنشاط .
( أما آن لك أن تخلع عنك الراحة وتستفرغ الوِسْعَ في الطاعة .
( أما آن لك أن تخشى الرحمن وتمتثل القرآن ، وتنسلخ من العصيان واستحواذ الشيطان ، وتُفيق من نومك قبل فوات الأوان .
(أما آن لك أن تُقبل على النصائح ، وتتقرَّب إلى الله تعالى بالمنائح .
( أما آن لك أن تُقْلِعَ عن هواك وترجع إلى ربك الذي خلقك فسواك ويعلم سرك ونجواك .
( أما آن لك أن تحفظ لحفظ الرأس وما وعى ، والبطن وما حوى وأن تتذكر الموت والبلى فنستحي من الله حق الحيا ، أما اعتبرت بمن نُقِل إلى دار البِلى ، أما اعتبرت بوضعه تحت الثرى ، المدفوع إلى هول ما ترى .
( أما آن لك أن تفعل المأمور وتترك المحظور وتصبر على المقدور وتتذكر البعث والنشور ، أما لو تفكرت في قبركِ المحفور ، وما فيه من الدواهي والأمور ، تحت الجنادلِ والصخور ، لعلمت موقناً أنك ما كنت إلا في غرور ، فتندم ندماً لا يخطرُ على الصدور ، ولا يُكْتَبُ بالسطور ، لكنه ندمٌ لا يدفعُ ولا يمنع ، ولا ينفعُ في أي أمرٍ من الأمور .
( أما آن لك أن تَصُون قلبك مِن الْخَرَابِ ، وَتَحْفَظ دينك مِنَ التَّلاشِي وَالذِّهَابِ ، وَتَرْجُو رِضَا رَبكْ وَعَفْوَهُ يَوْمَ وَالْحِسَابِ ، أما كان لك عبرةٌ فيمن ماتوا ودُفِنوا تحت التراب ، كيف فُجِعَ بِهِم الأَحْبَاب ، وأكثروا عليهم البكاء والانتحاب ، وسَكَنُوا التُراب ، وظَعَنُوا فليسَ لهم إِياب .(1/360)
( أما آن لك أن تنتبه من غفلتك فإليك يوجه الخطاب ، وتُفِيق من نومك قبل أن تناخ للرحيل الركاب قبل هجوم اللذات ومفرق الجماعات ومذل الرقاب ، ومشتِِّت الأحباب ، أما تذكر ما أمامك من شدة الحساب وشر المآب ، فيا له من زائر لا يعوقه عائق ، ولا يضرب دونه حجاب ، ويا لَهُ من نازل لا يستأذن على الملوك ولا يلج من الأبواب ، ولا يرحم صغيرًا ولا يوقر كبيرًا ، ولا يخاف عظيمًا ولا يهاب ، ألا وإن بعده ما هُوَ أعظم منه من السؤال والجواب ، وراءه هول البعث والحشر وأحواله الصعاب من طول المقام والازدحام فِي الأجسام والميزان والصراط والحساب والْجَنَّة أَوْ النار .
(فيا خَجَلة من سئل فَعُدِمَ الجواب ، ويا حَسْرَة من نوقش عن الدقيق والجليل يوم الحساب ، ويا ندامة من لم يحصل إِلا على الْغَضَب من الكريم الوهاب .
( ويا ويلةَ من كانت وجوههم مسودة لسوء الحساب ، والزبانية تقمعهم فيذوقون أليم العقاب ، فياله من يومٍ شديد َيَشْتَدُّ فِيهِ الْحِسَابُ ، وَيُشْفَقُ فِيهِ العذاب ، يومٌ تخضعُ فيه الرِّقَابُ ويَذَلُ فيه كُلُّ فَاجِرٍ كَذَّابِ ويَرَجَعُ الأَشْقِيَاءُ بِالْخُسْرَانِ وَالتَّبَابِ ،
( فيا ساكنا عن الصواب ، كيف بك إذا وقفت للحساب بين يدي سريع الحساب ، هل أعددت للسؤال جواب ، ألم تخفْ سوء الحساب يوم المآب .
(كيفية الوقاية من الذنوب :
للوقاية من الذنوب أعمالاً عظيمة من أجلها ما يلي : (
(1) إقامة الصلاة لقوله تعالى : (اتْلُ مَا أُوْحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصّلاَةَ إِنّ الصّلاَةَ تَنْهَىَ عَنِ الْفَحْشَآءِ وَالْمُنْكَرِ) [العنكبوت: 45]، فإذا أقام الإنسان صلاته بأن أتى بها كاملة بشروطها وأركانها وواجباتها وما أمكنه من مستحباتها ومن أهم وسائل إقامتها الخشوع فيها وهو حضور القلب وعدم تحديث النفس والوساوس والهواجس، فإنها من أسباب منعه عن كبائر الذنوب وصغائرها.(1/361)
(2) قراءة ما يتحصن به من الشياطين كقراءة آية الكرسي قال تعالى: (اللّهُ لاَ إِلََهَ إِلاّ هُوَ الْحَيّ الْقَيّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لّهُ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ مَن ذَا الّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مّنْ عِلْمِهِ إِلاّ بِمَا شَآءَ وَسِعَ كُرْسِيّهُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيّ الْعَظِيمُ) [سورة: البقرة - الأية: 255]، فإن من قرأها في ليلة لم يزل عليه من الله حافظ ولا يقربه شيطان حتى يصبح،(1/362)
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري )قال: وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان ، فأتاني آت ، فجعل يحثو من الطعام، فأخذته وقلت: والله لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال: إني محتاج وعلي عيال ولي حاجة شديدة، قال: فخليت عنه، فأصبحت فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة). قال: قلت: يا رسول الله، شكا حاجة شديدة، وعيالا فرحمته فخليت سبيله ، قال: (أما إنه قد كذبك، وسيعود). فعرفت أنه سيعود، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنه سيعود). فرصدته، فجاء يحثو من الطعام، فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: دعني فإني محتاج وعلي عيال، لا أعود، فرحمته فخليت سبيله، فأصبحت فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أباهريرة ما فعل أسيرك). قلت: يا رسول الله شكا حاجة شديدة وعيالا، فرحمته فخليت سبيله، قال: (أما إنه كذبك، وسيعود). فرصدته الثالثة، فجاء يحثو من الطعام، فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله، وهذا آخر ثلاث مرات تزعم لا تعود، ثم تعود، قال: دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها، قلت ما هو؟ قال: إذا أويت إلى فراشك، فاقرأ آية الكرسي: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم}. حتى تختم الآية، فإنك لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربنك شيطان حتى تصبح، فخليت سبيله فأصبحت، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما فعل أسيرك البارحة). قلت: يا رسول الله، زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها فخليت سبيله، قال: (ما هي). قلت: قال لي: إذا أويت إلى فراشك، فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم}. وقال لي: لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح - وكانوا أحرص شيء على الخير - فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أما إنه قد صدقك وهو كذوب، تعلم من تخاطب منذ ثلاث ليال يا أبا هريرة).(1/363)
قال: لا، قال: (ذاك شيطان).
(3) إذا هم بالذنب فإنه يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم لقوله تعالى : قال تعالى: (وَإِماّ يَنَزَغَنّكَ مِنَ الشّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [الأعراف: 200]
وما أحسن أن تقول بصدق (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، اللهم اعصمني من الزلل ووفقني لصالح العمل ).
(4) الصدقة على مساكين البيت الحرام :
مسألة : هل تجوز الصدقة على المساكين الموجودين في بيت الله الحرام؟
الصدقة في المسجد الحرام وفي غيره من الأماكن لا بأس بها.
ومن المعلوم أن أهل العلم يقولون إن الحسنة تضاعف بالمكان الفاضل.
ولكن الأمر الذي يهم المرء هو هل هؤلاء الفقراء الذين يتظاهرون بالفقر هم فقراء حقيقة؟ هذا هو الذي يشكل على المرء ولكن إذا غلب على ظن الإنسان أن هذا فقير فأعطاه فإنها مقبولة ولو تبين بعد ذلك أنه غني.
وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد ، ودرر الفرائد . (
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت الثابت في الصحيحين) أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : قال رجل لأتصدقن بصدقة، فخرج بصدقته، فوضعها في يد سارق، فأصبحوا يتحدثون تُصدِّق على سارق، فقال: اللهم لك الحمد، لأتصدقن بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد زانية، فأصبحوا يتحدثون تُصدِّق الليلة على زانية، فقال: اللهم لك الحمد، على زانية؟ لأتصدقن بصدقة، فخرج بصدقته. فوضعها في يدي غني، فأصبحوا يتحدثون تُصدِّق على غني، فقال: اللهم لك الحمد، على سارق، وعلى زانية، وعلى غني، فأُتي فقيل له: أما صدقتك على سارق فلعله أن يستعفَّ عن سرقته، وأما الزانية: فلعلها أن تستعف عن زِناها، وأما الغني: فلعله يعتبرُ، فينفق مما أعطاه الله .(1/364)
(وعليه فالصدقة على هؤلاء لا بأس بها ولو في المسجد الحرام، إلا إذا علم أن في ذلك مفسدة وأن إعطاءهم يوجب كثرتهم ومضايقتهم للناس في المسجد الحرام فحينئذٍ يتوجه بأن يقال لا يُعطون لما في هذا من السبب الموصل إلى هذا المحظور.
(الأدوية التي تزهدك في المعاصي :
مسألة : ما هي أنفع الأدوية التي تزهدك في المعاصي إذا عرض لك مرض المعصية وتذكرت لذتها ؟
أنفع الأدوية من إذا عرض لك مرض المعصية وتذكرت لذتها هي ما يلي : (
(1) إذا تذكرت لذة المعصية فأدر في تلذذك ذكر مرارة الموت الذي سماه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هاذم اللذات وتذكر شدة النزع وتفكر في الموتى الذين حبسوا على أعمالهم ليجازوا بها فليس فيهم من يقدر على محو خطيئة ولا على زيادة حسنة فلا تعث يا مطلق .
[*](أورد الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه ذم الهوى عن مخلد بن الحسين قال عدت مريضا فقلت له كيف تجدك قال هو الموت قلت وكيف علمت أنه الموت ؟ قال أجدني أجتذب اجتذابا وكأن الخناجر مختلفة في جوفي وكأن جوفي تنور محمى يتلهب .
قلت فاعهد .
قال أرى الأمر أعجل من ذلك .
فدعا بدواة وصحيفة فوالله ما أتى بها حتى شخص بصره فمات .
وقال إبراهيم بن يزيد العبدي أتاني رياح القيسي فقال يا أبا إسحاق انطلق بنا إلى أهل الآخرة نحدث بقربهم عهدا فانطلقت معه فأتى إلى المقابر فجلسنا إلى بعض تلك القبور فقال يا أبا إسحاق ما ترى هذا متمنيا لو منى قلت أن يرد والله إلى الدنيا فيستمتع من طاعة الله ويصلح .
قال فها نحن ثم نهض فجد واجتهد فلم يلبث إلا يسيرا حتى مات .
(2) وصور لنفسك حين اعتراض الهوى عرضك على ربك وتخجيله إياك بمضيض العتاب على فعل ما نهاك عنه .
وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد ، ودرر الفرائد . ((1/365)
(حديث عدي بن حاتم الثابت في الصحيحين) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( ليس منكم من أحدٍ إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان ، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدَّم وينظر أشأمَ منه فلا يرى إلا ما قدَّم وينظر بين يديه فلا يرى إلا النارَ تلقاءَ وجهِهِ ، فاتقوا النارَ ولو بشقِ تمرة. )
(حديث ابن عمر الثابت في الصحيحين) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن الله تعالى يدني المؤمن فيضع عليه كنفه ويستره ، يقول : أتعرف ذنب كذا ؟ أتعرف ذنب كذا ؟ فيقول : نعم أي رب حتى إذا قرره بذنوبه و رأى في نفسه أنه قد هلك قال : سترتها عليك في الدنيا و أنا أغفرها لك اليوم; و أما المنافق والكافر فيقول الأشهاد : هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين .
(3) وتخايل شهادة المكان الذي تعصي فيه عليك يوم القيامة :
(4) ومثل في نفسك عند بعض زللك كيف يؤمر بك إلى النار التي لا طاقة لمخلوق بها وتصور نفاد اللذة وبقاء العار والعذاب فقد قال الشاعر .
تفنى اللذاذة ممن نال شهوته ... من الحرام ويبقى الإثم والعار
تبقى عواقب سوء في مغبتها ... لا خير في لذة من بعدها النار
(ثم اسأل نفسك هل لك طاقة على النار وأنت تعلم أن نار الدنيا جزء من سبعين جزء من نار جهنم ، وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد ، ودرر الفرائد . (
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :ناركم جزء من سبعين جزءا من نار جهنم . قيل: يا رسول الله، إن كانت لكافية، قال: (فضلت عليهن بتسعة وستين جزءا، كلهن مثل حرها.
[*] قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح :(1/366)
( ناركم جزء ) : زاد مسلم في روايته جزء واحد قوله من سبعين جزءا في رواية لأحمد من مائة جزء والجمع بأن المراد المبالغة في الكثرة لا العدد الخاص أو الحكم للزائد ، زاد الترمذي من حديث أبي سعيد لكل جزء منها حرها قوله أن كانت لكافية أن هي المخففة من الثقيلة أي أن نار الدنيا كانت مجزئة لتعذيب العصاة قوله فضلت عليهن كذا هنا والمعنى على نيران الدنيا وفي رواية مسلم فضلت عليها أي على النار قال الطيبي ما محصله إنما أعاد صلى الله عليه وسلم حكاية تفضيل نار جهنم على نار الدنيا إشارة إلى المنع من دعوى الأجزاء أي لا بد من الزيادة ليتميز ما يصدر من الخالق من العذاب على ما يصدر من خلقه قوله مثل حرها زاد أحمد وابن حبان من وجه آخر عن أبي هريرة وضربت بالبحر مرتين ولولا ذلك ما انتفع بها أحد ونحوه للحاكم وابن ماجة عن أنس وزادا فإنها لتدعو الله أن لا يعيدها فيها وفي الجامع لابن عيينة عن بن عباس رضي الله عنهما هذه النار ضربت بماء البحر سبع مرات ولولا ذلك ما انتفع بها أحد أهـ.
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : يؤتى بجهنم يوم القيامة لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها .
[*] قَالَ النَّوَوِيُّ رحمه الله تعالى : جَهَنَّمُ اسْمٌ لِنَارِ الْآخِرَةِ قَالَ يُونُسُ وَأَكْثَرُ النَّحْوِيِّينَ: هِيَ عَجَمِيَّةٌ لَا تَنْصَرِفُ لِلْعُجْمَةِ وَالتَّعْرِيفِ. وَقَالَ آخَرُونَ: هِيَ عَرَبِيَّةٌ لَمْ تُصْرَفْ بِالتَّأْنِيثِ وَالْعَلَمِيَّةِ وَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِبُعْدِ قَعْرِهَا. قَالَ رُؤْبَةُ يُقَالُ بِئْرٌ جِهْنَامٌ أَيْ بَعِيدَةُ الْقَعْرِ. وَقِيلَ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْجُهُومَةِ وَهِيَ الْغِلَظُ، يُقَالُ جَهَنَّمُ الْوَجْهُ أَيْ غَلِيظُهُ فَسُمِّيَتْ جَهَنَّمُ لِغِلَظِ أَمْرِهَا، انْتَهَى.(1/367)
[*] وقال العلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:
( لَهَا سَبْعُونَ أَلْفَ زِمَامٍ ) بِكَسْرِ الزَّايِ وَهُوَ مَا يُشَدُّ بِهِ. وَقَالَ فِي الْمَجْمَعِ: الزِّمَامُ مَا يُجْعَلُ فِي الجزء السابع أَنْفِ الْبَعِيرِ دَقِيقًا، وَقِيلَ: مَا يُشَدُّ بِهِ رُءُوسُهَا مِنْ حَبْلٍ وَسَيْرٍ، انْتَهَى
( يَجُرُّونَهَا ) بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ أَيْ يَسْحَبُونَهَا. قَالَ فِي اللُّمَعَاتِ: لَعَلَّ جَهَنَّمَ يُؤْتَى بِهَا فِي الْمَوْقِفِ لِيَرَاهَا النَّاسُ تَرْهِيبًا لَهُمْ .
[*](قال وهب بن منبه : إذا سيرت الجبال فسمعت حسيس النار نقيضها وزفيرها وشهيقها صرخت الجبال كما تصرخ النساء ثم يرجع أوائلها على أواخرها يدق بعضها بعضاً 0
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ سمع وجبة فقال النبي صلى الله عليه وسلم تدرون ما هذا ؟ قال قلنا الله ورسوله أعلم ، قال هذا حجر ُرِمىَ به في النار منذ سبعين خريفا فهو يهوى في النار الآن حتى انتهى إلى قعرها فسمعتم وَجْبَتَها .
[*] قال الإمام النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم :
(سمع وجبة) هي بفتح الواو وإسكان الجيم وهي السقطة .
(حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن أهون أهل النار عذاباً يوم القيامة لرجل، توضع في أخمص قدميه جمرة، يغلي منها دماغه ، ما يرى أن أحداً أشدَّ منه عذاباً وإنه لأهونهم عذابا.
[*] قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح :
يغلي منه دماغه : ووقع في حديث بن عباس عند مسلم إن أهون أهل النار عذابا أبو طالب له نعلان يغلي منهما دماغه ولأحمد من حديث أبي هريرة مثله لكن لم يسم أبا طالب وللبزار من حديث جابر قيل للنبي صلى الله عليه وسلم هل نفعت أبا طالب قال اخرجته من النار الى ضحضاح منها .(1/368)
(حديث أبي سعيد في الصحيحين) أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - وذكر عنده عمه ،فقال لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة فيجعل في ضحضاح من النار يبلغ كعبيه يغلي منه أم دماغه - يعني أبا طالب - .
( حديث العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أنه قال * يا رسول الله هل نفعت أبا طالب بشيء فإنه كان يحوطك ويغضب لك ؟ قال نعم هو في ضحضاح من نار ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار .
[*] قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح :
ضحضاح : أصله ما رق من الماء علي وجه الأرض واستعير هنا للنار .
( حديث سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : "مِنْهُمْ مَنْ تَأْخُذُهُ النّارُ إِلَىَ كَعْبَيْهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ تَأْخُذُهُ النّارُ إِلَىَ رُكْبَتَيْهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ تَأْخُذُهُ النّارُ إِلَىَ حُجْزَتِهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ تَأْخُذُهُ النّارُ إِلَىَ تَرْقُوَتِهِ".
[*] قال الإمام النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم :
وَمِنْهُمْ مَنْ تَأْخُذُهُ النّارُ إِلَىَ حُجْزَتِهِ : ومنهم من تأخذه يعني النار إلى حجزته" هي بضم الحاء وإسكان الجيم وهي معقد الإزار والسراويل .
وَمِنْهُمْ مَنْ تَأْخُذُهُ النّارُ إِلَىَ تَرْقُوَتِهِ : وهي بفتح التاء وضم القاف وهي العظم الذي بين ثغرة النحر والعاتق، وفي رواية حقويه بفتح الحاء وكسرها وهما معقد الإزار، والمراد هنا ما يحاذي ذلك الموضع من جنبيه.
وروي عن كعب الأحبار أنه قال: ( والذي نفس كعب بيده لو كنت بالمشرق والنار بالمغرب ثم كُشف عنها لخرج دماغك من منخريك من شدة حرها! فيا قوم هل لكم بهذا قرار؟ أم لكم على هذا صبر؟ يا قوم إن طاعة الله أهون عليكم والله من هذا العذاب فأطيعوه ) أ. هـ.
طعام أهلها الزقوم وشرابهم الحميم.(1/369)
[*](أورد الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه ذم الهوى عن قسامة بن زهير قال خطبنا أبو موسى فقال يا أيها الناس ابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا فإن أهل النار يبكون الدموع حتى تنقطع ثم يبكون الدماء حتى لو أرسلت فيها السفن لجرت .
[*](وأورد الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه ذم الهوى عن وهب بن منبه أنه قال إذا سيرت الجبال فسمعت حسيس النار وتغيظها وزفيرها وشهيقها صرخت الجبال كما تصرخ النساء ثم ترجع أوائلها على أواخرها يدق بعضها بعضا .
[*](وأورد الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه ذم الهوى عن مجاهد عن عبيد بن عمر قال إن أهون أهل النار عذابا رجل له نعلان من نار وشرا كان من نار أضراسه جمر ومسامعه جمر أشفار عينيه من لهيب النار تخرج أحشاؤه من قدميه وسائرهم كالحب القليل في الماء الكثير فهي بهم تفور .
[*](وأورد الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه ذم الهوى أن بشر الحافي قال : ما ظنكم بأقوام وقفوا بين يدي الله تعالى مقدار خمسين ألف سنة لم يأكلوا ولم يشربوا حتى تقطعت أكبادهم من العطش وأجوافهم من الجوع وأعناقهم من التطاول ورجوا الفرج فأمر بهم إلى النار .
(5) النظرر في العواقب :
من أنفع الأدوية التي تزهدك في المعاصي البصر في العواقب .
[*](قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه صيد الخاطر :
من عاين بعين بصيرته تناهي الأمور في بداياتها ،نال خيرها ، و نجا من شرها . و من لم ير العواقب غلب عليه الحسن ، فعاد عليه بالألم ما طلب منه السلامة ، و بالنصب ما رجا منه الراحة .
بيان هذا في المستقبل ، يتبين بذكر الماضي ، و هو أنك لا تخلو ، أن تكون عصيت الله في عمرك ، أو أطعته . فأين لذة معصيتك ؟ و أين تعب طاعتك ؟ هيهات رحل كل بما فيه ! فليت الذنوب إذ تخلت خلت !(1/370)
وأزيدك في هذا بياناً مثل ساعة الموت ، و انظر إلى مرارة الحسرات على التفريط ، و لا أقول كيف تغلب حلاوة اللذات ، لأن حلاوة اللذات استحالت حنظلا ، فبقيت مرارة الأسى بلا مقاوم ، أتراك ما علمت أن الأمر بعواقبه ؟ فراقب العواقب تسلم ، و لا تمل مع هوى الحسن فتندم .
(عباد الله النظر النظر إلى العواقب ، فإن اللبيب لها يراقب،أين تعب من صام الهواجر ،وأين لذة العاصي الفاجر ،رَحِلَتْ اللذة من الأفواه إلى الصحائف، وذهب نَصَبُ الصالحين بجزَعِ الخائف، فكأن لم يتعب من صَابَرَ اللذات وكأن لم يلتذ من نال الشهوات .
(لله در أقوام تلمحوا العواقب ، فعملوا عمل مراقب،وجاوزوا الفرائض إلى طلب المناقب ،علت هممهم عن الدنايا ،وارتفعت وكفت الأكف عن الأذايا .
وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد ، ودرر الفرائد . (
( حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة فيصبغ في النار صبغة ثم يقال يا بن آدم هل رأيت خيرا قط هل مر بك نعيم قط فيقول لا والله يا رب ويؤتى بأشد الناس بؤسا في الدنيا من أهل الجنة فيصبغ صبغة في الجنة فيقال له يا بن آدم هل رأيت بؤسا قط هل مر بك شدة قط فيقول لا والله يا رب ما مر بي بؤس قط ولا رأيت شدة قط .
[*] قال الإمام النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم :
(فيصبغ في النار صبغة) : الصبغة بفتح الصاد أي يغمس غمسة .
والبؤس : بالهمز هو الشدة والله أعلم.
(أين الذين كانوا في اللذات يتقلبون، ويتجبرون على الخلق ولا يُغْلَبُون ، مزجت لهم كؤوس المنايا فباتوا يتجرعون ، (مَآ أَغْنَىَ عَنْهُمْ مّا كَانُواْ يُمَتّعُونَ)(1/371)
(حُمِلَ كلٌ منهم في كفن، إلى بيت البلى والعفن، وما صحبهم غيره من الوطن ،من كل ما كانوا يجمعون (مَآ أَغْنَىَ عَنْهُمْ مّا كَانُواْ يُمَتّعُونَ).
(ضمهم والله التراب وَسُدَّ عليهم الباب وتقطعت بهم الأسباب ، والأحباب يرجعون (مَآ أَغْنَىَ عَنْهُمْ مّا كَانُواْ يُمَتّعُونَ)
(شُغِلُوا عن الأهل والأولاد ، وافتقروا إلى يسير من الزاد، وباتوا من الندم على أخس مهاد ، وإنما هذا من حصاد ما كانوا يزرعون (مَآ أَغْنَىَ عَنْهُمْ مّا كَانُواْ يُمَتّعُونَ)
(لو رأيتهم في حلل الندامة ،إذا برزوا يوم القيامة ،وعليهم للعقاب علامة يساقون بالذل لا بالكرامة ،إلى النار فهم يوزعون (مَآ أَغْنَىَ عَنْهُمْ مّا كَانُواْ يُمَتّعُونَ)
(6) الهمة العالية :
فمن لم تكن له همة أبية لم يكد يتخلص من أي بلية ، فإن ذا الهمة يأنف أن يملك رقه شيء وما زال الهوى يذل أهل العز ، وتأمل في القصة الآتية : (
[*](أورد الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه ذم الهوى أن أن الرشيد عشق جارية وامتنعت عليه فقال .
أرى ماء وبي عطش شديد ... ولكن لا سبيل إلى الورود
أما يكفيك أنك تملكيني ... وأن الناس كلهم عبيدي
وأنك لو قطعت يدي ورجلي ... لقلت من الرضا أحسنت زيدي
(ومن الأنفة من حب من طبعه الغدر وهذا أجلُّ طباع النساء :
[*](قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه ذم الهوى :
ومن الأنفة من حب من طبعه الغدر وهذا أجلُّ طباع النساء ، وقد قال الحكماء لا تثق بامرأة وقال الشاعر .
إذا غدرت حسناء أوفت بعهدها ... ومن عهدها أن لا يدوم لها عهد
وقال أبو محمد التميمي :
أفق يا فؤادي من غرامك واستمع ... مقالة محزون عليك شفيق
علقت فتاة قلبها متعلق ... بغيرك فاستوثقت غير وثيق
وأصبحت موثوقا وراحت طليقة ... فكم بين موثوق وبين طليق(1/372)
(وقال أيضاً :ومما يداوى به الباطن أن يعلم الإنسان أن زوجته المحبوبة إن مات عنها مالت إلى غيره ونسيته أسرع شيء وإن كانت تحبه لأنه لا وفاء للنساء . أهـ
[*](وقال على بن أبي طالب - رضي الله عنه - :
دّعْ ذِكْرِهِنَّ فما لهن وفاءُ : ريحُ الصبا وعهودهن وفاء .
(7) ومن الأدوية التي تزهدك في المعاصي أن يصور الإنسان انقضاء غرضه أو يمثل غيره في مقامه ثم يتلمح عواقب الحال ، أفترى يوسف عليه السلام لو زل من كان يكون أو لم يبق مدحه لِصَبْرِهِ أبد الدهر ، أفترى ما سمعت بما عز، ولا شك أنه في القيمة معروف وإن كانت التوبة قد غمرت ذنبه ، ولكن تلمح أنت عواقب من صبر ومن لم يصبر وأعمل فكرك في الحالتين لعل هذه العبرة تخرق حجاب الهوى فتدخل على القلب بغير إذن فتكشف هذه الغمة ، فالعاقل من وزن ما يحتوي عليه العشق من لذة ونغصة فنغصه كثيرة وأذاه شديد وهو على الحقيقة يهين النفس التي لا قيمة لها وغالب لذاته محرم ثم هي مشوبة بالغموم والهموم وخوف الفراق وفضيحة الدنيا وحسرات الآخرة فيعلم الموازن بين الأمرين أن اللذة مغمورة في جنب الأذى قال الببغاء .
(ولله درُ من قال :
وأفضل الناس من لم يرتكب سببا ... حتى يميز ما تجنى عواقبه
(وقال المتنبي :
مما أضر بأهل العشق أنهم ... هووا وما عرفوا الدنيا ولا فطنوا
تفنى عيونهم دمعا وأنفسهم ... في إثر كل قبيح وجهه حسن
تحملوا حملتكم كل ناجية ... فكل بين علي اليوم مؤتمن
ما في هوادجكم من مهجتي عوض ... إن مت شوقا ولا فيها لها ثمن
سهرت بعد رحيلي وحشة لكم ... ثم استمر مريري وارعوى الوسن
(8) ومن الأدوية التي تزهدك في المعاصي أن يعلم الإنسان علم اليقين أنه لا يكون التمكين إلا بعد أن يُمْتَحَن فيصبر .(1/373)
[*](أورد الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه ذم الهوى عن الشافعي قال : لا يكون التمكين إلا بعد المحبة فإذا امتحن الإنسان فصبر مكن ألا ترى أن الله تعالى امتحن إبراهيم ثم مكنه وامتحن أيوب ثم مكن له فقال تعالى: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مّعَهُمْ رَحْمَةً مّنْ عِندِنَا وَذِكْرَىَ لِلْعَابِدِينَ) [الأنبياء: 84] وامتحن سليمان ثم آتاه ملكا وكذلك يوسف عليه السلام .
[*](قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه ذم الهوى :
فمن نظر في هذا فليعلم أن مدة هذا البلاء خطوات في ميدان معاملة ويا قرب النهاية فليصابر هجير الصبر فما أسرع انقضاء اليوم وليحذر من الخسران في موسم البلاء فربما ذهب أصل البضاعة وليتخايل عند صبره خيلاء فخره فليزه بها فما يوازن صبره عمل عابد ولا زهد زاهد وربما نظر إليه في تلك الحالة نظرة رضا كانت غنى الأبد وهذا كله في الصدمة الأولى فإنه ربما وقع ملل أو سلو .
(9) ومن الأدوية التي تزهدك في المعاصي أن يتفكر الإنسان فيما يفوته تشاغله بالمعاصي من الفضائل فإن أرباب اليقظة عشقهم للفضائل من العلوم والفقة والصيانة والكرم وغير ذلك من الخلال الممدوحة أوفى من ميلهم إلى شهوات الحس لأن شهوات الحس حظ النفس وتلك الخلال حظ العقل والنفس الناطقة الفاضلة إلى ما يؤثره العقل أميل وإن جرها الطبع إلى الشهوات الحسيات .
(10) ومن الأدوية التي تزهدك في المعاصي أنفة النفس الأبية أن تكون مقهورة للمعاصي فإن كل موافق للهوى يقع عليه قترة وذل لأن سلطان الهوى حاكم جائر ، وعين الهوى عوراء .
(11) ومن الأدوية التي تزهدك في المعاصي ... إعمال الفكر في قبح هذه الحال والإصغاء إلى سماع العظة من واعظ القلب فإنه من لم يكن له من قلبه واعظ لم تنفعه المواعظ ومن الناس من يسمع موعظة فيرعوى ومنهم من يرى غيره فينتهي ومنهم من يرى طاقة شيب فينزع .(1/374)
وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد ، ودرر الفرائد . (
(حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ضرب الله مثلا صراطا مستقيما وعن جنبتي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة وعلى الأبواب ستور مرخاة وعند رأس الصراط يقول استقيموا على الصراط ولا تعوجوا ، وفوق ذلك داع يدعو كلما هم عبد أن يفتح شيئا من تلك الأبواب قال : ويحك لا تفتحه فإنك إن تفتحه تلجه ثم فسره فأخبر أن الصراط هو الإسلام وأن الأبواب المفتحة محارم الله وأن الستور المرخاة حدود الله والداعي على رأس الصراط هو القرآن والداعي من فوقه هو واعظ الله في قلب كل مؤمن .
فهلا استجبت ـ أخي المسلم ـ لواعظ الله في قلبك؟ وهلا حفظت حدود الله ومحارمه؟ وهلا انتصرت على عدو الله وعدوك، قال تعالى: إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدواً إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير [فاطر:6]
[*] قال خالد بن معدان - رضي الله عنه - قال: ما من من عبد إلا وله عينان في وجهه يبصر بهما أمر الدنيا، وعينان في قلبه يبصر بهما أمر الآخرة، فإذا أراد الله بعبد خيراً، فتح عينيه اللتين في قلبه، فأبصر بهما ما وعد الله بالغيب، وإذا أراد به غير ذلك، تركه على ما فيه ثم قرأ: أم على قلوب أقفالها [ محمد:24]
[*](أورد الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه ذم الهوى عن أبي سلمة الغنوي قلت لأبي العتاهية ما الذي صرفك عن قول الغزل إلى قول الزهد .
قال إذن والله أخبرك إني لما قلت .
الله بيني وبين مولاتي ... أهدت لي الصدود والملالات
منحتها مهجتي وخالصتي ... فكان هجرانها مكافاتي
هيمني حبها وصيرني ... أحدوثة في جميع جاراتي(1/375)
رأيت في المنام تلك الليلة كأن آتيا أتاني فقال ما أصبت أحدا تدخله بينك وبين عتبة يحكم لك عليها بالمعصية إلا الله تعالى فانتبهت مذعورا وتبت إلى الله تعالى من ساعتي من قول الغزل .
(كيفية الوقاية من الذنوب :
للوقاية من الذنوب أعمالاً عظيمة من أجلها ما يلي : (
(1) إقامة الصلاة لقوله تعالى : (اتْلُ مَا أُوْحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصّلاَةَ إِنّ الصّلاَةَ تَنْهَىَ عَنِ الْفَحْشَآءِ وَالْمُنْكَرِ) [العنكبوت: 45]، فإذا أقام الإنسان صلاته بأن أتى بها كاملة بشروطها وأركانها وواجباتها وما أمكنه من مستحباتها ومن أهم وسائل إقامتها الخشوع فيها وهو حضور القلب وعدم تحديث النفس والوساوس والهواجس، فإنها من أسباب منعه عن كبائر الذنوب وصغائرها.
(2) قراءة ما يتحصن به من الشياطين كقراءة آية الكرسي قال تعالى: (اللّهُ لاَ إِلََهَ إِلاّ هُوَ الْحَيّ الْقَيّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لّهُ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ مَن ذَا الّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مّنْ عِلْمِهِ إِلاّ بِمَا شَآءَ وَسِعَ كُرْسِيّهُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيّ الْعَظِيمُ) [سورة: البقرة - الأية: 255]، فإن من قرأها في ليلة لم يزل عليه من الله حافظ ولا يقربه شيطان حتى يصبح،(1/376)
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري )قال: وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان ، فأتاني آت ، فجعل يحثو من الطعام، فأخذته وقلت: والله لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال: إني محتاج وعلي عيال ولي حاجة شديدة، قال: فخليت عنه، فأصبحت فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة). قال: قلت: يا رسول الله، شكا حاجة شديدة، وعيالا فرحمته فخليت سبيله ، قال: (أما إنه قد كذبك، وسيعود). فعرفت أنه سيعود، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنه سيعود). فرصدته، فجاء يحثو من الطعام، فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: دعني فإني محتاج وعلي عيال، لا أعود، فرحمته فخليت سبيله، فأصبحت فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أباهريرة ما فعل أسيرك). قلت: يا رسول الله شكا حاجة شديدة وعيالا، فرحمته فخليت سبيله، قال: (أما إنه كذبك، وسيعود). فرصدته الثالثة، فجاء يحثو من الطعام، فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله، وهذا آخر ثلاث مرات تزعم لا تعود، ثم تعود، قال: دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها، قلت ما هو؟ قال: إذا أويت إلى فراشك، فاقرأ آية الكرسي: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم}. حتى تختم الآية، فإنك لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربنك شيطان حتى تصبح، فخليت سبيله فأصبحت، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما فعل أسيرك البارحة). قلت: يا رسول الله، زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها فخليت سبيله، قال: (ما هي). قلت: قال لي: إذا أويت إلى فراشك، فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم}. وقال لي: لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح - وكانوا أحرص شيء على الخير - فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أما إنه قد صدقك وهو كذوب، تعلم من تخاطب منذ ثلاث ليال يا أبا هريرة).(1/377)
قال: لا، قال: (ذاك شيطان).
(3) إذا هم بالذنب فإنه يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم لقوله تعالى : قال تعالى: (وَإِماّ يَنَزَغَنّكَ مِنَ الشّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [الأعراف: 200]
وما أحسن أن تقول بصدق (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، اللهم اعصمني من الزلل ووفقني لصالح العمل ).
(4) الصدقة على مساكين البيت الحرام :
مسألة : هل تجوز الصدقة على المساكين الموجودين في بيت الله الحرام؟
الصدقة في المسجد الحرام وفي غيره من الأماكن لا بأس بها.
ومن المعلوم أن أهل العلم يقولون إن الحسنة تضاعف بالمكان الفاضل.
ولكن الأمر الذي يهم المرء هو هل هؤلاء الفقراء الذين يتظاهرون بالفقر هم فقراء حقيقة؟ هذا هو الذي يشكل على المرء ولكن إذا غلب على ظن الإنسان أن هذا فقير فأعطاه فإنها مقبولة ولو تبين بعد ذلك أنه غني.
وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد ، ودرر الفرائد . (
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت الثابت في الصحيحين) أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : قال رجل لأتصدقن بصدقة، فخرج بصدقته، فوضعها في يد سارق، فأصبحوا يتحدثون تُصدِّق على سارق، فقال: اللهم لك الحمد، لأتصدقن بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد زانية، فأصبحوا يتحدثون تُصدِّق الليلة على زانية، فقال: اللهم لك الحمد، على زانية؟ لأتصدقن بصدقة، فخرج بصدقته. فوضعها في يدي غني، فأصبحوا يتحدثون تُصدِّق على غني، فقال: اللهم لك الحمد، على سارق، وعلى زانية، وعلى غني، فأُتي فقيل له: أما صدقتك على سارق فلعله أن يستعفَّ عن سرقته، وأما الزانية: فلعلها أن تستعف عن زِناها، وأما الغني: فلعله يعتبرُ، فينفق مما أعطاه الله .(1/378)
(وعليه فالصدقة على هؤلاء لا بأس بها ولو في المسجد الحرام، إلا إذا علم أن في ذلك مفسدة وأن إعطاءهم يوجب كثرتهم ومضايقتهم للناس في المسجد الحرام فحينئذٍ يتوجه بأن يقال لا يُعطون لما في هذا من السبب الموصل إلى هذا المحظور.
( كيف أتخلص من المعاصي :
إن الله سبحانه وتعالى حين حرَّم على العبد المعاصي لم يتركه سُدى ، بل أمدَّه عز وجل بما يعينه على تركها ، ومن الوسائل المعينة على ذلك :
(1) تقوية الإيمان بالله عزَّ وجل والخوف منه .
(2) مراقبة الله عزَّ وجل واستحضار أنه مع العبد ، وأنه يراه ، وأن كل ما يعمل مُسجَّل عليه .
(3) أن يقارن بين اللذة العاجلة للمعصية والتي سرعان ما تنتهي ، وبين عقوبة العاصي يوم القيامة ، وجزاء من امتنع من المعصية .
(4) أن يبتعد عن الوسائل التي تعينه على المعصية : كالنظر الحرام ، وأصدقاء السوء ، وارتياد أماكن المعاصي .
(5) أن يحرص على مجالسة الصالحين وصحبتهم .
(التحذير من المجاهرة بالمعصية :
إنَّ من دواعي الأسف أنه كثر في هذه الأزمان أناس لم يكتفوا بفعل المعاصي والمنكرات حتى عمدوا إلى المجاهرة بها والإفتخار بارتكابها والتحدث بذلك بغير ضرورة، والله تعالى أن يبيت الرجل يعصي.. والله يستره.. فيحدث بالذنب.. فيهتك ستر الله عليه.. يجيء في اليوم التالي ليحدث بما عصى وما عمل!!.. فالله ستره.. وهو يهتك ستر الله عليه.
[*] وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد ، ودرر الفرائد . (
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملاً، ثم يصبح وقد ستره الله، فيقول: يا فلان، عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه، ويصبح يكشف ستر الله عنه.(1/379)
[*] قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح : أي لكن المجاهرون بالمعاصي لا يعافون .
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
( كل أمتي معافى ) اسم مفعول من العافية وهو إما بمعنى عفى اللّه عنه وإما سلمه اللّه وسلم منه
( إلا المجاهرين ) أي المعلنين بالمعاصي المشتهرين بإظهارها الذين كشفوا ستر اللّه عنهم وروي المجاهرون بالرفع ووجهه بأن معافى في معنى النفي فيكون استثناء من كلام لغو موجب والتقدير لا ذنب لهم إلا المجاهرون ثم فسر المجاهر بأنه
( وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملاً، ثم يصبح وقد ستره الله، فيقول: يا فلان، عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه، ويصبح يكشف ستر الله عنه)
فيؤاخذ به في الدنيا بإقامة الحد وهذا لأن من صفات اللّه ونعمه إظهار الجميل وستر القبيح فالإظهار كفران لهذه النعمة وتهاون بستر الله قال النووي : فيكره لمن ابتلي بمعصية أن يخبر غيره بها بل يقلع ويندم ويعزم أن لا يعود فإن أخبر بها شيخه أو نحوه مما يرجو بإخباره أن يعلمه مخرجاً منها أو ما يسلم به من الوقوع في مثلها أو يعرفه السبب الذي أوقعه فيها أو يدعو له أو نحو ذلك فهو حسن وإنما يكره لانتفاء المصلحة وقال الغزالي : الكشف المذموم إذا وقع على وجه المجاهرة والاستهزاء لا على السؤال والاستفتاء بدليل خبر من واقع امراته في رمضان فجاء فأخبر المصطفى صلى اللّه عليه وسلم فلم ينكر عليه .
[*](قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
هناك قسم ثالث فاسق مارد ماجن ، يتحدث بالزنى افتخاراً والعياذ بالله ، يقول : إنه سافر إلى البلد الفلاني ، وإلى البلد الفلاني ، وفجر وفعل وزنى بعدة نساء ، وما أشبه ذلك ، يفتخر بهذا.
هذا يجب أن يستتاب فإن تاب وإلا قتل ؛ لأن الذي يفتخر بالزنى مقتضى حاله أنه استحل الزنى والعياذ بالله ، ومن استحل الزنى فهو كافر ." شرح رياض الصالحين"( 1 / 116 )(1/380)
ولا شك أن المعاصي درجات والإثم يتفاوت فيها بحسب حال العاصي أثناء المعصية وحاله بعدها ، فليس المتخفي بمعصيته المستتر بها كالمجاهر، وليس النادم بعدها كالمفتخر بها .
[*](قال ابن القيم رحمه الله :
وبالجملة فمراتب الفاحشة متفاوتة بحسب مفاسدها ، فالمتخذ خدناً من النساء والمتخذة خدناً من الرجال أقل شرّاً من المسافح والمسافحة مع كل أحدٍ ، والمستخفي بما يرتكبه أقل إثماً من المجاهر المستعلن ، والكاتم له أقل إثماً من المخبِر المحدِّث للناس به ، فهذا بعيد من عافية الله تعالى وعفوه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " كل أمتي معافى إلا المجاهرين ... " .
" إغاثة اللهفان " ( 2 / 147 ) .
الخدن والخدنة : العشيق والعشيقة .
والأصل : أن يُعقب المسلمُ ذنبه بتوبة واستغفار وندم وعزم على عدم العوْد لها ، لا أن يُعقبها بافتخار ومجاهرة وحديث بها .
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن العبد إذا أخطاء خطيئة نُكِتَت في قلبه نكته سوداء فإن هو نزع و استغفر و تاب صقل قلبه وإن عاد زيد فيها حتى تعلو على قلبه و هو الران الذي ذكر الله تعالى فذلك الران الذي ذكره الله في كتابه (كَلاّ بَلْ رَانَ عَلَىَ قُلُوبِهِمْ مّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ) [المطففين : 14] .
(مفاسد المجاهرة بالمعاصي :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
(1) أنها استخفاف بأوامر الله عز وجل ونواهيه.
(2) أنها تؤدي إلى إلفِ المعصية واعتياد القبائح واستمرائها وكأنها أمور عادية لا شيء فيها.
(3) أنها بمثابة دعوة للغير إلى ارتكاب المعاصي وإشاعة الفساد ونشر للمنكرات.
(4) أنها ربما أدت إلى استحلال المعصية فيكفر بذلك والعياذ بالله.
(5) أنها دليل على سوء الخلق والوقاحة وقلة أدب صاحبها.
(6) أنها دليل على قسوة القلب واستحكام الغفلة من قلب المجاهر.
(صورٌ من المجاهرة بالمعاصي والعياذ بالله :(1/381)
إن صور المجاهرة بالمعاصي ـ في هذا العصر ـ كثيرة جداً، لا يمكن استقصاؤها في هذه العجالة، غير أننا نشير إلى أمثلة من ذلك، وهاك بعض صور المجاهرة بالمعاصي: (
(هذا رجل يتحدث أمام الملأ عن سفرته وما تخللها من فسق وفجور، فيتفاخر بذلك في المجالس ويحسب أن ذلك من الفتوة وكمال الرجولة، وهو - والله - من الذلة والمهانة وضعة النفس وخبث الباطن وضعف الإيمان جداً وقسوة القلب.
(وهذا شاب يتحدث عن مغازلاته ومغامراته. .
(وهذه فتاة تتحدث عن علاقاتها الآثمة عبر الهاتف. .
(وهذا صاحب عمل يعطي زملائه دروسا مجانية في ظلم العمال وأكل أموالهم. .
(وهذا عامل يكشف ستر الله عليه فيتحدث عن سرقته لصاحب العمل ويعلم أصدقائه بعض الحيل في ذلك.
(ومنها الدعوة إلى وحدة الأديان وتصحيح عقائد الكفر.
(ومنها الاحتفال بأعياد الكفار وإعلان ذلك في الصحف والمجلات والقنوات مثل الاحتفال بالكريسمس وعيد الحب وعيد الأم وغيرها.
( ومنها خروج المرأة أمام الملأ متعطرة ومتزينة.
( ومنها خروج المرأة وهي تلبس العباءة القصيرة أو المزركشة أو الشفافة، أو تلبس البنطال أو الكعب العالي وتجاهر بذلك أمام الملأ.
(ومنها خلوة المرأة بالسائق الأجنبي أمام الملأ، وكذلك خلوتها بالبائعين في الأسواق والمحلات التجارية.
( ومنها ممارسة عادة التدخين أمام الملأ.
( ومنها إسبال الثياب للرجال.
( ومنها حلق اللحى، والمجاهرة تشمل الحالق والمحلوق.
( ومنها قص الشعر على مثال أهل الكفر.
( ومنها تشبه النساء بالرجال والرجال بالنساء.
( ومنها سفر المرأة وحدها بدون محرم.
( ومنها ترك الرجال لصلاة الجماعة بدون عذر.
( ومنها لبس الرجال للذهب والحرير.
( ومنها السباب واللعن عمدا أمام الملأ.
( ومنها تعاطي بعض الشباب - هداهم الله - أنواع المعاكسات في الأسواق والشوارع والحدائق وأماكن الترفيه وغيرها.(1/382)
( ومنها لبس الشباب للشورت الذي يظهر الفخذين والسير به في الشوارع، وكذلك لبس السلاسل والفانيلات التي عليها صور خليعة.
( ومنها إتلاف السيارات بالتفحيط والتطعيس.
( ومنها الإفطار في رمضان عمدا أمام الملأ بدون عذر.
( ومنها مزاولة أنشطة تجارية محرمة كالبنوك الربوية ومحلات أشرطة الغناء ومحلات الشيشة والجراك وغيرها.
( ومنها قيام بعض الشباب بالضرب على آلات الطرب والموسيقى في البر أو في المنتزهات وغيرها.
( ومنها إزعاج الناس بأصوات المغنين والمغنيات عبر الراديو أو التلفاز.
(ومنها استخدام بعض الكتاب الصحف والمجلات منبرا للطعن في الإسلام والمسلمين.
( ومنها الغيبة والنميمة؛ لأنها لا تكون عادة إلا أمام الملأ.
( ومنها السخرية والاستهزاء بأهل الدين والعفاف من الرجال و النساء، ووسمهم بالتخلف والرجعية.
هذه إرشادات سريعة وعلى مثلها فقس، والحر تكفيه الإشارة، وليس المطلوب هو ترك المجاهرة بالمعاصي فقط، ولكن المطلوب هو ترك المعاصي كلها ولو سراً، لأنها قبيحة العواقب، سيئة المنتهى.
(السبل الميسرة للبكاء من خشية الله تعالى :
ما أشد قسوة قلوبنا..
ما أضعفنا في طريق السالكين إلا من رحم الله..
لقد كان السلف - رضي الله عنهم - يبكون من خشية الله، وتفيض أعينهم من الدمع، شوقاً له وحباً دون أن يحصوا الأسباب الميسرة للبكاء من خشية الله، أو يرقموها، ويحفظوها..
كانت أنهار الدموع المخلصة لا تتوقف من مآقيهم..
استشعروا حلاوة الإيمان، وذاقوها، واستمتعوا بالبكاء من خشية الله دون أن يحصوا سبله، ولكنهم طهرت قلوبهم فتفضل المنان عليهم وفتح عليهم من أبواب بركته وفضله، نسال الله أن يفتح علينا..
استمع إلى أحد السلف وهو يقول: (مساكين أهل الدنيا خرجوا منها وما ذاقوا لذيذ العيش فيها وما ذاقوا أطيب ما فيها) يقصد حلاوة الإيمان..
واستمع إلى آخر وهو يقول: (لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف)..(1/383)
ولكن حال المرضى أمثالنا ـ إلا من رحم الله ـ أن يبحثوا عن الأسباب المعينة والجالبة للبكاء من خشية الله..
يبحثوا عن الدواء بعد أن ملأ الداء القلب واستشرى في البدن..
ولا يكفي علم هذه السبل دون العمل بها، فعلمها دون العمل بها قد يستوي فيه البر والفاجر، والمؤمن والكافر..
فلا تقرأ هذه السبل إن كنت تنوي غير العمل بها، فقد كان سفيان الثوري يقول: (قالت لي والدتي: يا بني، لا تتعلم العلم إلا إذا نويت العمل به، وإلا فهو وبال عليك يوم القيامة).
وهاك الأسباب الميسرة للبكاء من خشية الله تعالى جملةً وتفصيلا :
(1) الإخلاص :
(2) الدعاء:
(3) السعي لتحصيل حلاوة الإيمان :
(4) تعلُّم العلم الشرعي ، وخصوصاً علم العقيدة :
(5) ذكر الموت، وما بعده من أهوال :
(6) زيارة القبور :
(7) قراءة القرآن بتدبر، والإكثار من الذكر :
(8) سماع القراءة الخاشعة للقرآن الكريم :
(9) الإكثار من قراءة كتب الرقائق ، وسماع المواعظ عن طريق الدروس أو الشرائط المسجلة :
(10) محاسبة النفس :
(11) الخشوع في الصلاة:
(12) الخوف من عدم قبول الأعمال :
(13) عدم الإكثار من الضحك :
(14) الزهد في الدنيا :
وهاك تفصيل ذلك في إيجازٍ غيرِ مُخِّل : (
(1) الإخلاص :
مسألة : ما الفرق بين الإخلاص و الصدق ؟
[*](قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين :
وقد تنوعت عبارتهم في الإخلاص و الصدق والقصد واحد .
فقيل: «هو إفراد الحق سبحانه بالقصد في الطاعة»
وقيل: «تصفية الفعل عن ملاحظة المخلوقين»
وقيل: «التوقي من ملاحظة الخلق حتى عن نفسك»
«و الصدق التنقي من مطالعة النفس»
«فالمخلص لا رياء له» «والصادق لا إعجاب له»
«ولا يتم الإخلاص إلا بالصدق ولا الصدق إلا بالإخلاص» ولا يتمان إلا بالصبر
وقيل: «من شهد في إخلاصه الإخلاص احتاج إخلاصه إلى إخلاص»
فنقصان كل مخلص في إخلاصه: بقدر رؤية إخلاصه فإذا سقط عن نفسه رؤية الإخلاص صار مخلصا مخلصا .(1/384)
وهاك صفوة مسائل الإخلاص في إيجازٍ غيرِ مُخِّل : (
(تعريف الإخلاص :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
مسألة : ما هو الإخلاص لغةً وشرعا ؟
الإخلاص لغةً : خلص خلوصاً خلاصاً، أي صفى وزال عنه شوبه، وخلص الشيء صار خالصاً وخلصت إلى الشيء وصلت إليه، وخلاص السمن ما خلص منه. فكلمة الإخلاص تدل على الصفاء والنقاء والتنزه من الأخلاط والأوشاب. والشيء الخالص هو الصافي الذي ليس فيه شائبة مادية أو معنوية. وأخلص الدين لله قصد وجهه وترك الرياء. وقال الفيروز أبادي: أخلص لله ترك الرياء، وكلمة الإخلاص كلمة التوحيد، والمخلصون هم الموحدون والمختارون .
والإخلاص شرعا : هو أن تبتغي بعملك وجه الله تعالى ، فإن قصدت بعملك غيره تعالى لم يقبله فهو سبحان أغني الشركاء عن الشرك ، فهو تجريد قصد التقرب إلى الله عز وجل عن جميع الشوائب .
(والإخلاص هو أهم أعمال القلوب وأعلاها وأساسها، هو حقيقة الدين ومفتاح دعوة الرسل عليهم السلام قال تعالى : { وَمَا أُمِرُوا إلاّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء } ( البينة : من الآية 5) .
و قال تعالى :{أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ } [ الزمر : 3]
(والإخلاص هو لب العبادة وروحها
[*] قال ابن حزم: النية سر العبودية وهي من الأعمال بمنزلة الروح من الجسد، ومحال أن يكون في العبودية عمل لا روح فيه، فهو جسد خراب.
(والإخلاص شرط لقبول العمل الصالح الموافق لسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وقد أمرنا الله عز وجل به فقال تعالى : { وَمَا أُمِرُوا إلاّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء } ( البينة : من الآية 5) .
وإليك الأدلة من السنة الصحيحة على ذلك :
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : قال الله تعالى : " أنا أغني الشركاء عن الشرك ، ومن عمل عملاً أشرك معي فيه غيري ، تركته وشِركَه " .(1/385)
(حديث جندب بن عبد الله في الصحيحين) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من سمَّع سمَّع الله به ومن يرائي يرائي الله به .
) حديث أبي هريرة في صحيحي أبي داوود وابن ماجة) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة .
( حديث جابر في صحيح ابن ماجة) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لا تعلموا العلم لتباهوا به العلماء ولا تماروا به السفهاء و لا لتخيروا به المجالس فمن فعل ذلك فالنار.
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها قال قاتلت فيك حتى استشهدت قال كذبت ولكنك قاتلت لأن يقال جريء فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها قال تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن قال كذبت ولكنك تعلمت العلم ليقال عالم وقرأت القرآن ليقال هو قارئ فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها قال ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك قال كذبت ولكنك فعلت ليقال هو جواد فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه ثم ألقي في النار .
(حديث أبي أمامة في صحيح النسائي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن الله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً وابتُغيَ به وجهه .
(حديث أبي سعيد في صحيح ابن ماجة) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال ؟ " . قالوا : بلي . قال : " الشرك الخفي ، يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته ، لما يري من نظر رجل .(1/386)
{ تنبيه } :( قوله : [ أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال ] وإنما كان كذلك ، لأن التخلص منه صعب جداً ، ولذلك قال بعض السلف : " ما جاهدت نفسي على شيء مجاهدتها على الإخلاص " ، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أسعد الناس بشفاعتي من قال : لا إله إلا الله خالصاً من قلبه "
(الفرق بين الرياء والسمعة وإرادة العبد بعمله الدنيا :
مسألة : ما الفرق بين الرياء والسمعة وإرادة العبد بعمله الدنيا ؟
( (الرياء والسمعة) مقصودهما أن يحمد العبد في العبادة ، أما إرادة العبد بعمله الدنيا فإنه يريد أمراً مادياً محضاً كمن أذن ليأخذ راتب المؤذن ، أو حج ليأخذ المال .
2- أن يريد المرتبة ، كمن تعلم في كلية وأخذ شهادة الدكتوراة لأجل الشهادة والمنزلة فقط وليس للتقرب إلى الله تعالى .
قال تعالى: (مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ ، أُوْلََئِكَ الّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الاَخِرَةِ إِلاّ النّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) [سورة: هود - الآيتان:15 ،16]
قوله تعالى : ( من كان يريد الحياة الدنيا ) . أي : البقاء في الدنيا .
قوله : ( وزينتها ) . أي المال ، والبنين ، والنساء ، والحرث ، والأنعام ، والخيل المسومة ، كما قال الله تعالى : { زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا } [ آل عمران : 14] .
قوله : ( نوف إليهم ) . فعل مضارع معتل الآخر مجزوم بحذف حرف العلة الياء ، لأنه جواب الشرط .(1/387)
والمعني : أنهم يعطون ما يريدون في الدنيا ، ومن ذلك الكفار لا يسعون إلا للدنيا وزينتها ، فعجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا ، كما قال تعالى : { ويوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمعتم بها } [ الأحقاف : 20] .
ولهذا لما بكي عمر حين رأي النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أثر في جنبه الفراش ، فقال : " ما يبكيك ؟ " . قال يا رسول الله ! كسري وقيصر يعيشان فيما يعيشان فيه من نعيم وأنت على هذا الحال . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم " (1) وفي الحقيقة هي ضرر عليهم ، لأنهم إذا انتقلوا من دار النعيم إلى الجحيم ، صار عليهم أشد وأعظم في فقد ما متعوا به في الدنيا .
قوله : ( وهم فيها إلا يبخسون ) . البخس : النقص ، أي : لا ينقصون مما يجازون فيه ، لأن الله عدل لا يظلم ، فيعطعون ما أرادوه .
قوله : ( أولئك ) . المشار إليه يريدون الحياة الدنيا وزينتها .
قوله : ( ليس لهم في الآخرة إلا النار ) . فيه حصر وطريقة النفي والإثبات ، وهذا يعني أنهم لن يدخلوا الجنة ، لأن الذي ليس له إلا النار محروم من الجنة والعياذ بالله .
قوله ( وحبط ما صنعوا فيها ) . الحبوط : الزوال ، أي : زال عنهم ما صنعوا في الدنيا .
قوله : ( وباطل ما كانوا يعملون ) . ( باطل ) : خبر مقدم لأجل مراعاة الفواصل في الآيات والمبتدأ " ما " في قوله : ( ما كانوا يعملون ) ، فأثبت الله أنه ليس لهؤلاء إلا النار ، وأن ما صنعوا في الدنيا قد حبط ، وأن أعمالهم باطلة .
__________
(1)(1/388)
(حديث أبي هريرة في صحيح البخاري) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : تعس عبد الدينار ،و عبد الدرهم ، و عبد الخميصة ، ، إن أُعطِيَ ؛ رضي ، وإن لم يُعط ، سخط ، تعس وأنتكس ، وإذا شيك فلا انتقش . طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله ، أشعثٌ رأسُه ، مغبَّرةٌ قدماه ، إن كان في الحراسة ، كان في الحراسة ، وإن كان في الساقة ، كان في الساقة ، إن أستأذن ، لم يؤذن له ، وأن شفع ، لم يشفع "
قوله : " تَعِس " . بفتح العين أو كسرها ، أي : خاب وهلك .
قوله : " عبد الدينار" الدينار : هو النقد من الذهب ، وسماه عبد الدينار ، لأنه تعلق به تعلق العبد بالرب فكان أكبر همه ، وقدمه على طاعة ربه ، ويقال في عبد الدرهم ما قيل في عبد الدينار ، والدرهم هو النقد من الفضة.
قوله : " [و عبد الخميصة] ، وهذا من يعنى بمظهره ، لأن الخميصة كساء جميل ، ليس له هم إلا هذا الأمر ، فإذا كان عابداً لهذه الأمور لأنه صرف لها جهوده وهمته ، فكيف بمن أراد بالعمل الصالح شيئاً من الدنيا فجعل الدين وسيلة للدنيا ؟ ! فهذا أعظم .
قوله : " إن أعطي رضي ، وإن لم يعط سخط " . يحتمل أن يكون المعطي هو الله فيكون الإعطاء قدرياً ، أي : إن قدر الله له الرزق والعطاء رضي وانشرح صدره ، وإن منع وحرم المال سخط بقلبه وقوله ، كأن يقول : لماذا كنت فقيراً وهذا غنياً ؟ وما أشبه ذلك ، فيكون ساخطاً على قضاء الله وقدرة لأن الله منعه .
والله سبحانه وتعالى يعطي ويمنع لحكمةٍ بالغةً قضاها يستوجب الحمد على اقتضاها ، ويعطي الدنيا لمن يحب ومن لا يحب ، ولا يعطي الدين لمن يحب .
والواجب على المؤمن أن يرضي بقضاء الله وقدره ، إن أعطي شكر ، وإن منع صبر .(1/389)
ويحتمل أن يراد بالإعطاء هنا الإعطاء الشرعي ، أي: إن أعطي من مال يستحقه من الأموال الشرعية رضي ، وإن لم يعط سخط ، وكلا المعنيين حق ، وهما يدلان على أن هذا الرجل لا يرضي إلا للمال ولا يسخط إلا له ، ولهذا سمّاه الرسول - صلى الله عليه وسلم - عبداً له .
قوله :" تعس وانتكس " . تعس ، أي : خاب وهلك ، وانتكس ، أي : أنتكست عليه الأمور بحيث لا تتيسر له ، فكلما أراد شيئاً انقلبت عليه الأمور خلاف ما يريد ، ولهذا قال :
وإذا شيك فلا انتقش" أي : إذا أصابته شوكة ، فلا يستطيع أن يزيل ما يؤذيه عن نفسه .
وهذه الجمل الثلاث يحتمل خبراً منه - صلى الله عليه وسلم - عن حال هذا الرجل ، وأنه في تعاسة وانتكاس وعدم خلاص من الأذى ، ويحتمل أن يكون من باب الدعاء على من هذه حاله ، لأنه لا يهتم إلا للدنيا ، فدعا عليه أن يهلك ، وأن لا يصيب من الدنيا شيئاً ، وأن لا يتمكن من إزالة ما يؤذيه ، وقد يصل إلى الشرك عندما يصده ذلك عن طاعة الله حتى أصبح لا يرضي إلا للمال ولا يسخط إلا له .
قوله : " طوبي لعبد أخذ بعنان فرسه في سبيل الله " . هذا عكس الأول ، فهو لا يهتم للدنيا ، وإنما يهتم للآخرة ، فهو في استعداد دائم للجهاد في سبيل الله .
و" طوبى " فُعْلى من الطيب ، وهي اسم تفضيل ، فأطيب للمذكر وطوبي للمؤنث ، والمعني : أطيب حال تكون لهذا الرجل ، وقيل إن طوبي شجرة في الجنة ، والأول ، أعم ،
وقوله : " آخذ بعنان فرسه " . أي ممسك بمقود فرسه الذي يقاتل عليه .(1/390)
قوله : " في سبيل الله " . ضابطه أن يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا لا للحمية أو الوطنية أو ما أشبه ذلك ، لكن إن قاتل وطنية وقصد حماية وطنه لكونه بلداً إسلامياً يجب الذود عنه ، فهو في سبيل الله ، وكذلك من قاتل دفاعاً عن نفسه أو ماله أو أهله ؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " من قتل دون ذلك ، فهو شهيد " ، فأما من قاتل للوطنية المحضة ، فليس في سبيل الله لأن هذا قتال عصبية يستوي فيه المؤمن والكافر ، فإن الكافر يقاتل من أجل وطنه .
قوله : [ أشعثٌ رأسه ، مغبَّرة قدماه ] أي: رأسه أشعث من الغبار في سبيل الله ، فهو لا يهتم بحاله ولا بدنه مادام هذا الآمر ناتجاً عن طاعة الله عز وجل وقدماه مغبرة في السير في سبيل الله ، وهذا دليل على أن أهم شيء عنده هو الجهاد في سبيل الله ، أما أن يكون شعره أو ثوبه أو فراشه نظيفاً ، فليس له هم فيه .
قوله : [ إن كان في الحراسة ، فهو في الحراسة ، وإن كان في الساقة ، كان في الساقة] المعنى أنه يُنكر ذاته فالأمر يستوي عنده سواء كان في المنزلة العليا كمرتبة الحراسة التي تكون في مقدمة الجيش أو في المنزلة الدنيا كالسقي ال ... ي يكون في مؤخرة الجيش فهو لا يحرص على مكانة دنيوية حتى إنه إن استأذن لم يؤذن له ، وإن شفع لم يشفع .
قوله :" إن استأذن لم يؤذن له ، وإن شفع لم يشفع " . أي : هو عند الناس ليس له جاه ولا شرف ، حتى إنه إن استأذن لم يؤذن له ، وهكذا عند أهل السلطة ليس له مرتبه ، فإن شفع لم يُشَفّع، ولكنه وجيه عند الله وله المنزلة العالية ، لأنه يقاتل في سبيله .
والشفاعة : هي التوسط للغير بجلب منفعة أو دفع مضرة .
والاستئذان : طلب الإذن بالشيء .
{ تنبيه } :( ولا يتخلص العبد من الشيطان إلا بالإخلاص لقول الله عز وجل:
{ إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ } ( ص : الآية 83) . وروى أن أحد الصالحين كان يقول لنفسه : " يانفس أخلصى تتخلصى ".(1/391)
وكل حظ من حظوظ الدنيا تستريح إليه النفس، ويميل إليه القلب، قلّ أم كثر، إذا تطرق إلى العمل ، تكدربه صفوه ، وزال به إخلاصه، والإنسان مرتبط فى حظوظه ، منغمس فى شهواته ، قلما ينفك فعلٌ من أفعاله ، وعبادةٌ من عباداته عن حظوظ وأغراض عاجلة من هذه الأجناس، فلذلك قيل : " من سلم له من عمره لحظةٌ واحدةٌ خالصةٌ لوجه الله نجا " ، وذلك لعزة الإخلاص، وعُسْرِ تنقية القلب عن الشوائب ، فالإخلاص: تنقية القلب من الشوائب كلها ، قليلها وكثيرها، حتى يتجرد فيه قصدُ التقرب فلا يكون فيه باعثُ سواه ، وهذا لا يتصور إلا من محب لله مستغرق الهم بالآخرة،بحيث لم يبق لحب الدنيا من قلبه قرارٌ ، فمثل هذا لو أكل ، أو شرب، أو قضى حاجته ، كان خالص العمل ،صحيح النية، ومن ليس كذلك فبابُ الإخلاص مسدودٌ عليه إلا على الندور .
وكما أن مَنْ غلب عليه حب الله ، وحب الآخرة، فاكتسبت حركاتهُ الاعتيادية صفة همه ، وصارت إخلاصاً ، فالذى يغلب على نفسه الدنيا والعلو والرياسة ، وبالجملة غير الله ، اكتسبت جميع حركاته تلك الصفة، فلا تسلم له عبادةٌ من صومٍ ، وصلاة وغير ذلك إلا نادراً .
فعلاج الإخلاص كسرُ حظوظ النفس، وقطعُ الطمع عن الدنيا، والتجرد للآخرة ، بحيث يغلب ذلك على القلب، فإذ ذاك يتيسر به الإخلاص، وكم من أعمل يتعب الإنسان فيها ، ويظن أنها خالصةٌ لوجه الله، ويكون فيها من المغرورين، لأنه لم يَرَ وجهَ الآفة ِ .(1/392)
كما حُكى عن بعضهم : أنه كان يصلى دائماً فى الصف الأول، فتأخر يوماً عن الصلاة فصلى فى الصف الثانى، فاعترتْه خجلةٌ من الناس حيث رأوْه فى الصف الثانى، فَعَلم أن مسرته وراحة قلبه منِ الصلاة فى الصف الأول كانت بسبب نظر الناس إليه، وهذا دقيقٌ غامضٌ قَلّما تسلم الأعمال من أمثاله ، وقلّ من ينتبه له إلا من وفقه الله تعالى، والغافلون عنه يَرَوْنَ حسناتهم يوم القيامة سيئات ، وهم المقصودون بقوله تعالى : { وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا } ( الزمر : من الآيتين 47 ،48) .
وبقوله عز وجل : { قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا } ( الكهف : الآية 103 - 104) .
(فضائل الإخلاص :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
للإخلاص أهمية قصوى فهو منتهى أمل العبد وأقصى غايته للأسباب الآتية :
(1) النجاة تكون بسببه في الآخرة لأن الله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً وابتُغيَ به وجهه .
(حديث أبي أمامة في صحيح النسائي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن الله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً وابتُغيَ به وجهه .
(2) اجتماع القلب في الدنيا وزوال الهم لا يكون إلا به :
( حديث أنس بن مالك رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من كانت الآخرة همّه جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة ، ومن كانت الدنيا همّه جعل الله فقره بين عينيه ، وفرَّق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قُدِّر له .
[ من كانت الآخرة همّه ] : يعني: أي شغله الشاغل ،يعمل لها ويرغب فيها عن الآخرة ،كان جزائه ما يلي :
جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة :(1/393)
[ ومن كانت الدنيا همّه ] : فالإنسان مخلوق من أجل العبادة، فإذا نسي هذا الأمر وأصبح نهماً على الدنيا يريد أن يجمعها من أي جهة كانت، وأصبحت هذه الدنيا همه الوحيد فهذا جزاؤه [جعل الله فقره بين عينيه ، وفرَّق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قُدِّر له ]
[جعل الله فقره بين عينيه ] : يعني: أنه دائماً مستحضر الفقر يرى الفقر بين عينيه، مهما وجد معه من المال،
[ وفرَّق عليه شمله ] : فالذي يجمع لك الأمور ويؤلف بين القلوب هو الله سبحانه وتعالى، فالإنسان يجمع من شمال ويمين وربنا يفرق عليه هذا كله ما دام همه الوحيد .
[ولم يأته من الدنيا إلا ما قُدِّر له ] : فلا تتعب نفسك وتحملها فوق طاقتها فتقصر في عبادة الله سبحانه، وتقول: المال المال، ولكن ابحث عن المال من حلال، واحذر الحرام، واحذر أن تضيع الدين وتضيع الطاعة فيضيع منك الجميع الدنيا والآخرة.
(حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجه ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من جعل الهموم هماً واحدا هم المعاد كفاه الله هم دنياه، ومن تشعبت به الهموم في أحوال الدنيا لم يبال الله في أي أوديته هلك .
من جعل الهموم هماً واحدا هم المعاد : ولو أن كلاً منا في قلبه الآخرة، فسيدرك أن الله سبحانه على كل عمل يقوم به، فإنه إذا قام للصلاة تذكر: الله سيحاسبني على هذه الصلاة فيحسنها، وإذا صام أحسن الصيام، وإذا عمل أي عمل من الأعمال أتقن ذلك العمل، ولا من أجل أن يأخذ الجزاء من الناس، ليس من أجل أن يترقى، ولكن ابتغاء مرضات الله سبحانه وتعالى؛ لأن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه، فإذا كانت الآخرة على بال الإنسان دائماً فإن الله سوف يكفيه أمر دنياه، قال: (كفاه الله هم دنياه).(1/394)
ومن تشعبت به الهموم : يعني: نسي الآخرة وبدأ يفكر يريد أن يأكل ويشرب ويلبس ويريد كذا وكذا، ويعمل طول النهار وهو يفكر في أمور الدنيا، ناسياً ربه سبحانه فهذا يكون حاله كما في الحديث:
( لم يبال الله في أي أوديته هلك ) : يعني: في أي مكان هلك لا يبالي الله عز وجل به. فالمؤمن قريب من الله، والله يحبه ويفرح بتوبته وبإقباله عليه، أما الإنسان البعيد عن الله سبحانه وتعالى فإن يهلك في أي واد لا يبالي الله به.
سادساً : أن محبها أشد الناس عذاباً بها، وهو معذب فى دوره الثلاث : يعذب فى الدنيا بتحصيلها والسعى فيها ومنازعة أهلها، وفى دار البرزخ بفواتها والحسرة عليها ، وكونه قد حيل بينه وبين محبوبه على وجه لا يرجو اجتماعه به أبداً ، ولم يحصل له هناك محبوب يعوضه عنه، فهذا أشد الناس عذاباً فى قبره، يعمل الهمّ والحزنُ والغم والحسرة فى روحه ما تعمل الديدان وهوام الأرض فى جسمه .
والمقصود : أن محب الدنيا يعذب فى قبره ، ويعذب يوم لقاء ربه قال تعالى : { فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ } ( التوبة: الآية : 55 ) .
[*] قال بعض السلف : " يعذبهم بجمعها، وتزهق أنفسهم بحبها، وهم كافرون بمنع حق الله فيها " .
(3) مصدر رزق عظيم للأجر وكسب الحسنات : كما في الحديث الآتي : (
(حديث عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها، حتى ما تجعل في فِيْ امرأتك).
(4) ينجي من العذاب العظيم يوم الدين : كما في الأحاديث الآتي : (
)(1/395)
حديث أبي هريرة في صحيحي أبي داوود وابن ماجة) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة .
( حديث جابر في صحيح ابن ماجة) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لا تعلموا العلم لتباهوا به العلماء ولا تماروا به السفهاء و لا لتخيروا به المجالس فمن فعل ذلك فالنار.
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها قال قاتلت فيك حتى استشهدت قال كذبت ولكنك قاتلت لأن يقال جريء فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها قال تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن قال كذبت ولكنك تعلمت العلم ليقال عالم وقرأت القرآن ليقال هو قارئ فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها قال ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك قال كذبت ولكنك فعلت ليقال هو جواد فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه ثم ألقي في النار .
(5) كذلك الإخلاص هو أساس أعمال القلوب ، وأعمال الجوارح تبع ومكمل له، الإخلاص يعظم العمل الصغير حتى يصبح كالجبل ، كما أن الرياء يحقر العمل الكبير حتى لا يزن عند الله هباء قال تعالى : {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا}[ الفرقان: 23 ](1/396)
(6) الإخلاص مهم جداً لأن أغلب الناس يعيشون في صراعات داخلية ويعانون من أشياء فحرموا البركة والتوفيق إلا من رحمه الله، فكيف يكون النصر و تعلم العلم إلا من المخلصين، الإخلاص مهم في إنقاذنا من الوضع الذي نعيش فيه، فقد أصبح عزيزاً نادراً قليلاً، مشاريع ودعوات تلوثت بالرياء، حركات إسلامية دمرت بسبب افتقاد الإخلاص وبعد أن أريد بها الرئاسة والجاه والمال ، وقد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - أن حرص الإنسان على المال والجاه يفسد الدين فساداً كبيراً أكبر من الفساد الحاصل من إطلاق ذئبان جائعان على غنم وتأمل في الحديث الآتي بعين الاعتبار : (
(حديث كعب بن مالك في صحيح الترمذي) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ما ذئبان جائعان أُرسلا في غنم بأفسدَ لها من حرص المرء على المال و الشرف لدينه .
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
( ما ) بمعنى ليس
( ذئبان جائعان ) صفة له وفي رواية عاديان والعادي الظالم المتجاوز للحد
( أرسلا في غنم ) الجملة في محل رفع صفة
( بأفسد ) خبر ما والباء زائدة أي أشد فساداً والضمير في
( لها ) للغنم واعتبر فيه الجنسية فلذا أنث وقوله
( من حرص المرء على المال والشرف ) عطف على المال والمراد به الجاه والمنصب ( لدينه ) اللام فيه للبيان ، نحوها في قوله { لمن أراد أن يتم الرضاعة } فكأنه قيل هنا بأفسد لأي شيء؟ قيل لدينه ، ذكره الطيبي ،(1/397)
( فمقصود الحديث أن الحرص على المال والشرف أكثر إفساداً للدين من إفساد الذئبين للغنم لأن ذلك الأشر والبطر يستفز صاحبه ويأخذ به إلى ما يضره وذلك مذموم لاستدعائه العلو في الأرض والفساد المذمومين شرعاً ، قال الحكيم : وضع اللّه الحرص في هذه الأمة ثم زمه في المؤمنين بزمام التوحيد واليقين وقطع علائق الحرص بنور السبحات فمن كان حظه من نور اليقين ونور السبحات أوفر كان وثاق حرصه أوثق والحرص يحتاجه الآدمي لكن بقدر معلوم وإذا لم يكن لحرصه وثاق وهبت رياحه استفزت النفس فتعدى القدر المحتاج إليه فأفسد وعرف بعضهم الحرص بأنه مدد القوة الموضوعة في الآدمي ومثيرها وعمادها . أهـ
[*](أورد ابن حبان رحمه الله تعالى في روضة العقلاء عن سفيان الثورى قال العالم طبيب الدين والدرهم داء الدين فإذا اجتر الطبيب الداء إلى نفسه فمتى يداوى غيره0
[*] يقول ابن أبي جمرة وهو من كبار العلماء: وددت لو أنه كان من الفقهاء من ليس له شغل إلا أن يعلم الناس مقاصدهم في أعمالهم ويقعد للتدريس في أعمال النيات ليس إلا، فإنه ما أتى على كثير من الناس إلا من تضييع ذلك.
أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان الثوري قال : ما رأيت الزهد في شيء أقل منه في الرياسة، ترى الرجل يزهد في المطعم والمشرب والمال والثياب، فإذا تورع في الرياسة حامي عليها وعادي.
(7) ومن فوائد الإخلاص أنه يقلب المباحات إلى عبادات وينال بها عالي الدرجات، قال أحد السلف: إني لأستحب أن يكون لي في كل شيء نية حتى في أكلي ونومي ودخولي الخلاء وكل ذلك مما يمكن أن يقصد به التقرب إلى الله. لأن كل ما هو سبب لبقاء البدن وفراغ القلب للمهمات مطلوب شرعاً.
فالنية عند الفقهاء: تمييز العبادات عن العادات وتمييز العبادات عن بعضها البعض، إرادة وجه الله عز و جل .
(8) الإخلاص سبب للمغفرة الكبيرة للذنوب .(1/398)
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : والنوع الواحد من العمل قد يفعله الإنسان على وجه يكمل فيه إخلاصه فيغفر فيه كبائر، وإلا فأهل الكبائر كلهم يقولون لا إله إلا الله. كالبغي التي سقت كلباً فقد حضر في قلبها من الإخلاص ما لا يعلمه إلا الله فغفر الله لها.
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : غُفِرَ لأمرأة مُومِسَة ، مرت بكلب على رأس َرِكيٍّ ، يلهث، قال: كاد يقتله العطش، فنزعت خفها، فأوثقته بخمارها، فنزعت له من الماء، فَغُفِرَ لها بذلك.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
( غُفِرَ) بالبناء للمفعول بضبط المصنف أي غفر اللّه
( لامرأة مُومِسَة ) بضم الميم الأولى وكسر الثانية بضبطه
( مرت بكلب على رأس َرِكيٍّ) بفتح الراي وكسر الكاف وشد التحتية بئر
( يلهث ) أي يخرج لسانه من شدة الظمأ
( كاد يقتله العطش ) لشدته وفي رواية يأكل الثرى من العطش أي التراب الندي
( فنزعت خفها ) من رجلها
( فأوثقته ) أي شدته
( بخمارها ) بكسر الخاء أي بغطاء رأسها والخمار ككتاب ما يغطى به الرأس
( فنزعت ) جذبت وقلعت
( له من الماء ) أي بالبئر فسقته(1/399)
( فَغُفِرَ لها بذلك ) أي بسبب سقيها للكلب على الوجه المشروح فإنه تعالى يتجاوز عن الكبيرة بالعمل اليسير إذا شاء فضلاً منه . قال ابن العربي : وهذا الحديث يحتمل كونه قبل النهي عن قتل الكلاب وكونه بعده فإن كان قبله فليس بناسخ لأنه إنما أمر بقتل كلاب المدينة لا البوادي على أنه وإن وجب قتله يجب سقيه ولا يجمع عليه حرّ العطش والموت ، ألا ترى أن المصطفى صلى اللّه تعالى عليه وعلى آله وسلم لما أمر بقتل اليهود شكوا العطش فقال : لا تجمعوا عليهم حرّ السيف والعطش فسقوا واستدل به على طهارة سؤر الكلب لأن ظاهره أنها سقت الكلب من خفها ومنع باحتمال أن تكون صبته في شيء فسقته أو غسلت خفها بعد أو لم تلبسه على أن شرع من قبلنا ليس شرعاً لنا ، ولو قلنا به فمحله ما لم ينسخ ( فائدة ) قال شيخنا الشعراني : سقط على قلب زوجتي شيء فوصلت لحالة الموت فصاحت أهلها وإذا بقابل يقول وأنا بمجاز الخلاء خلص الذبابة من ضبع الذباب من الشق الذي تجاه وجهك ونحن نخلص لك زوجتك فوجدته عاضاً عليها فخلصتها فخلصت زوجتي حالاً .
(9) تنفيس الكروب لا يحدث إلا بالإخلاص ، والدليل على ذلك حديث الثلاثة الذين حبستهم صخرة ففرج الله همّهم وتأمل في هذا الحديث بعين البصيرة : (
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : خرج ثلاثة يمشون فأصابهم المطر، فدخلوا في غار في جبل، فانحطت عليهم صخرة، قال: فقال بعضهم لبعض: ادعوا الله بأفضل عمل عملتموه.(1/400)
فقال أحدهم: اللهم إني كان لي أبوان شيخان كبيران، فكنت أخرج فأرعى، ثم أجيء فأحلب فأجيء بالحلاب، فآتي أبواي فيشربان، ثم أسقي الصبية وأهلي وامرأتي، فاحتبست ليلة، فجئت فإذا هما نائمان، قال: فكرهت أن أوقظهما، والصبية يتضاغون عند رجلي، فلم يزل ذلك دأبي ودأبهما، حتى طلع الفجر، اللهم إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك، فافرج عنا فرجة نرى منها السماء، قال: ففرج عنهم.
وقال الآخر: اللهم إن كنت تعلم أني أحب امرأة من بنات عمي كأشد ما يحب الرجل النساء، فقالت: لا تنال ذلك منها حتى تعطيها مائة دينار، فسعيت حتى جمعتها، فلما قعدت بين رجليها قالت: اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه، فقمت وتركتها، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك، فافرج عنا فرجة، قال: ففرج عنهم الثلثين.
وقال الآخر: اللهم إن كنت تعلم أني استأجرت أجيرا بفرق من ذرة فأعطيته، وأبى ذلك أن يأخذ، فعمدت إلى ذلك الفرق فزرعته، حتى اشتريت منه بقرا وراعيها، ثم جاء فقال: يا عبد الله أعطيني حقي، فقلت: انطلق إلى تلك البقر وراعيها فإنها لك، فقال: أتستهزئ بي؟ قال: فقلت: ما أستهزئ بك ولكنها لك، اللهم إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا، فكشف عنهم).
(10) وبالإخلاص يرزق الناس الحكمة، ويوفقون للحق والصواب :
قال تعالى : {يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً } [ الأنفال : 29]
(11) وبالإخلاص يدرك الأجر على عمله وإن عجز عنه بل ويصل لمنازل الشهداء والمجاهدين وإن مات على فراشه .
قال تعالى : {وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ} [ التوبة : 92 ](1/401)