وهو فرض كفاية على المسلمين ليكفُّوا شرَّ الأعداء عن حوزة الإسلام, ولنشر تعاليم الدين السمحة, وفضله عظيم،وهاك غيضاً من فيض ونقطةً من بحر مما ورد في فضل الجهاد في سبيل الله :
(1) َفَضّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً بنص القرآن الكريم :
قال تعالى: (لاّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَىَ وَفَضّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً) [سورة: النساء - الآية: 95]
(2) وعد الله تعالى لمن قتل في سبيله أن يدخله الجنة وليس هناك فوزيعدل الجنة كما هو معلوم شرعاً وعقلاً وبداهةً .
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (انتدب الله عز وجل لمن خرج في سبيله، لا يخرجه إلا إيمان بي وتصديق برسلي، أن أرجعه بما نال من أجر أو غنيمة، أو أدخله الجنة، ولولا أن أشق على أمتي ما قعدت خلف سرية، ولوددت أني أقتل في سبيل الله ثم أحيا، ثم أقتل ثم أحيا، ثم أقتل).
( حديث أبي سعيد رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أن رجلا كان قبلكم، رغسه الله مالا، فقال لبنيه لما حضر: أي أب كنت لكم؟ قالوا: خير أب، قال: فإني لم أعمل خيرا قط، فإذا مت فأحرقوني، ثم اسحقوني، ثم ذروني في يوم عاصف، ففعلوا، فجمعه الله عز وجل فقال: ما حملك؟ قال: مخافتك، فتلقاه برحمته .
( حديث عبد الرحمن بن جبرالثابت في صحيح البخاري ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (ما أُغبرت قدما عبد في سبيل الله فتمسه النار).(1/406)
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :لا يلج النار رجل بكي من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع ولا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم .
( حديث ابن عباس رضي الله عنهما الثابت في صحيح الترمذي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : عينان لا تمسهما النار عين بكت من خشية الله وعين باتت تحرس في سبيل الله .
(3) ليس هناك عملٌ يعدل الجهاد في سبيل الله تعالى بنص السنة الصحيحة :
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) قال : جاء رجل إلى رسول الله فقال: دلني على عمل يعدل الجهاد، قال: (لا أجده). قال: (هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تدخل مسجدك، فتقوم ولا تفتر، وتصوم ولا تفطر). قال: ومن يستطيع ذلك. قال أبو هريرة: إن فرس المجاهد ليَسْتَنُ في طِوَلِه، فيكتب له حسنات.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :كل كَلْمٍ يُكْلَمْهُ المسلم في سبيل الله تعالى يكون يوم القيامة كهيئتها إذا طُعِنت تُفَجَّرُ َدما و اللون لون الدم و العَرْفُ عَرْفُ مسك .
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (من احتبس فرسا في سبيل الله، إيمانا بالله، وتصديقا بوعده، فإن شِبْعَهُ وَرِيهَ ورَوَثَه وبَوله في ميزانه يوم القيامة).
(4) بين النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا و ما فيها :
(حديث أنس الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا و ما فيها .
(5) بين النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الدعاء عند البأس والقتال مستجاب .
( حديث سهل بن سعد الثابت في صحيح أبي داوود ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :ثنتان لا تردان : الدعاء عند النداء وعند البأس حين يلحم بعضهم بعضا .(1/407)
(6) بين النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ترك الجهاد يكون سبباً في حصول الذل والعياذ بالله .
( حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح أبي داوود ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إذا تبايعتم بالعينة و أخذتم أذناب البقر و رضيتم بالزرع و تركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم .
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :
" مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ وَلَمْ يُحَدِّثْ بِهِ نَفْسَهُ مَاتَ عَلَى شُعْبَةٍ مِنْ نِفَاقٍ ".
منزلة الجهاد في الإسلام :
(حديث معاذ الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :ألاَ أُخْبِرُكَ بِرَأْسِ الأَمْرِ كُلّهِ وَعَمُودِهِ وَذِرْوَةِ سَنَامِهِ: قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ الله قَالَ: رَأْسُ الأَمْرِ الاْسْلاَمُ، وَعُمودُهُ الصّلاَةُ، وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الجِهَادُ في سبيل الله.
{ تنبيه } : والجهاد مع فرضيته وفضيلته إلا أنه مكروه على النفس, وذلك لأنَّ فيه مشقة وشدة, فإنَه إما أن يُقتل الإنسان أو يجرح, مع مشقة السفر ومجالدة الأعداء, ومع أن النفس تكرهه إلا أنه خيرٌ لها, لذا قال تعالى: ( كُتِبَ عليكم القتالُ وهو كُرْهٌ لَّكُم وعَسى أنْ تَكرهوا شَيْئًا وهو خَيرٌ لَّكم وعسى أنْ تُحبُّوا شيئًا وهو شرٌّ لكم والله يعلمُ وأنتم لا تعلمون) { البقرة:216 } .(1/408)
كَمَا أَمَرَ اللهُ تَعَالَى بِالإِنْفَاقِ عَلَى اليَتَامَى وَالمَسَاكِينِ لِحِمَايَةِ المُجْتَمَعِ مِنْ دَاخِلِهِ ، كَذلِكَ فَرَضَ اللهُ الجِهَادَ عَلَى المُسْلِمِينَ ، وَمُحَارَبَةِ أَعْدَاءِ الدِّينِ ، لِيَكُفُّوا عَنْ الجَمَاعَةِ المُسْلِمَةِ شَرَّ أَعْدَائِها . وَالجِهَادُ فَرْضُ كِفَايَة إِذَا قَامَ بِهِ بَعْضُ الأُمَّةِ سَقَطَ عَنِ البَاقِينَ ، وَالجِهَادُ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ غَزا أَوْ قَعَدَ ، فَالقَاعِدُ عَلَيهِ أَنْ يُعينَ إِذا اسْتَعَانَ بِهِ النَّاسُ ، وَأَنْ يُغيثَ إِذَا اسْتَغَاثُوا بِهِ ، وَأَنْ يَنْفِرَ إِذا اسُتُنْفِرَ .
وَيَذْكُرُ اللهُ تَعَالَى : أَنَّ الجِهَادَ فِيهِ كُرْهٌ وَمَشَقَّةٌ عَلَى الأَنْفُسِ ، مِنْ تَحَمُّلِ مَشَقَّةِ السَّفَرِ ، إِلَى مَخَاطِرِ الحُرُوبِ وَمَا فِيهَا مِنَ جَرْحٍ وَقَتْلٍ وَأَسْرٍ ، وَتَرْكٍ لِلْعِيَالِ ، وَتَرْكٍ لِلتِّجَارَةِ وَالصَّنْعَةِ وَالعَمَلِ . . إلخ ، وَلكِنْ قَدْ يَكُونُ فِيهِ الخَيْرُ لأَنَّهُ قَدْ يَعْقُبُهُ النَّصْرُ وَالظَّفَرُ بِالأَعْدَاءِ ، وَالاستِيلاءُ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَبِلاَدِهِمْ . وَقَدْ يُحِبُّ المَرْءُ شَيئاً وَهُوَ شَرٌّ لَهُ ، وَمِنْهُ القُعُودُ عَنِ الجِهَادِ ، فَقَدْ يَعْقُبُهُ استِيلاءُ الأَعْدَاءِ عَلَى البِلادِ وَالحُكْمِ ، وَاللهُ يَعْلَمُ عَوَاقِبَ الأُمُورِ أَكْثَرَ مِمَّا يَعْلَمُها العِبَادُ .
(2) الصبر على النوائب, والرضا بقضاء الله :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
قال تعالى: (أَمْ حَسِبتمْ أن تَدْخلُوا الجنَّة َوَلَمَّا يعلمِ اللهُ الذين جاهدوا منكم ويعلمَ الصابرين) { آل عمران:142 }(1/409)
وَلاَ تَحْسَبُوا أَنَّكُمْ تَدْخُلُونَ الجَنَّةَ قَبْلَ أَنْ يَخْتَبِرَكُمُ اللهُ تَعَالَى وَيُمَحِّصَكُمْ فِي الشَّدَائِدِ وَالجِهَادِ لِيَرَى صِدْقَ إيمَانِكُمْ ، وَيَرَى مَنْ يَسْتَجِيبُ للهِ ، وَيُخْلِصُ فِي طَاعَتِهِ ، وَقِتَالِ أًَعْدَائِهِ ، وَيَصْبِرُ عَلَى مَكَارِهِ الحُرُوبِ .
وقال تعالى: (أَمْ حَسبْتُمْ أن تَدْخُلوا الجنَّة َوَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الذين خَلَوْا من قبلِكم مَّسَّتْهُمُ البَأْساءُ والضراءُ وزُلْزِلُوا حتى يقولَ الرسولُ والذين آمنُوا مَعَهُ مَتَى نصرُ اللهِ أَلا إنَّ نَصْرَ اللهِ قريبٌ) { البقرة:214 }(1/410)
يُخَاطِبَ اللهُ تَعَالَى الذِينَ هَدَاهُمْ إِلى السِّلْمِ ، وَإِلَى الخُرُوجِ مِنْ ظُلْمَةِ الاخْتِلاَفِ ، إِلى نُورِ الوِفَاقِ ، بِاتِّبَاعِهِمْ هُدَى الكِتَابِ زَمَنَ التَّنْزيلِ ، الذِينَ يَظُنُّونَ مِنْهُمْ أَنَّ انْتِسَابَهُمْ إِلى الإِسْلاَمِ فِيهِ الكِفَايَةُ لِدُخُولِ الجَنَّةِ دُونَ أَنْ يَتَحَمَّلُوا الشَّدَائِدَ وَالأَذَى فِي سَبيلِ الحَقِّ ، وَهِدَايَةِ الخَلْقِ ، جَهْلاً مِنْهُمْ بِسُنَّةِ اللهِ تَعَالَى فِي أَهْلِ الهُدَى مُنْذُ أَنْ خَلَقَهُمْ . فَيَقُولُ لَهُمْ : هَلْ تَحْسَبُونَ أَنَّكُمْ تَدْخُلُونَ الجَنَّةَ قَبْلَ أَنْ تُبْتَلَوا وَتُخْتَبَرُوا كَمَا فُعِلَ بِالذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الأُمَمِ الذِينَ ابْتُلُوا بِالفَقْرِ ( البَأَسَاءُ ) ، وَبِالأَسْقَامِ وَالأَمْرَاضِ ( الضَّرَّاءُ ) ، وَخُوِّفُوا وَهُدَّدُوا مِنَ الأَعْدَاءِ ( زُلْزِلُوا ) ، وَامتُحِنُوا امْتِحَاناً عَظِيماً ، وَاشْتَدَّتِ الأُمُورُ بِهِمْ حَتَّى تَسَاءَلَ الرَّسُولُ وَالمُؤْمِنُونَ قَائِلِينَ : مَتَى يَأْتِي نَصْرُ اللهِ .وَحِينَما تَثْبُتُ القُلُوبُ عَلَى مِثْلِ هذِهِ المِحَنِ المُزَلْزِلَةِ ، حِينَئِذٍ تَتِمُّ كَلِمَةُ اللهِ ، وَيَجِيءُ نَصْرُهُ الذِي يَدَّخِرُهُ لِمَنْ يَسْتَحِقُّهُ مِنْ عِبَادِهِ الذِينَ يَسْتَيْقِنُونَ أَنْ لاَ نَصْرَ إِلاَّ نَصْرُ اللهِ .
إنه مدخر لمن يستحقونه . ولن يستحقه إلا الذين يثبتون حتى النهاية . الذين يثبتون على البأساء والضراء . الذين يصمدون للزلزلة .الذين لا يحنون رؤوسهم للعاصفة . الذين يستيقنون أن لا نصر إلا نصر الله ، وعندما يشاء الله . وحتى حين تبلغ المحنة ذروتها ، فهم يتطلعون فحسب إلى { نصر الله } ، لا إلى أي حل آخر ، ولا إلى أي نصر لا يجيء من عند الله . ولا نصر إلا من عند الله .(1/411)
بهذا يدخل المؤمنون الجنة ، مستحقين لها ، جديرين بها ، بعد الجهاد والامتحان ، والصبر والثبات ، والتجرد لله وحده ، والشعور به وحده ، وإغفال كل ما سواه وكل من سواه .
إن الصراع والصبر عليه يهب النفوس قوة ، ويرفعها على ذواتها ، ويطهرها في بوتقة الألم ، فيصفو عنصرها ويضيء ، ويهب العقيدة عمقاً وقوة وحيوية ، فتتلألأ حتى في أعين أعدائها وخصومها . وعندئذ يدخلون في دين الله أفواجاً كما وقع ، وكما يقع في كل قضية حق ، يلقى أصحابها ما يلقون في أول الطريق ، حتى إذا ثبتوا للمحنة انحاز إليهم من كانوا يحاربونهم ، وناصرهم أشد المناوئين وأكبر المعاندين . .
على أنه ـ حتى إذا لم يقع هذا ـ يقع ما هو أعظم منه في حقيقته . يقع أن ترتفع أرواح أصحاب الدعوة على كل قوى الأرض وشرورها وفتنتها ، وأن تنطلق من إسار الحرص على الدعة والراحة ، والحرص على الحياة نفسها في النهاية . . وهذا الانطلاق كسب للبشرية كلها ، وكسب للأرواح التي تصل إليه عن طريق الاستعلاء . كسب يرجح جميع الآلام وجميع البأساء والضراء التي يعانيها المؤمنون ، والمؤتمنون على راية الله وأمانته ودينه وشريعته .
وهذا الانطلاق هو المؤهل لحياة الجنة في نهاية المطاف . وهذا هو الطريق .
هذا هو الطريق كما يصفه الله للجماعة المسلمة الأولى ، وللجماعة المسلمة في كل جيل .
هذا هو الطريق : إيمان وجهاد . . ومحنة وابتلاء . وصبر وثبات . . وتوجه إلى الله وحده . ثم يجيء النصر . ثم يجيء النعيم . .
وابتلاء الله تعالى للعباد وامتحانهم إنَّما يكون لتنقيتهم وترقيتهم وليميز الخبيث من الطيب, قال تعالى: (ألم* أَحَسِبَ النَّاسُ أن يُتْرَكُوا أن يقولوا آمنَّا وهم لا يُفتنون*ولقد فتنَّا الذين من قبلهم فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الذين صَدَقُوا ولَيَعْلَمَنَّ الكاذبين) { العنكبوت:1-3 } .(1/412)
إن الإيمان ليس كلمة تقال إنما هو حقيقة ذات تكاليف؛ وأمانة ذات أعباء؛ وجهاد يحتاج إلى صبر ، وجهد يحتاج إلى احتمال . فلا يكفي أن يقول الناس : آمنا . وهم لا يتركون لهذه الدعوى ، حتى يتعرضوا للفتنة فيثبتوا عليها ويخرجوا منها صافية عناصرهم خالصة قلوبهم . كما تفتن النار الذهب لتفصل بينه وبين العناصر الرخيصة العالقة به وهذا هو أصل الكلمة اللغوي وله دلالته وظله وإيحاؤه وكذلك تصنع الفتنة بالقلوب .
هذه الفتنة على الإيمان أصل ثابت ، وسنة جارية ، في ميزان الله سبحانه :
{ ولقد فتنا الذين من قبلهم ، فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين } . .
والله يعلم حقيقة القلوب قبل الابتلاء؛ ولكن الابتلاء يكشف في عالم الواقع ما هو مكشوف لعلم الله ، مغيب عن علم البشر؛ فيحاسب الناس إذن على ما يقع من عملهم لا على مجرد ما يعلمه سبحانه من أمرهم . وهو فضل من الله من جانب ، وعدل من جانب ، وتربية للناس من جانب ، فلا يأخذوا أحداً إلا بما استعلن من أمره ، وبما حققه فعله . فليسوا بأعلم من الله بحقيقة قلبه!
ونعود إلى سنة الله في ابتلاء الذين يؤمنون وتعريضهم للفتنة حتى يعلم الذين صدقوا منهم ويعلم الكاذبين .
إن الإيمان أمانة الله في الأرض ، لا يحملها إلا من هم لها أهل وفيهم على حملها قدرة ، وفي قلوبهم تجرد لها وإخلاص . وإلا الذين يؤثرونها على الراحة والدعة ، وعلى الأمن والسلامة ، وعلى المتاع والإغراء . وإنها لأمانة الخلافة في الأرض ، وقيادة الناس إلى طريق الله ، وتحقيق كلمته في عالم الحياة . فهي أمانة كريمة؛ وهي أمانة ثقيلة؛ وهي من أمر الله يضطلع بها الناس؛ ومن ثم تحتاج إلى طراز خاص يصبر على الابتلاء .(1/413)
ومن الفتنة أن يتعرض المؤمن للأذى من الباطل وأهله؛ ثم لا يجد النصير الذي يسانده ويدفع عنه ، ولا يملك النصرة لنفسه ولا المنعة؛ ولا يجد القوة التي يواجه بها الطغيان . وهذه هي الصورة البارزة للفتنة ، المعهودة في الذهن حين تذكر الفتنة . ولكنها ليست أعنف صور الفتنة . فهناك فتن كثيرة في صور شتى ، ربما كانت أمر وأدهى .
هناك فتنة الأهل والأحباء الذين يخشى عليهم أن يصيبهم الأذى بسببه ، وهو لا يملك عنهم دفعاً . وقد يهتفون به ليسالم أو ليستسلم؛ وينادونه باسم الحب والقرابة ، واتقاء الله في الرحم التي يعرضها للأذى أو الهلاك . وقد أشير في هذه السورة إلى لون من هذه الفتنة مع الوالدين وهو شاق عسير .وهناك فتنة إقبال الدنيا على المبطلين ، ورؤية الناس لهم ناجحين مرموقين ، تهتف لهم الدنيا ، وتصفق لهم الجماهير ، وتتحطم في طريقهم العوائق ، وتصاغ لهم الأمجاد ، وتصفو لهم الحياة . وهو مهمل منكر لا يحس به أحد ، ولا يحامي عنه أحد ، ولا يشعر بقيمة الحق الذي معه إلا القليلون من أمثاله الذين لا يملكون من أمر الحياة شيئاً .
وهنالك فتنة الغربة في البيئة والاستيحاش بالعقيدة ، حين ينظر المؤمن فيرى كل ما حوله وكل من حوله غارقاً في تيار الضلالة؛ وهو وحده موحش غريب طريد وهناك فتنة من نوع آخر قد نراها بارزة في هذه الأيام . فتنة أن يجد المؤمن أمماً ودولاً غارقة في الرذيلة ، وهي مع ذلك راقية في مجتمعها ، متحضرة في حياتها ، يجد الفرد فيها من الرعاية والحماية ما يناسب قيمة الإنسان . ويجدها غنية قوية ، وهي مشاقة لله!(1/414)
وهنالك الفتنة الكبرى . أكبر من هذا كله وأعنف . فتنة النفس والشهوة . وجاذبية الأرض ، وثقلة اللحم والدم ، والرغبة في المتاع والسلطان ، أو في الدعة والاطمئنان . وصعوبة الاستقامة على صراط الإيمان والاستواء على مرتقاه ، مع المعوقات والمثبطات في أعماق النفس ، وفي ملابسات الحياة ، وفي منطق البيئة ، وفي تصورات أهل الزمان!
فإذا طال الأمد ، وأبطأ نصر الله ، كانت الفتنة أشد وأقسى . وكان الابتلاء أشد وأعنف . ولم يثبت إلا من عصم الله . وهؤلاء هم الذين يحققون في أنفسهم حقيقة الإيمان ، ويؤتمنون على تلك الأمانة الكبرى ، أمانة السماء في الأرض ، وأمانة الله في ضمير الإنسان .وما بالله حاشا لله أن يعذب المؤمنين بالابتلاء ، وأن يؤذيهم بالفتنة . ولكنه الإعداد الحقيقي لتحمل الأمانة . فهي في حاجة إلى إعداد خاص لا يتم إلا بالمعاناة العملية للمشاق؛ وإلا بالاستعلاء الحقيقي على الشهوات ، وإلا بالصبر الحقيقي على الآلام ، وإلا بالثقة الحقيقية في نصر الله أو في ثوابه ، على الرغم من طول الفتنة وشدة الابتلاء .والنفس تصهرها الشدائد فتنفي عنها الخبث ، وتستجيش كامن قواها المذخورة فتستيقظ وتتجمع . وتطرقها بعنف وشدة فيشتد عودها ويصلب ويصقل . وكذلك تفعل الشدائد بالجماعات ، فلا يبقى صامداً إلا أصلبها عوداً؛ وأقواها طبيعة ، وأشدها اتصالاً بالله ، وثقة فيما عنده من الحسنيين : النصر أو الأجر ، وهؤلاء هم الذين يسلَّمون الراية في النهاية . مؤتمنين عليها بعد الاستعداد والاختبار .وإنهم ليتسلمون الأمانة وهي عزيزة على نفوسهم بما أدوا لها من غالي الثمن؛ وبما بذلوا لها من الصبر على المحن؛ وبما ذاقوا في سبيلها من الآلام والتضحيات . والذي يبذل من دمه وأعصابه ، ومن راحته واطمئنانه ، ومن رغائبه ولذاته . ثم يصبر على الأذى والحرمان؛ يشعر ولا شك بقيمة الأمانة التي بذل فيها ما بذل؛ فلا يسلمها رخيصة بعد كل هذه التضحيات والآلام .(1/415)
فأما انتصار الإيمان والحق في النهاية فأمر تكفل به وعد الله .وما يشك مؤمن في وعد الله . فإن أبطأ فلحكمة مقدرة ، فيها الخير للإيمان وأهله . وليس أحد بأغير على الحق وأهله من الله . وحسب المؤمنين الذين تصيبهم الفتنة ، ويقع عليهم البلاء ، أن يكونوا هم المختارين من الله ، ليكونوا أمناء على حق الله . وأن يشهد الله لهم بأن في دينهم صلابة فهو يختارهم للابتلاء ، وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد ، ودرر الفرائد .
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من يرد الله به خيرا يصب منه .
( حديث سعد ابن أبي وقاص رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل يبتلى الرجل على حسب دينه فإن كان في دينه صلبا اشتد بلاؤه و إن كان في دينه رقة ابتلي على قدر دينه فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض و ما عليه خطيئة .
(حديث أبي سعيد رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب ) أنه دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو موعوك عليه قطيفة فوضع يده فوق القطيفة فقال ما أشد حماك يا رسول الله قال إنا كذلك يشدد علينا البلاء ويضاعف لنا الأجر ثم قال: يا رسول الله من أشد الناس بلاء ؟ قال : الأنبياء
قال : ثم من ؟ قال العلماء ، قال : ثم من ؟ قال الصالحون ، كان أحدهم يبتلى بالقمل حتى يقتله ويبتلى أحدهم بالفقر حتى ما يجد إلا العباءة يلبسها ولأحدهم كان أشد فرحا بالبلاء من أحدكم بالعطاء .
( حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن عظم الجزاء مع عظم البلاء و إن الله تعالى إذا أحب قوما ابتلاهم فمن رضي فله الرضا و من سخط فله السخط .(1/416)
(حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجه ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال أشد الناس بلاء الأنبياء ، ثم الصالحون ، إن كان أحدهم ليبتلى بالفقر حتى ما يجد أحدهم إلا العباءة التي يحويها ، وإن كان أحدهم ليفرح بالبلاء كما يفرح أحدكم بالرخاء .
( حديث خبَّاب بن الأرتِّ رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري ) قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو متوسِّد بردة له في ظل الكعبة، فقلنا: ألا تستنصر لنا، ألا تدعو لنا؟ فقال: (قد كان من قبلكم، يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض، فيجعل فيها، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، فما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمَّنَّ هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله، والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون).
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : مثل المؤمن كمثل خامة الزرع من حيث أتتها الريح كفأتها فإذا سكنت اعتدلت و كذلك المؤمن يكفأ بالبلاء و مثل الفاجر كالأرزة صماء معتدلة حتى يقصمها الله تعالى إذا شاء .
(حديث حذيفة رضي الله عنه الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه قالوا وكيف يذل نفسه قال يتعرض من البلاء لما لا يطيق .
[*] قال العلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:
( لَا يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ ) أَيْ لَا يَجُوزُ لَهُ
( أَنْ يُذِلَّ ) مِنَ الْإِذْلَالِ
( قَالَ يَتَعَرَّضُ ) أَيْ يَتَصَدَّى
( مِنَ الْبَلَاءِ ) بَيَانٌ مُقَدَّمٌ لِقَوْلِهِ مَا لَا يُطِيقُ .
(3) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ(1/417)
وهي عبادة شاقة على النفس , وغالبًا ما يحدث للقائم بها شدائد ومشاكل وصعوبات كثيرة, لذا بعدما أوصى لقمان ابنه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أوصاه بالصبر لما سيقابله بسبب ذلك من إيذاء ومشقة,كما حكاه القرآن الكريم : (يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاة َوَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ المُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ) { لقمان:17 } .
ثُمَّ قَالَ لُقمَانُ لابنِهِ ، يَا بُنَيَّ أَدِّ الصَّلاَة في أَوْقَاتِها ، وَأَتْمِمْهَا بِرُكُوعِها وَسُجُودِها وَخُشُوعِها ، لأَنَّ الصَّلاةَ تُذَكِّرُ العَبْدَ بِرَبِّهِ ، وَتَحْملُهُ عَلَى فِعْلِ المَعْرُوفِ ، والانْتِهَاءِ عَنْ فِعْلِ المُنْكَرِ ، وإِذا فَعَلَ الإنسَانُ ذلِكَ تَصْفُو نَفْسُهُ وَتَسْمُو ، وَيَسْهُلُ عَلَيها احْتِمَالُ الصِّعَابِ في اللهِ ، ثمَّ حَثَّ لُقْمَانُ ابْنَهُ عَلَى احتِمَالِ أَذَى النَّاسِ إِذا قَابَلُوه بِالسُّوءِ والأَذى عَلَى حَثِّهِ إِيًَّاهُمْ عَلَى فِعْلِ الخَيرِ ، والانْتِهَاءِ عَنْ فِعْلِ المُنْكَرِ ، ثُمَّ قَالَ لَهُ : إِنَّ هذا الذي أَوْصَاهُ بِهِ هُوَ مِنَ الأمُورِ التي يَنْبَغِي الحِرْصُ عَليها ، والتَّمَسُّكُ بِهَا ( مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ ) .
(4) وغير ذلك من تكاليف الإسلام :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
فالصلاة ـ مثلاً ـ أثقل شيءٍ على المنافقين, وعلى النفوس الضعيفة قال تعالى: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخَاشِعِينَ ) { البقرة:45 } .(1/418)
يَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ بِالاسْتِعَانَةِ عَلَى أَدَاءِ التَّكَالِيفِ ، وَمَا فَرَضَهُ عَلَيْهِمْ ، بِالصَّبْرِ عَلَى الفَرَائِضِ ، وَضَبْطِ النَّفْسِ عَنِ المَعَاصِي ، وَبِالصَّلاةِ ، لَعَلَّهُمْ يَبْلُغُونَ مَا يُؤمِّلُونَ مِنْ خَيْرِ الدُّنيا وَالآخِرَةِ . وَيُنَبِّهُهُمُ اللهُ تَعَالَى إِلَى أَنَّ القِيَامَ بِهذِهِ الوَصِيَّةِ التِي يَطْلبُ مِنَ النَّاسِ الأَخْذَ بِهَا مِنْ صَبْرٍ وَصَلاةٍ . . . أَمْرٌ شَاقٌ ثَقِيلٌ عَلَى النُّفُوسِ ، إِلاَّ النُّفُوسَ المُؤْمِنَةَ الخَاشِعَةَ المُسْتَكِينَةَ لِطَاعَةِ اللهِ ، المُتَذَلِّلَةَ مِنْ مَخَافَتِهِ .
والزكاة والصدقة ثقيلتان وشاقتان على البخلاء والحريصين على جمع المال , ولا تخفى مشقة الحج وما يتطلبه من جهدٍ وسفر وصعوبات وإنفاق وصبر ٍوجَلَد, والصيام وما يتطلبه من صبر ٍعلى الجوع والعطش والشهوةِ نهارًا, وغير ذلك من المشقات.
ولعلي أكون قد بيَّنتُ جانبًا من المكاره التي حُفت بها الجنة, والتي على المسلم أن يتحمل ما يعرض له منها ويصبر على ذلك ليفوز بنعيم الجنة,وهي وإن كانت تكاليف شاقَّة إلا أنّه لا يُدرك الغالي إلا بالعمل الشاق, وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد ، ودرر الفرائد .
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : "مَنْ خَافَ أَدْلَجَ وَمَنْ أَدْلَجَ بَلَغَ المَنْزِلَ أَلاَ إِنّ سِلْعَةَ الله غَالِيَةٌ أَلاَ إِنّ سِلْعَةَ الله الْجَنّةُ".
ولعلَّ هذا هو السبب الذي جعل جبريل-عليه السلام- بعدما رأى حقيقة الجنة وقد حُفت بالمكاره يخشى ألا يدخلها أحد, لذا قال لربّه تعالى: "وعزَّتك لقد خفتُ ألا يدخلها أحد".
نعيم الجنة فوق ما يخطر ببال أو يدور في الخيال :(1/419)
الجنة فوق ما يخطر على البال أو يدور في الخيال فهل أعددت لها صالح الأعمال قبل طي الآجال ، لقد عرفنا الله الجنة.. ترغيباً فيها.. وبين لنا بعضاً من نعيمها وأخفى عنا بعضاً, زيادة في الترغيب والتشويق . لذلك فإن نعيم الجنة مهما وصف, لا تدركه العقول لأن فيها من الخير مالا يخطر ببال أو يدور في الخيال ، فهل عرفت الجنة؟!
إنها دار خلود وبقاء.. لا فيها بأس ولا شقاء, ولا أحزان ولا بكاء.. لا تنقضي لذاتها ولا تنتهي مسراتها.. كل ما فيها يذهل العقل ويسحر الفكر.. ويسكر الرشد.. ويصرع اللب..
... ... ... هي جنة طابت وطاب نعيمها : فنعيمها باق وليس بفان
هي نور يتلألأ, وريحانة تهتز.وقصر مشيد ونهر مطرد..وفاكهة نضيجة.. وزوجة حسناء جميلة.. وحلل كثيرة في مقام أبداً, في حبرة ونضرة,في دور عالية سليمة بهية تتراءى لأهلها كما يتراءى الكوكب الدري الغائر في الأفق.
قال تعالى: (تَتَجَافَىَ جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مّآ أُخْفِيَ لَهُم مّن قُرّةِ أَعْيُنٍ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) [السجدة 16 ، 17]
و تأمل كيف قابل ما أخفوه من قيام الليل بالجزاء الذي أخفاه لهم مما لا تعلمه نفس و كيف قابل قلقهم وخوفهم واضطرابهم على مضاجعهم حين يقوموا إلى صلاة الليل بقرة الأعين في الجنة .
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : قال الله تبارك وتعالى: أعددت لعبادي الصالحين: ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر). قال أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم: (فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مّآ أُخْفِيَ لَهُم مّن قُرّةِ أَعْيُنٍ ) .
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن في الجنة لشجرة، يسير الركب في ظلها مائة سنة، واقرؤوا إن شئتم: { وظل ممدود } .(1/420)
( حديث سهل بن سعد رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها، ولغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها).
( حديث سعد ابن أبي وقاص رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لَوْ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ اطَّلَعَ فَبَدَا أَسَاوِرُهُ لَطَمَسَ ضَوْءَ الشَّمْسِ كَمَا تَطْمِسُ الشَّمْسُ ضَوْءَ النُّجُومِ .
[*] قال العلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي :
( اطَّلَعَ ) بِتَشْدِيدِ الطَّاءِ أَيْ أَشْرَفَ عَلَى أَهْلِ الدُّنْيَا .
( فَبَدَا ) أَيْ ظَهَرَ
( أَسَاوِرُهُ ) جَمْعُ أَسْوِرَةٍ جَمْعِ سِوَارٍ، وَالْمُرَادُ بَعْضُ أَسَاوِرِهِ.
( لَطَمَسَ ) أَيْ مَحَا ضَوْءُ أَسَاوِرِهِ .
( ضَوْءَ الشَّمْسِ ) بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ .
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : الجنة بناؤها لبنة من فضة و لبنة من ذهب ومِلاطُها المسك الأذْفَرُ وَحَصْبَاؤُهَا اللؤلؤ والياقوت و تربتها الزعفران من يدخلها ينعم لا يبأس و يخلد لا يموت لا تبلى ثيابهم و لا يفنى شبابهم.
اللَّبِنَة : واحدة اللَّبِن وهي التي يُبْنَى بها الجِدَار .
الملاط : الطين الذي يكون بين اللبنتين ، أو التراب الذي يخالطه الماء .
الأذفر : ذو الرائحة القوية الفواحة .
الحصباء : الحجارة الصغيرة .
الياقوت :حجر كريم من أجود الأنواع وأكثرها صلابة بعد الماس ، خاصة ذو اللون الأحمر.
[*] قال العلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:
(الجنة بناؤها لَبِنَةٌ مِنْ فِضَّةٍ وَلَبِنَةٌ مِنْ ذَهَبٍ ) أَيْ بِنَاؤُهَا مُرَصَّعٌ مِنْهُمَا(1/421)
( وَمِلَاطُهَا ) بِكَسْرِ الْمِيمِ أَيْ مَا بَيْنَ اللَّبِنَتَيْنِ مَوْضِعُ النُّورَةِ، فِي النِّهَايَةِ: الْمِلَاطُ الطِّينُ الَّذِي يُجْعَلُ بَيْنَ سَاقَتَيِ الْبِنَاءِ يُمَلَّطُ بِهِ الْحَائِطُ أَيْ يُخْلَطُ .
( الْمِسْكُ الْأَذْفَرُ ) أَيِ الشَّدِيدُ الرِّيحِ .
( وَحَصْبَاؤُهَا ) أَيْ حَصْبَاؤُهَا الصِّغَارُ الَّتِي فِي الْأَنْهَارِ قَالَهُ الْقَارِي. وَقَالَ صَاحِبُ أَشِعَّةِ الجزء السابع اللُّمَعَاتِ: أَيْ حَصْبَاؤُهَا الَّتِي فِي الْأَنْهَارِ وَغَيْرِهَا. قُلْتُ: الظَّاهِرُ هُوَ الْعُمُومُ
( اللُّؤْلُؤُ وَالْيَاقُوتُ ) أَيْ مِثْلُهَا فِي اللَّوْنِ وَالصَّفَاءِ
( وَتُرْبَتُهَا ) أَيْ مَكَانَ تُرَابِهَا
( الزَّعْفَرَانُ ) أَيِ النَّاعِمُ الْأَصْفَرُ الطَّيِّبُ الرِّيحِ فَجَمَعَ بَيْنَ أَلْوَانِ الزِّينَةِ وَهِيَ الْبَيَاضُ وَالْحُمْرَةُ وَالصُّفْرَةُ وَيَتَكَمَّلُ بِالْأَشْجَارِ الْمُلَوَّنَةِ بِالْخُضْرَةِ. وَلَمَّا كَانَ السَّوَادُ يَغُمُّ الْفُؤَادَ خُصَّ بِأَهْلِ النَّارِ .
( مَنْ يَدْخُلُهَا يَنْعَمُ لَا يَبْأَسُ ) بِفَتْحِ وَسَطِهِمَا فِي الْقَامُوسِ: الْبَأْسُ الْعَذَابُ وَالشِّدَّةُ فِي الْحَرْبِ بَؤُسَ كَكَرُمَ بَأْسًا وَبَئِسَ كَسَمِعَ اشْتَدَّتْ حَاجَتُهُ
( يَخْلُدُ ) أَيْ يَدُومُ فَلَا يَتَحَوَّلُ عَنْهَا
(ولَا يَمُوتُ ) أَيْ لَا يَفْنَى بَلْ دَائِمًا يَبْقَى
( َلَا تَبْلَى ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ مِنْ بَابِ سَمِعَ يَسْمَعُ أَيْ لَا تَخْلَقُ وَلَا تَتَقَطَّعُ
( ثِيَابُهُمْ ) وَكَذَا أَثَاثُهُمْ(1/422)
( وَلَا يَفْنَى شَبَابُهُمْ ) أَيْ لَا يَهْرَمُونَ وَلَا يُخَرِّفُونَ وَلَا يُغَيِّرُهُمْ مُضِيُّ الزَّمَانِ قَالَ الْقَاضِي: مَعْنَاهُ أَنَّ الْجَنَّةَ دَارُ الثَّبَاتِ وَالْقَرَارِ وَأَنَّ التَّغَيُّرَ لَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهَا فَلَا يَشُوبُ نَعِيمَهَا بُؤْسٌ وَلَا يَعْتَرِيهِ فَسَادٌ وَلَا تَغْيِيرٌ، فَإِنَّهَا لَيْسَتْ دَارَ الْأَضْدَادِ وَمَحَلَّ الْكَوْنِ وَالْفَسَادِ .
( حديث أبي سعيد رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :إن أول زمرة يدخلون الجنة يوم القيامة ضوء وجوههم على مثل ضوء القمر ليلة البدر والزمرة الثانية على مثل أحسن كوكب دري في السماء لكل رجل منهم زوجتان على كل زوجة سبعون حلة يرى مخ ساقها من ورائها .
( حديث أنس رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لغدوةٍ في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها وَلَقَاب قَوْسِ أحدكم أو موضع قده في الجنة خير من الدنيا و ما فيها ولو اطَّلعت امرأة من نساء أهل الجنة إلى الأرض لملأت ما بينهما ريحا ولأضاءت ما بينهما و لنصيفها على رأسها خير من الدنيا و ما فيها .
( حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : طوبى شجرة في الجنة مسيرة مائة عام ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
( طوبى شجرة في الجنة مسيرة مائة عام ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها ) جمع كم بالكسر وعاء الطلع قال عبيد بن عمير : هي شجرة في جنة عدن في دار النبي صلى اللّه عليه وسلم وفي كل دار وغرفة لم يخلق اللّه لوناً ولا زهرة إلا فيها منها إلا السواد ولا يخلق اللّه فاكهة ولا ثمرة إلا فيها منها ينبع من أصلها عينان الكافور والسلسبيل كل ورقة منها تظل أمة عليها ملك يسبح اللّه بأنواع التسبيح . انتهى .(1/423)
أخي الحبيب:
هل يعقل أن يدرك عقل المرء هذا النعيم ثم يزهد فيه؟هذا داعي الخير يناديك.. ويحرك فيك نشاط التنافس والمسارعة قال تعالى: (وَسَارِعُوَاْ إِلَىَ مَغْفِرَةٍ مّن رّبّكُمْ وَجَنّةٍ عَرْضُهَا السّمَاوَاتُ وَالأرْضُ أُعِدّتْ لِلْمُتّقِينَ) [آل عمران: 133]
فسارع إلى المغفرة والملك العظيم.فقد دعاك البشير..
ولله درُ من قال :
يا طالب الدنيا الدنية إنها ... شرك الردى وقرارة الأقذار
دار متى ما أضحكت في يومها ... أبكت غداً تبا ًلها من دار
فاللبيب من باع الدنيا بالآخرة. قال تعالى: (وَلَلاَخِرَةُ خَيْرٌ لّكَ مِنَ الاُولَىَ) [الضحى: 4] والكيس من صنع السعادة بيده فبحث عن طريق الجنة فسلكه وإنما طريقها توحيد الله واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم,وأداء الفرائض والواجبات والبعد عن الفواحش والكبائر والمحرمات والتقرب إلى الله بالنوافل وصالح الطاعات, والإنابة والتوبة إلى الله في الظلمات والخلوات والاستغفار من الخطايا والزلات والتنور بنور العلم وسليم الفهم والعمل بذلك وملازمة الإخلاص والصدق مع الله,فإن السالك لهذا الطريق لا يخيب ظنه ولا يعرقل سيره ولا يضيع سعيه:قال تعالى: { (وَالْعَصْرِ * إِنّ الإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ * إِلاّ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْاْ بِالْحَقّ وَتَوَاصَوْاْ بِالصّبْرِ) [العصر1: 3]
ولله درُ من قال :
تدري أخي ما طريق الجنة : ... ... ... ... طريقه القرآن ثم السنة
مناديل أهل الجنة :
( حديث البراء ابن عازب رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) قال : أهديت لرسول الله صلى الله عليه وسلم حلة حرير فجعل أصحابه يلمسونها ويعجبون من لينها فقال أتعجبون من لين هذه لمناديل سعد بن معاذ في الجنة خير منها وألين .
[*] قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه حادي الأرواح :(1/424)
ولا يخفى ما في ذكر سعد بن معاذ بخصوصه ههنا فإنه كان في الأنصار بمنزلة الصديق في المهاجرين واهتز لموته العرش وكان لا يأخذه في الله لومة لائم وختم الله له بالشهادة وآثر رضا الله ورسوله على رضا قومه وعشيرته وخلفائه ووافق حكمه الذي حكم به حكم الله فوق سبع سموات ونعاه جبريل إلى النبي يوم موته فحق له أن تكون مناديله التي يمسح بها يديه في الجنة أحسن من حلل الملوك .
ومن ملابسهم التيجان على رؤسهم :
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :يجيء صاحب القرآن يوم القيامة ، فيقول : يا رب حله ، فيلبس تاج الكرامة . ثم يقول : يا رب زده فيلبس حلة الكرامة ، ثم يقول : يا رب ارض عنه ، فيقال اقرأ وارق ويزاد بكل آية حسنة .
[*] قال العلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:
قَوْلُهُ: ( يَا رَبِّ حَلِّهِ ) الظَّاهِرُ أَنَّهُ أَمْرٌ مِنَ التَّحْلِيَةِ، يُقَالُ حَلَّيْتُهُ، أُحَلِّيهِ تَحْلِيَةً: إِذَا أَلْبَسْتُهُ الْحِلْيَةَ. وَالْمَعْنَى يَا رَبِّ زَيِّنْهُ ( اقْرَأْ ) أَمْرٌ مِنَ الْقِرَاءَةِ أَيِ اتْلُ ( وَارْقَأْ ) أَمْرٌ مِنْ رَقَأَ يَرْقَأُ رَقْئًا أَيِ اصْعَدْ. قَالَ فِي الْقَامُوسِ: رَقَأَ فِي الدَّرَجَةِ صَعِدَ وَهِيَ الْمَرْقَأَةُ وَتُكْسَرُ. أَيْ { يُقَالُ لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ اقْرَأِ الْقُرْآنَ وَاصْعَدْ عَلَى دَرَجَاتِ الْجَنَّةِ } وَسَيَأْتِي تَوْضِيحُهُ عَنْ قَرِيبٍ فِي شَرْحِ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو.
[*] قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه حادي الأرواح في وصف الجنة :(1/425)
وكيف يقدر قدر دار غرسها الله بيده و جعلها مقرا لأحبابه و ملأها من رحمته و كراماته و رضوانه و وصف نعيمها بالفوز العظيم وَمُلْكُها بالمُلك الكبير وأودعها جميع الخير بحذافيره وطهرها من كل عيب وآفة و نقص فإن سألت عن أرضها و تربتها فهي المسك و الزعفران و إن سألت عن سقفها فهو عرش الرحمن و إن سألت عن بلاطها فهو المسك الأذفر و إن سألت عن حصبائها فهو اللؤلؤ و الجوهر و إن سألت عن بنائها فلبنة من فضة و لبنة من ذهب و إن سألت عن أشجارها فما فيها شجرة إلا وساقها من ذهب و فضة لا من الحطب و الخشب و إن سألت عن ثمرها فأمثال القلال ألين من الزبد وأحلى من العسل و إن سألت عن ورقها فأحسن ما يكون من رقائق الحلل و إن سألت عن أنهارها فانهار من لبن لم يتغير طعمه و انهار من خمر لذة للشاربين و انهار من عسل مصفى و إن سألت عن طعامهم ففاكهة مما يتخيرون و لحم طير مما يشتهون و إن سألت عن شرابهم فالتسنيم و الزنجبيل و الكافور و إن سألت عن آنيتهم فآنية الذهب و الفضة في صفاء القوارير و إن سألت عن سعة أبوابها فبين المصراعين مسيرة أربعين من الأعوام و ليأتين عليه يوم و هو كظيظ من الزحام و إن سألت عن تصفيق الرياح لأشجارها فإنها تستفز بالطرب لمن يسمعها و إن سألت عن ظلها ففيها شجرة واحدة يسير الراكب المجد السريع في ظلها مائة عام لا يقطعها و إن سألت عن سعتها فأدنى أهلها يسير في ملكه و سرره و قصوره و بساتينه مسيرة ألفي عام و إن سألت عن خيامها و قبابها فالخيمة الواحدة من درة مجوفة طولها ستون ميلا من تلك الخيام و إن سألت عن علاليها و جواسقها فهي غرف من فوقها غرف مبنية تجري من تحتها الأنهار و إن سألت عن ارتفاعها فانظر إلى الكوكب الطالع أو الغارب في الأفق الذي لا تكاد تناله الأبصار و إن سألت عن لباس أهلها فهو الحرير و الذهب و إن سألت عن فرشها فبطائنها من إستبرق مفروشة في أعلى الرتب و إن سألت عن أرائكها فهي الأسرة عليها(1/426)
البشخانات و هي الحجال مزررة بأزرار الذهب فما لها من فروج و لا خلال و إن سألت عن وجوه أهلها و حسنهم فعلى صورة القمر وإن سألت عن أسنانهم فأبناء ثلاث و ثلاثين على صورة آدم عليه السلام أبي البشر و وإن سألت عن سماعهم فغناء أزواجهم من الحور العين و أعلى منه سماع أصوات الملائكة و النبيين و أعلى منهما خطاب رب العالمين و إن سألت عن مطاياهم التي يتزاورون عليها فنجائب إن شاء الله مما شاء يسير بهم حيث شاءوا من الجنان و إن سألت عن حليهم و شارتهم فأساور الذهب و اللؤلؤ على الرؤوس ملابس التيجان و إن سألت عن غلمانهم فولدان مخلدون كأنهم لؤلؤ مكنون و إن سألت عن عرائسهم و أزواجهم فهن الكواعب الأتراب اللاتي جرى في أعضائهن ماء الشباب فللورد و التفاح ما لبسته الخدود و للرمان ما تضمنته النهود و اللؤلؤ المنظوم ما حوته الثغور و للرقة و اللطافة ما دارت عليه الخصور تجري الشمس من محاسن وجهها إذا برزت و يضيء البرق من بين ثناياها إذا ابتسمت إذا قابلت حبها فقل ما تشاء في تقابل النيرين و إذا حادثته فما ظنك بمحادثة الحبين و إن ضمها إليه فما ظنك بتعانق الغصنين يرى وجهه في صحن خدها كما يرى في المرآة التي جلاها صقلها و يرى مخ ساقها من وراء اللحم و لا يستره جلدها و لا عظمها و لا حللها لو اطلعت على الدنيا لملأت ما بين الأرض والسماء ريحا و لاستنطقت أفواه الخلائق تهليلا و تكبيرا و تسبيحا و لتزخرف لها ما بين الخافقين و لا غمضت عن غيرها كل عين و لطمست ضوء الشمس كما تطمس الشمس ضوء النجوم و لا من من على ظهرها بالله الحي القيوم و نصيفها على رأسها خير من الدنيا و ما فيها و وصالها أشهى إليه من جميع أمانيها لا تزداد على طول الأحقاب إلا حسنا و جمالا و لا يزداد لها طول المدى إلا محبة ووصالا مبرأة من الحبل و الولادة و الحيض و النفاس مطهرة من المخاط و البصاق و البول و الغائط و سائر الأدناس لا يفنى شبابها و لا تبلى ثيابها و(1/427)
لا يخلق ثوب جمالها و لا يمل طيب وصالها قد قصرت طرفها على زوجها فلا تطمح لأحدٍ سواه و قصر طرفه عليها فهي غاية أمنيته و هواه ، إن نظر إليها سرته و إن أمرها بطاعته أطاعته و إن غاب عنها حفظته فهو معها في غاية الأماني و الأمان هذا و لم يطمثها قبله إنس و لا جان ، كلما نظر إليها ملأت قلبه سرورا و كلما حدثته ملأت أذنه لؤلؤا منظورا ومنثورا و إذا برزت ملأت القصر والغرفة نورا ، و إن سألت عن السن فأترابٌ في أعدل سن الشباب ، و إن سألت عن الحُسْنِ فهل رأيت الشمس و القمر و إن سألت عن الحدق فأحسن سواد في أصفى بياض في أحسن حور ، و إن سألت عن القدود فهل رأيت أحسن الأغصان و إن سألت عن النهود فهن الكواعب نهودهن كألطف الرمان و إن سألت عن اللون فكأنه الياقوت و المرجان و إن سألت عن حسن الخلق فهن الخيرات الحسان اللاتي جمع لهن بين الحسن و الإحسان فأعطين جمال الباطن والظاهر فهن أفراح النفوس قرة النواظر و إن سألت عن حسن العشرة و لذة ما هنالك فهن العرب المتحببات إلى الأزواج بلطافة التبعل التي تمتزج بالروح أي امتزاج فما ظنك بامرأة إذا ضحكت في وجه زوجها أضاءت الجنة من ضحكها و إذا انتقلت من قصر إلى قصر قلت هذه الشمس متنقلة في بروج فلكها و إذا حاضرت زوجها فيا حسن تلك المحاضرة و إن خاصرته فيا لذة تلك المعانقة و المخاصرة و حديثها السحر الحلال لو أنه لم يجن قتل المسلم المتحرز إن طال لم يملل و إن هي حدثت ود المحدث أنها لم توجز و إن غنت فيا لذة الأبصار و الأسماع و إن آنست و أمتعت فيا حبذا تلك المؤانسة و الإمتاع و إن قبلت فلا شيء أشهى إليه من ذلك التقبيل و إن نولت فلا ألذ و لا أطيب من ذلك التنويل هذا ، و إن سألت عن يوم المزيد وزيادة العزيز الحميد و رؤية وجهه المنزه عن التمثيل و التشبيه كما ترى الشمس في الظهيرة و القمر ليلة البدر كما تواتر عن الصادق المصدوق النقل فيه و ذلك موجود في الصحاح و السنن و المسانيد .(1/428)
فيا لذة الأسماع بتلك المحاضرة و يا قرة عيون الأبرار بالنظر إلى وجه الكريم في الدار الآخرة و يا ذلة الراجعين بالصفقة الخاسرة وجوه يوم ناضرة إلى ربها ناظرة و وجوه يومئذ باسرة تظن أن يفعل بها فاقرة فحي على جنات عدن فإنها منازلك الأولى و فيها المخيم و لكننا سبي العدو فهل ترى نعود إلى أوطاننا و نسلم .
أهل الجنة لا ينامون :
( حديث جابر رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : النوم أخو الموت ، ولا ينام أهل الجنة .
( حديث جابر رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : النوم أخو الموت و لا يموت أهل الجنة .
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
( النوم أخو الموت ) لانقطاع العمل فيه
( ولا يموت أهل الجنة ) فلا ينامون ، قاله لمن سأل أينام أهل الجنة؟ وفيه إشارة إلى ذمّ كثرة النوم لكثرة مفاسده الأخروية بل والدنيوية فإنه يورث الغفلة والشبهات وفساد المزاج الطبيعي والنفساني ويكثر البلغم والسوداء ويضعف المعدة وينتن الفم ويولد دود القرح ويضعف البصر والباه حتى لا يكون له داعية للجماع ويفسد الماء ويورث الأمراض المزمنة في الولد المتخلق من تلك النطفة حال تكوينه ويضعف الجسد ، هذا في النوم في غير وقت العصر والصبح فإنه فيهما أعظم ضرراً لأنه يفسد كيموس صحة حكم عين المزاح المادي والصوري ولا يمكن استقصاء مفاسده في العقل والنفس والروح ومنها أنه يورث ضعف الحال بحكم الخاصية وعدم الإيمان بالبعث والنشور ، قال بعضهم : إياكم وكثرة النوم تبعاً لما ترونه من بعض العارفين فإن لهم أحكاماً خلافكم فإن بعضهم يخلع عليه القوة على خلع نفسه عنه متى شاء وسراحها إلى أي وجه شاء من غير ارتباط بعالم الخيال . ( تنبيه ) النوم بالنهار أكثر ضرراً من النوم بالليل طباً . قال ابن سينا : النوم بالنهار رديء جداً وتركه لمن اعتاده أردأ .(1/429)
نعيم الجنة يُنسي بؤس الدنيا :
( حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة فيصبغ في النار صبغة ثم يقال يا بن آدم هل رأيت خيرا قط هل مر بك نعيم قط فيقول لا والله يا رب ويؤتى بأشد الناس بؤسا في الدنيا من أهل الجنة فيصبغ صبغة في الجنة فيقال له يا بن آدم هل رأيت بؤسا قط هل مر بك شدة قط فيقول لا والله يا رب ما مر بي بؤس قط ولا رأيت شدة قط .
[*] قال الإمام النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم :
(فيصبغ في النار صبغة) : الصبغة بفتح الصاد أي يغمس غمسة .
والبؤس : بالهمز هو الشدة والله أعلم.
مفتاح الجنة :
واعلم أن مفتاح الجنة هو توحيد الله جل وعلا وتحقيق لا إله إلا الله ، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد ، ودرر الفرائد .
(حديث معاوية الثابت في صحيح أبي داود) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة .
وسئل الحسن البصري:" أن ناسا ًيقولون من قال لا إله إلا الله دخل الجنة فقال من قالها وأدى حقها وفرضها".
مسألة :ما هي شروطُ كلمةِ التوحيد ؟
لكلمةِ التوحيدِ شروطٌ سبعة لا ينتفعُ قائلها إلا بعد أن يستكملها وهي :
1) العلمُ المنافي للجهل
2) اليقينُ المنافي للشك
3) القبولُ المنافي للرد
4) الانقياد ، ويتمُ ذلك بأداء حقوقها وهي الأعمالُ الواجبة إخلاصاً للهِ وطلباً لمرضاته .
5) الصدقُ المنافي للنفاق
6)الإخلاصُ المنافي للشرك .
7) المحبةُ لهذه الكلمة ولما دلَّت عليه والسرورُ بذلك بخلاف ما عليه المنافقون .
[*] قال الشيخُ حافظُ الحكمي في سُلمِ الوصول :
وبشروطٍ سبعةٍ قد قُيِدتْ ... وفي نصوصِ الوحي حقاً وردت
فإنه لم ينتفعْ قَائِلُها ... بالنطقِ إلا حيثُ يستكمِلُها(1/430)
العلمُ واليقينُ والقبولُ ... والانقيادُ فادرِ ما أقولُ
والصدقُ والإخلاصُ والمحبةْ ... وفقك الله لما أحبَّه
مسألة : ما الفرق بين القبولِ والانقياد ؟
القبولُ يكونُ بالأقوال ، والانقياد يكونُ بالأفعال .
مسألة : ما معنى تحقيق التوحيد ؟
معنى تحقيق التوحيد : تخليصُه وتصفيته من الشرك .
{ تنبيه } : لا يتحقق التوحيد إلا بشيئين متلازمين
(1) إثباتُ التوحيد لله
(2) نفيُ الشرك والبراءة من أهله
مسألة : ما المقصود بإثبات التوحيد لله ؟
المقصودُ بإثبات ِالتوحيدِ لله إفرادُ الله بما يختصُ به من توحيدِ الربوبيةِ والألوهيةِ والأسماءِ والصفات .
مسألة ما معنى توحيد الربوبيه ؟
توحيد الربوبيةِ هو إفرادُ الله بالخلق ِ والملك ِ والتدبير .
والدليلُ قوله تعالى ( ألا له الخلقُ والأمر ) { الأعراف / 54 }
والأمرُ هنا معناه التدبير .
وقوله تعالى ( لله ملك السموات والأرض ) { المائدة / 17 }
الشاهد :تقديم ما حقَّه التأخير يفيدُ الحصر
{ تنبيه } : التدبير الذي يختصُ به الله تعالى نوعان هما :
تدبيرٌ كوني : فالله تعالى يدبرُ أمور الكون وما فيه ، هو المحيي المميت الخافض الرافع المعطي المانع المعز المذل يُولج الليل في النهار ويلج النهار في الليل
قال تعالى : (قُلِ اللّهُمّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمّنْ تَشَآءُ وَتُعِزّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلّ مَن تَشَآءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنّكَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ،تُولِجُ اللّيْلَ فِي الْنّهَارِ وَتُولِجُ النّهَارَ فِي الْلّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيّ مِنَ الْمَيّتِ وَتُخْرِجُ الَمَيّتَ مِنَ الْحَيّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) { آل عمران / 26 ، 27 }
تدبيرٌ شرعي : يحلل ويحرِّم .
مسألة : ما معنى توحيد الألوهية ؟
توحيدُ الأ لوهية هو { إفرادُ الله بالعبادة } ، أي لا معبود بحقٍ إلا الله .(1/431)
والدليلُ قوله تعالى قال تعالى: (شَهِدَ اللّهُ أَنّهُ لاَ إِلََهَ إِلاّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلََهَ إِلاّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) ( آل عمران /18)
وقوله تعالى: (فَاعْلَمْ أَنّهُ لاَ إِلََهَ إِلا اللّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ) ( محمد / 19 )
مسألة ما معنى توحيد الأسماءِ والصفات ؟
توحيدُ الأسماء ِ والصفات هو إثبات ما أثبته الله لنفسه أو أثبته له رسوله من الأسماء ِ الحسنى والصفاتِ العُلى .
{ تنبيه } : في هذا النوع من التوحيد ضابطين أساسيين :
(1) لا نصفُ الله تعالى إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم -
قال الإمامُ أحمد رحمه الله : لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسَه أو وَصفَه به رسوله لا يتجاوزُ القرآن والحديث .
(2) أن يكون وصفنا لله تعالى بغيرِ تحريفٍ ولا تعطيل ولا تكيفٍ ولا تمثيل .
مسألة : ما معنى التحريف ؟
التحريفُ نوعان :
النوع الأول : تحريفٌ لفظي كتغيير حرفٍ بحرف ، أو زيادة حرف كمن يقول ( استوى على العرش ) استولى ، وقوله حطه أي حنطه . نعوذ بالله من الضلال والخبال .
النوعُ الثاني : تحريفٌ معنوي وهو التأويلُ بغير دليل ، لأي صرف النص عن ظاهره بغير دليلٍ شرعي وهو ما يُسمى بالتأويلِ الفاسد ، كحا لِ بعض الفرق الضالة الذين يفسرون قوله تعالى { بل يداه مبسوطتان } فيفسرون يداه بالسماوات والأرض ، نعوذ بالله من الضلالِ والخبال .
مسألة : ما معنى التعطيل ؟
التعطيلُ هو إنكارُ صفاتِ الله تعالى إما كلها أو بعضها ، وكون الإنكارُ عن طريقتين : إما التحريف أو التكذيب
{ تنبيه } : التعطيلُ أعم من التحريف ، يكون تعطيلٌ وتحريف ، وإن كان التعطيلُ بالإنكار يكون تعطيلٌ فقط .
مسألة : ما معنى التكييف ؟(1/432)
التكييف ذكرُ كيفيةٍ للصفة ، وهذا منهيٌ عنه ، ولما سُئلَ الإمامُ مالك رحمه الله تعالى عن قوله تعالى ( الرحمن على العرش استوى ) كيف استوى ؟ قال :
الاستواء غيرُ مجهول ( أي من حيثُ المعنى )
والكيفُ غير معقول ( أي لا تدركه العقول )
والإيمانُ به واجب (لأنه سبحانه أثبته لنفسه )
والسؤالُ عنه بدعة ( لأن الصحابة َلم يسألوا عنه وهم أحرصُ الناسِ على الخير وأعلم الناسِ بما يجيزه الشرع .
مسألة : ما معنى التمثيل ؟
التمثيلُ هو مماثلة صفات الله تعالى بصفاتِ المخلوقين ، وهذا من الضلالِ والخبال لأن الله تعالى يقول ( ليس كمثلهِ شئٌ وهو السميعُ البصير) [ الشورى / 11 ]
{ تنبيه } التكييف أعم من التمثيل ، لأن التكييفَ إن كان له مماثل كان تكييفاً وتمثيلاٌ ، وإن لم يكن له مماثل كان تكييفاٌ فقط .
[*] قال الشيخ حافظ الحكمي رحمه الله تعالى :
وكلِ ما لهُ من الصفاتِ ... أثبتها في محكمِ الآياتِ
أوْصَحَّ فيما قاله الرسولُ ... فحقَّهُ التسليمُ والقبولُ
نُمِرُّها صريحةً كما أتتْ ... مع اعتقادنا لما له اقتدتْ
من غيرِ تحرِيفٍ ولا تعطيلِ ... وغيرِ تمثيلٍ ولا تكييفِ
مسألة : ما الدليل على أنه لا يتحققُ التوحيدُ إلا بنفي الشركِ والبراءةِ من أهله ؟
الدليلُ على نفي الشرك قوله تعالى : (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلّ أُمّةٍ رّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الْطّاغُوتَ فَمِنْهُم مّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُمْ مّنْ حَقّتْ عَلَيْهِ الضّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي الأرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذّبِينَ) ( النحل / 36 )(1/433)
وقوله تعالى :(وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَىَ وَالْيَتَامَىَ وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَىَ وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصّاحِبِ بِالجَنْبِ وَابْنِ السّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنّ اللّهَ لاَ يُحِبّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً) ( النساء / 36 )
والدليلُ على البراءةِ من أهلِ الشرك قوله تعالى : (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنّنِي بَرَآءٌ مّمّا تَعْبُدُونَ) ( الزخرف / 26 )
وقوله تعالى : (لاّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ يُوَآدّونَ مَنْ حَآدّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوَاْ آبَآءَهُمْ أَوْ أَبْنَآءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلََئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيّدَهُمْ بِرُوحٍ مّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ أُوْلََئِكَ حِزْبُ اللّهِ أَلاَ إِنّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) ( المجادلة / 22 )
مسألة : ما هو فضل التوحيد ؟
للتوحيدِ فضلٌ عظيمٌ وأجرٌ جسيم وهاك بعضَ فضائله :
(1) أصحابُ التوحيدِ يفوزون بخيري الدنيا والآخرة
قال تعالى: (الّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُوَاْ إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلََئِكَ لَهُمُ الأمْنُ وَهُمْ مّهْتَدُونَ) (الأنعام /82 )
لهم الأمن : في الدنيا، وهم مهتدون : في الدنيا
وهذا -ولاشك - هو خيري الدنيا والآخرة ، فليس في الدنيا أنفعُ من أن تكون على هدى ، ولذا كان أنفعُ دعاء هو (اهدنا الصراط المستقيم ) ولذا نقوله في كل ركعةٍ من الصلوات .
وليس في الآخرةِ أنفعُ من أن تكون آمناً في يومٍ لا ينفعُ فيه مالٌ ولا بنون إلا من أتى الله بقلبٍ سليم(1/434)
(حديثُ ابن مسعودٍ في الصحيحين ) قال لما نزلت : الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلمٍ أولئك لهم الأمن وهم مهتدون . شق ذلك على المسلمين وقالوا أينا لم يظلم نفسه ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليس ذلك ، إنما هو الشرك ، ألم تسمعوا ما قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بني لا تُشركْ بالله إن الشرك لظلمٌ عظيم .
(2) أن الله تعالى لا يقبلُ العملَ إلا من الموحدين
قال تعالى : (قُلْ إِنّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ يُوحَىَ إِلَيّ أَنّمَآ إِلََهُكُمْ إِلََهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ رَبّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبّهِ أَحَدَا) (الكهف /110 )
(حديثُ أبي هريرةَ صحيح مسلم ) : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال - قال الله تعالى : أنا أغنى الشركاءِ عن الشرك ، من عمل عملاً أشركَ فيه معي غيري تركته وشركه
(حديثُ جندب ابن عبد الله في الصحيحين ) : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال من سمَّعَ سمَّعَ الله به ومن يُرائي يُرائي الله به . .
(حديثُ أبي أُمامة صحيح النسائي ) : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال إن الله تعالى لا يقبلُ من العملِ إلا ما كان خالصاً وابتُغيَ به وَجهُهُ .
(3) أصحابُ التوحيدِ يفوزون بشفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - .
(حديثُ أبي هريرة في الصحيحين ) : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لكلِ نبيٍ دعوةٌ مستجابةٌ فتعجَّلَ كل نبيٍ دعوته ، وإني اختبأتُ دعوتي شفاعةٌ لأُمتي يوم القيامة ، فهي نائلةٌ إن شاء الله من مات من أمتي لا يشركْ بالله شيئاً .
( حديثُ أبي هريرة صحيح البخاري ) : قال . قلت يا رسول الله من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة ؟ لقد ظننتُ يا أبا هريرةَ أن لا يسأ لني عن هذا الحديثِ أحدٌ أوَّلَ منك لما رأيتُ من حرصكَ على الحديث ، أسعدُ الناسِ بشفاعتي يوم القيامةِ من قال لا إ له إ لا الله خالصاً من قِبِلِ نفسه .(1/435)
(4) أصحابُ التوحيد لا يخلدون في النار :
وأصحاب التوحيدِ في ذلك قسمان :
القسمُ الأول : من مات على التوحيدِ وعمل بشروطِ لا إله إلا الله وكان على تقوى واستقامة فهذا يدخلُ الجنةَ دون أن تمسَّه النار فقد حرَّمه الله على النار، وعليه يحملُ الحديثُ الآتي :
(حديثُ أنس في الصحيحين ) : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعاذَ رَدِيفه على الرحل ، قال يا معاذ : قال لبيك يا رسول الله وسعديك ، قال : ، يا معاذ ، قال لبيك يا رسول الله وسعديك (ثلاثاً) قال : ما من أحدٍ يشهدُ أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صدقاً من قلبه إلا حرَّمه الله على النار ، قال يا رسول الله أفلا أخبرُ به الناسَ فيستبشرون ؟ قال : إذاً يتكلوا . وأخبر بها معاذ ٌ عند موته تأثما ً.
(تأثما ً) : أي خشية ُالوقوع ِِ في الإثم ِ الحاصل من كتمان ِ العلم .
القسمُ الثاني :
من مات على التوحيدِ ولكن له ذنوبٌ أوْ بقته فلا نقولُ إنه في النار ، ولكنه تحت مشيئةِ الإله النافذة إن شاء عفا عنه وإن شاء آخذه ، ولكنه يدخلُ الجنة َ يوما ً من الأيام ِ أصابه قبل ذلك اليوم ِ ما أصابه .
(حديثُ أبي ذرٍ في الصحيحين) : قال أتيتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - وعليه ثوبٌ أبيض وهو نائم ثم أتيتهُ وقد استيقظ فقال : ما من عبدٍ قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا أدخله الله الجنة . قلتُ وإن زنى وإن سرق ؟ قال وإن زنى وإن سرق . قلتُ وإن زنى وإن سرق ؟ قال وإن زنى وإن سرق . قلتُ وإن زنى وإن سرق ؟ قال وإن زنى وإن سرق على رغمِ أنفِ أبي ذر .
(حديثُ أنس في الصحيحين) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : يخرجُ من النارِ من قال لا إله إلا الله وفي قلبهِ وزنُ شُعيرةِ من خير ، ويخرجُ من النارِ من قال لا إله إلا الله وفي قلبهِ وزن بُرةٍ من خير ، ويخرجُ من النارِ من قال لا إله إلا الله وفي قلبهِ وزنِ ذَرةٍ من خير .(1/436)
(حديثُ أبي سعيدٍ صحيح الترمذي) : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : يخرجُ من النارِ من كان في قلبهِ مثقالُ ذرةٍ من إيمان .
(5) تكفيرُ الذنوب :
( حديثُ عُبَادةَ ابن الصامت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من شهدَ أن لا إله إلا الله وحده لا شَرِيكَ له وأن محمداً عبدُ الله ورسولُه
وأن عيسى عبدُ اللهِ ورسولُه وكلمتُه ألقاها إلى مريمَ وروحٌ منه والجنةُ حقٌ والنارُ حقٌ أدخله الله الجنةَ على ما كان من العمل .
(حديثُ أنس صحيح الترمذي) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : يَقُولُ: "قالَ الله تَبَارَكَ وتعَالى: يا ابنَ آدَمَ إِنّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى ما كانَ فِيكَ وَلاَ أُبَالِي. يا ابنَ آدَمَ لَوْ بَلَغَت ذُنُوبُكَ عَنَانَ السّمَاءِ ثُمّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ وَلاَ أُبَالِي. يا ابنَ آدَمَ إنّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الأرْضِ خَطَايَا ثُمّ لَقِيتَنِي لاَ تُشْرِكُ بي شَيْئاً لأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً" .
{ تنبيه } : توحيد الله مفتاح الجنة,وأسنان ذلك المفتاح هي الأعمال الصالحة كأداء الفرائض والقيام بالواجبات والنوافل وسائر القربات وعلى رأسها الصلاة وتأمل في الحديث الآتي :
( حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : مفتاح الجنة الصلاة ومفتاح الصلاة الوضوء .
.فاعمل ـ يا عبد الله ـ فمادة المفتاح بين يديك ومهارة صناعته قد فصلت لك أيما تفصيل فإن رغبت عن ذلك فلم نفسك يوم العرض على الله.
وجود الجنة الآن :
أدلة وجود الجنة الآن :
قال تعالى: (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىَ * عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَىَ * عِندَهَا جَنّةُ الْمَأْوَىَ) [النجم 13: 15](1/437)
وقد رأى النبي سدرة المنتهى ورأى عندها جنة المأوى كما في الصحيحين من حديث أنس في قصة الإسراء وفي آخره ثم أنطلق بي جبريل حتى انتهى إلى سدرة المنتهى فغشيها ألوان لا أدرى ما هي قال ثم دخلت الجنة فإذا فيها جنابذ اللؤلؤ وإذا ترابها المسك .
( حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن أحدكم إذا مات، عرض عليه مقعده بالغداة والعشي، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، فيقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة .
(حديث أنس في الصحيحين) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن العبد إذا وضع في قبره و تولى عنه أصحابه حتى أنه يسمع قرع نعالهم أتاه ملكان فيقعدانه فيقولان له : ما كنت تقول في هذا الرجل ؟ لمحمد فأما المؤمن فيقول : أشهد أنه عبد الله و رسوله فيقال : انظر إلى مقعدك من النار قد أبدلك الله به مقعدا من الجنة فيراهما جميعا ، و أما المنافق و الكافر فيقول : لا أدري كنت أقول ما يقول الناس فيقال له : لا دريت و لا تليت ثم يضرب بمطارق من حديد ضربةً فيصيح صيحة يسمعها من يليه غير الثقلين .(1/438)
(حديث البراء بن عازب رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب ) قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار فانتهينا إلى القبر ولما يلحد بعد فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلسنا حوله كأنما على رؤوسنا الطير وبيده عود ينكت به في الأرض فرفع رأسه فقال تعوذوا بالله من عذاب القبر مرتين أو ثلاثا ، ثم قال : إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزل إليه ملائكة من السماء بيض الوجوه كأن وجوههم الشمس معهم كفن من أكفان الجنة وحنوط من حنوط الجنة حتى يجلسوا منه مد البصر ويجيء ملك الموت عليه السلام حتى يجلس عند رأسه فيقول أيتها النفس الطيبة اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان قال فتخرج فتسيل كما تسيل القطرة من في السقاء فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن وفي ذلك الحنوط ويخرج منه كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض قال فيصعدون بها فلا يمرون على ملاء من الملائكة إلا قالوا ما هذا الروح الطيب فيقولان فلان ابن فلان بأحسن أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا حتى ينتهوا بها إلى السماء الدنيا فيستفتحون له فيفتح له فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها حتى ينتهى بها إلى السماء السابعة فيقول الله عز وجل اكتبوا كتاب عبدي في عليين وأعيدوه إلى الأرض في جسده فيأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان من ربك فيقول ربي الله فيقولان ما دينك فيقول ديني الإسلام فيقولان ما هذا الرجل الذي بعث فيكم فيقول هو رسول الله فيقولان ما يدريك فيقول قرأت كتاب الله وآمنت به وصدقته فينادي مناد من السماء أن قد صدق عبدي فأفرشوه من الجنة وافتحوا له بابا إلى الجنة ، قال فيأتيه من روحها وطيبها ويفسح له في قبره مد بصره ، قال ويأتيه رجل حسن الوجه حسن الثياب طيب الريح فيقول أبشر بالذي يسرك هذا يومك الذي كنت توعد فيقول من أنت فوجهك الوجه الحسن(1/439)
يجيء بالخير فيقول أنا عملك الصالح فيقول رب أقم الساعة رب أقم الساعة حتى أرجع إلى أهلي ومالي ، وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزل إليه ملائكة سود الوجوه معهم المسوح فيجلسون منه مد البصر ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول أيتها النفس الخبيثة اخرجي إلى سخط من الله وغضب فتفرق في جسده فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يجعلوها في تلك المسوح وتخرج منها كأنتن جيفة وجدت على وجه الأرض فيصعدون بها فلا يمرون بها على ملاء من الملائكة إلا قالوا ما هذه الريح الخبيثة فيقولون فلان ابن فلان بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا حتى ينتهى بها إلى السماء الدنيا فيستفتح له فلا يفتح له ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط فيقول الله عز وجل اكتبوا كتابه في سجين في الأرض السفلى ثم تطرح روحه طرحا ثم قرأ ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق فتعاد روحه في جسده ويأتيه ملكانه فيجلسانه فيقولان له من ربك فيقول هاه هاه لا أدري قال فيقولان له ما دينك فيقول هاه هاه لا أدري ، قال فيقولان له ما هذا الرجل الذي بعث فيكم فيقول هاه هاه لا أدري فينادي مناد من السماء أن كذب فأفرشوه من النار وافتحوا له بابا إلى النار فيأتيه من حرها وسمومها ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه ويأتيه رجل قبيح الوجه قبيح الثياب منتن الريح فيقول أبشر بالذي يسوؤك هذا يومك الذي كنت توعد فيقول من أنت فوجهك الوجه القبيح يجيء بالشر فيقول أنا عملك الخبيث فيقول رب لا تقم الساعة .
( فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول ): السفود " الكثير الشعب " من الصوف المبلول فتقطع معها العروق والعصب .(1/440)
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن الميت إذا وضع في قبره إنه يسمع خفق نعالهم حين يولوا مدبرين فإن كان مؤمنا كانت الصلاة عند رأسه وكان الصيام عن يمينه وكانت الزكاة عن شماله وكان فعل الخيرات من الصدقة والصلاة والمعروف والإحسان إلى الناس عند رجليه فيؤتى من قبل رأسه فتقول الصلاة ما قبلي مدخل ثم يؤتى عن يمينه فيقول الصيام ما قبلي مدخل ثم يؤتى عن يساره فتقول الزكاة ما قبلي مدخل ثم يؤتى من قبل رجليه فيقول فعل الخيرات من الصدقة والمعروف والإحسان إلى الناس ما قبلي مدخل فيقال له اجلس فيجلس قد مثلت له الشمس وقد دنت للغروب فيقال له أرأيتك هذا الذي كان قبلكم ما تقول فيه وماذا تشهد عليه فيقول دعوني حتى أصلي فيقولون إنك ستفعل أخبرنا عما نسألك عنه أرأيتك هذا الرجل الذي كان قبلكم ماذا تقول فيه وماذا تشهد عليه قال فيقول محمد أشهد أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه جاء بالحق من عند الله فيقال له على ذلك حييت وعلى ذلك مت وعلى ذلك تبعث إن شاء الله ثم يفتح له باب من أبواب الجنة فيقال له هذا مقعدك منها وما أعد الله لك فيها فيزداد غبطة وسرورا ثم يفتح له باب من أبواب النار فيقال له هذا مقعدك وما أعد الله لك فيها لو عصيته فيزداد غبطة وسرورا ثم يفسح له في قبره سبعون ذراعا وينور له فيه ويعاد الجسد كما بدأ منه فتجعل نسمته في النسيم الطيب وهي طير تعلق في شجر الجنة فذلك قوله يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة [إبراهيم : 27] وإن الكافر إذا أتي من قبل رأسه لم يوجد شيء ثم أتي عن يمينه فلا يوجد شيء ثم أتي عن شماله فلا يوجد شيء ثم أتي من قبل رجليه فلا يوجد شيء فيقال له اجلس فيجلس مرعوبا خائفا فيقال أرأيتك هذا الرجل الذي كان فيكم ماذا تقول فيه وماذا تشهد عليه فيقول أي رجل ولا يهتدي لاسمه فيقال له محمد فيقول لا(1/441)
أدري سمعت الناس قالوا قولا فقلت كما قال الناس فيقال له على ذلك حييت وعليه مت وعليه تبعث إن شاء الله ثم يفتح له باب من أبواب النار فيقال له هذا مقعدك من النار وما أعد الله لك فيها فيزداد حسرة وثبورا ثم يفتح له باب من أبواب الجنة ويقال له هذا مقعدك منها وما أعد الله لك فيها لو أطعته فيزداد حسرة وثبورا ثم يضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه فتلك المعيشة الضنكة التي قال الله فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى .
( حديث ابن عباس رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين ) قال : انخسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام قياما طويلا، نحوا من قراءة سورة البقرة، ثم ركع ركوعا طويلا، ثم رفع فقام قياما طويلا، وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعا طويلا، وهو دون الركوع الأول، ثم سجد، ثم قام قياما طويلا، وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعا طويلا، وهو دون الركوع الأول، ثم رفع فقام قياما طويلا، وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعا طويلا، وهو دون الركوع الأول، ثم سجد، ثم انصرف وقد تجلت الشمس، فقال صلى الله عليه وسلم: (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فاذكروا الله). قالوا: يا رسول الله، رأيناك تناولت شيئا في مقامك، ثم رأيناك كعكعت؟ قال صلى الله عليه وسلم: (إني أريت الجنة، فتناولت عنقودا، ولو أصبته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا، وأريت النار، فلم أر منظرا كاليوم قط أفظع، ورأيت أكثر أهلها النساء). قالوا: بم يا رسول الله؟ قال: (بكفرهن). قيل: يكفرن بالله؟. قال: (يكفرن العشير، ويكفرن الإحسان، لو أحسنت إلى أحداهن الدهر كله، ثم رأت منك شيئا، قالت: ما رأيت منك خيرا قط).(1/442)
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : تحاجت النار و الجنة فقالت النار : أوثرت بالمتكبرين و المتجبرين و قالت الجنة : فما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس و سقطهم ؟ فقال الله عز و جل للجنة : إنما أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي و قال للنار : إنما أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي و لكل منكما ملؤها فأما النار فلا تمتلئ حتى يضع الله قدمه عليها فتقول : قطٍ قط فهنالك تمتلئ و ينزوي بعضها إلى بعض فلا يظلم الله من خلقه أحدا و أما الجنة فإن الله ينشئ لها خلقا .
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : اشتكت النار إلى ربها فقالت يا رب أكل بعضي بعضا فأذن لها بنفسين نفس في الشتاء ونفس في الصيف فهو أشد ما تجدون من الحر وأشد ما تجدون من الزمهرير.
( حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " حُفَّتِ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ وَحُفَّتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ ".
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيحي أبي داود والترمذي) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : قال لما خلق الله الجنة والنار أرسل جبريل إلى الجنة فقال انظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها قال فجاءها ونظر إليها وإلى ما أعد الله لأهلها فيها قال فرجع إليه قال فوعزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها فأمر بها فحفت بالمكاره فقال ارجع إليها فانظر إلى ما أعددت
لأهلها فيها قال فرجع إليها فإذا هي قد حفت بالمكاره فرجع إليه فقال وعزتك لقد خفت أن لا يدخلها أحد قال اذهب إلى النار فانظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها فإذا هي يركب بعضها بعضا فرجع إليه فقال وعزتك لا يسمع بها أحد فيدخلها فأمر بها فحفت بالشهوات فقال ارجع إليها فرجع إليها فقال وعزتك لقد خشيت أن لا ينجو منها أحد إلا دخلها .(1/443)
( حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :بينما أنا أسير في الجنة وإذا بنهر في الجنة حافتاه قباب الدر المجوف قال قلت ما هذا يا جبريل قال هذا الكوثر الذي أعطاك ربك فضرب الملك بيده فإذا طينه المسك الأذفر .
(حديث عمران بن حُصَين في صحيح البخاري) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : اطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء و اطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها النساء .
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : بينا أنا نائم رأيتني في الجنة فإذا أنا بامرأة تتوضأ إلى جانب قصر فقلت : لمن هذا القصر ؟ قالوا : لعمر بن الخطاب فذكرت غيرتك فوليت مدبرا .
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لبلال يا بلال حدثني بأرجى عملٍ عملته في الإسلام فإني سمعت دفَّ نعليك بين يدي في الجنة ؟ قال ما عملتُ عملاً أرجى عندي من أني لم أتطهر طهوراً في ساعةٍ من ليلٍ أو نهارٍ إلا صليت بذلك الطُهور ما كتب لي أن أصلي .
مكان الجنة وأين هي :
قال تعالى: (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىَ * عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَىَ * عِندَهَا جَنّةُ الْمَأْوَىَ) [النجم 13: 15]
وقد رأى النبي سدرة المنتهى ورأى عندها جنة المأوى كما في الصحيحين من حديث أنس في قصة الإسراء وفي آخره ثم أنطلق بي جبريل حتى انتهى إلى سدرة المنتهى فغشيها ألوان لا أدرى ما هي قال ثم دخلت الجنة فإذا فيها جنابذ اللؤلؤ وإذا ترابها المسك .
وقد ثبت أن سدرة المنتهى فوق السماء وسميت بذلك لأنها ينتهي إليها ما ينزل من عند الله فيقبض منها وما يصعد النية فيقبض منها .
وقال تعالى: (وَفِي السّمَآءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ) [الذاريات : 22]
قال ابن أبي نجيح عن مجاهد هو الجنة وكذلك تلقاه الناس عنه .(1/444)
[*] أورد ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه حادي الأرواح عن بن عباس أنه قال الجنة فوق السماء السابعة ويجعلها الله حيث شاء يوم القيامة وجهنم في الأرض السابعة .
وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد ، ودرر الفرائد .
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن في الجنة مائة درجة، أعدها الله للمجاهدين في سبيله، "كل درجتين ما بينهما كما بين السماء والأرض"، فإذا سألتم الله فسلوه الفردوس، فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تَفجَّر أنهار الجنة .
وهذا يدل على أنها في غاية العلو والارتفاع والله أعلم .
والجنة مقببة أعلاها وأوسعها ووسطها هو الفردوس وسقفه العرش كما قال في الحديث الصحيح إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه وسط الجنة وأعلى الجنة فوقه عرش الرحمن ومنه تفجر انهار الجنة .
ولعظم سعة الجنة وغاية ارتفاعها يكون الصعود من أدناها إلى أعلاها بالتدريج شيئا فشيئا درجة فوق درجة كما في الحديث الآتي :
(حديث عبد الله بن عمرو في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال يقال لصاحب القرآن : اقرأ و ارق و رتل كما كنت ترتل في دار الدنيا فإن منزلتك عند آخر آية كنت تقرؤها .
درجات الجنة :
أخي الكريم : لقد خلق الله الجنة وأورثها عباده الصالحين وجعلهم فيها متفاضلين متفاوتين , ولذلك كانت الجنة درجات يفضل بعضها بعضاَ , وكل ذلك كان فضلاََ من ربك وعدلاَ.. ليشمر ويثابر من اشتاقت نفسه إلى الجنة وَعَلَّت هِمَتُه لأعلى درجاتها, في ذلك النعيم المقيم. قال تعالى: (وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصّالِحَاتِ فَأُوْلََئِكَ لَهُمُ الدّرَجَاتُ الْعُلَىَ) [ طه : 75].(1/445)
فالإيمان والعمل الصالح هما طريق الفردوس فكلما كان إيمانك ـ أخي الكريم ـ عالياَ ثابتاَ كانت منزلتك رفيعة في تلك الدرجات, وإنما يتفاوت المؤمنون المتقون في ذلك بحسب إيمانهم وتقواهم .
قال تعالى: (لاّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَىَ وَفَضّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً * دَرَجَاتٍ مّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رّحِيماً) [النساء 95: 96]
[*] ذكر ابن جرير عن هشام ابن حسان عن جبلة بن عطية عن أبن محيريز قال فضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما درجات منه قال هي سبعون درجة ما بين الدرجتين عدو الفرس الجواد المضمر سبعين عاما .
[*] وقال ابن المبارك أنبأنا سلمة بن نبيط عن الضحاك في قوله تعالى لهم درجات عند ربهم قال بعضهم أفضل من بعض فيرى الذي قد فضل به فضله ولا يرى الذي هو أسفل منه أنه فضل عليه أحد من الناس .
وتأمل قوله كيف أوقع التفضيل أولا بدرجة ثم أوقعه ثانيا بدرجات ، فقيل الأول بين القاعد المعذور والمجاهد ، والثاني بين القاعد بلا عذر والمجاهد ،
وقال تعالى: (أَفَمَنِ اتّبَعَ رِضْوَانَ اللّهِ كَمَن بَآءَ بِسَخْطٍ مّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللّهِ واللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ) [آل عمران 162: 163](1/446)
وقال تعالى قال تعالى: (إِنّمَا الْمُؤْمِنُونَ الّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَىَ رَبّهِمْ يَتَوَكّلُونَ * الّذِينَ يُقِيمُونَ الصّلاَةَ وَمِمّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلََئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) [الأنفال 2: 4]
وقال تعالى : (مّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نّرِيدُ ثُمّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مّدْحُوراً * وَمَنْ أَرَادَ الاَخِرَةَ وَسَعَىَ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مّشْكُوراً * كُلاّ نّمِدّ هََؤُلآءِ وَهََؤُلآءِ مِنْ عَطَآءِ رَبّكَ وَمَا كَانَ عَطَآءُ رَبّكَ مَحْظُوراً * انظُرْ كَيْفَ فَضّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىَ بَعْضٍ وَلَلاَخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً) [الإسراء18-21]
فهنا بين الله سبحانه أن أهل الآخرة يتفاضلون فيها أكثر مما يتفاضل الناس في الدنيا وأن درجات الآخرة أكبر من درجات الدنيا .
واعلم أخي الكريم: أن تفاضل الجنان يشمل التفاضل بين خيراتها من أبنية وعيون وأشجار وفواكه ونساء. قال تعالى: (فَبِأَيّ آلآءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ) [ الرحمن ] ، وبعد وصفهما قال تعالى: (وَمِن دُونِهِمَا جَنّتَانِ) [الرحمن : 62]،
أي دون الجنتين الأوليتين في الخير والمقام والمنزلة.
فأما عن الفاكهة فقال في الأوليتين: (فِيهِمَا مِن كُلّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ) [الرحمن 52 ] ، فذكر أن في كل صنف من الفواكه شكلين. أما في الجنتين الأخيرتين فذكر مطلق الفاكهة من غير ذكر الزوجين فقال تعالى: (فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمّانٌ) [الرحمن : 68] ،(1/447)
وأما عن الأثاث فذكر في الأوليتين : (مُتّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَآئِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنّتَيْنِ دَانٍ) [الرحمن 54 ] ،
وقال في الأخريتين: (مُتّكِئِينَ عَلَىَ رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيّ حِسَانٍ) [الرحمن: 76] ولا شك أن الفرش أفضل من الزخرف وأن الإستبرق أفضل من العبقري.
وهكذا الأمر في نسائهما وخضرتهما كما هو ظاهر في الآيات. وما هذا التفاضل إلا تسلية من الله لعباده الصالحين الذين تحملوا مشاق السفر في رحلة الدنيا وصبروا على ما أصابهم من ضر في سبيل الله وحده, وعاشوا بين أهليهم غرباء.. لما كانوا عليه من التمسك بالكتاب والسنة. ومما يدل على تفاضل أهل الجنة الأحاديث الآتية :
(حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن أهل الجنة يتراءون أهل الغرف من فوقهم، كما تتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق، من المشرق أو المغرب، لتفاضل ما بينهم . قالوا: يا رسول الله تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم، قال: (بلى، والذي نفسي بيده، رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين .
والغابر : هو الذاهب الماضي الذي قد تدلى للغروب وفي التمثيل به دون الكواكب المسامت للرأس وهو أعلى فائدتان هما :
أحدهما بعده عن العيون .
والثانية أن الجنة درجات بعضها أعلى من بعض وإن لم تسامت العليا السفلى كالبساتين الممتدة من رأس الجبل إلى ذيله والله أعلم .
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن في الجنة مائة درجة، أعدها الله للمجاهدين في سبيله، "كل درجتين ما بينهما كما بين السماء والأرض"، فإذا سألتم الله فسلوه الفردوس، فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تَفجَّر أنهار الجنة .(1/448)
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :" فِي الْجَنَّةِ مِائَةُ دَرَجَةٍ مَا بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ مِائَةُ عَامٍ ".
{ تنبيه } : الحديثُ يدلُّ على أنها غاية في العلو والارتفاع , ولا ينفي أن يكون درج الجنة أكثر من مائة,إذ المراد منه الإخبار بأن هذه الدرجات المائة هي للمجاهدين في سبيل الله,لا الإخبار بحصر درجات الجنة,ويؤيد ذلك أن منزلة النبي - صلى الله عليه وسلم - فوق هذا كله ,فهو في درجة ليس فوقها درجة,أمَّا هذه الدرجات المائة ينالها آحاد أمته بالجهاد.
والجنة مقببة أعلاها وأوسعها ووسطها هو الفردوس وسقفه العرش كما قال في الحديث الصحيح إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه وسط الجنة وأعلى الجنة فوقه عرش الرحمن ومنه تفجر انهار الجنة .
ولعظم سعة الجنة وغاية ارتفاعها يكون الصعود من أدناها إلى أعلاها بالتدريج شيئا فشيئا درجة فوق درجة كما في الحديث الآتي :
(حديث عبد الله بن عمرو في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال يقال لصاحب القرآن : اقرأ و ارق و رتل كما كنت ترتل في دار الدنيا فإن منزلتك عند آخر آية كنت تقرؤها .(1/449)
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : سأل موسى ربه فقال: يا رب ما أدنى أهل الجنة منزلة ؟ قال: هو رجل يجيء بعدما يدخل أهل الجنةِ الجنة فيقال له: ادخل الجنة فيقول: أي رب كيف و قد نزل الناس منازلهم و أخذوا أخذاتهم ؟ فيقال له: أترضى أن يكون لك مثل مُلْكِ مَلِكٍ من ملوك الدنيا ؟ فيقول: رضيت رب فيقول: لك و مثله و مثله و مثله و مثله فقال في الخامسة: رضيت رب فيقول هذا لك وعشرة أمثاله و لك ما اشتهت نفسك و لذت عينك فيقول رضيت رب لِلَّهِ قال: رب فأعلاهم منزلة قال أولئك الذين أردت غرست كرامتهم بيدي و ختمت عليها فلم تر عين و لم تسمع أذن و لم يخطر على قلب بشر قال ومصداقة في كتاب الله عز وجل (فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مّآ أُخْفِيَ لَهُم مّن قُرّةِ أَعْيُنٍ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) [السجدة 17]
فهذه الجنة وهذه درجاتها, قد بنيت وهيئت لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد, ففيها والله يحمد التنافس بالطاعة والقربات وإليها تجب المسارعة بالخيرات والحسنات فأين ذوو الهمم العالية, وقد دعوا إلى السباق, وأين طلاب السمو, وقد قرب اللحاق .
فلا تتصور ـ أخي الكريم ـ أن ذلك النعيم المقيم, ينال بالراحة والتفكه , بل إن طريقه وعر طويل ودربه قد حف بالمكاره والعقبات فلا يسلكه إلا مشمر عن ساعد الجد مخلص قد باع نفسه وماله يبتغي بذلك الجنة , وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد ، ودرر الفرائد .
( حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات" .
الشهداء ممن ينالون الدرجات العلى :(1/450)
أخبرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الشهداء في سبيل الله ممن ينالون تلك الدرجات العلى كما في الحديث الآتي :
( حديث نعيم بن همار رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أفضل الشهداء الذين يقاتلون في الصف الأول فلا يلفتون وجوههم حتى يقتلوا أولئك يتلبطون في الغرف العلى من الجنة يضحك إليهم ربك فإذا ضحك ربك إلى عبد في موطن فلا حساب عليه .
ولك أن تتصور نفسك يا عبد الله وقد رفع الله درجتك ومنزلتك في الجنة مع الأنبياء والشهداء, وما ذلك على الله بعزيز.. إذا صدقت الله فأجبت داعيه إذ يقول:
قال تعالى: (يَقَوْمِ إِنّمَا هََذِهِ الْحَيَاةُ الدّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنّ الاَخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ * مَنْ عَمِلَ سَيّئَةً فَلاَ يُجْزَىَ إِلاّ مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىَ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلََئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ) [غافر 39: 40]
أعلى درجاتها واسم تلك الدرجة :
أعلى منزلة في الجنة هي الوسيلة.. وهي بإذن الله لنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - :
(حديث عبد الله بن عمرو في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا علي فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرا ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله و أرجوا أن أكون أنا هو فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة .
وقد بينت السنة الصحيحة أن الوسيلة درجة عند الله ليس فوقها درجة كما في الحديث الآتي :
( حديث أبي سعيد رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : الوسيلة درجة عند الله ليس فوقها درجة فسلوا الله أن يؤتيني الوسيلة .
مسألة : لماذا سميت درجة النبي الوسيلة ؟(1/451)
سميت درجة النبي الوسيلة لأنها أقرب الدرجات إلى عرش الرحمن وهي أقرب الدرجات إلى الله .
ولما كان رسول أعظم الخلق عبودية لربه وأعلمهم به وأشدهم له خشية وأعظمهم له محبة كانت منزلته أقرب المنازل إلى الله وهي أعلى درجة في الجنة وأمر النبي أمته أن يسألوها له لينالوا بهذا الدعاء زلفى من الله وزيادة الإيمان وأيضا فإن الله سبحانه قدرها له بأسباب منها دعاء أمته له بها بما نالوه على يده من الإيمان والهدى صلوات الله وسلامه عليه وقوله حلت عليه يروى عليه وله فمن رواه باللام فمعناه حصلت له ومن رواه بعلى فمعناه وقعت عليه شفاعتي والله أعلم .
ارتقاء العبد و هو في الجنة من درجة إلى درجة أعلى منها :
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن الرجل لتُرْفَع درجته في الجنة فيقول: أنى لي هذا ؟ فيقال: باستغفار ولدك لك .
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
( إن الرجل ) يعني الإنسان المؤمن ولو أنثى
( لترفع درجته في الجنة فيقول أنى هذا ) أي من أين لي هذا ولم أعمل عملاً يقتضيه وفي نسخة أنى لي ولفظ لي ليس في خط المصنف .
( فيقال ) أي تقول له الملائكة أو العلماء هذا .
( باستغفار ولدك لك ) من بعدك ، دل به على أن الاستغفار يحط الذنوب ويرفع الدرجات وعلى أنه يرفع درجة أصل المستغفر إلى ما لم يبلغها بعمله فما بالك بالعامل المستغفر ولو لم يكن في النكاح فضل إلا هذا لكفى وكان الظاهر أن يقال لاستغفار ليطابق اللام في لي لكن سد عنه أن التقدير كيف حصل لي هذا فقيل حصل لك باستغفار ولدك وقيل إن الابن إذا كان أرفع درجة من أبيه في الجنة سأل أن يرفع أبوه إليه فيرفع وكذلك الأب إذا كان أرفع وذلك قوله سبحانه وتعالى { لا تدرون أيهم أقرب نفعاً } .
أعلى أهل الجنة منزلة :(1/452)
أعلى أهل الجنة منزلة هو سيد ولد آدم صلوات الله وسلامه عليه ، قال تعالى: (تِلْكَ الرّسُلُ فَضّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىَ بَعْضٍ مّنْهُمْ مّن كَلّمَ اللّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ) [البقرة: 253]
[*] قال مجاهد وغيره :
(مّنْهُمْ مّن كَلّمَ اللّهُ) : موسى .
(وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ) : هو محمد - صلى الله عليه وسلم - .
وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد ، ودرر الفرائد .
(حديث عبد الله بن عمرو في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا علي فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرا ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله و أرجوا أن أكون أنا هو فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة .
وقد بينت السنة الصحيحة أن الوسيلة درجة عند الله ليس فوقها درجة كما في الحديث الآتي :
( حديث أبي سعيد رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : الوسيلة درجة عند الله ليس فوقها درجة فسلوا الله أن يؤتيني الوسيلة .
مسألة : لماذا سميت درجة النبي الوسيلة ؟
سميت درجة النبي الوسيلة لأنها أقرب الدرجات إلى عرش الرحمن وهي أقرب الدرجات إلى الله .
ولما كان رسول أعظم الخلق عبودية لربه وأعلمهم به وأشدهم له خشية وأعظمهم له محبة كانت منزلته أقرب المنازل إلى الله وهي أعلى درجة في الجنة وأمر النبي أمته أن يسألوها له لينالوا بهذا الدعاء زلفى من الله وزيادة الإيمان وأيضا فإن الله سبحانه قدرها له بأسباب منها دعاء أمته له بها بما نالوه على يده من الإيمان والهدى صلوات الله وسلامه عليه وقوله حلت عليه يروى عليه وله فمن رواه باللام فمعناه حصلت له ومن رواه بعلى فمعناه وقعت عليه شفاعتي والله أعلم .(1/453)
أدنى أهل الجنة منزلة :
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : سأل موسى ربه فقال: يا رب ما أدنى أهل الجنة منزلة ؟ قال: هو رجل يجيء بعدما يدخل أهل الجنة الجنة فيقال له: ادخل الجنة فيقول: أي رب كيف و قد نزل الناس منازلهم و أخذوا أخذاتهم ؟ فيقال له: أترضى أن يكون لك مثل مُلْكِ مَلِكٍ من ملوك الدنيا ؟ فيقول: رضيت رب فيقول: لك و مثله و مثله و مثله و مثله فقال في الخامسة: رضيت رب فيقول هذا لك وعشرة أمثاله و لك ما اشتهت نفسك و لذت عينك فيقول رضيت رب لِلَّهِ قال: رب فأعلاهم منزلة قال أولئك الذين أردت غرست كرامتهم بيدي و ختمت عليها فلم تر عين و لم تسمع أذن و لم يخطر على قلب بشر قال ومصداقة في كتاب الله عز وجل (فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مّآ أُخْفِيَ لَهُم مّن قُرّةِ أَعْيُنٍ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) [السجدة 17](1/454)
( حديث أبي سعيد رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) : أن الناس قالوا: يا رسول الله، هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هل تضارُّون في القمر ليلة البدر). قالوا: لا يا رسول الله، قال: (فهل تضارُّون في الشمس ليس دونها سحاب). قالوا: لا يا رسول الله، قال: (فإنكم ترونه كذلك، يجمع الله الناس يوم القيامة، فيقول: من كان يعبد شيئاً فليتَّبعه، فيتَّبع من كان يعبد الشمس الشمس، ويتَّبع من كان يعبد القمر القمر، ويتَّبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيت، وتبقى هذه الأمة فيها شافعوها، أو منافقوها - شك إبراهيم - فيأتيهم الله فيقول: أنا ربكم، فيقولون: هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا جاءنا ربنا عرفناه، فيأتيهم الله في صورته التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا فيتَّبعونه، ويُضرب الصراط بين ظهري جهنم، فأكون أنا وأمتي أول من يجيزها، ولا يتكلم يومئذ إلا الرسل، ودعوى الرسل يومئذ: اللهم سلِّم سلِّم وفي جهنم كلاليب مثل شوك السعدان، هل رأيتم السعدان).(1/455)
قالوا: نعم يا رسول الله، قال: (فإنها مثل شوك السعدان، غير أنه لا يعلم ما قدر عظمها إلا الله، تخطف الناس بأعمالهم، فمنهم المؤمن يبقى بعمله، أو الموبَق بعمله، أو الموثَق بعمله، ومنهم المخردل، أو المجازى، أو نحوه، ثم يتجلى، حتى إذا فرغ الله من القضاء بين العباد، وأراد أن يخرج برحمته من أراد من أهل النار، أمر الملائكة أن يُخرجوا من النار من كان لا يشرك بالله شيئاً، ممن أراد الله أن يرحمه، ممن يشهد أن لا إله إلا الله، فيعرفونهم في النار بأثر السجود، تأكل النار ابن آدم إلا أثر السجود، حرم الله على النار أن تأكل أثر السجود، فيخرجون من النار قد امتُحِشوا، فيُصَبُّ عليهم ماء الحياة، فينبتون تحته كما تنبت الحِبَّةُ في حَميل السيل، ثم يفرغ الله من القضاء بين العباد، ويبقى رجل مقبل بوجهه على النار، هو آخر أهل النار دخولاً الجنة، فيقول: أي ربِّ اصرف وجهي عن النار، فإنه قد قشبني ريحها، وأحرقني ذكاؤها، فيدعو الله بما شاء أن يدعوه، ثم يقول الله: هل عسيت إن أعطيت ذلك أن تسألني غيره، فيقول: لا وعزتك لا اسألك غيره، ويعطي ربه من عهود ومواثيق ما شاء، فيصرف الله وجهه عن النار، فإذا أقبل على الجنة ورآها سكت ما شاء الله أن يسكت، ثم يقول: أي ربِّ قدمني إلى باب الجنة، فيقول الله له: ألست قد أعطيت عهودك ومواثيقك أن لا تسألني غير الذي أعطيت أبداً، ويلك يا ابن آدم ما أغدرك، فيقول: أي رب، ويدعو الله حتى يقول: هل عسيت إن أعطيت ذلك أن تسأل غيره، فيقول: لا وعزتك لا أسألك غيره، ويعطي ما شاء من عهود ومواثيق، فيُقَدِّمه إلى باب الجنة، فإذا قام إلى باب الجنة انْفَهَقَتْ له الجنة، فرأى ما فيها من الحبرة والسرور، فيسكت ما شاء الله أن يسكت، ثم يقول: أي ربِّ أدخلني الجنة، فيقول الله: ألست قد أعطيت عهودك ومواثيقك أن لا تسأل غير ما أعطيت، فيقول: ويلك يا ابن آدم ما أغدرك، فيقول: أي ربِّ لا أكوننَّ أشقى خلقك، فلا(1/456)
يزال يدعو حتى يضحك الله منه، فإذا ضحك منه قال له: ادخل الجنة، فإذا دخلها قال الله له: تمنَّهْ، فسأل ربه وتمنى، حتى إن الله ليذَكِّرُهُ، يقول: كذا وكذا، حتى انقطعت به الأماني، قال الله: ذلك وعشرة أمثاله معه).
(حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " يجمع الله الأولين والآخرين لميقات يوم معلوم" . .(1/457)
فذكر الحديث إلى أن قال: " حتى يمرّ الذى يُعْطى نوره على ظهر قدميه يحبو على وجهه ويديه ورجليه, تخرُّ يدُ وتعلّق يدُ, وتخرّ رِجل وتعلّق رجل وتصيب جوانبه النار, فلا يزال كذلك حتى يخلصِ, فإذا خلص وقف عليها فقال: الحمد لله الذى أعطانى ما لَم يُعْطِ أحداً إذْ نجَّانى منها بعد إذْ رأيتها,قال: فيُنْطلق به إلى غدير ـ نهر ماء ـ عند باب الجنة فيغتسل, فيعود إليه ريح أهل الجنة وألوانهم, فيرى ما فى الجنة من خَلَل الباب, فيقول: رب أدخلنى الجنة, فيقول له: أتسألنى الجنة وقد نجيتك من النار؟ فيقول: رب اجعل بينى وبينها حجاب لا أسمع حسيسها, قال: فيدخل الجنة ويُرفع له منزل أمام ذلك كأن ما هو فيه إليه حُلْم, فيقول: رب أعطنى ذلك المنزل, فيقول له: لعلك إن أَعْطَيْتُكهُ تسأل غيره, فيقول:لا وعزتك لا أسأل غيره وأى منزل أحسن منه؟ فيعطاه, فينزله ويرى أمام ذلك منزلً كأن ما هو فيه إليه حلم, قال: رب أعطنى ذلك المنزل, فيقول: لا وعزتك يارب وأى منزل أحسن منه؟ فُيعْطاه فينزله ثم يسكت, فيقول الله عز جل ذكره: مالك لا تسأل؟ فيقول: رب قد سألتك حتى استحيَيْتُك وأقسمتُ حتى استحييْتُك, فيقول الله جل ذكره: ألم ترض أن أُعطيك مثل الدنيا منذ خلقتها إلى يوم أفنيْتُها وعشرة أضعافه؟ فيقول: أتهزأ بى وأنت رب العزة؟ فيضحك الرب تبارك وتعالى من قوله, قال: فرأيت عبد الله بن مسعود إذا بلغ هذا المكان من هذا الحديث ضحك حتى تبدو أضراسه, قال: فيقول الرب تبارك وتعالى: لا ولكنى على ذلك قادر, سَلْ, فيقول: ألْحقنى بالناس, فيقول: الْحَقْ بالناس, فينطلق يرمل فى الجنة حتى إذا دنا من الناس رُفع له قصر من دُرَّة فيخرُّ ساجداً فيقال له: ارفع رأسك مالك؟ فيقول: تراءى لى ربى, فيقال: إنما هو منزل من منازلك.(1/458)
قال: ثم يَلْقى رجلاً فيتهيَّأ للسجود له فيقال له: مَهْ!! فيقول: رأيت أنك مَلَك من الملائكة, فيقول: إنما أنا خازن من خُزَّانك وعبد من عبيدك تحت يدىَّ ألف قَهْرَمان ـ خازن ـ على ما أنا عليه ،
قال : فينطلق أمامه حتى يفتح له القصر, قال: وهو من درة مجوّفة سقائفها وأبوابها وأغلاقها ومفاتيحها منها, تستقبله جوهرة خضراء مبطّنة بحمراء فيها سبعون باباً كل باب يُفضى إلى جوهرة خضراء على غير لون الأخرى, وفى كل جوهرة سُرُر وأزواج ووصائف أدناهن حوراء عيناء عليها سبعون حُلّة يرى مخ ساقها من وراء حللها, كبدها مرآته وكبده مرآتها, إذا أعرض عنها إعراضة ازدادت فى عينه سبعين حسناً "
آخر أهل الجنة دخولا إليها :
( حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إني لأعلم آخر أهل النار خروجاً منها، وآخر أهل الجنة دخولاً، رجل يخرج من النار حبواً، فيقول الله: اذهب فادخل الجنة، فيأتيها، فيخيل إليه أنها ملأى، فيرجع فيقول: يا رب وجدتها ملأى، فيقول: اذهب فادخل الجنة، فيأتيها فيخيل إليه أنها ملأى، فيرجع فيقول: يا ربي وجدتها ملأى، فيقول: اذهب فادخل الجنة، فإن لك مثل الدنيا وعشرة أمثالها، أو: إن لك مثل عشرة أمثال الدنيا، فيقول: أتسخر مني، أو: تضحك مني وأنت الملك). فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه، وكان يقال: ذلك أدنى أهل الجنة منزلة.(1/459)
(حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :آخر من يدخل الجنة رجل فهو يمشي مرة ويكبو مرة ، وتسفعه النار مرة ، فإذا ما جاوزها التفت إليها فقال: تبارك الذي نجاني منك ، لقد أعطاني الله شيئا ما أعطاه أحدا من الأولين والآخرين فترفع له شجرة ، فيقول: أي رب أدنني من هذه الشجرة فلأستظل بظلها وأشرب من مائها ، فيقول الله عز وجل: يا ابن آدم لعلي إن أعطيتكها سألتني غيرها ؟ فيقول لا يا رب ويعاهده أن لا يسأله غيرها؛ وربه يعذره لأنه يرى ما لا صبر له عليه ، فيدنيه منها ، فيستظل بظلها ويشرب من مائها .
ثم ترفع له شجرة هي أحسن من الأولى ، فيقول: أي رب أدنني من هذه لأشرب من مائها وأستظل بظلها لا أسألك غيرها ، فيقول: يا ابن آدم ألم تعاهدني أن لا تسألني غيرها ؟ فيقول: لعلي إن أدنيتك منها تسألني غيرها فيعاهده أن لا يسأله غيرها وربه يعذره لأنه يرى ما لا صبر له عليه ، فيدنيه منها فيستظل بظلها ويشرب من مائها .
ثم ترفع له شجرة عند باب الجنة هي أحسن من الأوليين ، فيقول: أي رب أدنني من هذه لأستظل بظلها وأشرب من مائها لا أسألك غيرها ، فيقول: يا ابن آدم ألم تعاهدني أن لا تسألني غيرها ؟ قال: بلى يا رب هذه لا أسألك غيرها ، وربه يعذره لأنه يرى ما لا صبر له عليها ، فيدنيه منها .
فإذا أدناه منها فيسمع أصوات أهل الجنة فيقول: أي رب أدخلنيها ، فيقول: يا ابن آدم ما يصريني منك ؟ أيرضيك أن أعطيك الدنيا ومثلها معها ؟ قال: يا رب أتستهزئ مني وأنت رب العالمين ؟
فضحك ابن مسعود ، فقال: ألا تسألوني مم أضحك ؟ فقالوا: مم تضحك ؟ قال:
من ضحك رب العالمين حين قال: أتستهزئ مني وأنت رب العالمين ؟ فيقول: إني لا أستهزئ منك ولكني على ما أشاء قادر . وفي رواية: قدير .
ثمن الجنة :
[*] قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه حادي الأرواح :(1/460)
عرض الرب تعالى سلعته الجنة على عباده وثمنها الذي طلبه منهم وعقد التبايع الذي وقع بين المؤمنين وبين ربهم :
قال تعالى: (إِنّ اللّهَ اشْتَرَىَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنّ لَهُمُ الّجَنّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَىَ بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [التوبة : 111]
" فجعل سبحانه ها هنا الجنة ثمنا لنفوس المؤمنين وأموالهم " بحيث إذا بذلوها فيه استحقوا الثمن وعقد معهم هذا العقد وأكده بأنواع من التأكيد :
أحدها : إخبارهم سبحانه وتعالى بصيغة الخبر المؤكد باداة أن .
الثاني : الأخبار بذلك بصيغة الماضي الذي قد وقع وثبت واستقر .
الثالث : إضافة هذا العقد إلى نفسه سبحانه وأنه هو الذي اشترى هذا المبيع .
الرابع : أنه أخبر بأنه وعد بتسليم هذا الثمن وعدا لا يخلفه ولا يتركه .
الخامس : أنه أتى بصيغة على التي للوجوب إعلاما لعباده بأن ذلك حق عليه أحقه هو على نفسه .
السادس : أنه أكد ذلك بكونه حقا عليه .
السابع : أنه أخبر عن محل هذا الوعد وأنه في أفضل كتبه المنزلة من السماء وهي التوراة والإنجيل والقرآن .
الثامن : إعلامه لعباده بصيغة استفهام الإنكار "وَمَنْ أَوْفَىَ بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ" وأنه لا أحد أوفى بعهده منه سبحانه .
التاسع : أنه سبحانه وتعالى أمرهم أن يستبشروا بهذا العقد ويبشر به بعضهم بعضا بشارة مَنْ قد تم له العقد ولزم بحيث لا يثبتُ فيه خيار ولا يعرض له ما يفسخه .(1/461)
العاشر : أنه أخبرهم إخبارا مؤكدا بأن ذلك البيع الذي بايعوه به هو الفوز العظيم والبيع ههنا بمعنى المبيع الذي أخذوه بهذا الثمن وهو الجنة وقوله بايعتم به أي عاوضتم و ثامنتم به ثم ذكر سبحانه أنه هذا العقد الذي وقع العقد وتم لهم دون غيرهم وهم التائبون
مما يكره العابدون له بما يحب الحامدون له على ما يحبون وما يكرهون السائحون وفسرت السياحة بالصيام وفسرت بالسفر في طلب العلم وفسرت بالجهاد وفسرت بدوام الطاعة والتحقيق فيها أنها سياحة القلب في ذكر الله ومحبته والإنابة إليه والشوق إلى لقائه ويترتب عليها كل ما ذكر من الأفعال ولذلك وصف الله سبحانه نساء النبي اللاتي لو طلق أزواجه بدله بهن بأنهن سائحات وليست سياحتهن جهادا ولا سفرا في طلب علم ولا إدامة صيام وإنما هي سياحة قلوبهن في محبة الله تعالى وخشيته والإنابة إليه ذكره . أهـ
وأفهمت الآية خطر النفس الإنسانية وشرفها وعظم مقدارها فإن السلعة إذا خفي عليك قدرها فانظر إلى المشتري لها من هو ، وانظر إلى الثمن المبذول فيها ما هو ، وانظر إلى ما جرى على يده عقد التبايع ، فالسلعة النفس والله سبحانه المشتري لها والثمن لها جنات النعيم ، والسفير في هذا العقد خير خلقه من الملائكة وأكرمهم عليه وخيرهم من البشر وأكرمهم عليه .
وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد ، ودرر الفرائد .
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : "مَنْ خَافَ أَدْلَجَ وَمَنْ أَدْلَجَ بَلَغَ المَنْزِلَ أَلاَ إِنّ سِلْعَةَ الله غَالِيَةٌ أَلاَ إِنّ سِلْعَةَ الله الْجَنّةُ".
[*] قال العلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:
( مَنْ خَافَ ) أَيِ الْبَيَاتَ وَالْإِغَارَةَ مِنَ الْعَدُوِّ وَقْتَ السَّحَرِ .(1/462)
( أَدْلَجَ ) بِالتَّخْفِيفِ مِنْ سَارَ أَوَّلَ اللَّيْلِ وَبِالتَّشْدِيدِ مِنْ آخِرِهِ .
( وَمَنْ أَدْلَجَ بَلَغَ الْمَنْزِلَ ) أَيْ وَصَلَ إِلَى الْمَطْلَبِ. قَالَ الجزء السابع الطِّيبِيُّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - لِسَالِكِ الْآخِرَةِ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ عَلَى طَرِيقِهِ وَالنَّفْسَ وَأَمَانِيَّهُ الْكَاذِبَةَ أَعْوَانُهُ، فَإِنْ تَيَقَّظَ فِي مَسِيرِهِ وَأَخْلَصَ النِّيَّةَ فِي عَمَلِهِ أَمِنَ مِنَ الشَّيْطَانِ وَكَيْدِهِ، وَمِنْ قَطْعِ الطَّرِيقِ بِأَعْوَانِهِ ثُمَّ أَرْشَدَ إِلَى أَنَّ سُلُوكَ طَرِيقِ الْآخِرَةِ صَعْبٌ، وَتَحْصِيلَ الْآخِرَةِ مُتَعَسِّرٌ لَا يَحْصُلُ بِأَدْنَى سَعْيٍ فَقَالَ .
( أَلَا ) بِالتَّخْفِيفِ لِلتَّنْبِيهِ .
( إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ ) أَيْ مِنْ مَتَاعِهِ مِنْ نَعِيمِ الْجَنَّةِ
( غَالِيَةٌ ) بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ رَفِيعَةُ الْقَدْرِ
( أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ الْجَنَّةُ ) يَعْنِي؛ ثَمَنُهَا الْأَعْمَالُ الْبَاقِيَةُ الْمُشَارُ إِلَيْهَا بِقَوْلِهِ تعالى: (التّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السّائِحُونَ الرّاكِعُونَ السّاجِدونَ الاَمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ وَبَشّرِ الْمُؤْمِنِينَ) [التوبة: 112]
{ تنبيه } : هنا أمر يجب التنبيه عليه وهو أن الجنة إنما تدخل برحمة الله تعالى وليس عمل العبد مستقلا بدخولها وإن كان سببا ولهذا أثبت الله تعالى دخولها بالأعمال في قوله تعالى: (وَتِلْكَ الْجَنّةُ الّتِيَ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) [الزخرف: 72] ونفى رسول الله دخولها بالأعمال كما في الحديث الآتي :(1/463)
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :(لن يُدخِل أحداً عملُه الجنة). قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: (لا، ولا أنا، إلا أن يتغمَّدني الله بفضلٍ ورحمة، فسدِّدوا وقاربوا، ولا يتمنينَّ أحدكم الموت: إما محسناً فلعله أن يزداد خيراً، وإما مسيئاً فلعله أن يستعتب .
ولا تنافي بين الأمرين لوجهين :
أحدهما : ما ذكره سفيان وغيره قال كانوا يقولون "النجاة من النار بعفو الله ودخول الجنة برحمته واقتسام المنازل والدرجات بالأعمال" .
والثاني : أن الباء التي نفت الدخول هي باء المعاوضة التي يكون فيها أحد العوضين مقابلا للآخر والباء التي أثبتت الدخول هي باء السببية التي تقتضي سببية ما دخلت عليه لغيرة وأن لم يكن مستقلا بحصوله وقد جمع النبي بين الأمرين بقوله :(لن يُدخِل أحداً عملُه الجنة). قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: (لا، ولا أنا، إلا أن يتغمَّدني الله بفضلٍ ورحمة، فسدِّدوا وقاربوا.
ومن عرف الله تعالى وشهد مشهد حقه عليه ومشهد تقصيره وذنوبه وأبصر هذين المشهدين بقلبه عرف ذلك وجزم به والله سبحانه وتعالى المستعان .
طلب أهل الجنة لها من ربهم وطلبها لهم :
قال تعالى: (رّبّنَآ إِنّنَآ سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبّكُمْ فَآمَنّا رَبّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفّرْ عَنّا سَيّئَاتِنَا وَتَوَفّنَا مَعَ الأبْرَارِ * رَبّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتّنَا عَلَىَ رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ) [آل عمران 193: 194] والمعنى وآتنا ما وعدتنا على ألسنة رسلك من دخول الجنة .(1/464)
فالجنة تسأل ربها أهلها وأهلها يسألونه إياها والملائكة تسألها لهم والرسل يسألونه إياها لهم ولأتباعهم ويوم القيامة يقيمهم سبحانه بين يديه يشفعون فيها لعباده المؤمنين وفي هذا من تمام ملكه وإظهار رحمته وإحسانه وجوده وكرمه وإعطائه ما سئل ما هو من لوازم أسمائه وصفاته واقتضائها لآثارها ومتعلقاتها فلا يجوز تعطيلها عن آثارها وأحكامها فالرب تعالى جواد له الجود كله يحب أن يسئل ويطلب منه ويرغب إليه فخلق من يسأله وألهمه سؤاله وخلق له ما يسأله إياه فهو خالق السائل وسؤاله ومسئوله وذلك لمحبته سؤال عباده له ورغبتهم إليه وطلبهم منه وهو يغضب إذا لم يسئل الله يغضب إن تركت سؤاله وبني آدم حين يسئل يغضب وأحب خلقه إليه أكثرهم وأفضلهم له سؤالا وهو يحب الملحين في الدعاء وكلما ألح العبد عليه في السؤال أحبه وقربه وأعطاه في الحديث من لم يسأل الله يغضب عليه فلا إله إلا هو أي جناية جنت القواعد الفاسدة على الإيمان وحالت بين القلوب وبين معرفة ربها وأسمائه وصفات كماله ونعوت جلاله والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله .
والسنة الصحيحة طافحةُ بالحث على سؤال الله تعالى الجنة والاستجارة من النار منها ما يلي :
(حديث أنس بن مالك رضي الله عنه الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من سأل الله الجنة ثلاث مرات قالت الجنة اللهم أدخله الجنة ومن استجار من النار ثلاث مرات قالت النار اللهم أجره من النار .
[*] قال العلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:
( مَنْ سَأَلَ اللَّهَ الْجَنَّةَ ) بِأَنْ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسَالِكُ الْجَنَّةَ، أَوْ قَالَ اللَّهُمَّ أَدْخِلْنِي الْجَنَّةَ
( ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ) أَيْ كَرَّرَهُ فِي مَجَالِسَ أَوْ مَجْلِسٍ بِطَرِيقِ الْإِلْحَاحِ عَلَى مَا ثَبَتَ أَنَّهُ مِنْ آدَابِ الدُّعَاءِ الإلحاح فيه(1/465)
( قَالَتِ الْجَنَّةُ ) بِبَيَانِ الْحَالِ أَوْ بِلِسَانِ الْقَالِ لِقُدْرَتِهِ تَعَالَى عَلَى إِنْطَاقِ الْجَمَادَاتِ وَهُوَ الظَّاهِرُ
( اللَّهُمَّ أَدْخِلْهُ الْجَنَّةَ ) أَيْ دُخُولًا أَوَّلِيًّا أَوْ لُحُوقًا آخِرِيًّا
( وَمَنِ اسْتَجَارَ ) أَيِ اسْتَحْفَظَ
( مِنَ النَّارِ ) بِأَنْ قَالَ اللَّهُمَّ أَجِرْنِي مِنَ النَّارِ
( قَالَتِ النَّارُ اللَّهُمَّ أَجِرْهُ ) أَيِ احْفَظْهُ أَوْ أَنْقِذْهُ
( مِنَ النَّارِ ) أَيْ مِنْ دُخُولِهِ أَوْ خُلُودِهِ فِيهَا.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ما استجار عبد من النار سبع مرات في يوم إلا قالت النار: يا رب إن عبدك فلانا قد استجارك مني فأجره ، ولا يسأل الله عبد الجنة في يوم سبع مرات إلا قالت: يا رب لِلَّهِ إن عبدك فلانا سألني فأدخله الجنة .
وقد كان جماعة من السلف لا يسألون الله الجنة ويقولون حسبنا أن يجيرنا من النار فمنهم أبو الصهباء صلة بن أشيم صلى ليلة إلى السحر ثم رفع يديه وقال اللهم أجرني من النار أو مثلي يجترئ أن يسألك الجنة ومنهم عطاء السلمي كان لا يسأل الجنة فقال له صالح المري أن أبان حدثني عن أنس أن النبي قال يقول الله عز وجل انظروا في ديوان عبدي فمن رأيتموه سألني الجنة أعطيته ومن أستعذ بي من النار أعذته فقال عطاء كفاني أن يجيرني من النار ذكرها أبو نعيم .
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيحي أبي داوود وابن ماجة ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لرجل ما تقول في الصلاة قال أتشهد ثم أسأل الله الجنة وأعوذ به من النار أما والله ما أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ فقال حولها ندندن .
مسألة : ما معنى حولها ندندن ؟
الدندنة في اللغة : هي الكلام البليغ الذي يدور حول هدف معين، أو هي الصوت الهامس الذي تُسمع نغماته ولكن قد لا يُفهم معناه، طالما لم يجهر به قائله.(1/466)
وجنة الفردوس هي هدفنا جميعاً ندندن حولها في كلّ عباداتنا، وكتاباتنا، وأقولنا، وأفعالنا، ندور في فلكها ونطوف حول محورها، سواء أكان هدفنا مباشراً أم غير مباشر، مستدلين في ذلك بهدي الهادي الأمين حبيبنا محمد بن عبدالله عليه أفضل الصلوات والتسليم .
أسماء الجنة ومعانيها :
"الجنة لها عدة أسماء باعتبار صفاتها ومسماها واحد باعتبار الذات"
فهي مترادفة من هذا الوجه وتختلف باعتبار الصفات فهي متباينة من هذا الوجه .
الاسم الأول : الجنة وهو الاسم العام المتناول لتلك الدار وما اشتملت عليه من أنواع النعيم واللذة والبهجة والسرور وقرة الأعين وأصل اشتقاق هذه اللفظة من الستر والتغطية ومنه الجنين لاستتاره في البطن والجان لاستتاره عن العيون والمجن لستره ووقايته الوجه والمجنون لاستتار عقله وتواريه عنه والجان وهي الحية الصغيرة الرقيقة ومنه سُمِّيَ البستان جنة لأنه يستر داخله بالأشجار ويغطيه ولا يستحق هذا الاسم إلا موضع كثير الأشجار مختلف الأنواع ، قال تعالى : ( تِلْكَ الجَنَّةُ الَتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِياًّ) { مريم:63 }
وقال تعالى : (وَنُودُوا أَن تِلْكُمُ الجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) { الأعراف 43 } ..
الاسم الثاني : دار السلام ، وقد سماها الله بهذا الاسم في قوله تعالى: (لَهُمْ دَارُ السّلاَمِ عِندَ رَبّهِمْ) [الأنعام: 127]
وقوله تعالى: (وَاللّهُ يَدْعُوَ إِلَىَ دَارِ السّلاَمِ) [ يونس : 25] وهي أحق بهذا الاسم فإنها دار السلامة من كل بلية وآفة ومكروه وهي دار الله واسمه سبحانه وتعالى السلام الذي سَلَّمَهَا وَسَلَّم أهلها.
قال تعالى: (وَتَحِيّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ) [يونس: 10]
قال تعالى: (وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مّن كُلّ بَابٍ * سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَىَ الدّارِ) [الرعد 23: 24](1/467)
والرب تعالى يسلم عليكم من فوقهم كما قال تعالى: (لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مّا يَدّعُونَ * سَلاَمٌ قَوْلاً مّن رّبّ رّحِيمٍ) [يس 57: 58]
الاسم الثالث : دار المقامة قال تعالى حكاية عن أهلها قال تعالى: (وَقَالُواْ الْحَمْدُ للّهِ الّذِيَ أَذْهَبَ عَنّا الْحَزَنَ إِنّ رَبّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الّذِيَ أَحَلّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لاَ يَمَسّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلاَ يَمَسّنَا فِيهَا لُغُوبٌ) [فاطر 34: 35]
قال مقاتل : أنزلنا دار الخلود أقاموا فيها أبدا لا يموتون ولا يتحولون منها أبدا قال الفراء والزجاج المقامة مثل الإقامة يقال أقمت بالمكان إقامة ومقامة ومقاما .
الاسم الرابع : جنة المأوى قال تعالى: (عِندَهَا جَنّةُ الْمَأْوَىَ) [النجم: 15]
والمأوى مفعل من أوى يأوي إذا انضم إلى المكان وصار إليه واستقر به وقال عطاء عن ابن عباس هي الجنة التي يأوي إليها جبريل والملائكة وقال مقاتل والكلبي هي جنة تأوي إليها أرواح الشهداء وقال كعب جنة المأوى جنة فيها طير خضر ترتع فيها أرواح الشهداء وقالت عائشة رضي الله عنها وزر بن حبيش هي جنة من الجنان والصحيح أنه اسم من أسماء الجنة كما قال تعالى: (وَأَمّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ وَنَهَى النّفْسَ عَنِ الْهَوَىَ * فَإِنّ الْجَنّةَ هِيَ الْمَأْوَىَ) [النازعات 40: 41 ]
الاسم الخامس : جنات عدن فقيل هي اسم لجنة من الجنان والصحيح أنه اسم لجنة الجنان وكلها جنات عدن قال تعالى: (جَنّاتِ عَدْنٍ الّتِي وَعَدَ الرّحْمََنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً) [مريم: 61]
وقال تعالى: (جَنّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ) [ فاطر: 33]
وقال تعالى : (وَمَسَاكِنَ طَيّبَةً فِي جَنّاتِ عَدْنٍ) [التوبة: 72](1/468)
والاشتقاق يدل على أن جميعها جنات عدن فإنه من الإقامة والدوام يقال عدن بالمكان إذا أقام به وعدنت البلد توطنته وعدنت الإبل بمكان كذا لزمته فلم تبرح منه قال الجوهري ومنه جنات عدن أي إقامة ومنه سمي المعدِن بكسر الدال لأن الناس يقيمون فيه الصيف والشتاء ومركزه كل شيء معدنه والعادن الناقة المقيمة في المرعى .
الاسم السادس : دار الحيوان قال تعالى: (وَإِنّ الدّارَ الاَخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ) [العنكبوت: 64]
والمراد الجنة عند أهل التفسير قالوا وأن الآخرة يعني الجنة لهي الحيوان لهي دار الحياة التي لا موت فيها فقال الكلبي هي حياة لا موت فيها قال وقال الزجاج هي دار الحياة الدائمة .
الاسم السابع : الفردوس قال تعالى: (أُوْلََئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [المؤمنون 10: 11]
وقال تعالى : (إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً) [الكهف : 107]
والفردوس اسم يقال على جميع الجنة ويقال على أفضلها وأعلاها كأنه أحق بهذا الاسم من غيره من الجنات وأصل الفردوس البستان والفراديس البساتين قال كعب هو البستان الذي فيه الأعناب وقال الليث الفردوس جنة ذات كروم يقال كرم مفردس أي معرش وقال الضحاك هي الجنة الملتفة بالأشجار وهو اختيار المبرد وقال الفردوس فيما سمعت من كلام العرب الشجر الملتف والأغلب عليه العنب وجمعه الفراديس .
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن في الجنة مائة درجة، أعدها الله للمجاهدين في سبيله، "كل درجتين ما بينهما كما بين السماء والأرض"، فإذا سألتم الله فسلوه الفردوس، فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تَفجَّر أنهار الجنة .(1/469)
الاسم الثامن : جنات النعيم قال تعالى: (إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ لَهُمْ جَنّاتُ النّعِيمِ) [لقمان: 8]
وهذا أيضا اسم جامع لجميع الجنات لما تضمنته من الأنواع التي يتنعم بها من المأكول والمشروب والملبوس والصور والرائحة الطيبة والمنظر البهيج والمساكن الواسعة وغير ذلك من النعيم الظاهر والباطن .
الاسم التاسع : المقام الأمين قال تعالى: (إِنّ الْمُتّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ) [الدخان: 51] والمقام الأمين موضع الإقامة ، والأمين الآمن من كل سوء وآفة ومكروه وهو الذي قد جمع صفات الأمن كلها فهو آمن من الزوال والخراب وأنواع النقص وأهله آمنون فيه من الخروج والنغص والنكد والبلد الأمين الذي قد أمن من أهله فيه مما يخالف منه سواهم وتأمل كيف ذكر سبحانه الأمن في قوله تعالى (إِنّ الْمُتّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ) وفي قوله تعالى : (يَدْعُونَ فِيهَا بِكلّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ) [الدخان: 55] فجمع لهم بين أمن المكان وأمن الطعام فلا يخافون انقطاع الفاكهة ولا سوء عاقبتها ومضرتها وأمن الخروج منها فلا يخافون ذلك وأمن من الموت فلا يخافون فيها موتا .(1/470)
الاسم العاشر: مقعد الصدق قال تعالى: (إِنّ الْمُتّقِينَ فِي جَنّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مّقْتَدِرِ) [القمر 54: 55] فسمى جنته مقعد صدق لحصول كل ما يراد من المقعد الحسن فيها كما يقال مودة صادقة إذا كانت ثابتة تامة وحلاوة صادقة وحملة صادقة ومنه الكلام الصدق لحصول مقصوده منه وموضع هذه اللفظة في كلامهم الصحة والكمال ومنه الصدق في الحديث والصدق في العمل والصديق الذي يصدق قوله بالعمل والصدق بالفتح الصلب من الرماح ويقال للرجل الشجاع أنه لذو مصدق أي صادق الحملة وهذا مصداق هذا أي ما يصدقه ومنه الصداقة لصفاء المودة والمخالة ومنه صدقني القتال وصدقني المودة ومنه قدم صدق ولسان صدق ومدخل صدق ومخرج صدق وذلك كله للحق الثابت المقصود الذي يرغب فيه بخلاف الكذب الباطل الذي لا شيء تحته وهو لا يتضمن أمرا ثابتا قط وفسر قوم صدق بالجنة وفسر بالأعمال التي تنال بها الجنة وفسر بالسابقة التي سبقت لهم من الله وفسر بالرسول الذي على يده وهدايته نالوا ذلك والتحقيق أن الجميع حق فإنهم سبقت لهم من الله الحسنى بتلك السابقة أي بالأسباب التي قدرها لهم على يد رسوله وأدخر لهم جزاءها يوم القيامة ولسان الصدق وهو لسان الثناء الصادق بمحاسن الأفعال وجميل الطرائق وفي كونه لسان صدق إشارة إلى مطابقته للواقع وأنه إثناء بحق لا بباطل ومدخل الصدق ومخرج الصدق هو المدخل والمخرج الذي يكون صاحبه فيه ضامنا على الله وهو دخوله وخروجه بالله ولله وهذه الدعوة من أنفع الدعاء للعبد فإنه لا يزال داخلا في أمر وخارجا من أمر فمتى كان دخوله لله وبالله وخروجه كذلك كان قد أدخل مدخل صدق واخرج مخرج صدق والله المستعان .
عدد الجنات :
عدد الجنات وأنها نوعان جنتان من ذهب وجنتان من فضة .
الجنة اسم شامل لجميع ما حوته من البساتين والمساكن والقصور وهي جنات كثيرة جدا كما
كما في الحديث الآتي :(1/471)
(حديث أنس بن مالك رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري ) قال: أصيب الحارثة يوم بدر وهو غلام، فجاءت أمه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله، قد عرفت منزلة حارثة مني، فإن يكن في الجنة أصبر وأحتسب، وإن تكن الأخرى تر ما أصنع، فقال: (ويحك، أو هبلت ، أو جنة واحدة هي، إنها جنان كثيرة، وإنه في جنة الفردوس).
قال تعالى: (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنّتَانِ) [الرحمن : 46]
وقد قال تعالى ولمن خاف مقام ربه جنتان فذكرهما ثم قال ومن دونهما جنتان فهذه أربع .
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : جنتان من فضة، آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب، آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبر، على وجهه في جنة عدن .
وثبت في رواية حماد بن سلمة عن ثابت البناني عن أبي بكر بن أبي موسى عن أبيه قال حماد لا أعلمه إلا قد رفعه قال جنتان من ذهب للمقربين ومن دونهما جنتان من ورق لأصحاب اليمين أخرجه الطبري وابن أبي حاتم ورجاله ثقات .
أبواب الجنة وخزنتها :
هيا بنا نطرق أبواب الجنة لنسيح بفكرنا في ملكوت الله فيها وما أودع فيها من بديع الأسرار لعباده الأخيار.
قال تعالى:( جَنَّاتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الأَبْوَابُ ) [ ص :50]
وَهَذَا المآبُ الحَسَنُ هُوَ جَنّاَتُ اسْتِقْرَارٍ وَإِقَامَةٍ مُفَتَّحَةٌ أَبْوَابُهَا إِكْرَاماً لَهُمْ لِيَدْخُلُوهَا آمِنِينَ .
وعن الحسن، وذكر أبواب الجنة، فقال: أبواب يُرى ظاهرها من باطنها، فَتكلم وتَكلم، فتهمهم انفتحي انغلقي، فتفعل. (1)
قال تعالى: (وَسِيقَ الّذِينَ اتّقَوْاْ رَبّهُمْ إِلَى الّجَنّةِ زُمَراً حَتّىَ إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ) [الزمر: 73]
__________
(1) - تفسير الطبري - (ج 18 / ص 221) حسن(1/472)
والخزنة جمع خازن ومثل حفظة وحافظ وهو المؤتمن على الشيء الذي قد استحفظه .
(حديث أنس في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : آتي باب الجنة فأستفتح فيقول الخازن : من أنت ؟ فأقول : محمد فيقول : بك أمرت أن لا أفتح لأحد قبلك .
( حديث سهل بن سعد الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :( في الجنة ثمانية أبواب ، فيها بابٌ يُسمى الريَّان لا يدخله إلا الصائمون )
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من أنفق زوجين في سبيل الله، نودي من أبواب الجنة: يا عبد الله هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة ، فقال أبو بكر رضي الله عنه: بأبي وأمي يا رسول الله، ما على من دعي من تلك الأبواب من ضرورة، فهل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها؟. قال: نعم، وأرجو أن تكون منهم .
وَقَوْله : ( فِي سَبِيل اللَّه ) قِيلَ : هُوَ عَلَى الْعُمُوم فِي جَمِيع وُجُوه الْخَيْر ، وَقِيلَ : هُوَ مَخْصُوص بِالْجِهَادِ ، وَالْأَوَّل أَصَحّ وَأَظْهَر . هَذَا آخِر كَلَام الْقَاضِي .(1/473)
قَوْله - صلى الله عليه وسلم - : ( نُودِيَ فِي الْجَنَّة : يَا عَبْد اللَّه هَذَا خَيْر ) قِيلَ : مَعْنَاهُ : لَك هُنَا خَيْر وَثَوَاب وَغِبْطَة . وَقِيلَ : مَعْنَاهُ هَذَا الْبَاب فِيمَا نَعْتَقِدهُ خَيْر لَك مِنْ غَيْره مِنَ الْأَبْوَاب لِكَثْرَةِ ثَوَابه وَنَعِيمه ، فَتَعَالَ فَادْخُلْ مِنْهُ ، وَلَا بُدّ مِنْ تَقْدِير مَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ كُلّ مُنَادٍ يَعْتَقِد ذَلِكَ الْبَاب أَفْضَل مِنْ غَيْره . قَوْله - صلى الله عليه وسلم - : ( فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْل الصَّلَاة دُعِيَ مِنْ بَاب الصَّلَاة ) وَذَكَرَ مِثْله فِي الصَّدَقَة وَالْجِهَاد وَالصِّيَام . قَالَ الْعُلَمَاء : مَعْنَاهُ : مَنْ كَانَ الْغَالِب عَلَيْهِ فِي عَمَله وَطَاعَته ذَلِكَ .
قَوْله - صلى الله عليه وسلم - فِي صَاحِب الصَّوْم : ( دُعِيَ مِنْ بَاب الرَّيَّان ) قَالَ الْعُلَمَاء : سُمِّيَ بَاب الرَّيَّان تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْعَطْشَان بِالصَّوْمِ فِي الْهَوَاجِر سَيُرْوَى وَعَاقِبَتُهُ إِلَيْهِ ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الرِّيِّ (1) .
(حديث عمر في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ما من أحدٍ يتوضأ فيبلغ أو يسبغ الوضوء ثم يقول أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له و أشهد أن محمدا عبده و رسوله إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء .
( حديث عمر صحيحي أبي داوود الترمذي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من توضأ فأحسن الوضوء ثم قال : أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له و أن محمدا عبده و رسوله اللهم اجعلني من التوابين و اجعلني من المتطهرين فتحت له ثمانية أبواب الجنة يدخل من أيها شاء .
__________
(1) - شرح النووي على مسلم - (ج 3 / ص 475)(1/474)
(حديث عتبة بن عبد السلمي رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجه ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ما من مسلم يموت له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث إلا تلقوه من أبواب الجنة الثمانية من أيها شاء دخل .
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أنا أول من يأخذ بحلقة باب الجنة فأقعقعها .
[*] قال العلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:
" فَأُقَعْقِعُهَا " أَيْ أُحَرِّكُهَا لِتُصَوِّتَ وَالْقَعْقَعَةُ حِكَايَةُ حَرَكَةِ الشَّيْءِ يُسْمَعُ لَهُ صَوْتٌ "
[*] أورد ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه حادي الأرواح عن خليد عن الحسن مفتحة أبوابها قال أبواب ترى وذكرا أيضا عن خليد عن قتادة قال أبواب يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها تتكلم وتكلم وتفهم ما يقال لها انفتحي انغلقي .
[*] وأورد ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه حادي الأرواح عن الفزاري قال لكل مؤمن في الجنة أربعة أبواب فباب يدخل عليه منه زواره من الملائكة وباب يدخل عليه منه أزواجه من الحور العين وباب مقفل فيما بينه وبين أهل النار يفتحه إذا شاء ينظر إليهم لتعظم النعمة عليه وباب فيما بينه وبين دار السلام يدخل منه على ربه إذا شاء
أنفق زوجين في سبيل الله، نودي من أبواب الجنة: يا عبد الله هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة ، فقال أبو بكر رضي الله عنه: بأبي وأمي يا رسول الله، ما على من دعي من تلك الأبواب من ضرورة، فهل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها؟. قال: نعم، وأرجو أن تكون منهم .
خزنة الجنة :
خزنة:جمع خازن , كحفظة :جمع حافظ(1/475)
قال تعالى: (وَسِيقَ الَذينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ ) { الزمر 73 }
وَيُوِجَّهُ المُتَّقُونَ إِلَى الجَنَّةِ جَمَاعَاتٍ إِثْرَ جَمَاعَاتٍ : المُقَرَّبُونَ ، ثُمَّ الأَبْرَارُ ، ثُمَّ الذِينَ يَلُونَهُمْ ، ثُمَّ الذِينَ يَلُونَهُمْ . . فَإِذَا وَصَلُوا الجَنَّةَ تُفْتَحُ لَهُمْ أَبْوَابُهَا لاسْتِقْبَالِهِمْ ، وَيَسْتَقْبِلُهُمْ حُرَّاسُهَا ( خَزَنُتهَا ) بالتَّحِيَةِ وَالسَّلاَمِ ، وَيَقُولُونَ لَهُمْ : طَابَتْ أَعْمَالُكُمْ وَأَقْوَالُكُمْ ، وَطَابَ سَعْيُكُمْ وَجَزَاؤُكُمْ ، فَادْخُلُوا الجَنَّةَ لِتَمْكُثُوا فِيهَا خَالِدِينَ أَبَداً .
وهذه الآية الكريمة تثبت وجود خزنة للجنة, وهم من الملائكة ، وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - " آتِى بَابَ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَسْتَفْتِحُ فَيَقُولُ الْخَازِنُ مَنْ أَنْتَ فَأَقُولُ مُحَمَّدٌ. فَيَقُولُ بِكَ أُمِرْتُ لاَ أَفْتَحُ لأَحَدٍ قَبْلَكَ " (1) .
وهذا الحديث كما يثبت وجود خزنة للجنَّة, يثبت كذلك فضل النبي - صلى الله عليه وسلم - وكرامته.
( حديث أبي ذر رضي الله عنه الثابت في صحيح النسائي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ما من عبد مسلم ينفق من كل مال له زوجين في سبيل الله إلا استقبلته حجبة الجنة كلهم يدعوه إلى ما عنده قلت وكيف ذلك قال إن كانت إبلا فبعيرين وإن كانت بقرا فبقرتين .
[*] قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه حادي الأرواح :
قد سمى الله سبحانه وتعالى كبير هذه الخزنة رضوان وهو اسم مشتق من الرضا وسمى خازن النار مالكا وهو اسم مشتق من الملك وهو القوة والشدة حيث تصرفت حروفه .
عدد أبواب الجنة :
__________
(1) - صحيح مسلم(507 )(1/476)
إنَّ جنة عالية غالية عظيمة ذات أبواب واسعة عظيمة تليق بسعتها وتدل على علو منزلتها وقدرها ، وعدد أبوابها ثمانية :
( حديث سهل بن سعد الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :( في الجنة ثمانية أبواب ، فيها بابٌ يُسمى الريَّان لا يدخله إلا الصائمون )
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من أنفق زوجين في سبيل الله، نودي من أبواب الجنة: يا عبد الله هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة ، فقال أبو بكر رضي الله عنه: بأبي وأمي يا رسول الله، ما على من دعي من تلك الأبواب من ضرورة، فهل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها؟. قال: نعم، وأرجو أن تكون منهم .
(حديث عمر في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ما من أحدٍ يتوضأ فيبلغ أو يسبغ الوضوء ثم يقول أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له و أشهد أن محمدا عبده و رسوله إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء .
( حديث عمر صحيحي أبي داوود الترمذي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من توضأ فأحسن الوضوء ثم قال : أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له و أن محمدا عبده و رسوله اللهم اجعلني من التوابين و اجعلني من المتطهرين فتحت له ثمانية أبواب الجنة يدخل من أيها شاء .
(حديث عتبة بن عبد السلمي رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجه ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ما من مسلم يموت له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث إلا تلقوه من أبواب الجنة الثمانية من أيها شاء دخل .
سعة أبواب الجنة :
إنَّ جنة عالية غالية عظيمة ذات أبواب واسعة عظيمة تليق بسعتها وتدل على علو منزلتها وقدرها ، وعدد أبوابها ثمانية :(1/477)
( حديث أبي سعيد رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :إن ما بين مصراعين في الجنة لمسيرة أربعين سنة .
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) قال : كنا مع النبي في دعوة فرفع إليه الذراع وكانت تعجبه فنهس منها نهسة وقال أنا سيد الناس يوم القيامة ، هل تدرون مم ذاك يجمع لله الأولين والآخرين في صعيد واحد فيبصرهم الناظر ويسمعهم الداعي وتدنو منهم الشمس فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون فيقول الناس ألا ترون إلى ما أنتم فيه وإلى ما بلغكم ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم فيقول بعض الناس لبعض أبوكم آدم فيأتونه فيقولون يا آدم أنت أبو البشر خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأمر الملائكة فسجدوا لك وأسكنك الجنة ألا تشفع لنا إلى ربك ألا ترى ما نحن فيه وما بلغنا فقال إن ربي غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولا يغضب بعده مثله وإنه نهاني عن الشجرة فعصيت نفسي نفسي نفسي ذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى نوح فيأتون نوحا فيقولون يا نوح أنت أول الرسل إلى أهل الأرض وقد سماك لله عبدا شكورا ألا ترى إلى ما نحن فيه ألا ترى إلى ما بلغنا ألا تشفع لنا إلى ربك فيقول إن ربي غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله وإنه قد كان لي دعوة دعوت بها على قومي نفسي نفسي نفسي ذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى إبراهيم فيأتون إبراهيم فيقولون أنت نبي الله وخليله من أهل الأرض اشفع لنا إلى ربك ألا ترى إلى ما نحن فيه فيقول لهم إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله وإني كنت كذبت ثلاث كذبات فذكرها نفسي نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى موسى فيأتون موسى فيقولون يا موسى أنت رسول الله فضلك الله برسالاته(1/478)
وبكلامه على الناس اشفع لنا إلى ربك أما ترى إلى ما نحن فيه فيقول إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله وإني قد قتلت نفسا لم أومر بقتلها نفسي نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى عيسى فيأتون عيسى فيقولون يا عيسى أنت رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه وكلمت الناس في المهد اشفع لنا إلى ربك ألا ترى إلى ما نحن فيه فيقول عيسى إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله ولم يذكر ذنبا نفسي نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى محمد فيأتوني فيقولون يا محمد أنت رسول الله وخاتم الأنبياء وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر اشفع لنا إلى ربك ألا ترى إلى ما نحن فيه فأنطلق فآتي تحت العرش فأقع ساجدا لربي ثم يفتح الله علي من محامده وحسن الثناء عليه شيئا لم يفتحه على أحد قبلي ثم يقال يا محمد ارفع رأسك سل تعطه واشفع تشفع فأرفع رأسي فأقول أمتي يا رب أمتي يا رب أمتي يا رب فيقال يا محمد أدخل من أمتك من لا حساب عليهم من الباب الأيمن من أبواب الجنة وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب ثم قال والذي نفسي بيده "إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة كما بين مكة وهجر أو كما بين مكة وَبُصْرَى" .
[*] قال الإمام النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم :
( المصراعان ) بكسر الميم جانبا الباب ,
( وهجر ) بفتح الهاء والجيم وهي مدينة عظيمة هي قاعدة بلاد البحرين , قال الجوهري في صحاحه : ( هجر ) اسم بلد مذكر مصروف قال : والنسبة إليه ( هاجري ) , وقال أبو القاسم الزجاجي في الجمل : ( هجر ) يذكر ويؤنث قلت : وهجر هذه غير هجر المذكورة في حديث " إذا بلغ الماء قلتين بقلال هجر " تلك قرية من قرى المدينة كانت القلال تصنع بها وهي غير مصروفة , وقد أوضحتها في أول شرح المهذب.(1/479)
وأما ( بُصْرَى ) فبضم الباء وهي مدينة معروفة بينها وبين دمشق نحو ثلاث مراحل , وهي مدينة حوران بينها وبين مكة شهر .
صفة أبواب الجنة وأنها ذات حلق :
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أنا أول من يأخذ بحلقة باب الجنة فأقعقعها .
[*] قال العلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:
" فَأُقَعْقِعُهَا " أَيْ أُحَرِّكُهَا لِتُصَوِّتَ وَالْقَعْقَعَةُ حِكَايَةُ حَرَكَةِ الشَّيْءِ يُسْمَعُ لَهُ صَوْتٌ "
[*] أورد ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه حادي الأرواح عن خليد عن الحسن مفتحة أبوابها قال أبواب ترى وذكرا أيضا عن خليد عن قتادة قال أبواب يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها تتكلم وتكلم وتفهم ما يقال لها انفتحي انغلقي .
[*] وأورد ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه حادي الأرواح عن الفزاري قال لكل مؤمن في الجنة أربعة أبواب فباب يدخل عليه منه زواره من الملائكة وباب يدخل عليه منه أزواجه من الحور العين وباب مقفل فيما بينه وبين أهل النار يفتحه إذا شاء ينظر إليهم لتعظم النعمة عليه وباب فيما بينه وبين دار السلام يدخل منه على ربه إذا شاء .
أول من يقرع باب الجنة :
(حديث أنس في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : آتي باب الجنة فأستفتح فيقول الخازن : من أنت ؟ فأقول : محمد فيقول : بك أمرت أن لا أفتح لأحد قبلك .
أول من يدخلون الجنة وصفاتهم :
" "أول الناس دخولاً الجنة هو النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - ثم أمته"
(حديث أنس في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : آتي باب الجنة فأستفتح فيقول الخازن : من أنت ؟ فأقول : محمد فيقول : بك أمرت أن لا أفتح لأحد قبلك .(1/480)
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا ثم هذا يومهم الذي فرض عليهم فاختلفوا فيه فهدانا الله فالناس لنا فيه تبع اليهود غدا والنصارى بعد غد .
فهذه الأمة المحمدية أسبق الأمم خروجاً من الأرض, وأسبقهم إلى أعلى مكان في الموقف, وأسبقهم إلى ظلّ العرش , وأسبقهم إلى الفصل والقضاء بينهم, وأسبقهم إلى جواز الصراط , وأسبقهم إلى دخول الجنة.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا ثم هذا يومهم الذي فرض عليهم فاختلفوا فيه فهدانا الله فالناس لنا فيه تبع اليهود غدا والنصارى بعد غد .
[*] قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه حادي الأرواح :
فهذه الأمة أسبق الأمم خروجا من الأرض وأسبقهم إلى أعلى مكان في الموقف وأسبقهم إلى ظل العرش وأسبقهم إلى الفصل والقضاء بينهم واسبقهم إلى الجوار على الصراط وأسبقهم إلى دخول الجنة فالجنة محرمة على الأنبياء حتى يدخلها محمد ومحرمة على الأمم حتى تدخلها أمته.
صفات أول من يدخلون الجنة :
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أول زمرة تلج الجنة صورتهم على صورة القمر ليلة البدر، لا يبصقون فيها ولا يمتخطون ولا يتغوطون، آنيتهم فيها الذهب، أمشاطهم من الذهب والفضة، ومجامرهم الألوة، ورشحهم المسك، ولكل واحد منهم زوجتان، يرى مخ سوقهما من وراء اللحم من الحسن، ولا اختلاف بينهم ولا تباغض، قلوبهم قلب رجل واحد، يسبحون الله بكرة وعشيا .(1/481)
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر، ثم الذين يلونهم على أشد كوكب دري في السماء إضاءة، لا يبولون ولا يتغوطون، ولا يتفلون ولا يمتخطون، أمشاطهم الذهب، ورشحهم المسك، ومجامرهم الألوة ـ الألنجوج، عود الطيب ـ وأزواجهم الحور العين، على خلق رجل واحد، على صورة أبيهم آدم، ستون ذراعا في السماء .
ومعنى( رشحهم المسك) أي:عرقهم كالمسك في طيب رائحته,و(المجامر): جمع[مِجْمَر] و[مُجْمَر],والأول: هو الذي يوضع فيه النار للبخور, والثاني : هوالذي يُتبخر به وأُعدّ له الجمر.
ومعنى(الألوة):العود الهندي الذي يُتبخر به, وقال الحافظ ابن حجر في الفتح: الألنجوج هو العود الذي يُتبخر به, ولفظ (الألنجوج) هنا تفسير
( الألوة), و(العود) تفسير التفسير وقوله
(ستون ذراعًا في السماء)أي: في العلو والارتفاع" (1)
وَقَدْ يُقَال إِنَّ رَائِحَة الْعُود إِنَّمَا تَفُوح بِوَضْعِهِ فِي النَّار وَالْجَنَّة لَا نَار فِيهَا وَمِنْ ثَمَّ قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ بَعْد تَخْرِيج الْحَدِيث الْمَذْكُور : يُنْظَر هَلْ فِي الْجَنَّة نَار ؟ وَيُجَاب بِاحْتِمَالِ أَنْ يَشْتَعِل بِغَيْرِ نَار بَلْ بِقَوْلِهِ : كُنْ ، وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ مِجْمَرَة بِاعْتِبَارِ مَا كَانَ فِي الْأَصْل ، وَيُحْتَمَل أَنْ يَشْتَعِل بِنَارٍ لَا ضَرَر فِيهَا وَلَا إِحْرَاق ، أَوْ يَفُوح بِغَيْرِ اِشْتِعَال
وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ : قَدْ يُقَال أَيّ حَاجَة لَهُمْ إِلَى الْمُشْط وَهُمْ مُرْد وَشُعُورهمْ لَا تَتَّسِخ ؟ وَأَيّ حَاجَة لَهُمْ إِلَى الْبَخُور وَرِيحهمْ أَطْيَب مِنْ الْمِسْك ؟
__________
(1) - فتح الباري للحافظ ابن حجر(9/590)(1/482)
قَالَ : وَيُجَاب بِأَنَّ نَعِيم أَهْل الْجَنَّة مِنْ أَكْل وَشُرْب وَكِسْوَة وَطِيب وَلَيْسَ عَنْ أَلَم جُوع أَوْ ظَمَأ أَوْ عُرْي أَوْ نَتْن ، وَإِنَّمَا هِيَ لَذَّات مُتَتَالِيَة وَنِعَم مُتَوَالِيَة ، وَالْحِكْمَة فِي ذَلِكَ أَنَّهُمْ يُنَعَّمُونَ بِنَوْعِ مَا كَانُوا يَتَنَعَّمُونَ بِهِ فِي الدُّنْيَا .
وَقَالَ النَّوَوِيّ : مَذْهَب أَهْل السُّنَّة أَنَّ تَنَعُّم أَهْل الْجَنَّة عَلَى هَيْئَة تَنَعُّم أَهْل الدُّنْيَا إِلَّا مَا بَيْنهمَا مِنَ التَّفَاضُل فِي اللَّذَّة ، وَدَلَّ الْكِتَاب وَالسُّنَّة عَلَى أَنَّ نَعِيمهمْ لَا اِنْقِطَاع لَهُ (1) .
(حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما الثابت في صحيح الترغيب والترهيب ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : هل تدرون أول من يدخل الجنة من خلق الله عز وجل قالوا الله ورسوله أعلم قال الفقراء المهاجرون الذين تسد بهم الثغور وتتقى بهم المكاره ويموت أحدهم وحاجته في صدره لا يستطيع لها قضاء فيقول الله عز وجل لمن يشاء من ملائكته ائتوهم فحيوهم فتقول الملائكة ربنا نحن سكان سمائك وخيرتك من خلقك أفتأمرنا أن نأتي هؤلاء فنسلم عليهم قال إنهم كانوا عبادا يعبدوني ولا يشركون بي شيئا وتسد بهم الثغور وتتقى بهم المكاره ويموت أحدهم وحاجته في صدره لا يستطيع لها قضاء قال فتأتيهم الملائكة عند ذلك فيدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار .
سبق الفقراء الأغنياء إلى الجنة :
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل أغنيائهم بنصف يوم وهو خمس مائة عام .
[*] قال العلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:
__________
(1) - فتح الباري لابن حجر - (ج 10 / ص 30)(1/483)
قَوْلُهُ: ( وَهُوَ خَمْسُمِائَةِ عَامٍ ) فَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل أغنيائهم بأربعين خريفا .
مسألة : كيف نجمع بين الحديثين السابقين فأحدهما يقول " بنصف يوم وهو خمس مائة عام " والآخر " بأربعين خريفا"
[*] قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه حادي الأرواح تعليقاً على حديث " بأربعين خريفا"
فإما أن يكون هو المحفوظ وإما أن يكون كلاهما محفوظا وتختلف مدة السبق بحسب أحوال الفقراء والأغنياء فمنهم من يسبق بأربعين ومنهم من يسبق بخمسمائة كما يتأخر مكث العصاة من الموحدين في النار بحسب أحوالهم والله أعلم ، ولكن هنا أمر يجب التنبيه عليه وهو أنه لا يلزم من سبقهم لهم في الدخول ارتفاع منازلهم عليهم بل قد يكون المتأخر أعلى منزلة وإن سبقه غيره في الدخول والدليل على هذا أن من الأمة من يدخل الجنة بغير حساب وهم السبعون ألفا وقد يكون بعض من يحاسب أفضل من أكثرهم والغني إذا حوسب على غناه فَوُجِد قد شكر الله تعالى فيه وتقرب إليه بأنواع البر والخير والصدقة والمعروف كان أعلى درجة من الفقير الذي سبقه في الدخول ولم يكن له تلك الأعمال ولا سيما إذا شاركه الغني في أعماله وزاد عليه فيها والله لا يضيع أجر من أحسن عملا فالمزية مزيتان مزية سبق ومزية رفعة وقد يجتمعان وينفردان فيحصل الواحد السبق والرفعة ويعدمهما آخر ويحصل لآخر السبق دون الرفعة ولآخر الرفعة دون السبق وهذا بحسب المقتضى للأمرين أو لأحدهما وعدمه وبالله التوفيق .
أصناف أهل الجنة وأوصافهم :
أصناف أهل الجنة :(1/484)
أهل الجنة أربعة أصناف ذكرهم الله سبحانه وتعالى في قوله قال تعالى: (وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرّسُولَ فَأُوْلََئِكَ مَعَ الّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مّنَ النّبِيّينَ وَالصّدّيقِينَ وَالشّهَدَآءِ وَالصّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولََئِكَ رَفِيقاً) [النساء : 69] فنسأل الله أن يجعلنا منهم بمنه وكرمه .
أوصاف أهل الجنة :
إن الذي يمعن النظر في "الوحيين الشريفين " الكتاب والسنة الصحيحة يجد أنهما طافحان بأوصاف أهل الجنة منها ما يلي :
أولاً أوصاف أهل الجنة في القرآن الكريم :
قال تعالى: (وَسَارِعُوَاْ إِلَىَ مَغْفِرَةٍ مّن رّبّكُمْ وَجَنّةٍ عَرْضُهَا السّمَاوَاتُ وَالأرْضُ أُعِدّتْ لِلْمُتّقِينَ * الّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السّرّآءِ وَالضّرّآءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النّاسِ وَاللّهُ يُحِبّ الْمُحْسِنِينَ * وَالّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوَاْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذّنُوبَ إِلاّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرّواْ عَلَىَ مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُوْلََئِكَ جَزَآؤُهُمْ مّغْفِرَةٌ مّن رّبّهِمْ وَجَنّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ) [آل عمران 133: 136]
فأخبر سبحانه أنه أعد الجنة للمتقين دون غيرهم ثم ذكر أوصاف المتقين فذكر بذلهم للإحسان في حالة العسر واليسر والشدة والرخاء فإن من الناس من يبذل في حال اليسر والرخاء ولا يبذل في حال العسر والشدة ثم ذكر كف أذاهم عن الناس بحبس الغيظ بالكظم وحبس الانتقام بالعفو ، ثم ذكر حالهم بينهم وبين ربهم في ذنوبهم وأنها إذا صارت منهم قابلوها بذكر الله والتوبة والاستغفار وترك الإضرار فهذا حالهم مع الله وذاك حالهم مع خلقه .(1/485)
وقال تعالى : (وَالسّابِقُونَ الأوّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ وَالّذِينَ اتّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدّ لَهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [التوبة : 100] فأخبر تعالى أنه أعدها للمهاجرين والأنصار وأتباعهم بإحسان فلا مطمع لمن خرج عن طريقتهم فيها .
وقال تعالى قال تعالى: (إِنّمَا الْمُؤْمِنُونَ الّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَىَ رَبّهِمْ يَتَوَكّلُونَ * الّذِينَ يُقِيمُونَ الصّلاَةَ وَمِمّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلََئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) [الأنفال 2: 4]
فوصفهم بإقامة حقه باطنا وظاهرا وبأداء حق عباده .
ثانياً أوصاف أهل الجنة في السنة الصحيحة :
( حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) قال : لما كان يوم خيبر أقبل نفر من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا فلان شهيد فلان شهيد حتى مروا على رجل فقالوا فلان شهيد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كلا إني رأيته في النار في بردة غلها أو عباءة ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا بن الخطاب اذهب فناد في الناس أنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون قال فخرجت فناديت ألا إنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون .
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة و إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر .
( حديث عياض بن حمار رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أهل الجنة ثلاثة ذو سلطان مقسط موفق ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم وعفيف متعفف ذو عيال .(1/486)
( حديث حارثة بن وهب رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ألا أخبركم بأهل الجنة ؟ كل ضعيف متضعف لو أقسم على الله لأبره ألا أخبركم بأهل النار ؟ كل عتل جواظ جعظري مستكبر .
(حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما الثابت في السلسلة الصحيحة ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن أهل النار كل جعظري جواظ مستكبر ، جماع مناع ، وأهل الجنة الضعفاء المغلوبون .
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ألا أخبركم برجالكم من أهل الجنة ؟ النبي في الجنة ، والصديق في الجنة ، والشهيد في الجنة ، والمولود في الجنة ، والرجل يزور أخاه في ناحية المصر لا يزوره إلا لله عز وجل ، ونساؤكم من أهل الجنة: الودود الولود العؤود على زوجها ؛ التي إذا غضب جاءت حتى تضع يدها في يد زوجها وتقول: لا أذق غمضا حتى ترضى .
(حديث أنس بن مالك رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) قال: مروا بجنازة فأثنوا عليها خيرا، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (وجبت). ثم مروا بأخرى فأثنوا عليها شرا، فقال: (وجبت) فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ما وجبت؟ قال: (هذا أثنيتم عليه خيرا، فوجبت له الجنة، وهذا أثنيتم عليه شرا، فوجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض).
(حديث أبي زهير الثقفي رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجه ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :يوشك أن تعرفوا أهل الجنة من أهل النار قالوا بم ذاك يا رسول الله قال بالثناء الحسن والثناء السيئ أنتم شهداء الله بعضكم على بعض .
أكثر أهل الجنة هم أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - :(1/487)
(حديث أبي سعيد رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :(يقول الله: يا آدم، فيقول: لبيك وسعديك والخير في يديك، قال: يقول: أخرج بعث النار، قال: وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين، فذاك حين يشيب الصغير، وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكرى وما هم بسكرى، ولكنَّ عذاب الله شديد). فاشتد ذلك عليهم فقالوا: يا رسول الله، أينا ذلك الرجل؟ قال: (أبشروا، فإن من يأجوج ومأجوج ألفاً ومنكم رجلاً، ثم قال: والذي نفسي بيده، إني لأطمع أن تكونوا ثلث أهل الجنة). قال: فحمدنا الله وكبَّرنا، ثم قال: (والذي نفسي بيده، إني لأطمع أن تكونوا شطر أهل الجنة، إن مثلكم في الأمم كمثل الشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود، أو كالرُقْمة في ذراع الحمار).
(حديث بريدة بن الحصيب رضي الله عنه الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أهل الجنة عشرون ومائة صف ثمانون منها من هذه الأمة وأربعون من سائر الأمم .
[*] قال العلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:
قَوْلُهُ: ( أَهْلُ الْجَنَّةِ عِشْرُونَ وَمِائَةُ صَفٍّ ) أَيْ قَدْرُهَا أَوْ صُوِّرُوا صُفُوفًا .
( ثَمَانُونَ مِنْهَا ) أَيْ مِنْ جُمْلَةِ الْعَدَدِ .
( مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ ) أَيْ كَائِنُونَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ .
( وَأَرْبَعُونَ ) أَيْ صَفًّا .
( مِنْ سَائِرِ الْأُمَمِ ) وَالْمَقْصُودُ بَيَانُ تَكْثِيرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَأَنَّهُمْ ثُلُثَانِ فِي الْقِسْمَةِ.(1/488)
قَالَ الطِّيبِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ كَيْفَ التَّوْفِيقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا وَرَدَ مِنْ قَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم - { وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ أَرْجُو أَنْ تَكُونُوا رُبُعَ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَكَبَّرْنَا، فَقَالَ - صلى الله عليه وسلم - أَرْجُو أَنْ تَكُونُوا ثُلُثَ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَكَبَّرْنَا فَقَالَ - صلى الله عليه وسلم - أَرْجُو أَنْ تَكُونُوا نِصْفَ أَهْلِ الْجَنَّةِ عدة أمة الإسلام } (1) ، قُلْتُ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الثَّمَانُونَ صَفًّا مُسَاوِيًا فِي الْعَدَدِ لِلْأَرْبَعَيْنِ صَفًّا، وَأَنْ يَكُونُوا كَمَا زَادَ عَلَى الرُّبُعِ وَالثُّلُثِ يَزِيدُ عَلَى النِّصْفِ كَرَامَةً لَهُ - صلى الله عليه وسلم - . وَقَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْحَقِّ -رَحِمَهُ اللَّهُ- فِي اللُّمَعَاتِ: لَا يُنَافِي هَذَا قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - { أَرْجُو أَنْ تَكُونُوا نِصْفَ أَهْلِ الْجَنَّةِ } (2) لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ رَجَاؤُهُ - صلى الله عليه وسلم - ذَلِكَ ثُمَّ زِيدَ وَبُشِّرَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بِالزِّيَادَةِ بَعْدَ ذَلِكَ. وَأَمَّا قَوْلُ الطِّيبِيِّ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الثَّمَانُونَ صَفًّا مُسَاوِيًا لِأَرْبَعَيْنِ صَفًّا فَبَعِيدٌ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ قَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم - ( أَهْلُ الْجَنَّةِ عِشْرُونَ وَمِائَةُ صَفٍّ ) أَنْ يَكُونَ الصُّفُوفُ مُتَسَاوِيَةً وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، انْتَهَى.
[*] قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه حادي الأرواح :
لا تنافي بينها وبين حديث الشطر لأنه رجا أولا أن يكونوا شطر أهل الجنة فأعطاه الله سبحانه رجاءه وزاد عليه سدسا أخر .
__________
(1) - البخاري الرقاق (6163),مسلم الإيمان (221),الترمذي صفة الجنة (2547),أحمد (1/386).
(2) - البخاري أحاديث الأنبياء (3170),مسلم الإيمان (222),أحمد (3/32).(1/489)
النساء في الجنة أكثر من الرجال وكذلك هم في النار :
ثبت في الصحيحين من حديث أيوب بن محمد بن سيرين قال أما تفاخروا وأما تذاكروا الرجال أكثر في الجنة الرجال أم النساء فقال أبو هريرة ألم يقل أبو القاسم أن أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر والتي تليها على أضواء كوكب دري في السماء لكل امرئ منهم زوجتان اثنتان يرى مخ سوقهما من وراء اللحم وما في الجنة عزب فإن كن من نساء الدنيا فالنساء في الدنيا أكثر من الرجال وإن كن من الحور العين لم يلزم أن يكن في الدنيا أكثر والظاهر أنهن من الحور العين .
مسألة : كيف نجمع بين هذا الحديث وبين الحديثين الآتيين :
(حديث أبي سعيد الثابت في الصحيحين ) قال : خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أضحى أو فطر فمرَّ على النساء فقال : يا معشر النساء تصدقن فإني أريتكن أكثر أهل النار، فقلن وبم يا رسول الله قال تكثرن اللعن وتكفرن العشير ما رأيتُ من ناقصات عقلٍ ودين أذهب للبَّ الرجل الحازم من إحداكن قلن : وما نقصان ديننا وعقلنا يا رسول الله ؟ قال أليس شهادةُ المرأة مثل نصف شهادة الرجل ؟ قلن بلى . قال فذلك نقصان من عقلها . أليس إذا حاضت لم تصلِّ ولم تصم ؟ قلن بلى . قال فذلك من نقصان دينها .
( حديث ابن عباس رضي الله عنهما الثابت في صحيح الترمذي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : اطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء واطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها النساء .
الجواب :
أن نساء الدنيا أكثر أهل النار و أقل أهل الجنة لقوله - صلى الله عليه وسلم - "فإني أريتكن أكثر أهل النار" وقوله "واطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها النساء"
والنساء في الجنة أكثر بالحور العين التي خلقن في الجنة .
بدلالة الحديث الآتي :(1/490)
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أول زمرة تلج الجنة صورتهم على صورة القمر ليلة البدر، لا يبصقون فيها ولا يمتخطون ولا يتغوطون، آنيتهم فيها الذهب، أمشاطهم من الذهب والفضة، ومجامرهم الألوة، ورشحهم المسك، ولكل واحد منهم زوجتان، يرى مخ سوقهما من وراء اللحم من الحسن، ولا اختلاف بينهم ولا تباغض، قلوبهم قلب رجل واحد، يسبحون الله بكرة وعشيا .
من يدخل الجنة من هذه الأمة بغير حساب :
(حديثُ ابن عباس في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : عُرِضت عليَّ الأمم فجعل يمرُ النبي معه الرجل والنبيُ معه الرجلان والنبي معه الرهط والنبي ليس معه أحد ، ورأيتُ سواداً كثيراً سدَّ الأفق فرجوتُ أن تكون أمتي فقِيل هذا موسى وقومه ، ثم قِيل ليَ انظر هكذا وهكذا فرأيتُ سواداً كثيراً سدَّ الأفق فقِيل هؤلاء أمتُك ومع هؤلاءِ سبعون ألفاً يدخلون الجنةَ بغيرِ حساب فتفرَّقَ الناسُ ولم يبينْ لهم ، فتذاكرَ أصحابُ النبيِ - صلى الله عليه وسلم - فقالوا نحن وُلدنا في الشرك ولكن هؤلاء أبناؤنا ، فبلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال { هم الذين لا يتطيرون ولا يكتوون ولا يسترقون وعلى ربهم يتوكلون } فقام عُكَّاشةُ ابن مِحصن فقال : أمنهم أنا يا رسولَ الله ؟ قال : أنت منهم ، فقام آخر فقال أمنهم أنا ؟ قال : سبقك بها عُكَّاشة .
(حديث أَبَي أُمَامَةَ رضي الله عنه الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :" وعدني رَبِّىأَنْ يُدْخِلَ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِى سَبْعِينَ أَلْفاً لاَ حِسَابَ عَلَيْهِمْ وَلاَ عَذَابَ مَعَ كُلِّ أَلْفٍ سَبْعُونَ أَلْفاً وَثَلاَثُ حَثَيَاتٍ مِنْ حَثَيَاتِ ربيِ " .
مسألة : هل كل من حقَّق التوحيد يدْخُل الجنة بغيرِ حساب ؟
المسألةُ على التفصيلِ الآتي :(1/491)
(1) من حقَّق التوحيدِ واتصف بالصفاتِ الأربعةِ التي ذكرها النبي - صلى الله عليه وسلم - بكونهم لا يتطيرون ولا يكتوون ولا يسترقون وعلى ربهم يتوكلون ، فهؤلاء يدخلون الجنةَ بغيرِ حساب
(حديثُ ابن عباس في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : عُرِضت عليَّ الأمم فجعل يمرُ النبي معه الرجل والنبيُ معه الرجلان والنبي معه الرهط والنبي ليس معه أحد ، ورأيتُ سواداً كثيراً سدَّ الأفق فرجوتُ أن تكون أمتي فقِيل هذا موسى وقومه ، ثم قِيل ليَ انظر هكذا وهكذا فرأيتُ سواداً كثيراً سدَّ الأفق فقِيل هؤلاء أمتُك ومع هؤلاءِ سبعون ألفاً يدخلون الجنةَ بغيرِ حساب فتفرَّقَ الناسُ ولم يبينْ لهم ، فتذاكرَ أصحابُ النبيِ - صلى الله عليه وسلم - فقالوا نحن وُلدنا في الشرك ولكن هؤلاء أبناؤنا ، فبلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال { هم الذين لا يتطيرون ولا يكتوون ولا يسترقون وعلى ربهم يتوكلون } فقام عُكَّاشةُ ابن مِحصن فقال : أمنهم أنا يا رسولَ الله ؟ قال : أنت منهم ، فقام آخر فقال أمنهم أنا ؟ قال : سبقك بها عُكَّاشة .
(2) من حقَّقَ التوحيدِ الخالص ولكن نقصه بعض الصفاتِ الأربع كمن يسترقي أو يكتوي فهذا لا يدخلُ الجنةَ بغيرِ حساب ولكنه يدخلُ الجنةَ دون أن تمسَّه النار فقد حرَّمه الله تعالى على النار
(حديثُ أنس في الصحيحين ) أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - ومعاذَ رَدِيفُه على الرحل قال يا مُعاذ ، قال لبيك يا رسولَ الله وسعديك . قال يا مُعاذ ، قال لبيك يا رسولَ الله وسعديك ثلاثاً ، قال : ما من أحدٍ يشهدُ أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسولُ الله صِدقاً من قلبه إلا حرَّمه الله على النار ، فقلتُ يا رسولَ الله أفلا أُخْبر به الناسَ فيستبشرون؟ قال : إذاً يتكلوا . وأخبربها معاذ عند موته تأثماً .(1/492)
(3) من حقَّق التوحيدَ ولكن له معاصي أوبقتْه فهذا لايُخَلدُ في النار ولكنه تحت مشيئةِ الإله النافذة إن شاء عفا عنه وإن شاء آخذه ولكنه يدخلُ الجنةَ يوماً من الأيام أصابه قبل ذلك اليوم ما أصابه .
(حديثُ أبي ذرٍ في الصحيحين) قال أتيتُ النبيَ - صلى الله عليه وسلم - وعليه ثوبٌ أبيض وهو نائم ثم أتيته وقد استيقظ فقال : ما من عبدٍ قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنةَ ، قلتُ وإن زنى وإن سرق ؟ قال : وإن زنى وإن سرق . قلتُ وإن زنى وإن سرق؟ قال : وإن زنى وإن سرق . قلتُ وإن زنى وإن سرق ؟ قال : وإن زنى وإن سرق على رَغمِ أنفِ أبي ذر .
(حديثُ أنس في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : يخرجُ من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزنُ شُعَيْرَةٍ من خير ، ويخرجُ من النارِ من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزنُ بُرَةٍ من خير ويخرجُ من النارِ من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن ذرةٍ من خير .
( حديثُ أبي سعيدٍ في صحيحِ الترمذي) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال يخرجُ من النارِ من كان في قلبه مِثقالُ ذرةٍ من إيمان .
مسألة : ما هو التطيرُ وما حكمه ؟
التطيرُ هو التشاؤم بمسموعٍ أو مرئيٍ أو معلوم ، وسُمِّىَ بالتطير لأن غالبَ التشاؤم عند العرب كان بالطير ، كانوا يزجرون الطير فإذا ذهب يميناً يتفاءلون وإذا ذهب يساراً يتشاءمون .
حكمُ التطير : التطيرُ محرَّمٌ شرعاً
(حديثُ أبي هريرةَ في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لا عدوى ولا طِيَرَة ولا هامةُ ولا صفر وفرَّ من المجذومِ فرارك من الأسد .
مسألة : هل التطيرُ يُنافي التوحيد ؟
التطيرُ ينافي التوحيدَ من وجهين :
(1) التطيرُ يقطعُ التوكلَ على الله الذي هو نصفُ الدين ، قال الله تعالى (إياك نعبدُ وإياك نستعين ) والاستعانة في الحقيقة ما هي إلا ثمرةُ التوكل .(1/493)
(2) أن المتطيرَ تعلقَ بشئٍ لاحقيقةَ له ، واعتقد أن الطِيَرَةَ تملكُ الضرَ والنفع وهذا شرك والعياذُ بالله .
( حديثُ ابن مسعود في صحيحي أبي داوود والترمذي ) قال الطِيَرَة شرك - ثلاثاً - وما منا إلا 000 ولكن يُذْهبه الله بالتوكل .
(حديثُ عبد الله ابن عمرو في السلسلة الصحيحة ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال من ردَّتْه الطِيَرَةُ عن حاجته فقد أشرك . قلتُ فما كفارةُ ذلك ؟ قال: أن تقول اللهم لاخيرَ إلا خيْرُك ولا طَيرَ إلا طَيْرُك ولا إله غيرُك .
مسألة : ما معنى لا يكتوون وهل الكي جائز؟
معنى لا يكتوون : أي لا يطلبون من يكويهم
حكم الكي : جائز مع الكراهة لأن فيه تعذيبٌ للنفس
( حديثُ أبي موسى في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن كان في شئٌ من أدويتكم شفاءٌ ففي شرْطةِ مِحْجَم أو شرْبةِ عسل أو لذعةِ نارٍ توافقُ الداء ، وما أحبُ أن أكتوي .
( حديثُ ابن عباس في صحيح البخاري ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : الشفاء في ثلاث : شربةُ عسل أو شرطةُ مِحْجَم أو كيةُ نار وأنهى أمتي عن الكي .
مسألة : هل من يكتوي ينافي تحقيق التوحيد ؟
من يكتوي لا ينافي تحقيق التوحيد إلا أن تركه أفضل حتى يكون متعلقاً بالله وحده لا سواه .
مسألة : ما معنى ولا يسترقون ، وهل الإ سترقاء جائز ؟
معنى لا يسترقون : أي لا يطلبون من أحدٍ أن يرقيَهم
حكم الإسترقاء : الإسترقاءُ جائزٌ ما دامت الرقيةُ شرعية إلا أن تركه أفضل لكمالِ التعلقِ بالله وحده ،
والدليلُ على جواز الرقيةِ ما يلي :
(حديثُ عائشةَ في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أن يُسترقَى من العين .
(حديثُ أمِ سلمةَ في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى في بيتها جارية في وجهها سَفْعَةً فقال : استرقوا لها فإن بها النظرة .(1/494)
(حديثُ عائشةَ في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أتى مريضاً أو أُتِيَ بهِ إليهِ قال : أذهب البأسَ ربِ الناس ، اشفِ أنتَ الشافي لا شفاءَ إلا شفاءك ، شفاءاً لا يغادرُ سَقَما .
(حديثُ عائشةَ في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رخَّصَّ في الرقيةِ من كلِ ذِي حُمَة )
{ تنبيه } : ذي حُمًة : أي ذوات السموم
( حديثُ أبي سعيدٍ في صحيح مسلم ) أن جبريلَ عليه السلام أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال يا محمدُ اشتكيت ؟ قال نعم . قال بسم الله أرقيكَ من كُلِ شئٍ يُؤذيك ومن شرِ كُلِ نفسٍ أو عين حاسدٍ الله يشفيْك بسم الله أرقيك .
(حديثُ عائشةَ في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقولُ للمريض : بسمِ اللهِ تُرْبَةُ أرضنا بِرِيقةِ بَعْضنا يُشْفَى سَقِيمُنا بإذن ربنا .
مسألة : هل الإسترقاء يُنافي التوحيد ؟
الإسترقاء لا يُنافي التوحيد إلا أن تركه أفضل لكمالِ التعلقِ بالله وحده .
مسألة : ما معنى التوكل ؟
التوكلُ هو : صدقُ الاعتماد على الله تعالى في جلب النفعِ أو دفع الضُرِ ، وذلك بالأخذِ بالأسبابِ المشروعة دون التعلقِ بها ثم الرضا بالمقضي .
{ تنبيه } : لا يتمُ التوكلُ إلا بشيئين أساسيين :
(1) قبل التفويضُ حدوثِ المقضي : فبعد أن يصدُق الإنسان في اعتماده على الله يُفَوِّضُ أمره إلى الله تعالى بمعنى أنه يُلقي أمره إلى الله يُصَرِّفْه كيف يشاء .
(2) حدوث المقضي : الرضا بعد فمن لم يرضى بالمقضي فتوكله فاسد ، ولذا يحسن بالإنسان أن يقول بعد تحقيقِ أسبابِ التوكل [ اللهم إنا فوضنا أمرنا إليك راضِين بما قضيت فاقدر لنا الخيرَ حيث كان ]
{ تنبيه } : من لم يأخذ بالأسبابِ المشروعةِ فتوكله فاسد ، فمثلاً لو أن إنسان زعم أنه صدق في اعتماده على الله تعالى في حصولِ الولد ولكنه لم يتزوج فهل يُعَدُ هذا متوكلاً على الله ؟ بالطبع لا ، ليس هذا توكلاً إنما هذا سفهٌ وحماقة .(1/495)
ولعل أوضح حديثٍ يبين ُ التوكلَ بشقَيْه قبل حدوث المقضي وبعده هو حديث الاستخارة .
(حديثُ جابر في صحيح البخاري ) قال كان رسولُ الله يُعلمُنا الاستخارة في الأمورِ كلها كالسورةِ من القرآن ، إذا همَّ أحدكم بالأمرِ فليركع ركعتين من غيرِ الفريضةِ ثم يقول : اللهم إني أستخِيرُك بعلمك وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم فإنك تقدرُ ولا أقدرُ وتعلمُ ولا أعلمُ وأنت علاَّمُ الغيوب ، اللهم إن كنت تعلمُ أن هذا الأمرَ خيرٌ لي في ديني ومعاشي وعاقبةِ أمري _ أو قال عاجل أمري وآجله _ فاقدره لي ، وإن كنت تعلم أن هذا الأمرَ شرٌ لي في ديني ومعاشي وعاقبةِ أمري فاصرفْه عني واصرفني عنه ثم ارضِني به ، ويُسَمِّي حاجته .
ذكر حثيات الرب تبارك وتعالى الذين يدخلهم الجنة :
(حديث أَبَي أُمَامَةَ رضي الله عنه الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :" وعدني رَبِّى أَنْ يُدْخِلَ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعِينَ أَلْفاً لاَ حِسَابَ عَلَيْهِمْ وَلاَ عَذَابَ مَعَ كُلِّ أَلْفٍ سَبْعُونَ أَلْفاً وَثَلاَثُ حَثَيَاتٍ مِنْ حَثَيَاتِ ربيِ " .
مَعَ كُلِّ أَلْفٍ سَبْعُونَ أَلْفاً : أي الذين لا يحاسبون من أمته ـ مع كل ألف منهم سبعون ألفاً ـ .
كم سيكون المجموع؟
أربعة ملايين وتسعمائة ألف غير الحثيات .
وَثَلاَثُ حَثَيَاتٍ مِنْ حَثَيَاتِ ربيِ : ذهب أهل العلم إلى أن الحثية من الله تعالى أكثر عددا من السبعين ألفا ومع كل واحد سبعين ألفا، وهذا من عظيم رحمة الله تعالى وفضله ومنِّه وكرمه، فهؤلاء من يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب .
مسألة : ما حكم أن يحثو الإنسان بيده وهو يذكر ذلك الحديث ؟
الجواب :(1/496)
أن ذلك يتوقف والله أعلم على حال من يخاطبهم الإنسان ،فإن خشي عليهم أن يقع في قلوبهم شيء من تشبيه الله بخلقه ـ والعياذ بالله ـ فإنه لا يفعل ذلك ،أما إن لم يخش منهم ذلك وأراد أن يبين لهم معنى الحثية فحثا بيده لكي يعلموها فلا بأس إن شاء الله ،وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمر أنه صلى الله عليه وسلم قال : يأخذ الله عز وجل سماواته وأرضه بيديه فيقول أنا الله ،أنا الملك أنا الملك) وأنه صلى الله عليه وسلم كان يقبض أصابعه ويبسطها وهو يروي قول ربه سبحانه وتعالى ، وفي سنن أبي داود من حديث أبي هريرة قال : ( رأيت رسول الله قرأ هذه الآية إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ... إلى قوله سميعاً بصيراً ) ، قال رأيت رسول الله يضع إبهامه على أذنه والتي تليها على عينيه ) .
ولم يكن "ولم يكن ذلك منه صلى الله عليه وسلم تشبيهاً ولا تمثيلاً" ،وإنما هو زيادة بيان وإيضاح ،لعلمه صلى الله عليه وسلم أن أصحابه لا يفهمون من فعله أن قبض الله تعالى السموات والأرض كقبض الإنسان للأشياء بيده ،ولا أن سمع الله تعالى وبصره كسمعنا وبصرنا،أما إن كان فعل ذلك يترتب عليه فهم خاطيء لصفات المولى عز وجل فإن علينا أن لا نفعل ذلك ،وبنحو ما قلناه قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في شرحه على كتاب التوحيد المسمى بالمجموع المفيد حيث ذكر أن ذلك يختلف بحسب ما يترتب عليه فإن كان السامع لن يتقبل ذهنه ذلك إلا بأن يشعر بالتمثيل فينبغي أن نكف عن تلك الإشارة أمامه ،لأن تلك الإشارة ليست بواجبة حتى نقول إنه يجب علينا أن نبلغ كما بلغ الرسول بالقول والفعل، أما إذا كنا نتكلم مع طلبة علم أو مع إنسان مكابر ينفي هذا ويريد أن يحول المعنى إلى غير الحقيقة فحينئذ نفعل كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم .هذا والله تعالى أعلم.
عرض الجنة :(1/497)
قال تعالى: { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ } ]البقرة:255[ فنؤمن أن هناك خلقاً اسمه الكرسى, وليس بالطبع كرسياً نجلس عليه, ولكنه خلق أخبرنا به, كما أن هناك خلقاً آخر اسمه العرش, يقول الله عز وجل: { الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ } [ غافر:7]
( حديث جابر رضي الله عنه الثابت في صحيح أبي داوود ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :" أُذِن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله عز وجل من حملة العرش, أن ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام".
(حديث أبى ذر الغفاري رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة ) أنه سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الكرسي فقال - صلى الله عليه وسلم - :" والذي نفسي بيده ما السماوات السبع والأرضون السبع عند الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة, وإن فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على تلك الحلقة".
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن في الجنة مائة درجة، أعدها الله للمجاهدين في سبيله، "كل درجتين ما بينهما كما بين السماء والأرض"، فإذا سألتم الله فسلوه الفردوس، فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تَفجَّر أنهار الجنة .
أخي الحبيب:(1/498)
أما آن لنا أن نتخيل الآتي بناءً على ما سبق: الكرة الأرضية التي هي الدنيا التي نعيش فيها, الشمس أكبر منها مليون وثلاثمائة ألف مرة, فأصبحت الدنيا صغيرة جداً بالنسبة للشمس تبعد عن الأرض بمائة وخمسين ألف مليون كيلو متر, ثم إن الشمس يوجد مثلها وأكبر منها فى مجرة دَرْب التبانة عدد مائة مليار نجم, وأن هذا العدد يتوزع فى فراغ ما بين كل نجم وآخر أربع سنوات ضوئية, السنة الضوئية مسافة 9.46 بليون كيلو متر, ثم تخيّل معى قطر مجرة درب التبانة مائة ألف سنة ضوئية, وأن سمكها يبلغ ألفين سنة ضوئية, فكم تكون المساحة التى تشغلها مجرة درب التبانة؟! ثم اسرح بخيالك معى إلى تخيّل الكون الذى علمه البشر أن فيه مائة بليون مجرة, ما بين كل مجرة وأخرى خمسة ملايين سنة ضوئية. وهل بذلك بلغوا السماء الدنيا أوهذا هو السماوات السبع؟ افترض أن ذلك هو السماوات والأرضين السبع, فأين الكرة الأرضية التى هى الدنيا؟؟؟
ثم افترض أن الكون المعلوم لنا هو السماوات السبع والأرضين السبع, وتخيّل الكرسي الذي وسع السماوات والأرض, وأنه بناء على الحديث النبوي تكون السماوات السبع بداخله مثل سبع دراهم ألقيت فى صحراء واسعة, فكم كون السماوات السبع بداخله مثل سبع دراهم ألقيت فى صحراء واسعة, حجم الكرسي ؟؟؟, ثم تخيّل العرش الذى يكون الكرسي بداخله كحلقة ـ خاتم أو أسورة ـ أُلقيت فى الصحراء, فكم تتخيّل حجم هذا الخلق الذي هو العرش؟؟؟ فأين الكرة الأرضية التي هي الدنيا؟؟؟
ثم تخيّل الفردوس الأعلى الذي سقفه عرش الرحمن, فكم تكون سعة الجنة؟؟؟, فأين الكرة الأرضية التي هي الدنيا من الجنة؟؟ ولك الآن أن تدرك أن "الجنة فوق ما يخطر ببال أويدور في الخيال" ، فهل أعددت لها صالح الأعمال قبل طي الآجال .
وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد ، ودرر الفرائد .(1/499)
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : قال الله تبارك وتعالى: أعددت لعبادي الصالحين: ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر). قال أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم: (فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مّآ أُخْفِيَ لَهُم مّن قُرّةِ أَعْيُنٍ ) .
ذكر بناء الجنة وملاطها وحصباؤها و تربتها:
توجد على وجه هذه البسيطة أبنية فخمة وقصور مشيدة ومساكن وغرف..لكنها مهما علا قدرها وجمالها ومهما تطاول بنيانها وعلوها.. لا تشبه ما في الجنة من مساكن وبنايات إلا في الاسم فقط ، ففي الجنة من سحر المساكن وجمال القصور وتعالي الغرف وتلألؤ الخيام,ما تقر به العين وتسكن إليه النفس وكيف لا وخيامها من لؤلؤ, وقصورها من ذهب وفيها من فاخر الأثاث وكواعب النساء وطيب الشراب ولذيذ الطعام مالا يخطر ببال أو يدور في الخيال ، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد ، ودرر الفرائد .
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : الجنة بناؤها لبنة من فضة و لبنة من ذهب ومِلاطُها المسك الأذْفَرُ وَحَصْبَاؤُهَا اللؤلؤ والياقوت و تربتها الزعفران من يدخلها ينعم لا يبأس و يخلد لا يموت لا تبلى ثيابهم و لا يفنى شبابهم.
[*] قال العلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:
(الجنة بناؤها لَبِنَةٌ مِنْ فِضَّةٍ وَلَبِنَةٌ مِنْ ذَهَبٍ ) أَيْ بِنَاؤُهَا مُرَصَّعٌ مِنْهُمَا
( وَمِلَاطُهَا ) بِكَسْرِ الْمِيمِ أَيْ مَا بَيْنَ اللَّبِنَتَيْنِ مَوْضِعُ النُّورَةِ، فِي النِّهَايَةِ: الْمِلَاطُ الطِّينُ الَّذِي يُجْعَلُ بَيْنَ سَاقَتَيِ الْبِنَاءِ يُمَلَّطُ بِهِ الْحَائِطُ أَيْ يُخْلَطُ .
( الْمِسْكُ الْأَذْفَرُ ) أَيِ الشَّدِيدُ الرِّيحِ .(1/500)
( وَحَصْبَاؤُهَا ) أَيْ حَصْبَاؤُهَا الصِّغَارُ الَّتِي فِي الْأَنْهَارِ قَالَهُ الْقَارِي. وَقَالَ صَاحِبُ أَشِعَّةِ الجزء السابع اللُّمَعَاتِ: أَيْ حَصْبَاؤُهَا الَّتِي فِي الْأَنْهَارِ وَغَيْرِهَا. قُلْتُ: الظَّاهِرُ هُوَ الْعُمُومُ
( اللُّؤْلُؤُ وَالْيَاقُوتُ ) أَيْ مِثْلُهَا فِي اللَّوْنِ وَالصَّفَاءِ
( وَتُرْبَتُهَا ) أَيْ مَكَانَ تُرَابِهَا
( الزَّعْفَرَانُ ) أَيِ النَّاعِمُ الْأَصْفَرُ الطَّيِّبُ الرِّيحِ فَجَمَعَ بَيْنَ أَلْوَانِ الزِّينَةِ وَهِيَ الْبَيَاضُ وَالْحُمْرَةُ وَالصُّفْرَةُ وَيَتَكَمَّلُ بِالْأَشْجَارِ الْمُلَوَّنَةِ بِالْخُضْرَةِ. وَلَمَّا كَانَ السَّوَادُ يَغُمُّ الْفُؤَادَ خُصَّ بِأَهْلِ النَّارِ .
( مَنْ يَدْخُلُهَا يَنْعَمُ لَا يَبْأَسُ ) بِفَتْحِ وَسَطِهِمَا فِي الْقَامُوسِ: الْبَأْسُ الْعَذَابُ وَالشِّدَّةُ فِي الْحَرْبِ بَؤُسَ كَكَرُمَ بَأْسًا وَبَئِسَ كَسَمِعَ اشْتَدَّتْ حَاجَتُهُ
( يَخْلُدُ ) أَيْ يَدُومُ فَلَا يَتَحَوَّلُ عَنْهَا
(ولَا يَمُوتُ ) أَيْ لَا يَفْنَى بَلْ دَائِمًا يَبْقَى
( َلَا تَبْلَى ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ مِنْ بَابِ سَمِعَ يَسْمَعُ أَيْ لَا تَخْلَقُ وَلَا تَتَقَطَّعُ
( ثِيَابُهُمْ ) وَكَذَا أَثَاثُهُمْ
( وَلَا يَفْنَى شَبَابُهُمْ ) أَيْ لَا يَهْرَمُونَ وَلَا يُخَرِّفُونَ وَلَا يُغَيِّرُهُمْ مُضِيُّ الزَّمَانِ قَالَ الْقَاضِي: مَعْنَاهُ أَنَّ الْجَنَّةَ دَارُ الثَّبَاتِ وَالْقَرَارِ وَأَنَّ التَّغَيُّرَ لَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهَا فَلَا يَشُوبُ نَعِيمَهَا بُؤْسٌ وَلَا يَعْتَرِيهِ فَسَادٌ وَلَا تَغْيِيرٌ، فَإِنَّهَا لَيْسَتْ دَارَ الْأَضْدَادِ وَمَحَلَّ الْكَوْنِ وَالْفَسَادِ .
مسألة : ما هي تربة الجنة ؟
تربة الجنة : المسك والزعفران والدرمكة البيضاء (الدقيق الحواري الخالص البياض).(2/1)
وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد ، ودرر الفرائد .
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : الجنة بناؤها لبنة من فضة و لبنة من ذهب ومِلاطُها المسك الأذْفَرُ وَحَصْبَاؤُهَا اللؤلؤ والياقوت و تربتها الزعفران من يدخلها ينعم لا يبأس و يخلد لا يموت لا تبلى ثيابهم و لا يفنى شبابهم.
( حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لابن صياد: " ما تربة الجنة؟ قال: درمكة بيضاء مسك يا أبا القاسم, قال: صدقت" .
( حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) أن بن صياد سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن تربة الجنة فقال درمكة بيضاء مسك خالص، وثبت في السنة الصحيحة أن تربتها الزعفران كما في الحديث الآتي :
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : الجنة بناؤها لبنة من فضة و لبنة من ذهب ومِلاطُها المسك الأذْفَرُ وَحَصْبَاؤُهَا اللؤلؤ والياقوت و تربتها الزعفران من يدخلها ينعم لا يبأس و يخلد لا يموت لا تبلى ثيابهم و لا يفنى شبابهم.
أخي الحبيب:
إن كنت المحب لهذا العيش الرغيد ولتلك المساكن الطيبة, فاصبر نفسك على طاعة الله, واجتناب محارمه وأداء الصلوات والصيام والقيام في الظلمات..
ولله درُ من قال :
فما هي إلا ساعة ثم تنقضي ... ويدرك غب السير من هو صابر
غُرف الجنة وقصورها:
وأما غرف الجنة فلا تسل عن قوة بنائها وإحكام أركانها وبهاء منظرها وتلألؤ مظهرها .
قال تعالى: (لََكِنِ الّذِينَ اتّقَواْ رَبّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مّبْنِيّةٌ) [الزمر: 20](2/2)
فأخبر أنها "غرف فوق غرف وأنها مبنية بناء حقيقة" لئلا تتوهم النفوس أن ذلك تمثيل وأنه ليس هناك بناء بل تتصور النفوس غرفا مبنية كالعلالي بعضها فوق بعض حتى كأنها ينظر إليها عيانا ومبنية صفة للغرف الأولى والثانية أي لهم منازل مرتفعة وفوقها منازل أرفع منها .
وقال تعالى: (أُوْلََئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُواْ) [الفرقان: 75]
والغرفة : جنس كالجنة وتأمل كيف جزاءهم على هذه الأقوال المتضمنة للخضوع والذل والاستكانة لله الغرفة والتحية والسلام في مقابلة صبرهم على سوء خطاب الجاهلين لهم فَبُدِّلُوا بذلك سلام الله وملائكته عليهم .
وقال تعالى: (وَمَآ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ بِالّتِي تُقَرّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَىَ إِلاّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلََئِكَ لَهُمْ جَزَآءُ الضّعْفِ بِمَا عَمِلُواْ وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ) [سبأ: 37]
وقال تعالى: (يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيّبَةً فِي جَنّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [الصف: 12]
وقال تعالى عن امرأة فرعون أنها قالت (رَبّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الْجَنّةِ) [التحريم: 11](2/3)
{ تنبيه } : المساكن الطيبة فى جنات عدن ليست للوقاية من الحرّ أو البرد, وليست ليرتاح أهلها فيها, وليست للحفظ والستر, فإن الجنة لا حرَّ ولا برد فيها, ولا تعب ولا انكشاف فيها, إنها مساكن طيبة كما أخبر الله تعالى, جُعلت للبهجة والسرور, والاستمتاع والحبور, تتغيّر فيها الألوان فى كل آن, وتبسط فيها الوسائد والزرابى تكريماً وإحساناً, ويأنس فيها ولىّ الله بالأهل والوالدان, وتمدّ فيها الموائد فى كل الأركان { تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ المساكن الطيبة فى جنات عدن ليست للوقاية من الحرّ أو البرد, وليست ليرتاح أهلها فيها, وليست للحفظ والستر, فإن الجنة لا حرَّ ولا برد فيها, ولا تعب ولا انكشاف فيها, إنها مساكن طيبة كما أخبر الله تعالى, جُعلت للبهجة والسرور, والاستمتاع والحبور, تتغيّر فيها الألوان فى كل آن, وتبسط فيها الوسائد والزرابى تكريماً وإحساناً, ويأنس فيها ولىّ الله بالأهل والوالدان, وتمدّ فيها الموائد فى كل الأركان { تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ. ] } الرحمن:78[
(حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن أهل الجنة يتراءون أهل الغرف من فوقهم، كما تتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق، من المشرق أو المغرب، لتفاضل ما بينهم . قالوا: يا رسول الله تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم، قال: (بلى، والذي نفسي بيده، رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين .
والغابر : هو الذاهب الماضي الذي قد تدلى للغروب وفي التمثيل به دون الكواكب المسامت للرأس وهو أعلى فائدتان هما :
أحدهما بعده عن العيون .
والثانية أن الجنة درجات بعضها أعلى من بعض وإن لم تسامت العليا السفلى .(2/4)
( حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن في الجنة لغرفا "يرى ظهورها من بطونها وبطونها من ظهورها" فقام إليه أعرابي فقال لمن هي يا رسول الله قال هي لمن أطاب الكلام وأطعم الطعام وأدام الصيام وصلى لله بالليل والناس نيام .
فتأمل أخي الكريم: في مكان هذه الغرف.. إنها كالكواكب في علوها وتلألئها.. وانسيابها في الفضاء, نعم إنها عالية شامخة.. أعدها الله للمؤمنين لما استعلوا عن الكفر والفجور والفسق.. لما خضعوا لله في الدنيا بفعل الأوامر وترك النواهي, رفع الله قدرهم وأسكنهم في تلك الغرف المتعالية. واقرأ إن شئت ـ أخي الكريم ـ قول الله جل وعلا: { لكن الذين اتقوا ربهم لهم غرف من فوقها غرف مبنية } [ الزمر20 ]
أخي الحبيب: يا عبد الله فإن سلعة الله غالية, إن ثمنها تقوى الله وطاعته,وإنها ليسيرة على من يسرها الله عليه ، واستبق هذا الخير العظيم, وهذا النعيم المقيم, فإنه لحمق وغرور, أن يستبدل المرء هذه الدنيا وهذا الخراب! بما عند الله من بديع الغرف الآمنة الهنيئة قال تعالى: { فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون } [سبأ37 ]
{ تنبيه } : لا تَنْس أن قوانين الجنة لا تقاس على قوانين وسنن الدنيا, فالرؤية فى الجنة لا حدود لها, فولىّ الله يرى ما أمامه وما خلفه, ولا يغيب عنه من نعيمه شئ فى أى لحظه" يرى ظاهره من باطنه وباطنه من ظاهره" { لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ ] } الواقعه: 33[ فلا النعيم مقطوع ولا القدرة على التنعّم ممتنعة " يعطى للمؤمن من القوة ما يأتى على ذلك كله فى غداة واحدة".
( حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :بشروا خديجة ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه و لا نصب.
[*] قال الإمام النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم :(2/5)
وقوله ببيت من قصب قال جمهور العلماء: المراد به قصب اللؤلؤ المجوف كالقصر المنيف، وقيل قصب من ذهب منظوم بالجوهر، قال أهل اللغة: القصب من الجوهر ما استطال منه في تجويف، قالوا: ويقال لكل مجوف قصب، وقد جاء في الحديث مفسراً ببيت من لؤلؤة محياة وفسروه بمجوفة، قال الخطابي وغيره: المراد بالبيت هنا القصر، وأما الصخب فبفتح الصاد والخاء وهو الصوت المختلط المرتفع، والنصب المشقة والتعب ويقال فيه نصب بضم النون وإسكان الصاد وبفتحهما لغتان حكاهما القاضي وغيره كالحزن والحزن والفتح أشهر وأفصح وبه جاء القرآن، وقد نصب الرجل بفتح النون وكسر الصاد إذا أعيا .
(حديث عثمان ابن عفان الثابت في الصحيحين) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من بنى مسجدا يبتغي به وجه الله بنى الله له مثله في الجنة .
(حديث أم حبيبة الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ما من عبد مسلم يصلي لله كل يوم اثنتي عشرة ركعة تطوعا غير فريضة إلا بنى الله له بيتا في الجنة .
(حديث عائشة الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من ثابر على اثنتي عشرة ركعة من السنة بنى الله له بيتا في الجنة أربع ركعات قبل الظهر و ركعتين بعده و ركعتين بعد المغرب و ركعتين بعد العشاء و ركعتين قبل الفجر .
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : قال الله تعالى : ما لعبدي المؤمن عندي جزاءٌ إذا قبضتُ صفيه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة .
خيام الجنة :
والجنة مساكن تتلألأ.. فكما أن غرفها كالكواكب الغائرة, فكذلك خيامها لآلئ مجوفة ، كما في الحديث الآتي :(2/6)
( حديث أبي موسى رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن للمؤمن في الجنة لخيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة طولها ستون ميلا للمؤمن فيها أهلون يطوف عليهم المؤمن فلا يرى بعضهم بعضا.
أخي الحبيب: تأمل بعين البصيرة وانظر كيف سيكون إعجابك بها حين تدخلها.. وكيف تكون نشوتك وسعادتك وأنت ساكنها وحولك الحور العين تستأنس بهن وتسمع غناءهن ولحنهن الأخاذ.. وتنبه ـ أخي الحبيب ـ إلى أن ثمن دخولك هو الإيمان الذي يستلزم الانقياد لله سبحانه بفعل الخيرات وترك المنكرات والعبودية لله وحده,واعلم ـ أخي الحبيب ـ أن المؤمن لما زهد في الدنيا بقلبه, ولم يزين له حب الشهوات من ذهب وفضة, أثابه الله على ذلك الورع و الزهد بأن أسكنه جنته.
قصور الجنة:
أما قصور الجنة فهي من ذهب ولؤلؤ وزبرجد وفضة.. فلا يعلم حسنها وبهاءها إلا الذي خلقها وبناها سبحانه وتعالى.
( حديث جابر رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : دخلت الجنة، فإذا أنا بقصر من ذهب، فقلت: لمن هذا؟ فقالوا: لرجل من قريش، فما منعني أن أدخله يا ابن الخطاب، إلا ما أعلم من غيرتك). قال: وعليك أغار يا رسول الله؟
أخي الحبيب: بادر بالطاعات قبل فوات الأوان.. واطمع فيما عند الله من جنات ونعيم.. فإنما الدنيا لحظات وثواني.. وإنما أنت عابر سبيل.
معرفة أهل الجنة لمنازلهم ومساكنهم إذا دخلوا الجنة :
[*] قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه حادي الأرواح :
قال تعالى: (وَالّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَلَن يُضِلّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنّةَ عَرّفَهَا لَهُمْ ) [محمد 4: 6]
قال مجاهد : يهتدي أهلها إلى بيوتهم ومساكنهم لا يخطئون كأنهم ساكنوها منذ خلقوا لا يستدلوا عليها أحدا .(2/7)
وقال ابن عباس في رواية أبي صالح هم أعرف بمنازلهم من أهل الجنة إذا انصرفوا إلى منازلهم .
وقال محمد بن كعب يعرفونها كما تعرفون بيوتكم في الدنيا إذا انصرفتم من يوم الجمعة هذا قول جمهور المفسرين .
( حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :يخلص المؤمنون من النار، فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنار، فيقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا هُذِّبوا ونُقُّوا أذن لهم في دخول الجنة، فوالذي نفس محمد بيده، لأحدهم أهدى بمنزله في الجنة منه بمنزله كان في الدنيا .
كيفية دخول أهل الجنة الجنة :
( حديث سهل بن سعد رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ليدخلن الجنة من أمتي سبعون ألفا أو سبعمائة ألف ، متما سكون آخذ بعضهم ببعض لا يدخل أولهم حتى يدخل آخرهم ووجوههم على صورة القمر ليلة البدر .
إذاً فالدخول جماعي، في صفوف كأنهم زحف مقدس فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [ آل عمران:185] يدخلون على منازل أولهم على صورة القمر ليلة أربع عشر، ثم على صورة الكواكب الدرية، ثم بعدها في البياض، هكذا تدريجياًَ كما في الحديث الآتي :
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر، ثم الذين يلونهم على أشد كوكب دري في السماء إضاءة، لا يبولون ولا يتغوطون، ولا يتفلون ولا يمتخطون، أمشاطهم الذهب، ورشحهم المسك، ومجامرهم الألوة ـ الألنجوج، عود الطيب ـ وأزواجهم الحور العين، على خلق رجل واحد، على صورة أبيهم آدم، ستون ذراعا في السماء .
سوق الجنة و ما اعد الله تعالى فيه لأهلها :(2/8)
( حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن في الجنة لسوقا يأتونها كل جمعة فتهب ريح الشمال فتحثو في وجوههم وثيابهم فيزدادون حسنا وجمالا فيرجعون إلى أهليهم وقد ازدادوا حسنا وجمالا فيقول لهم أهلوهم والله لقد ازددتم بعدنا حسنا وجمالا فيقولون وأنتم والله لقد ازددتم بعدنا حسنا وجمالا .
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :إِنَّ فِي الْجَنَّةِ سُوقًا يَأْتُونَهُ كُلَّ جُمُعَةٍ فِيهِ كُثْبَانُ الْمِسْكِ ، فَتَهِيجُ رِيحُ شَمَالٍ فَتَحْثِي أَوْ فَتَسْفِي فِي وُجُوهِهِمُ الْمِسْكَ ، فَيَأْتُونَ أَهْلِيهِمْ ، فَيَقُولُونَ لَهُمْ : قَدْ زَادَكُمُ اللَّهُ بَعْدَنَا أَوِ ازْدَدْتُمْ بَعْدَنَا حُسْنًا وَجَمَالاً ، فَيَقُولُونَ لَهُمْ : وَأَنْتُمْ قَدْ زَادَكُمُ اللَّهُ بَعْدَنَا حُسْنًا وَجَمَالاً .
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :إن في الجنة لسوقا كثبان مسك يخرجون إليها ويجتمعون إليها فيبعث الله ريحا فيدخلها بيوتهم فيقول لهم أهلوهم إذا رجعوا إليهم قد ازددتم حسنا بعدنا فيقولون لأهليهم قد ازددتم أيضا حسنا بعدنا .
صفة أهل الجنة في خَلْقِهِم وَخُلُقِهم :
أولاً صفة أهل الجنة في خَلْقِهِم :
يدخل أهل الجنةِ الجنة ، جُرْدَاً مُرْدَاً مُكَحَلِّين، أبناء ثلاثين، أو ثلاث وثلاثين، عليهم التيجان، وإن أدنى لؤلؤة منها لتضيء ما بين المشرق والمغرب، ولو أن ما يقل ظفر مما في الجنة بدا، لتزخرفت له ما بين خوافق السماوات والأرض، ولو أن رجلا من أهل الجنة اطلع فبدا سواره، لطمس ضوءه ضوءَ الشمس كما تطمس الشمس ضوء النجوم.(2/9)
وإذا فتحت الجنة أبوابها دخلت أول زمرة على صورة القمر ليلة البدر، والذين يلونهم كأشد كوكب دري في السماء إضاءة، قلوبهم على قلب واحد، لا اختلاف بينهم ولا تباغض، يسبحون الله بكرة وعشيا، لا يسقمون فيها ولا يموتون، ولا ينزفون، ولا يبولون، ولا يتغوطون، ولا يمنون، ولا يمتخطون، ولا يتفلون، آنيتهم من الذهب والفضة، وأمشاطهم الذهب، ومجامرهم الألوّة، ورشحهم المسك، أزواجهم الحور العين، أخلاقهم على خلق رجل واحد، على صورة أبيهم آدم، ستون ذراعاً في السماء، وبجمال يوسف، وقلب أيوب، وعُمْر عيسى، وخُلُق محمد، عليهم جميعاً الصلاة والسلام.
لكل واحد منهم زوجتان من الحور العين، على كل زوجة سبعون حلة، يرى مخ سوقهما من وراء لحومهما وحللهما، كما يرى الشراب الأحمر في الزجاجة البيضاء.
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر، ثم الذين يلونهم على أشد كوكب دري في السماء إضاءة، لا يبولون ولا يتغوطون، ولا يتفلون ولا يمتخطون، أمشاطهم الذهب، ورشحهم المسك، ومجامرهم الألوة ـ الألنجوج، عود الطيب ـ وأزواجهم الحور العين، على خلق رجل واحد، على صورة أبيهم آدم، ستون ذراعا في السماء .
"على صورة أبيهم آدم، ستون ذراعا في السماء" والمراد تساويهم في الطول والعرض والسن وإن تفاوتوا في الحسن والجمال ولهذا فسره بقوله على صورة أبيهم آدم عليه السلام ستون ذراعا في السماء .
( حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يدخل أهل الجنة الجنة جُرْدَاَ مُرْدَاً مُكَحَلِين أبناء ثلاثين أو ثلاث وثلاثين سنة .
[*] قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه حادي الأرواح :(2/10)
إن الله تعالى ينشئ أهل الجنة نشأة الملائكة أو أكمل من نشأتهم بحيث لا يبولون ولا يتغوّطون ولا ينامون ويلهمون التسبيح ولا يهرمون على تطاول الأحقاب ولا تنمو أبدانهم, بل القدر الذى الذى جُعلوا عليه لازم أبداً.
{ تنبيه } : وكذلك وصف الله سبحانه وتعالى نساءهم بأنهن أتراب أي في سن واحد ليس فيهن العجائز والشواب وفي هذا الطول والعرض والسن من الحكمة ما لا يخفى فإنه أبلغ وأكمل في استيفاء اللذات لأنه أكمل سن القوة وَعِظَمِ الآت اللذة وباجتماع الأمرين يكون كمال اللذة وقوتها بحيث يصل في اليوم الواحد إلى مئة عذراء ، ولا يخفى التناسب الذي بين هذا الطول والعرض فإنه لو زاد أحدهما على الآخر فات الاعتدال وتناسب الخلقة يصير طولا مع دقة أو غلظا مع قصر وكلاهما غير مناسب والله أعلم .
ثانياً صفة أهل الجنة في خُلُقِهم :
قد جعل الله أهل الجنة في أكمل صورة خلق عليها البشر, وهي صورة آدم عليه السلام,وما ذلك إلا لتكمل سعادتهم وغبطتهم في ذلك النعيم الخالد. وكما جمل الله صورهم فقد جمل أخلاقهم فكان أهل الجنة على خلق رجل واحد: كما في الحديث الآتي :
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر، ثم الذين يلونهم على أشد كوكب دري في السماء إضاءة، لا يبولون ولا يتغوطون، ولا يتفلون ولا يمتخطون، أمشاطهم الذهب، ورشحهم المسك، ومجامرهم الألوة ـ الألنجوج، عود الطيب ـ وأزواجهم الحور العين، على خلق رجل واحد، على صورة أبيهم آدم، ستون ذراعا في السماء .(2/11)
(حديث المقدام رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ما من أحد يموت سقطا ولا هرما ـ وإنما الناس فيما بين ذلك ـ إلا بعث ابن ثلاثين سنة ، فإن كان من أهل الجنة كان على نسخة آدم ، وصورة يوسف ، وقلب أيوب ، ومن كان من أهل النار عظموا ، أو فخموا كالجبال .
فما أعذب تلك الحياة.. وما ألذ عيشها.. حياة كلها مودة وصفاء وألفة وإخاء.. ومحبة وصدق ووفاء, قال تعالى: (وَهُدُوَاْ إِلَى الطّيّبِ مِنَ الْقَوْلِ) [الحج: 24]
و قال تعالى: (لاّ تَسْمَعُ فِيهَا لاَغِيَةً ) [الغاشية: 11]
و قال تعالى: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مّنْ غِلّ إِخْوَاناً عَلَىَ سُرُرٍ مّتَقَابِلِينَ) [ الحجر 47 ] فلا نكد ولا شقاء. ولا بغض ولا حسد ولا تشاجر ولا حروب, وإنما هو مجتمع يسوده الهدوء والسكينة والألفة والرحمة.
سِنُ أهلِ الجنة :
( حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يدخل أهل الجنة الجنة جُرْدَاَ مُرْدَاً مُكَحَلِين أبناء ثلاثين أو ثلاث وثلاثين سنة .
تحفة أهل الجنة إذا دخلوها :(2/12)
( حديث ثوبان مولى رسول الله رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) قال : كنت قائما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء حبر من أحبار اليهود فقال السلام عليك يا محمد فدفعته دفعة كاد يصرع منها فقال لم تدفعني فقلت ألا تقول يا رسول الله فقال اليهودي إنما ندعوه باسمه الذي سماه به أهله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن اسمى محمد الذي سماني به أهلي فقال اليهودي جئت أسألك فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أينفعك شيء إن حدثتك قال أسمع بأذني فنكت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعود معه فقال سل فقال اليهودي أين يكون الناس !< يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات >! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هم في الظلمة دون الجسر قال فمن أول الناس إجازة قال فقراء المهاجرين قال اليهودي فما تحفتهم حين يدخلون الجنة قال زيادة كبد النون قال فما غذاؤهم على أثرها قال ينحر لهم ثور الجنة الذي كان يأكل من أطرافها قال فما شرابهم عليه قال من عين فيها تسمى سلسبيلا قال صدقت قال وجئت أسألك عن شيء لا يعلمه أحد من أهل الأرض إلا نبي أو رجل أو رجلان قال ينفعك إن حدثتك قال أسمع بأذني قال جئت أسألك عن الولد قال ماء الرجل أبيض وماء المرأة أصفر فإذا اجتمعا فعلا مني الرجل مني المرأة أذكرا بإذن الله وإذا علا مني المرأة مني الرجل آنثا بإذن الله قال اليهودي لقد صدقت وإنك لنبي ثم انصرف فذهب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد سألني هذا عن الذي سألني عنه ومالي علم بشيء منه حتى أتاني الله به .
مسألة : ما معنى زيادة كبد الحوت ؟
زيادة كبد الحوت : القطعة المنفردة المتعلقة بكبد الحوت ، وهي أطيبها وألذها .(2/13)
( حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري ) قال: سمع عبد الله بن سلام بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في أرض يحترف، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي: فما أول شرط الساعة، وما أول طعام أهل الجنة، وما ينزع الولد إلى أبيه أو إلى أمه؟ قال: (أخبرني جبريل آنفا). قال: جبريل؟ قال: (نعم). قال: ذاك عدو اليهود من الملائكة، فقرأ هذه الآية: (قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لّجِبْرِيلَ فَإِنّهُ نَزّلَهُ عَلَىَ قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ) [البقرة: 97]. أما أول أشراط الساعة فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب، وأما أول طعام أهل الجنة فزيادة كبد حوت، وإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد، وإذا سبق ماء المرأة نزعت). قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنك رسول الله، يا رسول الله، إن اليهود قوم بهت، وإنهم إن يعلموا بإسلامي قبل أن تسألهم يبهتوني، فجاءت اليهود، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أي رجل عبد الله فيكم). قالوا: خيرنا وابن خيرنا، وسيدنا وابن سيدنا. قال: (أرأيتم إن أسلم عبد الله بن سلام). فقالوا: أعاذه الله من ذلك، فخرج عبد الله فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله. فقالوا: شرنا وابن شرنا، وانتقصوه، قال: فهذا الذي كنت أخاف يا رسول الله.
ريح الجنة ومن مسيرة كم ينشق :
للجنة ريحٌ طيبة,وجاءت السنة بإثبات ذلك,وأن بعض الذنوب تحرم صاحبها رائحة الجنة ، وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد ، ودرر الفرائد .(2/14)
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : صنفان من أهل النار لم أرهما : رجالٌ معهم سِياطٌ كأذناب البقر يضربون بها الناس و نساءٌ كاسياتٌ عارياتٌ مائلاتٌ مميلاتٌ رءوسهنَّ كأسنمةِ البُخْتِ المائلة لا يدخلن الجنة و لا يجدن ريحها و إن ريحَها لتوجد من مسيرة كذا و كذا .
البخت : واحدتها البختية وهى الناقة طويلة العنق ذات السنامين .
( حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما الثابت في صحيح البخاري ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاما).
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :من قتل نفسا معاهدة بغير حقها ، لم يرح رائحة الجنة ، وإن ريح الجنة توجد من مسيرة مائة عام .
( حديث أَبِي بَكْرَةَ رضي الله عنه الثابت في صحيح النسائي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :
مَنْ قَتَلَ نَفْسًا مُعَاهَدَةً بِغَيْرِ حَقِّهَا لَمْ يَرَحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ ، وَإِنَّ رِيحَ الْجَنَّةِ لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ مِائَةِ عَامٍ.
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ألا من قتل نفسا معاهدا له ذمة الله وذمة رسوله فقد أخفر بذمة الله فلا يرح رائحة الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة سبعين خريفا .
{ تنبيه } : لا خلاف بين هذه الأحاديث فى ذكر المسافات التى يُشم منها رائحة الجنة, فإن ذلك يكون بحسب الجنات التى يدخلها المؤمن بقدر عمله وحسب درجته فإن رائحة الفردوس الأعلى تفوق رائحة أدنى أهل الجنة منزلة, لذلك تتفاوت الروائح والأبعاد الى تشم منها.
[*] قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه حادي الأرواح :(2/15)
قد أشهد الله سبحانه عباده فى هذه الدار آثاراً من آثار الجنة وأنموذجاً منها من الرائحة الطيبة, واللذات المشتهاة, والمناظر البهية, والفاكهة الحسنة, والنعيم والسرور.
وقال: وريح الجنة نوعان: ريح يوجد منها فى الدنيا تشمّه الأرواح أحياناً لا تدركه كل العباد كما قال أحد أصحاب النبى - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد " واهاً لريح الجنة أجده دون أحد" ] رواه البخارى ومسلم, قال: وريح يدرك بحاسة الشم للأبدان كما تشم روائح الأزهار وغيرها, وهذا يدركه من شاء الله من أنبيائه ورسله, وهذا الذى وجده أنس بن النضر يوم أحد [ .
{ تنبيه } : مسافات الآخرة لا يقاس بالأمتار, ولا بسرعة الضوء, إنها مسافات يفوت الخيال إدراكها, فهي فوق ما يخطر ببال أو يدور في الخيال ، فإذا كنا فى الدنيا قد آمنا أن مخلوقًا قال لسيدنا سليمان النبى عليه الصلاة والسلام: { أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ } ] النمل: 40 [ وأحضر عرش بلقيس فعلاً في أقل من غمضة عين, كما أننا آمنا كما آمن أبو بكر الصديق رضى الله عنه أن النبى - صلى الله عليه وسلم - أسرى به إلى بيت المقدس, وأعرج به إلى آفاق سدرة المنتهى ثم رأى ما رأى وعاد وفراشه لم يبرد, فكيف لا نؤمن بمسافات (كن فيكون).
الأذان الذي يؤذن به مؤذن الجنة :
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ينادي مناد إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدا وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدا وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبدا وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبدا فذلك قوله عز وجل قال تعالى: (وَنُودُوَاْ أَن تِلْكُمُ الْجَنّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) [الأعراف: 43](2/16)
( حديث صُهَيْبٍ رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : في قَوْلِهِ { لِلّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ } قالَ: "إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنّةِ الْجَنّةَ، نَادَى مُنَادٍ إِنّ لَكُمْ عِنْدَ الله مَوْعِداً، قَالُوا أَلَمْ يُبَيّضْ وُجُوهَنَا وَيُنَجّينَا مِنَ النّارِ وَيُدْخِلْنَا الْجَنّةَ؟ قَالُوا بَلَى، فَينكشفُ الْحِجَابُ، قالَ: فَوَالله مَا أَعْطَاهُمْ شَيْئاً أَحَبّ إِلَيْهِمْ مِنَ النظَرِ إِلَيْهِ".
( حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن الله يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة، فيقولون: لبيك ربنا وسعديك والخير في يديك، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى يا رب، وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك؟ فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون: وأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا .
(حديث أبي سعيد في الصحيحين) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : يؤتى بالموت كهيئة كبشٍ أملح فينادي منادٍ : يا أهل الجنة لِلَّهِ فيشرئبون وينظرون فيقول هل تعرفون هذا ؟ فيقولون نعم هذا الموت وكلهم قد رآه ، ثم ينادي : يا أهل النار لِلَّهِ فيشرئبون وينظرون فيقول هل تعرفون هذا ؟ فيقولون نعم هذا الموت وكلهم قد رآه ، فيذبح ثم يقول : يا أهل الجنة خلودٌ فلا موت ويا أهل النار خلودٌ فلا موت ثم قرأ قوله تعالى: (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ) [سورة: مريم - الآية: 39] .
يشرئب : يرفع رأسه ويمد عنقه .
[*] قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه حادي الأرواح :(2/17)
وهذا الأذان وإن كان بين الجنة والنار فهو يبلغ جميع أهل الجنة والنار ولهم فيها نداء آخر يوم زيارتهم ربهم تبارك وتعالى يرسل إليهم ملكا فيؤذن فيهم بذلك فيتسارعون إلى الزيارة كما يؤذن مؤذن الجمعة إليها وذلك في مقدار يوم الجمعة .
أشجار الجنة وبساتينها وظلالها :
ومن نعيم الجنة الخالد, كثرة الأشجار, ووفرة طيب الثمار, وغرائب الأطيار, فأشجارها لا يقدر قدرها إلا الذي خلقها ، من كثرة أغصانها وطول عمودها وانسياب أركانها وأعوادها, ولقد أودع الله فيها من جمال الشكل وحسن المنظر وبهاء اللون ورونق المظهر وامتداد الظل وطيب الثمار مالا يخطر على بال أو يدور في الخيال .
أشجار الجنة من أنواع شتَّى, من يواقيت منوّعة, يغشاها ألوان بعد ألوان لا نهاية لألوانها وبهجتها , تتغيّر الألوان بغير أسباب, تهب ريح الجنة فتصفق الأوراق بأصوات لم تسمع الخلائق بمثلها, تَردُها طيور وعجائب بجمال ورَوَقْ لا تصفه الألسنة, فيتنعّم الرائى, والآكل, والسامع { مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا } ]الأنسان:13, 14 [
وقال تعالى: (وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَآ أَصْحَابُ الْيَمِينِ * فِي سِدْرٍ مّخْضُودٍ * وَطَلْحٍ مّنضُودٍ * *وَظِلّ مّمْدُودٍ * وَمَآءٍ مّسْكُوبٍ * وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لاّ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ) [الواقعة 27: 33]
فِي سِدْرٍ مّخْضُودٍ : والمخضود الذي قد خضد شوكة أي نزع وقطع فلا شوك فيه وهذا قول بن عباس ومجاهد ومقاتل وقتادة وأبي الأحوص وقسامة بن زهير وجماعة .
وَطَلْحٍ مّنضُودٍ : فأكثر المفسرين قالوا إنه شجرة الموز .
وَظِلّ مّمْدُودٍ :(2/18)
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن في الجنة شجرة، يسير الراكب في ظلها مائة عام، لا يقطعها، واقرؤا إن شئتم: { وَظِلّ مّمْدُودٍ } ).
وأشجار الجنة ساقها من ذهب كما في الحديث الآتي :
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ما في الجنة شجرة إلا وساقها من ذهب .
ومن أشجار الجنة شجرة طوبى ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها كما في الحديث الآتي :
( حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : طوبى شجرة في الجنة مسيرة مائة عام ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها.
وقال تعالى: (ذَوَاتَآ أَفْنَانٍ) [الرحمن: 48] وهو جمع فنن وهو الغصن .
وقال تعالى: (فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمّانٌ) [الرحمن: 68]
(حديث ابن عباس رضي الله عنهما الثابت في صحيح الترغيب والترهيب موقوفاً ) قال : نخل الجنة جذوعها من زمرد خضر وكربها ذهب أحمر وسعفها كسوة لأهل الجنة منها مقطعاتهم وحللهم وثمرها أمثال القلال والدلاء أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل وألين من الزبد ليس فيها عجم .
(حديث عتبة ابن عبد السلمى رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة) قال :" كنت جالساً مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجاء أعرابى فقال: يا رسول الله أسمعك تذكر فى الجنة شجرة لا أعلم شجرة أكثر شوكاً منها ـ يعني الطلح ـ , فقال رسول - صلى الله عليه وسلم - : إن الله جعل مكان كل شوكة منها ثمرة ( يعني من شجرة الطلح في الجنة ) مثل خصية التيس الملبود ـ يعني المخصي ـ , فيها سبعون لوناً من الطعام لا يشبه لون آخر " .(2/19)
(حديث أ َبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " عُرِضَتْ عَلَيَّ الْجَنَّةُ فَذَهَبْتُ أَتَنَاوَلُ مِنْهَا قِطْفًا أُرِيكُمُوهُ فَحِيلَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ " . فَقَالَ رَجُلٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، مَا مَثَلُ الْحَبَّةِ مِنَ الْعِنَبِ ؟ قَالَ : " كَأَعْظَمِ دَلْوٍ فَرَتْ أُمُّكَ قَطُّ " .
الدلو : إناء يُستقى به من البئر ونحوه
قط : بمعنى أبدا .
أخي الحبيب: تصور نفسك وأنت تملك واحدة من تلك الأشجار, كيف ستكون نشوتك وكيف سيكون سرورك وفرحتك, وكيف وهي أشجار كثيرة, عديدة ومتنوعة, فمنها أشجار الرمان ومنها أشجار العنب ومنها أشجار السدر ومنها أشجار الطلح, ولا تظن أخي الحبيب, أن هذه الفاكهة هي نفسها التي نراها في الدنيا, بل إن فواكه الآخرة لا تشبه فواكه الدنيا سوى في الاسم فقط كما صح ذلك عن ابن عباس رضي الله عنه .
إنها أشجارها دائمة العطاء وافرة الخضرة 00 ممتدة الظلال00 في كل حال . قد تشابهت أشكال ثمارها, بيد أن كنهها ومذاقها يختلف. وهذا من لطائف نضجها وعجائب قدرة الله في إبداعها, قال تعالى (كُلّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رّزْقاً قَالُواْ هََذَا الّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مّطَهّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [البقرة: 25]
ومن تلك الأشجار ما إن ظلها ليسير فيه الراكب مائة عام وما يقطعه.
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن في الجنة لشجرة، يسير الركب في ظلها مائة سنة، واقرؤوا إن شئتم: { وظل ممدود } . [ الواقعة 30 ]
ومن تلك الأشجار سدرة المنتهى : قال تعالى: (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىَ * عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَىَ * عِندَهَا جَنّةُ الْمَأْوَىَ) [النجم 13: 15](2/20)
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ـ حديث الإسراء ـ :"ثم انطلق بي-أي: جبريل- حتى انتهى إلى سدرة المنتهى ونبقها فلال هجر, وورقها مثل آذان الفيلة, تكاد الورقة تغطي هذه الأمة فغشيها ألوان لا أدري ما هي, ثم أدخلت الجنة, فإذا فيها جنابذ اللؤلؤ وإذا ترابها المسك" .
ومن تلك الأشجار ما يخرج منها ثياب أهل الجنة :
( حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : طوبى شجرة في الجنة مسيرة مائة عام ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها.
ومما يزيد أشجار الجنة بهاء وجمالاً, أن سيقانها من الذهب :
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ما في الجنة شجرة إلا وساقها من ذهب .
الله أكبر.. ما ألذ ثمارها وما أبهى أشجارها فطوبى لمن أحسن غراسها,في الدنيا بذكر الله وتهليله تسبيحه وحمده وتكبيره.
( حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لقيت إبراهيم ليلة أسري بي فقال يا محمد أقرئ أمتك مني السلام وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة عذبة الماء وأنها قيعان وأن غراسها سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر .
قيعان: جمع قاع وهي الأرض المستوية الخالية من الشجر.
غراس جمع غرس وهو: ما يستر الأرض من البذر ونحوه.
(حديث ابن عباس رضي الله عنهما الثابت في السلسلة الصحيحة ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من قال سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر غرس الله بكل واحدة منهن شجرة في الجنة .(2/21)
فاغرس.. أيها الأخ الكريم: بساتين الأشجار بأسهل الأذكار فهي كلمات خفيفة سهلة, وما أكثر الغافلين عنها, المشتغلين بلغو الكلام وربما الهذر الحرام. مساكين هؤلاء الغافلون شغلهم غراس الدنيا, فاشتغلوا به ونسوا حظهم في الآخرة,ولم يزل يلهيهم طول الأمل وحب الدنيا, حتى باغتهم الموت .
ومع كثرة أشجار الجنة وثمارها, فإن أهل الجنة يرغبون في الزرع وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة :
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يوما يحدث، وعنده رجل من أهل البادية: أن رجلا من أهل الجنة استأذن ربه في الزرع، فقال له: ألست فيما شئت؟ قال: بلى، ولكني أحب أن أزرع، قال: فبذر، فبادر الطرف نباته واستواؤه واستحصاده، فكان أمثال الجبال، فيقول الله: دونك يا ابن آدم، فإنه لا يشبعك شيء . فقال الأعرابي: والله لا تجده إلا قرشيا أو أنصاريا، فإنهم أصحاب زرع، وأما نحن فلسنا بأصحاب زرع، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا يدل على أن في الجنة زرعا وذلك البذر منه وهذا أحسن أن تكون الأرض معمورة بالشجر والزرع .
ثمار الجنة وتعداد أنواعها وصفاتها :
قال تعالى: (وَبَشّرِ الّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ أَنّ لَهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ كُلّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رّزْقاً قَالُواْ هََذَا الّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مّطَهّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [البقرة: 25]
وقولهم (هََذَا الّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ ): أي شبيهه ونظيره لا عينه .
مسألة : ما معنى قوله تعالى (وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً ) :(2/22)
[*] قال الحسن رحمه الله تعالى في قوله تعالى (وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً ) :أي خيارٌ كله لا رذل ألم تروا إلى ثمر الدنيا كيف تسترذلون بعضه وأن ذلك ليس فيه رذل ، وقال قتادة خيار لا رذل فيه فإن ثمار الدنيا ينقى منها ويرذل منها وكذلك قال ابن جريح وجماعة ، وعلى هذا فالمراد بالتشابه التوافق والتماثل .
[*] وقالت طائفة أخرى منهم أبن مسعود وابن عباس وناس من أصحاب رسول الله متشابها في اللون والمرأى وليس يشبه الطعم قال مجاهد متشابها لونه مختلفا طعمه .
[*] قال ابن قتيبة :كل ما في الجنة من الأنهار والسرر والفرش والأكواب مخالف لما في الدنيا من صنعة العباد كما قال ابن عباس: ليس في الجنة شيء مما في الدنيا إلا الأسماء. انتهى .
وقال تعالى: (يَدْعُونَ فِيهَا بِكلّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ) [الدخان: 55]
هذا يدل على أمنهم من انقطاعها ومضرتها .
وقال تعالى: (وَتِلْكَ الْجَنّةُ الّتِيَ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مّنْهَا تَأْكُلُونَ) [الزخرف 72: 73]
وقال تعالى: (وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لاّ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ) [الواقعة 32: 33]
أي لا تكون في وقت دون وقت ولا تمنع ممن أرادها .
وقال تعالى: (فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رّاضِيَةٍ * فِي جَنّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ) [الحاقة 21: 23] والقطوف جمع قطف وهو ما يقطف والقطف بالفتح الفعل أي ثمارها دانية قريبة ممن يتناولها فيأخذها كيف يشاء قال البراء بن عازب يتناول الثمرة وهو نائم .
وقال تعالى: (وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلاَلُهَا وَذُلّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً) [الإنسان: 14]
قال ابن عباس إذا هَمَّ أن يتناول من ثمارها تدلت له حتى يتناول ما يريده وقال غيره قريب إليهم مذللة كيف شاءوا ، فهم يتناولونها قياما وقعودا ومضطجعين فيكون كقوله قطوفها دانية ومعنى تذليل القطف تسهيل تناوله .(2/23)
وقال تعالى: (فِيهِمَا مِن كُلّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ) [الرحمن: 52]
وقال تعالى: (فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمّانٌ) [الرحمن: 68] وخص النخل والرمان من بين الفاكهة بالذكر لفضلهما وشرفهما كما نص على حدائق النخل والأعناب في سورة النبأ إذ هما من أفضل أنواع الفاكهة وأطيبها وأحلاها .
وقال تعالى: (وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلّ الثّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مّن رّبّهِمْ ) [محمد: 15]
قال ابن عباس : ثمر الجنة أمثال القلال والدلاء أشد بياضاً من اللبن وأحلى من العسل وألين من الزبد ليس فيه عجم .
في زرع الجنة :
قال تعالى: (وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأنْفُسُ وَتَلَذّ الأعْيُنُ) [الزخرف: 71]
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يوما يحدث، وعنده رجل من أهل البادية: أن رجلا من أهل الجنة استأذن ربه في الزرع، فقال له: ألست فيما شئت؟ قال: بلى، ولكني أحب أن أزرع، قال: فبذر، فبادر الطرف نباته واستواؤه واستحصاده، فكان أمثال الجبال، فيقول الله: دونك يا ابن آدم، فإنه لا يشبعك شيء . فقال الأعرابي: والله لا تجده إلا قرشيا أو أنصاريا، فإنهم أصحاب زرع، وأما نحن فلسنا بأصحاب زرع، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم .
وهذا يدل على أن في الجنة زرعا وذلك البذر منه وهذا أحسن أن تكون الأرض معمورة بالشجر والزرع .
أنهار الجنة وعيونها وأصنافها :
أولاً أنهار الجنة :
لما كانت النفس البشرية تألف المياه والبساتين والأشجار وتسكن إليها فقد زين الله جل وعلا الجنة, وألبسها من بهاء الأشجار وعلوها وبركة الثمار ونموها وجريان الأنهار وسيولها وعذوبة العيون في أركانها,ما تقر به أعين عباد الله الصالحين ، وفي الجنة أنهار كثيرة ذات أنواع متعددة ، وقد تكرر ذكر الأنهار في القرآن في عدة مواضع كما يلي :
موضع : تجري من تحتها الأنهار :(2/24)
قال تعالى: (وَبَشّرِ الّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ أَنّ لَهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ) [البقرة: 25]
وفي موضع : تجري تحتها الأنهار :
قال تعالى: (وَالسّابِقُونَ الأوّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ وَالّذِينَ اتّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدّ لَهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [التوبة: 100]
وفي موضع : تجري من تحتهم الأنهار :
قال تعالى: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مّنْ غِلّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأنْهَارُ) [الأعراف : 43]
وهذا يدل على أمور منها ما يلي :
أحدها : وجود الأنهار فيها حقيقية .
الثاني :أنهار جارية لا واقفة .
الثالث : أنها تحت غرفهم وقصورهم وبساتينهم كما هو المعهود في أنهار الدنيا .
قال تعالى: (مّثَلُ الْجَنّةِ الّتِي وُعِدَ الْمُتّقُونَ فِيهَآ أَنْهَارٌ مّن مّآءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مّن لّبَنٍ لّمْ يَتَغَيّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مّنْ خَمْرٍ لّذّةٍ لّلشّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مّنْ عَسَلٍ مّصَفّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلّ الثّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مّن رّبّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النّارِ وَسُقُواْ مَآءً حَمِيماً فَقَطّعَ أَمْعَآءَهُمْ) [محمد: 15](2/25)
يَصِفُ اللهُ تَعَالى الجَنَّةَ التي وَعَدَ المُتَّقينَ بإدخَالِهم إليها ، فَيَقُولُ تَعَالى : إنَّها جَنَّةٌ تَجري فيها أنْهَارٌ مِنْ مِيَاهٍ غَيرِ مَتَغَيِّرةِ الطَعْمِ واللَّوِنِ والرَّائِحَةِ ، لطُولِ مُكْثِها وَرُكُودِها ، وَفيها أنْهَارٌ مِنْ لَبنٍ لم يَتَغيّرْ طَعْمُهُ وَلَمْ يَفْسُدْ ، وَفِيها أنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذِيذَةِ الطَّعْمِ وَالمَذَاقِ لِشَاربيها ، لاَ تَغْتَالُ العُقُولَ ، وَلا يُنْكِرُهَا الشَّارِبُون ، وَفِيها أَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ قَدْ صُفِّي مِنَ الشَّمْعِ والفَضَلاتِ . ولِلْمُتَّقِينَ فِي الجَنَّةِ مِنْ جَميعِ الفَوَاكهِ المُخْتَلِفَةِ الأَنْواعِ والطُّعُومِ وَالمَذَاقِ والرَّائِحَةِ . وَلَهُمْ فَوْقَ ذلكَ مَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ تَعَالى ، فَهُو يَتَقَّبَلُ مَا قَدَّمُوه مِنْ عَمَلٍ ، وَيَتَجَاوَزُ عَنْ هَفَواتِهِمِ التِي اقْتَرَفُوهَا في الدُّنيا .
فَهَلْ يَتَسَاوى هَؤُلاءِ المُتَّقُونَ النَّاعِمُونَ في رِضْوانِ اللهِ ، وَجَنَّاتِهِ ، مَعَ الأشقِياءِ الذِين أدْخَلَهُمُ اللهُ النَّارَ لِيَبْقَوا فِيها خَالِدِينَ أبَداً ، جَزاءً لَهُمْ عَلَى كُفْرِهِم وتكْذِيبهِمُ رُسُلَ رَبِّهم ، وَأعْمَالِهم السَّيِّئَةِ؟ إِنَّهُمْ لاَ يَتَسَاوَوْنَ أبَداً . وَإذا طَلَبَ هَؤُلاءِ الأشقِيَاءُ ، وَهُمْ يُعَذَّبُونَ في نَارِ جَهَنَّمَ ، الماءَ لِيُطْفِئُوا ظَمَأهُم فَإنَّهُم يُسْقَوْنَ مَاءً شَدِيدَ الحَرَارةِ إذا شَرِبُوهُ قَطَّعَ أمْعَاءَهُمْ .
وقد ذكر الله تعالى هذه الأجناس الأربعة, ونفى عن كل واحد منها آفاته التي تعرض له في الدنيا.فآفة اللبن أن يتغير طعمه إلى الحموضة, وآفة الماء أن يأسن ويأجن من طول مكثه,وآفة الخمر كراهة مذاقها المنافي للذة شربها, وآفة العسل عدم تصفيته.
وهذا من آيات الله أن تجرى أنهار من أجناس لم تجر العادة في الدنيا بجريانها.(2/26)
ومجريها في غير أخدود, وينفى عنها الآفات التي تمنع كمال اللذة,كما ينفي عن خمر الجنة جميع الآفات التي في خمر الدنيا من الصداع والغول واللغو والاٍنزاف وعدم اللذة, وهى رجس من عمل الشيطان : توقع العداوة والبغضاء بين الناس,وتصد عن ذكر الله وعن الصلاة,وتدعو إلى الزنا والفجور,وتذهب الغيرة,وهي أم الخبائث ومنها يولد كل خبيث وقبيح , فنزَّه الله-عز وجل- خمر الجنة عن كل هذا.
وتأمل اجتماع هذه الأنهار التي هي أفضل أشربة الناس, فهذا لشربهم وطهورهم, وهذا لقوتهم وغذائهم, وهذا للذتهم وسرورهم,وهذا لشفائهم ومنفعتهم. (1)
وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد ، ودرر الفرائد .
( حديث معاوية بن حيدة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :
إن في الجنة بحر الماء و بحر العسل و بحر اللبن و بحر الخمر ثم تشقق الأنهار بعد .
[*] قال العلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:
__________
(1) - حادي الأرواح للإمام ابن القيم(170-171) بتصرف.(2/27)
( إِنَّ فِي الْجَنَّةِ بَحْرَ الْمَاءِ وَبَحْرَ الْعَسَلِ وَبَحْرَ اللَّبَنِ وَبَحْرَ الْخَمْرِ ) قَالَ الطِّيبِيُّ: يُرِيدُ بِالْبَحْرِ مِثْلَ دِجْلَةَ وَالْفُرَاتِ وَنَحْوِهِمَا، وَبِالنَّهْرِ مِثْلَ نَهْرِ مَعْقِلٍ حَيْثُ تُشَقَّقُ مِنْ أَحَدِهِمَا ثُمَّ مِنْهُ تُشَقَّقُ جَدَاوِلُ. وَقَالَ الْقَارِي: قَدْ يُقَالُ الْمُرَادُ بِالْبِحَارِ هِيَ الْأَنْهَارُ، وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ أَنْهَارًا لِجَرَيَانِهَا بِخِلَافِ بِحَارِ الدُّنْيَا، فَإِنَّ الْغَالِبَ مِنْهَا أَنَّهَا فِي مَحَلِّ الْقَرَارِ ( ثُمَّ تُشَقَّقُ ) بِحَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ مِنْ بَابِ التَّفَعُّلِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ مِنَ التَّشْقِيقِ ( بَعْدُ ) أَيْ بَعْدَ دُخُولِ أَهْلِ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ.
وقد أخبرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه في إسرائه أنه رأى أربعة أنهار يخرج من أصلها نهران ظاهران ونهران باطنان, فقلت: يا جبريل, ما هذه الأنهار؟ قال: أما النهران الباطنان فنهران في الجنة, وأما الظاهران فالنيل والفرات .
( حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : رفعت إلى سدرة المنتهى منتهاها في السماء السابعة نبقها مثل قلال هجر و ورقها مثل آذان الفيلة فإذا أربعة أنهار نهران ظاهران و نهران باطنان فأما الظاهران: فالنيل و الفرات و أما الباطنان: فنهران في الجنة و أتيت بثلاثة أقداح قدح فيه لبن و قدح فيه عسل و قدح فيه خمر فأخذت الذي فيه اللبن فشربت فقيل لي: أجبت الفطرة أنت و أمتك .
أخي الحبيب:(2/28)
تأمل في هذه الأنهار وما أودع الله فيها من خيرات لم تجر العادة بمثلها في الدنيا. وتأمل فيها وهي تجري في الجنة من غير أخدود, تحت القصور والمنازل والغرف وتحت الأشجار, قال تعالى : { جنات تجري من تحتها الأنهار } [ البقرة 25 ] ، وقال سبحانه: { تجري تحتها النهار } [ التوبة 100 ] ،
وقال سبحانه: { تجري من تحتهم الأنهار } [ الكهف ] ،
نهر الكوثر :
أما الكوثر فهو نهر من أنهار الجنة أعطاه الله سبحانه وتعالى لرسوله - صلى الله عليه وسلم - : { إنا أعطيناك الكوثر }
[ الكوثر 1 ] وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد ، ودرر الفرائد .
( حديث أنس بن مالك رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أنزلت علي آنفآ سورة فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم (إِنّآ أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلّ لِرَبّكَ وَانْحَرْ * إِنّ شَانِئَكَ هُوَ الأبْتَرُ) [الكوثر 1: 3]
أتدرون ما الكوثر ؟ إنه نهر وعده ليه ربي ،عليه خير كثير ، هو حوضي ترد غليه أمتي يوم القيامة ، آنيته كعدد النجوم ، فيختلج العبد منهم فأقول : رب إنه من أمتي فيقول : ما تدري ما أحدثوا بعدك .
( حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري ) قال: لما عرج بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى السماء، قال: (أتيت على نهر، حافتاه قباب اللؤلؤ مجوفا، فقلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر).
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :الكوثر نهر في الجنة حافتاه من ذهب ومجراه على الدر والياقوت تربته أطيب من المسك وماؤه أحلى من العسل وأبيض من الثلج .(2/29)
( حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : قَالَ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَا الْكَوْثَرُ قَالَ ذَاكَ نَهْرٌ أَعْطَانِيهِ اللَّهُ يَعْنِي فِي الْجَنَّةِ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنْ اللَّبَنِ وَأَحْلَى مِنْ الْعَسَلِ فِيهَا طَيْرٌ أَعْنَاقُهَا كَأَعْنَاقِ الْجُزُرِ قَالَ عُمَرُ إِنَّ هَذِهِ لَنَاعِمَةٌ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَكَلَتُهَا أَحْسَنُ مِنْهَا .
مسألة : كيف تتفجر أنهار الجنة ؟
أنهار الجنة تتفجر من أعلاها ثم تنحدر نازلة إلى أقصى درجاتها كما في الحديث الآتي :
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن في الجنة مائة درجة، أعدها الله للمجاهدين في سبيله، "كل درجتين ما بينهما كما بين السماء والأرض"، فإذا سألتم الله فسلوه الفردوس، فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تَفجَّر أنهار الجنة .
(حديث أنس بن مالك رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لعلكم تظنون أن أنهار الجنة أخدود في الأرض لا والله إنها لسائحة على وجه الأرض إحدى حافتيها اللؤلؤ والأخرى الياقوت وطينه المسك الأذْفَرُ قال قلت ما الأذْفَرُ قال الذي لا خلط له .
( حديث معاوية بن حيدة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :
إن في الجنة بحر الماء و بحر العسل و بحر اللبن و بحر الخمر ثم تشقق الأنهار بعد .
[*] قال العلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:(2/30)
( إِنَّ فِي الْجَنَّةِ بَحْرَ الْمَاءِ وَبَحْرَ الْعَسَلِ وَبَحْرَ اللَّبَنِ وَبَحْرَ الْخَمْرِ ) قَالَ الطِّيبِيُّ: يُرِيدُ بِالْبَحْرِ مِثْلَ دِجْلَةَ وَالْفُرَاتِ وَنَحْوِهِمَا، وَبِالنَّهْرِ مِثْلَ نَهْرِ مَعْقِلٍ حَيْثُ تُشَقَّقُ مِنْ أَحَدِهِمَا ثُمَّ مِنْهُ تُشَقَّقُ جَدَاوِلُ. وَقَالَ الْقَارِي: قَدْ يُقَالُ الْمُرَادُ بِالْبِحَارِ هِيَ الْأَنْهَارُ، وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ أَنْهَارًا لِجَرَيَانِهَا بِخِلَافِ بِحَارِ الدُّنْيَا، فَإِنَّ الْغَالِبَ مِنْهَا أَنَّهَا فِي مَحَلِّ الْقَرَارِ ( ثُمَّ تُشَقَّقُ ) بِحَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ مِنْ بَابِ التَّفَعُّلِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ مِنَ التَّشْقِيقِ ( بَعْدُ ) أَيْ بَعْدَ دُخُولِ أَهْلِ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أنهار الجنة تخرج من تحت تلال أو من تحت جبال المسك .
( ححديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : سيحان وجيحان والفرات والنيل كل من أنهار الجنة .
مسألة : ما معنى سيحان وجيحان والفرات والنيل كل من أنهار الجنة ؟
الجواب :
المعنى أن هذه الأنهار أصلها من الجنة, كما أن أصل معظم الماء-المطر- من السماء,مع أنه يجرى في الأنهار.
[*] قال الإمام النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم :(2/31)
اعلم أن سيحان وجيحان غير سيحون وجيحون، فأما سيحان وجيحان المذكوران في هذا الحديث اللذان هما من أنهار الجنة في بلاد الأرمن فجيحان نهر المصيصة وسيحان نهر إذنة وهما نهران عظيمان جدا أكبرهما جيحان فهذا هو الصواب في موضعها. وأما قول الجوهري في صحاحه جيحان نهر بالشام فغلط، أو أنه أراد المجاز من حيث أنه ببلاد الأرمن وهي مجاورة للشام، قال الحازمي: سيحان نهر عند المصيصة قال: وهو غير سيحون. وقال صاحب نهاية الغريب: سيحان وجيحان نهران بالعواصم عند المصيصة وطرسوس، واتفقوا كلهم على أن جيحون بالواو نهر وراء خراسان عند بلخ، واتفقوا على أنه غير جيحان، وكذلك سيحون غير سيحان. وأما قول القاضي عياض: هذه الأنهار الأربعة أكبر أنهار بلاد الإسلام فالنيل بمصر والفرات بالعراق وسيحان وجيحان ويقال سيحون وجيحون ببلاد خراسان، ففي كلامه إنكار من أوجه: أحدها: قوله الفرات بالعراق وليس بالعراق بل هو فاصل بين الشام والجزيرة. والثاني: قوله سيحان وجيحان ويقال سيحون وجيحون فجعل الأسماء مترادفة وليس كذلك، بل سيحان غير سيحون وجيحان غير جيحون باتفاق الناس كما سبق. الثالث: أنه ببلاد خراسان وأما سيحان وجيحان ببلاد الأرمن بقرب الشام والله أعلم.
وأما كون هذه الأنهار من ماء الجنة ففيه تأويلان ذكرهما القاضي عياض: أحدهما: أن الإيمان عم بلادها أو الأجسام المتغذية بمائها صائرة إلى الجنة. والثاني: وهو الأصح أنها على ظاهرها وأن لها مادة من الجنة والجنة مخلوقة موجودة اليوم عند أهل السنة، وقد ذكر مسلم في كتاب الإيمان في حديث الإسراء أن الفرات والنيل يخرجان من الجنة، وفي البخاري من أصل سدرة المنتهى.(2/32)
{ تنبيه } : إن في الجنة أنهاراً من أصناف نَعْهدها فى الدنيا ولكنها ليست للإشباع أو الإرْواء أو للتّداوى, فأهل الجنة ليسوا في حاجة للغذاء من أجل النماء والقوّة, ولا يصيبهم العطش, إن الشراب لأهل الجنة للنعيم ثم النعيم ، وإن المؤمن في جناته أنهاراً كثيرة منتشرة في أرجاء مملكته المتّسعة, وبكل أنواع الأشربة المعروفة في الدنيا خالية من آفاتها, وأنواع من الأشربة لا نعلمها ولا يمكن إدراكها ولو بالخيال, فبشرنا الله تعالى وشوّقنا إلى ـ أنهار ـ من كل نوع منها, لا نهر واحد, لذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد ذكر الأنواع التي نعرفها: الماء, والعسل, واللبن, والخمر, قال: " ثم تشقّق الأنهار بعد ".
ومن أعاجييب أنهار الجنة أن في الجنة نهراً طول الجنة حافتاه العذارى قيام متقابلات يغنين بأحسن أصوات يسمعها الخلائق كما في الحديث الآتي :
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب موقوفا ) قال : إن في الجنة نهراً طول الجنة حافتاه العذارى قيام متقابلات يغنين بأحسن أصوات يسمعها الخلائق حتى ما يرون أن في الجنة لذة مثلها ، قلنا يا أبا هريرة وما ذاك الغناء ؟ قال إن شاء الله التسبيح والتحميد والتقديس وثناء على الرب عز وجل .
ومن نفائس الأشربة أيضاً حوْض النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد ، ودرر الفرائد .
(حديث عبد الله بن عمرو في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : حوضي مسيرة شهر و زواياه سواء و ماؤه أبيض من اللبن و ريحه أطيب من المسك و كيزانه كنجوم السماء من يشرب منه فلا يظمأ أبدا .
(حديث أنس في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن في حوضي من الأباريق بعدد نجوم السماء .(2/33)
(حديث حارثة بن وهب في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : حوضي كما بين المدينة و صنعاء .
ثانياً عيون الجنة :
أخبر الله تعالى بوجود العيون في الجنة فقال: { إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ } [الحجر:45]
ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى حَالَ أَهْلِ الجَنِّةِ ، فَقَالَ : إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّقُوا رَبَّهُمْ ، لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ، وَتَنْبُعُ فِي أَرْضِهَا عُيُونُ المَاءِ .
وقال تعالى : ( إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آَخِذِينَ مَا آَتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19) [الذاريات/15-19])
وقال تعالى: (عَيْناً فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً) { الإنسان18: }
يشربون مِن عينٍ في الجنة تسمى سلسبيلا؛ لسلامة شرابها وسهولة مساغه وطيبه.
وقال: (عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً) { الإنسان:6 }
ويدور عليهم الخدم بأواني الطعام الفضيَّة، وأكواب الشراب من الزجاج، زجاج من فضة، قدَّرها السقاة على مقدار ما يشتهي الشاربون لا تزيد ولا تنقص، ويُسْقَى هؤلاء الأبرار في الجنة كأسًا مملوءة خمرًا مزجت بالزنجبيل، يشربون مِن عينٍ في الجنة تسمى سلسبيلا؛ لسلامة شرابها وسهولة مساغه وطيبه.(2/34)
وقال الطبري : "وَالصَّوَاب مِنَ الْقَوْل فِي ذَلِكَ عِنْدِي أَنَّ قَوْله : { تُسَمَّى سَلْسَبِيلَا } صِفَة لِلْعَيْنِ , وُصِفَتْ بِالسَّلَاسَةِ فِي الْحَلْق , وَفِي حَال الْجَرْي , وَانْقِيَادهَا لِأَهْلِ الْجَنَّة يَصْرِفُونَهَا حَيْثُ شَاءُوا , كَمَا قَالَ مُجَاهِد وقَتَادَة ،وَإِنَّمَا عُنِيَ بِقَوْلِهِ { تُسَمَّى } تُوصَف .وَإِنَّمَا قُلْت ذَلِكَ أَوْلَى بِالصَّوَابِ لِإِجْمَاعِ أَهْل التَّأْوِيل عَلَى أَنَّ قَوْله : { سَلْسَبِيلَا } صِفَة لَا اِسْم . (1)
{ تنبيه } : في الجنة عينان :
الأولى عين الكافور: قال تعالى: (إِنّ الأبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً * عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللّهِ يُفَجّرُونَهَا تَفْجِيراً) [الإنسان 5: 6]
وهذه العين يشرب منها المقربون الماء الخالص.وأما الأبرار فيشربونه ممزوجاً.
والثانية عين التسنيم : قال تعالى: (إِنّ الأبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الأرَآئِكِ يَنظُرُونَ * على الأرائك ينظرون تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النّعِيمِ * يُسْقَوْنَ مِن رّحِيقٍ مّخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ * وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ * عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرّبُونَ) [المطففين 22: 28]
طعام أهل الجنة وشرابهم ومصرفه :
قال تعالى: (وَلَحْمِ طَيْرٍ مّمّا يَشْتَهُونَ) [الواقعة: 21]
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :إن طير الجنة كأمثال البخت ترعى في شجر الجنة فقال أبو بكر يا رسول الله إن هذه لطيرٌ ناعمة فقال : أَكَلَتْهَا أنْعَمَ منها قالها ثلاثا وإني لأرجو أن تكون ممن يأكل منها .
__________
(1) - تفسير الطبري - (ج 32 / ص 31)(2/35)
[*] أورد ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه حادي الأرواح عن قتادة عن أيوب رجل من أهل البصرة عن عبد الله بن عمرو في قوله تعالى: (يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ) [الزخرف : 71]
قال يطاف عليهم بسبعين صحفة من ذهب كل صحفة منها فيها لون ليس في الأخرى .
( حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : قَالَ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَا الْكَوْثَرُ قَالَ ذَاكَ نَهْرٌ أَعْطَانِيهِ اللَّهُ يَعْنِي فِي الْجَنَّةِ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنْ اللَّبَنِ وَأَحْلَى مِنْ الْعَسَلِ فِيهَا طَيْرٌ أَعْنَاقُهَا كَأَعْنَاقِ الْجُزُرِ قَالَ عُمَرُ إِنَّ هَذِهِ لَنَاعِمَةٌ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَكَلَتُهَا أَحْسَنُ مِنْهَا .
[*] قال العلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:
( طَيْرٌ أَعْنَاقُهَا كَأَعْنَاقِ الْجُزُرِ ) بِضَمِّ الْجِيمِ وَالزَّايِ جَمْعُ جَزُورٍ وَهُوَ الْبَعِيرُ .
( إِنَّ هَذِهِ ) أَيِ الطَّيْرَ فَإِنَّهُ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ
( لَنَاعِمَةٌ ) أَيْ سِمَانٌ مُتْرَفَةٌ كَذَا فِي النِّهَايَةِ .
( أَكَلَتُهَا ) ضُبِطَ فِي النُّسْخَةِ الْأَحْمَدِيَّةِ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالْكَافِ وَاللَّامِ وَبِمَدِّ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الْكَافِ. فَعَلَى الْأَوَّلِ جَمْعُ آكِلٍ اسْمُ فَاعِلٍ كَطَلَبَةٍ جَمْعِ طَالِبٍ. وَالْمَعْنَى مَنْ يَأْكُلُهَا، وَعَلَى الثَّانِي مُؤَنَّثُ أَكْلٍ وَصِيغَةُ الْوَاحِدِ الْمُؤَنَّثِ قَدْ تُسْتَعْمَلُ لِلْجَمَاعَةِ.
فاكهة أهل الجنة :(2/36)
أما عن الفاكهة في الجنة: فقد وصفها الله تعالى بقوله: { وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [ البقرة : 25]
يُبَشِّرُ اللهُ تَعَالى الذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ، وَعَمِلُوا الأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ ، أَنَّ لَهُمْ عِنْدَهُ في الآخِرَةِ جَنَّاتٍ تَجْرِي الأَنْهَارُ في جَنَبَاتِهَا ، وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرةٌ مِنَ الدَّنَسِ وَالأَذى وَالآثامِ ومسَاوِئِ الأَخْلاَقِ ، كَالََكَيْدِ والمَكْرِ والخَدِيعَةِ . . وَتَأْتِيهِمُ الثِّمَارُ في الجَنَّةِ فَيَظُنُّونَ أَنَّهَا مِنَ الثِّمَارِ التِي عَرَفُوهَا في الدُّنيا ( أَوْ أَنَّهَا مِنَ الثِّمَارِ التِي أَتَتْهُمْ قَبْلَ ذلِكَ فِي الجَنَّةِ ، وَتَخْتَلفُ عَنْهَا طَعْماً مَعَ أَنَّهَا تُشْبِهُهَا فِي شَكْلِها وَمَنْظَرِهَا ) . وَكُلَّمَا رُزِقُوا مِنْها ثَمَرَةً قَالُوا : هذا مَا وُعِدْنا بِهِ في الدُّنيا جَزَاءً عَلَى الإِيمَان وَالعَمَلِ الصَّالِحِ . والذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً صَادِقاً ، وَعَملُوا عَمَلاً صَالِحاً يَبْقَوْوَ في الجَنَّةِ خَالِدينَ أبداً ، لاَ يَمُوتُونَ فِيها وَلا يَحُولُونَ عَنْها .(2/37)
وقال القرطبي : " ومعنى { مِنْ قَبْلُ } يعني في الدنيا ، وفيه وجهان : أحدهما : أنهم قالوا هذا الذي وعدنا به في الدنيا. والثاني : هذا الذي رزقنا في الدنيا ، لأن لونها يشبه لون ثمار الدنيا ، فإذا أكلوا وجدوا طعمه غير ذلك وقيل : "من قبل" يعني في الجنة لأنهم يرزقون ثم يرزقون ، فإذا أتوا بطعام وثمار في أول النهار فأكلوا منها ، ثم أتوا منها في آخر النهار قالوا : هذا الذي رزقنا من قبل ، يعني أطعمنا في أول النهار ، لأن لونه يشبه ذلك ، فإذا أكلوا منها وجدوا لها طعما غير طعم الأول.
قوله : { وَأُتُوا } فعلوا من أتيت. وقرأه الجماعة بضم الهمزة والتاء. وقرأ هارون الأعور "وأتوا" بفتح الهمزة والتاء. فالضمير في القراءة الأولى لأهل الجنة ، وفي الثانية للخدام. { بِهِ مُتَشَابِهاً } حال من الضمير في "به" ، أي يشبه بعضه بعضا في المنظر ويختلف في الطعم. قاله ابن عباس ومجاهد والحسن وغيرهم. وقال عكرمة : يشبه ثمر الدنيا ويباينه في جل الصفات. ابن عباس : هذا على وجه التعجب ، وليس في الدنيا شيء مما في الجنة سوى الأسماء ، فكأنهم تعجبوا لما رأوه من حسن الثمرة وعظم خلقها. وقال قتادة : خيارا لا رذل فيه ، كقوله تعالى : { كِتَاباً مُتَشَابِهاً } [الزمر : 23] وليس كثمار الدنيا التي لا تتشابه ، لأن فيها خيارا وغير خيار. (1)
ووصف فاكهة الجنة أيضاً بأنها كثيرة ودائمة لا تنقطع , ولا ُتُمنع ممن أرادها,
فقال تعالى: { وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ (33) } [الواقعة/32-34].
وَيَتَمَتَّعُونَ فِي الجَنَّةِ بِأَلْوانٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الفَاكِهَةِ . لاَ تَنْقَطِعُ عَنْهُمْ أَبَداً ، فَهُمْ يَجِدُونَهَا فِي كُلِّ حِينٍ .
__________
(1) - تفسير القرطبي (ج 1 / ص 240)(2/38)
قال ابن كثير : "وقوله: { وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ . لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ } أي: وعندهم من الفواكه الكثيرة المتنوعة في الألوان ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، { كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا } [البقرة: 25] أي: يشبه الشكلُ الشكلَ، ولكن الطعم غيرُ الطعم.
وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد ، ودرر الفرائد .
(حديث عتبة بن عبد رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب ) قال : جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ما حوضك الذي تحدث عنه فذكر الحديث إلى أن قال فقال الأعرابي يا رسول الله فيها فاكهة ؟ قال نعم وفيها شجرة تدعى طوبى هي تطابق الفردوس فقال أي شجر أرضنا تشبه قال ليس تشبه شيئا من شجر أرضك ولكن أتيت الشام قال لا يا رسول الله ، قال فإنها تشبه شجرة بالشام تدعى الجوزة تنبت على ساق واحد ثم ينتشر أعلاها قال فما عظم أهلها قال لو ارتحلت جذعة من إبل أهلك لما قطعتها حتى تنكسر ترقوتها هرما قال فيها عنب قال نعم قال فما عظم العنقود منها قال مسيرة شهر للغراب الأبقع لا يقع ولا ينثني ولا يفتر قال فما عظم الحبة منه ؟ قال هل ذبح أبوك تيسا من غنمه عظيما فسلخ إهابه فأعطاه أمك فقال ادبغي هذا ثم افري لنا منه ذنوبا يروي ماشيتنا قال نعم قال فإن تلك الحبة تشبعني وأهل بيتي فقال النبي صلى الله عليه وسلم وعامة عشيرتك .
( حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ثُمَّ ذَهَبَ بِى إِلَى السِّدْرَةِ الْمُنْتَهَى وَإِذَا وَرَقُهَا كَآذَانِ الْفِيَلَةِ وَإِذَا ثَمَرُهَا كَالْقِلاَلِ "(2/39)
( حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " رَكَبْتُ البُرَاقَ ثُمَّ ذُهِبَ بي إلى سدْرَة المُنتهَى، فَإِذَا وَرَقُها كآذَانِ الفِيلَةِ، وإذَا ثمَرُها كالقلال ; قال: فَلَمَّا غَشِيَها مِنْ أمْرِ الله ما غَشيَها تَغَيَّرتْ، فَمَا أحَدٌ يَسْتَطيعُ أنْ يصِفَها مِنْ حُسْنها، قال: فأَوْحَى اللهُ إليّ ما أوْحَى".(2/40)
( حديث ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين ) قَالَ : انْخَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلاً نَحْوًا مِنْ قِرَاءَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ ، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلاً ، ثُمَّ رَفَعَ فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلاً ، وَهْوَ دُونَ الْقِيَامِ الأَوَّلِ ، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلاً ، وَهْوَ دُونَ الرُّكُوعِ الأَوَّلِ ، ثُمَّ سَجَدَ ، ثُمَّ قَامَ قِيَامًا طَوِيلاً وَهْوَ دُونَ الْقِيَامِ الأَوَّلِ ، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلاً ، وَهْوَ دُونَ الرُّكُوعِ الأَوَّلِ ، ثُمَّ رَفَعَ فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلاً ، وَهْوَ دُونَ الْقِيَامِ الأَوَّلِ ، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلاً ، وَهْوَ دُونَ الرُّكُوعِ الأَوَّلِ ، ثُمَّ سَجَدَ ، ثُمَّ انْصَرَفَ وَقَدْ تَجَلَّتِ الشَّمْسُ ، فَقَالَ - صلى الله عليه وسلم - " إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ ، لاَ يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلاَ لِحَيَاتِهِ ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ " . قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ ، رَأَيْنَاكَ تَنَاوَلْتَ شَيْئًا فِى مَقَامِكَ ، ثُمَّ رَأَيْنَاكَ كَعْكَعْتَ . قَالَ - صلى الله عليه وسلم - " إني رَأَيْتُ الْجَنَّةَ ، فَتَنَاوَلْتُ عُنْقُودًا ، وَلَوْ أَصَبْتُهُ لأَكَلْتُمْ مِنْهُ مَا بَقِيَتِ الدُّنْيَا ، وَأُرِيتُ النَّارَ ، فَلَمْ أَرَ مَنْظَرًا كَالْيَوْمِ قَطُّ أَفْظَعَ ، وَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ " . قَالُوا بِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ " بِكُفْرِهِنَّ " .(2/41)
قِيلَ يَكْفُرْنَ بِاللَّهِ قَالَ " يَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ ، وَيَكْفُرْنَ الإِحْسَانَ ، لَوْ أَحْسَنْتَ إِلَى إِحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ كُلَّهُ ، ثُمَّ رَأَتْ مِنْكَ شَيْئًا قَالَتْ مَا رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْرًا قَطُّ " .
كعكعت : تأخرت
ووصف الله تعالى ما يُقطف منها ـ وهي الثمار ـ بأنها دانية قريبة ممن يتناولها,فقال تعالى: (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24) [الحاقة/19-25]
وَيُعْطَى النَّاسُ صُحُفَ أَعْمَالِهِمْ ، فَمَنْ تَنَاوَلَ صَحِيفَةَ عَمَلِهِ بِيمِيِنِهِ فَيَقُولُ فَرِحاً مَسْرُوراً لِكُلِّ مَنْ يَلْقَاهُ : هَذِهِ هِيَ صَحِيفَةُ أَعْمَالِي ، خُذُوهَا فَاقْرَؤُوهَا ، لأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ مَا فِيهَا خَيرٌ وَحَسَنَاتٌ ، لأَنَّهُ مِمَّنْ بَدَّلَ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ . إِنَّنِي كُنْتُ فِي الدُّنْيَا أَعْتَقِدُ يَقِيناً بِأَنَّنِي سَأْحَاسَبُ أَمَامَ اللهِ فِي هَذَا اليَوْمِ ، فَعَمِلْتُ خَيْراً قَدْرَ مَا اسْتَطَعْتُ ، وَكُنْتُ أُؤَمِّلُ أَنْ يُحَاسِبَنِي اللهُ عَلَى أَعْمَالِي حِسَاباً يَسِيراً ، وَقَدْ صَدَقَ مَا اعْتَقَدْتُ وَمَا تَوَقَّعْتُ ، فَكَانَ حِسَابِي يَسِيراً .
فَهُوَ يَعِيشُ عِيشَةً رَاضِيَةً خَالِيَةً مِنَ الهُمُومِ والأَكْدَارِ . فِي جَنَّةٍ رَفِيعَةِ المَكَانِ والدَّرَجَاتِ ، فِيهَا الخُضْرَةُ وَالمِيَاهُ وَالظَّلاَلُ الوَارِفَةُ .فِيهَا أَشْجَارٌ ثِمَارُهَا دَانِيَةٌ مِمَّنْ يُرِيدُونَ قَطْفَهَا ، فَيَأْخُذُونَهَا بِدُونِ عَنَاءٍ .(2/42)
وَيُقَالُ لَهُمْ : كُلُوا يَا أَيُّهَا الأَبْرَارُ مِنْ ثِمَارِ هَذِهِ الجَنَّةِ هَنِيئاً ، وَاشْرَبُوا مِنْ خَمْرِهَا وَمِيَاهِهَا مَريئاً ، لاَ تَغَصُّونَ بِهِ ، وَلاَ تَتَأَذَّوْنَ ، وَذَلِكَ جَزَاءٌ مِنَ اللهِ لَكُمْ ، وَثَوَابٌ عَلَى مَا عَمِلْتُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ صَالِحِ الأَعْمَالِ ، وَكَرِيمِ الطَّاعَاتِ الخَالِصَةِ لِوَجْهِ اللهِ تَعَالَى .
وقال تعالى: { وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا } (14) سورة الإنسان.
وَتَدْنُو أَشْجَارُ الجَنَّةِ بِظِلالِهَا عَلَى هَؤُلاَءِ الأَبْرَارِ السُّعَدَاءِ ، وَتُسَخِّرُ قُطُوفَهَا لأَمْرِهِمْ لِيَنَالُوا مِنْهَا مَا شَاؤُوا .
(حديث ابن عباس رضي الله عنهما الثابت في صحيح الترغيب والترهيب موقوفاً ) قال : نخل الجنة جذوعها من زمرد خضر وكربها ذهب أحمر وسعفها كسوة لأهل الجنة منها مقطعاتهم وحللهم وثمرها أمثال القلال والدلاء أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل وألين من الزبد ليس فيها عجم .
(حديث عتبة ابن عبد السلمى رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة) قال :" كنت جالساً مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجاء أعرابى فقال: يا رسول الله أسمعك تذكر فى الجنة شجرة لا أعلم شجرة أكثر شوكاً منها ـ يعني الطلح ـ , فقال رسول - صلى الله عليه وسلم - : إن الله جعل مكان كل شوكة منها ثمرة ( يعني من شجرة الطلح في الجنة ) مثل خصية التيس الملبود ـ يعني المخصي ـ , فيها سبعون لوناً من الطعام لا يشبه لون آخر " .
وعن مسروق، قال: نخل الجنة نَضيدٌ من أصْلها إلى فرعها، وثمرها أمثالُ القِلال، كلما نُزعت ثمرة عادتْ مكانها أخرى، وماؤها يَجري في غير أخدود (1) .
__________
(1) - تفسير الطبري - (ج 1 / ص 384)(509) صحيح(2/43)
{ تنبيه } : واعلم أن صفة طعام أهل الجنة الدوام وعدم النقصان , قال تعالى: { مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ } [ الرعد : 35]
شراب أهل الجنة :
قال تعالى: (إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً* عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً) { الإنسان :5-6 } .
إِنَّ الكرَامَ البَرَرَةَ الذِينَ أَطَاعُوا اللهَ ، يَشْرَبُونَ مِنْ خَمْرٍ كَانَ مَا يُمْزَجُ بِهَا مَاءَ الكَافُورِ .وَهَذَا المِزَاجُ مِنْ عَيْنٍ يَشْرَبُ بِهَ عِبَادُ اللهِ المُتَّقُونَ ، وَهُمْ فِي الجَنَّاتِ يَتَصَرَّفُونَ فِيهَا كَيْفَ شَاؤُوا ، وَيُجْرُونَها حَيْثُ أَرَادُوا مِنْ دُورِهِمْ وَمَنَازِلِهِمْ وَمَجَالِسِهِمْ .
وقال مقاتل: ليس هو كافور الدنيا,وإنما سمَّى الله ما عنده بما عندكم حتى تهتدي له القلوب .
وقوله(يفجرونها تفجيرا)أي:يشقونها شقاً كما يفجر الرجل النهر هاهنا وهاهنا إلى حيث يريد,وقال مجاهد:يقودونها حيث شاءوا,وتتبعهم حيثما مالوا مالت معهم (1) .
وقال تعالى : (وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً* عَيْناً فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً)
{ الإنسان:17-18 }
وَيُسْقَى هُؤَلاَءِ الأَبْرَارُ فِي الجَنَّةِ كَأْساً مِنْ خَمْرِ الجَنَّةِ مُزِجَتْ بِالزَّنْجِبِيلِ ( فَهُمْ يُمْزَجُ الشَّرَابُ لَهُمْ مَرَّةً بِالكَافُورِ وَمَرَّةً بِالزَّنْجَبِيلِ فَالكَافُورُ بَارِدٌ وَالزَّنْجَبِيلُ حَارٌّ ) .
وَيُسْقَونَ فِي الجَنَّةِ مِنْ عَيْنٍ غَايَةٍ فِي السَّلاَسَةِ وَالاسْتِسَاغَةِ .
__________
(1) - تفسير القرطبي (19/96)(2/44)
أي أن أهل الجنة يُسقَوْن كأساً من خمر الجنة ممزوجة بالزنجبيل وكانت العرب تستلذ من الشراب ما يمزج بالزنجبيل لطيب رائحته .
وكلمة (سلسبيل) مأخوذة من السلاسة, والسلسبيل: هو الشراب اللذيذ (1) .
ونجد مما سبق أن الله تعالى أخبر أن شراب أهل الجنة يمزج بشيئين: الكافور والزنجبيل,فيمزج بالكافور لأنه يمتاز بالبرد وطيب الرائحة, ثم بالزنجبيل لأنه يمتاز بالحرارة وطي
وقال تعالى : (وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً ) { الإنسان:21 }
، وَيَسْقِيِهِمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً يُطَهِّرُ بَاطِنَ شَارِبِهِ مِنَ الحَسَدِ ، وَالحِقْدِ ، وَالغِلِّ ، وَرَدِيءِ الأَخْلاَقِ ،فوصف الشراب بأنه طهور وليس بنجس كخمر الدنيا.ب الرائحة, مما يحدث بذلك أكمل اللذة وأطيبها (2) .
[*] أورد ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه حادي الأرواح عن ابن عباس في قوله تعالى : (وَكَأْسٍ مّن مّعِينٍ) [الواقعة: 18] يقول الخمر ، (لاَ فِيهَا غَوْلٌ) [الصافات: 47] يقول ليس فيها صداع وفي قوله تعالى ^ (وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ) [الصافات: 47] يقول لا تذهب عقولهم ، وقوله تعالى: (وَكَأْساً دِهَاقاً) [النبأ: 34] يقول ممتلئة ، وقوله تعالى: (يُسْقَوْنَ مِن رّحِيقٍ مّخْتُومٍ) [المطففين: 25]
يقول الخمر ختم بالمسك ، وقال علقمة عن أبن مسعود (خِتَامُهُ مِسْكٌ) [المطففين: 26] قال خلطه وليس بخاتم ثم يختم ، والمراد والله أعلم أن أخره مسك يخالطه فهو من الخاتمة ليس من الخاتم .
وقال تعالى: (إِنّ الأبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً * عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللّهِ يُفَجّرُونَهَا تَفْجِيراً) [الإنسان: 6]
__________
(1) - نفس المصدر(19/107)
(2) - حادي الأرواح لابن القيم (175 )(2/45)
[*] قال بعض السلف : معهم قضبان الذهب حيثما مالوا مالت معهم وقد اختلف في قوله يشرب بها فقال الكوفيون الباء بمعنى من أي يشرب منها وقال آخرون بل الفعل مضمن ومعنى يشرب بها أي يروى بها فلما ضمنه معناه عداه تعديته وهذا أصح وألطف وأبلغ وقال طائفة الباء للظرفية والعين اسم للمكان كما تقول كنا بمكان كذا وكذا ونظير هذا التضمين قوله تعالى (وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ) [الحج: 25]ضمن معنى يهم فعدى تعديته.
وقال تعالى: (وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً * عَيْناً فِيهَا تُسَمّىَ سَلْسَبِيلاً) [الإنسان 17: 18] ...
فأخبر سبحانه عن العين التي يشرب بها المقربون أن شراب الأبرار يمزج منها لأن أولئك أخلصوا الأعمال كلها لله فأخلص شرابهم وهؤلاء مزجوا فمزج شرابهم ونظير هذا قوله تعالى: (إِنّ الأبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الأرَآئِكِ يَنظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النّعِيمِ* يُسْقَوْنَ مِن رّحِيقٍ مّخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ* وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ * عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرّبُونَ) [المطففين 22: 28]
فأخبر سبحانه عن مزاج شرابهم بشيئين بالكافور في أول السورة والزنجبيل في آخرها فإن في الكافور من البرد وطيب الرائحة وفي الزنجبيل من الحرارة وطيب الرائحة ما يحدث لهم باجتماع الشرابين ومجيء أحدهما على أثر الآخر حالة أخرى أكمل وأطيب وألذ من كل منهما بانفراده ويعدل كيفية كل منهما بكيفية الآخر وما ألطف موقع ذكر الكافور في أول السورة والزنجبيل في آخرها فإن شرابهم مزج أولا بالكافور وفيه من البرد ما يجيء الزنجبيل بعده فيعد له والظاهر أن الكأس الثانية غير الأولى وأنهما نوعان لذيذان من الشراب أحدهما مزج بكافور والثاني مزج بزنجبيل(2/46)
وأيضا فإنه سبحانه أخبر عن مزج شرابهم بالكافور وبرده في مقابلة ما وصفهم به من حرارة الخوف والإيثار والصبر والوفاء بجميع الواجبات التي نبه على وفائهم بأضعفها وهو ما أوجبوه على أنفسهم بالنذر على الوفاء بأعلاها وهو ما أوجبه الله عليهم ولهذا قال تعالى: (وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُواْ جَنّةً وَحَرِيراً) [الإنسان: 12]
فإن في الصبر من الخشونة وحبس النفس عن شهواتها ما اقتضى أن يكون في جزائهم من سعة الجنة ونعومة الحرير ما يقابل ذلك الحبس والخشونة وجمع لهم بين النضرة والسرور وهذا جمال ظواهرهم وهذا حال بواطنهم كما جملوا في الدنيا ظواهرهم بشرائع الإسلام وبواطنهم بحقائق الإيمان ونظيره قوله في آخر السورة: (عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلّوَاْ أَسَاوِرَ مِن فِضّةٍ) [الإنسان: 21] فهذه زينة الظاهر ثم قال تعالى: (وَسَقَاهُمْ رَبّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً) [الإنسان: 21] فهذه زينة الباطن المطهر لهم من كل أذى ونقص ونظيره قوله تعالى لأبيهم آدم عليه السلام: (إِنّ لَكَ أَلاّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تَعْرَىَ * وَأَنّكَ لاَ تَظْمَأُ فِيهَا وَلاَ تَضْحَىَ) [طه 118: 119]
فضمن له أن لا يصيبه ذل الباطن بالجوع ولا ذل الظاهر بالعري وأن لا يناله حر الباطن بالظمأ ولا حر الظاهر بالضحى ونظير هذا ما عدده على عباده من نعمة أنه أنزل عليهم لباسا يواري سوآتهم ويزين ظواهرهم ولباسا آخر يزين بواطنهم وقلوبهم وهو لباس التقوى وأخبر أنه خير اللباسين وقريب من هذا إخباره أنه زين السماء الدنيا بزينة الكواكب وحفظا من كل شيطان مارد فزين ظاهرها بالنجوم وباطنها بالحراسة وقريب منه أمره من أراد الحج بالزاد الظاهر ثم أخبر أن خير الزادِ الزادُ الباطن وهو التقوى وقريب منه قول امرأة العزيز عن يوسف قال تعالى: (فَذَلِكُنّ الّذِي لُمْتُنّنِي فِيهِ) [يوسف: 32](2/47)
فأرتهن حسنه وجماله ثم قالت (وَلَقَدْ رَاوَدتّهُ عَن نّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ) [يوسف: 32] فأخبرتهن بجمال باطنه وزينته بالعفة وهذا كثير في القرآن لمتأمله .
قال تعالى: (وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً * عَيْناً فِيهَا تُسَمّىَ سَلْسَبِيلاً) [الإنسان 17: 18]
وقال تعالى: { مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ] } محمد: 15[
[*] قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه حادي الأرواح :
ذكر سبحانه هذه الأجناس الأربعة, ونفى عن كل واحد منها الآفة التي تعرض له فى الدنيا, وقال: وهذا من آيات الله تعالى: أن تجرى أنهار من أجناس لم تجر العادة في الدنيا بإجرائها وبجريانها في غير أخدود, وينفى عنها الآفات التي تمنع كمال اللذة بها, قال: وتأمل اجتماع هذه الأنهار الأربعة التي هي أفضل أشربة الناس, فهذا لشربهم وطهورهم, وهذا لقوّتهم وغذائهم, وهذا للذّاتهم وسرورهم, وهذا لشفائهم ومتعتهم.
وفصل الخطاب أن هذه النصوص قد تضمنت أن لهم فيها الخبز واللحم والفاكهة والحلوى وأنواع الأشربة من الماء واللبن والخمر وليس في الدنيا مما في الآخرة إلا الأسماء وأما المسميات فبينها من التفاوت ما لا يعلمه البشر .
[*] قال ابن قتيبة :كل ما في الجنة من الأنهار والسرر والفرش والأكواب مخالف لما في الدنيا من صنعة العباد كما قال ابن عباس: ليس في الجنة شيء مما في الدنيا إلا الأسماء. انتهى.(2/48)
{ تنبيه } : إن أهل الجنة لا يجوعون ولا يشبعون , يجد اللذة في أكلهم, من أولها إلى آخرها, بلا تعب ولا معالجة, يستمتع بكل جسده لا بطرف لسانه مثل الدنيا, ثم لا بوْل ولا غائط, إنما هو متاع آخر, ريح المسك الأذفر, وبالطبع ليس من مسك الدنيا, فما بالك بالأشربة؟!
قال تعالى: (إِنّ الْمُتّقِينَ فِي ظِلاَلٍ وَعُيُونٍ * وَفَوَاكِهَ مِمّا يَشْتَهُونَ * كُلُواْ وَاشْرَبُواْ هَنِيَئاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) [المرسلات 41: 43]
وقال تعالى: (فَأَمّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَآؤُمُ اقْرَؤُاْ كِتَابيَهْ * إِنّي ظَنَنتُ أَنّي مُلاَقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رّاضِيَةٍ * فِي جَنّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُواْ وَاشْرَبُواْ هَنِيئَاً بِمَآ أَسْلَفْتُمْ فِي الأيّامِ الْخَالِيَةِ) [الحاقة 19: 24]
وقال تعالى: (وَتِلْكَ الْجَنّةُ الّتِيَ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مّنْهَا تَأْكُلُونَ) [الزخرف 72: 73]
وقال تعالى: (مّثَلُ الْجَنّةِ الّتِي وُعِدَ الْمُتّقُونَ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلّهَا تِلْكَ) [الرعد: 35]
وقال تعالى: (وَأَمْدَدْنَاهُم بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مّمّا يَشْتَهُونَ * يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْساً لاّ لَغْوٌ فِيهَا وَلاَ تَأْثِيمٌ) [الطور 22: 23]
وقال تعالى: (يُسْقَوْنَ مِن رّحِيقٍ مّخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ) [المطففين 25: 26](2/49)
( حديث جابر رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : "يأَكُلُ أَهْلُ الْجَنّةِ فِيهَا وَيَشْرَبُونَ. وَلاَ يَتَغَوّطُونَ وَلاَ يَمْتَخِطُونَ وَلاَ يَبُولُونَ. وَلَكِنْ طَعَامُهُمْ ذَاكَ جُشَاءٌ كَرَشْحِ الْمِسْكِ. يُلْهَمُونَ التّسْبِيحَ والتكبير كَمَا يُلْهَمُونَ النّفَسَ".
الجشاء : تنفس المعدة من الامتلاء .
[*] قال الإمام النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم :
قوله صلى الله عليه وسلم: " يأَكُلُ أَهْلُ الْجَنّةِ فِيهَا وَيَشْرَبُونَ " مذهب أهل السنة وعامة المسلمين أن أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون يتنعمون بذلك وبغيره من ملاذ وأنواع نعيمها تنعما دائما لا آخر له ولا انقطاع أبدا، وإن تنعمهم بذلك على هيئة تنعم أهل الدنيا إلا ما بينهما من التفاضل في اللذة والنفاسة التي لا يشارك نعيم الدنيا إلا في التسمية وأصل الهيئة، وإلا في أنهم لا يبولون ولا يتغوطون ولا يتمخطون ولا يبصقون، وقد دلت دلائل القرآن والسنة في هذه الأحاديث التي ذكرها مسلم وغيره أن نعيم الجنة دائم لا انقطاع له أبدا.
( حديث زيد بن أرقم رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن الرجل من أهل الجنة ليعطى قوة مائة رجل في الأكل و الشرب و الشهوة و الجماع حاجة أحدهم عرق يفيض من جلده فإذا بطنه قد ضمر .
آنية أهل الجنة التي يأكلون فيها ويشربون :
ذكر الله تعالى الآنية التي يأكلون فيها ويشربون في قوله تعالى: { يُطَافُ عَلَيْهِم بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } (71) سورة الزخرف(2/50)
وَبَعْدَ أَنْ يَسْتَقِرُّوا فِي الجَنَّةِ يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِأَوَانٍ مِنْ ذَهَب عَلَيْهَا أَنْوَاعُ الطَّعَامِ ، وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِأَكْوَابٍ لِلشَّرَابِ مِنْ ذَهَبٍ ، وَفِي كُلٍّ مِنَ الأَوَانِي والأَكْوَابِ مَا تَشْتَهِيهِ الأَنْفُسُ ، وَتَتَلَذُّذُ بِهِ الأَعْيُنُ ، فَيَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ وَيَنْعَمُونَ وَيَتَلَذَّذُونَ ، وَيُقَالُ لَهُمْ إِكْمَالاً لِسُرُورِهِمْ : إِنَّهُمْ بَاقُونَ فِي هَذَا النَّعِيمِ فِي الجَنَّةِ خَالِدِينَ أَبَداً .
وقوله تعالى : ( وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآَنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ (15) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16) [الإنسان/15، 16])
وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ خَدَمُ الجَنَّةِ بِأَوَانِي الطَّعَامِ ، وَهِيَ مِنْ فِضَّةٍ خَالِصَةٍ ، وَبِأَكْوَابِ الشَّرَابِ ، وَهِيَ أَيْضاً مِنْ فِضَّةٍ ، وَقَدْ جُعِلَتْ هَذِهِ الأَكْوَابُ جَامِعَةً بَيَاضَ الفِضَّةِ ، وَصَفَاءَ الزُّجَاجِ وَشَفَافِيَّتَهُ . وَهذِهِ القَوَارِيرُ يَحْمِلُهَا إِلَيهِم السُّعَاةُ وَقَدْ قَدَّرُوا مَا صَبُّوهُ فِيهَا عَلَى قَدَرِ كِفَايَةِ الشَّارِبِينَ وَرَيهِّمْ ، لاَ تَزِيدُ وَلاَ تَنْقُصُ .
والأكواب:هي الأباريق التي ليس لها خراطيم,وقيل:التي ليس لها آذان.
وإبريق: افعيل من البريق, وهو الصفاء, وأباريق الجنة من فضة صافية صفاء القوارير,يرى ما في باطنها من ظاهرها,
والقوارير:الزجاج,شبه صفاءها بصفاء الزجاج- وهى ليست من الزجاج بل من فضة,لذا قال تعالى( قوارير من فضة) حتى لا يتوهم أحدٌ أنها من الزجاج .
وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد ، ودرر الفرائد .(2/51)
(حديث حُذيفة الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الحرير و الديباج و الشرب في آنية الذهب و الفضة وقال : هي لهم في الدنيا وهي لهم في الآخرة .
[*] قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه حادي الأرواح :
قال تعالى: (يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ) [الزخرف : 71] فالصحاف جمع صحفة قال الكلبي بقصاع من ذهب وقال الليث الصحفة قصعة مسلطحة عريضة الجمع صحاف قال الأعشى والمكاكيك والصحاف من الفضة والضامرات تحت الرجال .
وأما الأكواب فجمع كوب قال الفراء الكوب المستدير الرأس الذي لا أذن له .
وقال أبو عبيد الأكواب الأباريق التي لا خراطيم لها قال أبو إسحاق وإحدها كوب وهو إناء مستدير لا عروة له ، وقال ابن عباس هي الأباريق التي ليست لها آذان .
وقال تعالى: (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مّخَلّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مّن مّعِينٍ) [الواقعة 17: 18] الأباريق هي الأكواب التي لها خراطيم فإن لم يكن لها خراطيم ولا عرى فهي أكواب وإبريق إفعيل من البريق وهو الصفاء فهو الذي يبرق لونه من صفائه ثم سمي كل ما كان على شكله إبريقا وإن لم يكن صافيا وأباريق الجنة من الفضة في صفاء القوارير يرى من ظاهرها ما في باطنها والعرب تسمي السيف إبريقا لبريق لونه .
قال تعالى: (وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مّن فِضّةٍ وَأَكْوابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا * قَوَارِيرَاْ مِن فِضّةٍ قَدّرُوهَا تَقْدِيراً) [الإنسان 15: 16] فالقوارير هي الزجاج فأخبر سبحانه وتعالى عن مادة تلك الآنية أنها من الفضة وأنها بصفاء الزجاج وشفافيته وهذا من أحسن الأشياء وأعجبها وقطع سبحانه توهم كون تلك القوارير من زجاج فقال قوارير من فضة قال مجاهد وقتادة ومقاتل والكلبي والشعبي قوارير الجنة من الفضة فاجتمع لها بياض الفضة وصفاء القوارير .(2/52)
وأما الكأس فقال أبو عبيدة هو الإناء بما فيه وقال أبو إسحاق الكأس الإناء إذا كان فيه خمر ويقع الكأس لكل إناء مع شرابه . انتهى .
لباس أهل الجنة وحليهم :
قال تعالى: (إِنّ الْمُتّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ * فِي جَنّاتٍ وَعُيُونٍ * يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مّتَقَابِلِينَ ) [الدخان 51: 53]
وقال تعالى: (إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ إِنّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً * أُوْلََئِكَ لَهُمْ جَنّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأنْهَارُ يُحَلّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مّن سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مّتّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأرَآئِكِ) [الكهف : 31]
قال جماعة من المفسرين السندس مَا رَقَ من الديباج والإستبرق ما غلظ منه وقالت طائفة ليس المراد به الغليظ ولكن المراد بن الصفيق وقال الزجاج هما نوعان من الحرير وأحسن الألوان والأخضر وألين اللباس الحرير فجمع لهم بين حسن منظر اللباس والتذاذ العين به وبين نعومته والتذاذ الجسم به .
وقال تعالى: (وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ) [الحج : 23]
قال تعالى: (وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُواْ جَنّةً وَحَرِيراً) [الإنسان : 12]
وقال تعالى: (عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ ) [الإنسان : 21]
وتأمل ما دلت عليه لفظة عاليهم من كون ذلك اللباس ظاهرا بارزا يجمل ظواهرهم ليس بمنزلة الشعار الباطن بل الذي يلبس فوق الثياب للزينة والجمال .(2/53)
وتأمل كيف جمع لهم بين نوعي الزينة الظاهرة من اللباس والحلي كما جمع لهم بين الظاهرة والباطنة فحمل البواطن بالشراب الطهور والسواعد بالأساور والأبدان بثياب الحرير وقال تعالى: (إِنّ اللّهَ يُدْخِلُ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ يُحَلّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ) [الحج : 23]
واختلفوا في جر لؤلؤ ونصبه فمن نصبه ففيه وجهان أحدهما أنه عطف على موضع قوله من أساور والثاني أنه منصوب بفعل محذوف دل عليه الأول أي ويحلون لؤلؤا ومن جره فهو عطف على الذهب ثم يحتمل أمرين أحدهما أن يكون لهم أساور من ذهب وأساور من لؤلؤ ويحتمل أن تكون الأساور مركبة من الأمرين معا الذهب المرصع باللؤلؤ والله أعلم بما أراد .
( حديث البراء ابن عازب رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) قال : أهديت لرسول الله صلى الله عليه وسلم حلة حرير فجعل أصحابه يلمسونها ويعجبون من لينها فقال أتعجبون من لين هذه لمناديل سعد بن معاذ في الجنة خير منها وألين .
[*] قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه حادي الأرواح :
ولا يخفى ما في ذكر سعد بن معاذ بخصوصه ههنا فإنه كان في الأنصار بمنزلة الصديق في المهاجرين واهتز لموته العرش وكان لا يأخذه في الله لومة لائم وختم الله له بالشهادة وآثر رضا الله ورسوله على رضا قومه وعشيرته وخلفائه ووافق حكمه الذي حكم به حكم الله فوق سبع سموات ونعاه جبريل إلى النبي يوم موته فحق له أن تكون مناديله التي يمسح بها يديه في الجنة أحسن من حلل الملوك .(2/54)
{ تنبيه } : الجنة ليس فيها أدنى وَسَخ ولا أدنى نفاية, فهي الطهر المطلق, فلا حاجة لأهل الجنة للاغتسال ولا تبديل الملابس, إنهم يكرّمون بما يلبسون, ويمتّعون بنعومة والتذاذ الجسم به, وبحسن المنظر والتذاذ العين به, وحرير الجنة فى نهاية الصفات الممتعة, لينا ونعومة وحسن منظر ورائحة وألوان, لا تْبلى الثياب ولا تتّسخ, كسائر نعيم الجنة لا ينقطع ولا يمتنع .
ومن خصائص ثياب أهل الجنة أنها لا تتقطع :
وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد ، ودرر الفرائد .
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : الجنة بناؤها لبنة من فضة و لبنة من ذهب ومِلاطُها المسك الأذْفَرُ وَحَصْبَاؤُهَا اللؤلؤ والياقوت و تربتها الزعفران من يدخلها ينعم لا يبأس و يخلد لا يموت لا تبلى ثيابهم و لا يفنى شبابهم.
الشاهد : لا تبلى ثيابهم
[*] قال العلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:
لا تبلى ثيابهم : بِفَتْحِ أَوَّلِهِ مِنْ بَابِ سَمِعَ يَسْمَعُ أَيْ لَا تَخْلَقُ وَلَا تَتَقَطَّعُ .
حُلِّي أهل الجنة :
قال تعالى : { جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ } [ فاطر : 33]
وهؤلاءِ الكِرَامُ الذِينَ اصْطَفَاهُمْ اللهُ من عباده ، الذين أُوْرِثُوا القُرآنَ ، والكُتُبَ السَّابِقَةَ ، سَتَكُونُ جَنَّاتُ الإِقَامَةِ ( جَنَّاتُ عَدْنٍ ) هِيَ مأْوَاهُمْ ، يَوْمَ القِيَامَةِ ، وَيَلْبَسُونَ فِيها حَلِيّاً مِنْ ذَهَبٍ ، وَلُؤْلُؤٍ ، وَيَلْبَسُونَ فِيهَا ثِيَاباً مِنْ حَرِيرٍ ، وَهذِهِ الجَنَّاتُ هِيَ الفَضْلُ الكَبِيرُ الذِي مَنَّ اللهُ بِهِ عَلَيْهِمْ .(2/55)
قال تعالى : { إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ } [الحج : 23]
لَمَّا أَخْبَرَ اللهُ تَعَالَى عَنْ حَالِ أَهْلِ النَّارِ ، وَمَا يُلاقُونَهُ مِنَ العَذَابِ وَالنَّكَالِ وَالحَرِيقِ وَالأًَغْلالِ ، وَمَا أُعدَّ لَهُمْ منْ ثِيابٍ مِنْ نَارٍ ، ذَكَرَ حالَ أَهْلِ الجَنَّةِ فَقَالَ تَعَالَى : إِنَّهُ يُدْخِلُ الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي الأَنْهَارُ في أَرْجَائِها ، وَيُلْبِسُهُمْ رَبُّهُمْ فِيها حُلِيّاً : مِنْها أَسَاوِرُ مِنْ ذَهَبٍ ، وَمِنْها لُؤْلُؤْ .
والسندس :ما رق من الديباج(الحرير),والإستبرق أغلظ منه . وأحسن الألوان الأخضر وألين اللباس الحرير,لذا جمع الله لهم بين أحسن المناظر وألين الملابس.
[*] أورد ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه حادي الأرواح عن كعب قال : إن لله عز وجل ملكا منذ يوم خلق يصوغ حُلُي أهل الجنة إلى أن تقوم الساعة ، لو أن قلبا من حلي أهل الجنة أُخْرِجَ لذهب بضوء شعاع الشمس فلا تسألوا بعد هذا عن حلي أهل الجنة .
[*] وأورد ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه حادي الأرواح عن الحسن قال الحلي في الجنة على الرجال أحسن منا على النساء .
( حديث سعد ابن أبي وقاص رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لَوْ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ اطَّلَعَ فَبَدَا أَسَاوِرُهُ لَطَمَسَ ضَوْءَ الشَّمْسِ كَمَا تَطْمِسُ الشَّمْسُ ضَوْءَ النُّجُومِ .
[*] قال العلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي :
( اطَّلَعَ ) بِتَشْدِيدِ الطَّاءِ أَيْ أَشْرَفَ عَلَى أَهْلِ الدُّنْيَا .
( فَبَدَا ) أَيْ ظَهَرَ(2/56)
( أَسَاوِرُهُ ) جَمْعُ أَسْوِرَةٍ جَمْعِ سِوَارٍ، وَالْمُرَادُ بَعْضُ أَسَاوِرِهِ.
( لَطَمَسَ ) أَيْ مَحَا ضَوْءُ أَسَاوِرِهِ .
( ضَوْءَ الشَّمْسِ ) بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ .
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : الجنة بناؤها لبنة من فضة و لبنة من ذهب ومِلاطُها المسك الأذْفَرُ وَحَصْبَاؤُهَا اللؤلؤ والياقوت و تربتها الزعفران من يدخلها ينعم لا يبأس و يخلد لا يموت لا تبلى ثيابهم و لا يفنى شبابهم.
[*] قال العلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:
(الجنة بناؤها لَبِنَةٌ مِنْ فِضَّةٍ وَلَبِنَةٌ مِنْ ذَهَبٍ ) أَيْ بِنَاؤُهَا مُرَصَّعٌ مِنْهُمَا
( وَمِلَاطُهَا ) بِكَسْرِ الْمِيمِ أَيْ مَا بَيْنَ اللَّبِنَتَيْنِ مَوْضِعُ النُّورَةِ، فِي النِّهَايَةِ: الْمِلَاطُ الطِّينُ الَّذِي يُجْعَلُ بَيْنَ سَاقَتَيِ الْبِنَاءِ يُمَلَّطُ بِهِ الْحَائِطُ أَيْ يُخْلَطُ .
( الْمِسْكُ الْأَذْفَرُ ) أَيِ الشَّدِيدُ الرِّيحِ .
( وَحَصْبَاؤُهَا ) أَيْ حَصْبَاؤُهَا الصِّغَارُ الَّتِي فِي الْأَنْهَارِ قَالَهُ الْقَارِي. وَقَالَ صَاحِبُ أَشِعَّةِ الجزء السابع اللُّمَعَاتِ: أَيْ حَصْبَاؤُهَا الَّتِي فِي الْأَنْهَارِ وَغَيْرِهَا. قُلْتُ: الظَّاهِرُ هُوَ الْعُمُومُ
( اللُّؤْلُؤُ وَالْيَاقُوتُ ) أَيْ مِثْلُهَا فِي اللَّوْنِ وَالصَّفَاءِ .
( وَتُرْبَتُهَا ) أَيْ مَكَانَ تُرَابِهَا .
( الزَّعْفَرَانُ ) أَيِ النَّاعِمُ الْأَصْفَرُ الطَّيِّبُ الرِّيحِ فَجَمَعَ بَيْنَ أَلْوَانِ الزِّينَةِ وَهِيَ الْبَيَاضُ وَالْحُمْرَةُ وَالصُّفْرَةُ وَيَتَكَمَّلُ بِالْأَشْجَارِ الْمُلَوَّنَةِ بِالْخُضْرَةِ. وَلَمَّا كَانَ السَّوَادُ يَغُمُّ الْفُؤَادَ خُصَّ بِأَهْلِ النَّارِ .(2/57)
( مَنْ يَدْخُلُهَا يَنْعَمُ لَا يَبْأَسُ ) بِفَتْحِ وَسَطِهِمَا فِي الْقَامُوسِ: الْبَأْسُ الْعَذَابُ وَالشِّدَّةُ فِي الْحَرْبِ بَؤُسَ كَكَرُمَ بَأْسًا وَبَئِسَ كَسَمِعَ اشْتَدَّتْ حَاجَتُهُ
( يَخْلُدُ ) أَيْ يَدُومُ فَلَا يَتَحَوَّلُ عَنْهَا
(ولَا يَمُوتُ ) أَيْ لَا يَفْنَى بَلْ دَائِمًا يَبْقَى
( َلَا تَبْلَى ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ مِنْ بَابِ سَمِعَ يَسْمَعُ أَيْ لَا تَخْلَقُ وَلَا تَتَقَطَّعُ
( ثِيَابُهُمْ ) وَكَذَا أَثَاثُهُمْ
( وَلَا يَفْنَى شَبَابُهُمْ ) أَيْ لَا يَهْرَمُونَ وَلَا يُخَرِّفُونَ وَلَا يُغَيِّرُهُمْ مُضِيُّ الزَّمَانِ قَالَ الْقَاضِي: مَعْنَاهُ أَنَّ الْجَنَّةَ دَارُ الثَّبَاتِ وَالْقَرَارِ وَأَنَّ التَّغَيُّرَ لَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهَا فَلَا يَشُوبُ نَعِيمَهَا بُؤْسٌ وَلَا يَعْتَرِيهِ فَسَادٌ وَلَا تَغْيِيرٌ، فَإِنَّهَا لَيْسَتْ دَارَ الْأَضْدَادِ وَمَحَلَّ الْكَوْنِ وَالْفَسَادِ .
( حديث أبي سعيد رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :إن أول زمرة يدخلون الجنة يوم القيامة ضوء وجوههم على مثل ضوء القمر ليلة البدر والزمرة الثانية على مثل أحسن كوكب دري في السماء لكل رجل منهم زوجتان على كل زوجة سبعون حلة يرى مخ ساقها من ورائها .
( حديث أنس رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لغدوةٍ في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها وَلَقَاب قَوْسِ أحدكم أو موضع قده في الجنة خير من الدنيا و ما فيها ولو اطَّلعت امرأة من نساء أهل الجنة إلى الأرض لملأت ما بينهما ريحا ولأضاءت ما بينهما و لنصيفها على رأسها خير من الدنيا و ما فيها .
( حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : طوبى شجرة في الجنة مسيرة مائة عام ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها.(2/58)
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
( طوبى شجرة في الجنة مسيرة مائة عام ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها ) جمع كم بالكسر وعاء الطلع قال عبيد بن عمير : هي شجرة في جنة عدن في دار النبي صلى اللّه عليه وسلم وفي كل دار وغرفة لم يخلق اللّه لوناً ولا زهرة إلا فيها منها إلا السواد ولا يخلق اللّه فاكهة ولا ثمرة إلا فيها منها ينبع من أصلها عينان الكافور والسلسبيل كل ورقة منها تظل أمة عليها ملك يسبح اللّه بأنواع التسبيح . انتهى .
مناديل أهل الجنة :
( حديث البراء ابن عازب رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) قال : أهديت لرسول الله صلى الله عليه وسلم حلة حرير فجعل أصحابه يلمسونها ويعجبون من لينها فقال أتعجبون من لين هذه لمناديل سعد بن معاذ في الجنة خير منها وألين .
[*] قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه حادي الأرواح :
ولا يخفى ما في ذكر سعد بن معاذ بخصوصه ههنا فإنه كان في الأنصار بمنزلة الصديق في المهاجرين واهتز لموته العرش وكان لا يأخذه في الله لومة لائم وختم الله له بالشهادة وآثر رضا الله ورسوله على رضا قومه وعشيرته وخلفائه ووافق حكمه الذي حكم به حكم الله فوق سبع سموات ونعاه جبريل إلى النبي يوم موته فحق له أن تكون مناديله التي يمسح بها يديه في الجنة أحسن من حلل الملوك .
لبسهم التيجان على رؤسهم :
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :يجيء صاحب القرآن يوم القيامة ، فيقول : يا رب حله ، فيلبس تاج الكرامة . ثم يقول : يا رب زده فيلبس حلة الكرامة ، ثم يقول : يا رب ارض عنه ، فيقال اقرأ وارق ويزاد بكل آية حسنة .
[*] قال العلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:(2/59)
قَوْلُهُ: ( يَا رَبِّ حَلِّهِ ) الظَّاهِرُ أَنَّهُ أَمْرٌ مِنَ التَّحْلِيَةِ، يُقَالُ حَلَّيْتُهُ، أُحَلِّيهِ تَحْلِيَةً: إِذَا أَلْبَسْتُهُ الْحِلْيَةَ. وَالْمَعْنَى يَا رَبِّ زَيِّنْهُ ( اقْرَأْ ) أَمْرٌ مِنَ الْقِرَاءَةِ أَيِ اتْلُ ( وَارْقَأْ ) أَمْرٌ مِنْ رَقَأَ يَرْقَأُ رَقْئًا أَيِ اصْعَدْ. قَالَ فِي الْقَامُوسِ: رَقَأَ فِي الدَّرَجَةِ صَعِدَ وَهِيَ الْمَرْقَأَةُ وَتُكْسَرُ. أَيْ { يُقَالُ لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ اقْرَأِ الْقُرْآنَ وَاصْعَدْ عَلَى دَرَجَاتِ الْجَنَّةِ } وَسَيَأْتِي تَوْضِيحُهُ عَنْ قَرِيبٍ فِي شَرْحِ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو.
فُرُشُ أهل الجنة :
قال تعالى: (مُتّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَآئِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنّتَيْنِ دَانٍ) [الرحمن : 54]
وقال تعالى: (وَفُرُشٍ مّرْفُوعَةٍ) [الواقعة: 34] فوصف الفرش بكونها مبطنة بالإستبرق وهذا يدل على أمرين أحدهما أن ظهائرها أعلى وأحسن من بطائنها لأن بطائنها للارض وظهائرها للجمال والزينة والمباشرة ، قال سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن ابي هبيرة ابن مريم عن عبد الله في قوله بطائنها من إستبرق قال هذه البطائن قد خبرتم بها فكيف بالظهائر الثاني يدل على أنها فرش عالية لها سمك وحشو بين البطانة والظهارة .
بُسُطُ أهل الجنة وزرابيهم :
قال تعالى: (مُتّكِئِينَ عَلَىَ رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيّ حِسَانٍ) [الرحمن: 76]
وقال تعالى: (فِيهَا سُرُرٌ مّرْفُوعَةٌ *وَأَكْوَابٌ مّوْضُوعَةٌ * وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ * وَزَرَابِيّ مَبْثُوثَةٌ) [الغاشية 13: 16](2/60)
وذكر هشام عن أبي بشر عن سعد بن جبير قال الرفرف رياض الجنة والعبقري عتاق الزرابي وذكر إسماعيل بن علية عن أبي رجاء عن الحسن في قوله تعالى (مُتّكِئِينَ عَلَىَ رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيّ حِسَانٍ) قال هي البسط قال وأهل المدينة يقولون هي البسط ، وأما النمارق فقال الواحدي هي الوسائد في قول الجميع .
فيكون المعنى ( وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ ) : وسائد مصفوفة .
وزرابي بمعنى البسط والطنافس وأحدها زريبة في قول جميع أهل اللغة والتعبير ومبثوثة مبسوطة منشورة .
خيام أهل الجنة وسررهم وأرائكهم وبشخاناتهم :
قال تعالى: (حُورٌ مّقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ) [الرحمن: 72]
( حديث أبي موسى رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن للمؤمن في الجنة لخيمةٌ من لؤلؤة واحدة مجوفة طولها ستون ميلا للمؤمن فيها أهلون يطوف عليهم المؤمن فلا يرى بعضهم بعضا.
وهذه الخيم غير الغرف والقصور بل هي خيام في البساتين وعلى شواطئ الأنهار .
[*] روى ابن أبي الدنيا بسنده عن أبي سليمان قال : ينشأ خلق الحور العين إنشاءا ، فإذا تكامل خلقهن ضربت عليهم الملائكة الخيام .
وقال بعضهم لمَّا كنَّ أبكارا وعادة البِكْرِ أن تكون مقصورة في خِدْرِهَا حتى يأخذها بعلها أنشأ الله تعالى الحور وقصرهن في خدور الخيام حتى يجمع بينهن وبين أوليائه في الجنة .
[*] روى ابن أبي الدنيا بسنده عن عبد الله قال لكل مسلم خيرة ولكل خيرة خيمة ولكل خيمة أربعة أبواب يدخل عليها كل يوم من كل باب تحفة وهدية وكرامة لم تكن قبل ذلك لا مزجات ولا زفرات ولا بخرات ولا طماحات حور عين كأنهن بيض مكنون .
[*] أورد ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه حادي الأرواح عن عبد الله بن مسعود في قوله تعالى (حُورٌ مّقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ) قال قال در مجوف .(2/61)
[*] أورد ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه حادي الأرواح عن عن أبي الدرداء قال الخيمة لؤلؤة واحدة لها سبعون بابا كلها من درة .
(حُورٌ مّقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ) سُرُرِ أهلِ الجنة :
وأما السرر فقال تعالى : (مُتّكِئِينَ عَلَىَ سُرُرٍ مّصْفُوفَةٍ وَزَوّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ) [الطور : 20]
وقال تعالى: (ثُلّةٌ مّنَ الأوّلِينَ * وَقَلِيلٌ مّنَ الاَخِرِينَ * عَلَىَ سُرُرٍ مّوْضُونَةٍ *مّتّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ) [الواقعة 13: 16]
وقال تعالى: (فِيهَا سُرُرٌ مّرْفُوعَةٌ) [الغاشية: 13] فأخبر تعالى عن سررهم بأنها مصفوفة بعضها إلى جانب بعض ليس بعضها خلف بعض ولا بعيداً من بعض وأخبر أنها موضونة والوضن في اللغة النضيد والنسج المضاعف يقال وضمن فلان الحجر أو الآجر بعضه فوق بعض فهو موضون .
[*] قال ابن عباس رضي الله عنهما : مرمولة بالذهب
[*] وقال مجاهد : موصولة بالذهب .
[*] وعن عطاء عن ابن عباس قال : سرر من ذهب مكللة بالزبرجد والدر والياقوت والسرير مثل ما بين مكة وأيلة .
[*] وقال الكلبي : طول السرير في السماء مائة ذراع فإذا أراد الرجل أن يجلس عليه تواضع له حتى يجلس عليه فإذا حلس عليه ارتفع إلى مكانه .
أرائك أهل الجنة :
وأما الأرائك فهي جمع أريكة قال تعالى : (مّتّكِئِينَ فِيهَا عَلَىَ الأرَائِكِ لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً) [الإنسان: 13]
[*] قال مجاهد عن ابن عباس : قال لا تكون أريكة حتى يكون السرير في الحجلة فإذا كان سريرا بغير حجلة لا يكون أريكة وإن كانت حجلة بغير سرير لم تكن أريكة ولا تكون أريكة إلا والسرير في الحجلة فإذا اجتمعا كانت أريكة .
وقال مجاهد : هي الأسرة في الحجال قال الليث الأريكة سرير حجلة فالحجلة والسرير أريكة وجمعها أرائك .
وقال أبو إسحاق الأرائك الفرش في الحجال .
[*] قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه حادي الأرواح :(2/62)
قلت : ها هنا ثلاثة أشياء أحدها السرير و الثانية الحجلة وهي البشخانة التي تعلق فوقه و الثالث الفراش الذي على السرير ولا يسمى السرير أريكة حتى يجمع ذلك كله.
مطايا أهل الجنة و خيولهم و مراكبهم :
(حديث بريدة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب ) أن رجلا سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ فِي الْجَنَّةِ مِنْ خَيْلٍ ؟ قَالَ إِنْ اللَّهُ أَدْخَلَكَ الْجَنَّةَ فَلَا تَشَاءُ أَنْ تُحْمَلَ فِيهَا عَلَى فَرَسٍ مِنْ يَاقُوتَةٍ حَمْرَاءَ يَطِيرُ بِكَ فِي الْجَنَّةِ حَيْثُ شِئْتَ ، قَالَ وَسَأَلَهُ رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ فِي الْجَنَّةِ مِنْ إِبِلٍ قَالَ فَلَمْ يَقُلْ لَهُ مِثْلَ مَا قَالَ لِصَاحِبِهِ قَالَ إِنْ يُدْخِلْكَ اللَّهُ الْجَنَّةَ يَكُنْ لَكَ فِيهَا مَا اشْتَهَتْ نَفْسُكَ وَلَذَّتْ عَيْنُكَ .
[*] قال العلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:
( إِنِ اللَّهُ ) بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ النُّونِ عَلَى أَنَّ "إِنْ" شَرْطِيَّةٌ ثُمَّ كُسِرَ لِلِالْتِقَاءِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: اللَّهُ مَرْفُوعٌ بِفِعْلٍ يُفَسِّرُهُ مَا بَعْدَهُ وَهُوَ ( أَدْخَلَكَ الْجَنَّةَ ) وَلَا يَجُوزُ رَفْعُهُ عَلَى الِابْتِدَاءِ لِوُقُوعِهِ بَعْدَ حَرْفِ الشَّرْطِ.
وَقَوْلُهُ: ( فَلَا تَشَاءُ أَنْ تُحْمَلَ فِيهَا ) جَوَابٌ لِلشَّرْطِ أَيْ فَلَا تَشَاءُ الْحَمْلَ فِي الْجَنَّةِ
( عَلَى فَرَسٍ مِنْ يَاقُوتَةٍ حَمْرَاءَ تَطِيرُ ) بِصِيغَةِ الْمُؤَنَّثِ وَالضَّمِيرُ يَرْجِعُ إِلَى فَرَسٍ. قَالَ فِي الْقَامُوسِ: الْفَرَسُ لِلذَّكَرِ وَالْأُنْثَى
( حَيْثُ شِئْتَ ) أَيْ طَيَرَانَهُ بِكَ(2/63)
( إِلَّا فَعَلْتَ ) وَالْمَعْنَى أَنَّهُ مَا مِنْ شَيْءٍ تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ إِلَّا وَتَجِدُهُ فِي الْجَنَّةِ كَيْفَ شَاءَتْ حَتَّى لَوِ اشْتَهَتْ أَنْ تَرْكَبَ فَرَسًا عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ لَوَجَدَتْهُ وَتَمَكَّنَتْ مِنْهُ.
( قَالَ ) أَيْ بُرَيْدَةُ
(َسَأَلَهُ رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ فِي الْجَنَّةِ مِنْ إِبِلٍ )
( فَلَمْ يَقُلْ لَهُ مَا قَالَ لِصَاحِبِهِ ) أَيْ مِثْلَ مَقُولِهِ لِصَاحِبِهِ كَمَا سَبَقَ بَلْ أَجَابَهُ مُخْتَصَرًا .
( فَقَالَ إِنْ يُدْخِلْكَ اللَّهُ الْجَنَّةَ يَكُنْ لَكَ فِيهَا مَا اشْتَهَتْ نَفْسُكَ وَلَذَّتْ عَيْنُكَ ) أَيْ وَجَدْتَ عَيْنَكَ لَذِيذَةً. قَالَ فِي الْقَامُوسِ لَذَّهُ وَبِهِ لِذَاذًا وَلَذَاذَةً وَجَدَهُ لَذِيذًا، انْتَهَى.
غلمانُ أهل الجنة وخدمُهم :
قال تعالى: ( وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ) { الطور:24 }
وَيَطُوفُ عَلَيهِمْ بِكُؤُوسِ الخَمْرِ هذِهِ غِلْمانٌ مُعَدُّونَ لِخدْمَتِهِمْ ، يَعْمَلُون بِأْمْرِهِمْ ، وَيَنْتَهُونَ بِنَهيِهِمْ ، وَهُمْ في حُسْنِهم وَبَهائِهم كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ نَاصِعُ الَبَيَاضِ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ أصْدافِهِ ، وَلَم يَتَعَرَّضْ لِلنُّورِ وَلَفْحِ الشَّمْسِ وَالرِّيَاحِ .
وقال تعالى: (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وَلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً) { الإنسان:19 }
وَيَطُوفُ عَلَى أَهْلِ الجَنَّةِ غِلْمَانٌ ( وِلْدَانٌ ) يَخْدِمُونَهُمْ ، وَهُمْ شَبَابٌ ، وُجُوهُهُمْ نَضِرَةٌ ، كَأَنَّهُمْ لِحُسْنِ أَلْوَانِهِمْ ، وَنَضْرَةِ وُجُوهِهِمْ ، وَكَثْرَةِ انْتِشَارِهِمْ فِي قَضَاءِ الحَاجَاتِ ، اللًّؤْلُؤْ المَنْثُورُ ، وَهُمْ لاَ يَهْرَمُونَ وَلاَ يَشِيبُونَ ، وَلاَ تَتَبَدَّلُ أَحْوَالُهُمْ .(2/64)
ومعنى(مخلدون):لا يهرمون ولا يتغيرون ولا يموتون. وقيل: مقرطون بالخلدة .وجمع قوم بين المعنيين فقالوا:لا يتغيرون ولا يهرمون وفي آذانهم القراطة .وقد شبَّههم الله تعالى باللؤلؤ المنثور لما فيه من البياض وحسن الخلق.
وفى كونه منثوراً فائدتان:
الأولى: تدل على أنهم مبثوثون في خدمتهم وحوائجهم ,وغير معطلين .
الثانية: أن اللؤلؤ إذا كان منثوراً- لاسيما على بساطٍ من ذهب أو حرير - كان أحسن لمنظره من كونه مجموعاً في مكان ٍ واحد .
وللعلماء في هؤلاء الغلمان قولان:الأول: أنهم أولاد المسلمين الذين يموتون بلا حسنة ولا سيئة ٍ, فيكونون من خدم أهل الجنة. ومنهم من قصر ذلك على أولاد المشركين.الثاني: أنهم مخلوقون في الجنة خدماً لأهلها , أنشأهم الله - عز وجل- كالحور العين,وهذا القول هو الأشبه - والله أعلم - لأن من تمام نعمة الله تعالى وكرامته لأهل الجنة أن يجعل أولادهم مخدومين معهم, لا غلماناً لهم يخدمونهم.
وقال بعض أهل العلم : وصح في بعض الأخبار أن أطفال المشركين هم خدم أهل الجنة ، فلا مانع من الجمع بين القولين ، والله أعلم .
وصف الحور العين :
أما نساء الجنة فأعظم بجمالهن,فإنهن محورات العيون ملألآت الخدود,تكسوهن النضرة, ويملؤهن الجمال,أخاذات بنظراتهن, ساحرات بحسنهن, قاصرات بطرفهن ، قد تمازج بياض عيونهن بالسواد, وبياض أبدانهن بالنعومة ، فهيا بنا نتعرف على نساء الجنة.. ونلمح شيئا ًمن جمالهن وحسنهن, ورقتهن وحور عيونهن ، فرُبَّ متفكر في حور الجنة صرعه تفكيره..فلم يزل يتقلب بين منازل التوبة والتقرب إلى الله حتى لاقاه الله بهن في نعيمه المقيم وأنعم به من لقى ، و لقد وصف الله تعالى الحور العين بأوصافٍ عظيمة تجعل كلَ مُشَمِّرٍ للجنة تشرئب عُنُقُه طلباً لها ومن هذه الأوصاف ما يلي :
(1) أَزْوَاجٌ مّطَهّرَةٌ :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ(2/65)
قال تعالى: (وَبَشّرِ الّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ أَنّ لَهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ كُلّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رّزْقاً قَالُواْ هََذَا الّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مّطَهّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [البقرة: 25]
فتأمل جلالة المبشر ومنزلته وصدقه وعظمة من أرسله إليك بهذه البشارة وقدر ما بشرك به وضمنه لك على أسهل شيء عليك وأيسره وجمع سبحانه في هذه البشارة بين نعيم البدن بالجنات وما فيها من الأنهار والثمار ونعيم النفس بالأزواج المطهرة ونعيم القلب وقرة العين بمعرفة دوام هذا العيش أبد الآباد وعدم انقطاعه ، والأزواج جمع زوج والمرأة زوج للرجل وهو زوجها هذا هو الأفصح وهو لغة قريش وبها نزل القرآن كقوله تعالى: (وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنّةَ) [البقرة: 35] ومن العرب من يقول زوجة وهو نادر لا يكادون يقولونه ،
وأما المطهرة "من طهرت من الحيض والبول والنفاس والغائط والمخاط والبصاق وكل قذر وكل أذى يكون من نساء الدنيا " وطهر مع ذلك باطنها من الأخلاق السيئة والصفات المذمومة وطهر لسانها من الفحش والبذاء ، وطهر طرفُها من أن تطمح به إلى غير زوجها وطهرت أثوابها من أن يعرض لها دنس أو وسخ .
[*] قال ابن عباس رضي الله عنهما : مطهرة لا يحضن ولا يحدثن ولا يتنخمن ، وقال ابن عباس أيضا مطهرة من القذر والأذى.
وقال مجاهد : لا يبلن ولا يتغوطن ولا يمذين ولا يمنين ولا يحضن ولا يبصقن ولا يتنخمن ولا يلدن .
وقال قتادة : مطهرة من الإثم والأذى طهرهن الله سبحانه من كل بول وغائط وقذر ومأثم .
(2) حورٌ عين :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
قال تعالى: (وَزَوّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ) [الدخان: 54](2/66)
فجمع لهم بين حسن المنزل وحصول الأمن من كل مكروه واشتماله على الثمار والأنهار وحسن اللباس وكمال العشرة لمقابلة بعضهم بعضا وتمام اللذة بالحور العين ودعائهم بجميع أنواع الفاكهة مع أمنهم من انقطاعها ومضرتها وغائلتها وختام ذلك أعلمهم بأنهم لا يذوقون فيها هناك موتاً .
مسألة : ما معنى الحور العين ؟
[*] قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه حادي الأرواح :
الحور جمع حوراء وهي المرأة الشابة الحسناء الجميلة البيضاء شديدة سواد العين وقال زيد بن أسلم الحوراء التي يحار فيها الطرف .
وعين : حسان الأعين قال القرطبي:العين جمع عيناء, وهي الواسعة العظيمة العينين (1) .
وقوله(زوجناهم) يفهم منها معنيان:الأول:جعلناهم أزواجاً اثنين اثنين.
الثاني:قرناهم بهن, وليس من عقد التزويج ، لأن العرب تقول:تزوجتها , ولا تقول: تزوجت بها, وقيل: بل هي لغة تميم فهم يقولون : تزوجت بامرأة.
والظاهر- والله أعلم- أن الآية تحمل المعنيين معًا,فلفظ التزويج يدل على النكاح, و(الباء) تدلُّ على الاقتران والضم, وهذا أبلغ من حذفها.
(3) قَاصِرَاتُ الطّرْفِ :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
وقال تعالى: (فِيهِنّ قَاصِرَاتُ الطّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَآنّ * فَبِأَيّ آلآءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ * كَأَنّهُنّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ) [الرحمن 56: 58] وصفهن سبحانه بقصر الطرف في ثلاثة مواضع :
أحدها هذا الموضع .
والثاني : قوله تعالى في الصافات: (وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطّرْفِ عِينٌ) [الصافات: 48]
والثالث : قوله تعالى في ص: (وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطّرْفِ أَتْرَابٌ) [ص: 52]
والمفسرون كلهم على أن المعنى قصرن طرفهن على أزواجهن فلا يطمحن إلى .
__________
(1) - تفسير القرطبي: (16/120)(2/67)
[*] أورد ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه حادي الأرواح عن الحسن قال قصرن طرفهن على أزواجهن فلا يردن غيرهم والله ما هن متبرجات ولا متطلعات وقال منصور عن مجاهد قصرن أبصارهن وقلوبهن و أنفسهن على أزواجهن فلا يردن غيرهم .
مسألة : ما معنى أتراب ؟
قال ابن عباس وسائر المفسرين : مستويات على سن واحد وميلاد واحد وبنات ثلاث وثلاثين سنة .
وقال مجاهد : أتراب أمثال .
(4) لَمْ يَطْمِثْهُنّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَآنّ :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
وقوله تعالى (لَمْ يَطْمِثْهُنّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَآنّ) قال أبو عبيدة لم يمسهن ، يقال ما طمث هذا البعير حبل قط أي ما مسه ، وقال يونس تقول العرب هذا جمل ما طمثه حبل قط أي ما مسه ،وقال الفراء الطمث الافتضاض وهو النكاح بالتدمية .
(5) مّقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ
وقال تعالى في وصفهن (حُورٌ مّقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ) [الرحمن: 72]
[*] قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه حادي الأرواح :
المقصورات : المحبوسات .
قال أبو عبيدة خدرن في الخيام وكذلك قال مقاتل وفيه معنى آخر وهو أن يكون المراد أنهن محبوسات على أزواجهن لا يرون غيرهم وهم في الخيام وهذا معنى قول من قال قصرن على أزواجهن فلا يردن غيرهم ولا يطمحن إلى من سواهم وذكره الفراء .(2/68)
قلت : وهذا معنى قاصرات الطرف ولكن أولئك قاصرات بأنفسهن وهؤلاء مقصورات وقوله في الخيام على هذا القول صفة لحور أي هن في الخيام وليس معمولا لمقصورات وكأن أرباب هذا القول فسروا بان يكن محبوسات في الخيام وليس لا تفارقنها إلى الغرف والبساتين و أصحاب القول الأول يجيبون عن هذا بأن الله سبحانه وصفهن بصفات النساء المخدرات المصونات وذلك أجمل في الوصف ولا يلزم من ذلك أنهن لا يفارقن الخيام إلى الغرف والبساتين كما أن النساء الملوك ودونهم من النساء المخدرات المصونات لا يمنعن أن يخرجن في سفر و غيره إلى منتزه وبستان ونحوه فوصفهن اللازم لهن القصر في البيت ويعرض لهن مع الخدم الخروج إلى البساتين ونحوها و أما مجاهد فقال مقصورات قلوبهن على أزواجهن في خيام اللؤلؤ وقد تقدم وصف النسوة الأول بكونهن قاصرات الطرف وهؤلاء بكونهن مقصورات والوصفان لكلا النوعين فانهما صفتا كمال فتلك الصفة قصر الطرف عن طموحه إلى غير الأزواج وهذه الصفة قصر الرجل على التبرج والبروز والظهور للرجال .
(6) خَيْرَاتٌ حِسَانٌ :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
وقال تعالى: (فِيهِنّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ) [الرحمن: 70]
فالخيرات جمع خيرة وهي مخففة من خيره كسيدة ولينة وحسان جمع حَسَنَة فهن خيرات الصفات والأخلاق والشيم وحسان الوجوه .
[*] أورد ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه حادي الأرواح عن ابن مسعود قال لكل مسلم خيرة ولكل خيرة خيمة ولكل خيمة أربعة أبواب يدخل عليها في كل يوم من كل باب تحفة وهدية وكرامة لم تكن قبل ذلك لا ترحات ولا ذفرات ولا بخرات ولا صماحات .
(7) أَبْكَاراً عُرُباً أَتْرَاباً :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
وقال تعالى : (إِنّآ أَنشَأْنَاهُنّ إِنشَآءً * فَجَعَلْنَاهُنّ أَبْكَاراً * عُرُباً أَتْرَاباً * لاَِصْحَابِ الْيَمِينِ) [الواقعة 35: 38]
[*] قال الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسيره :(2/69)
{ إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ } أي: أعدناهن في النشأة الآخرة بعدما كُنَّ عجائز رُمْصًا، صرن أبكارًا عربًا، أي: بعد الثّيوبة عُدْن أبكارًا عُرُبًا، أي: متحببات إلى أزواجهن بالحلاوة والظرافة والملاحة.
وقال بعضهم: { عُرُبًا } أي: غَنِجات.
وقوله: { عُرُبًا } قال سعيد بن جبير، عن ابن عباس: يعني متحببات إلى أزواجهن، ألم تر إلى الناقة الضبعة، هي كذلك.
وقال الضحاك، عن ابن عباس: العُرُب: العواشق لأزواجهن، وأزواجهن لهن عاشقون.
وقوله: { أَتْرَابًا } قال الضحاك، عن ابن عباس يعني: في سن واحدة، ثلاث وثلاثين سنة.
وقال مجاهد: الأتراب: المستويات. وفي رواية عنه: الأمثال. وقال عطية: الأقران. وقال السدي: { أَتْرَابًا } أي: في الأخلاق المتواخيات بينهن، ليس بينهن تباغض ولا تحاسد، يعني: لا كما كن ضرائر [في الدنيا] ضرائر متعاديات.
(حديث الحسن الثابت في مختصر الشمائل المحمدية وحسنه الألباني ) قال : أتت عجوز إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! ادع الله أن يدخلني الجنة . فقال: يا أم فلان! إن الجنة لا تدخلها عجوز ) . قال: فولت تبكي . فقال: أخبروها أنها لا تدخلها وهي عجوز ، إن الله تعالى يقول: (إِنّآ أَنشَأْنَاهُنّ إِنشَآءً * فَجَعَلْنَاهُنّ أَبْكَاراً * عُرُباً أَتْرَاباً)
مسألة : هل يفضي الرجل إلى زوجته من الحور العين ؟
قال تعالى: (إِنّ أَصْحَابَ الْجَنّةِ اليَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ) [يس: 55]
قال الحسن البصري: وإسماعيل بن أبي خالد: { فِي شُغُلٍ } عما فيه أهل النار من العذاب.
[*] قال الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسيره :
قال عبد الله بن مسعود، وابن عباس، وسعيد بن المُسَيّب، وعِكْرِمَة، والحسن، وقتادة، والأعمش، وسليمان التيمي، والأوزاعي في قوله: { إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ } قالوا: شغلهم افتضاض الأبكار .(2/70)
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة ) أنه قال له: أَنَطأ في الجنة؟ قال: "نعم، والذي نفسي بيده دَحْمًا دحمًا، فإذا قام عنها رَجَعتْ مُطهَّرة بكرًا .
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة ) قال: قيل: يا رسول الله، هل نصل إلى نسائنا في الجنة؟ قال: "إن الرجل ليصل في اليوم إلى مائة عذراء .(2/71)
[*] أورد ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه حادي الأرواح عن سعيد بن جبير ان شهوته لتجري في جسده سبعين عاما يجد اللذة ولا يلحقهم بذلك جنابة فيحتاجون إلى التطهير و لا ضعف و لا انحلال قوة بل وطئهم وطء التذاذ و نعيم لا آفة فيه بوجه من الوجوه وأكمل الناس فيه أصونهم لنفسه في هذه الدار عن الحرام فكما أن من شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة و من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة و من أكل في صحاف الذهب و الفضة في الدنيا لم يأكل فيها في الآخرة كما قال النبي أنها لهم في الدنيا و لكم في الآخرة فمن استوفى طيباته و لذاته و أذهبها في هذه الدار حرمها هناك كما نعى سبحانه و تعالى على من أذهب طيباته في الدنيا واستمتع بها و لهذا كان الصحابة ومن تبعهم يخافون من ذلك أشد الخوف ، و ذكر الامام احمد عن جابر بن عبد الله انه رآه عمر و معه لحم قد اشتراه لأهله بدرهم فقال ما هذا قال لحم اشتريته لأهلي بدرهم فقال أو كلما اشتهى أحدكم شيئا اشتراه أما سمعت الله تعالى يقول (أَذْهَبْتُمْ طَيّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا) [الأحقاف: 20] و قال الإمام احمد حدثنا عفان حدثنا جرير بن حازم قال حدثنا الحسن قال قدم وفد أهل البصرة مع ابي موسى على عمر فكنا ندخل عليه كل يوم و له خبز ثلاثة و ربما وافقناها مأدومة بالسمن وربما وافقناها مأدومة بالزيت وربما وافقناها مأدومة باللبن وربما وافقناها القلائد اليابسة قد دقت ثم أغلى بها و ربما وافقناها اللحم العريض و هو قليل فقال ذات يوم إني و الله قد أرى تقذيركم و كراهيتكم لطعامي إني و الله لو شئت لكنت من أطيبكم طعاما و أرقكم عيشا و لكني سمعت رسول الله يقول عُيِّرَ قوما بأمر فعلوه (أَذْهَبْتُمْ طَيّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا) فمن ترك اللذة المحرمة لله استوفاها يوم القيامة أكمل ما تكون و من استوفاها هنا حرمها(2/72)
هناك أو نقص كمالها فلا يجعل الله لذة من أوضع في معاصيه و محارمه كلذة من ترك شهوته لله أبدا و الله اعلم . انتهى .
حديث زيد بن أرقم رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن الرجل من أهل الجنة ليعطى قوة مائة رجل في الأكل و الشرب و الشهوة و الجماع حاجة أحدهم عرق يفيض من جلده فإذا بطنه قد ضمر .
(8) كَوَاعِبَ أَتْرَاباً :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
وقال تعالى: (إِنّ لِلْمُتّقِينَ مَفَازاً * حَدَآئِقَ وَأَعْنَاباً * وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً) [النبأ 31: 33]
[*] قال الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسيره :
(وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا ) أي: وحورًا كواعب. قال ابن عباس ومجاهد، وغير واحد: { كواعب } أي: نواهد، يعنون أن ثُدُيَّهن نواهد لم يتدلين لأنهن أبكار عُرُب أتراب، أي: في سن واحدة، كما تقدم بيانه في سورة "الواقعة".
(9) كَأَنَّهُنَّّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
وصفهن الله تعالى بالصفاء, فقال تعالى: (كَأَنَّهُنَّّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ) { الرحمن:58 } قال المفسرون:أراد صفاء الياقوت في بياض المرجان .
( حديث أبي سعيد رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :إن أول زمرة يدخلون الجنة يوم القيامة ضوء وجوههم على مثل ضوء القمر ليلة البدر والزمرة الثانية على مثل أحسن كوكب دري في السماء لكل رجل منهم زوجتان على كل زوجة سبعون حلة يرى مخ ساقها من ورائها .
والسنة الصحيحة طافحةٌ بوصف الحور العين منها ما يلي :(2/73)
( حديث أنس رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : غدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها، ولقاب قوس أحدكم، أو موضع قدم من الجنة، خير من الدنيا وما فيها، ولو أن امرأة من نساء أهل الجنة اطلعت إلى الأرض لأضاءت ما بينهما، ولملأت ما بينهما ريحاً، ولنصيفها ـ يعني الخمار ـ خير من الدنيا وما فيها .
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أول زمرة تلج الجنة صورتهم على صورة القمر ليلة البدر، لا يبصقون فيها ولا يمتخطون ولا يتغوطون، آنيتهم فيها الذهب، أمشاطهم من الذهب والفضة، ومجامرهم الألوة، ورشحهم المسك، ولكل واحد منهم زوجتان، يرى مخ سوقهما من وراء اللحم من الحسن، ولا اختلاف بينهم ولا تباغض، قلوبهم قلب رجل واحد، يسبحون الله بكرة وعشيا .
( حديث أبي سعيد رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :إن أول زمرة يدخلون الجنة يوم القيامة ضوء وجوههم على مثل ضوء القمر ليلة البدر والزمرة الثانية على مثل أحسن كوكب دري في السماء لكل رجل منهم زوجتان على كل زوجة سبعون حلة يرى مخ ساقها من ورائها .
(9) غناء الحور العين و ما فيه من الطرب و اللذة :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
ونساء الجنة, مع زهو جمالهن ورقة أبدانهن ونعومة شكلهن وسحرهن وحسنهن ومع ما تحلين به من دماثه الأخلاق وحسن العشرة, قد وهبن من الأصوات أحسنها و من الأغاني أعذبها وأطربها ، قال تعالى: (وَيَوْمَ تَقُومُ السّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرّقُونَ * فَأَمّا الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ) [الروم 14: 15]
[*] قال الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسيره :(2/74)
قال: { وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ } : قال قتادة: هي ـ والله ـ الفرقة التي لا اجتماع بعدها، يعني: إذا رفع هذا إلى عليين، وخفض هذا إلى أسفل السافلين، فذاك آخر العهد بينهما ؛ ولهذا قال: { فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ } قال مجاهد وقتادة: ينعمون.
وقال يحيى بن أبي كثير: يعني سماع الغناء.انتهى .
( حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن الحور العين لتغنين في الجنة يقلن: نحن الحور الحسان خبئنا لأزواج كرام .
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب موقوفا ) قال : إن في الجنة نهراً طول الجنة حافتاه العذارى قيام متقابلات يغنين بأحسن أصوات يسمعها الخلائق حتى ما يرون أن في الجنة لذة مثلها ، قلنا يا أبا هريرة وما ذاك الغناء ؟ قال إن شاء الله التسبيح والتحميد والتقديس وثناء على الرب عز وجل .
( حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن أزواج أهل الجنة ليغنين أزواجهن بأحسن أصوات ما سمعها أحد قط إن مما يغنين: نحن الخيرات الحسان أزواج قوم كرام ، ينظرن بقرة أعيان ، و إن مما يغنين به: نحن الخالدات فلا يمتنه ، نحن الآمنات فلا يخفنه ، نحن المقيمات فلا يظعنه .
الظعن : الارتحال والسفر
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
( إن أزواج أهل الجنة ) زاد في رواية من الحور
( ليغنين أزواجهن بأحسن أصوات ما سمعها أحد قط ) أي بأصوات حسان ما سمع في الدنيا مثلها أحد قط ، وتمام الحديث وإن مما يغنين به نحن الخيرات الحسان أزواج قوم كرام وفي رواية وإن مما يغنين به : نحن الخالدات فلا يمتنه ، نحن الآمنات فلا يخفنه ، نحن المقيمات فلا يظعنه انتهى .
أخي الحبيب :(2/75)
إنَّ من أجلِّ نعم الله في الجنة الحور العين وجوههن جمعت الجمال الباطن والظاهر من جميع الوجوه، في الخيام مقصورات، وللطرف قاصرات، لا يفنى شبابها، لا يبلى جمالها، ولو اطلعت إحداهن على الدنيا لملأت ما بين السماء والأرض ريحاً، وعطراً، وشذاً، ولطمست ضوء الشمس كما تطمس الشمس ما في النجوم من ضياء، راضيات لا يسخطن أبداً.
ناعمات لا يبأسن أبداً، خالدات لا يمتن أبداً، جميلة حسناء، بكر عذراء كأنها الياقوت، كلامها رخيم، وقدها قويم، وشعرها بهيم، وقدرها عظيم، وجفنها فاتر، وحسنها باهر، وجمالها زاهر، ودلالها ظاهر.
كحيلٌ طرفها *** عذبٌ نُطقُها
عجبٌ خلقها *** حسنٌ خُلُقُها(2/76)
كثيرة الوداد عديمة الملل، أيها الاخوة جمالها لا تتخيله العيون، ورائحتها، وملبسها، وجمال كلامها لا يخطر على قلب. فتعلم هناك - وهناك فقط - أن فيها ما لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت ولا خطر على قلب بشر، وفي لحظات الجنان وبينما ذلك المؤمن ينعم ويمشي على بساط الجنة متنقلاً ما بين حدائقها، وخيامها، وأنهارها وإذا به ينظر نظرة أخرى لذلك القصر المشيد بأنواره المتلألئة وخضرته الناظرة، عندها يبشر المؤمن أن أقبل، فهذا قصرك، وداخله زوجتك تنتظرك منذ أن كنت في الدنيا، فينطلق إليها وتنطلق إليه في أجمل زفاف بينهم، السندس والإستبرق لباسهما، والذهب واللؤلؤ أساورهما، فتقبل إليه ونصيفها على كتفها خير من الدنيا وما فيها، فيعانق الحبيبان عناقاً لا تمله ولا يملها، ويجلسان في ظل ظليل بين الأشجار والرياحين، ومن حولهم أكواب موضوعة فيتبادلان كؤوس الرحيق المختوم، والتنسيم، والسلسبيل، وكأس من خمر لذة للشاربين، فيجلسان على تلكم البسط الحسان، ويتكئان على تلكم الوسائد المصفوفة، وتتوالى عليهم ومن بينهم المسرات، والخيرات، والإحسان، والمكرمات فيقولون: وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ [فاطر:34]. إنه عرس زفاف في هدوء ورضا يغمره السلام، والإطمئنان، والود، والأمان، ويبلغهم ربهم السلام: سَلاَمٌ قَوْلاً مِن رَّبٍّ رَّحِيمٍ .[يس:58] والملائكة يقولون لهم: سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [الرعد:24]. في هذا الجو العابق وهم على الأرائك متكئون يرون أنهار الجنان تتدفق من بينهم، أنهار، من ماء ولبن، وأنهار من عسل مصفى، وأنهار من خمر لذة للشاربين. يرون فاكهة كثيرة فيأكلون، ولحم طير مما يشتهون فيتلذذون.
فأبدانهم متنعمة بالجنان، والأنهار، والثمار، وقلوبهم متنعمة بالخلود والدوام في جنة الرحمن.(2/77)
بعد ذلك تطيب الجلسة بينهم على ضفاف أنهار العسل فيتبادلان أجمل الأحاديث والذكريات في حب ونظرات وأترككم مع ابن الجوزي، ليصف لكم جلسته وحديثه فيقول: إن الحور العين تقول: لولي الله وهو متكيء على نهر العسل وهي تعطيه الكأس وهما في نعيم وسرور أتدري يا حبيب الله متى زوجني الله إياك؟ فيقول: لا أدري، فتقول: نظر إليك في يوم شديد حره وأنت في ظمأ الهواجر فباهى بك الملائكة وقال: انظروا يا ملائكتي إلى عبدي، ترك شهوته، ولذته وزوجته وطعامه وشرابه، رغبة فيما عندي، أشهدكم أني قد غفرت له. فغفر لك يومئذ وزوجني إياك.
فيا سبحان الله بصيام يوم شديد حره يتلذذ ذلك المؤمن وزوجته على ضفاف أنهار العسل، فهذا زفت عروسه لصيامه، وآخر لخشيته لربه وإشفاقه، وتُزفُّ العروس لأصحاب القلوب المتعلقة بالمساجد، تُزفُّ العروس للمنفقين سراً وجهراً، تُزفُّ العروس أيها الإخوة للذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش، تُزفُّ العروس لأهل القرآن الذين يرتقون في الجنان، تُزفُّ العروس للذين هم لفروجهم حافظون، ولأماناتهم وعهدهم راعون، تُزفُّ العروس لعيون طالما نفرت دموعها خشية من ربها، تُزفُّ لأجساد وقلوب وهبت نفسها لله، تُزفُّ لأهل التوبة والإستغفار، تُزفُّ العروس للعفيف المتعفف، والضعيف المتضعف، والمتواضع ذي الطمرين المدفوع بالأبواب، تُزفُّ العروس لتارك المراء ولو كان محقاً، وتارك الكذب ولو كان مازحاً، تُزفُّ لمن حسن خلقه، وكظم غيظه، وعفا عمّن ظلمه، تُزفُّ لمن أفشى السلام، وصلى بالليل والناس نيام، الله أكبر أهل الجنان والحور أقوام آمنوا بالله وصدقوا المرسلين: وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الأعراف:43]
فيا خاطبَ الحسناءِ إن كنتَ باغياً *** فهَذا زمانُ المهرِ فهو المقدمُ
وكن مبغضاً للخائنات لحبها *** فتَحظى بها من دونهن وتنعمُ(2/78)
وصم يومك الأدنى لعلك في غد *** تفوزُ بعيدِ الفطرِ والناس صومُ
واعلم أخي الحبيب : أن هذا النعيم لا ينال إلا بالجد في طاعة الله, وتقديم مراده على مراد النفس, بأداء الصلوات والذكر في الخلوات, والقيام في الظلمات.
[*] قال مالك بن دينار: كان لي أحزاب أقرؤها كل ليلة, فنمت ذات ليلة, فإذا أنا في المنام بجارية ذات حسن وجمال وبيدها رقعة فقالت أتحسن أن تقرأ؟ فقلت: نعم. فدفعت إلي الرقعة, فإذا مكتوب هذه الأبيات:
لهاك النوم عن طلب الأماني ... وعن تلك الأوانس في الجنان
تعيش مخلداً لا موت فيها ... وتلهو في الخيام مع الحسان
تنبه في منامك إن خيراً ... من النوم التهجد بالقرآن
كلنا نريد أن تُزفَّ إلينا تلك العروس فلماذا تضيع من بين أيدينا بلذة ساعة ومتاع دنيا؟
محرومٌ محرومٌ من شرب الخمر في الدنيا وحرم نفسه شربها مع زوجته في الجنة، محرومٌ محرومٌ من انتهك الأعراض بالزنا وحرم نفسه التلذذ بالحور بالآخرة، محرومٌ محرومٌ من استمع إلى الغناء في الدنيا وحرم نفسه سماع غناء الأشجار مع زوجته في الجنان.
[*] قال ابن عمر رضي الله عنهما: والله لا ينال أحداً من الدنيا شيئاً إلا نقص من درجاته عند الله وإن كان عنده كريم.
[*] ويقول ابن الجوزي رحمه الله في صيد الخاطر: بقدر صعود الإنسان في الدنيا تنزل مرتبته في الآخرة ، وقبل ذلك يقول ربنا عز وجل: مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً * وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً [الإسراء:19،18](2/79)
أخي الحبيب : الحور الحسان في الجنان تزفُّ إلى أفضل زوج لها بعد الأنبياء والصديقين إنه من باع نفسه من أجل الله، صاحب الدماء الطاهرة ذات الرائحة الزكية، إلى ذلك الرجل الذي يقبل على ربه بدمه الملون لون الدم، والريح ريح المسك، إنه الشهيد في سبيل الله تلكم العيون التي باتت تحرس وتجاهد في سبيل الله حتى بلغت المراد والمنى، ولن يجفّ دم شهيد حتى تتمتع عيناه بالحور الحسان.
أخي الحبيب :
إليك هذه القصة: في البصرة كان هناك نساء عابدات، وكان من بينهن أم إبراهيم الهاشمية توفي زوجها الصالح وترك لها إبراهيم فربّته أفضل تربية، حتى نشأ نشأة صالحة حتى أنَّ ولاة البصرة يتمنونه زوجاً لبناتهم، وفي يوم من الأيام أغار العدو على ثغر من ثغور الاسلام، فقام عبد الواحد بن زيد البصري خطيباً بالناس يحثهم على الدفاع عن الإسلام، وكانت أم إبراهيم تستمع إلى كلامه، وأخذ عبد الواحد يصف الحور الحسان فقال:
غادة ذات دلالٍ ومرح *** يجد التائه فيها ما اقترح
زانها الله بوجهٍ جمعت *** فيه أوصاف غريبات الملح
بدأ يصف أكثر وأكثر، فماج الناس، وأقبلت أم إبراهيم فقالت له: يا أبي عبيد، أتعرف ولدي إبراهيم؟ رؤساء أهل البصرة يخطبونه لبناتهم، فأنا والله أعجبتني تلك الجارية، وأن أرضاها زوجاً لولدي فكرّرْ عليّ ما قلت من وصفها وجمالها، فقال عبد الواحد وزاد:
تولّد نورُ النُّور من نورِ وجهها *** فمازج طيب الطيب من خالصِ العطرِ(2/80)
فاشتاق الناس إلى الشهادة في سبيل الله، فقالت أم إبراهيم: يا أبا عبيد، هل لك أن تزوج إبراهيم تلك الجارية، فاتَّخذ مهرها عشرة آلاف دينار، ويخرج معك في هذه الغزوة، فلعل الله أن يرزقه الشهادة، فيكون شفيعاً لي ولأبيه يوم القيامة، فقال لها عبد الواحد: لأن فعلت لتفوزن أنت وزوجك فنادت ولدها إبراهيم من وسط الناس فقال لها لبيك يا أماه، فقالت: أي بني، أرضيت بهذه الجارية زوجة لك ببذل مهجتك في سبيل الله؟ فقال إبراهيم: أي والله يا أمي رضيت وأي رضا، فقالت: اللهم إني أشهدك أني قد زوجتُ ولدي هذا من هذه الحورية ببذل مهجته في سبيلك فتقبله مني يا أرحم الراحمين، ثم انصرفت فاشترت لولدها فرساً جيداً وسلاحاً، ثم خرج الجيش للقتال، وهم يرددون قول الله تعالى: إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ [التوبة:111]
فلما أرادت أم إبراهيم فراق ولدها أعطته كفناً وحنوطاً، وقالت له: أي بني إن أردت لقاء العدو فتكفّن بهذا الكفن وتحنّط بهذا الحنوط، وإياك أن يراك الله مقصراً في سبيله، ثم ضمّته إلى صدرها وقبّلته وقالت له: لا جمع الله بيني وبينك إلا بين يديه في عرصات القيامة، وارتحل الجيش، وودعت أم إبراهيم ولدها،(2/81)
قال عبد الواحد: فلما واجهنا العدو برز إبراهيم في المقدمة، فقتل من العدو خلقاً كثيراً، ثم تجمعوا عليه فقتلوه، وكتب الله النصر للمسلمين، فلما رجع الجيش إلى البصرة غانماً منتصراً، خرج أهل البصرة يستقبلونهم، ومن بينهم أم إبراهيم ترقب ولدها فلما رأت عبد الواحد قالت له: يا أبا عبيد، هل قبل الله هديتي فأهنَّأ فقال: قد قبلت هديتك فخرّت ساجدة لله تعالى وقالت الحمد لله الذي لم يخيِّب ظنِّي وتقبَّل نسكي مني، فلمّا كان من الغد جاءت أم إبراهيم إلى عبد الواحد بن زيد فقالت: يا أبا عبيد رأيت البارحة إبراهيم في منامي في روضة حسناء، وعليه قبة خضراء، وهو على سرير من اللؤلؤ، وعلى رأسه تاجاً وإكليلاً، وهو يقول لي: يا أماه أبشري فقد قُبِل المهر، وزُفَّت العروس.
أخي الحبيب :
هذه الحور الحسان، وهذه الجنان، وهذا سبيلها، فهل رأيتم أشد غبناً ممن يبيع الجنان العالية بحياة أشبه بأضغاث أحلام يبيع الحور بلذة قصيرة وأحوال زهيدة؟ أي سفه ممن يبيع مساكن طيبة في جنان عدن بأعطان ضيقة، وخراب بوار.
فيا حسرة هذا المتخلف حين يرى ركب المؤمنين سائرين الى الجنان، ويمنع من دخولها، عندها سوف يعلم أي بضاعة أضاع.
{ تنبيه } : إذا كانت نساء الدنيا زينةً ومحببّة ومشتهاةً وقد خلقن من تراب الأرض, وجعلهن الله فتنة الدنيا ولم يبلغن من حسن نساء أهل الجنة ذَرَّة, فكيف يتصوّر جمال وحسن وكمال صورة نساء أهل الجنة؟ وهذا فى الصورة, فما بال الخُلُق والأدب والمعاملة والمعاشرة وجمال الباطن؟(2/82)
إن عيون البشر في الدنيا تطيق رؤية جمال ما خُلق من طين, أما فى الجنة فإن الله يجعل العيون ترى ما فوق يخطر ببال أو يدور في الخيال , فلا يحجب الرؤية شيء هناك, فيرى ملكه كله في آن واحد, فيرى ما بَعُد كما يرى ما قَرُب, ويرى مُخَّ ساق المرأة من وراء كل ما تلبس من الحسن, فما من جمال أو نعيم له في الجنة إلا وهو يتمتع به في كل صوت, وكل صوت لذيذ, ويشم كل شيء, وكل شيء ريحه طيب, بلا اختلاط أو تزاحم خِلْقة لا تدرك الملل, في شغل فاكهون .
الحور العين يطلبن أزواجهن أكثر مما يطلبهن أزواجهن :
(حديث مُعَاذِ بنِ جَبَلٍ الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :"لاَ تُؤْذِي امْرَأةٌ زَوْجَهَا فِي الدّنْيَا. إِلاّ قَالَتْ زَوْجَتُهُ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ: لاَ تُؤْذِيهِ، قَاتَلَكِ الله، فَإِنّمَا هُوَ عِنْدَك دَخِيلٌ يُوشِكَ أَنْ يُفَارِقَكِ إِلَيْنَا".
هل في الجنة حمل و ولادة:
(حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :المؤمن إذا اشتهى الولد في الجنة كان حمله ووضعه وسنه في ساعة كما يشتهي .
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
( المؤمن إذا اشتهى الولد في الجنة ) أي حدوثه له
( كان حمله ووضعه وسنه في ساعة واحدة ) ويكون ذلك كله .
( كما يشتهي ) من جهة القدر والشكل والهيئة وغيرها والمراد أن ذلك يكون إن اشتهى كونه لكنه لا يشتهي ذلك فلا يولد له فلا تعارض بينه وبين خبر العقيلي بسند صحيح إن الجنة لا يكون فيها ولد .
مُلكُ الجنة و أن أهلها كلهم ملوك فيها :
قال تعالى: (وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً) [الإنسان: 20]
[*] قال الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسيره :(2/83)
وقوله: { وَإِذَا رَأَيْتَ } أي: وإذا رأيت يا محمد، { ثَمَّ } أي: هناك ، يعني في الجنة ونعيمها وسَعَتها وارتفاعها وما فيها من الحَبْرَة والسرور،
{ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا } أي: مملكةً لله هُناك عظيمةً وسلطانًا باهرًا.
وثبت في الصحيح أن الله تعالى يقول لآخر أهل النار خروجا منها، وآخر أهل الجنة دخولا إليها: إن لك مثلَ الدنيا وعشرة أمثالها.انتهى .
وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد ، ودرر الفرائد .
( حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إني لأعلم آخر أهل النار خروجاً منها، وآخر أهل الجنة دخولاً، رجل يخرج من النار حبواً، فيقول الله: اذهب فادخل الجنة، فيأتيها، فيخيل إليه أنها ملأى، فيرجع فيقول: يا رب وجدتها ملأى، فيقول: اذهب فادخل الجنة، فيأتيها فيخيل إليه أنها ملأى، فيرجع فيقول: يا ربي وجدتها ملأى، فيقول: اذهب فادخل الجنة، فإن لك مثل الدنيا وعشرة أمثالها، أو: إن لك مثل عشرة أمثال الدنيا، فيقول: أتسخر مني، أو: تضحك مني وأنت الملك). فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه، وكان يقال: ذلك أدنى أهل الجنة منزلة.
ارتفاع العبادات في الجنة إلا عبادة الذكر فإنها دائمة :
( حديث جابر رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : "يأَكُلُ أَهْلُ الْجَنّةِ فِيهَا وَيَشْرَبُونَ. وَلاَ يَتَغَوّطُونَ وَلاَ يَمْتَخِطُونَ وَلاَ يَبُولُونَ. وَلَكِنْ طَعَامُهُمْ ذَاكَ جُشَاءٌ كَرَشْحِ الْمِسْكِ. يُلْهَمُونَ التّسْبِيحَ والتكبير كَمَا يُلْهَمُونَ النّفَسَ".
تزاور أهل الجنة ومراكبهم :
أولاً تزاور أهل الجنة :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ(2/84)
إن أهل الجنة يتزاورون فيما بينهم, ويتذاكرون ما كان بينهم في الدنيا ويتحدثون, ويسأل بعضهم بعضاً عن أحوال ٍكانت لهم في الدنيا, حتى تصل بهم المحادثة والمذاكرة إلى أن قال قائلٌ منهم: إني كان لي قرين في الدنيا ينكر البعث والدار الآخرة, ثم يقول لإخوانه في الجنة:هل أنتم مطلعون في النار لننظر إلى منزلته وما صار إليه؟ فيطّلع فإذا بقرينه في وسط الجحيم قال تعالى: { فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (50) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآَهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55) قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57) أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61)[الصافات/50، 61]
وَيَأْخُذُ أَهْلُ الجِنَّةِ ، وَهُمْ فِي جلْسَتِهِمْ تِلْكَ ، فِي تَجَاذُبِ أَطْرَافِ الحَدِيثِ ، وَيَتَنَاوَلُونَ فِي أَحَادِيِثِهِمْ مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا .
قَالَ قَائِلٌ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ الذِينَ يَتَحَادَثُونَ : إِنَّهُ كَانَ لِي صَاحِبٌ ( قَرِينٌ ) مُشْرِكٌ فِي الدُّنْيَا يَلُومُ المُؤْمِنِينَ عَلَى إِيْمَانِهِمْ بِالحَشْرِ والحِسَابِ ، وَيَسْخَرُ مِنْهُمْ .
وَيَقُولُ لِصَدِيقِه المُؤْمِنِ : هَلْ أَنْتَ مُصَدِّقٌ بِالبَعْثِ والنُّشُورِ والجَزَاءِ ؟(2/85)
وَيَقُولُ مُتَعَجِّباً : هَلْ إِذَا أَصْبَحْنَا تُراباً وَعِظَاماً نِخْرَةً ، سَنُبَعَثُ لِنُحَاسَبَ عَلَى أَعْمَالِنَا وَنُجْزَى بِهَا؟ إِنَّ ذَلِكَ لاَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ أبداً .
وَيَقُولُ المُؤْمِنُ لأَصْحَابِهِ الجَالِسِينَ مَعَهُ فِي رِحَابِ الجَنَّةِ : هَلْ تَوَدُّونَ أَنْ تَطَّلِعُوا عَلَيْهِ ، وَهُوَ فِي الجَحِيمِ ، لَتَرَوْا عَاقِبَةَ أَمْرِ هَذَا القَرِينِ الكَافِرِ؟
فَاطَّلَعَ إِلَى أَهْلِ النَّارِ ، فَرَأى قَرِينَهُ وَسَطَ الجَحِيمِ ، يَتَلَظَّى بِلَهِيبِها .
فَقَالَ المُؤْمِنُ لِقَرينِهِ المُشْرِكِ مُوَبِّخاً وَمُقَرِّعاً : لَقَدْ كِدْتَ أَنْ تهْلِكَنِي لَوْ أَنَّني أَطَعْتُكَ فِي كُفْرِكَ وِعِصْيَانِكَ .
وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيَّ ، لَكُنْتُ مِثْلَكَ مُحْضَراً فِي العَذَابِ فِي سَوَاءِ الجَحِيمِ ، وَلَكِنَّ رَحْمَتَهُ تَعَالَى أَنْقَذَتْني مِنْ سُوءِ العَاقِبَةِ ، إِذْ هَدَانِي اللهُ إِلَى الإِيْمَانِ .
ثُمَّ التَفَتَ المُؤْمِنُ إِلى جُلَسَائِهِ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ فَقَالَ لَهُمْ عَلَى مَسْمَعٍ مِنَ الكَافِرِ ، لِيَزِيدَ فِي ألَمِهِ وَحَسْرَتِهِ وَعَذَابِهِ : هَلْ نَحْنُ مُخَلَّدُونَ فِي الجَنَّةِ ، مُنعَّمُونَ فِيهَا ، لاَ نَمُوتُ ، وَلاَ تَزُولُ نِعَمُهَا عَنَّا؟
وَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ إِلاَّ مَوْتَتَنَا الأُوْلَى ، وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ؟ فَقِيلَ لَهُ : لاَ .
فَقَالَ المُؤْمِنُ لأَصْحَابِهِ وَجُلَسَائِهِ : إِنَّ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ النَّعِيم ، مَعَ مَا يَتَمَتَعُّونَ بِهِ مِنَ المَآكِلِ والمَشَارِب والملَذَّاتِ ، هُوَ الفَوْزُ العَظيمُ ، وَالنَّجَاةُ مِمَّا كُنَّا نَحْذَرُهُ مِنْ عِقَابِ اللهِ تَعَالَى .(2/86)
عَنِ الْحَارِثِ بن مَالِكٍ الأَنْصَارِيِّ ، ،أَنَّهُ مَرَّ بِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ لَهُ : " كَيْفَ أَصْبَحْتَ يَا حَارِثُ ؟ " قَالَ : أَصْبَحْتُ مُؤْمِنًا حَقًّا ، فَقَالَ : " انْظُرْ مَا تَقُولُ ؟ فَإِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ حَقِيقَةً ، فَمَا حَقِيقَةُ إِيمَانِكَ ؟ " فَقَالَ : قَدْ عَزَفَتْ نَفْسِي عَنِ الدُّنْيَا ، وَأَسْهَرْتُ لِذَلِكَ لِيَلِي ، وَاطْمَأَنَّ نَهَارِي ، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى عَرْشِ رَبِّي بَارِزًا ، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ يَتَزَاوَرُونَ فِيهَا ، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ النَّارِ يَتَضَاغَوْنَ فِيهَا ، فَقَالَ : " يَا حَارِثُ عَرَفْتَ فَالْزَمْ " , ثَلاثًا. (1)
عَنْ زُبَيْدٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : كَيْفَ أَصْبَحْت يَا حَارِثَ بْنَ مَالِكٍ ، قَالَ : أَصْبَحْت مُؤْمِنًا حَقًّا ، قَالَ : إنَّ لِكُلِّ قَوْلٍ حَقِيقَةً فَمَا حَقِيقَةُ ذَلِكَ ، قَالَ : أَصْبَحْت عَزَفَتْ نَفْسِي عَنِ الدُّنْيَا فَأَسْهَرْت لَيْلِي وَأَظْمَأْت نَهَارِي وَلكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى عَرْشِ رَبِّي قَدْ أُبْرِزَ لِلْحِسَابِ ، وَلكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ يَتَزَاوَرُونَ فِي الْجَنَّةِ ، وَلكَأَنِّي أَسْمَعُ عُوَاءَ أَهْلِ النَّارِ ، قَالَ : فَقَالَ لَهُ : عَبْدٌ نَوَّرَ الإِيمَانِ فِي قَلْبِهِ ، إذْ عَرَفْت فَالْزَمْ. (2)
ثانياً مراكب أهل الجنة :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
__________
(1) - المعجم الكبير للطبراني - (ج 3 / ص 430)(3289) صحيح لغيره
(2) - مصنف ابن أبي شيبة (ج 11 / ص 43)(31064) صحيح لغيره(2/87)
(حديث عبد الرحمن بن ساعدة رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة ) قال : كنت أحب الخيل فقلت يا رسول الله هل في الجنة خيل فقال إن أدخلك الله الجنة يا عبد الرحمن كان لك فيها فرس من ياقوت له جناحان تطير بك حيث شئت .
رؤية أهل الجنة لله تعالى بأبصارهم جهرة :
[*] قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه حادي الأرواح :
هذا الباب اشرف أبواب الكتاب وأجلها قدرا وأعلاها خطرا وأقَرَهَا عينا لأهل السنة والجماعة و أشدها على أهل البدعة و الضلالة وهي الغاية التي شمر إليها المشمرون و تنافس فيها المتنافسون وتسابق إليها المتسابقون ولمثلها فليعمل العاملون إذا ناله أهل الجنة نسوا ما هم فيه من النعيم وحرمانه و الحجاب عنه لأهل الجحيم أشد عليهم من عذاب الجحيم اتفق عليها الأنبياء والمرسلون وجميع الصحابة و التابعون و أئمة الإسلام على تتابع القرون و أنكرها أهل البدع المارقون والجهمية المتهوكون والفرعونية المعطلون والباطنية الذين هم من جميع الأديان منسلخون والرافضة الذين هم بحبائل الشيطان متمسكون ومن حبل الله منقطعون و على مسبة أصحاب رسول الله عاكفون و للسنة وأهلها محاربون ولكل عدو لله ورسوله ودينه مسالمون وكل هؤلاء عن ربهم محجوبون وعن بابه مطرودون أولئك أحزاب الضلال وشيعة اللعين وأعداء الرسول و حزبه .
أولاً أدلة رؤية أهل الجنة لله تعالى من القرآن الكريم :
وقد اخبر الله سبحانه و تعالى عن أعلم الخلق به في زمانه وهو كليمه ونجيه و صفيه من أهل الأرض أنه سأل ربه تعالى النظر إليه فقال له ربه تبارك و تعالى : (لَن تَرَانِي وَلََكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمّا تَجَلّىَ رَبّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً) [الأعراف : 143]
وبيان الدلالة من هذه الآية من وجوه عديدة :(2/88)
أحدها :أنه لا يظن بكليم الرحمن و رسوله الكريم عليه أن يسأل ربه ما لا يجوز عليه بل ما هو من أبطل الباطل وأعظم المحال وهو عند فروخ اليونان و الصابئة و الفرعونية بمنزلة أن يسأله أن يأكل و يشرب و ينام و نحو ذلك مما يتعالى الله عنه فيا لله العجب كيف صار أتباع الصابئة و المجوس و المشركين عباد الأصنام و فروخ الجهمية و الفرعونية أعلم بالله تعالى من موسى بن عمران و بما يستحيل عليه و يجب له و أشد تنزيها له منه .
الوجه الثاني : أن الله سبحانه و تعالى لم ينكر عليه سؤاله و لو كان محالا لأنكره عليه و لهذا لما سأل إبراهيم الخليل ربه تبارك و تعالى أن يريه كيف يحيي الموتى لم ينكر عليه و لما سأل عيسى بن مريم ربه إنزال المائدة من السماء لم ينكر عليه سؤاله و لما سأل نوح ربه نجاة ابنه أنكر عليه سؤاله و قال إني أعظك أن تكون من الجاهلين قال رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين .
الوجه الثالث : أنه أجابه بقوله لن تراني و لم يقل لا تراني و لا إني لست بمرئي و لا تجوز رؤيتي و الفرق بين الجوابين ظاهر لمن تأمله و هذا يدل على أنه سبحانه و تعالى يرى و لكن موسى لا تحتمل قواه رؤيته في هذه الدار لضعف قوة البشر فيها عن رؤيته تعالى يوضحه .
الوجه الرابع : وهو قوله (وَلََكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي) فأعلمه أن الجبل مع قوته وصلابته لا يثبت لتجليه له في هذه الدار فكيف بالبشر الضعيف الذي خلق من ضعف .
الوجه الخامس : أن الله سبحانه وتعالى قادر على أن يجعل الجبل مستقرا مكانه وليس هذا بممتنع في مقدوره بل هو ممكن وقد علق به الرؤية ولو كانت مجالا في ذاتها لم يعلقها بالممكن في ذاته ولو كانت الرؤيا مُحَالا لكان ذلك نظير أن يقول إن استقر الجبل فسوف آكل وأشرب وأنام فالأمران عندكم سواء .(2/89)
الوجه السادس : قوله سبحانه و تعالى (فَلَمّا تَجَلّىَ رَبّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً) و هذا من أبين الأدلة على جواز رؤيته تبارك و تعالى فإنه إذا جاز أن يتجلى للجبل الذي هو جماد لا ثواب له ولا عقاب عليه فكيف يمتنع أن يتجلى لأنبيائه و رسله و أوليائه في دار كرامتهم و يريهم نفسه فأعلم سبحانه و تعالى موسى أن الجبل إذا لم يثبت لرؤيته في هذه الدار فالبشر أضعف .
الوجه السابع : أن ربه سبحانه وتعالى قد كلمه منه إليه وخاطبه وناجاه وناداه ومن جاز عليه التكلم والتكليم وأن يسمع مخاطبه كلامه معه بغير واسطة فرؤيته أولى بالجواز ولهذا لا يتم إنكار الرؤية إلا بإنكار التكليم وقد جمعت هذه الطوائف بين إنكار الأمرين فأنكروا أن يكلم أحدا أو يراه أحد و لهذا سأله موسى عليه السلام النظر إليه وأسمعه كلامه وعلم نبي الله جواز رؤيته من وقوع خطأ به و تكليمه لم يخبره باستحالة ذلك عليه و لكن أراه أن ما سأله لا يقدر على احتماله كما لم يثبت الجبل لتجليه وأما قوله تعالى لن تراني فإنما يدل على النفي في المستقبل ولا يدل على دوام النفي و لو قيدت بالتأبيد فكيف إذا أطلقت قال تعالى : (وَلَنْ يَتَمَنّوْهُ أَبَداً) [البقرة: 95] مع قوله تعالى : (وَنَادَوْاْ يَمَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبّكَ قَالَ إِنّكُمْ مّاكِثُونَ) [الزخرف: 77]
الدليل الثاني
قوله : (وَاتّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُوَاْ أَنّكُمْ مّلاَقُوهُ) [البقرة: 223]
وقوله تعالى : (تَحِيّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلاَمٌ) [الأحزاب: 44]
وقوله تعالى: (فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ رَبّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبّهِ أَحَدَا) [الكهف : 110]
وقوله تعالى قال تعالى: (قَالَ الّذِينَ يَظُنّونَ أَنّهُمْ مُلاَقُواْ اللّهِ كَم مّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةٍ كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصّابِرِينَ) [البقرة: 249](2/90)
وأجمع أهل اللسان على أن اللقاء متى نسب إلى الحي السليم من العمى والمانع اقتضى المعاينة والرؤية .
الدليل الثالث :
قوله : (لّلّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَىَ وَزِيَادَةٌ) [يونس: 26]
[*] قال الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسيره :
يخبر تعالى أن لمن أحسن العمل في الدنيا بالإيمان والعمل الصالح أبدله الحسنى في الدار الآخرة، كما قال تعالى: ( هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ إِلا الإحْسَانُ ) [ الرحمن : 60 ].
وقوله: { وَزِيَادَة } هي تضعيف ثواب الأعمال بالحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، وزيادة على ذلك [أيضا] ويشمل ما يعطيهم الله في الجنان من القُصُور والحُور والرضا عنهم، وما أخفاه لهم من قرة أعين، وأفضل من ذلك وأعلاه النظرُ إلى وجهه الكريم، فإنه زيادة أعظم من جميع ما أعطوه، لا يستحقونها بعملهم، بل بفضله ورحمته وقد روي تفسير الزيادة بالنظر إلى وجه الله الكريم عن أبي بكر الصديق، وحذيفة بن اليمان، وعبد الله بن عباس [قال البغوي وأبو موسى وعبادة بن الصامت] وسعيد بن المسيب، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وعبد الرحمن بن سابط، ومجاهد، وعكرمة، وعامر بن سعد، وعطاء، والضحاك، والحسن، وقتادة، والسدي، ومحمد بن إسحاق، وغيرهم من السلف والخلف.انتهى .
فالحسنى الجنة والزيادة النظر إلى وجهه الكريم كذلك فسرها رسول الله الذي أنزل عليه القرآن فالصحابة من بعده ، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد ، ودرر الفرائد .
( حديث صهيب رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إذا دخل أهل الجنة الجنة قال يقول الله تبارك وتعالى تريدون شيئا أزيدكم فيقولون ألم تبيض وجوهنا ألم تدخلنا الجنة وتنجينا من النار قال فيكشف الحجاب فما أعطوا شيئا أحب إليهم من النظر إلى ربهم عز وجل .(2/91)
(حديث صهيب رضي الله عنه الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة ) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قول الله عز وجل للذين أحسنوا الحسنى وزيادة قال إذا دخل أهل الجنةِ الجنة نادى مناد إن لكم عند الله موعدا يريد أن ينجزكموه قالوا ألم يبيض وجوهنا وينجنا من النار ويدخلنا الجنة قال فيكشف الحجاب قال فوالله ما أعطاهم الله شيئا أحب إليهم من النظر إليه .
[*] قال العلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:
( عَنْ صُهَيْبٍ ) بِالتَّصْغِيرِ: هُوَ ابْنُ سِنَانَ الرُّومِيُّ.
( إِنَّ لَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ مَوْعِدًا ) أَيْ بَقِيَ شَيْءٌ زَائِدٌ مِمَّا وَعَدَهُ اللَّهُ لَكُمْ مِنَ النِّعَمِ وَالْحُسْنَى
( وَيُنَجِّينَا مِنَ النَّارِ ) كَذَا فِي النُّسَخِ الْحَاضِرَةِ بِالتَّحْتَانِيَّةِ .
[*] قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه حادي الأرواح :
لما عطف سبحانه الزيادة على الحسنى التي هي الجنة دل على إنها أمر آخر من وراء الجنة و قدر زائد عليها و من فسر الزيادة بالمغفرة و الرضوان فهو من لوازم رؤية الرب تبارك و تعالى .
الدليل الرابع :
قال تعالى: (كَلاّ إِنّهُمْ عَن رّبّهِمْ يَوْمَئِذٍ لّمَحْجُوبُونَ) [المطففين : 15]
ووجه الاستدلال بها أنه سبحانه و تعالى جعل من أعظم عقوبة الكفار كونهم محجوبين عن رؤيته واستماع كلامه فلو لم يره المؤمنون و لم يسمعوا كلامه كانوا أيضا محجوبين عنه و قد احتج بهذه الحجة الشافعي نفسه وغيره من الأئمة فذكر الطبراني وغيره من المزي قال سمعت الشافعي يقول في قوله عز و جل (كَلاّ إِنّهُمْ عَن رّبّهِمْ يَوْمَئِذٍ لّمَحْجُوبُونَ) فيها دليل على أن أولياء الله يرون ربهم يوم القيامة .
و قال الحاكم حدثنا الأصم انبانا الربيع بن سليمان قال حضرت محمد بن إدريس الشافعي و قد جاءته رقعة من الصعيد فيها ما تقول في قول الله عز و جل (كَلاّ إِنّهُمْ عَن رّبّهِمْ يَوْمَئِذٍ لّمَحْجُوبُونَ)(2/92)
فقال الشافعي رحمه الله تعالى : لما أن حجب هؤلاء في السخط كان في هذا دليل على أن أولياءه يرونه في الرضا ، قال الربيع فقلت يا أبا عبد الله وبه تقول ؟ قال : نعم وبه أدين الله و لو لم يوقن محمد بن إدريس أنه يرى الله لما عبد الله عز و جل .
الدليل الخامس : قال تعالى: (لَهُم مّا يَشَآءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ) [ق : 35]
[*] قال الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسيره :
وقوله: { وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ } كقوله تعالى: { لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ } [ يونس: 26]. وقد تقدم في صحيح مسلم عن صُهَيب بن سنان الرومي: أنها النظر إلى وجه الله الكريم. وقد روى البزار وابن أبي حاتم، من حديث شريك القاضي، عن عثمان بن عمير أبي اليقظان، عن أنس بن مالك في قوله عز وجل: { وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ } قال: يظهر لهم الرب، عز وجل، في كل جمعة . انتهى .
الدليل السادس :
[*] قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه حادي الأرواح :
قال تعالى: (لاّ تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ وَهُوَ اللّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الأنعام : 103](2/93)
والاستدلال بهذا أعجب فإنه من أدلة النفاة و قد قرر شيخنا وجه الاستدلال به أحسن تقرير و ألطفه وقال لي : أنا ألتزم أنه لا يحتج مبطل بآية أو حديث صحيح على باطله إلا و في ذلك الدليل ما يدل على نقيض قوله فمنها هذه الآية وهي على جواز الرؤية أدل منها على امتناعها فان الله سبحانه إنما ذكرها في سياق التمدح و معلوم أن المدح إنما يكون بالأوصاف الثبوتية و أما العدم المحض فليس بكمال و لا يمدح به و إنما يمدح الرب تبارك و تعالى بالعدم إذا تضمن أمراً وجوديا كتمدحه بنفي السِنَةِ والنوم المتضمن كمال القيومية و نفي الموت المتضمن كمال الحياة و نفي اللغوب والاعياء المتضمن كمال القدرة ونفي الشريك والصاحبة والولد والظهير المتضمن كمال ربوبيته والهيئة وقهره و نفي الأكل والشرب المتضمن كمال الصمدية وغناه ونفي الشفاعة عنده بدون إذنه المتضمن كمال توحيده وغناه عن خلقه ونفي الظلم المتضمن كمال عدله وعلمه وغناه ونفي النسيان وعزوب شيء عن علمه المتضمن كمال علمه وإحاطته ونفي المثل المتضمن لكمال ذاته وصفاته ولهذا لم يتمدح بعدم محض لا يتضمن أمراً ثبوتياً فإن المعدوم يشارك الموصوف في ذلك العدم ولا يوصف الكامل بأمرٍ يشترك هو والمعدوم فيه "فلو كان المراد بقوله لا تدركه الأبصار أنه لا يرى بحال لم يكن في ذلك مدح ولا كمال " لمشاركة المعدوم له في ذلك فان العدم الصرف لا يرى ولا تدركه الأبصار والرب جل جلاله يتعالى أن يمدح بما يشاركه فيه العدم المحض فإذا المعنى أنه يرى ولا يدرك ولا يحاط به كما كان المعنى في قوله تعالى: ( وَمَا يَعْزُبُ عَن رّبّكَ مِن مّثْقَالِ ذَرّةٍ ) [يونس : 61] أنه يعلم كل شيء وفي قوله تعالى: (وَمَا مَسّنَا مِن لّغُوبٍ) [ ق: 38] أنه كامل القدرة وفي قوله تعالى: (وَلاَ يَظْلِمُ رَبّكَ أَحَداً) [الكهف : 49] أنه كامل العدل وفي قوله قال تعالى: (لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لّهُ) [البقرة : 255] أنه(2/94)
كامل القيومية فقوله لا تدركه الأبصار يدل على غاية عظمته و أنه أكبر من كل شيء وأنه لعظمته لا يدرك بحيث يحاط به فان الإدراك هو الإحاطة بالشيء و هو قدر زائد على الرؤية كما قال تعالى: (فَلَمّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَىَ إِنّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلاّ إِنّ مَعِيَ رَبّي سَيَهْدِينِ) [الشعراء 61 ،62] فإنه لم ينف عن موسى الرؤية و لم يريدوا بقولهم إنا لمدركون أنا لمرئيون فان موسى صلوات الله و سلامه عليه نفى إدراكهم إياهم بقوله كلا وأخبر الله سبحانه و تعالى أنه لا يخاف دركهم بقوله: (وَلَقَدْ أَوْحَيْنَآ إِلَىَ مُوسَىَ أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لاّ تَخَافُ دَرَكاً وَلاَ تَخْشَىَ) [طه: 77] فالرؤية و الإدراك كل منهما يوجد مع الآخر و بدونه فالرب تعالى يرى و لا يدرك كما يعلم و لا يحاط به و هذا هو الذي فهمه الصحابة و الأئمة من الآية قال بن عباس لا تدركه الأبصار لا تحيط به الأبصار قال قتادة هو أعظم من أن تدركه الأبصار وقال عطية ينظرون إلى الله ولا تحيط أبصارهم به من عظمته وبصره يحيط بهم فذلك قوله تعالى لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار فالمؤمنون يرون ربهم تبارك وتعالى بأبصارهم عيانا ولا تدركه أبصارهم بمعنى أنها لا تحيط به إذ كان غير جائز أن يوصف الله عز وجل بأن شيئا يحيط به وهو بكل شيءٍ محيط وهكذا يسمع كلام من يشاء من خلقه ولا يحيطون بكلامه وهكذا يعلم الخلق ما علمهم ولا يحيطون بعلمه ونظير هذا استدلالهم على نفى الصفات بقوله تعالى ليس كمثله شيء وهذا من أعظم الأدلة على كثرة صفات كماله ونعوت جلاله و إنها لكثرتها وعظمتها وسعتها لم يكن له مثل فيها وإلا فلو أريد بها نفي الصفات لكان العدم المحض أولى بهذا المدح منه مع أن جميع العقلاء إنما يفهمون من قول القائل فلان لا مثل له وليس له نظير ولا شبيه ولا مثل أنه قد تميز عن الناس بأوصاف(2/95)
ونعوت لا يشاركونه فيها وكلما كثرت أوصافه ونعوته فات أمثاله وبعد عن مشابهة اضرابه فقوله تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى: 11] من أدل شيء على كثرة نعوته وصفاته وقوله تعالى: (لاّ تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ) [الأنعام: 103] من أدل شيء على أنه يرى ولا يدرك وقوله تعالى: (هُوَ الّذِي خَلَقَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتّةِ أَيّامٍ ثُمّ اسْتَوَىَ عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السّمَآءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [الحديد: 4] من أدل شيء على مباينة الرب لخلقه فإنه لم يخلقهم في ذاته بل خلقهم خارج عن ذاته ثم بان عنهم باستوائه على عرشه وهو يعلم ما هم عليه فيراهم وينفذهم بصره ويحيط بهم علما وقدرة وإرادة وسمعا وبصرا فهذا معنى كونه سبحانه معهم أينما كانوا و تأمل حسن هذه المقابلة لفظا ومعنى وبين قوله " لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار " فانه سبحانه لعظمته يتعالى أن تدركه الأبصار وتحيط به وللطفه وخبرته يدرك الأبصار فلا تخفي عليه فهو العظيم في لطفه اللطيف في عظمته العالي في قربه القريب في علوه الذي ليس كمثله شيء وهو السميع البصير لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير .
الدليل السابع :
قوله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نّاضِرَةٌ * إِلَىَ رَبّهَا نَاظِرَةٌ) [القيامة 22: 23]
[*] قال الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسيره :(2/96)
{ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ } من النضارة، أي حسنة بَهِيَّة مشرقة مسرورة، { إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } أي: تراه عيانا، كما رواه البخاري، رحمه الله، في صحيحه: "إنكم سترون ربكم عَيَانا". وقد ثبتت رؤية المؤمنين لله عز وجل في الدار الآخرة في الأحاديث الصحاح، من طرق متواترة عند أئمة الحديث، لا يمكن دفعها ولا منعها ، ثم ذكر رحمه الله تعالى الأحاديث الآتية :
( حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إنكم سترون ربكم عياناً .
( حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) قال : كنا جلوسا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ نظر إلى القمر ليلة البدر فقال أما إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها يعني العصر والفجر ثم قرأ جرير (وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا) [طه : 130]
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن الناس قالوا: يا رسول الله، هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هل تضارُّون في القمر ليلة البدر). قالوا: لا يا رسول الله، قال: (فهل تضارُّون في الشمس ليس دونها سحاب). قالوا: لا يا رسول الله، قال: فإنكم ترونه كذلك .
( حديث أبي موسى رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : جَنَّتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وجنتان من فِضَّة آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى الله إلا رِدَاء الكبرياء على وجهه في جنة عدن .انتهى .
ثانياً أدلة رؤية أهل الجنة لله تعالى من السنة الصحيحة :
( حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إنكم سترون ربكم عياناً .(2/97)
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن الناس قالوا: يا رسول الله، هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هل تضارُّون في القمر ليلة البدر). قالوا: لا يا رسول الله، قال: (فهل تضارُّون في الشمس ليس دونها سحاب). قالوا: لا يا رسول الله، قال: فإنكم ترونه كذلك .
( حديث أبي موسى رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : جَنَّتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وجنتان من فِضَّة آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى الله إلا رِدَاء الكبرياء على وجهه في جنة عدن .
( حديث صهيب رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إذا دخل أهل الجنة الجنة قال يقول الله تبارك وتعالى تريدون شيئا أزيدكم فيقولون ألم تبيض وجوهنا ألم تدخلنا الجنة وتنجينا من النار قال فيكشف الحجاب فما أعطوا شيئا أحب إليهم من النظر إلى ربهم عز وجل .
(حديث صهيب رضي الله عنه الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة ) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قول الله عز وجل للذين أحسنوا الحسنى وزيادة قال إذا دخل أهل الجنةِ الجنة نادى مناد إن لكم عند الله موعدا يريد أن ينجزكموه قالوا ألم يبيض وجوهنا وينجنا من النار ويدخلنا الجنة قال فيكشف الحجاب قال فوالله ما أعطاهم الله شيئا أحب إليهم من النظر إليه .
[*] قال العلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:
( عَنْ صُهَيْبٍ ) بِالتَّصْغِيرِ: هُوَ ابْنُ سِنَانَ الرُّومِيُّ.
( إِنَّ لَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ مَوْعِدًا ) أَيْ بَقِيَ شَيْءٌ زَائِدٌ مِمَّا وَعَدَهُ اللَّهُ لَكُمْ مِنَ النِّعَمِ وَالْحُسْنَى
( وَيُنَجِّينَا مِنَ النَّارِ ) كَذَا فِي النُّسَخِ الْحَاضِرَةِ بِالتَّحْتَانِيَّةِ .
[*] قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه حادي الأرواح :(2/98)
لما عطف سبحانه الزيادة على الحسنى التي هي الجنة دل على إنها أمر آخر من وراء الجنة و قدر زائد عليها و من فسر الزيادة بالمغفرة و الرضوان فهو من لوازم رؤية الرب تبارك و تعالى .
(حديث عمار ابن ياسر في صحيح النسائي) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يدعو بهذا الدعاء اللهم بعلمك الغيب و قدرتك على الخلق أحيني ما علمت الحياة خيرا لي و توفني إذا علمت الوفاة خيرا لي ، اللهم و أسألك خشيتك في الغيب و الشهادة و أسألك كلمة الحق في الرضا و الغضب و أسألك القصد في الفقر و الغنى و أسألك نعيما لا ينفد و قرة عين لا تنقطع و أسألك الرضا بالقضاء و أسألك برد العيش بعد الموت وأسألك لذة النظر إلى وجهك و الشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة و لا فتنة مضلة اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين.
الشاهد : قوله - صلى الله عليه وسلم - "وأسألك لذة النظر إلى وجهك" والنبي - صلى الله عليه وسلم - أعلم الناس بما يجيزه الشرع واحرص الناس على الخير ، فهو لا يدعو إلا بما هو جائز وحاصلٌ لا محالة .
تكليم الله تعالى لأهل الجنة :
قال تعالى: (إِنّ الّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلََئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الاَخِرَةِ وَلاَ يُكَلّمُهُمُ اللّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [آل عمران: 77]
قال تعالى: (إِنّ الّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلَ اللّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولََئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاّ النّارَ وَلاَ يُكَلّمُهُمُ اللّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [البقرة: 174](2/99)
فلو كان لا يكلم عباده المؤمنين لكانوا في ذلك هم وأعداؤه سواء و لم يكن في تخصيص أعدائه بأنه لا يكلمهم فائدة أصلا إذ تكليمه لعباده عند الفرعونية و المعطلة مثل أن يقال يؤاكلهم و يشاربهم و نحو ذلك تعالى الله عما يقولون .
وقد أخبر الله سبحانه أنه يُسَلِّم على أهل الجنة وأن ذلك السلام حقيقة ، قال تعالى : { تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ } [الأحزاب : 44]
[*] قال الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسيره :
وقوله: { تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ } الظاهر أن المراد ـ والله أعلم ـ { تَحِيَّتُهُمْ } أي: من الله تعالى يوم يلقونه { سَلامٌ } أي: يوم يسلم عليهم كما قال تعالى: { سَلامٌ قَوْلا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ } [يس:58].
(حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدَّم من عمله، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدَّم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشِقِّ تمرة).
[*] قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه حادي الأرواح :
وبالجملة فتأمل أحاديث الرؤية تجد في أكثرها ذكر التكليم قال البخاري في صحيحه باب كلام الرب تبارك و تعالى مع أهل الجنة وساق فيه عدة أحاديث فأفضل نعيم أهل الجنة رؤية وجهه تبارك وتعالى تكليمه لهم فإنكار ذلك إنكار لروح الجنة و أعلى نعيمها و أفضله الذي ما طابت لأهلها إلا به و الله المستعان .
أبدية الجنة وأنها لا تفنى ولا تبيد :
هذا مما يعلم بالاضطرار أن الرسول أخبر به
قال تعالى: (وَأَمّا الّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السّمَاوَاتُ وَالأرْضُ إِلاّ مَا شَآءَ رَبّكَ عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) [هود: 108]
عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ : أي مقطوع .(2/100)
[*] قال الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسيره :
يقول تعالى: { وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا } وهم أتباع الرسل، { فَفِي الْجَنَّةِ } أي: فمأواهم الجنة، { خَالِدِينَ فِيهَا } أي: ماكثين مقيمين فيها أبدا، { مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ } معنى الاستثناء هاهنا: أن دوامهم فيما هم فيه من النعيم، ليس أمرا واجبا بذاته، بل هو موكول إلى مشيئة الله تعالى، فله المنة عليهم [دائمًا] ، ولهذا يلهمون التسبيح والتحميد كما يلهمون النَّفس.
وقال الضحاك، والحسن البصري: هي في حق عصاة الموحدين الذين كانوا في النار، ثم أخرجوا منها.
وعقب ذلك بقوله: { عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ } أي: غير مقطوع قاله ابن عباس، ومجاهد، وأبو العالية وغير واحد، "لئلا يتوهم متوهم بعد ذكره المشيئة أن ثم انقطاعًا، أو لبسا، أو شيئًا بل ختم له بالدوام وعدم الانقطاع". كما بين هنا أن عذاب أهل النار في النار دائما مردود إلى مشيئته، وأنه بعَدْله وحكمته عذبهم؛ ولهذا قال: { إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ } [هود:107] كَمَا قَالَ { لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ } [الأنبياء:23]، وهنا طيب القلوب وثَبَّت المقصود بقوله: { عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ } .
يا أهل الجنة، خُلُود فلا موت، ويا أهل النار، خلود فلا موت .انتهى .
وقد أكد الله سبحانه و تعالى خلود أهل الجنة بالتأبيد في عدة مواضع من القرآن ، قال تعالى
قال تعالى: (مّثَلُ الْجَنّةِ الّتِي وُعِدَ الْمُتّقُونَ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلّهَا )
[الرعد: 35]
[*] قال الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسيره :
وقوله: { أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا } أي: فيها المطاعم والفواكه والمشارب، لا انقطاع لها ولا فناء.(2/101)
وفي الصحيحين ، من حديث ابن عباس في صلاة الكسوف، وفيه قالوا: يا رسول الله، رأيناك تناولت شيئا في مقامك هذا، ثم رأيناك تَكعْكعت فقال: "إني رأيت الجنة -أو: أريت الجنة -فتناولت منها عنقودا، ولو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا".انتهى .
وأخبر سبحانه أنهما لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى قال تعالى: (لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاّ الْمَوْتَةَ الاُولَىَ وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ) [الدخان: 56]
[*] قال الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسيره :
وقوله: { لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلا الْمَوْتَةَ الأولَى } هذا استثناء يؤكد النفي، فإنه استثناء منقطع ومعناه: أنهم لا يذوقون فيها الموت أبدًا، كما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يؤتى بالموت في صورة كبش أملح، فيوقف بين الجنة والنار ثم يذبح، ثم يقال: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت" انتهى .
وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد ، ودرر الفرائد .
(حديث أبي سعيد في الصحيحين) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : يؤتى بالموت كهيئة كبشٍ أملح فينادي منادٍ : يا أهل الجنة لِلَّهِ فيشرئبون وينظرون فيقول هل تعرفون هذا ؟ فيقولون نعم هذا الموت وكلهم قد رآه ، ثم ينادي : يا أهل النار لِلَّهِ فيشرئبون وينظرون فيقول هل تعرفون هذا ؟ فيقولون نعم هذا الموت وكلهم قد رآه ، فيذبح ثم يقول : يا أهل الجنة خلودٌ فلا موت ويا أهل النار خلودٌ فلا موت ثم قرأ قوله تعالى: (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ) [سورة: مريم - الآية: 39] .(2/102)
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ينادي مناد إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدا وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدا وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبدا وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبدا فذلك قوله عز وجل: (وَتِلْكَ الْجَنّةُ الّتِيَ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) [الزخرف: 72]
الجنة تتكلم :
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : تحاجت النار و الجنة فقالت النار : أوثرت بالمتكبرين و المتجبرين و قالت الجنة : فما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس و سقطهم ؟ فقال الله عز و جل للجنة : إنما أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي و قال للنار : إنما أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي و لكل منكما ملؤها فأما النار فلا تمتلئ حتى يضع الله قدمه عليها فتقول : قطٍ قط فهنالك تمتلئ و ينزوي بعضها إلى بعض فلا يظلم الله من خلقه أحدا و أما الجنة فإن الله ينشئ لها خلقا .
صفات من يستحقُّ الجنة في القرآن والسنة :
(1) الذين آمنوا وعملوا الصالحات :
ــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
قال تعالى : { وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [ البقرة : 25](2/103)
ويُبَشِّرُ اللهُ تَعَالى الذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ، وَعَمِلُوا الأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ ، أَنَّ لَهُمْ عِنْدَهُ في الآخِرَةِ جَنَّاتٍ تَجْرِي الأَنْهَارُ في جَنَبَاتِهَا ، وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرةٌ مِنَ الدَّنَسِ وَالأَذى وَالآثامِ ومسَاوِئِ الأَخْلاَقِ ، كَالََكَيْدِ والمَكْرِ والخَدِيعَةِ . . وَتَأْتِيهِمُ الثِّمَارُ في الجَنَّةِ فَيَظُنُّونَ أَنَّهَا مِنَ الثِّمَارِ التِي عَرَفُوهَا في الدُّنيا ( أَوْ أَنَّهَا مِنَ الثِّمَارِ التِي أَتَتْهُمْ قَبْلَ ذلِكَ فِي الجَنَّةِ ، وَتَخْتَلفُ عَنْهَا طَعْماً مَعَ أَنَّهَا تُشْبِهُهَا فِي شَكْلِها وَمَنْظَرِهَا ) . وَكُلَّمَا رُزِقُوا مِنْها ثَمَرَةً قَالُوا : هذا مَا وُعِدْنا بِهِ في الدُّنيا جَزَاءً عَلَى الإِيمَان وَالعَمَلِ الصَّالِحِ . والذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً صَادِقاً ، وَعَملُوا عَمَلاً صَالِحاً يَبْقَوْوَ في الجَنَّةِ خَالِدينَ أبداً ، لاَ يَمُوتُونَ فِيها وَلا يَحُولُونَ عَنْها .
وقال تعالى : { وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [ البقرة : 82 ]
أَمَّا الذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَبِاليَومِ الآخِرِ ، وَعَمِلُوا الأَعْمَالَ الصَّالِحَاتِ ، فَأَدَّوُا الوَاجِبَاتِ ، وانتَهَوا عَنِ المَعَاصِي فَهؤُلاءِ هُمْ أَصْحَابُ الجَنَّةِ يَخْلُدُونَ فِيها أَبَداً . "فَدُخُولُ الجَنَّةِ مَنُوطٌ بِالإِيمَانِ الصَّحِيحِ ، وَالعَمَلِ الصَّالِحِ مَعاً" .
وقال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } [ البقرة : 277](2/104)
يَمْدَحُ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنيِنَ المُصَدِّقِينَ بِمَا جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمْ ، المُقِيمِينَ الصَّلاَةَ ، وَعَامِلِي الصَّالِحَاتِ وَالمُزَكِّينَ ، وَيُخْبرُ عَنْهُمْ أنَّهُ يَحْفَظُ لَهُمْ أَجْرَهُمْ ، وَأَنَّهُمْ لاَ خَوْفَ عَلَيهِمْ ، وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ عَلَى مَا فَاتَهُمْ فِي الدُّنيا .
وقال تعالى : { وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ } [ عمران : 57]
وَأمَّا المُهْتَدُونَ الذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَعَمِلُوا الأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ فَيُثِيبُهُمْ ثَوَاباً وَافِياً عَلَى أَعْمَالِهِمْ ، فِي الدُّنيا بِالنَّصْرِ والظَّفَرِ ، وَفِي الآخِرَةِ بِالخُلُودِ فِي جَنَّتِهِ ، وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ المُتَجَاوِزِينَ لِحُدُودِهِ ، وَلاَ يَرْفَعُ لَهُمْ قَدْراً .
وقال تعالى : { وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَّهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً } [ النساء : 57]
وَالذِينَ صَدَّقُوا بِمَا جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمْ ، وَعَمِلُوا الأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ ، فَإنَّ اللهَ سَيُثِيبُهُمْ عَلَى إيمَانِهِمْ وَعَمَلِهِمُ الصَّالِحُ ، بِإدْخَالِهِمُ الجَنَّةَ التِي تَجْرِي فِي أَرْضِهَا الأَنْهَارُ ، وَيَبْقُونَ فِيهَا خَالِدِينَ أَبَداً ، لاَ يَحُولُونَ عَنْهَا وَلاَ يَزُولُونَ ، وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ ، مِنَ الحَيْضِ وَالدَّنَسِ وَالأَذَى ، وَالأَخْلاَقِ الرَذِيلَةِ ، وَالصِّفَاتِ النَّاقِصَة ، وَيُدخِلُهُمْ فِي ظِلٍّ وَارِفٍ كَثِيفٍ لاَ حَرَّ فِيهِ وَلاَ قَرَّ .(2/105)
وقال تعالى : { وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً } [ النساء : 122]
بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى حَالِ أَتْبَاعِ الشَّيْطَانِ ، ثَنَى بَبَيَانِ حَالِ المُؤْمِنِينَ السُّعَدَاءِ ، الذِينَ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لِدَعْوَةِ الشَّيْطَانِ ، وَلاَ يَمْتَثِلُونَ لأَمْرِهِ ، وَمَا لَهُمْ مِنَ الكَرَامَةِ التَّامَّةِ يَوْمَ القِيَامَةِ ، فَقَالَ تَعَالَى : إنَّ الذِينَ آمَنُوا وَصَدَّقَتْ قُلُوبُهُمْ ، وَعَمِلَتْ جَوَارِحُهُمْ بِمَا أُمِرُوا بِهِ مِنَ الخَيْرَاتِ ، وَتَرَكُوا مَا نُهُوا عَنْهُ مِنَ المُنْكَرَاتِ ، سَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي فِيها الأَنْهَارُ ، وَيَكُونُونَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ، وَهُوَ وَعْدٌ حَقٌّ مِنَ اللهِ ، وَاللهُ هُوَ القَادِرُ عَلَى أَنْ يُعْطِيَ مَا وَعَدَ بِفَضْلِهِ وَجُودِهِ ، وَلَيْسَ أحَدٌ أصْدَقَ قَوْلاً مِنَ اللهِ .
وقال تعالى : { فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُم مِّن فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُواْ وَاسْتَكْبَرُواْ فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلُيمًا وَلاَ يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا } [ النساء : 173](2/106)
أمَّا الذِينَ آمَنُوا ، وَعَمِلُوا الأَعْمَالَ الصَّالِحَاتِ ، فَيَجْزِيهِمْ رَبُّهُمْ ثَوَابَ أَعْمَالِهِمُ الصَّالِحَةِ ، وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ وَسَعَةِ رَحْمَتِهِ . وَأمَّا الذِينَ اسْتَكْبَرُوا عَنْ طَاعَةِ اللهِ ، وَامْتَنَعُوا عَنْ عِبَادَتِهِ ، فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً أَلِيماً ، فَهُوَ تَعَالَى يُجَازِي المُحْسِنَ عَلَى إِحْسَانِهِ بِالعَدْلِ وَالفَضْلِ ، وَيُجازِي المُسِيءَ عَلَى إِسَاءَتِهِ بِالعَدْلِ . وَلَنْ يَجِدُوا لَهُمْ وَليّاً يَلِي أُمُورَهُمْ وَيُدَبِّرُها ، وَلاَ نَاصِراً يَنْصُرُهُمْ مِنْ عَذَابِ اللهِ وَبَأسِهِ .
وقال تعالى :(إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآَخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [يونس9 ، 10]
أَمَّا الذِينَ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَاتَّقَوْهُ ، وَتَبَصَّرُوا بِمَا خَلَقَ اللهُ فِي الكَوْنِ ، فَزَادَهُمْ ذَلِكَ إِيمَاناً وَيَقِيناً ، وَعَمِلُوا مَا أَمَرَهُمْ بِهِ رَبُّهُمْ مِنْ صَالِحَاتِ الأَعْمَالِ ، فَإِنَّ إِيمَانَهُمْ وَأَعْمَالَهُمُ الصَّالِحَاتِ سَتَكُونُ لَهُمْ نُوراً يَهْدِيهِمْ يَوْمَ القِيَامَةِ إِلَى طَرِيقِ الجَنَّةِ التِي وَعَدَهُمْ بِهَا رَبُّهُمْ ، وَهِيَ جَنَّةُ رِفهٍ وَنَعِيمٍ تَجْرِي الأَنْهَارُ فِي جَنَبَاتِهَا .(2/107)
يَبْدَؤُونَ كُلَّ دُعَاءٍ وَثَنَاءٍ عَلَى اللهِ بِكَلِمَةِ ( سُبْحَانَكَ الَّلهُمَّ ) أَيْ تَقْدِيساً وَتَنْزِيهاً لَكَ يَا رَبِّ . وَيُجِيبُهُمْ رَبُّهُمْ بِكَلِمَةِ ( سَلامٌ ) وَهِيَ تَدُلُّ عَلَى السَّلاَمَةِ مِنْ كُلِّ مَكْرُوهٍ ، وَتُحَيِّيهِمُ المَلاَئِكَةُ بِقَوْلِهِمْ ( سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ ) ، وَيُحَيِّي بَعْضُهُمْ بَعْضاً بِكَلِمَةِ سَلاَمٍ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى : { لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً إِلاَّ سَلاَماً } وَفِي آخِرِ كُلِّ حَالٍ مِنْ أَحْوَالِهِمْ ، مِنْ دُعَاءٍ يُنَاجُونَ بِهِ رَبَّهُمْ ، أَوْ مَطْلَبٍ يَطْلُبُونَهُ مِنْ إِحْسَانِهِ وَكَرَمِهِ يَقُولُونَ : ( الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ )
(2) المنفقون في سبيل الله :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
قال تعالى : (وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآَتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [البقرة :265](2/108)
أمّا المُؤْمِنُونَ الذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُم طَلَباً لِمَرْضَاةِ اللهِ عَنْهُمْ ، وَهُمْ مُتَحَقِّقُونَ مِنْ أَنَّ الله سَيَجْزِيهِمْ عَلَى ذَلِكَ ، فَمَثَلُهُمْ كَمَثَلِ بُسْتَانٍ ( جَنَّةٍ ) بِرَبْوَةٍ مُرْتَفِعَةٍ عَنِ الأَرْضِ ، فَأَصَابَهَا مَطَرٌ شَدِيدٌ ( وَابِلٌ ) ، فَأَثْمَرَتْ ضِعْفَيْنِ مِمَّا أَثْمَرَتْهُ غَيْرُها مِنَ الجِنَانِ ( أَوْ ضِعْفَينِ مِمَّا كَانَتَ تُثْمِرُهُ قَبْلاً ) فَإنْ لَمْ يُصِبْهَا المَطَرُ الشَّدِيدُ ، أصَابَهَا مَطَرٌ خَفِيفٌ يَكْفِيها لِجَوْدَةِ تُرْبَتِها ، وَحُسْنِ مَوْقِعِها ، فَهِي لاَ تُمْحِلُ أَبَداً . وَكَذَلِكَ عَمَلُ المُؤْمِنِ لا يَبُورُ أبداً ، بَلْ يَتَقَبَّلُهُ اللهُ وَيُكَثِّرَهُ وَيُنَمِّيهِ .
( وَقَدْ يَكُونُ المَعْنَى هُوَ : وَكَذَلِكَ الإِنْسَانُ الجَوَادُ البَرُّ إنْ أصَابَهُ خَيْرٌ كَثيرٌ أَغْدَقَ وَوَسَّعَ فِي الإِنْفَاقِ ، وَإنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ قَليلٌ أَنْفَقَ بِقَدَرِهِ ، فَخَيْرُهُ دَائِمٌ ، وَبِرُّهُ لاَ يَنْقَطِعُ ) .
وَاللهُ لا يَخْفَى عَلَيهِ شَيْءٌ مِنْ أعْمَالِ العِبَادِ .
(3) المتقون :
ـــ ـــ ـــ ـــ ــ
قال تعالى : (قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا * لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا) [الفرقان/15، 16](2/109)
قُلْ يَا مُحَمَّد لِهَؤُلاَءِ المُكَذِّبِينْ : أَهَذَا الَّذِي وَصَفْنَاهُ لَكَ مِنْ حَالِ الأَشْقِيَاءِ ، الّذِينَ يُحْشَرونَ عَلَى وُجُوهِهِم إلى جَهَنَّمَ ، فَتَتَلَقَّاهُمْ بِوجِهٍ عَبُوسٍ وَتَغَيُّظٍ وَزَفِير ، وَيُلْقُونَ في أَمَاكِنَ ضَيِّقَةٍ مِنْها مُقْرَّنِين ، لا يَسْتِطِيعُونَ حَرَاكاً وَلاَ اسْتنصَاراً مِمَّا هُم فِيهِ . . . أَذِلِكَ خَيرٌ أمْ جنَّة الخُلدِ الَّّتِي وَعَدَ اللهُ بِها عِبَادَه المُتَّقِين ، وَأَعَدَّها لَهُم لِتَِكُونَ لَهُم جَزاءً وَمصِيراً عَلى مَا أَطَاعُوا رَبَّهم فِي الدُّنيا؟
وَلَهُم فِي الجَنَّةِ مَا يَشْتَهُونَ مِنَ المآكِلِ ، وَالْمَشَارِبِ ، وَالمَلاَبِسِ ، وَالمَسَاكِنِ ، وَالمَنَاظِرِ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لاَ عَيْنٌ رَأتْ وَلاَ أُذنٌ سَمِعَتْ ، وَهُمْ فِي ذَلِكَ خَالِدُونَ أَبَداً سَرمَداً ، وَلاَ يَبْغُونَ عَمَّا هُمْ فِيهِ تَحَوُّلاً وَلاَ زَوَالاً ، وَهَذَا كُلُّه مِن فَضْلِ الله ، تَفَضَّل بِهِ عَلَيْهِمِ ، وَأَحْسَن بِهِ إِلَيْهِمْ ، وَهُوَ وَعْدٌ مِنْ اللهِ وَاجِبٌ الوُقُوعِ ، وَلاَ بُدَّ مِنْ أَنْ يَقَعَ .
وقال تعالى :(مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ ) [الرعد :35 ](2/110)
صِفَةُ الجَنَّةِ التِي وَعَدَ اللهُ بِهَا المُتَّقِينَ ، وَنَعَتَهَا ، أَنَّهَا تَجْرِي الأَنْهَارُ فِي أَرْجَائِهَا وَجَوَانِبِهَا ، وَحَيْثُ شَاءَ أَهْلُهَا يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِّيراً ، فِيهَا الفَوَاكِهُ وَالمَطَاعِمُ وَالمَشَارِبُ ، لاَ انْقِطَاعَ لَهَا وَلاَ فَنَاءَ (أُكُلُها دَائِمٌ) ، وَظِلُّهَا دَائِمٌ لاَ يَنْكَمِشُ وَلاَ يَزُولُ . وَهَذِهِ الجَنَّةُ التَي تَقَدَّمَتْ صِفَتُهَا ، هِيَ جَزَاءُ المُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ( عُقْبَى الذِينَ اتَّقَوا ) ، أَمَّا الكَافِرُونَ فَعُقْبَاهُمْ وَمَصِيرُهُمُ النَّارُ . وَلاَ يَسْتَوِي أَصْحَابُ الجَنَّةِ وَأَصْحَابُ النَّارِ .
وقال تعالى : (وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32) [النحل/30: 32]
وَيُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى عَنِ المُؤْمِنِينَ السُّعَدَاءِ ، فَإِذَا قِيلَ لَهُمْ : مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ عَلَى رَسُولِهِ؟ قَالُوا : أَنْزَلَ القُرْآنَ ، فِيهِ خَيْرٌ وَرَحْمَةٌ ، وَبَرَكَةٌ لِمَنِ اتَّبَعَهُ ، وَآمَنَ بِهِ .(2/111)
ثُمَّ يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى عَمَّا وَعَدَ بِهِ عِبَادَهُ المُؤْمِنِينَ فَيمَا أَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ ، فَقَالَ : مَنْ أَحْسَنَ عَمَلَهُ فِي الدُّنْيَا ، فَآمَنَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ ، وَأَمَرَ بِالمَعْرُوفِ وَنَهَى عَنِ المُنْكَرِ . . أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْهِ فِي الدُّنيا وَالآخِرَةِ . وَإِنَّ دَارَ الآخِرَةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنيا الفَانِيَةِ ، وَالجَزَاءُ فِيهَا أَتَمُّ مِنَ الجَزَاءِ فِي الدُّنْيَا ، وَنَعِمَتْ دَارُ الآخِرَةِ دَاراً لِلمُتَّقِينَ .
وَالدَّارُ التِي وَعَدَ اللهُ بِهَا المُتَّقِينَ مِنْ عِبَادِهِ فِي الآخِرَةِ هِيَ جَنَّاتُ مُقَامٍ ( عَدْنٍ ) ، يَدْخُلُونَهَا ، تَجْرِي فِي أَرْضِهَا الأَنْهَارُ ( مِنْ تَحْتِهَا ) بَيْنَ أَشْجَارِهَا وَقُصُورِهَا ، وَلَهُمْ فِيهَا مَا يَطْلُبُونَ وَيَشْتَهُونَ ، وَكَذَلِكَ يَجْزِي اللهُ كُلَّ مَنْ آمَنَ بِهِ وَاتَّقَاهُ ، وَأَحْسَنَ عَمَلَهُ .
وَيُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى عَنْ حَالِ المُؤْمِنِينَ القَائِمِينَ بِجَمِيعِ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ ، وَالمُنْتَهِينَ عَنْ جَمِيعِ مَا نَهَى عَنْهُ ( الطَّيِّبِينَ ) حِينَ تَحْضُرُهُمُ المَلاَئِكَةُ لِقَبْضِ أَرْوَاحِهِمْ عِنْدَ احْتِضَارِهِمْ ، فَقَالَ : إِنَّهُمْ طَيِّبُونَ ، مُخْلِصُونَ مِنَ الشِّرْكِ وَالدَّنْسِ ، وَالسُّوْءِ ، وَإِنَّ المَلاَئِكَةَ تُسَلِّمُ عَلَيْهِم ، وَتُبَشِّرُهُمْ بِالجَنَّةِ ، جَزَاءً لَهُمْ عَلَى إِيمَانِهِمْ بِرَبِّهِمْ ، وَعَلَى أَعْمَالِهِم الصَّالِحَةِ .(2/112)
وقال تعالى :(وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35) [ ق31: 35]
وَأُدنِيَتِ الجَنَّةُ مِنَ المُتَّقِين ، الذِين آمَنُوا بِرَبِّهِم وَخَافُوهُ ، وَاجْتَنَبُوا مَعَاصِيَه ، حَتَّى أصْبَحَتْ على مرآى العِينِ مِنْهُم ، وَذَلِكَ لِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُهم ، وَهُمْ يَرَوْنَ فيها مَا أُعِدَّ لَهُمْ مِنْ لَهُمْ مِنْ نَعِيمٍ لا نَفَاذَ لَهُ .
وَيُقَالَ للْمُتَّقِينَ - يَقُولُهُ الرَّبُّ تَعَالى أوْ يَقُولُه المَلاَئِكَةُ الأطْهَارُ - هَذا هُوَ النَّعِيمُ الذِي وَعَدَكُم بِهِ رَبُّكُمْ على ألسنةِ رُسُلِهِ الكِرَامِ ، وَجَاءَتْ بِهِ كُتُبُهُ ، وَقَدْ أعَدَّهُ اللهُ تَعَالى لِكُلِّ رِجَّاعٍ ثَوَّابٍ إلى رَبِّهِ ، مُقْلعٍ عَنْ مَعَاصِيهِ ، رَجَّاعٍ إلى اللهِ بالتَّوبَةِ .
مَنْ خَافَ اللهَ في سِرِّهِ في الوَقْتِ الذِي لَمْ يَكُنْ أحَدٌ يَرَاهُ غَيرَ اللهِ ، وَجَاء اللهَ يَومَ القِيَامةِ بِقَلْبِ مُنِيبٍ خَاضِعٍ لَهُ .
وَيُقَالُ لهؤلاءِ الأبرارِ المُكَرَّمِينَ : ادْخُلُوا الجَنَّةَ سَالِمِينَ مِنَ العَذَابِ وَالهُمُومِ وَالخَوفِ ، واطْمَئِنُّوا وَقَرُّوا عَيناً فَهَذا يَوْمُ الخُلُودِ في هذا النَّعِيمِ ، فَهُو دَائِمٌ عَلَيكُم لاَ تَحُولُونَ عَنْهُ وَلا تَزُولُونَ ، وَلاَ أَنْتُمْ مِنْهُ تُخْرَجُونَ .
وَلَهُم فيها مَا يَطْلُبُونَ وَمَا يَشْتَهُونَ ، ثُمَّ يَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ فَوْقَ مَا سَألوا ممَّا لمْ يَخْطُرْ لَهُمْ عَلَى بَالٍ .
(4) من أتى الله بقلب سليم :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ(2/113)
قال تعالى : يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89) [الشعراء : 88، 89]
وفي يَومِ القِيامةِ ، يومَ يُبْعَثُ الخَلائِقُ ، لا يَقِي المَرءَ منْ عذابِ اللهِ مالُهُ ، ولوِ افْتَدَى بِمِلْءِ الأرْضِ ذًهَباً ، ولا يَنْفَعُهُ بنُوهُ ، ولا أحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللهِ .
ولا يَنْفَعُهُ في ذَلكَ اليوم إِلاَّ إيمَانُه ، وَعَمَلُهُ الصَّالِحُ ، وأَنْ يأْتِيَ اللهَ ربَّهُ بقلْبٍ سليمٍ ، مُبَرَّإٍ من الشِّرْكِ والدَّنَسِ ، والخَطَايا ، وقَدْ أَخْلَصَ الإِيمانَ للهِ ، وأخْلَصَ العَقِيدَةَ لَهُ ، وآمَنَ إيمَاناً صادقاً أنه لا إِلهَ إلا الله وحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ ، وأنَّ السَّاعَةَ آتيةٌ لا رَيْبَ فِيها ، وأنَّ يَبْعَثُ مَنْ في القُبُورِ .
(5) اليقين بالآخرة والعمل لها :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
قال تعالى : فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24) [الحاقة/19-24]
وَيُعْطَى النَّاسُ صُحُفَ أَعْمَالِهِمْ ، فَمَنْ تَنَاوَلَ صَحِيفَةَ عَمَلِهِ بِيمِيِنِهِ فَيَقُولُ فَرِحاً مَسْرُوراً لِكُلِّ مَنْ يَلْقَاهُ : هَذِهِ هِيَ صَحِيفَةُ أَعْمَالِي ، خُذُوهَا فَاقْرَؤُوهَا ، لأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ مَا فِيهَا خَيرٌ وَحَسَنَاتٌ ، لأَنَّهُ مِمَّنْ بَدَّلَ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ .(2/114)
إِنَّنِي كُنْتُ فِي الدُّنْيَا أَعْتَقِدُ يَقِيناً بِأَنَّنِي سَأْحَاسَبُ أَمَامَ اللهِ فِي هَذَا اليَوْمِ ، فَعَمِلْتُ خَيْراً قَدْرَ مَا اسْتَطَعْتُ ، وَكُنْتُ أُؤَمِّلُ أَنْ يُحَاسِبَنِي اللهُ عَلَى أَعْمَالِي حِسَاباً يَسِيراً ، وَقَدْ صَدَقَ مَا اعْتَقَدْتُ وَمَا تَوَقَّعْتُ ، فَكَانَ حِسَابِي يَسِيراً .فَهُوَ يَعِيشُ عِيشَةً رَاضِيَةً خَالِيَةً مِنَ الهُمُومِ والأَكْدَارِ .
فِي جَنَّةٍ رَفِيعَةِ المَكَانِ والدَّرَجَاتِ ، فِيهَا الخُضْرَةُ وَالمِيَاهُ وَالظَّلاَلُ الوَارِفَةُ . فِيهَا أَشْجَارٌ ثِمَارُهَا دَانِيَةٌ مِمَّنْ يُرِيدُونَ قَطْفَهَا ، فَيَأْخُذُونَهَا بِدُونِ عَنَاءٍ .
(6) الوفاء النذور والخوف من يوم الحساب :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ(2/115)
قال تعالى : (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11) وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12) مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا (13) وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (14) وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآَنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ (15) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16) وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (17) عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (18) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19) وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20) عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21) إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا (22) [الإنسان: 7-23](2/116)
وَهَؤُلاَءِ الأَبْرَارُ يُوفُونَ بِمَا أَوْجَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنْ نُذُورٍ ، لأَنَّ مَنْ أَوْفَى بِمَا أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ كَانَ أَكْثَرَ وَفَاءً بِمَا أَوْجَبَهُ اللهُ عَلَيْهِ ، وَيَتْرُكُونَ المُحَرَّمَاتِ التِي نَهَاهُمْ رَبُّهُمْ عَنْهَا ، خِيفَةَ سُوءِ الحِسَابِ يَوْمَ القِيَامَةِ ، وَهُوَ يَوْمٌ ضَرَرُهُ مُنْتَشِراً فَاشِياً عَامّاً عَلَى النَّاسِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ اللهُ .
وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ ، مَعَ شَهْوَتِهِمْ لَهُ ، وَرَغْبَتِهِمْ فِيهِ ، لِلْفَقِير العَاجِزِ عَن الكَسْبِ ( المِسْكِينِ ) ، وَاليَتِيمِ الذِي مَاتَ أَبُوهْ ، وَهُوَ دُونَ سِنِّ البُلُوغِ وَالأَسِيرِ العَاني الذِي لاَ يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ قُوتاً .
وَإِنَّهُمْ إِنَّمَا يُطْعِمُونَ الفُقَرَاءَ وَالمَسَاكِينَ والأَيْتَامَ وَالأَسْرَى ، لأَنَّهُمْ يُرِيدُونَ ثَوَابَ اللهِ وَرِضْوَانَهُ وَحْدَهُ ، لاَ يَطْمَعُونَ فِي جَزَاءٍ مِنْ أَحَدٍ غَيْرِهِ عَلَى إِنْفَاقِهِمْ ، وَلاَ فِي شُكْرٍ مِنَ المُنْفَقِ عَلَيْهِ .
وَإِنَّنَا إِنَّمَا نَفْعَلُ ذَلِكَ رَجَاءَ أَنْ يَرْحَمَنَا رَبُّنَا فِي يَوْمِ القِيَامَةِ ، وَهُوَ يَوْمٌ طَوِيلٌ عَصِيبٌ ، تَعْبِسُ فِيهِ الوُجُوهُ وَتَكْلَحُ مِنْ شِدَّةِ أَهْوَالِهِ .
فَآمَنَهُمْ اللهُ شَرَّ مَا خَافُوهُ ، وَأَعْطَاهُمْ أَمناً تَكُونُ لَهُ وُجُوهُهُمْ نَضِرَةً ، وَسُرُوراً تُسَرُّ بِهِ قُلُوبُهُمْ ، وَالقَلْبُ إِذَا سُرَّ اسْتَنَارَ الوَجْهُ .
وَجَزَاهُمُ اللهُ بِصَبْرِهِمْ عَلَى الإِيْثَارِ ، وَمَا يُؤَدِّي إِلَيهِ مِنَ الجُوعِ وَالعُرْيِ ، جَنَّةً لَهُمْ فِيهَا مَنْزِلٌ رَحْبٌ ، وَعَيْشٌ رَغْدٌ ، وَلِبَاسٌ مِنْ حَرِيرٍ .(2/117)
وَيَجْلِسُونَ فِي الجَنَّةِ عَلَى السَّرَائِرِ والأَرَائِكِ ، وَهُمْ مُتَّكِئُونَ فِي وَضْعِ مَنْ هُوَ مُنَعَّمٌ ، لاَ يُقَاسُونَ حَرّاً مُزْعِجاً ، وَلاَ بَرْداً مُؤْلِماً .
وَتَدْنُو أَشْجَارُ الجَنَّةِ بِظِلالِهَا عَلَى هَؤُلاَءِ الأَبْرَارِ السُّعَدَاءِ ، وَتُسَخِّرُ قُطُوفَهَا لأَمْرِهِمْ لِيَنَالُوا مِنْهَا مَا شَاؤُوا .
وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ خَدَمُ الجَنَّةِ بِأَوَانِي الطَّعَامِ ، وَهِيَ مِنْ فِضَّةٍ خَالِصَةٍ ، وَبِأَكْوَابِ الشَّرَابِ ، وَهِيَ أَيْضاً مِنْ فِضَّةٍ ، وَقَدْ جُعِلَتْ هَذِهِ الأَكْوَابُ جَامِعَةً بَيَاضَ الفِضَّةِ ، وَصَفَاءَ الزُّجَاجِ وَشَفَافِيَّتَهُ .
وَهذِهِ القَوَارِيرُ يَحْمِلُهَا إِلَيهِم السُّعَاةُ وَقَدْ قَدَّرُوا مَا صَبُّوهُ فِيهَا عَلَى قَدَرِ كِفَايَةِ الشَّارِبِينَ وَرَيهِّمْ ، لاَ تَزِيدُ وَلاَ تَنْقُصُ .
وَيُسْقَى هُؤَلاَءِ الأَبْرَارُ فِي الجَنَّةِ كَأْساً مِنْ خَمْرِ الجَنَّةِ مُزِجَتْ بِالزَّنْجِبِيلِ ( فَهُمْ يُمْزَجُ الشَّرَابُ لَهُمْ مَرَّةً بِالكَافُورِ وَمَرَّةً بِالزَّنْجَبِيلِ فَالكَافُورُ بَارِدٌ وَالزَّنْجَبِيلُ حَارٌّ ) .
وَيُسْقَونَ فِي الجَنَّةِ مِنْ عَيْنٍ غَايَةٍ فِي السَّلاَسَةِ وَالاسْتِسَاغَةِ .وَيَطُوفُ عَلَى أَهْلِ الجَنَّةِ غِلْمَانٌ ( وِلْدَانٌ ) يَخْدِمُونَهُمْ ، وَهُمْ شَبَابٌ ، وُجُوهُهُمْ نَضِرَةٌ ، كَأَنَّهُمْ لِحُسْنِ أَلْوَانِهِمْ ، وَنَضْرَةِ وُجُوهِهِمْ ، وَكَثْرَةِ انْتِشَارِهِمْ فِي قَضَاءِ الحَاجَاتِ ، اللًّؤْلُؤْ المَنْثُورُ ، وَهُمْ لاَ يَهْرَمُونَ وَلاَ يَشِيبُونَ ، وَلاَ تَتَبَدَّلُ أَحْوَالُهُمْ .
وَإِذَا نَظَرْتَ إِلَى أَهْلِ الجَنَّةِ ، وَمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ نَعِيمٍ فِي الجَنَّةِ ، لَرَأَيْتَ نَعِيماً عَظِيماً ، وَمُلْكاً كَبِيراً لاَ يُحِيطُ بِهِ وَصْفٌ .(2/118)
وَيَلْبَسُ أَهْلُ الجَنَّةِ الرَّفِيعَ مِنَ الحَرِيرِ ، مِمَّا يَلِي أَبْدَانَهُمْ كَالقُمْصَانِ وَنَحْوِهَا ، وَيَلْبَسُونَ الثِّيَابَ التِي لَهَا لَمَعَانٌ وَبَرِيقٌ ، مِمَّا يَلِي الخَارِجَ ، وَيَتَحَلَّوْنَ بِأَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ ، وَيَسْقِيِهِمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً يُطَهِّرُ بَاطِنَ شَارِبِهِ مِنَ الحَسَدِ ، وَالحِقْدِ ، وَالغِلِّ ، وَرَدِيءِ الأَخْلاَقِ .
وَيُقَالُ لَهُمْ تَكْرِيماً : إِنَّ هَذَا الذِي أُعْطِيتُمُوهُ مِنَ الكَرَامَةِ إِنَّمَا كَانَ ثَوَاباً لَكُمْ عَلَى أَعْمَالِكُمُ الصَّالِحَاتِ فِي الدُّنْيَا ، وَقَدْ شَكَرَ اللهُ لَكُمْ سَعْيَكُمْ فَأَثَابَكُمْ عَلَيْهِ فِي الآخِرَةِ ثَوَاباً حَسَناً .
(7) من أسلم وجهه لله وهو محسن :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
قال تعالى : وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111) بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (112) [البقرة/111، 112]
ادَّعَى اليَهُودُ ، وَادَّعَتِ النَّصَارَى أَنَّهُ لَنْ يَدْخُلَ الجَنَّةَ إَلاَ مَنْ كَانَ عَلَى مِلَتِهِمْ هُمْ . فَرَدَّ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ قَائِلاً : تِلْكَ أَشْيَاءُ يَتَمَنَّوْنَهَا عَلَى اللهِ بِغَيرِ وَجْهِ حَقٍّ ، وَلَيْسَ لَهُمْ دَلِيلٌ وَلاَ حُجَّةٌ عَلَى مَا يَقُولُونَ . فَإِنْ كَانَ لِدَعْوَاهُمْ هذِهِ أَسَاسٌ فَلْيأتُوا بِبُرْهَانٍ عَلَيها . وَبِمَا أَنَّهُمْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ إِقَامَةَ الدَّلِيلِ عَلَى دَعْوَاهُمْ هَذِهِ فَهُمْ إِذاً كَاذِبُونَ مُتَخَرِّصُونَ .(2/119)
وَيَرُدُّ اللهُ تَعَالَى عَلَى دَعْوَى اليَهُودِ وَالنَّصَارَى تِلْكَ فَيَقُولُ لَهُمْ : بَلَى سَيَدْخُلُ الجَنَّةَ الذِين يُسْلِمُونَ وُجُوهَهُمْ للهِ . وَيَنْقَادُونَ لأَمْرِهِ مُطِيعِينَ مُخْلِصِينَ ، وَهُمْ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ فُهؤُلاءِ يُوَفِّيهِمْ رَبُّهُمْ ثَوَابَ أَعْمَالِهِمْ ، وَيُدْخِلُهُم الجَنَّةَ ، وَيُذْهِبُ عَنْهُمُ الخَوْفَ وَالحَزَنَ يَوْمَ القِيَامَةِ ، فَلاَ خَوْفٌ عَلَيهِمْ فِيمَا يَسْتَقْبِلُونَهُ مِنَ الأَمْرِ ، وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ عَلَى مَا يَتْرُكُونَهُ مِنْ أَمْرِ الدُّنيا . فَرَحْمَةُ اللهِ لاَ يَخْتَصُّ بِهَا شَعْبٌ دُونَ شَعْبٍ ، وَكُلُّ مَنْ عَمِلَ لَهَا ، وَأَخْلَصَ فِي عَمَلِهِ ، كَانَ مِنْ أَهْلِهَا .
(8) الذين صبروا على البأساء والضراء :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
قال تعالى : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214) [البقرة/214](2/120)
يُخَاطِبَ اللهُ تَعَالَى الذِينَ هَدَاهُمْ إِلى السِّلْمِ ، وَإِلَى الخُرُوجِ مِنْ ظُلْمَةِ الاخْتِلاَفِ ، إِلى نُورِ الوِفَاقِ ، بِاتِّبَاعِهِمْ هُدَى الكِتَابِ زَمَنَ التَّنْزيلِ ، الذِينَ يَظُنُّونَ مِنْهُمْ أَنَّ انْتِسَابَهُمْ إِلى الإِسْلاَمِ فِيهِ الكِفَايَةُ لِدُخُولِ الجَنَّةِ دُونَ أَنْ يَتَحَمَّلُوا الشَّدَائِدَ وَالأَذَى فِي سَبيلِ الحَقِّ ، وَهِدَايَةِ الخَلْقِ ، جَهْلاً مِنْهُمْ بِسُنَّةِ اللهِ تَعَالَى فِي أَهْلِ الهُدَى مُنْذُ أَنْ خَلَقَهُمْ . فَيَقُولُ لَهُمْ : هَلْ تَحْسَبُونَ أَنَّكُمْ تَدْخُلُونَ الجَنَّةَ قَبْلَ أَنْ تُبْتَلَوا وَتُخْتَبَرُوا كَمَا فُعِلَ بِالذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الأُمَمِ الذِينَ ابْتُلُوا بِالفَقْرِ ( البَأَسَاءُ ) ، وَبِالأَسْقَامِ وَالأَمْرَاضِ ( الضَّرَّاءُ ) ، وَخُوِّفُوا وَهُدَّدُوا مِنَ الأَعْدَاءِ ( زُلْزِلُوا ) ، وَامتُحِنُوا امْتِحَاناً عَظِيماً ، وَاشْتَدَّتِ الأُمُورُ بِهِمْ حَتَّى تَسَاءَلَ الرَّسُولُ وَالمُؤْمِنُونَ قَائِلِينَ : مَتَى يَأْتِي نَصْرُ اللهِ .
وَحِينَما تَثْبُتُ القُلُوبُ عَلَى مِثْلِ هذِهِ المِحَنِ المُزَلْزِلَةِ ، حِينَئِذٍ تَتِمُّ كَلِمَةُ اللهِ ، وَيَجِيءُ نَصْرُهُ الذِي يَدَّخِرُهُ لِمَنْ يَسْتَحِقُّهُ مِنْ عِبَادِهِ الذِينَ يَسْتَيْقِنُونَ أَنْ لاَ نَصْرَ إِلاَّ نَصْرُ اللهِ .
(9) المجاهدون الصابرون :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
قال تعالى : أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) [آل عمران/142](2/121)
وَلاَ تَحْسَبُوا أَنَّكُمْ تَدْخُلُونَ الجَنَّةَ قَبْلَ أَنْ يَخْتَبِرَكُمُ اللهُ تَعَالَى وَيُمَحِّصَكُمْ فِي الشَّدَائِدِ وَالجِهَادِ لِيَرَى صِدْقَ إيمَانِكُمْ ، وَيَرَى مَنْ يَسْتَجِيبُ للهِ ، وَيُخْلِصُ فِي طَاعَتِهِ ، وَقِتَالِ أًَعْدَائِهِ ، وَيَصْبِرُ عَلَى مَكَارِهِ الحُرُوبِ .
(10) العاملون بطاعة الله تعالى :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
قال تعالى : وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (42) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) [الأعراف/42، 43]
وَالذِينَ آمَنَتْ قُلُوبُهُمْ ، وَصَدَّقُوا رُسُلَ اللهِ فِيمَا جَاؤُوهُمْ بِهِ ، وَعَمِلُوا الأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ ، بِجَوارِحِهِمْ ، فَهَؤُلاَءِ أَصْحَابُ الجَنَّةِ يَخْلُدُونَ فِيهَا أَبَداً .
وَالإِيمَانُ وَالعَمَلُ الصَّالِحُ سَهْلانِ مَيْسُورٌ فِعْلُهُمَا لِجَمِيعِ النَّاسِ ، لأنَّ اللهَ لاَ يُكَلِّفُ أَحَداً إلاَّ قَدْرَ طَاقَتِهِ وَاسْتِطَاعَتِهِ .(2/122)
وَيَنْزِعُ اللهُ مَا فِي صُدُورِ أَهْلِ الجَنَّةِ مِنْ حِقْدٍ وَضَغِينَةٍ وَحَسَدٍ ، فَيُصْبِحُونَ مُتَحَابِّينَ ، وَتَجْرِي الأَنْهَارُ مِنْ تَحْتِ أَقْدَامِهِمْ فِي أَرْضِ الجَنَّةِ ، وَيَنْظُرُونَ إلَى مَا هُمْ فِيهِ مِنَ النَّعِيمِ فَيَقُولُونَ : الحَمْدُ للهِ الذِي هَدَانَا إلَى طَرِيقِ الجَنَّةِ ، وَلَوْلاَ هُدَى اللهِ لَمَا كُنَّا اهْتَدَيْنَا إِليهِ ، لَقَدْ كَانَ مَا جَاءَ بِهِ رُسُلُ اللهِ هُوَ الحَقَّ . وَيُنَادُوْنَ ( يُنَادِيهِم اللهُ تَعَالَى أَوْ تُنَادِيهِم المَلاَئِكَةُ الكِرَامُ ) : إنَّ هذِهِ الجَنَّةَ التِي أَنْتُمْ تَحُلُّونَهَا قَدْ أَوْرَثَكُمُ اللهُ إِيَّاهَا ثَوَاباً لَكُمْ وَجَزَاءً عَلَى إِيمَانِكُمْ وَأَعْمَالِكُمُ الصَّالِحَةِ .
وقال تعالى : وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (74) [الزمر/73، 74]
وَيُوِجَّهُ المُتَّقُونَ إِلَى الجَنَّةِ جَمَاعَاتٍ إِثْرَ جَمَاعَاتٍ : المُقَرَّبُونَ ، ثُمَّ الأَبْرَارُ ، ثُمَّ الذِينَ يَلُونَهُمْ ، ثُمَّ الذِينَ يَلُونَهُمْ . . فَإِذَا وَصَلُوا الجَنَّةَ تُفْتَحُ لَهُمْ أَبْوَابُهَا لاسْتِقْبَالِهِمْ ، وَيَسْتَقْبِلُهُمْ حُرَّاسُهَا ( خَزَنُتهَا ) بالتَّحِيَةِ وَالسَّلاَمِ ، وَيَقُولُونَ لَهُمْ : طَابَتْ أَعْمَالُكُمْ وَأَقْوَالُكُمْ ، وَطَابَ سَعْيُكُمْ وَجَزَاؤُكُمْ ، فَادْخُلُوا الجَنَّةَ لِتَمْكُثُوا فِيهَا خَالِدِينَ أَبَداً .(2/123)
وَيَقُولُ المُؤْمِنُونَ حِينَ يَعَايِنُونَ فِي الجَنَّةِ الجَزَاءَ الوَافِرَ الذِي أَعَدَّهُ اللهُ لَهُمْ ، وَالنَّعِيمَ المُقِيمَ : الحَمْدُ للهِ الذِي كَانَ وَعَدَنَا عَلَى ألْسِنَةِ رُسُلِهِ الكِرَامِ بِالثَّوَابِ الكَرِيمِ فِي الآخِرَةِ فَصَدّقْنَا مَا وَعَدَنَا بِهِ ، وَأَكْرَمَنَا بِأَنْ جَعَلَنَا نَتَصَرَّفُ فِي أَرْضِ الجِنَّةِ تَصَرُّفَ الوَارِثِ فِيمَا يَرِثُ ، فَنَتَّخِذُ مِنْهَا مَبَاءَةً وَمَسْكَناً حَيْثُ نَشَاءَ ، فَنِعْمَ الأَجْرُ أَجْرُنَا عَلَى عَمَلِنَا ، وَنِعْمَ الثَّوَابُ ثَوَابُنَا الذِي أَكْرَمَنَا بِهِ اللهُ تَعَالَى .
(11) من باعوا أنفسهم لله :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
قال تعالى : إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111) التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآَمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112) [التوبة/111-112](2/124)
يُرَغِّبُ اللهُ تَعَالَى النَّاسَ فِي الجِهَادِ ، وَيُخْبِرُهُمْ بِأَنَّهُ سَيُعَوِّضُ المُؤْمِنِينَ بِالجَنَّةِ عَنْ بَذْلِهِمْ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ، لِتَكُونَ كَلِمَةَ اللهِ هِيَ العُلْيَا ، وِلإِحْقَاقِ الحَقِّ ، وَإِقَامَةِ العَدْلِ فِي الأَرْضِ ، فَهُمْ حِينَ يُجَاهِدُونَ يَقْتُلُونَ أَعْدَاءَهُمْ ، وَيُقْتَلُونَ هُمْ ، وَهُمْ فِي كِلاَ الحَالَيْنِ مُثَابُونَ عَلَى ذَلِكَ . وَقَدْ وَعَدَ اللهُ عِبَادَهُ المُؤْمِنِينَ بِهَذَا الجَزَاءِ الحَقِّ ، وَجَعَلَهُ حَقّاً عَلَيهِ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالقُرْآنِ .(2/125)
ثُمَّ يَدْعُو اللهُ تَعَالَى مَنِ التَزَمَ مِنَ المُؤْمِنِينَ بِعَهْدِهِ للهِ إِلَى الاسْتِبْشَارِ بِذَلِكَ الفَوْزِ العَظِيمِ ، وَالنَّعِيمِ المُقِيمِ ، لأَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ مَنْ هُوَ أَكْثَرُ مِنَ اللهِ تَعَالَى وَفَاءً بِالْعَهْدِ ، وَلاَ أَكْثََرَ مِنْهُ التِزَاماً بِالوَعْدِ الذِي يَقْطَعُهُ عَلَى نَفْسِهِ الكَرِيمَةِ ، وَلَيْسَ هُنَاكَ رِبْحٌ أَكْبَرُ مِنَ الرّبِحِ الذِي يُحَقّقُهُ المُؤْمِنُونَ فِي هَذِهِ الصَّفْقَةِ . وَهُنَا يُعَدِّدُ اللهُ تَعَالَى صِفَاتِ المُؤْمِنِينَ الذِينَ اشْتَرَى مِنْهُمْ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِالجَنَّةِ ، وَهُمُ : التَّائِبُونَ مِنْ الذُّنُوبِ كُلِّها ، التَّارِكُونَ لِلْفَوَاحِشِ ، القَائِمُونَ بِعِبَادَةِ رَبِّهِمْ ، وَالمُحَافِظُونَ عَلَيهَا ، وَالحَامِدُ نَ للهِ عَلَى نِعَمِهِ وَأَفْضَالِهِ ، السَّائِحُونَ فِي الأَرْضِ ، لِلاعْتِبَارَِ وَ الاسْتِبْصَارِ بِمَا خَلَقَ اللهُ مِنَ العِبَرِ وَ الآيَاتِ ، ( وَقِيلَ أَيْضاً إِنَّ مَعْنَى السَّائِحِينَ هُنَا الصَّائِمُونَ ) وَالمُصَلُّونَ . وَهُمْ مَعْ ذَلِكَ كُلِّهِ يَسْعَوْنَ فِي نَفْعِ خَلْقِ اللهِ ، وَإِرْشَادِهِمْ إِلَى طَاعَتِهِ ، بِأَمْرِهِمْ بِالمَعْرُوفِ ، وَنَهِيهِمْ عَنِ المُنْكَرِ ، مَعَ العِلْمِ بِمَا يَنْبَغِي فِعْلُهُ ، وَيَجِبُ تَرْكَهُ طَاعَةً للهِ ( أَيْ إِنَّهُمْ يَحْفَظُونَ حُدُودَ اللهِ ) . وَيُبَشِّرُ اللهُ المُؤْمِنِينَ المُتَّصِفِينَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الكَرِيمَةِ بِخَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ .
(12) المحسنون :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
قال تعالى : لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26) [يونس/26](2/126)
يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى أَنَّ الذِينَ يَسْتَجِيبُونَ لِدَعْوَةِ اللهِ ، وَيُحْسِنُونَ العَمَلَ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيا ، سَيَكُونُ جَزَاؤُهُمُ الحُسْنَى مِنَ اللهِ فِي الدَّارِ الآخِرَةِ ( وَهَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ ) ، وَسَيُضَاعِفُ اللهُ لَهُمْ ثَوَابَ أَعْمَالِهِمْ ( وَزِيَادَةٌ ) ، وَسَيُدْخِلُهُمُ الجَنَّةَ ، وَسَيُعْطِيهِمْ مَا لاَ عَيْنَ رَأَتْ ، وَلاَ أُذُنٌ سَمِعَتْ ، وَلاَ خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ .
وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى وَزِيَادَةٌ } : ( الحُسْنَى الجَنَّةُ . وَالزِّيَادَةُ النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ ) . وَلاَ يَغْشَى وُجُوهَهُمْ قَتَامٌ أَسْوَدُ ، مِمَّا يَعْتَرِي وُجُوهَ الكَفَرَةِ ، مِنَ القَتَرَةِ وَالغَبَرَةِ ، وَلاَ يَلْحَقُ بِالمُؤْمِنِينَ صَغَارٌ وَلاَ هَوَانٌ وَلاَ ذِلَّةٌ .
وَقَالَ اللهُ تَعَالَى يَصِفُ المُؤْمِنِينَ فِي آيَةٍ أُخْرَى { فَوَقَاهُمُ الله شَرَّ ذَلِكَ اليوم وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً . } لاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ - لاَ يَغْشَى وُجُوهَهُمْ وَلاَ يَعْلُوهَا .
وقال تعالى : إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آَخِذِينَ مَا آَتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19) [الذاريات/15-19](2/127)
أمَّا الذِينَ آمَنُوا باللهِ وَرُسُلِهِ ، وَاتقَوا رَبَّهُمْ وَأطَاعُوهُ ، وَاجْتَنَبُوا مَعَاصِيَهِ ، فَإِنَّهُمْ يَكُونُونَ في ذَلكَ اليَومِ في بَسَاتِينَ وَجَنَّاتٍ تَجْري فيها الأنْهارُ . قَرِيرَةً أعينُهُمْ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهمْ مِنْ نَعيمٍ يَفُوقُ مَا كَانُوا يُؤَمِّلُونَ ، لأنهم كَانُوا في الحَيَاةِ الدُّنيا يَعْمَلُونَ الأعمالَ الصَّالِحَةَ ، طَلَباً لمَرْضَاةِ رَبِّهِمْ ، فَنَالُوا هذا الجَزَاءَ العَظِيمَ .
كَانُوا يَنَامُونَ القَلِيلَ مِنْ سَاعَاتِ الْلِّيلِ ، وَيَقُومُونَ لِلصلاةِ وَالعِبَادةِ في مُعْظَمِهِ . وَكَانُوا يُحيُون الْلِّيلَ مُتَهَجِّدِينَ ، فَإذا جَاءَ وَقْتُ السَّحَرِ أخَذُوا في الاسْتِغْفَارِ كَأنَّهمْ أسْلَفُوا في ليلتِهِم الذُّنُوبَ . وَجَعَلُوا في أمْوالِهِمْ جُزْءاً مُعَيِّناً خَصَّصُوهُ للسَّائِلِ المُحْتَاجِ ، وَلِلْمُتَعَفِّفِ الذِي لا يَجدُ ما يُغْنِيهِ ، وَلاَ يَسْألُ النَّاسَ ، وَلا يَفْطَنُ إليهِ أحَدٌ لِيَتَصَدَّق عَليه .
(13) المحافظون على الصلاة ، البعيدون عن الشهوات :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
قال تعالى :( فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (60) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا (63) [مريم/59-63](2/128)
ثُمَّ جَاءَ مِنْ بَعْدِ هَؤُلاَءِ الأَنْبِيَاءُ الصَّالِحِينَ ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ مِنَ المُؤْمِنِينَ ، القَائِمِينَ بِحُدُودِ اللهِ وَأَوَامِرِهِ المُؤَدِّينَ فَرَائِضَهُ ، خَلْفُ سُوءٍ ، تَرَكُوا الصَّلاَةَ وَإِقَامَتِهَا ، وَأَقْبَلُوا عَلَى شَهَواتِ الدُّنْيا ، فَهَؤُلاَءِ سَوْفَ يَلْقَوْنَ خَسَارةً وَشَرّاً يَوْمَ القِيَامَةِ .
إِلاَّ مَنْ تَدَارَكَ نَفْسَهُ بِالتَّوْبَةِ ، وَصِدْقِ الإِيمَانِ ، وَالعَمَلِ الصَّالِحِ ، وَرَجَعَ عَنْ تَرْكِ الصَّلاَةِ ، وَعَنِ اتِّبَاعِ الشَّهَوَاتِ ، فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى يَقْبَلُ تَوْبَتَهُ ، وَيُحْسِنُ عَاقِبَتَهُ ، وَخِتَامَهُ ، وَيُدْخِلُهُ الجَنَّةَ ، لأَنَّ التَّوْبَةَ تَجُبُّ مَا قَبْلَهَا ، وَلاَ يُنْقِصُهُ اللهُ شَيْئاً مِنْ ثَوَابِ أَعْمَالِهِ الصَّالِحَةِ كما في الحديث الآتي :
( حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : الندم توبة و التائب من الذنب كمن لا ذنب له .
وَالجَنَّاتُ التِي يُدْخِلُهَا اللهُ تَعَالَى التَّائِبِينَ ، هِيَ جَنَّاتُ الإِقَامَةِ الدَّائِمَةِ ( جَنَّاتُ عَدْنٍ ) ، التِي وَعَدَ اللهُ عِبَادَهُ المُتَّقِينَ بِهَا ، وَهِيَ مِنَ الغَيْبِ الَّذِي يُؤْمِنُ بِهِ ، وَلَمْ يَرَوْهُ ، وَإِنَّمَا آمَنُوا بِهِ بِسَبَبِ إِيمَانِهِمْ بِاللهِ ، وَتَصْدِيقِ رُسُلِهِ بِمَا جَاؤُوهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِمْ ، وَاللهُ تَعَالَى لاَ يُخْلِفُ وَعْدَهُ أَبَداً ، فَإِنَّ مَا يَعِدُهُمْ بِهِ رَبُّهُمْ سَيَحْصُلُ ، وَسَيَصِلُ إِلَى العِبَادِ ( أَوْ سَيَأْتِيهِ(2/129)
وَفِي هَذِهِ الجَنَّاتِ لاَ يَسْمَعُ نُزَلاَؤُهَا كَلاَماً لَغْواً تَافِهاً لاَ مَعْنَى لَهُ ، وَلاَ فَائِدَةَ مِنْهُ ، وَإِنَّمَا يَسْمَعُونَ المَلاَئِكَةَ يُحَيُّونَهُمْ بِالسَّلاَمِ ، مِمَّا يُشْعِرُهُمْ بِالاطْمِئْنَانِ وَالسَّعَادَةِ وَالرِّضَا ، وَيَأْتِيهِمْ مَا يَشْتَهُونَ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ فِي طَرَفَيِ النَّهَارِ ( بُكْرَةً وَعَشِيّاً ) كَمَا كَانَ حَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا .
وَالجَنَّةُ الَّتِي بَيَّنَ اللهُ أَوْصَافَهَا العَظِيمَةُ فِيمَا تَقَدَّمَ ، هِيَ الَّتِي يُورِثُهَا عِبَادَهُ المُتَّقِينَ ، الَّذِينَ يُطِيعُونَ رَبَّهُمْ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ ، وَيَكْظِمُونَ الغَيْظَ ، وَيَعْفُونَ عَنِ النَّاسِ .
(14) من صدع بالحق ومات دونه :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
قال تعالى : وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) إِنِّي آَمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27) [يس/20-27]
وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَطْرَافِ المَدِينَةِ يَسْعَى مُسْرِعاً إِلَى حَيْثُ كَانَ يَجْتَمِعُ النَّاسُ وَهُمْ يُحَاوِرُونَ الرُّسُلَ ، فَقَالَ لَهُمْ : يَا قَوْمِ اتِّبِعُوا رُسُلَ اللهِ إِلَيْكُمْ .(2/130)
اتَّبِعُوا الذِينَ لا يَطْلُبُونَ أَجْرَاً عَلَى تَبْلِيِغِهِمْ رِسَالَةَ رَبِّهِمْ ، وَلاَ يَطْلُبُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَاداً ، وَهُمْ مُهْتَدُونَ إِلَى سَبِيلِ اللهِ القَوِيمِ ، فَإِذَا اتَّبَعْتمُوهُم اهْتَدَيْتُمْ بِهُدَاهُمْ
وَيَبْدُوا أَنَّ أَهْلَ المَدِينَةِ اتَّهَمُوا مَوَاطِنَهم ، الذي جَاءَ يَسْعَى مُسْرِعاً لِيُدَافِعَ عَنِ الرُّسُلِ ، وَلْيَنْصَحَ قَوْمَهُ ، بِأَنَّهُ مُوَالٍ لِلرُّسُلِ ، وَمُؤْمِنٌ بِمَا جَاؤُوهُمْ بِهِ ، فَأَجَابَهم قَائلاً : وَلِمَاذَا لاَ يَعْبُدُ اللهَ ، وَلاَ يُخْلِصُ العِبَادَةَ لَهُ ، فَاللهُ تَعَالَى هُوَ الذي خَلَقَهُ ، وَإِلَيْهِ يَرْجِعُ الخَلْقُ جَمِيعاً يَوْمَ القِيَامَةِ لِيُجَازِيَهُمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ .
وَهَلْ تُرِديدُونَنِي أَنْ أَعْبُدَ آلِهَةً غَيْرَ اللهِ تَعَالَى لاَ تَضُرُّ وَلاَ تَنْفَعُ ، فَإِذَا أَرَادَ اللهُ الرَّحْمَنُ أَنْ يُنْزِلَ بِي ضُرّاً لَمْ تَنْفَعْنِي تِلْكَ الآلِهَةُ شَيْئاً ، وَلَمْ تَشْفَعْ لِي عِنْدَهُ ، وَلَمْ تُنْقِذْنِي مِنْ عَذَابِهِ .
إِنِّي إِنْ اتَّخَّْذْتُ تِلْكَ الأَصْنَامُ آلِهَةً مِنْ دُونِ اللهِ ، كُنْتُ فِي ضَلاَلٍ بَيِّنٍ ، وَاضِحٍ .
ثُمَّ قَالَ الرَّجُلُ المُؤْمِنُ لِلرُّسُلِ الكِرامِ : إِنِّي آمَنْتُ بِربِّكُم الذي أَرْسَلَكُمْ ، وَاتَّبَعْتُكُمْ ، فَاشْهَدُوا لِي بِذَلِكَ ، عِنْدَ رَبِّكُمْ الكَّرِيمِ .
( وَهُنَاكَ مَنْ قَالَ إِنَّهُ إِنَّمَا خَاطَبَ قَوْمَهُ ، قَائِلاً إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ الذِي كَفَرْتُمْ أَنْتُمْ بِهِ ) .(2/131)
وَيُرْوَى أَنَّ القَوْمَ وَثَبُوا عَلَيْهِ فَقَتَلُوهُ ، وَلَم يَجِدْ مَنْ يَدَافِعُ عَنْهُ بَيْنَهُمْ ، فَأَدْخَلَهُ اللهُ تَعَالَى الجَنَّةَ ، وَأَكْرَمَهُ عَلَى حُسْنِ إِيْمَانِهِ وَثِقَتِهِ بِرَبِّهِ . وَيَقُولُ تَعَالَى إِنَّهُ قَالَ لَهُ : ادْخُلِ الجَنَّةَ جَزَاءً لَكَ عَلَى مَا قَدَّمْتَ مِنْ إِيْمَانٍ وَعَمَلٍ صَالِحٍ ، وَمَا أَسْلَفْتَ مِنْ إِحْسَانٍ . فَلَمَّا دَخَلَهَا ، وَعَايَنَ مَا أَكْرَمَهُ اللهُ بِهِ بِسَبَبِ إِيْمَانِهِ وَصَبْرِهِ ، قَالَ : يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا أَنَا فِيهِ مِنَ النَّعِيمِ ، والخَيْرِ العَمِيمِ ، بِسَبَبِ إِيْمَانِي بِرَبِّي ، وَتَصْدِيقي بِمَا جَاءَ بِهِ رُسُلُه الكِرَامُ .
(15) أن يكونوا عبادا لله حقا :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
قال تعالى : يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آَمَنُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (71) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ (73) [الزخرف/68-73]
وَيَقُولُ اللهُ تَعَالَى لِلْمُتَحَابِّينَ فِي اللهِ يَوْمَ القِيَامَةِ : يَا عِبَادِي لاَ تَخَافُوا مِنْ عِقَابِي ، فَقَدْ آمَنْتُكُمْ مِنْهُ ، وَرَضِيتُ عَنْكُمْ ، وَلاَ تَحْزَنُوا عَلَى مَا خَلَّفْتُمْ فِي الدُّنْيَا . فَالذِي أدَّخَرْتُهُ لَكُمْ فِي الآخِرَةِ خَيْرٌ مِنْهُ .(2/132)
يُبَيِّنُ اللهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ صِفَةَ الذِينَ يَسْتَحِقُّونَ الأَمْنَ مِنَ اللهِ ، وَالرِّضَا ، فَلاَ يَخَافُونَ العَذَابَ ، وَلاَ يَحْزَنُونَ عَلَى مَا خَلَّفُوهُ فِي الدُّنْيَا ، فَقَالَ إِنَّ هَؤُلاَءِ هُمُ الذِينَ آمَنَتْ قُلُوبُهُمْ ، وَصَفَتْ نُفُوسُهُمْ ، وانْقَادَتْ لِشَرْعِ الله بَوَاطِنُهُمْ وَظَوَاهِرُهُمْ .
وَقَالَ لَهُمْ : ادْخُلُوا أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ وَنُظَراؤُكُم الجَنَّةَ تَنْعَمُونَ فِيهَا وَتَسْعَدُونَ ( تُحْبَرُونَ ) بِمَا أَعَدَّهُ اللهُ تَعَالَى لَكُمْ مِنْ عَطَاءٍ غَيْرِ مَمْنُونٍ وَلاَ مَقْطُوعٍ .
وَبَعْدَ أَنْ يَسْتَقِرُّوا فِي الجَنَّةِ يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِأَوَانٍ مِنْ ذَهَب عَلَيْهَا أَنْوَاعُ الطَّعَامِ ، وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِأَكْوَابٍ لِلشَّرَابِ مِنْ ذَهَبٍ ، وَفِي كُلٍّ مِنَ الأَوَانِي والأَكْوَابِ مَا تَشْتَهِيهِ الأَنْفُسُ ، وَتَتَلَذُّذُ بِهِ الأَعْيُنُ ، فَيَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ وَيَنْعَمُونَ وَيَتَلَذَّذُونَ ، وَيُقَالُ لَهُمْ إِكْمَالاً لِسُرُورِهِمْ : إِنَّهُمْ بَاقُونَ فِي هَذَا النَّعِيمِ فِي الجَنَّةِ خَالِدِينَ أَبَداً .
ثُمَّ يُقَالُ لِهَؤُلاَءِ الرَّاتِعِينَ فِي هَذَا النَّعِيمِ الدَّائِمِ : إِنَّ هَذِهِ هِيَ الجَنَّةُ ، وَقَدْ جَعَلَهَا اللهُ بَاقِيَةً لَكُمْ كَالمِيَرَاثِ الذِي يَبْقَى عَنِ المُوَرِّثِ ، جَزَاءً لَكُمْ عَلَى أَعْمَالِكُم الصَّالِحَةِ ، وَإِيْمَانِكُمْ بِرَبِّكُمْ . وَلَكُمْ فِيهَا مِنْ أَصْنَافِ الفَوَاكِه مَا لاَ حَصْرَ لَهُ تَأْكُلُونَ مِنْهَا مَا تَتَخَيَّرونَ بِغَيْرِ حِسَابٍ لِتَتِمَّ لَكُم النِّعْمَةُ والغِبْطَةُ والحُبُورُ .
(16) المستقيمون :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ(2/133)
قال تعالى : إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (14) [الأحقاف/13، 14]
إِنَّ الذِينَ قَالُوا : رَبُّنَا اللهُ لا إِلَهَ غَيرُهُ ، وَلاَ مَعْبُودَ سِوَاهُ ، ثُمَّ ثَبَتُوا عَلَى تَصْدِيقِهِم بِذَلِكَ ، وَلَمْ يَخْلِطُوا إِيمَانَهم بِشِرْكٍ أَوْ ظُلْمٍ ، وَلَمْ يُخالِفُوا أَمْرَ اللهِ ، أُولئِكَ لا خَوْفٌ عَلَيهِمْ فِيما يَسْتَقْبِلُونَهُ مِنْ أَمْرِهِمْ يَومَ القيامة وَلا يَحزَنُونَ عَلَى مَا خَلَّفُوهُ وَرَاءَهُم في الدُّنيا .
وََهَؤُلاءِ الذِينَ آمَنُوا بالله واستَقَامُوا عَلَى الإِيمَانِ والعَمَلِ الصَّالِحِ ، هُمْ أَصْحَابُ الجَنَّةِ يَخلُدُونَ فِيها أبداً ، ثَواباً لَهُمْ مِنْ عِنْدِ الله وَجَزَاءً لَهُمْ عَلَى مَا قَدَّمُوا مِنْ أَعْمَالٍ صَالِحَاتٍ فِي الدُّنيا .
(17) التائبون الداعون الشاكرون :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
قال تعالى : (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (16) [الأحقاف/15-16](2/134)
بَعْدَ أَنْ أَمَرَ اللهَ تَعَالى عِبَادَهَ بالإِيمانِ بِهِ وَبِتَصْدِيقِ رَسُولِهِ ، وبما جاءَ بِهِ مِنْ كِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ ، والاستِقَامَةِ عَلَى الإِيمانِ ، حَثَّ النَّاسَ عَلَى الإِحسَانِ إِلى الوَالِدَينِ فأَخبَرَ تَعَالَى : أَنَّهُ أَمَرَ الإِنسَانَ بالإِحسَانِ إِلى وَالديْهِ ، وَبِالحُنُوِّ عَلَيهِما ، وَجَعَلَ برَّهُما مِنْ أَفْضَلِ القُرُبَاتِ إِلى اللهِ ، وَجَعَلَ عُقُوقَهُما مِنَ كَبَائِرِ الذُّنوبِ ، ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالى سَبَبَ تَوصِيَتِهِ الإِنسَانَ بِبِرِّ وَالدَيهِ ، فَقَالَ : إِنَّ أُمَّهُ قَاسَتْ في حَمْلِهِ مَشَقَّةً وَتَعَباً ، وَقَاسَتْ في وَضعِهِ مَشَقَّةً وأَلماً ، وَكُلُّ ذَلِكَ يَسْتَدعي مِنَ الإِنسانِ الشكرَ ، واستِحقَاقَ التَّكريمِ ، وَجَميلَ الصُّحْبَةِ . وَمُدَّةُ حَمْلِ الطّفْلِ ، وفِطَامِهِ ، ثَلاثُونَ شَهْراً تَتَحَمَّلُ فِيها الأٌمُ أَعْظَمَ المَشَاقِّ . حَتَّى إِذَا بَلَغَ الطّفْلُ كَمَالَ قُوَّتِهِ وَعَقْلِهِ ، وَبَلَغَ أَربَعِينَ سَنَةً مِنْ عُمْرِهِ قَالَ : رَبِّ أَلْهِمْنِي وَوَفِّقْنِي إِلى شُكْرِ نِعْمَتِكَ التِي أَنْعَمْتَ بِها عَلَيَّ ، وَعَلَى وَالِدَيَّّ ، مِنْ صِحَّةِ جِسْمٍ ، وَسَعَةِ عَيْشٍ ، واجْعْلَنْي أَعْمَل عَمَلاً صَالِحا يُرضِيكَ عَنِّي لأَنَالَ مَثُوبَتَهُ عِنْدَكَ ، وَاجَعْلِ اللهُمَّ الصَّلاَحَ سَارِياً في ذُرِّيَّتِي ، إِني تُبتُ إِليكَ مِنْ ذُنُوبِي التِي صَدَرتَ عَنِّي فِيما سَلَفَ مِنْ أَيَّامِي ، وَإِنِّي مِنَ المُستَسلِمِينَ لأَمرِكَ وَقَضَائِكَ .(2/135)
وَهؤلاءِ المُتَّصِفُونَ بِالصِّفَاتِ السَّابِقَةِ ( التَّائِبُونَ إِلى اللهِ ، المُنِيبُونَ إِليهِ ، المُسْتَدْرِكُونَ مَا فَاتَ بِالتُّوْبَةِ والاسْتِغْفَارِ . . ) هُمُ الذِينَ يَتَقَبَّلُ اللهُ تَعَالى مِنْهُمْ أحسَنَ مَا عَمِلُوهُ في الدُّنيا ، وَيَصْفَحُ عَنْ سَيِّئاتهِمْ فَيَغْفِرُ لَهُمُ الكَثيرَ مِنَ الزَّلَلِ الذِي صَدَرَ مِنْهُم فِي حِيَاتِهم الدُّنيا ، ولمْ يَتَرسَّخْ فِعْلُهُ في نُفُوسِهِم ، وَيَقْبَلُ القَليلَ مِنَ العَمَلِ . وَهُمْ في عِدادِ أَهْلِ الجَنَّةِ تَحقيقاً للوَعْدِ الصِّدْقِ الذِي وَعَدَهُمْ بِهِ رَبُّهم فِي الدُّنيا ، وَلا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ أَبداً .
( وَرُوِيَ أَنَّ هذهِ الآيةَ نَزَلَتْ في سَعْدِ بنِ أَبي وَقَّاصٍ .
وَرُوِيَ أَيْضاً أَنَّها نَزَلَتْ في أَبي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ . والآيَةُ تَنْطَبِقُ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ فَهُوَ مُوصىً بِوالِدَيهِ ، مَأْمُورٌ بِشُكْر أَنْعُمِ الله عَلَيهِ وَعليهِما ، وَبأَنْ يَعْمَلَ صَالِحاً ، وَأَنْ يَسْعَى في إِصْلاَحِ ذُرِّيَّتهِ ، وَأَنْ يَدْعُوَ اللهَ أَنْ يُوِّفقَهُ إِلى عَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ ) .
(18) من قتل في سبيل الله :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
قال تعالى :وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6) [محمد/4-6](2/136)
واللهُ يَجْزِي الشَّهَداءَ الذِينَ قُتِلُوا في سَبِيلِهِ تَعَالى ، وَيَتَجَاوزُ عَنْ سَيَّئَاتِهِمْ ، وَيُثَمِّرُ لَهُمْ أعْمالَهُمْ وَيُنَمِّيها لَهُمْ .وسَيَهْدِي اللهُ الشُهَدَاءَ في سَبيلِهِ إلى طَريقِ الجَنَّةِ ، ويُصْلِحُ حَالَهم في الآخِرَةِ .وَيدُخْلِهُمَ ربُّهم الجَنَّةَ ، فَيَجِدُ كُلُّ وَاحِد فيها مَقَرَّهُ لا يَضِلُّ في طَلَبِه ، وَكَأنَّهُ يَعْرِفُهُ مِنْ قَبْلُ .
(19) من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
قال تعالى : وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41) [النازعات/40-41]
وَأَمَّا مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ سَيَقُومُ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ يَوْمَ القِيَامَةِ ، وَأَنَّهُ سَيُسْأَلُ عَنْ أَعْمَالِهِ ، فَحَاذَرَ ذَلِكَ اليَوْمَ ، وَحَسَبَ حِسَابَهُ ، وَجَنَّبَ نَفْسَهُ الوُقُوعَ فِي المَحَارِمِ ، وَالانْسِيَاقِ وَرَاءَ الهَوَى وَالشَّهَوَاتِ . فَتَكُونُ الجَنَّةُ جَزَاءَهُ ، وَفِيهَا مَأْوَاهُ وَمَصِيرُهُ .
(20) الذين يؤثرون ما عند الله على متاع الدنيا :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ
قال تعالى : زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآَبِ (14) قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15) [آل عمران/14، 15](2/137)
يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى أنَّهُ فَطَرَ النَّاسَ عَلَى حُبِّ الشَّهَواتِ فِي هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا ، مِنْ أنْواعٍ المَلَذَّاتِ مِنَ النِّسِاءِ وَالبَنِينَ ، وَالأَمْوَالِ وَالخَيْلِ وَالأنْعَامِ وَالحَرْث ، وَهِيَ زَهْرَةُ الحَيَاةِ الدُّنيا الفَانِيَةِ ، وَزِينَتُهَا الزَّائِلَةُ ، وَهِيَ لاَ تُقَاسُ بِمَا ادَّخَرَهُ اللهُ لِعِبَادِهِ المُؤْمِنينَ الصَّالِحِينَ فِي الآخِرَةِ ، وَعِنْدَ اللهِ حُسْنُ المَرْجِعِ ، وَعِنْدَهُ حُسْنُ الثَّواب .
قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِلنَّاسِ أتُرِيدُونَ أنْ أُخْبِرَكُمْ بِخَيْرٍ مِمّا زُيِّنَ للنَّاسِ فِي الحَيَاةِ الدُّنيا مِنْ نَعِيمِها الزَّائِلِ؟ هُوَ مَا أعَدَّهُ اللهُ تَعَالَى لِلْمُتَّقِينَ مِنْ عِبَادِهِ ، الذِينَ أخْبَتُوا إلى رَبِّهِمْ وَأنَابُوا إليهِ ، مِنْ جَنَّاتٍ تَتَفَجَّرُ فِي أرْضِها الأنْهَارُ ، مُخَلَّدِينَ فِيها لا تَزُولُ عَنْهُمْ أبداً ، وَلاَ يَبْغُونَ عَنْهَا تَحَوُّلاً ، وَلَهُمْ فِيها أزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ مِنَ الدَّنَسِ وَالخُبْثِ وَالكَيْدِ وَسُوءِ الخُلُقِ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمّا يَعْتَرِي النِّسَاءَ . وَيَغْمُرُهُمْ رِضْوَانُ اللهِ فَلاَ يَسْخَطُ عَلَيهِمْ رَبُّهُمْ أبداً ، وَاللهُ بَصِيرٌ بِالعِبَادِ ، يُعْطِي كُلَّ وَاحِدٍ بِحَسَبِ مَا يَسْتَحِقُّ مِنَ العَطَاءِ .
(21) الذاكرون الله في كل أحوالهم :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ(2/138)
قال تعالى : إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192) رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آَمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآَمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآَتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194) فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195) [آل عمران/190-195](2/139)
إنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ ، وَمَا فِيها مِنْ مَشَاهِدَ عَظِيمَةٍ ، وَكَوَاكِبَ وَسَيَّارَاتٍ ، وَفِي خَلْقِ الأَرْضِ ، وَمَا فِيها مِنْ بِحَارٍ ، وَأَنْهَارٍ وَجِبَالٍ وَأَشْجِارٍ وَنَبَاتْ ، وَفِي تَعَاقُبِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ، وَتَقَارُضِهِمَا الطُّولَ وَالقِصَرَ ، وَيَطُولُ هَذا تَارةً ، وَيَطُولُ الآخَرَ تَارَةً أخْرَى . . . لآيَاتٍ وَبَرَاهِينَ وَحُجَجَاً وَدَلائِل عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللهِ ، وَعَظِيمَ قُدْرَتِهِ ، لأهْلِ العُقُولِ وَالأَلْبَابِ الزّكِيَّةِ .وَيَصِفُ اللهُ تَعَالَى أُوْلِي الأَلْبَابِ فَيَقُولُ عَنْهُمْ : إِنَّهُمُ الذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قَائِمِينَ وَقَاعِدِينَ وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَلاَ يَقْطَعُونَ ذِكْرَ اللهِ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِمْ ، بِسَرَائِرِهِمْ ، وَأَلْسِنَتِهِمْ . . . وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لِيَفْهَمُوا مَا فِيهَا مِنْ أَسْرَارِ خَلِيقَتِهِ ، وَمِنْ حِكَمٍ وَعِبَرٍ وَعِظَاتٍ ، تَدُلُ عَلَى الخَالِقِ ، وَقُدْرَتِهِ ، وَحِكْمَتِهِ ، ثُمَّ يَرْجِعُونَ إلَى أَنْفُسِهِمْ وَيَقُولُونَ سُبْحَانَكَ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا الخَلْقَ عَبَثاً وَبَاطِلاً ، رَبَّنَا تَنَزَّهْتَ عَنِ العَبَثِ وَالبَاطِلِ ، وَإنَّمَا خَلَقْتَهُ بِالحَقِّ ، وَالإِنْسَانِ مِنْ بَعْضِ خَلْقِكَ لَمْ تَخْلُقْهُ عَبَثاً ، وَإِنَّمَا خَلَقْتَهُ لِحِكْمَةٍ . وَمَتَى حُشِرَ الخَلْقُ إلَيكَ حَاسَبْتَهُمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ ، فَتَجْزِي الذِينَ أَسَاؤُوا بِمَا عَمِلُوا ، وَتَجْزِي الذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى . ثُمَّ يُتِمُّونَ دُعَاءَهُمْ سَائِلِينَ رَبَّهُمْ أنْ يَقِيَهُمْ عَذابَ النَّارِ .(2/140)
ثُمَّ يُتَابِعُونَ دُعَائَهُمْ وَرَجَاءَهُمْ لِرَبِّهِمْ قََائِلِينَ : رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلَهُ النَّارَ فَقَدْ أَهَنْتَهُ وَأَذْلَلْتَهُ ، وَأَظْهَرْتَ خِزْيَهُ لأَهْلِ الجَمْعِ يَوْمَ القِيَامَةَ ، وَالظَّالِمُونَ لاَ يَجِدُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ مَنْ يَنْصُرُهُمْ مِنَ اللهِ . وَبَعْدَ أَنْ عَرَفُوا اللهَ حَقَّ المَعْرِفَةِ بِالذِّكْرِ وَالفِكْرِ ، عَبَّرُوا عَنْ وُصُولِ دَعْوَةِ الرَّسُولِ إلَيْهِمْ ، وَاسْتِجَابَتِهِمْ لِدَعْوَتِهِ سِرَاعاً ، فَقَالُوا : رَبَّنَا إنَّنَا سَمِعْنَا دَاعِياً يَدْعُو النَّاسَ إلَى الإِيمَانِ بِكَ ( وَهُوَ الرَّسُولُ ) ، وَيَقُولُ : آمِنُوا بِرَبِّكُمْ ، فآمَنَّا مُسْتَجِيبِينَ لَهُ ، رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا ، وَتَجاوَزْ عَنْ سَيِئَاتِنَا ، فِيمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ ، وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارَ الصَّالِحِينَ وَأَلْحِقْنَا بِهِمْ .رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى لِسَانِ رُسُلِكَ ، وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ القِيَامَةِ أَمَامَ الخَلْقِ ، إنَّكَ لاَ تُخْلِفُ المِيْعَادَ الذِي أَخْبَرَ عَنْهُ رُسُلُكَ الكِرَامُ ، وَهُوَ قِيَامُ الخَلْقِ يَوْمَ القِيَامَةِ بَيْنَ يَدَيْكَ ، وَإنَّكَ تَجْزِي العَامِلِينَ الصَّالِحِينَ بِالخَيْرِ وَالحُسْنَى ، وَتَجْزِي الذِينَ أسَاؤُوا بِمَا يَسْتَحِقُونَ مِنْ عَذَابِ النَّارِ .(2/141)
لَمَّا سَأَلَ المُؤْمِنُونَ ذَوُو الأَلْبَابِ رَبَّهُمْ مَا سَأَلُوا فِي الآياتِ السَّابِقَاتِ ، اسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ لِصِدْقِهِمْ فِي إيمَانِهِمْ ، وَذِكْرِهِمْ وَتَفَكُّرِهِمْ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ، وَتَنْزِيهِهِمْ رَبَّهُمْ عَنِ العَبَثِ ، وَتَصْدِيقِهِمْ رُسُلَهُ ، وَقَالَ لَهُمْ : إنَّهُ لاَ يُضَيِّعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْهُمْ مِنْ ذَكَرٍ أوْ أُنْثَى ، وَإنَّهُ سَيُوَفِّي كُلَّ عَامِلٍ أَجْرَهُ ، وَجَمِيعُهُمْ لَدَيهِ سَوَاءٌ فِي الثَّوَابِ ( بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ ) ، فَالذِينَ هَاجَرُوا مِنْ دَارِ الشِّرْكِ وَأَتَوا إلى دَارِ الإِيمَانِ ، وَضَايَقَهُمُ المُشْرِكُونَ حَتَّى اضْطَرُّوهُمْ إلى الخُرُوجِ مِنْ دِيَارِهِمْ ، وَمُفَارَقَةِ أَهْلِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ ، لاَ لِشَيءٍ إلاَّ أنْ يَقُولُوا رَبَّنَا اللهُ ، وَالَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ ، وَيُقْتَلُونَ صَابِرِينَ مُحْتَسَبِينَ . . . فَهؤُلاءِ جَمِيعاً سَيُكَّفِرُ اللهُ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَخَطَايَاهُمْ ، وَسَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي الأنْهَارُ فِي جَنَبَاتِهَا ، وَيُنِيلُهُمْ ذَلِكَ جَزَاءً لَهُمْ مِنْ عِنْدِ اللهِ ، وَثَوَاباً جَزِيلاً مِنْهُ ، لأنَّ اللهَ عَظِيمٌ ، وَالعَظِيمُ لاَ يُعْطِي إلاَّ جَزِيلاً . وَلِلْعِبَادِ الصَّالِحِينَ عِنْدَ اللهِ خَيْرُ الجَزَاءِ وَالثَّوابِ .
(22) المحافظون على حدود الله :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ
قال تعالى : تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) [النساء/13](2/142)
وَهَذِهِ الأَنْصِبَةُ التِي حَدَّدَهَا اللهُ تَعَالَى لِلْوَرَثَةِ بِحَسَبِ قُرْبِهِمْ مِنَ المَيِّتِ هِيَ حُدُودُ اللهِ ، فَلاَ تَعْتَدُوا فِيها ، وَلاَ تَتَجَاوَزُوهَا . وَمَنْ يُطِعْ أَمْرَ اللهِ ، وَأَمْرَ رَسُولِهِ ، فَيمَا فَرَضَهُ اللهُ لِلْوَرَثَةِ ، فَلَمْ يُنْقِصْ لِبَعْضِهِمْ ، وَلَمْ يَزِدْ بَعْضَهُمْ بِحِيلةٍ أَدْخَلَهُ اللهُ جَنَّةً تَجْرِي مِنْ تَحْتِها الأَنْهَارُ خَالِداً فِيها ، وَهَذا هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ .
(23) أداء الفرائض :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
قال تعالى : ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) [البقرة/2-5]
لاَ شَكَّ في أَنَّ هَذَا القُرآنَ ( الكِتَابُ ) مُنْزَلٌ مِنْ عِندِ اللهِ ، وَهُوَ هُدًى وَنُورٌ يَهتَدِي بِهِ المُتَّقُونَ ، الذِينَ يَجتَهِدُونَ في العَمَلِ بِطَاعَةِ اللهِ ، وَيَتَّقُونَ الشِّرْكَ وَأَسْبَابَ العِقَابِ .
وَهؤلاءِ المُتَّقُونَ هُمُ الذينَ يُصَدِّقُونَ بِحَزمٍ وَإيمانٍ وإِذعَانٍ بما لاَ يَقَعُ تَحْتَ حَواسِّهِمْ ( الغَيْبِ ) فَيُؤْمِنُونَ بِاللهِ ، وَبِمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَجَنَّتِهِ وَلِقَائِهِ ، وَبِالحَيَاةِ بَعْدَ المَوْتِ . وَهُمْ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ ، وَيُؤَدُّونَها حَقَّ أَدَائِهَا وَيُتِمُّونَ - بِخُشُوعٍ تَامٍّ ، وَحُضُورِ قَلْبٍ - رُكُوعَهَا وَسُجُودَهَا وَتِلاوَتَهَا ، وَيُنْفِقُونَ ممَّا رَزَقَهُمُ اللهُ في وُجُوهِ الخَيرِ ، وَيُؤَدُّونَ زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ .(2/143)
وَهؤلاءِ المُتَّقُونَ هُمُ الذينَ يُصَدِّقُونَ بما جِئْتَ بِهِ يَا مُحَمَّدُ مِنْ عِنْدِ اللهِ ، وَبمَا أُنزِلَ عَلَى مَنْ قَبْلَكَ مِنَ المُرْسَلِينَ ، لا يُفَرِّقُونَ بَيْنَهُمْ ، وَلا يَجْحَدُونَ بما جَاؤُوهُمْ بِهِ مِنْ رَبِّهِمْ ، وَهُمْ يَعْتَقِدُونَ بِصِدْقِ مَا جَاءَتْهُمْ بِهِ النُّبُوَّاتُ مِنَ البَعْثِ وَالحِسَابِ في الآخِرَةِ .
فَهؤُلاءِ المُتَّصِفُونَ بالصِّفَاتِ المُتَقَدِّمَةِ : مِنْ إِيمَانٍ باللهِ ، وَإِيمَانٍ بِالبَعْثِ وَالحِسَابِ ، وَإِقَامَةِ الصَّلاَةِ ، وَتَأْدِيةِ الزَّكَاةِ . . . هُمْ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَنُورٍ وَبَصِيرَةٍ ، وَهُمُ المُفْلِحُونَ الفَائِزُونَ الذِينَ أَدْرَكُوا مَا طَلَبُوهُ بعدَ السَّعيِ الحَثِيثِ فِي الحُصُولِ عَليهِ ، وَنَجَوْا مِنْ شَرِّ مَا اجْتَنَبُوهُ .
وقال تعالى : وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآَتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآَمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12) [المائدة/12](2/144)
يَقُولُ تَعَالَى : إنَّهُ أَخَذَ العُهُودَ وَالمَوَاثِيقَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ لَيَعْمَلُنَّ بِأَحْكَامِ التَّورَاةِ التِي تَحْوي شَرِيعَتَهُمْ . وَأَمَرَ مُوسَى عَلَيهِ السَّلاَمُ ، بِأنْ يَخْتَارَ مِنْ كُلِّ سِبْطٍ ، مِنْ أَسْبَاطِ بَنِي إِسْرَائِيلَ الاثْنَيِ عَشَرَ ، نَقِيباً يَكُونُ كَفِيلاً عَلَى جَمَاعَتِهِ ، بِالوَفَاءِ بِتَنْفِيذِ مَا أُمرُوا بِهِ ، فَاخْتَارَ مُوسَى النُّقَبَاءَ ، وَأَخَذَ المِيثَاقَ وَتَكَفَّلَ لَهُ النُّقَبَاءُ بِالوَفَاءِ بِمَا الْتَزَمُوا بِهِ .فَسَارَ بِهِمْ مُوسَى إلى الأرْضِ المُقَدَّسَةِ التِي وَعَدَهُمُ اللهُ السُّكْنَى فِيهَا ، وَكَانَ فِيها الكَنْعَانِيُّونَ ، فَلَمَّا دَنَا مِنْهَا بَعَثَ مُوسَى النُّقَبَاءَ يَتَحَسَّسُونَ الأخْبَارَ ، فَرَأوا أجْسَامَ الكَنْعَانِيِّينَ قَوَّيةً ، فَهَابُوهُمْ ، وَرَجَعُوا يُحَدِّثُونَ قَوْمَهُمْ بِمَا رَأوا ، وَكَانَ مُوسَى قَدْ نَهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ ، فَنَكَثُوا المِيثَاقَ ، وَلَمْ يَلْتَزِمْ بِهِ إلاَّ نَقِيبَانِ .(2/145)
وَقَالَ اللهُ تَعَالَى لِبَني إسْرَائِيلَ عَلَى لِسَان مُوسَى عَلَيهِ السَّلاَمُ : إنَّكُمْ بِحِفْظِي وَرِعَايَتِي ، وَإنِّي نَاصِرُكُمْ وَمُعِينُكُمْ مَا دُمْتُمْ مُحَافِظِينَ عَلَى المِيثَاقِ ، وَإني مَشْرِفٌ عَلَيكُمْ ، وَمُبْصِرٌ لأَفْعَالِكُمْ ، سَمِيعٌ عَلِيمٌ بِضَمَائِرِكُمْ ، وَقَادِرٌ عَلَى مُجَازَاتِكُمْ ، فَإذا أقَمْتُمُ الصَّلاَةَ ، وَأدَّيتُمُوهَا حَقَّ أَدَائِها ، وَدَفَعْتُمْ زَكَاةَ أَمْوَالِكُمْ ، وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي جَمِيعاً ، وَصَدَّقْتُمُوهُمْ فِيمَا جَاؤُوا بِهِ مِنَ الوَحْي ، وَنَصْرَتُمُوهُمْ وَآزَرْتُمُوهُمْ عَلَى الحَقِّ ( عَزَّرْتُمُوهُمْ ) ، وَأَنْفَقْتُم الأَمْوَالَ فِي سَبِيلِ اللهِ ، وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِهِ ( أَقْرَضَتْمُ اللهُ ) . . . إذَا فَعَلْتُمْ كُلَّ ذَلِكَ لأكَفِّرنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ ، وَأمْحُونَّ ذُنُوبَكُمْ ، وَأسْتُرُهَا عَلَيكُمْ ، وَلا أَؤاخِذُكُمْ عَلَيها وَلأدْخِلَنَّكُمْ فِي رَحْمَتِي ، وَأسْكِنُكُمْ جَنَّتِي التِي تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ . وَمَنْ خَالَفَ هَذا المِيثَاقَ بَعْدَ عَقْدِهِ وَتَوْكِيدِهِ ، فَقَدْ أَخْطَأَ الطَّرِيقَ الوَاضِحَ ، وَعَدَلَ عَنِ الهُدَى إلَى الضَّلالِ .
وقال تعالى : وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71) وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72) [التوبة/71، 72](2/146)
المُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَيْنَهُمْ أُخُوَّةٌ ، وَمَوَدَّةٌ ، وَتَعَاوُنٌ ، وَتَرَاحُمٌ ، وَيَتَّصِفُونَ بِالصِّفَاتِ الحَمِيدَةِ التِي يَأْمُرُهُمْ بِهَا دِينُهُمْ : فَيَتَنَاصَرُونَ وَيَتَعَاضَدُونَ وَيَفْعَلُونَ الخَيْرَ ، وَيَأْمُرُونَ بِهِ ، وَيَنْتَهُونَ عَنِ المُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنْهُ ، وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤَدُّونَهَا حَقَّ أَدَائِهَا ، وَيُؤَدُّونَ زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إِلَى مُسْتَحِقِّيهَا ، وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ فِيمَا أَمَرَ ، وَيَتْرُكُونَ مَا نَهَى عَنْهُ وَزَجَرَ . وَالمُتَّصِفُونَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الطَّيِّبَةِ الْكَرِيمَةِ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ ، وَاللهُ عَزِيزُ الجَانِبِ ، يُعِزُّ مَنْ يَشَاءُ ، وَهُوَ حَكِيمٌ فِي قِسْمَتِهِ الصِّفَاتِ بَيْنَ خَلْقِهِ ، فَجَعَلَ المُؤْمِنِينَ يَخْتَصُّونَ بِالصِّفَاتِ الحَمِيدَةِ ، وَالمُنَافِقِينَ يَخْتَصُّونَ بِالصِّفِاتِ الذَمِيمَةِ المُنْكَرَةِ .
وَعَدَ اللهُ المُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ أَنَّهُ سَيُدْخِلُهُمْ فِي الآخِرَةْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ، يُقِيمُونَ فِيهَا خَالِدِينَ أَبَداً ، فِي مَسَاكِنَ طَيِّبَةْ حَسَنَةِ البِنَاءِ ، وَطَيِّبَةِ القَرَارِ فِي هَذِهِ الجَنَّاتِ ، وَوَعَدَهُمْ بِرِضْوَانٍ مِنْهُ أَكْبَرَ وَأَجَلَّ مِمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ النَّعِيمِ ، وَذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ .(2/147)
قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ يَا أَهْلَ الجَنَّةِ . فَيَقُولُونَ : لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ ، فَيَقُولُ : هَلْ رَضِيتُمْ؟ فَيَقُولُونَ : وَمَا لَنَا لاَ نَرْضَى يَا رَبُّ وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَداً مِنْ خَلْقِكَ . فَيَقُولُ : أَلاَ أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُونَ : وَأَيُّ شَيءٍ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ : أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي فَلاَ أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَداً " ( رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَمَالِكُ ) .
(24) الذين آمنوا بالرسول صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ
قال تعالى : لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85) [المائدة/82-85](2/148)
يَقُولُ تَعَالَى : إنَّ أَكْثَر النَّاسِ عَدَاوَةً لِلْمُؤْمِنِينَ ( الذِينَ آمَنُوا بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَاتَّبَعُوهُ ) ، هُمُ اليَهُودُ وَالمُشْرِكُونَ . وَإِنَّ أَقْرَبَ النَّاسِ مَوَدَّةً لِلْمُسْلِمِينَ هُمُ النَّصَارَى ، الذِينَ قَالُوا عَنْ أَنْفُسِهِمْ إنَّهُمْ يُتَابِعُونَ المَسِيحَ عَلَى دِينِهِ ، لِمَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الرِّقَّةِ وَالرَّأْفَةِ ، وَلأَنَّ بَيْنَهُمْ قِسِّيسِينَ يَتَوَلَّوْنَ تَعْلِيمَهُمْ أَحْكَامَ الدِّينِ ، وَيُبَصِّرُونَهُمْ بِمَا فِي دِينِهِمْ مِنْ سُمُوٍّ وَآدَابٍ وَفَضَائِلَ ، وَلأَنَّ بَيْنَهُمْ رُهْبَاناً يَضْرِبُونَ لَهُمُ المَثَلَ فِي الزُّهْدِ وَالتَقَشُّفِ وَالإِعْرَاضِ عَنِ الدُّنْيا وَزُخْرُفِهَا وَفِتْنَتِهَا ، وَيُنَمُّونَ فِي نُفُوسِهِمُ الخَوْفَ مِنَ اللهِ ، وَالانْقِطَاعَ لِلْعِبَادَةِ ، وَإنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنِ الإِذْعَانِ لِلْحَقِّ ، حِينَمَا يَتَبَيَّنُ لَهُمْ أنَّهُ حَقٌّ . ( كَانَ اليَهُودُ وَالمُشْرِكُونَ يَشْتَرِكُونَ فِي بَعْضِ الصِفَاتِ التِي اقْتَضَتْ عَدَاوَتَهُمُ الشَّدِيدَةَ لِلْمُؤْمِنِينَ : كَالكِبْرِ وَالعُتُوِّ وَالبَغْيِّ وَالأَثَرَةِ وَالقَسْوَةِ ، وَضَعْفِ العَاطِفَةِ الإِنْسَانِيَّةِ ( مِنْ حَنَانٍ وَرَحْمَةٍ ) وَالعَصَبِيَّةِ القَوْمِيَّةِ . وَكَانَ مُشْرِكُو العَرَبِ فِي جَاهِلِيَّتِهِمْ أَرَقَّ مِنَ اليَهُودِ قُلُوباً ، وَأَعْظَمَ سَخَاءً وَإِيثَاراً ، وَأَكْثَرَ حُرِّيَّةً فِي الفِكْرِ وَاسْتِقْلالاً فِي الرَّأْيِ ) .(2/149)
وَإذَا سَمِعُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنَ القُرْآنِ ، وَتُلِيَ عَلَيْهِمُ القُرْآنَ ، تُفيِضُ عُيُونُهُمْ بِالدَّمْعِ ( أَيْ يَبْكُونَ حَتَّى يَسيلَ الدَّمعُ مِنْ عُيُونِهِمْ ) ، لأَنَّهُمْ عَرَفُوا أَنَّ مَا بَيْنَهُ القُرْآنُ هُوَ الحَقُّ ، وَلَمْ يَمْنَعْهُمْ مِنْ ذَلِكَ عُتُوٌّ وَلاَ اسْتِكْبَارٌ وَلا تَعَصُّبٌ كَمَا يَمْنَعُ غَيرَهُمْ . وَحِينَ يَسْمَعُونَ الحَقَّ الذِي جَاءَ بِهِ القُرْآنُ ، وَهُوَ مُطَابِقٌ لِمَا جَاءَ فِي كُتُبِهِمْ ، يَتَضَرَّعُونَ إلى اللهِ بِأنْ يَتَقَبَّلَ مِنْهُمْ إيمَانَهُمْ وَأنْ يَكْتُبَهُمْ مَعْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ الذِينَ جَعَلَهُمُ اللهُ شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ، لأنَّهُمْ يَعْلمُونَ مِنْ كُتُبِهِمْ ، وَمِمَّا يَتَنَاقََلُونَهُ عَنْ أَسْلاَفِهِمْ ، أنَّ النَّبِيَّ الأَخِيرَ الذِي يَكْمُلُ بِهِ الدِّيْنُ ، وَيَتمُّ التَّشْرِيعُ ، يَكُونُ مُتَّبِعُوهُ شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ، وَيَكُونُونَ حُجَّةً عَلَى المُشْرِكِينَ وَالمُبْطِلِينَ . وَيَقُولُ هَؤُلاَءِ المُؤْمِنُونَ مِنَ النَّصَارَى : وَمَا الذِي يَمْنَعُنَا مِنْ أنْ نُؤْمِنَ بِاللهِ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ ، وَمَا الذِي يَصُدُّنَا عَنِ اتِّبَاعِ مَا جَاءَنَا مِنَ الحَقِّ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم ، بَعْدَ أنْ ظَهَرَ أنَّهُ رُوُحُ الحَقِّ الذِي بَشَّرَ بِهِ المَسِيحُ وَإِنَّنَا لَنَطْمَعُ أنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ القَوْمِ الذِينَ صَلَحَتْ أَحْوَالُهُمْ بِالعَقَائِدِ الصَّحِيحَةِ .(2/150)
فَجَازَاهُمُ اللهُ عَلَى إِيمَانِهِمْ بِهِ وَبِرُسُلُهِ ، وَعَلَى تَصْدِيقِهِمْ بِالحَقِّ ، وَاعْتِرَافِهِمْ بِهِ بِإدْخَالِهِمْ فِي رَحْمَتِهِ ، وَإسْكَانِهِمْ فِي جَنَّاتٍ تَجْرِي فِي جَنَبَاتِهَا الأَنْهَارُ ، وَسَيَكُونُونَ فِيهَا خَالِدِينَ أبَداً وَذَلِكَ هُوَ الجَزَاءُ الذِي أَعَدَّهُ اللهُ لِمَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً .
وقال تعالى : وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157) [الأعراف/156، 157]
وَأَثْبِتْ لَنَا ، بِرَحْمَتِكَ وَفَضْلِكَ { واكتب لَنَا } حَيَاةً طَيِّبَةً فِي هذِهِ الدُّنيا ، مِنْ عَافِيةٍ وَبَسْطَةٍ في الرِّزْقِ ، وَتَوْفِيقٍ لِطَاعَةِ ، وَمَثُوبَةٍ حَسَنَةٍ فِي الآخِرَةِ بِدُخُولِ الجَنَّةِ ، وَنَيْلِ رِضْوَانِكَ ، إِنَّنَا تُبْنَا إِلَيْكَ { هُدْنَآ إِلَيْكَ } مِمَّا فَرَطَ مِنْ سُفَهَائِنَا مِنْ عِبَادَةِ العِجْلِ ، وَمِنْ تَقْصِيرِ العُقَلاءِ مِنّا فِي نَهْيِهِمْ وَالإِنْكَارِ عَلَيهِمْ .(2/151)
وَرَدَّ اللهُ تَعَالَى عَلَى دُعَاءِ مُوسَى قَائِلاً : لَقَدْ أَوْجَبْتُ أَنْ يَكُونَ عَذَابِي خَاصّاً أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ مِنَ الكُفَّارِ وَالعُصَاةِ ، الذِينَ لَمْ يَتُوبُوا ، أَمَّا رَحْمَتِي فَقَدْ وَسِعْتَ كُلَّ شَيءٍ ، وَسَأُثْبِتُ رَحْمَتِي بِمَشِيئَتِي لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ الكُفْرَ وَالمَعَاصِيَ ، وَيُؤَدُّونَ الزَّكَاةَ المَفْرُوضَةَ ، وَيُؤْتُونَ الصَّدَقَاتِ التِي تَتَزَكَّى بِهَا نُفُوسُهُمْ ، وَلِلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ وَيُصَدِّقُونَ بِجَمِيعِ آيَاتِي الدَّالَّةِ عَلَى الوحْدَانِيَّةِ ، وَيُصَدِّقُونَ رُسُلِي ، وَمَا جَاؤُوهُمْ بِهِ
وَيُتَابِعُ اللهُ تَعَالَى وَصْفَ الذِينَ يَشْمَلُهُمْ بِرَحْمَتِهِ الوَاسِعَةِ فَيَقُولُ : إِنَّهُمْ الذِينَ يَتَّبِعُونَ مُحَمَّداً النَّبيِّ الأُمِّيَّ ، الذِي لاَ يَكْتُبُ وَلاَ يَقْرَأُ ، وَقَدْ جَاءَ وَصْفُهُ وَالبِشَارَةُ بِهِ فِي التَّورَاةِ وَالإِنْجِيلِ ، وَهُوَ يَأْمُرُهُمْ بِفِعْلِ الخَيْرَاتِ ، وَبِالأَمْرِ بِالمَعْرُوفِ ، وَيَنْهَاهُمْ عَنْ فِعْلِ المُنْكَرِ ، وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ، وَيَضَعُ عَنْهُمُ التَّكَالِيفَ الشَّاقَّةَ ، كَاشْتِرَاطِ قَتْلِ النَّفْسِ فِي صِحَّةِ التَّوْبَةِ ، وَالقِصَاصِ فِي القَتْلِ العَمْدِ أَوِ الخَطَإِ ، مِنْ غَيْرَ شَرْعٍ لِلدِّيَةِ ، وَقَطْعِ الأَعْضَاءِ الخَاطِئَةِ ، وَقَطْعِ مَوْضِعِ النَّجَاسَةِ مِنَ الثَّوْبِ ، وَتَحْرِيمِ السَّبْتِ . . . فَقَدْ جَاءَ مُحَمَّدٌ بِمَا هُوَ يُسْرٌ وِسَمَاحَةٌ .
[ وَقَالَ رَسُولُ اللهُ صلى الله عليه وسلم يُوصِي أَمِيرِينِ أَرْسَلَهُمَا فِي بَعْثَينِ إِلى اليَمَنِ : " بَشِّرَا وَلاَ تُنَفِّرَا وَلاَ تُعَسِّرَا ، وَتَطَاوَعَا وَلاَ تَخْتَلِفَا " ] .(2/152)
وَوَسَّعَ اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم أُمُورَهَا ، وَسَهَّلَهَا لَهَا ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ " فَالذِينَ آمَنُوا بِالرَّسُولِ النَّبِيِّ الأُميِّ ، حِينَ بُعِثَ ، مِنْ قَومِ مُوسَى وَعِيسَى ، وَمِنْ كُلِّ أُمَّةٍ ، وَعَزَّرُوهُ بِأَنْ مَنَعُوهُ وَحَمَوْهُ مِنْ كُلِّ مَنْ يُعَادِيهِ ، مَعَ التَّعْظِيمِ وَالإِجْلاَلِ ، وَنَصَرُوهُ بِاللِّسَانِ وَاليَدِ ، وَاتَّبَعُوا النُّورَ الأَعْظَمَ الذِي أُنْزِلَ مَعَ رِسَالَتِهِ ، وَهُوَ القُرآنُ . . فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ ، الفَائِزُونَ بالرَّحْمَةِ وَالرِّضْوَانِ .
(25) الصادقون مع الله :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
قال تعالى : قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119) [المائدة/119]
وَحِينَ تَبَرَّأَ عِيسَى ، عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، مِنْ عِباَدَةِ مَنْ عَبَدُوهُ ، وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِصِدْقِهِ ، قَالَ تَعَالَى : هَذَا هُوَ اليَوْمُ الذِي يَنْفَعُ فِيهِ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ ، وَالمُوَحِّدِينَ تَوْحِيدُهُمْ ، وَسَتَكُونُ للصَّادِقِينَ جَنَّاتٌ تَجْرِي الأَنْهَارُ فِي جَنَبَاتِهَا ، جَزَاءً وَفَاقاً لَهُمْ ، وَسَيَكُونُونَ فِيهَا خَالِدِينَ أَبَداً ، وَلَقَدْ فَازُوا بِرِضَا رَبِّهِمْ وَرِضَوَانِهِ ، وَرَضُوا عَمَّا أَكْرَمَهُمْ بِهِ رَبُّهُمْ ، وَأَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ ، وَهَذَا هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ الذِي لاَ أَعْظَمَ مِنْهُ .
(26) المجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم :(2/153)
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
قال تعالى : لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89) [التوبة/88-89]
إذَا تَخَلَّفَ الْمُنَافِقُونَ عَنِ الجِهَادِ فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، وَالمُؤْمِنِينَ جَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ ، وَهَؤُلاَءِ وَعَدَهُمُ اللهُ بِالخَيْرَاتِ : فِي الدُّنْيَا بِتَحْقِيقِ النَّصْرِ ، وَمَحُوِ الْكُفْرِ ، وَإِعْلاَءِ كَلِمَةِ اللهِ ، وَالتَّمَتُّعِ بِالمَغَانِمِ ، وَفِي الآخِرَةِ بِرِضَا اللهِ وَجَنَّاتِهِ .
وَقَدْ أَعَدَّ اللهُ تَعَالَى لِهَؤُلاَءِ المُؤْمِنِينَ المُخْلِصِينَ المُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ ، جَزَاءً لَهُمْ عَلَى إِيمَانِهِمْ وَإِخْلاَصِهِمْ فِي طَاعَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ ، جَنَّاتٍ تَجْرِي الأنْهَارُ فِي جَنَبَاتِهَا ، وَهَذَا هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ .
(27) السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار ومن اتبع طريقهم :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ
قال تعالى : وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100) [التوبة/100](2/154)
يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى عَنْ رِضَاهُ عَنِ السَّابِقِينَ الأَوَّلِينَ مِنَ المُهَاجِرِينَ ، ( وَهُمُ الذِينَ هَاجَرُوا قَبْلَ صُلْحِ الحُدَيْبِيَةِ ) ، وَمِنَ الأَنْصَارِ ( وَهُمُ الذِينَ بَايَعُوا الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم فِي بَيْعَتَي العَقَبَةِ وَالرِّضْوَانِ ) ، وَعَلَى التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ . وَيُخْبِرُ تَعَالَى بِرِضَاهُ عَنْهُمْ بِمَا أَسْبَغَ عَلَيْهِمْ مِنْ نِعْمَةٍ فِي الدُّنْيَا ، مِنْ عِزٍّ وَنَصْرٍ وَمَغْنَمٍ وَهُدًى ، وَبِمَا أَعَدَّهُ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ ، مِنْ جَنَّاتٍ تَجْرِي الأَنْهَارُ فِي جَوَانِبِهَا ، وَهُمْ مُخَلَّدُونَ فِيهَا أَبَداً . وَالفَوْزُ الذِي فَازَ بِهِ هَؤُلاَءِ الكِرامُ البَرَرَةُ هُوَ أَعْظَمُ الفَوْزِ .
(28) أن يكونوا من أولي الألباب :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
قال تعالى : أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24) [الرعد/19-24](2/155)
لا يَسْتَوِي المُهْتَدِي مِنَ النَّاسِ ، الذِي يَعْلَمُ أَنَّ الذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الحَقُّ ، الذِي لاَ شَكَّ فِيهِ ، مَعَ الضَّالِّ ، الذِي لاَ يَعْلَمُ ذَلِكَ ، لأنَّهُ يَكُونُ كَالأَعْمَى لاَ يَهْتَدِي إِلَى خَيْرٍ ، وَلاَ يَفْهَمُهُ ، وَلَوْ فَهِمَهُ مَا انْقَادَ إِلَيْهِ ، وَلاَ صَدَّقَ بِهِ وَلاَ انْتَفَعَ . ؟ فَالذِينَ يَتَّعِظُونَ وَيَعْتَبِرُونَ هُمْ أَصْحَابُ العُقُولِ السَّلِيمَةِ ، وَالبَصَائِرِ المُدْرِكَةِ ( أُولُو الأَلْبَابِ ) .
وَالمُهْتَدُونَ الذِينَ سَتَكُونُ لَهُمُ العَاقِبَةُ وَالنُّصْرَةُ ، فِي الدُّنْيا وَالآخِرَى ، هُمُ الذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدُوا ، وَلاَ يُنْقِضُونَ عَهْدَهُمْ مَعَ عِبَادِهِ ، وَلاَ يَغْدُرُونَ بِذِمَّةٍ ، وَلا يَفْجُرُونَ وَلاَ يَخُونُونَ .
وَهَؤُلاَءِ المُؤْمِنُونَ المُهْتَدُونَ يَصِلُونَ الأَرْحَامَ التِي أَمَرَ اللهُ بِوَصْلِهَا ، وَيُحْسِنُونَ إِلَى الأَقْرِبَاءِ وَالفُقَرَاءِ ، وَيُعَامِلُونَهُمْ بِالمَودَّةِ وَالحُسْنَى ، وَيَبْذُلُونَ المَعْرُوفَ ، وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ فِيمَا يَأْتُونَ ، وَيُرَاقِبُونَهُ فِي ذَلِكَ ، وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ فِي الدَّارِ الآخِرَةِ ، وَعَدَمِ الصَّفْحِ عَنْ ذُنُوبِهِمْ وَخَطَايَاهُمْ .(2/156)
وَهَؤُلاَءِ المُؤْمِنُونَ المُهْتَدُونَ يَصْبِرُونَ عَنِ ارْتِكَابِ المَحَارِمِ وَالمَآثِمِ ، وَيَمْتَنِعُونَ عَنْ مُقَارَفَتِهَا طَاعةً للهِ ، وَتَقَرُّباً إِلَيْهِ ، وَطَمَعاً بِمَرْضَاتِهِ وَجَزيلِ ثَوَابِهِ ، وَيُؤَدُّونَ الصَّلاةَ حَقَّ أَدَائِهَا ، وَيُنْفِقُونَ مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ عَلَى مَنْ تَجِبْ عَلَيْهِمْ نَفَقَتُهُمْ ، مِنْ أَقْرِبَاءَ وَمُحْتَاجِينَ وَسَائِلِينَ . . فِي السِّرِّ وَالعَلَنِ ، لاَ يَمْنَعُهُمْ مِنْ ذَلِكَ حَالٌ مِنَ الأَحْوَالِ ، فَإِذَا آذَاهُمْ أَحَدٌ قَابَلُوهُ بِالجَمِيلِ صَبْراً ، وَاحْتِمَالاً وَحِلْماً وَعَفْواً ، فَهَؤُلاَءِ لَهُمْ حُسْنُ العَاقِبَةِ فِي الدَّارِ الآخِرَةِ .
وَتِلْكَ العَاقِبَةُ الحَسَنَةُ هِيَ دُخُولُ جَنَاتِ عَدْنٍ ، وَالإِقَامَةُ فِيهَا خَالِدِينَ أَبَداً ، لاَ يَخْرُجُونَ مِنْهَا . وَيَجْمَعُ اللهُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَحْبَابِهِمْ مِنَ الآبَاءِ وَالأَزْوَاجِ وَالأَبْنَاءِ الصَّالِحِينَ لِدُخُولِ الجَنَّةِ ، لِتَقَرَّ بِهِمْ أَعْيُنُهُمْ؛ وَتَدْخُلُ عَلَيْهِمُ المَلائِكَةُ مِنْ كُلِّ بَابٍ مُسْلِمِينَ مُهَنِّئِينَ بِدُخُولِ الجَنَّةِ ، وَبِرِضْوَانِ اللهِ عَلَيْهِمْ .وَتَقُولُ لَهُمُ المَلاَئِكَةُ : سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ ، وَأَمْنٌ دَائِمٌ لَكُمْ ، لَقَدْ صَبَرْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ، وَاحْتَمَلْتُمُ المَشَاقَّ وَالآلاَمَ ، فَفُزْتُمْ بِرِضْوَانِ اللهِ ، فَنَعِمَتْ عَاقِبَتُكُمْ فِي الدَّارِ الآخِرَةِ .
(29) المتواضعون الخاشعون :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ(2/157)
قال تعالى : إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17) أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (19) [السجدة/15-19]
إِنَّمَا يُصَدِّقُ بآياتِ اللهِ الذِينَ إِذا وُعِظُوا بها استَمَعوا إِليها خَاشِعين ، وأَطَاعُوها مُمْتَثِلينَ ، وَخُرُّوا سُجَّداً للهِ خُضُوعاً وَخَشْيَةً ، وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ عن اتِّبَاعِها ، وَالانِقِيَادِ إِِليها .
وَهُمْ يَهْجُرونَ مَضَاجِعَهُمْ لِيَقُومُوا في اللِّيلِ إِلى الصَّلاةِ والنَّاسُ نِيَامٌ ، وَلِيَدْعُوا رَبَّهُمْ تَضَرُّعاً إِليهِ ، وَخَوْفاً مِنْ سَخطِهِ وَطَمَعاً فِي عَفْوِهِ عَنْهُمْ ، وَمَغْفِرَتِهِ لَهُمْ ، وَيُنْفِقُونَ مِمَّا رَزَقَهُمُ مِنْ مَالٍ .
وَلاَ يَعْلَمُ أَحَدٌ عَظَمَةَ مَا أَعَدَّهُ اللهُ تَعَالى لِهؤلاءِ الكِرامِ البَرَرَةِ وَأَخْفَاهُ فِي الجَنَّاتِ مِنَ النًَّعيمِ المُقِيمِ ، واللذَائِذِ التِي لَمْ يَطَّلِعْ أَحَدٌ عَلى مِثْلِها ، جَزَاءً وِفَاقاً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ، لَقَدْ أَخْفَوا أَعْمَالَهُمْ فَأَخْفَى اللهُ لَهُمْ مَا لَمْ تَرَهُ عَيْنٌ ، وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى قَلبِ بَشَرٍ .
(30) من اصطفاهم الله تعالى من هذه الأمة :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ(2/158)
قال تعالى : ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35) [فاطر/32-35]
ثُمَّ جَعَلَ اللهُ تَعَالى القَائِمِينَ بالقُرآنِ العَظيمِ ، هُمُ الذِينَ اصْطَفَاهُمْ مِنْ عِبَادِهِ ، مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ، وَأَوْرَثَهُمُ الكِتَابَ . وَقَالَ تَعَالى في مَكَانٍ آخَرَ : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الذِينَ اصْطَفَاهُمُ اللهُ لِلقِيَامِ بِالقُرآنِ هُمْ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ، وَجَعَلَهُمْ أقسَاماً ثَلاَثَةً :
- مِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُفَرِّطٌ فِي فِعْلِ بَعْضِ الوَاجِبَاتِ ، مُرْتَكِبٌ بَعْضَ المُحَرَّمَاتِ .(2/159)
- وَمِنْهُمْ مُقَتَصِدٌ ، وَهُوَ القَائِمُ بِالوَاجِبَاتِ ، التَّارِكُ لِلْمُحَرَّمَاتِ ، وَقَدْ يُقَصِّرُ في فِعْلِ بَعْضِ المُسْتَحَبَّاتِ ، وَيَفْعَلُ بَعْضَ المَكْرُوهَاتِ .- وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالخَيْرَاتِ - وَهُوَ الفَاعِلُ لِلْوَاجِبَاتِ ، وَالمُسْتَحَبَّاتِ ، التَّارِكُ لِلْمُحَرَّماتِ والمَكْرُوهَاتِ .وَذَلِكَ المِيرَاثُ ، وَذَلِكَ الاصْطِفَاءُ ، فَضْلٌ عَظِيمٌ مِنَ اللهِ لاَ يُقَدَّرُ قَدْرُهُ . وهؤلاءِ الكِرَامُ الذِينَ اصْطَفَاهُمْ اللهُ من عباده ، الذين أُوْرِثُوا القُرآنَ ، والكُتُبَ السَّابِقَةَ ، سَتَكُونُ جَنَّاتُ الإِقَامَةِ ( جَنَّاتُ عَدْنٍ ) هِيَ مأْوَاهُمْ ، يَوْمَ القِيَامَةِ ، وَيَلْبَسُونَ فِيها حَلِيّاً مِنْ ذَهَبٍ ، وَلُؤْلُؤٍ ، وَيَلْبَسُونَ فِيهَا ثِيَاباً مِنْ حَرِيرٍ ، وَهذِهِ الجَنَّاتُ هِيَ الفَضْلُ الكَبِيرُ الذِي مَنَّ اللهُ بِهِ عَلَيْهِمْ .وَيَقُولُونَ حِينَ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ ، وَيَلْبَسُونَ الحَرِيرَ ، وَيَتَحَلَّونَ بِالذَّهَبِ وَاللُؤْلُؤِ : الْحَمْدُ للهِ الذِي أَذْهَبَ عَنَّا الخَوْفَ ( الحَزَنَ ) مِمَّا كُنَّا نَحْذَرُ وَنَتَخَوَّفُ . إِنَّ رَبَّنا سُبَحَانَهُ وَتَعَالى غَفُورٌ لِذُنُوبِ المُذْنِبِينَ ، شُكُورٌ لأَفْعَالِ المُطِيعِينَ . واللهُ تَعَالى هُوَ الذِي أَعْطَانَا هذِهِ المَنزِلَةَ وَهذَا المَقَامَ الكَرِيمَ مِنْ فَضْلِهِ وَمَنِّهِ وَرَحْمَتِهِ ، وَلَمْ تَكُنْ أَعْمَالُنا لِتَبْلُغَ ذَلِكَ ، لاَ يَمَسُّنا فِي هذِه الدَّارِ عَنَاءٌ وَلاَ تَعَبٌ وَلاًَ إِعْيَاءٌ .
(31) المخلصون :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ(2/160)
وقال تعالى : وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ (47) وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ (48) هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآَبٍ (49) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ (50) مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ (51) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ (52) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ (53) إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ (54) [ص/45-54]
وَاذْكُرْ يَا مُحَمَّدُ أَيْضاً صَبْرَ عِبَادِ اللهِ : إِبْرَاهِيمَ وإِسْحَاقَ وَيَعْقًُوبَ ، الذِينَ شَرَّفَهُمُ اللهُ تَعَالَى بِطَاعَتِهِ ، وَقَوَّاهُمْ عَلَى العَمَلِ الصَّالِحِ الذِي يَرْضَى الله عَنْهُ ، وَآتَاهُمُ البَصِيرَةَ فِي الدِّينِ والفِقْهِ فِي أَسْرَارِهِ ، والعَمَلِ بِطَاعَةِ رَبِّهِمْ ، فَجَعَلَهُمْ مِمَّنْ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَ بِأَيْدِيهِمْ ، وَيَتَفَكَّرُونَ بِعُقُولِهِمْ .
( وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي مَعْنَى أُوْلِي الأَيْدِي : إنَّهُمْ ذَوُو قُوَّةٍ ، وَقَالَ فِي مَعْنَى ( وَالأَبْصَارِ ) ، إِنَّهُ الفِقْهُ فِي الدِّينِ ) .وَإِنَّ اللهَ تَعَالَى أَخْلَصَهُمْ وَمَيَّزَهُمْ خَاصَّةٍ ، هِيَ ذِكْرُهُمُ الدَّار الآخِرَةَ لِيَعْمَلُوا لَهَا ، فَهَذِهِ مِيزَتُهُمْ وَرِفْعَتُهُمْ .(2/161)
وَهَذِهِ السَّيرَةُ جَعَلَتْهُمْ عِنْدَ اللهِ مَجتَبْينَ أَخْيَاراً ، وَمُصْطَفَيْنَ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ . وَاذْكُر أَنْبِيَاءَ اللهِ إِسْمَاعِيلَ واليَسَعَ وَذَ الكِفْلِ الذِينَ شَرَّفَهُمُ اللهُ تَعَالَى ، وَجَعَلَهُمْ مِنَ المُصْطَفَيْن الأَخْيَارِ وَتَأَمَّلْ صَبْرَهُمْ ، وَرَحْمَةَ اللهِ بِهِمْ .
وَهَذَا الذِي تَقَدَّمَ سَرْدُهُ ، مِنْ أَخْبَارِ الأَنْبِيَاءِ الكِرَامِ ، فِيهِ ذِكْرٌ لَهُمْ ، وَشَرَفٌ ، وَإِشَادَةٌ بِمَحَاسِنِهِمْ ، وَفِيهِ تَذْكِيرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ . والمُؤْمِنُونَ السُّعَدَاءُ لَهُمْ عِنْدَ اللهِ المُنْقَلبُ الحَسَنُ ، وَالمآبُ الكَرِيمُ .
وَهَذَا المآبُ الحَسَنُ هُوَ جَنّاَتُ اسْتِقْرَارٍ وَإِقَامَةٍ مُفَتَّحَةٌ أَبْوَابُهَا إِكْرَاماً لَهُمْ لِيَدْخُلُوهَا آمِنِينَ .وَيَجْلِسُون فِي الجَنَّةِ مُتَّكِئِينَ عَلَى الأَرَائِكِ فِي وَضْعِ المُطْمَئِنِّ المُرْتَاحِ فِي جَلْسَتِهِ ، وَيَطْلُبُونَ مَا يَشَاؤُونَ مِنْ أَنْوَاعِ الفَوَاكِهِ والشَّرَابِ بِلاَ تَحْدِيدٍ ، وَهَذَا هُوَ مُنْتَهَى النَّعِيمِ .
وَعِنْدَهُمْ نِسَاءٌ لاَ يَمْدُوْنَ أَبْصَارَهُنَّ إِلَى غَيْرِ أَزْوَاجِهِنَّ حَيَاءً وَخَفَراً ، وَهُنَّ مُتَسَاوِيَاتٌ فِي السِّنِّ مَعَهُمْ ، لِيَكُونَ ذَلِكَ أَدْعَى إِلَى الوِفَاقِ بَيْنَهُمْ .
وَهَذَا النَّعِيمُ فِي الجَنَّاتِ التِي وَصَفَهَا اللهُ تَعَالَى ، فَيمَا تَقَدَّمَ ، هُوَ مَا وَعَدَ اللهُ عِبَادَهُ المُتَّقِينَ بِأَنَّهُ سَيجْزِيهِمْ بِهِ فِي يَوْمِ الحِسَابِ فِي الآخِرَةِ .
(32) من تابوا واتبعوا سبيل الله :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ(2/162)
قال تعالى : الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) [غافر/7-9]
إِنَّ المَلاَئِكَةَ الذِينَ يَحْمِلُونَ عَرْشَ رَبِّهِمْ ، وَالمَلاَئِكَةَ الذِينَ هُمْ مِنْ حَوْلِهِ يُنَزِّهُونَ اللهَ تَعَالَى ، وَيَحْمَدُونَهُ عَلَى نِعَمِهِ وَآلاَئِهِ ، وَلاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ ، وَيَسْأَلُونَهُ تَعَالَى أَنْ يَغْفِرَ لِلمُسِيِئينَ الذِينِ تَابُوا وَأَقْلَعُوا عَمَّا كَانُوا فِيهِ ، وَاتَّبَعُوا مَا أَمَرَهُمْ بِهِ رَبُّهِمْ مِنْ فَعْلِ الخَيرِ ، وَتَرَكِ المُنْكَرِ ، وَيَسْأَلُونَهُ تَعَالَى أَنْ يُجَنِّبَ ( يَقِي ) هَؤُلاَءِ التَّائِبِينَ الْمُنِيبِينَ عَذَابَ النَّارِ .(2/163)
وَتُتَابعَ المَلاَئِكَةُ الأَطْهَارُ دُعَاءَهُمْ لِلْمُؤْمِنِينَ التَّائِبِينَ ، فَيَسْأَلُونَ رَبَّهُم تَعَالَى أَنْ يُدْخِلَهُم الجَنَّاتِ التِي وَعَدَهُمْ تَعَالَى بِهَا عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ ، وَأَنْ يُدْخِلَ مَعَهُم الجَنَّاتِ الصَّالِحِينَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِيَّاتِهِمْ لِتَقَرَّ بِهِمْ أَعْيُنُهُمْ ، فَإِن الاجْتِمَاعَ بِالأَهْلِ والعَشِيرَةِ فِي مَوَاضِعِ السُّرُورُ يَكُونَ أَكْمَلَ لِلْبَهْجَةِ والأُنْسِ ، فَأَنْتَ يَا رَبّ الغَالِبُ الذِي لاَ يُقَاوَمُ ، الحَكِيمُ فِي شَرْعِهِ وَفَعْلِهِ وَتَدْبِيرِهِ .وَاصْرِفْ عَنْهُمْ عَاقِبَةَ مَا اقْتَرَفُوهُ مِنْ فِعْلِ السَّيِّئَاتِ قَبْلَ تَوْبَتِهِمْ ( أَوِ اصْرِفْ عَنْهُمْ فِعْلَ السَّيِّئاتِ ) ، وَمَنْ تَصْرِفْ عَنْهُ عَاقِبَةَ مَا ارْتَكَبَ مِنْ السَّيِّئَاتِ يَوْمَ القِيَامَةِ فَإِنَّكَ تَكُونَ قَدْ رَحِمْتَهُ ، وَنَجَّيْنَهُ مِنْ عَذَابِكَ ، وَهَذَا هُوَ الفَوْزُ الأَكْبَرُ الذِي لاَ يَعْدِلُهُ فَوْزٌ .
(33) طاعة الله والرسول صلى الله عليه وسلم :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
قال تعالى : لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا (17) [الفتح/17](2/164)
يُبَيِّنُ اللهُ تَعَالى في هذِهِ الآيَةِ الأَعْذَارَ المُبِيحَةَ للقُعُودِ عَنِ الجِهَادِ ، فَيَقُولُ : إِنَّهُ لا إِثمَ وَلاَ مَلاَمةَ عَلَى الذِينَ يَتَخَلَّفُونَ عنِ الخُرُوجِ إِلى الجِهَادِ مَعَ المُؤْمِنِينَ بِسَبَبِ مَا بِهِمْْ مِنْ عِلَلٍ تَمْنَعُهُمْ مِنَ الخُرُوجِ ، وَمِنَ القِتَالِ : كَالعَمَى وَالعَرَجِ وَالمَرضِ . ثُمَّ حَثَّ اللهُ تَعَالى المُؤْمِنينَ عَلى الجِهَادِ ، وَرَغَّبَهُم فِيهِ ، وَبَيَّنَ لَهُم مَا أَعَدَّهُ لِلْمَجَاهِدِينَ مِنْ أجرٍ وَثَوابٍ في الآخِرَةِ ، فَقَالَ تَعَالى : وَمَنْ يُطِع اللهَ وَرَسُولَهُ ، وَيُجِبِ الدَّعْوةَ إِلى مُجَاهَدَةِ الكُفَّارِ والمُشْرِكِينَ دِفَاعاً عَنْ دِينهِ ، وَإعلاءً لِكَلِمَةِ رَبِّهِ ، فَإِنَّ اللهَ سَيُدْخِلُهُ يَومَ القِيَامَةِ جِنَّاتٍ تَجري الأَنْهارُ مِنْ تَحْتِها ، وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ ، وَيَرْفُضِ الخُرُوجَ إِلى الجِهَادِ فإِنَّ اللهَ سَيُعَذِّبُه عَذَاباً أَلِيماً .
(34) الذين لا يوادون من حادَّ الله ورسوله :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
قال تعالى : لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22) ( المجادلة)(2/165)
لاَّ تَجِدُ قَوْماً يَجْمَعُونَ بَيْنَ الإِيْمَانِ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ ، وَبَينَ مُوَادَّةِ أَعْدَاءِ اللهِ وَأَعْدَاءِ رَسُولِهِ ، لأَنَّ المُؤْمِنِينَ حَقّاً لاَ يُوَالُونَ الكَافِرِينَ ، وَلَوْ كَانَ هَؤُلاَءِ الكَافِرُونَ هُمْ أَهْلَهُمْ ، وَأَقْرِبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ الذِينَ هُمْ أَقْرَبُ النَّاسِ إِلَيهِمْ ، وَالمُؤْمِنُونَ الذِينَ يَمْتَنِعُونَ عَنْ مُوَادَّةِ الكَافِرِينَ ، وَلَوْ كَانُوا أَقْرَبَاءَهُمْ وَعَشِيرَتَهُمْ ، هُمُ الذِينَ ثَبَّتَ اللهُ الإِيْمَانَ فِي قُلُوبِهِمْ ، وَزَيَّنَ لَهُمُ الهُدَى ، وَقَوَّاهُمْ بِطُمَأْنِينَةِ القَلْبِ ، وَالثَّبَاتِ عَلَى الحَقِّ { وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ } ، وَسَيُدْخِلُهُمُ اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ فِي جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ، وَيَبْقَوْنَ فِيهَا خَالِدِينَ أَبَداً ، رَضِيَ اللهَ عَنْهُمْ ، وَأَدْخَلَهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ، فَأَدْخَلَهُمُ الجَنَّاتِ ، وَرَضُوا بِمَا آتَاهُم اللهُ عَنْهُمْ ، وَأَدْخَلَهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ، فَأَدْخَلَهُمُ الجَنَّاتِ ، وَرَضُوا بِمَا آتَاهُم اللهُ مِنْ فَضْلِهِ ، وَبِمَا عَوَّضَهُمْ بِهِ لاِسْخَاطِهِم الأَقَارِبَ وَالأَبْنَاءَ . وَهَؤُلاَءِ هُم أَنْصَارُ اللهِ ، وَجُنْدُهُ ، وَحِزْبُهُ ، وَأَهْلُ كَرَامَتِهِ ، وَهُمْ أَهْلُ الفَلاَحِ وَالسَّعَادَةِ والنَّصْرِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ .
(35) الإيمان بالله ورسوله والمجاهدون في سبيله :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ(2/166)
قال تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13) [الصف/10-13]
يَا أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ بِاللهِ ، وَالمُصَدِّقُونَ بِرُسُلِهِ وَكُتُبِهِ وَآيَاتِهِ ، أَلاَ تُرِيدُونَ أَنْ أَدُلِّكُمْ عَلَى صَفَقَةٍ رَابِحَةٍ ، وَتِجَارَةٍ نَافِعَةٍ ، تَفُوزُونَ فِيهَا بِالرِّبْحِ العَظِيمِ ، وَتْنْقِذُكُمْ مِنْ عَذَابِ اللهِ الأَلِيمِ يَوْمَ القِيَامَةِ؟
وَهِذِهِ الصَّفَقَةُ هِيَ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَتَعْبُدُوهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ ، وَتَصَدِّقُوا بِرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ ، وَمَا أَنْزَلَهَ عَلَيْهِ مِنَ القُرْآنِ وَتُجَاهِدُوا فِي سَبِيلِ رَفْعِ كَلِمَةِ اللهِ ، وَعِزَّةِ دِينِهِ ، بِأَنْفُسِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ ، فَإِنْ فَعَلْتُمْ ذَلِكَ ، كَانَ ذَلِكَ خَيْراً لَكُمْ مِنْ كُلِّ شَيءٍ فِي الدُّنْيَا : مِنَ النَّفْسِ وَالمَالِ وَالزَّوْجِ وَالوَلَدِ ، هَذَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ مَا أَعَدَّهُ اللهَ لِعِبَادِهِ المُؤْمِنِينَ المُخْلِصِينَ المُجَاهِدِينَ فِي الآخِرَةِ مِنْ جَزِيلِ الثَّوَابِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ .(2/167)
وَإِنْ فَعَلْتُمْ ذَلِكَ سَتَرَ اللهُ ذُنُوبِكُمْ وَمَحَاهَا ، وَأَدْخَلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي الأَنْهَارُ فِي جَنَبَاتِهَا ، وَأَسْكَنَكُمْ مَسَاكِنَ طَيِبةً تَقَرُّ بِهَا العُيُونَ ، وَهَذا هُوَ مُنْتَهَى ما تَصْبُوا إِليهِ النُّفُوسُ ، وَهُوَ الفَوْزُ الذِي لاَ فَوْزَ أَعْظَمَ مِنْهُ .
وَلَكُمْ يَا أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ المُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ تَعَالَى ، مَعَ الفَوْزِ فِي الآخِرَةِ ، الذِي وَعَدَكُمْ اللهُ بِهِ ، نِعْمَةٌ أُخْرَى تُحِبُّونَها ، وَهِيَ نَصْرٌ مِنَ اللهِ ، وَفَتْحٌ قَرِيبٌ ، تَجْنُونَ مَغَانِمَهُ ، وَبَشِّرْ يَا مُحَمَّدُ المُؤْمِنينَ بِهَذَا الجَزَاءِ .
(36) أصحاب التوبة النصوح :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
قال تعالى :يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8) [التحريم/8]
يَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ بِأَنْ يَتُوبُوا تَوْبَةً صَادِقَةً جَازِمَةً تَمْحُو مَا سَبَقَهَا مِنَ السَّيِّئَاتِ .
" وَسُئِلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ التَّوْبَةِ النَّصُوحِ فَقَالَ : هُوَ النَّدَمُ عَلَى الذَّنْبِ حِينَ يَفْرُطُ مِنْكَ ، فَتَسْتَغْفِرُ الله بِنَدَامَتِكَ مِنْهُ عِنْدَ الحَاضِرِ ، ثُمَّ لاَ تَعُودُ إِليهِ أَبداً " ( أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ ) .(2/168)
ثُمَّ يُبَيِّنُ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِينَ أَنَّهُمْ إِنْ تَابُوا تَوْبَةً نَصُوحاً تَابَ اللهُ عَليهِمْ ، وَغَفَرَ لَهُمْ ، وَأَدخَلَهُمْ بِرَحْمَتِهِ جَنَّاتٍ تَجْرِي الأَنْهَارُ فِي جَنَبَاتِهَا فِي يَوْمِ القِيَامَةِ . وَهُوَ اليومُ الذِي يَرْفَعُ الله فِيهِ قَدْرَ رَسُولِهِ الكَرِيمِ ، وَقَدْرَ المُؤْمِنينَ مَعَهُ . وَيَجْعَلُ نُورَهُمْ فِي ذَلِكَ اليَومِ يَسْعَى بَينَ أَيْدِيهِمْ ، حِينَ يَمْشُونَ وَكُتُبُهُمْ بِأَيْمَانِهِمْ ، وَيَسْأَلُونَ رَبَّهُمْ أَنْ يُبْقِي لَهُمْ نُورَهُمْ ، فَلا يَطْفِئُهُ حَتَّى يجُوزُوا الصِّرَاطَ بِهِ ، وَيَسْتَغْفِرُونَ رَبَّهُمْ مِنْ ذُنُوبِهِم السَّالِفَةِ ، وََيَقُولُونَ : رَبَّنَا العَظِيمَ إِنَّكَ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ ، وَلاَ يُعْجِزُكَ شَيءٌ .
(37) من اتصفوا بالصفات التالية :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ(2/169)
قال تعالى : إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34) أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35) فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ (37) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) [المعارج/19-38](2/170)
إِنَّ الإِنْسَانَ خُلِقَ سَرِيعَ الانْفِعَالِ والتَّأَثُّرِ ، فَهُوَ شَدِيدُ الجَزَعِ ، إِذَا مَسَّهُ مَكْرُوهٌ ، كَثِيرُ المَنْعِ ، إِذَا نَزَلَتْ بِهِ نِعْمَةٌ . ثُمَّ فَسَّرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ والتِي بَعْدَهَا مَعْنَى قَوْلِهِ ( هَلُوعاً ) ، فَقَالَ : إِنَّ الإِنْسَانَ إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ والضُّرُّ اسْتَوْلَى عَلَيْهِ الحُزْنُ ، وَانْخَلَعَ قَلْبُهُ مِنْ شِدَّةِ الرُّعْبِ ، وَيَئِسَ مِنْ أَنْ يَصِلَ إِلَيهِ خَيْرٌ بَعْدَهَا أَبَداً . وَإِذَا حَصَلَتْ لَهُ نِعْمَةٌ مِنَ اللهِ بَخِلَ بِهَا عَلَى غَيْرِهِ ، وَمَنَعَ حَقَّ اللهِ فِيهَا .
وَلاَ يَسْتَثْنِي اللهُ تَعَالَى مِنْ صِفَاتِ الإِنْسَانِ الذَمِيمَةِ ، التِي تَتَمَثَّلُ بِالهَلَعِ وَالجَزَعِ وَالمَنْعِ ، إِلاَّ المُؤْمِنِينَ الذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ إِلَى الخَيْرِ ، وَهُمْ المُصَلُّونَ .
الذِينَ يُحَافِظُونَ عَلَى أَدَاءِ الصَّلَوَاتِ فِي أَوْقَاتِهَا ، لاَ يَشْغَلُهُمْ عَنْهَا شَاغِلٌ ، وَفِي هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى فَضْلِ المُدَاوَمَةِ عَلَى العِبَادَةِ .
وَالذِينَ يَجْعَلُونَ فِي أَمْوَالِهِمْ نَصِيباً مُعَيَّناً يُنْفِقُونَهُ تَقَرُّباً مِنَ اللهِ ، وَطَلَباً لِمْرَضَاتِهِ .يُنْفِقُونَهُ عَلَى ذَوِي الحَاجَاتِ والبَائِسِينَ الذِينَ يَسْأَلُونَهُمُ العَوْنَ .
وَالذِينَ يُؤْمِنُونَ بِيَوْمِ المَعَادِ وَالحِسَابِ فَيَعْمَلُونَ لَهُ وَتَظْهَرُ آثَارُ ذَلِكَ فِي أَفْعَالِهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ وَتَصَرُّفَاتِهِمْ .
وَالذِينَ هُمْ خَائِفُونَ وَجِلُونَ مِنْ تَرْكِهِم الفُرُوضَ وَالوَاجِبَاتِ ، وَمِنِ ارْتِكَابِ المَحْظُورَاتِ ، فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَباً فِي حِرْصِهِمْ عَلَى أَدَاءِ .(2/171)
وَلاَ يَنْبَغِي لِعَاقِلِ أَنْ يَأَمَنَ عَذَابَ اللهِ ، وَإِنْ زَادَ فِي الطَّاعَاتِ ، وَلاَ يَأْمَنُهُ أَحَدٌ إِلاَّ بِأَمَانٍ مِنَ اللهِ .
والذِينَ يَكُفُّونَ أَنْفُسَهُمْ عَمَّا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النِّسَاءِ ، وَيَحْرِصُونَ عَلَى أَلاَّ يُقَارِفُوا مُحَرَّماً لَمْ يُبِحْهُ اللهُ لَهُمْ .
وَلاَ يَقْرَبُونَ إِلاَّ مَا أَحَلَّهُ اللهُ مِنْ أَزْوَاجٍ ، أَوْ مِنْ إِمَاءٍ يَمْلِكُونَهُنَّ ، فَإِنَّهُمْ لاَ يَأْثَمُونَ ، وَلاَ يُلاَمُونَ إِذَا أَتَوا نِسَاءَهُمْ وَإِمَاءَهُمْ .وَمَنْ سَعَى إِلَى مُوَاقَعَةِ غَيْرِ مَنْ أَحَلَّهُنَّ اللهُ لَهُ مِنَ الأَزْوَاجِ وَالإِمَاءِ ، فَهُوَ مُعْتَدٍ عَلَى حُرُمَاتِ اللهِ ، مُتَجَاوِزٌ حُدُودَهُ .
وَالذِينَ إِذَا ائْتُمِنُوا عَلَى أَمَانَةٍ رَدُّوهَا إِلَى أَصْحَابِهَا ، وَلَمْ يَخُونُوا ، والذِينَ إٍِذَا عَاهُدُوا عَهْداً رَاعَوْهُ وَوَفَوْا بِهِ ، وَلَمْ يَغْدِرُوا ، وَلَمْ يَتَأَوَّلُوا .
وَالذِينَ يُؤَدُّونَ الشَّهَادَةَ ، إِذَا دُعُوا إِلَى أَدَائِهَا عِنْدَ الحُكَّامِ ، وَلاَ يَكْتمُونَهَا وَلاَ يُغَيِّرُونَهَا ، والشَّهَادَةُ أَمَانَةٌ مِنَ الأَمَانَاتِ التِي أَمَرَ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ بِأَدَائِهَا عَلَى الوَجْهِ الأَكْمَلِ والصَّحِيحِ .(2/172)
والذِينَ يُحَافِظُونَ عَلَى أَدَاءِ صَلَواتِهِمْ فِي أَوْقَاتِهَا ، يُؤَدُّونَهَا حَقَّ أَدَائِهَا ، وَيُتمُّونَهَا بِرُكُوعِهَا وَسُجُودِهَا ، وَخُشُوعِهَا ، وَيَجْتِهِدُونَ قَبْلَ الدُّخُولِ فِي الصَّلاَةِ أَنْ يَسْتَبْعِدوا عَنْ أَنْفُسِهِمْ مَا يُمْكِنُ أَنْ يُلْهِيَهُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ ، وَفَهْمِ مَا يَقْرَؤُونَ مِنَ القُرْآنِ وَإِدْرَاكِ مَا يَفْعَلُونَ مِنْ ذِكْرِ اللهِ ، وَمِنْ رُكُوعٍ وَسُجُودٍ . وَهَؤُلاَءِ الذِينَ يَتَمَتَّعُونَ بِالصِّفَاتِ السَّالِفَةِ وَيَقُومُونَ بِالعِبَادَاتِ عَلَى الوَجْهِ الأَكْمَلِ كَمَا أَمَرَ اللهُ تَعَالَى يُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي جَنَّتِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ ، وَيُؤَمِّنُهُمْ مِنْ هَوْلِ الفَزَعِ فِي ذَلِكَ اليَوْمِ ، وَيُكْرِمُهُمْ بِفَيْضٍِ مِنَ الكَرَامَاتِ التِي اخْتَصَّ اللهُ بِهَا عِبَادَهُ الصَّالِحِينَ المُخْلِصِينَ .
(38) الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
قال تعالى : وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) [آل عمران/104]
لِتَكُنْ مِنَ المُؤْمِنِينَ جَمَاعَةٌ مُتَخَصِّصَةٌ مُتَمَيِّزَةٌ تَعْرِفُ أَسْرَارَ الأَحْكَامِ ، وَحِكْمَةَ التَّشْرِيعِ وَفِقْهَهُ ، تَتَولَّى القِيَامَ بِالدَّعْوَةِ إلى الدِّين ، وَتَأمُرُ بِالمَعْروفِ ، وَتُحَارِبُ المُنْكَرَ ، وَتَنْهَى عَنْهُ ، وَمِنْ وَاجِبِ كُلِّ مُسْلِمِ أنْ يُحَارِبَ المُنْكَرَ مَا اسْتَطَاعَ إلى ذَلِكَ ، وَهَؤُلاءِ هُمُ الفَائِزُونَ فِي الدُّنْيا وَالآخِرَةِ .(2/173)
وقال تعالى : وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71) وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72) [التوبة/71، 72]
المُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَيْنَهُمْ أُخُوَّةٌ ، وَمَوَدَّةٌ ، وَتَعَاوُنٌ ، وَتَرَاحُمٌ ، وَيَتَّصِفُونَ بِالصِّفَاتِ الحَمِيدَةِ التِي يَأْمُرُهُمْ بِهَا دِينُهُمْ : فَيَتَنَاصَرُونَ وَيَتَعَاضَدُونَ وَيَفْعَلُونَ الخَيْرَ ، وَيَأْمُرُونَ بِهِ ، وَيَنْتَهُونَ عَنِ المُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنْهُ ، وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤَدُّونَهَا حَقَّ أَدَائِهَا ، وَيُؤَدُّونَ زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إِلَى مُسْتَحِقِّيهَا ، وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ فِيمَا أَمَرَ ، وَيَتْرُكُونَ مَا نَهَى عَنْهُ وَزَجَرَ . وَالمُتَّصِفُونَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الطَّيِّبَةِ الْكَرِيمَةِ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ ، وَاللهُ عَزِيزُ الجَانِبِ ، يُعِزُّ مَنْ يَشَاءُ ، وَهُوَ حَكِيمٌ فِي قِسْمَتِهِ الصِّفَاتِ بَيْنَ خَلْقِهِ ، فَجَعَلَ المُؤْمِنِينَ يَخْتَصُّونَ بِالصِّفَاتِ الحَمِيدَةِ ، وَالمُنَافِقِينَ يَخْتَصُّونَ بِالصِّفِاتِ الذَمِيمَةِ المُنْكَرَةِ .(2/174)
وَعَدَ اللهُ المُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ أَنَّهُ سَيُدْخِلُهُمْ فِي الآخِرَةْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ، يُقِيمُونَ فِيهَا خَالِدِينَ أَبَداً ، فِي مَسَاكِنَ طَيِّبَةْ حَسَنَةِ البِنَاءِ ، وَطَيِّبَةِ القَرَارِ فِي هَذِهِ الجَنَّاتِ ، وَوَعَدَهُمْ بِرِضْوَانٍ مِنْهُ أَكْبَرَ وَأَجَلَّ مِمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ النَّعِيمِ ، وَذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ .
قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ يَا أَهْلَ الجَنَّةِ . فَيَقُولُونَ : لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ ، فَيَقُولُ : هَلْ رَضِيتُمْ؟ فَيَقُولُونَ : وَمَا لَنَا لاَ نَرْضَى يَا رَبُّ وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَداً مِنْ خَلْقِكَ . فَيَقُولُ : أَلاَ أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُونَ : وَأَيُّ شَيءٍ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ : أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي فَلاَ أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَداً " ( رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَمَالِكُ )
(39) أن يكونوا من أولياء الله :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
قال تعالى : أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64) [يونس/62-64]
يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى أَنَّ أَوْلِيَاءَهُ ، وَهُمُ الذِينَ آمَنُوا وَاتَّقَوا وَأَخْلَصُوا العِبَادَةَ لَهُ وَحْدَهُ ، وَالتَّوَكُلَ عَلَيْهِ ، لاَ خَوْفٌ عَلَيهِمْ مِمَّا يَسْتَقْبِلُونَهُ مِنْ أَهْوَالِ الآخِرَةِ ، وَلاَ يَحْزَنُونَ عَلَى مَا خَلَّفُوهُ وَرَاءَهُمْ فِي الدُّنْيَا .(2/175)
وَيَقُولُ تَعَالَى مُعَرِّفاً ( أَوْلِيَاءَ اللهِ ) : بِأَنَّهُمُ الذِينَ آمَنُوا بِاللهِ ، وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ ، وَكَانُوا يَتَّقُونَ اللهَ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِمْ ، وَيُرَاقِبُونَهُ فِي سِرِّهِمْ وَعَلاَنِيَّتِهِمْ ، فَلاَ يَقُومُونَ إِلاَّ بِمَا يُرْضِي اللهَ رَبَّهُمْ .
وَهَؤُلاَءِ المُؤْمِنُونَ المُتَّقُونَ ، لَهُمُ البُشْرَى فِي الحَيَاةِ الدُّنْيا بِالنَّصْرِ وَالعِزَّةِ ، وَبِإِلْهَامِهِم الحَقَّ وَالخَيْرَ ، وَبِالاسْتِخْلاَفِ فِي الأَرْضِ مَا أَقَامُوا شَرْعَ اللهِ ، وَنَصَرُوا دِينَهُ الحَقَّ ، وَأَعْلَوا كَلِمَتَهُ ( وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " إِنَّ البُشْرَى فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا هِيَ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا العَبْدُ ، أَوْ تُرَى لَهُ ، وَهِيَ فِي الآخِرَةِ الجَنَّةُ " ) ( رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ عن رَسول الله صلى الله عليه وسلم ) . وَهَذَا وَعْدٌ مِنَ اللهِ لاَ يُبَدَّلُ ( لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ ) ، وَلاَ يُغَيَّرُ وَلاَ يُخْلَفُ ، بَلْ مُقَرَّرٌ ثَابِتٌ كَائِنٌ لاَ مَحَالَةَ . وَهَذِهِ البُشْرَى بِسَعَادَةِ الدَّارَيْنِ هِيَ الفَوْزُ العَظِيمُ .
(40) من أقرض الله قرضا حسناً :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
قال تعالى : مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11) يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) [الحديد/11-12](2/176)
مَنْ هَذَا الذِي يُنْفِقُ مَالَهُ فِي سَبِيلِ اللهِ ، وَطَمَعاً فِي مَثُوبَتِهِ وَمَرْضَاتِهِ ، مُحْتَسِباً أَجْرَهُ عِنْدَ اللهِ ، فَيَعُدُّ اللهُ لَهُ ذَلِكَ قَرْضاً للهِ تَعَالَى ، فَيُضَاعِفُ لَهُ ذَلِكَ القَرْضَ أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً ، وَيُثيبُهُ مَثُوبَةً كَرِيمةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ يَوْمَ القِيَامَةِ؟
وَفِي يَوْمِ القِيَامَةِ تَرَى المُتَصَدِّقِينَ ، مِنَ المُؤْمِنينَ وَالمُؤْمِنَاتِ ، يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهمْ بِحَسَبِ أَعْمَالِهِمْ ، وَتَكُونُ كُتُبُهُمْ بِأَيْمَانِهِمْ ، وَتَقُولُ لَهُمُ المَلاَئِكَةُ الكِرَامُ : أَبْشِرُوا بِجَنَّاتٍ تَجْرِي الأَنْهَارُ فِي جَنَبَاتِهَا جَزَاءً لَكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى إِيمَانِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ الصَّالِحَةِ ، وَهَذَا الذِي فُزْتُمْ بِهِ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ .
(41) أن يحكموا الله والرسول في كل أمور حياتهم :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ
قال تعالى : إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52) [النور/51، 52]
أَمَّا المُؤْمِنُونَ المُخْلِصُونَ فَإِنَّهُمْ إِذَا دُعُوا إِلى اللهِ ، وَإِلَى رَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ، فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ : سَمْعاً وَطَاعَةً للهِ وَلِرَسُولِهِ ، وَهَؤُلاءِ الذينَ يَقُولُونَ هَذَا القَوْلَ ، هُمُ المُفْلِحُونَ ، لأَنَّهُمْ يَنَالُونَ مَا يَطْلبُونَ ، وَيَسْلَمُونَ مِمَّا يَرْهَبُونَ .(2/177)
وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فِيمَا أَمَرَا بِهِ ، وَيَنْتَهِ عَمَّا نَهَيَا عَنْهُ ، وَمَنْ يَخْشَ اللهَ فِيمَا صَدَرَ عَنْهُ مِنَ الذُّنُوبِ ، وَيَتَقَّهِ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ مِنَ الزَّمَانِ والأَعْمَالِ ، فَهَؤُلاءِ هُمُ الفَائِزُونَ بِكُلِّ خَيْرٍ ، وَالآمِنُونَ مِنْ كُلِّ شَرٍّ فِي الدُّنْيَا والآخِرَةِ .
(42) إعطاء المحتاجين حقهم :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
قال تعالى : فَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) [الروم/38]
وإِذا كَانَ اللهُ تَعَالى هُوَ الذِي يُبْسُطُ الرِّزْقَ ، وَيَقْدِرُهُ ، فأَعطِ يا أَيُّها النَّبِيُّ أَنتَ والمُؤِمِنُونَ ، مَا تَستَطِيعُونَ إِعطَاءَهُ مِنَ المَالِ لِلفُقَراءِ والمُحْتاجِينَ مِنَ الأَقَارِبِ والمَسَاكِينِ الذينَ لا مالَ لَهُمْ ، ولِلْمُسَافرينَ أبناءِ السَّبيلِ الذينَ انْقَطَعَتْ نَفَقَتُهُمْ ، وَهُمْ بَعيدُونَ عَنْ أَهْلِهِمْ وَأَوْطَانِهِمْ لِيتَمَكَّنُوا مِنَ العَوْدَةِ إِلى بَلَدِهِمْ .
ثمَّ يَقُولُ تَعالى : إِنّ الإِعطَاءِ لهؤلاءِ المُحتاجِينَ فيهِ خيرٌ للمُعْطِينَ عندَ اللهِ ، وهوَ الذِي يَتَقَبَّلُ العَملَ الصَّالِحَ ، ويَجزِي بهِ فَاعِلَهُ الثَّوابَ الجَزيلَ ، وَقَد رَبحَ هؤلاءِ المُعْطُونَ في صَفْقَتِهِمْ لأَنَّهُمْ أعْطَوا ما يَفْنَى ، وَحَصَلُوا عَلى مَا يَبْقَى ( وَقِيلَ إنَّ مَعْنَى : { ذَلِكَ خَيرٌ لِمَنْ يُريدُ وَجْهَ اللهِ } هُوَ : ذَلِكَ خيرٌ لِلذِينَ يُريدُون النَّظرَ إِلى وجهِ اللهِ يومَ القِيامة ) .
(43) الإيثار :
ـــ ـــ ـــ ـــ ــ(2/178)
قال تعالى : وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) [الحشر/9]
أَثْنَى اللهُ تَعَالَى عَلَى الأَنْصَارِ مُبِيِّناً فَضْلَهُمْ وَشَرَفَهُمْ وَكَرَمَهُمْ ، حِينَ جَعَلَ اللهُ الفَيءَ لإِخْوَانِهِم المُهَاجِرِينَ دُونَهُمْ ، فَقَالَ تَعَالَى : والذِينَ سَكَنُوا دَارَ الهِجْرَةِ قَبْلَ المُهَاجِرِينَ ، وَآمَنُوا قَبْلَ كَثِيرٍ مِنَ المُهَاجِرِينَ ، يُحِبُّونَ المُهَاجِرِينَ ، وَيَتَمَنَّوْنَ لَهُمْ الخَيْرَ ، كَمَا يَتَمَنَّوْنَهُ لأَنْفُسِهِمْ ، وَقَدْ أَسْكَنُوا المُهَاجِرِينَ فِي دُورِهِمْ ، وَأَشْرَكُوهُمْ فِي أَمْوَالِهِمْ حَتَّى نَزَلَ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضِ نِسَائِهِ لِلْمُهَاجِرِينَ . وَقَدْ فَعَلُوا ذَلِكَ وَنُفُوسُهُمْ طَيِّيَةٌ ، وَأَعْيُنُهُمْ قَرِيرَةٌ بِمَا يَفْعَلُونَ ، لاَ يَجِدُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَسَداً لِلْمُهَاجِرِينَ . وَلاَ ضِيقاً بِهِمْ لِمَا فَضَّلَهُمُ اللهُ بِهِ مِنَ المَنْزِلَةِ والشَّرَفِ وَالتَّقْدِيمِ فِي الذِّكْرِ والرُّتْبَةِ ، وَلِمَا خَصَّهُمْ بِهِ مِنْ مَغْنَمِ بَنِي النَّضِيرِ دُونَهُمْ .(2/179)
( رُوِيَ أَنَّ المُهَاجِرِينَ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللهِ مَا رَأَيْنَا مِثْلَ قَوْمٍ قَدِمْنَا عَلَيْهِمْ حُسْنَ مُوَاسَاةٍ فِي قَليلٍ ، وَلاَ حُسْنَ بَذْلٍ فِي كَثِيرٍ ، لَقَدْ كَفَوْنَا المَؤُونَةَ ، وَأَشْرَكُونَا فِي المَهْنَأ ، حَتَّى لَقَدْ خَشِينَا أَنْ يَذْهَبُوا بِالأَجْرِ كُلِّهِ . قَالَ : لاَ . مَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِمْ ، وَدَعَوْتُمْ لَهُمُ اللهَ ) .وَهُمْ يُقَدِّمُونَ أَهْلَ الحَاجَةِ مِنَ المُهَاجِرِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ ، وَيَبْدَؤُونَ بِالنَّاسِ قَبْلَ أَنْفُسِهِمْ فِي حَالِ احْتِيَاجِهِمْ إِلَى ذَلِكَ .وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ جُهْدُ المُقِلِّ " . ( البُخَارِيُّ ) .وَمَنْ سَلِمَ مِنْ آفَةِ الحِرْصِ عَلَى المَالِ وَالبُخْلِ ، فَقَدْ فَازَ وَأَفْلَحَ .وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " إِيَّاكُمْ وَالظُّلْمَ فَإِنَّ الظُلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ القِيَامَةِ ، واتَّقُوا الشُّحَّ فَإِنَّ الشُحَّ قَدْ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ ، حَمَلَهُمْ عَلَى أَنْ سَفَطُوا دِمَاءَهُمْ ، وَاسْتَحَلُّوا مَحَارِمَهُمْ " .
وقال تعالى : فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) [التغابن/16-17](2/180)
فَابْذُلُوا فِي تَقْوَى اللهِ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنَ الجَهْدِ وَالطَّاقَةِ ." وَقَدْ قَالَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ ، وَمَا نَهِيتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ " ( مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ) واسْمعُوا وَأَطِيعُوا مَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ اللهُ وَرَسُولُهُ ، وَاعْمَلُوا بِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ عَلَى الأَقَارِبِ وَالفُقَرَاءِ وَالمُحْتَاجِينَ ، وَأَحْسِنُوا إِلَى عِبَادِ اللهِ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيكُمْ يَكْنْ ذَلِكَ خَيْراً لأَنْفُسِكُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ . وَمَنْ يَبْتَعِدْ عَنِ البُخْلِ وَالحِرْصِ عَلَى المَالِ ، يَكُنْ مِنَ الفَائِزِينَ .ومَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ مَالٍ فِي طَاعَةِ اللهِ ، وَتَقَرُّباً إِليهِ ، فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى يَعُدُّ ذَلِكَ الإِنْفَاقَ مُقَدَّماً إِلَيه تَعَالَى ، وَهُوَ يُخْلفُهُ وَيَرُدُّهُ إِلَى المُنْفقِينَ - أَضْعَافاً كَثِيرَةً - الحَسَنَةُ بِعَشْرَةِ أَمْثَالِها إِلَى سَبْعِمِئَةِ ضِعْفٍ - وَيَمْحُو عَنْكُمْ بِها سَيِّئَاتِكُمْ ، وَيَسْتُرُهَا عَلَيْكُمْ ، وَاللهُ شكُورٌ يَجْزِي عَلَى القَلِيل بِالكَثِيرِ ، وَهُوَ كَثِيرُ الحِلْمِ وَالمَغْفِرَةِ ، يَغْفِرُ وَيَسْتُرُ ، وَلاَ يُعَاجِلُ بِالعُقُوبَةِ عِبَادَهُ عَلَى الذُّنُوبِ وَالأَخْطَاءِ لَعَلَّهُمْ يَتُوبُونَ وَيَرْجِعُونَ مُسْتَغْفِرْينَ .
(44) أن يتولوا الله ورسوله والمؤمنين:
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ
قال تعالى : إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56) [المائدة/55-56](2/181)
يَحُثُّ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ عَلَى مُوَالاَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَالمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ ، الذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤَدُّونَ زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ ، وَيُسَاعِدُونَ المُحْتَاجِينَ مِنَ الضُعَفَاءِ وَالمَسَاكِينِ ، وَهُمْ دَائِمُونَ الرُّكُوعِ للهِ .
وَكُلُّ مَنْ رَضِي بِمُوَالاَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَالمُؤمِنِينَ هُوَ مُفْلِحٌ فِي الدُّنْيا وَالآخِرَةِ ، وَهُوَ مَنْصُورٌ فِي الدُّنْيا وَالآخِرَةِ ، لأنَّهُ يَكُونُ فَِي حِزْبِ اللهِ ، وَحِزْبِ اللهِ هُمُ الغَالِبُونَ ، وَلاَ يُغْلَبُ مَنْ يَتَوَلاَّهُمُ اللهُ .
(45) الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
قال تعالى : الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22) [التوبة/20-22]
فَالذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ ، هُمْ أَعْظَمُ عِنْدَ اللهِ دَرَجَةً وَمَقَاماً ، وَأَكْثَرُ مَثُوبَةً مِنَ الذِينَ عَمَّرُوا المَسْجِدَ الحَرَامَ ، وَسَقَوْا الحَاجَّ فِي الجَّاهِلِيةِ . وَهَؤُلاَءِ المُؤْمِنُونَ المُجَاهِدُونَ فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُمُ الفَائِزُونَ بِرَحْمَةِ اللهِ ، وَرِضْوَانِهِ وَجَنَّاتِهِ .(2/182)
وَهَؤُلاَءِ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ فِي كِتَابِهِ ، وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ ، وَعَلَى لِسَانِ مَلاَئِكَتِهِ حِينَ مَوْتِهِمْ ، بِرَحْمَةٍ مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانٍ ، وَبِأَنَّهُ سَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتِهِ الوَاسِعَةَ ، وَسَيبقَوْنَ فِيهَا أَبَداً فِي نَعِيمٍ مُقِيمٍ ، وَالرِضْوَانُ مِنَ اللهِ هُوَ نِهَايَةُ الإِحْسَانِ ، وَأَعْلَى النَّعِيمِ ، وَأَكْمَلُ الجَزَاءِ .
وَسَيَكُونُ هَؤُلاَءِ الكِرَامُ مُخَلَّدِينَ فِي الجَنَّةِ أَبَداً وَهَذا جَزَاءٌ لَهُمْ مِنْ رَبِّهِمْ عَلَى أَعْمَالِهِم الصَّالِحَةِ ، وَاللهُ تَعَالَى عِنْدَهُ الأَجْرُ العَظِيمُ لِمَنْ آمَنَ وَجَاهَدَ ، وَقَامَ بِمَا فَرَضَهُ عَلَيْهِ الإِسْلاَمُ .
الطريق إلى الجنة :
واعلم يا عبد الله أن الجنة لا تنال بالعمل.. وإنما هي فضل من الله ورحمة ، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد ، ودرر الفرائد .
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :(لن يُدخِل أحداً عملُه الجنة). قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: (لا، ولا أنا، إلا أن يتغمَّدني الله بفضلٍ ورحمة، فسدِّدوا وقاربوا، ولا يتمنينَّ أحدكم الموت: إما محسناً فلعله أن يزداد خيراً، وإما مسيئاً فلعله أن يستعتب .
وأما قول الله جل وعلا : { فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مّآ أُخْفِيَ لَهُم مّن قُرّةِ أَعْيُنٍ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) [ السجدة 17 ] فإن الباء في قوله (بما كانوا يعملون) سببية. أي بسبب أعمالهم فالله سبحانه جعل أعمالهم سبباً لفضله ورحمته حيث أدخلهم جنته.(2/183)
فإذا عرفت ـ أخي الكريم ـ أن الجنة هي محض فضل الله ورحمته, وان رحمته وفضله إنما ينالان بفعل ما يرضاه ويريده فبادر إلى خير الأعمال وصالح الأفعال. واحفظ الله, واسلك سبيله القويم يفض عليك من الرحمات ما يدخلك به أعالي الجنات في تلك الغرفات.
فاسلك سبيل المتقين ... وظن خيراً بالكريم
واذكر وقوفك خائفاً ... والناس في أمر عظيم
إما إلى دار الشقاوة ... أو إلى العز المقيم
فاغنم حياتك واجتهد ... وتب إلى الرب الرحيم
وأما طريق الجنة : فهو كل ما يقربك من الله سبحانه من القربات والطاعات فقد ذكر الله جل وعلا طاعات وعبادات في كتابه العزيز جازى عليها بالجنة من عمل بها مخلصاً فمن ذلك ما يلي :
(1) الإيمان والعمل الصالح :
فقد ذكر الله سبحانه في سورة العصر أن الإنسان خاسر إلا من أمن وعمل صالحاً فقال تعالى: (وَالْعَصْرِ * إِنّ الإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ * إِلاّ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْاْ بِالْحَقّ وَتَوَاصَوْاْ بِالصّبْرِ) [العصر1: 3]
وقال سبحانه:(وَبَشّرِ الّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ أَنّ لَهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ
[ البقرة 25 ] ونظير هذا في القرآن كثير.
وذلك لأن الإيمان يوجب معرفة الله وخشيته ومراقبته وتوقيره ومتابعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والعمل الصالح يوجب فعل ما أمر الله واجتناب ما نهى عنه من كبائر الإثم والفواحش.
(2) الصلاة:
قال تعالى: (إِنّ الصّلاَةَ تَنْهَىَ عَنِ الْفَحْشَآءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللّهِ أَكْبَرُ وَاللّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ) [العنكبوت: 45]
فالصلاة ناهية عن الإثم والمنكر الموجب للحرمان من الجنة. وهي الماحية للذنوب والخطايا كما في الحديث الآتي :(2/184)
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسلُ فيه كلَ يومٍ خمسَ مراتٍ، هل يبقى من درنه شيء ؟ قالوا لا يبقى من درنه شيء ، قال : فذلك مثلُ الصلوات الخمس يمحو الله بهنَّ الخطايا .
( حديث عثمان رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها و خشوعها و ركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم تؤت كبيرة و ذلك الدهر كله .
فبادر ـ أخي الكريم ـ بالحفاظ على الصلاة فإنها نور المؤمن وعهده وفصل ما بينه وبين الكفر.
وتأمل في الحديث الآتيين بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيهما واجعل لهما من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيهما من غرر الفوائد ، ودرر الفرائد .
( حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : بين الرجل وبين الكفر والشرك ترك الصلاة .
( حديث بريدة الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجه ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر .
(3) أداء النوافل :
فهي تقرب إلى الله بعد الفرائض, وتكسبك ـ أخي الكريم ـ حلة الولاية لله سبحانه لأنها موجبة لحبه وحفظه, وهي علامة حبك لله وطاعتك وإخلاصك.
وتأمل في الحديث الآتيين بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيهما واجعل لهما من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيهما من غرر الفوائد ، ودرر الفرائد .
(حديث أم حبيبة الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ما من عبد مسلم يصلي لله كل يوم اثنتي عشرة ركعة تطوعا غير فريضة إلا بنى الله له بيتا في الجنة .(2/185)
(حديث عائشة الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من ثابر على اثنتي عشرة ركعة من السنة بنى الله له بيتا في الجنة أربع ركعات قبل الظهر و ركعتين بعده و ركعتين بعد المغرب و ركعتين بعد العشاء و ركعتين قبل الفجر .
(4) بر الوالدين :
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :رغم أنفه ثم رغم أنفه ثم رغم أنفه قيل ومن يا رسول الله ؟ قال : من أدرك والديه عند الكبر أحدهما أو كليهما ثم لم يدخل الجنة .
فاحرص ـ أخي الحبيب ـ على بر الوالدين وأطعهما في ما أمرا إذا لم يكن أمرهما معصية لله وأحسن إليهما في الدنيا يحسن الله إليك بجنته وفضله وجوده, واعلم أن عقوقهما من أكبر الكبائر فقد قرن الله طاعتهما بالتحذير من الشرك والأمر بتوحيده.
قال تعالى: (وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً) [النساء: 36]
(5) التوبة :
فالتوبة من أجلِّ القربات والعبادات وهي منزلة لا يفارقها الصالحون في رحلتهم في هذه الحياة الدنيا, بل ولا الأنبياء والمرسلون. ذلك لأن الله تعالى أمر بها في كل وقت وحين وعلق الفلاح عليها.
فكل ابن آدم خطاء.. قال تعالى: (وَتُوبُوَاْ إِلَى اللّهِ جَمِيعاً أَيّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ) [النور: 31]
فتأمل حفظك الله كيف وصفهم الله بالإيمان ثم دعاهم إلى التوبة ليعلم كل مسلم أن التوبة لازمة للعبد في سائر منازله التي يسلكها في طريقه إلى الله. وتذكر دائماً أن الجنة قد حفت بالمكاره وأن النار قد حفت بالشهوات وإلا كيف سيكون الاختبار و كيف يميز الصابر من الضاجر والمطيع من العاصي.
( حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات" .(2/186)
اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل وعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل .
الموضوع ... رقم الصفحة
مقدمة ... 1
كتاب الرقائق ... 11
باب تعريف الرقائق : ... 11
باب أسباب الكلام في الرقائق : ... 11
باب حاجتنا إلى الرقائق : ... 12
باب العناية بالرقائق : ... 14
باب : التوازن في الرقائق ... 16
باب ما الأشياء التي يمكن أن نطلق عليها رقائق ؟ ... 17
باب هتك الحُجُبُ التي تحول بين العبد وربه : ... 18
الحجاب الأول: الجهل بالله: ... 19
الحجاب الثاني: البدعة: ... 26
الحجاب الثالث: الكبائر الباطنة: ... 28
الحجاب الرابع: حجاب أهل الكبائر الظاهرة: ... 28
الحجاب الخامس: حجاب أهل الصغائر: ... 31
الحجاب السادس: حجاب الشرك: ... 31
الحجاب السابع: حجاب أهل الفضلات والتوسع في المباحات : ... 36
الحجاب الثامن: حجاب أهل الغفلة عن الله: ... 39
الحجاب الثامن: حجاب أهل الغفلة عن الله: ... 39
الحجاب العاشر: حجاب المجتهدين المنصرفين عن السير إلى المقصود: ... 40
باب شرطي قبول العمل : ... 41
أهمية العلم بشرطي قبول العمل : ... 42
شرطي قبول العمل : ... 42
أولاً الإخلاص : ... 42
الموضوع ... رقم الصفحة
تعريف الإخلاص : ... 43
الفرق بين الرياء والسمعة وإرادة العبد بعمله الدنيا : ... 45
فضائل الإخلاص : ... 49
المجاهدة في إخفاء العمل : ... 58
ماذا قال بعض العلماء في الإخلاص..؟ ... 61
فضل النيّة : ... 62
خطورة ترك العمل خوف الرياء : ... 63
هناك أشياء تظن من الرياء وليست منه : ... 65
علامات الإخلاص : ... 65
ثانيا : متابعة السنّة : ... 66
باب حقيقة الموت : ... 69
حقيقة الموت : ... 69
الموت أعظم المصائب : ... 70
الموت موعد مجهول: ... 72
الموت راحة للمؤمن وعذابٌ للكافر : ... 74
لا يجوز تمني الموت لضرٍ نزل بالإنسان : ... 74
من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه : ... 75
ما ورد في موت الفجأة : ... 75
عبرة الموت : ... 75
أعمار أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - : ... 82
باب كل نفس ذائقة الموت : ... 82
كل نفس ذائقة الموت : ... 83
رُسُلُ ملك الموت : ... 89
الموضوع ... رقم الصفحة
باب ذِكْرُ الموت : ... 90(2/187)
كيف تتناسى الموت ؟ ... 90
الإكثار من ذِكْرِ الموت : ... 93
فوائد ذكر الموت : ... 99
الأسباب الباعثة على ذكر الموت : ... 101
باب كيف نستعد للموت؟ ... 102
باب استحضار حسن الخاتمة وسوء الخاتمة : ... 150
أثر استحضار حسن الخاتمة وسوء الخاتمة في رقة القلب : ... 151
معنى حسن الخاتمة : ... 154
أسباب حسن الخاتمة : ... 154
علامات حسن الخاتمة : ... 155
صور من حسن الخاتمة : ... 160
علامات سوء الخاتمة : ... 161
صور من سوء الخاتمة : ... 162
الأسباب التي تنشأ عنها سوء الخاتمة: ... 165
باب ساعة الاحتضار : ... 172
لحظات المحتضرين: ... 174
من دُرَرِ أقوال المحتضرين لحظة الاحتضار : ... 174
تعزية النفس عند الاحتضار بالصبر والاحتساب : ... 187
البكاء عند الموت مخافة سوء المرد : ... 191
سكرات الموت: ... 196
الثبات عند الموت : ... 199
ما يسن عند الاحتضار : ... 200
الموضوع ... رقم الصفحة
باب وجوب الصبر والاسترجاع لأهل الميت : ... 206
باب ما ورد في البكاء على الميت : ... 208
باب غسل الميت وتكفينه والصلاة عليه ودفنه : ... 209
غسل الميت : ... 210
تكفين الميت : ... 214
الصلاة على الميت : ... 217
حمل الجنازة والسير بها : ... 222
الموعظة بالجنازة والاعتبار بها : ... 223
دفن الميت : ... 225
الأشياء التي تنفع الميت بعد موته : ... 230
ما ورد في التعزية وحكمها : ... 231
الحداد على الميت : ... 232
ما ورد في النهي عن سب الأموات : ... 233
باب أهوال القبور وأحوال أهلها إلى النشور : ... 234
ما هو البرزخ ؟ ... 235
هول القبور : ... 235
سؤال القبر : ... 240
التثبيت في القبر : ... 246
عذاب القبر ونعيمه : ... 247
الأسباب الموجبة لعذاب القبر : ... 258
الأسباب التي تكون سبباً في النجاة عذاب القبر : ... 260
أنواع عذاب القبر : ... 265
الموضوع ... رقم الصفحة
ذكر ضيق القبور وظلمتها على أهلها وتنورها عليهم بدعاء الأحياء ... 272
عرض منازل أهل القبور عليهم من الجنة أو النار بكرة وعشيا : ... 274
ضمة القبر : ... 275
اجتماع الموتى إلى الميت وسؤالهم إياه : ... 278
فيما ورد من تلاقي الموتى في البرزخ وتزاورهم : ... 278(2/188)
ما ورد من سماع الموتى كلام الأحياء : ... 280
ذكر محل أرواح الموتى في البرزخ : ... 282
زيارة الموتى والاتعاظ بهم : ... 288
الفرق بين زيارة الموحدين للقبور، وزيارة المشركين : ... 300
استحباب تذكر القبور والتفكير في أحوالهم : ... 306
أحوال السلف في تذكر القبور والتفكير في أحوالهم : ... 310
باب القيامة الكبرى وما يجري فيها : ... 325
منهج أهل السنة والجماعة في تفصيل الإيمان باليوم الآخر: ... 326
أنواع القيامة : ... 326
التفكر في أهوال يوم القيامة : ... 326
حشر الناس حفاة عراة غرلا : ... 329
دنو الشمس من الخلق بقدر ميل أو ميلين : ... 329
نصبُ الموازين : ... 329
نشرُ الدواوين : ... 331
حساب الخلائق : ... 333
الحوض المورود للنبي - صلى الله عليه وسلم - : ... 335
الصراط : ... 336
الإيمان بالجنة والنار : ... 337
الموضوع ... رقم الصفحة
الشفاعة : ... 339
باب الترغيب في الجنة : ... 342
الترغيب في الجنة : ... 345
إدامة ذِكْرِ الجَنَّة : ... 349
من أعظم الغبن أن تبيع الجنة بالدنيا الفانية : ... 349
حُفَّت الجنة بالمكاره : ... 353
نعيم الجنة فوق ما يخطر ببال أو يدور في الخيال : ... 366
نعيم الجنة يُنسي بؤس الدنيا : ... 374
مفتاح الجنة : ... 375
وجود الجنة الآن : ... 382
مكان الجنة وأين هي : ... 387
درجات الجنة : ... 388
أعلى درجاتها واسم تلك الدرجة : ... 393
ارتقاء العبد و هو في الجنة من درجة إلى درجة أعلى منها : ... 393
أعلى أهل الجنة منزلة : ... 394
أدنى أهل الجنة منزلة : ... 395
آخر أهل الجنة دخولا إليها : ... 398
ثمن الجنة : ... 399
طلب أهل الجنة لها من ربهم وطلبها لهم : ... 402
أسماء الجنة ومعانيها : ... 404
عدد الجنات : ... 408
أبواب الجنة وخزنتها : ... 409
خزنة الجنة : ... 411
الموضوع ... رقم الصفحة
عدد أبواب الجنة : ... 412
سعة أبواب الجنة : ... 413
صفة أبواب الجنة وأنها ذات حلق : ... 415
أول من يقرع باب الجنة : ... 415
أول من يدخلون الجنة وصفاتهم : ... 416
صفات أول من يدخلون الجنة : ... 416
سبق الفقراء الأغنياء إلى الجنة : ... 418
أصناف أهل الجنة وأوصافهم : ... 419(2/189)
أكثر أهل الجنة هم أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - : ... 421
النساء في الجنة أكثر من الرجال وكذلك هم في النار : ... 423
من يدخل الجنة من هذه الأمة بغير حساب : ... 424
ذكر حثيات الرب تبارك وتعالى الذين يدخلهم الجنة : ... 429
عرض الجنة : ... 430
ذكر بناء الجنة وملاطها وحصباؤها و تربتها: ... 432
غُرف الجنة وقصورها: ... 434
معرفة أهل الجنة لمنازلهم ومساكنهم إذا دخلوا الجنة : ... 438
كيفية دخول أهل الجنة الجنة : ... 439
سوق الجنة و ما اعد الله تعالى فيه لأهلها : ... 439
صفة أهل الجنة في خَلْقِهِم وَخُلُقِهم : ... 440
سِنُ أهلِ الجنة : ... 442
تحفة أهل الجنة إذا دخلوها : ... 443
ريح الجنة ومن مسيرة كم ينشق : ... 444
الأذان الذي يؤذن به مؤذن الجنة : ... 446
الموضوع ... رقم الصفحة
أشجار الجنة وبساتينها وظلالها : ... 447
ثمار الجنة وتعداد أنواعها وصفاتها : ... 450
في زرع الجنة : ... 452
أنهار الجنة وعيونها وأصنافها : ... 452
طعام أهل الجنة وشرابهم ومصرفه : ... 460
آنية أهل الجنة التي يأكلون فيها ويشربون : ... 471
لباس أهل الجنة وحليهم : ... 473
مناديل أهل الجنة : ... 477
لبسهم التيجان على رؤسهم : ... 478
فُرُشُ أهل الجنة : ... 478
بُسُطُ أهل الجنة وزرابيهم : ... 479
خيام أهل الجنة وسررهم وأرائكهم وبشخاناتهم : ... 479
مطايا أهل الجنة و خيولهم و مراكبهم : ... 481
غلمانُ أهل الجنة وخدمُهم : ... 482
وصف الحور العين : ... 483
غناء الحور العين و ما فيه من الطرب و اللذة : ... 490
الحور العين يطلبن أزواجهن أكثر مما يطلبهن أزواجهن : ... 496
هل في الجنة حمل و ولادة : ... 497
مُلكُ الجنة و أن أهلها كلهم ملوك فيها : ... 497
ارتفاع العبادات في الجنة إلا عبادة الذكر فإنها دائمة : ... 498
تزاور أهل الجنة ومراكبهم : ... 498
رؤية أهل الجنة لله تعالى بأبصارهم جهرة : ... 500
تكليم الله تعالى لأهل الجنة : ... 510
الموضوع ... رقم الصفحة
أبدية الجنة وأنها لا تفنى ولا تبيد : ... 511
الجنة تتكلم : ... 513
صفات من يستحقُّ الجنة في القرآن والسنة : ... 513(2/190)
الطريق إلى الجنة : ... 555(2/191)
باب تزكية النفوس :
[*](عناصر الباب :
(معنى تزكية النفوس :
(اهتمام السلف بتزكية النفوس :
(معالمُ في منهج السلوك والأخلاق عند السلف :
(قضية التزكية :
(أقسام التزكية:
(منزلة التزكية في الدين :
(أهمية تزكية النفوس :
(حاجتنا إلى التزكية :
(تحصيل السعادة في تزكية النفوس:
(حكم تزكية النفوس :
(كيفية تزكية النفس :
(وسائل تزكية النفس :
(معرفة الطريق الموصل إلى تلك التزكية :
(كيفية سياسة النفس في تزكيتها :
(أقسام التزكية:
(تلازم القوتين العلمية والعملية للسير في الطريق :
(وقوع التناقض بين القوة العلمية والقوة العملية:
(أقسام العباد بالنسبة للقوتين «العلمية والعملية»
(منازل التزكية :
(صفوة منازل تزكية النفوس :
(المنازل الأساسية للتزكية :
(فصلٌ في منزلة اليقظة :
( فصلٌ في منزلة العزم :
( فصلٌ في منزلة الفكرة :
( فصلٌ في منزلة البصيرة :
( فصلٌ في منزلة القصد :
( فصلٌ في منزلة المحاسبة :
( فصلٌ في منزلة التوبة :
( فصلٌ في منزلة الإنابة :
( فصلٌ في منزلة التقوى :
( فصلٌ في منزلة الاستقامة :
( فصلٌ في منزلة التفكر :
( فصلٌ في منزلة التذكر :
( فصلٌ في منزلة الاعتصام :
( فصلٌ في منزلة الفرار :
( فصلٌ في منزلة الرياضة :
( فصلٌ في منزلة المحبة والخوف والرجاء :
( فصلٌ في منزلة الخشوع :
( فصلٌ في منزلة الإخبات :
( فصلٌ في منزلة الزهد :
( فصلٌ في منزلة الورع :
( فصلٌ في منزلة التبتل :
( فصلٌ في منزلة الرغبة والرهبة:
( فصلٌ في منزلة الرعاية :
( فصلٌ في منزلة المراقبة :
( فصلٌ في منزلة تعظيم حرمات الله عز وجل :
( فصلٌ في منزلة الإخلاص :
( فصلٌ في منزلة التهذيب والتصفية :
( فصلٌ في منزلة التوكل :
( فصلٌ في منزلة الثقة بالله تعالى :
( فصلٌ في منزلة التسليم :
( فصلٌ في منزلة الصبر :
( فصلٌ في منزلة الرضا :
( فصلٌ في منزلة الشكر :
( فصلٌ في منزلة الحياء :
( فصلٌ في منزلة الصدق :(1/1)
( فصلٌ في منزلة الإيثار :
( فصلٌ في منزلة حسن الخلق :
( فصلٌ في منزلة التواضع :
( فصلٌ في منزلة الفتوة :
( فصلٌ في منزلة المروءة :
( فصلٌ في منزلة الأدب :
( فصلٌ في منزلة اليقين :
( فصلٌ في منزلة الأنس بالله :
( فصلٌ في منزلة الذكر :
( فصلٌ في منزلة الفقر :
( فصلٌ في منزلة الغنى العالي :
( فصلٌ في منزلة الإحسان :
( فصلٌ في منزلة العلم :
( فصلٌ في منزلة الحكمة :
( فصلٌ في منزلة الفراسة :
( فصلٌ في منزلة التعظيم :
( فصلٌ في منزلة السكينة :
( فصلٌ في منزلة الطمأنينة :
( فصلٌ في منزلة علو الهمة :
( فصلٌ في منزلة الغَيْرَة :
( فصلٌ في منزلة حياة القلب :
وهاك تفصيل ذلك في إيجازٍ غيرِ مُخِّل : (
(معنى تزكية النفوس :
مسألة : ما معنى تزكية النفوس ؟
الجواب :
التزكية في اللغة : هي التطهير و النماء ، وهو معناها في الشرع.
قال سبحانه : ( خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) [التوبة : 103]
و قال سبحانه و تعالى : (وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ ، الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ) [فصلت 6-7]،
أي الذين لا يزكون أنفسهم بالتوحيد .
فالتزكية : «هي تطهير القلب و تنمية الإيمان» ، هذا هو معنى التزكية . والتزكية عنصر أساس من عناصر الدين .
(اهتمام السلف بتزكية النفوس :
لقد اهتمَّ السلفُ الصالحُ بتزكية النفوس ، واعتنوا بالأخلاق علماً وفقهاً ، كما حقَّقوهُ عملاً وهدياً ، فأفردوا كتباً مستقلةً في الزهد والرقائق،بل أنهم يوردون الصفات الأخلاقية في ثنايا كتب العقيدة :(1/2)
[*](قال الإسماعيليُّ في اعتقاد أهل السنَّة (ت 371 هـ ) ( يرون مجانبة البدعةِ والآثام والفخرِ والتكبرُّ ويرون كفَّ الأذى وتركَ الغيبةِ إلاّ لمن أظهر بدعةً وهوىً يدعو إليهما، فالقولُ فيه ليس بغيبةٍ عندهم ) صـ53 ،
[*](وقال شيخُ الإسلام أبو إسماعيل الصابونيُّ ( ت 449 هـ ) في عقيدة السلف أهل الحديث : ( يرون المسارعة إلى أداء الصلوات المكتوبات ، ويتواصون بقيام الليل للصلاةِ بعد المنام ، وبصلةِ الأرحام وإفشاء السلام وإطعامِ الطعام ... والبدارِ إلى فعلِ الخيرات أجمع ، ويجانبون أهل البدع والضلالات ... ) صـ.97 ،
[*](وقال قوّام السنّةُ إسماعيلُ الأصفهانيُّ (ت 535هـ) في كتابه ( الحجَّة في بيان المحجَّة 2/52( ومن مذهب أهل السنَّةِ ، التورُّعُ في المأكل والمشارب والتحرُّزُ من الفواحش والقبائح ، ومجانبةُ أهل الأهواءِ الضلالة وهجرُهم ، والمسابقةُ إلي فعل الخيرات ، والإمساكُ عن الشبهاتِ)
[*](وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى جملةً من الصفات السلوكية والأخلاقية لأهل السنّةِ ومن ذلك قولُه ( يأمرون بالصبر عند البلاء والشكرِ عند الرخاء ،ويدعون إلى مكارمِ الأخلاق ومحاسن الأعمالِ ، ويعتقدون معنى قولِه صلي الله عليه وسلم " أكمل المؤمنين إيماناً أحسنُهُم خلقاُ، ويأمرون بمعالي الأخلاق وينهون عن سفاسفها ) الواسطية ، شرح هرّاس صـ172
فالسلفُ الصالح اهتمُّوا بهذا الموضوع، ونحنُ أتباعهُمُ كذلك يجب أن نَهتَم بتزكية النفوس .
(معالمُ في منهج السلوك والأخلاق عند السلف :
(1) إنّ مصدر تلقي السلوك والأخلاق عند السلف الصالح هو الكتابُ والسنّة لأنَّهم أهلُ اتباعُ .
قال اللهُ تعالى( ونزَّلنا عليك الكتابَ تبياناً لكلِّ شيءً ) [ النحل : 99 ]، ومن ذلك الأخلاقُ . [*](قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى :
( مسائلُ السلوكِ من جنس مسائل العقائد ، كلُّها منصوصةٌ في الكتاب والسنّةِ )
[الفتاوى19/273](1/3)
ولا يُؤخذُ السلوكُ من الخيالات أو القياسات أو الآراءِ والمنامات كما عند الصوفية ، قال ابنُ القيمّ ( من أحالك على غير (أخبرنا) و (حدثنا ) فقد أحالكَ إمَّا على خيالٍ صوفي ، أو قياسٍ فلسفي ، أو رأيٍ نفسي ، فليس بعد القرآن و( أخبرنا ) و(حدّثنا) إلاّ شبهاتُ المتكلمين ، وآراءُ المنحرفين ، وخيالاتُ المتصوفين ، وقياسُ المتفلسفين ، ومن فارقَ الدليل ضلَّ عن سواءِ السبيل ، ولا دليل إلى الله والجنّةِ سوى الكتابُ والسنّة ) [مدارج السالكين 2/468 ]
فلابد من الدليل على السلوك والأخلاق ، ولا يجوزُ ابتداعُ طرقٍ لتزكية النفوس غير الطرق الشرعية .
(2) من معالم السلف في السلوك : موافقةُ النصوص الشرعيةِ لفظاً ومعنى :
فيتأدبون مع المصطلحات الشرعية الدينية ، ويستمسكون بألفاظها ومعانيها ، ويحقِّقُون حدوَدها وتعريفاتِها علماً وعملاً ،
[*](قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى :
( الألفاظ التي جاء بها الكتابُ والسنّةُ علينا أن نتبّع ما دلت عليه مثل لفظ الإيمان والتقوى والإحسان والتوكل والحب لله ) [الفتاوى 11/25]،
وقال أيضاً ( وأما الألفاظُ التي ليست في الكتاب والسنّة ولا تقفَ السلف على نفيها أو إثباتها ، فهذه ليس على أحدٍ أن يوافقَ من نفاها أو أثبتها حتى يستفسر عن مراده فإن أراد بها معنىً يوافقُ خبرَ الرسول أقرَّ به ، وإن أراد بها معنى يخالفُ خبرَ الرسولِ أنكره )
[الفتاوى 12/114]
إنَّ أربابَ الطرقِ الصوفيةِ قد أحدثُوا ألفاظاً مجملةً في السلوك كالتصوفِ والغناء والفقر ونَحوها ، وهذه الألفاظ عموماً لا تخلوا من مخالفاتٍ للكتاب والسنّةِ ، إضافةً إلا ما فيها من التكلُّفِ الشديد ، والتعقيد في الألفاظ والمعاني ) ،
[*](قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى :(1/4)
( لفظُ الفقر الزهدُ والتصوفِ قد أدخل فيها أمورٌ يحبُّها الله ورسولُه ، كالتوبة والصبر والشكر وقد أدخلَ فيها أمورٌ يكرهها اللهُ ورسولُه كالحلول والاتحادِ والرهبنةِ المبتدعةِ ) [الفتاوى 11/28] ،والإمامُ الشاطبيُّ ذكر المعاني الصحيحةَ والفاسدةَ للتصوف ...
[الاعتصام 1/265 ]
(3) ومن معالم السلوكِ الشرعي : مراعاةُ تفاوتِ قدراتِ الناس في فعل الطاعات ، وذلك بسبب اختلاف استعداداتهم
[*](قال الإمامُ مالكٌ رحمه الله ( إنّ الله قسم الأعمالَ كما قسم الأرزاق ، فربَّ رجُلٍ فُتح له في الصلاة ، ولم يفتُح له في الصوم ، وآخرُ فُتح له في الصدقةِ ولم يُفتح له في الصوم ، وآخرُ فُتح له في الجهادِ ، فنشرُ العلم من أفضلِ أعمال البِرِّ.
[*](وقال ابن القيم رحمه الله تعالى :
(وقد رضيتُ بما فُتحَ لي فيه أرجو أن يكون كلانا على خيرٍ وبر ) [سير النبلاء 8/114 ] من الناس من يكونُ سيِّدُ عمله وطريقُة الذي يُعدُّ سلوكُه إلى الله طريق العلم والتعليم حتى يصل إلى الله ومن الناسِ من يكونُ سيِّدُ عملهِ الذكرُ ، وقد جعله زادَه لمعادة ، ورأسَ ماله لما له ، ومن الناس من يكونُ سيِّدُ عمله وطريقُة الصلاةَُ ، ومنهم من يكون طريقُه الإحسانُ والنفعُ المتعدي كقضاء الحاجات وتفريج الكرباتُ وأنواعِ الصدقات ،
ومنهُم الواصلُ إلى الله من كلَّ طريق قد ضرب مع كلَّ فريق بسهم ، فأين كانت العبوديةُ وجدتَه هناك ، إن كانَ علمٌ وجدتَه مع أهله ، أو جهادٌ وجدتَه في صف المجاهدين ، أو صلاةٌ وجدتَه في القانتين ، أو ذكرٌ وجدتَه في الذاكرين ، أو إحسانٌ ونفعٌ وجدتَه في زمرة المحسنين لو قيل له : ما تريدُ من الأعمال ؟ لقال : أريدُ أن أُنْفِذُ أوامر ربي حيثُ كانت ) [طريق المجرتين صـ178 ، ومدارج السالكين 3/17 ، 1/88 ]،(1/5)
وهذا الصنفُ الذي ذكره ابنُ القيمّ هم الصديقون وخيرُهُم أبو بكر الصديق رضي الله عنه ، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد ، ودرر الفرائد . (
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من أصبح منكم اليوم صائما قال أبو بكر رضي الله عنه أنا قال فمن تبع منكم اليوم جنازة قال أبو بكر رضي الله عنه أنا قال فمن أطعم منكم اليوم مسكينا قال أبو بكر رضي الله عنه أنا قال فمن عاد منكم اليوم مريضا قال أبو بكر رضي الله عنه أنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما اجتمعن في امرئٍ إلا دخل الجنة .
(4) تزكية النفس هذه التزكية فضل من الله ولا تكون إلا بتوفيق الله تعالى : قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ يُزَكّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللّهُ يُزَكّي مَن يَشَآءُ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً) [سورة: النساء - الأية: 49]
فلا يجوز للإنسان أن يغتر بما أعطاه الله بل يشكره ويعبده فضلٌ وتوفيق من الله تعالى ولربما سلب الله تعالى عونه وتوفيقه عنك فصار قلبك أخلى من جوف البعير فإن التزكية إلى الله مصروفة وعلى مشيئته موقوفة والعاقبة مَغِيْبَة قال تعالى: (وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُمْ مّنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلََكِنّ اللّهَ يُزَكّي مَن يَشَآءُ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [النور : 21] فما أفقر العبد إلى الله جل وعلا في كل أموره وشؤونه.
ومن ثم ينبغي للإنسان أن يحذر من أن يمدح نفسه قال تعالى: (فَلاَ تُزَكّوَاْ أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتّقَىَ) [النجم: 32](1/6)
والسلف الصالح رحمهم الله كان الواحد منهم يصلي ويجاهد ويصوم ويعمل الأعمال الجليلة ومن ثم يخاف أن لا يتقبل الله منه فهذا هو حال النفوس التي قد زكت وتطهرت من أدرانها يقول الله تعالى (وَالّذِينَ يُؤْتُونَ مَآ آتَواْ وّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) [المؤمنون: 60]
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة ) قالت : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية: (وَالّذِينَ يُؤْتُونَ مَآ آتَواْ وّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) [ المؤمنون : 60] قالت عائشة هم الذين يشربون الخمر ويسرقون قال لا يا بنت الصديق ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون وهم يخافون أن لا يقبل منهم أولئك الذين يسارعون في الخيرات .
فينبغي على العبد أن يكون ناظرا إلى عمله بعين باصره لأن هذا العمل إن لم يكن مخلصا فيه فهو وبال عليه وقد يلقي الله بصاحبه على وجهه في النار ولا حول ولا قوة إلا بالله .
(معنى تزكية النفوس :
معنى التزكية لغة: الطهارة والنماء والزيادة.
معنى التزكية شرعا : تطهير النفوس وإصلاحها بالعلم النافع والعمل الصالح، وفعل المأمورات وترك المنهيات.
قال تعالى (قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكّاهَا)
قال ابن كثير في معنى قوله تعالى (قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكّاهَا) من زكى نفسه بطاعة الله ، وطهرها من الرذائل والأخلاق الدنيئة.
والتزكية دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( اللهم آت نفسي تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها ) . والحديث بتمامه كما يلي : (
(حديث زيد ابن أرقم في صحيح مسلم ) قال كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : اللهم آت نفسي تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها ، اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع ومن قلب لا يخشع ومن نفس لا تشبع ومن دعوة لا يستجاب لها .(1/7)
[*](قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في معرض حديثه عن أمراض القلوب وشفائها: «والزكاة في اللغة النماء والزيادة في الصلاح، يقال: زكا الشيء إذا نما في الصلاح، فالقلب يحتاج أن يتربى فينمو ويزيد حتى يكمل ويصلح، كما يحتاج البدن أن يربَّى بالأغذية المصلحة له، ولا بدّ مع ذلك من منع ما يضرّه فلا ينمو البدن إلَّا بإعطائه ما ينفعه ومنع ما يضره، كذلك القلب لا يزكو فينمو ويتم صلاحه إلا بحصول ما ينفعه ودفع ما يضره، وكذلك الزرع لا يزكو إلا بهذا» اهـ «المجموع» (10/96).
وقد ثبت في تفسير التزكية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الحديث الآتي : (
(حديث عبد الله بن معاوية الغاضِري رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : «ثَلاثٌ مَنْ فَعَلَهُنَّ فَقَدْ ذَاقَ طعْمَ الإِيمَانِ: مَنْ عَبَدَ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ وَحْدَهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْطَى زَكَاةَ مَالِهِ طَيِّبَةً بِهَا نَفْسُهُ فِي كُلِّ عَامٍ... وَزَكَّى نَفْسَهُ»، فقال رجل: وما تزكية النفس؟ فقال: «أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ مَعَهُ حَيْثُ كَانَ .
(قضية التزكية :
(قضية التزكية :
قضية التزكية أن ينفتح في القلب عين ترى بها أين أنت من الله ؟ أين أنت في الطريق إلى الله ؟ فالقضية ليست : أنك التزمت منذ كم سنة .. وطولت لحيتك .. وقدر مطالعاتك .. وإنما القضية ماذا فعل هذا في قلبك ؟! «كيف يصل العمل إلى القلب ؟! »
[*](قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين :(1/8)
«بين العمل وبين القلب مسافة » وفى تلك المسافة قطاع تمنع وصول العمل إلى القلب فيكون الرجل كثير العمل وما وصل منه إلى قلبه محبة ولا خوف ولا رجاء ولا زهد في الدنيا ولا رغبة في الآخرة ولا نور يفرق به بين أولياء الله وأعدائه وبين الحق والباطل ولا قوة في أمره فلو وصل أثر الأعمال إلى قلبه لاستنار وأشرق ورأى الحق والباطل وميز بين أولياء الله وأعدائه وأوجب له ذلك المزيد من الأحوال .
«ثم بين القلب وبين الرب مسافة»وعليها قطاع تمنع وصول العمل إليه من كبر وإعجاب وإدلال ورؤية العمل ونسيان المنة وعلل خفية لو استقصى في طلبها لرأى العجب ومن رحمة الله تعالى : سترها على أكثر العمال إذ لو رأوها وعاينوها لوقعوا فيما هو أشد منها من اليأس والقنوط والاستحسار وترك العمل وخمود العزم وفتور الهمة .انتهى .
(«فالتزكية هي : الأثر في القلب» !!
بين العمل و القلب مسافة و بين القلب و بين الرب مسافة ، في هذه المسافات – كما يقول بن القيم – : ( قطاع طرق يقطعون الطريق على العمل أن يصل إلى القلب ، و على القلب أن يصل إلى الرب )
يقول بن القيم : ( و قد تستولي النفس على العمل الصالح فتصيره جنداً لها ، فتصول به و تطغى فترى الرجل أعبد ما يكون و أطوع ما يكون و هو عن الله أبعد ما يكون )
هذه هي النقطة : قد تستولي النفس على العمل الصالح !!
أنت صليت فهل هذه الصلاة وصلت لقلبك ، لو وصلت لقلبك تنهاك عن الفحشاء و المنكر ، لكنك تجد إنسان يصلي و على باب المسجد ينظر إلى إمرأة متبرجة ، على باب المسجد يكذب كذبة ، على باب المسجد يتكلم مع أخر و يغتاب غيبة ، فماذا فعلت الصلاة ؟!
هذه هي التزكية ، «كيف يصل العمل إلى القلب ؟! » بإزالة قطاع الطرق بين العمل و بين القلب ، والمدارج هي قضية الترقي درجة درجة.(1/9)
{ تنبيه } :(علم تزكية النفوس من العلوم الخطيرة المهمة و مع شديد الأسف أن كثيراً ممن كتبوا في هذا العلم جعلوه علم الخاصة مع أنه العلم الذي يطالب به كل إنسان .
[*](قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في التحفة العراقية يقول عليه رحمة الله : (( العبادات القلبية كالحب و الخوف و الرجاء و التوكل و اليقين و الرضا و الإنابة و الإخبات و الخشية و أمثالها واجبة بأصل الشرع على جميع المكلفين كوجوب الصلاة و الصيام و الحج ))
إذن القضية يا أخوة أن هذه العبادات الإخلاص والإخبات والخشية والتوكل واليقين والمحبة والرضا والرجاء ، هذه العبادات واجبة وفرض وإذا كانت واجبة فإنها تُتعلم.
قال سبحانه و تعالى : ( وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) [النحل : 78]
إذن نحن خرجنا غُفل من بطون أمهاتنا و تعلمنا كيف نصلي وكيف نتوضأ وكيف نغتسل تعلمنا كيف نصوم وكيف نحج وكيف نزكي فلماذا لم نتعلم الإخلاص ؟! كيف نخلص ؟! كيف نتوكل على الله ؟! كثيراً ما نقول (( توكل على الله .. يا أخي توكل على الله لا تخف )) و لم نتعلم كيف نتوكل على الله ؟! كيف نخبت ؟! كيف نخشى الله ؟! كيف نحبه ؟! كيف يسير القلب إلى الله ؟!
قلت أن الآفة أن بعض الناس جعل علم القلوب علم الخاصة رغم أنه علم مطلوب لكل الناس كل إنسان في هذه الحياة كل مسلم يحتاج إلى هذا العلم لصحة القلب و زكاة النفس و غير ذلك من أمور كلها تكليفية في حق عامة الخلق فلذلك حلقاتنا هذه لنجعل الأمر في محله.(1/10)
ثم أيها الأخوة مع شديد الأسف مضطرٌ أن أقول أن هذا العلم في مسيرته التاريخية بعد القرون الثلاثة الخيرية الصحابة و التابعين و أتباع التابعين اختلط في هذا العلم أكثر من أي علم أخر أمور جعلته كالألغاز و المقصود علم القلوب أو علم العبادات القلبية ، دخله الصوفية و جعلوا هذا العلم كالألغاز جعلت هذا العلم أحياناً كأنه شيء أخر غير العلم الشرعي غير النصوص الكتاب و السنة و جعلته أحياناً مستقل كما يسمونه علم السلوك بل جعلته أحياناً من تأليف البشر، إلهامات لها قوة الوحي في التشريع أو في التقرير.(1/11)
و كل ذلك عجيب غريب في علم يجب أن يكون كبقية العلوم محرراً منقحاً على الكتاب و السنة ، إن من العجيب أن قارئ كتب هذا العلم و خصوصاً التي اختص بها الصوفية يشعر أنه أمام ألغاز أنه أمام شيء وراء النصوص و ذلك ما يضيق صدر المسلم أن يقرأ ولا يفهم شيء ، حين تقرأ مثلاً ولا أحيلك على هذه الكتب ولكن كمثال ( التنوير في إسقاط التدوير ) ماذا تعني ؟!! هذه كما ذكرت ألغاز و من ثم فإني أرفض تماماً أن أحيل أي مسلم على كتاب من كتب التصوف لا يمكن و لذلك أنا أقول أن أكثر المشتغلين بهذا العلم تصوراته قاصرة مفاهيمه ضيقة كلامهم بعيد عن الواقع عن بديهيات في الإسلام ينبغي ألا تغيب عن حس مسلم فإذا بقي هذا العلم قاصراً على هؤلاء فإن في ذلك إبقاء لشباب صحوتنا المباركة الذين يريدون السير إلى الله في أجواء غير صحية فكان لابد من دعوتنا السلفية الصافية أن تحرر هذا الموضوع ـ موضوع علم القلوب ـ أن يحرر هذا الموضوع لأنه من المواضيع التي تشكل ألف باء فهم إسلام ، لأن كل مسلم في الحقيقة سائر إلى الله طالما أنه يفعل ما أمره الله عز و جل به طالما أنه باحث عن الكمال المطلوب باحث عن الوصول إلى الفردوس باحث عن رضا ربه لكن هذا الباحث لابد أن يأتي الأمور من أبوابها من بداياتها لابد من معرفة المصادر و الموارد لابد أن يعرف كيف يرد و كيف يصدر لابد ـ كما أستطيع أن أسميه الآن ـ السير الكامل و من هنا خلط الذي لا يتصور أنه لا سير إلى الله إلا من خلال التصوف ! خطأ كبير، نحن هنا نريد أن نرد على الصوفية الذين لا يتصورون سيراً إلى الله بدون سير على يد أهل الطريق ، إن الصحابة رضوان الله عليهم و من بعدهم من هؤلاء السلف الصالحين ساروا إلى الله قبل أن تقعد قواعد علم التصوف ما كان لهم هم إلا دراسة الكتاب و السنة و تطبيق ذلك فإن لم يكن هذا سيراً فما هو السير ؟! خدعوك فقالوا : السير هو التصوف !!(1/12)
وأنا أخاطب أيضاً أخواننا من أهل المنهج هذا المنهج ، «المنهج السلفي الكتاب و السنة بفهم سلف الأمة» ، الذين صارت عندهم حساسية بالغة التي أسميها (( أرتكاريا )) من كلمة تصوف دعك من هذه الكلمة لذلك كل المصطلحات الذي يذكرها أهل التصوف ، تسبب عندنا حرج ، فتسمع أحدهم يقول : الشيخ عنده نزعة صوفية !! لأنه يقول السير إلى الله و أحوال القلوب و الحال و المقام .. لا .. لماذا ؟!
يا أخي هذه علومنا و هؤلاء سلفنا .. قال الله تعالى : ( هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا ) [يوسف : 65] ، و نحفظ ديننا و نصدق وعد ربنا ، فنحن نرد على الصوفية الذين يقولون لا سير إلى الله إلا من خلال منهج التصوف و لا سير إلى الله إلا وراء شيخ متصوف !! خطأ .. و نقول أيضاً للأخوة الذين تصوروا أن الدين علوم جامدة فحسب فليكن لهم حال مع الله و سير صحيح إلى الكمال الإنساني .
(أهمية تزكية النفوس :
(1) لقد تظافرت نصوص الكتاب والسنة ببيان أهمية تزكية النفوس وما لها من مكانة عالية ومنزلة رفيعة، ولعل من أبرز تلك النصوص وأظهرها قوله تعالى في سورة الشمس: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاها وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاَهَا وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} [الشمس: 1 ـ 10].
فتأمل معي أيها القارئ الكريم في هذه الآيات البينات تجد أن الله عز وجل قد أقسم فيها أحد عشر قسما على أن صلاح العبد وفلاحه منوط بتزكية نفسه.
ويؤكد هذا المعنى قوله تعالى في موضع آخر من الكتاب: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 14 ـ 15].(1/13)
(2) أخبر الله جل وعلا بفوز من حقق هذه التزكية بالدرجات العلى، فقال سبحانه: {وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء مَن تَزَكَّى} [طه: 75 ـ 76].
(3) قد جاء في القرآن الكريم ما يدل على أنَّ مهمة الرسل كانت دعوة الناس إلى تزكية نفوسهم، قال تعالى لموسى في خطابه لفرعون: {فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى} [النازعات:18].
وقال سبحانه عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [الجمعة: 2].
(4) أن هناك تلازمٌ بين السلوك والاعتقاد : فالسلوك الظاهرُ مرتبطٌ بالاعتقادِ الباطن ، فأيُّ انحرافٍِ في الأخلاقِ إنما هو من نقص الإيمان الباطن ،
[*](قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى :
إذا نقصت الأعمالُ الظاهرةُ الواجبةُ ، كانَ ذلك لنقص ما في القلب من الإيمان ، فلاُ يتصور مع كمال الإيمان الواجب الذي في القلب ، أن تُعدم الأعمالُ الظاهرةُ الواجبةُ .
( الفتاوى7/582،616،621 )
[*](وقال الشاطبيُّ رحمه الله تعالى : ( الأعمالُ الظاهرةُ في الشرع دليلٌ على ما في الباطن فإذا كان الظاهرُ منخرماً أو مستقيماً حكم على الباطن بذلك ) الموافقات 1/233
فالسلوكُ والاعتقادُ متلازمان ، كذلك فإن من الأخلاقِ والسلوك ما هو من شُعَبِ الإيمان .
(5) وتظهر أهمية تزكية النفوس إذا علمنا ما يترتبُ على تحقيقِ الجانبِ الخُلُقي من الأجر الكثير والثوابِ الجزيل :
(حديث أبي الدر داء في صحيحي أبي داوود والترمذي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ما من شيء أثقل في الميزان من حسن الخلق ، فإن الله يُبْغِضُ الفاحشَ البذيء .(1/14)
(حديث عائشة في صحيح أبي داود) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن المؤمن ليدرك بحسن الخلق درجة القائم الصائم .
[*](قال ابن القيم رحمه الله تعالى :
( الدينُ كلُّه خُلُقٌ ، فمن زاد عليك في الخلُقِ زاد عليك في الدين ) [مدارج السالكين 2/307 ]
(6) إن تزكية النفس لها أهمية بالغة من حيث أنه موضوع يتعلق بالدنيا والآخرة يتعلق بالدنيا في أخلاق الإنسان وسلوكه وتعامله مع ربه ومع نفسه ومع الناس وفي الآخرة لأن الله إنما يجزي عباده الذين استقاموا على منهجه عقيدة وعبادة وسلوكا (يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ * إِلاّ مَنْ أَتَى اللّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [الشعراء 88: 89] والقلب السليم هو الذي تعلق بالله وتطهر سلوكا وتوجها إلى الله وباستقامة هذا القلب يستقيم البدن لا محالة كما في الحديث الآتي : (
(حديث النعمان بن بشير الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :الحلال بين و الحرام بين و بينهما أمور مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لعرضه و دينه و من وقع في الشبهات وقع في الحرام كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه ألا و إن لكل ملك حمى ألا و إن حمى الله تعالى في أرضه محارمه ألا و إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله و إذا فسدت فسد الجسد كله ألا و هي القلب .
(حاجتنا إلى التزكية :
إنَّ الدارس المُدَقِّق والباحث المُحقق يعلم علم اليقين الذي لا يخالطه شك مدى حاجتنا العظيمة والماسَّة إلى تزكية النفس وتأسيسها على تقوى من الله ورضوان، وأن الحاجة إلى ذلك أصبحت ـ وهي دوما ـ أشد من الحاجة إلى الطعام والشراب والكساء. وذلك لعدة أسباب منها ما يلي: (
أولاً: كثرة الفتن والمغريات وأصناف الشهوات والشبهات؛ فحاجة المسلم الآن إلى البناء أعظم من حالة أخيه أيام السلف، والجهد لابد أن يكون أكبر؛ لفساد الزمان والإخوان، وضعف المعين، وقلة الناصر.(1/15)
ثانيًا: لكثرة حوادث النكوص على الأعقاب، والانتكاس، والارتكاس حتى بين بعض العاملين للإسلام، مما يحملنا على الخوف من أمثال تلك المصائر.
ثالثًا: لأن المسؤولية ذاتية، ولأن التبعة فردية والإنسان يُحَاسَبُ عن نفسه لا عن غيره فلابد من جواب واستعداد ، قال تعالى: (يَوْمَ تَأْتِي كُلّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نّفْسِهَا) [النحل: 111]
رابعًا: عدم العلم بما نحن مقبلون عليه؛ أهو الابتلاء أم التمكين؟ وفي كلا الحاليْن نحن في أَمَسِّ الحاجة إلى بناء أنفسنا لتثبت في الحالين .
خامسًا: لأننا نريد أن نبني غيرنا، ومن عجز عن بناء نفسه فهو عن بناء غيره أعجز.
(تحصيل السعادة في تزكية النفوس:
إن من أعظم فوائد التزكية وعواقبها على أصحابها أنها تهبهم سعادة الدنيا قبل سعادة الآخرة،
[*](قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى : من أحب تصفية الأحوال فليجتهد في تصفية الأعمال: قال تعالى : (وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً) [الجن:16]
وكان بعض الشيوخ يدور على المجالس يقول: من سره أن تدوم له العافية فليتق الله".
وصدق الله تعالى إذ يقول: (قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسّاهَا) [الشمس 9،10] أهـ .
ثم إنك لن تصل إلى تحقيق المقامات الراقية إلا ببذل جهد ، ومجاهدة لنفسك الأمارة بالسوء وحرصك على تزكيتها،
أما مجرد الأماني الجميلة ، فلن توصلك إلا إلى الندامة ولو بعد حين ..!
(قل لنفسك موبخاً :
تريدينَ إحرازَ المعالي رخيصةً ** ولابدَ دون الشهدِ من إبرِ النحلِ !
(واهمس في أذنها أيضا :
بَصُرتُ بالراحة الكبرى فلم أرها ** تُنال إلا على جسرٍ من التعبِ .
بل خير من ذلك ذكّرها وأعد عليها التذكير بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم
" والمجاهد من جاهد نفسه في ذات الله . كما في الحديث الآتي : ((1/16)
( حديث عبد الله ابن عمرو رضي الله عنهما الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :أفضل المؤمنين إسلاما من سلم المسلمون من لسانه و يده و أفضل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا و أفضل المهاجرين من هجر ما نهى الله تعالى عنه وأفضل الجهاد من جاهد نفسه في ذات الله عز و جل .
(فأفضل ألوان الجهاد :
أن تلزم نفسك لتسير على الجادة ، كأنما تسير على حد السيف !
.
ومن هنا ينبغي عليك أن تمارس على نفسك عمليات متتابعة من الضبط والربط ، والتوجيه ، والإرشاد ،فتكون أنت القائد لها فعلاً ..
وبذلك تخرج من أسر قيادتها لك ، وتسخيرها إياك فيما تهوى ،
ولا تملك أنت إلا مسايرتها .
وَطِّن نفسك على أن تملأ فراغها بما يشغلها بخير ، ولا تزل تنقلها من دائرة خير إلى دائرة خير ، علت أو قلت ، المهم أن تبقيها دائرة في دوائر الطاعة ..
فإن من عجيب أمر هذه النفس :
أنها إذا لم تشغلها ( أنت ) بالحق ، شغلتك ( هي ) بالباطل ولابد .. !
وإن لم تملأ عليها زواياها بالخير ، ملأتها هي بألوان من الشر لا محالة !
ولا تكن في عجلة من أمرك !!
لا تحاول القفز فوق السلم ، لتصل إلى القمة بقفزة أو قفزتين ،
فقد تنكسر رقبتك !واعلم أن من استعجل الشيء قبل أوانه عُوقب بحرمانه فإن التأني من الله والعجلة من الشيطان بنص السنة الصحيحة كما في الحديث الآتي : (
(حديث أنس في صحيح الجامع) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : التأني من الله والعجلة من الشيطان .
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
( التأني ) أي التثبت في الأمور(1/17)
( من اللّه والعجلة من الشيطان ) قال ابن القيم : إنما كانت العجلة من الشيطان لأنها خفة وطيش وحدة في العبد تمنعه من التثبت والوقار والحلم وتوجب وضع الشيء في غير محله وتجلب الشرور وتمنع الخيور وهي متولدة بين خلقين مذمومين التفريط والاستعجال قبل الوقت . قال الحرالي : والعجلة فعل الشيء قبيل وقته [ ص 278 ] الأليق به وهذا الحديث من شواهده ما رواه البيهقي أيضاً في سننه عن ابن عباس مرفوعاً إذا تأنيت أصبت أو كدت وإذا استعجلت أخطأت أو كدت تخطئ . أهـ
(وبناءاً على ذلك يجب عليك ابتداءً أن تنوي نية حسنة يعلمها الله صادقة من قلبك ..
ثم أن تُوَطِّنَ نفسك ، على مجاهدة نفسك في عمليات الضبط والربط والتوجيه شيئا فشيئا ، وخطوة في إثر خطوة ، وابدأ بالأهم ثم المهم ، وثق أنك إذا خرجت مهاجراً إلى الله بنية صادقة صافية ،وشرعت في هذه الرحلة ، ثم مت في الطريق ،
قبل أن تصل ، فقد وقع أجرك على الله ..!أما إذا فسح الله لك في العمر ، ثم دمت على هذا الطريق ، فيوشك أن ترى ألواناً من العجب في طريق رحلتك هذه .
(حكم تزكية النفوس :
اختلف حكم التزكية عند العلماء نظرا لخلافهم في الأصل عند الإنسان هل هو السلامة والمرض طارئ أم الخلل والكمال مكتسب .
فذهب صاحب الإحياء إلى أن التزكية فرض عين على كل إنسان .. فالأصل عنده المرض واستدل بحادثة شق الصدر. بأن كل إنسان في قلبه نزغة الشيطان وأن الله استلها من صدر نبيه ولكنها بقيت عند بقية الخلق فتحتاج إلى مجاهدة لهذه النزغات بالتربية والتزكية.
وقال الجمهور: بل هي فرض كفاية، والأصل في الخلق السلامة، واستدلوا بحديث "كل مولود يولد على الفطرة".
والجمع بين القولين أن غالب النفوس ، ولو قلنا بأن الأصل فيها السلامة، إلا إنها قابلة للشهوات، مائلة إلى الملذات، نافرة عن الطاعات، مقبلة على الغفلات.. والمسلم مطالب بالبحث عن سلامة نفسه من كل هذا فلزمه أن يعمل على تزكيتها وتطهيرها .(1/18)
والذي يعيد النظر في أسباب التزكية والتربية يكاد لا يتردد في أن الحاجة إليها ربما تصل إلى حكم الواجب العيني وهو ما قال به بعض العلماء وأكدوه.
[*](قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى في صيد الخاطر: "المؤمن العاقل لا يترك لجامها ولا يهمل مقودها، بل يرخي لها في وقت والزمام بيده فما دامت على الجادة فلا يضايقها بالتضييق عليها، فإذا رآها مالت ردها بلطف، فإن ونت وأبت فبالعنف".
وقال أبو يزيد: ما زلت أسوق نفسي إلى الله وهي تبكي، حتى سقتها وهي تضحك.
(كيفية تزكية النفس :
لا يستطيع أن يربي الإنسان نفسه على رضى الله تعالى إلا بقوتين :
الأولى : قوة علمية .
الثانية : قوة عملية .
[*](قال ابن القيم رحمه الله تعالى كما في ( طريق الهجرتين ) " كل سائر إلى مقصد لا يتم سيره ولا يصل إلى مقصوده إلا بقوتين ، أما الأولى : فقوة علمية ، وأما الثانية : فقوة عملية .
(وقفة مع القوتين :
أولاً :القوة العملية :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
تقوم على ركيزتين
الأولى : الإرادة والعزيمة :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
وهما نوعان كما ذكره ابن رجب رحمه الله تعالى في شرحه على حديث شداد بن أوس ، يقول : " والعزم نوعان : عزم المريد على الاستمرار على الطاعات بعد الدخول فيها وعلى الانتقال من حال كامل إلى حال أكمل منه وهو من النهايات "
ولا بد من معالجة الإرادة وتصحيح النية حتى تزكو النفس وتزول الشوائب العالقة بها التي ربما أبعدتها عما أرادت .
[*](قال ابن القيم رحمه الله تعالى في ( الطب الروحاني ) : " إذا كانت الهمة الدنية طبعا لم ينجح فيها العلاج فإن كانت مكتسبة بصحبة الأدنياء أو بغلبة الطبع والهوى فعلاجها قريب "
(أسباب دُنوّ الهمة :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ
(1) الطبع بأن تكون الهمة بطبعها دنية .
(2) اكتساب الدنية من الوسط الاجتماعي ، أو بصحبة سيئة إلى غير ذلك .
الثانية :مجاهدة النفس :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ(1/19)
فلابد من مجاهدة النفس ، ولابد من القسوة عليها حتى تحقق الغايات الطامح صاحبها إليها .
[*](قال ابن القيم رحمه الله تعالى في ( مفتاح السعادة ) : " لا يستطيع الإنسان أن يحقق المعالي من الأمور إلا بمجاهدة نفسه وجعلها عدوة له "
ويقول ابن رجب في ( شرح حديث لبيك اللهم لبيك ) : " النفس تحتاج إلى محاربة ومجاهدة ومعاداة فإنها أعدى عدو لابن آدم فمن ملك نفسه وقهرها ودانها عزّ بذلك لأنه انتصر على أشد أعدائه وقهره واكتفى شرّه "
(أسباب صعوبة مجاهدة النفس :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
(1) أنها عدوّ من داخل الجسد ، واللص إذا كان من داخل البيت عزّت الحيلة فيه وعظُم الضرر .
(2) أنها عدوّ محبوب ، والإنسان عَمٍ عن عيوب محبوبه لا يكاد يبصر عيبه .
ويُخطئ الكثيرون عندما يظنون أن مجاهدة النفس غير متحقق في زمان كثرت شبهه ، وعظمت غربته ، واستفحل الشرّ فيه ، وهذا خطأ بين فإن الله عزّ وجلّ لم يأمرنا إلا بما تستطيعه أنفسنا ، وأيضا هناك من يخطئ على نفسه فيستأسد على نفسه فيمنعها حظوظها على الإطلاق ولا شك أن هذا غلط .
ثانياً القوة العلمية :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
وهي تقوم على ركيزتين :
الركيزة الأولى : معرفة الشيء المراد تحقيقه ، على أي شيء تربيها . وفي باب تربية النفس وتزكيتها هناك نوعان مطلوبان شرعا ، أحدهما مطلوب طلب لزوم ووجوب والآخر مطلوب وهو من جنس المندوب .(1/20)
أما الواجب على المكلفين فقد حصره ابن القيم بأمور ، حيث يقول : " ما افترضه الله على العبيد وكان فرضا عينيا عليهم لا يسع مسلم جهله أنواع ، أوله علم أصول الإيمان الخمسة ، الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فإن من لم يؤمن بهذه الخمس لم يدخل في باب الإيمان ولا يستحق اسم المؤمن ، وثانيها علم شرائع الإسلام ، واللازم منها علم ما يخص العبد من فعلها ، كعلم الوضوء والصلاة والصيام والحج وتوابعها وشروطها ومبطلاتها ، وثالثها علم المحرمات الخمس التي اتفقت عليها الرسل والشرائع والكتب الإلهية وهي مذكورة في قوله تعالى (قُلْ إِنّمَا حَرّمَ رَبّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ) [الأعراف: 33]
رابعها علم أحكام المعاشرة والمعاملات التي تحصل بينه وبين الناس خصوصا وعموما ، والواجب في هذا النوع يختلف باختلاف أحوال الناس ومنازلهم ، فليس الواجب على الإمام مع رعيته كالواجب على الرجل مع أهله وجيرته " هذا الواجب العيني على المكلفين .
النوع الثاني قسمان : 1- قسم ديني مشروع . 2- قسم من جنس المروءات .
(وسائل تزكية النفس :
إنَّ أهم ما ينبغي للإنسان أن يتعاهده تزكية نفسه ومعرفته لوسائل تزكية النفس ، ولا سيما في هذه الأزمان المتأخرة التي استحكمت فيها الشهوات، وارتطمت فيها أمواج الفتن والشبهات، والتي لم يسلم منها إلا من عصمه الله جل وعلا.
وقبل الخوض في تفاصيل وسائل التزكية لا بدَّ من العلم أن تزكية النفوس لا سبيل إليها إلا عن طريق الشرع المطهر باتباع ما جاءت به الرسل عن رب العالمين جل وعلا.(1/21)
وقد أشارت آية الجمعة السابقة إلى هذا المعنى في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ} [الجمعة: 2].
[*](قال ابن القيم رحمه الله تعالى : «فإن تزكية النفوس مُسلَّم إلى الرسل، وإنما بعثهم الله لهذه التزكية وولاَّهم إياها، وجعلها على أيديهم دعوة وتعليما وبيانا وإرشادا... فهم المبعوثون لعلاج نفوس الأمم... وتزكية النفوس أصعب من علاج الأبدان وأشد، فمن زكى نفسه بالرياضة والمجاهدة والخلوة، التي لم يجئ بها الرسل فهو كالمريض الذي يعالج نفسه برأيه، وأين يقع رأيه من معرفة الطبيب؟ فالرسل أطباء القلوب فلا سبيل إلى تزكيتها وصلاحها إلا من طريقهم، وعلى أيديهم، وبمحض الانقياد والتسليم لهم، والله المستعان» اهـ . «مدارج السالكين» (2/356)
ووسائل تزكية النفس تنقسم إلى قسمين: مجملة و مفصلة .
فأما الوسائل المجملة فنذكر منها ما يلي : (
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
(1) العمل على تطهير النفس من أخلاقها الرذيلة كالرياء والعجب والشح والبخل، والحرص والطمع، والأمن من مكر الله...
(2) تحليتها بالأخلاق الحميدة الفاضلة بعد أن أصبحت جاهزة لها بتخليها عن الأخلاق الدنيئة، وهذه الأخلاق هي مثل : الإخلاص، والإنابة، والخوف من الله، والشكر، والتواضع....
(3) المحافظة على الفرائض؛ لأنها أفضل طاعة يتقرب بها العبد إلى مولاه بنص السنة الصحيحة كما في الحديث الآتي : ((1/22)
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : قال الله تعالى من عاد لي ولياً فقد آذنته بالحرب ، وما تقرب إلىَّ عبدي بشيءٍ مما افترضته عليه ، وما يزال عبدي يتقرب إليِّ بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله الذي يمشي بها ، ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنَّه ، وما ترددتُ عن شيءٍّ أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته .
(4) الإكثار من النوافل فإنها أفضل شيءٍ يُتَقَرب به إلى الله تعالى بعد الفريضة بنص السنة الصحيحة كما في الحديث الآتي : (
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : قال الله تعالى من عاد لي ولياً فقد آذنته بالحرب ، وما تقرب إلىَّ عبدي بشيءٍ مما افترضته عليه ، وما يزال عبدي يتقرب إليِّ بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله الذي يمشي بها ، ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنَّه ، وما ترددتُ عن شيءٍّ أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته .
(حديث ربيعة ابن كعب الأسلمي الثابت في صحيح مسلم ) قال : كنت آتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بوضوئه وحاجته فقال لي سلني ؟ فقلت أسألك مرافقتك في الجنة قال أو غير ذلك ؟ قلت هو ذاك قال فأعنى على نفسك بكثرة السجود .
(5) تدبر القرآن، فهو جلاء القلوب وإذا صفى القلب زكت النفس، والله تعالى يقول : (( كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ ))[ص:29]
أما الوسائل التفصيلية؛ فمنها ما يلي : (
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ(1/23)
(1) التوحيد: وقد سماه الله تعالى زكاة في قوله: {وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِين الَّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُون} [فُصِّلَت: 6 ـ 7]، وهذا التفسير مأثور عن البحر ابن عباس رضي الله عنه حيث قال في قوله تعالى: {لاَ يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ}: لا يشهدون أن لا إله إلا الله . «المجموع» لشيخ الإسلام (10/633).
[*](قال ابن القيم رحمه الله تعالى : «قال أكثر المفسرين من السلف ومن بعدهم: هي التوحيد: شهادة أن لا إله إلا الله، والإيمان الذي به يزكو القلب فإنه يتضمن نفي إلهية ما سوى الحق من القلب وذلك طهارته وإثبات إلهيته سبحانه، وهو أصل كل زكاة ونماء»... إلى أن قال: «فأصل ما تزكو به القلوب والأرواح هو التوحيد» اهـ . «إغاثة اللهفان» (1/49).
كما سمى الله تعالى الشرك رجسا ووسمه بالنجاسة، قال تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ} [الحج: 30]، وقال: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28].
فدل مفهوم الآيتين على أن الطهارة والتزكية في التوحيد الخالص لله جل وعلا.
ولذلك قال موسى لفرعون وهو يدعوه إلى التوحيد: {هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} [النازعات: 18 ـ 19].
(2) الصلاة: وهي من أعظم ما تزكو به النفوس ولذلك قرن الله تعالى بينها وبين التزكية في قوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 14 ـ 15].
وقد شبه النبي صلى الله عليه وسلم تطهير الصلاة للنفوس بتطهير الماء للأبدان كما في الحديث الآتي : (
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسلُ فيه كلَ يومٍ خمسَ مراتٍ، هل يبقى من درنه شيء ؟ قالوا لا يبقى من درنه شيء ، قال : فذلك مثلُ الصلوات الخمس يمحو الله بهنَّ الخطايا .(1/24)
(3) الصدقة: قال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا} [التوبة: 103].
[*](قال الشيخ السعدي رحمه الله تعالى : «وفيها أن العبد لا يمكنه أن يتطهر ويتزكى حتى يخرج زكاة ماله، وأنه لا يكفرها شيء سوى أدائها؛ لأن الزكاة والتطهير متوقف على إخراجها» اهـ .
(4) ترك المعاصي والمحرمات: قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا} أي: زكى نفسه بفعل الطاعات، ثم قال: {وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} أي: خسر من دساها بالفجور والمعاصي.
قال شيخ الإسلام: «فكذلك النفس والأعمال لا تزكو حتى يزال عنها ما يناقضها، ولا يكون الرجل متزكيا إلا مع ترك الشر، فإنه يدنس النفس ويدسيها». المجموع» لشيخ الإسلام
(10/629).
[*](قال ابن القيم رحمه الله تعالى :«والمقصود أن زكاة القلب موقوفة على طهارته، كما أن زكاة البدن موقوفة على استفراغه من أخلاطه الرديئة الفاسدة، قال تعالى: {وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاء وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيم} [النور:21]، ذكر ذلك سبحانه عقيب تحريم الزنا والقذف ونكاح الزانية، فدل على أن التزكي هو باجتناب ذلك» اهـ. «إغاثة اللهفان» (1/49).
(5) التوبة، فهي أول مقامات منازل العبودية عند السالكين، وبها يذوق الإنسان حلاوة الانتقال من التخلية إلى التحلية، قال الله عز وجل منوها بشأنها: ((وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ))[النور:31]
(6) لزوم الاستغفار والذكر عموماً، لقول الله عز وجل: (( وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ )) [الزخرف:36]
(3) مخالفتها والإنكار عليها وعدم تلبية رغباتها؛ لأنها داعية للراحة والعصيان.
[*](يقول الغزالي رحمه الله:(1/25)
اعلم أن أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك، وقد خُلِقَتْ أمارةً بالسوء مبالغةً في الشر فرارةً من الخير، وَأُمِرْتَ بتزكيتها وتقويمها وقودها بسلاسل القهر إلى عبادة ربها وخالقها ومنعها عن شهواتها وفطامها عن لذاتها، فإن أهملتها جمحت وشردت ولم تظفر بها بعد ذلك.
(7) توبيخها وتقريعها من أجل حملها على الطاعة:
[*](يقول الغزالي رحمه الله: إن لازمت نفسك بالتوبيخ والمعاتبة والعذل والملامة كانت نفسك هي النفس اللوامة التي أقسم الله بها ورجوت أن تصير النفس المطمئنة المدعوة إلى أن تدخل في زمرة عباد الله راضية مرضية، فلا تغفلن ساعة عن تذكيرها ومعاتبتها، ولا تشتغلن بوعظ غيرك ما لم تشتغل أولاً بوعظ نفسك.
(8) الإكثار من وعظها وتذكيرها بالموت والدار الآخرة :
فتخاطبها بمثل ما خاطبها به الغزالي في إحيائه حيث يقول: ويحك يا نفس لا ينبغي أن تغرك الحياة الدنيا ولا يغرك بالله الغرور، فانظري لنفسك فما أمرك بمهم لغيرك، ولا تضيعي أوقاتك، فالأنفاس معدودة، فإذا مضى منك نفس فقد ذهب بعضك، فاغتنمي الصحة قبل السقم، والفراغ قبل الشغل، والغنى قبل الفقر، والشباب قبل الهرم، والحياة قبل الموت، واستعدي للآخرة على قدر بقائك فيها، يا نفسُ أما تستعدين للشتاء بقدر طول مدته، فتجمعين له القوت والكسوة والحطب وجميع الأسباب، ولا تتكلين في ذلك على فضل الله وكرمه حتى يدفع عنك البرد من غير جبة ولبد وحطب وهو القادر على ذلك، أفتظنين أيتها النفس أن زمهرير جهنم أخف برداً وأقصر مدة من زمهرير الشتاء؟ أم تظنين أن ذلك دون هذا، أم تظنين أن العبد ينجو منها من غير سعي؟ هيهات !! فكما لا يندفع برد الشتاء إلا بالجبة والنار وسائر الأسباب فلا يندفع حر النار وبردها إلا بحصن التوحيد وخندق الطاعات..
(9) سوء الظن بالنفس والحيلولة بينها وبين الاغترار بالعمل والإدلال به على الله:
فإن حسن الظن بالنفس يمنع من كمال التفتيش .(1/26)
[*](قال ابن القيم رحمه الله تعالى : على السالك أن لا يرضى بطاعته لله، وألا يحسن ظنه بنفسه، فإن الرضا بالطاعة من رعونات النفس وحماقاتها، ودليل على جهل الإنسان بحقوق العبودية وما يستحقه الرب سبحانه، ويجب أن يعامل به، ثم إن رضا الإنسان وحُسْنه ظنه بنفسه يتولد منهما من العجب والكبر والآفات الباطنة ما هو أشد من الكبائر الظاهرة من الزنا وشرب الخمر.
(10) تنقية العمل من حظوظ النفس وشوائب الرياء:
فقد جعل ابن القيم رحمه الله تصفية العمل من الشوائب هي أساس الإخلاص في العمل، بحيث لا يمازج عمل الإنسان ما يشوبه من شوائب إرادات النفس من طلب التزين في قلوب الخلق أو طلب مدحهم والهرب من ذمهم، أو طلب تعظيمهم أو أموالهم أو خدمتهم ومحبتهم... إلى غير ذلك من العلل والشوائب التي عقد متفرقاتها هو إرادة ما سوى الله بعمله كائناً ما كان، فلا بد من التفتيش عما يشوب الأعمال من حظوظ النفس، وتمييز حق الرب منها من حظ النفس، ولعل أكثرها أو كلها أن تكون حظاً لنفسك وأنت لا تشعر، فلا إله إلا الله كم في النفوس من علل وأغراض وحظوظ تمنع الأعمال أن تكون لله خالصة وأن تصل إليه.
(11) محاسبة النفس :
وقد دل على وجوب محاسبة النفس قول الله تعالى: (يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اتّقُواْ اللّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مّا قَدّمَتْ لِغَدٍ وَاتّقُواْ اللّهَ إِنّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلاَ تَكُونُواْ كَالّذِينَ نَسُواْ اللّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُولََئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [ الحشر : 19] تنظر أي تفكر وتتفكر.(1/27)
[*] يقول الشيخ عبد الرحمن بن سعدي – رحمه الله - : يأمر الله تعالى عباده المؤمنين بما يوجبه الإيمان ويقتضيه من لزوم تقواه سراً وعلانية في جميع الأحوال وأن يراعوا ما أمرهم الله به من أوامره وحدوده وينظروا مالهم وما عليهم وماذا حصلوا عليه من الأعمال التي تنفعهم أو تضرهم يوم القيامة فإنهم إذا جعلوا الآخرة نصب أعينهم وقبلة قلوبهم واهتموا للمقام بها اجتهدوا في كثرة الأعمال الموصلة إليها وتصفيتها من القواطع والعوائق التي توقف عن السير أو تعوقهم أو تصرفهم، وإذا علموا أن الله خبير بما يعملون لا تخفى عليه أعمالهم ولا تضيع لديه ولا يهملها أوجب لهم الجد والاجتهاد.
(وقال الشيخ عن هذه الآية: وهذه الآية الكريمة أصل في محاسبة العبد نفسه وأنه ينبغي له أن يتفقدها فإن رأى زللاً تداركه بالإقلاع عنه والتوبة النصوح والإعراض عن الأسباب الموصلة إليه وإن رأى نفسه مقصراً في أمر من أوامر الله بذل جهده واستعان بربه في تتميمه وتكميله وإتقانه ويقايس بين منن الله عليه وبين تقصيره هو في حق الله فإن ذلك يوجب الحياء لا محالة، والحرمان كل الحرمان أن يغفل العبد عن هذا الأمر ويشابه قوماً نسوا الله وغفلوا عن ذكره والقيام بحقه وأقبلوا على حظوظ أنفسهم وشهواتها فلم ينجحوا ولم يحصلوا على طائل بل أنساهم الله مصالح أنفسهم وأغفلهم عن منافعها وفوائدها فصار أمرهم فرطاً فرجعوا بخسارة الدارين وغبنوا غبناً لا يمكن تداركه ولا يجبر كسره لأنهم هم الفاسقون.
قال تعالى:( وَتُوبُوَاْ إِلَى اللّهِ جَمِيعاً أَيّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ) [ النور: 31]، فإذاً ينبغي على العبد أن ينظر في حاله ويحاسبها ويتوب من التقصير فالمحاسبة تقود إلى التوبة قال تعالى: (إِنّ الّذِينَ اتّقَواْ إِذَا مَسّهُمْ طَائِفٌ مّنَ الشّيْطَانِ تَذَكّرُواْ فَإِذَا هُم مّبْصِرُونَ) [ الأعراف : 201](1/28)
ولا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يحاسب نفسه أشد من محاسبة شريكه(( والشريكان يتحاسبان عند نهاية العمل))، ورُوي عن عائشة رضي الله عنها أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال لها عند الموت :[ماأحد من الناس أحب إليّ من عمر]، ثم قال : كيف قلت؟ فأعادت عليه كلامه، فقال: [لا أحد أعزّ عليّ من عمر]. فانظر كيف نظر بعد الفراغ من الكلمة فتدبرها وأبدلها بكلمة أخرى لأنه رآها أنسب وأحسن وأدق وأصدق..
[*] قال الحسن البصري رحمه الله: [ المؤمن قوّام على نفسه يحاسبها لله وإنما خفّ الحساب على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا، وإنما شقّ الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة] ثم قال: [ المؤمن يفجأه الشيء يعجبه فيقول والله إنك تعجبني وإنك من حاجتي ولكن هيهات !حيلي بيني وبينك!]، هذا نموذج من الحساب لشيء يعرض للإنسان مزيّن ويعجبه وتميل إليه نفسه ولكنه يتركه لأنه ليس من مصلحته في الآخرة ، [ ويفرط منه الشيء فيرجع إلى نفسه فيقول ماذا أردتِ بهذا؟!!]، يفرط أي يسبق ويحصل ويقع.
[*] قال الحسن البصري رحمه الله في قوله تعالى: ((ولا أقسم بالنفس اللوامة)): [ لا يلقى المؤمن إلا وهو يعاتب نفسه، ماذا أردت بكلمتي؟ماذا أردت بأكلتي؟ماذا أردت بشربتي؟والفاجر يمضي قدماً لا يعاتب نفسه].
[*] وقال مالك بن دينار رحمه الله : رحم الله عبداً قال لنفسه ألستِ صاحبة كذا ؟ ألست صاحبة كذا؟ألست صاحبة كذا؟ ثم ذمّها ثم خطمها ثم ألزمها كتاب الله تعالى فكان لها قائداً. وهذا من حساب النفس.
[*] وقال ميمون بن مهران: [ التقي أشد محاسبة لنفسه من سلطان غاشم ومن شريك شحيح].(1/29)
[*] وقال إبراهيم التميمي: [مثلت نفسي في الجنة آكل من ثمارها وأشرب من أنهارها وأعانق أبكارها ثم مثلت نفسي في النار آكل من زقومها وأشرب من صديدها وأعالج سلاسلها وأغلالها فقلت لنفسي : يا نفس أي شيء تريدين؟قالت: أريد أن أرد إلى الدنيا فأعمل صالحاً، قال:فأنتِ في الأمنية فاعملي إذاً لتكوني في الجنة في ذلك النعيم].
[*] قال ابن القيم في إغاثة اللهفان: [إن سائر أمراض القلب إنما تنشأ من جانب النفس فالمواد الفاسدة كلها إليها تنصبّ ثم تنبعث منها إلى الأعضاء وأول ما تنال القلب].
[*] قال الحسن البصري رحمه الله في قوله تعالى: ((ولا أقسم بالنفس اللوامة)): [ لا يلقى المؤمن إلا وهو يعاتب نفسه، ماذا أردت بكلمتي؟ماذا أردت بأكلتي؟ماذا أردت بشربتي؟والفاجر يمضي قدماً لا يعاتب نفسه].
[*] وقال مالك بن دينار رحمه الله : رحم الله عبداً قال لنفسه ألستِ صاحبة كذا ؟ ألست صاحبة كذا؟ألست صاحبة كذا؟ ثم ذمّها ثم خطمها ثم ألزمها كتاب الله تعالى فكان لها قائداً. وهذا من حساب النفس.
[*] وقال ميمون بن مهران: [ التقي أشد محاسبة لنفسه من سلطان غاشم ومن شريك شحيح].
[*] وقال إبراهيم التميمي: [مثلت نفسي في الجنة آكل من ثمارها وأشرب من أنهارها وأعانق أبكارها ثم مثلت نفسي في النار آكل من زقومها وأشرب من صديدها وأعالج سلاسلها وأغلالها فقلت لنفسي : يا نفس أي شيء تريدين؟قالت: أريد أن أرد إلى الدنيا فأعمل صالحاً، قال:فأنتِ في الأمنية فاعملي إذاً لتكوني في الجنة في ذلك النعيم].
[*] قال ابن القيم في إغاثة اللهفان: [إن سائر أمراض القلب إنما تنشأ من جانب النفس فالمواد الفاسدة كلها إليها تنصبّ ثم تنبعث منها إلى الأعضاء وأول ما تنال القلب].
(12) الإقلال من النوم والأكل والكلام :(1/30)
ومما يعين على تزكية النفس عدم الإكثار من هذه الأمور الثلاثة والإفراط فيها، فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله موجبة لقسوة القلب وإن أبعد الناس من الله القلب القاسي، وكثرة الأكل موجبة لقوة نوازع النفس الشهوانية لدى الإنسان، وتوسيع مجاري الشيطان فيه، وكثرة الأكل موجبة لكثرة النوم وكثرة النوم موجبة للعجز والكسل فضلاً عن أنها مضيعة للعمر، وقد قيل : من أكل كثيراً شرب كثيراً فنام كثيراً فخسر كثيرا.
(13) التحلي بالصبر واليقين :
فبالصبر ينتصر على شهوات نفسه فيحجزها عن المحرمات ويحبسها على الطاعات، فجانبي التزكية : التخلي والتحلي لا يمكن الحصول عليهما إلا عن طريق الصبر، (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) [ الزمر:10]
(14) الدعاء: من أسباب تزكية النفس الدعاء، فهو سلاح المؤمن بأن يلجأ الإنسان إلى الله دائماً أن يقيه شر نفسه وأن يعينه على طاعة الله، فقد كان من دعائه عليه الصلاة والسلام: (اللهم اهدني لأحسن الأعمال والأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت وقني سيئ الأعمال وسيئ الأخلاق لا يقي سيئها إلا أنت ، من دعائه عليه الصلاة والسلام أيضاً اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.(1/31)
( حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قام إلى الصلاة قال : وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين ، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا من المسلمين اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت أنت ربي وأنا عبدك ظلمت نفسي واعترفت بذنبي فاغفر لي ذنوبي جميعا إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت لبيك وسعديك والخير كله في يديك والشر ليس إليك أنا بك وإليك تباركت وتعاليت أستغفرك وأتوب إليك وإذا ركع قال اللهم لك ركعت وبك آمنت ولك أسلمت خشع لك سمعي وبصري ومخي وعظمي وعصبي وإذا رفع قال اللهم ربنا لك الحمد ملء السماوات وملء الأرض وملء ما بينهما وملء ما شئت من شيء بعد وإذا سجد قال اللهم لك سجدت وبك آمنت ولك أسلمت سجد وجهي للذي خلقه وصوره وشق سمعه وبصره تبارك الله أحسن الخالقين ثم يكون من آخر ما يقول بين التشهد والتسليم اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أسرفت وما أنت أعلم به مني أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت .
(حديث زيد ابن أرقم في صحيح مسلم ) قال كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : اللهم آت نفسي تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها ، اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع ومن قلب لا يخشع ومن نفس لا تشبع ومن دعوة لا يستجاب لها .
(معرفة الطريق الموصل إلى تلك التزكية :
وهي مجموع أمور ثمان :
(1) صحة النية وصدقها .
(2) التوكل على الله تعالى حق التوكل ، ومن لوازم التوكل الدعاء .
(3) استعمال طريق الترغيب والترهيب بأنواعه المختلفة.(1/32)
(4) أن يعكف المرء على إصلاح نواة قلبه ، وأن يزيل أوضارها فيطهر صدره من الغش والحقد والحسد وما إليه ، ولإزالة هذه الأوضار لابد من شيئين متلازمين هما [ حبّ مقلق ، خوف مزعج للفؤاد ]
(5) القيام بالعبادات ، والإكثار مما يرضي رب الأرض والسموات ، وينبغي أن يَقْلِبَ الإنسان عاداته إلى عبادات .
(6) محاسبة النفس قبل العمل وأثناءه وبعده ، والمحاسبة لها ركيزتان هما :
[ العلم ،الصدق ] ومن المحاسبة إساءة الظن بالنفس ومن المحاسبة زيادة محاسبة القلب واللسان .
(7) الحكمة ، فلابد من الحكمة في سياسة النفس فإن من لم يكن حكيما ربما أهلك نفسه وهو يريد إصلاحها ، ولا تتم الحكمة إلا بأمرين ( :
أ - علم معرفة النفس . ب - علم كيفية سياسة النفس .
(8) صحبة المُرَبِّيْن والصالحين .
وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد ، ودرر الفرائد . (
(حديث أبي هريرة الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل .
[*] قال العلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:
( فلينظر أحدكم من يخالل ) أي فليتأمل أحدكم بعين بصيرته إلى امرئ يريد صداقته فمن رضي دينه وخلقه صادقه وإلا تجنبه .
{ تنبيه } :(وقد جهل الكثير الطريق الذي يزكون به أنفسهم ولذلك هم صنفان :
أ - صنف لم يصل إلى هذه التربية والتزكية التي ينشدها .
ب - صنف آخر وصل إلى شيء مما أراد ولكن مع جهد كبير .
(كيفية سياسة النفس في تزكيتها :
مسألة : كيف يكون الإنسان حكيما مع نفسه حتى يسوسها في التربية ويأتي على مراتب أهل العلم في تزكية النفس وتربيتها ؟
(الحكمة مع النفس وسياستها :
يكون ذلك من خلال أمرين متلازمين :
(1) علم معرفة النفس .
(2) علم كيفية السياسة لها وكيف تُراض ؟ وكيف تؤدب ؟(1/33)
(أما بالنسبة للأمر الأول : فيؤكده ما قاله ابن القيم في الفوائد بقوله : " لا ينتفع بنعمة الإيمان والعلم إلا من عرف نفسه ووقف بها عند قدرها ولم يتجاوز ما ليس له "
والتعرف على النفس من خلال جهتين أساسيتين :
(أ) التعرف على حوائج النفس وطباعها .
(ب) الانكفاء على النفس لمعرفة معايبها ومثالبها ، والمعايب منها ما هو مشترك في جنس الناس ، ومنها ما هو مختلف .
فأما المشترك فهما نوعان هما : [ الظلم والجهل ]
فالإنسان يدافع هذين النوعين بأضدادهما ، فضد الجهل : العلم ، وأعلاه مرتقى العلم النافع المأخوذ من الوحي كتابا وسنة ، والظلم يدافع بالعدل ، والعدل لفظ جمع الخيرات كلها .
والوقف على معايب النفس وخللها يكون بشرطين :
ذكرها ابن القيم في : ( مدارج السالكين ) أولهما : العلم ، وثانيهما : الصدق مع النفس فلا يجاملها ولا يحابيها .
( أما بالنسبة للأمر الثاني : وهو المعرفة بقواعد الحكمة مع النفس عند تربيتها ، فجماع ذلك أربع قواعد :
القاعدة الأولى : التدرج مع النفس :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
فالتدرج من المقاصد الشرعية إلا أن التدرج مع النفس محوط بضابط أصيل قام عليه الدليل وهو : أن التدرج لا يكون في باب الشرع إلا في أمور ثلاثة :
(أ) المستحبات . (ب) المكروهات . (ج) الزهد والورع المستحب .
وأما أن يريد الإنسان إعمال التدرج في مطلوب واجب كصلاة الجماعة مثلا فهذا حرام ، ولا يجوز في الإسلام ، ولا يجوز إدخال التدرج في ترك المحرمات ؛ بل يجب على الإنسان تركها حالا .
القاعدة الثانية : الأولويات ، بأن يُراعي الأهم فالأهم :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ(1/34)
ولا يستطيع الإنسان إعمال هذه القاعدة حقا حتى يكون عالما بمراتب الشرع عارفا بمقاصد التشريع ، وأما إن كان جاهلا فإنه لا يستطيع إعمال هذه القاعدة حق الإعمال ،ولا ريب أن هذه القاعدة لها فقه وضوابط ، ولها دقائق أيضا ، من دقائقها ما ذكره شيخ الإسلام كما في ( مجموع الفتاوي ) بقوله : " ليس كل ما كان أفضل يشرع لكل أحد بل كل واحد يشرع له أن يفعل مل هو أفضل له " .
القاعدة الثالثة : أن يُجمّ الإنسان نفسه ويريح ذاته في سيرها إلى التزكية والتربية :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
فالنفس كالراحلة إذا لم ترحها انقطعت ، فعلم أن للنفس حق عليك ، وهو أن تريحها وتجمها ، وقد كان السلف يعنون بهذا .
القاعدة الرابعة : إعمال اللين والرفق مع النفس :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
واللين والرفق أعم معنى من التدرج مع النفس ، فينبغي أن تكون لينا مع نفسك رفيقا معها ، واللين والرفق ينبغي إعماله مع النفس في موضعه ، فالحزم وقت الحزم ، والرفق في موضعه .
(أقسام التزكية:
التزكية تقوم على أمرين: تخلية وتحلية:
تخلية للنفس عن كل الذنوب والسيئات، والمعاصي والبليات، والقبائح والمسترذلات.
وتحلية لها بالمكرمات، وتنمية المستحسن من الأخلاق والعادات حتى تبلغ بها النفس المطمئنة كما أشار الغزالي إلى ذلك بقوله: "جوهر عملية التزكية:الارتقاء بالنفس درجة درجة، من السيئ إلى الحسن ثم ترقيها في مراتب الحسن والصفاء حتى تبلغ أعلى المستويات الإنسانية وأسماها، فتتحول من نفس أمارة بالسوء أو لوامة إلى نفس مطمئنة راضية عن ذاتها مرضية عند مولاها وربها".
(منزلة التزكية في الدين :(1/35)
لما دعا إبراهيم عليه السلام ربه طالباً من يخلفه في الدعوة إلى الله من ولده قال: ( رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ) [البقرة : 129]
فمن أهم أعمال الرسل التزكية و من مهمات الرسل التزكية ، حدد إبراهيم عليه السلام مهمة الرسول:
(تلاوة آيات الله
(تعليم الكتاب و الحكمة
(التزكية
استجاب الله هذا الدعاء بل و امتن به على المؤمنين في ثلاثة مواضع من القرآن :
(الموضع الأول) : في سورة البقرة:
( كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ ) [البقرة : 151]
(الموضع الثاني) : في سورة آل عمران:
( لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ ) [آل عمران : 164]
(الموضع الثالث) : في سورة الجمعة:
( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ) [الجمعة : 2]
{ تنبيه } :( إن المتأمل بعين البصيرة في ترتيب سيدنا إبراهيم في وظيفة الرسول هو: «تلاوة الأيات ثم تعليم الكتاب و الحكمة ثم التزكية»
أما ترتيب الله جل و علا في الثلاث آيات هو: «يتلو عليكم آياتنا ثم ويزكيهم ثم ويعلمهم الكتاب و الحكمة» فقدم التزكية قبل العلم .
و العلماء يقولون : أن كل الشرع إنما ابتني لتزكية هذه النفس وتزكية القلب.(1/36)
(فالتوحيد تزكية : بدليل الآية التي ذكرناها : (وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ ، الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ) [فصلت 6-7]
يعني لا يزكون أنفسهم بالتوحيد ، فالتوحيد تزكية ، قال الله تعالى : ( ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَاء مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ) [الزمر : 29]
فتأمل !! وأنت تتأمل في هذا العصر والله عجب !! ألم تسمع عن عبدة الشيطان ؟! ألم يبلغك نبأ قوم وصلوا في التكنولوجيا الحديثة و الإختراعات إلى أفق شامخة ثم هم يعبدون البقر و تمثال بوزا ؟! وشكله كئيب ولا يمت للجمال بصلة !! ألم تر إلى هؤلاء الذين يزعمون أنهم وصلوا إلى القمر في زمن الوصول و هو يعبدون أنفسهم ؟! ويعبدون فرج المرأة و الرجل ؟! هذه الشركيات دليل على قذارة النفس من الداخل .
(والصلاة تزكية: قال تعالى : (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ) [العنكبوت : 45]
(والزكاة تزكية: قال تعالى : ( خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) [التوبة : 103]
(والصيام تزكية: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) [البقرة : 183] ، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد ، ودرر الفرائد . ((1/37)
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (قال الله عز وجل : كلُ عملِ بن آدم له إلا الصيامُ فإنه لي وأنا أجزي به ، والصيامُ جنةُ فإذا كان يومُ صومِ أحدكم فلا يرفث ولا يصخب ولا يجهل فإن شاتمه أحدُ أو قاتله فليقل صائمٌ مرتين ، والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيبُ عند الله يوم القيامة من ريح المسك ، وللصائم فرحتان يفرحهما : إذا أفطر فرح بفطره وإذا لقي ربه فرح بصومه )
(والحج تزكية: قال الله تعالى : ( الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ ) [البقرة : 197]
«إذن الشرع كله تزكية»
[*](قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه طريق الهجرتين و باب السعادتين :
(( هذا العلم هو أشرف علوم العباد و ليس بعد علم التوحيد أشرف منه ، و هو لا يناسب إلا النفوس الشريفة ، لا يناسب النفوس الدنيئة المهينة، فإذا رأى نفسه تناسب هذا العلم و تشتاق إليه و تحبه و تأنس بأقله فليبشر بالخير فقد أُهل له))
{ تنبيه } :(لا بد أن تدرسه وأن تفقهه وأن تفهمه ، لكن مؤصلاً على الكتاب والسنة ، وصافيا منقحاً بفهم السلف .
(تلازم القوتين العلمية والعملية للسير في الطريق :
إن من المعلوم شرعاً أنه لابد من تلازم القوتين العلمية والعملية للسير في الطريق... وهذا ما أشار إليه العلامة ابن القيم رحمه الله في درة من نفيس كلامه إذ يقول: "قاعدة: السائر إلى الله والدار الآخرة، بل كل سائر إلى مقصد، لا يتم سيره ولا يصل إلى مقصوده إلا بقوتين: قوة علمية وقوة عملية..(1/38)
فبالقوة العلمية يبصر منازل الطريق ومواضع السلوك فيقصدها سائرًا فيها ويجتنب أسباب الهلاك ومواضع العطب وطرق المهالك المنحرفة عن الطريق الموصل.
وبالقوة العملية يسير حقيقة، بل السير هو حقيقة القوة العملية؛ فإن السير هو عمل المسافر، وكذلك السائر إلى ربه إذا أبصر الطريق وأعلامها وأبصر المعاثر والوهاد والطرق الناكبة عنها فقد حصل له شطر السعادة والفلاح، وبقي عليه الشطر الآخر وهو أن يضع عصاه على عاتقه ويشمر مسافرًا في الطريق قاطعًا منازلها منزلة بعد منزلة..." (1) .
(وقوع التناقض بين القوة العلمية والقوة العملية:
فإن مما يحزّ في القلب ويؤلمه أشد الألم أن يجد العبد نفسه مبصرًا للطريق ولكنه يضعف عن السير فيه... أو يجد نفسه عالمًا بما ينبغي أن يقوم به من عمل ولكنه لا يجد في نفسه همة للفعل والأداء... أو يجد نفسه عالمًا بصفات المؤمنين وأحوال قلوبهم من الطمأنينة والرضى والصبر والثبات وغير ذلك ولكنه لا يجد قلبه كذلك في المواقف التي يحتاج فيها لتلك المعاني... أو يجد نفسه قادرًا على ذكر ما ينبغي للمسلم من الخلق ومن قول كلمة الحق ولو على نفسه، ومن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والقيام بحقوق الأخوة، ومن النشاط في الدعوة وغير ذلك ثم لا يجد في نفسه قوة في القيام بشيء من ذلك.
وفي المقابل، ومما يزيد العبد العالم بكل ذلك حسرة وألمًا، أن يجد كثيرًا ممن لا يعلمون مثل علمه ولا يقولون مثل قوله، وليس لديهم فصاحة كفصاحته، يجدهم أقوى منه قلبًا وأكثر منه عملاً وأشد منه خشية لله وحماسة للدين وغيرةً عليه...
(أقسام العباد بالنسبة للقوتين «العلمية والعملية»
__________
(1) ... طريق الهجرتين ص171، ببعض الاختصار.(1/39)
فإذا علمنا أنه بالقوة العلمية والقوة العملية يتمكن العبد من السير إلى ربه فينبغي أن نعلم أن هاتين القوتين تتفاوتان في العبد... وقد يغلب على عبد القوة العلمية فيعلم الطريق وربما يُبصِّر به غيره... ويعلم الداء والدواء ولكن تضعف عنده القوة العملية، فهو يصف الطريق ولا يسير فيه ويعلم الداء وهو مصاب به، ويصف الدواء ولا يتناوله.
وقد يغلب على عبد القوة العملية الإرادية... فمع كونه أقل علمًا من سابقه، ولا يجيد توصيف الأمور، ولا يجيد الكلام ولا الجدال، إلا أنه أسلم قلبًا وأقوى عزيمة من الأول، وأزهد في الدنيا وأشجع في المواقف وأصبر في المصائب، ويسير إلى ربه سيرًا حثيثًا، وهذا إذا كان عنده الحد الأدنى من القوة العلمية التي تصح بها عبادته وعقيدته فهو أسعد حالاً ومآلاً من سابقه، أما إذا اضمحلت فيه القوة العلمية حتى صار يعبد الله على جهل ويدعو إليه على جهل فهذا يخشى عليه من التخليط والتخبط عند ورود الشبهات.
ومن ثم فإننا نجد ابن القيم رحمه الله يقسم الناس من حيث هاتين القوتين إلى أربعة أقسام:
(قسم تغلب عليه القوة العلمية .
(وثَانٍ تغلب عليه القوة العملية .
(وثالث له القوتان معًا .
(ورابع ضعفت فيه القوتان.(1/40)
فيقول رحمه الله : "من الناس من يكون له القوة العلمية الكاشفة عن الطريق ومنازلها وأعلامها وعوارضها ومعاثرها، وتكون هذه القوة أغلب القوتين عليه، ويكون ضعيفًا في القوة العملية، يبصر الحقائق ولا يعمل بموجبها، ويرى المتالف والمخاوف والمعاطب ولا يتوقاها، فهو فقيه ما لم يحضر العمل (1) ، فإذا حضر العمل شارك الجهال في التخلف وفارقهم في العلم، وهذا هو الغالب على أكثر النفوس المشتغلة بالعلم (2) ، والمعصوم من عصمه الله ولا قوة إلا بالله...
ومن الناس من تكون له القوة العملية الإرادية وتكون أغلب القوتين عليه، وتقتضي هذه القوة السير والسلوك والزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة والجد والتشمير في العمل، ويكون أعمى البصر عند ورود الشبهات في العقائد والانحرافات في الأعمال والأقوال والمقامات كما كان الأول ضعيف العقل عند ورود الشهوات، فداء هذا من جهله وداء الأول من فساد إرادته وضعف عقله، وهذا حال أكثر أرباب الفقر والتصوف السالكين على غير طريق العلم.
ومن كانت له هاتان القوتان استقام له سيره إلى الله ورجي له النفوذ، وقوي على رد القواطع والموانع بحول الله وقوته.
__________
(1) ... وهذا يذكرني بحال من يتحدث عن موقف المسلم عند الغضب أو في الفتن فإذا كانت فتنة وقع فيها ولم يعمل بما يقول، أو بحال المرء حين يكون عالمًا بفقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا ما كان موطن الأمر والنهي لم تنشط نفسه لذلك، وإذا بمن هو أقل منه علمًا يتولى ذلك وينشط له، وقُلْ مثل ذلك فيمن يَعْلَمُ ما ينبغي فعله بالميت ساعة الاحتضار وفي تغسيله وتكفينه ودفنه، فإذا حضر ميتًا صار كمن لا علم له بذلك، فهو فقيه ما لم يحضر العمل!!
(2) ... وهي كلمة مخيفة، ولفتة عظيمة تجعل كل مشتغل بالعلم يخشى على نفسه من ذلك الضعف وتلك الآفة.(1/41)
فإذا كان السير ضعيفًا، والهمة ضعيفة، والعلم بالطريق ضعيفًا فإنه جهد البلاء ودرك الشقاء وشماتة الأعداء" (1) .
لمن أسوق كلام ابن القيم ؟
وقد قصدت سوق كلام ابن القيم رحمه الله في تفاوت العباد في القوة العلمية والقوة العملية إلى طائفة الملتزمين بالدين في مجتمعنا أو المنسوبين إلى العلم أو الفكر أو الدعوة؛ أولئك الذين نحسن فيهم الظن ويُرجى منهم الخير، ومع ذلك فقد يقع فيهم قدر من الخلل في هاتين القوتين دون أن يصل الأمر إلى التناقض المطلق بين القوة العلمية والقوة العملية أو تنعدم إحداهما بالكلية، فهذه الدرجة الشنيعة يشبه أصحابها المنافقين الذين ظاهرهم في واد وحقيقتهم في واد آخر، أو المغضوب عليهم الذين علموا الحق وعملوا بغيره أو الضالين الذين عبدوا الله على جهل، وهذا كله له تعلق بمسألة التفاوت بين القوة العلمية والقوة العملية وأثره على واقع العبد ومصيره، وكذا قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ. كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2، 3].
فهاتان الآيتان لهما أيضًا تعلق بموضوعنا، فالذي يقول ما لا يفعل أنواع كثيرة منها: من يعمل عملاً معاكسًا لقوله، ومنها المتشبع بما لم يعط، ومن يوهم الآخرين بأنه في وضع معين من العمل أو الاستعداد للبذل والتضحية فإذا احتيج منه إلى ذلك لم يكن فعله كقوله، ومنها أن يقول قولاً أو يَعِدَ وعدًا ولا يفي به، وقد قيل إن الآيتين نزلتا في هذا وأن الذم الوارد فيهما يشبه الذم في قوله - صلى الله عليه وسلم - : "آية المنافق ثلاث" فذكر منها: "وإذا وعد أخلف" (2) .
__________
(1) ... طريق الهجرتين ص172، 173، ببعض الاختصار.
(2) ... رواه البخاري، ومسلم، جامع الأصول (11/569).(1/42)
وذهب الجمهور إلى أنها نزلت حين تمنوا فريضة الجهاد عليهم فلما فُرِضَ نكل عنه بعضهم؛ فهي نحو قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً. أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء: 77، 78].
قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان ناس من المؤمنين قبل أن يُفْرَضَ عليهم الجهاد يقولون: لَوَددْنَا أن الله عز وجل دَلَّنا على أحب الأعمال إليه فنعمل به، فأخبر الله نبيه أن أحب الأعمال إيمان به لا شك فيه، وجهاد أهل معصيته الذين خالفوا الإيمان ولم يقروا به، فلما نزل الجهاد كره ذلك ناس من المؤمنين وشق عليهم أمره، فقال الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ}، وهذا اختيار ابن جرير، وقد قيل إنها نزلت في قوم يقولون: قتلنا، ضربنا، طعنا، وفعلنا، ولم يكونوا فعلوا ذلك (1) .
وعلى كل حال فالمقصود أني لا أوجه هذا الموضوع ولا أقصد به قومًا يكذبون فيقولون شيئًا يخبرون به عن أنفسهم لم يفعلوه، ولا أقصد رجلاً يقول الباطل، ولكن أكتب هذا الكلام لرجل إن لم يقل الحق لم يقل الباطل، فالكلام إذن لقوم ليس عندهم نفاق أو كذب أو انتهاك للحرمات بينما هم أصحاب ألسنة عليمة فصيحة، فهؤلاء أمرهم في غاية الشناعة، والكلام فيهم معلوم مكرور.
__________
(1) ... انظر: تفسير ابن كثير، سورة الصف.(1/43)
ولكني أعالج ظاهرة لا تبدو فيها هذه الشناعة، أو ذلك التناقض الصارخ بين العلم والعمل، وإنما يكون فيها الجانب العملي ضعيفًا إزاء الجانب العلمي دون أن يكون الشخص فاعلاً للشرور أو منهمكًا في المعاصي والآثام. وهذا سبب غموض المشكلة وإهمالها، وهو أن الشخص مع وجود خلل ما في شخصيته وتفكيره وتأثيره لا يشعر بذلك؛ لأنه ليس ثمة انحراف ظاهر في سلوكه أو عبادته، وإنما النقص في عدم مواكبة أحواله القلبية وجهوده العملية لقوته العلمية، فالقوة العلمية جيدة لكن القلب قاس والعبادة سريعة خفيفة، والورع معدوم، والغيرة على الدين ضعيفة، والبذل والتضحية والتنازل عن بعض الحقوق أو المصالح الشخصية من أجل الدعوة لا موضع لها في الواقع، والحياة للدعوة مفقودة، والحرص على هداية الآخرين غير موجود، والزهد في الدنيا لا مكان له، فصار الحال كما يصوره الشاعر:
وكلهم في لهيب القول عنترة
... ... ... وكلهم في لهيب الفعل كالوتد
فمثل هذه الشخصيات التي نمت نظريًا أو علميًا أو فكريًا ولم تنم علميًا وروحيًا ودعويًا فتنة للمتعلمين والمتربين، ولهذه الشخصيات تأثيرها السلبي على المسيرة التربوية، حيث يصبح مألوفًا أن نقرأ ونتعلم ثم نتكلم أو نكتب حتى يشار إلينا بالبنان، ولا يهم بعد ذلك أن تكون أرواحنا وقلوبنا وأعمالنا وبذلنا على نفس الدرجة التي يوحي بها كلامنا أو شهرتنا.. وبالإضافة إلى ذلك فهذه الشخصيات لا تؤثر مواعظها في القلوب كما قال مالك بن دينار رحمه الله: إن العالم إذا لم يعمل بعلمه زَلَّتْ موعظته عن القلوب كما تزل القطرة عن الصفا. وعن عبد الله بن المبارك قال: قيل لحمدون بن أحمد: ما بال كلام السلف أنفع من كلامنا؟ قال: لأنهم تكلموا لعز الإسلام ونجاة النفوس ورضا الرحمن، ونحن نتكلم لعز النفوس وطلب الدنيا ورضا الخلق.
مسألة : أيهما أفضل الأقوى في القوة العلمية عن العملية أم العكس ؟(1/44)
الجواب :إذا كان لابد أن نفاضل بين هؤلاء وهؤلاء؛ يعني إذا كان من الصعب أن يسود النموذج المثالي الذي تتكافأ فيه القوتان العلمية والعملية وأردنا أن نفاضل بين هؤلاء الذين غلبت عليهم القوة العلمية مع ضعفهم وانهيارهم عمليًا، وبين قوم أقل منهم علمًا وفكرًا ـ ولا نقول جهالاً أو مبتدعين ـ ولكن أقوى تأثيرًا في الآخرين وأعظم في تقديم النموذج الملتزم العالم العابد الزاهد المتحمس للدين... فلا شك أن النوع الأخير أو النموذج الأخير ـ وهو أقل في قوته العلمية ـ خير من النموذج الأول صاحب القوة العلمية مع ضعف وخور وكسل وبرود في النواحي العملية؛ إذ النموذج الأول فتنة ومدعاة للفتور، والنموذج الثاني قدوة ومدعاة للعمل والإخلاص، وأصلح قلبًا وأقرب إلى النجاة في الآخرة حيث صلح قلبه وعمله، والنوع الأول جعل جل همه صلاح الكلام والفكرة، وبكلامه صار عظيمًا في عين نفسه وفي أعين الناس ولكن الله يعلم ما في قلبه وعمله من الضعف، ولذلك تظهر في الآخر مفاجآت... حيث توزع المقاعد في الجنة بمقاييس غير تلك التي توزع على أساسها المقاعد والدرجات في الدنيا، فنرفع فلانًا إلى هذه المكانة أو تلك ونغفل عن فلان ونتجاهله أو لا نفطن له، ويوم القيامة تظهر الحقائق، فهو حقًا "يوم التغابن" ... فكم من مشهور مرفوع في الدنيا قد يكون رَفَعَهُ حُسْنُ كلامه وكَثْرَةُ علومه ورَوْعَةُ أفكاره ولكنه يوم القيامة ليس له قدر يُذْكَر عند الله عز وجل:{وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر: 47]، وكم من مغمور في الدنيا لا يشار إليه بالبنان ولا يُتحدث عن عمله ولا يجيد الكلام ولا الجدل ولا التحذلق وهو يوم القيامة من الملوك العظام في الجنة! نعم والله... {خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ} [الواقعة:3]. فربما خفضت من لم يتوقع البشر المحجوبون انخفاضهم، ورفعت من لا يُتوَقْع ارتفاعُهم.(1/45)
فممن يقع لهم التغابن والخفض والرفع يوم القيامة أصحاب القوة العلمية والقوة العملية، وذلك أن المتميزون علميًا وفكريًا في الدنيا، إلا من رحم الله، يحسبون أنفسهم هم القوم وإن قصروا في العمل، بل ويعظمهم المتميزون قلبيًا وعمليًا لسلامة قلوبهم وهم لا يدرون أنهم أحسن حالاً ومآلاً عند الله جل وعلا.. فهذا عدله سبحانه أن يرفع أصحاب القلوب السليمة والبذل الكثير، وإن لم يكونوا علماء أو مفكرين، على أصحاب الكلام والعلم والفكر الذين لم تنتفع قلوبهم بكلامهم، ولم يدل سلوكهم على علمهم، ولم يدل بذلهم وعطاؤهم على فكرهم.
عدم ركون الصالحين من العلماء إلى قوتهم العلمية:
(ولهذا كان من مضى من صالحي العلماء يخافون على أنفسهم من الضعف العملي، ولا يركنون لشهرتهم العلمية، بل يكرهون أشد الكراهية أن يتضخموا علميًا أو يشتهروا أو يعظمهم الناس، وليس في قلوهم ما يكافئ ذلك. ولهذا جعلوا نظرهم إلى حقيقة الأمر عند الله عز وجل، وكان أهم شيء عندهم صحة قلوبهم وتقربهم إلى ربهم، وكانوا يجدون لذتهم في أن يُعَامَلُوا كعامة الخلق دون مزيد تعظيم أو تضخيم... فهذا ابن المبارك العالم المشهور زوحم يومًا مع تلميذ له عند الماء وقد أراد أن يشرب ولم يكن أهل ذلك المكان يعرفونه، فلما زحموه ولم يوسعوا له أشفق عليه تلميذه وشق ذلك عليه، فالتفت إليه ابن المبارك قائلاً: ما العيش إلا هكذا... حيث لم تُعْرَفْ ولم تُعَظَّم.(1/46)
وكان من مضى من صالحي العلماء لا يسمحون لعلومهم أن تشغلهم عن قلوبهم وعبادتهم وبذلهم وعطائهم، فقدوتهم في ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي لم يقف عند تلقي العلم من جبريل عليه السلام بل شمر عن ساعده في تعليمه الخلق، ومع ذلك لم يشغله هذا وذاك عن قيام الليل حتى تفطرت قدماه... والذي يتأمل سيرة شيخ الإسلام ابن تيمية والحافظ ابن القيم رحمهما الله يجد قوة عملية عظيمة في أحوال قلوبهم وفي عبادتهم وفي دعوتهم وفي جهادهم، ولم يقصروا في ذلك اعتمادًا على ما تميزوا به من قوة علمية.
((التاريخ يشهد:
وإذا استقرأنا التاريخ فإننا نجد أن الدعاة الذين أثروا في الأمة وحركوها لم يكونوا من طبقة المفكرين العاكفين على الفكر مع ضعف قوتهم العملية، وإنما كانوا أصحاب قوة عملية، فبأفكار قليلة واضحة تساندها قوة عملية عظيمة أقاموا حركات ضخمة مؤثرة.
فهذا شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، لم يوصف بأنه من المفكرين أو العلماء المتخصصين البارزين في علم معين، وحين تتأمل كلامه تجد وضوحًا وسهولة مع قوة وروح، ويأتي بآيات وأحاديث وكلمات لسلفنا الصالح مع بعض كلام له يسير يربط به ربطًا واضحًا في غير تكلف بين تلك النصوص وما يريد، بهذا أقام حركة وأثر في الأمة، ليس في الجزيرة العربية وحدها ولكن في معظم أرجاء العالم الإسلامي، وذلك لأنه ساند كلامه اليسير وأفكاره السهلة الواضحة بقوته العملية؛ قوة في القلب، وقوة في العبادة، وقوة في السلوك، وقوة في البذل والعطاء والتحمل.
وكذا أثّر من بعده الإمام حسن البنا رحمه الله، ولم يكن هو الآخر من طبقة المفكرين أو الفلاسفة أو العلماء المتخصصين البارزين، ولكنه داعية رباني ذو قوة عملية مع فكرة واضحة وسهلة.(1/47)
هذه أمثلة، وعلى منوالها يستطيع المتأمل البصير أن يستقرئ الواقع والتاريخ فيجد أن كل من أقاموا حركات قوية مؤثرة صامدة والتفت حولهم الشعوب والجماهير لم يكونوا من طبقة المفكرين القابعين في مكاتبهم يستحدثون المصطلحات ويتكلفون التعبيرات التي يعقدون بها لغة الدعاة حتى أن من لا يحسن مصطلحاتهم تجد نفسه كالعامي لا يدري ماذا يقولون، ولا ما ذا يقصدون.
وقد يظن من لا علم له أن سيد قطب رحمه الله من تلك الطبقة، والأمر في الحقيقة ليس ذلك، والذي يعلم لغة المفكرين ولغة سيد يعرف جيدًا الفرق بين اللغتين، فلغة سيد مع تميزها بالحس الأدبي والأسلوب الراقي إلا أنها تنطوي على أفكار واضحة مباشرة تكاد تكون هي المعاني الظاهرة للآيات والتطبيق المباشر لها، وهذه الأفكار معروضة بأسلوب واضح مباشر بعيد عن تعقيد المصطلحات، على خلاف ما تنطوي عليه لغة المفكرين مِنْ محاولة الوصول إلى المقصود مِنْ طرق بعيدة وأحيانًا معقدة مع تكلف في الأساليب واستحداث المصطلحات.
ومع هذا نقول، وهب أن سيدًا كان من المفكرين ولكنه ساند فكرته بربانية وقوة عملية جعلت لكلامه تلك المصداقية أو ذلك الأثر في الأمة.
(ليس العيب في الاشتغال بالعلم أو الفكر:
فليس العيب في التفكير أو التعميق في العلوم، وإنما العيب في المفكرين والعلماء المتخصصين الذين اكتفوا أو استغنوا بالتعمق في التفكير أو العلوم عن القوة العملية وعن الربانية التي ينبغي أن يتحلى بها العالم والمفكر حتى يغدو مؤثرًا في واقعه وفي أمته بروح قوية وعبادة حسنة وسلوك قويم وزهد وتواضع وتضحية وبذل وعطاء.(1/48)
نعم يكون العيب في المفكرين أو العلماء المتخصصين ـ وليس في العلم سواء كان علمًا شرعيًا أو فكرًا أو غير ذلك ـ حين يهملون تلك الجوانب العملية، ويغترون بما قطعوه من المراحل في علومهم وأفكارهم فيظنوا أنهم بذلك قد صاروا عباد الله المختارين، وقد سبقوا غيرهم سبقًا بعيدًا، فلا يضرهم بعد اليوم تقصير في عبادة أو سلوك أو عمل.
لا خير في نمو نظري يتخلف عنه النمو العملي:
وهؤلاء البارزون في علمهم وفكرهم مع ضعف قلوبهم وعبادتهم وسلوكهم وقلة أو عدم بذلهم وتضحيتهم لا يمكن أن تنمو في ظلهم دعوة قوية تغير الأمة، بل هم بهذه التركيبة الخطيرة يقتلون فيمن حولهم كثيرًا من المعاني السامية الجميلة، مثل صفاء القلوب وقوتها، وصدق المحبة والأخوة، وحسن العبادة والإقبال عليها، والاستقامة والورع، والبذل والعطاء والتضحية والحياة للدعوة... نعم يقتلون كل هذه المعاني حين يراهم مَنْ حولهم يزهدون فيها وهم البارزون المشار إلى علومهم وأفكارهم، فأي فتنة أشد من هذا؟! حتى صرنا والله لا ندري أيهما خير المعلم أم المتعلم، والمربي أم المرَبَّى! وستظل أحوالنا متردية ما دمنا نظن أن المشكلة تكمن في قلة الأفكار ونغفل عن الداء العظيم الذي هو الضعف العملي المخيم علينا.(1/49)
ولا خير في أي نمو نظري ـ علمي أو فكري ـ يتخلف عنه النمو العملي، وهذا ما أردت التحذير منه؛ أن نتضخم علميًا أو فكريًا على حساب قلوبنا وعبادتنا وسلوكنا وبذلنا وعطائنا في الواقع العملي لهذه الدعوة ولنصرة الدين، فيحدث الخلل وتكون الفتنة، كما أردت التحذير من أن يصبح مألوفًا عندنا أن نعلم الحق أو الواجب ولا نسعى للقيام به، ونرى الطريق ولا نسير فيها، ونعلم المزالق ولا نتوقاها، فيصدق علينا مِنْ ثَمَّ كلام ابن القيم رحمه الله: (فمن الناس مَنْ يكون له مِن القوة العلمية الكاشفة عن الطريق ومنازلها وأعلامها وعوارضها ومعاثرها، وتكون هذه القوة أغلب القوتين عليه، ويكون ضعيفًا في القوة العملية، يبصر الحقائق ولا يعمل بموجبها، ويرى المتالف والمخاوف والمعاطب ولا يتوقاها، فهو فقيه ما لم يحضر العمل، فإذا حضر العمل شارك الجهال في التخلف وفارقهم في العلم، وهذا هو الغالب على أكثر النفوس المشتغلة بالعلم، والمعصوم من عصمه الله ولا قوة إلا بالله).
ولهذا فهنا كلمة نقولها لعموم الأمة: لا تظنوا حين تجدوننا قد أحسنا الحديث أننا ـ بالضرورة ـ قد أحسنا العمل والعبادة والسلوك أو أننا حقًا نتحمل ونضحي، أو أننا نحسن الثبات في الفتن والبلاء، أو أننا مؤهلون لقيادة الأمة، كلا فلا تلازم بين القوتين، نعم؛ ينبغي أن تعلموا ذلك لتكونوا أبعد عن الأوهام وأبعد عن الصدمات، فالعالم أو المفكر بشر من البشر فيه من الضعف ما فيهم ويعتريه ما يعتريهم، فلا تظنوا كل من حسن علمه ومنطقه يستطيع أن يصنع شيئًا على أرض الواقع، والموفق من وفقه الله.
وقفة أخيرة:(1/50)
إن تلك المعاني العظيمة التي فجرها كلام الحافظ ابن القيم رحمه الله ينبغي كتطبيق عملي لها أن يراجع كل منا نفسه ـ خاصة من تميز في علمه أو فكره ـ مراجعة قوية صريحة، كيف هو في قوته العملية؟ أين قلبه؟ أين عبادته؟ أين سلوكه واستقامة لسانه وجوارحه؟ أين ورعه؟ أين بذله وعطاؤه وتضحيته من أجل هذه الدعوة؟ وليجعل كلٌّ منَّا هَمَّ الليل والنهار بالنسبة له أن ينهض بقوته العملية لتوافق ما يَعْلَمُهُ وما يفكر فيه وما يدعو إليه، فإن أبينا ذلك وقعد بنا الضعف، وعجزت عن ذلك نفوسنا المكبلة بقيود الدنيا وشهواتها، وقلوبنا الضعيفة المشتتة في أوديتها فلا ينبغي أن نستعلي على غيرنا أو نتمسح بالدعوة أو نظن أنفسنا أننا أصحاب إرادة قوية أو منهج جاد للتغيير، ويظل الناس في انتظار الخير مِنْ قِبَلِنَا فلا يجدونه، بل الأولى أن نكون صرحاء مع أنفسنا ومع الناس، ونفسح الطريق لأصحاب قلوب جديدة قوية حية، وأصحاب صدق وبذل وتضحية وعطاء، أصحاب قوة عملية فعالة، ليتقدموا إلى الراية ويسيروا بالقافلة ونكون تبعًا لهم، فربما كانوا خيرًا منا {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38].
(منازل التزكية :(1/51)
(للتزكية منازل عظيمة ، منازل التزكية هي منازل السائرين إلى رب العالمين ، «منازلٌ ينتقل فيها القلب منزلة منزلة في حال سيره إلى الله» هي منازلٌ كالمناراتِ الراسيةِ القواعد المُشَيَّدةِ الأركان الثابتةِ الوطائد ، منازلٌ مشرقةٌ مضيئة أضوائها لامعة ونجومها ساطعة ، «يستمد السائر إلى الله تعالى » من نورها نوراً ومن ضيائها لمعاناً ليضيء له الطريق أثناء سيره إلى الله تعالى ، فيكون في سيره إلى الله تعالى متحلياً باليقظة والبصيرة والمعرفة والمحبة والخوف والرجاء والتقوى والاستقامة والتوبة والإنابة والخشوع والخضوع والإخبات والصبر والشكر والرضا واليقين والتوكل والصدق والمراقبة والرغبة والرهبة وغيرها، واعلم أن لِكُلِ منزلة مفهوماً وَحَدَاً ، وَلِكُلِ منزلة ثلاث درجات واحدة تليق بعامة المسلمين وأخرى لخاصة المؤمنين وثالثة للمحسنين للمقربين ، كما بينه الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين .
وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد ، ودرر الفرائد . (
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن للإسلام صوى ومنارا كمنار الطريق .
والصوى : جمع صوه و هي الحجرة الكبيرة العظيمة التي توضع على الطريق لتوضحه.
والمنار : هو الدليل الشاهد الذي يدل الناس على أن الطريق من هنا.
هذه الصوى و المنارات دلالة على الطريق ، فإذا جاء أحدهم إلى مكان ما و لم ير معالمه إذن إنه لا يزال المتخلف المسكين مزرياً على نفسه ذامّاً لها.
[*](قال الشيخ العزي عنها: (( هي مثل محطات التزود في أي طريق طويل ، أو هي منازل طبقية و درجات صعود و مدارج إنطلاق تتوازى و تتابع )).(1/52)
{ تنبيه } :(ويحتاج «السائر إلى الله تعالى » إلى قوتين يكونان عوناً بعد الله تعالى في السير إلى الله تعالى وهما القوة العلمية والقوة العملية .
[*](قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه طريق الهجرتين وباب السعادتين:
قال أنه لابد لكل سائر من قوتين قوة علمية وقوة عملية.
أما العلمية : فهي التي تكشف له علامات الطريق وآفاته.
والقوة العملية : هي السير نفسه.
مسألة : ما هو عدد منازل التزكية ؟
[*](قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين :
قد أكثر الناس في صفة المنازل وعددها من جعلها ألفا ومنهم من جعلها مائة ومنهم من زاد ونقص فكل وصفها بحسب سيره وسلوكه ، وسأذكر فيها أمرا مختصرا جامعا نافعا إن شاء الله تعالى .
مسألة : ما هي عدد المقامات ، وما الفرق بينها وبين الأحوال ؟
[*](قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين :
ولأرباب السلوك اختلاف كثير في عدد المقامات وترتيبها كل يصف منازل سيره وحال سلوكه ولهم اختلاف في بعض منازل السير هل هي من قسم الأحوال؟ والفرق بينهما: أن «المقامات كسبية والأحوال وهيبة» ومنهم من يقول الأحوال من نتائج المقامات والمقامات نتائح الأعمال فكل من كان أصلح عملا كان أعلى مقاما وكل من كان أعلى مقاما كان أعظم حالا.
فمما اختلفوا فيه (الرضا) هل هو حال أو مقام؟ فيه خلاف بين الخراسانيين والعراقيين.
وحكم بينهم بعض الشيوخ فقال: إن حصل بكسب فهو مقام وإلا فهو حال.
والصحيح في هذا: أن الواردات والمنازلات لها أسماء باعتبار أحوالها فتكون لوامع وبوارق ولوائح عند أول ظهورها وبدوها كما يلمع البارق ويلوح عن بعد فإذا نازلته وباشرها فهي أحوال فإذا تمكنت منه وثبتت له من غير انتقال فهي مقامات وهي لوامع ولوائح في أولها وأحوال في أوسطها ومقامات في(1/53)
نهاياتها فالذي كان بارقا هو بعينه الحال والذي كان حالا هو بعينه المقام وهذه الأسماء له باعتبار تعلقه بالقلب وظهوره له وثباته فيه.
«وقد ينسلخ السالك من مقامه كما ينسلخ من الثوب وينزل إلى ما دونه ثم قد يعود إليه وقد لا يعود»
«ومن المقامات: ما يكون جامعا لمقامين»
ومنها ما يكون جامعا لأكثر من ذلك.
ومنها ما يندرج فيه جميع المقامات فلا يستحق صاحبه اسمه إلا عند استجماع جميع المقامات فيه.
فالتوبة جامعة لمقام المحاسبة ومقام الخوف لا يتصور وجودها بدونهما.
و(التوكل) جامع لمقام التفويض والإستعانة والرضى لا يتصور وجوده بدونها.
و(الرجاء) جامع لمقام الخوف والإرادة.
و(الخوف) جامع لمقام الرجاء والإرادة.
و(الإنابة) جامعة لمقام المحبة والخشية لا يكون العبد منيبا إلا باجتماعهما.
و(الإخبات) له جامع لمقام المحبة والذل والخضوع لا يكمل أحدها بدون الآخر إخباتا.
و(الزهد) جامع لمقام الرغبة والرهبة لا يكون زاهدا من لم يرغب فيما يرجو نفعه ويرهب مما يخاف ضرره.
ومقام (المحبة) جامع لمقام المعرفة والخوف والرجاء والإرادة فالمحبة معنى يلتئم من هذه الأربعة وبها تحققها.
ومقام (الخشية) جامع لمقام المعرفة بالله والمعرفة بحق عبوديته فمتى عرف الله وعرف حقه اشتدت خشيته له كما قال تعالى (ِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ
عِبَادِهِ الْعُلَمَاء ) [ فاطر : 28]
فالعلماء به وبأمره هم أهل خشيته قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أنا أعلمكم بالله وأشدكم له خشية".
ومقام (الهيبة) جامع لمقام المحبة والإجلال والتعظيم.(1/54)
ومقام (الشكر) جامع لجميع مقامات الإيمان ولذلك كان أرفعها وأعلاها وهو فوق (الرضا) وهو يتضمن (الصبر) من غير عكس ويتضمن (التوكل) و(الإنابة) و(الحب) و(الإخبات) و(الخشوع) و(الرجاء) فجميع المقامات مندرجة فيه لا يستحق صاحبه اسمه على الإطلاق إلا باستجماع المقامات له ولهذا كان الإيمان نصفين: نصف صبر ونصف شكر والصبر داخل في الشكر فرجع الإيمان كله شكرا والشاكرون هم أقل العباد كما قال تعالى: 34:13 {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ}.
ومقام (الحياء) جامع لمقام المعرفة والمراقبة.
ومقام (الأنس) جامع لمقام الحب مع القرب فلو كان المحب بعيدا من محبوبة لم يأنس به ولو كان قريبا من رجل ولم يحبه لم يأنس به حتى يجتمع له حبه مع القرب منه.
ومقام (الصدق) جامع للإخلاص والعزم فباجتماعهما يصح له مقام الصدق.
ومقام (المراقبة) جامع للمعرفة مع الخشية فبحسبهما يصح مقام المراقبة.
ومقام (الطمأنينة) جامع للإنابة والتوكل والتفويض والرضى والتسليم فهو معنى ملتئم من هذه الأمور إذا اجتمعت صار صاحبها صاحب طمأنينة وما نقص منها نقص من الطمأنينة.
وكذلك (الرغبة) و(الرهبة) كل منهما ملتئم من (الرجاء) و(الخوف) والرجاء على الرغبة أغلب والخوف على الرهبة أغلب.
وكل مقام من هذه المقامات فالسالكون بالنسبة إليه نوعان:«أبرار ومقربون» «فالأبرار في أذياله والمقربون في ذروة سنامه» وهكذا مراتب الإيمان جميعها وكل من النوعين لا يحصى تفاوتهم وتفاضل درجاتهم إلا الله.
مسألة : هل ترتيب منازل التزكية باعتبار أن السالك يقطع المقام ويفارقه وينتقل إلى الثاني كمنازل السير الحسي ؟
[*](قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين :(1/55)
واعلم أن ترتيب هذه المقامات ليس باعتبار أن السالك يقطع المقام ويفارقه وينتقل إلى الثاني كمنازل السير الحسي ، هذا محال ، ألا ترى أن (اليقظة) معه في كل مقام لا تفارقه وكذلك( البصيرة) و(الإرادة) و(العزم) ، وكذلك (التوبة) فإنها كما أنها من أول المقامات فهي آخرها أيضا بل هي في كل مقام مستصحبة ولهذا جعلها الله تعالى آخر مقامات خاصته فقال تعالى في غزوة تبوك وهي آخر الغزوات التي قطعوا فيها الأودية والبدايات والأحوال والنهايات: (لَقَدْ تَابَ الله عَلَىَ النّبِيّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأنصَارِ الّذِينَ اتّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مّنْهُمْ ثُمّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رّحِيمٌ) [التوبة : 117] فجعل التوبة أول أمرهم وآخره وقال في سورة (أجل رسول الله) التي هي آخر سورة أنزلت (إِذَا جَآءَ نَصْرُ اللّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنّهُ كَانَ تَوّابَا) [سورة النصر ](1/56)
وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله ما صلى صلاة بعد إذ أنزلت عليه هذه السورة إلا قال في ركوعه وسجوده سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي يتأول القرآن فالتوبة هي نهاية كل سالك وكل ولي لله وهي الغاية التي يجري إليها العارفون بالله وعبوديته وما ينبغي له قال تعالى: (إِنّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَالْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً * لّيُعَذّبَ اللّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رّحِيماً) [الأحزاب 72، 73] فجعل سبحانه التوبة غاية كل مؤمن ومؤمنة ، وكذلك (الصبر) فإنه لا ينفك عنه في مقام من المقامات ، وإنما هذا الترتيب« ترتيب المشروط المتوقف على شرطه المصاحب له» ،ومثال ذلك أن (الرضا) مترتب على (الصبر) لتوقف الرضا عليه واستحالة ثبوته بدونه فإذا قيل إن مقام (الرضا) أو حاله على الخلاف بينهم هل هو مقام أو حال بعد مقام (الصبر) لا يعني به أنه يفارق الصبر وينتقل إلى الرضا وإنما يعني أنه لا يحصل له مقام الرضا حتى يتقدم له قبله مقام الصبر فافهم هذا الترتيب في مقامات العبودية .
مسألة : ما هو فصل الخطاب في الكلام على منازل التزكية ؟
فصل الخطاب في الكلام على منازل التزكية أن نتكلم على كل منزلة بما يعود علينا بالفائدة المنشودة منها فنقوم ببيان حقيقتها وكيفية الوصول إليها وذكر الآفات المانعة من حصولها والقاطعة عنها «ومعرفة حدودها دراية والقيام بها رعاية ».
[*](قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين :(1/57)
الأولى الكلام في هذه المقامات على طريقة المتقدمين من أئمة القوم كلاما مطلقا في كل مقام مقام «ببيان حقيقته وموجبه وآفته المانعة من حصوله والقاطع عنه وذكر عامه وخاصه»
فكلام أئمة الطريق هو على هذا المنهاج فمن تأمله كسهل بن عبدالله التستري وأبي طالب المكي والجنيد بن محمد وأبي عثمان النيسابوري ويحيى بن معاذ الرازي وأرفع من هؤلاء طبقة مثل أبي سليمان الداراني وعون ابن عبد الله الذي كان يقال له حكيم الأمة وأضرابهما فإنهم تكلموا على أعمال القلوب وعلى الأحوال كلاما مفصلا جامعا مبينا مطلقا من غير ترتيب ولا حصر للمقامات بعدد معلوم فإنهم كانوا أجل من هذا وهمهم أعلى وأشرف إنما هم حائمون على اقتباس الحكمة والمعرفة وطهارة القلوب وزكاة النفوس وتصحيح المعاملة ولهذا «كلامهم قليل فيه البركة»«وكلام المتأخرين كثير طويل قليل البركة»
(صفوة منازل تزكية النفوس :
( المنازل الأساسية للتزكية :
مسألة : ما هي المنازل الأساسية والتي لا يتصور السفر إلى الله بدون نزولها ؟
[*](قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين :
فلنرجع إلى ذكر منازل {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} التي لا يكون العبد من أهلها حتى ينزل منازلها.
فذكرنا منها « (اليقظة) و(البصيرة) و(الفكرة) و(العزم) ».
وهذه المنازل الأربعة لسائر المنازل كالأساس للبنيان وعليها مدار منازل السفر إلى الله ولا يتصور السفر إليه بدون نزولها البتة وهي على ترتيب السير الحسي فإن المقيم في وطنه لا يتأتى منه السفر حتى يستيقظ من غفلته عن السفر ثم يتبصر في أمر سفره وخطره وما فيه من المنفعة له والمصلحة ثم يفكر في أهبة السفر والتزود وإعداد عدته ثم يعزم عليه فإذا عزم عليه وأجمع قصده انتقل إلى منزلة المحاسبة وهي التمييز بين ماله وعليه فيستصحب ماله ويؤدي ما عليه لأنه مسافر سفر من لا يعود.
(فصلٌ في منزلة اليقظة :
مسألة : ما هي اليقظة ؟(1/58)
اليقظة : هي انزعاج القلب لروعة الانتباه من رقدة الغافلين .
[*](قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين :
فأول منازل العبودية اليقظة وهي انزعاج القلب لروعة الإنتباه من رقدة الغافلين ،ولله ما أنفع هذه الروعة وما أعظم قدرها وخطرها وما أشد إعانتها على السلوك فمن أحس بها فقد أحس والله بالفلاح وإلا فهو في سكرات الغفلة فإذا انتبه شمر لله بهمته إلى السفر إلى منازله الأولى وأوطانه التي سبى منها .
فحي على جنات عدن فإنها ... منازلك الأولى و فيها المخيم
ولكننا سبي العدو فهل ترى ... نعود إلى أوطاننا و نسلم
يقول رحمه الله تعالى في شرح اليقظة : (( واعلم أن العبد قبل وصول الداعي إليه في نوم الغفلة «قلبه نائم وطرفه يقظان » فصاح به الناصح و أسمعه داعِ النجاح وأذن به مؤذن الرحمن حي على الفلاح )) ، فأول مراتب هذا النائم اليقظة و الانتباه من النوم هذا هو الكلام .أهـ .
«قلبه نائم وطرفه يقظان » عينه مفتوحة يأكل ويشرب ويذهب ويأتي ويتكلم ويعمل ويبيع ويشتري ويحب ويكره لكن قلبه نائم.
ومن المعلوم شرعاً أن الله يريد منك قلبك لا يريد منك شيئاً أخر ، يريد منك الله سبحانه و تعالى قلبك ، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد ، ودرر الفرائد . (
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم .(1/59)
هذا هو الذي يريده الله منك قلبك ، أين قلبك ؟! عندما يكون قلبك نائم لا يعرف الله ؟! هل النائم يمشي ؟! لا ؛ إذا كان يوجد ولد نائم وعنده امتحان صباحاً أول شيء يقوم به أنه يستيقظ لكي يذهب إلى الامتحان ، أول ما يستيقظ لا يجري على الامتحان ، لا بل أول ما يستيقظ ينتبه ، هذه هي إنزعاج القلب نحن نريد إنزعاج القلب ، أن القلب ينتفض.
يقول الشيخ : (( فتارة تقع اليقظة بمجرد فكر يوجبه نظر العقل ، فيتلمح الإنسانُ وجود نفسه فيعلم أن له صانعاً وقد طالبه بحقه ، وشكر نعمته ، وخوَّفه عقاب مخالفته ، ولا يكون ذلك بسبب ظاهر )) .
أحيانا تجد رجل يلتزم بعد أن كان في الضلال ،وفجأة أعفى لحيته ظبط ملابسه دخل المسجد وانتهى عن الموسيقى والأغاني ، بطل أكل حرام وربا ونصب وكذب ، دخل المسجد وظل يصلي ويقرأ قرآن يتقرب إلى الله بدون أسباب ظاهرة .
مسألة : ما تعريف اليقظة عند صاحب منازل السائرين ؟
[*](قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين :
وصاحب المنازل يقول: "هي القومة لله المذكورة في قوله تعالى : (قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى) [ سبأ : 46].
قال: "القومة لله هي اليقظة من سنة الغفلة والنهوض عن ورطة الفترة «وهي أول ما يستنير قلب العبد بالحياة لرؤية نور التنبيه» وهي على ثلاثة أشياء:
(لحظ القلب إلى النعمة على اليأس من عدها والوقوف على حدها ، والتفرغ إلى معرفة المنة بها ،والعلم بالتقصير في حقها".
وهذا الذي ذكره: هو موجب اليقطة وأثرها فإنه إذا نهض من ورطة الغفلة لاستنارة قلبه برؤية نور التنبيه أوجب له ملاحظة نعم الله الباطنة والظاهرة وكلما حدق قلبه وطرفه فيها شاهد عظمتها وكثرتها فيئس من عدها والوقوف على حدها وفرغ قلبه لمشاهدة منة الله عليه بها من غير استحقاق ولا استجلاب لها بثمن فتيقن حينئذ تقصيره في واجبها وهو القيام بشكرها.(1/60)
(فأوجب له شهود تلك المنة والتقصير نوعين جليلين من العبودية : محبة المنعم واللهج بذكره وتذكر الله وخضوعه له وإزراءه على نفسه حيث عجز عن شكر نعمه فصار متحققاً ب"أبوء لك بنعمتك عليّ وأبوء بذنبي فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت" وعلم حينئذ أن هذا الاستغفار حقيقٌ بأن يكون سيد الاستغفار وعلم حينئذ أن الله لو عذب أهل سمواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم ولو رحمهم لكانت رحمته خيرا لهم من أعمالهم وعلم أن العبد دائما سائر إلى الله« بين مطالعة المنة ومشاهدة التقصير».
قال: "الثاني مطالعة الجناية والوقوف على الخطر فيها والتشمير لتداركها والتخلص من رقها وطلب النجاة بتمحيصها".
فينظر إلى ما سلف منه من الإساءة ويعلم أنه على خطر عظيم فيها وأنه مشرف على الهلاك بمؤاخذة صاحب الحق بموجب حقه وقد ذم الله تعالى في كتابه من نسي ما تقدم يداه فقال: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ)[الكهف :57]
فإذا طالع جنايته شمر لاستدراك الفارط بالعلم والعمل وتخلص من رق الجناية بالاستغفار والندم وطلب التمحيص وهو تخليص إيمانه ومعرفته من خبث الجناية كتمحيص الذهب والفضة وهو تخليصهما من خبثهما ولا يمكن دخوله الجنة إلا بعد هذا التمحيص فإنها طيبة لا يدخلها إلا طيب ولهذا تقول لهم الملائكة (سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ) [ الزمر : 73]
وقال تعالى (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ)[ النحل : 32] فليس في الجنة ذرة خبث.(1/61)
(وهذا التمحيص يكون في دار الدنيا بأربعة أشياء: بالتوبة والاستغفار وعمل الحسنات الماحية والمصائب المكفرة فإن محصته هذه الأربعة وخلصته: كان من الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يبشرونهم بالجنة وكان من الذين {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ} عند الموت (أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ).[فصلت /32:30]
وإن لم تف هذه الأربعة بتمحيصه وتخليصه لم تكن التوبة نصوحا وهي العامة الشاملة الصادقة ولم يكن الاستغفار كاملا تاماً وهو المصحوب بمفارقة الذنب والندم عليه وهذا هو الاستغفار النافع لا استغفار من في يده قدح السكر وهو يقول أستغفر الله ثم يرفعه إلى فيه ولم تكن الحسنات في كميتها وكيفيتها وافية بالتكفير ولا المصائب وهذا إما لعظم الجناية وإما لضعف الممحص وإما لهما محص في البرزخ بثلاثة أشياء.
أحدها: صلاة أهل الإيمان الجنازة عليه واستغفارهم له وشفاعتهم فيه.
الثاني: تمحيصه بفتنة القبر وروعة الفتان والعصرة والانتهار وتوابع ذلك.(1/62)
الثالث: ما يهدي إخوانه المسلمون إليه من هدايا الأعمال من الصدقة عنه والحج والصيام عنه وقراءة القرآن عنه والصلاة وجعل ثواب ذلك له ، وقد أجمع الناس على وصول الصدقة والدعاء قال الإمام أحمد: "لا يختلفون في ذلك وما عداهما فيه اختلاف والأكثرون يقولون بوصول الحج" وأبو حنيفة يقول: "إنما يصل إليه ثواب الإنفاق" وأحمد ومن وافقه: مذهبهم في ذلك أوسع المذاهب يقولون: يصل إليه ثواب جميع القرب بدنيها وماليها والجامع للأمرين واحتجوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمن سأله: "يا رسول الله هل بقي من بر أبوي شيء أبرهما به بعد مماتهما؟ قال: نعم فذكر الحديث" وقد قال: "من مات وعليه صيام صام عنه وليه".
فإن لم تف هذه بالتمحيص محص بين يدي ربه في الموقف بأربعة أشياء: أهوال القيامة وشدة الموقف وشفاعة الشفعاء وعفو الله عز وجل.
فإن لم تف هذه الثلاثة بتمحيصه فلا بد له من دخول الكير رحمة في حقه ليتخلص ويتمحص ويتطهر في النار فتكون النار طهرة له وتمحيصا لخبثه ويكون مكثه فيها على حسب كثرة الخبث وقلته وشدته وضعفه وتراكمه فإذا خرج خبثه وصفى ذهبه وصار خالصا طيبا أخرج من النار وأدخل الجنة.
قال (الثالث) يعني من مراتب اليقظة (الانتباه لمعرفة الزيادة والنقصان من الأيام والتنصل من تضييعها والنظر إلى الظن بها لتدارك فائتها وتعمير باقيها".
يعني أنه يعرف ما معه من الزيادة والنقصان فيتدارك ما فاته في بقية عمره التي لا ثمن لها ويبخل بساعاته بل بأنفاسه عن ذهابها ضياعا في غير ما يقر به إلى الله فهذا هو حقيقة الخسران المشترك بين الناس مع تفاوتهم في قدره قلة وكثرة فكل نفس يخرج في غير ما يقرب إلى الله فهو حسرة على العبد في معاده ووقفة له في طريق سيره أو نكسه إن استمر أو حجاب إن انقطع به.
قال "فأما معرفة النعمة: فإنها تصفو بثلاثة أشياء: بنور العقل وشيم بروق المنة والاعتبار بأهل البلاء".(1/63)
(يعني أن حقيقة مشاهدة النعمة: يصفو بهذه الثلاثة فهي النور الذي أوجب اليقظة فاستنار القلب به لرؤية التنبه وعلى حسبه قوة وضعفا تصفو له مشاهدة النعمة فإن من لم ير نعمة الله عليه إلا في مأكله وملبسه وعافية بدنه وقيام وجهه بين الناس فليس له نصيب من هذا النور البتة ، فنعمة الله بالإسلام والإيمان وجذب عبده إلى الإقبال عليه والتنعم بذكره والتلذذ بطاعته: هو أعظم النعم وهذا إنما يدرك بنور العقل وهداية التوفيق.
(وكذلك شيمه بروق منن الله عليه وهو النظر إليها ومطالعتها من خلال سحب الطبع وظلمات النفس «والنظر إلى أهل البلاء وهم أهل الغفلة عن الله والابتداع في دين الله »فهذان الصنفان هم أهل البلاء حقاً فإذا رآهم وعلم ما هم عليه عظمت نعمة الله عليه في قلبه وصفت له وعرف قدرها.
فالضد يظهر حسنه الضد وبضدها تتميز الأشياء
حتى إن من تمام نعيم أهل الجنة: رؤية أهل النار وما هم فيه من العذاب.
قال: "وأما مطالعة الجناية: فإنها تصح بثلاثة أشياء: بتعظيم الحق ومعرفة النفس وتصديق الوعيد".
يعني أن من كملت عظمة الحق تعالى في قلبه عظمت عنده مخالفته لأن مخالفة العظيم ليست كمخالفة من هو دونه ومن عرف قدر نفسه وحقيقتها وفقرها الذاتي إلى مولاها الحق في كل لحظة ونفس وشدة حاجتها إليه عظمت عنده جناية المخالفة لمن هو شديد الضرورة إليه في كل لحظة ونفس .
وأيضا فإذا عرف حقارتها مع عظم قدر من خالفه عظمت الجناية عنده فشمر في التخلص منها وبحسب تصديقه بالوعيد ويقينه به يكون تشميره في التخلص من الجناية التي تلحق به.(1/64)
ومدار السعادة وقطب رحاها: على التصديق بالوعيد «فإذا تعطل من قلبه التصديق بالوعيد خرب خراباً لا يرجى معه فلاح البتة» والله تعالى أخبر أنه إنما تنفع الآيات والنذر لمن صدق بالوعيد وخاف عذاب الآخرة فهؤلاء هم المقصودون بالإنذار والمنتفعون بالآيات دون من عداهم قال الله تعالى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ )[هود : 103]
وقال تعالى (إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا)[ النازعات : 45] وقال تعالى {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ}[ ق:45] وأخبر تعالى أن أهل النجاة في الدنيا والآخرة هم المصدقون بالوعيد الخائفون منه فقال تعالى (وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ)[ إبراهيم : 14].
قال: "وأما معرفة الزيادة والنقصان من الأيام: فإنها تستقيم بثلاثة أشياء: سماع العلم وإجابة داعي الحرمة وصحبة الصالحين «وملاك ذلك كله خلع العادات».
يعني أن السالك: على حسب علمه بمراتب الأعمال ونفائس الكسب تكون معرفته بالزيادة والنقصان في حاله وإيمانه وكذلك تفقد إجابة داعي تعظيم حرمات الله من قلبه هل هو سريع الإجابة لها أم هو بطيء عنها فبحسب إجابة الداعي سرعة وإبطاء تكون زيادته ونقصانه.
وكذلك صحبة أرباب العزائم المشمرين إلى اللحاق بالملأ الأعلى يعرف به ما معه من الزيادة والنقصان .(1/65)
والذي يملك به ذلك كله خروجه عن العادات والمألوفات وتوطين النفس على مفارقتها والغربة بين أهل الغفلة والإعراض وما على العبد أضر من ملك العادات له وما عارض الكفار الرسل إلا بالعادات المستقرة الموروثة لهم عن الأسلاف الماضين فمن لم يوطن نفسه على مفارقتها والخروج عنها والاستعداد للمطلوب منه فهو مقطوع وعن فلاحه وفوزه ممنوع قال تعالى : {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ}[التوبة : 46].
( فصلٌ في منزلة العزم :
مسألة : ما هو العزم ؟
[*](قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين :
فإذا استحكم قصده صار (عزما) جازما مستلزما للشروع في السفر مقرونا بالتوكل على الله قال تعالى (فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ) [ آل عمران : 159].
و(العزم) هو القصد الجازم المتصل بالفعل ولذلك قيل: "إنه أول الشروع في الحركة لطلب المقصود" وأن التحقيق: أن الشروع في الحركة ناشيء عن العزم لا أنه هو نفسه ولكن لما اتصل به من غير فصل ظن أنه هو.
وحقيقته: هو استجماع قوى الإرادة على الفعل.
و(العزم) نوعان :
أحدهما : عزم المريد على الدخول في الطريق وهو من البدايات.
والثاني : عزم في حال السير معه وهو أخص من هذا وهو من المقامات .
( فصلٌ في منزلة الفكرة :
مسألة : ما هي الفكرة ؟
[*](قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين :
فإذا استيقظ أوجبت له اليقظة (الفكرة) وهي تحديق القلب نحو المطلوب الذي قد استعد له مجملا ولما يهتد إلى تفصيله وطريق الوصول إليه.
مسألة : ما هو حَدُّ الفكرة ؟
[*](قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين :
وصاحب المنازل جعلها بعد (البصيرة) وقال في حَدِّهَا (هي تلمس البصيرة لاستدراك البغية) أي التماس العقل المطلوب بالتفتيش عليه.(1/66)
قال: "وهي ثلاثة أنواع:
فكرة في عين التوحيد وفكرة في لطائف الصنعة وفكرة في معاني الأعمال والأحوال".
قلت: الفكرة فكرتان: «فكرة تتعلق بالعلم والمعرفة» «وفكرة تتعلق بالطلب والإرادة».
(فالتي تتعلق بالعلم والمعرفة: فكرة التمييز بين الحق والباطل والثابت والمنفي (والتي تتعلق بالطلب والإرادة: هي الفكرة التي تميز بين النافع والضار.
ثم يترتب عليها فكرة أخرى في الطريق إلى حصول ما ينفع فيسلكها والطريق إلى ما يضر فيتركها.
فهذه ستة أقسام لا سابع لها هي مجال أفكار العقلاء.
( فصلٌ في منزلة البصيرة :
مسألة : ما هي البصيرة ؟
[*](قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين :
فإذا صحت فكرته أوجبت له البصيرة «فهي نور في القلب يبصر به الوعد والوعيد والجنة والنار وما أعد الله في هذه لأوليائه وفي هذه لأعدائه» فأبصر الناس وقد خرجوا من قبورهم مهطعين لدعوة الحق وقد نزلت ملائكة السموات فأحاطت بهم وقد جاء الله وقد نصب كرسيه لفصل القضاء وقد أشرقت الأرض بنوره ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء وقد نصب الميزان وتطايرت الصحف واجتمعت الخصوم وتعلق كل غريم بغريمه ولاح الحوض وأكوابه عن كثب وكثر العطاش وقل الوارد ونصب الجسر للعبور ولز الناس إليه وقسمت الأنوار دون ظلمته للعبور عليه والنار يحطم بعضها بعضا تحته والمتساقطون فيها أضعاف أضعاف الناجين ، «فينفتح في قلبه عين »يرى بها ذلك ويقوم بقلبه شاهد من شواهد الآخرة يريه الآخرة ودوامها والدنيا وسرعة انقضائها، «فالبصيرة نور يقذفه الله في القلب يرى به حقيقة ما أخبرت به الرسل كأنه يشاهده رأى عين»أهـ .
مسألة : ما هي درجات البصيرة ؟
[*](قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين :
و(البصيرة) على ثلاث درجات من استكملها فقد استكمل البصيرة: «بصيرة في الأسماء والصفات» «وبصيرة في الأمر والنهي» «وبصيرة في الوعد والوعيد».
(«فالبصيرة في الأسماء والصفات»:(1/67)
أن لا يتأثر إيمانك بشبهة تعارض ما وصف الله به نفسه ووصفه به رسوله بل تكون الشبه المعارضة لذلك عندك بمنزلة الشبه والشكوك في وجود الله فكلاهما سواء في البلاء عند أهل البصائر.
وعقد هذا: أن يشهد قلبك الرب تبارك وتعالى مستويا على عرشه متكلما بأمره ونهيه بصيرا بحركات العالم علويه وسفليه وأشخاصه وذواته سميعا لأصواتهم رقيبا على ضمائرهم وأسرارهم وأمر الممالك تحت تدبيره نازل من عنده وصاعد إليه وأملاكه بين يديه تنفذ أوامره في أقطار الممالك موصوفا بصفات الكمال منعوتا بنعوت الجلال منزها عن العيوب والنقائص والمثال هو كما وصف نفسه في كتابه وفوق ما يصفه به خلقه حي لا يموت قيوم لا ينام عليم لا يخفى عليه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض بصير يرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء سميع يسمع ضجيج الأصوات باختلاف اللغات على تفنن الحاجات تمت كلماته صدقا وعدلا وجلت صفاته أن تقاس بصفات خلقه شبها ومثلا وتعالت ذاته أن تشبه شيئا من الذوات أصلا ووسعت الخليقة أفعاله عدلا وحكمة ورحمة وإحسانا وفضلا له الخلق والأمر وله النعمة والفضل وله الملك والحمد وله الثناء والمجد أول ليس قبله شيء وآخر ليس بعده شيء ظاهر ليس فوقه شيء باطن ليس دونه شيء أسماؤه كلها أسماء مدح وحمد وثناء وتمجيد ولذلك كانت حسنى وصفاته كلها صفات كمال ونعوته كلها نعوت جلال وأفعاله كلها حكمة ورحمة ومصلحة وعدل كل شيء من مخلوقاته دال عليه ومرشد لمن رآه بعين البصيرة إليه لم يخلق السماوات والأرض وما بينهما باطلا ولا ترك الإنسان سدى عاطلا بل خلق الخلق لقيام توحيده وعبادته وأسبغ عليهم نعمه يتوسلوا بشكرها إلى زيادة كرامته تعرف إلى عباده بأنواع التعرفات وصرف لهم الآيات ونوع لهم الدلالات ودعاهم إلى محبته من جميع الأبواب ومد بينه وبينهم من عهده أقوى الأسباب فأتم عليهم نعمه السابغة وأقام عليهم حجته البالغة أفاض عليهم النعمة وكتب(1/68)
على نفسه الرحمة وضمن الكتاب الذي كتبه: أن رحمته تغلب غضبه.
وتفاوت الناس في هذه البصيرة بحسب تفاوتهم في معرفة النصوص النبوية وفهمها والعلم بفساد الشبه المخالفة لحقائقها.
وتجد أضعف الناس بصيرة أهل الكلام الباطل المذموم الذي ذمه السلف لجهلهم بالنصوص ومعانيها وتمكن الشبه الباطلة من قلوبهم وإذا تأملت حال العامة الذين ليسوا مؤمنين عند أكثرهم رأيتهم أتم بصيرة منهم وأقوى إيمانا وأعظم تسليما للوحي وانقيادا للحق.
«والبصيرة في الأمر والنهي» وهي تجريده عن المعارضة بتأويل أو تقليد أو هوى فلا يقوم بقلبه شبهة تعارض العلم بأمر الله ونهيه ولا شهوة تمنع من تنفيذه وامتثاله والأخذ به ولا تقليد يريحه عن بذل الجهد في تلقى الأحكام من مشكاة النصوص.
وقد علمت بهذا أهل البصائر من العلماء من غيرهم.
«البصيرة في الوعد والوعيد»
وهي أن تشهد قيام الله على كل نفس بما كسبت في الخير والشر عاجلا وآجلا في دار العمل ودار الجزاء وأن ذلك هو موجب إلهيته وربوبيته وعدله وحكمته فإن الشك في ذلك شك في إلهيته وربوبيته بل شك في وجوده فإنه يستحيل عليه خلاف ذلك ولا يليق أن ينسب إليه تعطيل الخليقة وإرسالها هملا وتركها سدى تعالى الله عن هذا الحسبان علوا كبيرا.
فشهادة العقل بالجزاء كشهادته بالوحدانية ولهذا كان الصحيح: أن المعاد معلوم بالعقل وإنما اهتدى إلى تفاصيله بالوحي ولهذا يجعل الله سبحانه إنكار المعاد كفرا به سبحانه لأنه إنكار لقدرته ولإلهيته وكلاهما مستلزم للكفر به قال تعالى: (وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنّا تُرَاباً أَإِنّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُوْلََئِكَ الّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ وَأُوْلَئِكَ الأغْلاَلُ فِيَ أَعْنَاقِهِمْ وَأُوْلََئِكَ أَصْحَابُ النّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدونَ) [الرعد: 5]
وفي الآية قولان:(1/69)
أحدهما: إن تعجب من قولهم: "أئذا كنا ترابا أئنا لفي خلق جديد" فعجب قولهم! كيف ينكرون هذا وقد خلقوا من تراب ولم يكونوا شيئا.
والثاني: إن تعجب من شركهم مع الله غيره وعدم انقيادهم لتوحيده وعبادته وحده لا شريك له فإنكارهم للبعث وقولهم: "أئذا كنا ترابا أئنا لفي خلق جديد" أعجب.
وعلى التقديرين: فإنكار المعاد عجب من الإنسان وهو محض إنكار الرب والكفر به والجحد لإلهيته وقدرته وحكمته وعدله وسلطانه.
( فصلٌ في منزلة القصد :
[*](قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين :
فإذا انتبه وأبصر أخذ في (القصد) :وصدق الإرادة وأجمع القصد والنية على سفر الهجرة إلى الله وعلم وتيقن أنه لابد له منه فأخذ في أهبة السفر وتعبئة الزاد ليوم المعاد والتجرد عن عوائق السفر وقطع العلائق التي تمنعه من الخروج.
مسألة : ما هي درجات القصد ؟
[*](قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين :
وقد قسم صاحب المنازل (القصد) إلى ثلاثة درجات فقال:
"الدرجة الأولى: قصد يبعث على الإرتياض ويخلص من التردد ويدعو إلى مجانبة الأغراض".
فذكر له ثلاث فوائد: أنه يبعث على السلوك بلا توقف ولا تردد ولا علة غير العبودية من رياء أو سمعة أو طلب محمدة أو جاه ومنزلة عند الخلق
قال: "الدرجة الثانية: قصد لا يلقى سببا إلا قطعه ولا حائلا إلا منعه ولا تحاملا إلا سهله".
يعني أنه لا يلق سببا يعوق عن المقصود إلا قطعه ولا حائلا دونه إلا منعه ولا صعوبة إلا سهلها.
قال: "الدرجة الثالثة: قصد الاستسلام لتهذيب العلم وقصد إجابة داعي الحكم وقصد اقتحام بحر الفناء".(1/70)
يريد أنه ينقاد إلى العلم ليتهذب به ويصلح ويقصد إجابة داعي الحكم الديني الأمري كلما دعاه فإن للحكم في كل مسألة من مسائل العلم مناديا ينادي للإيمان بها علما وعملا فيقصد إجابة داعيها ولكن مراده بداعي الحكم: الأسرار والحِكَم الداعية إلى شرع الحكم فإجابتها قدر زائد على مجرد الامتثال فإنها تدعو إلى المحبة والإجلال والمعرفة والحمد فالأمر يدعو إلى الامتثال وما تضمنه من الحكم والغايات تدعو إلى المعرفة والمحبة.
( فصلٌ في منزلة المحاسبة :
[*](عناصر الفصل :
(تعريف المحاسبة :
(هل حاسبت نفسك يوماً ما :
(امقت نفسك في جنب الله :
( أقسام محاسبة النفس :
(القسم الأول : محاسبة النفس قبل العمل :
(القسم الثاني : محاسبة النفس بعد العمل:
( كيفية محاسبة النفس ؟
(الأدلة على مشروعية المحاسبة :
( أهمية محاسبة النفس :
(مخاطرُ ترك المحاسبة :
(فوائد محاسبة النفس :
(أركان المحاسبة :
(الأسباب المعينة على محاسبة النفس :
ودونك تفصيل ذلك في إيجازٍ غير مُخِّل : (
(تعريف المحاسبة :
(المحاسبة في اللغة: مصدر من حاسب يحاسب مأخوذ من حسب حسبتُ الشيء أحسبه حسباناً وحساباً إذا عددته والحساب والمحاسبة عدُّك الشيء.
فالحاصل أن العدّ هو معنى المحاسبة في اللغة، فكأنك إذا جئت تطبقه بالمعنى الاصطلاحي عدّ السيئات.. عدّ العيوب.. وهكذا..
[*] عرّف الماوردي المحاسبة فقال: أن يتصفح الإنسان في ليله ما صدر من أفعال نهاره فإن كان محموداً أمضاه وأتبعه بما شاكله وضاهاه ، وإن كان مذموماً استدركه إن أمكن وإن لم يمكن فيتبعها بالحسنات لتكفيرها وينتهي عن مثلها في المستقبل .
(وعرّف بعضهم المحاسبة بأنها: قيام العقل على حراسة النفوس من الخيانة ليتفقد زيادتها ونقصانها، وأنه يسأل عن كل فعل يفعله لمَ فعلته ، فإن كان لله مضى فيه و إن كان لغير الله امتنع عنه وأنه يلوم نفسه على التقصير والخطأ وإذا أمكن المعاقبة أو صرفها إلى الحسنات الماحية .(1/71)
(هل حاسبت نفسك يوماً ما :
(أخي الحبيب:
حاسب نفسك في خلوتك وتفكر في انقراض مدتك واعمل في زمان فراغك لوقت شدتك وتدبر قبل الفعل ما يملى في صحيفتك وانظر : هل نفسك معك أو عليك في مجاهدتك لقد سعد من حاسبها وفاز والله من حاربها وقام باستيفاء الحقوق منها وطالبها وكلما ونت عاتبها وكلما تواقفت جذبها وكلما نظرت في آمال هواها غلبها 0
(أخي الحبيب :
هل خلوت بنفسك يوماً فحاسبتها عما بدر منها من الأقوال والأفعال؟ وهل حاولت يوماً أن تَعُدَّ سيئاتك كما تَعُدَّ حسناتك؟ بل هل تأملت يوماً طاعاتك التي تفتخر بذكرها ؟! فإن وجدت أن كثيراً منها مشوباً بالرياء والسمعة وحظوظ النفس فكيف تصبر على هذه الحال، وطريقك محفوف بالمكارة والأخطار؟! وكيف القدوم على الله وأنت محمل بالأثقال والأوزار؟ قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ 18 وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [الحشر:19،18]. وقال تعالى: وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ [الزمر:54]
[*](وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ( حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وطالبوا بالصدق في الأعمال قبل أن تطالبوا وزنوا أعمالكم قبل أن توزنوا فإنه أهون عليكم في الحساب غداً وتزينوا للعرض الأكبر : ( يَومَئِذٍ تُعرَضُونَ لَا تَخفَى مِنكُم خَافِيَةٌ ) [ الحاقة : 18](1/72)
[*](وقال الحسن البصري رحمة الله : ( أيسر الناس حساباً يوم القيامة الذين حاسبوا أنفسهم لله عز وجل في الدنيا فوقفوا عند همومهم وأعمالهم فإن كان الدين لله هموا بالله وإن كان عليهم أمسكوا وإنما يثقل الحساب على الذين أهملوا الأمور فوجدوا الله قد أحصى عليهم مثاقيل الذر فقالوا : ( يَا وَيلَتَنَا مَالِ هَذَا الكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرةً إِلَّا أَحصَاها ) [ الكهف : 49]
[*](وقال أبو بكر البخاري : ( من نفر عن الناس قل أصدقاؤه ومن نفر عن ذنوبه طال بكاؤه ومن نفر عن مطعمه طال جوعه وعناؤه ونقل توبة بن المعلم أنه نظر يوماً وكان محاسباً لنفسه فإذا هو ابن ستين إلا عاماً فحسبها أياماً فإذا هي إحدى وعشرون ألف يوم وخمسمائة يوم فصرخ وقال : يا ويلتي ! ألقى المليك بإحدى وعشرين ألف ذنب وخمسمائة ذنب فكيف ولى في كل يوم عشرون ألف ذنب ثم خر مغشياً عليه فإذا هو ميت فسمعوا هاتفاً يقول : يا لها من ركضة إلى الفردوس الأعلى 0
وقد مدح الله تعالى أهل طاعته بقوله تعالى : { ْ إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ماَ آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ }
(المؤمنون الآية 57 - 61) .
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة ) قالت : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية: (وَالّذِينَ يُؤْتُونَ مَآ آتَواْ وّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) [ المؤمنون : 60] قالت عائشة هم الذين يشربون الخمر ويسرقون قال لا يا بنت الصديق ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون وهم يخافون أن لا يقبل منهم أولئك الذين يسارعون في الخيرات .
(أخي الحبيب :(1/73)
كان السلف الصالح رحمهم الله تعالى يتقربون إلى الله بالطاعات، ويسارعون إليه بأنواع القربات، ويحاسبون أنفسهم على الزلات، ثم يخافون ألا يتقبل الله أعمالهم، وإن المؤمن يفجأه الشيء ويعجبه فيقول: والله إني لأشتهيك، وإنك لمن حاجتي، ولكن والله ما من صلة إليك، هيهات هيهات، حيل بيني وبينك ، ويفرط منه الشيء فيرجع إلى نفسه فيقول: ما أردت إلى هذا؟ مالي ولهذا؟ والله لا أعود إلى هذا أبداً، إن المؤمنين قوم أوقفهم القرآن، وحال بينهم وبين هلكتهم، إن المؤمن أسير في الدنيا يسعى في فكاك رقبته، لا يأمن شيئاً حتى يلقى الله، يعلم أنه مأخوذ عليه في سمعه وفي بصره، وفي لسانه وفي جوارحه، مأخوذ عليه في ذلك كله.
[*] فهذا الصديق رضي الله عنه: كان يبكي كثيراً، ويقول: ابكوا، فإن لم تبكروا فتباكوا، وقال: والله لوددت أني كنت هذه الشجرة تؤكل وتعضد.
[*] وهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه: قرأ سورة الطور حتى بلغ قوله تعالى: إن عذاب ربك لواقع [الطور:7]. فبكى واشتد في بكاؤه حتى مرض وعادوه. وكان يمر بالآية في ورده بالليل فتخيفه، فيبقى في البيت أياماً يعاد، يحسبونه مريضاً، وكان في وجهه خطان أسودان من البكاء!!.
وقال له ابن عباس رضي الله عنهما: مصر الله بك الأمصار، وفتح بك الفتوح وفعل، فقال عمر: وددت أني أنجو لا أجر ولا وزر!!.
[*] وكتب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إلى بعض عماله: (حاسب نفسك في الرخاء قبل حساب الشدة، فإن من حاسب نفسه في الرخاء قبل حساب الشدة، عاد أمره إلى الرضا والغبطة، ومن ألهته حياته، وشغلته أهواؤه عاد أمره إلى الندامة والخسارة .
[*] وهذا عثمان بن عفان ـ ذو النورين ـ رضي الله عنه: كان إذا وقف على القبر بكى حتى تبلل لحيته، وقال: لو أنني بين الجنة والنار لا أدري إلى أيتهما يؤمر بي، لاخترت أن أكون رماداً قبل أن أعلم إلى أيتهما أصير!!.(1/74)
[*] وهذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه: كان كثير البكاء والخوف،والمحاسبة لنفسه. وكان يشتد خوفه من اثنتين: طول الأمل واتباع الهوى. قال: فأما طول الأمل فينسى الآخرة، وأما اتباع الهوى فيصد عن الحق.
[*] وقال الحسن رحمه الله تعالى : لا تلقي المؤمن إلا بحساب نفسه: ماذا أردت تعملين؟ وماذا أردت تأكلين؟ وماذا أردت تشربين؟ والفاجر يمضي قدماً لا يحاسب نفسه.
(وقال أيضاً :إن العبد لا يزال بخير ما كان له واعظ من نفسه، وكانت المحاسبة همته.
(وقال أيضاً : المؤمن قوام على نفسه، يحاسب نفسه لله، وإنما خف الحساب يوم القيامة على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا، وإنما شق الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة.
[*] وقال قتادة في قوله تعالى: وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا [الكهف:28] أضاع نفسه وغبن، مع ذلك تراه حافظاً لماله، مضيعاً لدينه.
[*] وقال ميمون بن مهران: لا يكون العبد تقياً حتى يكون لنفسه أشد محاسبة من الشريك لشريكه، ولهذا قيل: النفس كالشريك الخوان، إن لم تحاسبه ذهب بمالك.
[*] وذكر الإمام أحمد عن وهب قال: مكتوب في حكمة آل داود: حق على العاقل ألا يغفل عن أربع ساعات: ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يخلوا فيها مع إخوانه الذين يخبرونه بعيوبه ويصدقونه عن نفسه، وساعة يخلي فيها بين نفسه وبين لذاتها فيما يحل ويجعل، فإن في هذه الساعة عوناً على تلك الساعات وإجماماً للقلوب.
[*] وكان الأحنف بن قيس يجئ إلى المصباح، فيضع إصبعه فيه ثم يقول: حس يا حنيف، ما حملك على ما صنعت يوم كذا؟ ما حملك على ما صنعت يوم كذا؟
[*] وقال مالك بن دينار: رحمه الله عبداً قال لنفسه: ألست صاحبة كذا؟ ألست صاحبة كذا؟ ثم ألزمها، ثم خطمها، ثم ألزمها كتاب الله عز وجل، فكان لها قائداً.(1/75)
[*] وقال ابن أبي ملكية: أدركت ثلاثين من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كلهم يخاف النفاق على نفسه، ما منهم أحد يقول إنه على إيمان جبريل وميكائيل!!
(أخي الحبيب : ترقب واعظ الله في قلبك ، واستفد من مواعظه أيما استفادة واجعل له من سمعك مسمعاً ومن قلبك موقعاً ، وقل له بلسان حالك سمعاً وطاعة ، ولك الشكر والامتنان وعلى الخضوع والإذعان ، وامتثل خشية الرحمن وامتثال القرآن وجنب نفسك العصيان والخذلان واستحواذ الشيطان قَبلَ أن تقولَ نفسٌ : يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ ، فيقالُ : هَيْهَاتَ فَاتَ زَمَنُ الإِمْكَانِ ، انتهى الزمان وفات الأوان .
(واعظ الله في القلب :
(حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ضرب الله مثلا صراطا مستقيما وعن جنبتي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة وعلى الأبواب ستور مرخاة وعند رأس الصراط يقول استقيموا على الصراط ولا تعوجوا ، وفوق ذلك داع يدعو كلما هم عبد أن يفتح شيئا من تلك الأبواب قال : ويحك لا تفتحه فإنك إن تفتحه تلجه ثم فسره فأخبر أن الصراط هو الإسلام وأن الأبواب المفتحة محارم الله وأن الستور المرخاة حدود الله والداعي على رأس الصراط هو القرآن والداعي من فوقه هو واعظ الله في قلب كل مؤمن .
فهلا استجبت ـ أخي المسلم ـ لواعظ الله في قلبك؟ وهلا حفظت حدود الله ومحارمه؟ وهلا انتصرت على عدو الله وعدوك، قال تعالى: إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدواً إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير [فاطر:6]
[*] قال خالد بن معدان - رضي الله عنه - قال: ما من من عبد إلا وله عينان في وجهه يبصر بهما أمر الدنيا، وعينان في قلبه يبصر بهما أمر الآخرة، فإذا أراد الله بعبد خيراً، فتح عينيه اللتين في قلبه، فأبصر بهما ما وعد الله بالغيب، وإذا أراد به غير ذلك، تركه على ما فيه ثم قرأ: أم على قلوب أقفالها [ محمد:24](1/76)
(امقت نفسك في جنب الله :
إن مما يعين بعد الله تعالى على محاسبة النفس أن تمقت نفسك في جنب الله تعالى :
[*](كان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقول: رحم الله امرأً أهدى إلي عيوبي وكان يسأل سلمان عن عيوبه، فلما قدم عليه قال: ما الذي بلغك عني مما تكرهه .
قال: أعفني يا أمير المؤمنين فألح عليه، فقال: بلغني أنك جمعت بين إدامين على مائدة وأن لك حلتين حلة بالنهار وحلة بالليل.
قال: وهل بلغك غير هذا ؟ قال: لا، قال: أما هذان فقد كفيتهما، وكان يسأل حذيفة ويقول له: أنت صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في معرفة المنافقين فهل ترى علي شيئا من آثار النفاق.
فهو على جلالة قدره وعلو منصبه هكذا كانت تهمته لنفسه رضي الله عنه.
«فكل من كان أرجح عقلا وأقوى في الدين وأعلى منصبًا، كان أكثر تواضعًا»، وأبعد عن الكبر والإعجاب وأعظم اتهامًا لنفسه، وهذا يعتبر نادرًا يعز وجوده.
فقليل في الأصدقاء من يكون مخلصًا صريحًا بعيدًا عن المداهنة متجنبًا للحسد يخبرك بالعيوب ولا يزيد فيها ولا ينقص وليس له أغراض يرى ما ليس عيبا عيبًا أو يخفي بعضها.
قيل لبعض العلماء، وقد اعتزل الناس وكان منطويًا عنهم: لِمَ امتنعت عن المخالطة؟ فقال: وماذا أصنع بأقوام يخفون عني عيوبي.
فكانت شهوة صاحب الدين في التنبيه على العيوب، عكس ما نحن عليه، وهو أن أبغض الناس إلينا الناصحين لنا والمنبهين لنا على عيوبنا، وأحب الناس إلينا الذي يمدحوننا مع أن المدح فيه أضرار عظيمة كالكبر والإعجاب والكذب.
وهذا دليل على ضعف الإيمان فإن الأخلاق السيئة أعظم ضررًا من الحيات والعقارب ونحوها.
ولو أن إنسانًا نبهك على أن في ثوبك أو خفك أو فراشك حية أو عقربًا لشكرته ودعوت له وأعظمت صنيعه ونصيحته واجتهدت واشتغلت في إبعادها عنك وحرصت على قتلها.(1/77)
وهذه ضررها على البدن فقط ويدوم ألمها زمن يسير وضرر الأخلاق الرديئة على القلب ويخشى أن تدوم حتى بعد الموت ولا نفرح بمن ينبهنا عليها ولا نشتغل بإزالتها.
بل نقابل نصح الناصح بقولنا له: تبكيتًا وتخجيلاً وأنت فيك وفيك ناظر نفسك ولا عليك منا كلٌ أبصر بنفسه.
ونشتغل بالعداوة معه عن الانتفاع بنصحه بدل ما نشكره على نصحه لنا بتنبيهه لنا على عيوبنا، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
(أخي الحبيب:
عُد على نفسك باللوم والمقت واحذرها فكم ضيعت عليك من وقت ، واندم على زمان الهوى فمن كيسك أنفقت ، ونادها يا محل كل بلية فقد والله صدقت 0
[*](روى وهب بن منبه : أن رجلاً صام سبعين سنة يأكل كل سنة إحدى عشرة تمرة وطلب حاجة من الله فلم يعطها فأقبل على نفسه فقال : من قبلك بليت لو كان فيك خيراً أعطيت فنزل إليه ملك فقال : إن ساعتك هذه التي ازدريت فيها على نفسك خير من عبادتك وقد أعطاك الله حاجتك 0
[*](وقال فضيل بن عياض : أخذت بيد سفيان بن عيينة في هذا الوادي فقلت له : إن كنت تظن أنه قد بقي على وجه الأرض شر مني ومنك فبئس ما ترى 0
إخواني : من تفكر في ذنوبه تاب ورجع ومن تذكر قبيح عيوبه ذل وخضع، ومن علم أن الهوى يسكن تصبر ومن تلمح إساءته لم يتكبر 0
[*](كان يزيد الرقاشي يقول : والهفاه سبق العابدون وقطع بي وكان قد صام أثنين وأربعين سنة 0(1/78)
(يا من نسي العهد القديم وخان ، من الذي سواك في صورة الإنسان من الذي غذاك في أعجب مكان ، من الذي بقدرته استقام الجثمان الذي بحكمته أبصرت العينان ،من الذي بصنعته سمعت الأذنان ،من الذي وهب العقل فاستبان للرشد وبان ، من الذي بارزته بالخطايا وهو يستر العصيان ، مَنِ الذي تركت شكره فلم يؤاخذ بالكفران ، إلى كم تخالفه وما يصبر على الخلاف الأبوان ، وتعامله بالغدر الذي لا يرضاه الإخوان ، وتنفق في خِلافه ما عَزَّ وهان ، ولو علم الناس منك ما يعلم : ما جالسوك في مكان ، فارجع إليَّه ما دمت في زمن الإمكان ، وتب إليه فإنه الرحيم الرحمن ، عساه أن يعفو عما سلف وكان من الذنوب والعصيان .
يا نفس : بادري بالأوقات قبل انصرامها واجتهدي في حراسة ليالي الحياة وأيامها فكأنك بالقبور وقد تشققت وبالأمور وقد تحققت وبوجوه المتقين وقد أشرقت وبرءوس العصاة وقد أطرقت 0 يا نفس : أما الورعون فقد جدلوا وأما الخائفون فد استعدوا وأما الصالحون فقد راحوا وأما الواعظون فقد صاحوا 0
يا نفس : اتعبي قليلاً تستريحي في الفردوس كثيراً كأنك بالتعب قد مضى وبحرصك من اللعب قد مضى وثمر الصبر قد أثمر حلاوة الرضا لا يطمعن البطال في إدراك الأبطال هيهات أن يدرك البطل المجتهد من غاب حين النزال فما شهد حفت الجنة بالمكاره فلا يوصل إليها إلا بالمضض كذلك كل محبوب يلذ وكل عرض من غير مشقة وإلا متى لم يبعد على طالبٍ المشقة : العلم لا يحصل إلا بالنصب والمال لا يجمع إلا بالتعب واسم الجواد لا يناله بخيل ولا يلقب بالشجاع إلا بعد تعب طويل 0 لَولا المشَقَة سادَ الناس كُلَهُم الجود يفقر والإِقبالُ قتَّالُ
(أخي الحبيب:(1/79)
(أو ما علمت أن معالي الأُمور لا تنال بالفتور ، وإنما تنال بالجد والاجتهاد والتشمرِ ليومِ المعاد ، وخلعِ الراحة واستفراغ الوسع في الطاعة ، أو ما علمت أن من جد وجد ومن زرع حصد ، وليس من سهر كمن رقد والأمور تحتاج إلى وثبة أسد ، فإذا عزمت فبادر وإذا هممت فثابر ، واعلم أنه لا يدرك المفاخر من كان في الصف الآخر .
يا ضعيف العزم : أين أنت والطريق نصب فيه " آدم " وناح لأجله " نوح " ورمي في النار " الخليل " واضطجع للذبح " اسحاق " وبيع " يوسف " بدراهم بخس ونشر بالمناشير " زكريا " وذبح الحصور " يحيى " وضني بالبلاء " أيوب " وزاد على القدر بكاء " داود " وتنغص في الملك عيش " سليمان " وتخير بأرني " موسى " وهام مع الوحوش " عيسى " وعالج الفقر " محمد " .
( أقسام محاسبة النفس :
[*] قال ابن القيم رحمه الله : ومحاسبة النفس نوعان: نوعٌ قبل العمل ونوعٌ بعده.
(القسم الأول : محاسبة النفس قبل العمل :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
أن يقف عند أول همه وإرادته، ولا يبادر بالعمل حتى يتبين له رجحان العمل به على تركه، [*] قال الحسن رحمه الله: رحم الله عبداً وقف عند همه فإن كان لله مضى وإن كان لغيره تأخر.
هذا النوع من المحاسبة مهم جداً في إيقاع الأعمال على الإخلاص، بدون المحاسبة هذه تقع الأعمال بغير الإخلاص فيهلك الإنسان وهو يعمل ( عَامِلَةٌ نّاصِبَةٌ * تَصْلَىَ نَاراً حَامِيَةً) [ الغاشية 3 ،4]، فما استفاد من العمل شيء مع أن ظاهره أعمال صالحة لكن لأنها ليست لله.(1/80)
وكذلك ينظر ثانياً إذا تحركت نفسه لعمل من الأعمال وقف، هل هذا العمل مقدور عليه أو غير مقدور، فإن كان غير مقدور تركه حتى لا يضيع الوقت، وإن كان مقدوراً عليه وقف وقفة أخرى ونظر هل فعله خير من تركه أو تركه خير من فعله، فإن كان فعله خير من تركه عمله وإن كان تركه خيراً من فعله ..،وإذا كان فعله فيه مصلحة..هل سيفعله الآن والباعث عليه الله وإرادة وجهه أو الباعث عليه أمر آخر (جاه المخلوق وثنائهم ومالهم).
وهذه المحاسبة مهمة جداً في وقاية النفس من الشرك الخفي، الأول يقيها من الشرك الأكبر والأصغر ويقيها أيضاً من الشرك الخفي، ولئلا تعتاد النفس الشرك وتقع في مهاوي الرياء،
(لذلك فإن هناك أربع مقامات يحتاج إليها العبد في محاسبة نفسه قبل العمل :
(1) هل هو مقدور له.
(2) هل فعله خير من تركه.
(3) هل هو يفعله لله.
(4) ما هو العون له عليه.
والاستعانة طبعاً بالله (( إياك نعبد وإياك نستعين)).
(القسم الثاني : محاسبة النفس بعد العمل:
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
وهو على ثلاثة أنواع:
أولاً: محاسبتها على طاعة قصرت فيها من حق الله، مثل تفويت خشوع في الصلاة وخرق الصيام ببعض المعاصي أو فسوق وجدال في الحج، كيف أوقع العبادة؟هل على الوجه الذي ينبغي؟هل وافق السنة؟هل نقص منها؟ وحق الله في الطاعة ستة أمور كما يلي : (
(1) الإخلاص في العمل.
(2) النصيحة لله فيه.
(3) متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم .
(4) أن يحسن فيه ويتقن فيه.
(5) أن يشهد منّة الله عليه فيه أنه جاء توفيق من الله وتيسير للعمل الصالح وإعانة منه.
(6) أن يشهد تقصيره بعد العمل الصالح، وأنك مهما عملت لله فأنت مقصر.
فيحاسب العبد نفسه هل وفى هذه المقامات حقها؟(1/81)
ثانياً: محاسبة على عمل كان تركه خير من فعله، كمن يشتغل بمفضول ففاته الفاضل، مثل أن يشتغل بقيام الليل فتفوته صلاة الفجر، أو يشتغل بأذكار وغيرها أفضل منها، كما قال صلى الله عليه وسلم لأم المؤمنين: [ لقد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرات لو وُزِنَت بما قلتِ لوزنتهن: سبحان الله عدد خلقه،سبحان الله رضا نفسه، سبحان الله زنة عرشه، سبحان الله مداد كلماته].
( حديث ابن عباس رضي الله عنهما الثابت في صحيح أبي داوود ) قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند جويرية وكان اسمها برة فحول اسمها فخرج وهي في مصلاها ورجع وهي في مصلاها فقال لم تزالي في مصلاك هذا قالت نعم قال قد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرات لو وزنت بما قلت لوزنتهن سبحان الله وبحمده عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته .
ثالثاً: محاسبة على أمر معتاد مباح لمَ فعله؟ هل أراد به الله أم الدار الآخرة؟ فيكون رابحاً، أو أراد به الدنيا وعاجلها؟ فيخسر ذلك الربح ويفوته الظفر به.
فالمحاسبة تولد عنده أرباح مهمة يحتاجها يوم الحساب، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر: [ أن الذي ينفق نفقة على أهله يحتسبها تكون له صدقة] كما في الحديث الآتي : (
(حديث أبي مسعود الأنصاري الثابت الثابت في الصحيحين) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :( إذا أنفق الرجلُ على أهله يحتسبها فهو له صدقة )
، وأراد لفت النظر إلى أن ما ينفقه الناس على أهلهم بالعادة إذا كان فيه نية حسنة فليس خارجاً عن الصدقة بل داخل فيها وأجرها، حتى يتشجع الناس للإنفاق على أهليهم ولا يبخلوا على أولادهم ، بل يحتسبون الأجر بدون إسراف ولا تقتير.
[*] قال الحسن : " المؤمن قوَّام على نفسه ، يحاسب نفسه لله ، وإنما خف الحساب يوم القيامة على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا ، وإنما شق الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر على غير محاسبة " .(1/82)
إن المؤمن يفاجئه الشيء ويعجبه فيقول : والله إني لأشتهيك ، وإنك لمن حاجتي، ولكن والله ما من حيلة إليك ، هيهات حيل بيني وبينك ويفرط منه الشيء فيرجع إلى نفسه فيقول : ما أردت إلى هذا ؟ ! ما لي ولهذا ؟ّ والله لا أعود إلى هذا أبداً . إن المؤمنين قوم أوقفهم القرآن وحال بين هلكتهم ، إن المؤمن أسير في الدنيا يسعى في فكاك رقبته ، لا يأمن شيئاً حتى يلقى الله ، يعلم أنه مأخوذ عليه في سمعه، وفي بصره ، وفي لسانه ، وفي جوارحه ، مأخوذ عليه في ذلك كله .
[*] قال مالك بن دينار: " رحم الله عبداً قال لنفسه : ألست صاحبة كذا؟ ألست صاحبة كذا؟ ثم ذمها ، ثم خطمها ، ثم ألزمها كتاب الله عز وجل، فكان لها قائداً " .
فحق على الحازم المؤمن بالله وباليوم الآخر أن لا يغفل عن محاسبة نفسه، والتضييق عليها في حركاتها وسكناتها ، وخطراتها، فكل نفس من أنفاس العمر جوهرة نفيسة ، يمكن أن يشترى بها كنزاً من الكنوز لا يتناهي نعيمه أبد الآباد ، فإضاعة هذه الأنفاس ، أو اشتراء صاحبها بها مما يجلب هلاكه خسران عظيم لا يسمح بمثله إلا أجهل الناس وأحمقهم وأقلهم عقلاً ، وإنما يظهر له حقيقة هذا الخسران يوم التغابن ، قال تعالى: { يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا } (آل عمران : من الآية 30) .
( كيفية محاسبة النفس ؟
[*] قال ابن القيم رحمه الله – مختصر كلامه- :(1/83)
أن يبدأ بالفرائض فإذا رأى فيها نقص تداركه ثم المناهي "المحرمات" فإذا عرف أنه ارتكب منها شيئاً تداركه بالتوبة والاستغفار والحسنات الماحية ثم يحاسب نفسه على الغفلة عما خُلِق له، فإن رأى أنه غفل عما خُلِق له فليتدارك ذلك بالذكر والإقبال على الله ويحاسب نفسه على كلمات الجوارح من كلام اللسان ومشي الرجلين وبطش اليدين ونظر العينين وسماع الأذنين ماذا أردتُ بهذا ولمن فعلته وعلى أي وجه فعلته؟
(فيبدأ بالفرائض ، ويجب أن نعرف أن جنس الواجبات في الشريعة أعلى من ترك المحرمات، كلاهما لابد منه ، لكن للفائدة فجنس فعل الواجب أعلى في الشريعة وأكثر أجراً من جنس ترك المحرم، لأن الواجبات هي المقصود الأصلي وهذه المحرمات ممنوعة، ولكن ما هو الأصل؟ أن تقوم بالواجبات، فأول ما يبدأ بالفرائض فإن رأى منها نقصاً تداركه ( الوضوء-الصلاة-الصيام بدون نية- كفارة اليمين)..، فاستدراك الخطأ في الواجبات نتيجة للمحاسبة، وهناك تقصير يمكن استدراكه وهناك آخر لا.
(ثم المحرمات والمناهي..، فهناك أمور تحتاج التوقف الفوري( كسب حرام – عمل حرام)، وأشياء تدارُكها( التخلص من الأموال الحرام بعد التوبة-أكل حقوق العباد فيعيد المال إلى أصحابه)، وبعضها يحتاج إلى التحلل منها وطلب السماح ، وهناك أشياء لا يمكن تداركها إلا بالتوبة والندم وعقد العزم على عدم العودة والإكثار من الحسنات الماحية لأن الله تعالى قال: (وَأَقِمِ الصّلاَةَ طَرَفَيِ النّهَارِ وَزُلَفاً مّنَ الْلّيْلِ إِنّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السّيّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَىَ لِلذّاكِرِينَ) [ هود: 114]
ثم يحاسب نفسه على الغفلة عما خُلِق له(الانغماس في الملاهي والألعاب مع أنها ليست حرام)، فيتدارك ذلك بأن يأتي بفترات طويلة تفوقها في الذكر والعبادة والأعمال الصالحة لتعويض الغفلة التي حدثت..(1/84)
وهناك طريقة أخرى للمحاسبة وهي محاسبة الأعضاء، ماذا فعلت برجلي ؟بيدي؟ بسمعي؟ ببصري ؟ بلساني ؟، المحاسبة على الأعضاء تعطي نتيجة فيكون الاستدراك بإشغال الأعضاء في طاعة الله، ثم المحاسبة على النوايا (ماذا أردت بعملي هذ ا؟ وما نيتي فيه؟.
والقلب من الأعضاء ولابد له من محاسبة خاصة لصعوبة المحاسبة في النوايا لأنها كثيراً ما تتقلب فسمّي القلب قلباً من تقلّبه..
وينبغي للعبد كما أن له في أول نهاره توصية لنفسه بالحق أن يكون له في آخر نهاره ساعة يطالب نفسه فيها ويحاسبها على جميع حركاتها وسكناتها كما يفعل التجار في الدنيا مع الشركاء.
(فينبغي للعبد أن يحاسب نفسه مثل محاسبة الشريك الشحيح لشريكه ، وهي صفة مهمة للمحاسبة؛ أن الإنسان يدقق مع نفسه ويفتّش الأمور تفتيشاً بالغاً، فقد يتناسى أشياء وهي خطيرة، ومع النفس لا تصلح المسامحة [ رحم الله امرءاً سمحاً إذا باع سمحاً إذا اشترى سمحاً إذا قضى سمحاً إذا اقتضى ]، نعم يفوّت للناس ولكن مع نفسه لا يفوّت..! فينبغي أن يكون هناك تدقيق زائد للنفس إذا أراد صلاحها .
(ومعاقبة النفس على التقصير مهمة بإلزامها بالفرائض والواجبات والمستحبات بدلاً من المحرمات التي ارتكبتها،والعجب أن الإنسان يمكن أن يعاقب عبده وأمته وأهله وخادمته وسائقه والموظف عنده على سوء الخلق والتقصير ولكن لا يعاقب نفسه على ما صدر عن نفسه من سوء العمل .
مسألة : ما هي العقوبات ، في قولنا يعاقب نفسه على التقصير ؟
الجواب :اسم العقوبات فيها تسامح وتجوّز، العقوبات المقصود منها أنك تلزم نفسك بطاعات، ولنضرب لذلك أمثلة من السلف كيف كانوا يعاقبون أنفسهم:
(عاقب عمر بن الخطاب رضي الله عنه نفسه حين فاتته صلاة العصر في جماعة بأن تصدّق بأرض قيمتها مائتي ألف درهم!!(1/85)
(ابن عمر رضي الله عنهما كان إذا فاتته صلاة في جماعة أحيا تلك الليلة كلها، وأخّر ليلة صلاة المغرب حتى طلع كوكبان فاعتق رقبتين مع أن وقت الصلاة لم يخرج..!!
(ابن أبي ربيعة فاتته ركعتا سنة الفجر فأعتق رقبة!!
والتقصير عند السلف من أصحاب النفوس العالية ليس ترك واجب أو فعل محرم ، لكن تقصير في واجب و مستحب، أي فوات طاعة مثلاً أو أذكار وأوراد، والمعاقبة بأن يضاعف الأذكار والأوراد .
والنفس لا تستقيم إلا أن تُجَاهد وتُحَاسَب و تُعَاقَب..، ومما يعين على معاقبة النفس أو إرغام النفس على استدراك النقص؛ التأمُّل في أخبار المجتهدين . وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة : (
(حديث عبد الله بن عمرو الثابت في صحيح أبي داود) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من قام بعشر آيات لم يكتب من الغافلين و من قام بمائة آية كتب من القانتين و من قام بألف آية كتب من المقنطرين .
ومن تأمل في حال السلف وماذا كانوا يفعلون مع ندرة النماذج هذه في هذا الزمان لعله يقود إلى معاقبة النفس بإلزامها بمزيد من العبادات والمستحبات إذا قصّرت..
[*] قالت امرأة مسروق : ما كان يوجد مسروق إلا وساقاه منتفختان من طول الصلاة، والله إن كنت لأجلس خلفه فأبكي رحمة له.
[*] وقال أبو الدرداء : لولا ثلاث ما أحببت العيش يوماً واحداً ، الظمأ لله بالهواجر ، والسجود لله في جوف الليل، ومجالسة قوم ينتقون أطايب الكلام كما ينتقى أطايب الثمر.
[*] وأم الربيع كانت تشفق على ولدها من كثرة بكائه وسهره في العبادة فنادته(يا بني لعلك قتلت قتيلاً) قال(نعم يا أماه) قال(فمن هو حتى نطلب أهله فيعفو عنك، فو الله لو يعلمون ما أنت فيه لرحموك وعفوا عنك) قال( يا أماه..هي نفسي!!).(1/86)
[*] قال القاسم بن محمد : غدوت يوماً وكنت إذا غدوت بدأت بعائشة رضي الله عنها أسلم عليها، فغدوت يوماً إليها فإذا هي تصلّي الضحى وهي تقرأ ( فمن ّ الله علينا ووقانا عذاب السموم ) وتبكي وتدعو وتردد الآية وقمت حتى مللت وهي كما هي فلما رأيت ذلك ذهبت إلى السوق فلما فرغت من حاجتي رجعت إليها فوجدتها كما هي ففرغت ورجعت وهي تردد الآية وتبكي وتدعو!
هذه القلوب، سريعة الذنوب، لابد من قرعها ومطالعة ما فيها،
(ومن قواعد المحاسبة توبيخ النفس : لأنها مادامت أمارة بالسوء فتحتاج إلى شدة وتوبيخ والله أمر بتزكيتها وتقويمها ، فهي تحتاج إلى سلاسل ولا تنقاد إلا بسلاسل القهر إلى العبادة ولا تمتنع عن الشهوات إلا بهذه السلاسل ولا تنفطم عن اللذات إلا بهذا الحزم معها، فإن أهملت نفسك جمحت وشردت وإن لازمتها بالتوبيخ والمعاتبة والملامة كانت هي النفس اللوامة ويُرجى أن ترتقي بعد ذلك إلى النفس المطمئنة.
كيف يحاسب الإنسان نفسه ؟ بماذا يذكر نفسه؟ بنقصها..بخستها ودناءتها وما تدعو إليه من الحرام وترك الواجب والتفريط في حق الله..
(الأدلة على مشروعية المحاسبة :
قال تعالى: (يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اتّقُواْ اللّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مّا قَدّمَتْ لِغَدٍ وَاتّقُواْ اللّهَ إِنّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلاَ تَكُونُواْ كَالّذِينَ نَسُواْ اللّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُولََئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [ الحشر : 19] تنظر أي تفكر وتتفكر.(1/87)
[*] يقول الشيخ عبد الرحمن بن سعدي – رحمه الله - : يأمر الله تعالى عباده المؤمنين بما يوجبه الإيمان ويقتضيه من لزوم تقواه سراً وعلانية في جميع الأحوال وأن يراعوا ما أمرهم الله به من أوامره وحدوده وينظروا مالهم وما عليهم وماذا حصلوا عليه من الأعمال التي تنفعهم أو تضرهم يوم القيامة فإنهم إذا جعلوا الآخرة نصب أعينهم وقبلة قلوبهم واهتموا للمقام بها اجتهدوا في كثرة الأعمال الموصلة إليها وتصفيتها من القواطع والعوائق التي توقف عن السير أو تعوقهم أو تصرفهم، وإذا علموا أن الله خبير بما يعملون لا تخفى عليه أعمالهم ولا تضيع لديه ولا يهملها أوجب لهم الجد والاجتهاد.
(وقال الشيخ عن هذه الآية: وهذه الآية الكريمة أصل في محاسبة العبد نفسه وأنه ينبغي له أن يتفقدها فإن رأى زللاً تداركه بالإقلاع عنه والتوبة النصوح والإعراض عن الأسباب الموصلة إليه وإن رأى نفسه مقصراً في أمر من أوامر الله بذل جهده واستعان بربه في تتميمه وتكميله وإتقانه ويقايس بين منن الله عليه وبين تقصيره هو في حق الله فإن ذلك يوجب الحياء لا محالة، والحرمان كل الحرمان أن يغفل العبد عن هذا الأمر ويشابه قوماً نسوا الله وغفلوا عن ذكره والقيام بحقه وأقبلوا على حظوظ أنفسهم وشهواتها فلم ينجحوا ولم يحصلوا على طائل بل أنساهم الله مصالح أنفسهم وأغفلهم عن منافعها وفوائدها فصار أمرهم فرطاً فرجعوا بخسارة الدارين وغبنوا غبناً لا يمكن تداركه ولا يجبر كسره لأنهم هم الفاسقون.
وقد قال تعالى في كتابه العزيز : ( وَتُوبُوَاْ إِلَى اللّهِ جَمِيعاً أَيّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ) [ النور: 31]، فإذاً ينبغي على العبد أن ينظر في حاله ويحاسبها ويتوب من التقصير فالمحاسبة تقود إلى التوبة قال تعالى: (إِنّ الّذِينَ اتّقَواْ إِذَا مَسّهُمْ طَائِفٌ مّنَ الشّيْطَانِ تَذَكّرُواْ فَإِذَا هُم مّبْصِرُونَ) [ الأعراف : 201](1/88)
ولا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يحاسب نفسه أشد من محاسبة شريكه(( والشريكان يتحاسبان عند نهاية العمل))، ورُوي عن عائشة رضي الله عنها أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال لها عند الموت :[ماأحد من الناس أحب إليّ من عمر]، ثم قال : كيف قلت؟ فأعادت عليه كلامه، فقال: [لا أحد أعزّ عليّ من عمر]. فانظر كيف نظر بعد الفراغ من الكلمة فتدبرها وأبدلها بكلمة أخرى لأنه رآها أنسب وأحسن وأدق وأصدق..
[*] قال الحسن البصري رحمه الله: [ المؤمن قوّام على نفسه يحاسبها لله وإنما خفّ الحساب على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا، وإنما شقّ الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة] ثم قال: [ المؤمن يفجأه الشيء يعجبه فيقول والله إنك تعجبني وإنك من حاجتي ولكن هيهات !حيلي بيني وبينك!]، هذا نموذج من الحساب لشيء يعرض للإنسان مزيّن ويعجبه وتميل إليه نفسه ولكنه يتركه لأنه ليس من مصلحته في الآخرة ، [ ويفرط منه الشيء فيرجع إلى نفسه فيقول ماذا أردتِ بهذا؟!!]، يفرط أي يسبق ويحصل ويقع.
قال أنس بن مالك رضي الله عنه سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوماً وقد خرج وخرجت معه حتى دخل حائطاً فسمعته يقول بيني وبينه جدار[ يا أمير المؤمنين!بخٍ!بخٍ!والله لتتقين الله أو ليعذبنّك!]، فهو يذكر نفسه بأن هذا اللقب أمير المؤمنين لا يغني عنه من الله شيئاً..
[*] قال الحسن البصري رحمه الله في قوله تعالى: ((ولا أقسم بالنفس اللوامة)): [ لا يلقى المؤمن إلا وهو يعاتب نفسه، ماذا أردت بكلمتي؟ماذا أردت بأكلتي؟ماذا أردت بشربتي؟والفاجر يمضي قدماً لا يعاتب نفسه].
[*] وقال مالك بن دينار رحمه الله : رحم الله عبداً قال لنفسه ألستِ صاحبة كذا ؟ ألست صاحبة كذا؟ألست صاحبة كذا؟ ثم ذمّها ثم خطمها ثم ألزمها كتاب الله تعالى فكان لها قائداً. وهذا من حساب النفس.
[*] وقال ميمون بن مهران: [ التقي أشد محاسبة لنفسه من سلطان غاشم ومن شريك شحيح].(1/89)
[*] وقال إبراهيم التميمي: [مثلت نفسي في الجنة آكل من ثمارها وأشرب من أنهارها وأعانق أبكارها ثم مثلت نفسي في النار آكل من زقومها وأشرب من صديدها وأعالج سلاسلها وأغلالها فقلت لنفسي : يا نفس أي شيء تريدين؟قالت: أريد أن أرد إلى الدنيا فأعمل صالحاً، قال:فأنتِ في الأمنية فاعملي إذاً لتكوني في الجنة في ذلك النعيم].
[*] قال ابن القيم في إغاثة اللهفان: [إن سائر أمراض القلب إنما تنشأ من جانب النفس فالمواد الفاسدة كلها إليها تنصبّ ثم تنبعث منها إلى الأعضاء وأول ما تنال القلب].
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في خطبة الحاجة: (( الحمد لله نستعينه ونستهديه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا)) كما في الحديث الآتي : (
(حديث ابن مسعود الثابت في صحيح السنن الأربعة) علمنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطبة الحاجة ( الحمد لله نستعينه ونستغفره ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ثم يقرأ ثلاث آيات
*يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون >! !<
* يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا >! !<
* يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون >! !< يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما >!
وقد استعاذ صلى الله عليه وسلم من شرها عموماً ومن شر ما يتولد منها من الأعمال ومن شر ما يترتب على ذلك من المكاره والعقوبات وجمع الاستعاذة من سيئات النفس وسيئات الأعمال فهذا معناه أن هناك أمرين:
(1) أعوذ بك من هذا النوع من الأعمال.(1/90)
(2) المراد به عقوبات الأعمال التي تسوء صاحبها.
فاستعاذ من صفة النفس وعملها أو استعاذ من العقوبات وأسبابها ويدخل العمل السيء في شر النفس لأن النفس الشريرة تولد سيء العمل فاستعاذ منهما جميعاً..
وهذا العمل الذي يسوء صاحبه يوم القيامة وهذه النفس الشريرة التي تأمر بسيء العمل؛لابد من محاسبتها وقد اتفق السالكون إلى الله على اختلاف طرقهم وتباين سلوكهم على أن النفس قاطعة بين القلب وبين الوصول إلى الرب وأن لا يُدخل على الله سبحانه ولا يوصل إليه إلا بعد الظفر بالنفس وكفها عن الشر فإن الناس قسمين:
القسم الأول : قسم ظفرت به نفسه فملكته وأهلكته وصار طوعاً لنفسه الشريرة الأمّارة بالسوء تحت أوامرها ويعمل على هواها.
القسم الثاني : قسم ظفروا بأنفسهم فقهروها فصارت طوعاً لهم منقادة لأمرهم.
قال بعض أهل الإيمان والحكمة: (( انتهى سفر الطالبين إلى الظفر بأنفسهم فمن ظفر بنفسه؛ أفلح وأنجح، ومن ظفرت به نفسه خسِر وهلك)).
قال الله تعالى :
{ فَأَمَّا مَن طَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى } ( النازعات: الآية : 37-41 ) .
ومن لم يحاسب نفسه فاته من الخير بقدر ما فاته من المحاسبة ولذلك على المسلم أن يصون نفسه عن المحرمات ويبتعد عن الشبهات ولا سيما أهل العلم فمن لم يصن نفسه بهذا لم ينفعه علمه لأن العلم للعمل كالسلاح للمجاهد فإذا لم يستعمله ماذا يفيده؟!، وكالأطعمة المدخرة للجائع إذا لم يأكل منها فبماذا تنفعه؟!
يحاول نيل المجد والسيف مغمدٌ : ويأمل إدراك العُلا وهو نائم!(1/91)
والحاصل : أنه بدون محاسبة لا يمكن الوصول والذي لا يصون نفسه عن ما يخرم المروءة وعن ما يُكره بعد ما يصونها عن الحرام فهذا إنسان هالك ، فصيانة النفس أصل الفضائل لأن من أهمل نفسه إتكالاً على العلم الذي عنده ( وهذه آفة ينزلق إليها بعض طلبة العلم) ربما لا يحاسبون أنفسهم إتكالاً إلى العلم الذي عندهم فربما يكون هنا الجاهل أو العامي أفضل من هذه الجهة لأنهم يحسون أن أنفسهم قاصرة فيحاسبون ويفتشون ، أما بعض الناس الذي يطغيهم العلم فلا يحاسبون أنفسهم ويتكلون على العلم الذي معهم لأنه يرون به رفعة درجة فلماذا يحاسبون فيتركون الحساب والمحاسبة فتظهر القبائح والعورات فيكون الحسد منهم واتباع الهوى والتنازلات في الفتاوى والأخطاء.
فلذلك محاسبة العلماء لأنفسهم وطلبة العلم ينبغي أن تكون أشد ما تكون لأنه إن حاسب نفسه انتفع ونفع الناس وإذا ترك محاسبة نفسه ضلّ وأضلّ، الجاهل لا يقتدي به أحد، لكن هذا الذي ينصب نفسه قدوة في الدعوة والعلم ثم لا يحاسب نفسه يُهلك..!
أيها العالم إياك الزلل ... واحذر الهفوةَ والخطبَ الجلل
هفوة العالم مستعظمة ... إذ بها أصبح في الخلق مثل!
وعلى زلّته عمدتهم ... فبها يحتج بها من أخطأ وزلّ
لاتقل يستر عليّ العلم زلّتي ... بل بها يحصل في العلم خلل
إن تكن عندك مستحقرة ... فهي عند الله والناس جبل
ليس من يتبعه العلم في ... كل ما دقّ من الأمر وجلّ
مثل من يدفع عنه جهله ... إن أتى فاحشة قيل قد جهل
انظر الأنجم مهما سقطت ... من رآها وهي تهوي لم يُبل
فإذا الشمس بدت كاسفة ... وَجِل الخلق لها كل الوجل
وتراءت نحوها أبصارهم ... في انزعاجٍ واضطرابٍ ووجل
وسرى النقص لهم من نقصها ... فغدت مظلمة منها السُبُل
وكذا العالِم في زلّته ... يفتن العالم طُرّاً و يُضِلّ!(1/92)
فنحن نرى الآن نماذج كثيرة من إضلال بعض هؤلاء في الفتاوى المتساهلة لأنهم لا يحاسبون أنفسهم وبالتالي يقعون في المزالق وما استقطبهم أهل الشر إليه من الأفخاخ التي نصبوها لهم فقعوا فيها وجاملوا على حساب الدين..
فينبغي على كل الناس أن يحاسبوا أنفسهم الذين عندهم علم والذين ليس لديهم علم، فالذي لديه علم يحاسب نفسه هل عمل به؟وهل هو يقوم به لله؟ وهل يبلغه؟أم يكتمه؟ وهل هو مقصّر فيه؟ وهل عبد ربه به؟وهل بذله للناس صحيحاً أم راعة أهواء بعض القوم فسهّل لهم أشياء بزعمه؟، أما صاحب الجهل فيحاسب نفسه، كيف يعبد الله على جهل؟متى يزيل الجهل؟كيف يزيله؟إلى متى يبقى؟كيف يتعلم؟ وبماذا يبدأ.... وهكذا..
والنفس تدعو إلى الطغيان وإيثار الحياة الدنيا، والرب يدعو العبد إلى خوفه ونهي النفس عن الهوى والقلب بين الداعيين، يميل إلى هذا الداعي مرة وإلى هذا مرة وهذا موضع الابتلاء والمحنة..
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه كلاماً مشهوراً محذراً من الإهمال في محاسبة النفس وأنه يقود إلى الهلاك يوم القيامة : [ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوا أنفسكم (أعمالكم) قبل أن توزنوا فإنه أهون عليكم في الحساب غداً أن تحاسبوا أنفسكم اليوم]، وقال صلى الله عليه وسلم : ((من نوقش الحساب عُذِّب))، فكيف يتلافى المرء مناقشة الحساب غداً؟!!، بمحاسبة النفس اليوم.
والحساب اليسير صاحبه ناجٍ وسينقلب إلى أهلها مسروراً، أما حاسبناها حساباً شديداً وعذبناها عذاباً نكراً فهذا الحساب الشديد نتيجة عدم المحاسبة الآن..
وتزينوا للعرض الأكبر((يومئذٍِ تعرضون لا تخفى منكم خافية))، فقال الحسن رحمه الله : (( لا تلقى المؤمن إلا ويحاسب نفسه ، ماذا أردتِ تعملين؟ماذا أردتِ تشربين؟ماذا أردتِ تأكلين؟))، وقال قتادة في قوله (وكان أمره فرطاً): [ أضاع نفسه وغُبِن]، يحفظ ماله ويضيع دينه!(1/93)
قال الحسن: « إن العبد لايزال بخير ما كان له واعظ من نفسه وكانت المحاسبة من همته».
ويوجد واعظ في قلب كل مسلم إذا أراد أن يدخل في باب حرام قال: ويلك لا تفتحه، إنك إن تفتحه تلجه!، لا تزح الستار عن باب الحرام، إنك لو نظرت انجذبت، ويلك لا تفتحه، إنك إن تفتحه تلجه!..
قال ميمون بن مهران: « النفس كالشّريك الخوّان إن لم تحاسبه؛ ذهب بمالك! ».
المحاسبة وقت الرخاء سهلة بالنسبة للمحاسبة في وقت الشدة، فرحم الله عبداً قال لنفسه ألستِ صاحبة كذا وكذا؟! هذا نوع من الحساب على المعاصي ، وحساب على النوايا كقولك ماذا أردتِ بالعمل والأكلة والشربة..
( أهمية محاسبة النفس :
[*](قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين :
وفي هذه المنزلة يحتاج السالك إلى تمييز ما له مما عليه ليستصحب ما له ويؤدى ما عليه وهو (المحاسبة) وهي قبل (التوبة) في المرتبة .
(وقال أيضاً رحمه الله تعالى :
ومن منزلة (المحاسبة) يصح له نزول منزلة (التوبة) لأنه إذا حاسب نفسه عرف ما عليه من الحق فخرج منه وتنصل منه إلى صاحبه وهي حقيقة التوبة فكان تقديم (المحاسبة) عليها لذلك أولى.
ولتأخيرها عنها وجه أيضا وهو أن (المحاسبة) لا تكون إلا بعد تصحيح التوبة.
والتحقيق : أن التوبة بين محاسبتين محاسبة قبلها تقتضي وجوبها ومحاسبة بعدها تقتضي حفظها فالتوبة محفوفة بمحاسبتين وقد دل على المحاسبة قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَد} [الحشر: 18] فأمر سبحانه العبد أن ينظر ما قدم لغد وذلك يتضمن محاسبة نفسه على ذلك والنظر هل يصلح ما قدمه أن يلقى الله به أو لا يصلح؟.(1/94)
والمقصود من هذا النظر: ما يوجبه ويقتضيه من كمال الاستعداد ليوم المعاد وتقديم ما ينجيه من عذاب الله ويبيض وجهه عند الله وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا وتزينوا للعرض الأكبر {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} أو قال: "على من لا تخفى عليه أعمالكم".انتهى .
(ومن هنا يتضح أنه حق على الحازم المؤمن بالله واليوم الآخر ألا يغفل عن محاسبة نفسه والتضييق عليها في حركاتها وسكناتها وخطراتها وخطواتها، فكل نَفَس مِنْ أنفاس العمر جوهرة نفيسة يمكن أن يشتري بها كنز من الكنوز لا يتناهى نعيمه أبد الآباد. فإضاعة هذه الأنفاس، أو اشتراء صاحبها ما يجلب هلاكه خسران عظيم، لا يسمح بمثله إلا أجهل الناس وأحمقهم وأقلهم عقلاً، وإنما يظهر له حقيقة هذا الخسران يوم التغابن يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا [آل عمران:30]
، إن محاسبة النفس هو طريق استقامتها، وكمالها، وفلاحها، وسعادتها، يقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر:18]
[*] قال ابن كثير في تفسيره: وقوله: وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ أي حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وانظروا ماذا ادّخرتم لأنفسكم من الأعمال الصالحة ليوم معادكم وعرضكم على ربكم.
[*] وروى الإمام أحمد في كتاب الزهد عن عمر بن الخطاب أنه قال: ( حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا، فإنه أهون عليكم في الحساب غداً، أن تحاسبوا أنفسكم اليوم، وتزيّنوا للعرض الأكبر يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ [الحاقة:18] ،(1/95)
[*] ونقل ابن القيم عن الحسن أنه قال: ( المؤمن قوّام على نفسه يحاسب نفسه لله، وإنما خفّ الحساب يوم القيامة على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا، وإنما شقّ الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة ).
[*] وقال وهب فيما ذكره الإمام أحمد رحمه الله: ( مكتوب في حكمةآل داود: حق على العاقل، أن لا يغفل عن أربع ساعات: ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يخلو فيها مع إخوته الذين يخبرونه بعيوبه ويَصدقونه عن نفسه، وساعة يتخلى فيها بين نفسه وبين لذاتها فيما يحل ويجمل، فإن في هذه الساعة عوناً على تلك الساعات وإجماماً للقلوب ).
[*] وقال ميمون بن مهران: ( لا يكون العبد تقياً حتى يكون لنفسه أشد محاسبة من الشريك لشريكه ولهذا قيل: النفس كالشريك الخوّان إن لم تحاسبه ذهب بما لك .
[*] وكتب عمر بن الخطاب إلى بعض عماله: ( حاسب نفسك في الرخاء قبل حساب الشدة، فإن من حاسب نفسه في الرخاء قبل حساب الشدة عاد أمره إلى الرضى والغبطة، ومن ألهته حياته وشغلته أهواؤه عاد أمره إلى الندامة والخسارة ) [أخرجه البيهقي في الوهد وابن عساكر].
[*] ونقل ابن الجوزي في ذم الهوى عن السلمي قال: سمعت أبا الحسين الفارسي يقول: سمعت أبا محمد الحريري يقول: من استولت عليه النفس صار أسيراً في حكم الشهوات محصوراً في سجن الهوى. وحرَّم الله على قلبه الفوائد، فلا يستلذ كلامه ولا يستحليه، وإن كثر ترداده على لسانه .(1/96)
[*] وقال الشيخ عبد العزيز السلمان رحمه الله في كتابه موارد الظمآن: ( فإذا علم أنه مناقش في الحساب عن مثاقيل الذر، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة أحوج ما يكون إلى الحسنات، وغفران السيئات، تحقق أنه لا ينجيه من هذه الأخطار إلا إعتماده على الله، ومعونته على محاسبة نفسه ومراقبتها ومطالبتها في الأنفاس والحركات، ومحاسبتها في الخطرات واللحظات، فمن حاسب نفسه قبل أن يحاسب خف في القيامة حسابه وحضر عند السؤال جوابه وحسن متقلبه ومآبه.
[*] قال ابن قدامة في منهاج القاصدين: واعلم أن أعدى عدو لك نفسك التي بين جنبيك، وقد خلقت أمارة بالسوء، مَيَّالَةً إلى الشر، وقد أُمِرْتَ بتقويمها وتزكيتها وفطامها من مواردها وأن تقودها بسلاسل القهر إلى عبادة ربها، فإن أهملتها جمحت وشردت ولم تظفر بها بعد ذلك وإن لزمتها بالتوبيخ رجونا أن تصير مطمئنة، فلا تغفلن من تذكيرها.
[*] كان توبة بن الصمة من المحاسبين لأنفسهم فحسب يوماً، فإذا هو ابن ستين سنة، فحسب أيامها، فإذا هي أحد وعشرون ألف يوم وخمسمائة يوم، فصرخ وقال: يا ويلتي! ألقى ربي بأحد وعشرين ألف ذنب؟ كيف وفي كل يوم آلاف من الذنوب؟ ثم خر مغشياً عليه، فإذا هو ميت، فسمعوا قائلاً يقول: يا لك ركضة إلى الفردوس الأعلى .
{ تنبيه } :(ومن أنفع فوائد المحاسبة «الاطلاع على عيوب النفس ومقتها في جنب الله تعالى» .
[*](قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه إغاثة اللهفان :
وفى محاسبة النفس عدة مصالح منها:
الاطلاع على عيوبها، ومن لم يطلع على عيب نفسه لم يمكنه إزالته، فإذا اطلع على عيبها مقتها في ذات الله تعالى .
[*](روى الإمام أحمد عن أبى الدرداء رضي الله عنه قال: "لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يمقت الناس في جنب الله، ثم يرجع إلى نفسه فيكون لها أشد مقتا".
[*](وقال مُطرِّف بن عبد الله: "لولا ما أعلم من نفسي لقَليْتُ الناس".(1/97)
[*](وقال مصرف في دعائه بعرفة: "اللهم لا ترد الناس لأجلى".
[*](وقال بكر بن عبد الله المزني: "لما نظرت إلى أهل عرفات ظننت أنهم قد غفر لهم، لولا أني كنت فيهم".
[*](وقال أيوب السختياني: "إذا ذكر الصالحون كنتُ عنهم بمعزل".
[*](ولما احتضر سفيان الثوري دخل عليه أبو الأشهب، وحماد بن سلمة، فقال له حماد: "يا أبا عبد الله، أليس قد أمنت مما كنت تخافه؟ وتقدم على من ترجوه، وهو أرحم الراحمين، فقال: يا أبا سلمة، أتطمع لمثلي أن ينجو من النار؟ قال: إي والله، إني لأرجو لك ذلك".
[*](وذكر زيد عن مسلم بن سعيد الواسطي قال: أخبرني حماد بن جعفر بن زيد: أن أباه أخبره قال: "خرجنا في غزاة إلى كابل، وفى الجيش: صِلة بن أشيم، فنزل الناس عند العتمة، فصلوا ثم اضطجع فقلت: لأرمقن عمله، فالتمس غفلة الناس، حتى إذا قلت: هدأت العيون وثب فدخل غيضة قريبا منا، فدخلت على أثره، فتوضأ، ثم قام يصلي، وجاء أسد حتى دنا منه، فصعدت في شجرة فتراه التفت أو عده جروا؟ فلما سجد قلت: الآن يفترسه، فجلس ثم سلم ثم قال: أيها السبع، اطلب الرزق من مكان آخر. فولى وإن له لزئيرا، أقول: تصدع الجبال منه. قال فما زال كذلك يصلي حتى كان عند الصبح جلس، فحمد الله تعالى بمحامد لم أسمع بمثلها، ثم قال: اللهم إني أسألك أن تجيرني من النار، ومثلي يصغر أن يجترئ أن يسألك الجنة، قال: ثم رجع وأصبح كأنه بات على الحشايا، وأصبحت وبي من الفترة شيء الله به عالم".
[*](وقال يونس بن عبيد: "إني لأجد مائة خصلة من خصال الخير ما أعلم أن في نفسي منها واحدة".
وقال محمد بن واسع: "لو كان للذنوب ريح ما قدر أحد يجلس إلى".(1/98)
[*](وذكر ابن أبى الدنيا عن الخلد بن أيوب قال: "كان راهب في بنى إسرائيل فى صومعة منذ ستين سنة. فأتِيَ في منامه. فقيل له: إن فلانا الإسكافي خير منك- ليلة بعد ليلة- فأتى الإسكافي، فسأله عن عمله. فقال: إني رجل لا يكاد يمر بى أحد إلا ظننته أنه فى الجنة وأنا فى النار، ففضل على الراهب بإزرائه على نفسه".
[*](وذكر داود الطائي عند بعض الأمراء؛ فأثنوا عليه فقال: "لو يعلم الناس بعض ما نحن فيه ما ذل لنا لسان بذكر خير أبدا".
[*](وقال أبو حفص : "من لم يتهم نفسه على دوام الأوقات ولم يخالفها في جميع الأحوال، ولم يجرها إلى مكروهها فى سائر أوقاته، كان مغرورا، ومن نظر إليها باستحسان شيء منها فقد أهلكها".
(وقال أيضاً رحمه الله تعالى :
ومقت النفس في ذات الله من صفات الصديقين، ويدنو العبد به من الله سبحانه في لحظة واحدة أضعاف أضعاف ما يدنو به بالعمل.
[*](ذكر ابن أبي الدنيا عن مالك بن دينار قال: "إن قوما من بني إسرائيل كانوا في مسجد لهم في يوم عيد، فجاء شاب حتى قام على باب المسجد، فقال: ليس مثلي يدخل معكم، أنا صاحب كذا، أنا صاحب كذا؛ يزري على نفسه، فأوحى الله عز وجل إلى نبيهم: إن فلانا صديق".
[*](وأورد الإمام أحمد عن وهب: "أن رجلا سائحا عبد الله عز وجل سبعين سنة. ثم خرج يوما فقلل عمله وشكا إلى الله تعالى منه. واعترف بذنبه فأتاه آت من الله عز وجل فقال: إن مجلسك هذا أحب إلي من عملك فيما مضى من عمرك".
قال أحمد: وحدثنا عبد الصمد، أبو هلال، عن قتادة قال: قال عيسى ابن مريم عليه السلام: "سلوني، فإني لين القلب، صغير عند نفسي".
[*](وذكر أحمد أيضا عن عبد الله بن رباح الأنصاري قال "كان داود عليه السلام ينظر أغمص حلقة في بني إسرائيل فيجلس بين ظهرانيهم، ثم يقول: يا رب مسكين بين ظهراني مساكين".(1/99)
[*](وذكر عن عمران بن موسى القصير قال: قال موسى عليه السلام: "يا رب أين أبغيك؟ قال: ابغنى عند المنكسرة قلوبهم، فإني أدنو منهم كل يوم باعا، ولولا ذلك انهدموا".
[*](وفى كتاب الزهد للإمام أحمد: "أن رجلا من بنى إسرائيل تعبد ستين سنة في طلب حاجة. فلم يظفر بها. فقال في نفسه: والله لو كان فيك خير لظفرت بحاجتك، فأتى في منامه، فقيل له: أرأيت ازدراءك على نفسك تلك الساعة؟ فإنه خير من عبادتك تلك السنين".
(ومن فوائد محاسبة النفس : أنه يعرف بذلك حق الله تعالى عليه . ومن لم يعرف حق الله تعالى عليه فإن عبادته لا تكاد تجدي عليه، وهى قليلة المنفعة جدا.
[*](أورد الإمام أحمد عن وهب قال: "بلغني أن نبي الله موسى عليه السلام مر برجل يدعو ويتضرع، فقال: يا رب ارحمه، فإني قد رحمته، فأوحى الله تعالى إليه: لو دعاني حتى تنقطع قواه ما استجيب له حتى ينظر في حقي عليه".
فَمِنْ أنفع ما للقلب النظر في حق الله على العبد. فإن ذلك يورثه مقت نفسه، والإزدراء عليها، ويخلصه من العجب ورؤية العمل، ويفتح له باب الخضوع والذل والانكسار بين يدي الله، واليأس من نفسه، وأن النجاة لا تحصل له إلا بعفو الله ومغفرته ورحمته، فإن من حقه «أن يطاع ولا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر» .
فمن نظر في هذا الحق الذي لربه عليه علم عِلْمَ اليقين أنه غير مؤد له كما ينبغي، وأنه «لا يسعه إلا العفو والمغفرة » ، وأنه إن أحيل على عمله هلك.
فهذا محل نظر أهل المعرفة بالله تعالى وبنفوسهم، وهذا الذي أيأسهم من أنفسهم، وعلق رجاءهم كله بعفو الله ورحمته.
وإذا تأملت حال أكثر الناس وجدتهم بضد ذلك، ينظرون في حقهم على الله، ولا ينظرون في حق الله عليهم. ومن هاهنا انقطعوا عن الله، وحجبت قلوبهم عن معرفته، ومحبته، والشوق إلى لقائه، والتنعم بذكره، وهذا غاية جهل الإنسان بربه وبنفسه.(1/100)
فمحاسبة النفس هو نظر العبد في حق الله عليه أولا، ثم نظره هل قام به كما ينبغي ثانيا؟ وأفضل الفكر الفكر في ذلك؛ فإنه يُسَيِّر القلبَ إلى الله ويطرحه بين يديه ذليلا خاضعًا منكسراً كسراً فيه جبره، ومفتقرًا فقراً فيه غناه. وذليلاً ذلاً فيه عزه، ولو عمل من الأعمال ما عساه أن يعمل؛ فإذا فاته هذا فالذي فاته من البر أفضل من الذي أتى.(1/101)
(إخواني حاسبوا أنفسكم قبل الحساب ، وأعدوا للسؤال جواب ، وللجواب صواب ، واحفظوا بالتقوى بِتَقْوَى اللهِ الملك العَلام الحَيِّ القَيُّومِ الذي لا يَنَامُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ أَحْسَنَ فَعَلَيْهِ بالتمام ، وَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ أساء فَلْيَخْتِم بالحسنى ، فالعمل بالختام ، أَما أَوضح لكم الطريق المُوصِلَ إلى دَارِ السلام ، أَما بعث إليكم مُحَمَّدًا - صلى الله عليه وسلم - لتبليغ الشَّرَائِعَ وَالأحْكَامِ ، أَما أَنْزَلَ عَلَيْهِ الذِّكْرَ لِيُبَيّنَ لِلنَّاسِ مَا أَوْدَعَهُ فِيهِ مِنْ الأَحْكَام ، أَمَا دَعَاكُمْ إِلى التَّوَكّلِ عَلَيْهِ وَالاعْتِصَامِ ، أَمَّا حَثَّكُم إلى العَمَلَ فِيمَا يُقَرِّبُ إلى دَارِ السَّلامِ ، أَمَّا حَذَّرَكُمْ عَوَاقِبَ مَعَاصِيهِ وَنَهَاكُمْ عَنْ الآثَامِ ، أَمَا أنْذَركُم هَوْلَ يَوْمٍ أَطْوَلَ الأَيَّامِ ، اليَوْمُ الذي يَشِيبُ فِيهِ الوِلْدَانْ ، وَتَنْفَطِرُ فِيهِ السَّمَاءُ ، وَتَنْكَدِرُ فِيهِ النُّجُومِ ، وَتَظْهَرُ فِيهِ أَمُورٌ عِظَامٌ ، أَمَّا خَوَّفكمُ مَوَارِدُ الحَمَامِ ، أَمَا ذَكَّرَكُمْ مَصَارِعَ مَنْ قَبْلَكُمْ مِنْ الأَنَامِ ، أَمَا أَمَدَّكُم بالأبْصَارِ وَالأَسْمَاعِ وَصِحَّةِ الأَجْسَامِ ، أَمَا وَعَدَكَمُ بِقَبُولِ تَوْبَةِ التَّائِبِينَ رَحْمَةً مِنْهُ جَرَتْ بِهِ الأَقْلامُ ، فَوَاللهِ لَحُقَّ لِهَذَا الرَّبِ العَظِيمِ أَنْ يُطَاعَ فَلا يُعْصَى عَلَى الدَّوَامِ ، فَيَا أَيُّهَا الشُّيُوخُ بَادِرُوا فَمَا لِلزرْعِ إِذَا أَحْصَدَ إلا الصِّرَامُ ، وَيَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ جُدُّوا في العَمَلِ فُرَبُّ امْرئٍ مَا بَلَغَ التَّمَامَ ، وَاحْذَرُوا عِقَابَ رَبِّكُم يَوْمَ يُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ .(1/102)
( لله درُ أقوامٍ حبسوا النفوس في سجن المحاسبة، وبسطوا عليها ألسن المعاتبة، ومدوا نحوها أكف المعاقبة،وتحق لمن بين يديه المناقشة والمطالبة ،فارتفعت بالمعاتبة عيوبهم .
(مخاطرُ ترك المحاسبة :
إن غياب محاسبة النفس نذير غرق العبد في هواه، وما أردى الكفار في لجج العمى إلا ظنهم أنهم يمرحون كما يشتهون بلا رقيب، ويفرحون بما يهوون بلا حسيب، قال سبحانه عنهم: إِنَّهُم كَانُواْ لا يَرجُونَ حِسَاباً [النبأ:27]
والاطلاع على عيب النفس ونقائصها ومثالبها يلجمها عن الغي والضلال، ومعرفة العبد نفسه وأن مآله إلى القبر يورثه تذللاً وعبودية لله، فلا يُعجب بعمله مهما عظم، ولا يحتقر ذنباً مهما صغر، يقول أبو الدرداء رضي الله عنه: ( لا يتفقه الرجل كل الفقه حتى يمقت الناس في جنب الله، ثم يرجع إلى نفسه فيكون لها أشد مقتاً ) [أخرجه عبدالرزاق في المصنف:11/255، وابن أبي شيبة في المصنف:7/ 110)، والطبري في تفسيره:1/258، وأبو نعيم في الحلية:1/211]
يُحكى أن رجلاً كان يحاسب نفسه، فحسب يوماً سني عمره، فوجدها ستين سنة. فحسب أيامها، فوجدها واحداً وعشرين ألف يوم وخمسمائة يوم.
فصرخ صرخة، و خرّ مغشياً عليه. فلما أفاق قال: يا ويلتاه، أنا آتي ربي بواحد وعشرين ألف ذنب وخمسمائة ذنب؟!
يقول هذا لو كان يقترف ذنباً واحداً في كل يوم، فكيف بذنوب كثيرة لا تحصي؟
ثم قال: آه عليّ، عمرت دنياي، وخربت أخراي، وعصيت مولاي، ثم لا أشتهي النقلة من العمران إلى الخراب. وأنشد:
منازل دنياك شيّدتها *** وخرّبت دارك في الآخرة
فأصبحت تكرهها للخراب *** وترغب في دارك العامرة(1/103)
(أخي الحبيب : إذا جالست الناس فكن واعظاً لقلبك، فالخلق يراقبون ظاهرك، والله يراقب باطنك، ومن صحح باطنه في المراقبة والإخلاص زين الله ظاهره في المجاهدة والفلاح. والتعرف على حق الله وعظيم فضله ومنه وتذكر كثرة نعمه وآلائه يطأطىء الرأس للجبار جل وعلا، ويدرك المرء معه تقصيره على شكر النعم، وأنه لا نجاة إلا الرجوع إليه، وأن يطاع فلا يعصى، وأن يشكر فلا يكفر .
وإن أضرَّ ما على المكلف إهمال النفس وترك محاسبتها والاسترسال خلف شهواتها حتى تهلك، وهذا حال أهل الغرور الذين يغمضون عيونهم عن المعاصي ويتكلون على العفو، وإذا فعلوا ذلك سهُلت عليهم مواقعة الذنوب والأنس بها والله يقول: يَأَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الكَرِيمِ [الانفطار:6]، يقول الحسن البصري رحمه الله: ( لا يليق بالمؤمن إلا أن يعاتب نفسه فيقول لها: ماذا أردت بكلمتي؟ ماذا أردت بأكلتي؟ وأما الفاجر فيمضي قدماً لا يعاقب نفسه ) [أخرجه أحمد في الزهد:281، وعزاه في الدر المنثور:8/343 إلى عبد بن حميد وابن أبي الدنيا في محاسبة النفس].(1/104)
فالمؤمن قَوَّامٌ على نفسه يحاسبها، قال عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُم طَائِفٌ مِّنَ الشَّيطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبصِرُونَ [الأعراف:201] وإنما خف الحساب على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا، وشق الحساب على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة، فتوق الوقوع في الزلة، فترك الذنب أيسر من طلب التوبة، وأنبها على التقصير في الطاعات، فالأيام لا تدوم، ولا تعلم متى تكون عن الدنيا راحلاً، وخاطب نفسك قائلا : ماذا قَدَّمَت في عام أدبر؟ وماذا أعددت لعام أقبل؟ يقول الفاروق رضي الله عنه: ( حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا ) [أخرجه ابن المبارك في الزهد:103، وابن أبي شيبة في المصنف:7/ 96، وأبو نعيم في الحلبة:1/ 52، وعلق بعضه الترمذي في الرقاق:2459 بنحوه، وأورده الألباني في السلسلة الضعيفة:1201]
(أخي الحبيب : انتبه أخي من غفلتك وأفق من سُباتك العظيم فالليل والنهار يباعدان من الدنيا ويقربان إلى الآخرة، فكيف بك إذا دق ناقوس الرحيل، وتهيأ الركب للمسير، فوضعوا الزاد، وملئت المزاد ، أترضى أن تكون رفيق قومٍ لهم زادٌ وأنت بغير زاد ، فطوبى لعبد انتفع بعمره، وحاسب نفسه محاسبةَ الشريك الشحيح على ما مضى، فكل يوم تغرب فيه شمسه ينذرك بنقصان عمرك، والعاقل من اتعظ بأمسه، واجتهد في يومه، واستعد لغده، فخذ الأهبة لآزف النقلة، وأعد الزاد لقرب الرحلة، وخير الزاد التقوى، وأعلى الناس عند الله منزلة أخوفهم منه.سبحانه .
يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَلتَنظُر نَفسٌ مَّا قَدَّمَت لِغَدٍ وَاتَّقُواْ اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِير بِمَا تَعمَلُونَ [الحشر:18](1/105)
(أخي الحبيب : إن الليل و النهار رأس مال المؤمن؛ ربحها الجنة، وخسرانها النار. والسنة شجرة: الشهور فروعها، والأيام أغصانها، والساعات أوراقها، والأنفاس ثمارها. فمن كانت أنفاسه في طاعة؛ فثمرته شجرة طيبة، ومن كانت أنفاسه في في معصية؛ فثمرته حنظل والعياذ بالله، ومن زرع الشوك لا يجني عنباً .
[*] قال ابن مسعود رضي رضي الله عنه: إنكم في ممر من الليل والنهار، في آجال منقوصة، وأعمال محفوظة، والموت يأتي بغتة. فمن يزرع خير فيوشك أن يحصد رغبة، ومن زرع شراً فيوشك أن يحصد ندامة، ولكل زارع ما زرع.
[*] قال الحسن رحمه الله تعالى : ابن آدم، إنك بين مطيتين يوضعانك: الليل إلى النهار، والنهار إلى الليل، حتى يسلمانك إلى الآخرة. فمن أعظم خطراً منك؟.
ياهذا، إنك لم تزل في هدم عمرك منذ خرجت من بطن أمك. وإنما أنت أيام معدودة، كلما ذهب يوم ذهب بعضك.
[*] وسأل الفضيل رجلاً: كم أتت عليك؟ قال: ستون سنة. فقال: فأنت منذ ستين سنة تسير إلى ربك، ويوشك أن تبلغ. فقال الرجل: إنا لله وإنا إليه راجعون.
[*] وكان يزيد الرقاشي يقول لنفسه: ويحك يا يزيد، من ذا الذي يصلي عنك بعد الموت؟ من ذا الذي يصوم عنك بعد الموت؟ من ذا الذي يرضي ربك عنك بعد الموت؟ ثم يقول: أيها الناس، ألا تبكون وتنوحون على أنفسكم باقي حياتكم؟.
ولله در القائل:
إذا كنت أعلم علماً يقيناً *** بأن جميع حياتي كساعة
فلم لا أكون ضنيناً بها *** وأجعلها في صلاح وطاعة؟
طوبى لمن سمع ووعى، وحقق ما ادَّعى، ونهى النفس عن الهوى، وعلم أن الفائز من ارعوى، وأن ليس للإنسان إلا ما سعى، اللَّهُمَّ يا فالقَ الحب والنَّوَى ، يا مُنْشِئَ الأجْسَادِ بَعْدَ البلَى , وفقنا لحفظ الرأس وما وعى ، والبطن وما حوى وأن نتذكر الموت والبلى فنستحي من الله حق الحيا .
(والمحاسبة تصدر من التأمل في هذه النصوص :(1/106)
قال تعالى: (يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النّاسُ أَشْتَاتاً لّيُرَوْاْ أَعْمَالَهُمْ * فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرّةٍ خَيْراً يَرَهُ) [ الزلزلة 6: 7]
والمحاسبة انطلاقاً من آثار قوله تعالى: (يَوْمَ تَجِدُ كُلّ نَفْسٍ مّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدّ لَوْ أَنّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَاً بَعِيداً وَيُحَذّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَاللّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ) [ آل عمران : 30]
والمحاسبة تنطلق من الإيمان باليوم الآخر وأن الله يحاسب فيه الخلائق وقد حذرنا الله ذلك اليوم فقال تعالى: (وَاتّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمّ تُوَفّىَ كُلّ نَفْسٍ مّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ) [البقرة : 281]
والمحاسبة تنطلق من الإيمان بأسماء الله وصفاته وأنه تعالى الرقيب المهيمن المطّلع على ما تعمل كل نفس وأنه شهيد على أعمالنا فهو الشهيد على أعمال عباده، جعل علينا كراماً كاتبين يحصون أعمالنا قال تعالى: (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَوَيْلَتَنَا مَا لِهََذَا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِراً وَلاَ يَظْلِمُ رَبّكَ أَحَداً) [سورة: الكهف - الأية: 49]
والمحاسبة تنطلق من إيمان الإنسان بالهدف، بالغرض، أن يعلم أنه لأي شيء خُلِق قال تعالى: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ) [ المؤمنون : 115]
قال تعالى: (أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى) [ القيامة : 36](1/107)
(ومحاسبة النفس طريقة المؤمنين وسمة الموحدين وعنوان الخاشعين ، فالمؤمن متق لربه محاسب لنفسه مستغفر لذنبه ، يعلم أن النفس خطرها عظيم، وداؤها وخيم ، ومكرها كبير وشرها مستطير، فهي أمارة بالسوء ميالة إلى الهوى،داعية إلى الجهل، قائدة إلى الهلاك،توّاقة إلى اللهو إلا من رحم الله، فلا تُترك لهواها لأنها داعية إلى الطغيان ، من أطاعها قادته إلى القبائح ، ودعته إلى الرذائل،وخاضت به المكاره،تطلعاتها غريبة،وغوائلها عجيبة،ونزعاتها مخيفة، وشرورها كثيرة، فمن ترك سلطان النفس حتى طغى فإن له يوم القيامة مأوىً من جحيم قال تعالى: (فَأَمّا مَن طَغَىَ * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدّنْيَا * فَإِنّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَىَ * وَأَمّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ وَنَهَى النّفْسَ عَنِ الْهَوَىَ * فَإِنّ الْجَنّةَ هِيَ الْمَأْوَىَ ) [النازعات 37: 41]
(فوائد محاسبة النفس :
ولمحاسبة النفس فوائد عظيمة ومزايا جسيمة منها ما يلي : (
(1) الاطلاع على عيوب نفسه : ومن لم يطلع على عيوب نفسه لم يمكنه إزالتها ،والمرء حين يطّلع على عيوب نفسه يكتشف أشياء تدهشك ولا يفقه الرجل حتى يمقت نفسه ويحتقرها في جنب الله .
[*] قال أبو الدرداء: " لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يمقت الناس في جنب الله ، ثم يرجع إلى نفسه فيكون أشد لها مقتاً " .
[*] وكان بعض السلف يقول في دعائه في عرفة ( اللهم لا ترد الناس لأجلي)! ،
[*] وقال محمد بن واسع : لو كان للذنوب ريحٌ ما قدر أحد أن يجلس إلىّ .
مع أنه من كبار العباد في هذه الأمة .
[*] قال يونس بن عبيد: " إني لأجد مائة خصلة من خصال الخير ما أعلم أن في نفسى منها واحدة " .
[*] دخل حمّاد بن سلمة على سفيان الثوري وهو يحتضر فقال: ( يا أبا عبد الله أليس قد أمنت مما كنت تخافه وتقدم على من ترجوه وهو أرحم الراحمين؟!) قال: (يا أبا سلمة أتطمع لمثلي أن ينجو من النار) قال: (إي والله إني لأرجو لك ذلك).(1/108)
[*] وقال جعفر بن زيد: ( خرجنا في غزاة إلى كابل وفي الجيش صلة بن أشيم فنزل الناس عند العتمة فصلوا ثم اضطجع فقلت: لأرمقنّ عمله، فالتمس غفلة الناس فانسلّ وثبا فدخل غيظة (مجموعة أشجار ملتفة) قريب منا، فدخلت على أثره فتوضأ ثم قام يصلي فجاء أسد حتى دنا منه فصعدت في شجرة فتراه التفت إليه أو عدّه جرو! فلما سجد قلت الآن يفترسه فجلس ثم سلّم ثم قال: ( أيها السبع اطلب الرزق من مكان آخر)، فولّى وإن له زئيراً، فمازال كذلك يصلي حتى كان الصبح فجلس يحمد الله وقال: (اللهم إني أسألك أن تجيرني من النار ومثلي يستحي أن يسألك الجنة)! ثم رجع وأصبح وكأنه بات على حشاياً ، أما أنا فأصبح بي ما الله به عليم من هول ما رأيت!
[*] وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : (اللهم اغفر لي ظلمي وكفري)، فقال قائل: ( يا أمير المؤمنين هذا الظلم فما الكفر؟) قال: (إن الإنسان لظلوم كفّار)، فإذا تمعّن الإنسان حال السلف عرف حاله والبعد الشديد مابينه وبينهم.
(2) مقارنة حال بحال فينكشف التقصير العظيم .
(أوما علمت أنه لا سكون للخائف ،ولا قرار للعارف،كلما ذكر العارف تقصيره ندم على مصابه ،وإذا تصور مصيره حذر مما في كتابه ،وإذا خطر العتاب بفنائه فالموت من عتابه، فهو رهين القلق بمجموع أسبابه .
(عجبت لنفوسٍ تعرف حقائق المصير ، ولا تعرف عوائق التقصير ، كيف رضيت بالزاد اليسير ، وقد علمت طول المسير ،أم كيف أقبلت على التبذير ،وقد حُذِّرَتْ غاية التحذير ، أما تخاف زَلَلَ التعثير إذا حوسبت على القليل والكثير .(1/109)
(يا مفرطاً في ساعاته بالليل والنهار ، لو علمت ما فات شابهت دموعك الأنهار، يا طويل النوم عُدِمْتَ خيرات الأسحار،لو رأى طرفك ما نال الأبرار ،حار يا مخدوعاً بالهوى ساكناً في دار ،قد حام حول ساكنها طارق الفناء ودار، سار الصالحون فاجتهد في اتباع الآثار، واذكر بظلام الليل ظلام القبر وخلو الديار ،وحارب عدواً قد قتلك بالهوى واطلب الثار ،فقد أريتك طريقاً إن سلكتها أمنت العثار، فإن فزت بالمراد فالصيد لمن أثار.
(3) ومن التفكر في العيوب أن الإنسان ينظر في عمله ما دخل عليه فيه من العُجب والغرور فيرى نفس كاد أن يهلك ومهما عمل فهو مقصِّر.
(4) أن يخاف الله عز وجل .
(5) ومما يعين على المحاسبة استشعار رقابة الله على العبد وإطلاعه على خفاياه وأنه لا تخفى عليه خافية قال تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) [ ق : 16]
وقال تعالى: (وَاعْلَمُوَاْ أَنّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِيَ أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوَاْ أَنّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ) [ البقرة : 235]
وما أردى الكفار في لجج العمى إلا ظنهم أنهم يمرحون كما يشتهون بلا رقيب، ويفرحون بما يهوون بلا حسيب، قال سبحانه عنهم: إِنَّهُم كَانُواْ لا يَرجُونَ حِسَاباً [النبأ:27]
(6) ومن فوائد المحاسبة التفكر في الأسئلة يوم القيامة وأن تعلم أنك مسئول يوم القيامة ، ليس سؤال المذنبين فقط، قال تعالى: (لّيَسْأَلَ الصّادِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ وَأَعَدّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً أَلِيماً) [ الأحزاب : 8]
وإذا كان الصادقين سيسألهم الله عن صدقهم فما بالك بغيرهم؟! قال تعالى: (فَلَنَسْأَلَنّ الّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنّ الْمُرْسَلِينَ) [ الأعراف : 6] وحتى الرسل يُسألون..!!!(1/110)
(7) ومن فوائد المحاسبة أن يعرف حق الله تعالى عليه، فإن ذلك يورثه مقت نفسه ، والإزراء عليها ويخلصه من العجب ورؤية العمل ، ويفتح له باب الخضوع والذل والانكسار بين يدى ربه ، واليأس من نفسه ، وأن النجاة لا تحصل له إلا بعفو الله ومغفرته ورحمته ، فإن من حقه أن يطاع فلا يعصى وأن يذكر فلا يُنسى وأن يُشكر فلا يُكفر .
(أركان المحاسبة :
[*](قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين :
قال صاحب المنازل "المحاسبة لها ثلاثة أركان :
أحدها: أن تقايس بين نعمته وجنايتك".
يعني تقايس بين ما من الله وما منك فحينئذ يظهر لك التفاوت وتعلم أنه ليس إلا عفوه ورحمته أو الهلاك والعطب.
وبهذه المقايسة تعلم أن الرب رب والعبد عبد ويتبين لك حقيقة النفس وصفاتها وعظمة جلال الربوبية وتفرد الرب بالكمال والإفضال وأن كل نعمة منه فضل وكل نقمة منه عدل وأنت قبل هذه المقايسة جاهل بحقيقة نفسك وبربوبية فاطرها وخالقها فإذا قايست ظهر لك أنها منبع كل شر وأساس كل نقص وأن حدها الجاهلة الظالمة وأنه لولا فضل الله ورحمته لتزكيته لها ما زكت أبدا ولولا هداه ما اهتدت ولولا إرشاده وتوقفه لما كان لها وصول إلى خير البتة وأن حصول ذلك لها من بارئها وفاطرها وتوقفه عليه كتوقف وجودها على إيجاده فكما أنها ليس لها
من ذاتها كمال الوجود فليس لها من ذاتها إلا العدم عدم الذات وعدم الكمال فهناك تقول حقا "أبوء لك بنعمتك على وأبوء بذنبي".
ثم تقايس بين الحسنات والسيئات فتعلم بهذه المقايسة أيهما أكثر وأرجح قدرا وصفة.
وهذه المقايسة الثانية مقايسة بين أفعالك وما منك خاصة.
قال: "وهذه المقايسة تشق على من ليس له ثلاثة أشياء نور الحكمة وسوء الظن بالنفس وتمييز النعمة من الفتنة".
يعني أن هذه المقايسة والمحاسبة تتوقف على نور الحكمة وهو النور الذي نور الله به قلوب أتباع الرسل وهو نور الحكمة فبقدره ترى التفاوت وتتمكن من المحاسبة.(1/111)
ونور الحكمة ههنا: هو العلم الذي يميز به العبد بين الحق والباطل والهدى والضلال والضار والنافع والكامل والناقص والخير والشر ويبصر به مراتب الأعمال راجحها ومرجوحها ومقبولها ومردودها وكلما كان حظه من هذا النور أقوى كان حظه من المحاسبة أكمل وأتم.
وأما سوء الظن بالنفس : فإنما احتاج إليه لأن حسن الظن بالنفس يمنع من كمال التفتيش ويلبس عليه فيرى المساويء محاسن والعيوب كمالا فإن المحب يرى مساويء محبوبه وعيوبه كذلك.
فعين الرضا عن كل عيب كليلة كما أن عين السخط تبدي المساويا
ولا يسيء الظن بنفسه إلا من عرفها ومن أحسن ظنه بنفسه فهو من أجهل الناس بنفسه.
وأما تمييز النعمة من الفتنة فليفرق بين النعمة التي يرى بها الإحسان واللطف ويعان بها على تحصيل سعادته الأبدية وبين النعمة التي يرى بها الاستدراج فكم من مستدرج بالنعم وهو لا يشعر مفتون بثناء الجهال عليه مغرور بقضاء الله حوائجه وستره عليه وأكثر الخلق عندهم أن هذه الثلاثة علامة السعادة والنجاح ذلك مبلغهم من العلم.
فإذا كملت هذه الثلاثة فيه عرف حينئذ أن ما كان من نعم الله عليه بجمعه على الله فهو نعمة حقيقة وما فرقه عنه وأخذه منه فهو البلاء في صورة النعمة والمحنة في صورة المنحة فليحذر فإنما هو مستدرج ويميز بذلك أيضا بين المنة والحجة فكم تلتبس إحداهما عليه بالأخرى!.
فإن «العبد بين مِنَّةٍ من الله عليه وحجةٍ مِنْه عليه» ولا ينفك عنهما فالحكم الديني متضمن لمنته وحجته قال تعالى {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ}[ آل عمران : 164] وقال تعالى {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ} [ الحجرات : 17]
وقال تعالى :{فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ}[ الأنعام : 149].(1/112)
والحكم الكوني أيضا متضمن لمنته وحجته فإذا حكم له كونا حكما مصحوبا باتصال الحكم الديني به فهو مِنَّة عليه وإن لم يصحبه الديني فهو حجة مِنْه عليه.
وكذلك حكمه الديني إذا اتصل به حكمه الكوني فتوفيقه للقيام به منة منه عليه وإن تجرد عن حكمه الكوني صار حجة منه عليه فالمنة: باقتران أحد الحكمين بصاحبه والحجة في تجرد أحدهما عن الآخر فكل علم صحبه عمل يرضى الله سبحانه فهو منة وإلا فهو حجة.
وكل قوة ظاهرة وباطنة صحبها تنفيذ لمرضاته وأوامره فهي منة وإلا فهي حجة.
وكل حال صحبه تأثير في نصرة دينه والدعوة إليه فهو منة منه وإلا فهو حجة.
وكل مال اقترن به إنفاق في سبيل الله وطاعته لا لطلب الجزاء ولا الشكور فهو منة من الله عليه وإلا فهو حجة.
وكل فراغ اقترن به اشتغال بما يريد الرب من عبده فهو منة عليه وإلا فهو حجة.
وكل قبول في الناس وتعظيم ومحبة له اتصل به خضوع للرب وذل وانكسار ومعرفة بعيب النفس والعمل وبذل النصيحة للخلق فهو منة وإلا فهو حجة.
وكل بصيرة وموعظة وتذكير وتعريف من تعريفات الحق سبحانه إلى العبد اتصل به عبرة ومزيد في العقل ومعرفة في الإيمان فهي منة وإلا فهي حجة.
وكل حال مع الله تعالى أو مقام اتصل به السير إلى الله وإيثار مراده على مراد العبد فهو منة من الله وإن صحبه الوقوف عنده والرضا به وإيثار مقتضاه من لذة النفس به وطمأنيتها إليه وركونها إليه فهو حجة من الله عليه.
فليتأمل العبد هذا الموضع العظيم الخطر ويميز بين مواقع المنن والمحن والحجج والنعم فما أكثر ما يلتبس ذلك على خواص الناس وأرباب السلوك 2:213 {وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}[ البقرة : 213].
الركن الثاني من أركان المحاسبة :
وهي أن تميز ما للحق عليك من وجوب العبودية والتزام الطاعة واجتناب المعصية وبين ما لك وما عليك فالذي لك: هو المباح الشرعي فعليك حق ولك حق فأد ما عليك يؤتك ما لك.(1/113)
ولا بد من التمييز بين ما لك وما عليك وإعطاء كل ذي حق حقه.
وكثير من الناس يجعله كثيرا مما عليه من الحق من قسم ماله فيتحير بين فعله وتركه وإن فعله رأى أنه فضل قام به لاحق أداه.
وبإزاء هؤلاء من يرى كثيرا مما له فعله وتركه من قسم ما عليه فعله أو تركه فيتعبد بترك ما له فعله كترك كثير من المباحات ويظن ذلك حقا عليه أو يتعبد بفعل ما له تركه ويظن ذلك حقا عليه.
مثال الأول: من يتعبد بترك النكاح أو ترك أكل اللحم أو الفاكهة مثلا أو الطيبات من المطاعم والملابس ويرى لجهله أن ذلك مما عليه فيوجب على نفسه تركه أو يرى تركه من أفضل القرب وأجل الطاعات وقد أنكر النبي صلى الله عليه وسلم على من زعم ذلك ففي الصحيح "أن نفرا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم سألوا عن عبادته في السر؟ فكأنهم تقالوها فقال أحدهم: أما أنا فلا آكل اللحم وقال الآخر أما أنا فلا أتزوج النساء وقال الآخر أما أنا فلا أنام على فراش فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم مقالتهم فخطب وقال: ما بال أقوام يقول أحدهم: أما أنا فلا آكل اللحم ويقول الآخر أما أنا فلا أتزوج ويقول الآخر: أما أنا فلا أنام على فراش؟ لكني أتزوج النساء وآكل اللحم وأنام وأقوم وأصوم وأفطر فمن رغب عن سنتي فليس مني" فتبرأ ممن رغب عن سنته وتعبد لله بترك ما أباحه لعباده من الطيبات رغبة عنه واعتقادا أن الرغبة عنه وهجره عبادة فهذا لم يميز بين ما عليه وما له.
ومثال الثاني : من يتعبد بالعبادات البدعية التي يظنها جالبة للحال والكشف والتصرف ولهذه الأمور لوازم لا تحصل بدونها البتة فيتعبد بالتزام تلك اللوازم فعلا وتركا ويراها حقا عليه وهي حق له وله تركها كفعل الرياضات والأوضاع التي رسمها كثير من السالكين بأذواقهم ومواجيدهم واصطلاحاتهم من غير تمييز بين ما فيها من حظ العبد والحق الذي عليه فهذا لون وهذا لون.
(ومن أركان المحاسبة: ما ذكره صاحب المنازل فقال:(1/114)
"الثالث أن تعرف أن كل طاعة رضيتها منك فهي عليك وكل معصية عيرت بها أخاك فهي إليك".
رضاء العبد بطاعته دليل على حسن ظنه بنفسه وجهله بحقوق العبودية وعدم عمله بما يستحقه الرب جل جلاله ويليق أن يعامل به.
وحاصل ذلك: أن جهله بنفسه وصفاتها وآفاتها وعيوب عمله وجهله بربه وحقوقه وما ينبغي أن يعامل به يتولد منهما رضاه بطاعته وإحسان ظنه بها ويتولد من ذلك: من العجب والكبر والآفات ما هو أكبر من الكبائر الظاهرة من الزنا وشرب الخمر والفرار من الزحف ونحوها.
«فالرضا بالطاعة من رعونات النفس وحماقتها».
«وأرباب العزائم والبصائر أشد ما يكونون استغفارا عقيب الطاعات لشهودهم تقصيرهم فيها وترك القيام لله بها كما يليق بجلاله وكبريائه» وأنه لولا الأمر لما أقدم أحدهم على مثل هذه العبودية ولا رضيها لسيده.
وقد أمر الله تعالى وفده وحجاج بيته بأن يستغفروه عقيب إفاضتهم من عرفات وهو أجل المواقف وأفضلها فقال 2:198، 199 {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ، ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[ البقرة / 198،199] وقال تعالى {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ}[ آل عمران : 17](1/115)
قال الحسن: "مدوا الصلاة إلى السحر ثم جلسوا يستغفرون الله عز وجل" وفي الصحيح "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سلم من الصلاة استغفر ثلاثا ثم قال: اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام" وأمره الله تعالى بالاستغفار بعد أداء الرسالة والقيام بما عليه من أعبائها وقضاء فرض الحج واقتراب أجله فقال في آخر سورة أنزلت عليه {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ، وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً}.
ومن ههنا فهم عمر وابن عباس رضي الله عنهم أن هذا أجَلُ رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه به فأمره أن يستغفره عقيب أداء ما كان عليه «فكأنه إعلام بأنك قد أديت ما عليك ولم يبق عليك شيء فاجعل خاتمته الاستغفار» كما كان خاتمة الصلاة والحج وقيام الليل وخاتمة الوضوء أيضا أن يقول بعد فراغه "سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين".
(الأسباب المعينة على محاسبة النفس :
هناك أسباب تعين الإنسان على محاسبة نفسه وتسهل عليه ذلك منها:
(1) معرفته أنه كلما اجتهد في محاسبة نفسه اليوم استرح من ذلك غداً، وكلما أهملها اليوم اشتد عليه الحساب غداً.
(2) معرفته أن ربح محاسبة النفس ومراقبتها هو سكنى الفردوس، والنظر إلى وجه الرب سبحانه، ومجاورة الأنبياء والصالحين وأهل الفضل.
(3) النظر فيما يؤول إليه ترك محاسبة النفس من الهلاك والدمار، ودخول النار والحجاب عن الرب تعالى ومجاورة أهل الكفر والضلال والخبث.
(4) صحبة الأخيار الذين يحاسبون أنفسهم ويطلعونه على عيوب نفسه، وترك صحبة من عداهم.
(5) النظر في أخبار أهل المحاسبة والمراقبة من سلفنا الصالح.
(6) زيارة القبور والتأمل في أحوال الموتى الذين لا يستطيعون محاسبة أنفسهم أو تدرك ما فاتهم.(1/116)
(7) حضور مجالس العلم والوعظ والتذكير فإنها تدعو إلى محاسبة النفس.
(8) قيام الليل وقراءة القرآن والتقرب إلى الله تعالى بأنواع الطاعات.
(9) البعد عن أماكن اللهو والغفلة فإنها تنسي الإنسان محاسبة نفسه.
(10) ذكر الله تعالى ودعاؤه بأن يجعله من أهل المحاسبة والمراقبة، وأن يوفقه لكل خير.
(11) سوء الظن بالنفس ومقتها في جنب الله تعالى ، فإن حسن الظن بالنفس ينسي محاسبة النفس، وربما رأى الإنسان ـ بسب حسن ظنه بنفسه ـ عيوبه ومساوئه كمالاً.
( فصلٌ في منزلة التوبة :
[*](عناصر الفصل :
(تعريف التوبة :
(الفرق بين التوبة والاستغفار :
(العلاقة بين المحاسبة والتوبة :
(ذم تسويف التوبة :
(كلنا ذوو خطأ :
(أين طريق النجاة ؟
(الترغيب في التوبة :
(حاجتنا إلى التوبة على الدوام :
(باب التوبة مفتوح :
(أجناس الذنوب التي يُتَابُ منها :
(تقسيم الذنوب :
( كيف ينظر الإنسان إلى الذنب :
(ماهية الصغائر والكبائر :
(خطر الاستهانة بالصغائر :
(الفرق بين تكفير السيئات ومغفرة الذنوب :
(كيفية التوبة؟
( كيفية التوبة من بعض الكبائر الشائعة :
(شروط التوبة الصادقة:
(توبة العبد محفوفة بتوبتين من الله سابقة ولاحقة :
(مبدأ التوبة ومنتهاها :
(علامات قبول التوبة :
(فضل الله تعالى على التائب العائد :
(منزلة التوبة في الدين :
(التوبة النصوح :
(فضائل التوبة :
(أسرار التوبة ولطائفها :
(أمور تعين على التوبة :
(أخطاء في باب التوبة :
(مسائلٌ هامة في التوبة :
(التوبة طريق السعادة :
(من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه :
(أروع القصص للتائبين :
(توبةُ الأمة :
(نظرة في حال المجتمعات البعيدة :
وهاك تفصيلَ ذلك في إيجازٍ غيرِ مُخِّل : (
(تعريف التوبة :
[*] قال الإمام النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم :
أصل التوبة في اللغة الرجوع، يقال تاب وثاب بالمثلثة وآب بمعنى رجع، والمراد بالتوبة هنا الرجوع عن الذنب . أهـ(1/117)
والتوبة هي : رجوعُ العبد إلى ربه تعالى ومفارقته لصراط المغضوب عليهم والضالين ، هي الرجوع عما يكرهه الله ظاهراً وباطناً الى ما يحبه الله ظاهراً وباطناً.. وهي اسم جامع لشرائع الإسلام وحقائق الإيمان.. هي الهداية الواقية من اليأس والقنوط، هي الينبوع الفياض لكل خير وسعادة في الدنيا والآخرة... هي ملاك الأمر، ومبعث الحياة، ومناط الفلاح... هي أول المنازل وأوسطها وآخرها... هي بداية العبد ونهايته... هي ترك الذنب مخافة الله، واستشعار قبحه، والندم على فعله، والعزيمة على عدم العودة إليه إذا قدر عليه... هي شعور بالندم على ما وقع، وتوجه الى الله فيما بقي، وكف عن الذنب.
[*](وقال ابن القيم في تعريف التوبة: فحقيقة التوبة هي الندم على ما سلف منه في الماضي، والإقلاع عنه في الحال، والعزم على ألا يعاوده في المستقبل (1) .
(وقال أيضاً: حقيقة التوبة الرجوع إلى الله بالتزام فعل ما يحب، وترك ما يكره؛ فهي رجوع من مكروه إلى محبوب؛ فالرجوع إلى المحبوب جزء مسماها، والرجوع عن المكروه الجزء الآخر (2) .
(وقال أيضاً: التوبة هي الرجوع مما يكرهه الله ظاهراً وباطناً إلى ما يحبه ظاهراً وباطناً (3) .
{ تنبيه } :(التوبة تكون من الله على العبد، ومن العبد إلى الله؛ فإذا كانت من الله عُدِّيت بعلى، وإذا كانت من العبد إلى الله عديت بإلى.
قال تعالى : (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً) [ النساء: 17].
وقال تعالى :(وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [ النور:31]
__________
(1) مدارج السالكين لابن القيم 1/199.
(2) مدارج السالكين 1/313.
(3) مرجع سابق.(1/118)
وقال تعالى : (وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَاباً) [ الفرقان: 71]
(الفرق بين التوبة والاستغفار :
مسألة : ما الفرق بين التوبة والاستغفار ؟.
(التوبة : تتضمن أمراً ماضياً وحاضراً ومستقبلاً ، فالندم على الماضي والإقلاع عن الذنب في الحاضر والعزم على عدم العودة في المستقبل .
(والاستغفار : طلب المغفرة ، وأصله : ستر العبد فلا ينفضح ، ووقايته من شر الذنب فلا يُعاقب عليه ، فمغفرة الله لعبده تتضمن أمرين : ستره فلا يفضحه ، ووقايته أثر معصيته فلا يؤاخذ عليها ، وبهذا يعلم أن بين الاستغفار والتوبة فرقاً ، فقد يستغفر العبد ولم يتب كما هو حال كثير من الناس ، لكن التوبة تتضمن الاستغفار .
(العلاقة بين المحاسبة والتوبة :
[*](قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين :
فإنه إذا عرف ما له وما عليه أخذ في أداء ما عليه والخروج منه وهو (التوبة).
وصاحب المنازل قدم التوبة على المحاسبة ووجه هذا: أنه رأى (التوبة) أول منازل السائر بعد يقظته ولا تتم التوبة إلا بالمحاسبة فالمحاسبة تكميل مقام التوبة فالمراد بالمحاسبة الاستمرار على حفظ التوبة حتى لا يخرج عنها وكأنه وفاء بعقد التوبة.
مسألة : ما مدى حسن الترتيب في جعل منزلة التوبة بعد منزلة المحاسبة ؟
[*](قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين :
فإذا صح هذا المقام ونزل العبد في هذه المنزلة أشرف منها على (مقام التوبة) لأنه بالمحاسبة قد تميز عنده ماله مما عليه فليجمع همته وعزمه على النزول فيه والتشمير إليه إلى الممات .
(ذم تسويف التوبة :
(إلى كم تماطلون بالعمل، و تطمعون في بلوغ الأمل، وتغترّون بفسحة المهل، ولا تذكرون هجوم الأجل ؟ ما ولدتم فللتراب، وما بنيتم للخراب، وما جمعتم فللذهاب، وما عملتم ففي كتاب مدّخر ليوم الحساب .(1/119)
( يا أخي كم من يوم قطعته بالتسويف ؟ وأضعت فيه التكليف، وكم من أذنٍ لا يردعها التخويف ؟ . أما اعتبرت بمن رحل أما وعظتك العبر أما كان لك سمعٌ ولا بصر .
(يا بطال، إلى كم تؤخر التوبة وما أنت في التأخير بمعذور ؟ إلى متى يقال عنك : مفتون ومغرور ؟ يا مسكين، قد انقضت أشهر الخير وأنت تعد الشهور ؟ أترى مقبول أنت أم مطرود ؟ أترى مواصل أنت أم مهجور ؟ أترى تركب النجب غدًا أم أنت على وجهك مجرور ؟ أترى من أهل الجحيم أنت أم من أرباب النعيم والقصور . فاز والله المخفون، وخسر هنالك المبطلون، ألا إلى الله تصير الأمور .
( يا من سوّف بالمتاب حتى شاب ، يا من ضيّع في الغفلة أيام الشباب، يا مطرودًا بذنوبه عن الباب، إذا كنت في الشباب غافلًا، في المشيب مسوّفًا، متى تقف بالباب ؟ كم عوملت على الوفاء ؟ ما هكذا فعل الأحباب، الظاهر منك عامر، والباطن ويحك، خراب، كم عصيان كم مخالفة، كم رياء , كم حجاب ؟ ولّى طيب العمر في الخطايا، يا ترى تعود إلى الصواب ؟ .
ما بعد الشيب لهو، كيف يجمل بالشيخ التصاب ؟ أنت لو قدمت في متقادم عمرك الطاعة، لخفف عنك الحساب . كيف والعمر ولى في الغفلة وفي طلب الأسباب ؟ إذا أنذرك المشيب بالرحلة، ولم تقدّم الزاد ماذا يكون الجواب .
(ولله درُ من قال :
ولو أننا إذا متنا تركنا ... لكان الموت راحة كل حيّ
ولكنّـ إذا متنا بعثنا ... ونُسأل بعدها عن كل شيء(1/120)
(يا من نسي العهد القديم وخان ، من الذي سواك في صورة الإنسان من الذي غذاك في أعجب مكان ، من الذي بقدرته استقام الجثمان الذي بحكمته أبصرت العينان ،من الذي بصنعته سمعت الأذنان ،من الذي وهب العقل فاستبان للرشد وبان ، من الذي بارزته بالخطايا وهو يستر العصيان ، مَنِ الذي تركت شكره فلم يؤاخذ بالكفران ، إلى كم تخالفه وما يصبر على الخلاف الأبوان ، وتعامله بالغدر الذي لا يرضاه الإخوان ، وتنفق في خِلافه ما عَزَّ وهان ، ولو علم الناس منك ما يعلم : ما جالسوك في مكان ، فارجع إليَّه ما دمت في زمن الإمكان ، وتب إليه فإنه الرحيم الرحمن ، عساه أن يعفو عما سلف وكان من الذنوب والعصيان .
( مجلس التوبة مأتم الأحزان : هذا يبكي لذنوبه وهذا يندب لعيوبه وهذا على فوت مطلوبه وهذا لإعراض محبوبه ، ما أحسنَ الخشوع والخضوع والبكاء وجريان الدموع في التوبة والرجوع .
[*](قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه اللطائف :
إذا خرجت القلوب بالتوبة من حصر الهوى إلى بيداء التفكر جرت خيول الدموع في حلبات الوجد كالمرسلات عرفا .
إذا استقام زرع الفكر قامت العبرات تسقي ونهضت الزفرات تحصد ودارت رحى التحير تطحن واضطرمت نيران القلق فحصلت للقلوب ملة تتقوتها في سفر الحب .
[*](وأورد الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في بحر الدموع عن المزني، قال : دخلت على الشافعي رضي الله عنه في علته التي مات منها، فقلت له : كيف أصبحت ؟ قال : أصبحت في الدنيا راحلًا، وللإخوان مفارقًا، ولكأس المنيّة شاربًا، ولسوء عملي ملاقيًا، وعلى الله واردًا، فلا أدري : أروحي تصير إلى الجنة فأهنيها، أم إلى النار فأعزيها ؟ ثم بكى وأنشأ يقول :
ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي ... جعلت الرجا مني لعفوك سلما
تعاظمني ذنبي فلما قرنته ... بعفوك ربي كان عفوك أعظما
فما زلت ذا عفو من الذنب ولم تزل ... تجود وتعفو منّة وتكرّما
فلولاك لم ينجو من إبليس عابد ... وكيف وقد أغوى صفيّك آدما(1/121)
إخواني : بادروا بالتوبة من الذنوب، واقتفوا آثار التوّابين، واسلكوا مسالك الأوّابين، الذين نالوا التوبة والغفران، وأتعبوا أنفسهم في رضا الرحمن، فلو رأيتهم في ظُلَمِ الليالي قائمين، ولكتاب ربهم تالين، بنفوسٍ خائفة، وقلوبٍ واجفة، قد وضعوا جباههم على الثرى ورفعوا حوائجهم لمن يَرَى ولا يُرَى :
(ولله درُ من قال :
أتيتك راجيًا يا ذا الجلال ... ففرّج ما ترى من سوء حالي
عصيتك سيّدي ويلي بجهلي ... وعيب الذنب لم يخطر ببالي
إلى من يشتكي المملوك إلا ... إلى مولاه يا مولى الموالي
فويلي ليت أمي لم تلدني ... ولا أعصيك في ظلم الليالي
وها أنا ذا عبيدك عبد سوء ... ببابك واقف يا ذا الجلال
فإن عاقبت يا ربي فإني ... محق بالعذاب وبالنكال
وإن تعفو فعفوك أرتجيه ... ويحسن إن عفوت قبيح حالي
( معاشر التائبين : تعالوا نبكي على الذنوب فهذا مأتم الحزان، تعالوا نسكب المدامع . ونشتكي الهجران، لعل زمان الوصال يعود كما كان .
هذا بياض الشيب ينذر بخراب الأوطان، يا من تخلف حتى شاب، وقد رحلت الأظعان .
يا تائهًا في تيه التخلف، يا حائرًا في بريّة الحرمان، نهارك في الأسباب، وليلك في الرقاد، هذه الخسارة عيان، إذا ولى الشباب ولم يربح، ففي الشباب حتى ذبل من معاصي الرحمن، فعند إقبال المشيب، ندمت على ما قد كان . إن لم يشاهدك رفيق التوفيق، وإلا ففي الحرمان حرمان . وقد يرحم المولى من ضعف عن الأسباب { يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ } [ الرعد 39 ] .
(ولله درُ من قال :
أيا نفس توبي قبل أن ينكشف الغطا ... وأدعى إلى يوم النشور وأجزع
فلله عبد خائف من ذنوبه ... تكاد حشاه من أسى تتقطع
إذا جنّه الليل البهيم رأيته ... وقد قام في محرابه يتضرّع
ينادي بذل يا إلهي وسيدي ... ومن يهرب العاصي إليه ويفزع
قصدتك يا سؤلي ومالي مشفع ... سوى حسن ظني حين أرجو وأطمع
فجد لي بعفو وامح ذنبي ونجّني ... من النار يا مولى يضرّ وينفع(1/122)
بهذا ينال الملك والفوز في غد ... ويجزى نعيمًا دائمًا ليس يقطع
(كلنا ذوو خطأ :
سبحان الرحيم التوَّاب الفاتح للمستغفرين الأبواب، والميسر للتائبين الأسباب، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. أما بعد:
أخي الحبيب: أكثر الناس لا يعرفون قدر التوبة ولا حقيقتها فضلاً عن القيام بها علماً وعملاً. وإذا عرفوا قدرها فهم لا يعرفون الطريق إليها، وإذا عرفوا الطريق فهم لا يعرفون كيف يبدءون؟
فتعال معي أخي الحبيب لنقف على حقيقة التوبة، والطريق إليها عسى أن نصل إليها.
كلنا ذوو خطأ
أخي الحبيب:
كلنا مذنبون... كلنا مخطئون.. نقبل على الله تارة وندبر أخرى، نراقب الله مرة، وتسيطر علينا الغفلة أخرى، لا نخلو من المعصية، ولا بد أن يقع منا الخطأ، فلست أنا و أنت بمعصومين ، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد ، ودرر الفرائد . (
( حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ .
[*] قال العلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:(1/123)
( كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ ) أَيْ كَثِيرُ الْخَطَأِ أَفْرَدَ نَظَرًا إِلَى لَفْظِ الْكُلِّ، وَفِي رِوَايَةٍ خَطَّاءُونَ نَظَرًا إِلَى مَعْنَى الْكُلِّ، قِيلَ أَرَادَ الْكُلَّ مِنْ حَيْثُ هُوَ كُلٌّ أَوْ كُلَّ وَاحِدٍ. وَأَمَّا الْأَنْبِيَاءُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فَإِمَّا مَخْصُوصُونَ عَنْ ذَلِكَ، وَإِمَّا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ صَغَائِرَ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى فَإِنَّ مَا صَدَرَ عَنْهُمْ مِنْ بَابِ تَرْكِ الْأَوْلَى، أَوْ يُقَالُ: الزَّلَّاتُ الْمَنْقُولَةُ عَنْ بَعْضِهِمْ الجزء السابع مَحْمُولَةٌ عَلَى الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ قَصْدٌ إِلَى الْعِصْيَانِ قَالَهُ الْقَارِي
( وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ ) أَيِ الرَّجَّاعُونَ إِلَى اللَّهِ بِالتَّوْبَةِ مِنَ الْمَعْصِيَةِ إِلَى الطَّاعَةِ. أهـ
والسهو والتقصير من طبع الإنسان، ومن رحمة الله بهذا الإنسان الضعيف أن يفتح له باب التوبة، وأمره بالإنابة إليه، والإقبال عليه، كلما غلبته الذنوب ولوثته المعاصي.. ولولا ذلك لوقع الإنسان في حرج شديد، وقصرت همته عن طلب التقرب من ربه، وانقطع رجاؤه من عفوه ومغفرته.
(أين طريق النجاة ؟
قد تقول لي: إني أطلب السعادة لنفسي، وأروم النجاة، وأرجو المغفرة، ولكني أجهل الطريق إليها، ولا أعرف كيف ابدأ؟ فأنا كالغريق يريد من يأخذ بيده، وكالتائه يتلمس الطريق وينتظر العون، وأريد بصيصاً من أمل، وشعاعاً من نور. ولكن أين الطريق؟(1/124)
والجواب : أن الطريق أخي الحبيب واضح كالشمس، ظاهر كالقمر، واحد لا ثاني له... إنه طريق التوبة.. طريق النجاة، طريق الفلاح ، سُلَّمُ الوصول ومنهاج القاصدين .. طريق سهل ميسور، مفتوح أمامك في كل لحظة، ما عليك إلا أن تطرقه، وستجد الجواب: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى [طه:82]. بل إن الله تعالى دعا عباده جميعاً مؤمنهم وكافرهم الى التوبة، وأخبر أنه سبحانه يغفر الذنوب جميعاً لمن تاب منها ورجع عنها مهما كثرت، ومهما عظمت، وإن كانت مثل زبد البحر، فقال سبحانه: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53]
(الترغيب في التوبة :
أخي الكريم.. أختي الكريمة.. قوافل التائبين تسير.. وجموعُ المنيبين تُقبل وبابُ التوبة مفتوح.. ودعوة تتلى.. وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31].. دموع التائبين صادقة.. وقلوبهم منخلعة، يخافون يوماً تتقلبُ فيه القلوبُ والأبصارُ..
[*] قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: اجلسوا إلى التوابين فأنهم أرقُ أفئدةً.. .
أخي الكريم..أختي الكريمة.. لقد كان الفضيل بن عياض قاطعاً للطريق.. وكان يتعشقُ جاريةً.. فبينما هو ذات ليلة يتسور ُعليها الجدار إذ سمع قارئاً يقرأ قول الله جلَّ وعزَّ: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ [الحديد:16].. فأطرق ملياً.. ثم تذكر غدراته وذنوبه.. تذكر إسرافه.. فما كان منه إلا أن ذرف دموع التوبةِ من عينٍ ملؤها اليقينُ برحمة الله..، فتاب واقلع عما كان عليه حتى أصبح من أهل الخير والصلاح في زمنه.(1/125)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الفضل بن موسى قال كان الفضيل بن عياض شاطرا يقطع الطريق بين أبيورد وسرخس وكان سبب توبته أنه عشق جارية فبينا هو يرتقي الجدران إليها إذ سمع تاليا يتلو " (أَلَمْ يَأْنِ لِلّذِينَ آمَنُوَاْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللّهِ وَمَا ) [ الحديد : 16] " فلما سمعها قال بلى يا رب قد آن فرجع فآواه الليل إلى خربة فإذا فيها سابلة فقال بعضهم نرحل وقال بعضهم حتى نصبح فإن فضيلاً على الطريق يقطع علينا، قال : ففكرت وقلت أنا أسعى بالليل في المعاصي وقوم من المسلمين ها هنا يخافوني وما أرى الله ساقني إليهم إلا لأرتدع اللهم إني قد تبت إليك وجعلت توبتي مجاورة البيت الحرام .
قال الإمام الذهبي تعليقا على القصة :
وبكل حال : فالشرك أعظم من قطع الطريق ، وقد تاب من الشرك خلق صاروا أفضل الأمة ، فنواصي العباد بيد الله ، وهو يضل من يشاء ، ويهدي إليه من أناب .
واتق الله فتقوى الله ما ... جاورت قلبَ امرئٍ إلا وصل
ليس من يقطعُ طرقاً بطلاً ... إنما من يتقِ الله البطل
وبعد هذا.. أخي..أختي هل من مشمِّر؟!..هل من مشمر للتوبة؟!
شمر عسى أن ينفعَ التشميرُ *** وانظر بفكرك ماإليه تصيرُ
نعم.. هناك مشمرون.. ولكن إلى أين؟!
مسارعةٌ للخطى وتقويةٌ للعزائم وحثٌ للنفوس.. إنها خطوات في الطريق.. إلى هناك.. حيث الموقف العظيم.. ثم - برحمة الله - إلى روح وريحان ورب غير غضبان..
نستدرك بالتشمير إلى الخير تقصيرنا.. ونعوض بالسير القويم تكاسلنا وتأخرنا.. فهل من مشمر؟!
كل يوم في طريق.. وكل حين في سبيل.. خطوات متسارعة.. وقفزاتٌ متتابعة نسُدُّ الفُرَج ونُغلق الثُلَم..نحصنُ ديارنا.. ديار التوحيد.. فهل من مشمر؟!(1/126)
نداءٌ لمن تأخر عن الركب.. ولا يزال يرى القافلةَ تسيرُ إلى الخير.. هل من مشمر قبل الندم والبكاء؟! الله جلَّ وعزَّ يقول: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً [النور:31] فهل من مشمر؟! ويقول: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا [الزمر:53] فهل من مشمر؟!
شمر مادام البابُ مفتوحاً.. وعجل.. فَرُبَّ متمهل فاتتهُ حاجتهُ..
أخي.. أختي.. إن أمامكم أفقاً وآسعاً.. أفقاً جميلاً.. نعم إنه أفق رحمة الله.. أفق..التوبة.. إن التائب حبيبُ الله.. يقول جلَّ وعزَّ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ [البقرة:222] فهل من مشمر؟!
(ندموا على الذنوب فندبوا ، وسافروا إلى المطلوب فاغتربوا ، وسقوا غرس الخوف دمع الأسف وشربوا ، فإذا أقلقهم الحذر طاشوا وهربوا ، وإذا هب عليهم نسيم الرجاء عاشوا وطربوا، فتأمل أرباحهم وتلمح ما كسبوا ،
(نظروا إلى الدنيا بعين الاعتبار فعلموا أنها لا تصلح للقرار ، وتأملوا أساسها فإذا هو على شفا جرف هار ، فنغصوا بالصيام لذة الهوى بالنهار ، ولزموا الاستغفار بالأسحار .
(هجروا المنازل الأنيقة وفصموا عرى الهوى الوثيقة ، وباعوا الفاني بالباقي وكتبوا وثيقة ، وحملوا نجائب الصبر فوق ما هي له مطيقة ، وطلبوا الآخرة والله على الحقيقة .
(أبدانهم قلقي من الجوع والضرر ، وأجفانهم قد حالفت في الليل السهر ،ودموعهم تجري كما يجري دائمة المطر ، والقوم قد تأهبوا فهم على أقدام السفر ، عبروا عليكم ومروا لديكم وما عندكم خبر .
(لو تأملت دعواهم : يا رب سر بنا في سرب النجابة ووفقنا للتوبة والإنابة وافتح لأدعيتنا أبواب الإجابة يا من إذا سأله المضطر أجابه .
(رحم الله عبداً اقترف فاعترف ،ووجل فعمل ، وحاذر فبادر ،وعمر فاعتبر وأجاب فأناب ،وراجع فتاب ، وتزود لرحيله وتأهب لسبيله .(1/127)
(أين المعترف بما جناه ، أين المعتذر إلى مولاه ، أين التائب من خطاياه ،أين الآيب من سفر هواه ،نيران الاعتراف تأكل خطايا الاقتراف، مجانيق الزفرات تهدم حصون السيئات ، مياه الحسرات تغسل أنجاس الخطيئات ، يا طالب النجاة دم على قرع الباب ،وزاحم أهل التقى أولي الألباب .
(إذا تبت من ذنوبك ، فاندم على عيوبك ،وامح بدموعك قبيح مكتوبك، والبس جلباب الفرق وتضرع على باب القلق وقل بلسان المحترق.
(أوَمَا علمت أن مرض القلوب من الذنوب ، وأصل العافية أن تتوب ، وتقلع عن الإثم والحوب ، وترجع إلى علام الغيوب .
(حاجتنا إلى التوبة على الدوام :
إن التوبة وظيفة العمر، وبداية العبد ونهايته، وأول منازل العبودية، وأوسطها، وآخرها ، وحاجتنا إلى التوبة حاجةً ماسَّة ، بل إن ضرورتنا إليها مُلِحَّة؛ فنحن نذنب كثيراً، ونفرط في جنب الله ليلاً ونهاراً؛ فنحتاج إلى ما يصقل القلوب، وينقيها من رين الذنوب ، ثم إن كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون؛ فالعبرة بكمال النهاية لا بنقص البداية.
وإن من أعظم نعم الله عز وجل أن فتح باب التوبة، وجعله فجراً تبدأ معه رحلة العودة بقلوب منكسرة، ودموع منسكبة، وجباه خاضعة.
يقول الله جل وعلا: نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الحجر:49] ويقول الله عز وجل: إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [البقرة:222] ويقول تعالى حاثاً على التوبة والرجوع والأوبة: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31]
فباب التوبة مفتوح للكفار، والمشركين، والمرتدين، والمنافقين، والظالمين، والعصاة، والمقصرين.
وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد ، ودرر الفرائد . ((1/128)
( حديث أبي موسى رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:إن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها .
[*] قال الإمام النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم :
هذه الأحاديث ظاهرة في الدلالة لها، وأنه لو تكرر الذنب مائة مرة أو ألف مرة أو أكثر وتاب في كل مرة قبلت توبته وسقطت ذنوبه، ولو تاب عن الجميع توبة واحدة بعد جميعها صحت توبته.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
( إن اللّه تعالى يبسط يده بالليل ) أي فيه
( ليتوب مسيء النهار ) مما اجترح فيه وهو إشارة إلى بسط يد الفضل والإنعام لا إلى الجارحة التي هي من لوازم الأجسام فالبسط في حقه عبارة عن التوسع في الجود والتنزه عن المنع عند اقتضاء الحكمة
( ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل ) يعني يقبل التوبة من العصاة ليلاً ونهاراً أي وقت كان فبسط اليد عبارة عن قبول التوبة ومن قبل توبته فداه بأهل الأديان يوم القيامة كما مر ويجيء في خبر وفيه تنبيه على سعة رحمة اللّه وكثرة تجاوزه عن المذنبين ولا يزال كذلك
( حتى تطلع الشمس من مغربها ) فإذا طلعت منه غلق باب التوبة قال في المطامح : ومن أنكر طلوعها من مغربها كفر وسمعت عن بعض أهل عصرنا أنه ينكره نعوذ باللّه من الخذلان انتهى وأنت خبير بأن جزمه بالتكفير لا يكاد يكون صحيحاً سيما في حق العامة لأنه لم يبلغ مبلغ المعلوم من الدين بالضرورة ومجرد وروده في أخبار صحاح لا يوجب التكفير فتدبر .
(وهذا نبي الرحمة وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر كان يتوب في اليوم مائة مرة .
(حديث الأغرِّ المُزني في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : يا أيها الناس ! توبوا إلى الله واستغفروه فإني أتوب إلى الله في اليوم مائة مرة .
[*] قال الإمام النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم :(1/129)
قوله صلى الله عليه وسلم: "يا أيها الناس توبوا إلى الله فإني أتوب في اليوم مائة مرة" هذا الأمر بالتوبة موافق لقوله تعالى: ( وَتُوبُوَاْ إِلَى اللّهِ جَمِيعاً أَيّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ) [النور:31] وقوله تعالى: (يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ تُوبُوَاْ إِلَى اللّهِ تَوْبَةً نّصُوحاً ) [التحريم : 8] وقد سبق في الباب قبله بيان سبب استغفاره وتوبته صلى الله عليه وسلم ونحن إلى الاستغفار والتوبة أحوج. قال أصحابنا وغيرهم من العلماء: للتوبة ثلاثة شروط: أن يقلع عن المعصية، وأن يندم على فعلها، وأن يعزم عزما جازما أن لا يعود إلى مثلها أبدا، فإن كانت المعصية تتعلق بآدمي فلها شرط رابع وهو رد الظلامة إلى صاحبها أو تحصيل البراءة منه، والتوبة أهم قواعد الإسلام وهي أول مقامات سالكي طريق الاَخرة.
(حديث الأغرِّ المُزني في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إِنّهُ لَيُغَانُ عَلَىَ قَلْبِي. وَإِنّي لأَسْتَغْفِرُ اللّهَ، فِي الْيَوْمِ، مِائَةَ مَرّةٍ".
[*] قال الإمام النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم :(1/130)
قوله صلى الله عليه وسلم: "أنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة" قال أهل اللغة: الغين بالغين المعجمة والغيم بمعنى، والمراد هنا ما يتغشى القلب، قال القاضي: قيل المراد الفترات والغفلات عن الذكر الذي كان شأنه الدوام عليه، فإذا فتر عنه أو غفل عد ذلك ذنبا واستغفر منه، قال: وقيل هو همه بسبب أمته وما أطلع عليه من أحوالها بعده فيستغفر لهم، وقيل سببه اشتغاله بالنظر في مصالح أمته وأمورهم ومحاربة العدو ومداراته وتأليف المؤلفة ونحو ذلك، فيشتغل بذلك من عظيم مقامه فيراه ذنبا بالنسبة إلى عظيم منزلته، وإن كانت هذه الأمور من أعظم الطاعات وأفضل الأعمال فهي نزول عن عالي درجته ورفيع مقامه من حضوره مع الله تعالى ومشاهدته ومراقبته وفراغه مما سواه فيستغفر لذلك ، وقيل: يحتمل أن هذا الغين هو السكينة التي تغشى قلبه لقوله تعالى: {فأنزل السكينة عليهم} ويكون استغفاره إظهارا للعبودية وإِلافتقار وملازمة الخشوع وشكرا لما أولاه، وقد قال المحاشي: خوف الأنبياء والملائكة خوف إعظام وإن كانوا آمنين عذاب الله تعالى. وقيل: يحتمل أن هذا الغين حال خشية وإعظام يغشى القلب ويكون استغفاره شكرا كما سبق، وقيل هو شيء يعتري القلوب الصافية مما تتحدث به النفس فهو شها والله أعلم.
(باب التوبة مفتوح :
لقد فتح الله بجوده وكرمه باب التوبة؛ حيث أمر بها، وحض عليها، ووعد بقبولها، سواء كانت من الكفار أو المشركين، أو المنافقين أو المرتدين، أو الطغاة، أو الملاحدة، أو الظالمين، أو العصاة المقصرين .
ومن خلال ما يلي يتبين لنا شيء من فضل الله عز وجل في فتح باب التوبة.
(1) أن الله تعالى أمر بالتوبة: قال تعالى :(وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ) [الزمر: 54](1/131)
[*](قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: أي ارجعوا إلى الله، واستسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون أي بادروا بالتوبة والعمل الصالح قبل حلول النقمة (1) .
(2) أن الله وعد بقبول التوبة مهما عظمت الذنوب: قال تعالى : ( وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنْ السَّيِّئَاتِ) [الشورى: 25]
وقال تعالى : (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرْ اللَّهَ يَجِدْ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً) [ النساء: 110]
وقال تعالى في حق المنافقين: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (145) إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا ) [النساء: 145،146]
وقال في شأن النصارى: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) [المائدة: 73]
ثم قال تعالى محرضاً لهم على التوبة:(أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) [ المائدة: 74]
وقال تعالى في حق أصحاب الأخدود الذين خدوا الأخاديد لتعذيب المؤمنين وتحريقهم بالنار: (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ ) [ البروج: 10]
[*](قال الحسن البصري رحمه الله : انظروا إلى هذا الكرم والجود؛ قتلوا أولياءه وهو يدعوهم إلى التوبة والمغفرة (2) .
__________
(1) تفسير ابن كثير 4/61_62.
(2) (2) تفسير ابن كثير4/60.(1/132)
(3) أن الله حذر من القنوط من رحمته: قال تعالى : ( قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) [ الزمر: 53]
[*](قال ابن كثير : قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية: قال: قد دعا الله تعالى إلى مغفرته من زعم أن المسيح هو الله، ومن زعم أن المسيح هو ابن الله، ومن زعم أن عزيراً ابن الله، ومن زعم أن الله فقير، ومن زعم أن يد الله مغلولة، ومن زعم أن الله ثالث ثلاثة، يقول الله عالى لهؤلاء: (أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [ المائدة:74]
ثم دعا إلى التوبة من هو أعظم قولاً من هؤلاء؛ من قال: (فَقَالَ أَنَاْ رَبّكُمُ الأعْلَىَ) [النازعات: 24] ، وقال: (مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي) [القصص: 38]
[*](قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : من آيس عباد الله من التوبة بعد هذا فقد جحد كتاب الله تعالى (1) .
[*](قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الآية السابقة،آية الزمر:المقصود بها النهي عن القنوط من رحمة الله تعالى وإن عظمت الذنوب وكثرت، فلا يحل لأحد أن يَقْنَط من رحمة الله، ولا أن يُقَنِّط الناس من رحمته؛ لذا قال بعض السلف: وإن الفقيه كل الفقيه الذي لا يؤيّس الناس من رحمة الله، ولا يجرؤهم على معاصي الله.
والقنوط يكون بأن يعتقد أن الله لا يغفر له إما لكونه إذا تاب لا يقبل توبته ويغفر ذنوبه، وإما بأن يقول : نفسه لا تطاوعه على التوبة بل هو مغلوب معها، والشيطان قد استحوذ عليه؛ فهو ييأس من توبة نفسه وإن كان يعلم أنه إذا تاب غفر الله له، وهذا يغري كثيراً من الناس (2) .
__________
(1)
(2) التوبة والاستغفار لابن تيمية تحقيق محمد الحجاجي وعبد الله بدران ص 27_28 وانظر الاستقامة لابن تيمية 2/190.(1/133)
(4) أن الله يبسط يده بالليل؛ ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار؛ ليتوب مسيء الليل: وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد ، ودرر الفرائد . (
( حديث أبي موسى رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:إن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها .
[*] قال الإمام النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم :
هذه الأحاديث ظاهرة في الدلالة لها، وأنه لو تكرر الذنب مائة مرة أو ألف مرة أو أكثر وتاب في كل مرة قبلت توبته وسقطت ذنوبه، ولو تاب عن الجميع توبة واحدة بعد جميعها صحت توبته.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
( إن اللّه تعالى يبسط يده بالليل ) أي فيه
( ليتوب مسيء النهار ) مما اجترح فيه وهو إشارة إلى بسط يد الفضل والإنعام لا إلى الجارحة التي هي من لوازم الأجسام فالبسط في حقه عبارة عن التوسع في الجود والتنزه عن المنع عند اقتضاء الحكمة
( ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل ) يعني يقبل التوبة من العصاة ليلاً ونهاراً أي وقت كان فبسط اليد عبارة عن قبول التوبة ومن قبل توبته فداه بأهل الأديان يوم القيامة كما مر ويجيء في خبر وفيه تنبيه على سعة رحمة اللّه وكثرة تجاوزه عن المذنبين ولا يزال كذلك
( حتى تطلع الشمس من مغربها ) فإذا طلعت منه غلق باب التوبة قال في المطامح : ومن أنكر طلوعها من مغربها كفر وسمعت عن بعض أهل عصرنا أنه ينكره نعوذ باللّه من الخذلان انتهى وأنت خبير بأن جزمه بالتكفير لا يكاد يكون صحيحاً سيما في حق العامة لأنه لم يبلغ مبلغ المعلوم من الدين بالضرورة ومجرد وروده في أخبار صحاح لا يوجب التكفير فتدبر .
(5) أن الله رتب الثواب الجزيل على التوبة: ووعد من تاب بالخير الكثير :(1/134)
قال تعالى : ( قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) [الزمر: 53]
وقال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ) [التحريم: 8]
وقال تعالى : (إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً) [ الفرقان: 70]
[*](قال ابن القيم رحمه الله في هذه الآية: وهذا من أعظم البشارة للتائبين إذا اقترن بتوبتهم إيمان وعمل صالح، وهو حقيقة التوبة.
(أجناس الذنوب التي يُتَابُ منها :
التوبة تكون من الذنوب صغيرها وكبيرها، ولا بد للتائب من معرفة ما يتاب منه ولو على سبيل الإجمال.
[*](قال الغزالي رحمه الله تعالى : اعلم أن التوبة ترك الذنب، ولا يمكن ترك شيء إلا بعد معرفته.
وإذا كانت التوبة واجبة كان ما لا يتوصل إليها إلا به واجباً؛ فمعرفة الذنوب إذاً واجبة، والذنب عبارة عن كل ما هو مخالف لأمر الله تعالى في ترك أو فعل.
وتفصيل ذلك يستدعي شرح التكليفات من أولها إلى آخرها، وليس ذلك من غرضنا، ولكننا نشير إلى مجامعها، وروابط أقسامها، والله الموفق للصواب برحمته (1) .
ثم شرع في بيان أقسام الذنوب (2) .
وعقد ابن القيم في مدارج السالكين فصلاً قال فيه: فصل في أجناس ما يتاب منه.
(ثم قال رحمه الله تعالى :
أجناس ما يتاب منه ولا يستحق العبد اسم (التائب) حتى يتخلص منها.
__________
(1) إحياء علوم الدين 4/16.
(2) انظر إحياء علوم الدين 4/16_22.(1/135)
وهى اثنا عشر جنسا مذكورة في كتاب الله عز وجل هي أجناس المحرمات: «الكفر» و«الشرك» و«النفاق» و«الفسوق» و«العصيان» و«الإثم» و«العدوان» و«الفحشاء» و«المنكر» و«البغي» و«القول على الله بلا علم» و«اتباع غير سبيل المؤمنين».
فهذه الاثنا عشر جنسا عليها مدار كل ما حرم الله وإليها انتهاء العالم بأسرهم إلا أتباع الرسل صلوات الله وسلامه عليهم وقد يكون في الرجل أكثرها وأقلها أو واحدة منها وقد يعلم ذلك وقد لا يعلم.
فالتوبة النصوح: هي بالتخلص منها والتحصن والتحرز من مواقعتها وإنما يمكن التخلص منها لمن عرفها.
مسألة : ما هو الكفر ؟
[*](قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين :
فأما (الكفر) فنوعان: كفر أكبر وكفر أصغر.
فالكفر الأكبر: هو الموجب للخلود في النار.
والأصغر: موجب لاستحقاق الوعيد دون الخلود كما في قوله تعالى وكان مما يتلى فنسخ لفظه: {لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم}
(ثم ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله الأحاديث الآتي :
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :
اثنتان في الناس هما بهم كفر الطعن في النسب والنياحة على الميت .
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيحي أبي داوود و الترمذي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من أتى كاهناً فصدقه بما يقول أو أتى امرأة حائضاً أو أتى امرأة في دبرها فقد برئ مما أُنزل على محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - .
(حديث أبي هريرة في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :من أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد .(1/136)
( حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض" وهذا تأويل ابن عباس وعامة الصحابة في قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}
(ثم قال رحمه الله تعالى :
قال ابن عباس: "ليس بكفر ينقل عن الملة بل إذا فعله فهو به كفر وليس كمن كفر بالله واليوم الآخر" وكذلك قال طاووس وقال عطاء: "هو كفر دون كفر وظلم دون ظلم وفسق دون فسق".
مسألة : ما هي أنواع الكفر الأكبر ؟
[*](قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين :
وأما الكفر الأكبر فخمسة أنواع:
«كفر تكذيب وكفر استكبار وإباء مع التصديق وكفر إعراض وكفر شك وكفر نفاق»
مسألة : ما هو كفر التكذيب ؟
[*](قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين :
فأما كفر التكذيب : فهو اعتقاد كذب الرسل وهذا القسم قليل في الكفار فإن الله تعالى أيد رسله وأعطاهم من البراهين والآيات على صدقهم ما أقام به الحجة وأزال به المعذرة قال الله تعالى عن فرعون وقومه {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّا}[النمل :14]
وقال لرسوله: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ}[الأنعام :33].
وإن سمي هذا كفر تكذيب أيضا فصحيح إذ هو تكذيب باللسان.
مسألة : ما هو كفر الإباء والاستكبار؟
[*](قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين :(1/137)
وأما كفر الإباء والاستكبار: فنحو كفر إبليس فإنه لم يجحد أمر الله ولا قابله بالإنكار وإنما تلقاه بالإباء والاستكبار ،ومن هذا كفر من عرف صدق الرسول وأنه جاء بالحق من عند الله ولم ينقد له إباء واستكبارا وهو الغالب على كفر أعداء الرسل كما حكى الله تعالى عن فرعون وقومه: {أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ} [المؤمنون : 47]
وقول الأمم لرسلهم : {إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا}[إبراهيم : 10]
وقوله {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا}[ الشمس :11] وهو كفر اليهود كما قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِه}[البقرة :89]
وقال {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة : 142]
وهو كفر أبي طالب أيضا فإنه صدقه ولم يشك في صدقه ولكن أخذته الحمية وتعظيم آبائه أن يرغب عن ملتهم ويشهد عليهم بالكفر.
مسألة : ما هو كفر الإعراض ؟
[*](قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين :
وأما كفر الإعراض : فأن يُعْرِضُ بسمعه وقلبه عن الرسول لا يصدقه ولا يكذبه ولا يواليه ولا يعاديه ولا يصغي إلى ما جاء به البتة كما قال أحد بني عبد ياليل للنبي صلى الله عليه وسلم: "والله أقول لك كلمة إن كنت صادقا فأنت أجل في عيني من أن أرد عليك وإن كنت كاذبا فأنت أحقر من أن أكلمك".
مسألة : ما هو كفر الشك ؟
[*](قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين :
وأما كفر الشك: فإنه لا يجزم بصدقه ولا بكذبه بل يشك في أمره وهذا لا يستمر شكه إلا إذا ألزم نفسه الإعراض عن النظر في آيات صدق الرسول صلى الله عليه وسلم جملة فلا يسمعها ولا يلتفت إليها وأما مع التفاته إليها ونطره فيها : فإنه لا يبقى معه شك لأنها مستلزمة للصدق ولا سيما بمجموعها فإن دلالتها على الصدق كدلالة الشمس على النهار.
مسألة : ما أنواع الشرك ؟(1/138)
[*](قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين :
وأما الشرك فهو نوعان: أكبر وأصغر فالأكبر: لا يغفره الله إلا بالتوبة منه وهو أن يتخذ من دون الله نداً يحبه كما يحب الله وهو الشرك الذي تضمن تسوية آلهة المشركين برب العالمين ولهذا قالوا لآلهتهم في النار: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ، إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ}[الشعراء : 97، 98]
مع إقرارهم بأن الله وحده خالق كل شيء وربه ومليكه وأن آلهتهم لا تخلق ولا ترزق ولا تحيي ولا تميت «وإنما كانت هذه التسوية في المحبة والتعظيم والعبادة»كما هو حال أكثر مشركي العالم بل كلهم يحبون معبوداتهم ويعظمونها ويوالونها من دون الله وكثير منهم بل أكثرهم يحبون آلهتهم أعظم من محبة الله ويستبشرون بذكرهم أعظم من استبشارهم إذا ذكر الله وحده ويغضبون لمنتقص معبوديهم وآلهتهم من المشايخ أعظم مما يغضبون إذا انتقص أحد رب العالمين وإذا انتهكت حرمة من حرمات آلهتهم ومعبوداتهم غضبوا غضب الليث إذا حرد وإذا انتهكت حرمات الله لم يغضبوا لها بل إذا قام المنتهك لها بإطعامهم شيئا رضوا عنه ولم تتنكر له قلوبهم وقد شاهدنا هذا نحن وغيرنا منهم جهرةً وترى أحدهم قد اتخذ ذكر إلهه ومعبوده من دون الله على لسانه ديدنا له إن قام وإن قعد وإن عثر وإن مرض وإن استوحش فذكر إلهه ومعبوده من دون الله هو الغالب على قلبه ولسانه وهو لا ينكر ذلك ويزعم أنه باب حاجته إلى الله وشفيعه عنده ووسيلته إليه.(1/139)
وهكذا كان عباد الأصنام سواء وهذا القدر هو الذي قام بقلوبهم وتوارثه المشركون بحسب اختلاف آلهتهم فأولئك كانت آلهتهم من الحجر وغيرهم اتخذوها من البشر قال الله تعالى حاكيا عن أسلاف هؤلاء المشركين: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاًَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [الزمر :3]
ثم شهد عليهم بالكفر والكذب وأخبر: أنه لا يهديهم فقال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ}[الزمر :3]
فهذه حال من اتخذ من دون الله ولياً يزعم أنه يقربه إلى الله وما أعز من يخلص من هذا؟ بل ما أعز من لا يعادي من أنكره!.
والذي في قلوب هؤلاء المشركين وسلفهم: أن آلهتهم تشفع لهم عند الله وهذا عين الشرك وقد أنكر الله عليهم ذلك في كتابه وأبطله وأخبر أن الشفاعة كلها له وأنه لا يشفع عنده أحد إلا لمن أذن الله أن يشفع فيه ورضي قوله وعمله وهم أهل التوحيد الذين لم يتخذوا من دون الله شفعاء فإنه سبحانه يأذن لمن شاء في الشفاعة لهم حيث لم يتخذهم شفعاء من دونه فيكون أسعد الناس بشفاعة من يأذن الله له: صاحب التوحيد الذي لم يتخذ شفيعا من دون الله ربه ومولاه.
و(الشفاعة) التي أثبتها الله ورسوله: هي الشفاعة الصادرة عن إذنه لمن وحده والتي نفاها الله: هي الشفاعة الشركية التي في قلوب المشركين المتخذين من دون الله شفعاء فيعاملون بنقيض قصدهم من شفعائهم ويفوز بها الموحدون.(1/140)
وتأمل قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة وقد سأله: "من أسعد الناس بشفاعتك يا رسول الله؟" قال: "أسعد الناس بشفاعتي: من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه" كيف جعل أعظم الأسباب التي تنال بها شفاعته: تجريد التوحيد عكس ما عند المشركين: أن الشفاعة تنال باتخاذهم أولياءهم شفعاء وعبادتهم وموالاتهم من دون الله فقلب النبي صلى الله عليه وسلم ما في زعمهم الكاذب وأخبر أن سبب الشفاعة: هو تجريد التوحيد فحينئذ يأذن الله للشافع أن يشفع.
ومن جهل المشرك: اعتقاده أن من اتخذه وليا أو شفيعا: أنه يشفع له وينفعه عند الله كما يكون خواص الملوك والولاة تنفع شفاعتهم من ولاهم والهم ولم يعلموا أن الله ولا يشفع عنده أحد إلا بإذنه ولا يأذن في الشفاعة إلا لمن رضي قوله وعمله كما قال تعالى في الفصل الأول {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ}[ البقرة :255] وفي الفصل الثاني {وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى}[الأنبياء : 28]
وبقي فصل ثالث وهو أنه لا يرضى من القول والعمل إلا التوحيد واتباع الرسول وعن هاتين الكلمتين يسأل الأولين والآخرين كما قال أبو العالية: "كلمتان يسأل عنهما الأولون والآخرون: ماذا كنتم تعبدون؟ وماذا أجبتم المرسلين؟".
«فهذه ثلاثة أصول تقطع شجرة الشرك من قلب من وعاها وعقلها»: لا شفاعة إلا بإذنه ولا يأذن إلا لمن رضي قوله وعمله ولا يرضى من القول والعمل إلا توحيده واتباع رسوله فالله تعالى : لا يغفر شرك العادلين به غيره كما قال تعالى: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ}[الأنعام :1] وأصح القولين: أنهم يعدلون به غيره في العبادة والموالاة والمحبة كما في الآية الأخرى {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ، إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ}[الشعراء : 97، 98](1/141)
وكما في آية البقرة قال تعالى: (وَمِنَ النّاسِ مَن يَتّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبّونَهُمْ كَحُبّ اللّهِ) [البقرة : 165]
وترى المشرك يكذب حاله وعمله قوله فإنه يقول: لا نحبهم كحب الله ولا نسويهم بالله ثم يغضب لهم ولحرماتهم إذا انتهكت أعظم مما يغضب لله ويستبشر بذكرهم ويتبشبش به سيما إذا ذكر عنهم ما ليس فيهم: من إغاثة اللهفات وكشف الكربات وقضاء الحاجات وأنهم الباب بين الله وبين عباده فإنك ترى المشرك يفرح ويسر ويحن قلبه وتهيج منه لواعج التعظيم والخضوع لهم والموالاة وإذا ذكرت له الله وحده وجردت توحيده لحقته وحشة وضيق وحرج ورماك بنقص الإلهية التي له وربما عاداك.
مسألة : ما هو الشرك الأصغر ؟
[*](قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين :
وأما الشرك الأصغر : فكيسير الرياء والتصنع للخلق والحلف بغير الله كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من حلف بغير الله فقد أشرك" وقول الرجل للرجل: "ما شاء الله وشئت" و "هذا من الله ومنك" و "أنا بالله وبك" و "مالي إلا الله وأنت" و "أنا متوكل على الله وعليك" و "لولا أنت لم يكن كذا وكذا" وقد يكون هذا شركا أكبر بحسب قائله ومقصده وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لرجل قال له: "ما شاء الله وشئت": "أجعلتنى لله ندا؟ قل: ما شاء الله وحده" وهذا اللفظ أخف من غيره من الألفاظ.انتهى .
وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد ، ودرر الفرائد . (
(حديث أبي سعيد في صحيح ابن ماجة) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال ؟ " . قالوا : بلي . قال : " الشرك الخفي ، يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته ، لما يري من نظر رجل .(1/142)
( حديث محمود بن لبيد رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر الرياء يقول الله يوم القيامة إذا جزي الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاء .
(حديث حذيفة في صحيح أبي داود) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :لا تقولوا : ما شاء الله و شاء فلان و لكن قولوا : ما شاء الله ثم شاء فلان .
(حديث ابن عباس في السلسلة الصحيحة ) أن رجلاً قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - ما شاء الله وشئت فقال : أجعلتني لله نداً ، بل ما شاء الله وحده .
مسألة : ما أنواع كفر الجحود ؟
[*](قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين :
وكفر الجحود نوعان: كفر مطلق عام وكفر مقيد خاص.
فالمطلق: أن يجحد جملة ما أنزله الله وإرساله الرسول.
والخاص المقيد: أن يجحد فرضا من فروض الإسلام أو تحريم محرم من محرماته أو صفة وصف الله بها نفسه أو خبرا أخبر الله به عمدا أو تقديما لقول من خالفه عليه لغرض من الأغراض.
وأما جحد ذلك جهلا أو تأويلا يعذر فيه صاحبه: فلا يكفر صاحبه به كحديث الذي جحد قدرة الله عليه وأمر أهله أن يحرقوه ويذروه في الريح ومع هذا فقد غفر الله له ورحمه لجهله إذ كان ذلك الذي فعله مبلغ علمه ولم يجحد قدرة الله على إعادته عنادا أو تكذيبا.
مسألة : ما هو كفر النفاق ؟
[*](قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين :
وأما كفر النفاق : فهو أن يظهر بلسانه الإيمان وينطوي بقلبه على التكذيب فهذا هو النفاق الأكبر.
مسألة : ما هو خطر النفاق ، وما هي أنواعه ؟
[*](قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين :
وأما النفاق : فالداء العضال الباطن الذي يكون الرجل ممتلئا منه وهو لا يشعر فإنه أمر خفي على الناس وكثيرا ما يخفى على من تلبس به فيزعم أنه مصلح وهو مفسد.
وهو نوعان: أكبر وأصغر.(1/143)
فالأكبر: يوجب الخلود في النار في دركها الأسفل وهو أن يظهر للمسلمين إيمانه بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وهو في الباطن منسلخ من ذلك كله مكذب به لا يؤمن بأن الله تكلم بكلام أنزله على بشر جعله رسولا للناس يهديهم بإذنه وينذرهم بأسه ويخوفهم عقابه.
وقد هتك الله سبحانه أستار المنافقين وكشف أسرارهم في القرآن وجلى لعباده أمورهم ليكونوا منها ومن أهلها على حذر وذكر طوائف العالم الثلاثة في أول سورة البقرة: المؤمنين والكفار والمنافقين «فذكر في المؤمنين أربع آيات» «وفي الكفار آيتين» «وفي المنافقين ثلاث عشرة آية» لكثرتهم وعموم الابتلاء بهم وشدة فتنتهم على الإسلام وأهله فإن بلية الإسلام بهم شديدة جدا لأنهم منسوبون إليه وإلى نصرته وموالاته وهم أعداؤه في الحقيقة يخرجون عداوته في كل قالب يظن الجاهل أنه علم وإصلاح وهو غاية الجهل والإفساد.
(فلله كم من معقل للإسلام قد هدموه ! وكم من حصن له قد قلعوا أساسه وخربوه ! وكم من علم له قد طمسوه ! وكم من لواء له مرفوع قد وضعوه ! وكم ضربوا بمعاول الشبه في أصول غراسه ليقلعوها ! وكم عموا عيون موارده بآرائهم ليدفنوها ويقطعوها !.
(فلا يزال الإسلام وأهله منهم في محنة وبلية ولا يزال يطرقه من شبههم سرية بعد سرية ويزعمون أنهم بذلك مصلحون {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ}[البقرة :12]
وقال تعالى: (يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللّهُ مُتِمّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) [الصف: 8]
اتفقوا على مفارقة الوحي فهم على ترك الاهتداء به مجتمعون قال تعالى: (فَتَقَطّعُوَاْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) [المؤمنون: 53]
قال تعالى: (يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىَ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً) [الأنعام : 112]
ولأجل ذلك {اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً}[ الفرقان :30].(1/144)
(دَرَسَت معالم الإيمان في قلوبهم فليسوا يعرفونها ودثرت معاهده عندهم فليسوا يعمرونها وأفلت كواكبه النيرة من قلوبهم فليسوا يحيونها وكسفت شمسه عند اجتماع ظلم آرائهم وأفكارهم فليسوا يبصرونها لم يقبلوا هدى الله الذي أرسل به رسوله ولم يرفعوا به رأسا ولم يروا بالإعراض عنه إلى آرائهم وأفكارهم بأسا (خلعوا نصوص الوحي عن سلطنة الحقيقة وعزلوها عن ولاية اليقين وشنوا عليها غارات التأويلات الباطلة فلا يزال يخرج عليها منهم كمين بعد كمين نزلت عليهم نزول الضيف على أقوام لئام فقايلوها بغير ما ينبغي لها من القبول والإكرام وتلقوها من بعيد ولكن بالدفع في الصدور منها والأعجاز وقالوا: "ما لك عندنا من عبور وإن كان لا بد فعلى سبيل الاجتياز أعدوا لدفعها أصناف العدد وضروب القوانين" وقالوا لما حلت بساحتهم: "ما لنا ولظواهر لفظية لا تفيدنا شيئا من اليقين" وعوامهم قالوا: "حسبنا ما وجدنا عليه خلفنا من المتأخرين فإنهم أعلم بها من السلف الماضين وأقوم بطرائق الحجج والبراهين وأولئك غلبت عليهم السذاجة وسلامة الصدور ولم يتفرغوا لتمهيد قواعد النظر ولكن صرفوا هممهم إلى فعل المأمور وترك المحظور فطريقة المتأخرين: أعلم وأحكم وطريقة السلف الماضين: أجهل لكنها أسلم.
أنزلوا نصوص السنة والقرآن منزلة الخليفة في هذا الزمان اسمه على السكة وفي الخطبة فوق المنابر مرفوع والحكم النافذ لغيره فحكمه غير مقبول ولا مسموع.
(لبسوا ثياب أهل الإيمان على قلوب أهل الزيغ والخسران والغل والكفران فالظواهر ظواهر الأنصار والبواطن قد تحيزت إلى الكفار فألسنتهم ألسنة المسالمين وقلوبهم قلوب المحاربين ويقولون {آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ}[البقرة : 8].(1/145)
(رأس مالهم الخديعة والمكر وبضاعتهم الكذب والختر وعندهم العقل المعيشي أن الفريقين عنهم راضون وهم بينهم آمنون {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ}[البقرة : 9].
«قد نهكت أمراض الشبهات والشهوات قلوبهم فأهلكتها »«وغلبت القصود السيئة على إراداتهم ونياتهم فأفسدتها »ففسادهم قد ترامى إلى الهلاك فعجز عنه الأطباء العارفون {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ}[البقرة : 10].
من علقت مخالب شكوكهم بأديم إيمانه مزقته كل تمزيق ومن تعلق شرر فتنتهم بقلبه ألقاه في عذاب الحريق ومن دخلت شبهات تلبيسهم في مسامعه حال بين قلبه وبين التصديق ففسادهم في الأرض كثير وأكثر الناس عنه غافلون {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ، أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ}[ البقرة:11، 12].
(المتمسك عندهم بالكتاب والسنة صاحب ظواهر مبخوس حظه من المعقول والدائر مع النصوص عندهم كحمار يحمل أسفارا فهمه في حمل المنقول وبضاعة تاجر الوحي لديهم كاسدة وما هو عندهم بمقبول وأهل الاتباع عندهم سفهاء فهم في خلواتهم ومجالسهم بهم يتطيرون 2 :13 {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ}.
(لكل منهم وجهان وجه يلقى به المؤمنين ووجه ينقلب به إلى إخوانه من الملحدين وله لسانان: أحدهما يقبله بظاهره المسلمون والآخر يترجم به عن سره المكنون {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ}[البقرة :14].(1/146)
(قد أعرضوا عن الكتاب والسنة استهزاء بأهلهما واستحقارا وأبوا أن ينقادوا لحكم الوحيين فرحا بما عندهم من العلم الذي لا ينفع الاستكثار منه أشرا واستكبارا فتراهم أبدا بالمتمسكين بصريح الوحى يستهزئون {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي
طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}[البقرة :15]
(خرجوا في طلب التجارة البائرة في بحار الظلمات فركبوا مراكب الشبه والشكوك تجري بهم في موج الخيالات فلعبت بسفنهم الريح العاصف فألقتها بين سفن الهالكين {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ}[البقرة :16]
(أضاءت لهم نار الإيمان فأبصروا في ضوئها مواقع الهدى والضلال ثم طفيء ذلك النور وبقيت نارا تأجج ذات لهب واشتعال فهم بتلك النار معذبون وفي تلك الظلمات يعمهون {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ}[البقرة :17]
(أسماع قلوبهم قد أثقلها الوقر فهي لا تسمع منادي الإيمان وعيون بصائرهم عليها غشاوة العمى فهي لا تبصر حقائق القرآن وألسنتهم بها خرس عن الحق فهم به لا ينطقون {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ}[البقرة :18]
صاب عليهم صيب الوحي وفيه حياة القلوب والأرواح فلم يسمعوا منه إلا رعد التهديد والوعيد والتكاليف التي وظعت عليهم في المساء والصباح فجعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وجدوا في الهرب والطلب في آثارهم والصياح فنودي عليهم على رءوس الأشهاد وكشفت حالهم للمستبصرين وضرب لهم مثلان بحسب حال الطائفتين منهم: المناظرين والمقلدين فقيل: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ}[البقرة :19](1/147)
ضعفت أبصار بصائرهم عن احتمال ما في الصيب من بروق أنواره وضياء معانيه وعجزت أسماعهم عن تلقي وعوده وعيده وأوامره ونواهيه فقاموا عند ذلك حيارى في أودية التيه لا ينتفع بسمعه السامع ولا يهتدي ببصره البصير {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[البقرة :20]
لهم علامات يُعْرَفُون بها مبينة في السنة والقرآن بادية لمن تدبرها من أهل بصائر الإيمان قام بهم والله الرياء وهو أقبح مقام قامه الإنسان وقعد بهم الكسل عما أمروا به من أوامر الرحمن فأصبح الإخلاص عليهم لذلك ثقيلا {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً} [النساء :143].
أحدهم كالشاة العائرة بين الغنمين تيعر إلى هذه مرة وإلى هذه مرة ولا تستقر مع إحدى الفئتين فهم واقفون بين الجمعين ينظرون أيهم أقوى وأعز
{مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً}[النساء :143].(1/148)
(يتربصون الدوائر بأهل السنة والقرآن فإن كان لهم فتح من الله قالوا: ألم نكن معكم؟ وأقسموا على ذلك بالله جهد ايمانهم وان كان لأعداء الكتاب والسنة من النصرة نصيب قالوا: ألم تعلموا أن عقد الإخاء بيننا محكم وان النسب بيننا قريب؟ فيا من يريد معرفتهم ! خذ صفتهم من كلام رب العالمين فلا تحتاج بعده دليلا: {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً}[النساء :141].
يعجب السامع قول أحدهم لحلاوته ولينه ويشهد الله على ما في قلبه من كذبه ومينه فتراه عند الحق نائما وفي الباطل على الأقدام فخذ وصفهم من قول القدوس السلام: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ}[البقرة :204].
(أوامرهم التي يأمرون بها أتباعهم متضمنة لفساد البلاد والعباد ونواهيهم عما فيه صلاحهم في المعاش والمعاد وأحدهم تلقاه بين جماعة أهل الإيمان في الصلاة والذكر والزهد والاجتهاد {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ}[البقرة :205]..
فهم جنس بعضه يشبه بعضا يأمرون بالمنكر بعد أن يفعلوه وينهون عن المعروف بعد أن يتركوه ويبخلون بالمال في سبيل الله ومرضاته أن ينفقوه كم ذكرهم الله بنعمه فأعرضوا عن ذكره ونسوه وكم كشف حالهم لعباده المؤمنين ليتجنبوه(1/149)
فاسمعوا أيها المؤمنون {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}[التوبة :67]
(إن حاكمتهم إلى صريح الوحي وجدتهم عنه نافرين وإن دعوتهم إلى حكم كتاب الله وسنة رسوله رأيتهم عنه معرضين فلو شهدت حقائقهم لرأيت بينها وبين الهدى أمدا بعيدا ورأيتها معرضة عن الوحي إعراضا شديدا {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً}[النساء : 61].
(فكيف لهم بالفلاح والهدى بعد ما أصيبوا في عقولهم وأديانهم وأنى لهم التخلص من الضلال والردى ! وقد اشترا الكفر بإيمانهم فما أخسر تجارتهم البائرة ! وقد استبدلوا بالرحيق المختوم حريقا {فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً}[النساء : 62].
نشب زقوم الشبه والشكوك في قلوبهم فلا يجدون له مسيغا {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً}[النساء : 63].
(تباًّ لهم ما أبعدهم عن حقيقة الإيمان ! وما أكذب دعواهم للتحقيق والعرفان فالقوم في شأن وأتباع الرسول في شأن لقد أقسم الله جل جلاله في كتابه بنفسه المقدسة قسما عظيما يعرف مضمونه أولو البصائر فقلوبهم منه على حذر إجلالا له وتعظيما فقال تعالى تحذيرا لأوليائه وتنبيها على حال هؤلاء وتفهيما {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً}[النساء : 65].(1/150)
تسبق يمين أحدهم كلامه من غير أن يعترض عليه لعلمه أن قلوب أهل الإيمان لا تطمئن إليه فيتبرأ بيمينه من سوء الظن به وكشف ما لديه وكذلك أهل الريبة يكذبون ويحلفون ليحسب السامع أنهم صادقون {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[المنافقون :2].
(تباًّ لهم برزوا إلى البيداء مع ركب الإيمان فلما رأوا طول الطريق وبعد الشقة نكصوا على أعقابهم ورجعوا وظنوا أنهم يتمتعون بطيب العيش ولذة المنام في ديارهم فما متعوا به ولا بتلك الهجعة انتفعوا فما هو إلا أن صاح بهم الصائح فقاموا عن موائد أطعمتهم والقوم جياع ما شبعوا فكيف حالهم عند اللقاء وقد عرفوا ثم أنكروا وعموا بعد ما عاينوا الحق وأبصروا {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ}[المنافقون :3].
(أحسن الناس أجساما وأخلبهم لسانا وألطفهم بيانا وأخبثهم قلوبا وأضعفهم جنانا فهم كالخشب المسندة التى لا ثمر لها قد قلعت من مغارسها فتساندت إلى حائط يقيمها لئلا يطأها السالكون {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ}[المنافقون :4].(1/151)
(يؤخرون الصلاة عن وقتها الأول إلى شرق الموتى فالصبح عند طلوع الشمس والعصر عند الغروب وينقرونها نقر الغراب إذ هي صلاة الأبدان لا صلاة القلوب ويلتفتون فيها التفات الثعلب إذ يتيقن أنه مطرود مطلوب ولا يشهدون الجماعة بل إن صلى أحدهم ففي البيت أو الدكان وإذا خاصم فجر وإذا عاهد غدر وإذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان هذه معاملتهم للخلق وتلك معاملتهم للخالق فخذ وصفهم من أول المطففين وآخر (والسماء والطارق) فلا ينبئك عن أوصافهم مثل خبير {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [ التوبة : 73] فما أكثرهم ! وهم الأقلون وما أجبرهم ! وهم الأذلون وما أجهلهم ! وهم المتعالمون وما أغرهم بالله ! إذ هم بعظمته جاهلون {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ}[ التوبة : 56]
(إن أصاب أهل الكتاب والسنة عافية ونصر وظهور ساءهم ذلك وغمهم وإن أصابهم ابتلاء من الله وامتحان يمحص به ذنوبهم ويكفر به عنهم سيئاتهم أفرحهم ذلك وسرهم وهذا يحقق إرثهم وإرث من عداهم ولا يستوي من موروثه الرسول ومن موروثهم المنافقون {إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ، قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}[ التوبة /51،50]
وقال تعالى في شأن السلفين المختلفين والحق لا يندفع بمكابرة أهل الزيغ والتخليط {إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ}آل عمران : 120].(1/152)
(كره الله طاعاتهم لخبث قلوبهم وفساد نياتهم فثبطهم عنها وأقعدهم وأبغض قربهم منه وجواره لميلهم إلى أعدائه فطردهم عنه وأبعدهم وأعرضوا عن وحيه فأعرض عنهم وأشقاهم وما أسعدهم وحكم عليهم بحكم عدل لا مطمع لهم في الفلاح بعده إلا أن يكونوا من التائبين فقال تعالى {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة : 46]
ثم ذكر حكمته في تثبيطهم وإقعادهم وطردهم عن بابه وإبعادهم وأن ذلك من لطفه بأوليائه وإسعادهم فقال وهو أحكم الحاكمين {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ}[التوبة : 47].
(ثقلت عليهم النصوص فكرهوها وأعياهم حملها فألقوها عن أكتافهم ووضعوها وتفلتت منهم السنن أن يحفظوها فأهملوها وصالت عليهم نصوص الكتاب والسنة فوضعوا لها قوانين ردوها بها ودفعوها ولقد هتك الله أستارهم وكشف أسرارهم وضرب لعباده أمثالهم واعلم أنه كلما انقرض منهم طوائف خلفهم أمثالهم فذكر أوصافهم لأوليائه ليكونوا منها على حذر وبينها لهم فقال 47 :9 {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ}[محمد :9].(1/153)
هذا شأن من ثقلت عليه النصوص فرآها حائلة بينه وبين بدعته وهواه فهي في وجهه كالبنيان المرصوص فباعها بمحصل من الكلام الباطل واستبدل منها بالفصوص فأعقبهم ذلك أن أفسد عليهم إعلانهم وإسرارهم {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ، فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ، ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ}[محمد /26: 28].
(أسروا سرائر النفاق فأظهرها الله على صفحات الوجوه منهم وفلتات اللسان ووسمهم لأجلها بسيماء لا يخفون بها على أهل البصائر والإيمان وظنوا أنهم إذ كتموا كفرهم وأظهروا إيمانهم راجوا على الصيارف والنقاد كيف والناقد البصير قد كشفها لكم 47 :29، 30 {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ، وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ}.
(فكيف إذا جمعوا ليوم التلاق وتجلى الله جل جلاله للعباد وقد كشف عن ساق ودعوا إلى السجود فلا يستطيعون {خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ}[القلم : 43].(1/154)
(أم كيف بهم إذا حشروا إلى جسر جهنم وهو أدق من الشعرة وأحد من الحسام وهو دحض مزلة مظلم لا يقطعه أحد إلا بنور يبصر به مواطيء الأقدام فقسمت بين الناس الأنوار وهم على قدر تفاوتها في المرور والذهاب وأعطوا نورا ظاهرا مع أهل الإسلام كما كانوا بينهم في هذه الدار يأتون بالصلاة والزكاة والحج والصيام فلما توسطوا الجسر عصفت على أنوارهم أهوية النفاق فأطفأت ما بأيديهم من المصابيح فوقفوا حيارى لا يستطيعون المرور فضرب بينهم وبين أهل الإيمان بسور له باب ولكن قد حيل بين القوم وبين المفاتيح باطنه الذي يلي المؤمنين فيه الرحمة وما يليهم من قبلهم العذاب والنقمة ينادون من تقدمهم من وفد الإيمان ومشاعل الركب تلوح على بعد كالنجوم تبدو لناظر الإنسان {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ}[الحديد : 13 ] لنتمكن في هذا المضيق من العبور فقد طفئت أنوارنا ولا جواز اليوم إلا بمصباح من النور {قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً} حيث قسمت الأنوار فهيهات الوقوف لأحد في مثل هذا المضمار كيف نلتمس الوقوف في هذا المضيق فهل يلوي اليوم أحد على أحد في هذا الطريق وهل يلتفت اليوم رفيق إلى رفيق فذكروهم باجتماعهم معهم وصحبتهم لهم في هذه الدار كما يذكر الغريب صاحب الوطن بصحبته له في الأسفار {أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ} نصوم كما تصومون ونصلي كما تصلون ونقرأ كما تقرؤون ونتصدق كما تصدقون ونحج كما تحجون فما الذي فرق بيننا اليوم حتى انفردتم دوننا بالمرور {قَالُوا بَلَى} ولكنكم كانت ظواهركم معنا وبواطنكم مع كل ملحد وكل ظلوم كفور {وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ، فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}[الحديد :(1/155)
14، 15].
(لا تستطل أوصاف القوم فالمتروك والله أكثر من المذكور كاد القرآن أن يكون كله في شأنهم لكثرتهم على ظهر الأرض وفي أجواف القبور فلا خلت بقاع الأرض منهم لئلا يستوحش المؤمنون في الطرقات وتتعطل بهم أسباب المعايش وتخطفهم الوحوش والسباع في الفلوات سمع حذيفة رضي الله عنه رجلا يقول: اللهم أهلك المنافقين فقال: "يا ابن أخي لو هلك المنافقون لاستوحشتم في طرقاتكم من قلة السالك".
(خوف السلف من النفاق :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ
[*](قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين :
تالله لقد قطع خوف النفاق قلوب السابقين الأولين لعلمهم بدقة وجله وتفاصيله وجملهً ساءت ظنونُهم بنفوسِهم حتى خشوْا أن يكونوا من جملة المنافقين .
قال عمر بن الخطاب لحذيفة رضي الله عنهما: "يا حذيفة نشدتك بالله هل سماني لك رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم؟ قال : لا ، ولا أزكي بعدك أحدا"
وقال ابن أبي مليكة: "أدركت ثلاثين من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه ما منهم أحد يقول إن إيمانه كإيمان جبريل وميكائيل" ذكره البخاري وذكر عن الحسن البصري: "ما أمنه إلا منافق وما خافه إلا مؤمن"
ولقد ذكر عن بعض الصحابة: أنه كان يقول في دعائه "اللهم إني أعوذ بك من خشوع النفاق قيل وما خشوع النفاق قال أن يرى البدن خاشعا والقلب ليس بخاشع".
تالله لقد ملئت قلوب القوم إيمانا ويقينا وخوفهم من النفاق شديد وهمهم لذلك ثقيل وسواهم كثير منهم لا يجاوز إيمانهم حناجرهم وهم يدعون أن إيمانهم كإيمان جبريل وميكائيل.(1/156)
(زرع النفاق ينبت على ساقيتين ساقية الكذب وساقية الرياء ومخرجهما من عينين عين ضعف البصيرة وعين ضعف العزيمة فإذا تمت هذه الأركان الأربع استحكم نبات النفاق وبنيانه ولكنه بمدارج السيول على شفا جرف هارٍ فإذا شاهدوا سيل الحقائق يوم تبلى السرائر وكشف المستور وبعثر ما في القبور وحصل ما في الصدور تبين حينئذ لمن كانت بضاعته النفاق أن حواصله التي حصلها كانت كالسراب قال تعالى : {يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ}[النور :39].
(قلوبهم عن الخيرات لاهية وأجسادهم إليها ساعية والفاحشة في فجاجهم فاشية وإذا سمعوا الحق كانت قلوبهم عن سماعه قاسية وإذا حضروا الباطل وشهدوا الزور انفتحت أبصار قلوبهم وكانت آذانهم واعية.
(فهذه والله أمارات النفاق فاحذرها أيها الرجل قبل أن تنزل بك القاضية .
(إذا عاهدوا لم يفوا ، وإن وعدوا أخلفوا وإن قالوا لم ينصفوا، وإن دعوا إلى الطاعة وقفوا ،وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول صدفوا، وإذا دعتهم أهواؤهم إلى أغراضهم أسرعوا إليها وانصرفوا، فذرهم وما اختاروا لأنفسهم من الهوان والخزي والخسران ،فلا تثق بعهودهم ولا تطمئن إلى وعودهم، فإنهم فيها كاذبون وهم لما سواها مخالفون قال تعالى : {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ، فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ، فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكَذِبُونَ} [التوبة/77:75].
مسألة : ما هي كيفية التوبة من النفاق ؟
[*](قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين :(1/157)
وشرط في توبة المنافق : الإخلاص لأن ذنبه بالرياء فقال تعالى {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّار} ثم قال {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً} [ النساء : 45، 46]
ولذلك كان الصحيح من القولين: أن توبة القاذف: إكذابه نفسه لأنه ضد الذنب الذي ارتكبه وهتك به عريض المسلم المحصن ،فلا تحصل التوبة منه إلا بإكذابه نفسه لينتفي عن المقذوف العار الذي ألحقه به بالقذف وهو مقصود التوبة.
وأما من قال: إن توبته أن يقول (أستغفر الله) من القذف ويعترف بتحريمه فقول ضعيف لأن هذا لا مصلحة فيه للمقذوف ولا يحصل له به براءة عرضه مما قذفه به فلا يحصل به مقصود التوبة من هذا الذنب فإن فيه حَقين حقا لله وهو تحريم القذف فتوبته منه: باستغفاره واعترافه بتحريم القذف وندمه عليه وعزمه على أن لا يعود وحقا للعبد وهو إلحاق العار به فتوبته منه: بتكذيبه نفسه فالتوبة من هذا الذنب بمجموع الأمرين.
(الفسوق وأنواعه :
مسألة : ما هي أنواع الفسوق ؟
[*](قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين :
وأما الفسوق : فهو في كتاب الله نوعان مفرد مطلق ومقرون بالعصيان.
والمفرد نوعان أيضا: فسوق كفر يخرج عن الإسلام وفسوق لا يخرج عن الإسلام ، فالمقرون كقوله تعالى : {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} الحجرات : 7].(1/158)
والمفرد الذي هو فسوق كفر كقوله تعالى {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ، الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ} الآية وقوله عز وجل 2 :99 {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلاَّ الْفَاسِقُونَ} [ البقرة : 26، 27]
وقوله تعالى : {وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا} [السجدة :20]
فهذا كله فسوق كفر.
(وأما الفسوق الذي لا يخرج عن الإسلام فكقوله تعالى {وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ}[البقرة :82]
وقوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ} [الحجرات :6](1/159)
الآية فإن هذه الآية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط لما بعثه رسول الله إلى بني المصطلق بعد الوقعة مصدقا وكان بينه وبينهم عداوة في الجاهلية فلما سمع القوم بمقدمه تلقوه تعظيما لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فحدثه الشيطان أنهم يريدون قتله فهابهم فرجع من الطريق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن بني المصطلق منعوا صدقاتهم وأرادوا قتلى فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم أن يغزوهم فبلغ القوم رجوعه فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا رسول الله سمعنا برسولك فخرجنا نتلقاه ونكرمه ونؤدي إليه ما قبلنا من حق الله فبدا له في الرجوع فخشينا أنه إنما رده من الطريق كتاب جاء منك لغضب غضبته علينا وإنا نعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله فاتهمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعث خالد بن الوليد خفية في عسكر وأمره أن يخفي عليهم قدومه وقال له انظر فإن رأيت منهم ما يدل على إيمانهم فخذ منهم زكاة أموالهم وإن لم تر ذلك فاستعمل فيهم ما تستعمل في الكفار ففعل ذلك خالد ووافاهم فسمع منهم أذان صلاتي المغرب والعشاء فأخذ منهم صدقاتهم ولم ير منهم إلا الطاعة والخير فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره الخبر فنزل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} الآية.
و(النبأ) هو الخبر الغائب عن المخبر إذا كان له شأن و(التبين) طلب بيان حقيقة والإحاطة بها علما.(1/160)
وههنا فائدة لطيفة وهي أنه سبحانه لم يأمر برد خبر الفاسق وتكذيبه ورد شهادته جملةً وإنما أمر بالتبين فإن قامت قرائن وأدلة من خارج تدل على صدقه عمل بدليل الصدق ولو أخبر به من أخبر فهكذا ينبغي الاعتماد في رواية الفاسق وشهادته وكثير من الفاسقين يصدقون في أخبارهم ورواياتهم وشهاداتهم بل كثير منهم يتحرى الصدق غاية التحري وفسقه من جهات أخر فمثل هذا لا يرد خبره ولا شهادته ولو ردت شهادة مثل هذا وروايته لتعطلت أكثر الحقوق وبطل كثير من الأخبار الصحيحة ولا سيما من فسقه من جهة الاعتقاد والرأي وهو متحر للصدق فهذا لا يرد خبره ولا شهادته.
(وأما من فسقه من جهة الكذب فإن كثر منه وتكرر بحيث يغلب كذبه على صدقه فهذا لا يقبل خبره ولا شهادته وإن ندر منه مرة ومرتين ففي رد شهادته وخبره بذلك قولان للعلماء وهما روايتان عن الإمام أحمد رحمه الله .
والمقصود: ذكر الفسوق الذي لا يخرج إلى الكفر.
والفسوق الذي تجب التوبة منه أعم من الفسوق الذي ترد به الرواية والشهادة.
وكلامنا الآن فيما تجب التوبة منه وهو قسمان فسق من جهة العمل وفسق من جهة الاعتقاد.
(ففسق العمل نوعان : مقرون بالعصيان ومفرد .
فالمقرون بالعصيان : هو ارتكاب ما نهى الله عنه والعصيان: هو عصيان أمره كما قال الله تعالى {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ}[التحريم : 6] وقال موسى لأخيه هارون عليهما السلام: {مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا، أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي}[طه : 92، 93]
وقال الشاعر:
أمرتك أمرا جازما فعصيتني فأصبحت مسلوب الإمارة نادما
(فالفسق أخص بارتكاب النهي ولهذا يطلق عليه كثيرا كقوله تعالى : {وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ}[البقرة : 282](1/161)
(والمعصية أخص بمخالفة الأمر كما تقدم، ويطلق كل منهما على صاحبه كقوله تعالى : {إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ }[ الكهف : 50] فسمى مخالفته للأمر فسقا وقال {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى}[طه : 121] فسمى ارتكابه للنهي معصية فهذا عند الإفراد فإذا اقترنا كان أحدهما لمخالفة الأمر والآخر لمخالفة النهي.
(و(التقوى) اتقاء مجموع الأمرين وبتحقيقها تصح التوبة من الفسوق والعصيان بأن يعمل العبد بطاعة الله على نور من الله يرجو ثواب الله ويترك معصية الله على نور من الله يخاف عقاب الله.
(وفسق الاعتقاد: كفسق أهل البدع الذين يؤمنون بالله ورسوله واليوم الآخر ويحرمون ما حرم الله ويوجبون ما أوجب الله ولكن ينفون كثيرا مما أثبت الله ورسوله جهلا وتأويلا وتقليدا للشيوخ ويثبتون ما لم يثبته الله ورسوله كذلك.
وهؤلاء كالخوارج المارقة وكثير من الروافض والقدرية والمعتزلة وكثير من الجهمية الذين ليسوا غلاة في التجهم.
وأما غالية الجهمية: فكغلاة الرافضة ليس للطائفتين في الإسلام نصيب.
ولذلك أخرجهم جماعة من السلف من الثنتين والسبعين فرقة وقالوا هم مباينون للملة.
وليس مقصودنا الكلام في أحكام هؤلاء وإنما المقصود: تحقيق (التوبة) من هذه الأجناس العشرة.
مسألة : ما هي كيفية التوبة من فسوق الاعتقاد ؟
[*](قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين :
فالتوبة من هذا الفسوق : بإثبات ما أثبته الله لنفسه ورسوله من غير تشبيه ولا تمثيل وتنزيهه عما نزه نفسه عنه ونزهه عنه رسوله من غير تحريف ولا تعطيل وتلقى النفي والإثبات من مشكاة الوحي لا من آراء الرجال ونتائج أفكارهم التي هي منشأ البدعة والضلالة.(1/162)
فتوبة هؤلاء الفساق من جهة الاعتقادات الفاسدة: بمحض اتباع السنة ولا يُكْتَفَى منهم بذلك أيضا «حتى يبينوا فساد ما كانوا عليه من البدعة» إذ التوبة من ذنب هي بفعل ضده ولهذا شرط الله تعالى في توبة الكاتمين ما أنزل الله من البينات والهدى: البيان لأن ذنبهم لما كان بالكتمان كانت توبتهم منه بالبيان قال الله تعالى :{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ، إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}[ البقرة :160،159]
(وذنب المبتدع فوق ذنب الكاتم لأن ذاك كتم الحق وهذا كتمه ودعا إلى خلافه فكل مبتدع كاتم ولا ينعكس .
مسألة : ما هو الإثم والعدوان ؟
[*](قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين :
(الإثم والعدوان) فهما قرينان قال الله تعالى : {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}[ المائدة :2] وكل منهما إذا أفرد تضمن الآخر فكل إثم عدوان إذ هو «فعل ما نهى الله عنه أو ترك ما أمر الله به» فهو عدوان على أمره ونهيه وكل عدوان إثم فإنه يأثم به صاحبه ولكن عند اقترانهما فهما شيئان بحسب متعلقهما ووصفهما.
(ف(الإثم) ما كان محرم الجنس كالكذب والزنا وشرب الخمر ونحو ذلك .
(و(العدوان) ما كان محرم القدر والزيادة.
فالعدوان: تعدى ما أبيح منه إلى القدر المحرم والزيادة كالاعتداء في أخذ الحق ممن هو عليه إما بأن يتعدى على ماله أو بدنه أو عرضه فإذا غصبه خشبة لم يرض عوضها إلا داره وإذا أتلف عليه شيئا أتلف عليه أضعافه وإذا قال فيه كلمة قال فيه أضعافها فهذا كله عدوان وتعد للعدل.(1/163)
وهذا العدوان نوعان : عدوان في حق الله وعدوان في حق ،فالعدوان في حق الله كما إذا تعدى ما أباح الله له من الوطء الحلال في الأزواج والمملوكات إلى ما حرم عليه من سواهما كما قال تعالى : {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ، إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ، فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ}[المؤمنون /7:5]
وكذلك تعدى ما أبيح له من زوجته وأمته إلى ما حرم عليه منها كوطئها في حيضها أو نفاسها أو في غير موضع الحرث أو في إحرام أحدهما أو صيامه الواجب ونحو ذلك.(1/164)
وكذلك كل من أبيح له منه قدر معين فتعداه إلى أكثر منه فهو من العدوان كمن أبيح له إساغة الغصة بجرعة من خمر فتناول الكأس كلها أو أبيح له نظرة الخطبة والسوم والشهادة والمعاملة والمداواة فأطلق عنان طرفه في ميادين محاسن المنظور وأسام طرف ناظره في تلك الرياض والزهور فتعدى المباح إلى القدر المحظور وحام حول الحمى المحوط المحجور فصار ذا بصر حائر وقلب عن مكانه طائر أرسل طرفه رائدا يأتيه بالخبر فخامر عليه وأقام في تلك الخيام فبعث القلب في آثاره فلم يشعر إلا وهو أسير يحجل في قيوده بين تلك الخيام فما أقلعت لحظات ناظره حتى تشحط بينهن قتيلا وما برحت تنوشه سيوف تلك الجفون حتى جندلته تجديلا «هذا خطر العدوان وما أمامه أعظم وأخطر وهذا فوت الحرمان» وما حرمه من فوات ثواب من غض طرفه لله عز وجل أجل وأكبر سافر الطرف في مفاوز محاسن المنظور إليه فلم يربح إلا أذى السفر وغرر بنفسه في ركوب تلك البيداء وما عرف أن راكبها على أعظم الخطر يا لها من سفرة لم يبلغ المسافر منها ما نواه ولم يضع فيها عن عاتقه عصاه حتى قطع عليه فيها الطريق وقعد له فيها الرصد على كل نقب ومضيق لا يستطيع الرجوع إلى وطنه والإياب ولا له سبيل إلى المرور والذهاب يرى هجير الهاجرة من بعيد فيظنه برد الشراب قال تعالى : {حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ}[ النور : 39] وتيقن أنه كان مغرورا بِلَامِعِ السراب ، تالله ما استوت هذه الذلة وتلك اللذة في القيمة فيشتريها بها العارف الخبير ولا تقاربا في المنفعة فيتحير بينهما البصير ولكن على العيون غشاوة فلا تفرق بين مواطن السلامة ومواضع العثور ، والقلوب تحت أغطية الغفلات راقدة فوق فرش الغرور قال تعالى : {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}[ الحج : 46].
(البغي :(1/165)
ـــ ـــ ـــ
مسألة : ما الفرق بين البغي والعدوان ؟
[*](قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين :
و(الإثم) و(العدوان) هما الإثم والبغي المذكوران في سورة الأعراف قال تعالى: (قُلْ إِنّمَا حَرّمَ رَبّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ) [الأعراف : 33]
مع أن (البغي) غالب استعماله في حقوق العباد والاستطالة وعلى هذا فإذا قرن البغي بالعدوان كان (البغي) ظلمهم بمحرم الجنس كالسرقة والكذب والبهت والابتداء بالأذى و(العدوان) تعدى الحق في استيفائه إلى أكبر منه فيكون البغي والعدوان في حقهم كالإثم والعدوان في حدود الله.
فهاهنا أربعة أمور : «حق لله وله حَد وحق لعباده وله حَد» فالبغي والعدوان والظلم تجاوز الحدين إلى ما رواءهما أو التقصير عنهما فلا يصل إليهما.
(الفحشاء والمنكر :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
مسألة : ما المقصود بالفحشاء والمنكر ؟
[*](قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين :
وأما (الفحشاء والمنكر) فالفحشاء صفة لموصوف قد حذف تجريدا لقصد الصفة وهي الفعلة الفحشاء والخصلة الفحشاء وهي ما ظهر قبحها لكل أحد واستفحشه كل ذي عقل سليم ولهذا فسرت بالزنا واللواط وسماها الله (فاحشة) لتناهي قبحهما وكذلك القبيح من القول يسمى فحشا وهو ما ظهر قبحه جدا من السب القبيح والقذف ونحوه.
وأما (المنكر) فصفة لموصوف محذوف أيضا أي الفعل المنكر وهو الذي تستنكره العقول والفطر ونسبته إليها كنسبة الرائحة القبيحة إلى حاسة الشم والمنظر القبيح إلى العين والطعم المستكره إلى الذوق والصوت المستنكر إلى الأذن فما اشتد إنكار العقول والفطر له فهو فاحشة كما فحش إنكار الحواس له من هذه المدركات.(1/166)
فالمنكر لها: ما لم تعرفه ولم تألفه والقبيح المستكره لها: الذي تشتد نفرتها عنه هو الفاحشة ولذلك قال ابن عباس: "الفاحشة الزنا والمنكر ما لم يعرف في شريعة ولا سنة".
فتأمل تفريقه بين ما لم يعرف حسنه ولم يؤلف وبين ما استقر قبحه في الفطر والعقول .
(القول على الله بلا علم :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
[*](قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين :
وأما (القول على الله بلا علم) فهو أشد هذه المحرمات تحريما وأعظمها إثما ولهذا ذكر في المرتبة الرابعة من المحرمات التي اتفقت عليها الشرائع والأديان ولا تباح بحال بل لا تكون إلا محرمة وليست كالميتة والدم ولحم الخنزير الذي يباح في حال دون حال.
فإن المحرمات نوعان : محرم لذاته لا يباح بحال ، ومحرم تحريما عارضا في وقت دون وقت (قال الله تعالى في المحرم لذاته : {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} ثم انتقل منه إلى ما هو أعظم منه فقال {وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقّ} ثم انتقل منه إلى ما هو أعظم منه {وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً} فقال ثم انتقل منه إلى ما هو أعظم منه فقال {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ}[الأعراف :33]
فهذا أعظم المحرمات عند الله وأشدها إثما فإنه يتضمن الكذب على الله ونسبته إلى ما لا يليق به وتغيير دينه وتبديله ونفي ما أثبته وإثبات ما نفاه وتحقيق ما أبطله وإبطال ما حققه وعداوة من والاه وموالاة من عاداه وحب ما أبغضه وبغض ما أحبه ووصفه بما لا يليق به في ذاته وصفاته وأقواله وأفعاله.
فليس في أجناس المحرمات أعظم عند الله منه ولا أشد إثما وهو أصل الشرك والكفر ووعليه أُسِسَت البدع والضلالات فكل بدعة مضلة في الدين أساسها القول على الله بلا علم.(1/167)
(ولهذا اشتد نكير السلف والأئمة لها وصاحوا بأهلها من أقطار الأرض وحذروا فتنتهم أشد التحذير وبالغوا في ذلك ما لم يبالغوا مثله في إنكار الفواحش والظلم والعدوان إذ مضرة البدع وهدمها للدين ومنافاتها له أشد وقد أنكر تعالى على من نسب إلى دينه تحليل شيء أو تحريمه من عنده بلا برهان من الله فقال تعالى : {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [ النحل : 116].
فكيف بمن نسب إلى أوصافه سبحانه وتعالى ما لم يصف به نفسه؟ أو نفى عنه منها ما وصف به نفسه؟.
قال بعض السلف: ليحذر أحدكم أن يقول: أحل الله كذا وحرم الله كذا فيقول الله: كذبت لم أحل هذا ولم أحرم هذا.
يعني التحليل والتحريم بالرأي المجرد بلا برهان من الله ورسوله.
وأصل الشرك والكفر: هو القول على الله بلا علم فإن المشرك يزعم أن من اتخذه معبودا من دون الله يقر به إلى الله ويشفع له عنده ويقضى حاجته بواسطته كما تكون الوسائط عند الملوك فكل مشرك قائل على الله بلا علم دون العكس إذ القول على الله بلا علم قد يتضمن التعطيل والإبتداع في دين الله فهو أعم من الشرك والشرك فرد من أفراده.
(تقسيم الذنوب :
لما كانت التوبة الصادقة لا تكون إلا بالإقلاع عن المعاصي كلها صغيرها وكبيرها كان لزاماً علينا أن نتعرف على تقسيمات الذنوب ، فإن هناك تقسيمات نافعة، تُعرف من خلالها أصول الذنوب، وما يمكن أن يدخل تحتها من آحاد الذنوب وأفرادها، ومن أفضل من تكلم في ذلك الإمام العلامة البحر الفهَّامة ابن القيم رحمه الله تعالى :
[*](قال ابن القيم رحمه الله تعالى : ولما كانت الذنوب متفاوتة في درجاتها ومفاسدها تفاوتت عقوباتها في الدنيا والآخرة بحسب تفاوتها.
ونحن نذكر فيها بعون الله وحسن توفيقه فصلاً وجيزاً جامعاً فنقول:
(أصلها نوعان: ترك مأمور، وفعل محظور.(1/168)
وهما الذنبان اللذان ابتلى الله سبحانه بهما أبوي الجن والإنس.
وكلاهما ينقسم باعتبار محله إلى ظاهر على الجوارح، وباطن في القلوب.
وباعتبار مُتعلَّقه إلى حق الله، وحق خلقه، وإن كان كل حق لخلقه فهو متضمن لحقه، لكن سمي حقاً للخلق لأنه يجب بمطالبتهم، ويسقط بإسقاطهم (1) .
(ثم شرع بتقسيم هذه الذنوب إلى قسمة أخرى فقال:
ثم هذه الذنوب تنقسم إلى أربعة أقسام: ملكية، وشيطانية، وسَبُعية، وبهيمية، ولا تخرج عن ذلك (2) .
هذا وقد سبق ابن القيم في هذا التقسيم أبو حامد الغزالي، حيث قال : اعلم أن للإنسان أوصافاً وأخلاقاً كثيرة على ما عرف شرحه في كتاب عجائب القلب وغوائله، لكن تنحصر مثارات الذنوب في أربع صفات: صفات ربوبية، وصفات شيطانية، وصفات بهيمية، وصفات سبعية (3) .
وفيما يلي تفصيل يسير لتلك الأصول التي ترجع إليها الذنوب (4) .
(1) الذنوب الملكية أو الربوبية: وهي أن يتعاطى الإنسان ما لا يصلح له من صفات الربوبية، كالعظمة، والكبرياء، والفخر، والجبروت، والعلو في الأرض، ومحبة استعباد الخلق، ونحو ذلك.
ومن هذه الذنوب يتشعب جملة من الكبائر غفل عنها أكثر الخلق، ولم يعدوها ذنوباً، وهي المهلكات، العظيمة التي هي كالأمهات لأكثر المعاصي.
ويدخل في هذه الذنوب، الشرك بالله، والقول على الله بغير علم.
(2) الذنوب الشيطانية: وهي ما كان في صاحبها شَبهٌ من الشيطان، ويدخل تحت ذلك الحسدُ، والبغي، والغش، والغل، والخداع، والمكر، والأمر بالفساد، وتحسين المعاصي، والنهي عن الطاعات وتهجينها، والابتداع في الدين، والدعوة إلى البدع والضلال.
وهذا النوع يلي الأول في المفسدة، وإن كانت مفسدته دونه.
__________
(1) (2) الجواب الكافي لابن القيم تحقيق وتعليق الشيخ عامر بن علي ياسين ص 303.
(2)
(3) إحياء علوم الدين 4/16.
(4) انظر إحياء علوم الدين 4/ 16 ومنهاج القاصدين لابن قدامه ص 276_280 والجواب الكافي ص 304_305.(1/169)
(3) الذنوب السبعية: ومنها يتشعب الغضب، وسفك الدماء، والحقد، والتوثب على الضعفاء والعاجزين، والقتل.
(4) الذنوب البهيمية: ومنها يتشعب الشَّرَهُ، والكَلَبُ، والحرص على قضاء شهوة الفرج والبطن، ومنها يتولد الزنى واللواط، والسرقة، وأكل أموال اليتامى، والبخل، والشح، والجبن، والهلع، والجزع، وجمع الحطام لأجل الشهوات، وغير ذلك.
وهذا القسم أكثر ذنوب الخلق؛ لعجزهم عن الذنوب السبعية والملكية.
ومنه يدخلون إلى سائر الأقسام؛ فهو يجرهم إليها بالزمام، فيدخلون منه إلى الذنوب السبعية، ثم إلى الشيطانية، ثم إلى منازعة الربوبية، والشرك في الوحدانية.
( تقسيم آخر للذنوب :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ
ويمكن أن تقسم الذنوب إلى قسمة أخرى، وهي أن يقال: إن الذنوب تنقسم إلى كبائر، وصغائر.
[*](قال الغزالي رحمه الله : اعلم أن الذنوب تنقسم إلى صغائر وكبائر، وقد كثر اختلاف الناس فيها؛ فقال قائلون: لا صغيرة ولا كبيرة، بل كل مخالفة لله فهي كبيرة.
وهذا ضعيف؛ إذ قال تعالى : [إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً] النساء: 31، وقال تعالى : [الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ ] [النجم: 32]
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (الصلواتُ الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفراتٌ ما بينهنَّ إذا اجتنب الكبائر .
(عبد الله بن عمرو رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (الكبائر: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، واليمين الغموس).
[*](قال ابن القيم رحمه الله تعالى : وقد دل القرآن والسنة وإجماع الصحابة والتابعين بعدهم والأئمة على أن من الذنوب كبائرَ وصغائر (1) .
__________
(1) الجواب الكافي ص306.(1/170)
(وقال أيضاً: والذين لم يقسموها إلى كبائر وصغائر قالوا: الذنوب كلها بالنسبة إلى الجراءة على الله سبحانه ومعصيته ومخالفة أمره كبائر؛ فالنظر إلى من عُصي أمرُه، وانتُهك محارمه يوجب أن تكون الذنوب كلها كبائر، وهي مستوية في هذه المفسدة (1) .
وقال بعد أن ساق بعض ما أورده مَنْ قال إن الذنوب كلها كبائر: فالشرك أظلم الظلم، والتوحيد أعدل العدل؛ فما كان أشدَّ منافاة لهذا المقصود فهو أكبر الكبائر، وتفاوتها في درجاتها بحسب منافاتها له، وما كان أشدَّ موافقة لهذا المقصود فهو أوجب الواجبات، وأفرض الطاعات؛ فتأمل هذا الأصل حق التأمل، واعتبر تفاصيله تعرف به حكمة أحكم الحاكمين، وأعلم العالمين فيما فرضه على عباده، وحرمه عليهم، وتفاوتَ مراتب الطاعات والمعاصي (2) .
( كيف ينظر الإنسان إلى الذنب :
مسألة : كيف ينظر الإنسان إلى الذنب ؟
[*](قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين :
قال في المنازل: "وهي أن تنظر في الذنب إلى ثلاثة أشياء:
(إلى انخلاعك من العصمة حين إتيانه .
(وفرحك عند الظفر به .
(وقعودك على الإصرار عن تداركه مع تيقنك نظر الحق إليك".
يحتمل أن يريد بالانخلاع عن العصمة: انخلاعه عن اعتصامه بالله فإنه لو اعتصم بالله لما خرج عن هداية الطاعة قال الله تعالى {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}[ آل عمران : 101] فلو كملت عصمته بالله لم يخذله أبدا قال الله تعالى {وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ}[ الأنفال : 40 ]
أي متى اعتصمتم به تولاكم ونصركم على أنفسكم وعلى الشيطان وهما العدوان اللذان لا يفارقان العبد وعداوتهما أضر من عداوة العدو الخارج فالنصر على هذا العدو أهم والعبد إليه أحوج وكمال النصرة على العدو بحسب كمال الاعتصام بالله.
__________
(1) الجواب الكافي ص 309.
(2) الجواب الكافي 312.(1/171)
ويحتمل أن يريد الانخلاع من عصمة الله له وأنك إنما ارتكبت الذنب بعد انخلاعك من توبة عصمته لك فمتى عرف هذا الانخلاع وعظم خطره عنده واشتدت عليه مفارقته وعلم أن الهلك كل الهلك بعده وهو حقيقة الخذلان «فما خلى الله بينك وبين الذنب إلا بعد أن خذلك وخلى بينك وبين نفسك» ولو عصمك ووفقك لما وجد الذنب إليك سبيلا.
فقد أجمع العارفون بالله على أن الخذلان : أن يكلك الله إلى نفسك ويخلى بينك وبينها والتوفيق أن لا يكلك الله إلى نفسك وله سبحانه في هذه التخلية بينك وبين الذنب وخذلانك حتى واقعته حكم وأسرار سنذكر بعضها.
وعلى الاحتمالين فترجع (التوبة) إلى اعتصامك به وعصمته لك.
قوله: "وفرحك عند الظفر به".
الفرح بالمعصية دليل على شدة الرغبة فيها والجهل بقدر من عصاه والجهل بسوء عاقبتها وعظم خطرها ففرحه بها غطى عليه ذلك كله وفرحه بها أشد ضررا عليه من مواقعتها والمؤمن لا تتم له لذة بمعصية أبدا ولا يكمل بها فرحه بل لا يباشرها إلا والحزن مخالط لقلبه ولكن سكر الشهوة يحجبه عن الشعور به ومتى خلي قلبه من هذا الحزن واشتدت غبطته وسروره فليتهم إيمانه وليبك على موت قلبه فإنه لو كان حيا لأحزنه ارتكابه للذنب وغاظه وصعب عليه ولا يحس القلب بذلك فحيث لم يحس به فما لجرح بميت إيلام.
وهذه النكتة في الذنب قل من يهتدي إليها أو ينتبه لها وهي موضع مخوف جدا مترام إلى هلاك إن لم يتدارك بثلاثة أشياء خوف من الموافاة عليه قبل التوبة وندم على ما فاته من الله بمخالفة أمره وتشمير للجد في استدراكه.
قوله: "وقعودك على الإصرار عن تداركه".
الإصرار: هو الاستقرار على المخالفة والعزم على المعاودة وذلك ذنب آخر لعله أعظم من الذنب الأول بكثير وهذا من عقوبة الذنب: أنه يوجب ذنبا أكبر منه ثم الثاني كذلك ثم الثالث كذلك حتى يستحكم الهلاك.(1/172)
فالإصرار على المعصية معصية أخرى والقعود عن تدراك الفارط من المعصية إصرار ورضا بها وطمأنينة إليها وذلك علامة الهلاك وأشد من هذا كله: المجاهرة بالذنب مع تيقن نظر الرب جل جلاله من فوق عرشه إليه فإن آمن بنظره إليه وأقدم على المجاهرة فعظيم وإن لم يؤمن بنظره إليه واطلاعه عليه فكفر وانسلاخ من الإسلام بالكلية فهو دائر بين الأمرين: «بين قلة الحياء ومجاهرة نظر الله إليه وبين الكفر والانسلاخ من الدين» فلذلك يشترط في صحة التوبة تيقنه أن الله كان ناظرا ولا يزال إليه مطلعا عليه يراه جهرة عند مواقعة الذنب لأن التوبة لا تصح إلا من سلم إلا أن يكون كافرا بنظر الله إليه جاحدا له فتوبته دخوله في الإسلام وإقراره بصفات الرب جل جلاله.
(ماهية الصغائر والكبائر :
وبعد أن تبين أن الذنوب منها كبائر وصغائر يحسن الوقوف عند ماهية الصغائر والكبائر؛ حيث اخْتُلِفَ في تحديد الكبائر وحصرها؛ فقيل في ذلك أقوال منها (1) :
(1) قال عبدالله بن مسعود: هي أربع.
(2) وقال عبدالله بن عمر رضي الله عنهما : هي سبع.
(3) وقال عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما : هي تسع.
(4) وكان ابن عباس رضي الله عنهما إذا بلغه قول ابن عمر: الكبائر سبع يقول: هن إلى سبعين أقرب منها إلى سبع.
(5) وقال آخر: هي إحدى عشرة.
(6) وقال أبو طالب المكي: جمعتها من أقوال الصحابة فوجدتها
أربعة في القلب وهي: الإشراك بالله، والإصرار على المعصية، والقنوط من رحمة الله، والأمن من مكر الله .
وأربعة في اللسان وهي: شهادة الزور، وقذف المحصنات، واليمين الغموس، والسحر (2) .
وثلاثة في البطن: شرب الخمر، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا.
واثنين في الفرج: الزنا، واللواط.
واثنين في اليدين وهما: القتل والسرقة.
وواحداً في الرجلين : وهو الفرار من الزحف.
__________
(1) انظر إحياء علوم الدين 4/17_18، والجواب الكافي 308_309.
(2) السحر لا يقتصر على اللسان، بل تشترك الجوارح في عمله.(1/173)
وواحداً يتعلق بجميع الجسد : وهو عقوق الوالدين.
هذه أقوال الذين حصروها بعدد، وأما الذين لم يحصروها بعدد فمنهم من قال: (
(1) ما اقترن بالنهي عنه وعيد من لعن، أو غضب، أو عقوبة فهو كبيرة، وما لم يقترن به شيء فهو صغيرة.
(2) وقيل: كل ما ترتب عليه حد في الدنيا، أو وعيد في الآخرة_فهو كبيرة، وما لم يرتب عليه لا هذا ولا هذا فهو صغيرة (1) .
(3) وقيل: كل ما اتفقت الشرائع على تحريمه فهو من الكبائر، وما كان تحريمه في شريعة دون شريعة فهو صغيرة.
(4) وقيل: كل ما لعن الله ورسوله فاعله فهو كبيرة.
(5) وقيل: هي كل ما ذكر من أول سورة النساء إلى قوله: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ) [ النساء: 31]
والمقصود من خلال ما مضى من ذكر أصول الذنوب، وتقسيماتها هو الوقوف على معرفة الذنوب ولو على سبيل الإجمال؛ كي يجتنبها الإنسان، ويتوب منها إن كان واقعاً فيها.
(خطر الاستهانة بالصغائر :
[*](قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين :
وههنا أمر ينبغي التفطن له وهو أن (الكبيرة) قد يقترن بها من الحياء والخوف والاستعظام لها ما يلحقها بالصغائر وقد يقترن بالصغيرة من قلة الحياء وعدم المبالاة وترك الخوف والاستهانة بها ما يلحقها بالكبائر بل يجعلها في أعلى رتبها.
وهذا أمر مرجعه إلى ما يقوم بالقلب وهو قدر زائد على مجرد الفعل والإنسان يعرف ذلك من نفسه ومن غيره.
وأيضا فإنه يعفى للمحب ولصاحب الإحسان العظيم ما لا يعفى لغيره ويسامح بما لا يسامح به غيره.
__________
(1) وهذا ما رجحه شيخ الإسلام ابن تيمية×في مجموع الفتاوى 11/650، وقال في 11/650: =إنه أمثل الأقوال في هذه المسألة+ ، وقال في 11/654: =وإنما قلنا: إن هذا الضابط أولى من سائر تلك الضوابط المذكورة لوجوه . . .+ ثم ذكر خمسة وجوه.(1/174)
(وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول: "انظر إلى موسى صلوات الله وسلامه عليه رمى الألواح التي فيها كلام الله الذي كتبه بيده فكسرها وجر بلحية نبي مثله وهو هارون ولطم عين ملك الموت ففقأها وعاتب ربه ليلة الإسراء في محمد صلى الله عليه وسلم ورفعه عليه وربه تعالى يحتمل له ذلك ويحبه ويكرمه ويدلله لأنه قام لله تلك المقامات العظيمة في مقابلة أعدى عدو له وصدع بأمره وعالج أمتي القبط وبني إسرائيل أشد المعالجة فكانت هذه الأمور كالشعرة في البحر".
وانظر إلى يونس بن متى حيث لم يكن له هذه المقامات التي لموسى غاضب ربه مرة فأخذه وسجنه في بطن الحوت ولم يحتمل له ما احتمل لموسى وفرق بين من إذا أتى بذنب واحد ولم يكن له من الإحسان والمحاسن ما يشفع له وبين من إذا أتى بذنب جاءت محاسنه بكل شفيع كما قيل:
وإذا الحبيب أتى بذنب واحد جاءت محاسنه بألف شفيع «فالأعمال تشفع لصاحبها عند الله وتذكر به إذا وقع في الشدائد» قال تعالى عن ذي النون {فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ، لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}[الصافات /143، 144 ] وفرعون لما لم تكن له سابقةُ خيرٍ تشفع له وقال: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيل} قال له جبريل {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ}]يونس :90].
ثم ذكر رحمه الله تعالى الحديث الآتي : (
(حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجه ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن مما تذكرون من جلال الله التسبيح والتهليل والتحميد ينعطفن حول العرش لهن دوي كدوي النحل تذكر بصاحبها أما يحب أحدكم أن يكون له أو لا يزال له من يذكر به؟ .
(ثم قال رحمه الله تعالى :(1/175)
ولهذا من رجحت حسناته على سيئاته أفلح ولم يعذب ووهبت له سيئاته لأجل حسناته ولأجل هذا يُغْفَرُ لصاحب التوحيد ما لا يغفر لصاحب الإشراك لأنه قد قام به مما يحبه الله ما اقتضى أن يغفر له ويسامحه ما لا يسامح به المشرك وكما كان توحيد العبد أعظم كانت مغفرة الله له أتم فمن لقيه لا يشرك به شيئا البتة غفر له ذنوبه كلها كائنة ما كانت ولم يعذب بها.
ولسنا نقول: إنه لا يدخل النار أحد من أهل التوحيد بل كثير منهم يدخل بذنوبه ويعذب على مقدار جرمه ثم يخرج منها ولا تنافي بين الأمرين لمن أحاط علما بما قدمناه.
(الفرق بين تكفير السيئات ومغفرة الذنوب :
مسألة : ما الفرق بين تكفير السيئات ومغفرة الذنوب ؟
[*](قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين :
قد جاء في كتاب الله تعالى ذكرهما مقترنين وذكر كلا منهما منفردا عن الآخر فالمقترنان كقوله تعالى حاكياً عن عباده المؤمنين: {رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ} [آل عمران : 193] والمنفرد كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ } [محمد : 2]
وقوله في المغفرة: {وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ} [محمد : 15] وكقوله تعالى : {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا}[آل عمران :147] ونظائره.
فههنا أربعة أمور: ذنوب وسيئات ومغفرة وتكفير.
(فالذنوب: المراد بها الكبائر .(1/176)
(والمراد بالسيئات: الصغائر وهي ما تعمل فيه الكفارة من الخطأ وما جرى مجراه ولهذا جعل لها التكفير ومنه أخذت الكفارة ولهذا لم يكن لها سلطان ولا عمل في الكبائر في أصح القولين فلا تعمل في قتل العمد ولا في اليمين الغموس في ظاهر مذهب أحمد وأبي حنيفة .
والدليل على أن السيئات هي الصغائر والتكفير لها : قوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً}[النساء : 31] وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان: مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر".
ولفظ (المغفرة) أكمل من لفظ (التكفير) ولهذا كان مع الكبائر والتكفير مع الصغائر فإن لفظ (المغفرة) يتضمن الوقاية والحفظ ولفظ (التكفير) يتضمن الستر والإزالة وعند الإفراد: يدخل كل منهما في الآخر كما تقدم فقوله تعالى: {كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} يتناول صغائرها وكبائرها ومحوها ووقاية شرها بل التكفير المفرد يتناول أسوأ الأعمال كما قال تعالى: {لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا}[الزمر : 35].
وإذا فُهِمَ هذا فُهِمَ السر في الوعد على المصائب والهموم والغموم والنصب والوصب بالتكفير دون المغفرة كقوله: في الحديث الصحيح: "ما يصيب المؤمن من هم ولا غم ولا أذى حتى الشوكه يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه" فإن المصائب لا تستقل بمغفرة الذنوب ولا تغفر الذنوب جميعها إلا بالتوبة أو بحسنات تتضاءل وتتلاشى فيها الذنوب فهي كالبحر لا يتغير بالجيف وإذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث .انتهى .
فلأهل الذنوب ثلاثة أنهار عظام يتطهرون بها في الدنيا فإن لم تف بطهرهم.(1/177)
طهروا في نهر الجحيم يوم القيامة: «نهر التوبة النصوح ونهر الحسنات المستغرقة للأوزار المحيطة بها ونهر المصائب العظيمة المكفرة» فإذا أراد الله بعبده خيرا أدخله أحد هذه الأنهار الثلاثة فورد القيامة طيبا طاهرا فلم يحتج إلى التطهير الرابع .
(كيفية التوبة؟
أخي الحبيب:
كأني بك تقول: إن نفسي تريد الرجوع الى خالقها، تريد الأوبة الى فاطرها، لقد أيقنت أن السعادة ليست في اتباع الشهوات والسير وراء الملذات، واقتراف صنوف المحرمات... ولكنها مع هذا لا تعرف كيف تتوب؟ ولا من أين تبدأ؟
(وفصل الخطاب في هذه المسألة أن الله تعالى إذا أراد بعبده خيراً يسر له الأسباب التي تأخذ بيده إليه وتعينه عليه ، فإن الله تعالى إذا قَدَّر شيئاً هيأ له الأسباب ،وها أنا أذكر لك بعض الأمور التي تعينك على التوبة وتساعدك عليها:
أولاً : أصدق النية وأخلص التوبة:
فإن العبد إذا أخلص لربه وصدق في طلب التوبة أعانه الله وأمده بالقوة، وصرف عنه الآفات التي تعترض طريقه وتصده عن التوبة.. ومن لم يكن مخلصاً لله استولت على قلبه الشياطين، وصار فيه من السوء والفحشاء ما لا يعلمه إلا الله، ولهذا قال تعالى عن يوسف عليه السلام: كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ [يوسف:24]
(حديث شداد بن أوس في صحيح النسائي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن تصدق الله يصدقك .
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:(1/178)
( إن تصدق اللّه يصدقك ) قاله لأعرابي غزا معه فدفع إليه قسمه فقال : ما على هذا اتبعتك ولكن اتبعتك أن أرمي إلى هنا وأشار إلى حلقه بسهم فأموت فأدخل الجنة فقال له ذلك فلبثوا قليلاً ثم نهضوا في قتال العدو فأتي به إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يحمل قد أصابه سهم حيث أشار فقال المصطفى صلى اللّه عليه وسلم : أهو هو؟ قالوا : نعم صدق اللّه فصدقه ثم كفنه في جبته ثم قدمه فصلى عليه فكان مما ظهر من صلاته اللّهم هذا عبدك خرج مجاهداً في سبيلك فقتل شهيداً أنا شهيد على ذلك هكذا رواه النسائي مطولاً فاختصره المؤلف .
ثانياً : حاسب نفسك:
فإن محاسبة النفس تدفع الى المبادرة الى الخير، وتعين على البعد عن الشر، وتساعد على تدارك ما فات، وهي منزلة تجعل العبد يميز بين ما له وما عليه، وتعين العبد على التوبة، وتحافظ عليها بعد وقوعها ، ومحاسبة النفس طريقة المؤمنين وسمة الموحدين وعنوان الخاشعين ، فالمؤمن متق لربه محاسب لنفسه مستغفر لذنبه ، يعلم أن النفس خطرها عظيم، وداؤها وخيم ، ومكرها كبير وشرها مستطير، فهي أمارة بالسوء ميالة إلى الهوى،داعية إلى الجهل، قائدة إلى الهلاك،توّاقة إلى اللهو إلا من رحم الله، فلا تُترك لهواها لأنها داعية إلى الطغيان ، من أطاعها قادته إلى القبائح ، ودعته إلى الرذائل،وخاضت به المكاره،تطلعاتها غريبة،وغوائلها عجيبة،ونزعاتها مخيفة، وشرورها كثيرة، فمن ترك سلطان النفس حتى طغى فإن له يوم القيامة مأوىً من جحيم قال تعالى: (فَأَمّا مَن طَغَىَ * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدّنْيَا * فَإِنّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَىَ * وَأَمّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ وَنَهَى النّفْسَ عَنِ الْهَوَىَ * فَإِنّ الْجَنّةَ هِيَ الْمَأْوَىَ ) [النازعات 37: 41]
(فوائد محاسبة النفس :
ولمحاسبة النفس فوائد عظيمة ومزايا جسيمة منها ما يلي : ((1/179)
(1) الاطلاع على عيوب نفسه : ومن لم يطلع على عيوب نفسه لم يمكنه إزالتها ،والمرء حين يطّلع على عيوب نفسه يكتشف أشياء تدهشك ولا يفقه الرجل حتى يمقت نفسه ويحتقرها في جنب الله .
[*] قال أبو الدرداء: " لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يمقت الناس في جنب الله ، ثم يرجع إلى نفسه فيكون أشد لها مقتاً " .
[*] وكان بعض السلف يقول في دعائه في عرفة ( اللهم لا ترد الناس لأجلي)! ،
[*] وقال محمد بن واسع : لو كان للذنوب ريحٌ ما قدر أحد أن يجلس إلىّ .
مع أنه من كبار العباد في هذه الأمة .
[*] قال يونس بن عبيد: " إني لأجد مائة خصلة من خصال الخير ما أعلم أن في نفسى منها واحدة " .
[*] دخل حمّاد بن سلمة على سفيان الثوري وهو يحتضر فقال: ( يا أبا عبد الله أليس قد أمنت مما كنت تخافه وتقدم على من ترجوه وهو أرحم الراحمين؟!) قال: (يا أبا سلمة أتطمع لمثلي أن ينجو من النار) قال: (إي والله إني لأرجو لك ذلك).
[*] وقال جعفر بن زيد: ( خرجنا في غزاة إلى كابل وفي الجيش صلة بن أشيم فنزل الناس عند العتمة فصلوا ثم اضطجع فقلت: لأرمقنّ عمله، فالتمس غفلة الناس فانسلّ وثبا فدخل غيظة (مجموعة أشجار ملتفة) قريب منا، فدخلت على أثره فتوضأ ثم قام يصلي فجاء أسد حتى دنا منه فصعدت في شجرة فتراه التفت إليه أو عدّه جرو! فلما سجد قلت الآن يفترسه فجلس ثم سلّم ثم قال: ( أيها السبع اطلب الرزق من مكان آخر)، فولّى وإن له زئيراً، فمازال كذلك يصلي حتى كان الصبح فجلس يحمد الله وقال: (اللهم إني أسألك أن تجيرني من النار ومثلي يستحي أن يسألك الجنة)! ثم رجع وأصبح وكأنه بات على حشاياً ، أما أنا فأصبح بي ما الله به عليم من هول ما رأيت!
[*] وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : (اللهم اغفر لي ظلمي وكفري)، فقال قائل: ( يا أمير المؤمنين هذا الظلم فما الكفر؟) قال: (إن الإنسان لظلوم كفّار)، فإذا تمعّن الإنسان حال السلف عرف حاله والبعد الشديد مابينه وبينهم.(1/180)
(2) مقارنة حال بحال فينكشف التقصير العظيم.
(3) ومن التفكر في العيوب أن الإنسان ينظر في عمله ما دخل عليه فيه من العُجب والغرور فيرى نفس كاد أن يهلك ومهما عمل فهو مقصِّر.
(4) أن يخاف الله عز وجل .
(5) ومما يعين على المحاسبة استشعار رقابة الله على العبد وإطلاعه على خفاياه وأنه لا تخفى عليه خافية قال تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) [ ق : 16]
وقال تعالى: (وَاعْلَمُوَاْ أَنّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِيَ أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوَاْ أَنّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ) [ البقرة : 235]
وما أردى الكفار في لجج العمى إلا ظنهم أنهم يمرحون كما يشتهون بلا رقيب، ويفرحون بما يهوون بلا حسيب، قال سبحانه عنهم: إِنَّهُم كَانُواْ لا يَرجُونَ حِسَاباً [النبأ:27]
(6) ومن فوائد المحاسبة التفكر في الأسئلة يوم القيامة وأن تعلم أنك مسئول يوم القيامة ، ليس سؤال المذنبين فقط، قال تعالى: (لّيَسْأَلَ الصّادِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ وَأَعَدّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً أَلِيماً) [ الأحزاب : 8]
وإذا كان الصادقين سيسألهم الله عن صدقهم فما بالك بغيرهم؟! قال تعالى: (فَلَنَسْأَلَنّ الّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنّ الْمُرْسَلِينَ) [ الأعراف : 6] وحتى الرسل يُسألون..!!!
(7) ومن فوائد المحاسبة أن يعرف حق الله تعالى عليه، فإن ذلك يورثه مقت نفسه ، والإزراء عليها ويخلصه من العجب ورؤية العمل ، ويفتح له باب الخضوع والذل والانكسار بين يدى ربه ، واليأس من نفسه ، وأن النجاة لا تحصل له إلا بعفو الله ومغفرته ورحمته ، فإن من حقه أن يطاع فلا يعصى وأن يذكر فلا يُنسى وأن يُشكر فلا يُكفر .
ثالثاً : ذكّر نفسك وعظها وعاتبها وخوّفها:(1/181)
قل لها: يا نفس توبي قبل أن تموتي ؛ فإن الموت يأتي بغتة، وذكّرها بموت فلان وفلان.. أما تعلمين أن الموت موعدك؟! والقبر بيتك؟ والتراب فراشك؟ والدود أنيسك؟... أما تخافين أن يأتيك ملك الموت وأنت على المعصية قائمة؟ هل ينفعك ساعتها الندم؟ وهل يُقبل منك البكاء والحزن؟ ويحك يا نفس تعرضين عن الآخرة وهي مقبلة عليك، وتقبلين على الدنيا وهي معرضة عنك.. وهكذا تظل توبخ نفسك وتعاتبها وتذكرها حتى تخاف من الله فتئوب إليه وتتوب.
رابعاً : اعزل نفسك عن مواطن المعصية:
فترك المكان الذي كنت تعصي الله فيه مما يعينك على التوبة، فإن الرجل الذي قتل تسعة وتسعين إنسانا قال له العالم: ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء
( حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعه وتسعين نفسا فسأل عن أعلم أهل الأرض فدل على راهب فأتاه فقال إنه قتل تسعة وتسعين نفسا فهل له من توبة ؟ فقال لا ، فقتله فَكَمَّل به مائة ، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض فدل على رجل عالم فقال إنه قتل مائة نفس فهل له من توبة فقال نعم ومن يحول بينه وبين التوبة انطلق إلى أرض كذا وكذا فإن بها أناسا يعبدون الله فاعبد الله معهم ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء فانطلق حتى إذا نصف الطريق أتاه الموت فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب فقالت ملائكة الرحمة جاء تائبا مقبلا بقلبه إلى الله وقالت ملائكة العذاب إنه لم يعمل خيرا قط فأتاهم مَلَك في صورة آدمي فجعلوه بينهم فقال قيسوا ما بين الأرضين فإلى أيتهما كان أدنى فهو له فقاسوه فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد فقبضته ملائكة الرحمة .
خامساً : ابتعد عن رفقة السوء:
فإن طبعك يسرق منهم، واعلم أنهم لن يتركوك وخصوصاً أن من ورائهم الشياطين تؤزهم الى المعاصي أزاً، وتدفعهم دفعاً، وتسوقهم سوقاً..(1/182)
وتذكر قوله تعالى: (وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الّذِينَ يَتّبِعُونَ الشّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً) [النساء: 27]
[*] قال الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسيره :
وقوله: { َاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ (4) وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلا عَظِيمًا }
أي: يُريد أتباع الشياطين من اليهود والنصارى والزناة { أَنْ تَمِيلُوا } يعني: عن الحق إلى الباطل { مَيْلا عَظِيمًا.أهـ
فغيّر رقم هاتفك، وغيّر عنوان منزلك إن استطعت، وغيّر الطريق الذي كنت تمر منه..لأن الطباع سَرَّاقة والمرء على دين خليله بنص السنة الصحيحة كما في الحديث الآتي : (
حديث أبي هريرة الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل .
( حديث أبي سعيد الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لا تصاحب إلا مؤمنا و لا يأكل طعامك إلا تقي .
سادساً : تدبّر عواقب الذنوب:
فإن العبد إذا علم أن المعاصي قبيحة العواقب سيئة المنتهى، وأن الجزاء بالمرصاد دعاه ذلك الى ترك الذنوب بداية، والتوبة الى الله إن كان اقترف شيئاً منها.
سابعاً : تذكير النفس بالجنة والنار:
ذكّرها بعظمة الجنة، وما أعد الله فيها لمن أطاعه واتقاه، وخوّفها بالنار وما أعد الله فيها لمن عصاه.
ثامناً : أَشْغِلْ نفسك بما ينفعها وجنّبها الوحدة والفراغ:
فإن النفس إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل، والفراغ يؤدي الى الانحراف والشذوذ والإدمان، ويقود الى رفقة السوء، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد ، ودرر الفرائد . ((1/183)
( حديث ابن عباس رضي الله عنهما الثابت في صحيح البخاري ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس : الصحة و الفراغ .
( نعمتان ) تثنية نعمة ، وهي الحالة الحسنة ، أو النفع المفعول على وجه الإحسان للغير . وزاد في رواية " من نعم اللّه "
( مغبون فيهما ) بالسكون والتحريك قال الجوهري : في البيع بالسكون وفي الراوي بالتحريك ، فيصح كل في الخبر . إذ من لا يستعملهما فيما ينبغي فقد غبن ولم يحمد رأيه
( كثير من الناس : الصحة والفراغ ) من الشواغل الدنيوية المانعة للعبد عن الاشتغال بالأمور الآخروية ، فلا ينافي الحديث المار : إن اللّه يحب العبد المحترف ، لأنه في حرفة لا تمنع القيام بالطاعات . شبه المكلف بالتاجر ، والصحة والفراغ برأس المال لكونهما من أسباب الأرباح ومقدمات النجاح فمن عامل اللّه بامتثال أوامره ربح ، ومن عامل الشيطان باتباعه ضيع رأس ماله . والفراغ نعمة غبن فيها كثير من الناس . ونبه بكثير على أن الموفق لذلك قليل . وقال حكيم : الدنيا بحذافيرها في الأمن والسلامة . وفي منشور الحكم : من الفراغ تكون الصبوة ، ومن أمضى يومه في حق قضاه ، أو فرض أدَّاه ، أو مجد أثله ، أو حمد حصله ، أو خير أسسه ، أو علم اقتبسه فقد عتق يومه وظلم نفسه . قال : لقد هاج الفراغ عليك شغلا * وأسباب البلاء من الفراغ . أهـ
وقد حثنا النبي - صلى الله عليه وسلم - على الترغيب في الفراغ للعبادة والإقبال على الله تعالى وحذرنا من الاهتمام بالدنيا والانهماك عليها : ومن ذلك ما يلي :
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن الله تعالى يقول يا ابن آدم تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنى وأسد فقرك وإلا تفعل ملأت يديك شغلا ولم أسد فقرك .
[*] قال الإمام المنذري رحمه الله تعالى في الترغيب والترهيب :(1/184)
يا بن آدم تفرغ لعبادتي: أي فرغ قلبك وأقبل علي وحدي، فتكون في كل أحوالك ناظراً إلى ربك سبحانه، مراقباً له، خائفاً منه، تعمل ما يرضيه سبحانه وتعالى، فهذا هو التفرغ لعبادة رب العالمين، فإذا فعلت هذا فالنتيجة هي ما جاء في الحديث حيث قال: أملأ صدرك غنى وأسد فقرك . فإذا امتلأ القلب غنى فلا يحتاج الإنسان إلى شيء بعد ذلك؛ لأن الغنى هو غنى القلب، فالإنسان إذا كان مفلساً لا شيء معه وقلبه غني فإنه سيشعر أنه ملك، وأنه أفضل من جميع من معه مال؛ لأن من معه مال يحتاج إلى أن يحرس ماله، أما هذا فلا يحتاج أن يحرس شيئاً؛ لأن القلب ممتلئ غنى، أما إذا ملأ الله قلب الإنسان فقراً وحاجة، فإنه سيشعر أنه فقير ولو كان من أغنى الناس؛ لأنه يحس أن ماله سينفد، وأن هناك أمراضاً يمكن أن تصيبه، فيظل يكنز ويكنز ولا يشبع أبداً. إذاً: الغنى هو غنى القلب والفقر هو فقر القلب، وربنا يعدك أنك إذا تفرغت للعبادة وأحسنت فيها فإنه سوف يملأ قلبك غنى، ولم ينته الأمر عند غنى القلب فقط، بل وفوق ذلك قال: أملأ صدرك غنى وأسد فقرك . أي: سأملأ القلب واليدين .
وإلا تفعل ملأت يديك شغلا: فالإنسان الذي يتباعد عن الله فيسمع المؤذن يؤذن فيقول: أنا لست فارغاً، بل ورائي شغل.. أريد أن آكل.. أو أريد أن أشرب، كيف أترك العمل وأنا محتاج إليه؟ فمثل هذا سوف يظل محروماً طول حياته .
ولم أسد فقرك : أي ستحس أنك فقير دائماً مهما كان معك من أموال كثيرة،
سبحان الله! البعيد عن طاعة الله سبحانه وتعالى يحدث له عكس ما يحدث للمتفرغ لطاعة الله سبحانه، فتجده كثير العمل، يشتغل هنا وهناك، وفي النهاية لا يجد معه شيئاً من الأموال؛ لأن الله يبتليه بالأمراض وبالإنفاق على العمال وغير ذلك، فلا يبقى معه شيء؛ لأنه ابتعد عن الله تبارك وتعالى .
تاسعاً :خالف هواك:(1/185)
فليس أخطر على العبد من هواه، ولهذا قال الله تعالى: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ [الفرقان:43]. فلا بد لمن أراد توبة نصوحاً أن يحطم في نفسه كل ما يربطه بالماضي الأثيم، ولا ينساق وراء هواه ، والهوى شر إلةٍ عُبِدَ في الأرض .
عاشراً : وهناك أسباب أخرى تعينك على التوبة غير ما ذُكر منها: الدعاء الى الله أن يرزقك توبة نصوحاً، وذكر الله واستغفاره، وقصر الأمل وتذكر الآخرة، وتدبر القرآن، والصبر خاصة في البداية، الى غير ذلك من الأمور التي تعينك على التوبة.
( كيفية التوبة من بعض الكبائر الشائعة :
لقد تقدم معنا في الصفحات الماضية ذكر لكيفية التوبة من الذنوب على وجه العموم، ومر ذكر لكيفية التوبة من بعض الذنوب بعينها.
والحديث في هذا البند سيكون إن شاء الله تعالى عن كيفية التوبة من بعض الذنوب الكبيرة الشائعة التي تحتاج إلى شيء من التفصيل في ذكر أضرارها، وكيفية التوبة منها ؛ ذلك أن البلية تعظم بها، والحاجة تمس إليها .
والذنوب التي سيتم الحديث عنها، وذكر كيفية التوبة منها هي: ترك الصلاة، والربا، والزنا، واللواط، والعشق، وذلك كما يلي:
أولاً : التوبة من ترك الصلاة والعياذ بالله :
ثانياً: التوبة من الربا والعياذ بالله :
ثالثاً: التوبة من الزنا والعياذ بالله :
رابعاً: التوبة من اللواط والعياذ بالله :
خامساً: التوبة من العشق والعياذ بالله :
وهاك تفصيل ذلك في إيجازٍ غيرِ مُخِّل : (
أولاً : التوبة من ترك الصلاة والعياذ بالله :
للصلاة في دين الإسلام أهمية عظمى؛ فهي عمود الدين، وأعظم أركانه العملية، وهي أول ما يحاسب عنه العبد يوم القيامة؛ فإن قُبلت قُبل سائر العمل، وإن رُدَّت رُدَّ.
وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد ، ودرر الفرائد . ((1/186)
( حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة فإن صلحت صلح له سائر عمله وإن فسدت فسد سائر عمله .
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
( أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة ) أي المفروضة وهي الخمس لأنها أول ما فرض عليه بعد الإيمان وهي علم الإيمان وراية الإسلام
( فإن صلحت ) بأن كان قد صلاها متوفرة الشروط والأركان وشملها القبول
( صلح له سائر عمله ) يعني سومح له في جميع أعماله ولم يضايق في شيء منها في جنب ما واظب من إدامة الصلاة التي هي علم الدين
( وإن فسدت ) أن لم تكن كذلك
( فسد سائر عمله ) أي ضُيِّقَ فيه واستقصى فحكم بفساده وأخذ منه الأئمة أن حكمة مشروعية الرواتب قبل الفرائض وبعدها تكميلها بها إن عرض نقص قال الطيبي : الصلاح كون الشيء على حالة استقامته وكماله والفساد ضد ذلك وذلك لأن الصلاة بمنزلة القلب من الإنسان فإذا صلحت صلحت الأعمال كلها وإذا فسدت فسدت .
والصلاة علامة على الإيمان، وسلامة من النفاق، ومن حفظها حفظ دينه، ومن ضيَّعها فهو لما سواها أضيع.
ثم إن قدر الإسلام في قلب الإنسان كقدر الصلاة في قلبه، وحظه في الإسلام على قدر حظه من الصلاة.
ومما يدل على أهميتها أن الله_عز وجل_أمر بالمحافظة عليها في السفر، والحضر، والسلم، والحرب، وفي حال الصحة، وفي حال المرض.
ثم إن ترك الصلاة من أكبر الكبائر؛ فهو أكبر من الزنا، والسرقة، وشرب الخمر.
وتارك الصلاة متعرض للوعيد الشديد، بل إن تركها كفر بالله عز وجل إن تركها جاحداً لوجوبها.
فقد أجمع علماء الإسلام على أن من تركها جاحداً لوجوبها فإنه كافر بالله كفراً أكبر مخرجاً من الملة.
أما من تركها تكاسلاً وتهاوناً فقد اختلف العلماء في حكمه، فمنهم من قال: إنه كافر كفراً أكبر مخرجاً من الملة.
ومنهم من قال: إنه كافر كفراً لا يخرج من الملة.(1/187)
[*](قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى : وأما تارك الصلاة فهذا إن لم يكن معتقداً لوجوبها فهو كافر بالنص والإجماع (1) .
(وقال أيضاً : ومن يمتنع عن الصلاة المفروضة فإنه يستحق العقوبة الغليظة باتفاق المسلمين .
بل يجب عند جمهور الأمة كمالك، والشافعي، وأحمد، وغيرهم أن يستتاب، فإن تاب وإلا قتل .
بل تارك الصلاة شر من السارق، والزاني، وشارب الخمر، وآكل الحشيشة (2) .
وسئل رحمه الله تعالى عن رجل يأمره الناس بالصلاة، ولم يصلِّ؛ فما الذي يجب عليه؟
فأجاب: إذا لم يصل فإنه يستتاب، فإن تاب، وإلا قتل، والله أعلم (3) .
(وقال أيضاً : ومتى امتنع الرجل من الصلاة حتى يقتل لم يكن في الباطن مقراً بوجوبها، ولا ملتزماً بفعلها، وهذا كافر باتفاق المسلمين كما استفاضت الآثار عن الصحابة بكفر هذا، ودلت عليه النصوص الصحيحة كقوله :
( حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : بين الرجل وبين الكفر والشرك ترك الصلاة .
( حديث بريدة الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجه ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر .
وقول عبدالله بن شقيق: كان أصحاب محمد لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر إلا الصلاة.
فمن كان مصراً على تركها حتى يموت لا يسجد لله سجدة قط فهذا لا يكون قط مسلماً مقراً بوجوبها (4) .
فترك الصلاة من أعظم الذنوب، وأكبر الكبائر، والتوبة منه واجبة؛ فواجب على من ترك الصلاة أن يتوب من ذلك الذنب العظيم قبل أن يفجأه الموت؛ فواجب عليه أن يتوب إلى الله على الفور، وأن يندم على ما مضى من تركه للصلاة، وأن يعزم على عدم تركها.
__________
(1) مجموعة الفتاوى 22/40.
(2) مجموع الفتاوى 22/50.
(3) مجموع الفتاوى 22/53.
(4) مجموع الفتاوى 22/48.(1/188)
أما ما مضى من الصلوات المتروكة فقد اختلف العلماء في قضائه لها؛ فمنهم من قال: يقضي ما مضى من الفرائض المتروكة، ومنهم من قال: لا يؤمر بقضائها، وإنما توبته تكون بأداء الفرائض المستأنفة (1) .
والقول الثاني هو الصواب إن شاء الله لدلالة النصوص على ذلك، ولأن فيه تيسيراً لأمر التوبة.
[*](قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى : وأما تارك الصلاة فهذا إن لم يكن معتقداً لوجوبها فهو كافر بالنص والإجماع.
لكن إذا أسلم، ولم يعلم أن الله أوجب عليه الصلاة، أو وجوبَ بعض أركانها مثل أن يصلي بلا وضوء؛ فلا يعلم أن الله أوجب عليه الوضوء، أو يصلي مع الجنابة فلا يعلم أن الله أوجب عليه غسل الجنابة_فهذا ليس بكافر إذا لم يعلم.
لكن إذا علم الوجوب هل يجب عليه القضاء؟ فيه قولان للعلماء في مذهب أحمد، ومالك، وغيرهما، قيل: يجب عليه القضاء، وهو المشهور عن أصحاب الشافعي، وكثير من أصحاب أحمد.
وقيل: لا يجب عليه القضاء، وهو الظاهر (2) .
(وقال أيضاً : ومن كان أيضاً يعتقد أن الصلاة تسقط عن العارفين، أو عن المشايخ الواصلين، أو عن بعض أتباعهم، أو أن الشيخ يصلي عنهم، أو أن لله عباداً أسقط عنهم الصلاة كما يوجد كثير من ذلك في كثير من المنتسبين إلى الفقر والزهد، وأتباع بعض المشايخ والمعرفة فهؤلاء يستتابون باتفاق الأئمة، فإن أقروا بالوجوب وإلا قوتلوا.
وإذا أصروا على جحد الوجوب حتى قتلوا كانوا من المرتدين.
ومن تاب منهم، وصلى لم يكن عليه إعادة ما ترك قبل ذلك في أظهر قولي العلماء؛ فإن هؤلاء إما أن يكونوا مرتدين، وإما أن يكونوا مسلمين جاهلين للوجوب.
__________
(1) انظر تفاصيل تلك الأقوال في مدارج السالكين 1/380_390، وكتاب الصلاة لابن القيم ص 532_569.
(2) مجموع الفتاوى 22/40_41.(1/189)
فإن قيل: إنهم مرتدون عن الإسلام فالمرتد إذا أسلم لا يقضي ما تركه حال الردة عند جمهور العلماء كما لا يقضي الكافر إذا أسلم ما ترك حال الكفر باتفاق العلماء، ومذهب مالك، وأبي حنيفة وأحمد في أظهر الروايتين عنه، والأخرى يقضي كقول الشافعي، والأول أظهر؛ فالذين ارتدوا على عهد رسول الله"كالحارث بن قيس، وطائفة معه أنزل الله فيهم: (كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ) [آل عمران: 86] ، والتي بعدها.
وكعبدالله بن أبي سرح، والذين خرجوا مع الكفار يوم بدر، وأنزل الله فيهم: (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ) [النحل: 110]
فهؤلاء عادوا إلى الإسلام، وعبدالله بن أبي سرح عاد إلى الإسلام عام الفتح، وبايعه النبي".
ولم يأمر أحداً منهم بإعادة ما ترك حال الكفر في الردة، كما لم يكن يأمر سائر الكفار إذا أسلموا.
وقد ارتد في حياته خلق كثير اتبعوا الأسود العنسي الذي تنبأ بصنعاء اليمن، ثم قتله الله، وعاد أولئك إلى الإسلام، ولم يؤمروا بالإعادة.
وتنبأ مسيلمة الكذاب، واتبعه خلق كثير قاتلهم الصديق، والصحابة بعد موته حتى أعادوا من بقي منهم إلى الإسلام، ولم يأمر أحداً منهم بالقضاء، وكذلك سائر المرتدين بعد موته.
وكان أكثر البوادي قد ارتدوا، ثم عادوا إلى الإسلام، ولم يأمر أحداً منهم بقضاء ما ترك من الصلاة.
وقوله تعالى : (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ) [الأنفال:38] يتناول كل كافر.
وإن قيل: إن هؤلاء لم يكونوا مرتدين، بل جهالاً بالوجوب، وقد تقدم أن الأظهر في حق هؤلاء أنهم يستأنفون الصلاة على الوجه المأمور، ولا قضاء عليهم؛ فهذا حكم من تركها غير معتقدٍ لوجوبها (1) .
__________
(1) مجموع الفتاوى 22/45_47.(1/190)
[*](وقال ابن القيم رحمه الله تعالى في معرض حديث له عن مسألة قضاء الفرائض المتروكة، قال: ومن أحكام التوبة أن من تعذر عليه أداء الحق الذي فرط فيه، ولم يمكنه تداركه، ثم تاب؛ فكيف حكم توبته؟ وهذا يتصور في حق الله سبحانه وحقوق عباده.
فأما في حق الله فَكَمَنْ ترك الصلاة عمداً من غير عذر مع علمه بوجوبها، وفرضها، ثم تاب، وندم فاختلف السلف في هذه المسألة، فقالت طائفة: توبته بالندم، والاشتغال بأداء الفرائض المستأنفة، وقضاء الفرائض المتروكة، وهذا قول الأئمة الأربعة وغيرهم.
وقالت طائفة: توبته باستئناف العمل في المستقبل، ولا ينفعه تدارك ما مضى بالقضاء، ولا يقبل منه، فلا يجب عليه، وهذا قول أهل الظاهر، وهو مروي عن جماعة من السلف (1) .
ثم شرع رحمه الله تعالى في ذكر حجج كلتا الطائفتين (2) .
وقال في آخر حديثه: قالوا: وأما قولكم: هذا تائب نادم، فكيف تسد عليه طريق التوبة؟ ويجعل إثم التضييع لازماً له، وطائراً في عنقه؟ فمعاذ الله أن نسد عليه باباً فتحه الله لعباده المذنبين كلهم، ولم يغلقه عن أحد إلى حين موته، أو إلى وقت طلوع الشمس من مغربها.
وإنما الشأن في طريق توبته، وتحقيقها هل يتعين لها القضاء؟ أم يستأنف العمل، وقبول التوبة؟
فإنَّ تركَ فريضة من فرائض الإسلام لا يزيد على ترك الإسلام بجملته، وفرائضه، فإذا كانت توبة تارك الإسلام مقبولة صحيحة لا يشترط في صحتها إعادةُ ما فاته في حال إسلامه_أصلياً كان أم مرتداً_كما أجمع عليه الصحابة في ترك أمر المرتدين لما رجعوا إلى الإسلام بالقضاء_فقبول توبة تارك الصلاة، وعدم توقفها على القضاء أولى، والله أعلم (3) .
فتوبة تارك الصلاة إذاً تكون بالندم، وبأداء الصلوات المستأنفة، ولا يؤمر بالقضاء.
__________
(1) مدارج السالكين 1/380.
(2) انظر مدارج السالكين 1/380_390.
(3) مدارج السالكين 1/390.(1/191)
ومما يعين الإنسان على المحافظة على الصلاة أن يستعين بالله عز وجل وأن يعزم على أدائها عزيمة جازمة، وأن يأخذ بالأسباب المعينة على ذلك من استعمال المنبه حال النوم، وترك فضول الطعام والشراب.
ومن ذلك أن يستحضر الآثار المتربتة على ترك الصلاة من تكدر النفس، وانقباضها، وضيق الصدر، وتعسير الأمور.
ومن ذلك أن يستحضر الثمرات المترتبة على أداء الصلاة، وهي كثيرة لا تحصى .
ثانياً: التوبة من الربا والعياذ بالله :
(حكم الربا :
الربا محرم بالقرآن والسنة، وإجماع المسلمين، ومرتبته أنه من كبائر الذنوب؛ لأن الله تعالى قال: {{وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}} [البقرة: 275] ، وقال تعالى: {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ}} [البقرة: 278، 279] ، ولأن الرسول : «لعن آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه وقال: هم سواء»
وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد ، ودرر الفرائد . (
( حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح مسلم ) قال :لعن رسول الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه وقال هم سواء .
والربا من السبع الموبقات بنص السنة الثابتة الصحيحة
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (اجتنبوا السبع الموبقات). قالوا: يا رسول الله، وما هن؟ قال: (الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات).
( اجتنبوا ) أبعدوا وهو أبلغ من لا تفعلوا لأن نهي القربان أبلغ من نهي المباشرة ذكره الطيبي(1/192)
(السبع الموبقات) بضم الميم وكسر الموحدة التحتية المهلكات جمع موبقة وهي الخصلة المهلكة أو المراد الكبيرة أجملها وسماها مهلكات ثم فصلها ليكون أوقع في النفس .
الشاهد : قوله - صلى الله عليه وسلم - ( أكل الربا ) أي تناوله بأي وجه كان
، فهو من أعظم الكبائر.
[*](وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في كتابه «إبطال التحليل»، أنه جاء من الوعيد في الربا ما لم يأت في أي ذنب آخر سوى الشرك والكفر.
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجة ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : الربا سبعون حوبا أيسرها أن ينكح الرجل أمه .
( الربا سبعون حوباً ) حوباً : أي إثما
( حديث عبدالله بن حنظلةالثابت في صحيح الجامع ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :درهم ربا يأكله الرجل و هو يعلم أشد عند الله من ستة و ثلاثين زنية .
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
( درهم رباً يأكله الرجل وهو يعلم ) أي والحال أنه يعلم أنه رباً أو يعلم الحكم فمن نشأ بعيداً عن العلماء ولم يقصر فهو معذور
( أشد عند اللّه من ) ذنب ( ستة وثلاثين زنية )(1/193)
قال الطيبي : إنما كان أشد من الزنا لأن من أكله فقد حاول مخالفة اللّه ورسوله ومحاربتهما بعقله الزائغ . قال تعالى : { فأذنوا بحرب من اللّه ورسوله } أي بحرب عظيم فتحريمه محض تعبد ولذلك رد قولهم { إنما البيع مثل الربا } وأما قبح الزنا فظاهر شرعا وعقلاً وله روادع وزواجر سوى الشرع فأكل الربا يهتك حرمة اللّه والزاني يخرق جلباب الحياء اهـ . وهذا وعيد شديد لم يقع مثله على كبيرة إلا قليلاً . قال الحرالي : وإذا استبصر ذو دراية فيما يضره في ذاته فأنف منه رعاية لنفسه حق له بذلك التزام رعايتها عما يتطرق له منه من جهة غيره فيتورع عن أكل أموال الناس بالباطل لما يدري من المؤاخذة عليها في العاجل وما خبيء له في الآجل . قال سبحانه وتعالى : { إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً } فهو آكل نار وإن لم يحس به . وكما عرّف اللّه تعالى أن أكل مال الغير نار في البطن عرف أن أكل الربا جنون في العقل وخبال في النفس { الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان } وظاهر صنيع المصنف أن هذا هو الحديث بتمامه والأمر بخلافه بل بقيته عند مخرجه أحمد في الحطيم هكذا ذكره وكأنه سقط من قلم المصنف .
وهو مُجْمَعٌ على تحريمه، ولهذا من أنكر تحريمه ممن عاش في بيئة مسلمة فإنه مرتد؛ لأن هذا من المحرمات الظاهرة المجمع عليها.
{ تنبيه } :( وللربا آثار نفسية وخلقية مدمرة؛ ذلك أن المرابي يستعبده المال، فيسعى للوصول إليه بكل سبيل دونما مبالاة باعتداء على المحرمات، أو تجاوز للحدود.
والربا ينبت في النفس الجشعَ، والظلمَ، وقسوة القلب. بل إن الربا يحدث آثاراً خبيثة في نفس متعاطيه وتصرفاته، وأعماله، وهيئته.(1/194)
ويرى بعض الأطباء أن الاضطراب الاقتصادي الذي يولد الجشع الذي لا تتوافر أسبابه الممكنة_يسبب كثيراً من الأمراض التي تصيب القلب، فيكون من مظاهرها ضغط الدم المستمر، أو الذبحة الصدرية، أو الجلطة الدموية، أو النزيف في المخ، أو الموت المفاجىء.
ولقد قرر عميد الطب الباطني في مصر الدكتور عبدالعزيز إسماعيل في كتابه (الإسلام والطب) أن الربا هو السبب في كثرة أمراض القلب (1) .
ثم إنه مزيل للترابط والتآخي والتكافل بين الناس، فأضراره على الأفراد والمجتمعات كثيرة جداً (2) .
(وبناءاً على ما تقدم فالتوبة من الربا واجبة على الفور، وتكون بترك الربا، والندم على ما مضى من التعامل به، والعزم على عدم العود إليه.
مسألة : الأموال التي اكتسبها التائب من الربا والتي هي تحت يده كيف يتصرف فيها ؟
الجواب :
الأموال التي اكتسبها التائب من الربا فقد اختلف أهل العلم في حكمها على قولين :
(القول الأول : أنه يجب عليه أن يخرجها ولا يبقيها في ماله :
[*](قال القرطبي رحمه الله تعالى في الجامع لأحكام القرآن 2/366_367: قال علماؤنا: إن سبيل التوبة مما بيده من الأموال الحرام إن كانت من رباً فليردها على من أربى عليه، ويطلبه إن لم يكن حاضراً، فإن أيس من وجوده فليتصدق بذلك عنه .
__________
(1) انظر الربا وأثره على المجتمع الإنساني د.عمر الأشقر ص101_133.
(2) مرجع سابق.(1/195)
إلى أن قال: فإن التبس عليه الأمر، ولم يدر كم الحرام من الحلال مما بيده فإنه يتحرى قدر ما بيده مما يجب عليه رده؛ حتى لا يشك أن ما بقى قد خلص له، فيرده من ذلك الذي أزال عن يده إلى من عرف ممن ظلمه، وأربى عليه، فإن أيس من وجوده تصدق به عنه، فإن أحاطت المظالم بذمته، وعلم أنه وجب عليه من ذلك ما لا يطيق أداءه أبداً؛ لكثرته فتوبته أن يزيل ما بيده أجمع إما إلى المساكين، وإما إلى ما فيه صلاح المسلمين، حتى لا يبقى في يده إلا أقل ما يجزئه في الصلاة من اللباس وهو ما يستر العورة، وهو من سرته إلى ركبتيه، وقوت يومه؛ لأنه الذي يجب له أن يأخذه من مال غيره إذا اضطر إليه، وإن كره ذلك من يأخذه منه .
(القول الثاني : إن على المرابي أن يخرج ما بيده من الربا إن كان قد قبضه وهو يعلم حكم الله في ذلك، وأما إن كان قد قبضه وهو جاهل فهو له، ولا يجب عليه إخراجه .
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :
من أسلم على شيء فهو له .
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
( من أسلم على شيء فهو له ) استدل به على أن من أسلم أحرز نفسه وماله .
ورد اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في المملكة العربية السعودية سؤال يقول: إذا كان رجل يتعامل بالربا، وأراد التوبة، فأين يذهب بالمال الناتج من الربا، هل يتصدق به إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً ما مدى تأثير هذا القول على مال الربا؟
وأجابت اللجنة في الفتوى رقم (6375) في 20/11/ 1403هـ بما نصه: يتوب إلى الله، ويستغفره، ويندم على ما مضى، ويتخلص من الفوائد الربوية بإنفاقها في وجوه البر وليس هذا من صدقة التطوع، بل هو من باب التخلص مما حرم الله .(1/196)
وجاء في الفتوى رقم (18057) وتاريخ 17/7 / 1416هـ من فتاوى اللجنة الدائمة ما نصه: لا يجوز أخذ الفوائد الربوية من البنوك أو غيرها بحجة أنه سينفقها على الفقراء؛ لأن الله حرم الربا مطلقاً، وشدد الوعيد فيه، ولا تجوز الصدقة منه، لأن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، لكن إذا كان قد قبض الفوائد الربوية فعليه أن يصرفها على الفقراء؛ تخلصاً منها، وليس له أن يستفيد منها .
وجاء كلام قريب من هذا في الفتوى رقم (6770) في 12/ 3/ 1404هـ، والفتوى رقم (16576) في 7/ 2/ 1414هـ من فتاوى اللجنة.
() جاء في إجابة لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى عن سؤال حول التعامل بالربا مع البنوك ما نصه:
يحرم التعامل بالربا مع البنوك وغيرها، وجميع الفوائد الناتجة عن الربا كلها محرمة، وليست مالاً لصاحبها، بل يجب صرفها في وجوه الخير إن كان قد قبضها وهو يعلم حكم الله في ذلك .
أما إذا كان لم يقبضها فليس له إلا رأس ماله؛ لقوله عز وجل: (يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اتّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرّبَا إِن كُنْتُمْ مّؤْمِنِينَ فَإِن لّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ) [البقرة 278: 279] أما إن كان قد قبضها قبل أن يعرف حكم الله في ذلك فهي له، ولا يجب عليه إخراجها من ماله؛ لقول الله عز وجل (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [البقرة: ]275(1/197)
وعليه زكاة أمواله التي ليست من أرباح الربا كسائر أمواله التي يجب فيها الزكاة، ويدخل في ذلك ما دخل عليه من أرباح الربا قبل العلم؛ فإنها من جملة ماله؛ للآية المذكورة، والله ولي التوفيق . فتاوى مهمة تتعلق بالزكاة من أجوبة سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز أشرف على طبعه محمد بن شايع العبد العزيز ص25_26.
مسألة : ما حكم المال المختلط ؟
الجواب :
[*](قال فضيلة الشيخ عبد الله بن منيع حفظه الله : وذكر بعض أهل العلم وبعض محققيهم أن من بيده أموال محرمة بوصفها لا بأصلها، كالأموال الربوية مما ليس له أفراد معينون وهي مختلطة بماله الحلال، وبثمن مجهوده في الاكتساب بها؛ فإذا تاب من بيده هذه الأموال توبة نصوحاً مستكملة شروط التوبة إلى الله تعالى فإنه يُقَرُّ على ما بيده، وتوبته النصوح تجب ما قبلها ويعتبر ما بيده ملكا له، يتصرف فيه تصرف المالك في ملكه.(1/198)
واستدلوا على ذلك بقوله تعالى : ( وَأَحَلّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرّمَ الرّبَا فَمَن جَآءَهُ مَوْعِظَةٌ مّنْ رّبّهِ فَانْتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ ) [ البقرة : 275] وذكروا أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وأن الموعظة أعم من أن تحصر في انشراح صدر الكافر إلى الإسلام، (وقالوا في توجيه هذا القول: إن الأخذ بهذا يدعو أهل الفسوق إلى التوبة إلى الله، وأن القول بغير هذا_ أي بحرمانه مما بيده _ قد يسد عليه باب التوبة إلى الله، ويعين الشيطان عليه في الاستمرار على أخذ المال الحرام، والتعاون على الإثم والعدوان، وأجابوا عن الآية الكريمة (وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ) بأن هذه الآية خاصة بالأموال الذميمة المشتملة على الفوائد الربوية، فمن كان له ذمة أحد من الناس مبلغ من المال بعضه ربا فالتوبة تقتضي أن يتقاضى رأس ماله فقط، ويسقط ما زاد عنه من فائدة ربوية [ بحوث في الاقتصاد الإسلامي للشيخ عبد الله بن منيع ص34_35]
[*](وممن قال بهذا القول الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله تعالى قال: واختار الشيخ تقي الدين أن المقبوض بعقد فاسد غير مضمون، وأنه يصح التصرف فيه؛ لأن الله تعالى لم يأمر برد المقبوض بعقد الربا بعد التوبة، وإنما رد الربا الذي لم يقبض، ولأنه قبض برضا مالكه؛ فلا يشبه المغصوب، ولأن فيه من التسهيل والترغيب في التوبة ما ليس في القول بتوقيف توبته على رد التصرفات الماضية مهما كثرت وشقت، والله أعلم
[الفتاوى السعدية ص218](1/199)
(وقال أيضاً : في قوله تعالى : (وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ) قال: يعني من المعاملات الربوية؛ فلكم رؤوس أموالكم :لا تظلمون الناس بأخذ الربا ،ولا تُظلمون: ببخسكم رؤوس أموالكم؛ فكل من تاب من الربا فإن كانت معاملات سالفة فله ما سلف، وأمره منظور فيه، وإن كانت معاملات موجودة وجب عليه أن يقتصر على رأس ماله، فإن أخذ زيادة فقد تجرأ على الربا[ تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان 1/340]
[*](وممن قال بهذا القول، وانتصر له شيخ الإسلام ابن تيمية، يقول رحمه الله تعالى في معرض كلام له عن المقبوض بعقد فاسد يعتقد صاحبه صحته ثم ظهر له عدم الصحة ما نصه: وأما إذا تحاكم المتعاقدان إلى من يعلم بطلانها قبل القبض واستفتياه إذا تبين لهما الخطأ، فرجع عن الرأي الأول، فما كان قد قبض بالاعتقاد والأول أمضي، وإذا كان بقي في الذمة رأس المال وزيادة ربوية أسقطت الزيادة، ورجع إلى رأس المال، ولم يجب على القابض رد ما قبضه قبل ذلك بالاعتقاد الأول[ مجموع الفتاوى 29/ 413]
(وقال رحمه الله تعالى في موضع آخر في تفسير آيات الربا من سورة البقرة: قوله: (فله ما سلف) أي مما كان قبضه من الربا جعله له، (وأمره إلى الله) قد قيل: الضمير يعود إلى الشخص، وقيل: إلى (ما) وبكل حال فالآية تقتضي أن أمره إلى الله لا إلى الغريم الذي عليه الدين، بخلاف الباقي فإن للغريم أن يطلب إسقاطه .
(وقال رحمه الله تعالى في قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا) : أي ذروا ما بقي من الزيادة في ذمم الغرماء، وإن تبتم فلكم رأس المال من غير زيادة، فقد أمرهم بترك الزياة وهي الربا، فيسقط عن ذمة الغريم، ولا يطالب بها، وهذا للغريم فيها حق الامتناع من أدائها، والمخاصمة على ذلك، وإبطال الحجة المكتتبة بها.(1/200)
وأما ما كان قبضه فقد قال: فله ما سلف وأمره إلى الله ، فاقتضى أن السالف له للقابض، وأن أمره إلى الله وحده لا شريك له، ليس للغريم فيه أمر، وذلك أنه لما جاءه موعظة من ربه فانتهى كان مغفرة ذلك الذنب، والعقوبة عليه إلى الله، وهذا قد انتهى في الظاهر، فله ما سلف وأمره إلى الله إن علم من قلبه صحة التوبة غفر له، وإلا عاقبة، ثم قال: اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين، فأمر بترك الباقي، ولم يأمر برد المقبوض.
وقال: وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم، لا يشترط منها ما قبض.
وهذا الحكم ثابت في حق الكافر إذا عامل كافراً بالربا، وأسلما بعد القبض، وتحاكما إلينا،فإن ما قبضه يحكم له كسائر ما قبضه الكفار بالعقود التي يعتقدون حلها كما لو باع خمراً، وقبض ثمنها،ثم أسلم فإن ذلك يحل له كما قال النبي": من أسلم على شيء فهو له .
وأما المسلم فله ثلاثة أحوال: تارة يعتقد حل بعض الأنواع باجتهاد أو تقليد، وتارة يعامل بجهل، ولا يعلم أن ذلك ربا محرم، وتارة يقبض مع علمه بأن ذلك محرم.
أما الأول والثاني ففيه قولان إذا تبين له فيما بعد أن ذلك ربا محرم، قيل: يرد ما قبض كالغاصب، وقيل: لا يرده، وهو أصح؛ لأنه كان يعتقد أن ذلك حلال.
والكلام فيما إذا كان مختلفا فيه مثل الحيل الربوية، فإذا كان الكافر إذا تاب يغفر له ما استحله، ويباح له ما قبضه_فالمسلم المتأول إذا تاب يغفر له ما استحله، ويباح له ما قبضه؛ لأن المسلم إذا تاب أولى أن يغفر له إذا كان قد أخذ بأحد قولي العلماء في حل ذلك؛ فهو في تأويله أعذر من الكافر في تأويله.
وأما المسلم الجاهل فهو أبعد، لكن ينبغي أن يكون كذلك، فليس هو شراً من الكافر.
[ تفسير آيات أشكلت 2/ 574_578](1/201)
(وقال رحمه الله تعالى : والشريعة أمر ونهي، فإذا كان حكم الأمر لا يثبت إلا بعد بلوغ الخطاب وكذلك النهي ـ فمن فعل شيئاً لم يعلم أنه محرم ثم علم لم يعاقب، وإذا عامل معاملات ربوية يعتقدها جائزة، وقبض منها ما قبض ثم جاءه موعظة من ربه فانتهى ـ فله ما سلف . [تفسير آيات أشكلت 2/582]
(وقال رحمه الله تعالى :والتوبة تتناول المسلم العاصي كما تتناول الكافر، ولا خلاف أنه لو عامله برباً يحرم بالإجماع لم يقبض منه شيئاً ثم تاب أن له رأس ماله؛ فالآية تناولته، وقد قال فيها: اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا، ولم يأمر برد المقبوض، بل قال قبل ذلك: فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف .
وهذاـ وإن كان ملعوناً على ما أكله وأوكله ـ فإذا تاب غفر له، ثم المقبوض قد يكون اتجر فيه، وتقلب، وقد يكون أكله، ولم يبق منه شيء، وقد يكون باقياً، فإن كان قد ذهب، وجعل ديناً عليه كان في ذلك ضرر عظيم، وكان هذا منفراً عن التوبة. وهذا الغريم يكفيه إحساناً إليه إسقاطه ما بقي في ذمته، وهو برضاه أعطاه، وكلاهما ملعون.
ولو فرض أن رجلاً أمر رجلاً بإتلاف ماله وأتلفه لم يضمنه وإن كانا ظالمين، وكذلك إذا قال: اقتل عبدي، هذا هو الصحيح، وهو المنصوص عن أحمد وغيره؛ فكذلك هذا هو سلَّط ذاك على أكل هذا المال برضاه؛ فلا وجه لتضمينه ـ وإن كانا آثمين ـ كما لو أتلفه بفعله، إذ لا فرق بين أن يتلفه بأكله أو بإحراقه، بل أكله خير من إحراقه، فإن لم يضمنه في هذا بطريق الأولى.
وأيضاً فكثير من العلماء يقولون: إن السارق لا يغرم؛ لئلا يجتمع عليه عقوبتان؛ من أن الحد حق لله، والمال حق لآدمي.
وهذا أولى؛ لئلا يجتمع على المربي عقوبتان: إسقاط ما بقي، والمطالبة بما أكل.(1/202)
وإذا كان عين المال باقياً فهو لم يقبضه بغير اختيار صاحبه كالسارق، والغاصب، بل قبضه باتفاقهما، ورضاهما بعقد من العقود، وهو لو كان كافراً ثم أسلم لم يرده، وقد قال تعالى : =فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله .
[تفسير آيات أشكلت 2/588_590]
(وقال رحمه الله تعالى :وأما الذي لا ريب فيه عندنا فهو ما قبضه بتأويل، أو جهل _ فهنا له ما سلف بلا ريب، كما دل عليه الكتاب والسنة والاعتبار.
وأما مع العلم بالتحريم فيحتاج إلى نظر؛ فإنه قد يقال: طرد هذا أن من اكتسب مالاً من ثمن خمر مع علمه بالتحريم فله ما سلف، وكذلك كل من كسب مالاً محرماً ثم تاب إذا كان برضا الدافع، ويلزم مثل ذلك في مهر البغي، وحلوان الكاهن.
ثالثاً: التوبة من الزنا والعياذ بالله :
(مفاسد الزنا والعياذ بالله :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ
الزنا فسادٌ كبير، أمره خطير وشره مستطير، له آثار كبيرة، وتنجم عنه أضرار كثيرة، سواء على مرتكبيه، أو على الأمة بعامة ، وبما أن الزنا يكثر وقوعه ويجب تحذير الناس من شره لأنه أشر من البرص وأضر من الجرب ، وجب علينا أن نبين مفاسد الزنا والعياذ بالله تعالى منه حتى يجتنبه المسلمون ولا يقتربوا من أي طريق يُقَرِّبُ منه امتثالاً لقوله تعالى : (وَلاَ تَقْرَبُواْ الزّنَىَ إِنّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَآءَ سَبِيلاً) [ الإسراء : 32]
فالزنا حرامٌ ، وهو من كبائر الذُّنوب ، حتى إن الله عزَّ وجلَّ قد قَرَنَهُ مع الشرك بالله والقتل في قوله تعالى : (والذينَ لا يَدْعونَ معَ اللهِ إِلهاً آخرَ ولا يَقتُلونَ النَّفسَ التي حرَّمَ اللهُ إلا بالحقِّ ولا يَزْنونَ ، ومَنْ يفعلْ ذلكَ يَلْقَ أَثاماً * يُضاعَفْ لهُ العذابُ يومَ القيامةِ ويَخْلُدْ فيهِ مُهاناً * إلا مَنْ تابَ وآمنَ وعَمِلَ عملاُ صالحاً فأُولئكَ يبدَّلُ اللهُ سيئاتِهم حسناتٍ وكانَ اللهُ غفوراً رحيماً ) [الفرقان 68 – 70](1/203)
والزنا فعلٌ يُسيء للمجتمع أشدَّ الإساءة فهو يؤدي لاختلاط الأنساب ، وينتهي إلى خراب البيوت وهو من أكثر العوامل التي تدفع إلى الجريمة ، فكم من جنين أُجهض لأنه كان ثمرةً للزنى ! وكم من بنت قُتلت دفاعاً عن شرف العائلة وسُمعتها ! وكم من زوج قَتَلَ زوجتَهُ أو عشيقها أو قتلهما معاً ، وكم من زوجة قتلت زوجها وعشيقته أو قتلتهما معاً انتقاماً للخيانة الزوجية .
[*] وقد تحدث الإمام ابن القيم عن مفاسد الزنا فقال رحمه الله تعالى :
والزنا يجمع خلال الشرِّ كلها ، من قلة الدين وذهاب الوَرَع ، وفساد المروءة وقلة الغَيرة ، فلا تجد زانياً معه ورع ولا وفاء ولا صدق في حديث ولا محافظة على صديق ولا غَيْرَة تامة على أهله ! ومن موجباته غضب الربِّ بإفساد حرمة عياله ، ومنها سواد الوجه وظلمته وما يعلوه من الكآبة والمقت ، ومنها ظلمة القلب وطمس نوره .. ومنها أنه يذهب حرمة فاعله ، ويسقط من عين ربه ومن أعين عباده ، ومنها أن يسلبه أحسن الأسماء ويعطيه أضدادها ، ومنها ضيق الصدر وحرجه ، فإن الزناة يعامَلون بضدِّ قصدهم ، فإنَّ من طلب لذة العيش وطيبه بما حرَّمه الله عليه عاقبه بنقيض قصده ، فإن ما عند الله لا يُنال إلا بطاعته ، ولم يجعل الله معصيته سبباً إلى خير قطّ .
[*] والزنا يجمع خلال الشر كلها منها ما يلي : (
(1) الزنا يجمع خلال الشر كلها من : قلة الدين ، وذهاب الورع ، وفساد المروءة ، وقلة الغيرة ، ووأد الفضيلة .
(2) يقتل الحياء ويلبس وجه صاحبه رقعة من الصفاقة والوقاحة
(3) سواد الوجه وظلمته ، وما يعلوه من الكآبة والمقت الذي يبدو للناظرين
(4) ظلمة القلب ، وطمس نوره.
(5) الفقر اللازم لمرتكبيه ، وفي أثر يقول الله تعالى : (( أما مهلك الطغاة ، ومفقر الزناة)
(6) أنه يذهب حرمة فاعله ، ويسقطه من عين ربه وأعين عباده ، ويسلب صاحبه اسم البر، والعفيف ، والعدل ، ويعطيه اسم الفاجر ، والفاسق ، والزاني ، والخائن(1/204)
(7) الوحشة التي يضعها الله في قلب الزاني ، وهي نظير الوحشة التي تعلو وجهه؛ فالعفيف على وجهه حلاوة ، وفي قلبه أنس ، ومن جالسه استأنس به ، والزاني بالعكس من ذلك تماماً .
(8) أن الناس ينظرون إلى الزاني بعين الريبة والخيانة ، ولا يأمنه أحد على حرمته وأولاده .
(9) ومن أضراره الرائحة التي تفوح من الزاني ، يشمها كل ذي قلب سليم ، تفوح من فيه ، ومن جسده .
(10) ضيقة الصدر وحرجه ؛ فإن الزناة يعاملون بضد قصودهم ؛ فإن من طلب لذة العيش وطيبه بمعصية الله عاقبه الله بنقيض قصده ؛ فإن ما عند الله لا ينال إلا بطاعته ، ولم يجعل الله معصيته سبباً إلى خير قط .
(11) الزاني يعرض نفسه لفوات الاستمتاع بالحور العين في المساكن الطيبة في جنات عدن .
(12) الزنا يجرئ على قطيعة الرحم وعقوق الوالدين ، وكسب الحرام ، وظلم الخلق ، وإضاعة الأهل والعيال وربما قاد إلى سفك الدم الحرام ، وربما استعان عليه بالسحر والشرك وهو يدري أو لا يدري ؛ فهذه المعصية لا تتم إلا بأنواع من المعاصي قبلها ومعها ، ويتولد عنها أنواع أخرى من المعاصي بعدها ؛ فهي محفوفة بجند من المعاصي قبلها وجند من المعاصي بعدها ، وهي أجلب شيء لشر الدنيا والآخرة ، وأمنع شيء لخير الدنيا والآخرة .
(13) الزنا يذهب بكرامة الفتاة ويكسوها عاراً لا يقف عندها ، بل يتعداها إلى أسرتها ؛ حيث تدخل العار على أهلها، وزوجها ، وأقاربها ، وتنكس به رؤوسهم بين الخلائق(1/205)
(14) أن العار الذي يلحق من قذف بالزنا أعلق من العار الذي ينجر إلى من رمي بالكفر وأبقى ؛ إلا إن التوبة من الكفر على صدق القاذف تذهب رجسه شرعاً ، وتغسل عاره عادة ، ولا تبقي له في قلوب الناس حطة تنزل به عن رتبة أمثاله ممن ولدوا في الإسلام، بخلاف الزنا ؛ فإن التوبة من ارتكاب فاحشته ـ وإن طهرت صاحبها تطهيراً ، ورفعت عنه المؤاخذة بها في الآخرة ـ يبقى لها أثر في النفوس ، ينقص بقدره عن منزلة أمثاله ممن ثبت لهم العفاف من أول نشأتهم وانظر إلى المرأة ينسب إليها الزنا كيف يتجنب الأزواج نكاحها وإن ظهرت توبتها ؛ مراعاة للوصمة التي أُلصقت بعرضها سالفاً ، ويرغبون أن ينكحوا المشركة إذا أسلمت رغبتهم في نكاح الناشئة في الإسلام 0
(15) إذا حملت المرأة من الزنا ، فقتلت ولدها جمعت بين الزنا والقتل ، وإذا حملته على الزوج أدخلت على أهلها وأهله أجنبياً ليس منهم ، فورثهم ورآهم وخلا بهم ، وانتسب إليهم وهو ليس منهم إلى غير ذلك من مفاسد زناها
(16) أن الزنا جناية على الولد ؛ فإن الزاني يبذر نطفته على وجه يجعل النسمة المخلقة منها مقطوعة عن النسب إلى الآباء ، والنسب معدود من الروابط الداعية إلى التعاون والتعاضد؛ فكان الزنا سبباً لوجود الولد عارياً من العواطف التي تربطه بأدنى قربى يأخذون بساعده إذا زلت به فعله، ويتقوى به اعتصابهم عند الحاجة إليه ،، كذلك فيه جناية عليه ، وتعريض به ؛ لأنه يعيش وضيعاً في الأمة ، مدحوراً من كل جانب ؛ فإن الناس يستخفون بولد الزنا ، وتنكره طبائعهم ، ولا يرون له من الهيئة الاجتماعية اعتباراً ؛ فما ذنب هذا المسكين ؟ وأي قلب يحتمل أن يتسبب في هذا المصير؟!
(17) زنا الرجل فيه إفساد المرأة المصونة وتعريضها للفساد والتلف(1/206)
(18) الزنا يهيج العداوات ، ويزكي نار الانتقام بين أهل المرأة وبين الزاني ، ذلك أن الغيرة التي طبع عليها الإنسان على محارمه تملأ صدره عند مزاحمته على موطوءته ، فيكون ذلك مظنة لوقوع المقاتلات وانتشار المحاربات ؛ لما يجلبه هتك الحرمة للزوج وذوي القرابة من العار والفضيحة الكبرى ، ولو بلغ الرجل أن امرأته أو إحدى محارمه قتلت كان أسهل عليه من أن يبلغه أنها زنت ، وكان لسان حاله يقول : ليتها ماتت قبل ذلك قبل أن تورد نفسها المهالك وتكون مطمعاً لكلِ هالك .
(حديث سعد بن عبادة الثابت في الصحيحين ) أنه قال : لو رأيت رجلاً مع امرأتي لَضَرَبْتُهُ بِالسَّيْفِ غَيْرَ مُصْفَّحٍ، فبلغ ذلك النبي فقال: ( أتعجبون من غيرة سعد، لأنا أغيَر منه، والله أغيَر مني ).
(سعد بن عبادة ) هو الأنصاري سيد الخزرج وأحد نقبائهم
(غَيْرَ مُصْفَّحٍ) : صفح السيف أي عرضه ، ومعنى غَيْرَ مُصْفَّحٍ أي لا أضربه بعرض السيف بل بحدِّه .
(19) للزنا أثر على محارم الزاني ، فشعور محارمه بتعاطيه هذه الفاحشة يسقط جانباً من مهابتهن ـ كما مر ـ ويسهل عليهن بذل أعراضهن ـ إن لم يكن ثوب عفافهن منسوجاً من تربية دينية صادقة بخلاف من ينكر الزنا ويتجنبه ، ولا يرضاه لغيره ؛ فإن هذه السيرة تكسبه مهابة في قلوب محارمه ، وتساعده على أن يكون بيته طاهراً عفيفاً .
(20) للزنا أضرار جسيمة على الصحة يصعب علاجها والسيطرة عليها ، بل ربما أودت بحياة الزاني ، كالإيدز ، والهربس ، والزهري ، والسيلان ، ونحوها
(21) الزنا سبب لدمار الأمة ؛ فقد جرت سنة الله في خلقه أنه عند ظهور الزنا يغضب الله ـ عز وجل ـ ويشتد غضبه ، فلا بد أن يؤثر غضبه في الأرض عقوبة
[*] قال ابن مسعود : (( ما ظهر الربا والزنا في قرية إلا أذن الله بإهلاكها )(1/207)
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح ابن ماجة) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : يا معشر المهاجرين خمس إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن ، لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المئونة وجور السلطان عليهم ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدوا من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيروا مما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم .
(22) وَهُوَ فاحشة مهلكة وجريمة موبقة وفساد لا تقف جرائمه عَنْدَ حد ولا تنتهي آثاره ونتائجه إلى غاية وَهُوَ ضلال في الدين وفساد في الأَخْلاق وانتهاك للحرمَاتَ والأعراض واستهتار بالشرف والمروءة ، وداعية للبغضاء والعداوة .
(23) عاره يهدم البيوت الرفيعة ويطأطئ الرؤس العالية ويسود الوجوه البيض ويصبغ بأسود من القار أنصع العمائم بياضًا ويخرس الألسنة البليغة ويبدل أشجع النَّاس من شجاعتهم جبنًا لا يدانيه جبن ويهوي بأطول النَّاس أعناقًا وأسماهم مقامًا وأعرقهم عزًّا إلى هاوية من الذل والازدراء والحقارة لَيْسَ لها من قرارٍ .
وَهُوَ أقدر أنواع العار على نزع ثوب الجاه مهما تسع ونباهة الذكر مهما بعدت وإلباس ثوب من الخمول ينبو بالعيون عن أن تلفت إلى من كَانَ في بيوتهم لفتة احترامٍ وَهُوَ أي الزنا لطخة سوداء إذا لحقت تاريخ أسرة غمرت كُلّ صحائفه البيض وتركت العيون لا تَرَى منها إِلا سوادًا حالكًا .(1/208)
(24) وَهُوَ الذنب الظلوم الَّذِي إن كَانَ في قوم لا يقتصر على شين من قارفته من نسائهم بل يمتد شينه إلى من سواها مِنْهُمْ فيشينهن جميعًا شينًا يترك لهن من الأثر في أعين الناظرين ما يقضي على مستقبلهن النسوي وَهُوَ العار الَّذِي يطول عمره طولاً فقاتله الله من ذنب وقاتل فاعَلَيْهِ .
[*] ولهذا منع النبي صلى الله عليه وسلم كل الأسباب المؤدية إلى الزنا ، وجميع الدوافع الدافعة إليه
(حديث أبي موسى في صحيح النسائي) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أيما امرأة استعطرت ثم خرجت فمرت على قوم ليجدوا ريحها فهي زانية و كل عين زانية .
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير : ...
(أيما امرأة استعطرت ) أي استعملت العطر أي الطيب يعني ما يظهر ريحه منه ( ثم خرجت فمرت على قوم ليجدوا ريحها ) أي بقصد ذلك
( فهي زانية ) أي كالزانية في حصول الإثم وإن تفاوت لأن فاعل السبب كفاعل المسبب قال الطيبي : شبه خروجها من بيتها متطيبة مهيجة لشهوات الرجال التي هي بمنزلة رائد الزنا بالزنا مبالغة وتهديداً وتشديداً عليها ( وكل عين زانية ) أي كل عين نظرت إلى محرم من امرأة أو رجل فقد حصل لها حظها من الزنا إذ هو حظها منه وأخذ بعض المالكية من الحديث حرمة التلذذ بشم طيب أجنبية لأن اللّه إذا حرم شيئاً زجرت الشريعة عما يضارعه مضارعة قريبة وقد بالغ بعض السلف في ذلك حتى كان ابن عمر رضي اللّه عنه ينهى عن القعود بمحل امرأة قامت عنه حتى يبرد .
(وحذر نبي الأمة والرحمة من الدخول على النساء أو الاختلاط لأن ذلك مما قد يدفع ضعاف النفوس إلى ممارسة هذه الفاحشة العظيمة المشينة المحرمة
(حديث عقبة بن عامر في الصحيحين) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إياكم و الدخول على النساء قالوا : يا رسول اللّه أرأيت الحمو قال : الحمو الموت أي دخوله على زوجة أخيه يشبه الموت في الاستقباح والمفسدة فهو(1/209)
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير: ...
( إياكم والدخول على النساء ) بالنصب على التحذير وهو تنبيه المخاطب على محذور ليتحرز منه أي اتقوا الدخول النساء ،وتضمن منع الدخول منع الخلوة بأجنبية بالأولى والنهي ظاهر العلة والقصد به غير ذوات المحارم ، ذكر الغزالي أن راهباً من بني إسرائيل أتاه أناس بجارية بها علة ليداويها فأبى قبولها فما زالوا به حتى قبلها يعالجها فأتاه الشيطان فوسوس له مقاربتها فوقع عليها فحملت فوسوس له الآن تفتضح فاقتلها وقل لأهلها ماتت فقتلها وألقى الشيطان في قلب أهلها أنه قتلها فأخذوه وحصروه فقال له الشيطان : اسجد لي تنج فسجد له ، فانظر إلى حيله كيف اضطره إلى الكفر بطاعته له في قبوله للجارية وجعلها عنده
(قالوا : يا رسول اللّه أرأيت الحمو قال : الحمو الموت) والحمو أخو الزوج وقريبه ، الحمو الموت : أي دخوله على زوجة أخيه يشبه الموت في
الاستقباح والمفسدة فهو محرم
شديد التحريم وإنما بالغ في الزجر بتشبيهه الموت لتسامح الناس في ذلك حتى كأنه غير أجنبي من المرأة وخرج هذا مخرج قولهم الأسد الموت أي لقاؤه يقضي إليه وكذا دخول الحمو عليها يفضي إلى موت الدين أو إلى موتها بطلاقها عند غيرة الزوج أو برجمها إن زنت معه وقد بالغ مالك في هذا الباب حتى منع ما يجر إلى التهم كخلوة امرأة بابن زوجها وإن كانت جائزة لأن موقع امتناع الرجل من النظر بشهوة لامرأة أبيه ليس كموقعه منه لأمه هذا قد استحكمت عليه النفرة العادية وذاك أنست به النفس الشهوانية.
{ تنبيه } :فإذا كان هذا مع أخ الزوج ، فما بالنا بمن يتركون الرجال الأجانب يدخلون على نساءهم ومحارمهم دون أن يحرك ذلك ساكناً فيهم من شعور بالغيرة على أعراضهم ومحارمهم ، مدعين بذلك العفة لدى الجنسين ، وأقول : والله إنه ضعف في الدين ، وقلة حيلة لدى أولئك المساكين .(1/210)
ولهذا قال تعالى محذراً من الدخول على النساء : ( وإذا سألتموهن متاعاً فسألوهن من وراء حجاب ) ثم ذكر المولى جل وعلا الحكمة البالغة من ذلك فقال : ( ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن ) [ الأحزاب 53 ] ، وحرَّم الإسلام على المرأة أن تخرج أمام الرجال الأجانب وهي متخذة زينتها لما في ذلك من جنوح إلى الذنب والمعصية ، وإقبال على الفاحشة والرذيلة ، واستمالة ضعاف النفوس والإيمان والتقوى للانجراف في بحر الفاحشة ، والوقوع في براثن الزانيات العاهرات الداعيات إلى البعد عن عالم الخفيات فاطر الأرض والسموات ، قال تعالى: (وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنّ إِلاّ لِبُعُولَتِهِنّ أَوْ آبَآئِهِنّ أَوْ آبَآءِ بُعُولَتِهِنّ أَوْ أَبْنَآئِهِنّ أَوْ أَبْنَآءِ بُعُولَتِهِنّ أَوْ إِخْوَانِهِنّ أَوْ بَنِيَ إِخْوَانِهِنّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنّ أَوْ نِسَآئِهِنّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنّ أَوِ التّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنَ الرّجَالِ أَوِ الطّفْلِ الّذِينَ لَمْ يَظْهَرُواْ عَلَىَ عَوْرَاتِ النّسَآءِ وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنّ وَتُوبُوَاْ إِلَى اللّهِ جَمِيعاً أَيّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ) [سورة: النور - الآية: 31]
ثم أمر المولى جلت قدرته عباده الذين لا يستطيعون النكاح ولا يجدون له طريقاً ومسلكاً ، أمرهم بالعفة إلى أن يكتب الله لهم ذلك ،قال تعالى: (وَلْيَسْتَعْفِفِ الّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتّىَ يُغْنِيَهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ) [سورة: النور - الآية: 33](1/211)
(وحذر الله تعالى عباده من كل ما من شأنه أن يكون ذريعة إلى فعل فاحشة الزنا ، من الستر وعدم الاختلاط بين الرجال والنساء ، وعدم التكسر في كلام النساء مع الرجال ، وعدم خروج المرأة من بيتها بغير محرم لأن ذلك يفضي إلى عواقب وخيمة ، فيه فساد هذه الأمة ، وجاء الخطاب صريحاً لأمهات المؤمنين ، وقصد به نساء الأمة أجمعين ،
قال تعالى: (يَنِسَآءَ النّبِيّ لَسْتُنّ كَأَحَدٍ مّنَ النّسَآءِ إِنِ اتّقَيْتُنّ فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مّعْرُوفاً * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنّ وَلاَ تَبَرّجْنَ تَبَرّجَ الْجَاهِلِيّةِ الاُولَىَ وَأَقِمْنَ الصّلاَةَ وَآتِينَ الزّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللّهَ وَرَسُولَهُ إِنّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً) [الأحزاب 32/33]
[*]والزنا من أكبر الكبائر بعد الكفر والشرك بالله وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وهو محرم بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وإجماع الأمة الذي نقله كثير من أهل العلم ،
قال تعالى: (وَلاَ تَقْرَبُواْ الزّنَىَ إِنّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَآءَ سَبِيلاً) [ الإسراء / 32]
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن .
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيحي أبي داوود و الترمذي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : «إِذَا زَنَى العَبْدُ خَرَجَ مِنْهُ الاْيمَانُ فَكَانَ فَوْقَ رَأْسِهِ كَالظُّلّةِ، فَإِذَا خَرَجَ مِنْ ذَلِكَ الْعَمَلِ عَادَ إِلَيْهِ الإيمان».(1/212)
(فجاء التحريم مواكباً لما تقتضيه الطبيعة البشرية ، ولما يسببه الزنا من أضرار وأمراض بالغة ، سواءً العضوية أو النفسية أو الاجتماعية ، فالزنا يسبب أمراضاً خطيرة وفتاكة بالجسم ، ويؤدي إلى اضطراب المجتمعات ، وتفكك الأسر ، ولا أدل على ذلك من التفكك والضياع الذي تعيشه معظم الأسر الغربية وانحلال الحياء بسبب اقتراف فاحشة الزنا ، فمجتمع لا هم له إلا إشباع شهواته الغريزية ، ولذاته الجنسية ، ذاك مجتمع فاشل هابط ساقط ، ولا يأمن بعضه بعضاً لاستفحال هذه الفاحشة فيهم . فهم معرضون لشديد عقاب الله وأليم عذابه .
فعند إقدام الزاني على الزنا وعند قيامه به في هذه الحالة قد ارتفع الإيمان فوق رأسه فهو بلا إيمان ، ففي هذه الحالة انتفى الإيمان من قلبه وجوارحه حتى يترك هذه المعصية ـ عياذا بالله من ذلك ـ فكيف إذا جاء ملك الموت لتنفيذ أمر الله وقبض الأرواح ، والزناة والزواني في هذه الحالة التي تغضب جبار السموات والأرض ، كيف سيكون المصير ؟ كيف وقد خرج الإيمان وجاء الموت ؟ على أي حال كان هذا الزاني وهذه الزانية ؟ إنهما كانا على حال تُغضب الله العزيز الجبار شديد العقاب ، فالله يمهل للظالم ولا يهمله ، وإذا أخذه لم يُفلته ، بل يأخذه أخذ عزيز مقتدر
(حديث أبي موسى في الصحيحين) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن الله تعالى لَيملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته .
( إن اللّه تعالى لَيملي ) بفتح اللام الأولى أي ليمهل والإملاء الإمهال والتأخير وإطالة العمر ( للظالم ) زيادة في استدراجه ليطول عمره ويكثر ظلمه فيزداد عقابه { إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً } فإمهاله عين عقابه
( حتى إذا أخذه ) أي أنزل به نقمته ( لم يُفلته ) أي لم يفلت منه .(1/213)
( فهل هناك أقبح من أن يأتي رجل امرأة لا تحل له ؟ وهل هناك أفظع من أن يضع رجل نطفته في فرج حرام لا يحل له ؟ فكيف إذا داهم ملك الموت هؤلاء الزناة ؟ كيف سيكون الخلاص ؟ وأين المهرب والملتجأ ؟ وأين الناصرون ؟ وأين المنقذون ؟ وأين الآمرون بالزنا ؟ وأين شيطانهم الذي دفعهم لارتكاب تلك الفاحشة الشنيعة ؟ إن الشيطان الذي زين لهم القيام بالزنا وهون أمره في قلوبهم سيتخلى عنهم في ذلك الموقف العصيب الرهيب ، ومن ينفع إذا جاء الموت ، وغرغرت الروح وبلغت الحلقوم ، والله لن ينفع العاصي في تلك اللحظة أحد من الخلق أجمعين ـ فنسأل الله أن يحسن خاتمتنا ـ
ماذا سيقول الزناة لهادم اللذات ؟ ومفرق الجماعات ؟ ماذا سيقولون لملك الموت ؟ أيقولون أمهلنا حتى نتوب إلى الله ، أم يقولون انظرنا حتى نعاهد الله ألا نعود لمثل ذلك ؟ يقول الله جل شأنه في أمثال أولئك :
(حَتّىَ إِذَا جَآءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبّ ارْجِعُونِ * قال تعالى: (لَعَلّيَ أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلاّ إِنّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَا وَمِن وَرَآئِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَىَ يَوْمِ يُبْعَثُونَ) [ المؤمنون 100،99]
( أتدري ما البرزخ ؟ إنه حياة القبر وما أعده الله للزناة والزواني فيه من ألوان العذاب التي لا يعلمها إلا هو سبحانه ،
قال تعالى: (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتّىَ إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرّطُونَ * ثُمّ رُدّوَاْ إِلَىَ اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقّ أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ) [ الأنعام 61/62 ] ،(1/214)
قال تعالى: (قَالُواْ رَبّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنّا قَوْماً ضَآلّينَ) [سورة: المؤمنون - الأية: 106]* رَبّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنّا ظَالِمُونَ * قَالَ اخْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلّمُونِ) ( المؤمنون 106/107/108 ) .
إن هناك من العذاب مالا تطيقة الجبال الراسيات ، فضلاً عن أن يطيقه إنسان اكتسى لحماً وعظماً ،
أما كان لهؤلاء أن يصبروا على طاعة الله ، ويصبروا عن معاص الله ، ويعلموا أن من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه ، وقد أمروا بترك الزنا والابتعاد عنه وأوجد لهم نبيهم عليه الصلاة والسلام طريقاً ومسلكاً يتبعه من لا يستطيع الباءة والقدرة على الزواج من البنين والبنات ، فبين نبي الرحمة والهدى معالم الدين الحنيف لكافة الأمة ، كيف لا ؟ وقد قال الله عن نبيه صلى الله عليه وسلم قال تعالى: (لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رّحِيمٌ) [سورة: التوبة - الآية: 128]
، فهاهو النبي صلى الله عليه وسلم يبين الطريق الأمثل لمن لم يستطع الزواج والقدرة عليه في الحديث الآتي :
( حديث ابن مسعود الثابت في الصحيحين ) قال : كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - شبابا لا نجدُ شيئاً فقال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (يا معشر الشباب، من استطاع الباءة فليتزوج، فإنه أغضُ للبصر وأحصنُ للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء)
(ثم ماذا بعد الموت ؟ أين مصير الزناة والزواني ؟
قال تعالى: (وَمِن وَرَآئِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَىَ يَوْمِ يُبْعَثُونَ) [سورة: المؤمنون - الآية: 100](1/215)
البرزخ كما قلنا هو حياة القبر ، فماذا سيكون مصيرهم هناك ، إنه تنور ( فرن ) أسفله واسع وأعلاه ضيق يوضع فيه الزناة والزواني ويأتيهم العذاب والنار من تحتهم وهم يصرخون ويصيحون ، فمن ينصرهم في ذلك الموقف العسير ؟ فلا إله إلا الله ، ولا حول ولا قوة إلا بالله . اللهم أجِرْنَا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة
ثم كيف بالزناة والزواني يخشون الناس ولايخشون الله ، ويستحيون من الناس ولايستحيون من الله ، ويستخفون من الناس ولايستخفون من الله . فتراهم يهربون إلى أماكن بعيدة حتى لا يراهم أحد من الناس ، ونسوا بل تناسوا أن الله يراهم وينظر إليهم في تلك اللحظات المشينة ،
قال تعالى: (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيّتُونَ مَا لاَ يَرْضَىَ مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً) [سورة: النساء - الآية: 108]
قال تعالى: ( أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللّهُ أَحَقّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُمْ مّؤُمِنِينَ) [سورة: التوبة - الآية: 13]ولكنه اتباع الهوى والشهوات ، والبعد عن خالق الأرض والسموات ،
قال تعالى: (فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصّلاَةَ وَاتّبَعُواْ الشّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً) [ مريم / 59]
مسألة : ما هو الغي في قوله تعالى : ( فسوف يلقون غياً ) ؟
الغي في قوله تعالى : ( فسوف يلقون غياً ) : هو وادٍ في جهنم بعيد قعره ، فيه من ألوان العذاب مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، نسي أولئك أنهم سيعودون إلى الله سبحانه وتعالى فيجازيهم بأعمالهم ،
قال تعالى: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ)
[ المؤمنون / 115]
وأنه سبحانه سيُذَكِّرْهُم ويُقَرِّرْهُم بما عملوا ، فإن نسوا هم فإن الله لا ينسى(1/216)
قال تعالى: (قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبّي فِي كِتَابٍ لاّ يَضِلّ رَبّي وَلاَ يَنسَى) [طه : 52] ، نسوا أن الله سيسجل عليهم ذلك ويجدونه في صحائف أعمالهم ، قال تعالى: (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَوَيْلَتَنَا مَا لِهََذَا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِراً وَلاَ يَظْلِمُ رَبّكَ أَحَداً) [سورة: الكهف - الآية: 49]،
وقال تعالى: (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللّهُ جَمِيعاً فَيُنَبّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوَاْ أَحْصَاهُ اللّهُ وَنَسُوهُ وَاللّهُ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [ المجادلة: 6](1/217)
والآيات الدالة على البعث والحساب كثيرة وأن هؤلاء العصاة والبغاة سيعودون إلى الله ويحاسبون على أعمالهم الشنيعة التي أغضبت المولى جل وعلا ، وسيحاسبون على أفعالهم القبيحة التي لا يرضى عنها حتى من لا يؤمن بالله ، فالطباع السليمة لا ترضى مثل هذه الفاحشة التي توجب غضب الله وعقابه وسخطه ومقته ، وعندما بايع النبي صلى الله عليه وسلم النساء على ألا يشركن بالله شيئاً ولايسرقن ولا يزنين ، قالت هند بنت عتبة : أوَ تزني الحُرة ؟ تقول وبكل تعجب أو تزني الحرة يا رسول الله ؟!، أي أن المرأة الحرة لا تزني أبدا ، ما كان نساء الصحابة رضوان الله عليهن يصدقن أن الحرة تزني ، ما كن يعرفن الزنا ، لأنه لم يكن موجوداً عند أهل الإيمان والتقوى ، فصاحب الزنا يشعر بأنه من أفسق الناس ومن أفجرهم ومن أجرم الناس على الإطلاق ، فهو أيضاً يُحس بوحشة وضيق في صدره من شناعة الجُرم والفاحشة التي قام بها فيتمنى لو أن الأرض تنشق وتبتلعه من قُبح ما فعل ، فإذا فعل فعلته التي فعل ، وانتهى من جرمه الذي عمل ، ضاق صدره وتألم قلبه لسوء فعلته ، وَخَسَاسَةِ عمله فيُحس بقذارة ما فعل من فاحشة ( الزنا ) ويتمنى لو أنه لم يفعلها فيريد التوبة والعودة والإنابة إلى الله سبحانه ، والإقلاع عن تلك المعصية ، ولكن يأتيه الشيطان فيهون عليه تلك المعاصي والآثام ، ويُطمئِنُ قلبه بفعل تلك الذنوب العظام ، والكبائر الجسام ، والموبقات المهلكات ، فيهلكه بفعلها ويغرقه في لجج المعاصي والآثام فيقع فريسة سهلة للشيطان ، فتضيق عليه معيشته ويصبح كثير الشكوك وافر الظنون ، لأنه يخاف أن يفعل الناس بأهله الفاحشة كما يفعلها هو بمحارم الناس ( فكما تدين تدان ) ،
(حديث سهل بن سعد في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال من يضمن لي ما بين لحييه و ما بين رجليه أضمن له الجنة .(1/218)
(حديث أبي هريرة في صحيحي الترمذي وابن ماجة ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن أكثر ما يدخل الناس الجنة ؟ قال : تقوى الله وحسن الخلق , وسئل عن أكثر ما يدخل الناس النار ؟ قال الفم والفرج .
فصاحب الزنا يعيش بصير العين أعمى القلب ، ومن عمي قلبه فحياته فيها من التعاسة الشيء الكثير ، فهو خائف وقلق وفزع من هول تلك المعصية فيخاف من العقوبة في الدنيا ، أما الآخرة فقد نسيها ونسي الخالق سبحانه فالله سوف ينساه لأنه ما عرف لله حقاً ، وما ترك لله حداً ، فالجزاء من جنس العمل .
قال تعالى: (نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ) [سورة: التوبة - الآية: 67]
قال تعالى: (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللّهِ أُوْلََئِكَ حِزْبُ الشّيْطَانِ أَلاَ إِنّ حِزْبَ الشّيْطَانِ هُمُ الخَاسِرُونَ) [سورة: المجادلة - الآية: 19]
(تفاوت فاحشة الزنا والعياذ بالله :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
(تتفاوت فاحشة الزنا والعياذ بالله بحسب مفاسدها ؛ والزنا بذات الزوج أشد من الزنا بالتي لا زوج لها ؛ لما فيه من الظلم ، والعدوان عليه ، وإفساد فراشه ، وقد يكون هذا أشد من مجرد الزنا أو دونه ، والزنا بحليلة الجار أعظم من الزنا ببعيدة الدار ، لما يقترن بذلك من أذى الجار ، وعدم حفظ وصية الله ورسوله وتأمل في الحديثين الآتيين بعين البصيرة :
(حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) قال : سألت النبي : أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: (أن تجعل لله ندًّا وهو خلقك). قلت: إن ذلك لعظيم، قلت: ثم أي؟ قال: (ثم أن تقتل ولدك تخاف أن يطعم معك). قلت: ثم أي؟ قال: (ثم أن تزاني بحليلة جارك). قال: ونزلت هذه الآية تصديقا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون}.(1/219)
( حديث المقداد بن الأسود رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لأن يزني الرجل بعشر نسوة خير له من أن يزني بامرأة جاره و لأن يسرق الرجل من عشرة أبيات أيسر له من أن يسرق من بيت جاره .
وكذلك الزنا بامرأة الغازي في سبيل الله أعظم إثماً عند الله من الزنا بغيرها ، ولهذا يقال للغازي : خذ من حسنات الزاني ما شئت ، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة :
( حديث بريدة الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : حُرْمة نساء المجاهدين على القاعدين كحرمة أمهاتهم و ما من رجل من القاعدين يخلف رجلا من المجاهدين في أهله فيخونه فيهم إلا وُقِفَ له يوم القيامة يأخذُ من عمله ما شاء فما ظنكم ؟
وكذلك الزنا بذوات المحارم أعظم جرماً ، وأشنع ، وأفظع ؛ فهو الهلك بعينه
وكما تختلف درجات الزنا بحسب المزني بها ، فكذلك تتفاوت درجاته بحسب الزمان والمكان ، والأحوال ؛ فالزنا في رمضان ليلاً أو نهاراً أعظم إثماً منه في غيره ، وكذلك في البقاع الشريفة المفضلة هو أعظم منه فيما سواها .
(وأما تفاوته بحسب الفاعل : فالزنا من المحصن أقبح من البكر ، ومن الشيخ أقبح من الشاب ، ومن العالم أقبح من الجاهل ، ومن القادر على الاستغناء أقبح من الفقير العاجز
وقد يقترن بالفاحشة من العشق الذي يوجب اشتغال القلب بالمعشوق ، وتأليهه ، وتعظيمه ، والخضوع له ، والذل له ، وتقديم طاعته وما يأمر به على طاعة الله ، ومعاداة من يعاديه ، وموالاة من يواليه ، ما قد يكون أعظم ضرراً من مجرد(1/220)
تنبيه : ونظراً للمفاسد العظيمة التي تنتج عن الزنا والعياذ بالله فقد حذَّر الشارع من مقاربة الزنا أو من الظروف والدواعي التي يمكن أن تقود إليه ، فقال تعالى : (ولا تَقربوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحشةً وساءَ سبيلاً )) الإسراء 32 ، وجعل حواجز تحول دون الوقوع في الفواحش ، فدعا إلى الزواج للمستطيع ، وحذَّر من العقوبة الدينية والدنيوية ، وحض على العفة ، وجعل هناك عدداً من الأمراض الجنسية الخطيرة التي تصيب بصورة خاصة أولئك الذين يرتكبون الفواحش ..
(قصص وعبر لسوء عاقبة الزناة والعياذ بالله :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
[*] قيل أن راهباً يُسمى برصيصاً كان يعبد الله ستين سنة ، وأن الشيطان أراد أن يغويه فما استطاع ، فعمد الشيطان إلى امرأة فأجنها وكان لها أخوة فقال الشيطان : لإخوتها عليكم بهذا القُس ، فيداويها ، فجاءوا بها إليه فداواها وكانت عنده ، فبينما هو يوماً عندها إذ أعجبته فأتاها فحملت ، فعمد إليها فقتلها ، فجاء إخوتها فطلبوها ، فقال الشيطان للراهب أنا من عمل بك هذا لأنك أتعبتني ، فأطعني أنقذك منهم ، فاسجد لي سجدة ، فلما سجد له ، قال : إني برئ منك ، إني أخاف الله . ( رواها بن جرير في تفسيره ((1/221)
[*] وفي واقعنا وفي زماننا هذا كثيرٌ من مآسي الزناة والزواني( الجبلة النَكِدَة الذين فيهم عِوجٌ لا يُرجى اعتداله والذين لا يهناؤون ، ولا يهدأ لهم بال ، ولا يقر لهم حال إذا لم يرتكبوا الفاحشة ) ، يُحكى أن شاباً سافر إلى بلاد الكفر والفجور والفسق والسفور ، من أجل الزنا وشرب الخمور ، سافر هذا الشاب إلى تلك البلاد ، وفي يوم من الأيام وبينما هو في غرفته ينتظر تلك العاهرة أن تأتيه ، إذا بها قد تأخرت عن موعدها ، وعندما أتت ودخلت عليه غرفته ، شهق شهقة عالية وسجد لها ، فكانت هذه السجدة هي السجدة الأولى والأخيرة في حياته ، لكن لمن كانت هذه السجدة ؟ وما سببها ؟ وما نتائجها ؟
أخي الحبيب : إنه سوء الخاتمة ، أعاذنا الله من ذلك .
أين أولئك من أولئك الرجال الذين ملأ الإيمان بالله والخوف منه سبحانه ملأ قلوبهم وجوارحهم ، وأين أولئك النساء عن تلكم اللاتي منعهن تقوى الله والحياء منه ، وخوفهن من عذاب القبر وشدة الحساب وعظمة الوقوف بين يديه الله سبحانه ، كل ذلك ، فأين الخائفون من عذاب الله وسخطه ومقته وعقابه ، إذ كيف يُنعم الله على هؤلاء بشتى النعم ، من مأكل ومشرب وملبس ، وغير ذلك من النعم التي لا تُعد ولا تُحصى ، ثم يستغلون هذه النعم في معصية الخالق المنعم تعالى وتقدس ، فبدل أن يقابلوا هذه النعم وهذا الإحسان بالشكر والعرفان لله جل وعلا ، قابلوا ذلك كله بالكفر والعصيان وارتكاب المعاصي والآثام ، بدلوا نعمت الله كفراً وأحلوا أنفسهم دار البوار . أهكذا يكون جزاء هذا الإحسان ، فلا حول ولا قوة إلا بالله ، وإنا لله وإنا إليه راجعون .
مسألة : هل يجوز لعن بعض عصاة المسلمين ؟
الجواب :
أن لعن بعض عصاة المسلمين على سبيل العموم جاءت النصوص الشرعية بلعن أصحاب بعض المعاصي على سبيل العموم والإطلاق، بذكر وصف المعصية.
ومما ورد في ذلك ما يلي:
قول الله تعالى:{ أَلاَ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود: 18].(1/222)
و قول الله تعالى:{ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ}[آل عمران: 61].
ومن السنة الصحيحة ما يلي :
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :
(لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده).
(حديث ابن عمر –رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (لعن الله الواصلة والمستوصلة، والواشمة والمستوشمة) .
( حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (لعن الله من ذبح لغير الله، ولعن الله من آوى محدثاً، ولعن الله من لعن والديه، ولعن الله من غير منار الأرض) .
( حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح مسلم ) قال: لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه، وقال: هم سواء .
( حديث ابن عمر –رضي الله عنهما الثابت في صحيح أبي داوود ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (لعن الله الخمر وشاربها وساقيها، وبائعها ومبتاعها، وعاصرها ومعتصرها، وحاملها والمحمولة إليه) .
فهذه النصوص ونحوها تدل على جواز لعن فاعل تلك المعاصي لا على جهة التعيين للأشخاص، بل يلعن العاصي بوصفه لا بشخصه، فيقال مثلاً: لعن الله آكل الربا، ولعن الله السارق، أو أكلة الربا ملعونون، والسارقون ملعونون، ولعنة الله على الظلمة، وعلى الكاذبين ونحو ذلك.
{تنبيه } : وهذا اللعن على سبيل العموم لأصحاب المعاصي التي جاءت النصوص بلعن فاعليها لا خلاف في جواز
قال الإمام النووي في شرحه لحديث: "لعن الله السارق" " هذا دليل لجواز لعن غير المعين من العصاة؛ لأنه لعن للجنس لا لمعين، ولعن الجنس جائز كما قال الله تعالى: {أَلاَ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ}
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى : (واللعنة تجوز مطلقاً لمن لعنه الله ورسوله}(1/223)
اللعن العام يدل على أن من فعل تلك المعصية فهو مستحق للعنه، ومعرض للعقوبة، فيحصل من هذا الإطلاق الزجر والردع عن ارتكاب تلك المعصية، وهذه اللعنة العامة المذكورة في النص قد تلحق بعض الأشخاص فتكون سبباً في عذابه ويكون معه إيمان يمنعه من الخلود في النار، كما هو مذهب أهل السنة والجماعة .
[*] قال الشيخ ابن عثيمين في "القول المفيد" (1/226)
"الفرق بين لعن المعين ولعن أهل المعاصي على سبيل العموم ؛ فالأول (لعن المعين) ممنوع ، والثاني (لعن أهل المعاصي على سبيل العموم) جائز ، فإذا رأيت محدثا ، فلا تقل لعنك الله ، بل قل : لعنة الله على من آوى محدثا ، على سبيل العموم ، والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صار يلعن أناسا من المشركين من أهل الجاهلية بقوله : (اللهم ! العن فلانا وفلانا وفلانا ) نهي عن ذلك بقوله تعالى : ( ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون ) رواه البخاري" اهـ .
(التفسير الشرعي لوقوع العصاة في جريمة الزنا الشنعاء والعياذ بالله :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
مسألة : ما هو التفسير الشرعي لوقوع العصاة في جريمة الزنا الشنعاء والعياذ بالله ؟
فصل الخطاب في هذه المسألة :
[*] أن ما يحصل من وقوع العصاة في جريمة الزنا الشنعاء والعياذ بالله ما هو إلا من سقامة الضمائر ولؤمِ السرائر وفسادِ النية وسوءِ الطوية ، بل هو من دناءة نفوسهم وخِسةِ طبعهم وسواد قلوبهم ورداءةِ معدنهم وهوانهم على ربهم
، إذ لو علم الله في قلوبهم خيراً لعصمهم من الزلل ، ووفقهم لصالح العمل والله تعالى يقول: (إِن يَعْلَمِ اللّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً) [الأنفال / 70]
فإنه من يتحرَّ الخيرَ يُعطَه ومن يتقِ الشرَ يُوَقَّه مصداقاً لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الآتي :(1/224)
(حديث أبي هريرة في صحيح الجامع) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال إنما العلم بالتعلم و إنما الحلم بالتحلم و من يتحر الخير يعطه و من يتق الشر يوقه .
ولو أحبهم الله تعالى لصانَهم بصيانتِه وحفَظَهم بحفظه وكان سبحانه سمعهم الذي يسمعون به ويدهم التي يبطشون بها ورجلهم التي يمشون بها مصداقاً لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الآتي : (حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : قال الله تعالى من عاد لي ولياً فقد آذنته بالحرب ، وما تقرب إلىَّ عبدي بشيءٍ مما افترضته عليه ، وما يزال عبدي يتقرب إليِّ بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله الذي يمشي بها ، ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنَّه ، وما ترددتُ عن شيءٍّ أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته .
ولكنه سبحانه لما اطَّلع على قلبك ووجده خربٌ وبور وما فيه من نور ، ورأى فيه المَيلُ إلى الحرامِ سَقَطتِ من عين الملكِ العلاّم ، وتركَكِ فريسةً للرزايا والآثام ، ثم يُحَاسبكِ لا مَحالةَ على هذا الإجرام ، فسلب حفظه عنك وَوَكَلكِ إلى نفسك لأنك صِرْتِ بسواد قلبك أهون على الله من الجِعلان (الخُنْفِساء) التي تدفع بأنفها النَتَن والتي لا تجد بُغْيَتَها إلا في مواطن القذر والنَتَن ،
ولو علم الله تعالى من قلبهم الصدق في النجاة من الزلل لنجَّاهم من الزلل ، ووفقهم لصالح العمل ، وعصَمهم
الملكُ العلاّم من الرزايا والآثام على مدى انصرامِ العمرِ ومرورِ الأيام فإن الصدق منجاة وإن العبد إذا صدق مع الله تعالى صدقه الله مصداقاً لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الآتي :
(حديث شداد بن أوس في صحيح النسائي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن تصدق الله يصدقك .(1/225)
[*] كان الحسن البصري إذا ذكر أهل المعاصي يقول : هانوا على الله فعصوه ، ولو عزوا عليه لعصمهم .
(فإذا اطَّلع الله تعالى على قلوبهم ووجد فيه صدق النية في عدم الوقوع في الفاحشة كتب الله تعالى لهم
النجاة لا محالة ، وما يعلمُ جنود ربك إلا هو ، فلا يتوهم إنسان أن الله تعالى يعلمُ من عبده ِصدق النية في عدم الوقوع في الرذيلة ثم يتركه يقع فيها ، هذا أمرٌ مُحال عند ربنا الكبير المُتعال ، بل هو فوق ما يخطر ببال أو يدور في الخيال ، والله ما وقع إنسانٌ في الحرام إلا كان عنده مَيلٌ إلى الحرام والعياذ بالله، ولا يظلمُ ربُك أحدا ، لكنَّ الإنسان إذا اتبع هواه وسار أسيراً ذليلاً وراء شهواته تراه يقيم العذر لنفسه و يلتمس لها الدليل وَيُلَفِق لها بزعمِهِ التأويل ، ويريد أن يُحَمِلَّ الناس جميعاً السبب في خطأهِ ويقول : هم السبب في زَلتي وهم الذين دفعوني إلى شِقْوَتي ، وأحياناً يلقي اللوم على القدر فيقول هو السبب في ذلك كما حصل في عهد الخليفة الراشد عمر ابن الخطاب حينما أتوْا بسارق فسأله عمر رضي الله تعالى عنه : ما حَمَلَك على ذلك ؟ فقال له : قَدَرُ الله يا أمير المؤمنين فقال له الخليفة الراشد عمر ابن الخطاب رضي الله تعالى عنه : ونحن نقطع يدك بِقَدِرِ الله ، وهكذا تجد الإنسان إذا اتبع هواه وسار أسيراً ذليلاً وراء شهواته يُعَلِقُ أخطاءه على شماعاتٍ وهمية ليُخْفي الحقيقة المُرَّة الكامنة بداخله المستقرة بين جَنْبَيْه والتي دفعته إلى الفجور وهي أنَّ عنده مَيلٌ إلى الحرام والعياذ بالله ، فلَيْتَه أحْسَنَ الظن بربه تعالى كما أحسن الظن بنفسه اللئيمة الخائنة الأثيمة التي أهلكته ورَمَتْ به في مستنقع الرذائل والآثام ، لكن هيهات فإن هذا لا يغير من الحقيقة شيئاً بل هو يزيد الأمرُ سوءاً ويزيدُ الطينُ بِلَة ، ويُضِيفُ إليه ذنباً إلى ذنوبه وَعَيْبَاً إلى عيوبه } .(1/226)
* وهآنذا أسوق لك أروع القصص في رجالٍ ونساء صدقوا مع الله في العفاف فصدقهم ونجاهم من الزلل ووفقهم لصالح العمل :
{ قصة يوسف عليه السلام }
وَتَأَمَّلْ قِصَّة امْرَأَةِ العَزِيزِ مَعَ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامِ حَيْنَ رَاوَدَتْهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعَاذَ بِاللهِ مِنْ شَرِّهِنَّ وَكَيْدِهِنَّ فَعَصَمَهَ اللهُ عِصْمَةً عَظِيمَةً وَحَمَاهُ فامْتَنَع أَشَدَّ الامْتِنَاعِ عَنْهَا وَاخْتَارَ السِّجْنَ عَلَى ذَلِكَ وَهَذَا في غَايَةِ مَقَامَاتِ الكَمَالِ أَنَّهُ مَعَ شَبَابِهِ وَجَمَالِهِ وَكَمَالِهِ تَدْعُوهُ سَيِّدَتُهُ وَهِي امْرَأَةُ عَزِيزِ مَصْرَ وَهِيَ مَعَ هَذَا في غَايَةِ الْجَمَال وَالْمَالَ وَالرِّيَاسَةِ وَيَمْتَنِعُ مِنْ ذَلِكَ وَيَخْتَارُ السِّجْنَ عَلَى ذَلِكَ خَوْفًا مِنْ اللهِ وَرَجَاءَ ثَوَابِهِ ، فانظر إلى طهارة قلبه عليه السلام وصدقه مع الله في عدم الوقوع في الفاحشة : عندما دعته امرأة العزيز إلى نفسها ، وهيأت له جميع الوسائل المعينة على هذا الفعل ، وكانت على قدر من المال والجمال ، ولكن عندما وقر الخوف من الله سكنات القلب والجوارح فسيكون الجواب : معاذ الله ) ، كان هذا هو جواب يوسف عليه السلام ، جاء كالصاعقة ، لتلك المرأة ، لم تتوقع أن يكون الرفض هو الجواب ، لكنه الإيمان بالله واليوم الآخر ، وأن الإنسان لابد وأن يعود إلى خالقه ليجازيه على ما قدم في دنياه ، والخوف من عذاب الله ، ومن النار وعذابها وحميمها وزقومها .
وَلِهَذَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ مِنْ السَّبْعَةِ الذِينَ يُظلُّهُمْ اللهُ فِي ظِلِّهِ : « رَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتَ مَنْصَبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ : إِنِّي أَخَافَ اللهُ »(1/227)
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :(سَبْعَةٌ يُظِلّهُمُ الله في ظِلّهِ يَوْمَ لاَ ظِلّ إِلاّ ظِلّهُ: إِمَامٌ عَادِلٌ، وَشَابٌ نَشَأَ في ِعِبَادَةِ الله، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلّقٌ في المَسْاجِدِ، وَرَجُلاَنِ تَحَابّا في الله اجْتَمعَا عَلَيه وَتَفَرّقَا عليه ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امرأة ذَاتُ منصبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ إِنّي أَخَافُ الله ، وَرَجُلٌ تَصَدّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتّى لا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ الله خَالِياً فَفَاضَتْ عَيْنَهُ )
[*] قال الإمام ابن القيم - رحمه الله - في زاد المعاد (4/268) : « وعشق الصور إنما تبتلى به القلوب الفارغة من محبة الله تعالى المعرضة عنه , المتعوِّضة بغيره عنه , فإذا امتلأ القلب من محبة الله والشوق إلى لقائه , دفع ذلك عنه مرض عشق الصور , ولهذا قال تعالى في يوسف : { كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين } فدل على أن الإخلاص سبب لدفع العشق وما يترتب عليه من السوء والفحشاء التي هي ثمرته ونتيجته » ا.هـ (1) .
(وقفة مع امرأةِ العزيز :
إنها المرأةُ المتكلمة التي هي أكفأ الناس على الخروج من الموقف كالشعرة من العجين في أحلكِ المواقف فتجد الجواب حاضراً على السؤال الذي يهتف به المنظر المريب ، ليس هذا فحسب بل تخلع جُرْمَهَا وَتُلْبِسْه إنساناً بريئاً لتصرف التهمةَ عن نفسها .
قال تعالى: ( وَأَلْفَيَا سَيّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَآءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءًا إِلاّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [ يوسف / 25]
__________
(1) ينظر لزاماً : المفاسد العاجلة والآجلة من عشق الصور . في الجواب الكافي للإمام ابن القيم (ص319) .(1/228)
وهنا يجب أن نحذر المسلمين من هذا السلاح الفتَّاك ومن هذا الداء العِضال الذي يفتك بصاحبه ويُدَمِر دينه ودنياه ، مرض (الخروج من الموقف) لأنه سلاحُ يضرُ صاحبه ويدمره من ثلاثة أوجه هي :
(أولاً) يجعل صاحبه من أجرئ الناس على المعاصي اعتماداً منه على كفاءته في الخروج من الموقف حتى في أحلك المواقف ، حتى في مواطن الريبة كما فعلت امرأة العزيز التي كانت أُمَّةً في هذا المجال ، ويجعل صاحبه يُقْدِمُ على معصية الله تعالى في الخلوات ـ كما أقدمت امرأة العزيز على ذلك ـ الأمر الذي يُدمر نفسه ودينه ويجعل حسناته هباءاً منثوراً ولو كانت مثل جبال تهامة بيضاً بنص السنة الصحيحة، وتأمل الحديث الآتي :
(حديث ثوبان رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجه ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لأعلمن أقواما من أمتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة بيضاً فيجعلها الله عز وجل هباء منثورا قال ثوبان يا رسول الله صفهم لنا جَلِّهِم لنا أن لا نكون منهم ونحن لا نعلم قال أما إنهم إخوانكم ومن جلدتكم ويأخذون من الليل كما تأخذون ولكنهم أقوام إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها .(1/229)
[*] قال ابن الجوزي رَحِمَهُ اللهُ : الحذر الحذر من المعاصي فإنها سيئة العواقب ، والحذر الحذر من الذُّنُوب خصوصًا ذنوب الخلوات فإن المبارزة لله تَعَالَى تسقط الْعَبْد من عينه سُبْحَانَهُ ولا ينال لذة المعاصي إِلا دائم الغَفْلَة ، فأما المُؤْمِن اليقظان فإنه لا يلتذ بها ، لأنه عَنْدَ التذاذه يقف بإزائه علمه بتحريمها وحذره من عقوبتها ، فإن قويت معرفته رأى بعين علمه قرب الناهي وَهُوَ الله فيتنغص عيشه في حال التذاذه فإن غلبه سكر الهوى كَانَ الْقَلْب متنغصًا بهذه المراقبات وإن كَانَ الطبع في شهوته فما هِيَ إِلا لحظة ثُمَّ خزي دائم وندم ملازم وبُكَاء متواصل وأسف على ما كَانَ مَعَ طول الزمان حتى إنه لو تيقن العفو وقف بإزائه حذار العتاب فأف للذنوب ما أقبح آثارها وأسوء وأخبارها . انتهى .
(ثانياً) أن مستخدم هذا السلاح (الخروج من الموقف) يصير الكذب طبعاً له لا تكلفاً لأن غالب الخروج من الموقف يكون عن طريق الكذب ، ولا تنسى أن الكذب يهدي إلى الفجور بنص السنة الصحيحة كما في الحديث الآتي :
(حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة ، وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقاً ، وإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار ، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذاباً )
(ثالثاً) : أن مستخدم هذا السلاح (الخروج من الموقف) يكون قد أوتيَ جَدَلا بالباطل ليخرج من الموقف ، ولا تنسى أن الجدال بالباطل يفسد القلب والدين ويسبب الضلال كما في الحديث الآتي :
(حديث أبي أمامة في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل ثم تلا قوله تعالى ( بل هم قومٌ خَصِمون )(1/230)
{ تنبيه } :(قال ابن القيم رحمه الله تعالى مبيناً خطر العشق على الدين: ومحبة الصور المحرمة وعشقها من موجبات الشرك، وكلما كان العبد أقرب إلى الشرك، وأبعد من الإخلاص كانت محبته بعشق الصور أشد.
وكلما كان أكثر إخلاصاً، وأشد توحيداً كان أبعد من عشق الصور.
ولهذا أصاب امرأة العزيز ما أصابها من العشق؛ لشركها، ونجا منه يوسف الصديق عليه السلام بإخلاصه.
قال تعالى :(كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ) [يوسف: 24] (1) .
فالسوء: العشق، والفحشاء: الزنا؛ فالمخلص قد خلص حبه لله، فخلَّصه الله من فتنة عشق الصور، والمشرك قلبه متعلق بغير الله، فلم يخلص توحيده وحبه لله عز وجل .
{ هند بنت عتبة رضي الله عنها }
لمعرفة معدنها النفيس والذي هو أنفس من الذهب الخالص يكفينا ردها على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، حين سمعت منه - صلى الله عليه وسلم - ، بنهي المرأة عن الزنا في مبايعتهن للنساء ، فردَّت هند بنت عتبة بروح المرأة (التقيةٍ النقية ، العفيفةً الحييِّة ، الحرةً الأبيَّة)
قالت رضي الله عنها : وهل تزني الحرة يا رسول الله ... ؟!
__________
(1) إغاثة اللهفان ص 513.(1/231)
قالتها متعجبة !استفهام استنكاري يفيد الاستنكار ، تقول وبكل تعجب أو تزني الحرة يا رسول الله ؟! أي أن المرأة الحرة لا تزني أبدا، تأنف باستنكارٍ واضحٍ رذيلةً تَعَافها المرأة في جاهليتها وحتى يوم أباحت مضغ أكباد الرجال وأباحت لنفسها السجود للأصنام !! لنقف هنا وقفة مع المرأة الحرة حين تعاف الرذيلة وتبغضها قبل أن تعتنق الإسلام ، وتصفها بالقبح والإسلام بعدُ حديث عهد في قلبها لم يبلغ بها مبلغ السابقين.. تقوله وهي حديثة عهد بكفر وجاهلية!! لكنها الفطرة التي لم تتلوث بالعهر والدناسة !لكنها العفة التي لم يخدشها نزوة أو طيش! أو مَيلٌ إلى الحرام كقوله - صلى الله عليه وسلم - في صحيح مسلم ( مائلاتٍ مميلات ) بالله عليكم كيف حال هذه العفة بعد الإسلام وقد سقاها بماء الإيمان والحياء فزادها جمالا وأسبغ عليها رونقا وإجلالا .
هذه من ضُرِب بعفتها الأمثال وتغنى بشرفها الأبطال ، تصبر ولا تدنس ذيلها وتموت ولا تأكل بثدييها .
(والسؤال الذي يطرح نفسه الآن ؟
فهل يعني هذا أن العفة تسكن قلب المرأة الحرة بغض النظر عن دينها ؟ وأن دماثة الخلق يُمْكِن أن تأنس لقلوب لم يسكنها الإيمان بالله بعد ؟
الجواب : نعم.. وهند بنت عتبة أصدق دليل!!!
فكيف بنا نحن المجتمع المسلم وهذه الرذيلة تنهش في أعراضنا وتستشري نارها في ديارنا.. حين تغرق بعض النساء من مجتمعاتنا في خصلةِ هي قبيحة في الجاهلية فكيف بها في الإسلام. قاتلها الله من امرأةٍ ذات نفسٍ خسيسة دنيئةٍ رديئةِ المعدن فلقد انغمست في رذيلةٍ نهانا الله تعالى عن مجرد الاقتراب منها فضلاً عن الانغماس فيها ، ويعلق البعض السقوط بها على شماعة الفقر والظروف أو الانتقام من الزوج في محاولةٍ منهن في إخفاء الحقيقة المُرَّة الكامنة بداخلها والمستقرة بين جنبيها وهي أنها خسيسة دنيئةٍ رديئةِ المعدن فيها ميلٌ إلى الحرام كقوله - صلى الله عليه وسلم - في صحيح مسلم ( مائلاتٍ مميلات ) !!!(1/232)
وما ظنك بامرأةٍ انغمست في هذه الخصلة الدنيئة التي تأنف منها الأحرار النساء الجاهليات ، وصدق لسان العرب حين قال : ( تموت الحرة ولا تأكل بثدييها )، فكيف بنا ونحن نعيش في ظل مجتمعاتنا المسلمة التي ولدنا وتربينا في أحضانها.
{ تنبيه } : هل يُعْقَل من تَرَبتْ تربيةً جادةً وان لم تكن صالحة أن تمكن غيرها من نفسها وهو لا يحل لها ؟
هل تقبل أن تكون محلا للاستمتاع لمن لا يجوز لها ؟
هل يمكن لامرأة أن تذبح حياءها وتهتك عفتها وتمزق دينها
(قديما قالوا .. تموت الحرة ولا تأكل بثديها :أي لا تبيع جسدها وان ماتت من الجوع
فأين أولئك المفسدين من ذلك ، ألم يسمعوا ما قالته هند بنت عُتبة زوجة أبي سفيان وأم معاوية وأم زوجة النبي - صلى الله عليه وسلم - (أم حبيبة) حينما بايعهن النبي صلى الله عليه وسلم ثم اشترط شروطا ألا يفعلن كذا ، وكذا ومنها قوله ولا تزنين فقالت هند وهل تزني الحرة ؟؟
نعم ... رضي عنها تلك الشريفة التي أنكرت الزنا لمن هي حرة ...
لأن الحرة ترى الزنا _ والعياذ بالله _ إهانة لعفتها بل ولآدميتها المَحْضَة قبل النظر عن كونه من الخبائث وإن المرأة الحرة تعافُه ويَقْشَعِرُّ بدنُها من ذِكْره فضلاً عن الاقتراب منه أو الانغماس فيه وان لم تكن صالحة .
{ قصة الربيع بن خيثم وامرأة بارعة الجمال }
أمرَ قومٌ امرأةً ذات جمال بارع أن تتعرض للربيع ابن خيثم لعلها تفتنه ، وجعلوا لها إن فعلت ذلك ألف درهم !
فلبست أحسن ما قدرت عليه من الثياب ، وتطيبت بأطيب ما قدرت عليه ، ثم تعرضت له حين خرج من مسجده . فنظر إليها، فراعه أمرها، فأقبلت عليه وهي سافرة.
فقال لها الربيع : كيف بك لو قد نزلت الحمى بجسمك ، فغيرت ما أرى من لونك وبهجتك ؟ أم كيف بك لو قد نزل بك ملك الموت ، فقطع منك حبل الوتين ؟
أم كيف بك لو سألك منكر ونكير؟(1/233)
فصرخت المرأة صرخة، فخرت مغشيا عليها، فوالله لقد أفاقت ، وبلغت من عبادة ربها ما أنها كانت يوم ماتت كأنها جذع محترق .
(تفسير موقف المجرمين الذين أرادوا افتتان الربيع ابن خيثم :
{وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيمًا} ( سورة النساء/27)
{ تنبيه } :(للافتتان بالمرأة شرطان متلازمان :
(1) أن تخضع بالقول
(2) أن يكون الرجل في قلبه مرض مصداقاً لقوله تعالى : { فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا} (سورة الأحزاب/32)
فالمرأةُ خضعت بالقول لكن الربيع ابن خيثم لم يكن في قلبه مرض كحال الذين يسيل لعابهم وراء الشهوات والعياذ بالله فحصل له النجاة لذلك .
{ قصة أبي زرعة } :
قال أبو زرعة الخيني مكرت بي امرأة فقالت يا أبا زرعة ألا ترغب في عيادة مبتلي تتفط برؤيته فقلت بلى فقالت أدخل إلى الدار فلما دخلت الدار أغلقت الباب ولم أر أحدا فعَرَفْتُ قصدها فقلت اللهم سودها فاسودت فحارت وفتحت الباب فخرجت وقلت اللهم ردها إلى حالتها فردها إلى ما كانت عليه .
{ قصة عطاء بن يسار }
خرج عطاء بن يسار وسليمان بن يسار حاجين من المدينة ، ومعهم أصحاب لهم، حتى إذا كانوا بالأبواء نزلوا منزلا لهم . فانطلق سليمان وأصحابه لبعض حاجتهم ، وبقي عطاء قائما يصلي . فدخلت عليه امرأة من الأعراب جميلة! فلما شعر بها عطاء ظن أن لها حاجة، فخفف صلاته ، فلما قض صلاته . قال لها : ألك حاجة؟
قالت : نعم .
فقال : ماهي ؟
قالت : قم . فأصب مني ، فإني قد ودقت (أي رغبت في الرجال) ولا بعل لي .
فقال : إليك عني . لا تحرقيني ونفسك بالنار.
ونظر إلى امرأة جميلة، فجعلت تراوده عن نفسه ،وتأبى إلا ما تريد ، فجعل عطاء يبكي ويقول : ويحك ! إليك عني . إليك عني .(1/234)
واشتد بكاؤه ، فلما نظرت المرأة إليه وما دخله من البكاء والجزع بكت المرأة لبكائه ! !
فبينما هو كذلك إذ رجع سليمان بن يسار من حاجته ، فلما نظر إلى عطاء يبكي ، والمرأة بين يديه تبكي في ناحية البيت ، بكى لبكائهما، لا يدري ما أبكاهما .
وجعل أصحابهما يأتون رجلا رجلا، كلما أتاهم رجل فرآهم يبكون جلس يبكي لبكائهم ، لا يسألهم عن أمرهم حتى كثر البكاء، وعلا الصوت .
فلما رأت الأعرابية ذلك قامت فخرجت ، وقام القوم فدخلوا، فلبث سليمان بعد ذلك وهو لا يسأل أخاه عن قصة المرأة إجلالا له وهيبة .
ثم إنهما قدما مصر لبعض حاجتهما، فلبثا بها ما شاء الله ، فبينما عطاء ذات ليلة نائما استيقظ وهو يبكي : فقال سليمان : ما يبكيك يا أخي ؟
قال عطاء : رؤيا رأيتها الليلة.
قال سليمان : ما هي ؟
قال عطاء : بشرط أن لا تخبر بها أحدا مادمت حيا .
قال سليمان : لك ما شرطت .
قال عطاء: رأيت يوسف النبي عليه السلام في النوم ، فجئت أنظر إليه فيمن ينظر، فلما رأيت حسنه ، بكيت ، فنظر إلي في الناس .
فقال : ما يبكيك أيها الرجل ؟
قلت : بأبي أنت وأمي يا نبي الله ، ذكرتك وامرأة العزيز، وما ابتليت به من أمرها، وما لقيت من السجن ، وفرقة الشيخ يعقوب ، فبكيت من ذلك ، وجعلت أتعجب منه .
فقال يوسف عليه السلام : فهلا تعجب من صاحب المرأة البدوية بالأبواء؟ فعرفت الذي أراد، فبكيت واستيقظت باكيا .
فقال سليمان : أي أخي وما كان حال تلك المرأة ؟ فقص عليه عطاء القصة، فما أخبر بها سليمان أحدا حتى مات عطاء، فحدث بها امرأة من أهله .
{ تنبيه } : انظر رحمك الله كيف كان موقف عطاء بن يسار رحمه الله لم يجترئ على معصية الله في الخلوات لأنه رحمه الله لم يكن ممن (إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها ) لعلمه بشناعة معصية الله في الخلوات ،(1/235)
(حديث ثوبان رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجه ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :لأعلمن أقواما من أمتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة بيضاً فيجعلها الله عز وجل هباء منثورا قال ثوبان يا رسول الله صفهم لنا جَلِّهِم لنا أن لا نكون منهم ونحن لا نعلم قال أما إنهم إخوانكم ومن جلدتكم ويأخذون من الليل كما تأخذون ولكنهم أقوام إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها .
[*] قال ابن الجوزي رَحِمَهُ اللهُ : الحذر الحذر من المعاصي فإنها سيئة العواقب ، والحذر الحذر من الذُّنُوب خصوصًا ذنوب الخلوات فإن المبارزة لله تَعَالَى تسقط الْعَبْد من عينه سُبْحَانَهُ ولا ينال لذة المعاصي إِلا دائم الغَفْلَة ، فأما المُؤْمِن اليقظان فإنه لا يلتذ بها ، لأنه عَنْدَ التذاذه يقف بإزائه علمه بتحريمها وحذره من عقوبتها ، فإن قويت معرفته رأى بعين علمه قرب الناهي وَهُوَ الله فيتنغص عيشه في حال التذاذه فإن غلبه سكر الهوى كَانَ الْقَلْب متنغصًا بهذه المراقبات وإن كَانَ الطبع في شهوته فما هِيَ إِلا لحظة ثُمَّ خزي دائم وندم ملازم وبُكَاء متواصل وأسف على ما كَانَ مَعَ طول الزمان حتى إنه لو تيقن العفو وقف بإزائه حذار العتاب فأف للذنوب ما أقبح آثارها وأسوء وأخبارها . انتهى .
{ قصة المرأة المُتَعَبِدة البصرية }
كانت بعض المتعبدات البصريات جميلة وكانت تُخْطَبُ فتأبى ،وأنها وقعت في نفس رجل مهلبي فبلغ المهلبي أنها تريد الحج فاشترى ثلاثمائة بعير ونادى من أراد الحج فليكتر من فلان المهلبي فاكترت منه فلما كان في بعض الطريق جاءها ليلا فقال إما أن تزوجيني نفسك وإما غير ذلك فقالت ويحك اتق الله فقال ما هو إلا ما تسمعين والله ما أنا بِجَمَّال ولا خرجت في هذا إلا من أجلك فلما خافت على نفسها قالت ويحك انظر أبقي في الرجال أحد لم ينم ؟ قال : لا
قالت: عد فانظر ،(1/236)
فمضى وجاء فقال ما بقي أحد إلا وقد نام فقالت ويحك أنام رب العالمين ثم شهقت شهقة وخرت ميتة ، وخر المهلبي مغشيا عليه ثم قال ويحي قتلت نفسا ولم أبلغ شهوتي فخرج هاربا .
{ فانظر رحمك الله كيف يفعل الصدق بأهله وكيف يكون سبباً في النجاة من الزلل والتوفيق لصالح العمل ، وانظر إلى حال الصادقين في حصول العفاف وأن الموت أحبُ إليهم من أن يقعوا في الرذيلة ، فلما اطَّلع الله تعالى على قلوبهم ووجد فيها النور نجاها بفضلهِ تعالى من كلِ خرابٍ وبور ومن كل فعلٍ محظور ، ونجاهم من دواهي الأمور }
{ قصة المرأة الصالحة التي تسأل عن حمام منجاب }
ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه الجواب الكافي "أن رجلا كان واقفًا بإزاء داره (باتجاهها)، وكان بابه يشبه باب حمّام منجاب (حمام كان مخصصًا للنساء) فمرت جارية لها منظر ، فقالت: أين الطريق إلى حمام منجاب ؟ فأشار إلى بيته وقال لها: هذا حمام منجاب، فدخلت الدار وهي لم تعرف أنه خدعها ودخل وراءها، فلما رأت نفسها في داره وعلمت أنه قد خدعها، أظهرت له البشرى والفرح باجتماعها معه ، وقالت له: يصلح أن يكون معنا ما يطيب به عيشنا وتقرُّ به عيوننا، فقال لها: الساعة آتيك بكل ما تريدين وتشتهين، وخرج وتركها في الدار ولم يغلقها ، فأخذ ما يصلح ورجع فوجدها قد خرجت وذهبت ولم يجد لها أثر .
فهام الرجل بها وذهبت بلبه فأكثر الذكر لها والحزن والجزع عليها وجعل يمضي في الطرق ويقول:
يا رُبَّ قائلةٍ يوْمًا وقد تَعِبَتْ ... أيْنَ الطَّرِيقُ إلى حمام مَنْجَابِ
ومر من عند بيتها وهو ينشد هذا البيت وإذا بها تجاوبه من داخل دارها وتقول بصوت سمعه:
هَلا جَعَلْتَ سَرِيْعًا إذْ ظَفِرْتَ بِهَا ... حِرْزًا عَلَى الدارِ أَوْ قُفْلاً عَلى البابِ
إنْ يَنْفَذَ الرِّزْقُ فالرَّزَاقُ يَخْلِفُهُ ... والعِرْضُ مِنْ أيْنَ يَا مَغْرُوْرُ يُنْجَابُ(1/237)
{ تنبيه } : { انظر رحمك الله إلى هذه المرأة التي وقعت في ورطة وخداع من إنسانٍ ماجن أراد أن يقع بها ، ولكن لما اطَّلع الله تعالى على قلب هذه المرأة التقيَّة النقيَّة العَفيفة الحييَّة الحُرةُ الأبيّةَ ووجد فيه صدق النية في عدم الوقوع في الفاحشة كتب الله تعالى لها النجاة لا محالة وأنْجَاهَا من هذا المأزق المهين كما تخرج الشَّعْرةُ من العجين ، والسؤال الذي يطرح نفسه : من الذي أنْسَى هذا الشَقِي أن يضع قُفلاً على الباب ؟ إنه الله العلي الكبير ، وما يعلمُ جنود ربك إلا هو ، فلا يتوهم إنسان أن الله تعالى يعلمُ من عبده ِصدق النية في عدم الوقوع في الرذيلة ثم يتركه يقع فيها ، فمن توهم ذلك فقد كذَّب بحديث النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( إن تصدق الله يصدقك ) .(1/238)
ثم إنَّ هذا أمرٌ مُحال عند ربنا الكبير المُتعال ، بل هو فوق ما يخطر ببال أو يدور في الخيال ، ومن توهم ذلك كان في عقله خَبَال ، والله ما وقع إنسانٌ في الحرام إلا كان عنده مَيلٌ إلى الحرام والعياذ بالله، ولا يظلمُ ربُك أحدا ، لكنَّ الإنسان إذا اتبع هواه وسار أسيراً ذليلاً وراء شهواته تراه يقيم العذر لنفسه و يلتمس لها الدليل وَيُلَفِق لها بزعمِهِ التأويل ، ويريد أن يُحَمِلَّ الناس جميعاً السبب في خطأهِ ويقول : هم السبب في زَلتي وهم الذين دفعوني إلى شِقْوَتي فيُعَلِق ذنبه ومعاصيه على شماعاتٍ وهمية ، وأحياناً يلقي اللوم على القدر فيقول هو السبب في ذلك كما حصل في عهد الخليفة الراشد عمر ابن الخطاب حينما أتوْا بسارق فسأله عمر رضي الله تعالى عنه : ما حَمَلَك على ذلك ؟ فقال له : قَدَرُ الله يا أمير المؤمنين فقال له الخليفة الراشد عمر ابن الخطاب رضي الله تعالى عنه : ونحن نقطع يدك بِقَدِرِ الله ، وهكذا تجد الإنسان إذا اتبع هواه وسار أسيراً ذليلاً وراء شهواته يُخْفي الحقيقة المُرَّة الكامنة في نفسه المستقرة بين جنبية والتي دفعته إلى الفجور ، وهي أنه عنده مَيلٌ إلى الحرام والعياذ بالله ، فلَيْتَه أحْسَنَ الظن بربه تعالى كما أحسن الظن بنفسه اللئيمة الخائنة الأثيمة التي أهلكته ورَمَتْ به في مستنقع الرذائل والآثام ، لكن هيهات فإن هذا لا يغير من الحقيقة شيئاً بل هو يزيد الأمرُ سوءاً ويزيدُ الطينُ بِلَة ، ويُضِيفُ إليه ذنباً إلى ذنوبه وَعَيْبَاً إلى عيوبه } .
(كيفية التوبة من الزنا :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
وبعد أن تبين عظم جرم الزنا، وآثاره المدمرة على الأفراد والأمة ، فإنه يحسن التنبيه على وجوب التوبة من الزنا؛ فيجب على من وقع في الزنا والعياذ بالله ، أو تسبب في ذلك، أو أعان عليه أن يبادر إلى التوبة النصوح، وأن يندم على ما مضى، وألا يرجع إليه.(1/239)
ولا يلزم من وقع في الزنا رجلاً كان أو امرأة أن يسلَّم نفسه، ويعترف بجرمه، بل يكفي في ذلك أن يتوب إلى ربه، وأن يستتر بستره عز وجل .
وإن كان عند الزاني صور لمن كان يفجر بها، أو تسجيل لصوتها أو لصورتها فليبادر إلى التخلص من ذلك، وإن كان قد أعطى تلك الصور أو ذلك التسجيل أحداً من الناس فليسترده منه، وليتخلص منه بأي طريقة.
وإن كانت المرأة قد وقع لها تسجيل أو تصوير، وخافت أن ينتشر أمرها فعليها أن تبادر إلى التوبة، وألا يكون ذلك معوقاً لها عن الإقبال على ربها.
بل يجب عليها أن تتوب، وألا تستسلم للتهديد والترهيب؛ فإن الله كافيها، ومتوليها، ولتعلم أن من يهددها جبان رعديد، وأنه سوف يفضح نفسه إن هو أقدم على نشر ما بيده .
ثم ماذا يكون إذا هو نفذ ما يهدد به ؟ أيهما أسهل ؟ فضيحة يسيرة في الدنيا، ويعقبها توبة نصوح؟ أو فضيحة على رؤوس الأشهاد يوم القيامة ثم يعقبها دخول النار وبئس القرار؟
ومما ينفع في هذا الصدد إن هي خافت من نشر أمرها أن تستعين برجل رشيد من محارمها؛ ليعينها على التخلص مما وقعت فيه؛ فربما كان ذلك الحل ناجعاً مفيداً.
وبالجملة فإن على من وقع في ذلك الجرم أن يبادر إلى التوبة النصوح، وأن يقبل على ربه بكُلِّيته، وأن يقطع علاقته بكل ما يذكره بتلك الفعلة، وأن ينكسر بين يدي ربِّه مخبتاً منيباً، عسى أن يقبله، ويغفر سيئاته، ويبدلها حسنات.
قال تعالى :(وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ * وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ آَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً * إِلاّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلََئِكَ يُبَدّلُ اللّهُ سَيّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رّحِيماً) [الفرقان: 70:68](1/240)
رابعاً: التوبة من اللواط والعياذ بالله :
(مفاسد اللواط والعياذ بالله :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
اللواط والعياذ بالله أعظم الفواحش على الإطلاق، وأضرها على الدين والعقل والمروءة والأخلاق؛ فهو داء عضال، وسمٌّ قَتَّال، متناهٍ في القبح والبشاعة، غاية في الخسة والشناعة؛ فهو شذوذ منحرف، وارتكاس في الطباع، يمجه الذوق السليم، وتأباه الفطرة السوية، وترفضه وتمقته الشرائع السماوية؛ لما له من عظيم الأضرار، ولما يترتب عليه من جسيم الأخطار، فآثاره السيئة يقصر دونها العد، وأضراره المدمرة لا تقف عند حد، ففيه أكثر أضرار الزنا وزيادة؛ بل إن حد الزاني المحصن مشتق من عقوبة الله تعالى لقوم لوط بالقذف بالحجارة؛ لاشتراك الزنا واللواط في الفحش (1) .
[*](قال ابن القيم رحمه الله تعالى متحدثاً عن مفاسد اللواط: فإن في اللواط من المفاسد ما يفوت الحصر والعد، ولأن يقتل المفعول به خير له من أن يؤتى ؛ فإنه يفسد فساداً لا يرجى له بعده صلاح أبداً، ويذهب خيره كله، وتمص الأرض ماء الحياء من وجهه؛ فلا يستحيي بعد ذلك من الله ، ولا من خلقه، وتعمل في قلبه، وروحه نطفةُ الفاعلِ ما يعمل السم في البدن (2) .
__________
(1) الجواب الكافي ص396.
(2) مرجع سابق.(1/241)
(وقال أيضاً : ولم يَبْتَلِ الله سبحانه بهذه الكبيرة قبل قوم لوط أحداً من العالمين، وعاقبهم عقوبة لم يعاقب بها غيرهم، وجمع عليهم من أنواع العقوبات بين الإهلاك، وقلب ديارهم عليهم، والخسف بهم، ورجمهم بالحجارة من السماء، فنكَّل بهم نكالاً لم ينكله أمة سواهم؛ وذلك لعظم مفسدة هذه الجريمة التي تكاد تميد من جوانبها الأرض إذا عُمِلت فيها، وتهرب الملائكة من أقطار السماوات والأرض إذا شاهدوها؛ خشية نزول العذاب على أهلها؛ فيصيبهم معهم، وتعج الأرض إلى ربها تبارك وتعالى وتكاد الجبال تزول عن أماكنها وقتل المفعول به خير له من وطئه؛ فإنه إذا وطئه قتله قتلاً لا ترجى الحياة معه بخلاف قتله، فإنه مظلوم شهيد وربما ينتفع به في آخرته (1) .
(وقال أيضاً : متحدثاً عن فاحشتي الزنا واللواط: فليس في الذنوب أفسد للقلب والدين من هاتين الفاحشتين، ولهما خاصية في تبعيد القلب من الله؛ فإنهما من أعظم الخبائث؛ فإذا انصبغ القلب بهما بَعُد ممن هو طيب، لا يصعد إليه إلا طيب، وكلما ازداد خبثاً ازداد من الله بعداً (2) .
(وقال متحدثاً عما حل بقوم لوط عليه السلام :فوالله ما كان بين إهلاك أعداء الله ونجاة نبيه وأوليائه إلا ما بين السَّحر وطلوع الفجر، وإذا بديارهم قد اقتلعت من أصولها، ورفعت نحو السماء، حتى سمعت الملائكة نباح الكلاب، ونهيق الحمير، فبرز المرسوم الذي لا يرد عن الرب الجليل إلى عبده ورسوله جبرائيل، بأن يقلبها عليهم كما أخبر به محكم التنزيل، فقال عز من قائل : (فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ) [هود:82]
فجعلهم آية للعالمين، وموعظة للمتقين، ونكالاً لمن شاركهم في أعمالهم من المجرمين، وجعل ديارهم بطريق السالكين (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) الحجر:[ 75_77]
__________
(1) الجواب الكافي ص 407_408.
(2) إغاثة اللهفان ص 71.(1/242)
أخذهم على غرَّة وهم نائمون، وجاءهم بأسُه وهم في سكرتهم يعمهون، فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون، فقلبت تلك اللذات آلاماً فأصبحوا بها يعذبون.
مآرب كانت في الحياة لأهلها ... عِذاباً فصارت في الممات عَذاباً
ذهبت اللذات، وأعقبت الحسرات، وأنقضت الشهوات، وأورثت الشقوات، تمتعوا قليلاً، وعذبوا طويلاً، رتعوا مرتعاً وخيماً، فأعقبهم عذاباً أليماً، أسكرتهم خمرةُ تلك الشهوة فما استفاقوا منها إلا في ديار المعذبين، وأرقدتهم تلك الغفلة فما استيقظوا منها إلا وهم في منازل الهالكين؛ فندموا والله أشد الندامة حين لا ينفع الندم، وبكوا على ما أسلفوا بدل الدموع بالدم؛ فلو رأيت الأعلى والأسفل من هذه الطائفة، والنار تخرج من منافذ وجوههم وأبدانهم وهم بين أطباق الجحيم، وهم يشربون بدل لذيذ الشراب كؤوس الحميم، ويقال لهم وهو على وجوههم يسحبون: (ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) [الزمر: 24]
(اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) [الطور: 16]
وقد قرَّب الله مسافة العذاب بين هذه الأمة وبين إخوانهم في العمل، فقال مخوفاً لهم أن يقع الوعيد: (وَمَا هِيَ مِنْ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ) [هود: 83] (1) .
(وقال مبيناً أضرار الوطء في الدبر: فإنه يحدث الهم، والغم، والنفرة عن الفاعل والمفعول.
وأيضاً فإنه يسود الوجه، ويظلم الصدر، ويطمس نور القلب، ويكسو الوجه وحشة تصير عليه كالسيماء يعرفها من له أدنى فراسة .
وأيضاً فإنه يوجب النفرة، والتباغض الشديد، والتقاطع بين الفاعل والمفعول ولا بد.
وأيضاً فإنه يفسد حال الفاعل والمفعول فساداً لا يكاد يرجى بعده صلاح إلا أن يشاء الله بالتوبة النصوح.
وأيضاً فإنه يذهب بالمحاسن منهما، ويكسوهما ضدهما كما يذهب بالمودة بينهما، ويبدلهما بها تباغضاً وتلاعناً.
__________
(1) الجواب الكافي ص 413_415.(1/243)
وأيضاً فإنه من أكبر زوال النعم، وحلول النقم؛ فإنه يوجب اللعنة والمقت من الله، وإعراضه عن فاعله، وعدم نظره إليه؛ فأي خير يرجوه بعد هذا؟ وأي شر يأمنه؟ وكيف حياة عبد حلَّت عليه لعنة الله ومقته، وأعرض عنه بوجهه ولم ينظر إليه؟
وأيضاً فإنه يَذْهَب بالحياء جملة، والحياء هو حياة القلوب؛ فإذا فقدها القلب استحسن القبيح، واستقبح الحسن، وحينئذ فقد استحكم فساده.
وأيضاً فإنه يحيل الطباع عما ركبها الله، ويخرج الإنسان عن طبعه إلى طبع لم يُركِّب الله عليه شيئاً من الحيوان، بل هو طبع منكوس، وإذا نكس الطبع انتكس القلب، والعمل، والهدى؛ فيستطيب حينئذ الخبيث من الأعمال والهيئات، ويفسد حاله، وعمله، وكلامه بغير اختياره.
وأيضاً فإنه يورث من الوقاحة، والجرأة ما لا يورثه سواه.
وأيضاً فإنه يورث من المهانة، والسِّفال، والحقارة ما لا يورثه غيره.
وأيضاً فإنه يكسو العبد من حلة المقت، والبغضاء، وازدراء الناس، واحتقارهم إياه، واستصغارهم له ما هو مشاهد بالحس (1) .
ولقد أثبتت الدراسات الطبية الحديثة أن لهذه الفعلة القبيحة أضراراً كثيرة على نفوس مرتكبيها، وعقولهم، وأبدانهم؛ فمما تسببه هذه الفعلة القبيحة كثرة الوساوس والأوهام؛ فهذا الداء إذا تمكن من القلب، واستحكم وقوي سلطانه أفسد الذهن، وأحدث الوساوس.
وربما أصيب صاحبه بمرض الهوس الجنسي الذي يجعل صاحبه الشهواني مشغولاً بتخيلات شهوانية غريزية.
ومن أضرارها التأثير على الأعصاب والمخ، وأعضاء التناسل، والدوسنتاريا، والتهاب الشرج والمستقيم، والتهاب الكبد الفيروسي.
بل كثيراً ما يؤدي إلى أمراض الشذوذ الخطيرة كالزهري، والسيلان، والهربس، والإيدز، وفيروس الحب، بل هو السبب الأول، وله النسبة الكبرى في حدوث هذه الأمراض .
__________
(1) زاد المعاد لابن القيم 4/ 240_242.(1/244)
هذا ولعظم هذه الجريمة أجمع الصحابة رضي الله عنهم على قتل مرتكبها، ولكنهم اختلفوا في كيفية قتله؛ فمنهم من قال: يقتل بالسيف، ومنهم من قال: يحرق بالنار، ومنهم من قال: ينظر أعلى بناء في القرية فيرمى اللوطي منها منكساً ثم يتبع بالحجارة (1) .
[*](قال الشيخ العلامة د. بكر أبو زيد: وأما صفة القتل فإن الذي يظهر لي أيضاً والله أعلم هو أن هذا عائد إلى رأي الإمام من القتل بالسيف، أو رجماً بالحجارة، ونحو ذلك حسب مصلحة الردع والزجر، والله أعلم (2) .
وهذا الحكم يشمل الفاعل والمفعول به سواء كانا بكرين، أو ثيبين عند جمهور العلماء (3) .
ودليل هذا القول الحديث الآتي : (
( حديث بن عباس رضي الله عنهما الثابت في صحيح السنن الأربعة ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل و المفعول به .
[*](قال الشيخ بكر أبو زيد تعليقاً على هذا الحديث: ووجه الدلالة من هذا الحديث نَصيةٌ على قتل الفاعل والمفعول به، وليس فيه تفصيل لمن أحصن أو لم يحصن؛ فدل بعمومه على قتله مطلقاً (4) .
(كيفية التوبة من اللواط :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
لعظم هذه الجريمة المنكرة قال بعض العلماء: لا توبة للوطي، ولا يدخل الجنة؛ فهو جدير ألا يوفق ، وأن يحال بينه وبينه، وكلما عمل خيراً قيض الله له ما يفسده عقوبة له؛ فلا يوفق لعلم نافع، ولا عمل صالح، ولا توبة نصوح (5) .
__________
(1) انظر الجواب الكافي ص 408_410، وروضة المحبين ص 370_376.
(2) الحدود والتعزيرات عند ابن القيم د. بكر أبو زيد ص 189.
(3) انظر الاستقامة لابن تيمية 2/ 187، وتفسير القرآن العظيم 2/ 211، وأضواء البيان للشيخ محمد الأمين الشنقيطي 3/ 40_45.
(4) الحدود والتعزيرات عند ابن القيم ص 179.
(5) انظر الجواب الكافي ص 396_398 ففيه تفصيل هذا القول ومأخذه.(1/245)
والصحيح في هذه المسألة أن للوطي توبة إذا تاب؛ فإن الله يغفر الذنوب جميعاً، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له.
[*](قال ابن القيم رحمه الله تعالى بعد أن ذكر الخلاف في توبة اللوطي: =والتحقيق في المسألة أن يقال: إذا تاب المبتلى بهذا البلاء، وأناب ، ورزق توبة نصوحاً، وعملاً صالحاً، وكان في كبره خيراً منه في صغره، وبدل سيئاته حسنات، وغسل عار ذلك عنه بأنواع الطاعات والقربات، وغض بصره، وحفظ فرجه عن المحرمات، وصدق الله في معاملته فهذا مغفور له، وهو من أهل الجنة؛ فإن الله يغفر الذنوب جميعاً.
وإذا كانت التوبة تمحو كل ذنب حتى الشرك بالله ، وقتل أنبيائه، وأوليائه، والسحر، والكفر، وغير ذلك فلا تَقْصُر عن محو هذا الذنب.
وقد استقرت حكمة الله تعالى به عدلاً وفضلاً أن التائب من الذنب كم لا ذنب له، وقد ضمن الله سبحانه لمن تاب من الشرك، وقتل النفس، والزنا أنه يبدل سيئاته حسنات.
وهذا حكم عام لكل تائب من كل ذنب، وقد قال تعالى : (قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [الزمر: 53]
فلا يخرج من هذا العموم ذنب واحد، ولكن هذا في حق التائب خاصة.
وأما المفعول به إن كان في كبره شراً مما كان في صغره لم يوفق لتوبة نصوح، ولا لعمل صالح، ولا استدرك ما فات، وأحيا ما أمات، ولا بدل السيئات بالحسنات فهذا بعيد أن يوفق عند الممات لخاتمة يدخل بها الجنة؛ عقوبة له على عمله؛ فإن الله سبحانه يعاقب على السيئة بسيئة أخرى، وتتضاعف عقوبة السيئات بعضها ببعض، كما يثيب على الحسنة بحسنة أخرى (1) .
وبناء على ما مضى فإنه يجب على من وقع في اللواط أن يتوب إلى الله عز وجل سواء كان فاعلاً، أو مفعولاً به، أو معيناً على ذلك، أو داعياً إليه .
__________
(1) الجواب الكافي ص 398_400.(1/246)
ويقال لمن وقع في ذلك الجرم ما يقال لمن وقع في الزنا، من جهة الاستتار، وأنه لا يلزمه أن يسلم نفسه .
بل عليه أن يعزم ويجزم، وأن يُقْبل على ربه، وأن يفكر في عاقبة أمره، وأن يعلم أنه على خطر عظيم إن هو استمر على فعلته، وأنه كالشارب من ماء البحر لا يروى، وكالمصاب بداء الجرب لا يزيده الحكُّ إلا ضراوة واستمراراً.
وليعلم أنه معان من الله إن هو صدق في التوبة.
ومما يعينه على ذلك أن يقطع علاقته بكل ما يذكره بالفاحشة من صور، أو رسائل، أو نحو ذلك، وأن يصبر خصوصاً في بداية أمره.
وإن كان مبتلى بأن تفعل به الفاحشة وخشي إن تاب أن يفضحه رفقة السوء بنشر صوره أو نحو ذلك فعليه أن يتوكل على ربه، وأن يستعين بمن يهمه أمره من قريب أو داعية أو غيرهما، وليعلم أن هؤلاء السفلة جبناء رعاديد؛ فإذا رأوا منه حزماً وعزماً نفروا منه، وابتعدوا عنه ومن يتوكل على الله فهو حسبه.
خامساً: التوبة من العشق والعياذ بالله :
(تعريف العشق :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
مسألة : ما هو العشق :
[*](أورد الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه ذم الهوى عن ابن عائشة قال : قلت لطبيب كان موصوفا بالحذق ما العشق ؟
قال : شغل قلب فارغ .
قلت : وقد ذهب بعضهم إلى أنه مرض وسواسي شبيه بالماليخوليا .
(مراتب العشق :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ
[*](قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه ذم الهوى :
أول ما يتجدد الاستحسان للشخص ثم يجلب إرادة القرب منه ثم المودة وهو أن يود أن لو ملكه ثم يقوى الود فيصير محبة ثم يصير خلة ثم يصير هوى فيهوي بصاحبه في محاب المحبوب من غير تمالك ثم يصير عشقا ثم يصير تتيما والتتيم حالة يصير بها المعشوق مالكا للعاشق لا يوجد في قلبه سواه ومنه تيم الله ، ثم يزيد التتيم فيصير ولهاً والوله الخروج عن حد الترتيب والتعطل عن أحوال التمييز .(1/247)
وقال بعض العلماء أول مراتب العشق الميل إلى المحبوب ثم يستحكم الهوى فيصير مودة ثم تزيد بالمؤانسة وتدرس بالجفاء والأذى ثم الخلة ثم الصبابة وهي رقة الشوق يولدها الألفة ويبعثها الإشفاق ويهيجها الذكر ثم يصير عشقا وهو أعلى ضرب .
فمبتدؤه يصفي الفهم ويهذب العقل كما قال ذو الرياستين لأصحابه اعشقوا ولا تعشقوا حراما فإن عشق الحلال يطلق اللسان العيي ويرفع التبلد ويسخي كف البخيل ويبعث على النظافة ويدعو إلى الذكاء .
فإذا زاد مرض الجسد فإذا زاد جرح القلب وأزال الرأي واستهلك العقل ثم يترقى فيصير ولها ويسمى ذو الوله مدلها ومستهاما ومستهترا وحيران ثم قال ابن دريد الصبابة رقة الهوى واشتقاق الحب من أحب البعير إذا برك من الإعياء .
(المحبة جنس والعشق نوع :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ
مسألة : ما الفرق بين المحبة والعشق ؟
[*](قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه ذم الهوى :
واعلم أن المحبة جنس والعشق نوع فإن الرجل يحب أباه وابنه ،
ولا يبعثه ذلك على تلف نفسه بخلاف العاشق .
[*](أورد الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه ذم الهوى عن محمد بن يزيد المبرد قال سمعت الجاحظ يقول كل عشق يسمى حبا وليس كل حب يسمى عشقا لأن العشق اسم لما فضل عن المحبة كما أن السرف اسم لما جاوز الجود والبخل اسم لما نقص عن الاقتصاد والجبن اسم لما فضل عن شدة الاحتراس والهوج اسم لما فضل عن الشجاعة .
(أسباب العشق :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ
مسألة : ما هو أسباب العشق ؟
وبعد أن تبين خطر العشق، وعظيم جنايته، وكثرة الأضرار الناجمة عنه، والمظالم الحاصلة من جرائه، لا بد من الوقوف على الأسباب الحاملة على العشق، والمحركة له؛ ذلك أن العشق ينشأ، ويثور إذا وجدت محركاته ومهيجاته؛ فهناك أسباب تثير العشق، وتبعثه، بل وتسوق إليه سوقاً، وتجر إليه جراً.
(1) التثبت في النظر ومعاودته :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ(1/248)
[*](قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه ذم الهوى :
سبب العشق مصادفة النفس ما يلائم طبعها فتستحسنه وتميل إليه وأكثر أسباب المصادفة النظر « ولا يكون ذلك باللمح بل بالتثبت في النظر ومعاودته »، فإذا غاب المحبوب عن العين طلبته النفس ورامت القرب منه ثم تمنت الاستمتاع به فيصير فكرها فيه وتصويرها إياه في الغيبة حاضرا وشغلها كله به فيتجدد من ذلك أمراض لانصراف الفكر إلى ذلك المعنى وكلما قويت الشهوة البدنية قوى الفكر في ذلك .
(2) سماع الغزل والغناء :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
[*](قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه ذم الهوى :
ومن أسباب العشق سماع الغزل والغناء فإن ذلك يصور في النفوس نقوش صور فتتخمر خميرة صورة موصوفة ثم يصادف النظر مستحسنا فتتعلق النفس بما كانت تطلبه حالة الوصف .أهـ
(3) الإعراض عن الله عز وجل : ذلك أن في الله عوضاً عن كل شيء، وأن من عرف الله عز وجل جمع قلبه عليه، ولم يلتفت إلى محبوب سواه.
(4) الجهل بأضرار العشق : وقد مر شيء من أضراره؛ فمن لم يعرفها أوشك أن يقع في ذلك الداء.
(5) الفراغ: فهو من أعظم الأسباب الحاملة على العشق.
[*](قال ابن عقيل رحمه الله تعالى : وما كان العشق إلا لأرعنَ بطال، وقلَّ أن يكون في مشغول ولو بصناعة، أو تجارة؛ فكيف بعلوم شرعية، أو حكمية؟ (1) .
[*](وقال ابن عبدالبر رحمه الله تعالى : سئل بعض الحكماء عن العشق فقال: شُغل قلب فارغ (2) .
وقال أفلاطون: العشق حركة النفس الفارغة (3) .
وقال أرسطو: العشق جهل عارض، صادف قلباً خالياً لا شغل له من تجارة، ولا صناعة (4) .
وقال غيره: هو سوء اختيار صادف نفساً فارغة (5) .
ومن الفراغ أيضاً فراغ القلب من محبة الله عز وجل .
__________
(1) الآداب الشرعية لابن مفلح 3/ 126.
(2) بهجة المجالس لابن عبد البر 2 / 817.
(3) روضة المحبين ص 153.
(4) روضة المحبين ص 154.
(5) مرجع سابق.(1/249)
[*](قال ابن القيم رحمه الله تعالى : وعشق الصور إنما تبتلى به القلوب الفارغة من محبة الله تعالى المعرضة عنه، والمتعوضة بغيره عنه؛ فإذا امتلأ القلب من محبة الله، والشوق إلى لقائه دفع ذلك عنه مرض عشق الصور (1) .
(6) وسائل الإعلام: سواء كانت مسموعة، أو مرئية، أو مقروءة؛ فوسائل الإعلام لها قدرة كبيرة على الإقناع، وصياغة الأفكار، ولها تأثير بالغ في قيادة الناس إلي الهاوية إذا هي انحرفت؛ فالصحافة تسهم في إذكاء نار العشق من خلال ما تعرضه من الصور الفاتنة، ومن خلال احتفائها بأهل العشق، وتتبع أخبارهم وشذوذاتهم.
وقل مثل ذلك في الكتب التي تتحدث عن الجنس صراحة، وتميط اللثام عن الحياء، والدواوين الشعرية المليئة بشعر الغزل الفاضح الصريح، وقل مثل ذلك في الكتب أو المقالات التي تنشر ذكريات أصحابها، وسيرهم الذاتية؛ حيث يذكر بعضهم بكل وقاحة مغامراته العاطفية، ومراهقاته مع معشوقاته دونما حياء أو أنفة، فيظل يستره الله ، ويأبى إلا كشف الستر، فإذا كان ممن يشار إليهم بالبنان كان له تأثير لدى بعض الجهلة ممن يحاولون محاكاته، والسير على منوالة.
وقل مثل ذلك في الأجهزة المرئية؛ فهي الترجمان الناطق عملياً لما تتضمنه القصص والروايات الفاجرة (2) .
(7) التقليد الأعمى : فمن الناس من يقرأ قصص أهل العشق وأخبارهم، أو يستمع إلى الأغاني المشتملة على ذكر العشق والهيام، والصبابة، أو يقرأ القصائد التي تنسج على منوال أهل العشق .
__________
(1) زاد المعاد لابن القيم 4/ 246.
(2) انظر الصحافة المسمومة لأنور الجندي ص 76، وحصوننا مهددة من داخلها ص 31_39، والأسرة المسلمة أمام الفيديو والتلفاز لمروان كجك ص 191، وأربع مناقشات لإلغاء التلفزيون لجيري ماندرو، ترجمة سهيل منيمنة.(1/250)
وربما رأى من حوله يبثون الشكاة واللوعة من العشق عبر الشعر أو الكتابة؛ فترى هذا الغِرَّ يتأثر بما يسمع، وما يرى حوله، فيبدأ بمحاكاة أهل العشق، فيزعم أنه قد وقع بما وقعوا فيه، وأن العشق قد أمضه وأضناه، وربما عبر عن ذلك شعراً.
وما هي إلا مدة حتى يتمادى به الأمر، فيقع في العشق، فيعز خلاصه، ويصعب استنقاذه.
ومما ينسب للمأمون قوله في هذا المعنى:
أول العشقِ مزاحٌ وولع ... ثم يزداد فيزداد الطمع
كلُّ مَنْ يهوى وإن عالت به ... رتبة الملك لمن يهوى تبع (1)
وقيل:
تولع بالعشق حتى عشق ... فلما استقل به لم يُطِقْ
رأى لُجَّةً ظنها موجةً ... فلما تمكَّن منها غرق
ولما رأى أدمعاً تُستهلُّ ... وأبصر أحشاءه تحترق
تمنى الإفاقة من سكره ... فلم يستطعها ولم يستفق (2)
(8) الانحراف في مفهوم الحب والعشق: فمن أعظم أسباب العشق الانحراف في مفهومه؛ حيث يُظن أنْ لا عشق ولا حب إلا ذاك الذي يعمي صاحبه، ويجعله سادراً في غيه، لا يكاد يفيق من سكره .
فيرى أولئك أن الحب هو ذاك فحسب، وأن من وقع فيه نال فضيلة الحب من رقَّةٍ، وظرفٍ، ولطافة، وكرم ونحو ذلك.
ومن لم يعشق ويحب ذلك الحب فهو جامد الطبع، متبلد الإحساس، خالٍ من العواطف، متجرد من الفضائل، كما قال قائلهم:
إذا أنت لم تعشق ولم تدرِ ما الهوى ... فكن حجرا من جامد الصخر جلمدا (3)
وكما قال الآخر:
إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى ... فأنت وعَيْر في الفلاة سواء (4)
وكما قال الآخر:
إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى ... فمالك في طيب الحياة نصيب (5)
ولا ريب أن المتجرد من عواطف الحب بليد الطبع، قاسي القلب، متجرد من أسمى الفضائل.
ولكنَّ حصرَ الحبِّ والعشق في زاوية حب الصور المحرمة جهل وانحراف؛ ذلك أن مفهوم الحب أوسع، ودائرته أعم، وصوره أشمل .
__________
(1) أدب الدنيا والدين للماوردي ص 138.
(2) ذم الهوى ص 440.
(3) الجواب الكافي ص 509.
(4) الجواب الكافي ص 509.
(5) الجواب الكافي ص 509.(1/251)
وما عشق الصور المحرمة إلا زاوية ضيقة من زوايا الحب، بل هي أضيقها، وأضرها؛ فلقد غاب عن هؤلاء أن هذا العشق نقطة في بحر الحب، وغاب عنهم حب الوالدين، وحب الأولاد، وحب المساكين، وحب الزوجة، وحب الفضائل، والمكارم، وحب المعالي والمروءات، وحب الطهر، والعفة، والشجاعة، وحب الصداقة، وغاب عنهم حب اللذات العقلية وهي أرقى وأسمى وألذ من اللذات الجسدية، وألذها لذة العلم، وما يتفرع عنه.
بل لقد غاب عنهم أعظم الحب، وأشرفه، وأنفعه، وأجمله، وأجله، وأكمله، وأبهاه، وهو حب الله عز وجل فهو أصل المحاب المحمودة، بل وكل محبة محمودة إنما هي متفرعة عن ذلك.
[*](قال ابن القيم رحمه الله تعالى : فالمحبة النافعة ثلاثة أنواع: محبة الله، ومحبة في الله، ومحبة ما يعين على طاعة الله تعالى واجتناب معصيته.
والمحبة الضارة ثلاثة أنواع: المحبة مع الله ، ومحبة ما يبغضه الله ، ومحبة ما تقطع محبته عن الله تعالى أو تنقصها؛ فهذه ستة أنواع عليها مدار محاب الخلق .
فمحبة الله عز وجل أصل المحاب، وأصل الإيمان والتوحيد، والنوعان الآخران تبع لها.
و المحبة مع الله أصل الشرك، والمحابِّ المذمومة، والنوعان الآخران تبع لها (1) .
(وقال في موضع آخر متحدثاً عن فضل محبة الله عز وجل : ولهذا كان أعظم صلاح العبد أن يصرف قوى حبه كلها لله تعالى وحده، بحيث يحب الله بكل قلبه، وروحه وجوارحه؛ فيوحِّد محبوبه، ويوحِّد حبه.
فتوحيد المحبوب أن لا يتعدد محبوبه، وتوحيد الحب ألا يبقى في قلبه بقيةُ حبٍّ حتى يبذلها له؛ فهذا الحب وإن سمي عشقاً فهو غاية صلاح العبد ونعيمه وقرة عينه، وليس لقلبه صلاح ولا نعيم إلا بأن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن تكون محبته لغير الله تابعة لمحبة الله؛ فلا يحب إلا لله (2) .
__________
(1) إغاثة اللهفان ص 512_513.
(2) روضة الحبين ص 211.(1/252)
وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد ، ودرر الفرائد . (
(حديث أنس في الصحيحين) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان : أن يكون الله و رسوله أحب إليه مما سواهما و أن يحب المرء لا يحبه إلا لله و أن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار .
[*](قال ابن القيم رحمه الله تعالى عن هذا الحديث:فأخبر أن العبد لا يجد حلاوة الإيمان إلا بأن يكون الله أحب إليه مما سواه، ومحبةُ رسوله هي من محبته، ومحبةُ المرء إن كانت لله فهي من محبة الله، وإن كانت لغير الله فهي مُنقصة لمحبة الله، مُضعفة لها، وتَصْدُقُ هذه المحبة بأن يكون كراهته لأبغض الأشياء إلى محبوبه وهو الكفر بمنزلة كراهته لإلقائه في النار أو أشد.
ولا ريب أن هذا من أعظم المحبة، فإن الإنسان لا يُقَدِّم على محبة نفسه وحياته شيئاً، فإذا قدم محبة الإيمان بالله على نفسه بحيث لو خيِّر بين الكفر وإلقائه في النار لاختار أن يلقى في النار ولا يكفر_كان الله أحبَّ إليه من نفسه.
وهذه المحبة هي فوق ما يجده سائر العشاق والمحبين من محبة محبوبهم، بل لا نظير لهذه المحبة، كما لا مثل لمن تعلق به، وهي محبةٌ تقتضي تقديم المحبوب فيها على النفس والمال والولد، وتقتضي كمال الذل، والخضوع، والتعظيم، والطاعة، والانقياد ظاهراً وباطناً.
وهذا لا نظير له في محبة مخلوق ولو كان المخلوق من كان (1) .
(وقال : والعشق إذا تعلق بما يحبه الله ورسوله كان عشقاً ممدوحاً مثاباً عليه، وذلك أنواع :
أحدها: محبة القرآن؛ بحيث يَغْنى بسماعه عن سماع غيره، ويهيم قلبه في معانيه، ومرادِ المتكلم سبحانه منه .
وعلى قدر محبة الله تكون محبة كلامه ؛ فمن أحب محبوباً أحب كلامه (2) .
__________
(1) روضة المحبين ص 212.
(2) روضة المحبين ص 213.(1/253)
(وقال : وكذلك محبة ذكره سبحانه وتعالى من علامة محبته؛ فإن المحب لا يشبع من ذكر محبوبه، بل لا ينساه؛ فيحتاج إلى من يذكِّره.
وكذلك يحب سماع أوصافه وأفعاله وأحكامه؛ فعشق ذلك كله من أنفع العشق، وهو غاية سعادة العاشق .
وكذلك عشق العلم النافع، وعشق أوصاف الكمال من الجود، والعفة، والشجاعة، والصبر، ومكارم الأخلاق .
ولو صور العلم صورة لكان أجمل من صورة الشمس والقمر.
ولكن عشق هذه الصفات إنما يناسب الأنفس الشريفة الزكية، كما أن محبة الله ورسوله وكلامه ودينه إنما تناسب الأرواح العلوية السماوية الزكية، لا الأرواح الأرضية الدنية.
فإذا أردت أن تعرف قيمة العبد وقدره فانظر إلى محبوبه ومراده، واعلم أن العشق المحمود لا يعرض فيه شيء من الآفات المذكورة (1) .
وصدق من قال:
ونفاسة الأشياء في غاياتها ... فاحمد رماءك إن أصبت نفيسا (2)
(9) الاغترار ببعض الأقوال التي تبيح العشق : فبعض الناس قد يستهين بشأن العشق، بحجة إباحته، وترخُّص بعض العلماء بذكر أقوال العشاق وذكر قصصهم وأخبارهم، أو بحجة أن بعض أهل الفضل قد وقع في أشراك العشق ، أو بحجة أن للعشق بعض الفضائل حيث ذكر بعضهم أنه يزيد في رقة الطبع ، وترويح النفس، وخفتها، ورياضتها، وحملها على مكارم الأخلاق من نحو الشجاعة، والكرم، والمروءة، ورقة الحاشية، وغير ذلك مما ذكر (3) .
ومن ثم يقع في العشق من يقع، ثم يلاقي ويلاته ومراراته.
والجواب على ما مضى أن تلك الإيرادات والأقوال لا تقوم بها حجة؛ فالقول بإباحته، ونقل ذلك عن السلف قول غير مقبول؛ لأن الناقلين ذلك عنهم اتكأوا على نقولٍ لا تصح، أو نقولٍ لا تدل على ما ذهبوا إليه.
[*](قال ابن القيم رحمه الله تعالى في شأن تلك النقول: وشبههم التي ذكروها دائرة بين ثلاثة أقسام، أحدها: نقول صحيحة لا حجة لكم فيها.
__________
(1) روضة المحبين ص 213.
(2) خواطر الحياة ص 139.
(3) انظر الجواب الكافي 705.(1/254)
والثاني: نُقولٌ كاذبة عمن نسبت إليه من وضع الفساق الفجار كما سنبينه.
الثالث: نُقولٌ مجملة محتملة لخلاف ما ذهبوا إليه (1) .
ثم شرع رحمه الله في تفصيل ذلك.
وقد سئل أبو الخطاب محفوظ بن أحمد الكلوذاني مسألة عن العشق، وحكم مواصلة العاشق للمعشوق، وكان السؤال شعراً مكتوباً في رقعة، فأجابه أبو الخطاب قائلاً:
يا أيها الشيخ الأديب الذي ... قد فاق أهل العصر في شعره
ثم قال:
من قارف الفتنة ثم ادعى الـ ... ـعصمة قد نافق في أمره
ولايجيز الشرعُ أسباب ما ... يورِّط المسلمَ في حظره
فانج ودع عنك صداع الهوى ... عساك أن تسلم من شره
هذا جواب الكلوذانيِّ قد ... جاءك يرجو الله في أجره (2)
وسئل ابن الجوزي بأبيات عن جواز العشق مطلعها:
يا أيها العالم ماذا ترى ... في عاشق ذاب من الوجد
فأجابه ابن الجوزي قائلاً:
يا ذا الذي ذاب من الوجد ... وظلَّ في ضر وفي جهد
اسمع فدتك النفسُ من ناصحٍ ... بنصحه يهدي إلى الرشد
إلى أن قال:
وكل ما تذكر مستفتياً ... حرَّمه الله على العبد
إلا لما حلَّله ربنا ... في الشرع بالإبرام والعقد
فَعَدِّ من طُرْق الهوى معرضاً ... وقف بباب الواحد الفرد
وسَلْهُ يشفيك ولا يبتلي ... قلبك بالتعذيب والصد
وعف في العشق ولا تبده ... واصبر وكاتم غاية الجهد
فإن تمت محتسباً صابراً ... تَفُزْ غداً في جنة الخلد (3)
وأما من احتج على جواز العشق بترخص بعض العلماء بذكر أقوال العشاق، وذكر قصصهم وأخبارهم فيقال له: إنما كان ذلك منهم من باب الاستشهاد، وتصوير الحال، ثم بعد ذلك يوقفون القارىء على الحكم في هذه المسألة، كما في صنيع ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه (ذم الهوى) وابن القيم رحمه الله تعالى في (الجواب الكافي)، و (روضة المحبين) وغيرها من كتبه.
__________
(1) روضة المحبين ص 139.
(2) روضة المحبين ص 151.
(3) روضة المحبين ص 151_152.(1/255)
بل إن ابن حزم رحمه الله تعالى لما ألف كتابه (طوق الحمامة في الألفة والأُلاَّف) وذكر فيه طرائق أهل العشق قال في آخره: وأنا أستغفر الله تعالى مما يكتب الملكان، ويحصيه الرقيبان من هذا وشبهه استغفارَ مَنْ يعلم أن كلامه من عمله .
ولكنه إن لم يكن من اللغو الذي لا يؤاخذ به المرء فهو إن شاء الله من اللمم المعفو (1) .
وقال رحمه الله تعالى على سبيل الوعظ:
رأيت الهوى سهل المبادي لذيذَها ... وعقباه مر الطعم ضنك المسالك
ومن عرف الرحمن لم يعصِ أمرَه ... ولو أنه يعطي جميع الممالك (2)
وأما من ابتلي بالعشق من أهل الفضل فغاية أمره أن يكون ذلك من سعيه المعفو المغفور، لا من سعيه المبرور المشكور.
وإن كان لم يكتم في عشقه كان ذلك منقصة في حقه؛ إذ أعان بذلك على أن يتسلط الناس على عرضه، ويشمتون به (3) .
وليس في ذلك حجة لمن أراد أن يقتدي به، وإن كان لأحد رغبة في الاقتداء بذلك الفاضل فليكن في أي جانب من جوانب فضله، لا في الجانب الذي يعد زراية به .
وأما القول بأن للعشق فضائل كما ذكر قبل قليل فيقال: بأن هذه الفضائل تحصل في العشق بمفهومه الشامل كما ذكر في فقرة سابقة .
ولو فرض أن هذه المنافع تحصل بالعشق المعهود لما أَرْبَتْ على مفاسده ومضاره، وما كان ضرره أكثر من نفعه فالمتعين تحريمه، وتركه، وتجنب السبل المفضية إليه.
وقد يستدل بعضهم على جواز العشق وإباحته بحديث: من عشق، فعف، وكتم، وصبر، ثم مات كان شهيداً.
وهذا الحديث باطل موضوع كما بين ذلك العلماء (4) .
__________
(1) طوق الحمامة ص 141.
(2) طوق الحمامة ص 152.
(3) انظر روضة المحبين ص 147.
(4) الحديث أخرجه ابن حبان في المجروحين 1/ 349، والخطيب البغدادي في تاريخه 5/ 156، 262، و 6/ 50_51.
قال ابن القيم في الجواب الكافي ص 559: =وأما حديث من عشق فعف . .+
فهذا يرويه سويد بن سعيد، وقد أنكره حفاظ الإسلام عليه+ .
وقال في ص 562: =وكلام حفاظ الإسلام في إنكار هذا الحديث هو الميزان، وإليهم يرجع في هذا الشأن، وما صححه، بل ولا حسنه أحد يعول في علم الحديث عليه، ويرجع في التصحيح إليه، ولا من عادته التساهل والتسامح+ .
وقال في زاد المعاد 4/ 252_256: =ولا يغتر بالحديث الموضوع على رسول الله"الذي رواه سويد بن سعيد، فذكر حديث =من عشق فعف فمات فهو شهيد+ .
وقال: =فإن هذا الحديث لا يصح عن رسول الله"ولا يجوز أن يكون من كلامه؛ فإن الشهادة درجة عالية عند الله، مقرونة بدرجة الصديقية، ولها أعمال وأحوال هي من شرط حصولها، وهي نوعان: عامة، وخاصة؛ فالخاصة الشهادة في سبيل الله، والعامة مذكورة في الصحيح ليس العشق واحداً منها.
وكيف يكون العشق الذي هو شرك في المحبة، وفراغ القلب عن الله، وتمليك القلب والروح، والحب لغيره تنال به درجة الشهادة؟ هذا من المحال؛ فإن إفساد عشق الصور للقلب فوق كل إفساد، بل هو خمر الروح الذي يسكرها، ويصدها عن ذكر الله وحبه، والتلذذ بمناجاته، والأنس به، ويوجب عبودية القلب لغيره؛ فإن قلب العاشق متعبد لقلب معشوقه، بل العشق لب العبودية؛ فإنها كمال الذل، والحب، والخضوع، والتعظيم؛ فكيف يكون تعبد القلب لغير الله مما تنال به درجة أفاضل الموحدين وسادتهم وخواص الأولياء؛ فلو كان إسناد هذا الحديث كالشمس كان غلطا ووهما، ولا يحفظ عن رسول الله"لفظ العشق في حديث البتة+ .
إلى أن قال: =فكيف يظن بالنبي"أنه يحكم على كل عاشق يكتم، ويعف بأنه شهيد، فترى من يعشق امرأة غيره، أو يعشق المردان والبغايا ينال بعشقه درجة الشهداء؟ وهل هذا إلا خلاف المعلوم من دينه"بالضرورة؟ والتداوي منه إما واجب إن كان عشقاً حراماً، وإما مستحب+ .(1/256)
(10) التهتك والتبرج والسفور: فذلك من أعظم محركات العشق؛ فهو سبب للنظرات الغادرة، التي تعمل عملها في القلب.
(11) المعاكسات الهاتفية: فهي من أعظم ما يجر إلى العشق ؛ فقد تكون الفتاة حَصَاناً رزاناً لا تُزْنُّ بريبة، ولا تحوم حولها شبهة، وهي من بيت طهر وفضيلة، قد جلله العفاف، وأُسْدل عليه الستر.
فما هي إلا أن تتساهل في شأن الهاتف، وتسترسل في محادثة العابثين حتى تقع فيما لا تحمد عقباه؛ فربما وافقت صفيقاً يغْتَرُّها بمعسول الكلام، فَتَعْلَقُه، وتقع في أشراكه؛ ولا يخفى أن الأذن تعشق قبل العين أحياناً.
وربما زاد الأمر عن ذلك، فاستجر الفتاة حتى إذا وافق غرتها مكر بها، وتركها بعد أن يلبسها عارها.
وربما كانت المبادرة من بعض الفتيات؛ حيث تمسك بسماعة الهاتف وتتصل بأحد من الناس إما أن يكون مقصوداً بعينه، وإما أن يكون الاتصال خبط عشواء؛ فتبدأ بالخضوع له بالقول، وإيقاعه في حبائلها.
والحامل على المعاكسات في الغالب تساهل كثير من الناس في شأن الهاتف، أو الجهل بعواقب المعاكسات، أو من باب التقليد الأعمى، أو حب الاستطلاع، أو غير ذلك من الأمور التي يجمعها الجهل، وعدم النظر في العواقب، وقلة المراقبة لله_تعالى_.
والحديث عن المعاكسات الهاتفية وما تجره من فساد يطول ذكره، وليس هذا مجال بسطه.
والمقصود من ذلك الإشارةُ إلى أن المعاكسات الهاتفية من أعظم الأسباب التي تقود إلى العشق والتعلق؛ فَسَدُّ هذا الباب واجب متعين.
هذه على سبيل الإجمال هي الأسباب الحاملة على العشق.
(ذم العشق :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
[*](قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه ذم الهوى :
اختلف الناس في العشق هل هو ممدوح أو مذموم .
فقال قوم هو ممدوح لأنه لا يكون إلا من لطافة الطبع ولا يقع عند جامد الطبع حبيسه ومن لم يجد منه شيئا فذلك من غلظ طبعه .
فهو يجلو العقول ويصفي الأذهان ما لم يفرط .
فإذا أفرط عاد سما قاتلا .(1/257)
وقال آخرون بل هو مذموم لأنه يستأمر العاشق ويجعله في مقام المستعبد .
قلت : وفصل الحكم في هذا الفصل أن نقول أما المحبة والود والميل إلى الأشياء المستحسنة والملائمة فلا يذم ولا يعدم ذلك إلا الحبيس من الأشخاص .
فأما العشق الذي يزيد على حد الميل والمحبة فيملك العقل ويصرف صاحبه على غير مقتضى الحكمة فذلك مذموم ويتحاشى من مثله الحكماء .
(أما القسم الأول فقد وقع فيه خلق كثير من الأكابر ولم يكن عيبا في حقهم .
قال الشعبي : إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى ... فأنت وعير بالفلاة سواء .
(وأما القسم الثاني من العشق : فمذموم لا شك فيه وبيان ذمه أن
الشيء إنما يعرف ممدوحا أو مذموما بتأمل ذاته وفوائده وعواقبه وذات العشق لهج بصورة وهذا ليس فيه فضيلة فيمدح ولا فائدة في العشق للنفس الناطقة وإنما هو أثر غلبة النفس الشهوانية لأنها لما قويت أحبت ما يليق بها ألا ترى أن الصبيان يحبون التماثيل واللعب أكثر من محبتهم للناس لضعف نفوسهم وكونها مماثلة للصور لخلوها عن رياضة فإذا ارتاضت نفوسهم ارتفعت هممهم إلى ما هو أعلى وهو حب الصور الناطقة فإذا ارتاضت نفوسهم بالعلوم والمعارف ارتفعت عن حب الذوات ذوات اللحم والدم إلى ما هو أشرف منها .(1/258)
وأتم أحوال النفس الشهوانية وجودها مع شهواتها من غير منغص وأتم أحوال النفس الحيوانية وجود غرضها من القهر والرياسة وأتم أحوال النفس الناطقة وجودها مدركة لحقائق الأشياء بالعلم والمعرفة ويتمكن الأنس فيصير بالإدمان شغفا وما عشق قط إلا فارغ فهو من علل البطالين وأمراض الفارغين من النظر في دلائل العبر وطلب الحقائق المستدل بها على عظم الخالق ولهذا قل ما تراه إلا في الرعن البطرى وأرباب الخلاعة النوكى «وما عشق حكيم قط »لأن قلوب الحكماء أشد تمنعا عن أن تقفها صورة من صور الكون مع شدة تطلبها فهي أبدا تلحظ وتخطف ولا تقف وَقَلَ أن يحصل عشق من لمحة وَقَلَ أن يضيف حكيم إلى لمحة نظرة فإنه مار في طلب المعاني ومن كان طالبا لمعرفة الله لا تقفه صورة عن الطلب لأنها تحجبه عن المصور، وحوشيت قلوب الحكماء الطالبين فضلا عن الواصلين العارفين من أن تحبسهم الصور أو تفتنهم الأشكال عن الترقي في معارج مقاصدهم أو تحطهم عن مراكزهم إلى محل الأثقال الراسية بل هم أبدا في الترقي هاتكون للحجب والأستار بقوة النظر .
العشاق قد جاوزوا حد البهائم في عدم ملكة النفس في الانقياد إلى الشهوات :
[*](قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه ذم الهوى :
واعلم أن العشاق قد جاوزوا حد البهائم في عدم ملكة النفس في الانقياد إلى الشهوات لأنهم لم يرضوا أن يصيبوا شهوة الوطء وهي أقبح الشهوات عند النفس الناطقة من أي موضع كان حتى أرادوها من شخص بعينه فضموا شهوة إلى شهوة وذلوا للهوى ذلا على ذل ، والبهيمة إنما تقصد دفع الأذى عنها فحسب وهؤلاء استخدموا عقولهم في تدبير نيل شهواتهم .
و العشق مسلك خطر، وموطىء زلق، غوائله لا تؤمن، وضحاياه لا تحصى، وأضراره لا يحاط بها.
وأهل العشق من أشقى الناس، وأذلِّهم، وأشغلهم، وأبعدهم عن ربهم.(1/259)
[*](قال ابن تيمية رحمه الله تعالى :فإن الذي يورثه العشق من نقص العقل والعلم، وفساد الدين والخلق، والاشتغال عن مصالح الدين والدنيا أضعاف ما يتضمنه من جنس المحمود.
وأصدقُ شاهدٍ على ذلك ما يعرف من أحوال الأمم، وسماع أخبار الناس في ذلك؛ فهو يغني عن معاينة ذلك وتجربته، ومن جرب ذلك أو عاينه اعتبر بما فيه كفاية؛ فلم يوجد قط عشق إلا وضرره أعظم من منفعته (1) .
(وقال أيضاً : وهؤلاء عشاق الصور من أعظم الناس عذاباً، وأقلهم ثواباً؛ فإن العاشق لصورة إذا بقي قلبه متعلقاً بها مستعبداً لها اجتمع له من أنواع الشر والفساد ما لا يحصيه إلا رب العباد، ولو سلم من فعل الفاحشة الكبرى؛ فدوام تعلق القلب بها أشد ضرراً عليه ممن يفعل ذنباً ثم يتوب، ويزول أثره من قلبه.
وهؤلاء يُشَبَّهون بالسكارى والمجانين كما قيل:
سُكْران: سكر هوى وسكر مدامة ... ومتى إفاقةُ من به سكرانِ
وقيل:
قالو: جننت بمن تهوى فقلت لهم: ... العشق أعظم مما بالمجانين
العشق لا يستفيق الدهرَ صاحبُه ... وإنما يُصْرَعُ المجنونُ في حين (2)
(وقال أيضاً متحدثاً عن حقيقة العشق : قيل: العشق هو فساد الإدراك، والتخيل والمعرفة؛ فإن العاشق يخيل له المعشوق على خلاف ما هو به، حتى يصيبه ما يصيبه من داء العشق .
ولو أدركه على الوجه الصحيح لم يبلغ إلى حد العشق وإن حصل له محبة وعلاقة (3) .
(وقال أيضاً :وقيل: إن العشق هو الإفراط في الحب حتى يزيد على القصد الواجب؛ فإذا أفرط فيه كان مذموماً فاسداً مفسداً للقلب والجسم (4) .
ولقد تظاهرت أقوال أهل العلم، والشعراء، والأدباء، ومن وقعوا في العشق في بيان خطورته، وعظيم ضرره.
قالوا: وإذا اقتحم العبد بحر العشق، ولعبت به أمواجه فهو إلى الهلاك أدنى منه إلى السلامة (5) .
__________
(1) الاستقامة 1/ 459.
(2) العبودية ص97_98.
(3) جامع الرسائل 2/ 243_244.
(4) جامع الرسائل 2/ 242.
(5) روضة المحبين ص 196.(1/260)
[*](وقال بعض الحكماء: الجنون فنون، والعشق من فنونه (1) .
وقالوا: وكم من عاشق أتلف في معشوقه ماله، وعرضه، ونفسه، وضيع أهله ومصالح دينه ودنياه (2) .
(وقالوا: والعشق هو الداء الدوي الذي تذوب معه الأرواح، ولا يقع معه الارتياح، بل هو بحر من ركبه غرق؛ فإنه لا ساحل له، ولا نجاة منه (3) .
قال أحدهم:
العشق مشغلة عن كل صالحة ... وسكرة العشق تنفي لذة الوسن (4)
وقال أبو تمام:
أما الهوى فهو العذاب فإن جرت ... فيه النوى فأليم كل عذاب (5)
وقال ابن أبي حصينة مبيناً ضرر العشق، غابطاً من لم يقع في أشراكه:
والعشق يجتذب النفوس إلى الردى ... بالطبع واحسدي لمن لم يَعْشَق (6)
وقال عبدالمحسن الصوري:
ما الحب إلا مسلكٌ خَطرٌ ... عسر النجاة وموطىء زلق (7)
قالوا: والعشق يترك الملك مملوكاً، والسلطان عبداً (8) .
قالوا: ورأينا الداخل فيه يتمنى منه الخلاص، ولات حين مناص، قال الخرائطي: أنشدني أبو جعفر العبدي:
إنِ اللهُ نجاني من الحب لم أعد ... إليه ولم أقبل مقالة عاذلي
ومن لي بمنجاة من الحب بعد ما ... رمتني دواعي الحب بين الحبائل (9)
وقال منصور النمري:
وإنَّ امرءاً أودى الغرامُ بُلُبِّه ... لعريان من ثوب الفلاح سليب (10)
[*](وقال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه إغاثة اللهفان :
ومن مكايده ومصايده: ما فتن به عشاق الصور:
__________
(1) روضة المحبين ص 197.
(2) روضة المحبين ص 197.
(3) روضة المحبين ص 197_198.
(4) روضة المحبين ص 198.
(5) روضة المحبين ص 198.
(6) روضة المحبين ص 199.
(7) روضة المحبين ص 199.
(8) روضة المحبين ص 199.
(9) روضة المحبين ص 201.
(10) بهجة المجالس لابن عبد البر 3/ 816.(1/261)
وتلك لعمر الله الفتنة الكبرى والبلية العظمى التي استعبدت النفوس لغير خلاقها. وملكت القلوب لمن يسومها الهوان من عشاقها، وألقت الحرب بين العشق والتوحيد، ودعت إلى موالاة كل شيطان مريد. فصيرت القلب للهوى أسيرا وجعلته عليه حاكما وأميرا.فأوسعت القلوب محنة. وملأتها فتنة، وحالت بينها وبين رشدها. وصرفتها عن طريق قصدها.
ونادت عليها في سوق الرقيق فباعتها بأبخس الأثمان، وأعاضتها بأخس الحظوظ وأدنى المطالب عن العالي من غرف الجنان، فضلا عما هو فوق ذلك من القرب من الرحمن، فسكنت إلى ذلك المحبوب الخسيس، الذي ألمهُا به أضعاف لذتها، ونَيْله والوصول إليه أكبر أسباب مضرتها، فما أوشكه حبيباً يستحيل عدواً عن قريب. ويتبرأ منه محبه لو أمكنه حتى كأنه لم يكن له بحبيب. وإن تمتع به في هذه الدار فسوف يجد به أعظم الألم بعد حين. لاسيما إذا صار الأخِلاء يومئذ بعضهم لبعض عدوا إلا المتقين.
فيا حسرة المحب الذي باع نفسه لغير الحبيب الأول بثمن بخس، وشهوة عاجلة، ذهبت لذتها وبقيت تبعتها وانقضت منفعتها، وبقيت مضرتها، فذهبت الشهوة، وبقيت الشّقوة، وزالت النشوة، وبقيت الحسرة، فوا رحمتاه لِصَبٍّ جمع له بين الحسرتين، حسرة فوت المحبوب الأعلى والنعيم المقيم، وحسرة ما يقاسيه من النصب في العذاب الأليم. فهناك يعلم المخدوع أي بضاعة أضاع، وأن من كان مالك رقه وقلبه لم يكن يصلح أن يكون له من جملة الخدم والأتباع، فأي مصيبة أعظم من مصيبة ملك أنزل عن سرير ملكه، وجعل لمن لا يصلح أن يكون مملوكه أسيرا، وجعل تحت أوامره ونواهيه مقهورا. فلو رأيت قلبه وهو في يد محبوبه لرأيته:كعُصْفُورَةٍ في يد طِفْلٍ يَسُومُهَا حِيَاضَ الرَّدَى، وَالطِّفْلُ يلْهُو وَيَلْعَبُ ، ولو شاهدت حاله وعيشه لقلت: وَمَا في الأرْضِ أشْقَى مِنْ مُحِبٍ وَإنْ وَجَدَ الْهَوَى حُلْوَ المَذَاقِ ، تَرَاهُ بَاكِياً في كُلِّ حِينٍ مَخَافَةَ فُرْقَةٍ، أَوْ لاشْتِيَاقِ(1/262)
فَيَبْكِى إنْ نَأَوْا، شَوْقاً إِلَيْهِمْ وَيَبْكِى إنْ دنَوْا، حَذَرَ الْفِرَاقِ ولو شاهدت نومه وراحته، لعلمت أن المحبة والمنام تعاهدا وتحالفا أن ليسا يلتقيان ولو شاهدت فيض مدامعه، ولهيب النار في أحشائه لقلت:سُبْحَانَ رَبِّ الْعَرْشِ، مُتْقِنِ صُنْعِهِ وَمُؤَلِّفِ الأَضْدَادِ دُونَ تَعاَنُد
قَطْرٌ تَوَلّدَ عَنْ لَهِيبٍ في الْحَشَا مَاءٌ وَنَارٌ في مَحَلٍّ واحِدِ
ولو شاهدت مسلك الحب في القلب وتغلغه فيه، لعلمت: أن الحب ألطف مسلكا فيه من الأرواح في أبدانها.
فهل يليق بالعاقل أن يبيع هذا الملك المطاع لمن يسومه سوء العذاب، ويوقع بينه وبين وليه ومولاه الحق الذي لا غناء له عنه ولا بد له منه أعظم الحجاب؟ فالمحب بمن أحبه قتيل. وهو له عبد خاضع ذليل. إن دعاه لباه. وإن قيل له: ما تتمنى؟ فهو غاية ما يتمناه، لا يأنس بغيره ولا يسكن إلى سواه، فحقيقٌ به أن لا يملك رقه إلا لأجلِّ حبيب. وأن لا يبيع نصيبه منه بأخس نصيب.أهـ
(إذا تبين هذا فالحي العالم الناصح لنفسه لا يؤثر محبة ما يضره ويشقى به ويتألم به، ولا يقع ذلك إلا من «فساد تصوره ومعرفته»، أو من «فساد قصده وإرادته».
فالأول: جهل، والثاني ظلم: والإنسان خلق في الأصل ظلوماً جهولا، ولا ينفك عن
الجهل والظلم إلا بأن يعلمه الله ما ينفعه، ويلهمه رشده، فمن أراد به الخير علمه ما ينفعه، فخرج به عن الجهل، ونفعه بما علمه، فخرج به عن الظلم، ومتى لم يرد به خيرا أبقاه على أصل الخلقة، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد ، ودرر الفرائد . ((1/263)
(حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :"إِنَّ اللهَ خَلَقَ خَلْقَهُ في ظُلْمَةٍ، ثُمَّ ألْقَى عَلَيْهِمْ مِنْ نُورِهِ، فمَنْ أصَابَهُ ذلِكَ النُّورُ اُهْتَدَى، وَمَنْ أخْطأَهُ ضَلَّ".
فالنفس تهوى ما يضرها ولا ينفعها، لجهلها بمضرته لها تارة، ولفساد قصدها تارة، ولمجموعهما تارة، وقد ذم الله تعالى في كتابه من أجاب داعي الجهل والظلم، فقال: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهَمْ وَمَنْ أَضَلُّ مَّمِنِ اتبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِى الْقَوْمَ الظّالمِين} [القصص: 50] وقال {إِنْ يَتَّبِعُونَ إلا الظّنَّ وَمَا تهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُمْ مِنْ رَبِّهِمْ الْهُدَى} [النجم: 23].
(فأصل كل خير: هو العلم والعدل .
(وأصل كل شر: هو الجهل والظلم.
وقد جعل الله سبحانه للعدل المأمور به حدا، فمن تجاوزه كان ظالما معتديا، وله من الذم والعقوبة بحسب ظلمه وعدوانه، الذي خرج به عن العدل، ولهذا قال سبحانه وتعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إنّهُ لا يُحِبُّ المُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31].
قال فيمن ابتغى سوى زوجته أو ملك يمينه:
{فَمَن اُبْتَغَى وَرَاءَ ذلِكَ فَأُولِئكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون: 7] وقال {وَلا تَعْتَدُوا إنَّ اللهَ لا يُحِبُّ المُعْتَدِينَ} [البقرة: 190].
والمقصود: أن محبة الظلم والعدوان سببها «فساد العلم أو فساد القصد»، أو فسادهما جميعا.
(إذا تبين هذا، «فالعبد أحوج شيء إلى معرفة ما يضره ليجتنبه، وما ينفعه ليحرص عليه ويفعله»، فيحب النافع: ويبغض الضار، فتكون محبته وكراهته موافقتين لمحبة الله تعالى وكراهته، وهذا من لوازم العبودية والمحبة، ومتى خرج عن ذلك أحب ما يسخطه ربه وكره ما يحبه، فنقصت عبوديته بحسب ذلك.(1/264)
فمن المحبة النافعة: محبة الزوجة وما ملكت يمين الرجل، فإنها معينة على ما شرع الله سبحانه له من النكاح وملك اليمين، من إعفاف الرجل نفسه وأهله، فلا تطمح نفسه إلى سواها من الحرام، ويعفها، فلا تطمح نفسها إلى غيره، وكلما كانت المحبة بين الزوجين أتم وأقوى كان هذا المقصود أتم وأكمل، قال تعالى: {هُوَ الّذِى خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} [الأعراف: 189]، وقال: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إلَيْهَا وَجَعَل بَيْنَكُمْ مَوَدَّةَ وَرَحْمَةً} [الروم: 21].
وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد ، ودرر الفرائد . (
( حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعثه على جيش ذات السلاسل، فأتيته فقلت: أي الناس أحب إليك؟ قال: (عائشة). فقلت: من الرجال؟ فقال: (أبوها). قلت: ثم من؟ قال: (عمر بن الخطاب). فعد رجالا.
(ولهذا كان مسروق رحمه الله يقول، إذا حدث عنها: "حدثتني الصديقة بنت الصديق، حبيبة رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، المبَّرأة من فوق سبع سماوات".
( حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح النسائي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : حبب إلي النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة .(1/265)
فلا عيب على الرجل في محبته لأهله، وعشقه لها، إلا إذا شغله ذلك عن محبة ما هو أنفع له، من محبة الله ورسوله، وزاحم حبه وحب رسوله، فإن كل محبة زاحمت محبة الله ورسوله، بحيث تضعفها وتنقصها فهي مذمومة. وإن أعانت على محبة الله ورسوله وكانت من أسباب قوتها فهي محمودة، ولذلك كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يحب الشراب البارد الحلو، ويحب الحلواء والعسل، ويحب الخيل، وكان أحب الثياب إليه القميص، وكان يحب الدباء، فهذه المحبة لا تزاحم محبة الله، بل قد تجمع الهم والقلب على التفرغ لمحبة الله، فهذه محبة طبيعية تتبع نية صاحبها وقصده بفعل ما يحبه.
فإن نوى به القوة على أمر الله تعالى وطاعته كانت قربة، وإن فعل ذلك بحكم الطبع والميل المجرد لم يُثَبْ ولم يعاقب. وإن فاته درجة من فعله متقربا به إلى الله.
[*](فالمحبة النافعة ثلاثة أنواع:
(محبة الله :
(ومحبة في الله :
(ومحبة ما يعين على طاعة الله تعالى واجتناب معصيته.
[*](والمحبة الضارة ثلاثة أنواع:
(المحبة مع الله :
(ومحبة ما يبغضه الله تعالى :
(ومحبة ما تقطع محبته عن محبة الله تعالى أو تنقصها.
فهذه ستة أنواع، عليها مدار محاب الخلق :
فمحبة الله عز وجل أصل المحاب المحمودة، وأصل الإيمان
والتوحيد، والنوعان الآخران تبع لها.
والمحبة مع الله أصل الشرك والمحاب المذمومة، والنوعان الآخران تبع لها.
ومحبة الصور المحرمة وعشقها من موجبات الشرك ، وكلما كان العبد أقرب إلى الشرك وأبعد من الإخلاص كانت محبته بعشق الصور أشد، وكلما كان أكثر إخلاصا وأشد توحيدا، كان أبعد من عشق الصور، «ولهذا أصاب امرأة العزيز ما أصابها من العشق، لشركها. ونجا منه يوسف الصديق عليه السلام بإخلاصه»، قال تعالى: {كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المُخْلَصِينَ} [يوسف: 24].(1/266)
فالسوء: العشق، والفحشاء: الزنا. فالمخلص قد خلص حبه لله، فخلصه الله من فتنة عشق الصور. والمشرك قلبه متعلق بغير الله، لم يخلص توحيده وحبه لله عز وجل.
(وقال في موضع آخر: وهذا داء أعيا الأطباء دواؤه، وعزَّ عليهم شفاؤه، وهو ـ لعمر الله ـ الداء العضال، والسم القتال الذي ما علق بقلب إلا وعز على الورى استنقاذه من إساره، ولا اشتعلت ناره إلا وصعب على الخلق تخليصها من ناره.
وهو أقسام؛ تارة يكون كفراً، كمن اتخذ معشوقه ندَّاً يحبه كما يحب الله؛ فكيف إذا كانت محبته أعظم من محبة الله في قلبه؟ فهذا عشق لا يغفر لصاحبه؛ فإنه من أعظم الشرك، والله لا يغفر أن يشرك به، وإنما يغفر بالتوبة الماحية ما دون ذلك.
وعلامة العشق الشركي الكفري أن يقدم رضا معشوقه على رضى ربه، وإذا تعارض عنده حقُّ معشوقه وحظُّه، وحق ربه وطاعته قدَّم حق معشوقه على حق ربه، وآثر رضاه على رضاه، وبذل لمعشوقه أنفس ما يقدر عليه، وبذل لربه_ إن بذل _ أردأ ما عنده، واستفرغ وسعه في مرضاة معشوقه وطاعته والتقرب إليه، وجعل لربه_ إن أطاعه_ الفَضْلَة التي تَفْضُل عن معشوقه من ساعاته؛ فتأمل حال أكثر عشاق الصور تجدها مطابقة لذلك، ثم ضع حالهم في كفة، وتوحيدهم وإيمانهم في كفة، ثم زن وزناً يرضي الله ورسوله ويطابق العدل (1) .
__________
(1) الجواب الكافي ص 490_491.(1/267)
(وقال أيضاً متحدثاً عن أضرار العشق: قالوا: وكم أكبَّت فتنة العشق رؤوساً على مناخرها في الجحيم، وأسلمتهم إلى مقاساة العذاب الأليم، وجرعتهم بين أطباق النار كؤوس الحميم، وكم أخرجت من شاء الله من العلم والدين كخروج الشعرة من العجين، وكم أزالت من نعمة، وأحلَّت من نقمة، وكم أنزلت من معْقل عزِّهِ عزيزاً فإذا هو في الأذلين، ووضعت من شريف رفيع القدر والمنصب فإذا هو في أسفل سافلين، وكم كشفت من عورة، وأحدثت من روعة، وأعقبت من ألم، وأحلت من ندم، وكم أضرمت من نار حسرات أحرقت فيها الأكباد، وأذهبت قدراً كان للعبد عند الله وفي قلوب العباد، وكم جلبت من جهد البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء؛ فقلَّ أن يفارقها زوال نعمة، أو فجاءة نقمة، أو تحويل عافية، أو طُروق بلية، أو حدوث رزية؛ فلو سألت النِّعَم ما الذي أزالك؟ والنِّقم ما الذي أدالك؟ والهمومَ والأحزان ما الذي جلبك؟ والعافية ما الذي أبعدك وجنَّبك؟ والستر ما الذي كشفك؟ والوجه ما الذي أذهب نورك وكسفك؟ والحياة ما الذي كدَّرك؟ وشمس الإيمان ما الذي كوَّرك؟ وعزة النفس ما الذي أذلَّك؟ وبالهوان بعد الأكرام بدَّلك _ لأجابتك بلسان الحال اعتباراً إن لم تجب بالمقال حواراً.
هذه والله بعض جنايات العشق على أصحابه لو كانوا يعقلون، فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا إن في ذلك لآية لقوم يعقلون (1) .
(ومن الأضرار الناجمة عن العشق الظلم؛ فإن الظلم في هذا الباب من أعظم أنواع الظلم، وربما كان أعظم ضرراً على المعشوق وأهله من ظلمه في ماله؛ فإنه يعرض المعشوق بهتكه في عشقه إلى وقوع الناس فيه، وانقسامهم إلى مصدق ومكذب، وأكثر الناس يصدق في هذا الباب بأدنى شبهة، وإذا قيل: فلان فعل بفلان أو فلانة كذَّبه واحد، وصدقه تسعمائة وتسعة وتسعون (2) .
__________
(1) روضة المحبين ص 202.
(2) الجواب الكافي ص 500.(1/268)
ومن أنواع الظلم في هذا الباب أيضاً : أن في إظهار المبتلى عشقَ من لا يحل له الاتصال به من ظلمه وأذاه ما هو عدوان عليه وعلى أهله، وتعريض لتصديق كثير من الناس ظنونهم فيه.
فإن استعان عليه بمن يستميله إليه إما برغبة أو رهبة تعدى الظلم، وانتشر، وصار ذلك الواسطة ديوثاً ظالماً، وكفى بالدياثة إثماً، فيتساعد العاشق والديوث على ظلم المعشوق ، وظلم غيره ممن يتوقف حصول غرضه على ظلمه في نفس، أو مال، أو عرض؛ فكثيراً ما يتوقف المطلوب فيه على قتل نفس تكون حياتها مانعة من غرضه، وكم من قتيل أُهْدِرَ دمه بهذا السبب من زوج، وسيد، وقريب، وكم أُفْسِدَت امرأة على بعلها؛ فإذا كان للمعشوق زوج تضاعف الأذى وازداد؛ فظلم الزوج بإفساد حبيبه، والجناية على فراشه أعظم من ظلمه بأخذ ماله كله؛ ولهذا يؤذيه ذلك أعظم مما يؤذيه أخذ ماله، ولا يعدل ذلك عنده حتى سفك دمه.
فإن كان ذلك حقاً لغازٍ في سبيل الله وُقِفَ له الجاني الفاعل يوم القيامة، وقيل له: خذ من حسناته .
كما أخبر بذلك رسول الله"ثم قال رسول الله": =فما ظنكم؟ .
( حديث بريدة الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : حُرْمة نساء المجاهدين على القاعدين كحرمة أمهاتهم و ما من رجل من القاعدين يخلف رجلا من المجاهدين في أهله فيخونه فيهم إلا وُقِفَ له يوم القيامة يأخذُ من عمله ما شاء فما ظنكم ؟
أي فما تظنون يبقي له من حسناته؟
فإن انضاف إلى ذلك أن يكون المظلوم جاراً، أو ذا رحم مُحرَّم_تعدد الظلم، فصار ظلماً مؤكداً لقطيعة الرحم، وأذى الجار.
فإن استعان العاشق على وصال معشوقه بشياطين من الجن إما بسحر، أو استخدام، أو نحو ذلك ضَمَّ إلى الشرك والظلم كفر السحر.
فإن لم يفعله هو، ورضي به كان راضياً بالكفر، غير كاره لحصول مقصده به، وهذا ليس ببعيد عن الكفر.
والمقصود أن التعاون في هذا الباب تعاون على الإثم والعدوان.(1/269)
وفي العشق من ظلم كل واحد من العاشق والمعشوق لصاحبه بمعاونته على الفاحشة، وظلمه لنفسه ما فيه، وكل منهما ظالم لنفسه وصاحبه، وظلمهما متعد إلى غيرهما كما تقدم.
ثم إن المعشوق قد يُعَرِّض العاشق للتلف؛ حيث يطمعه في نفسه، ويتزين له، ويستميله بكل طريق؛ حتى يستخرج منه ماله، ونفعه.
والعاشق ربما قتل معشوقه؛ ليشفي نفسه منه، ولا سيما إذا جاد بالوصال لغيره .
فكم للعشق من قتيل من الجانبين، وكم أزال من نعمة، وأفقر من غنى، وأسقط من مرتبة، وشتت من شمل .
وكم أفسد من أهل للرجل وولده؛ فإن المرأة إذا رأت زوجها عاشقاً لغيرها ربما قادها ذلك إلى اتخاذ معشوق لها؛ فيصير الرجل متردداً بين خراب بيته بالطلاق وبين أن يرضى بالدياثة والخنا في أهله (1) .
[*](يقول ابن حزم رحمه الله تعالى : وكم مصونِ الستر، مسبل القناع، مسدول الغطاء، قد كشف الحبُّ ستره، وأباح حريمه، وأهمل حماه، فصار بعد الصيانة عَلَماً، وبعد السكون مثلاً (2) .
فكل هذه الآفات، وأضعاف أضعافها تنشأ من عشق الصور، وتحمل على الكفر الصريح؛ فقد تضمن العشق أنواع الظلم كلها.
(العشق بَيِّنُ الضرر في الدين والدنيا .
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ
[*](قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه ذم الهوى :
العشق بَيِّنُ الضرر في الدين والدنيا .
أما في الدين فإن العشق أولا يشغل القلب عن الفكر فيما خلق له من معرفة الإله والخوف منه والقرب إليه ثم بقدر ما ينال من موافقة غرضه المحرم يكون خسران آخرته وتعرضه لعقوبة خالقه فكلما قرب من هواه بعد من مولاه ولا يكاد العشق يقع في الحلال المقدور عليه فإن وقع فيا سرعان زواله قال الحكماء كل مملوك مملول وقال الشاعر .
وزادني شغفا بالحب أن منعت ... وحب شيء إلى الإنسان ما منعا .
__________
(1) الجواب الكافي بتصرف ص 500_506.
(2) طوق الحمامة ص 39.(1/270)
فإذا كان المعشوق لا يباح اشتد القلق والطلب له فإن نيل منه غرض فالعذاب الشديد في مقابلته على أن بلوغ الغرض يزيده ألما فتربي مرارة الفراق على لذة الوصال كما قال قائلهم .
كل شيء ربحته في التلاقي ... والتداني خسرته في الفراق وإن منعه خوف الله تعالى عن نيل غرض فالامتناع عذاب شديد فهو معذب في كل حال .
(ضرر العشق في الدنيا :
[*](قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه ذم الهوى :
وأما ضرر العشق في الدنيا فإنه يورث الهم الدائم والفكر اللازم والوسواس والأرق وقلة المطعم وكثرة السهر ثم يتسلط على الجوارح فتنشأ الصفرة في البدن والرعدة في الأطراف واللجلجة في اللسان والنحول في الجسد فالرأي عاطل والقلب غائب عن تدبير مصلحته والدموع هواطل والحسرات تتابع والزفرت تتوالى والأنفاس لا تمتد والأحشاء تضطرم فإذا غشى على القلب إغشاء تاما أخرجت إلى الجنون وما أقربه حينئذ من التلف هذا وكم يجني من جناية على العرض ووهن الجاه بين الخلق وربما أوقع في عقوبات البدن وإقامة الحد وقد أنشدوا .
وما عاقل في الناس يحمد أمره ... ويذكر إلا وهو في الحب أحمق .
وما من فتى ذاق بؤس معيشة ... من الناس إلا ذاقها حين يعشق .
قال جالينوس : العشق من فعل النفس وهي كامنة في الدماغ والقلب والكبد وفي الدماغ ثلاثة مساكن مسكن للتخيل وهو في مقدم الرأس ومسكن للفكر وهو في وسطه ومسكن للذكر وهو في مؤخره ولا يسمى عاشقا إلا من إذا فارق معشوقة لم يخل من تخيله فيمتنع عن الطعام والشراب عن باشتغال الكبد ومن النوم باشتغال الدماغ بالتخيل والفكر والذكر فتكون جميع مساكن النفس قد اشتغلت به.
ولقد وصف الحكماء قبح ما فيه العشاق فأبلغوا وكانت تأتي على عقلاء العشاق أحيانا إفاقة فيصفون قبح ما هم فيه .(1/271)
[*](أورد الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه ذم الهوى عن الجاحظ قال ذكر لي عن بعض حكماء الهند أنه قال إذا ظهر العشق عندنا في رجل أو أمرأة غدونا على أهله بالتعزية قال الجاحظ وبلغني أن عاشقا مات بالهند عشقا فبعث ملك الهند إلى المعشوق يقتله به .
(وقال أبو الفضل الربعي : قال رجل من الهند إذا ظهر العشق عندنا في أحد غدونا عليه بالتعزية .
وهاك أشعار قيلت في ذم العشق ذكرها الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه ذم الهوى :
(قال الأصمعي : سئل أعرابي عن الحب فقال وما الحب وما عسى أن يكون هل هو إلا سحر أو جنون ثم أنشأ يقول .
هل الحب إلا زفرة بعد زفرة ... وحر على الأحشاء ليس له برد
وفيض دموع من جفوني كلما ... بدا علم من أرضكم لم يكن يبدو
(وقال الصيدلاني :
قالت جننت على رأسي فقلت لها ... العشق أعظم مما بالمجانين
العشق ليس يفيق الدهر صاحبه ... وإنما يصرع المجنون في الحين
.أهـ
(قد يكون العشق أعظم إثماً من الزنا بالفرج والعياذ بالله :
[*](قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه إغاثة اللهفان :
والزنا بالفرج ـ وإن كان أعظم من الإلمام بالصغيرة، كالنظرة والقبلة واللمس ـ لكن إصرار العاشق على محبة الفعل، وتوابعه، ولوازمه، وتمنيه له، وحديث نفسه به: أنه لا يتركه، واشتغال قلبه بالمعشوق، قد يكون أعظم ضررا من فعل الفاحشة مرة بشيء كثير. فإن الإصرار على الصغيرة قد يساوى إثمه إثم الكبيرة، أو يربى عليها.
وأيضاً، فإن تعبد القلب للمعشوق شرك، وفعل الفاحشة معصية، ومفسدة الشرك أعظم من مفسدة المعصية.
وأيضاً، فإنه قد يتخلص من الكبيرة بالتوبة والاستغفار، وأما العشق إذا تمكن من القلب فإنه يعز عليه التخلص منه، كما قال القائل:
تَاللهِ مَا أ سَرَتْ لَوَاحِظُكِ امْرَأً إلا وَعَزّ عَلَى الوَرَى استنقَاذُهُ(1/272)
بل يصير تعبدا لازما للقلب لا ينفك عنه، ومعلوم أن هذا أعظم ضررا وفسادا من فاحشة يرتكبها مع كراهيته لها، وقلبه غير معبد لمن ارتكبها منه.
وقد أخبر الله سبحانه أن سلطان الشيطان إنما هو: {عَلَى الّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} [النحل: 100].
وأن سلطانه إنما هو على من اتبعه من الغاوين، والغي اتباع الهوى والشهوات، كما أن الضلال اتباع الظنون والشبهات.
وأصل الغي من الحب لغير الله، فإنه يضعف الإخلاص به، ويقوى الشرك بقوته، فأصحاب العشق الشيطاني لهم من تولى الشيطان والإشراك به بقدر ذلك، لما فيهم من الإشراك بالله، ولما فاتهم من الإخلاص له، ففيهم نصيب من اتخاذ الأنداد، ولهذا ترى كثيرا منهم عبدا لذلك المعشوق، متيما فيه. يصرخ في حضوره ومغيبه: أنه عبده، فهو أعظم ذكرا له من ربه، وحبه في قلبه أعظم من حب الله فيه، وكفى به شاهدا بذلك على نفسه: {بَلِ الإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَه} [القيامة: 14- 15].(1/273)
فلو خير بين رضاه ورضا الله، لاختار رضا معشوقه على رضا ربه، ولقاء معشوقه أحب إليه من لقاء ربه، وتمنيه لقربه أعظم من تمنيه لقرب ربه، وهربه من سخطه عليه أشد من هربه من سخط ربه عليه، يسخط ربه بمرضاة معشوقه، ويقدم مصالح معشوقة وحوائجه على طاعة ربه، فإن فضل من وقته، وكان عنده قليل من الإيمان، صرف تلك الفضلة في طاعة ربه، وإن استغرق الزمان حوائج معشوقه ومصالحه صرف زمانه كله فيها، وأهمل أمر الله تعالى، يجود لمعشوقه بكل نفيسة ونفيس، ويجعل لربه من ماله ـ إن جعل له ـ كل رذيلة وخسيس، فَلِمَعْشُوقِه لبه وقلبه، وهمه ووقته، وخالص ماله، وربه على الفضلة، قد اتخذه وراءه ظهريا، وصار لذكره نسيا، إن قام في خدمته في الصلاة فلسانه يناجيه وقلبه يناجى معشوقه، ووجه بدنه إلى القبلة ووجه قلبه إلى المعشوق. ينفر من خدمة ربه حتى كأنه واقف في الصلاة على الجمر من ثقلها عليه، وتكلفه لفعلها، فإذا جاءت خدمة المعشوق أقبل عليها بقلبه وبدنه فرحا بها، ناصحا له فيها، خفيفة على قلبه لا يستثقلها ولا يستطيلها.
ولا ريب أن هؤلاء من الذين اتخذوا من دون الله أندادا، يحبونهم كحب الله، والذين آمنوا أشد حبا لله.
وعشقهم يجمع المحرمات الأربع: من الفواحش الظاهرة، والباطنة، والإثم، والبغي بغير الحق، والشرك بالله ما لم ينزل به سلطانا، والقول على الله ما لا يعلمون، فإن هذا من لوازم الشرك، فكل مشرك يقول على الله ما لا يعلم. فكثيرا ما يوجد في هذا العشق من الشرك الأكبر الأصغر، ومن قتل النفوس، تغايرا على المعشوق، وأخذ أموال الناس بالباطل ليصرفها في رضا المعشوق، ومن الفاحشة والكذب والظلم مالا خفاء به.(1/274)
وأصل ذلك كله من خلو القلب من محبة الله تعالى، والإخلاص له، والتشريك بينه وبين غيره في المحبة، ومن محبة ما يحب لغير الله، فيقوم ذلك بالقلب، ويعمل بموجبه بالجوارح، وهذا هو حقيقة اتباع الهوى. وفى الأثر. "مَا تحْتَ أدِيمِ السَّماءِ إلهٌ يْعْبَدُ أَعْظَمُ عِنْدَ اللهِ مِنْ هَوًى مُتَّبَعُ".
وقال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتّخَذَ إلهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلّهُ اللهُ عَلَى عْلِمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةَ فَمَنَ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} [الجاثية: 23].
(ذكر من ألقى به العشق في الهاوية :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ
[*](أورد الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه ذم الهوى أن عبد الرحمن بن ملجم لعنه الله رأى امرأة من تيم الرباب يقال لها قطام وكانت من أجمل النساء ترى رأى الخوارج قد قتل قومها على هذا الرأي يوم النهروان فلما أبصرها عشقها فخطبها فقالت لا أتزوجك إلا على ثلاثة آلاف وقتل علي بن أبي طالب فتزوجها على ذلك فلما بنى بها قالت له يا هذا قد فرغت فافرغ فخرج متلبسا سلاحه وخرجت قطام فضربت له قبة في المسجد وخرج علي يقول الصلاة الصلاة فأتبعه عبد الرحمن فضربه بالسيف على قرن رأسه فقال الشاعر .
لم أر مهرا ساقه ذو سماحة ... كمهر قطام بيننا غير معجم
ثلاثة آلاف وعبدٍ وقينة ... وقتل علي بالحسام المصمم
فلا مهر أغلى من علي وإن غلا ... ولافتك إلا دون فتك ابن ملجم(1/275)
[*](وأورد الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه ذم الهوى أن رجل من العرب كان تحته ابنة عم له وكان لها عاشقا وكانت امرأة جميلة وكان من عشقه لها أنه كان يقعد في دهليزه مع ندمائه ثم يدخل ساعة بعد ساعة ينظر إليها ثم يرجع إلى أصحابه عشقا لها فطبن لها ابن عم لها فاكترى دارا إلى جنبه ثم لم يزل يراسلها حتى أجابته إلى ما أراد فاحتالت وتدلت إليه ودخل الزوج كعادته لينظر إليها فلم يرها فقال لأمها أين فلانة فقالت تقضي حاجة فطلبها في الموضع فلم يجدها فإذا هي قد تدلت وهو ينظر إليها فقال لها ما وراءك والله لتصدقني قالت والله لأصدقنك من الأمر كيت وكيت فأقرت له فسل السيف فضرب عنقها ثم قتل أمها وهرب وأنشأ يقول .
يا طلعة طلع الحمام عليها ... وجنت لها ثمر الردى بيديها
رويت من دمها الثرى ولربما ... روى الهوى شفتي من شفتيها
[*](وأورد الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه ذم الهوى عن عكرمة قال إنا لَمَعَ عبد الله بن عباس عشية عرفة إذ أقبل فتية يحملون فتى من بني عذرة قد بلى بدنه وكانت له حلاوة وجمال حتى وقفوه بين يديه ثم قالوا استشف لهذا يا بن عم رسول الله .
فقال وما به فترنم الفتى بصوت ضعيف لا يتبين وهو يقول .
بنا من جوى الأحزان والحب لوعة ... تكاد لها نفس الشفيق تذوب
ولكنما أبقى حشاشة معول ... على ما به عود هناك صليب
وما عجب موت المحبين في الهوى ... ولكن بقاء العاشقين عجيب
ثم شهق شهقة فمات .
قال عكرمة فما زال ابن عباس بقية يومه يتعوذ بالله من الحب .
( كيفية التوبة من العشق :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
وبعد أن تبين فيما مضى خطورة العشق وعظيم جنايته نصل إلى بيت القصيد في هذه المسألة، ألا وهي التوبة من العشق، وكيفية ذلك.
فعلى من وقع في العشق أن يتوب إلى الله عز وجل سواء كان عاشقاً، أو معشوقاً، أو معيناً على ذلك.(1/276)
فتوبة العاشق تكون بترك العشق، والعزم والمجاهدة على ذلك، وبألا يُظْهر أمرَه، ولا من ابتلي بعشقه؛ فلا يذكره، ولا يشبب به، ولا يسير إليه، ولا يمد طرفه إليه، وأن يقطع الصلاتِ المُذَكِّرةَ به، وأن يأخذ بالأسباب المعينة على ذلك، وأن يصبر على ما يلاقيه خصوصاً في بداية أمره.
وعلى المعشوق أن يتوب إلى الله إن كان مشاركاً، أو متسبباً في غواية العاشق، فيتوب إلى الله من استمالة المعشوق والتزين له، والتحبب إليه، واللقاء به، ومحادثته، ومراسلته.
وعلى من أعان على العشق بالتقريب بين العاشقين بالباطل أن يتوب إلى الله، وأن يَدَعَ ما كان يقوم به، وأن يعلم أن ذلك من الإعانة على الإثم والعدوان، وأنه بذلك يذكي أوار العشق، ويسعر نيرانه؛ فهو يفسد أكثر مما يصلح، وسعيه مأزور غير مشكور؛ فعمله ليس من عمل الخير، ولا من ارتكاب أخف الضررين لدفع أعلاهما.
بل إن هذه المفسدة تجر إلى هلاك القلب، وفساد الدين، وأي مفسدة أعظم من هذه ؟
وغاية ما يقدَّر من مفسدة الإمساك عن ذلك سقم الجسد أو الموت؛ تفادياً عن التعرض للمحرم (1) .
وإلا فالغالب أن العاقبة تكون نجاة وسلامة.
(الأسباب المعينة على ترك العشق :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
فمع عظم شأن العشق، وصعوبة الخلاص منه إلا أن ذلك ليس متعذراً ولا مستحيلاً؛ فلكل داء دواء، ولكن الدواء لا ينفع إلا إذا صادف محلاً قابلاً؛ فإذا رام المبتلى بهذا الداءِ الشفاءَ، وسعى إليه سعيه وفق لما يريد، وأعين على بلوغ المقصود.
وإلا استمر على بلائه، بل ربما زاد شقاؤه.
[*](قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى :إنما يوصف الدواء لمن يقبل؛ فأما المخلِّط فإن الدواء يضيع عنده (2) .
__________
(1) روضة المحبين ص 148_150.
(2) ذم الهوى ص 443.(1/277)
وفيما يلي ذكر لبعض الأسباب المعينة على ترك العشق على سبيل الإجمال، أما التفصيل في ذلك فستجده في الباب الثاني من هذا الكتاب ضمن الأمور المعينة على التوبة عموماً.
فمن تلك الأسباب ما يلي: (1)
(أ) الدعاء: والتضرع إلى الله عز وجل وصدق اللجأ إليه، والإخلاص له، وسؤاله السلوَّ؛ فإن المبتلى بهذا الداء مضطر، والله يجيب المضطر إذا دعاه.
(ب) غض البصر:
[*](قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى :والواجب على من وقع بصره على مستحسن، فوجد لذةَ تلك النظرة في قلبه أن يصرف بصره؛ فمتى ما تَثَبَّت في تلك النظرة أو عاود وقع في اللوم شرعاً وعقلاً.
فإن قيل: فإن وقع العشق بأول نظرة فأي لوم على الناظر؟
فالجواب: أنه إذا كانت النظرة لمحة لم تكد توجب عشقاً، إنما يوجبه جمود العين على المنظور بقدر ما تثبت فيه، وذلك ممنوع منه، ولو قدَّرنا وجوده باللمحة؛ فأثَّر محبةً سَهُلَ قمعُ ما حصل (2) .
إلى أن قال: فإن قيل: فما علاج العشق إذا وقع بأول لمحة؟
قيل: علاجه الإعراض عن النظر؛ فإن النظر مثل الحبة تلقى في الأرض؛ فإذا لم يلتفت إليها يبست، وإن سقيت نبتت؛ فكذلك النظرة إذا ألحقت بمثلها (3) .
وقال: فإن جرى تفريط بإتْباع نظرة لنظرة فإن الثانية هي التي تخاف وتحذر؛ فلا ينبغي أن تحقر هذه النظرة؛ فربما أورثت صبابة صبَّت دم الصبِّ (4) .
[*](وقال ابن القيم رحمه الله تعالى :فعلى العاقل ألا يحكِّم على نفسه عشق الصور؛ لئلا يؤدِّيه ذلك إلى هذه المفاسد، أو أكثرها، أو بعضها؛ فمن فعل ذلك فهو المفرط بنفسه، المغرور بها؛ فإذا هلكت فهو الذي أهلكها؛ فلولا تكراره النظر إلى وجه معشوقه، وطمعه في وصاله لم يتمكن عشقُه من قلبه (5) .
__________
(1) الكلام في هذا أكثره مستفاد من ذم الهوى ص 440_497، والجواب الكافي ص 493_499 و 506_507.
(2) ذم الهوى ص 439.
(3) ذم الهوى ص 440.
(4) ذم الهوى ص 440.
(5) الجواب الكافي 506.(1/278)
فعلى من يريد السلامة لنفسه أن يغض طرفه عما تشتهيه نفسه من الحرام، وليكن له في ذلك الغضِّ نيةٌ يحتسب بها الأجر، ويكتسب بها الفضل، ويدخل في جملة من نهى النفس عن الهوى.
(ج) التفكر والتذكر: وذلك باب واسع جداً، والمقام لا يتسع إلا لأقل القليل؛ فليتفكر العاشق في خطواته إلى لقاء محبوبه، وأنها مع ما فيها من ضم جراح إلى جراح مكتوبة عليه، وهو مطالب بها.
وليتفكر في مكالمته محبوبَه؛ فإنه مسؤول عنها، مع ما فيها من إلهاب نار الحب .
وليتذكرْ هاذم اللذات، وشدة النزع، وليتفكر في حال الموتى الذين حبسوا على أعمال تجاوزوا فيها؛ فليس منهم من يقدر على محو خطيئة؛ ولا على زيادة حسنة؛ فلا تَعْث يا مطلق!.
وليتصور عَرْضَه على ربه، وتخجيله له بمضيض العتاب.
وليتخيل شهادة المكان الذي وقعت فيه المعصية.
وليمثل في نفسه عند بعض زلله كيف يؤمر به إلى النار التي لا طاقة لمخلوق بها.
وليتصور نفاد اللذة، وبقاء العار والعذاب.
وليتذكر أنه لا يرضى لأحد من محارمه أن يكون معشوقاً؛ إذا كان ذا غيرة، فكيف يرضى ذلك المصير لغيره؟
(د) البُعد عن المحبوب: فكل بعيد عن البدن يُؤَثِّر بعده في القلب؛ فليصبر على البعد في بداية الأمر صبر المصاب في بداية مصيبته، ثم إن مَرَّ الأيام يهون الأمر.
فليبتعد عن المحبوب، فلا يراه، ولا يسمع كلامه، ولا يرى ما يذكره به.
(هـ) الاشتغال بما ينفع: فقد مر، قبل قليل أن من أسباب العشق الفراغَ؛ لذلك فكل ما يشغل القلب من المعاش، والصناعات، والقيام على خدمة الأهل، ونحو ذلك فإنه يسلي العاشق ؛ لأن العشق شغل الفارغ كما مر فهو يمثل صورة المعشوق في خلوته؛ لشوقه إليها؛ فيكون تمثيله لها إلقاء في باطنه؛ فإذا تشاغل بما يوجب اشتغال القلب بغير المحبوب درس الحبُّ، ودثر العشق، وحصل التناسي.(1/279)
(و) الزواج: ولو بغير من عشقها؛ فإن في الزواج كفاية وبركة وسلوة، وإن كان متزوجاً فليكثر من الجماع؛ فإنه دواء ووجه كونه دواء أنه يقلل الحرارة التي منها ينتشر العشق .
وإذا ضعفت الحرارة الغريزية حصل الفتور، وبرد القلب؛ فخمد لهب العشق (1) .
فإن كان المعشوق امرأة يمكن الزواج بها فليفعل؛ فذلك من أنفع الدواء؛ لأن النكاح يزيل العشق، وإن تعسر فليلجأ إلى الله في تسهيله، وليعامله بالصبر على ما نهى عنه، فربما عجل مراده.
وإن عجز عن ذلك، أو كان المعشوق لا سبيل إلى تحصيله كذات الزوج فليلازم الصبر؛ وليسأل الله السلو.
(ز) عيادة المرضى، وتشييع الجنائز، وزيارة القبور، والنظر إلى الموتى، والتفكر في الموت وما بعده؛ فإن ذلك يطفىء نيران الهوى كما أن سماع الغناء واللهو يقويه؛ فما هو كالضد يضعفه.
(ح) مواصلة مجالس الذكر: ومجالسةُ الزهاد، وسماع أخبار الصالحين.
ط_قطع الطمع باليأس، وقوةُ العزم على قهر الهوى: فإن أول أسباب العشق الاستحسان، سواء تولَّد عن نظر، أو سماع، فإن لم يقارنه طمع في الوصال، وقارنه الإياس من ذلك_لم يحدث له العشق .
فإن اقترن به الطمع، فصرفه عن فكره، ولم يشتغل قلبه به لم يحدث له ذلك.
فإن أطال مع ذلك الفكرَ في محاسن المعشوق، وقارنه خوفُ ما هو أكبر عنده من لذة وصاله، إما خوف من دخول النار، وغضب الجبار، وادخار الأوزار، وغلب هذا الخوف على هذا الطمع_لم يحدث له العشق.
فإن فاته هذا الخوفُ، فقارنه خوف دنيوي كخوف إتلاف نفسه، أو ماله، أو ذهاب جاهه، وسقوط مرتبته عند الناس، وسقوطه من عين من يعز عليه، وغلب هذا الخوف لداعي العشق دفعه.
وكذلك إذا خاف من فوات محبوب هو أحب إليه، وأنفع من ذلك المعشوق، وقدم محبته على محبة ذلك المعشوق اندفع عنه العشق.
(ي) المحافظة على الصلاة: وإعطاؤها حقها من الخشوع، والتكميل لها ظاهراً وباطناً.
__________
(1) ذم الهوى ص 476.(1/280)
قال تعالى : (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ) [العنكبوت: 45]
[*](قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى : فإن الصلاة فيها دفع مكروه، وهو الفحشاء والمنكر، وفيها تحصيل محبوب وهو ذكر الله (1) .
(ك) زجر الهمة الأبية: عن مواقف الذل، واكتساب الرذائل، وحرمان الفضائل؛ فمن لم تكن له همة أبية لم يكد يتخلص من هذه البلية؛ فإن ذا الهمة يأنف أن يملك رقَّه شيء، وما زال الهوى يذل أهل العز.
وهذا الذل لا يحتمله ذو أنفة؛ فإن أهل الأنفة حملهم طلب علو القدر على قتل النفوس، وإجهاد الأبدان في طلب المعالي ، ونحن نرى طالب العلم يسهر ويهجر اللذات؛ أنفة من أن يقال له: جاهل، والمسافر يركب الأخطار؛ لينال ما يرفع قدره من المال؛ حتى إن رُذالة الخَلْق ربما حملوا كثيراً من المشاق؛ ليصير لهم قدر؛ وهذا القائل يقول:
وكل امرىء قاتلٌ نفسَه ... على أن يقال له: إنه (2)
فأما من لا يأنف الذل، وينقاد لموافقة هواه_فذاك خارج عن نطاق المتميزين.
(ل) التفكر في عيوب المحبوب: فمحبوبك ليس كما في نفسك؛ فأعمل فكرك في عيوبه تَسْلُ.
[*](قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى : فإن الآدمي محشو بالأنجاس والأقذار، وإنما يرى العاشق معشوقه في حال الكمال، ولا يصور له الهوى عيباً؛ لأن الحقائق لا تنكشف إلا مع الاعتدال، وسلطان الهوى حاكم جائر، يغطي المعايب فيرى العاشقُ القبيحَ من معشوقه حسناً (3) .
(وقال أيضاً :وقال الحكماء: عين الهوى عوراء.
وبهذا السبب يعرض الإنسان عن زوجته، ويؤثر عليها الأجنبية، وقد تكون الزوجة أحسن.
والسبب في ذلك أن عيوب الأجنبية لم تَبِنْ له، وقد تكشفها المخالطة.
ولهذا إذا خالط هذه المحبوبة الجديدة، وكشفت له المخالطة ما كان مستوراً ملَّ، وطلب أخرى إلى ما لا نهاية له (4) .
__________
(1) العبودية ص 100.
(2) ذم الهوى 479.
(3) ذم الهوى ص 486.
(4) ذم الهوى ص 486.(1/281)
(وقال أيضاً :فاستعمال الفكر في بدن الآدمي، وما يحوي من القذارة، وما تستر الثياب من المستقبح يهون العشق؛ ولهذا قال ابن مسعود: إذا أعجبت أحدكم امرأة فليذكر مناتنها .
وقال بعض الحكماء: من وجد ريحاً كريهة من محبوبه سلاه، وكفى بالفكر في هذا الأمر دفعاً للعشق (1) .
قال أبو نصر بن نباتة:
ما كنت أعرف عيبَ من أحببتُه ... حتى سلوت فصرت لا أشتاق
وإذا أفاق الوجد واندمل الهوى ... رأت القلوب ولم تر الأحداق (2)
ولهذا تجد العاشق يغالي في المعشوق، ويُصَوِّر له في قلبه ما يصور؛ لأن عقله شبه غائب، مع أن أقرب الناس للمعشوق، وأعرفهم به لا يرون له ذلك الشأن؛ بل ربما رأوه أقل من ذلك بكثير، بل ربما لم يروا له فضلاً البتة.
(م) تَصَوُّر فقدِ المحبوب: إما بموته، أو بفراق يحدث عن غير اختيار، أو بنوع ملل، فيزول ما أوجب المحن الزائدة على الحد التي خسر بها المحب جاه الدنيا والدين.
(ن) النظر في العاقبة: أفترى يوسف_عليه السلام_لو زلَّ من كان يكون؟ .
فالعاقل إذاً هو من وزن ما يحتوي عليه العشق من لذة ونُغْصَة؛ فنُغَصُهُ كثيرة، وأذاه شديد، وغالب لذاته محرم، ثم هي مشوبة بالغموم، والهموم، وخوف الفراق، وفضيحة الدنيا، وحسرات الآخرة؛ فيعلم الموازنُ بين الأمرين، الناظرُ في العاقبة أن اللذة مغمورة في جنب الأذى.
وأفضل الناس من لم يرتكب سبباً ... حتى يفكر ما تجني عواقبه (3)
(س) أن يعلم المبتلى أن الابتلاء سبب لظهور جواهر الرجال: فربما ابتلي الإنسان بذلك، فإن صبر ظهر فضله، وكمل سؤدده، ونقل إلى مرتبة أعلى، وربما نال محبة خالقه تلك المحبة التي تملأ قلبه، وتغنيه عن كل محبة.
__________
(1) ذم الهوى ص 486.
(2) ذم الهوى ص 486_487.
(3) ذم الهوى ص 493.(1/282)
(ف) النظر فيما يُفَوتُه التشاغل بالعشق من الفضائل: فإن أرباب اليقظة عشقُهم للفضائل من العلوم، والعفة، والصيانة، والكرم، وغير ذلك من الخلال المحمودة أوفى من ميلهم إلى شهوات الحس؛ لأن شهوات الحس حظ النفس، وتلك الخلال حظ العقلِ والنفسُ الناطقة الفاضلة إلى ما يُؤْثر العقلُ أميلُ، وإن جرَّها الطبع إلى الشهوات الحسية.
هذه بعض الأسباب المعينة على علاج العشق، الواقية_بإذن الله_لمن لم يقع فيه.
فحري بمن أخذ بها أن يُعان، ويوفَّق؛ فإن جاهد، وصابر، ثم بقي بعد ذلك في قلبه ما بقي فإنه لا يلام عليه.
[*]( يقول الجنيد رحمه الله تعالى : الإنسان لا يعاب بما في طبعه، إنما يعاب إذا فعل بما في طبعه (1) .
[*](قال ابن حزم رحمه الله تعالى : =لا عيب على من مال بطبعه إلى بعض القبائح ولو أنه أشد العيوب وأعظم الرذائل، ما لم يظهره بقول أو فعل.
بل يكاد يكون أحمدَ ممن أعان طبعه على الفضائل.
ولا تكون مغالبة الطبع الفاسد إلا عن قوة عقل فاضل (2) .
[*](قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى بعد إيراده عدداً من الأدوية النافعة لداء العشق: فإن قال قائل: فما تقول فيمن صبر عن حبيبه، وبالغ في استعمال الصبر، غير أن خيال الحبيب في القلب لا يزول، ووسواس النفس به لا ينقطع؟ .
فالجواب: أنه إذا كففت جوارحك فقد قطعت موادَّ الماء الجاري، وسنيضب ما حصل في الوادي مع الزمان، خصوصاً إذا طلعت عليه شمسُ صيف الخوف، ومرت به سَمُومُ المراقبة لمن يرى الباطن فما أعجل ذهابه.
ثم استغث بمن صَبَرْتَ لأجله، وقل: إلهي! فعلتُ ما أطقتُ؛ فاحفظ لي ما لا طاقة لي بحفظه (3) .
__________
(1) ذم الهوى ص 497.
(2) الأخلاق والسير ص 78_79.
(3) ذم الهوى ص 496.(1/283)
[*](وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في معرض حديث له عن العشق، وعلاجه: وميلُ النفس إلى النساء عام في طبع جميع بني آدم، وقد يبتلى كثير منهم بالميل إلى الذكران كالمردان، وإن لم يكن بفعل الفاحشة الكبرى كان بما هو دون ذلك من المباشرة، وإن لم تكن كان بالنظر، ويحصل للنفس بذلك ما هو معروف عند الناس.
وقد ذكر الناس من أخبار العشاق ما يطول وصفه؛ فإذا ابتلي المسلم ببعض ذلك كان عليه أن يجاهد نفسه في طاعة الله_تعالى_وهو مأمور بهذا الجهاد، وليس هو أمراً حرَّمه على نفسه؛ فيكون في طاعة نفسه وهواه.
بل هو أمر حرَّمه الله ورسوله، ولا حيلة فيه؛ فتكون المجاهدة للنفس في طاعة الله ورسوله (1) .
وقال في موضع آخر: وليتخذ ورداً من الأذكار في النهار، ووقت النوم، وليصبر على ما يعرض له من الموانع والصوارف؛ فإنه لا يلبث أن يؤيده الله بروح منه، ويكتب الإيمان في قلبه.
وليحرص على إكمال الفرائض من الصلوات الخمس، باطنة وظاهرة؛ فإنها عمود الدين.
وليكن هِجِّيراه لا حول ولا قوة إلا بالله فإنها بها تحمل الأثقال، وتكابد الأهوال، وينال رفيع الأحوال (2) .
وقال : فأما إذا ابتلي بالعشق وعف وصبر فإنه يثاب على تقوى الله.
وقد روي في الحديث أن =من عشق فعف، وكتم، وصبر، ثم مات كان شهيداً (3) .
وهو معروف من رواية يحيى القتات عن مجاهد عن ابن عباس مرفوعاً، وفيه نظر، ولا يحتج بهذا.
لكن من المعلوم بأدلة الشرع أنه إذا عف عن المحرمات نظراً، وقولاً، وعملاً، وكتم ذلك فلم يتكلم به حتى لا يكون في ذلك كلام محرم: إما شكوى إلى المخلوق، وإما إظهار فاحشة، وإما نوع طلب للمعشوق.
__________
(1) مجموع الفتاوى 14/ 207.
(2) مجموع الفتاوى 10/ 137.
(3) مضى تخريج الحديث، ص 170.(1/284)
وصبَرَ على طاعة الله، وعن معصيته، وعلى ما في قلبه من ألم العشق كما يصبر المصاب عن ألم (1) المصيبة فإن هذا يكون ممن اتقى الله وصبر (2) .
وقال في موضع آخر: فإن الله أمر بالتقوى والصبر؛ فمن التقوى أن يعف عن كل ما حرم الله، من نظر بعين، ومن لَفْظ بلسان، ومن حركة برجل.
والصبر أن يصبر عن شكوى ما به إلى غير الله؛ فإن هذا هو الصبر الجميل.
(وأما الكتمان فيراد به شيئان:
أحدهما: أن يكتم بثَّه وألمه، ولا يشكو إلى غير الله؛ فمتى شكى إلى غير الله نقص صبره.
وهذا أعلى الكتمانين، ولكن هذا لا يصبر عليه كلُّ أحد، بل كثير من الناس يشكو ما به، وهذا على وجهين: فإن شكى إلى طبيب يعرف طبَّ النفوس؛ ليعالج نفسه بعلاج الإيمان؛ فهو بمنزلة المستفتي، وهذا حسن.
وإن شكى إلى من يعينه على المحرم فهذا حرام، وإن شكى إلى غيره؛ لما في الشكوى من الراحة_كما أن المصاب يشكو مصيبته إلى الناس من غير أن يقصد تعلُّم ما ينفعه، ولا الاستعانة على معصيته فهذا ينقص صبره، لكن لا يأثم مطلقاً إلا إذا اقترن به ما يحرم، كالمصاب الذي يتسخط.
والثاني: أن يكتم ذلك فلا يتحدث به مع الناس؛ لما في ذلك من إظهار السوء والفحشاء؛ فإن النفوس إذا سمعت مثل هذا تحركت، وتشهَّت، وتمنت، وتتيمت.
والإنسان متى رأى، أو سمع، أو تخيَّل من يفعل ما يشتهيه كان ذلك داعياً إلى الفعل (3) .
هذا وسيأتي مزيد حديث عن العشق في الباب الثاني_إن شاء الله_.
(شروط التوبة الصادقة:
فصل الخطاب في هذه شروط التوبة الصادقة أن للتوبة الصادقة شروط لا بد منها حتى تكون صحيحة مقبولة وإليك شروط التوبة الصادقة جملةً وتفصيلا: (
(أولاً : شروط التوبة الصادقة جملةً :
(1) الإخلاص لله تعالى :
(2) الإقلاع عن المعصية:
(3) الاعتراف بالذنب:
(4) الندم على ما سلف من الذنوب والمعاصي :
__________
(1) هكذا وردت في الأصل ولعلها: على.
(2) مجموع الفتاوى 10/ 133.
(3) مجموع الفتاوى 14/ 207_209.(1/285)
(5) العزم على عدم العودة:
(6) ردّ المظالم الى أهلها:
(7) أن تصدر في زمن قبولها:
(ثانيا : شروط التوبة الصادقة تفصيلا :
(1) الإخلاص لله تعالى :
فيكون الباعث على التوبة حب الله وتعظيمه ورجاؤه والطمع في ثوابه، والخوف من عقابه، لا تقرباً الى مخلوق، ولا قصداً في عرض من أعراض الدنيا الزائلة، ولهذا قال سبحانه: إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُواْ بِاللّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لِلّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ [النساء:146]
(2) الإقلاع عن المعصية :
فلا تتصور صحة التوبة مع الإقامة على المعاصي حال التوبة، أما إن عاود الذنب بعد التوبة الصحيحة، فلا تبطل توبته المتقدمة، ولكنه يحتاج الى توبته جديدة وهكذا.
(أيها العاصي ما أغدرك !
تسأل الله فيعطيك ، فتستعين بما أعطاك على معصيته ، أو أمنت أن يهتك سترك أو يغضب عليك غضبةً لا يرضى بعدها أبدا ، كيف أمنت هذه الحالة ويمكن وقوعها لا محالة ، أراك ضعيف اليقين يا مؤثر الدنيا على الدين .
( إلى متى تستمر على عصيانه ، وقد غذاك برزقه وإحسانه ، أما خلقك بيده ؟ أما نفخ فيك من روحه ؟ أما علمت فعله بمن أطاعه، وأخذي لمن عصاه ؟ أما تستحي تذكره في الشدائد وفي الرخاء تنساه ؟ عين بصيرتك أعماها الهوى .
هذا حال من لم تؤثر فيه الموعظة، فإلى كم هذا التواني ؟ إن تبت من ذنبك، آتيتك أماني .
اترك دارًا صفوها كدر، وآمالها أماني
( يا من يسير بعمره وقد تعدّى الحدود، إبك على معصيتك فلعلك مطرود . يا من عمره ينتهب وليس الماضي يعود، قد أسمعتك المواعظ من أرشادها نصحًا، وأخبرك الشيب أنك بالموت تقصد وتنحّا، وناداك لسان الاعتبار : { يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا } [ الانشقاق 6 ] .(1/286)
[*](قال مالك بن دينار رحمه الله تعالى : دخلت على جار لي وهو في الغمرات يعاني عظيم السكرات، يُغمى عليه مرة، ويفيق أخرى، وفي قلبه لهيب الزفرات، وكان منهمكًا في دنياه، متخلفًا عن طاعة مولاه، فقلت له : يا أخي، تب إلى الله، وارجع عن غيّك، عسى المولى أن يشفيك من ألمك، ويعافيك من مرضك وسقمك، ويتجاوز بكرمه عن ذنبك . فقال : هيهات هيهات ! قد دنا ما هو آت، وأنا ميّت لا محالة، فيا أسفي على عمر أفنيته في البطالة . أردت أن أتوب مما جنيت، فسمعت هاتفًا يهتف من زاوية البيت : عاهدناك مرارًا فوجدناك غدارًا .
نعوذ بالله من سوء الخاتمة، ونستغفره من الذنوب المتقادمة .
( يا أسير دنياه، يا عابداً لهواه، يا مَوْطِن الخطايا، ويا مِسْتَودِعَ الرزايا، اذكر ما قدّمت يداك، وكن خائفًا من سيدك ومولاك أن يطّلع على باطن زللك وجفاك، فيصدك عن بابه، ويبعدك عن جنابه، ويمنعك عن مرافقة أحبابه، فتقع في حضرة الخذلان، وتتقيد بشرك الخسران، وكلما رُمت التخلص من غيّك وعناك، صاح بك لسان الحال وناداك :
إليك عنا فما تحظى بنجوانا *** يا غادرًا قد لها عنا وقد خانا
أعرضت عنا ولم تعمل بطاعتنا *** وجئت تبغي الرضا والوصل قد بانا
بأي وجه نراك اليوم تقصدنا *** وطال ما كنت في الأيام تنسانا
يا ناقض العهد ما في وصلنا طمع *** إلا لمجتهد بالجدّ قد دانا
(أيها المقيم على الخطايا والعصيان، التارك لما أمرك الرحمن، المطيع للغويّ الفتان، إلى متى أنت على جرمك مصرّ، ومما يقرّبك إلى مولاك تفرّ ؟ تطلب من الدنيا ما لا تدركه، وتتقي من الآخرة ما لا تملكه، لا أنت بما قسم الله من الرزق واثق، ولا أنت بما أمرك به لاحق .
يا أخي، الموعظة، والله لا تنفعك، والحوادث لا تردعك ، لا الدهر يدعك، ولا داعي الموت يسمعك، كأنك يا مسكين لم تزل حيًا موجودًا، كأنك لا تعود نسيًا مفقودًا .(1/287)
فاز، والله، المُخِفُّون من الأوزار، وَسَلَمَ المتقون من عذاب النار، وأنت مقيم على كسب الجرائم والأوزار .
(أخي الحبيب:
أقبل مولاك، وأعرض عن غيّك وهواك وواصل بقية العمر بوظائف الطاعات، واصبر على ترك عاجل الشهوات، فالفرار أيها المكلف كل الفرار من مواصلة الجرائم والأوزار، فالصبر على الطاعة في الدنيا أيسر من الصبر على النار .
(ولله درُ من قال :
أمولاي إني عبد ضعيف *** أتيتك أرغب بما لديك
أتيتك أشكو مصاب الذنوب *** وهل يشتكى الضر إلا إليك
فمنّ بعفوك يا سيّدي *** فليس اعتمادي إلا عليك
[*](قال بعض الأخيار لولده لما حضرته الوفاة : يا بنيّ، اسمع وصيتي، واعمل ما أوصيك به . قال نعم يا أبت .
قال يا بنيّ : اجعل في عنقي حبلًا، وجرّني إلى محرابي، ومرّغ خدي على التراب، وقل : هذا جزاء من عصى مولاه، وآثر شهوته وهواه، ونام عن خدمة مولاه .
قال : فلما فعل ذلك به، رفع طرفه إلى السماء وقال : إلهي وسيدي ومولاي، قد آن الرحيل إليك، وأزف القدوم عليك، ولا عذر لي بين يديك، غير أنك الغفور وأنا العاصي، وأنت الرحيم وأنا الجاني، وأنت السيد وأنا العبد، ارحم خضوعي وذِلتي بين يديك، فإنه لا حول ولا قوة إلا بك .
قال : فخرجت روحه في الحال، فإذا بصوت ينادي من زاوية البيت سمعه كل من حضر وهو يقول : تذلل العبد لمولاه، واعتذر إليه مما جناه، فقرّبه وأدناه وجعل الجنة مأواه .(1/288)
(يا من نسي العهد القديم وخان ، من الذي سواك في صورة الإنسان من الذي غذاك في أعجب مكان ، من الذي بقدرته استقام الجثمان الذي بحكمته أبصرت العينان ،من الذي بصنعته سمعت الأذنان ،من الذي وهب العقل فاستبان للرشد وبان ، من الذي بارزته بالخطايا وهو يستر العصيان ، مَنِ الذي تركت شكره فلم يؤاخذ بالكفران ، إلى كم تخالفه وما يصبر على الخلاف الأبوان ، وتعامله بالغدر الذي لا يرضاه الإخوان ، وتنفق في خِلافه ما عَزَّ وهان ، ولو علم الناس منك ما يعلم : ما جالسوك في مكان ، فارجع إليَّه ما دمت في زمن الإمكان ، وتب إليه فإنه الرحيم الرحمن ، عساه أن يعفو عما سلف وكان من الذنوب والعصيان .
(كم عاهدته مرارًا فوجدك غدارًا ، أراك ضعيف اليقين ، يا مؤثر الدنيا على الدين ، أقلع عن المعاصي قبل أن تندم ، هذا هو الدواء إن كنت تفهم .
(3) الاعتراف بالذنب:
إذ لا يمكن أن يتوب المرء من شئ لا يعده ذنباً.
(4) الندم على ما سلف من الذنوب والمعاصي :
ولا تتصور التوبة إلا من نادم حزين آسف على ما بدر منه من المعاصي، لذا لا يعد نادماً من يتحدث بمعاصيه السابقة ويفتخر بذلك ويتباهى بها .
[*](قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين :
فأما الندم: فإنه لا تتحقق التوبة إلا به إذ من لم يندم على القبيح فذلك دليل على رضاه به وإصراره عليه .
وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد ، ودرر الفرائد . (
(حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجه ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : "الندم توبة .
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:(1/289)
( الندم توبة ) أي هو معظم أركانها لأن الندم وحده كاف فيها من قبيل الحج عرفة وإنما كان أعظم أركانها لأن الندم شيء متعلق بالقلب ، والجوارح تبع له فإذا ندم القلب انقطع عن المعاصي فرجعت برجوعه الجوارح .
( تتمة ) قال في الحكم : من علامة موت القلب عدم الحزن على ما فاتك من المرافقات وترك الندم على ما فعلته من الزلات . ( فائدة ) من ألفاظهم البليغة مخلب المعصية يقص بالندامة وجناح الطاعة يوصل بالإدامة .
( حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : الندم توبة و التائب من الذنب كمن لا ذنب له .
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
( الندم توبة والتائب من الذنب كمن لا ذنب له ) قال الغزالي : إنما نص على أن الندم توبة ولم يذكر جميع شروطها ومقدماتها لأن الندم غير مقدور للعبد فإنه قد يندم على أمر وهو يريد أن لا يكون والتوبة مقدورة له مأمور بها فعلم أن في هذا الخبر معنى لا يفهم من ظاهره وهو أن الندم لتعظيم اللّه وخوف عقابه مما يبعث على التوبة النصوح فإذا ذكر مقدمات التوبة الثلاث وهي ذكر غاية قبح الذنوب وذكر شدة عقوبة اللّه وأليم غضبه وذكر ضعف العبد وقلة حيلته يندم ويحمله الندم على ترك اختيار الذنب وتبقى ندامته بقلبه في المستقبل فتحمله على الابتهال والتضرع ويجزم بعدم العود إليه وبذلك تتم شروط التوبة الأربعة فلما كان الندم من أسباب التوبة سماه باسمها .
(أخي الحبيب:
أذرف دموع الندم، واعترف بين يدي مولاك، وعاهده على سلوك سبيل الطاعة، وقل كما قال القائل: (
أنا العبد الذي كسب الذنوبا ... وصدته الأماني أن يتوبَ
أنا العبد الذي أضحى حزيناً ... على زلاته قلقاً كئيبا
أنا العبد الذي سطرت عليه ... صحائف لم يخف فيها الرقيبا
أنا العبد المسيء عصيت سراً ... فما لي الآن لا أبدي النحيبا
أنا العبد المفرط ضاع عمري ... فلم أرع الشبيبة و المشيبا(1/290)
أنا العبد الغريق بلج بحر ... أصيح لربما ألقى مجيبا
أنا العبد السقيم من الخطايا ... وقد أقبلت ألتمس الطبيبا
أنا العبد المخلف عن أناس ... حووا من كل معروف نصيبا
أنا العبد الشريد ظلمت نفسي ... وقد وافيت بابكم منيبا
أنا العبد الفقير مددت كفي ... إليكم فادفعوا عني الخطوبا
أنا الغدَّار كم عاهدت عهداً ... وكنت على الوفاء به كذوبا
أنا المقطوع فارحمني و صلني ... و يسر منك لي فرجاً قريبا
أنا المضطر أرجو منك عفواً ... و من يرجو رضاك فلن يخيبا
(5) العزم على عدم العودة:
فلا تصح التوبة من عبد ينوي الرجوع الى الذنب بعد التوبة، وإنما عليه أن يتوب من الذنب وهو يحدث نفسه ألا يعود إليه في المستقبل.(1/291)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن حاتم الأصم قال : التوبة أن تتنبه من الغفلة وتذكر الذنب وتذكر لطف الله وحكم الله وستر الله، إذا أذنبت لم تأمن الأرض والسماء أن يأخذاك، فإذا رأيت حكمه رأيت أن ترجع من الذنوب مثل اللبن إذا خرج من الضرع لا يعود إليه، فلا تعد إلى الذنب كما لا يعود اللبن في الضرع، وفعل التائب في أربعة أشياء، أن تحفظ اللسان من الغيبة والكذب والحسد واللغو، والثاني أن تفارق أصحاب السوء، والثالث إذا ذكر الذنب تستحي من الله، والرابع تستعد للموت. وعلامة الاستعداد أن لا تكون في حال من الأحوال غير راض من الله، فإذا كان التائب هكذا يعطيه الله أربعة أشياء أولها يحبه كما قال تعالى: ( إِنّ اللّهَ يُحِبّ التّوّابِينَ وَيُحِبّ الْمُتَطَهّرِينَ) [ البقرة : 222]. ثم يخرج من الذنب كأنه لم يذنب قط، كما قال صلى الله عليه وسلم : التائب في الذنب كمن لا ذنب له . والثالث يحفظه من الشيطان لا يكون له عليه سبيل والرابع يؤمنه من النار قبل الموت، كما قال تعالى: ( أَلاّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِالْجَنّةِ الّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ) [ فصلت : 30]. ويجب على الخلق أربعة أشياء: ينبغي لهم أن يحبوا هذا التائب كما يحبه الله تعالى ويدعوا له بالحفظ ويستغفروا له كما تستغفر له الملائكة، قال الله تعالى: فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم .-غافر:7-.إلخ، ويكرهوا له ما يكرهون لأنفسهم. والرابع: أن ينصحوا للتائب كما ينصحون لأنفسهم.
(6) التحلل من المظالم :
التوبة تكون من حق الله وحق العباد؛ فحق الله تعالى يكفي في التوبة منه الترك على ما تقدم، غير أن منه ما لم يكتف الشرع فيه بالترك، بل أضاف إليه القضاء والكفارة.
أما حق غير الله فيحتاج إلى التحلل من المظالم فيه، وإلى أداء الحقوق إلى مستحقيها، وإلا لم يحصل الخلاص من ضرر ذلك الذنب(1/292)
وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد ، ودرر الفرائد . (
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (من كانت له مظلمةٌ لأخيه من عِرْضه أو شيء فليتحَلَلْه منه اليوم قبل أن لايكون ديناراً ولا درهما ، إن كان له حسناتٌ أُخِذَ منه بقدرِ مظلمته وإن لم تكن له حسنات أُخِذَ من سيئاته فَحُمِلت عليه ).
ولكن من لم يقْدر على الإيصال بعد بذله الوسعَ في ذلك فعفو الله مأمول؛ فإنه يضمن التبعات، ويبدل السيئات حسنات (1) .
ومما يدخل في الحقوق والمظالم التي يجب التحلل منها مايلي:
(أ) الحقوق المالية: فإن كان لدى التائب مظلمة مالية لأحد من الناس فليردها عليه، سواء كانت تلك المظلمة غصباً، أو سرقة، أو جحداً لأمانة مالية، أو نحو ذلك.
وبعض الناس قد يستحيي من رد تلك المظلمة، وخصوصاً إذا كانت سرقة.
والحل في مثل هذه الحال يسير بحمد الله ، فإما أن يذهب لصاحب الحق بنفسه، ويخبره بما كان من أمره، ويرد عليه ما أخذ منه، وإما أن يهاتفه عبر الهاتف ويتفق معه على حل معين، وإما أن يرسل له المبلغ المالي عبر البريد، وإما أن يوسط أحداً من الناس في إرسال المال، والتحلل من صاحبه.
__________
(1) انظر فتح الباري11/106.(1/293)
وإن كان لا يعرف صاحب تلك المظلمة، أو أن يكون قد بحث عنه فلم يجده، ولم يعرف أحداً من أقاربه، أو أن يكون قد نسي مقدار ما أخذ منه، أو أن يكون نسي صاحب المظلمة فَلْيُقَدّرْ ما أخذ منه، وليتصدق به عنه ؛ فإذا كان يوم استيفاء الحقوق كان لأهل الأموال الخيار، بين أن يجيزوا ما فعل ، وتكون أجورها لهم، وبين ألا يجيزوا ويأخذوا من حسناته بقدر أموالهم، ويكون ثواب تلك الصدقة له؛ إذ لا يبطل الله عز وجل ثوابها، ولا يجمع لأربابها بين العوض والمُعَوَّض، فيغرمه إياها، ويجعل أجرها لهم، وقد غرم من حسناته بقدرها.
بل إن صاحب المال قد يَسُرُّه وصول ثواب ماله إليه أعظم من سروره بوصوله إليه في الدنيا (1) .
(ب) الحقوق في الأبدان : فإن كانت المظلمة من نوع الجراحات في الأبدان فالتوبة منها أن يُمَكِّن التائبُ صاحبَ الحقّ من استيفاء حقه، إما بالمال، وإما بالقصاص.
فإن لم يعرفه، أو لم يتمكن من لقائه فليتصدق عنه، وليدْعُ له.
(جـ) المظالم في الأعراض: وإذا كانت المظلمة في الأعراض، كأن تكون بقدح في أحد بغيبة، أو قذف، أو نميمة، أو أن تكون بإفساد لذات البين فليتحلل ممن أساء إليه، وليصلح ما أفسد قدر الإمكان.
فإن كان إذا أخبر من أساء في حقهم لا يغضبون منه، ولا يزيدون حنقاً عليه، ولا يورثهم ذلك غماً صارحهم، وطلب منهم المسامحة بعبارات عامة كأن يقول : إني أخطأت في حقك في الماضي، وأسأت فهمك فظلمتك بكلام تبين فيما بعد خطؤه، وإنني تبت الآن فسامحني فلا بأس في ذلك؛ فقد يكون المُخْبَرُ رجلاً كريماً يقيل العثرة، ويتجاوز عن الزلة.
__________
(1) انظر مدارج السالكين1/391_393.(1/294)
وإن كان إذا أخبرهم بما اغتابهم، أو قذفهم به حنقوا عليه، وازدادوا غماً وغيظاً، أو أنه إذا أخبرهم بالعبارات العامة لم يقنعوا إلا بالتفاصيل التي إذا سمعوها زادوا كراهية لهذا الشخص فإنه حينئذ لا يخبرهم، بل يكفي توبته بينه وبين الله، وأن يذكر المُساء إليه بخير كما ذكره بشر، فيبدل غيبته بمدحه، والثناء عليه بما هو أهله، ويستغفر له بقدر ما اغتابه؛ فهذا هو المتعين في مثل هذه الحالة؛ ذلك أن الإعلام والحالة هذه مفسدة محضة، لا تتضمن مصلحة؛ فإنه لا يزيده إلا أذىً وحنقاً، وغماً، وكان مستريحاً قبل سماعه، فإذا سمعه ربما لم يصبر على حمله، وربما أورثه ضرراً في نفسه أو بدنه.
وما كان هكذا فإن الشارع لا يبيحه فضلاً عن أن يوجبه، ويأمر به.
وربما كان إعلامه به سبباً للعداوة والحرب بينه وبين القائل؛ فلا يصفو له أبداً، بل يورثه علمه به عداوة وبغضاء مولدة لشر أكبر من شر الغيبة والقذف ، وهذا ضد مقصود الشارع من تأليف القلوب، والتراحم، والتعاطف، والتحابب.
وإذا كانت مظلمة الأعراض متعلقة بالمحارم ثم تاب منها فشأنها شأن الغيبة، والنميمة، والقذف من جهة الاستتار، وترك الإعلام؛ فتكون توبة الإنسان فيما بينه وبين ربه.
بل إن مصلحة الإخفاء ههنا أكبر؛ لأن مصلحة الإعلام لا تكاد تذكر.
فإذا تاب الإنسان من معاكسة إحدى محارم المسلمين، أو حصل بينهما ما لا يرضي الله عز وجل فليستتر بستر الله، لأنه إذا أخبر وَلِيَّها؛ ليتحلل منه حصل مفسدة كبرى؛ فقد يسعى الولي للتشفي، والانتقام، وقد يتأذى كثيراً بمجرد علمه، وقد يحصل طلاق، وقتل، وفساد عريض.أما إذا كان في الإخبار مصلحة، كأن تكون المرأة التي حصل منها ما حصل مستمرة على غيها، ثم تاب من يعاكسها، أو يجتمع بها فلا بأس من إشعار وليها أو أحد معارفها العقلاء عبر الهاتف أو الرسالة؛ حتى يقف الفساد عند حد.(1/295)
هذا هو المتعين في مظالم الأعراض، والفرق بينها وبين الحقوق المالية وجنايات الأبدان من وجهين: (
أحدهما: أنه قد ينتفع بها إذا رجعت إليه؛ فلا يجوز إخفاؤها عنه؛ فإنه محض حقه؛ فيجب عليه أداؤه إليه.
بخلاف جنايات الأعراض من غيبة أو نميمة أو ما تعلق بالمحارم؛ فإنه ليس هناك شيء ينفعه يؤديه إليه إلا إضراره، وتهييجه فقط؛ فقياس أحدهما على الآخر من أفسد القياس.
والثاني: أنه إذا أعلمه بجنايات الأموال أو الأبدان لم تؤذه، ولم تُهجْ منه غضباً ولا عداوة، بل ربما سره ذلك وفرح به.
بخلاف إعلامه بما مزق به عرضه طول عمره ليلاً ونهاراً من أنواع القذف، والغيبة، والهجو؛ فاعتبار أحدهما على الآخر اعتبار فاسد (1) .
(د) المظالم العامة: فإذا كانت المظلمة عامة، يتضرر منها عموم الناس فالتوبة في حق من يقوم بذلك أوجب؛ لأن ضررها متعدٍّ.
وذلك كحال من كان صحفياً يبث سمومه عبر الصحافة، أو كان ممثلاًِ يغري بالرذيلة من خلال تمثيله، أو كان مطرباً يؤدي الأغاني الخليعة الماجنة، أو كان أديباً أو كاتباً ينشر الخنا وما ينافي الفضيلة، أو كان مبتدعاً في دين الله ناشراً لبدعته ، أو أياً كان ممن يستخدم مواهبه وإمكاناته لمحاربة الخير، ونشر الشر على عامة الناس؛ فالواجب على هؤلاء أن يتوبوا إلى الله، وتوبتهم تكون بالندم على ما فات، وإظهار الندم، وإعلان الخطأ، والرجوعِ عنه، والقيام بنشر الخير قدر المستطاع، والإكثار من فعل الطاعات، والحرص على هداية من تسببوا في إغوائهم، وتسخير الموهبة لخدمة الدين.
ومما يلحق بالمظالم العامة التي يجب أن يتاب منها بيع الخمور، والمخدرات، والدخان، وبيع الأفلام الهابطة، والمجلات الخليعة.
__________
(1) انظر مدارج السالكين1/300_301، والوابل الصيب لابن القيم ص219، وانظر الأذكار للنووي ص308_309، وأريد أن أتوب ولكن، للشيخ محمد المنجد ص42_44.(1/296)
ولا يلزم من توبة هؤلاء أن يعلنوا بها، فقد لا يترتب على ذلك مصلحة، اللهم إلا إذا كان ذلك من باب أن يقتدي بهم غيرهم.
فالتوبة في حقهم أن يَدَعُوا ما قاموا به، وأن يحرصوا كل الحرص على إصلاح ما أفسدوه، وأن يقبلوا على الله، ويكثروا من الاستغفار وسائر الطاعات.
وبالجملة فكل مظلمة يستطيع الإنسان أن يتحلل منها فليفعل، وما لم يستطع فلا حرج عليه؛ فعفو الله مأمول، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها.
(هـ) توبة القاتل المتعمد: هناك خلاف بين السلف في توبة القاتل، فهناك منهم من قال: لا توبة للقاتل، والجمهور يقولون: إن التوبة تأتي على كل ذنب، فكل ذنب يمكن التوبة منه، وتقبل (1) .
والصواب إن شاء الله تعالى رأي الجمهور، وأن القاتل المتعمد له توبة؛ ذلك أنه عليه ـ والحالة هذه ـ ثلاثة حقوق:
1_ حق الله . 2_ حق القتيل. 3_ حق الورثة.
فحق الله يُقضى بالتوبة، وحق الورثة أن يُسَلِّم القاتل نفسه لهم؛ ليأخذوا حقهم إما بالقصاص، أو الدية، أو العفو.
وحق المقتول لا يمكن الوفاء به في الدنيا؛ فإن حسنت توبة القاتل، وقدم نفسه لأهل المقتول فإن الله يرفع عنه ذلك الحق، ويعوض المقتول يوم القيامة خيراً من عنده سبحانه .
[*](قال ابن القيم رحمه الله تعالى في هذه المسألة: فالصواب والله أعلم أن يقال: إذا تاب القاتل من حق الله، وسلم نفسه طوعاً إلى الوارث؛ ليستوفي منه حق موروثه سقط عنه الحقان، وبقي حق الموروث لا يضيعه الله ، ويجعل من تمام مغفرته للقاتل تعويض المقتول؛ لأن مصيبته لم تنجبر بقتل قاتله.
والتوبة النصوح تهدم ما قبلها، فيعوض هذا عن مظلمته، ولا يعاقب هذا؛ لكمال توبته.
__________
(1) انظر تفصيل تلك الأقوال في معالم التنزيل للبغوي1/465، وصحيح مسلم بشرح النووي 16/236، وتفسير آيات أشكلت لابن تيمية 1/313_318، ومدارج السالكين1/395_402، وتفسير القرآن العظيم 1/506_510.(1/297)
وصار هذا كالكافر المحارب لله ولرسوله إذا قتل مسلماً في الصف، ثم أسلم، وحسن إسلامه؛ فإن الله سبحانه يعوض هذا الشهيد المقتول، ويغفر للكافر بإسلامه، ولا يؤاخذه بقتل المسلم ظلماً؛ فإنَّ هَدْمَ التوبة لما قبلها كهدم الإسلام لما قبله.
وعلى هذا إذا أسلم نفسه، وانقاد، فعفا عنه الولي، وتاب القاتل توبة نصوحاً فالله تعالى يقبل توبته، ويعوض المقتول.
فهذا الذي يمكن أن يصل إليه نظر العالم واجتهاده، والحكم بعد ذلك لله( إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) [ النمل: 78] (1) .
مسألة : إذا كانت المظلمة بقدح في الآدمي بغيبة ، أو بقذف، فهل يُشترط إعلامه؟
العلماء في ذلك على قولين كما يلي : (
القول الأول : اشترطوا الإعلام ، واحتجوا بالحديث الآتي : (
(حديث أبي هريرة في صحيح البخاري) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من كانت له مظلمة لأحد من عرضه أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه .
والقول الآخر: أنه لا يشترط الإعلام، بل يكفي توبته بينه وبين الله، وأن يذكر المغتاب أو المقذوف في مواضع غيبته، أو قذفه بضد ما ذكره به، ويستغفر له، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية ، احتج لذلك بأن إعلامه مفسدة محضة لا تتضمن مصلحة، وما كان هكذا فإن الشارع لا يبيحه فضلا عن أن يوجبه أو يأمر به .
(7) أن تصدر في زمن قبولها:
وهو ما قبل حضور الأجل، وطلوع الشمس من مغربها ، وتأمل في الحديثين الآتيين بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيهما واجعل لهما من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيهما من غرر الفوائد ، ودرر الفرائد . (
__________
(1) مدارج السالكين1/402.(1/298)
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر .
[*] قال العلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:
َ( إِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ ) مِنَ الْغَرْغَرَةِ أَيْ مَا لَمْ تَبْلُغِ الرُّوحُ إِلَى الْحُلْقُومِ يَعْنِي مَا لَمْ يَتَيَقَّنْ بِالْمَوْتِ فَإِنَّ التَّوْبَةَ بَعْدَ التَّيَقُّنِ بِالْمَوْتِ لَمْ يُعْتَدَّ بِهَا .
( حديث أبي موسى رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:إن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها .
[*] قال الإمام النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم :
هذه الأحاديث ظاهرة في الدلالة لها، وأنه لو تكرر الذنب مائة مرة أو ألف مرة أو أكثر وتاب في كل مرة قبلت توبته وسقطت ذنوبه، ولو تاب عن الجميع توبة واحدة بعد جميعها صحت توبته.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
( إن اللّه تعالى يبسط يده بالليل ) أي فيه
( ليتوب مسيء النهار ) مما اجترح فيه وهو إشارة إلى بسط يد الفضل والإنعام لا إلى الجارحة التي هي من لوازم الأجسام فالبسط في حقه عبارة عن التوسع في الجود والتنزه عن المنع عند اقتضاء الحكمة
( ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل ) يعني يقبل التوبة من العصاة ليلاً ونهاراً أي وقت كان فبسط اليد عبارة عن قبول التوبة ومن قبل توبته فداه بأهل الأديان يوم القيامة كما مر ويجيء في خبر وفيه تنبيه على سعة رحمة اللّه وكثرة تجاوزه عن المذنبين ولا يزال كذلك(1/299)
( حتى تطلع الشمس من مغربها ) فإذا طلعت منه غلق باب التوبة قال في المطامح : ومن أنكر طلوعها من مغربها كفر وسمعت عن بعض أهل عصرنا أنه ينكره نعوذ باللّه من الخذلان انتهى وأنت خبير بأن جزمه بالتكفير لا يكاد يكون صحيحاً سيما في حق العامة لأنه لم يبلغ مبلغ المعلوم من الدين بالضرورة ومجرد وروده في أخبار صحاح لا يوجب التكفير فتدبر .
[*](قال الشيخ حافظ الحكمي :
وتقبل التوبة قبل الغرغره : كما أتى في الشرعة المطهرة
(توبة العبد محفوفة بتوبتين من الله سابقة ولاحقة :
[*](قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين :
وتوبة العبد إلى ربه محفوفة بتوبة من الله عليه قبلها وتوبة منه بعدها فتوبته بين توبتين من الله سابقة ولاحقة فإنه تاب عليه أولا إذنا وتوفيقا وإلهاما فتاب العبد فتاب الله عليه ثانيا قبولا وإثابة قال الله سبحانه وتعالى {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ، وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}[التوبة /117، 118]
فأخبر سبحانه أن «توبته عليهم سبقت توبتهم وأنها هي التي جعلتهم تائبين» فكانت سببا ومقتضياً لتوبتهم فدل على أنهم ما تابوا حتى تاب الله تعالى عليهم والحكم ينتف لانتفاء علته.(1/300)
ونظير هذا : هدايته لعبده قبل الاهتداء فيهتدي بهدايته فتوجب له تلك الهداية هداية أخرى يثيبه الله بها هداية على هدايته فإن من ثواب الهُدى: الهُدى بعده كما أن من عقوبة الضلالة: الضلالة بعدها قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً}[محمد : 17] فهداهم أولا فاهتدوا فزادهم هدى ثانيا وعكسه في أهل الزيغ كقوله تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُم}[الصف :5] فهذه الإزاغة الثانية عقوبة لهم على زيغهم.
وهذا القدر من سر اسميه (الأول والآخر) فهو المعد وهو الممد ومنه السبب والمسبب وهو الذي يعيذ من نفسه بنفسه كما قال أعرف الخلق به: "وأعوذ بك منك" والعبد تواب والله تواب فتوبة العبد: رجوعه إلى سيده بعد الإباق وتوبة الله نوعان: إذن وتوفيق وقبول وإمداد.
(مبدأ التوبة ومنتهاها :
[*](قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين :
و(التوبة) لها مبدأ ومنتهى فمبدؤها: الرجوع إلى الله بسلوك صراطه المستقيم الذي نصبه لعباده موصلا إلى رضوانه وأمرهم بسلوكه بقوله: تعالى {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُل}[الأنعام : 153]
وبقوله: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْض}[ الشورى /53،52]
وبقوله: {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ}[الحج : 24].
ونهايتها: الرجوع إليه في المعاد وسلوك صراطه الذي نصبه موصلا إلى جنته فمن رجع إلى الله في هذه الدار بالتوبة: رجع إليه في المعاد بالثواب وهذا هو أحد التأويلات في قوله تعالى: {وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَاباً}[ الفرقان :71](1/301)
قال البغوي وغيره: "يتوب إلى الله متابا: يعود إليه بعد الموت متابا حسنا يفضل على غيره" فالتوبة الأولى وهي قوله: "ومن تاب" رجوع عن الشرك والثانية: رجوع إلى الله للجزاء والمكافأة.
والتأويل الثاني: أن الجزاء متضمن معنى الأوامر والمعنى: ومن عزم على التوبة وأرادها فليجعل توبته إلى الله وحده ولوجهه خالصا لا لغيره.
التأويل الثالث: أن المراد لازم هذا المعنى وهو إشعار التائب وإعلامه بمن تاب إليه ورجع إليه والمعنى : فليعلم توبته إلى من؟ ورجوعه إلى من؟ فإنها إلى الله لا إلى غيره.
ونظير هذا على أحد التأويلين قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ}[ المائدة :67] أي: اعلم ما يترتب على من عصى أوامره ولم يبلغ رسالته.
والتأويل الرابع: أن التوبة تكون أولا بالقصد والعزم على فعلها ثم إذا قوي العزم وصار جازما: وجد به فعل التوبة فالتوبة الأولى: بالعزم والقصد لفعلها والثانية: بنفس إيقاع التوبة وإيجادها والمعنى : فمن تاب إلى الله قصدا ونية وعزما فتوبته إلى الله عملا وفعلا وهذا نظير قوله صلى الله عليه وسلم: "فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه".
(علامات قبول التوبة :
للتوبة علامات تدل على صحتها وقبولها، ومن هذه العلامات:
(1) أن يكون العبد بعد التوبة خيراً مما كان قبلها:
وكل إنسان يستشعر ذلك من نفسه، فمن كان بعد التوبة مقبلاً على الله، عالي الهمة قوي العزيمة دلّ ذلك على صدق توبته وصحتها وقبولها.
(2) ألا يزال الخوف من العودة الى الذنب مصاحباً له:(1/302)
فإن العاقل لا يأمن مكر الله طرفة عين، فخوفه مستمر حتى يسمع الملائكة الموكلين بقبض روحه: أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ [فصلت:30]، فعند ذلك يزول خوفه ويذهب قلقه.
(3) أن يستعظم الجناية التي تصدر منه وإن كان قد تاب منها:
[*] قال ابن مسعود رضي الله عنه:
إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مرّ على أنفه، فقال له هكذا .
[*] وقال بعض السلف: لا تنظر الى صغر المعصية ولكن انظر الى من عصيت.
(4) أن تحدث التوبة للعبد انكساراً في قلبه وذلاً وتواضعاً بين يدي ربه:
وليس هناك شئ أحب الى الله من أن يأتيه عبده منكسراً ذليلاً خاضعاً مخبتاً منيباً، رطب القلب بذكر الله، لا غرور، ولا عجب، ولا حب للمدح، ولا معايرة ولا احتقار للآخرين بذنوبهم. فمن لم يجد ذلك فليتهم توبته، وليرجع الى تصحيحها.
(5) أن يحذر من أمر جوارحه:
فليحذر من أمر لسانه فيحفظه من الكذب والغيبة والنميمة وفضول الكلام، ويشغله بذكر الله تعالى وتلاوة كتابه. ويحذر من أمر بطنه، فلا يأكل إلا حلالاً. ويحذر من أمر بصره، فلا ينظر الى الحرام، ويحذر من أمر سمعه، فلا يستمع الى غناء أو كذب أو غيبة، ويحذر من أمر يديه، فلا يمدهما في الحرام، ويحذر من أمر رجليه فلا يمشي بهما الى مواطن المعصية، ويحذر من أمر قلبه، فيطهره من البغض والحسد والكره، ويحذر من أمر طاعته، فيجعلها خالصة لوجه الله، ويبتعد عن الرياء والسمعة.
(احذر التسويف :
أخي الحبيب:(1/303)
إن العبد لا يدري متى أجله، ولا كم بقي من عمره، ومما يؤسف أن نجد من يسوّفون بالتوبة ويقولون: ليس هذا وقت التوبة، دعونا نتمتع بالحياة، وعندما نبلغ سن الكبر نتوب. إنها أهواء الشيطان، وإغراءات الدنيا الفانية، والشيطان يمني الإنسان ويعده بالخلد وهو لا يملك ذلك. فالبدار البدار... والحذر الحذر من الغفلة والتسويف وطول الأمل، فإنه لولا طول الأمل ما وقع إهمال أصلاً.
فسارع أخي الحبيب الى التوبة، واحذر التسويف فإنه ذنب آخر يحتاج الى توبة، والتوبة واجبة على الفور، فتب قبل أن يحضر أجلك وينقطع أملك، فتندم ولات ساعة مندم، فإنك لا تدري متى تنقضي أيامك، وتنقطع أنفاسك، وتنصرم لياليك.
تب قبل أن تتراكم الظلمة على قلبك حتى يصير ريناً وطبعاً فلا يقبل المحو، تب قبل أن يعاجلك المرض أو الموت فلا تجد مهلة للتوبة.
(لا تغتر بستر الله وتوالي نعمه :
بعض الناس يسرف على نفسه بالذنوب والمعاصي، فإذا نُصح وحذّر من عاقبتها قال: ما بالنا نرى أقواماً يبارزون الله بالمعاصي ليلاً ونهاراً، وامتلأت الأرض من خطاياهم، ومع ذلك يعيشون في رغد من العيش وسعة من الرزق. ونسي هؤلاء أن الله يعطي الدنيا لمن يحب ومن لا يحب، وأن هذا استدراج وإمهال من الله حتى إذا أخذهم لم يفلتهم، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد ، ودرر الفرائد . (
(حديث عقبة ابن عامر الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إذا رأيت الله تعالى يعطي العبد من الدنيا ما يحب وهو مقيمٌ على معاصيه فإنما ذلك منه استدراج .
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
( إذا رأيت الله تعالى ) أي علمت أنه
( يعطي العبد ) عبر بالمضارع إشارة إلى تجدد الإعطاء وتكرره
( من الدنيا ) أي من زهرتها وزينتها
( ما يحب ) أي العبد من نحو مال وولد وجاه(1/304)
( وهو مقيم ) أي والحال أنه مقيم
( على معاصيه ) أي عاكف عليها ملازم لها
( فإنما ذلك ) أي فاعلموا أنما إعطاؤه ما يحب من الدنيا
( منه ) أي من الله
( استدراج ) أي أخذ بتدريج واستنزال من درجة إلى أخرى ، فكلما فعل معصية قابلها بنعمة وأنساه الاستغفار فيدنيه من العذاب قليلاً قليلاً ثم يصبه عليه صباً . قال إمام الحرمين : إذا سمعت بحال الكفار وخلودهم في النار فلا تأمن على نفسك فإن الأمر على خطر ، فلا تدري ماذا يكون وما سبق لك في الغيب ، ولا تغتر بصفاء الأوقات فإن تحتها غوامض الآفات . وقال علي كرم الله وجهه : كم من مستدرج بالإحسان وكم من مفتون بحسن القول فيه . وكم من مغرور بالستر عليه ، وقيل لذي النون : ما أقصى ما يخدع به العبد؟ قال : بالألطاف والكرامات { سنستدرجهم من حيث لا يعلمون } وفي الحكم : خف من وجود إحسانه إليك ودوام إساءتك معه أن يكون ذلك استدراجاً . والاستدراج الأخذ بالتدريج لا مباغتة . والمراد هنا تقريب الله العبد إلى العقوبة شيئاً فشيئاً ، واستدراجه تعالى للعبد أنه كلما جدد ذنباً جدد له نعمة وأنساه الاستغفار فيزداد أشراً وبطراً فيندرج في المعاصي بسبب تواتر النعم عليه ظاناً أن تواترها تقريب من الله ، وإنما هو خذلان وتبعيد . أهـ
(فضل الله تعالى على التائب العائد :
(حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجه ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال التائب من الذنب كمن لا ذنب له .
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
( التائب من الذنب ) توبة مخلصة صحيحة
( كمن لا ذنب له ) لأن العبد إذا استقام ضعفت نفسه وانكسر هواه وتغيرت أحواله وساوى الذي قبله ممن لا صبوة له قال الطيبي : هذا من قبيل إلحاق الناقص بالكامل مبالغة كما نقول زيد كالأسد ولا يكون المشرك التائب معادلاً بالنبي المعصوم .(1/305)
أخي الحبيب : لا يأخذك الهوى وملهيات النفس وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد ، ودرر الفرائد . (
(حديث أبي هريرة في صحيح البخاري) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى ، قيل: ومن يأبى يا رسول اللّه؟ من أطاعني دخل الجنة و من عصاني فقد أبى .
وهذا الحديث بشارة لجميع المسلمين بالجنة، إلا صنفاً منهم لا يريدون دخولها، لا زهداً فيها، ولكن جهلاً بالطريق الموصلة اليها، وتراخياً وتكاسلاً عن دخولها، وتفضيلاً لهذه المتع الدنيوية الزائلة على تلك النعم الخالدة في الجنة.
فَجِدَّ في التوبة وسارع إليها فليس للعبد مستراح إلا تحت شجرة طوبى، ولا للمحب قرار إلا يوم المزيد فسارع إلى التوبة، وهب من الغفلة، واعلم أن خير أيامك يوم العودة إلى الله عز وجل، فاصدق في ذلك السير واعلم أن الله تعالى أفرح بتوبتك من مَفْروحٍ به ، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد ، ودرر الفرائد . (
(حديث أنس في الصحيحين) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لله أشد فرحا بتوبة عبده من أحدكم إذا سقط عليه بعيره قد أضله بأرض فلاة .
( حديث أنس بن مالك رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لله أشد فرحاً بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته أرض فلاة فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه فأيس منها فأتى شجرة فاضطجع في ظلها قد أيس من راحلته فبينما هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح : اللهم أنت عبدي ، وأنا ربك أخطأ من شدة الفرح " .
[*] قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح :(1/306)
وإطلاق الفرح في حق الله مجاز عن رضاه ، قال الخطابي معنى الحديث ان الله ارضى بالتوبة واقبل لها والفرح الذي يتعارفه الناس بينهم غير جائز على الله وهو كقوله تعالى كل حزب بما لديهم فرحون أي رضون وقال بن فورك الفرح في اللغة السرور ويطلق على البطر ومنه ان الله لا يحب الفرحين وعلى الرضا فان كل من يسر بشيء ويرضى به يقال في حقه فرح به قال بن العربي كل صفة تقتضي التغير لا يجوز ان يوصف الله بحقيقتها فان ورد شيء من ذلك حمل على معنى يليق به وقد يعبر عن الشيء بسببه أو ثمرته الحاصلة عنه فان من فرح بشيء جاد لفاعله بما سأل وبذل له ما طلب فعبر عن عطاء الباري وواسع كرمه بالفرح وقال بن أبي جمرة كنى عن إحسان الله التائب وتجاوزه عنه بالفرح لان عادة الملك إذا فرح بفعل أحد ان يبالغ في الإحسان اليه وقال القرطبي في المفهم هذا مثل قصد به بيان سرعة قبول الله توبة عبده التائب وانه يقبل عليه بمغفرته ويعامله معاملة من يفرح بعمله ووجه هذا المثل ان العاصي حصل بسبب معصية في قبضة الشيطان وأسره وقد اشرف على الهلاك فإذا لطف الله به ووفقه للتوبة خرج من شؤم تلك المعصية وتخلص من اسر الشيطان ومن المهلكة التي اشرف عليها فأقبل الله عليه بمغفرته وبرحمته وإلا فالفرح الذي هو من صفات المخلوقين محال على الله تعالى لأنه اهتزاز وطرب يجده الشخص من نفسه عند ظفره بغرض يستكمل به نقصانه ويسد به خلته أو يدفع به عن نفسه ضررا أو نقصا وكل ذلك محال على الله تعالى فإنه الكامل بذاته الغني بوجوده الذي لا يلحقه نقص ولا قصور لكن هذا الفرح له عندنا ثمرة وفائدة وهو الإقبال على الشيء المفروح به واحلاله المحل الأعلى وهذا هو الذي يصح في حقه تعالى فعبر عن ثمرة الفرح بالفرح على طريقة العرب في تسمية الشيء باسم ما جاوره أو كان منه بسبب وهذا القانون جار في جميع ما اطلقه الله تعالى على صفة من الصفات التي لا تليق به .(1/307)
[*] قال الإمام النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم :
"لله أشد فرحا بتوبة عبده من أحدكم يجد ضالته بالفلاة" قال العلماء: فرح الله تعالى هو رضاه، وقال المازري: الفرح ينقسم على وجوه منها السرور والسرور يقاربه الرضا بالمسرور به، قال: فالمراد هنا أن الله تعالى يرضى توبة عبده أشد مما يرضى واجد ضالته بالفلاة، فعبر عن الرضا بالفرح تأكيدا لمعنى الرضا في نفس السامع ومبالغة في تقريره.
(أخي الحبيب :
[*] قال يحي بن معاذ رحمه الله : من أعظم الاغترار عندي: التمادي في الذنوب مع رجاء العفو من غير ندامة، وتوقع القرب من الله تعالى بغير طاعة، وانتظار زرع الجنة ببذر النار، وطلب دار المطيعين بالمعاصي، وانتظار الجزاء بغير عمل، والتمني على الله عز وجل مع الإفراط. ومن أحب الجنة إنقطع عن الشهوات، ومن خاف النار إنصرف عن السيئات.
[*] وقال الحسن البصري رحمه الله : إن قوماً ألهتهم أماني المغفرة حتى خرجوا من الدنيا بغير توبة، يقول أحدهم: إني أحسن الظن بربي، وكذب، لو أحسن الظن لأحسن العمل.
وقال رحمه الله: ( إن المؤمن قوَّام على نفسه يحاسب نفسه لله عز وجل، وإنما خف الحساب يوم القيامة على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا، وإنما شق الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة، إن المؤمن يَفجَؤ الشيء بعجبه فيقول: والله إني لأشتهيك، وإنك لمن حاجتي ولكن والله ما من صلة إليك، هيهات، هيهات، حيل بيني وبينك، ويفرط منه الشيء فيرجع إلى نفسه فيقول: ما أردت إلى هذا، مالي ولهذا! والله لا أعود لهذا أبداً إن شاء الله، إن المؤمنين قوم أوثقهم القرآن، وحال بينهم وبين هلكتهم، إن المؤمن أسير في الدنيا، يسعى في فكاك رقبته، لا يأمن شيئاً حتى يلقى الله عز وجل، يعلم أنه مأخوذ عليه في سمعه وبصره ولسانه وجوارحه.
(أخي الحبيب :(1/308)
جهاد النفس جهاد طويل وطريق محفوف بالمكاره، مذاقه مر وملمسه خشن، فعليك بالسير في ركاب التائبين حتى تحط رحالك في جنات عدن.
[*] قال حاتم الأصم: من خلا قلبه من ذكر أربعة أخطار فهو مغتر لا يأمن الشقاء:
الأول: خطر يوم الميثاق حين قال: هؤلاء في الجنة ولا أبالي، وهؤلاء في النار ولا أبالي، فلا يعلم أي الفريقين كان.
الثاني: حين خلق في ظلمات ثلاث، فنادى الملك بالشقاوة والسعادة، ولا يدري أمن الأشقياء هو أم من السعداء؟
الثالث: ذكر هول المطالع، فلا يدري أيبشر برضا الله أم بسخطه؟
الرابع: يوم يصدر الناس أشتاتاً، فلا يدري أي الطريقين يسلك به؟.
[*] وقال الحسن رحمه الله : (ابن آدم.. إنك تموت وحدك، وتدخل القبر وحدك، وتبعث وحدك، وتحاسب وحدك ) فينبغي لكل ذي لب وفطنة أن يحذر عواقب المعاصي، فإنه ليس بين الآدمي وبين الله تعالى قرابة ولا رحم، وإنما هو قائم بالقسط، حاكم بالعدل، وإن كان حلمه يسع الذنوب، وإن شاء أخذ وأخذ باليسير، فالحذر الحذر.
(أخي الحبيب :
كلنا أصحاب ذنوب وخطايا وليس منا من هو معصوم عن الزلل والخطأ، ولكن خيرنا من يسارع إلى التوبة ويبادر إلى العودة: تحثه الخُطى، وتُسرع به الدمعة، ويُعينه أهل الخير رفقاء الدنيا والآخرة، فإن من واجب الأخوة في الله عدم ترك العاصي يستمر في معصيته بل يُحاط بإخوانه ويُذكر ويُنبه، ولا يهمل ويترك فيضل ويشقى . أرأيت إن نزل به مرض أو شأن من أمور الدنيا كيف نقف معه ونعينه؟ فالآخرة أولى وأبقى.
[*] قال شيخ الاسلام ابن تيمية:(1/309)
( الذي يضر صاحبه هو ما لم يحصل منه توبة، فأما ما حصل منه توبة فقد يكون صاحبه بعد التوبة أفضل منه قبل الخطيئة ). ولا تظن أيها المسلم الصائم أن التوبة في ترك المنكرات والمعاصي فحسب، بل احرص على التوبة من ترك النوافل والمداومة على الخير، فتب عن تفريطك في السنن الرواتب، وتب عن إضاعتك للتراويح والقيام، وتب من بخلك وشحك، وتب إلى الله من غفلتك وإضاعة وقتك الثمين.
(منزلة التوبة في الدين :
[*](قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين :
ومنزل (التوبة) أول المنازل وأوسطها وآخرها فلا يفارقه العبد السالك ولا يزال فيه إلى الممات وإن ارتحل إلى منزل آخر ارتحل به واستصحبه معه ونزل به فالتوبة هي بداية العبد ونهايته وحاجته إليها في النهاية ضرورية كما أن حاجته إليها في البداية كذلك وقد قال الله تعالى :(وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [ النور:31]
وهذه الآية في سورة مدنية خاطب الله بها أهل الإيمان وخيار خلقه أن يتوبوا إليه بعد إيمانهم وصبرهم وهجرتهم وجهادهم ثم علق الفلاح بالتوبة تعليق المسبب بسببه وأتى بأداة (لعلّ) المشعرة بالترجي إيذانا بأنكم إذا تبتم كنتم على رجاء الفلاح فلا يرجو الفلاح إلا التائبون جعلنا الله منهم .
قال تعالى {وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [ الحجر : 11] قسم العباد إلى تائب وظالم وما ثم قسم ثالث البتة وأوقع اسم (الظالم) على من لم يتب ولا أظلم منه لجهله بربه وبحقه وبعيب نفسه وآفات أعماله .(1/310)
(ولما كانت (التوبة) هي رجوع العبد إلى الله ومفارقته لصراط المغضوب عليهم والضالين وذلك لا يحصل إلا بهداية الله إلى الصراط المستقيم ولا تحصل هدايته إلا بإعانته وتوحيده فقد انتظمتها سورة الفاتحة أحسن انتظام وتضمنتها أبلغ تضمن فمن أعطى الفاتحة حقها علماً وشهوداً وحالاً معرفة علم أنه لا تصح له قراءتها على العبودية إلا بالتوبة النصوح فإن الهداية التامة إلى الصراط المستقيم لا تكون مع الجهل بالذنوب ولا مع الإصرار عليها فإن الأول جهل ينافي معرفة الهدى والثاني غي ينافي قصده وإرادته فلذلك لا تصح التوبة إلا بعد معرفة الذنب والاعتراف به وطلب التخلص من سوء عواقبه أولا وآخرا. أهـ
وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد ، ودرر الفرائد . (
( حديث ابن عباس رضي الله عنهما الثابت في صحيح الترمذي ) قال : كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَدْعُو يَقُولُ رَبِّ أَعِنِّي وَلَا تُعِنْ عَلَيَّ وَانْصُرْنِي وَلَا تَنْصُرْ عَلَيَّ وَامْكُرْ لِي وَلَا تَمْكُرْ عَلَيَّ وَاهْدِنِي وَيَسِّرْ الْهُدَى لِي وَانْصُرْنِي عَلَى مَنْ بَغَى عَلَيَّ رَبِّ اجْعَلْنِي لَكَ شَكَّارًا لَكَ ذَكَّارًا لَكَ رَهَّابًا لَكَ مِطْوَاعًا لَكَ مُخْبِتًا إِلَيْكَ أَوَّاهًا مُنِيبًا رَبِّ تَقَبَّلْ تَوْبَتِي وَاغْسِلْ حَوْبَتِي وَأَجِبْ دَعْوَتِي وَثَبِّتْ حُجَّتِي وَسَدِّدْ لِسَانِي وَاهْدِ قَلْبِي وَاسْلُلْ سَخِيمَةَ صَدْرِي .
[*] قال العلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:
(رَبِّ أَعِنِّي وَلَا تُعِنْ عَلَيَّ ) : أَيْ عَلَى أَعْدَائِي فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا مِنَ النَّفْسِ وَالشَّيْطَانِ وَالْجِنِّ وَالْإِنْسِ .(1/311)
( وَامْكُرْ لِي وَلَا تَمْكُرْ عَلَيَّ ) قَالَ الطِّيبِيُّ: الْمَكْرُ الْخِدَاعُ وَهُوَ مِنَ اللَّهِ إِيقَاعُ بَلَائِهِ بِأَعْدَائِهِ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ، وَقِيلَ هُوَ اسْتِدْرَاجُ الْعَبْدِ بِالطَّاعَةِ فَيَتَوَهَّمُ أَنَّهَا مَقْبُولَةٌ وَهِيَ مَرْدُودَةٌ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: الْمَكْرُ الْحِيلَةُ وَالْفِكْرُ فِي دَفْعِ عَدُوٍّ بِحَيْثُ لَا يَشْعُرُ بِهِ الْعَدُوُّ، فَالْمَعْنَى: ( اللَّهُمَّ اهْدِنِي إِلَى طَرِيقِ دَفْعِ أَعْدَائِي عَنِّي وَلَا تَهْدِ عَدُوِّي إِلَى طَرِيقِ دَفْعِهِ إِيَّاهُ عَنْ نَفْسِهِ ) كَذَا فِي الْمِرْقَاةِ .
( وَاهْدِنِي ) أَيْ دُلَّنِي عَلَى الْخَيْرَاتِ .
( وَيَسِّرْ لِي الْهُدَى ) أَيْ وَسَهِّلِ اتِّبَاعَ الْهِدَايَةِ أَوْ طُرُقَ الدَّلَالَةِ حَتَّى لَا أَسْتَثْقِلَ الطَّاعَةَ وَلَا أَشْتَغِلَ عَنِ الطَّاعَةِ .
( وَانْصُرْنِي عَلَى مَنْ بَغَى عَلَيَّ ) أَيْ ظَلَمَنِي وَتَعَدَّى عَلَيَّ .
( رَبِّ اجْعَلْنِي لَكَ شَكَّارًا ) أَيْ كَثِيرَ الشُّكْرِ عَلَى النَّعْمَاءِ وَالْآلَاءِ، وَتَقْدِيمُ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ لِلِاهْتِمَامِ وَالِاخْتِصَاصِ أَوْ لِتَحْقِيقِ مَقَامِ الْإِخْلَاصِ
( لَكَ ذَكَّارًا ) أَيْ كَثِيرَ الذِّكْرِ .
( لَكَ رَهَّابًا ) أَيْ كَثِيرَ الْخَوْفِ
( لَكَ مِطْوَاعًا ) بِكَسْرِ الْمِيمِ مِفْعَالٌ لِلْمُبَالَغَةِ أَيْ كَثِيرَ الطَّوْعِ وَهُوَ الِانْقِيَادُ وَالطَّاعَةُ
( لَكَ مُخْبِتًا ) أَيْ خَاضِعًا خَاشِعًا مُتَوَاضِعًا مِنَ الْإِخْبَاتِ قَالَ فِي الْقَامُوسِ: أَخْبَتَ خَشَعَ(1/312)
( إِلَيْكَ أَوَّاهًا ) أَيْ مُتَضَرِّعًا فَعَّالٌ لِلْمُبَالَغَةِ مِنْ أَوَّهَ تَأْوِيهًا وَتَأَوَّهَ تَأَوُّهًا إِذَا قَالَ أَوْهُ أَيْ قَائِلًا كَثِيرًا لَفْظَ أَوْهُ وَهُوَ صَوْتُ الْحَزِينِ. أَيِ اجْعَلْنِي حَزِينًا وَمُتَفَجِّعًا عَلَى التَّفْرِيطِ أَوْ هُوَ قَوْلُ النَّادِمِ مِنْ مَعْصِيَتِهِ الْمُقَصِّرِ فِي طَاعَتِهِ وَقِيلَ الْأَوَّاهُ الْبَكَّاءُ
( مُنِيبًا ) أَيْ رَاجِعًا قِيلَ التَّوْبَةُ رُجُوعٌ مِنَ الْمَعْصِيَةِ إِلَى الطَّاعَةِ، وَالْإِنَابَةُ مِنَ الْغَفْلَةِ إِلَى الذِّكْرِ وَالْفِكْرَةِ، وَالْأَوْبَةُ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْحُضُورِ وَالْمُشَاهَدَةِ قَالَ الطِّيبِيُّ: وَإِنَّمَا اكْتَفَى فِي قَوْلِهِ أَوَّاهًا مُنِيبًا بِصِلَةٍ وَاحِدَةٍ لِكَوْنِ الْإِنَابَةِ لَازِمَةً لِلتَّأَوُّهِ وَرَدِيفًا لَهُ فَكَأَنَّهُ شَيْءٌ وَاحِدٌ .
( رَبِّ تَقَبَّلْ تَوْبَتِي ) أَيْ بِجَعْلِهَا صَحِيحَةً بِشَرَائِطِهَا وَاسْتِجْمَاعِ آدَابِهَا فَإِنَّهَا لَا تَتَخَلَّفُ عَنْ حَيِّزِ الْقَبُولِ .
( وَاغْسِلْ حَوْبَتِي ) بِفَتْحِ الْحَاءِ وَيُضَمُّ أَيِ امْحُ ذَنْبِي .
( وَأَجِبْ دَعْوَتِي ) أَيْ دُعَائِي .
( وَثَبِّتْ حُجَّتِي ) أَيْ عَلَى أَعْدَائِكَ فِي الدُّنْيَا وَالْعُقْبَى وَثَبِّتْ قَوْلِي وَتَصْدِيقِي فِي الدُّنْيَا وَعِنْدَ جَوَابِ الْمَلَكَيْنِ.
( وَسَدِّدْ لِسَانِي ) أَيْ صَوِّبْهُ وَقَوِّمْهُ حَتَّى لَا يَنْطِقَ إِلَّا بِالصِّدْقِ وَلَا يَتَكَلَّمَ إِلَّا بِالْحَقِّ .
( وَاهْدِ قَلْبِي ) أَيْ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ .
( وَاسْلُلْ ) بِضَمِّ اللَّامِ الْأُولَى أَيْ أَخْرِجْ مِنْ سَلَّ السَّيْفَ إِذَا أَخْرَجَهُ مِنَ الْغِمْدِ
( سَخِيمَةَ صَدْرِي ) أَيْ غِشَّهُ وَغِلَّهُ وَحِقْدَهُ.(1/313)
(ومن هنا يتضح أن التوبة ، مبدأ طريق السالكين ، ورأس مال الفائزين ، وأول إقدام المريدين ، ومفتاح استقامة المائلين، ومطلع الاصطفاء ، والاجتباء للمقربين .
(ومنزل التوبة أول المنازل ، وأوسطها ،وآخرها، فلا يفارقها العبد السالك ولا يزال فيه إلى الممات وإن ارتحل إلى منزل آخر ارتحل به واستصحبه معه ، ونزل به ، فالتوبة هي بداية العبد ونهايته، وقد قال تعالى :
{ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } (النور: من الآية 31)
وهذه الآية في سورة مدنية خاطب الله بها أهل الإيمان وخيار خلقه أن يتوبوا إليه بعد إيمانهم وصبرهم ، وهجرتهم ، وجهادهم ، ثم علق الفلاح بالتوبة وأتى بكلمة " لعل" إيذانا بأنكم إذا تبتم كنتم على رجاء الفلاح ، فلا يرجو الفلاح إلا التائبون جعلنا الله منهم ، وقال تعالى : { وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } (الحجرات: من الآية 11)
فقسم العباد إلى : " تائب " و " ظالم " وليس ثَمَّ قسم ثالث ، وأوقع اسم الظالم على من لم يتب ولا أظلم منه لجهله بربه وبحقه وبعيب نفسه وآفات أعماله ، وحثنا النبي - صلى الله عليه وسلم - على التوبة إلى الله تعالى كما في الحديث الآتي : (
(حديث الأغرِّ المُزني في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : يا أيها الناس ! توبوا إلى الله واستغفروه فإني أتوب إلى الله في اليوم مائة مرة .
[*] قال الإمام النووي رحمه الله تعالى : والمراد هنا ما يتغشى القلب . قال القاضي : قيل المراد الفترات والغفلات عن الذكر الذي كان شأنه الدوام عليه فإذا فَتَرَ عنه أو غفل عدّ ذلك ذنبا واستغفر منه .
(حديث أبي هريرة في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة .
(التوبة النصوح :(1/314)
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار } [التحريم : من الآية 8]
والنصحُ في التوبة : هو تخليصها من كل غش ونقص وفساد ،
[*] قال الحسن البصري : هي أن يكون العبد نادماً على ما مضى مجمعاً على أن لا يعود فيه "
[*] وقال الكلبي : " أن يستغفر باللسان ويندم بالقلب ويمسك بالبدن " وقال سعيد بن المسيب : " توبة نصوحاً تنصحون بها أنفسكم "
[*] قال ابنُ القيّم : " النصح في التوبة يتضمن ثلاثة أشياء " :
الأول : تعميم الذنوب واستغراقها بها بحيث لا تدع ذنبا إلا تناولته.
الثاني: إجماع العزم والصدق بكليته عليها بحيث لا يبقى عنده تردد لا تلّوم ولا انتظار بل يجمع عليها كل إرادته عزيمته مبادراً بها .
الثالث : تخليصها من الشوائب والعلل القادحة في إخلاصها ووقوعها لمحض الخوف من الله وخشيته والرغبة فيما لديه والرهبة مما عنده لا كمن يتوب لحفظ حاجته وحرمته ومنصبه ورياسته أو لحفظ وقته وماله أو استدعاء حمد الناس أوالهرب من ذمهم أو لئلا يتسلط عليه السفهاء أو لقضاء نهمته من الدنيا أو لإفلاسه وعجزه ونحو ذلك من العلل التي تقدح في صحتها وخلوصها لله عز وجل .
فالأول : يتعلق بما يتوب منه ، والأوسط :يتعلق بذات التائب ، والثالث : يتعلق بمن يتوب إليه، فنصح التوبة : الصدقُ فيها والإخلاص وتعميم الذنوب بها ، ولا ريب أن هذه التوبة تستلزم الاستغفار وتتضمنه وتمحو جميع الذنوب وهي أكمل ما يكون من التوبة .
وتوبة العبد إلى الله محفوفة بتوبة من الله عليه قبلها وتوبة منه بعدها فتوبته بين توبتين من ربه سابقة ولاحقة فإنه تاب عليه:
أولاً : إذناً وتوفيقاً وإلهاماً ، فتاب العبد ، تاب الله عليه .(1/315)
ثانياً : قبولاً وإثابة لقوله عز وجلّ : { وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } (التوبة: الآية 118)
فأخبر سبحانه: أو توبته عليهم سبقت توبتهم ,أنها هي التي جعلتهم تائبين فكانت سببا مقتضيا لتوبتهم وهذا القدر من سر أسميه " الأول والآخرُ" فهو المعد والممد ومنه السبب والمسبب، والعبد تواب والله تواب ، فتوبة العبد رجوعه إلى سيده بعد الأباق ،
وتوبة الله نوعان :
إذن وتوفيق، وقبول وإمداد .
والتوبة لها مبدأ ومنتهي ، فمبدؤها : الرجوع إلى الله بسلوك صراطه المستقيم الذي أمرهم بسلوكه بقوله تعالى : { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ } (الأنعام: من الآية 153)
ونهايتها : الرجوع إليه في المعاد وسلوك صراطه الذي نصبه موصلاً إلى جنته ، فمن رجع إلى الله في هذه الدار بالتوبة رجع إليه في المعاد بالثواب ، قال الله عز وجل : { وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا } (الفرقان: الآية 71)
(فضائل التوبة :
التوبة شأنها عظيم، ونفعها عميم، لها فضائل لا تحصى، وثمراتٌ لا تعد ، وله أهمية كبرى، وثمرات جليلة، وفضائل عظيمة، وأسرار بديعة ، وهي طريق النجاة، وسلم الوصول، ومطلب العارفين، ومطية الصالحين، ومفزع المظلومين، وملجأ المستضعفين، به تُستجلب النعم، وبمثله تُستدفع النقم ، وهو من أشرف العبادات و أجلّ الطاعات ، سبب لتفريج الهموم وزوال الغموم، وانشراح الصدور، وتيسير الأمور ، وهاك بعض فضائلها جملةً وتفصيلاً :
(أولاً : فضائل التوبة جملةً :
(1) التوبة سبب نيل محبة الله تعالى :(1/316)
(2) التوبة سبب نور القلب ومحو أثر الذنب:
(3) التوبة سبب لنزول الأمطار، وزيادة القوة، والإمداد بالأموال والبنين:
(4) التوبة تجعل المذنب كمن لا ذنب له:
(5) التوبة أول صفات المؤمنين :
(6) التوبة سبب في فرح الرب سبحانه وتعالى فرحاً يليق بجلاله وعظمته سبحانه:
(7) التوبة سبب لفلاحك في الدنيا و الآخرة :
(8) التوبة طاعة لأمر ربك سبحانه وتعالى .
(9) التوبة سبب لدخولك الجنة ونجاتك من النار :
(10) التوبة سبب لتكفير سيئاتك وتبدلها إلى حسنات :
(11) التوبة سبب للمتاع الحسن:
(ثانياً : فضائل التوبة تفصيلا :
(1) التوبة سبب نيل محبة الله تعالى : وكفى بهذه الفضيلة شرفا للتوبة، قال الله تعالى: إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ [البقرة:222] وهل هناك سعادة يمكن أن يشعر بها إنسان بعد معرفته أن خالقه ومولاه يحبه إذا تاب إليه؟!
[*](قال ابن القيم رحمه الله : ولو لم تكن التوبة أحب الأشياء إليه لما ابتلى بالذنب أكرم الخلق عليه؛ فلمحبته لتوبة عبده ابتلاه بالذنب الذي يوجب وقوع محبوبه من التوبة وزيادة محبته لعبده؛ فإن للتائبين عنده محبة خاصة (1) .
(2) التوبة سبب نور القلب ومحو أثر الذنب :
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن العبد إذا أخطاء خطيئة نُكِتَت في قلبه نكته سوداء فإن هو نزع و استغفر و تاب صقل قلبه وإن عاد زيد فيها حتى تعلو على قلبه و هو الران الذي ذكر الله تعالى فذلك الران الذي ذكره الله في كتابه (كَلاّ بَلْ رَانَ عَلَىَ قُلُوبِهِمْ مّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ) [المطففين : 14] .
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
( نُكِتَت ) بنون مضمومة وكاف مكسورة ومثناة فوقية مفتوحة
( في قلبه ) لأن القلب كالكف يقبض منه بكل ذنب أصبع ثم يطبع عليه
( نكتة ) أي أثر قليل كنقطة
__________
(1) مدارج السالكين 1/306.(1/317)
( سوداء ) في صقيل كمرآة وسيف وأصل النكتة نقطة بياض في سواد وعكسه قال الحرالي : وفي إشعاره إعلام بأن الجزاء لا يتأخر عن الذنب وإنما يخفى لوقوعه في الباطن وتأخره عن معرفة ظهوره في الظاهر
( فإن هو نزع ) أي قلع عنه وتركه
( واستغفر اللّه وتاب ) إليه توبة صحيحة ونص على الإقلاع والاستغفار مع دخولهما في مسمى التوبة إذ هما من أركانهما اهتماماً بشأنهما
( صقل قلبه ) أي رفع اللّه تلك النكتة فينجلي بنوره كشمس خرجت عن كسوفها فتجلت ( وإن عاد ) إلى ذلك الذنب أو غيره
( زيد ) بالبناء للمفعول
( فيها ) نكتة أخرى وهكذا
( حتى تعلو على قلبه ) أي تغطيه وتغمره وتستر سائره كمرآة علاها الصدأ فستر سائرها وتصير كمنخل وغربال لا يعي خيراً ولا يثبت فيه خير ومن ثم قال بعض السلف المعاصي بريد الكفر أي رسوله باعتبار أنها إذا أورثت القلب هذا السواد وعمته يصير لا يقبل خيراً قط فيقسو ويخرج منه كل رأفة ورحمة وخوف فيرتكب ما شاء ويفعل ما أراد ويتخذ الشيطان ولياً من دون اللّه فيضله ويغويه ويعده ويمنيه ولا يقنع منه بدون الكفر ما وجد إليه سبيلاً { ومن يتخذ الشيطان ولياً من دون اللّه فقد خسر خسراناً مبيناً }
( رهو الران ) أي الطبع
( الذي ذكره اللّه ) تعالى في كتابه بقوله عز قائلاً
( كلا بل ران ) أي غلب واستولى
( على قلوبهم ) الصدأ والدنس(1/318)
( ما كانوا يكسبون ) من الذنوب قال القاضي : المعنى بالقصد الأول في التكليف بالعمل الظاهر والأمر بتحسينه والنهي عن قبيحه هو ما تكتسب النفس منه من الأخلاق الفاضلة والهيئات الذميمة فمن أذنب ذنباً أثر ذلك في نفسه وأورث لها كدورة فإن تحقق قبحه وتاب عنه زال الأثر وصارت النفس صقيلة صافية وإن انهمك وأصر زاد الأثر وفشي في النفس واستعلى عليها فصار طبعاً وهو الران ، وأدخل التعريف على الفعل لما قصد به حكاية اللفظ فأجرى مجرى النفس وشبه ثائر النفس باقتراف الذنوب بالنكتة السوداء من حيث كونهما يضادان الجلاء والصفاء وأنث الضمير الذي في كانت العائد لما دل عليه أذنب لتأنيثها على تأول السيئة .(1/319)
إلى هنا كلامه ، قال الطيبي : وروي نكتة بالرفع على أن كان تامة فلا بد من الراجع أي حدث نكتة منه أي من الذنب قال المظهري : وهذه الآية نازلة في حق الكفار لكن ذكرها في الحديث تخويفاً للمؤمنين ليحترزوا عن كثرة الذنوب لأن المؤمن لا يكفر بكثرتها لكن يسود قلبه بها فيشبه الكفار في اسوداده فقط وقال الحكيم : الجوارح مع القلب كالسواقي تصب في بركة وهي توصل إلى القلب ما يجري فيها فإن أجري فيها ماء الطاعة وصل إلى القلب فصفا ، [ ص 372 ] أو ماء المعصية كدر وأسود فلا يسلم القلب إلا بكف الجوارح وأعظمها غض البصر عما حرم وقال الغزالي : القلب كالمرآة ومنه الآثار المذمومة كدخان مظلم يتصاعد إلى مرآة القلب فلا يزال يتراكم عليه مرة بعد أخرى حتى يسود ويظلم ويصير محجوباً عن اللّه تعالى وهو الطبع والرين ومهما تراكمت الذنوب طبع على القلب وعند ذلك يعمى عن إدراك الحق وصلاح الدين ويستهين بالآخرة ويستعظم أمر الدنيا ويهتم بها وإذا قرع سمعه أمر الآخرة وأخطارها دخل من أذن وخرج من أخرى ولم يستقر في القلب ولم يحركه إلى التوبة { أولئك يئسوا من الآخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور } ( تنبيه ) قيل لحكيم : لم لا تعظ فلاناً قال ذاك على قلبه قفل ضاع مفتاحه فلا سبيل لمعالجة فتحه
( فائدة ) قال حجة الإسلام : لا يذنب العبد ذنباً إلا ويسود وجه قلبه فإن كان من السعداء ظهر السواد على ظاهره لينزجر وإلا أخفى عنه لينهمك ويستوجب النار . أهـ
(3) التوبة سبب لنزول الأمطار، وزيادة القوة، والإمداد بالأموال والبنين:
قال الله تعالى على لسان هود عليه السلام: وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ [ هود:52](1/320)
وقال تعالى على لسان نوح عليه السلام ( فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً) [ نوح 10:12]
(4) التوبة تجعل المذنب كمن لا ذنب له:
( حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : الندم توبة و التائب من الذنب كمن لا ذنب له .
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
( الندم توبة والتائب من الذنب كمن لا ذنب له ) قال الغزالي : إنما نص على أن الندم توبة ولم يذكر جميع شروطها ومقدماتها لأن الندم غير مقدور للعبد فإنه قد يندم على أمر وهو يريد أن لا يكون والتوبة مقدورة له مأمور بها فعلم أن في هذا الخبر معنى لا يفهم من ظاهره وهو أن الندم لتعظيم اللّه وخوف عقابه مما يبعث على التوبة النصوح فإذا ذكر مقدمات التوبة الثلاث وهي ذكر غاية قبح الذنوب وذكر شدة عقوبة اللّه وأليم غضبه وذكر ضعف العبد وقلة حيلته يندم ويحمله الندم على ترك اختيار الذنب وتبقى ندامته بقلبه في المستقبل فتحمله على الابتهال والتضرع ويجزم بعدم العود إليه وبذلك تتم شروط التوبة الأربعة فلما كان الندم من أسباب التوبة سماه باسمها .
(وأما " الإقلاع" فتستحيل التوبة مع مباشرة الذنب .
(والشرط الثالث : هو : " العزم على عدم العودة " ويعتمد أساساً على إخلاص هذا العزم والصدق فيه، وشرط بعض العلماء عدم معاودة الذنب وقال : متى عاد إليه تبينّا أن التوبة كانت باطلة غير صحيحة والأكثرون على أن ذلك ليس شرطاً ،
(أما إذا كان الشرط متضمناً لحق آدمى فعلى التائب أن يصلح ما أفسد ، أو يسترضي من أخطأ في حقه للحديث الآتي : ((1/321)
(حديث أبي هريرة في صحيح البخاري) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من كانت له مظلمة لأحد من عرضه أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه .
فهذا الذنب يتضمن حقين : حق الله وحق الآدمي ، فالتوبة منه بتحلل الآدمي لأجل حقه ، والندم فيما بينه وبين الله لأجل حقه .
(5) التوبة أول صفات المؤمنين :
قال تعالى : التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ [التوبة:112]
(6) التوبة سبب في فرح الرب سبحانه وتعالى فرحاً يليق بجلاله وعظمته سبحانه:
الله يفرح بتوبة التائبين: فللتوبة عنده سبحانه منزلة ليست لغيرها من الطاعات؛ ولهذا يفرح سبحانه بتوبة عبده حين يتوب إليه أعظم فرح يُقَدَّر كما مَثَّله النبي"بفرح الواجد لراحلته التي عليها طعامه وشرابه في الأرض الدَّويَّة المهلكة بعدما فقدها وأيس من أسباب الحياة.
(حديث أنس في الصحيحين) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لله أشد فرحا بتوبة عبده من أحدكم إذا سقط عليه بعيره قد أضله بأرض فلاة .
( حديث أنس بن مالك رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لله أشد فرحاً بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته أرض فلاة فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه فأيس منها فأتى شجرة فاضطجع في ظلها قد أيس من راحلته فبينما هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح : اللهم أنت عبدي ، وأنا ربك أخطأ من شدة الفرح " .(1/322)
[*](قال ابن القيم رحمه الله تعليقاً على هذا الحديث: ولم يجىء هذا الفرح في شيء من الطاعات سوى التوبة، ومعلوم أن لهذا الفرح تأثيراً عظيماً في حال التائب وقلبِه، ومزيدُه لا يُعبَّر عنه.
وهو من أسرار تقدير الذنوب على العباد؛ فإن العبد ينال بالتوبة درجة المحبوبية، فيصير حبيباً لله؛ فإن الله يحب التوابين، ويحب العبد المفتن التواب (1) .
( وقال أيضاً : هذا الفرح له شأن لا ينبغي للعبد إهماله والإعراض عنه، ولا يطلع عليه إلا من له معرفة خاصة بالله وأسمائه وصفاته، وما يليق بعز جلاله. انتهى كلامه من [مدارج السالكين1210]
(7) التوبة سبب لفلاحك في الدنيا و الآخرة :
قال تعالى: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31].
[*](قال أبو السعود رحمه الله : تفوزون بذلك بسعادة الدارين (2) .
[*](وقال ابن كثير رحمه الله : أي افعلوا ما آمركم به من هذه الصفات الجميلة والأخلاق الجليلة، واتركوا ما كان عليه أهل الجاهلية من الأخلاق والصفات الرذيلة؛ فإن الفلاح كل الفلاح في فعل ما أمر الله به ورسوله، وترك ما نهيا عنه (3) .
[*](قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : فالقلب لا يصلح، ولا يفلح، ولا يتلذذ، ولا يسر، ولا يطيب، ولا يسكن، ولا يطمئن إلا بعبادة ربه، وحبه، والإنابة إليه.
ولو حصل له كل ما يتلذذ به من المخلوقات لم يطمئن، ولم يسكن؛ إذ فيه فقر ذاتي إلى ربه، ومن حيث هو معبوده، ومحبوبه، ومطلوبه.
وبذلك يحصل له الفرح، والسرور، واللذة، والنعمة، والسكون، والطمأنينة (4) .
__________
(1) مدارج السالكين 1/306، وانظر كلامًا جميلا ًفي المدارج 1/226_230حول معنى فرح الله_عز وجل_بتوبة التائب..
(2) تفسير أبي السعود 6/171.
(3) تفسير القرآن العظيم لابن كثير 3/276.
(4) الفتاوى الكبرى 5/188_189.(1/323)
(8) التوبة طاعة لأمر ربك سبحانه وتعالى، فهو الذي أمرك بها فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً [التحريم:8]. وأمر الله ينبغي أن يقابل بالامتثال والطاعة.
(9) التوبة سبب لدخولك الجنة ونجاتك من النار :
قال تعالى: فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً (59) إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئاً [مريم:60،59]. وهل هناك مطلب للإنسان يسعى من أجله إلا الجنة؟!
(10) التوبة سبب لتكفير سيئاتك وتبدلها إلى حسنات :
قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ [التحريم:8]،
وقال سبحانه: إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً
[*](قال ابن القيم رحمه الله في هذه الآية: وهذا من أعظم البشارة للتائبين إذا اقترن بتوبتهم إيمان وعمل صالح، وهو حقيقة التوبة.
[*](قال ابن القيم رحمه الله : واختلفوا في صفة هذا التبديل، وهل هو في الدنيا أو في الآخرة ؟ على قولين: فقال ابن عباس وأصحابه هو تبديلهم بقبائح أعمالهم محاسنها، فبدلهم بالشرك إيماناً، وبالزنا عفة وإحصاناً، وبالكذب صدقاً، وبالخيانة أمانة .
فعلى هذا معنى الآية: أن صفاتِهم القبيحةَ، وأعمالَهم السيئة بُدِّلوا عوضها صفاتٍ جميلةً، وأعمالاً صالحة، كما يبدل المريض بالمرض صحة، والمبتلى ببلائه عافية.(1/324)
وقال سعيد بن المسيب وغيره من التابعين: هو تبديل الله سيئاتهم التي عملوها بحسنات يوم القيامة، فيعطيهم مكان كل سيئة حسنة (1) .
(ثم قال ابن القيم رحمه الله بعد أن تكلم على القولين السابقين: إذا علم هذا فزوال موجب الذنب وأثره تارة يكون بالتوبة النصوح وهي أقوى الأسباب، وتارة يكون باستيفاء الحق منه وتطهيره في النار؛ فإذا تطهر بالنار وزال أثر الوسخ والخبث عنه أعطي مكان كل سيئة حسنة، فإذا تطهر بالتوبة النصوح وزال عنه بها أثر وسخ الذنوب وخبثها كان أولى بأن يعطى مكان كل سيئة حسنة؛ لأن إزالة التوبة لهذا الوسخ والخبث أعظم من إزالة النار، وأحب إلى الله.
وإزالة النار بدل منها، وهي الأصل؛ فهي أولى بالتبديل مما بعد الدخول .
(وقال: التائب قد بدل كل سيئة بندمه عليها حسنة؛ إذ هو توبة تلك السيئة، والندم توبة، والتوبة من كل ذنب حسنة؛ فصار كل ذنب عمله زائلاً بالتوبة التي حلت محله وهي حسنة؛ فصار له مكان كل سيئة حسنة بهذا الاعتبار؛ فتأمّلْه؛ فإنه من ألطف الوجوه.
وعلى هذا فقد تكون هذه الحسنة مساوية في القدر لتلك السيئة، وهذا من أسرار التوبة ولطائفها (2) .
(11) التوبة سبب للمتاع الحسن:
قال تعالى : ( وَأَنْ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ) [ هود: 3]
[*] قال الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسيره :
__________
(1) مدارج السالكين 1/310.
(2) مدارج السالكين 1/311.(1/325)
وقوله: { وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ } أي: وآمركم (7) بالاستغفار من الذنوب السالفة والتوبة منها إلى الله عز وجل فيما تستقبلونه، وأن تستمروا (8) على ذلك، { يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا } أي: في الدنيا { إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ } أي: في الدار الآخرة، قاله قتادة، كقوله: { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [النحل:97]
(أخي الحبيب:
ألا تستحق تلك الفضائل – وغيرها كثير – أن تتوب من أجلها ؟ لماذا تبخل على نفسك بما فيه سعادتك؟.. لماذا تظلم نفسك بمعصية الله وتحرمها من الفوز برضاه؟...جدير بك أن تبادر الى ما هذا فضله وتلك ثمرته.
قدّم لنفسك توبة مرجوة *** قبل الممات وقبل حبس الألسن
بادر بها غُلق النفوس فإنها *** ذخر وغنم للمنيب المحسن
(أسرار التوبة ولطائفها :
اعلم أن العبد العقال إذا صدرت منه الخطيئة فله نظر إلى أمور :
أحدها: أن ينظر إلى أمر الله ونهيه فيحدث له ذلك الاعتراف بكونها خطيئة والإقرار على نفسه بالذنب .
الثاني: أن ينظر إلى الوعد والوعيد فيحدث له ذلك خوفاً وخشية تحمله على التوبة .(1/326)
الثالث : أن ينظر إلى تمكين الله له منها وتخليته بينه وبينها وتقديرها عليه وأنه لو شاء لعصمه منها فيحدث لك ذلك أنواعاً من المعرفة بالله وأسمائه وصفاته وحكته ورحمته وحلمه وكرمه، وتوجب له عبودية بهذه الأسماء لا تحصل بدون لوازمها البتة ،ويعلم ارتباط الخلق والأمر الوعيد بأسمائه وصفاته وأن ذلك موجب الأسماء والصفات وأثرها في الوجود، وهذا المشهد يطلعه على رياض موفقة من المعارف والإيمان وأسرار القدر والحكمة يضيق عن التعبير عنها نطاق الكلم .
(من هذه الأسرار : أن يعرف العبد عزته في قضائه ، وهو أنه سبحانه العزيز الذي يقضى بما يشاء وأنه لكمال عزته حكم على العبد وقضى عليه بأن قلب قلبه وصرف إرادته عل ما يشاء وحال بين العبد وقلبه .
ومن معرفة عزته في قضائه أن يعرف أنه مدبر مقهور ناصيته بيد غيره ، لا عصمة له إلا بعصمته ولا توفيق له إلا بمعونته فهو ذليل حقير في قبضة عزيز حميد ،ومن شهود عزته في قضائه أن يشهد أن الكمال والحمد والعزة كلها لله وأن العبد نفسه أولى بالتقصير والذم والعيب والظلم والحاجة ،ـ وكلما ازداد شهوده لذله ونقصه وعيبه وفقره ازداد شهوداً لعزة الله وكماله –وحده –غناه .
(ومن أسرار التوبة : أن التوبة توجب للتائب آثاراً عجيبة من المقامات التي لا تحصل بدون التوبة: فتوجب له المحبة، والرقة، واللطف، وشكر الله، وحمده، والرضا عنه؛ فَرُتِّب له على ذلك أنواع من النعم لا يهتدي العبد لتفاصيلها، بل لا يزال يتقلب في بركتها وآثارها ما لم ينقضها أو يفسدها.
(ومن أسرار التوبة : أن يعلم بره سبحانه في ستره عليه حال ارتكاب المعصية مع كمال رؤيته له ولو شاء لفضحه بين خلقه ، ومنها مشاهد حلم الله عز وجل في إمهال راكب الخطيئة ولو شاء لعاجله بالعقوبة فيحدث له معرفة ربه سبحانه باسمه " الحليم " .(1/327)
(ومن أسرار التوبة : أن يعرف العبد حاجته إلى حفظ الله ومعونته وصيانته: وأنه كالوليد في حاجته إلى من يحفظه؛ فإنه إن لم يحفظه مولاه، ويصونَه، ويعينه فهو هالك ولا بد.
(ومن أسرار التوبة : أن يعرف العبد حقيقة نفسه: وأنها الظالمة الجهول، وأن ما صدر منها من شر فقد صدر من أهله ومعدنه؛ إذ الجهل والظلم منبع الشر كله، وأن كل ما فيها من خير، وعلم، وهدى، وإنابة وتقوى فهو من ربها الذي زكاها، وأعطاها إياه ، فإذا ابتلي العبد بالذنب عرف نفسه، ونقصها؛ فَرُتّب له على ذلك حكم ومصالح عديدة، منها أن يأنف نقصها، ويجتهد في كمالها، ومنها أن يعلم فقرها إلى من يتولاها، ويحفظها.
(ومن أسرار التوبة : تعريف العبد بكرم الله وستره، وسعة حلمه: وأنه لو شاء لعاجله على الذنب، ولهتك ستره بين العباد؛ فلم يطب له عيش معهم أبداً ، ولكنه الله تعالى جلَّله بستره، وغشَّاه بحلمه، وقيض له من يحفظه_وهو في حالته هذه_بل كان شاهداً عليه وهو يبارزه بالمعاصي والآثام، ومع ذلك يحرسه بعينه التي لا تنام.
(ومن أسرار التوبة : تعريف العبد بكرم الله في قبول التوبة: فلا سبيل إلى النجاة إلا بعفو الله، وكرمه، ومغفرته؛ فهو الذي جاد عليه بأن وفقه للتوبة، وألهمه إياها ثم قبلها منه، فتاب عليه أولاً وآخراً.
(ومن أسرار التوبة : أن يعامل العبد بني جنسه بما يحب أن يعامله الله به: فيعامل بني جنسه في زلاتهم، وإساءاتهم بما يحب أن يعامله الله به في إساءاته وزلاته، وذنوبه؛ فإن الجزاء من جنس العمل؛ فمن عفى عفى الله عنه، ومن استقصى استقصى الله عليه وهكذا...(1/328)
(ومن أسرار التوبة : إقامة المعاذير للخلق: فإذا أذنب العبد أقام المعاذير للخلق، واتسعت رحمته لهم، واستراح من الضيق والحصر وأكْل بعضه بعضاً، واستراح العصاة من دعائه عليهم، وقنوطه من هدايتهم؛ فإنه إذا أذنب رأى نفسه واحداً منهم؛ فهو يسأل الله لهم المغفرة، ويرجو لهم ما يرجوه لنفسه، ويخاف عليهم ما يخافه على نفسه.
ومع هذا فيقيم أمر الله فيهم؛ طاعة لله، ورحمة بهم، وإحساناً إليهم؛ إذ هو عين مصلحتهم لا غلظة، ولا فظاظة.
(ومن أسرار التوبة : معرفة نعمة معافاة الله: فإن من تربى في العافية لا يعلم ما يقاسيه المبتلى، ولا يعرف مقدار العافية؛ فلو عرف أهل الطاعة أنهم هم المنعم عليهم في الحقيقة لعلموا أن لله عليهم من الشكر أضعافَ ما على غيرهم وإن توسدوا التراب، ومضغوا الحصى؛ فهم أهل النعمة المطلقة، وأن من خلى الله بينه وبين معاصيه فقد سقط من عينه، وهان عليه.
فإذا طالبت العبدَ نفسُه بما تطالبه من الحظوظ والأقسام، وأرَتْه أنه في بلية وضائقة، تداركه الله برحمته، وابتلاه ببعض الذنوب، فرأى ما كان فيه من المعافاة والنعمة، وأنه لا نسبة لما كان فيه من النعم إلى ما طلبته نفسه من الحظوظ؛ فحينئذ يكون أكثر أمانيه وآماله العودَ إلى حاله، وأن يمتعه الله بعافيته.
(ومن أسرار التوبة : التحرز والتيقظ من العدو: فإذا تاب العبد، وأدرك ما هو فيه من الخطأ، وندم على ما كان منه من التفريط أوجب له ذلك تمام التحرز، والتيقظ؛ فيعلم من أين يدخل عليه اللصوص، والقطاع؟ ويعرف مكامنَهم، ومن أين يخرجون عليه؟ ومتى يخرجون؟ فهو قد استعد لهم، وتأهب، وعرف بماذا يستدفع شرهم وكيدهم؛ فلو أنه مر عليهم على غرَّة وطمأنينة لم يأمن أن يظفروا به، ويجتاحوه جملة.(1/329)
(ومن أسرار التوبة : التوبة سبيل لإغاظة الشيطان ومراغمته: فالقلب يذهل عن عدوه؛ فإذا أصابه منه مكروه استجمعت له قوته، وطلب بثأره إن كان قلبه حُرَّاً كريماً، كالرجل الشجاع إذا جرح فإنه لا يقوم له شيء، بل تراه بعدها هائجاً، طالباً، مقداماً ، والقلب المَهِين كالرجل الضعيف المهين؛ إذا جرح ولى هارباً، والجراحات في أكتافه.
وكذلك الأسد إذا جرح فإنه لا يطاق؛ فلا خير فيمن لا مروءة له، لا يطلب أخذ ثأره من أعدى عدوٍّ له؛ فما شيء أشفى للقلب من أخذه بثأره من عدوه، ولا عدوَّ أعدى له من الشيطان؛ فإن كان له قلب من قلوب الرجال المتسابقين في حلبة المجد جد في أخذ الثأر، وغاظ عدوه كل الغيظ وأضناه، حتى يقول الشيطان يا ليتني لم أوقعه فيما أوقعته فيه؛ فيندم الشيطان على إيقاعه في الذنب كندامة فاعله على ارتكابه، لكن شتان ما بين الندمين.
وقد جاء عن بعض السلف أنه قال: إن المؤمن لَيُنْضِي شيطانه كما ينضي أحدكم بعيره (1) .
والله عز وجل يحب من عبده مراغمة عدوه وغيظَه.
وهذه العبودية من أسرار التوبة؛ فيحصل من العبد مراغمة العدو بالتوبة، والتدارك، وحصول محبوب الله من التوبة وما يتبعها من زيادة الأعمال ما يوجب جعلَ مكانِ السيئةِ حسنةً، بل حسنات.
(ومن أسرار التوبة : معرفة الشر وحذر الوقوع فيه: فالذي يقع في الذنب يصير كالطبيب ينتفع به المرضى في علاجهم ودوائهم؛ فالطبيب الذي عرف المرض مباشرة، وعرف دواءه وعلاجه_أحذق وأخبر من الطبيب الذي عرف الداء وصفاً فحسب.
هذا في أمراض الأبدان، وكذلك أمراض القلوب وأدواؤها.
ولذلك كان الصحابة - رضي الله عنهم - أعرف الأمة بالإسلام، وتفاصيله، وأبوابه، وطرقه، وأشد الناس رغبةً فيه، ومحبة له، وجهاداً لأعدائه؛ لعلمهم بضده.
__________
(1) مفتاح دار السعادة 1/295.(1/330)
فإذا عرف العبد الضدين، وعلم مباينة الطرفين، وعرف أسباب الهلاك على التفصيل كان أحرى أن تدوم له النعمة، ما لم يُؤْثرْ أسباب زوالها، وفي مثل هذا قال القائل:
عَرِفتُ الشرَ لا للشرِ ... ولكن لِتَوَقِيه
ومن لا يعرفُ الشرَ ... من الناسِ يقع فيه
وهذه حال المؤمن يكون فطناً، حاذقاً، أعرف الناس بالشر، وأبعدهم عنه، فإذا تكلم في الشر وأسبابه ظننته من شر الناس، فإذا خالطته، وعرفت طويَّته رأيته من أبر الناس.
والمقصود أن من بلي بالآفات صار أعرف الناس بطرقها، وأمكنه أن يسدها على نفسه، وعلى من استنصحه، ومن لم يستنصحه.
(ومن أسرار التوبة : ابتلاء العبد بالإعراض عنه: فالله عز وجل يذيق عبده ألم الحجاب عنه، وزوال ذلك الأنس به، والقرب منه؛ ليمتحن عبده، فإن أقام العبد على الرضا والحال، ولم يجد نفسه تطالبه بحالها الأول مع الله، بل اطمأنت، وسكنت إلى غيره علم أنه لا يصلح، فوضعه في مرتبته التي تليق به ،
وإن استغاث استغاثة الملهوف، وتَقَلَّق تَقلُّقَ المكروب، ودعاه دعاء المضطر، وعلم أنه قد فاتته حياته حقَّاً، فهو يهتف بربه أن يرد عليه ما لا حياة له بدونه علم أنه موضع لما أُهّل له، فردَّ عليه أحوج ما هو محتاج إليه، فعظمت به فرحته، وكملت به لذته، وتمت به نعمته، واتصل به سروره، وعلم حينئذ مقداره، فعضَّ عليه بالنواجذ، وثنَّى عليه بالخناصر؛ فالعبد إذا بلي بَعْد الأنس بالوحشة، وبعد القرب بنار البعاد اشتاقت نفسه إلى لذة تلك المعاملة، فحنَّتْ، وأنَّتْ، وتصدَّعت، وتعرضت لنفحات مَنْ ليس لها عنه عوض أبداً، ولا سيما إذا تذكر بره، ولطفه، وحنانه، وقربه.
(ومن أسرار التوبة : أن الله يحب أن يتفضل على عباده: ويتم نعمه عليهم، ويريهم مواقع بره وكرمه؛ فلذلك ينوعه عليهم أعظم الأنواع في سائر الوجوه الظاهرة والباطنة.
ومن أعظم ذلك أن يحسن إلى من أساء، ويعفو عمن ظلم، ويغفر لمن أذنب، ويتوب على من تاب إليه، ويقبل عذر من اعتذر إليه.(1/331)
وقد ندب عباده إلى هذه الشيم الفاضلة والأفعال الحميدة، وهو_عز وجل_أولى بها منهم وأحق.
وهذا سر من أسرار التوبة، وتقدير الذنوب والمعاصي.
هذا ولو شاء ألا يعصى في الأرض طرفة عين لم يُعْصَ، ولكن اقتضت مشيئته ما هو مقتضى حكمته.
( ومن أسرار التوبة : معرفة فضل الله في مغفرته فإن المغفرة فضل من الله وإلا فلو أخذك بمحض حقه كان عادلا محموداً وإنما عفوه بفضله لا باستحقاقك فيوجب له ذلك شكراً ومحبة وإنابة ومعرفة باسمه " الغفار " .
( ومن أسرار التوبة : حصول الذل والانكسار لله: ففي التوبة من الذل، والانكسار، والخضوع، والتذلل لله ما هو أحب إلى الله من كثير من الأعمال الظاهرة وإن زادت في القدر والكمية على عبودية التوبة فالذل والانكسار روح العبودية، ولبُّها.
وحصول ذلك للتائب أكمل له من غيره؛ فإنه قد شارك من لم يذنب في ذل الفقر والعبودية والمحبة، وامتاز عنه بانكسار قلبه.
وقد جاء في الأثر الإسرائيلي: يا رب أين أجدك؟
قال: عند المنكسرة قلوبهم من أجلي (1) .
ولأجل هذا كان أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد (2) .
لأنه مقام ذل وانكسار بين يدي ربه.
ولعل هذا هو السر في استجابة دعوة المظلوم، والمسافر، والصائم؛ للكسرة في قلب كل واحد منهم؛ فإن لوعة المظلوم تُحْدِثُ عنده كسرة في قلبه، وكذلك المسافر في غربته يجد كسرة في قلبه، وكذلك الصوم، فإنه يكسر سورة النفس السَّبُعية الحيوانية.
__________
(1) ذكره ابن القيم في مدارج السالكين1/306، وأورده في إغاثة اللهفان ص97عن عمران ابن موسى القصير قال: قال موسى_عليه السلام_: =يا رب أين أبغيك؟ قال أبغني عند المنكسرة قلوبهم؛ فإني أدنو منهم كل يوم باعاً، ولولا ذلك لانهدموا+ .
ورواه ابن أبي الدنيا في الهم والحزن ص56 بإسناده عن عبد الله بن شوذب قال: قال داود النبي: =أي ربِّ! أين ألقاك؟ قال: تلقاني عند المنكسرة قلوبهم+ .
(2) أخرجه مسلم (482) .(1/332)
(ومن أسرار التوبة : أن الذنب قد يكون أنفع للعبد إذا اقترنت به التوبة من كثير من الطاعات: ذلك أن لله على القلوب أنواعاً من العبودية، من الخوف، والخشية، والإشفاق، والوجل وتوابعها من المحبة، والإنابة، وابتغاء الوسيلة.
وهذه العبوديات لها أسباب تُهَيّجها وتبعث عليها، وكلما قيض الرب تعالى لعبده من الأسباب الباعثة على ذلك، المهيجة له فهو من أسباب رحمته، ورُبَّ ذنبٍ قد هاج لصاحبه من الخوف والإشفاق ، والوجل، والإنابة، والمحبة ما لا يهيجه كثير من الطاعات، وكم من ذنب كان سبباً لاستقامة العبد، وفراره إلى الله، وبعده عن طريق الغي.
[*](قال ابن القيم رحمه الله : وهذا معنى قول بعض السلف: قد يعمل العبد الذنب فيدخل به الجنة، ويعمل الطاعة فيدخل بها النار.
قالوا: وكيف ذلك ؟
قال: يعمل الذنب فلا يزال نُصْبَ عينيه إن قام، وإن قعد، وإن مشى ذكر ذنبه؛ فيحدث له انكساراً، وتوبة، واستغفاراً، وندماً؛ فيكون ذلك سبب نجاته.
ويعمل الحسنة، فلا تزال نصب عينيه إن قام، وإن قعد، وإن مشى، كلما ذكرها أورثته عجباً، وكبراً، ومِنَّةً، فتكون سبب هلاكه.
فيكون الذنب موجباً لتَرَتُّب طاعات، وحسنات، ومعاملات قلبية من خوف الله، والحياء منه، والإطراق بين يديه مُنَكِّساً رأسه خجلاً، باكياً، نادماً، مستقيلاً ربَّه.
وكل واحد من هذه الآثار أنفع للعبد من طاعة توجب له صولة، وكبراً وازدراءً للناس، ورؤيتهم بعين الاحتقار.
ولا ريب أن هذا المذنب خير عند الله، وأقرب إلى النجاة والفوز من هذا المعجب بطاعته، الصائل بها، المانِّ بها وبحاله على الله وعلى عباده، وإن قال بلسانه خلاف ذلك؛ فالله شهيد على ما في قلبه، ويكاد يعادي الخلق إذا لم يعظموه، ويخضعوا له، ويجد في قلبه بُغضةً لمن لم يفعل به ذلك.
ولو فتش نفسه حق التفتيش لرأى فيها ذلك كامناً؛ ولهذا تراه عاتباً على من لم يعظمه، ويعرف له حقه، متطلباً لعيبه في قالب حمية لله، وغضب له.(1/333)
وإذا قام بمن يعظمه، ويحترمه، ويخضع له من الذنوب أضعاف ما قام بهذا فتح له باب المعاذير والرجاء، وأغمض عنه عينيه وسمعه، وكف لسانه وقلبه، وقال: باب العصمة عن غير الأنبياء مسدود، وربما ظن أن ذنوب من يعظمه تُكفَّر بإجلاله وتعظيمه وإكرامه إياه.
فإذا أراد الله بهذا العبد خيراً ألقاه في ذنب يكسره به، ويُعَرِّفه قدره، ويكفي به عباده شره، وينكس به رأسه، ويستخرج به داء العجب، والكبر، والمنة عليه، وعلى عباده؛ فيكون هذا الذنب أنفع له من طاعات كثيرة، ويكون بمنزلة شرب الدواء؛ ليستخرج به الداء العضال (1) ، وهذا سر بديع من أسرار التوبة.
(ومن أسرار التوبة : أن اسم " الرزّاق " يقتضى مرزوقاً ، و " السميع البصير" يقتضى مسموعاً ومبصرا، كذلك أسماء " الغفور ، العفو ،التواب" يقتضى من يغفر له ويتوب عليه ويعفو عنه ، ويستحيل تعطيل هذه الأسماء والصفات .
وقد أشار إلى هذا أعلم الخلق بالله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الآتي : (
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم وَلَجَاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم .
(ومن أسرارها: أن الله تعالى يفرح بتوبة العبد كما في الحديث الآتي : (
(حديث أنس في الصحيحين) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لله أشد فرحا بتوبة عبده من أحدكم إذا سقط عليه بعيره قد أضله بأرض فلاة .
( حديث أنس بن مالك رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لله أشد فرحاً بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته أرض فلاة فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه فأيس منها فأتى شجرة فاضطجع في ظلها قد أيس من راحلته فبينما هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح : اللهم أنت عبدي ، وأنا ربك أخطأ من شدة الفرح " .
__________
(1) مدارج السالكين 1/307_308.(1/334)
فما الظن بمحبوب لك تحبه حباً شديداً وأسره عدوك وحال بينك وبينه وأن تتعلم أن العدو سيسومه سوء العذاب ويعرضه لأنواع الهلاك وأنت أولى به منه وهو غرسك وتربيتك ثم إنه انفلت من عدوه ووافاك على غير ميعاد فلم يفاجئك إلا وهو على بابك يتملقك ويترضاك ويمرغ خديه على تراب أعتابك فكيف يكون فرحك به وقد اختصصته لنفسك ورضيته لقربك وآثرته على ما سواه ، هذا ولست الذي أوجدته وخلقته وأسبغت عليه نعمك والله عز وجل هو الذي أوجد عبده وخلقه وأسبغ عليه نعمته وهو يحب أن يتمها عليه .
(أمور تعين على التوبة :
أخي الحبيب.. لقد جعل الله في التوبة ملاذاً مكيناً وملجأً حصيناً، يلجه المذنب معترفاً بذنبه، مؤملاً في ربه، نادماً على فعله، غير مصر على خطيئته، يحمي بحمى الاستغفار، ويرجو رحمة العزيز الغفار، إلا أنه توجد بعض العوائق في طريق سير العبد على التوبة وهاك الأمور التي تعين على التوبة جملةً وتفصيلا:
(أولاً الأمور التي تعين على التوبة جملةً :
(1) الإخلاص لله أنفع الأدوية:
(2) امتلاء القلب بمحبة الله عز وجل:
(3) المجاهدة:
(4) قصر الأمل وتذكر الآخرة:
(5) الدعاء:
(6) العلم:
(7) الاشتغال بما ينفع وتجنب الوحدة والفراغ:
(8) البعد عن المثيرات، وما يذكر بالمعصية:
(9) غض البصر:
(10) مصاحبة الأخيار:
(11) مجانبة الأشرار:
(12) النظر في العواقب:
(13) هجر العوائد:
(14) هجر العلائق:
(15) إصلاح الخواطر والأفكار:
(16) استحضار أن الصبر عن الشهوة أسهل من الصبر على ما توجبه الشهوة:
(17) استحضار أضرار الذنوب والمعاصي:
(18) الحياء:
(19) النفس وزكاؤها وأنفتها وحميتها:
(20) عرض الحال على من يعين:
(ثانياً الأمور التي تعين على التوبة تفصيلا :
(1) الإخلاص لله أنفع الأدوية:
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ(1/335)
فإذا أخلص الإنسان لله، وصدق في طلب التوبة أعانه الله عليها، ويسره لها، وأمده بألطاف لا تخطر بالبال، ولا تدور في الخيال ، وصرف عنه الآفات التي تعترض طريقه، وتصده عن توبته ،
[*](قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى : فإن القلب إذا ذاق طعم عبادة الله، والإخلاص له لم يكن عنده شيء قَطُّ أحلى من ذلك، ولا ألذّ، ولا أمتع، ولا أطيب.
والإنسان لا يترك محبوباً إلا بمحبوب آخر يكون أحبَّ إليه، أو خوفاً من مكروه؛ فالحب الفاسد إنما ينصرف القلب عنه بالحب الصالح، أو بالخوف من الضرر.
قال تعالى في حق يوسف عليه السلام: كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ [ يوسف:24]
فالله يصرف عن عبده ما يسوؤه من الميل إلى الصور، والتعلق بها، ويصرف عنه الفحشاء بإخلاصه لله.
ولهذا يكون قبل أن يذوق حلاوة العبودية لله والإخلاص له، بحيث تغلبه نفسه على اتباع هواها؛ فإذا ذاق طعم الإخلاص، وقوي في قلبه انقهر بلا علاج (1) .
وقال عن يوسف عليه السلام : فأخبر سبحانه أنه صرف عن يوسف السوء من العشق، والفحشاء من الفعل بإخلاصه؛ فإن القلب إذا أُخْلِص وأَخْلَص عمله لله_لم يتمكن منه عشق الصور؛ فإنه إنما يتمكن من القلب الفارغ (2) .
(وقال أيضاً : وبذلك يصرف عن أهل الإخلاص لله السوء والفحشاء، كما قال تعالى : كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ [ يوسف:24]
فإن المخلص لله ذاق من حلاوة عبوديته ما يمنعه من محبة غيره؛ إذ ليس عند القلب السليم أحلى، ولا ألذ، ولا أطيب، ولا أسر، ولا أنعم من حلاوة الإيمان المتضمن عبوديته لله، ومحبته له، وإخلاص الدين له.
وذلك يقتضي انجذاب القلب إلى الله، فيصير القلب منيباً إلى الله، خائفاً منه، راغباً، راهباً (3) .
__________
(1) العبودية لابن تيمية ص 99.
(2) العبودية ص 100.
(3) العبودية ص 139_140.(1/336)
(وقال أيضاً : وإذا كان العبد مخلصاً لله اجتباه ربه، فأحيا قلبه، واجتذبه إليه،؛ فينصرف عنه ما يضاد ذلك من السوء والفحشاء، ويخاف من ضد ذلك.
بخلاف القلب الذي لم يخلص لله؛ فإن فيه طلباً، وإرادة، وحباً مطلقاً، فيهوي كل ما يسنح له، ويتشبث بما يهواه كالغصن أي نسيم مرَّ به عطفه، وأمالَهُ؛ فتارة تجتذبه الصور المحرمة وغير المحرمة، فيبقى أسيراً عبداً لمن لو اتخذه هو عبداً له لكان ذلك عيباً ونقصاً وذماً.
وتارة يجتذبه الشرف والرئاسة، فترضيه الكلمة، وتغضبه الكلمة، ويستعبده من يثني عليه ولو بالباطل، ويعادي من يذمه ولو بالحق.
وتارة يستعبده الدرهم والدينار، وأمثال ذلك من الأمور التي تستعبد القلوبَ، والقلوبُ تهواها، فيتخذ إلهه هواه، ويتبع بغير هدى من الله.
ومن لم يكن خالصاً لله، عبداً له، قد صار قلبه معبداً لربه وحده لا شريك له بحيث يكون الله أحب إليه مما سواه، ويكون ذليلاً له خاضعاً، وإلا استعبدته الكائنات، واستولت على قلبه الشياطين، وصار فيه من السوء والفحشاء ما لا يعلمه إلا الله، وهذا أمر ضروري لا حيلة فيه (1) .
[*](وقال ابن القيم رحمه الله تعالى : فالمؤمن المخلص لله من أطيب الناس عيشاً، وأنعمهم بالاً، وأشرحهم صدراً، وأسرهم قلباً، وهذه جنة عاجلة قبل الجنة الآجلة (2) .
(2) امتلاء القلب بمحبة الله عز وجل:
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ
__________
(1) العبودية ص 140_142.
(2) الجواب الكافي ص 465.(1/337)
فالمحبة أعظم محركات القلوب فهي الباعث الأول للأفعال والتروك ،وما أُتي من اسْتُذِل واستعبد لغير الله بمثل ما أُتي من باب المحبة، فالقلب إذا خلا من محبة الله تعالى تناوشته الأخطار، وتسلطت عليه سائر النوائب والمحبوبات، فشتته، وفرقته وذهبت به كل مذهب، فإذا امتلأ القلب من محبة الله بسبب العلوم النافعة والأعمال الصالحة كَمُلَ أنسه، وطاب نعيمه، وسلم من التعلق بسائر الشهوات، وهان عليه فعل سائر القربات؛ فمن المتقرر أن في القلب فقراً ذاتياً، وجوعة وشعثاً وتفرقاً ،ولا يغني هذا القلب، ولا يلم شعثه، ولا يسد خلته إلا عبادة الله عز وجل ومحبته.
فأجدر بمن يريد الإقبال على الله، والإنابة إليه أن يملأ قلبه من محبة الله؛ ففي ذلك سروره، ونعيمه، وأنسه، وفلاحه.
[*](قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى : والمحبة المحمودة هي المحبة النافعة، وهي التي تجلب لصاحبها ما ينفعه وهو السعادة.
والضارة هي التي تجلب لصاحبها ما يضره وهو الشقاء (1) .
(وقال أيضاً :ففي قلوب بني آدم محبة لما يتألهونه ويعبدونه، وذلك هو قوام قلوبهم، وصلاح نفوسهم.
كما أن فيهم محبةً لما يطعمونه وينكحونه، وبذلك تصلح حياتهم ويدوم شملهم.
وحاجتهم إلى التأله أعظم من حاجتهم إلى الغذاء؛ فإن الغذاء إذا فُقد يفسد الجسم، وبفقد التأله تفسد النفس (2) .
[*](وقال ابن القيم رحمه الله تعالى : فكيف بالمحبة التي هي حياة القلوب، وغذاء الأرواح، وليس للقلب لذة، ولا نعيم، ولا فلاح، ولا حياة إلا بها.
وإذا فقدها القلب كان ألمه أعظم من ألم العين إذا فقدت نورَها، والأذن إذا فقدت سمعها، والأنف إذا فقد شمه، واللسان إذا فقد نطقه؟ !
بل فساد القلب إذا خلا من محبة فاطره وبارئه وإلهه الحقِّ أعظم من فساد البدن إذا خلا من الروح.
__________
(1) جامع الرسائل 2/ 202.
(2) جامع الرسائل 2 / 230.(1/338)
وهذا الأمر لا يصدق به إلا من فيه حياة، وما لجرح بميت إيلام (1) .
(وقال أيضاً عن محبة الله عز وجل : وهي من أقوى الأسباب في الصبر عن مخالفته ومعاصيه؛ فإن المحب لمن يحب مطيع، وكلما قوي سلطان المحبة في القلب كان اقتضاؤه للطاعة وترك المخالفة أقوى، وإنما تصدر المعصية والمخالفة من ضعف المحبة وسلطانها، وفَرْقٌ بين من يحمله على ترك معصية سيده خوفُه من سوطه وعقوبته، وبين من يحمله على ذلك حبُّه لسيده (2) .
(وقال أيضاً : فالمحب الصادق عليه رقيب من محبوبه يرعى قلبه وجوارحه، وعلامة صدق المحبة شهود هذا الرقيب ودوامه.
وههنا لطيفة يجب التنبه لها، وهي أن المحبة المجردة لا توجب هذا الأثر ما لم تقترن بإجلال المحبوب وتعظيمه؛ فإذا قارنها بالإجلال والتعظيم أوجبت هذا الحياء والطاعة.
وإلا فالمحبة الخالية عنهما إنما توجب نوع أنس وانبساط وتذكر واشتياق؛ ولهذا يتخلف عنها أثرها ومُوجبها، ويفتش العبد قلبه فيرى نوع محبة لله، ولكن لا تحمله على ترك معاصيه، وسبب ذلك تجردها عن الإجلال والتعظيم؛ فما عَمَرَ القلبَ شيءٌ كالمحبة المقترنة بإجلاله وتعظيمه، وتلك من أفضل المواهب أو أفضلها، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء (3) .
(2) المجاهدة:
ـــ ـــ ـــ ـــ ــ
فالمجاهدة عظيمة النفع، كثيرة الجدوى؛ معينة على الإقصار عن الشر، دافعة إلى المبادرة إلى الخير؛ ذلك أن النفوس طلعة إلى الشرور، مُؤْثِرَةً للكسل والبطالة؛ فإذا راضها الإنسان، وجاهدها في ذات الله فليبشر بالخير، والإعانة والهداية.
قال الله تعالى: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69]
[*] قال ابن المبارك رحمه الله:
ومن البلايا للبلاء علامةٌ ... ألا يرى لك من هواك نزوع
__________
(1) الجواب الكافي ص 541_542.
(2) طريق الهجرتين ص 449.
(3) طريق الهجرتين ص 449_450.(1/339)
العبدُ عبدُ النفس في شهواتها ... والحر يشبع تارة ويجوع (1)
والمقصود بالمجاهدة مجاهدة النفس حتى الممات والسير بها إلى رضوان الله تعالى.
وقال الآخر:
النفس إن أعطيتها مناها ... فاغرة نحو هواها فاها
وقال الآخر:
إذا المرء أعطى نفسه كل ما اشتهت ... ولم ينهها تاقت إلى كل مطلب
وقال أبو العباس الناشىء:
إذا المرء يحمي نفسه حِلَّ شهوةٍ ... لصحة أيام تبيد وتنفد
فما باله لا يحتمي من حرامها ... لصحة ما يبقى له ويخلَّدُ (2)
وقيل إن علي بن أبي طالب÷كان ينشد هذين البيتين:
اقدع النفس بالكفاف وإلا ... طلبت منك فوق ما يكفيها
إنما أنت طول عُمْرك ما عُمَّرت في الساعة التي أنت فيها (3)
وقال الآخر:
ومن يطعم النفس ما تشتهي ... كمن يطعم النارَ جَزْل الحطب (4)
=ويقولون: إن سليمان بن عبدالملك لم يقل بيت شعر قط إلا هذا البيت:
إذا أنت لم تعصِ الهوى قادك الهوى ... إلى بعض ما فيه عليك مقال (5)
ولا تعني المجاهدة أن يجاهد المرء نفسه مرة أو مرات، وإنما يجاهدها في ذات الله حتى الممات.
فإذا وطن نفسه على المجاهدة أقبلت عليه الخيرات، وانهالت عليه البركات.
[*](قال ابن عقيل الحنبلي رحمه الله تعالى : ولو لم يكن من بركات مجاهدة النفس في حقوق الله، والانتهاء عن محارم الله إلا أنه يعطف عليك، فيسخّرها لك، ويطوّعها لأمرك، حتى تنقاد لك، ويسقط عنك مؤونة النزاع لها، حتى تصير طوع يدك وأمرك، تعاف المستطاب عندها إذا كان عند الله خبيثاً، وتُؤْثر العمل لله وإن كان عندها بالأمس كريهاً، وتستخفه وإن كان عليها ثقيلاً، حتى تصير رقَّاً لك بعد أن كانت تَسْتَرقُّك.
وكذا كل من حقق العبودية لسيده استعبد له من كان يملكه، وألان له ما كان يعجزه (6) .
__________
(1) روضة المحبين لابن القيم ص 481.
(2) روضة المحبين ص 399.
(3) روضة المحبين ص 399.
(4) إيوان الألمعي شرح ديوان الرافعي ص 22.
(5) الآداب الشرعية لابن مفلح 3 / 131.
(6) كتاب الفنون 2 / 496.(1/340)
(إلى أن قال رحمه الله تعالى : ما أبرك طاعة الله على المطيع؛ قوم سخر لهم الرياح، والمياه، والحيوانات، وقوم أعاق عليهم الحوائج، وكسرها في صدورهم (1) .
ولو لم يأت الإنسان من مجاهدة النفس، ومخالفة الهوى إلا أن يتحرر من رق الهوى، وسلطان الشهوة.
رب مستور سبته شهوة ... فتعرى ستره فانهتكا
صاحب الشهوة عبد فإذا ... غلب الشهوة أضحى ملكا (2)
[*](قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى : وفي قوة قهر الهوى لذة تزيد على كل لذة؛ ألا ترى إلى كل مغلوب بالهوى كيف يكون ذليلاً؛ لأنه قُهِر، بخلاف غالب الهوى فإنه يكون قوي القلب عزيزاً؛ لأنه قَهَر (3) .
(وقال أيضاً : بالله عليك يا مرفوع القدر بالتقوى! لا تبع عزها بذل المعاصي، وصابر عطش الهوى في هجير المشتهى وإن أمَضَّ وأرمض (4) (5) .
(وقال أيضاً : بالله عليك تذوَّق حلاوة الكفِّ عن المنهي؛ فإنها شجرة تثمر عز الدنيا وشرف الآخرة.
ومتى اشتد عطشك إلى ما تهوى فابسط أنامل الرجاء إلى من عنده الرِّيُّ الكامل، وقل: قَدْ عِيل صبر (6) الطبع في سِنِيِّه العجاف؛ فعَجِّلْ لي العام الذي فيه أُغاث، وأعصر (7) .
(وقال أيضاً : إخواني! احذروا لجة هذا البحر، ولا تغتروا بسكونه، وعليكم بالساحل، ولازموا حصن التقوى؛ فالعقوبة مرة، واعلموا أن في ملازمة التقوى مراراتٍ من فقد الأغراض والمُشتهيات، غير أنها في ضرب المثل كالحمية تعقب صحة، والتخليط ربما جلب موت الفجأة (8) .(4) قصر الأمل وتذكر الآخرة:
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
__________
(1) كتاب الفنون 2/ 496.
(2) روضة المحبين ص 481، وانظر روضة المحبين ص 468_482 ففيه كلام جميل في فضل المجاهدة حيث ذكر أموراً تبلغ الخمسين في فضل المجاهدة.
(3) صيد الخاطر ص 115.
(4) أمض و أرمض: آلم وأحرق.
(5) صيد الخاطر ص 252.
(6) عيل الصبر: فقد وغلب.
(7) صيد الخاطر ص 253.
(8) صيد الخاطر ص 315.(1/341)
فإذا تذكر المرء قِصَرَ الدنيا، وسرعة زوالها، وأدرك أنها مزرعة للآخرة، وفرصة لكسب الأعمال الصالحة، وتذكر ما في الجنة من النعيم المقيم، وما في النار من النكال والعذاب الأليم وعلم أن من زرع الشوك لا يجني عنباً ، وعلم أن الجنة لا تنال بالكلام وإنما تنال بالجد والاهتمام والتطلع لرحمة الملك العلام أقصر عن الاسترسال في الشهوات، وانبعث إلى التوبة النصوح وتدارك ما فات بالأعمال الصالحات.
قَصِّر الآمالَ في الدنيا تَفُزْ ... فدليل العقل تقصير الأمل (1)
وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد ، ودرر الفرائد . (
( حديث بن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح البخاري ) قال:أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل). وكان ابن عمر يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك .
[*](قال ابن رجب رحمه الله تعالى تعليقاً على هذا الحديث: وهذا الحديث أصل في قصر الأمل في الدنيا، وأن المؤمن لا ينبغي له أن يتخذ الدنيا وطناً ومسكناً، فيطمئن فيها.
ولكن ينبغي أن يكون فيها كأنه على جناح سفر يهيىء جهازه للرحيل، وقد اتفقت على ذلك وصايا الأنبياء وأتباعهم (2) .
[*] قال ابن عقيل رحمه الله: ما تصفو الأعمال والأحوال إلا بتقصير الآمال، فإن كل من عدّ ساعته التي هو فيها كمرض الموت، حسنت أعماله، فصار عمره كله صافيا.
[*](وقال ابن الجوزي رحمه الله تعالى :من تَفَكَّر في عواقب الدنيا أخذ الحذر، ومن أيقن بطول الطريق تأهب للسفر (3) .
(وقال أيضاً :أعجب الأشياء اغترار الإنسان بالسلامة، وتأميله الإصلاح فيما بعد.
__________
(1) لامية ابن الوردي ص 15.
(2) جامع العلوم والحكم لابن رجب 2/ 377.
(3) صيد الخاطر ص 40.(1/342)
وليس لهذا الأمل منتهى، ولا للاغترار حَدٌّ؛ فكلما أصبح وأمسى معافى زاد الاغترار وطال الأمل (1) .
[*](وقال ابن القيم رحمه الله تعالى :صدق التأهب للقاء الله من أنفع ما للعبد وأبلغه في حصول استقامته؛ فإن من استعد للقاء الله انقطع قلبه عن الدنيا، وما فيها ومطالبها، وخمدت من نفسه نيران الشهوات، وأخبت قلبه إلى الله، وعكفت همته على الله، وعلى محبته، وإيثار مرضاته، واستحدثت همة أخرى، وعلوماً أخر، ووُلِد ولادة أخرى تكون نسبة قلبه فيها إلى الدار الآخرة كنسبة جسمه إلى هذه الدار بعد أن كان في بطن أمه، فيولد قلبه ولادة حقيقية كما ولد جسمه حقيقة.
وكما كان بطن أمه حجاباً لجسمه عن هذه الدار فهكذا نفسه وهواه حجاب لقلبه عن الدار الآخرة؛ فخروج قلبه عن نفسه بارزاً إلى الدار الآخرة كخروج جسمه عن بطن أمه بارزاً إلى هذه الدار (2) .
(إلى أن قال: والمقصود أن صدق التأهب هو مفتاح جميع الأعمال الصالحة، والأحوال الإيمانية، ومقامات السالكين إلى الله، ومنازل السائرين إليه، من اليقظة، والتوبة، والإنابة، والمحبة، والرجاء، أو الخشية، والتفويض، والتسليم، وسائر أعمال القلوب والجوارح؛ فمفتاح ذلك كله صدقُ التأهب والاستعداد للقاء الله، والمفتاح بيد الفتاح العليم، لا إله غيره، ولا ربَّ سواه (3) .
(وقال متحدثاً عن الأسباب التي تعين الإنسان على الصبر على المعصية: =السبب الثامن: قصر الأمل، وعلمه بسرعة انتقاله، وأنه كمسافر دخل قرية وهو مُزْمعٌ على الخروج منها، أو كراكب قال في ظل شجرة ثم سار وتركها؛ فهو لعلمه بقلة مقامه وسرعة انتقاله حريص على ترك ما يثقله حمله ويضره ولا ينفعه، حريص على الانتقال بخير ما بحضرته؛ فليس للعبد أنفع من قصر الأمل، ولا أضر من التسويف وطول الأمل (4) .
(5) الدعاء:
__________
(1) صيد الخاطر ص 532.
(2) طريق الهجرتين لابن القيم ص 297.
(3) طريق الهجرتين ص 297.
(4) طريق الهجرتين ص 454.(1/343)
ـــ ـــ ـــ ــ
ما ضاق بالمرء أمر فاستعد له ... عبادة الله إلا جاءه الفرج
ولا أناخ بباب الله ذو ألم ... إلا تزحزح عنه الهم والفرج
[*](قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى : أيها المذنب قف بالباب إذا نام الناس، وابسط لسان الاعتذار، ونكس الرأس، وامدد بعد السؤال ولا بأس، وقل ليس عندي سوى الفقر والإفلاس (1) .
وكان من دعاء عباد الله المؤمنين: (رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [آل عمران: 16]
إلى غير ذلك من الأدعية الكثيرة الواردة على هذا النحو.
فحري بمن أراد التوبة أن يسأل ربه أن يرزقه إياها، وأن يلح عليه بذلك، وأن يتحين الأوقات، والأحوال، والأوضاع، التي هي مظان الإجابة، كالدعاء في السجود، وفي آخر الليل، وبين الأذان والإقامة، وفي حال إقبال القلب، واشتداد الإخلاص، والاضطرار إلى غير ذلك.
وعليه أيضاً أن يتجنب موانع الإجابة، وألا يستعجل الإجابة، فيدع الدعاء.
ومن كانت هذه حاله كان حريَّاً بأن يجاب دعاؤه (2) .
فهو من أعظم الأسباب، وأنفع الأدوية، ومن أعظم ما يسأل ويدعى به سؤال الله التوبة النصوح، ولذا كان من دعاء نبي الله إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام: رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة:128]
( حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيحي أبي داوود و الترمذي ) قال : إن كنا لنعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد مائة مرة رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم .
ومن أعظم ما يُسأل، ويدعى به سؤال الله التوبة؛ وذلك بأن يدعو الإنسان ربه أن يمن عليه بالتوبة النصوح، مهما كانت حاله.
__________
(1) رؤوس القوارير ص 151.
(2) انظر الدعاء مفهومه_أحكامه_أخطاء تقع فيه للكاتب.(1/344)
ولهذا كان من دعاء نبي الله إبراهيم وابنه إسماعيل_عليهما السلام_: [رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ] البقرة: 128.
وكان من دعاء نبينا محمد": =رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب
(6) العلم:
ـــ ـــ ـــ
فالعلم نور يُسْتَضَاءُ به، ويُنظر من خلاله إلى الأمور على حقيقتها.
والعلم يَشْغَل صاحبه بكل خير، ويُشْغله عن كل شر؛ فإذا فُقِد العلم فقدت البصيرة، وحل الجهل، وانطمست المعالم أمام الإنسان، واختل ميزان الفضيلة والرذيلة عنده؛ فلم يعد يفرق بين ما يضره وما ينفعه، فيصبح بذلك عبداً للشهوة، أسيراً للهوى؛ فما أتي الإنسان من باب كما يؤتى من باب الجهل؛ فحري بالعاقل الناصح لنفسه ألا يبخس حظه من العلم، وأن ينال ولو قدراً يسيراً منه.
ومن العلم في هذا السياق العلم بعاقبة المعاصي، وقبحها، ورذالتها، ودناءتها، وأن الله إنما حرمها ونهى عنها صيانة وحماية عن الدنايا والرذائل كما يحمي الوالدُ الشفيقُ ولدَه عما يضره.
وهذا السبب يحمل العاقل على تركها ولو لم يُُعَلَّقْ عليها وعيدٌ بالعذاب (1) .
ومن العلم أيضاً أن يعلم بفضل التوبة والرجوع إلى الله عز وجل .
ثم إن في العلم سلوة، وراحة، ولذة، وأنساً لا يوجد في غيره، فهو أعلى اللذات العقلية، واللذاتُ العقلية أكمل، وأروع، وأنفع من اللذات الجسدية.
ولهذا يجد أهل العلم من اللذة في العلم ما لا يحاط به، أو يقدر على وصفه، يقول الإمام الشافعي رحمه الله تعالى مبيناً عظم اغتباطه بالعلم، ولذته وفرحه به:
سهري لتنقيح العلوم ألذُّ لي ... من وصل غانية وطيب عناق
صرير أقلامي على صفحاتها ... أحلى من الدوكاء والعشاق
وألذ من نقر الفتاة لدُفِّها ... نقري لألقي الرمل عن أوراقي
وتمايلي طرباً لحل عويصةٍ ... في الدرس أشهى من مدامة ساقي
__________
(1) طريق الهجرتين ص 448.(1/345)
وأبيت سهران الدجى وتبيته ... نوما وتبغي بعد ذاك لحاقي (1)
(7) الاشتغال بما ينفع وتجنب الوحدة والفراغ:
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
ذلك أن الفراغ يأتي على رأس الأسباب المباشرة للانحراف؛ فالقطاع الكبير من الشباب يعاني من فراغ قاتل يؤدي إلى الانحراف والشذوذ، وإدمان المخدرات، ويقود إلى رفقة السوء، وعصابات الإجرام، ويتسبب في تدهور الأخلاق، وضيعة الآداب.
فإذا اشتغل الإنسان بما ينفعه في دينه ودنياه قلَّت بطالته، ولم يجد فرصة للفساد والإفساد.
[*](قال ابن القيم رحمه الله تعالى : ومن أعظم الأشياء ضرراً على العبد بطالته وفراغه؛ فإن النفس لا تقعد فارغة، بل إن لم يشغلها بما ينفعها شغلته بما يضره ولابد (2) .
(8) البعد عن المثيرات، وما يذكر بالمعصية:
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
فيبتعد عن كل ما يثير فيه دواعي المعصية، ونوازع الشر، ويبتعد عن كل ما يثير شهوته، ويحرك غريزته من مشاهدة للأفلام الخليعة، وسماع للأغاني الماجنة، وقراءة للكتب السيئة، والمجلات الداعرة.
كما عليه أن يقطع صلته بكل ما يذكره بالمعصية من أماكن الخنا، ومنتديات الرذيلة التي تذكره بالمعصية، وتدعوه إليها؛ فالشيء إذا قطعت أسبابه التي تمده زال واضمحل؛ فالقرب من المثيرات بلاء وشقاء، والبعد عنها جفاء وعزاء؛ فكل بعيد عن البدن يؤثر بعده في القلب؛ فليصبر على مضض الفراق صبر المصاب في بداية المصيبة، ثم إن مر الأيام يهون الأمر، خصوصاً إذا كان ذلك مما يثير العشق والغرام، قال زهير بن الحباب الكلبي:
إذا ما شئت أن تسلو حبيباً ... فأكثر دونه عدد الليالي
فما سلى حبيبك غيرُ نأي ... ولا أبلى جديدك كابتذال (3)
وقال امرؤ القيس:
__________
(1) ديوان الشافعي تحقيق د. محمد عبد المنعم خفاجي ص 113_114.
(2) انظر طريق الهجرتين ص 488.
(3) انظر ذم الهوى لابن الجوزي ص473.(1/346)
وإنك لم تقطع لبانة عاشق ... بمثل رواح أو غدوٍّ مأوِّبِ (1)
ومن البعد عن المثيرات أن يبتعد الإنسان عن الفتن؛ لأن البعد عنها نجاة وسلامة، والقرب منها مدعاة للوقوع فيها.
[*](قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى : من قارب الفتنة بعدت عنه السلامة، ومن ادعى الصبر وكل إلى نفسه، وربَّ نظرةٍ لم تناظِر (2) .
وأحق الأشياء بالضبط والقهر اللسان والعين؛ فإياك أن تغتر بعزمك على ترك الهوى مع مقاربة الفتنة؛ فإن الهوى مكايد، وكم من شجاع في الحرب اغتيل، فأتاه ما لم يحتسب .
فَتَبَصَّرْ ولا تَشَمْ كلَّ برقٍ ... رب برق فيه صواعق حَيْنِ (3)
واغضضِ الطرفَ تَسْتَرح من غرام ... تكتسي فيه ثواب ذلٍّ وشين
فبلاء الفتى موافقة النفـ ... ـس وبدءُ الهوى طموح العين (4)
(وقال أيضاً :ما رأيت أعظم فتنة من مقاربة الفتنة، وقل أن يقاربها إلا من يقع فيها، ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه (5) .
وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد ، ودرر الفرائد . (
( حديث عمران بن حصين رضي الله عنه الثابت في صحيح أبي داوود ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من سمع بالدجال فلينأ عنه ، فو الله إن الرجل ليأتيه وهو يحسب أنه مؤمن فيتبعه مما يبعث به من الشبهات .
[*] قال العلامة شمس الحق أبادي في عون المعبود شرح سنن أبي داوود :
( من سمع بالدجال ) أي بخروجه وظهوره
__________
(1) ديوان امرىء القيس ص39
(2) لم تناظر: أي لم تمهل، فأصابت بسهم، أو أوقعت في الفتنة.
(3) لا تشم: شام البرق: نظر إليه أين يقصد ويمطر. ومعنى حَيْن: أي هلاك، والمعنى تبصر، وتنبَّه، ولا تركن إلى ظواهر الأمور؛ فربما كان فيها هلاكك.
(4) صيد الخاطر ص41
(5) صيد الخاطر ص350.(1/347)
( فلينأ ) بفتح الياء وسكون النون وفتح الهمزة أمر غائب من نأى ينأى حذف الألف للجزم أي فليبعد ( عنه ) أي من الدجال ( وهو ) أي الرجل
( يحسب ) بكسر السين وفتحها أي يظن
( أنه) : أي الرجل بنفسه
( فيتبعه ) بالتخفيف ويشدد أي فيطيع الدجال
( مما يبعث به ) بضم أوله ويفتح أي من أجل ما يثيره ويباشره
( من الشبهات ) أي المشكلات كالسحر وإحياء الموتى وغير ذلك فيصير تابعه كافرا وهو لا يدري .أهـ
وهذا الحديث أصلٌ في اجتناب الفتن والبعد عنها ، والله أعلم .
(ومن المثيرات التي يجدر بالإنسان تجنبها فضول الطعام، والمنام، ومخالطة الأنام؛ فإن قوة المعاصي إنما تنشأ من هذه الفضلات؛ فإنها تطلب مَصْرفاً، فيضيق عليها المباح، فتتعداه إلى الحرام (1) .
ومن البعد عن المثيرات البعد عن الكتب التي تحرك نوازع الشر، وتحبب الفساد لقرائها، كما في بعض كتب الأدب التي تحتوي على الكلام البذيء، والأدب المكشوف الذي يستقر في أدمغة الشباب استقرار البارود.
وهل الأدب المكشوف إلا سوءة من سوءات الفكر؟ حتى إن الخمر التي لا ينازع في مفسدتها إلا من غرق بسكرة الجهل والغواية وجَدتْ من يصفها بأبدع الأوصاف؛ فكثير من الشعراء قد طغى به الإبداع في المقال إلى أن نسقوا في مديحها صفات الخيال، وضربوا للتنويه بشأنها الأمثال، فاستهووا لمعاقرتها عبيد الخيال، والشعراء يتبعهم الغاوون.
وبالجملة فإن مثلَ النفوس بما جبلت عليه من ميل للشهوات، وما أودع فيها من غرائز تميل مع الهوى حيثما مال كمثل البارود، والوقود، وسائر المواد القابلة للاشتعال؛ فإن هذه المواد وما جرى مجراها متى كانت بعيدة عما يُشْعل فتيلها، ويذكي أوارها بقيت ساكنة لا يخشى خطرها، والعكس بالعكس .
__________
(1) طريق الهجرتين ص454.(1/348)
وكذلك النفوس؛ فإنها تظل ساكنة وادعة هادئة، فإذا اقتربت مما يثيرها، ويحرك نوازعها إلى الشرور من مسموع، أو مشموم أو منظور ثارت كوامنها، وهاجت شرورها، وتحرك داؤها، وطغت أهواؤها.
قال ابن حزم رحمه الله تعالى :
لا تلم مَنْ عَرَّض النفس لما ... ليس يرضي غيره عند المحن
لا تقرِّبْ عرفجاً من لهب ... ومتى قربته قامت دُخن (1)
وقال:
لا تُتْبِع النفسَ الهوى ... ودع التعرض للمحن
إبليسُ حيٌّ لم يمت ... والعين بابٌ للفتن (2)
(9) غض البصر:
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
فالعين مرآة القلب، وإطلاق البصر يورث المعاطب، وغض البصر يورث الراحة؛ فإذا غض العبد بصره غض القلب شهوته وإرادته، وإذا أطلق بصره أطلق القلب شهوته، وهذا معلومٌ على وجه اليقين لمن كان له قلبٌ أو ألقى السمع وهو شهيد .
قال تعالى : (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ) [النور: 30]
[*](قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى : فجعل سبحانه غض البصر وحفظ الفرج هو أقوى تزكية للنفوس.
وزكاةُ النفوس تتضمن زوال جميع الشرور من الفواحش، والظلم، والشرك، والكذب، وغير ذلك (3) .
[*](وقال ابن القيم رحمه الله تعالى :ووقعت مسألةٌ: ما تقول السادة العلماء في رجل نظر إلى امرأة نظرة فعلق حبُّها بقلبه، واشتد عليه الأمر، فقالت له نفسه: هذا كله من أول نظرة فلو أعدت النظر إليها لرأيتها دون ما في نفسك فسلوت عنها؛ فهل يجوز تعمُّد النظر ثانياً لهذا المعنى ؟
فكان الجواب: الحمد لله، لا يجوز هذا لعشرة أوجه:
أحدها: أن الله سبحانه أمر بِغَضِ البصر ولم يجعل شفاء القلب فيما حرمه على العبد.
الثاني: أن النبي"سئل عن نظر الفجأة، وقد علم أنه يؤثر في القلب، فأمر بمداواته بصرف البصر لا بتكرار النظر.
__________
(1) طوق الحمامة ص128.
(2) طوق الحمامة ص127.
(3) العبودية ص100_101.(1/349)
الثالث: أنه صرح بأن الأولى له، وليست له الثانية، ومُحالٌ أن يكون داؤه مما له، ودواؤه فيما ليس له.
الرابع: أن الظاهر قوة الأمر بالنظرة الثانية لا تناقضه، والتجربة شاهدة به، والظاهر أن الأمر كما رآه أول مرة، فلا تحسن المخاطرة بالإعادة.
الخامس: أنه ربما رأى ما هو فوق الذي في نفسه، فزاد عذابه.
السادس: أن إبليس عند قصده للنظرة الثانية يقوم في ركائبه، فيزين له ما ليس بحسن؛ لتتم البلية.
السابع: أنه لا يعان على بليته إذا أعرض عن امتثال أوامر الشرع، وتداوى بما حرمه عليه، بل هو جدير أن تتخلف عنه المعونة.
الثامن: أن النظرة الأولى سهمٌ مسموم من سهام إبليس، ومعلوم أن الثانية أشد سمَّاً؛ فكيف يتداوى من السم بالسم؟
التاسع: أن صاحب هذا المقام في مقام معاملة الحق عز وجل في ترك محبوب كما زعم وهو يريد بالنظرة الثانية أن يتبين حال المنظور إليه؛ فإن لم يكن مَرْضِيَّاً تركه؛ فإذاً يكون تركه لأنه لا يلائم (1) غرضه، لا لله تعالى فأين معاملة الله_سبحانه_بترك المحبوب لأجله؟
العاشر: يتبين بضرب مَثَلٍ مطابق للحال، وهو أنك إذا ركبت فرساً جديداً فمالت بك إلى درب ضيق لا ينفذ، ولا يمكنها أن تستدير فيه للخروج، فإذا همَّت بالدخول فيه فاكبحها؛ لئلا تدخل، فإذا دخلت خطوة أو خطوتين فصِحْ بها ورُدَّها إلى وراء عاجلاً قبل أن يتمكن دخولها، فإذا رَدَدْتها إلى ورائها سهل الأمر، وإذا توانيت حتى ولجت، وسقتها داخلاً ثم قمت تجذبها بذَنبها عسر عليك أو تعذر خروجها؛ فهل يقول عاقل إن طريق تخليصها سوقُها إلى داخل؟
__________
(1) في الأصل: لأنه لا يلائم غرضه الله تعالى، ولعل المثبت أصح.(1/350)
فكذلك النظرة إذا أثَّرت في القلب، فإن عجل الحازم، وحَسَم المادة من أولها سهل علاجه، وإن كرر النظر، ونقَّب عن محاسن الصور، ونقلها إلى قلب فارغ، فنقشها فيه_تمكنت المحبة، وكلما تواصلت النظرات كانت كالماء يسقي الشجرة، فلا تزال شجرة الحب تنمي حتى يفسد القلب ويُعْرض عن الفكر فيما أمر به، فيخرج بصاحبه إلى المحن، ويوجب ارتكاب المحظورات والفتن، ويُلقي القلب في التلف.
والسبب في هذا أن الناظر التذت عينُه بأول نظرة، فطلبت المعاودة، كأكل الطعام الذي إذا تناول منه لقمة، ولو أنه غض أولاً لاستراح قلبه وسلم.
وتأمل قول النبي": =النظرة سهم مسموم من سهام إبليس (1) .
فإن السهم شأنه أن يسري في القلب، فيعمل فيه عمل السم الذي يُسقاه المسموم، فإن بادر واستفرغه، وإلا قتله ولابد (2) .
(وقال أيضاً :ولما كان النظر أقرب الوسائل إلى المحرم اقتضت الشريعة تحريمه، وأباحته في موضع الحاجة، وهذا شأن كل ما حُرِّم تحريم الوسائل؛ فإنه يباح للمصلحة الراجحة (3) .
( حديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن نظرة الفجأة فأمرني أن أصرف بصري.
__________
(1) أخرجه القضاعي في مسند الشهاب (292) والحاكم في المستدرك 4/313_314 من حديث حذيفة مرفوعاً، قال الحاكم: = هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه+ وتعقبه الذهبي فقال: =فيه إسحاق بن عبد الواحد القرشي واه، وعبد الرحمن هو الواسطي ضعفوه+ .
وأخرجه الطبراني في الكبير (10362) بنحوه من حديث ابن مسعود، وضعفه المنذري في الترغيب (2838) .
(2) روضة المحبين ص110_112، وانظر ذم الهوى ص89.
(3) روضة المحبين ص112.(1/351)
[*](قال ابن القيم رحمه الله تعالى : ونظر الفجأة هي النظرة الأولى التي تقع بغير قصد من الناظر؛ فما لم يعتمدْه (1) القلب لا يعاقب عليه، فإذا نظر الثانية تعمداً أثِمَ؛ فأمره النبي"عند نظر الفجأة أن يصرف بصره، ولا يستديم النظر؛ فإن استدامته كتكريره.
وأرشد من ابتلي بنظر الفجأة أن يداويه بإتيان امرأته، وقال: إن معها مثل الذي معها (2) .
فإن في ذلك التسلي عن المطلوب بجنسه.
( حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :إن المرأة تقبل في صورة شيطان وتدبر في صورة شيطان فإذا أبصر أحدكم امرأة فليأت أهله فإن ذلك يرد ما في نفسه .
( حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح الترمذي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :إن المرأة إذا أقبلت أقبلت في صورة شيطان فإذا رأى أحدكم امرأة فأعجبته فليأت أهله فإن معها مثل الذي معها .
[*] قال العلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:
( أَقْبَلَتْ فِي صُورَةِ شَيْطَانٍ ) شَبَّهَهَا بِالشَّيْطَانِ فِي صِفَةِ الْوَسْوَسَةِ وَالدُّعَاءِ إِلَى الشَّرِّ ( فَلْيَأْتِ أَهْلَهُ ) أَيْ: فَلْيُوَاقِعْهَا
( فَإِنَّ مَعَهَا ) أَيْ: مَعَ امْرَأَتِهِ
( مِثْلَ الَّذِي مَعَهَا ) أَيْ: فَرْجًا مِثْلَ فَرْجِهَا وَيَسُدُّ مَسَدَّهَا،
والثاني: أن النظر يثير قوة الشهوة فأمره بتنقيصها بإتيان أهله؛ ففتنة النظر أصل كل فتنة كما ثبت في الصحيحين من حديث أسامة بن زيد_رضي الله عنهما_أن النبي"قال: =ما تركت بعدي فتنة هي أضرَّ على الرجال من النساء (3) .
__________
(1) هكذا وردت في الأصل، ولعل الصواب: يَتَعَمَّدْه.
(2) أخرجه الترمذي (1058) عن جابر وقال: =حديث حسن غريب+ ، وأصله عند مسلم بلفظ =إذا أحدكم أعجبته المرأةُ، فوقعت في قلبه فليعمد إلى امرأته فليواقعها؛ فإن ذلك يرد مافي نفسه+ .
(3) روضة المحبين ص113.(1/352)
[*](وقال ابن القيم رحمه الله تعالى مبيناً فوائد غض البصر: وفي غض البصر عدة فوائد:
أحدها: تخليص القلب من ألم الحسرة؛ فإن من أطلق نظره دامت حسرتُه؛ فأضر شيء على القلب إرسال البصر؛ فإنه يريه ما يشتد طلبه، ولا صبر له عنه، ولا وصول له إليه، وذلك غاية ألمه، وعذابه.
قال الأصمعي: رأيت جارية في الطواف كأنها مهاة؛ فَجَعَلْتُ أنظر إليها، وأملأ عيني من محاسنها، فقالت: يا هذا ما شأنك؟ قلت: وما عليك من النظر؟ فأنشأت تقول:
وكنتَ متى أرسلتَ طرفَك رائداً ... لقلبك يوما أتعبتك المناظر
رأيت الذي لا كله أنت قادر ... عليه ولا عن بعضه أنت صابر
والنظرة تفعل في القلب ما يفعله السهم في الرمِيَّة، فإن لم تقتله جرحته، وهي بمنزلة الشرارة من النار ترمى في الحشيش اليابس، فإن لم تحرقه كله أحرقت بعضه كما قيل:
كل الحوادث مبداها من النظر ... ومعظم النار من مستصغر الشرر
كم نظرةٍ فتكتْ في قلب صاحبها ... فتك السهام بلا قوس ولا وتر
والمرء ما دام ذا عين يقلِّبها ... في أعين الغِيْدِ موقوف على الخطر
يسر مقلته ما ضر مهجته ... لا مرحباً بسرور عاد بالضرر
والناظر يرمي من نظره بسهام غَرَضُها قلبه وهو لا يشعر.
قال الفرزدق:
تَزَوَّدَ منها نظرةً لم تدع له ... فؤاداً ولم يشعر بما قد تزودا
فلم أرَ مقتولاً ولم أرَ قاتلاً ... بغير سلاح مثلها حين أقصدا
وقال آخر:
ومن كان يؤتى من عدوٍّ وحاسدٍ ... فإني من عيني أُتيْتُ ومن قلبي
هما اعتوراني نظرة ثم فكرة ... فما أبقيا لي من رقاد ولا لُبِّ
وقال المتنبي:
وأنا الذي اجتلب المنيةَ طرفُه ... فمن المطالبُ والقتيل القاتل
الفائدة الثانية: أنه يورث القلبَ نوراً، وإشراقاً يظهر في العين، وفي الوجه، وفي الجوارح.(1/353)
كما أن إطلاق البصر يورثه ظلمة تظهر في وجهه وجوارحه؛ ولهذا والله أعلم ذكر الله سبحانه آية النور في قوله تعالى : (اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ) [النور: 35] عقيب قوله: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ) [النور: 30]
وجاء الحديث مطابقاً لهذا المعنى حتى كأنه مشتق منه، وهو قوله: النظرة سهم مسموم من سهام إبليس؛ فمن غض بصره عن محاسن امرأة أورث الله قلبه نوراً (1) الحديث.
الفائدة الثالثة: أنه يورث صحة الفراسة؛ فإنها من النور وثمراته، وإذا استنار القلب صحت الفراسة؛ لأنه يصير بمنزلة المرآة المجلوَّة تظهر فيها المعلومات كما هي، والنظر بمنزلة التنفس فيها؛ فإذا أطلق العبد نظره تنفَّست نفسه الصعداء في مرآة قلبه، فطمست نورها كما قيل:
مرآةُ قلبك لا تريك صلاحه ... والنفس فيها دائما تتنفس
[*](وقال شجاع الكرماني رحمه الله تعالى : من عَمَرَ ظاهرَه باتباع السُّنة، وباطنه بدوام المراقبة، وغضَّ بصره عن المحارم، وكفَّ نفسه عن الشهوات، وأكل من الحلال_لم تخطىء فراسته.
وكان شجاع لا تخطىء له فراسة.
والله سبحانه وتعالى يجازي العبد على عمله بما هو من جنسه؛ فمن غض بصره عن المحارم عوضه الله إطلاق بصيرته؛ فلما حبس بصره لله أطلق الله نور بصيرته، ومن أطلق بصره في المحارم حبس الله عنه بصيرته.
الفائدة الرابعة: أنه يفتح له طرق العلم وأبوابه، ويسهل عليه أسبابه، وذلك بسبب نور القلب؛ فإنه إذا استنار ظهرت فيه حقائق المعلومات، وانكشفت له بسرعة، ونفذ من بعضها إلى بعض.
ومن أرسل بصره تكدر عليه قلبه، وأظلم، وانسد عليه باب العلم وطرقه.
الفائدة الخامسة: أنه يورث قوة القلب وثباته وشجاعته، فيجعل له سلطان البصيرة مع سلطان الحجة، وفي الأثر: إن الذي يخالف هواه يَفْرَقُ الشيطان من ظله .
__________
(1) مضى تخريجه ص204.(1/354)
ولهذا يوجد في المتبع لهواه من ذل القلب، وضعفه، ومهانة النفس وحقارتها_ما جعله الله لمن آثر هواه على رضاه.
وقال بعض الشيوخ: الناس يطلبون العز بأبواب الملوك، ولا يجدونه إلا في طاعة الله.
الفائدة السادسة: أنه يورث القلب سروراً، وفرحة، وانشراحاً أعظم من اللذة والسرور الحاصل بالنظر؛ وذلك لِقَهْرِهِ عدوه بمخالفته ومخالفة نفسه وهواه، وأيضاً فإنه لما كفَّ لذته، وحبس شهوته لله، وفيها مسرة نفسه الأمارة بالسوء أعاضه الله_سبحانه_مسرة ولذة أكمل منها كما قال بعضهم: والله لَلذَّةُ العفة أعظم من لذة الذنب.
ولا ريب أن النفس إذا خالفت هواها أعقبها ذلك فرحاً وسروراً ولذة أكمل من لذة موافقة الهوى بما لا نسبة بينهما، وها هنا يمتاز العقل من الهوى.
الفائدة السابعة: أنه يخلص القلب من أسر الشهوة؛ فإن الأسير هو أسير شهوته وهواه؛ فهو، كما قيل:
طليق برأي العين وهو أسير
ومتى أسرت الشهوةُ والهوى القلبَ تمكن منه عدوُّه، فسامه سوء العذاب، وصار:
كعصفورة في كف طفل يسومها ... حياض الردى والطفل يلهو ويلعب
الفائدة الثامنة: أنه يسد عنه باباً من أبواب جهنم؛ فإن النظر باب الشهوة الحاملة على مواقعة الفعل، وتحريمُ الرب تعالى وشرعه حجاب مانع من الوصول؛ فمتى هتك الحجاب ضريَ (1) ، ولم تقف نفسه منه عند غاية؛ فإن النفس لا تقنع بغاية تقف عندها؛ وذلك أن لذَّتها في الشيء الجديد؛ فصاحب الطارف لا يقنعه التليد، وإن كان أحسن منظراً، وأطيب مخبراً؛ فغض البصر يسد هذا الباب الذي عجزت الملوك عن استيفاء أغراضهم فيه.
الفائدة التاسعة: أنه يقوي العقل، ويزيده، ويثبته؛ فإن إطلاق البصر وإرساله لا يحصل إلا من خفة العقل وطيشه، وعدم ملاحظته للعواقب؛ فإن خاصة العقل ملاحظة العواقب، ومُرْسِل النظر لو علم ما تجني عواقبُ نظره عليه لما أطلق بصره، قال الشاعر:
وأعقلُ الناسِ من لم يرتكب سبباً ... حتى يفكر ما تجني عواقبه
__________
(1) ضري: أي اعتاد، وأولع، وتجرأ.(1/355)
الفائدة العاشرة: أنه يخلص القلب من سُكْرِ الشهوة، ورقدة الغفلة؛ فإن إطلاق البصر يوجب استحكام الغفلة عن الله والدار الآخرة، ويوقع في سكرة العشق كما قال تعالى عن عشاق الصور: (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) [الحجر: 72]
فالنظرة كأس من خمر، والعشق هو سكر ذلك الشراب، وسكر العشق أعظم من سكر الخمر؛ فإن سَكْرانَ الخمر يُفيق، وسكران العشق قلما يفيق إلا وهو في عسكر الأموات، كما قيل:
سكْران: سُكْرُ هوىً وسُكر مدامةٍ ... ومتى إفاقةُ مَنْ به سكران
وفوائد غض البصر وآفات إرساله أضعافُ أضعاف ما ذكرنا، وإنما نبهنا عليه تنبيهاً (1) .
فحري بالعاقل اللبيب الذي يريد السلامة لنفسه، ويخشى المعاطب عليها_أن يغض بصره، وأن يجاهد نفسه على ذلك غاية المجاهدة؛ فعصرنا هذا عصر الفتن من مجلات، وقنوات فضائية ونحو ذلك مما يصعب الخلاص منه إلا بتوفيق من الله، وصدق توكل عليه، وقوة إرادة وعزيمة.
(10) مصاحبة الأخيار:
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
فمصاحبة الأخيار تحيي القلب، وتشرح الصدر، وتنير الفكر، وتعين على الطاعة؛ فجليس الخير ينصح لك، ويُبَصّرك بعيوبك، ويعينك على تلافيها.
كما أنه يَدُلُّك على أهل الخير، ويكفك عن أهل المعاصي؛ فقد تتركها حياء منه، ثم تنبعث بعد ذلك إلى تركها بالكلية.
وجليس الخير يذكرك بالله، ويحفظك في حضرتك ومغيبك، ويرفع من قدرك، ويحافظ على سمعتك.
ومجالس الخير تغشاها الرحمة، وتحفها الملائكة، وتتنزل عليها السكينة.
إذا ما صحبت القوم فاصحب خيارهم خيارهم ... ولا تصحب الأردى فتردى مع الردي
(11) مجانبة الأشرار:
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
لأن رفقة السوء تحسن القبيح، وتقبح الحسن، وتجر إلى الرذيلة، وتزري بالفضيلة.
ثم إن المرء يتأثر بعادات جليسه؛ فالصاحب ساحب، والطبع استراق.
__________
(1) روضة المحبين ص113_121 بتصرف يسير، وانظر كلاماً عظيماً حول هذا المعنى في الجواب الكافي ص424_429.(1/356)
ولو لم يأت من مجالسة هؤلاء إلا أن الإنسان يقارن أفعاله بأفعالهم، فيتقالّ سيئاته بجانب سيئاتهم؛ فيقوده ذلك إلى الجرأة والإقدام على فعل الموبقات والآثام.
فرفيق السوء يفسد على المرء دينه، ويخفى على صاحبه عيوبه، ويصله بالأشرار، ويقطعه عن الأخيار، ويقوده إلى الفضيحة والخزي والعار.
كما أنه يهون عليه شأن المعاصي، ويجرؤه على ارتكابها.
ثم إن صحبة الأشرار عرضة للزوال في أي لحظة، وعند أدنى خلاف، ولو دامت في هذه الدنيا فسرعان ما تزول في الآخرة.
ثم إن مجانبة الأشرار من أعظم ما يعين على التوبة.
ولهذا جاء في حديث الرجل الذي قتل تسعاً وتسعين نفساً أنه لما أتى إلى الرجل العالم وسأله: هل له من توبة ؟
قال له: نعم ومن يحول بينه وبين التوبة؟
انطلق إلى أرض كذا وكذا؛ فإن بها أناساً يعبدون الله، فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلى أرضك؛ فإنها أرض سوء الحديث (1) .
[*] قال النووي في شرح الحديث: قال العلماء: في هذا استحباب مفارقة التائبِ المواضعَ التي أصاب بها الذنوب، والأخدانَ المساعدين له على ذلك، ومقاطعتهم ما داموا على حالهم، وأن يستبدل بهم صحبة أهل الخير والصلاح، والعلماء، والمتعبدين الورعين، ومن يقتدى بهم، ويُنتفع بصحبتهم، وتتأكد بذلك (2) .
فإذا تبين ذلك فما أحرى بذي اللب أن ينأى عن الأشرار، ويفر منهم فراره من الأسد.
ولا ينفع الجرباء قربُ صحيحة ... إليها ولكن الصحيحة تجرب
ومما ينبغي التنبه له في مسألةخطر الجليس السوء أن كثيراً من الناس لا يَتَصَور من الجليس السوء إلا من يوقع صاحبه في التدخين، أو الخمر، أو المخدرات، أو نحوها من المعاصي المشهورة المعروفة.
ولا ريب أن هذا جليس سوء تجب مفارقته والبعد عنه.
__________
(1) رواه البخاري (3470) ، ومسلم (2766)
(2) صحيح مسلم بشرح النووي 16/ 237.(1/357)
ولكن هناك جلساء سوء لا يقلون خطراً عن أولئك، بل ربما زادوا عليهم، إنهم المنحرفون في أفكارهم وعقائدهم؛ فهؤلاء يفسدون على المرء عقيدته وفكره.
والانحراف الناشىء عن زيغ العقيدة أشد من الانحراف الناشىء عن طغيان الشهوة وأصعب علاجاً؛ فزائغ العقيدة قد يستهين بشعائر الإسلام، ومحاسن الآداب، فيزعم أنها ليست من الحسن في شيء، ويخرج عن حدود المكارم بدعوى أنها رسمت على غير حكمة.
ثم إن زائغ العقيدة لا يتورع عن المناكر، ولا يؤتمن على المصالح، ولا يأبه أن يلبس الباطل بلبوس الحق؛ فهو ليس عضواً أشلَّ فحسب، بل هو عضو مسموم لا يلبث أن يسري فساده في نفوس جلسائه وسماره؛ لذا كان لزاماً على من يريد السلامة في نفسه ودينه أن يجانب هؤلاء المفسدين.
تعست مقارنةُ اللئيم فإنها ... شَرَقُ النفوس ومحنة الكرماء
قد أصبحوا للدهر سبة ناقم ... في كل مصدر محنة وبلاء
وأشد ما يلقى الفتى من دهره ... فقد الكرام وصحبة اللؤماء (1)
(12) النظر في العواقب:
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ
فذلك يوقف الإنسان على حقائق الأشياء، ويريه الأمور كما هي، وبذلك يقصر عما يهوى؛ خشية من سوء العاقبة.
وما أتي أكثر الناس إلا من قبل غفلته وجهله بالعواقب، ولو أوتي حظاً من النظر لما آثر اللذة العاجلة الفانية على اللذات الآجلة الباقية.
[*](قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى : لو ميز العاقل بين قضاء وطره لحظةً، وانقضاء باقي العمر بالحسرة على قضاء ذلك الوطر لما قرب منه، ولو أعطي الدنيا، غير أن سكرة الهوى تحول بين الفكر وذلك (2) .
__________
(1) الأبيات للبارودي، انظر ديوانه 1/ 73.
(2) صيد الخاطر ص 351.(1/358)
(وقال أيضاً : تذكرت في سبب دخول جهنم فإذا هو المعاصي، فنظرت في المعاصي فإذا هي حاصلة في طلب اللذات، فنظرت في اللذات فإذا هي خِدعاً ليست بشيء، وفي ضمنها من الأكدار ما يصيرها نغصاً، فتخرج عن كونها لذاتٍ؛ فكيف يتبع العاقل نفسه، ويرضى بجهنم لأجل هذه الأكدار؟ (1) .
(وقال أيضاً :قد جاء في الأثر: اللهم أرنا الأشياء كما هي.
وهذا كلامٌ حسنٌ غايةً، وأكثر الناس لا يرون الأشياء بعينها؛ فإنهم يرون الفاني كأنه باقٍ، ولا يكادون يتخايلون زوال ما هم فيه وإن علموا ذلك إلا أن عين الحس مشغولة بالنظر الحاضر؛ ألا ترى زوال اللذة وبقاء إثمها؟ (2) .
(وقال أيضاً :إنما فَضُل العقلُ بتأمل العواقب؛ فأما القليل العقل فإنه يرى الحال الحاضرة، ولا ينظر إلى عاقبتها؛ فإن اللص يرى أخذ المال، وينسى قطع اليد، والبطَّال يرى لذة الراحة، وينسى ما تجني من فوات العلم، وكسب المال؛ فإذا كبر فسئل عن علم لم يدرِ، وإذا احتاج سأل فذلَّ؛ فقد أربى ما حصل له من التأسف على لذة البطالة، ثم يفوته ثواب الآخرة بترك العمل في الدنيا.
وكذلك شارب الخمر يلتذ تلك الساعة، وينسى ما يجني من الآفات في الدنيا والآخرة .
وكذلك الزنا؛ فإن الإنسان يرى قضاء الشهوة، وينسى ما يجني من فضيحة الدنيا والحد، وربما كان للمرأة زوج، فألحقت الحمل من هذا به، وتسلسل الأمر.
فقس على هذه النبذة، وانتبه للعواقب، ولا تؤثر لذة تفوِّت خيراً كثيراً، وصابر المشقة تُحصِّل ربحاً وآفراً (3) .
قال الحسين بن مطير:
ونفسك أكر م عن أمور كثيرة ... فما لك نفسٌ بعدها تستعيرها
ولا تقرب الأمر الحرام فإنما ... حلاوته تفنى ويبقى مريرها (4)
وكان سفيان الثوري رحمه الله تعالى يتمثل بهذين البيتين:
تفنى اللذاذة ممن نال صفوتها ... من الحرام ويبقى الإثم والعار
__________
(1) صيد الخاطر ص 684.
(2) صيد الخاطر ص 668.
(3) صيد الخاطر ص 754_755.
(4) روضة المحبين ص 440.(1/359)
تبقى عواقب سوء في مغبتها ... لا خير في لذة من بعدها النار (1)
وقال اليزيدي: دخلت على هارون الرشيد، فوجدته مُكبَّاً على ورقة ينظر فيها مكتوبة بالذهب، فلما رآني تبسم، فقلت: فائدة أصلح الله أمير المؤمنين، قال: نعم، وجدتُ هذين البيتين في بعض خزائن بني أمية، فاستحسنتهما، فأضفت إليهما ثالثاً فقال ثم أنشدني:
إذا سُدَّ بابٌ عنك من دون حاجة ... فدعه لأخرى ينفتح لك بابها
فإن قُرابَ البطن يكفيك ملأه ... ويكفيك سوءات الأمور اجتنابها
فلا تك مبذالاً لدينك واجتنب ... ركوب المعاصي يجتنبك عقابها (2)
هذا وسيأتي مزيد بيان لهذا المعنى فيما بعد.
(13) هجر العوائد:
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
فالعوائد هي السكون إلى الدعة والراحة، وما ألِفَهُ الناسُ واعتادوه من الرسوم، والأوضاع، التي جعلوها بمنزلة الشرع المتبع، بل هي عندهم أعظم من الشرع؛ فإنهم ينكرون على من خرج عنها وخالفها ما لا ينكرون على من خالف صريح الشرع.
والوصول إلى المطلوب موقوف على هجر العوائد؛ لأنها من أعظم الحجب والموانع بين العبد، وبين النفوذ إلى الله ورسوله" (3) .
(14) هجر العلائق:
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
[*](قال ابن القيم رحمه الله تعالى : وأما العلائق فهي كل ما تعلق به القلب دون الله ورسوله من ملاذِّ الدنيا، وشهواتها، ورياساتها، وصحبة الناس، والتعلق بهم.
ولا سبيل إلى قطع هذه الثلاثة ورفضها إلا بقوة التعلق بالمطلب الأعلى، وإلا فقطعها بدون تعلقه بمطلوبه ممتنع؛ فإن النفس لا تترك مألوفها ومحبوبها إلا لمحبوب هو أحب إليها منه، وآثر عندها منه.
وكلما قوي تعلقه بمطلوبه ضعف تعلقه بغيره وكذا بالعكس.
والتعلق بالمطلوب هو شدة الرغبة فيه، وذلك على قدر معرفته به، وشرفه، وفضله على ما سواه (4) .
(15) إصلاح الخواطر والأفكار:
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ
__________
(1) المرجع نفسه.
(2) روضة المحبين ص 399.
(3) انظر الفوائد ص 223_224.
(4) الفوائد ص 225.(1/360)
[*](قال ابن القيم رحمه الله تعالى : مبدأ كل علم نظري، وعمل اختياري هو الخواطر والأفكار؛ فإنها توجب التصورات، والتصوراتُ تدعو إلى الإرادات، والإرادات تقتضي وقوعَ الفعل، وكثرةُ تكراره تعطي العادةَ؛ فصلاحُ هذه المراتب بصلاح الخواطر والأفكار، وفسادُها بفسادها؛ فصلاح الخواطر بأن تكون مراقبة لوليها وإلهها، صاعدةً إليه، دائرةً على مرضاته ومحابِّه؛ فإنه_سبحانه_به كل صلاح، ومن عنده كل هدى، ومن توفيقه كل رشد، ومن تولِّيه لعبده كل حفظ، ومن تولِّيه وإعراضه عنه كل ضلال وشقاء (1) .
(وقال أيضاً :واعلم أن الخطراتِ والوساوسَ تؤدي متعلقاتها إلى الفكر، فيأخذها الفكرُ، فيؤديها إلى التذكر، فيأخذها التذكر فيؤديها إلى الإرادة، فتأخذها الإرادة فتؤديها إلى الجوارح والعمل، فتستحكم فتصير عادة؛ فَرَدُّها من مبادئها أسهل من قطعها بعد قوتها وتمامها.
ومعلوم أنه لم يُعْطَ الإنسانُ إماتةَ الخواطر، ولا القوةَ على قطعها؛ فإنها تهجم عليه هجوم النَّفَس، إلا أن قوة الإيمان والعقل تعينه على قبول أحسنها، ورضاه به، ومساكنته له، وعلى دفع أقبحها، وكراهته له، وأنَفَته منه (2) .
إلى أن قال : وقد خلق الله سبحانه النفسَ شبيهةً بالرحى الدائرة التي لا تسكن، ولا بد لها من شيء تطحنه؛ فإن وُضع فيها حبٌّ طَحَنَتْهُ، وإن وضع فيها تراب أو حصى طحنته؛ فالأفكار والخواطر التي تجول في النفس هي بمنزلة الحب الذي يوضع في الرحى، ولا تبقى تلك الرحى مُعَطَّلةً قط، بل لا بد لها من شيء يوضع فيها؛ فمن الناس من تطحن رحاه حَبَّاً يخرج دقيقاً ينفع به نفسه وغيره، وأكثرهم يطحن رملاً وحصى وتبناً ونحو ذلك؛ فإذا جاء وقت العجن والخبز تبيَّن له حقيقة طحينه (3) .
__________
(1) الفوائد ص 249.
(2) الفوائد ص 250.
(3) الفوائد ص 250_251.(1/361)
(وقال أيضاً :فإذا دَفَعْتَ الخاطرَ الواردَ عليك اندفع عنك ما بعده، وإن قَبلْتَهُ صار فكراً جوَّالاً، فاسْتَخْدم الإرادة، فتساعَدَتْ هي والفكر على استخدام الجوارح، فإن تعذر استخدامها رجعا إلى القلب بالتمني والشهوة وتَوجُّهِهِ إلى جهة المراد.
ومن المعلوم أن إصلاح الخواطر أسهل من إصلاح الأفكار، وإصلاح الأفكار أسهل من إصلاح الإرادات، وإصلاح الإرادات أسهل من تدارك فساد العمل، وتداركه أسهل من قطع العوائد.
فأنفع الدواء أن تشغل نفسك بالفكر فيما يعنيك دون ما لا يعنيك؛ فالفكر فيما لا يعني باب كل شر، ومن فَكَّر فيما لا يعنيه فاته ما يعنيه، واشتغل عن أنفع الأشياء له بما لا منفعة له فيه (1) .
إلى أن قال: وإياك أن تُمَكّن الشيطان من بيت أفكارك وإرادتك؛ فإنه يفسدها عليك فساداً يصعب تداركه، ويلقي إليك أنواع الوساوس والأفكار المضرة، ويحول بينك وبين الفكر فيما ينفعك، وأنت الذي أعَنْتَه على نفسك بتمكينه من قلبك، وخواطرك فَمَلَكَها عليك (2) .
(16) استحضار أن الصبر عن الشهوة أسهل من الصبر على ما توجبه الشهوة:
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ
__________
(1) الفوائد ص 251.
(2) الفوائد ص 251.(1/362)
فإنها إما أن توجب ألماً وعقوبة، وإما أن تقطع لذة أكمل منها، وإما أن تضيع وقتاً إضاعتُه حسرة وندامة، وإما أن تثلم عرضاً توفيرُه أنفع للعبد من ثلمه، وإما أن تُذْهِب مالاً بقاؤه خير له من ذهابه، وإما أن تضع قدراً وجاهاً قيامه خير من وضعه، وإما أن تسلب نعمة بقاؤها ألذّ وأطيبُ من قضاء الشهوة، وإما أن تُطَرّقَ لوضيع إليك طريقاً لم يكن يجدها قبل ذلك، وإما أن تجلب هماً وغماً وحزناً وخوفاً لا يقارب لذة الشهوة، وإما أن تنسي علماً ذكره ألذ من نيل الشهوة، وإما أن تشمت عدواً وتحزن وليَّاً، وإما أن تقطع الطريق على نعمة مقبلة، وإما أن تحدث عيباً يبقى صفة لا تزول؛ فإن الأعمال تورث الصفات والأخلاق (1)
(17) استحضار أضرار الذنوب والمعاصي:
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
فإن للذنوب والمعاصي أضراراً عظيمةً، وعقوباتٍ متنوعةً، سواء في الدنيا أو في الآخرة، على مستوى الأفراد أو على مستوى الجماعات.
فمن أضرارها حرمان العلم والرزق، والوحشةُ التي يجدها العاصي في قلبه، وبينه وبين ربه، وبينه وبين الناس.
ومنها تعسير الأمور، وسواد الوجه، ووهن البدن، وحرمان الطاعة، وتقصير العمر، ومحق بركته.
ومنها ظلمة القلب، وضيقه، وحزنه، وألمه، وانحصاره، وشدة قلقه، واضطرابه، وتمزق شمله، وضعفه عن مقاومة عدوه، وتعَرِّيه من زينته.
ومنها أن المعاصي تزرع أمثالها، وتقوي في القلب إرادة المعصية، وتضعف إرادة التوبة شيئاً فشيئاً إلى أن تنسلخ إرادة التوبة من القلب بالكلية، فيستمرىء صاحبها المعصية، وينسلخ من استقباحها.
ومنها أن المعصية سبب لهوان العبد على ربه، وأن شؤمها لا يقتصر على العاصي، بل يعود على غيره من الناس والدواب.
ومنها أن المعصية تورث الذل، وتفسد العقل، وتدخل العبد تحت اللعنة، وتحرمه من دعوة الرسول"ودعوة الملائكة، ودعوة المؤمنين.
__________
(1) انظر الفوائد ص 204.(1/363)
كما أنها تطفىء نار الغيرة من القلب، وتذهب الحياء، وتضعف في القلب تعظيم الرب، وتستدعي نسيان الله لعبده، وتَخْليته بينه وبين نفسه وشيطانه.
ومن أضرار المعاصي أنها تنزل الرعب في قلب العاصي، وتزيل أمنه، وتبدله به مخافة؛ فأخوف الناس أشدهم إساءة.
كذلك تخرج العبد من دائرة الإحسان، وتمنعه ثواب المحسنين، وتضعف سير قلبه إلى الله والدار الآخرة، وتصغر نفسه، وتُعمي قلبه، وتسقط منزلته، وتسلبه أسماء المدح والشرف، وتكسوه أسماء الذل والصغار، وتجعله من السفلة بعد أن كان مُهيَّأً لأن يكون من العلية، وتجرىء عليه شياطين الجن والإنس، فيصير في أسرهم بعد أن كانوا يخافونه ويرهبونه.
ومنها وقوع العاصي في بئر الحسرات؛ فلا يزال في حسرة دائمة؛ فكلما نال لذة نازعته نفسه إلى نظيرها إن لم يقض منها وطراً، أو إلى غيرها إن قضى وطره منها، وما يعجز عنه من ذلك أضعافُ أضعاف ما يقدر عليه، وكلما اشتد نزوعُه وعرف عجزَه اشتدت حسرتُه وحزنُه؛ فيا لها ناراً قد عُذِّب بها القلبُ في هذه الدار قبل نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة.
ومنها ضياع أعز الأشياء وأنفسها وأغلاها وهو الوقت الذي لا عوض عنه، ولا يعود إليه أبداً.
وبالجملة فالآثار القبيحة للمعاصي أكثر من أن يحيط بها العبد علماً، وآثار الطاعة الحسنة أكثر من أن يحيط بها علماً؛ فخير الدنيا والآخرة بحذافيره في طاعة الله، وشر الدنيا والآخرة بحذافيره في معصية الله (1) .
(18) الحياء:
ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
__________
(1) انظر الجواب الكافي ففه تفصيل لتلك الأضرار، وانظر طريق الهجرتين ص 450_454.(1/364)
فهذا الخلق إذا غَزر في النفس، ونمت عروقه فيها ازداد رونقها صفاءً، ونفض على ظاهر صاحبها مآثر خَيْراتٍ حِسان ، وإذا انتُزع من شخص فقد فقَدَ المروءة ، وثكل الديانةَ التي هي الجناح المبلغ لكل كمال ؛ ذلك أن الحياء خلق يبعث على فعل الجميل وترك القبيح ، وهو عبارة عن انقباض النفس عما تذم عليه، وثمرته ارتداعها عما تنزع إليه الشهوة من القبائح .
فإذا تمزق ستر هذه الفضيلة بغلبة الشهوة على النفس اختلت هيئة الإنسان بالضرورة، وبقي صاحبها سائماً في مراتع البغي والفسوق، وبئس الاسم الفسوق بعد الإيمان .
وبالجملة فالحياء شعبةٌ من الإيمان ، والحياء لا يأتي إلا بخير، والحياء خلق الإسلام .
وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد ، ودرر الفرائد . (
(حديث ابن عمر في الصحيحين) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرَّ على رجلٍ وهو يعظُ أخاه في الحياء فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دَعْه فإن الحياء من الإيمان .
(حديث عمران ابن حصين في الصحيحين) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : الحياءُ لا يأتي إلا بخير .
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال الإيمان بضع و سبعون شعبة فأفضلها قول : لا إله إلا الله و أدناها إماطة الأذى عن الطريق و الحياء شعبة من الإيمان .
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجه ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن لكل دين خلقاً وخلق الإسلام الحياء .
(حديث أبي سعيد في الصحيحين) قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أشد حياء من العذراء في خدرها فإذا رأى شيئاً يكرهه عرفناه في وجهه .
(حديث أبي مسعودٍ الأنصاري في صحيح البخاري) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى : إذا لم تستح فاصنع ما شئت .(1/365)
(حديث ابن عمر في صحيح الجامع) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن الحياء و الإيمان قرنا جميعا فإذا رُفِعَ أحدهما رفع الآخر .
[*](قال ابن حبان رحمه الله تعالى : فالواجب على العاقل لزوم الحياء؛ لأنه أصل العقل، وبذر الخير، وتركه أصل الجهل، وبذر الشر (1) .
(أعظم الحياء :
أعظم الحياء أن يستحي العبد من ربه_جل وعلا_وذلك بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه؛ فإن العبد متى علم بنظره إليه، ومقامه عليه، وأنه بمرأى ومسمع منه، وكان حيياً استحيى من ربه أن يتعرض لمساخطه.
(حديث ابن مسعود في صحيح الترمذي) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : استحيوا من الله تعالى حق الحياء ، قلنا يا نبي الله إنا لنستحي والحمد لله ، قال : ليس ذاك ولكن الاستحياء من الله حق الحياء أن تحفظ الرأس و ما وعى والبطن و ما حوى وتذكر الموت و البِلى و من أراد الآخرة ترك زينة الدنيا فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء .
(ومن الحياء الحياءُ من الناس بترك المجاهرة بالقبيح أمامهم.
ومن الحياء أيضاً حياء الإنسان من نفسه بأن لا يرضى لها بمراتب الدون، وهذا حياء أهل النفوس الأبية .
ولئن كان الحياء جبلياً فإنه يزيد ويتأتى بالأخذ بالأسباب ، ومن ذلك مطالعة أخلاق الكمل، واستحضار مراقبة الله؛ فمن ذلك يتولد الحياء؛ إذ كيف يتقلب في نعمه ويستعين بها على معصيته؟ فإذا شعر العاقل بذلك استحيى من الله .
ومن ذلك تذكر الآثار الطيبة للحياء، والآثار القبيحة للقحة والصفاقة.
ومن ذلك مجاهدة النفس، وتدريبها على اكتساب الحياء.
فإذا اتصف المرء بالحياء قرب من الكمال، ونأى بنفسه عن النقائص (2) .
(19) النفس وزكاؤها وأنفتها وحميتها:
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
__________
(1) روضة العقلاء لابن حبان ص 56.
(2) انظر طريق الهجرتين ص 488، والسعادة العظمى لمحمد الخضر حسين ص 49.(1/366)
فذلك يوجب أن تنأى عن الأسباب التي تحطها، وتضع قدرها، وتحفض منزلتها، وتحقرها، وتسوي بينها وبين السفلة (1) .
وإنما تعلو قيمة المرء، وتسمو مكانته بقدر نصيبه من بُعد الهمة، وشرف النفس.
وإذا علمت نفسٌ طاب عنصرها، وشرُف وجدانها أن مطمح الهمم إنما هي غاية، وحياة وراء حياتها الطبيعية لم تقف بسعيها عند حد غذاء يقوتها، وكساء يسترها، ومسكن تأوي إليه.
بل لا تستفيق جهدها، ولا يطمئن بها قرارها إلا إذا بلغت مجداً يصعد بها إلى أن تختلط بكواكب الجوزاء
ولا ريب أن أعلى المطالب، وأشرف المكاسب ا كان لله، وفي سبيل الله .
فأين هذا الذي يطلق العنان لشهواته، ويرسف في أغلال رغائبه ولذاته من الإمام الشافعي إذ يقول: لو علمت أن الماء البارد يثلم مروءتي لما شربته (2) .
فشريف النفس يأبى أن يملك رقَّه شيء، خصوصاً ما كان في أمر العشق والتعلق؛ فمن لم تكن له همة أبية لم يكد يتخلص من هذه البلية؛ فإن ذا الهمة يأنف الذل، وما زال الهوى يذل أهل العز (3) .
قال الأعشى:
أرى سفهاً للمرء تعليق قلبه ... بغانية خود متى تدنُ تبعد (4)
وقال أبو فراس الحمداني مفتخراً بشرف نفسه، وعلو همته، عائباً على من سفلت همته، واسترقه هواه:
لقد ضلَّ من تحوي هواه خَريدة ... وقد ذل من تقضي عليه كعابُ
ولكنني والحمد لله حازم ... أعز إذا ذلت لهن رقابُ
ولا تملك الحسناء قلبي كلَّه ... ولو شمَّلَتها رقةٌ وشبابُ (5)
وهذا أبو علي الشبل يقول:
وآنف أن تعتاق قلبي خريدةٌ ... بلحظ وأن يروى صداي رضاب
وللقلب مني زاجر من مروءة ... يجنِّبه طُرْق الهوى فيجاب (6)
وهذا منصور الهروي يقول:
خُلِقْتُ أبيَّ النفس لا أتبع الهوى ... ولا أستقي إلا من المشرب الأصفى
__________
(1) انظر طريق الهجرتين ص 450.
(2) انظر ذم الهوى لابن الجوزي 479.
(3) انظر ذم الهوى لابن الجوزي 479.
(4) ديوان الأعشى ص 47.
(5) ديوان أبي فراس الحمداني ص 13.
(6) ذم الهوى ص 480.(1/367)
ولا أحمل الأثقال في طلب العلا ... ولا أبتغي معروف من سامني خسفاًَََ
ولا أتحرى العزَّ فيما يُذلُّني ... ولا أخطب الأعمال كي لا أرى صرفا
ولست على طبع الذباب متى يُذَدْ ... عن الشيء يسقط فيه وهو يرى الحتفا (1)
فلا يكون إذاً من وراء الشهوة إلا إذلال النفس، وموت الشرف، والضعة والتسفل؛ أوليس من الذل أن تكون حياة الإنسان معلقة بغيره، وسعادته بيد سواه، فهو مضطر إليه، وهو لعبة في يديه، إن أقبل سعد، وإن أعرض شقي، وإن مال إلى غيره اسودت الدنيا في عينيه؟
هذا الله الصغار بعينه، وهذا هو الذل الذي لا ينفع معه المال الكثير، ولا الجاه العريض.
أليست هذه هي حقيقة الحب والعشق الذي ألهه الشعراء ؟ أليست هذه هي حال من غاية طموحه أن تواصله امرأة بكلمة أو إشارة، أو ما هو أعلى من ذلك ؟
بلى، ولكن هل سيسعد بهذا ؟ وهل يكفيه ذلك الوصال ؟ لا، بل كل ما واصل واحدة زاده الوصال نهماً، كشارب الماء المالح لا يزداد إلا عطشاً.
ولو أنه عرف من النساء آلافاً ثم رأى أخرى معرضة عنه لرغب فيها وحدها، وأحس من الألم لفقدها مثل الذي يحسه من لم يعرف امرأة قط .
ثم هب أن الإنسان وجد منهن كل ما يريد، ووسعه السلطان والمال؛ فهل يسعه الجسد، وهل تقوى الصحة على حمل مطالب الشهوة، ودون ذلك تنهار أقوى الأجساد، وكم من رجال كانوا أعاجيب في القوة، فما هي إلا أن استجابوا لشهواتهم، وانقادوا إلى غرائزهم حتى أصبحوا حطاماً.
وإن من عجائب حكمة الله أن جعل مع الفضيلة ثوابها؛ من الصحة والنشاط، وجعل مع الرذيلة عقابها؛ من الانحطاط والمرض.
ولَرُبَّ رجلٍ ما جاوز الثلاثين يبدو مما جار على نفسه كابن ستين، وابن ستين يبدو من العفاف كشاب دون الثلاثين (2) .
__________
(1) ذم الهوى ص 480.
(2) انظر في سبيل الإصلاح للشيخ علي الطنطاوي ص 191، وصور وخواطر للشيخ علي الطنطاوي ص 158_159.(1/368)
[*](قال ابن المقفع رحمه الله تعالى : اعلم أن من أوقع الأمور في الدين، وأنهكها للجسد، وأتلفها للمال، وأقتلها للعقل، وأزراها للمروءة، وأسرعها في ذهاب الجلالة والوقار الغرامَ بالنساء.
ومن البلاء على المغرم بهن أنه لا ينفك يأجم (1) ما عنده، وتطمح عيناه إلى ما ليس عنده منهن.
وإنما النساء أشباه،وما يتزين في العيون والقلوب من فضل مجهولات على معروفات باطل وخدعة، بل كثير مما يرغب عنه الراغب مما عنده أفضل مما تتوق إليه نفسه منهن .
وإنما المرتغب عما في رحله منهن إلى ما في رحال الناس كالمرتغب عن طعام بيته إلى ما في بيوت الناس .
بل النساء بالنساء أشبه من الطعام بالطعام، وما في رحال الناس من الأطعمة أشد تفاضلاً وتفاوتاً مما في رحالهم من النساء (2) .
(وقال أيضاً : ومن العجب أن الرجل الذي لا بأس بلُبِّه ورأيه يرى المرأة من بعيد متلففة في ثيابها، فيصور لها في قلبه الحسن والجمال حتى تعلق بها نفسُه من غير رؤية، ولا خبر مُخبر، ثم لعله يهجم منها على أدمِّ الدمامة، فلا يَعظُه ذلك، ولا يقطعه عن أمثالها، ولا يزال مشغوفاً بما لم يَذُقْ حتى لو لم يبق في الأرض غير امرأة واحدة لظن أن لها شأناً غير شأن ما ذاق، وهذا هو الحمق، والشقاء، والسفه (3) .
وبالجملة فشرف النفس وزكاؤها يقود إلى التسامي، والعفة؛ ذلك أن المرء بين عاطفة تخدعه، وشهوة تتغلب عليه؛ فمتى لم يجد من عقله سائساً، ومن دينه وازعاً يقاومان الضعف، ويصارعان الميول والأهواء وقع في الخطايا وانغمس في الشرور والرذائل.
__________
(1) ياجم: يكره، ويمل.
(2) الأدب الصغير والأدب الكبير لابن المقفع ص 149_150.
(3) الأدب الصغير والأدب الكبير ص 150.(1/369)
وإن قوي على عصيان الهوى، والشيطان، والنفس، والشهوة، وثبت في مواقف هذا الصراع الهائل كان في عداد المجاهدين، وترتب على انتصاره وفوزه جميع المكارم والفضائل التي تنتهي به إلى خيري الدنيا والآخرة؛ فمن شرف النفس أن يأنف الإنسان لنفسه أن يكون تحت قهر عدوه؛ فإن الشيطان إذا رأى من العبد ضعفَ عزيمةٍ وهمةٍ، وميلاً إلى هواه طمع فيه، وصرعه، وألجمه بلجام الهوى، وساقه حيث أراد.
ومتى أحس منه بقوة عزم، وشرف نفس، وعلو همة لم يطمع فيه إلا اختلاساً وسرقة؛ فأغزر الناس مروءة أشدهم مخالفة لهواه (1) .
(20) عرض الحال على من يعين:
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ
فمن الأدوية الناجحة النافعة أن يعرض المبتلى حاله على أهل العلم، والدعوة، والإصلاح، والتربية؛ فإنه سيجد بإذن الله تعالى منهم إعانة على البر، ودلالة على الخير، وإجابة عن الأسئلة، وسعياً في حل المشكلات.
(أخي الحبيب:
هذه بعض الأمور التي تعين على التوبة فعض عليها بنواجذك، جعلني الله وإياك من التوابين.
مسألة : ماذا لو أحسست بالفتور والضعف؟
الجواب : أن للفتور والضعف أدويةٌ نافعة منها ما يلي : (
أولاً: أخي عليك بسرعة طلب الغوث من الله تعالى فتدعوه سبحانه متضرعاً متذللاً أن لا يرفع عنك توفيقه وأن لا يكلك إلى نفسك طرفة عين.
ثانياً: تفكر في أهوال يوم القيامة والقبور وتفكر في نعيم الجنة فسرعان ما يفتح الله عليك وتعود إلى ربك.
ثالثاً: واظب أخي على محاسبة النفس.
رابعاً: المحافظة على الأذكار مع حضور القلب وتدبره لمعانيها.
خامساً: مجالسة الصالحين والعلماء العاملين فهو من أعظم أسباب رفع الهمة وإزالة الفتور.
(أخطاء في باب التوبة :
هناك أخطاء في باب التوبة يقع فيها كثير من الناس، وذلك ناتج عن الجهل بمفهوم التوبة، أو التفريط وقلة المبالاة، فمن تلك الأخطاء مايلي:
__________
(1) انظر روضة المحبين ص 474_475، ومواقف الإسلام للشيخ محمد الحبيب بن خواجة ص 20.(1/370)
(1) تسويف التوبة: فمن الناس من يدرك خطأه، ويعلم حرمة ما يقع فيه، ولكنه يؤجل التوبة، ويسوف فيها؛ فمنهم من يؤخرها إلى ما بعد الزواج، أو التخرج، ومنهم من يؤجلها ريثما تتقدم به السن، إلى غير ذلك من دواعي التأجيل.
وهذا خطأ عظيم؛ لأن التوبة واجبة على الفور؛ فأوامر الله ورسوله"على الفور ما لم يقم دليل على جواز تأخيرها.
بل إن تأخير التوبة ذنب يجب أن يستغفر منه.
[*](قال الغزالي رحمه الله : أما وجوبها على الفور فلا يُسْتراب فيه؛ إذ معرفة كون المعاصي مهلكاتٍ من نفس الإيمان، وهو واجب على الفور (1) .
[*](وقال ابن القيم رحمه الله : المبادرة إلى التوبة من الذنب فرض على الفور، ولا يجوز تأخيرها؛ فمتى أخّرها عصى بالتأخر، فإذا تاب من الذنب بقي عليه توبة أخرى، وهي توبته من تأخير التوبة.
وقلَّ أن تخطر هذه ببال التائب، بل عنده أنه إذا تاب من الذنب لم يبق عليه شيء آخر، وقد بقي عليه التوبة من تأخير التوبة (2) .
أخرج ابن أبي الدنيا في قصر الأمل عن عكرمة في قوله تعالى : (وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ) [ سبأ: 53]
قال: إذا قيل لهم: توبوا، قالوا: سوف (3) .
فعلى العبد أن يعجل بالتوبة؛ لوجوب ذلك؛ ولئلا تصير المعاصي راناً على قلبه، وطبعاً لا يقبل المحو، أو أن تعاجله المنية مصراً على ذنبه.
ثم إنَّ تركَ المبادرة للتوبة مدعاة لصعوبتها، وسبب لفعل ذنوب أخرى.
وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد ، ودرر الفرائد . (
__________
(1) إحياء علوم الدين4/7.
(2) مدارج السالكين1/283.
(3) قصر الأمل لابن أبي الدنيا ص141.(1/371)
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن العبد إذا أخطاء خطيئة نُكِتَت في قلبه نكته سوداء فإن هو نزع و استغفر و تاب صقل قلبه وإن عاد زيد فيها حتى تعلو على قلبه و هو الران الذي ذكر الله تعالى فذلك الران الذي ذكره الله في كتابه (كَلاّ بَلْ رَانَ عَلَىَ قُلُوبِهِمْ مّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ) [المطففين : 14] .
وإذا زاد زادت حتى يغلف قلبه؛ فذلك الران الذي ذكره الله في كتابه (كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [المطففين: 14] (1) .
[*](قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى: يا بطَّال إلى كم تُؤخر التوبة وما أنت في التأخير معذور؟ إلى متى يقال عنك: مفتون مغرور؟ يا مسكين ! قد انقضت أشهر الخير وأنت تعد الشهور، أترى مقبول أنت أم مطرود؟ أترى مواصل أنت أم مهجور؟ أترى تركبُ النُّجبَ غداً أم أنت على وجهك مجرور؟ أترى من أهل الجحيم أنت أم من أرباب القصور (2) .
(وقال أيضاً : ما هذه الغفلة وأنتم مستبصرون؟ ما هذه الرقدة وأنتم مستيقظون؟ كيف نسيتم الزاد وأنتم راحلون؟ كم آبَ مَنْ قبلكم ألا تتفكرون؟ أما رأيتم كيف نازَلهم نازل المنون؟ فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون (3) .
(2) الغفلة عن التوبة مما لا يعلمه العبد من ذنوبه:
__________
(1) رواه أحمد 2/297، والترمذي (3334) ، وقال: حديث حسن صحيح، وابن ماجه (4244) ، والنسائي في الكبرى (11658) ، وابن حبان (930) ، والحاكم2/562، وصححه، وقال الذهبي على شرط مسلم ا_هـ. ، والبيهقي في سننه 10/188، كلهم من طريق محمد بن عجلان، عن القعقاع بن حكيم، عن أبي صالح عن أبي هريرة به.
وابن عجلان حسن الحديث أخرجه له مسلم في المتابعات، وباقي السند ثقات.
(2) بحر الدموع لابن الجوزي، تحقيق إبراهيم باجس، ص57.
(3) رؤوس القوارير لابن الجوزي ص152.(1/372)
فكثير من الناس لا تخطر بباله هذه التوبة؛ فتراه يتوب من الذنوب التي يعلم أنه قد وقع فيها، ولا يظن بعد ذلك أن عليه ذنوباً غيرها.
وهذا من الأخطاء التي تقع في باب التوبة، والتي قلَّ من يتفطن لها؛ فهناك ذنوب خفية، وهناك ذنوب يجهل العبد أنها ذنوب.
[*](قال ابن القيم رحمه الله تعالى: ولا ينجي من هذا إلا توبة عامة مما يعلم من ذنوبه، ومما لا يعلم؛ فإن ما لا يعلمه العبد من ذنوبه أكثر مما يعلمه.
ولا ينفعه في عدم المؤاخذة بها جهله إذا كان متمكناً من العلم؛ فإنه عاصٍ بترك العلم والعمل؛ فالمعصية في حقه أشد (1) .
ولهذا كان الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل بنص السنة الصحيحة كما في الحديث الآتي : (
(حديثُ ابن عباس في صحيحِ الجامع )أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :الشركُ في أمتي أخفى من دبيبِ النملِ على الصفا .
( حديث معقل بن يسار رضي الله عنه الثابت في صحيح الأدب المفرد ) قال : انطلقت مع أبي بكر الصديق رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فقال: "يا أبا بكر ! للشرك فيكم أخفى من دبيب النمل".
فقال أبو بكر: وهل الشرك إلا من جعل مع الله إلهاً آخر؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "والذي نفسي بيده، للشرك أخفى من دبيب النمل، ألا أدلك على شيء إذا قلته ذهب عنك قليله وكثيره؟". قال: "قل: اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم".
(فهذا طلب الاستغفار مما يعلمه الله أنه ذنب، ومما لا يعلمه العبد.
ولذا كان يدعو في صلاته: اللهم اغفر لي ما قدمت، وما أخرت، وما أسررت، وما أعلنت، وما أنت أعلم به مني؛ إنك أنت المقدم والمؤخر لا إله إلا أنت كما في الحديث الآتي : (
__________
(1) مدارج السالكين1/283.(1/373)
(حديث عليٍّ الثابت في صحيح مسلم ) قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام إلى الصلاة يكون من آخر ما يقول بين التشهد والتسليم اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أسرفت وما أنت أعلم به مني أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت .
وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - : اللهم اغفر لي ذنبي كله، دقه وجلَّه، وأوله وآخره، وعلانيته وسره .
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح أبي داوود ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في سجوده: "" اللهم اغفر لي ذنبي كله دقه وجله وأوله وآخره .
فهذا التعميم، وهذا الشمول؛ لتأتي التوبة على ما علمه العبد من ذنوبه، وما لم يعلمه (1) .
(3) ترك التوبة مخافة الرجوع للذنوب : فمن الناس من يرغب في التوبة، ولكنه لا يبادر إليها؛ مخافة أن يعاود الذنب مرة أخرى.
وهذا خطأ ؛ فعلى العبد أن يتوب إلى الله، فلربما أدركه الأجل وهو لم ينقض توبته.
كما عليه أن يحسن ظنه بربه جل وعلا ويعلم أنه إذا أقبل على الله أقبل الله عليه، وأنه تعالى عند ظن عبده به.
(حديث أبي هريرة في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : قال الله تعالى أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني ، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، وإن ذكرني في ملأٍ ذكرته في ملٍ خيرٌ منهم ، وإن تقَّرب إليَّ شبرا تقربت إليه ذراعا وإن تقرب إليَّ ذراعا تقربت إليه باعا و إن أتاني مشيا أتيته هَرْوَلَةً .
ثم إن على التائب إذا عاد إلى الذنب أن يجدد التوبة مرة أخرى وهكذا...
__________
(1) انظر مدارج السالكين1/283.(1/374)
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال فيما يحكي عن ربه عز وجل : أذنب عبد ذنبا فقال اللهم اغفر لي ذنبي فقال تبارك وتعالى أذنب عبدي ذنبا فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب ثم عاد فأذنب فقال أي رب اغفر لي ذنبي فقال تبارك وتعالى عبدي أذنب ذنبا فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب ثم عاد فأذنب فقال أي رب اغفر لي ذنبي فقال تبارك وتعالى أذنب عبدي ذنبا فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب أعمل ما شئت فقد غفرت لك .
[*](قال النووي رحمه الله تعالى في معنى الحديث: قوله عز وجل للذي تكرر ذنبه: اعمل ما شئت؛ فقد غفرت لك ، معناه: ما دمت تذنب، ثم تتوب غفرت لك (1) .
(4) ترك التوبة خوفاً من لمز الناس: فمن الناس من تحدثه نفسه بالتوبة، ولزوم الاستقامة، ولكنه يخشى لمز بعض الناس، وعيبهم إياه، ووصمهم له بالتشدد والوسوسة، ونحو ذلك مما يُرمى به بعض من يستقيم على أمر الله، حيث يرميه بعض الجهلة بذلك؛ فَيُقْصُر عن التوبة؛ خوفاً من اللمز والعيب.
وهذا خطأ فادح؛ إذ كيف يُقَدِّم خوف الناس على خوف رب الناس؟ وكيف يؤثر الخلق على الحق؟ فالله أحق أن يخشاه.
ثم إن ما يرمى به إذا هو تاب إنما هو ابتلاء وامتحان، ليمتحن أصادق هو أم كاذب؛ فإذا صبر في بداية الأمر هان عليه ما يقال له، وإن حسنت توبته، واستمر على الاستقامة أجلَّه من يُعَيّره، وربما اقتدى به.
أضف إلى ذلك أن الإنسان سيذهب إلى قبره وحيداً، وسيحشر إلى ربه وحيداً؛ فماذا سينفعه فلان وفلان ممن يثبطونه؟ .
(6) ترك التوبة مخافة سقوط المنزلة وذهاب الجاه والشهرة: فقد يكون لشخص ما منزلة، وحظوة، وجاه، فلا تطاوعه نفسه على إفساد ذلك بالتوب، كما قال أبو نواس لأبي العتاهية، وقد لامه على تَهَتُّكه في المعاصي:
أتراني يا عتاهي ... تاركاً تلك الملاهي
__________
(1) صحيح مسلم بشرح النووي6/230.(1/375)
أتراني مفسداً بالنـ ... سك عند القوم جاهي (1)
وقد يكون للإنسان شهرة أدبية، أو مكانة اجتماعية، فكلما هَمَّ بالرجوع عن بعض آرائه المخالفة للشريعة أقصر عن ذلك؛ مخافة ذهاب الجاه والشهرة، وحرصاً على أن يبقى احترامه في نفوس أصحابه غير منقوص.
ولا ريب أن ذلك نقص في شجاعة الإنسان ومروءته، بل إن ذلك نقص في عقله، وعلمه، وأمانته.
وإلا فالكريم الشجاع الشهم هو ذلك الذي يرجع عن خطئه، ولا يتمادى في غيه وباطله.
وذلك مما يرفعه عند الله وعند خلقه؛ فلماذا يستوحش من الرجوع إلى الحق؟
فمقتضى الدين، والأمانة، والمروءة أن يصدع بما استبان له من الحق، وألا يمنعه من الجهر بذلك أن ينسب إلى سوء النظر فيما رآه سالفا ً؛ فما هو إلا بشر، وما كان لبشر أن يبرأ نفسه من الخطأ، ويدَّعيَ أنه لم يقل ولن يقول في حياته إلا صواباً.
ثم إن الشهرة والجاه عرض زائل، وينتهي بنهاية الإنسان؛ فماذا ينفعه إذا هو قَدِمَ على ربه إلا ما قَدَّمَ من صالح عمله.
ولقد أحسن من قال:
تُساءلني هل في صِحابك شاعرٌ ... إذا متَّ قال الشعر وهو حزين
فقلت لها: لا هَمَّ لي بعد موتتي ... سوى أن أرى أُخراي كيف تكون
وماالشعر بالمغني فتيلاً عن امرئ ... يلاقي جزاءًَ والجزاءُ مهين
وإن أحْظَ بالرُّحْمى فمالي من هوى ... سواها وأهواء النفوس شجون
فخلِّ فعولن فاعلاتن تقال في ... أناس لهم فوق التراب شؤون
وإن شئتِ تأبيني فدعوة ساجدٍ ... لها بين أحناء الضلوع أنين (2)
ومن هنا يتضح غُرَرِ الفوائد ودُرَرِ الفرائد من تحذير المسلم من حرصه على الشرف والمنزلة والجاه فإن ذلك يفسد دينه فساداً بليغاً أفسد من إرسال ذئبان جائعان على غنم ، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد ، ودرر الفرائد . (
__________
(1) مدارج السالكين1/286.
(2) الأبيات للشيخ محمد الخضر حسين× انظر ديوانه: خواطر الحياة ص 250.(1/376)
(حديث كعب بن مالك في صحيح الترمذي) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ما ذئبان جائعان أُرسلا في غنم بأفسدَ لها من حرص المرء على المال و الشرف لدينه .
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
( ما ) بمعنى ليس
( ذئبان جائعان ) صفة له وفي رواية عاديان والعادي الظالم المتجاوز للحد
( أرسلا في غنم ) الجملة في محل رفع صفة
( بأفسد ) خبر ما والباء زائدة أي أشد فساداً والضمير في
( لها ) للغنم واعتبر فيه الجنسية فلذا أنث وقوله
( من حرص المرء على المال والشرف ) عطف على المال والمراد به الجاه والمنصب ( لدينه ) اللام فيه للبيان ، نحوها في قوله { لمن أراد أن يتم الرضاعة } فكأنه قيل هنا بأفسد لأي شيء؟ قيل لدينه ، ذكره الطيبي ،
( فمقصود الحديث أن الحرص على المال والشرف أكثر إفساداً [ ص 446 ] للدين من إفساد الذئبين للغنم لأن ذلك الأشر والبطر يستفز صاحبه ويأخذ به إلى ما يضره وذلك مذموم لاستدعائه العلو في الأرض والفساد المذمومين شرعاً ، قال الحكيم : وضع اللّه الحرص في هذه الأمة ثم زمه في المؤمنين بزمام التوحيد واليقين وقطع علائق الحرص بنور السبحات فمن كان حظه من نور اليقين ونور السبحات أوفر كان وثاق حرصه أوثق والحرص يحتاجه الآدمي لكن بقدر معلوم وإذا لم يكن لحرصه وثاق وهبت رياحه استفزت النفس فتعدى القدر المحتاج إليه فأفسد وعرف بعضهم الحرص بأنه مدد القوة الموضوعة في الآدمي ومثيرها وعمادها .
(6) التمادي في الذنوب اعتماداً على سعة رحمة الله: فمن الناس من يسرف في المعاصي، فإذا زجر، وَلِيْمَ على ذلك قال: إن الله غفور رحيم، كما قال أحدهم:
وكَثِّر ما استطعت من الخطايا ... إذا كان القدوم على كريم (1)
ولا ريب أن هذا الصنيع سفه، وجهل، وغرور؛ فرحمة الله قريب من المحسنين لا من المسيئين، المفرطين المعاندين، المصرين.
__________
(1) الجواب الكافي ص68.(1/377)
ثم إن الله عز وجل مع عفوه، وسعة رحمته شديد العقاب، ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين.
قال تعالى : (نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ) [الحجر: 49]
تصل الذنوب إلى الذنوب وترتجي ... درك الجنان بها وفوز العابد
ونسيت أن الله أخرج آدماً ... منها إلى الدنيا بذنب واحد (1)
[*](قال أبو حامد الغزالي رحمه الله في شأن من يذنب، وينتظر العفو عنه؛ اتكالاً على فضل الله تعالى قال: وهو كمن ينفق جميع أمواله، ويترك نفسه وعياله فقراء، منتظراً من فضل الله تعالى أن يرزقه العثور على كنز في أرض خربة ؛ فإن إمكان العفو عن الذنب مثل هذا الإمكان، وهو مثل من يتوقع النهب من الظَّلمة في بلده وترك ذخائر أمواله في صحن داره، وقدر على دفنها فلم يفعل، وقال: انتظر من فضل الله تعالى أن يسلط غفلة أو عقوبة على الظالم الناهب؛ حتى لا يتفرغ إلى داري، أو إذا انتهى إلى داري مات على باب الدار؛ فإن الموت ممكن والغفلة ممكنة ! وقد حكي في الأسمار أن مثل ذلك وقع؛ فأنا أنتظر من فضل الله مثله.
فمنتظر هذا أمر ممكن، ولكنه في غاية الحماقة والجهل؛ إذ قد لا يمكن ولا يكون (2) .
ثم أين تعظيم الله في قلب هذا المتمادي؟ وأين الحياء منه عز وجل ؟
[*](قال مالك بن دينار: رأيت عتبة الغلام وهو في يوم شديد الحر، وهو يرشح عرقاً، فقلت له: ما الذي أوقفك في هذا الموضع؟
فقال: يا سيدي ! هذا موضع عصيت الله فيه، وأنشد يقول:
أتفرح بالذنوب وبالمعاصي ... وتنسى يوم يؤخذ بالنواصي
وتأتي الذنب عمداً لا تبالي ... ورب العالمين عليك حاصي (3)
__________
(1) الزهر الفاتح في ذكر من تنزه عن الذنوب والقبائح لمحمد بن محمد بن يوسف الجزيري ص100.
(2) إحياء علوم الدين4/58 وانظر كلامًا جميلا ًفي هذا المعنى لابن القيم في الجواب الكافي ص66_104.
(3) الزهر الفاتح ص96.(1/378)
[*](قال ابن القيم رحمه الله تعالى في شأن المتمادين في الذنوب اتكالاً على رحمة الله : وهذا الضرب من الناس قد تعلق بنصوص الرجاء واتكل عليها، وتعلق بكلتا يديه، وإذا عوتب على الخطايا والانهماك فيها سرد لك ما يحفظه من سعة رحمة الله ومغفرته، ونصوص الرجاء.
وللجهال من هذا الضرب من الناس في هذا الباب غرائب وعجائب+ (1) .
ثم ساق أمثلة عديدة لما جاء عن أولئك.
(ثم قال بعد ذلك: وبالجملة فحسن الظن إنما يكون مع انعقاد أسباب النجاة، وأما على انعقاد أسباب الهلاك فلا يتأتَّى إحسان الظن.
فإن قيل: بل يتأتى ذلك، ويكون مستندُ حُسن الظن سعة مغفرة الله، ورحمته، وعفوه، وجوده، وأن رحمته سبقت غضبه، وأنه لا تنفعه العقوبة، ولا يضره العفو_قيل: الأمر هكذا، والله فوق ذلك أجلُّ، وأكرم، وأجود، وأرحم.
وإنما يضع ذلك في محله اللائق به؛ فإنه سبحانه موصوف بالحكمة، والعزة، والانتقام، وشدة البطش، وعقوبة من يستحق؛ فلو كان مُعَوَّل حسن الظن على صفاته وأسمائه لاشترك في ذلك البرُّ والفاجر، والمؤمن والكافر، ووليه وعدوه؛ فما ينفع المجرمَ أسماؤه وصفاته وقد باء بسخطه وغضبه، وتعرض للَعْنَته، ووقع في محارمه، وانتهك حرماته؟ !
بل حسن الظن ينفع من تاب، وندم، وأقلع، وبدل السيئة بالحسنة، واستقبل بقية عمره بالخير والطاعة، ثم حَسَّن الظن بعدها؛ فهذا هو حسن الظن، والأول غرور والله المستعان (2) .
(7) الاغترار بإمهال الله للمسيئين: فمن الناس من يسرف على نفسه بالمعاصي؛ فإذا نصح عنها، وحُذِّر من عاقبتها قال: ما بالنا نرى أقواماً قد امتلأت فجاجُ الأرض بمفاسدهم، ومباذلهم، وظلمهم، وقتلهم الأنفس بغير الحق، وأكلهم أموال الناس بالباطل، وأكلهم الربا وقد نهوا عنه، ومع ذلك نراهم وقد درت عليهم الأرزاق، وأنسئت لهم الآجال، وهم يعيشون في رغد ونعيم بعيد المنال؟ .
__________
(1) الجواب الكافي 67_68.
(2) الجواب الكافي ص 76_77.(1/379)
ولا ريب أن هذا القول لا يصدر إلا من جاهل بالله، وبسننه عز وجل .
ويقال لهذا وأمثاله: رويدك، رويدك؛ فالله عز وجل يعطي الدنيا لمن أحب، ولمن لا يحب؛ وهؤلاء المذكورون مُتَبَّرٌ ما هم فيه، وباطل ما كانوا يعملون؛ فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم؛ فما الذي هم فيه من النعيم إلا استدراج، وإمهال، وإملاء من الله عز وجل حتى إذا أخذهم أخذهم أخذ عزيز مقتدر (1) .
وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد ، ودرر الفرائد . (
(حديث أبي موسى في الصحيحين) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن الله تعالى لَيملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ، ثم قرأ: {وَكَذالِكَ أَخْذُ رَبّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِىَ ظَالِمَةٌ} [هود:102]http://www.alminbar.net/malafilmy/zolm/9.htm - _ftn10.
(حديث عقبة ابن عامر الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إذا رأيت الله تعالى يعطي العبد من الدنيا ما يحب وهو مقيمٌ على معاصيه فإنما ذلك منه استدراج .
[*](قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى: فكل ظالم معاقبٌ في العاجل على ظلمه قبل الآجل، وكذلك كل مذنبٍ ذنباً، وهو معنى قوله تعالى : (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) [النساء: 123]
وربما رأى العاصي سلامة بدنه؛ فظن أن لا عقوبة، وغفلتُه عما عوقب به عقوبة.
وقد قال بعض الحكماء: المعصية بعد المعصية عقاب المعصية، والحسنة بعد الحسنة ثواب الحسنة، وربما كان العقاب العاجل معنويَّاً، كما قال بعض أحبار بني إسرائيل: يا رب ! كم أعصيك، ولا تعاقبني ! فقيل له: كم أعاقبك وأنت لا تدري؟ ! أليس قد حرمتك حلاوة مناجاتي؟ (2) .
__________
(1) انظر أثر الذنوب في هدم الأمم والشعوب للصواف ص 45_47.
(2) صيد الخاطرص104.(1/380)
[*](قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى: الواجب على العاقل أن يحذر مغبة المعاصي؛ فإن نارها تحت الرماد، وربما تأخرت العقوبة، وربما جاءت مستعجلة (1) .
(وقال: قد تبغت العقوبات، وقد يؤخرها الحلم، والعاقل من إذا فعل خطيئة بادرها بالتوبة؛ فكم مغرور بإمهال العصاة لم يمهل.
وأسرع المعاصي عقوبة ما خلا عن لذة تنسي النُّهى، فتكون كالمعاندة والمبارزة، فإن كانت توجب اعتراضاً على الخالق، أو منازعة له في عظمته، فتلك التي لا تُتلافى، خصوصاً إذا وقعت من عارف بالله؛ فإنه يندر إهماله (2) .
وقال: =فالحذر الحذر من عواقب الخطايا، والبدار البدار إلى محوها بالإنابة؛ فإن لها تأثيراتٍ قبيحةً إن أسْرَعَتْ، وإلا اجتمعتْ وجاءتْ (3) .
يا من غدا في الغي والتيه ... وغره طول تماديه
أملى لك الله فبارزته ... ولم تخف غِبَّ معاصيه (4)
(8) اليأس من رحمة الله: فمن الناس من إذا أسرف على نفسه بالمعاصي، أو تاب مرة أو أكثر فعاد إلى الذنب مرة أخرى أيس من رحمة الله، وظن أنه ممن كتب عليهم الشقاوة؛ فاستمر في الذنوب، وترك التوبة إلى غير رجعة.
وهذا ذنب عظيم، وقد يكون أعظم من مجرد الذنب الأول الذي ارتكبه؛ لأنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون؛ فليجدد التوبة، وليجاهد نفسه في ذات الله حتى يأتيه اليقين.
هذا وقد مر قبل قليل أن الله عز وجل حذر من القنوط من رحمته، ومر كلام بعض السلف حول هذا المعنى.
قال تعالى: ( إِنّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رّوْحِ اللّهِ إِلاّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) [يوسف : 87]
[*] قال الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسيره :
فإنه لا يقطع الرجاء، ويقطع الإياس من الله إلا القوم الكافرون .
__________
(1) صيد الخاطرص339.
(2) صيد الخاطرص500.
(3) صيد الخاطرص502.
(4) بحر الدموع ص36.(1/381)
( حديث ابن عباس رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : الكبائر: الشرك بالله و الإياس من روح الله و القنوط من رحمة الله .
(9) اليأس من توبة العصاة: فمن الناس من يكون فيه خير ونصح وحب للإصلاح، فتراه يحرص على دعوة العصاة أياً كانت معاصيهم، فإذا رأى من أحدهم إعراضاً عن النصح، وصدوداً عن الخير، وتمادياً في الغواية_أيس من هدايته، وأقصر عن نصحه، وربما جزم بأن الله لن يغفر له، ولن يهديه سواء السبيل .
وهذا الصنيع لا يصدر من ذي علم وبصيرة وحكمة؛ فمن ذا الذي أخبر هذا بأن الله لن يغفر لذلك العاصي ؟ وما الذي سوغ له أن يحجر رحمة الله عز وجل .
وقد حذر النبي من ذلك بنص السنة الصحيحة كما في الحديث الآتي : (
( حديث جندب بن عبد الله رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (قال رجل : والله لا يغفر الله لفلان ، فقال الله عز وجل : من ذا الذي يتألى علىَّ أن لا أغفر لفلان إني قد غفرت له وأحبطت عملك)
(ومعنى يتألى عليَّ: أي يقسم ويحلف.
ثم كم من الناس من يتمادون في الغواية والإجرام، حتى يُظنَّ أنهم يموتون على ذلك، ثم يتداركهم الرحمن الرحيم بنفحة من نفحاته، فإذا هم من الأبرار الأخيار.
(10) الشماتة بالمُبْتَلَينَ : فمن الناس هداه الله من إذا رأى مبتلى بمعصية من المعاصي ، أو رأى أبناء فلان من الناس قد أسرفوا على أنفسهم أخذ يشمت بهم، وينتقصهم، ويذمهم.
وما هذا المسلك برشيد؛ إذ هو من الغيبة المحرمة، ومن تزكية النفس بذم الآخرين.
ويخشى على من كانت هذه حاله أن يبتلى بمثل ما ابتلي به من سخر منهم .
فاللائق بالمسلم أن يكون أرجى الناس للناس ، وأخوف الناس على نفسه.
وإذا رأى مبتلى أو سمع به أن يسأل ربه العافية، وأن يحمده حيث عافاه.
[*](قال ابن مسعود - رضي الله عنه - :لو سخرت من كلب لخشيت أن أحوَّل كلباً (1) .
__________
(1) الفوائد ص216.(1/382)
[*](وقال أبو حازم سلمة بن دينار : أفضل خصلة ترجى للمؤمن أن يكون أشد الناس خوفاً على نفسه، وأرجاه لكل مسلم (1) .
(11) الاحتجاج بالقدر على فعل المعاصي وترك الطاعات : فهناك من يحتج بالقدر على معائبه وذنوبه، فيحتج بالقدر على ترك الطاعات، وفعل المحرمات.
فإذا قيل له على سبيل المثال : لمَ لا تصلي ؟ قال: ما أراد الله لي ذلك، وإذا قيل له: متى ستتوب؟ قال: إذا أراد الله ذلك.
وهذا خطأ وضلال وانحراف؛ فالإيمان بالقدر لا يمنح العاصي حجة على ما ترك من الواجبات، أو ما فعل من المعاصي؛ فإذا كان ذلك القائل يقصد بالإرادةِ الإرادةَ بمعنى المحبة فقد أعظم الفرية على الله؛ لأنه عز وجل أحب الطاعة، ورضيها، وأمر بها، وشرعها.
وإن كان يقصد بها الإرادة بمعنى المشيئة، وأن الله لم يقدّر له كذا وكذا من الطاعات، أو قدر عليه كذا وكذا من المعاصي فقد أخطأ_أيضاً ، ذلك أن قدر الله سر مكتوم عنده، ولا يعلمه أحد من الخلق إلا بعد وقوعه.
وإرادة العبد سابقة لفعله، فتكون إرادته غير مبنية على علم بقدر الله؛ فادعاؤه مردود، وحجته داحضة، واحتجاجه باطل.
فالاحتجاج بالقدر على هذا النحو مخاصمة لله ، واحتجاج من العبد على الرب، وحمل للذنب على الأقدار؛ فلا عذر لأحد البتة في معصية الله، ومخالفة أمره مع علمه بذلك، وتمكنه من الفعل والترك، ولو كان له عذر لما استحق العقوبة، واللوم لا في الدنيا، ولا في العقبى.
[*](قال شيخ الإسلام ابن تيمية : وليس لأحد أن يحتج بالقدر على الذنب باتفاق المسلمين ، وسائر أهل الملل، وسائر العقلاء؛ فإن هذا لو كان مقبولاً لأمكن كل أحد أن يفعل ما يخطر له من قتل النفوس وأخذ الأموال، وسائر أنواع الفساد في الأرض، ويحتج بالقدر.
__________
(1) مواعظ الإمام سلمة بن دينار للشيخ صالح الشامي ص 17.(1/383)
ونفس المحتج بالقدر إذا اعتدي عليه، واحتج المعتدي بالقدر لم يقبل منه، بل يتناقض، وتناقض القول يدل على فساده؛ فالاحتجاج بالقدر معلوم الفساد في بداية العقول (1) .
وبما أن هذا الأمر مما يعم به البلاء فهذا إيراد لبعض الأدلة الشرعية، العقلية، والواقعية التي يتضح من خلالها بطلان الاحتجاج بالقدر على فعل المعاصي، أو ترك الطاعات:
(أ) قال تعالى : (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ) [الأنعام: 148]
فهؤلاء المشركون احتجوا بالقدر على شركهم، ولو كان احتجاجهم مقبولاً ما أذاقهم الله بأسه.
(ب) قال تعالى :(رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لئلاَ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) [النساء: 165]
فلو كان الاحتجاج بالقدر على المعاصي مقبولاً لما كان هناك داع لإرسال الرسل.
(جـ) أن الله أمر العبد ونهاه، ولم يكلّفْه ما لا يستطيع، قال تعالى : (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) [التغابن: 16] ، وقال: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا) [البقرة: 86].
ولو كان العبد مجبراً على الفعل لكان مكلفاً بما لا يستطيع الخلاص منه، وهذا باطل؛ ولذلك إذا وقعت المعصية منه بجهل أو إكراه أو نسيان فلا إثم عليه؛ لأنه معذور.
(د) لو سلمنا للمحتج بالقدر على الذنوب لعطلنا الشرائع.
(هـ) لو كان الاحتجاج بالقدر على هذا النحو حجة لقبل من إبليس الذي قال كما أخبر الله عنه : (فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) [الأعراف: 16]
__________
(1) مجموع الفتاوى لابن تيمية 8/179.(1/384)
(و) المحتج بالقدر على المعاصي يحرص على ما يلائمه في أمور دنياه، ولا يعدل عنه إلى ما لا يلائمه ثم يحتج بالقدر.
فلماذا يعدل عما ينفعه في أمور دينه إلى ما يضره ثم يحتج بالقدر؟ .
وإليك مثالاً يوضح ذلك: لو أراد إنسان السفر إلى بلد ما، وهذا البلد له طريقان: أحدهما آمن مطمئن، والآخر كله فوضى، واضطراب، وقتل، وسلب؛ فأيهما سيسلك ؟
لا شك أنه سيسلك الطريق الأول؛ فلماذا لا يسلك في أمر الآخرة طريق الجنة دون طريق النار؟ !
(ز) ومما يرد به على ذلك المحتج ـ بناء على مذهبه ـ أن يقال له: لا تتزوج؛ فإن كان الله قد قضى لك بولد فسيأتيك وإلا فلن، ولا تأكل، ولا تشرب؛ فإن قدر الله لك شبعاً وريَّاً فسيكون، وإلا فلن، وإن هاجمك سَبُعٌ ضار فلا تَفِرَّ منه؛ فإن كان الله قد قدر لك النجاة فستنجو، وإن لم يقدرها لك فلن ينفعك الفرار، وإذا مرضت فلا تتداوَ؛ فإن قدر الله لك الشفاء شفيت وإلا فلن ينفعك الدواء.
فهل سيوافقنا على هذا القول أولا؟ إن وافَقنا علمنا فساد عقله، وإن خالفنا علمنا فساد قوله، وبطلان حجته.
ومما تجدر الإشارة إليه أن احتجاج كثير من هؤلاء ليس ناتجاً عن قناعة وإيمان، وإنما هو ناتج عن نوع هوىً ومعاندة؛ فذلك الاحتجاج باطل في الشرع، والعقل، والقدر (1) .
[*](قال شيخ الإسلام ابن تيمية عن المحتجين بالقدر: هؤلاء القوم إذا أصروا على هذا الاعتقاد كانوا أكفر من اليهود والنصارى (2) .
__________
(1) انظر مجموع الفتاوى8/179 و 262_268، واقتضاء الصراط المستقيم لابن تيمية2/158_259، ومنهاج السنة النبوية لابن تيمية 3/65_78 ومدارج السالكين1/201_211 ورسائل في العقيدة للشيخ محمد ابن عثيمين ص38_39، والإيمان بالقضاء والقدر للكاتب ص75_81.
(2) مجموع الفتاوى 8/107.(1/385)
وبالجملة فالاحتجاج بالقدر إنما يُسَوِّغُ عند المصائب لا المعائب؛ فالسعيد يستغفر من المعائب، ويصبر على المصائب، كما قال تعالى : (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) [غافر: 55].
والشقي يجزع عند المصائب، ويحتج بالقدر على المعائب+ (1) .
[*](قال ابن أبي العز الحنفي رحمه الله تعالى: فما قدّر من المصائب يجب الاستسلام له؛ فإنه من تمام الرضا بالله ربَّاً، وأما الذنوب فليس لأحد أن يذنب، وإذا أذنب فعليه أن يستغفر ويتوب؛ فيتوب من المعائب، ويصبر على المصائب (2) .
وممن يُسَوِّغُ له الاحتجاج بالقدر التائب من الذنب؛ فلو لامه أحد على ذنب تاب منه ثم قال التائب: هذا بقضاء الله وقدره، وأنا تبت واستغفرت لقبل منه ذلك الاحتجاج (3) .
(12) توبة الكذابين: الذين يهجرون الذنوب هجراً مؤقتاً يتحينون فيه الفرص لمعاودة الذنب؛ حيث يتركون الذنوب التي كانوا يرتكبونها إما لمرض، أو عارض، أو خوف، أو رجاء جاه، أو خوف سقوطه، أو عدم تمكن؛ فإذا واتَتْهُم الفرصة رجعوا إلى ذنوبهم.
فهذه توبة الكذابين، وليست بتوبة في الحقيقة.
ولا يدخل في ذلك من تاب فحدثته نفسه بالمعصية، أو أغواه الشيطان بفعلها ثم فعلها، فندم وتاب؛ فهذه توبة صادقة كما مر قبل قليل عند الحديث عن ترك التوبة مخافة الرجوع إلى الذنب.
كما لا يدخل في التوبة الكاذبة الخطراتُ ما لم تكن فعلاً محققاً.
(13) قلة العناية بالتائبين: فهناك من الأخيار والصالحين من لا يأبه بشأن التائبين، فقد يتوب قريب لهم، أو جار، أو صاحب قديم، أو مَنْ بينهم وبينه معرفة، أو غير هؤلاء.
ومع ذلك قد لا تجد من الأخيار من يأخذ بيد التائب، ويعينه على نفسه؛ حتى يستديم التوبة، ويلزم طريق الاستقامة.
بل ربما نفروا منه، ونظروا إليه بعين الريبة.
__________
(1) مجموع الفتاوى 8/454.
(2) شرح العقيدة الطحاوية ص147.
(3) انظر شفاء العليل لابن القيم ص 35.(1/386)
ومن هنا يخذل التائب، فلا يجد من يعينه، ويثبته، ويجيب عن إشكالاته.
وهذا الخذلان قد يتسبب في ضعف التائب، ونكوصه على عقبيه.
فحريٌّ بأهل الخير والدعوة والإصلاح أن يُعْنَوا بالتائبين، وأن يأخذوا بأيديهم إلى ما فيه صلاحهم ودوام استقامتهم، وزيادة إيمانهم، فيحرصوا على الإجابة عن أسئلتهم، وتيسير سبل التوبة لهم، ويسعوا في حل مشكلاتهم، وسداد ديونهم، والبحث عن أعمال لهم إذا كانوا عاطلين، ويبادروا إلى إبعادهم عن جلساء السوء، وربطهم بالرفقة الطيبة الصالحة، قال تعالى : (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى) [المائدة: 2 ] و قال تعالى : (وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) [العصر: 3]
(14) غفلة الأمة عن التوبة: فإذا تحدث متحدث عن التوبة تبادر إلى الذهن توبة الأفراد فحسب، أما توبة الأمة بعامة فقلَّ أن تخطر بالبال.
وهذا من الأخطاء في باب التوبة؛ ذلك أن سنته عز وجل في الأفراد، وفي مغفرته للتائبين وعفوه عن المذنبين هي هي سنته سبحانه في الأمم والشعوب.
فالأمة التي تعود إلى طريق الرشاد، وتَصْدُق في التوبة والإنابة إلى رب العباد يفتح الله لها، ويرفع من شأنها، ويعيدها إلى عزتها ومجدها، وينقذها من وهدتها التي انحدرت إليها، وينجيها من الخطوب التي تحيط بها؛ نتيجة الذنوب التي ارتكبتها، والمنكرات التي أشاعتها من ربا، ومجون، وفسق وشرك، وبدع، وحكم بغير ما أنزل الله، وموالاة لأعداء الله، وتقصير في تبليغ دعوة الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونحو ذلك مما هو مؤذن بالعقوبة، وحلول اللعنة.
فإذا تابت إلى ربها متعها الله بالحياة السعيدة، وجعل لها الصولة والدولة، ورزقها الأمن والأمان، ومكن لها في الأرض.(1/387)
قال تعالى : (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً) [النور: 55].
وإذا أردت مثالاً على توبة الأمة من القرآن الكريم فانظر إلى قوله تعالى : (فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ) [يونس: 98]
وهؤلاء القوم الذين ذكروا في هذه الآية هم قوم يونس عليه السلام وقريتهم هي نينوى التي تقع شرقي مدينة الموصل في شمالي العراق.
ومعنى الآية_ كما يقول المفسرون _: أن قوم يونس عليه السلام لما أظلهم العذاب، وظنوا أنه قد دنا منهم، وأنهم قد فقدوا يونس_قذف الله في قلوبهم التوبة، وفرقوا بين كل أنثى وولدها، وعَجُّوا إلى الله أربعين ليلة_أي رفعوا أصواتهم بالتلبية والدعاء_فلما علم الله منهم صدق التوبة كشف عنهم العذاب، وقال: [وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ] يونس: 98 أي لم نعاجلهم بالعقوبة، فاستمتعوا بالحياة الدنيا إلى حين مماتهم وقت انتهاء أعمارهم (1) .
فما أحوج أمتنا اليوم أن تعج إلى الله منيبة تائبة، ليرضى عنها، ويرفع عنها ما هي فيه من الذلة، والمهانة، والخيبة، والتبعية لأعدائها (2) .
هذا ومما يجب على الأمة في هذا الباب زيادة على ما مضى ما يلي:
(أ) التوبة من الإسراف: فالإسراف نذير شؤم، ومؤذن هلاك؛ فهو يفضي إلى الفاقة، وينزل بأهله إلى طبقة المقلين أو المعدمين.
__________
(1) انظر تفسير البغوي_معالم التنزيل_4/151_152، وتفسير ابن كثير2/414.
(2) انظر أثر الذنوب في هدم الأمم والشعوب، ص89_91.(1/388)
والإسراف في الترف ينبت في النفوس أخلاقاً مرذولة من نحو الجبن، والجور، وقلة الأمانة، والإمساك عن البذل في وجوه الخير.
أما أن الإسراف في الترف يدعو إلى الجبن فلأن شدة تعلق النفوس بالزينة واللذائذ يقوي حرصها على الحياة، ويحملها هذا الحرصُ على تجنب مواقع الحروب، وإن كانت مواقف شرف وذود عن النفس، والمال، والعرض.
وأما أن الإسراف في الترف يسهل على النفوس ارتكاب الجور فلأن المنغمس في الترف يحرص على اكتساب المال ليشبع شهواته، فلا يبالي أن يأخذه من طرق غير مشروعة، فيمد يده إلى الاستيلاء على ما في يد غيره من طريق الرشوة، أو من طريق الغصب إن كان ذا سلطان وقوة.
وأما أنه يَذْهَبُ بالأمانة فلأن الغريق في الترف إنما همه الوصول إلى زينة أو لذة، أو مطعم ونحوه_كثيراً ما تدفعه هذه الشهوات إلى أن يخون من ائتمنه، فيمد يده إلى المال الذي ائتمن عليه، وينفقه في شهواته الطاغية.
وأما أنه يمسك الأيدي عن فعل الخير فلأن من اعتاد الترف حتى أخذ بمجامع قلبه كان أعظم قصده من جمع المال إنفاقه فيما يلذه من مأكول، أو يتزين به من نحو ملبوس أو مفروش.
لذلك كان الغالبُ على المترفين المسرفين قبضَ أيديهم حيث يبسط غيرهم يده؛ إسعاداً لذوي الحاجات من الفقراء والمنكوبين، أو إجابة لما تدعو إليه المروءة والمكارم.
ومن هنا نستبين أن للإسراف سيئةً أخرى هي قطع صلة التعاطف والتوادد بين كثير من أفراد الأمة.
ولهذا تجد من الموسرين المترفين من ينفق الأموال الطائلة في سبيل لذاته وشياطينه، وإذا سئل بذل القليل في مشروع جليل أعرض ونأى بجانبه.
هذا وللإسراف في الترف أثر كبير في إهمال النصيحة والدعوة إلى الحق؛ ذلك أن من اعتاد التقلب في الزينة، وألفت نفسه العيش الناعم_يغلب عليه الحرص على هذا الحال؛ فيتجنب المواقف التي يمكن أن تكون سبباً لفوات بعض النعيم.(1/389)
وللإسراف أثر في الصحة؛ فقد دلت المشاهدات على أن المسرف في نحو المأكل والمشرب لا يتمتع بالصحة التي يتمتع بها المقتصدون فيما يأكلون ويشربون.
والإسراف في الترف يقل معه النبوغ في العلم؛ ذلك أن النفس المحفوفة بالرفاهية من كل جانب يضعف طموحها إلى اللذات العقلية؛ لأنها في لذة قد تشغلها أن تطلب لذة كلذة العلوم طلباً يبلغ بها مرتبة العبقرية.
ومن الجلي أن مرتبة العبقرية لا تدرك إلا باحتمال مصاعب، واقتحام أخطار، والمسرف في الترف ضعيف العزيمة لا يثبت أمام المكاره والشدائد.
هذه بعض مضار الإسراف؛ فحق الأمة التي تريد النهوض من كبوتها أن تقلع عن الإسراف في الرفاهية، وتضع مكان الإسراف بذلاً في وجوه البر والإصلاح.
فمما تشكو منه الأمة إطلاق الأيدي بإنفاق المال في غير جدوى، وتدبير المال على غير حكمة وحسن تقدير.
[*](قال العلامة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي : إن أمة تنفق الملايين في الشهر على القهوة والدخان، وتنفق مثلها على المحرمات، وتنفق مثلها على البدع الضارة، وتنفق أمثال ذلك كله على الكماليات التي تنقص الحياة ولا تزيد فيها، ثم تدَّعي الفقر إذا دعاها داعي العلم لما يحييها_لأمة كاذبة على الله، سفيهة في تصرفاتها (1) .
(وقال أيضاً : المال الذي تنفقه في المحرمات يسوقك إلى النار، والمال الذي تبدده في الشهوات يجلب لك العار، والمال الذي تدخره للورثة الجاهلين تهديه إلى الأشرار، وتبوء أنت بالتبار والخسار.
أما المال الذي تحيي به العلم، وتميت به الجهل_فهو الذي يتوجك في الدنيا بتاج الفخار، وينزلك عند الله منزلة الأبرار (2) .
__________
(1) آثار الشيخ محمد البشير الإبراهيمي3/345.
(2) المرجع السابق3/365_366.(1/390)
ولا يعني التحذير من الإسراف في الترف أن يكون الناس على سنة واحدة من الإعراض عن الزينة والملاذِّ؛ فقد قال تعالى : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ) [الأعراف: 32].
وإنما المقصود من ذلك الدعوةُ إلى أخذ النفوس بالاقتصاد، وحمايتها من الإفراط في الزينة واللذيذ من العيش.
ولهذا سلكت هداية القرآن الكريم بالناس هذا الطريق القويم، وهو طريق الاقتصاد؛ فبعد أن أمر في آيات كثيرة بالإنفاق في وجوه الخير نهى عن الإسراف نهياً بالغاً، فقال تعالى : (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً) [الإسراء: 29]
وألحق المبذرين بقبيل الشياطين فقال تعالى : (إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ) [الإسراء: 27]
وعدهم في زمرة من يستحقون بغضه فقال عز وجل : (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) [الأعراف: 31]
وأثنى على عباده المؤمنين بفضيلة الاقتصاد فقال: (والَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً) [الفرقان: 67]
وإذا كان الإسراف يوقع الأفراد والجماعات في مضارّ كثيرة كان واجباً على أولياء الأمور ودعاة الإصلاح أن يتعاونوا على الجهاد في هذا السبيل؛ حتى يبتعد الناس عن الإسراف في مآكلهم، ومشاربهم، وملابسهم، ومراكبهم، ومساكنهم، وأمتعة بيوتهم.(1/391)
وحين يُحذَّر من عواقب الإسراف، ويُدعى إلى الاقتصاد يبين أنه لا فضيلة في الاقتصاد إلا بعد أن يؤدي الرجل حق المال من نحو النفقات الواجبات عليه لأقاربه، والزكوات المفروضة لأهلها، وبعد أن يبسط يده بالإعانة على بعض المصالح العامة كإنشاء مساجد، أو مدارس، أو مستشفيات، أو ملاجىء، أو إعداد وسائل الاحتفاظ بسيادة الأمة والدفاع عن حقوقها (1) .
(ب) التوبة من التبعية الثقافية والفكرية: فمما يؤسف عليه، ويندى له جبين الحق ما يُرى من حال كثير من مثقفينا ومفكرينا؛ فلا تراهم يرفعون بالإسلام رأساً، ولا يَهُزُّون لنصرته قلماً، ولا يحفلون إلا بزبالة أفكار الغرب، ولا يثقون إلا بما يصدر من مشكاته.
إن كثيراً من هؤلاء الذين تخرجوا في المؤسسات الحضارية الغربية، وعاشوا في المجتمعات الإسلامية يجهلون الإسلام جهلاً كاملاً.
ولا يعني ذلك الجهل أنهم لم يسمعوا بالإسلام، أو أنهم لم يحفظوا في صغرهم شيئاً من الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة، أو أنهم لم يسجدوا لله يوماً من الأيام سجدة، أو لم يعرفوا أخبار رسول الله"وصحابته الكرام - رضي الله عنهم - .
لا، ليس الأمر كذلك، وإنما المقصود أن هؤلاء يجهلون نظرة الإسلام إلى الكون، والحياة، والإنسان.
ويجهلون حقائق الإسلام، وشرائعه الحكيمة، ومقاصده النبيلة.
ويجهلون قيم الإسلام، ومُثُلَه، وأخلاقه، وخصائص حضارته، وتطوراتها، ومراحلها.
ويجهلون أسباب تقدم المسلمين في التاريخ، وأسباب تأخرهم.
ويجهلون القوى التي حاربتهم، والمؤامرات التي نسجت عبر التاريخ للقضاء عليهم.
فهؤلاء الذين نسميهم مثقفين ومفكرين عندما واجهوا الغرب، وحضارته، وفنه، وأدبه_لم يواجهوه إلا بعقول خواء، وأفئدة هواء، ونفوس مجردة من معاني الأصالة والعزة والأنفة؛ فلم يواجهوا الحضارة الحاضرة مواجهة مدركة، فاحصة، مقوّمة.
__________
(1) انظر محاضرات إسلامية للشيخ محمد الخضر حسين ص140_147.(1/392)
وإنما واجهوها مواجهة سطحية تنطلق من مواطن الجهل، والذلة، والشعور بالهزيمة، فانبهروا بكل ما فيها دونما تمييز بين الحق والباطل، والضار والنافع؛ فنكسوا رؤوسهم حطة أمام الغرب.
ولهذا تراهم يهشون ويطربون إذا ذكر اسم فرويد، أو نيتشه، أو ت.إس إليوت، أو ماركيز، أو غيرهم من مفكري الغرب على اختلاف توجهاتهم ومدارسهم الفكرية.
وإذا ذكر الله ورسوله_اشمأزت قلوبهم، واستولى عليهم الشعور بالهزيمة والذلة.
ومن هنا فإن مثقفينا_في فروع الحياة كلها إلا من رحم ربك قد نقشوا ما عند الغربيين ، وظنوا أنه لا ثقافة إلا ثقافتهم، ولا أدب إلا أدبهم، ولا واقع إلا واقعهم؛ فهم جهلوا الإسلام وحضارته، وعرفوا كل شيء عن الغرب .
وأكثر هؤلاء لا يتبرؤون من الإسلام ، بل يصرحون بانتمائهم للأمة الإسلامية.
ولكنهم يفهمون الإسلام من إطار المفهوم الغربي للدين.
والمفهوم الغربي للدين يتلخص في أن الدين عبارة عن رابطة فردية خاصة بين الإنسان وربه؛ فالإنسان يؤمن بمجموعة من القيم والأخلاق التي يستقيها من إيمانه بالله، تصوغ شخصيته، وتجعل منه إنساناً اجتماعياً يستقيم سلوكه العام في إطار الإيمان الديني .
أما الحياة بشمولها فإنها_في نظرهم لا بد أن تخضع لحركة العقل المتغير عبر الزمان والمكان (1) .
[*](يقول الدكتور محسن عبدالحميد أحد علماء العراق : من خلال عشرات المواقف الأليمة جداً التي مرت في حياتي التدريسية، والتي أثبتت لي بشكل قطعي هذا الجهل العام بين كثير من مثقفينا للإسلام أروي الحوادث الآتية:
( في محاضرة عامة لاقتصادي مسلم استعرض المذاهب الاقتصادية كلها منذ أقدم العصور إلى العصر الحديث في مختلف الملل والنحل، ولم يتطرق إلى الإسلام أو حضارته في مجال الاقتصاد منهجاً وعلماً.
__________
(1) انظر أزمة المثقفين تجاه الإسلام د. محسن عبد الحميد ص 49_51 و66_67.(1/393)
فلما سُئل عقب انتهاء المحاضرة عن سبب ذلك قال بالحرف الواحد: أنا متأسف؛ لأنني لا أعرف عن وجهة نظر الإسلام في هذا الموضوع شيئاً.
ولما أهدي له فيما بعد كتاب حول أحكام الاحتكار في الفقه الإسلامي تعجب كثيراً، وذكر أنه لم يكن يظن أن الفقهاء بحثوا مثل هذه الموضوعات.
(وحضرت مرة مناقشة رسالة علمية في الفقه الجنائي الإسلامي مقارناً بالفقه الجنائي الغربي استغرب مناقش قانوني في اللجنة أن يكون فقهاء المسلمين قد ناقشوا بعمق نظرية قانونية كان هو يعتقد أنها نظرية غربية صِرْفة.
(وكنا نتناقش يوماً في غرفة الأساتذة حول وضع المرأة في الإسلام؛ فانبرى أحد المختصين في علم الاجتماع فقال: إن الإسلام ظلم المرأة عندما جعل الرجل قوَّاماً عليها.
فلما سألناه: ما المعنى اللغوي للقوامة في الآية الكريمة حتى نحدد موقفنا منه تلعثم ولم يعرف معناها.
فقال له أحدنا: كيف تصدر يا أستاذ هذا الحكم الظالم على الإسلام وأنت لا تعرف معنى القوامة؟ (1) .
ثم إن نظرة كثير من أولئك تجاه المسلمين وقضاياهم هي هي نظرة الغرب؛ فالغرب يرى أن الإسلام دين قسوة وهمجية، وأن أهله قساة عتاة أجلاف غلاظ الأكباد.
وينطلي هذا الهراء على كثير من أولئك المثقفين، فيسايرون أعداءهم، ويسيرون في ريحهم، وما علموا أن الإسلام دين العدل والرحمة، وأن أمة الإسلام خير أمة أخرجت للناس.
وما الحسام الذي يأمر الإسلام بانتضائه للجهاد في سبيل الله إلا كمبضع طبيب ناصح يشرط به جسم العليل؛ لينزف دمه الفاسد؛ حرصاً على سلامته.
وأمة الإسلام خير أمة جاهدت في سبيل الله فانتصرت، وغلبت فرحمت، وحكمت فعدلت، وساست فأطلقت الحرية من عقالها، وفجرت ينابيع المعارف بعد نضوبها.
واسأل التاريخ؛ فإنها قد استودعته من مآثرها الغرِّ ما بَصُر بضوئه الأعمى، وازدهر في الأرض ازدهار الكواكب في كبد السماء.
__________
(1) أزمة المثقفين تجاه الإسلام ص52_53.(1/394)