[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عبد الله بن أحمد ومطين وغيرهما قالوا : مات لاثنتي عشرة خلت من ربيع الأول يوم الجمعة وقال ذلك البخاري وعباس الدوري فقد غلط ابن قانع حيث يقول ربيع الاخر
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن المروذي قال : أُخْرِجَتْ الجنازة بعد منصرف الناس من الجمعة .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن صالح بن أحمد قال : وجه ابن طاهر يعني نائب بغداد بحاجبه مظفر ومعه غلامان معهما مناديل فيها ثياب وطيب فقالوا الأمير يقرئك السلام ويقول قد فعلت ما لو كان أمير المؤمنين حاضره كان يفعله فقلت أقرئ الأمير السلام وقل له إن أمير المؤمنين قد أعفى أبا عبد الله في حياته مما يكره ولا أحب أن أتبعه بعد موته بما كان يكرهه فعاد وقال يكون شعاره فأعدت عليه مثل قولي وقد كان غزلت له الجارية ثوباً عشارياً قوم بمثانية وعشرين درهما ليقطع منه قميصين فقطعنا له لفافتين وأخذنا من فوران لفافة أخرى فأدرجناه في ثلاث لفائف واشترينا له حنوطا وفرغ من غسله وكفناه وحضر نحو مئة من بني هاشم ونحن نكفنه وجعلوا يقبلون جبهته حتى رفعناه على السرير .
من صلى على أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى :
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عبد الله قال : صلى علي أبي محمد بن عبد الله بن طاهر غلبنا على الصلاة عليه وقد كنا صلينا عليه نحو الهاشميون في الدار وقال صالح وجه ابن طاهر الي من يصلي على أبي عبد الله قلت انا فلما صرنا إلى الصحراء إذا بابن طاهر واقف فخطا إلينا خطوات وعزانا ووضع السرير فلما انتظرت هنية تقدمت وجعلنا نسوي الصفوف فجاءني ابن طاهر فقبض هذا على يدي ومحمد بن نصر على يدي وقالوا الأمير فمانعتهم فنحياني وصلى هو ولم يعلم الناس بذلك فلما كان في الغد علموا فجعلوا يجيؤون ويصلون على القبر ومكث الناس ما شاء الله يأتون فيصلون على القبر .(3/416)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عبيد الله بن يحيى بن خاقان قال : سمعت المتوكل يقول لمحمد بن عبد الله طوبى لك يا محمد صليت على أحمد بن حنبل رحمة الله عليه .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الوهاب الوراق قال : ما بلغنا ان جمعا في الجاهلية ولا الإسلام مثله يعني من شهد الجنازة حتى بلغنا أن الموضع مسح وحزر على الصحيح فإذا هو نحو من ألف ألف وحزرنا على القبور نحوا من ستين ألف امرأة وفتح الناس أبواب المنازل في الشوارع والدروب ينادون من أراد الوضوء .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن بنان بن أحمد القصباني انه حضر جنازة أحمد فكانت الصفوف من الميدان إلى القنطرة باب القطعية وحزر من حضرها من الرجال بثمان مئة ألف ومن النساء بستين ألف امرأة ونظروا فيمن صلى العصر يومئذ في مسجد الرصافة فكانوا نيفا وعشرين ألفا .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن موسى بن هارون الحافظ قال : يقال أن أحمد لما مات مسحت الأمكنة المبسوطة التي وقف الناس للصلاة عليها فحزر مقادير الناس بالمساحة على التقدير ست مئة ألف أو أكثر سوى ما كان في الأطرف والحوالي والسطوح والمواضع المتفرقة أكثر من ألف ألف .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن فتح بن الحجاج قال سمعت في دار ابن طاهر الأمير أن الأمير بعث عشرين رجلا فحزروا كم صلى على أحمد بن حنبل فحزروا فبلغ ألف ألف وثمانين ألفا سوى من كان في السفن .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أبي زرعة قال : بلغني أن المتوكل أمر أن يمسح الموضع الذي وقف عليه الناس حيث صلى على أحمد فبلغ مقام ألفي ألف وخمسة مئة ألف .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عبد الله بن أحمد قال : سمعت أبي يقول قولوا لاهل البدع بيننا وبينكم يوم الجنائز .(3/417)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عبد الله بن أحمد قال : لما حضرت أبي الوفاة جلست عنده وبيدي الخرقة لاشد بها لحييه فجعل يغرق ثم يفيق ثم يفتح عينيه ويقول بيده هكذا لا بعد لا بعد ثلاث مرات فلما كان في الثالثة قلت يا ابة أي شيء هذا الذي لهجت به في هذا الوقت فقال يا بني ما تدري قلت لا قال ابليس لعنه الله قائم بحذائي وهو عاض على انامله يقول يا أحمد فتني وأنا اقول لا بعد حتى اموت .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أحمد بن محمد بن عمر قال سئل عبد الله بن أحمد هل عقل أبوك عند المعاينة قال نعم كنا نوضئه فجعل يشير بيده فقال لي صالح أي شيء يقول فقلت هو ذا يقول خللوا أصابعي فخللنا أصابعه ثم ترك الإشارة فمات من ساعته وقال صالح جعل أبي يحرك لسانه إلى أن توفي .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أحمد بن داود الاحمسي قال رفعنا جنازة أحمد مع العصر ودفناه مع الغروب .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن صالح قال : لم يحضر أبي وقت غسله غريب فأردنا ان نكفنه فغلبنا عليه بنو هاشم وجعلوا يبكون عليه ويأتون بأولادهم فيكبونهم عليه ويقبلونه ووضعناه على السرير وشددنا بالعمائم .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن ابن أبي صالح القنطري قال : شهدت الموسم أربعين عاما فما رأيت جمعا قط مثل هذا يعني مشهد أبي عبد الله .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عبد الوهاب الوراق قال : أظهر الناس في جنازة أحمد بن حنبل السنة والطعن على أهل البدع فسر الله المسلمين بذلك على ما عندهم من المصيبة لما رأوا من العز وعلوا الاسلام وكبت أهل الزيغ ولزم بعض الناس القبر وباتوا عنده وجعل النساء يأتين حتى منعن وسمعت المروذي يقول عن علي بن مهرويه عن خالته قالت ما صلوا ببغداد في مسجد العصر يوم وفاة أحمد وقيل إن الزحمة دامت على القبر أياما .(3/418)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن صالح قال : وبعد أيام جاء كتاب المتوكل على الله إلى ابن طاهر يأمره بتعزيتنا وأمر بحمل الكتب قال فحملتها وقلت إنها لنا سماع فتكون في أيدينا وتنسخ عندنا فقال أقول لأمير المؤمنين فلم يزل يدافع الأمير ولم تخرج عن أيدينا والحمد لله .
بعض المنامات المبشرة بعد موت أحمد بن حنبل :
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن محمد بن مهران الجمال قال : رأيت أحمد بن حنبل في النوم كأن عليه بردا مخططا أو مغيرا وكأنه بالري يريد المصير إلى الجامع قال فاستعبرت بعض أهل التعبير فقال هذا رجل يشتهر بالخير وبه إلى الجمال قال فما أتى عليه إلا قريب حتى ورد من خبره من أمر المحنة .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عبد الله بن الحسين بن موسى قال : رأيت رجلا من أهل الحديث توفي فقلت ما فعل الله بك قال غفر لي فقلت بالله قال بالله إنه غفر لي فقلت بماذا غفر الله لك قال بمحبتي أحمد بن حنبل .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الحسن بن عيسى عن اخي أبي عقيل قال رأيت شابا توفي بقزوين فقلت ما فعل بك ربك قال غفر لي ، ورأيته مستعجلا فسألته فقال لأن أهل السموات قد اشتغلوا بعقد الألوية لاستقبال أحمد بن حنبل وأنا أريد استقباله وكان أحمد توفي تلك الايام .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الهيثم بن خالويه قال رأيت السندي في النوم فقلت ما حالك قال أنا بخير لكن اشتغلوا عني بمجيء أحمد بن حنبل .(3/419)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن القواريري عبيد الله بن عمر قال جاءني شيخ فخلا بي فقال رأيت النبي صلى الله عليه وسلم قاعدا ومعه أحمد بن نصر فقال على فلان لعنة الله ثلاث مرات وعلى فلان وفلان فانهما يكيدان الدين وأهله ويكيدان أحمد بن حنبل والقواريري وليس يصلان إلى شيء منهما إن شاء الله ثم قال اقرأ أحمد والقواريري السلام وقل لهما جزاكما الله عني خيرا وعن امتي .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن ابن أبي داود قالا : حدثني أبي قال رأيت في المنام أيام المحنة كأن رجلا خرج من المقصورة وهو يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اقتدوا بالذين من بعدي أحمد بن حنبل وفلان وقال نسيت اسمه إلا أنه كان أيام قتل أحمد بن نصر يعني اقتدوا في وقتكم هذا .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن بندار ومحمد بن المثنى قالا كنا نقرأ على شيخ ضرير فلما أحدثوا ببغداد القول بخلق القرآن قال الشيخ إن لم يكن القرآن مخلوقا فمحى الله القرآن من صدري فلما سمعنا هذا تركناه فلما كان بعد مدة لقينا فقلنا يا فلان ما فعل القرآن قال ما بقي في صدري منه شئ قلنا ولا (قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ) قال ولا (قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ) إلا ان أسمعها من غيري يقرؤها .
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم في الحلية عن إبراهيم بن حرزان قال: رأى جار لنا روياً كأن ملكاً نزل من السماء ومعه سبعة تيجان فأول من توج من الدنيا أحمد بن حنبل .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن زكريا بن يحيى السمسار قال : رأيت أحمد بن حنبل في المنام على رأسه تاج مرصع بالجوهر في رجليه نعلان وهو يخطر بهما قلت ما فعل الله بك قال غفر لي وأدناني وتوجني بيده بهذا التاج وقال لي هذا بقولك القرآن كلام الله غير مخلوق ، قلت ما هذة الخطرة التي لم أعرفها لك في دار الدنيا قال هذة مشية الخدام في دار السلام .(3/420)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن ابراهيم بن جعفر المروذي قال رايت أحمد بن حنبل يمشي في النوم مشية يختال فيها قلت ما هذة المشية يا أبا عبد الله قال هذة مشية الخدام في دار السلام .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن المروذي قال رأيت أحمد في النوم وعليه حلتان خضراوان وعلى رأسه تاج من النور وإذا هو يمشي مشية لم أكن أعرفها فقلت ما هذا قال هذة مشية الخدام في دار السلام .
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم في الحلية عن المروزي قال : رأيت أحمد بن حنبل في المنام وعليه حلتان خضراوتان، وفي رجليه نعلان من النصب الأحمر، شركهما من الزمرد الأخضر، وعلى رأسه تاج من النور مرصع بالجوهر، وإذا هو يخطر في مشيته فقلت له: حبيبي يا أبا عبد الله تمشي مشية تختال فيها ؟فقلت: ما هذه المشية يا أبا عبد الله ؟ قال هذه مشية الخدام في دار السلام.
[*] قال الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء :
ذكر شيخ الاسلام بإسناد طويل عن محمد بن يحيى الرملي قاضي دمشق قال دخلت العراق والحجاز وكتبت فمن كثرة الاختلاف لم ادر بأيها آخذ فقلت اللهم اهدني فنمت فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم وقد اسند ظهره إلى الكعبة وعن يمينه الشافعي وأحمد بن حنبل وهو يبتسم اليهما فقلت يا رسول الله بم آخذ فأوما إلى الشافعي وأحمد وقال (أُوْلََئِكَ الّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنّبُوّةَ ) [ الأنعام : 89](3/421)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن سلمة بن شبيب يقول كنا جلوسا مع أحمد بن حنبل إذ جاءه رجل فقال من منكم أحمد بن حنبل فسكتنا فقال أنا أحمد ما حاجتك قال صرت اليك من أربعة مئة فرسخ برها وبحرها جاءني الخضر في منامي فقال تعرف أحمد بن حنبل قلت لا قال ائت بغداد وسل عنه وقل له إن الخضر يقرئك السلام ويقول إن ساكن السماء الذي على عرشه راض عنك والملائكة راضون عنك بما صيرت نفسك لله فقال أحمد ما شاء الله لا قوة الا بالله ألك حاجة غير هذه قال ما جئتك إلا لهذا وانصرف .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عبد الله بن أبي قرة قال رأيت في النوم كأني دخلت الجنة فإذا قصر من فضة فانفتح بابه فخرج أحمد بن حنبل وعليه رداء من نور فقال لي قد جئت قلت نعم فلم يزل يردد حتى انتهيت قال ورايت في النوم جبال المسك والناس مجتمعون وهم يقولون قد جاء الغازي فدخل أحمد بن حنبل متقلدا السيف ومعه رمح فقال هذه الجنة .
[*] قال الإمام الذهبي تعليقاً على هذه المنامات : ولقد جمع ابن جوزي فاوعى من المنامات في نحو من ثلاثين ورقة وأفرد ابن البناء جزءا في ذلك وليس أبو عبد الله ممن يحتاج تقرير ولايته إلى منامات ولكنها جند الله تسر المؤمن ولا سيما اذا تواترت .
- خامساً : نماذج من سير الزاهدين من أئمة الحديث أصحاب الكتب الستة .
{ تَقْدِمَة } : إن المقصود من ذكر سِيَرِ أصحاب الكتب الستة لتذكير طالب العلم بهذه الكتب لأنها عماد طالب العلم في الحديث بعد الله تعالى ، فيجب عليه أن يتمسك بها وأن يعضَّ عليها بالنواجذ وأن يُقْبِلُ عليها إقبال الظامئ على المورد العذب ، يستمد من نورها نوراً ومن ضيائها لمعاناً يضيئ له الطريق في الدعوة إلى الله تعالى على بصيرة ، فليكن ذلك نُصب عينيك ومحط نظرك وقِبلة قلبك ، فأبْصِرْ وَتعَلَم وإذا عَرفت الحقَ فالْزَم .
سيرة البخاري رحمه الله :(3/422)
البخاري رحمه الله تعالى حافظ الإسلام ، وإمام من أئمة الهدى وأعلام التقى ومصابيح الدجى ، من حلية الأولياء وأعلام النبلاء ،الأضواء اللامعة والنجوم الساطعة ، من الطبقة التي تلي تابعي التابعين :
اسم البخاري ونسبه :
هو محمد بن اسماعيل بن ابراهيم بن المغيرة بن بردزبه البخاري، فجده
بردزبه ضبط اسمه بفتح الباء الموحدة وسكون الراء المهملة وكسر الدال المهملة
وسكون الزاي المعجمة وفتح الباء الموحدة بعدها هاء.
[*] قال الحافظ ابن حجر: "هذا هو المشهور في ضبطه، وتعنى كلمة بردزبه باللغة الفارسية الزراع كذا يقول أهل بخارى, وكان بردزبة
فارسيا على دين قومه" انتهى.
متى وأين ولد الإمام البخاري رحمه الله :
ولد رحمه الله في ولد البخاري في إحدى قرى خراسان ، في بُخَارَى وهي من أعظم مدن ما وراء النهر بينها وبين سمرقند مسافة ثمانية أيام) في يوم الجمعة بعد الصلاة لثلاث عشرة ليلة خلت من شهر شوال سنة أربع وتسعين ومائة.
، عام 194 هجرية وينتمي البخاري بالولاء إلى قبيلة جعفة اليمنية، فقد أسلم جده المغيرة على يدي إسماعيل الجعفي والى خراسان، وكان أبوه إسماعيل من رجال الطبقة الرابعة من علماء الحديث، وهى الطبقة التي تلي تابعي التابعين ، وتذكر كتب الحديث أن والد البخاري كان من الثقات، وقد كان له بالغ الأثر في توجيه الابن إلى الاهتمام بالسنة، بالرغم من انه مات والابن لا يزال في مرحلة الطفولة.
[*] مناقب البخاري رحمه الله :
كان البخاري رحمه الله تعالى من أئمة الهدى وأعلام التقى ومصابيح الدجى ، من حلية الأولياء وأعلام النبلاء وحراس العقيدة وحماة السنة وأشياع الحق وأنصار دين الله عز وجل ، حاملُ لواء السنة وناصرها وقامع البدعة ودامغها .
وهاك غَيْضٍ من فيض ونقطةٍ من بحر مما ورد في مناقبه رحمه الله تعالى :
(1) نشأة البخاري وبدؤه طلب العلم:
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ ـــ ـــ ــ ـــ ــ ــ(3/423)
توجه البخاري إلى طلب العلم منذ نعومة أظفاره ، وبدت عليه علائم الذكاء والبراعة منذ حداثته ، فقد حفظ القرآن وهو صبي ثم استوفى حفظ حديث شيوخه البخاريين ونظر في الرأي وقرأ كتب ابن المبارك حين استكمل ست عشرة سنة ورحل في طلب الحديث إلى جميع محدثي الأمصار ، وكتب بخراسان والعراق والحجاز والشام ومصر وغيرها ، وسمع من العلماء والمحدثين وأكب عليه الناس وتزاحموا عليه ولم تنبت لحيته بعد .
توفي والده وهو صغير فنشأ في حجر أمه وأقبل على طلب العلم منذ الصغر وقد تحدث عن نفسه فيما ذكره الفِرَبْري عن محمد بن أبي حاتم ورّاق البخاري قال: سمعت البخاري يقول:"ألهمت حفظ الحديث وأنا في الكتاب"، قلت: وكم أتى عليك إذ ذاك؟، قال : "عشر سنين أو أقل"، إلى أن قال: "فلما طعنت في ست عشرة سنة حفظت كتب ابن المبارك ووكيع وعرفت كلام هؤلاء ـ يعني أصحاب الرأي ـ ، قال: "ثم خرجت مع أمي وأخي إلى الحج, فلما طعنت في ثمان عشرة سنة صنفت كتاب قضايا الصحابة والتابعين ثم صنفت التاريخ بالمدينة عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم وكنت أكتبه في الليالي المقمرة"، قال: "وقلَّ اسم في التاريخ إلا وله عندي قصة إلا أني كرهت أن يطول الكتاب".
(2) رحلة البخاري في طلب العلم وسماعه الحديث :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
اشتغل البخاري وهو صغير في طلب العلم وسماع الحديث فسمع من أهل بلده من مثل محمد بن سلام ومحمد بن يوسف البيكنديين وعبد الله بن محمد المسندي وابن الأشعث وغيرهم ثم حج هو وأمه وأخوه أحمد وهو أسن منه سنة عشر ومائتين فرجع أخوه بأمه وبقي في طلب العلم فسمع بمكة من الحميدي وغيره وبالمدينة من عبد العزيز الأويسي ومطرف ابن عبد الله وغيرهم ثم رحل إلى أكثر محدثي الأمصار في خراسان(3/424)
والشام ومصر ومدن العراق وقدم بغداد مرارا واجتمع إليه أهلها واعترفوا بفضله وشهدوا بتفرده في علمي الرواية والدراية وسمع ببلخ من مكي بن إبراهيم وغيره وبمرو من علي بن الحسن وعبد الله بن عثمان وغيرهما وبنيسابور من يحيى بن يحيى وغيره وبالري من إبراهيم بن موسى وغيره وببغداد من شريح بن النعمان وأحمد بن حنبل وغيرهما
وبالبصرة من أبي عاصم النبيل ومحمد بن عبد الله الأنصاري وغيرهما وبالكوفة من طلق بن غنام وخلاد بن يحيى وغيرهما وبمصر من سعيد بن كثير بن عفير وغيره وسمع من أناس كثيرين غير هؤلاء ونقل عنه أنه قال: "كتبت عن ألف وثمانين نفسا ليس فيهم إلا صاحب حديث", وقال أيضا: "لم أكتب إلا عمن قال: الإيمان قول وعمل".
(3) ذكاء البخاري وقوة حفظه :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
كان رحمه الله قوي الذاكرة سريع الحفظ ، ذُكِرَ عنه المُطَّلِعون على حاله ما يتعجب منه الأذكياء ذوو الحفظ والإتقان فضلا عمن سواهم ،ومن ذلك ما يلي :
[*] قال أبو بكر الكلذواني: " ما رأيت مثل محمد بن إسماعيل كان يأخذ الكتاب من العلم فيطلع عليه اطلاعة فيحفظ عامة أطراف الحديث من مرة واحدة".
[*] وقال محمد بن أبي حاتم وراق البخاري :قلت لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل: تحفظ جميع ما أدخلته في المصنف، قال: "لا يخفى علي جميع ما فيه",
[*] وقال محمد بن حمدوية: سمعت البخاري يقول: "أحفظ مائة ألف حديث صحيح, ومائتي ألف حديث غير صحيح".
[*] وقال محمد بن الأزهر السجستاني : كنت في مجلس سليمان بن حرب والبخاري معنا يسمع ولا يكتب فقيل لبعضهم: ماله لا يكتب فقال: يرجع إلى بخارى ويكتب من حفظه,
ولعل من أعجب ما نقل عنه في ذلك ما قاله الحافظ أبو أحمد ابن عدي كما في تاريخ بغداد ووفيات الأعيان وغيرهما سمعت عدة مشائخ يحكون أن محمد(3/425)
بن إسماعيل البخاري قدم بغداد فسمع به أصحاب الحديث فاجتمعوا وأرادوا امتحان حفظه فعمدوا إلى مائة حديث فقلبوا متونها وأسانيدها وجعلوا متن هذا الإسناد لإسناد آخر ، وإسناد هذا المتن لمتن آخر ودفعوا إلى عشرة أنفس إلى كل رجل عشرة أحاديث وأمروهم إذا حضروا المجلس أن يلقوا ذلك على البخاري وأخذوا الموعد للمجلس فحضر المجلس جماعة من أصحاب الحديث من الغرباء من أهل خراسان وغيرها ومن البغداديين فلما اطمأن المجلس بأهله انتدب إليه رجل من العشرة فسأله عن حديث من تلك الأحاديث فقال البخاري: "لا أعرفه"، فسأله عن آخر فقال: "لا أعرفه", فما زال يلقي عليه واحدا بعد واحد حتى فرغ من عشرته والبخاري يقول: "لا أعرفه"، فكان الفُهَمَاء ممن حضر المجلس يلتفت بعضهم إلى بعض ويقولون الرجل فهم, ومن كان منهم غير ذلك يقضي على البخاري بالعجز والتقصير وقلة الفهم, ثم انتدب رجل آخر من العشرة وسأله كما سأله الأول والبخاري رحمه الله يجيب بما أجاب به الأول ثم الثالث والرابع حتى فرغ العشرة مما هيأوه من الأحاديث فلما علم البخاري أنهم فرغوا التفت إلى الأول منهم فقال أما حديثك الأول فقلت كذا وصوابه كذا وحديثك الثاني قلت كذا وصوابه كذا والثالث والرابع على الولاء حتى أتى على تمام العشرة فرد كل متن إلى إسناده وكل إسناد إلى متنه وفعل بالآخرين مثل ذلك ورد متون الأحاديث كلها إلى أسانيدها وأسانيدها إلى متونها فأقر له الناس بالحفظ وأذعنوا له بالفضل، وعند ذكر هذه القصة يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله: "هنا يخضع للبخاري فما العجب من رده الخطأ إلى الصواب فإنه كان حافظا, بل العجب من حفظه للخطأ على ترتيب ما ألقوه عليه من مرة واحدة".
(4) ثناء العلماء على البخاري رحمه الله :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ(3/426)
قد أفاض العلماء في كل العصور في الثناء على البخاري ـ رحمه الله ـ وتقريظه شخصا وكتابا، وقد كان البخاري رحمه الله موضع التقدير من شيوخه وأقرانه تحدثوا عنه بما هو أهله وأنزلوه المنزلة التي تليق به وكذلك غيرهم ممن عاصره أو جاء بعده وقد جمع مناقبه الحافظان الكبيران الذهبي وابن حجر العسقلاني في مؤلفين خاصين كما ذكر ذلك الذهبي في تذكرة الحفاظ وابن حجر في تهذيب التهذيب. ولعل من المناسب هنا ذكر بعض النماذج من ذلك:
[*] قال الإمام مسلم بن الحجاج له : إنك سيد المحدثين وطبيب الحديث في علله،
[*] وقال الإمام الترمذي : لم أر أحدا في العراق ولا بخراسان في معرفة العلل والتاريخ ومعرفة الأسانيد اعلم من محمد بن إسماعيل .
وقال أيضاً : كان محمد بن إسماعيل عند عبد الله بن منير فقال له لما قام: يا أبا عبد الله جعلك الله زين هذه الأمة فاستجاب الله تعالى له فيه"..
[*] ويقول الإمام البخاري : "كنت إذا دخلت على سليمان بن حرب يقول: "بيّن لنا غلط شعبة"
[*] وقال شيخه محمد بن بشار الحافظ : " حفاظ الدنيا أربعة : أبو زرعة بالري ، و مسلم بن الحجاج بنيسابور، و عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي بسمرقند ، و محمد بن إسماعيل البخاري ببخارى" ،
وقال أيضاً : " ما قدم علينا مثل البخاري " ،
[*] وقال محمد بن أبي حاتم وراق البخاري: سمعت يحيى بن جعفر البيكندي يقول: "لو قدرت أن أزيد من عمري في عمر محمد بن إسماعيل لفعلت فإن موتي يكون موت رجل واحد وموت محمد بن إسماعيل فيه ذهاب العلم"..
[*] وقال أحمد بن حنبل : ما أخرجت خراسان مثل محمد بن إسماعيل" .
[*] ولما بلغ علي بن المديني قول البخاري: "ما استصغرت نفسي عند أحد إلا عند علي بن المديني" قال لمن أخبره: "دع قوله؛ ما رأى مثل نفسه"..
[*] وقال رجاء بن رجاء: "هو ـ يعني البخاري ـ آية من آيات الله تمشي على ظهر الأرض".(3/427)
[*] وقال أبو عبد الله الحاكم في تاريخ نيسابور: هو إمام أهل الحديث بلا خلاف بين أهل النقل"..
[*] وقال إمام الأئمة ابن خزيمة: "ما رأيت تحت أديم السماء أعلم بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحفظ له من محمد بن إسماعيل البخاري"..
[*] ويقول الحافظ الذهبي في تذكرة الحفاظ: وكان رأسا في الذكاء رأسا في العلم رأسا في الورع والعبادة"، ويقول في كتابه العبر: "وكان من أوعية العلم يتوقد ذكاء ولم يخلف بعده
مثله رحمة الله عليه .
[*] وقال الحافظ ابن حجر في كتابه تقريب التهذيب: "أبو عبد الله البخاري جبل الحفظ وإمام الدنيا ثقة الحديث".
[*] وقال الحافظ ابن كثير في كتابه البداية والنهاية: هو إمام أهل الحديث في زمانه والمقتدى به في أوانه والمقدم على سائر أضرابه وأقرانه"، وقال: "وقد كان البخاري رحمه الله في غاية الحياء والشجاعة والسخاء والورع والزهد في الدنيا دار الفناء والرغبة في الآخرة دار البقاء"،
[*] وقال ابن السبكي في طبقات الشافعية: "هو إمام المسلمين وقدوة الموحدين وشيخ المؤمنين والمعول عليه في أحاديث سيد المرسلين وحافظ نظام الدين"،
[*] وقال محمد بن يعقوب الأخرم سمعت أصحابنا يقولون: لما قدم البخاري نيسابور استقبله أربعة آلاف رجل على الخيل سوى من ركب بغلا أو حمارا وسوى الرجالة". هذا غيض من فيض مما قيل في الإمام أبي عبد الله البخاري رحمه الله تعالى برحمته الواسعة.
(5) مصنفات البخاري رحمه الله تعالى :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ
وقد أتحف الإمام البخاري رحمه الله المكتبة الإسلامية بمصنفات قيّمة نافعة أجلّها وعلى رأسها كتابه الجامع الصحيح الذي هو أصح الكتب المصنفة في الحديث النبوي.(3/428)
تم تصنيف البخاري لكتابه الشهير ( صحيح البخاري ) نتيجة لعملية طويلة من الانتقاء والنقد، ، وقد روى انه جمعه من ستمائة ألف حديث، ولشدّة تحريه لم يكن يضع فيه حديثًا إلا بعد أن يصلي ركعتين ويستخير الله ، وصنفه في ست عشرة سنة، وقد قصد فيه إلى جمع أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحاح المستفيضة المتصلة دون الأحاديث الضعيفة ، ولم يقتصر في جمعه على موضوعات معينة ، بل جمع الأحاديث في جميع الأبواب، واستنبط منها الفقه والسيرة ، وبدأ تصنيفه وترتيب أبوابه في مكة ،ثم أكمله أثناء رحلاته الطويلة وبعد استقراره في موطنه، وقسم البخاري كتابه إلى سبعةٍ وتسعين كتاباً أو بابا، ويبدأ الكتاب بباب الوحي ثم الإيمان والعلوم، ثم الطهارة والصلاة والصوم والزكاة والحج ثم كتب المعاملات مثل البيع ثم أبواب أخرى في فضائل قريش ومناقب الصحابة وتفسير ، وهكذا اخذ البخاري بالتبويب الفقهي إلى جانب ذكر أبواب أخرى مثل الغزوات والحروب، وتبلغ أحاديث البخاري سبعة آلاف وثلاثمائة وسبعة وتسعين حديثا كما يقول ابن حجر في مقدمة فتح الباري، لكن الأحاديث تتكرر في أكثر من باب، وعلى هذا فإن عدد الأحاديث بعد حذف المكرر لا يزيد على ألفين وسبعمائة وواحد وستين حديثا وقد اشترط البخاري على نفسه ألا يروى إلا الأحاديث الصحيحة أي الأحاديث المتصلة السند إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع توافر شروط العدالة والضبط في كل الرواة والشرط الثاني هو لقاء راوي الحديث مع من أخذ عنه حتى ولو كان اللقاء مرة واحده.
لهذه الأسباب تحققت للبخاري شهرة لا يدانيها أي كتاب آخر من كتب السنة والحديث، وقد كان الناس في مصر يقرأونه في المساجد كما يقرأون القرآن .
سبب تأليف صحيح البخاري:
قال البخاري : كنا عند إسحاق بن راهويه فقال : لو جمعتم كتاباً مختصراً لصحيح سنة النبي صلى الله عليه وسلم . قال : فوقع ذلك في قلبي فأخذت في جمع الجامع الصحيح .(3/429)
وهذا يدل على همة هذا الإمام الجليل حيث أخذت هذه الكلمة منه مأخذها ، وبعثته للعمل على تأليف كتابه ، وسماه كما ذكر ابن الصلاح و النووي الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه سلم وسننه وأيامه .
ولما أخرجه للناس وأخذ يحدث به ، طار في الآفاق أمره ، فهرع إليه الناس من كل فج يتلقونه عنه حتى بلغ من أخذه نحو من مائة ألف ، وانتشرت نسخه في الأمصار ، وعكف الناس عليه حفظًا ودراسة وشرحًا وتلخيصًا ، وكان فرح أهل العلم به عظيمًا .
من فقه البخاري في صحيحه :
قصد البخاري في صحيحة إلى إبراز فقه الحديث الصحيح واستنباط الفوائد منه ، وجعل الفوائد المستنبطة تراجم للكتاب ( أي عناوين له ) ولذلك فإنه يذكر متن الحديث بغير إسناد وقد يحذف من أول الإسناد واحد فأكثر، وهذان النوعان يعرفان بالتعليق ، وقد يكرر الحديث في مواضع كثيرة من كتابه يشير في كل منها إلى فائدة تستنبط من الحديث ، والسبب في ذلك أن الحديث الواحد قد يكون فيه من العلم والفقه ما يوجب وضعه في أكثر من باب ، ولكنه غالبًا ما يذكر في كل باب الحديث بإسناد غير إسناده في الأبواب السابقة أو اللاحقة ، وقد يختلف سياق الحديث من رواية لأخرى ، وذكر في تراجم الأبواب علماً كثيراً من الآيات والأحاديث وفتاوى الصحابة والتابعين ، ليبين بها فقه الباب والاستدلال له ، حتى اشتهر بين العلماء أن فقه البخاري في تراجمه .
من شروح صحيح البخاري :
لم يحظ كتاب بعد كتاب الله بعناية العلماء مثل ما حظي كتاب صحيح البخاري ، فقد اعتنى العلماء والمؤلفون به : شرحًا له واستنباطاً للأحكام منه وتكلماً على رجاله وتعاليقه وشرحاً لغريبه وبياناً لمشكلات إعرابه إلى غير ذلك ، وقد تكاثرت شروحه حتى بلغ عدد شروحه والتعليقات عليه أكثر من مائة وثلاثين شرحاً ، وأشهر هذه الشروح :
(1) فتح الباري شرح صحيح البخاري :(3/430)
وهو للحافظ العلامة شيخ الإسلام أبي الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني المتوفى سنة ( 852 هـ) ، وشرحه من أعظم شروح البخاري بل هو أمير تلك الشروح كلها فلا يدانيه شرح ولا هجرة بعد الفتح كما قال العلامة الشوكاني ، وقد استغرق تأليفه خمساً وعشرين عاماً إذ بدأ فيه سنة (817هـ) وأكمله سنة (842هـ ) قبل وفاته بعشر سنين ، وأولم وليمة كبرى لما أكمله أنفق فيها خمسمائة دينار ، ولم يتخلف عنها من وجهاء المسلمين إلا اليسير ، وقد لقي هذا الشرح ما يستحق من الشهرة والقبول حتى إنه كان يشترى بنحو ثلاثمائة دينار ، وانتشر في الآفاق حتى غطت شهرته سائر الشروح، وهو يقع في ثلاثة عشر مجلداً ومقدمة في مجلد ضخم مسماة بهدي الساري لمقدمة فتح الباري .
وقد جاء هذا الشرح مكملاً لأصله ، جمع مؤلفه فيه أقوال أكثر من سبقه ممن تعرض لمسائل من العلم ذات صلة بصحيح البخاري ، وناقشها مناقشة العالم الحاذق الفذ ، فبين رسوخ قدمه في العلم ، واطلاعاً واسعاً منه على كتب من سبقه ، حتى ليظن الناظر في كتابه أنه نشر فيه كتبهم وأقوالهم ، فناقش وقارن ورجح ما صح عنده ، كما امتاز هذا الشرح بجمع طرق الحديث التي تبين لها ترجيح أحد الاحتمالات شرحاً وإعراباً.
(2) عمدة القاري في شرح البخاري :
وهو للعلامة بدر الدين محمود بن أحمد العينى الحنفي المتوفى سنة ( 855هـ) ، وهو شرح كبير بسط الكلام فيه على الأنساب واللغات والإعراب والمعاني والبيان واستنباط الفوائد من الحديث والأجوبة والأسئلة.
(3) إرشاد الساري إلى شرح صحيح البخاري :
وهو شرح شهاب الدين أحمد بن محمد الخطيب القسطلاني القاهري الشافعي المتوفى سنة (923هـ) وهو في الحقيقة تلخيص لشرحي ابن حجر و العيني ، وهو متداول مشهور.
(4) الكواكب الدرارى في شرح صحيح البخاري :(3/431)
هو شرح شمس الدين محمد بن يوسف بن علي بن سعيد الكرماني المتوفى سنة ( 786هـ) وهو شرح مفيد جامع قد أكثر النقل عنه الحافظان ابن حجر و العيني .
قال الحافظ ابن حجر : هو شرح مفيد على أوهام فيه في النقل لأنه لم يأخذه إلا من الصحف
(5) شرح الإمام ناصر الدين على بن محمد بن المنير الإسكندراني : وهو شرح كبير في نحو عشر مجلدات .
(6) شرح صحيح البخاري : لأبي الحسن على بن خلف بن عبد الملك المشهور بابن بطال القرطبي المالكي المتوفى سنة ( 449هـ) ، إلا أن غالبه في فقه الإمام مالك .
(7) التوشيح شرح الجامع الصحيح :
وهو شرح للإمام جلال الدين السيوطي المتوفى سنة ( 911هـ) وكان من المكثرين في التأليف وقد عنى عناية كبيرة بعلم الحديث دراية ورواية في مختلف مجالاته ، وشرحه هذا بمثابة تعليق لطيف على صحيح البخاري ضبط فيه ألفاظ الحديث ، وفسر الغريب ، وبين اختلاف الروايات التي وردت فيه ، مع تسمية المبهم ، وإعراب المشكل إلى غير ذلك ، وقال عنه: أنه لم يفته من الشرح إلا الاستنباط .
(8) التلويح في شرح الجامع الصحيح :
وهو شرح الحافظ علاء الدين مغلطاى بن قليج التركي المصري الحنفي المتوفى سنة( 762هـ)
وهناك شروح كثيرة لصحيح البخاري غير هذه الشروح ، منها شروح لم تتم كشرح الحافظ ابن كثير ، و ابن رجب الحنبلي ، و النووي وغيرهم .
ومن مؤلفاته أيضاً: الأدب المفرد, ورفع اليدين في الصلاة, والقراءة خلف الإمام, وبر الوالدين,والتأريخ الكبير, والأوسط, والصغير, وخلق أفعال العباد, والضعفاء, والجامع الكبير, والمسندالكبير, والتفسير الكبير, وكتاب الأشربة, وكتاب الهبة, وأسامي الصحابة, إلى غير ذلك من مؤلفاته الكثيرة التي أورد كثير منها الحافظ ابن حجر رحمه الله في مقدمة فتح الباري ...
(6) عناية العلماء بترجمته ونقل أخباره رحمه الله :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ(3/432)
لما قام الإمام البخاري رحمه الله بالعناية التامة في تدوين سنة النبي صلى الله عليه وسلم وتنقيتها من الشوائب وتجريد الأحاديث الصحيحة جعل الله له لسان صدق في
الآخرين فما زال الناس منذ عصره ولا يزالون يثنون عليه ويترحمون عليه ويولون كتابه الجامع الصحيح العناية التامة وما من مؤلف في التاريخ وتراجم الرجال إلا ويزين مؤلفه
بذكر ترجمته والتنويه بشأنه ونقل أخباره رحمه الله.
فهذا الحافظ الذهبي رحمه الله يترجم له في تذكرة الحفاظ ويقول بعد نقل شيء من مناقبه: "قلت: قد أفردت مناقب هذا الإمام في جزء ضخم فيه العجب".
وهذا الحافظ ابن حجر يترجم له في تهذيب التهذيب ويقول في ترجمته: "قلت: مناقبه كثيرة جدا قد جمعتها في كتاب مفرد ولخصت مقاصده في آخر الكتاب الذي تكلمت فيه على تعاليق الجامع الصحيح".
وقد ترجم له أيضا في آخر كتاب هدي الساري مقدمة فتح الباري ونقل شيئا من ثناء مشائخه وأقرانه عليه ثم قال: "ولو فتحت باب ثناء الأئمة عليه ممن تأخر عن عصره لفني القرطاس ونفدت الأنفاس فذاك بحر لا ساحل له".
وذكر الحافظ ابن كثير في تاريخه البداية والنهاية في أعيان سنة ست وخمسين ومائتين وقال: "وقد ذكرنا له ترجمة حافلة في أول شرحنا لصحيحه ولنذكر هنا نبذة يسيرة من ذلك", فذكرها في ثلاث صفحات .
وترجم له ابن السبكي في طبقات الشافعية الكبرى وعّدد شيئا من مناقبه ثم قال: "واعلم أن مناقب أبي عبد الله كثيرة فلا مطمع في استيعاب غالبها والكتب مشحونة به وفيما وردناه مقنع وبلاغ".
وفاة البخاري رحمه الله :
انتقل الإمام البخاري في أخريات حياته إلى خرتنك وهى قرية على مقربة من سمرقند حيث توفى بها سنة 256 للهجرة .
- سيرة مسلم رحمه الله :
الإمام مسلم حجة الإسلام وهو إمام من أئمة الهدى وأعلام التقى ومصابيح الدجى ، من حلية الأولياء وأعلام النبلاء ،الأضواء اللامعة والنجوم الساطعة ، من الطبقة التي تلي تابعي التابعين :(3/433)
اسم مسلم رحمه الله ونسبه :
مسلم بن الحجاج بن مسلم بن ورد بن كوشاذ القشيري النيسابوري.
سير أعلام النبلاء 12/558
والقشيري : بضم القاف وفتح الشين المعجمة وسكون الياء المنقوطة من تحتها باثنتين وفي آخرها راء هذه النسبة إلى قشير
بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة قبيلة كبيرة ينسب إليها كثير من العلماء منهم .. الإمام مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري .
الأنساب لأبي سعد السمعاني 4/501 ، واللباب في تهذيب الأنساب لعز الدين بن الأثير3/37 .
وهل هو من أنفسهم أو مولى ؟
وقال ابن الصلاح في المقدمة ص160: من أنفسهم ، وقال في صيانة صحيح مسلم ص1215: القشيري النسب ... عربي صليبة .
ووافقه النووي في شرح مسلم 1/122، و تهذيب الأسماء 2 /395 .
وقال التجيبي في برنامجه ص 93 : أخبرنا العلامة النسابة شرف الدين أبو محمد التوني ـ أعجوبة زمانه في حفظ الأنساب ـ [عبد المؤمن بن خلف الدمياطي ت705هـ] بقراءتي عليه في بعض تخاريجه ، ومجموعاته إثر حديث وقع له مصافحة لمسلم ـ رحمه الله ـ قال فيه : لكأني شافهت فيه الإمام الناقد أبا الحسين مسلم بن الحجاج المضري القيسي الهوازني العامري القشيري مولى قشير بن كعب أخو عقيل بن كعب .. الخ.
وقد سبق الدمياطيَّ السمعانيُّ في الأنساب [ص 453 ب و354 أ] صورة المخطوط بعناية المستشرق د.س . مرجليوث ]
فقد ساقه ضمن المنتسبين لهم ولاء .
وقال الذهبي في سير أعلام النبلاء 12/558 : فلعله من موالي قشير . اهـ.
وكل من رأيته ترجم له نسبه لبني قشير ، ولم يشر لكونه مولى سوى من ذكرت .
وعلى قول الدمياطي أيضا : هو عربي أصيل ، فالله أعلم.
والنيسابوري نسبة إلى بَلَدِه نيسابور من مدن خراسان .
قال ياقوت في معجم البلدان 5/331: مدينة عظيمة ذات فضائل جسيمة معدن الفضلاء ، ومنبع العلماء لم أر فيما طوفت من البلاد مدينة كانت مثلها .اهـ.(3/434)
وفي الإرشاد للخليلي 2/802: "نيسابور" قال هلال بن العلاء الرقي: شجرة العلم أصلها بالحجاز ، ونقل ورقها إلى العراق ، وثمرها إلى خراسان.اهـ.
وكل من رأيته ترجم لمسلم لا يجاوز في عد آبائه جده : كوشاذ ، بل كثير منهم لم يذكر إلا جده مسلما ، ولم أر من زاد على هذه التسمية .
كنية مسلم رحمه الله ولقبه :
كنيته أبو الحسين ، ولم أجد له لقبا .
مولد مسلم رحمه الله :
اختلف أهل العلم في مولده :
القول الأول: قال الذهبي في العبر 2/23: إنه مات وله ستون سنة . فعليه تكون ولادته عام 201هـ ؛ لأنه لا خلاف أنه توفي عام 261هـ ، وأظن أن هذا القول من العلامة الذهبي تخمينا ، لأنه ـ رحمه الله ـ قال في سير أعلام النبلاء 12/580 : توفي عن بضع وخمسين .اهـ.
وأما في تذكرة الحفاظ 2/590 : فقال : يقال: إنه ولد سنة 204 هـ . وبه جزم الحافظ ابن كثير في البداية 11/34-35 ـ في وفيات سنة 261هـ ـ قال : وكان مولده في السنة التي توفي فيها الشافعي ،وهي سنة أربع ومائتين ،فكان عمره سبعا وخمسين سنة .
وكذا قال ابن حجر في تقريب التهذيب ص529 : مات سنة إحدى وستين ، وله سبع وخمسون سنة، وهذا القول الثاني.
والقول الثالث: قال ابن الصلاح في صيانة مسلم ص1216 : مات مسلم ـ رحمه الله ـ سنة إحدى وستين ومائتين بنيسابور ، وهذا مشهور لكن تاريخ مولده ، ومقدار عمره كثيرا ما تطلب الطلاب علمه ، فلا يجدونه ، وقد وجدناه ـ ولله الحمد ـ فذكر الحاكم أبو عبد الله ابن البيع الحافظ في كتاب "المزكين لرواة الأخبار" أنه سمع أبا عبد الله ابن الأخرم الحافظ يقول: توفي مسلم بن الحجاج رحمه الله عشية يوم الأحد ، ودفن يوم الاثنين لخمس بقين من رجب سنة إحدى وستين ومائتين ، وهو ابن خمس وخمسين سنة ، وهذا يتضمن أن مولده كان في سنة ست ومائتين ، والله أعلم. وعنه النووي في شرح مسلم 1/123 .(3/435)
فهذه ثلاثة أقول أضعفها الأول ، أقواها الثالث لأن ابن الأخرم من أئمة هذا الشأن ، وله عناية بمسلم ، وذهب أكثر عمره في جمع المستخرج على مسلم ، وهو أيضا قريب العهد جدا من مسلم فتوفي مسلم وعمره إحدى عشرة سنة ، وهو بلديه ، والحاكم قد ارتضى قوله ، و الحاكم خبير بأهل بلده أيضا ، وله فيهم تأريخه العظيم: تأريخ نيسابور. والله أعلم.
ترجمة ابن الأخرم في تذكرة الحفاظ 3/864 .
[*] مناقب مسلم رحمه الله :
كان الإمام مسلم رحمه الله تعالى من أئمة الهدى وأعلام التقى ومصابيح الدجى ، من حلية الأولياء وأعلام النبلاء وحراس العقيدة وحماة السنة وأشياع الحق وأنصار دين الله عز وجل ، حاملُ لواء السنة وناصرها وقامع البدعة ودامغها .
وهاك غَيْضٍ من فيض ونقطةٍ من بحر مما ورد في مناقبه رحمه الله تعالى :
(1) أول سماع الإمام مسلم للحديث :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ
قال الذهبي في سير أعلام النبلاء 12/558 : وأول سماعه في سنة ثمان عشرة [يعني: ومائتين]من يحيى بن يحيى التميمي اهـ.
قلت: فيكون عمره أول سماعه ـ على القول الراجح ـ اثنتي عشرة سنة .
(2) شيوخ الإمام مسلم وتلاميذه :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ
تلقى مسلم العلم عن جموع من العلماء من أبرزهم هؤلاء الأئمة : عبد الله بن مسلمة القعنبي ، ويحيى بن يحيى النيسابوري ، وقتيبة بن سعيد ، وسعيد بن منصور ، وأحمد بن حنبل ، وإسحاق بن راهويه ، وأبي خيثمة زهير بن حرب ، وأبي بكر بن أبي شيبة ، ومحمد بن بشار بندار ، ومحمد بن عبد الله بن نمير ، وأبي كريب محمد بن العلاء ، وأبي الربيع الزهراني ، وأبي موسى محمد بن المثنى ، وهناد بن السري ، ومحمد بن يحيى بن أبي عمر ، ومحمد بن يحيى الذهلي ، والبخاري ، وعبد الله الدارمي ، وإسحاق الكوسج ، وخلق سواهم.(3/436)
انظر: صحيح مسلم ، تسمية من أخرجهم البخاري ومسلم ، رجال مسلم لا بن منجويه ، وتأريخ بغداد 13/100، وتأريخ دمشق 58/85 ، و تهذيب الكمال 27/500 ، وسير أعلام النبلاء 12/558 .
وقد ذكر مغلطاي في إكمال تهذيب الكمال ، وابن حجر في تهذيب التهذيب كلاهما عن كتاب " زهرة المتعلمين في أسماء مشاهير المحدثين " ـ لبعض المغاربة ـ عند كل شيخ روى عنه صاحبا الصحيح في كتابيهما عدد الأحاديث التي رواها عنه في صحيحه ، فراجعها في مواضعها من الكتابين إن شئت.
الإمام أبو عيسى الترمذي ، والفقيه إبراهيم بن محمد بن سفيان ، وأبو حامد أحمد بن حمدون ، والحافظ أبو الفضل أحمد بن سلمة ، وأبو حامد ابن الشرقي ، والحافظ أبو عمرو الخفاف ، والحافظ سعيد بن عمرو البرذعي ، والحافظ صالح بن محمد البغدادي ، وعبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي ، وأبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة ، ومحمد بن إسحاق السراج ، وأبو عوانة الإسفراييني ، وأبو محمد القلانسي ، ومكي بن عبدان ، وخلق غيرهم. تأريخ دمشق 58/85 ، وتهذيب الكمال 27/504 ، وسير أعلام النبلاء 12/562 ، وغيرها.
(3) مؤلفات الإمام مسلم :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
من أجل مؤلفاته الجامع المسند الصحيح ،ولم يشتهر اسم كتاب مسلم ـ رحمه الله ـ كما اشتهر غيره ، بل غلب وصفه الصحيح على اسمه العلمي، حتى إنه خلت منه معظم النسخ ، والشروح ، ولم يذكره الناقلون عنه ، ومعظم المترجمون له ، بل يقتصرون على وصفه بـ "الصحيح " كما فعل الحاكم في مستدركه في مواضع ، وابن عساكر في تاريخ دمشق في مواضع ، والنووي في كتبه ، وابن خلكان في الوفيات في مواضع ، والمزي في تهذيب الكمال ، وابن تيمية ، والذهبي ، وابن كثير ، وابن القيم ، وابن حجر ، وأمم سواهم من أهل العلم لا يمكن حصرهم.
ومنهم من وصفه بـ "الجامع" كالحافظ ابن حجر في التهذيب 7/133 و10/114، وحاجي خليفة في كشف الظنون 1/555 ، وغيرهم .(3/437)
وقال صديق خان في الحطة في ذكر الصحاح الستة ص67 ـ في معرض ذكره لأنواع كتب الحديث نقلا عن المحدث عبد العزيز الدهلوي في العجالة النافعة ـ :
الجامع: فالجامع ما يوجد فيه أنموذج كل فن من هذه الفنون المذكورة كالجامع الصحيح للبخاري ، والجامع للترمذي . وأما صحيح مسلم ، فإنه وإن كانت فيه أحاديث تلك الفنون لكن ليس فيه ما يتعلق بفن التفسير ، والقراءة ، ولهذا لا يقال له: الجامع كما يقال: لأختيه .
قلتُ [القائل:صديق]: ولكن أورده صاحب كشف الظنون في حرف الجيم ، وعبر عنه بالجامع ، وكذا غيره في غيره من أهل الحديث ، وقال المجد صاحب القاموس عند ختمه لصحيح مسلم قرأت بحمد الله جامع مسلم الخ .اهـ.
أقول: قول الدهلوي: لا يوجد فيه ما يتعلق بالتفسير فيه نظر ، بل في الصحيح كتاب التفسير ، وهو آخر كتاب في الصحيح ، وإن كان مختصرا.
وذكر الإمام مسلم كتابه في مواضع وسماه :" المسند الصحيح ". كما في تأريخ بغداد 13/101 ، وصيانة مسلم لابن الصلاح ص67 .
وكذا سماه الحاكم في مواضع من المستدرك 1/66 و 164و2/162 وغيرها كثير ، والخطيب البغدادي في تأريخ بغداد 13/100 وغيرهم .
أقول: ولا مانع من هذه الأوصاف كلها [صحيح جامع مسند]، فالجامع ليس من شرطه أن يجمع كل الأبواب ، بل إذا وجد فيه معظمها صح وصفه بالجامع كما في صحيح مسلم ، فقد حوى على عدة كتب أخرجته عن وصف السنن إلى الجامع مثل: الإيمان ، والرؤيا ، والفضائل لنبينا ، والأنبياء ، والصحابة ، والبر والصلة ، و الآداب ، والعلم ، والذكر والدعاء ، والرقاق ، والتوبة ، والجنة والنار ، والفتن ، والزهد ، والتفسير وغيرها ، فهو بوجود هذه الأبواب زيادة على أبواب السنن يسمى جامعا ، وقيل عنه: مسندا ؛ لأن الأحاديث تروى فيه بالإسناد ، وهذا معروف مستعمل .(3/438)
قال الكتاني في الرسالة المستطرفة ص 73: وقد يطلق المسند عندهم على كتاب مرتب على الأبواب ، أو الحروف ، أو الكلمات لا على الصحابة لكون أحاديثه مسندة ، ومرفوعة ، أو أسندت ، ورفعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، كصحيح البخاري فإنه يسمى بالمسند الصحيح ، وكذا صحيح مسلم.اهـ.
ولكون مسلم التزم الصحة في كتابه سمي صحيحا فعلى هذا يصح وصفه ، وتسميته : المسند الجامع الصحيح ، وإن كان الأشهر وصفه فقط بصحيح مسلم ، وهذا ـ والله أعلم ـ يطلق اختصارا ، كما في كتاب شيخه البخاري ، فإنه يكثر وصفه بصحيح البخاري ، مع أنه لا خلاف ، ولا إشكال في تسميته جامعا ، وقد رأيت أبا عبد الله الحاكم في مستدركه يكثر من قوله في وصف كتاب البخاري بالجامع الصحيح ، ووصف كتاب مسلم بالمسند الصحيح ، ولعله فعل ذلك موافقة لما جاء عنهما .
وللشيخ عبد الفتاح أبو غدة كتاب اسمه : تحقيق اسمي الصحيحين وجامع الترمذي ، وليس بين يدي الآن فلعله يتيسر الوقوف عليه .(3/439)
ثم وقفت على كتاب أبي غدة ، وفيه في ص33: وقفتُ على نسخ مخطوطة فلم أجد اسمه العلمي عليها ، ولا تعرض له شراحه الذين ، وصلت إلينا كتبهم كالإمام المازري ، والقاضي عياض ، وابن الصلاح ، والنووي ، وأبي العباس القرطبي ، والأبي ، والسنوسي ، والسندي ، وسبب ذلك في ما يبدو حلول اسم الصحيح محل بقية الاسم الذي فيه بعض طول ، ليدل على مضمون الكتاب ، وأسسه التي أنشئ الكتاب عليها ، وهو " المسند الصحيح المختصر من السنن بنقل العدل عن العدل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " ، كما ذكره الحافظ ابن خير الإشبيلي في فهرسة ما رواه عن شيوخه ، وقد وقفت على اسمه هذا في عدة مصادر ، وأثبات ، وفهارس ؛ تحققت منها صحة اسمه هذا ، فرأيت إيراد النصوص الدالة على ذلك بأسانيدها رغبة في نشر معرفة الاسم بتمامه لجملة فوائد في ذلك ، ورجاء أن يثبت على وجه الكتاب فيما يجد من طبعاته ـ ثم ذكر وصف مسلم والحاكم ، وابن منجويه ، والخطيب للكتاب ـ "بالمسند الصحيح" وقال في هذا العنوان اختصار كبير ، وكلهم اكتفوا بأول الاسم عن تمامه، وباقيه نظرا لأن المقام لا يقضي ذكر اسمه كاملا ، ثم نقل الاسم كاملا عن فهرس ابن عطية .
وقال أيضا : والكتب التي ورد فيها العنوان بلفظ "الجامع" فقط ـ ثم ذكرها .. ـ لم يورد فيها على أنه الاسم العلمي الذي سماه به مؤلفه ، وإنما أورد بذلك الاسم لشهرته به ، أو لمجرد الذكر ، وملاحظة وجود معنى الجامع فيه باصطلاح المحدثين ، فلا يكون له من الاعتبار ما للاسم ، والعنوان المنقول عن مؤلفه بالأسانيد المتصلة ، والروايات المتعددة الصحيحة . اهـ.
قلتُ: والأمر في هذا يسير ـ إن شاء الله ـ فمؤلفه تجوز في تسميته ، فغيره من باب أولى ، لكن لو أثبت الاسم الصحيح على الكتاب لكان أحسن كما ذكر الشيخ أبوغدة.
سبب تأليف الإمام مسلم لكتابه الجامع المسند الصحيح :
سبب تأليف الإمام مسلم كتابه بناء على طَلَبٍ طُلِبَ منه ، وهذا نص كلامه :(3/440)
[*] قال الإمام مسلم في مقدمة الصحيح 1/2 : فإنك يرحمك الله بتوفيق خالقك ذكرت أنك هممت بالفحص عن تَعَّرُفِ جملة الأخبار المأثورة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنن الدين وأحكامه ، وما كان منها في الثواب والعقاب ، والترغيب والترهيب ، وغير ذلك من صنوف الأشياء بالأسانيد التي بها نقلت ، وتداولها أهل العلم فيما بينهم ـ إلى أن قال: ـ وللذي سألت أكرمك الله حين رجعتُ إلى تدبره ، وما تؤول به الحال ـ إن شاء الله ـ عاقبة محمودة ومنفعة موجودة ، وظننتُ حين سألتني تجشم ذلك أن لو عزم لي عليه ، وقضي لي تمامه ؛ كان أول من يصيبه نفع ذلك إياي خاصة قبل غيري من الناس ـ إلى أن قال: ـ ولكن من أجل ما أعلمناك من نشر القوم الأخبار المنكرة بالأسانيد الضعاف المجهولة ، وقذفهم بها إلى العوام الذين لا يعرفون عيوبها ؛ خف على قلوبنا أجابتك إلى ما سألت.
مدة تأليف الإمام مسلم لكتابه الجامع المسند الصحيح :
قال أحمد بن سلمة : كنت مع مسلم في تأليف صحيحه خمس عشرة سنة .
سير أعلام النبلاء 12/566 ، وطبقات علماء الحديث 2/288.
مكان تأليف تأليف الإمام مسلم لكتابه الجامع المسند الصحيح :
قال ابن حجر في مقدمة الفتح 1/12: إن مسلما صنف كتابه في بلده ، بحضور أصوله في حياة كثير من مشايخه ، فكان يتحرز في الألفاظ ، ويتحرى في السياق.
وصف عام لكتاب الإمام مسلم الجامع المسند الصحيح :
هو كتاب جامع في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ، واقتصر مؤلفه على ما صح ، وتجنب الضعيف ، ولا يعتني بذكر الموقوفات ، والمقطوعات ، وأقوال العلماء ، وآرائهم الفقهية.. وإن كان بعض ذا قد يأتي بِقِلَةٍ لِعِلَةٍ .(3/441)
وقد ابتدأ كتابه بمقدمة ذكر فيها سبب تأليفه ، وطريقته .. ، ثم ذكر مسائل في علوم الحديث ، ثم أورد بعد المقدمة كتاب الإيمان ثم الطهارة ، فالحيض ، فالصلاة ، فالمساجد ، فصلاة المسافرين ، فالجمعة ، فالعيدين ، فالاستسقاء ، فالكسوف ، فالجنائز ، فالزكاة ، فالصيام ، فالاعتكاف ، فالحج ، فالنكاح ، فالرضاع ، فالطلاق، فاللعان ، فالعتق ، فالبيوع ، فالمساقاة ، فالفرائض ، فالهبات ، فالوصية ، فالنذر ، فالأيمان ، فالقسامة والمحاربين والقصاص والديات ، فالحدود ، فالأقضية ، فاللقطة ، فالجهاد والسير ، فالإمارة ، فالصيد والذبائح ، فالأضاحي ، فالأشربة ، فاللباس والزينة ، فالآداب ، فالسلام ، فالألفاظ من الأدب ، فالشعر ، فالرؤيا ، فالفضائل ، ففضائل الصحابة ، فالبر والصلة ، فالقدر ، فالعلم ، فالذكر والدعاء ، فالتوبة ، فصفة المنافقين ، فالقيامة ، وصفة الجنة والنار ، فالفتن وأشراط الساعة ، فالزهد والرقائق ، فالتفسير.
وهذه أربعة وخمسون كتابا ـ في عدِّ محمد فؤاد عبد الباقي في طبعته ، وفي تحفة الأشراف اثنان وأربعون كتابا لدخول بعض الكتب المذكورة هنا في بعض ـ وهذه الكتب كما ترى تغطي معظم أبواب الدين ، فقد اشتملت على أمور العبادات ، والمعاملات ، والأخلاق ، والسيرة ، والفضائل ، والزهد والرقائق ، والجنة والنار ، والتفسير ..
وكل كتاب منها تحته أحاديث كثيرة ، مفصلة على أبواب ـ وإن لم يترجم لها ، كما فعل بقية أصحاب الكتب الستة ـ وقد رتبت الأبواب ، و الأحاديث ترتيبا دقيقا ، وقام بجمع الطرق الكثيرة للحديث في مكان واحد ، ويحيل على الألفاظ .
شرط الإمام مسلم في صحيحه :(3/442)
[*] قال ابن الصلاح في صيانة مسلم ص 1218: شرط مسلم في صحيحه : أن يكون الحديث متصل الإسناد بنقل الثقة عن الثقة من أوله إلى منتهاه سالما من الشذوذ ، ومن العلة ، وهذا هو حد الحديث الصحيح في نفس الأمر ، فكل حديث اجتمعت فيه هذه الأوصاف ، فلا خلاف بين أهل الحديث في صحته .
وعنه النووي بحروفه 1/130 .
[*] وقال شيخ الإسلام ابن تيمية 18/42: و أما شرط البخاري ومسلم ، فلهذا رجال يروى عنهم يختص بهم ، ولهذا رجال يروى عنهم يختص بهم ، وهما مشتركان في رجال آخرين ، وهؤلاء الذين اتفقا عليهم ؛ عليهم مدار الحديث المتفق عليه ، وقد يروى أحدهم عن رجل في المتابعات ، والشواهد دون الأصل ، وقد يروى عنه ما عرف من طريق غيره ، ولا يروى ما انفرد به ، وقد يترك من حديث الثقة ما علم أنه أخطأ فيه ، فيظن من لا خبرة له إن كل ما رواه ذلك الشخص يحتج به أصحاب الصحيح وليس الأمر كذلك.
[*] وقال العلامة ابن رجب في شرح علل الترمذي 2/613:
وأما النسائي فشرطه ـ فذكره ـ وأما مسلم فلا يخرج إلا حديث الثقة الضابط ، ومن في حفظه بعض شيء ، وتكلم فيه لحفظه لكنه يتحرى في التخريج عنه ، ولا يخرج عنه إلا ما لا يقال إنه مما وهم فيه. اهـ
وانظر : شروط الأئمة الستة للحافظ ابن طاهر المقدسي ص86-88 تحقيق الشيخ عبد الفتاح أبي غدة ، وتدريب الراوي 1/134ففيها فوائد ، وزيادة تفصيل. والله أعلم.
وفي اسمه الذي ذكره الشيخ أبوغدة : إشارة لشرطه .
مسألة : هل شرط مسلم في الصحة في المقدمة كباقي الكتاب ؟
[*] قال الإمام ابن القيم في "كتاب الفروسية " ص135 : وأما قولكم: إن مسلما روى لسفيان بن حسين في صحيحه ، فليس كما ذكرتم ، وإنما روى له في مقدمة كتابه ، ومسلم لم يشترط فيها ما شرطه في الكتاب من الصحة ، فلها شأن ، ولسائر كتابه شأن آخر ، ولا يشك أهل الحديث في ذلك.اهـ.(3/443)
وكذا رمز الحافظ أبو الحجاج المزي في تهذيب الكمال 1/149: لمن خرج له مسلم في المقدمة برمز :" مق " ، ومن خرج له في الصحيح بـ :" م " ، وكذا بعض الكتب التي تفرعت عنه كالتذهيب للذهبي ، وإكمال مغلطاي ، والتهذيب ، والتقريب لابن حجر، والخلاصة للخزرجي.
[*] قال الحاكم في المستدرك 1/103:
حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب أنبأ محمد بن عبد الله بن عبد الحكم أنبأ بن وهب أخبرني سعيد بن أبي أيوب عن أبي هانئ الخولاني عن مسلم بن يسار عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" سيكون في آخر الزمان ناس من أمتي يحدثونكم بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم فإياكم وإياهم".
هذا حديث ذكره مسلم في خطبة الكتاب مع الحكايات ، ولم يخرجاه في أبواب الكتاب وهو صحيح على شرطهما جميعا ، ومحتاج إليه في الجرح والتعديل ، ولا أعلم له علة .
وفي 1/112:
حدثنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب الحافظ ثنا محمد بن نعيم ثنا محمد بن رافع ثنا علي بن جعفر المدائني ثنا شعبة عن خبيب بن عبد الرحمن عن حفص بن عاصم عن أبي هريرة قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :"كفى بالمرء إثما أن يحدث بكل ما سمع".
قد ذكر مسلم هذا الحديث في أوساط الحكايات التي ذكرها في خطبة الكتاب عن محمد بن رافع ، ولم يخرجه محتجا به في موضعه من الكتاب.
فظاهر صنيعه يدل على أنه يفرق بين المقدمة ، والصحيح .
عدد أحاديث كتاب صحيح مسلم :
[*] قال الذهبي في سير أعلام النبلاء 12/566 : قال أحمد بن سلمة : .. وهو اثنا عشر ألف حديث ، قلت [الذهبي]: يعني بالمكرر بحيث إنه إذا قال: حدثنا قتيبة ، وأخبرنا ابن رمح يعدان حديثين اتفق لفظهما ، أو اختلف في كلمة . اهـ .
وقال أبو قريش الحافظ : كنت عند أبي زرعة ، فجاء مسلم بن الحجاج ، فسلم عليه ، وجلس ساعة ، وتذاكرا ، فلما أن قام ، قلتُ له: هذا جمع أربعة آلاف حديث في الصحيح قال فلمن ترك الباقي ..(3/444)
صيانة مسلم ص1226 ، وسير أعلام النبلاء 12/280 .
قال ابن الصلاح: أراد ، ـ والله أعلم ـ أن كتابه أربعة آلاف حديث أصول دون المكررات.
وقيل: غير ذلك ..
وعددها حسب ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي بدون المكرر (3033).
وفي طبعة خليل مأمون شيحا بالمكرر (7479) وقد قابل كل سند منها بتحفة الأشراف ، ووضع رقمه في التحفة في حاشية الصحيح.
وعلى كلٍ فالعدُ اجتهادي تقديري ، فيختلف من شخص لآخر ، فلو عُدّت كما قال الذهبي في تعقيبه على رواية أحمد بن سلمة لاختلف العدد كثيرا . والله أعلم.
وللتوسع ينظر : كتاب الدكتور محمد طوالبة " الإمام مسلم ، ومنهجه في صحيحه" ص108-114.
المكررات في صحيح مسلم :
معلوم أن مسلما يسوق الحديث في مكان واحد ، و يجمع طرقه كما سيأتي ... لكنه كرر بعضها ، قال محمد فؤاد عبد الباقي [في فهارس صحيح مسلم من طبعته] 5/601:
كرر مسلم في صحيحه 137 حديثا في مواضع متعددة منها 71 حديثا يضع الحديث منها في كتاب غير الكتاب الذي وضع الحديث فيه لأول مرة .
زوائد مسلم على البخاري :
جمع الشيخ عبد الله العبيلان زوائد مسلم على البخاري في كتاب سماه "إرشاد الساري إلى أفراد مسلم عن البخاري" ، وقد حذف الأسانيد واقصر على الراوي الأعلى ، و المتن ، واعتمد تبويب النووي.
وقد طبع في مجلد ، ثم طبع مرة ثانية في مجلدين مع شيء من التصويبات للمحدث الألباني ..
الجمع بين أحاديث صحيح مسلم وأحاديث صحيح البخاري:
عني بجمع أحاديث الصحيحين جمع من العلماء ، فحذفوا الأسانيد والمكررات ، ورتبوا أحاديث الكتابين ...
من تلك الكتب ما يلي :
الجمع بين الصحيحين لعبد الحق الإشبيلي ، والجمع بين الصحيحين للحميدي ـ ورتبه على المسانيد ـ ، وحديثاً : مسند الصحيحين لعبد الحق الهاشمي ـ ترتبه كالذي قبله ـ ، والجمع بين الصحيحين لصالح الشامي ، والجمع بين الصحيحين ليحيى اليحيى . وهذه كلها مطبوعة ، وإن كان الأخير تداوله محدد فلم يطبع طبعة تجارية.(3/445)
و للشيخ صالح الشقيق كتاب مختصر اسمه " الموثق " جمع فيه أحاديث الأحكام من الصحيحين ، معظمه من أحاديث بلوغ المرام.
وجمع أحاديث الصحيحين مع أحاديث سنن أبي داود والترمذي والنسائي والموطأ : رزين العبدري في تجريد الأصول ، وابن الأثير في جامع الأصول .. وغيرها انظر الرسالة المستطرفة ص173 .
وهناك كتب جمعت المتفق عليه فقط : ككتاب "عمدة الأحكام" للحافظ عبد الغني بن عبد الواحد المقدسي ، وهو مختصر في أحاديث الأحكام من الصحيحين ، وهو من أشهر الكتب.
وكتاب "زاد المسلم فيما اتفق عليه البخاري ومسلم" جمع وشرح: محمد حبيب الله الجكني الشنقيطي ، ورتبه على حروف المعجم ، واقتصر على الأحاديث القولية ، والأحاديث المصدرة بـ(كان) من شمائله صلى الله عليه وسلم ، والمصدرة بـ(نهى)، وعدة أحاديثه 1368 حديثا ، وطبع في خمسة مجلدات .
وكتاب "اللؤلؤ والمرجان" للأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي جمع فيه الأحاديث المتفق عليها ، ورتبها على الأبواب حسب ترتيب صحيح مسلم ، وعدة أحاديثه حسب ما ذكر في المقدمة (2006) أحاديث ، ولكن آخر حديث في الكتاب رقمه (1906) أحاديث لِلَّهِ ، وطبع في ثلاثة أجزاء .
ميزات كتاب الجامع الصحيح لمسلم :
أنه مرتب على طريقة الكتب ، والأبواب الفقهية ، وأنه خاص بالأحاديث الصحيحة ، ووجود المقدمة المفيدة في علوم الحديث ، وحسن الترتيب ، وجمع الطرق ، وسردها في مكان واحد ، وجودة السياق ، والمحافظة على أداء الألفاظ كما هي من غير تقطيع ، ولا رواية بمعنى ، ومحافظته على صيغ الأداء ، وغيرها مما سأنقله عن بعض العلماء في الثناء عليه .
ثناء العلماء على الكتاب:(3/446)
[*] قال ابن الصلاح في صيانة مسلم ص1217ـ بتصرف ـ : هذا الكتاب ثاني كتاب صنف في صحيح الحديث ، ووسم به ، ووضع له خاصة سبق البخاري إلى ذلك ، وصلى مسلم ، ثم لم يلحقهما لاحق ، وكتاباهما أصح ما صنفه المصنفون ... روينا عن مسلم رضي الله عنه قال صنفت هذا المسند الصحيح من ثلاثمائة ألف حديث مسموعة ، وبلغنا عن مكي بن عبدان ، وهو أحد حفاظ نيسابور قال: سمعت مسلم بن الحجاج يقول: لو أن أهل الحديث يكتبون مائتي سنة الحديث فمدارهم على هذا المسند ـ يعني مسنده الصحيح ـ ...
وقال ابن الصلاح أيضا ص1222: جميع ما حكم مسلم بصحته من هذا الكتاب ؛ فهو مقطوع بصحته ، والعلم النظري حاصل بصحته في نفس الأمر ، ... وذلك لأن الأمة تلقت ذلك بالقبول سوى من لا يعتد بخلافه ، ووفاقه في الإجماع.
[*] وقال أبو علي الحسين بن علي النيسابوري : ما تحت أديم السماء أصح من كتاب مسلم بن الحجاج في علم الحديث.
ووافقه على ذلك بعض شيوخ المغرب ، ومنهم: ابن حزم.
انظر: تاريخ بغداد 13/101 ، وتاريخ دمشق 58/92 ، وشرح النووي لمسلم 1/128 ، والنكت ص62 ، وبرنامج التجيبي ص93 .
[*] وقال النووي شرحه على مسلم 1/122: ومن حقق نظره في صحيح مسلم رحمه الله واطلع على ما أورده في أسانيده ، وترتيبه وحسن سياقته ، وبديع طريقته من نفائس التحقيق ، وجواهر التدقيق ، وأنواع الورع ، والاحتياط والتحري في الرواية ، وتلخيص الطرق ، واختصارها وضبط متفرقها ، وانتشارها ، وكثرة إطلاعه ، واتساع روايته ، وغير ذلك مما فيه من المحاسن والأعجوبات ، واللطائف الظاهرات ، والخفيات علم أنه إمام لا يلحقه من بعد عصره ، وقل من يساويه بل يدانيه من أهل وقته ودهره ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.(3/447)
وقال أيضا 1/128-129: اتفق العلماء ـ رحمهم الله ـ على أن أصح الكتب بعد القرآن العزيز الصحيحان البخاري ، ومسلم وتلقتهما الأمة بالقبول.. ـ إلى أن قال ـ وقد انفرد مسلم بفائدة حسنه ، وهي كونه أسهل متناولا ، من حيث أنه جعل لكل حديث موضعا واحدا يليق به جمع فيه طرقه التي ارتضاها ، وأورد فيه أسانيده المتعددة ، وألفاظه المختلفة ، فيسهل على الطالب النظر في وجهه ، واستثمارها ويحصل له الثقة بجميع ما أورده مسلم من طرقه .
[*] وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوي20/321: .. فإن الذي اتفق عليه أهل العلم أنه ليس بعد القرآن كتاب أصح من كتاب البخاري ، ومسلم ، وإنما كان هذان الكتابان كذلك ؛ لأنه جرد فيهما الحديث الصحيح.
وقال في الفتاوي 18/74: وأما كتب الحديث المعروفة مثل البخاري ومسلم ، فليس تحت أديم السماء كتاب أصح من البخاري ومسلم بعد القرآن .
[*] وقال الذهبي في سير أعلام النبلاء 12/568 : وهو كتاب نفيس كامل في معناه .
[*] وقال ابن القيم في الصواعق المرسلة 2/655 : وأهل الحديث متفقون على أحاديث الصحيحين وإن تنازعوا في أحاديث يسيرة منها جدا ، وهم متفقون على لفظها ، ومعناها كما اتفق المسلمون على لفظ القرآن ومعناه.
[*] وقال ابن حجر في تهذيب التهذيب 10/114: حصل لمسلم في كتابه حظ عظيم مفرط لم يحصل لأحد مثله ، بحيث أن بعض الناس كان يفضله على صحيح محمد بن إسماعيل ، وذلك لما اختص به من جمع الطرق ، وجودة السياق ، والمحافظة على أداء الألفاظ كما هي من غير تقطيع ، ولا رواية بمعنى ، وقد نسج على منواله خلق عن النيسابوريين فلم يبلغوا شأوه وحفظت منهم أكثر من عشرين إماما ممن صنف المستخرج على مسلم فسبحان المعطي الوهاب.(3/448)
[*] وقال ولي الله الدهلوي في كتابه الإنصاف في بيان سبب الاختلاف ص292ـ المطبوع ضمن مجموعة الرسائل الكمالية رقم (4) ـ : توخى تجريد الصحاح المجمع عليها بين المحدثين المتصلة المرفوعة مما يستنبط منه السنة ، وأراد تقريبها إلى الأذهان ، وتسهيل الاستنباط منها ، فرتب ترتيبا جيدا ، وجمع طرق كل حديث في موضع واحد ليتضح اختلاف المتون ، وتشعب الأسانيد أصرح ما يكون ، وجمع بين المختلفات ، فلم يدع لمن له معرفة بلسان العرب عذرا في الإعراض عن السنة إلى غيرها .
مسألة : هل خرج مسلم كل الأحاديث الصحيحة ؟
لما عاتبَ أبو زرعة وابنُ واره مسلماً على تسمية كتابه بالصحيح ، وأنه قد يحتجُ أهلُ البدع على أن ما ليس في كتابه ليس بصحيح كان جوابه :
إنما أخرجت هذا الكتاب ، وقلتُ: هو صحاح ، ولم أقل إن ما لم أخرجه من الحديث في هذا الكتاب ضعيف ، ولكني إنما أخرجت هذا من الحديث الصحيح ليكون مجموعا عندي ، وعند من يكتبه عني ، فلا يرتاب في صحتها ، ولم أقل إن ما سواه ضعيف.
سؤالات البرذعي لأبي زرعة الرازي 2/674 ، وصيانة مسلم ص1225 ، وشرح مسلم للنووي 1/144.
وقال مسلم في صحيحه 2/15: ليس كل شيء عندي صحيح وضعته ها هنا، إنما وضعت ها هنا ما أجمعوا عليه .
قلتُ: وحصل بتأليف الإمام مسلم لصحيحه نفع عظيم لهذه الأمة ، فجزاه الله خيرا .
الموازنة بين الصحيحين:
اختلف العلماء في المقدم من الكتابين فالجمهور على ترجيح البخاري ؛ لعدة أمور ، وخالفهم أبو علي النيسابوري ، وابن حزم ، وغيرهم من علماء المغرب فقدموا مسلما ـ على خلاف أيضا في توجيه كلامهم ـ
قال الحافظ العراقي :
أَوَّلُ مَنْ صَنَّفَ في الصحيحِ ... مُحَمَّدٌ وَخُصَّ بِالتّرْجِيْحِ
وَمُسْلِمٌ بَعْدُ،وَبَعْضُ الغَرْبِ مَعْ ... أَبِي عَلِيٍّ فَضَّلُوا ذَا لَوْ نَفَعْ
وقال الحافظ ابن الديبع ـ كما في الحطة ص169 ـ :
تنازع قومٌ في البخاري ومسلم ... لدي وقالوا أي ذين يُقَدَمُ(3/449)
فقلت لقد فاق البخاري صحة ... كما فاق في حسن الصناعة مسلم
والغرض هنا الإشارة ، ومن أراد التفصيل فلينظر :
هدي الساري لابن حجر 1/10 ، والنكت على ابن الصلاح له أيضا ص62: فهناك كلام نفيس جدا في التفضيل ، والموازنة بين الصحيحين . وينظر: فتاوى ابن تيمية 20/321 .
شروح صحيح مسلم :
لَقِيَ كتاب مسلم عناية من العلماء ـ وإن لم تكن كالعناية بأخيه صحيح البخاري ـ فشرح صحيح مسلم بشروح كثيرة لعل أجلها شرح الإمام النووي لصحيح مسلم .
مختصرات صحيح مسلم :
اختصر صحيح مسلم جمع من العلماء ، ومن أشهر هذه المختصرات :
تلخيص صحيح مسلم للحافظ أبي العباس القرطبي ، وعمل على تلخيصه شرحا حافلا بالفوائد ، وقد طبع التلخيص مفردا بتحقيق رفعت فوزي ، وأحمد الخولي ، وطبع مع الشرح بتحقيق محيي الدين مستو ، وأصحابه ، وهو محقق في رسائل دكتوراه في جامعة الإمام لكنها حبيسة الأدراج !.
ومختصر صحيح مسلم للحافظ زكي الدين المنذري .وهو مطبوع بتحقيق المحدث الألباني ، وطبع طبعة أخرى .
واختصر مختصر المنذري عبد اللطيف أحمد يوسف وسماه "تحفة المسلم من صحيح مسلم".
وللإمام مسلم رحمه الله تعالى مؤلفات أخرى منها ما يلي :
التمييز ، الكنى والأسماء ، الطبقات ، المنفردات والوحدان ، رجال عروة بن الزبير ، وهذه كلها قد طبعت .
وله : كتاب العلل ، كتاب الأفراد ، كتاب الأقران ، سؤالاته أحمد ابن حنبل ، كتاب عمرو بن شعيب ، كتاب الانتفاع بأهب السباع ، كتاب مشايخ مالك ، كتاب مشايخ الثوري ، كتاب مشايخ شعبة ، كتاب من ليس له إلا راو واحد ، كتاب المخضرمين ، كتاب أولاد الصحابة ، كتاب أوهام المحدثين ، أفراد الشاميين ، الرد على محمد بن نصر. وغيرها .
سير أعلام النبلاء 12/579 ، وطبقات علماء الحديث 2/288 ، وغنية المحتاج ص40 ، تدريب الراوي 2/363 .
(4) ثناء العلماء على الإمام مسلم :(3/450)
أثنى على مسلم كبار العلماء من شيوخه ، وأقرانه ، وتلاميذه ، ومن جاء بعدهم من علماء الأمة ، والثناء عليه كثير جدا منها ما يلي :
[*] قال أبو قريش محمد بن جمعة بن خلف ـ تأريخ دمشق 58/89 ـ: سمعت بندارا محمد بن بشار يقول: حفاظ الدنيا أربعة : أبو زرعة بالري ، ومسلم بن الحجاج بنيسابور ، وعبد الله بن عبد الرحمن الدارمي بسمرقند ومحمد بن إسماعيل ببخارى .
[*] وقال الحسين بن منصور: سمعت إسحاق بن إبراهيم الحنظلي ـ وذكر مسلم بن الحجاج ـ ، فقال : مردا كابن بوذ ، قال المنكدري [شيخ الخطيب]: وتفسيره : أي رجل كان هذا ؟!
[*] وقال أحمد بن سلمة : رأيت أبا زرعة وأبا حاتم يقدمان مسلما في معرفة الصحيح على مشايخ عصرهما .
تأريخ بغداد 13/101-102 .
[*] وقال إسحاق الكوسج : لمسلم لن نعدم الخير ما أبقاك الله للمسلمين.
تأريخ دمشق 58/89 وتذكرة الحفاظ 2/588 .
[*] وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم في الجرح والتعديل 8/182: كتبت عنه بالري ، وكان ثقة من الحفاظ له معرفة بالحديث.
[*] وقال أبو عبدالله محمد بن يعقوب بن الأخرم الحافظ : إنما أخرجت نيسابور ثلاثة رجال محمد بن يحيى ، ومسلم بن الحجاج ، وإبراهيم بن أبي طالب . سير أعلام النبلاء 12/565 .
وقال الذهبي في تذكرة الحفاظ 2/588: مسلم بن الحجاج الإمام الحافظ حجة الإسلام .
(5) مهنة الإمام مسلم :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
قال الذهبي في سير أعلام النبلاء 12/570 : قال الحاكم : كان متجرُ مسلم خان محمش ـ اسم موضع ـ ، ومعاشه من ضياعه بأستوا .
قلتُ: أستوا ناحية من نواحي نيسابور ، كما في معجم البلدان 1/175.
وفي تهذيب التهذيب لابن حجر 10/114: قال محمد بن عبد الوهاب الفراء : كان مسلم من علماء الناس ..، وكان بزازا .
وفي العبر 2/29 : وكان صاحب تجارة ، وكان محسن نيسابور ، وله أملاك وثروة . اهـ.
فتجارته في البز ، وكانت المزارع في أستوا المصدر الثاني له.(3/451)
(6) صفة الإمام مسلم الخَلْقية :
[*] قال الذهبي في سير أعلام النبلاء 12/566 : قال الحاكم: سمعت أبا عبد الرحمن السلمي يقول: رأيت شيخا حسن الوجه ، والثياب عليه رداء حسن ، وعمامة قد أرخاها بين كتفيه ، فقيل: هذا مسلم ، فتقدم أصحاب السلطان ، فقالوا: قد أمر أمير المؤمنين أن يكون مسلم بن الحجاج إمام المسلمين فقدموه في الجامع ، فكبر وصلى بالناس. وهذا الخبر عند ابن عساكر في تاريخ دمشق 58/89: ولفظه : يقول رأيت في منامي شيخا..
[*] وقال الذهبي 12/570 : قال الحاكم: وسمعت أبي يقول: رأيت مسلم بن الحجاج يحدث في خان محمش فكان تام القامة أبيض الرأس ، واللحية يرخي طرف عمامته بين كتفيه .
(7) عقيدة الإمام مسلم :
ــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
هي عقيدة السلف الصالح من الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم أجمعين ومما يدل على ذلك:
أـ قوله في مقدمة صحيحه 1/6 : أعلم وفقك الله تعالى أن الواجب على كل أحد عرف التمييز بين صحيح الروايات وسقيمها ، وثقات الناقلين لها من المتهمين أن لا يروي منها إلا ما عرف صحة مخارجه والستارة في ناقليه ، وأن يتقي منها ما كان منها عن أهل التهم ، والمعاندين من أهل البدع .اهـ.
[*] قال الذهبي في سير أعلام النبلاء 12/558 : وأكثر عن علي بن الجعد لكنه ما روى عنه في الصحيح شيئا .اهـ
قلتُ: هذا السبب : قال مكي بن عبدان : سألت مسلما عن علي بن الجعد ؟ فقال: ثقة ، ولكنه كان جهميا .
سير أعلام النبلاء 12/568 .
ب ـ وافتتح صحيحه بكتاب الإيمان ، وضمنه أحاديث في تقرير مذهب أهل السنة في عدد من المسائل ، والرد على أهل البدع من القدرية ، والمرجئة ، والخوارج ، والجهمية ، وغيرهم ، وفيه الاحتجاج بخبر الواحد .. ، وأفرد كتابا للقدر ..
ج ـ وموضوع كتابه كله على منهاج أهل السنة ، وهو نقمة على أهل البدع.(3/452)
د ـ وذكر أبو عثمان الصابوني في اعتقاد أهل السنة وأصحاب الحديث ص121-123: في آخر الكتاب .. ـ بعد أن ذكر عقيدة أهل السنة ـ أسماء جمع من أئمة أهل السنة منهم " مسلم بن الحجاج " وقال : من أحبهم فهو صاحب سنة ، ثم قال: وهذه الْجُمَلُ التي أثبتها في هذا الجزء كانت معتقد جميعهم لم يخالف فيها بعضهم بعضا ، بل أجمعوا عليها كلها ، ولم يثبت عن أحد منهم ما يضادها .اهـ.
هـ ـ قال شيخ الإسلام ابن تيمية في درء تعارض العقل والنقل 7/36
وأما في معرفة ما جاء به الرسول وما كان عليه الصحابة والتابعون فمعرفتهم [جماعة ممن وقعوا في بدع المتكلمين] بذلك قاصرة ، و إلا فمن كان عالما بالآثار ، وما جاء عن الرسول ، وعن الصحابة ، والتابعين من غير حسن ظن بما يناقض ذلك لم يدخل مع هؤلاء ـ إما لأنه علم من حيث الجملة أن أهل البدع المخالفين لذلك مخالفون للرسول قطعا ، وقد علم أنه من خالف الرسول فهو ضال ـ كأكثر أهل الحديث ، أو علم مع ذلك فساد أقوال أولئك ، وتناقضها كما علم أئمة السنة من ذلك ما لا يعلمه غيرهم كمالك [ثم سرد أسماء جموع من الأئمة منهم:] ومسلم بن الحجاج النيسابوري ... ومن لا يحصي عدده إلا الله من أئمة الإسلام ، وورثة الأنبياء وخلفاء الرسل ؛ فهؤلاء كلهم متفقون على نقيض قول النفاة كما تواترت الآثار عنهم ، وعن غيرهم من أئمة السلف بذلك من غير خلاف بينهم في ذلك.
و- قال العلامة الذهبي في العلو 2/1184:
وممن لا يتأول ويؤمن بالصفات وبالعلو في ذلك الوقت .. الإمام الحجة مسلم بن الحجاج القشيري صاحب الصحيح .
زـ قال العلامة ابن القيم في كتابه "اجتماع الجيوش الإسلامية " ص241:
قول مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى:(3/453)
يعرف قوله في السنة من سياق الأحاديث التي ذكرها ولم يتأولها ، ولم يذكر لها تراجم كما فعل البخاري ، ولكن سردها بلا أبواب ، ولكن تعرف التراجم من ذكره للشيء مع نظيره فذكر في كتاب الإيمان كثيرا من أحاديث الصفات كحديث: الإتيان يوم القيامة ، وما فيه من التجلي ، وكلام الرب لعباده ، ورؤيتهم إياه ، وذكر حديث: الجارية ، وأحاديث: النزول ، وذكر حديث: إن الله يمسك السماوات على أصبع والأرضين على إصبع ، وحديث: يأخذ الجبار سمواته وأرضه بيده ، وأحاديث: الرؤية ، وحديث: يضع الجبار فيها قدمه ، وحديث: المقسطون عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين ، وحديث: ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء ، وغيرها من أحاديث الصفات محتجا بها ، وغير مؤل لها ، ولو لم يكن معتقدا لمضمونها لفعل بها ما فعل المتأولون حين ذكروها. اهـ
ح ـ قال العلامة محمد السفاريني في كتابه "لوامع الأنوار البهية ، وسواطع الأسرار الأثرية شرح الدرة المضية في عقيدة الفرقة المرضية " 1/22: [في سرده لعلماء أهل السنة ..] ومسلم ، وأبو داود ... ثم قال: وغير هؤلاء كلهم على عقيدة واحدة سلفية أثرية .
وهذا يزيل إشكال عدم ذكر اللالكائي له في معرض سياقه من رسم بالإمامة في السنة ، والدعوة ، والهداية إلى طريق الاستقامة .. في كتابه شرح أصول اعتقاد أهل السنة 1/ 51-53 مع أنه ذكره في 1/302:
فيمن نقلوا كلاما في رد بدعة .
قلتُ: فلعله لم يذكره لأنه لم يؤلف في الرد على أهل البدع .. ، أو يكون قد غفل عنه ، أو سقط سهوا.
ط ـ سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ـ مجموع الفتاوي 20/39 ـ هل البخاري ومسلم ـ وذكر جمعاً من العلماء ـ هل كان هؤلاء مجتهدين لم يقلدوا أحدا من الأئمة أم كانوا مقلدين ؟ وهل كان من هؤلاء أحد ينتسب إلى مذهب أبي حنيفة .. ؟
فأجاب جوابا طويلا جاء في آخره: وهؤلاء كلهم يعظمون السنة ، والحديث. اهـ .(3/454)
ي ـ ومما يؤكد ذلك أيضا كونه تلميذا ، وصاحباً لأئمة أهل السنة كأحمد ، وإسحاق ، والبخاري ، وأبي زرعة وغيرهم ، ومعلوم مكانة وشدة هؤلاء في السنة ، وشدتهم على أهل البدع ، حيث لم يكن لأهل البدع نصيب من مجالستهم .
ك ـ كل من ذكره ، وترجم له من العلماء ابتداء من شيوخه ، وحتى اليوم قد أثنوا عليه ، وذكروه بأحسن الذكر ، ولم يَنقل أحد منهم أنه كان مخالفا لطريقة السلف ، أو متلبسا ببدعة ، وحاشاه من ذلك ، بل كان متابعا متأسيا بسنة النبي صلى الله عليه وسلم ، فرحمه الله رحمة واسعة .
(8) مذهب الإمام مسلم الفقهي :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
إذا نظرت في أسماء كتب الإمام مسلم تجدها كلها تقريبا في علم الحديث وفنونه ، كما هو حال أكثر أهل الحديث في ذاك الزمان ، ولذا لم يتضح منهجه الفقهي تماما ، إلا أنه بلا شك من أهل العلم الكبار في زمانه في الحديث والفقه ، وإن لم يكن من الأئمة المجتهدين كأحمد ، والبخاري ، و إلا لظهر رأيه ، واختياره كما ظهر رأي غيره ، والناظر في كتابه الصحيح ، وانتقائه الأحاديث ، وحسن ترتيبه يدرك أنه من فقهاء أهل الحديث ، وأنه مطلع على اختلاف الفقهاء ، ولذا قال الحافظ ابن حجر في التقريب ص529: عالم بالفقه .
وذكر حاجي خليفة مسلما في كتابه كشف الظنون 1/555 فقال: مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري الشافعي . وأخذه بنصه صديق خان في الحطة ص 198 .
وقال الدهلوي في الإنصاف في بيان سبب الاختلاف ص314ـ المطبوع ضمن مجموعة الرسائل الكمالية رقم (4) ـ : وأما مسلم والعباس الأصم .. فهم متفردون لمذهب الشافعي يناضلون دونه .
قلتُ: وهذا القول: فيه نظر .(3/455)
ومما يدل على عنايته بالفقه ، أن له سؤالات للإمام أحمد ـ رحمه الله ـ قال القاضي أبو الحسين ابن أبي يعلى في طبقات الحنابلة 3/309- 315 ـ في ترجمة الحسن بن حامد ـ قال ابن أبي يعلى: قرأت في بعض تصانيفه [ابن حامد] قال: اعلم أن الذي يشتمل عليه كتابنا هذا من الكتب والروايات المأخوذة من حيث نقل الحديث والسماع منها كتاب الأثرم ، وصالح ، وعبدالله ، وابن منصور ... ومسلم بن الحجاج ... ـ إلى أن قال ـ : وأما رواية مسلم بن الحجاج فأخبرناه أبو إسحاق المزكي قال حدثنا أبو حاتم مكي بن عبدان بن محمد بن بكر ، عن مسلم بن الحجاج عنه .
وبناء على هذا ، وعلى رواية مسلم عن أحمد = ترجم له في طبقات الحنابلة 2/413 وقال عنه : أحد الأئمة من حفاظ الأثر .
قلتُ: ولا يعني ذلك أنه حنبلي ، بل وصفه بالإمامة ، وحفظ الأثر ، وقد ترجم أيضا: لشيخي أحمد : وكيع بن الجراح ، وعبد الرحمن بن مهدي ؛ لكونهم حكوا شيئا عن أحمد .
ولهذا السبب ترجم له غير واحد ممن ألف في طبقات الحنابلة بعد ابن أبي يعلى.
[*] وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ـ مجموع الفتاوي 20/39 ـ هل البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وأبو داود الطيالسي والدرامي والبزار والدارقطني والبيهقي وابن خزيمة وأبو يعلى الموصلي هل كان هؤلاء مجتهدين لم يقلدوا أحدا من الأئمة أم كانوا مقلدين ؟ وهل كان من هؤلاء أحد ينتسب إلى مذهب أبي حنيفة ؟ ...(3/456)
فأجاب:الحمد لله رب العالمين أما البخاري ، وأبو داود ؛ فإمامان في الفقه من أهل الاجتهاد ، وأما مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن خزيمة وأبو يعلى والبزار ونحوهم فهم على مذهب أهل الحديث ليسوا مقلدين لواحد بعينه من العلماء ، ولا هم من الأئمة المجتهدين على الإطلاق بل هم يميلون إلى قول أئمة الحديث كالشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد وأمثالهم ، ومنهم من له اختصاص ببعض الأئمة كاختصاص أبي داود ، ونحوه بأحمد بن حنبل وهم إلى مذاهب أهل الحجاز كمالك ، وأمثاله ، أميل منهم إلى مذاهب أهل العراق كأبي حنيفة والثوري ... وهؤلاء كلمهم يعظمون السنة والحديث .. اهـ باختصار .
[*] وقال السخاوي في غنية المحتاج في ختم صحيح مسلم بن الحجاج ص40-41:
والظاهر أنه ـ رحمه الله ـ كان على طريقة الأئمة من أهل الآثار في عدم التقليد بل سلك الاختيار مع إمكان الاستدلال بما وجد له من مقال لكونه مقتديا بإمامنا ابن إدريس الفائق في الاجتهاد ، والتأسيس ، فإنه قال في كتابه الانتفاع بجلود السباع ، وقد ذكر قولة من عاب قوله : ورب عياب له منظر مشتمل الثوب على العيب .
بل قال الأستاذ أبو منصور البغدادي : بالغ مسلم في تعظيم الشافعي ـ رحمهم الله تعالى ـ في كتابه الانتفاع .
وفي كتابه الرد على محمد بن نصر وعده في هذا الكتاب من الأئمة الذين يرجع إليهم في الحديث ، وفي الجرح والتعديل . اهـ
قلتُ: ومبالغته في تعظيم الشافعي ـ رحمه الله ـ لا تعني أنه يقلده ، فقد كان أحمد أيضا: يبالغ في تعظيمه فهل كان شافعيا ؟ هذا الاستدلال فيه نظر ، والله أعلم.
ثم قال السخاوي: وكذا يمكن استدلال أصحاب أحمد بأنه كتب عن إمامهم مسائل تروى عنه ، وتُعتمد .
ولكن الميل بخلاف كل هذا أكثر مما هو أظهر ـ إلى أن قال ـ وممن قال إنه على مذهب أهل الحديث ، وليس بمقلد لواحد بعينه من العلماء ، ولا هو من المجتهدين على الإطلاع : التقي ابن تيمية رحمه الله تعالى ، وإيانا .(3/457)
وفاة مسلم رحمه الله وسببها :
[*] قال ابن الصلاح في صيانة مسلم ص1216: وكان لموته سبب غريب نشأ عن غمرة فكرية علمية ـ ثم ساق سنده إلى الحاكم ـ قال: سمعت أبا عبد الله محمد بن يعقوب سمعت أحمد بن سلمة يقول: عقد لأبي الحسين مسلم بن الحجاج مجلس للمذاكرة ، فذكر له حديث لم يعرفه ، فانصرف إلى منزله ، وأوقد السراج ، وقال لمن في الدار : لا يدخلن أحد منكم هذا البيت ، فقيل له: أهديت لنا سلة فيها تمر ، فقال: قدموها إلي ، فقدموها ، فكان يطلب الحديث ، ويأخذ تمرة تمرة يمضغها ، فأصبح وقد فني التمر ، ووجد الحديث.
[*] قال الحاكم: زادني الثقة من أصحابنا: أنه منها مرض ، ومات . اهـ.
وانظر: تاريخ بغداد 13/103، وعنه ابن عساكر في تاريخ دمشق 58/94 ، و تهذيب الكمال27/506 .
وكانت وفاته عشية يوم الأحد ، ودفن الاثنين لخمس بقين من رجب سنة إحدى وستين ومائتين ، رحمه الله رحمة واسعة .
انظر: طبقات الحنابلة 2/417 ، وتاريخ دمشق 58/94، وصيانة مسلم ص1216 ، وشرح مسلم للنووي 1/123 و تهذيب الكمال 27/507 ، والبداية والنهاية 11/34 .
- سيرة أبي داود رحمه الله :
كان الإمام أبي داودإمام من أئمة الهدى وأعلام التقى ومصابيح الدجى ، من حلية الأولياء وأعلام النبلاء ،الأضواء اللامعة والنجوم الساطعة ، من الطبقة التي تلي تابعي التابعين :
عصر أبي داود :
ولد أبو داود في مطلع القرن الثالث الهجري وتوفي في أواخره.
والقرن الثالث هو العصر العلمي الذهبي في تاريخنا كله، وقد أتيح للمؤلف رحمه الله أن يشهد نضج الحضارة الإسلامية في هذا القرن، كما أتيح له أن يعيش هذا العصر الذي ازدحم بالعبقريات والموهوبين الأفذاذ في شتى شؤون الفكر.
ويكفينا للدلالة على ذلك أن نذكر من أعلام هذا القرن الأسماء الآتية:
ففي الحديث:
كان البخاري ومسلم ويحيى بن معين وأحمد بن حنبل والترمذي والنسائي.
وفي الفقه:
كان الربيع والمزني صاحبا الشافعي وداود الظاهري وغيرهم.(3/458)
وفي الشعر:
كان علي بن الجهم وابن الرومي والبحتري وابن المعتز.
وفي العلم بالأدب :
كان المبرد وابن قتيبة والجاحظ وثعلب والفراء، وغيرهم كثير. وهكذا.. ولا شك في أنَّ أبا داود كان واحداً من هؤلاء العمالقة الأفذاذ في هذا العصر.
وكانت الحضارة قد بدأت تؤتي ثمارها وتنضج نضجاً رائعاً ترك أطيب الأثر في حياة المسلمين والدنيا كلها.
وما نزال معجبين بهذه الحضارة التي أينعت ثمارها وامتدت ظلالها في هذا القرن فكان هذا التراث العظيم الذي ما زالت الأجيال وستبقى تعيش مفيدة من مائدته .
مولد أبو داود :
ولد أبو داود سنة 202هـ في ظل الخليفة العباسي العالم المأمون، وإن استعراض أسماء الخلفاء الذين جاءوا إلى سدة الخلافة خلال حياة أبي داود ليشعرنا بفخامة العصر الذي كان فيه.
فبعد المأمون (ت218هـ) جاء للخلافة المعتصم (ت227هـ) ثم الواثق (ت232هـ) ثم المتوكل (ت247هـ) ثم المنتصر (ت248هـ) ثم المستعين (ت252هـ) ثم المعتز (ت255هـ) ثم المهتدي (ت256هـ) ثم المعتمد على الله (ت 279هـ).
وهذا الأخير حَجَر عليه أخوه الموفق واستبدّ بالأمر دونه، ولم يصبح خليفة، وللموفق مع أبي داود أخبار سنذكر طرفاً منها فيما بعد .
اسم أبي داود ونسبه :
هو أبو داود سليمان بن الأشعث بن إسحاق بن بشير بن شداد بن عمرو بن عمران الأزدي السجستاني.
وعمران هذا ذكر ابن عساكر وابن حجر أنه قتل مع علي بن أبي طالب بصفين . وأبو داود عربي صميم من الأزد ، والأزد قبيلة معروفة في اليمن .
والسجستاني نسبة إلى بلد سجستان، وهي بكسر السين وفتحها، والكسر اشهر، والجيم مكسورة فيهما ولم يذكر ياقوت في ((معجم البلدان)) إلا كسر السين .
وقد ذكرت الكتب التي ترجمت له أنه بلد يتاخم أطراف مكران والسند، وقررت أنه ما وراء هراة وذكر ياقوت أنه ناحية كبيرة وولاية واسعة وأنها جنوبي هراة، ووصف حسن جوها وثمراتها وسكانها وعاداتهم وقد وهم من زعم أنّ سجستان قرية من قرى البصرة .(3/459)
وذكر الأستاذ محبّ الدين الخطيب رحمه الله في مقدمته لكتاب ((موارد الظمآن)) أن سجستان هي بلاد الأفغان الآن وهي في الحقيقة القسم الجنوبي من بلاد الأفغان .
ويقال له السجستاني والسجزي وهي نسبة على غير القياس قال فيها المنذري: وهو من عجيب التغيير في النسب .
وقيل: السجزي إلى سجز وهي سجستان .
[*] مناقب أبي داود رحمه الله :
كان أبو داود رحمه الله تعالى من أئمة الهدى وأعلام التقى ومصابيح الدجى ، من حلية الأولياء وأعلام النبلاء وحراس العقيدة وحماة السنة وأشياع الحق وأنصار دين الله عز وجل ، حاملُ لواء السنة وناصرها وقامع البدعة ودامغها .
هاك غَيْضٍ من فيض ونقطةٍ من بحر مما ورد في مناقبه رحمه الله تعالى :
(1) نشأة أبي داود رحمه الله :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
ولد أبو داود سنة 202هـ كما ذكرنا وتلقى العلم على علماء بلده، ثم ارتحل وطوّف بالبلاد في طلب العلم وتحصيل الرواية، فزار العراق والجزيرة والشام ومصر وكتب عن علماء هذه البلاد جميعاً.
[*] قال الخطيب:
"وكتب عن العراقيين والخراسانيين والشاميين والمصريين والجزريين" .
وليس من شك في أنّ هذه الرحلات قد وسعت من أُفُقِهِ وأطلعته على ألوان الثقافة في عصره في كل أنحاء العالم الإسلامي.
والبلاد التي سكنها كثيرة نذكر منها ما وصل إليه علمنا وهي:(3/460)
سجستان التي كانت بلده والتي نسب إليها، وخراسان، والري ، وهراة ، والكوفة التي دخلها سنة 221هـ كما ذكر الخطيب ، وبغداد التي قدم إليها مرات، وآخر مرة زارها كانت سنة 271هـ، وطرسوس التي أقام بها عشرين سنة ، ودمشق التي سمع الحديث فيها كما يذكر ابن عساكر ، ومصر أيضاً، والبصرة التي انتقل إليها بطلب من الأمير أبي أحمد الموفق الذي جاء إلى منزله في بغداد واستأذن عليه ورجاه أن يتخذ البصرة وطناً ليرحل إليها طلبة العلم من أقطار الأرض فتعمر بسببه فإنه قد خربت وهُجرت وانقطع الناس عنها لما جرى عليها من فتنة الزنج .
وهذا الخبر يدل على أن شهرة أبي داود قد طبقت الآفاق، فالناس يعرفون له قدره وفضله وشهرته، وأحسّت الدولة بذلك فطلبت إليه أن يرحل إلى البصرة البلدة المنكوبة لتعود إليها الحياة ولتعمر من جديد. وفي هذا دلالة على طبيعة حضارتنا ومنزلة العلم والعلماء فيها، فإن سكنى مثل أبي داود فيها كان العلاج لردِّ العمران إلى بلد مخرّب مهجور. وهكذا فقد وفق الله أبا داود أن يكون شخصية علمية مرموقة في عصره كان لها أكبر الأثر على الناس في عصره والعصور التي تلت .
(2) سعة علم أبي داود رحمه الله :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ ـــ
كان أبو داود أحد حفاظ الإسلام، وكان من أوسع العلماء معرفة بحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفقهه وعلله ومتونه ورجاله.
ويبدو أن علماء عصره كانوا يعرفون مكانته العلمية الكبرى ويقدرونه حق قدره؛ يدل على ذلك عدد من الأخبار:
منها ما ذكروا من أنّ أحمد بن حنبل روى عنه حديثاً، وكان أبو داود شديد الاعتزاز به.
ومنها ما ذكروا من أن سهل بن عبدالله التستري جاء إلى أبي داود.
فقيل: يا أبا داود هذا سهل جاءك زائراً، فرحّب به وأجلّه.
فقال له سهل: يا أبا داود لي إليك حاجة.
قال: وما هي؟
قال: حتى تقول قد قضيتها مع الإمكان.
قال: قد قضيتها مع الإمكان.(3/461)
قال: أخرج إلي لسانك الذي حدثت به أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أقبله، فأخرج إليه لسانه فقبله .
وكان علمه متعدد الجوانب، فهو - مع تخصصه في الحديث - فقيه عظيم، وقد عدّه الشيخ أبو الحسن الشيرازي في طبقات الفقهاء من جملة أصحاب أحمد بن حنبل، وكذا أبو يعلى في ((طبقات الحنابلة)) والعليمي في ((المنهج الأحمد)) .
وأبو داود ناقد كبير، وليس هذا غريباً على إمام من أئمة الحديث، لأن هذا العلم يربي في أتباعه حاسة النقد، وقد استطاع أن يبلغ مستواً راقياً من رهافة الحسّ ودقة النقد، وسنرى في دارستنا لكتاب ((السنن)) نماذج من نقده العميق، ولكنني هنا أود أن أشير إلى مجال سبق إليه أبو داود ويحسب بعض الباحثين أنه جديد وأنّ الأقدمين لم يعرفوه، وذلك هو نقد الكتابة وتقدير عمرها بالنسبة إلى الحبر القديم والحديث، يدل على ذلك خبر جاء في كتاب ((الميزان)) للحافظ الذهبي وهو: (قال زكريا بن يحيى الحلواني: رأيت أبا داود السجستاني قد جعل حديث يعقوب بن كاسب وقايات على ظهور كتبه، فسألته عنه فقال: رأيتنا في مسنده أحاديث أنكرناها، فطالبناه بالأصول، فدافعنا، ثم أخرجها بعد، فوجدنا الأحاديث في الأصول مغيرة بخط طري؛ كانت مراسيل فاسندها وزاد فيها) وتقدير العمر بالنسبة للحبر أمر يتصل بتقدير العمر بالنسبة إلى الورق ولا أستبعد أن تكون هناك حوادث من هذا القبيل في حياة صاحبنا العلمية، والله أعلم.
ومما يدل على سعة علمه وبصره بالعلم العملي وفقهه الحق في الدين قوله متحدثاً عن كتابه السنن (جمعت فيه أربعة آلاف وثمانمائه حديث، ذكرت الصحيح وما يشبهه وما يقاربه. ويكفي الإنسان لدينه من ذلك أحاديث أحدها قوله - صلى الله عليه وسلم - : "الاعمال بالنيات".
وقوله - صلى الله عليه وسلم - "من حسن اسلام المرء تركه ما لا يعنيه".
والثالث قوله - صلى الله عليه وسلم - "لا يكون المؤمن مؤمناً حتى يرضى لأخيه ما يرضاه لنفسه".(3/462)
والرابع قوله - صلى الله عليه وسلم - "الحلال بين والحرام بين وبين ذلك أمور مشتبهات" .
(3) ثناء العلماء على أبي داود رحمه الله :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ
كان الثناء عليه من قبل المعاصرين له والذين جاؤوا من بعده مُنصباً على ناحيتين:
سعة علمه ودقة تحقيقه.
وكرم أخلاقه وتقواه.
فلقد كان ـ رحمه الله ـ مثلاً عالياً في صفتي المحدث القوي وهما العدالة والضبط.
وسنورد شذرات من أقوالهم.
[*] قال أبو بكر الخلال :
"أبو داود سليمان الأشعث، الإمام المقدّم في زمانه رجلٌ لم يسبقه إلى معرفته بتخريج العلوم، وبصره بمواضعها أحدٌ في زمانه، رجل ورع مقدم" .
[*] وقال أحمد بن محمد بن ياسين الهروي :
"سليمان بن الأشعث أبو داود السجزي، كان أحد حفاظ الإسلام لحديث رسول الله وعمله وعلله وسنده، في أعلى درجة النسك والعفاف والصلاح والورع، كان من فرسان الحديث" .
[*] وقال ابراهيم الحربي :
"ألين لأبي داود الحديث كما ألين لداود النبي عليه السلام الحديد" .
وهذه الكلمة رويت أيضاً عن أبي بكر الصغاني .
[*]وقال موسى بن هارون الحافظ :
"خلق أبو داود في الدنيا للحديث، وفي الآخرة للجنة. ما رأيت أفضل منه" .
[*] وقال علان بن عبدالصمد:
"كان من فرسان هذا الشأن" .
[*] وقال أبو حاتم بن حبان :
"كان أحد أئمة الدنيا فقهاً وعلماً وحفظاً ونسكاً وورعاً وإتقاناً، جمع وصنف وذبّ عن السنن" .
[*] وقال أبو عبدالله بن منده :
"الذين أخرجوا وميزوا الثابت من المعلول والخطأ من الصواب أربعة: البخاري ومسلم، وبعدهما أبو داود والنسائي" .
[*] وقال الحاكم :
"أبو داود إمام أهل الحديث في عصره بلا مدافعة" .
[*] وقال محمد بن مخلد :
"كان أبو داود يفي بمذاكرة مائة ألف حديث وأقرّ له أهل زمانه بالحفظ" .
[*] وقال ابن ماكولا :
"هو إمام مشهور" .(3/463)
[*] وكان إبراهيم الأصبهاني وأبو بكر بن صدقة يرفعان من قدره بما لا يذكران أحداً في زمانه مثله .
[*] وقال الذهبي :
"وبلغنا أنًّ أبا داود كان من العلماء حتى إن بعض الأئمة قال: كان أبو داود يشبه أحمد بن حنبل في هديه ودله وسمته، وكان أحمد يشبه في ذلك وكيع، وكان وكيع يشبه في ذلك بسفيان، وسفيان بمنصور ومنصور بإبراهيم، وإبراهيم بعلقمة، وعلقمة بعبد الله بن مسعود. وقال علقمة: كان ابن مسعود يشبه بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في هديه ودله" .
ولم يرض السبكي في ((طبقاته)) أن يمضي بالسلسلة إلى نهايتها، بل اختار الوقوف عند ابن مسعود .
[*] ونقل ابن العماد عن الذهبي أيضاً قوله في أبي داود:
"كان رأساً في الحديث، رأساً في الفقه، ذا جلالة وحرمة وصلاح وورع حتى إنه كان يشبه بأحمد" .
[*] وقال ابن الجوزي :
"كان عالماً حافظاً عارفاً بعلل الحديث، ذا عفاف وورع وكان يشبه بأحمد بن حنبل" .
(4) أساتذة أبي داود رحمه الله :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
إن الحديث عن أساتذته لا يتسع له صدر هذا المقال لأنَّ عددهم كبير، وقد ذكر ابن حجر أن شيوخه في ((السنن)) وغيرها من كتبه نحوٌ من ثلاث مائة نفس .
وقد ألف العلماء في شيوخه المؤلفات، وكل كتب الرجال التي تحدثت عن رجال الكتب الستة تحدثت عن أساتذة أبي داود وسنورد أسماء بعضهم فيما يلي.
فمنهم: أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وعثمان بن أبي شيبة، وإسحاق بن راهويه، وأبو عمرو الحوضي، ومسلم بن إبراهيم، وسليمان بن حرب، وأبو الوليد الطيالسي، وموسى بن إسماعيل المنقري التبوذكي، وعبد الله بن مسلمة القضبي، وهناد بن السري، ومخلد بن خالد، وقتيبة بن سعيد، ومسدّد بن مسرهد، ومحمد بن بشار، وزهير بن حرب، ومحمد بن المثنى، وعمرو بن محمد الناقد، وسعيد ابن منصور، وحميد بن مسعدة، وحفص بن عمر وهو أبو عمر الضرير ، وتميم بن المنتصر، وحامد بن يحيى، وإسحاق بن إسماعيل الطالقاني.(3/464)
ولن نستطيع أن نترجم لهؤلاء جميعاً وقد تعمدت أن أذكر المشهورين لتغني شهرتهم عن التعريف بهم.
وليس غريباً أن يكون عدد من أساتذته عمالقة علماء أفذاذاً لأن طبيعة العصر الذي كان فيه أبو داود تقتضي أن يكون هناك نماذج من هذا النوع، كما سبق أن أشرت إلى ذلك عند حديثي عن عصره. وكثرة الأساتذة أمر معروف معهود في تاريخنا الفكري .
وينبغي أن نخص واحداً من أساتذته بإشارة لابدَّ منها وهو الإمام أحمد بن حنبل، فقط تكرر ذكره كثيراً في أخبار أبي داود، وقد اتصل به ورافقه، وعَرَض عليه ((سننه)) فاستجادها، وكان يسأله أبو داود كثيراً عن أمور الدين وشؤون الحديث، وقد بلغ من اهتمام أبي داود بأجوبة شيخه أحمد أنْ ألّف كتاباً جمع فيه الأسئلة التي ألقيت على الإمام أحمد وأجوبته عليها. وقد طبع هذا الكتاب بعنوان ((مسائل أحمد)).
وذكر العلماء في ترجمة أبي داود كثيراً من هذه الأسئلة التي كان أبو داود نفسه يتوجه بها إلى الإمام أحمد، أو الأسئلة التي كانت تطرح عليه بحضوره. فمن ذلك ما ذكره أبو يعلى أن أبا داود قال:
سمعت أحمد سئل عن القراءة في فاتحة الكتاب: (مَلِك) أو (مالكِ)؟ يعني: أيهما أحب إليك؟ قال: (مالك) أكثر ما جاء في الحديث فهذا سؤال سمعه فحفظه ورواه.
ونجده يصرح أحياناً بأنه هو الذي سأل الإمام أحمد كما في المثال الآتي:
قال أبو داود: قلت لأبي عبدالله أحمد بن حنبل: أرى رجلاً من أهل السنة مع رجل من أهل البدعة أترك كلامه؟
قال: لا، أو تُعلَمهُ أنَّ الرجل الذي رأيته معه صاحب بدعة. فإن ترك كلامه فكلّمه، وإلاّ فألحقه به.
قال ابن مسعود: ((المرء بخدنه)) .
وكثيراً ما يذكر في كتابه ((السنن)) مثل هذه الأسئلة التي كان يتوجه بها الإمام أحمد .
وقد ينقل قوله دون أن يكون هذا القول جواباً لسؤال سائل كما ذكر أبو يعلى:
قال أبو داود: سمعت أبا عبد الله يقول: من قال إنّ الله لا يُرى في الآخرة فهو كافر .(3/465)
وهذا كثير الورود في ((السنن)) أيضاً.
ويظهر أن إعجابه البالغ بأحمد وحُبّه الكبير له كان يحمله على أن يتشبّه به حتى رأينا بعض العلماء يذكر تشبهه بأحمد، وهذا مشاهد عند الطلبة المعجبين بأستاذهم، فتراهم يقلدونه حتى في نبرات صوته وسلوكه ومظهره.
(5) من أخذ الحديث عن أبي داود رحمه الله :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
روى عنه خلقٌ كثير من العلماء الأئمة؛ نذكر المشهورين منهم، من أمثال الإمام أحمد بن حنبل الذي روى عنه حديثاً واحداً كان أبو داود يعتزُّ بذلك جداً .
ومنهم الإمام أبو عيسى محمد بن عيسى الترمذي، والإمام أبو عبدالرحمن أحمد بن شعيب النسائي، والإمام أبو بكر أحمد بن محمد بن هارون الخلال، ومنهم إسماعيل بن محمد الصفار، وأبو بكر بن داود الأصفهاني، وحرب بن إسماعيل الكرماني، وأبو عوانة الإسفراييني، وزكريا الساحبي، وأبو بشر محمد بن أحمد الدولابي، ومحمد بن نصر المروزي، وأبو بكر محمد يحيى الصولي.
ومن تلامذته رواة السنن عنه وعددهم تسعة ذكر الذهبي والسبكي سبعة منهم. وزاد ابن حجر راويين هما أبو الطيب أحمد بن إبراهيم بن عبد الرحمن الأشناني، وأبو عيسى اسحاق بن موسى بن سعيد الرملي ورَّاقه. أما الرواة السبعة الذين ذكرتهم معظم المصادر فهم:
- أبو علي محمد بن أحمد بن عمرو اللؤلؤي.
- وأبو بكر محمد بن بكر بن عبدالرزاق بن داسة التمار.
- وأبو سعيد أحمد بن محمد بن زياد الأعرابي.
- وأبو الحسن علي بن الحسن بن العبد الأنصاري.
- وأبو أسامة محمد بن عبدالملك الرؤامي.
- وأبو سالم محمد بن سعيد الجلودي.
- وأبو عمرو أحمد بن علي بن الحسن البصري.
(6) وضع أبي داود الاجتماعي والمنزلي :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
كان الرجل يتمتع بمنزلة اجتماعية مرموقة، وقد اكتسب شهرة قليلة النظير، وشاع كتابه في حياته، وكان الطلبة يؤمّون منزله من كل مكان.(3/466)
وكانت له مخالطة طيبة للعلماء في كل الأمصار، ويكفينا في الدلالة على ذلك ما ذكرناه في مبحث أساتذته، كما كانت له صلة قائمة على الاحترام مع الحكام، ويكفينا في الدلالة على ذلك أن يقوم رجل الدولة الأول الموفق بزيارته وأن يطلب منه ما يطلب لعمارة البصرة كما أشرنا. وكان الرجل متزوجاً وله أولاد من أشهرهم ابنه عبد الله .
ويبدو أنه كان حريصاً على أن يطلب أولاده العلم في وقت مبكر، ولذلك فقد كان يأخذهم معه ليحضروا مجالس العلم وليسمعوا.
نقل ياقوت عن ابن عساكر خبراً يرويه عن الحسن بن بندار قال: (كان أحمد بن صالح يمتنع على المرد من رواية الحديث لهم تعففاً وتنزهاً ونفياً للمظنة عن نفسه. وكان أبو داود يحضر مجلسه ويسمع منه، وكان له ابنٌ أمرد يحبُّ أن يسمع حديثه، وعرف عادته في الامتناع عليه من الرواية، فاحتال أبو داود بأن شدّ على ذقن ابنه قطعة من الشعر ليتوهم أنه ملتحٍ، ثم احضره المجلس وأسمعه جزءاً.
فأخبر الشيخ بذلك، فقال لأبي داود: أمثلي يعمل معه هذا؟
فقال له: أيها الشيخ لا تنكر عليَّ ما فعلته واجمع أمردي هذا مع شيوخ الفقهاء والرواة فإن لم يقاومهم بمعرفته فاحرمه حينئذٍ من السماع عليك.
قال: فاجتمع طائفة من الشيوخ، فتعرض لهم هذا الأمرد مطارحاً، وغلب الجميع بفهمه، ولم يرو له الشيخ مع ذلك من حديثه شيئاً. وحصل له ذلك الجزء الأول.
وذكروا في بعض أخباره ما ينبئ عن اتخاذه بعض الخدم، ومنهم أبو بكر بن جابر خادمه الذي روى حديث مقابلة الموفق له .
(6) أخلاق أبي داود وصفاته رحمه الله :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ(3/467)
كان أبو داود رجلاً كبيراً ذا خلق كريم. كان صالحاً عابداً ورعاً، وكان ذكياً مجداً دؤوباً كثير الاحتمال لمشاق الارتحال وطلب العلم، وكان يقظاً شديد الانتباه يعرف الناس على حقيقتهم ولا تنطلي عليه وسائل الخداع، وكان أبياً كريم النفس، وكان جريئاً في الحق أميناً على رسالة العلم قائماً بحق الدين. وسأورد فيما يلي أخباراً تدل على صراحته في الحق وجرأته في قوله، لا يخاف في ذلك لومة لائم، وسيمر بنا أيضاً في دراسة ((السنن)) أمثلة عديدة على ذلك في موضوع جرح الرجال.
وقد خصصت هذا الخلق بالبيان لأنه الخلق الذي اعتقد أنه من أهم صفات العلماء، ولأنّ الناس يعانون الكثير من فقد هذا الخلق في حياتهم وعند نفر من العلماء، ويشهدون كم تجر المجاملة التي يتصف بها كثير من الناس من الويلات على الدين والعلم والحق.
والعلماء يمثلون القيادة الفكرية للأمة، والقوة الموجهة التي تحول بين الجماهير والانحراف والفساد، فإذا فقدوا فضيلة الصراحة في الحق والجرأة في إلقاء الكلمة المؤمنة الصادقة كان إيذاء ذلك شديداً.
وكانت عاقبة ذلك دماراً للأمة ولكل معاني الخير فيها.
فمن أجل ذلك رأيت أن أضرب بعض الأمثلة على أصالة هذا الخلق العظيم في سيرة هذا الإمام العظيم:
[*] ذكر أبو يعلى أنّ محمد بن علي الآجري قال:
قلت لأبي داود: أيهما أعلى عندك: علي بن الجعد أو عمرو بن مرزوق ؟
قال: عمروٌ أعلى عندنا. عليُّ بن الجعد وُسِمَ بميسم سوء قال: ((وما يسؤوني أن يعذب الله معاوية)) وقال: ((ابن عمر ذاك الصبي)) ) .
فأبو داود يعلن رأيه بصراحة، ويجرح علي بن الجعد ويذكر سبب الجرح وهو وقوعه في الصحابة، إذ أن كلمته في معاوية تدل على شيء من الكراهية لبعض الصحابة أو عدم اهتمام على أقل تقدير، وذلك عندما يقرر أنه لا يسوءه أن يعذب الله معاوية رضي الله عنه، وكذلك فإنّ قوله عن ابن عمر إنه صبي فيه ما يدل على قلة احترام للصحابة وعلى التهوين من شأنهم.(3/468)
ومن الأمثلة الرائعة على جرأته في الحق ومواجهته الحكام بما يعتقد سواء وافق رغبتهم أم لم يوافق ما رواه خادمه أبو بكر بن جابر الذي قال: كنت معه ببغداد، فصلينا المغرب إذ قرع الباب، ففتحتُه فإذا خادم يقول: هذا الأمير أبو أحمد الموفق يستأذن. فدخلت إلى أبي داود فأخبرته بمكانه، فإذن له، فدخل، وقعد، ثم أقبل عليه أبو داود وقال: ما جاء بالأمير في مثل هذا الوقت؟
فقال: خلال ثلاث.
فقال: وما هي ؟
قال: تنتقل إلى البصرة فتتخذها وطناً ليرحل إليك طلبة العلم من أقطار الأرض فتعمر بك، فإنها قد خربت، وانقطع عنها الناس لما جرى عليها من محنة الزنج.
فقال: هذه واحدة. هات الثانية.
قال: وتروي لأولادي كتاب ((السنن))؟
قال: نعم. هات الثالثة.
قال: وتفرد لهم مجلساً للرواية، فإنَّ أولاد الخلفاء لا يقعدون مع العامة.
فقال: أما هذه فلا سبيل إليها، لأنَّ الناس شريفهم ووضيعهم في العلم سواء.
قال ابن جابر: فكانوا يحضرون بعد ذلك ويقعدون وبينهم وبين الناس ستر فيسمعون مع العامة .
ومن الأمثلة التي تدل على جرأته وقوله الحق دون مراعاة لقرابة أو صلة موقفه من ابن أبي بكر عبد الله صاحب التصانيف.
فقد قال عنه: ((ابني عبد الله كذَّابٌ)) .
(7) من دُررِ مواعظ أبي داود رحمه الله :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
كان الرجل حكيماً، وليس ذلك بمستغرب على من اجتمعت فيه هذه الأوصاف التي أشرنا إليها آنفاً، وصاحب حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جدير بأن تفيض الحكمة على لسانه.
وقد ذكرت الكتب التي ترجمت له بعض هذه الجمل المأثورة الجميلة. فمن ذلك قوله:
الشهوة الخفية حب الرئاسة" .
وقوله: "خير الكلام ما دخل الأذن بدون أذن" .
وقوله: "من اقتصر على لباس دونٍ ومطعم دونٍ أراح جسده" .
وهذه الأقوال وغيرها مما يدل على حكمة رصينة انتهى إليها المؤلف بعد علم ونظر وتمرس بالحياة الفاضلة.
(8) كتب أبي داود رحمه الله :(3/469)
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ
1- المراسيل:
وقد طبع في القاهرة سنة 1310هـ.
ومخطوطاته موجودة في تركيا ومصر وغيرهما، وقد ذكرها سزكين في ((تاريخ التراث العربي)) .
2- مسائل الامام أحمد:
وهي مرتبة على أبواب الفقه، يذكر فيها أبو داود السؤال الموجّه لأحمد وجوابه عليها، وهو كتاب جليل من الناحية الفقهية ينقل لنا بدقة وأمانة آراء الامام أحمد بن حنبل، وطبع في القاهرة بتحقيق السيد رشيد رضا، وأعيد تصويره في بيروت مؤخراً.
وقد ذكرته معظم الكتب التي ترجمت لأبي داود أو عنيت باحصاء تراثنا الاسلامي وذكر ابن حجر ان أبا عبيد محمد بن علي بن عثمان الآجري الحافظ هو راوي المسائل عنه .
3- الناسخ والمنسوخ:
ذكر ابن حجر أن راوي هذا الكتاب عنه أبو بكر أحمد بن سليمان النجار. ونقل السيوطي عن هذا الكتاب وذكره اسماعيل البغدادي بعنوان ((ناسخ القرآن ومنسوخه)) .
4- إجاباته عن سؤالات أبي عبيد محمد بن علي بن عثمان الآجري:
قال ابن كثير: ولأبي عبيد الآجري عنه ((أسئلة في الجرح والتعديل والتصحيح والتعليل)) كتاب مفيد وذكرها سزكين بعنوان: ((سؤالات أجاب عنها أبو داود في معرفة الرجال وجرحهم وتعديلهم)) وذكر أنها موجودة في كوبريلي وباريس . وذكر أن ابن حجر استخدم هذه الرسالة كثيراً في ((تهذيب التهذيب)) .
5- رسالته في وصف كتاب ((السنن)):
وحققتها ونشرتها في مجلة أضواء الشريعة في الرياض العدد الخامس سنه 1394هـ ثم نشرتها مفردة دار العربية في بيروت، وقد سبق أن نشرت في مصر سنة 1369هـ ومخطوطتها في المكتبة الظاهرية في دمشق .
6- كتاب الزهد:
وتوجد منه نسخة بالقرويين بفاس كما أشار إلى ذلك الأستاذ سزكين .
7- تسمية الاخوة الذين روي عنهم الحديث:(3/470)
وهي رسالة من ثماني ورقات محفوظة في المكتبة الظاهرية بدمشق، وهي من رواية السّلفي، ومكتوبة بخط مغربي كما ذكر ذلك الأستاذ ناصر الدين الألباني وذكر الأستاذ أكرم العمري هذه الرسالة بعنوان ((تسمية الأخوة من أهل الأمصال)) وقال:
"وقد استفاد أبو داود في تصنيف رسالته ((تسمية الأخوة)) مما قرأه في كتاب علي بن المديني بخطه، كما استفاد من طريقته في تنظيم المادة، فنجده يرتب الاخوة الذين روي عنهم الحديث على المدن، وقد اكتفى أبو داود بتجريد الأسماء ولم يقتصر على ذكر الصحابة، بل ذكر من تلاهم أيضاً" .
وذكر الاستاذ العمري في تعليقه في الصفحة نفسها أن الرسالة تقع في 7 ورقات وأن الورقة 24 سطراً وأنها مكتوبة بخط ناعم، وذكر سزكين أنها مكتوبة في القرن السادس الهجري .
8- أسئلة لأحمد بن حنبل عن الرواة والثقات والضعفاء:
قال الأستاذ الشيخ محمد ناصر الدين الألباني:
"رتبت أسماؤهم على أسماء بلادهم، ثقات مكة، ثقات المدينة..، وينتهي بضعفاء المدينة" .
وهي نسخة ناقصة من أولها، وموجودة في الظاهرية .
9- كتاب القدر:
وذكر ابن حجر في ((تهذيب التهذيب)) باسم ((الردّ على أهل القدر)) وذكر أن راوي هذا الكتاب عنه أبو عبدالله محمد بن أحمد بن يعقوب المتوثي البصري .
وقال سزكين: اقتبس منه ابن حجر في كتابه ((الاصابة)) .
10- كتاب البعث والنشور:
ذكره بروكلمان وذكر أنه موجود في دمشق .
11- المسائل التي حلف عليها الامام أحمد:
ذكره سزكين وقال: إنه موجود في دمشق .
12- دلائل النبوة:
ذكره إسماعيل البغدادي وابن حجر في ((تهذيب التهذيب)) .
13- التفرد في السنن:
ذكره اسماعيل البغدادي .
14- فضائل الأنصار:
ذكره ابن حجر في مقدمة كتابه ((تقريب التهذيب)) .
15- مسند مالك:
ذكره ابن حجر في مقدمة كتابه ((تقريب التهذيب)) .
16- الدعاء: ذكره ابن حجر في مقدمة ((تهذيب التهذيب)) .
17- ابتداء: ذكره ابن حجر في مقدمة ((تهذيب التهذيب)).(3/471)
18- أخبار الخوارج: ذكره ابن حجر في مقدمة ((تهذيب التهذيب)).
وفاة أبي داود رحمه الله :
توفى أبو داود رحمه الله يوم الجمعة 15 شوال من سنة 275هـ بالبصرة، ودفن إلى جانب قبر سفيان الثوري بعد أن قدّم خدمات جليلة لدينه وأمته وللثقافة الاسلامية.
سيرة الترمذي رحمه الله :
كان الإمام الترمذي من أئمة الهدى وأعلام التقى ومصابيح الدجى ، من حلية الأولياء وأعلام النبلاء ،الأضواء اللامعة والنجوم الساطعة ، من الطبقة التي تلي تابعي التابعين :
اسم الترمذي ونسبه ومولده:
هو الإمام أبو عيسى محمد بن عيسى بن سَوْرة بن موسى السُّلمي الترمذي ،والترمذي: نسبة إلى "تِرْمِذ" - بكسر التاء - مدينة مشهورة ، ولد رحمه الله سنة 209هـ
[*] مناقب الترمذي رحمه الله :
كان الترمذي رحمه الله من أئمة الهدى وأعلام التقى ومصابيح الدجى ، من حلية الأولياء وأعلام النبلاء وحراس العقيدة وحماة السنة وأشياع الحق وأنصار دين الله عز وجل ، حاملُ لواء السنة وناصرها وقامع البدعة ودامغها .
وهاك غَيْضٍ من فيض ونقطةٍ من بحر مما ورد في مناقبه رحمه الله تعالى :
(1) طلب الترمذي للعلم وشيوخه وتلامذته:
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
بدأ رحمه الله طلب العلم في سن مبكرة؛ فمن أقدم شيوخه: أبو جعفر محمد بن جعفر السِّمناني(توفي قبل220هـ) فيكون عمر الترمذي آنذاك أقل من عشر سنين ، ثم إنه بعد أن تلقى العلم عن أهل بلده رحل وطوّف في البلاد؛
[*] قال عنه الذهبي في سير أعلام النبلاء :" ارتحل فسمع بخراسان والعراق والحرمين، ولم يرحل إلى مصر والشام"
ويرجح الدكتور أكرم ضياء العمري في بحثه "تراث الترمذي العلمي" أن الترمذي دخل بغداد ولكن كان ذلك بعد وفاة الإمام أحمد بن حنبل ـ إذ أن الترمذي لم يسمع من الإمام أحمد ـ
ومن أشهر الشيوخ الذين تلقى الترمذي عنهم وسمع الحديث منهم ما يلي :(3/472)
[1] قتيبة بن سعيد الثقفي البغلاني (ت240هـ) وهو أحد شيوخ أصحاب الكتب الستة.
[2] علي بن حُجر المروزي (ت244هـ)
[3] محمد بن إسماعيل البخاري (ت256هـ) وهو من أهم شيوخه.
[4] محمد بن بشار البصري الملقب بندار (252هـ)
[5] محمد بن المثنى البصري العنزي الملقب بـ (الزمِن) (ت252هـ)
[6] أحمد بن منيع البغوي الحافظ (ت244هـ)
[7] محمود بن غيلان المروزي (239هـ)
[8] عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي الحافظ (255هـ)
[9] إسحاق بن راهويه (238هـ)
وقد تلقى العلم عن الإمام الترمذي خلق كثير، من أشهرهم :
[1] أبو العباس محمد بن أحمد المحبوبي المروزي.
[2] أبو سعيد الهيثم بن كُليب الشاشي.
[3] أبو ذر محمد بن إبراهيم الترمذي.
[4] أبو محمد الحسن بن إبراهيم القطان.
[5] أبو حامد أحمد بن عبد الله المروزي التاجر.
(2) منزلة الترمذي عند العلماء :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
[*] قال الترمذي قال لي محمد بن إسماعيل : ما انتفعت بك أكثر مما انتفعت بي.
[*] وقال عنه المزي: "أحد الأئمة الحفاظ المبرزين، ومن نفع الله به المسلمين"
وقال الذهبي في سير أعلام النبلاء: الحافظ العلم الإمام البارع، وقال أيضا: جامعه قاضٍ له بإمامته وحفظه وفقهه.
[*] وقال عنه ابن كثير: هو أحد أئمة هذا الشأن في زمانه وله المصنفات المشهورة..
{ تنبيه } : وأما عن وصف ابن حزم له بأنه مجهول، فقد رد الأئمة عليه وخطؤوه في ذلك، قال الذهبي في ميزان الاعتدال: "ثقة مُجمعٌ عليه، ولا التفات إلى قول أبي محمد بن حزم فيه ..فإنه ما عرفه ولا درى بوجود الجامع، ولا العلل اللذَين له"
وذكر في السير في ترجمة ابن حزم أن جامع الترمذي وسنن ابن ماجه لم يدخلا الأندلس إلا بعد موته.
وكذا ردّ عليه ابن كثير في البداية والنهاية، وكذا ردّ عليه ابن حجر .
(4) صفات الترمذي رحمه الله تعالى :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ(3/473)
كان الإمام الترمذي عالماً عاملاً ورعاً زاهداً، قال الحافظ عمر بن أحمد بن علَّك المروزي: مات البخاري فلم يخلف بخراسان مثل أبي عيسى في العلم والزهد؛ بكى حتى عمِيَ .
يُقال: أنه وُلد أعمى والصواب أنه أضرَّ في آخر عمره، ذكره الذهبي وابن كثير.
وكان من أبرز صفاته التي عُرف بها: قوة الحفظ، فقد كان حافظاً بارعاً.
(5) بعض مؤلفات الإمام الترمذي :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
[1] الجامع، وهو أشهر مؤلفاته.
[2] العلل الصغير، وقد اختلف فيه هل هو من كتاب الجامع أو هو كتاب مستقل، والأشهر أنه من الجامع، وأنه كتبه كالخاتمة لكتاب الجامع.
[3] كتاب العلل الكبير
[4] الشمائل المحمدية.
[5] تسمية أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
[6] كتاب الزهد.
[7] كتاب الأسماء والكنى.
[8] كتاب التفسير.
[9] كتاب التاريخ.
وفاة الترمذي رحمه الله :
توفي في ترمذ، في 13/ رجب/ 279هـ
سيرة النسائي رحمه الله :
كان الإمام النسائي من أئمة الهدى وأعلام التقى ومصابيح الدجى ، من حلية الأولياء وأعلام النبلاء ،الأضواء اللامعة والنجوم الساطعة ، من الطبقة التي تلي تابعي التابعين .
[*] قال عنه الذهبي في سير أعلام النبلاء: الإمام الحافظ الثبت، شيخ الإسلام، ناقد الحديث. كان من بحور العلم مع الفهم والإتقان والبصر ونقد الرجال وحسن التأليف، جال في طلب العلم في خراسان والحجاز ومصر والعراق والجزيرة والشام والثغور ثم استوطن مصر ورحل الحفاظ إليه ولم يبق له نظير في هذا الشأن.
اسم النسائي ونسبه ومولده :
هو أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب بن علي بن بحر بن سنان النسائي ، ولد سنة 215هـ بنساء ، وهي بلدة مشهورة بخراسان ، وتوفي في مدينة الرملة بفلسطين في سنة 303هـ .
نشأة النسائي رحمه الله :(3/474)
ولد النسائي بنسا في سنة 215هـ وطلب العلم في صغره فارتحل إلى قتيبة في سنة 230هـ فأقام عنده بمدينة بغلان سنة فأكثر عنه، ومن شيوخه إسحاق بن راهويه وهشام بن عمار ويروي عن رفقائه.
شيوخ النسائي :
شيوخ النسائي : قتيبة بن سعيد وإسحاق بن راهويه وهشام بن عمار وهناد بن السري ومحمد بن بشار وعمرو بن علي الفلاس ومحمد بن آدم المصيصي ونصر بن علي الجهضمي ويعقوب الدورقي والحسن البزار وعمار بن خالد الواسطي ومحمد بن إسماعيل بن علية ومحمد بن النضر بن مساور وهارون بن عبد الله الحمال ويعقوب بن ماهان ومحمد بن معمر القيسي.
تلاميذ النسائي :
تلاميذ النسائي: سليمان بن أحمد الطبراني وأبو جعفر الطحاوي وأبو علي النيسابوري وأبو بشر الدولابي وأبو بكر بن السني o حمزة بن محمد الكناني ومحمد بن إسماعيل النحاس النحوي والحسن بن الخضر الأسيوطي والحسن بن رشيق ومحمد بن معاوية بن الأحمر الأندلسي وعبد الكريم بن أبي عبد الرحمن النسائي ومحمد بن موسى المأموني ومحمد بن حيوية النيسابوري ومحمد بن أحمد بن الحداد الشافعي وأبيض بن محمد بن أبيض.
[*] مناقب النسائي رحمه الله :
كان النسائي رحمه الله من أئمة الهدى وأعلام التقى ومصابيح الدجى ، من حلية الأولياء وأعلام النبلاء وحراس العقيدة وحماة السنة وأشياع الحق وأنصار دين الله عز وجل ، حاملُ لواء السنة وناصرها وقامع البدعة ودامغها.
وهاك غَيْضٍ من فيض ونقطةٍ من بحر مما ورد في مناقبه رحمه الله تعالى :
(1) ثناء العلماء على النسائي رحمه الله :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ ـــ ـــ ـــ
كان من بحور العلم مع الفهم والإتقان والبصر ونقد الرجال وحسن التأليف رحل في طلب العلم في خراسان والحجاز ومصر والعراق والجزيرة والشام والثغور ثم استوطن مصر ورحل الحفاظ إليه ولم يبق له نظير في هذا الشأن.
حدث عنه أبو بشر الدولابي وأبو جعفر الطحاوي وأبو علي النيسابوري وغيرهم كثير.(3/475)
وهاك غيضاً من فيض ممن أثنوا عليه خيرا .
[*] قال عنه الذهبي في سير أعلام النبلاء: الإمام الحافظ الثبت، شيخ الإسلام، ناقد الحديث. كان من بحور العلم مع الفهم والإتقان والبصر ونقد الرجال وحسن التأليف، جال في طلب العلم في خراسان والحجاز ومصر والعراق والجزيرة والشام والثغور ثم استوطن مصر ورحل الحفاظ إليه ولم يبق له نظير في هذا الشأن.
[*] قال الدار قطني : أبو عبد الرحمن مقدم على كل من يذكر بهذا العلم من أهل عصره .
وقال الدار قطني أيضاً :كان أبو بكر بن الحداد الشافعي كثير الحديث ولم يحدث عن غير النسائي وقال رضيت به حجة بيني وبين الله تعالى .
[*] وقال الحافظ ابن يونس : كان النسائي إمامًا حافظًا ثبتًا.
[*] قال الحافظ ابن طاهر سألت سعد بن علي الزنجاني عن رجل فوثقه فقلت قد ضعفه النسائي فقال يا بني إن لأبي عبد الرحمن شرطا في الرجال أشد من شرط البخاري ومسلم قلت صدق فإنه ليَّن جماعة من رجال صحيحي البخاري ومسلم.
[*] وقال الحاكم : كلام النسائي على فقه الحديث كثير ومن نظر في سننه تحير في حسن كلامه .
[*] وقال ابن الأثير في أول جامع الأصول : كان شافعيا له مناسك على مذهب الشافعي وكان ورعا متحريا قيل إنه أتى الحارث بن مسكين في زي أنكره عليه قلنسوة وقباء وكان الحارث خائفا من أمور تتعلق بالسلطان فخاف أن يكون عينا عليه فمنعه فكان يجيء فيقعد خلف الباب ويسمع ولذلك ما قال حدثنا الحارث وإنما يقول قال الحارث بن مسكين قراءة عليه وأنا أسمع.
[*] قال مأمون المصري المحدث : خرجنا إلى طرسوس مع النسائي سنة الفداء فاجتمع جماعة من الأئمة عبد الله بن أحمد بن حنبل ومحمد بن إبراهيم مربع وأبو الآذان فتشاوروا من ينتقي لهم على الشيوخ فأجمعوا على أبي عبد الرحمن النسائي وكتبوا كلهم بانتخابه.(3/476)
[*] وقال أبو طالب أحمد بن نصر الحافظ : من يصبر على ما يصبر عليه النسائي عنده حديث ابن لهيعة ترجمة ترجمة يعني عن قتيبة عن ابن لهيعة قال فما حدث بها .
[*] قال محمد بن المظفر الحافظ : سمعت مشايخنا بمصر يصفون اجتهاد النسائي في العبادة بالليل والنهار وأنه خرج إلى الفداء مع أمير مصر فوصف من شهامته وإقامته السنن المأثورة في فداء المسلمين واحترازه عن مجالس السلطان الذي خرج معه والانبساط في المأكل وأنه لم يزل ذلك دأبه إلى أن استشهد بدمشق من جهة الخوارج.
[*] قال الحافظ أبو علي النيسابوري: الإمام في الحديث بلا مدافعة أبو عبد الرحمن النسائي .
[*] قال أبو عبد الله بن منده : الذين أخرجوا الصحيح وميزوا الثابت من المعلول والخطأ من الصواب أربعة البخاري ومسلم وأبو داود وأبو عبد الرحمن النسائي .
[*]وقال مأمون المصري المحدث: خرجنا إلى طرسوس مع النسائي سنة الفداء فاجتمع جماعة من الأئمة؛ عبد الله بن أحمد بن حنبل، ومحمد بن إبراهيم مربع وأبو الآذان، وكيلجه، فتشاوروا من ينتقي لهم على الشيوخ فأجمعوا على أبي عبد الرحمن النسائي وكتبوا كلهم بانتخابه.
[*] يقول السيوطي في مقدمة شرحه لكتاب السنن للنسائي : كتاب السنن أقل الكتب بعد
لصحيحين حديثًا ضعيفًا ، ورجلاً مجروحًا .
(2) طلب النسائي للعلم وشيوخه وتلامذته :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
وطلب العلم في صغره، فارتحل إلى قتيبة في سنة ثلاثين ومئتين، فأقام عنده ببغلان سنة، فأكثر عنه.(3/477)
وسمع من: إسحاق بن راهويه، وهشام بن عمار، ومحمد بن النضر بن مساور، وسويد بن نصر، وعيسى بن حماد زغبة، وأحمد بن عبدة الضبي، وأبي الطاهر بن السرح، وأحمد بن منيع، وإسحاق بن شاهين، وبشر بن معاذ العقدي، وبشر بن هلال الصواف، وتميم بن المنتصر، والحارث بن مسكين، والحسن بن صباح البزار، وحميد بن مسعدة، وزياد بن أيوب، وزياد بن يحيى الحساني، وغيرهم كثير، قال ابن حجر في تهذيب التهذيب: سمع من خلائق لا يحصون .
وقد روى النسائي في " سننه " مواضع يقول: حدثنا أبو داود، فالظاهر أن أبا داود في كل الأماكن هو السجستاني، فإنه معروف بالرواية عن السبعة، لكن شاركه أبو داود سليمان بن سيف الحراني في الرواية عن بعضهم، والنسائي مكثر عن الحراني، وقد روى النسائي في كتاب " الكنى "، عن سليمان بن الأشعث، ولم يكنه، وذكر الحافظ ابن عساكر في "النبل" أن النسائي يروي عن أبي داود السجستاني .
[*] قال الذهبي في سير أعلام النبلاء : حدث عنه: أبو بشر الدولابي، وأبو جعفر الطحاوي، وأبو علي النيسابوري، وحمزة بن محمد الكناني، وأبو جعفر أحمد بن محمد بن إسماعيل النحاس النجوي، وأبو بكر محمد بن أحمد بن الحداد الشافعي، وعبد الكريم بن أبي عبدالرحمن النسائي، وأبو بكر أحمد بن محمد بن السني، وأبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني، ومحمد بن معاوية بن الأحمر الأندلسي، والحسن بن رشيق، ومحمد بن عبد الله بن حيويه النيسابوري، ومحمد بن موسى المأموني، وأبيض بن محمد بن أبيض، وخلق كثير .
(3) صفات النسائي رحمه الله تعالى :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
قال الذهبي رحمه الله تعالى : وكان شيخنا مهيبا، مليح الوجه، ظاهر الدم، حسن الشيبة.. وكان نضر الوجه مع كبر السن، يؤثر لباس البرود النوبية والخضر، ويكثر الاستمتاع، له أربع زوجات، فكان يقسم لهن... ومع ذلك فكان يصوم صوم داود ويتهجد.
(4) عقيدة النسائي رحمه الله :(3/478)
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
قال قاضي مصر أبو القاسم عبد الله بن محمد بن أبي العوام السعدي: حدثنا أحمد بن شعيب النسائي، أخبرنا إسحاق بن راهويه، حدثنا محمد بن أعين قال: قلت لابن المبارك: إن فلانا يقول: من زعم أن قوله تعالى: (إِنّنِيَ أَنَا اللّهُ لآ إِلََهَ إِلآ أَنَاْ فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصّلاَةَ لِذِكْرِيَ) [ طه: 14 ] مخلوق، فهو كافر. فقال ابن المبارك: صدق، قال النسائي: بهذا أقول.
{ تنبيه } : وأما رمي به من التشيع والانحراف عن خصوم علي، فبسبب تأليفه لكتاب خصائص علي رضي الله عنه، فمن أحسن ما يعتذر له به ما قاله هو لما سُئل عن ذلك:
قال الوزير ابن حنزابة: سمعت محمد بن موسى المأموني صاحب النسائي قال: سمعت قوما ينكرون على أبي عبد الرحمن النسائي كتاب: " الخصائص" لعلي رضي الله عنه، وتركه تصنيف فضائل الشيخين، فذكرت له ذلك، فقال: دخلت دمشق والمنحرف بها عن علي كثير، فصنفت كتاب: " الخصائص"، رجوت أن يهديهم الله تعالى.
(5) مذهب النسائي الفقهي رحمه الله :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
[*] قال ابن الأثير في أول " جامع الأصول ": كان شافعيا، له مناسك على مذهب الشافعي، وكان ورعا متحريا.
(6) مصنفات النسائي رحمه الله تعالى :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ
ترك النسائي مجموعة نفيسة من الكتب حُقَّ لها أن تُكْتَب بماء الذهب وهي كما يلي : *السنن الكبرى * المجتبى * مسند علي * الكنى * خصائص علي * عمل اليوم والليلة * كتاب التفسير * كتاب الضعفاء * عشرة النساء.
، وأهمها كتاب السنن وهو الذي عرف به .
[*] يقول السيوطي في مقدمة شرحه لكتاب السنن للنسائي : كتاب السنن أقل الكتب بعد
لصحيحين حديثًا ضعيفًا ، ورجلاً مجروحًا .(3/479)
فقد أطلق عليه اسم "الصحيح " كل من ابن منده وابن السكن وأبي علي النيسابوري والدارقطني وابن عدي والخطيب البغدادي، فلعل مقصودهم من هذه التسمية: تحريه وشدة شرطه إذا قورن بشرط غيره من أصحاب السنن ، ويسمى " السنن الصغرى" تمييزاً له عن الكبرى.
ويسمى " المجتبى" لأن النسائي اصطفاه وانتقاه من السنن الكبرى، ومنه قوله تعالى:] (فَاجْتَبَاهُ رَبّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصّالِحِينَ) [ القلم : 50]
ويسمى " المجتنى" - بالنون- من: جنى الثمرة واقتطفها وجرّها إليه، ويصح إطلاق هذا الاسم على السنن الصغرى لأنه اقتطفها من السنن الكبرى.
وقد وضع النسائي كتابًا كبيرًا جدًا حافلاً عرف بالسنن الكبرى ، وهذا الكتاب (المجتبى) المشهور بسنن النسائي منتخب منه ،
وكتاب (المجتبى) هذا يسير على طريقة دقيقة تجمع بين الفقه وفن الإسناد ، فقد رتب الأحاديث على الأبواب ، ووضع لها عناوين تبلغ أحيانًا منزلة بعيدة من الدقة ، وجمع أسانيد الحديث الواحد في موطن واحد .
وقد جمع النسائي في كتابه أحاديث الأحكام ، وقسمه إلى كتب، وعدد كتبه ثمانية وخمسين كتابًا، وقسم كل كتاب إلى أبواب ، ولم يفعل فعل أبي داود و الترمذي في الكلام على بعض الأحاديث بالتضعيف ، كما لم يتكلم على شيء من رجال الحديث بالجرح والتعديل ، ولم ينقل شيئًا من مذاهب فقهاء الأمصار .
والسبب الذي دعا أبا داود و الترمذي و النسائي إلى أن يذكروا في كتبهم أحاديث معللة هو احتجاج بعض أهل العلم والفقه بها ، فيوردونها ويبينون سقمها لتزول الشبهة .
وقد اشتهر النسائي بشدة تحريه في الحديث والرجال، وأن شرطه في التوثيق شديد .
قيمة الكتاب العلمية وثناء العلماء عليه :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ ـــ ـــ ـــ ــ
[*] قال الحاكم: كلام النسائي على فقه الحديث كثير، ومن نظر في سننه تحير في حسن كلامه.(3/480)
[*] قال ابن رشيد: كتاب النسائي أبدع الكتب المصنفة في السنن تصنيفاً وأحسنها ترصيفاً، وهو جامع بين طريقي البخاري ومسلم مع حظٍ كبير من بيان العلل التي كأنها كِهانة من المتكلم .
[*] قال السِّلفي : الكتب الخمسة اتفق على صحتها علماء المشرق والمغرب.
منهج الإمام النسائي في المجتبى:
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ ـــ ـ
[*] قال السخاوي: ولعمري فكتابه بديعٌ لمن تدبره، وتفهَّم موضوعه وكرَّره، وكم من جواهرٍ اشتمل عليها، وأزاهر انتعشت الأرواح بالدخول إليها وذلك:
(1) أنه يفسِّر الغريب أحيانا: كقوله في حديث الأعرابي الذي بال: " لا تزرموه" يعني: " لا تقطعوا عليه" ومرة: " لا تقطعوه" ...
(2)ويعيِّن المهمل: ـ كقوله فيما رواه من جهة بكر: ـ وهو بن مُضرـ
وفيما رواه من جهة عبد الله: ـ وهو ابن القِبطية ـ وقد يذكره ـ أي المهمل ـ مع الشك.
(3) ويسمي المبهم في أصل السند: كإيراده حديث محمد بن عبد الرحمن عن رجل عن جابر رضي الله عنه مرفوعا... ثم ساقه من طريق محمد ـ أيضاً ـ فقال: ( عن محمد بن عمرو بن حسن عن جابر .
وكذلك في المتن: كقوله في حديث ذي اليدين: فقام إليه رجل يقال له: الخِرباق. بل أورده كذلك في موضع آخر مسمىً في أصل رواية أخرى.
(4) ويُسمي المكنى: كقوله فيما رواه: من جهة أبي مُعَيد: هو حفص بن غيلان.
ومن جهة أبي هشام: هو المغيرة بن سلمة.
(5) ويكني المسمى حيث كان مشهوراً بكنيته: كقوله: أخبرنا زكريا بن يحيى: هو أبو كامل وذكوان: أبو صالح ،وذكوان: أبو عمرو.
(6) ويشير للمتفِق والمفترق، ومنه: آخر الأمثلة في الذي قبله.
(7) ونحوه مما يندفع به تعدد الواحد، " كهارون بن أبي وكيع وهو هارون بن عنترة"
ولما يزول به اللبس من ذلك، فساق: من طريق ابن المبارك عن أبي جعفر عن أبي سلمان، وقال: ( وليس بأبي جعفر الفرّاء.
(8) وهو كثيراً ما يسمي المنقطع مرسلاً، وكثيراً ما يرجح المرسل على المتصل بقرينة على ذلك.(3/481)
(9) يحرص النسائي في الباب الواحد على إخراج الحديث الصحيح إذا وجده، فإن لم يجد أخرج بعض الأحاديث الضعيفة التي يرى أن رواتها المضعفين ممن لم يجمع الأئمة على ضعفهم وترك حديثهم، وربما أخرج الحديث الصحيح ثم أعقبه ببعض الأحاديث الضعيفة وذلك لكون الحديث الضعيف تضمن زيادة لم ترد في الحديث الصحيح. وهو يبين أصح ما في الباب، كقوله عقب حديث عبد الله بن عُكيم:" كتب إلينا رسول الله r: لا تستمتعوا من الميتة بإهاب ولا عصب" :( أصح ما في هذا الباب في جلود الميتة إذا دُبغت حديث الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس عن ميمونة: ألا دبغتم إهابها فاستمتعتم به .
(10) اعتنى رحمه الله بالناحية الفقهية، فكتابه جامع بين الناحيتين الفقهية والحديثية، كما هو صنيع الترمذي في كتابه، ومن الأدلة على عنايته بالناحية الفقهية:
(11) تكراره للحديث، فإنه يكرر الحديث في مواضع متعددة، كما هو الحال عند البخاري. والذي دعاه لذلك كثرة التفريعات والتفصيلات في الباب الواحد في كتابه، حتى إن القارئ ليشعر أنه يتناول كتاباً فقهياً يخرج للفقهاء آراءهم ويبين مستندهم.. ومثال ذلك: حديث " إنما الأعمال بالنيات" كرره ست عشرة مرة.
(12) أنه أحيانا يقتصر على موضع الشاهد من الحديث، ويختصر المتون، وهذه نزعة إلى الفقه أقرب منها إلى الحديث.
(13) أنه أحيانا يورد كلاماً من عنده يدل على فقه الحديث.
(14) أنه يورد أحيانا بعض الأحاديث المتعارضة في الباب الواحد إذا صحت عنده، وكأنه يشير إلى جواز العمل بهذا وذاك، كما في أحاديث الجهر والإسرار بالبسملة، فإنه أورد أحاديث الجهر والإسرار بها، وكذلك فعل في الإسفار والتغليس لصلاة الفجر (1/271)
(14) أن كتابه لا يخلو من نقلٍ عن الفقهاء، وإن كان ذلك قليلاً، مثال ذلك: في (8/314) نقل عن مسروق فتوى في الهدية والرشوة وشرب الخمر.(3/482)
(15) ينقل صور كتب فقهية في المزارعة والشركات والتدبير، وهذا عمل فقهي محض، مثاله: قال أبو عبد الرحمن: كتابة المزارعة على أن البذر والنفقة على صاحب الأرض، وللمزارع ربع ما يخرج الله عز وجل منها هذا كتاب فلان وفلان..
ومن الأدلة على عنايته بالناحية الحديثية:
ـــ ــ ـــ ــ ـــ ــ ـــ ــ ـــ ــ ـــ ــ ـــ ــ ـــ ـ
(1) أنه يعتني بعلل الأحاديث، وينقد المتون التي ظاهرها الصحة. ويوجد في كتابه ما لا يوجد في غيره من بيان العلل والتنبيه على أوهام بعض الحفاظ، مثال ذلك: قوله في (7/88): أخبرنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا الأنصاري، قال: حدثنا محمد بن عمرو عن أبي الزناد عن خارجة بن زيد بن ثابت قال:... الحديث ثم قال: قال أبو عبد الرحمن: محمد بن عمرو لم يسمعه من أبي الزناد. وأيضاً في (3/49) قال أبو عبد الرحمن: أنبأنا قتيبة بهذا الحديث مرتين، ولعله أن يكون قد سقط عليه منه شطر.
(2) ويبين الحديث المنقطع ، كقوله في حديث مخرمة بن نُكير عن أبيه: (مخرمة لم يسمع من أبيه شيئاً).. ويبين المرسل، كقوله في حديث لجرير عن منصور عن رِبعي عن حذيفة رفعه: " لا تقدَّموا الشهر" :( أرسله الحجاج بن أرطاة عن منصور بدون حذيفة)(3/483)
(3) يعتني بنقد الرجال، وهو في الغالب لا يسكت عن الضعيف، بل يبينه، ومثال ذلك: قوله في عمرو: ليس بالقوي في الحديث، وإن كان روى عنه مالك. وقوله في محمد بن الزبير الحنظلي عقب حديث" لا نذر في غضب..": ضعيف لا تقوم بمثله حجة، وقد اختلف عليه في هذا الحديث، ثم بدأ يسوق اختلاف رواياته التي اضطرب بها مدللاً على كلامه (المجتبى 7/28)، وكلامه في العلل والجرح والتعديل كثير حتى لا يكاد يخلو كتاب من كتب الرجال من نقلٍ عن النسائي، وقد تلقى العلماء ذلك من سننه ومن كتبه الأخرى، وقد اعتمدوا على جرحه وتعديله لأنه كان في غاية التحري والدقة. وهذا الأمر غير موجود في صحيح البخاري ولا صحيح مسلم، ويوجد بقلة عند الترمذي وبشكل نادر عند أبي داود وابن ماجه.
(4) تسميته لبعض المكنين وتكنيته لبعض المشهورين بأسمائهم، مما قد يلتبس في الأسانيد، مثاله: في (5/49) قال أبو عبد الرحمن: أبو عمار اسمه عريب بن حميد، وعمرو بن شرحبيل يكنى أبا ميسرة.
(5) محافظته على سياق الأحاديث بإسنادها، فيندر أن تجد معلقاً ولعله لا يوجد في المجتبى سوى موضعين لهما صورة المعلق ويمكن أن يحملا على الاتصال.
(6) حكمه على الأحاديث؛ وقد استعمل كثيراً من المصلحات الحديثية السائدة في عصره، فكثيرا ما يقول: هذا حديث منكر أو غير محفوظ، أو ليس بثابت، أو أخطأ فيه فلان، أو هذا حديث صحيح. وقد اعتنى الأئمة بنقل أحكام النسائي على الأحاديث لأنه إمام مطلع.(3/484)
(7) ويشير إلى الحديث المنكر، والغريب، والموقوف، ولما يعلم منه عدم التلازم بين السند والمتن حيث وصف سند بالحسن ومتنه بالنكارة، وللمدرج، ولما يدرج في حديث بعض الرواة مما هو عند غيرهم، ولما يشير به لنوع من التدليس، ولما لعله يقع تصحيفاً، ويشير لما يثبت به العلة أو يدفعها، وإذا اختلف الرواة في شيء رجح بالأثبتية ونحوها، وربما يشير لإيضاح النسبة، ويسرد نسب شيخه أحياناً، وكذا لقبه، وللمحل الذي سمع من شيخه فيه، ولما يزول به اللبس كقوله: (أخبرنا عبد الله بن محمد الضعيف- شيخ صالح- والضعيف: لقبٌ لكثرة عبادته)، ونحوه:( الضال لكونه ضل الطريق).( ختم السخاوي على سنن النسائي باختصار وتصرف يسير).
(8) سياقه الروايات وبيان الخلافات في الأسانيد والمتون، ويرجح بينها اعتماداً على الأحفظ والأكثر، كما نص على ذلك ابن حجر في ( نتائج الأفكار ص45)
أوجه الشبه بين منهج الإمام النسائي ومنهج الإمامين البخاري ومسلم:
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
(1) يشبه منهج البخاري في تدقيق الاستنباط والتبويب لما يستنبطه بحيث يكرر لذلك المتون، ومثاله: قصة عائشة رضي الله عنها في اتباعها سراً للنبي - صلى الله عليه وسلم - لما خرج من عندها ليلاً إلى البقيع. فإنه ذكرها في:
الأمر بالاستغفار للمؤمنين من الجنائز، وأعادها في الغيرة من النكاح بسندها ومتنها سواء، ولكن بزيادة في نسب شيخه فقط، وباختصار يسير في آخر المتن، مع زيادة طريقين للحديث...
(2) وكذا شابه البخاري في التقليل من الإتيان بحاء للفصل بين السندين، بل هي عنده قليلة جداً.
(3) ووافقه على جواز الرواية بالمعنى ومنه: روايته من جهة ابن عليَّة عن أيوب وابن عون وسلمة بن علقمة وهشام بن حسان؛ دخل حديث بعضهم في بعض كلهم عن محمد بن سيرين. قال سلمة - فقط - في روايته: نبِّئتُ عن أبي الجعفاء. وقال الباقون: عنه. بلا واسطة.(3/485)
(4) وفيما ذهب إليه من المسمى أصح الأسانيد وإن خالفه في نفس التراجم، فقال: إن أصح الأسانيد ما رواه ابن شهاب عن زين العابدين بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عن أبيه عن جده... وذكر تمام أربع تراجم.
(5) وشابه مسلماً في كثير مما اعتنى به معهما. كالإشارة لصاحب اللفظ ممن يورد المتن عنهم أو عنهما. وربما يقول: لفظ فلان كذا، ولفظ الآخر كذا. ومنه: ما رواه من طريق حجاج ورَوْح كلاهما عن ابن جريج، وساق الحديث " من شك في صلاته فليسجد سجدتين" قال حجاج: "بعدما يسلِّم" وقال رَوح: " وهو جالس".
(6) وكذا شابه مسلماً في الاعتناء بصيغة التحديث، كقوله: " أخبرني: الحسن بن إسماعيل وأيوب بن محمد قالا: حدثنا حجاج بن محمد" قال أيوب: حدثنا، وقال حسن: أخبرني شعبة.
(7) وشابهه في بيان ما عند الراويين من لفظ:( النبي) و(الرسول)..
(8) وشابهه في إرداف العام بالمخصص، والمجمل بالمبيَّن المنصص، والمنسوخ بالناسخ له، ونحوه..
(9) وفي الكناية عن الضعيف إذا قُرن في الرواية بثقة، كروايته في غير موضع عن محمد بن عبد الله بن يزيد المُقرئ عن أبيه عن حَيْوة، وذكر آخر كلاهما عن شرحبيل بن شريك، فإن المبهم هنا هو ابن لهيعة، كما صرحت به رواية لأحمد في مسنده في أمثلة لذلك عن ابن لهيعة وغيره ... والظاهر من حاله في التثبت أنه عرف أن لفظهما أو معناهما سواء، وفائدة ذلك: الإشعار بضعف المبهم، وكونه ليس من شرطه، وكثرة الطرق ليترجح بها الخبر عند المعارضة. ( بغية الراغب المتمني في ختم النسائي بتصرف يسير)
ما انفرد به النسائي عن بقية الكتب الستة:
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
انفرد بعقد كتابٍ للتطبيق، ذكر فيه: حديث النهي عن وضع اليدين بين الركبتين، وكذا الإمساك بالركب في الركوع، ونحو ذلك.
وكتابٍ للشروط مما ينتفع به القضاة والموثقون.. (ختم السخاوي على النسائي )(3/486)
الانتقاد الموجه إلى النسائي والجواب عن هذا الانتقاد:
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ
انتقد الإمام النسائي بإخراجه عن رجال مجهولين حالاً أو عيناً، والجواب عن هذا الانتقاد: أن إخراجه عن هؤلاء الرجال لا يغضُّ من قيمة مصنفه خصوصاً المجهولي الحال، وذلك أن هذا الصنيع مذهبٌ لعدد من المحدثين كابن حبان وغيره، وقد ارتضى هذا المذهب غير واحد من الأئمة منهم ابن حجر حيث عدَّ هذا الفعل من قبيل إدخال الحسن في قسم الصحيح وذلك اصطلاح لا مشاحة فيه، كما أن ابن حجر قد ارتضى رواية النسائي عن شيوخه مجهولي الحال والعين توثيقاً وتعديلاً ورفعاً للجهالة عنهم حيث قال في تهذيب التهذيب(1/89) مستدركاً على الذهبي تجهيله لأحمد بن يحيى بن محمد بن كثير الحراني- : قلت: بل يكفي رواية النسائي عنه في التعريف بحاله وتوثيقه له.
ومن شدة انتقاء النسائي وتحريه استنتج التهاوني نتيجة مهمة في كتابه "قواعد في علوم الحديث" حيث قال: وكذا من حدَّث عنه النسائي فهو ثقة. (وينبغي أن تقيَّد هذه القاعدة فيما إذا لم يضعفه النسائي نفسه)
ومن الانتقاد الموجه له: أن ابن الجوزي أورد حديثاً موضوعاً من سنن النسائي. ويجاب: بأن الأئمة الذهبي وابن حجر والسيوطي وغيرهم قد ردُّوا على ابن الجوزي صنيعه هذا وبينوا أنه لا يوجد في السنن حديثاً موضوعاً أعلى ما عند النسائي في كتابه وأنزل ما عنده:
لم يقع للنسائي أسانيد ثلاثية كما وقعت للبخاري (وقد بلغت 22 حديثا كما في الحطة ص86)، وللترمذي (حديثاً واحداً في كتاب الفتن )، ووقع عند ابن ماجه خمسة أحاديث ثلاثية لكنها ضعيفة، فأعلى ما عند النسائي الأسانيد الرباعية، وأنزل ما عنده إسناد عشاري .
من شروح سنن النسائي :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ(3/487)
(1) زهر الربا على المجتبى لجلال الدين السيوطى المتوفى سنة ( 911هـ )، وهو بمثابة تعليق لطيف حل فيه بعض ألفاظه ولم يتعرض بشيء للأسانيد.
(2) حاشية لأبي الحسن نور الدين بن عبد الهادي السندى المتوفى سنة ( 1136هـ ) .
(3) شرح لأبي العباس أحمد بن أبي الوليد بن رشد (563هـ )
(4) شرح سراج الدين ابن الملقن (804هـ) زوائده على الصحيحين وسنن أبي داود والترمذي.
(5) حاشية لأبي الحسن محمد بن عبد الهادي السندي (1136هـ)، وهي مطبوع مع "زهر الربى"
(6) التعليقات السلفية على سنن النسائي لمحمد عطاء الله حنيف.
(7) ومن الشروح الحديثة : ذخيرة العقبى في شرح المجتبى للشيخ محمد بن علي بن آدم الأثيوبي المدرس بدار الحديث الخيرية بمكة وهو شرح مبسوط ، وإلى الآن طبع منه تسع مجلدات وصل فيه إلى كتاب الإمامة .
مسألة :هل السنن الصغرى (المجتبى) من تصنيف الإمام النسائي أو ابن السني؟
هناك رأيان في المسألة:
الرأي الأول: أنها تنسب إلى ابن السني، وقد قال بهذا القول: الذهبي وتبعه ابن ناصر الدين الدمشقي.
قال الذهبي في تاريخ الإسلام : والذي وقع لنا من سننه هو الكتاب المجتبى من انتخاب أبي بكر بن السني .
الرأي الثاني: أنها تنسب للإمام النسائي، وهو رأي أكثر العلماء، ومنهم ابن الأثير وابن كثير والعراقي والسخاوي، وغيرهم، ولعل هذا الرأي هو الراجح، ومن الأدلة عليه ما يلي :
(1) حكاية مفادها أن أمير الرملة لما اطلع على السنن الكبرى للنسائي سأله: هل كل ما في هذا الكتاب صحيح ؟ قال: لا ، فقال: أخرج لي الصحيح منه، فانتقى هذا المجتبى ( قلت: وهذه القصة ضعفها كثير من العلماء فإن الواقع يكذبها، فكم من حديث في السنن الصغرى أعله النسائي نفسه.(3/488)
(2) ما نقله ابن خير في الفهرست(ص116): عن أبي علي الغساني(ت498هـ) قوله:( كتاب الإيمان والصلح ليسا من المصنف إنما هما من المجتبى له بالباء في السنن المسندة لأبي عبد الرحمن النسائي اختصره من كتابه الكبير المصنف..
(3) وجود نسخ خطية قديمة تفيد بأن السنن الصغرى من تأليف النسائي وأن ابن السني مجرد راوٍ لها عن النسائي.
(4) أن ابن الأثير عندما ضم المجتبى في جامع الأصول ساقه بإسناده إلى النسائي من طريق ابن السني، ففيه نص ظاهر أنها من تأليف النسائي، ولو كانت من تأليف ابن السني لنص عليه ابن الأثير ولاكتفى بالإسناد إلى ابن السني.
(5) أن ابن السني ذاته نص أنه سمع المجتبى من النسائي في مواضع من الكتاب.
وقد قال ابن كثير في ترجمة النسائي من البداية والنهاية( 11/123): "وقد جمع السنن الكبير، وانتخب ما هو أقل حجماً منه بمرات، وقد وقع لي سماعهما."
رواة السنن عن النسائي:
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
روى السنن عن مصنفها جماعة، منهم:
ابنه عبد الكريم، وأبو بكر أحمد بن إسحاق الدينوري ابن السني، وأبو الحسن أحمد بن محمد بن أبي التمام، وأبو محمد الحسن بن رشيق العسكري، وأبو محمد بن معوية القرشي الأندلسي ابن الأحمر، وغيرهم.
شرط النسائي في كتابه:
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
[*] قال الإمام ابن طاهر المقدسي في "شروط الأئمة الستة"ص88: وأما أبو داود فمن بعده فإن كتبهم تنقسم على ثلاثة أقسام:
القسم الأول: صحيح؛ وهو الجنس المخرج في هذين الكتابين للبخاري ومسلم، فإن أكثر ما في هذه الكتب مخرج في هذين الكتابين، والكلام عليه كالكلام على الصحيحين فيما اتفقا عليه واختلفا فيه.
والقسم الثاني: صحيح على شرطهم، حكى أبو عبد الله بن منده أن شرط أبي داود والنسائي: (إخراج أحاديث أقوام لم يجمع على تركهم، إذا صح الحديث باتصال الإسناد من غير قطع ولا إرسال)، ويكون هذا القسم من الصحيح...(3/489)
قال الحافظ ابن حجر: المراد إجماعاً خاصاً، وذلك أن كل طبقة لا تخلو من متشدد ومتوسط ..فإذا أجمع أصحاب الطبقة الواحدة على ترك رجل ٍ تركاه، وإن اختلفوا فيه خرجا حديثه.
والقسم الثالث: أحاديث أخرجوها للضدية في الباب المتقدم، وأوردوها لا قطعاً منهم بصحتها، وربما أبان المخرِّج لها عن علتها بما يفهمه أهل المعرفة.
فإن قيل: لم أودعوها كتبهم ولم تصح عندهم؟
فالجواب من ثلاثة أوجه:
أحدها: رواية قومٍ لها واحتجاجهم بها، فأوردوها وبينوا سقمها لتزول الشبه.
والثاني: أنهم لم يشترطوا ما ترجمه البخاري ومسلم على ظهر كتابيهما من التسمية بالصحة، فإن البخاري قال: ما أخرجت في كتابي إلا ما صح، وتركت من الصحاح لحال الطول. ومسلم قال: ليس كل حديث صحيح أودعته هذا الكتاب، وإنما أخرجت ما أجمعوا عليه. ومن بعدهم لم يقولوا ذلك، فإنهم كانوا يخرجون الشيء وضدَّه.
والثالث: أن يقال لقائل هذا الكلام: رأينا الفقهاء وسائر العلماء يوردون أدلة الخصم في كتبهم، مع علمهم أن ذلك ليس بدليل، فكان فعلهما ـ عني أبا داود والنسائي ـ هذا كفعل الفقهاء، والله أعلم.(3/490)
[*] وقال الحازمي في "شروط الأئمة الخمسة "(ص150) بعد أن ذكر مذهب من يخرج الصحيح: .. وهذا باب فيه غموض، وطريقه معرفة طبقات الرواة عن راوي الأصل ومراتب مداركهم. ولنوضح ذلك بمثال، وهو أن تعلم أن أصحاب الزهري مثلا على طبقات خمس، ولكل طبقة منها مزية على التي تليها وتفاوت. فمن كان في الطبقة الأولى فهو الغاية في الصحة، وهو غاية مقصد البخاري والطبقة الثانية شاركت الأولى في العدالة، غير أن الأولى جمعت بين الحفظ والإتقان وبين طول الملازمة للزهري، حتى كان فيهم من يُزامله في السفر ويُلازمه في الحضر، والطبقة الثانية لم تلازم الزهري إلا مدة يسيرة فلم تمارس حديثه، وكانوا في الإتقان دون الطبقة الأولى، وهم شرط مسلم. والطبقة الثالثة: جماعة لزموا الزهري مثل أهل الطبقة الأولى، غير أنهم لم يسلموا من غوائل الجرح، فهم بين الرد والقبول، وهو شرط أبي داود والنسائي.
[*] وقال الحافظ ابن طاهر: سألت سعد بن علي الزنجاني عن رجل، فوثقه، فقلت: قد ضعفه النسائي، فقال: يا بني لِلَّهِ إن لأبي عبد الرحمن شرطا في الرجال أشد من شرط البخاري ومسلم.
قلت ـ أي الذهبي ـ : صدق، فإنه لين جماعة من رجال صحيحي البخاري ومسلم.
[*] وقال أبو طالب أحمد بن نصر الحافظ: من يصبر على ما يصبر عليه النسائي ؟ عنده حديث ابن لهيعة ترجمة يعنى عن قتيبة، عن ابن لهيعة قال: فما حدث بها.
[*] وقال حمزة بن يوسف السهمي: وسئل يعني الدارقطني إذا حدث أبو عبد الرحمن النسائي وابن خزيمة بحديث أيما تقدمه؟
فقال: أبو عبد الرحمن، فإنه لم يكن مثله ولا أقدم عليه أحدا، ولم يكن في الورع مثله لم يحدث بما حدث ابن لهيعة وكان عنده عاليا عن قتيبة.(3/491)
[*] وقال السخاوي في ختمه على النسائي (ص61): وقد سئل شيخنا ـ رحمه الله ـ عن ذكر النسائي لبعض الأئمة في ضعفائه، فأجاب بقوله: ( النسائي من أئمة الحديث، والذي قاله إنما هو بحسب ما ظهر له وأدَّاه إليه اجتهاده، وليس كل أحدٍ يؤخذ بجميع قوله سيما وقد وافق النسائي في مطلق القول جماعة .
ومن تشدده في الرجال أنه تجنب إخراج أحاديث جماعة ممن أخرج لهم صاحبا الصحيحين، مثل: إسماعيل بن أبي أويس، بل إن الدارقطني جمع مصنفا في أسماء الرواة الذين ضعفهم النسائي وأخرج لهم الشيخان في صحيحيهما.
وقد صرح النسائي بأنه لا يترك حديث الراوي حتى يجمع الجميع على تركه، وهذا في الظاهر مذهب متسع كما قال ابن منده، وليس كذلك بل مقصوده إجماعاً خاصاً كما بين ابن حجر؛ وهو أن كل طبقة لا تخلو من متشدد ومتوسط، فالنسائي لا يترك حديث الراوي حتى يجمع علماء الطبقة الواحدة على تركه.. مثال ذلك: أنه أخرج حديث عبد الله بن عثمان بن خيثم ثم قال: " ابن خيثم ليس بالقوي في الحديث، ويحيى بن سعيد القطان لم يترك ابن خيثم ولا عبد الرحمن ـ يعني ابن مهدي ـ إلا أن علي بن المديني قال: ابن خيثم منكر الحديث". فهذا الراوي مختلف فيه، فلذلك أخرج حديثه لأنه لم يجمع الجميع تركه.
وقد نصَّ ابن حجر في تهذيب التهذيب على أن النسائي من المتشددين في الجرح والتعديل.
وفاة النسائي رحمه الله تعالى :
[*] قال الحاكم أبو عبد الله الحافظ : سمعت علي بن عمر يقول كان أبو عبد الرحمن النسائي أفقه مشايخ مصر في عصره وأعرفهم بالصحيح والسقيم من الآثار وأعلمهم بالرجال فلما بلغ هذا المبلغ حسدوه فخرج إلى الرملة، فسئل عن فضائل معاوية فأمسك عنه فضربوه في الجامع، فقال: أخرجوني إلى مكة فأخرجوه إلى مكة وهو عليل وتوفي بها مقتولا شهيدا قال الحاكم أبو عبد الله: ومع ما جمع أبو عبد الرحمن من الفضائل رزق الشهادة في آخر عمره.(3/492)
[*] روى أبو عبد الله بن مندة :عن حمزة العقبي المصري وغيره أن النسائي خرج من مصر في آخر عمره إلى دمشق فسئل بها عن معاوية وما جاء في فضائله فقال لا يرضى رأسا برأس حتى يفضل قال فما زالوا يدفعون في حضنيه حتى أخرج من المسجد ثم حمل إلى مكة فتوفي بها كذا قال وصوابه إلى الرملة.
[*] وقال الدار قطني خرج حاجا فامتحن بدمشق وأدرك الشهادة فقال احملوني إلى مكة فحمل وتوفي بها وهو مدفون بين الصفا والمروة وكانت وفاته في شعبان سنة 303هـ قال وكان أفقه مشايخ مصر في عصره وأعلمهم بالحديث والرجال.
[*] قال أبو سعيد بن يونس في تاريخه كان النسائي إماما حافظا ثبتا خرج من مصر في شهر ذي القعدة سنة اثنتين وثلاث مائة وتوفي بفلسطين يوم الاثنين لثلاث عشرة خلت من صفر سنة ثلاث وثلاث مائة، ولعل هذا الأرجح أنه توفي بفلسطين.
سيرة ابن ماجة رحمه الله :
كان الإمام ابن ماجة من أئمة الهدى وأعلام التقى ومصابيح الدجى ، من حلية الأولياء وأعلام النبلاء ،الأضواء اللامعة والنجوم الساطعة ، من الطبقة التي تلي تابعي التابعين :
[*] قال أبو يعلى الخليلي الحافظ : ابن ماجه ثقة كبير متفق عليه ، محتج به ، له معرفة وحفظ ، وله مصنفات في السنن والتفسير والتاريخ، وكان عارفا بهذا الشأن، ارتحل إلى العراقيين ـ البصرة والكوفة ـ ومكة والشام ومصر .
[*] وقال عنه الحافظ ابن كثير: صاحب كتاب السنن المشهورة وهي دالة على عمله وعلمه، وتبحره واطلاعه، واتباعه للسنة في الأصول والفروع (1) ، وكانت وفاته لثمان بقين من رمضان سنة 273هـ .
اسم ابن ماجة ونسبه ومولده :
هو أبو عبد الله محمد بن يزيد بن ماجة الربعي بالولاء القزويني الحافظ الكبير المفسر ، ولد سنة (209هـ) وتوفي سنة (273هـ).
[*] مناقب ابن ماجة رحمه الله :
__________
(1) انظر البداية والنهاية لابن كثير ج 11/52.(3/493)
كان ابن ماجة رحمه الله من أئمة الهدى وأعلام التقى ومصابيح الدجى ، من حلية الأولياء وأعلام النبلاء وحراس العقيدة وحماة السنة وأشياع الحق وأنصار دين الله عز وجل ، حاملُ لواء السنة وناصرها وقامع البدعة ودامغها.
وهاك غيض من فيض مما ورد في مناقبه رحمه الله تعالى :
ثناء العلماء على ابن ماجة :
[*] قال أبو يعلى الخليلي الحافظ : ابن ماجه ثقة كبير متفق عليه ، محتج به ، له معرفة وحفظ ، وله مصنفات في السنن والتفسير والتاريخ، وكان عارفا بهذا الشأن، ارتحل إلى العراقيين ـ البصرة والكوفة ـ ومكة والشام ومصر .
[*] وقال عنه الحافظ ابن كثير: صاحب كتاب السنن المشهورة وهي دالة على عمله وعلمه، وتبحره واطلاعه، واتباعه للسنة في الأصول والفروع (1) ، وكانت وفاته لثمان بقين من رمضان سنة 273هـ .
رتبة سنن ابن ماجة بين الكتب الستة:
[*] قال الحافظ السلفي: اتفق على صحتها ـ أي الكتب الخمسة (2) ـ علماء الشرق والغرب، ولم يضموا إليها سنن ابن ماجه لتأخر مرتبتها عنها، وأول من جعلها سادس الكتب الستة الحافظ أبو الفضل محمد بن طاهر بن علي بن أحمد القيسراني المقدسي المتوفى سنة 507هـ في كتابه (أطراف الكتب الستة)، ورسالته (شروط الأئمة الستة) (3)
__________
(1) انظر البداية والنهاية لابن كثير ج 11/52.
(2) أي صحيح البخاري وصحيح مسلم وسنن أبي داود والنسائي وجامع الترمذي . والمراد بالصحة، صحة أصولها. انظر التقييد والإيضاح ص 62
(3) انظر البحر الذي زخر في شرح ألفية الأثر ورقة (65- أ-) حيث نسبه ابن عساكر الدمشقي لأبي الفضل إضافته للكتب الستة.(3/494)
ثم تابعه الحافظ عبد الغني بن عبد الواحد المقدسي المتوفى سنة 600هـ في كتابه (الكمال في أسماء الرجال)، ثم تابعهما أصحاب كتب الأطراف وأسماء الرجال، والمتأخرون في تصانيفهم، وإنما قدم هؤلاء سنن ابن ماجة على الموطأ لكثرة زوائده على الكتب الخمسة بخلاف الموطأ؛ فإن أحاديثه ـ إلا القليل منها ـ موجودة في الكتب الخمسة مندمجة فيها، فهذا هو السبب في عدهم السادس سنن ابن ماجة دون الموطأ (1)
[*] وقال الصنعاني عن ابن ماجة : وكان أحد الأعلام ، وألف السنن ، وليست لها رتبة ما أُلّف مِنْ قَبْلِه ، لأن فيها أحاديث ضعيفة بل منكرة ، ونقل عن الحافظ المزي أن غالب ما تفرد به الضعيف .
وقد اعتُبِر هذا الكتاب رابع السنن ، ومتمم الكتب الستة التي هي المراجع الأصول للسنة النبوية ، وكان المتقدمون يعدونها خمسة ، ليس فيها كتاب ابن ماجه ، ثم جعل بعضهم الموطأ سادسها ،فقد عدّ بعض الحفاظ موطأ مالك في درجة الصحيحين، بل منهم من قدمه على الصحيحين، كالإمام ابن عبد البر المتوفى سنة 463هـ، والإمام أبو بكر بن العربي المتوفى سنة 543هـ والإمام أبو الحسن أحمد بن رزين السرقسطي المتوفى سنة 535هـ في كتابه (التجريد في الجمع بين الصحاح)، وتابعه على ذلك أبو السعادات مبارك بن محمد المشهور بابن الأثير الجزري المتوفى سنة 606هـ وكذا غيره (2) .
ومن الذين قدموا الموطأ على سنن ابن ماجة الإمام ابن حجر رحمه الله تعالى .
[*] قال ابن حجر: لم يرو ـ أي الإمام مالك ـ فيه إلا الصحيح عنده (3) .
ومن الحفاظ من عد سادس الكتب كتاب الدارمي.
[*] قال طاهر الجزائري: ولما كان ابن ماجة قد أخرج أحاديث عن رجال متهمين بالكذب وسرقة الأحاديث، قال بعضهم: ينبغي أن يجعل السادس كتاب الدارمي؛ فإنه قليل الرجال الضعفاء، نادر الأحاديث المنكرة والشاذة،
__________
(1) انظر توجيه النظر ص 153.
(2) انظر توجيه النظر ص 153.
(3) انظر تعجيل المنفعة ص 9.(3/495)
وإن كانت فيه أحاديث مرسلة وموقوفة؛ فهو مع ذلك أولى منه (1) .
[*] وقال الذهبي في تذكرة الحفاظ : سنن أبي عبد الله كتاب حسن لولا ما كدره أحاديث واهية ليست بالكثيرة (2) .
[*] وقال الحافظ ابن رجب عند كلامه عن طبقات الرواة عن الزهري في الطبقة الخامسة: قوم من المتروكين والمجهولين كالحكم الأيلي، وعبد القدوس بن حبيب، ومحمد بن سعيد المصلوب، وبحر السقاء ونحوهم؛ فلم يخرج لهم الترمذي ولا أبو داود ولا النسائي، ويخرج لبعضهم ابن ماجة،
ومن هنا نزلت درجة كتابه عن بقية الكتب، ولم يعده من الكتب المعتبرة سوى طائفة من المتأخرين (3) .
وقال الحافظ ابن حجر: كتابه في السنن - أي ابن ماجة - جامع جيد، كثير الأبواب والغرائب، وفيه أحاديث ضعيفة جدا، حتى بلغني أن السري كان يقول: مهما انفرد بخبر، فيه أحاديث كثيرة منكرة، والله تعالى المستعان،
ثم وجدت بخط الحافظ شمس الدين محمد بن علي الحسيني ما لفظه : سمعت شيخنا الحافظ أبا الحجاج المزي يقول: كل ما انفرد به ابن ماجة فهو ضعيف (4) ، يعني: وكلامه هو ظاهر كلام شيخه .
__________
(1) انظر توجيه النظر ص 153 ومقدمة ابن الصلاح ص 34- 35 حيث ذكر السبب في تأخر المسانيد عن مرتبة الكتب الخمسة ومنها مسند الدارمي، وانظر كلام ابن رشيد في حاشية سنن النسائي ج 1/11.
(2) انظر تذكرة الحفاظ ج2/636.
(3) انظر شرح علل الترمذي ص 294. ومحمد بن سعيد المصلوب لم ينفرد ابن ماجة بإخراج حديثه في السنن بل شاركه أيضاً الترمذي في الجامع. انظر: ميزان الاعتدال ج3/561. وخلاصة تهذيب الكمال ج2/407
(4) وقال ابن حجر في الفهرسة: إنه قال الحافظ المزي: إن الغالب فيما انفرد به ابن ماجة الضعف. انظر توضيح الأفكار للأمير الصنعاني ج 1/223.(3/496)
لكن حمله على الرجال أولى، وأما حمله على أحاديث فلا يصح (1)
السبب الذي حمل العلماء على أن يُدْرِجوا سنن ابن ماجة في الأصول :
لما رأى بعض الحفاظ كتابه كتابًا مفيدًا قوي النفع في الفقه ورأى من كثرة زوائده أدرجه في الأصول وجعلوه آخرها منزلة ؛ وذلك لأنه تفرد بأحاديث عن رجال متهمين بالكذب .
{ تنبيه } : ومما تقدم نعلم أن إطلاق الصحيح على أحد كتب السنن الأربعة أو عليها مجتمعة مع الصحيحين فيه تساهل ، لأن أحاديث الأربعة ليست كلها صحيحة ، نعم أكثرها صحيح أو حسن ، وربما كان ذلك سبب إطلاق الصحاح عليها من باب التغليب .
__________
(1) انظر: تهذيب التهذيب ج 9/531- 532، وفي البحر الذي زخر للسيوطي ورقة (65- أ-) (قال الحافظ ابن حجر فيما كتبه بخطه على حاشية الكتاب: مراده - أي المزي - من الرجال لا من الأحاديث فإن في أفراده صحاحا) اهـ.(3/497)
ومن هنا أجد لزاماً علي أن أشيد بالجهد الضخم الذي قدَّمه العلامة البحر الفهامة الضياء الامع والنجم الساطع ( الشيخ الألباني رحمه الله تعالى ) في تصحيح الكتب الستة التي هي عماد طالب العلم في الحديث ـ بعد الله تعالى ـ هذا العالم الجليل الذي وسَّع دائرةَ الاستفادةِ من السنة بتقديمه مشروع ( تقريب السنة بين يدي الأمة ) ذلك المشروع الذي بذل فيه أكثر من أربعين سنة ، ومن أراد أن يعرف هذه الفائدة العظيمة فلينظر على سبيل المثال إلى السنن الأربعة التي ظلَّت مئات السنين محدودة الفائدة جداً حيث كانت الاستفادة منها مقتصرة على من كان له باع في تصحيح الحديث وتضعيفه ولكن بعد تقديم الشيخ الألباني لصحيح السنن الأربعة اتسعت دائرة الاستفادة حتى تعم كل طالب أراد أن يستفيد وهذا ولا شك فائدة عظيمة جداً عند من نور الله بصيرته وأراد الإنصاف ، فحقيقٌ على كل مسلمٍ نوَّر الله بصيرته وأراد الإنصاف وأسند الفضل لأهله وعلم أن من أدب العلم التوادَّ فيه أن يدعوا للشيخ الألباني رحمه الله تعالى في سجوده على هذا العمل الضخم المتعدي النفع والذي يُشْبِه في نفعه الغيثَ من السماء أو الريح المرسلة يعم نفعُه كل من يقابله ، والشيخ الألباني رحمه الله تعالى كان رحمه الله تعالى كان رحمه الله تعالى من أئمة الهدى وأعلام التقى ومصابيح الدجى ، من حلية الأولياء وأعلام النبلاء وحراس العقيدة وحماة السنة وأشياع الحق وأنصار دين الله عز وجل ، حاملُ لواء السنة وناصرها وقامع البدعة ودامغها ، كان الكتاب والسنة له كالجناحين للطائر يتمسك بهما ويعضُ عليهما بالنواجذ، كان رحمه الله تعالى شهاباً ثاقباً ونجماً ساطعاً وبدراً طالعاً وسهماً نافذاً ، وكان كوكبَ نُظَرَائه وزهرةَ إخوانه ، تفوح منه علامات اليُمْنِ وأمارات الخير ورائحة التوفيق والسداد ، واحد زمانه، وإمام عصره وأوانه ، العالم الحبر، ذو الأحلام والصبر، العلم حليفه، والزهد أليفه ، كان(3/498)
رحمه الله تعالى خزانة علم فكان علمه واسعاً مباركا كالغيث من السماء أينما حل نفع ، يتفجَّرُ العلمُ من جوانبه، وتنطِق الحكمةُ من نواحيه، لا يُشَقُ له غُبارٌ في غزارة علمه ودقة استنباطه للفوائد والأحكام وسعة فقهه ومعرفته بأسرار اللغة العربية وبلاغتها ، وكان رحمه الله ذا همةٍ عاليةٍ تناطح السحاب في طلب العلم فكان يُقْبِلُ على طلب العلم إقبالَ الظامئ على الموردِ العذب فقد أفنى جلَّ عمره في طلب العلم فكان إماماً يقتدى به في ذلك وكان مناراً عظيماً من منارات العلم ، مناراً راسي القواعد مُشَيَّدَ الأركان ثابتَ الوطائد ، الإمام اللبيب، ذو اللسان الخطيب، الشهاب الثاقب، والنصاب العاقب، صاحب الإشارات الخفية، والعبارت الجلية ، ذوالتصانيف المفيدة ، والمؤلفات الحميدة ، الصوَّام القوَّام ، الزاهد في الدنيا الراغب في الآخرة ، صاحب الأخلاق الرضية ، والمحاسن السنية ، العالم الرباني المتفق على علمه وإمامته وجلالته وزهده وورعه وعبادته وصيانته في أقواله وأفعاله وحالاته، كان رحمه الله تعالى سراج العباد، ومنار البلاد ، رحمه الله تعالى رحمةً واسعةً تعمُ أرجائه ، وتغمده برحمةٍ فوق ما يخطر ببال أو يدور في الخيال ، وأنعم عليه برضا الكبير المتعال إنه وليُ ذلك والقادرُ عليه .
عدد أحاديث سنن ابن ماجة
قال محقق الكتاب الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي : جملة أحاديث سنن ابن ماجة (4341) حديثًا .
من هذه الأحاديث (3002) حديثًا أخرجها أصحاب الكتب الخمسة كلهم أو بعضهم ، وباقي الأحاديث وعددها (1339) هي الزوائد على ما جاء في الكتب الخمسة ، وهي كالآتي .
(1) حاديث رجالها ثقات ، صحيحة الإسناد (428 ) حديثًا
(2) أحاديث حسنة الإسناد "199 " حديثًا .
(3) أحاديث ضعيفة الإسناد " 613 " حديثًا .
4- أحاديث واهية الإسناد أو منكرة أو مكذوبة " 99 " حديثًا .
من شروح سنن ابن ماجة :(3/499)
(1) الديباجة بشرح سنن ابن ماجة للشيخ كمال الدين محمد بن موسى الدميرى الشافعي المتوفى سنة ( 808هـ) ، وجاء هذا الشرح في خمس مجلدات لكنه مات قبل تحريره .
(2)صباح الزجاجة على سنن ابن ماجة للحافظ جلال الدين السيوطي المتوفى سنة 911 هـ ، وقد شرح قطعة منه في خمس مجلدات .
(3) ما تمس إليه الحاجة على سنن ابن ماجة للعلامة ابن الملقن الشافعي شرح فيه زوائد ابن ماجه على الكتب الخمسة ، وقد ضبط فيه مشكله من الأسماء والكنى وما يحتاج إليه من الغرائب وجاء شرحه في ثمان مجلدات .
(4)شرح سنن ابن ماجه للحافظ علاء الدين مغلطاى بن قليج بن عبد الله الحنفي التركي المصري المتوفى سنة ( 762هـ) ، لكنه لم يتمه
- سادساً : نماذج من سير الزاهدين من المُجَدِدين المتأخرين :
{ تَقْدِمَة } : إن ذِكْرَ سيّر تلك الثلة الطيبة والكوكبة المباركة من علماء أهل السنة والجماعة من باب الوفاء والإكرام، وإنزال الناس منازلهم، واحترام كبيرهم والعطف على صغيرهم، وتكريم عالمهم، والحلم على جاهلهم .
فالعلماء بعلومهم، والحكماء بحكمتهم، والصالحون بوصاياهم، هم - بإذن الله - نجوم هادية لمن سار في الليالي المظلمة، ودفة محكمة لمن خاض عُباب البحار الموحشة، وغيثٌ مدرارا يأتي على الأرض الهامدة، فتهتز وتربو ثم تنبت من كل زوج بهيج " (1) ، فهم بحق " سراج العباد، ومنار البلاد وقوام الأمة، وينابيع الحكمة وهم غيظ الشيطان ، بهم تحيا قلوب أهل الحق، وتموت قلوب أهل الزيغ، مثلهم في الأرض كمثل النجوم في السماء يهتدي بها في ظلمات البر والبحر، إذا انطمست النجوم تحيروا، وإذا أسفر عنها الظلام أبصروا " (2) .
ولله درُّ من قال :
ما الفخر إلا لأهل العلم إنهم ... على الهُدى بِمَن استهدى أدلاّءُ
__________
(1) مقدمة المحقق لكتاب القواعد الفقهية للعلامة محمد بن صالح العثيمين - رحمه الله.
(2) أخلاق العلماء - للإمام المحدث الفقيه أبي بكر الآجري - المتوفي 360هـ(3/500)
وقَدْرُ كُلِّ امرئٍ ما كان يُحْسِنُه ... والجاهلون لأهل العلم أعداءُ
فَفُزْ بعلم تَعِشْ حيّاً به أبداً ... الناسُ موتى وأهلُ العلمِ أحياءُ
إن كلمات العلماء الصادقة المطمئِنة والمشجعة على تطبيق وتنفيذ أوامر الله ونبيه - صلى الله عليه وسلم - من التزام بأحكام الإسلام ، والبذل في سبيل الله تعالى ، والثبات على الحق ، هي النور الذي يضيء للناس الطريق بإذن الله تعالى ، وهي النبراس الذي يبيّن لهم سبيل الصواب فيسلكوه ، ومواقع الخطأ والانحراف فيتجنبوه فهم ورثة الأنبياء ويقع على عاتقهم القيام بهداية الإرشاد بلسان الحال والمقال .
[*] وما أجمل قول شيخ الإسلام ابن القيم الجوزية رحمه الله في التعريف عن العالم الرباني لما ذكر مراتب جهاد النفس فقال :" إن السلف مجمعون على أن العالم لا يستحق أن يسمى ربانياً حتى يعرف الحق ، ويعمل به ، ويُعلّمه ؛ فمن علم وعمل وعلَّم فذاك يدعى عظيماً في ملكوت السماوات " فلقد كانوا بحق مرجع للأمة في علومها وحكمها ، أناروا الطريق للسالكين وعبدوه للعابرين ، ليسهل على السالك الوصول إلى شريعة الله عز وجل وسنة نبيهم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم .(4/1)
إن سيَّر العلماء العاملين المخلصين الربانيين هي صورة مشرقة ومثلاً أعلى يُحتذى به لكل من يعجبه الزهد والحلم ، ويبحث عن الحكمة والكرم .، مع ما فيها بلسان الحال والمقال من منافحةٍ عن أهل العلم الذين جهلهم بعض المغرضين والحاقدين على دعوة أهل السنة والجماعة ( دعوة السلف الصالح )، ليصل بهم المطاف وسوء والأدب أن يقولوا: إن الدعوة السلفية ، دعوة حكام وسلاطين ومنافقين ، ناهيك أن الغالب منهم سرعان ما اغتاب ونقص من قدر علماء السلف في عصرنا الحاضر ، فمن المؤسف في زماننا هذا أن نرى بعض طلبة العلم ممن لا يُقًامُ لهم وزناً في العلم يتطاولون علماء السلف في عصرنا الحاضر مثل الشيخ الألباني ويجترئون عليه ويترقبون له الهفوات ويتصيدون له الأخطاء ويلتمسون العثرات ليشهروا به، وربّما يصل به الحدّ إلى الانتقاص من بعض العلماء الجبال الرواسي أمثال شيخ الإسلام أحمد بن تيميه وابن القيم الجوزية ... وربما ببعض التابعين ،(4/2)
وهذا - ولا شك - يدل على فسادِ النية وسوء الطوية وسقامةِ الضمائر ولؤم السرائر ويدل كذلك على أن قلبه أخلى من جوف البعير ، إذ لو تعلم العلم لعلم أن من أدب العلم التوادَ فيه ، ولقد كان ابن عباس - رضي الله عنهما - يأخذ بركاب زيد ابن ثابت - رضي الله عنه ـ ويقول هكذا أًمِرْنا أن نفعل بالعلماء ، وكان الشافعي رحمه الله يقول لعبد الله ابن الإمام أحمد : أبوك من الستة الذين أدعو لهم كل يوم عند السحر ، وأورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن يحيى القطان قال : أنا أدعو الله للشافعي اخصه به ، ولا أدري كيف سوَّلت لهم أنفسهم أن يتطاولوا على عالم صاحب حديث رسول الله أكثر من نصف قرن ولا أدري كيف يتطاولون على العَالِم والكتاب والسنة طافحين بما يدل على احترام أهل العلم وتوقيرهم ، ألا فليحذر طالب العلم من أن يكون سيئ الخلق ناطحاً للسحاب يترقب للعالم الهفوات ويلتمس العثرات ليشهر به فإن ذلك ينقصُ من مقدار التقوى عنده مما يكون سبباً في حرمانه من العلم ، بل ينبغي لطالب العلم أن يكون كريمَ الطباع حميدَ السجايا مهذبَ الأخلاق سليمَ الصدر مفتاحاً للخير مغلاقاً للشر إذا تكلم غنم وإذا سكت سلم .
من أجل هذا ما رحل علامة من علماء الإسلام إلا وقد ترك آثاراً إصلاحية وعلمية كبيرة ينهل من معينها الصافي المصلحون، ويجدّ في تحصيلها والغوص إلى دررها ومعانيها العالمون، وسيبقى أجرها جارياً لمن ورَّثها بإذن الله تعالى، وقد قال الله تعالى:( إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي المَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ ) [ يس : 12 ] أي: ما قدموا من الأعمال والآثار التي أثاروها وخلفوها من بعدهم ، من علم ودعوة ودلالة على خير .. ،
[*] وتأمل في الحديثين الآتيين بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيهما واجعل لهما من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيهما من غرر الفوائد ، ودرر الفرائد .(4/3)
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا و من دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا .
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها، وأجر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها، ووزر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء .
- وهاك نماذج من سير الزاهدين من العلماء المعاصرين :
سيرة محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى :
{ تَقْدِمَة } : كان الدعاة والحكماء والبلغاء في تلك الفترة (1) كثير ، ولكن قليل منهم المخلصين الذين انبثقت عقيدتهم ومنهجهم من منهج أهل السنة والجماعة ، لذا " لما كان الحديث عن المصلحين والدعاة والمجددين، والتذكير بأحوالهم وخصالهم الحميدة، وأعمالهم المجيدة، وشرح سيرتهم التي دلت على إخلاصهم، وعلى صدقهم في دعوتهم وإصلاحهم، لما كان الحديث عن هؤلاء المصلحين المشار إليهم، وعن أخلاقهم وأعمالهم وسيرتهم، مما تشتاق إليه النفوس، وترتاح له القلوب ، ويود سماعه كل غيور على الدين ، وكل راغب في الإصلاح، والدعوة إلى سبيل الحق، رأيت أن أتحدث إليكم عن رجل عظيم ومصلح كبير، وداعية غيور، ألا وهو الشيخ المجدد للإسلام في الجزيرة العربية في القرن الثاني عشر من الهجرة النبوية ...
هو المصلح العظيم وباعث النهضة الإسلامية في العصر الحديث الإمام محمد بن عبد الوهاب بن سليمان بن علي التميمي الحنبلي.
__________
(1) الفترة الواقعة ما بين ( 1100 هجري وحتى 1425 هجري )(4/4)
لقد عرف الناس هذا الإمام ولا سيما علماؤهم ورؤساؤهم، وكبراؤهم وأعيانهم في الجزيرة العربية وفي خارجها، ولقد كتب الناس عنه كتابات كثيرة ما بين موجز وما بين مطول، ولقد أفرده كثير من الناس بكتابات، حتى المستشرقون كتبوا عنه كتابات كثيرة، وكتب عنه آخرون في أثناء كتاباتهم عن المصلحين، وفي أثناء كتاباتهم في التاريخ، وصفه المنصفون منهم بأنه مصلح عظيم، وبأنه مجدد للإسلام، وبأنه على هدى ونور من ربه، وإن تعدادهم يشق كثيرا.
ومن جملتهم المؤلف الكبير أبو بكر الشيخ حسين بن غنام الأحسائي . فقد كتب عن هذا الشيخ فأجاد وأفاد، وذكر سيرته وذكر غزواته، وأطنب في ذلك وكتب كثيرا من رسائله، واستنباطاته من كتاب الله عز وجل .
وممن كتب عنه أيضا الشيخ عثمان بن بشر في كتابه عنوان المجد، فقد كتب عن الإمام الشيخ ( محمد بن عبد الوهاب ) أيضا، وعن دعوته، وعن سيرته، وعن تاريخ حياته، وعن غزواته وجهاده.
وممن كتب عنه من خارج الجزيرة الدكتور أحمد أمين في كتابه زعماء الإصلاح، فقد كتب عنه وأنصف، ومنهم الشيخ الكبير مسعود الندوي ، فقد كتب عنه وسماه: المصلح المظلوم، وكتب عن سيرته وأجاد في ذلك، وكتب عنه أيضا آخرون، منهم الشيخ الكبير الأمير محمد بن إسماعيل الصنعاني ، فقد كان في زمانه وقد كان على دعوته. فلما بلغه دعوة الشيخ سُر بها وحمد الله عليها.
وكذلك كتب عنه العلامة الكبير الشيخ محمد بن علي الشوكاني ، صاحب نيل الأوطار ورثاه بمرثية عظيمة، وكتب عنه جمع غير هؤلاء يعرفهم القراء والعلماء وبمناسبة كون كثير من الناس قد يخفى عليه حال هذا الرجل وسيرته ودعوته رأيت أن أساهم في بيان حال هذا الرجل ، وما كان عليه من سيرة حسنة، ودعوة صالحة، وجهاد صادق ، وأن أشرح قليلا مما عرفته عن هذا الإمام الرباني حتى يتبصر في أمره من كان عنده شيء من لُبْس، أو شيء من شك في حال هذا الرجل، ودعوته، وما كان عليه .(4/5)
مولد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى :
ولد الإمام ( محمد بن عبد الوهاب ) في عام (1115) هجرية، هذا هو المشهور في مولده رحمة الله عليه، وقيل في عام (1111) هجرية، والمعروف الأول: أنه ولد في عام 1115 هجرية على صاحبها أفضل الصلاة وأكمل التحية .
نشأة محمد بن عبد الوهاب وتلقيه العلم :
تعلم محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى على أبيه في ( بلدة العيينة ) وهذه البلدة هي مسقط رأسه رحمه الله عليه وهي قرية معلومة في اليمامة في نجد ، شمال غرب مدينة الرياض، بينها وبين الرياض مسيرة سبعين كيلو متر، ولد فيها رحمة الله عليه، ونشأ نشأة صالحة .
قرأ القرآن مبكراً قبل بلوغ العاشرة (1) وكان ذكيا حاد الفهم أخذ العلم عن والده وغيره ثم ذهب لطلب العلم إلى البصرة ومكة والمدينة و الإحساء وغيرها، ثم عاد إلى نجد. كان آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر داعيا إلى توحيد الله وإقامة حدوده ونبذ الشرك والبدع التي انتشرت في وقته ولاقى في سبيل ذلك أذى كثيرا رحمه الله .
اجتهد في الدراسة والتفقه على أبيه الشيخ عبد الوهاب بن سليمان وكان فقيها كبيرا، وكان عالما قديرا، وكان قاضيا في بلدة العيينة. ثم بعد بلوغ الحلم حج وقصد بيت الله الحرام، وأخذ عن بعض علماء الحرم الشريف. ثم توجه إلى المدينة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، فاجتمع بعلمائها وأخذ العلم عنهم ، انتقل وارتحل وأخذ عن عدّة مشايخ أجلاء وعلماء فضلاء منهم ما يلي :
(1) والده الشيخ عبد الوهاب بن محمد التميمي رحمه الله مفتي نجد ، أخذ عنه الفقه بعد أن حفظ القرآن عليه عن ظهر قلب.
(2) الشيخ عبد الله بن إبراهيم بن سيف النجدي المدني ، وقد قرأ عليه وأجازه بكل ما حوى .
__________
(1) أي حفظ القرآن الكريم كاملا عن ظهر غيب(4/6)
(3) الإمام المحدث محمد حياة السندي رحمه الله ، وكان له أكبر الأثر في توجيهه إلى إخلاص توحيد عبادة الله ، والتخلص من رق التقليد الأعمى والاشتغال بالكتاب والسنة . وقد كان أحد مشايخه في علم الحديث .
(4) الشيخ محمد المجموعي صاحب البصرة رحمه الله ،وهو عالم جليل أقام عنده - الشيخ محمد - في البصرة وقرأ عليه.
(5) الشيخ علي أفندي داغستاني ـ رحمه الله ـ جلس يدرس عليه في المدينة النبوية وأجازه .
(6) الشيخ عبد الطيف العفالقي الأحسائي - رحمه الله ، ولقد أجاز الإمام محمد بن عبد الوهاب بكل ما حواه .
(7) الشيخ إسماعيل العجلوني رحمه الله
(8) الشيخ عبد الله بن سالم البصري -رحمه الله ، وذكر ما قرأ عليه وهو في الثانية عشر من عمره .
(9) الشيخ صبغة الله الحيدري رحمه الله ،وقد أخذ عنه ببغداد.(4/7)
وغيرهم من العلماء وأجازه محدثو العصر بكتب الحديث وغيرها، كما سمع عن عبد الله بن إبراهيم النجدي ثم المدني. ثم رحل الإمام المجدد لطلب العلم إلى العراق ، فقصد البصرة واجتمع بعلمائها، وأخذ عنهم ما شاء الله من العلم، وأظهر الدعوة هناك إلى توحيد الله ، ودعا الناس إلى السنة، وأظهر للناس أن الواجب على جميع المسلمين أن يأخذوا دينهم عن كتاب الله وسنة رسول الله عليه الصلاة والسلام، وناقش وذاكر في ذلك، وناظر من هنالك من العلماء واشتهر من مشايخه هناك شخص يقال له الشيخ محمد المجموعي ، وقد ثار عليه بعض علماء السوء بالبصرة، وحصل عليه وعلى شيخه المذكور بعض الأذى، فخرج من أجل ذلك، وكان من نيته أن يقصد الشام، فلم يقدر على ذلك لعدم وجود النفقة الكافية، فخرج من البصرة إلى الزبير، وتوجه من الزبير إلى الإحساء واجتمع بعلمائها وذاكرهم في أشياء من أصول الدين، ثم توجه إلى بلدة حريملاء وذلك ـ والله أعلم ـ في العقد الخامس من القرن الثاني عشر في عام 1140 هجرية أو ما بعدها، واستقر هناك، ولم يزل مشتغلا بالعلم والتعليم، والدعوة في حريملاء حتى مات والده عام 1153 هجرية، فحصل من بعض أهل حريملاء شر عليه، وَهَمَّ بعض السفلة بها أن يفتك به، وقيل إن بعضهم تسور عليه الجدار، فعلم بهم بعض الناس فهربوا ، وهكذا لما اشتهر أمره عاداه كثير من الناس ـ كما هي سنة الله فيمن دعا إلى الحق ـ إما جهلا أو حسدا وعنادا للحق ، وبعد ذلك ارتحل الشيخ إلى العيينة رحمة الله عليه .(4/8)
وأسباب غضب هؤلاء السفلة عليه أنه كان آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر، وكان يحث الأمراء على تعزير المجرمين، الذين يعتدون على الناس بالسلب والنهب والإيذاء، هؤلاء السفلة الذين يقال لهم العبيد هناك، ولما عرفوا من الشيخ أنه ضدهم، وأنه لا يرضى بأفعالهم، وأنه يحرض الأمراء على عقوباتهم، والحد من شرهم، غضبوا عليه وهموا أن يفتكوا به، فصانه الله وحماه، ثم انتقل إلى بلدة العيينة وأميرها إذ ذاك عثمان بن ناصر بن معمر ، فنزل عليه ورحب به الأمير، وقال قم بالدعوة إلى الله ، ونحن معك وناصروك، وأظهر له الخير، والمحبة والموافقة على ما هو عليه.
فاشتغل الشيخ بالتعليم والإرشاد والدعوة إلى الله عز وجل، وتوجيه الناس إلى الخير، والمحبة في الله رجالهم ونسائهم، واشتهر أمره في العيينة، وعظم صيته، وجاء إليه الناس من القرى المجاورة، وفي يوم من الأيام قال الشيخ للأمير عثمان: دعنا نهدم قبة زيد بن الخطاب رضي الله عنه فإنها أسست على غير هدى، وأن الله عز وجل لا يرضى بهذا العمل، والرسول - صلى الله عليه وسلم - نهى عن البناء على القبور، واتخاذ المساجد عليها، وهذه القبة فتنت الناس وغيرت العقائد، وحصل بها الشرك فيجب هدمها، فقال الأمير: لا مانع من ذلك ، فقال الشيخ: إني أخشى أن يثور أهل الجبيلة، والجبيلة قرية هنالك قريبة من القبر، فخرج عثمان ومعه جيش يبلغون 600 مقاتل لهدم القبة. ومعهم الشيخ رحمة الله عليه، فلما قربوا من القبة خرج أهل الجبيلة لما سمعوا بذلك لينصروها ويحموها. فلما رأوا الأمير عثمان ومن معه كفوا ورجعوا عن ذلك. فباشر الشيخ هدمها وإزالتها، فأزالها الله عز وجل على يديه رحمة الله عليه " (1) .
__________
(1) لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز - بشيء من التصرف دون خلل في المعنى أو المقصود - صدرت ضمن منشورات الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد برقم 50 عام 1403 هـ(4/9)
وكانت دعوته السلفيّة المباركة ـ طيب الله ثراه ـ مستمدة من سنة النبي الأمين - صلى الله عليه وسلم - ، والسلف الصالح ـ تنبع من صميم منهاج أهل السنة والجماعة . كانت تحرر العقل من البدع والخرافات والشعوذة التي كانت تتغذى من واقع التخلف وقيم الدولة العثمانية ومراحل الانحطاط في الواقع العربي، حيث كانت بداية التأسيس العلمي والحضاري للمجتمع الجديد.
ولم يكن يقصد ـ رحمه الله ـ بالرجوع إلى سيرة السلف الصالح إلى الرجوع بالتاريخ إلى الوراء ولا استنساخ أي تجربة من تجارب الماضي وإنما استلهم قوة تلك الفترة، أما اعتبار الفوارق الزمنية واختلاف العصور وما ينتج عن ذلك من خلاف طبيعة الحلول، فتلك أمور كانت تعتبر من المسلمات ولم تكن موضوع نقاش في كتابات الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب ـ طيب الله ثراه ـ ولم يكن الشيخ يوماً مقلداً، وإنما كان مجتهد عصره، ومدرسته منفتحة على المذاهب الأربعة وتتبين الفارق بين خرافات التصوف في الدولة العثمانية في القرن الثامن عشر ومناهج التربية الروحية في الإسلام.
والناظر في دعوة الشيخ يجد أنها امتداداً لفهم السلف الصالح للكتاب والسنة، ولم تكن وليدة دعوة الإمام بل كانت أيضاً امتداداً للعلماء عبر القرون مثل الأئمة الأربعة وابن تيمية وابن القيم والشيخ عبد الله بن إبراهيم بن سيف، الذي تتلمذ الإمام على يده ، وأيضا فقيه صنعاء محمد بن إسماعيل الصنعاني، والعالم المجتهد محمد الشوكاني، فالعقيدة السلفية التي دعا لها الشيخ ـ رحمه الله ـ إنما هي عقيدة حضارية كاملة وليست مجرد دعوة منحصرة في واقعها المحلي ، أو مرتبطة بظروف البداوة فقط كما يعتقد البعض كما ذكرت ، فدعا إلى محو كل ما هو مخالف للإسلام الصحيح، والعودة إلى الإسلام في صورته الأولى، في بساطته وطهارته ونقائه، وصدق التوحيد واتصال العبد بربه من غير واسطة ولا شريك.(4/10)
وكان الإمام " محمد بن عبد الوهاب " يرى أن ما لحق بالمسلمين من ضعف وسقوط إنما هو بسبب ضعف العقيدة، والبعد عن التوحيد، فقد كانت العقيدة الإسلامية في أول عهدها صافية نقية من أي شرك، وبهذه العقيدة وحدها انتصر المسلمون وفتحوا العالم.
[*] وكانت ترتكز دعوة محمد بن عبد الوهاب المباركة على عدّة ركائز أهمها ما يلي :
(1) الدعوة إلى التوحيد الخالص من شوائب الشرك صغيره وكبيره.
(2) الإتباع التام لسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الخالص من شرور الابتداع والخرافات حتى لو كان يسيرا.
(3) الدعوة إلى الرجوع إلى الكتاب والسنة، بفهم علماء السلف، وجعلهما المصدر الأساس للدين والبعد عن الجمود على التقليد إذا استبان الدليل، مع البعد عن علم الكلام.
(4) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وما يلزم من ذلك من نشر العلم الشرعي والجهاد في سبيل الله وإقامة الحدود والرد على أهل الباطل.
(5) إحياء مبدأ الولاء للمؤمنين ولو كانوا أبعد الناس والبراء من المشركين والملحدين ولو كانوا أقرب الناس .
[*] دعوة بن عبد الوهاب رحمه الله إلى التوحيد :(4/11)
كان الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى حنبلي المذهب، يميل إلى الشدة في التعاليم الدينية، ولا يأخذ بالرخص، فاستنكر كثيرًا من البدع الفاشية بين المسلمين، ورأى فيها شركًا بالله، ودعا إلى التوحيد، وتنقية الدين من البدع والخرافات، وتخليصه مما داخَلَه من انحراف، فدعا قومه إلى نبذ البدع، وطرح كل ما لم يرد في القرآن والسنة من الأحكام والتعاليم، والرجوع بالدين إلى فطرته النقية وبساطته الأولى ، وسعى إلى تنقية العقيدة من تلك الشوائب والشبهات، والعودة إلى التوحيد الخالص والعقيدة الصافية؛ ولذلك فقد أُطلِقَ على تلاميذه وأتباعه اسم " الموحدين أو السلفيين " ، وأما اسم "الوهابيين" الذي عُرفوا به في الوقت المعاصر ، فقد أطلَقَهُ عليهم خصومهم، واستعمله الأوروبيين والغربيين حتى صار عَلمًا عليهم .
وقد قامت دعوته رحمه الله على فكرة التوحيد، فالتوحيد أساسه الاعتقاد بأن الله وحده هو خالق هذا الكون، وأنه هو المسيطر عليه، وواضع قوانينه التي يسير عليها، وليس في الخلق من يشاركه في خلقه ولا في حكمه، ولا من يعينه على تصريف أموره؛ فهو وحده الذي بيده الحكم، وهو وحده الذي يملك النفع والضر، وليس في الوجود من يستحق العبادة والتعظيم سواه.
مسألة : لماذا يهاجمون دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب؟ (1)
واجهت دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى منذ بداية ظهورها حملةً ضارية وعداءً سافراً، سواءً من قبل أمراء وحكام، أو من قبل بعض المنتسبين إلى العلم، وقد تنوعّت أساليب هذه المعارضة وتعددت جوانبها من تأليف وترويج الكتب ضد هذه الدعوة السلفية التجديدية،وتحريض الحكام عليها، ورميها بالتشدد والتكفير وإراقة الدماء . ...
__________
(1) الدكتور الشيخ عبد العزيز آل عبد اللطيف -(4/12)
وقد تحدّث الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى عن هذه الهجمة قائلاً: "فلما أظهرت تصديق الرسول فيم جاء به سبّوني غاية المسبة، وزعموا أنّي أكفر أهل الإسلام وأستحل أموالهم" (مجموعة مؤلفات الشيخ 5/26).
ويصف الشيخ عداوة الخصوم وفتنتهم في رسالته للسويدي ـ أحد علماء العراق ـ فيقول رحمه الله : "ولبّسوا على العوام أن هذا خلاف ما عليه أكثر الناس، وكبرت الفتنة وأجلبوا علينا بخيل الشيطان ورجله" (مجموعة مؤلفات الشيخ 5/36). ...
ولاحظت من خلال استقراء كتب خصوم هذه الدعوة أن غالبهم إما من الروافض أو غلاة الصوفية، فالروافض ينافحون عن وثنيتهم وعبادتهم للأئمة، وكذلك الصوفية يفعلون . ...
وعمد العلمانيون في هذه البلاد ـ ومن تأثّر بهم من التنويريين والإصلاحيين ـ إلى الطعن في هذه الدعوة من أجل التوثّب على قواعد الشريعة والتفلّت منها، ومنهم من شغب على هذه الدعوة؛ لأن ثوابت هذه الدعوة كالجهاد في سبيل الله ، وبُغْض الكافرين والبراءة منهم تعكِّر ما يصبوا إليه من ركون إلى الدنيا وإيثار للسلامة والسلام مع الكفار، فهدف أرباب العقول المعيشية أن يأكلوا ويقتاتوا بسلام ولو على حساب وَأْدِ الثوابت العقدية والقواطع الشرعية.
وأما عداوة الغرب لهذه الدعوة فقديمة قدم هذه الدعوة المباركة، فما إن سقطت الدرعية سنة 1234هـ على يد إبراهيم باشا حتى أرسلت الحكومة البريطانية مندوبَها مهنئاً على هذا النجاح، ومبدياً رغبة الإنجليز في سحق نفوذ الوهابيين بشكل كامل لِلَّهِ لا سيما وأن الإنجليز ـ في ذروة غطرستهم وهيمنتهم ـ قد كابدوا أنواعاً من الهجمات الموجعة من قبل "القواسم" أتباع الدعوة، وذلك في بحر الخليج العربي. ...(4/13)
ولا عجب أن يناهض الغرب هذه الدعوة الأصيلة، فالغرب يدين بالتثليث والشرك بالله ، وهذه الدعوة قائمة على تحقيق التوحيد لله ، وأُشرب الغرب حبّ الشهوات المحرمة وعبودية النساء والمال، وهذه الدعوة على الملة الحنيفية تدعو إلى التعلّق بالله ، والإقبال على عبادته والإنابة إليه، والإعراض والميل عما سوى الله سبحانه وتعالى. ...
أسباب مناهضة هذه الدعوة السلفية :
وأما عن أسباب مناهضة هذه الدعوة السلفية، فيمكن أن نجمل ذلك في الأسباب الآتية: ...
(1) غلبة الجهل بدين الله ، وظهور الانحراف العقدي على كثير من أهل الإسلام، فالتعصب لآراء الرجال والتقليد الأعمى، وعبادة القبور، والتحاكم إلى الطاغوت، والركون إلى الكفار والارتماء في أحضانهم.. كل ذلك مظاهر جلية في واقع المسلمين الآن، وهذه الدعوة تأمر باتباع نصوص الوحيين، وتدعو إلى عبادة الله وحده، وتقرر أن من أطاع العلماء أو الأمراء في تحليل ما حرّم الله أو تحريم ما أحل الله فقد اتخذهم أرباباً من دون الله ، وتنهى عن موالاة الكفار، وتقرر أن مظاهرة الكفار ضد المسلمين من نواقض الإسلام، فلما أظهر الله تعالى هذه الدعوة السلفية استنكرها الرعاع وأدعياء العلم والعوام؛ لأنها خالفت عوائدهم الشركية ومألوفاتهم البدعية.
(2) ومن أسباب هذه الحملة الجائرة: ما ألصق بهذه الدعوة ومجددها وأنصارها من التهم الباطلة والشبهات الملبسة، فقد كُذب على الشيخ محمد بن عبد الوهاب كما "كُذب على جعفر الصادق"، ومثال ذلك رسالة ابن سحيم ـ أحد الخصوم المعاصرين للشيخ ـ حيث بعث برسالة إلى علماء الأمصار، يحرّضهم ضد الشيخ، وقد حشد في تلك الرسالة الكثير من الأكاذيب والمفتريات، ثم جاءت مؤلفات أحمد دحلان ضد الدعوة فانتشرت في الآفاق والبلاد.(4/14)
(3) النزاعات السياسية والحروب التي قامت بين أتباع هذه الدعوة وبين الأتراك من جهة، وبين أتباع هذه الدعوة والأشراف من جهة أخرى، فلا تزال آثار تلك النزاعات باقية إلى الآن،
[*] يقول العلامة محب الدين الخطيب رحمه الله في هذا الشأن: ( كان الأستاذ محمد عبده رحمه الله يستعيذ بالله من السياسة ومن كل ما يتصرف منها؛ لأنها إذا احتاجت إلى قلب الحقائق، وإظهار الشيء بخلاف ما هو عليه اتخذت لذلك جميع الأسباب، واستعانت على ذلك بمن لهم منافع شخصية من وراء إعانتها، فتنجح إلى حين في تعمية الحق على كثير من الخلق، ومن هذا القبيل ما كان يطرق آذان الناس في مصر والشام والعراق وسائر الشرق الأدنى في المائة السنة الماضية من تسمية الدعوة التي دعا بها الشيخ المصلح محمد بن عبد الوهاب رحمه الله باسم "الوهابية" اتهاماً بأنه مذهب جديد ...) (1) ...
[*] ويقول الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله : ( إن سبب قذف الوهابية بالابتداع والكفر سياسي محض، كان لتنفير المسلمين منهم لاستيلائهم على الحجاز، وخوف الترك أن يقيموا دولة عربية، ولذلك كان الناس يهيجون عليهم تبعاً لسخط الدولة، ويسكتون عنهم إذا سكنت ريح السياسة ) (2)
(4) ومن أسباب هذه المناهضة: الجهل بحقيقة هذه الدعوة، وعدم الإطلاع على مؤلفات ورسائل علماء الدعوة، فجملة من المثقفين يتعرّفون على هذه الدعوة من كتب خصومها، أو من خلال كتب غير موثّقة ولا محرّرة.
إن المنصف لهذه الدعوة ليدرك ما تتميز به هذه الدعوة من سلامة مصادر تلقيها، وصفاء عقيدتها، وصحة منهجها، وما قد يقع من زلات أو تجاوزات فهذا يتعلّق بجوانب تطبيقية وممارسات عملية لا ينفك عنها عامة البشر، وعلماء الدعوة لا يدّعون لأنفسهم ولا لغيرهم العصمة، فكل يؤخذ منه ويردّ إلا المصطفى - صلى الله عليه وسلم - .
__________
(1) مجلة الزهراء، 1354هـ، ص84
(2) مجلة المنار، م24، ص584(4/15)
كما أن الدفاع عن هذه الدعوة ليس مجرد دفاع عن أئمة وأعلام فحسب، بل هو ذبّ عن دين الله تعالى، وذودٌ عن منهج السلف الصالح.
وفي الختام ندعو أهل الإسلام عموماً للانتفاع بالجهود العلمية والتراث النفيس الذي سطّره علماء الدعوة، والانتفاع بمواقفهم العملية وتجاربهم الاحتسابية والإصلاحية، والله أعلم.
تأثر الشيخ محمد بن عبد الوهاب بشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
لقد تأثر الإمام "محمد بن عبد الوهاب" في دعوته وتعاليمه بعالم جهبذ جليل ظهر في القرن السابع الهجري هو شيخ الإسلام الإمام "أحمد بن تيمية الحراني" الذي عُرف بالشجاعة وقوة الحجة، وكان لا يخشى في الله لومة لائم، حتى تعرض للسجن والتعذيب .
وكان شيخ الإسلام ابن تيمية يدعو إلى التوحيد وإخلاص العبودية لله ، وترك ما اقترن بزيارة القبور من بدع أو التبرك بالأولياء، كما نادى بهدم الأضرحة حتى لا تجلب للناس الفساد في العقيدة أو الفتنة في الدين.
وقد وجدت دعوة " شيخ الإسلام ابن تيمية " صدى لها في قلب وعقل " الإمام محمد بن عبد الوهاب "، فأخذ كثيرًا من أقواله وفتاويه وأفكاره وآرائه التي دعا بها في ضوء الكتاب والسنة وفهم السلف الصالح، ولم يكن مقلداً له، بل كان يخالفه إذا وجد الدليل الأقوى مع غيره من علماء السلف.
أبرز تلاميذ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى :
لقد أخذ عنه العلم جماعة من العلماء الأجلاء والدعاة الفضلاء، وغيرهم كثير ممن تتلمذوا على كتبه وفتاويه، فما زالت كتبه وستبقى - إن شاء الله - منارة لطلبة العلم الشرعي، فمن غفل عنها فقد خسر علم واسعاً وضيّع رأياً سديداً. (1)
__________
(1) اللهم إني أشهدك أني أحب الشيخ محمد بن عبد الوهاب فيك ، فاللهم اغفر لنا وجمعنا فيه مع النبيين والصديقين والشهداء(4/16)
فكان من أبرز تلاميذه رحمه الله : أبناؤه الشيخ حسين والشيخ عبد الله والشيخ علي. كما أخذ عنه الشيخ حمد بن ناصر بن معمر، والشيخ عبد العزيز الحصين الناصري، والشيخ سعيد بن حجي، والشيخ عبد العزيز والشيخ محمد آل سويلم، والشيخ حمد بن راشد العريني.
ثناء العلماء على محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى :
[*] قول علامة الشام الشيخ محمد بهجة البيطار: ( ليس للوهابية ولا للإمام محمد بن عبد الوهاب مذهب خاص ولكنه رحمه الله كان مجددا لدعوة الإسلام ومتبعا لمذهب احمد بن حنبل... ) (1)
[*] الشيخ البشير الإبراهيمي الجزائري : ( لقد كان رحمه الله تعالى ـ الشيخ البشير ـ في محاربتهِ للصُّوفيَّة وخرافاتها وتُرّهاتهم متأثِّراً بتعاليم دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهَّاب الإصلاحيَّة ، ويتَّضحُ ذلك عندما نراه يُعَلّل هجوم المتاجرين بالدَّين على هذه الدَّعوةِ السُّنِّيَّة الإصلاحيَّة في البلاد الحجازيَّة التي سَّماها خصومُها بِـ( الوهَّابيَّة) تنفيراً وتَشويهاً ـ لأنَّها قضت على بدعهم ، وحاربت خرافاتهم (2) ، فيقول ـ الشيخ البشير الإبراهيمي ـ رحمه الله تعالى : ( إنَّهم موتورون لهذه الوهَّابيَّة التي هدمت أنصابهم ، ومحت بدعهم فيما وقعَ تحتَ سلطانهم من أرضِ الله ، وقَد ضجَّ مبتدعة الحجاز فضجَّ هؤلاء لضجيجهم والبدعة رحم ماسة ، فليس ما نسمعهُ هنا من ترديد كلمة (وهابي) تُقذف في وجه كل داعٍ إلى الحقِّ إلاّ نواحاً مردَّداً على البدع التي ذهبت صرعى هذه الوهَّابيَّة ) .
__________
(1) من كتاب (حياة شيخ الاسلام ابن تيمية ص200 ) للشيخ محمد بهجت البيطار
(2) هذا الكلام لفضيلة الشيخ مشهور حسن آل سلمان - حفظه الله ، مجلة الأصالة العدد الاول بعنوان ( الشيخ البشير الإبراهيمي )(4/17)
[*] قال العالم الأزهري الكبير الشيخ "أبو الهدى الصعيدي" عام 1815م بعد أن انتهى من مناظرة قامت بينه وبين بعض علماء الوهابيين بأمر محمد علي والي مصر في ذلك الحين: ( إذا كانت الوهابية كما سمعنا وطالعنا ـ دعوة الإسلام ، دعوة التوحيد الخالص ، ثورة على الشرك والوثنية ، وإعصار على الضلال والبهتان ، فنحن أيضاً وهابيون .. ) نطق هذا العالم بكلمة الحق ، ولم يخش بطش الوالي المتسلط الذي كمم الأفواه وسلط على أتباع هذه الدعوة جنوده وفتكه وناره ؛ لأن قوة هذا الوالي مبتوتة الصلة عن القوة العليا قوة الله سبحانه وتعالى ، فهي لا تخيف ولا ترهب. وأيضاً فإن هذا العالم تأدب بأدب الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وتربى في رحاب سنته التي ترى: ( أن أفضل الجهاد كلمة الحق عند سلطان جائر ). وكأن الوجود كله قد أخذ يردد في تلك اللحظة كلمة هذا الشيخ المؤمن الصادق الإيمان.
ونقول: إذا كان ذلك كذلك.. فلماذا قامت الدنيا ولم تقعد؟ ولماذا تقولوا على الدعوة الأقاويل؟ ورموا صاحبها بالمروق عن الإسلام؟ وأعلنت الحرب الضروس التي لا تبقي ولا تذر؟ للإجابة على ذلك: علينا أن نقطع شوطاً آخر في البحث) (1)
[*] يقول فضيلة الشيخ الدكتور وهبة الزحيليحفظه الله : ( ... إذا ما تكلم ناصح ، أو تأمل مخلص ، أو اندفع غيور يدافع عن حرمات الله ، سرعان ما اتهمه العوام والسطحيون ـ وهم مع الأسف أكثرية ـ بالمروق ، والشذوذ والعمالة لفئة ما ، وعدّوا أنفسهم أهل الملة ، وسدنة الشريعة وحماة الإسلام. وعلى هذا النحو مرت بالمسلمين في فترة ضعف الخلافة العثمانية وما قبلها أزمنة حجب فيها صفاء الإسلام ، وبساطته ونقاؤه وجوهره وقوته الحقيقية ... ... .
__________
(1) ( الشبهات التي أثيرت حول دعوة الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب ) للشيخ الدكتور عبد الرحمن بن راتب عميرة المصري(4/18)
ولكن فضل الله على الأمة كبير، إذ حفظ للمسلمين أصول الشريعة في القرآن والسنة الصحيحة ، حتى تظل الشريعة حجة على العلم ( لا تزال طائفة من أمتي على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله )
وفي سبيل الحفاظ على الوحي الإلهي الأخير ، يهيئ الحق تبارك وتعالى صوت الإصلاح الداوي بين الحين والآخر ، وإن صاحبه بعض الأخطاء ، لأن المصلح بشر ، لتعهد الله عز وجل بحفظ الذكر المبين ، فتثير حركة الإصلاح رعب الجبناء ، وتقض مضاجع الأدعياء ، وتهز أركان الجهل وكيان الجهلة ، وتزلزل مواقع النفعيين: ( إن الله تعالى يبعث لهذه الأمة ، على رأس كل مائة سنة ، من يجدد لها دينها ) .(4/19)
ومما لا شك فيه ، إنصافاً للحقيقة ، لا إرضاءً لأحد ، وعملاً بمبدأ القرآن العظيم : (وَلاَ تَبْخَسُواْ النّاسَ أَشْيَآءَهُمْ) [الشعراء : 183] كان من أجرأ أصوات الحق ، وأكبر دعاة الإصلاح ، والبناء والجهاد لإعادة تماسك الشخصية الإسلامية وإعادتها لمنهج السلف الصالح: دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب في القرن الثاني عشر الهجري (الثامن عشر الميلادي) لتجديد الحياة الإسلامية ، فكان ابن عبد الوهاب بحق ، زعيم النهضة الدينية الإصلاحية المنتظر ، الذي صحح موازين العقيدة الإسلامية الناصعة ، وأبان حقيقة الوحدانية والوحدة والتوحيد الخالص لله عز وجل ، وأن العبادة هي التوحيد ، وحوّل الشراع رأساً على عقب ، للعمل الكامل بالقرآن والسنة ونبذ مظاهر الترف والبدع ، وتحطيم ما علق بالحياة الإسلامية من أوهام ، والعودة إلى الحياة الإسلامية الأولى المبسطة التي لا تعرف غير الجهاد الدائم منهجاً ، وقصد مرضاة الله مسلكاً ، وألتزم أخلاق الإسلام قانوناً ومظهراً ، وبروز دور العقل والفكر ، والجد والعلم والاجتهاد فيما لا نص فيه أو ما فيه نص ظني ، بغية تقدم الأمة ، وتصحيح مسار حياة العامة التائه أحياناً ، لأن دين الإسلام لا يعرف الخرافة والجهل والضلالة ، فكانت أعمال ابن عبد الوهاب وثبة وجبارة ، وقفزة رائعة لتصحيح خطأ الناس في العقيدة والعبادة ، في وسط شوهت فيه مبادئ الإسلام ومناهجه) (1)
__________
(1) كتاب ( تأثر الدعوات الإصلاحية الإسلامية بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب - الشيخ الدكتور وهبة الزحيلي )(4/20)
[*] قال الشيخ العلامة سيدي محمد بن الحسن الحجوي الثعالبي المغربي: ( ولد الإمام محمد بن عبد الوهاب في مدينة العيينة أقليم العارض بنجد سنة 1115هـ وربى بحجر أبيه ، ثم أنتقل إلى البصرة لإتمام دروسه ، فبرع في علوم الدين ، واللسان وفاق الأقران ، واشتهر هناك بتقوى وصدق التدين ... ثم قال: وكانت عقيدته السنة الخالصة ، على مذهب السلف المتمسكين بمحض القرآن والسنة لا يخوض التأويل والفلسلفة ولا يدخلهما في عقيدته.
وفي الفروع : مذهبه حنبلي غير جامد على تقليد الإمام أحمد ، ولا من دونه ؛ بل إذا وجد دليلاً أخذ به ، وترك أقوال المذهب فهو مُستقل الفكر في العقيدة والفروع معاً. إلى أن قال : وكان قوي الحال ذا نفوذ شخصي وتأثير نفسي ، ولذا كان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، وهو متفرد عن عشيرته في البصرة ) (1)
[*] يقول فضيلة الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله بعدما ذكر فشو البدع قبل ولادة الإمام محمد : ( واعتقد الناس النفع والضرر بالرسول والصالحين ، وبالقبور والأشجار ، والقباب والمزارات ، فيطلبون منهم الحاجات ، ويرجعون في الشدائد إليهم ، وينذرون لهم ، ويذبحون لهم ، واشتد تعظيم الأموات .وكان حظ نجد في هذه الجاهلية الجديدة أكبر الحظوظ . فقد اجتمع على أهله الجهل والبداوة ، والفقر ، والانقسام في كل ناحية من نواحي نجد ، من الأمراء بمقدار ما كان فيها من القرى .
__________
(1) نقلاً عن مقدمة الشيخ العلامة محمد عطية سالم في تقديمه لكتاب (الإمام محمد بن عبدالوهاب دعوته وسيرته لابن باز)(4/21)
ففي كل قرية أمير ، وفي كل ناحية جمعية أمم .وكان في كل إمارة قبر ، عليه بناء ، أو شجرة لها أسطورة . يقوم عليها سادن من شياطين الإنس ، ويزين للناس الكفر ويدعوهم إلى الاعتقاد بالقبر والذبح له ، والتبرك به ، والدعاء عنده ، إلى أن قال رحمه الله : وكان العلماء قلة، والحكام عتاة ظلمة،والناس فوضى يغزو بعضهم بعضاً،ويَعْدُو قويهم على ضعيفهم ، في تلك البيئة نشأ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله فرأى شمس الإسلام إلى أفول ، ورأى ظلمة الكفر إلى امتداد وشمول . وأراد الله له الخير فقدر له أن يكون أحد الذين أخبر الرسول أنهم يبعثون ليجددوا لهذا الأمة دينها ، بل لقد كان أحق بهذا الوصف من كل من وصف به في تاريخنا . فقد حقق الله على يديه عودة نجد إلى التوحيد الصحيح ، والدين الحق والألفة بعد الاختلاف ،الوحدة بعد الانقسام .ولا أقول : إن الرجل كامل ، فالكمال لله ولا أقول إنه معصوم فالعصمة للأنبياء .
ولا أقول: إنه عار عن العيوب والأخطاء .
ولكن أقول: إن هذه اليقظة،التي عمت نجداً ،ثم امتدت حتى جاوزته إلى أطراف الجزيرة ،
ثم إلى ما حولها ، ثم امتدت حتى وصلت إلى آخر بلاد الإسلام ليست إلا حسنة من حسناته عند الله إن شاء الله ا هـ .(4/22)
[*] رأي الأستاذ أحمد حسين ـ مؤسس حزب مصر الفتاة ـ في كتابه ( مشاهداتي في جزيرة العرب ) بعد أن وصف ما كان في جزيرة العرب من جهالة قبل ظهور الدعوة ما يلي:( وفي وسط هذا الجو ولد محمد بن عبد الوهاب . وكان أبوه الشيخ عبد الوهاب قاضي بلدة العيينة . وكان شيخاً عالماً جليلاً . فقرأ على أبيه الفقه. وسرعان ما ظهرت عليه علائم النجابة . وبدأ يدرك على الفور ما تردت به البادية من همجية وردة عن دين الإسلام . وبدأت تجيش به نفسه كل مصلح من عزم على تغيير هذه الحال . فلما بلغ من العمر عشرين ربيعاً . بدأ يستخدم فصاحته وعلمه في مناقشة أنداده وأضرابه . بل ومن هم أكبر منه سناً . في فساد الحال فلم يجد منهم أذناً صاغية . وبعد أن ذكر سفر الشيخ إلى الحجاز والبصرة - ورجوعه ثانية إلى نجد . واستقراره في الدرعية واتفاقه مع محمد بن سعود .
ختم هذا البحث بقوله : تلك هي قصة الشيخ محمد بن عبد الوهاب كما بدأت . والتي لم تكمل حتى الآن . فلا يزال أحفاد محمد بن سعود . وأحفاد الشيخ محمد بن عبد الوهاب . يحملون لواء التوحيد . وينافحون عنه . وإذا كان العالم الإسلامي كله اليوم تحت تأثير النور والعرفان . قد بدأ يدرك بفطرته هذا الذين كانوا أول من نصره واستجاب له . اهـ
[*] رأي الأستاذ الإمام محمد عبده مفتي مصر ـ نقلاً عن كتاب ( 50عام في جزيرة العرب ـ للشيخ حافظ وهبة) . أثنى على الإمام الشيخ محمد عبد الوهاب وكان يلقبه بالمصلح العظيم .
[*] تناول الأستاذ أحمد أمين العالم المصري الشهير في كتابه ( زعماء الإصلاح الإسلامي ) فذكر أن : ( الشيخ محمد بن عبد الوهاب في أثناء إقامته في الحجاز ورحلاته إلى كثير من بلاد العالم الإسلامي وجد أن التوحيد الذي هو مزية الإسلام الكبرى قد ضاع ودخله الكثير من الفساد ... فشغلت ذهنه فكرة التوحيد في العقيدة مجردة من كل شريك ، وفكرة التوحيد في التشريع لا مصدر له إلا الكتاب والسنة ).(4/23)
[*] قال الشيخ محمد حامد الفقي (1) : ( الوهابية نسبة إلى الإمام المصلح شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب مجدد القرن الثاني عشر . وهي نسبة على غير القياس العربي . والصحيح أن يقال المحمدية ، إذ أن اسم صاحب هذه الدعوة والقائم بها هو محمد ، لا عبد الوهاب ، ثم قال بعد كلام : وإنهم لحنابلة متعصبون لمذهب الإمام أحمد في فروعه ككل أتباع المذاهب الأخرى ، فهم لا يدعون ، لا بالقول ، ولا بالكتابة أن الشيخ بن عبد الوهاب أتى بمذهب جديد ، ولا اخترع علماً غير ما كان عند السلف الصالح ، وإنما كان علمه وجهاده لإحياء العمل بالدين الصحيح وإرجاع الناس إلى ما قرره القرآن في توحيد الإلهية والعبادة لله وحده ذلاً وخضوعاً ، ودعاءاً ، ونذراً وحلفاً، وتوكلاً ، وطاعة لشرائعه ... )
__________
(1) في كتابه ( أثر الدعوة الوهابية ) وفضيلة الشيخ يعتبر من علماء الأزهر الشريف ، ورئيس جماعة أنصار السنة المحمدية في مصر(4/24)
[*] قال أمين سعيد : في كتابه ( سيرة الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب ) إن سيرة الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب التميمي من أحفل السير بالعظات وأغناها بالفضائل وأحقها بالبحث والفصل ، والتفسير والتعليل وهي سيرة مصلح من كرام المصلحين ، ومجاهد من كبار المجاهدين وعالم من خيرة العلماء أنار الله بصيرته وهداه سبله وألهمه التقوى فدعا أمته للرجوع إلى الله والعمل بكتابه وسنة رسوله ونبذ سواهما ... ومن وسط الجو القاتم المربد جو الجهل والجمود ، جو ضعف الوازع الديني وتسلط الحكام واستبداد الطغاة ، أشرقت من جانب نجد أنوار الدعوة الوهابية التي حمل مشعلها الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب فأنارت للأمة السبيل وألهمتها رشدها فشقت طريقها واهتدت بهديها ، وحققت الدعوة لنجد آمالها وقد بدأت في محيطها أول ما بدأت فأنشأت لها مجتمعاً إسلامياً سليماً يؤمن بالتوحيد ويعظم شأنه ويسير على هداه ولا يدعو مع الله أحدا ولا يزال هذا حالة لم يتبدل ولم يتغير منذ عهد الشيخ حتى يومنا هذا فهو يصدع بالحق ويؤمن به ، وانبثقت عن هذا المجتمع دولة عربية كريمة نشأت في ظل الدعوة وآمنت بها فكانت أول دولة عربية كبرى يؤسسها العرب داخل جزيرتهم بعد دولة الخلفاء الراشدين فاتبعت طريقهم وترسمت خطاهم فسادت وشادت ووسعت حدودها وانتشرت الدعوة في بلاد الإسلام وسرى نورها في أرجائها وأقبل عليها الكثيرون وأخذوا بها وتفاعلوا معها واستجابوا لها فكانت الأمة الكبرى لهذه النهضات التي تعم بلاد العرب وبلاد المسلمين فأحييت ميت الهمم وأيقظت خامد النفوس ، وضرب الشيخ الأمثال على تجرده ونزاهته وعلى أنه لم يرد من دعوته سوى وجه الله وحده وإصلاح حال أمته وإنقاذها من ظلمات الجهالة التي كانت تغمرها ).(4/25)
[*] يقول الدكتور مصطفى صادق الرافعي الأديب المصري : ( والسبب لتأليف هذا الكتاب (1) فمن أجل حركة توعية رائدة ، ومن أجل تجهيز دعاة إسلاميين ذوي جدارة وأهلية ، لمواجهة النكبات التي تتوالى على الإسلام والمسلمين منذ أكثر من خمسة قرون ، أقدم هذه العجالة عن بعض الدعاة السابقين المؤهلين "رجال الإسلام" عسى أن يكون فيها بعض ما ينير الظلمات التي تكتنف حياتنا ،وتلف مجتمعاتنا ، وعسى أن تنشأ بوادر انتفاضة صحيحة تقوّم الاعوجاج ، وتزيح أستار الضلالة ، وتدفع بعربة الإسلام في طريق المجد والتقدم)
ومن القدوات لأبناء هذا الجيل إمام الدعوة السلفية المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى ولنقف مع أديبنا د- مصطفى صادق الرافعي والإمام محمد بن عبد الوهاب .. حيث قال: الدعوة السلفية ،
عاش الشرق الإسلامي زهاء خمسة قرون من عمر الزمن ، ينعم في بحبوحة ونعيم ، وحضارة وارفة الظلال ، بفضل نور الإسلام الوهاج الذي عمّم خيراته على كل أرض ، ونشر هدايته لكل قبيل.
بعدها اعتراه الوهن والضعف ، فمر في عهود سوداء ، وحاقت به ظلمات حالكة ، فتقلصت هداية الإسلام عن أرضه أو أوشكت ، وأصبح تراث المسلمين نهباً مقسماً بين شذاذ الأمم ، وذئبان الشعوب ، يستغلون علومه ويستأكلون حضارته ، فسيطر على بلاده الغربيون ، فأذاقوها من العذاب أقساه ، ومن الألم أشده ، حتى انحدرت بلاد المسلمين إلى هوة عميقة من الضعف والتخلف والانحطاط.
__________
(1) أي كتابه ( الدعوة والدعاة في الإسلام )(4/26)
ثم ما إن أطلّ القرن الثامن عشر ، حتى انطلقت صيحة واعية مؤمنة من قلب الجزيرة العربية ، تهيب بالمسلمين أن يتحرروا من الشوائب التي اعترت عقائدهم ، والخرافات والأباطيل التي شوّهت دينهم ، وأن يعودوا في جميع شؤون حياتهم إلى ما كان عليه حال السابقين الأولي من أسلافهم. وكان مرسل هذه الصيحة ، الداعي إلى الله على بصيرة القائد الفذّ ، محمد بن عبد الوهاب ، وإليه تنسب "الحركة السلفية" التي دعت إلى إصلاح النفوس ، واستعادة مجد الإسلام ، فظهرت بظهورها تباشير صبح جديد ، فيه كل معاني الصباح ، من نور وضياء ، وإشراق ولألاء ، فأيقظ المسلمين من سباتهم العميق الذي رزخوا تحت وطأته حقباً طويلة من الزمن .
[*] قال أحمد القطان:( استطاعت حركة الموحدين نشر العلم والمعرفة بين طبقات الشعب المختلفة, واستطاعت تكوين طبقة ممتازة من علماء الدين ورجال المعرفة فنشرت الحركة في الناس علوم الشريعة المطهرة وآلاتها , من التفسير والحديث , والتوحيد والفقه , والسيرة والتاريخ , وغير ذلك وأصبحت الدرعية قبلة العلوم والمعارف يفد إليها الطلاب من سائر النواحي والأرجاء , و انتشر العلم في جميع الطبقات ) (1)
[*] محمد كرد : كتب علامة الشام محمد كرد علي بحثا بعنوان ( أصل الوهابية ) اختتمه بقوله ( وما محمد بن عبد الوهاب إلا داعية هداهم من الضلال وساقهم إلى الدين السمح , وإذا بدت من بعضهم فهي ناشئة من نشأة البادية , وقلما رأينا شعبا من أهل الإسلام يغلب عليه التدين والصدق والإخلاص مثل هؤلاء القوم , وقد اختبرنا عامتهم وخاصتهم سنين طويلة فلم نرهم حادوا عن الإسلام قيد غلوة ...إلخ ) (2)
__________
(1) عبدالله بن يوسف الشبل , الشيخ محمد بن عبدالوهاب , ص 64
(2) القديم والحديث , محمد كرد علي , ص 120(4/27)
[*] طه حسين : قال يصف دعوة محمد بن عبد الوهاب ( قلت أن هذا مذهب جديد قديم معا , والواقع أنه ليس بجديد بالنسبة للمعاصرين , ولكنه قديم في حقيقة الأمر , لأنه ليس إلا الدعوة القوية إلى الإسلام الخالص النقي المطهر من شوائب الشرك والوثنية , وهو دعوة إلى الإسلام كما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم خالصا له , ملغيا كل واسطة بين الله وبين الناس ) (1)
[*] قال حافظ وهبة في كتابه (جزيرة العرب ) عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب ( مصلح مجدد , داع إلى الرجوع إلى الدين الحق , فليس للشيخ محمد تعاليم خاصة , ولا أراء خاصة , وكل ما يطبق في نجد , هو طبق مذهب الإمام أحمد بن حنبل رحمة الله وأما في العقائد , فهم يتبعون السلف الصالح , ويخالفون من عداهم )
[*] الزركلي : قال في كتابه ( الأعلام الجزء السابع ) عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب (( وكانت دعوته , الشعلة الأولى للنهضة الحديثة في العلم الإسلامي كله , تأثر بها رجال الإصلاح , في الهند ومصر , والعراق , والشام وغيرها )
[*] محمد رشيد رضا : قال السيد محمد رشيد رضا عن محمد بن عبد الوهاب ( قام يدعو إلى تجريد التوحيد , وإخلاص العبادة لله وحده , بما شرع الله في كتابه , وعلى لسان رسوله خاتم النبيين عليه الصلاة والسلام , وترك البدع والمعاصي وإقامة شعائر الإسلام المتروكة وتعظيم حرماته المنتهكة )
__________
(1) حيات الشيخ محمد بن عبدالوهاب وحقيقة دعوته , الأستاذ الدكتور سليمان بن عبدالرحمن الحقيل , الطبعة الأولى 1999م , ص 210(4/28)
[*] رأي العقاد : تناول الأستاذ عباس العقاد في كتابه ( الإسلام في القرن العشرين ) دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب فقال ( ظاهر من سيرة الشيخ محمد ابن عبد الوهاب الوهابية أنه لقي في رسالته عنتا , فاشتد كما يشتد من يدعو غير سميع ومن العنت أطباق الناس على الجهل والتوسل بما لا يضر ولا ينفع والتماس المصالح بغير أسبابها وآتيان الممالك من غير أبوابها وقد غبر البادية زمان كانوا يتكلمون فيه على التعاويذ والتمائم وأضاليل المشعوذين والمنجمين ويدعون السعي من وجوهه توسلا بأباطيل السحرة والدجالين حتى الاستشفاء ودفع الوباء فكان حقا على الدعاة أن يصرفهم عن هذه الجهالة وكان من أثر هذه الدعوة أنها صرفتهم عن ألوان البدع والخرافات )
[*] يقول الدكتور الشيخ عائض بن عبد الله القرني حفظه الله في نونيته:
ومجدد الإسلام في هذا الورى ... أعني التميمي ناصر الإيمانِ
رحم الإلهُ محمداً في لحدهِ ... خضم الضلال مهدِّم الأوثان
في نجد أشرق نورهُ متوهجاً ... بل شعَّ من هندٍ إلى تطوانِ
فعلى عقيدتهم بنيتُ عقيدتي ... وعلى رسائلهم فتقت لساني
أقفو طريقتهم ونهجي نهجهم ... دوماً وأبرأ من أخي كفرانِ
أهل الضلالةِ هم خصومي دائماً ... لا يلتقي بمحبةٍ خصمان
ولكل مبتدع أقول مجلجلاً ... أنا صارمٌ يفري الرقاب يماني
أسلمت نفسي للذي برأ الورى ... وبرئت من شركٍِ ومن طغيان
ورضيت بالقرآن والسنن التي ... جاءت بفهمِ صحابة العدناني
أقوال المفكرين والمستشرقين في الإمام محمد ابن عبد الوهاب رحمه الله :
[*] يقول المستشرق سيديو في كتابه ( تاريخ العرب العام ) الذي نقله إلى العربية ( عادل زعيتر ) : قال في أثناء كلامه على ثورات العرب للتحرر من سيطرة الترك وسيطرة البرتغال في عمان بعد كلام .
ومن ثم نرى أن جزيرة العرب استردت استقلالها التام تقريباً ، منذ أوائل القرن الثامن عشر بفضل جدها ، وضعف أعدائها ، ولم يبق لها إلا أن تؤيد نصرها بمركز يلتف حوله جميع النفوس .(4/29)
وهذا ما حاولت صنعه ، قبيلة ظهرت في نجد ، حوالي سنة 1749م .
وهذا ما حاوله الوهابيون النافذون ، حتى الآن ، والذي سيكون لهم تأثير دائم ، في مصير جزيرة العرب لا ريب .
واسم واضع هذه السيطرة هو محمد عبد الوهاب التميمي ، الذي أكب على دراسة آداب العرب وعلومهم ، منذ صباه . والفقه أكثر ما عنى به . واطلع على آراء رجال المذهب ، وقصد بغداد ، والبصرة ، وفارس سائحاً. فنمت مداركه ، فأنعم النظر في حال بني قومه وميولهم وغرائزهم ، وطبيعة قواهم .
فرأى أنه إذا ما حمل المسلمين على مراعاة أحكام القرآن ، رجعت إليهم تلك الحماسة التي تعودتها عظمة الماضين .
ولم يكن للإصلاح الذي بدأ زعيماً له هدف سوى إعادة شريعة الرسول الخاصة إلى سابق عهدها . وحارب ابن عبد الوهاب كثير من المحرمات منها : تقديس قبور الأولياء ، فحمل أنصاره على هدمها .
وكذلك حارب ما كان يعيبه على الترك من فساد الأخلاق وتعاطي المسكرات . ومما ذكَّر الناس به هو أن الشريعة تأمر المسلمين بأن يؤتوا الزكاة ، وتلزم القضاة بالنزاهة التامة .
ومما عني به على الخصوص إبقاء روح الجهاد في قومه لما أدى إليه الجهاد من نصر عجيب منذ قرون.
ولا يمكن أن تنعت أقوالهم بالإلحاد على العموم لما بدت تكراراً لسور القرآن .
وهو لموافقته تعاليم الإسلام الصحيحة ـ كان بالغ الأثر لمبادئه قصار صناديد قبائل ينضمون إلى لوائه ، أفراداً وأرسالاً .
فيؤلفون جيشاً صغيراً بقيادة محمد بن سعود من عشيرة المساليخ وكان محمد قد اعتنق المذهب الجديد في الدرعية .
فأبصر ابن عبد الوهاب فيه من المواهب الحربية ، ما لم يجده في الغير ، فزوجه بابنته ، مفوضاً إليه أمر حكومة الوهابيين السياسية.
فخلع على دين محمد رونقاً جديداً ، وبدد الخرافات التي زالت مع الزمن فأظهر القرآن خالياً من جميع ما عزى إليه من الشوائب .(4/30)
وما لبثت النفوس التي أرهقتها شروح أئمة المسلمين المطولة الغامضة أن رجعت إلى بضعة مبادئ عامة بسيطة واضحة، فتقبلت خطط ابن عبد الوهاب الإصلاحية بقبول حسن.
ودعا الوهابيون إلى الفضيلة خلافاً للقرامطة الذين تذرعوا بسيء المناحي، فلم يبالوا بغير قضاء المآرب. ا هـ
[*] قال العالم الفرنسى برنادلوس في كتابه ( العرب في التاريخ ) ما يلي :
وباسم الإسلام الخالي من الشوائب الذي ساد في القرن الأول . نادى محمد بن عبد الوهاب بالابتعاد عن جميع ما أضيف للعقيدة والعبادات من زيارات باعتبارها بدع خرافية غربية عن الإسلام الصحيح .
[*] قال شيخ المستشرقين جولد سهير النمساوي في كتابه ( العقيدة والشريعة ) ما يلي : وإذا أردنا البحث في علاقة الإسلام السني بالحركة الوهابية نجد أنه مما يسترعي خاصة من وجهة النظر الخاصة بالتاريخ الديني الحقيقة التالية يجب على من ينصب نفسه للحكم عن الحوادث الإسلامية أن يعتبر الوهابيين أنصاراً للديانة الإسلامية على الصورة التي وضعها النبي والصحابة . فغاية الوهابية هي إعادة الإسلام كما كان .
[*] قال المستشرق جب الإنجليزي في كتابه ( المحمدية ) : وفي جزيرة العرب قام حوالي 1744م 1157هـ محمد بن عبد الوهاب مع أمراء الدرعية آل سعود بتحقيق الدعوة إلى المدرسة - المذهب - الحنبلية التي دعا إليها ابن تيمية في القرن الرابع عشر - وقال أيضاً في كتابه الاتجاهات المدنية في الإسلام ( أما مجال الفكر فإن الوهابية بما قامت به من الفتن ضد التدخلات العدوانية . وضد الأصول القائلة بوحدة الوجود . التي تريد تدنيس التوحيد في الإسلام . فقد كانت عاملاً مفيداً للخلاص الأبدي . وحركة تجديد أخذت تنجح في العالم الإسلام شيئاً فشيئاً ).(4/31)
[*] جاء في دائرة المعارف البريطانية قولها : ( أن الوهابية : اسم لحركة التطهير في الإسلام . والوهابية يتبعون تعاليم الرسول وحده . ويهملون كل ما سواها ، وأعداء الوهابية هم أعداء الإسلام الصحيح )
[*] قال الأستاذ المستشرق ويلفرد في كتاب ( الإسلام في نظر الغرب - ألفه جماعة من المستشرقين ) : ( كان محمد بن عبد الوهاب يقول قبل كل شيء يجب أن تعيشوا حسب الشرع الإسلامي وهذا هو معنى أن تكونوا مسلمين . لا ذاك الرغاء العاطفي .
والتقى والحرارة التي يقدمها لكم الصوفيون فأساس الإسلام هو الشرع . وإذا كنتم تريدون أن تكونوا مسلمين فيجب أن تعيشوا حسب أوامر الشرع )(4/32)
[*] قال المؤرخ الألماني الدكتور داكبرت - في كتابه ( عبد العزيز - وقد صدر في ألمانيا سنة 1953م ) ترجمه أمين رويحه . عن الحركة الوهابية : ( وكان لآل سعود إلى جانب سيفهم الذي يستخدمونه في الفتح سلاح معنوي آخر . يدينون له بأعظم قسط من نجاحهم . ذلك السلاح من صنع الشيخ محمد بن عبد الوهاب أحد رجال الدين المطاردين في سبيل عقيدتهم . والذي لجأ إلى الدرعية عاصمة آل سعود في ذلك الحين . فلقي لديهم الحماية والأمان . وكانت تملأ قلب محمد بن عبد الوهاب فكرة تجديد القوى العربية على أساس ديني ناسباً إلى ابتعادهم عن سيرة السلف الصالح . وانقسامهم إلى شيع . وإلى ابتعادهم عن خُلقهم العربي الأصل . سبب تلاشيهم الذي - جعلهم في متناول النفوذ الأجنبي - إلى أن قال : ورأى الشيخ أن سبب الإنقاذ هو الرجوع إلى تعاليم الدين المشروعة . إلى تعاليم الرسول الصحيحة . فراح يبشر بوحي من ضميره وعقيدته . بمحاربة البدع التي أدخلت على الإسلام عبر العصور الغابرة . والضال المضل من تقارير علماء الدين غير مقيم وزناً إلا لما نص عليه القرآن صراحة . أو لما يمكن نسبته بصورة قاطعة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم وراح يحارب بكل قواه المستمدة من عقيدته الصلبة كل ما هو مخالف للدين الاسلامي الصحيح انتهى ملخصاً ).
[*] قال الأستاذ فيليب . في كتابه ( تاريخ العرب ) وهو مؤرخ ألباني ( ولقد تأثر محمد بن عبد الوهاب بفكرة . هي أن الإسلام كما يمارسه معاصروه . قد انحرف كثيراً علمياً ونظرياً عن طريق السنة التي استنها القرآن . وقرر أن ينقيها هو بنفسه )(4/33)
لوثروب ستودارد : يقول ( بلغ العالم الإسلامي في القرن الثاني عشر الهجري أعظم مبلغ من التضعضع و الانحطاط , فأربد جوه ,وطبقت الظلمة كل صعق من أصقاعه , ..... وبينما العالم الإسلامي مستغرق في هجعته , ومترنح في ظلمته , إذا بصوت يدوي في قلب الصحراء في شبه الجزيرة العربية , مهد الإسلام , فيوقظ المؤمنين ويدعوهم إلى الإصلاح والرجوع إلى سواء السبيل , والصراط المستقيم , فكان الصراخ بهذا الصوت إنما هو المصلح المشهور محمد بن عبد الوهاب الذي أشعل نار الوهابية واتقدت ثم أخذت هذا الداعي يحض المسلمين على إصلاح النفوس واستعادة المجد الإسلامي القديم ) (1)
المستشرق بروكلمان : ( فلما آب محمد بن عبد الوهاب إلى بلده الأول سعى إلى أن يعيد العقيدة والحياة الإسلامية صفاءها الأصلي ) (2)
[*] قال ويلفرد كانتول : ( سمعت - من أساتذة جامعة مكييل بكندا ) كان محمد بن عبد الوهاب يقول قبل كل شيء , يحب أن تعيشوا حسب الشرع الإسلامي وهذا معنى أن تكونوا مسلمين , لا ذاك الرغاء العاطفي النقي الحرارة التي يقدمها الصوفيون , فأساس الإسلام هو الشرع . وإذا كنتم تريدون أن تكونوا مسلمين فيجب أن تعيشوا حسب أوامر الشرع . (3)
[*] مؤلفات محمد بن عبد الوهاب ومصنفاته العلميّة رحمه الله تعالى :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
ترك الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى مجموعة نفيسة من الكتب حُقَّ لها أن تُكْتَب بماء الذهب وهي كما يلي :
(1) كتاب التوحيد فيما يجب من حق الله على العبيد .
(2) الأصول الثلاثة .
(3) كشف الشبهات .
(4) الكبائر.
(5) مختصر زاد المعاد .
(6) مختصر سيرة الرسول .
(7) تفسير الفاتحة .
__________
(1) حاضر العالم الإسلامي , ج1
(2) تاريخ الشعوب الإسلامية . ترجمة الدكتور نبيه أمين ومنير البعلبكي
(3) الإسلام في نظر الغرب لجماعة من المستشرقين نقله للعربية إسحاق الحسيني .(4/34)
(8) مسائل الجاهلية .
(9) أصول الإيمان .
(10) آداب المشي إلى الصلاة .
(11) فضائل القرآن .
(12) السيرة المختصرة، ومن ثمّ السيرة المطولة .
(13) مجموع الحديث على أبواب الفقه .
(14) مختصر الإنصاف والشرح الكبير .
(15) مختصر الصواعق .
(16) مختصر فتح الباري .
(17) مختصر الهدي .
(18) مختصر العقل والنقل .
(19) مختصر المنهاج .
(20) مختصر الإيمان .
(21) وله رحمه الله رسائل وأجوبة في التوحيد والنصائح وأجوبة في الفقه كثيرة مفيدة ، قد قامت جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بجمع وطباعة مؤلفاته في مجموع أسمته: مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب، في أحد عشر مجلدا.
موقف العثمانيين من دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب :
بعد وفاة الإمام محمد عبد الوهاب رحمه الله ظلت الدعوة السلفيّة المباركة تنمو ويتسع نفوذها ويزداد أتباعها، وبلغ نفوذها أقصاه، وامتد سلطانها كل الجزيرة العربية، وحينئذ شعرت الدولة العثمانية بالخطر يقترب منها، وأن الحجاز يوشك ـ في ظل هذه الدعوة الفتية ـ أن يخرج من قبضتها، وهو أمر في غاية الخطورة والحساسية بالنسبة للدولة العثمانية، فالحجاز يمثل السيادة الروحية على العالم الإسلامي كله؛ نظرًا لوجود الحرمين الشريفين فيه، وفقده يعني زوال تلك السلطة الروحية والسيادة والزعامة الدينية التي يتمتع بها الخلفاء العثمانيون .
فاستنجد العثمانيون بمحمد علي باشا ـ والي مصر ـ وطلبوا منه تجهيز جيش لمحاربة تلك الدعوة وأتباعها، وبعد عدة معارك تمكن " محمد علي باشا " عليّه من الله ما يستحق ، من قتل وأسر وتشتيت ـ الدعوة السلفيّة المباركة ـ في ذلك الوقت ولكن ( إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً ) [ الطلاق : 3](4/35)
وبالرغم من تلك الهجمة الشرسة التي قام بها أولئك الحاقدون على الدعوة الصحيحة النابعة من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، إلا أن الله عز وجل كتب لتلك الدعوة المباركة الانتشار والتأييد من جديد، فانتشرت في كثير من الأقطار الإسلامية: كالهند، والجزائر، واليمن، والحجاز من جديد وتأثر بها الكثير من المخلصين لله، والساعين لنشر سنة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم في مصر، والأردن، وفلسطين، بل امتدت إلى المسلمين في الغرب وروسيا البيضاء، وأوربا، والعلامة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني خير مثال على انتشار هذه الدعوة المباركة .
وما تزال دعوة السلف الصالح تجتذب المزيد من الأتباع والأنصار كل يوم في مواجهة ذلك الطوفان الهائل من البدع والخرافات والتغريب.
وفاة الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى :
وفي يوم الإثنين نهاية ربيع الآخر (1206هـ = 1792م) توفي الإمام المجدد وشيخ الإسلام المُوحد والعالم الجهبذ "محمد بن عبد الوهاب" بعد أن قويت دعوته، وانتشرت بين القبائل .
فرحمه الله رحمةً واسعة، وقدس روحه وطيب ثراه، آمين .
سيرة محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله تعالى :
اسم محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله تعالى :
هو الإمام العلامة والبحر الفهامة سماحة الشيخ: محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن بن شيخ الإسلام محمد ابن عبد الوهاب التميمي .
أبوه هو الشيخ القاضي إبراهيم ابن عبد اللطيف، وأمه هي (الجوهرة بنت عبد العزيز الهلالي) من (عرقة) من المزاريع من بني عمرو من تميم .
مولد محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله تعالى :
ولد رحمه الله تعالى يوم عاشوراء من عام 1311هـ ،حدثني الشيخ عبد الله بن إبراهيم رحمه الله تعالى - أخو الشيخ الأكبر- قال: كانت أمه صائمة عاشوراء يوم ولدته أهـ.
نشأة محمد بن إبراهيم آل الشيخ وفقده لبصره رحمه الله تعالى :(4/36)
نشأ نشأة محمد بن إبراهيم آل الشيخ نشأة دينية علمية ، في بيت علم و دين ، فأدخل الكتّاب في صغره فحفظ القرآن مبكراً ، ثم بدأ الطلب على العلماء مبكراً قبل أن يبلغ السادسة عشر ، ثم أصيب رحمه الله تعالى بمرض في عينية وهو في هذه السن ولازمه سنة تقريباً حتى فقد بصره في حدود عام 1328هـ وهو في سن السابعة عشر ـ كما حدثني هو رحمه الله تعالى بذلك ـ .
وكان يعرف القراءة والكتابة قبل فقده لبصره ، و يوجد له بعض الأوراق بخطه قبل أن يفقد بصره ، وكان يعرف الكتابة حتى بعد فقده بصره وشاهدته رحمه الله تعالى يكتب بعض الكلمات على الأرض .
زواج محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله تعالى وأولاده:
حدثني الشيخ رحمه الله تعالى أنه تزوج ست مرات ، وأول زواجٍ له كان في سنة 1335هـ تقريباً وهو في الرابعة والعشرين من عمره ، ومات وفي عصمته ثلاث زوجات:
(1) أم عبد العزيز بنت عبد الرحمن آل الشيخ ، وأنجب منها المشايخ : عبد العزيز وإبراهيم وأحمد.
(2) أم عبد الله بنت عبد الرحمن بن ناصر وأنجب منها الشيخ عبد الله وشقيقته.
(3) والثالثة من عائلة القفاري من بني تميم.
أوصاف محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله تعالى :
كان رحمه الله تعالى متوسط الطول ، ملئ الجسم ،متوسط اللون ليس بالأبيض ولا بالأسمر بل بين ذلك ، خفيف شعر العارضين جداً ، يوجد شعر قليل على ذقنه ، إذا مشى يمشي بوقار وسكينة ، وكان رحمه الله تعالى كثير الصمت وإذا تكلم لا يتكلم إلا بما يفيد.
شيوخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله تعالى وطلبه للعلم :
سبق أن ذكرت أنه أدخل الكتاب في صغره ، فحفظ القرآن مبكراً ، ثم بدأ بطلب العلم على مشايخ عصره قبل فقده لبصره ، وهو في سن المراهقة قبل أن يفقد بصره رحمه الله تعالى، وبعد أن فقد بصره استمر في طلبه العلم حتى نبغ مبكراً، وتصدر للإفتاء والتدريس.
ومن المشايخ الذين درس عليهم ما يلي :(4/37)
(1) الشيخ عبد الرحمن بن مفيريج : وقرأ عليه القرآن وهو صغير ، وكان الشيخ محمد رحمه الله يثني كثيراً على حفظ هذا الشيخ وسمعته يقول عنه : (إنه آية في حفظه لكتاب الله ، وفي ضبطه للإعراب ،و كان أثناء القراءة عليه يكتب فإذا أخطأ أحد في الحفظ أو القراءة يرد عليه، وكان يرد الخطأ في الحفظ والخطأ في الإعراب، وكان يفتح على الأئمة إذا أخطئوا من أول الآية أو التي قبلها)أهـ.
(2) عمه الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف : وبدأ في الدراسة عليه قبل أن يفقد بصره ، وكان الشيخ عبد الله رحمه الله يحب الشيخ محمداً ويقدره كثيراً رغم صغر سنه آنذاك، وقد سمعت الشيخ محمد رحمه الله تعالى يصفه ويقول : (كانت عيون الشيخ عبد الله رحمه الله حسنة ، وكنت إذا أتيت إليه يرحب بي ترحيباً كثيراً، ويقدمني في المجلس ، وكان هذا الفعل من الشيخ رحمه الله تعالى يخجلني)أهـ.
(3) الشيخ سعد بن حمد بن عتيق : وكان الشيخ محمد يحبه ويقدره كثيراً ، وكان إذا ذكره قال : (شيخنا الشيخ الكبير والعالم الشهير).
(4) الشيخ عبد الله بن راشد : سمعت الشيخ محمداً يقول: ( درست عليه علم الفرائض وكان آية فيها).
(5) الشيخ محمد بن عبد العزيز بن مانع : رأيته مراراً إذا جاء للشيخ محمد رحمه الله قام إليه واستقبله ورحب به وأجلسه مكانه ، فسألت عن السبب في تقدير الشيخ له ، فقيل لي إنه شيخ له ، ولأنه يكبره بالسن .
أعمال محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله تعالى :
من أعماله التي تولاها ما يلي :
(1) عين قاضياً في (الغطغط) واستمر في هذا العمل ستة أشهر ، وتزوج الشيخ من أهلها أثناء إقامته هناك .
(2) كان إماماً لمسجد الشيخ عبد الرحمن ابن حسن ـ المسمى الآن مسجد الشيخ محمد بن إبراهيم ـ وقد حدثني الشيخ نفسه رحمه الله أن اسم المسجد هو (مسجد الشيخ عبد الرحمن بن حسن ) ، وكان خطيباً للجامع الكبير ، واستمر في الإمامة والخطابة إلى موته رحمه الله تعالى.(4/38)
(3) التعليم : وكان رحمه الله ـ قبل انشغاله بالأعمال الكثيرة في مصالح المسلمين ـ له حلقة تدريس في مسجده بعد الفجر ، وفي بيته في الضحى ، وفي مسجده أيضاً بعد العصر أحياناً.
(4) وكذلك كان هو المفتي للبلاد ، وكان قبل فتح (إدارة الإفتاء) رسمياً هو الذي يفتي ، ثم افتتحت (إدارة الإفتاء ) رسمياً في شهر شعبان من عام 1374هـ تحت إشرافه.
(5) ولما افتتحت رئاسة المعاهد والكليات أيضاً كان هو الرئيس ، وكان قد أناب عنه أخاه الشيخ عبد اللطيف.
(6) ولما تأسست رئاسة القضاء عام 1376هـ عمد رسمياً برئاسة القضاء ، ووضعت لها ميزانية خاصة، وعين ابنه الشيخ عبد العزيز نائباً له فيها ، و الشيخ عبد الله بن خميس مديراً عاماً.
(7) ولما افتتحت رئاسة البنات عام 1380هـ كان هو المشرف العام عليها ، فوضع الشيخ عبد العزيز ابن ناصر بن رشيد رئيساً عليها ، ثم عين بدلاً عنه الشيخ ناصر بن حمد الراشد.
(8) ولما افتتحت رابطة العالم الإسلامي كان هو رئيس المجلس التأسيسي لها ، وكان الأمين للرابطة هو محمد سرور الصبان .
(9) ولما افتتحت الجامعة الإسلامية عام 1380هـ كان هو المؤسس لها وعين نائباً له الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز.
طريقة محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله تعالى في التعليم وتلاميذه:
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
(1) كان إذا صلى الفجر استند على سارية مستقبلاً القبلة ـ في الصيف على الجدار الشرقي لمسجده، وفي الشتاء في خلوة المسجد ـ ، ويتحلق عليه الطلبة ، ثم يبدأون بالقراءة عليه من المتون حفظاً ، ثم يبدأ بالشرح ، لمدة ساعة أو أكثر ، ثم يفترقون ويأتي آخرون عند الشيخ في البيت للدرس وقت الضحى .(4/39)
(2) كان يطلب القراءة من بعض الطلبة الذين يمتازون بقوة الصوت أو حسنه ـ دون من في صوتهم ضعف ـ كالشيخ أحمد بن قاسم وأخوه الشيخ محمد والشيخ فهد بن حمين والشيخ عبد الرحمن بن فريان .
(3) كان يلزم طلبته بحفظ المتون ، وكان حازماً في هذا الأمر ، ويقول : إن الذي لا يحفظ المتون ليس بطالب علم ، بل هو مستمع .
(4) وكان يلزم طلبته بالحضور للدرس دائماً ولا يرضى بغياب أحد منهم .
(5) كان طريقته في درس المطولات الاختصار في الشرح، فلا يشرح إلا مواضع قليلة تحتاج للشرح بخلاف المختصرات فإنه كان يطيل الشرح فيها.
(6) وكان لا يريد الأسئلة التي تكون خارج الدرس أو التي يراها قليلة الفائدة .
(7) كان في أول وقته يدرس طلبته جميع الدروس ، ثم لما بدأت مسئولياته تكثر صار يأتي غيره في بعض العلوم كالشيخ أبي حبيب والشيخ حماد الأنصاري والشيخ إسماعيل الأنصاري رحمهم الله .
(8) كان له درس عام قبل صلاة العشاء في مسجده في التفسير وكان الذي يقرأ عليه في هذا الدرس هو الشيخ (عبد العزيز بن شلهوب).
(9) وكان رحمه الله يحضر دروسه بعد العشاء الآخر، وكان الذي يأتيه لهذه المهمة هو الشيخ أحمد ابن عبد الرحمن بن قاسم ، فكان يأتيه بعد العشاء ويقرأ عليه دروس الغد ، وكان يطلب منه أن يأتيه بحاشية أبيه (الشيخ عبد الرحمن ) على الروض ـ قبل أن تطبع ـ ويطلب منه أن يقرأ فيه ، وكان يقرأ من حاشية العنقري أيضاً وكان يقول: إن العنقري طالت مدته في القضاء لذلك فحاشيته عن علم وفهم وممارسة.
(10) وكان يختبر طلبته دائماً بنفسه في جميع العلوم التي يدرسهم إياها، ويصحح اختباراتهم أيضاً ، فلا يعين الطالب قاضياً أو مدرساً ونحو ذلك إلا بعد اجتيازه هذه الاختبارات .
طلاب محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله تعالى تلاميذه:
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
ينقسم الذين درسوا على الشيخ إلى ثلاثة أقسام :(4/40)
القسم الأول: من درسوا عليه قديماً ـ ولم أدرك وقت دراستهم ـ وهؤلاء كثيرون ومنهم:
(1) الشيخ عبد الله بن حميد رحمه الله.
(2) الشيخ عبدالعزيز بن باز.
(3) الشيخ سليمان بن عبيد رحمه الله.
(4) الشيخ صالح بن غصون رحمه الله.
(5) الشيخ محمد بن مهيزع رحمه الله.
(6) الشيخ عبد الرحمن بن سعد رحمه الله وكان قاضياً في (الزلفي).
(7) الشيخ عبد الرحمن بن هويمل رحمه الله .
(8) الشيخ عبد الرحمن بن فارس رحمه الله.
القسم الثاني : طلبته الذين أدركتهم ، وكانوا ملازمين له دائماً ، وهؤلاء عشرة طلاب هم :
(1) الأخ الشيخ فهد بن حمين : وقد التحق بالشيخ من عام 1370هـ ولازمه ملازمة تامة ، وكان صوته جميلاً في القراءة فكان الشيخ محمد رحمه الله يرتاح لقراءته فيجعله إذا قرأ يطيل أكثر من غيره .
(2) الشيخ محمد بن عبد الرحمن بن قاسم : وكان يمتاز بحفظه للمتون وضبطه واستحضاره لها.
(3) الشيخ أحمد بن عبد الرحمن بن قاسم: وكان كثير القراءة على الشيخ، وهو الذي كان يأتي للشيخ لتحضير الدروس بعد العشاء، وهو الذي كان كثيراً ما يسافر مع الشيخ في رحلاته ويقرأ عليه فيها، وهو الذي قام بترتيب مكتبة الشيخ محمد.
(4) الشيخ محمد بن جابر رحمه الله وكان كفيفاً وصار قاضياً في المحكمة المستعجلة.
(5) الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله بن فريان.
(6) الشيخ عبد الله بن سليمان بن معيوف رحمه الله تعالى ولم يكمل.
(7) الشيخ محمد بن عبد الله السحيباني رحمه الله وقد صار قاضياً.
(8) الشيخ عبد الله بن سعدان الجظعي وصار قاضياً.
(9) الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين .
(10) الشيخ عبد الرحمن بن محمد بن مقرن رحمه الله.
القسم الثالث : من لم يلازمه دائماً ، بل كان يأتي لحلقة الدرس أحياناً ، وهؤلاء كثيرون منهم :
(1) الأمير محمد بن عبد العزيز بن سعود بن فيصل بن تركي رحمه الله تعالى ، وكان رجلاً صالحاً ، وكان يأتي لحلقة الشيخ أحياناً.
(2) الشيخ ناصر البكر.(4/41)
(3) والشيخ عبد الله بن عقيل .
(4) والشيخ أحمد الحميدان.
(5) والشيخ عبد الرحمن بن محمد بن عبد اللطيف آل الشيخ.
أخلاق محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله تعالى :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
(1) الذكاء: فقد كان رحمه الله ذكياً ، ولم يبلغ إلى ما بلغ إليه مع فقده بصره مبكراً إلا لذكاء باهر تميز به عن غيره .
(2) الحفظ : فقد كان رحمه الله حافظاً للمتون ، متقناً للقرآن فلا أذكر مرة ـ خلال 18سنة قضيتها معه ـ أنه قد رد عليه أحد أثناء قراءته للقرآن في المسجد أثناء الصلاة، وإن كان الشيخ رحمه الله لا يتحدث مطلقاً عن سعة حفظه أو عن محفوظاته أو ما أشبه ذلك.
(3) الحزم والشدة: فكان رحمه الله حازماً شديداً، فكان يلزم الطلبة بالحفظ للمتون ولا يرضى بأقل من ذلك ، ولا يرضى بغياب أحد منهم .
(4) الزهد في الألقاب والمديح : وقد صحبته ثمانية عشر عاماً ما سمعته يوماً قال عن نفسه (الشيخ) أو (المفتي) حتى لو كان ينقل الخبر عن غيره بل كان إذا ذكر اسمه ذكره مجرداً إلا مرة واحدة فقط وذلك عندما استضاف أحد وجهاء الخليج الصالحين فأراد مني أن أتصل له على الفندق ليحجز له فيه ، فلما كلم موظف الفندق ـ وكان مصرياً ـ قال له : معك محمد بن إبراهيم، فلم يعرفه، فقال:محمد بن إبراهيم آل الشيخ، فلم يعرفه ، فردد عليه مراراً فلم يعرفه ، فقال: المفتي، فلما انتهت المكالمة قال:هداه الله ، ألزمني أن نقول هذه الكلمة.
وكان إذا أثنى عليه أحد أو مدحه يقاطعه بقوله: الله يتوب علينا ، الله يعفو عنا.
(5) الورع : فقد كان رحمه الله تعالى ورعاً خصوصاً في أمور العبادات إذا استفتي فيها ، وأحياناً لا يقضي فيها بشيء بل يتوقف ، وأحياناً يسأل عن المسألة فيتأملها يوماً أو يومين قبل الإجابة عليها ـ كما سيأتي بعض الأمثلة على ذلك إن شاء الله تعالى ـ .
(6) تقديره للعلماء والمشايخ والدعاة والقضاة:(4/42)
فكان يثني على مشايخه الذين درس عليهم ـ وقد سبق ذكر شيءٍ من ذلك ـ فكان يقول عن شيخه الشيخ سعد بن عتيق : شيخنا الشيخ الكبير والعالم الشهير، وكان إذا أتاه الشيخ محمد بن عبد العزيز ابن مانع قام له ورحب به وأجلسه مكانه.
ومن ذلك أنه كان يحب الشيخ عبد الله القرعاوي رحمه الله تعالى ـ الداعية في (جيزان) ـ ويقدره ، فكان إذا أتى إليه يكرمه كثيراً.
ومن ذلك أنه كان يحب الشيخ حمود التويجري رحمه الله تعالى ، وقد رأيت الشيخ حمود مرة أتى إلى الشيخ محمد يقرأ عليه أحد ردوده التي ألفها ضد بعض المبتدعة، فلما نهض الشيخ حمود وانصرف قال الشيخ محمد : الشيخ حمود مجاهد جزاه الله خيرا.
ومن ذلك أنه كان يحب الشيخ أحمد شاكر والشيخ محمد حامد الفقي رحمهما الله تعالى ، وقد رأيتهما عنده كثيراً إذا أتيا إلى المملكة ، وكان يكرمهم ويجلهم .
ومن ذلك احترامه وتقديره أيضاً للشيخ محمد الأمين الشنقيطي صاحب (أضواء البيان) والشيخ محمد المختار الشنقيطي .
ومن ذلك أنه كان لا يرضى لأحد من العامة أن يتكلم في القضاة مطلقاً إذا كان بغير حقٍ أو اتهام لنية القاضي وقصده ، ولو حدث ما يستدعي عزل القاضي لعزله ولا يتكلم عليه ولا يجعل أحداً يتكلم عليه إلا بحدود القضية.
(7) الغيرة على دين الله : وكان رحمه الله صاحب غيرة شديدة على دين الله ، وله حوادث كثيرة جداً في هذا الباب.
ومن ذلك أنه أتاه في أحد الأيام خطاب ذكر له فيه بعض المنكرات ، فأصبح من الغد مهموما ،وسمعته يقول : لم أنم طول الليل من الضيق .
(8) الحرص على الوقت : فقد كان رحمه الله تعالى وقته كله معمور بالعلم والتعليم والسعي في مصالح المسلمين ، وكان يأخذ جميع العرائض والأوراق التي تقدم إليه من عامة المسلمين في كل وقت ، ويجعل أحد الذين معه يقرأها عليه ثم يحيل كل ورقة إلى الجهة المختصة.(4/43)
ومن حرصه على الاستفادة من الوقت أنه كان يحرص على الفائدة حتى في نزهاته، ومن ذلك أننا خرجنا معه مرة لـ(روضة نورة) في عام 1374هـ وكان معه في تلك الرحلة أحمد ابن قاسم فكان يطلب منه أن يقرأ عليه بعض الكتب ، وأذكر من تلك الكتب في تلك الرحلة :مسودة كتاب (دفع إيهام الاضطراب عن آي الكتاب) للشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى وكان قد أعطى الشيخ محمداً مسودتها ليراجعها فراجعها في تلك الرحلة، ومنه كتاب في (التعزير) لمؤلف مصري يدعى الشرباصي ، وخرجنا معه أيضاً في رحلة عام 1377هـ لروضة (أم حجول) قرب (رماح) وعام 1383هـ لـ(بطين ضرمى) وفي كل هذه الرحلات كان يصطحب معه بعض تلاميذه الذين يقرؤون عليه بعض الكتب.
(9) الدعابة: كان رحمه الله تعالى ـ رغم شدته وحزمه وهيبة الناس له ـ صاحب دعابة ـ خصوصاً مع خاصته ـ ، وأحفظ له رحمه الله في ذلك حكايات كثيرة.
(10) العبادة: كان رحمه الله تعالى لا يتحدث عن عبادته مطلقاً ولا يطلع أحداً عليها ، وكان رحمه الله يحج كثيراً خصوصاً في آخر عمره ، وكان كثير الاعتمار في رمضان ، وكان كثيراً ما يقرأ القرآن في سره.
(11) طهارة القلب وعدم الغيبة والنميمة واستصغار الناس : وكان لا يرضى أن يغتاب أحد في مجلسه ، ولا أذكر مرة ـ طيلة صحبتي له ـ أنه تكلم على أحدٍ بسوء، بل كان إذا أحب شخصاً مدحه ، وإن لم يحبه تركه فلم يذكره ولا يرضى أن يذكره أحد بسوء عنده.
من فتاوى محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله تعالى وفوائده:
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
(1) سألته عن العقل هل هو في الصدر أو في الرأس؟ فقال: قيل هذا ، وقيل هذا ، ولكن الذي يظهر أن الصدر يحضر ، والرأس يجمع.
(2) و سمعته يقول : لابد في الوضوء من أقل جريان ولا يكفي مجرد البلل.(4/44)
(3) وكان أحد أبنائه الصغار يتوضأ فبدأ باليسار قبل اليمين فأخبرت الشيخ بذلك ، فضحك وقال: يجوز، ولكنه خلاف الأفضل .
(4) وسأله رجل وأنا أسمع عن التسوك هل يبدأ باليسار أو باليمين ؟ فقال : بل باليسار لأنه إماطة أذى .
(5) وكان يقول في المسح على الجوارب أنه إذا كان فيه شق يسير فلا بأس بالمسح عليه خصوصاً إذا كان مما يلي باطن القدم.
(6) وكنت معه مرة فصلينا المغرب خارج الرياض، فلما انصرف خلع الخفين ، فسألته عن السبب، فقال: انتهى وقت المسح عليهما والإمام ليس كالمأموم ـ يعني يخاف من نسيان المدة ـ .
(7) وسألته عن التيمم هل يجزئ بكل تراب له غبار أو لا ، وهل يجزئ التيمم على الرمل ـ لأن منطقتي (الزلفي) كثيرة الرمل ـ ، فقال: نعم يجوز.
وقد رأيت الشيخ محمد مراراً يتيمم على الجدار وكان طينياً يضربه مرة واحدة ثم يمسح يديه ووجهه.
(8) وسمعته يقول : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما غزا تبوك في السنة التاسعة كان طريقه إلى (تبوك) أكثره رملي ولم ينقل عنه أنه حمل معه تراباً ليتيمم به ، لو كان فعل ذلك لتوفرت الدواعي والهمم لنقله ، فدل ذلك على جواز التيمم بالرمل وما أشبهه.
(9) وكان كثيراً ما يسأل عن تغسيل اليدين من أثر الأكل وسريان الغسالة في ماء المجاري هل يجوز؟ فكان رحمه الله يقول : نعم ، يجوز ، وهل هو إلا وساخة من اليدين!!.
(10) ورأيت مرة على (بشت) الشيخ دماً يسيراً بعد الصلاة فأخبرته ، فقال : الشيء اليسير لا بأس به.
(11) وسأله رجل وأنا أسمع عن (الكولونيا) فقال الشيخ محمد : أما أنا فلا أستعمله ، ولو أصاب ثوبي شئ منه ما غسلته .(4/45)
(12) وسمعته يوماً يتكلم عن الأذان ومشروعيته وأهميته ، وقال: (إنه من شرائع الإسلام الظاهرة ، وأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان إذا غزا قوماً انتظر حتى الصبح فإن سمع أذاناً و إلا أغار عليهم ، وإنه لو صلى القوم ونسوا الأذان فإنهم يؤذنون و لا يعيدون الصلاة لأن الأذان للوقت وهو شريعة من شرائع الإسلام لا تترك، ثم قال : كنا عند الشيخ سعد بن عتيق رحمه الله في درسه قبل العصر في (الجامع الكبير)، ثم إنه صلى العصر وقد نسوا الأذان ، فلما انصرف من الصلاة سأل عن الأذان ، فأخبر بأنهم لم يؤذنوا ، فأمر أحد المأمومين أن يقوم ويؤذن ، قال الشيخ محمد : فقام في وسط الصف فأذن بعد الفراغ من الصلاة).
(13) وكان رجل من أهل (الزلفي) يعمل بالتجارة ويسافر إلى بعض دول الخليج ليأتي ببعض البضائع ، فذكر لي أنه يسكن بجانب مسجد إمامه يحلق لحيته ويشرب الدخان ، وطلب مني أن استفتي الشيخ محمداً عن الصلاة خلف ذلك الرجل ، فسألت الشيخ، فسكت الشيخ قريباً من يومين ، ثم أعدت عليه السؤال فقال: يبحث عن مسجدٍ آخر فإن لم يجد فلا يصلي خلف هذا الفاسق ما دام مسافراً.
014) وسمعته يقول : إذا جلس الإمام للتشهد الأول وقام ولم يكمل المأموم تشهده فلا يتبعه حتى يكمل.
(15) وفي عام 1377هـ أصيبت رجلي بمرضٍ فوضع فيها (الجبس) في مدينة (جدة) ، وكنت لا أستطيع الحركة فكنت أتيمم وأصلي إلى غير القبلة، فلما جئت إلى الرياض سألت الشيخ عن صلاتي وهل هي صحيحة أو أقضيها؟ فمكث أياماً ينظر فيها ثم لم يفتني فيها بشيء .
(16) ورأيت رجلاً أتى إليه وقال : إنني أسافر من (الخرج) إلى (الرياض) و تدركني صلاة المغرب في الطريق فهل يجوز لي أن أجمع معها العشاء مع العلم أنني سوف أصل إلى (الرياض) قبل صلاة العشاء ، فقال : نعم يجوز .(4/46)
(17) وفي أحد أيام الشتاء نزلت أمطار غزيرة على مدينة (الرياض) قبل صلاة (الظهر) ، فقام أحد الأئمة في أحد المساجد بالجمع بين (الظهر) و (العصر)، فلما علم الشيخ محمد رحمه الله تعالى تكلم في مسجده وأمر من صلى معهم بإعادة صلاة (العصر).
(18) وتأخرت مرة عن صلاة (الجمعة) فوجدته رحمه الله قد شرع في الركعة الأولى فصففت مع الذين يصلون في (ساحة الصفاة) بجانب (الساعة) ويقتدون بمكبر الصوت ـ بدون اتصال الصفوف ـ ، فلما انتهينا من الصلاة سألته عن صلاتي هذه فأمرني بالإعادة.
(19) وسألته عن صلاة (الكسوف) هل هي فرض عين أو فرض كفاية ؟ فقال: إن ابن القيم رحمه الله قال في كلامٍ له عنها إنه لو قيل بوجوبها لكان له وجه.
(20) وصلى مرة على جنازة فكبر خمس تكبيرات ، فلما انصرف أخبرته فقال: لا بأس بذلك.
(21) وكان يقول بعدم وجوب الزكاة في الحلي، ويقول ثبت عن خمسة من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - القول بذلك.
(22) وكان هناك رجل من أهل (الزلفي) يعطي زكاته لقريبة منه وكانت تجمع هذه النقود ولا تشتري بها شيئاً مطلقاً ، فطلب مني أن أسأل الشيخ : هل يجوز أن يشتري بالزكاة التي يريد دفعها لها ملابس و طعاماً ونحو ذلك ودفعه إليها ؟ فسألت الشيخ فسكت ولم يجب قريباً من يومين ، ثم قال :مادام الحال كما ذكر،فإنه يجوز هذا.
(23) وطلب مني رجل أن أسأله في مسألة حصلت له ،فقال : عندي نقود وعلي دين فهل أخرج الزكاة عنها كلها ، أو أزكي المال الذي لي وأترك الدين، فسألت الشيخ ، فسكت الشيخ وقتاً ثم قال: بل زك مالك دون الدين.
(24) وسألته عن النقد الورقي: هل هو سند أو نقد بذاته ؟ فتوقف في ذلك ولم يجب ، والذي أعرفه عنه أنه مات رحمه الله ولم يفت فيها بشيء .(4/47)
(25) وكنت معه مرة في اليوم التاسع والعشرين من رمضان بعد العصر ، فقال : يظهر أن الليلة يهل هلال شوال ، ثم قال : إن ابن مسعود قال : صام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تسع رمضانات كلها تسع وعشرون يوماً.
(26) وفي عام 1376هـ كتب عبد الله بن زيد المحمود رحمه الله كتاباً في المناسك أجاز فيه الرمي قبل الزوال و بالليل و لم يحدده بوقت فطلبه الشيخ للمباحثه، فكانت بينهما جلستان حضرهما جمع من المشايخ وقد حضرت عندهم، ومما دار في النقاش:
أن المحمود ذكر في منسكه أن العاجز عن الرمي يسقط عنه الرمي ولا يوكل عن نفسه لأنه لا واجب مع العجز.
فقال الشيخ محمد : أيهما أوجب الرمي أو المبيت بمنى؟
قال الشيخ المحمود: الرمي والمبيت واجبان.
قال الشيخ محمد : سبحان الله !! الرمي أوجب، وإنما المبيت وسيلة للرمي .
قال الشيخ المحمود ـ يعني بعض الحاضرين من تلاميذ الشيخ ـ : إنه يوافقني على ما قلته من جواز الرمي في الليل.
فقال الشيخ ـ لهذا الذي أشار إليه المحمود ـ : ما دليلك على ما ذهبت إليه؟
فقال: قسته على يوم عرفة ، فإن الحاج لو وقف في عرفة ليلة النحر لأجزأه لحديث عروة ابن مضرس الطائي.
فقال الشيخ محمد: لا ، هذا قياس مع الفارق، فإن الرمي أصل مستقل ، واليوم ينتهي بغروب الشمس، والليلة تتبع اليوم الذي بعدها لا الذي قبلها.
ثم بعد هذه الجلسات اعتذر الشيخ ابن محمود وقرر أن يكتب كتاباً ينقض فيه الذي قرره أولاً ، ولكنه لم يف بما ذكره للشيخ فرد عليه الشيخ محمد بكتاب (تحذير الناسك مما أحدثه ابن محمود في المناسك).(4/48)
(27) وكان رجل بدوي في (الزلفي) اسمه (نافع) حج ولم يسع ومضى على ذلك قريباً من 15سنة، ثم إن الشيخ محمد حج عام 1376هـ وكنت معه ، فلما ذهبت لأسلم على بعض الجماعة من أهل (الزلفي) وكان معهم (نافع) هذا ، قالوا : إنه استفتى بعض أهل العلم ـ في الميقات من هذه السنة ـ وأفتاه بأن عليه دم ، فقلت: الذي أعرفه أن السعي ركن والركن لا يجبر بدم، ثم أخبرتهم بأني سوف أسأل الشيخ محمداً عن هذا.
فلما عدت إلى الشيخ أخبرته بالواقع وسألته، فسكت ـ وهذه عادته رحمه الله فإنه كان ورعاً خصوصاً في العبادات ـ ولم يجبني إلا من الغد حيث ناداني وقال : إنه يحرم من مكانه ثم يسعى ويقصر ويلبس ، وحجه تام إن شاء الله نظراً لجهله.
(28) وسألته مرة عن معنى قول صاحب الروض حيث قال في باب الخيار: (ويقبل قول قابضٍ في ثابتٍ في ذمة من ثمنٍ و قرضٍ وسلمٍ ونحوه إن لم يخرج من يده ) فقال : إن قبضت شيئاً ثابتاً في ذمة آخر فإنه يقبل قولك بأنه ناقص مثلاً و أنك لم تستوفه، لأنه ثابت في ذمة الآخر ، ولكن يقبل هذا بشرط أن لا يخرج هذا المقبوض من يدك، فإن خرج من يدك لآخر لم يقبل قولك.
(29) ومن ذلك أنه كان هناك قط مؤذ في بيتي، فاستفتيت الشيخ في قتله فأفتاني لأنه مؤذ.
(30) وكان يفتي بلزوم الطلاق الثلاث ، فمن طلق ثلاثاً بلفظ واحد فإن الشيخ محمداً رحمه الله يلزمه ويجعل امرأته تبين منه ، وسمعته يقول : (إن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى لما أفتى بأن الطلاق الثلاث في مجلس واحد يعد طلقة واحدة لم يكن يقصد بذلك مخالفة الجمهور الذين يفتون بلزومه ، ولكن لانتشار (نكاح التحليل) في زمنه بين المسلمين بسبب أيمان الطلاق هذه، رأى رحمه الله أن مخالفة الجمهور أخف من مفسدة (نكاح التحليل) فأفتى بذلك).
وسمعته يقول إن ابن عباس رضي الله عنه الذي يحتج المخالفون بقوله ورد أن رجلاً طلق امرأته ثلاثاً فاستفتاه فقال: ( عصيت ربك وبانت منك امرأتك).(4/49)
وسمعته يقول : (إن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رخمه الله تعالى كان يوافق الجمهور في هذه المسألة ، ولم يفت بخلاف ذلك إلا مرة واحدة لما طلق رجل امرأته ثلاثاً وكان له منها أولاد ، ورأى أنهم سيفسدهم الافتراق فأفتى بقول شيخ الإسلام ابن تيمية).
(31) وكنت معه مرة فأتت إليه امرأة من (الخرج) ومعها زوجها وأبوها وأخوها ، وهي تطلب الطلاق ، فحاول الشيخ الإصلاح بينهما ولكنه لم يستطع، فقال : (وإن يتفرقا يغن الله كلاً من سعته )، ففرض الشيخ على الزوجة أن تدفع 3000ريال ويكون خلعاً فوافقت فالتزمت بذلك ، فقال للزوج: قل طلقت زوجتي فلانة ، فطلقها.
(32) وحدث أن امرأة قتلت زوجها وقبض عليها واعترفت وحكم عليها القاضي بالقتل، ثم إن أولياء المقتول تنازلوا عن القصاص، فرفض الشيخ تنازلهم ، وقال : إن قتلها حرابة لا قصاص لأنها قتلته غيلة فليس للأولياء حق في ذلك ، وأمر بقتلها ، فقتلت ـ وكنت من الحضور عند قتلها ـ .
(33) وحصلت قضية عند أحد القضاة ـ من طلبة الشيخ ـ وهو أن رجلاً قبض عليه بتهمة السرقة واعترف عند الشرطة بذلك ، فلما أحيل إلى القاضي أنكر ما سبق أن أقر به ، فسأله القاضي عن هذه القضية أثناء زيارةٍ للقاضي للشيخ في منزله وأنا أسمع، فقال الشيخ: أما الحد فيدرأ عنه ، وأما المال الذي اعترف به فيلزم به.
(34) وسمعته يتكلم عن القضاء يوماً وأنه ابتلاء، ثم قال : لما كانت البينة على المدعي واليمين على من أنكر وبعض المدعين لا يأتي ببينة ولا يدري أن له حق اليمين على المدعى عليه فللقاضي أن يخبره بأن هذا حق له ، و لا يكون هذا من باب تلقين الخصم حجته المنهي عنه.
(35) وسمعته يوماً يتكلم عن تزكية الشهود وأنه لا بد للمزكي من معرفة تامة بالمزكى ، وقال : إن عمر لما طلب تزكية أحد الشهود فزكاه رجل ، قال له عمر: هل جاورته ؟ قال : لا ، قال : هل تعاملت معه في بيع وشراء؟ قال : لا ، قال: هل سافرت معه؟ قال: لا، قال: فأنت لا تعرفه .(4/50)
من أحاديث محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله تعالى :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ
(1) سمعته يقول : (لما كبر الشيخ محمد ابن عبد الوهاب رحمه الله تعالى صار يؤم الناس في (التراويح) ابنه الشيخ عبد الله رحمه الله ، فكان الشيخ محمد يسأل الناس عن ابنه فيثنون عليه فقال : (الحمد لله الذي أخرج من صلبي من يقوم بالواجب).
(2) وسمعته يقول : ( كان الإمام محمد بن سعود رحمه الله تعالى ديناً عادلاً ، وكانت له أكثر من امرأة وكان هناك قماش اسمه (المرود) فكان من عدله إذا أراد أن يقسم هذا القماش بين نسائه يزنه بالميزان).
وسمعته يقول : (كان الشيخ سليمان ابن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى يقول : أنا أعرف رجال الحديث مثل معرفتي برجال الدرعية ، ولو ذهب للنخيل ما فرق بين شجر(الجح) وشجر (القرع) .
(3) وسمعته يقول : ( كان الإمام فيصل ابن تركي رحمه الله تعالى شديد الخوف من الله ومن ذلك أنه استدعى أحد الرعية -لشكوى جاءته ـ فقال له ـ بعد أخذ ورد : خف الله يا طويل العمر ، فبكى الإمام فيصل رحمه الله ).
(4) وسمعته يقول : (كان الشيخ عبد الرحمن ابن حسن رحمه الله تعالى يقول عن نفسه أنه يذكر ثدي أمه لما كانت ترضعه).
(5) وسمعته يقول عنه أيضاً : ( كان رحمه الله حاد البصر، ولما كبر وثقل بقيت معه حدة البصر ، فكانوا إذا تحروا الهلال حملوا الشيخ عبد الرحمن إلى سطح المسجد -وهو كبير- ليرى الهلال).
(6) وسمعته يقول عنه أيضاً: (إنه أسند التدريس لابنه عبد اللطيف رحمه الله ، فكان ابنه لا يشرح مطلقاً وأبوه موجود، فكان أبوه يخرج من الحلقة حتى يشرح ابنه ثم يأتي وهو لا يعلم به حتى يستمع شرحه) .(4/51)
(7) وكان للمسجد الذي يؤمه الشيخ محمد ابن إبراهيم رحمه الله تعالى وقف قديم من وقت الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه الله تعالى ، فذكر للشيخ محمد أن البعض قد اعتدى على هذا الوقف فطلب ورقة الوقف ـ التي كتبها الشيخ عبد الرحمن ـ وكنت معهم ، فلما قرئت عليه وكان فيها :
"وقف على مسجد دخنة الكبير"
قال الشيخ محمد رحمه الله : ( الله أكبر ، لم يقل وقف على مسجد الشيخ لأنه هو الشيخ المقصود).
وسمعت الشيخ محمداً يذكر أن المسجد المسمى باسمه الآن إنما اسمه أصلاً (مسجد الشيخ عبد الرحمن ابن حسن) ).
(8) وسمعته يقول : ( دعانا بعض أهل (ضرمى) على وليمة مع (الشيخ سعد بن حمد بن عتيق) رحمه الله وبعض الأخوة، فلما انتهينا من الغداء ـ وكان بعد العصر ـ استأذن الشيخ سعد ونهضنا معه ـ وكان هذا قبل السيارات ومعنا رواحل ـ فلما ظهرنا فوق عقبة (القدية) أردنا أن ننام فقيدنا الرواحل ـ ولم نعقلها ـ حتى تستطيع الرعي ولا تبتعد عنا ، فلما أصبحنا ذهب الذين معنا للبحث عن الرواحل فوجدوها كلها إلا راحلة الشيخ سعد ، فتفرقوا للبحث عنها ، وكان الشيخ سعد في هذه الأثناء يدعو الله تعالى أن يأتيه براحلته ، فأتى الذين ذهبوا للبحث عنها ولم يجدوها ، قال الشيخ محمد: فأتى رجل إلينا من بعيد وهو يسوق راحلة الشيخ سعد معه حتى وصلت إلينا ، ثم اختفى ولا ندري من هو ، وكان الذين ذهبوا للبحث عنها كل واحدٍ منهم يحسب أن الآخر هو الذي يسوقها حتى أتوا وسأل بعضهم بعضاً فأنكر كل واحد ذلك، وهذه من كرامات الشيخ سعد رحمه الله ).
(9) وسمعته يقول عن أبيه الشيخ إبراهيم :(4/52)
(عندما وضعت له زوجته ـ أم الشيخ محمد ـ العشاء في أحد الأيام وكان بعد العصر ـ في ذلك الوقت ـ ، فلما بدأ بالأكل إذا الباب يطرق ، فخرج فإذا رسول من الشيوخ ـ يعني الملك عبد العزيز وكان يسمى بذلك في ذلك الوقت ـ يخبره بتكليفه بالقضاء ، قال الشيخ محمد نقلاً عن والدته : فدخل البيت مهموماً وترك العشاء وغسل يديه ـ ولم يتناول إلا اليسير ـ ، ولحظت عليه في الليل عدم نومه ، فلما أصبح سألته عن السبب فأخبرها بأنه ولي القضاء ، وكان ورعاً رحمه الله).
(10) وجئت يوماً إلى الشيخ فلاقاني الشيخ حمود التويجري رحمه الله تعالى ومعه مسودة كتاب له قرأها على الشيخ ، فلما دخلت على الشيخ ـ وليس عنده أحد غيري ـ قال : إن رجلاً قرأ عليه قبل قليل ـ يعني الشيخ حموداً ـ كلاماً فيه بيت أعجبه وهو:
هي الأرض تهتز ابتهاجاً من الحيا *** كما اهتزت العذرا ارتياحاً من البعل
وفاة محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله تعالى :(4/53)
في صباح أحد أيام شعبان من عام 1389هـ خرج الشيخ رحمه الله إلى عمله كالعادة ووقف يوصيني ببعض الأعمال ، ورأيت على وجهه أثر صفرة ظاهرة فسألته إن كان متعباً ، أو لم ينم ؟ فسأل عن سبب سؤالي ، فقلت له عن أثر الصفرة في وجهه ، فرجع إلى بيته فسأل أهل البيت فأخبروه فذهب إلى (المستشفى المركزي) ، فأجروا له بعض التحاليل، فاكتشفوا فيه أحد الأمراض المستعصية فلم يخرج من (المستشفى) إلا عند تحري رؤية هلال رمضان حيث خرج إلى البيت فلما ثبت الشهر عاد إلى المستشفى ، ثم صدر أمر ملكي بنقله إلى (لندن) لمواصلة العلاج ، فلما وصل (لندن) أجروا له الفحوصات والتحاليل اللازمة فرأوا أن المرض بلغ غاية لا ينفع معها عملية أو علاج ، ثم دخل في غيبوبة رحمه الله تعالى وهو هناك ، فأتي به إلى (الرياض) على طائرة خاصة محمولاً على (نقالة) وبقي في غيبوبة حتى وافته المنية رحمه الله تعالى في الساعة الرابعة صباحاً ـ بالتوقيت العربي ـ من يوم الأربعاء الرابع والعشرين من شهر رمضان من عام 1389، وصلي عليه بعد صلاة الظهر من نفس اليوم وأم الناس عليه الشيخ ابن باز وامتلأ المسجد وجميع الطرقات المؤدية إليه حتى أن كثيراً من الناس لم يدركوا الصلاة عليه من الزحام ، وحمل على الأعناق إلى مقبرة (العود) وصلى عليه جماعات كثيرة في المقبرة ممن فاتهم الصلاة عليه في المسجد وأذكر أن أول جماعة صلت عليه في المقبرة كان إمامهم(الشيخ عبد الرحمن بن محمد بن فارس) رحمه الله ـ وهو من طلبة الشيخ ـ .
رحم الله الشيخ رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته ، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
سيرة عبد الرحمن السعدي رحمه الله تعالى :(4/54)
الفقيه المُفَسِر، العالِم الرباني ، كان رحمه الله تعالى من أئمة الهدى وأعلام التقى ومصابيح الدجى ، من حلية الأولياء وأعلام النبلاء وحراس العقيدة وحماة السنة وأشياع الحق وأنصار دين الله عز وجل ، حاملُ لواء السنة وناصرها وقامع البدعة ودامغها ، كان الكتاب والسنة له كالجناحين للطائر يتمسك بهما ويعضُ عليهما بالنواجذ، كان رحمه الله تعالى شهاباً ثاقباً ونجماً ساطعاً وبدراً طالعاً وسهماً نافذاً ، وكان كوكبَ نُظَرَائه وزهرةَ إخوانه ، تفوح منه علامات اليُمْنِ وأمارات الخير ورائحة التوفيق والسداد ، واحد زمانه، وإمام عصره وأوانه ، العالم الحبر، ذو الأحلام والصبر، العلم حليفه، والزهد أليفه ، كان رحمه الله تعالى خزانة علم فكان علمه واسعاً مباركا كالغيث من السماء أينما حل نفع ، يتفجَّرُ العلمُ من جوانبه، وتنطِق الحكمةُ من نواحيه، لا يُشَقُ له غُبارٌ في غزارة علمه ودقة استنباطه للفوائد والأحكام وسعة فقهه ومعرفته بأسرار اللغة العربية وبلاغتها ، وكان رحمه الله ذا همةٍ عاليةٍ تناطح السحاب في طلب العلم فكان يُقْبِلُ على طلب العلم إقبالَ الظامئ على الموردِ العذب فقد أفنى جلَّ عمره في طلب العلم فكان إماماً يقتدى به في ذلك وكان مناراً عظيماً من منارات العلم ، مناراً راسي القواعد مُشَيَّدَ الأركان ثابتَ الوطائد ، الإمام اللبيب، ذو اللسان الخطيب، الشهاب الثاقب، والنصاب العاقب، صاحب الإشارات الخفية، والعبارت الجلية ، ذوالتصانيف المفيدة ، والمؤلفات الحميدة ، الصوَّام القوَّام ، الزاهد في الدنيا الراغب في الآخرة ، صاحب الأخلاق الرضية ، والمحاسن السنية ، العالم الرباني المتفق على علمه وإمامته وجلالته وزهده وورعه وعبادته وصيانته في أقواله وأفعاله وحالاته، كان رحمه الله تعالى سراج العباد، ومنار البلاد ، رحمه الله تعالى رحمةً واسعةً تعمُ أرجائه ، وتغمده برحمةٍ فوق ما يخطر ببال أو يدور في الخيال ، وأنعم(4/55)
عليه برضا الكبير المتعال إنه وليُ ذلك والقادرُ عليه .
اسم عبد الرحمن السعدي ونسبه رحمه الله :
هو أبو عبد الله عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله بن ناصر بن حمد آل السعدي التميمي النجديّ الحنبلي.
وترجع أسرة آل السعدي إلى بني عمرو، أحد البطون الكبيرة، من قبيلة تميم المشهورة، ويقع بعض مساكن بني عمرو بن تميم في بلدة قفار إحدى القرى المجاورة لمدينة حائل. (1)
نشأة عبد الرحمن السعدي ومولده رحمه الله تعالى :
ولد الشيخ عبد الرحمن - رحمه الله - في مدينة العلم والعلماء ( عنيزة - بالقصيم ) في المملكة العربية السعودية، في اليوم الثاني عشر من شهر محرم من السنة السابعة وثلاثمائة بع الألف ( 1307هـ) قبل وقعة المليدا الشهيرة بسنة واحدة. (2)
نشأ الشيخ ـ رحمه الله ـ يتيم الأبوين، إذ توفت والدته وعمره أربع سنين، ثم توفى والده وعمره سبع سنين، فكفلته زوجة والده ـ رحمها الله ـ وأحبته حباً جمّا أكثر من حبها لأولادها، فرعته حتى شب، ثم انتقل إلى بيت أخيه الأكبر ( حمد ) فقام برعايته وتربيته ، وكان - حمد - رجلاً صالحاً وهو من حملة القرآن ومن المعمرين . (3)
طلب عبد الرحمن السعدي للعلم رحمه الله تعالى :
نشأة الشيخ ـ رحمه الله ـ في بيئة وبيت كله علم ، مما جعله يبرز في طلب العلم منذ نعومة أظفاره ، فوالده ( ناصر الدين السعدي ) كان من العلماء ، وإماماً في مساجد مدينة عنيّزة . وأخيه ( حمد ) كما ذكرنا من حملة القرآن والصالحين ـ ولا نزكي على الله أحد.
__________
(1) الشيخ عبد الرحمن السعدي ، سؤال وجواب في أهم المهمات ص3
(2) حياة الشيخ عبد الرحمن السعدي في سطور ص12
(3) الشيخ محمد العثمان القاضي - روضة الناظرين عن مآثر علماء نجد 1/ ص220(4/56)
وبدأ شيخنا رحمه الله طلب العلم فحفظ القرآن الكريم عن ظهر قلب قبل تمام الثانية عشر من عمره، واهتم بطلب العلم على علماء بلده ثم البلاد المجاورة، كما كان يستفيد من العلماء الذين يردون إلى بلده، فجعل جلّ وقته في تحصيل العلم ، حفظاً وفهماً ودراسة ومراجعة واستذكارا ، حتى أدرك في صباه من العلم مالا يدركه غيره في زمن طويل . (1)
وكان من حرصه على حلقات العلم والذكر ومجالسة أهل العلم والسماع لدروسهم ومواعظهم ما لا يوصف، فهو شديد الحرص والمتابعة وهذا يظهر منذ نعومة أظفاره كما هو حاله في ( صباح سطوة آل سليم على بلده، وكان عمره آنذاك خمس عشرة سنة، وكان القصر فيه الرماة، والناس متحصنين في منازلهم خوفاً على أنفسهم، أما شيخنا رحمه الله وثب في خُطَاً ثابتة إلى بيت الله لأداء صلاة الفجر. فقابله بعضهم فخاطبه: إلى أين تريد الذهاب ؟! فقال - الشيخ : لصلاة الفجر !! فضربه حتى ألجأه إلى الانصراف إلى بيته، وعلى هذا كان حرصه على ألاّ تفوته صلاة واحدة في أشدّ الأزمات التي واجهته في عصره، وكذا كان حرصه على حضور دروس العلم. (2)
__________
(1) الشيخ عبد الله البسام ، علماء نجد خلال ستة قرون 2 / 423
(2) الشيخ عثمان القاضي ، روضة الناظرين عن مآثر علماء نجد - بشيء من التصرف(4/57)
وتعلم القراءة والكتابة في سن مبكرة، ثم انكب على العلم وانقطع له، ولم يشتغل بأي من الأعمال التجارية حرصاً على طلب العلم (1) . ولما لاحظ أقرانه في طلب العلم تقدمه عليّهم، ونبوغه المبكر تتلمذوا عليّه، وبدأوا يأخذون عنه العلم، وما لبثَ حتى فتح الله عليه آفاق العلم ، فخرج عمّا اعتاد عليه علماء بلده من الاهتمام بالفقه الحنبلي فقط ، إذ تطلع إلى كتب متعددة في التفسير والحديث والفقه ، وعنيّ بشكل خاص بكتب شيخ الإسلام ابن تيميّة وتلميذه ابن القيّم وسار على نهجهما في إتباع الأدلة والاستنباط (2) .
وخرج شيخنا رحمه الله من مرحلة التقليد إلى مرحلة الاجتهاد المقيد، فصار يرجح من الأقوال ما يرجحه الدليل ويصدقه التعليل، وكان إذا عرض عليه مسائل متعددة يجيب عليها باختصار غير مخل، وكانت فتواه غير طويلة، تدل على أنه سريع البديهة، قويّ الذاكرة، سريع الكتابة بديع التحرير، ولهذا نجد في مؤلفاته الكثير مما يدل على ذلك من اتصافها بالأسلوب الشيق الذي تفهمه العامة والخاصّة.
ميزة الرحمن السعدي في طلب العلم رحمه الله تعالى :
__________
(1) صالح السليمان العمري ،علماء آل سليم وعلماء القصيم
(2) الشيخ عبد الله البسام ، علماء نجد خلال ستة قرون
وإذ أنصح كل طالب علم باقتناء ودراسة كتب شيخ الاسلام ابن تيمية وتلميذه الفذ الهمام ابن القيم الجوزية ، لما فيها من الفائدة والقيم والحكم ، ففيها تجد التفسير والحديث والفقه واللغة ، فكلها درر وفوائد - رحمهما الله رحمة واسعة - فلقد بكت عليهم عيون العلماء ورثاهم الفضلاء ، وشهد لعلمهم الأصدقاء والأعداء .(4/58)
كان من شدّة طلبه للعلم رحمه الله أن قرأ على مشايخ عصره في علم الحديث والتفسير والمصطلح والأصول والفروع وأصول الدين وعلوم اللغة العربية، وأكب على المطالعة في المتون العلمية، كما كان واسع الإطلاع في كل جانب من جوانب الحياة التي تتعلق بحياته وحياة الناس من حوله ، ليعرف حالاتهم ، وليكون عنده الدراية الواعية التي يتمشى بها في حياته .
وكان رحمه الله يميل كثيراً إلى كتب شيخ الإسلام ابن تيميّة وتلميذه ابن القيم ـ كما ذكرت ـ ولهذا جاء من تأليفه في التفسير والحديث وغيّره وردٌ لا ينضب من العلم، ورفد لا يشح على متتبع لمؤلفاته ) (1) .
صفات عبد الرحمن السعدي وأخلاقه (2) رحمه الله تعالى :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
منذ أن تربى عبد الرحمن السعدي وترعرع، كان صالحاً محافظاً على قواعد الدين ومحباً للخير والإحسان إلى الفقراء والضعفاء، وكان ذكياً محباً للمناقشة ومتواضعاً... طيب الخُلق والأخلاق في معاملته للصغير والكبير، الغني والفقير، وكان ورعاً زاهداً، عرض عليّه تولي القضاء سنة ( 1360هـ ) فرفض ذلك لانشغاله بطلب العلم .
وكان رحمه الله على جانب كبير من الأخلاق الطيبة الفاضلة، فهو عزيز النفس طلق الوجه لا ترى عليه سمات الغضب، محباً لأفعال الخير... وكان كثير الاجتماع بالعامة والخاصة، يشتاق لحديثه جميع الناس لسهولة وبساطة تعامله مع الآخرين .
__________
(1) حياة الشيخ عبد الرحمن السعدي في سطور - جمع أحمد القرعاوي ص 16
(2) المجلة العربية العدد 95 السنة 9 للهجرة / كتاب حياة الشيخ عبد الرحمن السعدي في سطور / الشيخ عبد الله البسام - علماء نجد خلال ستة قرون / الشيخ عبد الرحمن السعدي - تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان وكتاب الدرّة البهيّة شرح القصيدة التائية .(4/59)
ولقد وُصِفَ رحمه الله بأنه أرق من النسيم وأعذب من السلسبيل، لا يعاتب على الهفوة، ولا يؤاخذ بالجفوة، ويتحبب إليه البعيد والقريب، وكان جواداً بماله ونفسه وعلمه وبكل ما يستطيع القيام به، فلا يبخل بشيء أبداً مهما كانت الظروف.
كان يتكلم مع كل فرد بما يناسبه، ويبحث معه في المواضيع النافعة له، وكثيراً ما يحل المشاكل برضاء الطرفين في الصلح العادل، وهو على جانب كبير من الأدب والعفة والنزاهة والحزم في كل أعماله... فقد وضع الله له القبول في الأرض، وأعطاه محبة في القلوب، فكان الناس يحبونه محبة لا تقدر بثمن ، وكان له زعامة شعبية في النفوس ، فكانت كلمته مسموعة وأمره مطاعاً في كل الأقوال والأعمال التي تصدر عنه ـ بحيث كان لا ينطق إلا حقاً وصدقاُ ويتحرى ذلك دائماً .
كان مخلصاً للدين والعلم، حريصاً على مصالح المسلمين، راجياً من الله أن تكون مجتمعاتهم متمسكة بالدين، فكان كثيراً ما يتصل بالناس، ويتفقد أحوالهم، ويحل مشاكلهم، ويعلم الجاهل، ويرشد الضال، ويحقق لهم الخير... فكان رحمه الله لين الجانب متواضعاً، عليه وقار العلم والعبادة، تحس إذا جالسته كأنك مع أقرب الناس إليك لما تجده من الزهد والتواضع. ولم تقتصر أخلاقه على ذلك، بل كان لتلامذته وطلابه نصيب من ذلك.
صفات عبد الرحمن السعدي الخَلقِيّة رحمه الله تعالى :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
صفات عبد الرحمن السعدي الخَلقِيّة رحمه الله تعالى :(4/60)
ذكر الشيخ محمد العثمان القاضي في روضة الناظرين عن مآثر علماء نجد ، والشيخ عبد الرحمن السعدي في المختارات الجليّة عن صفات شيخنا رحمه الله أنه كان ( قصير القامة ، ممتلئ الجسم ، أبيض اللون مشرباً بالحمرة ، مدور الوجه طلقة ،كثيف اللحيّة البيضاء ، وقد ابيضت مع رأسه وهو صغير ... وكانت الكثافة في شعر لحيته أقرب من رأسه، كان وجهه يتلألأ كأنه فضّة، عليه نور في غاية الحسن، نيّر لا يُرى إلا مبتسماً...
صفة عبد الرحمن السعدي في التدريس رحمه الله تعالى :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
كانت صفته في التدريس والتعليم رحمه الله من أحسن الناس وأهل العلم تعليماً وابلغهم تفهماً ـ في زمانه ومكانه ـ فكان مرتباً لأوقات التعليم مستخدماً عدّة وسائل لتنشيط طلابه في حفظ المتون وغيرها... يختار العلوم المثمرة والكتب النافعة، يشاور تلاميذه ويأخذ برأي الأكثرية منهم، وهم يحرصون على تلقيّ العلم عليه والانتفاع بمؤلفاته التي ألفّها.
وكان ذا جلد وصبر وقوة على ملازمة الدروس وعدم الضجر، صبوراً على شدّة البرد وعلى شدّة الحر في الدروس والتعاليم، ولم يسمع عنه أنه تضجر مرّة واحدة.
شيوخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله تعالى :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
درس الشيخ رحمه الله على عدد من المشايخ، فأخذ العلوم والفنون المتنوعة منهم، سأذكر ما تيسر لي جمعه والإحاطة به من أصحاب الفضيلة العلماء الذين درسَ عليهم شيخنا رحمه الله في كل فنّ :
(1) أخذ عن الشيخ إبراهيم بن حمد الجاسر في الحديث عندما عين قاضياً وجلس للتدريس فيها (1) ، وهو أول من قرأ عليه .
(2) قرأ القرآن الكريم وحفظه على الشيخ سليمان بن دامغ في مدرسته بأم خمار.
(3) قرأ على الشيخ محمد بن عبد الله بن سليم في أكثر من فن من فنون الفقه وغيره
__________
(1) الشيخ صالح بن سليمان العمري ، علماء آل سليم وعلماء القصيم(4/61)
(4) قرأ على الشيخ علي بن ناصر أبو وادي، في الحديث والأمهات الست في الحديث وأجازه في ذلك.
(5) قرأ على الشيخ العلامة محمد الشنقيطي ـ نزيل الحجاز قديماً ـ التفسير والحديث ومصطلح الحديث أثناء وجوده بمدينة عنيزة، وأخذ عنه سنداً بالرواية.
(6) وأخذ من الشيخ العلامة محمد بن الشيخ عبد العزيز بن محمد المانع ـ مستشار المعارف بالمملكة العربية السعودية ( المتوفي 1385هـ رحمه الله ) وقد قرأ عليه في عنيزة وأخذ من علمه الغزير .
(7) قرأ الفقه والنحو وعلوم العربية على الشيخ محمد بن عبد الكريم الشبل.
(8) قرأ على الشيخ صالح بن عثمان القاضي ( قاضي عنيّزة ) في التوحيد والتفسير والفقه وأصوله والنحو وهو أكثر من قرا عليّه ولازمه قرابة عشرين سنة، حتى توفي رحمه الله (1) .
(9) وقرأ على الشيخ عبد الله بن عائض، والشيخ صعب بن عبد الله التويجري ، والشيخ علي السناني وغيرهم - رحمهم الله جميعاً .
طلاب عبد الرحمن السعدي وتلاميذه (2) رحمه الله تعالى :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
__________
(1) الشيخ عبد الرحمن السعدي - المختارات الجليّة - منهج السالكين . بقي شيخنا عبد الرحمن ملازماً للشيخ العلامة صالح بن عثمان القاضي حتى توفي الأخير - رحمه الله .
(2) حياة الشيخ عبد الرحمن السعدي في سطور - جمع أحمد القرعاوي - مشيراً أنني لم اذكر جميع طلاب العلامة شيخنا السعدي ، وكتفيتً بذكر هذه الثلة الطيبة من العماء الذين تتلمذوا عليّه ، ليستبين لطالب العلم أن للعلماء علينا حق في احترامهم وتقديرهم . وللمزيد يراجع المصدر(4/62)
طلاب عبد الرحمن السعدي وتلاميذه (1) رحمه الله تعالى :
فأما تلاميذه فهم ـ والحمد لله ـ كثر لا يعدون بالأصابع، وسأذكر بعضاً منهم ـ حسب ما توفر لي من المراجع، وحسب من اشتهر منهم بالعلم من بعده، وذكري لهم لا للحصر ولكن من باب تعداد فضائل شيخنا رحمه الله ومدى تأثيره ومكانته عند طلاب العلم، ومن أشهرهم طلبة العلم الذين أخذوا عن الشيخ:
(1) الشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين، وهو الذي خلفه في التدريس والإفتاء في عنيزة، وهو إمام المسجد الكبيرة فيها، ومدرس في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالقصيم (2) .
(2) الشيخ العلامة عبد الله بن عبد العزيز عقيل، عضو هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية.
(3) الشيخ علي بن حمد الصالحي، وقد وكل إليه ـ الشيخ عبد الرحمن ـ تدريس صغار الطلبة.
(4) الشيخ العلامة عبد الله بن عبد الرحمن البسام، عضو هيئة التمييز بالمنطقة الغربية.
(5) الشيخ محمد بن منصور الزامل، المدرس بالمعهد العلمي بعنيزة
(6) الشيخ عبد الله بن محمد العوهلي، المدرس بالمعهد العلمي بمكة المكرمة
(7) الشيخ حمد بن محمد البسام، المدرس بالمعهد العلمي بعنيزة
(8) الشيخ سليمان بن صالح البسام
(9) الشيخ محمد بن عثمان القاضي ( أبن أستاذ الشيخ السعدي - رحمهم الله )
(10) الشيخ عبد العزيز بن محمد السلمان، المدرس بمعهد إمام الدعوة بالرياض
(11) الشيخ عبد الله بن محمد المطرودي ، ويحفظ صحيح البخاري بأسانيده
(12) الشيخ محمد بن سليمان بن عبد العزيز البسام، المدرس بالحرم المكي
__________
(1) حياة الشيخ عبد الرحمن السعدي في سطور - جمع أحمد القرعاوي - مشيراً أنني لم اذكر جميع طلاب العلامة شيخنا السعدي ، وكتفيتً بذكر هذه الثلة الطيبة من العماء الذين تتلمذوا عليّه ، ليستبين لطالب العلم أن للعلماء علينا حق في احترامهم وتقديرهم . وللمزيد يراجع المصدر
(2) سيأتي ذكره الطيب في الفصل الخامس - إن شاء الله(4/63)
(13) الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن محمد البسام، وهو النائب عن شيخه في حياته في الإمامة والخطابة.
(14) الشيخ ابراهيم المحمد العمود، تقلب في عدّة مناصب قضائية آخرها قضاء المنطقة الشرقية.
(15) الشيخ صالح العبد الله الزغيبي أمام المسجد النبوي الشريف
(16) الشيخ عبد العزيز بن سبيل قاضي البكيرية، ثم مدرس بالمسجد الحرام
(17) الشيخ عبد الله الخضيري، قاضي بلدة عفيف ثم مدرس بمعهد المدينة المنورة
(18) الشيخ عبد الرحمن المحمد المقوش، قاضي الرياض ثم أحيل الى التقاعد
(19) الشيخ سليمان بن ابراهيم البسام، درس في المعهد العلمي، وعيّن قاضياً فرفض.
(20) الشيخ محمد بن عبد الرحمن بن حنطي، قاضي الدرعية
هذه نقطة من سيّل، وقلّة من كثرة ، عدد يسير من جمٍّ غفير من طلاب الحق وأهل السنة والجماعة الذين تتلمذوا على شيخنا ـ رحمه الله ـ وهناك عدد أكبر من طلبة شيخنا ـ رحمه الله ـ ولكن خشية الإطالة لم يتسنى لي أن أذكرهم جميعهم ، وهناك أعداد كثيرة درست عليه وانتفعت به ومن علمه وسلوكه في مجالات مختلفة ومتعددة ، وهذا مما اقتصيّته وجمعته ، والله أسأل أن ينفعنا بهم جميعاً (1) .
ثناء العلماء على عبد الرحمن السعدي رحمه الله تعالى :
__________
(1) أخي طالب العلم أنصحك بمطالعة ذكر محاسن الأعلام من العلماء والحكماء ، وليكن لك زاد من سيرهم ، مع ضرورة الوقوف على كتبهم ومؤلفاتهم ففيها الفائدة - إن شاء الله ، وإني والله لقد انشرح صدري لمّا قرأت أسماء طلاب وتلاميذ شيخنا - رحمه الله - فكيف بي إذا قرأت سيرهم وأخبارهم ، ففيها والله كل الخير . فالناظر في هذه الثلّة الطيبة من الطلبة يجد أنهم جميعاً علماء ودعاة ربانيين لهم به باع طويل وذكر جميل .(4/64)
ومما يدل على مكانة الشيخ رحمه الله ما قيل عنه من قبل أهل العلم المعاصرين واللاحقين له، ممن وقفوا على سيرته ونهلوا من علمه وقرؤوا مصنفاته، وتتبعوا مؤلفاته وكتبه، وسمعوا من فتواه أو خالطوه... ومن تلك الأقوال:
[*] قال فيه الشيخ العلامة ابن مانع ( كان عالم عصرنا، وعلامة مَصرنا )
[*] الشيخ العلامة عبد الرزاق العفيفي عميد معهد القضاء العالي في المصنف ( فمن العلماء في هذا العصر كثير ، ولكن قلّ منهم من يستقي الحكم من منبعه ، ويسنده إلى أصله ويتبع القول العمل ، ويتحرى الصواب في كل ما يأتي ويذر ، وإن من ذلك القليل فيما أعتقد الشيخ الجليل عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله ... )
[*] قال الشيخ سليمان المشعلي ( كان عالماً جليلاً وقاضياً مسدداً... ولما علم بوفاته قال: مات اليوم عالم نجد وقد طاب الموت بعد هذه الشخصيّة الفذّة فانصدع ومات بعد وفاة الشيخ بتسعة عشر يوماً ) (1)
مصنفات عبد الرحمن السعدي رحمه الله تعالى وكتبه (2) :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
لقد كتب الشيخ رحمه الله في صنوف وفنون عدّة وبعضها طبع والبعض الآخر لم يطبع بعد ، والناظر في مؤلفاته يجد سعة العلم وأصنافه وتعدد مجالاته لدى الشيخ رحمه الله وسأذكر ما تيسر لي الوقوف عليه من مؤلفات شيخنا العلامة عبد الرحمن السعدي، وهي :
(1) تيسير القرآن الكريم، وهو من أشهر كتب التفسير اليوم والمسمى أيضاً ( تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان ) ويقع في ثمانية مجلدات، وطبع عدّة طبعات.
(2) حاشية على الفقه أستدراكاً على جميع الكتب المتداولة والمؤلفة في المذهب الحنبلي - مخطوطة.
__________
(1) الشيخ محمد العثمان القاضي - روضة الناظرين في مآثر علماء نجد
(2) كتاب حياة الشيخ عبد الرحمن السعدي في سطور - جمع احمد القرعاوي(4/65)
(3) الحق الواضح المبين في شرح توحيد الأنبياء والمرسلين ـ وهو توضيح لنونيّة ابن القيم ـ رحمه الله .
(4) منهج السالكين وتوضيح الفقه في الدين ـ مطبوع
(5) طريق الوصول إلى العلم المأمول بمعرفة القواعد والضوابط والأصول - مطبوع
(6) الدين الصحيح يحل جميع المشاكل - مطبوع
(7) الفتاوى السعديّة ( 3 مجلدات ) مطبوع
(8) فتح الرب الحميد في أصول العقائد والتوحيد - مطبوع
(9) التنبيهات اللطيفة على ما احتوت عليه الواسطية من المباحث المنيفة أو المتينة
(10) إرشاد أولي الألباب، لمعرفة الفقه بأقرب الطرق وأيسر الأسباب ـ سؤال وجواب ـ مطبوع
(10) الإرشاد إلى معرفة الأحكام - طبعة جديدة بدل ( إرشاد أولي الألباب )
(11) بهجت قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار في شرح جوامع الأخبار - وهو شرح لتسعة وتسعين حديثاً .
(12) توضيح الكافية الشافيّة ( نونيّة ابن القيم المشهورة )
(13) الخطب على المناسبات - مطبوع
(14) الخطب العصريّة القيّمة - مطبوع
(15) الفواكة الشهيّة في الخطب المنبريّة ـ مطبوع
(16) الدرة البهيّة ـ شرح القصيدة التائية لإبن تيميّة
(17) رسالة لطيفة جامعة في أصول الفقه المهمة ـ مطبوع
(18) فوائد مستنبطة من قصة يوسف عليّه السلام
(19) القواعد والأصول الجامعة، والفروق والتقاسيم البديعة النافعة
(20) الدرّة المختصرة في محاسن الإسلام - مطبوع
(21) القواعد الحسان لتفسير القرآن - مطبوع
(22) تنزيه الدين وحملته ورجاله، مما افتراه القصيمي في أغلاله - مطبوع
(23) وجوب التعاون بين المسلمين والجهاد الديني - مطبوع بالقاهرة
(24) القول السديد في مقاصد التوحيد ـ مطبوع
(25) تيسير اللطيف المنان في خلاصة تفسير القرآن ـ مطبوع
(26) الرياض الناضرة ـ مطبوع
(27) الأدلة القواطع والبراهين في إبطال أصول الملحدين ـ مطبوع
(28) التوضيح والبيان لشجرة الإيمان ـ مطبوع
(29) الوسائل المفيدة للحياة السعيدة ـ مطبوع
(30) فوائد قرآنية ـ مطبوع(4/66)
(31) انتصار الحق " محاورة دينية اجتماعية "
(32) المواهب الربانية من الآيات القرآنية
(33) سؤال وجواب في أهم المهمات
(34) المختارات الجليّة من المسائل الفقهية - مطبوع
(35) المناظرات الفقهية - مطبوع
(36) مجموعة فقه، رسالة في القواعد الفقهيّة
(37) منظومة مشتملة على أحكام الفقة، تعليق لطيف على منظومة في السير إلى الله والدار الآخرة
وللشيخ رحمه الله مؤلفات أكثر مما ذكرت ولكن هذا ما وفقت لجمعه والوقوف عليّه، وهناك أيضاً كتب للشيخ لم تطبع بعد.
وفاة عبد الرحمن السعدي رحمه الله تعالى :
في عام واحد وسبعين وثلاثمائة وألف هجرية ( 1371هـ) أصيب الشيخ ـ رحمه الله ـ بمرض ضغط الدم وضيق الشرايين، فكان يعتريه المرّة بعد الأخرى وهو صابر عليّه مدّة خمس سنوات فزاد عليه المرض واشتد.
فكانت أعراضه ظاهرة عليه أحياناً من خلال الكلام، فقد كان يقف أحياناً وهو يقرأ القرآن ثم يتكلم ويرجع إلى حالته الطبيعية، وفي عام (1372هـ) وأرسلت له طائرة تحمل لجنة أطباء لتشخيص المرض، فرأوا أن يسافر الشيخ إلى لبنان ليتلقى العلاج هناك، إذ كان العلاج غير متوفر في السعودية آنذاك، فسافر إليها، وجلس فيها نحو شهر حتى شفاه الله.(4/67)
وكان رحمه الله يستفيد من كل دقيقة ففي فترة علاجه تلك، تعرف على علمائها وفضلائها، ثم ( عاد إلى عنيزة ليكمل علمه وتدريسه مع نصح الأطباء له بأن لا يجهد نفسه، وأن يعطي لنفسه الراحة، لكنه لم يصبر على ترك العلم، وبدأ بالتعليم والتأليف والبحث مرّة أخرى ) (1) . ولكن ( ما لبث أن عاوده المرض مرّة ثانيّة أشدّ مما كان عليه من قبل وفي ليلة الأربعاء 22 من شهر جمادى الآخرة سنة 1376هـ أحس بشيء في جسمه مثل البرد والقشعريرة ، وبعد أن أكمل الدرس للطلاّب أتم صلاة العشاء الآخر إماماً وبعد السلام أحس بثقل وضعف ، فأشار إلى بعض تلاميذه أن يمسك بيده ويذهب به إلى بيته ، ففزع لذلك أناس آخرون من الذين حضر للصلاة ، وما إن وصل الشيخ إلى بيته حتى أغمي عليه ، ثم أفاق بعد ذلك وذكر الله وأنثى عليه وحمده ، وتكلّم مع الموجودين عنده بكلام حسن وبعد ذلك عاوده الإغماء مرّة أخرى فلم يتكلم ) (2) وفي صباح يوم الخميس سقط القلم من بين أصابع الشيخ ، وذاب الصوت القوي النديّ اللطيف ، الذي ملأ طباق الأرض علماً ، وسكت اللسان الذي جالت الحكمة والآي من فوقه ، وأطبقت الشفتان اللتان طالما تحركتا بالفقه والتأويل والتفسير ، وحيل بين الثرى وبين الثُريا برحيله ، وحزن الكثير ممن لم يكن لهم لقاء مع الشيخ في حِلَق الدرس والتلقي بين يديه ... فكان وفاته ـ يرحمه الله ـ قبيل الفجر يوم الخميس الموافق 22 جمادى الآخرة سنة ست وسبعين وثلاثمائة وألف ( 1376هـ).
فسالت الدموع بفقده، وحزنت القلوب برحيله، وكان ذلك اليوم مشهوداً في تاريخ مدينة عنيزة ، فكان يوماً لا يوصف، لما كان فيه الناس من الأحوال السيئة لوفاة عالمها الجليل .
__________
(1) الشيخ عبد الله البسام - علماء نجد خلال ستة قرون
(2) حياة الشيخ عبد الرحمن السعدي في سطور - احمد القرعاوي(4/68)
صليّ عليه بعد صلاة الظهر في الجامع الكبير بعنيّزة يوم الخميس، وكان الناس في حشد عظيم امتلأ الجامع بهم، وكان جمعٌ غفير من المصلين والمشيعين للصلاة عليه.
ثم دفن ـ رحمه الله ـ في مقبرة الشهوانيّة ( شمالي عنيزة )، وبهذا قضى الشيخ ـ رحمه الله ـ حياته في العلم تعلماً وتعليماً وإفتاءً وتأليفاً، وتوفي عن عمر يناهز تسعاً وستين سنة، غفر الله له ورحمه وعفا عنه وأدخله فسيح جنانه.
سيرة عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى :
اسم عبد العزيز بن باز ومولده رحمه الله :
هو سماحة الشيخ العلامة، الفقيه المحدث عبد العزيز بن عبد الله بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله آل باز. ولد بمدينة الرياض في ذي الحجة سنة 1330 هـ. كان بصير في أول الدراسة ثم أصابه المرض في عينيه عام 1346 هـ. فضعف بصره بسبب ذلك. ونسأل الله جل وعلا أن يعوضه عنهما بالجزاء الحسن في الآخرة، كما وعد بذلك سبحانه على لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم .
نشأة عبد العزيز بن باز وبداية طلبه للعلم رحمه الله :
بدأ الدراسة منذ الصغر وحفظ القرآن الكريم قبل البلوغ في مدينة الرياض عاصمة نجد، وجوّده على الشيخ سعد وقاص البخاري بمكة المكرمة ثم بدأ في تلقي العلوم الشرعية والعربية على أيدي كثير من علماء الرياض .(4/69)
فأخذ من مشاهير علماء نجد، وكان أكثر ما تلقَّاه عن سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم وعليه تخرج في علوم الشريعة واللغة العربية ورأى أن من الغبن لنفسه أن يكتفي بما حصّله من تلك العلوم أيام طلبه وتلقيه عن مشايخه، لما في ذلك من هضمها حقها وحرمانها من الحظ الوافر في العلم والدين، فتابع الإطلاع والبحث ودأب في التحصيل وبذل جهده في تحقيق المسائل بالرجوع إلى نطاقها في أمهات الكتب كلما دعت الحاجة إلى ذلك في تدريسه وفيما يعرض له من القضايا المشكلة أيام توليه القضاء، وفي إجابته عما يوجه إليه من أسئلة تحتاج إلى بحث وتنقيب، وفي رده على ما ينشر من أقوال باطلة وآراء منحرفة فازداد بذلك تحصيله ورسوخه، ونبغ في كثير من علوم الشريعة وخاصة الحديث متنا وسندا، والتوحيد على طريقة السلف، والفقه على مذهب الحنابلة، حتى صار فيها من العلماء البارزين .
شيوخ عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى :
أخذ الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى عن عدة مشايخ ودرس على أيدي كثيرين أغلبهم من آل الشيخ. ومنهم الشيخ محمد بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن آل الشيخ . ومنهم الشيخ صالح بن عبد العزيز بن عبد الرحمن آل الشيخ قاضي الرياض آنذاك. ومنهم الشيخ سعد بن حمد بن عتيق من آل عتيق قاضي الرياض آنذاك. ومنهم الشيخ حمد بن فارس وكيل بيت المال آنذاك، ومنهم الشيخ سعد وقاص البخاري بمكة المكرمة أخذ عليه التجويد خاصة. ومنهم سماحة المفتي الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله تعالى، وهو الذي درس عليه جميع الدروس وكان له الحظ الأوفر في تحقيق العلوم على يديه، فقد لازم درسه نحو عشر سنوات حيث بدأ الدراسة. على سماحته ابتداء من عام 1347 هـ إلى عام 1357 هـ إلى أن رشحه سماحته إلى القضاء.
منهج الدراسة عند عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى :(4/70)
قد تتعدد الدراسة في عدة فنون على عدة مشايخ في وقت معا أو على شيخ واحد في دروس متعددة، وقد كانت دراسة الشيخ ـ رحمه الله ـ لها نظامها الخاص، وهو نظام التدرج والبدء بالأهم .
فأولًا: بدأ بدراسة العقائد وابتدأها بالأصول الثلاثة، ثم كشف الشبهات، ثم كتاب التوحيد، ثم العقيدة الواسطية، وهكذا في الفقه بالتدرج في المتون وكذلك الفرائض قرأها مرارا وكذلك في النحو في الأجرومية ثم الملحة، ثم القطر، إلخ ...
ثانياً أوقات الدراسة ومكانها: كانت أوقات الدراسة مع سماحة المفتي كالآتي: في الصباح بعد صلاة الصبح إلى طلوع الشمس في المسجد، ثم صحوة النهار في مجلس سماحة المفتي في البيت، ثم بعد الظهر، وبعد العصر، وبعد المغرب، عقب الصلوات في المسجد.
أبرز تلاميذ عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى :
نظرًا لما تميز به سماحة الشيخ ـ رحمه الله ـ من مكانة علمية عالية، ومنزلة رفيعة من العلم والهدى والتقى، أخذ العلم عنه عدد كبير وكثير ، وسأذكر من وسعني أن أذكره منهم، معتذراً لمن نسيته سهواً ، فإنني لم أتعمد إسقاطه، وذاك ليس بخلق حميد في أمر التراجم ؛ ولكن ـ والحمد لله ـ لكثرة تلاميذ الشيخ وطلابه ، وخوفاً من الإطالة اقتصر على هذا العدد الطيب منهم حسب ترتيب جلوسه للتدريس فأبدء بطلابه في الدلمم، ثم في المدينة ثم في الرياض .
أولا في الدلمم :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ
(1) معالي الشيخ راشد بن صالح المستشار بالديوان الملكي، وأحد أعضاء هيئة كبار العلماء،ومن أكثر الطلاب ملازمة له ومن أكثرهم كتابة له في مجلس القضاء.
(2) معالي الشيخ عبد الله بن سليمان المسعريي رئيس ديوان المظالم ـ سابقا .
(3) معالي الأستاذ عبد العزيز بن عبد الله السالم أمين عام مجلس الوزراء وهو من الرياض ، محب للعلماء وطلبة العلم(4/71)
(4) الشيخ الفاضل محمد بن سليمان آل سليمان القاضي في المحكمة الكبرى بالدمام ـ سابقا ـ ورئيس جمعية تحفيظ القرآن بالمنطقة الشرقية، وأحد العلماء الفضلاء والوجهاء النبلاء
(5) الشيخ عبد الله بن حسن بن قعود، عضو هيئة كبار العلماء، وعضو اللجنة الدائمة للإفتاء سابقا
(6) الشيخ محمد بن زيد آل سليمان رئيس المحاكم الشرعية في الدمام، وعضو هيئة كبار العلماء
(7) الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن الشثريي المستشار بالحرس الوطني
(8) الشيخ عبد الرحمن بن سحمان، كان كاتبا للشيخ، عمل رئيسا لمحكمة الأفلاج ، ثم قاضيا في هيئة التمييز للأحكام الشرعية
(9) الشيخ حمد بن سعد بن حمد بن عتيق ، عمل قاضيا في محكمة التمييز ثم محالا على التقاعد .
(10) الشيخ سليمان بن عبد الله بن حماد ، كان يقرأ على الشيخ الكتب التي سيلقي فيها دروسا في اليوم التالي
(11) الشيخ عبد العزيز بن عبد الرحمن بن عبد العزيز آل الشيخ ـ من الرياض .
(12) الشيخ محمد بن أحمد بن سنان ، صاحب مدرسة ابن سنان لتحفيظ القرآن الكريم، نائب رئيس الجماعة الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم، ومديرا لمدرسة تحفيظ القرآن الكريم الأولى بالرياض
(13) الشيخ عبد الرحمن بن ناصر البراك ـ من الرياض ـ يعمل حاليا أستاذا في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وهو أحد كبار
(14) الشيخ علي بن عبد الله بن حواس ـ رحمه الله ـ من علماء القصيم المعروفين
(15) الشيخ عبد الرحمن بن عبد العزيز بن جلال ـ رئيس هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الدلمم .
(15) الشيخ سليمان بن عبد العزيز آل سليمان ـ من بلدة اليمامة بالخرج ، أحد القضاة المعروفين ويعمل حاليا رئيس محكمة التمييز بالمنطقة الوسطى(4/72)
(16) الشيخ صالح بن حسين العلي ـ من العراق ـ كان من كتاب الشيخ في مجلس القضاء ومن الطلاب البارزين، عمل مديرا لمدرسة ابن عباس، ثم محاضرا في الجامعة الإسلامية، وله نفس طويل في نظم الشعر المطول ـ رحمه الله ـ .
(17) الشيخ عبد الكريم السعيدان ـ من العراق ـ .
(18) الأستاذ مسفر بن سعيد الزهراني ـ من زهران ـ كان يعمل آنذاك مديرا لبريد الدلمم.
(19) الشيخ سعيد بن عياش الغامدي ـ من غامد ـ عمل رئيسا لمحكمة بلدة خميس مشيط.
(20) الشيخ محمد بن عبد الله العديني ـ من اليمن
(21) الشيخ سيف بن عبد الله العديني ـ من اليمن
(22) الشيخ عبد الله يحيى اليمني ـ من اليمن
(23) الشيخ سعيد العديني ـ من اليمن
(24) الشيخ علي مهدي اليماني ـ من اليمن
(25) الشيخ محمود ياسين ـ من فلسطين ـ رشحه الشيخ ليكون أول مدير للمدرسة السعودية (ابن عباس) إبان افتتاحها عام 1368 هـ.
(26) الشيخ محمد حسن العبد الرزاق ـ رحمه الله ـ فلسطين
(27) الشيخ عبد القادر بن سليمان الأشقر ـ من فلسطين
(28) الشيخ عبد الرحمن بن سعيد الناطور ـ من فلسطين
(29) الشيخ عبد الكريم الهري ـ من الحبشة
ثانيا في الرياض :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ ـــ
(1) زيد بن عبد العزيز بن فياض ـ رحمه الله ـ أحد كبار العلماء، وصاحب كتاب الروضة الندية في شرح العقيدة الواسطية
(2) محمد بن سليمان الأشقر العالم المعروف صاحب كتاب زبدة التفسير عن فتح القدير
(3) الشيخ حمود بن عبد الله العقلاء الشعيبي، له باع في الفقه والعقيدة ويدرس الآن في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
(4)الشيخ عبد العزيز بن محمد آل عبد المنعم أمين عام هيئة كبار العلماء بالمرتبة الممتازة، وهو محل ثقة الشيخ وكان يستشيره في كثير من الأمور
(5) الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان أحد أعضاء اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، وعضو هيئة كبار العلماءز .(4/73)
(6) الشيخ إبراهيم بن محمد بن إبراهيم آل الشيخ وزير العدل سابقا، وعضو هيئة كبار العلماء ـ سابقا ـ وكان رئيسا لدائرة البحوث العلمية والإفتاء، وهو الآن يرأس مجلس إدارة مؤسسة الدعوة الإسلامية الصحفية.
(7) الشيخ عبد الله بن عبد العزيز بن إدريس الأديب المعروف ورئيس نادي الرياض الأدبي، ولعل من أبرز كتبه شعراء نجد، وديوانه المشهور "في زورقي" .
(8) الشيخ علي بن سليمان الرومي نائب رئيس محكمة التمييز بالرياض وأحد العلماء المشهورين
(9) الشيخ صالح بن محمد بن رشود ـ المدرس بكلية الشريعة ـ سابقا
(10) الشيخ عمر بن عبد العزيز بن مترك المستشار في الديوان الملكي ـ سابقا
(11) الشيخ فالح بن سعد آل مهدي ـ رحمه الله ـ أحد العلماء المعروفين بقوة الفهم والحفظ
(12) الشيخ محمد بن صالح العثيمين أحد كبار العلماء المعروفين، وأحد كبار المفتين في العالم الإسلامي مفسر فقيه نحوي ، وهو ممن لازم الشيخ عبد العزيز في المسجد والكلية
(13) الشيخ عبد الله بن حسن بن قعود عضو هيئة كبار العلماء ـ سابقا ـ وعضو اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء ـ سابقا
(14) الشيخ حمود بن عبد العزير السبيل أحد القضاة المعروفين، والفقهاء المشهورين
(15) الشيخ عطية بن محمد بن سالم القاضي بمحكمة المدينة، والمدرس بالمسجد النبوي، وتلميذ الشيخ العلامة محمد الأمين الشنقيطي ـ رحمه الله
(15) الشيخ صالح بن عبد الرحمن الأطرم، عضو هيئة كبار العلماء، وعضو الإفتاء، وعضو هيئة التدريس بكلية الشريعة
(16) الشيخ حسن بن عبد اللطيف بن مانع، المدرس بالمعهد العلمي بالشفاء، وأحد كبار العلماء
(17) الشيخ عبد الله بن محمد بن زاحم رئيس محاكم المدينة المنورة ـ سابقا ـ وعضو المجلس الأعلى للقضاء وإمام وخطيب المسجد النبوي .
(18) الشيخ علي بن محمد بن زامل: النحوي المعروف، وعالم القصيم في اللغة والنحو
(19) الشيخ عبد الله بن محمد بن رشيد عضو مجلس القضاء الأعلى(4/74)
(20) الشيخ عبد الصمد بن محمد الكاتب ـ مدرس الجامعة الإسلامية ـ سابقا
(21)الشيخ يوسف بن محمد المطلق الداعية المعروف، والواعظ المشهور
(22) الشيخ عبد الله بن إبراهيم الفتوخ عميد كلية الشريعة ـ سابقا ـ ومدير عام الدعوة في الداخل ـ سابقا
(23) الشيخ علي الحمد الصالحي أحد علماء عنيزة ، وهو من كبار تلاميذ الشيخ عبد الرحمن السعدي ـ رحمه الله
(24) الشيخ صالح بن محمد اللحيدان رئيس المجلس الأعلى للقضاء بمرتبة وزير، وعضو هيئة كبار العلماء
(25) الشيخ صالح بن عبد العزيز المنصور، الفقيه المعروف، والمدرس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية فرع القصيم
(26) الشيخ علي بن سليمان المهنا ـ أحد علماء المدينة النبوية، ورئيس محكمة المدينة المستعجلة ـ سابقا
(27) الشيخ محمد بن سليمان البدر عضو مجلس القضاء الأعلى، عضو هيئة كبار العلماء
(28) الشيخ محمد بن عبد الله الأمير ـ عضو مجلس القضاء الأعلى ـ وأحد أهل العلم والفضل
(29) الشيخ عبد الكريم بن مراد الآثري ـ مدرس في الجامعة الإسلامية
(30) الشيخ العلامة الجهبذ عبد المحسن بن حمد العباد ـ نائب رئيس الجامعة الإسلامية ـ سابقا ـ والمدرس حاليا بالمسجد النبوي
(31) الشيخ منصور بن حمد المالك ـ نائب رئيس ديوان المظالم ـ واحد العلماء المعروفين
(32) الشيخ محمد أمان علي الجامي ـ المدرس بالجامعة الإسلامية والمسجد النبوي
(33) الشيخ العلامة الجهبذ أبو بكر جابر الجزائري ـ علم على رأسه نار ـ أحد علماء المدينة، والمدرس بالمسجد النبوي، وصاحب الكتب المفيدة النافعة
(34) الشيخ حمد بن محمد الفريان ـ عضو مجلس الشورى ـ حاليا ـ ووكيل وزارة العدل ـ سابقا ـ .
(35) الشيخ رومي بن سليمان الرومي ـ رحمه الله ـ المستشار في وزارة الداخلية ـ سابقا ـ وأحد أهل العلم والفضل
(36) الشيخ سعد بن محمد الفريان ـ عضو الجماعة الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم، ورئيس تحرير مجلة الدعوة ـ سابقا ـ .(4/75)
(37) الشيخ العلامة صالح بن فوزان آل فوزان ـ عضو هيئة كبار العلماء، وعضو اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، وأحد كبار العلماء المعروفين على أوساط العالم الإسلامي
(38) الشيخ عبد الله بن حمد بن عبد الله الجلالي ـ الداعية المعروف نزيل عنيزة ـ حاليا
(39) الشيخ عبد الله بن سعد السعد ـ رحمه الله ـ وكيل الجامعة لشئون المعاهد العلمية
(40) الشيخ عبد الله بن محمد المنيف ـ المدرس بالمعهد العلمي بالرياض، وإمام جامع بن تركي بالشفا والداعية المعروف
(41) الشيخ عبد المحسن بن عبد الله الخيال - رئيس محاكم جدة - حاليا
(42) الشيخ محمد بن سليمان المهوس ـ رئيس هيئة التحقيق والادعاء العام ـ حاليا
(43) الشيخ العلامة صالح بن غانم السدلان ـ العالم المعروف ورئيس قسم الفقه بكلية الشريعة بالرياض وهو من شيوخنا الفضلاء
(44) الشيخ أبو بكر إسماعيل ميغا عضو هيئة التدريس في جامعة الملك سعود
(45) الشيخ عبد الرحمن بن محمد آل سدحان ـ عميد كلية الشريعة بالرياض ـ حاليا
(46) الشيخ عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ، المفتي العام ، وعضو هيئة كبار العلماء، وعضو اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
(47) الشيخ غيهب بن محمد آل غيهب ـ قاضي التمييز بمحكمة الرياض ـ حاليا
(48) الشيخ علي بن مديش بجوي ـ عضو مجلس الشورى، وقاضي التمييز في الديوان الملكي
(49) الشيخ حمد بن عبد الرحمن الجنيدل ـ رئيس قسم الاقتصاد الإسلامي بكلية الشريعة بالرياض
(50) الشيخ العلامة عبد الله بن عبد المحسن التركي وزير الشئون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد ؛ وعضو هيئة كبار العلماء .
(51) العلامة عمر بن سليمان الأشقر ـ الكاتب الإسلامي المعروف
(52) الشيخ محمد بن عبد الله العجلان ـ عضو مجلس الشورى
(53) الشيخ محمد بن عمد الرحمن بن مفدى ـ دكتور في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية كلية اللغة العربية نحوي لغوي ضليع فيهما،(4/76)
(54) الشيخ عبد الله بن سليمان المنيع ـ نائب الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء ـ سابقا ، وعضو هيئة كبار العلماء، وعضو مجلس الأوقاف الأعلى،
(55) الشيخ عمران بن محمد العمران ـ الكاتب المعروف، وعضو مجلس الشورى .
(56) الشيخ عبد الرحمن بن سليمان الرويشد ـ رئيس مجلة الشبل، والمستشار في وزارة الداخلية ـ سابقا ـ .
(57) الشيخ محمد بن سعد بن حسين ـ الأستاذ الدكتور بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بكلية اللغة العربية، وأحد الأدباء المعروفين
(58) الشيخ محمد بن عبد الخطراوي، نائب رئيس النادي الأدبي بالمدينة، وأستاذ اللغة العربية بجامعة الملك عبد العزيز بالمدينة .
وهذا ؛ غيض فيض من طلاب سماحة الشيخ / عبد العزيز بن باز ـ رحمه الله ـ الذين درسوا عليه في المعهد العلمي وفي كليتي الشريعة واللغة العربية، إبان تدريسه بهما وهذا السرد الطويل ليس للحصر، بل هو للإشارة وضرب المثال، وإلا فهم أكثر من أن يحصوا ويعدوا ؛ وليعذرني من غفلت عن ذكر اسمه، من طلاب الشيخ ، فإن النفس مجبولة على الخطأ والوهم والنسيان، وليذكرني بذلك، فإن الذكرى تنفع المؤمنين .
ثالثا في المدينة :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ
وذلك في الجامعة الإسلامية، وفي المسجد النبوي الشريف وهؤلاء أبرز الأسماء الذين وقفت عليهم من تلاميذه ـ رحمه الله :
(1) الشيخ إبراهيم بن عبد الرحمن الحصين ـ رحمه الله ـ مدير مكتب الشيخ ، ومستشاره الخاص وأحد أولي العلم والفضل
(2) الشيخ عمر بر محمد بن فلاته المدرس حاليا بالمسجد النبوي، ورئيس مركز السنة النبوية ـ سابقا
(3) الشيخ محمد بن ناصر العبودي الأمين العام للجامعة الإسلامية ـ سابقا ، والأمين العام المساعد لرابطة العالم الإسلامي ـ حاليا
(4) الشيخ سعد بن عبد الرحمن الحصين مدير مركز الدعوة والإرشاد بعمان ـ الأردن(4/77)
(5) الشيخ علي بن محمد بن ناصر الفقيهي ـ الأستاذ بالجامعة الإسلامية، ورئيس مركز شئون الدعوة بها ـ حاليا
(6) الشيخ ربيع بن هادي المدخلي، الأستاذ بالجامعة الإسلامية، ورئيس قسم السنة بشعبة الدراسات العليا
(8) الشيخ عبد الرحمن بن عبد الخالق اليوسف، نزيل الكويت ـ حاليا ـ رئيس دائرة الإفتاء بجمعية إحياء التراث الإسلامي
(9) الشيخ ذياب بن سعد السحيمي ـ القاضي بالمحكمة الكبرى بالمدينة النبوية .
(10) الشيخ صالح بن سعد السحيمي الأستاذ بالجامعة الإسلامية بالمدينة، ورئيس قسم العقيدة بشعبة الدراسات العليا
(11) الشيخ عبيد بن عبد الله الجابري،المدرس بالجامعة الإسلامية .
(12) الشيخ عبد العزيز بن محمد بن إبراهيم آل عبد اللطيف المدرس بالجامعة الإسلامية .
(13) الشيخ محمد بن بكري السميري - الباحث العلمي برئاسة البحوث العلمية والإفتاء .
(14) الشيخ العلامة بكر بن عبد الله أبو زيد، عضو هيئة كبار العلماء، وعضو اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
(15) الشيخ عبد العزيز بن عبد الله أبو زيد، القاضي بالمحكمة المستعجلة بالمدينة المنورة
(16) الشيخ علي بن محمد بن سنان، العالم المعروف، والمدرس بالمسجد النبوي
(17)الشيخ عبد العزيز الشبل ـ رحمه الله ـ المدرس بالمسجد النبوي سابقا
(18)الشيخ علي بن عبد العزيز العايدي الداعية المعروف المتجول في بلاد أفريقيا
(19) الشيخ علي بن مشرف العمري الأستاذ بالجامعة الإسلامية ـ سابقا
(20) الشيخ محمد بن المجذوب بن مصطفى الأستاذ بالجامعة الإسلامية ـ سابقا
(21)الشيخ عبد الرحمن الحكواتي أحد الدعاة المعروفين في سوريا .
رابعا في الرياض من عام 1395 هـ :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
هذه أسماء بعض طلاب سماحة الشيخ ـ حفظه الله ورعاه ـ من المشهورين من كبار تلامذته وممن عرف عنه بالحضور والمواظبة على دروس الشيخ ـ رحمه الله(4/78)
(1) الشيخ فهد بن حمين، العالم المعروف، وأحد كبار أهل العلم والفضل، وعضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وهو أيضاً من تلاميذ الشيخ الإمام العلامة / محمد بن إبراهيم آل الشيخ ـ رحمه الله
(2) الشيخ العلامة عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين، أحد العلماء والمعروفين، والمفتين المشهورين يمتاز بسعة العلم وسلامة المقصد
(3) الشيخ العلامة عبد العزيز بن عبد الله الراجحي، عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية وأحد العلماء المعروفين بسعة العلم، ودقة الفهم، والزهد والورع
(4) الشيخ عبد الله بن صالح القصير، عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية والمستشار بوزارة الشئون الإسلامية، وأحد دعاة العقيدة المعروفين بالعلم والفضل
(5) الشيخ عمر بن سعود العيد، عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية وأحد الدعاة
(6) الشيخ سلطان بن عبد العزيز الخميس عضو هيئة التدريس جامعة الملك سعود ـ سابقا
(7) الشيخ عبد العزيز بن حمد المشعل عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
(8) الشيخ عبد الله بن عبد العزيز الخضير المستشار بوزارة الشئون الإسلامية
(9) الشيخ عبد المحسن الزامل الموجه الديني بوزارة الدفاع، وأحد أفاضل كبار طلبة العلم، حافظ فقيه محدث
(10) الشيخ صالح بن عبد العزيز العقيل عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ، وعين حديثا وكيلا لوزارة العدل للشئون القضائية .
(11) الشيخ عبد العزيز بن محمد السدحان، صاحب المؤلفات القيمة، وعضو هيئة التدريس بالكلية التقنية
(12) الشيخ عبد العزيز بن محمد الوهيبي، الداعية بوزارة الشئون الإسلامية، وأحد الدعاة المعروفين
(13) الشيخ سعد بن عبد الله البريك ـ الداعية المعروف ، والأستاذ بكلية إعداد المعلمين بالرياض
(14) الشيخ طارق العيسى ، رئيس جمعية إحياء التراث الإسلامي ـ الكويت(4/79)
(15) الشيخ عبد الرحمن بن يوسف الرحمة ـ كاتب هذه الأسطر
ولديه طلاب ليس بالسهل أن نعدهم على اليد أو نحصرهم بعدد ـ فهم كُثر والحمد لله ـ فمن من قرأ عليه ومنهم من استقى من بحر علمه، وقسم قرأ كتبه وسمع أشرطته، وهؤلاء الثلة الطيبة إنما ذكرتها لتبيان مكانة الشيخ - رحمه الله ـ في نفوس طلبة العلم .
سعة علم عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى :
يعد فضيلته من كبار العلماء المجتهدين، حيث يسر الله له من العلوم في العربية ما يمكنه من النظر الكافي في العلوم الدينية، وقد كَرَّسَ جهوده لأول وهلة في علوم الشريعة خاصة الفقه على مذهب الحنابلة، ثم أولى الحديث عنايته التامة، وكذلك علوم القرآن الكريم مما جعل سماحته يعد في علماء العالم الإسلامي البارزين حفظهم الله تعالى. غير أنه يمكن أن يعد في علماء الفقه والحديث والعقيدة وله مؤلفات في ذلك وفتاوى عدة، ولقد تولى الشيخ ـ رحمه الله ـ أعمال ومناصب مختلفة منها :
(1) ولي القضاء في منطقة الخرج أربعة عشر عاما، وأشهر وذلك من عام 1357 هـ إلى 1371 هـ ولم يكن عمله في القضاء قاصرا على مهمة المحكمة بل كان يعنى بشئون المنطقة العامة من تعليم وزراعة وصحة، ويراسل المسئولين في كل ما من شأنه إصلاح المنطقة حتى كان وجوده كوجود الأب المشفق حول أبنائه في وسطهم يعني بكل ما يهمهم. ولم تزل آثاره الإصلاحية باقية حتى الآن .
(2) انتقل إلى التدريس في المعاهد والكليات أول افتتاحها عام 1371 هـ إلى عام 1380 هـ حين فتحت الجامعة وكان ـ رحمه الله ـ أثناء علمه في ميدان التدريس أسند إليه تدريس ثلاثة فنون هي الفقه، والتوحيد، والحديث، في كلية الشريعة.
(3) أسند إلى فضيلته نيابة رئاسة الجامعة الإسلامية من عام 1381 هـ وكان ذلك ولله الحمد نعمة من الله تعالى، خاصة في بدء تكوينها حيث تحتاج إلى التسامح والرفق مع الحزم والحكمة.
(4) وفي عام1390 هـ تولى فيه رئاسة الجامعة الإسلامية حتى عام 1395 هـ.(4/80)
(5) وفي 14/ 10/ 1395 هـ صدر أمر ملكي بتعيين سماحته في منصب الرئيس العام لإدارة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد بمرتبة وزير.
(5) وفي محرم عام 1414 هـ عين سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز ـ رحمه الله ـ مفتيا عاما للمملكة العربية السعودية
(6) وفي العام نفسه عيّن رئيسا لهيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء بمرتبة وزير حتى توفي ـ رحمه الله وأسكنه فسيح جناته ـ .
(7) كما تولى رئاسة المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي
(8) ورئاسة المجلس الأعلى العالمي للمساجد
(9) ورئاسة المجمع الفقهي الإسلامي بمكة المكرمة
(10) وعضوية المجلس الأعلى للجامعة الإسلامية في المدينة المنورة
(11) وعضوية الهيئة العليا للدعوة الإسلامية
(12) وعضوية المجلس الاستشاري للندوة العالمية للشباب الإسلامي وغيرها من المجالس والهيئات الإسلامية. والمؤتمرات العالمية التي عقدت في المملكة العربية السعودية والتي يسرت أمامه سبل الاتصال وتبادل الرأي مع الكثير من الدعاة وعلماء المسلمين في شتى أنحاء العالم .
صفات عبد العزيز بن باز وأخلاقه رحمه الله تعالى :
كان سماحة شيخنا ـ رحمه الله " رقيق القلب، قريب الدمعة، نقي السريرة، طاهر الفؤاد، صافي الروح، حلو الموعظة، كريم الخلق، باسم المحيا، ذكّارا شكّارا، صوّاما قوّاما، عذب الحديث، هيّنا ليّنا، متواضعا، مخبتا لله، لا يحقد ولا يحسد، ولا يتكلّف ما ليس عنده، يده بالعطاء ندية، وبالخير سخية؛ فهو بحق غرة هذا الزمان، وحصن الفضيلة، وسيف الإسلام المنافح عن عقيدة التوحيد، والذابّ عن حياض السنة، والمكافح ضد البدع والمنكرات، وإذا ذكر الصالحون فحي هلا بسماحة إمامنا وعالمنا وشيخنا عبد العزيز بن باز .
أوصاف عبد العزيز بن باز الخَلْقِيَة رحمه الله تعالى :(4/81)
كان الشيخ ـ رحمه الله ـ يمتاز باعتدال في بنيته، مع المهابة، وهو ليس بالطويل البائن، ولا القصير جدا، بل هو عوان بين ذلك، مستدير الوجه، حنطي اللون، أقنى الأنف، ومن دون ذلك فم متوسط الحجم، ولحية قليلة على العارضين، كثة تحت الذقن، كانت سوداء يغلبها بعض البياض فلما كثر بياضها صبغها بالحناء، وهو ذو بسمة رائعة تراها على أسارير وجهه إن ابتسم؛ وهو عريض الصدر، بعيد ما بين المنكبين، ويمتاز بالتوسط في جسمه فهو ليس بضخم الكفين ولا القدمين ؛ وأوصافه فيها شبه من أوصاف العلماء السابقين ـ رحمهم الله .
هيئة عبد العزيز بن باز ولباسه رحمه الله تعالى :
كان يرحمه الله ـ حسن الهيئة، جميل المظهر، ولا يتكلف في ذلك أبدا، ويحرص جدا على لباس البياض في ثيابه، ويحب ارتداء الثياب الواسعة، وثيابه تصل إلى أنصاف ساقيه، ويزين ثيابه بمشلح وعباءة عودية اللون، وهو سلفي في المظهر والشارة.
صفات عبد العزيز بن باز الخُلُقِيَة رحمه الله تعالى :
إنه لمن المعلوم المتواتر عند جميع الناس أن سماحة الشيخ عبد العزيز -ـ رحمه الله ـ ممَّن تميَّز بالخلال الحميدة، والخصال الرشيدة، وجميل الأخلاق ، وطيب الفعال ، وعظيم التواضع ، وهو ممن يقتدى به في الأدب والعلم والأخلاق ، بل هو أسوة حسنة في تصرفاته وسمته وهديه المبني على كتاب الله العظيم، وسنة رسوله الكريم ـ صلى الله عليه وسلم، وخاصة في زهده وعبادته وأمانته وصدقه، وكثرة التجاءه وتضرعه إلى الله، وعظيم خشيته لله، وذكاء فؤاده وسخاء يده، وطيب معشره، مع إتباع للسنة الغراء، وكثرة عبادة.
واختصارا للقول أن هذه الثلة الطيبة من العلماء ـ رحمهم الله ـ كانت لهم صفات حسنة، وخِلال جميلة، وشِيم كريمة، ومناقب فذّة عظيمة، يجدر بنا أن نتناولها بشيء من التفصيل. ولكن المقال لا يحتمل، وهناك التراجم المصنّفة ـ ولله الحمد والمنّة.(4/82)
لقد عرف قدر نفسه، وتواضع لربه أشد التواضع، فهو يعامل الناس معاملة حسنة بلطف ورحمة ورفق ولين جانب، لا يزهو على مخلوق، ولا يتكبر على أحد، ولا ينهر سائلاً، ولا يبالي بمظاهر العظمة الكاذبة، ولا يترفع عن مجالسة الفقراء والمساكين، والمشي معهم، ومخاطبتهم باللين، ولا يأنف أبدا من الاستماع لنصيحة من هو دونه، ومما يندرج تحت هذا الخلق خلقا: السكينة والوقار، وهما من أبرز صفاته ـ رحمه الله ـ وهما أول ما يواجه به الناس سواء القرباء أو البعداء، جلساءه أو زواره...
ومن أبرز صفاته الحميدة ما يلي :
(1) الحلم وسعة الصدر :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
ومن صفاته الحميدة، وفضائله الرشيدة، التي تميز بها سماحته ـ رحمه الله ـ على غيره من العلماء، صفة الحلم وسعة الصدر، ولا شك بل ولا ريب أن الحلم من أشرف الأخلاق، وأنبل الصفات، وأجمل ما يتصف به ذو العقول الناضجة والأفهام المستنيرة، وهو سبيل إلى كل غاية حميدة، وطريق المحب إلى كل نهاية سعيدة. ولقد بيَّن رسول الله صلى الله عليه وسلم منزلة الحليم، وما له من أجر وثواب عظيم عند الله، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لأشج بن عبد القيس:( إن فيك خصلتين يحبهما الله الأناة والحلم (1) وبلوغ الحليم لمنزلة محبة الله ورسوله ليس بمستغرب، وذلك لأن الحلم هو سيد الفضائل، وأسّ الآداب، ومنبع الخيرات، ومصدر العقل، ودعامة العز، ومنبع الصبر والعفو.
(2) صفة التدريس :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
__________
(1) متفق عليه(4/83)
كان ـ رحمه الله ـ مثلا لرحابة الصدر، وإبانة المسائل، وتربية الطلاب على طريقة الترجيح، ولا سيما أن مواطن الدرس في كل من الحديث والفقه كانت متفقة، فمثلا يدرس باب الزكاة في الفقه وباب الزكاة في الحديث، فإذا كانت حصة الفقه قرر المسألة على مذهب الحنابلة بدليلها. عندهم وإذا كان درس الحديث قرر المسألة على ما تنص عليه الأحاديث فإن وافقه المذهب كان تأييدا له، وإذا خالفه أشار إلى وجه الترجيح ودعا إلى الأخذ بما يسانده الدليل، بدون تعصب لمذهب معين ومما يحفظ لفضيلته: عدم التثاقل من السؤال وتوجيه الطالب إلى أراده، وربما توقف عن الإجابة وطلب الإمهال إذا كانت المسألة تحتاج إلى نظر وتأمل ، بأن كانت من مواضع الخلاف مثلا ، وكان بعيد العهد بها ، وفي ذلك كما يقول علماء التربية الحديثة بعث النشاط في همة الطالب وبث روح الثقة بالنفس ، وتفتح آمال التحصيل عند الطالب ، حيث يشعر أن العلم بالبحث والدرس ، وأنه لا يقدم على القول إلا بعد المعرفة التامة . وفي العقائد كان مثال الاعتدال، لا هو من أولئك المتطرفين الذين يطلقون عبارات الشرك والكفر على كل صغيرة وكبيرة، ولا هو من المتساهلين الذين يغضون النظر عن صغار الأمور. بل كان ينبه على الصغيرة والكبيرة، ويضع كل شيء في موضعه، يجعل الشرك شركا والبدعة بدعة، حتى جعله بعض من لقيه من غير المملكة العربية السعودية مقياسا عادلا لمبدأ الدعوة ورجالها عدالة واعتدالا، ولم يزل كذلك حتى وهو في علمه الإداري إذا جلس للدرس في المسجد أو غيره.(4/84)
ولقد منّ الله تعالى على سماحته ـ رحمه الله ـ فجمع له بين أكرم خصلتين، وأعظم خلتين وهما العلم والحلم، فبهما تميز عن غيره في زمنه، ولذا اتسع صدره، وامتد حلمه، وعذر الناس من أنفسهم، والتمس العذر لأغلاطهم. ولعل من المناسب إيراد ما يدل على حلمه وسعة صدره، وشفقته على الناس، فمن ذلك أنه دخل عليه في مجلس القضاء في الدلم، رجل كثير السباب فسبَّ الشيخ وشتمه، والشيخ لا يرد عليه، وعندما سافر الشيخ / عبد العزيز بن باز إلى الحج توفي هذا الرجل فجهّز للصلاة عليه، في جامع العذار، وكان إمامه آنذاك الشيخ / عبد العزيز بن عثمان بن هليل، فلما علم أنه ذلك الرجل تنحى وامتنع عن الصلاة عليه، وقال: لا أصلي على شخص يشتم عالم من علماء المسلمين مثل الشيخ ابن باز، بل صلوا عليه أنتم؛ فلما عاد الشيخ عبد العزيز من الحج وأخبر بموت ذلك الرجل ترحم عليه، وعندما علم برفض الشيخ ابن هليل الصلاة عليه، قال: إنه مخطئ في ذلك، ثم قال دلوني على قبره فصلى عليه وترحم عليه ودعا له.
ودخل عليه رجل آخر عنده قضية في الصباح الباكر، والشيخ يدرس الطلاب في الجامع ـ جامع الدلم ـ فوقف هذا الرجل عليهم، وأخذ ينادي بصوت مرتفع قائلا: قم افصل بين الناس، قم افصل بين الناس، واترك القراءة، فلم يزد الشيخ على أن قال: قم يا عبد الله بن رشيد، وأخبره يأتينا عندما نجلس للقضاء بعد الدرس .
وأخبرته برجل اغتابه سنين عديدة متهما إياه بصفات بذيئة، ونعوت مرذولة وأنه يطلب منه السماح والعفو، فقال: أما حقي فقد تنازلت عنه، وأرجو الله أن يهديه ويثبته على الحق.(4/85)
ولقد جمعت لكَ أخي الكريم بعض مواقف سماحة شيخنا ابن باز ـ رحمه الله ـ وردوده الثابته والمبنيّة على الحق، فمع كثرة مشاغله ـ يرحمه الله ـ في الدعوة إلى الله والتعلم والتدريس والإفتاء إلا أنه أيضا سَخَّرَ قلمه في نصرة الحق وأهله, فتارة يناصح رئيسا وتارة يتعقب كاتبا وتارة يصحح مفهوما خاطئاً وتارة يكشف شبهة وهكذا.. وهذه نماذج من مناصحته ورسائله اكتفى بالإشارة إليها دون نقل تفاصيلها ليسهل الرجوع إليها لمن أراد الاستفادة منها :
من مواقف سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
(1) رسالته للملك فيصل يحثه فيها على الدعوة إلى الله ومناصحة رؤساء بعض الدول بتحكيم شرع الله "مجموع فتاوى ومقالات متنوعة" (6/72)
(2) رسالته إلى الرئيس ضياء الحق رحمه الله يشجعه ويهنئه على إعلانه تحكيم شرع الله "مجموع فتاوى ومقالات متنوعة" (4/185)
(3) رسالة يوصي بها أميرا بتحكيم شرع الله وإتباع الحق بمناسبة تعيينه. "مجموع فتاوى ومقالات متنوعة" (6/229)
(4) رسالة إلى بعض أمراء الخليج يحثهم فيها على إزالة قبر يعبد من دون الله في بلادهم "مجموع فتاوى ومقالات متنوعة" (6/228)
(5) رسالة إلى قادة الدول العربية أوصاهم فيها بأربعة أمور مهمة.
"مجموع فتاوى ومقالات متنوعة" (6/63)
(6) رسالة إلى صدام حسين ينكر عليه فيها إعلانه للنظام الاشتراكي في العراق "مجموع فتاوى ومقالات متنوعة" (7/394)
(7) نصيحة لحكام المسلمين وعلمائهم. "مجموع فتاوى ومقالات متنوعة" (6/62)
(8) رسالة لرئيس ليبيا معمر القذافي حول وجوب العمل بالسنة وتحكيم شرع الله وحول ما ذكرته الكاتبة الإيطالية عنه. "مجلة البحوث الإسلامية" العدد (5) ص (262)
(9) الرد على دعاة القومية "مجموع فتاوى ومقالات متنوعة" (1/284) وقد طبع هذا الرد في كتيب باسم " نقد القومية العربية "(4/86)
(10) الرد على من قال: إن الجهاد دفاع فقط "مجموع فتاوى ومقالات متنوعة " (3/171)
(11) الرد على من يقول الإسلام انتشر بالسيف "مجموع فتاوى سماحة الشيخ"(3/1089) " مجموع فتاوى سماحة الشيخ " (3/1078)
(12) الرد على من اعتقد صحة دين اليهود والنصارى "فتاوى إسلامية" (1/67)
(13) الرد على دعاة التقارب بين الأديان "فتاوى اللجنة الدائمة" (2/80)
(14) تعقبه على فتوى المحدث العلامة الشيخ الألباني حول فتوى تحريم الذهب المحلق "مجلة البحوث الإسلامية" العدد (12) ص (124)
(تعقبه على تعليقات الشيخ حامد الفقي على كتاب فتح المجيد وهي ) (15) ملحقة بآخر كتاب "فتح المجيد" تحقيق أشرف بن عبد المقصود
(16) تعقبه على محمد سعيد البوطي حول بعض الأمور التي زال فيها "مجموع فتاوى ومقالات متنوعة" (4/353)
(17) الرد على من ينكر نزول عيسى عليه السلام آخر الزمان "مجموع فتاوى ومقالات متنوعة" (1\433)
(18) الرد على من استدل على وفاة عيسى عليه السلام " فتاوى اللجنة الدائمة " (3/229 و 232)
(19) الرد على الطريقة التيجانية "فتاوى اللجنة الدائمة" (2/224 -250)
(20) الرد على البريولية "فتاوى اللجنة الدائمة " (2/283)
(21) الرد على طائفة الدروز "فتاوى اللجنة الدائمة" (2/287-306) وانظر مجلة البحوث الإسلامية" العدد (36) ص (85)
(22) الرد على الشيوعية والمنتمين إليها "فتاوى إسلامية" (1/161)
(23) الرد على البهائية والقاديانية والمنتمين إليها "فتاوى إسلامية" (1/163)
(24) الرد على بعض معتقدات الصوفية "فتاوى إسلامية" (1/159)
(25) الرد على الماسونية "مجلة البحوث الإسلامية"" العدد (36) ص (105)
(26) الرد على من قال: الخوارج هم أنصار علي "مجموع فتاوى ومقالات متنوعة " (6/341)
(27) الرد على من يريد التقريب بين أهل السنة والرافضة "مجموع فتاوى سماحة الشيخ " (3/1103)
(28) الرد على أصحاب الأفكار الهدامة "مجلة البحوث الإسلامية " العدد (26) ص (7)(4/87)
(29) الرد على المنادين إلى اختلاط المرأة مع الرجل في ميادين العمل "مجلة البحوث الإسلامية " العدد (6) ص (297) والعدد (32) ص (83)
(30) الرد على رشاد خليفة حول إنكاره للسنة المطهرة "مجلة البحوث الإسلامية " العدد (9) ص (39)
(31) الرد على من يعتبر الأحكام الشرعية غير متناسبة مع هذا العصر "مجموع فتاوى ومقالات متنوعة " (4\415)
(32) الرد على من يزعم أن في الدين قشور "مجموع فتاوى ومقالات متنوعة " (6/323)
(33) الرد على من يستدل بوجود قبر النبي صلى الله عليه وسلم على جواز بناء المساجد على القبور. "مجموع فتاوى سماحة الشيخ" (2/760)
(34) الرد على من يقول الصحابة رجال ونحن رجال فيستقل في فهمه وعلمه "مجموع فتاوى سماحة الشيخ" (3/1270)
(35) الرد على من يجيز تمثيل الأنبياء والصحابة "مجلة البحوث الإسلامية" العدد (42) ص (113) وانظر "مجموع فتاوى سماحة الشيخ" (3/1257)
ثناء العلماء على عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى :(4/88)
[*] يقول سماحة الشيخ صالح بن عبد الله بن حميد حفظه الله:( إن "ابن باز" هذا اسم عال في سماء العصر وعنوان بارز في رجال الجيل يسمو على التلقيب بالألقاب " ابن باز " يترفع عن التحلية بالنعوت، والعرب بفطرتها الصاخبة تنكر حاجة الأعلام للألقاب حتى قالوا " وهل يخفى القمر ". والأصالة العربية تنزع إلى التجريد فتتعلق بالجواهر والمعاني فتنادي عظماءها بأسمائهم المجردة ثقة بنفسها وثقة بعظيمها. وإنه الشيخ الإمام العالم الحبر البحر سماحة الوالد عبد العزيز بن باز - رحمه الله - فله تكوينه السوي وفقهه الواثق وروحه المتوثبة في قيم خلقية صافية، ترفعت على الشهوات نفسه، وتحلت بالإيثار خليقته، ويصرفه عقل دارك وقلب يقظ... كان - رحمه الله - يجمع بين الهمة العالية والخشوع والخضوع، سر الإعجاب أنه متواضع في بساطة مع كم من القيم والمثل العليا. رجل فذ يحمل المسئولية بقوة ويرسم المنهج بكفاءة ) (1) .
[*] يقول الشيخ د. عبد الله بن محمد بن إبراهيم آل الشيخ - حفظه الله :( لقد كان سماحته على قدر كبير من فهم مقاصد الشريعة وأهدافها والفهم الحقيقي للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونشر العلم وتقدير وفهم مسئولية الدولة وكان في هذا كله مرجعا للجميع من الكبار والصغار والعلماء وعامة المسلمين وكان لكل هؤلاء الرجل الذي يبذل جل وقته لقضاء حوائج الناس وإرشادهم حتى أصبح مثلا أعلى وقدوة حسنة للجميع العالم والعامي الكبير والصغير الرئيس والمرءوس مجمعا عليه إجماع لا يقبل الشك ولا الاختلاف فكان بذلك نادرة زمانه وعالم عصره وإمام وقته ).
__________
(1) سماحة الشيخ صالح بن حميد ، إمام الحرم المكي ، والمشرف العام على رئاسة شؤون الحرم المكي والمسجد النبوي(4/89)
[*] يقول أ.عبد العزيز بن عبد الله السالم ( وممن تميز في حاضرنا بهذا النهج الواضح وسلك هذا السبيل المستقيم وحقق منجزات مباركة في حقل الدعوة والإرشاد وفي مجال العلم والإصلاح : سماحة شيخنا الوالد الكريم عبد العزيز بن باز. العالم الرباني الذي نذر نفسه لله تعالى، فلم يكن للدنيا نصيب عنده لشغله عما أعد لنفسه فيما يستقبل بعد مفارقته لهذه الدنيا لقد كان شيخنا - تولاه الله برحمته - العاقل الفطن الذي عمل لآخرته لأنها المصير الذي لا مصير بعده ولم يلتفت إلى الدنيا التي كانت تغر سواه ).
[*] يقول سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم شقرة - حفظه الله:( فرحم الله الشيخين الأنورين، فقد والله ما منيّت الأمة منذ عقود طويلة بمثل ما منيّت به من موتهما: الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، الزاهد، الداعية، دثار الحكمة ورواء التأويل. والشيخ محمد ناصر الدين الألباني محدث العصر، ورافع لواء السنّة، وشمس الأمة، رحمهما الله، وأجزل لهما الأجر، ووفّانا نعمة الشكر على ما أبقينا فينا من بعدهما، ونعمة الصبر على مصابنا فيهما ) (1)
ولله درُّ الشيخ د. عائض القرني في رثاءه للعلامة ابن باز رحمه الله حيث قال :
رحلت وأرواح الملايين تعصر ... وأجفاننا من حزن فقدك تمطر
كأنا يتامى بعد موتِكَ كلنا ... وكنت لنا نعم الإمام المدبر
بكتك العلا والدين والمجد والتقى ... وضجَّ لفراقكم كتاب ومنبر
إلى اين يا رمز السماحة والنُّهى ... إلى أين يا ذاك الثناء المعطر
دُعيتَ فلبيّتَ النداء مسافراً ... فكم أضحت الأيام بعدك تقصر
فلو أن هذا الموت يقبل فدية ... فديناك بالأرواح والأمر أيسر
عليك سلام الله ما اهتز شوقنا ... إليك ورضوان من الله أكبر
مصنفات عبد العزيز بن باز وكتبه رحمه الله تعالى :
__________
(1) مقال رفعت الأقلام وجفت الصحف وقضى نحبه علم الأمة وشيخ السنّة الألباني - للشيخ محمد بن إبراهيم شقرة(4/90)
لقد أثرى الشيخ - رحمه الله - المكتبة الإسلامية بمؤلفات عديدة، قيمة في بابها، واضحة العبارات رصينة في أسلوبها، تطرق فيها إلى جوانب من العلوم الشرعية، والقضايا الاجتماعية، وذلك من أجل إبراء الذمة، ونصح الأمة، وبيان الحق لها، وتحذيرها من الباطل والضلال وأسبابهما، وكتب سماحته ومؤلفاته زاخرة بالعلم الشرعي، من الأدلة الواضحة من كتاب الله، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وأقوال الأئمة المرضيين من السلف الصالحين، ومن سار على نهجهم من أئمة الدين، فنجده - رحمه الله -قد كتب في العقيدة الإسلامية بأنواعها وأقسامها المختلفة، ونبه إلى البدع والمنكرات، وألف في الفقه وأصوله وقواعده، وفي العبادات والمعاملات والبيوع المحرمة، وكتب في الحديث وأصوله ومصطلحاته، وفي الأذكار وفوائدها.
وفي التراجم، وعن المرأة المسلمة ودورها في بناء المجتمع، وإنقاذها من براثن الكفر والشبه الضالة، وفي التشريع والجهاد في سبيل الله ، وفي فضل الدعوة إلى الله، ومسئولية الشباب المسلم، وفي الحض على الزواج المبكر، كما أنه كتب كتبا تدفع المطاعن والشبهات في الدين، وكتب في الغزو الفكري، والقومية العربية، والحداثة الشعرية .(4/91)
فهذه الكتب المتنوعة يجمعها صدق النصيحة، مع صدق العبارة، مع الأسلوب الواضح المفهوم لخاصة الناس وعامتهم، فنفع الله بهذه المؤلفات نفعا عظيما، حتى أن كثيرا منها قد ترجم لعدة لغات؛ لكي يستفاد منه أشد الاستفادة، حتى أنني رأيت بعض كتب سماحته ـ في أدغال أفريقيا ـ وهي وصلت إلى كل بقعة من العالم الإسلامي ويحكي لي بعض الدكاترة المصريين: أنه رأى في معرض الكتاب الدولي في القاهرة صفا طويلا "أي طابورا" فاستغرب لهذا المنظر الغريب، والأمر العجيب ، فأخذه حب الاستطلاع إلى الوقوف مع الناس، فإذا به يفاجأ بأن الصف من أجل أخذ كتاب " التحذير من البدع " لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله - يقول: فكبرت بأعلى صوتي وقلت: "جاء الحق وزهق الباطل ".
وهكذا - يهيئ الله لمن أخلص نيته، وأحسن قصده، القبول في جميع الأرض، وعند جميع طبقات العالم الإسلامي.
[*] ومؤلفاته على النحو التالي:
القسم الأول: الرسائل الكبيرة والمتوسطة :
(1) الأدلة الكاشفة لأخطاء بعض الكتاب.
(2) الأدلة النقلية والحسية على إمكان الصعود إلى الكواكب وعلى جريان الشمس وسكون الأرض
(3) إقامة البراهين على حكم من استغاث بغير الله أو صدق الكهنة والعرافين .
(4) الإمام محمد بن عبد الوهاب: دعوته وسيرته.
(5) بيان معنى كلمة لا إله إلا الله.
(6) التحقيق والإيضاح لكثير من مسائل الحج والعمرة والزيارة على ضوء الكتاب والسنة.
(7) تنبيهات هامة على ما كتبه محمد علي الصابوني في صفات الله عز وجل
(8) العقيدة الصحيحة وما يضادها
(10) تنبيه هام على كذب الوصية المنسوبة إلى الشيخ أحمد.
(11) وجوب العمل بالسنة وكفر من أنكرها
(12) الدعوة إلى الله سبحانه وأخلاق الدعاة
(13) الرسائل والفتاوى النسائية: اعتنى بجمعها ونشرها أحمد بن عثمان الشمري.
(14) فتاوى إسلامية ـ ابن باز ـ ابن عثيمين ـ ابن جبرين .
(15) فتاوى تتعلق بأحكام الحج والعمرة والزيارة.(4/92)
(16) فتاوى المرأة لابن باز واللجنة الدائمة جمع وترتيب محمد المسند.
(17) فتاوى مهمة تتعلق بالحج والعمرة.
(18) فتاوى وتنبيهات ونصائح.
(19) الفوائد الجلية في المباحث الفرضية
(20) مجموع فتاوى ومقالات متنوعة أشرف على تجميعه وطبعه د. محمد بن سعد الشويعر . من مجلد ( ا - 12 ) طبعة دار الإفتاء.
(21) مجموعة رسائل في الطهارة والصلاة والوضوء.
(22) مجموعة الفتاوى والرسائل النسائية.
(23) نقد القومية العربية على ضوء الإسلام والواقع.
(24) وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
(25) وجوب العمل بالسنة وكفر من أنكرها.
(26) شرح ثلاثة الأصول
القسم الثاني : الرسائل الصغيرة
(1) موقف اليهود من الإسلام.
(2) فضل الجهاد والمجاهدين.
(3) الأذكار التي تقال بعد الفراغ من الصلاة.
(4) إيضاح الحق في دخول الجني في الإنسي والرد على من أنكر ذلك.
(5) التبرج وخطر مشاركة المرأة للرجل في ميدان عمله.
(6) التحذير من البدع .
(7) التحذير من القمار وشرب المسكر.
(8) التحذير من المغالاة في المهور والإسراف في حفلات الزواج.
(9) تحفة الأخيار ببيان جملة نافعة مما ورد في الكتاب والسنة من الأدعية والأذكار.
(10) تنبيه هام على كذب الوصية المنسوبة للشيخ أحمد خادم الحرم النبوي.
(11) ثلاث رسائل في الصلاة: ( كيفية صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، وجوب أداء الصلاة في الجماعة، أين يضع المصلي يديه بعد الرفع من الركوع )
(12) الجواب الصحيح من أحكام صلاة الليل والتراويح.
(13) الجواب المفيد في حكم التصوير.
(14) حكم الإسلام فيمن زعم أن القرآن متناقض أو مشتمل على بعض الخرافات أو وصف الرسول صلى الله عليه وسلم بما يتضمن تنقصه أو الطعن في رسالته، والرد على الرئيس أبي رقيبة فيما نسب إليه من ذلك.
(15) حكم السفور والحجاب ونكاح الشغار.
(16) حكم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والإشارة إليها بالحروف
(17) حكم الغناء.(4/93)
(18) حكم مقابلة المرأة للسائق والخادم.
(19) خطر مشاركة الرجل للمرأة في ميدان عمله.
(20) الدروس المهمة لعامة الأمة.
(21) رسالتان موجزتان عن أحكام الزكاة والصيام.
(22) رسالة عن حكم شرب الدخان.
(23) رسالة في إعفاء اللحى.
(24) رسالة في الجهاد في سبيل الله
(25) رسالة في حكم السحر والكهانة.
(26) رسالة في مسائل الحجاب والسفور.
(27) رسالة في وجوب الصلاة جماعة.
(28) رسائل في الطهارة والصلاة.
(29) السفر إلى بلاد الكفرة.
(30) العقيدة الصحيحة وما يضادها.
(31) عوامل إصلاح المجتمع مع نصيحة مهمة عامة.
(32) الغزو الفكري ووسائله.
(33) فتاوى في حكم الغناء والإسبال وحلق اللحى والتصوير وشرب الدخان
(34) فتاوى ورسائل في الأفراح.
(35) ماذا يجب عليكم شباب الإسلام.
(36) مجموعة رسائل في الصلاة.
(37) فتاوى بشأن الخدم والسائقين وخطرهم على الفرد والمجتمع.
(38) نصيحة وتنبيه على مسائل في النكاح مخالفة للشرع.
(39) هكذا حج الرسول صلى الله عليه وسلم.
(40) وجوب تحكيم شرع الله ونبذ ما خالفه.
(41) في ظل الشريعة الإسلامية.
(41) وجوب لزوم السنة والحذر من البدعة.
(42) دعوة للتوبة.
(43) بيان لا إله إلا الله.
(44) العلم وأخلاق أهله.
(45) أهمية العلم في محاربة الأفكار الهدامة.
(46) أصول الإيمان.
(47) لا دين حق إلا دين الإسلام.
(48) التحذير من الإسراف والتبذير.
(49) يا مسلم احذر تسلم.
(50) بيان التوحيد.
(46) السحر والخرافة.
(47) الأجوبة المفيدة عن بعض رسائل العقيدة.
(48) رسالة في التبرك والتوسل.
(49) مسئولية طالب العلم.
(50) إعصار التوحيد يحطم وثن الصوفية.
(51) نصائح عامة
وفاة عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى :
وذرفت عيناه بدموعٍ رقيقة، وتنهد تنهيدة عميقة، ثم قال: ( إنا لله وإنا إليه راجعون.اللهم أجرني في مصيبتي، واخلفني خيراً منها. رحمه الله رحمةً واسعةً، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خيراً.(4/94)
كل ابنِ أنثى وإن طالت سلامته يوما على آلة حدباءَ محمولُ
لقد كان الشيخ عبد العزيز - رحمه الله - من خيرة العلماء، نسأل الله تعالى أن يجعل مأواه الجنة. ولو أن هذه الحياة دامت لأحد لدامت للمصطفى - صلوات الله وسلامه عليه - رحمه الله ، وألحقنا وإياه بالصالحين ) (1)
وافى الأجل المحتوم الشيخ عبد العزيز بن باز يوم الخميس 27 محرم 1420هـ الموافق 13 مايو 1999م بمنطقة (الطائف) اثر تفشي مرض السرطان في جهازه الهضمي ، وقد أديت صلاة الجنازة على الشيخ ابن باز في المسجد الحرام، وحضرها عشرات الآلاف من المصلين وتوافد الكثير من الدعاة والعلماء إلى بيت الشيخ لتقديم واجب العزاء لأهله وذويه . فرحمه الله رحمة واسعة إن شاء الله .
سيرة الألباني رحمه الله تعالى :
هو الإمام، محدث العصر، الزاهد الورع، الأثري العلامة محمد بن نوح بن آدم النجاتي، الشهير بـ ( محمد بن ناصر الدين الألباني ) كنيته: أبو عبد الرحمن
__________
(1) العلامة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني - رحمه الله ، سيأتي ذكره الطيب في الفصل الرابع - إن شاء الله(4/95)
كان رحمه الله تعالى من أئمة الهدى وأعلام التقى ومصابيح الدجى ، من حلية الأولياء وأعلام النبلاء وحراس العقيدة وحماة السنة وأشياع الحق وأنصار دين الله عز وجل ، حاملُ لواء السنة وناصرها وقامع البدعة ودامغها ، كان الكتاب والسنة له كالجناحين للطائر يتمسك بهما ويعضُ عليهما بالنواجذ، كان رحمه الله تعالى شهاباً ثاقباً ونجماً ساطعاً وبدراً طالعاً وسهماً نافذاً ، وكان كوكبَ نُظَرَائه وزهرةَ إخوانه ، تفوح منه علامات اليُمْنِ وأمارات الخير ورائحة التوفيق والسداد ، واحد زمانه، وإمام عصره وأوانه ، العالم الحبر، ذو الأحلام والصبر، العلم حليفه، والزهد أليفه ، كان رحمه الله تعالى خزانة علم فكان علمه واسعاً مباركا كالغيث من السماء أينما حل نفع ، يتفجَّرُ العلمُ من جوانبه، وتنطِق الحكمةُ من نواحيه، لا يُشَقُ له غُبارٌ في غزارة علمه ودقة استنباطه للفوائد والأحكام وسعة فقهه ومعرفته بأسرار اللغة العربية وبلاغتها ، وكان رحمه الله ذا همةٍ عاليةٍ تناطح السحاب في طلب العلم فكان يُقْبِلُ على طلب العلم إقبالَ الظامئ على الموردِ العذب فقد أفنى جلَّ عمره في طلب العلم فكان إماماً يقتدى به في ذلك وكان مناراً عظيماً من منارات العلم ، مناراً راسي القواعد مُشَيَّدَ الأركان ثابتَ الوطائد ، الإمام اللبيب، ذو اللسان الخطيب، الشهاب الثاقب، والنصاب العاقب، صاحب الإشارات الخفية، والعبارت الجلية ، ذوالتصانيف المفيدة ، والمؤلفات الحميدة ، الصوَّام القوَّام ، الزاهد في الدنيا الراغب في الآخرة ، صاحب الأخلاق الرضية ، والمحاسن السنية ، العالم الرباني المتفق على علمه وإمامته وجلالته وزهده وورعه وعبادته وصيانته في أقواله وأفعاله وحالاته، كان رحمه الله تعالى سراج العباد، ومنار البلاد ، رحمه الله تعالى رحمةً واسعةً تعمُ أرجائه ، وتغمده برحمةٍ فوق ما يخطر ببال أو يدور في الخيال ، وأنعم عليه برضا الكبير المتعال إنه وليُ ذلك(4/96)
والقادرُ عليه .
اسم الألباني وكنيته رحمه الله تعالى :
هو محمد بن نوح بن آدم النجاتي، الشهير بـ ( محمد بن ناصر الدين الألباني ) كنيته: أبو عبد الرحمن .
مولد الألباني رحمه الله تعالى :
ولد في مدينة " أشقودرة " عاصمة ألبانيا عام 1332هـ الموافق 1914م ، وعاش في تلك المدينة قريباً من تسع سنوات . وكان من بيت علم ، فوالده الشيخ نوح نجاتي من علماء المذهب الحنفي ، حيث تخرج من المعاهد الشرعية في اسطنبول عاصمة الدولة العثمانية ، ونهل من كبار علمائها .
وفي فترة حكم المسمى ( أحمد زوغو ) على ألبانيا وسار في صرفها عن الإسلام، وأخذ على عاتقه نشر الفساد الخلقي، والاجتماعي، والفكري... حيث ألزم هذا الحاكم المستبد الظالم الناس بتقليد الغرب في مظاهر حياتهم، حتى أنه ألزمهم بلبس القبعة الغربية، وغير الأذان في المساجد من اللغة العربية إلى اللغة الألبانية !!!
فكان لا بدّ من الهجرة إلى بلاد يستطيع معها تطبيق حكم الله والسير عليه، فهاجر إلى بلاد الشام، لما فيها من الفضائل التي وردت في السنة النبوية، فركب البحر من ألبانيا إلى بيروت، ثم من بيروت إلى مدينة دمشق عروس الشام ، حتى طاف به المطاف إلى الاستقرار بعمان عاصمة البلقاء الأردن .
بداية تلقي الألباني للعلم رحمه الله تعالى :
عندما استقر به المُقام في دمشق ، ألحقه والده بمدرسة الإسعاف الخيري الابتدائية بدمشق ، ثم انتقل في أثناء هذه المرحلة من تلك المدرسة إلى مدرسة أخرى بسوق " ساروجة " وفيها أنهى الفتى دراسته الأولية .
ثم أخرجه والده من المدرسة، إذ كان يرى والده أن هذه المدرسة النظامية لا فائدة منها ، إلا بقدر ما يتعلم الطفل فيها القراءة والكتابة .(4/97)
ثم وضع له منهاجاً علمياً مركّزاً درس من خلاله - الشيخ - وتعلم القرآن الكريم، والتجويد ،والصرف ، وركز على دراسة الفقه الحنفي ، إذ كان يريده والده فقيهاً حنفياً !! وكان ولَعُ الشيخ بالقراءة لا يوصف، حتى وهو في هذه السن المبكرة .
ثم تلقى العلم من والده، فتعلم العربية والفقه الحنفي، وكذا أخذ العلم عن بعض العلماء من أصدقاء والده، كالشيخ سعيد البرهاني، حيث قرأ عليه كتاب " مراقي الفلاح " وبعض الكتب الحديثة في علوم البلاغة .
وكانت أول بداية الشيخ الحقيقية في طلب العلم وهو ابن العشرين سنة، حيث يقول: ( ذات يوم لاحظت بين الكتب المعروضة لدى أحد الباعة جزءاً من مجلة المنار، فاطلعت عليه، ووقعت فيه على بحث بقلم السيد رشيد رضا يصف فيه كتاب " الإحياء " للغزالي، ويشير إلى محاسنه ومآخذه ، ولأول مرّة أواجه مثل هذا النقد العلمي ، فاجتذبني ذلك إلى مطالعة الجزء كله ، ثم أمضى لأُتابع موضوع تخريج الحافظ العراقي على " الإحياء " ورأيتُني أسعى لاستئجاره ،لأني لا أملك ثمنه ، فاستهواني ذلك التخريج الدقيق ، وحتى صممت على نسخه "
والأمر الذي يلفت الأنظار إلى اهتمام الشيخ الألباني منذ نعومة أظفاره بالعلم الشرعي هو قيامه بنسخ ذلك الكتاب والمسمى " المغني عن حمل الأسفار في الأسفار في تخريج ما في الإحياء من الأخبار " بخطه الحسن الدقيق، ورتبه ونسّقه أحسن تنسيق، حيث كان أول عمل حديثي قام به الشيخ رحمه الله، وما يزال في مكتبته إلى الآن ، وهو ثلاث مجلدات في أكثر من (2000 ) صفحة .
ومن هنا أصبح الشيخ يتابع مجلة المنار، ويهتم بما كانت تنشره من بحوث حول السنة وما يتعلق بها، وأعجب بها أيّما إعجاب، وعلى أثر ذلك جذبه علم الحديث، وأحب كتبه ، فأقبل على دراسة كل ما يتعلق بالحديث وتحصيله بهمة عالية ، فقد حباه الله عز وجل بذهن وقّاد ، ونبوغ ظاهر ، وعقلية علمية نادرة ، وهذا يظهر في قصة الورقة الضائعة ..(4/98)
شيوخ الألباني رحمه الله تعالى :
(1) والد الشيخ ،حيث تعلم على يده اللغة العربية والفقه الحنفي .
(2) الشيخ سعيد البرهاني ،حيث قرأ عليه كتاب "مراقي الفلاح " وبعض الكتب الحديثة في علوم البلاغة .
طلاب الألباني رحمه الله تعالى :
لقد قضى الشيخ حياته كلّها في طلب العلم وتعليم الناس، ودعوتهم، لذا كان من الطبيعي أن يكون للشيخ عدد لا بأس به من طلاب العلم، وقد يفوق عددهم المئات، فهم مختلفون في طريقة الأخذ والكيفية، إضافة إلى اختلاف أماكن سكناهم وتواجدهم، فإننا قد نجزم بأنه لا يخلو بلد إسلامي من وجود تلاميذ للشيخ.
أما طريقة تلقي العلم من الشيخ بالنسبة لطلابه كانت تتمثل بالأخذ بعدة طرق كلاً حسب تمكنّه، فمن تلامذته من تلقى العلم منه مباشرة، وقسم تلقاه عن طريق كتبه، والقسم الآخر عن طريق الأشرطة السمعية المنتشرة والمتوفرة بكثرة في المكتبات.
وليس للحسر - أذكر - بعض تلامذة الشيخ ممن لازموه وهم اليوم من العلماء المعتبرين والدعاة المعروفين من أتباع منهج الحق، منهج أهل السنة والجماعة - نحسبهم كذلك، ولا نزكي على الله أحد:
(1) سماحة الشيخ محمد إبراهيم شقرة - حفظه الله - كان أخاً وصديقاً .
(2) الشيخ العلامة مقبل بن هادي الوادعي - رحمه الله
(3) الشيخ العلامة أبو إسحاق الحويني- حفظه الله
(4) فضيلة الشيخ مشهور بن حسن آل سلمان - حفظه الله
(5) فضيلة الشيخ علي بن عبد الحميد الحلبي الأثري - حفظه الله
(6) فضيلة الشيخ د.محمد بن موسى آل نصر - حفظه الله
(7) فضيلة الشيخ سليم بن عيد الهلالي - حفظه الله
(8) فضيلة الشيخ حسين بن عودة العوايشة - حفظه الله
(9) فضيلة الشيخ د.حلمي بن كامل عبد الهادي - حفظه الله
(10) فضيلة الشيخ هشام العارف المقدسي - حفظه الله
(11) عصام موسى هادي ( كان ناسخاً وكاتباً للشيخ لمدة خمس سنوات - كما جاء في جمعه لكتاب الروض الداني ، للشيخ - رحمه الله )(4/99)
وطلاب الشيخ أكثر مما أن يعدوا على الأصابع وهم جمّ غفير ولله الحمد والمنّة، وما أصحاب الفضيلة ـ هؤلاء ـ إلا عدد يسير ممن لازموا شيخنا - رحمه الله.
نصيحة الألباني لطالب العلم المبتدئ :
( أنصح طالب العلم المبتدئ أن يقرأ من كتب الفقه: " فقه السنة " للشيخ سيد سابق، مع الاستعانة عليه ببعض المراجع مثل: " سبل السلام " وإن نظر في " تمام المنّة " فيكون اقوى له (1) ، وأنصح له بـ " الروضة النديّة " ، وأما في التفسير ، فعليّه القراءة من كتاب " تفسير القرآن العظيم" للحافظ ابن كثير ، فإنه أصح كتب التفسير اليوم .
ثم من حيث المواعظ والرقائق فعليّه بكتاب " رياض الصالحين " للإمام النووي، ثم فيما يتعلق بكتب العقيدة انصح بكتاب " شرح العقيدة الطحاوية " لابن أبي العز الحنفي، ويستعين عليها بتعليقي وشرحي لها.
ثم يجعل بصورة عامة ديدنه دراسة كتب شيخ الإسلام ابن تيميه، وتلميذه ابن القيم الجوزية - رحمهما الله - الذي أعتقد أنهما من نوادر العلماء المسلمين الذين سلكوا منهج السلف الصالح في فقههم، مع التقوى والصلاح، ولا ازكي على الله أحدا )
صفات الألباني وأخلاقه رحمه الله تعالى :
__________
(1) اقول: بل من الأهمية بمكان، ومن الضروري أن يلازم طالب العلم قراءته كتاب ( فقه السنة ) بكتاب ( تمام المنّة ) ولكنّه تواضع العلماء.(4/100)
لقد كان طلبة العلم الذين يحرصون على أخذ العلم من أهله الربانيين، يتكبكبون حول - شيخنا رحمه الله - أينما وجد ، في المسجد ، في المنزل ، في مكتبته ، وإنه ليصغي لكل منهم ويقضي حاجته من العلم ، وكثير هم الذين حرصوا على أخذ العلم على العلامة الألباني ، فمن لم يستطع الأخذ مباشرة ، كان على اتصال مباشر معه أو مع مصنفاته ومؤلفاته الضخمة ، والتي لا يخلوا منها كتاب أو رسالة (1) ... ولقد كثر مراجعوه من مختلف الطبقات والأرجاء، ولكل حاجته وقصده، فيقوم الشيخ - رحمه الله - بتسهيل أمره، وتيسير مطلبه بقدر استطاعته، إنها والله صور صادقة، بالحق ناطقة، تدل على التواضع وحسن الخلق، ووقار العلماء الربانيون.
__________
(1) ما نظرت إلى كتاب قط إلا ورأيت أسم شيخنا يتلألأ به، كأنه الكوكب الدريّ اللامع، والنور المشع، فلا مفر ولا سبيل لأي كاتب أو مؤلف إلا لرجوع لكتب شيخنا العلامة الألباني إذ - رحمه الله - ألف في الحديث وصحح جميع كتب الأحاديث المعتمدة وكتب في الفقة والعقيدة والتوحيد والأصول،،، وغيرها ، وبهذا لا يخلوا أي طالب علم أو كاتب أراد الحق إلا وتراه رجع إلى مؤلفات ومصنفات الإمام الألباني ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء - ولله الحمد والمنّة .(4/101)
أضف إلى ذلك " أننا وجدنا لديه الوعي الصحيح والصدر الرحب للبحث العلمي الحر النزيه، بحيث يستطيع أبسط تلميذ مناقشته في أي أمر، ومطالبته بالدليل والرد عليّه، دون أن يضيق بذلك ذرعاً ولا يضجر ولا يتأفف... كما أنه يشجعنا دائماً على انتقاده، ويحثنا على تنبيهه إلى خطئه، هذا مع أخلاق فاضلة وتواضع جميل، وإخلاص له، وجهاد في سبيله، ونظافة في اليد، وجرأة في الحق، وعدم المداهنة والمجاملة على حسابه، والاستقلال في البحث والشخصية، إلى آخر تلك الصفات الحميدة... وقد علمنّا شيخنا - رحمه الله - التمسك بالحق وحده، والمطالبة بالدليل، وعدم التعصب للرجال، وقد وجدناه يسر إذا خالفه أحد في بعض آرائه بشرط أن يكون متمسكاً بدليل، ومقتنعاً به، ولذلك نحن لا ندعو أحداً إلى التمسك بآراء شيخنا إلا إذا اطلع على دليلها، واقتنع بها... " (1)
وكان - رحمه الله - يلبي دعوة طلابه ومحبيه في حفلات الزواج الخاصة بهم ، ولا يفوت الفرص في تلك المناسبات حتى يبدأ بإيضاح السنة ويحض عليها ،ويحذر من البدعة والابتداع وهذا دأبه والغالب عليه في جميع أوقاته .
ومما تميز به شيخنا - رحمه الله - الزهد في هذه الدنيا، مع توفر أسبابها، وحصول مقاصدها له، فقد انصرف عنها بالكلية، وقدم عليها دار البقاء، لأنه علم أنها دار الفناء، متأسيا بزهد السلف الصالح - رحمهم الله.
فكان مثالا يحتذى به، وعلما يقتدى به، في الزهد والورع وإنكار الذات، والهروب من المدائح والثناءات العاطرة، وفي تلك المناسبات كان يكثر من قوله: ( اللهم لا تآخذني بما يقولون، واجعلني خيرا مما يظنون، واغفر لي ما لا يعلمون ) فتراه يكره المدح والثناء كرها شديدا، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على زهد في القلب وعفة في الروح، وطهارة في الجوارح، وخشية للمولى جل وعلا.
__________
(1) العلامة المحدث الألباني - عبد الله بن حسين الموجان ( مجلة الاصالة - العدد 28 ص 83 )(4/102)
قصة الورقة الضائعة (1) :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ
قال الشيخ - رحمه الله - في مقدمة ( فهرس مخطوطات دار الكتب الظاهرية المنتخب من مخطوطات الحديث ):
" لم يكن ليخطر في بالي وضع مثل هذا الفهرس، لأنه ليس من اختصاصي، وليس عندي متسع من الوقت ليساعدني عليه، ولكن الله تبارك وتعالى إذا أراد شيئاً هيأ أسبابه، فقد ابتليت بمرض خفيف أصاب بصري، منذ أكثر من اثني عشر عاماً، فنصحني الطبيب المختص بالراحة، وترك القراءة والكتابة والعمل في المهنة ( تصليح الساعات ) مقدار ستة أشهر.
فعملت بنصيحته أول الأمر، فتركت ذلك كله نحو أسبوعين ثم أخذت نفسي تراودني، وتزيّن لي أن أعمل شيئاً في هذه العطلة المملة، عملاً لا ينافي - بزعمي - نصيحته، فتذكرت رسالة مخطوطة في المكتبة، اسمها " ذم الملاهي " للحافظ ابن أبي الدنيا، لم تطبع فيما اعلم يومئذ.
فقلت: ما المانع من أن أكلف من ينسخها لي ؟وحتى يتم نسخها.. يكون قد مضى زمن لا بأس به من الراحة، فبإمكاني يومئذ مقابلتها بالأصل، حيث أنها لا تستدعي جهداً ينافي الوضع الصحي الذي أنا فيه، ثم أحققها بعد ذلك على مهل، وأخرج أحاديثها، ثم نطبعها، وكل ذلك على فترات، ولكيلا اشق على نفسي !!
فلما وصل الناسخ إلى منتصف الرسالة، ابلغني أن فيها نقصاً، فأمرته أن يتابع نسخها حتى ينتهي منها... وبالفعل لما قابلتها بالأصل تأكدت من النقص الذي أشار إليه، وأقدّره بأربع صفحات في ورقة واحدة في منتصف الكراس، فأخذت أفكر فيها وكيف يمكنني العثور عليها ؟!!
__________
(1) أخذت هذه القصة من كتاب " محدث العصر الألباني " بقلم : سمير بن أمين الزهيري - بشيء من الاختصار والتصرف(4/103)
والرسالة محفوظة في مجلد من المجلدات الموضوعة في المكتبة تحت عنوان " مجاميع " وفي كل مجلد منها على الغالب عديدٌ من الرسائل والكتب، مختلطة الخطوط والمواضيع، والورق لوناً وقياساً... وهكذا بدأ الشيخ - رحمه الله - بالبحث عن الورقة الضائعة في أكثر من ( 152 مجلد ) ويقول الشيخ: ولما لم أعثر على الورقة في المجلدات المذكورة، قلت في نفسي لعلها خيطت خطأ في مجلدات الحديث !! فأخذت اقلبها مجلداً مجلداً، حتى انتهيت منها دون أن أقف عليها !!! وهكذا لم أزل أعلل النفس وأمنّيها بالحصول على الورقة، فأنتقل في البحث عنها بين مجلدات المكتبة ورسائلها من علم إلى آخر ، حتى أتيت على جميع المخطوطات المحفوظة في المكتبة ، والبالغ عددها نحو ( عشرة آلاف مخطوط ) دون أن أحظى بها !!!
ولكن لم أيأس بعد، فهناك ما يعرف بـ(الدشت) وهو عبارة عن مكدسات من الأوراق والكراريس المتنوعة التي لا يعرف أصلها فأخذت في البحث فيها بدقة وعناية، ولكن دون جدوى.
وحينئذ يئست من الورقة !!! ولكني نظرت فوجدت أن الله تبارك وتعالى، قد فتح لي من ورائها باباً عظيماً من العلم، طالما كنت غافلاً عنه كغيري، وهو أن في المكتبة الظاهريّة كنوزاً من الكتب والرسائل في مختلف العلوم النافعة التي خلفها لنا أجدادنا - رحمهم الله تعالى - وفيها من نوادر المخطوطات التي قد لا توجد في غيرها من المكتبات العالمية مما لم يطبع بعد... وكنت في أثناء المرحلة الثانية، ألتقط نتفاً من هذه الفوائد التي أعثر عليها عفوياً فما كدت أنتهي منها حتى تشعبت بضرورة دراستها كتاباً كتاباً، وجزءاً جزءاً.(4/104)
ولذلك فقد شمّرت عن ساعد الجد، واستأنفت الدراسة للرمة الثالثة، لا أدع صحيفة إلا تصفحتها، ولا ورقة شاردة إلا قرأتها، واستخرجت منها ما أعثر عليه من فائدة علمية، وحديث نبوي شريف، فتجمع عندي بها نحو أربعين مجلداً، في كل مجلد نحو أربعمائة ورقة، في كل ورقة حديث واحد، معزواً إلى جميع المصادر التي وجدتها فيها، مع اسانيده وطرقه.
ورتبت الأحاديث فيها على حروف المعجم، ومن هذه المجلدات أغذي كل مؤلفاتي ومشاريعي العلمية، الأمر الذي يساعدني على التحقيق العلمي، والذي لا يتيسر لأكثر أهل العلم، لا سيّما في هذا الزمان الذي قنعوا فيه بالرجوع إلى بعض المختصرات في علم الحديث، وغيره من المطبوعات !!
فهذه الثروة الحديثيّة الضخمة التي توفرت عندي، ما كنت لأحصل عليها، لو لم ييسر الله لي هذه الدراسة بحثاً عن الورقة الضائعة !! فالحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات... "
ولقد بلغ الإمام - رحمه الله - من الصدق مبلغا عظيما، منزلة رفيعة ومكانة سامية، فتجد طلاب العلم والناس يثقون به وبعلمه، وبفتاواه التي يعرفون أن مصدرها كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ويتقبلون نصحه لأنهم يعلمون أنه صادر من قلب صادق مبني على الرحمة والشفقة وحب الهداية للخلق والخير لهم .
ثناء العلماء على الألباني رحمه الله تعالى :
لقد حُبِبَّ للشيخ علم الحديث وهو ابن عشرين عاما، فاهتم به اهتماماً واضحاً، يظهر ذلك من كلماته المضيئة ومؤلفاته الشهيرة، وعنايته الدقيقة في تخريج الأحاديث وتحقيقها، وردّها لأصولها، ومتابعة روّاتها ومصنِفيها ممن سبقوه، مما جعله - رحمه الله - يعكف على علم الحديث تعلماً ودرساً حتى برع فيه بشهادة كبار علماء وقته المخالف منهم والمؤالف.فمن أقوال أهل العلم فيه:
[*] أجازه العلامة راغب الطباخ - رحمه الله - بمروياته في علم الحديث لما رأى من الشيخ الألباني الحرص على علم السنّة والمطالعة فيه.(4/105)
[*] ولقد أقر والده الشيخ نوح نجاتي - رحمه الله - بمعرفة ولده بالحديث، فكان يسأله عن بعض الأحاديث كما قاله شيخنا - رحمه الله. (1)
[*] قال فيه الشيخ محب الدين الخطيب - رحمه الله - ( ومن دعاة السنّة الذين وقفوا حياتهم على العمل لإحيائها وهو أخونا بالغيب الشيخ أبو عبد الرحمن محمد ناصر الدين نوح نجاتي الألباني ) (2)
[*] قال الشيخ المحدث المغربي أبو الفيض أحمد الغماري - رحمه الله ( أما ناصر الدين الألباني قدم إلى دمشق، وتعلم العربية وأقبل على علم الحديث، فأتقنه جداً جداً، وهو من الأفراد في معرفة هذا الفن ) (3)
[*] وصفه سماحة الشيخ العلامة عبد العزيز بن باز- رحمه الله ( بالعلامة، وحسن العقيدة والسيرة، مع العناية بعلم الحديث الشريف وتمييز صحيحه من سقيمه ) وقال فيه أيضاً ( ما رأيت تحت أديم السماء عالماً بالحديث في العصر الحديث مثل العلامة محمد ناصر الدين الألباني، وسئل سماحته عن حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها" فسئل من مجدد هذا القرن، فقال - رحمه الله : الشيخ محمد ناصر الدين الألباني هو مجدد هذا العصر في ظني والله أعلم ).
__________
(1) الروض الداني في الفوائد الحديثية للعلامة محمد ناصر الدين الألباني - جمع وإعداد : عصام موسى هادي
(2) الروض الداني في الفوائد الحديثية ، جمع وإعداد: عصام موسى هادي
(3) المرجع السابق(4/106)
قال فيه الشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين - رحمه الله (فالذي عرفته عن الشيخ من خلال اجتماعي به وهو قليل، أنه حريص جداً على العمل بالسنة، و محاربة البدعة، سواء كان في العقيدة أم في العمل، أما من خلال قراءتي لمؤلفاته فقد عرفت عنه ذلك، و أنه ذو علم جم في الحديث، رواية و دراية، و أن الله تعالى قد نفع فيما كتبه كثيراً من الناس، من حيث العلم و من حيث المنهاج و الاتجاه إلى علم الحديث، و هذه ثمرة كبيرة للمسلمين و لله الحمد... ) (1) وقوله ( الألباني - رحمه الله - عالمٌ محدث فقيه ، وإن كان محدثاً أقوى منه فقيهاً ... وأنا أشهد للشيخ الألباني - رحمه الله - بالاستقامة، وسلامة المعتقد، وحسن المقصد ) (2)
[*] قال فيه سماحة الشيخ العلامة عبد المحسن العباد - حفظه الله: ( لقد كان رحمه الله من العلماء الأفذاذ الذين أفنوا أعمارهم في خدمة السنة و التأليف فيها و الدعوة إلى الله عز و جل و نصرة العقيدة السلفية و محاربة البدعة، و الذب عن سنة الرسول- صلى الله عليه و سلم- و هو من العلماء المتميزين، و قد شهد تميزه الخاصة و العامة. و لاشك أن فقد مثل هذا العالم من المصائب الكبار التي تحل بالمسلمين. فجزاه الله خيراً على ما قدم من جهود عظيمة خير الجزاء و أسكنه فسيح جناته ).
[*] يقول الشيخ عبد العزيز الهده: ( إن العلامة الشنقيطي يجل الشيخ الألباني إجلالاً غريباً، حتى إذا رآه ماراً وهو في درسه في الحرم المدني يقطع درسه قائماً ومسلماً عليه احتراماً له ) (3)
__________
(1) المرجع السابق
(2) مجلة الاصالة العدد 28
(3) موقع الشيخ الألباني على شبكة المعلومات(4/107)
[*] قال فيه الشيخ الأستاذ أحمد العظمة بكتابه " بدعة التعصب المذهبي " ( عرفت دمشق محدثها الأكبر العلامة الشيخ بدر الدين الحسيني، فلما توفّاهُ الله خلت الديار من إمام تتجه الأنظار إليه في علوم الحديث . غير أن فتى أرناؤوطياً " نشأ نشأة علم وتقى، وكان له من اسمه نصيب هو الأستاذ محمد ناصر الدين ( الألباني ) " عرف بأوساط الشباب بخدمته الحديث وعلومه...) (1)
[*] وقال الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق (2) ( إنه عالم من علماء المسلمين، وعلم من أعلام الدعوة إلى الله، وشيخ المحدثين وإمامهم في العصر الراهن، ألا وهو أستاذي محمد ناصر الدين الألباني - حفظه الله وبارك فيه)
[*] وقال العلامة الشيخ مقبل الوادعي: (والذي أعتقده وأدين الله به أن الشيخ محمد ناصر الدين الألباني حفظه الله من المجددين الذين يصدق عليهم قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - ( إن الله يبعث على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها)
__________
(1) مجلة الأصالة العدد 28
(2) هو الشيخ الجليل عبد الرحمن عبد الخالق الفلسطيني ، نزيل الكويت - رئيس اللجنة العلمية في جمعية إحياء التراث الإسلامي في دولة الكويت(4/108)
[*] يقول سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم شقرة ( فرحم الله الشيخ محمد ناصر الدين الألباني محدث العصر، ورافع لواء السنّة، وشمس الأمة، رحمه الله، وأجزل له الأجر، فلم تعرف السنة النبوية في شطر عمرها الثاني مثله في قوة سبره، واستدراكه على السابقين، وتيسير وتسهيل للاحقين، واختصار للمتون، وتوليف بينها، وإعمال دقيق محكم لقواعدها وأحكامها...) (1) وقال أيضاً ( لو أن شهادات أهل العصر من شيوخ السنة وأعلام الحديث والأثر اجتمعت، فصيغ منها شهادة واحدة، ثم وضعت على منضدة تاريخ العلماء فإني أحب أن تكون شهادة صادقة في عالم الحديث الأوحد، أستاذ العلماء، وشيخ الفقهاء، ورأس المجتهدين في هذا الزمان، الشيخ محمد ناصر الدين الألباني أكرمه الله في الدارين )
[*] قال الشيخ عبد الله العبيلان - حفظه الله: ( أعزي نفسي و إخواني المسلمين في جميع أقطار الأرض بوفاة الإمام العلامة المحقق الزاهد الشيخ محمد ناصر الدين الألباني، و في الحقيقة الكلمات تعجز أن تتحدث عن الرجل، ولو لم يكن من مناقبه إلا أنه نشأ في بيئة لا تعد بيئة سلفية، و مع ذلك صار من أكبر الدعاة إلى الدعوة السلفية و العمل بالسنة و التحذير من البدع لكان كافياً، حتى أن شيخنا عبد الله الدويش و الذي يعد من الحفاظ النادرين في هذا العصر و قد توفي في سن مبكرة، يقول رحمه الله: منذ قرون ما رأينا مثل الشيخ ناصر الألباني كثرة إنتاج وجودة في التحقيق، ومن بعد السيوطي إلى وقتنا هذا لم يأت من حقق علم الحديث بهذه الكثرة و الدقة مثل الشيخ ناصر الدين الألباني ) (2)
__________
(1) مقال رفعت الأقلام وجفت الصحف وقضى نحبه علم الأمة وشيخ السنّة الألباني - للشيخ محمد بن إبراهيم شقرة
(2) موقع الشيخ الألباني على شبكة المعلومات(4/109)
[*] يقول شيخنا الفاضل الأستاذ الدكتور حسام الدين عفانه (1) - حفظه الله: ( ولا شك أن الشيخ الألباني هو مُحَدِث الديار الشاميّة في القرن الرابع عشر الهجري بلا منازع ... وقام منذ سنين طويلة بالعمل على خدمة السنّة النبوية وأصدر عشرات المؤلفات التي استفاد منها طلبة العلم الشرعي في الجامعات والمعاهد وفي حلقات العلم في المساجد ... وأن جهوده الضخمة في خدمة السنة النبويّة لا ينكرها إلا مكابر ولا يعرف الفضل لأهل الفضل إلا ذوو الفضل...) (2)
[*] وقال فيه الشيخ العلامة عبد الصمد شرف الدين - من كبار علماء الهند ومحدثيها: ( مما لا فيه أنه " الألباني " أكبر عالم في الحديث في العصر الحاضر ) (3)
وقال فيه العلامة عبيد الله الرحماني المباركفوري - مدير الجامعة المركزية في بنارس في الهند: ( إنه اطلع على مخطوطات الحديث وتبحر في علومه، وإنه ذو أفق واسع في الحديث ورجاله...) (4)
__________
(1) هو فضيلة شيخنا الأستاذ الدكتور حسام الدين بن موسى عفانة - حفظه الله ورعاه - من بيت المقدس من علماء أهل السنة والجماعة في العصر الحاضر ، له مؤلفات عدّة ومقالات متعددة ، وله ترجمة في هذا الكتاب - إن شاء الله - في الجزء الثاني .
(2) يسألونك - لفضيلة شيخنا د.حسام الدين عفانة - المجلد الأول الجزء 2 / ص 467
(3) مجلة الاصالة العدد 28 ص 82
(4) المرجع السابق(4/110)
( والشيخ الألباني علم من أعلام الدعوة السلفيّة في هذا العصر... ومن يردّ على الألبانيّ أو ينال منه: إما متمسح بلباس العلماء زوراً، أو طويلب مغمور أراد التسلق ليظهر !! ومن الإنصاف أن يقال: إن هناك من ردّ على الإمام الألباني بحق ، لكنه التزم جانب الرد العلمي السويّ مع اعتراف بفضله وإذعان لمآثره التي غطت طباق العالم الإسلامي كله ... وإن " السلسلتيّن / الصحيحة والضعيفة " كافيتان في التعريف بعِلم الألباني ) (1)
وقال فيه أهل الأدب رثاءً
من كان في نهج الصحابة سائراً ... ما ضره إن كان خالفه الملا
من أول الإسلام ظلت فرقة ... تمشي على آثار من قد أُرسلا
قد قادها في كل عصر نخبة ... ينفون عنها كل ما قد أُدخِلا
حتى أتاها عالم متمكن ... من سنة المختار كان محصّلا
لله درٌّ من إمام فاضل ... ومجدد للعلم زاد تفضّلا
هو مركز سموه باسم إمامنا ... هو ( ناصر ) في العلم كان مبجلا
يا سامعاً لقصيدتي فعقيدتي ... كعقيدة ( الشيخ الإمام ) تأصلا
وعقيدة ( الباز ) الإمام بعلمه ... أكرم بمن خص الإله وفضّلا
و( ابن العثيمين ) الذي بدروسه ... النفع من رب السماء تحصّلا
لمحات سريعة في حياة الألباني رحمه الله :
(1) اختارته كلية الشريعة في جامعة دمشق لتخريج أحاديث البيوع الخاصة بموسوعة الفقه الإسلامي.
(2) اختير عضواً في لجنة الحديث التي شكلت في عهد الوحدة بين مصر وسوريا للإشراف على نشر كتب السنّة وتحقيقها.
(3) درّس مادة الحديث في الجامعة الإسلامية من عام ( 1381هـ) إلى عام (1383هـ)
(4) اختير عضواً في المجلس التأسيس الأعلى للجامعة الإسلامية من عام 1395هـ إلى عام 1398هـ.
(5) عرض عليّه الإشراف على قسم الدراسات العليّا بجامعة أم القرى، فاعتذر.
(6) طلبت منه الجامعة السلفية في بنارس بالهند برسالة من مديرها الشيخ عبيد الله الرحماني المباركفوري بتولي مشيخة الحديث، فاعتذر.
__________
(1) مقال ( العلامة المحدث الالباني - الاصالة 28 ) بقلم عبد الله بن حسين الموجان(4/111)
(7) منح جائزة الملك فيصل العالميّة عام 1419هـ عن جهوده القيمة في خدمة الحديث النبوي تخريجاً وتحقيقاً ودراسة. نضيف صورة الجائزة (1)
مواقف من حياة الألباني رحمه الله تعالى :
إن من أروع الحِكَم التي استحوذت على قلبي، قول الخليفة الراشد الفاروق عمر " لا تهرف بما لا تعرف " نعم إنه لقول بليغ، إن دلّ على شيء فإنما يدل على حرص ودقة الشهادة والتعريف بالغير، ومن هنا كان لا بدّ أن أذكر ما يجهله الكثير ممن يحقدون على هذه الدعوة المباركة، وعلمائها وطلابها.
فالناظر في حياة الشيخ الألباني - رحمه الله - يدرك حقيقة ذلك الرجل الذي وهبه الله لهذه الأمة في هذا الوقت بذات ليحيي سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وسنة الخلفاء الراشدين من بعده ، ويسير على نهج السلف - رضوان الله عليهم .
وسأذكر بعض الأمثلة لا الحسر، على حرص الشيخ - رحمه الله - في طلب العلم وتبليغه وبيان الحق، وإظهار الحقيقة للأمة عامة، وطلاب العلم خاصة.
ففي أوائل 1960م كان الشيخ يقع تحت مرصد الحكومة السورية، مع العلم أنه كان بعيداً عن السياسة، و قد سبب ذلك نوعاً من الإعاقة له. فقد تعرض للاعتقال مرتين، الأولى كانت قبل 67 حيث اعتقل وسجن في سجن القلعة بدمشق وهي نفس القلعة التي اعتقل فيها شيخ الإسلام (ابن تيمية) وعندما قامت حرب 67 رأت الحكومة أن تفرج عن جميع المعتقلين السياسيين.
__________
(1) أخذت هذه اللمحات من ترجمة لحياة الشيخ معنونةً بـ( كتاب محدث العصر الألباني - بقلم سمير امين الزهيري )(4/112)
ولكن بعدما اشتدت الحرب عاد الشيخ إلى المعتقل مرة ثانية، و لكن هذه المرة ليس في سجن القلعة، بل في سجن الحسكة شمال شرق دمشق، و قد قضى فيه الشيخ ثمانية أشهر، و خلال هذه الفترة حقق مختصر صحيح مسلم للحافظ المنذري و اجتمع مع شخصيات كبيرة في المعتقل (1) . ومن المواقف التي تدل على حرصِه :
(1) لقد كان الشيخ حريصاً على الوقت أيما حرص، فقد كان لا يضيع شيئاً من وقته في غير فائدة. فكان - رحمه الله - يقضي ثماني عشرة ساعة في مكتبته، وبين كتبه ومراجعه لِلَّهِ ومن نظر في الكم الهائل الذي تركه الشيخ من المصنفات والكتب والمخطوطات، و دروسه العلميّة الكثيرة المسجلة منها والتي بلغ عددها - حسب تسجيلات الأخ الفاضل: محمد أبي ليلى الأثري - ما يقارب الستة آلاف شريط، والتي لم تسجل منها بسبب تنقله بين بعض الأقطار لإحياء الدروس العلمية والسنة النبوية في الندوات والمحاضرات النافعة...
__________
(1) يقول الشيخ الألباني- رحمه الله - كما جاء في كتاب محدث العصر الألباني - للشيخ سمير أمين الزهيري : ( قدر الله عليّ أن أسجن في عام 1389هـ الموافقة لسنة 1969م مع عدد من العلماء من غير جريرة اقترفناها سوى الدعوة الى الإسلام ، وتعليمه الناس ، فأساق إلى سجن القلعة وغيره في دمشق ، ثم أفرج عني بعد مدّةٍ لأساق مرة ثانية ، وأنفى إلى الجزيرة لأقضي في سجنها بضعة أشهر أحتسبها في سبيل الله عز وجل .
وقد قدّر الله أن لا يكون معي فيه إلا كتابي المحبب " صحيح الإمام مسلم " وقلم رصاص، وممحاة !!
وهناك اعتكفت على تحقيق أمنيتي في اختصاره وتهذيبه، وفرغت من ذلك في نحو ثلاثة أشهر، كنت اعمل فيه ليل نهار، ودون كللٍ ولا مللٍ، وبذلك انقلبَ ما أراده أعداء الأمة انتقاماً منا إلى نعمةٍ لنا، يتفيأ ظلالها طلاب العلم من المسلمين في كل مكان . فالحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات(4/113)
(2) وكان يقضي الشيخ - رحمه الله - وهو في دمشق فضلاً عن مهنته ( تصليح الساعات ) ودروسِهِ العلميّة ومحاضراته، في المكتبة الظاهريّة كل يوم ما بين ست ساعات وثماني ساعات.
(3) كان - رحمه الله - يعتمر ويحج كل عام ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، وأحيانا يعتمر في السنة الواحدة مرتين، وقد حج أكثر من ثلثين حجة ، وكانت آخر حجّةٍ له عام 1410هـ .
(4) كان يبكي كلما ساق حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم " أول من تسعر بهم النار... " ، ولقد رآه رجل ذات مرّة - وهو جالس في السيارة - فاندفع نحوه : وقال له أنت الشيخ الألباني ؟ فما كان من الشيخ إلا أن بكى !! ولما سئل عن سبب بكائه ؟ قال : ينبغي للمرء أن يجاهد نفسه ، وأن لا يغتر بإشارة الناس إليه .
نصيحة الألباني إلى عموم الأمة رحمه الله تعالى :
( إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلا له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبدهُ ورسوله.
وبعد: فوصيتي لكل مسلم على وجه الأرض، وبخاصة إخواننا الذين يشاركوننا في الانتماء إلى الدعوة المباركة، دعوة الكتاب والسنة على منهج السلف الصالح: أوصيهم ونفسي بتقوى الله تبارك وتعالى أولاً
ثم بالاستزادة من العلم النافع، كما قال الله تعالى قال تعالى: ( وَاتّقُواْ اللّهَ وَيُعَلّمُكُمُ اللّهُ ) [ البقرة :282] وأن يعرفوا علمهم الصالح الذي هو عندنا جميعاً لا يخرج عن كونه كتاباً وسنة وعلى منهج السلف الصالح، وأن يقرنوا مع علمهم هذا والاستزادة منه - ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً - العمل بهذا العلم، حتى لا يكون حجّة عليهم، وإنما يكون حجة لهم ( يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم )(4/114)
ثم أحذرهم من مشاركة الكثير ممن خرجوا عن الخط السلفي بأمورٍ كثيرة، وكثيرة جداً، يجمعها كلمة الخروج على المسلمين وعلى جماعاتهم، وإنما نأمرهم بأن يكونوا كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح ( وكونوا عباد الله إخوانا )
وعلينا أن نترفق في دعوتنا المخالفين إليها، وأن نكون مع قوله تبارك وتعالى دائماً وأبداً (ادْعُ إِلِىَ سَبِيلِ رَبّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) [ النحل : 125] وأول من يستحق أن نستعمل معه هذه الحكمة هو من كان أشد خصومة لنا في مبدئنا وفي عقيدتنا، حتى لا نجمع بين ثقل دعوة الحق التي امتنّ الله عز وجل بها علينا، وبين ثقل سوء أسلوب الدعوة إلى الله عز وجل .
فأرجو من إخواننا جميعاً في كل بلاد الإسلام أن يتأدبوا بهذه الآداب الإسلامية ، ثم أن يبتغوا من وراء ذلك وجه الله عز وجل، لا يريدون جزاءً ولا شكوراً، ولعل في هذا القدر كفاية، والحمد لله رب العالمين )
مصنفات الألباني وكتبه رحمه الله تعالى :
لقد أثرى الشيخ - رحمه الله - المكتبة الإسلامية بالعديد من الكتب النافعة الماتعة التي لا تخلو منها - أو من بعضها - مكتبة عامة أو خاصة، حتى خصومه كانوا من أحرص الناس على اقتناء كتبه، لاعترافهم بعلمه الغزير، والمتين، والمبين بالحجة والدليل، فضلا عن جمال سرده وحسن أسلوبه، وسهولة ألفاظه، وما تميز به من ذكر الفوائد التي قد لا توجد في كتب غيره... ناهيك عن حرص أهل الإنصاف والعدل، فكانوا يحرصون على كتب الشيخ، ويوصون طلاب العلم بها،ويحثونها على دراستها ...
وإليك أخي الحبيب، قائمة بكتب ومؤلفات الشيخ العلامة الألباني - رحمه الله - مرتبة حسب الحروف الهجائية (1) :
(1) الأمثال النبوية - تأليف .(خ)
(2) أحاديث الإسراء والمعراج - تأليف .(خ)
__________
(1) أخذ هذه القائمة من كتب شيخنا العلامة الألباني من كتاب محدث العصر الألباني - بقلم سمير امين الزهيري(4/115)
(3) أحاديث التحري والبناء على اليقين في الصلاة - تأليف.(خ)
(4) أحكام الجنائز - تأليف
(5) أحكام الركاز - تأليف.(خ)
(6) أداء ما وجب من بيان وضع الوضاعين في رجب / لإبن دحبة - تحقيق وتخريج
(7) آداب الزفاف - تأليف
(8) إرشاد النقاد في تفسير الاجتهاد / للصنعاني - تخريج وتعليق (خ)
(9) إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل - تأليف
(10) إزالة الدهش والوَلَهَ عن المتحير في صحة حديث - ماء زمزم لما شرب له - تخريج
(11) إزالة الشكوك عن حديث البروك - تأليف.(خ)
(12) أسباب الاختلاف / للحميدي - تحقيق(خ)
(13) أسماء الكتب المنسوخة من المكتبة الظاهرية - إعداد (خ)
(14) إصلاح المساجد من البدع والعوائد / للقاسمي - تخريج وتعليق
(15) أصول السنة واعتقاد الدين / للحميدي - تحقيق (خ)
(16) إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان / لإبن القيم الجوزية - تخريج
(17) اقتضاء العلم العمل / للخطيب البغدادي - تحقيق وتخريج وتعليق
(18) الأجوبة النافعة عن أسئلة لجنة مسجد الجامعة - تأليف
(19) الأحاديث الضعيفة والموضوعة التي ضعفها أو أشار إلى ضعفها أبن تيمية في مجموع الفتاوى - تأليف.(خ)
(20) الأحاديث الضعيفة والموضوعة في أمهات الكتب الفقهية - تأليف.(خ)
(21) الأحاديث المختارة / للضياء المقدسي - تحقيق وتخريج (خ)
(22) الاحتجاج بالقدر / لأبن تيميه - تحقيق
(23) الأحكام الصغرى لعبد الحق / تحقيق وتخريج وتعليق (خ)
(24) الأحكام الوسطى / تحقيق وتخريج وتعليق(خ)
(25) الأذكار/ للنووي - تخريج وتعليق (خ)
(26) الأسئلة والأجوبة - تأليف.(خ)
(27) الإكمال في أسماء الرجال / التبريزي - تحقيق
(28) الآيات البينات في عدم سماع الأموات على مذهب الحنفية السادات / للآلوسي ، تحقيق وتخريج
(29) الأيات والأحاديث في ذم البدعة - تأليف.(خ)
(30) الإيمان / لأبن أبي شيبة -تحقيق وتخريج وتعليق
(31) الإيمان / لأبن تيميه - تعليق(4/116)
(32) الإيمان / لأبي عبيد القاسم بن سلام - تحقيق وتخريج وتعليق
(33) الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث / لأحمد شاكر - تعليق
(34) التعقيب المبعوث على رسالة السيوطي الطُّرثوث - تأليف.(خ)
(35) التعقيب على رسالة الحجاب / للمودودي - تعليق
(36) التعليق الرغيب على الترغيب والترهيب - تأليف.(خ)
(37) التعليق الممجد على موطأ الإمام أحمد / للكنوي - تحقيق وتعليق (خ)
(38) التعليق والردّ على رسالة كلمة سواء (خ)
(39) التعليق على سنن ابن ماجه - تخريج (خ)
(40) التعليقات الجياد على زاد المعاد - تأليف.(خ)
(41) التعليقات الحسان على الإحسان - تأليف.(خ)
(42) التعليقات الرضيّة على الروضة النديّة / لصديق حسن خان - تأليف
(43) التمهيد لفرض رمضان - تأليف.(خ)
(44) التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل - تحقيق وتعليق
(45) التوحيد / محمد احمد العدويّ - تخريج وتعليق (خ )
(46) التوسل أنواعه وأحكامه - تأليف
(47) الثمر المستطاب في فقه السنة والكتاب - تأليف.(خ)
(48) الجمع بين ميزان الاعتدال للذهبي ولسان الميزان لأبن حجر .(خ)
(49) الحديث النبوي / لمحمد الصباغ - تخريج
(50) الحديث حجة بنفسه في العقائد والاحكام - تأليف
(51) الحوض المورود في زوائد منتقى ابن الجارود - تأليف.(خ)
(52) الدعوة السلفية أهدافها وموقفها من المخالفين لها - تأليف.(خ)
(53) الذب الأحمد عن مسند الامام أحمد - تأليف.(خ)
(54) الرد المفحم على من خالف العلماء - تأليف.(خ)
(55) الرد على التعقيب الحثيث / للحبشي الهرري - تأليف
(56) الرد على أرشد السلفي - تأليف
(57) الرد على السقاف فيما سوده على دفع شبه التشبيه - تأليف.(خ)
(58) الرد على اسماعيل الانصاري في مسألة الذهب المحلق - تأليف
(59) الرد على رسالة التويجري في صفة الصلاة - تأليف.(خ)
(60) الرد على عز الدين بليق في منهاجه - تأليف.(خ)
(61) الرد على كتاب المراجعات / لعبد الحسين الرافضي - تأليف.(خ)(4/117)
(62) الرد على كتاب تحرير المرأة في عصر الرسالة / لمحمد عبد الحليم ابو شقة - تأليف.(خ)
(63) الرد على كتاب ظاهرة الارجاء / لسفر الحوالي - تأليف.(خ)
(64) على هدية البديع في مسألة القبض بعد الركوع - تأليف.(خ)
(65) الروض النضير في ترتيب وتخريج معجم الطبراني الصغير (1) - تأليف.(خ)
(66) الزوائد على الموارد - تأليف
(67) السفر الموجب للقصر - تأليف.(خ)
(68) الشهاب الثاقب في ذم الخليل والصاحب / للسيوطي - تخريج
(69) الصراط المستقيم في ليلة النصف من شعبان / علماء الازهر- تخريج
(70) العقيدة الطحاوية شرح وتعليق - تأليف
(71) العلم لأبي خيثمة - تحقيق وتخريج وتعليق
(72) الفهرس الشامل لأحاديث وآثار كتاب الكامل / لابن عدي - إعداد (خ)
(73) الفهرس المنتخب من مكتبة خزانة ابن يوسف مراكش - إعداد(خ)
(74) الفائد الى تصحيح العقائد / للمعلمي - تعليق
(75) الكلم الطيب / لابن تيميه - تحقيق وتخريج
(76) اللحية في نظر الدين - تأليف
(77) المحو والاثبات الذي يدعى به في ليلة النصف من شعبان - تأليف (خ)
(78) المرأة المسلمة / لحسن البنا - تخريج
(79) المستدرك على المعجم المفهرس لألفاظ الحديث - تأليف.(خ)
(80) المسح على الجوربين والنعليّن - تأليف وتذييل
(81) المصطلحات الأربعة في القرآن / للمودودي - تخريج
(82) المغني عن حمل الأسفار في الأسفار / للحافظ العراقي - تخريج وتعليق (خ)
(83) المناظرات والردود - تأليف.(خ)
(84) المناظرة بين الشيخ الالباني والشيخ الزمزمي - نسخها عبد الصمد البقالي (خ)
(85) المنتخب من مخطوطات الحديث في المكتبة الظاهرية - تأليف
(86) النصيحة بالتحذير من تخريب ( ابن عبد المنان ) لكتب الائمة الرجيحة ومن تضعيفه لمئات الاحاديث الصحيحة - تأليف
(87) بداية السول في تفضيل الرسول / للعز بن عبد السلام - تحقيق وتخريج
__________
(1) * يعد هذا الكتاب من أوائل مؤلفات الشيخ ،وهو كتاب ضخم فيه نفس طويل وجلد في البحث(4/118)
(88) بغية الحازم في فهارس مستدرك الحاكم - إعداد (خ)
(89) بين يدي التلاوة - تأليف (خ)
(90) تاريخ دمشق / لأبي زرعة - رواية أبي ميمون - تحقيق وتعليق (خ)
(91) تأسيس الأحكام شرح بلوغ المرام / للشيخ احمد بن يحيى النجمي - تعليق
(92) تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد - تأليف
(93) تحريم آلات الطرب - تأليف
(94) تحقيق معنى السنة / لسليمان الندوي - تخريج
(95) تخريج أحاديث كتاب مشكلة الفقر / للقرضاوي - تأليف
(96) تخريج أحاديث موسوعة البيوع - تأليف
(97) تخريج حديث أبي سعيد الخدري في سجود السهو - تأليف.(خ)
(98) ترجمة الصحابي أبي الغادية ، ودراسة مرويات قتلة عمار بن ياسر - تأليف.(خ)
(99) تصحيح حديث افطار الصائم - تأليف
(100) تلخيص أحكام الجنائز - تأليف
(101) تلخيص حجاب المرأة المسلمة - تأليف.(خ)
(102) تلخيص صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - تأليف
(103) تمام المنة في التعليق على فقه السنة - تأليف.(خ)
(104) تمام النصح في أحكام المسح - تأليف
(105) تمام تمام المنّة في التعليق على فقه السنّة - تأليف
(106) تهذيب صحيح الجامع الصغير وزيادته والاستدراك عليه - تأليف.(خ)
(107) تيسير انتفاع الخلان بترتيب ثقات ابن حبان - تأليف.(خ)
(108) جلباب المرأة المسلمة - تأليف
(109) جواب حول الأذان وسنة الجمعة - تأليف.(خ)
(110) حجاب المرأة ولباسها في الصلاة / لابن تيميه - تحقيق وتخريج وتعليق
(111) حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - كما رواها عنه جابر - رضي الله عنه - تأليف
(112) حجة الوداع . (خ)
(113) حقوق النساء في الاسلام / لرشيد رضا - تعليق
(114) حقيقة الصيام / لابن تيميه - تخريج
(115) حكم تارك الصلاة - تأليف
(116) خطبة الحاجة - تأليف
(117) دفاع عن الحديث النبوي - تأليف
(118) ديوان الضعفاء والمتروكين / للذهبي - تحقيق وتعليق (خ)
(119) رجال الجرح والتعديل لابن ابي حاتم - اعداد (خ)(4/119)
(120) رفع الاستار لإبطال أدلة القائلين بفناء النار / للصنعاني - تحقيق وتعليق
(121) رياض الصالحين / للنووي - تخريج
(122) زهر الرياض في رد ما شنعه القاضي عياض على من اوجب الصلاة علي البشير النذير في التشهد الاخير / للخيضري - تحقيق وتعليق (خ)
(123) سؤال وجواب حول فقه الواقع - فتاوى للشيخ - رحمه الله .
(124) سبل السلام للصنعاني - تعليق (خ)
(125) سلسلة الاحاديث الصحيحة - تألي
(126) سلسلة الأحاديث الموضوعة والموضوعة وأثرها السيئ على الأمة - تأليف
(127) شرح العقيدة الطحاوية / لابن أبي العز الحنفي - تخريج
(128) صحيح ابن خزيمة - مراجعة وتخريج
(129) صحيح الأدب المفرد - تأليف
(130) صحيح الإسراء والمعراج - تأليف.(خ)
(131) صحيح الترغيب والترهيب - اختيار وتخريج
(132) صحيح الجامع الصغير وزيادته - تأليف
(133) صحيح السيرة النبوية - تأليف
(134) صحيح الكلم الطيب - تأليف
(135) صحيح سنن ابن ماجه - تأليف
(136) صحيح سنن أبي داود (خ)
(137) صحيح سنن أبي داود - تأليف
(138) صحيح سنن الترمذي - تأليف
(139) صحيح سنن النسائي - تأليف
(140) صحيح كشف الأستار عن زوائد البزار / للهيثمي ( خ)
(141) صحيح موارد الظمآن - تأليف
(142) صفة الفتوى والمفتي والمستفتي / لابن حمدان - تخريج وتعليق
(143) صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - تأليف
(144) صلاة الاستسقاء - تأليف.(خ)
(145) صلاة التراويح - تأليف
(146) صلاة العيدين في المصلى خارج البلد هي السنة - تأليف
(147) صلاة الكسوف وما رأى - صلى الله عليه وسلم - فيها من الآيات - تأليف.(خ)
(148) صوت الطبيعة ينادي بعظمة الله / لعبد الفتاح الإمام - تخريج
(149) صوت العرب تسأل وناصر الدين يجيب - لقاء مع جريدة صوت العرب 1380هـ
(150) صيد الخاطر / لابن الجوزي - تخريج
(151)ضعيف الأدب المفرد - تأليف
(152) ضعيف الترغيب والترهيب - اختيار وتخريج(4/120)
(153) ضعيف الجامع الصغير وزيادته - تأليف
(154) ضعيف سنن ابن ماجه - تأليف
(155) ضعيف سنن أبي داود - تأليف
(156) ضعيف سنن الترمذي - تأليف
(157) ضعيف سنن النسائي - تأليف
(157) ضعيف كشف الاستار عن زوائد البزار / للهيثمي ( خ)
(158) ضعيف موارد الظمآن - تأليف
(159) ظلال الجنة في تخريج السنة - تأليف
(160) عودة إلى السنة - تأليف.(خ)
(161) غاية الآمال بتضعيف حديث عرض الأعمال والرد على الغماري - تأليف.(خ)
(162) غاية المرام بتخريج أحاديث الحلال والحرام - تأليف
(163) فتنة التكفير - فتوى
(164) فتوى الحكم تتبع آثار الأنبياء والصالحين - تأليف
(165) فضائل الشام ودمشق - تخريج
(166) فضل الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - تحقيق وتخريج
(167) فقه السيرة / للغزالي - تخريج
(168) فهرس أحاديث كتاب التاريخ الكبير للبخاري - إعداد (خ)
(169) فهرس أحاديث كتاب الشريعة للآجري - إعداد (خ)
(170) فهرس أسماء الصحابة في معجم الطبراني الأوسط - إعداد .(خ)
(171) فهرس الصحابة الرواة في مسند الامام احمد بن حنبل - إعداد
(172) فهرس المخطوطات الحديثية في مكتبة الأوقاف الحلبيّة - تأليف.(خ)
(173) فهرس كتاب الكواكب الدراري لابن عروة الحنبلي - إعداد.(خ)
(174) قاموس البدع - تأليف.(خ)
(175) قاموس الصناعات الشامية / لمحمد سعيد القاسمي - تخريج / مشاركة مع الشيخ محمد بهجت البيطار - رحمه الله -
(176) قصة نزول عيسى عليه السلام وقتله الدجال - تأليف.(خ)
(177) قيام رمضان - تأليف.(خ)
(178) كتاب الصلاة الكبير - تأليف.(خ)
(179) كشف النقاب عما في كلمات أبي غدة من الأباطيل والافتراءات - تأليف
(180) كلمة الاخلاص وتحقيق معناها / لابن رجب - تخريج
(181) كيف يجب أن نفسر القرآن - تأليف.(خ)
(182) لفتة الكبد إلى نصيحة الولد / لابن الجوزي - تحقيق وتخريج / مشاركة مع الاستاذ محمود مهدي استانبولي - رحمه الله -(4/121)
(183) ما دلّ عليه القرآن مما يعضد الهيئة الجديدة / للألوسي - تخريج
(184) مجموع الفتاوي - تقوم مكتبة المعارف بالرياض بنشر هذه الفتاوى وإعدادها
(185) مختصر التوسل - تأليف.(خ)
(186) مختصر الشمائل المحمدية / للترمذي -اختصار وتحقيق
(187) مختصر العلو للعلي العظيم -اختصار وتحقيق
(188) مختصر تحفة المودود / لابن القيم - اختصار وتخريج .(خ)
(189) مختصر تعليق الشيخ محمد كنعان .(خ)
مختصر شرح العقيدة الطحاوية .(خ)
(190) مختصر صحيح البخاري (1-4) اختصار وتعليق
(191) مختصر صحيح مسلم / للمنذري - اختصار وتعليق
(192) مختصر صحيح مسلم- تأليف
(193) مذكرات الرحلة إلى مصر - تأليف.(خ)
(194) مسائل أبي جعفر محمد بن عثمان بن أبي شيبة - تحقيق وتعليق .(خ)
(195) مسائل غلام الخلال التي خالف فيها الخرقي - تعليق
(196) مساجلة علمية بين العز بن عبد السلام وابن الصلاح - تحقيق وتعليق
(197) مساوئ الأخلاق / للخرائطي - تحقيق وتخريج .(خ)
(198) مشكاة المصابيح - تخريج
(199) مع الأستاذ الطنطاوي - تأليف.(خ)
(200) معالم التنزيل / للبغوي - تخريج .(خ)
(201) معجم الحديث النبوي ( أربعون مجلداً ) - تأليف.(خ)
(202) مناسك الحج والعمرة - تأليف
(203) مناظرة كتابية مع طائفة من أتباع القاديانية - تأليف.(خ)
(204) مناقب الشام وأهله / لابن تيميه - تخريج
(205) منتخبات من فهرس المكتبة البريطانية - إعداد .(خ)
(206) منزلة السنّة في الإسلام - تأليف
(207) موارد السيوطي في الجامع الصغير - تأليف.(خ)
(208) نزهة النظر في توضيح نخبة الفكر / لابن حجر - تعليق وتحقيق .(خ)
(209) نصب المجانيق لنسف قصة الغرانيق - تأليف
(210) نقد التاج الجامع للأصول لمنصور علي ناصف - تعليق وتخريج .(خ)
(211) نقد نصوص حديثية في الثقافة الإسلامية - تأليف
(212) هداية الرواة إلى تخريج أحاديث المصابيح والمشكاة / لابن حجر - تخريج(4/122)
(213) وجوب الأخذ بحديث الآحاد في العقيدة والأحكام - تأليف
(214) وصف الرحلة الأولى إلى الحجاز والرياض مرشداً للجيش السعودي - تأليف.(خ)
(215) وضع الآصار في ترتيب أحاديث مشكل الآثار - إعداد .(خ)
وفاة الألباني رحمه الله تعالى :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
قبيل غروب شمس ذلك اليوم " أجاء الله قدره إلى الروح القوية، التي ظلت زهاء ستة عقود تحتضن لواء السنّة في عزيمة لا تعرف التردد، وصبر لا يعرف الضجر، وإقدام لا يعرف النكوص، ودأب موصول لا يعرف الوهن، وسهر عميّت الطرائق على الإجهاد إليه، ودقة صبور تقاصر عنها الهمم، وأمانة واعية أذكرت أهل العلم بما يجب عليهم من حقوقها، واستقصاء أحاط علماً بكل ما ندّ من قواعدها، وخفيّ من أصولها... ومع عظم البلاء يكون عظم الأجر، وعظم الأجر لا يكون إلا وصوبه الصبر، ومن سخط كان له السخط، ومن رضيّ كان له الرضى ... " (1) نعم ذرفت الدمعة ، وانفطر القلب في الثاني والعشرين من شهر جمادى الآخرة ،سنة 1420هـ ، الموافق الثاني من أكتوبر سنة 1999م ، قبيل غروب شمس يوم السبت .
سيرة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى :
اسم محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى :
الشيخ محمد بن صالح بن محمد العثيمين الوهيبي التميمي ، عضو هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية ، وأستاذ بفرع جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالقصيم ، وإمام وخطيب الجامع الكبير بمدينة عنيزة .
__________
(1) مقال رفعت الأقلام وجفت الصحف وقضى نحبه علم الأمة وشيخ السنّة الألباني - للشيخ محمد بن إبراهيم شقرة(4/123)
وكان رحمه الله تعالى من أئمة الهدى وأعلام التقى ومصابيح الدجى ، من حلية الأولياء وأعلام النبلاء وحراس العقيدة وحماة السنة وأشياع الحق وأنصار دين الله عز وجل ، حاملُ لواء السنة وناصرها وقامع البدعة ودامغها ، كان الكتاب والسنة له كالجناحين للطائر يتمسك بهما ويعضُ عليهما بالنواجذ، كان رحمه الله تعالى شهاباً ثاقباً ونجماً ساطعاً وبدراً طالعاً وسهماً نافذاً ، وكان كوكبَ نُظَرَائه وزهرةَ إخوانه ، تفوح منه علامات اليُمْنِ وأمارات الخير ورائحة التوفيق والسداد ، واحد زمانه، وإمام عصره وأوانه ، العالم الحبر، ذو الأحلام والصبر، العلم حليفه، والزهد أليفه ، كان رحمه الله تعالى خزانة علم فكان علمه واسعاً مباركا كالغيث من السماء أينما حل نفع ، يتفجَّرُ العلمُ من جوانبه، وتنطِق الحكمةُ من نواحيه، لا يُشَقُ له غُبارٌ في غزارة علمه ودقة استنباطه للفوائد والأحكام وسعة فقهه ومعرفته بأسرار اللغة العربية وبلاغتها ، وكان رحمه الله ذا همةٍ عاليةٍ تناطح السحاب في طلب العلم فكان يُقْبِلُ على طلب العلم إقبالَ الظامئ على الموردِ العذب فقد أفنى جلَّ عمره في طلب العلم فكان إماماً يقتدى به في ذلك وكان مناراً عظيماً من منارات العلم ، مناراً راسي القواعد مُشَيَّدَ الأركان ثابتَ الوطائد ، الإمام اللبيب، ذو اللسان الخطيب، الشهاب الثاقب، والنصاب العاقب، صاحب الإشارات الخفية، والعبارت الجلية ، ذوالتصانيف المفيدة ، والمؤلفات الحميدة ، الصوَّام القوَّام ، الزاهد في الدنيا الراغب في الآخرة ، صاحب الأخلاق الرضية ، والمحاسن السنية ، العالم الرباني المتفق على علمه وإمامته وجلالته وزهده وورعه وعبادته وصيانته في أقواله وأفعاله وحالاته، كان رحمه الله تعالى سراج العباد، ومنار البلاد ، رحمه الله تعالى رحمةً واسعةً تعمُ أرجائه ، وتغمده برحمةٍ فوق ما يخطر ببال أو يدور في الخيال ، وأنعم عليه برضا الكبير المتعال إنه وليُ(4/124)
ذلك والقادرُ عليه .
مولد محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى :
ولد في مدينة عنيزة في 27/ رمضان المبارك / عام 1347 من هجرة المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم فيكون الشيخ قد عمِّر ( 74 ) عاماً .
نشأة محمد بن صالح العثيمين وبداية طلبه للعلم رحمه الله تعالى :
حفظ الشيخ رحمه الله كتاب الله في سن مبكرة ، وقبل أن يتجاوز الخامسة عشر من عمره كان يحفظ ـ بالإضافة إلى كتاب الله ـ " زاد المستقنع " و" ألفيَّة ابن مالك " ـ كما أخبر بذلك هو عن نفسه .
وقد جدَّ الشيخ ونشط في طلب العلم على قلة ذات اليد في ذلك الزمان ، وقد حدَّث عن نفسه فقال إنه كان لا يملك إلا " الروض المربع " يقرأ فيه ، في غرفة من طين تطل على " زريبة بقر " !
قرأ القرآن الكريم على جده من جهة أمه ( الشيخ عبد الرحمن بن سليمان آل دامغ رحمه الله ) فحفظه ثم اتجه إلى طلب العلم فتعلم الخط والحساب وبعض فنون الآداب، وكان الشيخ عبد الرحمن السعدي - رحمه الله - قد أقام اثنين من طلبة العلم عنده ليدرسا الطلبة الصغار، أحدهما الشيخ علي الصالحي، والثاني الشيخ محمد بن عبد العزيز المطوع - رحمه الله - فقرأ عليه شيخنا العثيمين مختصر العقيدة الواسطية للشيخ عبد الرحمن السعدي، ومنهاج السالكين في الفقه للشيخ السعدي أيضاً، والأجروميّة والألفيّة.
يعتبر العلامة الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي - رحمه الله - شيخه الأول حيث لازمه وقرأ عليه غالب العلوم منها : التوحيد ، والتفسير ، والحديث ، والفقه ، وأصول الفقه ، والفرائض ، ومصطلح الحديث والنحو والصرف .(4/125)
ولقد كانت للشيخ العثيمين منزلة عظيمة ومكانة جليلة لدى شيخه السعدي - رحمه الله - ويظهر حرص شيخنا العلامة عبد الرحمن السعدي على - الشيخ محمد رحمه الله - لمّا أنتقل والد الشيخ محمد - رحمه الله - إلى الرياض إبان أول تطوره رغب في أن ينتقل معه ولده ( محمد ) فكتب له الشيخ السعدي ( إن هذا لا يمكن نريد محمداً أن يمكث هنا حتى يستفيد )
[*] يقول فضيلة الشيخ العثيمين - رحمه الله - ( إنني تأثرت به كثيراً في طريقة التدريس وعرض العلم وتقريبه للطلبة بالأمثلة والمعاني، وكذلك أيضاً تأثرت به من ناحية الأخلاق لأن الشيخ عبد الرحمن السعدي - رحمه الله - كان على جانب كبير من الأخلاق الفاضلة، وكان - رحمه الله - على قدر كبير في العلم والعبادة، وكان يمازح الصغير ويضحك الكبير، وهو من أحسن من رأيت أخلاقاً )
وأما سماحة الشيخ / عبد العزيز بن باز - رحمه الله - يعتبر الشيخ الثاني - لشيخنا العثيمين - حيث قرأ عليه ابتداءً صحيح الإمام البخاري وبعض رسائل شيخ الإسلام ابن تيمية وبعض الكتب الفقهية المتنوعة.
[*] يقول الشيخ العثيمين ( تأثرت بالشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله من جهة العناية بالحديث، وتأثرت به من جهة الأخلاق أيضاً وبسط نفسه للناس )
و قرأ على الشيخ عبد الرحمن بن علي بن عودان في الفرائض والفقه
وفي عام 1371هـ جلس للتدريس في الجامع، ولمّا فتحت المعاهد العلميّة في مدينة الرياض التحق الشيخ بها عام 1372هـ، وفي ذلك قال الشيخ رحمه الله :(4/126)
( دخلت المعهد العلمي من السنة الثانية، والتحقت به بمشورة من الشيخ علي الصالحي، وبعد أن استأذنت من الشيخ عبد الرحمن السعدي عليه رحمة الله، وكان المعهد العلمي في ذلك الوقت ينقسم إلى قسمين خاص وعام، فكنت في القسم الخاص، وكان في ذلك الوقت أيضاً من شاء أن يقفز - كما يعبرون - بمعنى أنه يدرس السنة المستقبلة له في أثناء الإجازة ثم يختبرها في أول العام الثاني، فإذا نجح انتقل إلى السنة التي بعدها وبهذا اختصرت الزمن ).
وبعد سنتين تخرج وعيّن مدرساً في معهد عنيزة العلمي مع مواصلة الدراسة انتساباً في كليّة الشريعة ومواصلة طلب العلم على يدّ الشيخ عبد الرحمن السعدي.
ولمّا توفي فضيلة الشيخ عبد الرحمن السعدي - رحمه الله - تولى الشيخ العثيمين إمام الجامع الكبير بعنيزة والتدريس في مكتبة عنيزة الوطنية، بالإضافة إلى التدريس في المعهد العلمي ثم انتقل إلى التدريس في كليتي الشريعة أصول الدين، بفرع جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالقصيم .
وفي ذلك الوقت كان الشيخ - رحمه الله - يحمل عضوية هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية، إضافة إلى نشاطه الكبير لخدمة الدين، والدعوة إلى الله عز وجل وتبصير الدعاة في كل مكان وله جهود مشكورة في هذا المجال .
شيوخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى :
استفاد الشيخ أبو عبد الله في طلبه للعلم، من عدّة شيوخ منهم وأبرزهم: -
(1) الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي: المتوفى عام 1376هـ، المفسر المشهور صاحب التفسير المعروف بـ( تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان ) في ثمان مجلدات.
(2) الشيخ محمد الأمين بن محمد بن المختار الجكنى الشنقيطي: المتوفى عام 1393هـ المفسر، واللغوي، صاحب التفسير المعروف بـ( أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن )(4/127)
(3) الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز: العالم المشهور، صاحب المواقف النبيلة الطيبة، والرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، والمفتي العام للمملكة العربية السعودية ، ورئيس هيئة كبار العلماء .
(4) الشيخ علي بن حمد الصالحي - رحمه الله -
(5) الشيخ محمد بن عبد العزيز المطوع - رحمه الله -
(6) الشيخ عبد الرحمن بن علي بن عودان - رحمه الله -
(7) الشيخ عبد الرحمن بن سليمان آل دامغ - رحمه الله -
طلاب محمد بن صالح العثيمين وتلاميذه رحمه الله تعالى :
لا يمكن حصر جميع من تتلمذ على الشيخ - رحمه الله - لأنهم ازدحموا في مجلسه - لاسيّما في السنوات الأخيرة - بما يزيد على الخمس مائة طالب في بعض دروسه على اختلاف مستوياتهم.
أما من عامة الناس والأمة في مشارق العالم الإسلامي ومغاربه فهم كثر - والحمد لله. فمنهم من درس عليه ومنهم من درس على كتبه وأشرطته المسجلة وبرامجه المحفوظة، إلا أنني سأذكر بعض الطلبة البارزين، من أصحاب العلم والفضيلة - لا للحسر - بل كلمحة سريعة موجزة عن تلك الثلة الطيبة التي نهلت من علم شيخنا - رحمه الله:
(2) الشيخ محمد بن سليمان السلمان، وهو الذي ينوب عن الشيخ في خطبة الجمعة والعيدين
(2) الشيخ الدكتور محمد بن صالح البراك، المدرس بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
(3) الشيخ الداعية إبراهيم بن محمد الدبيان
(4) الشيخ سامي بن محمد الصقير، والشيخ خالد بن عبد الله المصلح، وهما متزوجان من ابنتي الشيخ - رحمه الله .
(5) الشيخ أحمد بن عبد الرحمن القاضي، مدير المعهد العلمي في مدينة عنيزة
(6) الشيخ الدكتور يوسف بن عبد الله الزامل، عميد كلية الاقتصاد والإدارة بجامعة الملك سعود فرع القصيم سابقاً
(7) الشيخ الداعية عثمان آل خميس - الكويت
(8) الشيخ الداعية الدكتور سلمان بن فهد العودة
(9) الأمير الشيخ الدكتور عبد الرحمن بن سعود الكبير آل سعود(4/128)
(10) الشيخ عبد الله السعد، والشيخ فهد السنيد
(11) الشيخ عبد الرحمن بن صالح الدهش
(12) الشيخ محمد بن عبد الرحمن الإسماعيل
(13) الشيخ غانم بن مرزوق الحربي
(14) الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله الإبراهيم
(15) الشيخ احمد بن محمد العبيد، الشيخ الدكتور خالد بن علي المشيقح
(16) الشيخ خالد بن سليمان المزيني
(17) الشيخ علي بن عبد الله السلطان
(18) الشيخ خالد المطرفي
(19) الشيخ عبد الله بن حمد السليم
(20) الشيخ بندر العبدلي
(21) الشيخ يحيى بن عبد العزيز اليحيى
(22) الشيخ عبد الله بن عبد العزيز الصائغ
(23) الشيخ أحمد المشرف، الشيخ عادل بن عبد الشكور الزرقي
(24) الشيخ عبد الله بن حمد الزيداني
(25) الشيخ عبد الله بن صالح الحمود
(26) الشيخ رشيد بن عبد الرحمن الحربي
(27) الشيخ صالح الحجاج.
(28) ومن دولة الكويت: الشيخ حمد العثمان، الشيخ سالم بن سعد الطويل، الشيخ ماهر بن فهد الساير .
(29) ومن دولة البحرين: الشيخ خالد بن سالم، الشيخ عبد الوهاب الزياني
(30) ومن سوريا: الشيخ مصطفى بن محمد بن كامل حورية
(31) ومن مصر: الشيخ الدكتور طبيب رشاد بن زارع
(32) ومن اليمن: محمد بن أحمد الواصل، والشيخ عمار بن ناشر، الشيخ يحيى بن صالح الراعي، الشيخ زيد بن ثابت، الشيخ طارق بن عبد الواسع
(33) ومن باكستان: الشيخ محبوب بن أحمد بن محمد عليف
هؤلاء نخبة من طلابه البارزين وهناك طلاب بمنزلتهم، أو قريبون منهم، أو دونهم، أعرضت عن ذكرهم خشية الإطالة - مع حفظ مكانتهم العلمية وجهودهم الطيبة في نشر عقيدة أهل السنة والجماعة .
براعة محمد بن صالح العثيمين في أسلوبه النادر في التعليم رحمه الله تعالى :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
عُرف عن الشيخ أسلوبه النادر في التعليم ، فهو يوصل المعلومة بأسهل طريق إلى المتعلمين والسامعين.(4/129)
ولا يكاد يغيب ذهن الواحد من الجالسين في درسه حتى يوقفه الشيخ ليجيب على سؤال أو ليعيد آخر كلام قاله .
وعرف عنه طريقة السؤال والجواب - لا السرد - وهي طريقة نافعة يترقب الطالب فيها كل لحظة أن يتوجه له سؤال .
وهي طريقة تحيي المجلس وتجعل الطالب دائم التحضير والمتابعة .
ويعطي الشيخ رحمه الله الدرس حقَّه ومستحقه من الشرح والبيان ولا ينتقل بالطالب إلى موضوع جديد حتى يكون قد فهم ما مضى .
ويعيد على الطلبة في الدرس التالي - بطريقة السؤال والجواب - ما أُخذ في الدرس الماضي ، وهكذا يتأهب الطالب لدرس اليوم ، ويعيد قراءة ما سلف من الدروس الماضية .
رعاية محمد بن صالح العثيمين لتلامذته رحمه الله تعالى :
قال الشيخ خالد المصلح - تلميذ وصهر الشيخ - :
شيخنا رحمه الله كان أباً حانياً على تلاميذه ، حريصاً عليهم غاية الحرص ، كان - رحمه الله - يخصهم بعنايةٍ فائقةٍ من حيث تزويدهم بالعلم والجوانب العلمية ، بل حتى في قضاء حوائجهم الخاصة فكان رحمه الله حريصاً على تهيئة المكان المناسب لهم وما يتعلق بذلك مما يحتاجون إليه ، كان - رحمه الله - يرتب لهم مكافآت شهرية سوى ما يعطيهم لستر حوائجهم من شراء الكتب أو إنهاء المعاملات أو غير ذلك .
كان - رحمه الله - يحصي طلابَه ولاسيما الذين في السكن التابع له - رحمه الله - بلقاء شهري يفتتحه رحمه الله بكلمة توجيهية ، ثم يطلب من الطلاب أن يكتبوا الملاحظات المتعلقة بمعاشهم ، فإذا لم يكن عندهم شيء من ذلك أجاب على أسئلتهم التي يقدمونها إليه إما مباشرة أو غير ذلك ، وبعد هذا يتناول معهم رحمه الله طعام العشاء على مائدة واحدة يتزاحمون على القرب منه ، ولا يخلو المجلس من مداعباته يدخل بها السرور على تلاميذه ويشعرهم بقربه منهم وأنه لهم كالأب .
مواقف محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى مع تلامذته :(4/130)
وقد كان الشيخ رحمه الله على علمٍ بأحوال تلامذته ، يتفقد غائبهم ، ويحرص على تفهيم حاضرهم ، ويزود محتاجهم لما يريد من المال أو الكتب ، وكان يكلف بعضهم بمراجعة الأحاديث أو تحرير بعض المسائل ، وينظر في ذلك كله ويتابعه ، بل كان يجعل بعضهم يدرِّس بعض المبتدئين .
ومن صور عِظَم خُلُقه ودينه أنه كان يعرض على بعضهم التزوج من بناته ، فكان ذلك وتزوج بعضهم من بناته ، فرحم الله ذلك الإمام .
وله مع تلامذته مواقف كثيرة يمكن تتبعها وجمعها في كتاب ، سواء تمَّ جمعها من أشرطته أو من خلال تجميعها من أفواه تلامذته ، وقد اخترت - لهذا الكتاب - موقفين :
(1) المعروف عن الشيخ - رحمه الله - الذكاء ، وكان يتابع تلامذته أثناء الدرس حتى لا يشرد ذهن أحدهم فتضيع عليه الفائدة ، وفي مرة رأى بعض تلامذته غير حاضرِ الذهن في الدرس ، ويبدو أنه غير فاهم لما قاله الشيخ فشرد ذهنه ، فأوقفه الشيخ !
الشيخ : هل أنت فاهم لما قلتُه ؟
الطالب : إن شاء الله لِلَّهِ يا شيخ .
الشيخ - ولم تمش عليه هذه العبارة لِلَّهِ - : هل على رأسك " شماغ " ؟!
الطالب : نعم لِلَّهِ يا شيخ .
الشيخ : لمَ لمْ تقل : إن شاء الله ؟!! لكن لما كنتُ غير فاهمٍ للدرس قلتَ : " إن شاء الله " ، ولما كنتَ متأكداً من وجود " الشماغ " على رأسك جزمتَ ولم تقل إن شاء الله .
فعرفَ الطالب أنه لم ينطل قولُه على شيخه ولم يمش عليه ، فأعاد الشيخ المسألة حتى تأكد من فهم الطالب لها .
ورأى الشيخ - رحمه الله - بعض الحضور في درسه ممن لا يشارك معهم ، فعرف الشيخ أن هذا الطالب غير فاهم ، فأوقفه الشيخ !
الشيخ : هل أنت فاهم لما أقوله ؟
الطالب : لا يا شيخ !!
وهنا غضب الشيخ لِلَّهِ : فقال : إذا كنتَ غير فاهم لمَ تأتي وتحضر معنا ؟!
الطالب : لأحصِّل الثواب وهو قول المنادي من السماء في نهاية المجلس " قوموا مغفوراً لكم ، قد بُدِّلت سيئاتُكم حسنات " !!!(4/131)
فتوقف الشيخ عن لوم الطالب تعظيماً لحديث النبي صلى الله عليه وسلم ، ولقوة حجة الطالب !
قلت : والطالب يشير لحديث النبي صلى الله عليه وسلم : " ما جلس قوم يذكرون الله عز وجل إلا ناداهم مناد من السماء : قوموا مغفورا لكم ،قد بدلت سيئاتكم حسنات " .
رواه أحمد ( 12045 ) ، وصححه الشيخ الألباني رحمه في " السلسلة الصحيحة " ( 2210 ) .
هذا ، وللشيخ مئات التلاميذ في المملكة - منهم القاضي والدكتور والإمام وطالب العلم والداعية - وآلاف التلاميذ خارج المملكة تتلمذوا على أشرطته وكتبه .
والشيخ - رحمه الله - كان حريصاً على تبليغ العلم لتلامذته وللناس جميعاً ، وخاصة في رمضان الذي يحرص فيه الشباب وعامة الناس على لقيا الشيخ والاستماع له .
ولم يفوِّت الشيخ عليهم رغبتهم تلك حتى مع اشتداد مرضه ، فلقد حرص - رحمه الله - على بقاء الدرس اليومي بعد " التراويح " ولكنه لم يستطع أن يبذل فيه جهده المعروف في كل عام ، فألقى ستة دروس في هذا العام ، وكانت مدة كل درس لا تتجاوز النصف ساعة ، ولنستمع إلى حادثة من حوادث تلك الأيام والتي يبين فيها عظيم همة الشيخ ومزيد حرصه على التعليم وإفادة الناس ، وهي حادثة تستحق أن يراجع بعدها كلُّ واحدٍ منَّا نفسه ، فما أن يصيبه مرض يسير إلا ويسارع إلى إلغاء كل نشاط له علمي أو دعوي !!(4/132)
قال ابن الشيخ الأوسط إبراهيم : الوالد - رحمه الله - كان من الناس الزهاد في حياته ، حياته مليئة بالمآثر والمواقف ، ولعلي أذكر آخر موقف من المواقف العظيمة والتي لا نستطيع نحن ولا الكثير من الناس أن يأتوا بمثلها وهو في أواخر أيامه - رحمه الله - في اليوم التاسع والعشرين في رمضان حصل له بعض التعب في الصباح، فقرر الطبيب المرافق أن يتم نقله من " الحرم " إلى مستشفى " جدة " وبالفعل تم نقله إلى هناك وأدخل العناية المركزة ، وجلس هناك قرابة الأربع أو الخمس ساعات تقريباً وعندما جاء العصر تحسنت حالته شيئاً ما ، فأصرَّ أن يذهب إلى " مكة " رغم محاولاتنا إثناءه عن ذلك فقال : " لا تحرمونا هذا الأجر فهذه آخر ليلة في رمضان " لِلَّهِ
وبالفعل ذهبنا إلى مكة ومعنا الأطباء المرافقون ، وأجلسناه في غرفة داخل الحرم ، وأول ما دخل الغرفة طلب أن يتوضأ ويصلي المغرب والعشاء ، وبعد أن انتهى من الصلاة طلب أن يُعدَّ للدرس !! ولما انتهى من الدرس قال للأطباء : " كيف تحرمونني من هذا الأجر العظيم " ؟!.
فهو إنسان غير عادي فهذا الموقف من يستطيع اليوم أن يقفه ، فالإنسان إذا أدخل المستشفى لأي سبب جلس بعدها ما جلس حتى عن مباشرة عمله فهو يخرج من غرفة العناية المركزة للدرس فهذا تفكيره وهذا شغله الشاغل والحمد لله .
تنوع طرق تعليم محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
والشيخ رحمه الله بذل جهداً عظيماً متنوعاً في التعليم منها ما يلي :
(1) فهو إمام وخطيب يعلم أهل المسجد .
(2) وهو مدرِّس في الجامعة يعلِّم الطلبة .
(3) وهو مدرِّس في مواسم الخير - مثل الحج والعمرة - في المسجد النبوي والمسجد الحرام فيعلِّم الناس كافة من جميع بلدان العالم .
(4) وهو مدرِّس ومفتٍ في المذياع .
(5) وهو من " هيئة كبار العلماء " التي تنظر في المسائل المشكلة والنوازل .(4/133)
(6) وهو مؤلف لكتب ورسائل ومطويات منتشرة في العالم كله .
(7) وهو مدرِّس للمسلمين خارج المملكة وذلك عن طريق الهاتف ، وقد حدَّثني بعض الشباب في " أمريكا " أنه للتوِّ قد حضر درساً هناك للشيخ ابن عثيمين ، وقد رُبط عن طريق الهاتف مع حوالي مائة مركز إسلامي !!!
(8) بل وحتى داخل المملكة فإنه يفتي للناس عن طريق الهاتف في وقت مخصص ، وقد رأيناه في الحرم كلما انتهى الإمام من جزء من الصلاة رفع هاتفه الجوَّال ليجيب على أسئلة الناس في هذا الوقت !
(9) وله محاضرات ودروس ومواعظ في مساجد المملكة كلما ذهب لزيارة أحد مناطقها .
(10) وله موقع في " الإنترنت " حديث النشأة فيه كتب الشيخ وأشرطته ، ولو اعتُني به حق العناية - كما فعل بموقع الشيخ ابن باز - لكان فيه مادة دعوية كبيرة .
(11) التأليف : كان الشيخ قد أراد أن يتفرغ للتأليف ، فنصحه بعض إخوانه أن الناس بحاجة إلى التعليم ، وأن الله تعالى قد يهيئ لك من يجمع علمك الذي تعلِّم فيُجمع لك الأمران لِلَّهِ وكان ذلك، وأخرجت أشرطته المسموعة إلى كتب مقروءة بعناية وترتيب فائق .
ولم يكن الشيخ رحمه الله حريصاً على " حفظ حقوق الطبع " ولا متأكلاً بعلمه وكتبه ، ولو أراد وطلب " ريالاً واحداً " على كل كتاب لصار مليونيراً لِلَّهِ فقد طُبع للشيخ رحمه الله أكثر من " مليون " نسخة من كتبه في حياته ، ولكتابه " الشرح الممتع " نصيب الأسد من كتبه تلك فقد طبع منه - كما بلغنا - عشرات الآلاف من النسخ .
توقير محمد بن صالح العثيمين لأهل العلم رحمه الله تعالى :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
والشيخ رحمه الله من الموقرين لأهل العلم ، وكيف لا والعلم رحِمٌ بين أهله ، ومن ذلك :(4/134)
(1) أنه دعيَ لافتتاح " تسجيلات إسلامية " ضخمة ، وبينما هو يتجول في أنحائها إذ يلاحظ أنه قد جعل لكل صاحب أشرطة من المشايخ لوحة كبيرة فيها اسمه ، وبمروره على " زاوية " الشيخ الألباني رحمه الله رأى أن لوحة اسمه صغيرة لِلَّهِ فأنكر عليهم الشيخ رحمه الله غاية الإنكار لِلَّهِ وأمرهم بتكبير لوحة الشيخ أو تصغير لوحات المشايخ الآخرين .
وكان ذلك ، ففي اليوم التالي جاء الناس إلى " التسجيلات " وقد جعلوا لوحة الشيخ مثل أخواتها !
(2) ومن تواضعه وتوقيره لأهل العلم : تدريسه كتاب " حلية طالب العلم " للشيخ بكر أبو زيد وهو معاصر للشيخ وأصغر منه سنّاً ، فضرب الشيخ رحمه الله أروع الأمثلة في التواضع والتوقير لأهل العلم ، وخاصة للمتعاصرين الذين يكون بينهم - عادة - التنافس والعداوة - أحياناً - .
(3) ولما بشَّره بعض الشباب برؤيا رآها بعض المجاهدين في الشيخ الألباني فرح بها الشيخ رحمه الله وطلب من ناقلها له أن يتصل بالشيخ الألباني من بيته ليبشره بها ، لكن قدَّر الله أن لا يكون الشيخ حينذاك في بيته .
وملخص الرؤيا : أن الرائي قد رأى النبيَّ صلى الله عليه وسلم فسأله إذا أشكل عليَّ شيءٌ في الحديث فمَن أسأل ؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : سل الشيخ محمد ناصر الدين الألباني !!
(4) والشيخ رحمه الله يذكر شيوخه بمزيد من الاحترام والتبجيل أمثال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي والشيخ ابن باز ، وأكثر منهما من كان له عظيم الأثر في حياته وهو الشيخ عبد الرحمن السعدي .
عبادة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
وعُرف عن الشيخ قيامه بالفرائض والنوافل والطاعات ، ومن صور ذلك :
(1) أنه يحج في كل عام منذ سنوات طويلة .
(2) أنه يعتمر في رمضان وفي غيره من مواسم " العطلات " .(4/135)
(3) أنه يقيم الليل حتى مع شدة تعبه ، وقد حدَّث عن ذلك بعض تلامذته - وهو الشيخ حمد العثمان - ومما قال - بالمعنى - أنه سافر مع الشيخ إلى الرياض فمكثوا فيه وقتاً ثم غادروا إلى جدة فأدوا العمرة في مكة، فلما انتهوا من عمرتهم وإذ بالتعب قد سرى لجسدهم فاستسلموا للنوم .
قال الشيخ حمد : فقمت في الليل إلى الحمام لقضاء الحاجة ، وإذ بي أرى الشيخ رحمه الله قائماً يصلي!!
فقلت : سبحان الله ، أنا شاب واستسلمت للنوم ، وهذا شيخ كبير تعب معي مثلي ثم يقوم في الليل ليصلي ؟ فتشجع أخونا " حمد " ليصلي فقام وتوضأ ولما أراد أن يصلي وإذ بالنعاس يغالبه لِلَّهِ فقال : " يا عمي لِلَّهِ إحنا وين والشيخ وين !!؟ " فرجع للنوم لِلَّهِ - ولا أدري أصلَّى شيئاً أو لا - .
نجدة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى وفزعته :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
للشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى نجدات وفزعات للمسلمين ببذل الشفاعات وتيسير الحاجات وإعطاء المستحقين الكتب والأموال ، وقد حدَّث بعضُ تلامذته - مثل الأخ وليد الحسين - عن ذلك كثيراً ، لكن عندي شيء لعله لا يعرفه إلا نفر قليل عن حادثة عظيمة في حياة الشيخ رحمه الله ، وهي :
(أ) أنه قد سافر شباب من " الأردن " إلى العمرة ، وفي " خيبر " قدَّر الله عليهم حادثاً صدموا به عمود الإنارة لِلَّهِ فهرعت الشرطة لمكان الحادث ، وأصروا على السائق أن يدفع تكاليف العمود وكانوا قد قدَّروا ذلك بـ ( 21000 ) واحد وعشرون ألف ريال !
وهذا السائق - ومعه المعتمرون - لا يقدرون على دفع مثل هذا المبلغ !
فحجز الشرطة جواز سفر السائق لحين تدبير المبلغ ودفعه عند رجعتهم من أداء العمرة .(4/136)
فغلب الشباب على أمرهم وفكروا في طريقة تحصيل المبلغ ، فلم يكن أمامهم إلا عرض الموضوع على بعض المشايخ ، فكان أن ذهب واحدٌ منهم - وهو الذي حدثني بالقصة - إلى الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في غرفته في الحرم المكي بعد صلاة العصر .
فعرف الشيخ منه القصة ، وقال له : " تعال غداً وإن شاء الله يصير خير " !
قال الشاب : فلم أرجع للشيخ لأنني عرفت أن المبلغ كبير ، والشيخ لا يعرفنا ، ولم يُعرف عن الشيخ أنه يساعد في مثل هذه الأمور ، لكنني ذهبت - والكلام لمحدثي - تحقيقاً لرغبة الشباب في أن أكلِّم الشيخ فقط .
ثم رجع القوم إلى " الأردن " ، وكان لا بدَّ من المرور على " خيبر " لِلَّهِ لأخذ الجواز، ولعلَّ الله أن يكون قد رقق قلوبهم فيسقطوا عنا المبلغ .
ولما دخل الشباب إلى المركز أصرَّ الضابط على إحضار المبلغ كاملاً وإلا لا سفر ، فإن أرادوا السفر فمن غير السائق !!
تحيَّر الشباب وسائقهم لِلَّهِ ماذا يفعلون ؟
توجهوا للشاب الذي ذهب للشيخ ابن عثيمين فقالوا له : ألم تذهب أنت للشيخ ماذا قال لك ؟ قال : قال : تعال غداً !!
قالوا : فهل ذهبتَ له ؟ قال : لا !!
قالوا : اتَّصل به لعل الله أن يكون الفرج على يديه ونحن محبوسون عن أهلنا هنا ونحن في آخر أيام رمضان !!
قال : فاتَّصلتُ بالشيخ في غرفته فردَّ عليَّ وأخبرته بحالنا !
قال : أنت الشاب الأردني ؟؟!!
قلت : نعم يا شيخ !
قال : ألم أقل لك تعال في الغد ، لمَ لمْ تأتِ ؟
قال : استحييتُ !
قال : فلمَ كلمتني إذن ؟؟! على كل حال : المبلغ كان جاهزاً في اليوم نفسه !!!!!
فلم يصدِّق صاحبي الخبر ، وكاد الشباب أن يطيروا فرحاً - ومعهم السائق بالطبع لِلَّهِ - .
قال الشاب : والحل يا شيخ ؟
قال الشيخ : أنا أحوِّل المبلغ للمركز ، وأطلب منهم أن ييسروا أمركم وترجعوا إلى أهليكم قبل العيد!!
قال الشيخ : أعطني الضابط المسؤول !
كلَّم الضابطُ الشيخ بنوع من اللامبالاة !(4/137)
قال الشيخ : المبلغ عندي وأعطني رقم حسابكم وأنا أحوله لكم وأطلقوا الشباب وسائقهم ليذهبوا إلى أهليهم !
ردَّ الضابط بقلة أدب : آسفين يا شيخ لِلَّهِ لا بدَّ من إحضار المبلغ نقداً وإلا فلن يسافروا ولن يرجعوا!!
غضب الشيخ جدّاً من الضابط ، وقال : أقول لك المبلغ عندي دعهم يذهبوا إلى أهليهم !!
رفض الضابط مرة أخرى !
أغلق الشيخ السماعة .
قال الشاب : فما هي إلا لحظات إلا والمركز ينقلب رأساً على عقب!!
ما الخطب ؟؟
إنه أمير المدينة !! - الأمير عبد المجيد - اتصل يسأل عن الضابط الذي رفض طلب الشيخ وبدأ يهدد ويتوعد بالعقوبة !!
حاول الضباط وأفراد الشرطة التستر على زميلهم !!
ورأى الشباب تغير العنجهية بصورة سريعة ومذهلة لِلَّهِ إلى رقة وأدب !
فأمرهم أمير المدينة بإطلاق الشباب وسائقهم فوراً وتصليح العمود على حساب الدولة !!
لا يتصور أحد مدى فرحة الشباب بهذا الخبر لِلَّهِ فشكروا للشيخ جهوده ووقفته معهم وارتفعت أصواتهم بالدعاء للشيخ ، وأكبروا في الأمير احترامه للعلماء وتقديره لمكانتهم في موقف لن ينساه أحد منهم ما عاش أبداً !
(ب) أما ما قاله الأخ وليد الحسين فهو :
ولقد لمستُ حرص الشيخ على طلابه منذ بداية ملازمتي له ، وذلك عندما قصدت هذه البلاد المباركة - المملكة العربية السعودية - قبل ثلاث عشرة سنة ، وقد صحبتُ معي القليل من المال حتى نفد ، ولم يبق عندي منه شيء فصبَّرتُ نفسي ، وأيقنتُ أن الله سيفرج هذا الضيق :
ضاقت فلما استحكمت حلقاتها فرجت وكنت أظن أنها لا تفرج
حتى إذا ما مضى أسابيع ، وأنا أعيش هذا الضيق ، فإذا بالشيخ يناديني بعد صلاة الفجر ، وبيده مبلغ من المال ليس بالقليل ، ويعلم الله أنني لم أشكُ له حالي، ولكنه الفرج من الله .(4/138)
وبعد مدة من الزمن نفد ما عندي من المال ، فخشيتُ أن أكون قد أحرجتُ الشيخ في مساعدته لي ، أو يظن أنني لازمته من أجل المال ، فقررتُ أن أرحل ، وأجمع مالاً أتقوى به على طلب العلم ، فرحلتُ إلى " الدمام " - حيث معارفي - وتركتُ رسالة للشيخ بيَّنتُ فيها سبب ارتحالي ، فساءه ذلك جدّاً ، وحاول أن يتعرف على عنواني ، فتيسر له الحصول عليه وعلى رقم هاتفي ، واتصل بي هاتفيّاً! وألزمني بالرجوع ، وألحَّ عليَّ ، فأجبتُه إلى طلبه وأنا في حرج ، واستأنفتُ ملازمتي له .
وكان حفظه الله - والآن نقول : رحمه الله - لا يبخل عليَّ وعلى زملائي من المغتربين بالإنفاق علينا، ومتابعة أحوالنا ، وتذليل الصعاب التي تواجهنا . أ.هـ
" مجلة الحكمة " عدد 2 ، ص 47 .
ثناء العلماء على محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى :
[*] شعر د. عائض القرني في رثاء العلامة محمد بن صالح العثيمين
على العلم نبكي أم على الفضلِ نجزعُ ... وما منهما إلا مصابٌ مفجِعُ
أصبنا بيوم في الفقيد لو أنّه ... أصيبت عروش الدّهرِ أضحت تضعضعُ
فقدنا العثيمين الإمام وإنّه ... على مثلِهِ شمّ الرواسي تصدّعُ
الى الله نشكو فقدهُ ورحيلَهُ ... وليس إلى غير المهيمنِ نفزعُ
وكادت جروح القلب تبرى نزيفها ... على الباز حتى حلّ خطبٌ مضعضعُ
عنيزة لم تبكِ على العلم وحدها ... بلى قد بكته الأرضُ والناس أجمعُ
بكت جبلاً في العلم والفضل والتُّقى ... حبراً به صرح الشريعة يرفعُ
على مثلِه تبكي البواكي وإنهُ ... أحق فقيد بالقلوب يشيّعُ
( أكثر من نصف قرن )
منذ عام 1370هـ إلى آخر ليلة من شهر رمضان عام 1421هـ
بدأ التدريس منذ عام 1370هـ في الجامع الكبير بعنيزة في عهد شيخه عبد الرحمن السعدي وبعد أن تخرج من المعهد العلمي في الرياض عين مدرساً في المعهد العلمي بعنيزة عام 1374هـ.(4/139)
وفي سنه 1376هـ توفي شيخه عبدالرحمن السعدي فتولى بعده إمامة المسجد بالجامع الكبير في عنيزة والخطابة فيه والتدريس بمكتبة عنيزة الوطنية التابعة للجامع والتى أسسها شيخه عام 1359هـ .
ولما كثر الطلبة وصارت المكتبة لا تكفيهم صار يدرس في المسجد الجامع نفسه واجتمع إليه طلاب كثيرون من داخل المملكة وخارجها حتى كانوا يبلغون المئات وهؤلاء يدرسون دراسة تحصيل لا لمجرد الاستماع - ولم يزل مدرساً في مسجده وإماماً وخطيباً حتى توفي رحمه الله .
استمر مدرساً بالمعهد العلمي في عنيزة حتى عام 1398هـ وشارك في آخر هذه الفترة في عضوية لجنة الخطط ومناهج المعاهد العلمية في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية وألف بعض المناهج الدراسية.
ثم لم يزل أستاذاً بفرع جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالقصيم بكلية الشريعة وأصول الدين منذ العام الدراسي 1398-1399هـ حتى توفي رحمه الله .
درّس في المسجد الحرام والمسجد النبوي في مواسم الحج وشهر رمضان والعطل الصيفية.
شارك في عدة لجان علمية متخصصة عديدة داخل المملكة العربية السعودية.
ألقى محاضرات علمية داخل المملكة وخارجها عن طريق الهاتف.
تولى رئاسة جمعية تحفيظ القرآن الكريم الخيرية في عنيزة منذ تأسيسها عام 1405هـ حتى وفاته رحمه الله.
كان عضواً في المجلس العلمي بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية منذ 1398 هـ وحتى 1400 هـ.
كان عضواً في مجلس كلية الشريعة وأصول الدين بفرع الجامعة بالقصيم ورئيساً لقسم العقيدة فيها.
كان عضواً في هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية منذ عام 1407هـ حتى وفاته رحمه الله .(4/140)
وكان بالإضافة إلي أعماله الجليلة والمسؤوليات الكبيرة حريصاً على نفع الناس بالتعليم والفتوى وقضاء حوائجهم ليلاً ونهاراً حضراً وسفراً وفي أيام صحته ومرضه رحمه الله تعالى رحمة واسعة كما كان يلزم نفسه باللقاءات العلمية والاجتماعية النافعة المنتظمة المجدولة فكان يعقد اللقاءات المنتظمة الأسبوعية مع قضاة منطقة القصيم وأعضاء هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في عنيزة ومع خطباء مدينة عنيزة ومع كبار طلابه ومع الطلبة المقيمين في السكن ومع أعضاء مجلس إدارة جمعية تحفيظ القران الكريم ومع منسوبي قسم العقيدة بفرع جامعة الإمام بالقصيم .
وكان يعقد اللقاءات العامة كاللقاء الأسبوعي في منزله واللقاء الشهري في مسجده واللقاءات الموسمية السنوية التي كان يجدولها خارج مدينته فكانت حياته زاخرة بالعطاء والنشاط والعمل الدؤوب وكان مباركا في علمه الواسع أينما توجه كالغيث من السماء أينما حل نفع.
أعلن فوزه بجائزة الملك فيصل العالية لخدمة الإسلام للعام الهجري 1414هـ .
كان رحمه الله على جانب عظيم من العلم بشريعة الله سبحانه وتعالى وكان يتمسك بصحة الدليل وصواب التعليل كما كان حريصاً أشد الحرص على التقيد بما كان عليه السلف الصالح في الاعتقاد علماً وعملاً ودعوة وسلوكاً فكانت أعماله العلمية ونهجه الدعوي كلاهما على ذلك النهج السليم .
ولقد آتاه الله سبحانه وتعالى ملكة عظيمة لاستحضار الآيات والأحاديث لتعزيز الدليل واستنباط الأحكام والفوائد فهو في هذا المجال عالم لا يشق له غبار في غزارة علمه ودقة استنباطه للفوائد والأحكام وسعة فقهه ومعرفته بأسرار اللغة العربية وبلاغتها.
أمضى وقته في التعليم والتربية والإفتاء والبحث والتحقيق وله اجتهادات واختيارات موفقة، لم يترك لنفسه وقتاً للراحة حتى إذا سار على قدميه من منزله إلى المسجد وعاد إلى منزله فإن الناس ينتظرونه ويسيرون معه يسألونه فيجيبهم ويسجلون إجاباته وفتاواه.(4/141)
وكان للشيخ -رحمه الله- أسلوب تعليمي رائع فريد فهو يسأل ويناقش ليزرع الثقة في نفوس طلابه ويلقي الدروس والمحاضرات في عزيمة ونشاط وهمة عالية ويمضي الساعات يلقي دروسه ومحاضراته وفتاواه بدون ملل ولا ضجر بل يجد في ذلك متعته وبغيته من أجل نشر العلم وتقريبه للناس.
وأخيراً توجت جهوده العلمية وخدمته العظيمة التي قدمها للناس في مؤلفاته العديدة ذات القيمة العلمية من كتب ورسائل وشروح للمتون العلمية طبقت شهرتها الآفاق وأقبل عليها طلبة العلم في أنحاء العالم وقد بلغت مؤلفاته أكثر من خمسين كتاباً ورسالة تقع في أكثر من تسعين مجلداً، ثم لا ننسى تلك الكنوز العلمية الثمينة المحفوظة في أشرطة الدروس والمحاضرات فإنها تقدر بآلاف الساعات فقد بارك الله تعالى في وقت هذا العالم الجليل وعمره نسأل الله تعالى أن يجعل كل خطوة خطاها في تلك الجهود الخيرة النافعة في ميزان حسناته يوم القيامة (1) .
ملامح من صفات محمد بن صالح العثيمين الشخصية وأخلاقه النبيلة رحمه الله :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
كان الشيخ - رحمه الله تعالى - قدوة صالحة ونموذجاً حياً فلم يكن علمه مجرد دروس ومحاضرات تلقى على أسماع الطلبة وإنما كان مثالاً يحتذى في علمه وتواضعه وحلمه وزهده ونبل أخلاقه.
__________
(1) موقع مؤسسة الشيخ محمد بن صالح العثيمين الخيرية على شبكة المعلومات، وقد أخذت مؤسسة الشيخ التي أنشئت عام 1422هـ على عاتقها مسؤولية العناية والاهتمام بهذا التراث الضخم الذي خلفه شيخنا رحمه الله تعالى على تحقيق ذلك الهدف السامي الذي ينشده الجميع لجعل ذلك العلم الغزير متاحاً للجميع في مختلف الوسائل الممكنة بإذن الله تعالى وعونه وتوفيقه - فبارك الله فيهم جميعاً .(4/142)
تميز بالحلم والصبر والجلد والجدية في طلب العلم وتعليمه وتنظيم وقته والحفاظ على كل لحظة من عمره كان بعيداً عن التكلف وكان قمة في التواضع والأخلاق الكريمة والخصال الحميدة وكان بوجهه البشوش اجتماعياً يخالط الناس ويؤثر فيهم ويدخل السرور إلى قلوبهم ترى السعادة تعلو محياه وهو يلقي دروسه ومحاضراته.
كان - رحمه الله - عطوفاً مع الشباب يستمع إليهم ويناقشهم ويمنحهم الوعظ والتوجيه بالرفق واللين والإقناع. وكان حريص على تطبيق السنة في جميع أموره .
ومن ورعه أنه كان كثير التثبت فيما يفتي ولا يتسرع في الفتوى قبل أن يظهر له الدليل فكان إذا أشكل عليه أمر من أمور الفتوى يقول : انتظر حتى أتأمل المسألة، وغير ذلك من العبارات التي توحي بورعه وحرصه على التحرير الدقيق للمسائل الفقهية .
كان رحمه الله يستمع إلى شكاوى الناس ويقضي حاجاتهم قدر استطاعته وقد خصص لهذا العمل الخيري وقتاً محدداً في كل يوم لاستقبال هذه الأمور وكان يدعم جمعيات البر وجمعيات تحفيظ القرآن بل قد من الله عليه ووفقه لجميع أبواب البر والخير ونفع الناس فكان شيخناً بحق مؤسسة خيرية اجتماعية وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
[*] وهاك بعض صور عظيم خلقه ودينه رحمه الله :
(1) كراهيته للمدح رحمه الله :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
(1) في لقاءات الشيخ رحمه الله في بيته كل خميس قبل الظهر ، كان الشيخ رحمه الله يبدأ اللقاء بتفسير آيات من القرآن الكريم ، وقد رأى أن يبدأ من الأجزاء الأخيرة لكثرة قراءتها واستماعها من الناس ، ثم يفسح المجال لكل زائر بسؤال واحد .(4/143)
وفي بعض تلك اللقاءات - والتي جمعت مادتها بما عرف بـ " الباب المفتوح " - استأذن بعض الشباب بقراءة أبيات من الشِّعر نظمها في مدح الشيخ رحمه الله ، وقد قاطعه الشيخ مراراً معترضاً على مدحه وطلب تغيير تلك الكلمات التي يُمدح فيها الشيخ ، وكلما سمع مدحاً اعترض وقاطع وأوقف الطالب ، حتى قال الطالب : لا يصلح هذا يا شيخ لِلَّهِ إما أن أقرأ ما كتبتُ أو أتوقف لِلَّهِ قال الشيخ : توقف أحب إليَّ !!ولم يرض رحمه الله بهذا المديح.
والقصة حين تسمعها مباشرة في الشريط تتأثر من خُلُق الشيخ وعظيم دينه ، وقد كُتبت الحادثة فيما جمع من تلك اللقاءات ، فكانت هذه الحادثة على هذا النحو :
الطالب :
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله .
أما بعد يا فضيلة الشيخ : أستاذنكم في قصيدة أتلوها :
يا أمتي إن هذا الليل يعقبه ... فجر وأنواره في الأرض تنتشر
والخيرُ مُرتقبٌ والفتحُ منتظرٌ ... والحق رغم جهود الشر منتشر
ب ... بصحوةٍ باركَ الباري مسيرتها ... نقية ما بها شوب ولا كدر
ما دام فينا ابن صالح شيخ صحوتنا ... بمثله يرتجى التأييد والظفر
فقال الشيخ رحمه الله تعالى :
أنا لا أوافق على هذا المدح لأني لا أحب أن يربط الحق بالأشخاص ، كل شخص يأتي ويذهب ، فإذا ربطنا الحق بالأشخاص ، معناه أن الإنسان إذا مات قد ييأس الناس من بعده .
فأقول : إذا كان بإمكانك أن تغير البيت الأخير بقولك :
ما دام منهاجنا نهج الأولى سلفوا ... بمثلها يرتجى التأييد والظفر
فهذا طيب .
أنا أنصحكم من الآن وبعد الآن ألاّ تجعلوا الحق مربوطا بالرجال :
أولا ً : لأنهم قد يضلون ، فهذا ابن مسعود رضي الله عنه يقول : من كان مستنا فليستن بمن مات فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة .
ثانياً : أنه سيموت ، ليس فينا أحدٌ يبقى أبداً لِلَّهِ (وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مّتّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ) [الأنبياء : 34].(4/144)
وثالثاً : أنه ربما يغتر إذا رأى الناس يبجِّلونه ويكرمونه ويلتفون حوله ربما ظن أنه معصوم ويدَّعي لنفسه العصمة وأن كل شيء يفعله فهو حق ، وكل طريق يسلكه فهو مشروع ، ولا شك أنه يحصل بذلك هلاكه ، ولهذا امتدح رجل رجلا عند النبي عليه الصلاة والسلام فقال له : " ويحك ، قطعت عنق صاحبك " .
وأنا أشكر الأخ على ما يبديه من الشعور نحوي وأسأل الله أن يجعلني عند حسن ظنه أو أكثر ، ولكن لا أحب المديح .
" لقاء الباب المفتوح " / اللقاء السابع والأربعون / السؤال 1148 .
قلت : فلعلَّ في هذا عبرة لمحبي الشهرة والباحثين عن مديح الناس وهم لا يستحقونه لِلَّهِ أن يروا هذا الإمام الذي يستحق المدح كيف يقابله لِلَّهِ
(2) حلم محمد بن صالح العثيمين على من سفه عليه رحمه الله تعالى :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
كان الشيخ محمد بن صالح العثيمين على من سفه عليه رحمه الله تعالى مثلاً أعلى للعالم الحليم، إن تكلم تكلم بعلم، وإن سكت سكت بحلم.
وتمعن في هذا الموقف الدالة على حلمة رحمه الله :
(1) في إحدى عمرات الشيخ كان قد أدى العمرة مع جمع من أصحابه وقد سكنوا جميعاً في مسكن واحدٍ ، وفي أثناء رجوعهم من المسجد الحرام إلى المسكن مرَّ الشيخ رحمه الله مع مَن معه على مجموعة من الشباب اللاهي وهم يلعبون " كرة القدم " لِلَّهِ فوقف الشيخ بينهم ينصحهم ويوجههم للصلاة ، فكان أن قابل أولئك الشباب الشيخَ بشيء من اللامبالاة والاستهزاء لِلَّهِ فطلب الشيخ ممن معه أن يذهب إلى السكن ويبقى وحده مع أولئك الشباب !
فكان أن حصل للشيخ ما أراده ، فلما رأى الشباب أن الشيخ مصرٌّ على البقاء ليذهبوا معه للصلاة سبَّ عليه واحدٌ منهم سبّاً مقذعاً بكلمات قبيحة نابية لِلَّهِ
وقد فعل ذلك حتى لا يجعل مجالاً للشيخ في أن يبقى بينهم ، وهم - بطبيعة الحال - لا يعرفون أن هذا هو الشيخ ابن عثيمين !(4/145)
فتبسم الشيخ لِلَّهِ وأصرَّ على البقاء حتى يصلِّي الشباب ، وأن يذهب هذا السابُّ معه! وجلس الشيخ وسطهم على حجر مصرّاً على قوله .
والشباب استاءوا من مسبَّة صاحبهم لمثل هذه " الشيبة " !
فطلبوا من صاحبهم السابّ - لما رأوا إصرار الشيخ - أن يرافق الشيخ ، ومعنى كلامهم أن يمشُّوه على قدر عقله !
فذهب الشاب السابُّ أخيراً مع الشيخ !
ولما دخلوا المسكن ، استأذن الشيخ من الشاب قليلاً .
فخاطب بعضُ مَن مع الشيخ ذلك الشاب : هل تعرف الشيخ ابن عثيمين من قديم !!
فكاد الشاب أن يُغمى عليه من الصعقة !
وقال : ماذا قلت ؟ من هذا الشيخ ؟
قال : هذا الشيخ ابن عثيمين لِلَّهِ ألا تعرفه ؟؟
فما كان من الشاب إلا أن تأثر من موقفه ذاك وبكى ، فلما حضر الشيخ قبَّل رأسَه وطلب منه المسامحة !
وما كان من الشيخ إلا أن يسامحه وهو الذي صبر عليه وهو يسبه ويشتمه ، ثم علَّمه الوضوء والصلاة، فالتزم ذلك الشاب على يد الشيخ رحمه الله .
فانظر إلى هذه الهمة ، وهذا الحرص ، وذلك الصبر من الإمام رحمه الله .
(3) تواضع محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
كان الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى مثلاً أعلى في التواضع وإنكار الذات ، ودونك بعض المواقف الدالة علىعظيم تواضع رحمه الله تعالى :
لما أفتى الشيخ رحمه الله بفتيا معلومة اتهمه بعض الناس بتهم شتى ، تتعلق باعتقاده لِلَّهِ والشيخ مقتنع بما قال وله في ذلك سلف مثل شيخ الإسلام رحمه الله.
وفي مرَّة زاره شبابٌ من طلبة العلم ومعهم أسئلة ، ومن ضمن تلك الأسئلة ما يتعلق بتلك الفتوى ، وما قيل في الشيخ - رحمه الله - .
فأجاب الشيخ ، ومن ضمن إجابته قال : إن الناس إذا رأوا إنساناً مشهوراً لِلَّهِ تكلموا عليه وطعنوا فيه حسداً من عند أنفسهم ... إلخ .
وراح الشباب ومعهم التسجيل .(4/146)
وفي الليل اتصل الشيخ رحمه الله بالشاب الذي أحضرهم إليه طالباً منه الشريط !!
فاستغرب الشاب - أولاً - اتصال الشيخ ، واستغرب أكثر من هذا الطلب !!
فطلب الشاب التوضيح من الشيخ عن سبب طلبه الشريط قال الشيخ : هناك كلمة قلتُها ما كان ينبغي لي قولها لِلَّهِ وأرى أن تحذف من الشريط لِلَّهِ وهي قولي " إنساناً مشهوراً " !! فهذه فيها تزكية للنفس أرى أن تحذف !!!
وقد عرض على الشيخ تولي القضاء من قبل مفتي المملكة العربية السعودية الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ - رحمه الله - الذي ألح على فضيلته بتولي القضاء ، بل أصدر قراره بتعيينه ، فطلب منه الإعفاء ، وبعد مراجعات واتصالات سمح بإعفائه من منصب القضاء .
وكان الشيخ رحمه الله متواضعاً ، فعلى كبَر سنِّه وكثرة علمه ، لم يمنعه ذلك من الاستفادة حتى ممن هو أقل منه سنّاً وعلماً ، أو من غير أهل العلم الشرعي ، ونذكر في ذلك صورتين :
الأولى : أنه لما كان يدرِّس تلامذته شرح صحيح البخاري ، ذكر مسألة ما يخرج من المرأة من رحمها ، وذكر أنه طاهر ويوجب الوضوء ، وذكر أن ابن حزم - رحمه الله - كان من المخالفين ، وقال - رحمه الله - لتلامذته :
ولكني لم أر له سلفاً في ذلك ، فإن رأيتم له سلفاً فيا حبذا !.. وقال :
أنتم جزاكم الله خيراً ساعدونا !!
والثانية : حدَّث بها الشيخ عادل الكلباني فقال :(4/147)
وأذكر لكم موقفاً شهدته مع فقيدنا الوالد الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين - تغمده الله بواسع رحمته ، وأدخله فسيح جنته - فقد كنا في زيارة له منذ أعوام جاوزت ثمانية - لم أعد أذكر - وكان عنده مجموعة من الأطباء ، من بينهم الدكتور " البار " ، وكان فضيلتُه يسألهم عن الدماء وأحوال المرأة في حيضها ونفاسها ، وكان تلميذاً نجيباً !! ، لم يدعْ مسألةً إلا سأل عنها ، ثم لما فرغ ، وأجابه الأطباء عن مسائله قال : إن مسألة الحيض من معضلات الفقه ، والتي تشكل علينا دائماً ، فأردت الاستزادة من أهل الاختصاص ، حتى نفتي عن علم .
رحمك الله أيها الشيخ . أ.هـ
فلله درك يا إمام ما أعظم خلقك وما أمتن دينك ، ورحمك الله من قدوة صالحة .
(4) اهتمام محمد بن صالح العثيمين بالعالم الإسلامي رحمه الله تعالى :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
كان الشيخ - رحمه الله -له اهتمام بالمسلمين في العالم ، وبالمجاهدين منهم فكان رحمه الله يفتي بدفع الزكاة لهم ، ويؤيدهم ويطلع على أحوالهم ، ويلتقي بوفودهم.
وفي أوائل الجهاد في الشيشان كان قد خصهم بدروس - سمعتُ بعضها - في المسجد الحرام في العشر الأواخر منه ، وأنهى كلمته بدعاء بليغ لأن ينصرهم الله ويثبت أقدامهم .
وله الموقف نفسه في الجهاد في البوسنة وأفغانستان وفي غيرها من بقاع العالم .
فرحمه الله ورفع درجته فما كان يشغله العلم والتعليم عن إخوانه المسلمين وأحوالهم.
وهذا بعض ما قاله الإخوة في الشيشان بعد وفاة الشيخ رحمه الله :
(( وإن ينس الناس فضل شيخنا : فلن ننسى : وقوفه معنا في الحرب الأولى ودعمه لنا بما يستطيع أثناء الحرب ، وكان بعد الحرب حريصاً على افتتاح المعاهد وإنشاء المحاكم الشرعية .
ولن ننسى مناصحته لنا وتوجيهه الدائم في شأن المحاكم وتطبيق الشريعة .(4/148)
ولن ننسى وقوفه معنا أيضاً في حربنا هذه سواءً بماله يوم أن أرسل لنا زكاته وقال هي لمصرف الجهاد فقط ، أو وقوفه معنا بتوجيه الناس إلى دعمنا.
ولن ننسى اتصاله اليومي أو شبه اليومي بنا ليسمع أخبارنا وينظر في حاجتنا ومشاكلنا ومسائلنا الشرعية .
ولن ننسى دعاءه لنا في السر والعلن من فوق منبره وفي دروسه ومحاضراته وفي قيامه وسجوده .
ولن ننسى ما أخبرنا به طلابه أنه كان من شدة اهتمامه بقضيتنا ، كان يقرأ على طلابه في المسجد الأخبار التي ننشرها في موقعنا ثم يختم بالدعاء لنا .
ولن ننسى أنه هو أول من أفتى بوجوب مناصرتنا ، وأول من وضح الرؤيا للناس عن أوضاعنا ومدى شرعية جهادنا ، ولقد كان لفتواه تلك بالغ الأثر حيث تتابعت علينا بعد فتواه النصرة والمؤازرة .
وإن ينس الناس ذلك كله أو يجهلونه فإننا لن ننسى مواقف الشيخ في قضايا المسلمين جميعها .
وهو الذي خصص من وقته كل أسبوع ساعة أو أكثر لقيادة المجاهدين في البوسنة، فكان يفتي لهم وينظر حاجتهم ويسمع أخبارهم ويستبشر بها وينشرها ، وقد حدثونا عن موقف له لا ننساه وهو أن قيادة المجاهدين في البوسنة سألوه عن حكم القتل خطأ وماذا يجب على القاتل وبعد الإجابة قال : أما دية المقتول فعلي وسأرسلها لكم إن شاء الله .
وله قبل ذلك مواقف مشرفة مع جهاد إخواننا في أفغانستان فمن إفتاء بدعمهم ومناصرتهم بكل طريقة ، ومناصحة للقادة واهتمام بشؤونهم ، إلى عمل دائم يترجم فيه اهتمامه بقضايا المسلمين .
ولم يكن الشيخ بعيداً عن " أرتيريا " و" الفلبين " لا بماله ولا فتواه ولا جهوده .
هذا هو الجانب الجهادي من حياة الشيخ الذي قد يخفي على الناس .
فإن كان الناس لا يعرفون جهود الشيخ هذه ، فمعهم عذر فإن الشيخ علم في الزهد والورع والاستخفاء بالأعمال ، فقد أقبلت إليه الدنيا وأدبر عنها والكل يعرف هذا عنه رحمه الله .(4/149)
ولو أردنا استيعاب مواقفه المشرفة رحمه الله مع قضايا الجهاد لطال بنا المقام ، فكيف لو أنا تحدثنا عن علم الشيخ ودعوته ودروسه وإنفاقه ونصحه للناس وإفتائه ومنهجه وطريقته وزهده وورعه و.. و .. إلخ . ..)) .
(5) مزاح محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ
كان النبي صلى الله عليه وسلم يمزح ولا يقول إلا حقّاً ، وكان الشيخ ابن عثيمين رحمه الله مرحاً حلو المداعبة ، وكان ذلك مما يضفي جوّاً مريحاً على الطلبة أثناء تحصيلهم العلم والجد في طلبه ، وله في ذلك مواقف منها :
(1) أنه جاءه عامي - أثناء درسه في الحرم ، وهو جالس على كرسيه -من خلفه ، والشيخ يشرح ويدرِّس فقرب هذا العامي من الشيخ وتخطى الرقاب حتى وصل إلى الشيخ من خلفه، فكأنه أرعب الشيخ قليلاً لأنه جاءه من الخلف .
قال العامي : عندي سؤال يا شيخ !!!
قال الشيخ : " وراك - لماذا - تسورتَ المحراب " ؟؟؟ - أو كلمة نحوها - !
ثم أصر العامي على السؤال ، ولم يعرف طبيعة الدرس ، والشيخ يمازحه ويلاطفه ويمتنع عن الإجابة !
فلما أصرَّ العامي : توجَّه الشيخ للطلبة وقال : هل تسمحون له بالسؤال ؟
فكلهم أجاب : نعم نسمح !
فسأل العامي - وأجاب الشيخ - وانصرف .
(2) قصة طريفة مع الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
المكان : مكة المكرمة .
الوقت : قبل وفاة الشيخ ابن باز رحمه الله .
الشخصيات : الشيخ ابن عثيمين ، وسائق تاكسي .
= صلَّى الشيخ ابن عثيمين في الحرم المكي ، وأراد بعد خروجه من الحرم الذهاب إلى مكان يحتاج الذهاب إليه إلى سيارة .
= أوقف الشيخ ابن عثيمين سيارة تاكسي ، وصعد معه .
= وفي الطريق ، أراد السائق التعرف على الراكب !
= السائق : من الشيخ ؟
= الشيخ : محمد بن عثيمين !
= السائق : الشيخ ؟؟؟؟ - وظن أن الشيخ يكذب عليه ، إذ لم يخطر بباله أن يركب معه مثل الشيخ- .
= الشيخ : نعم ، الشيخ !(4/150)
= السائق يهز رأسه متعجبا من هذه الجرأة في تقمص شخصية الشيخ !
= الشيخ ابن عثيمين : من الأخ ؟
= السائق : الشيخ عبد العزيز بن باز !!!!!!!!!!
فضحك الشيخ .
= الشيخ : أنت الشيخ عبد العزيز بن باز ؟؟؟!!!
= السائق : " إذن هل أنتَ الشيخ ابن عثيمين " ؟؟؟
= الشيخ : لكن الشيخ عبد العزيز ضرير ، ولا يسوق سيارة !!
ثم تأكد للسائق أنه هو الشيخ حفظه الله ، ووقع في إحراج .
(3) وفي قصة طريفة حصلت بين بعض طلابه وبين الشيخ رحمه الله حينما حج معه :
يقول الطالب :أنني حججتُ عن طريق الطائرة ، فتوقفت الطائرة في المدينة لتباشر بعدها مسيرتها إلى " جدة " وبين مطار المدينة والميقات مسافة قريبة .
وكنتُ في ذلك اليوم متعباً جدّاً ، وكنتُ حريصاً على أن تكون نية إحرامي فوق الميقات بالضبط لِلَّهِ لكنني لم أستطع ذلك ونمت لِلَّهِ حتى مرَّت الطائرة على الميقات ولم أنو الإحرام !
فاستيقظتُ بعده بقليل وعلمتُ أننا مررنا على الميقات فسارعتُ إلى النية !
ثم قدَّر الله تعالى أن ألتقي بالشيخ رحمه الله في " العزيزية " بعد درس الظهر في أحد مساجدها ، فتبعتُ الشيخ وكان وحده - تقريباً - فأخذتُ أشرح له ما حصل معي .
فقال الشيخ : كان الأصل أن تحرم حتى لو قبل الميقات بقليل ، وقد نبهنا على ذلك للمسافرين بالطائرة .
فقلتُ : إنني أحببتُ أن أحرم من فوق الميقات بالضبط لظني أنه لا بدَّ من ذلك .
قال الشيخ : لا ، الأمر بالنسبة للطائرة يختلف ، ويجوز قبل الميقات بقليل للاحتياط ولعدم ضبط ذلك في الجو كما هو الأمر في البر .
فقلتُ للشيخ : وماذا عليَّ الآن ؟
فقال الشيخ : عليك شاة تذبحها هنا وتوزعها على فقراء مكة !
قلت - ممازحاً الشيخ - : ألا يكفيني يا شيخ " سجود السهو " !! عن خطئي ذاك ؟!!
فضحك الشيخ رحمه الله - وعرف أنني غير جاد بقولي ذاك - وقال : لا ، سجود سهوك لِلَّهِ أن تذبح شاة وتوزعها على فقراء مكة !
رحم الله الشيخ وأسكنه فسيح جناته .(4/151)
تنظيم محمد بن صالح العثيمين رحمه الله لوقته :
والشيخ رحمه الله يعد من نوادر العصر في هذا الأمر ، فلو علمتَ مشاغله ومناصبه لقلتَ إن هذا يحتاج إلى ضعف وقت اليوم ليقوم بأعماله !
لكن الله تعالى وفق الشيخ وبارك في وقته ، وكم سمعنا ساعته تصدر صوتاً في الوقت المعيَّن لانتهاء الدرس ليبدأ بعدها بالأسئلة !
وحياته عجيبة وهي مثال للمسلم الحريص على وقته ، فهو يؤم المصلين ويدرس في المسجد ويدرس في الجامعة ويخطب الجمعة ، ويجيب على أسئلة الناس على الهاتف ويلبي دعوة الناس في أفراحهم ، ومناسباتهم ، ويحضر في " الرياض " اجتماع " هيئة كبار العلماء " ويشرف على سكن الطلاب ويزورهم هناك ويجلس معهم ، ويقوم بإلقاء المحاضرات على الهاتف ، ويجيب على أسئلة المراسلين له الكتابيَّة ، ويسجِّل حلقات في الإذاعة ، هذا عدا عن قيامه بواجب أهله ، ومناصحته لأهل المسئولية وغيرهم .
وعن برنامجه اليومي قال ابنه إبراهيم :(4/152)
إن الوالد - رحمه الله - كان عادة ما يستيقظ قبل صلاة الفجر ويوتر ثم يصلي الفجر ويرجع إلى البيت ويرتاح قليلاً ، ثم بعد ذلك يبدأ اليوم إذا كان عنده محاضرة استعد لها ، وإلا جلس للكتابة والرد على مكالمات السائلين حتى وقت الظهر ، ثم يذهب للمسجد لصلاة الظهر ، ثم يرجع للبيت مرة ثانية لمكتبته حتى يحين وقت الغداء ، وهي الفرصة التي يلتقي فيها بأبنائه لِلَّهِ وحتى في هذه اللحظة يضع التليفون بالقرب منه لمباشرة الرد على الأسئلة ، ثم بعد الغداء يجلس ويرد على التليفون ثم يذهب لصلاة العصر ويجلس بعدها بالمسجد قليلاً ، حيث يلتقي غالباً ببعض أهل القضايا والحاجات، ثم يعود للبيت ويجلس بالمكتبة حتى صلاة المغرب ، ثم يذهب لصلاة المغرب ليبدأ بعدها الدرس إلى العشاء ، ثم بعد صلاة العشاء يعود للبيت ، ودائماً ما يكون لديه برنامج بعد العشاء وحتى حوالي التاسعة والنصف إما خارج " عنيزة " أو عبر التليفون أي في بلدان المملكة أو أحيانا خارج المملكة في هولندا وألمانيا وكثير من الدول ، فيكون على اتصال بالمراكز هناك ، ويقوم بإلقاء محاضرة ربما امتدت لساعة عبر التليفون ، ثم بعدها يجلس إلى القراءة حتى حوالي الحادية عشرة .
هذا هو يومه العادي .أ.هـ
ومن حرص الشيخ على تنظيم وقته فإنه كان لا يخلط وقتاً بوقت ، فوقت الدرس ليس هو وقت الأسئلة ، ووقت القراءة ليس هو وقت الإجابة على الأسئلة ، وهكذا .
وقد حدَّث الشيخ عثمان الخميس - أحد تلامذته - عن هذا فقال :
إن الشيخ العثيمين - رحمه الله - كان شديد الحرص على استغلال وقته ، فكان يسمح للطلبة أن يقرءوا عليه الكتب ويستفتوا أثناء ذهابه إلى منزله من المسجد ، فيما إنه لا يسمح أبداً بسؤاله أثناء خروجه من بيته إلى المسجد لأنه وقت استغفاره وذكره ومراجعته لكتاب الله !!.
(6) زهد محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ(4/153)
عرف الشيخ عنه زهده في هذه الفانية ، ومن ذلك ما يلي :
(1) أنك تجده على لباس واحد لا يتغير طوال الأسبوع ، تبدأ " غترته " بالتناقص من بياضها يوماً فيوم ، حتى ترجع إلى بياضها في يوم الجمعة .
(2) ولما أهديت له عمارة من الملك خالد بن عبد العزيز جعلها وقفاً على طلبة العلم ، وصار هو القيم عليها .
(3) ولم يخرج من بيته الطيني إلا من قريب بضغطٍ من أبنائه .
(4) وكانت تعطى له الأعطيات الكبيرة فيعلن على الملأ مباشرة أنها لطلبة العلم.
(7) إنفاق محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
وأما إنفاقه في سبيل الله من أموال غيره فكثير وسيأتي بعضٌ منه ، وما يهمنا هنا هو إنفاقه من ماله الخاص ، وقد حدَّث عن ذلك بعض تلامذته فقال :
أما ما أخفاه الشيخ عن الأمة فهو تبرعه السخي الخاص للمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وأذكر أنني في إحدى زياراتي له في منزله عندما كنت أدْرس في الولايات المتحدة الأمريكية أنه أخذ بيدي إلى " مختصر " له فقال : يا عبد الله أنا وأنت هنا ولا يرانا إلا الله خُذ هذا المال ، وكان كبيراً ، وهو من مالي الخاص لِلَّهِ واشتر به مصاحف ووزعها على المحتاجين في السجون الأمريكية ، وأنت مسؤول عن الشراء وعن التوزيع ، وأسألك بالله ألا تبلِّغ بهذا أحداً !! .
ولم أبلِّغ بهذا أحداً منذ وقته إلى الآن ، أما وقت انتقل الشيخ إلى الرفيق الأعلى فلا أرى بأسا أن أذكر أنه كان من المنفقين في السراء والضراء ، وكان لا يريد علم الناس بذلك ، رحم الله الشيخ رحمة واسعة وأجزل له المثوبة والعطاء .
د. عبد الله الموسى
رئيس قسم الحاسب الآلي ونظم المعلومات ، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية .
زواج محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ(4/154)
تزوج ـ رحمه الله ـ ثلاث مرات الأولى : ابنة عمه بنت سليمان بن محمد العثيمين التي توفيت أثناء الولادة ، ثم تزوج بعد وفاتها من ابنة الشيخ عبد الرحمن بن الزامل العفيسان وظلت معه خمس سنوات لم ينجب منها فطلقها ثم تزوج بنت محمد بن إبراهيم التركي وهي أم أولاده ، ولم يجمع بين زوجتين .
أولاد محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
(1) عبد الله : موظف في جامعة الملك سعود .
(2) عبد الرحمن : ضابط في وزارة الدفاع .
(3) إبراهيم : ضابط في الحرس الملكي
(4) عبد العزيز : ضابط في الجوازات
(5) عبدالرحيم : موظف في الخطوط السعودية
ولم يطلب العلم أحد من أبناءه عليه ـ رحمه الله ـ وله ثلاث بنات .
[*] مواقف من حياة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
عرض سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم - رحمه الله - بل وألح على فضيلة الشيخ العثيمين في تولي القضاء ، بل أصدر قراره بتعيينه رئيساً للمحكمة الشرعية بالإحساء فطلب منه الإعفاء ، وبعد مراجعات واتصال شخصي من الشيخ العثيمين ، سمح الشيخ محمد بن إبراهيم بإعفائه من منصب القضاء .
الجهاد الشيشاني في حياة الشيخ :
بقلم / الشيخ أبي عمر السيف ، أحد المجاهدين في الشيشان :(4/155)
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن صار على دربه ، وبعد : فلقد كان لشيخنا العلامة محمد بن صالح العثيمين الأثر الكبير في نفوس المجاهدين الشيشان ، وكان متأثراً كثيراً عليهم متابعاً لهم في كل صغيرة وكبيرة ، كثير السؤال عنهم والاتصال بهم (( ولا سيما عندما يشاهد صوراً لجرائم القوات الروسية في حق النساء والرجال والأطفال في الشيشان ، فكان يتابع أخبار المجاهدين وأحوالهم أولاً بأول ، ويكثر من الاتصال بهم بنفسه ، ويسأل أسئلة تفصيلية تدل على حرص واهتمام ، ولا أعلم أحداً من العلماء المعاصرين سبقه في ذلك . فقد بدأ اهتمامه رحمه الله بقضية الجهاد في الشيشان من الحرب الأولى ، فكان نعم المعين والمشير ، ولمّا انتهت الحرب وهدأت الأمور ، وقامت المحاكم الشرعية كان الشيخ هو مرجعنا فيما يشكل علينا من المسائل والمواقف ، وكنا نلقى منه كل تجاوب وتفاعل وصبر ، فقد كان يستقبل أسئلتنا في كل الأوقات بكل ترحيب وبشاشة وسعة صدر ، بل أعطانا رقم هاتفه الخاص ليتيسر لنا الحديث معه في أي وقت.(4/156)
ولمَّا بدأت الحرب الشيشانية الثانية كان تفاعله أشد ، ومتابعته أكثر ، وأحسب أن له نصيباً وافراً من قول الله تعالى ( وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ ) [ الأنفال : 72 ] ، ونصيباً وافراً من قول النبي صلى الله عليه وسلم : " المسلم أخو المسلم لا يسلمه ولا يخذله " [3] . وكنا نتعهده بآخر الأخبار ، ونشرح له تفاصيل الواقع العسكري ، وكان يسأل عن قتلى العدو ، وعن السلاح المستخدم ، وعن حال المجاهدين وأسرهم ومعاناتهم . فإذا تأخرنا عنه اتصل بنا يسأل ويتابع ، وقد يتصل أحياناً في ساعة متأخرة بعد الثانية عشرة ليلاً ، وإذا تحدث معنا فإنك تشعر في كلامه بصدق التفاعل وبالحرقة والحزن والألم . كان يألم لألمنا ، ويفرح لفرحنا ، ويبشرنا بفضل الله تعالى وكرمه ، وكان يتأسف كثيراً من تقصير الأمة بكافة فئاتها في نصرة إخوانهم ، ومن جهة أخرى كان شيخنا رحمه الله يحث الناس على التبرع للمجاهدين في الشيشان ، ويدفع زكاة ماله للمجاهدين ، وقد حدثنا من نثق به من خاصة طلابه أنه كان يقرأ عليهم أخبار المجاهدين ، ويطلعهم على أحوالهم ، ويحثهم على نصرتهم والتعاون معهم )) (1)
مؤلفات محمد بن صالح العثيمين وكتبه رحمه الله تعالى :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
(1) فتح البرية بتلخيص الحمويّة (2)
(2) تفسير آيات الأحكام - لم يكمل
(3) شرح عمدة الأحكام - لم يكمل
(4) مصطلح الحديث
(5) الأصول من علم الأصول
(6) رسالة في الوضوء والغسل والصلاة
(7) رسالة في كفر تارك الصلاة
(8) مجالس رمضان
(9) الأضحية والذكاة
(10) المنهج لمريد الحج والعمرة
(11) تسهيل الفرائض
__________
(1) - جزء من رسالة كتبها الشيخ أبو عمر السيف أحد المجاهدين في الشيشان ، واحد تلامذة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
(2) أول كتاب طبع لفضيلة الشيخ محمد بن العثيمين - رحمه الله - وقد فرغ منه في 8 ذو القعدة سنة 1380هـ(4/157)
(12) شرح لمعة الاعتقاد
(13) شرح العقيدة الواسطية
(14) عقيدة أهل السنة والجماعة
(15) القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى
(16) رسالة في الطلاق الثلاث واحدة ولو بكلمات
(17) تخريج أحاديث الروض المربع
(18) رسالة حجاب
(19) رسالة في الصلاة والطهارة لأهل الأعذار
(20) رسالة في مواقيت الصلاة
(21) رسالة في سجود السهو
(22) رسالة في أقسام المداينة
(23) رسالة في وجوب زكاة الحليّ
(24) رسالة في أحكام الميت وغسله
(25) تفسير آية الكرسي
(26) نيل الأرب من قواعد ابن رجب
(27) القواعد الفقهية . نظم على بحر الرجز
(28) الضياء اللامع من الخطب الجوامع
(29) الفتاوى النسائية
(30) زاد الداعية إلى الله عز وجل
(31) المجموع الثمين من فتاوى ابن عثيمين ( 15 مجلد )
(32) حقوق دعت إليها الفطرة وقررتها الشريعة
(33) الخلاف بين العلماء أسبابه وموقفنا منه
(34) من مشكلات الشباب
(35) رسالة في المسح على الخفين
(36) رسالة في قصر الصلاة للمبتعثين
(37) أصول التفسير
(38) رسالة في الدماء الطبيعية للنساء
(39) أسئلة مهمة
(40) الإبداع في كمال الشرع وخطر الابتداع
(41) إزالة الستار عن الجواب المختار لهداية المحتار
(42) شرح أصول الإيمان
(43) شرح رياض الصالحين ( 4 أجزاء )
(44) الشرح الممتع على زاد المستنقع
(45) القول المفيد شرح كتاب التوحيد
(46) التعليقات على كشف الشبهات
(47) شرح ثلاثة الأصول
(48) شرح نزهة النظر
(49) شرح منظومة أصول الفقه
(50) شرح المنظومة البيقونية في مصطلح الحديث
(51) أثر المعاصي على الفرد والمجتمع
مرض محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى :
قال أحد أبناء الشيخ رحمه الله وهو عبد الله الصالح العثيمين :(4/158)
لقد جاء اكتشاف مرض الشيخ - رحمه الله - متأخراً ، وكان اكتشافه أول الأمر في مستشفى الملك فهد بالحرس الوطني ، وقد قام المستشفى - إدارة ومختصين - بما يُشكرون عليه من عناية ، ثم أجريت له فحوصات أخرى في مستشفى الملك فيصل التخصصي ، ونال من إدارته والمختصين به كل عناية ورعاية ، فجزى الله الجميعَ في المستشفيين خير الجزاء ، وقد اختلفت آراء الأطباء سواء من كشفوا عليه أو من اطلعوا على التقارير عنه ، واستشيروا حولها في طريقة علاجه ، فكان منهم من رأى علاجه بالأشعة والكيماوي ، ومنهم من لم ير ذلك ، وفي تلك الظروف كان الشيخ محمد متردداً لِما رآه من اختلاف وجهات نظر الأطباء ، ولمزيد من الاطمئنان - تشخيصا وعلاجا - جاءت مشورة ولاة الأمر في هذا الوطن له كي يسافر إلى أمريكا ، حفظهم الله ورعاهم وجزاهم أفضل ما يجزي به عباده الصالحين على ما أبدوه تجاهه من عطف وما قاموا به من رعاية ، وقد أكدت الفحوصات هناك ما تُوصل إليه من تشخيص في المملكة ، واستقر الرأي الطبي على أن يعالج مدةً بالأشعة ، مع جرعات مخففة بالكيماوي ، ثم يبدأ العلاج بالكيماوي وحده ، وسُرَّ الشيخ محمد بذلك ، وقدم إلى الوطن ليبدأ في مستشفى الملك فيصل التخصصي ما استقر الرأي الطبي عليه ، [ وعولج ] بالأشعة فعلا ، على أن الأطباء رأوا أخيراً أن سلبيات علاجه بالكيماوي أوضح من إيجابياته ، ففضلوا عدم علاجه به، وقبِل الشيخ ما فضَّلوه.
كتبه في جريدة الجزيرة - الطبعة الأولى - محليات الخميس 23 ،شوال 1421 ، العدد10339
الدرس الأخير لمحمد بن صالح العثيمين رحمه الله في الحرم المكي :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
قال بعض إخواني الشباب ممن حضروا ذلك الدرس :
الدرس الأخير لفقيد الأمة وفقيد العلم في الحرم كان درس العبرات ..!!(4/159)
كنت ممن استمع إلى درسه الأخير - قدس الله روحه - في ليلة الثلاثاء المتمم للثلاثين من رمضان لهذا العام 1421هـ .
وكان لحضور هذا الدرس أهمية في نفسي لسببين :
أولهما :أنه قبل ذلك اليوم بيومين أخذ المرجفون يشيعون بالهاتف والإنترنت خبراً كاذباً عن وفاة الشيخ - قدس الله روحه - فنكذّب الخبر بصفتنا قد استمعنا للدرس في الحرم .
والثاني : أننا نعلم حقيقة ما ألمَّ بالشيخ من داء عضال ، أجمع الأطباء قديما وحديثا على أن من وصلت حالته إلى ما وصلت إليه حالة الشيخ قد أصبحت أيامه معدودة إلا أن يشاء الله شيئاً ...
وكان صوت الشيخ - قدس الله روحه - يشير [ لما ] وصلت إليه حاله من تدهور في الصحة العامة ، ونحول شديد في جسمه نقله عنه كل من رآه ، لا سيما وأن مرض السرطان - أجارنا الله وإياكم - معروف عنه أنه يسبب آلاماً رهيبة ومبرحة للمصاب به لا يمكن التغلب عليها إلا بجرعات كثيرة من دواء مخدر ( كالمورفين )، ولا أشك في أن الشيخ - قدس الله روحه - وكما سمعنا أيضا - قد رفض تعاطي ذلك الدواء وآثر الاحتساب فعلى الله أجره ولله الأمر من قبل ومن بعد ..
كنت أستشف من خلال صوت الشيخ مقدار ما يعانيه ، ولكنه كان مصرّاً على إلقاء درسه كالعادة حتى لو لم يستمر إلا ثلث ساعة أو أقل من ذلك ، [ وعندما ] تشتد وطأة المرض عليه يغيب عن الحرم .. وقد افتقدناه حوالي أربعة أيام من الشهر لشدة ما ألم به ، ثم عاد ونحن بين خوف ورجاء ..
كان درس ليلة الثلاثين درساً عجيباً مفرحاً ومحزناً اختلطت فيه الفرحة بالخوف ، واختنقت فيه العبرات ..!!
كانت الفرحة بسماع صوت الشيخ المُتعب وتمثل الفرح في أنني تأكدت من كذب خبر وفاته المشاع يومها ..(4/160)
بدأ الشيخ بالحديث بصوت أثقلته الآلام ، فتحدث عن العيد وأن الله سبحانه وتعالى جعل للمسلمين ثلاثة أعياد - الأضحى والفطر والجمعة - حق للمسلمين أن يفرحوا فيها بما أنعم الله عليهم من توفيق للأعمال الصالحة ، وفصّل فيها قليلا ، ثم انتقل إلى الإجابة على الأسئلة ..
وقد أطال الشيخ - قدس الله روحه - درسه تلك الليلة على غير ما اعتدناه في هذه السنة من اختصار حتى أن الدرس في الأيام السابقة لذلك اليوم ربما لم يكد يستغرق العشرين دقيقة ، إلا أن الدرس الأخير أخذ أكثر من خمس وثلاثين دقيقة أجاب فيه - قدس الله روحه - على أسئلة كثيرة..!!
ثم اقتربت النهاية ، وتسارعت الأنفاس ، واضطربت نبضات القلوب خوفاً من أن هذا الدرس ربما يكون آخر العهد بشيخنا الحبيب الذي طالما ارتوينا من معينه ، واستنرنا بنور علمه وفقهه !!
لا أدري كيف كان حال من حولي حيث أخذت أتخيل أننا ربما لا نلقى حبيبنا بعد عامنا هذا بل بعد درسنا هذا !!
لا أدري عما كانت آخر الفتاوى لانشغال الفكر بالتفكير في أن هذا ربما كان آخر العهد ، ولكن سرعان ما انتبهت على انتهاء الأسئلة وقال الشيخ بعدها قولة حُفرت في الذاكرة !!
نعم لا زلت أذكر آخر كلمات نطق بها الشيخ فأوشك على البكاء وأبكى من استمع له ..!!
قال الشيخ بصوته المتعب : وحيث أن هذه الليلة هي ليلة الثلاثين من رمضان فسيكون هذا آخر درس لهذا العام !!
يا للهول آخر درس !!! لقد قال الشيخ : آخر درس ؟؟!! نعم قالها ، ولكن قال بعدها وخنقته العبرة: لهذا العام ، ولكن كان لسان الحال يقول : بل آخر درس إلى الأبد ..!!!
كان صوت لسان الحال أعلى من ذلك الصوت المثقل بالآلام فكأن الشيخ لم يقل : لهذا العام ، وكأننا ما سمعناه قال إلا : آخر درس إلى الأبد !!!
إنا لله وإنا إليه راجعون ..اللهم أجرنا في مصيبتنا واخلفنا خيراً منها !!
نعم والله ..كان هذا ما شعرت به وشعر به من حضر ذلك الدرس الذي لا يُنسى أبد الدهر ..!!(4/161)
حتى لقد رأيتُ من نقل عن الشيخ - قدس الله روحه - قوله هذا ( آخر درس لهذا العام ) ، ولكن الناقل قد أسقط الكلمة الأخيرة وما قال إلا ( آخر درس ) !! ولا أشك في أنه لقي ما لقينا ونقل عن الفقيد ما قال لسان الحال لا ما قال هو ..!!
إنا لله وإنا إليه راجعون ..اللهم أجرنا في مصيبتنا واخلفنا خيراً منها !!
أعظم الله أجرنا وأجركم في فقيد الأمة وفقيد العلم والعلماء ..
على مثل ابن العثيمين فلتبك البواكي ..
لعمرك ما الرزية فقد مال ولا شاة تموت ولا بعير
ولكن الرزية فقد شيخ يموت لموته خلق كثير
أ.هـ
آخر ساعات محمد بن صالح العثيمين كانت مع كتاب الله :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ
تحدث الدكتور " عامر رضوي " عن آخر ساعة في حياة فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين بأنه كان يقرأ القرآن الكريم ، ثم دخل في غيبوبة وبعدها بساعة انتقل إلى جوار ربه الكريم.
وقد وصف د. رضوي - الطبيب المعالج - الأيام التي قضاها بجوار الشيخ بأنه كان يحس بالألم لمرض الشيخ وأنه يتعامل معه مثلما يتعامل الابن مع أبيه ، وقال : وكنت أدعو الله له بالشفاء ولكن قدر الله كان أسرع .
وذكر د. رضوي بأن الشيخ رحمه الله كان قليل الكلام ، كثير الحمد والاستغفار ، وقد سمعه يقرأ سورة الفاتحة وفي مرات أخرى كان يتمتم لصعوبة حالته الصحية وعندما سأل أبناءه عن ما يتمتم به الشيخ ذكروا بأنه يقرأ القرآن .
وفاة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى :(4/162)
لم يكتشف مرضّه إلا في شهر صفر من العام 1421 هـ ، أثناء مراجعته لمستشفى الملك فهد بالرياض ، وقد ظل الشيخ - رحمه الله - صابراً محتسباً رافضاً للعلاج الكيماوي ، ونزولاً عند رغبة ولاة الأمر بالإلحاح عليّه بالعلاج ، سافر إلى بضعة أشهر إلى أمريكا للعلاج ، ورغم ذلك لم تفتر عزيمته في سبيل نشر العلم ففي رحلته العلاجيّة تلك ، وقبل ستة أشهر من وفاته نظم العديد من المحاضرات في المراكز الإسلامية والتقى بجموع المسلمين من الأمريكيين وغيرهم ووعظهم وأرشدهم كما أمهم في صلاة الجمعة.
وكان يحمل هم الأمة الإسلامية وقضاياها في مشارق الأرض ومغاربها وقد واصل -رحمه الله تعالى- مسيرته التعليمية والدعوية بعد عودته من رحلته العلاجية فلم تمنعه شدة المرض من الاهتمام بالتوجيه والتدريس في الحرم المكي حتى قبل وفاته بأيام.
أصابه المرض فتلقى قضاء الله بنفس صابرة راضية محتسبة، وقدم للناس نموذجاً حياً صالحاً يقتدي به لتعامل المؤمن مع المرض المضني، نسأل الله تعالى أن يكون في هذا رفعة لمنزلته عند رب العالمين.
توفي الشيخ - رحمه الله - يوم الأربعاء 15 شوال 1421هـ وكانت وفاته في الساعة السادسة مساءً بمستشفى الملك فيصل التخصصي بجدّة إثر إصابته بسرطان القولون الذي ظل يعاني منه لفترة طويلة وهو محتسب ذلك عند الله .
جنازة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى :
قال بعض إخواننا الذي حضورا جنازة الشيخ - رحمه الله - :
هكذا كان مشهد الرحيل ... ... ... الذي ودعنا فيه شيخنا ابن عثيمين رحمة الله تعالى عليه ليبدأ فيه رحلة الدار الآخرة .
لقد كان مشهداً يبعث على الرهبة والإجلال لذلك العالم الفذ الذي ملأ الدنيا بعلمه مسموعاً ومرئيّاً ومقروءاً .(4/163)
آه ! لو رأيت تلك الجموع التي توافدت من كل صوب لتحضر الصلاة والدفن على شيخنا الجليل ... . وجوه واجمة حزينة تتعجل وصولها إلى الحرم منذ وقت مبكر ... ... .. غص الحرم على غير عادته في مثل هذا الوقت فالصلاة صلاة عصر وليس موسم إجازة ، بل هو موسم اختبارات ومع ذلك فقد كنت تشعر أن المسجد الحرام قد امتلأ بالمصلين ... ... ... وتتيقن تماما حينما تجد الأعناق تشرئب لتنظر إلى ذلك المسجى أَمام الإمام ، فقد وضعت الجنازة منذ الساعة الثالثة تقريباً تحت حراسة مكثفة - وليس لهم سبيل أن يضعوها إلا في ذلك الوقت فقد كان الحرم يغص غصّاً بالناس - وما عدت ترى في الصحن إلا شباباً ، وتوقفت حركة المطاف نهائيّاً ، وما أن انتهت صلاة العصر وتقدم بالجنازة ليصلي عليها إمام الحرم - حفظه الله - ونادى المنادي " الصلاة على الأموات يرحمكم الله " حتى تحس كأن القلوب انخلعت من أماكنها ، وسرى خشوع عجيب ، وصمت رهيب ، لا تكاد ترى أحداً لم يقم ولم يصل ... ... ... فقد كان الحديث عن الجنازة يملأ أرجاء الحرم قبل الأذان وبعده .
وصُلِّي عليه رحمه الله تعالى ، وما أن فرغ الإمام من الصلاة عليه حتى تسابقت الجموع لحمله ... ... ... .. أنى لك يا " نور " - كاتب المقال - أن تصل إليه فتحمله ، [ هناك ] مئاتٌ كلٌّ يريد حمل ذلك الجثمان رحمة الله تعالى عليه ، وانطُلق به إلى مقبرة " العدل " بسيارة إسعاف من طريق خاص حيث قد أغلقت الطرق ولا تستطيع أن تصل إلى المقبرة إلا عن طريق طويل ، والجموع قد سبقت بالسيارات ، وجموع منتظرة في المقبرة ، لفيف عظيم من كل المستويات : علماء ، وطلبة علم، وعوام ، غصت بهم مقبرة " العدل " بمكة المكرمة ، وازدحمت الشوارع المحيطة بالمقبرة بسياراتهم ولك أن تتخيل ذلك الجو الكئيب الذي سيطر على الجميع ، فلا تكاد تسمع إلا " أحسن الله عزاءنا في شيخنا ، وعوض الأمة خيراً في فقده " .(4/164)
حفر له قبره ، ولحُِّد ، وأهيل التراب عليه رحمة الله تعالى عليه ، ولم تستطع قوات الطوارئ الكثيفة المتواجدة بالمقبرة أن تمنع الشباب [ من ] أن يصلوا إلى قبر الشيخ ، فقد غلبتهم كثرة الناس فما عاد لهم إلا أن يقفوا مع الواقفين ، ووقفت تلك الجموع في رهبة عظيمة ترفع أيديها لمولاها أن يسبغ على الشيخ واسع رحمته وأن يسكنه فسيح جنته ، فلم تعد تسمع إلا همهمة دعاء وابتهال متضرع وسؤال خاشع يسألون له الرحمة .
وما انتهت مراسم الدفن إلا في الساعة الخامسة والنصف عصراً من زحمة الناس .
هنيئاً لذلك الجثمان الطاهر الذي عاش لأجل غيره فعاش كبيراً ومات كبيراً .
اختفى عن الأنظار لكنه لم يتزحزح من القلوب ... .. بقيت كلماته مدوية في الآذان وعلمه مبسوط للناس وما مات من كان ذلك شأنه مثل الشيخ ابن عثيمين يفرح له فقد قدم للإسلام الشيء الكثير وشهد له البشر بالخير والعلم والفضل والبذل لا ينكر ذلك إلا حاقد ... ... ... . وعلى أمثالنا فلتبك البواكي ... ... ... رحمة الله تعالى عليك فقد كنت لنا جميعا نعم الأب والمعلم . أ.هـ
بيان الديوان الملكي بوفاة الشيخ - رحمه الله -
انتقل إلى رحمة الله تعالى مساء أمس في جدة فضيلة الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين عضو هيئة كبار العلماء اثر مرض عانى منه طويلا وسيصلى عليه في المسجد الحرام بعد صلاة عصر اليوم "الخميس" الموافق 16/10/1421هـ إن شاء الله ومن ثم يوارى الثرى بمكة المكرمة.
نسأل الله جل وعلا أن يتغمد الفقيد بواسع رحمته ومغفرته ويسكنه فسيح جنته ، وأن يلهم أسرته وذويه الصبر ويجزل لهم الأجر ويعوض المسلمين بفقده خيراً ، والحمد لله على قضائه وقدره.
إنا لله وإنا إليه راجعون .
ما حصل عند تغسيل محمد بن صالح العثيمين رحمه الله :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ(4/165)
ذكر المغسلون الذين قاموا بتغسيل الشيخ رحمه الله وتكفينه انهم شاهدوا نورا وبشاشة في الوجه وسهوله في التغسيل ، حتى أن المغسلين تفاجئوا من نظافة الشيخ عندما أتوا به وكانوا يعتقدون أنه قد غسل قبل مجيئه ، وبسبب ارتخاء في الفكين كان فم الشيخ مفتوحا ظاهرة أسنانه وكأنه مبتسم فحاول ابنه عبد الرحمن قفل فم الشيخ لمدة نصف ساعة ومع ذلك لم يستطيعوا ..
ولعل هذا بإذن الله من المبشرات ومن علامة حسن الخاتمة وهذا ما نرجوه للشيخ غفر الله له ولنا ولوالدينا ولجميع المسلمين . اللهم آمين .
ذكرت هذه الحادثة في مجلة " الدعوة " عدد رقم ( 1766 ) .
رؤى في الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
روى أحد طلاب الشيخ ابن عثيمين وهو فضيلة الشيخ عبد العزيز بن فوزان الفوزان عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام معهد القضاء العالي والمدرس حالياً في معهد العلوم الإسلامية في أمريكا رؤيا رآها في الشيخ رحمه الله ، حيث قال في خطبة صلاة الجمعة في أمريكا - نقلها بعض الإخوة ممن سمع الخطبة - :(4/166)
رأيتُ أنني ذهبت إلى منزل الشيخ المعروف في " عنيزة " كعادتي ورأيت منزلا غير الذي أعرفه ؛ رأيت قصراً ضخماً لا أستطيع أن أصف لكم ما به من زينه وجمال ؛ لأنه يفوق ما نعرفه ، ودخلت القصر ورأيت الشيخ أمامي في أحسن حال وأجمل صورة ، أطول من قامته المعروفة ، وفي صحة كاملة فرحب بي فجعلت أبكي وأقبِّله عن يمينه وشماله حتى هدأ روعي ، ثم أخذني وخرجنا من القصر وإذ أنا أمام الحرم المكي ؛ الناس تصلي وإذا بمجنزرات ضخمة لم تُصنع حتى الآن تهدم البيوت المجاورة للحرم الشريف من أجل توسعة الحرم ، ثم دخلنا القصر وذهبنا إلى المجلس فوالله لا ترى آخره وفيه من النمارق والفرش والزينة مالا يتخيله أحد ، ثم ذهبت أقضي حاجةً للشيخ طلبها لنفسه ، ومن حبي للشيخ ترنمت بأبيات أمدحه فيها ، وإذ هو يسمعني فضحك .
فتنبهت من نومي ، وسألتُ أهل العلم في هذا الحلم فأفادوا : أن الشيخ إن شاء الله وجد من الله الجزاء الحسن ، وأن التوسعة حول الحرم إنما يدل على انتشار الإسلام في جميع أنحاء العالم .
هذا ما سمعته بأذني من الشيخ في خطبة الجمعة 12 يناير رحمه الله شيخنا ابن عثيمين وأسكنه فسيح جناته، وغفر الله لشيخنا عبد العزيز الفوزان وأطال الله في عمره .أ.هـ
مقال كتبته قبل وفاة الشيخ
وقد كتبتُ مقالاً قبل وفاة الشيخ بنحو ستة أشهر - وذلك لما ذهب الشيخ - رحمه الله - للعلاج في " أمريكا " - ، أرى أن فيه فائدة أجعله في أواخر كتابتي هذه :
" أعَلَى مثل مشايخنا : ابن باز والألباني وابن عثيمين نبكي ؟ فلنبكِ على أنفسنا " !
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
وبعد
فإن كان منَّا بكاء فليكن على أنفسنا ، لا على مشايخنا وأئمتنا ؛ ذلك أنهم لقوا ربهم وقد قدموا لأنفسهم ما يفرحون به .(4/167)
فالشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله مات وقد نصر العقيدة السلفية ، وبيَّن المنهج الحق الواضح ، وألَّف عشرات الرسائل ، وأفتى آلاف الفتاوى ، وله مئات الأشرطة العلمية النافعة ، مات وقد حج أكثر من خمسين حجة وأضعافها من العُمَر ، ومئات الطلبة النابغين النابهين ، مات وأمامه شفاعات شفع فيها لمستحقيها ، وأموال قدَّمها لمحتاجيها ، وعمل خير لا يمكن إحصاؤه ها هنا .
أمثل هذا يُبكَى عليه ؟؟
وشيخنا الألباني رحمه الله نصرَ السنة ، وقمع البدعة ، وأوضح المحجة ، وبيَّن صحيح السنَّة مِن ضعيفها ، وألان للناس الحديث ، وله عشرات الكتب النافعة ، وآلاف الأشرطة العلمية الشرعية .
أمثل هذا يُبكَى عليه ؟؟
وهذا رفيق دربهم وثالث أئمتنا الشيخ ابن عثيمين ، يلقى ربه - إن شاء الله - ولم يترك فنّاً إلا وشرحه وبيَّنه ، وله آلاف الفتاوى والأشرطة ، ومئات الطلبة بل آلاف منهم من تتلمذ عليه مباشرة ومنهم من تتلمذ على أشرطته ، ألان للناس الفقه ، فقرأ الناس الفقه وفهموه بعد كان لا يجرؤ عليه إلا الخاصَّة .
يموت الشيخ وهو صاحب همَّة عالية ، لم يمنعه مرض من إفتاء ، ودروس ، وخطبة جمعة ، لم يبع دينه بعرض من الدنيا ، أتته الدنيا وهي راغمة فركلها برجله ، وُهبت له أبنيةٌ فجعلها وقفاً على طلبة العلم، وأُعطي الأموال الطائلة فجعلها للنفقة عليهم ، أفتى ودرَّس الطلبة والمعتمرين والحجاج ، لم تأت عليه سنة إلا وفيها عدة عُمَرٍ وحجة ، كان فيها العابد والمعلِّم والمربِّي والمنفق في سبيل الله .
أمثلُ هذا يُبكَى عليه ؟؟
إخواني :
إنما يُبكى على من مات مقصِّراً لاهياً تاركاً أمر الله ، أما من مات على عقيدة صحيحة ، ومنهج صحيح ، وتعليم وتوجيه وتربية : فهنيئاً له هذه الميتة مع كثرة فتن هذا الزمان .
أسألكم بالله ألا تحبون أن تموتوا على مات عليه هؤلاء الأئمة ؟؟
فلم لا نعمل عملهم ؟ ولا نقدم لأنفسنا مثل ما قدَّموا ؟؟(4/168)
وإنه وإن في القلب لوعة وحسرة على فقدان أئمة الهدى ، فإن فيه فرحاً بأنهم يقدمون على ربٍّ غفور رحيم كريم ، أسأله سبحانه أن يجزل لهم المثوبة وأن يسكنهم الفردوس ، وأن يبدلنا خيراً منهم، وأن يلحقنا بهم على خير .
والحمد لله أولاً وآخراً
أ.هـ
{ الخاتمة } :
اعلموا أحبتي في الله تعالى " أن الله تعالت صفاته، وتقدست أسماؤه، يختص من أحب ممن آمن به وتوكل عليه لحملة دينه ونشر سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فيتفضل عليهم فيعلمهم الكتاب والحكمة، ويفقههم في الدين، ويعلهم التأويل ويرفعهم بالعلم ويزينهم بالحلم " (1) .
وهذه الكوكبة من العلماء التي دونّا سيرهم الموجزة ممن أختارهم الله لحملة دينه ونشر هدي وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وما كان عليّه السلف الصالح من أخلاق وآداب وسنن - نحسبهم كذلك ولا نزكي على الله أحد.
__________
(1) أخلاق العلماء - للإمام المحدث أبي بكر الآجري - المتوفي 360هـ - بتصرف(4/169)
فمع مداد دموع المحبين " سقط القلم من بين أصابع تلك الثلّة الطيبة من العلماء، وذاب صوتهم القوي النديّ اللطيف، الذي ملأ طباق الأرض علماً، وسكتت ألسنتهم التي جالت الحكمة من فوقه، وأطبقت الشفاة التي طالما تحركت بالتوحيد والتفسير والتأويل والفقه، وحيل بين الثرى وبين الثُريا برحيلهم، وحزن الكثير ممن لم يلتحق بحِلَق درسهم ومتابعة علومهم والتلقي بين أيديهم... وتنفست الصعداء صدور تربع الحقد والحسد من فوقها، واستبشرت النفوس المريضة التي أعياها السوء والبغضاء أن عجزت إدراك الفضيلة التي نلتموها، وما هيأ الله لكم من القبول التي سعت إليه نفوس طلاب العلم خاصّة والناس عامّة من شتى أقطار الأرض فكنتم بها بحق مجددين لعصركم ناشرين به علمكم الذي علمكم الله ..." (1) فرحمكم الله رحمة واسعة ، وألحقكم بالأنبياء والشهداء والصالحين ، إنه نعم المولى ونعم النصير .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
والحمد لله وحده أولاً وآخراً، وظاهراً وباطناً، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
{ تم بحمد الله تعالى ومنته }
[*] مراجع الكتاب :
(1) القرآن الكريم
(2) صحيح البخاري
(3) صحيح مسلم
(4) صحيح أبي داود
(5) صحيح الترمذي
(6) صحيح النسائي
(7) صحيح ابن ماجة
(8) صحيح الأدب المفرد
(9) صحيح الجامع
(10) السلسلة الصحيحة
(11) صحيح الترغيب والترهيب
(12) كتاب الزهد لابن المبارك
(13) أبو بكر الصديق شخصيته وعصره للدكتور علي محمد الصلابي .
(14) عمر ابن الخطاب شخصيته وعصره للدكتور علي محمد الصلابي .
(15) عثمان ابن عفان شخصيته وعصره للدكتور علي محمد الصلابي .
(16) علي ابن أبي طالب شخصيته وعصره للدكتور علي محمد الصلابي .
(17) إحياء علوم الدين للغزالي .
__________
(1) رفعت الأقلام وجفت الصحف وقضى نحبه علم الأمة وشيخ السنة الإمام الألباني - بقلم سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم شقرة - حفظه الله ورعاه - بتصرف(4/170)
(18) كن من الزاهدين لأمير بن محمد المدري .
(19) تزكية النفوس للدكتور أحمد فريد
(20) سير أعلام النبلاء للذهبي
(21) إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان، لابن القيم
(22) تفسير القرآن العظيم، لابن كثير
(23) الترغيب والترهيب، للمنذري.
(24) جامع العلوم الحكم لابن رجب .
(25) جلاء الأفهام لابن القيم .
(26) الجواب الكافي، لابن القيم.
(27) رياض الصالحين ، للنووي .
(28) الروح، لابن القيم .
(29) عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين، لابن القيم .
(30) عون المعبود بشرح سنن أبى داود، لشمس الحق أبادي .
(31) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، لابن حجر .
(32) مدارج السالكين، لابن القيم .
(33) مفتاح دار السعادة، لابن القيم .
(34) موعظة المؤمنين، للقاسم .
(35) الوابل الصيب ، لابن القيم .
(36) كتاب التوابين لابن قدامة المقدسي
(37) سلسلة أعمال القلوب للشيخ محمد المنجد .
(38) "حلية الأولياء" للحافظ أبو نُعيم
(39) أسد الغابة لابن الأثير
(40) "صفة الصفوة" لابن الجوزي:
(41) الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر العسقلاني
(42) الاستيعاب في معرفة الأصحاب لابن عبد البر
43) تذكرة الحفاظ للذهبي
44) طبقات الحفاظ للإمام السيوطي
45) حياة الصحابة للكاندهلوى
46) اللآلئ الحِسَان بِذِكر مَحاسِن الدعاةِ والأعلام لمهنا نعيم مصطفى نجم .
(47) المورد العذب المعين من آثار أعلام التابعين لمحمد خلف سلامة .
(48) مرآة الجنان وعبرة اليقظان لليافعي
(49) أخبار القضاة لوكيع
(50) طبقات الأسماء المفردة من الصحابة والتابعين للبرديحي
(51) طبقات الحنابلة لأبي يعلى الحنبلي
(52) طبقات المفسرين للسيوطي
(53) طبقات المفسرين لأحمد الأدنروي
(54) طبقات الفقهاء للشيرازي
(55) البداية والنهاية لابن كثير
(56) تهذيب الكمال للمزي
(57) الآداب الشرعية لابن مفلح
(58) أدب الدنيا والدين للماوردي
(59) صور من حياة الصحابة لعبد الرحمن رأفت باشا
(60) ذم الهوى لابن الجوزي(4/171)
(61) ذم الهوى والنفس للشيخ عبد الهادي حسن وهبي
(62) تهذيب الكمال للحافظ المزي .
(63) التحفة اللطيفة في تاريخ المدينة لمحمد بن عبد الرحمن السخاوي.
(64) الوافي بالوفيات لصلاح الدين الصفدي .
(65) مختصر تاريخ دمشق للإمام محمد بن مكرم المعروف بابن منظور تحقيق:إبراهيم الزيبق .
(66) تاريخ أمراء المدينة المنورة تأليف عارف أحمد عبد الغني .
(67) طبقات الفقهاء تأليف: أبو إسحاق الشيرازي .
(68) وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان لأبي العباس شمس الدين أحمد بن محمد بن أبي بكر بن خلكان .
(69) غاية النهاية في طبقات القراء محمد بن محمد بن الجزري .
(70) رجال حول الرسول لخالد محمد خالد .
(71) خلاصة تهذيب الكمال لأحمد بن عبد الله الخزرجي الأنصاري .
(72) الاستبصار في نسب الصحابة من الأنصار لابن قدامة المقدسي .
(73) تاريخ الإسلام للذهبي .
(74) جذوة المقتبس للحافظ أبي عبد الله الحميدي .
(75) التحفة اللطيفة في تاريخ المدينة الشريفة للإمام السخاوي .
(76) كتاب الجرح والتعديل لأبي حاتم الرازي :
(77) غاية النهاية في طبقات القُراء لابن الجزري :
الفهرس
الموضوع ... رقم الصفحة
1
كتاب الزهد ... 11
باب :حقيقة الدنيا وذم التنافس على الدنيا ... 11
ذم الدنيا ... 23
زوال الدنيا ... 27
الآخرة هي الباقية، وهى دار القرار ... 78
باب : أقسام الناس في حبهم للدنيا ... 80
باب : أضرار حب الدنيا ... 83
باب : حقيقة الموت ... 87
شدة الموت ... 100
فوائد ذكر الموت ... 102
حضور الموت ... 102
سكرات الموت ... 103
رُسُلُ ملك الموت ... 105
حسن الخاتمة ... 105
صور من سوء الخاتمة ... 106
صور من حسن الخاتمة ... 106
الوسائل التي يجعلها الله سبباً في حسن الخاتمة ... 109
باب : تعريف الزهد ... 110
باب : حقيقة الزهد ... 112
باب : درجات الزهد وأقسامه ... 119
باب : حكم الزهد ... 121
باب : فضائل الزهد ... 122
الموضوع ... رقم الصفحة
أقوال السلف في الزهد ... 137
باب : حاجة الناس إلى الزهد ... 142(4/172)
باب : كيف يزهد العبد في الدنيا ويرغب في الآخرة ... 142
باب : خصال الزهد ... 144
رأس الزهد ووسط الزهد وآخر الزهد ... 149
باب : علامات الزهد ... 151
باب : متعلقات الزهد ... 152
باب : ما ليس بزهد ويتوهم أنه زهد ... 155
باب : بيان تفضيل الزهد فيما هو من ضروريات الحياة ... 161
باب : الأسباب المعينة على الزهد في الدنيا ... 180
(1) النظر في الدنيا وسرعة زوالها وفنائها ... 181
(2) النظر في الآخرة وإقبالها ومجيئها ودوامها ... 183
(3) الإكثار من ذكر الموت والدار الآخرة. ... 188
(4) تشييع الجنائز والتفكر في مصارع الآباء والإخوان ... 197
(5) التفرغ للآخرة والإقبال على طاعة الله ... 200
(6) إيثار المصالح الدينية على المصالح الدنيوية: ... 210
(7) البذل والإنفاق وكثرة الصدقات : ... 217
(8) ترك مجالس أهل الدنيا والاشتغال بمجالس الآخرة : ... 220
(9) الإقلال من الطعام والشراب والنوم والضحك والمزاح. ... 252
(10) مطالعة سير الزاهدين وبخاصة سيرة النبي وأصحابه: ... 263
أولاً : مطالعة زهد النبي - صلى الله عليه وسلم - : ... 264
ثانياً نماذج من سير الزاهدين من الصحابة - رضي الله عنهم - : ... 272
اختلاف مراتب الصحابة رضي الله عنهم: ... 273
الموضوع ... رقم الصفحة
فضل العشرة المبشرين بالجنة : ... 274
فضل أهل بدر: ... 274
أهل بيعة الرضوان : ... 275
فضل سيرة الصحابة : ... 276
سيرة أبي بكرٍ الصديق رضي الله عنه ... 284
سيرة عمر بن الخطاب ... 365
اسم?عمر?بن?الخطاب? - رضي الله عنه - ?ونسبه?وكنيته?وألقابه ... 367
مولد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وصفته الخَلْقية ... 367
إسلام?عمر?بن?الخطاب? - رضي الله عنه - ... 367
قصة إسلام عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ... 368
ذهاب?عمر?بن?الخطاب? - رضي الله عنه - ?لرسول?الله - صلى الله عليه وسلم - ?وإعلان?إسلامه ... 370
أثر إسلام عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - على الدعوة ... 370
دعوة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ... 371
هجرة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ... 371
مناقب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ... 372(4/173)
(1) إيمان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وعلمه ودينه: ... 375
????هيبة?عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وخوف?الشيطان?منه? ... 376
(3) عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - مُلْهَمُ هذه الأمة: ... 377
????لم?أر?عبقرياً?ينزع نزع عمر? ... 378
(5) غَيْرَةُ عمر عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ... 380
(6)عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أحب?أصحاب?رسول?الله - صلى الله عليه وسلم - ?إليه?بعد?أبي?بكر ... 380
(7) بشرى لِعُمَرَ بن الخطاب - رضي الله عنه - بالجنة: ... 381
(8) موافقات?عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - للقرآن?الكريم? ... 381
الموضوع ... رقم الصفحة
(9) إلمام عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بأسباب النزول : ... 383
(10(10)تفسير عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لبعض الآيات وبعض تعليقاته ... 385
(11) ملازمة?عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لرسول?الله? - صلى الله عليه وسلم - ? ... 386
(12) من صدقات عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ووقفه: ... 390
(13) دعاء رسول الله لعمر بن الخطاب - رضي الله عنه - : ... 393
(14) زواج حفصة بنت عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - عنهما من رسول الله: ... 393
(15) فراسة عمر الصادقة في أبي مسلم الخولاني : ... 394
(16) مشورة عمر على أبي بكر بجمع القرآن : ... 394
?????تفقد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لأحوال أمراءه : ... 395
(18) قبول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - للحق إذا سمعه من الرعية ... 400
(19) تحقيقه للعدل والمساواة رضي الله عنه : ... 403
(20)شدة خوف عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - من الله تعالى بمحاسبته لنفسه: ... 413
(21) لين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وشدته : ... 419
(22) رحمة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - : ... 420
???? ومن أعظم مناقب عمر - رضي الله عنه - اعترافه بفضل أبي بكرٍ عليه ... 421
( 24 ) شجاعة عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ... 422
(25) حكم عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - على الناس بظاهر الأعمال ... 422
(26) ورع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - : ... 423(4/174)
(27) كان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وقافاً عند حدود الله تعالى : ... 428
(28) إكرام عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لأهل البيت : ... 430
(29) توقير عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - للصحابه : ... 431
(30) تواضع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - : ... 432
(31) غيرة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - على أعراض المسلمين : ... 433
الموضوع ... رقم الصفحة
وصية عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لولي الأمر من بعده : ... 437
صورٌ مشرقة من زهد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ... 437
سيرة عثمان بن عفان - رضي الله عنه - ... 453
اسم عثمان ابن عفان - رضي الله عنه - ونسبه ... 454
كنية?عثمان ابن عفان - رضي الله عنه - ... 454
لقب عثمان ابن عفان - رضي الله عنه - ... 454
مولد?عثمان ابن عفان - رضي الله عنه - ... 455
صفة عثمان ابن عفان - رضي الله عنه - الْخَلْقيَّة ... 455
مكانة عثمان ابن عفان - رضي الله عنه - في الجاهلية ... 456
إسلام عثمان ابن عفان - رضي الله عنه - ... 456
مناقب عثمان ابن عفان - رضي الله عنه - ... 458
(1) عثمان ذو النورين : ... 459
(2) حياء عثمان رضي الله عنه ... 460
(3) عثمان ابن عفان - رضي الله عنه - أحد العشرة المبشرين بالجنة : ... 461
(4) عثمان ابن عفان - رضي الله عنه - ابن عمة النبي - صلى الله عليه وسلم - ... 461
(5) عثمان ابن عفان - رضي الله عنه - من السابقين الأولين في الإسلام ... 461
(6) بشارات لعثمان ابن عفان - رضي الله عنه - : ... 462
(7) منزلة عثمان ابن عفان - رضي الله عنه - بين الصحابة ... 464
(8) إنفاق عثمان ابن عفان - رضي الله عنه - في سبيل الله تعالى ... 464
(9) عثمان ابن عفان - رضي الله عنه - جامع القرآن العظيم ... 468
(10) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شهد لعثمان ابن عفان - رضي الله عنه - أنه يُقتل مظلوما ... 470
(11) أشاد النبي بخلافة عثمان ابن عفان - رضي الله عنه - ... 470
(12) ابن عمر يشهد ببراءة عثمان مما اتهم به ... 471
الموضوع ... رقم الصفحة
(13) عدل عثمان ذي النورين رضي الله عنه ... 472(4/175)
مقتل عثمان - رضي الله عنه - ... 473
وصية عثمان ذي النورين - رضي الله عنه - ... 474
صورٌ مشرقة من زهد عثمان ابن عفان - رضي الله عنه - ... 475
سيرة علي ابن أبي طالب - رضي الله عنه - ... 482
اسم علي ابن أبي طالب - رضي الله عنه - ونسبه ... 483
كنية علي ابن أبي طالب - رضي الله عنه - ... 483
لقب علي ابن أبي طالب - رضي الله عنه - ... 484
إسلام علي ابن أبي طالب - رضي الله عنه - ... 484
مناقب علي ابن أبي طالب - رضي الله عنه - ... 485
(1) علي ابن أبي طالب - رضي الله عنه - يحب الله ورسوله ... 486
(2) علي ابن أبي طالب - رضي الله عنه - من النبي - صلى الله عليه وسلم - والنبي - صلى الله عليه وسلم - منه ... 487
(3) علي ابن أبي طالب - رضي الله عنه - مولى من كان النبي - صلى الله عليه وسلم - مولاه ... 490
(4) منزلة علي ابن أبي طالب - رضي الله عنه - من النبي - صلى الله عليه وسلم - ... 491
(5) لا يقضي دين النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا هو أو علي ... 492
(6) لا يحب علي إلا مؤمن ولا يُبْغِضه إلا منافق ... 493
(7) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أَمَرَ بِسَدِّ الْأَبْوَابِ إِلَّا بَابَ عَلِيٍّ ... 494
(8) عليٌ أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الصِّبْيَانِ ... 494
(9) علي أحد العشرة المبشرين بالجنة ... 495
(10) ومن مناقبه - رضي الله عنه - أنه زوج فاطمة البتول ... 495
(11) ومن مناقبه - رضي الله عنه - أنه اجتمع له من الفضائل الجمّة ما لم يجتمع لغيره ... 496
(12) ومن مناقبه شدة تواضعه - رضي الله عنه - ... 496
(13) ومن مناقبه - رضي الله عنه - أن قاتله أشقى الناس ... 497
الموضوع ... رقم الصفحة
(14) ومن مناقبه - رضي الله عنه - أنه أقضى الصحابة ... 498
(15) ومن مناقبه - رضي الله عنه - شدة شجاعته ... 499
(16) ومن مناقبه - رضي الله عنه - كريم خُلقه ... 503
(17) ومن مناقبه - رضي الله عنه - شدة ابتلاؤه ... 503
(18) ومن مناقبه - رضي الله عنه - إنصافه لخصومه ... 504
(19) ومن مناقبه أن النبي بشره بالشهادة ... 505(4/176)
(20) ومن مناقبه شدة ورعه في مال المسلمين ... 505
(21) ومن مناقبه إنكاره على من فضله على أبي بكر وعمر ... 506
( 22) اعترافه بفضل عثمان وإنصافه له ... 509
صورٌ مشرقة من زهد علي ابن أبي طالب - رضي الله عنه - ... 509
سيرة طلحة بن عبيد الله - رضي الله عنه - ... 516
اسم طلحة بن عبيد الله - رضي الله عنه - وكنيته ... 517
قصة إسلام طلحة بن عبيد الله - رضي الله عنه - ... 517
مناقب طلحة ابن عبيد الله - رضي الله عنه - ... 520
(1) طلحة أحد العشرة المبشرين بالجنة ... 520
(2) طلحة شهيد يمشي على الأرض ... 521
(3) طَلْحَةُ مِمَّنْ قَضَى نَحْبَهُ ... 522
(4) إنفاق طلحة في سبيل الله تعالى ... 522
(5) شجاعة طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه ... 524
(6) موقف طلحة بن عبيد الله من الفتنة ... 525
قتل طلحة بن عبيد الله - رضي الله عنه - ... 525
صورٌ مشرقة من زهد طلحة ابن عبيد الله - رضي الله عنه - ... 526
سيرة الزبير بن العوام - رضي الله عنه - ... 532
الموضوع ... رقم الصفحة
لمحات من سيرة الزبير ابن العوام - رضي الله عنه - ... 532
اسم الزبير بن العوام - رضي الله عنه - وكنيته ... 533
مولد الزبير بن العوام - رضي الله عنه - ونشأته ... 533
إسلام الزبير بن العوام - رضي الله عنه - ... 534
ثبات الزبير بن العوام - رضي الله عنه - في الإسلام ... 534
سيفه هو أول سيف شهر بالإسلام ... 534
مَنَاقِبِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ - رضي الله عنه - ... 534
قتل الزبير بن العوام - رضي الله عنه - ... 542
صورٌ مشرقة من زهد الزبير بن العوام - رضي الله عنه - ... 543
سيرة عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - ... 549
لمحات من سيرة عبد الرحمن بن عوف ... 549
اسم عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - وكنيته ... 550
مولد عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - ... 551
إسلام عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - ... 551
صفات عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - الخَلْقِية ... 552
مَنَاقِبِ عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - ... 552
وفاة عبد الرحمن بن عوف ... 560(4/177)
صورٌ مشرقة من زهد عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - ... 560
سيرة سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - ... 563
لمحات من سيرة سعدِ ابن أبي وقاص - رضي الله عنه - ... 563
اسم سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - ونسبه ... 564
كنية سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - ... 565
إسلام سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - ... 565
الموضوع ... رقم الصفحة
ثورة أم سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - ... 565
أوصاف سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - الأخلاقية ... 566
وفاة سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - ... 566
مناقب سعد ابن أبي وقاص - رضي الله عنه - ... 567
وفاة سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - ... 579
صورٌ من زهد سعدِ ابن أبي وقاص - رضي الله عنه - ... 580
سيرة سعيدِ بن زيد - رضي الله عنه - ... 582
لمحات من سيرة سعيدِ ابن زيد - رضي الله عنه - ... 582
اسم سعيدِ بن زيد - رضي الله عنه - ونسبه ... 583
والد سعيدِ بن زيد - رضي الله عنه - ... 583
إسلام سعيدِ بن زيد - رضي الله عنه - ... 587
مناقب سعيد بن زيد - رضي الله عنه - ... 589
وفاة سعيد بن زيد ... 593
صورٌ مشرقة من زهد سعيدِ ابن زيد - رضي الله عنه - ... 593
سيرة أبي عبيدة بن الجراح - رضي الله عنه - ... 596
لمحات من سيرة أبي عبيدة بن الجراح - رضي الله عنه - ... 596
اسم أبي عبيدة بن الجراح - رضي الله عنه - ونسبه ... 597
إسلام أبي عبيدة بن الجراح - رضي الله عنه - ... 597
مناقب أبي عبيدة ابن الجراح ... 598
وفاة أبي عبيدة - رضي الله عنه - ... 607
صورٌ مشرقة من زهد أبي عبيدة بن الجراح ... 607
نماذج من سير الزاهدين من أئمة التابعين ... 613
سيرة أويس القرني خير التابعين ... 614
الموضوع ... رقم الصفحة
اسم أويس القرني ونسبه ... 614
مناقب أويس القرني رحمه الله ... 614
وفاة أويس القرني رحمه الله ... 620
سيرة الربيع بن خثيم رحمه الله ... 621
اسم الربيع بن خثيم ونسبه ... 621
مناقب الربيع بن خثيم رحمه الله ... 621
وفاة الربيع بن خيثم ... 630
سيرة أبي مسلم الخولاني رحمه الله ... 630
اسم أبي مسلم الخولاني ونسبه ... 630(4/178)
مناقب أبي مسلم الخولاني رحمه الله تعالى ... 631
وفاة أبي مسلم الخولاني رحمه الله ... 637
سيرة الحسن البصري رحمه الله ... 637
اسم الحسن البصري ونسبه ... 638
نشأة الحسن البصري رحمه الله ... 638
مناقب الحسن البصري ... 638
وفاة الحسن البصري رحمه الله تعالى ... 664
سيرة سعيد بن المسيَّب رحمه الله ... 665
اسم سعيد بن المسيب ونسبه ... 665
نشأة سعيد بن المسيب رحمه الله ... 666
الصورة العامة لعصر سعيد بن المسيب ... 666
محنة سعيد بن المسيب ... 668
مناقب سعيد بن المسيب رحمه الله ... 669
ذكر مرض سعيد بن المسيب ووفاته ... 695
الموضوع ... رقم الصفحة
سيرة زين العابدين علي ابن الحسين رحمه الله ... 697
اسم زين العابدين علي ابن الحسين ونسبه ... 697
أولاد على زين العابدين رحمه الله ... 697
بنات على زين العابدين رحمه الله ... 697
خلفاء عصر على زين العابدين رحمه الله ... 697
مناقب زين العابدين علي ابن الحسين رحمه الله ... 698
وفاة على زين العابدين رحمه الله ... 709
سيرة سعيد بن جبير رحمه الله ... 709
اسم سعيد بن جبير ومولده وصفته ... 709
مناقب سعيد بن جبير ... 709
قصة قتل سعيد بن جبير رحمه الله تعالى ... 719
سيرة عمر بن عبد العزيز رحمه الله ... 729
اسم عمر بن عبد العزيز ونسبه ... 729
مولد عمر بن عبد العزيز رحمه الله ... 729
صفة عمر بن عبد العزيز الخلْقية رحمه الله ... 729
نشأة عمر بن عبد العزيز حال صغره وتربيته ... 730
بكاء عمر بن عبد العزيز حال صغره وخوفه ... 730
اهتمام والد عمر بن عبد العزيز بتأديبه في الصغر ... 731
التبشير بعمر بن عبد العزيز وذكر أنه كان منتظراً ... 731
تولي عمر بن عبد العزيز الخلافة ... 734
هم الخلافة ... 736
حال الناس في عهد عمر بن عبد العزيز ... 740
مناقب عمر بن عبد العزيز ... 741
الموضوع ... رقم الصفحة
وفاة عمر بن عبد العزيز ... 788
نماذج من سير الزاهدين من أئمة تابعي التابعين ... 793
سيرة مالك بن أنس رحمه الله ... 793
اسم مالك ابن أنس ونسبه ومولده ... 793
صفة الإمام مالك ... 794
نشأة مالك بن أنس رحمه الله ... 794
شيوخ الإمام مالك رحمه الله ... 795(4/179)
تلاميذ الإمام مالك رحمه الله ... 795
مناقب الإمام مالك رحمه الله ... 795
وفاة مالك بن أنس ... 813
سيرة سفيان الثوري رحمه الله ... 814
اسم سفيان الثوري ونسبه ... 814
مولد سفيان الثوري رحمه الله ... 815
نشأة سفيان الثوري رحمه الله ... 815
شيوخ سفيان الثوري رحمه الله ... 815
تلامذة سفيان الثوري ومن حدث عنه ... 815
مناقب سفيان الثوري رحمه الله ... 816
احتمال العلماء تدليس سفيان الثوري ... 845
وفاة سفيان الثوري ... 847
سيرة سفيان بن عيينة رحمه الله ... 849
اسم سفيان بن عيينة ونسبه رحمه الله ... 849
مولد سفيان بن عيينة رحمه الله تعالى ... 849
نشأة سفيان بن عيينة رحمه الله ... 849
الموضوع ... رقم الصفحة
مناقب سفيان بن عيينة ... 850
احتمال العلماء تدليس سفيان ابن عيينة ... 868
وفاة سفيان بن عيينة ... 869
سيرة الفضيل بن عياض رحمه الله ... 871
قصة توبة الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى ... 871
مناقب الفضيل بن عياض ... 872
وفاة الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى ... 900
سيرة ابن المبارك رحمه الله ... 901
اسم ابن المبارك ونسبه ... 902
مولد ابن المبارك رحمه الله ... 904
مناقب ابن المبارك رحمه الله تعالى ... 905
وفاة ابن المبارك وماله من المبشرات ... 944
سيرة إبراهيم بن أدهم رحمه الله ... 946
اسم إبراهيم بن أدهم ونسبه ... 946
مولد إبراهيم بن أدهم رحمه الله ... 946
من حدث عنهم إبراهيم بن أدهم ... 946
من حدثوا عن إبراهيم بن أدهم ... 946
قصة توبة إبراهيم بن أدهم رحمه الله ... 947
مناقب إبراهيم بن أدهم رحمه الله ... 948
وفاة إبراهيم بن أدهم رحمه الله ... 965
سيرة الشافعي رحمه الله ... 965
اسم الشافعي ونسبه رحمه الله ... 965
كنية الشافعي رحمه الله ... 966
الموضوع ... رقم الصفحة
مولد الشافعي رحمه الله ... 966
نشأة الشافعي رحمه الله ... 967
رحلات الشافعي في طلب العلم ... 969
مناقب الشافعي رحمه الله ... 969
وفاة الشافعي رحمه الله تعالى ... 1039
سيرة أحمد بن حنبل رحمه الله ... 1041
اسم أحمد بن حنبل ونسبه ... 1041
مولد أحمد بن حنبل ونشأته ... 1041
من صفات الإمام أحمد بن حنبل ... 1041(4/180)
متى تزوج أحمد بن حنبل ... 1042
رحلات أحمد بن حنبل في طلب العلم ... 1043
شيوخ أحمد بن حنبل رحمه الله ... 1044
من حدثوا عن أحمد بن حنبل رحمه الله ... 1045
مناقب أحمد بن حنبل رحمه الله ... 1046
وفاة أحمد بن حنبل رحمه الله ... 1114
سيرة البخاري رحمه الله ... 1122
اسم البخاري ونسبه ... 1122
متى وأين ولد الإمام البخاري رحمه الله ... 1122
وفاة البخاري رحمه الله ... 1132
سيرة مسلم رحمه الله ... 1132
اسم مسلم رحمه الله ونسبه ... 1132
كنية مسلم رحمه الله ولقبه ... 1134
مولد مسلم رحمه الله ... 1134
الموضوع ... رقم الصفحة
وفاة مسلم رحمه الله وسببها ... 1135
وفاة الإمام مسلم وسببه ... 1155
سيرة أبي داود رحمه الله ... 1156
مولد أبو داود ... 1157
اسم أبي داود ونسبه ... 1157
مناقب أبي داود رحمه الله ... 1158
وفاة أبي داود رحمه الله ... 1170
سيرة الترمذي رحمه الله ... 1171
اسم الترمذي ونسبه ومولده ... 1171
وفاة الترمذي رحمه الله ... 1173
سيرة النسائي رحمه الله ... 1174
اسم النسائي ونسبه ومولده ... 1174
نشأة النسائي رحمه الله ... 1174
شيوخ النسائي ... 1174
تلاميذ النسائي ... 1175
مناقب النسائي رحمه الله ... 1175
وفاة النسائي رحمه الله تعالى ... 1190
سيرة ابن ماجة رحمه الله ... 1191
اسم ابن ماجة ونسبه ومولده ... 1191
مناقب ابن ماجة رحمه الله ... 1192
نماذج من سير الزاهدين من المُجَدِدين المتأخرين ... 1197
سيرة محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى ... 1200
مولد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى ... 1201
الموضوع ... رقم الصفحة
نشأة محمد بن عبد الوهاب وتلقيه العلم ... 1202
دعوة بن عبد الوهاب رحمه الله إلى التوحيد ... 1206
أسباب مناهضة هذه الدعوة السلفية ... 1208
ثناء العلماء على محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى ... 1210
مؤلفات محمد بن عبد الوهاب ... 1223
موقف العثمانيين من دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب ... 1224
وفاة الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى ... 1225
سيرة محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله تعالى ... 1225
اسم محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله تعالى ... 1225(4/181)
مولد محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله تعالى ... 1226
نشأة محمد بن إبراهيم آل الشيخ ... 1226
زواج محمد بن إبراهيم آل الشيخ ... 1226
أوصاف محمد بن إبراهيم آل الشيخ ... 1226
شيوخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ ... 1227
أعمال محمد بن إبراهيم آل الشيخ ... 1228
طلاب محمد بن إبراهيم آل الشيخ ... 1230
أخلاق محمد بن إبراهيم آل الشيخ ... 1231
وفاة محمد بن إبراهيم آل الشيخ ... 1242
سيرة عبد الرحمن السعدي رحمه الله تعالى ... 1243
اسم عبد الرحمن السعدي ونسبه رحمه الله ... 1244
نشأة عبد الرحمن السعدي ومولده رحمه الله تعالى ... 1244
طلب عبد الرحمن السعدي للعلم رحمه الله تعالى ... 1244
ميزة الرحمن السعدي في طلب العلم ... 1245
الموضوع ... رقم الصفحة
صفات عبد الرحمن السعدي وأخلاقه ... 1246
صفات عبد الرحمن السعدي الخَلقِيّة ... 1247
صفة عبد الرحمن السعدي في التدريس ... 1247
شيوخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله تعالى ... 1248
طلاب عبد الرحمن السعدي وتلاميذه ... 1249
ثناء العلماء على عبد الرحمن السعدي ... 1251
مصنفات عبد الرحمن السعدي ... 1251
وفاة عبد الرحمن السعدي رحمه الله تعالى ... 1253
سيرة عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى ... 1255
اسم عبد العزيز بن باز ومولده رحمه الله ... 1255
نشأة عبد العزيز بن باز وبداية طلبه للعلم رحمه الله ... 1255
شيوخ عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى ... 1256
أبرز تلاميذ عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى ... 1257
سعة علم عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى ... 1267
صفات عبد العزيز بن باز وأخلاقه رحمه الله تعالى ... 1269
أوصاف عبد العزيز بن باز الخَلْقِيَة رحمه الله تعالى ... 1269
هيئة عبد العزيز بن باز ولباسه رحمه الله تعالى ... 1269
صفات عبد العزيز بن باز الخُلُقِيَة رحمه الله تعالى ... 1269
ثناء العلماء على عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى ... 1275
مصنفات عبد العزيز بن باز وكتبه رحمه الله تعالى ... 1277
وفاة عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى ... 1281
سيرة الألباني رحمه الله تعالى ... 1282(4/182)
اسم الألباني وكنيته رحمه الله تعالى ... 1283
الموضوع ... رقم الصفحة
مولد الألباني رحمه الله تعالى ... 1283
بداية تلقي الألباني للعلم رحمه الله تعالى ... 1284
شيوخ الألباني رحمه الله تعالى ... 1285
طلاب الألباني رحمه الله تعالى ... 1285
صفات الألباني وأخلاقه رحمه الله تعالى ... 1287
ثناء العلماء على الألباني رحمه الله تعالى ... 1291
لمحات سريعة في حياة الألباني رحمه الله ... 1295
مواقف من حياة الألباني رحمه الله تعالى ... 1295
نصيحة الألباني إلى عموم الأمة رحمه الله تعالى ... 1297
مصنفات الألباني وكتبه رحمه الله تعالى ... 1298
وفاة الألباني رحمه الله تعالى ... 1308
سيرة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى ... 1309
اسم محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى ... 1309
مولد محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى ... 1310
نشأة محمد بن صالح العثيمين وبداية طلبه للعلم ... 1310
شيوخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى ... 1312
طلاب محمد بن صالح العثيمين وتلاميذه رحمه الله تعالى ... 1313
مواقف محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى مع تلامذته ... 1316
توقير محمد بن صالح العثيمين لأهل العلم رحمه الله تعالى ... 1319
عبادة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى ... 1320
نجدة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى وفزعته ... 1321
ثناء العلماء على محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى ... 1324
ملامح من صفات محمد بن صالح العثيمين ... 1327
الموضوع ... رقم الصفحة
مؤلفات محمد بن صالح العثيمين وكتبه رحمه الله تعالى ... 1340
مرض محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى ... 1342
وفاة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى ... 1346(4/183)
إن الحمدَ لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرورِ أنفسنا وسيئاتِ أعمالنا ، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فلا مُضِلَ لَه ومَنْ يُضْلِلْ فلا هَادِيَ لَه ، وأشهد أن لا إله إلا الله الواحد القهار شهادةٌ أدخرها ليومٍ تذهل فيه العقول وتشخصُ فيه الأبصار شهادةٌ أرجو بها النجاةَ من دار البوار وأؤمل بها جناتٍ تجري من تحتها الأنهار، هو الأولُ فليس قبله شيء والآخرُ فليس بعده شيء والظاهر فليس فوقه شيء والباطن فليس دونه شيء، ليس كمثلهِ شيءٌ وهو السميع البصير ، وأشهد أن محمد عبده ورسوله المصطفى المختار الماحي لظلام الشرك بثواقب الأنوار صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه البررة الأطهار صلاةً تدوم بتعاقب الليل والنهار .
(يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ )[ آل عمران :102]
( يا أيها النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًاً )
[ النساء/ 1 ]
( يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا )[ الأحزاب 70 - 71 ]
أما بعد(1/1)
لما كان الداعية إلى الله تعالى يحتاج إلى الزهد حاجةً مُلِّحَةً مَاسَّةً لأن الزهد ليس من نافلة القول ، بل هو أمر لازم لكل من أراد رضوان الله تعالى والفوز بجنته ، فالزهد طريق النجاة، وسلم الوصول، ومنهاج القاصدين ، ومطلب العارفين، ومطية الصالحين ، وطريق السالكين إلى مرضاة رب العالمين ، والزهد في الدنيا مقام شريف من مقامات السالكين ودربُ من دروب عباد الله الصالحين ، وهو مسلكٌ شريف لنيل حب الله تعالى الذي هو منتهى أمل العبد وأقصى غايته لأنه من نال حب الله تعالى نال السعادة في الدارين ، فنيل محبة الله تعالى هو الغاية القصوى وغايةُ النهاية من المقامات ، والذروة العليا من الدرجات ، فما بعد إدراك المحبة مقام إلا وهو ثمرة من ثمارها ، وتابع من توابعها ، وهو مسلك للتأسي بالنبي - صلى الله عليه وسلم - لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إمام العابدين وسيد الزاهدين ، والزهد كذلك هو سبيل النجاة من حب الدنيا الذي هو رأس كل خطيئة ومصدر كل شر وأساس كل بلية ، وهو أكبر عَوْنٍ بعد الله تعالى في الرغبة في الآخرة إذ لا تتم الرغبة في الآخرة إلا بالزهد في الدنيا ، فالدنيا دار سفر لا دار إقامة، ومنزل عبور لا موطن حبور، وينبغي للمؤمن أن يكون فيها على جناح سفر، يهيئ زاده ومتاعه للرحيل المحتوم، والسعيد من وُفَّق لرؤية الأشياء على حقيقتها واتخذ لهذا السفر زاداً يبلغه إلى رضوان الله تعالى والفوز بالجنة والنجاة من النار.(1/2)
ولما كان المسلمون بأسرهم المتعلم منهم والأمي والمتحضر والبدوي والمدنَّي والقروِّي يحتاجون حاجةً مُلًّحةً ماسَّة إلى ما يُرَقَّق قلوبهم ويتسبب في خشوعها وإنابتها إلى ربها في زمن قست فيه القلوب، وظهرت فيه الذنوب، ولم يستحي الكثير من علام الغيوب فطفقوا يبارزونه بالإثم والحوب ، وفي وقت كثرت فيه الدعوات الأرضية المضلة، واشتد فيه الظلام وظهر الباطل على الحق ظهورا آنيا، وسيطرت فيه المادية حتى تغيرت كثير من القيم السامية ، فما أشد حاجة العبد المسلم إلى الرقائق التي تثبت قلبه في زمن حار فيه الكثير من الناس فانغمسوا في القيم الهابطة التي غزت العقول والقلوب والمجتمعات ، فقد أصبحنا نعيش في مجتمع طغت عليه المادية وانتشرت الشهوات بكل لون وفي كل وقتٍ وحين حتى صار الإنسان غارقاً في الشهوات إلى الأذقان وبلغ فسقه عنان السماء ـ إلا ما رحم ربي ـ ، فأصبحنا في أيام الصبر الذي أخبر عنها النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الآتي :
(حديث أبي ثعلبة الخُشَنِّي رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :إن من ورائكم أيام الصبر ، للمتمسك فيهن يومئذ بما أنتم عليه أجر خمسين منكم . قالوا: يا نبي الله لِلَّهِ أو منهم ؟ قال: بل منكم .(1/3)
ـ وأيام الصبر هي أيام الإبتلاء في الدين والشهوات المستعرة والشبهات المستحكمة ومع ذلك المرء صابر لدينه. فسماها أيام الصبر لأنه لا يستعمل فيها إلا الصبر ولا حلّ إلا الصبر، والصبر هو القائد وهو الملاذ والحصن الحصين ، الذي من دخله عُصِم ـ بخلاف من كان قبلنا كانوا يعيشون في محيطٍ إسلامي والمنكرات تُسْتَتَر، أما الآن فالمنكرات كثرة مما يزيد من احتمال تأثر المؤمن بها من حيث لا يريد ، فتكون الرقائق بمثابة الوقود التي تعطي المسلم طاقة في مواجهة هذه المنكرات ، لأن الرقائق تعطي قوة دفع للمسلم لامتثال ما يؤمر به والانتهاء عما ينهى عنه ، فمثلا كان أول ما أنزل ذكر الجنة والنار وما فيهما وما أعد لأهلهما ، ثم نزلت الأحكام بعد أن تهيأت النفوس للقبول ، تقول عائشة : "أول ما نزل من القرآن سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام ولو نزل أول ما نزل لا تشربوا الخمر لقالوا : لا ندع الخمرة أبدا" ، فالرقائق تقوي الإيمان الذي يعين المسلم على الثبات في مواجهة الشهوات ، ومن المعلوم أن الشهوات سببت ضعف إيمان كثير من المسلمين لأن مخاطبة العقل وحده قد لا تكفي ما لم تكن ممزوجة بإثارة العاطفة ، إذ أن مخاطبة العقل وحده قد لا تنتج إلا معلومات نظرية جافة لا حياة فيها ، أما مخاطبة العقل والعاطفة فتؤدي إلى الإقناع والتطبيق العملي ، ثم إن العناية بالرقائق تجنب طالب العلم بإذن الله الإصابة بالأمراض الفتاكة التي تفتك بدين المسلم كآفة العجب أو الحسد أو الهوى أو غيرها والعياذ بالله .(1/4)
ولما كان المسلم بحاجة ماسةٍ إلى سلوك الأدب وتحقيقه بين الأفراد لأن الناس إذا تحلوا بمراعاة الأدب بينهم حصل الاطمئنان والأمن بينهم ، فحقوقهم مكفولة وسمعتهم محترمة ومكانتهم محفوظة ، فيطمئنون على أنفسهم لأن الأدب ينزع الأحقاد من صدور الناس وإذا التزم الناس بالآداب الشرعية صَفت النفوس فسادت الأخوّة والمحبة والألفة المجتمع ، ثم إن الداعيةُ إلى الله تعالى يحتاجُ إلى التحلي بالآداب سيراً على منهج السلفِ الصالحِ في التعلم حيث كان منهجهم في التعلم ( أن يتلقوْا العلمَ مع الأدب ) لأن العلمَ بلا أدبٍ يجني على صاحبه ويُهلكه لأن الأدب طريقُ العلم النافع : فطالب العلم لن ينال العلم وبركته بدون أدب لأن العلمَ بلا أدبٍ يجني على صاحبه ويُهلكه ، وقد حذّر السلف كثيراً من طلب العلم بدون أدب ، فقال الإمام البوشنجي الفقيه المالكي (ت:291هـ ) ( من أراد العلم والفقه بغير أدب فقد اقتحم أن يكذب على الله ورسوله) سير أعلام النبلاء (13/586) للذهبي ، وأورد الإمام بن الجزري في غاية النهاية في طبقات القُراء عن ابن المبارك قال: طلبت الأدب ثلاثين سنة ، وطلبت العلم عشرين سنة ، وكانوا يطلبون الأدب ثم العلم ، أورد ابن الجوزي في صفة الصفوة عن ابن المبارك قال : كاد الأدب يكون ثلثي العلم ، ،وقال بكر أبو زيد في حلية طالب العلم صـ6 ( لقد تواردت موجبات الشرع على أن التحلّي بمحاسن الأدب ومكارم الأخلاق سِمةُ أهل الإسلام وأن العلم لا يصل إليه إلا المُتحلي بآدابه المتخلي عن آفاته)أهـ ، فالحاصل أن الأدب مهم جداً للفرد وللمجتمع وخاصةً طالب العلم ، وإنما أعني بالآداب أدب الدين والدنيا لأن َأَعْظَمُ الأمور خَطَرًا وَقَدْرًا وَأَعُمُّهَا نَفْعًا وَرِفْدًا مَا اسْتَقَامَ بِهِ الدِّينُ وَالدُّنْيَا وَانْتَظَمَ بِهِ صَلاَحُ الآخرة والأولى؛ لِأَنَّ بِاسْتِقَامَةِ الدِّينِ تَصِحُّ الْعِبَادَةُ، وَبِصَلاَحِ الدُّنْيَا تَتِمُّ(1/5)
السَّعَادَةُ .
لهذه الأسبابِ الثلاثةِ مجتمعة رأيت أن أقدم هذا الجهدَ المُقل المسمى ( فَصْلُ الخِطَابِ في الزُهْدِ والرَقَائِقِ والآداب) مبتدأ بـ ( الزهد ) ثم (الرقائق) ، ثم أنتقل إلى (الآداب) ليتحلى بها طالب فيكون الداعيةُ إلى الله بعد دراسته لهذا الكتاب قد عمل على تزكية نفسه وتهذيبها فيكون زاهداً رقيقَ القلبِ متحلياً بالآداب مما يُؤهله إلى الدعوة إلى الله على بصيرة امتثالاً لقوله تعالى: (قُلْ هََذِهِ سَبِيلِيَ أَدْعُو إِلَىَ اللّهِ عَلَىَ بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [سورة: يوسف - الآية: 108] .
عملي في هذا الكتاب :
(1) إيراد لُباب النقول من الكتب الفحول في الزهد والرقائق والآداب ، بادئاً بكتاب الزهد فأقدم زُبْدَةَ مسائله في إيجازٍ غيرِ مُخِّل فَأُبَيِّنُ حقيقة الدنيا وذم التنافس على الدنيا ثم أقسام الناس في حبهم للدنيا وبيان أضرار حب الدنيا ثم بيان حقيقة الموت ثم أورد تعريف الزهد وبيان حقيقة الزهد ودرجات الزهد وأقسامه وحكم الزهد وفضائل الزهد وحاجة الناس إلى الزهد وبيان كيف يزهد العبد في الدنيا ويرغب في الآخرة وما هي خصال الزهد وعلامات الزهد و متعلقات الزهد وما ليس بزهد وَيُتَوَهَمُ أنه زهد ثم أختم كتاب الزهد ببيان الأسباب المعينة على الزهد في الدنيا . ...(1/6)
ثم أنتقل إلى كتاب الرقائق فأقدم زُبْدَةَ مسائله تعريفاً وَحُكْمَاً في إيجازٍ غيرِ مُخِّل ، فأقوم بتعريف الرقائق ثم بيان حاجة الناس إلى الرقائق ، ثم بيان الأشياء التي تسبب رقة القلب من معرفة الله ومعرفة أسمائه وصفاته واقتضاء هذه المعرفة لآثار هذه الأسماء الحسنى والصفات العلا من العبودية ، وذكر الجنة والنار، وذكر الموت وما بعده من عذاب القبر ونعيمه، والتفكر في أهوال يوم القيامة ، وزيارة القبور وما لها من أثر بالغ في ترقيق القلوب ، واستحضار سوء الخاتمة وحسنها ، وتذكر الذنوب السابقة ، ومعرفة الدنيا وما جُبِلَت عليه من التقلب ، والتفكر في آيات الله الكونية ، ومجالسة الصالحين ، والاستكثار من الأعمال الصالحة ، ثم أتطرق إلى تزكية النفوس وهو من أعظم أبواب الرقائق لأنه يحصل بتزكية النفس تطهيرها وتطييبها، حتى تستجيب لربها وتفلح فى دنياها وآخرتها كما قال تعالى : { قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا } ( الشمس : 9 ،10) .
مما يعمل على ترقيق القلب لا محالة ، فأورد صفوة مسائل تزكية النفوس مبتدأً بشرطي قبول العمل ، ثم فضل العلم والعلماء ، وحكم تعلم العلم و آداب طالب العلم ، ثم أنواع القلوب وأقسامها ، و سموم القلب الأربعة ، و أسباب حياة القلب وأغذيته النافعة من ذكر الله عز وجل وتلاوة القرآن والاستغفار والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - والدعاء ، ثم قيام الليل وفضله ، ثم أحوال النفس ومحاسبتها ، ثم التفكر ، ثم الصبر والشكر ، ثم التوكل ، ثم مقامات الإيمان من المحبة والخوف والرجاء ، ثم التوبة ، ثم التقوى ، ثم الورع وترك الشبهات ، وغيرها .(1/7)
ثم أنتقل إلى كتاب الآداب فأقدم زُبْدَةَ مسائله تعريفاً وَحُكْمَاً في إيجازٍ غيرِ مُخِّل ، فأقوم بتعريف الأدب ، ثم بيان منزلته وفضله، وبيان حاجتنا إلى الأدب ، وما هي مراتبه وأنواعه وكيف نكتسب الأدب الشرعي ، وإنما أعني بالآداب أدب الدين والدنيا لأن َأَعْظَمُ الأمور خَطَرًا وَقَدْرًا وَأَعُمُّهَا نَفْعًا وَرِفْدًا مَا اسْتَقَامَ بِهِ الدِّينُ وَالدُّنْيَا وَانْتَظَمَ بِهِ صَلاَحُ الآخرة والأولى؛ لِأَنَّ بِاسْتِقَامَةِ الدِّينِ تَصِحُّ الْعِبَادَةُ، وَبِصَلاَحِ الدُّنْيَا تَتِمُّ السَّعَادَةُ ، ثم أقوم بشرح كل أدب على حدة في إيجازٍ غير مُخِل ، وما أحَسَنَ تقسيم الإمام الماوردي رحمه الله تعالى في ذلك في كتاب أدب الدين والدنيا ، فإنه كتاب عظيم النفع جداً في الآداب فقد جذبني إليه إنجذاب الحديد للمغناطيس مما جعلني أصنف كتاب الآداب على تصنيفه على أبواب خمسة هي : الْبَابُ الأوَّلُ فَضْلُ الْعَقْلِ وَذَمُّ الْهَوَى ، الْبَابُ الثَّانِي أَدَبُ الْعِلْمِ ، الْبَابُ الثَّالِثُ أَدَبُ الدِّينِ ،الْبَابُ الرَّابِعُ أَدَبُ الدُّنْيَا ، الْبَابُ الْخَامِسُ أَدَبُ النَّفْسِ ، غير أني لم أقتصر على ما فيه من علم رغم سعة علمه وغزارة فهمه ودقة استنباطه بل أضفت إليه زُبدة كتب الآداب مثل الآداب الشرعية لابن مفلح ، لباب الآداب لأسامة بن منقذ رحمه الله توفي سنة (584) ، الأدب المفرد للإمام البخاري رحمه الله ، وأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم وآدابه للحافظ بن حيان الأصبهاني( توفي 369هـ) محقق في أربعة مجلدات ، وكتاب الآداب لفؤاد بن عبد العزيز الشلهوب ،وزاد المعاد في هدي خير العباد لابن القيم (توفي 751هـ) ، وغيرها فاجتمع عندي لُباب النقول من الكتب الفحول ، أسأل الله تعالى أن يُلْبسها حُلل القبول وأن يرزقني وإياكم الثواب المأمول إنه ولي ذلك والقادر عليه .(1/8)
(2) إن هذا الكتاب خلاصةٌ انتَخَلْتها وزبدةٌ استخلصتها بفضل الله تعالى ومعونته وَمِنَتِه من صفوة الكتب في الزهد والرقائق والآداب ، عدا كتب التفسير والحديث والفقه ونحوها ، جمعت منها غرر الفوائد ، ودرر الفرائد ، وأخذتُ منها لباب النقول من الكتب الفحول ، أهديها لكل ِلسَانٍ سَؤوْلٍ وَقَلْبٍ عَقُولٍ ، سائلاً الله تعالى أن يُلْبِسَها حُلَل القبول وأن يرزقني وإياكم الثواب المأمول ، وهآنذا أضع هذا الجهد المُقِل بين يدي القارئ الكريم من باب الذكرى لمن كان له قلب ، أو ألقى السمع وهو شهيد ، يجد فيه وصايا ذهبية صادرة عن إخلاصٍ وحُسنِ طوية لكل من أراد أن تكون نفسه زاكيَةً عليَّةً ، تقيةً نقيةً عفيفةً حييًّةً حرةً أبيَّة مُشَمِّراً في الطاعة حتى تأتيه المَنِيِّة ، راجياً منه أن يُعِرْها سمعه وَفِكْرَه وأن تجد له في سمعه مسمعاً وفي قلبه موقِعاً عسى الله أن ينفعه بها ويُوَفِقْه إلى تطبيقها .
(3) أنني لا أورد حديثاً إلا عزوته إلى بعض الكتب الصحيحة على المنهج الآتي :(1/9)
ما كان في الصحيحين أو أحدهما أكتفي بذلك ، وما لم يكن في الصحيحين أو أحدهما أعزوه إلى صحيح السنن الأربعة إن كان موجوداً بها كلها ، وإن كان موجوداً في بعضها فإنني أعزوه إلى كتابين فقط منهم وإن كان موجوداً في ثلاث ، وإن كان موجوداً في كتاب واحد منهم أعزوه إليه ، وهكذا تجدني أيها القارئ الكريم أُقَدِّمُ الكتبَ الستةَ على غيرها لأنها عماد طالب العلم في الحديث ـ بعد الله تعالى ـ ، وما لم يكن في الكتب الستة فإنني أعزو الحديث إلى غيرها من الكتب الصحيحة مثل صحيح الجامع ، صحيح الأدب المفرد ، السلسلة الصحيحة ، صحيح الترغيب والترهيب ، صحيح السيرة النبوية ، كما أنك تجدني أيها القارئ الكريم أحيل في تصحيح الحديث وتضعيفه على العلامةِ الضياءِ اللامعِ والنجم الساطع الشيخ الألباني رحمه الله ، ونحن حينما نحيل على الشيخ الألباني فإننا ـ ولاشك ـ نُحِيْلُُ على مليٍّ لأنه كوكبُ نظائره وزهرةُ إخوانه في هذا الشأن في زماننا ، هذا العالم الجليل الذي وسَّع دائرةَ الاستفادةِ من السنة بتقديمه مشروع ( تقريب السنة بين يدي الأمة ) ذلك المشروع الذي بذل فيه أكثر من أربعين سنة ، ومن أراد أن يعرف هذه الفائدة العظيمة فلينظر على سبيل المثال إلى السنن الأربعة التي ظلَّت مئات السنين محدودة الفائدة جداً حيث كانت الاستفادة منها مقتصرة على من كان له باع في تصحيح الحديث وتضعيفه ولكن بعد تقديم الشيخ الألباني لصحيح السنن الأربعة اتسعت دائرة الاستفادة حتى تعم كل طالب أراد أن يستفيد ، وهذا ولا شك فائدة عظيمة جداً عند من نور الله بصيرته وأراد الإنصاف ، ومن المؤسف في زماننا هذا أن نرى بعض طلبة العلم ممن لا يقام لهم وزناً في العلم يتطاولون على الشيخ الألباني ويجترئون عليه ويترقبون له الهفوات ويتصيدون له الأخطاء ويلتمسون العثرات ليشهروا به ، وهذا ـ ولا شك ـ يدل على فسادِ النية وسوء الطوية وسقامةِ الضمائر ولؤم السرائر ويدل(1/10)
كذلك على أن قلبه أخلى من جوف البعير ، إذ لو تعلم العلم لَعَلِمَ أن من أدب العلم التوادَ فيه ، ولقد كان ابن عباس - رضي الله عنهما ـ يأخذ بركاب زيد ابن ثابت ـ رضي الله عنه ... ـ ويقول هكذا أمرنا أن نفعل بالعلماء ، وكان الشافعي رحمه الله يقول لعبد الله ابن الإمام أحمد : أبوك من الستة الذين أدعو لهم كل يوم عند السحر ، ولا أدري كيف سوَّلت لهم أنفسهم أن يتطاولوا على عالمٍ صاحب حديث رسول الله أكثر من نصف قرن ؟!، أما كان يجب عليهم أن يدعوا له في كل سجدةٍ يسجدونها لله تعالى جزاءاً لما وفقه الله تعالى في هذا العمل الجليل تجاه السنة المُشَرَّفة بدلاً من أن يتجرئوا عليه ، نعوذ بالله تعالى من الخبال !، ثم ماذا ينقمون عليه ؟! فقد كان رحمه الله تعالى من أئمة الهدى وأعلام التقى ومصابيح الدجى ، من حلية الأولياء وأعلام النبلاء وحراس العقيدة وحماة السنة وأشياع الحق وأنصار دين الله عز وجل ، حاملُ لواء السنة وناصرها وقامع البدعة ودامغها ، كان الكتاب والسنة له كالجناحين للطائر يتمسك بهما ويعضُ عليهما بالنواجذ، وكان رحمه الله تعالى شهاباً ثاقباً ونجماً ساطعاً وبدراً طالعاً وسهماً نافذاً ، وكان كوكبَ نُظَرَائه وزهرةَ إخوانه ، تفوح منه علامات اليُمْنِ وأمارات الخير ورائحة التوفيق والسداد ، واحد زمانه، وإمام عصره وأوانه ، العالم الحبر، ذو الأحلام والصبر، العلم حليفه، والزهد أليفه ، وكان رحمه الله تعالى خزانة علم فكان علمه واسعاً مباركا كالغيث من السماء أينما حل نفع ، يتفجَّرُ العلمُ من جوانبه، وتنطِق الحكمةُ من نواحيه، لا يُشَقُ له غُبارٌ في غزارة علمه ودقة استنباطه للفوائد والأحكام وسعة فقهه ومعرفته بأسرار اللغة العربية وبلاغتها ، وكان رحمه الله ذا همةٍ عاليةٍ تناطح السحاب في طلب العلم فكان يُقْبِلُ على طلب العلم إقبالَ الظامئ على الموردِ العذب فقد أفنى جلَّ عمره في طلب العلم فكان إماماً يقتدى به في(1/11)
ذلك وكان مناراً عظيماً من منارات العلم ، مناراً راسيَ القواعد مُشَيَّدَ الأركان ثابتَ الوطائد ، الإمام اللبيب، ذو اللسان الخطيب، الشهاب الثاقب، والنصاب العاقب، صاحب الإشارات الخفية، والعبارت الجلية ، ذوالتصانيف المفيدة ، والمؤلفات الحميدة ، الصوَّام القوَّام ، الزاهد في الدنيا الراغب في الآخرة ، صاحب الأخلاق الرضية ، والمحاسن السنية ، العالم الرباني المتفق على علمه وإمامته وجلالته وزهده وورعه وعبادته وصيانته في أقواله وأفعاله وحالاته، كان رحمه الله تعالى سراج العباد، ومنار البلاد ، رحمه الله تعالى رحمةً واسعةً تعمُ أرجائه ، وتغمده برحمةٍ فوق ما يخطر ببال أو يدور في الخيال ، وأنعم عليه برضا الكبير المتعال إنه وليُ ذلك والقادرُ عليه .
،(1/12)
ولا أدري كيف يتطاولون على العالم والكتاب والسنة طافحين بما يدل على احترام أهل العلم وتوقيرهم ، ألا فليحذر طالب العلم من أن يكون سيئ الخلق ناطحاً للسحاب يترقب للعالم الهفوات ويلتمس العثرات لِيُشَهِّرَ به فإن ذلك ينقصُ من مقدار التقوى عنده مما يكون سبباً في حرمانه من العلم ، بل ينبغي لطالب العلم أن يكون كريمَ الطباع حميدَ السجايا مهذبَ الأخلاق سليمَ الصدر مفتاحاً للخير مغلاقاً للشر إذا تكلم غَنِم وإذا سكت سَلِم وينبغي له أن يعرف أن العالم مع جلالته وسعة علمه قد يخطأ في اجتهاده فإن لكل جوادٍ كبوة ولكل عالمٍ هَفْوَة وسبحان من له الكمال ، فلا يكن خطأ العالم سبب لانتقاصك لحقه أو فرصة للنيلِ منه ، وليكن نصب عينيك ومحط نظرك وقِبْلة قلبك أن العالم مثابٌ على اجتهاده سواء أصاب أم أخطأ وحسبُك حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - الثابت في الصحيحين عن عبد الله ابن عمرو ـ رضي الله عنهما ـ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران ، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر . ، ثم عليك بعد ذلك أن تترك العالم هو الذي يحكم على العالم واخرج من بين النسور ولا تناطح السحاب .
(4) أنا أقدم هذا الكتاب كتمرين لطالب العلم على حفظ المسألة بأدلتها من الكتاب والسنة الصحيحة حتى ينشأ طالب العلم على هذا النحو وحتى يصل إلى أن يكون ذلك طبعاً له لا تكلفاً ويكون الكتاب والسنة له كالجناحين للطائر يتمسك بهما ويعض عليهما بالنواجذ ، لأن ذلك سبيل النجاةِ من الضلال لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما ثبت في صحيح الجامع عن أبى هريرة رضي الله عنه (تركتُ فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما كتاب الله وسنتي ، ولن يتفرقا حتى يردا عليَّ الحوض )
ولسان حاله يقول : أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا خالفت الوحيين الشريفيين الكتاب والسنة الصحيحة .(1/13)
ويجب التنبيه على طالب العلم أن يتمسك بالوحيين كليهما (الكتاب والسنة) وليس الكتاب فقط لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما ثبت في صحيح أبي داوود عن المقدام ابن معد يكرب رضي الله عنه (ألا وإني أوتيتُ القرآنَ ومثلَه معه ) ومن المؤسف فى زماننا هذا تجرئ بعض الجهلة على النبي - صلى الله عليه وسلم - فيقولون إنه بشر مثلنا هات الدليل من القرآن فقط ـ وهذا يدل ولا شك ـ على أن قائل هذه العبارة جاهل جهلا مركباً بل هو أضل من حمار أهله ، وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن هذا سيقع في أمته فقال فيما ثبت في صحيحي أبى داود والترمذي عن المقدام ابن معد يكرب رضي الله عنه (يوشك الرجل متكئاً على أريكته يُحَدَثُ بحديثٍ من حديثٍ فيقول بيننا وبينكم كتاب الله ،فما وجدنا فيه من حلالٍ استحللناه وما وجدنا فيه من حرامٍ حرمناه ، ألا وإن ما حرَّم رسول الله مثل ما حرم الله )
ولقد كان السلف الصالح رحمهم الله تعالى يدعون إلى التمسك بالوحيين كليهما ويُضَلِلُون من يتمسك بالكتاب فقط ، قال أبو قلابة : إذا رأيت رجل يقول هات الكتاب ودعنا من السنة فاعلم أنه ضال .
[*] وقال الإمام احمد رحمه الله:
دين النبي محمدٍ أخبارُ ... نعم المطيةُ للفتى الآثارُ
لا ترغبَّنَّ عن الحديثِ وأهله ... فالرأيُ ليلٌ والحديثُ نهارُ
[*] وقال الشافعي رحمه الله
كُلُ العلومِ سوى القرآنِ مشغلةٌ ... إلا الحديثِ وعلم الفقه في الدين
العلمُ ما كان فيه قال حدثنا ... وما سوى ذاك وسواسِ الشياطين
(5) أختم الكتاب بفهرس مزود بأرقام الصفحات لسهولة الحصول على العنصر المراد من الكتاب .(1/14)
" فيا أيها الناظر فيه لك غُنمه وعلى مؤلفه غُرمه ن ولك صفوه وعليه كَدره، وهذه بضاعته المزجاة تُعْرَضُ عليك وبناتُ أفكاره تزف إليك ، فإن صادفت كفؤا كريما لم تعدم منه أمساكاً بمعروف أو تسريحاً بإحسان ، وإن كان غيره فالله المستعان ، وما كان منه من صواب فمن الواحد المنان وما كان من خطأ فمني ومن الشيطان والله برئ منه ورسوله وأنا راجعٌ عنه بإذن الله ، هذا والله أسأل أن أن يُعلِّمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما عَلَّمنا، وأن يزيدنا عِلمًا ، وأن يجعل هذا الكتاب حجةً لنا لا علينا وأن يتقبله عنده بقبولٍ حسن وأن ينفع به من انتهى إليه إنه خير مسئول وأكرم مأمول ، وأن يجعل عملي خالصاً لوجهه الكريم وسبباً لنيلِ جناتِ النعيم وأن يعصمني وقارئه من الشيطان الرجيم ،كما أسأله سبحانه الله أن يحملنا على فضله ولا يحملنا على عدله إنه سبحانه على من يشاءُ قدير وبالإجابة جدير وهو حسبنا ونعم الوكيل وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه"
أبو رحمة / محمد نصر الدين محمد عويضة
المدرس بالجامعة الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم بجدة فرع مدركة ورهاط وهدى الشام
22/10/1418 هجرية
{ كتاب الرقائق }
باب تعريف الرقائق :
الرقائق التي نتكلم عنها ـ وتسمى الرقاق أيضا والمعنى واحد ـ :جمع رقيقة وهي ما تحدث في القلب رقة ، والرقة : الرحمة واللين . قال الراغب : متى كانت الرقة في نفس فضدها القسوة كرقيق القلب وقاسي القلب .
باب أسباب الكلام في الرقائق :
للكلام على الرقائق أسباب جوهرية أهمها ما يلي :
(1) أن الرقائق من العلم وليست خارجة عن دائرة العلم كما يعتقده بعض الناس .
(2) إقبال الدنيا وتزينها في هذا العصر حتى أصبحت هم الناس .
(3) حاجة الناس لما يرقق قلوبهم ويزيل عنهم الغشاوة و القساوة .
(4) أهمية هذا الموضوع في هذا الزمن المادي الذي يقدس الأساس التحليلي والإقناع العقلاني.(1/15)
(5) إغفال هذا الموضوع من قبل الملتزمين ؛ وذلك راجع إلى :
(6) اعتقاد أن مثل هذا الموضوع شأن العامة أو المبتدئين من الملتزمين ، وأما الملتزم
منذ زمن فعليه بالأشياء الأخرى كالمناقشات الفكرية ونحوها .
(7) اعتقاد أن الكلام في هذا الموضوع أو الاهتمام به من شأن الصوفية .
(8) أن هذا العصر عصر مادي يحتاج إلى الإقناع العقلاني ولا يهتم بالعاطفة. ...
باب حاجتنا إلى الرقائق :
لما كان المسلمون بأسرهم المتعلم منهم والأمي والمتحضر والبدوي والمدنَّي والقروِّي يحتاجون حاجةً مُلًّحةً ماسَّة إلى ما يُرَقَّق قلوبهم ويتسبب في خشوعها وإنابتها إلى ربها في زمن قست فيه القلوب، وظهرت فيه الذنوب، ولم يستحي الكثير من علام الغيوب فطفقوا يبارزونه بالإثم والحوب ، وفي وقت كثرت فيه الدعوات الأرضية المضلة، واشتد فيه الظلام وظهر الباطل على الحق ظهورا آنيا، وسيطرت فيه المادية حتى تغيرت كثير من القيم السامية ، فما أشد حاجة العبد المسلم إلى الرقائق التي تثبت قلبه في زمن حار فيه الكثير من الناس فانغمسوا في القيم الهابطة التي غزت العقول والقلوب والمجتمعات ، فقد أصبحنا نعيش في مجتمع طغت عليه المادية وانتشرت الشهوات بكل لون وفي كل وقتٍ وحين حتى صار الإنسان غارقاً في الشهوات إلى الأذقان وبلغ فسقه عنان السماء ـ إلا ما رحم ربي ـ ، فأصبحنا في أيام الصبر الذي أخبر عنها النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الآتي :
(حديث أبي ثعلبة الخُشَنِّي رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :إن من ورائكم أيام الصبر ، للمتمسك فيهن يومئذ بما أنتم عليه أجر خمسين منكم . قالوا: يا نبي الله لِلَّهِ أو منهم ؟ قال: بل منكم .(1/16)
ـ وأيام الصبر هي أيام الإبتلاء في الدين والشهوات المستعرة والشبهات المستحكمة ومع ذلك المرء صابر لدينه. فسماها أيام الصبر لأنه لا يستعمل فيها إلا الصبر ولا حلّ إلا الصبر، والصبر هو القائد وهو الملاذ والحصن الحصين ، الذي من دخله عُصِم ـ بخلاف من كان قبلنا كانوا يعيشون في محيطٍ إسلامي والمنكرات تُسْتَتَر، أما الآن فالمنكرات كثرة مما يزيد من احتمال تأثر المؤمن بها من حيث لا يريد ، فتكون الرقائق بمثابة الوقود التي تعطي المسلم طاقة في مواجهة هذه المنكرات ، لأن الرقائق تعطي قوة دفع للمسلم لامتثال ما يؤمر به والانتهاء عما ينهى عنه ، فمثلا كان أول ما أنزل ذكر الجنة والنار وما فيهما وما أعد لأهلهما ، ثم نزلت الأحكام بعد أن تهيأت النفوس للقبول ، تقول عائشة : "أول ما نزل من القرآن سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام ولو نزل أول ما نزل لا تشربوا الخمر لقالوا : لا ندع الخمرة أبدا" ، فالرقائق تقوي الإيمان الذي يعين المسلم على الثبات في مواجهة الشهوات ، ومن المعلوم أن الشهوات سببت ضعف إيمان كثير من المسلمين لأن مخاطبة العقل وحده قد لا تكفي ما لم تكن ممزوجة بإثارة العاطفة ، إذ أن مخاطبة العقل وحده قد لا تنتج إلا معلومات نظرية جافة لا حياة فيها ، أما مخاطبة العقل والعاطفة فتؤدي إلى الإقناع والتطبيق العملي ، ثم إن العناية بالرقائق تجنب طالب العلم بإذن الله الإصابة بالأمراض الفتاكة التي تفتك بدين المسلم كآفة العجب أو الحسد أو الهوى أو غيرها والعياذ بالله .
وتتضح أهمية الرقائق أو حاجتنا إلى الرقائق في النقاط التالية:
(1) أن من كان قبلنا كانوا يعيشون في محيط إسلامي والمنكرات تستتر، أما الآن فالمنكرات كثرة مما يزيد من احتمال تأثر المؤمن بها من حيث لا يريد ، فتكون الرقائق بمثابة الوقود التي تعطي المسلم طاقة في مواجهة هذه المنكرات .(1/17)
(2) أن الرقائق تعطي قوة دفع للمسلم لامتثال ما يؤمر به والانتهاء عما ينهى عنه ، فمثلا كان أول ما أنزل ذكر الجنة والنار وما فيهما وما أعد لأهلهما ، ثم نزلت الأحكام بعد أن تهيأت النفوس للقبول . تقول عائشة : "أول ما نزل من القرآن سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام ولو نزل أول ما نزل لا تشربوا الخمر
لقالوا : لا ندع الخمرة أبدا" .
(3) الرقائق تقوي الإيمان الذي يعين المسلم على الثبات في مواجهة الشهوات ، ومن المعلوم أن الشهوات سببت ضعف إيمان كثير من المسلمين .
(4) أن مخاطبة العقل وحده قد لا تكفي ما لم تكن ممزوجة بإثارة العاطفة ، إذ إن مخاطبة العقل وحده قد لا تنتج إلا معلومات نظرية جافة لا حياة فيها ، أما مخاطبة العقل والعاطفة فتؤدي إلى الإقناع والتطبيق العملي .
(5) الرقائق تجدد الإيمان في القلب .
(6) طلبة العلم والدعاة بحاجة إلى الرقائق ، وذلك لما يلي :
أ- العناية بالرقائق تجنب طالب العلم بإذن الله الإصابة فإنه تصيبه في مقتل ، كآفة العجب أو الحسد أو الهوى أو غيرها .
ب- طالب العلم والدعية يدعو الآخرين إلى طاعة الله والإنابة إلى الله والإخبات إليه والخشوع والخضوع مما يجعل هذه الأمور لابد من توفرها في هذا الداعية إذ أن فاقد الشيء لا يعطيه والذي يوفر هذه الأشياء في نفس الداعية الرقائق .
ج- طالب العلم والداعية قدوة للآخرين فيستفيدون منه والاستفادة من فعله أبلغ من الاستفادة من قوله ، لذا لابد أن يكون رقيق القلب ، وقد كان السلف يعنون عند طلبهم للعلم بانتقاء الشيخ الذي يتعلمون منه ويأخذون عنه فينظرون إلى عبادته وهديه وسمته فإن أحسن هذه الأشياء أخذوا عنه وإلا تركوه .
د- الداعية يتعرض للامتحان والابتلاء والذي يعينه على الثبات بإذن الله الرقائق .
باب العناية بالرقائق :(1/18)
لقد اعتنى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يُرَقِّقُ قلوبَ أصحابه ويدفعهم للامتثال ، بل وجدوا منه صلى الله عليه وسلم قدوة عملية في ذلك ، إذ كان أرقهم قلباً وأشدهم خشيةً لله وخوفاً منه ، وأحرصهم على ما يُرَقِّقُ قلبه ، وكان صلى الله عليه وسلم يستعيذ من قلب لا يخشع ، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد ، ودرر الفرائد .
(حديث حنظلة بن الربيع الأُسيدي الثابت في صحيح مسلم ) قال لقيني أبو بكر فقال كيف أنت يا حنظلة قال قلت نافق حنظلة قال سبحان الله ما تقول قال قلت نكون عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأى عين فإذا خرجنا من عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات فنسينا كثيرا قال أبو بكر فوالله إنا لنلقى مثل هذا فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قلت نافق حنظلة يا رسول الله فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما ذاك ؟ قلت يا رسول الله نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأى عين فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيرا فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والذي نفسي بيده إن لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم ولكن يا حنظلة ساعة وساعة ثلاث مرات .
والشاهد من هذا قوله : نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأى عين.
والتذكير بالجنة والنار من الرقائق .(1/19)
وقد قال الله تعالى : (( أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ)) (الحديد:16) .
قال ابن مسعود :(( ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية إلا أربع سنين)) .
ولذا رَقَّتْ قلوب الصحابة واعتنوا بما يُرَقِّق قلوبهم وابتعدوا عما يسبب قسوتها ، لقد تعلموا الإيمان قبل أن يتعلموا القرآن ، فلما تعلموا القرآن ازدادوا به إيمانا، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد ، ودرر الفرائد .
(حديثُ جندب ابن عبد الله صحيح ابن ماجة ) قال كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ونحن فتيانٌ حزَاوِرَة ، فتعلمنا الإيمانَ قبل أن نتعلم القرآن ، ثم تعلمنا القرآنَ فازددنا به إيمانا .
كانت السورة تَنْزِلُ فيتعلَّمون حلالها وحرامها وآمرها وزاجرها. (كما في: بيان مشكل الآثار للطحاوي 4/44 عن ابن عمر رضي الله عنهما.) حتَّى لقد ورد عن عمر رضي الله عنه أنه تعلَّم سورة البقرة في اثنتي عشرة سنة. (الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 1/76، ط: دار الكتاب العربي بيروت).
يقول ابن مسعود (( إنما العلم خشية الله )).
لقد أكثروا من عبادة ربهم العبادة المشروعة فقد كان يسمع لهم في الليل دوي كدوي النحل من قراءة القرآن والتهجد به ، لقد كانوا يبكون من خشية الله ولهم في ذلك القصص، وكذلك من بعدهم .
وصنف العلماء في الرقائق كتبا مستقلة واعتنوا بها ، بل إنك لا تكاد تجد كتابا صنف في الحديث إلا وأفرد للرقائق والزهد كتابا أو بابا .(1/20)
وكانوا يعدون خشية الله ورقة القلب هي العلم الحقيقي وأن العلم الحقيقي هو ما يورث الخشية ورقة القلب . يقول الحسن : إن كان الرجل إذا طلب العلم لم يلبث أن يرى ذلك في تخشعه وبصره ولسانه ويده وزهده .
باب : التوازن في الرقائق
مما يجب التنبيه عليه أنه لابد من التوازن بين علم الرقائق وغيره من أبواب العلم ، وأن لا نتجاوز به حد الاعتدال الذي شرعه الله عز وجل ، وكان هديه صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى في ذلك ولا يجوز لأحد من أمته صلى الله عليه وسلم أن يزيد عليه أو أن يظن أنه أكمل عبادة من رسول الله صلى الله عليه وسلم وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد ، ودرر الفرائد .
(حديث أنس الثابت في الصحيحين) جاء ثلاثةُ رهطٍ إلى بيوت النبي - صلى الله عليه وسلم - يسألون عن عبادة النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما أخبروا كأنهم تقاُّلوها وقالوا : أين نحن من النبي - صلى الله عليه وسلم - قد غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر قال أما أنا أصلي الليل أبداً ، وقال آخر : وأنا أصوم الدهر أبداً ، وقال آخر : وأنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً ، فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : أنتم الذين قلتم كذا وكذا ، أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني .(1/21)
ولا يظن ظان أن الكلام في الرقائق يعني الدروشة وترك العلم ، هذا غير صحيح أبدا ،هذا بمعزلٍ عن الصواب وبمنأى عن جادة الطريق ، فالرقائق باب من أبواب العلم ، والعالم لابد أن يكون قدوة في خشيته لله وهديه وسمته ولو لم يكن فيه ذلك لما قام بواجب العلم ، والعلم يؤدي إلى رقة القلب وخشية الله قال تعالى: ( إِنّمَا يَخْشَى اللّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ) [ فاطر : 28] إن العلم إذا كان مبنيا على نهج الكتاب والسنة فإنه وسيلة لترقيق القلب ، وليس صحيحاً أن الرقائق لا يعتني بها إلا المبتدئون أو الدراويش ، بل أولى من يعتني بها العلماء وطلبة العلم والدعاة ، فإن القلب إذا رق ولان لخالقه وتوجه إلى ربه بصفاء روح وجد لذة تتضاءل بجانبها اللذات الدنيوية
[*] قال محمد بن أحمد المعروف بابن رزقويه :
والله ما أحب الحياة في الدنيا لكسب ولا تجارة ولكن لذكر الله ولقراءتي عليكم الحديث .
باب ما الأشياء التي يمكن أن نطلق عليها رقائق ؟
الأشياء التي يمكن أن نطلق عليها رقائق هي الأشياء التي تسبب رقة القلب وهي موضوع كتاب الرقائق ، وهي كما يلي جملةً وتفصيلا :
أولاً ذكر أبواب الرقائق جملةً :
باب هتك الحُجُبُ التي تحول بين العبد وربه :
باب شرطي قبول العمل :
باب حقيقة الموت :
باب كل نفس ذائقة الموت :
باب ذِكْرُ الموت :
باب كيف نستعد للموت؟
باب استحضار حسن الخاتمة وسوء الخاتمة :
باب ساعة الاحتضار :
باب وجوب الصبر والاسترجاع لأهل الميت :
باب ما ورد في البكاء على الميت :
باب غسل الميت وتكفينه والصلاة عليه ودفنه :
باب أهوال القبور وأحوال أهلها إلى النشور :
باب القيامة الكبرى وما يجري فيها :
باب الترغيب في الجنة :
باب التخويف من النار :
باب معرفة حقيقة الدنيا :
باب حال المؤمن في الدنيا :
باب ذم طول الأمل :
باب مجالسة الصالحين :
باب المواظبة على قراءة القرآن الكريم :
باب اغتنام كنوز الحسنات :
باب تزكية النفوس :(1/22)
ثانياً : ذكر أبواب الرقائق تفصيلا :
باب هتك الحُجُبُ التي تحول بين العبد وربه :
إن من أعظم ما يُرَقِّق القلب قيام العبد بهتك الحُجُبُ التي تحول بين العبد وربه فيزيل عن قلبه الكَدَر وعن بصره الغَبَش فيصير قلبه صافياً رقيقاً ، ويكون ذا بصيرةٍ نافذه ، فيقبل على ربه بعقله وفِكْرِه وقلبه وَقَالِبِه مما يُرْجَى له التوفيق والسداد .
مسألة : ماهي الحُجُبُ التي تحول بين العبد وربه ؟
الحُجُبُ التي تحول بين العبد وربه هي عشرة كما يلي :
الحجاب الأول: الجهل بالله:
الحجاب الثاني: البدعة:
الحجاب الثالث: الكبائر الباطنة:
الحجاب الرابع: حجاب أهل الكبائر الظاهرة:
الحجاب الخامس: حجاب أهل الصغائر:
الحجاب السادس: حجاب الشرك:
الحجاب السابع: حجاب أهل الفضلات والتوسع في المباحات:
الحجاب الثامن: حجاب أهل الغفلة عن الله:
الحجاب التاسع: حجاب اهل العادات والتقاليد والأعراف:
الحجاب العاشر: حجاب المجتهدين المنصرفين عن السير الى المقصود:
وإليك تفصيل ذلك :
الحجاب الأول: الجهل بالله:
إن أغلظ الحجب هو الجهل بالله وإلا تعرفه.. فالمرء عدو ما يجهل ،وإن الذين لا يعرفون الله يعصونه ، ويعبدون الشيطان من دونه.
ولذلك كان نداء الله بالعلم أولاً: فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات [ محمد:19]
والدواء أن تعرف الله حق المعرفة ، وفصل الخطاب في معرفة الله تعالى حق معرفته أنه يتضمن قسمين أساسين :
أولاً : معرفة الله تعالى حق معرفته :
ثانياً: أثر معرفة الله تعالى حق معرفته على ترقيق القلب
وهاك تفصيل ذلك :
أولاً : معرفة الله تعالى حق معرفته :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ(1/23)
فمن عرف الله حق معرفته أحبه كما ينبغي أن يحبه سبحانه ، ومن لم يعرف ربه حق معرفته لم يستطع أن يحب ربه سبحانه كما ينبغي أن يحبه ، لذلك كان أغلظ الحُجُبِ بين العبد وربه هو الجهل بالله تعالى ، وكان أهل السنة فعلا طلبة العلم حقا هو أولياء الله الذين يحبهم ويحبونه ،
واعلم رحمك الله تعالى أنه لا يتم معرفة الله تعالى حق معرفته إلا بالإيمان بأربعة أمور متلازمة هي :
(1) الإيمان بوجوده سبحانه وتعالى.
(2) الإيمان بربوبيته، أي: الانفراد بالربوبية.
(3) الإيمان بانفراده بالألوهية.
(4) الإيمان بأسمائه وصفاته. لا يمكن أن يتحقق الإيمان إلا بذلك.
فمن لم يؤمن بوجود الله، فليس بمؤمن، ومن آمن بوجود الله لا بانفراده بالربوبية، فليس بمؤمن، ومن آمن بالله وانفراده بالربوبية، فليس بمؤمن، ومن آمن بالله وانفراده بالربوبية والألوهية لكن لم يؤمن بأسمائه وصفاته، فليس بمؤمن، وإن كان الأخير فيه من يسلب عنه الإيمان بالكلية وفيه من يسلب عنه كمال الإيمان.
الإيمان بوجود الله :
مسألة : إذا قال قائل: ما الدليل على وجود الله عز وجل ؟
قلنا: الدليل على وجود الله: العقل، والحس، والشرع.
ثلاثة كلها تدل على وجود الله، وإن شئت، فزد: الفطرة، فتكون الدلائل على وجود الله أربعة: العقل، والحس، والفطرة، والشرع. وأخرنا الشرع، لا لأنه لا يستحق التقديم، لكن لأننا نخاطب من لا يؤمن بالشرع.
ـ فأما دلالة العقل، فنقول: هل وجود هذه الكائنات بنفسها، أو وجدت هكذا صدفة؟(1/24)
فإن قلت: وجدت بنفسها، فمستحيل عقلاً ما دامت هي معدومة؟ كيف تكون موجودة وهي معدومة؟! المعدوم ليس بشيء حتى يوجد، إذاً لا يمكن أن توجد نفسها بنفسها وإن قلت: وجدت صدفة، فنقول: هذا يستحيل أيضاً، فأنت أيها الجاحد، هل ما أنتج من الطائرات والصواريخ والسيارات والآلات بأنواعها، هل وجد هذا صدفة؟! فيقول: لا يمكن أن يكون. فكذلك هذه الأطيار والجبال والشمس والقمر والنجوم والشجر والجمر والرمال والبحار وغير ذلك لا يمكن أن توجد صدفة أبداً.
ويقال: إن طائفة من السمنية جاؤوا إلى أبي حنيفة رحمه الله، وهم من أهل الهند، فناظروه في إثبات الخالق عز وجل، وكان أبو حنيفة من أذكى العلماء فوعدهم أن يأتوا بعد يوم أو يومين، فجاءوا، قالوا: ماذا قلت؟ أنا أفكر في سفينة مملوءة من البضائع والأرزاق جاءت تشق عباب الماء حتى أرسلت في الميناء ونزلت الحمولة وذهبت، وليس فيها قائد ولا حمالون.
قالوا: تفكر بهذا؟! قال: نعم. قالوا: إذاً ليس لك عقل! هل يعقل أن سفينة تأتي بدون قائد وتنزل وتنصرف؟! هذا ليس معقول! قال: كيف لا تعقلون هذا، وتعقلون أن هذه السماوات والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب والناس كلها بدون صانع؟ فعرفوا أن الرجل خاطبهم بعقولهم، وعجزوا عن جوابه هذا أو معناه.وقيل لأعرابي من البادية: بم عرفت ربك؟ فقال: الأثر يدل على المسير، والبعرة تدل على البعير، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج، ألا تدل على السميع البصير؟
ولهذا قال الله عز وجل: { أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون } [الطور: 35].
فحينئذ يكون العقل دالاً دلالة قطعية على وجود الله.
وأما دلالة الحس على وجود الله، فإن الإنسان يدعو الله عز وجل، يقول: يا رب! ويدعو بالشيء، ثم يستجاب له فيه، وهذه دلالة حسه، هو نفسه لم يدع إلا الله، واستجاب الله له، رأى ذلك رأي العين. وكذلك نحن نسمع عمن سبق وعمن في عصرنا، أن الله استجاب الله.(1/25)
وفي القرآن كثير من هذا، مثل: { وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين (83) فاستجبنا له } [الأنبياء: 83-84] وغير ذلك من الآيات.
وأما دلالة الفطرة، فإن كثيراً من الناس الذين لم تنحرف فطرهم يؤمنون بوجود الله، حتى البهائم العجم تؤمن بوجٍٍٍٍِود الله، وقصة النملة التي رويت عن سليمان عليه الصلاة والسلام، خرج يستسقي، فوجد نملة مستلقية على ظهرها رافعة قوائمها نحو السماء، تقول: اللهم أنا خلق من خلقك، فلا تمنع عنا سقياك.
فقال: ارجعوا، فقد سقيتم بدعوة غيركم، فالفطر مجبولة على معرفة الله عز وجل وتوحيده.
وقد أشار الله تعالى إلى ذلك في قوله: { وإذ أخذ ربكم من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين (172) أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم } [الأعراف: 172: 173]، فهذه الآية تدل على أن الإنسان مجبول بفطرته على شهادته بوجود الله وربوبيته وسواء أقلنا: إن الله استخرجهم من ظهر آدم واستشهدهم، أو قلنا: إن هذا هو ما ركب الله تعالى في فطرهم من الإقرار به، فإن الآية تدل على أن الإنسان يعرف ربه بفطرته.
هذه أدلة أربعة تدل على وجود الله سبحانه وتعالى.
وأما دلالة الشرع، فلأن ما جاءت به الرسل من شرائع الله تعالى المتضمنة لجميع ما يصلح الخلق يدل على أن الذي أرسل بها رب رحيم حكيم، ولا سيما هذا القرآن المجيد الذي أعجز البشر والجن أن يأتوا بمثله.
[2] توحيد الربوبيةِ :
هو إفرادُ الله بالخلق ِ والملك ِ والتدبير .
والدليلُ قوله تعالى ( ألا له الخلقُ والأمر ) { الأعراف / 54 }
والأمرُ هنا معناه التدبير .
وقوله تعالى ( لله ملك السموات والأرض ) { المائدة / 17 }
الشاهد :تقديم ما حقَّه التأخير يفيدُ الحصر
{ تنبيه } : التدبير الذي يختصُ به الله تعالى نوعان هما :(1/26)
(1) تدبيرٌكوني : فالله تعالى يدبرُ أمور الكون وما فيه ، هو المحيي المميت الخافض الرافع المعطي المانع المعز المذل يُولج الليل في النهار ويلج النهار في الليل
قال تعالى : (قُلِ اللّهُمّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمّنْ تَشَآءُ وَتُعِزّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلّ مَن تَشَآءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنّكَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ،تُولِجُ اللّيْلَ فِي الْنّهَارِ وَتُولِجُ النّهَارَ فِي الْلّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيّ مِنَ الْمَيّتِ وَتُخْرِجُ الَمَيّتَ مِنَ الْحَيّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) { آل عمران / 26 ، 27 }
(2) تدبيرٌ شرعي : يحلل ويحرِّم .
[3] توحيد الأ لوهية :
توحيدُ الأ لوهية هو (إفرادُ الله بالعبادة )، أي لا معبود بحقٍ إلا الله .
والدليلُ قوله تعالى قال تعالى: (شَهِدَ اللّهُ أَنّهُ لاَ إِلََهَ إِلاّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلََهَ إِلاّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) ( آل عمران /18)
وقوله تعالى: (فَاعْلَمْ أَنّهُ لاَ إِلََهَ إِلا اللّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ) ( محمد / 19 ) .
( حديثُ عُبَادةَ ابن الصامت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من شهدَ أن لا إله إلا الله وحده لا شَرِيكَ له وأن محمداً عبدُ الله ورسولُه وأن عيسى عبدُ اللهِ ورسولُه وكلمتُه ألقاها إلى مريمَ وروحٌ منه والجنةُ حقٌ والنارُ حقٌ أدخله الله الجنةَ على ما كان من العمل .
[4] توحيد الأسماءِ والصفات :
توحيدُ الأسماء ِ والصفات هو إثبات ما أثبته الله لنفسه أو أثبته له رسوله من الأسماء ِ الحسنى والصفاتِ العُلى .
{ تنبيه } : في هذا النوع من التوحيد ضابطين أساسيين :(1/27)
(1) لا نصفُ الله تعالى إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم - .
قال الإمامُ أحمد رحمه الله : لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسَه أو وَصفَه به رسوله لا يتجاوزُ القرآن والحديث .
2 ) أن يكون وصفنا لله تعالى بغيرِ تحريفٍ ولا تعطيل ولا تكيفٍ ولا تمثيل .
مسألة : ما معنى التحريف ؟
التحريفُ نوعان :
النوع الأول : تحريفٌ لفظي كتغيير حرفٍ بحرف ، أو زيادة حرف كمن يقول ( استوى على العرش ) استولى ، وقوله حطه أي حنطه . نعوذ بالله من الضلال والخبال .
النوعُ الثاني : تحريفٌ معنوي وهو التأويلُ بغير دليل ، لأي صرف النص عن ظاهره بغير دليلٍ شرعي وهو ما يُسمى بالتأويلِ الفاسد ، كحا لِ بعض الفرق الضالة الذين يفسرون قوله تعالى { بل يداه مبسوطتان } فيفسرون يداه بالسماوات والأرض ، نعوذ بالله من الضلالِ والخبال .
مسألة : ما معنى التعطيل ؟
التعطيلُ هو إنكارُ صفاتِ الله تعالى إما كلها أو بعضها ، وكون الإنكارُ عن طريقتين : إما التحريف أو التكذيب
{ تنبيه } : التعطيلُ أعم من التحريف ، يكون تعطيلٌ وتحريف ، وإن كان التعطيلُ بالإنكار يكون تعطيلٌ فقط .
مسألة : ما معنى التكييف ؟
التكييف ذكرُ كيفيةٍ للصفة ، وهذا منهيٌ عنه ، ولما سُئلَ الإمامُ مالك رحمه الله تعالى عن قوله تعالى ( الرحمن على العرش استوى ) كيف استوى ؟ قال :
الاستواء غيرُ مجهول ( أي من حيثُ المعنى )
والكيفُ غير معقول ( أي لا تدركه العقول )
والإيمانُ به واجب (لأنه سبحانه أثبته لنفسه )
والسؤالُ عنه بدعة ( لأن الصحابة َلم يسألوا عنه وهم أحرصُ الناسِ على الخير وأعلم الناسِ بما يجيزه الشرع .
مسألة : ما معنى التمثيل ؟
التمثيلُ هو مماثلة صفات الله تعالى بصفاتِ المخلوقين ، وهذا من الضلالِ والخبال لأن الله تعالى يقول ( ليس كمثلهِ شئٌ وهو السميعُ البصير) [ الشورى / 11 ](1/28)
{ تنبيه } : التكييف أعم من التمثيل ، لأن التكييفَ إن كان له مماثل كان تكييفاً وتمثيلاٌ ، وإن لم يكن له مماثل كان تكييفاٌ فقط .
[*] قال الشيخ حافظ الحكمي رحمه الله تعالى :
وكلِ ما لهُ من الصفاتِ ... أثبتها في محكمِ الآياتِ
أوْصَحَّ فيما قاله الرسولُ ... فحقَّهُ التسليمُ والقبولُ
نُمِرُّها صريحةً كما أتتْ ... مع اعتقادنا لما له اقتدتْ
من غيرِ تحرِيفٍ ولا تعطيلِ ... وغيرِ تمثيلٍ ولا تكييفِ
ثانياً : أثر معرفة الله تعالى حق معرفته على ترقيق القلب :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
إن من أعظم أبواب الرقائق باب معرفة الله وأسمائه وصفاته واقتضاء هذه المعرفة لآثار هذه الأسماء الحسنى والصفات العلا من العبودية ، فإذا عرف الإنسان ربه ..كيف يعصيه ؟ كيف يعصي ربه وهو يعلم أنه صائر إليه موقوف بين يديه ؟
وكذلك يعرف أسماء الله وصفاته حق المعرفة بأن يؤمن بها ويستحضرها في قلبه ،يستحضرها في قلبه عند الطاعة فيقبل إليها ، وعند المعصية فيحجم عنها .
ومعرفة أسماء الله وصفاته ترقق القلب ، فإذا علم بسمع الله تعالى وبصره وعلمه المطلق حفظ لسانه وجوارحه وخطرات قلبه عن كل مالا يرضي الله ،
[*] قال ابن القيم في مفتاح دار السعادة (2/90):
(وعلمه ـ ويقصد العبد ـ بسمعه تعالى وبصره وعلمه وأنه لا يخفى عليه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وأنه يعلم السر وأخفى ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ، يثمر له حفظ لسانه وجوارحه وخطرات قلبه عن كل ما لا يرضي الله وأن يجعل تعلق هذه الأعضاء بما يحبه الله و يرضاه فيثمر له ذلك الحياء باطنا ، ويثمر له الحياء اجتناب المحرمات والقبائح " اهـ .
وإذا عرف أن الله هو الجبار العزيز شديد العقا ب لم يجرؤ أن يبارزه بالمعصية وإذا علم أن الله هو الرحمن الرحيم الغفور الودود رجا رحمة ربه وأحب خالقه .(1/29)
فإذا عرف الله بأسمائه وصفاته أحب ربه سبحانه وخافه ورجاه فلا يكون في قلبه مكان لحب غيره أو مكان لخوف غيره أو مكان لرجاء غيره .
وليس من معرفة أسماء الله وصفاته أن نجعلها دافعا لنا للمعصية فنقول : إن الله غفور رحيم مما يدفعنا إلى أن نعصيه وننسى أنه أيضا سبحانه شديد العقاب .
الحجاب الثاني: البدعة:
فمن ابتدع حجب عن الله ببدعته.. فتكون بدعته حجابا بينه وبين الله حتى يتخلص منها ، فالبدعة حجاباً تمنع وصول العمل إلى الله.. وبالتالي تمنع وصول العبد.. فتكون حجاباً بين العبد وبين الرب.. لأن المبتدع إنما عبد على هواه.. لا على مراد مولاه.. فهوا حجاب بينه وبين الله.. من خلال ما ابتدع مما لم يشرّع الله.. فالعامل للصالحات يمهد لنفسه.. أما المبتدع فإنه شرّ من العاصي.
[*] وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد ، ودرر الفرائد .
(حديث عائشة في صحيح مسلم) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد .
(حديث عائشة في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد .
ثم إن الموافقه للسنة إحدى شرطي قبول العمل المتلازمين :
مسألة : ما هي شروط قبول العمل :
لقبول العمل شرطان متلازمان إذا فقد أحدهما أو كلاهما صار العمل مردوداً على صاحبه والعياذ بالله .
الشرط الأول : إخلاص النية لله تعالى
فإن فقد العمل إخلاص النية، انتقل من أفضل الطاعات إلى أحط المخالفات، وانقلب من نورٍ إلى نار ولا شيء يحطم العمل مثل: الرياء؛ رياء شرك، أو رياء إخلاص ، ومثل التسميع؛ بأن يقول مسمعاً: علمت وحفظت ، فإن الله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً وابتُغيَ به وجهه .(1/30)
قال تعالى: (وَمَآ أُمِرُوَاْ إِلاّ لِيَعْبُدُواْ اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ حُنَفَآءَ وَيُقِيمُواْ الصّلاَةَ وَيُؤْتُواْ الزّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ القَيّمَةِ) [البينة / 5]
والله تعالى يقول ( مَن كَان يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ ، أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ) { هود/15 ،16 }
(حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الصحيحين) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إنما الأعمال بالنيات و إنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله و رسوله فهجرته إلى الله و رسوله و من كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه .
(حديثُ أبي هريرةَ صحيح مسلم ) : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال - قال الله تعالى : أنا أغنى الشركاءِ عن الشرك ، من عمل عملاً أشركَ فيه معي غيري تركته وشركه .
) حديث أبي هريرة في صحيحي أبي داوود وابن ماجة) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة .
( حديث جابر في صحيح ابن ماجة) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لا تعلموا العلم لتباهوا به العلماء ولا تماروا به السفهاء و لا لتخيروا به المجالس فمن فعل ذلك فالنار.
ولهذا يتعين عليك أن تحمى نيتك من شوب الإرادة لغير الله تعالى، بل وتحمى الحمى.
(حديثُ جندب ابن عبد الله في الصحيحين ) : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال من سمَّعَ سمَّعَ الله به ومن يُرائي يُرائي الله به .
(حديثُ أبي أُمامة صحيح النسائي ) : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال إن الله تعالى لا يقبلُ من العملِ إلا ما كان خالصاً وابتُغيَ به وَجهُهُ .(1/31)
الشرط الثاني : متابعة السنة أي موافقة السنة :
لأنه لا يمكن للإنسان أن يؤدي أي عملٍ شرعي على وجه المشروع حسبما أراد الله تعالى إلا باتباع السنة مع القرآن وذلك لأن السنة هي التي تفسِّر مبهم القرآن وتفصِّل مجمله وتخصص عمومه وتبين الناسخ من المنسوخ ، ولذا كان هناك قاعدة شرعية حُقَّ لها أن تكتب على الصدور بماء الذهب ، وهذه القاعدة هي ( إتباع السنة أولى من كثرة العمل ) ، وذلك لأن العمل مهما كان كثيراً وليس مطابقاً للسنة كان مردوداً لا يقبله الله تعالى .
(حديث عائشة في صحيح مسلم) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد .
(حديث عائشة في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد .
الحجاب الثالث: الكبائر الباطنة:
وهي كثيرة كالخيلاء.. والفخر.. والكبر.. والغرور.. هذه الكبائر الباطنة أكبر من الكبائر الظاهرة.. أعظم من الزنا وشرب الخمر والسرقة.. هذه الكبائر الباطنة إذا وقعت في القلب.. كانت حجاباً بين قلب العبد وبين الرب.
ذلك أن الطريق إلى الله إنما تُقْطَعُ بالقلوب.. ولا تُقْطَعُ بالأقدام.. والمعاصي القلبة قطاع الطريق.
قال ابن القيّم رحمه الله : وقد تستولي النفس على العمل الصالح.. فتصيره جنداً لها.. فتصول به وتطغى.. فترى العبد: أطوع ما يكون.. أزهد ما يكون.. وهو عن الله أبعد ما يكون.. ) فتأمل..!!
الحجاب الرابع: حجاب أهل الكبائر الظاهرة:
كالسرقة.. وشرب الخمر.. وسائر الكبائر..
{ تنبيه } : يجب أن نفقه في هذا المقام.. أنه لا صغيرة مع الإصرار ولا كبيرة مع الاستغفار.. والإصرار هو الثبات على المخالفة.. والعزم على المعاودة.. وقد تكون هناك معصية صغيرة فتكبر بعدة أشياء وهي ستة :
(1) بالإصرار والمواظبة:(1/32)
مثاله: رجل ينظر إلى النساء.. والعين تزني وزناها النظر.. لكن زنا النظر أصغر من زنا الفرج.. ولكن مع الإصرار والمواظبة.. تصبح كبيرة.. إنه مصر على ألا يغض بصره.. وأن يواظب على إطلاق بصره في المحرمات.. فلا صغيرة مع الإصرار .
(2) استصغار الذنب:
مثاله: تقول لأحد المدخنين: اتق الله.. التدخين حرام.. ولقد كبر سنك.. يعني قد صارت فيك عدة آفات: أولها: أنه قد دب الشيب في رأسك. ثانياً: أنك ذو لحية. ثالثاً: أنك فقير.
فهذه كلها يجب أن تردعك عن التدخين.. فقال: هذه معصية صغيرة.
(3) السرور بالذنب:
فتجد الواحد منهم يقع في المعصية.. ويسعد بذلك.. أو يتظاهر بالسعادة.. وهذا السرور بالذنب أكبر من الذنب.. فتراه فرحاً بسوء صنيعه.. كيف سب هذا؟؟.. وسفك دم هذا؟.. مع أن ( سباب المسلم فسوق وقتاله كفر } كما في الحديث الآتي :
(حديث ابن مسعود في الصحيحين) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : سباب المسلم فسوق وقتاله كفر .
أو أن يفرح بغواية فتاة شريفة.. وكيف استطاع أن يشهر بها.. مع أن الله يقول: إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم [النور:19]
انتبه.. سرورك بالذنب أعظم من الذنب.
(4) أن يتهاون بستر الله عليه:
[*] قال عبدالله بن عباس رضي الله عنهما: ( يا صاحب الذنب لا تأمن سوء عاقبته.. ولما يتبع الذنب أعظم من الذنب إذا عملته.. قلة حيائك ممن على اليمين وعلى الشمال ـ وأنت على الذنب ـ أعظم من الذنب.. وضحكك وأنت لا تدري ما الله صانع بك أعظم من الذنب.. وفرحك بالذنب إذا ظفرت به أعظم من الذنب.. وخوفك من الريح إذا حركت ستر بابك ـ وأنت على الذنب ـ ولا يضطرب فؤادك من نظر الله إليك أعظم من الذنب ).
(5) المجاهرة بالمعاصي:
أن يبيت الرجل يعصي.. والله يستره.. فيحدث بالذنب.. فيهتك ستر الله عليه.. يجيء في اليوم التالي ليحدث بما عصى وما عمل!!.. فالله ستره.. وهو يهتك ستر الله عليه.(1/33)
[*] وتأمل في الحديثين الآتيين بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيهما واجعل لهما من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيهما من غرر الفوائد ، ودرر الفرائد .
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملاً، ثم يصبح وقد ستره الله، فيقول: يا فلان، عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه، ويصبح يكشف ستر الله عنه.
( حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : اجتنبوا هذه القاذورات التي نهى الله تعالى عنها فمن ألم بشيء منها فليستتر بستر الله و ليتب إلى الله فإنه من يبد لنا صفحته نُقِمْ عليه كتاب الله .
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
( اجتنبوا هذه القاذورات ) جمع قاذورة وهي كل قول أو فعل يستفحش أو يستقبح لكن المراد هنا الفاحشة يعني الزنا لأنه لما رجم ماعزاً ذكره سميت قاذورة لأن حقها أن تتقذر فوصفت بما يوصف به صاحبها أفاده الزمخشري
( التي نهى الله عنها ) أي حرمها
( فمن ألمَّ ) بالتشديد أي نزل به والإلمام كما في الصحاح مقاربة المعصية من غير مواقعة وهذا المعنى له لطف هنا يدرك بالذوق
( بشيء منها فليستتر بستر الله وليتب إلى الله ) بالندم والإقلاع والعزم على عدم العود ( فإنه ) أي الشأن
( من يبد ) بضم المثناة تحت وسكون الموحدة
( لنا صفحته ) أي ظهر لنا فعله الذي حقه الإخفاء والستر وصفحة كل شيء جانبه ووجهه وناحيته كنى به عن ثبوت موجب الحد عند الحاكم
( نقم ) نحن معشر الحكام(1/34)
( عليه كتاب الله ) أي الحد الذي حده الله في كتابه والسنة من الكتاب فيجب على المكلف إذا ارتكب ما يوجب لله حداً الستر على نفسه والتوبة فإن أقر عند حاكم أقيم عليه الحد أو التعزير ، وعلم من الحديث أن من واقع شيئاً من المعاصي ينبغي أن يستتر وحينئذ فيمتنع التجسس عليه لأدائه إلى هتك الستر قال الغزالي : وحد الاستتار أن يغلق باب داره ويستتر بحيطانه قال فلا يجوز استراق السمع على داره ليسمع صوت الأوتار ولا الدخول عليه لرؤية المعصية إلا أن يظهر عليه ظهوراً يعرفه من هو خارج الدار كصوت آلة اللهو والسكارى ولا يجوز أن يستنشق ليدرك رائحة الخمر ولا أن يستخبر جيرانه ليخبروه بما جرى في داره وقد أنشد في معناه : لا تلتمس من مساوي الناس مستتراً * فيكشف الله سترا عن مساويكا واذكر محاسن ما فيهم إذا ذكروا * ولا تعب أحداً منهم بما فيكا .
(6) أن يكون رأساً يقتدى به:
فهذا مدير مصنع.. أو مدير مدرسة أو كلية.. أو شخصية مشهورة.. ثم يبدأ في التدخين.. فيبدأ باقي المجموعة في التدخين مثله.. ثم بعدها يبدأ في تدخين المخدرات.. فيبدأ الآخرون يحذون حذوه.
هكذا فتاة قد تبدأ لبس البنطلون الضيق يتحول بعدها الموضوع إلى اتجاه عام.
وهكذا يكون الحال إذا كنت ممن يُقتدى بك.. فينطبق عليك قوله - صلى الله عليه وسلم - : من سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها ، وهاك الحديث :
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها، وأجر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها، ووزر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء .
الحجاب الخامس: حجاب أهل الصغائر:
إن الصغائر تعظم.. وكم من صغيرة أدت بصاحبها إلى سوء الخاتمة.. والعياذ بالله.(1/35)
فالمؤمن هو المعظم لجنايته يرى ذنبه ـ مهما صغر ـ كبيراً لأنه يراقب الله تعالى ، لا ينظر إلى صِغَرِ المعصية بل ينظر إلى عِظَمِ من عصى .. كما أنه لا يحقرن من المعروف شيئاً لأنه يرى فيه منّه وفضله.. فيظل بين هاتين المنزلتين حتى ينخلع من قلبه استصغار الذنب واحتقار الطاعة.. فيقبل على ربّه الغفور الرحيم التواب المنان المنعم فيتوب إليه فينقشع عنه هذا الحجاب.
الحجاب السادس: حجاب الشرك:
وحجاب الشرك من أعظم الحجب وأغلظها إثما.. وقطعه وإزالته بتجريد التوحيد لله تعالى في ربوبيته وألوهيته وأسماءه وصفاته :
توحيد الربوبيةِ :
هو إفرادُ الله بالخلق ِ والملك ِ والتدبير .
والدليلُ قوله تعالى ( ألا له الخلقُ والأمر ) { الأعراف / 54 }
والأمرُ هنا معناه التدبير .
وقوله تعالى ( لله ملك السموات والأرض ) { المائدة / 17 }
الشاهد :تقديم ما حقَّه التأخير يفيدُ الحصر
{ تنبيه } : التدبير الذي يختصُ به الله تعالى نوعان هما :
(1) تدبيرٌكوني : فالله تعالى يدبرُ أمور الكون وما فيه ، هو المحيي المميت الخافض الرافع المعطي المانع المعز المذل يُولج الليل في النهار ويلج النهار في الليل
قال تعالى : (قُلِ اللّهُمّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمّنْ تَشَآءُ وَتُعِزّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلّ مَن تَشَآءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنّكَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ،تُولِجُ اللّيْلَ فِي الْنّهَارِ وَتُولِجُ النّهَارَ فِي الْلّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيّ مِنَ الْمَيّتِ وَتُخْرِجُ الَمَيّتَ مِنَ الْحَيّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) { آل عمران / 26 ، 27 }
(2) تدبيرٌ شرعي : يحلل ويحرِّم .
توحيد الأ لوهية :
توحيدُ الأ لوهية هو (إفرادُ الله بالعبادة )، أي لا معبود بحقٍ إلا الله .(1/36)
والدليلُ قوله تعالى قال تعالى: (شَهِدَ اللّهُ أَنّهُ لاَ إِلََهَ إِلاّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلََهَ إِلاّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) ( آل عمران /18)
وقوله تعالى: (فَاعْلَمْ أَنّهُ لاَ إِلََهَ إِلا اللّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ) ( محمد / 19 ) .
( حديثُ عُبَادةَ ابن الصامت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من شهدَ أن لا إله إلا الله وحده لا شَرِيكَ له وأن محمداً عبدُ الله ورسولُه وأن عيسى عبدُ اللهِ ورسولُه وكلمتُه ألقاها إلى مريمَ وروحٌ منه والجنةُ حقٌ والنارُ حقٌ أدخله الله الجنةَ على ما كان من العمل .
توحيد الأسماءِ والصفات :
توحيدُ الأسماء ِ والصفات هو إثبات ما أثبته الله لنفسه أو أثبته له رسوله من الأسماء ِ الحسنى والصفاتِ العُلى .
{ تنبيه } : في هذا النوع من التوحيد ضابطين أساسيين :
(1) لا نصفُ الله تعالى إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم - .
قال الإمامُ أحمد رحمه الله : لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسَه أو وَصفَه به رسوله لا يتجاوزُ القرآن والحديث .
2 ) أن يكون وصفنا لله تعالى بغيرِ تحريفٍ ولا تعطيل ولا تكيفٍ ولا تمثيل .
مسألة : ما معنى التحريف ؟
التحريفُ نوعان :
النوع الأول : تحريفٌ لفظي كتغيير حرفٍ بحرف ، أو زيادة حرف كمن يقول ( استوى على العرش ) استولى ، وقوله حطه أي حنطه . نعوذ بالله من الضلال والخبال .
النوعُ الثاني : تحريفٌ معنوي وهو التأويلُ بغير دليل ، لأي صرف النص عن ظاهره بغير دليلٍ شرعي وهو ما يُسمى بالتأويلِ الفاسد ، كحا لِ بعض الفرق الضالة الذين يفسرون قوله تعالى { بل يداه مبسوطتان } فيفسرون يداه بالسماوات والأرض ، نعوذ بالله من الضلالِ والخبال .
مسألة : ما معنى التعطيل ؟(1/37)
التعطيلُ هو إنكارُ صفاتِ الله تعالى إما كلها أو بعضها ، وكون الإنكارُ عن طريقتين : إما التحريف أو التكذيب
{ تنبيه } : التعطيلُ أعم من التحريف ، يكون تعطيلٌ وتحريف ، وإن كان التعطيلُ بالإنكار يكون تعطيلٌ فقط .
مسألة : ما معنى التكييف ؟
التكييف ذكرُ كيفيةٍ للصفة ، وهذا منهيٌ عنه ، ولما سُئلَ الإمامُ مالك رحمه الله تعالى عن قوله تعالى ( الرحمن على العرش استوى ) كيف استوى ؟ قال :
الاستواء غيرُ مجهول ( أي من حيثُ المعنى )
والكيفُ غير معقول ( أي لا تدركه العقول )
والإيمانُ به واجب (لأنه سبحانه أثبته لنفسه )
والسؤالُ عنه بدعة ( لأن الصحابة َلم يسألوا عنه وهم أحرصُ الناسِ على الخير وأعلم الناسِ بما يجيزه الشرع .
مسألة : ما معنى التمثيل ؟
التمثيلُ هو مماثلة صفات الله تعالى بصفاتِ المخلوقين ، وهذا من الضلالِ والخبال لأن الله تعالى يقول ( ليس كمثلهِ شئٌ وهو السميعُ البصير) [ الشورى / 11 ]
{ تنبيه } : التكييف أعم من التمثيل ، لأن التكييفَ إن كان له مماثل كان تكييفاً وتمثيلاٌ ، وإن لم يكن له مماثل كان تكييفاٌ فقط .
[*] قال الشيخ حافظ الحكمي رحمه الله تعالى :
وكلِ ما لهُ من الصفاتِ ... أثبتها في محكمِ الآياتِ
أوْصَحَّ فيما قاله الرسولُ ... فحقَّهُ التسليمُ والقبولُ
نُمِرُّها صريحةً كما أتتْ ... مع اعتقادنا لما له اقتدتْ
من غيرِ تحرِيفٍ ولا تعطيلِ ... وغيرِ تمثيلٍ ولا تكييفِ
خطر الشرك والعياذ بالله :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
إن الشرك والعياذ بالله خطره عظيم وأمره خطير وشره مستطير بل هو الداء الوبيل لأن الشركَ هو الذنبُ الذي لا يُغْفرُ إذا لم يتبْ الإنسانُ منه ، قال الله تعالى: (إِنّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَىَ إِثْماً عَظِيماً) [سورة: النساء ( النساء / 48 )(1/38)
ويترتبُ على ذلك : الحرمانُ من الجنةِ والخلودُ في النارِ وإحباطُ العمل . قال الله تعالى )إِنّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنّةَ وَمَأْوَاهُ النّارُ وَمَا لِلظّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ) ( المائدة / 72 )
وقال تعالى (وَلَقَدْ أُوْحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)( الزمر / 65 )
ولخطورة الشرك كان سيدنا إبراهيم عليه السلام خليل الرحمن يخافُ من الشرك :
فقد دعا الله سبحانه أن يُجنبه وبنيه عبادة الأصنام ، قال تعالى: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبّ اجْعَلْ هََذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيّ أَن نّعْبُدَ الأصْنَامَ) ( إبراهيم / 35 )
الشاهد من الآية : إذا كان إبراهيمُ عليه السلام الذي هو خليلُ الرحمن وإمامُ الحنفاء ، والذي جعله الله أمة والذي ابتلاه بكلماتٍ فأتمهن ، وأمره بذبحِ ابنه وفلذةِ كبده طاعةً لله وامتثالاً لأمره ، والذي كسَّرَ الأصنام واشتد نكيرُه على أهلِ الشرك ،يخافُ من الشرك ، فمن بابِ أولى أن نخافَ على أنفسنا من الشرك .
والشركَ في أمتنا أخفى من دبيبِ النمل على الصفا ِ :
(حديثُ ابن عباس في صحيحِ الجامع )أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :الشركُ في أمتي أخفى من دبيبِ النملِ على الصفا .
ومن أخطر أنواع الشرك: الشرك الخفي وذلك لخفائه وخطورته وهو الشرك الأصغر الذي يحبط العمل والعياذ بالله حتى يقول الله عن صاحبه: ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون * ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين * انظر كيف كذبوا على أنفسهم وضلّ عنهم ما كانوا يفترون [ الأنعام:22-24].(1/39)
(حديث أبي سعيد في صحيح ابن ماجة) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال ؟ " . قالوا : بلي . قال : " الشرك الخفي ، يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته ، لما يري من نظر رجل .
( حديث محمود بن لبيد رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر الرياء يقول الله يوم القيامة إذا جزي الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاء .
فجاهد أخي في تجريد التوحيد.. سل الله العافية من الشرك.. واستعذ بالله منه فقد كان من دعائه - صلى الله عليه وسلم - : اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك شيئاً أعلمه وأستغفرك لما لا أعلمه.
هنا يزول الحجاب.. مع الاستعاذة.. والإخلاص.. وصدق اللجأ الى الله.
الحجاب السابع: حجاب أهل الفضلات والتوسع في المباحات :
قد يكون حجاب أحدنا بينه وبين الله بطنه.. فإن الأكل حلال.. والشرب حلال.. لكن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبرنا أنه [ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطن ] وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد ، ودرر الفرائد .
(حديث مِقْدَامِ بْنِ مَعْدِ يكَرِبَ رضي الله عنه الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " مَا مَلأَ آدَمِىٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ أُكُلاَتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ فَإِنْ كَانَ لاَ مَحَالَةَ فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ "
[*] قال العلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:
( مَا مَلَأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً ) أَيْ ظَرْفًا(1/40)
( شَرًّا مِنْ بَطْنٍ ) صِفَةُ وِعَاءٍ، جَعَلَ الْبَطْنَ أَوَّلًا وِعَاءً كَالْأَوْعِيَةِ الَّتِي تُتَّخَذُ ظُرُوفًا لِحَوَائِجِ الْبَيْتِ تَوْهِينًا لِشَأْنِهِ ثُمَّ جَعَلَهُ شَرَّ الْأَوْعِيَةِ؛ لِأَنَّهَا الجزء السابع اسْتُعْمِلَتْ فِيمَا هِيَ لَهُ وَالْبَطْنُ خُلِقَ لِأَنْ يَتَقَوَّمَ بِهِ الصُّلْبُ بِالطَّعَامِ وَامْتِلَاؤُهُ يُفْضِي إِلَى الْفَسَادِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا فَيَكُونُ شَرًّا مِنْهَا
( بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ ) مُبْتَدَأٌ أَوِ الْبَاءُ زَائِدَةٌ أَيْ يَكْفِيهِ وَقَوْلُهُ
( أُكُلَاتٌ ) بِضَمَّتَيْنِ خَبَرُهُ نَحْوُ قَوْلِهِ: بِحَسْبِكَ دِرْهَمٌ وَالْأُكْلَةُ بِالضَّمِّ اللُّقْمَةُ أَيْ يَكْفِيهِ هَذَا الْقَدْرُ فِي سَدِّ الرَّمَقِ وَإِمْسَاكِ الْقُوَّةِ
( يُقِمْنَ ) مِنَ الْإِقَامَةِ
( صُلْبَهُ ) أَيْ ظَهْرَهُ تَسْمِيَةً لِلْكُلِّ بِاسْمِ جُزْئِهِ، كِنَايَةً عَنْ أَنَّهُ لَا يَتَجَاوَزُ مَا يَحْفَظُهُ مِنَ السُّقُوطِ وَيَتَقَوَّى بِهِ عَلَى الطَّاعَةِ
( فَإِنْ كَانَ لَا مَحَالَةَ ) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَيُضَمُّ، أَيْ إِنْ كَانَ لَا بُدَّ مِنَ التَّجَاوُزِ عَمَّا ذَكَرَ فَلْتَكُنْ أَثْلَاثًا ( فَثُلُثٌ ) أَيْ فَثُلُثٌ يَجْعَلُهُ
( لِطَعَامِهِ ) أَيْ مَأْكُولِهِ
( وَثُلُثٌ ) يَجْعَلُهُ ( لِشَرَابِهِ ) أَيْ مَشْرُوبِهِ
( وَثُلُثٌ ) يَدَعُهُ(1/41)
( لِنَفَسِهِ ) بِفَتْحِ الْفَاءِ أَيْ يُبْقِي مِنْ مِلْئِهِ قَدْرَ الثُّلُثِ لِيَتَمَكَّنَ مِنَ التَّنَفُّسِ وَيَحْصُلُ لَهُ نَوْعُ صَفَاءٍ وَرِقَّةٍ وَهَذَا غَايَةُ مَا اخْتِيرَ لِلْأَكْلِ وَيَحْرُمُ الْأَكْلُ فَوْقَ الشِّبَعِ حكمه . وَقَالَ الطِّيبِيُّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: أَيِ الْحَقُّ الْوَاجِبُ أَنْ لَا يَتَجَاوَزَ عَمَّا يُقَامُ بِهِ صُلْبُهُ لِيَتَقَوَّى بِهِ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ فَإِنْ أَرَادَ الْبَتَّةَ التَّجَاوُزَ فَلَا يَتَجَاوَزُ عَنِ الْقَسْمِ الْمَذْكُورِ. أهـ
ثم إن المعدة إذا امتلأت.. نامت الفكرة.. وقعدت الجوارح عن الخدمة
(حديث ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : قَالَ تَجَشَّأَ رَجُلٌ عِنْدَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ " كُفَّ عَنَّا جُشَاءَكَ فَإِنَّ أَكْثَرَهُمْ شِبَعاً فِى الدُّنْيَا أَطْوَلُهُمْ جُوعاً يَوْمَ الْقِيَامَةِ " .
[*] قال العلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:
( تَجَشَّأَ رَجُلٌ ) بِتَشْدِيدِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ بَعْدَهَا هَمْزَةٌ أَيْ يُخْرِجُ الْجُشَاءَ مِنْ صَدْرِهِ وَهُوَ صَوْتٌ مَعَ رِيحٍ يَخْرُجُ مِنْهُ عِنْدَ الشِّبَعِ، وَقِيلَ عِنْدَ امْتِلَاءِ الْمَعِدَةِ. قَالَ التُّورْبَشْتِيُّ: الرَّجُلُ هُوَ وَهْبٌ أَبُو جُحَيْفَةَ السَّوَائِيُّ. رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ { أَكَلْتُ ثَرِيدَةً مِنْ خُبْزٍ وَلَحْمٍ وَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَنَا أَتَجَشَّأُ } قُلْتُ قَدْ أَشَارَ التِّرْمِذِيُّ إِلَى حَدِيثِ أَبِي جُحَيْفَةَ هَذَا بِقَوْلِهِ: وَفِي الْبَابِ عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ وَسَتَقِفُ عَلَى لَفْظِهِ وَمُخَرِّجِيهِ(1/42)
( فَقَالَ كُفَّ عَنَّا ) أَمْرُ مُخَاطَبٍ مِنَ الْكَفِّ بِمَعْنَى الصَّرْفِ وَالدَّفْعِ وَفِي رِوَايَةِ شَرْحِ السُّنَّةِ: أَقْصِرْ مِنْ جُشَائِكَ
( جُشَاءَكَ ) بِضَمِّ الْجِيمِ مَمْدُودًا، وَالنَّهْيُ عَنِ الْجُشَاءِ هُوَ النَّهْيُ عَنِ الشِّبَعِ؛ لِأَنَّهُ السَّبَبُ الْجَالِبُ لَهُ ( فَإِنَّ أَكْثَرَهُمْ شِبَعًا ) قَالَ فِي الْقَامُوسِ: الشِّبَعُ بِالْفَتْحِ وَكَعِنَبٍ ضِدُّ الْجُوعِ وَشَبِعَ كَسَمِنَ خُبْزًا وَلَحْمًا مِنْهُمَا.
( حديث فاطمة الزهراء رضي الله عنها الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : شرار أمتي الذين غذوا بالنعيم الذين يأكلون ألوان الطعام و يلبسون ألوان الثياب و يتشدقون في الكلام .
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن رجلاً كان يأكل أكلاً كثيراً، فأسلم، فكان يأكل أكلاً قليلاً، فذُكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: (إن المؤمن يأكل في مِعًى واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء).
وقد يكون الحجاب بين العبد وبين الله ملابسه :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
قد يعشق المظاهر.. وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد ، ودرر الفرائد .
(حديث أبي هريرة في صحيح البخاري) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : تعس عبد الدينار ،و عبد الدرهم ، و عبد الخميصة ، ، إن أُعطِيَ ؛ رضي ، وإن لم يُعط ، سخط ، تعس وأنتكس ، وإذا شيك فلا انتقش . طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله ، أشعثٌ رأسُه ، مغبَّرةٌ قدماه ، إن كان في الحراسة ، كان في الحراسة ، وإن كان في الساقة ، كان في الساقة ، إن أستأذن ، لم يؤذن له ، وأن شفع ، لم يشفع "(1/43)
الشاهد : قوله - صلى الله عليه وسلم - [تعس عبد الدينار ،و عبد الدرهم ، و عبد الخميصة] فسماه عبداً لهذا فهي حجاب بينه وبين ربه.. تقول له: قصّر ثوبك قليلاً.. امتثالاً للحديث الآتي :
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ما أسفل الكعبين من الإزار ففي النار .
يقول: أنا أخجل من لبس القميص القصير.. ولماذا أصنع ذلك؟ هل تراني لا أجد قوت يومي؟!
فالمقصود أن هذه الأعراف.. والعادات.. والفضلات.. والمباحات.. قد تكون حجاباً بين العبد وبين ربه.. وقد تكون كثرة النوم حجاباً بين العبد وبين الله.. قد يكون الزواج وتعلق القلب به حجاب بين العبد وبين الله.. وهكذا الاهتمام بالمباحات.. والمبالغة في ذلك.. وشغل القلب الدائم بها.. قد يكون حجاباً غليظاً يقطعه عن الله.
نسأل الله عز وجل ألا يجعل بيننا وبينه حجاباً..
الحجاب الثامن: حجاب أهل الغفلة عن الله:
والغفلة تستحكم في القلب حين يفارق محبوبه جل وعلا.. فيتبع المرء هواه.. ويوالي الشيطان.. وينسى الله قال تعالى: ( وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً) [ الكهف:28].. ولا ينكشف حجاب الغفلة عنه إلا بالانزعاج الناشئ عن انبعاث ثلاثة أنوار في القلبهي ما يلي :
(1) نور ملاحظة نعمة الله تعالى في السر والعلن.. حتى يغمر القلب محبته جلّ جلاله. فإن القلوب فطرت على حب من أحسن إليها.
(2) نور مطالعة جناية النفس.. حتى يوقن بحقارتها.. وتسببها في هلاكه.. فيعرف نفسه بالازدراء والنقص.. ويعرف ربه بصفات الجمال والكمال.. فيبذل لله.. ويحمل على نفسه في عبادة الله.. لشكره وطلب رضاه.
(3) نور الانتباه لمعرفة الزيادة والنقصان من الأيام.. فيدرك أن عمره رأس ماله. فيشمّر عن ساعد الجدّ حتى يتدارك ما فاته في يقسة عمره.(1/44)
فيظل ملاحظا لذلك كله.. فينزعج القلب.. ويورثه ذلك يقظة تصيح بقلبه الراقد الوسنان.. فيهب لطاعة الله.. سبحانه وتعالى.. فينكشف هذا الحجاب.. ويدخل نور الله قلب العبد.. فيستضيء.
الحجاب التاسع: حجاب اهل العادات والتقاليد والأعراف:
إن هناك أناسا عبيد للعادة.. تقول له: لم تدخن؟!!.. يقول لك: عادة سيئة.. أنا لا أستمتع بالسيجارة.. ولا ضرورة عندي إليها.. وإنما عندما أغضب فإني أشعل السيجارة.. وبعد قليل أجد أني قد استرحت.
ولما صار عبد السيجارة.. فصارت حجابا بينه وبين الله.. ولذلك أول سبيل للوصول الى الله خلع العادات.. ألا تصير لك عادة.. فالإنسان عدو عادته فلكي تصل الى الله، فلا بد أن تصير حرا من العبودية لغير الله .
[*] قال شيخ الإسلام ابن تيمية:" ولا تصح عبوديته ما دام لغير الله فيه بقية".. فلا بد أن تصير خالصا لله حتى يقبلك.
الحجاب العاشر: حجاب المجتهدين المنصرفين عن السير إلى المقصود:
هذا حجاب الملتزمين.. أن يرى المرء عمله.. فيكون عمله حجابا بينه وبين الله.. فمن الواجب ألا يرى عمله.. وإنما يسير بين مطلعة المنّة.. ومشاهدة عيب النفس والعمل.. يطاع منّة الله وفضله عليه أن وفقه وأعانه.. ويبحث في عمله.. وكيف أنه لم يؤده على الوجه المطلوب.. بل شابه من الآفات ما يمنع قبوله عند الله.. فيجتهد في السير.. وإلا تعلق القلب بالعمل.. ورضاه عنه.. وانشغاله به عن المعبود.. حجاب.. فإن رضا العبد بطاعته.. دليل على حسن ظنه بنفسه.. وجهله بحقيقة العبودية.. وعدم علمه بما يستحقه الرب جلّ جلاله.. ويليق أن يعمل به.. وحاصل ذلك أن جهله بنفسه وصفاتها وآفاتها.. وعيوب عمله.. وجهله بربه وحقوقه.. وما ينبغي أن يعامل به.. يتولد منها رضاه بطاعته.. وإحسان ظنه بها.. ويتولد من ذلك من العجب والكبر والآفات.. ما هو أكبر من الكبائر الظاهرة.. فالرضا بالطاعة من رعونات النفس وحماقتها..(1/45)
ولله درّ من قال: متى رضيت نفسك وعملك لله فاعلم أنه غير راض به.. ومن عرف أن نفسه مأوى كل عيب وشر.. وعمله عرضة لكل آفة ونقص.. كيف يرضى الله نفسه وعمله؟!
وكلما عظم الله في قلبك.. صغرت نفسك عندك.. وتضاءلت القيمة التي تبذلها في تحصيل رضاه.. وكلما شهدت حقيقة الربوبية. وحقيقة العبودية.. وعرفت الله.. وعرفت النفس.. تبين لك أن ما معك من البضاعة.. لا يصلح للملك الحق.. ولو جئت بعمل الثقلين خشيت عاقبته.. وإنما يقبله بكرمه وجوده وتفضله.. ويثيبك عليه بكرمه وجوده وتفضله.
فحينها تتبرأ من الحول والقوة.. وتفهم أن لا حول ولا قوة إلا بالله.. فينقشع هذا الحجاب.
هذه هي الحجب العشرة بين العبد وبين الله.. كل حجاب منها أكبر وأشد كثافة من الذي قبله. أرأيت يا عبدالله كم حجاب يفصلك اليوم عن ربك سبحانه وتعالى؟!.. قل لي بربك: كيف يمكنك الخلاص منها؟!
فاصدق الله.. واصدق في اللجوء إليه.. لكي يزيل الحجب بينك وبينه.. فإنه لا ينسف هذه الحجب إلا الله..
[*] قال ابن القيّم رحمه الله : ( فهذه عشرة حجب بين القلب وبين الله سبحانه وتعالى.. تحول بينه وبين السير إلى الله.. وهذه الحجب تنشأ عن أربعة عناصر.. أربعة مسميات هي: النفس.. الشيطان.. الدنيا.. الهوى.. ).
فلا يمكن كشف هذه الحجب مع بقاء أصولها وعناصرها في القلب البتة.. لا بد من نزع تلك الأربعة لكي تنزع الحجب التي بينك وبين الله .
باب شرطي قبول العمل :
... [*] عناصر الباب :
أهمية العلم بشرطي قبول العمل :
شرطي قبول العمل :
أولاً الإخلاص :
تعريف الإخلاص :
الفرق بين الرياء والسمعة وإرادة العبد بعمله الدنيا :
فضائل الإخلاص :
المجاهدة في إخفاء العمل :
ماذا قال بعض العلماء في الإخلاص..؟
فضل النيّة :
خطورة ترك العمل خوف الرياء :
هناك أشياء تظن من الرياء وليست منه :
علامات الإخلاص :
ثانيا : متابعة السنّة :
وهاك تفصيل ذلك في إيجازٍ غيرِ مُخِّل :
أهمية العلم بشرطي قبول العمل :(1/46)
هذا الباب له أهمية بالغة ، فهو من العلم بمنزلة الرأس من الجسد ، وهو رأس الأمر وعموده وزروة سنامه ، وبدون العلم به قد يكون العمل مردوداً على صاحبه أو يصبح هباءاً منثورا والعياذ بالله ، وهذا الباب هو الذي طَيَّشَ عقول الصديقين وأطار نوم المتقين ، ونغَّصَ عيش الصالحين خشية أن يرد عليهم أعمالهم ، ولذا كان هذا الباب له الأثر البالغ في ترقيق القلوب وإنابتها نحو علاَّم الغيوب .
شرطي قبول العمل :
لا يقبل الله عز وجل عملاً من الأعمال حتى يتوفر فيه شرطان فالأول : هو الإخلاص وهو شرط الباطن ، والثاني : هو متابعة سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو شرط الظاهر ، ودل على هذا الكتاب والسنة الصحيحة :
قال الله تعالى : { الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا } ( الملك : من الآية2) .
[*] قال الفضيل بن عياض: هو أخلصه فإن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل ، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل .
وقال تعالى : { فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا ولا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } ( الكهف من الآية : 110) .
فالعمل الصالح هو الموافق للسنة وعدم الشرك هو الإخلاص .
وقال تعالى : { وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ } ( النساء : من الآية 125) .
فإسلام الوجه هو الإخلاص، والإحسان هو متابعة سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - .
أولاً الإخلاص :
تعريف الإخلاص :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
مسألة : ما هو الإخلاص لغةً وشرعا ؟(1/47)
الإخلاص لغةً : خلص خلوصاً خلاصاً، أي صفى وزال عنه شوبه، وخلص الشيء صار خالصاً وخلصت إلى الشيء وصلت إليه، وخلاص السمن ما خلص منه. فكلمة الإخلاص تدل على الصفاء والنقاء والتنزه من الأخلاط والأوشاب. والشيء الخالص هو الصافي الذي ليس فيه شائبة مادية أو معنوية. وأخلص الدين لله قصد وجهه وترك الرياء. وقال الفيروز أبادي: أخلص لله ترك الرياء، وكلمة الإخلاص كلمة التوحيد، والمخلصون هم الموحدون والمختارون .
والإخلاص شرعا : هو أن تبتغي بعملك وجه الله تعالى ، فإن قصدت بعملك غيره تعالى لم يقبله فهو سبحان أغني الشركاء عن الشرك ، فهو تجريد قصد التقرب إلى الله عز وجل عن جميع الشوائب .
والإخلاص هو أهم أعمال القلوب وأعلاها وأساسها، هو حقيقة الدين ومفتاح دعوة الرسل عليهم السلام قال تعالى : { وَمَا أُمِرُوا إلاّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء } ( البينة : من الآية 5) .
و قال تعالى : { أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ } [ الزمر : 3]
والإخلاص هو لب العبادة وروحها
[*] قال ابن حزم: النية سر العبودية وهي من الأعمال بمنزلة الروح من الجسد، ومحال أن يكون في العبودية عمل لا روح فيه، فهو جسد خراب.
والإخلاص شرط لقبول العمل الصالح الموافق لسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وقد أمرنا الله عز وجل به فقال تعالى : { وَمَا أُمِرُوا إلاّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء } ( البينة : من الآية 5) .
وإليك الأدلة من السنة الصحيحة على ذلك :
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : قال الله تعالى : " أنا أغني الشركاء عن الشرك ، ومن عمل عملاً أشرك معي فيه غيري ، تركته وشِركَه " .
(حديث جندب بن عبد الله في الصحيحين) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من سمَّع سمَّع الله به ومن يرائي يرائي الله به .
)(1/48)
حديث أبي هريرة في صحيحي أبي داوود وابن ماجة) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة .
( حديث جابر في صحيح ابن ماجة) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لا تعلموا العلم لتباهوا به العلماء ولا تماروا به السفهاء و لا لتخيروا به المجالس فمن فعل ذلك فالنار.
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها قال قاتلت فيك حتى استشهدت قال كذبت ولكنك قاتلت لأن يقال جريء فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها قال تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن قال كذبت ولكنك تعلمت العلم ليقال عالم وقرأت القرآن ليقال هو قارئ فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها قال ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك قال كذبت ولكنك فعلت ليقال هو جواد فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه ثم ألقي في النار .
(حديث أبي أمامة في صحيح النسائي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن الله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً وابتُغيَ به وجهه .
(حديث أبي سعيد في صحيح ابن ماجة) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال ؟ " . قالوا : بلي . قال : " الشرك الخفي ، يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته ، لما يري من نظر رجل .(1/49)
{ تنبيه } : قوله : [ أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال ] وإنما كان كذلك ، لأن التخلص منه صعب جداً ، ولذلك قال بعض السلف : " ما جاهدت نفسي على شيء مجاهدتها على الإخلاص " ، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أسعد الناس بشفاعتي من قال : لا إله إلا الله خالصاً من قلبه "
الفرق بين الرياء والسمعة وإرادة العبد بعمله الدنيا :
مسألة : ما الفرق بين الرياء والسمعة وإرادة العبد بعمله الدنيا ؟
(الرياء والسمعة) مقصودهما أن يحمد العبد في العبادة ، أما إرادة العبد بعمله الدنيا فإنه يريد أمراً مادياً محضاً كمن أذن ليأخذ راتب المؤذن ، أو حج ليأخذ المال .
2- أن يريد المرتبة ، كمن تعلم في كلية وأخذ شهادة الدكتوراة لأجل الشهادة والمنزلة فقط وليس للتقرب إلى الله تعالى .
قال تعالى: (مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ ، أُوْلََئِكَ الّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الاَخِرَةِ إِلاّ النّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) [سورة: هود - الآيتان:15 ،16]
قوله تعالى : ( من كان يريد الحياة الدنيا ) . أي : البقاء في الدنيا .
قوله : ( وزينتها ) . أي المال ، والبنين ، والنساء ، والحرث ، والأنعام ، والخيل المسومة ، كما قال الله تعالى : { زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا } [ آل عمران : 14] .
قوله : ( نوف إليهم ) . فعل مضارع معتل الآخر مجزوم بحذف حرف العلة الياء ، لأنه جواب الشرط .(1/50)
والمعني : أنهم يعطون ما يريدون في الدنيا ، ومن ذلك الكفار لا يسعون إلا للدنيا وزينتها ، فعجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا ، كما قال تعالى : { ويوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمعتم بها } [ الأحقاف : 20] .
ولهذا لما بكي عمر حين رأي النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أثر في جنبه الفراش ، فقال : " ما يبكيك ؟ " . قال يا رسول الله لِلَّهِ كسري وقيصر يعيشان فيما يعيشان فيه من نعيم وأنت على هذا الحال . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم " (1) وفي الحقيقة هي ضرر عليهم ، لأنهم إذا انتقلوا من دار النعيم إلى الجحيم ، صار عليهم أشد وأعظم في فقد ما متعوا به في الدنيا .
قوله : ( وهم فيها إلا يبخسون ) . البخس : النقص ، أي : لا ينقصون مما يجازون فيه ، لأن الله عدل لا يظلم ، فيعطعون ما أرادوه .
قوله : ( أولئك ) . المشار إليه يريدون الحياة الدنيا وزينتها .
قوله : ( ليس لهم في الآخرة إلا النار ) . فيه حصر وطريقة النفي والإثبات ، وهذا يعني أنهم لن يدخلوا الجنة ، لأن الذي ليس له إلا النار محروم من الجنة والعياذ بالله .
قوله ( وحبط ما صنعوا فيها ) . الحبوط : الزوال ، أي : زال عنهم ما صنعوا في الدنيا .
قوله : ( وباطل ما كانوا يعملون ) . ( باطل ) : خبر مقدم لأجل مراعاة الفواصل في الآيات والمبتدأ " ما " في قوله : ( ما كانوا يعملون ) ، فأثبت الله أنه ليس لهؤلاء إلا النار ، وأن ما صنعوا في الدنيا قد حبط ، وأن أعمالهم باطلة .
__________
(1)(1/51)
(حديث أبي هريرة في صحيح البخاري) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : تعس عبد الدينار ،و عبد الدرهم ، و عبد الخميصة ، ، إن أُعطِيَ ؛ رضي ، وإن لم يُعط ، سخط ، تعس وأنتكس ، وإذا شيك فلا انتقش . طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله ، أشعثٌ رأسُه ، مغبَّرةٌ قدماه ، إن كان في الحراسة ، كان في الحراسة ، وإن كان في الساقة ، كان في الساقة ، إن أستأذن ، لم يؤذن له ، وأن شفع ، لم يشفع "
قوله : " تَعِس " . بفتح العين أو كسرها ، أي : خاب وهلك .
قوله : " عبد الدينار" الدينار : هو النقد من الذهب ، وسماه عبد الدينار ، لأنه تعلق به تعلق العبد بالرب فكان أكبر همه ، وقدمه على طاعة ربه ، ويقال في عبد الدرهم ما قيل في عبد الدينار ، والدرهم هو النقد من الفضة.
قوله : " [و عبد الخميصة] ، وهذا من يعنى بمظهره ، لأن الخميصة كساء جميل ، ليس له هم إلا هذا الأمر ، فإذا كان عابداً لهذه الأمور لأنه صرف لها جهوده وهمته ، فكيف بمن أراد بالعمل الصالح شيئاً من الدنيا فجعل الدين وسيلة للدنيا ؟ لِلَّهِ فهذا أعظم .
قوله : " إن أعطي رضي ، وإن لم يعط سخط " . يحتمل أن يكون المعطي هو الله فيكون الإعطاء قدرياً ، أي : إن قدر الله له الرزق والعطاء رضي وانشرح صدره ، وإن منع وحرم المال سخط بقلبه وقوله ، كأن يقول : لماذا كنت فقيراً وهذا غنياً ؟ وما أشبه ذلك ، فيكون ساخطاً على قضاء الله وقدرة لأن الله منعه .
والله سبحانه وتعالى يعطي ويمنع لحكمةٍ بالغةً قضاها يستوجب الحمد على اقتضاها ، ويعطي الدنيا لمن يحب ومن لا يحب ، ولا يعطي الدين لمن يحب .
والواجب على المؤمن أن يرضي بقضاء الله وقدره ، إن أعطي شكر ، وإن منع صبر .(1/52)
ويحتمل أن يراد بالإعطاء هنا الإعطاء الشرعي ، أي: إن أعطي من مال يستحقه من الأموال الشرعية رضي ، وإن لم يعط سخط ، وكلا المعنيين حق ، وهما يدلان على أن هذا الرجل لا يرضي إلا للمال ولا يسخط إلا له ، ولهذا سمّاه الرسول - صلى الله عليه وسلم - عبداً له .
قوله :" تعس وانتكس " . تعس ، أي : خاب وهلك ، وانتكس ، أي : أنتكست عليه الأمور بحيث لا تتيسر له ، فكلما أراد شيئاً انقلبت عليه الأمور خلاف ما يريد ، ولهذا قال :
وإذا شيك فلا انتقش" أي : إذا أصابته شوكة ، فلا يستطيع أن يزيل ما يؤذيه عن نفسه .
وهذه الجمل الثلاث يحتمل خبراً منه - صلى الله عليه وسلم - عن حال هذا الرجل ، وأنه في تعاسة وانتكاس وعدم خلاص من الأذى ، ويحتمل أن يكون من باب الدعاء على من هذه حاله ، لأنه لا يهتم إلا للدنيا ، فدعا عليه أن يهلك ، وأن لا يصيب من الدنيا شيئاً ، وأن لا يتمكن من إزالة ما يؤذيه ، وقد يصل إلى الشرك عندما يصده ذلك عن طاعة الله حتى أصبح لا يرضي إلا للمال ولا يسخط إلا له .
قوله : " طوبي لعبد أخذ بعنان فرسه في سبيل الله " . هذا عكس الأول ، فهو لا يهتم للدنيا ، وإنما يهتم للآخرة ، فهو في استعداد دائم للجهاد في سبيل الله .
و" طوبى " فُعْلى من الطيب ، وهي اسم تفضيل ، فأطيب للمذكر وطوبي للمؤنث ، والمعني : أطيب حال تكون لهذا الرجل ، وقيل إن طوبي شجرة في الجنة ، والأول ، أعم ،
وقوله : " آخذ بعنان فرسه " . أي ممسك بمقود فرسه الذي يقاتل عليه .(1/53)
قوله : " في سبيل الله " . ضابطه أن يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا لا للحمية أو الوطنية أو ما أشبه ذلك ، لكن إن قاتل وطنية وقصد حماية وطنه لكونه بلداً إسلامياً يجب الذود عنه ، فهو في سبيل الله ، وكذلك من قاتل دفاعاً عن نفسه أو ماله أو أهله ؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " من قتل دون ذلك ، فهو شهيد " ، فأما من قاتل للوطنية المحضة ، فليس في سبيل الله لأن هذا قتال عصبية يستوي فيه المؤمن والكافر ، فإن الكافر يقاتل من أجل وطنه .
قوله : [ أشعثٌ رأسه ، مغبَّرة قدماه ] أي: رأسه أشعث من الغبار في سبيل الله ، فهو لا يهتم بحاله ولا بدنه مادام هذا الآمر ناتجاً عن طاعة الله عز وجل وقدماه مغبرة في السير في سبيل الله ، وهذا دليل على أن أهم شيء عنده هو الجهاد في سبيل الله ، أما أن يكون شعره أو ثوبه أو فراشه نظيفاً ، فليس له هم فيه .
قوله : [ إن كان في الحراسة ، فهو في الحراسة ، وإن كان في الساقة ، كان في الساقة] المعنى أنه يُنكر ذاته فالأمر يستوي عنده سواء كان في المنزلة العليا كمرتبة الحراسة التي تكون في مقدمة الجيش أو في المنزلة الدنيا كالسقي ال ... ي يكون في مؤخرة الجيش فهو لا يحرص على مكانة دنيوية حتى إنه إن استأذن لم يؤذن له ، وإن شفع لم يشفع .
قوله :" إن استأذن لم يؤذن له ، وإن شفع لم يشفع " . أي : هو عند الناس ليس له جاه ولا شرف ، حتى إنه إن استأذن لم يؤذن له ، وهكذا عند أهل السلطة ليس له مرتبه ، فإن شفع لم يُشَفّع، ولكنه وجيه عند الله وله المنزلة العالية ، لأنه يقاتل في سبيله .
والشفاعة : هي التوسط للغير بجلب منفعة أو دفع مضرة .
والاستئذان : طلب الإذن بالشيء .
{ تنبيه } : ولا يتخلص العبد من الشيطان إلا بالإخلاص لقول الله عز وجل:
{ إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ } ( ص : الآية 83) . وروى أن أحد الصالحين كان يقول لنفسه : " يانفس أخلصى تتخلصى ".(1/54)
وكل حظ من حظوظ الدنيا تستريح إليه النفس، ويميل إليه القلب، قلّ أم كثر، إذا تطرق إلى العمل ، تكدربه صفوه ، وزال به إخلاصه، والإنسان مرتبط فى حظوظه ، منغمس فى شهواته ، قلما ينفك فعلٌ من أفعاله ، وعبادةٌ من عباداته عن حظوظ وأغراض عاجلة من هذه الأجناس، فلذلك قيل : " من سلم له من عمره لحظةٌ واحدةٌ خالصةٌ لوجه الله نجا " ، وذلك لعزة الإخلاص، وعُسْرِ تنقية القلب عن الشوائب ، فالإخلاص: تنقية القلب من الشوائب كلها ، قليلها وكثيرها، حتى يتجرد فيه قصدُ التقرب فلا يكون فيه باعثُ سواه ، وهذا لا يتصور إلا من محب لله مستغرق الهم بالآخرة،بحيث لم يبق لحب الدنيا من قلبه قرارٌ ، فمثل هذا لو أكل ، أو شرب، أو قضى حاجته ، كان خالص العمل ،صحيح النية، ومن ليس كذلك فبابُ الإخلاص مسدودٌ عليه إلا على الندور .
وكما أن مَنْ غلب عليه حب الله ، وحب الآخرة، فاكتسبت حركاتهُ الاعتيادية صفة همه ، وصارت إخلاصاً ، فالذى يغلب على نفسه الدنيا والعلو والرياسة ، وبالجملة غير الله ، اكتسبت جميع حركاته تلك الصفة، فلا تسلم له عبادةٌ من صومٍ ، وصلاة وغير ذلك إلا نادراً .
فعلاج الإخلاص كسرُ حظوظ النفس، وقطعُ الطمع عن الدنيا، والتجرد للآخرة ، بحيث يغلب ذلك على القلب، فإذ ذاك يتيسر به الإخلاص، وكم من أعمل يتعب الإنسان فيها ، ويظن أنها خالصةٌ لوجه الله، ويكون فيها من المغرورين، لأنه لم يَرَ وجهَ الآفة ِ .(1/55)
كما حُكى عن بعضهم : أنه كان يصلى دائماً فى الصف الأول، فتأخر يوماً عن الصلاة فصلى فى الصف الثانى، فاعترتْه خجلةٌ من الناس حيث رأوْه فى الصف الثانى، فَعَلم أن مسرته وراحة قلبه منِ الصلاة فى الصف الأول كانت بسبب نظر الناس إليه، وهذا دقيقٌ غامضٌ قَلّما تسلم الأعمال من أمثاله ، وقلّ من ينتبه له إلا من وفقه الله تعالى، والغافلون عنه يَرَوْنَ حسناتهم يوم القيامة سيئات ، وهم المقصودون بقوله تعالى : { وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا } ( الزمر : من الآيتين 47 ،48) .
وبقوله عز وجل : { قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا } ( الكهف : الآية 103 - 104) .
فضائل الإخلاص :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
للإخلاص أهمية قصوى فهو منتهى أمل العبد وأقصى غايته للأسباب الآتية :
(1) النجاة تكون بسببه في الآخرة لأن الله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً وابتُغيَ به وجهه .
(حديث أبي أمامة في صحيح النسائي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن الله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً وابتُغيَ به وجهه .
(2) اجتماع القلب في الدنيا وزوال الهم لا يكون إلا به :
( حديث أنس بن مالك رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من كانت الآخرة همّه جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة ، ومن كانت الدنيا همّه جعل الله فقره بين عينيه ، وفرَّق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قُدِّر له .
[ من كانت الآخرة همّه ] : يعني: أي شغله الشاغل ،يعمل لها ويرغب فيها عن الآخرة ،كان جزائه ما يلي :
جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة :(1/56)
[ ومن كانت الدنيا همّه ] : فالإنسان مخلوق من أجل العبادة، فإذا نسي هذا الأمر وأصبح نهماً على الدنيا يريد أن يجمعها من أي جهة كانت، وأصبحت هذه الدنيا همه الوحيد فهذا جزاؤه [جعل الله فقره بين عينيه ، وفرَّق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قُدِّر له ]
[جعل الله فقره بين عينيه ] : يعني: أنه دائماً مستحضر الفقر يرى الفقر بين عينيه، مهما وجد معه من المال،
[ وفرَّق عليه شمله ] : فالذي يجمع لك الأمور ويؤلف بين القلوب هو الله سبحانه وتعالى، فالإنسان يجمع من شمال ويمين وربنا يفرق عليه هذا كله ما دام همه الوحيد .
[ولم يأته من الدنيا إلا ما قُدِّر له ] : فلا تتعب نفسك وتحملها فوق طاقتها فتقصر في عبادة الله سبحانه، وتقول: المال المال، ولكن ابحث عن المال من حلال، واحذر الحرام، واحذر أن تضيع الدين وتضيع الطاعة فيضيع منك الجميع الدنيا والآخرة.
(حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجه ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من جعل الهموم هماً واحدا هم المعاد كفاه الله هم دنياه، ومن تشعبت به الهموم في أحوال الدنيا لم يبال الله في أي أوديته هلك .
من جعل الهموم هماً واحدا هم المعاد : ولو أن كلاً منا في قلبه الآخرة، فسيدرك أن الله سبحانه على كل عمل يقوم به، فإنه إذا قام للصلاة تذكر: الله سيحاسبني على هذه الصلاة فيحسنها، وإذا صام أحسن الصيام، وإذا عمل أي عمل من الأعمال أتقن ذلك العمل، ولا من أجل أن يأخذ الجزاء من الناس، ليس من أجل أن يترقى، ولكن ابتغاء مرضات الله سبحانه وتعالى؛ لأن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه، فإذا كانت الآخرة على بال الإنسان دائماً فإن الله سوف يكفيه أمر دنياه، قال: (كفاه الله هم دنياه).(1/57)
ومن تشعبت به الهموم : يعني: نسي الآخرة وبدأ يفكر يريد أن يأكل ويشرب ويلبس ويريد كذا وكذا، ويعمل طول النهار وهو يفكر في أمور الدنيا، ناسياً ربه سبحانه فهذا يكون حاله كما في الحديث:
( لم يبال الله في أي أوديته هلك ) : يعني: في أي مكان هلك لا يبالي الله عز وجل به. فالمؤمن قريب من الله، والله يحبه ويفرح بتوبته وبإقباله عليه، أما الإنسان البعيد عن الله سبحانه وتعالى فإن يهلك في أي واد لا يبالي الله به.
سادساً : أن محبها أشد الناس عذاباً بها، وهو معذب فى دوره الثلاث : يعذب فى الدنيا بتحصيلها والسعى فيها ومنازعة أهلها، وفى دار البرزخ بفواتها والحسرة عليها ، وكونه قد حيل بينه وبين محبوبه على وجه لا يرجو اجتماعه به أبداً ، ولم يحصل له هناك محبوب يعوضه عنه، فهذا أشد الناس عذاباً فى قبره، يعمل الهمّ والحزنُ والغم والحسرة فى روحه ما تعمل الديدان وهوام الأرض فى جسمه .
والمقصود : أن محب الدنيا يعذب فى قبره ، ويعذب يوم لقاء ربه قال تعالى : { فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ } ( التوبة: الآية : 55 ) .
[*] قال بعض السلف : " يعذبهم بجمعها، وتزهق أنفسهم بحبها، وهم كافرون بمنع حق الله فيها " .
(3) مصدر رزق عظيم للأجر وكسب الحسنات : كما في الحديث الآتي :
(حديث عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها، حتى ما تجعل في فِيْ امرأتك).
(4) ينجي من العذاب العظيم يوم الدين : كما في الأحاديث الآتي :
)(1/58)
حديث أبي هريرة في صحيحي أبي داوود وابن ماجة) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة .
( حديث جابر في صحيح ابن ماجة) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لا تعلموا العلم لتباهوا به العلماء ولا تماروا به السفهاء و لا لتخيروا به المجالس فمن فعل ذلك فالنار.
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها قال قاتلت فيك حتى استشهدت قال كذبت ولكنك قاتلت لأن يقال جريء فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها قال تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن قال كذبت ولكنك تعلمت العلم ليقال عالم وقرأت القرآن ليقال هو قارئ فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها قال ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك قال كذبت ولكنك فعلت ليقال هو جواد فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه ثم ألقي في النار .
(5) كذلك الإخلاص هو أساس أعمال القلوب ، وأعمال الجوارح تبع ومكمل له، الإخلاص يعظم العمل الصغير حتى يصبح كالجبل ، كما أن الرياء يحقر العمل الكبير حتى لا يزن عند الله هباء قال تعالى : { وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا } [ الفرقان: 23 ](1/59)
(6) الإخلاص مهم جداً لأن أغلب الناس يعيشون في صراعات داخلية ويعانون من أشياء فحرموا البركة والتوفيق إلا من رحمه الله، فكيف يكون النصر و تعلم العلم إلا من المخلصين، الإخلاص مهم في إنقاذنا من الوضع الذي نعيش فيه، فقد أصبح عزيزاً نادراً قليلاً، مشاريع ودعوات تلوثت بالرياء، حركات إسلامية دمرت بسبب افتقاد الإخلاص وبعد أن أريد بها الرئاسة والجاه والمال ، وقد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - أن حرص الإنسان على المال والجاه يفسد الدين فساداً كبيراً أكبر من الفساد الحاصل من إطلاق ذئبان جائعان على غنم وتأمل في الحديث الآتي بعين الاعتبار :
(حديث كعب بن مالك في صحيح الترمذي) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ما ذئبان جائعان أُرسلا في غنم بأفسدَ لها من حرص المرء على المال و الشرف لدينه .
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
( ما ) بمعنى ليس
( ذئبان جائعان ) صفة له وفي رواية عاديان والعادي الظالم المتجاوز للحد
( أرسلا في غنم ) الجملة في محل رفع صفة
( بأفسد ) خبر ما والباء زائدة أي أشد فساداً والضمير في
( لها ) للغنم واعتبر فيه الجنسية فلذا أنث وقوله
( من حرص المرء على المال والشرف ) عطف على المال والمراد به الجاه والمنصب ( لدينه ) اللام فيه للبيان ، نحوها في قوله { لمن أراد أن يتم الرضاعة } فكأنه قيل هنا بأفسد لأي شيء؟ قيل لدينه ، ذكره الطيبي ،(1/60)
فمقصود الحديث أن الحرص على المال والشرف أكثر إفساداً للدين من إفساد الذئبين للغنم لأن ذلك الأشر والبطر يستفز صاحبه ويأخذ به إلى ما يضره وذلك مذموم لاستدعائه العلو في الأرض والفساد المذمومين شرعاً ، قال الحكيم : وضع اللّه الحرص في هذه الأمة ثم زمه في المؤمنين بزمام التوحيد واليقين وقطع علائق الحرص بنور السبحات فمن كان حظه من نور اليقين ونور السبحات أوفر كان وثاق حرصه أوثق والحرص يحتاجه الآدمي لكن بقدر معلوم وإذا لم يكن لحرصه وثاق وهبت رياحه استفزت النفس فتعدى القدر المحتاج إليه فأفسد وعرف بعضهم الحرص بأنه مدد القوة الموضوعة في الآدمي ومثيرها وعمادها . أهـ
[*] يقول ابن أبي جمرة وهو من كبار العلماء: وددت لو أنه كان من الفقهاء من ليس له شغل إلا أن يعلم الناس مقاصدهم في أعمالهم ويقعد للتدريس في أعمال النيات ليس إلا، فإنه ما أتى على كثير من الناس إلا من تضييع ذلك.
أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان الثوري قال : ما رأيت الزهد في شيء أقل منه في الرياسة، ترى الرجل يزهد في المطعم والمشرب والمال والثياب، فإذا تورع في الرياسة حامي عليها وعادي.
(7) ومن فوائد الإخلاص أنه يقلب المباحات إلى عبادات وينال بها عالي الدرجات، قال أحد السلف: إني لأستحب أن يكون لي في كل شيء نية حتى في أكلي ونومي ودخولي الخلاء وكل ذلك مما يمكن أن يقصد به التقرب إلى الله. لأن كل ما هو سبب لبقاء البدن وفراغ القلب للمهمات مطلوب شرعاً.
فالنية عند الفقهاء: تمييز العبادات عن العادات وتمييز العبادات عن بعضها البعض، إرادة وجه الله عز و جل .
(8) الإخلاص سبب للمغفرة الكبيرة للذنوب .(1/61)
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : والنوع الواحد من العمل قد يفعله الإنسان على وجه يكمل فيه إخلاصه فيغفر فيه كبائر، وإلا فأهل الكبائر كلهم يقولون لا إله إلا الله. كالبغي التي سقت كلباً فقد حضر في قلبها من الإخلاص ما لا يعلمه إلا الله فغفر الله لها.
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : غُفِرَ لأمرأة مُومِسَة ، مرت بكلب على رأس َرِكيٍّ ، يلهث، قال: كاد يقتله العطش، فنزعت خفها، فأوثقته بخمارها، فنزعت له من الماء، فَغُفِرَ لها بذلك.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
( غُفِرَ) بالبناء للمفعول بضبط المصنف أي غفر اللّه
( لامرأة مُومِسَة ) بضم الميم الأولى وكسر الثانية بضبطه
( مرت بكلب على رأس َرِكيٍّ) بفتح الراي وكسر الكاف وشد التحتية بئر
( يلهث ) أي يخرج لسانه من شدة الظمأ
( كاد يقتله العطش ) لشدته وفي رواية يأكل الثرى من العطش أي التراب الندي
( فنزعت خفها ) من رجلها
( فأوثقته ) أي شدته
( بخمارها ) بكسر الخاء أي بغطاء رأسها والخمار ككتاب ما يغطى به الرأس
( فنزعت ) جذبت وقلعت
( له من الماء ) أي بالبئر فسقته(1/62)
( فَغُفِرَ لها بذلك ) أي بسبب سقيها للكلب على الوجه المشروح فإنه تعالى يتجاوز عن الكبيرة بالعمل اليسير إذا شاء فضلاً منه . قال ابن العربي : وهذا الحديث يحتمل كونه قبل النهي عن قتل الكلاب وكونه بعده فإن كان قبله فليس بناسخ لأنه إنما أمر بقتل كلاب المدينة لا البوادي على أنه وإن وجب قتله يجب سقيه ولا يجمع عليه حرّ العطش والموت ، ألا ترى أن المصطفى صلى اللّه تعالى عليه وعلى آله وسلم لما أمر بقتل اليهود شكوا العطش فقال : لا تجمعوا عليهم حرّ السيف والعطش فسقوا واستدل به على طهارة سؤر الكلب لأن ظاهره أنها سقت الكلب من خفها ومنع باحتمال أن تكون صبته في شيء فسقته أو غسلت خفها بعد أو لم تلبسه على أن شرع من قبلنا ليس شرعاً لنا ، ولو قلنا به فمحله ما لم ينسخ ( فائدة ) قال شيخنا الشعراني : سقط على قلب زوجتي شيء فوصلت لحالة الموت فصاحت أهلها وإذا بقابل يقول وأنا بمجاز الخلاء خلص الذبابة من ضبع الذباب من الشق الذي تجاه وجهك ونحن نخلص لك زوجتك فوجدته عاضاً عليها فخلصتها فخلصت زوجتي حالاً .
(9) تنفيس الكروب لا يحدث إلا بالإخلاص ، والدليل على ذلك حديث الثلاثة الذين حبستهم صخرة ففرج الله همّهم وتأمل في هذا الحديث بعين البصيرة :
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : خرج ثلاثة يمشون فأصابهم المطر، فدخلوا في غار في جبل، فانحطت عليهم صخرة، قال: فقال بعضهم لبعض: ادعوا الله بأفضل عمل عملتموه.
فقال أحدهم: اللهم إني كان لي أبوان شيخان كبيران، فكنت أخرج فأرعى، ثم أجيء فأحلب فأجيء بالحلاب، فآتي أبواي فيشربان، ثم أسقي الصبية وأهلي وامرأتي، فاحتبست ليلة، فجئت فإذا هما نائمان، قال: فكرهت أن أوقظهما، والصبية يتضاغون عند رجلي، فلم يزل ذلك دأبي ودأبهما، حتى طلع الفجر، اللهم إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك، فافرج عنا فرجة نرى منها السماء، قال: ففرج عنهم.(1/63)
وقال الآخر: اللهم إن كنت تعلم أني أحب امرأة من بنات عمي كأشد ما يحب الرجل النساء، فقالت: لا تنال ذلك منها حتى تعطيها مائة دينار، فسعيت حتى جمعتها، فلما قعدت بين رجليها قالت: اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه، فقمت وتركتها، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك، فافرج عنا فرجة، قال: ففرج عنهم الثلثين.
وقال الآخر: اللهم إن كنت تعلم أني استأجرت أجيرا بفرق من ذرة فأعطيته، وأبى ذلك أن يأخذ، فعمدت إلى ذلك الفرق فزرعته، حتى اشتريت منه بقرا وراعيها، ثم جاء فقال: يا عبد الله أعطيني حقي، فقلت: انطلق إلى تلك البقر وراعيها فإنها لك، فقال: أتستهزئ بي؟ قال: فقلت: ما أستهزئ بك ولكنها لك، اللهم إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا، فكشف عنهم).
(10) وبالإخلاص يرزق الناس الحكمة، ويوفقون للحق والصواب :
قال تعالى : { يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً } [ الأنفال : 29]
(11) وبالإخلاص يدرك الأجر على عمله وإن عجز عنه بل ويصل لمنازل الشهداء والمجاهدين وإن مات على فراشه .
قال تعالى : { وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ } [ التوبة : 92 ]
( حديث أنس رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان في غزاة، فقال: إن أقواما بالمدينة خلفنا، ما سلكنا شعبا ولا واديا إلا وهم معنا فيه، حبسهم العذر .(1/64)
(حديث أبي كبشة الأنماري الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إِنَّمَا الدُّنْيَا لأَرْبَعَةِ نَفَرٍ عَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالاً وَعِلْماً فَهُوَ يَتَّقِى فِيهِ رَبَّهُ وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ وَيَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا فَهَذَا بِأَحسنِ الْمَنَازِلِ عند الله وَرجلٍ رَزَقَهُ اللَّهُ عِلْماً وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالاً فَهُوَ يَقُولُ لَوْ أَنَّ لي مَالاً لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلاَنٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ وهما في الأجرِ سَوَاءٌ ، وَرجلٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالاً وَلَمْ يَرْزُقْهُ عِلْماً فَهُوَ يَخْبِطُ في مَالِهِ لاَ يَتَّقِى فِيهِ رَبَّهُ وَلاَ يَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ وَلاَ يَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا فهو بِأَسوءِ الْمَنَازِلِ عند الله وَرجلٍ لَمْ يَرْزُقْهُ اللَّهُ مَالاً وَلاَ عِلْماً فَهُوَ يَقُولُ لَوْ أَنَّ لي مَالاً لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلاَنٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ وهما في الوزر سَوَاءٌ .
(12) وبالإخلاص يؤجر المرء ولو أخطأ كالمجتهد والعالم والفقيه، وهو نوى بالاجتهاد استفراغ الوسع وإصابة الحق لأجل الله، فلو لم يصب فهو مأجور على ذلك..
(حديث أبي هريرة في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران و إذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر .
(13) والمرء ينجو من الفتن بالإخلاص، ويجعل له حرز من الشهوات ومن الوقوع في براثن أهل الفسق والفجور، لذلك نجى الله يوسف عليه السلام من امرأة العزيز
قال تعالى : { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ } [ يوسف : 24 ](1/65)
لقد مر في الأمة كثير من المخلصين كانت سيرتهم نبراساً لمن بعدهم وقدوة وخيراً، لذلك أبقى الله سيرتهم وذكرهم حتى يقتدي بهم من بعدهم وعلى رأس هؤلاء الأنبياء ، النبي محمد صلى الله عليه وسلم وحواريو الأنبياء والصحابة الذين فتحوا البلاد بإخلاصهم ومن بعدهم من التابعين..
[*] يقول عبدة بن سليمان:كنا مع سرية مع عبد الله بن المبارك في بلاد الروم، فلما التقى ساعة فطعنه ازدحم الناس عليه ليعرفوا من هو فإذا هو يلثم وجهه ، فإذا هو عبد الله بن المبارك فقال لائماً أأنت يا أبا عمر ممن يشنع علي.
[*] ويقول الحسن: إن كان الرجل جمع القرآن ولما يشعر به الناس، وإن كان الرجل لينفق النفقة الكثيرة ولما يشعر الناس به، وإن كان الرجل ليصلي الصلاة الطويلة في بيته ولم يشعر الناس به، ولقد أدركت أقواماً ما كان على الأرض من عمل يقدرون أن يعملونه في السر فيكون علانية أبداً.
لقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء ولا يسمع لهم صوت إن كان إلا همساً بينهم وبين ربهم { ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } [ الأعراف: 55]
[*] يقول علي بن مكار البصري الزاهد : (( لأن ألقى الشيطان أحب إلي من أن ألقى فلاناً أخاف أن أتصنع له فأسقط من عين الله)) فقد كان السلف يخشون من قضية المجاملات.
[*]قال الذهبي : يقول ابن فارس عن أبي الحسن القطان: (( أصبت ببصري وأظن أني عوقبت بكثرة كلامي أثناء الرحلة)) قال الذهبي: صدق والله فإنهم كانوا مع حسن القصد وصحة النية غالباً يخافون من الكلام وإظهار المعرفة.
[*] قال هشام الدستوائي: ((والله ما أستطيع أن أقول إني ذهبت يوماً قط أطلب الحديث أريد به وجه الله عز وجل)).
[*] يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ((فمن خلصت نيته في الحق ولو على نفسه كفاه الله ما بينه وما بين الناس)).(1/66)
ومن عجائب المخلصين ما حصل لصاحب النفق، حاصر المسلمون حصناً واشتد عليهم رمي الأعداء ، فقام أحد المسلمين وحفر نفقاً فانتصر المسلمون، ولا يُعرَف من هو هذا الرجل، وأراد مَسْلَمَة أن يعرف الرجل لمكافأته،ولما لم يجده سأله بالله أن يأتيه، فأتاه طارق بليل وسأله شرطاً وهو أنه إذا أخبره من هو لا يبحث عنه بعد ذلك أبداً ، فعاهده، و كان يقول : (( اللهم احشرني مع صاحب النفق)).
وعمل الخلوة كان أحب إلى السلف من عمل الجلوة ، وكان السلف يستحبون أن يكون للرجل خبيئة من عمل صالح لا يعلم عنها زوجة ولا غيرها، امتثالاً للحديثين الآتيين :
(حديث الزبير بن العوام في صحيح الجامع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :من استطاع منكم أن يكون له خَبِءٌ من عمل صالح فليفعل .
خَِبٌِء من عمل صالح : أي من الأعمال الخفيّة التي لا يطّلع عليها أحد من الناس, خالية من الرياء, فتكون خالصة لله تبارك و تعالى مثل صلاة النافلة في جوف الليل أو صدقة السر أو أي عمل آخر من الأعمال الصالحة .
(حديث سعد ابن أبي وقاص في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي .
الغني : الغني عن الناس
الخفي : من لا يريد علواً في الأرض ولا مناصب ولا جاه. الخامل المنقطع إلى العبادة والانشغال بأمور نفسه.
المجاهدة في إخفاء العمل :
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان الثوري قال : بلغني أن العبد يعمل العمل سراً فلا يزال به الشيطان حتى يغلبه فيكتب في العلانية، ثم لا يزال الشيطان به حتى يحب أن يحمد عليه فينسخ من العلانية فيثبت في الرياء.(1/67)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن فضيل بن عياض قال: لا يترك الشيطان الإنسان حتى يحتال له بكل وجه، فيستخرج منه ما يخبر به من عمله، لعله يكون كثير الطواف فيقول: ما كان أجلي الطواف الليلة، أو يكون صائما فيقول ما أثقل السحور أو ما أشد العطش، فإن استطعت أن لا تكون محدثاً ولا متكلماً ولا قارئاً، وإن كنت بليغاً، قالوا: ما أبلغه وأحسن حديثه وأحسن صوته، فيعجبك ذلك فتنتفخ ، وإن لم تكن بليغا ولا حسن الصوت قالوا ليس يحسن يحدث وليس صوته بحسن أحزنك وشق عليك، فتكون مرائيا، وإذا جلست فتكلمت ولم تبال من ذمك ومن مدحك من الله فتكلم .
[*] يقول حماد بن زيد : كان أيوب ربما حدث في الحديث فيرقّ وتدمع عيناه، فيلتفت و ينتخط ويقول ما أشد الزكام!!، فيظهر الزكام لإخفاء البكاء.
[*] قال الحسن البصري: ((إن كان الرجل ليجلس المجلس فتجيئه عبرته فيردها فإذا خشي أن تسبقه قام وذهب وبكى في الخارج)).
[*] يقول محمد بن واسع التابعي: (( إن كان الرجل ليبكي عشرين سنة وامرأته لا تعلم)).
وللإمام الماوردي قصة في الإخلاص في تصنيف الكتب، فقد ألف المؤلفات في التفسير والفقه وغير ذلك ولم يظهر شيء في حياته لما دنت وفاته قال لشخص يثق به: الكتب التي في المكان الفلاني كلها تصنيفي وإنما إذا عاينت الموت و وقعت في النزع فاجعل يدك في يدي فإن قبضت عليها فاعلم أنه لم يقبل مني شيء فاعمد إليها وألقها في دجلة بالليل وإذا بسطت يدي فاعلم أنها قبلت مني وأني ظفرت بما أرجوه من النية الخالصة، فلما حضرته الوفاة بسط يده ، فأظهرت كتبه بعد ذلك.
وكان علي بن الحسن يحمل الخبز بالليل على ظهره يتبع به المساكين بالظلمة ، فالصدقة تطفيء غضب الرب، وكان أهل بالمدينة يعيشون لا يدرون من أين معاشهم ، فلما مات عرفوا، و رأوا على ظهره آثاراً مما كان ينقله من القرب والجرب بالليل فكان يعول مائة بيت .(1/68)
وهكذا كان أحدهم يدخل في فراش زوجته فيخادعها فينسل لقيام الليل وهكذا صام داود بن أبي هند أربعين سنة لا يعلم به أهله فكان يأخذ إفطاره ويتصدق به على المساكين ويأتي على العشاء..
مسألة : متى يكون إظهار العمل مشروعاً؟
[*] قال ابن قدامة: { فصل في بيان الرخصة في قصد إظهار الطاعات } قال: وفي الإظهار فائدة الإقتداء، ومن الأعمال ما لا يمكن الإسرار به كالحج والجهاد، والمظهر للعمل ينبغي أن يراقب قلبه حتى لا يكون فيه حب الرياء الخفي بل ينوي الإقتداء به { إذاً ينبغي أن نحسن نياتنا في الأعمال المظهرة لندفع الرياء وننوي الإقتداء لنأخذ الأجر } ، قال ولا ينبغي للضعيف أن يخدع نفسه بذلك، ومثل الذي يظهره وهو ضعيف كمثل إنسان سباحته ضعيفة فنظر إلى جماعة من الغرقى فرحمهم فأقبل إليهم فتشبثوا به وغرقوا جميعاً.
وفصل الخطاب في هذه المسألة أنها على التفصيل الآتي :
(1) الأعمال التي من السنة أن يكون عملها سرّاً يسرّ.
(2) الأعمال التي من السنة أن يظهرها يظهرها.
(3) الأعمال التي من الممكن أن يسرها أو يظهرها، فإن كان قوياً يتحمل مدح الناس وذمهم فإنه يظهرها وإن كان لا يقوى فيخفي لأن السلامة لا يعدلها شيء فليس له أن يكون كالمصباح يضيء للناس ويحرق نفسه ، فإذا قويت نفسه فلا بأس في الإظهار لأن الترغيب في الإظهار خير.
ورد عن بعض السلف أنهم كانوا يظهرون بعض أعمالهم الشريفة ليقتدى بهم كما قال بعضهم لأهله حين الاحتضار (( لا تبكوا علي فإني ما لفظت سيئة منذ أسلمت)).
[*] قال أبو بكر بن عياش لولده (( يا بني إياك أن تعصي الله في هذه الغرفة فإني ختمت القرآن فيها اثنتا عشرة ألف ختمة)) من أجل موعظة الولد، فمن الممكن أن يظهر المرء أشياء لأناس معينين مع بقاء الإخلاص في عمله لقصد صالح.(1/69)
لله درَ أقوامٍ نُعِّمُوا في الدنيا بالإخلاص في الطاعة، وفازوا يوم القيامة بالربح في البضاعة ، وتنزهوا عن التقصير والغفلة والإضاعة ، ولبسوا ثياب التقى وارتدوا بالقناعة ، وداموا في الدنيا على السهر والمجاعة ، فيا فخرهم إذا قامت الساعة .
لله در أقوام أخلصوا الأعمال وحققوها ، وقيدوا شهواتهم بالخوف وأوثقوها، وسابقوا الساعات بالطاعات فسبقوها، وخلصوا أعمالهم من أشراك الرياء وأطلقوها ، وقهروا بالرياضة أغراض النفوس الردية فمحقوها .
ماذا قال بعض العلماء في الإخلاص..؟
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ
[*] قال إبراهيم بن أدهم : ما صدق الله عبداً أحب الشهرة.
[*] قال بعضهم: ينبغي للعالم أن يتحدث بنية وحسن قصد، فإن أعجبه كلامه فليصمت وإن أعجبه الصمت فلينطق. فإن خشي المدح فليصمت ولا يفتر عن محاسبة نفسه فإنها تحب الظهور والثناء.
[*] وسُئِل سهل بن عبد الله التستوري : أي شيء أشد على النفس؟ قال: الإخلاص لأنه ليس لها فيه نصيب. فمع الإخلاص تنسى حظوظ النفس.
[*]وقال سفيان: ما عالجت شيئاً أشد عليّ من نيتي إنها تنقلب علي. إذا أراد أن يجاهد نفسه يجد تقلبات، ولا يدري أهو في إخلاص أم رياء، وهذا طبيعي أن يشعر أنه في صراع لا تسلم له نفسه دائماً فهو يتعرض لهجمات من الشيطان ، والنفس الأمارة بالسوء، وهذا فيه خير، أما من اطمأنت نفسه بحاله فهذه هي المشكلة.
[*] قال ابن يحيى بن أبي كثير: تعلموا النية فإنها أبلغ من العمل.
[*] قال الزبيد اليامي: إني أحب أن تكون لي نية في كل شيء حتى في الطعام والشراب.
[*] عن داود الطائي : رأيت الخير كله إنما يجمعه حسن النية وكفاك به خيراً وإن لم تنضب. أي حتى وإن لم تتعب فإن ما حصلته من اجتماع نفسك لله وإخراج حظوظ النفس من قلبك ، هذا أمر عظيم.
[*] قال يعقوب: " المخلص من يكتم حسناته كما يكتم سيئاته " .(1/70)
[*] قال السوسي: " الإخلاص فَقْدُ رؤية الإخلاص، فإن مَنْ شاهد فى إخلاصه الإخلاص فَقد احتاج إخلاصه إلى إخلاص " . وما ذكر إشارة إلى تصفية العمل من العُجْب بالفعل ، فإن الإلتفات إلى الإخلاص، والنظر إليه عٌجْب ، وهو من جملة الآفات، والخالص ما صفا عن جميع الآفات .
[*] قال أيوب : " تخليص النيات على العُمّال أشد عليهم من جميع الأعمال " .
[*] وقال بعضهم : " إخلاص ساعة نجاة الأبد، ولكنّ الإخلاص عزيزٌ".
[*] وقيل لسهل: أى شىء أشد على النفس؟ قال : " الإخلاص ،إذ ليس لها فيه نصيب " .
[*] وقال الفُضَيْل : " ترك العمل من أجل الناس رياء ، والعملُ من أجل الناس شرك، والإخلاص : أن يعافيك الله منهما " .
فضل النيّة :
[*] عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال : " أفضل الأعمال أداءُ ما افترض الله تعالى، والورعُ عما حرّم الله، وصدقٌ النية فيما عند الله تعالى " .
[*] وقال بعض السلف : رب عملٍ صغيرٍ تعظمه النية، وربّ عمل كبير تصغيره النية .
[*] وعن يحيى بن أبى كثير: " تعلّموا النية ، فإنها أبلغ من العمل " .
[*] وصحّ عن ابن عمر أنه سمع رجلاً عند إحرامه يقول : اللهم إني أريد الحج والعمرة فقال له : " أتُعْلم الناس ، أوَ ليس الله يعلم ما فى نفسك": وذلك لأن النية هي : قصد القلب ، ولا يجب التلفظ بها في شيء من العبادات وإنما يشرع في الحج والعمرة أن يقول : لبيك اللهم بحجة أو بعمرة أو بعمرة وحجة إن كان قارناً ، وهو الذي يسمى بالإهلال .
[*] قال داود: البر همة التقي، ولو تعلقت جميع جوارحه بحب الدنيا لردته يوماً نيته إلى أصلها.
[*] قال يوسف بن أسباط: تخليص النية من فسادها أشد على العاملين من طول الاجتهاد.
[*] قيل لنافع بن جبير : ألا تشهد الجنازة فقال: كما أنت حتى أنوي. أي انتظر حتى أجاهد نفسي .
[*] قال الفضيل: إنما يريد الله عز وجل منك نيتك وإرادتك.(1/71)
ومن أصلح الله سريرته أصلح الله علانيته ومن أصلح ما بينه وما بين الله أصلح الله ما بينه وبين الناس، وما أسر أحد سريرة إلا أظهرها الله في صفحات وجهه وفلتات لسانه.
والمخلص من يكتم حسناته كما يكتم سيئاته ومن شاهد في إخلاصه الإخلاص فإن إخلاصه يحتاج إلى إخلاص.
{ تنبيه } : من أعظم الأشياء التي تكون عوناً بعد الله تعالى في حصول الإخلاص إخفاء العمل ، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبهما موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد ، ودرر الفرائد .
(حديث سعد ابن أبي وقاص في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي .
الغني : الغني عن الناس
الخفي : من لا يريد علواً في الأرض ولا مناصب ولا جاه. الخامل المنقطع إلى العبادة والانشغال بأمور نفسه.
أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان الثوري قال : بلغني أن العبد يعمل العمل سراً فلا يزال به الشيطان حتى يغلبه فيكتب في العلانية، ثم لا يزال الشيطان به حتى يحب أن يحمد عليه فينسخ من العلانية فيثبت في الرياء.
خطورة ترك العمل خوف الرياء :
هذا منزلق كشفه الفضيل بن عياض: ترك العمل لأجل الناس رياء والعمل من أجل الناس شرك والإخلاص أن يعافيك الله منهما.
[*] قال النووي رحمه الله تعالى :
من عزم على عبادة وتركها مخافة أن يراه الناس فهو مرائي" لأنه ترك لأجل الناس" لكن لو ترك العمل ليفعله في الخفاء. فمن ترك العمل بالكلية وقع في الرياء، وكذلك من كان يستحب في حقه إظهار العمل فليظهره كأن يكون عاملاً يقتدى به أو أن العمل الذي يعمله المشروع فيه الإظهار.(1/72)
{ تنبيه } : من دعا إلى كتم جميع الأعمال الصالحة من جميع الناس ؛ هذا إنسان خبيث وقصده إماتة الإسلام، لذلك المنافقون إذا رؤوا أمر خير وسموه بالرياء، فهدفهم تخريب نوايا المسلمين وأن لا يظهر في المجتمع عمل صالح، فهؤلاء ينكرون على أهل الدين والخير إذا رؤوا أمراً مشروعاً مظهراً خصوصاً إذا أظهر عمل خير معرض للأذى فيظهره احتسابا لإظهار الخير فيستهدفه هؤلاء المنافقون فليصبر على إظهاره ما دام لله ، قال تعالى: (( الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم)).
وينبغي أن نفرق بين الرياء ومطلق التشريك في العمل، فمتى يبطل العمل ؟ إذا حصل تشريك فيه ، ومتى يأثم ؟ ومتى لا يأثم؟
وفصل الخطاب أن المسألة على التفصيل الآتي :
(1) أن يعمل لله ولا يلتفت إلى شيء آخر ( أعلى المراتب).
(2) أن يعمل لله ويلتفت إلى أمر يجوز الالتفات إليه ، مثل رجل صام مع نية الصيام لله أراد حفظ صحته، ورجل نوى الحج والتجارة، ورجل جاهد ونظر إلى مغانم، ورجل مشى إلى المسجد وقصد الرياضة، ورجل حضر الجماعة لإثبات عدالته وأن لا يتهم، فهذا لا يبطل الأعمال ولكن ينقص من أجرها ـ والأفضل أن لا تكون موجودة ولا مشركة في العمل ولا داخلة فيه أصلاً.
(3) أن يلتفت إلى أمر لا يجوز الالتفات إليه من الرياء والسمعة وحمد الناس طلباً للثناء ونحو ذلك فيكون علي التفصيل الآتي :
(أ) إذا كان في أصل العمل فإنه يبطله كأن يصلي الرجل لأجل الناس.
(ب) أن يعرض له خاطر الرياء أثناء العمل فيدافعه ويجاهده، فعمله صحيح وله أجر على جهاده.
(جـ) أن يطرأ عليه الرياء أثناء العمل ولا يدافعه و يستمر معه وهذا يبطل العمل.(1/73)
(د) أن يكون عمله الصالح للدنيا فقط، فيصوم لأجل الحمية والرجيم ولا يطلب الأجر، ويحج للتجارة فقط، ويخرج زكاة أموال لتنمو، ويخرج للجهاد للغنيمة ، فهؤلاء أعمالهم باطلة قال تعالى : { مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا } [ الإسراء : 18]
(هـ) أن يكون عمله رياءً محضاً، وبالرياء يحبط العمل بل ويأثم به الإنسان، لأن هناك أشياء تبطل العمل ولا يأثم صاحبها كخروج ريح أثناء الصلاة، ومن الناس من يرائي في الفتوى للأغنياء والوجهاء وقد يكون لضعفه أمامهم
وقال تعالى : ( مَن كَان يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ ، أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ) { هود/15 ،16 }
) حديث أبي هريرة في صحيحي أبي داوود وابن ماجة) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة .
( حديث جابر في صحيح ابن ماجة) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لا تعلموا العلم لتباهوا به العلماء ولا تماروا به السفهاء و لا لتخيروا به المجالس فمن فعل ذلك فالنار.
[*] قال بعض السلف: (( إذا رأيت العالم على أبواب الغنى والسلطان فاعلم أنه لص)) ، أما الذي يذهب لقصد الإنكار والخير فلهو ما نوى.
هناك أشياء تظن من الرياء وليست منه :
(1) إذا حمدك الناس على الخير بدون قصد فهذا عاجل بشرى المؤمنين.
(2) رجل رأى العابدين فنشط للعبادة لرؤيته من هو أنشط منه.
(3) تحسين وتجميل الثياب والنعل وطيب المظهر والرائحة.(1/74)
(4) كتم الذنوب وعدم التحدث بها ، فبعض الناس يظن أنك حتى تكون مخلصاً لابد من الإخبار بالذنوب، نحن مطالبون شرعاً بالستر، وكتم الذنوب ليس رياءً بل هو مما يحبّه الله، بل إن ظن غير ذلك تلبيس من الشيطان وإشاعة للفاحشة وفضح للنفس.
(5) اكتساب شهرة بغير طلبها، كعالم اشتهر وقصده منفعة الناس و بيان الحق ومحاربة الباطل والرد على الشبهات ونشر دين الله، فإن كانت هذه الأعمال وجاءت الشهرة تبعاً لها وليست مقصداً أصلياً فليس من الرياء.
(6) ليس من الرياء أن يشتهر المرء ولكن الشهرة يمكن أن توقع في الرياء!!
علامات الإخلاص :
(1) الحماس للعمل للدين.
(2) أن يكون عمل السر أكبر من عمل العلانية.
(3) المبادرة للعمل واحتساب الأجر.
(4) الصبر والتحمل وعدم التشكي.
(5) الحرص على إخفاء العمل.
(6) إتقان العمل في السر.
(7) الإكثار من العمل في السر.
ثانيا : متابعة السنّة :
والشرط الثاني لقبول العمل أن يكون العمل مطابقاً لسنة النبى - صلى الله عليه وسلم - :
(حديث عائشة في صحيح مسلم) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد .
(حديث عائشة في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد .
فهذا الحديث أصل عظيم من أصول الإسلام، فكما أن حديث: " الأعمال بالنيات " ميزان للأعمال فى باطنها فهو ميزان للأعمال فى ظاهرها فكما أن كل عمل لايراد به وجه الله تعالى فليس لعامله فيه ثواب فكذلك كل عمل لا يكون عليه أمر الله ورسوله فهو ردعلى عامله فقوله: "ليس عليه أمرنا" إشارة إلى أن أعمال العاملين كلها ينبغى أن تكون تحت أحكام الشريعة فتكون أحكام الشريعة حاكمة عليها بأمرها ونهيها، فمن كان عمله جارياً تحت أحكام الشريعة موافقاً لها فهو مقبول، ومن كان خارجاً عن ذلك فهو مردود.(1/75)
وقد أوجب الله عز وجل علينا طاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - قال تعالى : { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا } ( الحشر : من الآية 7)
وقال تعالى : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضلالاً مُّبِينًا } ( الأحزاب : الآية 36)
وجعل الله عز وجل اتباع سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علامة على محبته فقال تعالى : { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ } ( آل عمران : من الآية 31)
وقد أوجب الله عز وجل علينا طاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - قال تعالى : { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا } ( الحشر : من الآية 7)
وقال تعالى : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضلالاً مُّبِينًا } ( الأحزاب : الآية 36)
وجعل الله عز وجل اتباع سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علامة على محبته فقال تعالى : { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ } ( آل عمران : من الآية 31)
[*] قال الحسن البصرى : ادعى ناس محبة الله عز وجل فابتلاهم بهذه الآية : { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي } ... الآية .
وقد أمرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - بالتمسك بالوحيين كلاهما الكتاب والسنة وجعل النجاة من الضلال منوط بالتمسك بهما كما في الأحاديث الآتية "(1/76)
(حديث أبي هريرة في صحيح الجامع ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما : كتاب الله و سنتي و لن يتفرقا حتى يردا علي الحوض .
{ تنبيه } : ويجب على طالب العلم أن يمسك بالوحيين كليهما ( الكتاب والسنة) ولا ينزلق في هاوية من يتمسك بالقرآن ويدع السنة فإن ذلك ضلال وإضلال لأن ما حرَّم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثل ما حرم الله تعالى إذ هو مبَّلغ الشرع عن الله تعالى .
(حديث المقدام بن معد يكرب في صحيح أبي داود) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ألا إني أُوتيت الكتاب ومثله معه .
ومن المؤسف في زماننا هذا تجرئ بعض الجهلة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيقولون إنه بشرٌ مثلنا هات الدليل من القرآن فقط وهذا يدل - ولا شك - على أن قائل هذه العبارة أضلُ من حمار أهله وأنه جاهلٌ جهل مركب ، وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ذلك سيقع في أمته
(حديث المقدام ابن معد يكرب في صحيحي أبي داوود وزالترمذي) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : يوشِكُ الرجلُ متكئاً على أريكته يُحدثُ بحديثٍ من حديثي فيقول بيننا وبينكم كتاب الله فما وجدنا فيه من حلال استحللناه وما وجدنا فيه من حرامٍ حرَّمناه ، ألا وإن ما حرَّم رسول الله مثل ما حرَّم الله .
قال أبو قلابة رحمه الله تعالى : إذا رأيت الرجل يقول دعنا من السنة وهات الكتاب فاعلم أنه ضال
[*] وقال الإمام أحمد رحمه الله تعالى :
دين النبي محمدٍ أخبارُ ... نعم المطيةُ للفتى الآ ثارُ
لا ترغبَّنَّ عن الحديثِ وأهله ... فالرأيُ ليلٌ والحديثُ نهارُ
[*] قال الزهرى : الاعتصام بالسنة نجاة لأن السنة كما قال مالك : مثل سفينة نوح ، من ركبها نجا ، ومن تخلف عنها هلك .
[*] وقال سفيان : لايقبل قول إلا بعمل، ولا يستقيم قول وعمل إلا بنية، ولا يستقيم قول وعمل ونية إلا بمتابعة السنة .(1/77)
[*] وعن ابن شوذب قال : إن من نعمة الله على الشاب إذا نَسُكَ أن يوفقه الله إلى صاحب سنة يحمله عليها .
كما أوصانا النبي - صلى الله عليه وسلم - بالتمسك بسنة الخلفاء الراشدين - رضي الله عنهم - كما في الحديث الآتي :
(حديث العرباض بن سارية في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أوصيكم بتقوى الله و السمع و الطاعة و أن أمر عليكم عبد حبشي فإنه من يعش منكم بعدي فسيري اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي و سنة الخلفاء المهديين الراشدين تمسكوا بها و عضوا عليها بالنواجذ و إياكم و محدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة و كل بدعة ضلالة .
باب حقيقة الموت :
[*] عناصر الباب :
حقيقة الموت :
الموت أعظم المصائب :
الموت موعد مجهول:
الموت راحة للمؤمن وعذابٌ للكافر :
لا يجوز تمني الموت لضرٍ نزل بالإنسان :
من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه :
ما ورد في موت الفجأة :
عبرة الموت :
أعمار أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - :
وهاك تفصيل ذلك في إيجازٍ غيرِ مُخِّل :
حقيقة الموت :
مسألة : ما هي حقيقة الموت ؟
[*] قال الإمام القرطبي رحمه الله تعالى في التذكرة : قال القرطبى رحمه الله في التذكرة : قال العلماء : الموت ليس بعدم محض ولا فناء صرف وإنما هو انقطاع تعلق الروح بالبدن ومفارقته وحيلولة بينهما ، وتبدل حال، وانتقال من دار إلى دار ، وهو من أعظم المصائب , وقد سماه الله تعالى مصيبة , فى قوله تعالى : فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ [المائدة:106] فالموت هو المصيبة العظمى والرزية الكبرى .
قال علماؤنا : وأعظم منه الغفلة عنه ، والإعراض عن ذكره ، وقلة التفكير فيه ، وترك العمل له ، وإن فيه وحده لعبرة لمن اعتبر وفكرة لمن تفكر أهـ .(1/78)
ويخطئ من يظن أن الموت فناء محض وعدم تام ليس بعده حياة ولا حساب ولا حشر ولا نشر ولا جنة ولا نار ، إذ لو كان الأمر كذلك لا نتفت الحكمة من الخلق والوجود، ولاستوى الناس جميعاً بعد الموت واستراحوا، فيكون المؤمن والكافر سواء، والقاتل والمقتول سواء، والظالم والمظلوم سواء، والطائع والعاصي سواء، والزاني والعفيف سواء، والفاجر والتقي سواء، وهذا مذهب الملاحدة الذين هم شر من البهائم، فلا يقول ذلك إلا من خلع رداء الحياء، ونادى على نفسه بالسفه والجنون ـ نعوذ بالله من الخبال ـ قال تعالى: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [التغابن:7]، وقال سبحانه: وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ [يس:79،78]
ولله درُ من قال :
ولو أنا إذا متنا تركنا لكان الموت غاية كل حي :
ولكنا إذا متنا بعثناونسأل بعده عن كل شيء
[*] قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله : "يا أهل الدنيا إنكم لم تخلقوا للفناء، وإنما خلقتم للأبد والبقاء، وإنما تنقلون من دار إلى دار".
فالموت هو انقطاع تعلق الروح بالبدن ومفارقته ، وحيلولة بينهما ، وتبدل حال وانتقال من دار إلى دار، وبه تطوى صحف الأعمال،و تنقطع التوبة والإمهال كما في الحديث الآتي :
(حديث ابنِ عُمَرَ رضي الله عنهما الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : "إنّ الله يَقْبَلُ تَوْبَةَ العَبْدِ ما لَمْ يُغَرْغِرْ" .
الموت أعظم المصائب :
مسألة : ما هي حقيقة الموت ؟(1/79)
[*] قال الإمام القرطبي رحمه الله تعالى في التذكرة : قال القرطبى رحمه الله في التذكرة : قال العلماء : الموت ليس بعدم محض ولا فناء صرف وإنما هو انقطاع تعلق الروح بالبدن ومفارقته وحيلولة بينهما ، وتبدل حال، وانتقال من دار إلى دار ، وهو من أعظم المصائب , وقد سماه الله تعالى مصيبة , فى قوله تعالى : فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ [المائدة:106] فالموت هو المصيبة العظمى والرزية الكبرى .
قال علماؤنا : وأعظم منه الغفلة عنه ، والإعراض عن ذكره ، وقلة التفكير فيه ، وترك العمل له ، وإن فيه وحده لعبرة لمن اعتبر وفكرة لمن تفكر أهـ .
ولله درُ من قال :
مضى العمر وفات ... يا أسير الغفلات
حصّل الزاد وبادر ... مسرعاً قبل الفوات
فإلى كم ذا التعامي ... عن أمور واضحات
وإلى كم أنت غارق ... في بحار الظلمات
لم يكن قلبك أصلا ... بالزواجر والعظات
بينما الإنسان يسأل ... عن أخيه قيل مات
وتراهم حملوه ... سرعة للفلوات
أهله يبكوا عليه ... حسرة بالعبرات
أين من قد كان يفخر ... بالجياد الصافنات
وله مال جزيل ... كالجبال الراسيات
سار عنها رغم أنف ... للقبور الموحشات
كم بها من طول مكث ... من عظام ناخرات
فاغنم العمر وبادر ... بالتقى قبل الممات
واطلب الغفران ممن ... ترتجي منه الهبات
مضى العمر وفات ... يا أسير الغفلات
حصّل الزاد وبادر ... مسرعاً قبل الفوات
فإلى كم ذا التعامي ... عن أمور واضحات
وإلى كم أنت غارق ... في بحار الظلمات
لم يكن قلبك أصلا ... بالزواجر والعظات
بينما الإنسان يسأل ... عن أخيه قيل مات
وتراهم حملوه ... سرعة للفلوات
أهله يبكوا عليه ... حسرة بالعبرات
أين من قد كان يفخر ... بالجياد الصافنات
وله مال جزيل ... كالجبال الراسيات
سار عنها رغم أنف ... للقبور الموحشات
كم بها من طول مكث ... من عظام ناخرات
فاغنم العمر وبادر ... بالتقى قبل الممات
واطلب الغفران ممن ... ترتجي منه الهبات(1/80)
وكلٌ إنسان يندم عند نزول الموت ، فإذا كان العبد طائعاً ونزل به الموت ندم أن لا يكون ازداد وإذا كان العبد مسيئاً ندم على التفريط وتمنى العودة إلى دار الدنيا، ليتوب إلى الله تعالى، ويبدأ العمل الصالح من جديد ، ولكن هيهات هيهات!! قال تعالى: وَإِن يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُم مِّنَ الْمُعْتَبِينَ [فصلت:24]، وقال سبحانه: حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99)لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون:100،99]
الموت موعد مجهول:
أخي الحبيب:
إذا علمت أنك ميت لا محالة، وأن موعد الموت غيب لا يعلمه إلا الله، فلا أحد يعلم متى ينتهي أجله ولا أين توافيه منيته، وإنما هو غيب غيبه الله عن العباد فلا يعلمه إلا هو (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ)[لقمان: 34].. أدركت عندئذ غُرر الفوائد ودُررِ الفرائد من أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالإكثار من ذكر الموت كما في الأحاديث الاتية :
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أكثروا ذكر هاذم اللذات يعني الموت .
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أكثروا ذكر هاذم اللذات: الموت فإنه لم يذكره أحد في ضيق من العيش إلا وسعه عليه و لا ذكره في سعة إلا ضيقها عليه .
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح ابن ماجة) قال : أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت عليك السلام ، فقال لا تقل عليك السلام فإن عليك السلام تحية الميت ،قلت يا رسول الله أي المؤمنين أفضل قال أحسنهم خلقا قال فأي المؤمنين أكيس قال أكثرهم للموت ذكرا وأحسنهم لما بعده استعدادا أولئك الأكياس .(1/81)
فإن كثرة ذكر الموت تعطيك ثلاث فوائد: تعجيل التوبة، والرضا بالقليل، وعدم مزاحمة أهل الدنيا في دنياهم.
كما وأن نسيان الموت والغفلة عنه يورث أشياء ثلاثة: قسوة القلب. وتسويف التوبة. وحب الدنيا التي من أحبها وتعلق قلبه بها أورثته شغلاً لا يفرغ منه أبدًا فهي رأس كل بلية ومصدر كل سوء .
[*] قال عمر بن عبد العزيز: "أكثر من ذكر الموت، فإن كنت واسع العيش ضيقه عليك، وإن كنت ضيق العيش وسعه عليك".
[*] قال إبراهيم التيمي: "شيئان قطعا عني لذة الدنيا: ذكر الموت، والوقوف بين يدي الله - عز وجل -".
[*] قال الحسن: "ما رأيت عاقلاً قط إلا أصبته من الموت حذرًا وعليه حزينًا".
[*] وكان الربيع بن خيثم قد حفر قبرًا في داره، فكان ينام فيه كل يوم مرات، وكان يقول: لو فارق ذكر الموت قلبي ساعة واحدة لفسد.
أخي الحبيب:
اجعل الموت منك على بال، واستعد له في كل لحظة فإنك معرض له. واجعل حاديك في كل زمان ذاك الرجل الذي كان يخرج كل ليلة فينادي الرحيل الرحيل، فلما مات سأل عنه الأمير فقالوا: مات. فقال:
مازال يلهج بالرحيل وذكره *** حتى أناخ ببابه الجمال
فأصابه متيقظًا ومشمرًا *** ذا أهبة لم تلهه الآمال
الموت راحة للمؤمن وعذابٌ للكافر :
مسألة هل الموت راحة؟
الموت راحة للمؤمن وعذابٌ للكافر :
(حديث أبي قتادة الثابت في الصحيحين) أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مُرَّ عليه بجنازة، فقال: (مستريح ومستراح منه). قالوا: يا رسول الله، ما المستريح والمستراح منه؟ قال: (العبد المؤمن يستريح من نصب الدنيا وأذاها إلى رحمة الله، والعبد الفاجر يستريح منه العباد والبلاد، والشجر والدواب).
لا يجوز تمني الموت لضرٍ نزل بالإنسان :
مسألة : هل يجوز تمني الموت؟
الذي دلت عليه السنة الثابتة الصحيحة وتجتمع فيه الأدلة أن المسألة على التفصيل الآتي :
(1) لا يجوز تمني الموت لضرٍ نزل بالإنسان :(1/82)
(حديث نس الثابت في الصحيحين) قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - * لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به فإن كان لا بد متمنيا فليقل اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي .
(2) يجوز تمني الموت خوف ذهاب الدين :
(حديث ابنِ عَبّاسٍ الثابت في صحيح الترمذي) قَال: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - : اللّهُمّ إنّي أَسْأَلُكَ فِعْلَ الخَيْراتِ وتَرْكَ المُنْكَرَاتِ وحُبّ المَسَاكِينِ وإِذَا أَرَدْتَ بِعِبَادِكَ فِتْنَةً فَاقْبِضْنِي إِلَيْكَ غَيْرَ مَفْتُونٍ.
وقول عمر بن الخطاب رضي الله تعالىعنه : اللهم قد ضعفت قوتي وكبرت سني وانتشرت رعيتي فاقبضني إليك غير مُضيعٍ ولا مقصر ، فما جاوز ذلك الشهر حتى قبض رضي الله تعالىعنه .
من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه :
مسألة : هل يجوز لنا أن نكره الموت ؟
(حديث عبادة بن الصامت الثابت في الثابت في الصحيحين) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه).
قالت عائشة أو بعض أزواجه: إنا لنكره الموت، قال: (ليس ذاك، ولكنَّ المؤمن إذا حضره الموت بُشِّر برضوان الله وكرامته، فليس شيء أحب إليه مما أمامه، فأحب لقاء الله وأحب الله لقاءه، وإن الكافر إذا حضر بُشِّر بعذاب الله وعقوبته، فليس شيء أكره إليه مما أمامه، فكره لقاء الله وكره الله لقاءه).
ما ورد في موت الفجأة :
مسألة : ما حكم موت الفجأة ؟
الذي دلت عليه السنة الصحيحة وتجتمع فيه أن المسألة على التفصيل الآتي :
(1) موت الفجأة أخذة أسف للعاصي وعليه يحمل الحديث الآتي :
(حديث عبيد الله بن خالد السلمي الثابت في صحيح أبي داود) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : موت الفجأة أخذةُ أسف .(1/83)
(أخذةُ أسف) : أي أخذةُ غضب مستفاداً من قوله تعالى: (فَلَمّآ آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ) [سورة: الزخرف - الآية: 55]
والمعنى أن موت الفجأة أخذةُ غضب من الله تعالى على عبده لأنه أخذه فجأة فلا يتركه ليستعد لمعاده بالتوبة ولم يمرضه ليكون كفارة لذنوبه .
(2) أما غير العاصي فلا يعد موت الفجأة أخذةُ غضب وعليه يحمل الحديث الآتي : (لحديث عائشة الثابت في الصحيحين) أن رجلا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال * يا رسول الله إن أمي افتلتت نفسها وأظنها لو تكلمت تصدقت فهل لها أجر إن تصدقت عنها قال نعم .
عبرة الموت :
يروى أن أعرابياً كان يسير على جمل له، فخر الجمل ميتاً، فنزل الأعرابي عنه، وجعل يطوف به ويتفكر فيه، ويقول: ما لك لا تقوم؟
مالك لا تنبعث؟
هذه أعضاؤك كاملة!!
وجوارحك سالمة!!
ما شأنك؟
ما الذي كان يحملك؟
ما الذي صرعك؟
ما الذي عن الحركة منعك؟
ثم تركه وانصرف متعجباً من أمره، متفكراً في شأنه!!
[*] قال ابن السماك: بينما صياد في الدهر الأول يصطاد السمك، إذ رمى بشبكته في البحر، فخرج فيها جمجمة إنسان، فجعل الصياد ينظر إليها ويبكي ويقول:
عزيز فلم تترك لعزك!!
غني فلم تترك لغناك!!
فقير فلم تترك لفقرك!!
جواد فلم تترك لجودك!!
شديد لم تترك لشدتك!!
عالم فلم تترك لعلمك!! ).
يردد هذا الكلام ويبكي.
أخي الحبيب:
إذا مررت بالموتى فنادهم إن كنت مناديا , وادعهم إن كنت داعياً ومر بعسكرهم , وانظر(1/84)
إلى تقارب منازلهم , سل غنيهم : ما بقي من غناه ؟ وسل فقيرهم : ما بقي من فقره ؟ واسألهم عن الألسن التي كانوا بها يتكلمون ، وعن الأعين التي كانوا للذات بها ينظرون ، وسلهم عن الجلود الرقيقة والوجوه الحسنة والأجساد الناعمة ما صنع بها الديدان تحت الأكفان ، وأكلت اللحان وعفرت الوجوه ، ومحت المحاسن ، وكسرت الفقارة ، وبانت الأعضاء ، ومزقت الأشلاء ، وأين حجابهم وقبابهم ؟ وأين خدمهم وعبيدهم وجمعهم وكنوزهم [ وكأنهم ] ما وطئوا فراشاًولا وضعوا هنا متكأ ، ولا غرسوا شجراً ولا أنزلوهم من اللحد قراراً ، أليسوا في منازل الخلوات؟(1/85)
أليس الليل والنهار عليهم سواء ؟ أليسوا في مدلهمة ظلماء ، قد حيل بينهم وبين العمل ، وفارقوا الأحبة ، وكم من ناعم وناعمة أضحوا ووجوههم بالية ، وأجسادهم من أعناقهم بائنة ، أو وصالهم ممزقة ، وقد سالت الحدق على الوجنات ، وامتلأت الأفواه دماً وصديداً ، ودبت دواب الأرض في أجسادهم ، ففرقت أعضاءهم ، ثم لم يلبثوا إلا يسيراً حتى عادت العظام رميماً ، فقد فارقوا الحدائق وصاروا بعد السعة إلى المضائق ، قد تزوجت نساءهم ، وترددت في الطرق أبناؤهم ، وتوزعت القرابات ديارهم وقراهم ، فمنهم والله الموسع له في قبره الغض الناظر فيه المتنعم بلذته ، يا ساكن القبر غداً ما الذي غرك من الدنيا أين دارك الفيحاء ونهرك المطرد ؟ وأين ثمارك الينعة ؟ وأين رقاق ثيابك وأين طيبك ونحورك ، وأين كسوتك لصيفك ولشتاءك ؟؟ أما رأيته قد زل به الأمر ، فلما يدفع عن نفسه دخلاً وهو يرشح عرقاً ويتلمظ عطشاً ، يتقلب في سكرات الموت وغمراته ، جاء الأمر من السماء ، وجاء غالب القدر والقضاء ، هيهات : يا مغمض الوالد والأخ والولد ، وغاسله ، يا مكفن الميت ويا مدخله في القبر ، وراجعاً عنه ، ليت شعري بأي خديك بدأ البلى يا مجاور الهلكات صرت في محلة الموت ، ليت شعري ما الذي يلقاني به ملك الموت عند خروجي من الدنيا وما يأتيني به من رسالة ربي .
كيف بك أخي وقد حلت بك السكرات ونزل بك الأنين والغمرات ، وأنت تسمع الخطاب ولا تقدر على الجواب .
كيف بك إذا أتاك ملك الموت لا يقرع لك بابا ولا يهاب صاحبا ،
لا يُفْزِعْه جبار ، وليس لأحدٍ من قبضته فِرار
ولا يقبل منك بديلا ، ولا يأخذ منك كفيلا
ولا يرحم لك صغيرا ، ولا يُوَقِّر لك كبيرا .
أم كيف بك إذا وُسِّدت التراب ، وبكى عليك الأهل والأحباب ، وكثر عليك الأهل والأحباب ، وكثر عليك البكاء والانتحاب .
وقفوا ساعةً عليك وأيسوا من النظر إليك .(1/86)
أم كيف بك إذا انتقلت من الدور والقصور إلى القبر المحفور وما فيه من الدواهي والأمور تحت الجنادل والصخور
احتوشتك أعمالك ، وأحاطت بك خطايك وأوزارك
كيف بك أخي وقد حل الموت بساحتك ،وملك الموت واقف عند رأسك حشرج صدرك ،تغرغرت روحك ، ثقل منك اللسان ،و انهدت الأركان ، وشخصت العينان ، عرق منك الجبين ، وكثر حولك البكاء ومنك الأنين .
أين دارك الفيحاء ،أين طيبك وبخورك ؟ أين خدمك وحشمك ؟ أين وجهك الناعم ؟ كيف بك بعد ثلاث ليال من دفنك وقد عاثت فيك الهوام والديدان .
خرّقت الأكفان ومحت الألوان وأكلت اللحم ونخرت العظم وأبانت الأعضاء ومزقت الأشلاء وسالت الحدق على الوجنات .
كيف بك وقد أخذت من فراشك إلى لوح مغتسلك وجردوك من أثوابك ، ثم غسلوك وألبسوك الأكفان ، وبكى عليك الأهل والجيران ، وفقدت الأصحاب والإخوان ، وصِرت إلى العدم بعد الوجدان ، فبادر بالخيرات ما دمت في زمن الإمكان ، وتعرض لنفحات الرحمن قبل فوات الأوان اللهم ارحم عربتنا في القبور وما فيها من الدواهي والأمور تحت الجنادل والصخور ،وآمنا يوم البعث والنشور ، وارزقنا فعل المأمور ، وترك المحظور ، والصبر على المقدور يا عزيزُ يا غفور .
ويحك أخي :
كيف أمنت هذه الحالة : وأنت صائرٌ إليها لا محالة
أم كيف ضيعت حياتك : وهي مطيتك إلى مماتك
أراك ضعيف اليقين : يا مؤثر الدنيا على الدين
عباد الله أما تشاهدون أيها الناس مواقع المنايا بينكم وحلول الآفات والرزايا بكم وكيف أفلح المتقون وخسر المبطلون .
أين من كان قبلكم في الأوقات الماضية ، أما وافتهم المنايا وقضت عليهم القاضية ، وهذه دورهم فيها سواهم ، وهذا صديقهم قد نسيهم وجفاهم ،
أخبارهم تزعج الألباب ، وتصدِّع قلوب الأحباب ، وأحوالهم عبرةً للمعتبرين ، فتأملوا أحوال الراحلين ، واتعظوا بالأمم الماضين ، لعل القلب القاسي يلين .(1/87)
لَمَّا احتضر عبد الملك بن مروان قال : والله لوددت أنَّي عبد رجلٍ من تهامة أرعى غنيمات في جبالها وأني لم ألِ 0
وجعل المعتضد يقول عند موته : ذهبت الحيل فلا حيلة حتى صمت .
دخل أبو العتاهية على الرشيد حين بنى قصره، وزخرف مجلسه، واجتمع إليه خواصه،
فقال له: صف لنا ما نحن فيه من الدنيا فقال:
عش ما بدا لك آمناً .:. في ظلّ شاهقة القصور
فقال الرشيد: أحسنت، ثم ماذا؟ فقال:
يسعى إليك بما اشتهيت : لدى الرواح وفي البكور
فقال: حسن، ثم ماذا؟ فقال:
فإذا النفوس تغرغرت :في ضيق حشرجة الصدور
فهناك تعلم موقناً .:. ما كنت إلاّ في غرور
فبكى الرشيد بكاء شديداً حتى رُحِم، فقال له الفضل بن يحيى: بعث إليك المؤمنين
لتسره فأحزنته، فقال له الرشيد: دعه فإنه رآنا في عمى فكره أن يزيدنا عمى . ] أ . هـ .
يا غافلاً عن الموت وقد دنا إليه : يا ساعياً إلى ما يضره بقدميه
ألا ربَّ فرحٍ بما يؤتى : قد خرج اسمه في الموتى
ألا ربَّ مُعْرِضٍ عن سبيل رشده : قد آن أوان شق لحده
ألا ربَّ مُقيمٍ على جهله : قد أزف رحيله عن أهله
ألا ربَّ مشغولٍ في جمع حطامه : قد دنا تشتت عظامه .
إخواني :انظروا إلى من جمع الدنيا قبلكم ، ما هو إلا قليلا حتى أصبح جمعهم بوراً، وآمالهم غروراً، ومساكنهم قبوراً ، وإما جنةً أو عذاباً وثبورا.
فتأملوا أحوال الراحلين ، واتعظوا بالأمم الماضين ، لعل القلب القاسي يلين .
أما اعتبرت بمن رحل أما وعظتك العبر أما كان لك سمعٌ ولا بصر .
يا مُطْلَقاً اذكر قيودهم ، ويا متحركاً قد عرفت همودهم
خلِّص نفسك من أسرِ الذنوب ، وتأهب لخلاصك فأنت مطلوب .
وارجع إلى علام الغيوب ، عساه أن يغفر الإثم والحوب .
إخواني : ما أسرع انصرام العمر ومرور الأيام فخذوا في الجد والاهتمام فمن كان منكم أحسن فعليه بالتمام ومن كان منكم أساء فليختم بالحسنى فالعمل بالختام .(1/88)
أما آن لكم أن ترجعوا إلى ربكم ذي الجلال والإكرام وأن تخشوْا يَومًا تُزَلْزَلُ فِيهِ الأَقْدَامُ ، وَتُرعدُ فِيهِ الأَجْسَامُ ، وَتَتَضَاعَفُ فِيهِ الآلامُ ، وَتَتَزَايَدُ فِيهِ الأَسْقَامُ . وَيَطُولُ فِيهِ الْقِيَامُ ،
أما علمتم أن السعي للجنة لا يكون بالكلام ، ولا بالأماني والأحلام ، ولكن بالجِدِ والاهتمام
لله درُ أقوامٍ : أخمصوا البطون عن مطاعم الحرام، وأغمضوا الجفون عن مناظر الآثام، وقيدوا الجوارح عن فضول الكلام، وطووا الفرش وقاموا جوف الظلام، وطلبوا الحور الحسان من الحي الذي لا ينام ، وتقربوا إلى الله بمداومة الصيام والقيام ، فكل زمانهم رمضان ، أفشوا السلام وأطعموا الطعام وصلوا بالليل والناس نيام ، عساهم أن يدخلوا الجنة بسلام .
يا من قد امتطى بجهله مطايا المطالع ، لقد ملأ الواعظ في الصباح المسامع ،(1/89)
تالله لقد طال المدى فأَين المدامع ، أَين الذين بلغوا المنى فما لهم في المنى منازع ، رمتهم المنايا بسهامها في القوى والقواطع فعلموا أن أيام النعم في زمان الخوادع ما زال الموت يدور على الدوام حتى طوي الطوالع ، صار الجندل فراشهم بعد أن كان الحرير فيما مضى المضاجع ،ولقوا والله غاية البلاء في تلك البلاقع ،جمعوا فما أكلوا الذي جمعوا ، وبنوا مساكنهم فما سكنوا فكأَنهم بها ظعناً لما استراحوا ساعة ظعنوا ، لقد أُمكنتَ الفرصة أيها العاجز ولقد زال القاطع ، وارتفع الحاجز ولاح نور الهدى فالمجيب فائز، وتعاظمت الرغائب وتفاقمت الجوائر فأَين الهمم العالية وأَين النجائز ، أَما تخافون هادم اللذات والمنى والمناجز ، أما اعوجاج القناة دليل الغامز، أما الطريق طويل وفيه المفاوز ، أما عقاب العتاب تحوى الهزاهز ، أَما القبور قنطرة العبور فما للمجاوز ، أما يكفي في التنقيص حمل الجنائز ، أَما العدد كثير فأَين المبارز ، أما الحرب صعب والهلك ناجز ، والقنا مسوغ والطعن واجز والأمر عزيز والرماح البوس نواكز ، تالله بطلت الشجاعة من بني العجائز وتريد إِصلاح نادك والأمر ناشز ، إِن لم يكن سبق الصديق فليكن توبة ماعز 0
أخي الحبيب:
أفق من نومك وانتبه من غفلتك :قبل أن يفاجئك هاذم اللذات ومُفَرِّق الجماعات وميتم البنين والبنات ، فلا تقدلا على استدراك ما فات ، فورب السموات والأرض إن ما توعدون لات .
عجبت لمن كان الموت يطلبه كيف يقرُّ له قرار ، وكيف يملأ عينيه بالنوم وهو لا يدري أيساق إلى جنة أم إلى نار
" البقاء في الدنيا مستحيل لابد من الرحيل فتزود للسفر الطويل لابد من الإرتحال ليومٍ شديد الأهوال فأعدَّ له صالح الأعمال قبل طي الآجال(1/90)
العمر قصير ولم يبق منه إلا اليسير ، فتزود للسفر الطويل ، ولا تقل بغير تفكير ولا تعمل بغير تدبير ، ولا يشغلنك أحدٌ عن جد المسير ، ولا تضيع الأوقات النفيسة في الفعال الخسيسة ، الدنيا ساعة فاجعلها طاعة والنفس طماعة فَرَوِّضْهَا القناعة .
أو ما علمت أن معالي الأُمور لا تنال بالفتور ، وإنما تنال بالجد والاجتهاد والتشمرِ ليومِ المعاد ، وخلعِ الراحة واستفراغ الوسع في الطاعة ، أو ما علمت أن من جد وجد ومن زرع حصد ، وليس من سهر كمن رقد والأمور تحتاج إلى وثبة أسد ، فإذا عزمت فبادر وإذا هممت فثابر ، واعلم أنه لا يدرك المفاخر من كان في الصف الآخر .
الآمال تُطوى والأعمارُ تُفنى ، والأبدان تحت التراب تُبلى ، والأيام تُقرب كل بعيد وتُبلي كل جديد .
جديرٌ بمن الموت مصرعه والتراب مضجعه والدود أنيسه ومنكر ونكير جليسه والقبر مَقَرَّه وبطن الأرض مستقره والقيامة موعده والجنة والنار مورده أن يستعد بصالح الأعمال قبل طي الآجال ، وأن يعمل ليومٍ يشيب فيه الولدان ويُتركُ فيه ما عز وهان ، فإن المُفَرِّط يجتمع له عند موته حسرةُ الفَوْت وسكرةُ الموت .
اللهم ارحمنا إذا عرق الجبين وكثر الأنين ، وأيس منا القريبُ والطبيب ، وبكى علينا الصديق والحبيب .
اللهم ارحمنا إذا وارنا التراب ، وودعنا الأحباب وفارقنا النعيم وانقطع منا النسيم .
سبحان من كتب الفناء على هذه الدار ، وجعل الجنة عقبى الذين اتقوا وعقبى الكافرين النار
سبحان من كتب الموت على الإنس والجان وجميع الحيوان ، فلا مفر من الموت ولا أمان ، كل من عليها فان .
هو الموت ما منه فوت .
أعمار أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - :
مسألة : ما هي أعمار أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - ؟(1/91)
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :"أَعْمَارُ أُمّتِي مَا بَيْنَ السّتّينَ إلى السَبْعِينَ وَأَقَلّهُمْ مَنْ يَجُوزُ ذَلِكَ" .
[*] قال العلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:
(أَعْمَارُ أُمّتِي مَا بَيْنَ السّتّينَ إلى السَبْعِينَ) : أَيْ نِهَايَةُ أَكْثَرِ أَعْمَارِ أُمَّتِي غَالِبًا مَا بَيْنَهُمَا
( وَأَقَلُّهُمْ مَنْ يَجُوزُ ذَلِكَ ) أَيْ يَتَجَاوَزُ السَّبْعِينَ فَيَصِلُ إِلَى الْمِائَةِ فَمَا فَوْقَهَا قَالَ الْقَارِي: وَأَكْثَرُ مَا اطَّلَعْنَا عَلَى طُولِ الْعُمُرِ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ مِنَ الْمُعَمَّرِينَ فِي الصَّحَابَةِ وَالْأَئِمَّةِ سِنُّ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ فَإِنَّهُ مَاتَ وَلَهُ مِنَ الْعُمُرِ مِائَةٌ وَثَلَاثُ سِنِينَ وَأَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ مَاتَتْ وَلَهَا مِائَةُ سَنَةٍ، وَلَمْ يَقَعْ لَهَا سِنٌّ وَلَمْ يُنْكَرْ فِي عَقْلِهَا شَيْءٌ وَأَزْيَدُ مِنْهُمَا عُمُرُ حَسَّانِ بْنِ ثَابِتٍ مَاتَ وَلَهُ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً عَاشَ مِنْهَا سِتِّينَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَسِتِّينَ فِي الْإِسْلَامِ، وَأَكْثَرُ مِنْهُ عُمُرًا سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ فَقِيلَ عَاشَ مِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ سَنَةً وَقِيلَ ثَلَاثَمِائَةٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ.
باب كل نفس ذائقة الموت :
[*] عناصر الباب :
كل نفس ذائقة الموت :
رُسُلُ ملك الموت :
وهاك تفصيل ذلك في إيجازٍ غيرِ مُخِّل :
كل نفس ذائقة الموت :(1/92)
كل نفس ذائقة الموت ، هو الموتُ ما منه فَوْت ، الموت أمرٌ محتوم، وقدر سابق معلوم ، سبحان من كتب على عباده الموت والفناء، وتفرد سبحانه بالحياة والبقاء ، فليس مخلوق إلا وهو ميت، يموت الصالحون والطالحون، يموت النبيون والمرسلون، يموت الملائكة المقربون، (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ)[الرحمن: 26، 27]. (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ)[آل عمران: 185] (وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)[القصص: 88].
( حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : يطوي الله عز وجل السماوات يوم القيامة ثم يأخذهن بيده اليمنى ثم يقول أنا الملك أين الجبارون أين المتكبرون ثم يطوي الأرضين بشماله ثم يقول أنا الملك أين الجبارون أين المتكبرون .
أخي الحبيب:
كيف تكتحل عينك بنوم حتى ترى حالك بعد اليوم، وكيف تبيتُ وأنت مسرور وأنت لا تعلم عاقبة الأمور.، الموت لا ريب فيه، ويقين لا شك فيه وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ [ ق:19 ]، فمن يجادل في الموت وسكرته؟! ومن يخاصم في القبر وضمته؟! ومن يقدر على تأخير موته وتأجيل ساعته؟ لكل واحد منا مع الموت موعدًا مضروبًا، وأجلاً معدودًا، ووقتًا محسوبًا، وأنه إذا جاء فلا محيد عنه ولا محيص منه قال تعالى :! فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ [الأعراف:34](1/93)
وقال تعالى : (وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)[المنافقون: 10، 11].
فمهما عاش الإنسان في هذه الحياة ومهما طال به البقاء بها، ومهما استمتع بشهواتها وملذاتها، فإن المصير واحد والنهاية محتومة ، ولابد لكل إنسان من نهاية، وهذه النهاية هي الموت الذي لا مفر منه، قال تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران:185]
ولله درُ من قال :
كل ابن أنثى وإن طالت سلامته *** يوما على آله حدباء محمول
إنه لابد من يوم ترجع فيه الخلائق إلى الله جل وعلا ليحاسبهم على ما عملوا في هذه الدنيا، قال تعالى: وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ [البقرة:281]، يومٌ طالما نسيناه، يوم هو آخر الأيام، يوم تغص فيه الحناجر، فلا يوم بعده ولا يوم مثله، إنه اليوم العظيم يوم كتبه الله على كل صغير وكبير، وكل جليل وحقير، إنه اليوم المشهود واللقاء الموعود.
ثم إنه قبل هذا اليوم لحظة ينتقل فيها الإنسان من دار الغرور إلى دار السرور، كلٌ بحسب عمله، تلك اللحظة التي يلقي فيها الإنسان آخر النظرات على الأبناء والبنات والإخوان، يلقي فيها آخر النظرات على هذه الدنيا، وتبدو على وجهه معالم السكرات، وتخرج من صميم قلبه الآهات والزفرات.
ولله درُ من قال :
مضى العمر وفات ... يا أسير الغفلات
حصّل الزاد وبادر ... مسرعاً قبل الفوات
فإلى كم ذا التعامي ... عن أمور واضحات
وإلى كم أنت غارق ... في بحار الظلمات
لم يكن قلبك أصلا ... بالزواجر والعظات
بينما الإنسان يسأل ... عن أخيه قيل مات
وتراهم حملوه ... سرعة للفلوات
أهله يبكوا عليه ... حسرة بالعبرات
أين من قد كان يفخر ... بالجياد الصافنات
وله مال جزيل ... كالجبال الراسيات(1/94)
سار عنها رغم أنف ... للقبور الموحشات
كم بها من طول مكث ... من عظام ناخرات
فاغنم العمر وبادر ... بالتقى قبل الممات
واطلب الغفران ممن ... ترتجي منه الهبات
مضى العمر وفات ... يا أسير الغفلات
حصّل الزاد وبادر ... مسرعاً قبل الفوات
فإلى كم ذا التعامي ... عن أمور واضحات
وإلى كم أنت غارق ... في بحار الظلمات
لم يكن قلبك أصلا ... بالزواجر والعظات
بينما الإنسان يسأل ... عن أخيه قيل مات
وتراهم حملوه ... سرعة للفلوات
أهله يبكوا عليه ... حسرة بالعبرات
أين من قد كان يفخر ... بالجياد الصافنات
وله مال جزيل ... كالجبال الراسيات
سار عنها رغم أنف ... للقبور الموحشات
كم بها من طول مكث ... من عظام ناخرات
فاغنم العمر وبادر ... بالتقى قبل الممات
واطلب الغفران ممن ... ترتجي منه الهبات
إنها اللحظة التي يعرف الإنسان فيها حقارة هذه الدنيا، إنها اللحظة التي يحس الإنسان فيها بالحسرة والألم على كل لحظة فَرَّطَ فيها في جنب الله تعالى، فهو يناديه: رباه، رباه: رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ [المؤمنون:100،99]
إنها اللحظة الحاسمة والساعة القاصمة التي يدنو فيها ملك الموت لكي ينادي، فيا ليت شعري هل ينادي نداء النعيم أو نداء الجحيم؟!!
إن الغربة الحقيقة إنما هي غربة اللحد والكفن، فهل تذكرت انظراحك على الفراش، وإذا بأيدي الأهل تقلبك، فأشتد نزعك وصار الموت يجذبك من كل عرق، ثم أسلمت الروح إلى بارئها، والتفت الساق بالساق، ثم قدموك بعد ذلك ليصلي عليك، ثم أنزلوك في القبر وحيداً فريداً، لا أم تقيم معك، ولا أب يرافقك، ولا أخ يؤنسك.
وهناك يُحِسُ المرء بدار غريبة ومنازل رهيبة عجيبة، وفي لحظة واحدة ينتقل العبد من دار الهوان إلى دار النعيم المقيم إن كان ممن تاب وأمن وعمل صالحا، أو ينتقل إلى دار الجحيم والعذاب الأليم إن كان ممن أساء العمل وعصى المولى جل وعلا.(1/95)
لقد طويت صفحات الغرور ، وبدا للعبد هول البعث والنشور وما فيه من دواهي المور ، مضت الملهيات والمغريات وبقيت التبعات.. فلا إله إلا الله من ساعة تطوى فيها صحيفة المرء إما على الحسنات أو على السيئات، ويحس بقلب متقطع من الألم والحسرة على أيام غفل فيها كثيرا عن الله واليوم الآخر، فها هي الدنيا بما فيها قد انتهت وانقضت أيامها سريعا، وها هو الآن يستقبل معالم الجد أمام عينيه، ويسلم روحه لباريها، وينتقل إلى الدار الآخرة بما فيها من الأهوال العظيمة. في لحظة واحدة أصبح كأنه لم يك شيئاً مذكوراً... فلا إله إلا الله من ساعة ينزل فيها الإنسان أول منازل الآخرة ويستقبل الحياة الجديدة، فإما عيشة سعيدة، أو عيشة نكيدة والعياذ بالله.
ولا إله إلا الله من دار تقارب سكانها، وتفاوت عمارها، فقبر يتقلب في النعيم والرضوان المقيم، وقبر في دركات الجحيم والعذاب الأليم، فهو ينادي ولكن لا مجيب، وهو يستعطف ولكن لا مستجيب.
ثم يأتي بعد ذلك اللقاء الموعد واليوم المشهود، اليوم الذي تتبدل فيه الأرض غير الأرض والسموات وبرزوا لله الواحد القهار، يوم لا يغني مولى عن مولى شيئا ولا هم ينصرون، وصاح الصائح بصيحته فخرج الموتى من تلك الأجداث وتلك القبور إلى ربهم حفاةً عراةً غرلا، فلا أنساب، ولا أحساب، ولا جاه ولا مال، فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ (101) فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ [المؤمنون:101-104](1/96)
إنه اليوم الذي يجمع الله فيه الأولين والآخرين ، إنه اليوم الذي تتبدد عنده الأوهام والأحلام، إنه اليوم الذي تنشر فيه الدواوين وتنصب فيه الموزاين، إنه اليوم الذي يفر فيه المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه، واليوم الذي يود المجرد لو يفتدي فيه من العذاب ببنيه وصحبته وأخيه وفصيلته التي تؤويه.
أخي الحبيب:
يا من تعصي الله تصور نفسك وأنت واقف بين الخلائق ثم نودي باسمك: أين فلان ابن فلان؟ هلم إلى العرض على الله تعالى ، فقمت ترتعد فرائصك، وتضطرب قدمك وجميع جوارحك من شدة الخوف، قد تغير لونك، وتحل بك من الهم والغم والقلق العميم ما الله به عليم ، حتى صِرْتَ في قلقٍ دءوبٍ وهمٍ مستمر وحَيْرَةٍ لا تنقطع .
وتصور وقوفك بين يدي بديع السموات والأرض، وقلبك مملوء من الرعب، وطرفك خائف، وأنت خاشع ذليل . قد أمسكت صحيفة عملك بيدك، فيها الدقيق والجليل، فقرأتها بلسان كليل، وقلب منكسر، وداخلك الخجل والحياء من الله الذي لم يزل إليك محسنا وعليك ساتراً. فبالله عليك، بأي لسان تجيبه حين يسألك عن قبيح فلعلك وعظيم جرمك ؟ وبأي قدم تقف غدا بين يديه؟ وبأي طرف تنظر إليه؟ وبأي قلب تحتمل كلامه العظيم الجليل، ومسائلته وتوبيخه؟
وكيف بك إذا ذكرّك مخالفتك له، وركوبك معاصيه، وقلة اهتمامك بنهيه ونظره إليك، وقلة اكتراثك في الدنيا بطاعته؟!
ماذا تقول إذا قال لك: يا عبدي، ما أجللتني، أما استحييت مني؟! استخففت بنظري إليك؟! ألم أحسن إليك؟! ألم أنعم عليك؟! ما غرك بي؟
أخي الحبيب:(1/97)
تذكر أهل الصالحات حين يخرجون من قبورهم وقد ابيضت وجوههم بآثار الحسنات، خرجوا بذلك الأثر العظيم من الله الكريم، وما عظم المقام عليهم، تتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون... تذكر عندما يقول الرب تبارك وتعالى بحقهم : يا ملائكتي، خذوا بعبادي إلى جنات النعيم، خذوهم إلى الرضوان العظيم، فأصبحوا بحمد الله في عيشة راضية، وفتحت لهم الجنان، وطاف حولهم الحور والولدان، وذهب عنهم النكد والنصب، وزال العناء والتعب.
وتذكر في المقابل تلك النفس الظالمة المعرضة عن منهج الله تعالى العاصية له، عندما يقول الله تبارك وتعالى بحقها: يا ملائكتي، خذوه فغلوه، ثم الجحيم صلوه، فقد اشتد غضبي على من قل حياؤه مني، فوقفت تلك النفس الآثمة الظالمة على نار تلظى وجحيم تغيظ وتزفر، وقد تمنت تلك النفس أن لو رجعت إلى الدنيا لتتوب إلى الله وتعمل صالحاً، لكن هيهات هيهات أن ترجع، فكبكبت على رأسها وجبينها، وهوت في تلك المهاوي المظلمة، وتقلبت بين الدركات والجحيم، والحسرات والزفرات... فلا إله إلا الله ما أعظم الفرق بين هؤلاء وأولئك بين من كان في النعيم المقيم ومن كان في الجحيم والعذاب الأليم . وصدق الله تعالى إذ يقول: إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ [الانفطار:14،13]
أخي الحبيب: كم من ظالمٍ تعدى وجار، فما راعى الأهل ولا الجار، بينا هو عقد الإصرار، حل به الموت فحل من حلته الأزرار فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ [الحشر:2]
ما صحبه سوى الكفن، إلى بيت البلى والعفن، ولو رأيته وقد حلت به المحن، وشين ذلك الوجه الحسن، فلا تسأل كيف صار فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ [الحشر:2]
أين مجالسة العالية؟ أين عيشته الصافية؟ أين لذاته الخالية؟ كم تسفى على قبره سافية!! ذهبت العين وأخفيت الآثار فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ [الحشر:2](1/98)
تقطعت به جميع الأسباب، وهجره القرناء والأتراب، وصار فراشه الجندل والتراب، وربما فتح له في اللحد باب إلى النار فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ [الحشر:2]
نادم بلا شك ولا خفا، باك على ما زل وهفا، يود أن صافي اللذات ما صفا، وعلم أنه كان يبني على شفا جُرِفٍ هار فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ [الحشر:2]
أخي الحبيب:
قف قليلا وحاسب نفسك كثيراً: فإن كنت ممن يسارع في الطاعات والقربات ويتجنب المعاصي والمخالفات فاحمد الله على ذلك، واسأله الثبات حتى الممات، وهنيئا والله لك ما أنت مقدم عليه بإذن الله.
وإن كنت غير ذلك فتب إلى الله وارجع إلى الهدى ما دمت في زمن الإمكان ، ولا داعي للعناد والإصرار على المعاصي التي ستعرضك لعذاب الله، فإنك والله لأعجز من أن تطيق شيئا من هذا العذاب، إن الجبال الشم الراسيات لو سيرت بالنار لذابت من شدة حرها! فأين أنت أيها الإنسان الضعيف من تلك الجبال؟ إنك تصبر على الجوع والعطش، وتصبر على الضر وعلى التكاليف، لكن والله الذي لا إله إلا هو لا صبر لك على النار... ألا فأنقذ نفسك من النار ما دمت في زمن الإمهال قبل أن تندم ولات ساعة مندم، واعلم أن الصبر عن محارم الله في هذه الدنيا أيسر والله بكثير من الصبر على عذابه يوم القيامة.
ثم اعلم أخي أن طريق الاستقامة والالتزام ليس فيه تعقيد وكبت حرية كما يظنه البعض، بل إن طريق الاستقامة والالتزام كله سعادة، كله لذة، كله راحة، كله طمأنينة، وماذا يريد الإنسان في هذه الحياة غير ذلك؟! أما حياة المعصية والآثام فكلها قلق ونكد وحسرة في الدنيا، ثم عذاب وهوان في الآخرة.
فجرب يا أخي هذا الطريق من الآن ولا تتردد، فإني والله لك من الناصحين، وعليك من المشفقين.
رُسُلُ ملك الموت :(1/99)
ورد في بعض الأخبار أن نبيا من الأنبياء عليهم السلام قال لملك الموت: أما لك رسول تقدمه بين يديك، ليكون الناس على حذر منك؟ قال: نعم، لي والله رسل كثيرة: من الإعلال، والأمراض، والشيب، والهموم، وتغير السمع والبصر.
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أعذر الله إلى امرئ أخَّر أجله حتى بلَّغه ستين سنة).
[*] قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح :
اختلف أهل التفسير فيه فالأكثر على ان المراد به الشيب لأنه يأتي في سن الكهولة فما بعدها وهو علامة لمفارقة سن الصبي الذي هو مظنة اللهو .
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
( أعذر الله إلى امرئ ) أي سلب عذر ذلك الإنسان فلم يبق له عذراً يعتذر به كأن يقول : لو مدّ لي في الأجل لفعلت ما أمرت به ، فالهمزة للسلب ، أو بالغ في العذر إليه عن تعذيبه حيث
( أخَّر أجله ) يعني أطاله
( حتى بلغ ستين سنة ) لأنها قريبة من المعترك وهو سن الإنابة والرجوع وترقب المنية ومظنة انقضاء الأجل فلا ينبغي له حينئذ إلا الاستغفار ولزوم الطاعات والإقبال على الآخرة بكليته ، ثم هذا مجاز من القول فإن العذر لا يتوجه على الله وإنما يتوجه له على العبد ، وحقيقة المعنى فيه أن الله لم يترك له شيئاً في الاعتذار يتمسك به ، وهذا أصل الإعذار من الحاكم إلى المحكوم عليه ، وقيل لحكيم : أي شيء أشد؟ قال دنو أجل وسوء عمل . قال القشيري : كان ببغداد فقيه يقرئ اثنين وعشرين علماً فخرج يوماً قاصداً مدرسته فسمع قائلاً يقول : إذا العشرون من شعبان ولت * فواصل شرب ليلك بالنهار ولا تشرب بأقداح صغار * فقد ضاق الزمان على الصغار فخرج هائماً على وجهه حتى أتى مكة فمات بها .(1/100)
وأكبر الأعذار إلى بني آدم بعثة الرسل إليهم، ليتم حجته عليهم كما قال سبحانه: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) [الإسراء:15]، وقال سبحانه: وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ [فاطر:37]، قيل: هو القرآن وقيل: الرسل وقال ابن عباس: هو الشيب.
باب ذِكْرُ الموت :
[*] عناصر الباب :
كيف تتناسى الموت ؟
الإكثار من ذِكْرِ الموت :
فوائد ذكر الموت :
الأسباب الباعثة على ذكر الموت :
وهاك تفصيل ذلك في إيجازٍ غيرِ مُخِّل :
كيف تتناسى الموت ؟
إن الناس في هذه الحياة في غفلة، وأملهم فيها عريض، ولا بد من إلجام النفس بتذكيرها بمصيرها، لتعمر الآخرة بالدنيا ، وإن الموت حقيقة قاسية رهيبة، تواجه كل حي فلا يملك لها رداً، وهي تتكرر في كل لحظة ويواجهها الجميع دون استثناء، قال تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [العنكبوت:57]، إنها نهاية الحياة واحدة فالجميع سيموت لكن المصير بعد ذلك يختلف، فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ [الشورى:7]، وفي الموت عظة وتذكير وتنبيه وتحذير، وكفى به من نذير، والموت هو الخطب الأفظع والأمر الأشنع والكأس التي طعمها أكره وأبشع، وأنه الحادث الأهدم للذات والأقطع للراحات والأمنيات.
ولكننا مع الأسف الشديد نسيناه أو تناسيناه وكرهنا ذكره ولقياه مع يقيننا أنه لا محالة واقع وحاصل ، والعجب من عاقل يرى استيلاء الموت على أقرانه وجيرانه وكيف يطيب عيشه! وكيف لا يستعد له! إن المنهمك في الدنيا، المُكِّبَ على غرورها المحب لشهواتها يغفل قلبه لا محالة عن ذكر الموت، وإذا ذُكّر به كرهه ونفر منه، ومن لم يتذكر الموت اليوم ويستعد له فاجأه في غده وهو في غفلة من أمره وفي شغل عنه.
[*] كتب بعض الحكماء إلى رجل من إخوانه: يا أخي احذر الموت في هذه الدار قبل أن تصير إلى دار تتمنى فيها الموت فلا تجده.(1/101)
[*] وكان عمر بن عبد العزيز يجمع كل ليلة الفقهاء فيتذاكرون الموت والقيامة والآخرة ثم يبكون حتى كأن بين أيديهم جنازة.
[*] وقال إبراهيم التيمي : شيئان قطعا عني لذة الدنيا ذكر الموت، والوقوف بين يدي الله عز وجل.
[*] وقال كعب : من عرف الموت هانت عليه مصائب الدنيا وهمومها.
[*] وقال أشعث: كنا ندخل على الحسن فإنما هو ذكر النار وأمر الآخرة وذكر الموت.
[*] وقالت صفية رضي الله عنها: إن امرأة اشتكت إلى عائشة رضي الله عنها قسوة قلبها. فقالت لها: أكثري ذكر الموت يرق قلبك، ففعلت فرق قلبها فجاءت تشكر عائشة رضي الله عنها.
[*] قال مالك بن ينار: لو يعلم الخلائق ماذا يستقبلون غداً ما لذوا بعيش أبداً.
وما خاف مؤمن اليوم إلا أمن غداً بحسن اتعاظه وصلاح عمله وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد ، ودرر الفرائد .
( حديث شداد بن أوس رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :قال الله تعالى: وعزتي و جلالي لا أجمع لعبدي أمنين و لا خوفين إن هو أمنني في الدنيا أخفته يوم أجمعُ عبادي و إن هو خافني في الدنيا أمنته يوم أجمعُ عبادي .
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:(1/102)
( قال اللّه تعالى وعزتي وجلالي لا أجمع لعبدي أمنين ولا خوفين : إن هو أمنني في الدنيا أخفته يوم أجمع عبادي ، وإن هو خافني في الدنيا أمنته يوم أجمع عبادي ) فمن كان خوفه في الدنيا أشد كان أمنه يوم القيامة أكثر وبالعكس وذلك لأن من أعطى علم اليقين في الدنيا طالع الصراط وأهواله بقلبه فذاق من الخوف وركب من الأهوال ما لا يوصف فيضعه عنه غداً ولا يذيقه مرارته مرة ثانية وهذا معنى قول بعض العارفين لأنه لما صلى حر مخالفة القوى في الدنيا لم يذقه اللّه كرب الحر في العقبى . قال القرطبي : فمن استحى من اللّه في الدنيا مما يصنع استحى اللّه عن سؤاله في القيامة ولم يجمع عليه حياءين كما لم يجمع عليه خوفين وقال الحرالي : نار الحق في الدنيا للمعترف رحمة من عذاب النار تفديه من نار السطوة في الآخرة ومحمد عليه الصلاة والسلام يعطى الأمن يوم القيامة حتى يتفرغ للشفاعة وما ذاك إلا من الخوف الذي كان علاه أيام الدنيا فلم يجتمع عليه خوفان فكل من كان له حظ من اليقين فعاين منه ما ذاق من الخوف سقط عنه من الخوف بقدر ما ذاق هنا قال العارفون : والخوف خوفان خوف عقاب وخوف جلال والأول يصيب أهل الظاهر والثاني يصيب أهل القلوب والأول يزول والثاني لا يزول أهـ .
ولكن كثيراً من الناس مع الأسف الشديد يضيع عمره في غير ما خلق له، ثم إذا فاجأه الموت صرخ رَبِّ ارْجِعُونِ [المؤمنون:99] ولماذا ترجع وتعود لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ [المؤمنون:100] وأين أنت عن هذا اليوم أيها الغافل؟ ألا تعمل وأنت في سعة من أمرك وصحة في بدنك، ولم يدن منك ملك الموت بعد.
إن ما نراه في المقابر أعظم وأكبر معتبر، فحامل الجنازة اليوم محمول غداً لا محالة ، ومن يرجع من المقبرة إلى بيته اليوم سيرجع عنه غداً ويُترك وحيداً فريداً في قبره مرتهناً بعمله، إن خيراً فخير وإن شراً فشر.(1/103)
وحيداً فريداً في التراب وإنما *** قرين الفتى في القبر ما كان يعمل
ولكن ما أقل من اتعظ وما أنذر من اجتهد، إن كان من قصر أمله، وجعل الموت أمام ناظريه عمل بلا شك للآخرة واستفاد من كل لحظة من لحظات عمره في طاعة ربه وتحسر على كل وقت أضاعه بدون عمل صالح يقربه إلى الله، وهو لما قدم من عمل فرح مسرور بالانتقال إلى الدار الآخرة وهذا هو المغبوط حقاً.
قال لقمان لابنه: ( يا بني أمرٌ لا تدري متى يلقاك استعد له قبل أن يفجأك .
[*] وقال بعض السلف: اعلم أنه لو لم يكن بين يدي العبد المسكين كرب ولا هول ولا عذاب سوى سكرات الموت بمجردها لكان جديراً بأن يتنغص عليه عيشه ويتكدر عليه سروره ويفارقه سهوه وغفلته، وحقيق بأن يطول فكره ويعظم له استعداده، كيف ونحن نعلم أن وراء الموت القبر وظلمته، والصراط ودقته والحساب وشدته، أهوال وأهوال لا يعلم عظمها إلا بالله.
للموت فاعمل بجد أيها الرجل *** واعلم بأنك من دنياك مرتحل
إلى متى أنت في لهو وفي لعب *** تمسي وتصبح في اللذات مشتغل
اعمل لنفسك يا مسكين في مهل *** ما دام ينفعك التذكار والعمل
الإكثار من ذِكْرِ الموت :
إن الموت حقيقة لم يجادل بها أحد والجميع مقتنع تمام الاقتناع بأنه سيموت ولكن قُلْ : من يضع الموت نصب عينيه ؟ وذكر الموت يرقق القلب ويزهد في الدنيا ، ولذا أمرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - بالاكثار من ذكر الموت كما في الأحاديث الآتية :
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أكثروا ذكر هاذم اللذات يعني الموت.
[*] قال العلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:(1/104)
قَوْلُهُ: ( أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ ) بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ: أَيْ قَاطِعَهَا .، قَالَ مَيْرَكُ صَحَّحَ الطِّيبِيُّ بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ حَيْثُ قَالَ شَبَّهَ اللَّذَّاتِ الْفَانِيَةَ وَالشَّهَوَاتِ الْعَاجِلَةَ ثُمَّ زَوَالَهَا بِبِنَاءٍ مُرْتَفِعٍ يَنْهَدِمُ بِصَدَمَاتٍ هَائِلَةٍ, ثُمَّ أَمَرَ الْمُنْهَمِكَ فِيهَا بِذِكْرِ الْهَادِمِ لِئَلَّا يَسْتَمِرَّ عَلَى الرُّكُونِ إِلَيْهَا, يَشْتَغِلَ عَمَّا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنَ الْفِرَارِ إِلَى دَارِ الْقَرَارِ انْتَهَى كَلَامُهُ، لَكِنْ قَالَ الْإِسْنَوِيُّ فِي الْمُهِمَّاتِ: الْهَاذِمُ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ هُوَ الْقَاطِعُ كَمَا قَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا .أهـ
[*] قال الإمام القرطبي رحمه الله : "قال علماؤنا: قوله عليه السلام: أكثروا ذكر هاذم اللذات كلام مختصر وجيز، وقد جمع التذكرة وأبلغ في الموعظة، فإن من ذكر الموت حقيقة ذكره نغص عليه لذته الحاضرة، ومنعه من تمنيها في المستقبل، وزهده فيما كان منها يؤمل، ولكن النفوس الراكدة، والقلوب الغافلة، تحتاج إلى تطويل الوعاظ، وتزويق الألفاظ، وإلا ففي قوله عليه الصلاة والسلام: (أكثروا ذكر هاذم اللذات)مع قوله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران:185]، ما يكفي السامع له، ويشغل الناظر فيه". أهـ
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أكثروا ذكر هاذم اللذات: الموت فإنه لم يذكره أحد في ضيق من العيش إلا وسعه عليه و لا ذكره في سعة إلا ضيقها عليه .
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
( أكثروا ذكر هاذم ) بذال معجمة قاطع وبمهملة مزيل وليس مراداً هنا كذا في روض السهيلي قال ابن حجر وفي ذا النفي نظر
( اللذات ) الموت(1/105)
( فإنه لم يذكره أحد في ضيق من العيش إلا وسعه عليه ولا ذكره في سعة إلا ضيقها عليه ) قال العسكري لو فكر البلغاء في قول المصطفى صلى اللّه عليه وسلم ذلك لعلموا أنه أتى بهذا القليل على كل ما قيل في ذكر الموت ووصف به نظماً ونثراً ولهذا كان عيسى عليه السلام إذا ذكر عنده الموت يقطر جلده دماً قيل ولا يدخل ذكر الموت بيتاً إلا رضي أهله بما قسم لهم وقال أبو نواس . ألا يا ابن الذين فنوا وماتوا * أما واللّه ما ماتوا لتبقى وقال أبو حمزة الخراساني : من أكثر ذكر الموت حبب إليه كل باق وبغض إليه كل فان . وقال القرطبي : ذكر الموت يورث استشعار الانزعاج عن هذه الدار الفانية والتوجه في كل لحظة إلى الآخرة الباقية ثم إن الإنسان لا ينفك عن حالين ضيق وسعة ونعمة ومحنة فإن كان في حال ضيق ومحنة فذكر الموت يسهل عليه ما هو فيه من الاغترار بها والركون إليها . وقال الغزالي : الموت خطر هائل وخطب عظيم وغفلة الناس عنه لقلة فكرهم فيه وذكرهم له ومن يذكره ليس يذكره بقلب فارغ بل مشغول بالشهوات فلا ينجع ذكره فيه فالطريق أن يفرغ قلبه عن كل شيء إلا ذكر الموت الذي هو بين يديه كمن يريد السفر فإذا باشر ذكر الموت قلبه أثر فيه فيقل حركته وفرحه بالدنيا وينكسر قلبه وأنفع طريق فيه أن يذكر أشكاله فيتذكر موتهم ومصرعهم تحت التراب ويتذكر صورهم في أحوالهم ومناصبهم التي كانوا عليها في الدنيا ويتأمل كيف محى التراب حسن صورهم وتبددت أجزاؤهم في قبورهم ويتموا أولادهم وضيعوا أموالهم وخلت مجالسهم وانقطعت آثارهم .
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح ابن ماجة) قال : أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت عليك السلام ، فقال لا تقل عليك السلام فإن عليك السلام تحية الميت ،قلت يا رسول الله أي المؤمنين أفضل قال أحسنهم خلقا قال فأي المؤمنين أكيس قال أكثرهم للموت ذكرا وأحسنهم لما بعده استعدادا أولئك الأكياس .(1/106)
فإذا تفكر الإنسان أنه سينتقل من قصره إلى قبره ، ومن التنعم بالطعام والشراب إلى التمرغ في التراب ، ومن أنس العشرة إلى وحشة الوحدة ، ومن الفراش الوثير إلى المصرع الوبيل ، وأن الدود سيكون أنيسه ، ومنكر ونكير جليسه . إذا تفكر في سكرات الموت وأنها أشد من ضرب بالسيوف ونشر بالمناشير وقرض بالمقاريض .
[*] كان بعض الصالحين ينادي بليل على سور المدينة: الرحيل الرحيل. فلما توفي فقد صوته أمير المدينة، فسأل عنه فقيل: إنه قد مات فقال:
ما زال يلهج بالرحيل وذكره *** حتى أناخ ببابه الجمال
فأصابه مستيقظاً متشمراً *** ذا أهبة لم تلهه الآمال
[*] وكان يزيد الرقاشي يقول لنفسه: ويحك يا يزيد! من ذا يصلي عنك بعد الموت؟ من ذا يصوم عنك بعد الموت؟ من ذا يترضى ربك عنك بعد الموت؟ ثم يقول: أيها الناس! ألا تبكون وتنوحون على أنفسكم باقي حياتكم؟ مَن الموت طالبه.. والقبر بيته.. والتراب فراشه.. والدود أنيسه.. وهو مع هذا ينتظر الفزع الأكبر.. كي يكون حاله؟ ) ثم يبكي رحمه الله.
[*] وقال التميمي رحمه الله : شيئان قطعا عني لذة الدنيا: ذكر الموت، وذكر الموقف بين يدي الله تعالى .
[*] وكان عمر بن عبدالعزيز رحمه الله تعالى يجمع العلماء فيتذكرون الموت والقيامة والآخرة، فيبكون حتى كأن بين أيديهم جنازةَ !!
[*] وقال الدقاق رحمه الله تعالى : من أكثر من ذكر الموت أكرم بثلاثة أشياء: تعجيل التوبة، وقناعة القلب، ونشاط العبادة، ومن نسي الموت عوقب بثلاثة أشياء: تسويف التوبة، وترك الرضى بالكفاف، والتكاسل في العبادة.
[*] وقال الحسن رحمه الله تعالى : إن هذا الموت قد أفسد على أهل النعيم نعيمهم، فالتمسوا عشياً لا موت فيه .(1/107)
إخواني : أكثروا من ذكر هاذم اللذات ، وتفكروا في انحلال بناء الذات ، وتصوروا مصير الصور إلى الرفات ، وأَعدوا عدةً تكفي في الكفات، واعلموا أن الشيطان لا يتسلط على ذاكر الموت وإنما إذا غفل القلب عن ذكر الموت دخل العدو من باب الغفلة 0
[*] أورد الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه المواعظ عن الحسن البصري رحمه الله تعالى قال : : إن الموت فضح الدنيا فلم يترك لذي لُب به فرحاً .
وقال أيضاً :
[*] قال يزيد بن تميم : من لم يردعه الموت والقرآن ثم تناطحت عنده الجبال لم يرتدع 0
[*] وسُئل ابن عياض عن ما بال الآدمي تُستنزع نفسه وهو ساكت وهو يضطرب من القرصة قال : لأن الملائكة توقفه 0
يا بن آدم مثل تلك الصرعة قبل أن تذر كل غرة فتتمنى الرجعة وتسأَل الكرة كَم من محتضر تمنَّى الصحة للعمل هيهات حقر عليه بلوغ الأَمل أَو ما يكفي في الوعظ مصرعه أو ما يشفي من البيان مضجعه 00 أما فاته مقدوره بعد إِمكانه 00 أَما أنت عن قليل في مكانة أما اعتبرت بمن رحل أما وعظتك العبر أما كان لك سمعٌ ولا بصر 0
عباد الله هذه الأيام مطايا، فأين العدة قبل المنايا ، أين الأنفة من دار الأذايا ،أين العزائم أرضيتم بالدنايا، إن بلية الهوى لا تشبه البلايا، وإن خطيئة الإصرار لا كالخطايا ، يا مستورين ستظهر الخبايا،سرية الموت لا تشبه السرايا، قضية الزمان ليست كالقضايا ،راعي السلامة يقتل الرعايا ، رامي المنون يصمي الرمايا ، ملك الموت لا يقبل الهدايا .
أين آباؤك مروا وسلكوا ، أين أقرانك أما رحلوا وانصرفوا ، أين أرباب القصور أما أقاموا في القبور وعكفوا ،أين الأحباب هجرهم المحبون وصدفوا ، فانتبه لنفسك فالمتيقظون قد عرفوا، فستحملك الأهل إلى القبور وربما مروا فانحرفوا .(1/108)
يا من لا يتعظ بأبيه ولا بابنه ، يا مؤثراً للفاني على جودة ذهنه ، يا متعوضا عن فرح ساعة بطول حزنه ، يا مسخطاً للخالق لأجل المخلوق ضلالاً لإفنه ، أمالك عبرة فيمن ضعضع مشيد ركنه ، أما رأيت راحلاً عن الدنيا يوم ظعنه، أما تصرفت في ماله أكف غيره من غير إذنه ، أما انصرف الأحباب عن قبره حين دفنه ، أما خلا بمسكنه في ضيق سجنه، تنبه والله من وسنه لقرع سنه،ولقى في وطنه ما لم يخطر على ظنه ، يا ذلة مقتول هواه يا خسران عبد بطنه .
أوَ مَا علمت الموت للخلائق مبيد أما تراه قد مزقهم في البيد أما داسهم بالهلاك دوس الحصيد لا بالبسيط ينتهون ولا بالتشديد ،أين من كان لا ينظر بين يديه، أين من أبصر العبر ولم ينتفع بعينيه، أين من بارز بالذنوب المطلع عليه.
كم من ظالم تعدى وجار، فما راعى الأهل ولا الجار بينا هو يعقد عقد الإصرار حل به الموت فحل من حلته الأزرار (فَاعْتَبِرُواْ يَأُوْلِي الأبْصَارِ)
ما صحبه سوى الكفن إلى بيت البلى والعفن لو رأيته وقد حلت به المحن وشين ذلك الوجه الحسن فلا تسأل كيف صار (فَاعْتَبِرُواْ يَأُوْلِي الأبْصَارِ)
سال في اللحد صديده وبلى في القبر جديده وهجره نسيبه ووديده وتفرق حشمه وعبيده والأنصار (فَاعْتَبِرُواْ يَأُوْلِي الأبْصَارِ)
أين مجالسه العالية أين عيشته الصافية أين لذاته الحالية كم كم تسفى على قبره سافية ذهبت العين وأخفيت الآثار (فَاعْتَبِرُواْ يَأُوْلِي الأبْصَارِ)
تقطعت به جميع الأسباب وهجره القرناء والأتراب وصار فراشه الجندل والتراب وربما فتح له في اللحد باب النار (فَاعْتَبِرُواْ يَأُوْلِي الأبْصَارِ)
خلا والله بما كان صنع واحتوشه الندم وما نفع وتمنى الخلاص وهيهات قد وقع وخلاه الخليل المصافي وانقطع واشتغل الأهل بما كان جمع وتملك الضد المال والدار (فَاعْتَبِرُواْ يَأُوْلِي الأبْصَارِ)(1/109)
تدبروا أموركم تدبر ناظر أين السلطان الكبير القاهر كم جمع في مملكته من عساكر وكم بنى من حصون ودساكر وكم تمتع بحلل وأساور وكم علا على المنابر ثم آخر الأمر إلى المقابر العاقل .
أين الوالدون وما ولدوا ، أين الجبارون وأين ما قصدوا ،أين أرباب المعاصي على ماذا وردوا، أما جنوا ثمرات ما جنوا وحصدوا ،أما قدموا على أعمالهم في مآلهم ووفدوا، أما خلوا في ظلمات القبور بكوا والله وانفردوا ،أما ذلوا وقلوا بعد أن عتوا ومردوا، أما طلبوا زادا يكفي في طريقهم ففقدوا، أما حل الموت فحل عقد ما عقدوا ،عاينوا والله كل ما قدموا ووجدوا ،فمنهم أقوام شقوا وأقوام سعدوا.
أيها المتيقظون وهم نائمون ،أتبنون مالا تسكنون، وتجمعون ما لا تأكلون، كونوا كيف شئتم فستنقلون (ثُمّ إِنّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيّتُونَ)
يا مقيمين سترحلون، يا مستقرين ما تتركون، يا غافلين عن الرحيل ستظعنون ،أراكم متوطنين تأمنون المنون (ثُمّ إِنّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيّتُونَ)
طول نهاركم تلعبون ، وطول ليلكم ترقدون، والفرائض ما تؤدون ،وقد رضيتم عن الغالي بالدون ،لا تفعلوا ما تفعلون (ثُمّ إِنّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيّتُونَ)
أما الأموال فتجمعون ، والحق فيها ما تخرجون وأما الصلاة فتضيعون وإذا صليتم تنقرون أترى هذا إلى كم يكون (ثُمّ إِنّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيّتُونَ)
أين العتاة المتجبرون، أين الفراعنة المتسلطون أين أهل الخيلاء المتكبرون قدروا أنكم صرتم كهم أما تسمعون (ثُمّ إِنّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيّتُونَ)
ما نفعتهم الحصون،ولا رد المال المصون ،هبت زعزع الموت فكسرت الغصون، قدروا أنكم تزيدون عليهم ولا تنقصون (ثُمّ إِنّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيّتُونَ)
تقلبوا من اللذات في فنون، وأخرجهم البطر إلى الجنون ،فأتاهم ما هم عنه غافلون، (ثُمّ إِنّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيّتُونَ)(1/110)
لو حصل لكم كل ما تحبون ،ونما جميع ما تؤتون ،ونلتم من الأماني ما تشتهون، أينفعكم حين ترحلون (ثُمّ إِنّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيّتُونَ)
إلى متى وحتى متى تنصحون ،وأنتم تكسبون الخطايا وتجترحون أأمنتم وأنتم تسرحون ذئب هلاك فلا تبرحون (ثُمّ إِنّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيّتُونَ)
لا تفرحوا بما تفرحون ، فإنه لغيركم حين تطرحون، وإياكم من يراكم من يراكم تمرحون، قد خسرتم إلى الآن فما تربحون (ثُمّ إِنّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيّتُونَ)
أخي الحبيب:
أذكر الموت ولا أرهبه ... إن قلبي لغليط كالحجر
أطلب الدنيا كأني خالد ... وورائي الموت يقفو بالأثر
وكفى بالموت فاعلم واعظاً ... لمن الموت عليه قدر
والمنايا حوله ترصده ... ليس ينجي المرء منهن المفر
فوائد ذكر الموت :
لذكر الموت له فوائد لا تحصى، وثمرات لا تعد ، وله أهمية كبرى، وثمرات جليلةمنها ما يلي :
(1) أنه يحث على الاستعداد للموت قبل نزوله.
(2) أن ذكر الموت يقصر الأمل ، وطول الأمل من أعظم أسباب الغفلة.
(3) أنه يزهد في الدنيا ويرضي بالقليل منها وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد ، ودرر الفرائد .
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أكثروا ذكر هاذم اللذات: الموت فإنه لم يذكره أحد في ضيق من العيش إلا وسعه عليه و لا ذكره في سعة إلا ضيقها عليه .
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
( أكثروا ذكر هاذم ) بذال معجمة قاطع وبمهملة مزيل وليس مراداً هنا كذا في روض السهيلي قال ابن حجر وفي ذا النفي نظر
( اللذات ) الموت(1/111)
( فإنه لم يذكره أحد في ضيق من العيش إلا وسعه عليه ولا ذكره في سعة إلا ضيقها عليه ) قال العسكري لو فكر البلغاء في قول المصطفى صلى اللّه عليه وسلم ذلك لعلموا أنه أتى بهذا القليل على كل ما قيل في ذكر الموت ووصف به نظماً ونثراً ولهذا كان عيسى عليه السلام إذا ذكر عنده الموت يقطر جلده دماً قيل ولا يدخل ذكر الموت بيتاً إلا رضي أهله بما قسم لهم وقال أبو نواس . ألا يا ابن الذين فنوا وماتوا * أما واللّه ما ماتوا لتبقى وقال أبو حمزة الخراساني : من أكثر ذكر الموت حبب إليه كل باق وبغض إليه كل فان . وقال القرطبي : ذكر الموت يورث استشعار الانزعاج عن هذه الدار الفانية والتوجه في كل لحظة إلى الآخرة الباقية ثم إن الإنسان لا ينفك عن حالين ضيق وسعة ونعمة ومحنة فإن كان في حال ضيق ومحنة فذكر الموت يسهل عليه ما هو فيه من الاغترار بها والركون إليها . وقال الغزالي : الموت خطر هائل وخطب عظيم وغفلة الناس عنه لقلة فكرهم فيه وذكرهم له ومن يذكره ليس يذكره بقلب فارغ بل مشغول بالشهوات فلا ينجع ذكره فيه فالطريق أن يفرغ قلبه عن كل شيء إلا ذكر الموت الذي هو بين يديه كمن يريد السفر فإذا باشر ذكر الموت قلبه أثر فيه فيقل حركته وفرحه بالدنيا وينكسر قلبه وأنفع طريق فيه أن يذكر أشكاله فيتذكر موتهم ومصرعهم تحت التراب ويتذكر صورهم في أحوالهم ومناصبهم التي كانوا عليها في الدنيا ويتأمل كيف محى التراب حسن صورهم وتبددت أجزاؤهم في قبورهم ويتموا أولادهم وضيعوا أموالهم وخلت مجالسهم وانقطعت آثارهم .
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح ابن ماجة) قال : أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت عليك السلام ، فقال لا تقل عليك السلام فإن عليك السلام تحية الميت ،قلت يا رسول الله أي المؤمنين أفضل قال أحسنهم خلقا قال فأي المؤمنين أكيس قال أكثرهم للموت ذكرا وأحسنهم لما بعده استعدادا أولئك الأكياس .(1/112)
فإذا تفكر الإنسان أنه سينتقل من قصره إلى قبره ، ومن التنعم بالطعام والشراب إلى التمرغ في التراب ، ومن أنس العشرة إلى وحشة الوحدة ، ومن الفراش الوثير إلى المصرع الوبيل ، وأن الدود سيكون أنيسه ، ومنكر ونكير جليسه . إذا تفكر في سكرات الموت وأنها أشد من ضرب بالسيوف ونشر بالمناشير وقرض بالمقاريض .
فأكثر أخي الكريم، من ذكر هادم اللذات، واعلم أنه آت لا محالة، واستعد للحساب وامتحان القبر.
(4) أنه يرغّب في الآخرة وَيُنَشِطُ في العبادة.
(5) أنه يهوّن على العبد مصائب الدنيا.
(6) أنه يمنع من الأشر والبطر والتوسع في لذات الدنيا.
(7) أنه يحث على التوبة واستدراك ما فات.
(8) أنه يرقق القلوب ويدمع الأعين، ويجلب باعث الدين، ويطرد باعث الهوى.
(9) أنه يدعو إلى التواضع وترك الكبر والظلم.
(10) أنه يدعو إلى سل السخائم ومسامحة الإخوان وقبول أعذارهم.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن يحيى بن معاذ قال : من أكثر ذكر الموت لم يمت قبل أجله ويدخل عليه ثلاث خصال من الخير: أولها المبادرة إلى التوبة، والثانية القناعة برزق يسير، والثالثة النشاط في العبادة. ومن حرص على الدنيا فإنه لا يأكل فوق ما كتب الله له ويدخل عليه من العيوب ثلاث خصال: أولها أن تراه أبداً غير شاكر لعطية الله له، والثاني لا يواسي بشيء مما قد أعطى من الدنيا. والثالث يشتغل ويتعب في طلب ما لم يرزقه الله حتى يفوته عمل الدين.
الأسباب الباعثة على ذكر الموت :
(1) زيارة القبور :
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) قال * زار النبي - صلى الله عليه وسلم - قبر أمه فبكى وأبكى من حوله فقال استأذنت ربي في أن أستغفر لها فلم يؤذن لي واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي فزوروا القبور فإنها تذكر الموت .(1/113)
(حديث بريدة الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكركم الآخرة .
(حديث البراء رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجه ) قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة فجلس على شفير القبر فبكى حتى بل الثرى ثم قال يا إخواني لمثل هذا فأعدوا .
(2) زيارة مغاسل الأموات ورؤية الموتى حين يغسلون.
(3) مشاهدة المحتضرين وهن يعانون سكرات الموت وتلقينهم الشهادة.
(4) تشييع الجنائز والصلاة عليها وحضور دفنها.
(5) تلاوة القرآن، ولا سيما الآيات التي تذكر بالموت وسكراته كقوله تعالى: وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ [ ق:19]
(6) الشيب والمرض، فإنهما من رسل ملك الموت إلى العباد.
(7) الظواهر الكونية التي يحدثها الله تعالى تذكيراً لعباده بالموت والقدوم عليه سبحانه كالزلازل والبراكين والفيضانات والانهيارات الأرضية والعواصف المدمرة.
(8) مطالعة أخبار الماضين من الأمم والجماعات التي أفناهم الموت وأبادهم البلى.
باب كيف نستعد للموت؟
كيف نستعد للموت؟
أخي الحبيب:
أما وقد عرفت أن لحظة الاحتضار، لحظة امتحان، الموت ما منه فَوْت ، الموت أمرٌ محتوم وقدرٌ سابقٌ معلوم كيف تكتحل عينك بنوم حتى ترى حالك بعد اليوم، وكيف تبيتُ وأنت مسرور وأنت لا تعلم عاقبة الأمور.
[*] قال القرطبي رحمه الله : وأجمعت الأمة على أن الموت ليس له سن معلوم، ولا زمن معلوم، ولا مرض معلوم، وذلك ليكون المرء على أهبة من ذلك، مستعداً لذلك .
أين استعدادك للقاء ملك الموت؟.. أين استعدادك لما بعده من أهوال.. في القبر.. وعند السؤال.. وعند الحشر.. والنشر.. والحساب.. والميزان.. وعند تطاير الصحف.. والمرور على الصراط.. والوقوف بين يدي الجبار جل وعلا؟!.
[*] وقال الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه صيد الخاطر :(1/114)
الواجب على العاقل أخذ العدة لرحيله ، فإنه لا يعلم متى يفجؤه أمر ربه ، و لا يدري متى يستدعى ؟
وإني رأيت خلقاً كثيراً غرهم الشباب ، و نسوا فقد الأقران ، و ألهاهم طول الأمل .
وربما قال العالم المحض لنفسه : أشتغل بالعلم اليوم ثم أعمل به غداً ، فيتساهل في الزلل بحجة الراحة ، و يؤخر الأهبة لتحقيق التوبة ، و لا يتحاشى من غيبة أو سماعها ، ومن كسب شبهة يأمل أن يمحوها بالورع .
وينسى أن الموت قد يبغت . فالعاقل من أعطى كل لحظة حقها من الواجب عليه ، فإن بغته الموت رؤى مستعداً ، و إن نال الأمل ازداد خيراً .
إخواني الأيام لكم مطايا ،فأين العدة قبل المنايا ،أين الأنفة من دار الأذايا، أين العزائم أترضون الدنايا ،إن بلية الهوى لا تشبه البلايا ،وإن خطيئة الإصرار لا كالخطايا، وسرية الموت لا تشبه السرايا ،وقضية الأيام لا كالقضايا، راعي السلامة يقتل الرعايا، رامي التلف يصمي الرمايا ،ملك الموت لا يقبل الهدايا ،يا مستورين ستظهر الخبايا، استغفروا الله خجلاً من العثرات، ثم اسكبوا حزناً لها العبرات ،عجباً لمؤثر الفانية على الباقية ولبائع البحر الخضم بساقية، ولمختار دار الكدر على الصافية ،ولمقدم حب الأمراض على العافية ،أيها المستوطن بيت غروره تأهب لإزعاجك ، أيها المسرور بقصوره تهيأ لإخراجك، خذ عدتك وقم في قضاء حاجتك قبل فراق أولادك وأزواجك ، ما الدنيا دار مقامك بل حلبة إدلاجك.
ولله درُ من قال :
إلى كم ذا التراخي والتمادي ... وحادي الموت بالأرواخ حادي
فلو كنا جمادا لا تعظنا ... ولكنا أشد من الجماد
تنادينا المنية كل وقت ... وما نصغي إلى قول المنادى
وأنفاس النفوس إلى انتقاص ... ولكن الذنوب إلى ازدياد
إذا ما الزرع قارنه اصفرار ... فلس دواؤه غير الحصاد
ولله درُ من قال :
فما لك ليس يعمل فيك وعظ ... ولا زجر كأنك من جماد
ستندم إن رحلت بغير زادٍ ... وتشقى إذ يناديك المنادي
فلا تأمن لذي الدنيا صلاحا ... فإن صلاحها عين الفساد(1/115)
ولا تفرح بمال تقتنيه ... فإنك فيه معكوس المراد
أترضى أن تكون رفيق قوم ... لهم زاد وأنت بغير زاد؟!
[*] ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله في كتابه "عدة الصابرين" عن يزيد بن ميسرة قال: كان رجل ممن مضى جمع مالاً فأوعى، ثم أقبل على نفسه وهو في أهله فقال: أنعم سنين!! فأتاه ملك الموت فقرع الباب في صورة مسكين، فخرجوا إليه فقال: ادعوا لي صاحب الدار. فقالوا: يخرج سيدنا إلى مثلك؟! ثم مكث قليلاً. ثم عاد فقرع الباب وصنع مثل ذلك وقال: أخبروه أني ملك الموت. فلما سمع سيدهم قعد فزعاً، وقال: لينوا له الكلام. قالوا: ما تريد غير سيدنا بارك الله فيك؟ قال: لا. فدخل عليه فقال: قم فأوص ما كنت موصياً فإني قابض نفسك قبل أن أخرج. قال: فصرخ أهله وبكوا. ثم قال: افتحوا الصناديق، وافتحوا أوعية المال. ففتحوها جميعا، فأقبل على المال يلعنه ويسبه يقول: لعنت من مال، أنت الذي أنسيتني ربي، وشغلتني عن العمل لآخرتي حتى بلغني أجلي.
فتكلم المال فقال: لا تسبني! ألم تكن وضيعاً في أعين الناس فرفعتك ؟ ألم ير عليك من أثري؟ أما كنت تحضر مجالس الملوك والسادة فتدخل، ويحضر عباد الله الصالحون فلا يدخلون؟ ألم تكن تخطب بنات الملوك والسادة فتنكح، ويخطب عباد الله الصالحون فلا ينكحون؟ ألم تكن تنفقني في سبيل الخبث فلا أتعاصى؟ ولو أنفقتني في سبيل الله لم أتعاص عليك.. أنت ألوم مني، إنما خلقت أنا وأنتم يا بني آدم من تراب، فمنطلق ببر، ومنطلق بإثم.. هكذا يقول المال فاحذروا.
[*] كان بعض الصالحين ينادي بليل على سور المدينة: الرحيل الرحيل. فلما توفي فقد صوته أمير المدينة، فسأل عنه فقيل: إنه قد مات فقال:
ما زال يلهج بالرحيل وذكره *** حتى أناخ ببابه الجمال
فأصابه مستيقظاً متشمراً *** ذا أهبة لم تلهه الآمال(1/116)
[*] وكان يزيد الرقاشي يقول لنفسه: ويحك يا يزيد! من ذا يصلي عنك بعد الموت؟ من ذا يصوم عنك بعد الموت؟ من ذا يترضى ربك عنك بعد الموت؟ ثم يقول: أيها الناس! ألا تبكون وتنوحون على أنفسكم باقي حياتكم؟ مَن الموت طالبه.. والقبر بيته.. والتراب فراشه.. والدود أنيسه.. وهو مع هذا ينتظر الفزع الأكبر.. كي يكون حاله؟ ) ثم يبكي رحمه الله.
[*] أورد ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه التبصرة عن محمد بن السماك قال : يا بن آدم أنت في حبس منذ كنت أنت محبوس في الصلب ثم في البطن ثم في القماط ثم في المكتب ثم تصير محبوساً في الكد على العيال فاطلب لنفسك الراحة بعد الموت لا تكون في حبس أيضاً .
[*] أورد ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه التبصرة عن أبي حازم أنه كان يقول اضمنوا لي اثنين أضمن لكم الجنة عملاً بما تكرهون إذا أحبه الله وتركا لما تحبون إذا كرهه الله وقال انظر كل عمل كرهت الموت لأجله فاتركه ولا يضرك متى مت يا رضيع الهوى وقد آن فطامه يا طالب الدنيا وقد حان حمامه أللدنيا خلقت أم بجمعها أمرت .
[*] أورد ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه التبصرة عن ابن عبد الوهاب قال : قال رجل لداود الطائي أوصني فدمعت عيناه وقال يا أخي إنما الليل والنهار مراحل ينزلها الناس مرحلة ً بعد مرحلة حتى ينتهي ذلك إلى آخر سفرهم فإن استطعت أن تقدم كل يوم زاداً لما بين يديك فافعل فإن انقطاع السفر عن قريب والأمر أعجل من ذلك فتزود لنفسك واقض ما أنت قاض فكأنك بالأمر قد بغتك إني لأقول لك هذا وما أعلم أحداً أشد تقصيراً مني ثم قام وتركه .
يا عظيم الشقاق يا عديم الوفاق ، يا من سيبكي كثيراً إذا انتبه وفاق والتفت الساق بالساق ،إلى ربك يومئذٍ المساق ، أين صديقك المؤانس أين رفيقك المجالس أما نزل تحت الأطباق ، من لك إذا رحلت كما رحلوا ، كيف تكون وأهوال القبر لا تطاق .(1/117)
يا من يؤمر بما يصلحه فلا يقبل، أما الشيب نذير بالموت قد أقبل ، أما أنت الذي عن أفعاله تسأل، أما أنت تخلو في اللحد بما تعمل ،ستعلم يوم الحساب عند العتاب من يخجل، يا مبادرا بالخطايا توقف لا تعجل ،يا مفسدا ما بيننا وبينه لا تفعل.
إخواني أيامكم قلائل وآثامكم غوائل، ومواعظكم قوائل وأهواؤكم قواتل، فليعتبر الأواخر بالأوائل، يا من يوقن أنه لا شك راحل ،وما له زاد ولا رواحل، يا من لج في لجة الهوى متى يرتقي إلى الساحل ،هل لا تنبهت من رقاد شامل ،وحضرت المواعظ بقلب قابل ،وقمت في الدجى قيام عاقل ،وكتبت بالدموع سطور الرسائل ،تحف بها زفرات الندم كالوسائل ، وبعثتها في سفينة دمع سائل لعلها ترسى بساحل ،هل من سائل واأسفا لمغرور غفول جاهل، قد أثقل بعد الكهولة بالذنب الكاهل، وضيع في البضاعة وبذر الحاصل ،وركن إلى ركن لو رآه مائل ،يبني الحصون ويشيد المعاقل، وهو عن شهيد قبره متثاقل ،ثم يَدَّعِي بعد هذا أنه عاقل ،تالله لقد سبقه الأبطال إلى أعلى المنازل ،وهو يؤمل في بطالته فوز العامل، هيهات ما علق بطال بطائل .
يا كثير الذنوب متى تفضي ، يا مقيما وهو في المعنى يمضي، أفنيت الزمان في الهوى ضياعاً ،وساكنت غرورا من الأمل وأطماعا، وصرت في طلب الدنيا خبيرا صناعا ،تصبح جامعا وتمسي مناعا ،فتش على قلبك ولبك فقد ضاعا ،تفكر في عمرك فقد ذهب نهبا مشاعا، اترك الهوى محمودا قبل أن يتركك مذموما ،إن فاتتك قصبات السبق في الزهد فلا تفوتنك ساعات الندم في التوبة.
يا من أغصان إخلاصه ذاوية ،وصحيفته من الطاعات خاوية ،لكنها لكبار الذنوب حاوية ،يا من همته أن يملأ الحاوية ،كم بينك وبين البطون الطاوية ،كم بين طائفة الهدى
والغاوية ، اعلم أن أعضاءك في التراب ثاوية، لعلها تتفرد بالجد في زاوية، قبل أن تعجز عند الموت القوة المقاوية، وترى عنق الميزان لقلة الخير لاوية .(1/118)
يا من أهلكك الغفلات والفتور والغرور ،يا من كان قلبه خربٌ وبور وما فيه من نور ، أما لو تفكرت في قبركِ المحفور ، وما فيه من الدواهي والأمور ، تحت الجنادلِ والصخور ، لعلمت موقناً أنك ما كنت إلا في غرور ، فتندم ندماً لا يخطرُ على الصدور ، ولا يُكْتَبُ بالسطور ، لكنه ندمٌ لا ينفعُ في أي أمرٍ من الأمور .
لو تصورت النفخ في الصور والسماء تتغير وتمور ،والنجوم تنكدر وتغور والصراط ممدود ولا بد من عبور، وأنت متحير في الأمور،تبكي على خلاف المأمور ستحاسب على الأيام والشهور، وترى ما فعلته من فجور، في النهار والديجور ،ستحزن بعد السرور على تلك الشرور، إذا وفيت الأجور وبان المواصل من المهجور، ونجا المخلصون دون أهل الزور ، تصلي ولكن بلا حضور ،وتصوم والصوم بالغيبة مغمور، لو أردت الوالدان والحور، لسألتهم وقت السحور،كم يتلطف بك الله يا نقور ، كم ينعم عليك يا كفور ،كم بارزت بالقبيح الرحيم الغفور .
كم ليلة سهرتها في الذنوب،كم خطيئة أمليتها في المكتوب ،كم صلاة تركتها مهملاً للوجوب ،كم أسبلت ستراً على عتبة عيوب، يا أعمى القلب بين القلوب ،ستدري دمع من يجري ويذوب ،ستعرف خبرك عند الحساب والمحسوب، أين الفرار وفي كف الطالب المطلوب ،تنبه للخلاص أيها المسكين، أعتق نفسك من الرق يا رهين، اقلع أصل الهوى فعرق الهوى مكين ،احذر غرور الدنيا فما للدنيا يمين ،يا دائم المعاصي سجن الغفلة سجين، تثب على الخطايا ولا وثبة تنين، كأنك بالموت قد برز من كمين ،وآن الأمر فوقعت في الأنين، واستبنت أنك في أحوال عنين، كيف ترى حالك إذا عبثت
الشمال باليمين، ثم نقلت ولقبت بالميت الدفين ،وا أسفا لِعِظَمِ حَيْرَتِك ساعة التلقين ، يا مستورا على الذنوب غداً تنجلى وتبين، متى هذا القلب القاسي يرعوي ويلين، عجبا لقسوته وهو مخلوق من طين.(1/119)
ويح العصاة لقد عجلوا، لو تأملوا العواقب ما فعلوا ،أين ما شربوا أين ما أكلوا بماذا يجيبون إذا أحضروا وسئلوا (فَيُنَبّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوَاْ)
ما نفعتهم لذاتهم إذ خرجت ذواتهم لقد جمعت زلاتهم فحوتها مكتوباتهم فلما عاينوا أفعالهم خجلوا (فَيُنَبّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوَاْ)
(فَيُنَبّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوَاْ) ذهبت من أفواههم الحلاوة وبقيت آثار الشقاوة وحطوا إلى الحضيض من أعلى رباوة وحملوا عدلي الموت والفوت والحسرة علاوة فأعجزهم والله ما حملوا (فَيُنَبّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوَاْ)
اجتمعت كلمة إلى نظرة ،إلى خاطر قبيح وفكرة ،في كتاب يحصى حتى الذرة ،والعصاة عن المعاصي في سكرة ،فجنوا من جنى ما جنوا ثمار ما غرسوه (أَحْصَاهُ اللّهُ وَنَسُوهُ)
كم تنعم بمال المظلوم الظالم، وبات لا يبالي بالمظالم ،والمسلوب يبكي ويبكي الحمائم، وما كفاهم أخذ ماله حتى حبسوه (أَحْصَاهُ اللّهُ وَنَسُوهُ)
أين ما كانوا جمعوه ،كم ليموا وما سمعوه، كم قيل لهم لو قبلوه ،ذهب العرض غير أن العرض دنسوه (أَحْصَاهُ اللّهُ وَنَسُوهُ)
كم كاسب للمال من حرامه وحلاله ،كان يحاسب شريكه على عود خلاله ،ولا ينفق منه شيئا في تقويم خلاله ،فلما وقع صريعا بين أشباله، اشتغلوا عنه بانتهاب ماله ،ثم في اللحد نكسوه (أَحْصَاهُ اللّهُ وَنَسُوهُ) جعلنا الله وإياكم من الذين عرفوا الحق فاتبعوه وزجروا الهوى عنهم وردعوه إنه قريب مجيب
كم ناداك مولاك وما تسمع، وكم أعطاك ولكن ما تقنع ،لقد استقرضك مالك فمالك تجمع ،وضمن أن تنبت الحبة سبعمائة وما تزرع ،ليكن همك في طلب المال الإفضال ،به فإن الشريف الهمة لا يطلب الفضل إلا للفضل.(1/120)
يا من لا يتعظ بسلف آبائه ،يا من لا يعتبر بتلف أو دائه، يا أسير أغراضه وقتيل أهوائه ،يا من عجزت الأطباء عن إصلاح دائه ،يا مشغولا بذكر بقائه عن ذكر فنائه ،يا مغرورا قد حل الممات بفنائه ،يا معجبا بثوب صحته يمشي في خيلائه، يا معرضا عن نصيحه مشمتاً، لأعدائه يا من يلهو بأمله ويا من أجله من ورائه ، يجمع العيب إلى الشيب وهذا من أقبح رائه ،كم رأيت مستلباً من سرور ونعمائه، كم شاهدت مأخوذا عن أحبابه وأبنائه، بينا هو في غروره دب الموت في أعضائه، بينا جرع اللذة فيه شرق بمائه، بينا ناظر النظير يعجبه صار عبرة لنظرائه ،ماله ضيع ماله وبقي في بلائه .
يا من لا يترك ذنباً يقدر عليه ، يا من يسعى إلى ما يضره بقدميه ، كم ضيعت في المعاصي عصرا ،كم حملت على كاهلكَ وزراً ، أترضى أن تملأ الصحائف عيبا وخسرا ،أما يكفي سلب القرين وعظا وزجرا، لقد ضيعت شطرا من الزمان فاحفظ شطرا، ما أبقت لك الصحة حجة ولا تركت عذرا، كم نعمة نزلت بك وما قرنتها شكرا، تقابلها بالمعاصي فتبدل العرف نكرا، كم سترك على الخطايا وأنت لا تقلع دهرا، كان الشيب هلالا وقد صار بدرا،تعاهد ولا تفي إلى كم غدرا، أطال عليك الأمد فصار القلب صخرا ،إنما بقي القليل فصبرا يا نفس صبرا.
أين من يعمل لذلك اليوم ،أين المتيقظ من سِنَةِ النوم ،أين من يلحق بأولئك القوم ،جدوا في الصلاة وأخروا في الصوم ،وعادوا على النفوس بالتوبيخ واللوم ،ليتك إن لم تقدر على الإشمام لطريقتهم حصلت الروم.(1/121)
يا من ذنوبه كثيرةٌ لا تُعَد ،ووجه صحيفته بمخالفته قد اسود ، كم ندعوك إلى الوصال وتأبى إلا الصد ،أما الموت قد سعى نحوك وَجَد، أما عزم أن يلحقك بالأب والجَد، أما ترى منعما أترب الثرى منه الخد ،كم عاينت متجبرا كف الموت كفه الممتد، فاحذر أن يأتي على المعاصي فإنه إذا أتى أبى الرد، إلى كم ذا الصبا والمراح ،أأبقى الشيب موضعا للمزاح، لقد أغنى الصباح عن المصباح، وقام حرب المنون من غير سلاح ،اعوجت القناة بلا قنا ولا صفاح،فعاد ذو الشيبة بالضعف ثخين الجراح ،ونطقت ألسن الفناء بالوعظ الصراح ،واأسفا صمت المسامع والمواعظ فصاح ،لقد صاح لسان التحذير يا صاح يا صاح ،وأنى بالفهم لمخمورٍ غير صاح ،لقد أسكرك الهوى سكرا شديداً لا يُزاح ،وما تفيق حتى يقول الموت لا براح.
إلى كم يا ذا المشيب، أما الأمر منك قريب، كم تعب في وعظك خطيب، كم عالجك طبيب ،إنه لمرضٌ عجيب، إنه لداءٌ غريب ،عظمٌ واهن وقلبٌ صليب، يا هذا لا شيء أقل من الدنيا ولا أعز من نفسك وها أنت تنفق أنفاس النفس النفيسة على تحصيل الدنيا الخسيسة ،متى يقنعك الكفاف ،متى يردك العفاف، متى يقومك الثقاف، إنك لتأبى إلا الخلاف، مقاليدك ثقال وركعاتك خفاف، يا قبيح الخصال يا سيء الأوصاف ،يا مشترياً بسني الخصب السنين العجاف ،قف متدبراً لحالك فالمؤمن وقاف ،وتذكر وعيد العصاة ويحك أما تخاف.
يا مُطْلِقَاً نفسه فيما يشتهي ويريد ،اذكر عند خطواتك المبدئ المعيد، أما تعلم أنه بالمرصاد أما آن لك أن تحيد ،أما تذكرت قوله (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) .(1/122)
مَنْ للعاصي إذا دُعِيَ فحضر، ونشر كتابه ونظر، لم يُسْمَعْ عذره ،وقد اعتذر وناقشه المولى فما غفر آه لراحلٍ لم يتزود للسفر، ولخاسرٍ إذا ربح المتقون افتقر، ولمحرومِ جنةِ الفردوس حَلَّ في سقر ،ولفاجرٍ فضحه فجورِه فاشتهر، ولمتكبرٍ بالذلِ بين الكلِ قد ظهر، وإلى محمولٍ إلى جهنم فلا ملجأ له ولا وزر ،آه مِنْ يومٍ تُكَوَّرُ فيه الشمسُ والقمر ،يا كثيرَ الرياء قل إلى متى تُخْلِص، يا ناسيَ الأنكال متى على الخير تحرص ، يا أسير الهوى أما علمت أن الهوى ظل والظل متقلص .
يا بعيدا عن الصالحين ،يا مطرودا عن المفلحين لقد نصب الشيطان الأشراك وجعل حب الفخ هواك، احذر فخه فهو بعيد الفكاك، كم يوم غابت شمسه وقلبك غائب، وكم ظلامٍ أسبل سِتْرَهُ وأنت في عجائب، كم ليلةٍ بالخطايا قطعتها ،وكم من أعمالٍ قبيحة رفعتها، وكم من ذنوبٍ جمعتها ،والصحف أودعتها ،كم نظرة ما تحل ما خفت ولا منعتها، كم من موعظة تعيها وكأنك ما سمعتها، وكم من ذنوب تعيب غيرك بها أنت صنعتها، وكم أمَرَتْك النفس بما يؤذي فأطعتها ،يا موافقا لنفسه آذيتها، وإن خالفتها نفعتها .
يا دائم الخسران فما يربح ، يا مقيما على المعاصي ما يبرح ، متى رأيت من فعل فعلك أفلح ، تقبل من العدو ولا تقبل ممن ينصح ،قم على قدم الطلب فاقرع الباب بالأدب يُفْتَح .
إخواني سلوا القبور عن سكانها ،واستخبروا اللحود عن قطانها، تخبركم بخشونة المضاجع،وَتُعْلِمُكُم أن الحسرة قد ملأت واضع ،فإن المسافر يود لو أنه راجع فليتعظ الغافل وليراجع .
أخي الحبيب:
أما آن لك أن تتفكر في الموت وسكرته، وصعوبة كأسه ومرارته، فيا للموت من وعد ما أصدقه، ومن حاكم ما أعدله.
كفى بالموت مقرحاً للقلوب، ومبكياً للعيون، ومفرقاً للجماعات، وهاذماً للذات، وقاطعاً للأمنيات.(1/123)
فيا جامع المال! والمجتهد في البنيان! ليس لك والله من مالك إلا الأكفان، بل هي والله للخراب والذهاب، وجسمك للتراب والمآب، فأين الذي جمعته من المال؟ هل أنقذك من الأهوال؟ كلا.. بل تركته إلى من لا يحمدك، وقدمت بأوزارك على من لا يعذرك.
ولقد أحسن من قال في تفسير قوله تعالى: وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا [القصص:77]، هو الكفن، فهو وعظ متصل بما تقدم من قوله: وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ [القصص:77]، أي اطلب فيما أعطاك الله من الدنيا الدار الآخرة وهي الجنة، فإن حق المؤمن أن يصرف الدنيا فيما ينفعه في الآخرة، لا في الطين والماء، والتجبر والبغي، فكأنهم قالوا: لا تنس أن تترك جميع مالك إلا نصيبك الذي هو الكفن.
ولله درُ من قال :
هي القناعة لا تبغ بها بدلاً ... فيها النعيم وفيها راحة البدن
انظر لمن ملك الدنيا بأجمعها ... راح منها هل بغير القطن والكفن؟!
أخي الحبيب:
أين استعدادك للموت وسكرته؟
أين استعدادك للقبر وضمته؟
أين استعدادك للمنكر والنكير؟
أين استعدادك للقاء العلي القدير؟
[*] قال سعيد بن جبير: الغرة بالله أن يتمادى الرجل بالمعصية، ويتمنى على الله المغفرة.
تزود من التقوى فإنك لا تدري ... إذا جَنَّ ليل هل تعيش إلى الفجر
فكم من صحيح مات من غير علة ... وكم من سقيم عاش حينا من الدهر
وكم من صبي يرتجى طول عمره ... وقد نسجت أكفانه وهو لا يدري
أخي الحبيب:
حاسب نفسك في خلوتك، وتفكر في سرعة انقراض مدتك، واعمل بجد واجتهاد في زمان فراغك لوقت حاجتك وشدتك، وتدبر قبل الفعل ما يملى في صحيفتك، فأين الذي جمعته من الأموال؟ أأنقذك من البلى والأهوال؟ كلا بل تتركه إلى من لا يحمدك، وتقدم بأوزار على من لا يعذرك ، وكن لتلك اللحظات على استعداد، وتزود بالتقوى ليوم المعاد، واعلم أنك تموت على ما حييت عليه، وأنك تبعث على ما مت عليه. فكيف نستعد للموت؟!
مسألة : كيف نستعد للموت ؟(1/124)
فصل الخطاب في هذه المسألة أنه يُستعدُ للموت بالآتي :
(1) اجتناب المنهيات:
(2) أداء الفرائض والواجبات:
(3) كثرة ذكرالموت:
(4) محاسبة النفس :
(5) الإكثار من الطاعات والقربات:
وهاك تفصيل ذلك في إيجازٍ غيرِ مُخِّل :
(1) اجتناب المنهيات:
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
فاجتنب أخي الكريم ما نهاك الله عنه، وجاهد نفسك بالابتعاد عن الشهوات والشبهات واعلم أن الله جل وعلا يغار على محارمه.
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :إن الله يغار، وغيرة الله أن يأتي المؤمن ما حرم الله .
[*] قال الإمام النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم :
والغيرة بفتح الغين وهي في حقنا الأنفة، وأما في حق الله تعالى فقد فسرها هنا في حديث عمر والناقد بقوله صلى الله عليه وسلم: وغيرة الله أن يأتي المؤمن ما حرم عليه أي غيرته منعه وتحريمه .
وقد أوعد الله جل وعلا من تعدى حدوده وانتهك حرماته بالفتنة والعذاب. فقال تعالى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63]
{ تنبيه } : الإنسان بطبعه ضعيف الإرادة وقد تغلبه نفسه ويضعف أمام الشهوات والمغريات ويميل إلى المعصية إلا من اعتصم بالله تعالى وسأله بصدقٍ أن يعصمه فإن من صَدَقَ الله صَدَقَهُ الله تعالى وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد ، ودرر الفرائد .
(حديث شداد بن أوس في صحيح النسائي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن تصدق الله يصدقك .(1/125)
فإذا رأيت من نفسك شيئاً من هذا الضعف ورأيت منها ميلاً إلى المعصية فتذكر قبل ارتكاب المعصية أن الله يراك ومُطلع عليك فهو العليم الخبير وهو السميع البصير قال تعالى: يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ [البقرة:77] ويسمع كلامك ويرى مكانك ويعلم سرك ونجواك، فهو سبحانه معك بعلمه واطلاعه فاحذر كل الحذر أن تجعل الله أهون الناظرين إليك .
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل *** خلوت ولكن قل عليّ رقيب
ولا تحسبن الله يغفل ساعةً *** ولا أن ما تُخفي عليه يغيب
واحذر أيضاً أن تكون ممن يراقبون العباد وينسون رب العباد، يخشون الناس وينسون رب الناس قال تعالى: يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ [النساء:108] يستعظمون نظر المخلوق على هوانه ويستخفون ينظر الخالق مع علو شأنه.
فيا من تعصي الله، أي أرض تقلك وأي سماء تظلك إلا أرض الله وسماؤه، وأي مكان يحميك من أن يراك الله ويطلع عليك وينظر إليك فهو تعالى يراك، فاجعل له في قلبك وقاراً، وإذا حدثتك نفسك بالمعصية أياً كانت هذه المعصية فقل لها: أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى [العلق:14]
أخي الحبيب: قبل أن تعصي الله تذكر من أنت؟! من أنت أيها المسكين حتى تعصي إله الأولين والآخرين ورب العالمين؟! من أنت أيها الضعيف الذي لا تملك لنفسك نفعاً ولا ضراً ولا حولاً ولا طولاً حتى تعصي القوي العزيز الذي خضع له كل شيء، وملأت كل شيء عظمته، وقهر كل شيء ملكه، وأحاطت بكل شيء قدرته، تذكر من أنت ومن هو العظيم الذي تعصيه وأنت فقير محتاج إليه؟! وبقدر ما يعظم قدر الله في قلبك يعظم مكانك عنده قال تعالى: وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ [الحج:30](1/126)
أخي الحبيب : قبل أن تعصي الله تذكر نعمه الكثيرة عليك: يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ [الانفطار:6-8]خلقك الله من عدم، وشفاك من سقم، وأسبغ عليك وافر النعم، أطعمك من جوع وكساك من عُري، وأرواك من ظمأ قال تعالى: وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [ إبراهيم:34 ] فكيف يا عبد الله تبدل نعمة الله كفراً؟! وفضله وجوده عليك جحوداً ونكراً؟! كيف تقابل الإحسان بالنكران؟! والعطايا بالخطايا؟! ، أم كيف تبدل الشكر الجزيل والعرفان بالجميل بالفعل الوبيل ، كيف تعصي الله وأنت تتقلب في نعمه؟ وهل تعصيه إلا بنعمه فبأي وجه تلقى الله وقد أعطاك ومنحك وأكرمك ووهبك هذه النعم ثم تأتي وتعصيه بها؟! أما تخاف من عقابه؟ وتجزع من عذابه؟ وهو القادر على أن يسلبها منك كيفما شاء ومتى شاء، فكم من نعمة أسبغها الله على صاحبها فبدلها كفراً وأعقبها نكراً فكانت نهاية صاحبها خسراً، ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ [سبأ:17]
أخي الحبيب: يا من تعصي الله تذكر أنك تعصي الله في ملكه وفوق أرضه وتحت سمائه، فهل ترضى أنت أن تُعصى في بيتك وملكك وسلطانك؟! أما تخاف أن يطردك الله من رحمته ويحرمك من مغفرته بعد أن بارزته في مُلكه بمخالفته أوامره وارتكاب محارمه؟ أما تخاف أن يكون الرب المنتقم قد غضب عليك عندما تطاولت على حدوده وقدمت مرادك على مراده وقال: إذهب فبعزتي وجلالي لا أغفر لك أبداً. تأكل وتشرب وتضحك وتفرح وتمرح والله من فوق سماواته وعرشه غاضب منك ساخط عليك؛ فويل لمن كان له الويل وهو لايشعر!!(1/127)
أخي الحبيب : تذكر أن الله شديد العقاب، وأنه عزيز ذو انتقام، ولا يُرد بأسه عن القوم المجرمين، وأنه يغار إذا انتهكت محارمه، وما أهلك الأمم السابقة إلا أنهم تعدوا حدود الله وانتهكوا حرماته وبارزوه بالمعاصي، وما من مصيبة تُلم بالعبد ولا عقوبة تقع عليه إلا بسبب بعض ذنوبه ومعاصيه ولو يؤاخذ الله العبد بكل سيئاته قال تعالى: (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللّهُ النّاسَ بِظُلْمِهِمْ مّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبّةٍ وَلَكِن يُؤَخّرُهُمْ إلَىَ أَجَلٍ مّسَمّىَ) [النحل:61] ولكنه سبحانه أهل التقوى وأهل المغفرة.. وما أكثر أولئك الذين اعتمدوا على رحمة الله تعالى وعفوه وكرمه وجوده فضيعوا أوامره وارتكبوا نواهيه، ونسوا أنه أيضاً شديد العقاب، ومن اعتمد على العفو مع الإصرار على الذنب فهو كالمعاند، لأن حسن الظن بالله ورجاء العفو والمغفرة تنفع من تاب وندم وأقلع عن الذنب وبدل السيئة بالحسنة، أما من يرجو رحمة الله وهو لا يطيعه ولا يمتثل أمره فهذا من الخذلان والحمق ، فمن زرع الشوك لا يجني عنباً .
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها *** إن السفينة لا تجري على اليبس
وإن من أعظم الاغترار طلب دار المتقين المطيعين بالمعاصي، وانتظار الجزاء بغير عمل، ويستحيل في حق الله العادل أن يساوي بين البَر والفاجر وبين المُحسن والمسيء قال تعالى: أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ [الجاثية:21] وقال تعالى: أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ [ص:28](1/128)
أخي الحبيب: تذكر يوم تشهد عليك الشهود وتفضحك فيه الجوارح والجلود! فأين يكون مهربك وإلى أين يكون الملجأ؟ والشهود منك والشهادة عليك، فتأمل يا مسكين!! تعصي الله بها ومن أجلها وتذود عنها، ثم تأتي يوم القيامة تشهد عليك! وتذكر أيضاً المكان الذي عصيت الله فيه يأتي يوم القيامة شاهداً عليك، وتذكر أن الزمان شاهدٌ عليك! وتذكر أن الله أرصد لك وبك ملائكة كراماً يرونك من حيث لا تراهم ويعملون ما تقول وما تفعل، يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [الانفطار:12] ويوم القيامة يشهدون عليك، فأين المهرب من كل هؤلاء الشهود؟!
أخي الحبيب: تذكر الإحصاء والكتابة عندما يذوب قلبك كمداً وحزناً وينحرق أسفاً ولوعة عندما تُنشر صُحفك المطوية بأعمالك المخزية، أنت نسيتها ولكن الديان لا ينسى قال تعالى: أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ [المجادلة:6]
لم ينسه الملكان حين نسيته *** بل سجلاه وأنت لاه تلعب
سترى هذه الأعمال حين تأتي ساعة الندم، حينما تذهب اللذات وتبقى الحسرات! حينما تذهب الشهوات وتبقى التبعات!
فتذكر كتاباً يبسط ويُنشر بين يديك وكل ما فيه لك أو عليك وتذكر أن كل لفظ تقوله وكل فعل تفعله وكل حركة تُصدرها مسجلة عليك وستراها يوم القيامة أمام ناظريك، فاعمل وقل ما يسرك أن تراه يوم أن تلقى الله يوم القيامة.(1/129)
أخي الحبيب: تذكر الاستدراج من الله وأنه سبحانه يمهل ولا يهمل، فاحذر أن تكون من أولئك الذين أمدهم الله بالصحة والنعم وهم مقيمون على المعاصي والزلل ويحسبون أن لهم كرامة ومنزلة عنده وهم سقطوا من عينه وهانوا عليه، قال تعالى: أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَّا يَشْعُرُونَ [المؤمنون:56،55] فلا يغررك من الله طول حلمه عليك وستره إياك، فربما كان إمهاله لك مكراً بك واستدراجاً لك حتى تزداد بالإمهال إثماً فيزداد عذابك، واحذر أن يكون الله قد مكر بك في إحسانه لك فتناسيت، وأمهلك في غيّك فتماديت، وسقطت من عينه فما دريت ولا باليت.
تذكر الموت وسكرته، والقبر وظلمته، والميزان ودقته، والصراط وزلته، والحشر وأهواله، تذكر يوم القيامة يوم الحسرة والندامة الذي تكون دعوى الأنبياء وهو الأنبياء في ذلك اليوم ( نفسي نفسي لا أسألك إلا نفسي، اللهم سلم سلم )، فأي حال يكون حالك أنت؟ وأي مقال يكون مقالك في تلك اللحظات الرهيبة التي تأتي فيها وتحمل وزرك الذي بارزت الله به ليلاً ونهاراً، سراً وجهراً، إنه موقف الذل والخزي، فبأي وجه تلقى الله وأنت قد خالفت أوامره وانتهكت حدوده، فهل أعددت الحجة وجهزت الجواب للسؤال.(1/130)
أخي الحبيب: يا من تعصي الله، إن الله خلقك لغاية عظيمة ومهمة جسيمة، ولم يخلقك عبثاً، ولن يتركك سدى، قال تعالى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ [المؤمنون:115] وقال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56] وقد منحك الله الوقت، وأمهلك حتى تتزود فيه من الطاعات، فإذا بك ويا للأسف تنقلب على وجهك وتنكص على عقبيك فتبارزه بالذنوب والمعاصي وكلما طالت أيامك زادت آثامك وعظمت ذنوبك والديان لا ينسى، فاحذر أخي من أن تستمر في غيّك ولهوك وإعراضك إلى أن ينقضي زمن المهلة ويأتي زمن النقلة ولا تصحو إلا على صائح الموت يحدو، وهناك في موضع الندم ومكان الحسرة والألم عندما يهجم عليك الموت فينكشف عنك الغطاء وتقبل على الآخرة بما فيها من الأهوال العظيمة وتسكب العبرات ترجو الرجوع ولا رجوع، قال تعالى حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ [المؤمنون:99] فيا قبح الحال ويا بئس المآل.
أخي الحبيب: تذكر أنك عندما عصيت الله كأنك قد انهزمت في المعركة وخسرت الجولة مع أعدى أعاديك، ذلك العدو الذي لا يألوا جهداً في أن يرديك في الهاوية، قال تعالى: قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [ص:83،82]، فهل تريد أنت أن تكون من عباد الرحمن المخلصين فتنعم ببرد الطاعة ورضا الرب وتقاد إلى دار الجنان والسعادة والأمان؟ أم ترغب في أن تكون من أتباع الشيطان فتعيش في ظلمة المعصية وتُساق إلى دار العذاب والهوان والنيران؟
أخي الحبيب: إن طريق الجنة محفوف بالمكاره، وهو عقبة كؤود ومرتقى صعب لا يتجاوزه إلا كل مخف من الذنوب والسيئات، فهل تريد الجنة وما فيها من النعيم وأنت على المعاصي مقيم؟ وهل تريد سعادة الدنيا والآخرة وأنت متنقل من معصية إلى معصية؟(1/131)
تصل الذنوب إلى الذنوب وترجي *** درج الجنان بها وفوز العابد
ونسيت أن الله أخرج آدم *** منها إلى الدنيا بذنب واحد
أخي الحبيب: قد آن لك الآن أن تقلع وتتوب من كل الذنوب وترجع إلى علاّم الغيوب وأن تلتزم بالطاعة التي يُعزك الله بها والتي فيها سعادتك في الدنيا والآخرة أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ [الحديد:16]
أقسام المنهيات :
واعلم حفظك الله، أن جملة ما نهى الله جل وعلا عنه يتلخص في ثلاثة أمور:
أولاً: الشرك.
ثانياً: الظلم.
ثالثاً: الفواحش.
قال تعالى في وصف المؤمنين: وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ [الفرقان:68]
فعامة مع نهى الله جل وعلا ينضوي تحت هذه الثلاثة. فمن وفق لاجتنابها فقد استعد للموت حق الاستعداد، وكان اجتنابه نجاة له يوم المعاد.
وهاك تفصيل ذلك :
أولاً: الشرك.
فقد حرم الله جل وعلا عنه الشرك وجعله موجباً للخلود في النار فقال: إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء [النساء:48]
ولذا يجب على كل مسلم أن يحذر من الشرك للأسباب الآتية :
1) لأن الشركَ هو الذنبُ الذي لا يُغْفرُ إذا لم يتبْ الإنسانُ منه ، قال الله تعالى: (إِنّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَىَ إِثْماً عَظِيماً) [سورة: النساء ( النساء / 48 )
ويترتبُ على ذلك : الحرمانُ من الجنةِ والخلودُ في النارِ وإحباطُ العمل . قال الله تعالى )إِنّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنّةَ وَمَأْوَاهُ النّارُ وَمَا لِلظّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ) ( المائدة / 72 )(1/132)
وقال تعالى (وَلَقَدْ أُوْحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)( الزمر / 65 )
لأن سيدنا إبراهيم عليه السلام كان يخافُ من الشرك :
2) فقد دعا الله سبحانه أن يُجنبه وبنيه عبادة الأصنام ، قال تعالى: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبّ اجْعَلْ هََذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيّ أَن نّعْبُدَ الأصْنَامَ)
( إبراهيم / 35 )
الشاهد : إذا كان إبراهيمُ عليه السلام الذي هو خليلُ الرحمن وإمامُ الحنفاء ، والذي جعله الله أمة والذي ابتلاه بكلماتٍ فأتمهن ، وأمره بذبحِ ابنه وفلذةِ كبده طاعةً لله وامتثالاً لأمره ، والذي كسَّرَ الأصنام واشتد نكيرُه على أهلِ الشرك ،يخافُ من الشرك ، فمن بابِ أولى أن نخافَ على أنفسنا من الشرك .
3) أن الشركَ في أمتنا أخفى من دبيبِ النمل على الصفا ِ :
(حديثُ ابن عباس في صحيحِ الجامع )أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :الشركُ في أمتي أخفى من دبيبِ النملِ على الصفا .
(4) الخوف من الشرك الأصغر الذي يحبط العمل والعياذ بالله :
(حديث أبي سعيد في صحيح ابن ماجة) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال ؟ " . قالوا : بلي . قال : " الشرك الخفي ، يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته ، لما يري من نظر رجل .
( حديث محمود بن لبيد رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر الرياء يقول الله يوم القيامة إذا جزي الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاء .
ثانياً: الظلم.
يجب على كل مسلم أن يجتنب ظلم العباد فإنه بئس الزاد ليوم الميعاد ، فالظلم ظلماتٌ يوم القيامة، ودعوة المظلوم مستجابة ليس بينها وبين الله حجاب .(1/133)
قال تعالى: (مَا لِلظّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ) [غافر : 18]
[*] قال الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسيره :
وقوله: { مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ } أي: ليس للذين ظلموا أنفسهم بالشرك بالله من قريب منهم ينفعهم، ولا شفيع يشفع فيهم، بل قد تقطعت بهم الأسباب من كل خير.
و قال تعالى: (وَمَا لِلظّالِمِينَ مِن نّصِيرٍ) [سورة: الحج - الآية: 71]
[*] قال الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسيره :
{ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ } أي: من ناصر ينصرهم من الله، فيما يحل بهم من العذاب والنكال.
وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد ، ودرر الفرائد .
( حديث ا بن عباس في الصحيحين ) قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمعاذٍ ابن جبل حين بعثه إلى اليمن : إنك ستأتي قوماً أهل كتاب ، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمسَ صلواتٍ في كل يومٍ وليلة ، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقةً تؤخذ من أغنيائهم فتُردُ على فقرائهم ، فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائمَ أموالهم ، واتقِ دعوةَ المظلومِ فإنه ليس بينه وبين الله حجاب .
الشاهد : قوله - صلى الله عليه وسلم - [ واتقِ دعوةَ المظلومِ فإنه ليس بينه وبين الله حجاب ]
(حديث خزيمة بن ثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : اتقوا دعوة المظلوم فإنها تُحْمَلُ على الغمام يقول الله : و عزتي و جلالي لأنصرنك و لو بعد حين .(1/134)
( اتقوا دعوة المظلوم ) أي اجتنبوا دعوة من تظلمونه وذلك مستلزم لتجنب جميع أنواع الظلم على أبلغ وجه وأوجز إشارة وأفصح عبارة لأنه إذا اتقى دعاء المظلوم فهو أبلغ من قوله لا تظلم وهذا نوع شريف من أنواع البديع يسمى تعليقاً ثم بين وجه النهي بقوله .
( فإنها تُحمل على الغمام ) أي يأمر الله برفعها حتى تجاوز الغمام أي السحاب الأبيض حتى تصل إلى حضرته تقدس
( يقول الله وعزتي وجلالي لأنصرنك ) بلام القسم ونون التوكيد الثقيلة وفتح الكاف أي لأستخلصن لك الحق ممن ظلمك
( ولو بعد حين ) أي أمد طويل بل دل به سبحانه على أنه يمهل الظالم ولا يهمله
(حديث ابن عمر في صحيح الجامع) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال اتقوا دعوة المظلوم فإنها تصعد إلى السماء كأنها شرارة .
( اتقوا دعوة المظلوم فإنها تصعد إلى السماء كأنها شرارة ) كناية عن سرعة الوصول لأنه مضطر في دعائه وقد قال سبحانه وتعالى { أمّن يجيب المضطر إذا دعاه } وكلما قوي الظلم قوي تأثيره في النفس فاشتدت ضراعة المظلوم فقويت استجابته والشرر ما تطاير من النار في الهواء شبه سرعة صعودها بسرعة طيران الشرر من النار .
(حديث أبي هريرة في صحيح الجامع) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : دعوة المظلوم مستجابة و إن كان فاجرا ففجوره على نفسه .
( دعوة المظلوم مستجابة ) أي يستجيبها اللّه تعالى يعني فاجتنبوا جميع أنواع الظلم لئلا يدعو عليكم المظلوم فيجاب
( وإن كان فاجراً ففجوره على نفسه ) ولا يقدح ذلك في استجابة دعائه لأنه مضطر ونشأ من اضطراره صحة التجائه إلى ربه وقطعه قلبه عما سواه وللإخلاص عند اللّه موقع وقد ضمن إجابة المضطر بقوله تعالى : (أَمّن يُجِيبُ الْمُضْطَرّ إِذَا دَعَاهُ ) [ النمل : 62].
(حديث أنس في صحيح الجامع) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : بابان معجلان عقوبتهما في الدنيا : البغي و العقوق .(1/135)
( بابان معجلان عقوبتهما في الدنيا ) أي قبل موت فاعليها
( البغي ) أي مجاوزة الحد والظلم
(حديث ابن عمر في الصحيحين) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : الظلم ظلماتٌ يوم القيامة .
(حديث أبي ذرٍ في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : قال الله تعالى : يا عبادي لِلَّهِ إني حرمت الظلم على نفسي و جعلته بينكم محرما فلا تظالموا يا عبادي لِلَّهِ كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم ، يا عبادي لِلَّهِ كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم ، يا عبادي لِلَّهِ كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم ، يا عبادي لِلَّهِ إنكم تخطئون بالليل و النهار و أنا أغفر الذنوب جميعا فاستغفروني أغفر لكم ، يا عبادي لِلَّهِ إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني و لن تبلغوا نفعي فتنفعوني ، يا عبادي لِلَّهِ لو أن أولكم و آخركم و إنسكم و جنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا ، يا عبادي لِلَّهِ لو أن أولكم و آخركم و إنسكم و جنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا ، يا عبادي لِلَّهِ لو أن أولكم و آخركم و إنسكم و جنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر ، يا عبادي لِلَّهِ إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله و من وجد غير ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسه .
الشاهد : قوله - صلى الله عليه وسلم - :[ قال الله تعالى : يا عبادي لِلَّهِ إني حرمت الظلم على نفسي و جعلته بينكم محرما فلا تظالموا ]
( قال اللّه تعالى يا عبادي إني حرّمت ) أي منعت
( الظلم على نفسي ) أي تقدست وتعاليت عنه لأنه مجاوزة والتصرف في ملك الغير وكلاهما في حقي كالمحرم فهو استعارة مصرحة تبعية شبه تنزهه عنه بتحرز المكلف عما نهى عنه
( وجعلته محرماً بينكم ) أي حكمت بتحريمه عليكم(1/136)
( فلا تظالموا ) أي لا تتظالموا أي لا يظلم بعضكم بعضاً
(حديث جابر في صحيح مسلم) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة و اتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم و حملهم على أن سفكوا دماءهم و استحلوا محارمهم .
الشاهد : قوله - صلى الله عليه وسلم - :[ اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة]
( اتقوا الظلم ) بأخذ مال الغير بغير حق أو التناول من عرضه ونحو ذلك قال بعضهم : ليس شيء أقرب إلى تغيير النعم من الإقامة على الظلم
( فإن الظلم ظلمات يوم القيامة ) فلا يهتدي الظالم يوم القيامة بسبب ظلمه في الدنيا فربما أوقع قدمه في وهدة فهو في حفرة من حفر النار وإنما ينشأ الظلم من ظلمة القلب لأنه لو استنار بنور الهدى تجنب سبل الردى فإذا سعى المتقون بنورهم الحاصل بسبب التقوى احتوشت ظلمات ظلم الظالم فغمرته فأعمته حتى لا يغني عنه ظلمه شيئاً .
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أتدرون من المفلس ؟ قالوا : المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع . فقال : إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاةٍ و صيام و زكاة و يأتي وقد شتم هذا و قذف هذا و أكل مال هذا و سفك دم هذا و ضرب هذا فيُعطِى هذا من حسناته و هذا من حسناته فإن فنيت حسناتُه قبل أن يُقضَى ما عليه أُخذ من خطاياهم فطُرحت عليه ثم طُرح في النار .
(حديث ابن عمر في صحيح البخاري) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من أخذ من الأرض شيئا بغير حقه خُسِفَ به يوم القيامة إلى سبع أرضين .
( من أخذ من الأرض شيئاً بغير حقه خسف به ) أي هوى به إلى أسفلها ، أي بالأخذ غصباً لتلك الأرض المغصوبة
(حديث أبي موسى في الصحيحين) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن الله تعالى لَيملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته .(1/137)
( إن اللّه تعالى لَيملي ) بفتح اللام الأولى أي ليمهل والإملاء الإمهال والتأخير وإطالة العمر ( للظالم ) زيادة في استدراجه ليطول عمره ويكثر ظلمه فيزداد عقابه { إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً } فإمهاله عين عقابه
( حتى إذا أخذه ) أي أنزل به نقمته
( لم يُفلته ) أي لم يفلت منه .
( والعقوق ) للوالدين وإن عليا أو أحدهما أي إيذاؤهما ومخالفتهما فيما لا يخالف الشرع .
{ تنبيه } : وينبغي على المسلم إن زلت قدمه ووقع في ظلم أن يرد المظالم إلى أهلها وأن يتحلل منه اليوم قبل ألا يكون دينارٌ ولا درهم .
(حديث أبي هريرة في صحيح البخاري) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من كانت له مظلمة لأحد من عرضه أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه
{ تنبيه } : ويجب عليه أيضاً إن وجد أخاً له وقع في الظلم فإن يجب عليه أن يحجزه ويمنعه من الظلم .
(حديث أنس في الصحيحين) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : انصر أخاك ظالما أو مظلوما ، فقال رجل يا رسول الله : أنصره إن كان مظلوماً أرأيت إن كان ظالما كيف أنصره؟ قال : تحجزه أو تمنعه عن الظلم فإن ذلك نصره .
الشاهد : قوله - صلى الله عليه وسلم - [تحجزه أو تمنعه عن الظلم فإن ذلك نصره ]
( تحجزه عن الظلم ) أي تمنعه منه وتحول بينه وبينه
( فإن ذلك نصرة ) له أي منعك إياه من الظلم نصرك إياه على شيطانه الذي يغويه وعلى نفسه الأمارة بالسوء .
(حديث أبي بكر الصديق في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه .
(حديث أبي سفيان في صحيح الجامع) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن الله لا يقدس أمة لا يأخذ الضعيف حقه من القوي و هو غير متعتع .
ثالثاً: الفواحش.(1/138)
وحرّم الله الفواحش فقال: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ [النجم:32].
[*] قال الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسيره :
فسر المحسنين بأنهم الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش، أي: لا يتعاطون المحرمات والكبائر، وإن وقع منهم بعض الصغائر فإنه يغفر لهم ويستر عليهم، كما قال في الآية الأخرى: { إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلا كَرِيمًا } [النساء: 31]. وقال هاهنا: { الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلا اللَّمَمَ } . وهذا استثناء منقطع؛ لأن اللمم من صغائر الذنوب ومحقرات الأعمال.أهـ
أخي الكريم.. أختي الكريمة.. اعلموا أن اللذة المحرمة ممزوجةٌ بالقبح حال تناولها، مثمرةٌ للألم بعد انقضائها.. وأن للحسنة ضياء في الوجه، ونوراً في القلب، وسعة في الرزق، وقوة في البدن، ومحبة في قلوب الخلق..
إذا علم هذا، فليعلم أن للسيئة سواداً في الوجه، وظلمة في القلب والقبر، ووهناً في البدن، ونقصاً في الرزق، وبغضاً في قلوب الخلق، فاحذر أيها العاصي.. أن تلعنك قلوب المؤمنين..
ولله درًّ من قال :
يا من غدا في الغيِّ والتيه ... وغرَّه طولُ تماديهِ
أملى لك الله فبارزته ... ولم تخف غبَّ معاصيهِ
فهذه الثلاثة هي أصول المنهيات كلها، فمن حقق اجتنابها فقد اجتنب عامة ما نهى الله عنه. من الغيبة والنميمة والكذب وعقوق الوالدين وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، والغش والخداع والمكر والغدر والخيانة وأكل أموال الناس بالباطل وغير ذلك مما يعد إنتهاكاً لحرمات الله وحدوده.
(2) أداء الفرائض والواجبات:
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ(1/139)
ولا تتجلى حقيقة إسلام العبد إلا بأداء ما افترضه الله عليه، ومن ذلك الصلاة والزكاة والصيام والحج لمن استطاع إليه سبيلاً، فهذه هي ثوابت الإسلام وأركانه. وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد ، ودرر الفرائد .
( حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والحج وصوم رمضان )
فمن حافظ على هذه الفرائض وأداها على الوجه الذي يليق كما بين رسول الله فقد جمع خصال الخير والفضل، وكان له ذلك أكبر عون على سكرات الموت ووحشة القبر وأثابه الله على ذلك أجراً عظيماً.
وتأمل في الحديثين الآتيين بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيهما واجعل لهما من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيهما من غرر الفوائد ، ودرر الفرائد .
(حديث عمرو بن مرة الجهني رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب ) قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أرأيت إن شهدت أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله وصليت الصلوات الخمس وأديت الزكاة وصمت رمضان وقمته فممن أنا ؟ قال : من الصديقين والشهداء .
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن أعرابيا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: دلني على عمل، إذا عملته دخلت الجنة. قال: (تعبد الله ولا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان). قال: والذي نفسي بيده، لا أزيد على هذا. فلما ولي، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة، فلينظر إلى هذ ا .
(3) كثرة ذكرالموت:
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ(1/140)
أخي الكريم: ومما يعلي الهمة، ويدفع النفس إلى الاستعداد للموت، ودوام ذكره ومذاكرته، وتوقع حصوله في كل لحظة وحين :
قال سفيان: من أكثر من ذكر القبر وجده روضة من رياض الجنة، ومن غفل عن ذكره وجده حفرة من حفر النار.
وقال حاتم الأصم: ( من مرّ بالمقابر فلم يتفكر لنفسه ولم يدع لهم فقد خان نفسه وخانهم ). ولذلك فقد رغب رسول الله في زيارة القبور لما لها من أثر بليغ على النفوس. فعن علي عن لنبي قال: { كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكركم الآخرة } .
وروي عن داود الطائي أنه مرّ على إمرأة تبكي على قبر وهي تقول:
عدمت الحياة ولا نلتها *** إذا كنت في القبر قد لحدوكا
فكيف أذوق طعم الكرى *** وأنت بيمناك قد وسدوكا
ثم قالت: يا ابناه ليت شعري بأي خديك بدأ الدود؟ فصعق داود مكانه وخرّ مغشياً عليه.
أمرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - بالاكثار من ذكر الموت كما في الأحاديث الآتية :
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أكثروا ذكر هاذم اللذات يعني الموت.
[*] قال العلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:(1/141)
قَوْلُهُ: ( أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ ) بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ: أَيْ قَاطِعَهَا .، قَالَ مَيْرَكُ صَحَّحَ الطِّيبِيُّ بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ حَيْثُ قَالَ شَبَّهَ اللَّذَّاتِ الْفَانِيَةَ وَالشَّهَوَاتِ الْعَاجِلَةَ ثُمَّ زَوَالَهَا بِبِنَاءٍ مُرْتَفِعٍ يَنْهَدِمُ بِصَدَمَاتٍ هَائِلَةٍ, ثُمَّ أَمَرَ الْمُنْهَمِكَ فِيهَا بِذِكْرِ الْهَادِمِ لِئَلَّا يَسْتَمِرَّ عَلَى الرُّكُونِ إِلَيْهَا, يَشْتَغِلَ عَمَّا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنَ الْفِرَارِ إِلَى دَارِ الْقَرَارِ انْتَهَى كَلَامُهُ، لَكِنْ قَالَ الْإِسْنَوِيُّ فِي الْمُهِمَّاتِ: الْهَاذِمُ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ هُوَ الْقَاطِعُ كَمَا قَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا .أهـ
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أكثروا ذكر هاذم اللذات: الموت فإنه لم يذكره أحد في ضيق من العيش إلا وسعه عليه و لا ذكره في سعة إلا ضيقها عليه .
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
( أكثروا ذكر هاذم ) بذال معجمة قاطع وبمهملة مزيل وليس مراداً هنا كذا في روض السهيلي قال ابن حجر وفي ذا النفي نظر
( اللذات ) الموت(1/142)
( فإنه لم يذكره أحد في ضيق من العيش إلا وسعه عليه ولا ذكره في سعة إلا ضيقها عليه ) قال العسكري لو فكر البلغاء في قول المصطفى صلى اللّه عليه وسلم ذلك لعلموا أنه أتى بهذا القليل على كل ما قيل في ذكر الموت ووصف به نظماً ونثراً ولهذا كان عيسى عليه السلام إذا ذكر عنده الموت يقطر جلده دماً قيل ولا يدخل ذكر الموت بيتاً إلا رضي أهله بما قسم لهم وقال أبو نواس . ألا يا ابن الذين فنوا وماتوا * أما واللّه ما ماتوا لتبقى وقال أبو حمزة الخراساني : من أكثر ذكر الموت حبب إليه كل باق وبغض إليه كل فان . وقال القرطبي : ذكر الموت يورث استشعار الانزعاج عن هذه الدار الفانية والتوجه في كل لحظة إلى الآخرة الباقية ثم إن الإنسان لا ينفك عن حالين ضيق وسعة ونعمة ومحنة فإن كان في حال ضيق ومحنة فذكر الموت يسهل عليه ما هو فيه من الاغترار بها والركون إليها . وقال الغزالي : الموت خطر هائل وخطب عظيم وغفلة الناس عنه لقلة فكرهم فيه وذكرهم له ومن يذكره ليس يذكره بقلب فارغ بل مشغول بالشهوات فلا ينجع ذكره فيه فالطريق أن يفرغ قلبه عن كل شيء إلا ذكر الموت الذي هو بين يديه كمن يريد السفر فإذا باشر ذكر الموت قلبه أثر فيه فيقل حركته وفرحه بالدنيا وينكسر قلبه وأنفع طريق فيه أن يذكر أشكاله فيتذكر موتهم ومصرعهم تحت التراب ويتذكر صورهم في أحوالهم ومناصبهم التي كانوا عليها في الدنيا ويتأمل كيف محى التراب حسن صورهم وتبددت أجزاؤهم في قبورهم ويتموا أولادهم وضيعوا أموالهم وخلت مجالسهم وانقطعت آثارهم .
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح ابن ماجة) قال : أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت عليك السلام ، فقال لا تقل عليك السلام فإن عليك السلام تحية الميت ،قلت يا رسول الله أي المؤمنين أفضل قال أحسنهم خلقا قال فأي المؤمنين أكيس قال أكثرهم للموت ذكرا وأحسنهم لما بعده استعدادا أولئك الأكياس .(1/143)
فإذا تفكر الإنسان أنه سينتقل من قصره إلى قبره ، ومن التنعم بالطعام والشراب إلى التمرغ في التراب ، ومن أنس العشرة إلى وحشة الوحدة ، ومن الفراش الوثير إلى المصرع الوبيل ، وأن الدود سيكون أنيسه ، ومنكر ونكير جليسه . إذا تفكر في سكرات الموت وأنها أشد من ضرب بالسيوف ونشر بالمناشير وقرض بالمقاريض .
فأكثر أخي الكريم، من ذكر هادم اللذات، واعلم أنه آت لا محالة، واستعد للحساب وامتحان القبر.
(4) محاسبة النفس :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ
تعريف المحاسبة :
المحاسبة في اللغة: مصدر من حاسب يحاسب مأخوذ من حسب حسبتُ الشيء أحسبه حسباناً وحساباً إذا عددته والحساب والمحاسبة عدُّك الشيء.
فالحاصل أن العدّ هو معنى المحاسبة في اللغة، فكأنك إذا جئت تطبقه بالمعنى الاصطلاحي عدّ السيئات.. عدّ العيوب.. وهكذا..
[*] عرّف الماوردي المحاسبة فقال: أن يتصفح الإنسان في ليله ما صدر من أفعال نهاره فإن كان محموداً أمضاه وأتبعه بما شاكله وضاهاه ، وإن كان مذموماً استدركه إن أمكن وإن لم يمكن فيتبعها بالحسنات لتكفيرها وينتهي عن مثلها في المستقبل .
وعرّف بعضهم المحاسبة بأنها: قيام العقل على حراسة النفوس من الخيانة ليتفقد زيادتها ونقصانها، وأنه يسأل عن كل فعل يفعله لمَ فعلته ، فإن كان لله مضى فيه و إن كان لغير الله امتنع عنه وأنه يلوم نفسه على التقصير والخطأ وإذا أمكن المعاقبة أو صرفها إلى الحسنات الماحية .
أنواع محاسبة النفس :
محاسبة النفس نوعان كما يقول ابن القيم رحمه الله: نوع قبل العمل ونوع بعد العمل..
النوع الأول : محاسبة النفس قبل العمل :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ(1/144)
أن يراعي الهمّ والخواطر والإرادات والعزائم التي في نفسه ، فالنفس لها إرادة وعزيمة وهم ، تهم بالشيء، فمن أصدق الأسماء الحارث وهمّام ، لأن النفس تهمّ وتحرث، فلها همّ وعمل، فإذاً يبدأ بالمحاسبة على ما همّ به وما أراده وما خطر بباله، فالمحاسبة تبدأ من مرحلة الخواطر والإرادات والعزائم ، وهذه محاسبة قبل العمل، فيفكّر في إرادة العمل هذا هل هي في مصلحته ؟ فإن كان نعم أقدم عليه، وإن كان ليس في مصلحته تركه..
ولذلك يقول الحسن رحمه الله : رحم الله عبداً وقف عند همّه يحاسب فإن كان لله مضى وإن كان لغيره تأخر ولم يعمل .
هذا النوع من المحاسبة مهم جداً في إيقاع الأعمال على الإخلاص، بدون المحاسبة هذه تقع الأعمال بغير الإخلاص فيهلك الإنسان وهو يعمل ( عَامِلَةٌ نّاصِبَةٌ * تَصْلَىَ نَاراً حَامِيَةً) [ الغاشية 3 ،4]، فما استفاد من العمل شيء مع أن ظاهره أعمال صالحة لكن لأنها ليست لله.
وكذلك ينظر ثانياً إذا تحركت نفسه لعمل من الأعمال وقف، هل هذا العمل مقدور عليه أو غير مقدور، فإن كان غير مقدور تركه حتى لا يضيع الوقت، وإن كان مقدوراً عليه وقف وقفة أخرى ونظر هل فعله خير من تركه أو تركه خير من فعله، فإن كان فعله خير من تركه عمله وإن كان تركه خيراً من فعله ..،وإذا كان فعله فيه مصلحة..هل سيفعله الآن والباعث عليه الله وإرادة وجهه أو الباعث عليه أمر آخر (جاه المخلوق وثنائهم ومالهم).
وهذه المحاسبة مهمة جداً في وقاية النفس من الشرك الخفي، الأول يقيها من الشرك الأكبر والأصغر ويقيها أيضاً من الشرك الخفي، ولئلا تعتاد النفس الشرك وتقع في مهاوي الرياء،
لذلك فإن هناك أربع مقامات يحتاج إليها العبد في محاسبة نفسه قبل العمل :
(1) هل هو مقدور له.
(2) هل فعله خير من تركه.
(3) هل هو يفعله لله.
(4) ما هو العون له عليه.
والاستعانة طبعاً بالله (( إياك نعبد وإياك نستعين)).
النوع الثاني : محاسبة النفس بعد العمل:(1/145)
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
وهو على ثلاثة أنواع:
أولاً: محاسبتها على طاعة قصرت فيها من حق الله، مثل تفويت خشوع في الصلاة وخرق الصيام ببعض المعاصي أو فسوق وجدال في الحج، كيف أوقع العبادة؟هل على الوجه الذي ينبغي؟هل وافق السنة؟هل نقص منها؟ وحق الله في الطاعة ستة أمور كما يلي :
(1) الإخلاص في العمل.
(2) النصيحة لله فيه.
(3) متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم .
(4) أن يحسن فيه ويتقن فيه.
(5) أن يشهد منّة الله عليه فيه أنه جاء توفيق من الله وتيسير للعمل الصالح وإعانة منه.
(6) أن يشهد تقصيره بعد العمل الصالح، وأنك مهما عملت لله فأنت مقصر.
ثانياً: محاسبة على عمل كان تركه خير من فعله، وهذا يمكن أن يكون للمعاصي، أو اشتغال بمفضول ففاته الفاضل، مثل أن يشتغل بقيام الليل فتفوته صلاة الفجر، أو يشتغل بأذكار وغيرها أفضل منها، كما قال صلى الله عليه وسلم لأم المؤمنين: [ لقد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرات لو وُزِنَت بما قلتِ لوزنتهن: سبحان الله عدد خلقه،سبحان الله رضا نفسه، سبحان الله زنة عرشه، سبحان الله مداد كلماته].
( حديث ابن عباس رضي الله عنهما الثابت في صحيح أبي داوود ) قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند جويرية وكان اسمها برة فحول اسمها فخرج وهي في مصلاها ورجع وهي في مصلاها فقال لم تزالي في مصلاك هذا قالت نعم قال قد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرات لو وزنت بما قلت لوزنتهن سبحان الله وبحمده عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته .
ثالثاً: محاسبة على أمر معتاد مباح لمَ فعله؟ هل أراد به الله أم الدار الآخرة؟أم فاته الربح وعمله عادة؟، فتحاسب نفسك على الأمور المباحة والعادات، هل كان لك فيها نية صالحة أو ذهبت عليك؟(1/146)
فالمحاسبة تولد عنده أرباح مهمة يحتاجها يوم الحساب، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر: [ أن الذي ينفق نفقة على أهله يحتسبها تكون له صدقة] كما في الحديث الآتي :
(حديث أبي مسعود الأنصاري الثابت الثابت في الصحيحين) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :( إذا أنفق الرجلُ على أهله يحتسبها فهو له صدقة )
، وأراد لفت النظر إلى أن ما ينفقه الناس على أهلهم بالعادة إذا كان فيه نية حسنة فليس خارجاً عن الصدقة بل داخل فيها وأجرها، حتى يتشجع الناس للإنفاق على أهليهم ولا يبخلوا على أولادهم ، بل يحتسبون الأجر بدون إسراف ولا تقتير.
[*] قال الحسن : " المؤمن قوَّام على نفسه ، يحاسب نفسه لله ، وإنما خف الحساب يوم القيامة على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا ، وإنما شق الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر على غير محاسبة " .
إن المؤمن يفاجئه الشيء ويعجبه فيقول : والله إني لأشتهيك ، وإنك لمن حاجتي، ولكن والله ما من حيلة إليك ، هيهات حيل بيني وبينك ويفرط منه الشيء فيرجع إلى نفسه فيقول : ما أردت إلى هذا ؟ لِلَّهِ ما لي ولهذا ؟ّ والله لا أعود إلى هذا أبداً . إن المؤمنين قوم أوقفهم القرآن وحال بين هلكتهم ، إن المؤمن أسير في الدنيا يسعى في فكاك رقبته ، لا يأمن شيئاً حتى يلقى الله ، يعلم أنه مأخوذ عليه في سمعه، وفي بصره ، وفي لسانه ، وفي جوارحه ، مأخوذ عليه في ذلك كله .
[*] قال مالك بن دينار: " رحم الله عبداً قال لنفسه : ألست صاحبة كذا؟ ألست صاحبة كذا؟ ثم ذمها ، ثم خطمها ، ثم ألزمها كتاب الله عز وجل، فكان لها قائداً " .(1/147)
فحق على الحازم المؤمن بالله وباليوم الآخر أن لا يغفل عن محاسبة نفسه، والتضييق عليها في حركاتها وسكناتها ، وخطراتها، فكل نفس من أنفاس العمر جوهرة نفيسة ، يمكن أن يشترى بها كنزاً من الكنوز لا يتناهي نعيمه أبد الآباد ، فإضاعة هذه الأنفاس ، أو اشتراء صاحبها بها مما يجلب هلاكه خسران عظيم لا يسمح بمثله إلا أجهل الناس وأحمقهم وأقلهم عقلاً ، وإنما يظهر له حقيقة هذا الخسران يوم التغابن ، قال تعالى: { يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا } (آل عمران : من الآية 30) .
كيفية محاسبة النفس ؟
[*] قال ابن القيم رحمه الله - مختصر كلامه- :
أن يبدأ بالفرائض فإذا رأى فيها نقص تداركه ثم المناهي "المحرمات" فإذا عرف أنه ارتكب منها شيئاً تداركه بالتوبة والاستغفار والحسنات الماحية ثم يحاسب نفسه على الغفلة عما خُلِق له، فإن رأى أنه غفل عما خُلِق له فليتدارك ذلك بالذكر والإقبال على الله ويحاسب نفسه على كلمات الجوارح من كلام اللسان ومشي الرجلين وبطش اليدين ونظر العينين وسماع الأذنين ماذا أردتُ بهذا ولمن فعلته وعلى أي وجه فعلته؟
فيبدأ بالفرائض ، ويجب أن نعرف أن جنس الواجبات في الشريعة أعلى من ترك المحرمات، كلاهما لابد منه ، لكن للفائدة فجنس فعل الواجب أعلى في الشريعة وأكثر أجراً من جنس ترك المحرم، لأن الواجبات هي المقصود الأصلي وهذه المحرمات ممنوعة، ولكن ما هو الأصل؟ أن تقوم بالواجبات، فأول ما يبدأ بالفرائض فإن رأى منها نقصاً تداركه ( الوضوء-الصلاة-الصيام بدون نية- كفارة اليمين)..، فاستدراك الخطأ في الواجبات نتيجة للمحاسبة، وهناك تقصير يمكن استدراكه وهناك آخر لا.(1/148)
ثم المحرمات والمناهي..، فهناك أمور تحتاج التوقف الفوري( كسب حرام - عمل حرام)، وأشياء تدارُكها( التخلص من الأموال الحرام بعد التوبة-أكل حقوق العباد فيعيد المال إلى أصحابه)، وبعضها يحتاج إلى التحلل منها وطلب السماح ، وهناك أشياء لا يمكن تداركها إلا بالتوبة والندم وعقد العزم على عدم العودة والإكثار من الحسنات الماحية لأن الله تعالى قال: (وَأَقِمِ الصّلاَةَ طَرَفَيِ النّهَارِ وَزُلَفاً مّنَ الْلّيْلِ إِنّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السّيّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَىَ لِلذّاكِرِينَ) [ هود: 114]
ثم يحاسب نفسه على الغفلة عما خُلِق له(الانغماس في الملاهي والألعاب مع أنها ليست حرام)، فيتدارك ذلك بأن يأتي بفترات طويلة تفوقها في الذكر والعبادة والأعمال الصالحة لتعويض الغفلة التي حدثت..
وهناك طريقة أخرى للمحاسبة وهي محاسبة الأعضاء، ماذا فعلت برجلي ؟بيدي؟ بسمعي؟ ببصري ؟ بلساني ؟، المحاسبة على الأعضاء تعطي نتيجة فيكون الاستدراك بإشغال الأعضاء في طاعة الله، ثم المحاسبة على النوايا (ماذا أردت بعملي هذ ا؟ وما نيتي فيه؟.
والقلب من الأعضاء ولابد له من محاسبة خاصة لصعوبة المحاسبة في النوايا لأنها كثيراً ما تتقلب فسمّي القلب قلباً من تقلّبه..
وينبغي للعبد كما أن له في أول نهاره توصية لنفسه بالحق أن يكون له في آخر نهاره ساعة يطالب نفسه فيها ويحاسبها على جميع حركاتها وسكناتها كما يفعل التجار في الدنيا مع الشركاء.
فينبغي للعبد أن يحاسب نفسه مثل محاسبة الشريك الشحيح لشريكه ، وهي صفة مهمة للمحاسبة؛ أن الإنسان يدقق مع نفسه ويفتّش الأمور تفتيشاً بالغاً، فقد يتناسى أشياء وهي خطيرة، ومع النفس لا تصلح المسامحة [ رحم الله امرءاً سمحاً إذا باع سمحاً إذا اشترى سمحاً إذا قضى سمحاً إذا اقتضى ]، نعم يفوّت للناس ولكن مع نفسه لا يفوّت..! فينبغي أن يكون هناك تدقيق زائد للنفس إذا أراد صلاحها .(1/149)
ومعاقبة النفس على التقصير مهمة بإلزامها بالفرائض والواجبات والمستحبات بدلاً من المحرمات التي ارتكبتها،والعجب أن الإنسان يمكن أن يعاقب عبده وأمته وأهله وخادمته وسائقه والموظف عنده على سوء الخلق والتقصير ولكن لا يعاقب نفسه على ما صدر عن نفسه من سوء العمل .
مسألة : ما هي العقوبات ، في قولنا يعاقب نفسه على التقصير ؟
الجواب :اسم العقوبات فيها تسامح وتجوّز، العقوبات المقصود منها أنك تلزم نفسك بطاعات، ولنضرب لذلك أمثلة من السلف كيف كانوا يعاقبون أنفسهم:
عاقب عمر بن الخطاب رضي الله عنه نفسه حين فاتته صلاة العصر في جماعة بأن تصدّق بأرض قيمتها مائتي ألف درهم!!
ابن عمر رضي الله عنهما كان إذا فاتته صلاة في جماعة أحيا تلك الليلة كلها، وأخّر ليلة صلاة المغرب حتى طلع كوكبان فاعتق رقبتين مع أن وقت الصلاة لم يخرج..!!
ابن أبي ربيعة فاتته ركعتا سنة الفجر فأعتق رقبة!!
والتقصير عند السلف من أصحاب النفوس العالية ليس ترك واجب أو فعل محرم ، لكن تقصير في واجب و مستحب، أي فوات طاعة مثلاً أو أذكار وأوراد، والمعاقبة بأن يضاعف الأذكار والأوراد .
والنفس لا تستقيم إلا أن تُجَاهد وتُحَاسَب و تُعَاقَب..، ومما يعين على معاقبة النفس أو إرغام النفس على استدراك النقص؛ التأمُّل في أخبار المجتهدين . وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة :
(حديث عبد الله بن عمرو الثابت في صحيح أبي داود) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من قام بعشر آيات لم يكتب من الغافلين و من قام بمائة آية كتب من القانتين و من قام بألف آية كتب من المقنطرين .
ومن تأمل في حال السلف وماذا كانوا يفعلون مع ندرة النماذج هذه في هذا الزمان لعله يقود إلى معاقبة النفس بإلزامها بمزيد من العبادات والمستحبات إذا قصّرت..
[*] قالت امرأة مسروق : ما كان يوجد مسروق إلا وساقاه منتفختان من طول الصلاة، والله إن كنت لأجلس خلفه فأبكي رحمة له.(1/150)
[*] وقال أبو الدرداء : لولا ثلاث ما أحببت العيش يوماً واحداً ، الظمأ لله بالهواجر ، والسجود لله في جوف الليل، ومجالسة قوم ينتقون أطايب الكلام كما ينتقى أطايب الثمر.
[*] وأم الربيع كانت تشفق على ولدها من كثرة بكائه وسهره في العبادة فنادته(يا بني لعلك قتلت قتيلاً) قال(نعم يا أماه) قال(فمن هو حتى نطلب أهله فيعفو عنك، فو الله لو يعلمون ما أنت فيه لرحموك وعفوا عنك) قال( يا أماه..هي نفسي!!).
[*] قال القاسم بن محمد : غدوت يوماً وكنت إذا غدوت بدأت بعائشة رضي الله عنها أسلم عليها، فغدوت يوماً إليها فإذا هي تصلّي الضحى وهي تقرأ ( فمن ّ الله علينا ووقانا عذاب السموم ) وتبكي وتدعو وتردد الآية وقمت حتى مللت وهي كما هي فلما رأيت ذلك ذهبت إلى السوق فلما فرغت من حاجتي رجعت إليها فوجدتها كما هي ففرغت ورجعت وهي تردد الآية وتبكي وتدعو!
هذه القلوب، سريعة الذنوب، لابد من قرعها ومطالعة ما فيها،
ومن قواعد المحاسبة توبيخ النفس : لأنها مادامت أمارة بالسوء فتحتاج إلى شدة وتوبيخ والله أمر بتزكيتها وتقويمها ، فهي تحتاج إلى سلاسل ولا تنقاد إلا بسلاسل القهر إلى العبادة ولا تمتنع عن الشهوات إلا بهذه السلاسل ولا تنفطم عن اللذات إلا بهذا الحزم معها، فإن أهملت نفسك جمحت وشردت وإن لازمتها بالتوبيخ والمعاتبة والملامة كانت هي النفس اللوامة ويُرجى أن ترتقي بعد ذلك إلى النفس المطمئنة.
كيف يحاسب الإنسان نفسه ؟ بماذا يذكر نفسه؟ بنقصها..بخستها ودناءتها وما تدعو إليه من الحرام وترك الواجب والتفريط في حق الله..
الأدلة على مشروعية المحاسبة :(1/151)
قال تعالى: (يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اتّقُواْ اللّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مّا قَدّمَتْ لِغَدٍ وَاتّقُواْ اللّهَ إِنّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلاَ تَكُونُواْ كَالّذِينَ نَسُواْ اللّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُولََئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [ الحشر : 19] تنظر أي تفكر وتتفكر.
[*] يقول الشيخ عبد الرحمن بن سعدي - رحمه الله - : يأمر الله تعالى عباده المؤمنين بما يوجبه الإيمان ويقتضيه من لزوم تقواه سراً وعلانية في جميع الأحوال وأن يراعوا ما أمرهم الله به من أوامره وحدوده وينظروا مالهم وما عليهم وماذا حصلوا عليه من الأعمال التي تنفعهم أو تضرهم يوم القيامة فإنهم إذا جعلوا الآخرة نصب أعينهم وقبلة قلوبهم واهتموا للمقام بها اجتهدوا في كثرة الأعمال الموصلة إليها وتصفيتها من القواطع والعوائق التي توقف عن السير أو تعوقهم أو تصرفهم، وإذا علموا أن الله خبير بما يعملون لا تخفى عليه أعمالهم ولا تضيع لديه ولا يهملها أوجب لهم الجد والاجتهاد.
وقال الشيخ عن هذه الآية: وهذه الآية الكريمة أصل في محاسبة العبد نفسه وأنه ينبغي له أن يتفقدها فإن رأى زللاً تداركه بالإقلاع عنه والتوبة النصوح والإعراض عن الأسباب الموصلة إليه وإن رأى نفسه مقصراً في أمر من أوامر الله بذل جهده واستعان بربه في تتميمه وتكميله وإتقانه ويقايس بين منن الله عليه وبين تقصيره هو في حق الله فإن ذلك يوجب الحياء لا محالة، والحرمان كل الحرمان أن يغفل العبد عن هذا الأمر ويشابه قوماً نسوا الله وغفلوا عن ذكره والقيام بحقه وأقبلوا على حظوظ أنفسهم وشهواتها فلم ينجحوا ولم يحصلوا على طائل بل أنساهم الله مصالح أنفسهم وأغفلهم عن منافعها وفوائدها فصار أمرهم فرطاً فرجعوا بخسارة الدارين وغبنوا غبناً لا يمكن تداركه ولا يجبر كسره لأنهم هم الفاسقون.(1/152)
وقد قال تعالى في كتابه العزيز : ( وَتُوبُوَاْ إِلَى اللّهِ جَمِيعاً أَيّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ) [ النور: 31]، فإذاً ينبغي على العبد أن ينظر في حاله ويحاسبها ويتوب من التقصير فالمحاسبة تقود إلى التوبة قال تعالى: (إِنّ الّذِينَ اتّقَواْ إِذَا مَسّهُمْ طَائِفٌ مّنَ الشّيْطَانِ تَذَكّرُواْ فَإِذَا هُم مّبْصِرُونَ) [ الأعراف : 201]
ولا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يحاسب نفسه أشد من محاسبة شريكه(( والشريكان يتحاسبان عند نهاية العمل))، ورُوي عن عائشة رضي الله عنها أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال لها عند الموت :[ماأحد من الناس أحب إليّ من عمر]، ثم قال : كيف قلت؟ فأعادت عليه كلامه، فقال: [لا أحد أعزّ عليّ من عمر]. فانظر كيف نظر بعد الفراغ من الكلمة فتدبرها وأبدلها بكلمة أخرى لأنه رآها أنسب وأحسن وأدق وأصدق..
[*] قال الحسن البصري رحمه الله: [ المؤمن قوّام على نفسه يحاسبها لله وإنما خفّ الحساب على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا، وإنما شقّ الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة] ثم قال: [ المؤمن يفجأه الشيء يعجبه فيقول والله إنك تعجبني وإنك من حاجتي ولكن هيهات !حيلي بيني وبينك!]، هذا نموذج من الحساب لشيء يعرض للإنسان مزيّن ويعجبه وتميل إليه نفسه ولكنه يتركه لأنه ليس من مصلحته في الآخرة ، [ ويفرط منه الشيء فيرجع إلى نفسه فيقول ماذا أردتِ بهذا؟!!]، يفرط أي يسبق ويحصل ويقع.
قال أنس بن مالك رضي الله عنه سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوماً وقد خرج وخرجت معه حتى دخل حائطاً فسمعته يقول بيني وبينه جدار[ يا أمير المؤمنين!بخٍ!بخٍ!والله لتتقين الله أو ليعذبنّك!]، فهو يذكر نفسه بأن هذا اللقب أمير المؤمنين لا يغني عنه من الله شيئاً..(1/153)
[*] قال الحسن البصري رحمه الله في قوله تعالى: ((ولا أقسم بالنفس اللوامة)): [ لا يلقى المؤمن إلا وهو يعاتب نفسه، ماذا أردت بكلمتي؟ماذا أردت بأكلتي؟ماذا أردت بشربتي؟والفاجر يمضي قدماً لا يعاتب نفسه].
[*] وقال مالك بن دينار رحمه الله : رحم الله عبداً قال لنفسه ألستِ صاحبة كذا ؟ ألست صاحبة كذا؟ألست صاحبة كذا؟ ثم ذمّها ثم خطمها ثم ألزمها كتاب الله تعالى فكان لها قائداً. وهذا من حساب النفس.
[*] وقال ميمون بن مهران: [ التقي أشد محاسبة لنفسه من سلطان غاشم ومن شريك شحيح].
[*] وقال إبراهيم التميمي: [مثلت نفسي في الجنة آكل من ثمارها وأشرب من أنهارها وأعانق أبكارها ثم مثلت نفسي في النار آكل من زقومها وأشرب من صديدها وأعالج سلاسلها وأغلالها فقلت لنفسي : يا نفس أي شيء تريدين؟قالت: أريد أن أرد إلى الدنيا فأعمل صالحاً، قال:فأنتِ في الأمنية فاعملي إذاً لتكوني في الجنة في ذلك النعيم].
[*] قال ابن القيم في إغاثة اللهفان: [إن سائر أمراض القلب إنما تنشأ من جانب النفس فالمواد الفاسدة كلها إليها تنصبّ ثم تنبعث منها إلى الأعضاء وأول ما تنال القلب].
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في خطبة الحاجة: (( الحمد لله نستعينه ونستهديه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا)) كما في الحديث الآتي :
(حديث ابن مسعود الثابت في صحيح السنن الأربعة) علمنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطبة الحاجة ( الحمد لله نستعينه ونستغفره ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ثم يقرأ ثلاث آيات
*يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون >! !<(1/154)
* يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا >! !<
* يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون >! !< يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما >!
وقد استعاذ صلى الله عليه وسلم من شرها عموماً ومن شر ما يتولد منها من الأعمال ومن شر ما يترتب على ذلك من المكاره والعقوبات وجمع الاستعاذة من سيئات النفس وسيئات الأعمال فهذا معناه أن هناك أمرين:
(1) أعوذ بك من هذا النوع من الأعمال.
(2) المراد به عقوبات الأعمال التي تسوء صاحبها.
فاستعاذ من صفة النفس وعملها أو استعاذ من العقوبات وأسبابها ويدخل العمل السيء في شر النفس لأن النفس الشريرة تولد سيء العمل فاستعاذ منهما جميعاً..
وهذا العمل الذي يسوء صاحبه يوم القيامة وهذه النفس الشريرة التي تأمر بسيء العمل؛لابد من محاسبتها وقد اتفق السالكون إلى الله على اختلاف طرقهم وتباين سلوكهم على أن النفس قاطعة بين القلب وبين الوصول إلى الرب وأن لا يُدخل على الله سبحانه ولا يوصل إليه إلا بعد الظفر بالنفس وكفها عن الشر فإن الناس قسمين:
القسم الأول : قسم ظفرت به نفسه فملكته وأهلكته وصار طوعاً لنفسه الشريرة الأمّارة بالسوء تحت أوامرها ويعمل على هواها.
القسم الثاني : قسم ظفروا بأنفسهم فقهروها فصارت طوعاً لهم منقادة لأمرهم.
قال بعض أهل الإيمان والحكمة: (( انتهى سفر الطالبين إلى الظفر بأنفسهم فمن ظفر بنفسه؛ أفلح وأنجح، ومن ظفرت به نفسه خسِر وهلك)).
قال الله تعالى :(1/155)
{ فَأَمَّا مَن طَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى } ( النازعات: الآية : 37-41 ) .
ومن لم يحاسب نفسه فاته من الخير بقدر ما فاته من المحاسبة ولذلك على المسلم أن يصون نفسه عن المحرمات ويبتعد عن الشبهات ولا سيما أهل العلم فمن لم يصن نفسه بهذا لم ينفعه علمه لأن العلم للعمل كالسلاح للمجاهد فإذا لم يستعمله ماذا يفيده؟!، وكالأطعمة المدخرة للجائع إذا لم يأكل منها فبماذا تنفعه؟!
يحاول نيل المجد والسيف مغمدٌ : ويأمل إدراك العُلا وهو نائم!
والحاصل : أنه بدون محاسبة لا يمكن الوصول والذي لا يصون نفسه عن ما يخرم المروءة وعن ما يُكره بعد ما يصونها عن الحرام فهذا إنسان هالك ، فصيانة النفس أصل الفضائل لأن من أهمل نفسه إتكالاً على العلم الذي عنده ( وهذه آفة ينزلق إليها بعض طلبة العلم) ربما لا يحاسبون أنفسهم إتكالاً إلى العلم الذي عندهم فربما يكون هنا الجاهل أو العامي أفضل من هذه الجهة لأنهم يحسون أن أنفسهم قاصرة فيحاسبون ويفتشون ، أما بعض الناس الذي يطغيهم العلم فلا يحاسبون أنفسهم ويتكلون على العلم الذي معهم لأنه يرون به رفعة درجة فلماذا يحاسبون فيتركون الحساب والمحاسبة فتظهر القبائح والعورات فيكون الحسد منهم واتباع الهوى والتنازلات في الفتاوى والأخطاء.
فلذلك محاسبة العلماء لأنفسهم وطلبة العلم ينبغي أن تكون أشد ما تكون لأنه إن حاسب نفسه انتفع ونفع الناس وإذا ترك محاسبة نفسه ضلّ وأضلّ، الجاهل لا يقتدي به أحد، لكن هذا الذي ينصب نفسه قدوة في الدعوة والعلم ثم لا يحاسب نفسه يُهلك..!
أيها العالم إياك الزلل ... واحذر الهفوةَ والخطبَ الجلل
هفوة العالم مستعظمة ... إذ بها أصبح في الخلق مثل!
وعلى زلّته عمدتهم ... فبها يحتج بها من أخطأ وزلّ(1/156)
لاتقل يستر عليّ العلم زلّتي ... بل بها يحصل في العلم خلل
إن تكن عندك مستحقرة ... فهي عند الله والناس جبل
ليس من يتبعه العلم في ... كل ما دقّ من الأمر وجلّ
مثل من يدفع عنه جهله ... إن أتى فاحشة قيل قد جهل
انظر الأنجم مهما سقطت ... من رآها وهي تهوي لم يُبل
فإذا الشمس بدت كاسفة ... وَجِل الخلق لها كل الوجل
وتراءت نحوها أبصارهم ... في انزعاجٍ واضطرابٍ ووجل
وسرى النقص لهم من نقصها ... فغدت مظلمة منها السُبُل
وكذا العالِم في زلّته ... يفتن العالم طُرّاً و يُضِلّ!
فنحن نرى الآن نماذج كثيرة من إضلال بعض هؤلاء في الفتاوى المتساهلة لأنهم لا يحاسبون أنفسهم وبالتالي يقعون في المزالق وما استقطبهم أهل الشر إليه من الأفخاخ التي نصبوها لهم فقعوا فيها وجاملوا على حساب الدين..
فينبغي على كل الناس أن يحاسبوا أنفسهم الذين عندهم علم والذين ليس لديهم علم، فالذي لديه علم يحاسب نفسه هل عمل به؟وهل هو يقوم به لله؟ وهل يبلغه؟أم يكتمه؟ وهل هو مقصّر فيه؟ وهل عبد ربه به؟وهل بذله للناس صحيحاً أم راعة أهواء بعض القوم فسهّل لهم أشياء بزعمه؟، أما صاحب الجهل فيحاسب نفسه، كيف يعبد الله على جهل؟متى يزيل الجهل؟كيف يزيله؟إلى متى يبقى؟كيف يتعلم؟ وبماذا يبدأ.... وهكذا..
والنفس تدعو إلى الطغيان وإيثار الحياة الدنيا، والرب يدعو العبد إلى خوفه ونهي النفس عن الهوى والقلب بين الداعيين، يميل إلى هذا الداعي مرة وإلى هذا مرة وهذا موضع الابتلاء والمحنة..
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه كلاماً مشهوراً محذراً من الإهمال في محاسبة النفس وأنه يقود إلى الهلاك يوم القيامة : [ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوا أنفسكم (أعمالكم) قبل أن توزنوا فإنه أهون عليكم في الحساب غداً أن تحاسبوا أنفسكم اليوم]، وقال صلى الله عليه وسلم : ((من نوقش الحساب عُذِّب))، فكيف يتلافى المرء مناقشة الحساب غداً؟!!، بمحاسبة النفس اليوم.(1/157)
والحساب اليسير صاحبه ناجٍ وسينقلب إلى أهلها مسروراً، أما حاسبناها حساباً شديداً وعذبناها عذاباً نكراً فهذا الحساب الشديد نتيجة عدم المحاسبة الآن..
وتزينوا للعرض الأكبر((يومئذٍِ تعرضون لا تخفى منكم خافية))، فقال الحسن رحمه الله : (( لا تلقى المؤمن إلا ويحاسب نفسه ، ماذا أردتِ تعملين؟ماذا أردتِ تشربين؟ماذا أردتِ تأكلين؟))، وقال قتادة في قوله (وكان أمره فرطاً): [ أضاع نفسه وغُبِن]، يحفظ ماله ويضيع دينه!
قال الحسن: [ إن العبد لايزال بخير ما كان له واعظ من نفسه وكانت المحاسبة من همته].
ويوجد واعظ في قلب كل مسلم إذا أراد أن يدخل في باب حرام قال: ويلك لا تفتحه، إنك إن تفتحه تلجه!، لا تزح الستار عن باب الحرام، إنك لو نظرت انجذبت، ويلك لا تفتحه، إنك إن تفتحه تلجه!..
قال ميمون بن مهران: [ النفس كالشّريك الخوّان إن لم تحاسبه؛ ذهب بمالك!].
المحاسبة وقت الرخاء سهلة بالنسبة للمحاسبة في وقت الشدة، فرحم الله عبداً قال لنفسه ألستِ صاحبة كذا وكذا؟! هذا نوع من الحساب على المعاصي ، وحساب على النوايا كقولك ماذا أردتِ بالعمل والأكلة والشربة..
أهمية محاسبة النفس :
المحاسبة قضية مهمة للغاية ، تدور عليها السعادة ولا يحصل الصلاح إلا بها..
محاسبة النفس أمر عظيم جداً، المحاسبة لا تصلح النفس إلا بها، المحاسبة من قام بها اليوم أمِن غداً ،المحاسبة أن تنظر في نفسك وتتأمل فيها وتعرف عيوبها، المحاسبة لا نجاة إلا بها قال تعالى: (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللّهُ جَمِيعاً فَيُنَبّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوَاْ أَحْصَاهُ اللّهُ وَنَسُوهُ وَاللّهُ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [ المجادلة : 6]
والمحاسبة تصدر من التأمل في هذه النصوص :
قال تعالى: (يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النّاسُ أَشْتَاتاً لّيُرَوْاْ أَعْمَالَهُمْ * فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرّةٍ خَيْراً يَرَهُ) [ الزلزلة 6: 7](1/158)
والمحاسبة انطلاقاً من آثار قوله تعالى: (يَوْمَ تَجِدُ كُلّ نَفْسٍ مّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدّ لَوْ أَنّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَاً بَعِيداً وَيُحَذّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَاللّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ) [ آل عمران : 30]
والمحاسبة تنطلق من الإيمان باليوم الآخر وأن الله يحاسب فيه الخلائق وقد حذرنا الله ذلك اليوم فقال تعالى: (وَاتّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمّ تُوَفّىَ كُلّ نَفْسٍ مّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ) [البقرة : 281]
والمحاسبة تنطلق من الإيمان بأسماء الله وصفاته وأنه تعالى الرقيب المهيمن المطّلع على ما تعمل كل نفس وأنه شهيد على أعمالنا فهو الشهيد على أعمال عباده، جعل علينا كراماً كاتبين يحصون أعمالنا قال تعالى: (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَوَيْلَتَنَا مَا لِهََذَا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِراً وَلاَ يَظْلِمُ رَبّكَ أَحَداً) [سورة: الكهف - الأية: 49]
والمحاسبة تنطلق من إيمان الإنسان بالهدف، بالغرض، أن يعلم أنه لأي شيء خُلِق قال تعالى: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ) [ المؤمنون : 115]
قال تعالى: (أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى) [ القيامة : 36](1/159)
ومحاسبة النفس طريقة المؤمنين وسمة الموحدين وعنوان الخاشعين ، فالمؤمن متق لربه محاسب لنفسه مستغفر لذنبه ، يعلم أن النفس خطرها عظيم، وداؤها وخيم ، ومكرها كبير وشرها مستطير، فهي أمارة بالسوء ميالة إلى الهوى،داعية إلى الجهل، قائدة إلى الهلاك،توّاقة إلى اللهو إلا من رحم الله، فلا تُترك لهواها لأنها داعية إلى الطغيان ، من أطاعها قادته إلى القبائح ، ودعته إلى الرذائل،وخاضت به المكاره،تطلعاتها غريبة،وغوائلها عجيبة،ونزعاتها مخيفة، وشرورها كثيرة، فمن ترك سلطان النفس حتى طغى فإن له يوم القيامة مأوىً من جحيم قال تعالى: (فَأَمّا مَن طَغَىَ * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدّنْيَا * فَإِنّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَىَ * وَأَمّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ وَنَهَى النّفْسَ عَنِ الْهَوَىَ * فَإِنّ الْجَنّةَ هِيَ الْمَأْوَىَ ) [النازعات 37: 41]
فوائد محاسبة النفس :
ولمحاسبة النفس فوائد عظيمة ومزايا جسيمة منها ما يلي :
(1) الاطلاع على عيوب نفسه : ومن لم يطلع على عيوب نفسه لم يمكنه إزالتها ،والمرء حين يطّلع على عيوب نفسه يكتشف أشياء تدهشك ولا يفقه الرجل حتى يمقت نفسه ويحتقرها في جنب الله .
[*] قال أبو الدرداء: " لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يمقت الناس في جنب الله ، ثم يرجع إلى نفسه فيكون أشد لها مقتاً " .
[*] وكان بعض السلف يقول في دعائه في عرفة ( اللهم لا ترد الناس لأجلي)! ،
[*] وقال محمد بن واسع : لو كان للذنوب ريحٌ ما قدر أحد أن يجلس إلىّ .
مع أنه من كبار العباد في هذه الأمة .
[*] قال يونس بن عبيد: " إني لأجد مائة خصلة من خصال الخير ما أعلم أن في نفسى منها واحدة " .
[*] دخل حمّاد بن سلمة على سفيان الثوري وهو يحتضر فقال: ( يا أبا عبد الله أليس قد أمنت مما كنت تخافه وتقدم على من ترجوه وهو أرحم الراحمين؟!) قال: (يا أبا سلمة أتطمع لمثلي أن ينجو من النار) قال: (إي والله إني لأرجو لك ذلك).(1/160)
[*] وقال جعفر بن زيد: ( خرجنا في غزاة إلى كابل وفي الجيش صلة بن أشيم فنزل الناس عند العتمة فصلوا ثم اضطجع فقلت: لأرمقنّ عمله، فالتمس غفلة الناس فانسلّ وثبا فدخل غيظة (مجموعة أشجار ملتفة) قريب منا، فدخلت على أثره فتوضأ ثم قام يصلي فجاء أسد حتى دنا منه فصعدت في شجرة فتراه التفت إليه أو عدّه جرو! فلما سجد قلت الآن يفترسه فجلس ثم سلّم ثم قال: ( أيها السبع اطلب الرزق من مكان آخر)، فولّى وإن له زئيراً، فمازال كذلك يصلي حتى كان الصبح فجلس يحمد الله وقال: (اللهم إني أسألك أن تجيرني من النار ومثلي يستحي أن يسألك الجنة)! ثم رجع وأصبح وكأنه بات على حشاياً ، أما أنا فأصبح بي ما الله به عليم من هول ما رأيت!
[*] وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : (اللهم اغفر لي ظلمي وكفري)، فقال قائل: ( يا أمير المؤمنين هذا الظلم فما الكفر؟) قال: (إن الإنسان لظلوم كفّار)، فإذا تمعّن الإنسان حال السلف عرف حاله والبعد الشديد مابينه وبينهم.
رحم الله رجلاً له واعظٌ من نفسه يبكي على خطيئته ويقول : ويحي، بأي شيء لم أعص ربي، ويحي إنما عصيته بنعمته عندي، ويحي من خطيئة ذهبت شهوتها وبقيت تبعتها، عندي كتاب كتبه كتاب لم يغيبوا عني، واسوأتاه لم أستحيهم ولم أراقب ربي. ويحي نسيت ما لم ينسوا مني. ويحي غفلت ولم يغفلوا عني، ولم أستحيهم ولم أراقب. وأسوأتاه ويحي حفظوا ما ضيعت مني، ويحي طاوعت نفسي وهي لم تطاوعني، ويحي طاوعتها فيما يضرني ويضرها، ويحي إلا تطاوعني نفسي وهي لم تطاوعني، ويحي طاوعتها فيما يضرني ويضرها، ويحي ألا تطاوعني فيما ينفعها وينفعني، أريد إصلاحها وتريد أن تفسدني، ويحها إني لأنصفها وما تنصفني، أدعوها لرشدها وتدعوني لتغويني، ويحها إنها لعدو لو أنزلته تلك المنزلة مني. ويحها تريد اليوم أن تردني وغداً تخاصمني.(1/161)
رب لا تسلطها علي ذلك مني، رب إن نفسي لم ترحمني فارحمني، رب إني أعذرها ولا تعذرني، إنه إن يك خيراً أخذلها وتخذلني، وإن يك شراً أحبها وتحبني، رب فعافني منها وأعفها مني، حتى لا أظلمها ولا تظلمني، وأصلحني لها وأصلحها لي، فلا أهلكها ولا تهلكني، ولا تكلني إليها ولا تكلها إلي.
ويحي كيف أنساه ولا ينساني، ويحي إنه يقص أثري فإن فررت لقيني، وإن أقمت أدركني. ويحي هل عسى أن يكون قد أظلني فمساني ؟ وصبحني أو طرقني فبغتني ؟ ويحي أزعم أن خطيئتي قد أقرحت قلبي، ولا يتجافى جنبي، ولا تدمع عيني ولا تسهر لي. ويحي كيف أنام على مثلها ليلي، ويحي هل ينام على مثلها مثلي، ويحي لقد خشيت أن لا يكون هذا الصدق مني ؟ بل ويلي إن لم يرحمني ربي.
ويحي كيف لا تهون قوتي ولا تعطش هامتي، بل ويلي إن لم يرحمني ربي. ويحي كيف لا أنشط فيما يطفئها عني ؟ بل ويلي إن ل يرحمني ربي.(1/162)
ويحي كيف لا يذهب ذكر خطيئتي كسلي، ولا يبعثني إلى ما يذهبها عني، بل ويلي إن لم يرحمني ربي، ويحي كي تنكأ قرحتي ما تكسب يدي، ويح نفسي بل ويلي إن لم يرحمني ربي. ويحي لا تنهاني الأولى من خطيئتي عن الآخرة، ولا تذكرني الآخرة من خطيئتي بسوء ما ركبت من الأولى، فويلي ثم ويلي إن لم يتم عفو ربي، ويحي لقد كان لي فيما استوعبت من لساني وسمعي وقلبي وبصري اشتغال، فويل لي إن لم يرحمني ربي، ويحي إن حجبت يوم القيامة عن ربي لم يزكني ولم ينظر إلي ولم يكلمني، فأعوذ بنور وجه ربي من خطيئتي، وأعوذ بك أن أُعطى كتابي بشمالي أو من وراء ظهري، فيسود به وجهي، وتزرق به مع العمى عيني. بل ويلي إن لم يرحمني ربي. ويحي بأي شيء استقبل ربي ؟ بلساني أم بيدي أم بسمعي أم بقلبي أم ببصري. ففي كل هذا له الحجة والطلبة عندي، ويل لي إن لم يرحمني ربي، كيف لا يشغلني ذكر خطيئتي عما لا يعنيني ؟ ويحك يا نفس مالك لا تنسين مالا ينسى ؟ وقد أتيت مالا يؤتى، وكل ذلك عند ربك يحصى، كتاب لا يبيد ولا يبلى، ويحك لا تخافين أن أجزي فيمن يجزي يوم تجزى كل نفس بما تسعى وقد آثرت ما يفني على ما يبقى.
يا نفس ويحك إلا تستفيقين مما أنت فيه ؟ إن سقمت تندمين، وإن صححت تأثمين، مالك إن افتقرت تحزنين، وإن استغنيت تفتنين. مالك إن نشطت تزهدين، فلم إن دعيت تكسلين ؟ أراك ترغبين قبل أن تنصبي، ولم لا تنصبين فيما ترغبين.
يا نفس ويحك لم تخالفين ؟ تقولين في الدنيا قول الزاهدين وتعملين فيها عمل الراغبين. ويحك لم تكرهين الموت ؟ لم لا تذعنين وتحبين الحياة، لم لا تصنعين.
يا نفس ويحك أترجين أن ترضى ولا ترضين، وتجانبين وتعصين، مالك إن سألت تكثرين، فلم إن أنفقت تقترين ؟ أتريدين الحياة ؟ ولم تحذرين بتغير الزيادة، ولم تشكرين، تعظمين في الرهبة حين تسألين، وتقصرين في الرغبة حين تعملين، تريدين الآخرة بغير عمل، وتؤخرين التوبة لطول الأمل.(1/163)
لا تكوني كمن يقال هو في القول مدل، ويستصعب عليه الفعل، بعض بني آدم إن سقم ندم، وإن صح أمن، وإن افتقر حزن، وأن استغنى فتن، وإن نشط زهد، وإن رغب كسل، يرغب قبل أن ينصب، ولا ينصب فيما يرغب، يقول قول الزاهد، ولا يعمل عمل الراغب، يكره الموت ما لا يدع، ويحب الحياة لما لا يصنع. إن سأل أكثر، وإن أنفق قتر، يرجو الحياة ولم يحذر، ويبغي الزيادة ولم يشكر، يبلغ الرغبة حين يسأل، ويقصر في الرغبة حين يعمل، يرجو الأجر بغير عمل.
ويح لنا ما أغرنا، ويح لنا ما أغفلنا، ويح لنا ما أجهلنا، ويح لنا لأي شيء خلقنا ؟ للجنة أم للنار، ويح لنا أي خطر خطرنا، ويح لنا من أعمال قد أخطرتنا، ويح لنا مما يراد بنا، ويح لنا كأنما يعني غيرنا، ويح لنا إن ختم على أفواهنا، وتكلمت أيدينا، وشهدت أرجلنا. ويح لنا حين تفتش سرائرنا، ويح لنا حين تشهد أجسادنا، ويح لنا مما قصرنا، لا براءة لنا، ولا عذر عندنا، ويح لنا ما أطول أملنا، ويح لنا حيث نمضي إلى خالقنا . ويح لنا الويل الطويل إن لم يرحمنا ربنا، فارحمنا يا ربنا.
رب ما أحكمك، وأمجدك، وأجودك، وأرأفك، وأرحمك، وأعلاك، وأقربك، وأقدرك، وأقهرك، وأوسعك، وأقضاك، وأبينك، وأنورك، وألطفك، وأخبرك، وأعلمك، وأشكرك، وأرحلمك، وأحكمك، وأعطفك، وأكرمك.
رب ما أرفع حجتك، وأكثر مدحتك، رب ما أبين كتابك، وأشد عقابك، رب ما أكرم مآبك، وأحسن ثوابك، رب ما أجزل عطاءك، وأجل ثناءك، رب ما أحسن بلاءك، وأسبغ نعماءك، رب ما أعلى مكانك، وأعظم سلطانك، رب ما أعظم عرشك، وأشد بطشك، رب ما أوسع كرسيك، وأهدى مهديك، رب ما أوسع رحمتك، وأعرض جنتك، رب ما أعز نصرك، واقرب فتحك، رب ما أعمر بلادك، وأكثر عبادك، رب ما أوسع رزقك، وأزيد شكرك، رب ما أسرع فرجك، وأحكم صنعك، رب ما ألطف خيرك، وأقوى أمرك، رب ما أنور عفوط، وأجل ذكرك، رب ما أعدل حكمك، وأصدق قولك، رب ما أوفى عهدك، وانجز وعدك، رب ما أحضر نفعك، وأتقن صنعك.(1/164)
ويحي ؟ كيف أغل ولا يغل عني، أم كيف تهنئني معيشتي واليوم الثقيل ورائي، أم كي لا يطول حزني ولا أدري ما يفعل بي ؟ أم كيف تهنئني الحياة ولا أدري ما أجلي ؟ أم كيف تعظم فيها رغبتي والقليل فيها يكفيني، أم كيف آمن ولا يدوم بها حالي ؟ أم كيف يشتد حبي لدار ليست بداري ؟ أم كي أجمع لها وفي غيرها قراري ؟ أم كيف يشتد عليها حرصي ولا ينفعني ما تركت فيها بعدي، أم كيف أوثرها وقد أضرت بمن آثرها قبلي، أم كي لا أبادر بعملي قبل أن يغلق باب توبتي، أم كيف يشتد إعجابي بما يزايلني وينقطع عني، أم كيف أغفل عن أمر حسابي وقد أظلني واقترب مني، أم كيف أجعل شغلي بما قد تكفل به لي، أم كيف اعاود ذنوبي وأنا معروض على عملي، أم كيف لا أعمل بطاعة ربي وفيها النجاة مما أحذر على نفسي، أم كيف لا يكثر بكائي ولا أدري ما يراد ربي ؟ أم كيف تقر عيني مع ذكر ما سلف مني، أم كيف أعرض نفسي لما لا يقوى له هوائي، أم كيف لا يشتد هولي مما يشتد منه جزعي، أم كيف تطيب نفسي مع ذكرها ما هو أمامي، أم كيف يطول أملي والموت أثري، أم كيف لا أراقب ربي وقد أحسن طلبي.
ويحي فهل ضرت غفلتي أحدا سوائى، أم هل يعمل لي غيري إن ضيعت حظي، أم هل يكون عملي إلا لنفسي، فبم ادخر عن نفسي ما يكون نفعه لي ؟ ويحي كأنه قد تصرم أجلي ثم أعاد ربي خلقي كما بدأني، ثم أوقفني وسألني وسأل عني وهو أعلم بي ثم أشهدت الأمر الذي أذهلني عن أحبابي وأهلي، وشغلت بنفسي عن غيري، وبدلت السموات والأرض وكانتا تطيعان وكنت أعصي؛ وسيرت الجبال وليس لها مثل خطيئتي، وجمع الشمس والقمر وليس عليهما مثل حسابي؛ وانكدرت النجوم وليست تطلب بما عندي، وحشرت الوحوش ولم تعمل بمثل عملي، وشاب الوليد وهو أقل ذنباً مني.(1/165)
ويحي ما أشد حالي وأعظم خطري، فاغفر لي واجعل طاعتك همي، وقو عليها جسدي، وسخ نفسي عن الدنيا واشغلني فيما يعنيني، وبارك لي في قواها حتى ينقضي مني حالي، وامتن علي وارحمني حين تعيد بعد اللقاء خلقي، ومن سوء الحساب فعافني يوم تبعثني فتحاسبني، ولا تعرض عني يوم تعرضني بما سلف من ظلمي وجرمي، وآمني يوم الفزع الأكبر يوم لا تهمني إلا نفسي، وارزقني نفع عملي يوم لا ينفعني عمل غيري.
إلهي أنت الذي خلقتني، وفي الرحم صورتني، ومن أصلاب المشركين نقلتني، قرنا فقرنا حتى أخرجتني في الأمة المرحومة، إلهي فارحمني إلهي فكما مننت علي بالإسلام فامنن علي بطاعتك، وبترك معاصيك أبداً ما أبقيتني ولا تفضحني بسرائري، ولا تخذلني بكثرة فضائحي.
سبحانك خالقي أنا الذي لم أزل لك عاصيا فمن أجل خطيئتي لا تقر عيني، وهلكت إن لم تعف عني، سبحانك خالقي بأي وجه ألقاك ؟ وبأي قدم أقف بين يديك? وبأي لسان أناطقك ؟ وبأي عين أنظر إليك ؟ وأنت قد علمت سرائر أمري، وكيف أعتذر إليك إذا ختمت على لساني، ونطقت جوارحي بكل الذي قد كان مني.
سبحانك خالقي فأنا تائب إليك متبصبص، فاقبل توبتي، واستجب دعائي وارحم شبابي، وأقلني عثرتي، وارحم طول عبرتي، ولا تفضحني بالذي قد كان مني.
سبحانك خالقي أنت غياث المستغيثين، وقرة أعين العابدين، وحبيب قلوب الزاهدين، فإليك مستغاثي ومنقطعي، فارحم شبابي، واقبل توبتي، واستجب دعوتي، ولا تخذلني بالمعاصي إلى كانت مني.
إلهي علمتني كتابك الذي أنزلته على رسولك محمد صلى الله عليه وسلم. ثم وقعت على معاصيك وأنت تراني، فمن أشقى مني إذا عصيتك وأنت تراني، وفي كتابك المنزل قد نهيتني، إلهي أنا إذا ذكرت ذنوبي ومعاصيي لم تقر عيني للذي كان مني، فأنا تائب إليك فاقبل ذلك مني، ولا تجعلني لنار جهنم وقودا بعد توحيدي، وإيماني بك. فاغفر لي ولوالدي ولجميع المسلمين برحمتك آمين رب العالمين.
(2) مقارنة حال بحال فينكشف التقصير العظيم.(1/166)
(3) ومن التفكر في العيوب أن الإنسان ينظر في عمله ما دخل عليه فيه من العُجب والغرور فيرى نفس كاد أن يهلك ومهما عمل فهو مقصِّر.
(4) أن يخاف الله عز وجل .
(5) ومما يعين على المحاسبة استشعار رقابة الله على العبد وإطلاعه على خفاياه وأنه لا تخفى عليه خافية قال تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) [ ق : 16]
و قال تعالى: (وَاعْلَمُوَاْ أَنّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِيَ أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوَاْ أَنّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ) [ البقرة : 235]
(6) ومن فوائد المحاسبة التفكر في الأسئلة يوم القيامة وأن تعلم أنك مسئول يوم القيامة ، ليس سؤال المذنبين فقط، قال تعالى: (لّيَسْأَلَ الصّادِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ وَأَعَدّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً أَلِيماً) [ الأحزاب : 8]
وإذا كان الصادقين سيسألهم الله عن صدقهم فما بالك بغيرهم؟! قال تعالى: (فَلَنَسْأَلَنّ الّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنّ الْمُرْسَلِينَ) [ الأعراف : 6] وحتى الرسل يُسألون..!!!
(7) ومن فوائد المحاسبة أن يعرف حق الله تعالى عليه، فإن ذلك يورثه مقت نفسه ، والإزراء عليها ويخلصه من العجب ورؤية العمل ، ويفتح له باب الخضوع والذل والانكسار بين يدى ربه ، واليأس من نفسه ، وأن النجاة لا تحصل له إلا بعفو الله ومغفرته ورحمته ، فإن من حقه أن يطاع فلا يعصى وأن يذكر فلا يُنسى وأن يُشكر فلا يُكفر .
(5) الإكثار من الطاعات والقربات:
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
من تقرب إلى الله بما افترض عليه فقد نجح ، ومن زاد في تقربه إلى ربه بالنوافل فقد أحبه ربه.(1/167)
استكثر من الأعمال الصالحة مبتدئاً بالفرائض فكملها على أحسن وجه تستطيع ، ثم النوافل فالإكثار منها مرقق للقلب ، أكثر من ذكر الله تبرأ من النفاق ، أكثر من الصيام يباعد الله وجهك عن النار ، أكثر من قيام الليل فاستغفار الأسحار ودموع المناجاة سيماء يحتكرها المؤمنون ،لابد من اغتنام مواسم الطاعات وأيام العبادات وليالي القربات التي وجهنا إليها كتاب ربنا وسنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم .
ومن ذلك الحرص على النوافل والأذكار، وأعمال الخير وبذل المعروف فإن كل معروفٍ صدقة بنص السنة الصحيحة كما في الحديث الآتي :
( حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهمالثابت في صحيح الترمذي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :كل معروف صدقة وإن من المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلق وأن تفرغ من دلوك في إناء أخيك .
وقد حثنا النبي - صلى الله عليه وسلم - على الاستزداة من الأعمال الصالحة كما في الأحاديث الآتية :
(حديث أبي موسى الأشعري الثابت الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (على كلِ مسلمٍ صدقة فقالوا: يا نبي الله، فمن لم يجد؟ قال: يعمل بيده، فينفع نفسه ويتصدَّق قالوا: فإن لم يجد؟ قال: يعين ذا الحاجة الملهوف قالوا: فإن لم يجد؟ قال: فليعملْ بالمعروف، وليمسك عن الشر، فإنها له صدقة )
( الملهوف ) المستغيث سواء أكان مظلوماً أم عاجزا ً .
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :( كلُ ُسلامى من الناس عليه صدقة، كل يومٍ تطلع فيه الشمس، َيعِدلُ بين الاثنين صدقة، ويعين الرجلُ على دابته فيحمل عليها، أو يرفع عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وكلُ خطوةٍ يخطوها إلى الصلاة صدقة، ويميطُ الأذى عن الطريق صدقة)
(سُلامى ) أي المفاصل(1/168)
ومن أفضل الأعمال الصالحة التخلق بالخلق الحسن مع الناس، فإنه ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من الخلق الحسن بنص السنة الصحيحة كما في الأحاديث الآتية :
(حديث عبد الله بن عمرو في الصحيحين) قال لم يكن رسول الله فاحشاً ولا متفحشاً وكان يقول : إن من خياركم أحسنكم أخلاقاً .
(حديث أبي هريرة في صحيح الجامع) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق .
(حديث أبي الدر داء في صحيحي أبي داوود والترمذي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ما من شيء أثقل في الميزان من حسن الخلق ، فإن الله يُبْغِضُ الفاحشَ البذيء .
(حديث عائشة في صحيح أبي داود) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن المؤمن ليدرك بحسن الخلق درجة القائم الصائم .
(حديث أبي هريرة في صحيحي الترمذي وابن ماجة) قال : سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أكثر ما يُدخل الناس الجنة ؟ قال : تقوى الله وحسن الخلق ، وسئل عن أكثر ما يُدخل الناس النار ؟ فقال الفم والفرج .
(حديث جابر في صحيح الترمذي) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن من أحبكم إلي و أقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا و إن من أبغضكم إلي و أبعدكم مني مجلساً يوم القيامة الثرثارون و المتشدقون و المتفيهقون قالوا : يا رسول الله قد علمنا الثرثارون والمتشدقون فما المتفيهقون ؟ قال : المتكبرون .
*معنى الثرثارون : كثيري الكلام
*معنى المتشدقون : الذي يتشدَّقُ على الناس في الكلام ويبذو عليهم
(حديث أبي أمامة في صحيح أبي داود) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :أنا زعيم بيت في ربض الجنة لمن ترك المراء و إن كان محقا ، و بيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب و إن كان مازحا ، و بيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه .(1/169)
( حديث أبي ذر رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي )أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن .
ولله درُ من قال :
فاغنم العمر وبادر ... بالتقى قبل الممات
وأنب وارجع وأقلع ... من عظيم السيئات
واطلب والغفران ممن ... ترتجى منه الهبات
ثم نادي في الدياجي ... يا مجيب الدعوات
اعف عنا يا رحيماً ... وأقلنا العثرات
باب استحضار حسن الخاتمة وسوء الخاتمة :
[*] عناصر الباب :
أثر استحضار حسن الخاتمة وسوء الخاتمة في رقة القلب :
معنى حسن الخاتمة :
أسباب حسن الخاتمة :
علامات حسن الخاتمة :
صور من حسن الخاتمة :
علامات سوء الخاتمة :
صور من سوء الخاتمة :
الأسباب التي تنشأ عنها سوء الخاتمة:
وهاك تفصيل ذلك في إيجازٍ غيرِ مُخِّل :
أثر استحضار حسن الخاتمة وسوء الخاتمة في رقة القلب :
إن نصيب الإنسان من الدنيا عمره، فإن أحسن استغلاله فيما ينفعه في دار القرار ربحت تجارته، وإن أساء استغلاله في المعاصي والسيئات حتى لقي الله على تلك الخاتمة السيئة فهو من الخاسرين، وكم حسرة تحت التراب والعاقل من حاسب نفسه قبل أن يحاسبه الله ، وخاف من ذنوبه قبل أن تكون سبباًً في هلاكه،
وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد ، ودرر الفرائد .
( حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري موقوفاً ) إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مرّ على أنفه، فقال له هكذا .
[*] وقال بعض السلف: لا تنظر الى صغر المعصية ولكن انظر الى من عصيت.
[*] قال ابن حجر رحمه الله تعالى في قوله: إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه: قال ابن أبي جمرة: السبب في ذلك أن قلب المؤمن مُنَوَّر؛ فإذا رأى من نفسه ما يخالف ما ينور به قلبه عظم الأمر عليه.(1/170)
والحكمة من التمثيل بالجبل أن غيره من المهلكات قد يحصل التسبب إلى النجاة منه، بخلاف الجبل إذا سقط على الشخص لا ينجو منه عادة.
وحاصله أن المؤمن يغلب عليه الخوف؛ لقوة ما عنده من الإيمان؛ فلا يأمن العقوبة بسببها، وهذا شأن المسلم أنه دائم الخوف والمراقبة، يستصغر عمله الصالح، ويخشى من صغير عمله السيىء (1) .
وقال ابن حجر في قوله: وإن الفاجر، يرى ذنوبه كذباب..: أي ذنبه سهل عنده، لا يعتقد أنه يحصل له بسببه كبير ضرر، كما أن ضرر الذباب عنده سهل، وكذا دفعه عنه (2) .
وقال في قوله: فقال به هكذا: أي نحَّاه بيده أو دفعه: هو من إطلاق القول على الفعل، قالوا: وهو أبلغ (3) .
وقال في قوله: بيده على أنفه: هو تفسير منه لقوله فقال به.
[*] قال المحب الطبري رحمه الله تعالى : إنما كانت هذه صفة المؤمن؛ لشدة خوفه من الله ومن عقوبته؛ لأنه على يقين من الذنب، وليس على يقين من المغفرة.
[*] وقال ابن أبي جمرة: السبب في ذلك أن قلب الفاجر مظلم؛ فوقوع الذنب خفيف عنده، ولهذا تجد من يقع في المعصية إذا وعظ يقول: هذا سهل.
وقال: ويستفاد من الحديث أن قلة خوف المؤمن ذنوبه، وخفته عليه يدل على فجوره.
وقال: والحكمة في تشبيه ذنوب الفاجر بالذباب كون الذباب أخف الطير، وأحقره، وهو مما يعاين ويدفع بأقل الأشياء.
وقال: وفي ذكر الأنف مبالغة في اعتقاده خفة الذنب عنده؛ لأن الذباب قلما ينزل على الأنف، وإنما يقصد غالباً العين.
وقال: وفي إشارته بيده تأكيد للخفة أيضاً لأنه بهذا القدر اليسير يدفع ضرره (4) .
[*] قال ابن حجر رحمه الله تعالى : قال ابن بطال: يؤخذ منه أنه ينبغي أن يكون المؤمن عظيم الخوف من الله تعالى من كل ذنب صغيراً كان أو كبيراً؛ لأن الله_تعالى_قد يعذب على القليل؛ فإنه لا يُسأل عما يفعل سبحانه وتعالى (5) .
__________
(1)
(2)
(3) (4) (5) فتح الباري 11/108.
(4) فتح الباري 11/108_109.
(5) فتح الباري 11/109.(1/171)
( حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري ) قال: إنكم لتعملون أعمالاً، هي أدق في أعينكم من الشعر، إن كنا لنعدها على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من الموبقات.
والحاصل أنه لا يجوز للمؤمن أن يستهين بذنب مهما صغُر؛ فإن امرأة دخلت النار في هرة.
( حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : دخلت امرأة النار في هرة ربطتها، فلم تطعمها، ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض .
وقد نبه الله في كتابه جميع المؤمنين إلى أهمية حسن الخاتمة، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102]. وقال تعالى: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:99]
فالأمر بالتقوى والعبادة مستمر حتى الموت: لتحصل الخاتمة الحسنة. وقد بين أن بعض الناس يجتهد في الطاعات ويبتعد عن المعاصي مدة طويلة من عمره، ولكن قبيل وفاته يقترف السيئات والمعاصي مما يكون سبباً في أن يختم له بخاتمة السوء وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد ، ودرر الفرائد .
( حديث سهل بن سعد رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري ) قال : نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى رجل يقاتل المشركين، وكان من أعظم المسلمين غناء عنهم، فقال: (من أحب أن ينظر إلى رجل من أهل النار فلينظر إلى هذا). فتبعه رجل، فلم يزل على ذلك حتى جرح، فاستعجل الموت، فقال بذبابة سيفه فوضعه بين ثدييه، فتحامل عليه حتى خرج من بين كتفيه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن العبد ليعمل، فيما يرى الناس، عمل أهل الجنة وإنه لمن أهل النار، ويعمل، فيما يرى الناس، عمل أهل النار وهو من أهل الجنة، وإنما الأعمال بخواتيمها).(1/172)
(حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الصادق المصدوق، قال: (إن أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوماً نطفة ، ثم يكون علقةً مثل ذلك، ثم يكون مضغةَ مثل ذلك ، ثم يُرسل الله المَلَك فينفُخُ فيه الروح ويُؤْمَرُ بأربعِ كلمات : بكتب رزقه وأجله وعملهِ وشقي أو سعيد، فوالله إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة ، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها).
إذا كان العبد يرجو حسن الخاتمة ويخشى من سوئها واستحضر ذلك دفعه ذلك إلى ما يبعده عن سوء الخاتمة ويقربه إلى حسنها بإذن الله مما يجعل قلبه وجلاً خائفا من سوء الخاتمة راجياً حسنها ، وإذا تفكر في هذا كله رق قلبه ورجع إلى ربه امتثل أمره وانتهى عن نهيه.
معنى حسن الخاتمة :
حسن الخاتمة هو: أن يوفق العبد قبل موته للتقاصي عما يغضب الرب سبحانه،
والتوبة من الذنوب والمعاصي، والإقبال على الطاعات وأعمال الخير، ثم يكون
موته بعد ذلك على هذه الحال الحسنة، ومما يدل على هذا المعنى الحديث الآتي :
(حديث أنس الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن الله إذا أحب عبداً استعمله ، قالوا كيف يستعمله يا رسول الله ؟ قال : يوفقه لعملٍ صالحٍ قبل الموت .
أسباب حسن الخاتمة :
(1) أن يلزم الإنسان طاعة الله وتقواه، ورأس ذلك وأساسه تحقيق
التوحيد، والحذر من ارتكاب المحرمات، والمبادرة إلى التوبة مما تلطخ به
المرء منها، وأعظم ذلك الشرك كبيره وصغيره.
ومنها: أن يلح المرء في دعاء الله تعالى أن يتوفاه على الإيمان
والتقوى.
(2) أن يعمل الإنسان جهده وطاقته في إصلاح ظاهره وباطنه، وأن تكون(1/173)
نيته وقصده متوجهة لتحقيق ذلك، فقد جرت سنة الكريم سبحانه أن يوفق طالب الحق إليه، وان يثبته عليهن وأن يختم له به.
(3) الاستقامة : قال تعالى: (إِنّ الّذِينَ قَالُواْ رَبّنَا اللّهُ ثُمّ اسْتَقَامُواْ تَتَنَزّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ أَلاّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِالْجَنّةِ الّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ) [فصلت: 30]
(4) حسن الظن بالله :
(حديث أبي هريرة في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : قال الله تعالى أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني ، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، وإن ذكرني في ملأٍ ذكرته في ملٍ خيرٌ منهم ، وإن تقَّرب إليَّ شبرا تقربت إليه ذراعا وإن تقرب إليَّ ذراعا تقربت إليه باعا و إن أتاني مشيا أتيته هَرْوَلَةً .
(5) التقوى :
قال تعالى: (وَمَن يَتّقِ اللّهَ يَجْعَل لّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً) [الطلاق: 4]
(6) الصدق :
قال تعالى: (يََأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اتّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصّادِقِينَ) [التوبة: 119]
(7) التوبة :
قال تعالى: (وَتُوبُوَاْ إِلَى اللّهِ جَمِيعاً أَيّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ) [النور: 31]
(8) المداومة على الطاعات :
(9) ذكر الموت وقصر الأمل :
(10) الخوف من أسباب سوء الخاتمة كالإصرار على المعاصي وتسويف التوبة وحب الدنيا:
علامات حسن الخاتمة :
أخي الحبيب:
إعلم أن حسن الخاتمة لا تكون إلا لمن استقام ظاهرة وصلح باطنه، أما سوء الخاتمة فإنها تكون لمن كان له فساد في العقل، أو إصرار على الكبائر، وإقدام على العظائم، فربما غلب عليه ذلك حتى ينزل به الموت قبل التوبة، أو يكون مستقيماً ثم يتغير عن حاله، ويخرج عن سننه، ويقبل على معصية ربه، فيكون ذلك سبباً لسوء خاتمته، والعياذ بالله.
ولحسن الخاتمة علامات، "منها ما يعرفه العبد المحتضر عند احتضاره"، "ومنها ما يظهر للناس ".(1/174)
أما العلامة التي يظهر بها للعبد حسن خاتمته فهي ما يبشر به عند موته من
رضا الله تعالى واستحقاق كرامته تفضلا منه تعالى، كما قال تعالى: (إِنّ الّذِينَ قَالُواْ رَبّنَا اللّهُ ثُمّ اسْتَقَامُواْ تَتَنَزّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ أَلاّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِالْجَنّةِ الّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ) [فصلت: 30]، وهذه البشارة تكون للمؤمنين
عند احتضارهم، وفي قبورهم، وعند بعثهم من قبورهم.
ومما يدل على هذا أيضا الحديث الآتي :
(حديث عائشة الثابت في الصحيحين) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه و من كره لقاء الله كره الله لقاءه ، قالت عائشة أو بعض أزواجه: إنا لنكره الموت، قال: (ليس ذاك، ولكنَّ المؤمن إذا حضره الموت بُشِّر برضوان الله وكرامته، فليس شيء أحب إليه مما أمامه، فأحب لقاء الله وأحب الله لقاءه، وإن الكافر إذا حضر بُشِّر بعذاب الله وعقوبته، فليس شيء أكره إليه مما أمامه، فكره لقاء الله وكره الله لقاءه .
وفي معنى هذا الحديث قال الإمام أبو عبيد القاسم ابن سلام : (ليس وجهه
عندي كراهة الموت وشدته، لأن هذا لا يكاد يخلو عنه أحد، ولكن المذموم من ذلك إيثار الدنيا والركون إليها، وكراهية أن يصير إلى الله والدار الآخرة)، وقال :
ومما يبين ذلك أن الله تعالى عاب قوما بحب الحياة فقال تعالى: (إَنّ الّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدّنْيَا وَاطْمَأَنّواْ بِهَا وَالّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ) [يونس: 7]
وقال الخطابي: (معنى محبة العبد للقاء الله إيثاره الآخرة على الدنيا،
فلا يحب استمرار الإقامة فيها، بل يستعد للارتحال عنها، والكراهية بضد ذلك.
وقال الإمام النووي رحمه الله: معنى الحديث أن المحبة والكراهية التي
تعتبر شرعا هي التي تقع عند النزع في الحالة التي لا تقبل فيها التوبة، حيث(1/175)
ينكشف الحال للمحتضر، ويظهر له ما هو صائر إليه،
أما عن علامات حسن الخاتمة فهي كثيرة، وقد تتبعها العلماء رحمهم الله
باستقراء النصوص الواردة في ذلك، ونحن نورد هنا بعضا منها، فمن ذلك ما يلي :
الأولى : نطقه بالشهادة عند الموت :
(حديث معاوية الثابت في صحيح أبي داود) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة .
الثانية: الموت برشح الجبين :
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : المؤمن يموت بعرق الجبين .
الثالثة: الموت يوم الجمعة أو ليلة الجمعة:
(حديث عبد الله بن عمرو الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ما من مسلم يموت يوم الجمعة أو ليلة الجمعة إلا وقاه الله فتنة القبر .
الرابعة: الإستشهاد في ساحة القتال، قال الله تعالى: وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:169-171](1/176)
(حديث المِقْدَامِ بنِ مَعْدِ يكَرِبَ رضي الله عنه الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :"للشّهِيدِ عندَ الله سِتّ خِصَالٍ: يُغْفَرُ لَهُ في أَوّلِ دُفْعَةٍ ويرَى مَقْعَدَهُ مِنَ الْجَنّةِ، ويُجَارُ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ، وَيَأْمَنُ مِنَ الفَزَعِ الأكْبَرِ، وَيُوضَعُ على رأْسِهِ تَاجُ الوَقَارِ، اليَاقُوتَةُ منها خَيْرٌ مِنَ الدّنْيَا وما فيها، ويُزَوّجُ اثْنَتَيْنِ وسْبعِينَ زَوْجَةً مِنَ الْحُورِ (الْعِينِ)، وَيُشَفّعُ في سَبْعِينَ مِنْ أقَارِبِهِ" .
الخامسة: الموت غازياً في سبيل الله :
(حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما ابن عتيك الثابت في صحيحي أبي داوود والنسائي) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : الشهادة سبع سوى القتل في سبيل الله المطعون شهيد والغرق شهيد وصاحب ذات الجنب شهيد والمبطون شهيد وصاحب الحريق شهيد والذي يموت تحت الهدم شهيد والمرأة تموت بجمع شهيدة .
{ تنبيه } : المطعون من مات بالطاعون والعياذ بالله تعالى ، و ذات الجنب قروح تصيب الإنسان داخل جنبه ، والمبطون من مات بمرض البطن ، والمرأة تموت بجمع أي التي تموت عند الولادة .
السادسة: الموت بالطاعون :
(حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما ابن عتيك الثابت في صحيحي أبي داوود والنسائي) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : الشهادة سبع سوى القتل في سبيل الله المطعون شهيد والغرق شهيد وصاحب ذات الجنب شهيد والمبطون شهيد وصاحب الحريق شهيد والذي يموت تحت الهدم شهيد والمرأة تموت بجمع شهيدة .
( حديث أنس رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : الطاعون شهادة لكل مسلم .
السابعة: الموت بداء البطن :(1/177)
(حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما ابن عتيك الثابت في صحيحي أبي داوود والنسائي) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : الشهادة سبع سوى القتل في سبيل الله المطعون شهيد والغرق شهيد وصاحب ذات الجنب شهيد والمبطون شهيد وصاحب الحريق شهيد والذي يموت تحت الهدم شهيد والمرأة تموت بجمع شهيدة .
الثامنة والتاسعة: الموت بالغرق والهدم :
(حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما ابن عتيك الثابت في صحيحي أبي داوود والنسائي) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : الشهادة سبع سوى القتل في سبيل الله المطعون شهيد والغرق شهيد وصاحب ذات الجنب شهيد والمبطون شهيد وصاحب الحريق شهيد والذي يموت تحت الهدم شهيد والمرأة تموت بجمع شهيدة .
العاشرة: موت المرأة في نفاسها بسبب ولدها :
والنسائي) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : الشهادة سبع سوى القتل في سبيل الله المطعون شهيد والغرق شهيد وصاحب ذات الجنب شهيد والمبطون شهيد وصاحب الحريق شهيد والذي يموت تحت الهدم شهيد والمرأة تموت بجمع شهيدة .
( حديث راشد بن حبيش رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :القتل في سبيل الله شهادة و الطاعون شهادة و الغرق شهادة و البطن شهادة و الحرق شهادة و السل و النفساء يجرها ولدها بسررها إلى الجنة .
الحادية عشرة، والثانية عشرة : من مات بداء البطن ، وصاحب الحريق .
(حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما ابن عتيك الثابت في صحيحي أبي داوود والنسائي) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : الشهادة سبع سوى القتل في سبيل الله المطعون شهيد والغرق شهيد وصاحب ذات الجنب شهيد والمبطون شهيد وصاحب الحريق شهيد والذي يموت تحت الهدم شهيد والمرأة تموت بجمع شهيدة .
الثالثة عشرة: الموت بداء السِّل والعياذ بالله :(1/178)
( حديث راشد بن حبيش رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :القتل في سبيل الله شهادة و الطاعون شهادة و الغرق شهادة و البطن شهادة و الحرق شهادة و السل و النفساء يجرها ولدها بسررها إلى الجنة .
الرابعة عشرة: الموت في سبيل الدفاع عن المال المراد غصبه :
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :جاء رجلٌ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟ قال: "لا تعطه" ، قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: "قاتله" ، قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: "هو في النار" ، قال: وإن قتلني؟ قال: "فأنت شهيد" .
(حديث عبد الله بن عمرو الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من قتل دون ماله فهو شهيد .
(حديث سَعِيدِ بنِ زَيْدٍ رضي الله عنه الثابت في في صحيحي أبي داوود و الترمذي) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : "مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ ، ومَنْ قُتِلَ دُونَ دَينهِ فَهُوَ شَهِيدٌ ، ومَنْ قُتِلَ دُونَ دمهِ فَهُوَ شَهِيدٌ ، ومن قتل دون أهله فهو شَهِيدٌ .
الخامسة عشرة والسادسة عشرة: الموت في سبيل الدفاع عن الدين والنفس : (حديث سَعِيدِ بنِ زَيْدٍ رضي الله عنه الثابت في في صحيحي أبي داوود و الترمذي) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : "مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ ، ومَنْ قُتِلَ دُونَ دَينهِ فَهُوَ شَهِيدٌ ، ومَنْ قُتِلَ دُونَ دمهِ فَهُوَ شَهِيدٌ ، ومن قتل دون أهله فهو شَهِيدٌ .
السابعة عشرة: الموت مرابطاً في سبيل الله :(1/179)
( حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أن رسول الله قال: (رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها، وموضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما عليها، والروحة يروحها العبد في سبيل الله، أو الغدوة، خير من الدنيا وما عليها).
( حديث فضالة بن عبيد الثابت في صحيحي أبي داوود و الترمذي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :كل ميت يختم على عمله إلا المرابط فإنه ينمو عمله إلى يوم القيامة و يُؤمَّن من فُتَّاِن القبر .
الثامنة عشرة: الموت على عمل صالح ( استعمال الله للعبد) :
(حديث حذيفة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :من قال: لا إله إلا الله ابتغاءَ وجه الله خُتم له بها، دخل الجنة، ومن صام يوما ابتغاء وجه الله ختم له بها، دخل الجنة، ومن تصدق بصدقة ابتغاء وجه الله ختم له بها، دخل الجنة.
(حديث أنس الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :إن الله بِعَبْدٍ إذا أحب عبداً اسْتَعْمَلَهُ، َقِيلَ: كَيْفَ يَسْتَعْمِلُهُ يا رسولَ الله؟ قال: يُوَفّقُهُ لِعَمَلٍ صَالِحٍ قَبْلَ المَوْتِ".
التاسعة عشرة: من قتله الإمام الجائر لأنه قام إليه فنصحه :
( حديث جابر رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله .
وأيضاً ثناء الناس بالخير على الميت من جمع من المسلمين الصادقين أقلهم اثنان، من جيرانه العارفين به من ذوي الصلاح والعلم موجب له الجنة، وعلامة من علامات حسن الخاتمة:(1/180)
والمقصود: أن من كان مشغولاً بالله، وبذكره، ومحبته في حال حياته، وجد ذلك أحوج ما هو إليه عند خروج روحه إلى الله - تبارك وتعالى - ومن كان مشغولاً بغيره في حال حياته وصحته، فيعسر عليه إشتغاله بالله وحضوره معه عند الموت ما لم تدركه عناية من ربه. ولأجل هذا، كان جديراً بالعاقل أن يلزم قلبه ولسانه ذكر الله وطاعته حيثما كان لأجل تلك اللحظة التي إن فاتت، شقي شقاوة الأبد. اللهم أصلح نفوسنا بذكرك، ومحبتك، ومعرفتك، وزكها فأنت خير من زكاها.
{ تنبيه } : واعلم أخي الكريم أن ظهور شيء من هذه العلامات أو وقوعها للميت، لا
يلزم منه الجزم بأن صاحبها من أهل الجنة، ولكن يستبشر له بذلك، كما أن عدم وقوع شيء منها للميت لا يلزم منه الحكم بأنه غير صالح أو نحو ذلك. فهذا كله من
الغيب.
صور من حسن الخاتمة :
[*] دخل صفوان بن سليم على محمد بن المنكدر وهو في الموت فقال له: يا أبا عبدالله! كأني أراك قد شق عليك الموت، فما زال يهون عليه ويتجلى عن وجه محمد، حتى لكأن وجهه المصابيح، ثم قال له: لو ترى ما أنا فيه لقرت عينك، ثم مات.
[*] وقال محمد بن ثابت البناني: ذهبت ألقن أبي وهو في الموت فقلت: يا أبت! قل لا إله إلا الله. فقال: يا بني، خل عني، فإني في وردي السادس أو السابع!!
[*] ولما احتضر عبدالرحمن بن الأسود بكى ، فقيل له: مم البكاء؟ فقال: أسفاً على الصلاة والصوم، ولم يزل يتلو القرآن حتى مات.
[*] وسمع عامر بن عبدالله المؤذن وهو في مرض الموت فقال: خذوا بيدي إلى المسجد، فدخل مع الإمام في صلاة المغرب، فركع ركعة ثم مات رحمة الله.(1/181)
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه المحتضرين عن مالك بن أنس قال : كان عمر بن حسين من أهل الفضل ، والفقه ، والمشورة في الأمور ، والعبادة . وكانت القضاة تستشيره . قال مالك : ولقد أخبرني من حضره عند الموت ، فسمعه يقول : " (لِمِثْلِ هََذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ) [الصافات: 61]، فقلت لمالك : أتراه قال هذا لشيء عاينه ؟ قال : نعم "
علامات سوء الخاتمة :
وسوء الخاتمة لها أسباب يجب على المؤمن أن يحترز منها، أعظمها الإقبال على الدنيا، ومنها العدول عن الإستقامة،أو ضعف الإيمان، أو فساد الإعتقاد، أو الإصرار على المعاصي، فإن من أصر على المعاصي وطال عمره في الجاهلية، حصل في قلبه إلفها، وجميع ما ألفه الإنسان وأحبه في مدة عمره يعود ذكره عند موته، فإن كان حبه وميله إلى الطاعات أكثر، يكون ما يحضره عند الموت ذكر الطاعات، وإن كان حبه وميله إلى المعاصي أكثر ويكون أكثر ما يحضره عند الموت ذكر المعاصي.
فالقلب يشتد خوفه من فوات ما أحبه واعتاد عليه، وخاصة عند الشدائد والمصائب، فإذا تيقن القلب فوات ذلك المحبوب، ذكر ذلك المحبوب الذي يفوت بفوات حياته،
[*] قال ابن القيم رحمه الله تعالى : ولهذا - والله أعلم - كثيراً ما يعرض للعبد عند موته لهجة بما يحبه وكثرة ذكره له، وربما خرجت روحه وهو يلهج به. وكثير ما سمع من بعض المحتضرين عند الموت إذا كان مشغولاً بلعب الشطرنج ( شاه مات ) وسمع من آخر بيت شعر لم يزل يغني به حتى مات، وكان مغنياً.
وأخبرني رجل عن قرابة له أنه حضره عند الموت - وكان تاجر يبيع القماش - قال: فجعل يقول، هذه قطعة جيدة، هذه على قدرك، هذه مشتراها رخيص يساوي كذا وكذا حتى مات .
[*] قال مجاهد: ما من ميت إلا تعرض عليه أهل مجالسته الذين كان يجالس، إن كان أهل لهو فأهل لهو، وإن كان أهل ذكر فأهل ذكر.(1/182)
واحتضر رجل ممن كان يلعب بالشطرنج، فقيل له: قل لا إله إلا الله، فقال: شاهك، ثم مات. فغفل على لسانه ما كان يعتاده حال حياته في اللعب، فقال عوضاً لكلمة التوحيد: (شاهك).
صور من سوء الخاتمة :
وقيل لرجل عند الموت: قل لا إله إلا الله، وكان سمساراً، فأخذ يقول: ثلاثة ونصف.. أربعة ونصف.. غلبت عليه السمسرة.
وقيل لآخر: قل لا إله إلا الله، فجعل يقول: الدارالفلانية أصلحوا فيها كذا وكذا، والبستان الفلاني أعملوا فيه كذا، حتى مات.
وقيل لأحدهم وهو في سياق الموت: قل لا إله إلا الله، فجعل يغني، لأنه كان مفتوناً بالغناء، والعياذ بالله.
وقيل لشارب خمر عند الموت: قل لا إله إلا الله، فجعل يقول: اشرب واسقني نسأل الله العافية.
ثم مات. فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وهكذا مَنْ كَبُرَ سنه، وعظم معه شره، وصار في كبره شراً منه في صغره، عادةً، تتعذر توبته، ولا يوفق لعمل صالح يمحو به ما قد سلف، ويخشى عليه من سوء الخاتمة، كما قد وقع ذلك لخلق كثير ماتوا بأدرانهم وأوساخهم، لم يتطهروا منها قبل الخروج من الدنيا. وهذا من خذلان الشيطان للإنسان عند الموت، فإنها معركته الأخيرة.
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه المحتضرين عن خزيمة أبي محمد العابد قال : " مر مالك بن دينار على رجل ، فرآه على بعض ما يكره ، فقال : يا هذا اتق الله . قال : يا مالك دعنا ندق العيش دقا . فلما حضرت الرجل الوفاة قيل له : قل لا إله إلا الله . قال : إني أجد على رأسي ملكا يقول : والله لأدقنك دقا "(1/183)
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه المحتضرين عن عبد العزيز بن أبي رواد قال : حضرت رجلا في النزع ، فجعلت أقول له : لا إله إلا الله . فكان يقول . فلما كان في آخر ذلك قلت له : قل لا إله إلا الله . قال : كم تقول ؟ إني كافر بما تقول . وقبض على ذلك فسألت امرأته عن أمره فقالت : كان مدمن خمر فكان عبد العزيز يقول : اتقوا الذنوب ، فإنما هي أوقعته .
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه المحتضرين عن داود بن بكر : أن رجلا مرض ، فلما حضرته الوفاة قال : هذه الملائكة يضربون وجهه ودبره ، يقول ذلك لأهله . فقلت لداود : ما هو ؟ قال : كان رجلا يقول بالتكذيب بالقدر .
وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد ، ودرر الفرائد .
(حديث سعيد ابن المسيَّب عن أبيه الثابت في الصحيحين) قال لما حضرت أبا طالبٍ الوفاة جاءه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوجد عنده أبا جهل وعبد الله بن أمية بن المغيرة فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : يا عم قل لا إله إلا الله كلمةً أشهد لك بها عند الله ، فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية : يا أبا طالب أترغبُ عن ملةِ عبد المطلب ؟ ، فلم يزل رسول الله يعرضها عليه ويعيدُ له تلك المقالة حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم هو على ملةِ عبد المطلب وأبى أن يقول لا إله إلا الله ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أما والله لأستغفرنَّ لك ما لم أُنه عنك فأنزل الله تعالى: (مَا كَانَ لِلنّبِيّ وَالّذِينَ آمَنُوَاْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوَاْ أُوْلِي قُرْبَىَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيّنَ لَهُمْ أَنّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ) [سورة: التوبة - الآية: 113](1/184)
وقد ورد أن الشيطان يحضر ابن آدم عند احتضاره وخروج روحه، ويعرض عليه كل ملة غير الإسلام، ويتمثل له بصورة الناصح الأمين كالأب، والأم، والأخ، والصديق الحميم فيقولون له: مت يهودياً فهو الدين المقبول عند الله تعالى. أو يقولون له: مت نصرانياً فإنه دين المسيح المقبول عند الله تعالى. ويذكرون له عقائد كل ملة حتى يموت على غير ملة الإسلام. وهذا غرضه لعنه الله.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عبد الله بن أحمد بن حنبل: حضرت أبي الوفاة لجلست عنده وبيدي الخرقة وهو في النزع لأشد لحييه، فكان يغرف حتى نظن أن قد قضي، ثم يفيق ويقول: لا بعد لا بعد بيده، ففعل ها مرة وثانية، فلما كان في الثالثة قلت له: يا أبت إيش هذا الذي قد لهجت به في هذا الوقت ؟ فقال لي: يا بني ما تدرس ؟ فقلت: لا فقال: إبليس لعنه الله، قام بحذائي عاضاً علي أنامله يقول: يا أحمد فُتَّنِّي وأنا أقول: لا بعد. حتى أموت.
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه المحتضرين عن خالد بن أبي الهيثم قال : حدثني رجل من أهل الشام يقال له البراء قال : " شهدت فتى يموت ، فجعل يظهر بجسده مثل ضرب السياط ، فيتوجع ويقول : دعوني أقل ، هو ذا أقول . ادعوا لي أبي . فإذا دعي أبوه يقول : واسوأتاه . ثم يكف . يمكث هكذا يومين أو يليه . فلما انقضى أجله قال : هو ذا أقول ، ادعوا لي أبي . فلما دعوه قال : يا أبتاه ، اعلم أني كنت أخالفك إلى امرأتك ثم مات "(1/185)
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه المحتضرين عن أبي إسحاق الفزاري أنه قال لعبد الله بن المبارك : " يا أبا عبد الرحمن ، كان رجل من أصحابنا جمع من العلم أكثر مما جمعت وجمعت ، فاحتضر ، فشهدته ، فقال له : قل لا إله إلا الله . فيقول : لا أستطيع أن أقولها . ثم تكلم ، فيتكلم . قال ذلك مرتين . فلم يزل على ذلك حتى مات قال : فسألت عنه ، فقيل : كان عاقا بوالديه . فظننت أن الذي حرم كلمة الإخلاص لعقوقه بوالديه "
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه المحتضرين عن قال الربيع بن برة : " رأيت بالأهواز رجلا يقال له وهو في الموت : يا فلان ، قل لا إله إلا الله . قال : ده دوازده ، ده شازده ، ده جهارده قال : ورأيت بالشام رجلا يقال له وهو في الموت : قل لا إله إلا الله . فقال : اشرب واسقه وقد قيل لرجل ها هنا بالمعرة : قل لا إله إلا الله ، فقال : يا رب قائلة يوما وقد لغبت كيف الطريق إلى حمام منجاب "
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه المحتضرين عن ابن أبي رواد ، أو غيره قال : " قيل لرجل عند موته : قل لا إله إلا الله . قال : هو كافر بما تقول "
[*] قال القرطبي: وقد سمعت شيخنا الإمام أبا العباس أحمد بن عمر القرطبي يقول: ( حضرت أخا شيخنا أبي جعفر أحمد بن محمد القرطبي بقرطبة، وقد احتضر، فقيل له لا إله إلا الله، فكان يقول: لا، لا. فلما أفاق ذكرنا له ذلك، فقال: أتاني شيطانان عن يميني وعن شمالي يقول أحدهما: مت يهودياً فإنه خير الأديان. والآخر يقول: مت نصرانياً فإنه خير الأديان. فكنت أقول لهما لا، لا. إليّ تقولان هذا؟.
[*] وقال ابن الجوزي: ورأيت بعض من تعبد مدة ثم فتر، فبلغني أنه قال: ( قد عبدته عبادة ما عبده بها أحداً ). قال ابن الجوزي: ما أخوفني أن تكون كلمته هذه سبباً لرد الكل.(1/186)
[*] قال ابن كثير: والمقصود.. أن الذنوب والمعاصي والشهوات، تخذل صاحبها عند الموت مع خذلان الشيطان له، فيجتمع عليه الخذلان مع ضعف الإيمان، فيقع في سوء الخاتمة، قال الله تعالى: وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولاً [[لفرقان:29] وسوء الخاتمة أعاذنا الله منها لا يقع فيها من صلح ظاهره وباطنه مع الله، وصدق في أقواله وأعماله، فإن هذا لم يسمع به، وإنما يقع سوء الخاتمة لمن فسد باطنه عقداً، وظاهره عملاً، ولمن له جرأة على الكبائر، وإقدام على الجرائم، فربما غلب ذلك عليه حتى ينزل به الموت قبل التوبة .
[*] الأسباب التي تنشأ عنها سوء الخاتمة:
(1) التسويف بالتوبة:
(2) طول الأمل:
(3) حب المعصية وأُلفها واعتيادها:
(4) الانتحار:
وهاك تفصيل ذلك في إيجازٍ غيرِ مُخِّل :
(1) التسويف بالتوبة:
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
والتوبة إلى الله من جميع الذنوب واجبة على كل مكلف كل لحظة كما يدل عليه قوله تعالى: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31]
وكان ـ وهو مغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر- يتوب إلى الله كل يوم مائة مرة كما في الحديث الآتي :
(حديث الأغرِّ المُزني في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : يا أيها الناس لِلَّهِ توبوا إلى الله واستغفروه فإني أتوب إلى الله في اليوم مائة مرة .
ومن أخبث حيل إبليس التي يحتال بها على الناس التسويف في التوبة، فيوسوس للعاصي بأن يتمهل في التوبة، فإن أمامه زمناً طويلاً، ولو تاب الآن ثم رجع لا يمكن أن تقبل توبته بعد ذلك، فيكون من أصحاب النار، أو يوسوس له بأنه إذا بلغ الخمسين أو الستين مثلاً عليه أن يتوب توبة نصوحاً، ويلزم المسجد ويكثر القربات، أما الآن فإنه في شبابه وزهرة عمره فليمتع نفسه ولا يشق عليها بالتزام الطاعات من الآن.
هذه بعض مكائد إبليس في التسويف في التوبة.(1/187)
قال بعض السلف الصالح: أنذركم سوف، فإنها أكبر جنود إبليس، ومثل المؤمن الحازم الذي يتوب إلى الله من كل ذنب وفي كل وقت خوفاً من سوء الخاتمة ومحبة لله، والمفرط المسوف الذي يؤخر توبته، كمثل قوم في سفر دخلوا قرية، فاما الحازم فاشترى ما يصلح لتمام سفره وجلس متأهباً للرحيل، أما المفرط فإنه يقول كل يوم: سأهب غداً ،حتى أعلن أمير القافلة الرحيل ولا زاد معه، وهذا مثل للناس في الدنيا، فإن المؤمن الحازم متى ما جاء الموت لم يندم، أما العاصي المفرط فإنه يقول رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ [المؤمنون:100،99]
(2) طول الأمل:
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
وهو سبب شقاء كثير من الناس حين يخدع الشيطان أحدهم فيصور له أن أمامه عمرا طويلا وسنين متعاقبة، يبني فيها آمالا شامخة، فيجمع همته لمواجهة هذه السنين ولبناء هذه الامال، وينسى الآخرة ولا يتذكر الموت، وإذا ذكره يوما برم منه، لأنه ينغص عليه لذاته، ويكدر عليه صفو عيشه، وقد حذرنا منه الرسول أشد تحذير فقال:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت الثابت في الصحيحين) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :( لا يزالُ قلب الكبير شاباً في اثنين : في حُبِ الدنيا وطولِ الأمل )
[*] قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح :
لا يزال قلب الكبير شابا في اثنتين في حب الدنيا وطول الأمل : المراد بالأمل هنا محبة طول العمر فسره حديث أنس الذي بعده في آخر الباب وسماه شابا إشارة الى قوة استحكام حبه المال .
(حديث أنس الثابت الثابت في صحيح البخاري) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يكبر ابن آدم ويكبر معه اثنتان: حبُّ المال وطول العمر .(1/188)
وقال أيضاً : وفي الأمل سر لطيف لأنه لولا الأمل ما تهنى أحد بعيش ولا طابت نفسه ان يشرع في عمل من أعمال الدنيا وانما المذموم منه الاسترسال فيه وعدم الاستعداد لأمر الآخرة فمن سلم من ذلك لم يكلف بإزالته وقوله في اثر علي فان اليوم عمل ولا حساب وغداً حساب ولا عمل جعل اليوم نفس العمل والمحاسبة مبالغة وهو كقولهم نهاره صائم والتقدير في الموضعين ولا حساب فيه ولا عمل فيه وقوله ولا حساب بالفتح بغير تنوين ويجوز الرفع منونا وكذا قوله ولا عمل .
فإذا أحب الإنسان الدنيا أكثر من الآخرة آثرها عليها، واشتغل بزينتها وزخرفها وملذاتها عن بناء مسكنه في الآخرة في جوار الله في جنته، مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.
مسألة : كيف يظهر أثر قصر الأمل :
الجواب : يظهر أثر قصر الأمل في المبادرة إلى الأعمال الصالحة واغتنام أوقات العمر، فإن الأنفاس معدودة والأيام مقدرة، وما فات لن يعود، وعلى الطريق عوائق كثيرة بينها . وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد ، ودرر الفرائد .
( حديث بن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح البخاري ) قال:أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل). وكان ابن عمر يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك .
(حديث ابن عباس الثابت في صحيحي أبي داوود و ابن ماجه ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (من أراد الحج فليتعجل فإنه قد يمرض المريض وتضل الضالة وتعرض الحاجة .(1/189)
وقد أرشد رسول الله المؤمنين إلى ما يبعد عنهم طول الأمل ويبصرهم بحقيقة الدنيا، فأمر بتذكر الموت وبزيارة القبور وبتغسيل الموتى وتشييع الجنائز وعيادة المرضى وزيارة الصالحين، فإن كل هذه الأمور توقظ القلب من غفلته، وتبصره بما سيقدم عليه فيستعد له، وسنتكلم عن ذلك بإيجاز:
أ ) أما ذكر الموت دائما فإنه يزهد في الدنيا ويرغب في الآخرة، فيحمل على الاجتهاد في العمل الصالح وعدم الركون إلى الشهوات المحرمة في الدنيا الفانية. ( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أكثروا ذكر هاذم اللذات يعني الموت .
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أكثروا ذكر هاذم اللذات: الموت فإنه لم يذكره أحد في ضيق من العيش إلا وسعه عليه و لا ذكره في سعة إلا ضيقها عليه .
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح ابن ماجة) قال : أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت عليك السلام ، فقال لا تقل عليك السلام فإن عليك السلام تحية الميت ،قلت يا رسول الله أي المؤمنين أفضل قال أحسنهم خلقا قال فأي المؤمنين أكيس قال أكثرهم للموت ذكرا وأحسنهم لما بعده استعدادا أولئك الأكياس .
ثم يفكر الإنسان في الموتى، ألم يكونوا أقوياء الأبدان يملكون الأموال ويأمرون وينهون، واليوم قد تسلط الدود على أجسادهم فنخرها، وعلى عظامهم فبددها؟ ثم يفكر هل له أن يسلم من الموت أم أنه سيصل إلى ما وصل إليه أولئك فيستعد لتلك الدار،ويتأهب بالأعمال الصالحة، فإنها العملة النافقة في الآخرة...(1/190)
ب) أما زيارة المقابر فإنها عظة بليغة للقلوب، فإذا رأى الإنسان المساكن المظلمة المحفورة، ورأى هذه النهاية التي يحثو فيها أحياء الميت عليه التراب بعد إدخاله في لحد ضيق، وإغلاقه عليه بلبنات من طين، ثم يرجعون عنه ويقتسمون أمواله، ويتملكون مخصصاته، وتزوجت نساؤه، وينسى بعد أن كان صاحب الكلمة في البيت، يأمر فيطاع، وينهى فلا يعصى، فإذا زار المؤمن المقبرة وتفكر في ذلك أدرك فائدة أمر النبي بزيارة القبور .
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) قال * زار النبي - صلى الله عليه وسلم - قبر أمه فبكى وأبكى من حوله فقال استأذنت ربي في أن أستغفر لها فلم يؤذن لي واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي فزوروا القبور فإنها تذكر الموت .
(حديث بريدة الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكركم الآخرة .
(حديث البراء رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجه ) قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة فجلس على شفير القبر فبكى حتى بل الثرى ثم قال يا إخواني لمثل هذا فأعدوا .
ج) أما تغسيل الموتى وتشييع الجنائز فإن في تقليب الجسد على خشبة المغسلة عظة بليغة، وربما كان شديد البطش والهيبة، وقد صار بالموت جسداً خامداً لا حراك به، يقلبه الغاسل كيف يشاء.
[*] وكان مكحول الدمشقي إذا رأى جنازة قال: اغدوا فإنا رائحون، موعظة بليغة وغفلة سريعة، يذهب الأول، والآخر لا عقل له .
[*] وكان عثمان - رضي الله عنه - : إذا شيع الجنازة ووقف على القبر بكى، فقيل له: تذكر الجنة والنار فلا تبكي، وتبكي إذا وقفت على القبر؟ فقال: سمعت رسول الله يقول: { إن القبر أول منازل الآخرة، فإن نجا منه صاحبه فما بعده أيسر منه، وإن لم ينج منه فما بعده أشد.(1/191)
د) أما زيارة الصالحين فلأنها توقظ القلب وتبعث الهمة، فإن الزائر يرى الصالحين وقد اجتهدوا في العبادة وتنافسوا في الطاعات، لا غاية لهم إلا رضا الله، ولا هدف لهم إلا الفوز بجنته، معرضين عن التفاني على الدنيا والاشتغال بها، لأنها معوقة عن السير في ذلك الطريق الشريف. وقد أرشد الله نبيه أن يصبر نفسه مع هؤلاء: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً [الكهف:28]
وقيل للحسن : يا أبا سعيد، كيف نصنع؟ أنجالس أقواما يخوفوننا حتى تكاد قلوبنا تطير؟ فقال: والله إنك إن تخالط أقواماً يخوفونك حتى يدركك أمن خير لك من أن تصحب أقواما يؤمنونك حتى يدركك خوف.
(3) حب المعصية وأُلفها واعتيادها:
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
فإذا ألف الإنسان معصية من المعاصي ولم يتب منها فإن الشيطان يستولي بها على تفكيره حتى في اللحظات الأخيرة من حياته، فإذا أراد أقرباؤه أن يلقنوه الشهادة ليكون آخر كلامه لا إله إلا الله ، طغت هذه المعصية على تفكيره فتكلم بما يفيد انشغاله بها وإليك بعض قصص هؤلاء: رجل كان يعمل دلالاً في السوق ولما حضرته الوفاة لقنه أولاده الشهادة، فكانوا يقولون له: قل لا إله إلا الله، فيقول: أربعة ونصف أربعة ونصف. وقيل لآخر: قل لا إله إلا الله، فقال:
يارب قائلة يوماً وقد تعبت *** كيف الطريق إلى حمام منجاب
وقيل لآخر: قل لا إله إلا الله، فجعل يغني، وربما أدركه الموت في المعصية نفسها، فيلقى الله على تلك الحال التي تغضبه، فإن من مات على شيء بعثه الله عليه بنص السنة الصحيحة كما في الحديث الآتي :(1/192)
( حديث جابر رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من مات على شيء بعثه الله عليه .
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
( من مات على شيء بعثه اللّه عليه ) أي يموت على ما عاش عليه ويراعى في ذلك حال قلبه لا حال شخصه لأن نظر الحق إلى القلوب دون ظواهر الحركات فمن صفات القلوب تصاغ الصور في الدار الآخرة ولا ينجو فيها إلا من أتى اللّه بقلب سليم كذا قرره حجة الإسلام .
(4) الانتحار:
ـــ ـــ ـــ ـــ
فإذا أصاب المسلم مصيبة فصبر واحتسب كانت له أجراً، وإن جزع وتضايق من الحياة ورأى أن أحسن طريق له يتخلص به من هذه الأمراض والمشاكل هو الانتحار فقد اختار المعصيه، وأسرع إلى غضب الله، وقتل نفسه بدون حق.
(حديث جندب بن عبد الله رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : كان فيمن كان قبلكم رجل به جرح،فجزع، فأخذ سكينا فحز بها يده، فما رقأ الدم حتى مات، قال الله تعالى: بادرني عبدي بنفسه، حرمت عليه الجنة).
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :من تردَّى من جبل فقتل نفسه، فهو في نار جهنم يتردَّى فيه خالداً مخلَّداً فيها أبداً، ومن تحسَّى سماً فقتل نفسه، فسمه في يده يتحسَّاه في نار جهنم خالداً مخلَّداً فيها أبداً، ومن قتل نفسه بحديدة، فحديدته في يده يجأ بها في بطنه في نار جهنم خالداً مخلَّداً فيها أبداً).(1/193)
( حديث سهل بن سعد رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري ) قال : نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى رجل يقاتل المشركين، وكان من أعظم المسلمين غناء عنهم، فقال: (من أحب أن ينظر إلى رجل من أهل النار فلينظر إلى هذا). فتبعه رجل، فلم يزل على ذلك حتى جرح، فاستعجل الموت، فقال بذبابة سيفه فوضعه بين ثدييه، فتحامل عليه حتى خرج من بين كتفيه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن العبد ليعمل، فيما يرى الناس، عمل أهل الجنة وإنه لمن أهل النار، ويعمل، فيما يرى الناس، عمل أهل النار وهو من أهل الجنة، وإنما الأعمال بخواتيمها).
{ تنبيه } : قاتل نفسه لا يخلد في النار إلا إذا استحل قتل نفسه :
لقوله تعالى : (إن اللَّهَ لا يَغْفِرُ أن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ)(النساء: الآية48) .
(حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال وحوله عُصابة من أصحابه ( بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتانٍ تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوا في معروف، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب في الدنيا فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئاً فستره الله، فأمره إلى الله: إن شاء عاقبه وإن شاء عفا عنه).فبايعناه على ذلك.
باب ساعة الاحتضار :
[*] عناصر الباب :
أحوال الناس عند الاحتضار :
لحظات المحتضرين:
من دُرَرِ أقوال المحتضرين لحظة الاحتضار :
تعزية النفس عند الاحتضار بالصبر والاحتساب :
البكاء عند الموت مخافة سوء المرد :
سكرات الموت:
الثبات عند الموت :
ما يسن عند الاحتضار :
وهاك تفصيل ذلك في إيجازٍ غيرِ مُخِّل :
أحوال الناس عند الاحتضار :
بَيَّنَ القرآن الكريم أن أحوال الناس عند احتضارهم إحدى أحوالٍ ثلاثة هي :(1/194)
إما أن يكون من المقربين ، أو يكون ممن دونهم من أصحاب اليمين. وإما أن يكون من المكذبين الضالين عن الهدى، الجاهلين بأمر الله :
قال تعالى: { فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنزلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96) } .[ الواقعة 96:88]
[*] قال الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسيره :
{ فَأَمَّا إِنْ كَانَ } أي: المحتضر،
{ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ } ، وهم الذين فعلوا الواجبات والمستحبات، وتركوا المحرمات والمكروهات وبعض المباحات،
{ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ } أي: فلهم روح وريحان، وتبشرهم الملائكة بذلك عند الموت، كما تقدم في حديث البراء: أن ملائكة الرحمة تقول: "أيتها الروح الطيبة في الجسد الطيب كنت تعمرينه، اخرجي إلى روح وريحان، ورب غير غضبان".
قال علي بن طلحة (3) ، عن ابن عباس: { فَرَوْحٌ } يقول: راحة وريحان، يقول: مستراحة.
وقوله: { وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ } أي: وأما إن كان المحتضر من أصحاب اليمين،
{ فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ } أي: تبشرهم الملائكة بذلك، تقول لأحدهم: سلام لك، أي: لا بأس عليك، أنت إلى سلامة، أنت من أصحاب اليمين.
وقال قتادة وابن زيد: سَلِمَ من عذاب الله، وسَلَّمت عليه ملائكة الله. كما قال عِكْرِمَة تسلم عليه الملائكة، وتخبره أنه من أصحاب اليمين.
{ وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ . فَنزلٌ مِنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ } أي: وأما إن كان المحتضر من المكذبين بالحق، الضالين عن الهدى،(1/195)
{ فَنزلٌ } أي: فضيافة
{ مِنْ حَمِيمٍ } وهو المذاب الذي يصهر به ما في بطونهم والجلود،
{ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ } أي: وتقرير له في النار التي تغمره من جميع جهاته.
ثم قال تعالى:
{ إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ } أي: إن هذا الخبر لهو حق اليقين الذي لا مرية فيه، ولا محيد لأحد عنه.أهـ
(حديث عائشة الثابت في الصحيحين) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه و من كره لقاء الله كره الله لقاءه ، قالت عائشة أو بعض أزواجه: إنا لنكره الموت، قال: (ليس ذاك، ولكنَّ المؤمن إذا حضره الموت بُشِّر برضوان الله وكرامته، فليس شيء أحب إليه مما أمامه، فأحب لقاء الله وأحب الله لقاءه، وإن الكافر إذا حضر بُشِّر بعذاب الله وعقوبته، فليس شيء أكره إليه مما أمامه، فكره لقاء الله وكره الله لقاءه .
لحظات المحتضرين:
ولا بأس أخي الكريم، أن أذكر لك بعض لطائف المحتضرين، ممن فتح الله عليهم لحظة الموت بالثبات واليقين وختم لهم بصالح الأعمال جزاء على ما قدموا في حياتهم من الطاعات والقربات.
[*] فقد حكى القرطبي في كتابه التذكرة: عن شيخ شيخه أحمد بن محمد القرطبي أنه احتضر فقيل له: قل لا إله إلا الله، فكان يقول: لا. فلما أفاق ذكرنا له ذلك، فقال: أتاني شيطان عن يميني وعن يساري. يقول أحدهما: مت يهودياً فإنه خير الأديان. والآخر يقول: مت نصرانياً فإنه خير الأديان. فكنت أقول لهم: لا. لا. أنى تقولان هذا!! فكان الجواب لهما لا لكم.
فتذكر أخي الكريم عسر هذه اللحظات، وتذكر ما يحصل فيها من البلاء والفتن، فوالله إنها لأحرى بالتذكر والتأمل، والاستعداد والتشمير عن ساعد الجد بالانتهاء عما حرّم الله، وفعل ما افترضه وأوجبه، والإكثار من الخيرات وما ينفع في الدار الآخرة. فإن ذلك من أعظم ما يسهل على المرء سكرة الموت، ويجعله ثابتاً موقناً في دينه ساعة الاحتضار.(1/196)
فهذا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى يحتضر ويقرأ: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ [القمر:55،54]
من دُرَرِ أقوال المحتضرين لحظة الاحتضار :
هآنذا أنقل لك كلام المحتضرين لتعلم علم اليقين الذي لا يخالطه شك مدى حقارة الدنيا وزوالها وأنها ظلُ زائر وخيال حائر وأن إقبالها خديعة وإدبارها فجيعة لا تدوم أحوالها ولا يسلم نزالها ، حالها انتقال وسكونها زوال ، غَرَّارَةٌ خَدُوع مُعْطِيَةٌ مَنُوع نزوع ، فاسمع مقالتهم فيها عند حضور الموت وهم الذين ملكوا الدنيا بأسرها ، وتأمل في قولهم بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد ، ودرر الفرائد .
قول النبي - صلى الله عليه وسلم - عند حضور الموت :
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ما من نبي يمرض إلا خير بين الدنيا والآخرة ، وكان في شكواه الذي قبض فيه، أخذته بحة شديدة، فسمعته يقول: قال تعالى: (مَعَ الّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مّنَ النّبِيّينَ وَالصّدّيقِينَ وَالشّهَدَآءِ وَالصّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولََئِكَ رَفِيقاً) [: النساء : 69] فعلمت أنه خير.
( حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه الثابت في صحيح أبي داوود ) قال : كان آخر كلام النبي صلى الله عليه وسلم : " الصلاة الصلاة ، اتقوا الله فيما ملكت أيمانكم "
(حديث أنس بن مالك رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجه ) قال : كانت عامة وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حضرته الوفاة وهو يغرغر بنفسه الصلاة وما ملكت أيمانكم .(1/197)
( حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيح البخاري ) قالت : إن من نعم الله علي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي في بيتي، وفي يومي، وبين سحري ونحري، وأن الله جمع بين ريقي وريقه عند موته: دخل علي عبد الرحمن، وبيده السواك، وأنا مسندة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأيته ينظر إليه، وعرفت أنه يحب السواك، فقلت: آخذه لك؟ فأشار برأسه: (أن نعم). فتناولته، فاشتد عليه، وقلت: الينه لك؟ فأشار برأسه: (أن نعم). فلينته، فأمره، وبين يديه ركوة أو علبة - يشك عمر - فيها ماء، فجعل يدخل يديه في الماء فيمسح بهما وجهه، يقول: (لا إله الإ الله، إن للموت سكرات). ثم نصب يده، فجعل يقول: (اللهم في الرفيق الأعلى). حتى قبض ومالت يده.
(حديث عائشة رضي الله عنه الثابت في فقه السيرة وصححه الألباني ) قالت : وكان إلى جواره قدح فيه ماء يغمس فيه يده ثم يمسح وجهه بالماء ويقول:
اللهم أعني على سكرات الموت .
(حديث أنس بن مالك رضي الله عنه الثابت في صحيح البخلري ) قال:لما ثقل النبي صلى الله عليه وسلم جعل يتغشاه، فقالت فاطمة عليها السلام: واكرب أباه، فقال لها: (ليس على أبيك كرب بعد اليوم). فلما مات قالت: يا أبتاه، أجاب ربا دعاه، يا أبتاه، من جنة الفردوس مأواه، يا أبتاه، إلى جبريل ننعاه. فلما دفن قالت فاطمة عليها السلام: يا أنس، أطابت أنفسكم أن تحثوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم التراب.
(حديث أنس بن مالك رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجه ) قال: لما وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم من كرب الموت ما وجد قالت فاطمة وا كرب أبتاه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا كرب على أبيك بعد اليوم إنه قد حضر من أبيك ما ليس بتارك منه أحدا الموافاة يوم القيامة .
قول الخلفاء والملوك والأمراء عند حضور الموت :(1/198)
إن مقالة الخلفاء والملوك والأمراء عند حضور الموت تؤكد بما لا يدعُ مجالاً للشك على تمام التسليم لأمر الله والافتقار إلى رحمته الواسعة والخوف من عذابه :
مقالة الخلفاء والملوك والأمراء عند حضور الموت ذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ، كلامهم يشرح الصدور ويبكى الصخور ، كلامٌ يُفْري الأكباد ويذيب الأجساد ، كلامٌ يُذَكِرُ العاقل وَيُقَوِّمُ المائل ويُنَبِّهُ الغافِل .
مقالة الخلفاء والملوك والأمراء عند حضور الموت تُبَيِّنُ لك بياناً شافياً مدى حقارةِ الدنيا وأنها ظلُ زائر وخيالُ حائر ، وأن إقبالها خديعة وإدبارها فجيعة لا تدوم أحوالها ولا يسلم نزالها ، حالها انتقال وسكونها زوال ، غَرَّارَةٌ خَدُوع مُعْطِيَةٌ مَنُوع نزوع ، فاسمع مقالتهم فيها عند حضور الموت وهم الذين ملكوا الدنيا بأسرها ، وتأمل في قولهم بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد ، ودرر الفرائد .
قول أبي بكر الصديق عند حضور الموت :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه المحتضرين عن البهي قال : " لما احتضر أبو بكر ، جاءت عائشة فتمثلت بهذا البيت : لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى إذا حشرجت يوما وضاق به الصدر فكشف عن وجهه فقال : ليس كذاك ، ولكن قولي : (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ) [ق : 19]) ، انظروا ثوبي هذين فاغسلوهما وكفنوني فيهما ؛ فإن الحي أحوج إلى الجديد من الميت "
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه المحتضرين عن مالك بن مغول ، سمع أبا السفر قال : دخلوا على أبي بكر في مرضه فقالوا : يا خليفة رسول الله ، ألا ندعو لك طبيبا ينظر إليك ؟ قال : " قد نظر إلي ، قالوا : ما قال ؟ قال : إني فعال لما أريد "(1/199)
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه المحتضرين عن أبي عمران الجوني ، عن أسير قال : قال سلمان : دخلت على أبي بكر في مرضه فقلت : يا خليفة رسول الله ، اعهد إلي عهدا ؛ فإني لا أراك تعهد إلي بعد يومك هذا شيئا ، قال : " أجل يا سلمان ، إنها ستكون فتوح ، فلا أعرفن ما كان من حظك منها ما جعلت في بطنك أو ألقيته على ظهرك ، واعلم أنه من صلى الصلوات الخمس فإنه يصبح في ذمة الله ، فلا تقتلن أحدا من أهل ذمة الله ؛ فيطلبك الله بذمته ، فيكبك على وجهك في النار "
قول عمر ابن الخطاب عند حضور الموت :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه المحتضرين عن المسور بن مخرمة قال : قال كعب لعمر : يا أمير المؤمنين ، اعهد ؛ فإنك ميت في ثلاثة أيام ، فقال عمر : الله إنك تجد عمر بن الخطاب في التوراة ؟ قال : اللهم لا ، ولكن أجد صفتك وحليتك ، قال : وعمر لا يحس أجلا ولا وجعا . فلما مضت ثلاث طعنه أبو لؤلؤة ، فجعل يدخل عليه المهاجرون والأنصار فيسلمون عليه ، ودخل في الناس كعب ، فلما نظر إليه عمر قال : فأوعدني كعب ثلاثا يعدها ولا شك أن القول ما قال لي كعب وما بي حذار الموت إني لميت ولكن حذار الذنب يتبعه الذنب .
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه المحتضرين عن ابن عمر ، قال : كان رأس عمر في حجري في مرضه الذي مات فيه ، فقال لي : " ضع خدي على الأرض ، فقلت : وما كان عليك كان في حجري أو على الأرض ؟ فقال : ضعه لا أم لك ، فوضعته ، فقال : ويلي ، ويل لأمي إن لم يرحمني ربي "
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه المحتضرين عن الحسن ، أن عمر ، لما حضرته الوفاة قال : " لو أن لي ما على الأرض لافتديت به من هول المطلع "(1/200)
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه المحتضرين عن عمرو بن دينار ، قال : قال لي عمر بن الخطاب حين حضره الموت : " لو أن لي الدنيا وما فيها لافتديت بها من النار ، وإن لم أرها "
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه المحتضرين عن أبان بن عثمان قال : دخلت على عمر بن الخطاب حين طعن ، ورأسه في التراب ، فذهبت أرفعه ، فقال : " دعني ، ويلي ، ويل أمي إن لم يغفر لي . ويلي ، ويل أمي إن لم يغفر لي "
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه المحتضرين عن ابن عباس قال : لما طعن عمر قلت له : أبشر بالجنة ، فقال : " والله لو كان لي الدنيا وما فيها لافتديت به من هول ما أمامي قبل أن أعلم ما الخبر "
قول عثمان ابن عفان عند حضور الموت :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه المحتضرين عن عبد الله بن سلام أنه قال لمن حضر تشحط عثمان في الموت حين ضربه أبو رومان الأضحى : ماذا كان قول عثمان وهو يتشحط (1) ؟ قالوا : سمعناه يقول : " اللهم اجمع أمة محمد ، اللهم اجمع أمة محمد ، اللهم اجمع أمة محمد " ثلاثا . قال : والذي نفسي بيده لو دعا الله علي تلك الحال أن لا يجتمعوا أبدا ما اجتمعوا إلى يوم القيامة .
يتشحط : يتخبط ويتمرغ ويضطرب .
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه المحتضرين عن هارون بن أبي يحيى السلمي ، عن شيخ من ضبة ، أن عثمان جعل يقول حين ضرب والدماء تسايل على لحيته : ( لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ، اللهم إني أستعديك عليهم ، وأستعينك على جميع أموري ، وأسألك الصبر على ما أبليتني .(1/201)
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه المحتضرين عن أبي قتادة قال : دخلت على عثمان وهو محصور - أنا ورجل من قومي - نستأذنه في الحج ، فأذن لنا . فلما خرجت استقبلني الحسن بن علي بالباب ، فدخل وعليه سلاحه ، فرجعت معه ، فدخل ، فوقف بين يدي عثمان وقال : يا أمير المؤمنين ، ها أنذا بين يديك فمرني بأمرك ، فقال له عثمان : " يا ابن أخي وصلتك رحم ، إن القوم ما يريدون غيري ، ووالله لا أتوقى بالمؤمنين ، ولكن أوقي المؤمنين بنفسي . فلما سمعت ذلك منه قلت له : يا أمير المؤمنين ، إن كان من أمرك كون ، فما تأمر ؟ قال : انظروا ما أجمعت عليه أمة محمد ، فإن الله لا يجمعهم على ضلالة ، كونوا مع الجماعة حيث كانت " قال بشار : فحدث به حماد بن زيد ، فرق ، ودمعت عينه وقال : رحم الله أمير المؤمنين ، حوصر نيفا وأربعين ليلة ، لم تبد منه كلمة يكون لمبتدع فيها حجة .
قول علي ابن أبي طالب عند حضور الموت :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه المحتضرين عن الأصبغ الحنظلي ، قال : " لما كانت الليلة التي أصيب فيها علي رحمه الله أتاه ابن النباح حين طلع الفجر يؤذنه بالصلاة وهو مضطجع متثاقل ، فعاد الثانية وهو كذاك ، ثم عاد الثالثة ، فقام علي يمشي وهو يقول : شد حيازيمك للموت فإن الموت آتيك ولا تجزع من الموت إذا حل بواديك فلما بلغ الباب الصغير شد عليه عبد الرحمن بن ملجم فضربه ، فخرجت أم كلثوم بنت علي فجعلت تقول : ما لي ولصلاة الغداة ؟ قتل زوجي أمير المؤمنين صلاة الغداة ، وقتل أبي صلاة الغداة "
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه المحتضرين عن هارون بن أبي نجيح ، عن شيخ من قريش ، أن عليا قال لما ضربه ابن ملجم : " فُزْتُ وربِ الكعبة "(1/202)
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه المحتضرين عن محمد بن علي ، أن عليا ، لما ضرب أوصى بنيه ، ثم لم ينطق إلا بـ " لا إله إلا الله " حتى قبضه الله .
قول معاوية بن أبي سفيان عند حضور الموت :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه المحتضرين عن سفيان بن عيينة قال : سمعت إسماعيل يحدث قال : سمعت هشاما ، قال : أخرج معاوية ذراعيه كأنهما عسيبا (1) نخل ثم قال : " ما الدنيا إلا ما ذقنا وجربنا . والله لوددت أني لم أغبر (2) فيكم ثلاثا حتى ألحق بالله . قالوا : يا أمير المؤمنين ، إلى رحمة الله وإلى رضوانه ، قال : إلى ما شاء الله ، قد علم الله أني لم آل (3) . وما أنا إن يغير غير ؟ "
(1) العسيب : جريدَة من النَّخْلِ. وهي السَّعَفة ممَّا لا يَنْبُتُ عليه الخُوصُ
(2) أغبر : أمكث
(3) آلو : أُقَصِّر
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه المحتضرين عن قيس بن أبي حازم قال : دخلنا على معاوية في مرضه الذي مات فيه ، وكأن ذراعيه سعفتان محترقتان ، فقال : " إنكم تقلبون غدا فتى حولا قلبا ، وأي فتى أهل بيت إن نجا غدا من النار ؟ "
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه المحتضرين عن عن أبي بردة قال : قال معاوية ، وهو يقلب في مرضه ، وقد صار كأنه سعفة (1) محترقة : " أي شيخ تقلبون إن نجاه الله من النار غدا ؟ "
(1) السعف : هو ورق النخل وجريده
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه المحتضرين عن عبد الملك بن عمير قال : دخل عمرو بن سعيد على معاوية في مرضه فقال : والله يا أمير المؤمنين لقد انخرط أنفك ، وذبلت شفتاك ، وتغير لونك ، وما رأيت أحدا من أهل بيتك في مثل حالك إلا ما ترى فقال معاوية : فإن الموت لم يخلق جديدا ولا هضبا توقله الوبار ولكن كالشهاب يضي ويخبو وحادي الموت عنه ما يحار فهل من خالد إما هلكنا وهل بالموت يا للناس عار .(1/203)
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه المحتضرين عن محمد بن سيرين يقول : أخذت معاوية قرة ، واتخذ لحفا خفافا ، فكانت تلقى عليه ، فلا يلبث أن ينادي بها . فإذا أخذت عنه سأل أن ترد عليه ، فقال : " قبحك الله دارا ، مكثت فيك عشرين سنة أميرا ، وعشرين سنة خليفة ، ثم صرت إلى ما أرى "
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه المحتضرين عن الحسن بن جهور ، عن شيخ من قريش قال : دخلت جماعة على معاوية فرأوا في جلده غضونا ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : " أما بعد ، فهل الدنيا أجمع إلا ما قد جربنا ورأينا ؟ أما والله لقد استقبلنا زهرتها بجدتنا ، وباستلذاذ منا لعيشنا ، فما لبثنا الدنيا أن نقضت ذلك منا حالا بعد حال ، وعروة بعد عروة ، فأصبحت الدنيا وقد وترتنا ، وأحلقتنا ، واستلامت إلينا ؛ فأف للدنيا من دار ، ثم أف للدنيا من دار "
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه المحتضرين عن ثمامة بن كلثوم : أن آخر ، خطبة خطبها معاوية أن قال : " أيها الناس ، إني من زرع قد استحصد ، وإني قد وليتكم ، ولن يليكم بعدي إلا من هو شر مني ، كما كان قبلي خير مني . ويا يزيد إذا وفى أجلي فول غسلي رجلا لبيبا ، فإن اللبيب من الله بمكان ، فلينعم الغسل ، وليجهر بالتكبير ، ثم اعمد إلى منديل في الخزانة فيه ثوب من ثياب النبي صلى الله عليه وسلم وقراضة من شعره وأظفاره ، فاستودع القراضة أنفي وفمي وأذني وعيني ، واجعل الثوب يلي جلدي دون أكفاني . ويا يزيد احفظ وصية الله في الوالدين ، فإذا أدرجتموني في جريدتي ، ووضعتموني في حفرتي ، فخلوا معاوية وأرحم الراحمين "(1/204)
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه المحتضرين عن ابن عباس قال : لما احتضر معاوية قال : " يا بني ، إني كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصفا ، وإني دعوت بمشقص (1) ، فأخذت من شعره ، وهو في موضع كذا وكذا ، فإذا أنا مت فخذوا ذلك الشعر فاحشوا به فمي ومنخري " فحدثني بعض أهل العلم ، عن شيخ ، من قريش : أن معاوية لما قال ذلك تمثلت ابنته : إذا مت مات الجود وانقطع الندى من الناس إلا من قليل مصرد وردت أكف السائلين وأمسكوا من الدين والدنيا بخلف مجدد كلا يا أمير المؤمنين ، يدفع الله عنك ، فقال معاوية متمثلا : وإذا المنية أنشبت أظفارها ألفيت كل تميمة لا تنفع ثم أغمي عليه . ثم أفاق فقال لمن حضره من أهله : اتقوا الله ، فإن الله يقي من اتقاه ، ولا تقى لمن لا يتقي الله . ثم قضى .
(1) المشقص : نصل السهم إذا كان طويلا غير عريض
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه المحتضرين عن هشام بن محمد بن أبي السائب المخزومي قال : جعل معاوية يقول وهو يجود بنفسه : " إن تناقش يكن نقاشك يارب عذابا لا طوق لي بالعقاب أو تجاوز فأنت ربي رحيم عن مسيء ذنوبه كالتراب "
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه المحتضرين عن الصلت بن حكيم ، عن بعض رجاله ، أن معاوية ، لما احتضر جعل يقول : " لعمري لقد عمرت في الدهر برهة ودانت لي الدنيا بوقع البواتر وأعطيت جم المال والحلم والنهى وسلم قماقيم الملوك الجبابر فأضحى الذي قد كان مما يسرني كلمح مضى في المزمنات الغوابر فيا ليتني لم أغن في الملك ساعة ولم أغن في لذات عيش نواضر وكنت كذي طمرين (1) عاش ببلغة من الدهر حتى زار ضنك المقابر "
(1) الطمر : الثوب الخلق الرث القديم
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه المحتضرين عن محمد بن عقبة قال : لما نزل بمعاوية الموت قال : " ليتني كنت رجلا من قريش بذي طوى ، وأني لم أل من هذا الأمر شيئا "(1/205)
قول عبد الملك بن مروان عند حضور الموت :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه المحتضرين عن عبد العزيز بن عمران بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف ، عن أبيه ، عن جده ، قال : لما حضرت عبد الملك بن مروان الوفاة ، نظر إلى غسال بجانب دمشق يلوي ثوبا بيده ثم يضرب به المغسلة ، فقال عبد الملك : والله ليتني كنت غسالا ، أكلي كسب يدي يوما بيوم ، وأني لم أل من أمر الناس شيئا قال عبد العزيز ، عن أبيه : فأخبر بذلك أبو حازم ، فقال : الحمد لله الذي جعلهم إذا حضرهم الموت يتمنون ما نحن فيه ، وإذا حضرنا الموت لم نتمن ما هم فيه .
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه المحتضرين عن ابن قبيصة بن ذؤيب ، عن أبيه قال : كنا نسمع نداء عبد الملك بن مروان من وراء الحجاب : " يا أهل النعم ، لا تغالوا منها شيئا مع العافية . وكان قد أصابه داء في فمه "
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه المحتضرين عن المفضل بن فضالة ، عن أبيه ، قال : استأذن قوم على عبد الملك بن مروان وهو شديد المرض ، فقالوا : إنه لما به . فقالوا : إنما ندخل فنسلم قياما ثم نخرج . فدخلوا عليه وقد أسنده خصي إلى صدره ، وقد اربد لونه ، وجرى منخراه ، وشخصت عيناه ، فقال : " دخلتم علي في حال إقبال آخرتي وإدبار دنياي ، وإني تذكرت أرجى عملي فوجدته غزوة غزوتها في سبيل الله وأنا خلو من هذه الأشياء ؛ فإياكم وأبوابنا هذه الخبيثة أن تطيفوا بها "(1/206)
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه المحتضرين عن أبي مسهر : قيل لعبد الملك بن مروان في مرضه : كيف تجدك يا أمير المؤمنين ؟ قال : أجدني كما قال الله تعالى: (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَىَ كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوّلَ مَرّةٍ وَتَرَكْتُمْ مّا خَوّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَىَ مَعَكُمْ شُفَعَآءَكُمُ الّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَآءُ لَقَد تّقَطّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلّ عَنكُم مّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ) [الأنعام : 94]
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه المحتضرين عن عن شعيب بن صفوان قال : " لما حضرت عبد الملك بن مروان الوفاة دعا بنيه فأوصاهم ، ثم لم يزل بين مقالتين حتى فاضت نفسه : الحمد لله الذي لا يبالي صغيرا أخذ من ملكه أو كبيرا ، والأخرى : فهل من خالد لما هلكنا وهل بالموت يا للناس عار ؟ "
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه المحتضرين عن ابن عامر الهذلي قال : دخل سليمان بن عبد الملك على الوليد بن عبد الملك وهو يجود بنفسه ، فلما نظر إليه قال : " أجلسوني ، فأجلس ، فقال متمثلا : وتجلدي للشامتين أريهم أني لريب الدهر لا أتضعضع فقال سليمان : وإذا المنية أنشبت أظفارها ألفيت كل تميمة لا تنفع "
قول سليمان بن عبد الملك عند حضور الموت :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه المحتضرين عن المثنى بن معاذ بن معاذ قال : سمعت أبي يقول : لما احتضر سليمان بن عبد الملك جعل يقول : " إن بني صبية صغار أفلح من كان له كبار قال : فيقول عمر بن عبد العزيز : أفلح المؤمنون يا أمير المؤمنين . ويقول سليمان : إن بني صبية صيفيون أفلح من كان له شتويون قال : فيقول عمر : أفلح المؤمنون يا أمير المؤمنين " حدثنا عبد الله قال : وحدثني بعض أهل العلم : أن آخر ما تكلم به سليمان أن قال : أسألك منقلبا كريما . ثم قضى .(1/207)
مقالة عمر بن عبد العزيز عند حضور الموت :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه المحتضرين عن المغيرة بن حكيم قال : قالت لي فاطمة بنت عبد الملك - امرأة عمر بن عبد العزيز - : كنت أسمع عمر في مرضه الذي مات فيه يقول : " اللهم أخف عليهم موتي ولو ساعة من نهار . فلما كان اليوم الذي قبض فيه ، خرجت من عنده ، فجلست في بيت آخر ، بيني وبينه باب ، وهو في قبة له ، فسمعته يقول: (تِلْكَ الدّارُ الاَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأرْضِ وَلاَ فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتّقِينَ) [القصص: 83] ثم هدأ . فجعلت لا أسمع له حركة ولا كلاما . فقلت لوصيف كان يخدمه : ويلك انظر أمير المؤمنين أنائم هو ؟ فلما دخل عليه صاح فوثبت ، فدخلت ، فإذا هو ميت ، قد استقبل القبلة ، وأغمض نفسه ، ووضع إحدى يديه على فيه ، والأخرى على عينيه "
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه المحتضرين عن عمرو بن قيس قال : قالوا لعمر بن عبد العزيز لما حضره الموت : اعهد يا أمير المؤمنين . قال : " أحذركم مثل مصرعي هذا ، فإنه لا بد لكم منه . وإذا وضعتموني في قبري ، فانزعوا عني لبنة ، ثم انظروا ما لحقني من دنياكم هذه "(1/208)
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه المحتضرين عن أبي زيد الدمشقي قال : لما ثقل عمر بن عبد العزيز ، دعي له طبيب ، فلما نظر إليه قال : أرى الرجل قد سقي السم ، ولا آمن عليه الموت . فرفع عمر بصره إليه فقال : " ولا تأمن الموت أيضا على من لم يسق السم " . قال الطبيب : هل حسست بذلك يا أمير المؤمنين ؟ قال : نعم ، قد عرفت حين وقع في بطني . قال : فتعالج يا أمير المؤمنين ، فإني أخاف أن تذهب نفسك . قال : " ربي خير مذهوب إليه . والله لو علمت أن شفائي عند شحمة أذني ما رفعت يدي إلى أذني فتناولته . اللهم خر لعمر في لقائه . فلم يلبث إلا أياما حتى مات . رحمه الله "
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه المحتضرين عن عن يحيى بن أبي كثير قال : لما حضر عمر بن عبد العزيز الموت بكى ، فقيل له : ما يبكيك يا أمير المؤمنين ؟ أبشر ، فإن الله قد أحيا بك سننا ، وأظهر بك عدلا . فبكى ثم قال : " أليس أوقف فأسأل عن أمر هذا الخلق ؟ فو الله لو رأيت أني عدلت فيهم لخفت على نفسي أن لا تقوم بحجتها بين يدي الله إلا أن يلقنها حجتها ، فكيف بكثير مما صنعنا ؟ قال : ثم فاضت عيناه . فلم يلبث إلا يسيرا بعدها حتى مات . رحمه الله "
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه المحتضرين عن ليث بن أبي رقية ، عن عمر بن عبد العزيز قال : لما كان في مرضه الذي مات فيه قال : أجلسوني . فأجلسوه ، فقال : أنا الذي أمرتني فقصرت ، ونهيتني فعصيت . ثلاث مرات . ولكن لا إله إلا الله . ثم رفع رأسه ، فأحد النظر ، فقال له : إنك لتنظر إلي نظرا شديدا يا أمير المؤمنين ؟ قال : إني لأرى حضرة ، ما هم إنس ولا جن . ثم قبض .(1/209)
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه المحتضرين عن مسلمة بن عبد الملك قال : " لما احتضر عمر بن عبد العزيز كنا عنده في قبة ، فأومأ إلينا أن اخرجوا . فخرجنا ، فقعدنا حول القبة ، وبقي عنده وصيف ، فسمعناه يقرأ هذه الآية : (تِلْكَ الدّارُ الاَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأرْضِ وَلاَ فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتّقِينَ) [القصص: 83]. ما أنتم بإنس ولا جان . ثم خرج الوصيف ، فأومأ إلينا أن ادخلوا،فدخلنا ، فإذا هو قد قبض "
قول هشام ابن عبد الملك عند حضور الموت :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه المحتضرين عن شيخ من قريش قال : حبس هشام بن عبد الملك عياض بن مسلم ـ وكان كاتبا للوليد بن يزيد ـ وضربه وألبسه المسوح (1) . فلم يزل محبوسا حتى مات هشام . فلما ثقل هشام وصار في حد لا يرجى لمن كان في مثله الحياة ، فرهقته غشية (2) وظنوا أنه قد مات ، فأرسل عياض بن مسلم إلى الخزان : احتفظوا بما في أيديكم ، فلا يصلن أحد إلى شيء . وأفاق هشام من غشيته ، فطلبوا من الخزان شيئا ، فمنعوهم ، فقال هشام : أرانا كنا خزانا للوليد ومات هشام من ساعته . فخرج عياض من الحبس ، فختم الأبواب والخزائن . وأمر بهشام فأنزل عن فراشه ، ومنعهم أن يكفنوه من الخزائن . فكفنه غالب - مولى هشام - ولم يجدوا قمقما يسخن فيه الماء ، حتى استعاروه فقال الناس : إن في هذا لعبرة لمن اعتبر
(1) المسوح : جمع مِسْح ، وهو كساء غليظ من الشعر .
(2) الغشي : فقدان الوعي ، والإغماء
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه المحتضرين عن إسحاق أبي عمر الشيباني قال : لما احتضر هشام بن عبد الملك ، أبصر أهله يبكون حوله ، فقال : " جاد عليكم هشام بالدنيا ، وجدتم عليه بالبكاء ، وترك لكم ما جمع ، وتركتم عليه ما حمل ، ما أعظم متقلب هشام إن لم يغفر له "(1/210)
قول هارون الرشيد عند حضور الموت :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه المحتضرين عن مسرور الخادم قال : " أمرني هارون أمير المؤمنين لما احتضر ، أن آتيه بأكفانه . فأتيته بها ، فجعل ينتقيها على عينه ، ثم أمرني فحفرت قبره ، ثم أمر فحمل إليه ، فجعل يتأمله ويقول : (مَآ أَغْنَىَ عَنّي مَالِيَهْ * هّلَكَ عَنّي سُلْطَانِيَهْ) [الحاقة 28: 29] ويبكي ، ثم تمثل ببيت شعر "
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه المحتضرين عن حدثني أحمد بن محمد الأزدي قال : " جعل هارون أمير المؤمنين يقول وهو في الموت : " واسوءتاه من رسول الله صلى الله عليه وسلم "
قول المعتصم عند حضور الموت :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه المحتضرين عن سمعت علي بن الجعد قال : " لما احتضر المعتصم جعل يقول : " ذهبت الحيل ، ليست حيلة " . حتى أصمت .
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه المحتضرين عن شيخ من قريش : أنه جعل يقول : أؤخذ من بين هذا الخلق ، حدثنا عبد الله قال : وحدثت أنه قال : لو علمت أن عمري هكذا قصير ، ما فعلت ما فعلت .
قول المنتصر عند حضور الموت :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه المحتضرين عن عبد الله بن هارون بن معمر التغلبي قال : جعل المنتصر يقول وهو يكيد بنفسه ، وقائل يقول : لا بأس عليك يا أمير المؤمنين ، فقال : " ليس إلا هذا ، لقد ذهبت الدنيا والآخرة "
قول عبد العزيز بن مروان عند حضور الموت :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ(1/211)
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه المحتضرين عن ابن أبي مليكة قال : رأيت عبد العزيز بن مروان حين حضره الموت وهو يقول : " ألا ليتني لم أك شيئا مذكورا ، ألا ليتني كهذا الماء الجاري ، أو كنابتة من الأرض ، أو كراعي ثلة في طرف الحجاز من بني نصر بن معاوية ، أو بني سعد بن بكر "
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه المحتضرين عن داود بن المغيرة قال : لما حضرت عبد العزيز بن مروان الوفاة قال : " ائتوني بكفني الذي تكفنوني فيه . فلما وضع بين يديه ولاهم ظهره ، فسمعوه وهو يقول : أف لك ، أف لك . ما أقصر طويلك ، وأقل كثيرك "
قول بشر بن مروان عند حضور الموت :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه المحتضرين عن أبي وائل قال : لما حُضِرَ (1) بشر بن مروان قال : والله لوددت أني كنت عبدا حبشيا لأسوأ أهل البادية ملكة ، أرعى عليهم غنمهم ، وأني لم أكن فيما كنت فيه . فقال شقيق : الحمد لله الذي جعلهم يفرون إلينا ولا نفر إليهم ، إنهم ليرون فينا عبرا ، وإنا لنرى فيهم غيرا.
(1) حُضِر : حضره الموت
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه المحتضرين عن مالك بن دينار قال : " مات بشر بن مروان فدفن ، ثم مات أسود فدفن إلى جنبه ، فمررت بقبرهما بعد ثالثة فلم أعرف أحدهما من قبر صاحبه ، فذكرت قول الشاعر : والعطيات خساس بينهم وسواء قبر مثر ومقل "
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه المحتضرين عن عبد الله بن بسطام قال : " احتضر بعض الملوك ، فجعل يقول : يا من لا يزول ملكه ارحم من قد زال ملكه "
تعزية النفس عند الاحتضار بالصبر والاحتساب :(1/212)
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه المحتضرين عن إسماعيل بن عبيد الله قال : حدثتني أم الدرداء قالت : أغمي على أبي الدرداء ، وبلال ابنه عنده ، فقال : " اخرج عني . ثم قال : من يعمل لمثل مضجعي هذا ؟ من يعمل لمثل ساعتي هذه ؟ (وَنُقَلّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوّلَ مَرّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) [الأنعام : 110] ثم يغمى عليه ، ثم يفيق فيقولها ، حتى قبض "
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه المحتضرين عن عمرو بن قيس : أن معاذ بن جبل لما حضره الموت قال : انظروا أصبحنا ؟ قال : فقيل : لم نصبح . حتى أتي فقيل له : قد أصبحت . قال : أعوذ بالله من ليلة صباحها إلى النار . مرحبا بالموت . مرحبا ، زائر مغب حبيب جاء على فاقة . اللهم إنك تعلم أني كنت أخافك ، فأنا اليوم أرجوك . إني لم أكن أحب الدنيا وطول البقاء فيها لكري الأنهار ، ولا لغرس الشجر ، ولكن لظمإ الهواجر ، ومكابدة الساعات ، ومزاحمة العلماء بالركب عند حلق الذكر .
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه المحتضرين عن أسد بن وداعة قال : لما مرض حذيفة مرضه الذي مات فيه ، قيل له : ما تشتهي ؟ قال : " أشتهي الجنة . قالوا : فما تشتكي ؟ قال : الذنوب . قالوا : أفلا ندعو لك الطبيب ؟ قال : الطبيب أمرضني . لقد عشت فيكم على خلال ثلاث : للفقر فيكم أحب إلي من الغنى ، وللضعة فيكم أحب إلي من الشرف ، وإن من حمدني منكم ولامني في الحق سواء . ثم قال : أصبحنا ؟ أصبحنا ؟ قالوا : نعم . قال : اللهم إني أعوذ بك من صباح النار . حبيب جاء على فاقة . لا أفلح من ندم "
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه المحتضرين عن رقبة بن مسقلة قال : لما احتضر الحسن بن علي قال : " أخرجوا فراشي إلى صحن الدار ، قال : فرفع رأسه إلى السماء ثم قال : اللهم إني احتسبت نفسي عندك ، فإنها أعز الأنفس علي "(1/213)
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه المحتضرين عن عن عمير بن إسحاق قال : دخلت أنا ورجل من قريش على الحسن بن علي ، فقام ، فدخل المخرج ، ثم خرج فقال : " لقد لفظت طائفة من كبدي أقلبها بهذا العود ، ولقد سقيت السم مرارا ، وما سقيته مرة أشد من هذه . قال : وجعل يقول لذلك الرجل : سلني قبل أن لا تسألني . قال : ما أسألك شيئا . يعافيك الله . قال : فخرجنا من عنده ، ثم عدنا إليه من غد وقد أخذ في السوق ، فجاءه حسين حتى قعد عند رأسه فقال : أي أخي ، من صاحبك ؟ قال : تريد قتله ؟ قال : نعم . قال : لئن كان صاحبي الذي أظن لله أشد له نقمة ، وإن لم يكن به ما أحب أن يقتل بريئا "
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه المحتضرين عن أبي إسحاق قال : قال أبو سفيان بن الحارث لما حضره الموت لأهله : " لا تبكوا علي ، فما تنطفت بخطيئة منذ أسلمت "
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه المحتضرين عن عيينة بن عبد الرحمن قال : حدثني أبي : أن أبا بكرة لما اشتكى عرض عليه بنوه أن يأتوه بطبيب ، فأبى (1) . فلما ثقل وعرف الموت من نفسه وعرفوه منه قال : " أين طبيبكم ليردها إن كان صادقا ؟ قالوا : وما يغني الآن ؟ قال : ولا قبل قال : فجاءت ابنته أمة الله ، فلما رأت ما به بكت ، فقال : أي بنية ، لا تبكي . قالت : يا أبتاه ، فإن لم أبك عليك فعلى من أبكي ؟ قال : لا تبكي ، فو الذي نفسي بيده ، ما في الأرض نفس أحب إلي أن تكون خرجت من نفسي هذه ، ولا نفس هذا الذباب الطائر . ثم أقبل على حمران ـ وهو عند رأسه ـ فقال : ألا أخبرك لماذا أخشيته ؟ والله إن أمر فيحول بيني وبين الإسلام "
(1) أبى : رفض وامتنع
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه المحتضرين عن يونس بن عبيد قال : لما حضرت الحسن الوفاة جعل يسترجع ، فأكب عليه ابنه عبد الله فقال : يا أبه ، إنك قد غممتنا ، فهل رأيت شيئا ؟ قال : " هي نفسي التي لم أصب بمثلها "(1/214)
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه المحتضرين عن سهل السراج ، قال : لما حضر ابن سيرين الموت جعل يقول : ( إنا لله وإنا إليه راجعون) ، فيقال له : قل : لا إله إلا الله ، فيقول : ( إنا لله وإنا إليه راجعون )
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه المحتضرين عن الحسن بن دينار : أن محمد بن سيرين كان يقول وهو في الموت : " في سبيل الله ، نفسي أحب الأنفس علي "
139 - حدثنا عبد الله قال : وحدثنا عبد الرحمن بن صالح قال : حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي ، عن عبد الملك بن عمير قال : قيل للربيع بن خثيم : " ألا ندعو لك طبيبا ؟ فقال : انظروا . ثم تفكر فقال : (وَعَاداً وَثَمُودَاْ وَأَصْحَابَ الرّسّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيراً) [الفرقان: 38] فذكر من حرصهم على الدنيا ورغبتهم فيها ، كانت فيهم مرضى ، وكانت فيهم أطباء ، فما أرى المداوي بقي ، ولا المتداوي ، هلك الناعت والمنعوت له "
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه المحتضرين عن زكريا بن يحيى الكندي قال : دخلت على الشعبي وهو يشتكي ، فقلت له : كيف تجدك ؟ قال : " أجدني وجعا مجهودا . اللهم إني أحتسب نفسي عندك فإنها أعز الأنفس علي "
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه المحتضرين عن بشر الأمي الأفوه قال : قال أبو حازم لما حضره الموت : ما أتينا على شيء من الدنيا إلا على ذكر الله ، وإن كان هذا الليل والنهار لا يأتيان على شيء إلا أخلقاه . وفي الموت راحة للمؤمنين . ثم قرأ : (وَمَا عِندَ اللّهِ خَيْرٌ لّلأبْرَارِ) [آل عمران:198](1/215)
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه المحتضرين عن عمر بن بكير النحوي ، عن شيخ من قريش قال : دخل عمر بن عبد العزيز على ابنه في وجعه فقال : " يا بني كيف تجدك ؟ قال : أجدني في الحق . قال : يا بني ، لأن تكون في ميزاني أحب إلي من أن أكون في ميزانك . قال ابنه : وأنا يا أبه ، لأن يكون ما تحب أحب إلي من أن يكون ما أحب "
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه المحتضرين عن عبد الله بن مسلم العبدي قال : قال مطرف لما حضره الموت : " اللهم خر لي في الذي قضيته علي من أمر الدنيا والآخرة . قال : وأمرهم بأن يحملوه إلى قبره ، فختم فيه القرآن قبل أن يموت "
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه المحتضرين عن زهير بن أبي عطية قال : لما احتضر العلاء بن زياد العدوي بكى ، فقيل له : ما يبكيك ؟ قال : " كنت والله أحب أن أستقبل الموت بالتوبة . قال : فافعل رحمك الله . قال : فدعا بطهور ، فتطهر ، ثم دعا بثوب له جديد ، فلبسه ، ثم استقبل القبلة ، فأومأ برأسه مرتين أو نحو ذلك ، ثم اضطجع فمات "
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه المحتضرين عن حدثنا ربيعة بن كلثوم بن جبر ، عن أبيه قال : " لما اشتد وجع الحسن بكى ، فقيل له : ما يبكيك ؟ قال : " نفيسة ضعيفة ، وأمر هؤول عظيم ، ( إنا لله وإنا إليه راجعون)
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه المحتضرين عن محمد بن ثابت البناني قال : " ذهبت ألقن أبي عند الموت فقال : يا بني خل عني فإني في وردي السابع . كأنه يقرأ ونفسه تخرج "
البكاء عند الموت مخافة سوء المرد :
بكاء عمر بن الخطاب حين حضرته الوفاة :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ(1/216)
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه المحتضرين عن علي بن أبي طالب يقول : دخلت على عمر بن الخطاب حين وجأه أبو لؤلؤة وهو يبكي ، فقلت : ما يبكيك يا أمير المؤمنين ؟ قال : " أبكاني خبر السماء ، أين يذهب بي ، إلى الجنة أو إلى النار ؟ فقلت : أبشر بالجنة ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لا أحصيه يقول : " سيدا أهل الجنة أبو بكر وعمر " . فقال : أشاهد أنت يا علي لي بالجنة ؟ قلت : نعم ، وأنت يا حسن فاشهد على أبيك رسول الله أن عمر من أهل الجنة .
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه المحتضرين عن الشعبي قال : لما شرب عمر اللبن فخرج من طعنته قال : " الله أكبر . وعنده رجال يثنون عليه ، فنظر إليهم فقال : من غررتموه لمغرور ؛ لوددت أني خرجت منها كما دخلت فيها ؛ لو كان لي اليوم ما طلعت عليه الشمس وما غربت لافتديت به من هول المطلع "
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه المحتضرين عن عمرو بن ميمون قال : لما طعن عمر دخل عليه رجل شاب فقال : أبشر يا أمير المؤمنين ببشرى الله ، قد كان لك من القدم في الإسلام والصحبة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قد علمت ، ثم استخلفت فعدلت ، ثم الشهادة . قال : " يا ابن أخي ، لوددت أني تركت كفافا ، لا لي ولا علي "
بكاء ابن عمر حين حضرته الوفاة :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه المحتضرين عن عن سعيد بن جبير قال : لما حضرت ابن عمر الوفاة قال : " ما آسى على شيء إلا على ظمأ الهواجر (1) ومكابدة الليل ، وأني لم أقاتل الفئة الباغية التي نزلت بنا . يعني الحجاج "
(1) الهواجر : مفردها الهاجِرة وهي اشتدادُ الحَرِّ نصفَ النهار
بكاء معاذ بن جبل حين حضرته الوفاة :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ(1/217)
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه المحتضرين عن الحسن : أن معاذ بن جبل لما احتضر دخل عليه وهو يبكي ، فقيل : ما يبكيك ، فقد صحبت محمدا صلى الله عليه وسلم ؟ قال : " ما أبكي جزعا من الموت إن حل بي ، ولا على الدنيا أتركها بعدي ، ولكن بكائي أن الله قبض قبضتين ، فجعل واحدة في النار ، وواحدة في الجنة ، فلا أدري في أي القبضتين أكون ؟ "
بكاء حذيفة بن اليمان حين حضرته الوفاة :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه المحتضرين عن ليث بن أبي سليم قال : لما نزل بحذيفة بن اليمان الموت جزع جزعا شديدا ، فقيل له : ما يبكيك ؟ قال : " ما أبكي أسفا على الدنيا ، بل الموت أحب إلي ، ولكني لا أدري على ما أقدم ، على الرضا أم على سخط ؟ "
بكاء أبي الدرداء حين حضرته الوفاة :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه المحتضرين عن عن جعفر بن زيد العبدي : أن أبا الدرداء لما نزل به الموت بكى ، فقالت له أم الدرداء : وأنت تبكي يا صاحب رسول الله ؟ قال : " نعم ، وما لي لا أبكي ولا أدري على ما أهجم من ذنوبي ؟ "
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه المحتضرين عن أبي عمران الجوني : أن أبا الدرداء لما نزل به الموت ، دعا أم الدرداء ، فضمها إليه وبكى وقال : يا أم الدرداء ، قد ترين ما قد نزل من الموت ، أنه والله قد نزل بي أمر لم ينزل بي قط أمر أشد منه ، وإن كان لي عند الله خير فهو أهون ما بعده ، وإن تكن الأخرى فو الله ما هو فيما بعده إلا كحلاب ناقة . قال : ثم بكى ، ثم قال : يا أم الدرداء ، اعملي لمثل مصرعي هذا ، يا أم الدرداء اعملي لمثل ساعتي هذه . ثم دعا ابنه بلالا فقال : ويحك يا بلال اعمل لساعة الموت ، اعمل لمثل مصرع أبيك ، واذكر به صرعتك وساعتك فكأن قد . ثم قبض .
بكاء سلمان الفارسي حين حضرته الوفاة :(1/218)
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه المحتضرين عن الحسن قال : لما حُضِرَ (1) سلمان بكى ؛ فقالوا : ما يبكيك وأنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : ما أبكي أسفا على الدنيا ، ولا رغبة فيها ، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلينا عهدا فتركناه ، قال : " ليكن بلغة أحدكم مثل زاد الراكب " . قال : ما ترك بضعا وعشرين أو بضعا وثلاثين درهما .
(1) حُضِر : حضره الموت
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه المحتضرين عن الحسن قال : بكى سلمان عند الموت ، فقيل : ما يبكيك ؟ قال : " ما أبكي ضنا بدنياكم ، ولا جزعا (1) من الموت ، ولكن قلة الزاد (2) ، وبعد المفاز "
(1) الجزع : الخوف والفزع وعدم الصبر والحزن
(2) الزاد : هو الطعام والشراب وما يُتَبَلَّغُ به، ويُطْلق على كل ما يُتَوصَّل به إلى غاية بعينها .
... بكاء معاوية ابن أبي سفيان حين حضرته الوفاة :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه المحتضرين عن محمد بن سيرين قال : مرض معاوية مرضا شديدا ، فنزل عن السرير ، وكشف ما بينه وبين الأرض ، وجعل يلزق ذا الخد مرة بالأرض ، وذا الخد مرة بالأرض ، ويبكي ويقول : " اللهم إنك قلت في كتابك : (إِنّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ) [النساء: 48]. اجعلني ممن تشاء أن تغفر له "
بكاء أبي هريرة حين حضرته الوفاة :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه المحتضرين عن سلم بن بشير بن جحل : أن أبا هريرة بكى في مرضه فقال : ما يبكيك ؟ فقال : " ما أبكي على دنياكم هذه ، ولكن أبكي علي بعد سفري ، وقلة زادي ، فإني أمسيت في صعود مهبطة على جنة ونار ، ولا أدري أيتهما يؤخذ بي "(1/219)
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه المحتضرين عن ابن أبي كثير : أن أبا هريرة بكى في مرضه ، فقيل له : ما يبكيك ؟ قال : " أما إني لا أبكي على دنياكم هذه ، ولكن أبكي على بعد سفري ، وقلة زادي ، وأني أمسيت في صعود مهبط ، على جنة أو نار ، ولا أدري إلى أيهما يؤخذ بي "
بكاء عمرو بن العاص حين حضرته الوفاة :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه المحتضرين عن يعقوب بن عبد الرحمن ، عن أبيه : أن عمرو بن العاص حين حضرته الوفاة ذرفت عيناه ، فبكى ، فقال له ابنه عبد الله : بالله ما كنت أخشى أن ينزل بك أمر الله إلا صبرت عليه . فقال : " يا بني ، إنه نزل بأبيك خصال ثلاثة : أما أولاهن : فانقطاع عمله . وأما الثانية : فهول المطلع . وأما الثالثة : ففراق الأحبة ، وهي أيسرهن . ثم قال : اللهم أمرت فتهاونت ، ونهيت فعصيت ، اللهم ومنك العفو والتجاوز "
بكاء الحسن ابن علي حين حضرته الوفاة :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه المحتضرين عن جعفر بن محمد ، عن أبيه قال : لما أن حضر الحسن بن علي الموت ، بكى بكاء شديدا ، فقال له الحسين : ما يبكيك يا أخي وإنما تقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى علي وفاطمة وخديجة وهم ولدوك ، وقد أجرى الله لك على لسان نبيه أنك " سيد شباب أهل الجنة " ، وقاسمت الله مالك ثلاث مرات ، ومشيت إلى بيت الله على قدميك خمس عشرة مرة حاجا ؟ وإنما أراد أن يطيب نفسه . قال : فو الله ما زاده إلا بكاء وانتحابا ، وقال : " يا أخي ، إني أقدم على أمر عظيم وهول لم أقدم على مثله قط (1) "
قط : بمعنى أبدا ، وفيما مضى من الزمان
بكاء عامر بن عبد الله حين حضرته الوفاة :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ(1/220)
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه المحتضرين عن سمعت يزيد الرقاشي يقول : بلغنا أن عامر بن عبد الله لما احتضر بكى ، فقيل له : ما يبكيك ؟ قال : " هذا الموت غاية الساعين ، وإنا لله وإنا إليه راجعون . والله ما أبكي جزعا من الموت ، ولكن أبكي على حر النهار وبرد الليل . وإني أستعين بالله على مصرعي هذا بين يديه "
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه المحتضرين عن قتادة : أن عامر بن عبد الله لما حُضِرَ (1) جعل يبكي ، فقيل له : ما يبكيك ؟ قال : " ما أبكي جزعا من الموت ، ولا حرصا على الدنيا ، ولكن أبكي على ظمأ الهواجر وقيام ليالي الشتاء "
(1) حُضِرَ: حضره الموت
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه المحتضرين عن همام بن يحيى قال : بكى عامر بن عبد الله في مرضه الذي مات فيه بكاء شديدا ، فقيل له : ما يبكيك يا أبا عبد الله ؟ قال : أية في كتاب الله : قال تعالى: (إِنّمَا يَتَقَبّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتّقِينَ) [المائدة : 27]
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه المحتضرين عن حزم قال : قال محمد بن واسع وهو في الموت : " يا إخوتاه تدرون أين يذهب بي ؟ يذهب بي ـ والله الذي لا إله إلا هو ـ إلى النار أو يعفو عني "
بكاء يزيد الرقاشي حين حضرته الوفاة :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ(1/221)
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه المحتضرين عن حوشب بن عقيل قال : سمعت يزيد الرقاشي يقول لما حضره الموت : قال تعالى: (كُلّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنّمَا تُوَفّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدّنْيَا إِلاّ مَتَاعُ الْغُرُورِ) [آل عمران: 185] ألا إن الأعمال محضرة ، والأجور مكملة ، ولكل ساع ما يسعى ، وغاية الدنيا وأهلها إلى الموت . ثم بكى وقال : يا من القبر مسكنه ، وبين يدي الله موقفه ، والنار غدا مورده ، ماذا قدمت لنفسك ؟ ماذا أعددت لمصرعك ؟ ماذا أعددت لوقوفك بين يدي ربك ؟
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه المحتضرين عن درست القزاز قال : لما احتضر يزيد الرقاشي بكى ، فقيل له : ما يبكيك رحمك الله ؟ قال : " أبكي والله على ما يفوتني من قيام الليل ، وصيام النهار . ثم بكى وقال : من يصلي لك يا يزيد ؟ ومن يصوم ؟ ومن يتقرب لك إلى الله بالأعمال بعدك ؟ ومن يتوب لك إليه من الذنوب السالفة ؟ ويحكم يا إخوتاه ، لا تغترن بشبابكم ، فكأن قد حل بكم ما حل بي من عظيم الأمر وشدة كرب الموت . النجاء النجاء ، الحذر الحذر يا إخوتاه ، المبادرة رحمكم الله "
بكاء عبد الرحمن بن الأسود حين حضرته الوفاة :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه المحتضرين عن الحكم قال : لما احتضر عبد الرحمن بن الأسود بكى ، فقيل له : ما يبكيك ؟ قال : " أسفا على الصوم والصلاة . قال : ولم يزل يقرأ القرآن حتى مات . قال : فرئي له أنه من أهل الجنة . قال : وكان الحكم يقول : ولا يبعد من ذاك ، لقد كان يعمل نفسه مجتهدا لهذا ، حذرا من مصرعه الذي صار إليه "
بكاء إبراهيم النخعي حين حضرته الوفاة :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ(1/222)
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه المحتضرين عن سفيان الثوري ، عن رجل قال : لما احتضر إبراهيم النخعي بكى ؛ فقيل له : ما يبكيك ؟ قال : " أنتظر رسل ربي : إما لجنة وإما لنار "
سكرات الموت:
إن للموت ألماً لا يعلمه إلا الذي يعالجه ويذوقه، فالميت ينقطع صوته، وتضعف قوته عن الصياح لشدة الألم والكرب على القلب، فإن الموت قد هد كل جزء من أجزاء البدن، وأضعف كل جوارحه، فلم يترك له قوة للاستغاثة أما العقل فقد غشيته وسوسة، وأما اللسان فقد أبكمه، وأما الأطراف فقد أضعفها، ويود لو قدر على الاستراحة بالأنين والصياح، ولكنه لا يقدر على ذلك، فإن بقيت له قوة سمع له عند نزع الروح وجذبها خوار وغرغرة من حلقه وصدره، وقد تغير لونه، وأزبد، ولكل عضو من أعضائه سكرة بعد سكرة، وكربة بعد كربة، حتى تبلغ روحه إلى الحلقوم، فعند ذلك ينقطع نظره عن الدنيا وأهلها، وتحيط به الحسرة والندامة إن كان من الخاسرين، أو الفرح والسرور إن كان من المتقين.
ولقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي هو أفضل الأنبياء والمرسلين وخير البشر أجمعين يعاني من سكرات الموت وتأمل في الحديثين الآتيين بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيهما واجعل لهما من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيهما من غرر الفوائد ، ودرر الفرائد .
( حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيح البخاري ) قالت : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بين يديه ركوة، أو: علبة فيها ماء - يشك عمر - فجعل يدخل يده في الماء، فيمسح بها وجهه، ويقول: (لا إله إلا الله، إن للموت سكرات). ثم نصب يده فجعل يقول: (في الرفيق الأعلى). حتى قبض ومالت يده.
السكرات: هي الشدائد والكربات.
(حديث عائشة الثابت في صحيح البخاري) قالت : مَا أَغْبِطُ أَحَدًا بِهَوْنِ مَوْتٍ بَعْدَ الَّذِي رَأَيْتُ مِنْ شِدَّةِ مَوْتِ النبي - صلى الله عليه وسلم - .(1/223)
وتشديد الله تعالى على أنبيائه عند الموت رفعة في أحوالهم، وكمال لدرجاتهم، ولا يفهم من هذا أن الله تعالى شدد عليهم أكثر مما شدد على العصاة والمخلطين، فإن تشديده على هؤلاء عقوبة لهم ومؤاخذة على إجرامهم، فلا نسبة بينه وبين هذا.
ولقد وصف لنا القرآن الكريم الشدة التي يعاني منها الكفرة عند الموت فقال عز من قائل: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ [الأنعام: 93]
[*] قال الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسيره :
قال الله: { وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ } أي: في سكراته وغمراته وكُرُباته .
{ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ } أي: بالضرب كما قال: { لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي [مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأقْتُلَكَ] } (3) الآية [المائدة: 28]، وقال: { وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ } الآية [الممتحنة: 2].
وقال الضحاك، وأبو صالح: { بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ } أي: بالعذاب. وكما قال [تعالى] (4) { وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ } [الأنفال: 50] ؛ ولهذا قال: { وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ } أي: بالضرب لهم حتى تخرج أنفسهم من أجسادهم؛(1/224)
ولهذا يقولون لهم: { أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ } وذلك أن الكافر إذا احتضر بشرته الملائكة بالعذاب والنَّكال، والأغلال والسلاسل، والجحيم والحميم، وغضب الرحمن الرحيم، فتتفرق روحه في جسده، وتعصى وتأبى الخروج، فتضربهم الملائكة حتى تخرج أرواحهم من أجسادهم، قائلين لهم:
{ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ [وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ } أي: اليوم تهانون غاية الإهانة، كما كنتم تكذبون على الله، وتستكبرون عن اتباع آياته، والانقياد لرسله.
{ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ } أي: من النعم والأموال التي اقتنيتموها في الدار الدنيا
{ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ } وثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يقول ابن آدم: مالي مالي، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت، وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس".
وقال الحسن البصري: يؤتى بابن آدم يوم القيامة كأنه بَذَج فيقول الله، عَزَّ وجل، [له] (1) أين ما جمعت؟ فيقول يا رب، جمعته وتركته أوفر ما كان، فيقول: فأين ما قدمت لنفسك؟ فلا يراه قدم شيئا، وتلا هذه الآية: { وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ } رواه ابن أبي حاتم.(1/225)
وقوله: { وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ } تقريع لهم وتوبيخ على ما كانوا اتخذوا في [الدار] الدنيا من الأنداد والأصنام والأوثان، ظانين أن تلك تنفعهم (3) في معاشهم ومعادهم إن كان ثَمَّ (4) معاد، فإذا كان يوم القيامة تقطعت الأسباب، وانزاح الضلال، وضل عنهم ما كانوا يفترون، ويناديهم الرب، عَزَّ وجل، على رءوس الخلائق: { أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ } [الأنعام: 22] وقيل (5) لهم { أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ } [الشعراء: 92، 93] ؛ ولهذا قال هاهنا: { وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ } أي: في العبادة، لهم فيكم قسط في استحقاق العبادة لهم.
ثم قال تعالى: { لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ } قُرئ بالرفع، أي شملكم، وقُرئ بالنصب، أي: لقد انقطع ما بينكم من الوُصُلات والأسباب والوسائل
{ وَضَلَّ عَنْكُمْ } أي: وذهب عنكم(1/226)
{ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ } من رجاء الأصنام، كما قال: { إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ } [البقرة: 166، 167]، وقال تعالى: { فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ } [المؤمنون: 101]، وقال { إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ } [العنكبوت: 25]، وقال { وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ } الآية [القصص: 64]، وقال تعالى: { وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا } إلى قوله: { وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ } [الأنعام: 22 -24]، والآيات في هذا كثيرة جدا.
الثبات عند الموت :
مسألة : كيف يكون الثبات عند الموت ؟
[*] قال الفقيه أبو الليث السمرقندي: ويكون التثبيت في ثلاثة أحوال، لمن كان مؤمنا مخلصا مطيعا لله تعالى:
أحدهما: في حال معاينة ملك الموت.
ثانيها: في حال سؤال منكر ونكير.
وثالثها: في حال سؤاله عند المحاسبة يوم القيامة.
وهاك تفصيل ذلك في إيجازٍ غيرِ مُخِّل :
فأما التثبيت عند معاينة ملك الموت فهو على ثلاثة أوجه:
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ
الأول: العصمة من الكفر، وتوفيق الاستقامة على التوحيد، حتى تخرج روحه وهو على الإسلام.(1/227)
والثاني: أن تبشره الملائكة بالرحمة.
والثالث: أن يرى موضعه من الجنة.
وأما التثبيت في القبر فهو على ثلاثة اوجه:
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ
الأول: أن يلقنه الله تعالى الصواب ، حتى يجيب الملكين بما يرضى عنه الرب.
والثاني: أن يزول عنه الخوف والهيبة والدهشة.
والثالث: أن يرى مكانه في الجنة، فيصير القبر روضة من رياض الجنة.
وأما التثبيت عند الحساب فعلى ثلاثة أوجه:
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
الأول: أن يلقنه الحجة عما يسأل عنه.
والثاني: يسهل عليه الحساب.
والثالث: أن يتجاوز عنه الزلل والخطايا.
فالواجب على كل مسلم أن يستعيذ بالله تعالى من عذاب القبر، وأن يستعد له بالأعمال الصالحة قبل أن يدخل فيه، فإنه قد سهل عليه الأمر ما دام في الدنيا، فإذا دخل القبر فإنه يتمنى أن يؤذن له بحسنة واحدة أو يؤذن بأن يصلي ركعتين، أو يقول: لا إله إلا الله، محمد رسول الله ولو مرة واحدة، أو يؤذن له بتسبيحه واحدة، فلا يؤذن له، فيبقى في حسرة وندامة، ويتعجب من الأحياء كيف يضيعون أيامهم في الغفلة والبطالة؟!
قد كان عمرك ميلا *** فأصبح الميل شبرا
وأصبح الشبر عقدا *** فاحفر لنفسك قبرا
ما يسن عند الاحتضار :
(1) استحباب الذكر والدعاء لمن حضر الميت :
وذلك لأن الملائكة يؤمنون على ما يقولون
(حديث أم سلمة الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إذا حضرتم المريض أو الميت فقولوا خيرا فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون قالت فلما مات أبو سلمة أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت يا رسول الله إن أبا سلمة قد مات قال قولي اللهم اغفر لي وله وأعقبني منه عقبى حسنة قالت فقلت فأعقبني الله من هو خير لي منه محمدا - صلى الله عليه وسلم - .(1/228)
و(حديث أم سلمة الثابت في صحيح مسلم ) قالت دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أبي سلمة وقد شق بصره فأغمضه ثم قال إن الروح إذا قبض تبعه البصر فضج ناس من أهله فقال لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون ثم قال اللهم اغفر لأبي سلمة وارفع درجته في المهديين واخلفه في عقبة في الغابرين واغفر لنا وله يا رب العالمين وأفسح له في قبره ونور له فيه .
(2) تلقين الميت لا إله إلا الله :
(لحديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لقنوا موتاكم لا إله إلا الله .
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لقنوا موتاكم لا إله إلا الله فإنه من كان آخر كلامه لا إله إلا الله عند الموت دخل الجنة يوما من الدهر و إن أصابه قبل ذلك ما أصابه .
{ تنبيهات } : [الأول] يستحب تلقين الميت لا إله إلا الله ثلاث مرات لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا تكلم بكلمةٍ أعادها ثلاثاً حتى تُفهم عنه
(لحديث أنس الثابت في الصحيحين) قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا تكلم بكلمةٍ أعادها ثلاثاً حتى تُفهم عنه ، وإذا أتى على قومٍ فسلَم عليهم سلَم عليهم ثلاثا .
[الثاني] كما يُكره تلقين الميت لا إله إلا الله أكثر من ثلاث مرات لئلا يضجر لشدة كربه وضيق حاله إلا أن يتكلم بشيءٍ بعد التلقين فيُسن حينئذٍ أن يعاد تلقينه بلا إله إلا الله حتى يكون آخر كلامه لا إله إلا الله .
(حديث معاوية الثابت في صحيح أبي داود) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة .
[الثالث] كما يجوز تلقين الكافر لا إله إلا الله وهاك الدليل على ذلك :(1/229)
(حديث سعيد ابن المسيَّب عن أبيه الثابت في الصحيحين) قال لما حضرت أبا طالبٍ الوفاة جاءه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوجد عنده أبا جهل وعبد الله بن أمية بن المغيرة فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : يا عم قل لا إله إلا الله كلمةً أشهد لك بها عند الله ، فقال ابوجهل وعبد الله بن أبي أمية : يا أبا طالب أتر غبُ عن ملةِ عبد المطلب ؟ ، فلم يزل رسول الله يعرضها عليه ويعيدُ له تلك المقالة حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم هو على ملةِ عبد المطلب وأبى أن يقول لا إله إلا الله ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أما والله لأستغفرنَّ لك ما لم أُنه عنك فأنزل الله تعالى: (مَا كَانَ لِلنّبِيّ وَالّذِينَ آمَنُوَاْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوَاْ أُوْلِي قُرْبَىَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيّنَ لَهُمْ أَنّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ) [سورة: التوبة - الآية: 113]
(3) يُسن تذكير الميت بأخبار الرجاء :
وذلك لسببين واضحين هما :
*الأول : أن تذكير الميت بأخبار الرجاء يحببه في لقاء الله تعالى ومن أحب لقاء الله أحب الله لقاءه .
(حديث عائشة الثابت في الصحيحين) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه و من كره لقاء الله كره الله لقاءه ، قالت عائشة أو بعض أزواجه: إنا لنكره الموت، قال: (ليس ذاك، ولكنَّ المؤمن إذا حضره الموت بُشِّر برضوان الله وكرامته، فليس شيء أحب إليه مما أمامه، فأحب لقاء الله وأحب الله لقاءه، وإن الكافر إذا حضر بُشِّر بعذاب الله وعقوبته، فليس شيء أكره إليه مما أمامه، فكره لقاء الله وكره الله لقاءه .
*والثاني : أن تذكير الميت بأخبار الرجاء يجعله حسن الظن بالله تعالى .
(حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله .(1/230)
(حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله .
(حديث أبي هريرة في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : قال الله تعالى أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني ، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، وإن ذكرني في ملأٍ ذكرته في ملٍ خيرٌ منهم ، وإن تقَّرب إليَّ شبرا تقربت إليه ذراعا وإن تقرب إليَّ ذراعا تقربت إليه باعا و إن أتاني مشيا أتيته هَرْوَلَةً .
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه القبور عن ثابت البناني قال : " كان شاب له رهق ، وكانت أمه تعظه ، تقول : يابني ، إن لك يوما ، فاذكر يومك ، إن لك يوما فاذكر يومك . فلما نزل أمر الله ، انكبت عليه أمه فجعلت تقول : يابني ، قد كنت أحذرك مصرعك هذا وأقول لك : إن لك يوما فاذكر يومك . قال : يا أمه ، إن لي ربا كثير المعروف ، وإني لأرجو أن لا يعدمني اليوم بعض معروف ربي أن يغفر لي . قال : يقول ثابت : فرحمه الله لحسن ظنه بربه في حاله تلك "(1/231)
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه القبور عن أبي غالب قال : " كنت أختلف إلى الشام في تجارة ، وعظم ما كنت أختلف من أجل أبي أمامة . فإذا فيها رجل من قيس ، من خيار الناس . فكنت أنزل عليه ، ومعنا ابن أخ له مخالف ، يأمره وينهاه ويضربه ، فلا يطيعه . فمرض الفتى ، فبعث إلى عمه ، فأبى أن يأتيه . فأتيته أنا به ، حتى أدخلته عليه ، فأقبل عليه يشتمه ويقول : أي عدو الله ، الخبيث ، ألم تفعل كذا ؟ ألم تفعل كذا ؟ قال : أفرغت أي عم ؟ قال : نعم . قال : أرأيت لو أن الله دفعني إلى والدتي ، ما كانت صانعة بي ؟ قال : إذا والله كانت تدخلك الجنة قال : فو الله لله أرحم بي من والدتي . فقبض الفتى ، فخرج عليه عبد الملك بن مروان ، فدخلت القبر مع عمه ، فخطوا له خطا . ولم يلحدوا له ، قال : فقلنا باللبن ، فسويناه . قال : فسقطت منها لبنة ، فوثب عمه فتأخر، فقلت : ما شأنك ؟ قال : ملئ قبره نورا ، وفسح فيه مثل مد البصر "
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه القبور عن حميد قال : " كان لي ابن أخت مرهق ، فمرض ، فأرسلت إلي أمه ، فأتيتها ، فإذا هي عند رأسه تبكي ، فقال : يا خالي ، ما يبكيها ؟ قلت : ما تعلم منك ، قال : أليس إنما ترحمني ؟ قلت : بلى ، قال : فإن الله أرحم بي منها . فلما مات أنزلته القبر مع غيري ، فذهبت أسوي لبنه ، فاطلعت في اللحد ، فإذا هو مد بصري ، فقلت لصاحبي : رأيت ما رأيت ؟ قال : نعم ، فليهنئك ذاك ، فظننت أنه بالكلمة التي قالها "
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه القبور عن إدريس بن عبد الله المروزي قال : " مرض أعرابي ، فقيل له : إنك تموت . قال : إلى أين يذهب بي ؟ قال : إلى الله . قال : فما كراهتي أن أذهب إلى من لا أرى الخير إلا منه .(1/232)
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه القبور عن المعتمر بن سليمان قال : قال أبي حين حضرته الوفاة : " يا معتمر ، حدثني بالرخص ، لعلي ألقى الله وأنا حسن الظن به "
(4) يُسن تغميض عينه والدعاء له :
(لحديث أم سلمة الثابت في صحيح مسلم ) قالت دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أبي سلمة وقد شق بصره فأغمضه ثم قال إن الروح إذا قبض تبعه البصر فضج ناس من أهله فقال لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون ثم قال اللهم اغفر لأبي سلمة وارفع درجته في المهديين واخلفه في عقبة في الغابرين واغفر لنا وله يا رب العالمين وأفسح له في قبره ونور له فيه .
(5) يُسن تغطيته بثوبٍ يستر جميع بدنه :
(لحديث عائشة الثابت في الصحيحين) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حين تُوفيً سُجَى ببُردٍ حَبِرة .
(6) أن يُعَجِّلوا بتجهيزه وإخراجه :
(لحديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين)) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أسرعوا بالجنازة فإن تك صالحة فخير تقدمونها إليه و إن تك سوى ذلك فشر تضعونه عن رقابكم .
(7) المبادرة بقضاء دينه فإن نفسُ المؤمن معلقةٌ بدينه حتى يُقضى عنه :
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : نفسُ المؤمن معلقةٌ بدينه حتى يُقضى عنه .
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه و من أخذها يريد إتلافها أتلفه الله .
{ تنبيه } : من مات من المسلمين وعليه دين استحق أن يُقضى عنه دينه من بيت مال المسلمين ويؤخذ من سهم الغارمين الذي هو أحد مصارف الزكاة الثمانية :(1/233)
(لحديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يؤتى بالرجل المتوفى عليه الدين فيقول هل ترك لدينه فضلا ؟ فإن حدث أنه ترك لدينه وفاءاً صلى وإلا قال للمسلمين صلوا على صاحبكم فلما فتح الله عليه الفتوح قال أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم فمن توفي من المسلمين وعليه دين فعلي قضاؤه ومن ترك مالا فهو لورثته .
(8) إسراع تنفيذ وصيته :
لأن الوصية إن كانت واجبة فلإسراع إبراء الذمة وإن كانت في تطوع فلإسراع الأجر له .
{ تنبيهات } :
[*] حديث (اقرءوا على موتاكم يس) ضعيف وعلى هذا فلا يسن قراءة يس على المحتضر .
[*] قال بعض أهل العلم بأنه يسن توجيه الميت نحو القبلة لأنها أفضل المجالس واستدلوا بحديث ( قبلتكم أحياءاً وأمواتا ) وحديث ( خير مجالسكم ما استقبلتم به القبلة) والحديثان ضعيفان لا يحتج بهما ، والذي يظهر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يتقصد التوجه نحو الكعبة وكذا الصحابة لم يكونوا يتقصدون التوجه نحو الكعبة على الرغم من أنهم أحرص الناس على الخير وأعلم الناس بما يجيزه الشرع .
باب وجوب الصبر والاسترجاع لأهل الميت :
قال تعالى: (وَبَشّرِ الصّابِرِينَ * الّذِينَ إِذَآ أَصَابَتْهُم مّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنّا للّهِ وَإِنّآ إِلَيْهِ رَاجِعونَ * أُولََئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مّن رّبّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولََئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) [البقرة :157:155]
(حديث أم سلمة الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول !< إنا لله وإنا إليه راجعون >! اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيرا منها إلا أجره الله في مصيبته وأخلف له خيرا منها قالت فلما توفي أبو سلمة قلت كما أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخلف الله لي خيرا منه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .(1/234)
(حديث أبي موسى الثابت في صحيح الترمذي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إذا مات ولد العبد قال الله تعالى لملائكته : قبضتم ولد عبدي ؟ فيقولون : نعم فيقول : قبضتم ثمرة فؤاده ؟ فيقولون : نعم فيقول : ماذا قال عبدي ؟ فيقولون : حمدك و استرجع فيقول الله تعالى : ابنوا لعبدي بيتا في الجنة و سموه بيت الحمد .
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : قال الله تعالى : ما لعبدي المؤمن عندي جزاءٌ إذا قبضتُ صفيه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة .
(حديث أنس الثابت في صحيح البخاري ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : قال الله تعالى : إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه - يريد بعينيه - ثم صبر عوضته منهما الجنة .
(حديث عطاء ابن أبي رباح الثابت في الصحيحين) قال : قال لي ابن عباس رضيَ الله عنهما ألا أُريك امرأةً من أهل الجنة ؟ قلتُ بلى ، قال هذه المرأةُ السوداء ، أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت إني أُصرع وإني أتكشف فادعُ الله لي . قال إن شئتِ صبرتِ ولكِ الجنة وإن شئتِ دعوتُ الله أن يُعافيكِ فقالت أصبر ، فقالت إني أتكشف فادعُ الله لي ألا أتكشف فدعا لها .
{ تنبيه } : الصبر المحمود هو ما كان عند الصدمة الأولى أي عند مفاجأة المصيبة :
(حديث أنس الثابت في الصحيحين) مر النبي - صلى الله عليه وسلم - بامرأة تبكي عند قبر فقال : اتقي الله واصبري فقالت إليك عني فإنك لم تُصب بمصيبتي ولم تعرفه ، فقيل لها إنه النبي - صلى الله عليه وسلم - فأتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم تجد عنده بوابين فقالت لم أعرفك فقال إنما الصبر عند الصدمة الأولى .(1/235)
(حديث أبي ثعلبة الخُشَنِّي رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :إن من ورائكم أيام الصبر ، للمتمسك فيهن يومئذ بما أنتم عليه أجر خمسين منكم . قالوا: يا نبي الله لِلَّهِ أو منهم ؟ قال: بل منكم .
أيام الصبر هي أيام الابتلاء في الدين والشهوات المستعرة والشبهات المستحكمة ومع ذلك المرء صابر لدينه. فسماها أيام الصبر لأنه لا يستعمل فيها إلا الصبر ولا حلّ إلا الصبر والصبر هو القائد وهو الملاذ والحصن الحصين ، الذي من دخله عُصِم..
( حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن من ورائكم زمان صبر للمتمسك فيه أجر خمسين شهيدا منكم .
{ تنبيه } : أيام الصبر هذه هي أيام غربة الدين كما في الأحاديث الآتية
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : بدأ الإسلام غريبا وسيعود كما بدأ غريبا فطوبى للغرباء .
(حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن الإسلام بدأ غريبا ، وسيعود غيبا كما بدأ ، فطوبى للغرباء . قيل: من هم يا رسول الله ؟ قال: الذين يصلحون إذا فسد الناس .
(حديث عبد الله ابن عمرو رضي الله عنهما الثابت في السلسلة الصحيحة ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " طوبى للغرباء , قيل : و من الغرباء يا رسول الله ? قال : ناسٌ صالحون قليلٌ في ناسٍ سوء كثير من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم " .
{ تنبيه } : غربة الدين ستزول وسينتشر الإسلام انتشار النار في الهشيم قطعاً حتى يترك الله بيت مَدَر ولا وَبَر إِلا أدخله الله هذا الدين بعزِّ عزيز أو بذلِّ ذليل :(1/236)
(حديث تميم ابن أوس الداريِّ رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :"ليبلغنَّ هذا الأمرُ ما بلغ الليلُ والنهارُ، ولا يترك الله بيت مَدَر ولا وَبَر إِلا أدخله الله هذا الدين بعزِّ عزيز أو بذلِّ ذليل، عزّاً يعز الله به الإِسلامَ وأهلَه وذلا يذل الله به الكفر"
( مَدَر ) تراب ملبد أو قطع طين يابسة أو نحو ذلك
(وَبَر) صوف .
[*] قال الألباني رحمه الله تعالى :
ومما لا شك فيه أن تحقيق هذا الانتشار يستلزم أن يعود المسلمون أقوياء
في معنوياتهم و مادياتهم و سلاحهم حتى يستطيعوا أن يتغلبوا على قوى الكفر
و الطغيان .
وفي هذا الحديث بيان أن الظهور المذكور في الآية لم يتحقق بتمامه ، وإنما يتحقق في المستقبل ، ومما لا شك فيه أن دائرة الظهور اتسعت بعد وفاته صلى الله عليه وسلم في زمن الخلفاء الراشدين ومن بعدهم ، ولا يكون التمام إلا بسيطرة الإسلام على جميع الكرة الأرضية ، وسيتحقق هذا قطعاً لإخبار الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك .
باب ما ورد في البكاء على الميت :
مسألة : هل يجوز البكاء على الميت ؟
الجواب :
دلت السنة الصحيحة أنه يجوز البكاء على الميت وأن هذا لا ينافي الصبر بشرط أن يخلو من الجزع ولطم الخدود وشق الجيوب ونحوها :
(حديث أنس الثابت في الصحيحين) قال دخلنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أبي سيف القين وكان ظئرا لإبراهيم عليه السلام فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إبراهيم فقبله وشمه ثم دخلنا عليه بعد ذلك وإبراهيم يجود بنفسه فجعلت عينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تذرفان فقال له عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه وأنت يا رسول الله فقال يا بن عوف إنها رحمة ثم أتبعها بأخرى فقال - صلى الله عليه وسلم - إن العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول إلا ما يُرضى ربنا وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون .(1/237)
{ تنبيه } : ظئرا : أي زوج المرضعة وهو معنى مستعار .
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن الله لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب ولكن يعذب بهذا أو يرحم وأشار إلى لسانه .
(حديث ابن مسعود الثابت في الصحيحين) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ليس منا من لطم الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية .
(حديث أبو بردة بن أبي موسى الثابت في الصحيحين) قال وجع أبو موسى وجعا فغشي عليه ورأسه في حجر امرأة من أهله فلم يستطع أن يرد عليها شيئا فلما أفاق قال أنا بريء ممن برئ منه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برئ من الصالقة والحالقة والشاقة .
(حديث المغيرة ابن شعبة الثابت في الصحيحين) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن كذبا علي ليس ككذب على أحد من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار من نيح عليه يعذب بما نيح عليه .
(حديث عمر الثابت في الصحيحين) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن الميت ليعذب ببكاء الحي .
مسألة : هل يستحب إعلام قرابة الميت وأصحابه بموته ؟
الجواب :
دلت السنة الصحيحة على استحباب إعلام قرابة الميت وأصحابه بموته كما في الحديث الآتي :
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نعى النجاشي في اليوم الذي مات فيه وخرج بهم إلى المصلى فصف أصحابه وكبر عليه أربعاً .
باب غسل الميت وتكفينه والصلاة عليه ودفنه :
[*] عناصر الباب :
غسل الميت :
تكفين الميت :
الصلاة على الميت :
حمل الجنازة والسير بها :
الموعظة بالجنازة والاعتبار بها :
دفن الميت :
الأشياء التي تنفع الميت بعد موته :
ما ورد في التعزية وحكمها :
الحداد على الميت :
ما ورد في النهي عن سب الأموات :
وهاك تفصيل ذلك في إيجازٍ غيرِ مُخِّل :
غسل الميت :
مسألة : ما حكم غسل الميت ؟(1/238)
غسل الميت فرض الكفاية .
(لحديث ابن عباس الثابت في الصحيحين) أن رجلاً كان مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فوقصته ناقته وهو محرم فمات فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه ولا تمسوه بطيبٍ ولا تخمروا رأسه فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا .
الشاهد : قوله - صلى الله عليه وسلم - [اغسلوه بماء وسدر] والأصل في الأمر الوجوب ، ومن المعلوم أنه لا يريد من كل إنسان أن يغسل الميت وإنما يوجه الخطاب إلى عموم المسلمين فإن قام به البعض سقط عن الكل .
مسألة : من أولى الناس بغسل الميت ؟
أولى الناس بغسل الميت من كان أعرف بسنة الغسل لا سيما إن كان وصيُّه أي الذي أوصى بأن يغسله فنكون قد جمعنا بين المصلحتين ، فكونه أعرف بسنة الغسل يتم التغسيل على السنة وكونه وصيُّه يتم إنفاذ الوصية .
ويجوز للرجل أن يغسل زوجته ويجوز للمرأة أن تغسل زوجها .
(لحديث عائشة الثابت في صحيح ابن ماجة ) قالت : لو كنت استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسل النبي - صلى الله عليه وسلم - غير نسائه .
(ولحديث عائشة الثابت في صحيح ابن ماجة ) قالت : رجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من البقيع فوجدني وأنا أجد صداعا في رأسي وأنا أقول وارأساه فقال بل أنا يا عائشة وارأساه ثم قال ما ضرك لو مت قبلي فقمت عليك فغسلتك وكفنتك وصليت عليك ودفنتك .
مسألة : إذا مات صبي عمره أقل من سبع سنوات هل تغسله امرأة ؟
يجوز للمرأة أن تغسل صبي عمره أقل من سبع سنوات لأن عورة ما دون السبع لا حكم لها ولأن إبراهيم ابن النبي - صلى الله عليه وسلم - غسله النساء وكان د مات في الرضاعة قبل أن يفطم .
مسألة : هل يجوز للمسلم غسل الكافر ودفنه ؟(1/239)
لا يجوز للمسلم غسل الكافر ودفنه لقوله تعالى: (وَلاَ تُصَلّ عَلَىَ أَحَدٍ مّنْهُم مّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ إِنّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ) [سورة: التوبة - الآية: 84]
الشاهد قوله تعالى: (وَلاَ تُصَلّ عَلَىَ أَحَدٍ مّنْهُم مّاتَ أَبَداً) فإذا نهيَ عن الصلاة على الكافر وهي أعظم ما يفعل بالميت وأنفع ما يكون للميت فما دونها من باب أولى .
مسألة : ما هي صفة غسل الميت؟
لغسل الميت صفتان :
(أ) صفة الوجوب : وهي أن يعمم بدنه بالماء مرة واحدة ولو كان جنباً أو كانت حائضاً .
(ب) صفة كمال : وهي كالآتي :
[1] يوضع في مكانٍ مرتفع ويجرد من ثيابه ويوضع عليه ساتر يستر عورته ولا يحضر غسله إلا من تدعو الحاجة إلى حضوره وينبغي أن يكون الغاسل أمين لينشر ما يراه من الخير ويستر ما يظهر من الشر .
[2] يعصر بطن الميت عصراً رقيقاً لإخراج ما عسى أن يكون بها ثم يلف على يده خِرقة وينجي الميت حتى لا يمس عورته لأن ذلك حرام .
[3] يوضئه وضوئه للصلاة
(حديث أم عطية الثابت في الصحيحين) قالت قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غسل ابنته ابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها .
[4] يغسله بماءٍ وسدر فإن عُدِم السدر فأي منظف كالصابون على أن يبدأ باليمين لحديث أم عطية السابق .
[5] يكون غسله للميت ثلاث مرات أو خمس أو أكثر من ذلك حتى يحصل الإنقاء .
(حديث أم عطية الثابت في الصحيحين) قالت : دخل علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين توفيت ابنته فقال لنا اغسلنها ثلاثا أو خمسا أو أكثر من ذلك إن رأيتن فإذا فرغتن فآذنني فلما فرغنا آذناه فنزع من حِقوه إزاره وقال أشعرنها إياه تعني إزاره .
{ تنبيه } : إذا لم يحصل الإنقاء بالثلاث يزيد الغاسل على الثلاث وِترا .(1/240)
(حديث أم عطية الثابت في الصحيحين) قالت توفيت إحدى بنات النبي - صلى الله عليه وسلم - فأتانا النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال اغسلنها وترا ثلاثا أو خمسا أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك واجعلن في الآخرة كافورا أو شيئا من كافور فإذا فرغتن فآذنني فلما فرغنا آذناه فألقى إلينا حِقوه فضفرنا شعرها ثلاثة قرون وألقيناها خلفها .
{ تنبيه } : وإذا كان الميت امرأة تضفر شعرها ثلاثة قرون وألقيناها خلفها .
(حديث أم عطية الثابت في الصحيحين) قالت توفيت إحدى بنات النبي - صلى الله عليه وسلم - فأتانا النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال اغسلنها وترا ثلاثا أو خمسا أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك واجعلن في الآخرة كافورا أو شيئا من كافور فإذا فرغتن فآذنني فلما فرغنا آذناه فألقى إلينا حِقوه فضفرنا شعرها ثلاثة قرون وألقيناها خلفها .
[6] يجعل في آخر غسله كافورا أو أي شيء طيب الرائحة وإنما يفضل الكافور على غيره لأنه مع كونه طيب الرائحة إلا أن فيه صفة تبريد وقوة نفوذ وخاصة في تصلب بدن الميت وطرد الهوام عنه ومنع إسراع الفساد إليه .
(حديث أم عطية الثابت في الصحيحين) قالت توفيت إحدى بنات النبي - صلى الله عليه وسلم - فأتانا النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال اغسلنها وترا ثلاثا أو خمسا أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك واجعلن في الآخرة كافورا أو شيئا من كافور فإذا فرغتن فآذنني فلما فرغنا آذناه فألقى إلينا حِقوه فضفرنا شعرها ثلاثة قرون وألقيناها خلفها .
مسألة : ماذا يراعى في تغسيل المحرم ؟
الذي يراعى في تغسيل المحرم أن لا يمس طيباَ ولا يخَمَّر رأسه ولا يلبس المخيط بل يعامل معاملة المحرم الحي .(1/241)
(حديث ابن عباس الثابت في الصحيحين) أن رجلاً كان مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فوقصته ناقته وهو محرم فمات فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه ولا تمسوه بطيب ولا تخمروا رأسه فإن الله يبعثه يوم القيامة ملبيا .
مسألة : هل يغسل الشهيد ؟
القول الذي دلت عليه السنة الصحيحة وتجتمع فيه الأدلة أن المسألة على التفصيل الآتي :
[1] شهيد المعركة : الذي قتل بيد الكفار لا يغسل :
(حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح البخاري ) قال كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في ثوب واحد ثم يقول أيهم أكثر أخذا للقرآن فإذا أشير له إلى أحدهما قدمه في اللحد وقال أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة وأمر بدفنهم في دمائهم ولم يغسلوا ولم يصل عليهم .
[2] أما القتلى الذين لم في المعركة بأيدي الكفار فقد أطل الشارع عليهم لفظ الشهداء وهؤلاء يغسلون .
فقد غسَّل النبي - صلى الله عليه وسلم - من مات منهم في حياته ، والمسلمون غسلوا من بعده عمر وعثمان وعلي رضي الله تعالى عنهم وهم جميعاً شهداء .
(حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما ابن عتيك الثابت في صحيحي أبي داوود والنسائي) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : الشهادة سبع سوى القتل في سبيل الله المطعون شهيد والغرق شهيد وصاحب ذات الجنب شهيد والمبطون شهيد وصاحب الحريق شهيد والذي يموت تحت الهدم شهيد والمرأة تموت بجمع شهيدة .
{ تنبيه } : المطعون من مات بالطاعون والعياذ بالله تعالى ، و ذات الجنب قروح تصيب الإنسان داخل جنبه ، والمبطون من مات بمرض البطن ، والمرأة تموت بجمع أي التي تموت عند الولادة .
{ تنبيه } : ومن هنا يتضح أن الشهداء ليسوا في منزلةٍ واحدة وأن شهيد المعركة الذي قتل بيد الكفار يفضل على غيره وهل وجدت أفضل من أن جاد بنفسه في سبيل الله تعالى .
حكم الغسل من تغسيل الميت :(1/242)
مسألة : ما حكم الغسل من تغسيل الميت ؟
الغسل من تغسيل الميت من الأغسال المستحبة
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من غسّل الميت فليغتسل ، ومن حمله فليتوضأ .
تكفين الميت :
مسألة : ما حكم تكفين الميت ؟
تكفين الميت فرض كفاية .
( حديث ابن عباس الثابت في الصحيحين ) أن رجلا كان مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فوقصته ناقته وهو محرم فمات فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه ولا تمسوه بطيب ولا تخمروا رأسه فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا .
وجه الدلالة : اغسلوه بماءٍ وسدر : الأصلُ في الأمر الوجوب ، ومن المعلوم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يريد من كل إنسان أن يغسل الميت وإنما يوجه الخطاب إلى عموم المسلمين فإن قام به البعض سقط عن الكل .
(حديث خباب ابن الأرت الثابت في صحيح البخاري) قال هاجرنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - نلتمس وجه الله فوقع أجرنا على الله فمنا من مات لم يأكل من أجره شيئا منهم مصعب بن عمير ومنا من أينعت له ثمرته فهو يهدبها قتل يوم أحد فلم نجد ما نكفنه إلا بردة إذا غطينا بها رأسه خرجت رجلاه وإذا غطينا رجليه خرج رأسه فأمرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - أن نغطي رأسه وأن نجعل على رجليه من الإذخر .
مسألة : ماذا يستحب في الكفن ؟
يستحب في الكفن الأمور الآتية :
[1] تحسين الكفن :
(حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إذا كفن أحدكم أخاه فليحسن كفنه .
[2] أن يكون الكفن أبيض :
( حديث ابن عباس الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : البسوا من ثيابكم البياض فإنها من خير ثيابكم و كفنوا فيها موتاكم و إن من خير أكحالكم الإثمد يجلوا البصر و ينبت الشعر .
[3] أن يكون ثلاث لفائف(1/243)
(حديث عائشة الثابت في الصحيحين) أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كفن في ثلاثة أثواب بيض سحولية ليس فيها قميص ولا عمامة .
مسألة : هل يستحب في كفن المرأة أن يكون خمسة أثواب أم ثلاث مثل الرجل ؟
[*] قال بعض أهل العلم : أن المرأة تكفن في خمسة أثواب إزار وقميص وخمار ولفافتين واستدلوا بحديث أم عطية أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ناولها إزاراً ودرعاً (أي قميصاً) وخماراً (غطاء الرأس) وثوبين (تلف فيهما) ولكن هذا الحديث في إسناده نظر لأن فيه راوٍ مجهول .
ولهذا قال بعض أهل العلم أن المرأة تكفن بما يكفن به الرجل أي في ثلاث أثواب يلف بعضها فوق بعض ، وهذا القول هو الصحيح [ لأن الأصل تساوي الرجال والنساء في الأحكام الشرعية إلا ما دلَ الدليل على اختصاص أحدهما بالآخر ] .
الواجب في الكفن :
مسألة : ما هو الواجب في الكفن ؟
الواجب في الكفن ثوبٌ يستر جميع البدن ، فإن لم يوجد إلا ثوبٌ قصير لا يكفي لجميع البدن غُطِيَ رأسُه وجُعِلَ على رجليه من الإذخر .
(لحديث خباب ابن الأرت الثابت في الصحيحين) قال : هاجرنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - نلتمس وجه الله فوقع أجرنا على الله فمنا من مات لم يأكل من أجره شيئا منهم مصعب بن عمير ومنا من أينعت له ثمرته فهو يهدبها قتل يوم أحد فلم نجد ما نكفنه إلا بردة إذا غطينا بها رأسه خرجت رجلاه وإذا غطينا رجليه خرج رأسه فأمرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - أن نغطي رأسه وأن نجعل على رجليه من الإذخر .
مسألة : ما هو كفن المحرم ؟
كفن المحرم ثوبي إحرامه لأنه يبعث يوم القيامة ملبياً .
(لحديث ابن عباس الثابت في الصحيحين) أن رجلا كان مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فوقصته ناقته وهو محرم فمات فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه ولا تمسوه بطيبٍ ولا تخمروا رأسه فإن يبعث يوم القيامة ملبيا .
كيفية تكفين الميت :
مسألة : ما هي كيفية تكفين الميت؟(1/244)
(1) تُرش اللفائف الثلاث بماءٍ ثم تبخر من أجل أن يعلق الدخان بها ، ثم تبسط بعضها فوق بعض ثم يوضع عليها الحنوط (الطيب)
(2) يوضع الميت على اللفائف الثلاث مستلقياً على ظهره لأن وضعه مستلقياً على ظهره أثبت وأسهل لإدراجه فيها ، ويجعل من الحنوط في قطنٍ بين أليته وذلك لئلا يخرج شيئٌ من دبره كريه الرائحه ، فإذا خرج شيئٌ من دبره فإن الحنوط يضيع هذه الرائحة الكريهة .
(3) نأتي بخرقةٍ مشقوقة الطرف نشدها على القطنة التي فيها الحنوط الموضوع بين أليته ، بحيث تجمع هذه الخرقة أليته ومثانته أي تكون على السوأتين .
(4) يجعل الباقي من الحنوط على منافذ وجهه (عينيه ومنخريه وفمه) وكذا أذنه من أجل أن يمنع الهوام من دخول هذه المنافذ ، وكذا نجعل شيئاً من الحنوط على مواضع السجود السبع من باب التشريف لها .
{ تنبيه } : وضع الحنوط في هذه الأماكن اجنهادٌ من العلماء ، أما الحنوط من حيث مشروعيته فقد جاءت به السنة .
(5) يُردُ طرف اللفافة التي تلي الميت من الجانب الأيسر على شقه الأيمن ويرد طرفه الآخر فوقه ،ثم يجعل الثانية والثالثة كذلك ويجعل أكثر الفاضل من الكفن من جهة الرأس .
(6) ثم يعقد اللفائف لئلا تنتشر وتتفرق ثم تُحل هذه العقد في القبر .
مسألة : هل يجوز النظر إلى الميت وتقبيله بعد أن يُدرج في أكفانه ؟
الجواب : يجوز النظر إلى الميت وتقبيله بعد أن يُدرج في أكفانه بنص السنة الصحيحة كما في الحديث الآتي :(1/245)
(حديث عائشة الثابت في صحيح البخاري) أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مات وأبو بكرٍ بالسُّنحِ فقام عمر يقول : والله ما مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وقال عمر ـ والله ما كان يقع في نفسي إلا ذاك ـ وليبعثنه الله فليقطعنَّ أيدي رجالٍ وأرجلهم ، فجاء أبو بكرٍ فكشف عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقبَّله فقال بأبي أنت وأمي طبت حياً وميتاً والذي نفسي بيده لا يذيقك الله الموتتين أبداً ثم خرج فقال : أيها الحالف على رَسْلِك ، فلما تكلم جلس عمر ، فحمد الله أبو بكر وأثنى عليه وقال : ألا من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حيٌ لا يموت وقال: (إِنّكَ مَيّتٌ وَإِنّهُمْ مّيّتُونَ) وقال: (وَمَا مُحَمّدٌ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرّسُلُ أَفإِنْ مّاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَىَ أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشّاكِرِينَ)
الصلاة على الميت :
مسألة : ما هو حكم الصلاة على الميت ؟
الصلاة على الميت فرض كفاية
(لحديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يؤتى بالرجل المتوفى عليه الدين فيقول : هل ترك لدينه فضلاً ؟ فإن حدِّث أنه ترك لدينه وفاءاً صلى وإلا قال للمسلمين : صلوا على صاحبكم ، فلما فتح الله عليه الفتوح قال : أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم فمن تُوفيََ من المسلمين وعليه دينٌ فعليَّ قضاؤه ومن ترك مالاً فلورثته .
فضل الصلاة على الميت :
مسألة : ما هو فضل الصلاة على الميت ؟
للصلاة على الميت فضلٌ عظيم وأجرٌ جسيم بينته السنة الصحيحة(1/246)
(لحديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من اتبع جنازة مسلمٍ إيماناً واحتساباً وكان معه حتى يصلي عليها ويُفْرَغ من دفنها فإنه يرجع من الأجرِ بقيراطين كلُ قيراطٍ مثل أحد ، ومن صلى عليها ثم رجع قبل أن تدفن فإنه يرجعُ بقيراط .
مقصود الصلاة على الميت :
مسألة : ما هي مقصود الصلاة على الميت ؟
مقصود الصلاة على الميت الشفاعة فيه
(لحديث عائشة الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ما من ميت يصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون مائة كلهم يشفعون له إلا شُفَِعوا فيه .
(شُفَِعوا فيه) : أي قُبلت شفاعتهم
صنفان من الناس لا يجب الصلاة عليهما :
مسألة : هناك صنفان من الناس لا يجب الصلاة عليهما؟
[1] شهيد المعركة :
(لحديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح البخاري) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في الثوب الواحد ثم يقول : أيهما أكثرُ أخذاً للقرآن فإذا أُشير إلى أحدهما قدّمه في اللحد وقال : أنا شهيدٌ على هؤلاء يوم القيامة وأمر بدفنهم في دمائهم ولم يغسلوا ولم يُصلى عليهم .
[2] الصبي الذي لم يبلغ :
(لحديث عائشة الثابت في صحيح أبي داود) مات إبراهيم بن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو بن ثمانية عشر شهرا فلم يصل عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
مقام الإمام من الميت :
مسألة : أين مقام الإمام من الميت؟
يقوم الإمام عند رأس الرجل ووسط المرأة
(لحديث أنس الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة ) أنه صلى على رجل فقام عند رأسه ثم صلى على امرأةٍ فقام حيال وسط السرير فقال له العلاء بن زياد هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام على الجنازة مقامك منها ومن الرجل مقامك منه؟ فلما فرغ قال احفظوا .(1/247)
(وحديث سمرة بن جندب الثابت في الصحيحين) صليت وراء النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على امرأة ماتت في نفاسها فقام وَسْطَها .
مسألة : إذا اجتمعت جنائز كثيرة من الرجال والنساء فما هو مقام الإمام منهم ؟
يُجعل الرجال مما يلي الإمام والنساء يلين القبلة .
(لحديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح النسائي موقوفاً) أنه صلى على تسع جنائز جميعاً فجُعل الرجال يلون الإمام والنساء يلون القبلة .
صفة صلاة الجنازة :
مسألة : ما هي صفة صلاة الجنازة؟
(1) يتقدم الإمام ويكبر أربعا
(لحديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) قال نعى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أصحابه النجاشي ثم تقدَّم فصفوا خلفه فكبَّر أربعا .
(2) يقرأ بعد التكبيرة الأولى فاتحة الكتاب
(حديث طلحة بن عبد الله الثابت في صحيح البخاري) قال : صليت خلف ابن عباس رضيَ الله تعالى عنهما على جنازةٍ فقرأ بفاتحة الكتاب وقال لتعلموا أنها سنة .
(3) يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - الصلاة الإبراهيمية بعد التكبيرة الثانية لنقل الخلف عن السلف من طرقٍ متعددة وعمل المسلمين عليه . والصلاة الإبراهيمية هي ( اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد 000إلى قوله إنك حميدٌ مجيد)
(4) بعد التكبيرة الثالثة ندعو للميت :
(لحديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح أبي داود) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء .
{ تنبيه } : يجوز له أن يدعو بأي دعاء ويستحبُ له أن يدعو بالدعاء الأوفق للسنة .(1/248)
(لحديث عوف ابن مالك الثابت في صحيح البخاري) صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على جنازة فحفظت من دعائه وهو يقول اللهم اغفر له وارحمه وعافه واعف عنه وأكرم نزله ووسع مدخله واغسله بالماء والثلج والبرد ونقه من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس وأبدله دارا خيرا من داره وأهلا خيرا من أهله وزوجا خيرا من زوجه وأدخله الجنة وأعذه من عذاب القبر أو من عذاب النار قال حتى تمنيت أن أكون أنا ذلك الميت
(وحديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا صلىعلى جنازة فقال اللهم اغفر لحينا وميتنا وصغيرنا وكبيرنا وذكرنا وأنثانا وشاهدنا وغائبنا اللهم من أحييته منا فأحيه على الإيمان ومن توفيته منا فتوفه على الإسلام اللهم لا تحرمنا أجره ولا تضلنا بعده .
{ تنبيه } : إذا كان الميت طفلاً استحب أن يقول المصلي ( اللهم اجعله سلفاً وفرطاً وذخرا) رواه البخاري من كلام الحسن .
(5) بعد التكبيرة الرابعة يقول : اللهم لا تحرمنا أجره ولا تفتنا بعده
(6) ثم يسلم تسليمتين كمثل الصلاة المكتوبة إحداهما عن يمينه والأخرى عن يساره ، ويجوز الإقتصار على التسليمة الأولى لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على جنازةٍ فكبر عليها أربعاً وسلم تسليمةٍ واحدة ، والحديث حسنه الألباني رحمه الله تعالى في كتاب الجنائز .
مسألة :الذي يصلي صلاة الجنازة هل يرفع يديه مع كل تكبيرة أم في التكبيرة الأولى فقط ؟
الصحيح أنه يرفع يديه في التكبيرة الأولى فقط لحديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يرفع يديه على الجنازة في أول تكبيرة ثم لا يعود . والحديث قال عنه العلامة الألباني رحمه الله تعالى أن رجاله ثقات .
هل يصلي الإمام على قاتل نفسه :
مسألة : هل يصلي الإمام على قاتل نفسه؟(1/249)
الإمام الأعظم هو رئيس الدولة ، والإمام لا يصلي على قاتل نفسه لأنه فعل كبيرة وترك الإمام الصلاة علية يكون نكالاً لما بعده
(لحديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما ابن سمرة الثابت في صحيح مسلم ) قال : أُتي النبي - صلى الله عليه وسلم - برجلٍ قتل نفسه بمشاقص فلم يصلي عليه .
[مشاقص] سهام عِراض واحدها مشقص .
مسألة : هل عموم المسلمين يصلون على قاتل نفسه ؟
عموم المسلمين يصلون على قاتل نفسه لأنه فعل كبيرة من الكبائر لكنه لم يكفر وعقيدة أهل السنة والجماعة في مرتكب الكبيرة أنه تحت مشيئة الإله النافذة إن شاء عفا عنه وإن شاء آخذه ، يدخل الجنة يوماً من الأيام أصابه قبل ذلك اليوم ما أصابه .
الصلاة على السقط :
مسألة : هل يُصلى على السقط ؟
(حديث ابن مسعود الثابت في الصحيحين) قال حدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو الصادق المصدوق * إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات بكتب أجله ورزقه وعمله وشقي أو سعيد فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها وان أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها .
مسألة : هل يجوز الصلاة على الكافر ؟
لا يجوز الصلاة على الكافر لقوله تعالى: (وَلاَ تُصَلّ عَلَىَ أَحَدٍ مّنْهُم مّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ إِنّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ) [سورة: التوبة - الآية: 84](1/250)
وقوله تعالى: (مَا كَانَ لِلنّبِيّ وَالّذِينَ آمَنُوَاْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوَاْ أُوْلِي قُرْبَىَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيّنَ لَهُمْ أَنّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ) [سورة: التوبة - الآية: 113]
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) قال * لما توفى عبد الله بن أبي بن سلول جاء ابنه عبد الله بن عبد الله إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه فأعطاه ثم سأله أن يصلي عليه فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليصلى عليه فقام عمر فأخذ بثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال يا رسول الله أتصلي عليه وقد نهاك الله أن تصلي عليه فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما خيرني الله فقال !< استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة >! وسأزيده على سبعين قال إنه منافق فصلى عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله عز وجل !< ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره .
حمل الجنازة والسير بها :
مسألة : ما هي الأمور التي تشرع في حمل الجنازة ؟
الأمور التي تشرع في حمل الجنازة :
(1) الإسراع بها :
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : * أسرعوا بالجنازة فإن تك صالحة فخير تقدمونها عليه وإن يك سوى ذلك فشر تضعونه عن رقابكم .
(2) من اتبع جنازةٍ فإن كان ماشياً فله أن يمشي أمامها أو خلفها أو حيث شاء ، أما الراكب فيكون خلف الجنازة .
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة)قال رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكرٍ وعمر يمشون أمام الجنازة .
(حديث المغيرة ابن شعبة الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : الراكب خلف الجنازة والماشي حيث شاء منها .(1/251)
(3) إذا كان الميت أنثى يُستحب أن يوضع على النعش مِكبة مثل الخيمة وهي أعواد مقوسة توضع على النعش ويوضع عليها ستر فتكون مثل القبة وذلك لأنه أستر للمرأة ، وقيل أول من فُعل بها هذا فاطمة بنت النبي - صلى الله عليه وسلم - بأمرها .
مسألة : ما هي الأمور التي تكره في اتباع الجنائز ؟
(1) يكره رفع الصوت عند الجنائز لحديث قيس ابن عباد قال : كان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يكرهون رفع الصوت عند الجنائز ، وهذا الحديث قال عنه الألباني رحمه الله تعالى في كتاب الجنائز أن رجاله ثقات .
(2) يكره أن تتبع الجنازة بصوتٍ ولا نار .
لقوله - صلى الله عليه وسلم - ولا تتبع الجنازة بصوتٍ ولا نار . وهذا الحديث حسنه الألباني رحمه الله تعالى في كتاب الجنائز .
(3) يكره قعود من اتبع الجنازة حتى توضع على الأرض .
(حديث أبي سعيد الثابت في الصحيحين) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :إذا رأيتم الجنازة فقوموا فمن تبعها فلا يقعد حتى توضع .
(4)يكره اتباع النساء للجنازة .
(حديث أم عطية الثابت في الصحيحين) قالت : نُهينا عن اتباع الجنائز ولم يُعزم علينا .
الشاهد : قولها [ولم يُعزم علينا ] أي لم يؤكد علينا في النهي كغيره من المنهيات وهذا هو الذي أخرج الحكم من التحريم إلى الكراهة لأن الأصل في النهي التحريم .
مسألة : هل يجوز القيام للجنازة وإن لم يكن متبعاً لها ؟
نعم يجوز ذلك
(حديث أبي سعيد الثابت في الصحيحين) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إذا رأيتم الجنازة فقوموا فمن تبعها فلا يقعد حتى توضع .
(حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) قال مر بنا جنازة فقام لها النبي - صلى الله عليه وسلم - وقمنا به فقلنا يا رسوال الله إنها جنازة يهودي ؟ قال : إذا رأيتم الجنازة فقوموا .(1/252)
قال القرطبي رحمه الله تعالى : مقصود الحديث أن لا يستمر الإنسان على الغفلة عند رؤية الموت لما يشعر ذلك من التساهل بأمر الموت ومن ثمّ استوى كون الميت مسلماً أو غير مسلم .
إنكار ابن مسعود على من ضحك في جنازة :
وأخرج البيهقي عن يزيد بن عبيد الله عن بعض أصحابه قال: رأى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه رجلاً يضحك في جنازة فقال: أتضحك وأنت مع جنازة؟ والله لا أكلمك أبداً. كذا في الكنز .
الموعظة بالجنازة والاعتبار بها :
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه القبور عن يحيى بن جابر قال خرج أبو الدرداء إلى جنازة وأتى أهل الميت يبكون عليه فقال مساكين موتى غد يبكون على ميت اليوم .
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه القبور عن علي بن رفد السعدي قال مر بالأحنف بن قيس جنازة فقال رحم الله من أجهد نفسه لمثل هذا اليوم.
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه القبور عن الأعمش يقول إن كنا لنتبع الجنازة فما ندري من نعزي من حزن القوم.
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه القبور عن حوشب بن مسلم قال لقد أدركت الميت يموت في الحي فما يعرف حميمه من غيره من شدة جزعهم وكثرة البكاء عليه قال ثم بقيت حتى فقدت عامة ذلك.
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه القبور عن عامر بن يساف قال كان يحيى بن أبي كثير إذا حضر جنازة لم يتعش تلك الليلة ولم يقدر أحد من أهله أن يكلمه من شدة حزنه.
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه القبور عن محمد بن واسع أنه حضر جنازة فلما رجع إلى أهله أتي بغدائه فبكى وقال هذا يوم منغص علينا نهاره وأبى أن يطعم.
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه القبور عن صالح المري يقول أدركت بالبصرة شبابا وشيوخا يشهدون الجنائز يرجعون منها كأنهم نشروا من قبورهم فيعرف فيهم والله الزيادة بعد ذلك.(1/253)
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه القبور عن قطري الخشاب قال شهدنا جنازة وفيها الشعبي وأشراف أهل الكوفة فلما دفن الميت قال الشعبي هذا الموت غاية العباد في دار الدنيا فأبكى بكلمته الناس .
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه القبور عن الأعمش قال أدركت الناس وإذا كانت فيهم جنازة جاءوا فجلسوا صموتا لا يتكلمون فإذا وضعت نظرت إلى كل رجل واضعا حبوته على صدره كأنه أبوه أو أخوه أو ابنه.
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه القبور عن العباس بن يزيد البصري قال قلت قلت لسفيان بن عيينة لأي شيء كان يستحب خفض الصوت عند الجنائز قال شبهوه بالحشر إلى الله أما سمعته يقول: (وَخَشَعَتِ الأصْوَاتُ لِلرّحْمََنِ فَلاَ تَسْمَعُ إِلاّ هَمْساً) [طه: 108]
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه القبور عن صالح المري قال كان حسان بن أبي سنان إذا مات في جيرانهم ميت سمعت من داره النحيب والبكاء كما يسمع من دار الميت فإذا حضر الجنازة ثم انصرف لم يفطر تلك الليلة ونظرت إلى ولده وأهل داره عليهم السكينة والخشوع أياما.
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه القبور عن عبد الرحمن بن حميد عن رجل من بني .. . قال أبصر ابن مسعود رجلا يضحك في جنازة فقال أتضحك وأنت في الجنازة والله لا كلمتك أبدا.
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه القبور عن قتادة قال بلغنا أن أبا الدرداء نظر إلى رجل يضحك في جنازة فقال أما كان فيما رأيت من هول الميت ما شغلك عن الضحك.
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه القبور عن عن رجل من ولد الحسن قال شهدنا مع الحسن جنازة فرأى رجلا يحدث صاحبه ويتبسم إليه فقال يا سبحان الله أما كان في الذي بين يدك مشتغل عن التبسم قال الحسن كانوا يعظمون الموت أن يرفع عنده صوت.
دفن الميت :
مسألة : ما هو حكم الدفن ؟
أجمع المسلمون أن الدفن فرض كفاية(1/254)
لقوله تعالى: (أَلَمْ نَجْعَلِ الأرْضَ كِفَاتاً، أَحْيَآءً وَأَمْواتاً) [سورة: المرسلات 25/ 26]
ويجب دفن الميت ولو كان كافراً لما ثبت الثابت في صحيح النسائي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعليّ بن أبي طالب وقد مات أبو طالب (اذهب فواره) .
مسألة : هل يكون الدفن في المقابر أم في المنازل ؟
السنة الدفن في المقابر لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يدفن الموتى في مقبرة البقيع كما تواترت الأخبار بذلك ولم ينقل عن أحدٍ من السلف أنه دفن في غير المقبرة ويستثنى من ذلك شيئان :
(1) الأنبياء : فإنه لم يقبر نبيٌ إلإ حيث يموت
(لحديث أبي بكرة الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:لم يقبر نبيٌ إلإ حيث يموت .
(2) شهداء المعركة : فإنهم يفتنون في مواطن استشهادهم ولا ينقلون إلى المقابر
(لحديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح النسائي) قال لما كان يوم أحد حُمل القتلى ليدفنوا بالبقيع فنادى منادي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمركم أن تدفنوا القتلى في مضاجعهم .
الأوقات التي لا يجوز الدفن فيها إلا لضرورة :
مسألة : ما هي الأوقات التي لا يجوز الدفن فيها إلا لضرورة؟
هناك ثلاث أوقات لا يجوز الدفن فيها إلا لضرورة
(لحديث عقبة بن عامر الثابت في صحيح مسلم ) قال ثلاث ساعاتٍ كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهانا أن نصلي فيهنَّ أو نقبر فيهنَّ موتانا * حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل الشمس وحين تضيف الشمس للغروب حتى تغرب وكذا الدفن بالليل لا يجوز إلا لضرورة :
(لحديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لا تدفنوا موتاكم بالليل إلا أن تضطروا .(1/255)
( ابن عباس رضي الله عنهما الثابت في صحيح البخاري) أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر بقبر قد دفن ليلا، فقال: (متى دفن هذا). قالوا: البارحة. قال: (أفلا آذنتموني). قالوا: دفناه في ظلمة الليل، فكرهنا أن نوقظك. فقام فصففنا خلفه، قال ابن عباس: وأنا فيهم، فصلى عليه.
استحباب الدفن في الأماكن المقدسة :
مسألة : هل يستحب الدفن في الأماكن المقدسة؟
نعم يستحب الدفن في الأماكن المقدسة
(لحديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) قال: أرسل ملك الموت إلى موسى عليهما السلام، فلما جاءه صكه، فرجع إلى ربه، فقال: أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت، فرد الله عليه عينه، وقال: ارجع، فقل له يضع يده على متن ثور، فله بكل ما غطت به يده بكل شعرة سنة. قال: أي رب، ثم ماذا؟ قال: ثم الموت. قال: فالآن، فسأل الله أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية بحجر). قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : فلو كنت ثم لأريتكم قبره، إلى جانب الطريق، عند الكثيب الأحمر).
معنى ثَّمّ أي هناك ، الكثيب الأحمر أي الرمل المجتمع
استحباب طلب الموت في أحد الحرمين :
مسألة : هل يستحب طلب الموت في أحد الحرمين؟
نعم يستحب طلب الموت في أحد الحرمين .
(حديث الثابت في صحيح البخاري) أن عمر رضي الله تعالى عنه قال : اللهم ارزقني شهادةً في سبيلك واجعل موتي في بلد رسولك - صلى الله عليه وسلم - . فقلت أنى هذا ؟ فقال : يأتيني الله به إن شاء الله .
الشاهد : أن هذا قول عمر رضي الله تعالى عنه ، وقول عمر رضي الله تعالى عنه سنة متبعة لأنه من الخلفاء الراشدين .(1/256)
(حديث العرباض بن سارية الثابت في صحيح أبي داوود والترمذي) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أوصيكم بتقوى الله و السمع و الطاعة و إن أمر عليكم عبد حبشي فإنه من يعش منكم بعدي فسيري اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي و سنة الخلفاء المهديين الراشدين تمسكوا بها و عضوا عليها بالنواجذ و إياكم و محدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة و كل بدعة ضلالة .
الشاهد : قوله - صلى الله عليه وسلم - [فعليكم بسنتي و سنة الخلفاء المهديين الراشدين تمسكوا بها و عضوا عليها بالنواجذ]
الأمور التي تستحب في الدفن :
مسألة : ما هي الأمور التي تستحب في الدفن؟
الأمور التي تستحب في الدفن :
(1) يستحب إعماق القبر لأن فيه إحتراماً للميت لأن في إعماقه منع السباع أن تأكله وفيه أيضاً إحتراماً للحي لأن في إعماق القبر منعاً لخروج الرائحة الكريهة التي تؤذي الحي .
(حديث هشام ابن عامر الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) قال شكونا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد فقلنا يا رسول الله الحفر علينا لكل إنسان شديد فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - احفروا وأعمقوا وادفنوا الإثنين والثلاثة في قبر واحد قالوا فمن نقدم يا رسول الله قال قدموا أكثرهم قرآنا قال فكان أبي ثالث ثلاثة في قبر واحد .
(2) يفضل اللحد على الشق :
(لحديث ابن عباس الثابت في صحيح السنن الأربعة) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : اللحد لنا والشقُ لغيرنا .
(حديث سعد ابن أبي وقاص الثابت في صحيح مسلم ) أنه قال في مرضه الذي مات فيه قال في مرضه الذي هلك فيه * ألحدوا لي لحدا وانصبوا علي اللبن نصبا كما صنع برسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
مسألة : ما الفرق بين اللحد والشق ؟
اللحد : يكون في جانب القبر أما الشق يكون في وسط القبر .
(3) السنة إدخال الميت من مؤخرة القبر :(1/257)
(لحديث أبي إسحاق الثابت في صحيح أبي داود) أن عبد الله ابن يزيد أدخل الميت من قِبَلِ رجلي القبر وقال : هذا من السنة .
(4) يقول الذي يضعه في لحده (بسم الله وعلى سنة رسول الله)
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا وضع الميت في القبر قال : بسم الله وعلى سنة رسول الله .
(5) يجوز للزوج أن يتولى دفن زوجته بنفسه
(لحديث عائشة الثابت في صحيح ابن ماجة) قالت * رجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من البقيع فوجدني وأنا أجد صداعا في رأسي وأنا أقول وارأساه فقال بل أنا يا عائشة وارأساه ثم قال ما ضرك لو مت قبلي فقمت عليك فغسلتك وكفنتك وصليت عليك ودفنتك .
{ تنبيه } : لا يشترط لمن تولى الدفن أن يكون من المحارم :
(لحديث أنس الثابت في صحيح البخاري) قال: شهدنا بنتا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال: ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس على القبر، قال: فرأيت عيناه تدمعان، قال: فقال: (هل منكم رجل لم يقارف الليلة). فقال أبو طلحة: أنا، قال: (فانزل). قال: فنزل في قبرها.
الشاهد : أن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان حاضراً ولم يتولى الدفن بنفسه .
(6) يستحب لمن كان عند القبر أن يحثو من التراب ثلاث حثواتٍ بيديه جميعاً بعد الفراغ من سد اللحد .
(لحديث أبي هريرة رضي الله عنه لابن ماجة) أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى على جنازة ثم أتى الميت فحثى عليه من قبل رأسه ثلاثاً . وهذا الحديث صححه الألباني رحمه الله تعالى في الإرواء .
الأمور التي تستحب بعد الفراغ من الدفن :
مسألة : ما هي الأمور التي تستحب بعد الفراغ من الدفن؟
الأمور التي تستحب بعد الفراغ من الدفن :
(1) الاستغفار للميت :(1/258)
( لحديث عثمان بن عفان الثابت في صحيح أبي داود) قال * كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه فقال استغفروا لأخيكم وسلوا له التثبيت فإنه الآن يسأل .
(2)أن يرفع القبر عن الأرض قليلاً نحو شبر ولا يُسوى بالأرض وذلك لكي يُميز ولا يهان.
(لحديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيحابن حبان) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رُفِعَ قبره عن الأرض قدر شبر .
(3) أن يجعل القبر مسنماً أي مجعولاً كالسنام بحيث يكون وسطه بارزاً على أطرافه :
(لحديث سفيان التمار الثابت في صحيح البخاري) قال : رأيت قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - مسنماً .
(4) أن يُعلَّم القبر بحجرٍ ونحوه
(لحديث أنس الثابت في صحيح ابن ماجة) أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعلم قبر عثمان بن مظعون بصخرة .
مسألة : هل يجوز أن ندفن أكثر من رجلٍ في قبرٍ واحد ؟
دلت السنة الثابتة الصحيحة على أن ذلك جائز
(حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح البخاري) قال : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يجمع بين الرجلين من قتلى أحدٍ في الثوب الواحد ثم يقول : أيهم أكثر أخذاً للقرآن فإذا أُشير إلى أحدهما قدَّمه في اللحد وقال أنا شهيدٌ على هؤلاء يوم القيامة وأمر بدفنهم في دمائهم ولم يغسَّلوا ولم يُصلى عليهم .
الأشياء التي تنفع الميت بعد موته :
مسألة : ما هي الأشياء التي تنفع الميت بعد موته؟
[*] الأشياء التي تنفع الميت بعد موته :
(1) دعاء المسلم له : قال تعالى: (وَالّذِينَ جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاّ لّلّذِينَ آمَنُواْ رَبّنَآ إِنّكَ رَءُوفٌ رّحِيمٌ) [سورة: الحشر - الآية: 10](1/259)
(حديث أبي الدرداء الثابت في صحيح مسلم ) النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: دعوة المرء المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة عند رأسه ملك موكل كلما دعا لأخيه بخير قال الملك الموكل به آمين ولك بمثل .
(2) قضاء الدين :
(حديث ابن عباس الثابت في صحيح البخاري) أن امرأة من جُهينة جاءت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: إن أمي نذرت أن تحجَّ، ولم تحج حتى ماتت، أفأحجُّ عنها؟ قال: (نعم، حُجِّي عنها، أرأيتِ لو كان على أمك دين أكنتِ قاضِيَتَهُ). قالت: نعم، فقال: اقضوا اللهَ الذي له، فإنَّ اللهَ أحقُّ بالوفاء).
(3) قضاء النذر عنه :
(حديث ابن عباس الثابت في صحيح البخاري) أن امرأة من جُهينة جاءت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: إن أمي نذرت أن تحجَّ، ولم تحج حتى ماتت، أفأحجُّ عنها؟ قال: (نعم، حُجِّي عنها، أرأيتِ لو كان على أمك دين أكنتِ قاضِيَتَهُ). قالت: نعم، فقال: اقضوا اللهَ الذي له، فإنَّ اللهَ أحقُّ بالوفاء).
(4) ما يفعله الولد الصالح من الأعمال الصالحة : قال تعالى: (وَأَن لّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاّ مَا سَعَىَ) [سورة: النجم - الآية: 39]
وقد ثبت في السنة الثابتة الصحيحة أن ولد الرجل من كسبه
(حديث عائشة الثابت في صحيح السنن الأربعة) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إن أطيب ما أكلتم من كسبكم وإن أولادكم من كسبكم .
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث : إلا من صدقةٍ جارية أو علمٍ ينتفع به أو ولدٌ صالحٌ يدعو له .
ما ورد في التعزية وحكمها :
مسألة : ما معنى مسائل التعزية، وما حكمها ؟
العزاء الصبر والتعزية التصبير والحمل على الصبر وذلك بذكر الأدعية والنصوص الواردة في فضيلة الصبر مما يجعل المصاب يتسلى وينسى المصيبة وهذا هو مقصود التعزية وليس المقصود أن نأتي إليه لنثير أحزانه كما يفعل بعض الناس .(1/260)
حكم التعزية :
التعزية من السنة : وقد ورد في السنة الثابتة الصحيحة ما يدل على أت للتعزية أجرٌ عظيم .
(حديث عمرو بن حزم الثابت في صحيح ابن ماجة) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال * ما من مؤمن يعزي أخاه بمصيبة إلا كساه الله سبحانه من حلل الكرامة يوم القيامة .
مسألة: ما هي ألفاظ التعزية ؟
التعزية تؤدى بأي لفظٍ يحمل على الصبر ويخفف المصيبة لأن هذا هو مقصودها , مثل أن يقال : أعظم الله أجرك وألهمك صبرك ، وأفضل ألفاظها ما ورد في السنة الثابتة الصحيحة
(حديث أسامة بن زيد الثابت في الصحيحين) قال : أرسلت ابنةالنبي - صلى الله عليه وسلم - إليه، إن ابناً لي قُبض فأتنا ، فأرسل يُقرئ السلام، ويقول: (إنَّ لله ما أخذ وما أعطى، وكل شيء عنده بأجلٍ مسمًّى، فلتصبر ولتحتسب).
{ تنبيه } : وينبغي اجتناب أمرين وإن تتابع الناس عليهما لأنهما بخلاف السنة ، وإذا ثبتت السنة فلا اعتبار لمن خالفها .
(1) ينبغي اجتناب الاجتماع للتعزية في مكانٍ خاص كالدار أو المقبرة أو المسجد
(2) ينبغي كذلك اجتناب صنع أهل الميت الطعام لضيافة الواردين للعزاء .
(حديث جرير ابن عبد الله الثابت في صحيح ابن ماجة) قال : كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت وصنعه الطعام من النياحة .
مسألة : هل من السنة أن يصنع أقرباء الميت وجيرانه طعام لأهل الميت ؟
نعم ذلك من السنة :
(حديث عبد الله ابن جعفر الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) قال : لما جاء نعي جعفر حين قتل قال ابنةالنبي - صلى الله عليه وسلم - : اصنعوا لآل جعفر طعاماً فقد أتاهم أمرٌ يشغلهم ، أو أتاهم ما يشغلهم .
الحداد على الميت :
مسألة : ما هو الحداد على الميت ، وما مدة الإحداد ؟
الإحداد على الميت : هو ترك ما تتزين به المرأة من الحلي والكحل والحرير والطيب والخضاب .(1/261)
مدة الإحداد : يجوز للمرأة أن تُحِدَ على قريبها الميت ثلاثة أيام ما لم يمنعها زوجها ويحرم عليها فوق ذلك ، أما إذا كان الميت الزوج فإنها تحد عليه أربعة أشهرٍ وعشرا ، وإنما وجب على الزوجة ذلك وفاءاً للزوج ومراعاةٍ لحقه .
(حديث أم عطية الثابت في الصحيحين) قالت: كنا ننهى أن نحد على ميت فوق ثلاث، إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا، ولا نكتحل، ولا نتطيب، ولا نلبس ثوبا مصبوغا إلا ثوب عصب، وقد رخص لنا عند الطهر، إذا اغتسلت إحدانا من محيضها، في نبذة من كست أظفار، وكنا ننهى عن اتباع الجنائز.
(حديث زينب بنت أبي سلمة الثابت في الصحيحين) قالت: دخلت على أم حبيبة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر، تحد على ميت فوق ثلاث، إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا). ثم دخلت على زينب بنت جحش، حين توفي أخوها، فدعت بطيب فمست، ثم قالت: ما لي بالطيب من حاجة، غير أني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المنبر: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر، تحد على ميت فوق ثلاث، إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا .
ما ورد في النهي عن سب الأموات :
مسألة : ما حكم سب الأموات ؟
الصحيح في هذه المسالة : أن سب الأموات مجراها مجرى الغيبة فمن لم يجز غيبته لم يجز سبه ميتاً وعليه يحمل الحديث الاتي
(حديث عائشة الثابت في صحيح البخاري) ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لا تسبوا الأموات فإنهم قد أفضوا إلى ما قد موا .
(قد أفضوا إلى ما قدموا ) : قد وصلوا إلى ما قدموا من خيرٍ وشر .(1/262)
(حديث أنس بن مالك رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) قال: مروا بجنازة فأثنوا عليها خيرا، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (وجبت). ثم مروا بأخرى فأثنوا عليها شرا، فقال: (وجبت) فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ما وجبت؟ قال: (هذا أثنيتم عليه خيرا، فوجبت له الجنة، وهذا أثنيتم عليه شرا، فوجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض).
الشاهد : أن الناس أثنوا شراً فأقرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - .
كما يجوز سب الكفار ولعنهم قال تعالى: (لُعِنَ الّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِيَ إِسْرَائِيلَ عَلَىَ لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وّكَانُواْ يَعْتَدُونَ) [سورة: المائدة - الآية: 78]
و قال تعالى: (تَبّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبّ) [سورة: المسد - الآية: 1]
مسألة : هل يجوز الثناء على الميت بخير ؟
نعم يجوز الثناء على الميت بخير :
(حديث عمر الثابت في الصحيحين) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (أيما مسلم، شهد له أربعة بخير، أدخله الله الجنة). فقلنا: وثلاثة، قال: (وثلاثة). فقلنا: واثنان، قال: (واثنان). ثم لم نسأله عن الواحد.
باب أهوال القبور وأحوال أهلها إلى النشور :
[*] عناصر الباب :
ما هو البرزخ ؟
هول القبور :
سؤال القبر :
التثبيت في القبر :
عذاب القبر ونعيمه :
الأسباب الموجبة لعذاب القبر :
الأسباب التي تكون سبباً في النجاة عذاب القبر :
أنواع عذاب القبر :
ذكر ضيق القبور وظلمتها على أهلها وتنورها عليهم بدعاء الأحياء :
عرض منازل أهل القبور عليهم من الجنة أو النار بكرة وعشيا :
ضمة القبر :
اجتماع أعمال الميت عليه من خير وشر ومدافعتها عنه :
اجتماع الموتى إلى الميت وسؤالهم إياه :
فيما ورد من تلاقي الموتى في البرزخ وتزاورهم :
ما ورد من سماع الموتى كلام الأحياء :
ذكر محل أرواح الموتى في البرزخ :
زيارة الموتى والاتعاظ بهم :(1/263)
الفرق بين زيارة الموحدين للقبور، وزيارة المشركين :
استحباب تذكر القبور والتفكير في أحوالهم :
أحوال السلف في تذكر القبور والتفكير في أحوالهم :
وهاك تفصيل ذلك في إيجازٍ غيرِ مُخِّل :
ما هو البرزخ ؟
مسألة : ما هو البرزخ ؟
[*] قال الإمام ابن رجب رحمه الله تعالى في كتابة أهوال القبور :
إن الله سبحانه وتعالى خلق بني آدم للبقاء لا للفناء ، وإنما ينقلهم بعد خلقهم من دار إلى دار ، كما قال ذلك طائفة من السلف الأخيار ، منهم بلال بن سعد ، وعمر بن عبد العزيز رضي الله عنهما ، فأسكنهما في هذه الدار ، ليبلوهم أيُّهم أحسن عملاً ، ثم ينقلهم إلى دار البرزخ فيحبسهم هنالك إلى أن يجمعهم يوم القيامة ويجزي كل عاملٍ جزاء عمله مفصّلاً هذا مع أنهم في دار البرزخ بأعمالهم مدانون مكافئون ، فمكرَّمون بإحسانهم وبإساءتهم مهانون ، قال تعالى: ( وَمِن وَرَآئِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَىَ يَوْمِ يُبْعَثُونَ) [ المؤمنون : 100]
قال مجاهد : البرزخ الحاجز بين الموت والرجوع إلى الدنيا ، وعنه قال : هو ما بين الموت إلى البعث ،
قال الحسن : هي هذه القبور التي بينكم وبين الآخرة ، وعنه قال أبو هريرة : هي هذه القبور التي تركضون عليها لا يسمعون الصوت ,
وقال عطاء الخرساني : البرزخ مدة ما بين الدنيا والآخرة , وصلى أبو أمامة على جنازة فلما وضعت في لحدها , قال أبوأمامة : هذا برزخ إلى يوم يبعثون .
وقيل للشَّعبي مات فلان قال : ليس هو في الدنيا ولا في الآخرة هو في برزخ ، وسمع رجلا يقول : مات فلان أصبح من أهل الآخرة . قال : لا تقل من أهل الآخرة لِلَّهِ ولكن قل من أهل القبور .
هول القبور :
أخي الحبيب:(1/264)
أما تفكرت في حال من مات ونُقِلَ من القصورِ إلى ظلمة القبور وما فيها من الدواهي والأمور تحت الجنادل والصخور .. ومن ضياء المهود إلى ظلمة اللحود.. ومن ملاعبة الأهل والولدان إلى مقاساة الهوام والديدان.. ومن التنعم بالطعام والشراب إلى التمرغ في الوبيل؟ فأخذهم الموت على غرة، وسكنوا القبور بعد حياة الترف واللذة، وتساووا جميعاً بعد موتهم في تلك الحفرة .
ولله درُ من قال :
أتيت القبور فناديتها ... أين المعظم والمحتقر؟!
وأين المذل بسلطانه ... وأين القوي على ما قدر؟!
تفانوا جميعاً فما مخبر ... وماتوا جميعاً ومات الخبر!!
فيا سائلي عن أناس مضوا ... أما لك فيما مضى معتبر؟!
تروح وتغدو بنات الثرى ... فتمحو محاسن تلك الصور!
أخي الحبيب:
ماذا أعددت لأول ليلة تبيتها في قبرك؟ أما علمت أنها ليلة شديدة، بكى منها العلماء، وشكا منها الحكماء، وشمر لها الصالحون الأتقياء؟
فارقت موضع مرقدي *** يوماَ فقارققني السكون
القبر أول ليلة *** بالله قل لي ما يكون؟!
كان الربيع بن خثيم يتجهز لتلك الليلة، ويروى أنه حفر في بيته حفرة فكان إذا وجد في قلبه قساوة دخل فيها، وكان يمثل نفسه أنه يقد مات وندم وسأل الرجعة فيقول: رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ [المؤمنون:99،100]، ثم يجيب نفسه فيقول: ( قد رجعت يا ربيع!! ) فيرى فيه ذلك أياماً، أي يرى فيه العبادة والاجتهاد والخوف والوجل.
الثرى والتراب.. ومن أنس العشرة إلى وحشة الوحدة.. ومن المضجع الوثير إلى المصرع
[*] شيع الحسن رحمه الله :جنازة فجلس على شفير القبر فقال : إن أمراً هذا آخره لحقيق أن يزهد في أوله، وإن أمراً هذا أوله لحقيق أن يخاف آخره .(1/265)
[*] ووعظ عمر بن عبدالعزيز يوماً أصحابه فكان من كلامه أنه قال: إذا مررت بهم فنادهم إن كنت منادياً، وادعهم إن كنت داعياً، ومر بعسكرهم، وانظر إلى تقارب منازلهم.. سل غنيهم ما بقي من غناه؟.. واسألهم عن الألسن التي كانوا بها يتكلمون، وعن الأعين التي كانوا للذات بها ينظرون.. واسألهم عن الجلود الرقيقة، والوجوه الحسنة، والأجساد الناعمة، ما صنع بها الديدان تحت الأكفان؟!.. أكلت الألسن، وغفرت الوجوه، ومحيت المحاسن، وكسرت الفقار، وبانت الأعضاء، ومزقت الأشلاء فأين حجابهم وقبابهم؟ وأين خدمهم وعبيدهم؟ وجمعهم وكنوزهم؟ أليسوا في منازل الخلوات؟ أليس الليل والنهار عليهم سواء؟ أليسوا في مدلهمة ظلماء؟ قد حيل بينهم وبين العمل، وفارقوا الأحبة والمال والأهل.
[*] وكان يزيد الرقاشي يقول لنفسه: "ويحك يا يزيد! من ذا يصلي عنك بعد الموت؟ من ذا يصوم عنك بعد الموت؟ من ذا يترضى عنك بعد الموت؟ ثم يقول: أيها الناس! ألا تبكون وتنوحون على أنفسكم باقي حياتكم.. من الموت موعده.. والقبر بيته.. والثرى فراشه.. والدود أنيسه.. وهو مع هذا ينتظر الفزع الأكبر.. كيف يكون حاله؟!"، ثم بكي رحمه الله.
فيا ساكن القبر غداً! ما الذي غرك من الدنيا؟ أين دارك الفيحاء ونهرك المطرد؟ وأين ثمارك اليانعة؟ وأين رقاق ثيابك؟ وأين طيبك وبخورك؟ وأين كسوتك لصيفك وشتائك؟.. ليت شعري بأي خديك بدأ البلى.. يا مجاور الهلكات صرت في محلة الموت.. ليت شعري ما الذي يلقاني به ملك الموت عند خروجي من الدنيا..وما يأتيني به من رسالة ربي.. ثم انصرف رحمة الله فما عاش بعد ذلك إلا جمعة.
أخي الحبيب:
تفكر في الذين رحلوا.. أين نزلوا؟ وتذكر القوم نوقشوا وسئلوا.. ولقد ودوا بعد الفوات لو قبلوا.. ولكن هيهات هيهات وقد قبروا.
أما اعتبرت بمن رحل ، أما وعظتك العبر ، أما كان لك سمعٌ ولا بصر .
أخي الحبيب:(1/266)
القبر أول منازل الآخرة فكيف بنا أهملنا بنيانه وقوضنا أركانه وليس بيننا وبين الانتقال إليه إلا أن يقال: فلان مات.
وأنت إذا أمعنت النظر في كل شيء لن تجد أفظع من القبر وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد ، ودرر الفرائد .
(حديث هانىء مولى عثمان رضي الله عنه الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة ) قال : كان عثمان إذا وقف على قبر يبكي حتى يبل لحيته ، فقيل له : تذكر الجنة والنار ولا تبكي وتبكي من هذا ؟ قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن القبر أول منازل الآخرة فإن نجا منه فما بعده أيسر منه وإن لم ينج منه فما بعده أشد منه ، وقال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما رأيت منظراً قطُّ إلا والقبر أفظع منه " .
[*] قال العلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:
( إِنَّ الْقَبْرَ أَوَّلُ مَنْزِلٍ مِنْ مَنَازِلِ الْآخِرَةِ ) وَمِنْهَا عُرْضَةُ الْقِيَامَةِ عِنْدَ الْعَرْضِ, وَمِنْهَا الْوُقُوفُ عِنْدَ الْمِيزَانِ, وَمِنْهَا الْمُرُورُ عَلَى الصِّرَاطِ, وَمِنْهَا الْجَنَّةُ أَوِ النَّارُ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ, وَآخِرُ مَنْزِلٍ مِنْ مَنَازِلِ الدُّنْيَا وَلِذَا يُسَمَّى الْبَرْزَخُ
( فَإِنْ نَجَا ) أَيْ خُلِّصَ الْمَقْبُورُ
( مِنْهُ ) أَيْ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ
( فَمَا بَعْدَهُ ) أَيْ مِنَ الْمَنَازِلِ
( أَيْسَرُ مِنْهُ ) أَيْ أَسْهَلُ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عَلَيْهِ ذَنْبٌ لَكُفِّرَ بِعَذَابِ الْقَبْرِ
( وَإِنْ لَمْ يَنْجُ مِنْهُ ) أَيْ لَمْ يَتَخَلَّصْ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَلَمْ يُكَفِّرْ ذُنُوبَهُ بِهِ وَبَقِيَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِمَّا يَسْتَحِقُّ الْعَذَابَ بِهِ(1/267)
( فَمَا بَعْدَهُ أَشَدُّ مِنْهُ ) لِأَنَّ النَّارَ أَشَدُّ الْعَذَابِ وَالْقَبْرُ حُفْرَةٌ مِنْ حُفَرِ النِّيرَانِ
( قَالَ ) أَيْ عُثْمَانُ - رضي الله عنه - .
( مَا رَأَيْتُ مَنْظَرًا ) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالظَّاءِ أَيْ مَوْضِعًا يُنْظَرُ إِلَيْهِ وَعَبَّرَ عَنِ الْمَوْضِعِ بِالْمَنْظَرِ مُبَالَغَةً لِأَنَّهُ إِذَا نُفِيَ الشَّيْءُ مَعَ لَازِمِهِ يَنْتَفِي بِالطَّرِيقِ الْبُرْهَانِيِّ
( قَطُّ ) بِفَتْحِ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ الْمَضْمُومَةِ: أَيْ أَبَدًا وَهُوَ لَا يُسْتَعْمَلُ إِلَّا فِي الْمَاضِي
( إِلَّا وَالْقَبْرُ أَفْظَعُ مِنْهُ ) مِنْ فَظُعَ الْأَمْرُ كَكَرُمَ اشْتَدَّتْ شَنَاعَتُهُ وَجَاوَزَ الْمِقْدَارَ فِي ذَلِكَ, يَعْنِي أَشَدُّ وَأَفْظَعُ وَأَنْكَرُ مِنْ ذَلِكَ الْمَنْظَرِ.
قِيلَ: الْمُسْتَثْنَى جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ مِنْ مَنْظَرٍ وَهُوَ مَوْصُوفٌ حُذِفَتْ صِفَتُهُ, أَيْ مَا رَأَيْتُ مَنْظَرًا فَظِيعًا عَلَى حَالَةٍ مِنْ أَحْوَالِ الْفَظَاعَةِ, إِلَّا فِي حَالَةِ كَوْنِ الْقَبْرِ أَقْبَحَ مِنْهُ, فَالِاسْتِثْنَاءُ مُفَرَّغٌ.أهـ
فارقت موضع مرقدي يوماً ففارقني السكون *** القبر أول ليلة بالله قل لي فيه ما يكون
نظرة واحدة بعين البصيرة في هذا القبر والله سوف تعطيك حقيقة هذه الدنيا فبعد العزة وبعد الأموال وبعد الأوامر والنواهي وبعد الخدم والحشم وبعد القصور والدور، أهذه هي نهاية ابن آدم في هذه الحفرة الضيقة المظلمة.
تالله لو عاش الفتى في عمره *** ألفاً من الأعوام مالك أمره
متلذذاً فيها بكل نعيم *** متنعماً فيها بنعمى عصره
ما كان ذلك كله في أن يفي *** بمبيت أول ليلة في قبره
فإذا تفكر في ما سيلقاه في قبره وأنه إما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار . إذا تفكر في هذا كله ارتدع عن المعاصي ورق قلبه لخالقه .
أخي الحبيب:(1/268)
انظر لحال الموتى وتأمل حالهم ومآلهم فوالله إنه سيأتيك يوم مثل يومهم وسيمر عليك ما مرّ بهم، ألا فاعتبر واستعد ، ولا تغفل ولا تنسى مصيرك ومآلك، فهل تصورت نفسك وأنت مكان هذا المدفون، والله إنها نعمة كبيرة أن أعطاك الله العبرة من غيرك ولم يعط غيرك العبرة منك ، فأعطاك الفرصة أن تحاسب نفسك وتستعد لذلك المصرع، فهلاّ استفدت من هذه الفرصة ما دام في الوقت مهلة، لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ [ الصافات:61] وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد ، ودرر الفرائد .
( حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :إذا وضعت الجنازة، واحتملها الرجال على أعناقهم، فإن كانت صالحة قالت: قدموني، وإن كانت غير صالحة قالت: يا ويلها، أين تذهبون بها، يسمع صوتها كل شيء إلا الإنسان، ولو سمعه صعق .
فتخيل نفسك يا عبد الله وأنت محمول على الأعناق وعلى أي الحالتين تحب أن تكون.
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة ما سمعت مثلها قط قال: (لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا). قال فغطى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوههم لهم خنين .
ومعنى الحديث : لو أنكم علمتم ما أعلمه من عظمة الله عز وجل، وانتقامه ممن يعصيه، لطال بكاؤكم وحزنكم وخوفكم مما ينتظركم ، ولما ضحكتم أصلاً ، فالقليل هنا بمعنى المعدوم، وهو مفهوم من السياق .
{ تنبيه } : وهذا الكلام موجه للصحابة رضي الله عنهم فكيف بك أنت أيها الغافل اللاهي تلهو وتلعب وتغني وتعصي الله صباحاً ومساء، ولا كأن أمامك موت ولا قبر ولا حشر ولا نشر، ولا كأن أمامك هذه الأهوال العظيمة، فما أقسى والله قلبك وما أقل عقلك. فتنبه لذلك أيها المسكين إن كنت تعقل وتفهم.(1/269)
فتخيل يا عبدالله وأنت في هذا القبر الموحش المظلم يقال لك مثل هذا الكلام فحينئذ لا ينفعك ندم ولا صياح ولا بكاء ولا أنين.
سؤال القبر :
مسألة : ما هي عقيدة أهل السنة والجماعة في سؤال القبر ؟
عقيدة أهل السنة والجماعة في سؤال القبر أن كل إنسانٍ يُسأل في قبره بعد موته قُبر أم لم يقبر فلو أكلته السباع أو أحرق حتى صار رماداً ونسف في الهواء أو أغرق في البحر لسئل عن أعماله وجوزي بالخير خيراً وبالشر شراً وأن النعيم والعذاب على النفس والبدن معاً
[*] قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى :
عذاب القبر حقٌ لا ينكره إلا ضالٌ مضل . انتهى
وهاكم الأدلة على ذلك :
قال تعالى: (يُثَبّتُ اللّهُ الّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَفِي الاَخِرَةِ وَيُضِلّ اللّهُ الظّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَآءُ) [إبراهيم: 27]
(حديث البراء الثابت في الصحيحين) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : العبد إذا سُئل في قبره يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبد ورسوله فذلك قوله تعالى: (يُثَبّتُ اللّهُ الّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَفِي الاَخِرَةِ) [ إبراهيم : 27] .
(حديث البراء الثابت في الصحيحين) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : العبد إذا سُئل في قبره يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبد ورسوله فذلك قوله تعالى: (يُثَبّتُ اللّهُ الّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَفِي الاَخِرَةِ) [ إبراهيم : 27] .(1/270)
(حديث البراء الثابت في الصحيحين) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (يُثَبّتُ اللّهُ الّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَفِي الاَخِرَةِ) نزلت في عذاب القبر ، زاد مسلم : "يقال له : من ربك ؟ فيقول ربي الله ونبيي محمد ، فذلك قوله سبحانه وتعالى : (يُثَبّتُ اللّهُ الّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثّابِتِ .
( حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح النسائي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لولا أن تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم عذاب القبر .
(حديث أنس في الصحيحين) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن العبد إذا وضع في قبره و تولى عنه أصحابه حتى أنه يسمع قرع نعالهم أتاه ملكان فيقعدانه فيقولان له : ما كنت تقول في هذا الرجل ؟ لمحمد فأما المؤمن فيقول : أشهد أنه عبد الله و رسوله فيقال : انظر إلى مقعدك من النار قد أبدلك الله به مقعدا من الجنة فيراهما جميعا ، و أما المنافق و الكافر فيقول : لا أدري كنت أقول ما يقول الناس فيقال له : لا دريت و لا تليت ثم يضرب بمطارق من حديد ضربةً فيصيح صيحة يسمعها من يليه غير الثقلين .(1/271)
(حديث أبي هريرة في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إذا قبر الميت أتاه ملكان أسودان أزرقان يقال لأحدهما المنكر و للآخر النكير فيقولان : ما كنت تقول في هذا الرجل ؟ فيقول : ما كان يقول هو : عبد الله و رسوله أشهد أن لا إله إلا الله و أن محمد عبده و رسوله فيقولان : قد كنا نعلم أنك تقول ثم يفسح له في قبره سبعون ذراعا في سبعين ثم ينور له فيه ثم يقال : نم فيقول : أرجع إلى أهلي فأخبرهم فيقولان : نم كنومة العروس الذي لا يوقظه إلا أحب أهله إليه حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك و إن كان منافقا قال : سمعت الناس يقولون قولا فقلت مثله لا أدري فيقولان : قد كنا نعلم أنك تقول ذلك فيقال للأرض : التئمي عليه فتلتئم عليه فتختلف أضلاعه فلا يزال فيها معذبا حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك .(1/272)
(حديث البراء بن عازب رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب ) قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار فانتهينا إلى القبر ولما يلحد بعد فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلسنا حوله كأنما على رؤوسنا الطير وبيده عود ينكت به في الأرض فرفع رأسه فقال تعوذوا بالله من عذاب القبر مرتين أو ثلاثا ، ثم قال : إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزل إليه ملائكة من السماء بيض الوجوه كأن وجوههم الشمس معهم كفن من أكفان الجنة وحنوط من حنوط الجنة حتى يجلسوا منه مد البصر ويجيء ملك الموت عليه السلام حتى يجلس عند رأسه فيقول أيتها النفس الطيبة اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان قال فتخرج فتسيل كما تسيل القطرة من في السقاء فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن وفي ذلك الحنوط ويخرج منه كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض قال فيصعدون بها فلا يمرون على ملاء من الملائكة إلا قالوا ما هذا الروح الطيب فيقولان فلان ابن فلان بأحسن أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا حتى ينتهوا بها إلى السماء الدنيا فيستفتحون له فيفتح له فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها حتى ينتهى بها إلى السماء السابعة فيقول الله عز وجل اكتبوا كتاب عبدي في عليين وأعيدوه إلى الأرض في جسده فيأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان من ربك فيقول ربي الله فيقولان ما دينك فيقول ديني الإسلام فيقولان ما هذا الرجل الذي بعث فيكم فيقول هو رسول الله فيقولان ما يدريك فيقول قرأت كتاب الله وآمنت به وصدقته فينادي مناد من السماء أن قد صدق عبدي فأفرشوه من الجنة وافتحوا له بابا إلى الجنة ، قال فيأتيه من روحها وطيبها ويفسح له في قبره مد بصره ، قال ويأتيه رجل حسن الوجه حسن الثياب طيب الريح فيقول أبشر بالذي يسرك هذا يومك الذي كنت توعد فيقول من أنت فوجهك الوجه الحسن(1/273)
يجيء بالخير فيقول أنا عملك الصالح فيقول رب أقم الساعة رب أقم الساعة حتى أرجع إلى أهلي ومالي ، وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزل إليه ملائكة سود الوجوه معهم المسوح فيجلسون منه مد البصر ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول أيتها النفس الخبيثة اخرجي إلى سخط من الله وغضب فتفرق في جسده فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يجعلوها في تلك المسوح وتخرج منها كأنتن جيفة وجدت على وجه الأرض فيصعدون بها فلا يمرون بها على ملاء من الملائكة إلا قالوا ما هذه الريح الخبيثة فيقولون فلان ابن فلان بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا حتى ينتهى بها إلى السماء الدنيا فيستفتح له فلا يفتح له ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط فيقول الله عز وجل اكتبوا كتابه في سجين في الأرض السفلى ثم تطرح روحه طرحا ثم قرأ ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق فتعاد روحه في جسده ويأتيه ملكانه فيجلسانه فيقولان له من ربك فيقول هاه هاه لا أدري قال فيقولان له ما دينك فيقول هاه هاه لا أدري ، قال فيقولان له ما هذا الرجل الذي بعث فيكم فيقول هاه هاه لا أدري فينادي مناد من السماء أن كذب فأفرشوه من النار وافتحوا له بابا إلى النار فيأتيه من حرها وسمومها ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعهد ويأتيه رجل قبيح الوجه قبيح الثياب منتن الريح فيقول أبشر بالذي يسوؤك هذا يومك الذي كنت توعد فيقول من أنت فوجهك الوجه القبيح يجيء بالشر فيقول أنا عملك الخبيث فيقول رب لا تقم الساعة .
( فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول ): السفود " الكثير الشعب " من الصوف المبلول فتقطع معها العروق والعصب .(1/274)
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن الميت إذا وضع في قبره إنه يسمع خفق نعالهم حين يولوا مدبرين فإن كان مؤمنا كانت الصلاة عند رأسه وكان الصيام عن يمينه وكانت الزكاة عن شماله وكان فعل الخيرات من الصدقة والصلاة والمعروف والإحسان إلى الناس عند رجليه فيؤتى من قبل رأسه فتقول الصلاة ما قبلي مدخل ثم يؤتى عن يمينه فيقول الصيام ما قبلي مدخل ثم يؤتى عن يساره فتقول الزكاة ما قبلي مدخل ثم يؤتى من قبل رجليه فيقول فعل الخيرات من الصدقة والمعروف والإحسان إلى الناس ما قبلي مدخل فيقال له اجلس فيجلس قد مثلت له الشمس وقد دنت للغروب فيقال له أرأيتك هذا الذي كان قبلكم ما تقول فيه وماذا تشهد عليه فيقول دعوني حتى أصلي فيقولون إنك ستفعل أخبرنا عما نسألك عنه أرأيتك هذا الرجل الذي كان قبلكم ماذا تقول فيه وماذا تشهد عليه قال فيقول محمد أشهد أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه جاء بالحق من عند الله فيقال له على ذلك حييت وعلى ذلك مت وعلى ذلك تبعث إن شاء الله ثم يفتح له باب من أبواب الجنة فيقال له هذا مقعدك منها وما أعد الله لك فيها فيزداد غبطة وسرورا ثم يفتح له باب من أبواب النار فيقال له هذا مقعدك وما أعد الله لك فيها لو عصيته فيزداد غبطة وسرورا ثم يفسح له في قبره سبعون ذراعا وينور له فيه ويعاد الجسد كما بدأ منه فتجعل نسمته في النسيم الطيب وهي طير تعلق في شجر الجنة فذلك قوله يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة [إبراهيم : 27] وإن الكافر إذا أتي من قبل رأسه لم يوجد شيء ثم أتي عن يمينه فلا يوجد شيء ثم أتي عن شماله فلا يوجد شيء ثم أتي من قبل رجليه فلا يوجد شيء فيقال له اجلس فيجلس مرعوبا خائفا فيقال أرأيتك هذا الرجل الذي كان فيكم ماذا تقول فيه وماذا تشهد عليه فيقول أي رجل ولا يهتدي لاسمه فيقال له محمد فيقول لا(1/275)
أدري سمعت الناس قالوا قولا فقلت كما قال الناس فيقال له على ذلك حييت وعليه مت وعليه تبعث إن شاء الله ثم يفتح له باب من أبواب النار فيقال له هذا مقعدك من النار وما أعد الله لك فيها فيزداد حسرة وثبورا ثم يفتح له باب من أبواب الجنة ويقال له هذا مقعدك منها وما أعد الله لك فيها لو أطعته فيزداد حسرة وثبورا ثم يضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه فتلك المعيشة الضنكة التي قال الله فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى .
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :إن المؤمن إذا قبض أتته ملائكة الرحمة بحريرة بيضاء فيقولون اخرجي إلى روح الله فتخرج كأطيب ريح المسك حتى إنه ليناوله بعضهم بعضا فيشمونه حتى يأتوا به باب السماء فيقولون ما هذه الريح الطيبة التي جاءت من الأرض ولا يأتون سماء إلا قالوا مثل ذلك حتى يأتوا به أرواح المؤمنين فلهم أشد فرحا به من أهل الغائب بغائبهم فيقولون ما فعل فلان فيقولون دعوه حتى يستريح فإنه كان في غم الدنيا فيقول قد مات أما أتاكم فيقولون ذهب به إلى أمه الهاوية ،وأما الكافر فيأتيه ملائكة العذاب بمسح فيقولون اخرجي إلى غضب الله فتخرج كأنتن ريح جيفة فيذهب به إلى باب الأرض .
[*] أورد الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى في كتابه أهوال القبور عن
عبيد بن عمير قال : المؤمن يفتن سبعاً والمنافق أربعين صباحاً .
[*] وأورد الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى في كتابه أهوال القبور عن(1/276)
بعض حفدة أبي موسى الأشعري أن أبا موسى الأشعري أوصاهم قال : إذا حفرتم فأعمقوا قعره أما أني والله لأقول لكم ذلك وأني لأعلم إن كنت من أهل طاعة الله ليفسحن لي في قبري ولينور لي فيه . ثم ليفتحن لي باب مساكني في الجنة فما أنا بمساكني من داري هذه بأعلم من مساكني منها ، ثم ليأتيني من روحها وريحتها وريحانها . ولئن كنت من أهل المنزلة الأخرى ليضيقن علي قبري ، وليهدمنَّ على الأرض ، وليفتحن الله إلى باب مساكني من النار ، فما أنا بمساكني من داري هذه بأعلم من مساكني منها ، ثم ليأتيني من شرها ، وشرورها ودخانها .
[*] وهاك أروع القصص لأناس رأوا عجباً في القبور حين دفنوا بعض الموتى :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
روى ابن أبي الدنيا في كتاب المحتضرين بإسناده عن أبي غالب صاحب أبي أمامه أن فتى بالشام حضره الموت فقال لعمه : أرأيت لو أن الله دفعني إلى والدتي ما كانت صانعة بي ؟ قال : إذاً والله تدخلك الجنة . فقال : والله لله أرحم بي من والدتي فقبض الفتى ، فجزع عليه عبد الملك بن مروان قال : فدخلت القبر مع عمه فخطوا له خطاً فلم يلحدوه ، قال فقلنا باللبن فسوينا عليه فسقطت لبنه ، فوثب عمه فتأخر قلت :ماشأنك قال : ملىء قبره نورا ، وفسح له مد بصره .
وروي في كتاب ذكر الموت بإسناده عن أبي بكر بن أبي مريم عن الأشياخ قال : كان شيخ من بني الحضرمي بالبصرة وكان شيخا صالحا، وكان له ابن أخ يصحب الفتيان الفساق فكان يعظه ، فمات الفتى ، فلما أنزله عمه في قبره فسوى عليه اللبن شك في بعض أمره ، فنزع بعض اللبن فنظر فإذا قبره أوسع من جبانة البصرة ، وإذا هو في وسط منها ، فرد عليه اللبن وسأل امرأته عن عمله فقالت : كان إذا سمع المؤذن يقول أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمد رسول الله يقول : وأنا اشهد بما شهدت به ، وأكفيها من تولى عنها .(1/277)
التثبيت في القبر :
(حديث البراء في الصحيحين) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : العبد إذا سُئل في قبره يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبد ورسوله فذلك قوله تعالى: (يُثَبّتُ اللّهُ الّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَفِي الاَخِرَةِ) [ إبراهيم : 27] .
( حديث البراء رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في قول الله تعالى (يُثَبّتُ اللّهُ الّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَفِي الاَخِرَةِ) [ إبراهيم : 27] قال في القبر إذا قيل له من ربك وما دينك ومن نبيك .
[*] قال العلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:
هُوَ كَلِمَةُ التَّوْحِيدِ، وَهِيَ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا بِأَنْ لَا يُزَالُوا عَنْهُ إِذَا فُتِنُوا فِي دِينِهِمْ، وَلَمْ يَرْتَابُوا بِالشُّبُهَاتِ وَإِنْ أُلْقُوا فِي النَّارِ، كَمَا ثَبَتَ الَّذِينَ فَتَنَهُمْ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ وَغَيْرُهُمْ وَفِي الْآخِرَةِ أَيْ فِي الْقَبْرِ، بِتَلْقِينِ الْجَوَابِ وَتَمْكِينِ الصَّوَابِ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ.
أخي الحبيب :
هل تذكرت هاذم اللذات، ومفرق الجماعات ومشتت البنين والبنات؟
هل تذكرت يوماً تكون فيه من أهل القبور؟
هل تذكرت مفارقة الأهل والجيران، والأموال والأصحاب والأوطان؟
هل تذكرت ضيق القبور وظلمتها؟
هل تذكرت وحشتها وكربتها؟
هل تذكرت عذاب القبر وألوانه؟
هل تذكرت حياته وعقاربه وديدانه؟
هل تذكرت الشجاع الأقرع وعظم شأنه؟
هل تذكرت ضرب الفاجر بمرزبة من حديد مع الإهانة؟
هل تذكرت سؤال الملكين منكر ونكير؟
هل تذكرت أتوفق للصواب من الجواب، أم يقال لك: لا دريت ولا تليت؟
هل تذكرت نعيم القبر وروحه وريحانه؟(1/278)
أخي أعد للسؤال جواباً، وللجواب صواباً، وللصواب إخلاصاً لا رياء. وكان عون بن عبد الله يقول في بكائه وذكر خطيئته: ويح نفسي، بأي شيء لم أعص ربي؟
ويحي لِلَّهِ إنما عصيتُه بنعمته عندي.
ويحي لِلَّهِ من خطيئة ذهبت شهوتُها، وبقيت تبعتُها عندي.
ويحي لِلَّهِ كيف أنسى الموت ولا ينساني؟
ويحي لِلَّهِ إن حُجبت يوم القيامة عن ربي.
ويحي لِلَّهِ كيف أغفل ولا يغفل عني؟
أم كيف تُهنئُي معيشتي واليوم الثقيل ورائي؟ أم كيف لا تطول حسرتي ولا أدري ما يفعل بي؟
أم كيف يشتد حبي لدار ليست بداري؟
أم كيف أجمعُ بها وفي غيرها قراري؟
أم كيف تعظم فيها رغبتي والقليل منها يكفيني؟
أم كيف أوثرها وقد أضرت بمن آثرها قبلي؟
أم كيف لا أبادر بعملي قبل أن يغلق باب توبتي؟
أم كيف يشتد إعجابي بما يزايلني وينقطع عني؟
عذاب القبر ونعيمه :
القبر فتنة وحساب فإما نعيم وإما عذاب، وأن المرء يموت على ما عاش عليه، ويبعث على ما مات عليه. ففريق في الجنة وفريق السعير.
فهل أعددت للموت عده؟ وهل فكرت يوماً في وحشة القبور؟ وهل تأملت في أهوال الحشر والنشور؟
عذاب القبر ونعيمه ثابت بالكتاب والسنة والإجماع :
عذاب القبر ونعيمه ثابت بالكتاب والسنة والإجماع ، ولا ينكر ذلك إلا مكابر ومعاند قال تعالى: سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ [التوبة:101]
[*] قال الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسيره :
قال مجاهد في قوله: { سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ } يعني: القتل والسباء وقال ـ في رواية ـ بالجوع، وعذاب القبر، { ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ }
وقال ابن جريج: عذاب الدنيا، وعذاب القبر، ثم يردون إلى عذاب النار.
وقال الحسن البصري: عذاب في الدنيا، وعذاب في القبر .(1/279)
وقال سبحانه: وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [غافر:46،45]
[*] قال الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسيره :
{ وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ } وهو: الغرق في اليم، ثم النقلة منه إلى الجحيم. فإن أرواحهم تعرض على النار صباحا ومساءً إلى قيام الساعة، فإذا كان يوم القيامة اجتمعت أرواحهم وأجسادهم في النار؛ ولهذا قال: { وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ } أي: أشده ألما وأعظمه نكالا . وهذه الآية أصل كبير في استدلال أهل السنة على عذاب البرزخ في القبور، وهي قوله: { النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا } .
[*] قال الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى في كتابه أهوال القبور :
وقد دل القرآن على عذاب القبر في مواضع كقوله تعالى: ( وَلَوْ تَرَىَ إِذِ الظّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُوَاْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوَاْ أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ) [الأنعام : 93]
قال تعالى: (النّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السّاعَةُ أَدْخِلُوَاْ آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدّ الْعَذَابِ) [غافر : 46]
(النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا)
[*] قال الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسيره :
وهذه الآية أصل كبير في استدلال أهل السنة على عذاب البرزخ في القبور.
وقد تواترت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في عذاب القبر والتعوذ منه منها ما يلي :(1/280)
( حديث عائشة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن عذاب القبر قال " نعم عذاب القبر حق " قالت عائشة : فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك صلى صلاة إلا تعوذ من عذاب القبر .
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إذا تشهد أحدكم فليستعذ بالله من أربع يقول اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم ومن عذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات ومن شر فتنة المسيح الدجال .
(حديث ابن عباس في الصحيحين ) قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبرين فقال "إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير أما أحدهما فكان لا يستتر من البول وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة"
(حديث البراء الثابت في الصحيحين) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (يُثَبّتُ اللّهُ الّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَفِي الاَخِرَةِ) نزلت في عذاب القبر ، زاد مسلم : "يقال له : من ربك ؟ فيقول ربي الله ونبيي محمد ، فذلك قوله سبحانه وتعالى : (يُثَبّتُ اللّهُ الّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثّابِتِ .
(حديث البراء الثابت في الصحيحين) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : العبد إذا سُئل في قبره يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبد ورسوله فذلك قوله تعالى: (يُثَبّتُ اللّهُ الّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَفِي الاَخِرَةِ) [ إبراهيم : 27] .
( حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح النسائي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لولا أن تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم عذاب القبر .(1/281)
(حديث أنس في الصحيحين) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن العبد إذا وضع في قبره و تولى عنه أصحابه حتى أنه يسمع قرع نعالهم أتاه ملكان فيقعدانه فيقولان له : ما كنت تقول في هذا الرجل ؟ لمحمد فأما المؤمن فيقول : أشهد أنه عبد الله و رسوله فيقال : انظر إلى مقعدك من النار قد أبدلك الله به مقعدا من الجنة فيراهما جميعا ، و أما المنافق و الكافر فيقول : لا أدري كنت أقول ما يقول الناس فيقال له : لا دريت و لا تليت ثم يضرب بمطارق من حديد ضربةً فيصيح صيحة يسمعها من يليه غير الثقلين .
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
( إن العبد ) المؤمن المخلص
( إذا وضع في قبره ) بالبناء للمفعول
( وتولى عنه ) أي أعرض
( أصحابه ) المشيعون له من أهله وأصدقائه
( يسمع قرع نعالهم ) أي صوتها عند الرؤوس قال القاضي : يعني لو كان حياً فإن جسده قبل أن يأتيه الملك فيقعده ميت لا حس فيه انتهى وسيجيء ما ينازع فيه قال الطيبي : وقوله ( أتاه ) جواب الشرط والجملة خبر إن وقوله وإنه يسمع قرع نعالهم إما حال بحذف الواو أو كأحد الوجهين في قوله تعالى { ويوم القيامة ترى الذين كذبوا } الآية ( ملكان ) بفتح اللام منكر ونكير بفتح كاف الأول وكلاهما ضد المعروف سميا به لأنهما لا يشبه خلقهما خلق آدمي ولا ملك ولا غيرهما وهما أسودان أزرقان جعلهما اللّه نكرة للمؤمن ليبصره ويثبته وعذاباً على غيره(1/282)
( فيعقدانه ) حقيقة بأن يوسع اللحد حتى يجلس فيه زاد في رواية فتعاد روحه في جسده وظاهره في كله ونقله المصنف في أرجوزته عن الجمهور لكن قال ابن حجر : ظاهر الخبر في النصف الأعلى وجمع بأن مقرها في النصف الأعلى ولها اتصال بباقيه وقيل وجزم به القاضي والمراد بالإقعاد التنبيه والإيقاظ عما هو عليه بإعادة الروح فيه أجرى الإقعاد مجرى الإجلاس وقد يقال أجلسه من نومه إذا أيقظه والحديث ورد بهما والظاهر أن لفظ الرسول فيجلسانه وبعض الرواة أبدله بيقعدانه فإن الفصحاء يستعملون الإقعاد إذا كان من قيام والإجلاس إذا كان من اضطجاع وهو في ذلك تابع للأثر حيث قال عقب قوله يقعدانه وفي حديث البراء فيجلسانه وهو أولى بالاختيار لأن الفصحاء إنما يستعملون القعود في مقابلة القيام فيقولون القيام والقعود ولا تسمعهم يقولون القيام والجلوس يقال قعد عن قيامه وجلس عن مضجعه واستلقائه وحكى أن نصر بن جميل دخل على المأمون فسلم فقال له اجلس فقال يا أمير المؤمنين لست بمضطجع فأجلس فقال كيف أقول قال اقعد فالمختار من الروايتين الإجلاس لموافقته لدقيق المعنى وتصحيح الكلام وهو الأجدر ببلاغة المصطفى صلى اللّه عليه وسلم ولعل من روى فيقعدانه ظن أن اللفظين بمعنى ولهذا أنكروا رواية الحديث بالمعنى خشية أن يزل في الألفاظ المشتركة فيذهب عن المعنى المراد ورده الطيبي بأن الأقرب الترادف وأن استعمال القعود مع القيام والجلوس مع الاضطجاع مناسبة لفظية ونحن نقول به إذا كانا مذكورين معاً نحو { الذين يذكرون اللّه قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم } لا إذا لم يكن أحدهما مذكوراً ، ألا ترى إلى حديث مجيء جبريل عليه السلام إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم بعد قوله إذ طلع علينا ولا خفاء أنه عليه الصلاة والسلام لم يضطجع بعد الطلوع عليهم وكذا لم يرد في نص الحديث الاضطجاع ليوجب أن يذكر معه الجلوس(1/283)
( فيقولان له ) الظاهر أن أحدهما يقول لحصول الاكتفاء به لكن لما كان كل منهما بصدد القول نسب إليهما جميعاً
( ما كنت ) في حياتك
( تقول ) أي أيّ شيء تقوله
( في هذا الرجل لمحمد ) أي في محمد صلى اللّه عليه وسلم وقال الطيبي قوله لمحمد بيان من الراوي للرجل أي لأجل محمد ولم يقولا رسول اللّه أو النبي امتحاناً له واغراباً على المسؤول لئلا يتلقى تعظيمه منهما فيقول تقليداً لا اعتقاداً وفهم بعض من لفظ الإشارة أنه يكشف له عن النبي صلى اللّه عليه وسلم حتى يراه عياناً فيقال ما تقول في هذا وأبطله ابن جماعة بأن الإشارة تطلق في كلامهم على الحاضر والغائب كما يقول المرء لصاحبه ما تقول في هذا السلطان وهما لم يرياه
( فأما المؤمن ) أي الذي قبض على الإيمان
( فيقول ) بعزم وجزم من غير تلعثم ولا توقف
( أشهد أنه عبد اللّه ورسوله ) إلى كافة الثقلين
( فيقال ) أي فيقول له الملكان المذكوران أو غيرهما
( انظر إلى مقعدك من النار قد أبدلك اللّه به مقعداً من الجنة ) أي محل قعودك فيها
( فيراهما جميعاً ) أي يرى مقعده من النار ومقعده من الجنة فيزداد فرحاً إلى فرح ويعرف نعمة اللّه عليه بتخليصه من النار وإدخاله الجنة وأما الكافر فيزداد غماً إلى غم وحسرة إلى حسرة بتفويت الجنة وحصول النار له
( ويفسح له في قبره ) أي يوسع له فيه
( سبعون ذراعاً ) يعني شيئاً كثيراً جداً فالسبعين للتكثير لا للتحديد كما في نظائره
( وأما الكافر ) أي المعلن بكفره
( أو المنافق ) الذي أظهر الإسلام وأبطن الكفر وهذا شك من الراوي أو بمعنى الواو قال ابن حجر : والروايات كلها مجمعة على أن كلاً منهما يسأل انتهى وفيه رد لقول ابن عبد البر لا يسأل الكافر لكن رجحه المصنف في أرجوزته قيل والسؤال من خصائص هذه الأمة وقيل لا وقيل بالوقف وقيل والمؤمن يسأل سبعاً والمنافق أربعين صباحاً(1/284)
( فيقال له ما كنت تقول في هذا الرجل فيقول لا أدري كنت أقول ما يقول الناس فيقال له لا دريت ) بفتح الراء
( ولا تليت ) من الدراية والتلاوة أصله تلوت أبدلت الواو ياء لمزاوجة دريت ومجموع ذلك دعاء عليه أي لا كنت دارياً ولا تالياً أو أخبار له أي لا علمت بنفسك بالاستدلال ولا اتبعت العلماء بالتقليد فيما يقولون ذكره ابن بطال وغيره وقال الخطابي : هكذا يرويه المحدثون وهو غلط وصوابه أتليت بوزن أفعلت من قولك أي ما أتلوته أي ما استطعته
( ثم يضرب ) بالبناء للمجهول يعني يضربه الملكان اللذان يليان فتنته
( بمطارق من حديد ) في رواية بمطرقة بكسر الميم أي بمرزبة كما عبر بها في سنن أبي داود(1/285)
( ضربةً فيصيح صيحة يسمعها من يليه ) ظاهره الملكان فقط وليس مراداً بقرينة قوله ( غير الثقلين ) الجن والإنس وبقرينة خبر أحمد فيسمعه خلق اللّه كلهم غير الثقلين والمنطوق مقدم على المفهوم وحكمة عدم سماع الثقلين الابتلاء فلو سمعا صار الإيمان ضرورياً وأعرضوا عن نحو المعايش مما يتوقف عليه بقاء الشخص والنوع فيبطل معاشهم وأصل الثقل المتاع المحمول على الدابة وقيل لهما الثقلان لأنهما قطان الأرض فكأنهما ثقلاها ذكره الزمخشري قال القاضي : وظاهر الخبر أن السؤال إنما يكون فيمن قبر أما غيره فبمعزل عنه ويشهد له خبر لولا أن لا تدافنوا لدعوات اللّه أن يسمعكم من عذاب القبر قلت بل هو أمر يشمل الأموات ويعمهم حتى من أكله سبع أو طير وتفرق شرقاً وغرباً فإنه تعالى يعلق روحه الذي فارقه يجزئه الأصلي الباقي من أول عمره إلى آخره المستمر على حالتي النمو والذبول الذي تتعلق به الأرواح أولاً فيحيى ويحيى بحياته سائر أجزاء البدن ليسأل فيثاب أو يعذب ولا يستبعد ذلك فإنه تعالى عالم بالجزئيات فيعلم الأجزاء انفصالها ومواقعها ومحالها ويميز بين الأصلي وغيره ويقدر على تعليق الروح بالجزء الأصلي منها حال الانفراد تعليقه به حال الاجتماع فإن البينة عندنا ليست شرطاً للحياة بل لا يستبعد تعليق ذلك الروح الشخص الواحد في آن واحد من تلك الأجزاء المتفرقة في المشارق والمغارب فإن تعلقه ليس على سبيل الحلول حتى يمنعه الحلول وفيه حل المشي بين القبور بنعل لكن يكره كذا قيل واستثنى من السؤال جماعة ( 9 ) ووردت أخبار بإعفائهم عنه ( تنبيه ) قال جدي نقلاً عن شيخه العراقي [ ص 375 ] ظاهر الخبر أن الملكين يأتيان المؤمن والمنافق على صفة واحدة وهو اللائق بالامتحان والاختبار ( تنبيه ) قال ابن عربي : من أفسد شيئاً بعد إنشائه جاز أن يعيده كما يراه إذا قامت اللطيفة الروحانية بجزء من الإنسان فقد صح عليه اسم الحيوان والنائم يرى ما لا يراه اليقظان وهو(1/286)
إلى جانبه .
(حديث أبي هريرة في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إذا قبر الميت أتاه ملكان أسودان أزرقان يقال لأحدهما المنكر و للآخر النكير فيقولان : ما كنت تقول في هذا الرجل ؟ فيقول : ما كان يقول هو : عبد الله و رسوله أشهد أن لا إله إلا الله و أن محمد عبده و رسوله فيقولان : قد كنا نعلم أنك تقول ثم يفسح له في قبره سبعون ذراعا في سبعين ثم ينور له فيه ثم يقال : نم فيقول : أرجع إلى أهلي فأخبرهم فيقولان : نم كنومة العروس الذي لا يوقظه إلا أحب أهله إليه حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك و إن كان منافقا قال : سمعت الناس يقولون قولا فقلت مثله لا أدري فيقولان : قد كنا نعلم أنك تقول ذلك فيقال للأرض : التئمي عليه فتلتئم عليه فتختلف أضلاعه فلا يزال فيها معذبا حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك .
[*] قال العلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:
( إِذَا قُبِرَ الْمَيِّتُ ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: إِذَا أُدْخِلَ فِي الْقَبْرِ وَدُفِنَ .
( أَتَاهُ مَلَكَانِ أَسْوَدَانِ أَزْرَقَانِ ) بِزَايٍ فَرَاءٍ أَيْ: أَزْرَقَانِ أَعْيُنُهُمَا.
( يُقَالُ لِأَحَدِهِمَا الْمُنْكَرُ ) مَفْعُولٌ مِنْ أَنْكَرَ بِمَعْنَى نَكِرَ، إِذَا لَمْ يَعْرِفْ أَحَدًا .
( وَلِلْآخَرِ النَّكِيرُ ) فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٌ مِنْ نَكِرَ بِالْكَسْرِ، إِذَا لَمْ يَعْرِفْهُ أَحَدٌ، فَهُمَا كِلَاهُمَا ضِدُّ الْمَعْرُوفِ سُمِّيَا بِهِمَا؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَمْ يَعْرِفْهُمَا وَلَمْ يَرَ صُورَةً مِثْلَ صُورَتِهِمَا، كَذَا فِي الْمِرْقَاةِ، وقَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ: ذَكَرَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ اسْمَ اللَّذَيْنِ يَسْأَلَانِ الْمُذْنِبَ في قبره مُنْكَرٌ وَنَكِيرٌ، وَاسْمَ اللَّذَيْنِ يَسْأَلَانِ الْمُطِيعَ في قبره مُبَشِّرٌ وَبَشِيرٌ .(1/287)
(فيقولان : ما كنت تقول في هذا الرجل ؟ ) زَادَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ - رضي الله عنه - عِنْدَ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ: { فَيُقْعِدَانِهِ } ، وزَادَ فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ: { فَتُعَادُ رُوحُهُ فِي جَسَدِهِ }
( فَيَقُولُ ) أَيْ: الْمَيِّتُ وسؤال القبر
( مَا كَانَ يَقُولُ ) أَيْ: قَبْلَ الْمَوْتِ
( فيقولان : قد كنا نعلم أنك تقول ) : أَيْ: الْإِقْرَارُ بِالْوَحْدَانِيَّةِ وَالرِّسَالَةِ، وعِلْمُهُمَا بِذَلِكَ إِمَّا بِإِخْبَارِ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُمَا بِذَلِكَ، أَوْ بِمُشَاهَدَتِهِمَا فِي جَبِينِهِ أَثَرَ السَّعَادَةِ والنعيم في قبر المؤمن وَشُعَاعَ نُورِ الْإِيمَانِ وَالْعِبَادَةِ.
( ثُمَّ يُفْسَحُ ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: يُوَسَّعُ
( سَبْعُونَ ذِرَاعًا فِي سَبْعِينَ ) أَيْ: فِي عَرْضِ سَبْعِينَ ذِرَاعًا. يَعْنِي: طُولَهُ وَعَرْضَهُ كَذَلِكَ، قَالَ الطِّيبِيُّ: أَصْلُهُ يُفْسَحُ قَبْرُهُ مِقْدَارَ سَبْعِينَ ذِرَاعًا فَجَعَلَ الْقَبْرَ ظَرْفًا لِلسَّبْعَيْنِ، وَأَسْنَدَ الْفِعْلَ إِلَى السَّبْعِينَ مُبَالَغَةً فِي السَّعَةِ
( ثُمَّ يُنَوَّرُ لَهُ فِيهِ ) أَيْ: يُجْعَلُ النُّورُ لَهُ فِي قَبْرِهِ الَّذِي وُسِّعَ عَلَيْهِ .
( نَمْ ) أَمْرٌ مِنْ نَامَ يَنَامُ
( فَيَقُولُ ) أَيْ: الْمَيِّتُ لِعَظِيمِ مَا رَأَى مِنَ السُّرُورِ
( أَرْجِعُ إِلَى أَهْلِي ) أَيْ: أُرِيدُ الرُّجُوعَ، كَذَا قِيلَ، والْأَظْهَرُ أَنَّ الِاسْتِفْهَامَ مُقَدَّرٌ قَالَهُ الْقَارِي.
( فَأُخْبِرُهُمْ ) أَيْ: بِأَنَّ حَالِي طَيِّبٌ، وَلَا حُزْنَ لِي لِيَفْرَحُوا بِذَلِكَ
(نَمْ كَنَوْمَةِ الْعَرُوسِ ) هُوَ يُطْلَقُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى فِي أَوَّلِ اجْتِمَاعِهِمَا، وَقَدْ يُقَالُ لِلذَّكَرِ الْعَرِيسُ(1/288)
( الَّذِي لَا يُوقِظُهُ ) الْجُمْلَةُ صِفَةُ الْعَرُوسِ، وَإِنَّمَا شَبَّهَ نَوْمَهُ بِنَوْمَةِ الْعَرُوسِ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ فِي طَيِّبِ الْعَيْشِ
( إِلَّا أَحَبُّ أَهْلِهِ إِلَيْهِ ) قَالَ الْمُظْهَرُ: عِبَارَةٌ عَنْ عِزَّتِهِ وَتَعْظِيمِهِ عِنْدَ أَهْلِهِ يَأْتِيهِ غَدَاةَ لَيْلَةِ زِفَافِهِ مَنْ هُوَ أَحَبُّ وَأَعْطَفُ فَيُوقِظُهُ عَلَى الرِّفْقِ وَاللُّطْفِ
( حَتَّى يَبْعَثَهُ اللَّهُ ) هَذَا لَيْسَ مِنْ مَقُولِ الْمَلَكَيْنِ، بَلْ مِنْ كَلَامِهِ - صلى الله عليه وسلم - وَحَتَّى مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ أَيْ: يَنَامُ طَيِّبَ الْعَيْشِ حَتَّى يَبْعَثَهُ اللَّهُ .
(وإن كان منافقا قال : سمعت الناس يقولون قولا) وَالْمُرَادُ بِالْقَوْلِ هُوَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ .
( فَقُلْتُ مِثْلَهُ ) أَيْ: مِثْلَ قَوْلِهِمْ
( لَا أَدْرِي ) أَيْ: أَنَّهُ نَبِيٌّ فِي الْحَقِيقَةِ أَمْ لَا، وَهُوَ اسْتِئْنَافٌ أَيْ: مَا شَعَرْتُ غَيْرَ ذَلِكَ الْقَوْلِ ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى الْحَالِ .
(فيقولان : قد كنا نعلم أنك تقول ذلك ) :
( فيقال للأرض : التئمي عليه ) : أَيْ: انْضَمِّي وَاجْتَمِعِي .
(فتلتئم عليه فتختلف أضلاعه) : بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ جَمْعُ ضِلَعٍ، وَهُوَ عَظْمُ الْجَنْبِ، أَيْ: تَزُولُ عَنِ الْهَيْئَةِ الْمُسْتَوِيَةِ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهَا مِنْ شِدَّةِ الْتِئَامِهَا عَلَيْهِ وَشِدَّةِ الضَّغْطَةِ، وَتُجَاوِزُ جَنْبَيْهِ مِنْ كُلِّ جَنْبٍ إِلَى جَنْبٍ آخَرَ .
(فلا يزال فيها معذبا حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك): أَيْ: فِي الْأَرْضِ، أَوْ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ .
أخي الحبيب:(1/289)
هل تذكرت لحظة الفراق عندما تلقي آخر النظرات على هذه الدنيا وتستقبل الآخرة بما فيها من الأهوال والصعاب فإما أن تنتقل إلى سموم وحميم وتصلية جحيم فاعمل من الآن عملاً ينجيك بإذن الله مما أمامك من أهوال ما دام في الوقت مهلة وما دمت تستطيع ذلك لتخرج من هذه الدنيا مرتاحاً وفرحاً مسروراً بلقاء ربك، وبما أعده لك من النعيم المقيم.
ولدتك أمك يا ابن آدم باكياً *** والناس حولك يضحكون سروراً
فاعمل لنفسك أن تكون إذا بكوا *** في يوم موتك ضاحكاً مسروراً(1/290)
(حديث البراء بن عازب رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب ) قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار فانتهينا إلى القبر ولما يلحد بعد فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلسنا حوله كأنما على رؤوسنا الطير وبيده عود ينكت به في الأرض فرفع رأسه فقال تعوذوا بالله من عذاب القبر مرتين أو ثلاثا ، ثم قال : إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزل إليه ملائكة من السماء بيض الوجوه كأن وجوههم الشمس معهم كفن من أكفان الجنة وحنوط من حنوط الجنة حتى يجلسوا منه مد البصر ويجيء ملك الموت عليه السلام حتى يجلس عند رأسه فيقول أيتها النفس الطيبة اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان قال فتخرج فتسيل كما تسيل القطرة من في السقاء فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن وفي ذلك الحنوط ويخرج منه كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض قال فيصعدون بها فلا يمرون على ملاء من الملائكة إلا قالوا ما هذا الروح الطيب فيقولان فلان ابن فلان بأحسن أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا حتى ينتهوا بها إلى السماء الدنيا فيستفتحون له فيفتح له فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها حتى ينتهى بها إلى السماء السابعة فيقول الله عز وجل اكتبوا كتاب عبدي في عليين وأعيدوه إلى الأرض في جسده فيأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان من ربك فيقول ربي الله فيقولان ما دينك فيقول ديني الإسلام فيقولان ما هذا الرجل الذي بعث فيكم فيقول هو رسول الله فيقولان ما يدريك فيقول قرأت كتاب الله وآمنت به وصدقته فينادي مناد من السماء أن قد صدق عبدي فأفرشوه من الجنة وافتحوا له بابا إلى الجنة ، قال فيأتيه من روحها وطيبها ويفسح له في قبره مد بصره ، قال ويأتيه رجل حسن الوجه حسن الثياب طيب الريح فيقول أبشر بالذي يسرك هذا يومك الذي كنت توعد فيقول من أنت فوجهك الوجه الحسن(1/291)
يجيء بالخير فيقول أنا عملك الصالح فيقول رب أقم الساعة رب أقم الساعة حتى أرجع إلى أهلي ومالي ، وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزل إليه ملائكة سود الوجوه معهم المسوح فيجلسون منه مد البصر ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول أيتها النفس الخبيثة اخرجي إلى سخط من الله وغضب فتفرق في جسده فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يجعلوها في تلك المسوح وتخرج منها كأنتن جيفة وجدت على وجه الأرض فيصعدون بها فلا يمرون بها على ملاء من الملائكة إلا قالوا ما هذه الريح الخبيثة فيقولون فلان ابن فلان بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا حتى ينتهى بها إلى السماء الدنيا فيستفتح له فلا يفتح له ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط فيقول الله عز وجل اكتبوا كتابه في سجين في الأرض السفلى ثم تطرح روحه طرحا ثم قرأ ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق فتعاد روحه في جسده ويأتيه ملكانه فيجلسانه فيقولان له من ربك فيقول هاه هاه لا أدري قال فيقولان له ما دينك فيقول هاه هاه لا أدري ، قال فيقولان له ما هذا الرجل الذي بعث فيكم فيقول هاه هاه لا أدري فينادي مناد من السماء أن كذب فأفرشوه من النار وافتحوا له بابا إلى النار فيأتيه من حرها وسمومها ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعهد ويأتيه رجل قبيح الوجه قبيح الثياب منتن الريح فيقول أبشر بالذي يسوؤك هذا يومك الذي كنت توعد فيقول من أنت فوجهك الوجه القبيح يجيء بالشر فيقول أنا عملك الخبيث فيقول رب لا تقم الساعة .
( فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول ): السفود " الكثير الشعب " من الصوف المبلول فتقطع معها العروق والعصب .(1/292)
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن المؤمن في قبره لفي روضة خضراء فيرحب له قبره سبعون ذراعا وينور له كالقمر ليلة البدر أتدرون فيما أنزلت هذه الآية (فَإِنّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمَىَ) [طه : 124] قال أتدرون ما المعيشة الضنك ؟ قالوا الله ورسوله أعلم ، قال عذاب الكافر في قبره والذي نفسي بيده إنه يُسَلَّطَ عليه تسعةٌ وتسعون تنينا ، أتدرون ما التنين ؟ سبعون حية لكل حية سبع رؤوس يلسعونه ويخدشونه إلى يوم القيامة .
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجه ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أكثر عذاب القبر من البول.
( حديث ابن عباس رضي الله عنهما الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن عامة عذاب القبر من البول فتنزهوا منه .
الأسباب الموجبة لعذاب القبر :
أخي الحبيب:
[*] ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله أن أهل القبور يعذبون على جهلهم بالله، وإضاعتهم لأمره، وارتكابهم لمعاصيه، فإن عذاب القبر وعذاب الآخرة أثر غضب الله وسخطه على عبده، فعذاب القبر يكون على معاصي القلب، والعين، والأذن، والفم، واللسان، والبطن، والفرج، واليد،، والرجل، والبدن كله، فمن أغضب الله وأسخطه في هذه الدار ثم لم يتب، ومات على ذلك، كان له من عذاب البرزخ بقدر غضب الله وسخطه عليه، فمستقل ومستكثر، ومصدق ومكذب.
وقد ورد الوعيد بالعذاب في القبر على كثير من المعاصي والذنوب منها ما يلي :
(1) النميمة والغيبة.
(2) عدم الاستبراء من البول.
(3) الصلاة بغير طهور.
(4) الكذب.
(5) تضييع الصلاة والتثاقل عنها.
(6) ترك الزكاة.
(7) الزنى.
(8) الغلول من المغنم (السرقة)
(9) الخيانة.
(10) السعي في الفتنة بين المسلمين.
(11) أكل الربا.
(12) ترك نصرة المظلوم.
(13) شرب الخمر.
(14) إسبال الثياب تكبراً.(1/293)
(15) القتل.
(17) الموت على غير السنة (البدعة)
وقال رحمه الله بعد أن ذكر أنواع كثيرة من المحرمات التي يعذب بها الموتى في قبورهم: ( وما كان أكثر الناس كذلك، كان أكثر أهل القبور معذبين، والفائز منهم قليل، فظواهر القبور تراب، وبواطنها حسرات وعذاب ظواهرها بالتراب والحجارة المنقوشة مبنيات، وفي باطنها الدواهي والبليات، تغلي بالحسرات كما تغلي القدور بما فيها، ويحق لها وقد حيل بينها وبين أمانيها.. تالله لقدت وعظت لواعظ مقالا، ونادت: يا عمار الدنيا لقد عمرتم داراً موشكة بكم زوالاً، وخربتم داراً أنتم مسرعون إليها انتقالاً هذه دار الاستيفاء، ومستودع الأعمال، وبذر الزرع، وهي محل للعبر، رياض من رياض الجنة، أو حفر من حفر النيران.
ما للمقابر لا تجيب ... إذا دعاهن الكئيب
حفر مسقفة عليهن ... الجنادل والكثيب
فيهن ولدان وأطفال ... وشبان وشيب
كم من حبيب لم تكن ... نفسي بفرقته تطيب
غادرته في بعضهن ... مجندلاً وهو الحبيب
وسلوت عنه وإنما ... عهدي برؤيته قريب
فاعتبروا يا أولي الأبصار :
أخي الحبيب: كم من ظالمٍ تعدى وجار، فما راعى الأهل ولا الجار، بينا هو عقد الإصرار، حل به الموت فحل من حلته الأزرار فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ [الحشر:2]
ما صحبه سوى الكفن، إلى بيت البلى والعفن، ولو رأيته وقد حلت به المحن، وشين ذلك الوجه الحسن، فلا تسأل كيف صار فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ [الحشر:2]
أين مجالسة العالية؟ أين عيشته الصافية؟ أين لذاته الخالية؟ كم تسفى على قبره سافية!! ذهبت العين وَأُخْفِيَت الآثار فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ [الحشر:2]
تقطعت به جميع الأسباب، وهجره القرناء والأتراب، وصار فراشه الجندل والتراب، وربما فُتِحَ له في اللحد باب إلى النار فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ [الحشر:2]
الأسباب التي تكون سبباً في النجاة عذاب القبر :(1/294)
وذكر الإمام ابن القيم رحمه الله أن أسباب النجاة من عذاب القبر، هي أن يتجنب الإنسان تلك الأسباب التي تقتضي عذاب القبر، وهي جميع المعاصي والذنوب.
وذكر رحمه الله أن من أنفع تلك الأسباب: أن يحاسب المرء نفسه كل يوم على ما خسره وربحه في يومه، ثم يجدد التوبة، النصوح بينه وبين الله، فينم على تلك التوبة، فإن مات من ليلته مات على توبة، وإن استيقظ استيقظ مستقبلا للعمل، مسرورا بتأخير أجله، حتى يستقبل ربه ويستدرك ما فاته، ولا ينام إلا على طهارة، ذاكراً الله عز وجل، مستعملاً الأذكار والسنن التي ورت عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - عند النوم حتى يغلبه النوم، فمن أراد الله به خيراً وفقه لذلك.
ثم ذكر رحمه الله الطاعات التي ورد أنها مما ينجي من عذاب القبر وهي:
(1) الرباط في سبيل الله.
(2) الشهادة في سبيل الله.
(3) قراءة سورة الملك.
(4) الموت بداء البطن.
(5) الموت يوم الجمعة.
وهاك تفصيل ذلك في إيجازٍ غيرِ مُخِّل :
(1) الرباط في سبيل الله.
وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد ، ودرر الفرائد .
( حديث سلمان رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله وأجرى عليه رزقه وأمن الفتان .
ومعنى الرباط: الإقامة بالثغر مقوياً للمسلمين على الكفار، والثغر: كل مكان يخيف أهله العدو ويخيفهم. والرباط فضله عظيم وأجره كبير، وأفضله ما كان في أشد الثغور خوفاً.
(2) الشهادة في سبيل الله :
وتأمل في الحديثين الآتيين بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيهما واجعل لهما من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيهما من غرر الفوائد ، ودرر الفرائد .(1/295)
( حديث رجل من أصحاب النبي الثابت في صحيح النسائي ) أن رجلاً قال: ما بال المؤمنين يفتنون في قبورهم إلا الشهيد؟ قال: كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنة.
(حديث المِقْدَامِ بنِ مَعْدِ يكَرِبَ رضي الله عنه الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :"للشّهِيدِ عندَ الله سِتّ خِصَالٍ: يُغْفَرُ لَهُ في أَوّلِ دُفْعَةٍ ويرَى مَقْعَدَهُ مِنَ الْجَنّةِ، ويُجَارُ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ، وَيَأْمَنُ مِنَ الفَزَعِ الأكْبَرِ، وَيُوضَعُ على رأْسِهِ تَاجُ الوَقَارِ، اليَاقُوتَةُ منها خَيْرٌ مِنَ الدّنْيَا وما فيها، ويُزَوّجُ اثْنَتَيْنِ وسْبعِينَ زَوْجَةً مِنَ الْحُورِ (الْعِينِ)، وَيُشَفّعُ في سَبْعِينَ مِنْ أقَارِبِهِ" .
(3) قراءة سورة الملك:
(حديث أبي هريرة في صحيحي أبي داوود والترمذي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن سورة من القرآن ثلاثون آية شفعت لصاحبها حتى غُفر له : تبارك الذي بيده الملك .
(حديث ابن مسعود في صحيح الجامع) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : سورة تبارك هي المانعة من عذاب القبر .
(4) الموت بداء البطن:
( حديث عبد الله بن يسار الثابت في صحيح النسائي ) قال: كنت جالسا وسليمان بن صرد وخالد بن عرفطة فذكروا أن رجلا توفى مات ببطنه فإذا هما يشتهيان أن يكونا شهداء جنازته فقال أحدهما للآخر ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم من يقتله بطنه فلن يعذب في قبره فقال الآخر بلي. .
وهذا يحمل من أصيب بداء البطن أن يصبر ولا يجزع، ويحتسب الأجر عند الله، وأن يحتسبه أهله كذلك.
(5) الموت يوم الجمعة:
(حديث عبد الله بن عمرو الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ما من مسلم يموت يوم الجمعة أو ليلة الجمعة إلا وقاه الله فتنة القبر .
وهذا محض فضل الله وتوفيقه لحسن الخاتمة.
ومما يستأنس به في هذا الباب:(1/296)
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن الميت إذا وضع في قبره إنه يسمع خفق نعالهم حين يولوا مدبرين فإن كان مؤمنا كانت الصلاة عند رأسه وكان الصيام عن يمينه وكانت الزكاة عن شماله وكان فعل الخيرات من الصدقة والصلاة والمعروف والإحسان إلى الناس عند رجليه فيؤتى من قبل رأسه فتقول الصلاة ما قبلي مدخل ثم يؤتى عن يمينه فيقول الصيام ما قبلي مدخل ثم يؤتى عن يساره فتقول الزكاة ما قبلي مدخل ثم يؤتى من قبل رجليه فيقول فعل الخيرات من الصدقة والمعروف والإحسان إلى الناس ما قبلي مدخل فيقال له اجلس فيجلس قد مثلت له الشمس وقد دنت للغروب فيقال له أرأيتك هذا الذي كان قبلكم ما تقول فيه وماذا تشهد عليه فيقول دعوني حتى أصلي فيقولون إنك ستفعل أخبرنا عما نسألك عنه أرأيتك هذا الرجل الذي كان قبلكم ماذا تقول فيه وماذا تشهد عليه قال فيقول محمد أشهد أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه جاء بالحق من عند الله فيقال له على ذلك حييت وعلى ذلك مت وعلى ذلك تبعث إن شاء الله ثم يفتح له باب من أبواب الجنة فيقال له هذا مقعدك منها وما أعد الله لك فيها فيزداد غبطة وسرورا ثم يفتح له باب من أبواب النار فيقال له هذا مقعدك وما أعد الله لك فيها لو عصيته فيزداد غبطة وسرورا ثم يفسح له في قبره سبعون ذراعا وينور له فيه ويعاد الجسد كما بدأ منه فتجعل نسمته في النسيم الطيب وهي طير تعلق في شجر الجنة فذلك قوله يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة الآية وإن الكافر إذا أتي من قبل رأسه لم يوجد شيء ثم أتي عن يمينه فلا يوجد شيء ثم أتي عن شماله فلا يوجد شيء ثم أتي من قبل رجليه فلا يوجد شيء فيقال له اجلس فيجلس مرعوبا خائفا فيقال أرأيتك هذا الرجل الذي كان فيكم ماذا تقول فيه وماذا تشهد عليه فيقول أي رجل ولا يهتدي لاسمه فيقال له محمد فيقول لا أدري(1/297)
سمعت الناس قالوا قولا فقلت كما قال الناس فيقال له على ذلك حييت وعليه مت وعليه تبعث إن شاء الله ثم يفتح له باب من أبواب النار فيقال له هذا مقعدك من النار وما أعد الله لك فيها فيزداد حسرة وثبورا ثم يفتح له باب من أبواب الجنة ويقال له هذا مقعدك منها وما أعد الله لك فيها لو أطعته فيزداد حسرة وثبورا ثم يضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه فتلك المعيشة الضنكة التي قال الله فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى .
وقد دل ذلك على أن تلك الأعمال من الصلاة والزكاة والصيام وفعل الخيرات من الصدقة والصلة والمعروف والإحسان إلى الناس من أسباب النجاة من عذاب القبر وكربه وفتنه.
والجامع في ذلك تحقيق التقوى لله تعالى، كما قاله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [الأحقاف:13](1/298)
(حديث البراء بن عازب رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب ) قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار فانتهينا إلى القبر ولما يلحد بعد فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلسنا حوله كأنما على رؤوسنا الطير وبيده عود ينكت به في الأرض فرفع رأسه فقال تعوذوا بالله من عذاب القبر مرتين أو ثلاثا ، ثم قال : إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزل إليه ملائكة من السماء بيض الوجوه كأن وجوههم الشمس معهم كفن من أكفان الجنة وحنوط من حنوط الجنة حتى يجلسوا منه مد البصر ويجيء ملك الموت عليه السلام حتى يجلس عند رأسه فيقول أيتها النفس الطيبة اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان قال فتخرج فتسيل كما تسيل القطرة من في السقاء فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن وفي ذلك الحنوط ويخرج منه كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض قال فيصعدون بها فلا يمرون على ملاء من الملائكة إلا قالوا ما هذا الروح الطيب فيقولان فلان ابن فلان بأحسن أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا حتى ينتهوا بها إلى السماء الدنيا فيستفتحون له فيفتح له فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها حتى ينتهى بها إلى السماء السابعة فيقول الله عز وجل اكتبوا كتاب عبدي في عليين وأعيدوه إلى الأرض في جسده فيأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان من ربك فيقول ربي الله فيقولان ما دينك فيقول ديني الإسلام فيقولان ما هذا الرجل الذي بعث فيكم فيقول هو رسول الله فيقولان ما يدريك فيقول قرأت كتاب الله وآمنت به وصدقته فينادي مناد من السماء أن قد صدق عبدي فأفرشوه من الجنة وافتحوا له بابا إلى الجنة ، قال فيأتيه من روحها وطيبها ويفسح له في قبره مد بصره ، قال ويأتيه رجل حسن الوجه حسن الثياب طيب الريح فيقول أبشر بالذي يسرك هذا يومك الذي كنت توعد فيقول من أنت فوجهك الوجه الحسن(1/299)
يجيء بالخير فيقول أنا عملك الصالح فيقول رب أقم الساعة رب أقم الساعة حتى أرجع إلى أهلي ومالي ، وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزل إليه ملائكة سود الوجوه معهم المسوح فيجلسون منه مد البصر ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول أيتها النفس الخبيثة اخرجي إلى سخط من الله وغضب فتفرق في جسده فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يجعلوها في تلك المسوح وتخرج منها كأنتن جيفة وجدت على وجه الأرض فيصعدون بها فلا يمرون بها على ملاء من الملائكة إلا قالوا ما هذه الريح الخبيثة فيقولون فلان ابن فلان بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا حتى ينتهى بها إلى السماء الدنيا فيستفتح له فلا يفتح له ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط فيقول الله عز وجل اكتبوا كتابه في سجين في الأرض السفلى ثم تطرح روحه طرحا ثم قرأ ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق فتعاد روحه في جسده ويأتيه ملكانه فيجلسانه فيقولان له من ربك فيقول هاه هاه لا أدري قال فيقولان له ما دينك فيقول هاه هاه لا أدري ، قال فيقولان له ما هذا الرجل الذي بعث فيكم فيقول هاه هاه لا أدري فينادي مناد من السماء أن كذب فأفرشوه من النار وافتحوا له بابا إلى النار فيأتيه من حرها وسمومها ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعهد ويأتيه رجل قبيح الوجه قبيح الثياب منتن الريح فيقول أبشر بالذي يسوؤك هذا يومك الذي كنت توعد فيقول من أنت فوجهك الوجه القبيح يجيء بالشر فيقول أنا عملك الخبيث فيقول رب لا تقم الساعة .
( فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول ): السفود " الكثير الشعب " من الصوف المبلول فتقطع معها العروق والعصب .(1/300)
اللهم اجعل قبورنا وإخواننا المسلمين رياضاً من رياض الجنة، وقنا الفتن ما ظهر منها وما بطن ، إنك سبحانك على ما تشاء قدير والإجابة جدير وأنت حسبنا ونم الوكيل .
أنواع عذاب القبر :
لعذاب القبر أنواع منها ما يلي :
(1) منها الضرب إما بمطراق من حديد أو غيره كما في الأحاديث الآتية :
(حديث أنس في الصحيحين) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن العبد إذا وضع في قبره و تولى عنه أصحابه حتى أنه يسمع قرع نعالهم أتاه ملكان فيقعدانه فيقولان له : ما كنت تقول في هذا الرجل ؟ لمحمد فأما المؤمن فيقول : أشهد أنه عبد الله و رسوله فيقال : انظر إلى مقعدك من النار قد أبدلك الله به مقعدا من الجنة فيراهما جميعا ، و أما المنافق و الكافر فيقول : لا أدري كنت أقول ما يقول الناس فيقال له : لا دريت و لا تليت ثم يضرب بمطارق من حديد ضربةً فيصيح صيحة يسمعها من يليه غير الثقلين .
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن المؤمن في قبره لفي روضة خضراء فيرحب له قبره سبعون ذراعا وينور له كالقمر ليلة البدر أتدرون فيما أنزلت هذه الآية (فَإِنّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمَىَ) [طه : 124] قال أتدرون ما المعيشة الضنك ؟ قالوا الله ورسوله أعلم ، قال عذاب الكافر في قبره والذي نفسي بيده إنه يُسَلَّطَ عليه تسعةٌ وتسعون تنينا ، أتدرون ما التنين ؟ سبعون حية لكل حية سبع رؤوس يلسعونه ويخدشونه إلى يوم القيامة .
(2) ومنها تضييق القبر على الميت حتى تختلف فيه أضلاعه كما في الأحاديث الآتية :(1/301)
(حديث أبي هريرة في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إذا قبر الميت أتاه ملكان أسودان أزرقان يقال لأحدهما المنكر و للآخر النكير فيقولان : ما كنت تقول في هذا الرجل ؟ فيقول : ما كان يقول هو : عبد الله و رسوله أشهد أن لا إله إلا الله و أن محمد عبده و رسوله فيقولان : قد كنا نعلم أنك تقول ثم يفسح له في قبره سبعون ذراعا في سبعين ثم ينور له فيه ثم يقال : نم فيقول : أرجع إلى أهلي فأخبرهم فيقولان : نم كنومة العروس الذي لا يوقظه إلا أحب أهله إليه حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك و إن كان منافقا قال : سمعت الناس يقولون قولا فقلت مثله لا أدري فيقولان : قد كنا نعلم أنك تقول ذلك فيقال للأرض : التئمي عليه فتلتئم عليه فتختلف أضلاعه فلا يزال فيها معذبا حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك .
{ تنبيه } : وقد كشف لمن يشاء من عباده من أهل القبور ونعيمهم ومن ذلك هذه القصص الذي أوردها الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى في كتابه أهوال القبور :
روى ابن أبي الدنيا عن طريق عمر بن هارون عن عبد الحميد بن محمود المغولي قال : كنت جالساً عند ابن عباس فأتاه قوم فقالوا : إنا خرجنا حجاجاً ومعنا صاحب لنا حتى أتينا ذات الصفاح فمات فهيأناه ثم انطلقنا فحفرنا له قبراً ولحدنا له لحداً فلما فرغنا من لحده إذا نحن بأسود قد ملأت اللحد فتركناه وأتيناك فقال ابن عباس رضي الله عنهما : ذلك عمله الذي كان يعمل به ، انطلقوا فادفنوه في بعضها فلما رجعنا قلنا لامرأته ما كان عمله ويحك ؟ قالت: كان يبيع الطعام فيأخذ كل يوم قوت أهله ثم يقرظ القصب مثله فيلقيه فيه .(1/302)
وروى الهيثم بن عدي حدثنا أبان بن عبد الله البجلي قال : هلك جار لنا فشهدنا غسله وكفنه وحمله إلى قبره وإذا شيء في قبره شبيه بالهرة فزجرناه فلم ينزجر فضرب الحفار جبهته ببيرمة فلم يبرح فتحولنا إلى قبر آخر ، فلما الحدوا فإذا هو فيه فصنعنا به مثلما صنعوا أولاً ، فلم يبرح يلتفت فرجعوا إلى قبر ثالث فلما ألحدوا وإذا ذاك الهر فيه ، فصنعوا فيه مثلما صنعوا أولاً ، فلم يلتبت فقال بعض القوم : يا هؤلاء إن هذا الأمر ما رأينا مثله فادفنوا صاحبكم فدفنوه فلما سوي عليه اللبن سمعوا قعقعة عظامه فذهبو إلى امرأته فقالوا : يا هذا ما كان يعمل زوجك ؟ وحدثوها بما رأوه فقالت : ما كان يغتسل من الجنابة .
قال أبو الحسن بن البراء : حدثني عبد الله بن المدني قال : كان لي صديق فقال : فخرجت إلى ضيعتي فأدركني العصر إلى جانبي مقبرة ، فصليت العصر قريبا منها ، فبينما أنا جالس إذ سمعت من ناحية القبر صوتا وأنيناً فدنوت من القبر فإذا هو يقول : آه كنت أصوم , كنت اصلي فأصابتني قشعريرة فدعوت من حضرني , فسمع كما سمعت ومضيت إلى ضيعتي ورجعت فصليت في موضعي الأول ، وصبرت حتى غابت الشمس وصليت المغرب ثم استمعت على ذلك القبر فإذا هو يأن : آه كنت أصوم كنت أصلي , فرجعت إلى أهلي فحممت ومرضت شهرين .
وخرج أبو القاسم اللالكائي في كتابه شرح السنة بإسناده عن يحيى بن معين قال : قال لي حفار المقابر : أعجب ما رأيت في هذه المقابر أني سمعت من قبر أنيناً كأنين المريض ، وبإسناده عن الحارث المحاسبي قال : كنت في الجبانة في البصرة على قبر فأسمع من القبر : أواه من عذاب الله ، قال الحارث : وكنت في مقبرة ههنا في باب المقبرة فأسمع صوت القنا بعضها على بعض يضرب وأنا مشرف على المقبرة من قبر وهو يقول : أواه .(1/303)
وبإسناده عن صدقة بن خالد الدمشقي عن بعض أهل دمشق قال : حججنا فهلك صاحب لنا في بعض الطريق على ماء من تلك المياه فأتينا أهل الماء نطلب شيئاً نحفر له ، فأخرجوا لنا فاساً و مجرفة فلما وارينا صاحبنا نسينا الفأس في القبر ، فنبشناه فوجدناه قد جمع عنقه ويداه ورجلاه في حلقة الفأس فسوينا عليه التراب وأرضينا أصحابه من الثمن ، فلما انصرفنا جئنا إلى امرأته فسألناها عنه ؟ فقالت : كان علي ما رأيتم من حاله يحج ويغزو فلما أخبرناها الخبر ، قالت : صحبه رجل معه مال : فقتل الرجل ، وأخذ المال قالت فيه : كان يحج ويغزو .
وخرج ابن أبي الدنيا بإسناده عن يزيد بن المهلب قال : استعملني سليمان بن عبد الملك على العراق وخرسان فودعني عمر بن عبد العزيز فقال : يا يزيد اتق الله فإني حين وضعت الوليد في لحده فأهوى يركض في أكفانه .
وبإسناده عن عمرو بن ميمون بن مهران قال : سمعت عمر بن عبد العزيز يقول : كنت فيمن دلى الوليد بن عبد الملك في قبره ، فنظرت إلى ركبتيه قد جمعت إلى عنقه ، فقال ابنه : عاش والله أبي ورب الكعبة فقلت : عوجل أبوك ورب الكعبة قال : فاتعظ بها عمر بعد .
وبإسناده عن الفضل بن يونس أن عمر بن عبد العزيز قال لمسلمة بن عبد الملك : حدثني مولاك عن فلان أنه لما دفن أباك والوليد فوضعهما في قبرهما وذهب ليحل العقد عنهما وجد وجوههما قد حولت في أقفيتهما .
قال ابن أبي الدنيا : وحدثنا عبد المؤمن بن عبد الله الموصلي حدثني رجل من أهل الرملة قال : أصابتنا ريح شديدة كشفت عن القبور قال : فنظرت إلى جماعة منهم قد حولوا عن القبلة .
وحدثني رجل أنه ماتت له ابنة فأنزلها القبر فذهب ليصلح لبنة فإذا هي قد حولت عن القبلة ، فاغتمت لذلك غماً شديداً قال : فرأيتها في النوم فقالت : عامة من حولي من أهل القبور محولون عن القبلة قال : كأنها تريد الذين ماتوا على الكبائر .(1/304)
وروينا من طريق إسحاق الفزاري أنه سأل نباشاً قد تاب فقلت : أخبرني عمن مات على الإسلام أترك وجهه على ما كان أم ماذا ؟ قال : أكثر ذلك قد حول وجهه عن القبلة ، قال : فكتبت بذلك إلى الأوزاعي فكتب إلي : { إنا لله وإنا إليه راجعون } ثلاث مرات من حول وجهه عن القبلة فإنه مات على غير السنة ، وخرجهما ابن أبي الدنيا مختصراً .
وروى ابن أبي الدنيا بإسناده عن أبي الحريش عن أمه قالت : لما حفر أبو جعفر خندق في الكوفة حول الناس موتاهم ، فرأيت شاباً ممن حول عاضاً على يده . قال : وحدثنا عبد المؤمن بن عبد الله العنسي قال : قيل لنباش قد كان تاب ما أعجب ما رأيت ؟ قال : نبشت رجلاً فرأيته مسمراً بالمسامير في سائر جسده ومسمار كبير في رأسه وآخر في رجليه .
وقيل لنباش آخر : ما أعجب ما رأيت ؟
قال : رأيت جمجمة إنسان مصبوباً فيها رصاص و.
قيل لنباش آخر : ما كان سبب توبتك ؟
قال : عامة ما كنت أنبش أراه محول الوجه عن القبلة .
وذكر ابن الفارسي الليث صاحب أبي الفرج ابن الجوزي في تاريخه أنه في سنة تسعين وخمسمائة وجد ميت ببغداد بظاهر باب البصرة ، وقد بلي ولم يبق غير عظامه ، وفي يديه ورجليه ضباب حديد ، وضرب فيها مسماران أحدهما في سرته ، والآخر في جبهته ، وكان هائل الخلقة ، غليظ العظام ، وكان سبب ظهوره زيادة الماء ، كشفت تلاً كان يعرف بالتل الأحمر على ميلين من سور باب البصرة القديم .(1/305)
وذكر شيخنا أبو عبد الله بن القيم رحمه الله تعالى في كتاب الروح حدثنا أبو عبد الله محمد بن سنان السلامي التاجر ، وكان من خيار عباد الله ، قال : جاء رجل إلى سوق الحدادين ببغداد ، فباع مسامير صغاراً فأخذها الحداد فجعل يحمي عليها ، فلا تلين معه حتى عجز عن ضربها ، فطلب الذي باعها عليه ؟ فوجده فقال : من أين لك هذه المسامير ؟، قال : لقيتها ، فلم يزل حتى أخبره أنه رأى قبراً مفتوحاً وفيه عظام ميت منظومة بهذه المسامير قال : فعالجتها على أن أخرجها ، فلم أقدر ، فأخذت حجراً فكسرت عظامه وجمعتها ، قال : وأنا رأيت تلك المسامير ، قلت : وكيف وجدت صفتها ؟ قال : المسمار صغير برأسين . قلت : هذه الحكاية مشهورة ببغداد وقد سمعتها وأنا صبي ببغداد وهي مستفيضة بين أهلها . قال شيخنا : وحدثنا أبو عبد الله محمد بن الوزير الحراني أنه خرج من داره بآمد بعد العصر إلى بستان ، فلما كان قبل غروب الشمس توسط القبور فإذا قبر منها ، وهو جمرة نار مثل كور الحداد زجاج والميت في وسطه قال : فجعلت أمسح عيني ، أقول : أنا نائم أم يقظان ، ثم التفت إلى سور المدينة فقلت : والله ما أنا بنائم ثم ذهبت إلى أهلي وأنا مدهوش ، فأتوني بطعام فلم أستطع أن آكل ، فدخلت البلد وسألت عن صاحب القبر ، فإذا هو مكاس قد توفي في ذلك اليوم .
ما شوهد من نعيم القبر وكرامة أهله :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
وهذه القصص أوردها الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى في كتابه أهوال القبور :
روى ابن أبي الدنيا في كتاب الرقة والبكاء بإسناده عن مسكين بن بكير أن وراداً العجلي لما مات فحمل إلى حفرته نزلوا ليدلوه في حفرته ، فإذا اللحد مفروش بالريحان ، فأخذ بعضهم من ذلك الريحان ، فمكث الناس من ذلك فأخذه الأمير وفرق الناس خشية الفتنة ، ففقده الأمير من منزله لا يدري كيف ذهب .(1/306)
وروى أبو بكر الخطيب بإسناده عن محمد بن مخلد الدوري الحافظ قال : ماتت أمي فنزلت ألحدها فانفرجت لي فرجة عن قبر بقربها فإذا رجل عليه أكفان جدد وعلى صدره طاقة ياسمين طرية ، فأخذتها فشممتها ، فإذا هي أزكى من المسك وشمها جماعة كانوا معي ، ثم رددتها إلى موضعها وسددت الفرجة .
وروى أبو الفرج بن الجوزي من طريق أبي جعفر عن السراج عن بعض شيوخه قال : كشف قبر بقرب الإمام أحمد وإذا على صدر الميت ريحانه تهتز .
وذكر في تاريخه أن في سنة ست وسبعين وماءتين انفرج تل في أرض البصرة بعرق تل شقيق عن سبعة أقرب في مثل الحوض وفيها سبعة أنفس أبدانهم صحيحة وأكفانهم يفوح منها رائحة المسك أحدهم شاب له جمة وعلى شفتيه بلل كأنه شرب ماء ، وكأن عينيه مكحلتان ، وله مذبة في خاصرته ، وأراد بعض من حضر أن يأخذ من شعره شيئاً فإذا هو قوي كشعر الحي .
وخرج ابن سعد في طبقاته بإسناده عن أبي سعيد الخدري قال : كنت فيمن حفر لسعد بن معاذ قبره بالبقيع وكان يفوح علينا المسك كلما حفرنا من قبره تراباً حتى انتهينا إلى اللحد وبإسناده عن محمد بن شرحبيل بن حسنة قال : أخذ إنسان قبضة تراب من تراب سعد فذهب بها فنظر إليها بعد ذلك فإذا هي مسك .
وروى ابن أبي الدنيا بإسناده عن المغيرة بن حبيبة أن عبد الله بن غالب الحراني لما دفن أصابوا من قبره رائحة المسك .
[*] قال الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى في كتابه أهوال القبور :
وأما من شوهد بدنه طرياً صحيحاً وأكفانه عليه صحيحة بعد تطاول المدة من غير الأنبياء عليهم السلام فكثير جداً ، ونحن نذكر من أعيانهم جماعة .(1/307)
قال عمرو بن شبة : حدثني محمد بن يحيى ، حدثنا هشام بن عبد الله بن عكرمة عن هشام بن عروة ، عن أبيه قال : لما سقط جدار بيت النبي صلى الله عليه وسلم وعمرو بن عبد العزيز يومئذ على المدينة انكشف قدم من القبور التي في البيت فأصابها شيء فدميت ففزع من ذلك عمر بن عبد العزيز فزعاً شديداً ، فدخل عروة البيت فإذا القدم قدم عمر بن الخطاب ، فقال لعمر لا تفزع هي قدم عمر بن الخطاب فأمر بالجدار فبني ورد على حاله .
روى مالك عن عبد الرحمن بن أبي صعصعة أنه بلغه أن عمرو بن الجموح وعبد الله بن عمرو الأنصاريين ثم السلميين ، كان قد حفر السيل قبرهما ما يلي السيل وكانا في قبر واحد وهما ممن استشهد يوم أحد فحفرا عنهما ليغيرا من مكانهما فوجدا لم يتغيرا كأنهما ماتا بالأمس وكان أحدهما قد جرح فوضع يده على جرحه فدفن وهو كذلك فأميطت يده عن جرحه ثم أرسلت فرجعت كما كانت وكان بين أحد وبين يوم حفر عنهما ست وأربعون سنة .
وقال ابن أبي الدنيا حدثنا أحمد بن عاصم حدثنا سعيد بن عامر عن المثني ابن سعيد قال : لما نزلت عائشة بنت طلحة البصرة أتاها رجل فقال : إني رأيت طلحة ابن عبيد الله في المنام ، فقال : قل : لعائشة تحولني من هذا المكان فإن البرد قد آذاني . فركبت في مواليها وحشمها ، فضربوا عليه بناء ، واستثاروه فلم يتغير منه إلا شعرات في إحدى شق لحيته أو قال رأسه ، حتى حول إلى موضعه ، وكان بينهما بضع وثمانون سنة .(1/308)
وبإسناده عن علي بن زيد بن جدعان عن أمه قالت : رأيت طلحة بن عبد الله لما حول من مكانه ، فرأيت الكافور في عينيه ، ولم يتغير منه شيء إلا عقيصة مالت من مكانها . وقال في كتاب الأولياء : كتب أبو عبد الله محمد بن خلف بن صالح التيمي أن إسحاق بن أبي نباتة مكث ستين سنة يؤذن لقومه في مسجد عمرو بن سعيد يعني بالكوفة ، وكان يعلم الغلمان الكتاب ولا يأخذ الأجر فمات قبل أن يحفر الخندق بثلاثين سنة ، فلما حفر الخندق وكان بين المقابر ، ذهب بعض أصحابه يستخرجه ووقع قبره في الخندق ، فاستخرجوه كما دفن ولم يتغير منه شيء إلا الكفن قد جف عليه ويبس والحنوط محطوط عليه ، وكان خضيباً فرأى وجهه مكشوفاً وقد اتصل الحنا في أطراف الشعر ، فمضى المسيب بن زهير إلى أبي جعفر المنصور وهو على شاطىء الفرات ، فأخبره ، فركب أبو جعفر في الليل حتى رآه فأمر به فدفن بالليل لئلا يفتتن الناس .
وفي الترمذي في سياق حديث صهيب المرفوع في قصة أصحاب الأخدود أن ذلك الغلام الذي قتله الملك وآمن الناس كلهم وقالوا : آمنا برب الغلام وجد في زمان عمر بن الخطاب ويده على جرحه كهيئته حين مات .
وقد ذكر محمد بن كعب القرظي وزيد بن أسلم وغيرهما قصة عبد الله بن ثامر , وهو رأس الأخدود ، وقصتة شبيهة بقصة الغلام المخرجة في الترمذي ، وأنه وجد في زمان عمر بنجران ، ويده على جرحه وأن جرحه يدمى .وكذا ذكره ابن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم .
وذكر ابن أبي الدنيا في كتاب القبور قصة دانيال لما وجده أبو موسى الأشعري بالسوس وأخبار كثيره من أخبار المتقدمين في هذا المعنى .(1/309)
وذكر ابن الجوزي أن الشريف أبا جعفر بن أبي موسى لما دفن إلى جانب قبر الإمام أحمد بعد موت الإمام أحمد بمئة سنة رؤي كفن الإمام أحمد وهو يتقعقع قال : ولما كسف قبر البربهاري فاحت ببغداد رائحة طيبة حتى ملأت المدينة . قال : وحدثنا محمد ابن أبي منصور بن يوسف حدثني أبي قال : في جملة من كشف ابن شمعون لما نقل من بيته إلى مقبرة الإمام أحمد بعد أربعين سنة وكفنه يتقعقع.
ذكر ضيق القبور وظلمتها على أهلها وتنورها عليهم بدعاء الأحياء :
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) أن امرأة سوداء كانت تقم المسجد أو شابا ففقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأل عنها أو عنه فقالوا مات قال أفلا كنتم آذنتموني قال فكأنهم صغروا أمرها أو أمره فقال دلوني على قبره فدلوه فصلى عليها ثم قال إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها وإن الله عز وجل ينورها لهم بصلاتي عليهم .
[*] أورد الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى في كتابه أهوال القبور عن
سليم بن عامر قال : خرجنا في جنازة على باب دمشق ومعنا أبو أمامة الباهلي فلما صلى على الجنازة وأخذوا في دفنها قال أبو أمامة:إنكم قد أصبحتم وأمسيتم في منزل تغنمون فيه الحسنات والسيئات توشكون أن تظعنوا منه إلى منزل آخر وهو هذا ـ يشير إلى القبر ـ بيت الوحشة وبيت الظلمة وبيت الضيق إلا ما وسع الله ثم تنتقلون منه ِإلى يوم القيامة.
[*] وروى ابن أبي الدنيا بإسناده عن سلمة بن سعيد قال : كان هشام الدستوائي إذا ذكر الموت يقول : القبر ، وظلمة القبر ، ووحشة القبر ، فلما مر بعض إخوانه إلى جنبات قبره قال : يا أبا بكر والله صرت إلى المحذور .(1/310)
[*] وروى بإسناده عن امرأة هشام الدستوائي قالت : كان هشام إذ طفىء المصباح غشيه من ذلك أمر عظيم فقلت له : إنه يغشاك أمر عظيم عدن المصباح إذا طفىء قال : إني أذكر ظلمة القبر ، ثم قال : لو كان سبقتني إلى هذا أحد من السلف لأوصيت إذا مت أن أجعل في ناحية من داري قال : فما مكثنا إلا يسيراً حتى مات قال : فمر بعض إخوانه به في قبره فقال : يا أبا بكر صرت إلى المحذور .
[*] وأورد الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى في كتابه أهوال القبور عن
عبد الوهاب بن غياث حدثتني جمعة جارة لهشام الفردوسي قالت : كان هشام إذا رجع من جنازة لم يتعش تلك الليلة وكان لا ينام إلا في بيت سراج قال : فطفىء سراجه ذات ليلة فخرج هارباً فقيل له : ما شأنك قال : ذكرت ظلمة القبر .
[*] وأورد الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى في كتابه أهوال القبور عن
خالد بن خداش قال : كنت أقعد إلى أشيم البلخي عم قتيبة وكان أعمى وكان يحدث ويقول : أواه القبر وظلمته ، واللحد وضيقه ، وكيف أصنع ؟ ثم يخشى عليه ، ثم يعود فيحدث فيصنع مثل ذلك مرات حتى يقوم .
[*] وروى ابن أبي الدنيا بإسناده عن وهيب بن الورد قال نظر ابن مطيع يوماً إلى داره فأعجبه حسنها فبكى ثم قال : والله لولا الموت لكنت بك مسروراً ولولا ما نصير إليه من ضيق القبور لقرت بالدنيا أعيننا ثم بكى بكاء شديداً حتى ارتفع صوته .
[*] وبإسناده عن الفيض بن إسحاق قال : قال لي الفضيل بن عياض : أرأيت لو كانت لك الدنيا فقيل لك : تدعها ويوسع لك في قبرك ما كنت تفعل ؟ قال فقال : فضيل أليس تموت وتخرج من أهلك ومالك وتصير إلى القبر وضيقه وحدك ثم قال : (فَمَا لَهُ مِن قُوّةٍ وَلاَ نَاصِرٍ) [الطارق: 10] ثم قال : إن كنت لا تعقل هذا فما في الأرض دابة أحمق منك .
[*] أورد الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى في كتابه أهوال القبور عن(1/311)
محمد بن حرب المكي قال : قدم علينا أبو عبد الرحمن العمري العابد فاجتمعنا إليه وأتاه وجوه أهل مكة قال : فرفع رأسه فنظر إلى القصور المحدقة بالكعبة فنادى بأعلى صوته : يا أصحاب القصور المشيدة اذكروا ظلمة القبر يا أهل النعيم والتلذذ اذكروا الدود والصديد وبلى الأجساد في التراب قال : ثم غلبته عيناه فنام .
[*] وأورد الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى في كتابه أهوال القبور عن
سعيد بن عبد العزيز دخل على سليمان الخواص فقال : مالي أراك في الظلمة ؟ قال : ظلمة القبر أشد .
[*] وخرج أبو نعيم بإسناد له عن عمر بن عبد العزيز أنه كان يقول في موعظة له طويلة يذكر فيها أهل القبور : أليسوا في مدلهمة ظلماء أليس الليل والنهار سواء ؟
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده عن وهب بن منبه قال : كان عيسى عليه السلام واقفاً على قبر ومعه الحواريون وصاحبه يدلى فيه فذكروا القبر ووحشته وضيقه وظلمته قال عيسى عليه السلام : قد كنتم في أضيق منه أرحام أمهاتكم فإذا أحب الله أن يوسع وسع .
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده عن جعفر بن سليمان قال : شهد رجل يدلى في حفرتة فقال : إن الذي يسهل على الجنين في بطن أمه قادر أن يسهل عليك ، قال : وقال بعضهم : شبل ابن عورة هو المتكلم بهذا .
عرض منازل أهل القبور عليهم من الجنة أو النار بكرة وعشيا :
قال تعالى: (النّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السّاعَةُ أَدْخِلُوَاْ آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدّ الْعَذَابِ) [غافر : 46]
(النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا)
[*] قال الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسيره :
وهذه الآية أصل كبير في استدلال أهل السنة على عذاب البرزخ في القبور.
( حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : عذاب القبر حق .(1/312)
وقال قتادة في قوله: { غُدُوًّا وَعَشِيًّا } صباحا ومساء، ما بقيت الدنيا، يقال لهم:
يا آل فرعون، هذه منازلكم، توبيخا ونقمة وصَغَارا لهم.
( حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن أحدكم إذا مات، عرض عليه مقعده بالغداة والعشي، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، فيقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة .
ضمة القبر :
( حديث ابن عمر رضي الله عنه الثابت في صحيح النسائي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :هذا الذي تحرك له العرش وفتحت له أبواب السماء وشهده سبعون ألفا من الملائكة لقد ضم ضمة ثم فرج عنه .
( حديث ابن عباس رضي الله عنهما الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لو نجا أحد من ضمة القبر لنجا سعد بن معاذ و لقد ضم ضمة ثم روخي عنه .
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
( لو نجا أحد من ضمة القبر ) وفي رواية من ضغطة القبر بضم الضاد
( لنجا سعد بن معاذ ) سيد الأنصار(1/313)
( ولقد ضم ضمة ثم روخي عنه ) فالمؤمن أشرق نور الإيمان في صدره فباشر اللذات والشهوات وهي من الأرض والأرض مطيعة وخلق الآدمي من هذه الأرض وقد أخذ عليه العهد والميثاق في العبودية له فما نقص من وفاء العبودية صارت الأرض عليه واجدة فإذا وجدته في بطنها ضمته ضمة ثم تدركه الرحمة فترحب به وعلى قدر سرعة مجيء الرحمة يتخلص من الضمة فإن كان محسناً فإن رحمة اللّه قريب من المحسنين فإذا كانت الرحمة قريبة من المحسنين لم يكن الضم كثيراً وإذا كان خارجاً من حد المحسنين لبث حتى تدركه الرحمة ولا ينافيه اهتزاز العرض لموته لأن دون البعث زلازل وأهوال لا يسلم منها ولي ولا غيره { ثم ننجي الذين اتقوا } ولهذا قال عمر : لو كان لي طلاع الأرض ذهباً لافتديت به [ ص 333 ] من هول المطلع وفي الحديث إشارة إلى أن جميع ما يحصل للمؤمن من أنواع البلايا حتى في أول منازل الآخرة وهو القبر وعذابه وأهواله لما اقتضته الحكمة الإلهية من التطهيرات ورفع الدرجات ألا ترى أن البلاء يخمد النفس ويذلها ويدهشها عن طلب حظوظها ولو لم يكن في البلاء إلا وجود الذلة لكفى إذ مع الذلة تكون النصرة .(1/314)
( تنبيه ) قد أفاد الخبر أن ضغطة القبر لا ينجو منها أحد صالح ولا غيره لكن خص منه الأنبياء كما ذكره المؤلف في الخصائص وفي تذكرة القرطبي يستثنى فاطمة بنت أسد ببركة النبي صلى اللّه عليه وسلم وفيها أيضاً ذكر بعضهم أن القبر الذي غرس عليه النبي صلى اللّه عليه وسلم العسيب قبر سعد قال : وهذا باطل وإنما صح أن القبر ضغطه كما ذكر ثم فرج عنه قال : وكان سببه ما روى يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق حدثني أمية بن عبد اللّه أنه سأل بعض أهل سعة ما بلغكم في قول رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم هذا قالوا : ذكر لنا أنه سئل عنه فقال : كان يقصر في بعض الطهور من البول وذكر هناد بن السري حديثاً طويلاً عنه أنه ضم في القبر ضمة حتى صار مثل الشعرة فدعوت اللّه أن يرفعه عنه إنه كان لا يستبرئ في أسفاره من البول . وقال السلمي : أما الأخبار في عذاب القبر فبالغة مبلغ الاستفاضة منها قوله صلى اللّه عليه وسلم في سعد بن معاذ لقد ضغطته الأرض ضغطة اختلفت لها ضلوعه قال أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فلم ننقم من أمره شيئاً إلا أنه كان لا يستبرئ في أسفاره من البول هكذا ذكره القرطبي عنه ثم قال : فقوله صلى اللّه عليه وسلم ثم خرج عنه دليل على أنه جوزي على ذلك التقصير لا أنه يعذب بعد ذلك في قبره هذا لا يقوله إلا شاك في فضيلته وفضلة ونصيحته وصحبته أترى من اهتز له عرش الرحمن كيف يعذب في قبره بعد ما فرج عنه؟ هيهات لا يظن ذلك إلا جاهل بحقه غبي بفضيلته وفضله اهـ . وأخرج الحكيم عن جابر بن عبد اللّه قال : لما توفي سعد بن معاذ ووضع في حفرته سبح رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ثم كبر وكبر القوم معه فقالوا : يا رسول اللّه لم سبحت قال : هذا العبد الصالح لقد تضايق عليه قبره حتى فرجه اللّه عنه فسئل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن ذلك فقال : كان يقصر في بعض الطهور من البول اهـ بحروفه .(1/315)
قال الحكيم : فإن قيل الذي يهتز العرش لموته كيف يضيق عليه قلنا هذا خبر صحيح وذاك صحيح وإنما سبب ضم القبر أنه كان يقصر في بعض الطهور فكان القوم لا يستنجون بالماء بل بالأحجار فلما نزل فيه { رجال يحبون أن يتطهروا } ففشا فيهم الطهور بالماء فمنهم من استنجى بالماء ومنهم من استمر على الحجر فأهل الاستقامة يردون اللحود وقد يكون فيهم خصلة عليهم فيها تقصير فيردون اللحد مع ذلك التقصير غير نازعين عنه وليس ذلك بذنب ولا خطيئة فيعاتبون في قبورهم عليه فتلك الضمة نالت سعداً مع عظيم قدره لكونه عوتب في القبر بذلك التقصير فضم عليه ثم فرج ليلقى اللّه وقد حط عنه دنس ذلك التقصير مع كونه غير حرام ولا مكروه .
( حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :
لو نجا أحد من ضمة القبر لنجا هذا الصبي .
[*] مرت عائشة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها بجنازة صغير فبكت وقالت : بكيت لهذا الصبي شفقة عليه من ضمة القبر .
اجتماع أعمال الميت عليه من خير وشر ومدافعتها عنه :
( حديث أنس ابن مالك رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : يتبع الميت ثلاثة، فيرجع اثنان ويبقى معه واحد: يتبعه أهله وماله وعمله، فيرجع أهله وماله ويبقى عمله.(1/316)
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن الميت إذا وضع في قبره إنه يسمع خفق نعالهم حين يولوا مدبرين فإن كان مؤمنا كانت الصلاة عند رأسه وكان الصيام عن يمينه وكانت الزكاة عن شماله وكان فعل الخيرات من الصدقة والصلاة والمعروف والإحسان إلى الناس عند رجليه فيؤتى من قبل رأسه فتقول الصلاة ما قبلي مدخل ثم يؤتى عن يمينه فيقول الصيام ما قبلي مدخل ثم يؤتى عن يساره فتقول الزكاة ما قبلي مدخل ثم يؤتى من قبل رجليه فيقول فعل الخيرات من الصدقة والمعروف والإحسان إلى الناس ما قبلي مدخل فيقال له اجلس فيجلس قد مثلت له الشمس وقد دنت للغروب فيقال له أرأيتك هذا الذي كان قبلكم ما تقول فيه وماذا تشهد عليه فيقول دعوني حتى أصلي فيقولون إنك ستفعل أخبرنا عما نسألك عنه أرأيتك هذا الرجل الذي كان قبلكم ماذا تقول فيه وماذا تشهد عليه قال فيقول محمد أشهد أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه جاء بالحق من عند الله فيقال له على ذلك حييت وعلى ذلك مت وعلى ذلك تبعث إن شاء الله ثم يفتح له باب من أبواب الجنة فيقال له هذا مقعدك منها وما أعد الله لك فيها فيزداد غبطة وسرورا ثم يفتح له باب من أبواب النار فيقال له هذا مقعدك وما أعد الله لك فيها لو عصيته فيزداد غبطة وسرورا ثم يفسح له في قبره سبعون ذراعا وينور له فيه ويعاد الجسد كما بدأ منه فتجعل نسمته في النسيم الطيب وهي طير تعلق في شجر الجنة فذلك قوله يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة [إبراهيم : 27] وإن الكافر إذا أتي من قبل رأسه لم يوجد شيء ثم أتي عن يمينه فلا يوجد شيء ثم أتي عن شماله فلا يوجد شيء ثم أتي من قبل رجليه فلا يوجد شيء فيقال له اجلس فيجلس مرعوبا خائفا فيقال أرأيتك هذا الرجل الذي كان فيكم ماذا تقول فيه وماذا تشهد عليه فيقول أي رجل ولا يهتدي لاسمه فيقال له محمد فيقول لا(1/317)
أدري سمعت الناس قالوا قولا فقلت كما قال الناس فيقال له على ذلك حييت وعليه مت وعليه تبعث إن شاء الله ثم يفتح له باب من أبواب النار فيقال له هذا مقعدك من النار وما أعد الله لك فيها فيزداد حسرة وثبورا ثم يفتح له باب من أبواب الجنة ويقال له هذا مقعدك منها وما أعد الله لك فيها لو أطعته فيزداد حسرة وثبورا ثم يضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه فتلك المعيشة الضنكة التي قال الله فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى .
اجتماع الموتى إلى الميت وسؤالهم إياه :
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :إن المؤمن إذا قبض أتته ملائكة الرحمة بحريرة بيضاء فيقولون اخرجي إلى روح الله فتخرج كأطيب ريح المسك حتى إنه ليناوله بعضهم بعضا فيشمونه حتى يأتوا به باب السماء فيقولون ما هذه الريح الطيبة التي جاءت من الأرض ولا يأتون سماء إلا قالوا مثل ذلك حتى يأتوا به أرواح المؤمنين فلهم أشد فرحا به من أهل الغائب بغائبهم فيقولون ما فعل فلان فيقولون دعوه حتى يستريح فإنه كان في غم الدنيا فيقول قد مات أما أتاكم فيقولون ذهب به إلى أمه الهاوية ،وأما الكافر فيأتيه ملائكة العذاب بمسح فيقولون اخرجي إلى غضب الله فتخرج كأنتن ريح جيفة فيذهب به إلى باب الأرض .
فيما ورد من تلاقي الموتى في البرزخ وتزاورهم :
( حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :
إذا ولي أحدكم أخاه فليحسن كفنه فإنهم يبعثون في أكفانهم ويتزاورون في أكفانهم .
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
( إذا ولى أحدكم أخاه فليحسن كفنه ) بأن يختار له من الثياب أنظفها وأسبغها . قال التوربشتي : وما يؤثره المبذرون من الثياب الرفيعة منهي عنه بأصل الشرع لإضاعة المال(1/318)
( فانهم يبعثون من قبورهم في أكفانهم ) التي يكفنون عند موتهم فيها . ولا ينافضه حشرهم عراة لأنهم يقومون من قبورهم بثيابهم ثم يجردون
( ويتزاورون ) في القبور
( في أكفانهم ) التي يكفنون عند موتهم فيها ولا ينافيه قول الصديق : الكفن إنما هو للصديد لأنه كذلك في رؤيتنا لا في نفس الأمر ، ولا خبر : لا تغالوا في الكفن فإنه يسلب سريعاً - لاختلاف أحوال الموتى ، فمنهم من يعجل له الكسوة لعلو مقامه ، ومنهم من لم يبلغ ذلك فيستمر في كفنه ويتزاور فيه في البرزخ . وفيه رد على ابن الحاج حيث قبح قول الناس : الموتى يتفاخرون في أكفانهم في القبور وحسنها وجعله من البدع الشنيعة ( سموية ) في فوائده .
[*] أورد الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى في كتابه أهوال القبور عن
بن أبي عيسى قال : كانت امرأة تقية سرية توفيت ، فرأت ابنة لها في المنام كأن أمها أتتها ، فقالت : يا بنية كفنتموني بكفن ضيق فأنا بين صواحبي أستحي منهن ، وفلانة تأتينا في يوم كذا وكذا ولي في موضع ذكرته أربعة دنانير ، فاشتروا لي كفنا ، وابعثوا لي معها ، قالت الابنة : ]ولم أكن أعلم ] أن لها في الموضع الذي ذكرت بأساً ، قالت : فلما كان بعد اعتلت ، قالت : فجاؤوني فقالوا لي : ما تقولين ؟ فقصصت عليهم القصة فقالت : فذكرت الحديث الذي روي عن عائشة أنهم يتزاورون في أكفانهم ، وقلت لهم : اذهبوا إلى رجلين من أهل الحديث بزازين ، يقال لأحدهما : ابن النيسابوري، والآخر أبو توبة فليشتريا لها كفناً ، قال : فذهبت البنت إلى الموضع الذي ذكرت ، ووضعت الكفن معها في كفنها ، فلما كان بعد ذلك رأت المرأة البنت في المنام ، قالت : يا بنية قد أتتنا فلانة ووصل إلي الكفن ما أحسنه وأوسعه أما إنه جزاك الله خيراً .
مسألة : كيف يتزاورون بعد الموت ؟(1/319)
( حديث أم هانىء الأنصارية رضي الله عنها الثابت في صحيح الجامع ) أنها سألت رسول الله أنتزاور إذا متنا ويرى بعضنا بعضاً ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " تكون النسم طيراً تعلق بالشجر حتى إذا كان يوم القيامة دخلت كل نفس في جسدها " .
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
( تكون النسم ) بعد الموت
( طيراً ) أي على هيئة الطير أو في حواصل الطير على ما سبق تفصيله
( تعلق بالشجر ) أي تأكل منه والمراد شجر الجنة
( حتى إذا كان يوم القيامة ) يعني إذا نفخ في الصور النفخة الثانية
( دخلت كل نفس في جسدها ) الذي كانت فيه في الدنيا بأن يعيد اللّه الأجساد كما كانت عند الموت وتسكن أرواحها إليها قال الحكيم الترمذي : لعل هذا أي كونها في جوف الطيور في أرواح كمل المؤمنين اهـ .
ما ورد من سماع الموتى كلام الأحياء :
، ومعرفتهم بمن يسأل عليهم ، ويزورهم ومعرفتهم بحالهم بعد الموت ، وحال أقاربهم في الدنيا
( حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) قال فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرينا مصارع أهل بدر بالأمس يقول هذا مصرع فلان غدا إن شاء الله قال فقال عمر فوالذي بعثه بالحق ما أخطؤا الحدود التي حد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فجعلوا في بئر بعضهم على بعض فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتهى إليهم فقال يا فلان بن فلان ويا فلان بن فلان هل وجدتم ما وعدكم الله ورسوله حقا فإني قد وجدت ما وعدني الله حقا قال عمر يا رسول الله كيف تكلم أجسادا لا أرواح فيها قال ما أنتم بأسمعَ لما أقول منهم غير أنهم لا يستطيعون أن يردوا علي شيئا .(1/320)
( حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين ) قال : اطلع النبي صلى الله عليه وسلم على أهل القليب فقال وجدتم ما وعد ربكم حقاً قيل له : أتدعو أمواتاً ؟ قال : " ما أنتم بأسمع منهم ولكن لا يجيبون " لِلَّهِ وفي رواية قال : " إنهم الآن يسمعون ما أقول " .
{ تنبيه } : قال الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى في كتابه أهوال القبور :
وقد أنكرت عائشة ذلك كما في الصحيحين عن عروة عن عائشة انها قالت: قال رسول الله عليه وسلم : " إنهم ليسمعون الآن ما أقول " وقد وهم - يعني ابن عمر-قال : إنهم ليعلمون الآن ما كنت أقول لهم إنه حق ثم قرأت قوله { إنك لا تسمع الموتى } ، { وما أنت بمسمع من في القبور } .
وقد وافق عائشة على نفي الموتى كلام الأحياء طائفة من العلماء ورجحه القاضي أبو يعلى من أصحابنا في كتاب الجامع الكبير له واحتجوا بما احتجت به عائشة ، وبأنه يجوز أن يكون ذلك معجزة مختصة بالنبي صلى الله عليه وسلم دون غيره ، وهو سماع الموتى كلامه.
وفي صحيح البخاري قال قتادة : أحياهم الله تعالى [ يعني أهل القليب ] حتى أسمعهم قوله توبيخاً وتصغيراً ونقمة وحسرة وندماً .
وذهب طوائف من أهل العلم وهم الأكثرون وهو اختيار الطبري وغيره ـ يعني بالطبري ابن جرير ـ وكذلك ذكره ابن قتيبة وغيره من العلماء ، وهؤلاء يحتجون بحديث القليب ، كما سبق ، وليس هو بوهم ممن رواه ، فإن ابن عمر وأبا طلحة وغيرهما ممن شهد القصة حكياه عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وعائشة لم تشهد ذلك وروايتها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إنهم ليعلمون الآن أن ما كنت أقول لهم حق " يؤيد رواية من روى : إنهم ليسمعون ، ولا ينافيه ، فإن الميت إذا جاز أن يعلم جاز أن يسمع ، لأن الموت ينافي العلم كما ينافي السمع والبصر ، فلو كان مانعاً من البعض لكان مانعاً من الجميع .(1/321)
وقال أيضاً : وأما أن ذلك خاص بكلام النبي صلى الله عليه وسلم فليس كذلك ، وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه إنه ليسمع قرع نعالهم " وقد سبق ذكره . وقال أيضاً : وأما قوله تعالى: (إِنّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَىَ) [النمل: 80] وقوله تعالى: ( وَمَآ أَنتَ بِمُسْمِعٍ مّن فِي الْقُبُورِ) [فاطر: 22] فإن السماع يطلق ويراد به إدراك الكلام وفهمه ، ويراد به أيضاً الانتفاع به والاستجابة له . والمراد بهذه الآيات نفي الثاني دون الأول ، فإن ها في سياق خطاب الكفار الذين لا يستجيبون للهدى ولا للإيمان إذا دعوا إليه كما قال تعالى: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنّمَ كَثِيراً مّنَ الْجِنّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاّ يَسْمَعُونَ بِهَآ أُوْلََئِكَ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلّ أُوْلََئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) [الأعراف : 179] في نفي السماع والإبصار عنهم لأن الشيء قد ينفى لانتفاء فائدته وثمرته فإذا لم ينتفع المرء بما يسمعه ويبصره فكأنه لم يسمع ولم يبصر ، وسماع الموتى هو بهذه المثابة ، وكذلك سماع الكفار لمن دعاهم إلى الإيمان والهدى . وقول قتادة في أهل القليب : أحياهم الله حتى أسمعهم ، يدل على أن الميت لا يسمع القول إلا بعد إعادة الروح إلى جسده : وبذلك قال طوائف كثيرة من السلف لأنه لا يسأل في قبره إلا بعد إعادة الروح إلى جسده ، كما جاء ذلك مصرحاً به في حديث البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه وسلم الطويل ، وقد سبق ذكر بعضه وفيه في حق الكافر " وتعاد روحه في جسده " .أهـ
ذكر محل أرواح الموتى في البرزخ :
أما الأنبياء عليهم السلام فليس فيهم شك أن أرواحهم عند الله في أعلى عليين .(1/322)
326- وقد ثبت في السنة الصحيحة أن آخر كلمة تكلم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم عند موته " اللهم الرفيق الأعلى " وكررها حتى قبض .
( حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيح البخاري ) قالت : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بين يديه ركوة، أو: علبة فيها ماء ـ يشك عمر ـ فجعل يدخل يده في الماء، فيمسح بها وجهه، ويقول: (لا إله إلا الله، إن للموت سكرات). ثم نصب يده فجعل يقول: (في الرفيق الأعلى). حتى قبض ومالت يده.
وأما الشهداء فأكثر العلماء على أنهم في الجنة وقد تكاثرت بذلك الأحاديث .
( حديث مسروق الثابت في صحيح مسلم ) قال : سألنا عبد الله هو بن مسعود عن هذه الآية (وَلاَ تَحْسَبَنّ الّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبّهِمْ يُرْزَقُونَ) قال : أما إنا قد سألنا عن ذلك فقال أرواحهم في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش تسرح من الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى تلك القناديل فاطلع إليهم ربهم اطلاعة فقال هل تشتهون شيئا قالوا أي شيء نشتهي ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا ففعل ذلك بهم ثلاث مرات فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا قالوا يا رب نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى فلما رأى أن ليس لهم حاجة تُرِكوا .
(حديث أنس بن مالك رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري ) قال: أصيب الحارثة يوم بدر وهو غلام، فجاءت أمه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله، قد عرفت منزلة حارثة مني، فإن يكن في الجنة أصبر وأحتسب، وإن تكن الأخرى تر ما أصنع، فقال: (ويحك، أو هبلت ، أو جنة واحدة هي، إنها جنان كثيرة، وإنه في جنة الفردوس).
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : رأيت جعفر بن أبي طالب ملكا يطير في الجنة مع الملائكة بجناحين .
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:(1/323)
( رأيت جعفر بن أبي طالب ) هو ابن عم النبي صلى اللّه عليه وسلم الذي استشهد بمؤتة .
( ملكاً ) أي على صورة ملك من الملائكة
( يطير في الجنة مع الملائكة بجناحين ) سميا جناحين لأن الطائر يجنحهما عند الطيران أي يميلهما عنده ومنه { وإن جنحوا للسلم } وهذا قاله لولده لما جاء الخبر بقتله وفي رواية عوّضه اللّه جناحين عن قطع يديه وذلك أنه أخذ اللواء بيمينه فقطعت فأخذه بشماله فقطعت فاحتضنه فقتل . قال القاضي : لما بذل نفسه في سبيل اللّه وحارب أعداءه حتى قطعت يداه ورجلاه أعطاه اللّه أجنحة روحانية يطير بها مع الملائكة ولعله رآه في المنام أو في بعض مكاشفاته اهـ . وقال السهيلي : ليسا كجناحي الطائر لأن الصورة الآدمية أشرف بل قوة روحانية وقد عبر القرآن عن العضو بالجناح توسعاً { واضمم يدك إلى جناحك } واعترض بأنه لا مانع من الحمل على الظاهر إلا من جهة المعهود [ ص 9 ] وهو قياس الغائب على الشاهد وهو ضعيف . ( تتمة ) قال في الإصابة : كان أبو هريرة يقول : إن جعفر أفضل الناس بعد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، ورد عنه بسند صحيح .أهـ
[*] قال الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى في كتابه أهوال القبور :
فالأحاديث السابقة كلها فيمن قتل في سبيل الله وبعضها صريح في ذلك ، وفي بعضها أن الآية نزلت في ذلك وهو قوله تعالى { ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً } الآية نص في المقتول في سبيل الله .
وقد يطلق الشهيد على من حقق الإيمان وشهد بصحته بقوله تعالى: (وَالّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلََئِكَ هُمُ الصّدّيقُونَ وَالشّهَدَآءُ عِندَ رَبّهِمْ) [الحديد: 19]
وروى سفيان عن رجل عن مجاهد قال : كل مؤمن صديق وشهيد ثم قرأ (وَالّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلََئِكَ هُمُ الصّدّيقُونَ وَالشّهَدَآءُ عِندَ رَبّهِمْ) [الحديد: 19](1/324)
وخرج ابن أبي حاتم من رواية رشدين بن سعد عن ابن عقيل عن أبيه عن أبي هريرة قال : كلكم صديق وشهيد . قيل له : ما تقول يا أبا هريرة ؟ قال : إقرأ (وَالّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلََئِكَ هُمُ الصّدّيقُونَ وَالشّهَدَآءُ عِندَ رَبّهِمْ) [الحديد: 19]
ويعضد هذا ما ورد في تفسير قوله تعالى: (لّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى النّاسِ وَيَكُونَ الرّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) [البقرة: 143] من شهادة هذه الأمة للأنبياء بتبليغ رسالاتهم ، وبكل حال فالأحاديث المتقدمة كلها في الشهيد المقتول في سبيل الله لا يحتمل غير ذلك ، وإنما النظر في حديث ابن إسحاق هذا والله أعلم .
وقال أيضاً :وأما بقية المؤمنين سوى الشهداء فينقسمون إلى أهل تكليف ، وغير أهل تكليف فهذان قسمان :
أحدهما غير أهل التكليف : كأطفال المؤمنين فالجمهور على أنهم في الجنة ، وقد حكى الإمام أحمد على ذلك الإجماع .
وقال في رواية جعفر بن محمد : ليس فيهم اختلاف يعني أنهم في الجنة . وقال في رواية الميموني لا أحد يشك أنهم في الجنة . وذكر الخلال من طريق حنبل عن أحمد قال : نحن نقر بأن الجنة قد خلقت ونؤمن بأن الجنة والنار مخلوقتان قال تعالى: (النّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً) [غافر: 46] لآل فرعون ، وقال : أرواح ذراري المسلمين ، في أجواف طير خضر تسرح في الجنة يكفلهم أبوهم إبراهيم فيدل هذا أنهما خلقتا . وكذلك نص الشافعي على أن أطفال المسلمين في الجنة ، وجاء صريحاً عن السلف على أن أرواحهم في الجنة كما روي .
[*] وأورد الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى في كتابه أهوال القبور عن(1/325)
عن ابن مسعود قال : إن أرواح الشهداء في أجواف طير خضر تسرح بهم في الجنة حيث شاؤا وإن أرواح أولاد المسلمين في أجواف عصافبر تسرح بهم في الجنة حيث شاءت فتأوى إلى قناديل معلقة في العرش . خرجه ابن أبي حاتم ، ورواه الثوري والأعمش عن أبي قيس عن هذيل من قوله لم يذكر ابن مسعود .أهـ
ويدل على صحة ذلك الأحاديث الآتية :
( حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيح مسلم ) قالت * دعي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنازة صبي من الأنصار فقلت يا رسول الله طوبى لهذا عصفور من عصافير الجنة لم يعمل السوء ولم يدركه قال أو غير ذلك يا عائشة إن الله خلق للجنة أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم وخلق للنار أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم .
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أطفال المؤمنين في جبل في الجنة يكفلهم إبراهيم و سارة حتى يردهم إلى آبائهم يوم القيامة .
( حديث البراء رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري ) قال: لما مات إبراهيم عليه السلام قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن له مرضعاً في الجنة).
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من مات له ثلاثاً من الولد لم يبلغوا الحِنْثَ كان له حجاباً من النار .
ولهذا قال الإمام أحمد : هو يرجى لأبويه فكيف يشك فيه يعني أن يرجى لأبويه دخول الجنة بسببه .
القسم الثاني : أهل التكليف من المؤمنين سوى الشهداء وقد اختلف فيهم العلماء قديماً وحديثاً والمنصوص عن الإمام أحمد : أن أرواح المؤمنين في الجنة ذكره الخلال في كتاب السنة عن غير واحد عن حنبل قال : سمعت أبا عبد الله يقول : أرواح المؤمنين في الجنة ، وقال حنبل في موضع آخر : هي أرواح المؤمنين في الجنة وأرواح الكفار في النار والأبدان في الدنيا يعذب الله من يشاء ويرحم من يشاء .(1/326)
[*] وأورد الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى في كتابه أهوال القبور عن
عبد الله بن أحمد بن حنبل قال : سألت أبي عن أرواح الموتى أتكون في أفنية قبورهم أم في حواصل طير أم تموت كما تموت الأجساد ؟ فذكر الحديث الآتي :
( حديث أم هانىء الأنصارية رضي الله عنها الثابت في صحيح الجامع ) أنها سألت رسول الله أنتزاور إذا متنا ويرى بعضنا بعضاً ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " تكون النسم طيراً تعلق بالشجر حتى إذا كان يوم القيامة دخلت كل نفس في جسدها " .
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
( تكون النسم ) بعد الموت
( طيراً ) أي على هيئة الطير أو في حواصل الطير على ما سبق تفصيله
( تعلق بالشجر ) أي تأكل منه والمراد شجر الجنة
( حتى إذا كان يوم القيامة ) يعني إذا نفخ في الصور النفخة الثانية
( دخلت كل نفس في جسدها ) الذي كانت فيه في الدنيا بأن يعيد اللّه الأجساد . أهـ .
ويستدل على ذلك أيضاً بالحديث الآتي :
( حديث كعب بن مالك رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أرواح المؤمنين في أجواف طير خضر تعلق في أشجار الجنة حتى يردها الله إلى أجسادها يوم القيامة .
[*] وأورد الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى في كتابه أهوال القبور عن هلال بن يساف قال : كنا جلوساً إلى كعب فجاء ابن عباس فقال : يا كعب كل ما في القرآن عرفت غير أربعة أشياء فأخبرني عنهن . فسأله عن سجين وعليين . فقال كعب : أما عليون فالسماء السابعة فيها أرواح المؤمنين ، وأما سجين فالأرض السابعة فيها أرواح الكفار تحت خدّ إبليس . وقد ثبت في الأدلة أن الجنة فوق السماء السابعة ، وقد ذكرنا ذلك في كتاب " صفة النار " متوفي .
[*] قال الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى في كتابه أهوال القبور :(1/327)
وقد يستدل للقول بأن أرواح المؤمنين في الجنة , وأرواح الكفار في النار من القرآن بأدلة منها قوله تعالى قال تعالى: (فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلََكِن لاّ تُبْصِرُونَ * فَلَوْلاَ إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَآ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَأَمّآ إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنّاتُ نَعِيمٍ * وَأَمّآ إِن كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلاَمٌ لّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * وَأَمّآ إِن كَانَ مِنَ الْمُكَذّبِينَ الضّآلّينَ * فَنُزُلٌ مّنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ * إِنّ هََذَا لَهُوَ حَقّ الْيَقِينِ) [الواقعة 83: 95]
هو دخول النار مع إحراقها وإنضاجها فجعل هذا كله متعقباً للاحتضار والموت وكذلك قوله تعالى في قصة المؤمنين في سورة يس قال تعالى: (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنّةَ قَالَ يَلَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ) [يس 26، 27] وإنما قال هذا بعد ما قتلوه ورأى ما أعد الله له(1/328)
وقال تعالى: (يَأَيّتُهَا النّفْسُ الْمُطْمَئِنّةُ * ارْجِعِي إِلَىَ رَبّكِ رَاضِيَةً مّرْضِيّةً) [الفجر 27: 28] على تأويل من تأول ذلك عند الاحتضار ، وكذلك قوله تعالى: (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمّنِ افْتَرَىَ عَلَى اللّهِ كَذِباً أَوْ كَذّبَ بِآيَاتِهِ أُوْلََئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مّنَ الْكِتَابِ حَتّىَ إِذَا جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفّوْنَهُمْ قَالُوَاْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ قَالُواْ ضَلّواْ عَنّا وَشَهِدُواْ عَلَىَ أَنْفُسِهِمْ أَنّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ * قَالَ ادْخُلُواْ فِيَ أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ مّن الْجِنّ وَالإِنْسِ فِي النّارِ) [الأعراف 37: 38] ونظير هذه الآية قوله تعالى: (الّذِينَ تَتَوَفّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُاْ السّلَمَ مَا كُنّا نَعْمَلُ مِن سُوَءٍ بَلَىَ إِنّ اللّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [النحل: 28]
{ تنبيه } : قال الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى في كتابه أهوال القبور :
وإنما تدخل أرواح المؤمنين والشهداء الجنة إذا لم يمنع من ذلك مانع من كبائر تستجوب العقوبة أو حقوق آدميين حتى يبرأ منها .
ويستدل لذلك بالأحاديث الآتية :
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين )أن مدعماً قتل يوم خيبر قال الناس : هنيئاً له الجنة فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " بلى والذي نفسي بيده إن الشملة التي أخذها يوم خيبر لم تصبها المقاسم لتشتعل عليه نارا ً" .
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : نفسُ المؤمن معلقةٌ بدينه حتى يُقضى عنه .
[*] قال العلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:(1/329)
قَالَ السُّيُوطِيُّ أَيْ: مَحْبُوسَةٌ عَنْ مَقَامِهَا الْكَرِيمِ، وَقَالَ الْعِرَاقِيُّ أَيْ: أَمْرُهَا مَوْقُوفٌ لَا حُكْمَ لَهَا بِنَجَاةٍ، وَلَا هَلَاكٍَ حَتَّى يُنْظَرَ هَلْ يُقْضَى مَا عَلَيْهَا مِنَ الدَّيْنِ أَمْ لَا.انْتَهَى، وسَوَاءٌ تَرَكَ الْمَيِّتُ وَفَاءً أَمْ لَا كَمَا صَرَّحَ بِهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا، وَشَذَّ الْمَاوَرْدِيُّ فَقَالَ: إِنَّ الْحَدِيثَ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ يُخَلِّفُ وَفَاءً، كَذَا فِي قُوتِ الْمُغْتَذِي، وقَالَ الشَّوْكَانِيُّ فِي النَّيْلِ: فِيهِ الْحَثُّ لِلْوَرَثَةِ عَلَى قَضَاءِ دَيْنِ الْمَيِّتِ، وَالْإِخْبَارُ لَهُمْ بِأَنَّ نَفْسَهُ مُعَلَّقَةٌ بِدَيْنِهِ حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ، وهَذَا مُقَيَّدٌ بِمَنْ لَهُ مَالٌ يُقْضَى مِنْهُ دَيْنُهُ، وأَمَّا مَنْ لَا مَالَ لَهُ، وَمَاتَ عَازِمًا عَلَى الْقَضَاءِ للدين ، فَقَدْ وَرَدَ فِي الْأَحَادِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقْضِي عَنْهُ، بَلْ ثَبَتَ أَنَّ مُجَرَّدَ مَحَبَّةِ الْمَدْيُونِ عِنْدَ مَوْتِهِ لِلْقَضَاءِ مُوجِبَةٌ لِتَوَلِّي اللَّهِ سُبْحَانَهُ لِقَضَاءِ دَيْنِهِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ وَلَمْ يَقْضِ مِنْهُ الْوَرَثَةُ الميت .أهـ
قلت : وعليه يحمل الحديث الآتي :
( حديث ميمونة رضي الله عنها الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من ادان دينا ينوي قضاءه أداه الله عنه .
زيارة الموتى والاتعاظ بهم :
مسألة : ما هو حكم زيارة القبور؟
تسن زيارة القبور للرجال دون النساء
وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد ، ودرر الفرائد .(1/330)
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) قال * زار النبي - صلى الله عليه وسلم - قبر أمه فبكى وأبكى من حوله فقال استأذنت ربي في أن أستغفر لها فلم يؤذن لي واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي فزوروا القبور فإنها تذكر الموت .
(حديث بريدة الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكركم الآخرة .
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لعن الله زوَّرات القبور .
(حديث البراء رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجه ) قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة فجلس على شفير القبر فبكى حتى بل الثرى ثم قال يا إخواني لمثل هذا فأعدوا .
(حديث هانىء مولى عثمان رضي الله عنه الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة ) قال : كان عثمان إذا وقف على قبر يبكي حتى يبل لحيته ، فقيل له : تذكر الجنة والنار ولا تبكي وتبكي من هذا ؟ قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن القبر أول منازل الآخرة فإن نجا منه فما بعده أيسر منه وإن لم ينج منه فما بعده أشد منه ، وقال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما رأيت منظراً قطُّ إلا والقبر أفظع منه " .
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لعن الله زوَّرات القبور .
مسألة : فإن قال قائل أن قوله - صلى الله عليه وسلم - (زوَّرات القبور) للمبالغة فما الجواب ؟
الجواب من وجهين :
(الأول) : أن كلمة زوَّرات تأتي للمبالغة وتأتي للنسبة كبنّاء ونجّار فيكون الأمر محتملاً للمبالغة أو النسبة ، والدليل إذا طرقه الإحتمال بطل به الإستدلال
(الثاني) ثبت عند الترمذي أيضاً لفظ لعن الله زائرات القبور . فإذا لعنت الزائرات فالزوّارات من باب أولى .
آداب زيارة القبور :(1/331)
مسألة : ما هي آداب زيارة القبور؟
[*] آداب زيارة القبور :
(1) إذا وصل إلى المقابر يدعو بالدعاء المأثور :
(حديث بريدة الثابت في صحيح مسلم ) قال * كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر فكان قائلهم السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وإنا إن شاء الله للاحقون أسأل الله لنا ولكم العافية .
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح ابن ماجة) قال : أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت عليك السلام ، فقال لا تقل عليك السلام فإن عليك السلام تحية الميت ،قلت يا رسول الله أي المؤمنين أفضل قال أحسنهم خلقا قال فأي المؤمنين أكيس قال أكثرهم للموت ذكرا وأحسنهم لما بعده استعدادا أولئك الأكياس .
(2) تحقيق المقصود منها وهي تذكرة الموت والاعتبار والاستعداد للموت :
(3) إذا مر المسلم بقبور الظالمين فعليه أن يبكي ويذكر ما كانوا عليه ويتفكر في عاقبة الظالمين .
(حديث بن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح البخاري): أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم، لا يصيبكم ما أصابهم).
(4) الدعاء للأموات :
(حديث عائشة الثابت في صحيح مسلم ):أنها قالت كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلما كان ليلتها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخرج من آخر الليل إلى البقيع فيقول السلام عليكم دار قوم مؤمنين وأتاكم ما توعدون غدا مؤجلون وإنا إن شاء الله بكم لاحقون اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد .
ما يحرم عند القبور :
مسألة : ما هي الأمور التي يحرم فعلها عند القبور؟
[*] الأمور التي يحرم فعلها عند القبور :
(1) يحرم الذبح عند القبور :
(حديث أنس الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لا عقر في الإسلام .(1/332)
{ تنبيه } : معنى العقر : أصل العقر ضرب قوائم البعير أو الشاة بالسيف وهو قائم فنهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عنه لأنهم كانوا إذا مات الميت عقروا عند قبره شاةً أو بعيراً ويقولون إنه كان يعقر للأضياف فيكافيه بمثل صنيعه بعد وفاته .
(2) يحرم تجصيص القبر والبناء عليه :
(حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح مسلم ) قال * نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يجصص القبر وأن يقعد عليه وأن يبنى عليه .
(يجصص) : تبيضه بالجص وهوالجير المعروف بعد بنيه .
الشاهد : أن الأصل في النهي التحريم ، ثم إن بنيه وتجصيصه يجعله مشرفاً وهذا مخالفاً لهدي النبي - صلى الله عليه وسلم - .
(حديث أبي الهياج الأسدي الثابت في صحيح مسلم ) قال : قال لي علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه ألا أبعثك على ما بعثني به رسول الله ، ألا تدع صورةً إلا طمستها ولا قبراً مشرفاً إلا سويته .
(3) يحرم الجلوس على القبر :
(حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح مسلم ) قال * نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يجصص القبر وأن يقعد عليه وأن يبنى عليه .
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - * لأن يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه فتخلص إلي جلده خير له من أن يجلس على قبر .
وذلك لأن القبر بيت الميت المسلم وحرمته ميتاً كحرمته حياً (لحديث عائشة الثابت في صحيح أبي داود) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : كسر عظم الميت ككسره حياً .
(4) يحرم أن يكتب على القبر شيء :
(حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح ابن ماجة) قال * نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يكتب على القبر شيئ .(1/333)
{ تنبيه } : والعلة في ذلك أن الكتابة على القبر تؤدي إلى تعظيمه و تعظيمه يكون سبباً في الشرك ولذا كان النهي حماية لجناب التوحيد وسداً لكل طريقٍ يجر إلى الشرك والعياذ بالله تعالى .
(5) يحرم الصلاة إليها :
(حديث كنّاز بن الحصين الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها .
والأصل في النهي التحريم
(6) يحرم الصلاة عندها ولو بدون استقبال :
( حديث أبي سعيد الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال * الأرض كلها مسجد إلا الحمام والمقبرة .
(7) يحرم بناء المساجد عليها :
(حديث عائشة الثابت في الصحيحين) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في مرضه الذي مات فيه : لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا من قبور أنبيائهم مساجد ، يحذر مما صنعوا .
( حديث أبي هريرية الثابت في صحيحيأبي داود) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : * لا تجعلوا بيوتكم قبورا ولا تجعلوا قبري عيدا وصلوا على فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم .
(8) يحرم السفر إليها :
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لا تُشدُّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام ومسجد الرسول والمسجد الأقصى
(9) يحرم إيقاد السرج عليها لكونه بدعة لا يعرفها السلف الصالح ومن المعلوم شرعا أن كل بدعةٍ ضلالة كما أن فيها إضاعة المال في غير معنى شرعي .
(حديث العرباض بن سارية الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي)أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أوصيكم بتقوى الله و السمع و الطاعة و أن أمر عليكم عبد حبشي فإنه من يعش منكم بعدي فسيري اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي و سنة الخلفاء المهديين الراشدين تمسكوا بها و عضوا عليها بالنواجذ و إياكم و محدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة و كل بدعة ضلالة .(1/334)
الشاهد : قوله - صلى الله عليه وسلم - [ و إياكم و محدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة و كل بدعة ضلالة]
(حديث المغيرة بن شعبة الثابت في الصحيحين) قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (إن الله حرم عليكم: عقوق الأمهات ووأد البنات، ومنع وهات. وكره لكم: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال).
الشاهد : قوله - صلى الله عليه وسلم - [وإضاعة المال]
(10) يحرم كسر عظام الميت لأن حرمته ميتاً كحرمته حيا .
(لحديث عائشة الثابت في صحيح أبي داود) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : كسر عظم الميت ككسره حياً .
عِظةُ القبور :
زيارتك للمقبرة تجعلك تتفكر أن هذا مآلك شئت أم أبيت فيدفعك هذا إلى أن تقدم إلى مثل هذه الحفرة ، تقدم ما يجعلها عليك روضة من رياض الجنة بإذن الله .
[*] قال عبدالحق الأشبيلي: ( فينبغي لمن دخل المقابر أن يتخيل أنه ميت، وأنه قد لحق بهم، ودخل معسكرهم، وأنه محتاج إلى ما هم إليه محتاجون، وراغب فيما فيه يرغبون، فليأت إليهم ما يحب أن يؤتى إليه، وليتحفهم بما يحب أن يتحف به، وليتفكر في تغير ألوانهم، وتقطع أبدانهم، ويتفكر في أحوالهم، وكيف صاروا بعد الأنس بهم والتسلي بحديثهم، إلى النفار من رؤيتهم، والوحشة من مشاهدتهم وليتفكر أيضاً في انشقاق الأرض وبعثرة القبور، وخروج الموتى وقيامهم مرة واحدة حفاة عراة غرلاً، مهطعين إلى الداعي، مسرعين إلى المنادي .
[*] قال محمد بن صبيح: ( بلغنا أن الرجل إذا وضع في قبره، فعذب أو أصابه ما يكره، ناداه جيرانه من الموتى: يا أيها المتخلف في الدنيا فبعد إخوانه! أما كان لذلك فينا معتبر؟ أما كان لك في تقدمنا إياك فكرة؟ أما رأيت انقطاع أعمالنا وأنت في المهل؟ فهلا استدركت ما فات إخوانك!!.
[*] شيع الحسن رحمه الله :جنازة فجلس على شفير القبر فقال : إن أمراً هذا آخره لحقيق أن يزهد في أوله، وإن أمراً هذا أوله لحقيق أن يخاف آخره .(1/335)
[*] ووعظ عمر بن عبدالعزيز يوماً أصحابه فكان من كلامه أنه قال: إذا مررت بهم فنادهم إن كنت منادياً، وادعهم إن كنت داعياً، ومر بعسكرهم، وانظر إلى تقارب منازلهم.. سل غنيهم ما بقي من غناه؟.. واسألهم عن الألسن التي كانوا بها يتكلمون، وعن الأعين التي كانوا للذات بها ينظرون.. واسألهم عن الجلود الرقيقة، والوجوه الحسنة، والأجساد الناعمة، ما صنع بها الديدان تحت الأكفان؟!.. أكلت الألسن، وغفرت الوجوه، ومحيت المحاسن، وكسرت الفقار، وبانت الأعضاء، ومزقت الأشلاء فأين حجابهم وقبابهم؟ وأين خدمهم وعبيدهم؟ وجمعهم وكنوزهم؟ أليسوا في منازل الخلوات؟ أليس الليل والنهار عليهم سواء؟ أليسوا في مدلهمة ظلماء؟ قد حيل بينهم وبين العمل، وفارقوا الأحبة والمال والأهل.
[*] وكان يزيد الرقاشي يقول لنفسه: "ويحك يا يزيد! من ذا يصلي عنك بعد الموت؟ من ذا يصوم عنك بعد الموت؟ من ذا يترضى عنك بعد الموت؟ ثم يقول: أيها الناس! ألا تبكون وتنوحون على أنفسكم باقي حياتكم.. من الموت موعده.. والقبر بيته.. والثرى فراشه.. والدود أنيسه.. وهو مع هذا ينتظر الفزع الأكبر.. كيف يكون حاله؟!"، ثم بكي رحمه الله.
فيا ساكن القبر غداً! ما الذي غرك من الدنيا؟ أين دارك الفيحاء ونهرك المطرد؟ وأين ثمارك اليانعة؟ وأين رقاق ثيابك؟ وأين طيبك وبخورك؟ وأين كسوتك لصيفك وشتائك؟.. ليت شعري بأي خديك بدأ البلى.. يا مجاور الهلكات صرت في محلة الموت.. ليت شعري ما الذي يلقاني به ملك الموت عند خروجي من الدنيا..وما يأتيني به من رسالة ربي.. ثم انصرف رحمة الله فما عاش بعد ذلك إلا جمعة.
أخي الحبيب:
تفكر في الذين رحلوا.. أين نزلوا؟ وتذكر القوم نوقشوا وسئلوا.. ولقد ودوا بعد الفوات لو قبلوا.. ولكن هيهات هيهات وقد قبروا.
أما اعتبرت بمن رحل ، أما وعظتك العبر ، أما كان لك سمعٌ ولا بصر .(1/336)
[*] أورد الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى في كتابه أهوال القبور عن عمر بن عبد العزيز خرج مع جنازة فلما دفنها قال : دعوني حتى آتي قبور الأحبة قال : فأتاهم فجعل يدعوا ويبكي إذ هتف به التراب: يا عمر لا تسألني عما فعلت بالأحبة وما فعلت بهم ؟ قال : مزقت الأكفان وأكلت اللحم ، شدخت المقتلين ، وأكلت الحدقتين ، ونزعت الكفين من الساعدين ، والساعدين من العضدين والعضدين من المنكبين ، والمنكبين من الصلب ، والقدمين من الساقين ، والساقين من الفخذين ، والفخذين من الورك ، والورك من الصلب ، قال : وعمر يبكي فلما أراد أن ينهض قال له التراب : يا عمر ألا أدلك على أكفان لا تبلى ؟ قال : وما هي : تقوى الله والعمل الصالح .
[*] وأورد الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى في كتابه أهوال القبور عن ميمون بن مهران قال : خرجت مع عمر بن عبد العزيز إلى المقابر فلما نظر إلى القبور بكى ثم قال يا أيوب هذه قبور أبائي بني أمية ، كأنهم لم يشركوا أهل الدنيا في لذاتهم وعيشتهم ، أما تراهم صرعى فدخلت بهم المثلات ، واستحكم فيهم البلاء ، فأصابت الهوام في أبدانهم مقيلاً ، ثم بكى حتى غشي عليه ثم أفاق فقال : فانطلق بنا فو الله ما أعلم أحداً أنعم ممن صار إلى هذه القبور وقد أمن من عذاب الله عز وجل .
[*] وأورد الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى في كتابه أهوال القبور عن ثابت البناني أنه دخل المقابر فبكى فقال : بليت أجسامهم وبقيت أخبارهم فالعهد قريب ، واللقاء بعيد .
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده عن سلام بن صالح قال : فُقِدَ الحسن ذات يوم فلما أمسى قال له أصحابه : أين كنت ؟ قال : كنت اليوم عند إخوان لي إن نسيت ذكروني ، وإن غبت عنهم لم يغتابوني ، فقال له أصحابه : نعم الإخوان والله هؤلاء يا أبا سعيد دلنا عليهم قال : هؤلاء أهل القبور.(1/337)
[*] وروى ابن أبي الدنيا بإسناده عن عبد الواحد بن زيد أن الحسن قال لأصحابه ، وهم في المقابر هم أهل محلة قد كفى من جلس إليهم الكلام وله في الجلوس إليهم الموعظة و الاعتبار .
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده عن عمارة المغربي قال : قال لي محمد بن واسع : ما أعجب إلى منزلك قلت لِلَّهِ وما يعجبك من منزلي وهو عند القبور ؟! قال : وما عليك يكفون الأذى ، ويذكرون الآخرة .
[*] أورد الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى في كتابه أهوال القبور عن الحسن أنه مر على مقبرة فقال : يا لهم من عسكر ما أسكتهم ، وكم فيهم من مكروب.
[*] أورد الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى في كتابه أهوال القبور عن
مالك بن دينار قال : خرجت أنا وحسان بن أبي سنان نزور المقابر فلما أشرف عليها سبقته عبرته ، ثم أقبل عليّ فقال : يا يحيى هذه عساكر الموتى ينتظرون بها من بقي من الأحياء ثم يصاح بهم صيحة ، فإذا هم قيام ينظرون ، فوضع مالك يده على رأسه ، وجعل يبكي .
[*] أورد الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى في كتابه أهوال القبور عن حسين الجعفي قال : أتى رجل قبراً محفوراً ، فاطلع في اللحد ، فبكى واشتد بكاؤه قال : أنت والله بيتي حقاً ، والله إن استطعت لأعمرنك .
[*] أورد الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى في كتابه أهوال القبور عن عطاء السلمي أنه كان إذا جن عليه الليل خرج ، فوقف على القبور ، ثم قال : يا أهل القبور متم فوا موتاه ثم بكى ثم قال : يا أهل القبور عاينتم ما علمتم فوا عملاه ثم يبكي فلا يزال كذلك حتى يصبح .
[*] أورد الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى في كتابه أهوال القبور عن علي بن أحمد قال : كان الأسود بن كلثوم يخرج إلى المقابر إذا هدأت العيون ، فيقول . يا أهل الغربة والتربة ، يا أهل الوحدة والبلى ، ثم يبكي حتى يكاد يطلع الفجر ، ثم يرجع إلى أهله .(1/338)
[*] قال الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى في كتابه أهوال القبور :
كان العمري الزاهد يلازم المقابر ومعه كتاب لا يفارقه فقيل له في ذلك ، قال : ما شيء أوعظ من قبر ولا آنس من كتاب ولا أسلم من الوحدة .
[*] أورد الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى في كتابه أهوال القبور عن أبي محرز الطفاوي قال : كفتك القبور مواعظ الأمم السالفة .
ولله درُ أبي العتاهية حيث قال :
إني سألت التراب : ما فعلت بعدي بجسد وقع فيه الدود متعفرة
فأجابني : صيرت ريحهم يؤذيك بعد روائح عطرة
وأكلت أجساداً منعمة كان النعيم يهزها نضرة
لم يبق غير جماجم عريت بيض تلوح أو أعظم نخرة
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده عن أبي إسحاق : شهدت جنازة رجل من إخواني منذ خمسين سنة فلما دفن وسوي عليه التراب وتفرق الناس ، جلست إلى بعض تلك القبور ففكرت فيما كانوا فيه من الدنيا وانقطاع ذلك كله عنهم فأنشدت أقول :
سلام على أهل القبور الدوارس ... كأنهم لم يجلسوا في المجالس
ولم يشربوا من بارد الماء شربة ... ولم يأكلوا من بين رطب ويابس
ألا خبروني : أين قبر ذليلكم ... وقبر العزيز الباذخ المتمارس
وغلبتني عيناي فقمت وأنا محزون .
[*] وروى أبو نعيم بإسناد له أن داود الطائي اجتاز على مقبرة وامرأة عند قبر تقول هذين البيتين فسمعها فكان ذلك سبب توبته يعني سبب انقطاعه عن الدنيا وأسبابها وانشغاله بالآخرة والاستعداد لها . وسمع بكر العابد امرأة عند قبر تقول:
واعمراه ليت شعري بأي خديك بدأ البلى وأي عينيك سالت قبل الأخرى ، فخر بكر مغشياً عليه . أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب " ذكر الأموات " .(1/339)
[*] وروى ابن أبي الدنيا في كتاب " الخائفين " عن محمد بن الحسين عن عبد الله بن موسى قال :كان الحسين بن صالح إذا صعد المنارة ـ يعني ليؤذن ـ أشرف على المقابر فإذا نظر إلي الشمس تمور على القبور صرخ حتى يسقط مغشياً عليه ، فيحمل وينزل به ، وشهد يوماً جنازة فلما قرب الميت ليدفن نظر إلى اللحد فارتاع عرقاً ، ثم مال ، فغشي عليه ، فحمل على سرير الميت ، فرد إلى منزله .
وذكر بإسناد عن عيسى بن يونس ـ وذكر الحسين بن صالح ـ فقال : قل ما كنت أجيء في وقت صلاة إلا رأيته مغشيا عليه ينظر إلى المقبرة فيصرخ ويغشى عليه .
وبإسناده عن عمر بن درهم القريعي دخل المقابر وهو معصوب العين وابنه يقوده فوطىء على قبر وقال يا بني أين أنا ؟ قال في الجبان يا أبتاه قال : هاه ثم خر ميتا فحمل إلى أهله من المقابر ميتا ، فغسل ، ثم رد إلى المقابر، فدفن .
[*] روى ابن أبي الدنيا في كتاب " القبور" بإسناد له أن امرأة بالمدينة كانت تزهو فدخلت يوما المقابر ، فرأت جمجمة ، فصرخت ثم رجعت منيبة ، فدخل عليها نساؤها فقلن ما هذا ؟ فقالت : بكى قلبي لذكر الموت لما رأيت جماجم خوف القبور، ثم قالت : أخرجن من عندي فلا تأتين منكن امرأة إلا امرأة ترغب في خدمة الله عز وجل ثم أقبلت على العبادة حتى ماتت .
[*] وروى ابن أبي الدنيا بإسناده عن عيسى الخواص أن رجلا من الصدر الأول دخل المقابر ، فمر بجمجمة بادية من بعض القبور ، فحزن حزنا شديدا ، ثم واراها ، ثم التفت فلم ير إلا القبور ، فحدث نفسه فقال : لو كشفت عن بعضهم فسألته ما رأى قال فأتى في منامه فقيل له : لا تغتر بتشييد القبور من فوقهم ، فإن القوم بليت خدودهم في التراب فمن بين مسرور ينتظر ثواب الله عز وجل وبين مغموم آسفا على عقابه ، فإياك والغفله عما رأيت ، فاجتهد الرجل بعد ذلك اجتهادا شديدا حتى مات .(1/340)
[*] أورد الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى في كتابه أهوال القبور عن سلمه البصري قال : وقف رجل على قبر قد بني بناء حسنا ، فجعل يتعجب من حسنه ، فلما كان في ليلة أتاه آت في منامه فوقف عليه ، وإذا رجل قد انمحت آثار وجهه فقال شعرا :
أعجبك القبر وحسن البناء ... والجسم فيه قد حواه البلاء
فاسأل الأموات عن حالهم ... ينبأك عن ذاك ذهاب الجلاء
قال : ثم ولى فاتبعته ، فدخل الجبان ، فأتى ذلك القبر ، فانساب فيه .
[*] أورد الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى في كتابه أهوال القبور عن الفضيل بن عياض قال : رأيت رجلاً يبكي ، قلت : وما يبكيك ؟ قال : أبكاني كلامه قلت : ما هو ؟ قال : كنا وقوفاً في المقابر فأنشدوا :
أتيت القبور فسألناها ... أين المعظم والمحتقر
وأين المذل بسلطانه ... وأين القوي إذا ما قدر
ففاتوا جميعاً فما مخبر ... وماتوا جميعاً ومات الخبر
فيا سائلي عن أناس مضوا ... أما لك في ما مضى معتبر
تروح وتغدو وأبلاك الثرى ... فتمحو محاسن تلك الصور
[*] وأورد الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى في كتابه أهوال القبور أن بعض الوزراء أوصى أن يكتب على قبره :
" أيها المغرور في الدنيا بعز يقينه ، وبأهل وبمال وبقصرٍ تبتنيه ، كم عليها قد سحبنا ذيل سلطان منيته ، يحسب الأقدار تجري بخلود ترتجيه ، إذا طواك الموت طياً فاعتبرنا نحن فيه " .
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده عن عبد الله بن صدقة بن مرداس البكري عن أبيه عن شيخ حدثه بقرية من بلاد أنطابلس قال : كان ثلاثة إخوة : أمير يصحب السلطان ويؤمر على المدائن والجلوس ، وتاجر موسر مطاع من ناحيته ، وزاهد قد تخلى لنفسه وتخلى لعبادة ربه . قال : فحضرت العابد الوفاة فاجتمع عنده إخوانه فقال لهما إذا مت فغسلاني وكفناني وادفناني على نشز من الأرض واكتبا على قبري :
وكيف يلذ العيش من هو عالم ... بأن إله الخلق لا بد سائله
فيأخذ منه مظلمة لعباده ... ويجزيه بالخير الذي هو فاعله(1/341)
فإذا أنتما فعلتما ذلك فأتياني كل يوم لعلكما أن تتعظا . قال : ففعلا ذلك ، فكان أخوه يركب في جنده حتى يقف على القبر فيقرأ ما على عليه ويبكي فلما كان اليوم الثالث وأراد أن ينصرف سمع هدة من داخل القبر ، كاد أن ينصدع لها قلبه، فانصرف مذعوراً فزعاً فلما كان من الليل رأى أخاه في منامه فقال له أي أخي ما الذي سمعت من قبرك ؟ قال تلك هدة المقمعة قيل لي رأيت : مظلوما ، فلم تنصره ، فأصبح مهموما فدعا أخاه وخاصته وقال : ما أرى أراد بما أوصى أن يكتب على قبره غيري ، وإني أشهدكم أن لا أقيم بين ظهرانيكم أبدا ، قال : فترك الإمارة ولزم الكتابة وكتب إلى عبد الملك بن مروان في ذلك ، فكتب أن خلوه وما أراد ، فحضرته الوفاة وهو في جبل مع بعض الرعاة فبلغ أخاه فأتاه فقال له إذا مت فادفني إلى جنب أخي وأكتب على قبري :
وكيف يلذ العيش من كان موقنا ... ... بأن المنايا بغتة ستعاجله
فتسلبه ملكا عظيما ... ... وتسكنه البيت الذي هو أهله
ثم تعاهدني ثلاثة بعد موتي ، وادعو الله لي لعل الله أن يرحمني ، ومات ففعل به أخوه ذلك فلما كان في اليوم الثالث وأراد أن ينصرف سمع وجبة في قبره كاد أن يذهل عقله ، فرجع حزينا قلقا . فلما كان في الليل إذا بأخيه في منامه قد أتاه قال . فقلت له : أي أخي أتيتنا زائرا قال : يا أخي هيهات بعد المزار فلا مزار ، وأطمأنت بنا الدار قلت : يا أخي كيف أنت ؟ قال : بخير ما أجمع التوبة لكل خير . قال : فكيف أخي ؟ قال : ذلك مع الأئمه الأبرار . قلت : وما أمرنا وراءكم . قال : من قدم شيئا وجده ؛ فاغتنم وجدك قبل نقلك ، فأصبح أخوه معتزلا ففرق ماله وقسمه وباعه ، وأقبل على طاعة ربه ، ونشأ له ابن كأهنأ الشباب وجها وجمالاً فأقبل على المكاسب والتجارة حتى بلغ منها الغاية ، وحضرت الوفاة أباه وقال له : إذا مت تذكر القبور والتفكر في أحوالهم .
مسألة : ما هي فوائد زيارة القبور ؟
فوائد زيارة القبور :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ(1/342)
لزيارة القبور فوائد كثيرة منها ما يلي:
(1) تذكر الموت والآخرة.
(2) تقصر الأمل.
(3) تزهد في الدنيا.
(4) ترقق القلوب.
(5) تدمع الأعين.
(6) تدفع الغفلة.
(7) تورقث الخشية.
(8) تورث الاجتهاد في العبادة.
قال محمد بن واسع لرجل: ( ما أعجب إلى منزلك! فقال: وما بعجبك من منزلي وهو عند القبور؟ قال: وما عليك، يكفون الأذى ويذكرون الآخرة!!.
الفرق بين زيارة الموحدين للقبور، وزيارة المشركين :
[*] قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه إغاثة اللهفان :
أما زيارة الموحدين: فمقصودها ثلاثة أشياء:
أحدها: تذكر الآخرة والاعتبار والاتعاظ. وقد أشار النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم إلى ذلك بقوله: "زُورُوا الْقُبُورَ، فَإٍنّهَا تُذَكرُكُمُ الآخِرَةَ".
الثاني: الإحسان إلى الميت، وأن لا يطول عهده به، فيهجره، ويتناساه، كما إذا ترك زيارة الحي مدة طويلة تناساه، فإذا زار الحي فرح بزيارته وسر بذلك، فالميت أولى ، لأنه قد صار في دار قد هجر أهلها إخوانهم وأهلهم ومعارفهم، فإذا زاره وأهدى إليه هدية: من دعائه، أو صدقة، أو أهدى قربة، ازداد بذلك سروره وفرحه، كما يسر الحي بمن يزوره ويهدى له ، ولهذا شرع النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم للزائرين أن يدعوا لأهل القبور بالمغفرة والرحمة، وسؤال العافية فقط ، ولم يشرع أن يدعوهم، ولا يدعو بهم، ولا يصلى عندهم.
الثالث: إحسان الزائر إلى نفسه باتباع السنة، والوقوف عند ما شرعه الرسول صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، فيحسن إلى نفسه وإلى المزور.
وأما الزيارة الشركية فأصلها مأخوذ عن عباد الأصنام.
قالوا: الميت المعظم الذي لروحه قرب ومنزلة ومزية عند الله تعالى لا يزال تأتيه الألطاف من الله تعالى وتفيض على روحه الخيرات. فإذا علق الزائر روحه به، وأدناها منه فاض من روح المزور على روح الزائر من تلك الألطاف بواسطتها، كما ينعكس الشعاع من المرآة الصافية والماء ونحوه على الجسم المقابل له.(1/343)
قالوا: فتمام الزيارة أن يتوجه الزائر بروحه وقلبه إلى الميت، ويعكف بهمته عليه، ويوجه قصده كله وإقباله عليه، بحيث لا يبقى فيه التفات إلى غيره. وكلما كان جمع الهمة والقلب عليه أعظم كان أقرب إلى انتفاعه به.
وقد ذكر هذه الزيارة على هذا الوجه ابن سينا والفارابي وغيرهما. وصرح بها عباد الكواكب في عبادتها.
وقالوا: إذا تعلقت النفس الناطقة بالأرواح العلوية فاض عليها منها النور.
وبهذا السر عبدت الكواكب واتخذت لها الهياكل، وصنفت لها الدعوات، واتخذت الأصنام المجسدة لها. وهذا بعينه هو الذي أوجب لعباد القبور اتخاذها أعياداً، وتعليق الستور عليها، وإيقاد السرج عليها، وبناء المساجد عليها. "وهو الذي قصد رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم إبطاله ومحوه بالكلية، وسد الذرائع المفضية إليه". فوقف المشركون في طريقه وناقضوه في قصده. وكان صلى الله تعالى عليه وآله وسلم في شق، وهؤلاء في شق.
وهذا الذي ذكره هؤلاء المشركون في زيارة القبور هو الشفاعة التي ظنوا أن آلهتهم تنفعهم بها وتشفع لهم عند الله تعالى.
قالوا: فإن العبد إذا تعلقت روحه بروح الوجيه المقرب عند الله وتوجه بهمته إليه وعكف بقلبه عليه صار بينه وبينه اتصال، يفيض به عليه منه نصيب مما يحصل له من الله. وشبهوا ذلك بمن يخدم ذا جاه وحظوة وقرب من السلطان، فهو شديد التعلق به. فما يحصل لذلك من السلطان من الإنعام والإفضال ينال ذلك المتعلق به بحسب تعلقه به.
فهذا سر عبادة الأصنام، "وهو الذي بعث الله رسله، وأنزل كتبه بإبطاله، وتكفير أصحابه ولعنهم". وأباح دماءهم وأموالهم وسبى ذراريهم، وأوجب لهم النار. والقرآن من أوله إلى آخره مملوء من الرد على أهله، وإبطال مذهبهم.(1/344)
قال تعالى: { أَمِ اتخَذُوا مِنْ دُونِ الله شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ * قُلْ للهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّموَاتِ وَالأَرْضِ } [الزمر:43-44].
فأخبر أن الشفاعة لمن له ملك السموات والأرض، وهو الله وحده. فهو الذي يشفع بنفسه إلى نفسه ليرحم عبده. فيأذن هم لمن يشاء أن يشفع فيه. فصارت الشفاعة في الحقيقة إنما هي له، والذي يشفع عنده إنما يشفع بإذنه له وأمره بعد شفاعته سبحانه إلى نفسه وهى إرادته من نفسه أن يرحم عبده. وهذا ضد الشفاعة الشركية التي أثبتها هؤلاء المشركون ومن وافقهم، وهى التي أبطلها الله سبحانه في كتابه، بقوله تعالى:
{ وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِى نَفْسٌ عَنْ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُهَا شفَاعَةٌ } [البقرة: 123] وقوله { يَا أَيُّهَا الّذِينَ آمَنُوا أَنُفْقِوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِىَ يوْمٌ لا بَيْعٌ فِيه وَلا خُلّةُ وَلا شَفَاعَةٌ } [البقرة: 254] وقال تعالى: { وَأَنْذِرْ بِهِ الّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِى وَلا شَفِيعٌ لَعَلّهُمْ يَتّقُونَ } [الأنعام: 51] وقال: { اللهُ الّذِى خَلَقَ السَّموَات وَالأَرْضَ بَيْنَهُمَا فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ ثم اُسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَالَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِىٍّ وَلا شَفِيعٍ } [السجدة: 4]. فأخبر سبحانه أنه ليس للعباد شفيع من دونه، بل إذا أراد الله سبحانه رحمة عبده أذن هو لمن يشفع فيه. كما قال تعالى: { مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ } [يونس: 3]. وقال: { مَنْ ذَا الّذِى يَشْفَعَ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِه } [البقرة: 255] فالشفاعة بإذنه ليست شفاعة من دونه، ولا الشافع شفيع من دونه، بل شفيع بإذنه.
والفرق بين الشفيعين، كالفرق بين الشريك والعبد المأمور.(1/345)
فالشفاعة التى أبطلها الله: شفاعة الشريك فإنه لا شريك له، والتي أثبتها: شفاعة العبد المأمور الذي لا يشفع ولا يتقدم بين يدي مالكه حتى يأذن له. ويقول: اشفع في فلان. ولهذا كان أسعد الناس بشفاعته سيد الشفعاء يوم القيامة أهل التوحيد، الذين جردوا التوحيد وخلصوه من تعلقات الشرك وشوائبه، وهم الذين ارتضى الله سبحانه.
قال تعالى: { وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لَمِنِ ارْتَضَى } [الأنبياء: 28]، وقال: { يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحمنُ وَرَضِى لَهُ قَوْلاً } [طه: 109]
فأخبر أنه لا يحصل يومئذ شفاعة تنفع إلا بعد رضاء قول المشفوع له، وإذنه للشافع فيه، فأما المشرك فإنه لا يرتضيه، ولا يرضى قوله، فلا يأذن للشفعاء أن يشفعوا فيه فإنه سبحانه علقها بأمرين: رضاه عن المشفوع له، وإذنه للشافع، فما لم يوجد مجموع الأمرين لم توجد الشفاعة.
وسر ذلك: أن الله له الأمر كله وحده، فليس لأحد معه من الأمر شيء، وأعلى الخلق وأفضلهم وأكرمهم عنده: هم الرسل والملائكة المقربون، وهم عبيد محض، لا يسبقونه بالقول، ولا يتقدمون بين يديه، ولا يفعلون شيئاً إلا بعد إذنه لهم، وأمرهم. ولاسيما يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً، فهم مملوكون مربوبون، أفعالهم مقيدة بأمره وإذنه. فإذا أشرك بهم المشرك، واتخذهم شفعاء من دونه، ظناً منه أنه إذا فعل ذلك تقدموا وشفعوا له عند الله، فهو من أجهل الناس بحق الرب سبحانه وما يجب له ويمتنع عليه فإن هذا محال ممتنع، شبيه قياس الرب تعالى على الملوك والكبراء، حيث يتخذ الرجل من خواصهم وأوليائهم من يشفع له عندهم فى الحوائج.
وبهذا القياس الفاسد عبدت الأصنام، واتخذ المشركون من دون الله الشفيع والولي.
والفرق بينهما هو الفرق بين المخلوق والخالق، والرب والمربوب، والسيد والعبد، والمالك والمملوك، والغنى والفقير، والذى لا حاجة به إلى أحد قط، والمحتاج من كل وجه إلى غيره.(1/346)
فالشفعاء عند المخلوقين: هم شركاؤهم، فإن قيام مصالحهم بهم، وهم أعوانهم وأنصارهم، الذين قيام أمر الملوك والكبراء بهم، ولولاهم لما انبسطت أيديهم وألسنتهم فى الناس، فلحاجتهم إليهم يحتاجون إلى قبول شفاعتهم، وإن لم يأذنوا فيها ولم يرضوا عن الشافع، لأنهم يخافون أن يردوا شفاعتهم، فتنتقض طاعتهم لهم، ويذهبون إلى غيرهم. فلا يجدون بداً من قبول شفاعتهم على الكره والرضا. فأما الغنى الذي غناه من لوازم ذاته، وكل ما سواه فقير إليه بذاته. وكل من في السماوات والأرض عبد له، مقهورون بقهره، مصرفون. بمشيئته ، لو أهلكهم جميعاً لم ينقص من عزه وسلطانه وملكه وربوبيته وإلهيته مثقال ذرة.
قال تعالي: { لَقَدْ كَفَرَ الّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الَمْسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِى الأَرْضِ جَمِيعاً وَللهِ مُلْكُ السَّموَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يخلق ما يشاء وَاللهُ عَلَى كَل شَىءٍ قَدِيرٌ } [المائدة: 17]، وقال سبحانه في سيدة آي القرآن: آية الكرسي: { لَهُ مَا فِى السَّموَاتِ وَمَا فِى الأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِى يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ } [البقرة: 255]، وقال: { قل لله الشّفَاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّموَاتِ وَالأَرْضِ } [الزمر: 44].
فأخبر أن حال ملكه للسموات والأرض يوجب أن تكون الشفاعة كلها له وحده، وأن أحداً لا يشفع عنده إلا بإذنه، فإنه ليس بشريك، بل مملوك محض، بخلاف شفاعة أهل الدنيا بعضهم عند بعض.(1/347)
فتبين أن "الشفاعة التي نفاها الله سبحانه في القرآن هي هذه الشفاعة الشركية " التي يعرفها الناس، ويفعلها بعضهم مع بعض، ولهذا يطلق نفيها تارة، بناءً على أنها هي المعروفة المتعاهدة عند الناس، ويقيدها تارة بأنها لا تنفع إلا بعد إذنه، وهذه الشفاعة في الحقيقة هي منه، فإنه الذي أذن، والذي قبل، والذي رضا عن المشفوع والذي وفقه لفعل ما يستحق به الشفاعة وقوله.
فمتخذ الشفيع مشرك، لا تنفعه شفاعته، ولا يشفع فيه، ومتخذ الرب وحده إلهه ومعبوده ومحبوبه، ومرجوه، ومخوفه الذي يتقرب إليه وحده، ويطلب رجاءه، ويتباعد من سخطه هو الذي يأذن الله سبحانه للشفيع أن يشفع فيه.
قال تعالى: { أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ شُفَعَاءَ؟ } ، إلى قوله: { قُلْ للهِ الشّفَاعَةُ جَمِيعاً } [الزمر: 43-44]، وقال تعالى: { وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ الله قُلْ أتُنَبئُونَ اللهَ بمَا لا يعْلمُ فى السَّموَاتِ وَلا فِى الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } [يونس: 18]، فبين سبحانه أن المتخذين شفعاء مشركون، وأن الشفاعة لا تحصل باتخاذهم هم، وإنما تحصل بإذنه للشافع، ورضاه عن المشفوع.(1/348)
وسر الفرق بين الشفاعتين: أن شفاعة المخلوق للمخلوق، وسؤاله للمشفوع عنده، لا يفتقر فيها إلى المشفوع عنده، لا خلقاً، ولا أمراً، ولا إذناً، بل هو سبب محرك له من خارج، كسائر الأسباب التي تحرك الأسباب، وهذا السبب المحرك قد يكون عند المتحرك لأجله ما يوافقه كمن يشفع عنده في أمر يحبه ويرضاه، وقد يكون عنده ما يخالفه كمن يشفع إليه في أمر يكرهه، ثم قد يكون سؤاله وشفاعته أقوى من المعارض، فيقبل شفاعة الشافع. وقد يكون المعارض الذي عنده أقوى من شفاعة الشافع، فيردها ولا يقبلها، وقد يتعارض عنده الأمران، فيبقى متردداً بين ذلك المعارض الذي يوجب الرد، وبين الشفاعة التي تقتضى القبول، فيتوقف إلى أن يترجح عنده أحد الأمرين بمرجح، فشفاعة الإنسان عند المخلوق مثله: هي سعى في سبب منفصل عن المشفوع إليه يحركه به، ولو على كره منه، فمنزلة الشفاعة عنده منزلة من يشفع يأمر غيره، أو يكرهه على الفعل، إما بقوة وسلطان، وإما يرغبه شفاعته، فلا بد أن يحصل للمشفوع إليه من الشافع إما رغبة ينتفع بها، وإما رهبة منه تندفع عنه بشفاعته. وهذا بخلاف الشفاعة عند الرب سبحانه، فإنه ما لم يخلق شفاعة الشافع، ويأذن له فيها، ويحبها منه، ويرضى عن الشافع، لم يمكن أن توجد، والشافع لا يشفع عنده لحاجة الرب إليه، ولا لرهبته منه، ولا لرغبته فيما لزمه، وإنما يشفع عنده مجرد امتثال أمره وطاعته له، فهو مأمور بالشفاعة، مطيع بامتثال الأمر، فإن أحداً من الأنبياء والملائكة وجميع المخلوقات لا يتحرك بشفاعة ولا غيرها إلا بمشيئة الله تعالى، وخلقه، فالرب سبحانه وتعالى هو الذي يحرك الشفيع حتى يشفع، والشفيع عند المخلوق هو الذي يحرك المشفوع إليه حتى يقبل، والشافع عند المخلوق مستغن عنه في أكثر أموره، وهو في الحقيقة شريكه، ولو كان مملوكه وعبده.(1/349)
فالمشفوع عنده محتاج إليه فيما يناله منه من النفع بالنصر، والمعاونة وغير ذلك، كما أن الشافع محتاج إليه فيما يناله منه: من رزق، أو نصر، أو غيره، فكل منهما محتاج إلى الآخر.
ومن وفقه الله تعالى لفهم هذا الموضع ومعرفته، تبين له حقيقة التوحيد والشرك، والفرق بين ما أثبته الله تعالى من الشفاعة وبين ما نفاه وأبطله، { وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نوراً فماله مِنْ نُورٍ } [النور: 40].
استحباب تذكر القبور والتفكير في أحوالهم :
(حديث ابن مسعود في صحيح الترمذي) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : استحيوا من الله تعالى حق الحياء ، قلنا يا نبي الله إنا لنستحي والحمد لله ، قال : ليس ذاك ولكن الاستحياء من الله حق الحياء أن تحفظ الرأس و ما وعى والبطن و ما حوى وتذكر الموت و البِلى و من أراد الآخرة ترك زينة الدنيا فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء .
[*] قال العلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:
( اسْتَحْيُوا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ ) أَيْ حَيَاءً ثَابِتًا لَازِمًا صَادِقًا قَالَهُ الْمُنَاوِيُّ، وَقِيلَ أَيِ اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ
( قُلْنَا يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنَّا لَنَسْتَحْيِي ) لَمْ يَقُولُوا حَقَّ الْحَيَاءِ اعْتِرَافًا بِالْعَجْزِ عَنْهُ
( وَالْحَمْدُ لِلَّهِ ) أَيْ عَلَى تَوْفِيقِنَا بِهِ
( قَالَ لَيْسَ ذَاكَ ) أَيْ لَيْسَ حَقَّ الْحَيَاءِ مَا تَحْسَبُونَهُ بَلْ أَنْ يَحْفَظَ جَمِيعَ جَوَارِحِهِ عَمَّا لَا يَرْضَى
( وَلَكِنَّ الِاسْتِحْيَاءَ مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ أَنْ تَحْفَظَ الرَّأْسَ ) الجزء السابع أَيْ عَنِ اسْتِعْمَالِهِ فِي غَيْرِ طَاعَةِ اللَّهِ بِأَنْ لَا تَسْجُدَ لِغَيْرِهِ وَلَا تُصَلِّيَ لِلرِّيَاءِ وَلَا تَخْضَعَ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ وَلَا تَرْفَعَهُ تَكَبُّرًا(1/350)
( وَمَا وَعَى ) أَيْ جَمَعَهُ الرَّأْسُ مِنَ اللِّسَانِ وَالْعَيْنِ وَالْأُذُنِ عَمَّا لَا يَحِلُّ اسْتِعْمَالُهُ
( وَتَحْفَظَ الْبَطْنَ ) أَيْ عَنْ أَكْلِ الْحَرَامِ
( وَمَا حَوَى ) أَيْ مَا اتَّصَلَ اجْتِمَاعُهُ بِهِ مِنَ الْفَرْجِ وَالرِّجْلَيْنِ وَالْيَدَيْنِ وَالْقَلْبِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْأَعْضَاءَ مُتَّصِلَةٌ بِالْجَوْفِ، وَحِفْظُهَا بِأَنْ لَا تَسْتَعْمِلَهَا فِي الْمَعَاصِي بَلْ فِي مَرْضَاةِ اللَّهِ تَعَالَى ( وَتَتَذَكَّرَ الْمَوْتَ وَالْبِلَى ) بِكَسْرِ الْبَاءِ مِنْ بَلِيَ الشَّيْءُ إِذَا صَارَ خَلَقًا مُتَفَتِّتًا يَعْنِي تَتَذَكَّرَ صَيْرُورَتَكَ فِي الْقَبْرِ عِظَامًا بِالْبَيِّنَةِ
( وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا ) فَإِنَّهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ حَتَّى لِلْأَقْوِيَاءِ قَالَهُ الْقَارِي. وَقَالَ الْمُنَاوِيُّ: لِأَنَّهُمَا ضَرَّتَانِ فَمَتَى أَرْضَيْتَ إِحْدَاهُمَا أَغْضَبْتَ الْأُخْرَى ( فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ ) أَيْ جَمِيعَ مَا ذُكِرَ.
520- وخرج ابن أبى الدنيا بإسناد عن الضحاك قال : قال رجل يا رسول الله من أزهد الناس ؟ قال : "من لم ينس القبر والبلى , وترك فضل الدنيا [ الدنية ] وآثر ما يبقى على ما يفنى , ولم يعد غداً من أيامه , وعد نفسه من أهل القبور " .
وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد ، ودرر الفرائد .
( حديث بن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح البخاري ) قال:أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل). وكان ابن عمر يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك .(1/351)
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده عن أبي سريج الشامي قال : قال عمر بن عبد العزيز لرجل من جلسائه : يا فلان قد أرقت الليل متفكراً , قال : فيما يا أمير المؤمنين ؟ قال في القبر وساكنه , لو رأيت بعد ثالثه في القبر لاستوحشت من قربه بعد طوال الأنس منك بناحيته , ولرأيت بيتاً تجول فيه الهوام , ويجري فيه الصديد وتخترقه الديدان مع تغير الرائحة وبلى الأكفان بعد حسن الهيئة وطيب الرائحة ونقاء الثوب قال : ثم شهق شهقة خر مغشياً .
[*] أورد الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى في كتابه أهوال القبور عن
محمد بن كعب القرظي قال : بعثت إلى عمر بن عبد العزيز فقدمت إليه فأدمت النظر إليه فقال : يا ابن كعب إنك لتنظر إلي نظراً ما كنت تنظره إليَّ بالمدينة قلت : أجل يا أمير المؤمنين , يعجبني ما حال من لونك وما حال من جسمك قال : فكيف بك يا ابن كعب لو رأيتني بعد ثالثة في القبر , وقد ثبتت عيناي على وجنتي , وخرج الصديد والدود من منخري , لكنت لي أشد نكرة .
[*] أورد الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى في كتابه أهوال القبور عن
وهب بن الورد قال : بلغنا أن رجلاً فقيهاً دخل على عمر بن عبد العزيز فقال : سبحان الله ,كأنه تعجب من أمره الذي هو عليه , وقال له : تغيرت بعدنا لِلَّهِ فقال له : وبينت ذلك فعلاً ، فقال له : الأمر أعظم من ذلك , فقال له : يا فلان فكيف لو رأيتني بعد ثلاث , وقد أدخلت قبري ، وقد خرجت الحدقتان فسالت على الخدين وتقلصت الشفتان عن الأسنان , وانفتح الفم , ونتأ البطن فعلا الصدر , وخرج الصديد من الدبر .(1/352)
[*] وروى أبو نعيم الحافظ بإسناده أن عمر بن عبد العزيز شيع مرة جنازة من أهله , ثم أقبل على أصحابه ووعظهم , فذكر الدنيا فذمها وذكر أهلها , وتنعمهم فيها , وما صاروا إليه بعدها من القبور , فكان من كلامه أنه قال : إذا مررت بهم فنادهم إن كنت مناديا , وادعهم إن كنت داعياً ومر بعسكرهم , وانظر إلى تقارب منازلهم , سل غنيهم : ما بقي من غناه ؟ وسل فقيرهم : ما بقي من فقره ؟ واسألهم عن الألسن التي كانوا بها يتكلمون ، وعن الأعين التي كانوا للذات بها ينظرون ، وسلهم عن الجلود الرقيقة والوجوه الحسنة والأجساد الناعمة ما صنع بها الديدان تحت الأكفان ، وأكلت اللحمان وعفرت الوجوه ، ومحت المحاسن ، وكسرت الفقارة ، وبانت الأعضاء ، ومزقت الأشلاء ، وأين حجابهم وقبابهم ؟ وأين خدمهم وعبيدهم وجمعهم وكنوزهم وكأنهم ما وطئوا فراشا ًولا وضعوا هنا متكأ ، ولا غرسوا شجراً ولا أنزلوهم من اللحد قراراً ، أليسوا في منازل الخلوات؟(1/353)
أليس الليل والنهار عليهم سواء ؟ أليسوا في مدلهمة ظلماء ، قد حيل بينهم وبين العمل ، وفارقوا الأحبة ، وكم من ناعم وناعمة أضحوا ووجوههم بالية ، وأجسادهم من أعناقهم بائنة ، أوصالهم ممزقة ، وقد سالت الحدق على الوجنات ، وامتلأت الأفواه دماً وصديداً ، ودبت دواب الأرض في أجسادهم ، ففرقت أعضاءهم ، ثم لم يلبثوا إلا يسيراً حتى عادت العظام رميماً ، فقد فارقوا الحدائق وصاروا بعد السعة إلى المضائق ، قد تزوجت نساءهم ، وترددت في الطرق أبناؤهم ، وتوزعت القرابات ديارهم وقراهم ، فمنهم والله الموسع له في قبره الغض الناظر فيه المتنعم بلذته ، يا ساكن القبر غداً ما الذي غرك من الدنيا أين دارك الفيحاء ونهرك المطرد ؟ وأين ثمارك اليانعة ؟ وأين رقاق ثيابك وأين طيبك ونحورك ، وأين كسوتك لصيفك ولشتاءك ؟؟ أما رأيته قد زل به الأمر ، فلما يدفع عن نفسه دخلاً وهو يرشح عرقاً ويتلمظ عطشاً ، يتقلب في سكرات الموت وغمرته ، جاء الأمر من السماء ، وجاء غالب القدر والقضاء ، هيهات : يا مغمض الوالد والأخ والولد ، وغاسله ، يا مكفن الميت ويا مدخله في القبر ، وراجعاً عنه ، ليت شعري بأي خديك بدأ البلى يا مجاور الهلكات صرت في محلة الموت ، ليت شعري ما الذي يلقاني به ملك الموت عند خروجي من الدنيا وما يأتيني به من رسالة ربي ، ثم انصرف فما عاش بعد ذلك إلا جمعة .
وقد روي عنه من وجوه متعددة أنه قال في آخر خطبة خطبها - رحمة الله عليه - " ألا ترون أنكم في أسلاب الهالكين ، ثم يرمها بعدكم الباقون كذلك حتى يرد إلى خير الوارثين ، وفي كل يوم تشيعون غادياً ورائحاً قد قضى نحبه فتودعونه ، وتدعونه في صدع من الأرض غير ممهد ولا موسد ، قد فارقه الأحباب وخلع الأسباب وسكن التراب ، وواجه الحساب ، غنياً عما خلف ، فقيراً إلى ما قدم .
وكان ينشد هذه الأبيات :
من كان حين تصيب الشمس جبهته ... أو الغبار يخالف الشين والشعثا(1/354)
و يألف الظل كي تبقى بشاشته ... فكيف يسكن يوماً راغماً جدثاً
في ظل مقفرة غبراء مظلمة ... يطيل تحت الثرا في غمه اللبثا
تجهزي بجهاز تبلغين به ... يا نفس قبل الردى لم تخلقي عبثا
[*] أورد الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى في كتابه أهوال القبور عن
أن النصر بن المنذر قال لإخوانه : زوروا الآخرة بقلوبكم ، وشاهدوا الموقف بتوهمكم ، وتوسدوا القبور بقلوبكم ، واعلموا أن ذلك كائن لا محالة ، فاختار لنفسه امرؤٌ ما أحب من المنافع والضرر .
[*] وأورد الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى في كتابه أهوال القبور عن
مضر بن عيسى قال : رحم الله قوماً زاروا إخوانهم بقلوبهم في قبورهم وهم قيام في ديارهم ، يشيرون إلى زيارتهم بالفكر في أحوالهم .
[*] وأورد الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى في كتابه أهوال القبور عن
هشام الدستوائي قال : ربما ذكرت الميت إذا كفن في أكفانه فأعظ نفسي .
ولله درُ ابن المبارك حيث قال :
إن الذي دفن الأباعد ... و الأقربين صاعداً فصاعداً
عساك يوماً تذكر الملاحدا ... يا من يرمي أن يكون خالدا
شربت فاعلمه حديداً بارداً ... لا بد تلقى طيباً و زائداً
أحوال السلف في تذكر القبور والتفكير في أحوالهم :
لقد كان السلف الصالح رحمهم الله تعالى مثالاً يُحْتَذى به في تذكر القبور والتفكير في أحوالهم والاعتبار بهم ، وهآنذا أذكر لك كلاماً حُقَّ له أن يُنْقَشَ على الصدور وأن يُكْتَبَ بماء الذهب من عمر ابن عبد لعزيز رحمه الله تعالى الذي ملأ الدنيا زهداً وكفافاً وقناعةً وعدلاً ، ثم من كلام غيره من أئمة الهدى وأعلام التقى ومصابيح الدجى ، من حلية الأولياء وأعلام النبلاء وحراس العقيدة وحماة السنة وأشياع الحق وأنصار دين الله عز وجل مثل الإمام ابن رجب وابن أبي الدنيا وغيرهم ممن ملأ الدنيا زهداً وكفافاً وقناعةً وعدلاً وعلماً وعملاً :(1/355)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عبد الله بن عياش، عن أبيه: أن عمر بن عبد العزيز شيع جنازة، فلما انصرفوا تأخر عمر وأصحابه ناحية عن الجنازة، فقال له أصحابه: يا أمير المؤمنين جنازة أنت وليها تأخرت عنها فتركتها وتركتها ؟ فقال: نعم، ناداني القبر من خلفي يا عمر بن عبد العزيز ألا تسألني ما صنعت بالأحبة ؟ قلت: بلى، قال: خرقت الأكفان، ومزقت الأبدان، ومصصت الدم وأكلت اللحم، ألا تسألني ما صنعت بالأوصال؟ قلت: بلى، قال: نزعت الكفين من الذراعين، والذراعين من العضدين، والعضدين من الكتفين، والوركين من الفخذين، والفخذين من الركبتين، والركبتين من الساقين، والساقين من القدمين، ثم بكى عمر فقال: ألا إن الدنيا بقاؤها قليل، وعزيزها زليل، وغنيها فقير، وشبابها يهرم، وحيها يموت، فلا يغرنكم إقبالها مع معرفتكم بسرعة إدبارها، والمغرور من اغتر بها، أين سكانها الذين بنوا مدائنها، وشققوا أنهارها، وغرسوا أشجارها، وأقاموا فيها أياماً يسيرة، غرتهم بصحتهم، وغزوا بنشاطهم، فركبوا المعاصي، إنهم كانوا والله في الدينا مغبوطين بالأموال على كثرة المنع، محسودين على جمعه، ما صنع التراب بأبدانهم، والرمل بأجسادهم، والديدان بعظامهم وأوصالهم، كانوا في الدنيا على أسرة ممهدة، وفرش منضدة، بين خدم يخدمون، وأهل يكرمون، وجيران يعضدون، فإذا مررت فنادهم إن كنت منادياً، وادعهم إن كنت داعياً، ومر بعسكرهم، وانظر إلى تقارب منازلهم التي كان بها عيشهم، وسل غنيهم ما بقى من غناه، وسل فقيرهم ما بقى من فقره، وسلهم عن الألسن التي كانوا بها يتكلمون، وعن الأعين التي كانت إلى اللذات بها ينظرون، وسلهم عن الجلود الرقيقة، والوجوه الحسنة، والأجساد الناعمة، ما صنع بها الديدان ؟ محت الألوان، وأكلت اللحمان، وعفرت الوجوه، ومحت المحاسن، وكسرت الفقار وأبانت الأعضاء، ومزقت الأشلاء، وأين حجالهم وقبابهم، وأين خدمهم وعبيدهم، وجمعهم ومكنوزهم،(1/356)
والله ما زودوهم فراشاً، ولا وضعوا هناك متكأً، ولا غرسوا لهم شجراً، ولا أنزلوهم من اللحد قراراً، أليسوا في منازل الخلوات والفلوات أليس الليل والنهار عليهم سواء ؟ أليس هم في مدلهمة ظلماء ؟ قد حيل بينهم وبين العمل، وفارقوا الأحبة. فكم من ناعم وناعمة أصبحوا ووجوهم بالية، وأجسادهم من أعناقهم نائية، وأوصالهم ممزقة، قد سالت الحدق على الوجنات، وامتلأت الأفواه دماً وصديداً، ودبت دواب الأرض في أجسادهم ففرقت أعضاءهم، ثم لم يلبثوا والله إلا يسيرا حتى عادت العظام رميماً، قد فارقوا الحدائق، فصاروا بعد السعة إلى المضايق، قد تزوجت نساؤهم، وترددت في الطرق أبناؤهم، وتوزعت القرابات ديارهم وتراثهم، فمنهم والله الموسع له في قبره، الغض الناضر فيه، المتنعم بلذته. يا ساكن القبر غداً مالذي غرك من الدنيا، هل تعلم أنك تبقى أو تبقى لك، أين دارك الفيحاء، ونهرك المطرد، وأين ثمرك الناضر ينعه وأين رقاق ثيابك وأين طيبك وأين بخورك، وأين كسوتك لصيفك وشتائك، أما رأيته قد نزل به الأمر فما يدفع عن نفسه وجلا، وهو يرشح عرقاً، ويتلمظ عطشاً، يتقلب من سكرات الموت وغمراته، جاء الأمر من السماء، وجاء غالب القدر والقضاء، جاء من الأمر والأجل ما تمتنع منه، هيهات هيهات، يا مغمض الوالد والأخ والولد وغاسله، يا مكفن الميت وحامله، يا مخليه في القبر وراجعاً عنه، ليت شعري كيف كنت على خشونة الثرى، يا ليت شعري بأي خديك بدأ البلى، يا مجاور الهلكات صرت في محلة الموتى، ليت شعري مالذي يلقاني به ملك الموت عند خروجي من الدنيا، وما يأتيني به من رسالة ربي، ثم تمثل:
تسر بما يفنى وتشغل بالصبا ... كما غر باللذات في النوم حالم
نهارك يا مغرور سهو وغفلة ... وليلك نوم والردى لك لازم
وتعمل فيما سوف تكره غبه ... كذلك في الدنيا تعيش البهايم
ثم انصرف فما بقى بعد ذلك إلا جمعه.(1/357)
[*] وأخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أسد بن زيد قال: كنا مع عمر بن عبد العزيز في جنازة، فلما أن دفن الميت ركب بغلة له صغيرة ثم جاء إلى قبر فركز عليه المقرعه فقال: السلام عليك يا صاحب القبر، قال عمر فنادانى مناد من خلفى وعليك السلام يا عمر بن عبد العزيز عم تسأل ؟ فقلت، عن ساكنك وجارك، قال: أما البدن فعندي، والروح عرج به إلى الله عز وجل ما أدري أي شيء حاله، قلت أسألك، عن ساكنك وجارك ؟ قال: دمغت المقلتين، وأكلت الحدقتين، ومزقت الأكفان، وأكلت الأبدان .
[*] وأخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أبي قرة، قال: خرج عمر بن عبد العزيز على بعض جنائز بني مروان، فلما صلى عليها وفرغ، قال لأصحابه: توقفوا، فوقفوا، فضرب بطن فرسه حتى أمعن في القبور وتوارى عنهم، فاستبطأه الناس حتى ظنوا، فجاء وقد احمرت عيناه، وانتفخت أوداجه، قالوا: يا أمير المؤمنين أبطأت علينا ؟ قال: أتيت قبور الأحبة، قبور بني آبائي فسلمت عليهم فلم يردوا السلام، فلما ذهبت أقفى ناداني التراب فقال: ألا تسألني يا عمر عليهم ما لقيت الأحبة؟ قلت: وما لقيت الأحبة؟ قال: خرقت الأكفان، وأكلت الأبدان، ونزعت المقلتين، فذكر نحوه. وزاد: فلما ذهبت أقفي ناداني: يا عمر عليك بأكفان لا تبلى، قلت: وما أكفان لا تبلى ؟ قال: اتقاء الله، والعمل الصالح.
[*] وأخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أبي صالح الشامى، قال: قال عمر بن عبد العزيز:
أنا ميت وعز من لا يموت ... قد تيقنت أنني سأموت
ليس ملك يزيله الموت ملكا ... إنما الملك ملك من لا يموت(1/358)
[*] وأخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن مفضل بن يونس، قال: قال عمر بن عبد العزيز: لقد نغص هذا الموت على أهل الدنيا ما هم فيه من غضارة الدنيا وزهوتها، فبينا هم كذلك وعلى ذلك أتاهم جاد من الموت فاخترمهم مما هم فيه، فالويل والحسرة هنا لك لمن لم يحذر الموت، ويذكره في الرخاء فيقدم لنفسه خيراً يجده بعدما فارق الدنيا وأهلها، قال: ثم بكى عمر حتى غلبه البكاء فقام.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن جابر بن نوح، قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى بعض أهل بيته، أما بعد فإنك إن استشعرت ذكر الموت في ليلك أو نهارك بغض إليك كل فان، وحبب إليك كل باق. والسلام.
[*] وأخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أسماء بن عبيد قال: دخل عنبسة بن سعيد بن العاص على عمر بن عبد العزيز، فقال: يا أمير المؤمنين إن من كان قبلك من الخلفاء كانوا يعطون عطايا منعتناها، ولي عيال وضيعة، أفتأذن لي أن أخرج إلى ضيعتي وما يصلح عيالي ؟ فقال عمر: أحبكم إلينا من كفانا مؤنته. فخرج من عنده فلما صار عن الباب قال عمر: أبا خالد أبا خالد، فرجع. فقال: أكثر من ذكر الموت فإن كنت في ضيق من العيش وسعه عليك، وإن كنت في سعة من العيش ضيقه عليك.
[*] وأخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عن جعونة، قال: قال عمر بن عبد العزيز: يا أيها الناس إنما أنتم أغراض تنتضل فيها المنايا، إنكم لا تؤتون نعمة إلا بفراق أخرى، وأية أكلة ليس معها غصة، وأية جرعة ليس معها شرقة، وإن أمْس شاهد مقبول قد فجعكم بنفسه، وخلف في أيديكم حكمته، وإن اليوم حبيب مودع وهو وشيك الظعن، وإن غداً آت بما فيه، وأين يهرب من يتقلب في يدي طالبه، إنه لا أقوى من طالب، ولا أضعف من مطلوب. إنما أنتم سفر تحلون عقد رحالكم في غير هذه الدار، إنما أنتم فروع أصول قد مضت فما بقاء فرع بعد ذهاب أصله.(1/359)
[*] وأخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عبيد الله بن العيزار، قال: خطبنا عمر بن عبد العزيز بالشام على منبر من طين، فحمد الله وأثنى عليه، ثم تكلم بثلاث كلمات فقال: أيها الناس أصلحوا سرائركم تصلح علانيتكم، واعملوا لآخرتكم تكفوا دنياكم، واعلموا أن رجلاً ليس بينه وبين آدم آب حي لمغرق له في الموت. والسلام عليكم.
[*] وأخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أبي الحسن المدائني، قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى عمر بن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة يعزيه على ابنه: أما بعد، فإنا قوم من أهل الآخرة أسكنا الدنيا، أموات أبناء أموات، والعجب لميت يكتب إلى ميت يعزيه عن ميت. والسلام.
[*] وأخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عبد الله بن المفضل التميمي، قال: آخر خطبة خطبها عمر بن عبد العزيز أن صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، فإن ما في أيديكم أسلاب الهالكين، وسيتركها الباقون كما تركها الماضون، ألا ترون أنكم في كل يوم وليلة تشيعون غادياً أو رائحاً إلى الله تعالى، وتضعونه في صدع الأرض ثم في بطن الصدع، غير ممهد ولا موسد، قد خلع الأسلاب، وفارق الأحباب، وأسكن التراب، وواجه الحساب، فقير إلى ما قدم أمامه، غنى عما ترك بعده. أما والله إني لأقول لكم هذا وما أعرف من أحد من الناس مثل ما أعرف من نفسي، قال: ثم قال بطرف ثوبه على عينه فبكى ثم نزل، فما خرج حتى أخرج إلى حفرته.(1/360)
[*] وأخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن شعيب بن صفوان، عن عيسى أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى رجل: أما بعد: فإني أوصيك بتقوى لله، والانشمار لما استطعت من مالك وما رزقك الله إلى دار قرارك، فكأنك والله ذقت الموت وعاينت ما بعده بتصريف الليل والنهار فإنهما سريعان في طي الأجل ونقص العمر، لم يفتهما شىء إلا أفنياه، ولا زمن مرا به إلا أبلياه، مستعدان لمن بقى بمثل الذي أصاب من قد مضى، فنستغفر الله لسيء أعمالنا، ونعوذ به من مقته إيانا على ما نعظ به مما نقصر عنه.
[*] وأخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أبو ربيعة عبيد الله بن عبيد بن عدى الكندي، عن أبيه، عن جده، قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى بعض عماله، أما بعد: فكأن العباد قد عادوا إلى الله ثم ينبئهم بما عملوا ليجزى الذين أساءوا بما عملوا، ويجزى الذين أحسنوا بالحسنى، فإنه لا معقب لحكمه ولا ينازع في أمره، ولا يقاطع في حقه الذي استحفظه عباده وأوصاهم به، وإني أوصيك بتقوى الله، وأحثك على الشكر فيما اصطنع عندك من نعمة، وآتاك من كرامة، فإن نعمه يمدها شكره، ويقطعها كفره، أكثر ذكر الموت الذي لا تدري متى يغشاك، ولا مناص ولا فوت، وأكثر من ذكر يوم القيامة وشدته، ثم كن مما أوتيت من الدنيا على وجل، فإن من لا يحذر ذلك ولا يتخوفه توشك الصرعة أن تدركه في الغفلة، وأكثر النظر في عملك في دنياك بالذي أمرت به، ثم اقتصر عليه، فإن فيه لعمري شغلاً عن دنياك، ولن تدرك العلم حتى تؤثره على الجهل، ولا الحق حتى تذر الباطل فنسأل الله لنا ولك حسن معونته، وأن يدفع عنا وعنك بأحسن دفاعه برحمته.(1/361)
[*] وأخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن ميمون بن مهران، قال: خرجت مع عمر بن عبد العزيز إلى المقبرة، فلما نظر إلى القبور بكى ثم أقبل علي فقال: يا أبا أيوب هذه قبور آبائي بني أمية كأنهم لم يشاركوا أهل الدنيا في لذتهم وعيشهم. أما تراهم صرعى قد خلت بهم المثلات، واستحكم فيهم البلاء، وأصابت الهوام في أبدانهم مقيلاً. ثم بكى حتى غشى عليه، ثم أفاق فقال: انطلق بنا فوالله ما أعلم أحداً أنعم ممن صار إلى هذه القبور وقد أمن عذاب الله.
أين من ربح في متاجر الدنيا واكتسب، أين من أعطى وأولى ثم والى ووهب، أما رحل عن قصره الذهب فذهب ، أما نازله التلف وأسره العطب، أنفعه بكاء من بكى أو ندب من ندب، أما ندم على كل ما جنى وارتكب، أما توقنون أن طالبه لكم في الطلب تدبروا قول ناصحكم صدق أو كذب.
يا من في حلل جهله يرفل ويميس ، يا مؤثراً الرذائل على أنفس نفيس ، يا طويل الأمل ماذا صنع الجليس، يا كثير الخطايا أشْمَتَّ إبليس ،من لك إذا فاجأك مُذِلُ الرئيس ،واحتوشتك أعوان ملك الموت وحمى الوطيس ، ونقلت إلى لحد مالك فيه إلا العمل أنيس .(1/362)
[*] وأخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن إسماعيل بن إبراهيم بن أبي حبيبة: أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى بعض عماله، أما بعد: فإني أوصيك بتقوى الله ولزوم طاعته، فإن بتقوى الله نجا أولياء الله من سخطه، وبها تحقق لهم ولايته، وبها رافقوا أنبيائهم، وبها نضرت وجوههم، وبها نظروا إلى خالقهم، وهي عصمة في الدنيا من الفتن، والمخرج من كرب يوم القيامة، ولم يقبل ممن بقى إلا بمثل ما رضي عمن مضى ولمن بقى عبرة فيما مضى، وسنة الله فيهم واحدة، فبادر بنفسك قبل أن تؤخذ بكظمك، ويخلص إليك كما خلص إلى من كان قبلك، فقد رأيت الناس كيف يموتون وكيف يتفرقون، ورأيت الموت كيف يعجل التائب توبته وذا الأمل أمله، وذا السلطان سلطانه، وكفى بالموت موعظة بالغة، وشاغلاً عن الدنيا، ومرغباً في الآخرة، فنعوذ بالله من شر الموت وما بعده، ونسأل الله خيره وخير ما بعده، ولا تطلبن شيئاً من عرض الدنيا بقول ولا فعل تخاف أن يضر بآخرتك، فيزري بدينك، ويمقتك عليه ربك، واعلم أن القدر سيجري إليك برزقك، ويوفيك أملك من دنياك بغير مزيد فيه بحول منك ولا قوة، ولا منقوصاً منه بضعف. إن أبلاك الله بفقر فتعفف في فقرك وأخبت لقضاء ربك، واعتبر بما قسم الله لك من الإسلام، ما ذوى منك من نعمة الدنيا فإن في الإسلام خلفاً من الذهب والفضة من الدنيا الفانية. اعلم أنه لن يضر عبداً صار إلى رضوان الله وإلى الجنة ما أصابه في الدنيا من فقر أو بلاء، وأنه لن ينفع عبداً صار إلى سخط الله و وإلى النار ما أصاب في الدنيا من نعمة أو رخاء، ما يجد أهل الجنة من مكروه أصابهم في دنياهم، ما يجد أهل النار طعم لذة نعموا بها في دنياهم، كل شيء من ذلك كأن لم يكن.(1/363)
تشيعون غادياً أو رائحاً إلى الله قد قضى نحبه، وانقضى أجله، وتغيبونه في صدع من الأرض، ثم تدعونه غير متوسد ولا متمهد، فارق الأحبة، وخلع الأسلاب، وسكن التراب، وواجه الحساب، مرتهناً بعمله، فقيراً إلى ما قدم، غنياً عما ترك، فاتقوا الله قبل نزول الموت، وانقضاء موافاته، وأيم الله إني لأقول لكم هذه المقالة وما أعلم عند أحد منكم من الذنوب أكثر مما أعلم عندي، وأستغفر الله وأتوب إليه.
[*] وأخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن يعقوب بن عبد الرحمن، عن أبيه قال: خطب عمر بن عبد العزيز هذه الخطبة، وكان آخر خطبة خطبها، حمد الله وأثنى عليه ثم قال: إنكم لم تخلقوا عبثاً، ولم تتركوا سدى، وإن لكم معاداً ينزل الله فيه ليحكم بينكم ويفصل بينكم، وخاب وخسر من خرج من رحمة الله وحرم جنة عرضها السموات والأرض، ألم تعلموا أنه لا يأمن غداً إلا من حذر الله اليوم وخافه وباع نافداً بباق، وقليلاً بكثير، وخوفاً بأمان? ألا ترون أنكم في أسلاب الهالكين، وستصير من بعدكم للباقين، وكذلك حتى تردوا إلى خير الوارثين.
ثم إنكم تشيعون كل يوم غادياً ورائحاً، قد قضى نحبه، وانقضى أجله، حتى تغيبوه في صدع من الأرض، في شق صدع، ثم تتركوه غير ممهد ولا موسد، فارق الأحباب، وباشر التراب، ووجه للحساب، مرتهن بما عمل، غني عما ترك، فقير إلى ما قدم. فاتقوا الله وموافاته وحلول الموت بكم، أما والله إني لأقول هذا وما أعلم عند أحد من الذنوب أكثر مما عندي وأستغفر الله، وما منكم من أحد يبلغنا حاجته لا يسع له ما عندنا إلا تمنيت أن يبدأ بي وبخاصتي حتى يكون عيشنا وعيشه واحداً، أما والله لو أردت غير هذا من غضارة العيش لكان اللسان به ذلولاً، وكنت بأسبابه عالماً، ولكن سبق من الله كتاب ناطق، وسنة عادلة، دل فيها على طاعته، ونهى فيها عن معصيته، ثم رفع طرف ردائه فبكى وأبكى من حوله.(1/364)
[*] وأخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن ميمون بن مهران أنه قال: دخلت على عمر بن عبد العزيز يوماً وعنده سابق البربري الشاعر، وهو ينشد شعراً، فانتهى في شعره إلى هذه الأبيات:
فكم من صحيح بات للموت آمناً ... أتته المنايا بغتة بعد ما هجع
فلم يستطع إذ جاءه الموت بغتة ... فراراً ولا منه بقوته امتنع
فأصبح تبكيه النساء مقنعاً ... ولا يسمع الداعى وإن صوته رفع
وقرب من لحد فصار مقيله ... وفارق ما قد كان بالأمس قد جمع
فلا يترك الموت الغنى لماله ... ولا معدماً في المال ذا حاجة يدع
قال: فلم يزل عمر يبكى ويضطرب حتى غشى عليه، فقمنا فانصرفنا عنه.
[*] وأخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن خالد بن يزيد العمري، قال: سمعت وهيب بن الورد يقول: كان عمر بن عبد العزيز كيراً ما يتمثل بهذه الأبيات:
يرى مستكيناً وهو للهو ماقت ... به عن حديث القوم ما هو شاغله
وأزعجه علم عن الجهل كله ... وما عالم شيئاً كمن هو جاهله
عبوس عن الجهال حين يراهم ... فليس له منهم خدين يهازله
تذكر ما يبقى من العيش آجلاً ... فأشغله عن عاجل العيش آجله
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن يحيى بن معاذ قال : من أكثر ذكر الموت لم يمت قبل أجله ويدخل عليه ثلاث خصال من الخير: أولها المبادرة إلى التوبة، والثانية القناعة برزق يسير، والثالثة النشاط في العبادة. ومن حرص على الدنيا فإنه لا يأكل فوق ما كتب الله له ويدخل عليه من العيوب ثلاث خصال: أولها أن تراه أبداً غير شاكر لعطية الله له، والثاني لا يواسي بشيء مما قد أعطى من الدنيا. والثالث يشتغل ويتعب في طلب ما لم يرزقه الله حتى يفوته عمل الدين.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عبد الله، قال: سمعت القداح يذكر أن عمر بن عبد العزيز كان إذا ذكر الموت انتفض انتفاض الطير، وبكى حتى تجري دموعه على لحيته.(1/365)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عمر بن ذر، قال: قال عمر بن عبد العزيز: لولا أن تكون بدعة لحلفت أن لا أفرح من الدنيا بشىء ابداً حتى أعلم ما في وجوه رسل ربي إلى عند الموت، وما أحب أن يهون على الموت لأنه آخر ما يؤجر عليه المسلم.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن ميمون بن مهران أنه قال: دخلت على عمر بن عبد العزيز يوماً وعنده سابق البربري الشاعر، وهو ينشد شعراً، فانتهى في شعره إلى هذه الأبيات:
فكم من صحيح بات للموت آمناً أتته المنايا بغتة بعد ما هجع
فلم يستطع إذ جاءه الموت بغتة فراراً ولا منه بقوته امتنع
فأصبح تبكيه النساء مقنعاً ولا يسمع الداعى وإن صوته رفع
وقرب من لحد فصار مقيله وفارق ما قد كان بالأمس قد جمع
فلا يترك الموت الغنى لماله ولا معدماً في المال ذا حاجة يدع
قال: فلم يزل عمر يبكى ويضطرب حتى غشى عليه، فقمنا فانصرفنا عنه.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن خالد بن يزيد العمري، قال: سمعت وهيب بن الورد يقول: كان عمر بن عبد العزيز كثيراً ما يتمثل بهذه الأبيات:
يرى مستكيناً وهو للهو ماقت ... به عن حديث القوم ما هو شاغله
وأزعجه علم عن الجهل كله ... وما عالم شيئاً كمن هو جاهله
عبوس عن الجهال حين يراهم ... فليس له منهم خدين يهازله
تذكر ما يبقى من العيش آجلاً ... فأشغله عن عاجل العيش آجله
[*] أورد الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى في كتابه أهوال القبور عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير : كان أبو بكر الصديق يقول في خطبته : أين الوضاءة الحسنة وجوههم ، المعجبون بشبابهم ، الذين كانوا لا يعطون الغلبة في مواطن الحرب ، أين الذين بنوا المدائن وحصنوها بالحيطان قد تضعضع بهم ، وصاروا في ظلمات القبور الوحا الوحا النجا النجا .(1/366)
[*] وروى ابن أبي الدنيا عن الحسن أنه مر به شاب ، وعليه بردة له حسنة فقال : ابن آدم معجب بشبابه ، معجب بجماله كأن القبر قد وارى بدنك وكأنك لاقيت عملك ، ويحك ذا وقلبك ، فإن حاجة الله إلى عباده صلاح قلوبهم .
[*] أورد الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى في كتابه أهوال القبور عن الحسن قال : يومان وليلتان لم تسمع الخلائق بمثلهن قط : يوم تبيت مع أهل القبور ولم تبت ليلة قبلها ، وليلة صبيحتها يوم القيامة ويوم يأتيك البشير من الله تعالى ، إما بالجنة أو النار ، ويوم تعطى كتابك بيمينك وإما بشمالك .
[*] أورد الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى في كتابه أهوال القبور عن عمر بن ذر أنه كان يقول في مواعظه : لو علم أهل العافية ما تضمنته القبور من الأجساد البالية لجدوا واجتهدوا في أيامهم الخالية خوفاً من يوم تتقلب فيه القلوب والأبصار .
[*] أورد الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى في كتابه أهوال القبور عن مطرف بن عبد الله بن الشخير قال : القبر منزل بين الدنيا والآخرة ، إن خيراً فخير وإن شراً فشر .
[*] أورد الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى في كتابه أهوال القبور عن الحسن قال : أوذنوا بالرحيل ، وجلس أولهم على آخرهم وهم يلعبون وقال رجل لبعض السلف : أوصني قال : عسكر الموتى ينتظرونك .
[*] أورد الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى في كتابه أهوال القبور عن الحسن أنه شهد جنازة فاجتمع عليه الناس ، فقال : اعملوا لمثل هذا اليوم ـ رحمكم الله ـ فإنما هم إخوانكم يقدمونكم ، وأنتم بالأثر ، أيها المخلف بعد أخيه إنك الميت غداً ، والباقي بعدك ، والميت في أثرك أولاً بأول حتى توافوا جميعاً قد عمكم الموت واستويتم جميعاً في كربة وعصصة ، ثم تخليتم إلى القبور ، ثم تنتشرون جميعاً ثم تعرضون على ربكم عز وجل .(1/367)
[*] أورد الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى في كتابه أهوال القبور عن مسروق قال: ما من بيت خير للمؤمن من لحده قد استراح من أمر الدنيا أو من عذاب الله.
[*] أورد الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى في كتابه أهوال القبور عن بشر بن الحارث قال : نعم المنزل القبر لمن أطاع الله .
[*] أورد الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى في كتابه أهوال القبور عن خالد بن أحمد بن أسد قال : أخذت بيدي على جبلة يوماً فأتينا أبا العتاهية فوجدناه في الحرم فانتظرناه فلم يلبث أن جاء فدخل عليه إبراهيم بن مقاتل بن سهل وكان جميلاً فتأمله أبو العتاهية وقال متمثلاً :
يا حسان الوجوه سوف تموتون ... وتبلى الوجوه تحت التراب
فأقبل علي بن جبلة فقال :
أكتب يا مربي شبابه للتراب ... سوف يأكل البلى بعض الثياب
يا ذوي الوجوه الحسان المصونات ... وأجسامها الغضاض الرطاب
أكثروا من نعيمها أو أقلوا ... سوف تهدونها لعفر التراب
قد نعتك الأيام نعياً صحيحاً ... تفارق الإخوان والأصحاب
فقال أبوالعتاهية : قل يا حامد ، قلت : معك ومع أبي الحسن ، قال : نعم فقلت :
يا مقيمين رحلوا للذهاب ... أشفير القبور وحطوا الركاب
نعموا الأوجه الحسان ... فما صونكموها إلا بعفر التراب
و ألبسوا ناعم الثياب ... ففي الحفر تعرون من جمع الثياب
قد ترون الشباب كيف يموتون ... إذا استنضروا بماء الشباب
[*] أورد الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى في كتابه أهوال القبور عن
محمد بن خلف قال : سمعت أبي قال : رجعنا من ميت مع ابن السماك يقول :
تمر أقاربي جنبات قبري ... كأن أقاربي لا يعرفوني
وذووا الأموال يقتسمون مالي ... ولا يألون أن جحدوا ديوني
قد أخذوا سهامهم و عاشوا ... فبالله ما أسرع ما نسوني
قال : وأنشدني أبو جعفر القرشي :
تناجيك أجداث وهن سكوت ... وساكنها تحت التراب خفوت
يا جامع الدنيا لغير بلاغة ... لمن تجمع الدنيا وأنت تموت
قال : وأنشدني الثقفي من قوله :(1/368)
أما ترى الموت ما ينفك مختطفاً ... من كل ناحية نفساً ينجو بها
قد يعضت أملاً كانت تؤمله ... وقام في الحي ناعيها وباكيها
وأسكنوا الترب تبلى فيه أعظمهم ... بعد النضارة ثم الله يحييها
وصار ما جمعوا فيها وما ادخروا ... بين الأقارب يحويه أدابيها
فاختر لنفسك من أيام مدتها ... واستغفر الله لما أسلفته فيها
ولما انصرف الناس من جنازة داود الطائي رحمه الله أنشد السماك رحمه الله .
انصرف الناس إلى دورهم ... وغودر الميت في رمسه
مرتهن النفس بأعماله ... لا يرتجي الإطلاق من حبسه
لنفسه صالح أعماله ... و ما سواها فعلى نفسه
قف بالمقابر وانظر إن وقفت بها ... لله درك ماذا تستر الحفر
ففيهم لك يا مغرور موعظة ... وفيهم لك يا مغتر معتبر
قال أبو العتاهية :
رويدك يا ذا القصر في شرفاته ... فإنه عنه تسحب و تدعج
ولا بد من بيت انقطاع ووحشة ... وإن غرك البيت الأنيق المبهج
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه القبور عن مالك بن دينار يقول خرجت أنا وزين القراء حسان بن أبي حسان نزور المقابر فلما أشرف عليها سبقته عبرة ثم أقبل علي فقال يا مالك هذه عساكر الموتى ينتظر بها من يقي من الأحياء ثم يصاح بهم فإذ هم قيام ينظرون قال فوضع مالك يده على رأسه وجعل يبكي ويقول واي ازان روز واي ازان روز يعني ويل من ذلك اليوم ويل من ذلك اليوم.
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه القبور عن أبو عاصم الحنطي قال كنت أمشي مع محمد بن واسع فأتينا على المقابر فدمعت عيناه ثم قال لي يا أبا عاصم لا يغرنك ما ترى من خمودهم فكأنك بهم قد وثبوا من هذه الأجداث فمن بين مسرور ومغموم.
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه القبور عن أبي جعفر الفراء قال كان الحسن بن صالح إذا صعد الصومعة يشرف على أهل القبور فيقول ما أحسن ظاهرك إنما الدواهي بواطنك.(1/369)
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه القبور عن حجاج الأسود ونحن في جنازة في الجبان قال رأيت في المنام كأني دخلت المقابر وإذا أنا بأهل القبور نيام في قبورهم وقد تشققت عنهم الأرض فمنهم النائم على التراب ومنهم النائم على القباطي ومنهم النائم على السندس والإستبرق ومنهم النائم على الديباج ومنهم النائم على الريحان ومنهم النائم كهيئة المتبسم في نومه ومنهم من أشرق لونه ومنهم حائل اللون قال فبكيت عندما رأيت منهم ثم قلت في منامي رب لو شئت سويت بينهم في الكرامة فنادى مناد من بين تلك القبور يا حجاج هذه منازل الأعمال قال فاستيقظت من كلمته فزعا.
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه القبور عن سلام بن أبي مطيع قال كنا مع محمد بن واسع في جنازة فأسرعوا بها المشي فانتهينا إلى الجبان ولم تتلاحق الناس فانتظروا بها حتى تلاحقوا قال فصلينا عليها ثم انتهينا بها إلى القبر فوضعت وجئت إلى محمد بن واسع فسمعته يقول لرجل إلى جنبه كل يوم ينقل منا إلى المقابر نقلة وكأنك بهذا الأمر قد تمم كاد آخرنا حتى يلحق بأولنا.
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه القبور عن نهيم العجلي عن رجل من البصريين قال شهدت الحسن في جنازة واجتمع إليه الناس فقال اعملوا لمثل هذا اليوم رحمكم الله فإنهم إخوانكم تقدموكم وأنتم بالأثر أيها المتخلف بعد أخيه أنت الميت غدا قبل الباقي بعدك والباقي بعدك هو الميت في إثرك أولا فأولا حتى يوافوا جميعا قد عمكم الموت فاستويتم جميعا في غصصه وكربه حتى حللتم جميعا القبور ثم تنشرون جميعا ثم تعرضون على الله وجلا ثم تنفس فخر مغشيا عليه.(1/370)
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه القبور عن عبد الله بن طلحة بن محمد التيمي قال سمعت سعيد بن السائب الطائفي يقول ونحن في جنازة والله ما ترك الموت للنفس سرورا في أهل ولا ولد والله لقد نقص الموت على المؤمنين الموسع لهم من هذه الدنيا حتى ضيق ذلك عليهم فرفضوه مسرورين برفضه ثم سبقته دمعته فقام.
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه القبور عن سلمان بن صالح قال فقد الحسن ذات يوم فلما أمسى قال له أصحابه أين كنت اليوم قال كنت عند إخوان لي إن نسيت ذكروني وإن غبت عنهم لم يغتابوني فقال له أصحابه هم الإخوان والله هؤلاء يا أبا سعيد دلنا عليهم قال هؤلاء أهل القبور.
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه القبور عن ميمون بن مهران قال دخلت على عمر بن عبد العزيز وعنده سابق البربري الشاعر وهو ينشده شعرا فانتهى في شعره إلى هذه الأبيات :
فكم من صحيح بات للموت آمنا أتته المنايا بغتة بعد ما هجع
فلم يستطيع إذا جاءه الموت بغتة فرارا ولا منه بقوته امتنع
فأصبح يبكيه النساء مقنعا ولا يسمع الداعي وإن صوته رفع
وقرب من لحد فصار مقيله وفارق ما قد كان بالأمس قد جمع
فلا يترك الموت الغني لماله ولا معدما في المال ذا حاجة يدع
فلم يزل عمر يضطرب ويبكي حتى غشي عليه قال فقمنا وانصرفنا عنه.
ولله درُ من قال :
ماذا تقول وليس عندك حجة لو قد أتاك منغص اللذات
ماذا تقول إذا دعيت فلم تجب وإذا سئلت وأنت في غمرات
ماذا تقول وليس حكمك جائزا فيما تخلفه من التركات
ماذا تقول إذا حللت محلة ليس الثقات لأهله بثقات
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه القبور عن يزيد الرقاشي قال : انظروا إلى هذه القبور سطورا بأفناء الدور تدانوا في خططهم وقربوا في مزارهم وبعدوا في لقائهم سكنوا فأوحشوا وعمروا فأخربوا فمن سمع بساكن موحش وعامر مخرب عن أهل القبور.(1/371)
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه القبور عن المفضل بن يونس قال بلغنا أن عمر بن عبد العزيز قال لمسلمة بن عبد الملك يا مسلمة من دفن أباك قال مولاي فلان قال فمن دفن الوليد قال مولاي فلان قال فأنا أحدثك ما حدثني به حدثني أنه لما دفن أباك والوليد فوضعهم في قبورهم ذهب ليخلي العقد عنهم وجد وجوههم قد حولت في أقفيتهم فانظر يا مسلمة إذا أنا مت فدفنتني فالتمس وجهي فانظر هل ترى بي ما نزل بالقوم أو هل عوفيت من ذلك قال مسلمة فلما مات عمر ووضعته في قبره فلمست وجهه فإذا هو مكانه.
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه القبور عن عمرو بن ميمون قال سمعت عمر بن عبد العزيز يقول كنت فيمن دلى الوليد بن عبد الملك في قبره فنظرت إلى ركبتيه قد جمعتا إلى عنقه فقال ابنه عاش والله أبي عاش ورب الكعبة فقلت عوجل أبوك ورب الكعبة قال فاتعظ بها عمر بعده.
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه القبور عن شعيب بن أبي حمزة قال كتب عمر بن عبد العزيز إلى بعض مدائن الشام أما بعد فكم للتراب في جسد ابن آدم من مأكل وكم للدود في جوفه من طريق مخترق وإني أحذركم ونفسي أيها الناس العرض.
[*] روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه القبور عن محمد بن حرب المكي قال قدم علينا أبو عبد الرحمن العمري العابد واجتمعنا إليه وأتاه وجوه أهل مكة قال فرفع رأسه فلما نظر إلى القصور المحدقة بالكعبة فإذا بأعلى صوته يا أصحاب القصور المشيدة اذكروا ظلمة القبور الموحشة يا أهل التنعم والتلذذ اذكروا الدود والصديد وبلى الأجسام في التراب قال ثم غلبته عيناه فقام.
باب القيامة الكبرى وما يجري فيها :
[*] عناصر الباب :
منهج أهل السنة والجماعة في تفصيل الإيمان باليوم الآخر :
أنواع القيامة :
التفكر في أهوال يوم القيامة :
حشر الناس حفاة عراة غرلا :
دنو الشمس من الخلق بقدر ميل أو ميلين :
نصبُ الموازين :
نشرُ الدواوين :
حساب الخلائق :(1/372)
الحوض المورود للنبي - صلى الله عليه وسلم - :
الصراط :
الإيمان بالجنة والنار :
الشفاعة :
وهاك تفصيل ذلك في إيجازٍ غيرِ مُخِّل :
منهج أهل السنة والجماعة في تفصيل الإيمان باليوم الآخر :
مسألة : ما المقصود بالإيمان باليوم الآخر ؟
اليوم الآخر يوم القيامة ، ويدخل في الإيمان به كل ما اخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - مما يكون بعد الموت ، كفتنة القبر وعذابه ونعيمه وغير ذلك . والإيمان به و(3) ، ومنزلته من الدين انه أحد أركان الإيمان الستة .
أنواع القيامة :
مسألة ؟ ما هي أنواع القيامة ؟
القيامة صغري كالموت ، فكل من مات فقد قامت قيامته، وكبري وهي المقصودة هنا، وهي قيام الناس بعد البعث للحساب والجزاء . وسميت بذلك لقيام الناس فيها ، وقيام العدل ، وقيام الأشهاد .ودليل ثبوتها من الكتاب والسنة والإجماع .فمن أدلة الكتاب قوله تعالي:(ألا يَظُنُّ أولَئِكَ أنهُمْ مَبْعُوثُونَ* لِيَوْمٍ عَظِيمٍ*يوم َ يقُوم النَاسُ لربِ العالًمِين) (المطففين:4-6) . ومن أدلة السنة (حديث عائشة في الصحيحين) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : تحشرون حفاة عراة غرلا. قالت عائشة : الرجال والنساءُ ينظرُ بعضهم إلى بعض فقال : الأمرُ أشدُ من أن يهمهم ذلك .
وأما الإجماع فقد اجمع المسلمون وجميع أهل الأديان السماوية على إثبات يوم القيامة، فمن أنكره أو شك فيه فهو كافر . وللقيامة علامات تسمي الأشراط كخروج الدجال ويأجوج ومأجوح ، وطلوع الشمس من مغربها . وجعلت لها هذه الأشراط ؛ لأنها يوم عظيم وهام فكان لها تلك المقدمات .
... التفكر في أهوال يوم القيامة :(1/373)
إن من أهم ما يُرَقِّق القلب التفكر في أهوال يوم القيامة من نفخ الصور والبعث يوم النشور والعرض على الجبار ، والسؤال عن القليل والكثير ونصب الميزان لمعرفة المقادير وجواز الصراط وأحوال الناس في جوازه ، وتطاير الصحف وهل ستأخذ كتابك بيمينك أو بشمالك ، وسماعك المنادي وهو ينادي بصوت مسموع سعد فلان بن فلان أو شقي فلان بن فلان.
وتتفكر في طول هذا اليوم وشدة الانتظار فيه والخجل والحياء من أن تفتضح عند العرض على الجبار . في ذك اليوم لا ينفع صديق صديقه ولا والد ولده ولا قريب قريبه ، (( وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى)) (فاطر:18).
إذا تفكر في هذا كله فحري أن يرق قلبه ويخشع .
إخواني تفكروا في الحشر والمعاد وتذكروا حين تقوم الأشهاد : إن في القيامة لحسرات وإن في الحشر لزفرات وإن عند الصراط لعثرات وإن عند الميزان لعبرات وإن الظلم يومئذ ظلمات والكتب تحوى حتى النظرات وإن الحسرة العظمى عند السيئات فريق في الجنة يرتقون في الدرجات وفريق في السعير يهبطون الدركات وما بينك وبين هذا إلاَّ أن يقال : فلان مات وتقول : رَبِّ ارجعوني فيقال : فات 0
إخواني تفكروا في يومٍ تشيب فيه الأطفال ، وتسير فيه الجبال ،يوم تظهر فيه الوبال ،يوم تنطق فيه الأعضاء بالخصال يوم لا تقال فيه الأعثار.
يومُ ينصب فيه الصراط فناج وواقع ، ويوضع الميزان فتكثر الفظائع ،وتنشر الكتب وتسيل المدامع ، وتظهر القبائح بين تلك المجامع ، ويؤلم العقاب وتملى المسامع ، ويخسر العاصي ويربح الطائع .
يا له من يوم يقتص للمظلوم من الظالم،وتحيط بالظالم المظالم ،وليس لمن لا يرحمه الإله عاصم .(1/374)
عجبا لعينٍ أمست بالليل هاجعة ، وَنَسِيَت أهوالَ يوم الواقعة ، ولأذنٍ تقرعها المواعظ فتضحى لها سامعة ، ثم تعود الزواجر عندها ضائعة ، ولنفوسٍأضحت في كرم الكريم طامعة، وليست له في حال من الأحوال طائعة، ولأقدامٍ سعت بالهوى في طرق شاسعة ، بعد أن وضحت لها سبل فسيحة واسعة ،وَلِهِمَمٍ أسرعت في شوارع اللهو شارعة ، لم تكن مواعظ العقول لها نافعة، ولقلوبٍ تُضْمِرُ التوبةَ عند الزواجر الرائعة ، ثم يختل العزمُ بفعل ما لا يحل مراراً متتابعة .
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يعرق الناس يوم القيامة حتى يذهب عرقهم في الأرض سبعين ذراعاً، ويلجمهم حتى يبلغ آذانهم).
(حديث أبي سعيد رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ثم يؤتى بالجسر فيُجعل بين ظهري جهنم). قلنا: يا رسول الله، وما الجسر؟ قال: (مَدْحَضَةٌ مَزِلَّةٌ، عليه خطاطيف وكلاليب، وحسكة مفلطحة لها شوكة عقيفة، تكون بنجد، يقال لها: السعدان، المؤمن عليها كالطرف وكالبرق وكالريح، وكأجاويد الخيل والركاب، فناج مسلَّم وناج مخدوش، ومكدوس في نار جهنم، حتى يمر آخرهم يسحب سحباً.
لله درَ أقوامٍ أطار ذكر النار عنهم النوم وطال اشتياقهم إلى الجنان الصوم فنحلت أجسادهم وتغيرت ألوانهم ولم يقبلوا على سماع العذل في حالهم واللوم دافعوا أنفسهم عن شهوات الدنيا بغد واليوم دخلوا أسواق الدنيا فما تعرضوا لشراء ولا سوم تركوا الخوض في بحارها والعوم ما وقفوا بالإِشمام والروم جدوا في الطاعة بالصلاة والصوم هل عندكم من صفاتهم شيء يا قوم .(1/375)
[*] أورد الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه المواعظ أن أُم الربيع ابن خيثم قالت لولدها : يا بني أَلا تنام قال : يا أُماه من جَنَّ عليه الليل وهو يخاف الثبات حق له أن لا ينام 0 فلما رأت ما يلقى من السهر والبكاء قالت : يا بني لعلك قتلت قتيلاً قال : نعم قالت : ومن هذا القتيل حتى نسأل أهله فيغفرون فوالله لو يعلمون ما تلقى من السهر قيل لزيد بن مزيد : ما لنا لم نزل نراك باكياً وجلاً خائفاً فقال : إن الله توعدني إن أنا عصيته أن يسجنني في النار والله لو لم يتوعدني أن يسجنني إلا في الحمام لبكيت حتى لا تجف لي عبرة 0
وقال أيضاً :وكان آمد الشامي يبكي وينتحب في المسجد حتى يعلو صوته وتسيل دموعه على الحصى فأرسل إليه الأمير : إنك تفسد على المصلين صلاتهم بكثرة بكائك وارتفاع صوتك ولو أمسكت قليلا ً فبكى ثم قال : إن حزن يوم القيامة أورثني دموعاً غزاراً فأنا أستريح إلى ذرها .
وعوتب عطاء السلمي في كثرة البكاء فقال : إني إذا ذكرت أهل النار وما يُنزلُ بهم من عذاب الله تعالى مثلت نفسي بينهم فكيف لنفس تغلّ يدها وتسحب إلى النار ولا تبكي .أهـ
حشر الناس حفاة عراة غرلا :
يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلا غير مختونين ؛ لقوله تعالى :(كَمَا بَدَأنا أولَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ )(الأنبياء/ 104).
(حديث عائشة في الصحيحين) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : تحشرون حفاة عراة غرلا. قالت عائشة : الرجال والنساءُ ينظرُ بعضهم إلى بعض فقال : الأمرُ أشذُ من أن يهمهم ذلك .
دنو الشمس من الخلق بقدر ميل أو ميلين :
مسألة : اذكر الدليل على دنو الشمس من الخلق بقدر ميل أو ميلين ؟(1/376)
تدنو الشمس من الخلق بقدر ميل أو ميلين ، فيعرق الناس بقدر أعمالهم ، منهم من يصل عرقه إلى كعبيه ، ومنهم من يلجمه ، ومنهم من بين ذلك ، ومن الناس من يسلم من الشمس ، فيظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ، مثل الشاب إذا نشا في طاعة الله ، والرجل المعلق قلبه بالمساجد .
(حديث المقداد ب الأسود في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : تدنوا الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميل فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق فمنهم من يكون إلى كعبيه و منهم من يكون إلى ركبتيه و منهم من يكون إلى حِقْوَيه و منهم من يلجمه العرق إلجاما ، وأشار إلى فيه .
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : يعرق الناس يوم القيامة حتى يذهب عرقهم في الأرض سبعين ذراعا يلجمهم حتى يبلغ آذانهم .
نصبُ الموازين :
مسألة : ما هو الموازين، وهل الميزان هو حقيقي ؟
الموازين ـ جمع ميزان ـ يضعها الله لتوزن فيها أعمال العباد، فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون. والميزان حقيقي له كفتان خلافا للمعتزلة القائلين بأنه العدل لا ميزان حقيقي .
قال تعالى: (فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلََئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ* وَمَنْ خَفّتْ مَوَازِينُهُ فأُوْلََئِكَ الّذِينَ خَسِرُوَاْ أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنّمَ خَالِدُونَ) [المؤمنون : 103 ، 104]
(حديث أنس في صحيح الترمذي) قال : سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يشفع لي يوم القيامة فقال :[ أنا فاعل] قلت يا رسول الله فأين أطلبك ؟ قال : اطلبني أولُ ما تطلبني عند الصراط . قلت فإن لم ألقك عند الصراط ؟ قال : فاطلبني عند الميزان . قلت فإن لم ألقك عند الميزان؟ قال : فاطلبني عند الحوض فإني لا أُخطئ هذه الثلاث المواطن .
مسألة : هل هو ميزانٌ واحد أم موازين ؟(1/377)
قد ذُكر الميزان في القرآن مجموعا وفي السنة مجموعا ومفردا ، فقيل : انه ميزان واحد ، وجمع باعتبار الموزون ، وقيل : متعدد بحسب الأمم والإفراد ، وافرد باعتبار الجنس .
مسألة : ما الذي يوزن ، هل الأعمال أم صحائف الأعمال أم العامل نفسه ؟
دلت السنة الصحيحة أن الذي يوزن هو الأعمال و صحائف الأعمال و العامل نفسه
الدليل على أن الأعمال توزن :
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن : سبحان الله و بحمده سبحان الله العظيم .
الدليل على أن الأعمال توزن :
(حديث عبد الله بن عمرو في صحيحي الترمذي وابن ماجة ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : يُصاحُ برجلٍ من أمتي يوم القيامة على رءوس الخلائق فينشر له تسعة و تسعون سجلا كل سجل مد البصر ثم يقول الله تبارك و تعالى : هل تنكر من هذا شيئا ؟ فيقول : لا يا رب فيقول : أظلمك كتبتي الحافظون ؟ فيقول : لا يا رب ثم يقول : ألك عذر ألك حسنة ؟ فيهاب الرجل فيقول : لا فيقول : بلى إن لك عندنا حسنة و إنه لا ظلم عليك اليوم فتخرج له بطاقة فيها : أشهد أن لا إله إلا الله و أن محمدا عبده و رسوله فيقول : يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات ؟ فيقول : إنك لا تظلم فتوضع السجلات في كفة و البطاقة في كفة فطاشت السجلات و ثقلت البطاقة .
الدليل على أن العامل يوزن :
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة . وقال اقرءوا إن شئتم ( فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً )
نشرُ الدواوين :
مسألة : ما هي الدواوين ، وما معنى نشرُ الدواوين ؟(1/378)
الدواوين : هي صحائف الأعمال التي كتبتها الملائكة على الإنسان قال الله تعالى: (وَكُلَّ إنسان ألزمناه طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامة كِتَابا يَلْقَاهُ مَنْشُورا*اقْرَأ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبا) (الإسراء:13-14) . فآخذٌ كتابه بيمينه وهو المؤمن ، وآخذٌ كتابه بشماله أو من وراء ظهره لقوله تعالى :(فَأما مَنْ أوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابا يَسِيرا *وَيَنْقَلِبُ إلى أهلهِ مَسْرُورا *وَأما مَنْ أوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ * وَيَصْلَى سَعِيرا) (الانشقاق:7-12) . وفي آية أخرى: (وَأما مَنْ أوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أوتَ كِتَابِيَهْ) (الحاقة:25). والجمع بين هذه والتي قبلها أما باختلاف الناس ، وأما بكون الذي يأخذها بشماله تخلع يده من وراء ظهره .
و نشر الدواوين ـ أي فتحها ـ وتوزيعها .
مسألة : ما الذي يكتب في صحائف الأعمال من الحسنات ؟
يكتب في صحائف الأعمال من الحسنات [ ما عمله الإنسان وما همَّ به وما نواه ]
*الدليل على أن ما عمله الإنسان من الحسنات يكتب في صحائف الأعمال :
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : قال الله تعالى : إذا أراد عبدي أن يعمل سيئةً فلا تكتبوها عليه حتى يعملها ، فإن عملها فاكتبوها بمثلها ، وإن تركها من أجلي فاكتبوها له حسنة ، وإذا أن يعمل حسنةً فاكتبوها بمثلها ، وإن تركها من أجلي فاكتبوها بعشرِ أمثالها إلى سبعمائةِ ضعف .
*الدليل على أن[ما همَّ به الإنسان من الحسنات ثم منعه مانع ] يكتب في صحائف الأعمال :
(حديث أبي قتادة في الصحيحين) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إذا مرض العبد أو سافر كتب الله تعالى له ما كان يعمله وهو صحيحٌ مقيم .
الدليل على أن ما نواه الإنسان من الحسنات يكتب في صحائف الأعمال :(1/379)
قال تعالى: (وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ اللّهِ وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رّحِيماً) [سورة: النساء - الآية: 100]
الشاهد قوله تعالى [وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ اللّهِ وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رّحِيماً]
مسألة : ما الذي يكتب في صحائف الأعمال من السيئات ؟
يكتب في صحائف الأعمال من السيئات [ ما عمله الإنسان وما همَّ به وما نواه ]
*الدليل على أن ما عمله الإنسان من السيئات يكتب في صحائف الأعمال :
قال تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا ثُمّ إِلَىَ رَبّكُمْ تُرْجَعُونَ) [سورة: الجاثية - الآية: 15]
الدليل على أن ما همَّ به الإنسان من السيئات يكتب في صحائف الأعمال :
(حديث أبي بكرة في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل و المقتول في النار قيل : يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول ؟ قال : إنه كان حريصا على قتل صاحبه .
الدليل على أن ما نواه الإنسان من السيئات يكتب في صحائف الأعمال :(1/380)
(حديث أبي كبشة الأنماري في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إنما الدنيا لأربعة نفر : عبدٌ رزقه الله مالاً وعلماً : فهو يتقي في ماله ربه ويصلُ فيه رحمه ويعلم لله فيه حقه فهذا بأحسن المنازل عند الله ،ورجلٌ رزقه الله علماً ولم يرزقه مالاً: فهو يقول لو أن لي مالاً لعملتُ بعمل فلان ، فهو بنيته وهما في الأجر سواء ورجلٌ رزقه الله مالاً ولم يرزقه علماً: فهو يخبِطُ في ماله لا يتقي فيه ربه ولا يصلُ فيه رحمه ولا يعلم لله فيه حقا فهذا بأسوأ المنازل عند الله . ورجلٌ لم يرزقه الله مالاً ولا علما: فهو يقول لو أن لي مالاً لعملتُ بعمل فلان ، فهو بنيته وهما في الوزر سواء .
مسألة : إذا هم الإنسان بسيئةً ولكن تركها هل يؤجر عليها أم لا ؟
المسألة على التفصيل الآتي :
[1] إن تركها عن عجز فهو آثم مثل إثم من عملها .
(حديث أبي بكرة في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل و المقتول في النار قيل : يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول ؟ قال : إنه كان حريصا على قتل صاحبه .
[2] إن تركها من أجل الله تعالى كتبت له حسنة :
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : قال الله تعالى : إذا أراد عبدي أن يعمل سيئةً فلا تكتبوها عليه حتى يعملها ، فإن عملها فاكتبوها بمثلها ، وإن تركها من أجلي فاكتبوها له حسنة ، وإذا أن يعمل حسنةً فاكتبوها بمثلها ، وإن تركها من أجلي فاكتبوها بعشرِ أمثالها إلى سبعمائةِ ضعف .
[3] إن تركها لأن نفسه عزفت عنها لا لله ولا عجزاً فهذا لا إثم عليه ولا يؤجر .
حساب الخلائق :
مسألة : ما هو الحساب ، وما الدليل على أنه حقٌ ثابت ؟(1/381)
الحساب وهو محاسبة الخلائق على أعمالهم و الدليل على أنه حقٌ ثابت (حديث أبي برزة في صحيح الترمذي) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لا تزول قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع : عن شبابه فيم أبلاه وعن عمره فيم أفناه و عن ماله من أين اكتسبه و فيم أنفقه و عن علمه ما فعل فيه.
مسألة : هل هناك فرقٌ بين محاسبة المؤمن و محاسبة الكافر ؟
هناك فرقٌ شاسع بين محاسبة المؤمن و محاسبة الكافر
كيفيته بالنسبة للمؤمن إن الله يخلو به فيقرره بذنوبه ،ثم يقول ( قد سترتها عليك في الدنيا وأنا اغفرها لك اليوم) . وأما بالنسبة للكافر فانه يوقف على عمله ويقرر به ، ثم ينادى على رؤوس الأشهاد : هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين .
(حديث ابن عمر في الصحيحين) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن الله تعالى يدني المؤمن فيضع عليه كنفه ويستره ، يقول : أتعرف ذنب كذا ؟ أتعرف ذنب كذا ؟ فيقول : نعم أي رب حتى إذا قرره بذنوبه و رأى في نفسه أنه قد هلك قال : سترتها عليك في الدنيا و أنا أغفرها لك اليوم; و أما المنافق والكافر فيقول الأشهاد : هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين .
*وأول ما يحاسب عليه العبد من حقوق الصلاة .
(حديث أنس في صحيح الجامع) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة فإن صلحت صلح له سائر عمله و إن فسدت فسد سائر عمله .
*وأول ما يقضي بين الناس في الدماء.
(حديث ابن مسعود في الصحيحين) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء .
*ومن الناس من يدخل الجنة بلا حساب ، وهم الذين لا يسترقون ، ولا يكتوون ، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون ، ومنهم عكاشة بن محصن رضي الله عنه.(1/382)
(حديثُ ابن عباس في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : عُرِضت عليَّ الأمم فجعل يمرُ النبي معه الرجل والنبيُ معه الرجلان والنبي معه الرهط والنبي ليس معه أحد ، ورأيتُ سواداً كثيراً سدَّ الأفق فرجوتُ أن تكون أمتي فقِيل هذا موسى وقومه ، ثم قِيل ليَ انظر هكذا وهكذا فرأيتُ سواداً كثيراً سدَّ الأفق فقِيل هؤلاء أمتُك ومع هؤلاءِ سبعون ألفاً يدخلون الجنةَ بغيرِ حساب فتفرَّقَ الناسُ ولم يبينْ لهم ، فتذاكرَ أصحابُ النبيِ - صلى الله عليه وسلم - فقالوا نحن وُلدنا في الشرك ولكن هؤلاء أبناؤنا ، فبلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال { هم الذين لا يتطيرون ولا يكتوون ولا يسترقون وعلى ربهم يتوكلون } فقام عُكَّاشةُ ابن مِحصن فقال : أمنهم أنا يا رسولَ الله ؟ قال : أنت منهم ، فقام آخر فقال أمنهم أنا ؟ قال : سبقك بها عُكَّاشة .
{ تنبيه } : الحساب اليسير هو العرض ومن نوقش الحساب عُذِّّب
(حديث عائشة في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ليس أحدٌ يحاسب ُ يوم القيامة إلا هلك . فقلت يا رسول الله : أليس قد قال الله ( فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حساباً يسيراً ) فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما ذلك العرض وليس أحدٌ يناقش الحساب يوم القيامة إلا عذِّب .
الحوض المورود للنبي - صلى الله عليه وسلم - :
خامسا: الحوض المورود للنبي - صلى الله عليه وسلم - في عرصات القيامة ـ أي مواقفها ـ يرده المؤمنون من أمته ومن شرب منه لم يظمأ أبدا ،طوله شهرا وعرضه شهر، وآنيته كنجوم السماء ، وماؤه اشد بياضا من اللبن ، واحلي من العسل ، وأطيب من رائحة المسك .
(حديث عبد الله بن عمرو في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : حوضي مسيرة شهر و زواياه سواء و ماؤه أبيض من اللبن و ريحه أطيب من المسك و كيزانه كنجوم السماء من يشرب منه فلا يظمأ أبدا .(1/383)
(حديث أنس في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن في حوضي من الأباريق بعدد نجوم السماء .
(حديث حارثة بن وهب في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : حوضي كما بين المدينة و صنعاء .
مسألة : هل الحوض موجودٌ الآن ؟
نعم الحوض موجودٌ الآن والدليل
( حديث عقبة بن عامر في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إني بين أيديكم فَرَط لكم و أنا عليكم شهيد و إن موعدكم الحوض و إني لأنظر إليه من مقامي هذا ، و إني لست أخشى عليكم أن تشركوا و لكني أخاف عليكم الدنيا أن تنافسوها.
الشاهد قوله - صلى الله عليه وسلم - [و إني لأنظر إليه من مقامي هذا]
مسألة : هل الحوض مختصٌ بنبينا - صلى الله عليه وسلم - أم أن لكل نبي حوض يرده المؤمنون من أمته ؟
لكل نبي حوض يرده المؤمنون من أمته ، ولكن الحوض الأعظم حوض النبي - صلى الله عليه وسلم - . وقد أنكر المعتزلة وجود الحوض ، وقولهم مردود بما تواترت به الأحاديث من إثباته.
( حديث سَمُرَةَ بن جندب رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : "إِنّ لِكُلّ نَبِيٍ حَوْضاً وَإِنّهُمْ يَتَبَاهَونَ أَيّهُمْ أَكْثَرُ وارِدَةً وَإِنّي أَرْجُوا أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ وَارِدَةً".
الصراط :
مسألة : ما هو الصراط ، وما صفتة ، وما صفة المرور عليه ؟
الصراط وهو الجسر المنصوب على متن جهنم بين الجنة والنار ، وهو أدق من الشعر وأحد من السيف ، عليه كلابيب تخطف الناس بأعمالهم ، يمرون عليه على قدر أعمالهم ، فمنهم من يمر كلمح البصر ،ومنهم من يمر كالبرق، ومنهم من يمر كالريح ، ومنهم من يمر كالفرس الجواد ، ومنهم من يمر كركائب الإبل ومنهم من يعدو عدوا ومنهم من يمشي مشيا ومنهم من يزحف زحفا ، ومنهم من يخطف فيلقي في النار فيعذب بقدر عمله .
مسالة : من الذي يمر على الصراط ؟(1/384)
الذي يمر على الصراط هم المؤمنون فقط ، أما الكفار فإنهم يسحبون إلى جهنم .
قال تعالى: (وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَىَ جَهَنّمَ وِرْداً) [سورة: مريم - الآية: 86]
و قال تعالى: (يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النّارِ عَلَىَ وُجُوهِهِمْ ذُوقُواْ مَسّ سَقَرَ) [سورة: القمر - الآية: 48]
مسألة : من جاز الصراط هل يجد الجنة مفتوحةً فيدخلها مباشرة ؟
من جاز الصراط لم يجد الجنة مفتوحةً فيدخلها مباشرة بل يجدها مغلقة فيقف على قنطرة بين الجنة والنار ، فيقتص لبعضهم من بعض قصاصا تزول به الأحقاد والبغضاء والغل حتى إذا ما دخلوا الجنة بعد شفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - حق عليهم أن يصفهم الله تعالى بقوله تعالى: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مّنْ غِلّ إِخْوَاناً عَلَىَ سُرُرٍ مّتَقَابِلِينَ) [سورة: الحجر - الآية: 47] .
(حديث أبي سعيد الخدري في صحيح البخاري ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : يخلص المؤمنون من النار فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنار فيقصُ لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا حتى إذا هُذِّبوا ونقوا أُذن لهم في دخول الجنة فوالذي نفس محمد بيده لأحدهم أهدى بمنزله في الجنة منه بمنزله كان في الدنيا .
الإيمان بالجنة والنار :
مسألة : اذكر الدليل على وجوب الإيمان بالجنة والنار ؟
قال تعالى: (فَإِن لّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتّقُواْ النّارَ الّتِي وَقُودُهَا النّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدّتْ لِلْكَافِرِينَ * وَبَشّرِ الّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ أَنّ لَهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ كُلّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رّزْقاً قَالُواْ هََذَا الّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مّطَهّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [البقرة - 24، 25](1/385)
قال تعالى: (عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَىَ * عِندَهَا جَنّةُ الْمَأْوَىَ) [النجم 14، 15]
(حديث عبادة بن الصامت في الصحيحين) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له و أن محمدا عبده و رسوله و أن عيسى عبده و رسوله و كلمته ألقاها إلى مريم و روح منه و أن الجنة حق و النار حق أدخله الله الجنة على ما كان من عمل .
مسألة : هل الجنة والنار موجودان الآن ؟
نعم الجنة والنار موجودان الآن قال تعالى: (وَجَنّةٍ عَرْضُهَا السّمَاوَاتُ وَالأرْضُ أُعِدّتْ لِلْمُتّقِينَ) [سورة: آل عمران - الآية: 133]
و قال تعالى في النار (فَإِن لّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتّقُواْ النّارَ الّتِي وَقُودُهَا النّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدّتْ لِلْكَافِرِينَ) [سورة: البقرة - الآية: 24]
(حديث ابن عمر في الصحيحين) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إذا مات أحدكم عرض عليه مقعده بالغداةِ و العشي إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة و إن كان من أهل النار فمن أهل النار يقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله إليه يوم القيامة .
(حديث عمران بن حُصَين في صحيح البخاري) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : اطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء و اطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها النساء .
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : بينا أنا نائم رأيتني في الجنة فإذا أنا بامرأة تتوضأ إلى جانب قصر فقلت : لمن هذا القصر ؟ قالوا : لعمر بن الخطاب فذكرت غيرتك فوليت مدبرا .
[*] قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه حادي الأرواح :(1/386)
لم يزل أصحاب رسول الله والتابعون وتابعوهم وأهل السنة والحديث قاطبة وفقهاء الإسلام وأهل التصوف والزهد على اعتقاد ذلك وإثباته مستندين في ذلك إلى نصوص الكتاب والسنة وما علم بالضرورة من أخبار الرسل كلهم من أولهم إلى آخرهم فإنهم دعوا الأمم إليها وأخبروا بها إلى أن نبغت نابغة من القدرية والمعتزلة فأنكرت أن تكون مخلوقة الآن وقالت بل الله ينشئها يوم القيامة وحملهم على ذلك أصلهم الفاسد الذي وضعوا به شريعة فيما يفعله الله وأنه ينبغي له أن يفعل كذا ولا ينبغي له أن يفعل كذا وقاسوه على خلقه في أفعالهم فهم مشبهة في الأفعال ودخل التجهم فيهم فصاروا مع ذلك معطلةً في الصفات وقالوا خلق الجنة قبل الجزاء عبث فإنها تصير معطلة مُددا متطاولة ليس فيها سكانها قالوا ومن المعلوم أن ملكا لو أتخذ دارا واعد فيها ألوان الأطعمة والآلات والمصالح وعطلها من الناس ولم يمكنهم من دخولها قرونا متطاولة لم يكن ما فعله واقعا على وجه الحكمة ووجد العقلاء سبيلا إلى الاعتراض عليه فحجروا على الرب تعالى بعقولهم الفاسدة وآرائهم الباطلة وشبهوا أفعاله بأفعالهم وردوا من النصوص ما خالف هذه الشريعة الباطلة التي وضعوها للرب أو حرفوها عن مواضعها وضللوا وَبَدَّعُوا من خالفهم فيها والتزموا فيها لوازم أضحكوا عليهم فيها العقلاء .
مسألة : هل الجنة والنار يفنيان ؟
الجنة والنار لا يفنيان أبداً قال تعالى: (وَالسّابِقُونَ الأوّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ وَالّذِينَ اتّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدّ لَهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [سورة: التوبة - الآية: 100](1/387)
و قال تعالى: (إِنّ الّذِينَ كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً * إِلاّ طَرِيقَ جَهَنّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيراً) [النساء 168، 169]
(حديث أبي سعيد في الصحيحين) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : يؤتى بالموت كهيئة كبشٍ أملح فينادي منادٍ : يا أهل الجنة لِلَّهِ فيشرئبون وينظرون فيقول هل تعرفون هذا ؟ فيقولون نعم هذا الموت وكلهم قد رآه ، ثم ينادي : يا أهل النار لِلَّهِ فيشرئبون وينظرون فيقول هل تعرفون هذا ؟ فيقولون نعم هذا الموت وكلهم قد رآه ، فيذبح ثم يقول : يا أهل الجنة خلودٌ فلا موت ويا أهل النار خلودٌ فلا موت ثم قرأ قوله تعالى: (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ) [سورة: مريم - الآية: 39] .
الشفاعة :
مسألة : ما معنى الشفاعة ، وما المقصود بالشفاعة المثبتة والمنفية ؟
الشفاعة هي التوسط للغير بجلب المنفعة أو دفع مضرة
المقصود بالشفاعة المثبتة : التي أثبتها الله تعالى في كتابه وهي لأهل الإخلاص .
المقصود بالشفاعة المنفية :التي من غير الله تعالى أو بغير إذنه أولأهل الشرك به .
مسألة : ماهي شروط الشفاعة ؟
شروط الشفاعة :
[1] إذن الله للشافع
[2] ورضاه عن المشفوع له ...
مسألة : ما هي أنواع الشفاعة المثبتة ؟
أنواع الشفاعة المثبتة :
[1] الشفاعة العظمي ، حيث يشفع في أهل الموقف إلى الله ليقضي بينهم ، بعد أن تطلب الشفاعة من آدم فنوح فإبراهيم فموسى فعيسي عليهم الصلاة والسلام فلا يشفعون ، حتى تنتهي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فيشفع فيقبل الله منه . وهذا من المقام المحمود الذي وعده الله بقوله: ( عَسَى أن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُودا)(الإسراء: من الآية79) .(1/388)
وأمرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - أن نسأل الله تعالى له هذا المقام بعد كل أذان
( حديث جابر في صحيح البخاري ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من قال حين يسمع النداء : اللهم رب هذه الدعوة التامة و الصلاة القائمة آت محمدا الوسيلة و الفضيلة و ابعثه مقاما محمودا الذي وعدته حلت له شفاعتي يوم القيامة .
( حديث ابن عمر في صحيح البخاري ) قال : إن الناس يصيرون يوم القيامة جثا كل أمة تتبع نبيها يقولون: يا فلان اشفع يا فلان اشفع
حتى تنتهي الشفاعة إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - فذلك يوم يبعثه الله المقام المحمود .
( حديث أنس في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال إذا كان يوم القيامة ماج الناس بعضهم في بعض فيأتون آدم فيقولون اشفع لنا إلى ربك فيقول لست لها ولكن عليكم بإبراهيم فإنه خليل الرحمن فيأتون إبراهيم فيقول لست لها ولكن عليكم بموسى فإنه كليم الله فيأتون موسى فيقول لست لها ولكن عليكم بعيسى فإنه روح الله وكلمته فيأتون عيسى فيقول لست لها ولكن عليكم بمحمد - صلى الله عليه وسلم - فيأتونني فأقول أنا لها فأستأذن على ربي فيؤذن لي ويلهمني محامد أحمده بها لا تحضرني الآن فأحمده بتلك المحامد وأخر له ساجدا فيقال يا محمد ارفع رأسك وقل يسمع لك وسل تعط واشفع تشفع فأقول يا رب أمتي أمتي فيقال انطلق فأخرج منها من كان في قلبه مثقال شعيرة من إيمان فأنطلق فأفعل ثم أعود فأحمده بتلك المحامد ثم أخر له ساجدا فيقال يا محمد ارفع رأسك وقل يسمع لك وسل تعط واشفع تشفع فأقول يا رب أمتي أمتي فيقال انطلق فأخرج منها من كان في قلبه مثقال ذرة أو خردلة من إيمان فأنطلق فأفعل ثم أعود فأحمده بتلك المحامد ثم أخر له ساجدا فيقال يا محمد ارفع رأسك وقل يسمع لك وسل تعط واشفع تشفع فأقول يا رب أمتي أمتي فيقول انطلق فأخرج من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال حبة خردل من إيمان فأخرجه من النار فأنطلق فأفعل .(1/389)
[2] شفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - في استفتاح باب الجنة
وهذه الشفاعةُ أيضاً خاصةٌ بالنبي - صلى الله عليه وسلم -
( حديث أنس في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أنا أول الناس يشفع في الجنة ، وأنا أكثر الناس تبعاً .
(حديث أنس في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : آتي باب الجنة فأستفتح فيقول الخازن : من أنت ؟ فأقول : محمد فيقول : بك أمرت أن لا أفتح لأحد قبلك .
[3] الشفاعة في إخراج الموحدين من النار :
(حديث أنس في صحيح البخاري)أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : يخرج قومٌ من النار بعد ما مسهم منها سفعٌ فيدخلون الجنة فيسميهم أهل الجنة الجهنميين .
(حديث أبي سعيد في صحيح الترمذي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان .
[4] شفاعة في زيادة درجات الجنة لمن دخلها
[5] شفاعة فيمن يستحق دخول النار أن لا يدخلها
[6] الشفاعة في تخفيف عذاب بعض الكفار
وهذه خاصة بنبينا - صلى الله عليه وسلم - في عمه أبي طالب
(حديث أبي سعيد في الصحيحين) أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - وذكر عنده عمه 0فقال لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة فيجعل في ضحضاح من النار يبلغ كعبيه يغلي منه أم دماغه - يعني أبا طالب - .
مسألة : من أسعد الناس بشفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟
أسعدُ الناس بشفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - من قال لا إله إلا الله خالصاً مخلصاً من قلبه
( حديث أبي هريرة في صحيح البخاري) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال : لا إله إلا الله خالصا مخلصا من قلبه .
مسألة : هل يخرج أقوامٌ من النار برحمة الله تعالى بدون شفاعة الشافعين ؟
نعم دلَّت السنة الصحيحةُ على حصول ذلك(1/390)
( حديث أبي سعيدٍ في الصحيحين) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : فيشفع النبيون والملائكة والمؤمنون فيقول الجبار : بقيت شفاعتي فيقبضُ قبضةً من النار فيخرج أقواماً قد امتحشوا فيُلقون في نهرٍ بأفواه الجنة يُقال له ماء الحياة فينبتون في حافتيه كما تنبت الحبة في حميل السيل .
مسألة : اذكر الدليل على الشفاعة المنفية ؟
الدليل قوله تعالى: (فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشّافِعِينَ) ( المدثر/ 48)
وقد وبَّخ الله تعالى اعتقاد المشركين الذين أشركوا مع الله تعالى من لا يملك لهم ضراً ولا نفعاً ، وقد قطع الله تعالى الأسباب التي يتعلق بها المشركون جميعا ، وتفصيل ذلك كالآتي :
أن المشرك إنما يتخذ معبوده لما يحصل له من النفع ، والنفع لا يكون إلا ممن فيه خصلةٌ من أربع خصال هي :
(1) إما أن يكون مالكاً لما يريده عابده منه
(2) فإن لم يكن مالكاً كان شريكاً للمالك
(3) فإن لم يكن شريكاً للمالك كان معيناً له وظهيراً
(4) فإن لم يكن معينا ولا ظهيراً كان شفيعاً عنده
وقد نفى الله تعالى هذه المراتب الأربع نفياً مرتباً منتقلاً من الأعلى إلى الأدنى قال تعالى ( سبأ / 23)
مسألة : ما هي أقسام الناس في الشفاعة ؟
انقسم الناس في الشفاعة إلى ثلاثة أقسام كالتالي :
القسم الأول : قسمٌ نفوْا الشفاعة وهم الخوارج والمعتزلة حيث نفوْا الشفاعة لأهل الكبائر
القسم الثاني : قسمٌ أثبتوا الشفاعة للأصنام وهم المشركون
القسم الثالث : قسمٌ أثبتوا الشفاعة بثلاثةِ شروط هي
1) إذن الله تعالى للشافع 2) رضاه تعالى عن المشفوع له
باب الترغيب في الجنة :
[*] عناصر الباب :
الترغيب في الجنة :
إدامة ذِكْرِ الجَنَّة :
من أعظم الغبن أن تبيع الجنة بالدنيا الفانية :
حُفَّت الجنة بالمكاره :
نعيم الجنة فوق ما يخطر ببال أو يدور في الخيال :
نعيم الجنة يُنسي بؤس الدنيا :
مفتاح الجنة :
وجود الجنة الآن :
مكان الجنة وأين هي :
درجات الجنة :(1/391)
أعلى درجاتها واسم تلك الدرجة :
ارتقاء العبد و هو في الجنة من درجة إلى درجة أعلى منها :
أعلى أهل الجنة منزلة :
أدنى أهل الجنة منزلة :
آخر أهل الجنة دخولا إليها :
ثمن الجنة :
طلب أهل الجنة لها من ربهم وطلبها لهم :
أسماء الجنة ومعانيها :
عدد الجنات :
أبواب الجنة وخزنتها :
خزنة الجنة :
عدد أبواب الجنة :
سعة أبواب الجنة :
صفة أبواب الجنة وأنها ذات حلق :
أول من يقرع باب الجنة :
أول من يدخلون الجنة وصفاتهم :
صفات أول من يدخلون الجنة :
سبق الفقراء الأغنياء إلى الجنة :
أصناف أهل الجنة وأوصافهم :
أكثر أهل الجنة هم أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - :
النساء في الجنة أكثر من الرجال وكذلك هم في النار :
من يدخل الجنة من هذه الأمة بغير حساب :
ذكر حثيات الرب تبارك وتعالى الذين يدخلهم الجنة :
عرض الجنة :
ذكر بناء الجنة وملاطها وحصباؤها و تربتها:
غُرف الجنة وقصورها:
معرفة أهل الجنة لمنازلهم ومساكنهم إذا دخلوا الجنة :
كيفية دخول أهل الجنة الجنة :
سوق الجنة و ما اعد الله تعالى فيه لأهلها :
صفة أهل الجنة في خَلْقِهِم وَخُلُقِهم :
سِنُ أهلِ الجنة :
تحفة أهل الجنة إذا دخلوها :
ريح الجنة ومن مسيرة كم ينشق :
الأذان الذي يؤذن به مؤذن الجنة :
أشجار الجنة وبساتينها وظلالها :
ثمار الجنة وتعداد أنواعها وصفاتها :
في زرع الجنة :
أنهار الجنة وعيونها وأصنافها :
طعام أهل الجنة وشرابهم ومصرفه :
آنية أهل الجنة التي يأكلون فيها ويشربون :
لباس أهل الجنة وحليهم :
مناديل أهل الجنة :
لبسهم التيجان على رؤسهم :
فُرُشُ أهل الجنة :
بُسُطُ أهل الجنة وزرابيهم :
خيام أهل الجنة وسررهم وأرائكهم وبشخاناتهم :
مطايا أهل الجنة و خيولهم و مراكبهم :
غلمانُ أهل الجنة وخدمُهم :
وصف الحور العين :
غناء الحور العين و ما فيه من الطرب و اللذة :
الحور العين يطلبن أزواجهن أكثر مما يطلبهن أزواجهن :
هل في الجنة حمل و ولادة :(1/392)
مُلكُ الجنة و أن أهلها كلهم ملوك فيها :
أهل الجنة لا ينامون :
ارتفاع العبادات في الجنة إلا عبادة الذكر فإنها دائمة :
تزاور أهل الجنة ومراكبهم :
رؤية أهل الجنة لله تعالى بأبصارهم جهرة :
تكليم الله تعالى لأهل الجنة :
أبدية الجنة وأنها لا تفنى ولا تبيد :
الجنة تتكلم :
صفات من يستحقُّ الجنة في القرآن والسنة :
الطريق إلى الجنة :
وهاك تفصيل ذلك في إيجازٍ غيرِ مُخِّل :
الترغيب في الجنة :
ما أحسن الحديث عن النعيم المقيم والإيمان الراسخ بالمنزل الكريم من الغفور الرحيم هو سلوة الأحزان، وحياة القلوب، وحادي النفوس، ومهيجها إلى القرب من ربها ومولاها.
الحديث عن النعيم والرضوان لا يسأمه الجليس، ولا يمله الأنيس، عزت دار الفردوس من دار، وجل فيها المبتغى والمرام، دار وجنان تبلغ فيها النفوس مناها، قصور مبنية طابت للأبرار، غرسها الرحمن بيده، وملأها برضوانه ورحمته، وموضع السوط فيها خير من الدنيا وما فيها.
أخي الحبيب:(1/393)
المسلم في كل أحواله لا يفكر إلا بالجنان، يصلي من أجل رضا ربه ودخولها، يصوم الهواجر طلباً لها، يبذل الخير أينما كان من أجل أراضي الجنان، الصغير والكبير، الذكر والأنثى، الطائع والعاصي يتمنى أن تكون الجنة هي المقام، جعلها أناس نصب أعينهم يتذكرونها في أفراحهم وأحزانهم، وشغلهم وفراغهم، وفي سفرهم وإقامتهم، لأنهم قرءوا في كتاب ربهم وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الأعراف:43]. وفي يوم القيامة، يوم الحسرة والندامة، يقف العالم بأكمله وقفة ما أشدها من وقفة، وقفة تحمل الخوف والرجاء، والنور والظلام، تحمل الألم والأمل، إنها وقفة تحمل دعاء واحداً، اللهم سلم سلم.. اللهم سلم سلم. وبعد الفصل بينهم تعلن أسماء الفائزين والفائزات والخاسرين والخاسرات فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ [آل عمران:185]. تخيلوا أيها المؤمنون ذلك المؤمن كان في خوف وهلع، فيؤمر بدخول الجنان والخلود فيها، ويفرح بالنجاة من لهيب النار وحرها. ثم هاهو صاحبنا يطأ أرض الجنان، وينتقل في رياضها مع المتحابين، ويدخل حدائقها نزهة المشتاقين، وينظرُ لأول مرة إلى تلك الخيام اللؤلؤية وهي منصوبة على ضفاف الأنهار في أرض خضراء، ومناخ بهيج، ورائحة أزكى من المسك والزعفران، ثم يمعن النظر فيرى قصراً مشيداً به أنوار تتلألأ، وحوله فاكهةٌ كثيرةٌ لا مقطوعة ولا ممنوعة، تخيلوا أيها الأخوة شعور ذلك المؤمن في هذه اللحظات، ويعلم أنه خالد مخلد في ذلك النعيم.
[*] قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه حادي الأرواح في وصف الجنة :(1/394)
وكيف يقدر قدر دار غرسها الله بيده و جعلها مقرا لأحبابه و ملأها من رحمته و كراماته و رضوانه و وصف نعيمها بالفوز العظيم وَمُلْكُها بالمُلك الكبير وأودعها جميع الخير بحذافيره وطهرها من كل عيب وآفة و نقص فإن سألت عن أرضها و تربتها فهي المسك و الزعفران و إن سألت عن سقفها فهو عرش الرحمن و إن سألت عن بلاطها فهو المسك الأذفر و إن سألت عن حصبائها فهو اللؤلؤ و الجوهر و إن سألت عن بنائها فلبنة من فضة و لبنة من ذهب و إن سألت عن أشجارها فما فيها شجرة إلا وساقها من ذهب و فضة لا من الحطب و الخشب و إن سألت عن ثمرها فأمثال القلال ألين من الزبد وأحلى من العسل و إن سألت عن ورقها فأحسن ما يكون من رقائق الحلل و إن سألت عن أنهارها فانهار من لبن لم يتغير طعمه و انهار من خمر لذة للشاربين و انهار من عسل مصفى و إن سألت عن طعامهم ففاكهة مما يتخيرون و لحم طير مما يشتهون و إن سألت عن شرابهم فالتسنيم و الزنجبيل و الكافور و إن سألت عن آنيتهم فآنية الذهب و الفضة في صفاء القوارير و إن سألت عن سعة أبوابها فبين المصراعين مسيرة أربعين من الأعوام و ليأتين عليه يوم و هو كظيظ من الزحام و إن سألت عن تصفيق الرياح لأشجارها فإنها تستفز بالطرب لمن يسمعها و إن سألت عن ظلها ففيها شجرة واحدة يسير الراكب المجد السريع في ظلها مائة عام لا يقطعها و إن سألت عن سعتها فأدنى أهلها يسير في ملكه و سرره و قصوره و بساتينه مسيرة ألفي عام و إن سألت عن خيامها و قبابها فالخيمة الواحدة من درة مجوفة طولها ستون ميلا من تلك الخيام و إن سألت عن علاليها و جواسقها فهي غرف من فوقها غرف مبنية تجري من تحتها الأنهار و إن سألت عن ارتفاعها فانظر إلى الكوكب الطالع أو الغارب في الأفق الذي لا تكاد تناله الأبصار و إن سألت عن لباس أهلها فهو الحرير و الذهب و إن سألت عن فرشها فبطائنها من إستبرق مفروشة في أعلى الرتب و إن سألت عن أرائكها فهي الأسرة عليها(1/395)
البشخانات و هي الحجال مزررة بأزرار الذهب فما لها من فروج و لا خلال و إن سألت عن وجوه أهلها و حسنهم فعلى صورة القمر وإن سألت عن أسنانهم فأبناء ثلاث و ثلاثين على صورة آدم عليه السلام أبي البشر و وإن سألت عن سماعهم فغناء أزواجهم من الحور العين و أعلى منه سماع أصوات الملائكة و النبيين و أعلى منهما خطاب رب العالمين و إن سألت عن مطاياهم التي يتزاورون عليها فنجائب إن شاء الله مما شاء يسير بهم حيث شاءوا من الجنان و إن سألت عن حليهم و شارتهم فأساور الذهب و اللؤلؤ على الرؤوس ملابس التيجان و إن سألت عن غلمانهم فولدان مخلدون كأنهم لؤلؤ مكنون و إن سألت عن عرائسهم و أزواجهم فهن الكواعب الأتراب اللاتي جرى في أعضائهن ماء الشباب فللورد و التفاح ما لبسته الخدود و للرمان ما تضمنته النهود و اللؤلؤ المنظوم ما حوته الثغور و للرقة و اللطافة ما دارت عليه الخصور تجري الشمس من محاسن وجهها إذا برزت و يضيء البرق من بين ثناياها إذا ابتسمت إذا قابلت حبها فقل ما تشاء في تقابل النيرين و إذا حادثته فما ظنك بمحادثة الحبين و إن ضمها إليه فما ظنك بتعانق الغصنين يرى وجهه في صحن خدها كما يرى في المرآة التي جلاها صقلها و يرى مخ ساقها من وراء اللحم و لا يستره جلدها و لا عظمها و لا حللها لو اطلعت على الدنيا لملأت ما بين الأرض والسماء ريحا و لاستنطقت أفواه الخلائق تهليلا و تكبيرا و تسبيحا و لتزخرف لها ما بين الخافقين و لا غمضت عن غيرها كل عين و لطمست ضوء الشمس كما تطمس الشمس ضوء النجوم و لا من من على ظهرها بالله الحي القيوم و نصيفها على رأسها خير من الدنيا و ما فيها و وصالها أشهى إليه من جميع أمانيها لا تزداد على طول الأحقاب إلا حسنا و جمالا و لا يزداد لها طول المدى إلا محبة ووصالا مبرأة من الحبل و الولادة و الحيض و النفاس مطهرة من المخاط و البصاق و البول و الغائط و سائر الأدناس لا يفنى شبابها و لا تبلى ثيابها و(1/396)
لا يخلق ثوب جمالها و لا يمل طيب وصالها قد قصرت طرفها على زوجها فلا تطمح لأحدٍ سواه و قصر طرفه عليها فهي غاية أمنيته و هواه ، إن نظر إليها سرته و إن أمرها بطاعته أطاعته و إن غاب عنها حفظته فهو معها في غاية الأماني و الأمان هذا و لم يطمثها قبله إنس و لا جان ، كلما نظر إليها ملأت قلبه سرورا و كلما حدثته ملأت أذنه لؤلؤا منظورا ومنثورا و إذا برزت ملأت القصر والغرفة نورا ، و إن سألت عن السن فأترابٌ في أعدل سن الشباب ، و إن سألت عن الحُسْنِ فهل رأيت الشمس و القمر و إن سألت عن الحدق فأحسن سواد في أصفى بياض في أحسن حور ، و إن سألت عن القدود فهل رأيت أحسن الأغصان و إن سألت عن النهود فهن الكواعب نهودهن كألطف الرمان و إن سألت عن اللون فكأنه الياقوت و المرجان و إن سألت عن حسن الخلق فهن الخيرات الحسان اللاتي جمع لهن بين الحسن و الإحسان فأعطين جمال الباطن والظاهر فهن أفراح النفوس قرة النواظر و إن سألت عن حسن العشرة و لذة ما هنالك فهن العرب المتحببات إلى الأزواج بلطافة التبعل التي تمتزج بالروح أي امتزاج فما ظنك بامرأة إذا ضحكت في وجه زوجها أضاءت الجنة من ضحكها و إذا انتقلت من قصر إلى قصر قلت هذه الشمس متنقلة في بروج فلكها و إذا حاضرت زوجها فيا حسن تلك المحاضرة و إن خاصرته فيا لذة تلك المعانقة و المخاصرة و حديثها السحر الحلال لو أنه لم يجن قتل المسلم المتحرز إن طال لم يملل و إن هي حدثت ود المحدث أنها لم توجز و إن غنت فيا لذة الأبصار و الأسماع و إن آنست و أمتعت فيا حبذا تلك المؤانسة و الإمتاع و إن قبلت فلا شيء أشهى إليه من ذلك التقبيل و إن نولت فلا ألذ و لا أطيب من ذلك التنويل هذا ، و إن سألت عن يوم المزيد وزيادة العزيز الحميد و رؤية وجهه المنزه عن التمثيل و التشبيه كما ترى الشمس في الظهيرة و القمر ليلة البدر كما تواتر عن الصادق المصدوق النقل فيه و ذلك موجود في الصحاح و السنن و المسانيد .(1/397)
فيا لذة الأسماع بتلك المحاضرة و يا قرة عيون الأبرار بالنظر إلى وجه الكريم في الدار الآخرة و يا ذلة الراجعين بالصفقة الخاسرة وجوه يوم ناضرة إلى ربها ناظرة و وجوه يومئذ باسرة تظن أن يفعل بها فاقرة
فحي على جنات عدن فإنها ... منازلك الأولى و فيها المخيم
ولكننا سبي العدو فهل ترى ... نعود إلى أوطاننا و نسلم
إدامة ذِكْرِ الجَنَّة :
كان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ورضي الله عنهم, يديمون ذكر الجنة, والشوق إليها, وتخيل ما فيها وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد ، ودرر الفرائد .
(حديث حنظلة بن الربيع الأُسيدي الثابت في صحيح مسلم ) قال لقيني أبو بكر فقال كيف أنت يا حنظلة قال قلت نافق حنظلة قال سبحان الله ما تقول قال قلت نكون عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأي عين فإذا خرجنا من عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات فنسينا كثيرا قال أبو بكر فوالله إنا لنلقى مثل هذا فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قلت نافق حنظلة يا رسول الله فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما ذاك ؟ قلت يا رسول الله نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأي عين فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيرا فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والذي نفسي بيده إن لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم ولكن يا حنظلة ساعة وساعة ثلاث مرات .
من أعظم الغبن أن تبيع الجنة بالدنيا الفانية :
[*] قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه حادي الأرواح :(1/398)
ولما علم الموفقون ما خلقوا له وما أريد بإيجادهم رفعوا رؤوسهم فإذا علم الجنة قد رفع لهم فشمروا ، إليه وإذا صراطها المستقيم قد وضح لهم فاستقاموا عليه ، ورأوا من أعظم الغبن بيع ما لا عين رأت ولا إذن سمعت ولا خطر على قلب بشر في أبد لا يزول ولا ينفذ بصبابة عيش إنما هو كأضغاث أحلام أو كطيف زار في المنام مشوب بالنغص ممزوج بالغصص إن أضحك قليلا أبكى كثيرا وإن سر يوما أحزن شهورا ألآمه تزيد على لذاته وأحزانه أضعاف مسراته أوله مخاوف وآخره متآلف ، فيا عجبا من سفيه في صورة حليم ومعتوه في مسلاخ عاقل آثر الحظ الفاني الخسيس على الحظ الباقي النفيس وباع جنة عرضها السموات والأرض بسجن ضيق بين أرباب العاهات والبليات ومساكن طيبة في جنات عدن تجري من تحتها الأنهار بأعطان ضيقة آخرها الخراب والبوار وأبكارا عُرُبا أترابا كأنهن الياقوت والمرجان بقذراتٍ دنسات سيآت الأخلاق مسالخات أو متخذات أخذان وحورا مقصورات في الخيام بخبيثات مسيبات بين الأنام وأنهارا من خمر لذة للشاربين بشراب نجس مذهب للعقل مفسد للدنيا والدين ولذة النظر إلى وجه العزيز الرحيم بالتمتع برؤية الوجه القبيح الذميم وسماع الخطاب من الرحمن بسماع المعازف والغناء والألحان والجلوس على منابر اللؤلؤ والياقوت والزبرجد ، ويوم المزيد بالجلوس في مجالس الفسوق مع كل شيطان مريد ، ونداء المنادي يا أهل الجنة إن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا وتحيوا فلا تموتوا وتقيموا فلا تظعنوا وتشبوا فلا تهرموا بغناء المغنين ، وإنما يظهر الغبن الفاحش في هذا البيع يوم القيامة ، وإنما يتبين سفه بائعه يوم الحسر والندامة ، إذا حشر المتقون إلى الرحمن وفدا وسيق المجرمون إلى جهنم وردا ، ونادى المنادي على رؤوس الأشهاد ليعلمن أهل الموقف من أولي بالكرم من بين العباد ، فلو توهم المتخلف عن هذه الرفقة ما أعد الله لهم من الإكرام وادخر لهم من الفضل والإنعام وما أخفى لهم من قرة أعين لم يقع على(1/399)
مثلها بصر ولا سمعته أذن ولا خطر على قلب بشر "لَعَلِمَ أي بضاعة أضاع وأنه لا خير له في حياته وهو معدود من سقط المتاع " وعلم أن القوم قد توسطوا ملكا كبيرا لا تعترية الآفات ولا يلحقه الزوال وفازوا بالنعيم المقيم في جوار الكبير المتعال فهم في روضاتِ الجنة يتقلبون ، وعلى أسرتها تحت الحجال يجلسون ، وعلى الفرش التي بطائنها من إستبرق يتكئون وبالحور العين يتنعمون وبأنواع الثمار يتفكهون ، يطوف عليهم ولدان مخلدون بأكواب وأباريق وكأس من معين لا يصدعون عنها ولا ينزفون ، وفاكهة مما يتخيرون ولحم طير مما يشتهون وحور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون جزاء بما كانوا يعلمون ، يطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون ، تالله لقد نودي عليها في سوق الكساد فما قلب ولا أسنام لِلَّهِ إلا أفراد من العباد فوا عجبا لها كيف نام طالبها وكيف لم يسمح بمهرها خاطبها ، وكيف طاب العيش في هذه الدار بعد سماع أخبارها وكيف قَرَّ للمشتاق القرار دون معانقة أبكارها، وكيف قرت دونها أعين المشتاقين وكيف صبرت عنها أنفس الموقنين ، وكيف صدفت عنها قلوب أكثر العالمين ، وبأي شيء تعوضت عنها نفوس المعرضين .
ثم ذكر الإمام ابن القيم أروع قصيدةٍ في وصف الجنة :
وما ذاك إلا غيرة أن ينالها ... سوى كفئها والرب بالخلق أعلم
وإن حجبت عنا بكل كريهة ... وحفت بما يؤذي النفوس ويؤلم
فلله ما في حشوها من مسرة ... وأصناف لذات بها يتنعم
ولله برد العيش بين خيامها ... وروضاتها والثغر في الروض يبسم
ولله واديها الذي هو موعد أل ... مزيد لوفد الحب لو كنت منهم
بذيالك الوادى يهيم صبابة ... محب يرى أن الصبابة مغنم
ولله أفراح المحبين عندما ... يخاطبهم من فوقهم ويسلم
ولله أبصار تري الله جهرة ... فلا الضيم يغشاها ولا هي تسأم
فيا نظرة أهدت إلى الوجه نضرة ... أمن بعدها يسلو المحب المتيم
ولله كم من خيرة إن تبسمت ... أضاء لها نور من الفجر أعظم(1/400)
فيا لذة الأبصار إن هي أقبلت ... ويا لذة الأسماع حين تكلم
ويا خجلة الغصن الرطيب إذا انثنت ... ويا خجلة الفجرين حين تبسم
فإن كنت ذا قلب عليل بحبها ... فلم يبق إلا وصلها لك مرهم
ولا سيما في لثمها عند ضمها ... وقد صار منها تحت جيدك معصم
تراه إذا أبدت له حسن وجهها ... يلذ به قبل الوصال وينعم
تفكه منها العين عند اجتلائها ... فواكه شتى طلعها ليس يعدم
عناقيد من كرم وتفاح جنة ... ورمان أغصان به القلب مغرم
وللورد ما قد ألبسته خدودها ... وللخمر ما قد ضمه الريق والفم
تقسم منها الحسن في جمع واحد ... فيا عجبا من واحد يتقسم
لها فرق شتى من الحسن أجمعت ... بجملتها إن السلو محرم
تذكر بالرحمن من هو ناظر ... فينطق بالتسبيح لا يتلعثم
إذا قابلت جيش الهموم بوجهها ... تولى على أعقابه الجيش يهزم
فيا خاطب الحسناء إن كنت راغبا ... فهذا زمان المهر فهو المقدم
ولما جرى ماء الشباب بغصنها ... تيقن حقاً أنه ليس يهرم
وكن مبغضا للخائنات لحبها ... فتحظى بها من دونهن وتنعم
وكن أيما ممن سواها فإنها ... لمثلك في جنات عدن تايم
وصم يومك الأدنى لعلك في غد ... تفوز بعيد الفطر والناس صوم
وأقدم ولا تقنع بعيش منغص ... فما فاز باللذات من ليس يقدم
وإن ضاقت الدنيا عليك بأسرها ... ولم يك فيها منزل لك يعلم
فحي على جنات عدن فإنها ... منازلنا الأولى وفيها المخيم
ولكننا سبى العدو فهل ترى ... نعود إلى أوطاننا ونسلم
وقد زعموا أن العدو إذا نأى ... وشطت به أوطانه فهو مغرم
وأي اغتراب فوق غربتنا التي ... لها أضحت الأعداء فينا تحكم
وحي على السوق الذي فيه يلتقي ال ... محبون ذاك السوق للقوم يعلم
فما شئت خذ منه بلا ثمن له ... فقد أسلف التجار فيه وأسلموا
وحي على يوم المزيد الذي به ... زيارة رب العرش فاليوم موسم
وحي على واد هنالك أفيح ... وتربته من إذفر المسك أعظم
منابر من نور هناك وفضة ... ومن خالص القيان لا تتقصم
وكثبان مسك قد جعلن مقاعدا ... لمن دون أصحاب المنابر يعلم
فبينا همو في عيشهم وسرورهم ... وأرزاقهم تجرى عليهم وتقسم(1/401)
إذا هم بنورٍ ساطع أشرقت له ... بأقطارها الجنات لا يتوهم
تجلى لهم رب السماوات جهرة ... فيضحك فوق العرش ثم يكلم
سلام عليكم يسمعون جميعهم ... بآذانهم تسليمه إذ يسلم
يقول سلوني ما اشتهيتم فكل ما ... تريدون عندي أنني أنا أرحم
فقالوا جميعا نحن نسألك الرضا ... فأنت الذي تولى الجميل وترحم
فيعطيهمو هذا ويشهد جمعهم ... عليه تعالى الله فالله أكرم
فيا بائعا هذا ببخس معجل ... كأنك لا تدرى ؛ بلى سوف تعلم
فإن كنت لا تدرى فتلك مصيبة ... وإن كنت تدرى فالمصيبة أعظم
حُفَّت الجنة بالمكاره :
( حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " حُفَّتِ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ وَحُفَّتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ ".
مسألة : ما معنى حُفَّتِ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ ؟
ِالْمَكَارِهِ : هي الأمور التي تكرهها النفس لمشقتها ، فلا يصل إلى الجنة أحدٌ إلا إذا تجرَّع من غصص هذه المكاره التي تحيط بها ، فالطريق إليها سهلاً, بل هو طريق وعرٌ محفوف بالمتاعب والآلام والدموع والعرق والدم والتضحيات, وبذل كل ما في الوسع, ليس طريقًا مليئًا بالمتع والشهوات والنزوات, فمن أراد الجنة ونعيمها فليوطِّن نفسه لتحمل هذه المكاره التي حُفت بها الجنة والتي ينبغي على من يريد الجنة أن يؤديها ويقوم بها خير قيام كالصبر على المحن والبلايا والمصائب, والصبر على الطاعات التي تشق على النفس كالجهاد في سبيل الله وغير ذلك.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيحي أبي داود والترمذي) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : قال لما خلق الله الجنة والنار أرسل جبريل إلى الجنة فقال انظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها قال فجاءها ونظر إليها وإلى ما أعد الله لأهلها فيها قال فرجع إليه قال فوعزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها فأمر بها فحفت بالمكاره فقال ارجع إليها فانظر إلى ما أعددت(1/402)
لأهلها فيها قال فرجع إليها فإذا هي قد حفت بالمكاره فرجع إليه فقال وعزتك لقد خفت أن لا يدخلها أحد قال اذهب إلى النار فانظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها فإذا هي يركب بعضها بعضا فرجع إليه فقال وعزتك لا يسمع بها أحد فيدخلها فأمر بها فحفت بالشهوات فقال ارجع إليها فرجع إليها فقال وعزتك لقد خشيت أن لا ينجو منها أحد إلا دخلها .
ولعلّ هذا هو السبب الذي جعل جبريل عليه السلام عندما رأى ما أعده الله تعالى من النعيم المقيم لعباده في الجنة,ظنّ أن كل من يسمع بالجنة ونعيمها سيعمل من أجل أن يدخلها, لذا قال" فوعزتك لا يسمع بها أحدٌ إلا دخلها".(1/403)
بعد أن قال جبريل عليه السلام ذلك, أمر الله تعالى بالجنة فحفّت بالمكاره, ثمّ قال لجبريل:ارجع إليها فانظر إلى ما أعددت لأهلها فيها, فرجع إليها,فإذا هي قد حفّت بالمكاره .فعلم بذلك أنّه لم يعد الطريق إليها سهلاً, بل هو طريق وعرٌ محفوف بالمتاعب والآلام والدموع والعرق والدم والتضحيات, وبذل كل ما في الوسع, ليس طريقًا مليئًا بالمتع والشهوات والنزوات, فمن أراد الجنة ونعيمها فليوطِّن نفسه لتحمل هذه المكاره التي حُفت بها الجنة ـ وهي الأمور التي تكرهها النفس لمشقتها ـ فلا يصل إلى الجنة أحدٌ إلا إذا تجرَّع من غصص هذه المكاره التي تحيط بها, ففي الحديث الشريف قد شبه حال التكاليف الشاقة على النفس ـ التي حُفت بها الجنة ـ والتي ينبغي على من يريد الجنة أن يؤديها ويقوم بها خير قيام كالصبر على المحن والبلايا والمصائب, والصبر على الطاعات التي تشق على النفس كالجهاد في سبيل الله وغير ذلك, شبّه كل ذلك بحال أسوار ٍكثيفةٍ من الأشواك التي يكمن فيها كل حيوان ضارٍّ من الوحوش والحيات والعقارب, وهذه الأسوار الكثيفة الكريهة محيطة ببستان ٍعظيم ٍتلتف به من كل مكان بحيث لا يستطيع أن يصل أحدٌ إلى هذا البستان ولا يحظى بالتنعم بما فيه إلا بعد أن يتخطى هذه الأسوار البغيضة, ويتجشم المشاق التي تلحقه حين سلوكه فيها,ولا شك أن ذلك يحتاج إلى جهادٍ طويل شاق,وصبر ٍدائم, كذلك الجنة لا ينالها ويحظى بنعيمها الدائم إلا من تخطى شدائد دنياه, مجاهدًا نفسه,صابرًا على ما يصيبه, راضيًا بقضاء الله تعالى,قائمًا بتكاليف الإسلام خير قيام,مضحيًا بالنفس والمال في سبيل نيل مطلوبه,فالجنة هي الثمن الذي اشترى الله به نفوس المؤمنين وأموالهم, قال تعالى: ( إنّ اللهَ اشترى من المؤمنين أنفُسَهمْ وأموالَهمْ بأنَّ لهمُ الجنّة َيُقاتِلون في سبيل ِاللهِ فيَقتُلونَ ويُقتَلونَ وعْدًا عليهِ حقًا في التوراةِ والإنجيل ِوالقرآن ِومَنْ أَوْفَى بعهدِهِ(1/404)
مِنَ اللهِ فاسْتَبشِرُوا بِبَيْعكمُ الذي بايَعْتُمْ به وذلك هو الفوزُ العظيمُ) { التوبة:111 } قال شمر بن عطية:ما من مسلم ٍإلا لله عزّ وجلّ في عنقه بيعة, وفَّّى بها أو مات عليها ثمّ تلا الآية السابقة (1) .
بل أكدَّ الله تعالى الوعد الذي ذكره في هذه الآية وأخبر بأنّه قد كتبه على نفسه الكريمة وأنزله على رسله في كتبه العظيمة : التوراة والإنجيل والقرآن, ثمّ بشَّر من قام بمقتضى هذا العقد, ووفََّّى بهذا العهد بالفوز العظيم والنعيم المقيم.
ومن هنا يتضح معنى قول النبي - صلى الله عليه وسلم - أَلاَ إِنّ سِلْعَةَ الله غَالِيَةٌ كما في الحديث الآتي :
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : "مَنْ خَافَ أَدْلَجَ وَمَنْ أَدْلَجَ بَلَغَ المَنْزِلَ أَلاَ إِنّ سِلْعَةَ الله غَالِيَةٌ أَلاَ إِنّ سِلْعَةَ الله الْجَنّةُ".
ولله درُ من قال :
يا سلعةَ الرحمن ِلست رخيصة ... بل أنتِ غالية ٌعلى الكسلان
يا سلعة الرحمن ليس ينالُها ... في الألفِ إلا واحدٌ لا اثنان
يا سلعة الرحمن أين المشتري ... فلقد عُرِضتِ بأيسر الأثمان
يا سلعة الرحمن هل من خاطب ... فالمهرُ قبل الموتِ ذو إمكان
يا سلعة الرحمن لولا أنَّها ... حُجِبَتْ بكلِّ مكاره ِالإنسان
ِما كان قطُّ من متخلفٍ ... وتَعَلتْ دارُ الجزاءِ الثاني
لكنَّها حُجِبَتْ بكلِّ كريهةٍ ... ليُصدَّ عنها المبطلُ المتواني
وتنالها الهممُ التي تَسْمُو ... إلى ربِّ العلا بمشيئةِ الرحمن
فاتْعَبْ ليوْم ِمعادِك الأدنى ... تَجِدْ راحاتهِ يومَ المعادِ الثاني
ولنذكرـ الآن ـ طرفًا من بعض التكاليف التي قد حُفَّت بها الجنة مع مشقتها على النفس :
(1) الجهاد في سبيل الله :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ
__________
(1) - تفسير ابن كثير(2/399)(1/405)