[*] أورد الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عروة ابن الزبير قال لما وقف الزبير يوم الجمل دعاني فقمت إلى جنبه فقال يا بني أنه لا يقتل اليوم إلا ظالم أو مظلوم واني لا أراني إلا سأقتل اليوم مظلوما وإن من أكبر همي لديني أفترى ديننا يبقى من مالنا شيئا يا بني بع ما لنا فاقض ديني فأوصي بالثلث وثلث الثلث إلى عبد الله فإن فضل من مالنا بعد قضاء الدين شيء فثلث لولدك قال هشام وكان بعض ولد عبد الله قد وازى بعض بني الزبير خبيب وعباد وله يومئذ تسع بنات قال عبد الله فجعل يوصيني بدينه ويقول يا بني إن عجزت عن شيء منه فاستعن بمولاي قال فوالله ما دريت ما عنى حتى قلت يا أبة من مولاك ؟ قال الله عز وجل قال فوالله ما وقعت في كربة من دينه إلا قلت يا مولى الزبير اقض عنه فيقضيه ، قال وقتل الزبير ولم يدع دينارا ولا درهما إلا أرضين بالغابة ودارا بالمدينة ودارا بالبصرة ودارا بالكوفة ودارا بمصر قال وإنما كان الذي عليه أن الرجل يجيء بالمال فيستودعه فيقول الزبير لا ولكن هو سلف إني أخشى عليه الضيعة وما ولي إمارة قط ولا جباية ولا خراجا ولا شيئا إلا أن يكون في غزو مع النبي صلى الله عليه وسلم أو مع أبي بكر وعمر وعثمان فحسبت دينه فوجدته ألفي ألف ومئتي ألف فلقي حكيم بن حزام الأسدي عبد الله فقال يا إبن أخي كم على أخي من الدين فكتمه وقال مئة ألف فقال حكيم ما أرى أموالكم تتسع لهذه فقال عبد الله أفرأيت إن كانت الفي الف ومئتي ألف قال ما أراكم تطيقون هذا فإن عجزتم عن شيء فاستعينوا بي وكان الزبير قد اشترى الغابة بسبعين ومئة ألف فباعها عبد الله بألف ألف وست مئة ألف وقال من كان له على الزبير دين فليأتنا بالغابة فأتاه عبد الله بن جعفر وكان له على الزبير أربع مئة ألف فقال لابن الزبير إن شئت تركتها لكم قال لا قال فاقطعوا لي قطعة قال لك من هاهنا إلى هاهنا قال فباعه بقضاء دينه قال وبقي منها أربعة أسهم ونصف فقال المنذر بن الزبير(2/217)
قد اخذت سهما بمئة ألف وقال عمرو بن عثمان قد اخذت سهما بمئة ألف وقال إبن ربيعة قد أخذت سهما بمئة ألف فقال معاوية كم بقي قال سهم ونصف قال قد اخذت بمئة وخمسين ألفا قال وباع ابن جعفر نصيبه من معاوية بست مئة ألف فلما فرغ ابن الزبير من قضاء دينه قال بنو الزبير أقسم بيننا ميراثنا قال لا والله حتى أنادي بالموسم أربع سنين ألا من كان له على الزبير دين فليأتنا فلنقضه فجعل كل سنة ينادي بالموسم فلما مضت أربع سنين قسم بينهم فكان للزبير أربع نسوة قال فرفع الثلث فأصاب كل إمرأة ألف ألف ومئة ألف فجميع ماله خمسون ألف ألف ومائتا ألف .
زهد الزبير بن العوام - رضي الله عنه - :
لقد وعى الزبير ابن العوام رضي الله عنه حقيقة الزهد وأن الزهد أن يكون المال في يدك وليس في قلبك فكان آيةً في الجود والسخاء والبذل والإنفاق في سبيل الله تعالى ، فكان المال في يده ولم يقترب من قلبه الشريف رضي الله عنه .
[*] أَوْصَى إِلَى الزُّبَيْرِ سَبْعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، مِنْهُم: عُثْمَانُ، وَابْنُ مَسْعُوْدٍ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ، فَكَانَ يُنْفِقُ عَلَى الوَرَثَةِ مِنْ مَالِهِ، وَيَحْفَظُ أَمْوَالَهُمْ .
[*] وقد كَانَ لِلزُّبَيْرِ بنِ العَوَّام أَلفُ مَمْلُوْكٍ يُؤَدُّوْنَ إِلَيْهِ الخَرَاجَ، فَلاَ يُدْخِلُ بَيْتَهُ مِنْ خَرَاجِهِمْ شَيْئاً. بَلْ يَتَصَدَّقُ بِهَا كُلِّهَا.
[*] قَالَ جُوَيْرِيَةُ بنُ أَسْمَاءَ : بَاعَ الزُّبَيْرُ دَاراً لَهُ بِسِتِّ مَائَةِ أَلفٍ، فَقِيْلَ لَهُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ! غُبِنْتَ.
قَالَ: كَلاَّ، هِيَ فِي سَبِيْلِ اللهِ.
ويتجلى زهد الزبير ابن العوام رضي الله عنه كذلك في تركه ما لا ينفع في الآخرة وعدم إصراره على الخطأ إن صدر منه ، فكان وَقَّافاً لحدود الله تعالى وكان إذا ذُكِّرَ ذكر ويظهر هذا وضوحاً جلياً في موقف من الفتنة في خلافة عثمان وهاك موقفه بإيجاز :(2/218)
نشبت الفتنة المعروفة في خلافة عثمان رضي الله عنه ويؤيد طلحة والزبير حجة المعارضين لعثمان، ويزكي معظمهم فيما كانوا ينشدونه من تغيير وإصلاح ، لكن هل كان بموقفه هذا، يدعو إلى قتل عثمان، أو يرضى به..؟؟ كلا
ولو كان يعلم أن الفتنة ستتداعى حتى تتفجر آخر الأمر حقداً مخبولاً، ينفس عن نفسه في تلك الجناية البشعة التي ذهب ضحيتها ذو النورين عثمان رضي الله عنه نقول: لو كان يعلم أن الفتنة ستتمادى إلى هذا المأزق والمنتهى لقاومها، ولقاومها معه بقية الأصحاب الذين آزروها أول أمرها باعتبارها حركة معارضة وتحذير، لا أكثر
على أن موقف طلحة هذا، تحوّل إلى عقدة حياته بعد الطريقة البشعة التي حوصر بها عثمان وقتل، فلم يكد الإمام عليّ يقبل بيعة المسلمين بالمدينة ومنهم طلحة والزبير، حتى استأذن الاثنان في الخروج إلى مكة للعمرة ومن مكة توجها إلى البصرة، حيث كانت قوات كثيرة تتجمّع للأخذ بثأر عثمان
وكانت وقعة الجمل حيث التقى الفريق المطالب بدم عثمان، والفريق الذي يناصر عليّا..وكان عليّ كلما أدار خواطره على الموقف العسر الذي يجتازه الإسلام والمسلمون في هذه الخصومة الرهيبة، تنتفض همومه، وتهطل دموعه، ويعلو نشيجه ويصير في قلقٍ دءوب وهمٍ مستمر وحَيْرَةٍ لا تنقطع يتقلب في همٍ وغم كأنما يبكي الدم .
لقد اضطر إلى المأزق الوعر فبوصفه خليفة المسلمين لا يستطيع، وليس من حقه أن يتسامح تجاه أي تمرّد على الدولة، أو أي مناهضة مسلحة للسلطة المشروعة وحين ينهض لقمع تمرّد من هذا النوع ، فإن عليه أن يواجه إخوانه وأصحابه وأصدقاءه ، وأتباع رسوله ودينه، أولئك الذين طالما قاتل معهم جيوش الشرك، وخاضوا معا تحت راية التوحيد معارك صهرتهم وصقلتهم، وجعلت منهم إخواناً بل إخوة متعاضدين فأي مأزق هذا..؟ وأي ابتلاء عسير..؟(2/219)
وفي سبيل التماس مخرج من هذا المأزق، وصون دماء المسلمين لم يترك الإمام علي وسيلة إلا توسّل بها، ولا رجاء إلا تعلق به ولكن العناصر التي كانت تعمل ضدّ الإسلام ، وما أكثرها، والتي لقيت مصيرها الفاجع على يد الدولة المسلمة، أيام عاهلها العظيم عمر، هذه العناصر كانت قد أحكمت نسج الفتنة، وراحت تغذيها وتتابع سيرها وتفاقمها
بكى عليّ رضي الله عنه بكاء غزيرا، عندما أبصر أم المؤمنين عائشة في هودجها على رأس الجيش الذي يخرج الآن لقتاله وعندما أبصر وسط الجيش طلحة والزبير، حوراييّ رسول الله فنادى طلحة والزبير ليخرجا إليه، فخرجا حتى اختلفت أعناق أفراسهم فقال لطلحة : يا طلحة، أجئت بعرس رسول الله تقاتل بها وخبأت عرسك في البيت..؟؟
ثم قال للزبير: يا زبير، نشدتك الله، أتذكر يوم مرّ بك رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن بمكان كذا، فقال لك: يا زبير، ألا تحبّ عليّا..؟
فقلت: ألا أحب ابن خالي، وابن عمي، ومن هو على ديني..؟؟
فقال لك: يا زبير، أما والله لتقاتلنه وأنت له ظالم
قال الزبير رضي الله عنه : نعم أذكر الآن، وكنت قد نسيته، والله لا أقاتلك وأقلع الزبير وطلحة عن الاشتراك في هذه الحرب الأهلية
أقلعا فور تبيّنهما الأمر وهذا مثلاً أعلى منهما يُحْتَذى به في تركهما ما لا ينفع في الآخرة وهو قمة الزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة ، كيف لا وهما اثنين من العشرة المبشرين بالجنة فأَبْصِرْ وَتَعَلَمْ من أئمة الهدى وأعلام التقى ومصابيح الدجى ، من حلية الأولياء وأعلام النبلاء ، الأضواء اللامعة والنجوم الساطعة أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ورضي الله تعالى عنهم .
، وعندما أبصرا عمار بن ياسر يحارب في صف عليّ، تذكرا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمّار: تقتلك الفئة الباغية فإن قتل عمّار إذن في هذه المعركة التي يشترك فيها طلحة، فسيكون طلحة باغياً(2/220)
انسحب طلحة والزبير من القتال، ودفعا ثمن ذلك الانسحاب حياتهما، ولكنهما لقيا الله قريرة أعينهما بما منّ عليهما من بصيرة وهدى.. أما الزبير فقد تعقبه رجل اسمه عمرو بن جرموز وقتله غيلة وغدرا وهو يصلي
وأما طلحة فقد رماه مروان بن الحكم بسهم أودى بحياته
كان مقتل عثمان قد تشكّل في نفسية طلحة، حتى صار عقدة حياته..كل هذا، مع أنه لم يشترك بالقتل، ولم يحرّض عليه، وإنما ناصر المعارضة ضدّه، يوم لم يكن يبدو أن المعارضة ستتمادى وتتأزم حتى تتحول إلى تلك الجريمة البشعة
وحين أخذ مكانه يوم الجمل مع الجيش المعادي لعلي بن أبي طالب والمطالب بدم عثمان، كان يرجو أن يكون في موقفه هذا كفّارة تريحه من وطأة ضميره.. وكان قبل بدء المعركة يدعو ويضرع بصوت تخنقه الدموع، ويقول : اللهم خذ مني لعثمان اليوم حتى ترضى
فلما واجهه عليّ هو والزبير، أضاءت كلمات عليّ جوانب نفسيهما، فرأيا الصواب وتركا أرض القتال..بيد أن الشهادة من حظ طلحة يدركها وتدركه أيّان يكون ألم يقل الرسول عنه : هذا ممن قضى نحبه، ومن سرّه أن يرى شهيداً يمشي على الأرض، فلينظر الى طلحة لقي الشهيد اذن مصيره المقدور والكبير، وانتهت وقعة الجمل
وأدركت أم المؤمنين أنها تعجلت الأمور فغادرت البصرة إلى البيت الحرام فالمدينة، نافضة يديها من هذا الصراع، وزوّدها الإمام علي في رحلتها بكل وسائل الراحة والتكريم..وحين كان عليّ يستعرض شهداء المعركة راح يصلي عليهم جميعا، الذين كانوا معه، والذين كانوا ضدّه و لما رأى على طلحة مقتولاً جعل يمسح التراب عن وجهه و قال : عزيز علي أبا محمد أن أراك مجولاً تحت نجوم السماء ثم قال : إلى الله أشكو عجري و بجري و ترحم عليه وقال : ليتني من قبل هذا اليوم بعشرين سنة و بكى هو وأصحابه عليه(2/221)
ولما فرغ من دفن طلحة، والزبير، وقف يودعهما بكلمات جليلة، اختتمها قائلا: إني لأرجو أن أكون أنا، وطلحة والزبير وعثمان من الذين قال الله فيهم: ونزعنا ما صدورهم من غلّ إخوانا على سرر متقابلين
ثم ضمّ قبريهما بنظراته الحانية الصافية الآسية وقال : سمعت أذناي هاتان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : طلحة والزبير، جاراي في الجنّة .
[*] سيرة عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - و صورٌ من زهده:
وسوف نتناول شيئين أساسيين في هذه السيرة العطرة وهما :
أولاً : لمحات من سيرة عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - :
ثانياً : صورٌ مشرقة من زهد عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - :
وهاك تفصيل ذلك :
أولاً : لمحات من سيرة عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - :
[*] قال عنه الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء :
عبد الرحمن بن عوف، فكان حاله فيما بسط له حال الأمناء والخزان، يفرقه في سبيل المنعم المنان، يستخير بالله من التفتين فيه والطغيان، وتتصل منه المناحة والأحزان، خوف الانقطاع عن إخوته والأخدان، أدرك الودق، وسبق الرنق، كثير الأموال، منين الحال، تجود يده بالعطات، وعينه وقلبه بالعبرات، وهو قدوة ذي الثروة والجدات، في الإنفاق علي المتقشفين من ذوي الفاقات.
[*] وقال عنه الذهبي في سير أعلام النبلاء :
عبد الرحمن بن عوف ابن عبد عوف بن عبد بن الحارث بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي أبو محمد أحد العشرة وأحد الستة أهل الشورى وأحد السابقين البدريين القرشي الزهري وهو أحد الثمانية الذين بادروا إلى الإسلام له عدة أحاديث روى عنه ابن عباس وابن عمر وأنس بن مالك وبنوه إبراهيم وحميد وأبو سلمة وعمرو ومصعب بنو عبد الرحمن ومالك بن أوس وطائفة سواهم .(2/222)
وكان اسمه في الجاهلية عبد عمرو وقيل عبد الكعبة فسماه النبي صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن وحدث عنه أيضا من الصحابة جبير بن مطعم وجابر بن عبد الله والمسور بن مخرمة وعبد الله بن عامر بن ربيعة وقدم الجابية مع عمر فكان على الميمنة وكان في نوبة سرغ على الميسرة .
اسم عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - وكنيته :
أبو محمد عبد الرحمن بن عوف بن عبد الحارث بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لُؤي، كان اسمه في الجاهلية عبد العمرو وقيل عبد الحارث وقيل عبد الكعبة فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن. هذه فيها دلالة على أن الاسم الذي لا يجوز شرعاً لابد أن يغيره الإنسان هذه هي من السنة، اسم يعبد بغير الله فيغير أو اسم فيه تزكية يتضمن تزكية لقول النبي صلى الله عليه وسلم لبريرة أنه غير اسمها إلى زينب لأن بريرة من البر فهذه فيه تزكية للنفس، فمن السنة إن كان الاسم فيه تزكية للنفس فلابد أن يغير وإن كان هو مطابق له، والأمر الثاني إذا عُبد لغير الله كعبد علي وعبد الحسين وعبد الرسول كل ذلك وجوباً لابد أن يغير اسمه، أما بالنسبة لاسم الإسلام والإيمان أيضاً لا يجوز تسمية الإسلام والإيمان. هذه هي القاعدة العريضة يعني القاعدة الأصلية ألا تسمي أسماء قد نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم، لكن هناك أسماء أيضاً تضمن تزكية ولم يغيرها النبي صلى الله عليه وسلم كمحمد، وما التزكية في محمد؟ أينعم تعني كثيرة الحمد إما أن المحامد بحسن خلقه أو جميل صفاته أو كثير الحمد لله جل في علاه، وأيضاً خالد وصالح لأن يوجد نبي من أنبياء اسمه صالح وصالح فيه تزكية، فنقول القاعدة الأصلية أن كل اسم فيه تزكية للنفس يُغير إلا ما جاء الدليل به فنمكث عليه .
مولد عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - :
[*] أورد الذهبي في سير أعلام النبلاء عن المدائني قال : ولد عبد الرحمن بعد عام الفيل بعشر سنين .(2/223)
إسلام عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - :
أسلم عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وأرضاه قديماً قبل أن يدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم دار الأرقم، وهاجر إلى أرض الحبشة الهجرتين وشاهد المشاهد كلها وهذه من فضائله الجميلة وثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، وترى كل المؤرخين دائما يُبينون أن الصحابة منهم من ثبت في غزوة أحد لأن كثير من الصحابة فروا يوم أحد ومنهم عثمان بن عفان لكن تداركهم الله برحمته وقال " ولقد عفا الله عنهم "، وثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه في غزوة تبوك. وهذه هي تكرمة الله لهذه الأمة ما من أمة صلى خلف أحاد هذه الأمة نبيها إلا هذه الأمة وليست مرة واحدة بل مرتين، وقبل يوم القيامة في علامات يوم الساعة من علامات يوم الساعة أن يصلي نبي خلف أحاد هذه الأمة - من الأفاضل طبعاً - فصلى النبي صلى الله عليه وسلم خلف أبي بكر عندما ذهب يُصلح بين فريقين فقام بلال فاستأذن أبا بكر في الصلاة فصلى بهم أبو بكر ثم جاء النبي صلى الله عليه وسلم دخل في الصف فأخذ الناس يضربون بالأكف حتى تراجع أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بالناس بعدما أشار عليه أن مكانك ورفع يديه في الصلاة يحمد الله على هذه الفضيلة ثم صلى النبي صلى الله عليه وسلم بهم، فقال لأبي بكر لمَ لم تكن مكانك إذ أمرتك؟ قال: ما كان لابن أبي قحافة أن يصلي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي مرة أخرى في صلاة العصر تأخر رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضاً في نفس المسألة فصلى بهم عبد الرحمن بن عوف فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سبقه عبد الرحمن بن عوف وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يُكمل ما فاته من الصلاة.(2/224)
وهذه كما قلت فضيلة هذه الأمة، ويوم القيامة هذه الفضيلة أيضاً لهذه الأمة عندما ينزل عيسى عليه السلام على جناح الملك وتكون الصلاة قد أقيمت والمهدي قام ليصلي فينظر إلى عيسى فيعرفه فيقدم عيسى بن مريم عليه السلام فيقول عيسى لا إمامكم منكم تكرمة الله لهذه الأمة. وهذه أيضاً فضيلة عظيمة لعبد الرحمن بن عوف، ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم للطهارة فجاء عبد الرحمن بن عوف وقد بهم ركعة فصلى خلفه وأتم الذي فاته وقال ما قبض نبي حتى يصلي خلف رجل صالح من أمته. وعن أبي سلمة عن أبيه أنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فذهب النبي صلى الله عليه وسلم لحاجته فأدركهم وقت الصلاة فأقاموا الصلاة فتقدمهم عبد الرحمن فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فصلى مع الناس خلفه ركعة فلما سلم قال أصبتم أو قال أحسنتم، وقد اختاروا أفضلهم وأقرأهم فقد أمَّ بهم .
صفات عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - الخَلْقِية :
[*] أورد الذهبي في سير أعلام النبلاء عن سهلة بنت عاصم قالت كان عبد الرحمن بن عوف أبيض أعين أهدب الاشفار أقنى طويل النابين الأعليين ربما أدمى نابه شفته له جمة أسفل من أذنيه أعنق ضخم الكتفين .
[*] أورد الذهبي في سير أعلام النبلاء عن ابن إسحاق قال كان ساقط الثنيتين أهتم أعسر أعرج كان أصيب يوم أحد فهتم وجرح عشرين جراحة بعضها في رجله فعرج .
[*] أورد الذهبي في سير أعلام النبلاء عن يعقوب بن عتبة قال وكان عبد الرحمن رجلا طوالا حسن الوجه رقيق البشرة فيه جنأ أبيض مشرباً حمرة لا يغير شيبه .
[*] مَنَاقِبِ عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - :
لعبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - مناقب عظيمة وفضائل جسيمة وهاك غيضٌ من فيض ونقطةٌ من بحر مما ورد في ذلك جملةً وتفصيلاً :
أولاً مناقب عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - جملة ً :
(1) عبد الرحمن بن عوف أحد العشرة المبشرين بالجنة وأنه من أهل بدر ومن الذين بايعوا تحت الشجرة :(2/225)
(2) بر عبد الرحمن بن عوف بأمهات المؤمنين :
(3) خوف عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وبكاؤه على بسط الدنيا:
(4) تواضع عبد الرحمن بن عوف :
(5) كان عبد الرحمن بن عوف تاجراً موفقاً :
(6) إنفاق عبد الرحمن بن عوف في سبيل الله :
(7) ومن أفضل مناقب عبد الرحمن عزله نفسه من الأمر وقت الشورى واختياره للأمة من أشار به أهل الحل .
(8) زهد عبد الرحمن بن عوف في الإمارة :
(9) مكانة عبد الرحمن بن عوف بين الصحابة :
ثانياً مناقب عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - تفصيلا ً :
(1) عبد الرحمن بن عوف أحد العشرة المبشرين بالجنة وأنه من أهل بدر ومن الذين بايعوا تحت الشجرة :
ومن مناقب عبد الرحمن بن عوف أن النبي صلى الله عليه وسلم شهد له بالجنة وأنه من أهل بدر الذين قيل لهم ( اعملوا ما شئتم ، ومن أهل هذه الآية (لّقَدْ رَضِيَ اللّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشّجَرَةِ ) [ الفتح : 18] وقد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وراءه .
( حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أبو بكر في الجنة وعمر في الجنة وعثمان في الجنة وعليٌ في الجنة وطلحة في الجنة والزبير في الجنة وعبد الرحمن بن عوف في الجنة وسعدُ ابن أبي وقاص في الجنة وسعيدُ ابن زيد في الجنة وأبو عبيدة بن الجراح في الجنة .
[*] قال العلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:(2/226)
قَالَ الْمُنَاوِيُّ: تَبْشِيرُ الْعَشَرَةِ لَا يُنَافِي مَجِيءَ تَبْشِيرِ غَيْرِهِمْ أَيْضًا فِي غَيْرِ مَا خَبَرٍ؛ لِأَنَّ الْعَدَدَ لَا يَنْفِي الزَّائِدَ، وَقَالَ الْقَارِي: الظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا التَّرْتِيبَ هُوَ الْمَذْكُورُ عَلَى لِسَانِهِ - صلى الله عليه وسلم - كَمَا يُشِيرُ إِلَيْهِ ذِكْرُ اسْمِ الرَّاوِي بَيْنَ الْأَسْمَاءِ وَإِلَّا كَانَ مُقْتَضَى التَّوَاضُعِ أَنْ يَذْكُرَهُ فِي آخِرِهِمْ فَيَنْبَغِي أَنْ يُعْتَمَدَ عَلَيْهِ فِي تَرْتِيبِ الْبَقِيَّةِ مِنَ الْعَشَرَةِ.انْتَهَى
ومن أعظم مناقب عبد الرحمن بن عوف أنه من أهل بدر :
أهل بدر:
أهل بدر هم الذين قاتلوا في غزوة بدر من المسلمين ، وعددهم ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا . والفضيلة التي حصلت لهم أن الله اطلع عليهم وقال:(اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ) ومعناه أن ما يحصل منهم من المعاصي يغفره الله بسبب الحسنة الكبيرة التي نالوها في غزوة بدر ، ويتضمن هذا بشارة بأنه لن يرتد أحد منهم عن الإسلام .
( حديث رفاعة بن رافع الزُرْقِي رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري ) قال: جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما تعدون أهل بدر فيكم ؟ قال: (من أفضل المسلمين). أو كلمة نحوها، قال: وكذلك من شهد بدرا من الملائكة.(2/227)
( حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد، فقال: (انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها ظعينة معها كتاب، فخذوه منها). فذهبنا تعادى بنا خيلنا حتى أتينا الروضة، فإذا نحن بالظعينة، فقلنا: أخرجي الكتاب، فقالت: ما معي من كتاب، فقلنا: لتخرجن الكتاب أو لنلقين الثياب، فأخرجته من عقاصها، فأتينا به النبي صلى الله عليه وسلم فإذا فيه: من حاطب ابن أبي بلتعة إلى أناس من المشركين ممن بمكة، يخبرهم ببعض أمر النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما هذا يا حاطب). قال: لا تعجل علي يا رسول الله، إني كنت امرأ من قريش، ولم أكن من أنفسهم، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها أهليهم وأموالهم بمكة، فأحببت إذ فاتني من النسب فيهم، أن أصطنع إليهم يدا يحمون قرابتي، وما فعلت ذلك كفرا، ولا ارتدادا عن ديني. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنه قد صدقكم). فقال عمر: دعني يا رسول الله فأضرب عنقه، فقال: (إنه شهد بدرا، وما يدريك؟ لعل الله عز وجل اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم).
(2) بره بأمهات المؤمنين :
علم النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه رضي الله عنهم كيف ينفقون الأموال وما أعطاهم الله تبارك وتعالى في سبيل الله ومواقع رضاء الله، وكيف كان ذلك أحبَّ إليهم من الإِنفاق على أنفسهم، وكيف كانوا يُؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة
ولقد ضرب عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أروع المثل في ذلك ومن ذلك بره بأمهات المؤمنين .(2/228)
( حديث أَبِي سَلَمَة ابن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي )عَنْ عَائِشَةَ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَقُولُ إِنَّ أَمْرَكُنَّ مِمَّا يُهِمُّنِي بَعْدِي وَلَنْ يَصْبِرَ عَلَيْكُنَّ إِلَّا الصَّابِرُونَ قَالَ ثُمَّ تَقُولُ عَائِشَةُ فَسَقَى اللَّهُ أَبَاكَ مِنْ سَلْسَبِيلِ الْجَنَّةِ تُرِيدُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ وَكَانَ قَدْ وَصَلَ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِمَالٍ يُقَالُ بِيعَتْ بِأَرْبَعِينَ أَلْفًا .
[*] قال العلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:
إِنَّ أَمْرَكُنَّ" أَيْ: شَأْنَكُنَّ " لَمِمَّا" اللَّامُ لِلتَّأْكِيدِ وَمَا مَوْصُولَةٌ " يُهِمُّنِي" بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْهَاءِ، أَوْ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الْهَاءِ أَيْ: يُوقِعُنِي فِي الْهَمِّ قَالَ فِي الْقَامُوسِ: هَمَّهُ الْأَمْرُ هَمًّا حَزَّنَهُ كَأَهَمَّهُ " بَعْدِي" أَيْ: بَعْدَ وَفَاتِي حَيْثُ لَمْ يَتْرُكْ لَهُنَّ مِيرَاثًا، وَهُنَّ قَدْ آثَرْنَ الْحَيَاةَ الْآخِرَةَ عَلَى الدُّنْيَا حِينَ خُيِّرْنَ " وَلَنْ يَصْبِرَ عَلَيْكُنَّ" أَيْ: عَلَى بَلَاءِ مُؤْنَتِكُنَّ " إِلَّا الصَّابِرُونَ" أَيْ: عَلَى مُخَالَفَةِ النَّفْسِ مِنَ اخْتِيَارِ الْقِلَّةِ وَإِعْطَاءِ الزِّيَادَةِ ( قَالَ ) أَيْ: أَبُو سَلَمَةَ ( فَسَقَى اللَّهُ أَبَاكَ ) أَيْ: عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ ( مِنْ سَلْسَبِيلِ الْجَنَّةِ ) قَالَ فِي الْقَامُوسِ: السَّلْسَبِيلُ: اللَّبَنُ الَّذِي لَا خُشُونَةَ فِيهِ، وَالْخَمْرُ، وَعَيْنٌ فِي الْجَنَّةِ.انْتَهَى
( حديث أَبِي سَلَمَة ابن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي ) أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ أَوْصَى بِحَدِيقَةٍ لِأُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ بِيعَتْ بِأَرْبَعِ مِائَةِ أَلْفٍ .(2/229)
[*] قال العلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:
( بِيعَتْ بِأَرْبَعِمِائَةِ أَلْفٍ ) هَذَا مُخَالِفٌ لِلرِّوَايَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ فَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ الدِّرْهَمُ، وَفِي الرِّوَايَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ الدِّينَارُ.
(3) خوف عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وبكاؤه على بسط الدنيا:
( حديث إبراهيم ابن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري ) أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أتي بطعام، وكان صائما، فقال: قتل مصعب بن عمير، وهو خير مني، كفن في بردة: إن غطي رأسه بدت رجلاه، وإن غطي رجلاه بدا رأسه. وأراه قال: وقتل حمزة، وهو خير مني، ثم بسط لنا من الدنيا ما بسط، أو قال: أعطينا من الدنيا ما أعطينا، وقد خشينا أن تكون حسناتنا عجلت لنا، ثم جعل يبكي حتى ترك الطعام.
وعن نوفل بن اياس الهذلي قال كان عبد الرحمن لنا جليساً وكان نعم الجليس - لأنه دائما يذكرهم بالله جل في علاه ويذكرهم بحديث النبي صلى الله عليه وسلم - قال: كان لنا جليساً وكان نعم الجليس وإنه انقلب بنا يوماً حتى دخلنا بيته ودخل فاغتسل ثم خرج فجلس معنا وأتينا بصحفة فيها خبز ولحم فلما وُضعت بكى عبد الرحمن بن عوف، فقلنا له يا أبا محمد ما يُبكيك؟ فقال: هلك رسول الله صلى الله عليه وسلم - يعني مات - ولم يشبع هو وأهل بيته من خبز الشعير ولا أرانا إلا عُجلت لنا طيباتنا في هذه الحياة الدنيا. فليخشى كل امرئ فُتحت عليه الدنيا أن الله جل في علاه إن لم يرى في هذا المال حقه فإن الله جل وعلا قد استدرجه بهذا المال.
(4) تواضع عبد الرحمن بن عوف:
وعن سعيد بن حسين قال كان عبد الرحمن بن عوف لا يُعرف من بين عبيده، لأنه كان متواضعاً كأنه مثل الرقيق يحمل كما يحملون يأكل كما يأكلون يسير كما يسيرون. والتواضع سمة الصالحين المتقين المؤمنون.(2/230)
[*] أورد الذهبي في سير أعلام النبلاء عن سعد بن الحسن قال كان عبد الرحمن بن عوف لا يعرف من بين عبيده .
(5) كان عبد الرحمن بن عوف تاجراً موفقاً :
كان -رضي الله عنه- محظوظا بالتجارة إلى حد أثار عَجَبه فقال: { لقد رأيتني لو رفعت حجرا لوجدت تحته فضة وذهبا } . كذا في البداية
[*] أورد الذهبي في سير أعلام النبلاء عن بن عبد البر كان مجدودا في التجارة خلف ألف بعير وثلاثة آلاف شاة ومئةفرس وكان يزرع بالجرف على عشرين ناضحا .
قال الذهبي رحمه الله :
قلت هذا هو الغني الشاكر وأويس فقير صابر وأبو ذر أو أبو عبيدة زاهد عفيف .
[*] أورد الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أنس قال رأيت عبد الرحمن بن عوف قسم لكل امرأة من نسائه بعد موته مئة ألف .
[*] أورد الذهبي في سير أعلام النبلاء عن ابن سيرين قال اقتسمن ثمنهن ثلاث مئة ألف وعشرين ألفا .
{ تنبيه } : وكانت التجارة عند عبد الرحمن بن عوف عملاً وسعياً لا لجمع المال ولكن للعيش الشريف، وهذا ما نراه حين آخى الرسول صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار، فآخى بين عبد الرحمن بن عوف و سعد بن ربيع،فقال سعد لعبد الرحمن: { أخي أنا أكثر أهل المدينة مالا، فانظر شطر مالي فخذه، وتحتي امرأتان، فانظر أيتهما أعجب لك حتى أطلّقها وتتزوجها } .
فقال عبد الرحمن: { بارك الله لك في أهلك ومالك، دُلوني على السوق } وخرج إلى السوق فاشترى وباع وربح00(2/231)
( حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري ) قال: قدم عبد الرحمن بن عوف المدينة، فآخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن الربيع الأنصاري، فعرض عليه أن يناصفه أهله وماله، فقال عبد الرحمن: بارك الله لك في أهلك ومالك، دلني على السوق، فربح شيئا من أقط وسمن، فرآه النبي صلى الله عليه وسلم بعد أيام وعليه وضر من صفرة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (مهيم يا عبد الرحمن). قال: يا رسول الله، تزوجت امرأة من الأنصار، قال: (فما سقت فيها). فقال: وزن نواة من ذهب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أولم ولو بشاة).
(6) إنفاق عبد الرحمن بن عوف في سبيل الله :
كان عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - يقرض الله قرضا حسنا، فيضاعفه الله له أضعافا، فقد باع يوما أرضا بأربعين ألف دينار فرّقها جميعا على أهله من بني زُهرة وأمهات المسلمين وفقراء المسلمين،وقدّم خمسمائة فرس لجيوش الإسلام، ويوما آخر ألفا وخمسمائة راحلة، وعند موته أوصى بخمسين ألف دينار في سبيل الله، وأربعمائة دينار لكل من بقي ممن شهدوا بدرا حتى وصل للخليفة عثمان نصيبا من الوصية فأخذها وقال: { أن مال عبد الرحمن حلال صَفْو، وإن الطُعْمَة منه عافية وبركة } .
وبلغ من جود عبد الرحمن بن عوف أنه قيل: { أهل المدينة جميعا شركاء لابن عوف في ماله، ثُلث يقرضهم، وثُلث يقضي عنهم ديونهم، وثلث يصِلَهم ويُعطيهم } .
[*] أورد الذهبي في سير أعلام النبلاء عن طلحة بن عبد الله بن عوف قال كان أهل المدينة عيالا على عبد الرحمن بن عوف ثلث يقرضهم ماله وثلث يقضي دينهم ويصل ثلثا.
[*] أورد الذهبي في سير أعلام النبلاء عن قتادة (الّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطّوّعِينَ ) [ التوبة : 79]
قال تصدق عبد الرحمن بن عوف بشطر ماله أربعة آلاف دينار فقال أناس من المنافقين إن عبد الرحمن لعظيم الرياء .(2/232)
[*] أورد الذهبي في سير أعلام النبلاء عن جعفر بن برقان قال بلغني أن عبد الرحمن بن عوف أعتق ثلاثين ألف بيت .
[*] أورد الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الزهري قال تصدق ابن عوف على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بشطر ماله أربعة آلاف ثم تصدق بأربعين ألف دينار وحمل على خمس مئة فرس في سبيل الله ثم حمل على خمس مئة راحلة في سبيل الله وكان عامة ماله من التجارة .
[*] أورد الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عروة أن عبد الرحمن بن عوف أوصى بخمسين ألف دينار في سبيل الله فكان الرجل يعطى منها ألف دينار .
[*] أورد الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الزهري أن عبد الرحمن أوصى للبدريين فوجدوا مئة فأعطى كل واحد منهم أربع مئة دينار فكان منهم عثمان .
[*] أورد الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الزهري أن عبد الرحمن أوصى بألف فرس في سبيل الله .
[*] أورد الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أبي سلمة عن أبيه قال رأيت الجنة وأني دخلتها حبوا ورأيت أنه لا يدخلها إلا الفقراء .
قال الذهبي رحمه الله : قلت إسناده حسن فهو وغيره منام والمنام له تأويل وقد انتفع ابن عوف رضي الله عنه بما رأى وبما بلغه حتى تصدق بأموال عظيمة أطلقت له ولله الحمد قدميه وصار من ورقة الفردوس فلا ضير .
(7) ومن أفضل مناقب عبد الرحمن عزله نفسه من الأمر وقت الشورى واختياره للأمة من أشار به أهل الحل .
[*] قال الذهبي في سير أعلام النبلاء :
ومن أفضل مناقب عبد الرحمن بن عوف عزله نفسه من الأمر وقت الشورى واختياره للأمة من أشار به أهل الحل والعقد فنهض في ذلك أتم نهوض على جمع الأمة على عثمان ولو كان محابيا فيها لأخذها لنفسه أو لولاها ابن عمه وأقرب الجماعة إليه سعد بن أبي وقاص .(2/233)
[*] أورد الذهبي في سير أعلام النبلاء عن ابن عمر أن عبد الرحمن قال لأهل الشورى هل لكم أن اختار لكم وأنفصل منها قال علي نعم أنا أول من رضي فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ( إنك أمين في أهل السماء وأمين في أهل الارض .
(8) زهد عبد الرحمن بن عوف في الإمارة :
[*] أورد الذهبي في سير أعلام النبلاء عن سعد بن أبي وقاص أرسل إلى عبد الرحمن رجلا وهو قائم يخطب أن ارفع رأسك إلى أمر الناس أي ادع إلى نفسك فقال عبد الرحمن ثكلتك أمك إنه لن يلي هذا الأمر أحد بعد عمر إلا لامه الناس .
[*] أورد الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عبد الرحمن بن أزهر عن أبيه أن عثمان اشتكى رعافا فدعا حمران فقال اكتب لعبد الرحمن العهد من بعدي فكتب له وانطلق حمران إلى عبد الرحمن فقال البشرى قال وما ذاك قال إن عثمان قد كتب لك العهد من بعده فقام بين القبر والمنبر فدعا فقال اللهم إن كان من تولية عثمان إياي هذا الأمر فأمتني قبله فلم يمكث الا ستة أشهر حتى قبضه الله .
(9) مكانة عبد الرحمن بن عوف بين الصحابة :
[*] أورد الذهبي في سير أعلام النبلاء عن صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه قال كنا نسير مع عثمان في طريق مكة إذ رأى عبد الرحمن بن عوف فقال عثمان ما يستطيع أحد أن يعتد على هذا الشيخ فضلا في الهجرتين جميعا .
[*] أورد الذهبي في سير أعلام النبلاء عن ابن المسيب قال كان بين طلحة وابن عوف تباعد فمرض طلحة فجاء عبد الرحمن يعوده فقال طلحة أنت والله يا أخي خير مني قال لا تفعل يا أخي قال بلى والله لأنك لو مرضت ما عدتك .
[*] أورد الذهبي في سير أعلام النبلاء عن علي أنه قال يوم مات عبد الرحمن بن عوف اذهب يا ابن عوف فقد أدركت صفوها وسبقت رنقها .
الرنق : الكدر
وفاة عبد الرحمن بن عوف :
أرخ المدائني والهيثم بن عدي وجماعة وفاته في سنة إثنتين وثلاثين وقال المدائني ودفن بالبقيع وقال يعقوب بن المغيرة عاش خمسا وسبعين سنة .(2/234)
ثانياً : صورٌ مشرقة من زهد عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - :
لقد فهم عبد الرحمن ابن عوف - رضي الله عنه - من خلال معايشته للقرآن الكريم، ومصاحبته للنبي الأمين صلى الله عليه وسلم ومن تفكره في هذه الحياة بأن الدنيا دار اختبار وابتلاء، وعليه فإنها مزرعة للآخرة، ولذلك تحرر من سيطرة الدنيا بزخارفها، و زينتها، وبريقها، وطلقها ثلاثة ونفض يديه منها ، وخضع وانقاد وأسلم نفسه لربه ظاهرا وباطنا، فكانت الدنيا في يده ولم تقترب من قلبه الشريف ، وقد وصل إلى حقائق استقرت في قلبه ساعدته على الزهد في هذه الدنيا ومن هذه الحقائق ما يلي :
(1) اليقين التام بأننا في هذه الدنيا أشبه بالغرباء، أو عابري سبيل كما قال النبى صلى الله عليه وسلم: كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ .
( حديث بن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح البخاري ) قال:أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل). وكان ابن عمر يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك.
(2) أن هذه الدنيا لا وزن لها ولا قيمة عند رب العزة إلا ما كان منها طاعة لله تبارك وتعالى :
( حديث سهل بن سعد رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء .
( حديث أبي هريرة في صحيح ابن ماجة ) أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه وعالماً أو متعلما .
(3) أن عمرها قد قارب على الانتهاء :
( حديث أنس رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : بعثت أنا والساعة كهاتين قال وضم السبابة والوسطى .
(4) أن الآخرة هى الباقية، وهى دار القرار :
كما قال مؤمن آل فرعون:(2/235)
( يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ * مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ ) [ غافر: 39 ، 40]
كانت هذه الحقائق قد استقرت في قلب أبي بكر، فترِفَّع رضي الله عنه عن الدنيا وحطامها وزهد فيها،
وهاك بعض صور زهده رضي الله عنه :
- يتجلى زهد عبد الرحمن ابن عوف رضي الله عنه في إنفاقه للمال في سبيل الله تعالى : فقد وَعَى حقيقة الزهد بحذافيره وأيقن أن الزهد ليس بأن لا تملك المال بل الزهد أن تملك الدنيا كلها لكنها تكون في يدك وليست في قلبك ، كانت الدنيا في يده ولم تقترب من قلبه الشريف رضي الله عنه فكان آيةً في الجود والسخاء والبذل والإنفاق في سبيل الله تعالى ، ويتجلى ذلك في المواقف الآتية :
على الرغم من أن عبد الرحمن بن عوف تاجراً موفقاً فقد كان -رضي الله عنه- محظوظا بالتجارة إلى حد أثار عَجَبه فقال: { لقد رأيتني لو رفعت حجرا لوجدت تحته فضة وذهبا } .
إلا أن التجارة كانت عند عبد الرحمن بن عوف عملاً وسعياً لا لجمع المال ولكن للعيش الشريف، وهذا ما نراه حين آخى الرسول صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار، فآخى بين عبد الرحمن بن عوف و سعد بن ربيع،فقال سعد لعبد الرحمن: { أخي أنا أكثر أهل المدينة مالا، فانظر شطر مالي فخذه، وتحتي امرأتان، فانظر أيتهما أعجب لك حتى أطلّقها وتتزوجها } .
فقال عبد الرحمن: { بارك الله لك في أهلك ومالك، دُلوني على السوق } وخرج إلى السوق فاشترى وباع وربح00(2/236)
( حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري ) قال: قدم عبد الرحمن بن عوف المدينة، فآخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن الربيع الأنصاري، فعرض عليه أن يناصفه أهله وماله، فقال عبد الرحمن: بارك الله لك في أهلك ومالك، دلني على السوق، فربح شيئا من أقط وسمن، فرآه النبي صلى الله عليه وسلم بعد أيام وعليه وضر من صفرة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (مهيم يا عبد الرحمن). قال: يا رسول الله، تزوجت امرأة من الأنصار، قال: (فما سقت فيها). فقال: وزن نواة من ذهب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أولم ولو بشاة).
كان عبد الرحمن ابن عوف رضي الله عنه آية في الزهد والعزوف عن الدنيا والرغبة في الآخرة مع ما توفر لديه من ثراء عظيم، ومال وفير، فقد وَعَى حقيقة الزهد بحذافيره وأن الزهد أن يكون المال في يدك وليس في قلبك فكان آيةً في الجود والسخاء والبذل والإنفاق في سبيل الله تعالى ، فكان المال في يده ولم يقترب من قلبه الشريف رضي الله عنه ، ولقد كان رضي الله عنه حريصاً على أن يتصدق بثلثي ماله عندما مرض لولا أن أن أمره النبي بالثلث فقط ، وهذا يدل على أنه آيةٌ في الزهد فكان المال في يده ولم يقترب من قلبه الشريف رضي الله عنه .
فكان - رضي الله عنه - يقرض الله قرضا حسنا، فيضاعفه الله له أضعافا، فقد باع يوما أرضا بأربعين ألف دينار فرّقها جميعا على أهله من بني زُهرة وأمهات المسلمين وفقراء المسلمين،وقدّم خمسمائة فرس لجيوش الإسلام، ويوما آخر ألفا وخمسمائة راحلة، وعند موته أوصى بخمسين ألف دينار في سبيل الله، وأربعمائة دينار لكل من بقي ممن شهدوا بدرا حتى وصل للخليفة عثمان نصيبا من الوصية فأخذها وقال: { أن مال عبد الرحمن حلال صَفْو، وإن الطُعْمَة منه عافية وبركة } .(2/237)
وبلغ من جود عبد الرحمن بن عوف أنه قيل: { أهل المدينة جميعا شركاء لابن عوف في ماله، ثُلث يقرضهم، وثُلث يقضي عنهم ديونهم، وثلث يصِلَهم ويُعطيهم } .
[*] سيرة سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - :
وسوف نتناول شيئين أساسيين في هذه السيرة العطرة وهما :
أولاً : لمحات من سيرة سعدِ ابن أبي وقاص - رضي الله عنه - :
ثانياً : صورٌ مشرقة من زهد سعدِ ابن أبي وقاص - رضي الله عنه - :
وهاك تفصيل ذلك :
أولاً : لمحات من سيرة سعدِ ابن أبي وقاص - رضي الله عنه - :
[*] قال عنه الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء :
وأما سعد بن أبي وقاص فقديم السبق، بدء أمره مقاساة الشدة، واحتمال الضيقة. وهو مع الرسول صلى الله عليه وسلم بمكة هون عليه تحمل الأثقال، ومفارقة العشيرة والمال، لما باشر قلبه من حلاوة الاقبال، ونصر على الأعداء بالمقاتلة والنضال ، وخص بالاجابة في المسألة والابتهال، ثم ابتلى في حاله الإمارة والسياسة، وامتحن بالحجابة والحراسة، ففتح الله على يديه السواد والبلدان، ومنح عدة من الإناث والذكران، ثم رغب عن العمالة والولاية، وأثر العزلة والرعاية، وتلافى ما بقي من عمره بالعناية، فهو قدوة من ابتلي في حاله بالتلوين، وحجة من تحصن بالوحدة والعزلة من التفتين، إلى أن تتضح له الشبهة بالحجج والبراهين.
[*] وقال عنه الذهبي في سير أعلام النبلاء :(2/238)
سعد بن أبي وقاص وإسم أبي وقاص مالك بن أهيب عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة ابن كعب بن لؤي الأمير أبو إسحاق القرشي الزهري المكي أحد العشرة وأحد السابقين الأولين وأحد من شهد بدرا والحديبية وأحد الستة أهل الشورى ، روى جملة صالحة من الحديث حدث عنه ابن عمر وعائشة وابن عباس والسائب بن يزيد وبنوه عامر وعمر ومحمد ومصعب وإبراهيم وعائشة وقيس بن أبي حازم وسعيد بن المسيب وأبو عثمان النهدي وعمر بن ميمون والأحنف بن قيس وعلقمة بن قيس وإبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف ومجاهد وشريح بن عبيد الحمصي وأيمن المكي وبشر بن سعيد وأبو عبد الرحمن السلمي وابو صالح ذكوان وعروة بن الزبير وخلق سواهم .
[*] أورد الذهبي في سير أعلام النبلاء عن ابن سعد قال : وأمه حمنة بنت سفيان بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف ،قال إبن مندة أسلم سعد ابن سبع عشرة سنة وكان قصيرا دحداحا شثن الأصابع غليظا ذا هامة توفي بالعقيق في قصره على سبعة أميال من المدينة وحمل إليها سنة خمس وخمسين .
[*] أورد الذهبي في سير أعلام النبلاء عن إسماعيل بن محمد بن سعد قال كان سعد جعد الشعر اشعر الجسد آدم أفطس طويلا .
- اسم سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - ونسبه :
هو سعد بن مالك بن أهيب الزهري القرشي فهو " من بني زهرة " أهل آمنة بنت وهب أم الرسول صلى الله عليه وسلم من الرضاعة ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يُسميه خاله أي أنه من أخواله .
( حديث جابر رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي ) قال: كنا مع رسول الله إذ أقبل سعد، فقال : "هذا خالي، فليرني امرؤ خاله.
[*] قال الذهبي رحمه الله : قلت لأن أم النبي صلى الله عليه وسلم زهرية وهي آمنة بنت وهب بن عبد مناف ابنة عم أبي وقاص .
- كنية سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - :
أبو إسحاق .
- إسلام سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - :(2/239)
كان سعد قد رأى وهو ابن سبع عشرة سنة في منامه أنه يغرق في بحر الظلمات، وبينما هو يتخبط فيها، إذ رأى قمرًا، فاتبعه، وقد سبقه إلى هذا القمر ثلاثة، هم : زيد بن حارثة، وعلي بن أبي طالب، وأبو بكر الصديق، ولما طلع الصباح سمع أن رسول الله يدعو إلى دين جديد ، فعلم أن هذا هو القمر الذي رآه ، فذهب على الفور ليلحق بركب السابقين إلى الإسلام ، فكان سعد رضي الله عنه من النفر الذين دخلوا في الإسلام أول ما علموا به فلم يسبقه إلا أبو بكر و علي وزيد و خديجة
قال سعد : بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوا إلى الإسلام مستخفيا فعلمت أن الله أراد بي خيرا وشاء أن يخرجني بسببه من الظلمات إلى النور فمضيت إليه مسرعا حتى لقيته في شعب جياد وقد صلى العصر فأسلمت فما سبقني أحد إلا أبي بكر وعلي وزيد رضي الله عنهم .
*ثورة أم سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - :
[*] أورد الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أبي عثمان أن سعدا قال نزلت هذه الآية في ( وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىَ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيّ ثُمّ إِلَيّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) [ لقمان : 15]
قال كنت برا بأمي فلما أسلمت قالت يا سعد ما هذا الدين الذي قد أحدثت لتدعن دينك هذا أو لا آكل ولا أشرب حتى أموت فتعير بي فيقال يا قاتل أمه قلت لا تفعلي يا أمه إني لا أدع ديني هذا لشيء فمكثت يوماً لا تأكل ولا تشرب وليلة وأصبحت وقد جهدت فلما رأيت ذلك قلت يا أمه تعلمين والله لو كان لك مئة نفس فخرجت نفسا نفسا ما تركت ديني إن شئت فكلي أو لا تأكلي فلما رأت ذلك أكلت .
- أوصاف سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - الأخلاقية: ...(2/240)
كان سعد رضي الله عنه راجح العقل , بعيد النظر, متين الخلقة , عف اليد واللسان , بارا بأهله , وفياً لأصحابه أحب قريش للناس, بل أحب الناس للناس و أرفقهم بهم , يتوقى الشبهات ورعا .
- وفاة سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - :
وعمر سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه كثيرا وأفاء الله عليه من المال الخير الكثير لكنه حين أدركته الوفاة دعا بجبة من صوف بالية وقال :
كفنوني بها فاني لقيت بها المشركين يوم بدرواني أريد أن ألقى بها الله عز وجل أيضا .
وكان رأسه بحجر ابنه الباكي فقال له : ما يبكيك يا بني ؟ إن الله لا يعذبني أبدا ، وإني من أهل الجنة .
واقتربت ابنته عائشة منه، وكانت تبكي وتقول: يا أبي!! أتموت هنا وحدك في الصحراء بعد صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر ..؟!!
فقال لها: لا تبكي علي فوالله إني من أهل الجنة .
قال الذهبي معلقاً: صدق رضي الله عنه وأرضاه، فهنيئاً له، ومريئاً، نُشهد الله ونُدين الله بأنه من أهل الجنة، وارتفعت جنازته إلى المدينة ليصلى عليها هناك، وخرج الصحابة يتباكون، ويقولون: رضي الله عنك يا أبا إسحاق لِلَّهِ عشت حميداً، ومت حميداً وتلقى الله يوم القيامة سعيداً، وخرج أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم متحجباتٍ من الحجرات يبكين، ويقلنَ: مروا بسعد علينا سقى الله سعداً من سلسبيل الجنة نصلي عليه ، فمروا به عليهن بعد أن صلوا عليه، فصلين عليه كذلك ودعون له، ووقف أحد الصحابة على جثمان سعد ، وهو في أكفانه وقال: والله ما أعلم أشجع منك، والله ما أريد أن ألقى الله بعمل رجلٍ كعملك، ذهبت عن الفتنة نظيفاً سليماً رضي الله عنك وأرضاك ، فقد كان إيمانه بصدق بشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم كبيرا وكانت وفاته سنة خمس وخمسين بالعقيق، فحمل على الأعناق إلى المدينة ، ودفن بها ليكون آخر من مات
من العشرة المبشرين بالجنة وآخر من مات من المهاجرين رضي الله عنهم ودفن في البقيع .(2/241)
[*] مناقب سعد ابن أبي وقاص - رضي الله عنه - :
لسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ - رضي الله عنه - مناقب عظيمة وفضائل جسيمة وهاك غيضٌ من فيض ونقطةٌ من بحر مما ورد في ذلك جملةً وتفصيلاً :
أولاً مناقب مَنَاقِبِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ - رضي الله عنه - جملة ً :
(1) سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أحد العشرة المبشرين بالجنة:
(2) سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أحد الستة أصحاب الشورى ومن السابقين الأولين :
(3) دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - له وشهادته له بالصلاح :
(4) مستجاب الدعوة :
(5) شهادة النبي له بالشهادة :
(6) أول دم هريق في الإسلام وأول العرب رمى بسهم في سبيل الله :
(7) شجاعة سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه:
(8) موقف سعد المشرف من الفتنة :
(9) إيثاره للخمول وإنكار الذات :
(10) سعد بن أبي وقاص ممن يدعو ربه بالغداة والعشي :
(11) ومن مناقب سعد أن فتح العراق كان على يدي سعد :
ثانياً مناقب مَنَاقِبِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ - رضي الله عنه - تفصيلا ً :
(1) سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أحد العشرة المبشرين بالجنة:
( حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أبو بكر في الجنة وعمر في الجنة وعثمان في الجنة وعليٌ في الجنة وطلحة في الجنة والزبير في الجنة وعبد الرحمن بن عوف في الجنة وسعدُ ابن أبي وقاص في الجنة وسعيدُ ابن زيد في الجنة وأبو عبيدة بن الجراح في الجنة .
(2) سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أحد الستة أصحاب الشورى ومن السابقين الأولين :
و عندما حضرت عمر رضي الله عنه الوفاة بعد أن طعنه المجوسي جعل الأمر من بعده إلى الستة الذين مات النبي صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض و أحدهم سعد بن أبي وقاص ،
وقال عمر : إن وليها سعد فذاك ، وإن وليها غيره فليستعن بسعد .(2/242)
( حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري ) قال: لقد رأيتني وأنا ثلث الإسلام .
( حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري ) قال: سعد بن أبي وقاص يقول: ما أسلم أحد إلا في اليوم الذي أسلمت فيه، ولقد مكثت سبعة أيام، وإني لثلث الإسلام .
[*] أورد الذهبي في سير أعلام النبلاء عن ابن سعد قال : وأمه حمنة بنت سفيان بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف ،قال إبن مندة أسلم سعد ابن سبع عشرة سنة وكان قصيرا دحداحا شثن الأصابع غليظا ذا هامة توفي بالعقيق في قصره على سبعة أميال من المدينة وحمل إليها سنة خمس وخمسين .
(3) دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - له وشهادته له بالصلاح :
( حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في الصحيحين ) قالت : كان النبي صلى الله عليه وسلم سهر، فلما قدم المدينة، قال: (ليت رجلا من أصحابي صالحا يحرسني الليلة). إذ سمعنا صوت سلاح، فقال: (من هذا). فقال: أنا سعد بن أبي وقاص جئت لأحرسك، ونام النبي صلى الله عليه وسلم.
[*] قال الإمام النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم :
"ليت رجلاً صالحاً يحرسني : فيه جواز الاحتراس من العدو والأخذ بالحزم وترك الإهمال في موضع الحاجة إلى الاحتياط، قال العلماء: وكان هذا الحديث قبل نزول قوله تعالى: { والله يعصمك من الناس } لأنه صلى الله عليه وسلم ترك الاحتراس حين نزلت هذه الاَية وأمر أصحابه بالانصراف عن حراسته.
( حديث عائشة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي ) قالت كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرس حتى نزلت هذه الآية والله يعصمك من الناس فأخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه من القبة فقال لهم يا أيها الناس انصرفوا فقد عصمني .(2/243)
( حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيح مسلم ) قالت * سهر رسول الله صلى الله عليه وسلم مقدمه المدينة ليلة فقال ليت رجلا صالحا من أصحابي يحرسني الليلة قالت فبينا نحن كذلك سمعنا خشخشة سلاح فقال من هذا قال سعد بن أبي وقاص فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جاء بك قال وقع في نفسي خوف على رسول الله صلى الله عليه وسلم فجئت أحرسه فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نام .
[*] قال العلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:
" يَحْرُسُنِي" بِضَمِّ الرَّاءِ أَيْ: يَحْفَظُنِي بَقِيَّةَ اللَّيْلَةِ لِأَنَامَ مُسْتَرِيحَ الْخَاطِرِ مُطْمَئِنَّ الْقَلْبِ
( خَشْخَشَةَ السِّلَاحِ ) بِكَسْرِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ: صَوْتَ صَدْمِ بَعْضِهِ بَعْضًا ( فَقَالَ ) أَيْ: رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ( فَقَالَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ ) أَيْ: أَنَا سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ ( ثُمَّ نَامَ ) زَادَ الْبُخَارِيُّ فِي رِوَايَةٍ: حَتَّى سَمِعْنَا غَطِيطَهُ، وَفِي الْحَدِيثِ الْأَخْذُ بِالْحَذَرِ وَالِاحْتِرَاسِ مِنَ الْعَدُوِّ، وَأَنَّ عَلَى النَّاسِ أَنْ يَحْرُسُوا سُلْطَانَهُمْ خَشْيَةَ الْقَتْلِ، وَفِيهِ الثَّنَاءُ عَلَى مَنْ تَبَرَّعَ بِالْخَيْرِ وَتَسْمِيَتِهِ صَالِحًا، وَإِنَّمَا عَانَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - ذَلِكَ مَعَ قُوَّةِ تَوَكُّلِهِ توكل النبي - صلى الله عليه وسلم - لِلِاسْتِنَانِ بِهِ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ ظَاهَرَ بَيْنَ دِرْعَيْنِ مَعَ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا اشْتَدَّ الْبَأْسُ كَانَ أَمَامَ الْكُلِّ، وَأَيْضًا فَالتَّوَكُّلُ لَا يُنَافِي تَعَاطِي الْأَسْبَابِ؛ لِأَنَّ التَّوَكُّلَ عَمَلُ الْقَلْبِ وَهِيَ عَمَلُ الْبَدَنِ .(2/244)
( حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع له أبويه يوم أحد قال كان رجل من المشركين قد أحرق المسلمين فقال له النبي صلى الله عليه وسلم ارم فداك أبي وأمي قال فنزعت له بسهم ليس فيه نصل فأصبت جنبه فسقط فانكشفت عورته فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نظرت إلى نواجذه .
(4) مستجاب الدعوة :
كان سعد رضي الله عنه مستجاب الدعوة أيضًا، فقد دعا له النبي قائلا: "اللهم استجب لسعد إذا دعاك .
( حديث سعد ابن أبي وقاص رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : اللهم استجب لسعد إذا دعاك .
وهاك صورٌ من إجابة دعوته :
عُيِّنَ سعد أميرًا على الكوفة، أثناء خلافة الفاروق عمر - رضي الله عنه - الذي كان يتابع ولاته ويتقصى أحوال رعيته، وفي يوم من الأيام اتجه عمر - رضي الله عنه - إلى الكوفة ليحقق في شكوى أهلها أن سعدًا يطيل الصلاة، فما مر عمر بمسجد إلا وأحسنوا فيه القول، إلا رجلا واحدًا قال غير ذلك، فكان مما افتراه على سعد: أنه لا يعدل في القضية، ولا يقسم بالسوية، ولا يسير بالسرية - يخرج بالجيش - فدعا سعد عليه قائلاً: اللهم إن كان كاذبًا، فأعم بصره، وأطل عمره، وعرضه للفتن، فكان ذلك الرجل يمشي في الطريق، ويغمز الجواري، وقد سقط حاجباه من عينيه
ولما سئل عن ذلك قال: شيخ مفتون، أصابته دعوة سعد .
وهاك الحديث الدال على ذلك فتأمله بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد ، ودرر الفرائد .(2/245)
( حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري ) قال : شكا أهل الكوفة سعدا إلى عمر رضي الله عنه، فعزله واستعمل عليهم عمارا، فشكوا حتى ذكروا أنه لا يحسن يصلي، فأرسل اليه فقال: يا أبا إسحق إن هؤلاء يزعمون انك لا تحسن تصلي ؟ قال أبو إسحق: أما أنا، والله فإني كنت أصلي بهم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أخرم عنها، أصلي صلاة العشاء، فأركد في الاولين، وأخف في الأخريين. قال: ذاك الظن بك يا أبا إسحق. فأرسل معه رجلا، أو رجالا، إلى الكوفة، فسأل عنه أهل الكوفه، ولم يدع مسجدا إلا سأل عنه، ويثنون معروفا، حتى دخل مسجدا لبني عبس، فقام رجل منهم، يقال له أسامة بن قتادة، يكنى أبا سعدة، قال: أما إذ نشدتنا، فإن سعدا كان لا يسير بالسرية، ولا يقسم بالسوية، ولا يعدل في القضية. قال سعد: أما والله لأدعون بثلاث: اللهم إن كان عبدك هذا كاذبا، قام رياءً وسمعةً، فأطل عمره، وأطل فقره، وعرضه بالفتن. وكان بعد إذا سئل يقول: شيخ كبير مفتون، أصابتني دعوة سعد. قال عبد الملك: فأنا رأيته بعد، قد سقط حاجباه على عينيه من الكبر، وإنه ليتعرض للجواري في الطرق يغمزهن .
وذات يوم سمع سعد رجلاً يسب عليّا وطلحة والزبير، فنهاه فلم ينته، فقال سعد للرجل: إذن أدعو عليك؛ فقال الرجل: أراك تتهددني كأنك نبي؛ فانصرف سعد، وتوضأ، وصلى ركعتين، رفع يديه، وقال: اللهم إن كنت تعلم أن هذا الرجل قد سب أقوامًا سبقت لهم منك الحسنى؛ وأنه قد أسخطك سبه إياهم؛ فاجعله آية وعبرة؛ فلم يمر غير وقت قصير حتى خرجت ناقة هوجاء من أحد البيوت، وهجمت على الرجل الذي سب الصحابة؛ فأخذته بين قوائمها، وما زالت تتخبط حتى مات .(2/246)
أخرج الطبراني عن عامر بن سعد قال: بينما سعد رضي الله عنه يمشي إذ مر برجل وهو يشتم علياً وطلحة والزبير رضي الله عنهم، فقال له سعد: إنك تشتم أقواماً قد سبق لهم من الله ما سبق، والله لتكفنَّ عن شتمهم أو لأدعُونَّ الله عز وجل عليك، قال: يخوفني كأنه نبي فقال سعد: اللهمَّ إن كان يشتم أقواماً قد سبق لهم منك ما سبق فاجعله اليوم نكالاً فجاءت بُخْتِيَّة، فأفرج الناس لها فتخبطته، فرأيت الناس يتبعون سعداً يقولون: استجاب الله لك يا أبا إسحاق. قال الهيثمي : رجاله رجال الصحيح ـ اهـ.
وعند الحاكم عن مصعب بن سعد عن سعد رضي الله عنه أن رجلاً نال من علي رضي الله عنه، فدعا عليه سعد بن مالك، فجاءته ناقة أو جمل فقتله فأعتق سعد نَسَمة وحلف أن لا يدعو على أحد.
وعنده أيضاً عن قيس بن أبي حازم قال: كنت بالمدينة فبينا أنا أطوف في السوق إذ بلغت أحجار الزيت، فرأيت قوماً مجتمعين على فارس قد ركب دابة وهو يشتم علي بن أبي طالب رضي الله عنه والناس وقوف حواليه، إذ أقبل سعد بن أبي وقاص فوقف عليهم، فقال ما هذا؟ فقالوا: رجل يشتم علي بن أبي طالب، فتقدَّم سعد فأفرجوا له حتى وقف عليه، فقال: ما هذا علامَ تشتم علي بن أبي طالب؟ ألم يكن أول من أسلم؟ ألم يكن أول من صلَّى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ألم يكن أزهد الناس؟ ألم يكن أعلم الناس؟ ـ وذكر حتى قال: ألم يكن خَتَنَ رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابنته؟ ألم يكن صاحب راية رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزواته؟ ثم استقبل القبلة ورفع يديه وقال: اللهمَّ إنَّ هذا يشتم ولياً من أوليائك، فلا تفرق هذا الجمع حتى تريهم قدرتك. قال قيس: فوالله ما تفرقنا حتى ساخت به دابته فرمته على هامته في تلك الأحجار فانفقل دماغه ومات. قال الحاكم : ووافقه الذهبي، هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرِّجاه ـ اهـ. وأخرجه أبو نُعيم في الدلائل (ص206) عن ابن المسيَّب نحو السياق الأول.(2/247)
[*] أورد الذهبي في سير أعلام النبلاء عن جابر قال قال ابن عم لنا يوم القادسية * ألم تر أن الله أنزل نصره * وسعد بباب القادسية معصم * * فأبنا وقد آمت نساء كثيرة * ونسوة سعد ليس فيهن أيم * فلما بلغ سعدا قال اللهم اقطع عني لسانه ويده فجاءت نشابة أصابت فاه فخرس ثم قطعت يده في القتال وكان في جسد سعد قروح فأخبر الناس بعذره عن شهود القتال .
[*] أورد الذهبي في سير أعلام النبلاء عن مصعب بن سعد أن رجلا نال من علي فنهاه سعد فلم ينته فدعا عليه فما برح حتى جاء بعير ناد فخبطه حتى مات.
[*] أورد الذهبي في سير أعلام النبلاء عن ابن المسيب أن رجلا كان يقع في علي وطلحة والزبير فجعل سعد ينهاه ويقول لا تقع في إخواني فأبى فقام سعد وصلى ركعتين ودعا فجاء بختي يشق الناس فأخذه بالبلاط فوضعه بين كركرته والبلاط حتى سحقه فأنا رأيت الناس يتبعون سعدا يقولون هنيئا لك يا أبا اسحاق استجيبت دعوتك .
[*] قال الذهبي رحمه الله :
قلت في هذا كرامة مشتركة بين الداعي والذين نيل منهم .
(5) شهادة النبي له بالشهادة :
(حديث سعيد بن زيد رضي الله عنه الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : اثبت حراء فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد ، وعدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وابن عوف وسعيد بن زيد .
(6) أول دم هريق في الإسلام وأول العرب رمى بسهم في سبيل الله :
في بداية الدعوة ، كان أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم إذا صلوا ذهبوا في الشعاب فاستخفوا بصلاتهم من قومهم ، فبينما سعد بن أبي وقاص في نفر من الصحابة في شعب من شعاب مكة ، إذ ظهر عليهم نفر من المشركين وهم يصلون ، فناكروهم وعابوا عليهم ما يصنعون حتى قاتلوهم ، فضرب سعد رضي الله عنه يومئذ رجلا من المشركين بلحي بعير فشجه العظم الذي فيه الأسنان ، فكان أول دم هريق في الإسلام .(2/248)
( حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) قال: إني لأول العرب رمى بسهم في سبيل الله، وكنا نغزو مع النبي صلى الله عليه وسلم وما لنا طعام إلا ورق الشجر، حتى إن أحدنا ليضع كما يضع البعير أو الشاة، ما له خلط، ثم أصبحت بنو أسد تعزرني على الإسلام؟ لقد خبت إذا وضل عملي. وكانوا وشوا بي إلى عمر، قالوا: لا يحسن يصلي.
(7) شجاعة سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه:
كان سعد رضي الله احد الفرسان والشجعان من الصحابة المهاجرين القرشيين اللذين كانوا يحرسون النبي عليه الصلاة والسلام ويلازمونه في حضره في سفره .
وقد ورد بسند جيد عن ابن إسحاق .قال : "كان أشد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة: عمر ابن الخطاب وعلي بن أبي طالب والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهم ".
( حديث عائشة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) قالت : أرق رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فقال ليت رجلا صالحاً من أصحابي يحرسني الليلة قالت وسمعنا صوت السلاح فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا؟ قال سعد بن أبي وقاص يا رسول الله جئت أحرسك ، قالت عائشة فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سمعت غطيطه .
وفي معركة بدر أبلى بلاء حسنا ودافع دفاع الراغبين في طلب الشهادة,
[*] قال ا بن مسعود رضي الله عنه:" اشتركت أنا وسعد بن أبي وقاص وعمار بن ياسر يوم بدر فيما أصبنا من الغنيمه , فما أجيء أنا وعمار بشيء , وجاء سعد بأسيرين, وكان سعد جاهدا مجاهدا في ذات الله بيده وماله ولسانه ودعائه".
[*] أورد الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عبد الله بن مسعود لقد رأيت سعدا يقاتل يوم بدر قتال الفارس في الرجال .
[*] أورد الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أبي إسحاق قال أشد الصحابة أربعة عمر وعلي والزبير وسعد .(2/249)
[*] أورد الذهبي في سير أعلام النبلاء عن إسحاق بن سعد ابن أبي وقاص حدثني أبي أن عبد الله بن جحش قال يوم أحد ألا تأتي ندعو الله تعالى فخلوا في ناحية فدعا سعد فقال يا رب إذا لقينا العدو غدا فلقني رجلا شديدا بأسه شديدا حرده أقاتله ويقاتلني ثم ارزقني الظفر عليه حتى أقتله وآخذ سلبه فأمن عبد الله ثم قال اللهم ارزقني غدا رجلا شديدا بأسه شديدا حرده فأقاتله ويقاتلني ثم يأخذني فيجدع أنفي وأذني فإذا لقيتك غدا قلت لي يا عبدالله فيم جدع أنفك وأذناك فأقول فيك وفي رسولك فتقول صدقت قال سعد كانت دعوته خيرا من دعوتي فلقد رأيته آخر النهار وإن أنفه وأذنه لمعلق في خيط أبو عوانة وجماعة.
أول من رمى بسهمٍ في سبيل الله :
بعثه الرسول صلى الله عليه وسلم في سرية عبيدة بن الحارث رضي الله عنه إلى ماء بالحجاز أسفل ثنية المرة فلقوا جمعا من قريش ولم يكن بينهم قتال ألا أن سعد قد رمى يومئذ بسهم فكان أول سهم رمي به في الإسلام .
( حديث عاصم الأحول الثابت في صحيح مسلم ) قال: حدثني أبو عثمان قال: حدثني سعد بن مالك قال: سمعته أذناي ووعاه قلبي من محمد صلى الله عليه وسلم أنه قال: من ادعى إلى غير أبيه وهو يعلم أنه غير أبيه فالجنة عليه حرام "" قال: فلقيت أبا بكرة فذكرت ذلك له فقال: سمعته أذناي ووعاه قلبي من محمد صلى الله عليه وسلم .
قال عاصم فقلت: يا أبا عثمان ، لقد شهد عندك رجلان أيما رجلين ، فقال: أما أحدهما فأول من رمى بسهم في سبيل الله أو في الإسلام ، يعني سعد بن مالك ، والآخر قدم من الطائف في بضعة وعشرين رجلا على أقدامهم ، فذكر فضلا .(2/250)
أخرج ابن عساكر عن الزهري قال: بعث رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم سريّة فيها سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه إلى جانب من الحجاز يدعى رابغ، فانكفأ المشركون على المسلمين، فجاءهم سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه يومئذٍ بسهامه، وكان أول من رمى في سبيل الله، وكان هذا أول قتال في الإِسلام. وقال سعد رضي الله عنه في رميه:
ألا هل أتى رسولَ الله أتي
حَمَيْت صحابتي بصدور نبلي
أذود بها أوائلَهم ذياداً
بكل حزونة بكل سهلِ
فما يَعْتَدُّ رامٍ في عدو
بسهم يا رسول الله قبلي
كذا في المنتخب عن ابن عساكر.
غزوة أحد :
وشارك في أحد وتفرق الناس أول الأمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ووقف سعد يجاهد ويقاتل فلما رآه الرسول صلى الله عليه وسلم يرمي جعل يحرضه ويقول له : يا سعد ارم فداك أبي وأمي .
وظل سعد يفتخر بهذه الكلمة طوال حياته ويقول : ما جمع الرسول صلى الله عليه وسلم لأحد أبويه إلا لي وذلك حين فداه بهما .
( حديث عليّ رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) قال :ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يفدي رجلا بعد سعد، سمعته يقول: ارم فداك أبي وأمي .
ارم فداك أبي وأمي : وَفِي هَذِهِ التَّفْدِيَةِ تَعْظِيمٌ لِقَدْرِهِ وَاعْتِدَادٌ بِعَمَلِهِ وَاعْتِبَارٌ بِأَمْرِهِ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُفَدِّي إِلَّا مَنْ يُعَظِّمُهُ فَيَبْذُلُ نَفْسَهُ، أَوْ أَعَزَّ أَهْلِهِ لَهُ .
[*] قال الإمام النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم :
وفي رواية عن سعد قال: (جمع لي رسول الله صلى الله عليه وسلم أبويه يوم أحد فقال ارم فداك أبي وأمي) فيه جواز التفدية بالأبوين، وبه قال جماهير العلماء، وكرهه عمر بن الخطاب والحسن البصري رضي الله عنهما، وكرهه بعضهم في التفدية بالمسلم من أبويه، والصحيح الجواز مطلقاً لأنه ليس فيه حقيقه فداء وإنما هو كلام وألطاف وإعلام بمحبته له ومنزلته، وقد وردت الأحاديث الصحيحة بالتفدية مطلقاً .(2/251)
قتله ثلاثة بسهم واحد يوم أُحد :
وأخرج ابن عساكر عن ابن شهاب قال: قَتلَ سعد رضي الله عنه يوم أُحد بسهم واحد ثلاثة، رمى به؛ فردّ عليهم فرموا به، فأخذه فرمى به سعد رضي الله عنه الثانية، فَقَتَل؛ فردّ عليهم، فرمى به الثالثة، فَقَتَل، فعجب الناس مما فعل سعد رضي الله عنه، فقال: إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أنبلنيه. قال: وجمع له رسول الله صلى الله عليه وسلم أبويه. كذا في منتخب الكنز .
وأخرج البزَّار عن ابن مسعود رضي الله عنه قل: كان سعد رضي الله عنه يقتل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر قتال الفارس والراجل. قال الهيثمي : رواه البزَّار بإسنادين: أحدهما متصل، والآخر مرسل، ورجالهما ثقات. انتهى.
*إمرة الجيش :
عندما احتدم القتال مع الفرس ، أراد أمير المؤمنين عمر أن يقود الجيش بنفسه ، ولكن رأى الصحابة أن تولى هذه الإمارة لرجل آخر واقترح عبد الرحمن بن عوف : الأسد في براثنه ، سعد بن مالك الزهري وقد ولاه عمر رضي الله عنه إمرة جيش المسلمين الذي حارب الفرس في القادسية وكتب الله النصر للمسلمين وقتلوا الكافرين وزعيمهم رستم وعبر مع المسلمين نهر دجلة حتى وصلوا المدائن وفتحوها ، وكان إعجازا عبور النهر بموسم فيضانه حتى أن سلمان الفارسي قد قال :إن الإسلام جديد ، ذللت والله لهم البحار ، كما ذللت لهم البر ، والذي نفس سلمان بيده ليخرجن منه أفواجا ، كما دخلوه أفواجا .
وبالفعل أمن القائد الفذ سعد مكان وصول الجيش بالضفة الأخرى بكتيبة الأهوال وكتيبة الخرساء ، ثم اقتحم النهر بجيشه ولم يخسر جنديا واحدا في مشهد رائع ، ونجاح باهر ودخل سعد بن أبي وقاص إيوان كسرى وصلى فيه ثماني ركعات صلاة الفتح شكرا لله على
نصرهم .
*إمارة العراق :
ولاه عمر رضي الله عنهما إمارة العراق ، فراح سعد يبني ويعمر في الكوفة ، وذات يوم اشتكاه أهل الكوفة لأمير المؤمنين فقالوا : إن سعدا لا يحسن يصلي(2/252)
ويضحك سعدا قائلا : والله إني لأصلي بهم صلاة رسول الله ، أطيل في الركعتين الأوليين وأقصر في الآخرين .
واستدعاه عمر إلى المدينة فلبى مسرعا ، وحين أراد أن يعيده إلى الكوفة ضحك سعدا قائلا : أتأمرني أن أعود إلى قوم يزعمون أني لا أحسن الصلاة .
ويؤثر البقاء في المدينة .
(8) موقف سعد المشرف من الفتنة :
اعتزل سعد الفتنة وأمر أهله وأولاده ألا ينقلوا له أخبارها ، وذات يوم ذهب إليه ابن أخيه هاشم بن عتبة بن أبي وقاص ويقول له : يا عم ، ها هنا مائة ألف سيف يرونك أحق الناس بهذا الأمر ، فيجيبه سعد رضي الله عنه :
أريد من مائة ألف سيف ، سيفا واحدا ، إذا ضربت به المؤمن لم يصنع شيئا ، وإذا ضربت به الكافر قطع .
فتركه ابن أخيه بسلام وحين انتهى الأمر لمعاوية سأل سعدا : مالك لم تقاتل معنا ؟
فأجابه : إني مررت بريح مظلمة فقلت : أخ أخ وأنخت راحلتي حتى انجلت عني .
فقال معاوية : ليس في كتاب الله أخ أخ ولكن قال الله تعالى :
( وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ ) [ الحجرات : 9]
وأنت لم تكن مع الباغية على العادلة ، ولا مع العادلة مع الباغية
فأجاب سعد رضي الله عنه قائلا:
ما كنت لأقاتل رجلا يعني علي بن أبي طالب قال له الرسول : أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي .
وعند الطبراني عن ابن سيرين قال: لما قيل لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: ألا تقاتل ؟ قال : حتى يأتوني بسيف له عينان ولسان وشفتان يعرف المؤمن من الكافر، فقد جاهدت وأنا أعرف الجهاد. قال الهيثمي : رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح . اهـ. وأخرجه أبو نُعيم في الحلية عن ابن سيرين مثله،
(9) إيثاره للخمول وإنكار الذات :(2/253)
[*] أورد الذهبي في سير أعلام النبلاء :عن عامر بن سعد أن أباه سعدًا كان في غنم له، فجاء ابنه عمر، فلما رآه قال: أعوذ بالله من شر هذا الراكب، فلما انتهى إليه قال: يا أبتي: أرضيت أن تكون أعرابيّا في غنمك والناس يتنازعون في الملك بالمدينة؟ فضرب صدر عمر وقال: اسكت فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن الله - عز وجل - يحب العبد التقي الغني الخفي". [أخرجه أحمد ومسلم]
[*] أورد الذهبي في سير أعلام النبلاء عن سعدٍ قال : ما ازعم أني بقميصي هذا أحق مني بالخلافة جاهدت وأنا أعرف بالجهاد ولا أبخع نفسي ان كان رجلا خيرا مني لا أقاتل حتى يأتوني بسيف له عينان ولسان فيقول هذا مؤمن وهذا كافر .
[*] أورد الذهبي في سير أعلام النبلاء عن سعدٍ أنه جاءه ابنه عامر فقال أي بني أفي الفتنة تأمرني أن أكون رأسا لا والله حتى أعطى سيفا إن ضربت به مسلما نبا عنه وأن ضربت كافرا قتله سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ( إن الله يحب التقي الغني الخفي .
[*]أورد الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عوانة قال دخل سعد على معاوية فلم يسلم عليه بالأمرة فقال معاوية لو شئت أن تقول غيرها لقلت قال فنحن المؤمنون ولم نؤمرك فإنك معجب بما أنت فيه والله ما يسرني أني على الذي أنت عليه وأني هرقت محجمة دم .
[*] قال الذهبي رحمه الله :
قلت اعتزل سعد الفتنة فلا حضر الجمل ولا صفين ولا التحكيم ولقد كان أهلا للإمامة كبير الشأن رضي الله عنه .
(10) سعد بن أبي وقاص ممن يدعو ربه بالغداة والعشي :
( حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) قال : قال تعالى: (وَلاَ تَطْرُدِ الّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ) [ الأنعام : 52] قال نزلت في ستة أنا وابن مسعود منهم .
(11) ومن مناقب سعد أن فتح العراق كان على يدي سعد :
[*] قال الذهبي رحمه الله :(2/254)
ومن مناقب سعد أن فتح العراق كان على يدي سعد وهو كان مقدم الجيوش يوم وقعة القادسية ونصر الله دينه ونزل سعد بالمدائن ثم كان أمير الناس يوم جلولاء فكان النصر على يده واستأصل الله الأكاسرة .
[*] أورد الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الليث بن سعد قال : كان فتح جلولاء سنة تسع عشرة افتتحها سعد بن أبي وقاص .
[*] قال الذهبي رحمه الله :
قلت قتل المجوس يوم جلولاء قتلا ذريعا فيقال بلغت الغنيمة ثلاثين ألف ألف درهم
[*] أورد الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أبي وائل قال سميت جلولاء فتح الفتوح .
وفاة سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - :
[*] أورد الذهبي في سير أعلام النبلاء عن مصعب بن سعد أنه قال كان رأس أبي في حجري وهو يقضي فبكيت فرفع رأسه إلي فقال أي بني ما يبكيك قلت لمكانك وما أرى بك قال لا تبك فإن الله لا يعذبني أبدا وإني من أهل الجنة .
[*] قال الذهبي رحمه الله :
قلت صدق والله فهنيئا له .
[*] أورد الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الزهري أن سعد بن أبي وقاص لما احتضر دعا بخلق جبة صوف فقال كفنوني فيها فإني لقيت المشركين فيها يوم بدر وأنما خبأتها لهذا اليوم .
سعد آخر المهاجرين وفاةً :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
[*] أورد الذهبي في سير أعلام النبلاء عن إبراهيم بن سعد أن سعدا مات وهو ابن اثنتين وثمانين سنة في سنة ست وخمسين وقيل سنة سبع .
[*] أورد الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عامر بن سعد قال كان سعد آخر المهاجرين وفاة ، قال المدائني وأبو عبيدة وجماعة توفي سنة خمس وخمسين.
[*] أورد الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أم سلمة أنها قالت لما مات سعد وجيء بسريره فأدخل عليها جعلت تبكي وتقول بقية أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ثانياً : صورٌ من زهد سعدِ ابن أبي وقاص - رضي الله عنه - :(2/255)
لقد فهم عبد الرحمن ابن عوف - رضي الله عنه - من خلال معايشته للقرآن الكريم، ومصاحبته للنبي الأمين صلى الله عليه وسلم ومن تفكره في هذه الحياة بأن الدنيا دار اختبار وابتلاء، وعليه فإنها مزرعة للآخرة، ولذلك تحرر من سيطرة الدنيا بزخارفها، و زينتها، وبريقها، وطلقها ثلاثة ونفض يديه منها ، وخضع وانقاد وأسلم نفسه لربه ظاهرا وباطنا، فكانت الدنيا في يده ولم تقترب من قلبه الشريف ، وقد وصل إلى حقائق استقرت في قلبه ساعدته على الزهد في هذه الدنيا ومن هذه الحقائق ما يلي :
(1) اليقين التام بأننا في هذه الدنيا أشبه بالغرباء، أو عابري سبيل كما قال النبى صلى الله عليه وسلم: كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ .
( حديث بن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح البخاري ) قال:أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل). وكان ابن عمر يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك.
(2) أن هذه الدنيا لا وزن لها ولا قيمة عند رب العزة إلا ما كان منها طاعة لله تبارك وتعالى :
( حديث سهل بن سعد رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء .
( حديث أبي هريرة في صحيح ابن ماجة ) أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه وعالماً أو متعلما .
(3) أن عمرها قد قارب على الانتهاء :
( حديث أنس رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : بعثت أنا والساعة كهاتين قال وضم السبابة والوسطى .
(4) أن الآخرة هى الباقية، وهى دار القرار :
كما قال مؤمن آل فرعون:(2/256)
( يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ * مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ ) [ غافر: 39 ، 40]
كانت هذه الحقائق قد استقرت في قلب أبي بكر، فترِفَّع رضي الله عنه عن الدنيا وحطامها وزهد فيها،
وهاك بعض صور زهده رضي الله عنه :
كان سعدِ ابن أبي وقاص رضي الله عنه آية في الزهد والعزوف عن الدنيا والرغبة في الآخرة مع ما توفر لديه من ثراء عظيم، ومال وفير، فقد وَعَى حقيقة الزهد بحذافيره وأن الزهد أن يكون المال في يدك وليس في قلبك فكان آيةً في الجود والسخاء والبذل والإنفاق في سبيل الله تعالى ، فكان المال في يده ولم يقترب من قلبه الشريف رضي الله عنه ، ولقد كان رضي الله عنه حريصاً على أن يتصدق بثلثي ماله عندما مرض لولا أن أن أمره النبي بالثلث فقط ، وهذا يدل على أنه آيةٌ في الزهد فكان المال في يده ولم يقترب من قلبه الشريف رضي الله عنه .
(حديث سعد بن أبي وقاص الثابت في الصحيحين ) قال :قلت يارسول الله أنا ذو مالٍ ولايرثني إلاابنة ،أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: (لا). قال: قلت: فالشطر؟ قال: (لا). الثلث والثلث كثير ، إنك إن تركت ولدك أغنياء خير من أن تتركهم عالة يتكففون الناس، وإنك لن تنفق نفقة إلا أجرت عليها، حتى اللقمة ترفعها إلى في امرأتك).
ويتجلى زهد سعدِ ابن أبي وقاص رضي الله عنه كذلك في تركه ما لا ينفع في الآخرة ، فكان وَقَّافاً لحدود الله تعالى وكان إذا ذُكِّرَ ذكر ويظهر هذا وضوحاً جلياً في موقف من الفتنة في خلافة عثمان وهاك موقفه بإيجاز :(2/257)
اعتزل سعد الفتنة وأمر أهله وأولاده ألا ينقلوا له أخبارها ، وذات يوم ذهب إليه ابن أخيه هاشم بن عتبة بن أبي وقاص ويقول له : يا عم ، ها هنا مائة ألف سيف يرونك أحق الناس بهذا الأمر ، فيجيبه سعد رضي الله عنه :
ريد من مائة ألف سيف ، سيفا واحدا ، إذا ضربت به المؤمن لم يصنع شيئا ، وإذا ضربت به الكافر قطع .
فتركه ابن أخيه بسلام وحين انتهى الأمر لمعاوية سأل سعدا : مالك لم تقاتل معنا ؟
فأجابه : إني مررت بريح مظلمة فقلت : أخ أخ وأنخت راحلتي حتى انجلت عني .
فقال معاوية : ليس في كتاب الله أخ أخ ولكن قال الله تعالى :
( وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ ) [ الحجرات : 9]
وأنت لم تكن مع الباغية على العادلة ، ولا مع العادلة مع الباغية
فأجاب سعد رضي الله عنه قائلا :ما كنت لأقاتل رجلا يعني علي بن أبي طالب قال له الرسول : أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي .
[*] سيرة سعيدِ بن زيد - رضي الله عنه - و صورٌ من زهده :
وسوف نتناول شيئين أساسيين في هذه السيرة العطرة وهما :
أولاً : لمحات من سيرة سعيدِ ابن زيد - رضي الله عنه - :
ثانياً : صورٌ مشرقة من زهد سعيدِ ابن زيد - رضي الله عنه - :
وهاك تفصيل ذلك :
أولاً : لمحات من سيرة سعيدِ ابن زيد - رضي الله عنه - :
[*] قال عنه الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء :(2/258)
سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، فكان بالحق قوالاً، ولماله بذالاً، ولهواه قامعاً وقتالاً، ولم يكن ممن يخاف في الله لومة لائم. وكان مجاب الدعوة، سبق الإسلام قبل عمر بن الخطاب رضي الله عنهما. شهد بدراً بسهمه وأجره. رغب عن الولاية، وتشمر في الرعاية، قمع نفسه، وأخفى عن المنافسة في الدنيا شخصه، اعتزل الفتنة والشرور المؤدية إلى الضيعة والغرور، عازماً علي السبقة والعبور، المفضي إلى الرفعة والحبور. كان للولايات قالياً، وفي مراتب الدنيا وانياً، وفي العبودية غانياً، وعن مساعدة نفسه فانياً.
[*] قال عنه الذهبي في سير أعلام النبلاء :
سعيد بن زيد ابن عمرو بن نفيل بن عبد العزى بن رياح بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي بن غالب أبو الأعور القرشي العدوي أحد العشرة المشهود لهم بالجنة ومن السابقين الأولين البدريين ومن الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه شهد المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهد حصار دمشق وفتحها فولاه عليها أبو عبيدة بن الجراح فهو أول من عمل نيابة دمشق من هذه الامة وله أحاديث يسيرة .
[*] أورد الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الواقدي كان سعيد رجلا آدم طويلا أشعر .
- اسم سعيدِ بن زيد - رضي الله عنه - ونسبه :
سعيد بن زيد بن عمرو بن نُفَيْل العدوي القرشي ، أبو الأعور ، من خيار الصحابة
ابن عم عمر بن الخطاب وزوج أخته ، ولد بمكة عام (22 قبل الهجرة ) وهاجر الى
المدينة ، شهد المشاهد كلها إلا بدرا لقيامه مع طلحة بتجسس خبر العير ، وهو أحد
العشرة المبشرين بالجنة ، كان من السابقين الى الإسلام هو وزوجته أم جميل ( فاطمة بنت الخطاب .
والد سعيدِ بن زيد - رضي الله عنه - :(2/259)
وأبوه -رضي الله عنه- ( زيد بن عمرو ) اعتزل الجاهلية وحالاتها ووحّد الله تعالى بغير واسطة حنيفياً ، وقد سأل سعيد بن زيد الرسول -صلى الله عليه وسلم- فقال :( يا رسول الله ، إن أبي زيد بن عمرو بن نفيل كان كما رأيت وكما بَلَغَك ، ولو أدركك آمن بك ، فاستغفر له ؟ قال : نعم واستغفر له وقال : إنه يجيءَ يوم القيامة أمّةً وحدَهُ .
(حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه الثابت في صحيح السيرة النبوية ) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن ورقة بن نوفل؟ فقال: قد رأيته؛ فرايت عليه ثياب بياض، أبصرته في بطنان الجنة وعليه السندس، وسئل عن زيد بن عمرو بن نفيل؟ فقال:يبعث يوم القيامة أمة وحده .
[*] قال الذهبي في سير أعلام النبلاء : كان والده زيد بن عمرو ممن فر إلى الله من عبادة الأصنام وساح في أرض الشام يتطلب الدين القيم فرأى النصارى واليهود فكره دينهم وقال اللهم إني على دين ابراهيم ولكن لم يظفر بشريعة إبراهيم عليه السلام كما ينبغي ولا رأى من يوقفه عليها وهو من أهل النجاة فقد شهد له النبي صلىالله عليه وسلم بأنه يبعث أمة وحده.(2/260)
وهو إبن عم الإمام عمر بن الخطاب رأى النبي صلىالله عليه وسلم ولم يعش حتى بعث، فنقل يونس بن بكير وهو من أوعية العلم بالسير عن محمد بن إسحاق قال قد كان نفر من قريش زيد بن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل وعثمان إبن الحارث بن أسد وعبيد [ الله ] بن جحش وأميمة إبنة عبد المطلب حضروا قريشا عند وثن لهم كانوا يذبحون عنده لعيد من أعيادهم فلما اجتمعوا خلا أولئك النفر بعضهم إلى بعض وقالوا تصادقوا وتكاتموا فقال قائلهم تعلمن والله ما قومكم على شيء لقد أخطؤا دين إبراهيم وخالفوه فما وثن يعبد لا يضر ولا ينفع فابتغوا لأنفسكم قال فخرجوا يطلبون ويسيرون في الأرض يلتمسون أهل كتاب من اليهود والنصارى والملل كلها يتطلبون الحنيفية فأما ورقة فتنصر واستحكم في النصرانية وحصل الكتب وعلم علما كثيرا ولم يكن فيهم أعدل شأنا من زيد اعتزل الأوثان والملل إلا دين إبراهيم يوحد الله تعالى ولا يأكل من ذبائح قومه وكان الخطاب عمه قد آذاه فنزح عنه إلى أعلى مكة فنزل حراء فوكل به الخطاب شبابا سفهاء لا يدعونه يدخل مكة فكان لا يدخلها إلا سراً وكان الخطاب أخاه ايضا من أمه فكان يلومه على فراق دينه فسار زيد إلى الشام والجزيرة والموصل يسأل عن الدين .
( حديث أسماء بنت أبي بكر الثابت في صحيح البخاري) : قالت: رأيت زيد بن عمرو بن نفيل قائما، مسندا ظهره إلى الكعبة، يقول: يا معاشر قريش، والله ما منكم على دين إبراهيم غيري. وكان يحيي الموءودة، يقول للرجل إذا أراد أن يقتل ابنته: لا تقتلها، أنا أكفيكها مؤونتها، فيأخذها، فإذا ترعرعت، قال لأبيها: إن شئت دفعتها إليك، وإن شئت كفيتك مؤونتها .
{ تنبيه } : هذا الحديث ذكره البخاري رحمه الله تعالى تعليقاً وصححه الألباني في فقه السيرة .(2/261)
( حديث بن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح البخاري ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - : لقي زيد بن عمرو بن نفيل بأسفل بلدح، قبل أن ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم الوحي، فقدمت إلى النبي صلى الله عليه وسلم سفرة، فأبى أن يأكل منها، ثم قال زيد: إني لست آكل مما تذبحون على أنصابكم، ولا آكل إلا ما ذكر اسم الله عليه. وأن زيد بن عمرو كان يعيب على قريش ذبائحهم، ويقول: الشاة خلقها الله، وأنزل لها من السماء الماء، وأنبت لها من الأرض، ثم تذبحونها على غير اسم الله. إنكارا لذلك وإعظاما له.
( حديث بن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح البخاري ) أن زيد بن عمرو بن نفيل خرج إلى الشام، يسأل عن الدين ويتبعه، فلقي عالما من اليهود فسأله عن دينهم، فقال: إني لعلي أن أدين دينكم فأخبرني، فقال: لا تكون على ديننا، حتى تأخذ بنصيبك من غضب الله، قال زيد: ما أفر إلا من غضب الله، ولا أحمل من غضب الله شيئا أبدا، وأنى أستطيعه؟ فهل تدلني على غيره؟ قال: ما أعلمه إلا أن يكون حنيفا، قال زيد: وما الحنيف؟ قال: دين إبراهيم، لم يكن يهوديا ولا نصرانيا ولا يعبد إلا الله. فخرج زيد فلقي عالما من النصارى فذكر مثله، فقال: لن تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من لعنة الله، قال: ما أفر إلا من لعنة الله، ولا أحمل من لعنة الله، ولا من غضبه شيئا أبدا، وأنى أستطيع؟ فهل تدلني على غيره؟ قال: ما أعلمه إلا أن يكون حنيفا، قال: وما الحنيف؟ قال: دين إبراهيم لم يكن يهوديا ولا نصرانيا، ولا يعبد إلا الله. فلما رأى زيد قولهم في إبراهيم عليه السلام خرج، فلما برز رفع يديه، فقال: اللهم إني أشهد أني على دين إبراهيم .
( حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه الثابت في صحيح السيرة النبوية ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن ورقة بن نوفل؟ فقال: قد رأيته؛ فرأيت عليه ثياب بياض، أبصرته في بطنان الجنة وعليه السندس .(2/262)
وسئل عن زيد بن عمرو بن نفيل؟ فقال: يبعث يوم القيامة أمة وحده .
وسئل عن أبي طالب؟ فقال: أخرجته من غمرة من جهنم إلى ضحضاح منها.
وسئل عن خديجة؛ لأنها ماتت قبل الفرائض وأحكام القرآن؟ فقال: أبصرتها على نهر في الجنة في بيت من قصب؛ لا صخب فيه ولا نصب .
[*] أورد الذهبي في سير أعلام النبلاء عن اسماء قالت رأيت زيد بن عمرو شيخا كبيرا مسندا ظهره إلى الكعبة وهو يقول ويحكم يا معشر قريش إياكم والزنى فإنه يورث الفقر .
[*] قال الذهبي رحمه الله في سير أعلام النبلاء:
توفي قبل المبعث فقد نقل ابن إسحاق أن ورقة بن نوفل رثاه بأبيات وهي * رشدت وأنعمت ابن عمرو وإنما * تجنبت تنورا من النار حاميا * * بدينك ربا ليس رب كمثله * وتركك أوثان الطواغي كما هيا * * وإدراكك الدين الذي قد طلبته * ولم تك عن توحيد ربك ساهيا * * فأصبحت في دار كريم مقامها * تعلل فيها بالكرامة لاهيا * * وقد تدرك الانسان رحمة ربه * ولو كان تحت الارض سبعين واديا *
وفي طبقات ابن سعد بالإسناد عن موسى بن عقبة قال: سمعت سالمًا أبا النضر يحدث، أن زيدًا والد سعيد كان يعيب على قريش ذبائحهم ثم يقول: الشاة خلقها الله وأنزل من السماء ماءً وأنبت لها الأرض، ثم يذبحونها على غير اسم الله، إنكارًا لذلك وإعظامًا له لا ءاكل مما لم يذكر اسم الله عليه.
وروى الذهبي في "سير أعلام النبلاء" أن زيدًا التقى بالشام راهبًا فقال له الراهب: أراك تريد دين إبراهيم عليه السلام، يا أخا أهل مكة، الحق ببلدك، فإن الله يبعث من قومك من يأتي بدين إبراهيم، وهو أكرم الخلق على الله.(2/263)
وعن علي بن عيسى الحكمي عن أبيه عن عامر بن ربيعة أنه قال: قال لي زيد: يا عامر إني خالفت قومي واتّبعت ملة إبراهيم وما كان يعبد وإسماعيل من بعده، وكانوا يصلون إلى هذه القبلة، فأنا أنتظر نبيًا من ولد إسماعيل يُبعث ولا أراني أدركه، وأنا أؤمن به وأُصدقه وأشهد أنه نبي، فإن طالت بك مدة فرأيته فأقرئه مني السلام. قال عامر: فلما تنبّأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أسلمتُ وأخبرته بقول زيد بن عمرو وأقرأته منه السلام فرد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ورحَّمَ عليه وقال: "قد رأيته في الجنة يسحب ذيولاً".
ذلكم هو والد سعيد.. ذلك الذي ترك لقريش أصنامها وخمرها ولهوها وراح يعبد الله على دين إبراهيم.. ويكفي أن نذكر لك أنه كان يحول دون وأد البنات فإذا رأى من يريد أن يقتل ابنته قال له: { لا تقتلها وأنا أكفيك مئونتها } فيأخذها ويرعاها حتى تكبر وعندئذ يقول لأبيها { إن شئت دفعتها إليك وإن شئت كفيتك مئونتها } كما في الحديث الآتي :
أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: رأيت زيد بن عمرو بن نفيل قائما، مسندا ظهره إلى الكعبة، يقول: يا معاشر قريش، والله ما منكم على دين إبراهيم غيري. وكان يحيي الموءودة، يقول للرجل إذا أراد أن يقتل ابنته: لا تقتلها، أنا أكفيكها مؤونتها، فيأخذها، فإذا ترعرعت، قال لأبيها: إن شئت دفعتها إليك، وإن شئت كفيتك مؤونتها.
ولقد جاء في أسباب النزول ما أخرجه الواحد وأبو الفرج أن الآية الشريفة من سورة الزمر التي تقول: ((والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله لهم البشرى فبشر عباد. الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب)) [سورة الزمر أية 17 - 18].
نزلت في ثلاثة نفر كانوا في الجاهلية يوحدون الله عز وجل وهم:
1- زيد بن عمرو بن نفيل
2- وأبو ذر الغفاري
3- وسلمان الفارسي أولئك الذين هداهم الله بغير كتاب ولا نبي لِلَّهِ(2/264)
هذا هو والد سعيد.. عرف ربه وملآ الإيمان قلبه.. فإذا شابه سعيد أباه وهداه الله.. وامتدت إلى النبي يداه وبشره النبي صلى الله عليه و سلم بالجنة فهل يكون ذلك عجيبا؟
وقد التقى زيد بن عمرو برسول الله صلى الله عليه وسلم ولكنه لم يدرك مبعثه إذ مات قبل ذلك، ولكن سعيدًا ابنه أدرك رسالة النبي صلى الله عليه وسلم وءامن به وكان من المبشرين العشرة .
- إسلام سعيدِ بن زيد - رضي الله عنه - :
[*] قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ :
كَانَ إِسْلَامُهُ قَدِيمًا قَبْلَ عُمَرَ وَبِسَبَبِ زَوْجَتِهِ كَانَ إِسْلَامُ عُمَرَ وَهَاجَرَ هُوَ وَامْرَأَتُهُ فَاطِمَةُ بِنْتُ الْخَطَّابِ وَتُوُفِّيَ بِالْعَقِيقِ فَحُمِلَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَدُفِنَ بِهَا سَنَةَ خَمْسِينَ، أَوِ إِحْدَى وَخَمْسِينَ وَكَانَ يَوْمَ مَاتَ ابْنَ بِضْعٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً.
*الولاية :
كان سعيد بن زيد موصوفاً بالزهد محترماً عند الوُلاة ، ولمّا فتح أبو عبيدة بن
الجراح دمشق ولاّه إيّاها ، ثم نهض مع مَنْ معه للجهاد ، فكتب إليه سعيد :( أما بعد
، فإني ما كنت لأُوثرَك وأصحابك بالجهاد على نفسي وعلى ما يُدْنيني من مرضاة ربّي ،
وإذا جاءك كتابي فابعث إلى عملِكَ مَنْ هو أرغب إليه مني ، فإني قادم عليك وشيكاً
إن شاء الله والسلام .
*البيعة :
كتب معاوية إلى مروان بالمدينة يبايع لإبنه يزيد ، فقال رجل من أهل الشام لمروان : ما يحبسُك ؟)...قال مروان : حتى يجيء سعيد بن زيد يبايع ، فإنه سيد أهل البلد ، إذا بايع بايع الناس...قال :( أفلا أذهب فآتيك به ؟)...وجاء الشامي وسعيد مع أُبيّ في الدار ، قال :( انطلق فبايع )...قال :( انطلق فسأجيء فأبايع )...فقال :
لتنطلقنَّ أو لأضربنّ عنقك )...قال :( تضرب عنقي ؟ فوالله إنك لتدعوني إلى قوم وأنا
قاتلتهم على الإسلام..
فرجع إلى مروان فأخبره ، فقال له مروان :( اسكت )...وماتت أم المؤمنين ( أظنّها(2/265)
زينب ) فأوصت أن يصلي عليها سعيد بن زيد ، فقال الشامي لمروان :( ما يحبسُك أن تصلي على أم المؤمنين ؟)...قال مروان :( أنتظر الذي أردت أن تضرب عنقه ، فإنها أوصت أن يُصلي عليها )...فقال الشامي :( أستغفر الله...
[*] مناقب سعيد بن زيد - رضي الله عنه - :
لسَعِيدِ بْنِ زَيْدِ - رضي الله عنه - مناقب عظيمة وفضائل جسيمة وهاك غيضٌ من فيض ونقطةٌ من بحر مما ورد في ذلك جملةً وتفصيلاً :
أولاً مناقب سعيد ابن زيد - رضي الله عنه - جملة ً :
(1) أحد العشرة المشهود لهم بالجنة ومن السابقين الأولين البدريين :
(2) مستجاب الدعوة :
(3) شهادة النبي له بالشهادة :
(4) إيثاره للخمول وإنكار الذات :
(5) غضبه على من سب الصحابة :
ثانياً مناقب سعيد ابن زيد - رضي الله عنه - تفصيلا ً :
(1) أحد العشرة المشهود لهم بالجنة ومن السابقين الأولين البدريين :
( حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أبو بكر في الجنة وعمر في الجنة وعثمان في الجنة وعليٌ في الجنة وطلحة في الجنة والزبير في الجنة وعبد الرحمن بن عوف في الجنة وسعدُ ابن أبي وقاص في الجنة وسعيدُ ابن زيد في الجنة وأبو عبيدة بن الجراح في الجنة .
ومن أعظم مناقب سعيد بن زيد أنه من أهل بدر :
أهل بدر:
أهل بدر هم الذين قاتلوا في غزوة بدر من المسلمين ، وعددهم ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا . والفضيلة التي حصلت لهم أن الله اطلع عليهم وقال:(اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ) ومعناه أن ما يحصل منهم من المعاصي يغفره الله بسبب الحسنة الكبيرة التي نالوها في غزوة بدر ، ويتضمن هذا بشارة بأنه لن يرتد أحد منهم عن الإسلام .(2/266)
( حديث رفاعة بن رافع الزُرْقِي رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري ) قال: جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما تعدون أهل بدر فيكم ؟ قال: (من أفضل المسلمين). أو كلمة نحوها، قال: وكذلك من شهد بدرا من الملائكة.
( حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد، فقال: (انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها ظعينة معها كتاب، فخذوه منها). فذهبنا تعادى بنا خيلنا حتى أتينا الروضة، فإذا نحن بالظعينة، فقلنا: أخرجي الكتاب، فقالت: ما معي من كتاب، فقلنا: لتخرجن الكتاب أو لنلقين الثياب، فأخرجته من عقاصها، فأتينا به النبي صلى الله عليه وسلم فإذا فيه: من حاطب ابن أبي بلتعة إلى أناس من المشركين ممن بمكة، يخبرهم ببعض أمر النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما هذا يا حاطب). قال: لا تعجل علي يا رسول الله، إني كنت امرأ من قريش، ولم أكن من أنفسهم، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها أهليهم وأموالهم بمكة، فأحببت إذ فاتني من النسب فيهم، أن أصطنع إليهم يدا يحمون قرابتي، وما فعلت ذلك كفرا، ولا ارتدادا عن ديني. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنه قد صدقكم). فقال عمر: دعني يا رسول الله فأضرب عنقه، فقال: (إنه شهد بدرا، وما يدريك؟ لعل الله عز وجل اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم).
مسألة : لماذا أخرج عمر - رضي الله عنه - سعيد بن زيد من أهل الشورى ؟
[*] قال الذهبي رحمه الله في سير أعلام النبلاء:
قلت لم يكن سعيدا متأخرا عن رتبة أهل الشورى في السابقة والجلالة وإنما تركه عمر رضي الله عنه لئلا يبقى له فيه شائبة حظ لأنه ختنه وابن عمه ولو ذكره في أهل الشورى لقال الرافضي حابى ابن عمه فأخرج منها ولده وعصبته فكذلك فليكن العمل لله .(2/267)
[*] أورد الذهبي في سير أعلام النبلاء عن محارب بن دثار قال كتب معاوية إلى مروان والي المدينة ليبايع لابنه يزيد فقال رجل من جند الشام ما يحبسك قال حتى يجيء سعيد بن زيد فيبايع فإنه سيد أهل البلد وإذا بايع بايع الناس قال أفلا أذهب فآتيك به .
(2) مستجاب الدعوة :
كان -رضي الله عنه- مُجاب الدعوة ، وقصته مشهورة مع أروى بنت أوس ،فقد خاصمت أروى بنت أويس سعيد بن زيد رضي الله عنه عند مروان ابن الحكم أمير المدينة وادَّعت عليه أنه أخذ من أرضها، فقال: أنا كنت آخذ من أرضها شيئاً بعد الذي سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: وما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من أخذ شبراً من الأرض بغير حقه طُوِّقه إلى سبع أرضين"
ثم قال: اللهم إن كانت كاذبة فأعم بصرها، واجعل قبرها في دارها، قال: فرأيتها عمياء تتلمس الجدر تقول: أصابتني دعوة سعيد بن زيد، فبينما هي تمشي في الدار مرت على بئر في الدار فوقعت فيها فكانت قبرها (1) .
[*] وقال ابن أبي حازم في حديثه سألت أروى سعيدا أن يدعو لها وقالت قد ظلمتك فقال لا أرد على الله شيئا أعطانيه .
(3) شهادة النبي له بالشهادة :
(حديث سعيد بن زيد رضي الله عنه الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : اثبت حراء فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد ، وعدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وابن عوف وسعيد بن زيد .
__________
(1) مسلم برقم 1610، 2/1230.(2/268)
ومن مناقبه أيضًا إنكاره على الذين كانوا يسبّون الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ففي "حلية الأولياء" للحافظ أبي نُعَيم أن المغيرة بن شعبة كان في المسجد الأكبر وعنده أهل الكوفة عن يمينه وعن يساره، فجاء سعيد بن زيد رضي الله عنه فأجلسه على السرير، ثم جاء رجل من أهل الكوفة فسَبَّ، فقال سعيد بن زيد رضي الله عنه: من يسب هذا يا مغيرة؟ قال: يسب علي بن أبي طالب عليه السلام، فقال سعيد رضي الله عنه: يا مغيرة بن شعبة أعادها ثلاثًا ألا أسمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يُسَبّون عندك فلا تنكر ولا تغير وأنا أشهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم مما سمعت أذناي ووعاه قلبي من رسول الله، فإني لم أكن أروي عنه كذبًا يسألني عنه إذا لقيته، أنه قال: "أبو بكر في الجنة وعمر في الجنة وعثمان في الجنة وعلي في الجنة وطلحة في الجنة والزبير في الجنة وعبد الرحمن بن عوف في الجنة وسعد في الجنة، وتاسع المؤمنين في الجنة"، قال فرَجّ أهل المسجد يناشدونه: يا صاحب رسول الله من التاسع؟ قال: ناشدتموني بالله، والله عظيم، أنا تاسع المؤمنين، ثم أتبع ذلك يمينًا فقال: لمشهَدٌ شَهِدَهُ رجل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يغبر وجهه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، أفضل من عمل أحدكم ولو عُمّر عُمر نوح ، فانظر بعين البصيرة كيف ضرب سعيدِ ابن زيد - رضي الله عنه - أروع المثل في توقير ورحمة جماعة المؤمنين، والذود عن كبار الصحابة رضوان الله عليهم، وحفظ حقوقهم .
(4) إيثاره للخمول وإنكار الذات :
[*] ... قال أبو نعيم في الحلية: رغب عن الولاية وتشمر في الرعاية لِلَّهِ قمع نفسه وأخفى عن المنافسة في الدنيا شخصه لِلَّهِ وبلغة العصر نقول: هو جندي مجهول !
(5) غضبه على من سب الصحابة :(2/269)
أخرج أبو نعيم في الحلية عن رباح بن الحارث أن المغيرة رضي الله عنه كان في المسجد الأكبر وعنده أهل الكوفة عن يمينه وعن يساره، فجاء رجل يدعى سعيد بن زيد فحياه المغيرة وأجلسه عند رجليه على السرير، فجاء رجل من أهل الكوفة فاستقبل المغيرة فسب، فقال: من يسب هذا يا مغيرة؟ قال: سبَّ علي بن أبي طالب، فقال: يا مغيرة بن شعبة ـ ثلاثاً ـ ألا أسمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يُسبون عندك لا تنكر ولا تغيِّر وأنا أشهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم مما سمعت أذناني ووعاه قلبي من رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ فإني لم أكن أروي عنه كذباً يسألني عنه إذا لقيته ـ أنه قال: "أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي في الجنة، وطلحة في الجنة، والزبير في الجنة، (وعبد الرحمن في الجنة)، وسعد بن مالك في الجنة" وتاسع المؤمنين في الجنة، ولو شئت أن أسميه لسميته، قال فرجَّ أهل المسجد يناشدونه: يا صاحب رسول الله من التاسع؟ قال: ناشدتموني بالله والله عظيم؛ أنا تاسع المؤمنين ورسول الله العاشر. ثم أتبع ذلك يميناً فقال: لمشهد شهده رجل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يغبر وجهه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل من عمل أحدكم ولو عُمِّر عمر نوح.
وعنده أيضاً عن عبد الله بن ظالم المازني قال: لما خرج معاوية رضي الله عنه من الكوفة استعمل المغيرة بن شعبة رضي الله عنه، قال: فأقام خطباء يقعون في علي وأنا إلى جنب سعيد بن زيد. قال: فغضب فقام فأخذ بيدي فتبعته، فقال: ألا ترى إلى هذا الرجل الظالم لنفسه الذي يأمر بلعن رجل من أهل الجنة فأشهد على التسعة أنهم في الجنة ولو شهدت على العاشر لم آثم. وأخرجه أحمد وأبو نُعيم في المعرفة وابن عساكر عن رباح نحو ما تقدم؛ كما في منتخب الكنز .
وفاة سعيد بن زيد :(2/270)
توفي رضي الله عنه بالعقيق، فحُمل إلى المدينة المنورة فدفن بها، وذلك سنة خمسين، وقيل إحدى وخمسين، وكان يومها ابن بضع وسبعين سنة.
[*] أورد الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عائشة بنت سعد قالت مات سعيد بن زيد بالعقيق فغسله سعد بن أبي وقاص وكفنه وخرج معه .
[*] أورد الذهبي في سير أعلام النبلاء عن مالك قال مات سعيد بن زيد وسعد بن أبي وقاص بالعقيق .
[*] أورد الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الواقدي توفي سعيد بن زيد سنة إحدى وخمسين وهو ابن بضع وسبعين سنة وقبر بالمدينة نزل في قبره سعد وابن عمر وكذا قال أبو عبيد ويحيى بن بكير وشهاب .
[*] أورد الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الزهري مات سنة اثنتين وخمسين رضي الله عنه .
قال الذهبي: مات سعيد بن زيد وكان يَذْرَب، فقالت أم سعيد لعبد الله بن عمر: أتُحَنطه بالمسك فقال: وأيُّ طيب أطيب من المسك، فناولته مسكًا. والذَرَب هو داء يصيب المعدة فلا تهضم الطعام ولا تمسكه.
وقال ابن الجوزي في "صفة الصفوة": ونزل في حفرته سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر. وصلى عليه المغيرة بن شُعبة وهو يومئذٍ والي الكوفة لمعاوية بن أبي سفيان.
رضي الله عنهم أجمعين-...
ثانياً : صورٌ مشرقة من زهد سعيدِ ابن زيد - رضي الله عنه - :
لقد فهم سعيد ابن زيد - رضي الله عنه - من خلال معايشته للقرآن الكريم، ومصاحبته للنبي الأمين صلى الله عليه وسلم ومن تفكره في هذه الحياة بأن الدنيا دار اختبار وابتلاء، وعليه فإنها مزرعة للآخرة، ولذلك تحرر من سيطرة الدنيا بزخارفها، و زينتها، وبريقها، وطلقها ثلاثة ونفض يديه منها ، وخضع وانقاد وأسلم نفسه لربه ظاهرا وباطنا، فكانت الدنيا في يده ولم تقترب من قلبه الشريف ، وقد وصل إلى حقائق استقرت في قلبه ساعدته على الزهد في هذه الدنيا ومن هذه الحقائق ما يلي :(2/271)
(1) اليقين التام بأننا في هذه الدنيا أشبه بالغرباء، أو عابري سبيل كما قال النبى صلى الله عليه وسلم: كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ .
( حديث بن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح البخاري ) قال:أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل). وكان ابن عمر يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك.
(2) أن هذه الدنيا لا وزن لها ولا قيمة عند رب العزة إلا ما كان منها طاعة لله تبارك وتعالى :
( حديث سهل بن سعد رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء .
( حديث أبي هريرة في صحيح ابن ماجة ) أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه وعالماً أو متعلما .
(3) أن عمرها قد قارب على الانتهاء :
( حديث أنس رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : بعثت أنا والساعة كهاتين قال وضم السبابة والوسطى .
(4) أن الآخرة هى الباقية، وهى دار القرار :
كما قال مؤمن آل فرعون:
( يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ * مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ ) [ غافر: 39 ، 40]
كانت هذه الحقائق قد استقرت في قلب أبي بكر، فترِفَّع رضي الله عنه عن الدنيا وحطامها وزهد فيها،
وهاك بعض صور زهده رضي الله عنه :(2/272)
كان سعيد بن زيد رضي الله عنه محبوباً من النبي صلى الله عليه وسلم. وظل يجاهد معه عليه الصلاة والسلام حتى لحق النبي بالرفيق الأعلى فواصل جهاده مع الخلفاء الراشدين حتى وافته المنية في عهد معاوية بن أبي سفيان. وفي عهد عمر بن الخطاب شهد موقعة اليرموك وفتح دمشق وأبلى في المعارك بلاءً حسناً. وحين سأل عمر بن الخطاب أبا عبيدة بن الجراح عن أحواله بعث إليه بكتاب جاء فيه: أما عن أخويك سعيد بن زيد ومعاذ بن جبل فكما عهدت. إلا أن السواد زادهما في الدنيا زهداً وفي الآخرة رغبة .
ويصف سعيد بن زيد معركة اليرموك قائلاً: لما كان يوم اليرموك كنا أربعة وعشرين ألفاً ونحواً من ذلك. فخرجت لنا الروم بعشرين ومائة ألف. وأقبلوا علينا بخطى ثقيلة كأنهم الجبال تحركها أيد خفية. وسار أمامهم الأساقفة والبطاركة والقسيسون يحملون الصلبان وهم يجهرون بالصلوات فيرددها الجيش من ورائهم وله هزيم كهزيم الرعد. فلما رآهم المسلمون على حالهم هذه هالتهم كثرتهم وخالط قلوبهم شيء من خوفهم. عند ذلك قام أبو عبيدة فخطب في الناس وحثهم على القتال. عند ذلك خرج رجل من صفوف المسلمين وقال لأبي عبيدة: إني أزمعت على أن أقضي أمري الساعة. فهل لك من رسالة تبعث بها إلى رسول الله؟ فقال أبو عبيدة: نعم. تقرئه مني ومن المسلمين السلام وتقول له: يا رسول الله إنا وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً.
قال سعيد: فما إن سمعت كلامه ورأيته يمتشق حسامه ويمضي إلى لقاء أعداء الله حتى اقتحمت إلى الأرض وجثوت على ركبتي وأشرعت رمحي وطعنت أول فارس أقبل علينا. ثم وثبت على العدو وقد انتزع الله كل ما في قلبي من الخوف. فثار الناس في وجوه الروم ، ومازالوا يقاتلونهم حتى كتب الله للمؤمنين النصر.(2/273)
ولما دانت دمشق بالولاء للمسلمين جعل أبو عبيدة بن الجراح قائد جيوش المسلمين والياً عليها. فكان أول من ولي إمرة دمشق من المسلمين. غير أنه كان زاهداً في الحكم كما هو زاهد في المال. فكتب إلى أبي عبيدة وهو في الأردن يعتذر عن عدم الاستمرار في المنصب ويطلب اللحاق به للجهاد. فلما بلغ الكتاب أبا عبيدة استجاب لرغبته.
ومن صور زهده إيثاره للخمول وإنكار الذات :
[*] ... قال أبو نعيم في الحلية: رغب عن الولاية وتشمر في الرعاية لِلَّهِ قمع نفسه وأخفى عن المنافسة في الدنيا شخصه لِلَّهِ وبلغة العصر نقول: هو جندي مجهول !
[*] سيرة أبي عبيدة بن الجراح - رضي الله عنه - و صورٌ من زهده :
وسوف نتناول شيئين أساسيين في هذه السيرة العطرة وهما :
أولاً : لمحات من سيرة أبي عبيدة بن الجراح - رضي الله عنه - :
ثانياً : صورٌ مشرقة من زهد أبي عبيدة بن الجراح - رضي الله عنه - :
وهاك تفصيل ذلك :
أولاً : لمحات من سيرة أبي عبيدة بن الجراح - رضي الله عنه - :
[*] قال عنه الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
الأمين الرشيد، والعامل الزهيد، أمين الأمة أبو عبيدة. كان للأجانب من المؤمنين وديداً، وعلى الأقارب من المشركين شديدا، فيه نزلت: ( لاّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ يُوَآدّونَ مَنْ حَآدّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوَاْ آبَآءَهُمْ أَوْ أَبْنَآءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلََئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيّدَهُمْ بِرُوحٍ مّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ أُوْلََئِكَ حِزْبُ اللّهِ أَلاَ إِنّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [ المجادلة : 22]. صبر على الاقتصار على القليل، إلى أن حان منه النقلة والرحيل.(2/274)
[*] وقال عنه الذهبي في سير أعلام النبلاء :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
عامر بن عبد الله بن الجراح بن هلال بن أهيب بن ضبة بن الحارث بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان القرشي الفهري المكي أحد السابقين الأولين ومن عزم الصديق على توليته الخلافة وأشار به يوم السقيفة لكمال أهليته عند أبي بكر يجتمع في النسب هو والنبي صلى الله عليه وسلم في فهر ، شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة وَسَمَّاه أمين الأمة ومناقبه شهيرة جمة روى أحاديث معدودة وغزا غزوات مشهودة حدث عنه العرباض بن سارية وجابر بن عبد الله وأبو أمامة الباهلي وسمرة بن جندب وأسلم مولى عمر وعبد الرحمن بن غنم وآخرون .
اسم أبي عبيدة بن الجراح - رضي الله عنه - ونسبه :
أبو عبيدة بن الجراح أمين هذه الأمة، عامر بن عبد الله بن الجراح القرشي الفهري المكي، أحد السابقين الأولين ومن عزم الصدِّيق على توليته الخلافة وأشار به يوم السقيفة لكمال أهليته عند أبي بكر لأن أبا بكر في السقيفة قال " وأرضى لكم أحد الرجلين" - يقصد بذلك عمر أو أبو عبيدة بن الجراح -. يجتمع أبو عبيدة في النسب مع النبي صلى الله عليه وسلم في فهر، وشهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة وسماه أمين الأمة. ومناقبه شهيرة جمة، روى أحاديث معدودة وغزا غزوات مشهودة.
إسلام أبي عبيدة بن الجراح - رضي الله عنه - :
أبو عبيدة ابن الجراح من السابقين إلى الإسلام فقد أسلم على يد أبي بكر الصديق رضي الله عنه في الأيام الأولى للإسلام، قبل أن يدخل الرسول صلى الله عليه وسلم دار الرقم ،(2/275)
[*] فعن يزيد بن الرومان قال: { انطلق بن مظعون وعبيدة بن الحارث وعبد الرحمن بن عوف وأبو سلمة بن عبد الأسد وأبو عبيدة بن الجراح حتى أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرض عليهم الإسلام وأنبأهم بشرائعه فأسلموا في ساعة واحدة وذلك قبل دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم دار الأرقم } ، فكان من السابقين إلى الإسلام وهاجر إلى الحبشة في الهجرة الثانية، ثم عاد منها ليقف إلى جوار رسوله في بدر، وأحد، وبقيّة المشاهد جميعها، ثم ليواصل سيره القوي الأمين بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم في صحبة خليفته أبي بكر، ثم في صحبة أمير المؤمنين عمر، نابذا الدنيا وراء ظهره مستقبلا تبعات دينه في زهد، وتقوى، وصمود وأمانة.
- مناقب أبي عبيدة ابن الجراح :
لأبي عبيدة ابن الجراح - رضي الله عنه - مناقب عظيمة وفضائل جسيمة وهاك غيضٌ من فيض ونقطةٌ من بحر مما ورد في ذلك جملةً وتفصيلاً :
أولاً مناقب أبي عبيدة ابن الجراح - رضي الله عنه - جملة ً :
(1) أبو عبيدة أمين هذه الأمة :
(2) أبو عبيدة من أحب الناس للنبي - صلى الله عليه وسلم - :
(3) مكانته بين الصحابة :
(4) تواضع أبي عبيدة :
(5) إيثاره الخمول وإنكار الذات :
(6) ومن مناقبه - رضي الله عنه - أنه كان رجلا حسن الخلق لين الشيمة ينئ بنفسه عن الخلاف وَيُغَلِّب المصلحة الراجحة التي تجمع كلمة المسلمين وتنئ بهم عن الخلاف والشقاق :
(7) إنفاقه في سبيل الله تعالى :
(8) خوف أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه وبكاؤه على بسط الدنيا :
ثانياً مناقب أبي عبيدة ابن الجراح - رضي الله عنه - تفصيلا ً :
(1) أبو عبيدة أمين هذه الأمة :
( حديث حذيفة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) قال جاء أهل نجران إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا * يا رسول الله ابعث إلينا رجلا أمينا فقال لأبعثن إليكم رجلا أمينا حق ، أمين حق أمين قال فاستشرف لها الناس قال فبعث أبا عبيدة بن الجراح .(2/276)
فاستشرف لها الناس : تطَّلع لها الناس وتمنى كل منهم لو يكون هو الذي يقع اختيار الرسول عليه، فتصير هذه الشهادة الصادقة من حظه ونصيبه..
[*] قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
" ما أحببت الإمارة قط، حبّي إياها يومئذ، رجاء أن أكون صاحبها، فرحت إلى الظهر مهجّرا، فلما صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر، سلم، ثم نظر عن يمينه، وعن يساره، فجعلت أتطاول له ليراني..
فلم يزل يلتمس ببصره حتى رأى أبا عبيدة بن الجرّاح، فدعاه، فقال: أخرج معهم، فاقض بينهم بالحق فيما اختلفوا فيه.. فذهب بها أبا عبيدة؟..!!
( حديث أنس رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (لكل أمة أمين، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح).
[*] قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح :
والأمين هو الثقة الرضي وهذه الصفة وان كانت مشتركة بينه وبين غيره لكن السياق يشعر بأن له مزيدا في ذلك لكن خص النبي صلى الله عليه وسلم كل واحد من الكبار بفضيلة ووصفه بها فأشعر بقدر زائد فيها على غيره كالحياء لعثمان والقضاء لعلي ونحو ذلك تنبيه اورد الترمذي وابن حبان هذا الحديث من طريق عبد الوهاب الثقفي عن خالد الحذاء بهذا الإسناد مطولا وأوله ارحم أمتي بامتي أبو بكر واشدهم في أمر الله عمر واصدقهم حياء عثمان وأقرأهم لكتاب الله أبي وافرضهم زيد واعلمهم بالحلال والحرام معاذ الا وان لكل امة أمينا الحديث وإسناده صحيح الا ان الحفاظ قالوا ان الصواب في أوله الإرسال والموصول منه ما اقتصر عليه البخاري والله اعلم
[*] قال الإمام النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم :
الأمين فهو الثقة المرضي، قال العلماء: والأمانة مشتركة بينه وبين غيره من الصحابة لكن النبي صلى الله عليه وسلم خص بعضهم بصفات غلبت عليهم وكانوا بها أخص.(2/277)
(حديث أنس بن مالك رضي الله عنه الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أرحم أمتي بأمتي أبو بكر وأشدهم في دين الله عمر وأصدقهم حياء عثمان وأقضاهم علي بن أبي طالب وأقرؤهم لكتاب الله أبي بن كعب وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل وأفرضهم زيد بن ثابت ألا وإن لكل أمة أمينا وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح .
(2) أبو عبيدة من أحب الناس للنبي - صلى الله عليه وسلم - :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ...
( حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي ) قَالَ : قُلْتُ لِعَائِشَةَ أَيُّ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ أَحَبَّ إِلَيْهِ قَالَتْ أَبُو بَكْرٍ قُلْتُ ثُمَّ مَنْ قَالَتْ ثُمَّ عُمَرُ قُلْتُ ثُمَّ مَنْ قَالَتْ ثُمَّ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ قُلْتُ ثُمَّ مَنْ فَسَكَتَتْ .
( حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : نِعْمَ الرَّجُلُ أَبُو بَكْرٍ نِعْمَ الرَّجُلُ عُمَرُ نِعْمَ الرَّجُلُ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ .
وقد استعمل النبي صلى الله عليه وسلم أبا عبيدة غير مرة منها المرة التي جاع فيها عسكره وكانوا ثلاثمائة وألقى لهم البحر الحوت الذي يُقال له العنبر : كما في الحديث الآتي :
( حديث جابر رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري ) قال : غزونا جيش الخَبَطِ، وأميرنا أبو عبيدة، فجعنا جوعاً شديداً، فألقى البحر حوتاً ميتاً لم يُرَ مثله، يقال له العنبر، فأكلنا منه نصف شهر، فأخذ أبو عبيدة عظماً من عظامه، فمر الراكب تحته .
(3) مكانته بين الصحابة :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ...(2/278)
كان لأبي عبيدة مكانة عظيمة عند الصحابة - رضي الله عنهم - فكانوا يُجلونه ويقدرونه أيما تقدير لشهادة النبي - صلى الله عليه وسلم - له أنه أمين هذه الأمة وهاك غيضٌ من فيض وقليلٌ من كثير مما ورد في ذلك : ...
قال الذهبي رحمه الله في سير أعلام النبلاء :
[*] ولما تفرغ الصديق من حرب أهل الردة وحرب مسيلمة الكذاب جهز أمراء الأجناد لفتح الشام، فبعث أبا عبيدة ويزيد بن أبي سفيان وعمرو بن العاص وشرحبيل بن حسنة فتمت وقعة أجنادين بقرب الرملة ونصر الله المؤمنين فجاءت البشرى والصديق في مرض الموت، ثم كانت وقعة فِحْل ووقعة مرج الصُّفَّر وكان قد سير أبو بكر خالدا لغزو العراق ثم بعث إليه لجند الشام، فقطع المفاوز حتى برية السماوة، فأمَّره الصديق على الأمراء كلهم وحاصروا دمشق وتُوفي أبو بكر، فبادر عمر بعزل خالد، - وهذا الذي تبناه عمر دائماً أنه يعزل خالد بن الوليد ولكنه عاتب نفسه بعد ذلك حتى أنه بكى وقال رحم الله أبا بكر كان يعرف الرجال عني -، واستعمل على الكل أبا عبيدة فجاءه التقليد فكتمه مدة وكل هذا من دينه وحلمه - يعني عمر بن الخطاب عزل خالد وأمَّر أبا عبيدة ولكن أبو عبيدة حتى لا يفشل الجند وحتى لا تكون المسألة هوى في نفسه وأنه الأمير ويأتمرون بأمره ترك الكتاب جانبا نحا الكتاب جانبا وجعل الإمارة كما هي حتى انتهت المعركة فأبلغ خالد بما فعل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -. فكتم هذا الكتاب وكل هذا من دينه ولينه وحلمه وتواضعه وزهده وايثاره الخمول وإنكار الذات ، فكان فتح دمشق على يده فعند ذلك أظهر التقليد ليعقد الصلح للروم ففتحوا له باب الجابية صلحا، وإذا بخالد قد افتتح البلد عنوة من الباب الشرقي فأمضى لهم أبو عبيدة الصلح فعن المغيرة أن أبا عبيدة صالحهم على أنصاف كنائسهم ومنازلهم، ثم كان أبو عبيدة رأس الإسلام يوم وقعة اليرموك، التي استأصل الله فيها جيوش الروم، وقُتِلَ منهم خلق عظيم .(2/279)
وتُوفي أبو عبيدة رضي الله عنه وأرضاه ونسأل الله جل في علاه أن يجمعنا به في جنات ونهر في مقعد صدقٍ عند مليكٍ مقتدر .
وذات يوم، وأمير المؤمنين عمر الفاروق يعالج في المدينة شئون عالمه المسلم الواسع، جاءه الناعي، أن قد مات أبو عبيدة..
وأسبل الفاروق جفنيه على عينين غصّتا بالدموع..
وغاض الدمع، ففتح عينيه في استسلام..
ورحّم على صاحبه، واستعاد ذكرياته معه رضي الله عنه في حنان صابر..
وأعاد مقالته عنه:
" لو كنت متمنيّا، ما تمنيّت إلا بيتا مملوءا برجال من أمثال أبي عبيدة"..
[*] قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه في مرض موته: لو كان أبو عبيدة حيا لوليته عليكم أو لاستخلفته عليكم فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن لكل أمة أمينا وأمين هذه الأمة هو أبو عبيدة بن الجراح.
وقال أيضاً وهو يجود بأنفاسه:
" لو كان أبو عبيدة بن الجرّاح حيا لاستخلفته فان سألني ربي عنه قلت: استخلفت أمين الله، وأمين رسوله"..؟؟(2/280)
[*] قال بن المبارك عن هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن أبيه قال: بلغ عمر أن أبا عبيدة حُصِرَ في الشام ونال منه العدو فكتب إليه عمر : أما بعد فإنه ما نزل بعبد مؤمن شدة إلا جعل الله بعدها فرجاً وإنه لا يغلب عسر يسرين يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا ) ، قال فكتب إليه أبو عبيدة : أما بعد فإن الله يقول ( اعْلَمُوَاْ أَنّمَا الْحَيَاةُ الدّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأمْوَالِ وَالأوْلاَدِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفّارَ نَبَاتُهُ ثُمّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الاَخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مّنَ اللّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدّنْيَآ إِلاّ مَتَاعُ الْغُرُورِ) [ الحديد : 20] قال فخرج عمر بكتابه فقرأه على المنبر فقال يا أهل المدينة إنما يُعرِّض بكم أبو عبيدة أو بي، راغبوا في الجهاد. كأنه يبين أن هذه الدنيا التي تمسكتم بها هي زائلة انفروا ثبات أو انفروا جميعا انفروا أو استحقوا العذاب، فلذلك عمر بن الخطاب يأخذ منه هذا " إنما الحياة الدنيا لعب ولهو " فقال إما يُعرِّض بي أو يُعرِّض بكم اخرجوا إلى الجهاد.
[*] أورد الذهبي في سير أعلام النبلاء عن طارق أن عمر كتب إلى أبي عبيدة في الطاعون إنه قد عرضت لي حاجة ولا غنى بي عنك فيها فعجل إلي فلما قرأ الكتاب قال عرفت حاجة أمير المؤمنين إنه يريد أن يستبقي من ليس بباق فكتب إني قد عرفت حاجتك فحللني من عزيمتك فإني في جند من أجناد المسلمين لا أرغب بنفسي عنهم فلما قرأ عمر الكتاب بكى فقيل له مات أبو عبيدة قال لا وكأن قد قال فتوفي أبو عبيدة وانكشف الطاعون قال أبو الموجه محمد بن عمرو المروزي زعموا أن أبا عبيدة كان في ستة وثلاثين ألفا من الجند فلم يبق منهم إلا ستة آلاف رجل .(2/281)
سبحان الله - هو عمر كان يحب جداً أبا عبيدة بن الجراح وكان يرى فيه أمانة الأمة كلها مجتمعة في هذا الرجل فلما علم أن الطاعون نزل بأرض الشام علم أنه لابد أن يهلك والأمة تحتاج لمثله فانظروا إلى فقه عمر ثم انظروا إلى ما أروع من ذلك فقه أبي عبيدة بن الجراح، عمر بن الخطاب لما علم أن الطاعون قد نزل في الأرض التي فيها أبو عبيدة قال: إني قد عرضت لي حاجة ولا غنى بي عنك - يعني أريدك أن تأتي حتى يُنقذه الله من الطاعون - وهذا كان خلاف السنة كما في الحديث الآتي :
( حديث أسامة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :الطاعون رجس، أرسل على طائفة من بني إسرائيل، أو: على من كان قبلكم، فإذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه).
فلما قرأ هذا الكتاب قال: عرفت حاجة أمير المؤمنين إنه يريد أن يستبقي من ليس بباقٍ، فكتب: إني قد عرفت حاجتك فحلّلِني من عزيمتك - يعني أنا في حلٍّ من أمرك - فإني في جند من أجناد المسلمين لن أرغب بنفسي عنهم، فلما قرأ عمر الكتاب بكى فقيل له مات أبو عبيدة؟ قال: لا وكأن قد، قال فتُوفي أبو عبيدة وانكشف الطاعون.
[*] قال عمر لبعض جلسائه تمنوا فتمنوا كل واحد أمنية - وانظروا كيف تمنى عمر بن الخطاب ما يتمنى لنفسه ولا لشخصه يتمنى لله يتمنى لنفع هذه الأمة - قال: تمنوا، فتمنوا، فقال عمر: لكني أتمنى بيتاً ممتلئاً رجالاً مثل أبي عبيدة بن الجراح. الأمة كلها تفوز وتنتصر بمثل وجود أبي عبيدة بن الجراح.
وكان أبو بكر رضي الله وأرضاه أمَّر أبا عبيدة بيت المال لأمانته ولقول النبي صلى الله عليه وسلم أمين هذه الأمة هو أبو عبيدة بن الجراح.
[*] قال ابن مسعود - رضي الله عنه - : أخلائي من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أبو بكر وعمر وأبو عبيدة .
(4) تواضع أبي عبيدة :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ(2/282)
[*] أورد الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عمران بن نمران أن أبا عبيدة كان يسير في العسكر فيقول ألا رب مبيض لثيابه مدنس لدينه ألا رب مكرم لنفسه وهو لها مهين بادروا السيئات القديمات بالحسنات الحديثات وقال ثابت البناني قال أبو عبيدة يا أيها الناس إني امرؤ من قريش وما منكم من أحمر ولا أسود يفضلني بتقوى الا وددت أني في مسلاخه .
[*] أورد الذهبي في سير أعلام النبلاء عن قتادة قال أبو عبيدة بن الجراح وددت أني كنت كبشا فيذبحني أهلي فيأكلون لحمي ويحسون مرقي وقال عمران بن حصين وددت أني رماد تسفيني الريح .
(5) إيثاره الخمول وإنكار الذات :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ ــ ...
[*] لما تفرغ الصديق من حرب أهل الردة وحرب مسيلمة الكذاب جهز أمراء الأجناد لفتح الشام، فبعث أبا عبيدة ويزيد بن أبي سفيان وعمرو بن العاص وشرحبيل بن حسنة فتمت وقعة أجنادين بقرب الرملة ونصر الله المؤمنين فجاءت البشرى والصديق في مرض الموت، ثم كانت وقعة فِحْل ووقعة مرج الصُّفَّر وكان قد سير أبو بكر خالدا لغزو العراق ثم بعث إليه لجند الشام، فقطع المفاوز حتى برية السماوة، فأمَّره الصديق على الأمراء كلهم وحاصروا دمشق وتُوفي أبو بكر، فبادر عمر بعزل خالد، - وهذا الذي تبناه عمر دائماً أنه يعزل خالد بن الوليد ولكنه عاتب نفسه بعد ذلك حتى أنه بكى وقال رحم الله أبا بكر كان يعرف الرجال عني -، واستعمل على الكل أبا عبيدة فجاءه التقليد فكتمه مدة وكل هذا من دينه وحلمه - يعني عمر بن الخطاب عزل خالد وأمَّر أبا عبيدة ولكن أبو عبيدة حتى لا يفشل الجند وحتى لا تكون المسألة هوى في نفسه وأنه الأمير ويأتمرون بأمره ترك الكتاب جانبا نحا الكتاب جانبا وجعل الإمارة كما هي حتى انتهت المعركة فأبلغ خالد بما فعل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -. فكتم هذا الكتاب وكل هذا من دينه ولينه وحلمه وتواضعه وزهده وايثاره الخمول وإنكار الذات .(2/283)
(6) ومن مناقبه - رضي الله عنه - أنه كان رجلا حسن الخلق لين الشيمة ينئ بنفسه عن الخلاف وَيُغَلِّب المصلحة الراجحة التي تجمع كلمة المسلمين وتنئ بهم عن الخلاف والشقاق :
[*] قال موسى بن عقبة في مغازيه غزوة عمرو بن العاص في غزوة ذات السلاسل - وهذه كانت بعد إسلام عمرو بن العاص بأشهر قليلة وقد أمَّره الرسول صلى الله عليه وسلم على جيش أو على سرية ثم طلب عمرو بن العاص من رسول الله صلى الله عليه وسلم في مدد فبعث إليه - ليأتي الغزوة التي كانت في مشارق الشام - خاف عمرو من جانبه ذلك فاستمد رسول الله صلى الله عليه وسلم فانتدب رسول الله أبا بكر وعمر وثلة من المهاجرين، فأمَّر نبي الله صلى الله عليه وسلم عليهم أبا عبيدة بن الجراح - أبو عبيدة كان أميراً على أبي بكر وعمر - فلما قدموا - كان يحذر الاختلاف متأسياً بالنبي - صلى الله عليه وسلم - كما في الحديث الآتي :
(حديث ابن مسعود في صحيح البخاري) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :لا تختلفوا فإنه من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا .(2/284)
أي لابد أن تجتمعوا على كلمة واحدة ولا تختلفوا ، فلما قدموا على عمرو بن عاص قال أنا أميركم، فقال المهاجرون بل أنت أمير أصحابك وأميرنا أبو عبيدة بن الجراح، فقال عمرو بن العاص إنما أنتم مدد أُمددت بكم، فلما رأى ذلك أبو عبيدة كأنه تذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق (لا تختلفوا فإنه من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا ) وهو الذي يسمع لرسول الله ويطيع، فلما رأى أبو عبيدة بن الجراح ذلك وكان رجلا حسن الخلق لين الشيمة مستمع لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهده سَلَّمَ الإمارة لعمرو بن العاص رضي الله عنهم أجمعين، وهذا الذي جعل عمرو بن العاص يقول: أنا في جيش فيه أبو بكر وعمر وأبو عبيدة وأنا أمير عليهم بخ بخ فإني لذو مكانة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك ذهب إلى رسول الله فقال له يا رسول الله إني سائلك، قال: سل، قال: من أحب الناس إليكِ؟ - هو يتوقع أن يقول عمرو بن العاص لأنه أمَّرة على أبي بكر وعلى عمر وعلى أبي عبيدة بن الجراح أكارم و أماجد وأفاضل الصحابة - فقال: عائشة، فقال: لست على النساء أسأل عن الرجال أسأل؟ فقال: أبو بكر أو قال أبوها، فقال: ثم من؟ قال: عمر، قال لعلي الثالث، قال: ثم من؟، قال: عثمان وفي رواية قال أبو عبيدة بن الجراح فسكت عمرو بن العاص.
(7) إنفاقه في سبيل الله تعالى :(2/285)
أخرج الطبراني في الكبير عن مالك الدار رضي الله عنه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أخذ أربعمائة دينار فجعلها في صرة، فقال للغلام: إذهب بها إلى أبي عبيدة بن الجراح ثم تَلَهَّ في البيت ساعة حتى تنظر ما يصنع؟ فذهب بها الغلام إليه فقال: يقول لك أمير المؤمنين: إجعل هذه في بعض حاجتك، فقال وصله الله ورحمه، ثم قال: تعالَي يا جارية، إذهبي بهذه السبعة إِلى فلان، وبهذه الخمسة إلى فلان، وبهذه الخمسة إلى فلان، حتى أنفدها. ورجع الغلام إلى عمر فأخبره فوجده قد أعدّ مثلها لمعاذ بن جبل رضي الله عنه، فقال: إذهب بها إلى معاذ بن جبل وتَلَهَّ في البيت حتى تنظر ما يصنع؟ فذهب بها إليه فقال: يقول لك أمير المؤمنين: إجعل هذه في بعض حاجتك، فقال: رحمه الله ووصله، تعالَي يا جارية، إذهبي إلى بيت فلان بكذا، إذهبي إلى بيت فلان بكذا، فاطَّلعت إمرأة معاذ وقالت: ونحن ـ والله ـ مساكين فأَعطِنا، فلم يبقَ في الخرقة إلا ديناران، فدحى بهما إليها؛ ورجع الغلام إلى عمر فأخبره فسر بذلك فقال إنهم إخوة بعضهم من بعض. ورواته إلى مالك الدار ثقات مشهورون، ومالك الدار لا أعرفه؛ كذا في الترغيب . وقال الهيثمي : رواه الطبراني في الكبير، ومالك الدار لم أعرفه، وبقية رجاله ثقات. انتهى.
[*] أورد الذهبي في سير أعلام النبلاء عن مالك أن عمر أرسل إلى أبي عبيدة بأربعة آلاف أو بأربع مئة دينار وقال للرسول انظر ما يصنع بها قال فقسمها أبو عبيدة ثم أرسل إلى معاذ بمثلها قال فقسمها الا شيئا قالت له امرأته نحتاج إليه فلما أخبر الرسول عمر قال الحمد لله الذي جعل في الإسلام من يصنع هذا .
(8) خوف أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه وبكاؤه على بسط الدنيا :(2/286)
أخرج أحمد عن أبي حَسَنة مسلمِ بن أكْيَس مولى عبد الله بن عامر عن أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه قال: ذَكَر من دخل عليه فوجده يبكي، فقال: ما يبكيك يا أبا عبيدة؟ قال: نبكي أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر يوماً ما يفتح الله على المسلمين ويفيء عليهم حتى ذكر الشام، فقال: "إن يُنسأ في أجلك يا أبا عبيدة فحسبك من الخدم ثلاثة: خادم يخدمك، وخادم يسافر معك، وخادم يخدم أهلك ويرد عليه. وحسبك من الدواب ثلاثة: دابة لرَحْلك، ودابة لنقلك، ودابة لغلامك"؛ ثم هذا أنا أنظر إلى بيتي قد امتلأ رقيقاً، وانظر إلى مربطي قد امتلأ رقيقاً، وانظر إلى مربطي قد امتلأ دوابَّ وخيلاً، فكيف ألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذا؟ وقد أوصانا رسول الله صلى الله عليه وسلم "إنَّ أحبكم إليَّ وأقربكم مني من لقيني على مثل الحال الذي فارقني عليها". قال الهيثمي رواه أحمد وفيه راوٍ لم يُسمَّ وبقية رجاله ثقات. انتهى. وأخرجه ابن عساكر نحوه، كما في المنتخب .
وصية أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه للمسلمين عند وفاته بالأردن :
عن سعيد بن المسيِّب قال: لما طُعِن أبو عبيدة رضي الله عنه بالأردن دعا من حضره من المسلمين وقال: "إنِّي موصيكم بوصية إن قبلتموها لن تزالوا بخير: أقيموا الصلاة، وصوموا شهر رمضان، وتصدَّقوا، وحجُّوا، واعتمروا، وتواصَوا، وانصحوا لأمرائكم ولا تَغَشوهم؛ ولا تلهكمم الدنيا، فإنَّ أمرأ لو عُمِّر ألف حول ما كان له بدٌّ من أن يصير إلى مصرعي هذا الذي ترون، إن الله تعالى كتب الموت على بني آدم فهم ميتون، فأكْيَسهم أطوعهم لربه، وأعملهم ليوم معاده. والسلام عليكم ورحمة الله. يا معاذ بن جبل صلِّ بالناس".
ومات رحمه الله. فقام معاذ رضي الله عنه في الناس فقال:(2/287)
"أيها الناس، توبوا إلى الله من ذنوبكم، فأيُّما عبدٍ يلقى الله تعالى تائباً من ذنبه إلا كان على الله حقاً أن يغفر له. من كان عليه دَيْن فليقضِه، فإنَّ العبد مُرْتَهنٌ بدَيْنه. ومن أصبح منكم مهاجراً أخاه فليلقه فليصالحه، ولا ينبغي لمسلم أن يهجر أخاه أكثر من ثلاثة أيام. أيها المسلمون، قد فُجعتم برجل ما أزعم أني رأيت بعداً أبرَّ صدراً لا أبعد من الغائلة ولا أشد حباً للعامة ولا أنصح منه. فترحَّموا عليه. واحضروا الصلاة عليه".
كذا في الرياض النضرة في مناقب العشرة للمحب الطبري .
وفاة أبي عبيدة - رضي الله عنه - :
[*] أخرج الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أبي حفص الفلاس قال : توفي أبو عبيدة في سنة ثمان عشرة وله ثمان وخمسون سنة وكان يخضب بالحناء والكتم وكان له عقيصتان وقال كذلك في وفاته جماعة وانفرد ابن عائذ عن أبي مسهر أنه قرأ في كتاب يزيد إبن عبيدة أن أبا عبيدة توفي سنة سبع عشرة .
ثانياً : صورٌ مشرقة من زهد أبي عبيدة بن الجراح - رضي الله عنه - :
لقد فهم أبي عبيدة ابن الجراح - رضي الله عنه - من خلال معايشته للقرآن الكريم، ومصاحبته للنبي الأمين صلى الله عليه وسلم ومن تفكره في هذه الحياة بأن الدنيا دار اختبار وابتلاء، وعليه فإنها مزرعة للآخرة، ولذلك تحرر من سيطرة الدنيا بزخارفها، و زينتها، وبريقها، وطلقها ثلاثة ونفض يديه منها ، وخضع وانقاد وأسلم نفسه لربه ظاهرا وباطنا، فكانت الدنيا في يده ولم تقترب من قلبه الشريف ، وقد وصل إلى حقائق استقرت في قلبه ساعدته على الزهد في هذه الدنيا ومن هذه الحقائق ما يلي :
(1) اليقين التام بأننا في هذه الدنيا أشبه بالغرباء، أو عابري سبيل كما قال النبى صلى الله عليه وسلم: كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ .(2/288)
( حديث بن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح البخاري ) قال:أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل). وكان ابن عمر يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك.
(2) أن هذه الدنيا لا وزن لها ولا قيمة عند رب العزة إلا ما كان منها طاعة لله تبارك وتعالى :
( حديث سهل بن سعد رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء .
( حديث أبي هريرة في صحيح ابن ماجة ) أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه وعالماً أو متعلما .
(3) أن عمرها قد قارب على الانتهاء :
( حديث أنس رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : بعثت أنا والساعة كهاتين قال وضم السبابة والوسطى .
(4) أن الآخرة هى الباقية، وهى دار القرار :
كما قال مؤمن آل فرعون:
( يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ * مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ ) [ غافر: 39 ، 40]
كانت هذه الحقائق قد استقرت في قلب أبي بكر، فترِفَّع رضي الله عنه عن الدنيا وحطامها وزهد فيها،
وهاك بعض صور زهده رضي الله عنه :
[*] كتب عمر إلى أبي عبيدة في الطاعون إنه قد عرضت لي حاجة ولا غنى بي عنك فيها فعجل إليَّ، فلما قرأ الكتاب قال: عرفت حاجة أمير المؤمنين إنه يريد أن يستبقي من ليس بباقٍ.(2/289)
سبحان الله - هو عمر كان يحب جداً أبا عبيدة بن الجراح وكان يرى فيه أمانة الأمة كلها مجتمعة في هذا الرجل فلما علم أن الطاعون نزل بأرض الشام علم أنه لابد أن يهلك والأمة تحتاج لمثله فانظروا إلى فقه عمر ثم انظروا إلى ما أروع من ذلك فقه أبي عبيدة بن الجراح، عمر بن الخطاب لما علم أن الطاعون قد نزل في الأرض التي فيها أبو عبيدة قال: إني قد عرضت لي حاجة ولا غنى بي عنك - يعني أريدك أن تأتي حتى يُنقذه الله من الطاعون - وهذا كان خلاف السنة كما في الحديث الآتي :
( حديث أسامة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :الطاعون رجس، أرسل على طائفة من بني إسرائيل، أو: على من كان قبلكم، فإذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه).
فلما قرأ هذا الكتاب قال: عرفت حاجة أمير المؤمنين إنه يريد أن يستبقي من ليس بباقٍ، فكتب: إني قد عرفت حاجتك فحلّلِني من عزيمتك - يعني أنا في حلٍّ من أمرك - فإني في جند من أجناد المسلمين لن أرغب بنفسي عنهم، فلما قرأ عمر الكتاب بكى فقيل له مات أبو عبيدة؟ قال: لا وكأن قد، قال فتُوفي أبو عبيدة وانكشف الطاعون.
فانظر بعين البصيرة حرصه على تطبيق السنة بحذافيرها وعدم التفاته إلى الدنيا لأنها لا وزن لها عنده فلم تخطر له ببال ولا تدور في الخيال ولا يشغله إلا الموت على رضا الكبير المتعال ، فقد وَعَى حقيقة الزهد بحذافيره وضرب أروع المثل في الزهد في الدنيا والعزوف عنها والرغبة في الآخرة والإقبال عليها ولا عجب فإنه أمين هذه الأمة بنص السنة الصحيحة .(2/290)
[*] ولما تفرغ الصديق من حرب أهل الردة وحرب مسيلمة الكذاب جهز أمراء الأجناد لفتح الشام، فبعث أبا عبيدة ويزيد بن أبي سفيان وعمرو بن العاص وشرحبيل بن حسنة فتمت وقعة أجنادين بقرب الرملة ونصر الله المؤمنين فجاءت البشرى والصديق في مرض الموت، ثم كانت وقعة فِحْل ووقعة مرج الصُّفَّر وكان قد سير أبو بكر خالدا لغزو العراق ثم بعث إليه لجند الشام، فقطع المفاوز حتى برية السماوة، فأمَّره الصديق على الأمراء كلهم وحاصروا دمشق وتُوفي أبو بكر، فبادر عمر بعزل خالد، - وهذا الذي تبناه عمر دائماً أنه يعزل خالد بن الوليد ولكنه عاتب نفسه بعد ذلك حتى أنه بكى وقال رحم الله أبا بكر كان يعرف الرجال عني -، واستعمل على الكل أبا عبيدة فجاءه التقليد فكتمه مدة وكل هذا من دينه وحلمه - يعني عمر بن الخطاب عزل خالد وأمَّر أبا عبيدة ولكن أبو عبيدة حتى لا يفشل الجند وحتى لا تكون المسألة هوى في نفسه وأنه الأمير ويأتمرون بأمره ترك الكتاب جانبا نحا الكتاب جانبا وجعل الإمارة كما هي حتى انتهت المعركة فأبلغ خالد بما فعل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -. فكتم هذا الكتاب وكل هذا من دينه ولينه وحلمه وتواضعه وزهده وايثاره الخمول وإنكار الذات ، فكان فتح دمشق على يده فعند ذلك أظهر التقليد ليعقد الصلح للروم ففتحوا له باب الجابية صلحا، وإذا بخالد قد افتتح البلد عنوة من الباب الشرقي فأمضى لهم أبو عبيدة الصلح فعن المغيرة أن أبا عبيدة صالحهم على أنصاف كنائسهم ومنازلهم، ثم كان أبو عبيدة رأس الإسلام يوم وقعة اليرموك، التي استأصل الله فيها جيوش الروم، وقُتِلَ منهم خلق عظيم .(2/291)
فانظر بعين البصيرة كيف امتثل حقيقة الزهد وهو " ترك ما لا ينفعُ في الآخرة " فقد نئى بنفسه عن الاختلاف وعمل بأمانة وهو أمين حق أمين على جمع كلمة المسلمين نابذاً الدنيا وحظوظها وراء ظهره ، فلم يحرص على أن يكون له المكانة ولا أن يمون هو الأمير لأنه آيةٌ في الزهد فلا يحرص على سلطان الدنيا بل ويفر منه فرار المجذوم من الأسد ، وللأنه يعلم أن الحرص على المكانة والجاه والشرف في الدين يضر دينه ويفسده فساداً كبيراً أكبر من الفساد الحاصل من إطلاق ذئبان جائعان على غنم وتأمل في الحديث الآتي بعين الاعتبار :
(حديث كعب بن مالك في صحيح الترمذي) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ما ذئبان جائعان أُرسلا في غنم بأفسدَ لها من حرص المرء على المال و الشرف لدينه .
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
( ما ) بمعنى ليس
( ذئبان جائعان ) صفة له وفي رواية عاديان والعادي الظالم المتجاوز للحد
( أرسلا في غنم ) الجملة في محل رفع صفة
( بأفسد ) خبر ما والباء زائدة أي أشد فساداً والضمير في
( لها ) للغنم واعتبر فيه الجنسية فلذا أنث وقوله
( من حرص المرء على المال والشرف ) عطف على المال والمراد به الجاه والمنصب
( لدينه ) اللام فيه للبيان ، نحوها في قوله { لمن أراد أن يتم الرضاعة } فكأنه قيل هنا بأفسد لأي شيء؟ قيل لدينه ، ذكره الطيبي ،(2/292)
فمقصود الحديث أن الحرص على المال والشرف أكثر إفساداً [ ص 446 ] للدين من إفساد الذئبين للغنم لأن ذلك الأشر والبطر يستفز صاحبه ويأخذ به إلى ما يضره وذلك مذموم لاستدعائه العلو في الأرض والفساد المذمومين شرعاً ، قال الحكيم : وضع اللّه الحرص في هذه الأمة ثم زمه في المؤمنين بزمام التوحيد واليقين وقطع علائق الحرص بنور السبحات فمن كان حظه من نور اليقين ونور السبحات أوفر كان وثاق حرصه أوثق والحرص يحتاجه الآدمي لكن بقدر معلوم وإذا لم يكن لحرصه وثاق وهبت رياحه استفزت النفس فتعدى القدر المحتاج إليه فأفسد وعرف بعضهم الحرص بأنه مدد القوة الموضوعة في الآدمي ومثيرها وعمادها .
ومن الصور المشرقة من زهد أمين هذه الأمة أبي عبيدة بن الجراح :
أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب زار الشام، وسأل مستقبليه:
أين أخي..؟
فيقولون من..؟
فيجيبهم: أبو عبيدة بن الجراح
ويأتي أبو عبيدة، فيعانقه أمير المؤمنين عمر.. ثم يصحبه إلى داره، فلا يجد فيها من
الأثاث شيئا.. لا يجد إلا سيفه، وترسه ورحله..
ويسأله عمر وهو يبتسم:
" ألا اتخذت لنفسك مثلما يصنع الناس"..؟
فيجيبه أبو عبيدة:
" يا أمير المؤمنين، هذا يبلّغني المقيل"..!!
[*] أورد الذهبي في سير أعلام النبلاء عن ابن عمر أن عمر حين قدم الشام قال لأبي عبيدة اذهب بنا إلى منزلك قال وما تصنع عندي ما تريد إلا أن تعصر عينيك علي قال فدخل فلم ير شيئا قال أين متاعك لا أرى إلا لبدا وصحفة وشنا وأنت أمير أعندك طعام فقام أبو عبيدة إلى جونة فأخذ منها كسيرات فبكى عمر فقال له أبو عبيدة قد قلت لك إنك ستعصر عينيك علي يا أمير المؤمنين يكفيك ما يبلغك المقيل قال عمر : غَيَّرَتْنا الدنيا كلنا غيرك يا أبا عبيدة .
قال الذهبي رحمه الله : وهذا والله هو الزهد الخالص لا زهد من كان فقيرا معدما .(2/293)
[*] أورد الذهبي في سير أعلام النبلاء عن مالك أن عمر أرسل إلى أبي عبيدة بأربعة آلاف أو بأربع مئة دينار وقال للرسول انظر ما يصنع بها قال فقسمها أبو عبيدة ثم أرسل إلى معاذ بمثلها قال فقسمها الا شيئا قالت له امرأته نحتاج إليه فلما أخبر الرسول عمر قال الحمد لله الذي جعل في الإسلام من يصنع هذا .
ومن الصور المشرقة من زهد أمين هذه الأمة أبي عبيدة بن الجراح :
أنه سار تحت راية الإسلام أنذى سارت، جنديّا،إن كان في الحراسة كان في الحراسة وإن كان في الساقة كان في الساقة ،كأنه بفضله وبإقدامه الأمير.. وأميرا، كأن بتواضعه وبإخلاصه واحدا من عامة المقاتلين..
وعندما كان خالد بن الوليد.. يقود جيوش الإسلام في إحدى المعارك الفاصلة الكبرى.. واستهل أمير المؤمنين عمر عهده بتولية أبي عبيدة مكان خالد..
لم يكد أبا عبيدة يستقبل مبعوث عمر بهذا الأمر الجديد، حتى استكتمه الخبر، وكتمه هو في نفسه طاويا عليه صدر زاهد، فطن، أمين.. حتى أتمّ القائد خالد فتحه العظيم..
وآنئذ، تقدّم إليه في أدب جليل بكتاب أمير المؤمنين!!
ويسأله خالد:
" يرحمك الله يا أبا عبيدة. و ما منعك أن تخبرني حين جاءك الكتاب"..؟؟
فيجيبه أمين الأمة:
" إني كرهت أن أكسر عليك حربك، وما سلطان الدنيا نريد، ولا للدنيا نعمل، كلنا في الله إخوة".!!!
ويصبح أبا عبيدة أمير الأمراء في الشام، ويصير تحت إمرته أكثر جيوش الإسلام طولا وعرضا.. عتادا وعددا
فما كنت تحسبه حين تراه إلا واحدا من المقاتلين.. وفردا عاديا من المسلمين..
وحين ترامى إلى سمعه أحاديث أهل الشام عنه، وانبهارهم بأمير الأمراء هذا.. جمعهم وقام فيهم خطيبا..
فانظروا ماذا قال للذين رآهم يفتنون بقوته، وعظمته، ومكانته..
" يا أيها الناس :إني مسلم من قريش..
وما منكم من أحد، أحمر، ولا أسود، يفضلني بتقوى إلا وددت أني في إهابه"..ّّ
ثالثاً : نماذج من سير الزاهدين من أئمة التابعين رحمهم الله تعالى :(2/294)
إن النفوس البشرية يصيبها الملل والسآمة والفتور، فكلل عن العمل وفتور عن الطاعة، لكنها ما إن يحدوها الحادي ويقودها الساعي ويذكرها الذاكر سير أولئك الأفذاذ وأخبار الأتقياء وإخبات الصالحين وخشوع الناسكين إلا وتنشط. ويبدأ عملها من جديد.
فإذا الفتور يصبح حماساً، والكلل يصير عملاً، ولذلك قال أبو حنيفة النعمان بن ثابت: لسير الصالحين أحب إلينا من كثير من الفقه، ذلك لأن الفقه وحده ودراسة العلوم وحدها دون مواعظ تلين لها القلوب أو تذكرة ترق لها الأسماع. تصبح القلوب أوعية للعلم ولا عمل، تصبح القلوب قاسية كالحجارة أو أشد قسوة فما أحوجنا أيها الأخوة وخاصة طلبة العلم لسير الصالحين وآدابهم واتباع سيرهم والاقتداء بسمتهم ودلّهم.
ولله درُّ من قال :
كرر علي حديثهم يا حادي فحديثهم يجلو الفؤاد الصادي.
، وإن حياة التابعين فيها مواقف عظيمة تدل على مدى قوة إيمان هؤلاء الناس فلقد ملأوا الدنيا نورا بعلمهم وبأخلاقهم واستطاعوا أن يغتنموا كل وقتهم في طاعة الله تعالى والتقرب إليه ، وهاك سير كوكبة مباركة منهم فتأمل بعين في سِيَرِهِم بعينِ البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد ، ودرر الفرائد .
سيرة أويس القرني خير التابعين :
أويس القرني خير التابعين ، من أئمة الهدى وأعلام التقى ومصابيح الدجى ، من حلية الأولياء وأعلام النبلاء ، من الأضواء اللامعة والنجوم الساطعة .
اسم أويس القرني ونسبه :
أويس بن عامر بن جزء بن مالك بن عمرو بن سعد بن عصوان بن قرن المذحجي المرادي .
وقرن بطن من مراد .(2/295)
{ تنبيه } : أويس القرني : أبو عمرو : أويس ، بن عامر ، بن جزء ، بن مالك ، القرني ، المرادي اليماني ، من سادات التابعين ، والأولياء الصالحين ، أدرك زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأسلم ولكنه لم يلقه ، منعه من السفر إليه بره بأمه كما حكى ذلك الحافظ أبو نعيم في " حلية الأولياء " (2/87) عن أصبغ بن زيد ، فليس هو من الصحابة ، وإنما هو من التابعين ، ولد ونشأ في اليمن .
[*] مناقب أويس القرني رحمه الله :
[*] قال عنه الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء :
سيد العباد، وعلم الأصفياء من الزهاد؛ أويس بن عامر القرني. بشر النبي صلى الله عليه وسلم به، وأوصى به أصحابه.
[*] قال عنه الإمام الذهبي في " سير أعلام النبلاء " (4/19) :
" القدوة الزاهد ، سيد التابعين في زمانه ، كان من أولياء الله المتقين ، ومن عباده المخلصين".
وهاك غَيْضٍ من فيض ونقطةٍ من بحر مما ورد في مناقب أويس القرني رحمه الله تعالى جملةً وتفصيلاً :
أولاً مناقب أويس القرني جملةً :
(1) أويس القرني خير التابعين بنص السنة الصحيحة :
(2) بحث عمر - رضي الله عنه - عن أويس القرني وسؤاله أن يستغفر له :
(3) زهد أويس القرني :
(4) منزلة أويس القرني :
(5) شهادة أويس القرني :
ثانياً مناقب أويس القرني تفصيلاً :
(1) أويس القرني خير التابعين بنص السنة الصحيحة :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
( حديث جابر رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن خير التابعين رجل يقال له أويس وله والدة وكان به بياض فمروه فليستغفر لكم .
(2) بحث عمر - رضي الله عنه - عن أويس القرني وسؤاله أن يستغفر له :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ(2/296)
( حديث جابر رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) أن أهل الكوفة وفدوا إلى عمر وفيهم رجل ممن كان يسخر بأويس فقال عمر هل ها هنا أحد من القرنيين فجاء ذلك الرجل فقال عمر إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال إن رجلا يأتيكم من اليمن يقال له أويس لا يدع باليمن غير أم له قد كان به بياض فدعا الله فأذهبه عنه إلا موضع الدينار أو الدرهم فمن لقيه منكم فليستغفر لكم .
( حديث جابر رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) قال * كان عمر بن الخطاب إذا أتى عليه أمداد أهل اليمن سألهم أفيكم أويس بن عامر حتى أتى على أويس فقال أنت أويس بن عامر قال نعم قال من مراد ثم من قرن قال نعم قال فكان بك برص فبرأت منه إلا موضع درهم قال نعم قال لك والدة قال نعم قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد أهل اليمن من مراد ثم من قرن كان به برص فبرأ منه إلا موضع درهم له والدة هو بها بر لو أقسم على الله لأبره فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل فاستغفر لي فاستغفر له فقال له عمر أين تريد قال الكوفة قال ألا أكتب لك إلى عاملها قال أكون في غبراء الناس أحب إلي قال فلما كان من العام المقبل حج رجل من أشرافهم فوافق عمر فسأله عن أويس قال تركته رث البيت قليل المتاع قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد أهل اليمن من مراد ثم من قرن كان به برص فبرأ منه إلا موضع درهم له والدة هو بها بر لو أقسم على الله لأبره فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل فأتى أويسا فقال استغفر لي قال أنت أحدث عهدا بسفر صالح فاستغفر لي قال استغفر لي قال أنت أحدث عهدا بسفر صالح فاستغفر لي قال لقيت عمر قال نعم فاستغفر له ففطن له الناس فانطلق على وجهه قال أسير وكسوته بردة فكان كلما رآه إنسان قال من أين لأويس هذه البردة .
(3) زهد أويس القرني :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ(2/297)
كان أويس زاهداً معرضاً عن ملذات الدنيا وزخارفها ، وروي أنه كان لديه رداء يلبسه ، إذا جلس مسَّ الأرض ، وكان يردد قول ( اللهم إني أعتذر إليك من كبد جائعة ، وجسد عارٍ ، وليس لي إلا ما على ظهري وفي بطني ) .
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم في الحلية عن الشعبي قال: مر رجل من مراد على أويس القرني، فقال: كيف أصبحت، قال: أصبحت أحمد الله، قال: كيف الزمان عليك، قال: كيف الزمان على رجل لو أصبح ظن أن لا يمسي، وإن أمسى ظن أن لا يصبح، فمنشر بالجنة، أو مبشر بالنار. يا أخا مراد إن الموت وذكره لم يدع لمؤمن فرحاً، وإن علمه بحقوق الله لم يترك له في ماله فضة ولا ذهباً، وإن قيامه بالحق لم يترك له صديقاً.
(4) منزلة أويس القرني :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
كانت لأويس منزلة رفيعة عند النبي والأئمة وهاك غيضٌ من فيض وقليلٌ من كثير مما ورد في ذلك :
( حديث جابر رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن خير التابعين رجل يقال له أويس وله والدة وكان به بياض فمروه فليستغفر لكم .
بحث عمر - رضي الله عنه - عن أويس القرني وسؤاله أن يستغفر له :
( حديث جابر رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) أن أهل الكوفة وفدوا إلى عمر وفيهم رجل ممن كان يسخر بأويس فقال عمر هل ها هنا أحد من القرنيين فجاء ذلك الرجل فقال عمر إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال إن رجلا يأتيكم من اليمن يقال له أويس لا يدع باليمن غير أم له قد كان به بياض فدعا الله فأذهبه عنه إلا موضع الدينار أو الدرهم فمن لقيه منكم فليستغفر لكم .(2/298)
( حديث جابر رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) قال * كان عمر بن الخطاب إذا أتى عليه أمداد أهل اليمن سألهم أفيكم أويس بن عامر حتى أتى على أويس فقال أنت أويس بن عامر قال نعم قال من مراد ثم من قرن قال نعم قال فكان بك برص فبرأت منه إلا موضع درهم قال نعم قال لك والدة قال نعم قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد أهل اليمن من مراد ثم من قرن كان به برص فبرأ منه إلا موضع درهم له والدة هو بها بر لو أقسم على الله لأبره فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل فاستغفر لي فاستغفر له فقال له عمر أين تريد قال الكوفة قال ألا أكتب لك إلى عاملها قال أكون في غبراء الناس أحب إلي قال فلما كان من العام المقبل حج رجل من أشرافهم فوافق عمر فسأله عن أويس قال تركته رث البيت قليل المتاع قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد أهل اليمن من مراد ثم من قرن كان به برص فبرأ منه إلا موضع درهم له والدة هو بها بر لو أقسم على الله لأبره فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل فأتى أويسا فقال استغفر لي قال أنت أحدث عهدا بسفر صالح فاستغفر لي قال استغفر لي قال أنت أحدث عهدا بسفر صالح فاستغفر لي قال لقيت عمر قال نعم فاستغفر له ففطن له الناس فانطلق على وجهه قال أسير وكسوته بردة فكان كلما رآه إنسان قال من أين لأويس هذه البردة .
[*] قال عنه الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء :
سيد العباد، وعلم الأصفياء من الزهاد؛ أويس بن عامر القرني. بشر النبي صلى الله عليه وسلم به، وأوصى به أصحابه.
[*] قال عنه الإمام الذهبي في " سير أعلام النبلاء " (4/19) :
" القدوة الزاهد ، سيد التابعين في زمانه ، كان من أولياء الله المتقين ، ومن عباده المخلصين".
[*] وقال عنه أحمد بن عبد الله الخزرجي الأنصاري في كتاب خلاصة تهذيب الكمال : أويس القرني سيد التابعين ، وله مناقب مشهورة .(2/299)
[*] عقد الإمام النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم بابا في فضائله ، وأورد تحته ما أخرجه الإمام مسلم رحمه الله من أحاديث في فضله ، منها حديث رقم (2542) :
عنْ أُسَيْرِ بْنِ جَابِرٍ قَالَ :
( كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه إِذَا أَتَى عَلَيْهِ أَمْدَادُ أَهْلِ الْيَمَنِ سَأَلَهُمْ : أَفِيكُمْ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ ؟ حَتَّى أَتَى عَلَى أُوَيْسٍ فَقَالَ : أَنْتَ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ ؟ قَالَ : نَعَمْ . قَالَ : مِنْ مُرَادٍ ، ثُمَّ مِنْ قَرَنٍ ؟ قَالَ : نَعَمْ . قَالَ : فَكَانَ بِكَ بَرَصٌ فَبَرَأْتَ مِنْهُ إِلَّا مَوْضِعَ دِرْهَمٍ ؟ قَالَ : نَعَمْ . قَالَ لَكَ وَالِدَةٌ ؟ قَالَ : نَعَمْ . قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : ( يَأْتِي عَلَيْكُمْ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ مَعَ أَمْدَادِ أَهْلِ الْيَمَنِ ، مِنْ مُرَادٍ ، ثُمَّ مِنْ قَرَنٍ ، كَانَ بِهِ بَرَصٌ فَبَرَأَ مِنْهُ إِلَّا مَوْضِعَ دِرْهَمٍ ، لَهُ وَالِدَةٌ هُوَ بِهَا بَرٌّ ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ ، فَإِنْ اسْتَطَعْتَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَكَ فَافْعَلْ ) فَاسْتَغْفِرْ لِي . فَاسْتَغْفَرَ لَهُ . فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : أَيْنَ تُرِيدُ ؟ قَالَ : الْكُوفَةَ . قَالَ : أَلَا أَكْتُبُ لَكَ إِلَى عَامِلِهَا ؟ قَالَ : أَكُونُ فِي غَبْرَاءِ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَيَّ .
قَالَ : فَلَمَّا كَانَ مِنْ الْعَامِ الْمُقْبِلِ حَجَّ رَجُلٌ مِنْ أَشْرَافِهِمْ ، فَوَافَقَ عُمَرَ ، فَسَأَلَهُ عَنْ أُوَيْسٍ قَالَ : تَرَكْتُهُ رَثَّ الْبَيْتِ قَلِيلَ الْمَتَاعِ .(2/300)
قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : ( يَأْتِي عَلَيْكُمْ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ مَعَ أَمْدَادِ أَهْلِ الْيَمَنِ ، مِنْ مُرَادٍ ثُمَّ مِنْ قَرَنٍ ، كَانَ بِهِ بَرَصٌ فَبَرَأَ مِنْهُ إِلَّا مَوْضِعَ دِرْهَمٍ ، لَهُ وَالِدَةٌ هُوَ بِهَا بَرٌّ ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ ، فَإِنْ اسْتَطَعْتَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَكَ فَافْعَلْ )
فَأَتَى أُوَيْسًا فَقَالَ : اسْتَغْفِرْ لِي . قَالَ : أَنْتَ أَحْدَثُ عَهْدًا بِسَفَرٍ صَالِحٍ فَاسْتَغْفِرْ لِي . قَالَ : اسْتَغْفِرْ لِي . قَالَ : أَنْتَ أَحْدَثُ عَهْدًا بِسَفَرٍ صَالِحٍ فَاسْتَغْفِرْ لِي . قَالَ : لَقِيتَ عُمَرَ ؟ قَالَ : نَعَمْ فَاسْتَغْفَرَ لَهُ ، فَفَطِنَ لَهُ النَّاسُ ، فَانْطَلَقَ عَلَى وَجْهِهِ .
قَالَ أُسَيْرٌ : وَكَسَوْتُهُ بُرْدَةً ، فَكَانَ كُلَّمَا رَآهُ إِنْسَانٌ قَالَ : مِنْ أَيْنَ لِأُوَيْسٍ هَذِهِ الْبُرْدَةُ ؟ )
[*] كما عقد الإمام الحاكم في " المستدرك " (3/455) بابا في مناقبه ، وقال عنه : " أويس راهب هذه الأمة " انتهى.
ولعل من أعظم ما روي في مناقبه الأحاديث الواردة في شفاعة رجل من أمة محمد صلى الله عليه وسلم لأناس كثيرين ، وقد جاءت من روايات كثيرة ، أصحها حديث عبد الله بن أبي الجدعاء مرفوعا:
(حديث عبد الله بن أبي الجدعاء رضي الله عنه الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجه ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ليدخلن الجنة بشفاعة رجل من أمتي أكثر من بني تميم .
[*] فقد صح عن الحسن البصري أن هذا الشافع هو أويس القرني .(2/301)
[*] قد ذكر العلماء في ترجمته بعض القصص التي تدل على صلاحه وزهده رحمه الله ، ومن أشهر مَن روى ذلك الحافظ أبو نعيم في كتابه العظيم " حلية الأولياء " ، فكان مما جاء فيه بسنده (2/79) عن أبي نضرة عن أسير بن جابر قال : " كان محدث بالكوفة يحدثنا ، فاذا فرغ من حديثه يقول : تفرقوا . ويبقى رهط فيهم رجل يتكلم بكلام لا أسمع أحدا يتكلم بكلامه ، فأحببته ، ففقدته ، فقلت لأصحابي : هل تعرفون رجلا كان مجالسنا كذا وكذا ؟ فقال : رجل من القوم : نعم أنا أعرفه ، ذاك أويس القرني . قلت : أفتعرف منزله ؟ قال : نعم . فانطلقت معه حتى جئت حجرته ، فخرج إلي فقلت : يا أخي ما حبسك عنا ؟ قال : العري . قال : وكان أصحابه يسخرون به ويؤذونه . قال : قلت : خذ هذا البرد فالبسه . قال : لا تفعل ، فإنهم إذًا يؤذونني إذا رأوه . قال : فلم أزل به حتى لبسه ، فخرج عليهم ، فقالوا : مَن ترون خدع عن برده هذا . فجاء فوضعه فقال : أترى !
قال : فأتيت المجلس فقلت : ما تريدون من هذا الرجل لِلَّهِ قد آذيتموه ، الرجل يعرى مرة ويكتسي مرة . قال : فأخذتهم بلساني أخذا شديدا " انتهى.
وكان لأويس القرني كثير من الكلمات النورانية التي تفيض بالحكمة والموعظة :
[*] قال سفيان الثوري : كان لأويس القرني رداء إذا جلس مس الأرض وكان يقول :
" اللهم إني أعتذر إليك من كل كبد جائعة ، وجسد عار ، وليس لي إلا ما على ظهري وفي بطني " انتهى.رواه الحاكم في " المستدرك " (3/458)
ومن كلامه أيضا رحمه الله في الحث على الخوف من الله ودوام مراقبته :
" كن في أمر الله كأنك قتلت الناس كلهم " انتهى.
رواه الحاكم في " المستدرك " (3/458)(2/302)
[*] وأخرج الحافظ أبو نعيم في الحلية عن أصبغ بن زيد قال :" كان أويس القرني إذا أمسى يقول : هذه ليلة الركوع ، فيركع حتى يصبح ، وكان يقول إذا أمسى : هذه ليلة السجود ، فيسجد حتى يصبح . وكان إذا أمسى تصدق بما في بيته من الفضل من الطعام والثياب ثم يقول : اللهم من مات جوعا فلا تؤاخذني به ، ومن مات عريانا فلا تؤاخذني به " انتهى.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم في الحلية عن الشعبي قال :الشعبي قال: مر رجل من مراد على أويس القرني، فقال: كيف أصبحت، قال: أصبحت أحمد الله، قال: كيف الزمان عليك، قال: كيف الزمان على رجل لو أصبح ظن أن لا يمسي، وإن أمسى ظن أن لا يصبح، فمنشر بالجنة، أو مبشر بالنار. يا أخا مراد إن الموت وذكره لم يدع لمؤمن فرحاً، وإن علمه بحقوق الله لم يترك له في ماله فضة ولا ذهباً، وإن قيامه بالحق لم يترك له صديقاً.
(5) شهادة أويس القرني :
قاتل أويس القرني رحمه الله بين يدي أمير المؤمنين على بن أبي طالب في وقعة صفين حتى استشهد أمامه ، فلما سقط نظروا إلى جسده الشريف ، فإذا به أكثر من أربعين جرح بين طعنة وضربة ورمية .
وكانت شهادته رحمه الله في سنة ( 37 هـ .)
وفاة أويس القرني رحمه الله :
وأكثر أهل العلم يذهبون إلى أن وفاته كانت يوم صفين سنة (37هـ)، حيث قاتل مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه واستشهد هناك ، أسند ذلك الحاكم في " المستدرك " (3/460) إلى شريك بن عبد الله وعبد الرحمن بن أبي ليلى وغيرهما .
وذكر آخرون أنه غزا أذربيجان فاستشهد هناك . انظر : " حلية الأولياء " (2/83 ) .
والأول عليه الأكثر ،والله أعلم .
سيرة الربيع بن خثيم رحمه الله :
اسم الربيع بن خثيم ونسبه :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
الإمام القدوة العابد أبو يزيد الربيع بن خثيم الثوريُّ الكوفيُّ(2/303)
تلميذ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، كان إذا رآه قال: " يا أبا يزيد لو رآك رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحبك، وما رأيتك إلا ذكرت المخبتين ".
وكفى بهذا شهادة من الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضى الله عنه .
[*] مناقب الربيع بن خثيم رحمه الله :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
كان الربيع بن خثيم رحمه الله من أئمة التابعين ، من أئمة الهدى وأعلام التقى ومصابيح الدجى ، من حلية الأولياء وأعلام النبلاء ، من الأضواء اللامعة والنجوم الساطعة .
وهاك غَيْضٍ من فيض ونقطةٍ من بحر مما ورد في مناقبه رحمه الله تعالى جملة ً وتفصيلا :
أولاً مناقب الربيع بن خثيم جملة :
(1) ثناء العلماء على الربيع بن خثيم رحمه الله :
(2) خشية الربيع بن خثيم لله تعالى :
(3) إنشغال الربيع بن خثيم بنفسه عن عيوب الناس :
(4) وصية الربيع بن خثيم عند موته :
(5) من دُررِ مواعظ الربيع بن خثيم :
( 6) ترك الربيع بن خثيم لفضول المخالطة :
(7) تواضع الربيع بن خثيم رحمه الله :
(8) حفظ الربيع بن خثيم للسانه :
(9) حرص الربيع بن خثيم على صلاة الجماعة :
(10) اجتهاد الربيع بن خثيم في قيام الليل :
(11) إخفاء الربيع بن خيثم للعمل :
ثانياً مناقب الربيع بن خثيم تفصيلا:
(1) ثناء العلماء على الربيع بن خثيم رحمه الله :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
[*] قال عنه الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء :
ومنهم المخبت الورع، المتثبت القنع، الحافظ لسره، الضابط لجهره، المعترف بذنبه، المفتقر إلى ربه، أبو يزيد الربيع بن خثيم، أحد الثمانية من الزهاد.
[*] وقال عنه الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء :(2/304)
الربيع بن خيثم ابن عائذ الإمام القدوة العابد أبو يزيد الثوري الكوفي أحد الأعلام أدرك زمان النبي وأرسل عنه وروى عن عبد الله بن مسعود وأبي أيوب الأنصاري وعمرو بن ميمون وهو قليل الرواية إلا أنه كبير الشأن حدث عنه الشعبي وإبراهيم النخعي وهلال بن يساف ومنذر الثوري وهبيرة بن خزيمة وآخرون وكان يعد من عقلاء الرجال روى عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود قال كان الربيع بن خثيم إذا دخل على ابن مسعود لم يكن له إذن لأحد حتى يفرغ كل واحد من صاحبه فقال له ابن مسعود يا أبا يزيد لو راك رسول الله لأحبك وما رأيتك إلا ذكرت المخبتين فهذه منقبة عظيمة للربيع أخبرني بها إسحاق الأسدي .
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود، قال: كان الربيع بن خثيم إذا دخل على عبد الله بن مسعود لم يكن عليه إذن لأحد حتى يفرغ كل واحد من صاحبه، قال: فقال عبد الله: يا أبا يزيد لو رآك رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحبك، وما رأيتك حتى رأيت المخبتين.
[*] وأخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن ياسين الزيات، قال: جاء ابن الكواء إلى الربيع بن خثيم، قال: دلني على من هو خير منك، قال: نعم من كان منطقه ذكراً، وصمته تفكراً وسيره تدبراً، فهو خير مني.(2/305)
[*] وأخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن علقمة بن مرثد، قال: انتهى الزهد إلى ثمانية من التابعين فأما الربيع بن خثيم فقيل له حين أصابه الفالج: لو تداويت، فقال: لقد علمت أن الدواء حق ولكن ذكرت عاداً وثموداً وأصحاب الرس وقروناً بين ذلك كثيراً كانت فيهم الأوجاع وكانت لهم الأطباء فلا المداوي بقي ولا المداوى، فقيل له: ألا تذكر الناس ؟ قال: ما أنا عن نفسي براض فأتفرغ من ذمها إلى ذم الناس، إن الناس خافوا الله تعالى في ذنوب الناس وأمنوا على ذنوبهم، وقيل له: كيف أصبحت ؟ قال: أصبحنا مذنبين، نأكل أرزاقنا، وننتظر آجالنا. وكان ابن مسعود إذا رآه قال: وبشر المخبتين، أما إن محمداً صلى الله عليه وسلم لو رآك لأحبك. وكان الربيع يقول: أما بعد فأعد زادك، وخذ في جهادك، وكن وصي نفسك.
[*] وأخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان، قال: أخبرتني سرية الربيع بن خثيم، قالت: كان عمل الربيع كله سراً، إن كان ليجيء الرجل وقد نشر المصحف فيغطيه بثوبه.
[*] وأخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عن الشعبي وذكر أصحاب عبد الله فقال : أما الربيع فأورعهم ورعاً.
[*] وأخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن منذر الثوري، قال: كان الربيع إذا أتاه الرجل يسأله، قال: اتق الله فيما علمت، وما استؤثر عليك فكله إلى عالمه، لأن عليكم في العمد أخوف مني عليكم في الخطأ، وما خيرتكم اليوم بخير، ولكنه خير من آخر شر منه، وما تتبعون الخير حق اتباعه، وما تفرون من الناس حق فراره، ولا كل ما أنزل إلى محمد صلى الله عليه وسلم أدركتم، ولا كل ما تقرءون تدرون ما هو ؟ ثم يقول: السرائر السرائر اللاتي تخفين من الناس وهن لله تعالى بواد، التمسوا دواءهن، ثم يقول: وما دواؤهن إلا أن تتوب ثم لا تعود.(2/306)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن نسير بن ذعلوق، قال: كان الربيع بن خثيم يبكي حتى تبل لحيته دموعه فيقول: أدركنا أقواماً كنا في جنبهم لصوصاً.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن فضيل بن عياض، يقول: كان الربيع بن خثيم يقول في دعائه: أشكو إليك حاجة لا يحسن بثها إليك، وأستغفر منها وأتوب إليك.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أبي يعلى، قال: كان الربيع إذا قيل له: كيف أصبحتم، يقول: ضعفاء مذنبين نأكل أرزاقنا وننتظر آجالنا.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن ابن سيرين، عن الربيع بن خثيم، قال: أقلوا الكلام إلا بتسع: تسبيح، وتكبير، وتهليل، وسؤالك الخير، وتعوذك من الشر، وأمرك بالمعروف، ونهيك عن المنكر، وقراءة القرآن.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان، قال: صحبنا الربيع بن خثيم عشرين سنة فما تكلم إلا بكلمة تصعد. وقال آخر صحبته سنتين فما كلمني إلا كلمتين.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان الثوري، عن رجل من بني تيم الله. قال: جالست الربيع عشر سنين فما سمعته يسأل عن شيء من أمر الدنيا إلا مرتين، قال مرة: والدتك حية ؟ وقال مرة: كم لكم مسجداً.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن مبارك بن سعيد، عن أبيه، قال: قيل لأبي وائل: أأنت أكبر أم الربيع بن خثيم ؟ قال: أنا أكبر منه سناً، وهو أكبر مني عقلاً.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عن رجل من أسلم من المبكرين إلى المسجد، قال: كان الربيع بن خثيم إذا سجد كأنه ثوب مطروح، فتجيء العصافير فتقع عليه.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الشعبي حدثنا الربيع وكان من معادن الصدق .(2/307)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن ياسين الزيات قال جاء ابن الكواء إلى الربيع بن خثيم فقال دلني على من هو خير منك قال نعم من كان منطقه ذكر وصمته تفكرا ومسيره تدبرا فهو خير مني .
(2) خشية الربيع بن خثيم رحمه لله تعالى :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
كان الربيع بن خثيم رحمه لله تعالى مثلاً أعلى في خشيته لله تعالى ولعل من أبرز المواقف التي تُظهرُ ذلك ظهوراً جلياً موقفه الشريف عندما تعرضت له امرأةٌ بارعة الجمال ، فكان موقفه منها موقف الرجل التقي النقي العفيف الحيي الحر الأبيِّ وليس موقف الفاجر الشقي العتي الغوي الذي يسير أسيراً ذليللاً وراء شهواته وهاك الموقف فتأمله بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد ، ودرر الفرائد .
أمرَ قومٌ امرأةً ذات جمال بارع أن تتعرض للربيع ابن خيثم لعلها تفتنه ، وجعلوا لها إن فعلت ذلك ألف درهم !
فلبست أحسن ما قدرت عليه من الثياب ، وتطيبت بأطيب ما قدرت عليه ، ثم تعرضت له حين خرج من مسجده . فنظر إليها، فراعه أمرها، فأقبلت عليه وهي سافرة.
فقال لها الربيع : كيف بك لو قد نزلت الحمى بجسمك ، فغيرت ما أرى من لونك وبهجتك ؟ أم كيف بك لو قد نزل بك ملك الموت ، فقطع منك حبل الوتين ؟
أم كيف بك لو سألك منكر ونكير؟
فصرخت المرأة صرخة، فخرت مغشيا عليها، فوالله لقد أفاقت ، وبلغت من عبادة ربها ما أنها كانت يوم ماتت كأنها جذع محترق .
{ تنبيه } : للافتتان بالمرأة شرطان متلازمان :
(1) أن تخضع بالقول
(2) أن يكون الرجل في قلبه مرض مصداقاً لقوله تعالى : { فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا } (سورة الأحزاب/32)(2/308)
فالمرأةُ خضعت بالقول لكن الربيع ابن خيثم لم يكن في قلبه مرض كحال الذين يسيل لعابهم وراء الشهوات والعياذ بالله فحصل له النجاة لذلك .
ودونك ما تيسر من المواقف الأخرى الدالة على مدى خشية الربيع بن خثيم رحمه لله تعالى :
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن بكر بن ماعز، قال: انطلق الربيع بن خثيم وعبد الله بن مسعود إلى شاطئ الفرات فمر بتلك الحدادين فلما رأى تلك النيران خر مغشياً عليه، فرجع إليه فقال: يا ربيع، فلم يجبه، فانطلق فصلى بالناس العصر ثم رجع إليه، فقال: يا ربيع يا ربيع، فلم يجبه، ثم انطلق فصلى بالناس المغرب ثم رجع، فقال: يا ربيع يا ربيع، فلم يجبه، حتى ضربه برد السحر.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أبي وائل، قال: خرجنا مع عبد الله بن مسعود ومعنا الربيع بن خثيم، فمررنا على حداد فقام عبد الله ينظر حديدة في النار، فنظر ربيع إليها فتمايل ليسقط، فمضى عبد الله حتى أتينا على أتون على شاطئ الفرات فلما رأى عبد الله والنار تلتهب في جوفه قرأ قوله تعالى : ( إِذَا رَأَتْهُمْ مّن مّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُواْ لَهَا تَغَيّظاً وَزَفِيراً * وَإَذَآ أُلْقُواْ مِنْهَا مَكَاناً ضَيّقاً مّقَرّنِينَ دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً) [ الفرقان 12: 13] . قال: فصعق الربيع فاحتملناه فجئنا به إلى أهله، قال: ثم رابطه إلى المغرب قلم يفق، ثم أنه أفاق فرجع عبد الله إلى أهله.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن مالك بن دينار يقول: قالت ابنة الربيع للربيع: يا أبت لما لا تنام والناس ينامون ؟ فقال: إن البيات النار لا تدع أباك أن ينام.(2/309)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن غسان بن المفضل الغلابي، قال: سمعت من يذكر أن الربيع بن خثيم كان بالأهواز ومعه صاحب له، فنظرت إليه امرأة فتعرضت له فدعته إلى نفسها، فبكى الشيخ، فقال له صاحبه: ما يبكيك ؟ قال: إنها تطمع في شيخين ألا رأت شيوخاً مثلنا.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عبد الرحمن بن عجلان، قال: بت عند الربيع بن خثيم ذات ليلة فقام يصلي. فمر بهذه الآية: (أَمْ حَسِبَ الّذِينَ اجْتَرَحُواْ السّيّئَاتِ أَن نّجْعَلَهُمْ كَالّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ سَوَآءً مّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ) [ الجاثية : 21]. فمكث ليلته حتى أصبح ما جاوز هذه الآية إلى غيرها ببكاء شديد.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن حماد الأصم الحماني، عمن حدثه، عن بعض أصحاب الربيع، قال: ربما علمنا شَعَرَهُ عند المساء وكان ذا وفرة ثم يصبح والعلامة كما هي، فيعرف أن الربيع لم يضع جنبه ليلة على فراشه.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان، قال: بلغنا أن أم الربيع بن خثيم كانت تنادي ابنها الربيع فتقول: يا بني يا ربيع ألا تنام ؟ فيقول: يا أمه من جن عليه الليل وهو يخاف البيات حق له أن لا ينام. قال: فلما بلغ ورأت ما يلقى من البكاء والسهر نادته فقالت: يا بني لعلك قتلت قتيلا ؟ فقال: نعم يا والدة قد قتلت قتيلاً. قالت: ومن هذا القتيل يا بني حتى يتحمل على أهله فيعفون ؟ والله لو يعلمون ما تلقى من البكاء والسهر بعد لقد رحموك، فيقول: يا والدة هي نفسي.
(3) إنشغال الربيع بن خثيم بنفسه عن عيوب الناس :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ(2/310)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عبد الله بن محمد الكواء، أنه قال للربيع: ما تراك تعيب أحداً ولا تذمه ؟ فقال: ويلك يا ابن الكواء ما أنا عن نفسي براض فأتفرغ من ذنبي إلى حديث، إن الناس خافوا الله تعالى على ذنوب الناس وآمنوه على نفوسهم.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عن بكر بن ماعز، قال: قال الربيع بن خثيم: الناس رجلان مؤمن وجاهل، فأما المؤمن فلا تؤذه، وأما الجاهل فلا تجاهله.
(4) وصية الربيع بن خثيم عند موته :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن ربيع بن خيثم أنه أوصى عند موته، فقال: هذا ما أوصى به الربيع على نفسه وأشهد الله عليه وكفى به شهيداً، وجازياً لعباده الصالحين ومثيباً، إني رضيت بالله رباً، وبمحمد نبياً، وبالإسلام ديناً، ورضيت لنفسي ومن أطاعني بأن أعبد الله في العابدين، وأحمده في الحامدين، وأنصح لجماعة المسلمين.
(5) من دُررِ مواعظ الربيع بن خثيم :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عبد الملك بن الأصبهاني، عن جدته، عن الربيع بن خثيم، أنه قال لأصحابه: تدرون ما الداء والدواء والشفاء ؟ قالوا: لا، قال: الداء الذنوب، والدواء الاستغفار، والشفاء أن تتوب ثم لا تعود.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان يقول: قال الربيع بن خثيم: أريدوا بهذا الخير الله تنالوه لا بغيره، وأكثروا ذكر هذا الموت الذي لم تذوقوا قبله مثله، فإن الغائب إذا طالت غيبته وجبت محبته، وانتظره أهله، وأوشك أن يقدم عليهم.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الربيع بن المنذر، عن أبيه، قال: قال الربيع: يا منذر، قلت: لبيك، قال: لا يغرنك كثرة ثناء الناس من نفسك فإنه خالص إليك عملك.(2/311)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أبي يعلى، عن الربيع بن خثيم، قال: ما غائب ينتظره المؤمن خير من الموت.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عن بكر بن ماعز، قال: كان الربيع يقول: أكثروا ذكر هذا الموت الذي لم تذوقوا قبله مثله.
( 6) ترك الربيع بن خثيم لفضول المخالطة :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ ــ ـــ ـــ ـــ ــ ــ
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن حسن يعني ابن صالح قال: قيل للربيع بن خثيم: لو جالستنا ؟ فقال: لو فارق ذكر الموت قلبي ساعة فسد علي.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الشعبي، قال: ما جلس الربيع في مجلس منذ تأزر، وقال: أخاف أن يظلم رجلاً فلا أنصره، أو يعتدي رجل على رجل فأكلف عليه الشهادة، ولا أغض البصر، ولا أهدي السبيل أو يقع الحامل فلا أحمل عليه.
(7) تواضع الربيع بن خثيم رحمه الله :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ ــ ـــ ـــ ـــ
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن منذر، عن الربيع بن خثيم: أنه كان يكنس الحش بنفسه، فقيل له: إنك تكفي هذا، قال: إني أحب أن آخذ نصيبي من المهنة.
[*] وأخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن ياسين الزيات، قال: جاء ابن الكواء إلى الربيع بن خثيم، قال: دلني على من هو خير منك، قال: نعم من كان منطقه ذكراً، وصمته تفكراً وسيره تدبراً، فهو خير مني.
(8) حفظ الربيع بن خثيم للسانه :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ ــ ـــ(2/312)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن بلال بن المنذر، قال: قال رجل: إن لم أستخرج اليوم سيئة من الربيع لأحد لم أستخرجها أبداً، قال: قلت: يا أبا يزيد قتل ابن فاطمة عليهما السلام ، قال: فاسترجع ثم تلا هذه الآية: قل اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا يختلفون . قال: قلت: ما تقول ؟ قال: ما أقول: إلى الله إيابهم وعلى الله حسابهم.
(9) حرص الربيع بن خثيم على صلاة الجماعة :
ـــ ـــ ـــ ـــ ــ ــ ــ ـــ ـــ ــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ ــ ــ
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أبو حيان، قال: حدثني أبي، قال: كان الربيع بعد ما سقط شقه يهادى بين رجلين إلى مسجد قومه، وكان أصحاب عبد الله يقولون: يا أبا يزيد لقد رخص الله لك لو صليت في بيتك، فيقول: إنه كنا تقولون، ولكني سمعته ينادي حي على الفلاح، فمن سمع منكم ينادي حي على الفلاح فليجبه ولو زحفاً، ولو حبوا.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أبي حيان عن أبيه قال كان الربيع بن خثيم يقاد إلى الصلاة وبه الفالج فقيل له قد رخص لك قال إني أسمع وحي على الصلاة فإن استطعتم أن تأتوها ولو حبوا .
(10) اجتهاد الربيع بن خثيم في قيام الليل :
ـــ ـــ ـــ ـــ ــ ــ ــ ـــ ـــ ــ ــ ـــ ـــ ـــ ـــ
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عبد الرحمن بن عجلان، قال: بت عند الربيع بن خثيم ذات ليلة فقام يصلي. فمر بهذه الآية: (أَمْ حَسِبَ الّذِينَ اجْتَرَحُواْ السّيّئَاتِ أَن نّجْعَلَهُمْ كَالّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ سَوَآءً مّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ) [ الجاثية : 21]. فمكث ليلته حتى أصبح ما جاوز هذه الآية إلى غيرها ببكاء شديد.(2/313)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن حماد الأصم الحماني، عمن حدثه، عن بعض أصحاب الربيع، قال: ربما علمنا شَعَرَهُ عند المساء وكان ذا وفرة ثم يصبح والعلامة كما هي، فيعرف أن الربيع لم يضع جنبه ليلة على فراشه.
[*] وأورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن ابنة الربيع قالت كنت أقول يا أبتاه ألا تنام فيقول كيف ينام من يخاف البيات .
(11) إخفاء الربيع بن خيثم للعمل :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ
كان الربيع بن خيثم آيةًً في إخفاء العمل بمتثل قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الآتي :
(حديث سعد ابن أبي وقاص في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي .
الغني : الغني عن الناس
الخفي : من لا يريد علواً في الأرض ولا مناصب ولا جاه. الخامل المنقطع إلى العبادة والانشغال بأمور نفسه.
[*] وأخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان، قال: أخبرتني سرية الربيع بن خثيم، قالت: كان عمل الربيع كله سراً، إن كان ليجيء الرجل وقد نشر المصحف فيغطيه بثوبه.
{ تنبيه } : عمل الخلوة كان أحب إلى السلف من عمل الجلوة ، وكان السلف يستحبون أن يكون للرجل خبيئة من عمل صالح لا يعلم عنها زوجة ولا غيرها، امتثالاً للحديث الآتي :
(حديث الزبير بن العوام في صحيح الجامع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :من استطاع منكم أن يكون له خَبِءٌ من عمل صالح فليفعل .
خَِبٌِء من عمل صالح : أي من الأعمال الخفيّة التي لا يطّلع عليها أحد من الناس, خالية من الرياء, فتكون خالصة لله تبارك و تعالى مثل صلاة النافلة في جوف الليل أو صدقة السر أو أي عمل آخر من الأعمال الصالحة .
وفاة الربيع بن خيثم :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ
[*] قال الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء: قيل توفي الربيع بن خيثم سنة خمس وستين.
سيرة أبي مسلم الخولاني رحمه الله :(2/314)
اسم أبي مسلم الخولاني ونسبه :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
[*] قال الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء :
اسمه على الأصح عبد الله بن ثوب وقيل اسمه عبد الله بن عبد الله وقيل عبد الله بن ثواب وقيل ابن عبيد ويقال اسمه يعقوب بن عوف قدم من اليمن وقد أسلم في أيام النبي فدخل المدينة في خلافة الصديق .
مناقب أبي مسلم الخولاني رحمه الله تعالى :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ
كان من أئمة التابعين ، من أئمة الهدى وأعلام التقى ومصابيح الدجى ، من حلية الأولياء وأعلام النبلاء ، من الأضواء اللامعة والنجوم الساطعة .
وهاك غَيْضٍ من فيض ونقطةٍ من بحر مما ورد في مناقب أبي مسلم الخولاني جملةً وتفصيلا :
أولاً مناقب أبي مسلم الخولاني جملةً :
(1) ثناء العلماء على أبي مسلم الخولاني:
(2) نصح أبي مسلم الخولاني للولاة :
(3) زهد أبي مسلم الخولاني في الدنيا :
(4) اجتهاد أبي مسلم الخولاني في العبادة :
(5) النار لم تضر أبو مسلم الخولاني حين طُرِح فيها :
(6) أبو مسلم الخولاني مستجاب الدعوة :
ثانياً مناقب أبي مسلم الخولاني تفصيلا :
(1) ثناء العلماء على أبي مسلم الخولاني:
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ
[*] قال عنه الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء :
ومنهم المتخلي عن الهموم والكرب، المتسلي بالأوراد والنوب، الخولاني أبو مسلم عبد الله بن ثوب، حكيم الأمة وممثلها، ومديم الخدمة ومحررها.
[*] قال عنه الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء :
سيد التابعين وزاهد العصر اسمه على الأصح عبد الله بن ثوب قدم من اليمن وقد أسلم في أيام النبي صلى الله عليه وسلم ولم يلقى النبي فدخل المدينة في خلافة الصديق .(2/315)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن علقمة بن مرثد، قال: انتهى الزهد إلى ثمانية من التابعين منهم أبو مسلم الخولاني، وكان لا يجالس أحداً قط، ولا يتكلم في شيء من أمر الدنيا إلا تحول عنه، فدخل ذات يوم المسجد فنظر إلى نفر قد اجتمعوا فَرَجَا أن يكونوا على ذكر خير فجلس إليهم، فإذا بعضهم يقول قدم غلامي فأصاب كذا وكذا، وقال آخر: جهزت غلامي، فنظر إليهم، فقال: سبحان الله أتدرون ما مثلي ومثلكم ؟ كرجل أصابه مطر غزير وابل فالتفت فإذا هو بمصراعين عظيمين، فقال: لو دخلت هذا البيت حتى يذهب عني هذا المطر، فدخل فإذا البيت لا سقف له، جلست إليكم وأنا أرجو أن تكونوا على ذكر وخير فإذا أنتم أصحاب الدنيا. وقال له قائل. حين كبر ورق: لو قصرت عن بعض ما تصنع ؟ فقال: أرأيتم لو أرسلتم الخيل في الحلبة ألستم تقولون لفارسها دعها وارفق بها، حتى إذا رأيتم الغاية فلا تستبقوا منها شيئاً ؟ قالوا: بلى، قال: فإني أبصرت الغاية وإن لكل ساع غاية، وغاية كل ساع الموت، فسابق ومسبوق.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن ابن لهيعة، قال: حدثنا ابن هبيرة: أن كعباً كان يقول: إن حكيم هذه الأمة أبو مسلم الخولاني.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان، قال: سمعت أبا هارون موسى بن عيسى، يقول: كان يقال أن أبا مسلم الخولاني ممثل هذه الأمة.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن شرحبيل بن مسلم: أن رجلين أتيا أبا مسلم الخولاني في منزله، فقال بعض أهله: هو في المسجد، فأتيا المسجد فوجداه يركع فانتظرا انصرافه وأحصيا ركوعه فأحصى أحدهما أنه ركع ثلثمائة، والآخر أربعمائة قبل أن ينصرف.(2/316)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عطية بن قيس: أن أناساً من أهل دمشق أتوا أبا مسلم الخولاني في منزله وكان غازياً بأرض الروم فوجدوه قد احتفر في فسطاطه حفرة ووضع في الحفرة قطعاً وأفرغ ماء فهو يتصلق فيه وهو صائم، فقال له النفر: ما يحملك على الصيام وأنت مسافر وقد رخص الله تعالى لك الفطر في السفر والغزو، فقال: لو حضر قتال لأفطرت وتقويت للقتال، إن الخيل لا تجري الغايات وهي بدنى، إنما تجري وهي ضمرات، إن بين أيدينا أياماً لها نعمل.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عثمان بن أبي العاتكة، قال: كان من أمر أبي مسلم الخولاني أن علق سوطاً في مسجده ويقول: أنا أولى بالسوط من الدواب، فإذا دخلته فترة مشق ساقه سوطاً أو سوطين. وكان يقول: لو رأيت الجنة عياناً ما كان عندي مستزاد، ولو رأيت النار عياناً ما كان عندي مستزاد.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن محمد بن شعيب، عن بعض مشيخة دمشق، قال: أقبلنا من أرض الروم، قال: فلما خرجنا من حمص متوجهين إلى دمشق مررنا بالعمير الذي يلي حمص على نحو من أربعة أميال في آخر الليل، فلما سمع الراهب الذي في الصومعة كلامنا اطلع إلينا. فقال: من أنتم ؟ فقلنا: ناس من أهل دمشق أقبلنا من أرض الروم، فقال: هل تعرفون أبا مسلم الخولاني ؟ فقلنا: نعم، قال: فإذا أتيتموه فأقرئوه السلام وأعلموه أنا نجده في الكتب رفيق عيسى بن مريم عليه السلام، أما إنكم إن كنتم تعرفونه لا تجدونه حياً. قال: فلما أشرفنا الغوطة بلغنا موته.
(2) نصح أبي مسلم الخولاني للولاة :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ(2/317)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أبي عبد الله الحرسي وكان من حرس عمر بن عبد العزيز قال: دخل أبو مسلم الخولاني على معاوية بن أبي سفيان وقال: السلام عليكم أيها الأجير، فقال الناس الأمير يا أبا مسلم، ثم قال: السلام عليك أيها الأجير، فقال الناس: الأمير ؟ فقال: معاوية دعوا أبا مسلم هو أعلم بما يقول، قال أبو مسلم: إنما مثلك مثل رجل استأجر أجيراً فولاه ماشيته وجعل له الأجر على أن يحسن الرعية ويوفر جزازها وألبانها، فإن هو أحسن رعيتها ووفر جزازها حتى تلحق الصغيرة وتسمن العجفاء أعطاه أجره وزاد من قبله زيادة، وإن هو لم يحسن رعيتها وأضاعها حتى تهلك العجفاء وتعجف السمينة ولم يوفر جزازها وألبانها غضب عليه صاحب الأجر فعاقبه ولم يعطه الأجر، فقال معاوية: ما شاء الله كان.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عبيد الله بن شميط، عن أبيه، قال: كان أبو مسلم الخولاني يطوف بنعي الإسلام، فأتى معاوية فقيل له فأرسل إليه فدعاه فقال له: ما اسمك ؟ قال معاوية: قلت: بل أنت حدوثة قبر عن قليل، إن عملت خيراً أجزيت به وإن عملت شراً أجزيت به، يا معاوية إن عدلت على أهل الأرض جميعاً ثم جرت على رجل واحد مال جورك بعدلك .
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أبي مسلم الخولاني: أنه نادى معاوية بن أبي سفيان وهو جالس على منبر دمشق، فقال: يا معاوية إنما أنت قبر من القبور إن جئت بشيء كان لك شيء، وإن لم تجيء بشيء فلا شيء لك يا معاوية، لا تحسبن الخلافة جمع المال وتفرقه ولكن الخلافة العمل بالحق، والقول بالمعدلة، وأخذ الناس في ذات الله عز وجل، يا معاوية إنا لا نبالي بكدر الأنهار ما صفت لنا رأس عيننا وإنك رأس عيننا، يا معاوية إياك أن تخيف على قبيلة من قبائل العرب فيذهب حيفك بعدلك فلما قضى أبو مسلم مقالته أقبل عليه معاوية فقال: يرحمك الله.(2/318)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أبي مسلم الخولاني، عن معاوية بن أبي سفيان: أنه خطب الناس وقد حبس العطاء شهرين أو ثلاثة فقال له أبو مسلم:يا معاوية إن هذا المال ليس بمالك ولا بمال أبيك ولا مال أمك، فأشار معاوية إلى الناس أن امكثوا. ونزل فاغتسل ثم رجع فقال: أيها الناس إن أبا مسلم ذكر أن هذا المال ليس بمالي وليس بمال أبي ولا أمي وصدق أبو مسلم، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الغضب من الشيطان، والشيطان من النار، والماء يطفئ النار، فإذا غضب أحدكم فليغتسل ، اغدوا على عطاياكم على بركة الله عز وجل.
(3) زهد أبي مسلم الخولاني في الدنيا :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عمر بن سيف الخولاني أنه سمع أبا مسلم الخولاني، يقول: لأن يولد لي مولود يحسن الله نباته حتى إذا استوى على شبابه وكان أعجب ما يكون إلي قبضه الله مني أحب إلي من أن يكون لي الدنيا وما فيها.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن شرحبيل بن مسلم، عن أبي مسلم الخولاني، أنه كان إذا وقف على خربة، قال: يا خربة أين أهلك ؟ ذهبوا وبقيت أعمالهم، وانقطعت الشهوات وبقيت الخطيئة، ابن آدم ترك الخطيئة أهون من طلب التوبة.
(4) اجتهاد أبي مسلم الخولاني في العبادة :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ ــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن شرحبيل بن مسلم: أن رجلين أتيا أبا مسلم الخولاني في منزله، فقال بعض أهله: هو في المسجد، فأتيا المسجد فوجداه يركع فانتظرا انصرافه وأحصيا ركوعه فأحصى أحدهما أنه ركع ثلثمائة، والآخر أربعمائة قبل أن ينصرف.(2/319)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عطية بن قيس: أن أناساً من أهل دمشق أتوا أبا مسلم الخولاني في منزله وكان غازياً بأرض الروم فوجدوه قد احتفر في فسطاطه حفرة ووضع في الحفرة قطعاً وأفرغ ماء فهو يتصلق فيه وهو صائم، فقال له النفر: ما يحملك على الصيام وأنت مسافر وقد رخص الله تعالى لك الفطر في السفر والغزو، فقال: لو حضر قتال لأفطرت وتقويت للقتال، إن الخيل لا تجري الغايات وهي بدنى، إنما تجري وهي ضمرات، إن بين أيدينا أياماً لها نعمل.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عثمان بن أبي العاتكة، قال: كان من أمر أبي مسلم الخولاني أن علق سوطاً في مسجده ويقول: أنا أولى بالسوط من الدواب، فإذا دخلته فترة مشق ساقه سوطاً أو سوطين. وكان يقول: لو رأيت الجنة عياناً ما كان عندي مستزاد، ولو رأيت النار عياناً ما كان عندي مستزاد.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن يزيد يعني ابن جابر قال: كان أبو مسلم الخولاني يكثر أن يرفع صوته بالتكبير حتى مع الصبيان، وكان يقول: اذكروا الله حتى يرى الجاهل أنكم مجانين.
(5) النار لم تضر أبو مسلم الخولاني حين طُرِح فيها :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ ــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ(2/320)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن شرحبيل الخولاني، قال: بينا الأسود بن قيس ابن ذي الحمار العنسي باليمن فأرسل إلى أبي مسلم، فقال له: أتشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله ؟ قال: نعم، قال: فتشهد أني رسول الله ؟ قال: ما أسمع، قال: فأمر بنار عظيمة فأججت وطرح فيها أبو مسلم فلم تضره، فقال له أهل مملكته: إن تركت هذا في بلدك أفسدها عليك، فأمره بالرحيل فقدم المدينة وقد قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم واستخلف أبو بكر، فعقل على باب المسجد وقام إلى سارية من سواري المسجد يصلي إليها، فبصره به عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فأتاه فقال: من أين الرجل ؟ قال: من اليمن، قال: فما فعل عدو الله بصاحبنا الذي حرقه بالنار فلم تضره، قال: ذاك عبد الله بن ثوب، قال: نشدتك بالله أنت هو ؟ قال: اللهم نعم، قال: فقبل ما بين عينيه ثم جاء به حتى أجلسه بينه وبين أبي بكر، وقال: الحمد لله الذي يمتني من الدنيا حتى أراني في أمة محمد صلى الله عليه وسلم من فعل به كما فعل بإبراهيم خليل الرحمن عليه السلام، قال الحوطي: قال إسماعيل: فأنا أدركت قوماً من المدادين الذين مدوا من اليمن يقولون لقوم عن عنس: صاحبكم الذي حرق صاحبنا بالنار فلم تضره.(2/321)
[*] وأورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن شرحبيل بن مسلم قال أتى أبو مسلم الخولاني المدينة وقد قبض النبي واستخلف أبو بكر فحدثنا شرحبيل أن الأسود تنبأ باليمن فبعث إلى أبي مسلم فأتاه بنار عظيمة ثم إنه ألقى أبا مسلم فيها فلم تضره فقيل للأسود إن لم تنف هذا عنك افسد عليك من اتبعك فأمره بالرحيل فقدم المدينة فاناخ راحلته ودخل المسجد يصلي فبصر به عمر رضي الله عنه فقام إليه فقال ممن الرجل قال من اليمن قال ما فعل الذي حرقه الكذاب بالنار قال ذاك عبد الله بن ثوب قال نشدتك بالله أنت هو قال اللهم نعم فاعتنقه عمر وبكى ثم ذهب به حتى أجلسه فيما بينه وبين الصديق فقال الحمد لله الذي لم يمتني حتى أراني في امة محمد من صنع به كما صنع بإبراهيم الخليل .
(6) أبو مسلم الخولاني مستجاب الدعوة :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن بلال بن كعب العكي، قال: كان الظبي يمر بأبي مسلم الخولاني فيقول له الصبيان: ادع الله يحبسه علينا نأخذه بأيدينا، فكان يدعو الله عز وجل فيحبسه حتى يأخذوه بأيديهم.(2/322)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عثمان بن عطاء، عن أبيه، قال: كان أبو مسلم الخولاني إذا انصرف إلى منزله من المسجد كبر على باب منزله فتكبر امرأته، فإذا كان في صحن داره كبر فتجيبه امرأته، وإذا بلغ باب بيته كبر فتجيبه امرأته، فانصرف ذات ليلة فكبر عند باب داره فلم يجبه أحد، فلما كان في الصحن كبر فلم يجبه أحد فلما كان عند باب بيته كبر فلم يجبه أحد، وكان إذا دخل بيته أخذت امرأته رداءه ونعليه ثم أتته بطعامه، قال: فدخل البيت فإذا البيت ليس فيه سراج وإذا امرأته جالسة في البيت منكسة تنكت بعود معها، فقال لها: مالك ؟ قالت: أنت لك منزلة من معاوية وليس لنا خادم فلو سألته فأخدمنا وأعطاك، فقال: اللهم من أفسد على امرأتي فأعم بصرها، قال: وقد جاءتها امرأة قبل ذلك، فقالت لها: زوجك له منزلة من معاوية فلو قلت له يسأل معاوية يخدمه ويعطيه عشتم، قال: فبينا تلك المرأة جالسة في بيتها إذ أنكرت بصرها، فقالت: ما لسراجكم طفئ ؟ قالوا: لا، فعرفت ذنبها فأقبلت إلى أبي مسلم تبكي وتسأله أن يدعو الله عز وجل لها أن يرد عليها بصرها، قال: فرحمها أبو مسلم فدعا الله لها فرد عليها بصرها.
وفاة أبي مسلم الخولاني رحمه الله :
[*] قال سعيد بن عبد العزيز : مات أبو مسلم بأرض الروم وكان مع بسر بن أبي أرطاة فأدركه أجله فعاده بسر فقال له أبو مسلم : يا بسر اعقد لي على من مات في هذه الغزاة فإني أرجو أن آتي بهم يوم القيامة على لوائهم .
[*] قال أحمد بن حنبل : حُدِّثنا عن محمد بن شعيب عن بعض المشيخة قال : أقبلنا من أرض الروم مررنا بالعمير على أربعة أميال من حمص في آخر الليل ، فاطلع راهب من صومعة ، فقال : هل تعرفون أبا مسلم الخولاني ؟ قلنا : نعم . قال : إذا أتيتموه ، فأقرِئُوه السلام ؛ فإنا نجده في الكتب رفيق عيسى ابن مريم . أما إنكم لا تجدونه حيا . قال : فلما أشرفنا على الغُوطة ، بلغنا موته .(2/323)
قال الحافظ أبو القاسم ابن عساكر : يعني سمعوا ذلك ، وكانت وفاته بأرض الروم .
[*] وروى إسماعيل بن عيَّاش ، عن شُرَحْبيل بن مسلم ، عن سعيد بن هانئ قال ، قال معاوية : إنما المصيبة كل المصيبة بموت أبي مسلم الخولاني ، وكُرَيب بن سيف الأنصاري .
سيرة الحسن البصري رحمه الله :
إنه الحسن بن أبي الحسن يسار، الإمام شيخ الإسلام أبو سعيد البصري المشهور بالحسن البصري ، وصف الحسن البصري رحمه الله بأنه من كان من سادات التابعين وكبرائهم، وجمع كل فن من علم وزهد وورع وعبادة ومن القلائل الذين أجرى الله الحكمة على ألسنتهم فكان كلامه حكمة وبلاغة إنه التابعي الجليل الحسن البصري، ولا غَرْوَ ولا عجب فقد وُلِدَ رحمه الله تعالى في بيت تقى وصلاح ، وفي بيت علم وهداية ، وُلِدَ في بيتٍ تُلِيَ فيه القرآن تلي وعلى أصحابه تنزل ، فقد كان مولده في بيت أم سلمة رضي الله عنها ، إذ كانت أمه مولاة لها ، وزاده قَدَرُ الله مَيْزَة أخرى ، فلم يكن بيت أم سلمة رضي الله عنها مولده فحسب ، بل لقد كان حجرها غطاءه ، وصدرها سقاءه ، فأدفته بصدرها ، وأرضعته لبنها ، وشاء الله أن يدر له منها لبنًا ، فكان لبنًا مباركًا ، غذى به ذرب اللسان ، قوي الحجة والبيان ، إن تحدث فجدير لأن يسمع له ، وإن سئل فجدير بأن يجيب ، إن وعظ علا صوته ، وجرى دمعه ، وبدا إخلاصه ، فيظهر على الناس الأثر ، يسبق فعله كلامه ، كما يسبق ضوء الفجر وهج الشمس ، مَنَّ الله تعالى عليه بأمور كثيرة رفعه بها بين الناس ، وإن لم يكن ذا نسب رفيع ، لكنه رفعه علمه وفضله وتقاه ، طلب الحكام منه النصيحة فنصحهم ، والعظة فوعظهم ، وأعطوه أجرًا فرده وزجرهم ، فهو لا يريد من البشر أجرًا إنما كان شعاره " إِنْ أَجْرِيَ إِلاّ عَلَى " [ هود : 29] فنعم الأجر هو ، ونعم الرجل كان ، إنه حليف الخوف والحزن ، أليف الهم والشجن ، إنه الحسن البصري رحمه الله .
اسم الحسن البصري ونسبه :(2/324)
هو أبو سعيد ، الحسن بن أبي الحسن بن يسار ، كان أبوه مولى لزيد بن ثابت الأنصاري ، وكان يسار من سبي حسان ، سكن المدينة ، وأعتق وتزوج في خلافة عمر رضي الله عنه بأم الحسن واسمها خيرة، كانت مولاة لأم المؤمنين أم سلمة المخزومية .
نشأة الحسن البصري رحمه الله :
ولد الحسن رحمه الله لسنتين بقيتا من خلافه عمر رضي الله عنه وذهب به إلى عمر فحنكه ، ولما علمت أم المؤمنين أم سلمة بالخبر أرسلت رسولاً ليحمل إليها الحسن ، وأمه لتقضي نفاسها في بيت أم سلمة رضي الله عنها ، فلما وقعت عينها على الحسن وقع حبه في قلبها ، فقد كان الوليد الصغير قسيمًا وسيمًا ، بهي الطلعة ، تام الخلقة ، يملأ عين مجتليه ، ويأسر فؤاد رائيه ، ويسر عين ناظريه ، وسمته أم المؤمنين رضي الله عنها بالحسن ، ولم تكن البشرى لتقتصر على بيت أم سلمة رضي الله عنها فحسب ؛ بل عمت الفرحة دار الصحابي الجليل زيد بن ثابت رضي الله عنه ، فهو مولى أبي ، وكان كرم الله على الحسن أن نشأ في بيت أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها ، وكانت أمه تتركه عند أم المؤمنين ، وتذهب لقضاء حوائجها ، فكان الحسن إذا بكى ألقمته أم المؤمنين ثديها ، فيدر عليه لبنًا بأمر الله ، على الرغم من كبر سنها فضلا عن أنه لم يكن لها ولد وقتها ، فكانت أم سلمة رضي الله عنها أمًا للحسن من جهتين : الأولى كونها زوج النبي صلى الله عليه وسلم ، فهي أم له وللمؤمنين ، والثانية كونها أمًا له من الرضاعة ، فلما أرضعته أم المؤمنين أم سلمة رضي الله تعالى عنها إذا هو يرتوي حكمة وفصاحة وتقى، فما إن شب صاحبنا إلا وينابيع الحكمة تنبع من لسانه وجمال الأسلوب ورصانة العبارة وفصاحة اللسان تتحدر من كلامه.(2/325)
ولم يكن الحسن رضي الله عنه قاصرًا في نشأته على بيت أم سلمة رضي الله عنها فحسب ؛ بل كان يدور على بيوت أمهات المؤمنين رضي الله عنهنَّ ، وكان هذا داعيًا لأن يتخلق الغلام الصغير بأخلاق أصحاب البيوت ، وكان هو يحدث عن نفسه ، ويخبر بأنه كان يصول ويجول في داخل بيوتهنَّ رضي الله عنهنَّ حتى أنه كان ينال سقوف بيوتهنَّ بيديه وهو يقفز فيها قفزًا .
[*] مناقب الحسن البصري :
كان الحسن البصري رحمه الله من أئمة التابعين ، من أئمة الهدى وأعلام التقى ومصابيح الدجى ، من حلية الأولياء وأعلام النبلاء ، من الأضواء اللامعة والنجوم الساطعة .
وهاك غَيْضٍ من فيض ونقطةٍ من بحر مما ورد في مناقبه جملةً وتفصيلا:
أولاً مناقب الحسن البصري جملةً :
(1) ثناء العلماء على الحسن البصري رحمه الله :
(2) خشية الحسن البصري لله تعالى :
(3) طول حزن الحسن البصري رحمه الله :
(4) من درر مواعظ الحسن البصري رحمه الله :
(5) زهد الحسن البصري رحمه الله تعالى :
(6) دعاء الحسن البصري على الظالم :
(7) الحسن البصري يصدع بكلمة الحق في وجه الحجاج :
(8) نصح الحسن للولاة :
(9) سعة علم الحسن البصري وأسبابها :
ثانيا مناقب الحسن البصري تفصيلا :
(1) ثناء العلماء على الحسن البصري رحمه الله :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
[*] قال عنه الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء :
ومنهم حليف الخوف والحزن، أليف الهم والشجن، عديم النوم والوسن أبو سعيد الحسن بن أبي الحسن. الفقيه الزاهد، المتشمر العابد، كان لفضول الدنيا وزينتها نابذاً، ولشهوة النفس ونخوتها واقذاً.(2/326)
[*] وقال عنه أحد العلماء: كان جائعاً عالماً عالياً رفيعاً فقيها ثقة مأموناً عابداً ناسكاً كبير العلم فصيحاً جميلاً وسيماً ، كانت أمه "خيرة" مولاة لأم سلمة زوج النبي وكان مولده قبل نهاية خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب بسنتين.وكانت أمه تخرج إلى السوق أحياناً فتدعه عند أم سلمة فيصيح جوعاً فتلقمه أم سلمة ثديها لتعلله به، إلى أن تجيء أمه - وإذا برحمة الله تنزل على الثدي فيدر لبناً فيرضع الطفل حتى يرتوي. فإذا هو يرتوي حكمة وفصاحة وتقى، فما إن شب صاحبنا إلا وينابيع الحكمة تنبع من لسانه وجمال الأسلوب ورصانة العبارة وفصاحة اللسان تتحدر من كلامه. إنه الحسن بن أبي الحسن يسار، الإمام شيخ الإسلام أبو سعيد البصري المشهور بالحسن البصري، يقال: مولى زيد بن ثابت، ويقال: مولى جميل بن قطبة ، وأمه خيرة مولاة أم سلمة، نشأ إمامنا في المدينة النبوية وحفظ القرآن في خلافة عثمان. وكانت أمه وهو صغير تخرجه إلى الصحابة فيدعون له، وكان في جملة من دعا له عمر بن الخطاب. قال: اللهم فقهه في الدين، وحببه إلى الناس. فكان الحسن بعدها فقيهاً وأعطاه الله فهماً ثابتاً لكتابه وجعله محبوباً إلى الناس. ولازم أبا هريرة وأنس بن مالك وحفظ عنهم أحاديث النبي ، فكان كلما سمع حديثاً عن المصطفى ازداد إيماناً وخوفاً من الله، إلى أن أصبح من نساك التابعين ومن أئمتهم ومن وعاظهم ودعاتهم، وصار يرجع إليه في مشكلات المسائل وفيما اختلف فيه العلماء، فهذا أنس بن مالك سُئل عن مسألة فقال: سلوا مولانا الحسن، قالوا: يا أبا حمزة نسألك، تقول: سلوا الحسن؟ قال: سلوا مولانا الحسن. فإنه سمع وسمعنا فحفظ ونسينا
[*] وقال أنس بن مالك أيضاً:
إني لأغبط أهل البصرة بهذين: الشيخين الحسن البصري ومحمد بن سيرين
[*] وقال قتادة:
وما جالست رجلاً فقيهاً إلا رأيت فضل الحسن عليه، وكان الحسن مهيباً يهابه العلماء قبل العامة .
[*] قال أيوب السختياني :(2/327)
كان الرجل يجالس الحسن ثلاث حجج (سنين) ما يسأله عن مسألة هيبةً. وكان الحسن البصري إلى الطول أقرب، قوي الجسم، حسن المنظر، جميل الطلعة مهايباً يهابه
العلماء قبل العامة ، قال أيوب السختياني: كان الرجل يجالس الحسن ثلاث حجج (سنين)
ما يسأله عن مسألة هيبة.
وكان الحسن البصري إلى الطول أقرب، قوي الجسم، حسن المنظر، جميل الطلعة مهايباً.
[*] قال عاصم الأحول :
قلت للشعبي: لك حاجة؟ قال: نعم، إذا أتيت البصرة فأقرئ الحسن مني السلام، قلت: ما أعرفه، قال: إذا دخلت البصرة فانظر إلى أجمل رجل تراه في عينيك وأهيبه في صدرك فأقرئه مني السلام، قال: فما عدا أن دخل المسجد فرأى الحسن والناس حوله جلوس فأتاه وسلّم عليه. وكان الحسن صاحب خشوع وإخبات ووجل من الله،
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن علقمة بن مرثد، قال: انتهى الزهد إلى ثمانية من التابعين؛ فمنهم الحسن بن أبي الحسن فما رأينا أحداً من الناس كان أطول حزناً منه، ما كنا نراه إلا أنه حديث عهد بمصيبة، ثم قال: نضحك ولا ندري لعل الله قد اطلع على بعض أعمالنا، فقال: لا أقبل منكم شيئاً، ويحك يا ابن آدم لك بمحاربة الله طاقة ؟ إنه من عصي الله فقد حاربه. والله لقد أدركت بدرياً أكثر لباسهم الصوف، ولو رأيتموهم قلتم مجانين، ولو رأوا خياركم لقالوا: ما لهؤلاء من خلاق، ولو رأوا شراركم لقالوا ما يؤمن هؤلاء بيوم الحساب، ولقد رأيت أقواماً كانت الدنيا أهون على أحدهم من التراب تحت قدميه، ولقد رأيت أقواماً يمشي أحدهم وما يجد عنده إلا قوتاً فيقول لا أجعل هذا كله في بطني، لأجعلن بعضه لله عز وجل فيتصدق ببعضه، وإن كان هو أحوج ممن تصدق به عليه.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أيوب، قال: لو رأيت الحسن لقلت أنك لم تجالس فقيهاً قط.(2/328)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عوف بن أبي جميلة الأعرابي، قال: كان الحسن ابناً لجارية أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، فبعثت أم سلمة جاريتها في حاجتها فبكى الحسن بكاءً شديداً فرقت عليه أم سلمة رضي الله تعالى عنها، فأخذته فوضعته في حجرها فألقمته ثديها فدر عليه فشرب منه، فكان يقال: إن المبلغ الذي بلغه الحسن من الحكمة من ذلك اللبن الذي شربه من أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الأعمش، يقول: ما زال الحسن البصري يعي الحكمة حتى نطق بها، وكان إذا ذكر عند أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين، قال: ذاك الذي يشبه كلامه كلام الأنبياء.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن خالد بن صفوان، قال: لما لقيت مسلمة بن عبد الملك بالحيرة، قال: يا خالد أخبرني عن حسن أهل البصرة، قلت: أصلح الله الأمير أخبرك عنه بعلم أن جاره إلى جنبه وجليسه في مجلسه، وأعلم من قبلي به، أشبه الناس سريرة بعلانية وأشبه قولاً بفعل، إن قعد على أمر قام به، وإن قام على أمر قعد عليه، وإن أمر بأمر كان أعمل الناس به، وإن نهى عن شيء كان أترك الناس له، رأيته مستغنياً عن الناس ورأيت الناس محتاجين إليه، قال: حسبك يا خالد كيف يضل قوم هذا فيهم.
(2) خشية الحسن البصري لله تعالى :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الحسن: إن المؤمن يصبح حزيناً ويمسي حزيناً ولا يسعه غير ذلك، لأنه بين مخافتين؛ بين ذنب قد مضى لا يدري ما الله يصنع فيه، وبين أجل قد بقي لا يدري ما يصيب فيه من المهالك.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الحسن، قال: يحق لمن يعلم أن الموت مورده وان الساعة موعده، وأن القيام بين يدي الله تعالى مشهده، أن يطول حزنه.
[*] قال يزيد بن حوشب : ما رأيت أخوف من الحسن وعمر بن عبد العزيز،(2/329)
كأن النار لم تخلق إلا لهماً.
(3) طول حزن الحسن البصري رحمه الله :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الحجاج بن دينار، قال: كان الحكم بن حجل صديقاً لابن سيرين، فلما مات ابن سيرين حزن عليه حتى جعل يعاد كما يعاد المريض، فحدث بعد قال: رأيت أخي في المنام يعني ابن سيرين فرأيته في قصر فذكر من هيئته وأنه على أفضل حال، فقلت له: أي أخي قد أراك في حال يسرني فما صنع الحسن ؟ قال: رفع فوقي بتسعين درجة، فقلت: ومما ذاك? قال: بطول حزنه.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عبيد الله بن شميط، حدثني أبي، قال: سمعت الحسن، يقول: إن المؤمن يصبح حزيناً ويمسي حزيناً وينقلب باليقين في الحزن، ويكفيه ما يكفي العنيزة: الكف من التمر والشربة من الماء.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن إبراهيم بن عيسى اليشكري، قال: ما رأيت أحداً أطول حزناً من الحسن، وما رأيته قط إلا حسبته حديث عهد بمصيبته.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الحسن، قال: طول الحزن في الدنيا تلقيح العمل الصالح.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الحسن أنه قال: والله لا يؤمن عبد بهذا القرآن إلا حزن وذبل، وإلا نصب، وإلا ذاب، وإلا تعب.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن حوشباً، يقول: سمعت الحسن يحلف بالله يقول: والله يا ابن آدم لئن قرأت القرآن ثم آمنت به، ليطولن في الدنيا حزنك، وليشتدن في الدنيا خوفك، وليكثرن في الدنيا بكاؤك.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الحسن، قال: يحق لمن يعلم أن الموت مورده وان الساعة موعده، وأن القيام بين يدي الله تعالى مشهده، أن يطول حزنه.
[*] قال مطر الوراق:
الحسن كأنه رجل كان في الآخرة ثم جاء يتكلم عنها، وعن أهوالها. فهو بخبر عما رأي وعاين .
[*] وقال حمزة الأعمى :(2/330)
وكنت أدخل على الحسن منزله وهو يبكي، وربما جئت إليه وهو يصلي
فأسمع بكاءه ونحيبه فقلت له يوماً: إنك تكثر البكاء، فقال: يا بني، ماذا يصنع المؤمن إذا لم يبكِ؟
يا بني إن البكاء داع إلى الرحمة. فإن استطعت أن تكون عمرك باكيا فافعل، لعله تعالى أن يرحمك.
[*] وقال حكيم بن جعفر : قال لي من رأى الحسن: لو رأيت الحسن لقلت: قد بث عليه حزن الخلائق، من طول تلك الدمعة وكثرة ذلك النشيج.
[*] وعن حفص بن عمر قال : بكى الحسن فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: أخاف أن يطرحني غداً في النار ولا يبالي .
(4) من درر مواعظ الحسن البصري رحمه الله :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
كان الحسن البصري صاحب مواعظ وتذكير، ولكلامه أثر في النفوس حيث يستميل القلوب بتحسين الأسلوب والتخويف من علاَّم الغيوب ، والتحذير من عاقبة الإثم والحوب مما يجعل الإنسان من الخوف منحوب ويُقْلِعُ عن الذنوب ، مواعظٌ تُفري الأكباد وتُذيب الأجساد وتبعث على إعداد الزاد ليوم المعاد ، مواعظٌ تُبْكِي الصخور وترهب الصدور ، فيلتزم المأمور ويجتنب المحظور ويصبر على المقدور ويتفكر في قبره المحفور وما فيه من الدواهي والأمور تحت الجنادل والصخور فيتضرع إلى ربه أن يرحم غربته في القبور ،مواعظٌ تُقَوِّمُ المائلين وتنبه الغافلين وتُذَكِّرُ السالكين وتستدر دموع السامعين ، وكان رحمه الله تعالى فصيح اللسان عنده حسنُ منطق وعذوبة ألفاظ ، كأنما سُخِّرَ له الكلام ، كأنما لين له الكلام كما لين لداوود الحديد ، وكان رحمه الله تعالى لديه فصاحة غريزية لا يتكلفها ،بمثل كلامه تُستمال القلوب النافرة وتُرَدُ الأهواء الشاردة ، كلامه يجذب النفوس إليه انجذاب الحديد للمغناطيس ، كلاماً يبعث الهمم للتعرضِ إلى النفحات ويُثيرُ العزائم إلى اغتنام الفرص قبل الممات ، كلاماً يٌقربُ الأقصى بلفظٍ مُوجَزِ ويبسط البذل بوعدٍ منجز .(2/331)
[*] قال الأعمش: ما زال الحسن يعي الحكمة حتى نطق بها.
[*] وكان أبو جعفر الباقر إذا ذكره يقول: ذاك الذي يشبه كلامه كلام الأنبياء.
وهاك بعض مواعظه :
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أبي حميد الشامي، قال: كتب الحسن على عمر بن عبد العزيز :
اعلم أن التفكر يدعو إلى الخير والعمل به، والندم على الشر يدعو إلى تركه، وليس ما يفنى وإن كان كثيراً يعدل ما يبقى وإن كان طلبه عزيزاً، واحتمال المؤونة المنقطعة التي تعقب الراحة الطويلة خير من تعجيل راحة منقطعة تعقب مؤونة باقية، فاحذر هذه الدار الصارعة الخادعة الخاتلة التي قد تزينت بخدعها، وغرت بغرورها، وقتلت أهلها بأملها، وتشوفت لخطابها، فأصبحت كالعروس المجلولة. العيون إليها ناظرة، والنفوس لها عاشقة، والقلوب إليها والهة، ولألبابها دامغة، وهي لأزواجها كلهم قاتلة. فلا الباقي بالماضي معتبر، ولا الآخر بما رأى من الأول مزدجر، ولا اللبيب بكثرة التجارب منتفع، ولا العارف بالله والمصدق له حين أخبر عنها مدكر، فأبت القلوب لها إلا حباً، وأبت النفوس بها إلا ضناً، وما هذا منالها إلا عشقاً، ومن عشق شيئاً لم يعقل غيره، ومات في طلبه أو يظفر به، فهما عاشقان طالبان لها؛ فعاشق قد ظفر بها واغتر وطغى ونسي بها المبدأ والمعاد. فشغل بها لبه، وذهل فيها عقله، حتى زلت عنها قدمه، وجاءته أسر ما كانت له منيته فعظمت ندامته، وكثرت حسرته، واشتدت كربته مع ما عالج من سكرته. واجتمعت عليه سكرات الموت بألمه، وحسرة الموت بغصته، غير موصوف ما نزل به. ولآخر مات قبل أن يظفر منها بحاجته فذهب بكربه وغمه لم يدرك ما طلب، ولم يرح نفسه من التعب والنصب. خرجا جميعاً بغير زاد، وقدما على غير مهاد.(2/332)
فاحذرها الحذر كله فإنها مثل الحية لين مسها وسمها يقتل، فأعرض عما يعجبك فيها لقلة ما يصحبك منها، وضع عنك همومها لما عانيت من فجائعها وأيقنت به من فراقها، وشدد ما اشتد منها لرخاء ما يصيبك وكن أسر ما تكون فيها أحذر ما تكون لها، فإن صاحبها كلما اطمأن فيها إلى سرور له أشخصته عنها بمكروه، وكلما ظفر بشيء منها وثنى رجلاً عليه انقلبت به، فالسار فيها غار، والنافع فيها غدا ضار، وصل الرخاء فيها بالبلاء، وجعل البقاء فيها إلى فناء، سرورها مشوب بالحزن، وآخر الحياة فيها الضعف والوهن، فانظر إليها نظر الزاهد المفارق، ولا تنظر نظر العاشق الوامق، واعلم أنها تزيل الثاوي الساكن، وتفجع المغرور الآمن، لا يرجع ما تولى منها فأدبر، ولا يدري ما هو آت فيها فينتظر.(2/333)
فاحذرها فإن أمانيها كاذبة، وإن آمالها باطلة، عيشها نكد، وصفوها كدر، وأنت منها على خطر. إما نعمة زائلة، وإما بلية نازلة، وإما مصيبة موجعة، وإما منية قاضية، فلقد كدرت عليه المعيشة إن عقل، وهو من النعماء على خطر، ومن البلوة على حذر، ومن المنايا على يقين؛ فلو كان الخالق تعالى لم يخبر عنها بخير، ولم يضرب لها مثلاً، ولم يأمر فيها بزهد؛ لكانت الدار قد أيقظت النائم، ونبهت الغافل، فكيف وقد جاء من الله تعالى عنها زاجر، وفيها واعظ. فما لها عند الله عز وجل قدر، ولا لها عند الله تعالى وزن من الصغر، ولا تزن عند الله تعالى مقدار الحصا، ولا مقدار ثراة في جميع الثرى، ولا خلق خلقاً فيما بلغت أبغض إليه من الدنيا، ولا نظر إليها منذ خلقها مقتاً لها، ولقد عرضت على نبينا صلى الله عليه وسلم بمفاتيحها وخزائنها ولم ينقصه ذلك عنده جناح بعوضة فأبى أن يقبلها، وما منعه من القبول لها، ولا ينقصه عند الله تعالى شيء إلا أنه علم أن الله تعالى أبغض شيئاً فأبغضه، وصغر شيئاً فصغره، ووضع شيئاً فوضعه، ولو قبلها كان الدليل على حبه إياها قبولها، ولكنه كره أن يحب ما أبغض خالقه، وأن يرفع ما وضع مليكه.(2/334)
لو لم يدله على صغر هذه الدار إلا أن الله تعالى حقرها أن يجعل خيرها ثواباً للمطيعين، وأن يجعل عقوبتها عذاباً للعاصين. فأخرج ثواب الطاعة منها وأخرج عقوبة المعصية عنها. وقد يدلك على شر هذه الدار أن الله تعالى زواها عن أنبيائه وأحبائه اختباراً، وبسطاً لغيرهم اعتباراً واغتراراً؛ ويظن المغرور بها والمفتون عليها أنه إنما أكرمه بها، ونسي ما صنعه بمحمد المصطفى صلى الله عليه وسلم وموسى المختار عليه السلام بالكلام له ومناجاته، فأما محمد صلى الله عليه وسلم فشد الحجر على بطنه من الجوع، وأما موسى عليه السلام فرئي خضرة البقل من صفاق بطنه من هذاله، ما سأل الله تعالى يوم أوى إلى الظل إلا طعاماً يأكله من جوعه. ولقد جاءت الروايات عنه أن الله تعالى أوحى إليه؛ أن يا موسى إذا رأيت الفقر مقبلاً فقل مرحباً بشعار الصالحين، وإذا رأيت الغنى قد أقبل فقل ذنب عجلت عقوبته. وإن شئت ثلثته بصاحب الروح والكلمة ففي أمره عجيبة، كان يقول: أدمي الجوع وشعاري الخوف، ولباسي الصوف ودابتي رجلي، وسراجي بالليل القمر، وصلايتي في الشتاء الشمس، وفاكهتي وريحاني ما أنبتت الأرض للسباع والأنعام. أبيت وليس لي شيء وليس أحد أغنى مني. ولو شئت ربعت بسليمان بن داود عليهما السلام، فليس دونهم في العجب. يأكل خبز الشعير في خاصته ويطعم أهله الخشكار والناس الدرمك فإذا جنه الليل لبس المسوح وغل اليد إلى العنق وبات باكياً حتى يصبح، يأكل الخشن من الطعام ويلبس الشعر من الثياب. كل هذا يبغضون ما أبغض الله عز وجل، ويصغرون ما صغر الله تعالى، ويزهدون فيما زهد.(2/335)
ثم اقتص الصالحون بعد منهاجهم، وأخذوا بآثارهم وألزموا الكد والعبر وألطفوا التفكر، وصبروا في مدة الأجل القصير، عن متاع الغرور الذي إلى الفناء يصير، ونظروا إلى آخر الدنيا ولم ينظروا إلى أولها، ونظروا إلى عاقبة مرارتها ولم ينظروا إلى عاجلة حلاوتها؛ ثم ألزموا أنفسهم الصبر وأنزلوها من أنفسهم بمنزلة الميتة التي لا يحل الشبع منها إلا في حال الضرورة إليها؛ فأكلوا منها بقدر ما يرد النفس ويقي الروح ويسكن القرم وجعلوها بمنزلة الجيفة التي اشتد نتن ريحها فكل من مر بها أمسك على أنفه منها، فهم يصيبون منها لحال الضر ولا ينتهون منها إلى الشبع من النتن، فغربت عنهم وكانت هذه منزلتها من أنفسهم، فهم يعجبون من الآكل منها شبعاً، والمتلذذ بها أشراً. ويقولون في أنفسهم: أما ترى هؤلاء لا يخافون من الأكل، أما يجدون ريح النتن? وهي والله يا أخي في العاقبة والآجلة أنتن من الجيفة المرصوفة، غير أن أقواماً استعجلوا الصبر فلا يجدون من ريح النتن، والذي نشأ في ريح الإهاب النتن لا يجد نتنه، ولا يجد من ريحه ما يؤذي المارة والجالس عنده، وقد يكفي العاقل منهم أنه من مات عنها وترك مالاً كثيراً سره أنه كان فيها فقيراً، أو شريفاً أنه كان فيها وضيعاً، أو كان فيها معافى سره أنه كان فيها مبتلي، أو كان مسلطنا سره أنه كان فيها سوقه. وإن فارقتها سرك أنك كنت أوضع أهلها ضعة، وأشدهم فيها فاقة، أليس ذلك الدليل على خزيها لمن يعقل أمرها.
والله لو كانت الدنيا من أراد منها شيئاً وجده إلى جنبه من غير طلب ولا نصب غير أنه إذا أخذ منها شيئاً لزمته حقوق الله فيه وسأله عنه ووقفه على حسابه لكان ينبغي للعاقل أن لا يأخذ منها إلا قدر قوته وما يكفى، حذر السؤال وكراهية لشدة الحساب، وإنما الدنيا إذا فكرت فيها ثلاثة أيام؛ يوم مضى لا ترجوه، ويوم أنت فيه ينبغي أن تغتنمه، ويوم يأتي لا تدري أنت من أهله أم لا? ولا تدري لعلك تموت قبله.(2/336)
فأما أمس فحكيم مؤدب، وأما اليوم فصديق مودع، غير أن أمس وإن كان قد فجعك بنفسه فقد أبقى في يديك حكمته، وإن كنت قد أضعته فقد جاءك خلف منه وقد كان عنك طويل الغيبة وهو الآن عنك سريع الرحلة، وغدا أيضاً في يديك منه أمله. فخذ الثقة بالعمل، واترك الغرور بالأمل قبل حلول الجل، وإياك أن تدخل على اليوم هم غد أو هم ما بعده، زدت في حزنك وتعبك وأردت أن تجمع في يومك ما يكفيك أيامك، هيهات كثر الشغل وزاد الحزن وعظم التعب وأضاع العبد العمل بالأمل.
ولو أن الأمل في غدك خرج من قلبك أحسنت اليوم في عملك، واقتصرت لهم يومك، غير أن الأمل منك في الغد دعاك إلى التفريط، ودعاك إلى المزيد في الطلب، ولئن شئت واقتصرت لأصفن لك الدنيا ساعة بين ساعتين، ساعة ماضية، وساعة لآتية، وساعة أنت فيها. فأما الماضية فليس تجد لراحتهما لذة، ولا لبلائهما ألماً. وإنما الدنيا ساعة أنت فيها فخدعتك تلك الساعة عن الجنة وصيرتك إلى النار. وإنما اليوم إن عقلت ضيف نزل بك وهو مرتحل عنك، فإن أحسنت نزله وقراه شهد لك وأثنى عليك بذلك وصدق فيك، وإن أسأت ضيافته ولم تحسن قراه جال في عينيك. وهما يومان بمنزلة الأخوين نزل بك أحدهما فأسأت إليه ولم تحسن قراه فيما بينك وبينه، فجاءك الآخر بعده، فقال: إني قد جئتك بعد أخي فإن إحسانك إلي يمحو إساءتك إليه، ويغفر لك ما صنعت، فدونك إذ نزلت بك وجئتك بعد أخي المرتحل عنك فقد ظفرت بخلف منه إن عقلت، فدارك ما قد أضعت. وإن ألحقت الآخر بالأول فما أخلقك أن تهلك بشهادتهما عليك.(2/337)
إن الذي بقي من العمر لا ثمن له ولا عدل، فلو جمعت الدنيا كلها ما عدلت يوماً بقي من عمر صاحبه، فلا تبع اليوم وتعدله من الدنيا بغير ثمنه، ولا يكونن المقبور أعظم تعظيماً لما في يديك منك وهو لك فلعمري لو أن مدفوناً في قبره قيل له هذه الدنيا أولها إلى آخرها تجعلها لولدك من بعدك يتنعمون فيها من ورائك، فقد كنت وليس لك هم غيرهم. أحب إليك أم يوم تترك فيه تعمل لنفسك لاختار ذلك، وما كان ليجمع مع اليوم شيئاً إلا اختار اليوم عليه رغبة فيه وتعظيماً له، بل لو اقتصر على ساعة خيرها وما بين أضعاف ما وصفت لك وأضعافه يكون لسواه إلا اختار الساعة لنفسه على أضعاف ذلك ليكون لغيره، بل لو اقتصر على كلمة يقولها تكتب له وبين ما وصفت لك وأضعافه لاختار الكلمة الواحدة عليه، فانتقد اليوم لنفسك وأبصر الساعة وأعظم الكلمة واحذر الحسرة عند نزول السكرة، ولا تأمن أن تكون لهذا الكلام حجة، نفعنا الله وإياك بالموعظة، ورزقنا وإياك خير العواقب، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(2/338)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عبيدة سعيد بن زربي، قال: سمعت الحسن يعظ أصحابه يقول: إن الدنيا دار عمل من صحبها بالنقص لها والزهادة فيها سعد بها ونفعته صحبتها، ومن صحبها على الرغبة فيها والمحبة لها شقي بها وأجحف بحظه من الله عز وجل ثم أسلمته إلى ما لا صبر له عليه ولا طاقة له به من عذا الله، فأمرها صغير، ومتاعها قليل، والفناء عليها مكتوب، والله تعالى ولي ميراثها، وأهلها محولون عنها إلى منازل لا تبلى ولا يغيرها طول الثواء منها يخرجون. فاحذروا ولا قوة إلا بالله ذلك الموطن، وأكثروا ذكر ذلك المنقلب، واقطع يا ابن آدم من الدنيا أكثر همك، أو لتقطعن حبالها بك فينقطع ذكر ما خلقت له من نفسك ويزيغ عن الحق قلبك، وتميل إلى الدنيا فترديك، وتلك منازل سوء بين ضرها، منقطع نفعها مفضية والله بأهلها إلى ندامة طويلة وعذاب شديد، فلا تكونن يا ابن آدم مغتراً، ولا تأمن ما لم يأتك الأمان منه، فإن الهول الأعظم ومفظعات الأمور أمامك لم تخلص منها حتى الآن، ولا بد من ذلك المسلك وحضور تلك الأمور إما يعافيك من شرها وينجيك من أهوالها، وإما الهلكة. وهي منازل شديدة مخوفة محذورة مفزعة للقلوب، فلذلك فاعدد، ومن شرها فاهرب، ولا يلهينك المتاع القليل الفاني، ولا تربص بنفسك فهي سريعة الانتقاص من عمرك فبادر أجلك ولا تقلل غدا فإنك لا تدري متى إلى الله تصير واعلموا أن الناس أصبحوا جادين في زينة الدنيا يضربون في كل غمرة وكل معجب بما هو فيه، راض به حريص على أن يزداد منه، فما لم يكن من ذلك لله عز وجل في طاعة الله فقد خسر أهله وضاع سعيه، وما كان من ذلك في الله في طاعة الله فقد أصاب أهله به وجه أمرهم، ووفقوا فيه بحظهم، عندهم كتاب الله وعهده وذكر ما مضى وذكر ما بقى، والخير عمن وراءهم.(2/339)
كذلك أمر الله اليوم وقبل ذلك أمره فيمن مضى لأن حجة الله بالغة، والعذر بارز، وكل مواف الله ولما عمل. ثم يكون القضاء من الله وعباده على أحد أمرين: فمقضي له رحمته وثوابه فيالها نعمة وكرامة ومقضي له سخطه وعقوبته فيالها حسرة وندامة، ولكن حق على من جاءه البيان من الله بأن هذا أمره وهو واقع أن يصغر في عينه ما هو عند الله صغير، وأن يعظم في نفسه ما هو عند الله عظيم، أو ليس ما ذكر الله من الكراهة لأهلها فيما بعد الموت والهوان ما يطيب نفس امرئ عن عيشة دنياه، فإنها قد أذنت بزوال. أيدوم نعيمها، ولا يؤمن فجائعها، يبلى جديدها، ويسقم صحيحها، ويفتقر غنيها. ميالة بأهلها، لعابة بهم على كل حال. ففيها عبرة لمن اعتبر، وبيان فعلامَ تنتظر.
يا ابن آدم أنت اليوم في دار هي لافظتك وكأن قد بدا لك أمرها وإلى انصرام ما تكون سريعاً ثم يفضى بأهلها إلى أشد الأمور وأعظمها خطراً، فاتق الله يا ابن آدم وليكن سعيك في دنياك لآخرتك فإنه ليس لك من دنياك شيء إلا ما صدرت أمامك، فلا تدخرن عن نفسك مالك، ولا تتبع نفسك ما قد علمت أنك تاركه خلفك، ولكن تزود لبعد الشقة، واعدد العدة أيام حياتك وطول مقامك قبل أن ينزل بك من قضاء الله ما هو نازل فيحول دون الذي تريد، فإذا أنت يا ابن آدم قد ندمت حيث لا تغني الندامة عنك، ارفض الدنيا ولتسخ بها نفسك ودع منها الفضل فإنك إذا فعلت ذلك أصبت أربح الأثمان من نعيم لا يزول، ونجوت من عذاب شديد ليس لأهله راحة ولا فترة، فاكدح لما خلقت له قبل أن تفرق بك الأمور فيشق عليك اجتماعها، صاحب الدنيا بجسدك، وفارقها بقلبك، ولينفعك ما قد رأيت مما قد سلف بين يديك من العمر، وحال بين أهل الدنيا وبين ما هم فيه فإنه عن قليل فناؤه، ومخوف وباله، وليزدك إعجاب أهلها بها زاهداً فيها وحذراً منها، فإن الصالحين كذلك كانوا.(2/340)
واعلم يا ابن آدم أنك تطلب أمراً عظيماً لا يقصر فيه إلا المحروم الهالك، فلا تركب الغرور وأنت ترى سبيله؛ ولا تدع حظك وقد عرض عليك، وأنت مسئول ومقول لك فأخلص عملك، وإذا أصبحت فانتظر الموت، وإذا أمسيت فكن على ذلك ولا حول ولا قوة إلا بالله، وإن أنجى الناس من عمل بما أنزل الله في الرخاء والبلاء، وأمر العباد بطاعة الله وطاعة رسوله، فإنكم أصبحتم في دار مذمومة خلقت فتنة وضرب لأهلها أجل إذا انتهوا إليه يبيد. أخرج نباتها، وبث فيها من كل دابة، ثم أخبرهم بالذي هم إليه صائرون، وأمر عباده فيما أخرج لهم من ذلك بطاعته، وبين لهم سبيلها يعني سبيل الطاعة ووعدهم عليها الجنة، وهم في قبضته ليس منهم بمعجز له، وليس شيء من أعمالهم يخفى عليه، سعيهم فيها شتى بين عاص ومطيع له، ولكل جزاء من الله بما عمل، ونصيب غير منقوص، ولم أسمع الله تعالى فيما عهد إلى عباده وأنزل عليهم في كتابه رغب في الدنيا أحداً من خلقه، ولا رضي له بالطمأنينة فيها، ولا الركون إليها، بل صرف الآيات وضرب الأمثال بالعيب لها، والنهي عنها، ورغب في غيرها. وقد بين لعباده أن الأمر الذي خلقت له الدنيا وأهلها عظيم الشأن، هائل المطلع، نقلهم عنه، أراه إلى دار لا يشبه ثوابهم ثواباً، ولا عقابهم عقاباً، لكنها دار خلود يدين الله تعالى فيها العباد بأعمالهم ثم ينزلهم منازلهم، لا يتغير فيها بؤس عن أهلها ولا نعيم، فرحم الله عبداً طلب الحلال جهده حتى إذا دار في يده وجَّهه وجهه الذي هو وجهه.(2/341)
ويحك يا ابن آدم ما يضرك الذي أصابك من شدائد الدنيا إذا خلص لك خير الآخرة؛ ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر؛ هذا فضح القوم، ألهاكم التكاثر عن الجنة عند دعوة الله تعالى وكرامته، والله لقد صحبنا أقواماً كانوا يقولون ليس لنا في الدنيا حاجة، ليس لها خلقنا، فطلبوا الجنة بغدوهم ورواحهم وسهرهم نعم والله حتى أهرقوا فيها دماءهم ورجوا فأفلحوا ونجوا. هنيئاً لهم لا يطوي أحدهم ثوباً، ولا يفترشه، ولا تلقاه إلا صائماً ذليلاً متبائساً خائفاً حتى إذا دخل إلى أهله إن قرب إليه شيء أكله وإلا سكت لا يسألهم عن شيء ما هذا وما هذا، ثم قال:
ليس من مات فاستراح بميت إنما الميت ميت الأحياء
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الحسن، قال: يا ابن آدم عملك عملك فإنما هو لحمك ودمك، فانظر على أي حال تلقي عملك، إن لأهل التقوى علامات يعرفون بها، صدق الحديث، والوفاء بالعهد، وصلة الرحم، ورحمة الضعفاء، وقلة الفخر والخيلاء، وبذل المعروف وقلة المباهاة للناس، وحسن الخلق، وسعة الخلق مما يقرب إلى الله عز وجل. يا ابن آدم إنك ناظر إلى عملك يوزن خيره وشره، فلا تحقرن من الخير شيئاً وإن هو صغر فإنك إذا رأيته سرك مكانه، ولا تحقرن من الشر شيئاً فإنك إذا رأيته ساءك مكانه، فرحم الله رجلاً كسب طيباً وأنفق قصداً، فضلاً ليوم فقره وفاقته هيهات هيهات ذهبت الدنيا بحالتي مآلها وبقيت الأعمال قلائد في أعناقكم، أنتم تسوقون الناس والساعة تسوقكم، وقد أسرع بخياركم فما تنتظرون? المعاينة فكأن قد. إنه لا كتاب بعد كتابكم، ولا نبي بعد نبيكم. يا ابن آدم بع دنياك بآخرتك تربحهما جميعاً، ولا تبيعن آخرتك بدنياك فتخسرهما جميعاً.(2/342)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أبو بكر الهذلي، قال: كنا نجلس عند الحسن فأتاه آت، فقال: يا أبا سعيد دخلنا آنفاً على عبيد الله بن الأهتم فإذا هو يجود بنفسه، فقلنا: يا أبا معمر كيف تجدك? قال: أجدني والله وجعاً، ولا أظنني إلا لما بي، ولكن ما تقولون في مائة ألف في هذا الصندوق لم تؤد منها زكاة، ولم يوصل منها رحم? فقلنا: يا أبا معمر فلم كنت تجمعها ؟ قال: كنت والله أجمعها لروعة الزمان، وجفوة السلطان، ومكاثرة العشيرة، فقال الحسن: انظروا هذا البائس أني أتاه الشيطان؛ فحذره روعة زمانه فحذره روعة زمانه، وجفوة سلطانه، عما استودعه الله إياه، وعمره فيه، خرج والله منه كئيباً حزيناً ذميماً مليماً، أيها عنك الوارث أيها لا تخدع كما خدع صويحبك أمامك، أتاك هذا المال حلالاً، فإياك وإياك أن يكون وبالاً عليك، أتاك والله ممن كان له جموعاً منوعاً يدأب فيه الليل والنهار، يقطع فيه المفاوز والقفاز، من باطل جمعه، ومن حق منعه، جمعه فأوعاه، وشده فأوكاه، لم يؤد منه زكاة، ولم يصل منه رحماً، إن يوم القيامة ذو حسرات، وإن أعظم الحسرات غداً أن يرى أحدكم ماله في ميزان غيره، أو تدرون كيف ذاكم? رجل آتاه الله مالاً وأمره بإنفاقه في صنوف حقوق الله فبخل به فورثه هذا الوارث فهو يراه في ميزان غيره. فيا لها عثرة لا تقال، وتوبة لا تنال.(2/343)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن قال أبو عبيدة: قال الحسن: رحم الله امرءاً عرف ثم صبر، ثم أبصر فبصر؛ فإن أقواماً عرفوا فانتزع الجزع أبصارهم، فلا هم أدركوا ما طلبوا، ولا هم رجعوا إلى ما تركوا، اتقوا هذه الأهواء المضلة البعيدة من الله التي جماعها الضلالة وميعادها النار لهم محنة، من أصابها أضلته، ومن أصابته قتلته. يا ابن آدم دينك دينك فإنه لحمك ودمك إن يسلم لك دينك يسلم لك لحمك ودمك وإن تكن الأخرى فنعوذ بالله فإنها نار لا تطفي، وجرح لا يبرأ وعذاب لا ينفذ أبداً، ونفس لا تموت. يا ابن آدم إنك موقوف بين يدي ربك ومرتهن بعملك، فخذ مما في يديك لما بين يديك. عند الموت يأتيك الخبر، إنك مسئول ولا تجد جواباً، إن العبد لا يزال بخير ما كان له واعظ من نفسه وكانت المحاسبة من همه.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن هشام. قال: سمعت الحسن، يقول: والله لقد أدركت أقواماً ما طوي لأحدهم في بيته ثوب قط، ولا أمر في أهله بصنعة طعام قط، وما جعل بينه وبين الأرض شيئاً قط، وإن كان أحدهم ليقول: لوددت أني أكلت أكلة في جوفي مثل الآجرة، قال: ويقول لنا: أن الآجرة تبقى في الماء ثلاث مائة سنة. ولقد أدركت أقواماً إن كان أحدهم ليرث المال العظيم قال: وإنه والله لمجهود شديد الجهد، قال: فيقول لأخيه: يا أخي إني قد علمت أن ذا ميراث وهو حلال ولكني أخاف أن يفسد على قلبي وعملي فهو لك لا حاجة لي فيه، قال: فلا يرزأ منه شيئاً أبداً وإنه مجهود شديد الجهد.(2/344)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الحسن قال : يا ابن آدم سرطاً سرطاً، جمعاً جمعاً في وعاء، وشداً شداً في وكاء، ركوب الذلول ولبوس اللين، ثم قيل مات فأفضى والله إلى الآخرة، إن المؤمن عمل لله تعالى أياما يسيرة فوالله ما ندم أن يكون أصاب من نعيمها ورخائها، ولكن راقت الدنيا له فاستهانها وهضمها لآخرته، وتزود منها فلم تكن الدنيا في نفسه بدار، ولم يرغب في نعيمها ولم يفرح برخائها ولم يتعاظم في نفسه شيء من البلاء إن نزل به مع احتسابه للآجر عند الله ولم يحتسب نوال الدنيا حتى مضى راغباً راهباً فهنيئاً هنيئاً، فأمن الله بذلك روعته وستر عورته ويسر حسابه، وكأن الأكياس من المسلمين يقولون: إنما هو الغدو والرواح وحظ من الدلجة والاستقامة لا يلبثك يا ابن آدم أن على الخير. حتى أن العبد إذا رزقه الله تعالى الجنة فقد أفلح. وأن الله تعالى لا يخدع عن جنته ولا يعطي بالأماني، وقد اشتد الشح وظهرت الأماني وتمنى المتمني في غروره.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن موهب بن عبد الله، قال: لما استخلف عمر بن عبد العزيز كتب إليه الحسن البصري كتاباً بدأ فيه بنفسه أما بعد؛ فإن الدنيا دار مخيفة، إنما أهبط آدم من الجنة إليها عقوبة، واعلم أن صرعتها ليست كالصرعة، من أكرمها يهن، ولها في كل حين قتيل، فكن فيها يا أمير المؤمنين كالمداوي جرحه يصبر على شدة الدواء خيفة طول البلاء والسلام.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الحسن، قال: رحم الله رجلاً لبس خلقاً، وأكل كسرة، ولصق بالأرض، وبكى على الخطيئة، ودأب في العبادة.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الحسن قال : فضح الموت الدنيا فلم يترك فيها لذي لب فرحاً.(2/345)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن مبارك بن فضالة، قال: سمعت الحسن، يقول: إن أفسق الفاسقين الذي يركب كل كبيرة، ويسحب على ثيابه ويقول: ليس علي بأس، سيعلم أن الله تعالى ربما عجل العقوبة في الدنيا وربما أخرها ليوم الحساب.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن في حلية الأولياء عن، عن علقمة بن مرثد، قال: لما ولي عمر بن هبيرة العراق أرسل إلى الحسن وإلى الشعبي فأمر لهما ببيت وكانا فيه شهراً أو نحوه ثم إن الخصى غدا عليهما ذات يوم فقال: إن الأمير داخل عليكما، فجاء عمر يتوكأ على عصا له فسلم ثم جلس معظماً لهما، فقال: إن أمير المؤمنين يزيد بن عبد الملك ينفذ كتباً أعرف في إنفاذها الهلكة فإن أطعته عصيت الله، وإن عصيته أطعت الله عز وجل فهل تريا لي في متابعته إياه فرجاً ? فقال الحسن: يا أبا عمرو أجب الأمير، فتكلم الشعبي فانحط في حبل ابن هبيرة، فقال: ما تقول أنت يا أبا سعيد، فقال: أيها الأمير قد قال الشعبي ما قد سمعت، قال: ما تقوله أنت يا أبا سعيد? فقال: أقول يا عمر بن هبيرة يوشك أن ينزل بك ملك من ملائكة الله تعالى فظ غليظ لا يعصي الله ما أمره فيخرجك من سعة قصرك إلى ضيق قبرك، يا عمر بن هبيرة إن تتق الله يعصمك من يزيد بن عبد الملك ولا يعصمك يزيد بن عبد الملك من الله عز وجل. يا عمر بن هبيرة لا تأمن أن ينظر الله إليك على أقبح ما تعمل في طاعة يزيد بن عبد الملك نظرة مقت فيغلق فيها باب المغفرة دونك، يا عمر بن هبيرة لقد أدركت ناساً من صدر هذه الأمة كانوا والله على الدنيا وهي مقبلة أشد إدباراً من إقبالكم عليها وهي مدبرة، يا عمر بن هبيرة إني أخوفك مقاماً خوفكه الله تعالى فقال: ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد .(2/346)
يا عمر بن هبيرة إن تك مع الله تعالى في طاعاته كفاك بائقة يزيد بن عبد الملك، وإن تك مع يزيد بن عبد الملك على معاصي الله وكلك الله إليه، قال: فبكى عمر وقام بعبرته، فلما كان من الغد أرسل إليهما بإذنهما وجوائزها وكثر منه ما للحسن، وكان في جائزته للشعبي بعض الإقتار فخرج الشعبي إلى المسجد، فقال: يا أيها الناس من استطاع منكم أن يؤثر الله تعالى على خلقه فليفعل فوالذي نفسي بيده ما علم الحسن منه شيئاً فجهلته ولكن أردت وجه ابن هبيرة فأقصاني الله منه؛ قال وقام المغيرة بن مخادش ذات يوم إلى الحسن، فقال: كيف نصنع بأقوام يخوفوننا حتى تكاد قلوبنا تطير ؟ فقال الحسن: والله لئن تصحب أقواماً خوفونك حتى يدركك الأمن خير لك من أن تصحب أقواماً يؤمنونك حتى يلحقك الخوف، فقال له بعض القوم: أخبرنا صفة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فبكى وقال: ظهرت منهم علامات الخير في السيماء والسمت والهدى والصدق وخشونة ملابسهم بالاقتصاد، وممشاهم بالتواضع، ومنطقهم بالعمل، ومطعمهم ومشربهم بالطيب من الرزق وخضوعهم بالطاعة لربهم تعالى، واستفادتهم للحق فيما أحبوا وكرهوا، وإعطاؤهم الحق من أنفسهم، ظمأت هواجرهم، ونحلت أجسامهم واستحقوا بسخط المخلوقين رضى الخالق لم يفرطوا في غضب ولم يحيفوا في جور ولم يجاوزوا حكم الله تعالى في القرآن، شغلوا الألسن بالذكر، بذلوا دماءهم حين استنصرهم، وبذلوا أموالهم حين استقرضهم، ولم يمنعهم خوفهم من المخلوقين. حسنت أخلاقهم، وهانت مؤنتهم، وكفاهم اليسير من دنياهم إلى آخرتهم.(2/347)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن فضيل بن جعفر، قال: خرج الحسن من عند ابن هبيرة فإذا هو بالقراء على الباب، فقال: ما يجلسكم ها هنا تريدون الدخول على هؤلاء الخبثاء ؟ أما والله ما مجالستهم بمجالسة الأبرار، تفرقوا فرق الله بين أرواحكم وأجسادكم، قد لقحتم نعالكم وشمرتم ثيابكم وجززتم شعوركم فضحتم القراء فضحكم الله، أما والله لو زهدتم فيما عندهم لرغبوا فيما عندكم، لكنكم رغبتم فيما عندهم فزهدوا فيما عندكم أبعد الله من أبعد.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الحسن البصري رحمه الله تعالى، قال: إنا لله عز وجل عباداً كمن رأى أهل الجنة في الجنة مخلدين، وكمن رأى أهل النار في النار مخلدين، قلوبهم محزونة، وشرورهم مأمونة، حوائجهم خفيفة، وأنفسهم عفيفة، صبروا أياماً قصاراً تعقب راحة طويلة، أما الليل فمصافة أقدامهم، تسيل دموعهم على خدودهم، يجأرون إلى ربهم ربنا ربنا، وأما النهار فحلماء علماء بررة أتقياء كأنهم القداح ينظر إليهم الناظر فيحسبهم مرضى وما بالقوم من مرض، أو خولطوا وقد خالط القوم من ذكر الآخرة أمر عظيم.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الحسن: ابن آدم أصبحت بين مطيتين لا يعرجان بك خطر الليل والنهار حتى تقدم الآخرة؛ فأما إلى الجنة وأما إلى النار، فمن أعظم خطراً منك.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الحسن، قال: المؤمن من يعلم أن ما قال الله عز وجل كما قال، والمؤمن أحسن الناس عملاً وأشد الناس خوفاً لو أنفق جبلاً من مال ما أمن دون أن يعاين، ولا يزداد صلاحاً وبراً وعبادة إلا ازداد فرقاً، يقول: لا أنجو، والمنافق يقول: سواد الناس كثير وسيغفر لي ولا بأس علي، فينسى العمل ويتمنى على الله تعالى.(2/348)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن مسلمة بن جعفر، قال: سمعت أن الحسن كان يقول: لما بعث الله عز وجل محمداً صلى الله عليه وسلم يعرفون وجهه ويعرفون نسبه، قال: هذا نبي هذا خياري خذوا من سنته وسبيله، أما والله ما كان يغدي عليه بالجفان ولا يراح، ولا يغلق دونه الأبواب، ولا تقوم دونه الحجبة كان يجلس بالأرض ويوضع طعامه بالأرض ويلبس الغليظ ويركب الحمار ويردف خلفه وكان يلعق يده، وكان يقول الحسن: ما أكثر الراغبين عن سنة نبي الله صلى الله عليه وسلم وما أكثر التاركين لها. ثم إن علوجاً فساقاً أكلة ربا وغلول، قد شغلهم ربي عز وجل ومقتهم. زعموا أن لا بأس عليهم فيما أكلوا وشربوا وساروا البيت وزخرفوها، ويقولون: من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق، ويذهبون بها إلى غير ما ذهب الله بها إليه، إنما جعل الله ذلك لأولياء الشيطان. الزينة ما ركب ظهره والطيبات ما جعل الله تعالى في بطونها فيعمد أحدهم إلى نعمة الله عليه فيجعلها ملاعب لبطنه وفرجه وظهره ولو شاء الله إذا أعطى العباد ما أعطاهم أباح ذلك لهم ولكن تعقبها بما يسمعون؛ فكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين. فمن أخذ نعمة الله وطعمته أكل بها هنيئاً مريئاً ومن جعلها ملاعب لبطنه وفرجه على ظهره جعلها وبالاً يوم القيامة.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن العوام بن حوشب، قال: سمعت الحسن يقول: من كانت له أربع خلال حرمه الله على النار، وأعاذه من الشيطان، من يملك نفسه عند الرغبة، والرهبة، وعند الشهوة، وعند الغضب.(2/349)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الحسن: أنه لما حضره الموت دخل عليه رجال من أصحابه فقالوا له: يا أبا سعيد زودنا منك كلمات تنفعنا بهن. قال: إني مزودكم ثلاث كلمات ثم قوموا عني ودعوني ولما توجهت له؛ ما نهيتم عنه من أمر فكونوا من أترك الناس له، وما أمرتم به من معروف فكونوا من أعمل الناس به، واعلموا أن خطاكم خطوتان خطوة لكم وخطوة عليكم فانظروا أين تغدون وأين تروحون.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الحسن، يقول: رحم الله رجلاً لم يغره كثرة ما يرى من كثرة الناس، ابن آدم إنك تموت وحدك، وتدخل القبر وحدك، وتبعث وحدك، وتحاسب وحدك. ابن آدم وأنت المعني وإياك يراد.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أبي جميع سالم، قال: سمعت الحسن، يقول: لقد أدركت أقواماً كانوا أأمر الناس بالمعروف وآخذهم به وأنهى الناس عن منكر وأتركهم له، ولق بقينا في أقوام أأمر الناس بالمعروف وأبعدهم منه وأنهى الناس عن المنكر وأوقعهم فيه، فكيف الحياة مع هؤلاء.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الحسن، قال: فضل الفعال على المقال مكرمة، وفضل المقال على الفعال منقصة.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الحسن، قال: الرجاء والخوف مطيتا المؤمن.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عيسى بن عمر، قال: قال الحسن: حادثوا هذه القلوب فإنها سريعة الدثور، واقرعوا النفوس فإنها خليعة وإنكم إن أطعمتموها تنزل بكم إلى شر غاية.(2/350)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الحسن قال: إن المؤمن قوام على نفسه بحساب نفسه لله، وإنما خف الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر على غير محاسبة، إن المؤمن يفجأه الشيء يعجبه فيقول: والله إن لأشتهيك وإنك لمن حاجتي ولكن والله ما من وصلة إليك هيهات حيل بيني وبينك، ويفرط منه الشيء فيرجع إلى نفسه فيقول ما أردت إلى هذا مالي ولهذا والله مالي عذر بها ووالله لا أعود لهذا أبداً إن شاء الله، إن المؤمنين قوم أوثقهم القرآن وحال بينهم وبين هلكتهم، إن المؤمن أسير في الدنيا يسعى فكاك رقبته إلى يأمن شيئاً حتى يلقى الله عز وجل، يعلم أنه مأخوذ عليه من ذلك كله.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الحسن قال قال: يا ابن دم إذا رأيت الناس في خير فنافسهم فيه وإذا رأيتهم في هلكة فذرهم وما اختاروا لأنفسهم قد رأينا أقواماً آثروا عاجلتهم على عاقبتهم فذلوا وهلكوا وافتضحوا، يا ابن آدم إنما الحكم حكمان فمن حكم بحكم الله فإمام عدل ومن حكم بغير حكم الله فحكم الجاهلية، إنما الناس ثلاثة: مؤمن وكافر ومنافق؛ فأما المؤمن فعامل الله بطاعته، وأما الكافر فقد أذله الله كما قد رأيتم، وأما المنافق فههنا معنا في الحجر والطرق والأسواق نعوذ بالله والله ما عرفوا ربهم. اعتبروا إنكارهم ربهم بأعمالهم الخبيثة. وإن المؤمن لا يصبح إلا خائفاً وإن كان محسناً لا يصلحه إلا ذلك ولا يمسي إلا خائفاً وإن كان محسناً لأنه بين مخافتين بين ذنب قد مضى لا يدري ماذا يصنع الله تعالى فيه، وبين أجل قد بقي لا يدري ما يصيب فيه من الهلكات. إن المؤمنين شهود الله في الأرض يعرضون أعمال بني آدم على كتاب الله فمن وافق كتاب الله حمد الله عليه وما خالف كتاب الله عرفوا أنه مخالف لكتاب الله وعرفوا بالقرآن ضلالة من ضل من الخلق.(2/351)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الحسن. قال: خصلتان من العبد إذا صلحتا صلح ما سواهما: الركون إلى الظلمة والطغيان في النعمة. قال الله عز وجل: (وَلاَ تَرْكَنُوَاْ إِلَى الّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسّكُمُ النّارُ) [ هود : 113]. وقال الله عز وجل: قال تعالى: ( وَلاَ تَطْغَوْاْ فِيهِ فَيَحِلّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي ) [ طه : 81]
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن جويرية بن بشير، قال: سمعت الحسن قرأ هذه الآية: (إِنّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَآءِ ذِي الْقُرْبَىَ وَيَنْهَىَ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلّكُمْ تَذَكّرُونَ) [ النحل : 90]. ثم وقف فقال: إن الله جمع لكم الخير كله والشر كله في آية واحدة؛ فوالله ما ترك العدل والإحسان شيئاً من طاعة الله عز وجل إلا جمعه، ولا ترك الفحشاء والمنكر والبغي من معصية الله شيئاً إلا جمعه.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الحسن في قوله عز وجل: (فَأَمّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَآؤُمُ اقْرَؤُاْ كِتَابيَهْ * إِنّي ظَنَنتُ أَنّي مُلاَقٍ حِسَابِيَهْ) [الحاقة - 19: 20]. قال: إن المؤمن أحسن الظن بربه فأحسن العمل، وإن المنافق أساء الظن فأساء العمل.
[*] روى الطبراني عن الحسن البصري أنه قال: إن قوماً ألهتهم أماني المغفرة، رجاء الرحمة حتى خرجوا من الدنيا وليست لهم أعمال صالحة. يقول أحدهم: إني لحسن الظن بالله وأرجو رحمة الله، وكذب، ولو أحسن الظن بالله لأحسن العمل لله، ولو رجا رحمة الله لطلبها بالأعمال الصالحة، يوشك من دخل المفازة (الصحراء) من غير زاد ولا ماء أن يهلك.(2/352)
[*] وجاءه رجل إلى الحسن البصري فقال له: إني أعصي الله وأذنب، وأرى الله يعطيني ويفتح علي من الدنيا،ولا أجد أني محروم من شيء فقال له الحسن: هل تقوم الليل فقال: لا، فقال: كفاك أن حرمك الله مناجاته .
وكان يقول: من علامات المسلم قوة دين، وجزم في العمل وإيمان في يقين، وحكم في علم،
وحسن في رفق، وإعطاء في حق، وقصد في غنى، وتحمل في فاقة (جوع) وإحسان في قدرة، وطاعة معها نصيحة، وتورع في رغبة، وتعفف وصبر في شدة.
لا ترديه رغبته ولا يبدره لسانه، ولا يسبقه بصره، ولا يقلبه فرجه، ولا يميل به هواه،
ولا يفضحه لسانه، ولا يستخفه حرصه، ولا تقصر به نغيته.
[*] وقال له رجل: إن قوماً يجالسونك ليجدوا بذلك إلى الوقيعة فيك سبيلاً(أي يتصيدون الأخطاء).
فقال: هون عليك يا هذا، فإني أطمعت نفسي في الجنان فطمعت، وأطعمتها في النجاة من النار، فطمعت، وأطمعتها في السلامة من الناس فلم أجد إلى ذلك سبيلاً، فإن الناس لم يرضوا عن خالقهم ورازقهم فكيف يرضون عن مخلوق مثلهم ؟
وسُئل الحسن عن النفاق فقال: هو اختلاف السر والعلانية، والمدخل والمخرج،
ما خافه إلا مؤمن (أي النفاق) ولا أمنة إلا منافق، صدق من قال: إن كلامه يشبه كلام الأنبياء.
(5) زهد الحسن البصري رحمه الله تعالى :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ(2/353)
عاش الحسن رضي الله عنه دنياه غير آبه بها ، غير مكترث لها ، لا يشغله زخرفها ولا يغويه مالها ، فكان نعم العبد الصالح ، حليف الخوف والحزن ، أليف الهم والشجن، عديم النوم والوسن ، فقيهًا زاهدًا، مشمرًا عابدًا، وفي هذا يقول : إن المؤمن يصبح حزينًا ويمسي حزينًا وينقلب باليقين في الحزن، ويكفيه ما يكفي العنيزة، الكف من التمر والشربة من الماء، وقال عنه إبراهيم بن عيسى اليشكري : ما رأيت أحدًا أطول حزنًا من الحسن، وما رأيته قط إلا حسبته حديث عهد بمصيبة، وقال عنه علقمة بن مرثد : انتهى الزهد إلى ثمانية من التابعين ، فمنهم الحسن ، ولقد شهد له أهل البصرة بذلك، حدث خالد بن صفوان، وكان من فصحاء العرب، فقال لقيت مسلمة بن عبد الملك فقال لي : أخبرني عن حسن البصرة ، فقال خالد : أنا خيرٌ من يخبرك عنه بعلم، فأنا جاره في بيته وجليسه في مجلسه وأعلم أهل البصرة به، إنه امرؤٌ سريرته كعلانيته ، وقوله كفعله، إذا أمر بمعروف كان أعمل الناس به ، وإذا نهى عن منكر كان أترك الناس له، ولقد رأيته مستغنيًا عن الناس زاهدًا بما في أيديهم، ورأيت الناس محتاجين إليه طالبين ما عنده، فقال مسلمة : حسبك يا خالد حسبك كيف يضل قوم فيهم مثل هذا ؟!!
وهاك بعض المواقف الدالة على عظيم زهد الحسن البصري رحمه الله تعالى ، وتدل على أن الدنيا لا تخطر له ببال ولا تور له في خيال :
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن حميد الطويل، قال: خطب رجل إلى الحسن وكنت أنا السفير بينهما، قال: فكأن قد رضيه، فذهبت يوماً أثني عليه بين يديه، فقلت: يا أبا سعيد وأزيدك أن له خمسين ألف درهم، قال: له خمسون ألفاً ما اجتمعت من حلال، قلت: يا أبا سعيد إنه كما علمت ورع مسلم، قال: إن كان جمعها من حلال فقد ضم بها عن حق ، لا والله لا جرى بيننا وبينه صهر أبداً.(2/354)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الحسن: أنه كان يتمثل بهذين البيتين أحدهما في أول النهار والآخر في آخر النهار:
يسر الفتى ما كان قدم من تقى إذا عرف الداء الذي هو قاتله
وما الدنيا بباقية لحي ولا حي على الدنيا بباق
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن المبارك بن فضالة، قال: كان الحسن إذا تلا هذه الآية: (يَأَيّهَا النّاسُ إِنّ وَعْدَ اللّهِ حَقّ فَلاَ تَغُرّنّكُمُ الْحَيَاةُ الدّنْيَا وَلاَ يَغُرّنّكُمْ بِاللّهِ الْغَرُورُ) [فاطر: 5]. قال: من قال ذا? قاله من خلقها وهو أعلم بها، قال: وقال الحسن: إياكم وما شغل من الدنيا فإن الدنيا كثيرة الأشغال لا يفتح رجل على نفسه باب شغل إلا أوشك ذلك الباب أن يفتح عليه عشرة أبواب.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الحسن، يقول:بئس الرفيقان الدرهم والدينار، لا ينفعانك حتى يفارقانك.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن المبارك بن فضالة، قال: سمعت الحسن، يقول: ابن آدم طأ الأرض بقدمك فإنها عن قليل قبرك، إنك لم تزل في هدم عمرك منذ سقطت من بطن أمك.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الحسن، قال: لا تخالفوا الله عن أمره فإن خلافاً عن أمره عمران دار قضى الله عليها بالخراب.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن ضمرة عن ابن شودب، قال: لما مات الحجاج وولى سليمان فأقطع الناس الموات فجعل الناس يأخذون، فقال ابن الحسن لأبيه: لو أخذنا كما يأخذ الناس، فقال: اسكت ما يسرني أن لي ما بين الجسرين بزنبيل تراب.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أشعث. قال: كنا إذا دخلنا على الحسن خرجنا ولا نعد الدنيا شيئاً.(2/355)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن ابن مغول، قال: قال الحسن: غدا كل امرئ فيما يهمه، ومن مهم بشيء أكثر من ذكره، إنه لا عاجلة لمن لا آخرة له، ومن آثر دنياه على آخرته فلا دنيا له ولا آخرة.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن إبراهيم ابن عيسى اليشكري، قال: سمعت الحسن إذا ذكر ص(4) الدنيا يقول: والله ما بقيت له ولا بقي لها، ولا سلم من تبعها ولا شرها ولا حسابها، ولقد أخرج منها من خرق.
(6) دعاء الحسن البصري على الظالم :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ ـــ ـــ ـــ ــ ـــ
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عثمان بن عبد الرحمن بن علي بن زيد بن جدعان، قال: أخبرت الحسن بموت الحجاج فسجد، وقال: اللهم عقيرك وأنت قتلته فاقطع سنته وأرحنا من سنته وأعماله الخبيثة ودعا عليه.
رحم الله الإمام الحسن البصري فلقد توفي وعمره 88 سنة عام عشر ومائة في شهر رجب.
(7) الحسن البصري يصدع بكلمة الحق في وجه الحجاج :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ(2/356)
لما كان الحسن رضي الله عنه قد طلّق الدنيا برمتها ، وقد رخصت في عينه، فقد هان عنده كل شيء، فلم يكن يعبأ بحاكم ظالم، ولا أمير غاشم، و لا ذي سلطة متكبر، بل ما كان يخشى في الله لومة لائم، ومن ذلك أن الحجاج كان قد بنى لنفسه قصرًا في " واسط " فلما فرغ منه نادى في الناس أن يخرجوا للفرجة عليه، وللدعاء له، فخرج الحسن، ولكن لا للدعاء، بل انتهازًا للفرصة حتى يذكر الناس بالله ويعظ الحجاج بالآخرة، فكان مما قال : ليت الحجاج يعلم أن أهل السماء قد مقتوه، وأن أهل الأرض غروه، ولما حذره أحد السامعين من بطش الحجاج رد عليه الحسن قائلاً : لقد أخذ الله الميثاق على أهل العلم ليبيننه للناس ولا يكتمونه، وفي اليوم التالي وجه الحجاج إلى الحسن بعض شرطه ثم أمر بالسيف والنطع ـ البساط من الجلد يوضع تحت المحكوم عليه بقطع الرأس ـ ، فلما جاء الحسن أقبل على الحجاج وعليه عزة المسلم، وجلال المسلم، ووقار الداعية إلى الله، وأخذ يحرك شفتيه يدندن بكلام ويتمتم ببعض الحروف، فلما رآه الحجاج هابه أشد الهيبة، وما زال يقربه حتى أجلسه على فراشه، وأخذ يسأله في أمور الدين، ثم قال له : أنت سيد العلماء يا أبا سعيد، ثم طيبه وودعه، فتعجب الناس من صنيع الحجاج فقالوا : يا أبا سعيد ماذا قلت حتى فعل الحجاج ما فعل؟ وقد كان أحضر السيف والنطع، فقال الحسن : لقد قلت : يا ولي نعمتي وملاذي عند كربتي ، اجعل نقمته بردًا وسلامًا علي كما جعلت النار بردًا وسلامًا على إبراهيم .
(8) نصح الحسن للولاة :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ(2/357)
لما ولي عمر بن هبيرة الفزاري العراق وأضيفت إليه خراسان وذلك في أيام يزيد بن عبد الملك استدعى الحسن البصري ومحمد بن سيرين والشعبي وذلك في سنة ثلاث ومائة فقال لهم إن يزيد خليفة الله استخلفه على عباده وأخذ عليهم الميثاق بطاعته وأخذ عهدنا بالسمع والطاعة وقد ولاني ما ترون فيكتب إلي بالأمر من أمره فأنفذ ذلك الأمر فما ترون؟! فقال ابن سيرين والشعبي قولا فيه تقية فقال ابن هبيرة ما تقول يا حسن فقال يا ابن هبيرة خف الله في يزيد ولا تخف يزيد في الله إن الله يمنعك من يزيد وإن يزيد لا يمنعك من الله وأوشك أن يبعث إليك ملكا فيزيلك عن سريرك، ويخرجك من سعة قصرك إلى ضيق قبرك ثم لا ينجيك إلا عملك يا ابن هبيرة إن تعص الله فإنما جعل الله هذا السلطان ناصرا لدين الله وعباده فلا تركبن دين الله وعباده بسلطان الله فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق فأجازهم ابن هبيرة وأضعف جائزة الحسن فقال الشعبي لابن سيرين سفسفنا له فسفسف لنا.
ودعاه يومًا ابن هبيرة ،وكان يزيد بن عبد الملك قد ولي ابن هبيرة العراق وخراسان ، وكان مع الحسن الشعبي ،فسألهما ابن هبيرة في كتب تصل إليه من أمير المؤمنين فيها ما يغضب الله ؛فتكلم الشعبي فتلطف في الكلام، فلما تكلم الحسن زأر كالأسد ،وانطلق كالسهم ،وانقض كالسيف ، قائلاً : يا ابن هبيرة :خف الله في يزيد، ولا تخف يزيد في الله، واعلم أن الله يمنعك من يزيد، وأن يزيد لا يمنعك من الله، يا ابن هبيرة إنه يوشك أن ينزل بك ملك غليظ شديد لا يعصي الله ما أمره، فيزيلك عن سريرك هذا، وينقلك من سعة قصرك إلى ضيق قبرك، حيث لا تجد هناك يزيد، وإنما تجد عملك الذي خالفت فيه رب يزيد، يا ابن هبيرة، إنك إن تك مع الله وفي طاعته، يكفك بائقة ـ أذى ـ يزيد، واعلم يا ابن هبيرة أنه لا طاعة لمخلوقٍ كائنًا من كان في معصية الخالق .
(9) سعة علم الحسن البصري وأسبابها :(2/358)
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ
كان الحسن البصري رحمه الله جامعًا، عالمًا ، فقيهًا ، ثقة ، حجة مأمونًا فصيحًا، ويعد الحسن رضي الله عنه سيد أهل زمانه علمًا وعملاً، وأشدهم فصاحة وبيانًا، وقد برع ـ رحمه الله ـ في الوعظ والتفسير براعة لا تفاق، حتى كان فارس الميدان، ويرجع ذلك إلى عدة أسباب منها :
أولاً : نشأته في بيت أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها ، فقد رضع من ثديها، كما رضع منها علمًا وفقهًا .
قربه من بيوت أمهات المؤمنين ، فكان ذلك داعيًا لأن يتعلم منهنَّ .
ثانياً : لزومه حلقة ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ ، فقد أخذ عنه الفقه والحديث والتفسير والقراءات واللغة .
ثالثاً : ولوعه بأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ فقد راعه فيه صلابته في الدين وإحسانه في العبادة، وزهده في الدنيا، وقوته في الفصاحة والبيان .
من روى عنهم :
رابعاً : تتلمذ الحسن على يدي كبارالصحابة في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم مثل: عثمان بن عفان، وعبد الله بن عباس، وعلي بن أبي طالب، وأبي موسى الأشعري ، وأنس بن مالك ، وجابر بن عبد الله، وعبد الله بن عمر.
ثم انتقل الحسن إلى البصرة مع والديه عندما بلغ أربعة عشر عاما واستقر بالبصرة مع أسرته وكانت البصرة آنذاك من أكبر قلاع العلم وكان مسجدها العظيم يموج بمن دخلها من كبار الصحابة رضي الله عنهم لا سيما عبد الله بن عباس الذي لازمه الحسن وأخذ عنه التفسير والحديث والقراءات.
أخذ الحسن عن غير عبد الله بن عباس من الصحابة الفقه واللغة والأدب حتى صار من أعلم أهل زمانه.
التف الناس حوله وذاع صيته وعلت شهرته وأحبه الناس حبا شديدا.(2/359)
وقد روى الحسن رضي الله عنه عن عدد كبير من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن هؤلاء :عمران بن حصين ، والمغيرة ، وعبد الرحمن بن سمرة ، والنعمان بن بشير ، وجابر ، وابن عباس ، وابن سريع ، وأنس ، كما رأى عثمان وطلحة، وكان يحدث هو فيقول أنه أدرك سبعين بدريًا .
وفاة الحسن البصري رحمه الله تعالى :
في العام العاشر بعد المائة الأولى وفي غرة رجب ليلة الجمعة وافقت المنية الحسن رضي الله عنه ،فلما شاع الخبر بين الناس ارتجت البصرة كلها رجًا لموته رضي الله عنه ، فغسل وكفن ، وصلى عليه في الجامع الذي قضى عمره فيه ؛داعيًا ومعلمًا وواعظًا ، ثم تبع الناس جنازته بعد صلاة الجمعة ، فاشتغل الناس في دفنه ولم تقم صلاة العصر في البصرة لانشغال الناس بدفنه ، رحم الله أبا سعيد ، وتقبله في الصالحين ، وجمعنا الله به في دار كرامته .
سيرة سعيد بن المسيَّب رحمه الله :
هو سعيد بن المسيب بن حزن بن أبي وهب المخزومي القرشي، كنيته أبو محمد، هو سيد التابعين وقدوة السلف، فقيه الفقهاء السبعة، جبل العلم، وآية الحفظ، الشيخ الكامل، والعالم العامل، الزاهد العابد، الإمام القلم العلامة .
ولد لسنتين من خلافة عمر بن الخطاب سنة 14هـ في المدينة النبوية ؛ حيث كبار الصحابة، فرأى عمر بن الخطاب، وسمع عثمان بن عفان، وعليًّا، وزيد بن ثابت، وأبا موسى الأشعري، وأبا هريرة..وغيرهم ، سيد فقهاء المدينة والتابعين ، روى عن عدد من الصحابة وبعض أمهات المؤمنين وكان أعلم الناس بقضايا رسول الإسلام محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ، وقضاء أبي بكر وعمر بن الخطاب، جمع بين الحديث والفقه والزهد والورع واسع العلم ويقال له فقيه الفقهاء، كان رجلا وقورا له هيبة عند مجالسيه فكان يغلب عليه الجد عفيفا معتزا بنفسه لا يقوم لأحد من أصحاب السلطان ولا يقبل عطاياهم ولا هداياهم ولا التملق لهم أو الاقتناع بهم .
اسم سعيد بن المسيب ونسبه :(2/360)
سعيد بن المسيب بن حزن بن أبي وهب بن عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم بن يقظة ، الإمام العَلَم، أبو محمد القرشي المخزومي ، كنيته أبو محمد ،عالم أهل المدينة ، وسيد التابعين في زمانه . وُلِدَ لسنتين مضتا من خلافة عمر رضي الله عنه وقيل : لأربع مضين منها بالمدينة .
رأى عمر ، وسمع عثمان ، وعليا ، وزيد بن ثابت ، وأبا موسى ، وسعدا ، وعائشة وأبا هريرة ، وابن عباس ، ومحمد بن مسلمة ، وأم سلمة ، وخلقا سواهم. وقيل : إنه سمع من عمر، وكان أعلم الناس بقضايا رسول الإسلام محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ، وقضاء أبي بكر وعمر بن الخطاب، جمع بين الحديث والفقه والزهد والورع واسع العلم ويقال له فقيه الفقهاء، كان رجلا وقورا له هيبة عند مجالسيه فكان يغلب عليه الجد عفيفا معتزا بنفسه لا يقوم لأحد من أصحاب السلطان ولا يقبل عطاياهم ولا هداياهم ولا التملق لهم أو الاقتناع بهم .
نشأة سعيد بن المسيب رحمه الله :
نشأ سعيد بن المسيب نشأة مباركة، وسار على نهج صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واقتدى بأفعالهم ، وروى عنهم أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتزوج بنت الصحابي الجليل أبي هريرة، فكان أعلم الناس بحديثه.
وهبه الله في نشأته الباكرة ذكاءً متوقدًا، وذاكرة قوية، حتى شهد له كبار الصحابة والتابعين بعلو المكانة في العلم، وكان رأس فقهاء المدينة في زمانه، والمقدم عليهم في الفتوى، حتى اشتهر بفقيه الفقهاء، وكان عبد الله بن عمر -رضي الله عنه- وهو المقدم في الفتوى بالمدينة آنذاك- إذا سئل عن مسألة صعبة في الفقه، كان يقول: سلوا سعيدًا فقد جالس الصالحين.(2/361)
ويقول عنه قتادة:ما رأيت أحدًا قط أعلم بالحلال والحرام منه، ويكفي ابن المسيب فخرًا أن الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز كان أحد تلاميذه، ولما تولى عمر إمارة المدينة لم يقض أمرًا إلا بعد استشارة سعيد، فقد أرسل إليه عمر رجلاً يسأله في أمر من الأمور، فدعاه، فلبي الدعوة وذهب معه، فقال عمر بن عبد العزيز له أخطأ الرجل، إنما أرسلناه يسألك في مجلسك.
الصورة العامة لعصر سعيد بن المسيب :
عاش سعيد بن المسيب في عنق الزجاجه في الفترة الانتقالية بين الخلافة الرشيدة والملك الأموي العضوض ، حيث ولد في المدينة قبيل وفاة عمر بن الخطاب بعامين ومات سنة 94هـ ، في خلافة الوليد بن عبد الملك بعد استقرار الحكم الاستبدادي في ذرية عبد الملك بن مروان .
أي أن سعيد بن المسيب أدرك من حيث الفترة الزمنية أخطر أحداث التاريخ الإسلامي التي لا تزال تؤرق الضمير المسلم حتى الآن ، شهد اغتيال عمر بن الخطاب،وشهد الاختلاف علي عثمان ، وشهد مصرعه ، وعاش الفتنة الكبرى من مواقع الجمل وصفين و النهروان ، وشهد انتقال الخلافة إلي معاوية، وتحولها إلى ملك وراثي يستبد بها يزيد بن معاوية ، وشهد في عصر يزيد مقتل الحسين وآله في كربلاء ، ثم في العام التالي شهد موقعة الحرة وثورة المدينة ، وهزيمتها واقتحامها واستباحتها وقتل أهلها وانتهاك حرمتها ، وشهد حصار الأمويين للكعبة وضربها بالمجانيق ، وإعلان ابن الزبير خلافته ، والصراع بين ابن الزبير والأمويين ، ومقتل ابن الزبير ، وانفراد عبد الملك بن مروان بالحكم ، ثم غدر عبد الملك بأبناء عمه الأمويين بعد اتفاقية الجابية، وإسناده ولاية العهد لابنيه الوليد ثم سليمان ، ومات سعيد في خلافة الوليد بن عبد الملك .(2/362)
عاش سعيد كل هذه الأحداث الجسام وهو في المدينة ، لم يبرحها إلا إلى مكة للحج ، أو بمعني آخر شهد سعيد بن المسيب عظمة المدينة المنورة كعاصمة للمسلمين ، ثم شهد انتقال الأضواء عنها إلى الكوفة ثم إلى دمشق .. أي انه شهد المدينة وهي تداوي جراحها السياسية بعد أن عجزت عن استعادة دورها السياسي بعد هزيمتها في موقعة الحرة ، وتحولها إلى مدرسة علمية تحاول أن تنافس العراق في الفقه والتاريخ والتفسير والحديث.
إن سعيد بن المسيب الذي ولد سنة 31هـ قد فتح عينيه علي كل تلك المصائب من قتل عمر وعثمان وعلي والفتنة الكبرى ، ثم كان رجلا مكتمل الرجولة وهو يشهد قتل أهل المدينة واستباحة نسائها على يد الجيش الأموي في موقعة الحرة سنة اثنين وستين هجرية ، ثم عاش في ظل القمع الأموي إلى أن مات سنة أربعٍ وتسعين هجرية ، وناله من هذه الفتن الكثير من المحن ، حيث كان مطلوبا منه أن يبايع للحاكم المستبد فيرفض ، فيتعرض للضرب والإهانة ، مع مكانته الاجتماعية والدينية.
محنة سعيد بن المسيب :(2/363)
إن من المعلوم شرعاً أن العلماء ورثة الأنبياء، قائمون في الأمة مقامهم، مضطلعون بدورهم، والجماهير دائمًا تتطلع إليهم، وعيونهم معلقة بهم، خاصة وقت الأزمات والنوازل، وكلما كان العالم الرباني منظورًا إليه، مقتدى به، كانت التبعة أعظم والمحنة أشد؛ فالعالم الرباني هو رجل الأمة، ودليل العامة، ودرع الحق والشرع الذي يحمي بيضة الدين، ويذب عن حياضه، وبثباته على الحق يثبت الكثيرون، وبتهاونه يضيع أيضًا الكثيرون، لذلك ما من عالم رباني قام في الأمة إلا تعرض لكثير من المحن والابتلاءات ، ولقد كان الإمام سعيد بن المسيب رحمه الله من سادات التابعين وعلمًا من أعلام المسلمين، ممن كمل حاله وجمع الله عز وجل فيه من خصال الخير كله من العلم والعمل، فلقد كان بحق عالمًا عاملاً، لا يخاف في الله لومة لائم، صادعًا بالحق أمارًا بالمعروف، ناهيًا عن المنكر، لا يهاب خليفة ولا أميرًا، مجافيًا لأبوابهم معتزًا بعلمه، صائنًا لعرضه، شديد الانتقاد لأي مظهر من مظاهر الخروج على الشرع والحق، ومن كانت هذه خصاله فحري به أن يمتحن ويتعرض للمحنة تلو الأخرى، ومع ذلك لا ينال البلاء من عزيمته ولا تلين المحنة شيئًا من صلابته في الحق ، لقد كان سعيد بن المسيب من بني مخزوم أشراف قريش وكانوا من المتحالفين مع الأمويين ضد الإسلام ، ولكن كان جده من أصحاب النبي محمد . وقد أصبح سعيد في شبابه أفقه أهل المدينة وصار في شيخوخته رمزا للمدينة ، وكبيرا للتابعين في عصره والتابعون هم الجيل التالي للصحابة والذي عايش الصحابة. وبسبب مكانته العائلية والفقهية والمعنوية ، فقد كان هدفا مناسبا للمتصارعين علي الحكم ، إذ لابد من إرغامه علي البيعة حتى يبايع الآخرون ، فإذا رفض عوقب حتى يكون عبرة للآخرين .وكالعادة يقوم والي المدينة بعقابه ، ثم يكتفي الخليفة بعتاب رقيق للوالي علي ما فعله بسعيد مع استمرار وقوع الظلم علي سعيد .(2/364)
بدأت هذه اللعبة ، حين أعلن عبد الله بن الزبير نفسه خليفة في مكة ، وعين جابر بن الأسود الزهري واليا علي المدينة ، ودعا الوالي أهل المدينة لبيعة ابن الزبير ، فرفض سعيد بن المسيب قائلا : حتى يجتمع الناس أي حتى يكون هناك إجماع واتفاق بين أهل الشام والعراق ومصر والحجاز ، أو بمعنى أصح رفض سعيد أن ينحاز إلى الحزب الزبيري في صراعه مع الحزب الأموي . ولخطورة هذا الموقف على أهل المدينة وأهل الحجاز فقد ضرب الوالي سعيد ستين سوطا .. وبلغ ذلك عبد الله بن الزبير ، فكتب إلى جابر يلومه ويقول ( مالنا ولسعيد دعه ) وبذلك استمال ابن الزبير أهل المدينة ، وحقق ما أراد ، ودفع سعيد الثمن .
وتغلب الأمويون على ابن الزبير وقتلوه، وتمهد الأمر لعبد الملك بن مروان ،وقد كان عبد الملك من قبل رفيقا لسعيد بن المسيب في طلب العلم ، وبعد توليه السلطة وسفكه الدماء جاء عبد الملك وخطب في أهل المدينة عام 75 قائلا : (.. والله لا يأمرني أحد بتقوى الله بعد هذا إلا ضربت عنقه ، وكانت هذه اللغة موجهة لسعيد وأصحابه الذين كان مفترضا منهم أن يأمروا الحاكم بتقوى الله ،حسبما كان متبعا في المدينة في عصر الراشدين.
وبعدها ـ وبناء على طلب الخليفة عبد الملك ـ طلب الوالي هشام بن إسماعيل المخرومي ابن عم سعيد مبايعة أهل المدينة لابني عبد الملك ، الوليد ثم سليمان ، فبايع الناس ، وأبى سعيد بن المسيب كالعادة ،فضرب الوالي هشام بن إسماعيل المخزومي ابن عمه سعيد بن المسيب ستين سوطا ، وأمر فطيف به في المدينة في هيئة مزرية ، وسجنه ، وكتب بما فعل للخليفة ، فقال عبد الملك له : سعيد كان والله أحوج إلى أن تصل رحمه من أن تضربه ، وإنا لنعلم ما عند سعيد من شقاق ولا خلاف ،ومع ذلك ظل في السجن ، ثم أفرجوا عنه و منعوا أن يجالسه احد في المسجد ، وحين قيل لهم أن سعيد بن المسيب ينوي أن يدعوا عليهم في الحج منعوه من الذهاب للحج .(2/365)
[*] مناقب سعيد بن المسيب رحمه الله :
هاك غَيْضٍ من فيض ونقطةٍ من بحر مما ورد في مناقب سعيد بن المسيب جملةً وتفصيلا رحمه الله تعالى :
أولاً مناقب سعيد بن المسيب جملةً :
(1) ثناء العلماء على سعيد بن المسيب :
(2) حسن فهم سعيد بن المسيب للعبادة والورع :
(3) حرص سعيد بن المسيب على صلاة الجماعة :
(4) اجتهاد سعيد بن المسيب في الصوم والحج :
(5) حرص سعيد بن المسيب على قراءة القرآن :
(6) تعظيم سعيد بن المسيب لحديث رسول الله :
(7) حرص سعيد بن المسيب على طلب العلم :
(8) زهد سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى :
(9) ورع سعيد بن المسيب :
(10) عظيم مراقبة سعيد بن المسيب لربه تعالى :
(11) خشية سعيد بن المسيب من الله تعالى :
(12) استعفاف سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى :
(13) كان سعيد بن المسيب مستجاب الدعوة رحمه الله :
(14) دعاء سعيد بن المسيب على الظالم :
(15) تحذير سعيد بن المسيب من فتنة النساء :
(16) من عظيم مناقب سعيد بن المسيب أنه زَوَّج ابنه لطالب علمٍ فقير :
(17) ابتلاء سعيد بن المسيب في سبيل الله تعالى :
(18) دعوة سعيد بن المسيب إلى طلب المال للإحسان إلى الخلق والاستغناء عنهم :
(19) إيثار سعيد بن المسيب للخمول وإنكار الذات :
(20) نظرة سعيد بن المسيب إلى النفس :
(21) من فتوحات الله على سعيد بن المسيب بالدعاء :
(22) نظرة سعيد بن المسيب إلى الدنيا والمال :
(23) سعيد بن المسيب لا تأخذه في الحق لومه لائم :
ثانياً مناقب سعيد بن المسيب تفصيلا :
(1) ثناء العلماء على سعيد بن المسيب :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ(2/366)
كان سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى من أئمة التابعين ، من أئمة الهدى وأعلام التقى ومصابيح الدجى ، من حلية الأولياء وأعلام النبلاء ، من الأضواء اللامعة والنجوم الساطعة ، كان سيد التابعين وقدوة السلف، فقيه الفقهاء السبعة، جبل العلم، وآية الحفظ، الشيخ الكامل، والعالم العامل، الزاهد العابد، الإمام القلم العلامة سيد التابعين ومقدّمهم أمانة في نقل السنة عن الصحابة، وفقهاً في دين الله عز وجل وزهداً في الدنيا، وصدعاً بالحق واستعلاءً بالإيمان والعلم على حطام الدنيا، ورهبة السلطان.
[*] قال عنه الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء :
فأما أبو محمد سعيد بن المسيب بن حزن المخزومي؛ كان من الممتحنين، امتحن فلم تأخذه في الله لومة لائم، صاحب عبادة وجماعة وعفة وقناعة، وكان كاسمه بالطاعات سعيداً، ومن المعاصي والجهالات بعيداً.
[*] وقال عنه الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء :
الإمام ، أحد الأعلام ، و سيد التابعين ، ثقة حجة فقيه ، رفيع الذكر ، رأس في العلم و العمل
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن نافع أن ابن عمر ذكر سعيد بن المسيب فقال هو والله أحد المفتين .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن معن بن عيسى ، عن مالك ، قال : كان عمر بن عبد العزيز لا يقضي بقضي يعني وهو أمير المدينة حتى يسأل سعيد بن المسيب ، فأرسل إليه إنسانا يسأله ، فدعاه ، فجاء فقال عمر له : أخطأ الرسول ؛ إنما أرسلناه يسألك في مجلسك. وكان عمر يقول : ما كان بالمدينة عالم إلا يأتيني بعلمه ، وكنت أُوتَى بما عند سعيد بن المسيب .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عن سعيد بن إبراهيم أنه سمع سعيد بن المسيب : ما بقى أحد أعلم بكل قضاء ابن المسيب يقول ما أحد أعلم بقضاء قضاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر ولا عمر مني .(2/367)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن قتادة : ما جمعت علم الحسن إلى علم أحد إلا وجدت له فضلا عليه ،غير أنه كان إذا أشكل عليه شيء كتب إلى سعيد بن المسيب يسأله .
[*] أورد ابن سعد في الطبقات عن محمد بن يحيى بن حبان : كان رأس من بالمدينة في دهره ، المقدم عليهم فى الفتوى سعيد بن المسيب ، و يقال : فقيه الفقهاء .
[*] أورد ابن سعد في الطبقات عن ميمون بن مهران قال أتيت المدينة فسألت عن أفقه أهلها فدفعت إلى سعيد بن المسيب .
[*] قال الزهري:رحمه الله جالسته سبع حجج وأنا لا أظن عند أحد علماً غيره،
[*] قال أبو طالب: قلت لأحمد بن حنبل سعيد بن المسيب عن عمر حجة؟ قال هو عندنا حجة قد رأى عمر وسمع منه إذا لم يقبل سعيد عن عمر فمن يقبل؟
[*] وقال قتادة : ما رأيت أحد أعلم من سعيد بن المسيب .
[*] وعن مكحول قال: طفت الأرض كلها في طلب العلم فما لقيت أعلم من سعيد.
[*] وسأل رجل القاسم بن محمد عن شيء فقال أسألت أحداً غيري؟ قال نعم عروة وفلانا وسعيد بن المسيب فقال: أطع ابن المسيب فإنه سيدنا وعالمنا.
[*] وكان عبد الله بن عمر إذا سئل عن الشيء يشكل عليه يقول: سلوا سعيد بن المسيب فإنه قد جالس الصالحين.
[*] وروى الربيع عن الشافعي أنه قال: إرسال سعيد بن المسيب عندنا حسن.
[*] وقال الإمام أحمد : سعيد بن المسيب أفضل التابعين.
[*] وقال على بن المدينى: لا أعلم في التابعين أوسع علما منه وإذا قال سعيد مضت السنة فحسبك به وهو عندي أجل التابعين.
[*] وقال أبو حاتم: ليس في التابعين أنبل منه.(2/368)
[*] قال ابن كثير: كان سعيد بن المسيب من أورع الناس فيما يدخل بيته وبطنه وكان من أزهد الناس في فضول الدنيا والكلام فيما لا يعنى ومن أكثر الناس أدبا في الحديث جاءه رجل وهو مريض فسأله عن حديث فجلس فحدثه ثم اضطجع فقال الرجل وددت أنك لم تتعن فقال إني كرهت أن أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا مضطجع وقال برد مولاه: ما نودي للصلاة منذ أربعين إلا وسعيد في المسجد وقال ابن إدريس: صلى سعيد بن المسيب الغداة بوضوء العتمة خمسين سنة .
(2) حسن فهم سعيد بن المسيب للعبادة والورع :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن بكر بن خنيس، قال: قلت لسعيد بن المسيب وقد رأيت أقواماً يصلون ويتعبدون: يا أبا محمد ألا تتعبد مع هؤلاء القوم? فقال لي: يا ابن أخي إنها ليست بعبادة، قلت له: فما التعبد يا أبا محمد? قال: التفكر في أمر الله والورع عن محارم الله وأداء فرائض الله تعالى.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن صالح بن محمد بن زائدة: أن فتية من بني ليث كانوا عباداً وكانوا يروحون بالهاجرة إلى المسجد ولا يزالون يصلون حتى يصلي العصر، فقال صالح لسعيد: هذه هي العبادة لو نقوى على ما يقوى عليه هؤلاء الفتيان، فقال سعيد: ما هذه العبادة ولكن العبادة التفقه بالدين والتفكر في أمر الله تعالى.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سعيد بن المسيب، قال: من حافظ على الصلوات الخمس في جماعة فقد ملأ البر والبحر عبادة.
(3) حرص سعيد بن المسيب على صلاة الجماعة :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ(2/369)
لقد بلغ حب العبادة شغاف قلب سعيد بن المسيب فلم يفتر عنها لا في سراء ولا ضراء ، وتأمل في الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد ، ودرر الفرائد .
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سعيد بن المسيب: أنه اشتكى عينيه فقيل له: يا أبا محمد، لو خرجت إلى العقيق فنظرت إلى الخضرة فوجدت ريح البرية لنفع ذلك بصرك، فقال سعيد: فكيف أصنع بشهود العتمة والصبح ؟
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سعيد بن المسيب أنه قال: ما فاتتني الصلاة في الجماعة منذ أربعين سنة.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عثمان بن أبي حكيم قال: سمعت سعيد بن المسيب، يقول: ما أذن المؤذن منذ ثلاثين سنة إلا وأنا في المسجد.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عن برد مولى بن المسيب، قال: ما نودي للصلاة منذ أربعين سنة إلا وسعيد في المسجد.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سعيد بن المسيب، قال: ما دخل على وقت صلاة إلا وقد أخذت أهبتها، ولا دخل على قضاء فرض إلا وأنا إليه مشتاق.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سعيد بن المسيب ذات يوم: ما نظرت في أقفاء قوم سبقوني بالصلاة منذ عشرين سنة.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الأوزاعي، قال: كانت لسعيد بن المسيب فضيلة لا نعلمها كان لأحد من التابعين، لم تفته الصلاة في جماعة أربعين سنة عشرين منها لم ينظر في أقفية الناس.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عبد المنعم بن إدريس، عن أبيه، قال: صلى سعيد بن المسيب الغداة بوضوء العتمة خمسين سنة. وقال سعيد بن المسيب: ما فاتتني التكبيرة الأولى منذ خمسين سنة، وما نظرت في قفا رجل في الصلاة منذ خمسين سنة.
(4) اجتهاد سعيد بن المسيب في الصوم والحج :(2/370)
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن يزيد بن أبي حازم: أن سعيد بن المسيب كان يسرد الصوم.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن ابن حرملة، قال: سمعت سعيد بن المسيب يقول: لقد حججن أربعين حجة.
(5) حرص سعيد بن المسيب على قراءة القرآن :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن ابن حرملة، قال: حفظت صلاة ابن المسيب وعمله بالنهار، فسألت مولاه عن عمله بالليل، فأخبرني فقال: وكان لا يدع أن يقرأ بصاد والقرآن كل ليلة، فسألته عن ذلك فأخبرني فقال: أن رجلاً من الأنصار صلى إلى شجرة فقرأ بصاد فلما مر بالسجدة سجد وسجدت الشجرة معه فسمعها تقول: اللهم أعطني بهذه السجدة أجراً، وضع عني بها وزراً، وارزقني بها شكراً، وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عاصم بن العباس الأسدي ، قال : كان سعيد بن المسيب يُذَكِّر ويُخَوِّف ، وسمعته يقرأ في الليل على راحلته فيكثر ، وسمعته يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم ، وكان يحب أن يسمع الشعر ، وكان لا ينشده ، ورأيته يمشي حافيا وعليه بتّ ورأيته يُحفي شاربه شبيها بالحلق ، ورأيته يصافح كل من لقيه ، وكان يكره كثرة الضحك .
(6) تعظيم سعيد بن المسيب لحديث رسول الله :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن دخل المطلب بن حنظب على سعيد بن المسيب في مرضه وهو مضطجع فسأله عن حديث، فقال: أقعدوني فأقعدوه، قال: إني أكره أن أحدث حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا مضطجع.
(7) حرص سعيد بن المسيب على طلب العلم :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ(2/371)
أدرك سعيد بن المسيب منذ نعومة أظافره أنه لا يوجد مصيبة أعظم من الجهل يمكن أن تلم بحياة الإنسان فأنفق عمره في تحصيل العلم يقول في ذلك عن نفسه : إن كنت لأرحل الأيام والليالي في طلب الحديث الواحد، وقد استغنى سعيد بن المسيب بالمدينة عن غيرها في طلب العلم ، وانقطع لمن بها من الصحابة، فجلس إلى أعلامهم ونهل من علومهم وأخذ أيضًا من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، ومن شدة اهتمامه بالعلم وبحب النبي صلى الله عليه وسلم أحبه الصحابة جميعًا وأثنوا عليه، وزوَّجه أبو هريرة رضي الله عنه لابنته، واصطفاه بالرعاية والعناية، وحمل سعيد بن المسيب حديث أبي هريرة كله وهو الأكثر رواية من بين الصحابة، كما اختص سعيد بن المسيب بابن عمر رضي الله عنهما وحمل عنه علم أبيه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب خاصة أقضيته الشهيرة، حتى برع فيها، وصار الناس يسألونه عنها في حياة ابن عمر ، وفى كنف الصحابة أخذ ينهل من نبع العلم الصافي فسمع من عثمان وعليا وزيد بن ثابت وسعد بن أبى وقاص وعائشة وأبا موسى الأشعري رضي الله عنهم جميعا كما كان زواجه من ابنة الصحابي أبى هريرة رضي الله عنه المنحة الربانية التي هيأت له الفرصة لسماع مئات الأحاديث من ذاكرة الوحي حتى صار أثبت الناس وأعلمهم بحديث أبى هريرة رضي الله عنه كما رأى سعيد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكان مغرما بتتبع أقضية عمر وتعلمها حتى قيل له : راوية عمر، وكان عبد الله بن عمر يرسل إليه يسأله عنها، وقد أعانه على الوصول إلي تلك المنزلة ما كان يتمتع به من حافظة واعية وتفان في تحصيل ألوان المعارف، حتى إنه كان لا ينسى من يلقاه من طلابه فقد حدث عمران بن عبد الله الخزاعي قال: سألني سعيد بن المسيب فانتسبت له، فقال: لقد جلس أبوك إلي في خلافة معاوية ، ويقول: والله ما أراه مر على أذنه شيء قط إلا وعاه .(2/372)
قال أبو طالب: قلت لأحمد بن حنبل سعيد بن المسيب عن عمر حجة؟ قال هو عندنا حجة قد رأى عمر وسمع منه إذا لم يقبل سعيد عن عمر فمن يقبل؟
ومع طول المثابرة في تحصيل العلم صار سعيد عالم أهل المدينة بلا مدافعة وإمام فقهائها السبعة الذين كانوا الواصل الحقيقي بين عصر الصحابة وعصور المذاهب الفقهية المختلفة فيقول :ما أحد أعلم بقضاء قضاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر ولا عمر منى.
[*] وقال قتادة : ما رأيت أحد أعلم من سعيد بن المسيب .
[*] وعن مكحول قال: طفت الأرض كلها في طلب العلم فما لقيت أعلم من سعيد.
[*] وسأل رجل القاسم بن محمد عن شيء فقال أسألت أحداً غيري؟ قال نعم عروة وفلانا وسعيد بن المسيب فقال: أطع ابن المسيب فإنه سيدنا وعالمنا.
[*] وكان عبد الله بن عمر إذا سئل عن الشيء يشكل عليه يقول: سلوا سعيد بن المسيب فإنه قد جالس الصالحين.
[*] وروى الربيع عن الشافعي أنه قال: إرسال سعيد بن المسيب عندنا حسن.
[*] وقال الإمام أحمد هي صحاح قال وسعيد بن المسيب أفضل التابعين.
[*] وقال على بن المدينى: لا أعلم في التابعين أوسع علما منه وإذا قال سعيد مضت السنة فحسبك به وهو عندي أجل التابعين.
[*] وقال أبو حاتم: ليس في التابعين أنبل منه.
ولئن لم يترك سعيد آثارا مكتوبة على عادة علماء ذلك العصر لندرة وسائل الكتابة فإنه قلما نجد كتابا في الفقه أو التفسير أو الحديث التي كتبت في عصر التدوين إلا وآراء سعيد واجتهاداته مبثوثة في ثنايا مباحثها.(2/373)
[*] قال عمر بن العزيز: إن مصدر العلم سعيد وما كان عالم بالمدينة إلا يأتيني بعلمه، وبالإضافة إلى تميزه في العلوم الشرعية والآداب الربانية برع إمام التابعين في علم تعبير الرؤيا أخذ ذلك عن أسماء بنت أبى بكر وأخذته أسماء عن أبيها رضي الله عنهم وتُروى في براعته في التعبير مواقف رائعة منها ما رواه ابن سعد في الطبقات عن عمر بن حبيب بن قليع قال كنت جالسا عند سعيد بن المسيب يوما وقد ضاقت علىّ الأشياء ورهقنى دين فجلست إلى ابن المسيب ما أدرى أين أذهب فجاءه رجل فقال يا أبا محمد إني رأيت رؤيا قال ما هي؟ قال: رأيت كأني أخذت عبد الملك بن مروان فأضجعته إلى الأرض ثم بطحته فأوتدت في ظهره أربعة أوتاد قال ما أنت رأيتها قال: بلى أنا رأيتها قال لا أخبرك أو تخبرني قال: ابن الزبير رآها وهو بعثني إليك قال: لئن صدقت رؤياه قتله عبد الملك بن مروان وخرج من صلب عبد الملك أربعة كلهم يكون خليفة قال عمر بن حبيب الراوي فدخلت إلى عبد الملك بن مروان بالشام فأخبرته بذلك عن سعيد بن المسيب فسره وسألني عن سعيد وعن حاله فأخبرته وأمر لي بقضاء ديني وأصبت منه خيرا.
[*] وعن مسلم الخياط قال: قال رجل لابن المسيب إني أراني أبول في يدي فقال اتق الله فإن تحتك ذات محرم فنظر فإذا امرأة بينها وبينه رضاع وقال له رجل إني أرى في النوم كأني أخوض النار فقال إن صدقت رؤياك لا تموت حتى تركب البحر وتموت قتلا قال الراوي: فركب البحر فأشفى على الهلكة وقتل يوم قديد بالسيف.
وقد أُثِرَ عن سعيد بن المسيب معرفته بكثير من المعارف السائدة في عصره، وإن كانت معرفته بالفقه قد غلبت على ما سواها إلا أن المراجع قد ذكرت له جوانب من العلوم قد شارك فيها، وكان له فيها رأي يرجع إليه، ومن ذلك معرفته بالأخبار والأنساب وكانت العرب تهتم بهذا اللون من المعارف وتحافظ به على أنسابها وأيامها.(2/374)
روت كتب السير أن سعيد بن المسيب كان ذا مقدرة فائقة على تعبير الرؤى، وقد روى ابن سعد أن سعيدا أخذ علم تعبير الرؤى عن أسماء بنت أبي بكر، وأن ابن سيرين قد أخذ علمه في تعبير الرؤى عن سعيد.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الواقدي كان سعيد بن المسيب من أعبر الناس للرؤيا أخذ ذلك عن أسماء بنت أبي بكر الصديق وأخذته أسماء عن أبيها ثم ساق الواقدي عدة منامات منها حدثنا موسى بن يعقوب عن الوليد بن عمروا بن مسافع عن عمر بن حبيب بن قليع قال كنت جالسا عند سعيد بن المسيب يوما وقد ضاقت بي الأشياء ورهقني دين فجاءه رجل فقال رأيت كأني أخذت عبد الملك ابن مروان فأضجعته إلى الأرض وبطحته فأوتدت في ظهره أربعة أوتاد قال ما أنت رأيتها قال بلى قال لا أخبرك أو تخبرني قال ابن الزبير رآها وهو بعثني إليك قال لئن صدقت رؤياه قتله عبد الملك وخرج من صلب عبد الملك أربعة كلهم يكون خليفة قال فرحلت إلى عبد الملك بالشام فأخبرته فسر وسألني عن سعيد وعن حاله فأخبرته وأمر بقضاء ديني وأصبت منه خيرا.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن إسماعيل بن أبي حكيم قال قال رجل رأيت كأن عبد الملك بن مروان يبول قبلة مسجد النبي صلى الله عليه وسلم أربع مرار فذكرت ذلك لسعيد بن المسيب فقال إن صدقت رؤياك قام فيه من صلبه أربعة خلفاء .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن شريك بن أبي نمر قلت لسعيد ابن المسيب رأيت كأن أسناني سقطت في يدي ثم دفنتها فقال إن صدقت رؤياك دفنت أسنانك من أهل بيتك .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن مسلم الحناط قال رجل لابن مسيب رأيت أني أبول في يدي فقال اتق الله فإن تحتك ذات محرم فنظر فإذا امرأة بينهما رضاع وجاءه آخر فقال أراني كأني أبول في أصل زيتونة فقال إن تحتك ذات رحم فنظر فوجد كذلك.(2/375)
وقد رويت عنه قراءات لبعض الآيات تلقاها العلماء بالقبول ومن الأمثلة على ذلك الآية السادسة من سورة المائدة: قال تعالى: ( مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مّنْ حَرَجٍ وَلََكِن يُرِيدُ لِيُطَهّرَكُمْ وَلِيُتِمّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ ) [ المائدة : 6]
فإن القراءة المشهورة لكلمة ( ليطهركم ) بفتح الطاء وتشديد الهاء، ولكن سعيدا قرأها بتسكين الطاء وفتح الهاء هكذا ( ليطْهَركم.
وكان سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى يتحاشى الخوض في تفسير القرآن من باب الورع، وكان لا يقول في القرآن من باب الورع، وكان لا يقول في القرآن إلا إذا جاءت آية أخرى تفسر الآية التي سئل عنها أو ورد بشأنها تفسير عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أو رواية عن صحابي، أو أن يفسر تفسيرا لغويا لبعض الألفاظ، وقد أثر عنه أنه قال: لا أقول في القرآن شيئا.
والذي ينبغي التنبيه إليه ما كان عند السلف الصالح من التكامل بين العلم والعمل، فالعلم وسيلة للتقرب إلى الله عز وجل في أنفسهم وذويهم، وفيما وراء ذلك من أبناء الأمة، فترى بجانب العلم الجم، العمل بهذا العلم، والعبادة الخالصة المخلصة، والحرص على أن تكون التصرفات كلها موزونة بميزان الشريعة والمخافة الحقة من رب العالمين، حتى صدق في سعيد وأمثاله، قول الله تعالى: ( إِنّمَا يَخْشَى اللّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) [ فاطر : 28]
[*] قال الأوزاعي رحمه الله: كانت لسعيد بن المسيب فضيلة لا نعلمها كانت لأحد من التابعين، لم تفته صلاة في جماعة أربعين سنة. وقال هو عن نفسه: "ما أذن المؤذن ثلاثين سنة إلا وأنا في المسجد" وقيل له وقد اشتكى عينيه: يا أبا محمد لو خرجت إلى العقيق فنظرت إلى الخضرة فوجدت ريح البرية لنفع ذلك بصرك، فقال سعيد: فكيف أصنع بشهود العتمة والصبح".(2/376)
[*]وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله: كان سعيد بن المسيب من أورع الناس فيما يدخل بيته وبطنه، وكان من أزهد الناس في فضول الدنيا، والكلام فيما لا يعني). ومما يؤيد ذلك أنه كان له مال يتجر فيه ويقول: "اللهم إنك تعلم أني لم أمسكه بخلاً ولا حرصاً عليه، ولا محبة للدنيا ونيل شهواتها، وإنما أريد أن أصون به وجهي عن بني مروان حتى ألقى الله فيحكم فيَّ وفيهم، وأصل منه رحمي، وأؤدي منه الحقوق التي فيه، وأعود على الأرملة والفقير والمسكين والجار .
شيوخ عيد بن المسيب :
أبى بن كعب ، البراء بن ع(9) ، بصرة بن أكثم الأنصارى ، بلال مولى أبى بكر ، جابر بن عبد الله ،جبير بن مطعم ،حسان بن ثابت ، حكيم بن حزام ، زيد بن ثابت ، زيد بن خالد الجهنى ، سراقة بن مالك بن جعشم ، سعد بن عبادة ، سعد بن أبى وقاص ،صفوان بن أمية ، عبد الله بن عباس ، عبد الله بن عمر بن الخطاب ، عبد الله بن عمرو بن العاص ، عثمان بن عفان ، على بن أبى طالب ، عمر بن الخطاب ، معاوية بن أبى سفيان ، أبى ذر الغفارى ، أبى سعيد الخدرى ، أبى موسى الأشعرى ، أبى هريرة ، عائشة أم المؤمنين
(8) زهد سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
كان ابن المسيب آية في الصلاح والتقى وإيثار الآخرة على الدنيا التي لا تساوى عند الله جناح بعوضة فلقد ألزم نفسه التقلل من حلالها والإعراض عن حرامها وحطامها،(2/377)
[*] قال ابن كثير: كان سعيد بن المسيب من أورع الناس فيما يدخل بيته وبطنه وكان من أزهد الناس في فضول الدنيا والكلام فيما لا يعنى ومن أكثر الناس أدبا في الحديث جاءه رجل وهو مريض فسأله عن حديث فجلس فحدثه ثم اضطجع فقال الرجل وددت أنك لم تتعن فقال إني كرهت أن أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا مضطجع وقال برد مولاه: ما نودي للصلاة منذ أربعين إلا وسعيد في المسجد وقال ابن إدريس : صلى سعيد بن المسيب الغداة بوضوء العتمة خمسين سنة .
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان بن عيينة، قال: قال سعيد بن المسيب: أن الدنيا نذلة، وهي إلى كل نذل أميل، وأنذل منها من أخذها بغير حقها، وطلبها بغير وجهها، ووضعها في غير سبيلها.
(9) ورع سعيد بن المسيب :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ
كان سعيد بن المسيب من أورع الناس فيما يدخل بيته وبطنه فيروى ابن سعد في الطبقات عن طلحة الخزاعي قال : كان في رمضان يؤتى بالأشربة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فليس أحد يطمع أن يأتي سعيد بن المسيب بشراب فيشربه فإن أتى من منزله بشراب شربه وإن لم يؤت من منزله بشيءٍ لم يشرب شيئا حتى ينصرف، أما طعامه فهو بسيط يشمل في الغالب خبزا وزيتاً ولما حبس صنعت ابنته طعاما كثيرا فلما جاءه أرسل إليها قائلا: لا تعودي لمثل هذا أبدا فهذه حاجة هشام بن إسماعيل يريد أن يذهب مالي فأحتاج إلى ما في أيديهم وأنا لا أدرى ما أحبس فانظري إلى القوت الذي كنت آكل في بيتي فابعثي إلى به .
(10) عظيم مراقبة سعيد بن المسيب لربه تعالى :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
إن من أعظم ما يدل على مراقبة سعيد بن المسيب لربه تعالى قوله الآتي :(2/378)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سعيد بن المسيب، يقول: يد الله فوق عباده فمن رفع نفسه وضعه الله، ومن وضعها رفعه الله. الناس تحت كنفه يعملون أعمالهم فإذا أراد الله فضيحة عبد أخرجه من تحت كنفه فبدت للناس عورته.
(11) خشية سعيد بن المسيب من الله تعالى :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن يحيى بن سعيد: أن سعيد بن المسيب كان يكثر أن يقول في مجلسه اللهم سلم سلم.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن يحيى بن سعيد، قال: دخلنا على سعيد نعوده ومعنا نافع بن جبير فقالت أم ولده إنه لم يأكل منذ ثلاث فكلموه فقال نافع بن جبير: إنك من أهل الدنيا ما دمت فيها ولا بد لأهل الدنيا مما يصلحهم فلو أكلت شيئاً، قال: كيف يأكل من كان على مثل حالنا هذه، بضعة يذهب بها إلى النار أو إلى الجنة، فقال نافع: ادع الله أن يشفيك فإن الشيطان قد كان يغيظه مكانك من المسجد، قال: بل أخرجني الله تعالى من بينكم سالماً.
(12) استعفاف سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عمران بن عبد الله بن طلحة، قال: دعي سعيد بن المسيب إلى نيف وثلاثين ألفاً ليأخذها، فقال: لا حاجة لي فيها ولا بني مروان حتى ألقى الله فيحكم بيني وبينهم.
(13) كان سعيد بن المسيب مستجاب الدعوة رحمه الله :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ(2/379)
[*] أورد ابن سعد في الطبقات عن علي بن زيد ، قال : قال لي سعيد بن المسيب : قل لقائدك يقوم ، فينظر إلى وجه هذا الرجل وإلى جسده فقام وجاء، فقال : رأيت وجه زنجي وجسده أبيض . فقال سعيد : إن هذا سب هؤلاء : طلحة والزبير وعليا -رضي الله عنهم- فنهيته فأبى ، فدعوت الله عليه ، قلت : إن كنت كاذبا فسوَّد الله وجهك ، فخرجتْ بوجهه قرحة ، فاسودَّ وجهه .
(14) دعاء سعيد بن المسيب على الظالم :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن علي بن زيد، قال: قلنا لسعيد بن المسيب: يزعم قومك إنما يمنعك من الحج أنك جعلت لله عليك إذا رأيت الكعبة أن تدعو الله على بني مروان، قال: فما فعلت ذلك وما أصلي لله عز وجل في صلاة إلا دعوت عليهم وإني قد حججت واعتمرت بضعاً وعشرين مرة وإنما كتبت على حجة واحدة.
[*] أورد ابن سعد في الطبقات عن عبد الله بن يزيد الهذلي ، قال : دخلتُ على سعيد بن المسيب السجن فإذا هو قد ذُبحت له شاة ، فجعل الإهاب على ظهره ، ثم جعلوا له بعد ذلك قَضْبا رطبا ، وكان كلما نظر إلى عضديه قال : اللهم انصرني من هشام .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن رجل من آل عمر ، قال : قلت لسعيد بن المسيب : ادْعُ على بني أمية ، قال : اللهم أعِزَّ دينك ، وأظهرْ أولياءك ، واخْزِ أعداءك في عافية لأمة محمد صلى الله عليه وسلم .
(15) تحذير سعيد بن المسيب من فتنة النساء :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن قد بلغت ثمانين سنة ولا شيء أخوف عندي من النساء وكان بصره قد ذهب.(2/380)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن علي بن زيد عن سعيد بن المسيب قال: ما أيس من الشيطان من شيء إلا أتاه من قبل النساء وقال: أخبرنا سعيد وهو ابن أربع وثمانين وقد ذهبت إحدى عينيه وهو يعشو بالأخرى: ما شيء أخوف عندي من النساء.
[*] أورد ابن سعد في الطبقات عن عمران بن عبد الله الخزاعي ، قال : قال سعيد بن المسيب : ما خِفْتُ على نفسي شيئا مخافة النساء ، قالوا : يا أبا محمد ، إن مثلك لا يريد النساء ، ولا تريده النساء . فقال : هو ما أقول لكم . وكان شيخا كبيرا أعمش .
(16) من عظيم مناقب سعيد بن المسيب أنه زَوَّج ابنه لطالب علمٍ فقير :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ(2/381)
من أعظم مناقب سعيد بن المسيب قصه تزويج ابنته وقد كان الخليفة عبد الملك بن مروان تقدم لخطبتها لابنه الوليد حين ولاه العهد ويذكر المؤرخون أنه أرسل موكبا كبيرا على رأسه مندوب خاص نزل المسجد ووقف على حلقة سعيد فأبلغه سلام أمير المؤمنين وأنه قدم يخطب إليه ابنته لابنه الوليد ولى العهد وانتظر الناس أن يستبشر سعيد بهذا التشريف الذي ناله ولكنه لم يزد على كلمة لا ـ وزوج ابنته لطالب علمٍ فقير على مهر قدره درهمان وهو عبد الله بن أبى وداعة ، ومن أجل ذلك كانت علاقته بالولاة والحكام علاقة يشوبها التوتر والتربص ـ وكان عبد الله بن أبى وداعة متين الدين والخلق ، وقد افتقده سعيد بن المسيب أياماً فلما عاد إليه قال له سعيد: أين كنت فقال توفيت زوجتي فانشغلت بها قال سعيد فهلا أخبرتنا فشهدناها ثم أراد التلميذ أن يقوم فقال سعيد: هل أحدثت امرأة غيرها ؟ قال يرحمك الله ومن يزوجني وما أملك إلا درهمين أو ثلاثة ؟ قال سعيد إن أنا فعلت تفعل ؟ قال نعم فأمر بالشهود وكتابة العقد قال ابن أبى وداعة : فقمت وما أدرى ما أصنع من الفرح وصرت إلى منزلي وجعلت أفكر ممن آخذ وأستدين ؟ وصليت المغرب. وكنت صائما فقدمت عشائي لأفطر وكان خبزا وزيتا وإذا بالباب يقرع فقلت :من هذا؟(2/382)
فقال :سعيد، ففكرت في كل إنسان اسمه سعيد إلا سعيد بن المسيب فإنه لم ير منذ أربعين سنه إلا ما بين بيته والمسجد فقمت وخرجت وإذا بسعيد بن المسيب وظننت أنه بدا له فقلت يا أبا محمد هلا أرسلت إلي فأتيتك قال لا أنت أحق أن تزار قلت فما تأمرني قال رأيتك رجلا عزباً قد تزوجت فكرهت أن تبيت الليلة وحدك وهذه امرأتك فإذا هي قائمة خلفه في طوله ثم دفعها في الباب ورد الباب فسقطت المرأة من الحياء فاستوثقت من الباب ثم صعدت إلى السطح وناديت الجيران فجاءوني وقالوا ما شأنك قلت زوجني سعيد بن المسيب ابنته وقد جاء بها على غفلة وها هي في الدار فنزلوا إليها وبلغ أمي فجاءت وقالت وجهي من وجهك حرام إن مسستها قبل أن أصلحها ثلاثة أيام فأقمت ثلاثا ثم دخلت بها فإذا هي من أجمل الناس وأحفظهم لكتاب الله تعالى وأعلمهم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعرفهم بحق الزوج.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن ابن أبي وداعة، قال: كنت أجالس سعيد بن المسيب ففقدني أياماً ، فلما جئته قال : أين كنت ؟!
قلت : توفيت أهلي فاشتغلت بها .
فقال : ألا أخبرتنا فشهدناها ؟
قال : ثم أردت أن أقوم ، فقال : هل استحدثت امرأة ؟
فقلت : يرحمك الله ، ومن يزوجني وما أملك إلا درهمين أو ثلاثة ؟!
فقال : أنا .
فقلت : أوتفعل ؟
قال : نعم .
ثم حمد الله تعالى وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم وزوجني على درهمين ـ أو قال : ثلاثة ـ قال : فقمت وما أدري ما أصنع من الفرح ، فصرت إلى منزلي وجعلت أتفكر ممن آخذ وممن استدين ، فصليت المغرب وانصرفت إلى منزلي ، واسترحت ، وكنت وحدي صائماً فقدمت عشائي أفطر كان خبزاً وزيتاً ، فإذا بآت يقرع ،
فقلت : من هذا ؟
قال : سعيد .(2/383)
قال : فأفكرت في كل انسان اسمه سعيد إلا سعيد بن المسيب فإنه لم ير أربعين سنة إلا بين بيته والمسجد ، فقمت فخرجت فإذا سعيد بن المسيب ، فظنت أنه قد بدا له فقلت : يا أبا محمد ، ألا أرسلت إلي فآتيك ؟!
قال : لأنت أحق أن تؤتى .
قال : قلت : فما تأمر ؟
قال : إنك كنت رجلاً عزباً فتزوجت فكرهت أن تبيت الليلة وحدك وهذه امرأتك .
فإذا هي قائمة من خلفه في طوله ، ثم أخذها بيدها فدفعها بالباب ورد الباب فسقطت المرأة من الحياء ، فاستوثقت من الباب ثم قدمتها إلى القصعة التي فيها الزيت والخبز فوضعتها في ظل السراج لكي لا تراه ثم صعدت إلى السطح ، فرميت الجيران ، فجاؤوني ، فقالوا : ما شأنك ؟
قلت : ويحكم زوجني سعيد بن المسيب ابنته اليوم وقد جاء بها على غفلة ؟
فقالوا : سعيد بن المسيب زوجك ؟
قلت : نعم ، وها هي في الدار .
قال : فنزلوا هم إليها وبلغ أمي فجاءت ، وقالت : وجهي من وجهك حرام إن مسستها قبل أن أصلحها إلى ثلاية أيام .
قال : فأقمت ثلاثة أيام ثم دخلت بها ، فإذا هي من أجمل الناس ، وإذا هي أحفظ الناس لكتاب الله وأعلمهم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعرفهم بحق الزوج . قال : فمكثت شهراً لا يأتيني سعيد ولا آتيه ، فلما كان قرب الشهر أتيت سعيداً وهو في حلقته فسلمت عليه فرد علي السلام ولم يكلمني حتى تقوض أهل المجلس ، فلما لم يبق غيري ، قال : ما حال ذلك الإنسان ؟ قلت : خيراً يا أبا محمد على ما يحب الصديق ويكره العدو . قال : إن رابك شيء فالعصا فانصرفت إلى منزلي فوجه إلي بعشرين ألف درهم .
قال عبدالله بن سليمان : وكانت بنت سعيد بن المسيب خطبها عبدالملك بن مروان لابنه الوليد بن عبدالملك حين ولاه العهد فأبى سعيد أن يزوجه فلم يزل عبدالملك يحتال على سعيد حتى ضربه مائة سوط في يوم بارد وصب عليه جرة ماء وألبسه جبة صوف .
قال عبدالله : وابن أبي وداعة هذا هو كثير بن المطلب بن أبي وداعة . أ هـ
'لحلية(2/384)
ففقدني أياماً فلما جئته قال: أين كنت ؟ قال: توفيت أهلي فاشتغلت بها، فقال: ألا أخبرتنا فشهدناها، قال: ثم أردت أن أقوم فقال: هل استحدثت امرأة، فقلت: يرحمك الله ومن يزوجني وما أملك إلا درهمين أو ثلاثة، فقال: أنا، فقلت: أو تفعل، قال: نعم، ثم حمد الله تعالى وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم وزوجني على درهمين أو قال: ثلاثة قال: فقمت ولا أدري ما أصنع من الفرح فصرت إلى منزلي وجعلت أتفكر ممن آخذ وممن أستدين فصليت المغرب وانصرفت إلى منزلي واسترحت وكنت وحدي صائماً فقدمت عشائي أفطر كان خبزاً وزيتاً، فإذا بآت يقرع، فقلت: من هذا ؟ قال: سعيد، قال: فتفكرت في كل إنسان اسمه سعيد إلا سعيد بن المسيب فإنه لم ير أربعين سنة إلا بين بيته والمسجد فقمت فخرجت فإذا سعيد بن المسيب فظننت أنه بدا له، فقلت: يا أبا محمد إلا أرسلت إلي فآتيك، قال: لأنت أحق أن يؤتى، قال: قلت: فما تأمر، قال: إنك كنت رجلاً عزباً فتزوجت فكرهت أن تبيت الليلة وحدك وهذا امرأتك فإذا هي قائمة من خلفه في طوله، ثم أخذها بيدها فدفعها بالباب ورد بالباب فسقطت المرأة من الحياء فاستوثقت من الباب ثم قدمتها إلى القصة التي فيها الزيت والخبز فوضعتها في ظل السراج لكي لا تراه ثم صعدت إلى السطح فرميت الجيران، فجاءوني فقالوا: ما شأنك؟ قلت: ويحكم زوجني سعيد بن المسيب ابنته اليوم وقد جاء بها على غفلة، فقالوا: سعيد بن المسيب زوجك ؟ قلت: نعم، وهاهي في الدار، قال: فنزلوا هم إليها وبلغ أمي فجاءت، وقالت: وجهي من وجهك حرام إن مسستها قبل أن أصلحها إلى ثلاثة أيام، قال: فأقمت ثلاثة أيام ثم دخلت بها فإذا هي من أجمل الناس، وإذا هي من أحفظ الناس لكتاب الله وأعلمهم لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعرفهم بحق الزوج، قال: فمكثت شهراً لا يأتيني سعيد ولا آتيه، فلما كان قرب الشهر أتيت سعيداً وهو في حلقته فسلمت عليه فرد علي السلام ولم يكلمني حتى تقوض أهل المجلس(2/385)
فلما لم يبق غيري، قال: ما حال ذلك الإنسان، قلت: خيراً يا أبا محمد على ما يحب الصديق ويكره العدو، قال: إن رابك شيء فالعصا فانصرفت إلى منزلي فوجه إلي بعشرين ألف درهم، قال عبد الله بن سليمان: وكانت بنت سعيد بن المسيب خطبها عبد الملك بن مروان لابنه الوليد بن عبد الملك حين ولاه العهد فأبى سعيد أن يزوجه فلم يزل عبد الملك يحتال على سعيد حتى ضربه مائة سوط في يوم بارد وصب عليه جرة ماء وألبسه جبة صوف .
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن إبراهيم ابن عبد الله الكتاني، أن سعيد بن المسيب زوج ابنته بدرهمين.
(17) ابتلاء سعيد بن المسيب في سبيل الله تعالى :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
كان سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى عفيفا معتزا بنفسه لا يقوم لأحد من أصحاب السلطان ولا يقبل عطاياهم ولا هداياهم ولا التملق لهم ، ولهذا كان سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى من الممتحنين، امتحن فلم تأخذه في الله لومة لائم، صاحب عبادة وجماعة وعفة وقناعة، وكان كاسمه بالطاعات سعيداً، ومن المعاصي والجهالات بعيداً.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عمران بن عبد الله، قال: دعي سعيد بن المسيب للبيعة للوليد وسليمان بعد عبد الملك بن مروان، قال: فقال: لا أبايع اثنين ما اختلف الليل والنهار، قال: فقيل: أدخل من الباب وأخرج من الباب الآخر، قال: والله لا يقتدي بي أحد من الناس، قال: فجلده مائة وألبسه المسوح.(2/386)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن يحيى بن سعيد، قال: كتب والي المدينة إلى عبد الملك بن مروان أن أهل المدينة قد أطبقوا على البيعة للوليد وسليمان إلا سعيد بن المسيب، فكتب أن أعرضه عن السيف فإن مضى وإلا فاجلده خمسين جلدة وطف به أسواق المدينة فلما قدم الكتاب على الوالي دخل سليمان بن يسار وعروة بن الزبير وسالم بن عبد الله على سعيد بن المسيب، فقالوا: إنا قد جئناك في أمر قد قدم فيك كتاب من عبد الملك بن مروان إن لم تبايع ضربت عنقك، ونحن نعرض عليك خصالاً ثلاثاً فأعطنا إحداهن فإن الوالي قد قبل منك أن يقرأ عليك الكتاب فلا تقل لا ولا نعم، قال: فيقول الناس بايع سعيد بن المسيب. ما أنا بفاعل، قال: وكان إذا قال لا لم يطيقوا عليه أن يقول نعم، قال: مضت واحدة وبقيت اثنتان قالوا: فتجلس في بيتك فلا تخرج إلى الصلاة أياماً فإنه يقبل منك إذا طلبت في مجلسك فلم يجدك، قال: وأنا أسمع الأذان فوق أذني حي على الصلاة حي على الفلاح ما أنا بفاعل، قالوا مضت اثنتان وبقيت واحدة قالوا: فانتقل من مجلسك إلى غيره فإنه يرسل إلى مجلسك فإن لم يجدك أمسك عنك، قال: فرقا لمخلوق ما أنا بمتقدم لذلك شبراً، ولا متأخر شبراً، فخرجوا وخرج إلى الصلاة صلاة الظهر فجلس في مجلسه الذي كان يجلس فيه فلما صلى الوالي بعث إليه فأتى به فقال: إن أمير المؤمنين كتب يأمرنا إن لم تبايع ضربنا عنقك، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيعتين.(2/387)
فلما رآه لا يجيب أخرج إلى السدة فمدت عنقه وسلت عليه السيوف فلما رآه قد مضى أمر به فجرد فإذا عليه تبان شعر، فقال: لو علمت أني لا أقتل ما اشتهرت بهذا التبان فضربه به خمسين سوطاً ثم طاف به أسواق المدينة فلما رده والناس منصرفون من صلاة العصر، قال: إن هذه لوجوه ما نظرت إليها منذ أربعين سنة قال محمد بن القاسم: وسمعت شيخنا يزيد في حديث سعيد بإسناد لا أحفظه أن سعيداً لما جرد ليضرب، قالت له امرأة: لما جرد ليضرب إن هذا لمقام الخزي، فقال لها سعيد: من مقام الخزي فررنا.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سعيد بن المسيب، قال: لا تملئوا أعينكم من أعوان الظلمة إلا بإنكار من قلوبكم لكي لا تحبط أعمالكم الصالحة.(2/388)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن رجاء بن جميل الأيلي، قال: قال عبد الرحمن بن عبد القارئ لسعيد بن المسيب حين قدمت البيعة للوليد وسليمان بالمدينة بعد موت أبيهما: إني مشير عليك بخصال ثلاث، قال: وما هي ؟ قال: تغير مقامك فإنك هو وحيث يراك هشام بن إسماعيل، قال: ما كنت لأغير مقاماً قمته منذ أربعين سنة، قال: تخرج معتمراً، قال: ما كنت لأنفق مالي وأجهد بدني في شيء ليس له فيه نية، قال: فما الثالثة؟ قال: تبايع، قال: أرأيت إن كان الله أعمى قلبك كما أعمى بصرك فما علي ؟ قال وكان أعمى، قال رجاء: فدعاه هشام إلى البيعة فأبى فكتب فيه إلى عبد الملك فكتب إليه عبد الملك: مالك ولسعيد ما كان علينا منه شيء نكرهه فأما إذ فعلت فاضربه ثلاثين سوطاً وألبسه تبان شعر وأوقفه للناس لئلا يقتدي به الناس. فدعاه هشام فأبى وقال: لا أبايع لاثنين، قال: فضربه ثلاثين سوطاً وألبسه تبان شعر وأوقفه للناس، قال رجاء: حدثني الأيليون الذين كانوا في الشرط بالمدينة، قالوا: علمنا أنه لا يلبس التبان طائعاً، قلنا: يا أبا محمد إنه القتل فاستر عورتك، قال: فلبسه، فلما ضرب قلنا له: إنا خدعناك، قال: يا معجلة أهل أيلة لولا أني ظننت أنه القتل ما لبسته. لفظ الحسن بن عبد العزيز.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن هشام بن زيد، قال: رأيت سعيد بن المسيب حين ضرب في تبان من شعر.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أبي يونس القوي قال : دخلت مسجد المدينة ، فإذا سعيد بن المسيب جالس وحده ، فقلت : ما شأنه ؟ قيل : نُهِيَ أن يجالسه أحد .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن قتادة ، أن ابن المسيب كان إذا أراد أحد أن يجالسه قال : إنهم قد جلدوني ، ومنعوا الناس أن يجالسوني .
(18) دعوة سعيد بن المسيب إلى طلب المال للإحسان إلى الخلق والاستغناء عنهم :(2/389)
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
كان سعيد له تجارة تدر عليه دخلا يكفيه ليعيش عيشة راضية، ولهذا لم يكن يأخذ عطاء من الدولة حجرا على رأيه، وتقييدا لحريته، وكان عنده من يقوم بأمر تجارته، فلا يشغله أمرها عن عبادته وعلمه، وكان يدعو إلي اكتساب المال عن طرقه المشروعة، ليتمكن من صلة الرحم وأداء الأمانة، وصيانة الكرامة، والاستغناء عن الخلق، ومما أثر عنه في ذلك ما يلي :
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن يحيى بن سعيد، قال: سمعت سعيد بن المسيب، يقول: لا خير فيمن لا يريد جمع المال من حله يعطي منه حقه ويكف به وجه عن الناس.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سعيد بن المسيب، قال: لا خير فيمن لا يحب هذا المال يصل به رحمه ويؤدي به أمانته ويستغني به عن خلق ربه.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سعيد بن المسيب: أنه مات وترك ألفين أو ثلاثة آلاف دينار وقال: ما تركتها إلا لأصون بها ديني وحسبي.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سعيد المسيب، قال: من استغنى بالله افتقر الناس إليه.
(19) إيثار سعيد بن المسيب للخمول وإنكار الذات :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن مالك بن أنس: أن ابن شهاب سأله بعض بني أمية عن سعيد بن المسيب فذكره له وأخبره بحاله، فبلغ ذلك سعيد بن المسيب فقدم ابن شهاب فجاء يسلم على سعيد فلم يكلمه سعيد ولم يرد عليه، فلما انصرف سعيد مشى معه ابن شهاب، فقال: مالي سلمت عليك فلم تكلمني. ما بلغك عني إلا خير ؟ قال: لم ذكرتني لبني مروان ؟
(20) نظرة سعيد بن المسيب إلى النفس :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ(2/390)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عمران بن عبد الله بن طلحة الخزاعي، قال: أن نفس سعيد بن المسيب كانت أهون عليه في ذات الله من نفس ذباب .
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سعيد بن المسيب، قال: ما أكرمت العباد أنفسها بمثل طاعة الله عز وجل، ولا أهانت أنفسها بمثل معصية الله، وكفى بالمؤمن نصرة من الله أن يرى عدوه يعمل بمعصية الله.
(21) من فتوحات الله على سعيد بن المسيب بالدعاء :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن حدثنا يحيى بن سعيد بن المسيب، قال سعيد: دخلت المسجد ليلة أضحيان، قال: وأظن أن قد أصبحت فإذا الليل على حاله فقمت أصلي فجلست أدعو فإذا هاتف يهتف من خلفي يا عبد الله قل، ما أقول ؟ قال: قل: اللهم إني أسألك بأنك مالك الملك وأنك على كل شيء قدير وما تشأ من أمر يكن . قال سعيد: فما دعوت بها قط بشيء إلا رأيت نجحه .
(22) نظرة سعيد بن المسيب إلى الدنيا والمال :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ
أما الدنيا فمالها وسعيد بن المسيب فكان رحمه الله تعالى يرى أنها نذلة، وهي إلى كل نذل أميل، وأنذل منها من أخذها بغير حقها :
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم في الحلية عن سفيان بن عيينة، قال: قال سعيد بن المسيب: أن الدنيا نذلة، وهي إلى كل نذل أميل، وأنذل منها من أخذها بغير حقها، وطلبها بغير وجهها، ووضعها في غير سبيلها.(2/391)
{ تنبيه } : إن فهم سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى الدقيق لحقيقة الدنيا لهو خير دواء لهذه المادية التي خيمت على كل شيءٍ في حياتنا وصيَّرت سوادَ قلبنا حالك وأردت الكثيرين منا المهالك وأخلدتهم إلى الأرض فضاعت من حياتهم كل فضيلة وصاروا لا يفهمون إلا لغة الدينار والدرهم فلم يحصدوا من وراء كل هذا إلا القلق والحيرة والشك وصاروا في قلقٍ دءوب وهمٍ مستمر وحَيْرَةٍ لا تنقطع واستعصت عليهم السعادة الحقيقية فكانوا بمنأى عنها.
وأما عن رؤيته للمال فلقد كان يعيش من كسب يده له أربعمائة دينار يتجر بها في الزيت ويقول عن هذا المال : اللهم إنك تعلم أنى لم أمسكه بخلا ولا حرصا عليه ولا محبة للدنيا ونيل شهواتها وإنما أريد أن أصون به وجهي عن بنى مروان حتى ألقى الله فيحكم فيّ وفيهم وأصل منه رحمي وأؤدي منه الحقوق التي فيه وأعود منه على الأرملة والفقير والمسكين واليتيم والجار، وكان له في بيت المال بضعة وثلاثون ألفا من الدراهم عطاؤه تراكمت بسبب رفضه قبولها فكان حين يدعى إليها يأبى ويقول : لا حاجة لي فيها حتى يحكم الله بيني وبين بنى مروان .
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم في الحلية عن يحيى بن سعيد، قال: سمعت سعيد بن المسيب، يقول: لا خير فيمن لا يريد جمع المال من حله يعطي منه حقه ويكف به وجه عن الناس.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم في الحلية عن يحيى ابن سعيد، عن سعيد بن المسيب، قال: لا خير فيمن لا يحب هذا المال يصل به رحمه ويؤدي به أمانته ويستغني به عن خلق ربه.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم في الحلية عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب: أنه مات وترك ألفين أو ثلاثة آلاف دينار وقال: ما تركتها إلا لأصون بها ديني وحسبي.
رواه الثوري عن يحيى بن سعيد، عن سعيد، وقال: ترك مائة دينار، وقال: أصون بها ديني وحسبي.(2/392)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم في الحلية عن محمد بن عبد الله بن أخي الزهري، عن عمه، عن سعيد المسيب، قال: من استغنى بالله افتقر الناس إليه.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم في الحلية عن علي بن زيد، قال: رآني سعيد بن المسيب وعلي جبة خز، فقال: إنك لجيد الجبة، قلت: وما تغني عني وقد أفسدها علي سالم، فقال سعيد: أصلح قلبك والبس ما شئت.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن محمد بن هلال ، عن سعيد بن المسيب أنه قال : ما تجارة أعجب إلي من البَزِّ ، ما لم يقع فيه أيمان .
(23) سعيد بن المسيب لا تأخذه في الحق لومه لائم :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
كان سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى رجلا وقورا له هيبة عند مجالسيه فكان يغلب عليه الجد، ولو نظرت إليه لَخُيِّلَ إليك أنك أمام رجل ممسك بموازين الحق والعدل بين يديه، قد تكفل بحراستها والقيام عليها، مدرك لمدى مسئولية الأمانة التي تحملها، فلا يجامل، ولا يغمض عينيه عن شيء لا يراه صحيحا، فيعلن إنكاره له، غير مبال بما يجره عليه ذلك من أذى، ومن أجل ذلك كانت علاقته بالولاة والحكام علاقة يشوبها التوتر والتربص ، لأنه رحمه الله تعالى كان لا تأخذه في الحق لومه لائم ، إن وقوف سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى عند الحق وثباته عليه مهما كانت الظروف،أمر مشهور وذائع مما زان تاريخ العلماء العاملين الذين لا يخافون في الله لومة لائم، ويؤدون حق الله والأمة، فيما أوتوا من العلم وأمانة الأسوة.
وقد تجلت هذه القاعدة في حياة سيد التابعين في أكثر من موقف ونطق بها لسان حاله في كل لحظة من لحظات أيام عمره المباركة فكان الواثق بالله الذي لا يحابى في الحق أحدا ولا يرده ما يتخمض عن ذلك المنهج من تبعات فهانت عليه نفسه في الله كما قال عمران بن عبد الله :أرى نفس سعيد بن المسيب كانت أهون عليه في ذات الله من نفس ذباب .(2/393)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عمران بن عبد الله بن طلحة الخزاعي، قال: أن نفس سعيد بن المسيب كانت أهون عليه في ذات الله من نفس ذباب .
ودونك ما تيسر منها ما يلي :
موقف تزويج ابنته من عبد الله بن أبى وداعة :
ومن مواقفه الشهيرة في ذلك قصه تزويج ابنته وقد كان الخليفة عبد الملك بن مروان تقدم لخطبتها لابنه الوليد حين ولاه العهد ويذكر المؤرخون أنه أرسل موكبا كبيرا على رأسه مندوب خاص نزل المسجد ووقف على حلقة سعيد فأبلغه سلام أمير المؤمنين وأنه قدم يخطب إليه ابنته لابنه الوليد ولى العهد وانتظر الناس أن يستبشر سعيد بهذا التشريف الذي ناله ولكنه لم يزد على كلمة لا، وكان لسعيد تلميذ متين الدين والخلق يدعى عبد الله بن أبى وداعة افتقده أياما فلما عاد إليه قال له سعيد: أين كنت فقال توفيت زوجتي فانشغلت بها قال سعيد فهلا أخبرتنا فشهدناها ثم أراد التلميذ أن يقوم فقال سعيد: هل أحدثت امرأة غيرها ؟ قال يرحمك الله ومن يزوجني وما أملك إلا درهمين أو ثلاثة ؟ قال سعيد إن أنا فعلت تفعل ؟ قال نعم فأمر بالشهود وكتابة العقد قال ابن أبى وداعة : فقمت وما أدرى ما أصنع من الفرح وصرت إلى منزلي وجعلت أفكر ممن آخذ وأستدين ؟ وصليت المغرب. وكنت صائما فقدمت عشائي لأفطر وكان خبزا وزيتا وإذا بالباب يقرع فقلت :من هذا؟(2/394)
فقال :سعيد، ففكرت في كل إنسان اسمه سعيد إلا سعيد بن المسيب فإنه لم ير منذ أربعين سنه إلا ما بين بيته والمسجد فقمت وخرجت وإذا بسعيد بن المسيب وظننت أنه بدا له فقلت يا أبا محمد هلا أرسلت إلي فأتيتك قال لا أنت أحق أن تزار قلت فما تأمرني قال رأيتك رجلا عزباً قد تزوجت فكرهت أن تبيت الليلة وحدك وهذه امرأتك فإذا هي قائمة خلفه في طوله ثم دفعها في الباب ورد الباب فسقطت المرأة من الحياء فاستوثقت من الباب ثم صعدت إلى السطح وناديت الجيران فجاءوني وقالوا ما شأنك قلت زوجني سعيد بن المسيب ابنته وقد جاء بها على غفلة وها هي في الدار فنزلوا إليها وبلغ أمي فجاءت وقالت وجهي من وجهك حرام إن مسستها قبل أن أصلحها ثلاثة أيام فأقمت ثلاثا ثم دخلت بها فإذا هي من أجمل الناس وأحفظهم لكتاب الله تعالى وأعلمهم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعرفهم بحق الزوج.
وكان رحمه الله يقول :لا تملئوا أعينكم من أعوان الظلمة إلا بالإنكار من قلوبكم لكيلا تحبط أعمالكم .
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سعيد بن المسيب، قال: لا تملئوا أعينكم من أعوان الظلمة إلا بإنكار من قلوبكم لكي لا تحبط أعمالكم الصالحة.
وهي نظرة بعيدة الغور تصدر عن إيمان عميق وتجارب اصطلى بنارها، ومعاناةٍ عملية لأخلاق أهل الإيمان التي لم يكن يدع أن يذكر بها رحمه الله ويريد للمسلم أن تكون برقع سلوكه في الحياة. أما وقد أكرمه الله بما أكرمه من العلم والعمل. فلا بدع أن تتفجر ينابيع الحكمة على لسانه .
كلامه بريد لبنى مروان :(2/395)
عن المطلب بن السائب قال كنت جالسا مع سعيد بن المسيب بالسوق فمر بريد لبنى مروان فقال له سعيد من رسل بنى مروان أنت ؟ قال نعم قال فكيف تركتهم؟ قال بخير قال تركتهم يجيعون الناس ويشبعون الكلاب؟ قال فاشرأب الرسول فقمت إليه فلم أزل أرجيه حتى انطلق ثم قلت لسعيد يغفر الله لك تشيط بدمك بالكلمة هكذا تليقها قال اسكت يا أحمق فو الله لا يسلمني الله ما أخذت بحقوقه.
موقفه حينما دُعِيَ للبيعة للوليد وسليمان بعد عبد الملك بن مروان :
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عمران بن عبد الله، قال: دُعِيَ سعيد بن المسيب للبيعة للوليد وسليمان بعد عبد الملك بن مروان، قال: فقال: لا أبايع اثنين ما اختلف الليل والنهار، قال: فقيل: أدخل من الباب وأخرج من الباب الآخر، قال: والله لا يقتدي بي أحد من الناس، قال: فجلده مائة وألبسه المُسوح.
إنكاره على جابر بن السود :
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عبد الواحد بن أبي عون ، قال : كان جابر بن الأسود عامل ابن الزبير على المدينة قد تزوَّج الخامسة قبل انقضاء عدة الرابعة ، فلما ضرب سعيد بن المسيب صاح به سعيد والسياط تأخذه : والله ما ربَّعْتَ على كتاب الله ، وإنك تزوجت الخامسة قبل انقضاء عدة الرابعة ، وما هي إلا ليال فاصنع ما بدا لك ، فسوف يأتيك ما تكره. فما مكث إلا يسيرا حتى قُتِل ابن الزبير .
إنكاره على الحجاج لما كان لا يتم ركوع الصلاة ولا سجودها :
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن علي بن زيد بن جدعان، قال: قيل لسعيد بن المسيب: ما شأن الحجاج لا يبعث إليك ولا يهيجك ولا يؤذيك، قال: والله لا أدري غير أنه صلى ذات يوم مع أبيه صلاة فجعل لا يتم ركوعها ولا سجودها فأخذت كفاً من حصباء فحصبته بها. قال الحجاج: فما زلت أحسن الصلاة.
موقفه من عبد الملك بن مروان :(2/396)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عمران بن عبد الله -من أصحاب سعيد بن المسيب : ما علمت فيه لينا . قلت : كان عند سعيد بن المسيب أمر عظيم من بني أمية وسوء سيرتهم ، وكان لا يقبل عطاءهم .
وفى سنة إحدى وتسعين هجرية حج الوليد بالناس فلما اقترب من المدينة أمر عامله عليها عمر بن عبد العزيز أشرافها فتلقوه فرحب بهم وأحسن إليهم ودخل المدينة النبوية فأخلى له المسجد النبوى فلم يبق بهد أحد سوى سعيد بن المسيب لم يتجاسر أحد أن يخرجه وعليه ثياب لا تساوى خمسة دراهم فقالوا له تنح عن المسجد أيها الشيخ فإن أمير المؤمنين قادم فقال والله لا أخرج منه فدخل الوليد المسجد فجعل يدور فيه ويصلى ههنا وههنا ويدعو الله عز وجل قال عمر بن عبد العزيز وجعلت أعدل به عن موضع سعيد خشية أن يراه فحانت منه التفاته فقال من هذا؟! أهو سعيد بن المسيب؟ فقلت نعم يا أمير المؤمنين ولو علم أنك قادم لقام إليك وسلم عليك فقال قد علمت بغضه لنا فقلت يا أمير المؤمنين إنه وإنه وشرعت أثنى عليه وشرع الوليد يثنى عليه بالعلم والدين فقلت يا أمير المؤمنين إنه ضعيف البصر _ وإنما قلت ذلك لأعتذر له ـ فقال نحن أحق بالسعي إليه فجاء فوقف عليه فسلم عليه فرد عليه سعيد السلام ولم يقم له ثم قال الوليد كيف الشيخ ؟ فقال بخير والحمد لله كيف أمير المؤمنين؟ فقال الوليد بخير والحمد لله وحده ثم انصرف وهو يقول لعمر بن عبد العزيز هذا فقيه الناس فقال أجل يا أمير المؤمنين .(2/397)
[*] أورد ابن سعد في الطبقات عن ميمون بن مهران ، قال : قدم عبد الملك بن مروان المدينة فامتنعت منه القائلة ، واستيقظ ، فقال لحاجبه : انظر ، هل في المسجد أحد من حُدَّاثنا ؟ فخرج فإذا سعيد بن المسيب في حلقته ، فقام حث ينظر إليه ، ثم غمزه وأشار بأصبعه ، ثم ولى ، فلم يتحرك سعيد ، فقال : لا أراه فطن ، فجاء ودنا منه ، ثم غمزه وقال : ألم ترني أشير إليك ؟ قال : وما حاجتك ؟ قال : أجِبْ أمير المؤمنين . فقال : إليّ أرسلك ؟ قال : لا ، ولكن قال : انظُرْ بعض حداثنا فلم أرَ أحدا أهيأ منك . قال : اذهب فأعلمه أني لست من حُدَّاثه . فخرج الحاجب وهو يقول : ما أرى هذا الشيخ إلا مجنونا ، وذهب فأخبر عبد الملك ، فقال : ذاك سعيد بن المسيب فدعْهُ .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن سليمان بن حرب : وعمرو بن عاصم ، حدثنا سلام بن مسكين ، عن عمران بن عبد الله بن طلحة الخزاعي ، قال : حج عبد الملك بن مروان ، فلما قدم المدينة ووقف على باب المسجد أرسل إلى سعيد بن المسيب رجلا يدعوه ولا يحركه ، فأتاه الرسول وقال : أجب أمير المؤمنين ، واقف بالباب يريد أن يكلمك . فقال : ما لأمير المؤمنين إليّ حاجة ، وما لي إليه حاجة ، وإن حاجته لي لغير مقضية ، فرجع الرسول ، فأخبره فقال : ارجع فقل له : إنما أريد أن أكلمك ، ولا تحركه . فرجع إليه ، فقال له : أجب أمير المؤمنين. فرد عليه مثل ما قال أولا . فقال : لولا أنه تقدَّم إليّ فيك ما ذهبت إليه إلا برأسك ، يرسل إليك أمين المؤمنين يكلمك تقول مثل هذا لِلَّهِ فقال : إن كان يريد أن يصنع بي خيرا ، فهو لك ، وإن كان يريد غير ذلك فلا أحُلُّ حَبْوتي حتى يقضي ما هو قاض ، فأتاه فأخبره ، فقال : رحم الله أبا محمد ؛ أبَى إلا صلابة .(2/398)
زاد عمرو بن عاصم في حديثه بهذا الإسناد : فلما استخلف الوليد ، قدم المدينة ، فدخل المسجد ، فرأى شيخا قد اجتمع عليه الناس ، فقال : من هذا ؟ قالوا : سعيد بن المسيب ، فلما جلس أرسل إليه ، فأتاه الرسول فقال : أجب أمير المؤمنين ، فقال : لعلك أخطأت باسمي ، أو لعله أرسلك إلى غيري ، فرد الرسول ، فأخبره ، فغضب وهمَّ به ، قال : وفي الناس يومئذ تَقيَّة ، فأقبلوا عليه ، فقالوا : يا أمير المؤمنين ، فقيه المدينة ، وشيخ قريش ، وصديق أبيك ، لم يطمع ملك قبلك أن يأتيه . فما زالوا به حتى أضرب عنه .
نحن نسوق هذه المواقف للذين يأكلون بدينهم ويداهنون الظالم بغية عرض من الدنيا فلا يسعنا إلا أن نهمس في آذانهم قائلين تشبهوا بالكرام البررة واقتدوا بخير سلف تكتب لكم النجاة في الدنيا والآخر.
ذكر مرض سعيد بن المسيب ووفاته :
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عبد الرحمن بن حرملة ، قال : دخلت على سعيد بن المسيب وهو شديد المرض ، وهو يصلي الظهر ، وهو مستلقٍ يومئ إيماءً ، فسمعته يقرأ بالشمس وضحاها .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن سعيد بن المسيب قال : أوصيت أهلي بثلاث : أن لا يتبعني راجز ولا نار ، وأن يعجلوا بي ، فإن يكن لي عند الله خير ، فهو خير مما عندكم .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عبد الرحمن بن الحارث المخزومي ، قال : اشتد وجع سعيد بن المسيب ، فدخل عليه نافع بن جبير يعوده ، فأُغمي عليه فقال نافع : وجِّهوه . ففعلوا ، فأفاق فقال : من أمركم أن تحوِّلوا فراشي إلى القبلة ، أنافع ؟ قال : نعم . قال له سعيد : لئن لم أكن على القبلة والملة والله لا ينفعني توجيهكم فراشي .(2/399)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن ابن أبي ذئب : عن أخيه المغيرة ، أنه دخل مع أبيه على سعيد وقد أُغمي عليه ، فوُجِّه إلى القبلة ، فلما أفاق ، قال : من صنع بي هذا ، ألست امرءا مسلما ؟ وجهي إلى الله حيث ما كنت .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن زرعة بن عبد الرحمن ، قال سعيد بن المسيب : يا زرعة ، إني أشهدك على ابني محمد لا يُؤذِنَنَّ بي أحدا ، حسبي أربعة يحملوني إلى ربي .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن يحيى بن سعيد ، قال : لما احتضر سعيد بن المسيب ، ترك دنانير ، فقال : اللهم إنك تعلم أني لم أتركها إلا لأصون بها حسبي وديني .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عبد الحكيم بن عبد الله بن أبي فروة ، شهدت سعيد بن المسيب يوم مات سنة أربع وتسعين . فرأيت قبره قد رُشَّ عليه الماء ، وكان يُقال لهذه السنة سنة الفقهاء لكثرة من مات منهم فيها .
وقال الهيثم بن عدي : مات في سنة أربع وتسعين . عدة فقهاء ، منهم سعيد بن المسيب ، وفيها أرَّخ وفاة ابن المسيب سعيد بن عفير ، وابن نمير ، والواقدي ،وما ذكر ابن سعد سواه. وقال أبو نعيم ، وعلي بن المديني : توفي سنة ثلاث وتسعين .
وقال أحمد بن حنبل : حدثنا حماد بن خالد الخياط أن سعيد بن المسيب توفي سنة خمس وتسعين . والأول أصح .
وأما ما قال المدائني وغيره من أنه توفي سنة خمس ومائة فغلط . وتبعه عليه بعضهم ، وهي رواية عن ابن معين . ومال إليه أبو عبد الله الحاكم ، والله أعلم . أهـ
رحم الله عالم المدينة الذي اجتمع له ـ بفضل الله عز وجل ـ العلم والعمل، وأداء حق العلم في التعليم والبيان والصدع بالحق، والخشية الصادقة لرب العالمين، ثم اليقظة التي يمدها إيمانه وعقله، فلم يقع ـ وهو المنصرف إلى العلم والعبادة ـ في شيء من الخداع والأحابيل، وكان -وهو التقي الورع- لكل صغيرة أو كبيرة بالمرصاد .(2/400)
سيرة زين العابدين علي ابن الحسين رحمه الله :
اسم زين العابدين علي ابن الحسين ونسبه :
هو علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب القرشي الهاشمي المدني ، وكنيته زين العابدين ، و هو عند أهل السنة واحد من أهل البيت و ابن الحسين سيد شباب أهل الجنة و له من الفضل والعلم ما لا ينكره أحد، وأمه هي أم ولد سندية تسمى سلافة ، ويعد من تابعي أهل المدينة ، ولد سنة 38 هـ ، وتوفي سنة ثلاثٍ وتسعين أو أربعٍ وتسعين هـ بالمدينة المنورة ، و هو ابن ثمان و خمسين .
أولاد على زين العابدين رحمه الله :
محمد الباقر , عبد الله , الحسن , الحسين , زيد , عمر , الحسين الأصغر , عبد الرحمن , سليمان , علي , محمد الأصغر .
بنات على زين العابدين رحمه الله :
خديجة , أم كلثوم , فاطمة , عليّة
خلفاء عصر على زين العابدين رحمه الله :
عاصر على زين العابدين رحمه الله من الخلفاء الأمويين: يزيد بن معاوية ومعاوية بن يزيد ومروان بن الحكم وعبد الملك بن مروان والوليد بن عبد الملك .
[*] مناقب زين العابدين علي ابن الحسين رحمه الله :
كان زين العابدين علي ابن الحسين رحمه الله من أئمة التابعين ، من أئمة الهدى وأعلام التقى ومصابيح الدجى ، من حلية الأولياء وأعلام النبلاء ، من الأضواء اللامعة والنجوم الساطعة ، اشتهر بعلي زين العابدين و لقب بالسجاد و ذو الثفنات و زين الصالحين و منار القانتين وهو عند أهل السنة واحد من أهل البيت و ابن الحسين سيد شباب أهل الجنة و له من الفضل والعلم ما لا ينكره أحد ، برز على الصعيد العلمي والديني ، إماماً في الدين ومناراً في العلم ، ومرجعاً ومثلاً أعلى في الورع والعبادة والتقوى حتى سلّم المسلمون جميعاً في عصره بأنّه أفقه أهل زمانه وأورعهم وأتقاهم .
وهاك غَيْضٍ من فيض ونقطةٍ من بحر مما ورد في مناقب زين العابدين علي ابن الحسين جملةً وتفصيلا :
أولاً مناقب زين العابدين علي ابن الحسين جملةً :(2/401)
(1) ثناء العلماء على زين العابدين علي ابن الحسين :
(2) خشية زين العابدين علي ابن الحسين رحمه الله :
(3) من درر مواعظ زين العابدين علي ابن الحسين :
(4) اجتهاد على زين العابدين في العبادة :
(5) صدق تضرع على زين العابدين رحمه الله :
(6) إنفاق على زين العابدين في سبيل الله :
(7) حرص على زين العابدين على إخفاء العمل .
(8) صِلَةُ على زين العابدين لإخوانه في الله تعالى :
(9) تفقد على زين العابدين لسريرته :
(10) حسن خُلُقِ على زين العابدين :
(11) خشوع على زين العابدين في الصلاة وعدم التفاته :
(12) منابذة على زين العابدين لأهل الأهواء :
(13) استعفاف على زين العابدين رحمه الله :
ثانياً مناقب زين العابدين علي ابن الحسين تفصيلا :
(1) ثناء العلماء على زين العابدين علي ابن الحسين :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
[*] قال عنه الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء :
زين العابدين، ومنار القانتين، كان عابداً وفياً، وجواداً حفياً .
[*] وقال عنه الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء :
علي بن حسين ابن الأمام بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف ،السيد الإمام زين العابدين الهاشمي العلوي المدني يكنى أبا الحسين ويقال أبو الحسن ويقال أبو محمد ويقال أبو عبد الله وأمه أم ولد اسمها سلامة سلافة بنت ملك الفرس يزدجرد وقيل غزالة ، ولد في سنة ثمان وثلاثين ظنا وحدث عن أبيه الحسين الشهيد وكان معه يوم كائنة كربلاء وله ثلاث وعشرون سنة وكان يومئذ موعوكا فلم يقاتل ولا تعرضوا له بل أحضروه مع آله إلى دمشق فأكرمه يزيد وَرَدَّه مع آله إلى المدينة.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عمرو بن ثابت، قال: كان علي بن الحسين لا يضرب بعيره من المدينة إلى مكة.(2/402)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن ابن شهاب الزهري، قال: شهدت علي ابن الحسين يوم حمله عبد الملك بن مروان من المدينة إلى الشام فأثقله حديداً، ووكل به حفاظاً في عدة وجمع، فاستأذنتهم في التسليم عليه والتوديع له فأذنوا لي، فدخلت عليه وهو في قبة والإقياد في رجليه والغل في يديه فبكيت. وقلت: وددت أني مكانك وأنت سالم. فقال: يا زهري أتظن أن هذا مما ترى علي وفي عنقي يكربني، أما لو شئت ما كان، فإنه وإن بلغ منك وبأمثالك ليذكرني عذاب الله. ثم أخرج يديه من الغل ورجليه من القيد. ثم قال: يا زهري لا جزت معهم على ذا منزلتين من المدينة، قال: فما لبثنا إلا أربع ليال حتى قدم الموكلون به يطلبونه بالمدينة فما وجدوه، فكنت فيمن سألهم عنه. فقال لي بعضهم: إنا لنراه متبوعاً، انه لنازل ونحن حوله لا ننام نرصده، إذ أصبحنا فما وجدنا بين محمله إلا حديده، قال الزهري: فقدمت بعد ذلك على عبد الملك بن مروان فسألني عن علي بن الحسين فأخبرته، فقال لي: إنه قد جاءني في يوم فقده الأعوان، فدخل علي فقال: ما أنا وأنت، فقلت: أقم عندي، فقال: لا أحب، ثم خرج فوالله لقد امتلأ ثوبي منه خيفة، قال الزهري: فقلت: يا أمير المؤمنين ليس علي بن الحسين حيث تظن، إنه مشغول بنفسه، فقال: حبذا شغل مثله فنعم ما شغل به، قال: وكان الزهري إذا ذكر علي ابن الحسين يبكي ويقول: زين العابدين.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أبي حمزة الثمالي، قال: كان علي ابن الحسين: يحمل جراب الخبز على ظهره بالليل فيتصدق به، ويقول: إن صدقة السر تطفئ غضب الرب عز وجل.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن شيبة بن نعامة، قال: كان علي بن الحسين يبخل، فلما مات وجدوه يقوت مائة أهل بيت بالمدينة، قال جرير في الحديث ـ أو من قبله ـ إنه حين مات وجدوا بظهره أثاراً مما كان يحمل بالليل الجرب إلى المساكين.(2/403)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن محمد بن إسحاق، قال: كان ناس من أهل المدينة يعيشون لا يدرون من أين كان معاشهم. فلما مات علي بن الحسين فقدوا ما كانوا يؤتون به في الليل.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن علي بن الحسين، قال: أتاني نفر من أهل العراق فقالوا في أبي بكر وعمر وعثمان رضى الله عنهم، فلما فرغوا قال لهم علي بن الحسين: ألا تخبرونني أنتم المهاجرون الأولون ( الّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مّنَ اللّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلََئِكَ هُمُ الصّادِقُونَ) [ الحشر : 8]، قالوا: لا، قال: فأنتم (وَالّذِينَ تَبَوّءُوا الدّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مّمّآ أُوتُواْ وَيُؤْثِرُونَ عَلَىَ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحّ نَفْسِهِ فَأُوْلََئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الحشر: 9]، قالوا: لا، قال: أما أنتم فقد تبرأتم أن تكونوا من أحد هذين الفريقين، ثم قال: أشهد أنكم لستم من الذين قال الله عز وجل: (وَالّذِينَ جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاّ لّلّذِينَ آمَنُواْ رَبّنَآ إِنّكَ رَءُوفٌ رّحِيمٌ) [ الحشر : 10]. اخرجوا فعل الله بكم.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن صالح بن حسان، قال: قال رجل لسعيد بن المسيب: ما رأيت أحداً أورع من فلان. قال: هل رأيت علي بن الحسين ؟ قال: لا، قال: ما رأيت أحداً أورع منه.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الزهري قال ما رأيت قرشيا أفضل من علي بن الحسين .(2/404)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الزهري قال ما كان أكثر مجالستي مع علي بن الحسين وما رأيت أحدا كان أفقه منه ولكنه كان قليل الحديث .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الزهري قال كان علي بن الحسين من أفضل أهل بيته وأحسنهم طاعة وأحبهم إلى مروان وإلى عبد الملك .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الزهري قال :لم أدرك من أهل البيت أفضل من علي بن الحسين .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن يحيى بن سعيد عن علي يا أهل العراق أحبونا حب الإسلام ولا تحبونا حب الأصنام فما زال بنا حبكم حتى صار علينا شينا .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن جويرية بن أسماء ماأكل علي بن الحسين بقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم درهما قط .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن المقبري قال بعث المختار إلى علي بن الحسين بمئة ألف فكره أن يقبلها وخاف أن يردها فاحتبسها عنده فلما قتل المختار بعث يخبر بها عبد الملك وقال ابعث من يقبضها فأرسل إليه عبد الملك يا ابن العم خذها قد طيبتها لك فقبلها .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أبي نوح الأنصاري قال وقع حريق في بيت فيه علي بن الحسين وهو ساجد فجعلوا يقولون يا ابن رسول الله النار فما رفع رأسه حتى طفئت فقيل له في ذلك فقال ألهتني عنها النار الأخرى .
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الزهري، قال: دخلنا على علي بن الحسين بن علي، فقال: يا زهري، فيم كنتم. قلت: تذاكرنا الصوم، فأجمع رأيي ورأى أصحابي على أنه ليس من الصوم شيء واجب إلا شهر رمضان، فقال: يا زهري ليس كما قلتم، الصوم على أربعين وجهاً، عشرة منها واجبة كوجوب شهر رمضان، وعشرة منها حرام، وأربعة عشرة خصلة صاحبها بالخيار إن شاء صام وإن شاء أفطر، وصوم النذر واجب، وصوم الاعتكاف واجب، قال: قلت: فسرهن يا ابن رسول الله ،(2/405)
قال: أما الواجب فصوم شهر رمضان، وصيام شهرين متتابعين ـ يعني في قتل الخطأ لمن لم يجد العتق ـ قال تعالى : (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاّ خَطَئاً وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مّسَلّمَةٌ إِلَىَ أَهْلِهِ إِلاّ أَن يَصّدّقُواْ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوّ لّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مّسَلّمَةٌ إِلَىَ أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مّؤْمِنَةً فَمَن لّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مّنَ اللّهِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً) [ النساء : 92]،. الآية. وصيام ثلاثة أيام في كفارة اليمين لمن لم يجد الإطعام، قال الله عز وجل قال تعالى: (لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللّغْوِ فِيَ أَيْمَانِكُمْ وَلََكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقّدتّمُ الأيْمَانَ فَكَفّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيّامٍ ذَلِكَ كَفّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوَاْ أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ) [ المائدة : 89]،. وصيام حلق الرأس، قال الله تعالى: قال تعالى: ( فَمَن كَانَ مِنكُم مّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مّن رّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ) [ البقرة : 196]، الآية، صاحبه بالخيار إن شاء صام ثلاثاً، وصوم دم المتعة، لمن لم يجد الهدى، قال الله تعالى ( فَمَن تَمَتّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ) [ البقرة : 196]، الآية.(2/406)
وصوم جزاء الصيد، قال الله عز وجل ( وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مّتَعَمّداً فَجَزَآءٌ مّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مّنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً لّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ ) [ المائدة : 95]، الآية. وإنما يقوم ذلك الصيد قيمة ثم يقص ذلك الثمن على الحنطة. وأما الذي صاحبه بالخيار: فصوم يوم الاثنين والخميس، وصوم ستة أيام من شوال بعد رمضان، ويوم عرفة، ويوم عاشوراء، كل ذلك صاحبه بالخيار، إن شاء صام، وإن شاء أفطر.
وأما صوم الإذن: فالمرأة لا تصوم تطوعاً إلا بإذن زوجها، وكذلك العبد والأمة. وأما صوم الحرام: فصوم يوم الفطر ويوم الأضحى، وأيام التشريق، ويوم الشك نهينا أن نصومه كرمضان، وصوم الوصال حرام، وصوم الصمت حرام، وصوم نذر المعصية حرام، وصوم الدهر حرام، والضيف لا يصوم إلا بإذن صاحبه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من نزل على قوم فلا يصومن تطوعاً إلا بإذنهم ويؤمر الصبي بالصوم إذا لم يراهق تأنيساً، وليس بفرض وكذلك من أفطر لعلة من أول النهار ثم وجد قوة في بدنه أمر بالإمساك، وذلك تأديب الله عز وجل، وليس بفرض، وكذلك المسافر إذا أكل أول النهار ثم قدم أمر بالإمساك.
وأما صوم الإباحة: فمن أكل أو شرب ناسياً من غير عمد، فقد أبيح له ذلك وأجزأه عن صومه.
وأما صوم المريض: وصوم المسافر، فإن العامة اختلف فيه، فقال بعضهم: يصوم، وقال قوم: لا يصوم، وقال: قوم إن شاء صام، وإن شاء أفطر، وأما نحن فنقول: يفطران في الحالين جميعاً، فإن صام في السفر والمرض، فعليه القضاء، قال الله عز وجل: ( فَمَن كَانَ مِنكُم مّرِيضاً أَوْ عَلَىَ سَفَرٍ فَعِدّةٌ مّنْ أَيّامٍ أُخَرَ ) [ البقرة : 184].
(2) خشية زين العابدين علي ابن الحسين رحمه الله :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ(2/407)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن العتبي، قال: حدثنا أبي، قال: كان علي بن الحسين إذا فرغ من وضوئه للصلاة، وصار بين وضوئه وصلاته أخذته رعدة ونفضة، فقيل له في ذلك، فقال: ويحكم أتدرون إلى من أقوم. ومن أريد أن أناجي.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن سفيان حج علي بن الحسين فلما أحرم اصفر وانتفض ولم يستطيع أن يلبي فقيل ألا تلبي قال أخشى أن أقول لبيك فيقول لي لا لبيك فلما لبى غشي عليه وسقط من راحلته فلم يزل بعض ذلك به حتى قضى حجه .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن مالك احرم علي بن الحسين فلما أراد أن يلبي قالها فأغمي عليه وسقط من ناقته فهشم ولقد بلغني أنه كان يصلي في كل يوم وليلة ألف ركعة إلى أن مات وكان يسمى زين العابدين لعبادته .
(3) من درر مواعظ زين العابدين علي ابن الحسين :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن علي بن الحسين، قال: التارك للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كنابذ كتاب الله وراء ظهره، إلا أن يتقى تقاة. قيل: وما تقاته. قال: يخاف جباراً عنيداً أن يفرط عليه أو أن يطغى. وقال علي بن الحسين: من كتم علماً أحداً، أو أخذ عليه أجراً رفداً، فلا ينفعه أبداً.
ومن أفضل مواعظ زين العابدين علي ابن الحسين رحمه الله تعالى " قصيدة ليس الغريب " التي حُقَّ لها أن تُنْقَشَ على الصدور وان تُكْتَبَ بماء الذهب ، وهاك القصيدة :
لَيْسَ الغَريبُ غَريبَ الشام واليَمَنِ ... إِنَّ الغَريبَ غَريبُ اللَّحدِ والكَفَنِ
إِنَّ الغَريِبَ لَهُ حَقٌّ لِغُرْبَتِهِ ... على المُقِيْمِينَ في الأوطَانِ والسَكَنِ
سَفَري بَعيدٌ وَزادي لَنْ يُبَلِّغَني ... وَقُوَّتي ضَعُفَتْ والموتُ يَطلُبُني
وَلي بَقايا ذُنوبٍ لَسْتُ أَعْلَمُها ... الله يَعْلَمُها في السِّرِ والعَلَنِ(2/408)
مَا أَحْلَمَ اللهَ عَني حَيْثُ أَمْهَلَني ... وقَدْ تَمادَيْتُ في ذَنْبي ويَسْتُرُنِي
تَمُرُّ ساعاتُ أَيَّامي بِلا نَدَمٍ ... ولا بُكاءٍ وَلاخَوْفٍ ولا حَزَنِ
أَنَا الَّذِي أُغْلِقُ الأَبْوابَ مُجْتَهِداً ... عَلى المعاصِي وَعَيْنُ اللهِ تَنْظُرُني
يَا زَلَّةً كُتِبَتْ في غَفْلَةٍ ذَهَبَتْ ... يَا حَسْرَةً بَقِيَتْ في القَلبِ تُحْرِقُني
دَعْني أَنُوحُ عَلى نَفْسي وَأَنْدِبُها ... وَأَقْطَعُ الدَّهْرَ بِالتَّذْكِيرِ وَالحَزَنِ
كَأَنَّني بَينَ تلك الأَهلِ مُنطَرِحَاً ... عَلى الفِراشِ وَأَيْديهِمْ تُقَلِّبُني
وَقد أَتَوْا بِطَبيبٍ كَيْ يُعالِجَني ... وَلَمْ أَرَ الطِّبَّ هذا اليومَ يَنْفَعُني
واشَتد نَزْعِي وَصَار المَوتُ يَجْذِبُها ... مِن كُلِّ عِرْقٍ بِلا رِفقٍ ولا هَوَنِ
واستَخْرَجَ الرُّوحَ مِني في تَغَرْغُرِها ... وصَارَ رِيقي مَريراً حِينَ غَرْغَرَني
وَغَمَّضُوني وَراحَ الكُلُّ وانْصَرَفوا ... بَعْدَ الإِياسِ وَجَدُّوا في شِرَا الكَفَنِ
وَقامَ مَنْ كانَ حِبَّ لنّاسِ في عَجَلٍ ... نَحْوَ المُغَسِّلِ يَأْتيني يُغَسِّلُني
فَجاءَني رَجُلٌ مِنهُمْ فَجَرَّدَني ... مِنَ الثِّيابِ وَأَعْرَاني وأَفْرَدَني
وَأَوْدَعوني عَلى الأَلْواحِ مُنْطَرِحاً ... وَصَارَ فَوْقي خَرِيرُ الماءِ يَنْظِفُني
وَأَسْكَبَ الماءَ مِنْ فَوقي وَغَسَّلَني ... غُسْلاً ثَلاثاً وَنَادَى القَوْمَ بِالكَفَنِ
وَأَلْبَسُوني ثِياباً لا كِمامَ لها ... وَصارَ زَادي حَنُوطِي حينَ حَنَّطَني
وأَخْرَجوني مِنَ الدُّنيا فَوا أَسَفاً ... عَلى رَحِيلٍ بِلا زادٍ يُبَلِّغُني
وَحَمَّلوني على الأْكتافِ أَربَعَةٌ ... مِنَ الرِّجالِ وَخَلْفِي مَنْ يُشَيِّعُني
وَقَدَّموني إِلى المحرابِ وانصَرَفوا ... خَلْفَ الإِمَامِ فَصَلَّى ثمّ وَدَّعَني
صَلَّوْا عَلَيَّ صَلاةً لا رُكوعَ لها ... ولا سُجودَ لَعَلَّ اللهَ يَرْحَمُني
وَأَنْزَلوني إلى قَبري على مَهَلٍ ... وَقَدَّمُوا واحِداً مِنهم يُلَحِّدُني(2/409)
وَكَشَّفَ الثّوْبَ عَن وَجْهي لِيَنْظُرَني ... وَأَسْكَبَ الدَّمْعَ مِنْ عَيْنيهِ أَغْرَقَني
فَقامَ مُحتَرِماً بِالعَزمِ مُشْتَمِلاً ... وَصَفَّفَ اللَّبِنَ مِنْ فَوْقِي وفارَقَني
وقَالَ هُلُّوا عليه التُّرْبَ واغْتَنِموا ... حُسْنَ الثَّوابِ مِنَ الرَّحمنِ ذِي المِنَنِ
في ظُلْمَةِ القبرِ لا أُمٌّ هناك ولا ... أَبٌ شَفيقٌ ولا أَخٌ يُؤَنِّسُني
فَرِيدٌ وَحِيدُ القبرِ، يا أَسَفاً ... عَلى الفِراقِ بِلا عَمَلٍ يُزَوِّدُني
وَهالَني صُورَةً في العينِ إِذْ نَظَرَتْ ... مِنْ هَوْلِ مَطْلَعِ ما قَدْ كان أَدهَشَني
مِنْ مُنكَرٍ ونكيرٍ ما أَقولُ لهم ... قَدْ هَالَني أَمْرُهُمْ جِداً فَأَفْزَعَني
وَأَقْعَدوني وَجَدُّوا في سُؤالِهِمُ ... مَالِي سِوَاكَ إِلهي مَنْ يُخَلِّصُنِي
فَامْنُنْ عَلَيَّ بِعَفْوٍ مِنك يا أَمَلي ... فَإِنَّني مُوثَقٌ بِالذَّنْبِ مُرْتَهَنِ
تَقاسمَ الأهْلُ مالي بعدما انْصَرَفُوا ... وَصَارَ وِزْرِي عَلى ظَهْرِي فَأَثْقَلَني
واستَبْدَلَتْ زَوجَتي بَعْلاً لها بَدَلي ... وَحَكَّمَتْهُ فِي الأَمْوَالِ والسَّكَنِ
وَصَيَّرَتْ وَلَدي عَبْداً لِيَخْدُمَه ... وَصَارَ مَالي لهم حِلاً بِلا ثَمَنِ
فَلا تَغُرَّنَّكَ الدُّنْيا وَزِينَتُها ... وانْظُرْ إلى فِعْلِها في الأَهْلِ والوَطَنِ
وانْظُرْ إِلى مَنْ حَوَى الدُّنْيا بِأَجْمَعِها ... هَلْ رَاحَ مِنْها بِغَيْرِ الحَنْطِ والكَفَنِ
خُذِ القَنَاعَةَ مِنْ دُنْيَاك وارْضَ بِها ... لَوْ لم يَكُنْ لَكَ إِلا رَاحَةُ البَدَنِ
يَا زَارِعَ الخَيْرِ تحصُدْ بَعْدَهُ ثَمَراً ... يَا زَارِعَ الشَّرِّ مَوْقُوفٌ عَلَى الوَهَنِ
يَا نَفْسُ كُفِّي عَنِ العِصْيانِ واكْتَسِبِي ... فِعْلاً جميلاً لَعَلَّ اللهَ يَرحَمُني
يَا نَفْسُ وَيْحَكِ تُوبي واعمَلِي حَسَناً ... عَسى تُجازَيْنَ بَعْدَ الموتِ بِالحَسَنِ
ثمَّ الصلاةُ على الْمُختارِ سَيِّدِنا ... مَا وَصَّا البَرْقَ في شَّامٍ وفي يَمَنِ(2/410)
(4) اجتهاد على زين العابدين في العبادة :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن مالك احرم علي بن الحسين فلما أراد أن يلبي قالها فأغمي عليه وسقط من ناقته فهشم ولقد بلغني أنه كان يصلي في كل يوم وليلة ألف ركعة إلى أن مات وكان يسمى زين العابدين لعبادته .
(5) صدق تضرع على زين العابدين رحمه الله :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن طاووس سمعت علي بن الحسين وهو ساجد في الحجر يقول عبيدك بفنائك مسكينك بفنائك سائلك بفنائك فقيرك بفنائك قال فوالله ما دعوت به في كرب قط إلا كشف عني .
(6) إنفاق على زين العابدين في سبيل الله :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أبي جعفر ـ ابن علي زين العابدين ـ أن أباه قاسم الله تعالى ماله مرتين وقال إن الله يحب المذنب التواب .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أبي حمزة الثمالي أن علي بن الحسين كان يحمل الخبز بالليل على ظهره يتبع به المساكين في الظلمة ويقول إن الصدقة في سواد الليل تطفىء غضب الرب .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن محمد بن إسحاق كان ناس من أهل المدينة يعيشون لا يدرون من أين كان معاشهم فلما مات علي بن الحسين فقدوا ذلك الذي كانوا يؤتون بالليل .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عمرو بن ثابت لما مات علي بن الحسين وجدوا بظهره أثرا مما كان ينقل الجرب بالليل إلى منازل الأرامل .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن شيبة بن نعامة قال : لما مات علي وجدوه يعول مئة أهل بيت قلت لهذا كان يبخل فإنه ينفق سرا ويظن أهله أنه يجمع الدراهم .(2/411)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن سعيد بن مرجانة أنه لما حَدَثَ علي بن الحسين بحديث أبي هريرة من أعتق نسمة مؤمنة أعتق الله كل عضو منه بعضو منه من النار حتى فرجه بفرجه فأعتق علي غلاما له أعطاه فيه عبد الله بن جعفر عشرة آلاف درهم .
(7) حرص على زين العابدين على إخفاء العمل :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أبي حمزة الثمالي أن علي بن الحسين كان يحمل الخبز بالليل على ظهره يتبع به المساكين في الظلمة ويقول إن الصدقة في سواد الليل تطفىء غضب الرب .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن شيبة بن نعامة قال : لما مات علي وجدوه يعول مئة أهل بيت قلت لهذا كان يبخل فإنه ينفق سرا ويظن أهله أنه يجمع الدراهم .
(8) صِلَةُ على زين العابدين لإخوانه في الله تعالى :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عمرو بن دينار قال دخل علي بن الحسين على محمد بن أسامة بن زيد في مرضه فجعل محمد يبكي فقال ما شأنك قال علي دين قال وكم هو قال بضعة عشر ألف دينار قال فهي علي .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن علي بن الحسين إني لأستحيي من الله أن أرى الأخ من إخواني فأسأل الله له الجنة وأبخل عليه بالدنيا فإذا كان غدا قيل لي لو كانت الجنة بيدك لكنت بها أبخل وأبخل .
(9) تفقد على زين العابدين لسريرته :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن علي بن الحسين قال فقد الأحبة غربة وكان يقول اللهم إني أعوذ بك أن تحسن في لوائح العيون علانيتي وتقبح في خفيات العيون سريرتي اللهم كما أسَأَتْ وأحسنت إلي فإذا عُدْتُ فَعُدْ علي .
(10) حسن خُلُقِ على زين العابدين :(2/412)
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أبي يعقوب المدني قال : كان بين حسن بن حسن وبين ابن عمه علي بن الحسين شيء فما ترك حسن شيئا إلا قاله وعلي ساكت فذهب حسن ، فلما كان في الليل أتاه علي فخرج فقال علي : يا ابن عمي إن كنت صادقا فغفر الله لي وإن كنت كاذبا فغفر الله لك السلام عليك ، قال : فالتزمه حسن وبكى حتى رثى له .
(11) خشوع على زين العابدين في الصلاة وعدم التفاته :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أبي نوح الأنصاري قال وقع حريق في بيت فيه علي بن الحسين وهو ساجد فجعلوا يقولون يا ابن رسول الله النار فما رفع رأسه حتى طفئت فقيل له في ذلك فقال ألهتني عنها النار الأخرى .
(12) منابذة على زين العابدين لأهل الأهواء :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن يحيى بن سعيد عن علي يا أهل العراق أحبونا حب الإسلام ولا تحبونا حب الأصنام فما زال بنا حبكم حتى صار علينا شينا .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن جعفر بن محمد عن أبيه قال جاء رجل إلى أبي فقال أخبرني عن أبي بكر ؟ قال :عن الصديق تسأل ؟ قال: وتسميه الصديق ؟ قال : ثكلتك أمك قد سماه صديقا من هو خيرا مني رسول الله .
(13) استعفاف على زين العابدين رحمه الله :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن جويرية بن أسماء ماأكل علي بن الحسين بقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم درهما قط .(2/413)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن المقبري قال بعث المختار إلى علي بن الحسين بمئة ألف فكره أن يقبلها وخاف أن يردها فاحتبسها عنده فلما قتل المختار بعث يخبر بها عبد الملك وقال ابعث من يقبضها فأرسل إليه عبد الملك يا ابن العم خذها قد طيبتها لك فقبلها .
وفاة على زين العابدين رحمه الله :
[*] قال عنه الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء :
قال الواقدي وأبو عبيد والبخاري والفلاس مات سنة أربع وتسعين وروي ذلك عن جعفر الصادق وقال يحيى أخو محمد بن عبد الله بن حسن مات في رابع عشر ربيع الأول ليلة الثلاثاء سنة أربع وقال أبو نعيم وشباب وتوفي سنة اثنتين وتسعين وقال معن بن عيسى سنة ثلاث وقال يحيى بن بكير سنة خمس وتسعين والأول الصحيح قال أبو جعفر الباقر عاش أبي ثمانيا وخمسين سنة .
قال الذهبي رحمه الله : قلت قبرة بالبقيع ولا بقية للحسين إلا من قبل ابنه زين العابدين .
سيرة سعيد بن جبير رحمه الله :
اسم سعيد بن جبير ومولده وصفته :
اسمه : سعيد بن جبير بن هشام الأسدي الوالبي مولاهم أبو محمد ويقال: أبو عبد الله الإمام الحافظ المقرئ المفسر الشهيد أحد الأعلام.
مولده : لم يصرح أحد من المترجمين بميعاد مولده، وصرحوا بأن مقتله في شعبان سنة خمس وتسعين، وقد قال لابنه ما بقاء أبيك بعد سبعة وخمسين، وعلى ذلك يكون ميلاده سنة ثمانية وثلاثين من الهجرة، وقد صرح الذهبي، بأن ميلاده في خلافة أبي الحسن علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وقال بعضهم: له تسع وأربعون، فيكون ميلاده سنة ست وأربعين.
[*] مناقب سعيد بن جبير :
كان سعيد بن جبير رحمه الله من أئمة التابعين ، من أئمة الهدى وأعلام التقى ومصابيح الدجى ، من حلية الأولياء وأعلام النبلاء ، من الأضواء اللامعة والنجوم الساطعة .
وهاك غَيْضٍ من فيض ونقطةٍ من بحر مما ورد في مناقبه رحمه الله تعالى :
أولاً مناقب سعيد بن جبير جملةً :(2/414)
(1) ثناء العلماء على سعيد بن جبير :
(2) اجتهاد سعيد بن جبير في العبادة :
(3) بكاء سعيد بن جبير وخشيته رحمه الله :
(4) سعيد بن جبير مستجاب الدعاء :
(5) حرص سعيد بن جبير على صلاح ولده :
(6) حرص سعيد بن جبير على طلب العلم :
(7) حرص سعيد بن جبير على نشر العلم :
(8) صدق توكل سعيد بن جبير على الله :
(9) ذكر سعيد بن جبير للموت :
(10) رؤية سعيد بن جبير أن عُمْرَ الإنسان غنيمة :
(11) من دُررِ مواعظ سعيد بن جبير :
(12) شدة بلاء سعيد بن جبير في جنب الله تعالى :
ثانياً مناقب سعيد بن جبير تفصيلا :
(1) ثناء العلماء على سعيد بن جبير :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ
[*] قال عنه الحافظ أبو نعيم ٍفي حلية الأولياء :
قال الشيخ رحمه الله تعالى : ومنهم الفقيه البكاء، والعالم الدعاء، السعيد الشهيد، السديد الحميد، أبو عبد الله جبير بن سعيد.
[*] وقال عنه الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء :
سعيد بن جبير ابن هشام الإمام الحافظ المقرئ المفسر الشهيد أبو محمد ويقال أبو عبد الله الأسدي الوالبي مولاهم الكوفي أحد الأعلام .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن جعفر بن أبي المغيرة قال : كان ابن عباس إذا أتاه أهل الكوفة يستفتونه يقول أليس فيكم ابن أم الدهماء يعني سعيد بن جبير .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن سعيد بن جبير قال سأل رجل ابن عمر عن فريضة فقال ائت سعيد بن جبير فإنه أعلم بالحساب مني وهو يفرض فيها ما أفرض .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عمرو بن ميمون عن أبيه قال لقد مات سعيد بن جبير وما على ظهر الأرض أحدا إلا وهو محتاج إلى علمه .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن سعيد بن جبير أنه كان لا يدع أحدا يغتاب عنده .(2/415)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن خصيف قال كان أعلمهم بالقرآن مجاهد وأعلمهم بالحج عطاء وأعلمهم بالحلال والحرام طاووس وأعلمهم بالطلاق سعيد بن المسيب وأجمعهم لهذه العلوم سعيد بن جبير.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أشعث بن إسحاق قال كان يقال سعيد بن جبير جهبذ العلماء .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن علي بن المديني قال ليس في أصحاب ابن عباس مثل سعيد بن جبير قيل ولا طاووس قال ولا طاووس ولا أحد .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن مجاهد قال ابن عباس لسعيد بن جبير حدث قال أحدث وأنت ها هنا قال أوليس من نعمة الله عليك أن تحدث وأنا شاهد فإن أصبت فذاك وإن أخطأت علمتك .
[*] قال ابن حبان في كتاب الثقات : كان فقيها عابدا فاضلا ورعا .
[*] قال الإمام أحمد : قتل الحجاج سعيد بن جبير وما على وجه الأرض أحد إلا وهو مفتقر إلى علمه .
[*] قال أبو القاسم الطبري : هو ثقة إمام حجة على المسلمين .
[*] قيل للحسن البصري : إن الحجاج قد قتل سعيد بن جبير . فقال : اللهم ايت على فاسق ثقيف والله لو أن أهل الأرض اشتركوا في قتله لكبهم الله في النار .
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن هلال بن خباب، قال: خرجت مع سعيد ابن جبير في أيام مضين من رجب، فأحرم من الكوفة بعمرة ثم رجع من عمرته، ثم أحرم بالحج في النصف من ذي القعدة، وكان يخرج كل سنة مرتين مرة للحج ومرة للعمرة.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن إسحاق مولى عبد الله ابن عمر بن هلال بن يساف، قال: دخل سعيد بن جبير الكعبة، فقرأ القرآن في ركعة.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن ورقاء، قال: كان سعيد بن جبير يختم القرآن فيما بين المغرب والعشاء في شهر رمضان.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سعيد بن جبير: أنه كان يختم القرآن في كل ليلتين.(2/416)
(2) اجتهاد سعيد بن جبير في العبادة :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
كان سعيد بن جبير كثير العبادة لله، فكان يحج مرة ويعتمر مرة في كل سنة، ويقيم الليل، ويكثر من الصيام، وربما ختم قراءة القرآن كل ليلتين .
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن هلال بن خباب، قال: خرجت مع سعيد ابن جبير في أيام مضين من رجب، فأحرم من الكوفة بعمرة ثم رجع من عمرته، ثم أحرم بالحج في النصف من ذي القعدة، وكان يخرج كل سنة مرتين مرة للحج ومرة للعمرة.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن إسحاق مولى عبد الله ابن عمر بن هلال بن يساف، قال: دخل سعيد بن جبير الكعبة، فقرأ القرآن في ركعة.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن ورقاء، قال: كان سعيد بن جبير يختم القرآن فيما بين المغرب والعشاء في شهر رمضان.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سعيد بن جبير: أنه كان يختم القرآن في كل ليلتين.
[*] أورد ابن سعد في الطبقات عن سعيد بن جبير أنه كان ينكر أن يتكفأ الرجل في صلاته، قال: وما رأيته قط يصلي إلا وكأنه وَتَد .
[*] أورد المزي في تهذيب الكمال عن سعيد بن جبير: إني لا أزيد في صلاتي من أجل ابني هذا. قال هشام: رجاء أن يحفظ فيه .
اجتهاد سعيد بن جبير في العبادة في عشر ذي الحجة :
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أبي حريز أن سعيد بن جبير قال لا تطفئوا سرجكم ليالي العشر تعجبه العبادة ويقول أيقظوا خدمكم يتسحرون لصوم يوم عرفة .
(3) بكاء سعيد بن جبير وخشيته رحمه الله :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أبي أيوب الأعرج ، قال: كان سعيد بن جبير يبكي بالليل حتى عمش.(2/417)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عن سعيد بن جبير قال إنه الخشية أن تخشى الله حتى تحول خشيتك بينك وبين معصيتك فلتلك الخشية والذكر طاعة الله فمن أطاع الله فقد ذكره ومن لم يطعه فليس بذاكر وإن أكثر التسبيح وتلاوة القرآن .
(4) سعيد بن جبير مستجاب الدعاء :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أصبغ بن زيد، قال: كان لسعيد بن جبير ديك يقوم إلى الصلاة إذا صاح، فلم يصح ليلة من الليالي أصبح سعيد ولم يصل، قال: فشق ذلك عليه، فقال له: ماله ؟ قطع الله صوته، قال: ما سمع ذاك الديك يصيح بعدها، قالت له أمه: أي بني لا تدع على شيء بعدها.
(5) حرص سعيد بن جبير على صلاح ولده :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سعيد بن جبير: إني لأزيد في صلاتي من أجل ابني هذا. قال مخلد: قال هشام: رجاء أن يحفظ فيه.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سعيد بن جبير، في قوله تعالى: ( أَبُوهُمَا صَالِحاً ) [ الكهف : 82] . قال: كان يؤدي الأمانات والودائع إلى أهلها، فحفظ الله تعالى له كنزه حتى أدرك ولداه فاستخرجا كنزهما.
(6) حرص سعيد بن جبير على طلب العلم :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ
كان سعيد بن جبير من كبار التابعين، الذين ساروا على سنن الهدى، واقتفوا أثر النبي - صلى الله عليه وسلم - ،وكان الكتاب والسنة له كالجناحين للطائر يتمسك بهما ويَعُضُ عليهما بالنواجذ ، وكان رحمه الله من العلماء العاملين الرانين من أئمة الهدى وأعلام التقى ومصابيح الدُجى الذين باعوا الدنيا طلبًا للأخرى، وقد وثقه أهل العلم كافة، حتى قالوا في وصفه: ثقة إمام حجة على المسلمين .(2/418)
كان الناس يرونه ـ منذ نعومة أظفاره ـ إما عاكفًا على كتاب يتعلم، أو قائمًا في محراب يتعبد، فهو بين طلب العلم والعبادة، إما في حالة تعلم، أو في حالة تعبد ،
وُلِدَ سعيد بن جبير في زمن خلافة الإمام على بن أبي طالب - رضي الله عنه- بالكوفة، وقد نشأ سعيد محبًّا للعلم، مقبلاً عليه، ينهل من معينه، أخذ سعيد العلم عن طائفة من كبار الصحابة، من أمثال أبي سعيد الخدري ، و أبي موسى الأشعري ، وعبد الله بن عمر ، رضي اللَّه عنهم أجمعين، لكن يبقى عبد الله بن عباس ـ حبر هذه الأمة ـ هو المعلم الأول له .
لازم سعيد بن جبير عبد الله بن عباس ملازمة الظل لصاحبه،ومما يدل على صدق ملازمته لابن عباس وإقباله على العلم إقبال الظامئ على المورد العذب الأثر الآتي :
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن سعيد بن جبير قال ربما أتيت ابن عباس فكتبت في صحيفتي حتى أملأها وكتبت في نعلي حتى أملأها وكتبت في كفي .
قرأ سعيد بن جبير القرآن على ابن عباس، وأخذ عنه الفقه والتفسير والحديث، كما روى الحديث عن أكثر من عشرة من الصحابة، وتلقى عنه القراءات القرآنية الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرأ بها، وتفقّه على يديه في الدين، وتعلم منه علم التأويل، ، وقد بلغ رتبة في العلم لم يبلغها أحد من أقرانه،
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن خصيف قال كان أعلمهم بالقرآن مجاهد وأعلمهم بالحج عطاء وأعلمهم بالحلال والحرام طاووس وأعلمهم بالطلاق سعيد بن المسيب وأجمعهم لهذه العلوم سعيد بن جبير.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أشعث بن إسحاق قال كان يقال سعيد بن جبير جهبذ العلماء .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن علي بن المديني قال ليس في أصحاب ابن عباس مثل سعيد بن جبير قيل ولا طاووس قال ولا طاووس ولا أحد .(2/419)
وكان ابن عباس يجعل سعيدًا بن جبير يفتي وهو موجود، ولما كان أهل الكوفة يستفتونه، فكان يقول لهم: أليس منكم ابن أم الدهماء؟ يعني سعيد بن جبير .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن مجاهد قال ابن عباس لسعيد بن جبير حدث قال أحدث وأنت ها هنا قال أوليس من نعمة الله عليك أن تحدث وأنا شاهد فإن أصبت فذاك وإن أخطأت علمتك .
وعندما كانت إقامته في الكوفة، كان هو المرجع الأول في الفتوى، وعليه المعول في علم التفسير، لدرجة أن ابن عباس رضي الله عنهما كان يحيل إليه من يستفتيه، ويقول لأهل الكوفة إذا ما أتوه ليسألوه عن شيء: أليس فيكم ابن أم الدهماء ؟ يعني سعيد بن جبير - وكان حبشي الأصل - .
وعلى الرغم من مكانته العلمية التي كان يحظى بها، وخاصة معرفته الواسعة بتفسير كتاب الله، إلا أنه رحمه الله كان يتورع عن القول في التفسير برأيه ـ كما هو شأن السلف من الصحابة رضوان الله عليهم ـ ومما يروى عنه في هذا الشأن: أن رجلاً سأله أن يكتب له تفسيرًا للقرآن، فغضب، وقال له: لأن يسقط شِقِّي، أحب إليَّ من أن أفعل ذلك .
ولأجل ملازمة سعيد ابن جبير لـ ابن عباس رضي الله عنهما، ومكانته العلمية بين التابعين، فقد كانت أقواله مرجعًا أساسًا، ومنهلاً عذبًا لأهل التفسير، يرجعون إليها، ويغترفون من معينها في تفسير كثير من آيات الذكر الحكيم ، ودونك ما تيسر من أقواله في التفسير:
عن سعيد بن جبير في قوله تعالى :(يَعِبَادِيَ الّذِينَ آمَنُوَاْ إِنّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ ) [ العنكبوت : 56] قال: إذا عمل في أرض بالمعاصي فخرجوا .
عن سعيد بن جبير في قوله عز وجل : (فَاذْكُرُونِيَ أَذْكُرْكُمْ ) [ البقرة : 152]
قال: أذكروني بطاعتي أذكركم بمغفرتي .
عن سعيد بن جبير في قوله تعالى: (وَنَكْتُبُ مَاَ قَدّمُواْ وَآثَارَهُمْ ) [ يس : 12]،
قال: ما سنوا .(2/420)
عن سعيد بن جبير في قوله تعالى: ( وَقَدْ كَانُواْ يُدْعَوْنَ إِلَى السّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ) [ القلم : 43] قال: الصلاة في الجماعة .
عن سعيد بن جبير في قوله تعالى : ( أُوْلِي الأيْدِي وَالأبْصَارِ) [ ص : 45]
قال: الأيدي: القوة في العلم، والبصر فيما هم فيه من أمر دينهم .
عن سعيد بن جبير : ( لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ) [ القيامة : 5]
قال: يقول: سوف أتوب .
عن سعيد بن جبير في قوله عز وجل: ( (وَلاَ تَرْكَنُوَاْ إِلَى الّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسّكُمُ النّارُ ) [ هود : 113] قال: لا ترضوا أعمالهم .
وقد وَثَّقَ علماء الجرح والتعديل سعيداً ، وروى عنه أصحاب الكتب الستة وغيرهم من أصحاب الحديث.
[*] قال ابن حبان في كتاب الثقات: كان فقيهًا، عابدًا، فاضلاً، ورعًا .
(7) حرص سعيد بن جبير على نشر العلم :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن حبيب بن أبي ثابت قال لي سعيد بن جبير لأن أنشر علمي أحب إلي من أن أذهب به إلى قبري .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن سعيد بن جبير قال وددت الناس أخذوا ما عندي فإنه مما يهمني .
(8) صدق توكل سعيد بن جبير على الله :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن سعيد بن جبير قال التوكل على الله جماع الإيمان وكان يدعو اللهم إني أسألك صدق التوكل عليك وحسن الظن بك.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن موسى بن رافع قال: دخلت على سعيد بن جبير بمكة، وقد أخذه صداع شديد، فقال له رجل ممن عنده: هل لك أن نأتيك برجل يرقيك من هذه الشقيقة؟ قال: لا حاجة لي في الرقى .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن سعيد بن جبير قال: لدغتني عقرب فأقسمت عَلَى أمي أن أسترقي، فأعطيت الراقي يدي التي لم تلدغ وكرهت أن أحنثها .(2/421)
(9) ذكر سعيد بن جبير للموت :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن سعيد بن جبير قال لو فارق ذكر الموت قلبي لخشيت أن يفسد علي قلبي.
(10) رؤية سعيد بن جبير أن عُمْرَ الإنسان غنيمة :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عمرو بن ذر كتب سعيد بن جبير إلى أبي كتابا أوصاه بتقوى الله وقال إن بقاء المسلم كل يوم غنيمة فَذَكَرَ الفرائض والصلوات وما يرزقه الله من ذكره .
(11) من دُررِ مواعظ سعيد بن جبير :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عمر بن ذر، قال: قرأت كتاب سعيد بن جبير: اعلم أن كل يوم يعيشه المؤمن غنيمة.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن هلال بن خباب، قال: قلت لسعيد ابن جبير: ما علامة هلاك الناس قال: إذا ذهب أو هلك علماؤهم.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سعيد، قال: لو فارق ذكر الموت قلبي، خشيت أن يفسد علي قلبي.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سعيد بن جبير، قال: لقيني راهب، فقال: يا سعيد في الفتنة يتبين من يعبد الله ممن يعبد الطاغوت.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عمر بن ذر، قال: كتب سعيد بن جبير إلى أبي كتاباً أوصاه فيه بتقوى الله، وقال: يا أبا عمر أن بقاء المسلم كل يوم غنيمة، وذكر الفرائض والصلوات وما يرزقه الله من ذكره.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سعيد بن جبير، قال: لا تطفئوا سراجكم ليالي العشر، تعجبه العبادة، ويقول: أيقظوا خدمكم يتسحرون لصوم يوم عرفة.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سعيد بن جبير، يقول: ما زال البلاء بأصحابي حتى رأيت أن ليس لله في حاجة، حتى نزل بي البلاء.(2/422)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سعيد بن جبير، قال: وددت أن الناس أخذوا ما عندي من العلم فإنه مما يهمني.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سعيد بن جبير، قال: كان يقال: طول الرجل من أهل الجنة تسعون ميلاً، وطول المرأة ثمانون ميلاً، وجلستها جريب، وإن شهوته تجري في جسده سبعين عاماً يجد لذتها.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سعيد بن جبير، في قوله تعالى: ولا يشرك بعبادة ربه أحداً . الكهف 110 . قال: لا يرائي بعبادة ربه أحداً.
(12) شدة بلاء سعيد بن جبير في جنب الله تعالى :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ(2/423)
كان سعيد بن جبير رحمه الله تعالى مناهضاً للحجاج بن يوسف الثقفي أحد أمراء بني أمية، لأنه يري الدماء تسفك وآلاف الناس تعيش بين أسوار السجون والمعتقلات بلا جريرة علي يد الحجاج، الذي كان يعتبر نفسه الدرع الواقي للدولة الأموية، والخادم المطيع لخلفائها من بني مروان، فكان من الطبيعي أن يثور عليه رجل مثل التابعي الجليل سعيد بن جبير، فهو يري مظالمه، ويري فحشه، ويري أخذه الناس بالشبهات، تابع سعيد بن جبير ابن الأشعث عندما خرج على الحجاج، ودعا الناس إلى قتال الحجاج لجوره، وتجبره، وإماتة الصلاة، واستذلال المسلمين، فلما انهزم ابن الأشعث فر سعيد بن جبير إلى مكة، وظل مختفياً اثنتي عشرة سنة، ثم ظفر به الحجاج في السنة التي هلك فيها، لما أراده الله عز وجل للحجاج الثقفي لعنة الله على الظالمين من سوء الخاتمة، وكذا لسوق السعادة والشهادة بن جبير، فقتله أشنع قتلة وهو صابر محتسب، راغب في فضل الله عز وجل والجنة، فنسأل الله عز وجل أن يرفعه فوق كثير من خلقه لصبره وعبادته، وبذله وشهادته ، والغريب أن أحد الجنود حاول أن يقوم بتهريب سعيد بن جبير.. أو بمعني أدق أن يمهد له طريق الهرب، ولكن سعيد رفض ذلك، وقرر أن يواجه الطاغية، حتى لو كانت في مواجهته النهاية المحتومة ، فقد روي المؤرخون أن سعيد بن جبير كان ينهي الحجاج عن الظلم والبطش، كان ينصح الناس بمخالفته وبالوقوف في وجهه، وضاق الحجاج ذرعا بتصرفات سعيد رحمه الله فاستدعاه ودارت بينهما مناقشة طويلة تدل علي قوة إيمان سعيد، وصدق يقينه، وثبات جنانه وشجاعته في الحق.
، ولما قبض الحجاج على سعيد بن جبير وجدَ الحجاج سعيد بن جبير جبلاً راسياً شامخاً لم ينحني إلا لخالقه سبحانه ، روت كتب السير قصة بلاؤه منها ما يلي :(2/424)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أبي حصين قال رأيت سعيد بمكة فقلت إن هذا قادم يعني خالد بن عبد الله ولست آمنه عليك قال والله لقد فررت حتى استحييت من الله قلت طال اختفاؤه فإن قيام القراء على الحجاج كان في سنة اثنتين وثمانين وما ظفروا بسعيد إلى سنة خمس وتسعين السنة التي قلع الله فيها الحجاج .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن يزيد بن أبي زياد قال أتينا سعيدا فإذا هو طيب النفس وبنته في حجره فبكت وشيعناه إلى الجسر فقال الحرس له أعطنا كفيلا فإنا نخاف أن تغرق نفسك قال فكنت فيمن كفل به قال أبو بكر فبلغني أن الحجاج قال ائتوني بسيف عريض قال سليمان التيمي كان الشعبي يرى التقية وكان ابن جبير لا يرى التقية وكان الحجاج إذا أتى بالرجل يعني ممن قام عليه قال له أكفرت بخروجك علي فإن قال نعم خلى سبيله فقال لسعيد أكفرت قال لا قال اختر أي قتلة أقتلك قال اختر أنت فإن القصاص أمامك .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عتبة مولى الحجاج قال حضرت سعيدا حين أتى به الحجاج بواسط فجعل الحجاج يقول ألم أفعل بك ألم أفعل بك فيقول بلى قال فما حملك على ما صنعت من خروجك علينا قال بيعة كانت علي يعني لابن الأشعث فغضب الحجاج وصفق بيديه وقال فبيعة أمير المؤمنين كانت أسبق وأولى وأمر به فضربت عنقه، وقيل لو لم يواجهه سعيد بن جبير بهذا لاستحياه كما عفا عن الشعبي لما لا طفه في الاعتذار .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عن داود بن أبي هند قال لما أخذ الحجاج سعيد بن جبير قال ما أراني إلا مقتولا وسأخبركم إني كنت أنا وصاحبان لي دعونا حين وجدنا حلاوة الدعاء ثم سألنا الله الشهادة فكلا صاحبي رزقها وأنا أنتظرها قال فكأنه رأى أن الإجابة عند حلاوة الدعاء .(2/425)
[*] قال الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء : قلت ولما علم من فضل الشهادة ثبت للقتل ولم يكترث ولا عامل عدوه بالتقية المباحة له رحمه الله تعالى .
قصة قتل سعيد بن جبير رحمه الله تعالى :
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سالم بن أبي حفصة، قال: لما أتى سعيد بن جبير الحجاج ؟ قال: أنت شقي بن كسير؟ قال: أنا سعيد بن جبير، قال: لأقتلنك، قال: أنا إذاً كما سمتني أمي، ثم قال: دعوني أصلي ركعتين، قال: وجهوه إلى قبلة النصارى، قال: فأينما تولوا فثم وجه الله، ثم قال: إني أستعيذ منك بما عاذت به مريم، قال: وما عاذت به مريم، قال: قالت: (قَالَتْ إِنّيَ أَعُوذُ بِالرّحْمََنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً) [مريم: 18]، قال سفيان: لم يقتل بعد سعيد بن جبير إلا رجلاً واحداً.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عتيبة مولى الحجاج، قال: حضرت سعيد بن جبير حين أتى الحجاج بواسط، فجعل الحجاج يقول له: ألم أفعل بك ؟ ألم أفعل بك ؟ فيقول: بلى، فيقول: فما حملك على ما صنعت من خروجك علينا، قال: بيعة كانت علي، فغضب الحجاج وصفق بيده، وقال: فبيعة أمير المؤمنين كانت أسبق وأولى أن تفي بها، وأمر به فضربت عنقه.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عن خلف بن خليفة، عن أبيه، قال: شهدت مقتل سعيد بن جبير، لما بان رأسه قال: لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، ثم قالها الثالثة فلم يتمها.(2/426)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن يحيى بن سعيد، عن كاتب للحجاج يقال له يعلى، قال مالك: وهو أخ لأم سلمة الذي كان على بيت المال، قال: كنت أكتب للحجاج وأنا يومئذ غلام حديث السن يستخفني ويستحسن كتابتي، فأدخل عليه بغير إذن فدخلت عليه يوماً بعد مقتل سعيد بن جبير وهو في قلبة لها أربعة أبواب، دخلت عليه مما يلي ظهره فسمعته يقول: مالي وسعيد بن جبير ؟ فخرجت رويداً وعلمت أنه لو علم بي لقتلني، لم ينشب الحجاج بعد ذلك إلا يسيراً.(2/427)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عون بن أبي شداد العبدى قال: بلغني أن الحجاج بن يوسف لما ذكر له سعيد بن جبير، أرسل إليه قائداً من أهل الشام من خاصة أصحابه يسمى الملتمس بن الأحوص، ومعه عشرون رجلاً من أهل الشام من خاصة أصحابه، فبينما هم يطلبونه إذا هم براهب في صومعة له سألوه عنه، فقال الراهب: صفوه لي فوصفوه له فدلهم عليه، فانطلقوا فوجدوه ساجداً يناجي بأعلى صوته، فدنوا منه فسلموا عليه فرفع رأسه فأتم بقية صلاته ثم رد عليهم السلام، فقالوا: إنا رسل الحجاج إليك فأجبه، قال: ولابد من الإجابة ؟ قالوا: لابد من الإجابة، فحمد الله وأثنى عليه وصلى على نبيه، ثم قام فمشى معهم حتى انتهوا إلى دير الراهب، فقال الراهب: يا معشر الفرسان أصبتم صاحبكم ؟ قالوا: نعم، فقال لهم: اصعدوا الدير فإن اللبوة والأسد يأويان حول الدير، فعجلوا قبل المساء، ففعلوا ذلك وأبى سعيد أن يدخل الدير، فقالوا: ما نراك إلا وأنت تريد الهرب منا، قال: لا، ولكن لا أنزل منزل مشرك أبداً، قالوا: فإنا لا ندعك فإن السباع تقتلك، قال سعيد: لا ضير أن معي ربي فيصرفها عني ويجعلها حرساً حولي يحرسونني من كل سوء إن شاء الله، قالوا: فأنت من الأنبياء ؟ قال: ما أنا من الأنبياء ولكن عبد من عبيد الله خاطئ مذنب، قال الراهب: فليعطني ما أثق به على طمأنينته، فعرضوا على سعيد أن يعطي الراهب ما يريد، قال سعيد: إني أعطي العظيم الذي لا شريك له لا أبرح مكاني حتى أصبح إن شاء الله، فرضي الراهب ذلك، فقال لهم: أصعدوا واوتروا القسي لتنفروا السباع عن هذا العبد الصالح، فإنه كره الدخول علي في الصومعة لمكانكم، لما صعدوا واوتروا القسي إذا هم بلبوة قد أقبلت، فلما دنت من سعيد تحاكت به وتمسحت به ثم ربضت قريباً منه، وأقبل الأسد وصنع مثل ذلك، فما رأى الراهب ذلك وأصبحوا نزل إليه، فسأله عن شرائع دينه وسنن رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، ففسر له سعيد ذلك كله،(2/428)
فأسلم الراهب وحسن إسلامه، وأقبل القوم على سعيد يعتذرون إليه ويقبلون يديه ورجليه ويأخذون التراب الذي وطئه بالليل فصلوا عليه، فيقولون: يا سعيد قد حلفنا الحجاج بالطلاق والعتاق إن نحن رأيناك لا ندعك حتى نشخصك إليه، فمرنا بما شئت، قال: امضوا لأمركم فإني لائذ بخالقي ولا راد لقضائه، فساروا حتى بلغوا واسطاً، فلما انتهوا إليها، قال لهم سعيد: يا معشر القوم قد تحرمت بكم وصحبتكم ولست أشك أن أجلي قد حضر، وإن المدة قد انقضت، دعوني إليه أخذ أهبة الموت، وأستعد لمنكر ونكير وأذكر عذاب القبر وما يحثى علي من التراب، فإذا أصبحتم فالميعاد بيني وبينكم الموضوع الذي تريدون، قال بعضهم: لا نريد أثراً بعد عين، وقال بعضهم: قد بلغتم أملكم واستوجبتم جوائزكم من الأمير فلا تعجزوا عنه، فقال بعضهم، يعطيكم ما أعطى الراهب ويلكم، أما لكم عبرة بالأسد كيف تحاكت به وتمسحت به وحرسته إلى الصباح، فقال بعضهم: هوعلي أدفعه إليكم إن شاء الله، فنظروا إلى سعيد قد دمعت عيناه وشعث رأسه واغبر لونه، ولم يأكل ولم يشرب ولم يضحك منذ يوم لقوه وصحبوه، فقالوا بجماعتهم: يا خير أهل الأرض ليتنا لم نعرفك ولم نسرح إليك? الويل لنا ويلاً طويلاً كيف ابتلينا بك، اعذرنا عند خالقنا يوم الحشر الأكبر، فإنه القاضي الأكبر والعدل الذي لا يجور، فقال سعيد: ما أعذرني لكم وأرضاني لما سبق من علم الله تعالى في، فلما فرغوا من البكاء والمجاوبة والكلام بما بينهم، قال كفيله: أسألك بالله يا سعيد لما زودتنا من دعائك وكلامك، فإنا لن نلقى مثلك أبداً ولا نرى أنا نلتقي إلى يوم القيامة، قال: ففعل ذلك سعيد فخلوا سبيله، فغسل رأسه ومدرعته وكساءه وهم مختفون الليل كله ينادون بالويل واللهف، فلما انشق عمود الصباح جاءهم سعيد بن جبير فقرع الباب، فقالوا: صاحبكم ورب الكعبة، فنزلوا إليه وبكوا معه طويلاً، ثم ذهبوا به إلى الحجاج وآخر معه، فدخلا إلى الحجاج، فقال الحجاج: أتيتموني(2/429)
بسعيد بن جبير، قالوا: نعم، وعاينا منه العجب فصرف بوجه عنهم، قال: أدخلوه علي، فخرج المتلمس، فقال لسعيد: أستودعتك الله وأقرأ عليك السلام، قال: فأدخل عليه، قال له: ما اسمك ؟ قال: سعيد بن جبير، قال:
أنت الشقي بن كسير، قال: بل كانت أمي أعلم باسمي منك، قال: شقيت أنت وشقيت أمك، قال: الغيب يعلمه غيرك، قال: لأبدلنك بالدنيا ناراً تلظى، قال: لو علمت أن ذلك بيدك لاتخذتك ألهاً: قال: ممما قولك في محمد ؟ قال: نبي الرحمة إمام الهدى عليه الصلاة والسلام، قال: فما قولك في علي في الجنة هو أو في النار ؟ قال: لو دخلتها رأيت أهلها عرفت من بها، قال: فما قولك في الخلفاء ؟ قال: لست عليهم بوكيل، قال: فأيهم أعجب إليك ؟ قال: أرضاهم لخالقي، قال: فأيهم أرضى للخالق ؟ قال: علم ذلك عند الذي يعلم سرهم ونجواهم، قال: أبيت أن تصدقني، قال: إني لم أحب أن أكذبك، قال: ما بالك لم تضحك ؟ قال: وكيف يضحك مخلوق خلق من الطين والطين تأكله النار، قال: ما بالنا نضحك ؟ قال: لم تستو القلوب، قال: ثم أمر باللؤلؤ والزبرجد والياقوت فجمعه بين يدي سعيد بن جبير، فقال له سعيد: إن كنت جمعت هذه لتفتدي به من فزع يوم القيامة فصالح، وإلا ففزعة واحدة تذهل كل مرضعة عما أرضعت، ولا خير في شيء جمع للدنيا إلا ما طاب وزكا، ثم دعا الحجاج بالعود والناي، فلما ضرب بالعود ونفخ بالناي، بكى سعيد بن جبير، قال له: ما يبكيك ؟ هو اللهو ؟ قال سعيد: بل هو الحزن، أما النفخ فقد ذكرني يوماً عظيماً يوم نفخ في الصور، وأما العود فشجرة قطعت في غير حق، وأما الأوتار فإنها معاء الشاء يبعث بها معك يوم القيامة، قال الحجاج: ويلك يا سعيد، فقال سعيد: الويل لمن زحزح عن الجنة وأدخل النار، قال الحجاج: اختر يا سعيد، أي قتلة تريد أن أقتلك ؟ قال: اختر لنفسك يا حجاج فو الله ما تقتلني قتلة إلا قتلك الله مثلها في الآخرة، قال: أفتريد أن أعفو عنك ؟ قال: إن كان العفو فمن الله، وأما(2/430)
أنت فلا براءة لك ولا عذر، قال: اذهبوا به فاقتلوه، فلما خرج من الباب ضحك، فأخبر الحجاج بذلك فأمر برده، فقال: ما أضحكك ؟ قال: عجبت من جراءتك على الله وحلم الله عنك، فأمر بالنطع فبسط، فقال: اقتلوه، قال سعيد: وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً مسلماً، وما أنا من المشركين، قال: شدوا به لغير القبلة، قال سعيد: أينما تولوا فثم وجه الله، قال: كبوه لوجهه، قال سعيد: منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى قال الحجاج، اذبحوه، قال سعيد: أما إني أشهد وأحاج أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، خذها مني حتى تلقاني يوم القيامة، ثم دعا سعيد الله، فقال: اللهم لا تسلطه على أحد يقتله بعدي، فذبح على النطع رحمه الله، قال: وبلغنا أن الحجاج عاش بعده خمسة عشر ليلة، ووقع الأكلة في بطنه، فدعا بالطبيب لينظر إليه، ثم دعا بلحم منتن، فعلقه في خيط ثم أرسله في حلقه فتركها ساعة ثم استخرجها وقد لزق به من الدم، فعلم أنه ليس بناج، وبلغنا أنه كان ينادي بقية حياته: مالي ولسعيد بن جبير، كلما أردت النوم أخذ برجلي.(2/431)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الحسن، قال: لما أتى الحجاج بسعيد بن جبير، قال: أنت الشقي ابن كسير ؟ قال: بل أنا سعيد بن جبير، قال: بل أنت الشقي ابن كسير، قال: كانت أمي أعرف باسمي منك، قال: ما تقول في محمد ؟ قال: تعني النبي صلى الله عليه وسلم، قال: نعم، قال: سيد ولد آدم النبي المصطفى خير من بقي وخير من مضى، قال: فما تقول في أبي بكر ؟ قال: الصديق خليفة الله مضى حميداً وعاش سعيداً، مضى على منهاج نبيه صلى الله عليه وسلم لم يغير ولم يبدل، قال: فما تقول في عمر ؟ قال: عمر الفاروق خيرة الله وخيرة رسوله، مضى حميداً على منهاج صاحبيه لم يغير ولم يبدل، قال: ما تقول في عثمان ؟ قال: المقتول ظلماً المجهز جيش العسرة، الحافر بئر رومة، المشتري بيته في الجنة، صهر رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابنتيه، زوجه النبي بوحي من السماء، قال: فما تقول في علي ؟ قال: ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأول من أسلم وزوج فاطمة وأبو الحسن والحسين، قال: فما تقول في معاوية ؟ قال: أنت أعلم ونفسك، قال: بت بعلمك، قال: إذا يسؤك ولا يسرك، قال: بت بعلمك، قال: اعفني، قال: لا عفا الله عني أن أعفيتك، قال: إني لأعلم أنك مخالف لكتاب الله تعالى، ترى من نفسك أموراً تريد بها الهيبة وهي تقحمك الهلكة، وسترد غداً فتعلم، قال: أما والله لأقتلنك قتلة لم أقتلها أحداً قبلك، ولا أقتلها أحداً بعدك، قال: إذا تفسد على دنياي وأفسد عليك آخرتك، قال: يا غلام، السيف والنطع، قال: فلما ولى ضحك، قال: أليس قد بلغني إنك لم تضحك ؟ قال: وقد كان ذلك، قال: فما أضحكك عند القتل ؟ قال: من جراءتك على الله ومن حلم الله عنك، قال يا غلام اقتله، فاستقبل القبلة وقال: وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً مسلماً وما أنا من المشركين، فصرف وجهه عن القبلة، قال: فأينما تولوا فثم وجه الله، قال: اضرب به الأرض، قال: منها خلقناكم وفيها نعيدكم(2/432)
ومنها نخرجكم تارة أخرى، قال: اذبح عدو الله فما أنزعه لآيات القرآن منذ اليوم.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن داود بن أبي هند، قال: لما أخذ الحجاج سعيد بن جبير، قال: ما أراني إلا مقتولاً، وسأخبركم أني كنت أنا وصاحبين لي دعونا حين وجدنا حلاوة الدعاء، ثم سألنا الله الشهادة فكلا صاحبي رزقها وأنا أنتظرها، قال: فكأنه رأى أن الإجابة، عند حلاوة الدعاء.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عمرو بن سعيد، قال: دعا سعيد بن جبير ابنه حين دعا ليقتل ، فجعل ابنه يبكي، فقال: ما يبكيك ؟ ما بقاء أبيك بعد سبع وخمسين سنة.
[*] وقفات مع الحوار الذي دار بين سعيد بن جبير والحجاج :
وهب سعيد حياته للإسلام، ولم يَخْشْ إلا الله، ولد في الكوفة، يفيد الناس بعلمه النافع، ويفقه الناس في أمور دينهم ودنياهم، فقد كان إمامًا عظيمًا من أئمة الفقه في عصر الدولة الأموية، حتى شهد له عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- بالسبق في الفقه والعلم، فكان إذا أتاه أهل مكة يستفتونه يقول: أليس فيكم ابن أم الدهماء (يقصد سعيد بن جبير، وكان سعيد بن جبير يملك لسانًا صادقًا وقلبًا حافظًا، لا يهاب الطغاة، ولا يسكت عن قول الحق، فالساكت عن الحق شيطان أخرس، فألقى الحجاج بن يوسف القبض عليه بعد أن لفق له تهمًا كاذبة، وعقد العزم على التخلص منه، لم يستطع الحجاج أن يسكت لسانه عن قول الحق بالتهديد أو التخويف، فقد كان سعيد بن جبير مؤمنًا قوي الإيمان، يعلم أن الموت والحياة والرزق كلها بيد الله، ولا يقدر عليه أحد سواه.(2/433)
اتبع الحجاج مع سعيد بن جبير طريقًا آخر، لعله يزحزحه عن الحق، أغراه بالمال والدنيا، وضع أموالا كثيرة بين يديه، فما كان من هذا الإمام الجليل إلا أن أعطى الحجاج درسًا قاسيًا، فقال: إن كنت يا حجاج قد جمعت هذا المال لتتقي به فزع يوم القيامة فصالح، وإلا ففزعة واحدة تذهل كل مرضعة عما أرضعت. لقد أفهمه سعيد أن المال هو أعظم وسيلة لإصلاح الأعمال وصلاح الآخرة، إن جمعه صاحبه بطريق الحلال لاتِّقاء فزع يوم القيامة (يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ * إِلاّ مَنْ أَتَى اللّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) [ الشعراء 88: 89].
ومرة أخرى تفشل محاولات الحجاج لإغراء سعيد، فهو ليس من عباد الدنيا ولا ممن يبيعون دينهم بدنياهم، وبدأ الحجاج يهدد سعيدًا بالقضاء عليه، ودار هذا المشهد بينهما :
الحجاج: ويلك يا سعيد!
سعيد: الويل لمن زحزح عن الجنة وأدخل النار.
الحجاج: أي قتلة تريد أن أقتلك؟
سعيد: اختر لنفسك يا حجاج، فو الله ما تقتلني قتلة إلا قتلتك قتلة في الآخرة.
الحجاج: أتريد أن أعفو عنك؟
سعيد: إن كان العفو فمن الله، وأما أنت فلا براءة لك ولا عُذر .
الحجاج: اذهبوا به فاقتلوه. فلما خرجوا ليقتلوه، بكي ابنه لما رآه في هذا الموقف، فنظر إليه سعيد وقال له: ما يبكيك؟ ما بقاء أبيك بعد سبع وخمسين سنة؟ وبكي أيضًا صديق له، فقال له سعيد: ما يبكيك؟
الرجل: لما أصابك.
سعيد: فلا تبك، كان في علم الله أن يكون هذا، ثم تلا:قوله تعالى : (مَآ أَصَابَ مِن مّصِيبَةٍ فِي الأرْضِ وَلاَ فِيَ أَنفُسِكُمْ إِلاّ فِي كِتَابٍ مّن قَبْلِ أَن نّبْرَأَهَآ ) [ الحديد : 22] [الحديد، ثم ضحك سعيد، فتعجب الناس وأخبروا الحجاج، فأمر بردِّه،
فسأله الحجاج: ما أضحكك؟
سعيد: عجبت من جرأتك على الله وحلمه عنك .
الحجاج: اقتلوه .
سعيد: (وَجّهْتُ وَجْهِيَ لِلّذِي فَطَرَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ حَنِيفاً وَمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [ الأنعام : 79](2/434)
الحجاج: وجهوه لغير القبلة.
سعيد: ( فَأَيْنَمَا تُوَلّواْ فَثَمّ وَجْهُ اللّهِ ) [ البقرة : 115]
الحجاج: كبوه على وجهه.
سعيد : (مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَىَ) [ طه : 55] الحجاج: اذبحوه.
سعيد: أما أنا فأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله، خذها مني يا حجاج حتى تلقاني بها يوم القيامة، ثم دعا سعيد ربه فقال: اللهم لا تسلطه على أحد يقتله بعدي، ومات سعيد شهيدًا في إحدى عشر رمضان سنة خمسٍ وتسعين هجرية ، وله من العمر سبع وخمسون سنة، مات ولسانه رطب بذكر الله .(2/435)
أمر الحجاج بن يوسف بفصل رأس سعيد بن جبير عن جسده بعد محاكمة صورية، وهنا يتضح أن للطغاة منطقهم الشاذ.. ولكنهم في غيبة الوعي السليم وفي حرمان من توفيق الله وعصمته يرتكبون من الآثام ما لا يمكن تصوره بالفعل، غير أنهم يدركون الحقيقة بعد فوات الأوان، وحين لا ينفع الندم، ولا يبقي أمامه إلا أن يواجه العقاب، وأشد ألوان العقاب ، هو عقاب الملك العلاّم الذي لا يغفل ولا ينام ، يوم يؤخذ بالنواصي والأقدام ، يعاقبه على هذا الإجرام جزاءاً بما ارتكبه من الرزايا والآثام ، فكل بني آدم مرده إلى الله مهما مررت السنون وانصرمت الأيام ، وعند الله تجتمه الخصوم ويُقْتَص من الظالم للمظلوم ، فيا أيها المظلوم يا صاحب الحقِ المهضوم يا من صار مَغْمُومَاً من جُرْحِهِ المَكْلُوم يا من كان غَيْظُهُ من الظلم مَكْتُوم يا من صار وَجُهُ من الأسى مَحْمُوم هَوِّنْ عَلَيْك يا أخي ، فإن الدنيا أمرها معلوم ، فهي للظالم لا تدوم سيقتَصُ الله لك من فِعله المشئوم وعند الله تَجْتَمِعُ الخصوم ويُقْتَصُ من الظَالِم للمَظلوم ، يقتصُ لجرحه المكلوم وحقهِ المهضوم ، يجتمعون عند الملك العزيزِ الوهَّاب ، فالمظلوم ينتظر النصر والظالم ينتظر العقاب ، تجتمعون عند العلي الكبير عند من يحاسب على الخطأ والتقصير ولا يظلم الفتيل والنقير.
استجابة دعوة سعيد بن جبير على الحجاج " اللهم اقصم أجله، ولا تسلطه علي أحد يقتله من بعدي"
وصعدت دعوة سعيد إلي السماء، فلقيت قبولا واستجابة من الله والواحد القهار، كيف لا والله تعالى يقول : (أَمّن يُجِيبُ الْمُضْطَرّ إِذَا دَعَاهُ [ النمل : 62] ، واسنة الصحيحة طافحةٌ بالدليل الأوفى على استجابة دعوة المظلوم ، منها ما يلي :(2/436)
( حديث ا بن عباس في الصحيحين ) قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمعاذٍ ابن جبل حين بعثه إلى اليمن : إنك ستأتي قوماً أهل كتاب ، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمسَ صلواتٍ في كل يومٍ وليلة ، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقةً تؤخذ من أغنيائهم فتُردُ على فقرائهم ، فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائمَ أموالهم ، واتقِ دعوةَ المظلومِ فإنه ليس بينه وبين الله حجاب .
الشاهد : قوله - صلى الله عليه وسلم - [ واتقِ دعوةَ المظلومِ فإنه ليس بينه وبين الله حجاب ]
(حديث خزيمة بن ثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : اتقوا دعوة المظلوم فإنها تُحْمَلُ على الغمام يقول الله : و عزتي و جلالي لأنصرنك و لو بعد حين .
( اتقوا دعوة المظلوم ) أي اجتنبوا دعوة من تظلمونه وذلك مستلزم لتجنب جميع أنواع الظلم على أبلغ وجه وأوجز إشارة وأفصح عبارة لأنه إذا اتقى دعاء المظلوم فهو أبلغ من قوله لا تظلم وهذا نوع شريف من أنواع البديع يسمى تعليقاً ثم بين وجه النهي بقوله .
( فإنها تُحمل على الغمام ) أي يأمر الله برفعها حتى تجاوز الغمام أي السحاب الأبيض حتى تصل إلى حضرته تقدس
( يقول الله وعزتي وجلالي لأنصرنك ) بلام القسم ونون التوكيد الثقيلة وفتح الكاف أي لأستخلصن لك الحق ممن ظلمك
( ولو بعد حين ) أي أمد طويل بل دل به سبحانه على أنه يمهل الظالم ولا يهمله
(حديث ابن عمر في صحيح الجامع) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال اتقوا دعوة المظلوم فإنها تصعد إلى السماء كأنها شرارة .(2/437)
( اتقوا دعوة المظلوم فإنها تصعد إلى السماء كأنها شرارة ) كناية عن سرعة الوصول لأنه مضطر في دعائه وقد قال سبحانه وتعالى { أمّن يجيب المضطر إذا دعاه } وكلما قوي الظلم قوي تأثيره في النفس فاشتدت ضراعة المظلوم فقويت استجابته والشرر ما تطاير من النار في الهواء شبه سرعة صعودها بسرعة طيران الشرر من النار .
(حديث أبي هريرة في صحيح الجامع) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : دعوة المظلوم مستجابة و إن كان فاجرا ففجوره على نفسه .
( دعوة المظلوم مستجابة ) أي يستجيبها اللّه تعالى يعني فاجتنبوا جميع أنواع الظلم لئلا يدعو عليكم المظلوم فيجاب
( وإن كان فاجراً ففجوره على نفسه ) ولا يقدح ذلك في استجابة دعائه لأنه مضطر ونشأ من اضطراره صحة التجائه إلى ربه وقطعه قلبه عما سواه وللإخلاص عند اللّه موقع وقد ضمن إجابة المضطر بقوله تعالى : (أَمّن يُجِيبُ الْمُضْطَرّ إِذَا دَعَاهُ ) [ النمل : 62].
صعدت دعوة سعيد إلي السماء، فلقيت قبولا واستجابة من الله والواحد القهار، فلقد أصيب الحجاج بعد قتله لسعيد بن جبير بمرض عضال أفقده عقله، وصار كالذي يتخبطه الشيطان من المس، وكان كلما أفاق من مرضه قال بذعر: مالي ولسعيد بن جبير
وبعد فترة قصيرة من قتل سعيد بن جبير مات الحجاج الثقفي شر موته، وتحققت دعوة سعيد فيه، فلم يسلطه الله علي أحد يقتله من بعده.
{ تنبيه } : كان قتل سعيد بن جبير في آخر سنة أربعٍ وتسعين هـ ، قتله الحجاج صبرا ، وقبره بواسط، استشهد وهامته مرفوعة وله ثلاثة بنين : عبدالله ومحمد وعبدالملك .
وفاة سعيد بن جبير رحمه الله:
[*] قال الذهبي رحمه الله تعالى : وكان قتله في شعبان سنة خمس وتسعين، ومن زعم أنه عاش تسعاً وأربعين سنة لم يصنع شيئاً، وقد مر قوله لابنه: ما بقاء أبيك بعد سبع وخمسين .
سيرة عمر بن عبد العزيز رحمه الله :(2/438)
عمر بن عبد العزيز ابن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي بن كلاب .
اسم عمر بن عبد العزيز ونسبه :
هو عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية، الإمام الحافظ، العلامة المجتهد، الزاهد العابد، السيد أمير المؤمنين حقاً، أبو حفص ، القرشي الأُموي المدني ثم المصري، الخليفة الزاهد الراشد، أشجُّ بني أمية .
وأمه : هي أم عاصم ليلى بنت عاصم بن عمر بن الخطاب .
مولد عمر بن عبد العزيز رحمه الله :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الخريبي يقول الأعمش وهشام بن عروة وعمر بن عبد العزيز وطلحة بن يحيى ولدوا سنة مقتل الحسين يعني سنة إحدى وستين وكذلك قال خليفة بن خياط وغير واحد في مولده .
صفة عمر بن عبد العزيز الخلْقية رحمه الله :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
[*] قال الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء : ذكر صفته سعيد بن عفير أنه كان أسمر رقيق الوجه حسنه نحيف الجسم حسن اللحية غائر العينين بجبهته أثر نفحة دابة قد وخطه الشيب وقال إسماعيل الخطبي رأيت صفته في بعض الكتب أبيض رقيق الوجه جميلا نحيف الجسم حسن اللحية غائر العينين بجبهته أثر حافر دابة فلذلك سمي أشج بني أمية وقد وخطه الشيب قال ضمرة بن ربيعة دخل عمر بن عبد العزيز إلى إصطبل أبيه وهو غلام فضربه فرس فشجه فجعل أبوه يمسح عنه الدم ويقول إن كنت أشج بني أمية إنك إذا لسعيد .
نشأة عمر بن عبد العزيز حال صغره وتربيته:-(2/439)
كان عمر رحمه الله ابن والي مصر عبد العزيز، وكان يعيش في أسرة الملك والحكم، حيث النعيم الدنيوي، وزخرف الدنيا الزائل، وكان رحمه الله يتقلب في نعيم يتعاظم كل وصف، ويتحدى كل إحاطة.. إنّ دخله السنوي من راتبه ومخصصاته، ونتاج الأرض التي ورثها من أبيه يجاوز أربعين ألف دينار .. وإنه ليتحرك مسافراً من الشام إلى المدينة، فينتظم موكبه خمسين جملاً تحمل متاعه..
وكان يلبس أبهى الثياب وأغلاها .. ويضمخ نفسه بأبهج عطور دنياه، حتى إنه ليعبر طريقاً ما، فيعلم الناس أنه عبره، وكان رحمه الله يتأنق في كل شيء .. حتى المشية .. التي انفرد بها وشغف الشباب بمحاكاتها وعرفت لفرط أناقتها واختيالها بـ"المشية العمرية .
ثم إنه رحمه الله مع هذا كله كان فيه نبوغ مبكر فلم تنسه هذه الدنيا وزخرفها الله تعالى والدار الآخرة، بل إنه رحمه الله كان فيه حب للعلم وأهله كما سيأتي ...
لقد جمع القرآن وهو صغير ، تحدث هو عن نفسه وطفولته فقال : " لقد رأيتني بالمدينة غلاماً مع الغلمان ثم تاقت نفسي للعلم، فأصبت منه حاجتي " .. وَرَغَبَ إلى والده أن يغادر مصر إلى المدينة ليَدْرُس بها ويتفقه، فأرسله إليها وعهد به إلى واحد من كبار معلمي المدينة وفقهائها وصالحيها وهو: صالح بن كيسان رحمه الله،
ثم لا يكاد ينزل بها حتى يلوذ بالشيوخ والعلماء والفقهاء، متجنباً أترابه ولِدَاته .. وأقبل على العربية وآدابها وشعرها فيستوعب من ذلك كله محصولاً وفيراً .
بكاء عمر بن عبد العزيز حال صغره وخوفه:
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أبي قبيل أن عمر بن عبد العزيز بكى وهو غلام صغير فأرسلت إليه أمه وقالت ما يبكيك قال ذكرت الموت قال وكان يومئذ قد جمع القرآن فبكت أمه حين بلغها ذلك.
اهتمام والد عمر بن عبد العزيز بتأديبه في الصغر :(2/440)
عني والده عبد العزيز بن مروان بتربيته تربية صالحة، وعلَّمه القراءة والكتابة، لكن عمر رغب أن يغادر مصر إلى المدينة ليأخذ منها العلم، فاستجاب عبد العزيز بن مروان لرغبة ولده وأرسله إلى واحد من كبار علماء المدينة وصالحيها وهو "صالح بن كيسان".
حفظ عمر بن عبد العزيز القرآن الكريم، وظهرت عليه علامات الورع وأمارات التقوى، حتى قال عنه معلِّمه صالح بن كيسان: ما خَبَرْتُ أحدًا ـ الله أعظم في صدره ـ من هذا الغلام، وقد فاجأته أمه ذات يوم وهو يبكي في حجرته، فسألته: ماذا حدث لك يا عمر؟ فأجاب: لا شيء يا أماه إنما ذكرتُ الموت، فبكت أمه.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن يعقوب عن أبيه أن عبد العزيز بن مروان بعث ابنه عمر إلى المدينة يتأدب بها وكتب إلى صالح بن كيسان يتعاهده وكان يلزمه الصلوات فأبطأ يوما عن الصلاة فقال ما حبسك قال كانت مرجلتي تسكن شعري فقال بلغ من تسكين شعرك أن تؤثره على الصلاة وكتب بذلك إلى والده فبعث عبد العزيز رسولا إليه فما كلمه حتى حلق شعره .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن العتبي أن أول ما استبين من عمر بن عبد العزيز أن أباه ولي مصر وهو حديث السن يشك في بلوغه فأراد إخراجه فقال يا أبت أو غير ذلك لعله أن يكون أنفع لي ولك ترحلني إلى المدينة فأقعد إلى فقهاء أهلها وأتأدب بآدابهم فوجهه إلى المدينة فاشتهر بها بالعلم والعقل مع حداثة سنه قال ثم بعث إليه عبد الملك بن مروان عند وفاة أبيه وخلطه بولده وقدمه على كثير منهم وزوجه بابنته فاطمة التي قيل فيها
بنت الخليفة والخليفة جدها * أخت الخلائف والخليفة زوجها .
التبشير بعمر بن عبد العزيز وذكر أنه كان منتظراً :(2/441)
روى أبو داود الطيالسي بسنده عن ابن عمر - رضي الله عنه - قال: يا عجباً لِلَّهِ يزعم الناس أن الدنيا لا تنقضي حتى يلي رجل من آل عمر يعمل بمثل عمر، قال: وكانوا يرونه بلال بن عبد الله بن عمر، قال: وكان بوجهه أثر، فلم يكن هو وإذا هو عمر بن عبد العزيز وأمه ابنة عاصم بن عمر بن الخطاب.
وروى البيهقي بسنده عن نافع قال: بلغنا أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: إن من ولدي رجلاً بوجهه شجان يلي فيملأ الأرض عدلاً. قال نافع من قبله : ولا أحسبه إلا عمر بن عبد العزيز.
صفحات من حياة عمر بن عبد العزيز في عهد الوليد بن عبد الملك :
لما مات أبوه أخذه عمه أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان فخلطه بولده، وقدمه على كثير منهم، وزوجه بابنته فاطمة، وهي التي يقول فيها الشاعر:
بنت الخليفة والخليفة جدها : أخت الخلائف والخليفة زوجها
وكان رحمه الله على قدم الصلاح أيضاً، إلا أنه كان يبالغ في التنعم، فكان الذين يعيبونه من حساده لا يعيبونه إلا بالإفراط في التنعم، والاختيال في المشية، فلما ولي الوليد الخلافة أمَّر عمر على المدينة فوليها من سنة ست وثمانين إلى سنة ثلاث وتسعين.
ولايته على المدينة وأعماله فيها:
لما قدم عليها والياً فصلى الظهر دعا بعشرة: عروة وعبيد الله وسليمان بن يسار والقاسم وسالماً وخارجة وأبا بكر بن عبد الرحمن وأبا بكر بن سليمان وعبد الله بن عامر، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "إني دعوتكم لأمر تؤجرون فيه، ونكون فيه أعواناً على الحق، ما أريد أن أقطع أمراً إلا برأيكم، أو برأي من حضر منكم، فإن رأيتم أحداً يتعدى، أو بلغكم عن عامل ظلامة فأحرج بالله على من بلغه ذلك إلا أبلغني" . فجزوه خيراً وافترقوا .
وبنى في مدة ولايته هذه مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - ووسعه عن أمر الوليد له بذلك .(2/442)
واتسعت ولايته فصار والياً على الحجاز كلها ... وراح الأمير الشاب ينشر بين الناس العدل والأمن، وراح يذيقهم حلاوة الرحمة، وسكينة النفس .. صارخاً بكلمة الحق والعدل، نائياً بنفسه عن مظالم العهد وآثامه، متحدياً جباريه وطغاته ... وعلى رأسهم الحجاج بن يوسف الثقفي .. وكان عمر يمقته أشد المقت بسبب طغيانه وعَسْفه، وكان نائباً على الحج في إحدى السنين فأرسل عمر إلى الوليد يسأله أن يأمر الحجاج ألا يذهب إلى المدينة ولا يمر بها، رغم أنه يعرف ما للحجاج من مكانة في نفوس الخلفاء الأمويين ... وأجاب الخليفة طلب عمر وكتب إلى الحجاج يقول:" إن عمر بن عبد العزيز كتب إليَّ يستعفيني من ممرك عليه بالمدينة، فلا عليك ألا تمر بمن يكرهك، فنح نفسك عن المدينة".
وراح هذا الأمير الشاب يعمر ويعمر بادئاً بالمسجد النبوي وفي كل الحجاز، الآبار والطرق ، وفي حدود ولايته وسلطانه رد للأموال العامة كرامتها وحرمتها، فلم تعد سهلة المنال لكل ناهب خالس، كما لم تعد ألعوبة في يد كل مسرف ومترف ... وفتح أبواب المدينة للهاربين من ظلم الولاة في كل أقطار الدولة .. وحماهم من المطاردة، ووفر لهم الطمأنينة والأمن .
ووشى به الحجاج وشاية إلى الوليد كانت سبباً في عزله .. ولما عُزِل منها وخرج منها التفت إليها وبكى وقال لمولاه:" يا مزاحم نخشى أن نكون ممن نفت المدينة". يعني أن المدينة تنفي خبثها كما ينفي الكير خبث الحديد وينصع طيبها، ونزل بمكان قريب منها يُقال له السويداء حيناً، ثم قدم دمشق على بني عمه .
حسنته على سليمان بن عبد الملك:
إن الوليد عزم على أن يخلع أخاه سليمان من العهد، وأن يعهد إلى ولده، فأطاعه كثير من الأشراف طوعاً وكرهاً، فامتنع عمر بن عبد العزيز وقال:" لسليمان في أعناقنا بيعة ". وصمم ، فعرفها له سليمان .
عهد سليمان بن عبد الملك بالخلافة لعمر بن عبد العزيز :(2/443)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن رجاء بن حيوة قال لما ثقل سليمان بن عبد الملك رآني عمر بن عبد العزيز في الدار أخرج وأدخل وأتردد فقال: يا رجاء أذكرك الله والإسلام أن تذكرني لأمير المؤمنين أو تشير بي فو الله ما أقوى على هذا الأمر فانتهرته وقلت إنك لحريص على الخلافة فاستحيا ودخلت فقال لي سليمان من ترى لهذا الأمر فقلت اتق الله فإنك قادم على الله تعالى وسائلك عن هذا الأمر وما صنعت فيه قال فمن ترى قلت عمر بن عبد العزيز قال كيف أصنع بعهد عبد الملك إلى الوليد وإلي في ابني عاتكة أيهما بقي قلت تجعله من بعده قال أصبت جئني بصحيفة فأتيته بصحيفة فكتب عهد عمر ويزيد ابن عبد الملك من بعد ثم دعوت رجالا فدخلوا فقال عهدي في هذه الصحيفة مع رجاء اشهدوا واختموا الصحيفة قال فلم يلبث أن مات فكففت النساء عن الصياح وخرجت إلى الناس فقالوا كيف أمير المؤمنين قلت لم يكن منذ اشتكى أسكن منه الساعة قالوا لله الحمد .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن قال ابن عيينة حدثني من شهد دابق وكان مجتمع غزو الناس فمات سليمان بدابق ورجاء بن حيوة صاحب أمره ومشورته خرج إلى الناس فأعلمهم بموته وصعد المنبر فقال إن أمير المؤمنين كتب كتابا وعهد عهدا وأعلمهم بموته أفسامعون أنتم مطيعون؟ قالوا نعم وقال هشام نسمع ونطيع إن كان فيه استخلاف رجل من بني عبد الملك قال ويجذبه الناس حتى سقط إلى الأرض وقالوا سمعنا وأطعنا فقال رجاء قم يا عمر وهو على المنبر فقال عمر والله إن هذا لأمر ما سألته الله قط .(2/444)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن رجاء بن حيوة قال ثقل سليمان ولما مات أجلسته وسندته وهيأته ثم خرجت إلى الناس فقالوا كيف أصبح أمير المؤمنين قلت أصبح ساكنا فادخلوا سلموا عليه وبايعوا بين يديه على ما في العهد فدخلوا وقمت عنده وقلت إنه يأمركم بالوقوف ثم أخذت الكتاب من جيبه وقلت إن أمير المؤمنين يأمركم أن تبايعوا على ما في هذا الكتاب فبايعوا وبسطوا أيديهم فلما فرغوا قلت آجركم الله في أمير المؤمنين قالوا فمن ففتحت الكتاب فإذا فيه عمر بن عبد العزيز فتغيرت وجوه بني عبد الملك فلما سمعوا وبعده يزيد تراجعوا وطلب عمر فإذا هو في المسجد فأتوه وسلموا عليه بالخلافة فعقر فلم يستطع النهوض حتى أخذوا بضبعيه فأصعدوه المنبر فجلس طويلا لا يتكلم فقال رجاء ألا تقومون إلى أمير المؤمنين فتبايعونه فنهضوا إليه ومد يده إليهم فلما مد هشام بن عبد الملك يده إليه قال إنا لله وإنا إليه راجعون فقال عمر نعم إنا لله حين صار يلي هذه الأمة أنا وأنت ثم قام فحمد الله وأثنى عليه وقال أيها الناس إني لست بفارض ولكني منفذ ولست بمبتدع ولكني متبع وإن من حولكم من الأمصار إن أطاعوا كما أطعتم فأنا واليكم وإن هم أبوا فلست لكم بوالٍ ثم نزل فأتاه صاحب المراكب فقال لا ائتوني بدابتي ثم كتب إلى عمال الأمصار، قال رجاء : كنت أظن أنه سيضعف فلما رأيت صنعه في الكتاب علمت أنه سيقوى، قال عمرو بن مهاجر صلى عمر المغرب ثم صلى على سليمان.
تولي عمر بن عبد العزيز الخلافة :(2/445)
إن عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى لم يجد نفسه فجأة خليفة لكنه قبل أن يلي الخلافة تمرّس بالإدارة واليًا وحاكمًا، واقترب من صانعي القرار، ورأى عن كثب كيف تُدار الدولة، وخبر الأعوان والمساعدين؛ فقد ولاّه الخليفة الوليد بن عبد الملك إمارة المدينة عام سبعٍ وثمانين هجرية ثم ضم إلية ولاية لطائف سنة إحدى وتسعين هجرية وبذلك صار واليآ على الحجاز كلها واشترط عمر لتوليه الإماره ثلاثة شروط :
الشرط الأول :أن يعمل في الناس بالحق والعدل ولا يظلم أحدآ ولا يجوز على أحد في أخذ ما على الناس من حقوق لبيت المال ، ويترتب على ذلك أن يقل ما يرفع للخليفة من الموال من المدينة .
الشرط الثاني : أن يسمح له بالحج في أول سنة لأن عمر كان في ذلك الوقت لم يحج . الشرط الثالث : أن يسمح له بإلغاء أن يخرجه للناس في المدينة فوافق الوليد على هذه الشروط ، وباشر عمر بن عبد العزيز عمله بالمدينه وفرح الناس به فرحاً شديداً.
من أبرز الأعمال التي قام بها في المدينه وهو عمل مجلس الشورى يتكون من عشر من فقهاء المدينة . ثم عينة الخلفية الأموى سليمان بن عبد الملك وزيراً في عهده .(2/446)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن رجاء بن حيوة كان سليمان بن عبد الملك من أمثل الخلفاء نشر علم الجهاد وجهز مئة ألف برا وبحرا فنازلوا القسطنطينية واشتد القتال والحصار عليها أكثر من سنة، قال سعيد بن عبد العزيز ولي سليمان فقال لعمر بن عبد العزيز يا أبا حفص إنا ولينا ما قد ترى ولم يكن لنا بتدبيره علم فما رأيت من مصلحة العامة فمر به فكان من ذلك عزل عمال الحجاج وأقيمت الصلوات في أوقاتها بعد ما كانت أميتت عن وقتها مع أمور جليلة كان يسمع من عمر فيها فقيل إن سليمان حج فرأى الخلائق بالموقف فقال لعمر أما ترى هذا الخلق الذي لا يحصي عددهم إلا الله قال هؤلاء اليوم رعيتك وهم غدا خصماؤك فبكى بكاء شديدا قلت كان عمر له وزير صدق ومرض بدابق أسبوعا وتوفي وكان ابنه داود غائبا في غزو القسطنطينية .
فلما تولى الخلافة كان لديه من عناصر الخبرة والتجربة ما يعينه على تحمل المسؤولية ومباشرة مهام الدولة، وأضاف إلى ذلك أن ترفَّع عن أبهة الحكم ومباهج السلطة، وحرص على المال العام، وحافظ على الجهد والوقت، ودقَّق في اختيار الولاة، وكانت لديه رغبة صادقة في تطبيق العدل ، فقد استشعر الأمانة، وراقب الله فيما أُوكل إليه، وتحمل مسؤولية دولته الكبيرة بجدٍّ واجتهاد؛ فكان منه ما جعل الناس ينظرون إليه بإعجاب وتقدير.(2/447)
وكان يختار ولاته بعد تدقيق شديد، ومعرفة كاملة بأخلاقهم وقدراتهم؛ فلا يلي عنده منصبًا إلا من رجحت كفته كفاءة وعلمًا وإيمانًا، وحسبك أن تستعرض أسماء من اختارهم لولاياته؛ فتجد فيهم العالم الفقيه، والسياسي البارع، والقائد الفاتح، من أمثال أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، أمير المدينة وقاضيها، والجراح بن عبد الله الحكيمي، أمير البصرة، وكان قائدًا فاتحًا، وإداريًا عظيمًا، وعابدًا قائدًا، والسمح بن مالك أمير الأندلس، وكان قائدًا فذًا، استُشهد على أرض الأندلس، وكان باقي ولاته على هذه الدرجة من القدرة والكفاءة.
وكان عمر لا يكتفي بحسن الاختيار بعد دراسة وتجربة، بل كان يتابع ويراقب، لكن مراقبته لم تكن مراقبة المتهم، بل كان يراقب تطبيق السياسة العامة التي وضعها للدولة.
وإذا كان قد أخذ نفسه بالشدة والحياة الخشنة، فإنه لم يلزم بها ولاته، بل وسّع عليهم في العطاء، وفرض لهم رواتب جيدة تحميهم من الانشغال بطلب الرزق، وتصرفهم عن الانشغال بأحوال المسلمين، كما منعهم من الاشتغال بالتجارة، وأعطى لهم الحرية في إدارة شئون ولاتهم؛ فلا يشاورونه إلا في الأمور العظيمة، وكان يظهر ضيقه من الولاة إذا استوضحوه في الأمور الصغيرة.. كتب إليه أحد ولاته يستوضح منه أمرًا لا يحتاج إلى قرار من الخليفة، فضاق منه عمر، وكتب إليه: "أما بعد، فأراك لو أرسلتُ إليك أن اذبح شاة، ووزِّع لحمها على الفقراء، لأرسلت إلي تسألني: كبيرة أم صغيرة؟ فإن أجبتك أرسلت تسأل: بيضاء أم سوداء؟ إذا أرسلت إليك بأمر، فتبيَّن وجه الحق منه، ثم أمْضِه".
هم الخلافة :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ(2/448)
كان تولي عمر بن عبد العزيز للخلافة نقطة التحول في حياة عمر رضي الله عنه، ترى ربيب الملك، وحفيد المجد، وابن القصور الناعمة، والمباهج الهاطلة، ذلك الشاب بعد أن تحمل مسؤولية أمة محمد صلى الله عليه وسلم كيف تحولت حياته وتغير جدول أوقاته ، كيف استشعر حجم المسئولية الملقاة على عاتقة وكأنه يحمل جبل أحد على ظهره ، وهو يعلم علم اليقين أن الإمارة تكليف وليست تشريف ، للناس غنمها وعليه غُرْمُها ، فلو رأيته بعد أن تولى الخلافة وقد نحل جسمه وتغير لونه لما قلت أن هذا هو ابن القصور الناعمة والمباهج الهاطلة .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن فاطمة امرأة عمر بن عبد العزيز أنها دخلت عليه فإذا هو في مصلاه يده على خده سائلة دموعه فقلت يا أمير المؤمنين ألشيء حدث قال يا فاطمة إني تقلدت أمر أمة محمد صلى الله عليه وسلم فتفكرت في الفقير الجائع والمريض الضائع والعاري المجهود والمظلوم المقهور والغريب المأسور والكبير وذي العيال في أقطار الأرض فعلمت أن ربي سيسألني عنهم وأن خصمهم دونهم محمد صلى الله عليه وسلم فخشيت ألا تثبت لي حجة عند خصومته فرحمت نفسي فبكيت .
الحوار الذي دار بين عمر بن عبدالعزيز وبين ابنه بعد توليه الخلافة :
اتجه عمر إلى بيته وآوى إلى فراشه، فما كاد يسلم جنبه إلى مضجعه حتى أقبل عليه ابنه عبد الملك وكان عمره آنذاك سبعة عشر عامًا، وقال: ماذا تريد أن تصنع يا أمير المؤمنين؟ فرد عمر: أي بني أريد أن أغفو قليلاً ، فلم تبق في جسدي طاقة. قال عبد الملك : أتغفو قبل أن ترد المظالم إلى أهلها يا أمير المؤمنين؟ ، فقال عمر: أي بني ، إني قد سهرت البارحة في عمك سليمان ، وإني إذا حان الظهر صليت في الناس ورددت المظالم إلى أهلها إن شاء الله. فقال عبد الملك : ومن لك يا أمير المؤمنين بأن تعيش إلى الظهر؟! فقام عمر وقبَّل ابنه وضمه إليه، ثم قال: الحمد لله الذي أخرج من صلبي من يعينني على ديني .(2/449)
[*] أعمال عمر بن عبد العزيز في الخلافة :
إن العصر الذي عاش فيه عمر بن عبد العزيز رحمه الله في قبيل خلافته كان كما يصفه أحد الكتاب:" زمن قسوة من الأمراء "، كيف لا والحجاج بالعراق ، ومحمد بن يوسف باليمن ، وغيرهما بالحجاز وبمصر وبالمغرب، حتى قال عمر:" امتلأت الأرض والله جوراً". فكان أول مرسوم اتخذه، عزل الوزراء الخونة الظلمة الغشمة، الذين كانوا في عهد سليمان، استدعاهم أمامه وقال لشريك بن عرضاء: اغرُب عني يا ظالم رأيتك تُجلس الناس في الشمس، وتجلد أبشارهم بالسياط، وتُجوّعهم وأنت في الخيام والإستبرق، واستدعى الآخر وقال: اغرب عني والله لا تلي لي ولاية، رأيتك تقدم دماء المسلمين لسليمان بن عبد الملك. ثم عيّن وزراءه وأمراءه من علماء وصُلَحاء المسلمين.
وكتب رسالة إلى صفوة علماء العالم الإسلامي في زمانه، كتب إلى الحسن البصري، ومُطرّف بن عبد الله بن الشّخِّير، وسالم بن عبد الله بن عمر؛ أن اكتبوا لي كتبًا انصحوني وعِظوني، قبل أن ألقى الله ظالماً، فكتبوا له رسائل، تتقطع منها القلوب، وتشيب لها الرؤوس.
كتب له الحسن: يا أمير المؤمنين صم يومك، لتفطر غدًا. وقال سالم: يا أمير المؤمنين، إنك آخر خليفة تولَّى، وسوف تموت كما مات من قبلك. وخوّفوه ووعدوه.
وجعل سُمَّاره سبعة من العلماء، يسمرون معه بعد صلاة العشاء، واشترط عليهم ثلاثة شروط:
الشرط الأول: ألا يُغتاب مسلم.
الشرط الثاني: ألا يُقدِّموا له شِكاية في مسلم، التقارير المخزية في أعراض المسلمين، وفي كلمات المسلمين، ومجالس المسلمين، أبى أن تُعرض عليه أو تُرفع إليه.
الشرط الثالث: ألا يمزح في مجلسه، إنما يذكرون الآخرة وما قرب منها، فكان يقوم معهم، وهم يبكون، كأنهم قاموا عن جنازة.(2/450)
وكذلك كان العصر الذي عاش فيه عمر بن عبد العزيز رحمه الله في قبيل خلافته كان فيه من الفساد العميم ما الله به عليم حتى راح كل قادر على النهب ينتهب ما تصل إليه يداه، وغابت الأخلاق فشاع الترف والانحلال، ووراء الفساد سار الخراب ، فأخذت الأزمات المالية بخناق الدولة ومحق إنتاجها، وكان فيه تزييف لقيم الدين حتى إنه كان يُلْعَنُ على المنابر بطل الإسلام العظيم وابنه البار وإمامه الأواب ورابع الخلفاء وابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وساعد في هذا التزييف شعراء العصر.(2/451)
بدأ عمر بن عبد العزيز رحمه الله بتغيير هذا الواقع إلى الصورة المثلى في ذهنه، فلما ولي بدأ بلحمته وأهل بيته، فأخذ ما بأيديهم، وسمى أموالهم مظالم ، وهي الأموال الهائلة.. والثروات العظيمة التي تملكها أسرته، وإخوته وحاشيته، وعزم على ردها إلى أصحابها إن عرف أصحابها، أو إلى الخزانة العامة، وأن ينفذ على الجميع قانون " من أين لك هذا " وبدأ في ذلك بنفسه، فقد كان له عقارات أيام أسلافه من الخلفاء فرأى أنه لم يكن لهم سلطة شرعية عليها ليعطوه إياها وأنها من أملاك الدولة ... وأحصى أملاكه فإذا هي كلها من عطايا الخلفاء ولم يجد إلا عيناً في السويداء كان استنبطها من عطائه ـ والعطاء رواتب عامة تعطى للناس جميعاً من بيت المال ـ وتوجه إلى أمراء البيت الأموي فجمعهم وحاول أن يعظهم ويخوفهم الله، وبين لهم أن ليس لهم من الحق في أموال الخزانة العامة أكثر مما للأعرابي في صحرائه، والراعي في جبله .. وأن ما بأيديهم من أموال جمعوها من حرام ليس لهم إنما هو لله، وأرادهم على ردها فأبوا، ودعاهم مرة أخرى إلى وليمة واستعمل أسلوباً آخر من اللين فلم يستجيبوا ، فلما عجزت معهم أساليب اللين عمد إلى الشدة وأعلم أنه كل من كانت له مظلمة أو عدا عليه أحد من هؤلاء فليتقدم بدعواه ، وألف لذلك محكمة خاصة ، وبدأ يجردهم من هذه الثروات التي أخذوها بغير وجهها ويردها إلى أصحابها أو إلى الخزانة العامة .(2/452)
ووسطوا له عمة له كان يوقرها بنوا أمية لسنها وشرفها ، فكلمته فقال : إن الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم رحمة ولم يبعثه عذاباً، واختار له ما عنده ، فترك لهم نهراً ، شُرْبُهُم سواء ، ثم قام أبو بكر فترك النهر على حاله ، ثم عمر فعمل عمل صاحبه ، ثم لم يزل يشتق منه يزيد ومروان وعبد الملك والوليد وسليمان حتى أفضى الأمر إليّ ، وقد يبس النهر الأعظم ولن يروي أهله حتى يعود إلى ما كان ... ودعا بجمر ودينار ، فألقى الدينار في الجمر حتى إذا احمرّ أخذه بشيء وقرّبه إلى جلده ، وقال : يا عمة أما تشفقين على ابن أخيك أن يكوى بهذا يوم القيامة ؟ قالت : إذن لا تدعهم يسبونهم ، قال : ومن يسبهم؟! إنما يطالبونهم بحقوقهم ، فخرجت فقالت : هذا ذنبكم لماذا زوجتم أباه بنت عمر بن الخطاب ، اصبروا فإنه لا يجير .
وتجرأ عليه ابن للوليد فكتب إليه كتاباً شديد اللهجة أشبه بإعلان الثورة ، فغضب عمر لله وقبض عليه وحاكمه بمحاكمة كانت تؤدي به إلى سيف الجلاد لولا أن تاب وأناب .
وخضعوا جميعاً وردوا ما كان في أيديهم من الأموال ... واكتفوا بمرتباتهم الكثيرة التي كانوا يأخذونها من الخزانة ، ولكن عمر لم يكتف وأمر بقطع هذه الرواتب وإعطائهم عطاء أمثالهم ، وأمرهم بالعمل كما يعمل الناس ، وعم الأمن وهمدت الثورات ، وشملت السعادة الناس ، واختفت مظاهر البذخ الفاحش ، ومظاهر الفقر المدقع ، وصارت هذه البلاد التي تمتد من فرنسا إلى الصين تعيش بالحب والإخلاص والود.(2/453)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الأوزاعي أن عمر بن عبد العزيز جلس في بيته وعنده أشراف بني أمية فقال أتحبون أن أولي كل رجل منكم جندا من هذه الأجناد فقال له رجل منهم لم تعرض علينا ما لا تفعله قال ترون بساطي هذا إني لأعلم أنه يصير إلى بلى وإني أكره أن تدنسوه علي بأرجلكم فكيف أوليكم ديني وأوليكم أعراض المسلمين وأبشارهم تحكمون فيهم هيهات هيهات قالوا : لِمَ ؟ أما لنا قرابة أما لنا حق قال ما أنتم وأقصى رجل من المسلمين عندي في هذا الأمر إلا سواء إلا رجل حبسه عني طول شقة.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم في الحلية عن وهيب ابن الورد قال: اجتمع بنو مروان على باب عمر بن عبد العزيز، وجاء عبد الملك بن عمر ليدخل على أبيه فقالوا له: إما أن تستأذن لنا وإما أن تبلغ عنا أمير المؤمنين الرسالة، قال: قولوا قالوا: إن من كان قبله من الخلفاء كانوا يعطوننا ويعرفون لنا موضعنا، وإن أباك قد حرمنا ما في يديه. قال: فدخل على أبيه فأخبره عنهم فقال له عمر: قل لهم: ( إِنّيَ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) [ الأنعام : 15]
حال عمر بن عبد العزيز مع أمور الخلافة :
وفي اليوم التالي من خلافته رأى موكباً فخيماً من الجياد المطهمة يتوسطها فرس زينت كالعروس ليمتطي الخليفة ظهرها البَذِخ ، فأمر بها إلى بيت مال المسلمين ، ثم لما وصل إلى السرادق فإذا هو فتنة ولا كإيوان كسرى فأمر بضمه لبيت المال ، ودعا بحصير ففرشه على الأرض ثم جلس فوقه ، ثم جيء بالأردية المزركشة والطيلسانات الفاخرة التي هي ثياب الخليفة ، فأمر بها إلى بيت المال ، ثم تعرض عليه الجواري ليختار منهن وصيفات قصر ، فيسألهن عنها ولمن كانت وما بلدها فيردها إلى أرضها وذويها .
حال الناس في عهد عمر بن عبد العزيز :(2/454)
شبع في عهده الجياع ، وَكُسِيَ الفقراء ، واستجاب للمستضعفين ، وكان أباً لليتامى ، وعائلاً للأيامى ، وملاذاً للضائعين ، كان الأغنياء يخرجون بزكاة أموالهم فلا يجدون فقيراً يأخذها ، ويبسط يده إليها ... إن عدله رحمه الله لم يكف الناس حاجاتهم فحسب بل وملأهم شعوراً بالكرامة والقناعة .
أمر رحمه الله ولاته أن يبدءوا بتغطية حاجات أقطارهم .. وما فاض وبقي يُرسل إلى الخزينة العامة .. ومن قصر دخل إقليمه عن تغطية حاجات أهله أمده الخليفة بما يغطي عجزه ، وراح رحمه الله ينشئ في طول البلاد وعرضها دور الضيافة يأوي إليها المسافرون وأبناء السبيل ، ومضى يرفع مستوى الأجور الضعيفة ، وكفل كل حاجات العلماء والفقهاء ليتفرغوا لعلمهم ورسالتهم دون أن ينتظروا من أيدي الناس أجراً .. وأمر لكل أعمى بقائد يقوده ويقضي له أموره على حساب الدولة ، ولكل مريض أو مريضين بخادم على حساب الدولة ، وأمر ولاته بإحصاء جميع الغارمين فقضى عنهم دينهم ، وافتدى أسرى المسلمين وكفل اليتامى .
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن جسر القصاب قال: كنت أحلب الغنم في خلافة عمر بن عبد العزيز فمررت براع وفي غنمه نحو من ثلاثين ذئباً، فحسبتها كلاباً ولم أكن رأيت الذئاب قبل ذلك، فقلت: يا راعي ما ترجو بهذه الكلاب كلها ؟ فقال: يا بني إنها ليست كلاباً، إنما هي ذئاب. فقلت: سبحان الله ذئب في غنم لا تضرها ؟ فقال: يا بني إذا صلح الرأس فليس على الجسد بأس. وكان ذلك في خلافة عمر بن عبد العزيز.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن مالك بن دينار، قال: لما استعمل عمر بن عبد العزيز على الناس قال رعاء الشاء: من هذا العبد الصالح الذي قام على الناس ؟ قيل لهم: وما علمكم بذلك ؟ قالوا: إنه إذا قام على الناس خليفة عدل كفت الذئاب عن شائنا.
[*] مناقب عمر بن عبد العزيز :(2/455)
كان عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى من أئمة التابعين ، من أئمة الهدى وأعلام التقى ومصابيح الدجى ، من حلية الأولياء وأعلام النبلاء ، من الأضواء اللامعة والنجوم الساطعة ، عمر بن عبدالعزيز المجدد الأول لشباب الاسلام على رأس المائة الأولى، أقبلت عليه الدنيا بخيلها ورجلها فأعرض عنها، رغبة في النعيم المقيم. وفي سنتين وخمسة أشهر ملأ الأرض عدلا، بعد أن ضجت بالظلم والفجور، ولم يحتمله الظالمون وسقوه السم جرعة واحدة فمات شهيدا وعادت الأرض سيرتها الأولى.
وهاك غَيْضٍ من فيض ونقطةٍ من بحر مما ورد في مناقبه رحمه الله تعالى جملةً وتفصيلا :
أولاً مناقب عمر بن عبد العزيز جملةً رحمه الله :
(1) ثناء العلماء على عمر بن عبد العزيز :
(2) زهد عمر بن عبد العزيز رحمه الله :
(3) خشية عمر بن عبد العزيز لله وبكاؤه :
(4) كثرة ذكر عمر بن عبد العزيز للموت :
(5) كان عمر بن عبد العزيز رحمه الله وقافاً عند حدود الله تعالى :
(6) عدل عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى :
(7) سعة علم عمر بن عبد العزيز ومتابعته للكتاب والسنة :
(8) منابذة عمر بن عبد العزيز لأهل الأهواء :
(9) وصية عمر بن عبد العزيز لولي العهد بعده :
(10) وصية عمر بن عبد العزيز لولده عبد الملك :
(11) ورع عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى :
(12) من دُررِ مواعظ عمر بن عبد العزيز :
(13) وصية عمر بن عبد العزيز لعماله :
(14) كانت نفس عمر بن عبد العزيز تواقة رحمه الله تعالى :
(15) مروءة عمر بن عبد العزيز وكرمه رحمه الله تعالى :
(16) عدم محبة عمر بن عبد العزيز للمدح رحمه الله :
(17) أول خطبة خطبها عمر بن عبد العزيز وآخر خطبة رحمه الله :
(18) حسن ظن عمر بن عبد العزيز بالمسلمين :
(19) مجالسة عمر بن عبد العزيز لأهل العلم واحترامه لهم :
(20) تواضعه عمر بن عبد العزيز وإنكاره لذاته :
(21) كان عمر بن عبد العزيز لا يخشى في الله لومة لائم رحمه الله :(2/456)
(22) كانت صلاة عمر بن عبد العزيز أشبه بصلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - :
(23) صبر عمر بن عبد العزيز وحلمه :
ثانياً مناقب عمر بن عبد العزيز تفصيلا رحمه الله:
(1) ثناء العلماء على عمر بن عبد العزيز :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
كان عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى من أئمة التابعين ، من أئمة الهدى وأعلام التقى ومصابيح الدجى ، من حلية الأولياء وأعلام النبلاء ، من الأضواء اللامعة والنجوم الساطعة .
[*] قال عنه الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء : ومنهم المحتصن الحريز، ذو الشجي والأزيز، المولى عمر بن عبد العزيز.
كان واحد أمته في الفضل، ونجيب عشيرته في العدل، جمع زهداً وعفافاً، وورعاً وكفافاً، شغله آجل العيش عن عاجله، وألهاه إقامة العدل، عن عاذله، كان للرعية أمناً وأماناً، وعلى من خالفه حجة وبرهاناً، كان مفوهاً عليماً، ومفهماً حكيماً.
[*] وقال عنه الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء :
الإمام الحافظ العلامة المجتهد الزاهد العابد السيد أمير المؤمنين حقا أبو حفص القرشي الأموي المدني ثم المصري الخليفة الزاهد الراشد أشج بني أمية .
وقال أيضاً :
قد كان هذا الرجل حسن الخلق والخلق كامل العقل حسن السمت جيد السياسة حريصا على العدل بكل ممكن وافر العلم فقيه النفس ظاهر الذكاء والفهم أواها منيبا قانتا لله حنيفا زاهدا مع الخلافة ناطقا بالحق مع قلة المعين وكثرة الأمراء الظلمة الذين ملوه وكرهوا محاققته لهم ونقصه أعطياتهم وأخذه كثيرا مما في أيديهم مما أخذوه بغير حق فما زالوا به حتى سقوه السم فحصلت له الشهادة والسعادة وعد عند أهل العلم من الخلفاء الراشدين والعلماء العاملين .
[*] وقال عنه ابن سعد في الطبقات :(2/457)
قال ابن سعد في الطبقة الثالثة من تابعي أهل المدينة : أمه هي أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب قالوا ولد سنة ثلاث وستين قال وكان ثقة مأمونا له فقه وعلم وورع ، وروى حديثا كثيرا وكان إمام عدل رحمه الله ورضي عنه .
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان الثوري، يقول: أئمة العدل خمسة: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعمر بن عبد العزيز، رضي الله تعالى عنهم، من قال غير هذا فقد اعتدى.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن جسر القصاب قال: كنت أحلب الغنم في خلافة عمر بن عبد العزيز فمررت براع وفي غنمه نحو من ثلاثين ذئباً، فحسبتها كلاباً ولم أكن رأيت الذئاب قبل ذلك، فقلت: يا راعي ما ترجو بهذه الكلاب كلها ؟ فقال: يا بني إنها ليست كلاباً، إنما هي ذئاب. فقلت: سبحان الله ذئب في غنم لا تضرها ؟ فقال: يا بني إذا صلح الرأس فليس على الجسد بأس. وكان ذلك في خلافة عمر بن عبد العزيز.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن مالك بن دينار، قال: لما استعمل عمر بن عبد العزيز على الناس قال رعاء الشاء: من هذا العبد الصالح الذي قام على الناس ؟ قيل لهم: وما علمكم بذلك ؟ قالوا: إنه إذا قام على الناس خليفة عدل كفت الذئاب عن شائنا.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن موسى بن أعين، قال: كنا نرعى الشاء بكرمان في خلافة عمر بن عبد العزيز، فكانت الشاء والذئب ترعى في مكان واحد، فبينا نحن ذات ليلة إذ عرض الذئب لشاة، فقلت: ما نرى الرجل الصالح إلا قد هلك قال حماد: فحدثني هذا أو غيره أنهم حسبوا فوجدوه قد هلك في تلك الليلة.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن مالك بن دينار، قال: الناس يقولون مالك بن دينار زاهد، إنما الزاهد عمر بن عبد العزيز الذي أتته الدنيا فتركها.(2/458)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن يوسف ابن ماهك، قال: بينا نحن نسوي التراب على قبر عمر بن عبد العزيز إذ سقط علينا رق من السماء فيه كتاب: بسم الله الرحمن الرحيم، أمان من الله لعمر بن عبد العزيز من النار.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن خصاف أخي خصيف، قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، وعن يمينه أبو بكر، وعن يساره عمر، وميمون بن مهران جالس أمام ذلك، فأتيت ميمون بن مهران فقلت: من هذا ؟ قال: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: من هذا ؟ قال: هذا أبو بكر عن يمينه، وهذا عمر عن يساره، فجاء عمر بن عبد العزيز يجلس بين أبي بكر وبين النبي صلى الله عليه وسلم فشح عمر بمكانه، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجلسه في حجره.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن هاشم أن رجلا جاء إلى عمر بن عبد العزيز فقال رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في النوم وأبو بكر عن يمينه وعمر عن شماله فإذا رجلان يختصمان وأنت بين يديه فقال لك يا عمر إذا عملت فاعمل بعمل هذين فاستحلفه بالله لرأيت فحلف له فبكى .
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن ميمون بن مهران ـ أو غيره ـ ما كانت العلماء عند عمر بن عبد العزيز إلا تلاميذه.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن ميمون بن مهران قال: أتينا عمر بن عبد العزيز فظننا أنه يحتاج إلينا، وإذا نحن عنده تلاميذه.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عمرو بن ميمون قال كانت العلماء مع عمر بن عبد العزيز تلامذة .
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن مجاهد، قال: أتينا عمر نعلمه فما برحنا حتى تعلمنا منه.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن ميمون بن مهران، قال: كان عمر بن عبد العزيز يعلم العلماء.(2/459)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن مرثد أبي يزيد، قال: سمعت عمر يقول: أيها الناس قيدوا النعم بالشكر، وقيدوا العلم بالكتاب.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن نعيم ابن عبد الله، قال: قال عمر: إني لأدع كثيراً من الكلام مخافة المباهاة.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن ابن عون قال كان ابن سيرين إذا سئل عن الطلاء قال نهى عنه إمام هدى يعني عمر بن عبد العزيز .
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن ميمون بن مهران، قال: قلت لعمر: يا أمير المؤمنين ما بقاؤك على ما أرى ؟ أما في أول الليل فأنت في حاجات الناس، وأما وسط الليل فأنت مع جلسائك، وأما آخر الليل فالله أعلم ما تصير إليه، قال: فضرب على كتفي، وقال: ويحك يا ميمون إني وجدت لقيا الرجال تلقيحا لألبابهم.
(2) زهد عمر بن عبد العزيز رحمه الله :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
ترك عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى زينة الحياة الدنيا، ورفض كل مظاهر الملك التي كانت لمن قبله من الخلفاء، وأقام في بيت متواضع بدون حرس ولا حجاب، ومنع نفسه التمتع بأمواله، وجعلها لفقراء المسلمين، وتنازل عن أملاكه التي ورثها عن أبيه، ورفض أن يأخذ راتبًا من بيت المال، كما جرَّد زوجته فاطمة بنت الخليفة عبد الملك بن مروان من حليها وجواهرها الثمينة، وطلب منها أن تعطيها لبيت المال، فقال لها: اختاري..إما أن تردي حليك إلى بيت المال، وإما أن تأذني لي في فراقك، فإني أكره أن أكون أنا وأنت ومعك هذه الجواهر في بيت واحد، فأنت تعلمين من أين أتى أبوك بتلك الجواهر، فقالت: بل أختارك يا أمير المؤمنين عليها وعلى أضعافها لو كانت لي، فأمر عمر بتلك الجواهر فوضعت في بيت المال.(2/460)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم في الحلية عن الفرات بن السائب، أن عمر بن عبد العزيز قال لامرأته فاطمة بنت عبد الملك - وكان عندها جوهر أمر لها أبوها به لم ير مثله: أختاري إما أن تردي حليك إلى بيت المال، وإما تأذني لي في فراقك، فإني أكره أن أكون أنا وانت وهو في بيت واحد، قالت: لا بل أختارك يا أمير المؤمنين عليه وعلى أضعافه لو كان لي، قال: فأمر به فحمل حتى وضع في بيت مال المسلمين، فلما هلك عمر واستخلف يزيد قال لفاطمة: إن شئت يردونه عليك قالت: فإني لا أشاؤه، طبت عنه نفساً في حياة عمر وأرجع فيه بعد موته ؟ لا والله أبداً. فلما رأى ذلك قسمه بين أهله وولده.
{ تنبيه } : لقد ضرب الإمام عمر بن عبد العزيز أروع المثل في الزهد لأن الدنيا أتته راغمةً بين يديه فطلقها ثلاثاً وبتَّ طلاقها ورغب في الآخرة التي هي خيرٌ وأبقى .
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن مالك بن دينار، قال: الناس يقولون مالك بن دينار زاهد، إنما الزاهد عمر بن عبد العزيز الذي أتته الدنيا فتركها.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز، قال: قال لي أبو جعفر ـ يعني أمير المؤمنين ـ كم كانت غلة أبيك عمر حين ولى الخلافة ؟ قلت: أربعين ألف دينار، قال: فكم كانت غلته حين توفي ؟ قلت: أربعمائة دينار، ولو بقى لنقصت.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عمرو بن مهاجر كانت نفقة عمر بن عبد العزيز كل يوم درهمين .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عون بن المعتمر أن عمر بن عبد العزيز قال لامرأته عندك درهم أشتري به عنباً قالت لا قال فعندك فلوس قالت لا أنت أمير المؤمنين ولا تقدر على درهم قال هذا أهون من معالجة الأغلال في جهنم .(2/461)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الحكم بن عمر شهدت عمر بن عبد العزيز حين جاءه أصحاب مراكب الخلافة يسألونه العلوفة ورزق خدمها قال ابعث بها إلى أمصار الشام يبيعونها واجعل أثمانها في مال الله تكفيني بغلتي هذه الشهباء .
تخيير عمر بن عبد العزيز لزوجته وجواريه :
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن هشام بن يحيى، حدثني أبي، عن جدي، قال: كنت أنا وابن أبي زكريا بباب عمر، فسمعنا بكاء في داره، فسألناه عنه، فقالوا: خير أمير المؤمنين امرأته بين أن تقيم في منزلها وأعلمها أنه قد شغل عن النساء بما في عنقه، وبين أن تلحق بمنزل أبيها، فبكت فبكى جواريها لبكائها.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سهل بن صدقة مولى عمر بن عبد العزيز، حدثني بعض خاصة آل عمر: أنه حين أفضت إليه الخلافة سمعوا في منزله بكاءً عالياً، فسألوه عن البكاء، فقالوا: إن عمر خير جواريه فقال: قد نزل بي أمر قد شغلني عنكن، فمن أحب أن أعتقه أعتقته ومن أحب أن أمسكه أمسكته إن لم يكن مني إليها شيء، فبكين إياساً منه.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن مسلمة بن عبد الملك، قال: دخلت على عمر بن عبد العزيز أعوده في مرضه، فإذا عليه قميص وسخ، فقلت: لفاطمة بنت عبد الملك: يا فاطمة اغسلي قميص أمير المؤمنين، قالت: نفعل إن شاء الله، ثم عدت فإذا القميص على حاله، فقلت: يا فاطمة ألم آمركم أن تغسلوا قميص أمير المؤمنين فإن الناس يعودونه، قالت: والله ماله قميص غيره.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عمارة بن أبي حفصة، قال: دخلت على عمر في مرضه وعليه قميص قد اتسخ وتخرق جيبه، فدخل مسلمة فقال لأخته فاطمة بنت عبد الملك امرأة عمر: ناوليني قميصاً سوى هذا حتى نلبسه أمير المؤمنين فإن الناس يدخلون عليه. فقال عمر: دعها يا مسلمة فما أصبح ولا أمسى لأمير المؤمنين ثوب غير الذي ترى عليه.(2/462)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن قال ميمون بن مهران أقمت عند عمر بن عبد العزيز ستة أشهر ما رأيته غير رداءه كان يغسل من الجمعة إلى الجمعة ويبين بشيء من زعفران .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن سعيد بن سويد أن عمر بن عبد العزيز صلى بهم الجمعة ثم جلس وعليه قميص مرقوع الجيب من بين يديه ومن خلفه فقال له رجل يا أمير المؤمنين إن الله قد أعطاك فلو لبست، فقال أفضل القصد عند الجدة وأفضل العفو عند المقدرة .
كيف كان طعام عمر بن عبد العزيز وهو أمير المؤمنين رحمه الله :
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سليمان بن عمر الرقي أبو أمية الخصى غلام عمر بن عبد العزيز، قال: بعثني عمر بن عبد العزيز بدينارين إلى أهل الدير، فقال: إن بعتموني موضع قبري وإلا تحولت عنكم، قال فأتيتهم فقالوا لولا أنا نكره أن يتحول عنا ما قبلناه، قال ودخلت مع عمر الحمام يوماً فاطلى، فولى مغابنه بيده، ودخلت يوماً إلى مولاتي فغدتني عدساً، فقلت: كل يوم عدس، فقالت: يا بني هذا طعام مولاك أمير المؤمنين عمر.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم في الحلية عن نعيم بن سلامة قال: دخلت على عمر بن عبد العزيز فوجدته يأكل ثوماً مسلوقاً بزيت وملح .
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عون بن المعتمر، قال: دخل عمر بن عبد العزيز على امرأته فقال: يا فاطمة عندك درهم أشترى به عنباً، قالت: لا، قال: فعندك نمية ـ يعني الفلوس ـ أشتري بها عنباً، قالت: لا، فأقبلت عليه فقلت: أنت أمير المؤمنين لا تقدر على درهم ولا نمية تشتري بها عنباً، قال: هذا أهون علينا من معالجة الأغلال غداً في نار جهنم.(2/463)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سعيد بن سويد: أن عمر بن عبد العزيز صلى بهم الجمعة ثم جلس وعليه قميص مرقوع الجيب من بين يديه ومن خلفه، فقال له رجل: يا أمير المؤمنين إن الله قد أعطاك، فلو لبست، فنكس ملياً ثم رفع رأسه فقال: أفضل القصد عند الجدة، وأفضل العفو عند المقدرة.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الفرات بن السائب، أن عمر بن عبد العزيز قال لامرأته فاطمة بنت عبد الملك ـ وكان عندها جوهر أمر لها أبوها به لم ير مثله: أختاري إما أن تردي حليك إلى بيت المال، وإما تأذني لي في فراقك، فإني أكره أن أكون أنا وانت وهو في بيت واحد، قالت: لا بل أختارك يا أمير المؤمنين عليه وعلى أضعافه لو كان لي، قال: فأمر به فحمل حتى وضع في بيت مال المسلمين، فلما هلك عمر واستخلف يزيد قال لفاطمة: إن شئت يردونه عليك قالت: فإني لا أشاؤه، طبت عنه نفساً في حياة عمر وأرجع فيه بعد موته ؟ لا والله أبداً. فلما رأى ذلك قسمه بين أهله وولده.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عبد العزيز ابن عمر بن عبد العزيز قال: قلت: كم ترك لكم عمر من المال ؟ فتبسم فقال: حدثني مولى لنا كان يلي نفقته قال: قال لي عمر حين احتضر: كم عندك من المال ؟ قال: قلت: أربعة عشر ديناراً، قال: فقال: تحتملوني بها من منزل إلى منزل، فقلت: كم ترك لكم من الغلة ؟ قال: ترك لنا غلة ستمائة دينار كل سنة ثلاثمائة دينار ورثناها عنه وثلاثمائة دينار ورثناها عن أخينا عبد الملك، وتركنا اثنى عشر ذكراً وست نسوة اقتسمنا ماله على خمس عشرة.
(3) خشية عمر بن عبد العزيز لله وبكاؤه :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ(2/464)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عمر بن ذر أن مولى لعمر بن عبد العزيز قال له بعد جنازة سليمان مالي أراك مغتما قال لمثل ما أنا فيه فليغتم ليس أحد من الأمة إلا وأنا أريد أن أوصل إليه حقه غير كاتب إلي فيه ولا طالبه مني .
{ تنبيه } : هذا حال من وفقه الله تعالى لصالح العمل وعصمه من الزلل ونوَّر بصيرته فعلم أن الإمارة تكليف وليست تشريف ، للناس غنمها وعليه غُرْمُها ، لهذا كان يقول : " لست بخير أحد منكم ولكني أثقلكم حملا " ليكن ذلك نُصب عينيك ومحط نظرك وقِبلة قلبك ، فأبْصِرْ وَتعَلَم وإذا عَرفت الحقَ فالْزَم .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عبيد الله بن عمر قال : خطبهم عمر فقال لست بخير أحد منكم ولكني أثقلكم حملا .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عطاء بن أبي رباح قال حدثتني فاطمة امرأة عمر بن عبد العزيز أنها دخلت عليه فإذا هو في مصلاه يده على خده سائلة دموعه فقلت : يا أمير المؤمنين ألشيء حدث ؟ قال يا فاطمة إني تقلدت أمر أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - فتفكرت في الفقير الجائع والمريض الضائع والعاري المجهود والمظلوم المقهور والغريب المأسور والكبير وذي العيال في أقطار الأرض فعلمت أن ربي سيسألني عنهم وأن خصمهم دونهم محمد - صلى الله عليه وسلم - فخشيت ألا تثبت لي حجة عند خصومته فرحمت نفسي فبكيت.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن قال حماد بن أبي سليمان لما ولي عمر بن عبد العزيز بكى فقال له رجل كيف حبك للدنيا والدرهم قال لا أحبه قال لا تخف فإن الله سيعينك .(2/465)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن المغيرة بن حكيم، قال: قالت لي فاطمة بنت عبد الملك: يا مغيرة قد يكون من الرجال من هو أكثر صلاةً وصياماً من عمر، ولكني لم أر من الناس أحداً قط أشد خوفاً من ربه من عمر، كان إذا دخل البيت ألقى نفسه في مسجده فلا يزال يبكي ويدعو حتى تغلبه عيناه، ثم يستيقظ فيفعل مثل ذلك ليلته أجمع.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عامر بن عبيدة، قال: أول ما أنكر من عمر بن عبد العزيز أنه خرج في جنازة، فأتى ببرد كان يلقى للخلفاء يقعدون عليه إذا خرجوا إلى الجنازة، فألقى له فضربه برجله ثم قعد على الأرض، فقالوا: ما هذا ؟ فجاء رجل فقام بين يديه فقال: يا أمير المؤمنين اشتدت بي الحاجة، وانتهت بي الفاقة، والله سائلك عن مقامي غداً بين يديك، وفي يده قضيب قد اتكأ عليه بسنانه، فقال: أعد ما قلت، فأعاد عليه قال: يا أمير المؤمنين اشتدت بي الحاجة، وانتهت بي الفاقة، والله سائلك عن مقامي هذا بين يديك، فبكى حتى جرت دموعه على القضيب ثم قال: ما عيالك ؟ قال: خمسة، أنا وامرأتي وثلاثة أولادي، قال: فإن الفرض لك ولعيالك عشرة دنانير، ونأمر لك بخمسمائة، مائتين من مالي وثلاثمائة من مال الله تبلغ بها حتى يخرج عطاؤك.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال: كان لعمر بن عبد العزيز سفط فيه دراعة من شعر وغل، وكان له بيت في جوف بيت يصلي فيه لا يدخل فيه أحد، فإذا كان في آخر الليل فتح ذلك السفط ولبس تلك الدراعة ووضع الغل في عنقه، فلا يزال يناجي ربه ويبكي حتى يطلع الفجر ثم يعيده في السفط.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عبد العزيز بن الوليد بن أبي السائب، قال: سمعت أبي يقول: ما رأيت أحداً قط الخوف ـ أو قال الخشوع ـ أبين على وجهه من عمر بن عبد العزيز.(2/466)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أبي حازم الخناصري الأسدي قال: قدمت دمشق في خلافة عمر بن عبد العزيز يوم الجمعة والناس رائحون إلى الجمعة، فقلت: إن أنا صرت إلى الموضع الذي أريد نزوله فأتتني الصلاة ولكن أبدأ بالصلاة، فصرت إلى باب المسجد فأنخت بعيري ثم عقلته ودخلت المسجد، فإذا أمير المؤمنين على الأعواد يخطب الناس، فلما أن بصر بي عرفني فناداني يا أبا حازم إلي مقبلاً ؟ فلما أن سمع الناس نداء أمير المؤمنين لي أوسعوا لي فدنوت من المحراب، فلما أن نزل أمير المؤمنين فصلى بالناس التفت إلى فقال: يا أبا حازم متى قدمت بلدنا ؟ قلت: الساعة وبعيري معقول بباب المسجد، فلما أن تكلم عرفته، فقلت: أنت عمر بن عبد العزيز ؟ قال: نعم، قلت له: والله لقد كنت عندنا بالأمس بالخناصرة أميراً لعبد الملك بن مروان، فكان وجهك وضياً، وثوبك نقياً، ومركبك وطياً، وطعامك شهياً وحرسك شديداً، فما الذي غير بك وأنت أمير المؤمنين ؟ قال لي: يا أبا حازم أناشدك الله إلا حدثتني الحديث الذي حدثتني بخناصرة ؟ قلت له: نعم، سمعت أبا هريرة، يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن بين أيديكم عقبة كؤوداً لا يجوزها إلا كل ضامر مهزول قال أبو حازم: فبكى أمير المؤمنين بكاء عالياً حتى علا نحيبه، ثم قال: يا أبا حازم أفتلومني أن أضمر نفسي لتلك العقبة لعلي أن أنجو منها وما أظنني منها بناج ؟
قال أبو حازم: فأغمى على أمير المؤمنين. فبكى بكاءً عالياً حتى علا نحيبه، ثم ضحك ضحكاً عالياً حتى بدت نواجذه، وأكثر الناس فيه القول، فقلت: اسكتوا وكفوا فإن أمير المؤمنين لقى أمراً عظيماً .(2/467)
قال أبو حازم: ثم أفاق من غشيته فبدرت الناس إلى كلامه فقلت له: يا أمير المؤمنين لقد رأينا منك عجباً، قال: ورأيتم ما كنت فيه ؟ قلت: نعم، قال: إني بينما أنا أحدثكم إذ أغمى علي فرأيت كأن القيامة قد قامت وحشر الله الخلائق وكانوا عشرين ومائة صف، أمة محمد صلى الله عليه وسلم من ذلك ثمانون صفاً، وسائر الأمم من الموحدين أربعون صفاً، إذ وضع الكرسي ونصب الميزان ونشرت الدواوين ثم نادى المنادي أين عبد الله بن أبي قحافة، فإذا شيخ طوال يخضب بالحناء والكتم فأخذت الملائكة بضبعيه فأوقفوه أمام الله فحوسب حساباً يسيراً ثم أمر به ذات اليمين إلى الجنة، ثم نادى المنادي أين عمر بن الخطاب ؟ فإذا شيخ طوال يخضب الحناء فجثى فأخذت الملائكة بضبعيه فأوقفوه أمام الله فحوسب حساباً يسيراً ثم أمر به ذات اليمين إلى الجنة ثم نادى مناد أين عثمان بن عفان ؟ فإذا بشيخ طوال يصفر لحيته، فأخذت الملائكة بضبعيه فأوقفوه أمام الله فحوسب حساباً يسيراً ثم أمر به ذات اليمين إلى الجنة، ثم ناد مناد أين على بن أبي طالب ؟ فإذا بشيخ طوال أبيض الرأس واللحية، عظيم البطن دقيق الساقين، فأخذت الملائكة بضبعيه فأوقفوه أمام الله فحوسب حساباً يسيراً ثم أمر به ذات اليمين إلى الجنة، فلما رأيت الأمر قد قرب مني اشتغلت بنفسي فلا أدري ما فعل الله بمن كان بعد علي ، إذ ناد المنادي أين عمر بن عبد العزيز؟ فقمت فوقعت على وجهي ثم قمت فوقعت على وجهي ثم قمت فوقعت على وجهي فأتاني ملكان فأخذا بضبعي فأوقفاني أمام الله تعالى فسألني عن النقير والقطمير والفتيل وعن كل قضية قضيت بها حتى ظننت إني لست بناج، ثم أن ربي تفضل علي وتداركني منه برحمة وأمر بي ذات اليمين إلى الجنة، فبينا أنا مار مع الملكين الموكلين بي إذ مررت بجيفة ملقاه على رماد، فقلت: ما هذه الجيفة ؟ قالوا: ادن منه وسله يخبرك، فدنوت فوكزته برجلي وقلت له: من أنت ؟ فقال لي: من أنت ؟ قلت: أنا عمر بن عبد(2/468)
العزيز، قال لي: ما فعل الله بك وبأصحابك ؟ قلت: أما أربعة فأمر بهم ذات اليمين إلى الجنة، ثم لا أدري ما فعل الله بمن كان بعد علي ، فقال لي: أنت ما فعل الله بك ؟ قلت: تفضل على ربي وتداركني منه برحمة، وقد أمر بي ذات اليمين إلى الجنة، فقال: أنا كما صرت ثلاثاً، قلت: أنت من أنت ؟ قال: أنا الحجاج بن يوسف، قلت له: الحجاج ؟ أرددها عليه ثلاثاً، قلت: ما فعل الله بك ؟ قال: قدمت على رب شديد العقاب، ذي بطشة منتقم ممن عصاه، قتلني بكل قتلة قتلت بها مثلها، ثم ها أنا ذا موقوف بين يدي ربي أنتظر ما ينتظر الموحدون من ربهم، إما إلى جنة وإما إلى نار،
قال أبو حازم: فأعطيت الله عهداً بعد رؤيا عمر بن عبد العزيز أن لا أوجب لأحد من هذه الأمة ناراً.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عبد الله، قال: سمعت القداح يذكر أن عمر بن عبد العزيز كان إذا ذكر الموت انتفض انتفاض الطير، وبكى حتى تجري دموعه على لحيته.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن سعيد بن أبي عروبة قال : كان عمر بن عبد العزيز إذا ذكر الموت اضطربت أوصاله.
ومما روي له :
ولا خير في عيش امرىء لم يكن له ... من الله في دار القرار نصيب
فإن تعجب الدنيا أناسا فإنها ... متاع قليل والزوال قريب
ومما روي له :
أيقظان أنت اليوم أم أنت نائم ... وكيف يطيق النوم حيران هائم
فلو كنت يقظان الغداة لخرقت ... مدامع عينيك الدموع السواجم
تسر بما يبلى وتفرح بالمنى ... كما اغتر باللذات في اليوم حالم
نهارك يا مغرور سهو وغفلة ... وليلك نوم والردى لك لازم
وسعيك فيما سوف تكره غبه ... كذلك في الدنيا تعيش البهائم
[*] وأورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن وهيب بن الورد قال كان عمر بن عبد العزيز يتمثل كثيرا بهذه الأبيات :
يرى مستكينا وهو للهو ماقت ... به عن حديث القوم ما هو شاغله
وأزعجه علم عن الجهل كله ... وما عالم شيئا كمن هو جاهله(2/469)
عبوس عن الجهال حين يراهم ... فليس له منهم خدين يهازله
تذكر ما يبقى من العيش آجلا ... فأشغله عن عاجل العيش آجله
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن ميمون بن مهران أنه قال: دخلت على عمر بن عبد العزيز يوماً وعنده سابق البربري الشاعر، وهو ينشد شعراً، فانتهى في شعره إلى هذه الأبيات:
فكم من صحيحٍ بات للموت آمنا ... أتته المنايا بغتةً بعد ما هجع
فلم يستطع إذ جاءه الموت بغتة ... فراراً ولا منه بقوته امتنع
فأصبح تبكيه النساء مقنعاً ... ولا يسمع الداعي وإن صوته رفع
وقرب من لحد فصار مقيله ... وفارق ما قد كان بالأمس قد جمع
فلا يترك الموت الغنى لماله ... ولا معدماً في المال ذا حاجة يدع
قال: فلم يزل عمر يبكى ويضطرب حتى غشى عليه، فقمنا فانصرفنا عنه.(2/470)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عبد الله بن عياش، عن أبيه: أن عمر بن عبد العزيز شيع جنازة، فلما انصرفوا تأخر عمر وأصحابه ناحية عن الجنازة، فقال له أصحابه: يا أمير المؤمنين جنازة أنت وليها تأخرت عنها فتركتها وتركتها ؟ فقال: نعم، ناداني القبر من خلفي يا عمر بن عبد العزيز ألا تسألني ما صنعت بالأحبة ؟ قلت: بلى، قال: خرقت الأكفان، ومزقت الأبدان، ومصصت الدم وأكلت اللحم، ألا تسألني ما صنعت بالأوصال؟ قلت: بلى، قال: نزعت الكفين من الذراعين، والذراعين من العضدين، والعضدين من الكتفين، والوركين من الفخذين، والفخذين من الركبتين، والركبتين من الساقين، والساقين من القدمين، ثم بكى عمر فقال: ألا إن الدنيا بقاؤها قليل، وعزيزها زليل، وغنيها فقير، وشبابها يهرم، وحيها يموت، فلا يغرنكم إقبالها مع معرفتكم بسرعة إدبارها، والمغرور من اغتر بها، أين سكانها الذين بنوا مدائنها، وشققوا أنهارها، وغرسوا أشجارها، وأقاموا فيها أياماً يسيرة، غرتهم بصحتهم، وغزوا بنشاطهم، فركبوا المعاصي، إنهم كانوا والله في الدينا مغبوطين بالأموال على كثرة المنع، محسودين على جمعه، ما صنع التراب بأبدانهم، والرمل بأجسادهم، والديدان بعظامهم وأوصالهم، كانوا في الدنيا على أسرة ممهدة، وفرش منضدة، بين خدم يخدمون، وأهل يكرمون، وجيران يعضدون، فإذا مررت فنادهم إن كنت منادياً، وادعهم إن كنت داعياً، ومر بعسكرهم، وانظر إلى تقارب منازلهم التي كان بها عيشهم، وسل غنيهم ما بقى من غناه، وسل فقيرهم ما بقى من فقره، وسلهم عن الألسن التي كانوا بها يتكلمون، وعن الأعين التي كانت إلى اللذات بها ينظرون، وسلهم عن الجلود الرقيقة، والوجوه الحسنة، والأجساد الناعمة، ما صنع بها الديدان ؟ محت الألوان، وأكلت اللحمان، وعفرت الوجوه، ومحت المحاسن، وكسرت الفقار وأبانت الأعضاء، ومزقت الأشلاء، وأين حجالهم وقبابهم، وأين خدمهم وعبيدهم، وجمعهم ومكنوزهم،(2/471)
والله ما زودوهم فراشاً، ولا وضعوا هناك متكأً، ولا غرسوا لهم شجراً، ولا أنزلوهم من اللحد قراراً، أليسوا في منازل الخلوات والفلوات أليس الليل والنهار عليهم سواء ؟ أليس هم في مدلهمة ظلماء ؟ قد حيل بينهم وبين العمل، وفارقوا الأحبة. فكم من ناعم وناعمة أصبحوا ووجوهم بالية، وأجسادهم من أعناقهم نائية، وأوصالهم ممزقة، قد سالت الحدق على الوجنات، وامتلأت الأفواه دماً وصديداً، ودبت دواب الأرض في أجسادهم ففرقت أعضاءهم، ثم لم يلبثوا والله إلا يسيرا حتى عادت العظام رميماً، قد فارقوا الحدائق، فصاروا بعد السعة إلى المضايق، قد تزوجت نساؤهم، وترددت في الطرق أبناؤهم، وتوزعت القرابات ديارهم وتراثهم، فمنهم والله الموسع له في قبره، الغض الناضر فيه، المتنعم بلذته. يا ساكن القبر غداً مالذي غرك من الدنيا، هل تعلم أنك تبقى أو تبقى لك، أين دارك الفيحاء، ونهرك المطرد، وأين ثمرك الناضر ينعه وأين رقاق ثيابك وأين طيبك وأين بخورك، وأين كسوتك لصيفك وشتائك، أما رأيته قد نزل به الأمر فما يدفع عن نفسه وجلا، وهو يرشح عرقاً، ويتلمظ عطشاً، يتقلب من سكرات الموت وغمراته، جاء الأمر من السماء، وجاء غالب القدر والقضاء، جاء من الأمر والأجل ما تمتنع منه، هيهات هيهات، يا مغمض الوالد والأخ والولد وغاسله، يا مكفن الميت وحامله، يا مخليه في القبر وراجعاً عنه، ليت شعري كيف كنت على خشونة الثرى، يا ليت شعري بأي خديك بدأ البلى، يا مجاور الهلكات صرت في محلة الموتى، ليت شعري مالذي يلقاني به ملك الموت عند خروجي من الدنيا، وما يأتيني به من رسالة ربي، ثم تمثل:
تسر بما يفنى وتشغل بالصبا ... كما غر باللذات في النوم حالم
نهارك يا مغرور سهو وغفلة ... وليلك نوم والردى لك لازم
وتعمل فيما سوف تكره غبه ... كذلك في الدنيا تعيش البهايم
ثم انصرف فما بقى بعد ذلك إلا جمعه.(2/472)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أسد بن زيد قال: كنا مع عمر بن عبد العزيز في جنازة، فلما أن دفن الميت ركب بغلة له صغيرة ثم جاء إلى قبر فركز عليه المقرعه فقال: السلام عليك يا صاحب القبر، قال عمر فنادانى مناد من خلفى وعليك السلام يا عمر بن عبد العزيز عم تسأل ؟ فقلت، عن ساكنك وجارك، قال: أما البدن فعندي، والروح عرج به إلى الله عز وجل ما أدري أي شيء حاله، قلت أسألك، عن ساكنك وجارك ؟ قال: دمغت المقلتين، وأكلت الحدقتين، ومزقت الأكفان، وأكلت الأبدان .
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أبي قرة، قال: خرج عمر بن عبد العزيز على بعض جنائز بني مروان، فلما صلى عليها وفرغ، قال لأصحابه: توقفوا، فوقفوا، فضرب بطن فرسه حتى أمعن في القبور وتوارى عنهم، فاستبطأه الناس حتى ظنوا، فجاء وقد احمرت عيناه، وانتفخت أوداجه، قالوا: يا أمير المؤمنين أبطأت علينا ؟ قال: أتيت قبور الأحبة، قبور بني آبائي فسلمت عليهم فلم يردوا السلام، فلما ذهبت أقفى ناداني التراب فقال: ألا تسألني يا عمر عليهم ما لقيت الأحبة؟ قلت: وما لقيت الأحبة؟ قال: خرقت الأكفان، وأكلت الأبدان، ونزعت المقلتين، فذكر نحوه. وزاد: فلما ذهبت أقفي ناداني: يا عمر عليك بأكفان لا تبلى، قلت: وما أكفان لا تبلى ؟ قال: اتقاء الله، والعمل الصالح.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أبي صالح الشامى، قال: قال عمر بن عبد العزيز:
أنا ميت وعز من لا يموت ... قد تيقنت أنني سأموت
ليس ملك يزيله الموت ملكا ... إنما الملك ملك من لا يموت(2/473)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن مفضل بن يونس، قال: قال عمر بن عبد العزيز: لقد نغص هذا الموت على أهل الدنيا ما هم فيه من غضارة الدنيا وزهوتها، فبينا هم كذلك وعلى ذلك أتاهم جاد من الموت فاخترمهم مما هم فيه، فالويل والحسرة هنا لك لمن لم يحذر الموت، ويذكره في الرخاء فيقدم لنفسه خيراً يجده بعدما فارق الدنيا وأهلها، قال: ثم بكى عمر حتى غلبه البكاء فقام.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أسماء بن عبيد قال: دخل عنبسة بن سعيد بن العاص على عمر بن عبد العزيز، فقال: يا أمير المؤمنين إن من كان قبلك من الخلفاء كانوا يعطون عطايا منعتناها، ولي عيال وضيعة، أفتأذن لي أن أخرج إلى ضيعتي وما يصلح عيالي ؟ فقال عمر: أحبكم إلينا من كفانا مؤنته. فخرج من عنده فلما صار عن الباب قال عمر: أبا خالد أبا خالد، فرجع. فقال: أكثر من ذكر الموت فإن كنت في ضيق من العيش وسعه عليك، وإن كنت في سعة من العيش ضيقه عليك.(2/474)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أبو ربيعة عبيد الله بن عبيد بن عدى الكندي، عن أبيه، عن جده، قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى بعض عماله، أما بعد: فكأن العباد قد عادوا إلى الله ثم ينبئهم بما عملوا ليجزى الذين أساءوا بما عملوا، ويجزى الذين أحسنوا بالحسنى، فإنه لا معقب لحكمه ولا ينازع في أمره، ولا يقاطع في حقه الذي استحفظه عباده وأوصاهم به، وإني أوصيك بتقوى الله، وأحثك على الشكر فيما اصطنع عندك من نعمة، وآتاك من كرامة، فإن نعمه يمدها شكره، ويقطعها كفره، أكثر ذكر الموت الذي لا تدري متى يغشاك، ولا مناص ولا فوت، وأكثر من ذكر يوم القيامة وشدته، ثم كن مما أوتيت من الدنيا على وجل، فإن من لا يحذر ذلك ولا يتخوفه توشك الصرعة أن تدركه في الغفلة، وأكثر النظر في عملك في دنياك بالذي أمرت به، ثم اقتصر عليه، فإن فيه لعمري شغلاً عن دنياك، ولن تدرك العلم حتى تؤثره على الجهل، ولا الحق حتى تذر الباطل فنسأل الله لنا ولك حسن معونته، وأن يدفع عنا وعنك بأحسن دفاعه برحمته.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عبد السلام مولى مسلمة بن عبد الملك، قال: بكى عمر بن عبد العزيز فبكت فاطمة فبكى أهل الدار، لا يدري هؤلاء ما أبكى هؤلاء، فلما تجلى عنهم العبر قالت له فاطمة: بأبي أنت يا أمير المؤمنين مم بكيت ؟ قال: ذكرت يا فاطمة منصرف القوم من بين يدي الله عز وجل، فريق في الجنة وفريق في السعير، قال: ثم صرخ وغشى عليه.(2/475)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن ميمون بن مهران، قال: قال لي عمر بن عبد العزيز: حدثني يا ميمون، قال: فحدثته حديثاً بكى منه بكاءً شديداً، فقلت: يا أمير المؤمنين لو علمت أنك تبكي هذا البكاء لحدثتك حديثاً ألين من هذا، فقال: يا ميمون إنا نأكل هذه الشجرة العدس وهي ما علمت مرقة للقلب، مغزرة للدمعة، مذلة للجسد، قال ميمون: ودعاني عمر فقال: يا مهران بن ميمون، إني أوصيك بوصية فاحفظها، إياك أن تخلو بامرأة غير ذات محرم وإن حدثتك نفسك أن تعلمها القرآن.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن محمد بن إبراهيم، حدثني أبي، عن جدي، قال: حج سليمان بن عبد الملك ومعه عمر بن عبد العزيز، فلما أشرفت على عقبة عسفان نظر سليمان إلى عسكره فأعجبه ما رأى من حجره وأبنيته، فقال: كيف ترى ما ها هنا يا عمر؟ قال: أرى يا أمير المؤمنين دنيا يأكل بعضها بعضاً، أنت المسئول عنها والمأخوذ بما فيها، فطار غراب من حجرة سليمان ينعب في منقاره كسره، فقال سليمان: ما ترى هذا الغراب يقول؟ قال: أظنه يقول من أين دخلت هذه الكسرة وكيف خرجت، قال: إنك لتجىء بالعجب يا عمر، قال: إن شئت أخبرك من هذا أخبرتك؟ قال: فأخبرني، قال: من عرف الله فعصاه. ومن عرف الشيطان فأطاعه، ومن رأى الدنيا وتقلبها بأهلها ثم اطمأن إليها، قال سليمان: نغصت علينا ما نحن فيه يا عمر، وضرب دابته وسار. فأقبل عمر حتى نزل عن دابته فأمسك برأسها وذلك أنه سبق ثقله، فرأى الناس كل من قدم شيئاً قدم عليه، فبكى عمر فقال سليمان: ما يبكيك ؟ قال: هكذا يوم القيامة من قدم شيئاً قدم عليه، ومن لم يقدم شيئاً قدم على غير شيء.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أبي قبيل أن عمر بن عبد العزيز بكى وهو غلام صغير فأرسلت إليه أمه وقالت ما يبكيك قال ذكرت الموت قال وكان يومئذ قد جمع القرآن فبكت أمه حين بلغها ذلك.(2/476)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن مكحول لو حلفت لصدقت ما رأيت أزهد ولا أخوف لله من عمر بن عبد العزيز.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن النضر بن عربي قال دخلت على عمر بن عبد العزيز فكان ينتفض أبدا كأن عليه حزن الخلق الفسوي .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أبي حاتم قال لما مرض عمر بن عبد العزيز جيء بطبيب فقال به داء ليس له دواء غلب الخوف على قلبه .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أرطاة قال: قيل لعمر بن عبد العزيز لو جعلت على طعامك أمينا لا تغتال وحرسيا إذا صليت وتنح عن الطاعون قال اللهم إن كنت تعلم أني أخاف يوما دون يوم القيامة فلا تؤمن خوفي .(2/477)
[*] أورد ابن كثير في البداية والنهاية عن ميمون بن مهران خرجت مع عمر إلى القبور فقال لي يا أبا أيوب هذه قبور آبائي بني أمية كأنهم لم يشاركوا أهل الدنيا في لذتهم وعيشهم أما تراهم صرعى قد خلت بهم المثلات واستحكم فيهم البلاء ثم بكى حتى غشي عليه ثم أفاق فقال انطلقوا بنا فو الله لا أعلم أحدا أنعم ممن صار إلى هذه القبور وقد أمن من عذاب الله ينتظر ثواب الله وقال غيره خرج عمر بن عبد العزيز في جنازة فلما دفنت قال لأصحابه قفوا حتى آتي قبور الأحبة فأتاهم فجعل يبكي ويدعو إذ هتف به التراب فقال يا عمر ألا تسألني ما فعلت في الأحبة قال قلت وما فعلت بهم قال مزقت الأكفان وأكلت اللحوم وشدخت المقلتين وأكلت الحدقتين ونزعت الكفين من الساعدين والساعدين من العضدين والعضدين من المنكبين والمنكبين من الصلب والقدمين من الساقين والساقين من الفخذين والفخذين ن الورك والورك من الصلب فلما أراد أن يذهب قال له يا عمر أدلك على أكفان لا تبلى قال وما هي قال تقوى الله والعمل الصالح ، وقال مرة لرجل من جلسائه لقد أرقت الليلة مفكرا قال وفيم يا أمير المؤمنين قال في القبر وساكنه إنك لو رأيت الميت بعد ثلاث في قبره وما صار إليه لا ستوحشت من قربه بعد طول الأنس منك بناحيته ولرأيت بيتا تجول فيه الهوام وتخترق فيه الديدان ويجري فيه الصديد مع تغير الريح وبلى الأكفان بعد حسن الهيئة وطيب الريح ونقاء الثوب قال ثم شهق شهقة خر مغشيا عليه .
{ تنبيه } : من أعظم مظاهر خشية عمر ابن عبد العزيز رحمه الله تعالى حرصه على طلب النصيحة من من أئمة الهدى وأعلام التقى ومصابيح الدجى ليكونوا عوناً له بعد الله تعالى في التوفيق والسداد في أمور دينه ودنياه ، ومن ذلك ما يلي :(2/478)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سالم بن عبد الله بن عمر: أن عمر بن عبد العزيز كتب إليه: من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى سالم بن عبد الله، سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد: فإن الله ابتلاني به من أمر هذه الأمة من غير مشاورة مني فيها، ولا طلبة مني لها، إلا قضاء الرحمن وقدره، فأسأل الذي ابتلاني من أمر هذه الأمة بما ابتلاني أن يعينني على ما ولاني، وأن يرزقني منهم السمع والطاعة وحسن مؤازرة، وأن يرزقهم مني الرأفة والمعدلة، فإذا أتاك كتابي هذا فابعث إلى بكتب عمر بن الخطاب وسيرته وقضاياه في أهل القبلة وأهل العهد، فإني متبع أثر عمر وسيرته إن أعانني الله على ذلك والسلام. فكتب إليه سالم ابن عبد الله: بسم الله الرحمن الرحيم، من سالم بن عبد الله بن عمر إلى عبد الله عمر أمير المؤمنين، سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد: فإن الله خلق الدنيا لما أراد، وجعل لها مدة قصيرة كان بين أولها وآخرها ساعة من نهار، ثم قضى عليها وعلى أهلها الفناء فقال: ( كُلّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [ القصص : 88].(2/479)
لا يقدر منها أهلها على شيء حتى تفارقهم ويفارقوها، أنزل بذلك كتابه، وأنزل بذلك رسله، وقدم فيه بالوعيد، وضرب فيه الأمثال، ووصل به القول، وشرع فيه دينه، وأحل الحلال وحرم الحرام وقص فأحسن القصص، وجعل دينه في الأولين والآخرين فجعله ديناً واحداً فلم يفرق بين كتبه، ولم تختلف رسله، ولم يشق أحد بشيء من أمر سعد به أحد، ولم يسعد أحد من أمره بشىء شقى به أحد، وإنك اليوم يا عمر لم تعد أن تكون إنساناً من بني آدم، يكفيك من الطعام والشراب والكسوة ما يكفي رجلاً منهم، فاجعل فضل ذلك فيما بينك وبين الرب الذي توجه إليه شكر النعم، فإنك قد وليت أمراً عظيماً ليس يليه عليك أحد دون الله، قد أفضى فيما بينك وبين الخلائق، فإن استطعت أن تغنم نفسك وأهلك فافعل، ولا قوة إلا بالله، فإنه قد كان قبلك رجال عملوا بما عملوا، وأماتوا ما أماتوا من الحق، وأحيوا ما أحيوا من الباطل، حتى ولد فيه رجال ونشأوا فيه وظنوا أنها السنة، ولم يسددوا على العباد باب رخاء إلا فتح عليهم باب بلاء، فإن استطعت أن تفتح عليهم أبواب الرخاء فإنك لا تفتح عليهم منها باباً إلا سد به عنك باب بلاء، ولا يمنعك من نزع عامل أن تقول لا أجد من يكفيني عمله، فإنك إذا كنت تنزع لله وتعمل لله أتاح الله لك رجالاً وكالا بأعوان الله، وإنما العون من الله على قدر النية، فإذا تمت نية العبد تم عون الله له، ومن قصرت نيته قصر من الله العون له بقدر ذلك، فإن استطعت أن تأتي الله يوم القيامة ولا يتبعك أحد بظلم ويجىء من كان قبلك وهم غابطون لك بقلة إتباعك وأنت غير غابط لهم بكثرة أتباعهم فافعل، ولا قوة إلا بالله، فإنهم قد عاينوا وعالجوا نزع الموت الذي كانوا منه يفرون، وانشقت بطونهم التي كانوا فيها لا يشبعون، وانفقأت أعينهم التي كانت لا تنقضي لذاتها، واندقت رقابهم في التراب غير موسدين بعد ما تعلم من تظاهر الفرش والمرافق، فصاروا جيفاً تحت بطون الأرض تحت آكامها، لو كانوا(2/480)
إلى جنب مسكين تأذى بريحهم، بعد إنفاق ما لا يحصى عليهم من الطيب، كان إسرافاً وبداراً عن الحق، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ما أعظم يا عمر وأفظع الذي سبق إليك من أمر هذه الأمة، فأهل العراق فليكونوا من صدرك بمنزلة من لا فقر بك إليه، ولا غنى بك عنه، فإنهم قد وليتهم عمال ظلمة قسموا المال وسفكوا الدماء، فإنه من تبعث من عمالك كلهم أن يأخذوا بجبية، وأن يعملوا بعصبية، وأن يتجبروا في عملهم، وأن يحتكروا على المسلمين بيعاً، وأن يسفكوا دماً حراماً. الله الله يا عمر في ذلك، فإنك توشك إن اجترأت على ذلك أن يؤتى بك ضغيراً ذليلاً، وإن أنت اتقتيت ما أمرتك به وجدت راحته على ظهرك وسمعك وبصرك، ثم أنك كتبت إلى تسأل أن أبعث إليك بكتاب عمر بن الخطاب وسيرته وقضائه في المسلمين وأهل العهد، وأن عمر عمل في غير زمانك، وإني أرجو إن عملت بمثل ما عمل أن تكون عند الله أفضل منزلة من عمر، وقل كما قال العبد الصالح: ( وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىَ مَآ أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِيَ إِلاّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) [ هود : 88]. والسلام عليك.
اتخاذ عمر بن عبد العزيز مجلس الشورى :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
اتخذ عمر بن عبد العزيز مجلس شورى من عشرة من كبار فقهاء المدينة فلم يقطع أمرًا بدونهم، بل كان دائمًا يطلب منهم النصح والمشورة ، وهذا دليل ٌ أوفي على خشيته لله تعالى وحرصه على قبول النصيحة في جنب الله تعالى .(2/481)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن ابن أبي الزناد عن أبيه قال لما قدم عمر بن عبد العزيز المدينة واليا فصلى الظهر دعا بعشرة عروة وعبيد الله وسليمان بن يسار والقاسم وسالما وخارجة وأبا بكر بن عبد الرحمن وأبا بكر بن سليمان بن أبي حثمة وعبد الله بن عامر بن ربيعة فحمد الله وأثنى عليه ثم قال إني دعوتكم لأمر تؤجرون فيه ونكون فيه أعوانا على الحق ما أريد أن أقطع أمرا إلا برأيكم أو برأي من حضر منكم فإن رأيتم أحدا يتعدى أو بلغكم عن عامل ظلامة فأحرج بالله على من بلغه ذلك إلا أبلغني فجزوه خيرا.
(4) كثرة ذكر عمر بن عبد العزيز للموت :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
كان عمر بن عبد العزيز يكثر من ذكر الموت ، وذات يومٍ مرَّ عمر بن عبد العزيز بالمقابر، فقال: انتظروني قليلاً - ذكر ذلك ابن كثير - انتظروني قليلاً فوقف الوزراء، والصلحاء، والأمراء، والناس، ونزل عن بغلته، فوقف على المقبرة، التي فيها الخلفاء من بني أمية، والتي فيها الأغنياء، وقال:
أتيت القبورَ فناديتها أين المعظَّم والمحتقر
تفانوا جميعًا فما مخبرٌ وماتوا جميعًا ومات الخبر
فيا سائلي عن أناس مضَوْا أمالَك فيما مضى معتبر
ثم وقف على طرف المقبرة وقال: يا موت، ماذا فعلت بالأحبة؟ يا موت ماذا فعلت بالأحبة؟ ثم بكى وجلس ينتحب، حتى كادت أضلاعه أن تختلف، ثم عاد إلى الناس، وقال: أتدرون ماذا قال الموت؟ قالوا: ما ندري. قال: يقول بدأت بالحدَقتين، وأكلت العينين، وفصَلت الكفين من الساعدين، والساعدين من العضدين، والعضدين من الكتفين، وفصلت القدمين من الساقين، والساقين من الركبتين، والركبتين من الفخذين.
باتوا على قُلَلِ الآمال تحرسهم غُلبُ الرجالِ فما أغنتهم القُلَلُ
واستُنْزِلوا بعد عزٍّ من مساكنهم إلى مقابرهم يا بئس ما نزلوا(2/482)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن جابر بن نوح، قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى بعض أهل بيته، أما بعد فإنك إن استشعرت ذكر الموت في ليلك أو نهارك بغض إليك كل فان، وحبب إليك كل باق، والسلام.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عن جعونة، قال: قال عمر بن عبد العزيز: يا أيها الناس إنما أنتم أغراض تنتضل فيها المنايا، إنكم لا تؤتون نعمة إلا بفراق أخرى، وأية أكلة ليس معها غصة، وأية جرعة ليس معها شرقة، وإن أمْس شاهد مقبول قد فجعكم بنفسه، وخلف في أيديكم حكمته، وإن اليوم حبيب مودع وهو وشيك الظعن، وإن غداً آت بما فيه، وأين يهرب من يتقلب في يدي طالبه، إنه لا أقوى من طالب، ولا أضعف من مطلوب. إنما أنتم سفر تحلون عقد رحالكم في غير هذه الدار، إنما أنتم فروع أصول قد مضت فما بقاء فرع بعد ذهاب أصله.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عبيد الله بن العيزار، قال: خطبنا عمر بن عبد العزيز بالشام على منبر من طين، فحمد الله وأثنى عليه، ثم تكلم بثلاث كلمات فقال: أيها الناس أصلحوا سرائركم تصلح علانيتكم، واعملوا لآخرتكم تكفوا دنياكم، واعلموا أن رجلاً ليس بينه وبين آدم آب حي لمغرق له في الموت. والسلام عليكم.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أبي الحسن المدائني، قال: كتب عمر بن عبد العزيزإلى عمر بن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة يعزيه على ابنه: أما بعد، فإنا قوم من أهل الآخرة أسكنا الدنيا، أموات أبناء أموات، والعجب لميت يكتب إلى ميت يعزيه عن ميت. والسلام.(2/483)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عبد الله بن المفضل التميمي، قال: آخر خطبة خطبها عمر بن عبد العزيز أن صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، فإن ما في أيديكم أسلاب الهالكين، وسيتركها الباقون كما تركها الماضون، ألا ترون أنكم في كل يوم وليلة تشيعون غادياً أو رائحاً إلى الله تعالى، وتضعونه في صدع الأرض ثم في بطن الصدع، غير ممهد ولا موسد، قد خلع الأسلاب، وفارق الأحباب، وأسكن التراب، وواجه الحساب، فقير إلى ما قدم أمامه، غنى عما ترك بعده. أما والله إني لأقول لكم هذا وما أعرف من أحد من الناس مثل ما أعرف من نفسي، قال: ثم قال بطرف ثوبه على عينه فبكى ثم نزل، فما خرج حتى أخرج إلى حفرته.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن شعيب بن صفوان، عن عيسى أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى رجل: أما بعد: فإني أوصيك بتقوى لله، والانشمار لما استطعت من مالك وما رزقك الله إلى دار قرارك، فكأنك والله ذقت الموت وعاينت ما بعده بتصريف الليل والنهار فإنهما سريعان في طي الأجل ونقص العمر، لم يفتهما شىء إلا أفنياه، ولا زمن مرا به إلا أبلياه، مستعدان لمن بقى بمثل الذي أصاب من قد مضى، فنستغفر الله لسيء أعمالنا، ونعوذ به من مقته إيانا على ما نعظ به مما نقصر عنه.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن ميمون بن مهران، قال: خرجت مع عمر بن عبد العزيز إلى المقبرة، فلما نظر إلى القبور بكى ثم أقبل علي فقال: يا أبا أيوب هذه قبور آبائي بني أمية كأنهم لم يشاركوا أهل الدنيا في لذتهم وعيشهم. أما تراهم صرعى قد خلت بهم المثلات، واستحكم فيهم البلاء، وأصابت الهوام في أبدانهم مقيلاً. ثم بكى حتى غشى عليه، ثم أفاق فقال: انطلق بنا فوالله ما أعلم أحداً أنعم ممن صار إلى هذه القبور وقد أمن عذاب الله.(2/484)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن إسماعيل بن إبراهيم بن أبي حبيبة: أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى بعض عماله، أما بعد: فإني أوصيك بتقوى الله ولزوم طاعته، فإن بتقوى الله نجا أولياء الله من سخطه، وبها تحقق لهم ولايته، وبها رافقوا أنبيائهم، وبها نضرت وجوههم، وبها نظروا إلى خالقهم، وهي عصمة في الدنيا من الفتن، والمخرج من كرب يوم القيامة، ولم يقبل ممن بقى إلا بمثل ما رضي عمن مضى ولمن بقى عبرة فيما مضى، وسنة الله فيهم واحدة، فبادر بنفسك قبل أن تؤخذ بكظمك، ويخلص إليك كما خلص إلى من كان قبلك، فقد رأيت الناس كيف يموتون وكيف يتفرقون، ورأيت الموت كيف يعجل التائب توبته وذا الأمل أمله، وذا السلطان سلطانه، وكفى بالموت موعظة بالغة، وشاغلاً عن الدنيا، ومرغباً في الآخرة، فنعوذ بالله من شر الموت وما بعده، ونسأل الله خيره وخير ما بعده، ولا تطلبن شيئاً من عرض الدنيا بقول ولا فعل تخاف أن يضر بآخرتك، فيزري بدينك، ويمقتك عليه ربك، واعلم أن القدر سيجري إليك برزقك، ويوفيك أملك من دنياك بغير مزيد فيه بحول منك ولا قوة، ولا منقوصاً منه بضعف. إن أبلاك الله بفقر فتعفف في فقرك وأخبت لقضاء ربك، واعتبر بما قسم الله لك من الإسلام، ما ذوى منك من نعمة الدنيا فإن في الإسلام خلفاً من الذهب والفضة من الدنيا الفانية. اعلم أنه لن يضر عبداً صار إلى رضوان الله وإلى الجنة ما أصابه في الدنيا من فقر أو بلاء، وأنه لن ينفع عبداً صار إلى سخط الله و وإلى النار ما أصاب في الدنيا من نعمة أو رخاء، ما يجد أهل الجنة من مكروه أصابهم في دنياهم، ما يجد أهل النار طعم لذة نعموا بها في دنياهم، كل شيء من ذلك كأن لم يكن.(2/485)
تشيعون غادياً أو رائحاً إلى الله قد قضى نحبه، وانقضى أجله، وتغيبونه في صدع من الأرض، ثم تدعونه غير متوسد ولا متمهد، فارق الأحبة، وخلع الأسلاب، وسكن التراب، وواجه الحساب، مرتهناً بعمله، فقيراً إلى ما قدم، غنياً عما ترك، فاتقوا الله قبل نزول الموت، وانقضاء موافاته، وأيم الله إني لأقول لكم هذه المقالة وما أعلم عند أحد منكم من الذنوب أكثر مما أعلم عندي، وأستغفر الله وأتوب إليه.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عون بن معمر قال: كتب الحسن إلى عمر بن عبد العزيز: أما بعد، فكأنك بآخر من كتب عليه الموت قيل قد مات. فأجابه عمر: أما بعد، فكأنك بالدنيا ولم تكن، وكأنك بالآخرة ولم تزل.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عمر بن ذر، قال: قال عمر بن عبد العزيز: لولا أن تكون بدعة لحلفت أن لا أفرح من الدنيا بشىء ابداً حتى أعلم ما في وجوه رسل ربي إلى عند الموت، وما أحب أن يهون على الموت لأنه آخر ما يؤجر عليه المسلم.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن ميمون بن مهران أنه قال: دخلت على عمر بن عبد العزيز يوماً وعنده سابق البربري الشاعر، وهو ينشد شعراً، فانتهى في شعره إلى هذه الأبيات:
فكم من صحيح بات للموت آمناً أتته المنايا بغتة بعد ما هجع
فلم يستطع إذ جاءه الموت بغتة فراراً ولا منه بقوته امتنع
فأصبح تبكيه النساء مقنعاً ولا يسمع الداعى وإن صوته رفع
وقرب من لحد فصار مقيله وفارق ما قد كان بالأمس قد جمع
فلا يترك الموت الغنى لماله ولا معدماً في المال ذا حاجة يدع
قال: فلم يزل عمر يبكى ويضطرب حتى غشى عليه، فقمنا فانصرفنا عنه.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن خالد بن يزيد العمري، قال: سمعت وهيب بن الورد يقول: كان عمر بن عبد العزيز كيراً ما يتمثل بهذه الأبيات:
يرى مستكيناً وهو للهو ماقت ... به عن حديث القوم ما هو شاغله(2/486)
وأزعجه علم عن الجهل كله ... وما عالم شيئاً كمن هو جاهله
عبوس عن الجهال حين يراهم ... فليس له منهم خدين يهازله
تذكر ما يبقى من العيش آجلاً ... فأشغله عن عاجل العيش آجله
(5) كان عمر بن عبد العزيز رحمه الله وقافاً عند حدود الله تعالى :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الأوزاعي، قال: أراد عمر بن عبد العزيز أن يستعمل رجلاً على عمل فأبى، فقال له عمر: عزمت عليك لتفعلن، قال الرجل: وأنا أعزم على نفسي ألا أفعل، فقال عمر للرجل: لا تعص، فقال الرجل: يا أمير المؤمنين أن الله تعالى قال: : (إِنّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَالْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً) [ الأحزاب : 72]. المعصية كان ذلك منها ؟ فأعفاه عمر.
(6) عدل عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ ــ(2/487)
اشتهرت خلافة عمر بن عبد العزيز بأنها الفترة التي عم العدل والرخاء في أرجاء الدولة الأموية حتى أن الرجل كان ليخرج الزكاة من أمواله فيبحث عن الفقراء فلا يجد من في حاجة إليها، وكان عمر رحمه الله قد جمع جماعة من الفقهاء والعلماء وقال لهم: " إني قد دعوتكم لأمر هذه المظالم التي في أيدي أهل بيتي، فما ترون فيها؟ فقالوا: يا أمير المؤمنين : إن ذلك أمرًا كان في غير ولايتك، وإن وِزْرَ هذه المظالم على من غصبها " ، فلم يرتح عمر إلى قولهم وأخذ بقول جماعة آخرين منهم ابنه عبد الملك الذي قال له: أرى أن تردها إلى أصحابها ما دمت قد عرفت أمرها، وإنك إن لم تفعل كنت شريكا للذين أخذوها ظلما. فاستراح عمر لهذا الرأي وقام يرد المظالم إلى أهلها ، لقد كان عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى رمزًا بارزاً لعدالة الإسلام ، كان واليًا تحبه الرعية كأجل ما تحب الرعية الولاة، لأنه لم يفعل ما يدعو إلى السخط والبغض، لأنه كان يتقي الله في أمة محمد صلى الله عليه وسلم، لأنه جعل القرآن قائده، والتقوى رائده، لأنه كان يُعظِّم سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ويحب الفقراء والمساكين، كان يحب أن يسمع الرأي الآخَر والنصيحة، فسرى حبه في قلوب الأطفال، وفي قلوب العجائز، وفي قلوب الفقراء، وفي قلوب المساكين.
وهاك بعض الآثار الواردة في عدل عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى :
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان الثوري، يقول: أئمة العدل خمسة: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعمر بن عبد العزيز، رضي الله تعالى عنهم، من قال غير هذا فقد اعتدى.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن حرملة قال: سمعت الشافعي يقول الخلفاء خمسة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعمر بن عبد العزيز وفي رواية الخلفاء الراشدون .(2/488)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عمرو بن مهاجر، قال: قال عمر بن عبد العزيز: إذا رأيتني قد ملت عن الحق فضع يدك في تلبابي ثم هزني، ثم قل: يا عمر ما تصنع ؟
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن داود بن أبي هند قال دخل علينا عمر بن عبد العزيز من هذا الباب ، يعني بابا من أبواب المسجد بالمدينة، فقال رجل من القوم بعث إلينا هذا الفاسق بابنه هذا يتعلم الفرائض والسنن وزعم أنه يكون خليفة بعده ويسير بسيرة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال : فقال لنا داود فو الله ما مات حتى رأينا ذلك فيه ، قيل إن عمر بن الخطاب قال إن من ولدي رجلا بوجهه شتر يملأ الأرض عدلا .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن نافع بلغنا أن عمر قال إن من ولدي رجلا بوجهه شين يلي فيملأ الأرض عدلا قال نافع فلا أحسبه إلا عمر بن عبد العزيز .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الأوزاعي أن عمر بن عبد العزيز جلس في بيته وعنده أشراف بني أمية فقال أتحبون أن أولي كل رجل منكم جندا من هذه الأجناد فقال له رجل منهم لم تعرض علينا ما لا تفعله قال ترون بساطي هذا إني لأعلم أنه يصير إلى بلى وإني أكره أن تدنسوه علي بأرجلكم فكيف أوليكم ديني وأوليكم أعراض المسلمين وأبشارهم تحكمون فيهم هيهات هيهات قالوا : لِمَ ؟ أما لنا قرابة أما لنا حق قال ما أنتم وأقصى رجل من المسلمين عندي في هذا الأمر إلا سواء إلا رجل حبسه عني طول شقة.(2/489)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم في الحلية عن وهيب ابن الورد قال: اجتمع بنو مروان على باب عمر بن عبد العزيز، وجاء عبد الملك بن عمر ليدخل على أبيه فقالوا له: إما أن تستأذن لنا وإما أن تبلغ عنا أمير المؤمنين الرسالة، قال: قولوا قالوا: إن من كان قبله من الخلفاء كانوا يعطوننا ويعرفون لنا موضعنا، وإن أباك قد حرمنا ما في يديه. قال: فدخل على أبيه فأخبره عنهم فقال له عمر: قل لهم: ( إِنّيَ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) [ الأنعام : 15]
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن جعونة، قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى أهل الموسم أما بعد: فإني أشهد الله وأبرأ إليه في الشهر الحرام والبلد الحرام ويوم الحج الأكبر إني بريء من ظلم ظلمكم، وعدوان من اعتدى عليكم، أن أكون أمرت بذلك أو رضيته أو تعمدته، إلا أن يكون وهماً مني، أو أمراً خفي عليكم أتعمده، وأرجو أن يكون ذلك موضوعاً عني مغفوراً لي إذا علم مني الحرص والاجتهاد، ألا وإنه لا آذن على مظلوم دوني وأنا معول كل مظلوم، ألا وأي عامل من عمالي رغب عن الحق ولم يعمل بالكتاب والسنة فلا طاعة له عليكم، وقد صيرت أمره إليكم حتى يراجع الحق وهو ذميم، ألا وإنه لا دولة بين أغنيائكم، ولا أثرة على فقرائكم، في شيء من فيئكم، ألا وأيما وارد ورد في أمر يصلح الله به خاصاً أو عاماً من هذا الدين فله ما بين مائتي دينار إلى ثلاث مائة دينار على قدر مانوى من الحسنة، وتجشم من المشقة، رحم الله امرأً لم يتعاظمه سفر يحيى الله به حقاً لمن وراءه، ولولا أن أشغلكم عن مناسككم لرسمت لكم أموراً من الحق أحياها الله لكم، وأموراً من الباطل أماتها الله عنكم، وكان الله هو المتوحد بذلك فلا تحمدوا غيره، فإنه لو وكلني إلى نفسي كنت كغيري، والسلام عليكم.(2/490)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أبي عثمان الثقفي، قال: كان لعمر بن عبد العزيز غلام يعمل على بغل له يأتيه بدرهم كل يوم، فجاءه يوماً بدرهم ونصف، فقال: ما بدالك ؟ فقال: نفقت السوق، قال: لا ولكنك أتعبت البغل، أرحه ثلاثة أيام .
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن إبراهيم بن هشام بن يحيى بن يحيى، قال: حدثني أبي، عن جدي، قال: كانت لفاطمة بنت عبد الملك امرأة عمر جارية، فبعثت بها إليه، وقالت: إني قد كنت أعلم أنها تعجبك وقد وهبتها لك فتناول منها حاجتك. فقال لها عمر: اجلسي يا جارية فوالله ما شىء من الدنيا كان أعجب إلى أن أناله منك، فأخبريني بقصتك وما كان من سيبك ؟ قالت: كنت جارية من البربر جنى أبي جناية فهرب من موسى بن نصير عامل عبد الملك على أفريقية، فأخذني موسى بن نصير فبعث بي إلى عبد الملك فوهبني عبد الملك لفاطمة، فأرسلت بي إليك، فقال: كدنا والله أن نفتضح. فجهزها وأرسل بها إلى أهلها.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن وهيب بن الورد، قال: اجتمع بنو مروان على باب عمر بن عبد العزيز وجاء عبد الملك بن عمر ليدخل على أبيه فقالوا له: إما أن تستأذن لنا، وإما أن تبلغ أمير المؤمنين عنا الرسالة قال: قولوا، قالوا: إن من كان قبله من الخلفاء كان يعطينا ويعرف لنا موضعنا، وإن أباك قد حرمنا ما في يديه، قال: فدخل على أبيه فأخبره عنهم، فقال له عمر: قل لهم أن أبي يقول لكم: إني أخاف إعصيت ربي عذاب يوم عظيم.(2/491)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الأوزاعي، قال: لما قطع عمر بن عبد العزيز، عن أهل بيته ما كان يجرى عليهم من أرزاق خاصة، وأمرهم بالانصراف إلى منازلهم، فتكلم في ذلك عنبسة بن سعيد فقال: يا أمير المؤمنين إن لنا قرابة ؟ قال: لن يتسع مالي ومالكم، وأما هذا المال فإنما حقكم فيه كحق رجل بأقصى برك الغماد، ولا يمنعه من أخذه إلا بعد مكانه، والله إني لأرى أن الأمور لو استحالت حتى يصبح أهل الأرض يرون مثل رأيكم لنزلت بهم بائقة من عذاب الله، ولفعل بهم، قال: وكان عمر يجلس إلى قاص العامة بعد الصلاة، ويرفع يديه إذا رفع.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الليث قال بدأ عمر بن عبد العزيز بأهل بيته فأخذ ما بأيديهم وسمى أموالهم مظالم ففزعت بنو أمية إلى عمته فاطمة بنت مروان فأرسلت إليه إني قد عناني أمر فأتته ليلا فأنزلها عن دابتها فلما أخذت مجلسها قال يا عمة أنت أولى بالكلام قالت تكلم يا أمير المؤمنين قال إن الله بعث محمدا رحمة ولم يبعثه عذابا واختار له ما عنده فترك لهم نهراً شربهم سواء ثم قام أبو بكر فترك النهر على حاله ثم عمر فعمل عمل صاحبه ثم لم يزل النهر يشتق منه يزيد ومروان وعبد الملك والوليد وسليمان حتى أفضى الأمر إلي وقد يبس النهر الأعظم ولن يروي أهله حتى يعود إلى ما كان عليه فقالت حسبك فلست بذاكرة لك شيئا ورجعت فأبلغتهم كلامه .(2/492)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن إبراهيم ابن هشام بن يحيى الغساني، حدثني أبي، عن جدي، قال: لما ولاني عمر بن عبد العزيز الموصل، قدمتها فوجدتها من أكبر البلاد سرقاً ونقباً، فكتبت إلى عمر أعلمه حال البلاد وأسأله آخذ من الناس بالمظنة وأضربهم على التهمة أو آخذهم بالبينة وما جرت عليه عادة الناس ؟ فكتب إلى أن آخذ الناس بالبينة وما جرت عليه السنة، فإن لم يصلحهم الحق فلا أصلحهم الله، قال يحيى: ففعلت ذلك فما خرجت من الموصل حتى كانت من أصلح البلاد وأقله سرقاً ونقباً.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن جويرة بن أسماء، قال: قال عمر بن عبد العزيز لحاجبه: لا يدخل على اليوم إلا مرواني، فلما اجتمعوا عنده حمد الله وأثنى عليه ثم قال: يا بني مروان إنكم قد أعطيتم حظاً وشرفاً وأموالاً، إني لأحسب شطر هذه الأمة أو ثلثه في أيديكم. فسكتوا، فقال عمر: ألا تجيبوني فقال رجل من القوم: والله لا يكون ذلك حتى يحال بين رءوسنا وأجسادنا، والله لا نكفر آباءنا ولا نفقر أبناءنا، فقال عمر: والله لولا أن تستعينوا على بمن أطلب هذا الحق له لأصعرت خدودكم، قوموا عني.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن يزيد بن مردانية، قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى عبد الحميد، قال: جاءني كتابك تذكر أن قبلك قوماً من العمال قد اختانوا مالاً فهو عندهم، وتستأذنني في أن أبسط يدك عليهم، فالعجب منك في استئمارك إياي في عذاب بشر كأني جنة لك، وكأن رضائي عنك ينجيك من سخط الله، فإذا جاءك كتابي هذا فانظر من أقر منهم بشىء فخذه بالذي أقر به على نفسه، ومن أنكر فاستحلفه وخل سبيله، فلعمرى لأن يلقوا الله بخياناتهم أحب إلى من أن ألقى الله بدمائهم والسلام.(2/493)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن إبراهيم ابن هشام بن يحيى، قال: حدثني أبي، عن جدي، قال: كان عمر بن عبد العزيز ينهى سليمان بن عبد الملك عن قتل الحرورية، ويقول: ضمنهم الحبوس حتى يحدثوا توبة، فأتى سليمان بحروري مستقتل، فقال له سليمان: هيه؟ قال: إنه نزع لحييك يا فاسق ابن الفاسق، فقال سليمان: على بعمر بن عبد العزيز، فلما أتاه عاود سليمان الحروري فقال: ماذا تقول ؟ قال: وماذا أقول يا فاسق ابن الفاسق. فقال سليمان لعمر: ماذا ترى عليه يا أبا حفص ؟ فسكت عمر، فقال: عزمت عليك لتخبرني ماذا ترى عليه؟ قال: أرى عليه أن تشتمه كما شتمك، وتشتم أباه كما شتم أباك. فقال سليمان: ليس إلا ذا ؟ فأمر به فضربت عنقه. وقام سليمان وخرج عمر، فأدركه خالد بن الريان صاحب حرس سليمان، فقال: يا أبا حفص تقول لأمير المؤمنين ما أرى عليه إلا أن تشتمه كما شتمك، وتشتم أباه كما شتم أباك؟ والله لقد كنت متوقعاً أن يأمرني بضرب عنقك، قال: ولو أمرك فعلته؟ قال: أي والله لو أمرني فعلت. فلما أفضت الخلافة إلى عمر جاء خالد بن الريان فقام مقام صاحب الحرس، وكان قبل ذلك على حرس الوليد وعبد الملك، فنظر إليه عمر فقال: يا خالد ضع هذا السيف عنك. وقال: اللهم إني قد وضعت لك خالد بن الريان فلا ترفعه أبداً. ثم نظر في وجوه الحرس فدعا عمرو بن مهاجر الأنصاري، فقال: يا عمرو والله لتعلمن أن ما بيني وبينك قرابة إلا قرابة الإسلام، ولكن قد سمعتك تكثر تلاوة القرآن، ورأيتك تصلي في موضع تظن أن لا يراك أحد فرأيتك تحسن الصلاة، وأنت رجل من الأنصار، خذ هذا السيف فقد وليتك حرسي.(2/494)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن إبراهيم بن هشام، حدثني أبي، عن جدي، قال: بينا عمر بن عبد العزيز يسير يوماً في سوق حمص، فقام إليه رجل عليه بردان قطريان، فقال: يا أمير المؤمنين أمرت من كان مظلوماً أن يأتيك ؟ قال: نعم، قال: فقد أتاك مظلوم بعيد الدار. فقال له عمر: وأين أهلك ؟ قال: بعدن أبين، قال عمر: والله إن أهلك من أهل عمر لبعيد. فنزل عن دابته في موضعه فقال: ما ظلامتك ؟ قال: ضيعة لي وثب عليها واثب فانتزعها مني. فكتب إلى عروة بن محمد يأمره أن يسمع من بينته فاثبت له حق دفعه إليه وختم كتابه. فلما أراد الرجل القيام، قال له عمر: على رسلك إنك قد أتيتنا من بلد بعيد، فكم نفد لك زاد، أو نفقت لك راحلة ؟ وأخلق لك ثوب. فحسب ذلك فبلغ أحد عشر ديناراً، فدفعهما عمر إليه.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عن طلحة ابن عبد الملك الأيلي، قال: دخل عمر بن عبد العزيز على سليمان بن عبد الملك وعنده أيوب ابنه ـ وهو يومئذ ولى عهده قد عقد له من بعده ـ فجاء إنسان يطلب ميراثاً من بعض نساء الخلفاء، فقال سليمان: ما أخال النساء يرثن في العقار شيئاً. فقال عمر بن عبد العزيز: سبحان الله، وأين كتاب الله ؟ فقال: يا غلام اذهب فأتني بسجل عبد الملك بن مروان الذي كتب في ذلك، فقال له عمر: لكأنك أرسلت إلى المصحف، قال أيوب: والله ليوشكن الرجل يتكلم بمثل هذا عند أمير المؤمنين ثم لا يشعر حتى تفارقه رأسه، فقال عمر: إذا أفضى الأمر إليك وإلى مثلك، فما يدخل على هؤلاء أشد مما خشيت أن يصيبهم من هذا، فقال سليمان: مه، ألأبي حفص تقول هذا ؟ قال عمر: والله لئن كان جهل علينا يا أمير المؤمنين ما حملنا عنه.(2/495)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الأوزاعي، قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى عمر بن الوليد كتاباً فيه: وقسم لك أبوك الخمس كله وإنما لك سهم أبيك كسهم رجل من المسلمين، وفيه حق الله والرسول وذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل فما أكثر خصماء أبيك يوم القيامة، فكيف ينجو من كثر خصماؤه ؟ وإظهارك المعازف والمزامير بدعة في الإسلام، لقد هممت أن أبعث إليك من يجز جمتك جمة السوء، قال: وكان عمر بن عبد العزيز يجعل كل يوم درهماً من خاصة ماله في طعام المسلمين ثم يأكل معهم.
(7) سعة علم عمر بن عبد العزيز ومتابعته للكتاب والسنة :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ ــ ـــ ــ ــ
اتفقت كلمة المترجمين على أن عمر بن عبد العزيز من أئمة زمانه ، ودونك ما تيسر من كلامهم :
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن ميمون بن مهران ـ أو غيره ـ ما كانت العلماء عند عمر بن عبد العزيز إلا تلاميذه.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن ميمون بن مهران قال: أتينا عمر بن عبد العزيز فظننا أنه يحتاج إلينا، وإذا نحن عنده تلاميذه.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عمرو بن ميمون قال كانت العلماء مع عمر بن عبد العزيز تلامذة .
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن مجاهد، قال: أتينا عمر نعلمه فما برحنا حتى تعلمنا منه.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن ميمون بن مهران، قال: كان عمر بن عبد العزيز يعلم العلماء.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن مرثد أبي يزيد، قال: سمعت عمر يقول: أيها الناس قيدوا النعم بالشكر، وقيدوا العلم بالكتاب.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن نعيم ابن عبد الله، قال: قال عمر: إني لأدع كثيراً من الكلام مخافة المباهاة.(2/496)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن ابن عون قال كان ابن سيرين إذا سئل عن الطلاء قال نهى عنه إمام هدى يعني عمر بن عبد العزيز .
[*] وقال عنه الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء :
:كان إمامآ فقيهآ مجتهدآ ، عارفآ بالسنن ،كبير الشأن حافظآ قانتآ لله أواهآ منيبآ يعد في حسن السيرة والقيام بالقسط مع جده لأمة عمر, وفي الزهد مع الحسن البصري وفي العلم مع الزهري "
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن شعيب، حدثني محدث: أن عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز دخل على عمر فقال: يا أمير المؤمنين إن لي إليك حاجة فأخلني ـ وعنده مسلمة بن عبد الملك ـ فقال له عمر: أسر دون عمك ؟ فقال: نعم، فقام مسلمة وخرج، وجلس بين يديه فقال له: يا أمير المؤمنين ما أنت قائل لربك غداً إذا سألك فقال: رأيت بدعة فلم تمتها، أو سنة لم تحيها ؟ فقال: له يا بني أشىء حملتكه الرعية إلى، أم رأي رأيته من قبل نفسك ؟ قال: لا والله ولكن رأي رأيته من قبل نفسي، وعرفت أنك مسئول فما أنت قائل ؟ فقال له أبوه: رحمك الله وجزاك من ولد خيراً، فوالله إني لأرجو أن تكون من الأعوان على الخير يا بني إن قومك قد شدوا هذا الأمر عقدة عقدة وعروة عروة، ومتى ما أريد مكابرتهم على انتزاع ما في أيديهم لم آمن أن يفتقوا علي فتقاً تكثر فيه الدماء والله لزوال الدنيا أهون من أن يهراق في سبي محجمة من دم، أو ماترضى أن لا يأتي على أبيك يوم من أيام الدنيا إلا وهو يميت فيه بدعة ويحيى فيه سنة، حتى يحكم الله بيننا وبين قومنا بالحق وهو خير الحاكمين.(2/497)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الحجاج بن عنبسة بن سعيد، قال: اجتمع بنو مروان فقالوا: لو دخلنا على أمير المؤمنين فعطفناه علينا وذكرناه أرحامنا، قال: فدخلوا فتكلم رجل منهم فمزح، قال: فنظر إليه عمر، قال: فوصل له رجل كلامه بالمزاح، فقال عمر: لهذا اجتمعتم، لأخس الحديث ولما يورث الضغائن، إذا اجتمعتم فأفيضوا في كتاب الله تعالى، فإن تعديتم ذلك ففي السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن تعديتم ذلك فعليكم بمعاني الحديث.
(8) منابذة عمر بن عبد العزيز لأهل الأهواء :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن خلف أبي الفضل القرشي، عن كتاب عمر بن عبد العزيز إلى النفر الذين كتبوا إلي بما لم يكن لهم بحق في رد كتاب الله تعالى، وتكذيبهم بأقداره النافذة في علمه السابق الذي لا حد له إلا إليه، وليس لشىء منه مخرج، وطعنهم في دين الله وسنة رسوله القائمة في أمته.(2/498)
أما بعد: فإنكم كتبتم إلى بما كنتم تسترون منه قبل اليوم في رد علم الله والخروج منه إلى ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخوف على أمته من التكذيب بالقدر. وقد علمتم أن أهل السنة كانوا يقولون: الاعتصام بالسنة نجاة، وسيقبض العلم قبضاً سريعاً. وقول عمر بن الخطاب، وهو يعظ الناس: إنه لا عذر لأحد عند الله بعد البينة بضلالة ركبها حسبها هدى، ولا في هدى تركه حسبه ضلالة، قد تبينت الأمور وثبتت الحجة وانقطع العذر، فمن رغب عن أنباء النبوة وما جاء به الكتاب تقطعت من يديه أسباب الهدى، ولم يجد له عصمة ينجو بها من الردى، وإنكم ذكرتم أنه بلغكم أني أقول: إن الله قد علم ما العباد عاملون، وإلى ماهم صائرون، فأنكرتم ذلك علي ، وقلتم: إنه ليس يكون ذلك من الله في علم حتى يكون ذاك من الخلق عملاً فكيف ذلك كما قلتم ؟ والله تعالى يقول: (إِنّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلاً إِنّكُمْ عَآئِدُونَ) [ الدخان : 15]. يعني: عائدين في الكفر، وقال الله تعالى: : (بَلْ بَدَا لَهُمْ مّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنّهُمْ لَكَاذِبُونَ) [ الأنعام : 28] فزعمتم بجهلكم في قول الله تعالى: ( فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ ) [ الكهف : 29] . أن المشيئة في أي ذلك أحببتم فعلتم من ضلالة أو هدى والله تعالى يقول: وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين . فبمشيئة الله لهم شاءوا ولو لم يشأ لم ينالوا بمشيئتهم من طاعته شيئاً قولاً ولا عملاً، لأن الله تعالى لم يملك العباد ما بيده، ولم يفوض إليهم ما يمنعه من رسله، فقد حرصت الرسل على هدى الناس جميعاً، فما اهتدى منهم إلا من هداه الله، ولقد حرص إبليس على ضلالتهم جميعاً فما ضل منهم إلا من كان في علم الله ضالاً.(2/499)
وزعمتم بجهلكم أن علم الله تعالى ليس بالذي يضطر العباد إلى ما عملوا من معصيته، ولا بالذي صدهم عما تركوه من طاعته، ولكنه بزعمكم كما علم الله أنهم سيعملون بمعصيته، كذلك علم أنهم سيستطيعون تركها، فجعلتم علم الله لغواً، تقولون لو شاء العبد لعمل بطاعة الله وإن كان في علم الله أنه غير عامل بها، ولو شاء ترك معصيته، وإن كان في علم الله أنه غير تارك لها، فأنتم إذا شئتم أصبتموه وكان علماً، وإذا شئتم رددتموه وكان جهلاً، وإن شئتم أحدثتم من أنفسكم علماً ليس في علم الله، وقطعتم به علم الله عنكم، وهذا ما كان ابن عباس يعده للتوحيد نقضاً، وكان يقول: إن الله لم يجعل فضله ورحمته هملاً بغير قسم منه ولا اختيار، ولم يبعث رسله بإبطال ما كان في سابق علمه، فأنتم تقرون في العلم بأمر، وتنقضون في آخر، والله تعالى يقول: قال تعالى: ( يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مّنْ عِلْمِهِ إِلاّ بِمَا شَآءَ ُ) [ البقرة : 255]. فالخلق صائرون إلى علم الله تعالى، ونازلون عليه، وليس بينه شىء هو كائن حجاب يحجبه عنه ولا يحول دونه إنه عليم حكيم.
وقلتم لو شاء الله لم يفرض بعمل بغير ما أخبر الله في كتابه عن قوم، ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون وأنه قال: سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم .(2/500)
فأخبر أنهم عاملون قبل أن يعملوا، وأخبر أنه معذبهم قبل أن يخلقوا. وتقولون أنتم: أنهم لو شاءوا خرجوا من علم الله في عذابه إلى ما لم يعلم من رحمته لهم، ومن زعم ذلك فقد عادى كتاب الله برد، ولقد سمى الله تعالى رجالا من الرسل بأسمائهم وأعمالهم في سابق علمه، فما استطاع آباؤهم لتلك الأسماء تغييراً، وما استطاع إبليس بما سبق لهم في علمه من الفضل تبديلاً، فقال (وَاذْكُرْ عِبَادَنَآ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الأيْدِي وَالأبْصَارِ * إِنّآ أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدّارِ) [ ص 45، 46].(3/1)
فالله أعز في قدرته وأمنع من أن يملك أحداً إبطال علمه في شىء من ذلك، فهو مسمى لهم بوحيه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، أو أن يشرك في خلقه أحداً، أو يدخل في رحمته من قد أخرجه منها أو أن يخرج منها من قد أدخله فيها، ولقد أعظم بالله الجهل من زعم أن العلم كان بعد الخلق، بل لم يزل الله وحده بكل شىء عليماً، وعلى كل شىء شهيداً، قبل أن يخلق شيئاً، وبعد ما خلق، لم ينقص علمه في بدئهم، ولم يزد بعد أعمالهم، ولا بحوائجه التي قطع بها دابر ظلمهم، ولا يملك إبليس هدى نفسه، ولا ضلالة غيره، وقد أردتم بقذف مقالتكم إبطال علم الله في خلقه، وإهمال عبادته، وكتاب الله قائم بنقض بدعتكم، وإفراط قذفكم، ولقد علمتم أن الله بعث رسوله والناس يومئذ أهل شرك، فمن أراد الله له الهدى لم تحل ضلالته التي كان فيها دون إراة الله له، ومن لم يرد الله له الهدى تركه في الكفر ضالاً، فكانت ضلالته أولى به من هذاه، فزعمتم أن الله أثبت في قلوبكم الطاعة والمعصية، فعلمتم بقدرتكم بطاعته وتركتم بقدرتكم معصيته، وإن الله خلو من أن يكون يختص أحداً برحمته، أو يحجز أحداً عن معصيته، وزعمتم أن الشىء الذي يقدر إنما هو عندكم اليسر والرخاء والنعمة، وأخرجتم من الأعمال، وأنكرتم أن يكون سبق لأحد من الله ضلالة أو هدى، وأنكم الذين هديتم أنفسكم من دون الله، وأنكم الذين حجزتموها، عن المعصية بغير قوة من الله ولا إذن منه، فمن زعم ذلك فقد غلا في القول لأنه لو كان شىء لم يسبق في علم الله وقدره لكان الله في ملكه شريك ينفذ مشيئته في الخلق من دون الله، والله سبحانه وتعالى يقول: ( حَبّبَ إِلَيْكُمُ الأِيمَانَ وَزَيّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ ) [ الحجرات : 7].وهم له قبل ذلك كارهون وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان . وهم له قبل ذلك محبون وما كانوا على شىء من ذلك لأنفسهم بقادرين.(3/2)
ثم أخبر بما سبق لمحمد صلى الله عليه وسلم من الصلاة عليه والمغفرة ولأصحابه. فقال تعالى: قال تعالى: ( أَشِدّآءُ عَلَى الْكُفّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ ) [ الفتح : 29]. وقال تعالى: (لّيَغْفِرَ لَكَ اللّهُ مَا تَقَدّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخّرَ ) [ الفتح : 2]. فلولا علمه ما غفرها الله له قبل أن يعملها، وفضلا سبق لهم من الله قبل أن يخلقوا، ورضوانا عنهم قبل أن يؤمنوا. ثم أخبر بما هم عاملون آمنون قبل أن يعملوا وقال: ( تَرَاهُمْ رُكّعاً سُجّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مّنَ اللّهِ وَرِضْوَاناً ) [ الفتح : 29]. فتقولون أنتم أنهم قد كانوا ملكوا رد ما أخبر الله عنهم أنهم عاملون، وأن إليهم أن يقيموا على كفرهم مع قوله فيكون الذي أرادوا لأنفسهم من الكفر مفعولا، ولا يكون لوحى الله فيما اختار تصديقا، بل لله الحجة البالغة. وفي قوله تعالى: لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم . فسبق لهم العفو من الله فيما أخذوا قبل أن يؤذن لهم، وقلتم: لو شاءوا خرجوا من علم الله في عفوه عنهم إلى ما لم يعلم من تركهم لما أخذوا، فمن زعم ذلك فقد غلا وكذب. ولقد ذكر الله بشراً كثيراً وهم يومئذ في أصلاب الرجال، وأرحام النساء، فقال: وآخرين منهم لما يلحقوا بهم . وقال: والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان . فسبقت لهم الرحمة من الله قبل أن يخلقوا والدعاء لهم بالمغفرة، ممن لم يسبقهم بالإيمان من قبل أن يدعوا لهم. ولقد علم العالمون بالله أن الله لا يشاء أمراً فتحول مشيئة غيره دون بلاغ ما شاء، ولقد شاء لقوم الهدى فلم يضلهم أحد، وشاء إبليس لقوم الضلالة فاهتدوا، وقال لموسى وهارون: (اذْهَبَآ إِلَىَ فِرْعَوْنَ إِنّهُ طَغَىَ * فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لّيّناً لّعَلّهُ يَتَذَكّرُ أَوْ يَخْشَىَ) [ طه 43، 44] .(3/3)
وموسى في سابق علمه أنه يكون لفرعون عدواً وحزناً، فقال تعالى: ( وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مّا كَانُواْ يَحْذَرونَ) [ القصص : 6]. فتقولون أنتم: لو شاء فرعون كان لموسى ولياً وناصراً، والله تعالى يقول: ( لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً ) [ القصص : 8] . وقلتم لو شاء فرعون لامتنع من الغرق، والله تعالى يقول: ( إِنّهُمْ جُندٌ مّغْرَقُونَ) [ الدخان : 24]. مثبت ذلك عنده في وحيه في ذكر الأولين. كما قال في سابق علمه لآدم قبل أن يخلقه: قال ( إِنّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً ) [ البقرة : 30]. فصار إلى ذلك بالمعصية التي ابتلى بها، وكما كان إبليس في سابق علمه أنه سيكون مذموماً مدحوراً، فصار إلى ذلك بما ابتلى به من السجود لآدم فأبى، فتلقى آدم التوبة فرحم، وتلقى إبليس اللعنة فغوى، ثم هبط آدم إلى ما خلق له من الأرض مرحوماً متوباً عليه، وأهبط إبليس بنظرته مدحوراً مذموماً مسخوطاً عليه. وقلتم أنتم: أن إبليس وأوليائه من الجن قد كانوا ملكوا رد علم الله والخروج من قسمه الذي أقسم به إذ قال: ( قَالَ فَالْحَقّ وَالْحَقّ أَقُولُ * لأمْلأنّ جَهَنّمَ مِنكَ وَمِمّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ) [ ص : 85] .(3/4)
حتى لا ينفذ له علم إلا بعد مشيئتهم، فماذا تريدون بهلكة أنفسكم في رد علم الله ؟ فإن الله عز وجل لم يشهدكم خلق أنفسكم فكيف يحيط جهلكم بعلمه، وعلم الله ليس بمقصر عن شىء هو كائن، ولا يسبق علمه في شىء فيقدر أحد على رده، فلو كنتم تنتقلون في كل ساعة من شىء إلى شىء هو كائن من العباد في الأرض من الفساد وسفك الدماء فيها، وما كان لهم في الغيب من علم، فكان في علم الله الفساد وسفك الدماء، وما قالوا تخرصاً إلا بتعليم العليم الحكيم لهم، فظن ذلك منهم وقد أنطقهم به، فأنكرتم أن الله أزاغ قوماً قبل أن يرفعوا، وأضل قوماً قبل أن يضلوا، وهذا مما لاشك فيه المؤمنون بالله، إن الله قد عرف قبل أن يخلق العباد مؤمنهم من كافرهم، وبرهم من فاجرهم، وكيف يستطيع عبد هو عند الله مؤمن أن يكون كافراً، أو هو عند الله كافر أن يكون مؤمناً ؟ والله تعالى يقول: (أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النّاسِ كَمَن مّثَلُهُ فِي الظّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مّنْهَا ) [ الأنعام : 122].(3/5)
فهو في الضلالة ليس بخارج منها أبداً إلا بأذن الله، ثم آخرون اتخذوا من بعد الهدى عجلاً جسداً فضلوا به، فعفى عنهم لعلهم يشكرون، فصاروا من أمة قوم موسى، ( أُمّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) [ الأعراف : 159]، وصاروا إلى ما سبق لهم، ثم ضلت ثمود بعد الهدى فلم يعف عنهم ولم يرحموا، فصاروا في علمه إلى صيحة واحدة فإذا هم خامدون فنفذوا إلى ما سبق لهم أن صالحاً رسولهم، وأن الناقة فتنة لهم وأنه مميتهم كفاراً فعقروها، وكان إبليس فيما كانت فيه الملائكة من التسبيح والعبادة ابتلى فعصى فلم يرحم، وابتلى آدم فعصى فرحم، وهم آدم بالخطيئة فنسى، وهم يوسف بالخطيئة فعصم، فأين كانت الاستطاعة عند ذلك ؟ هل كنت تغني شيئاً فيما كان من ذلك حتى لا يكون ؟ أو تغني فيما لم يكن حتى يكون? فتعرف لكم بذلك حجة بل الله أعز مما تصفون وأقدر.نا . وقلتم لو شاء فرعون لامتنع من الغرق، والله تعالى يقول ( إِنّهُمْ جُندٌ مّغْرَقُونَ) [ الدخان : 24]. مثبت ذلك عنده في وحيه في ذكر الأولين. كما قال في سابق علمه لآدم قبل أن يخلقه: ( إِنّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً ) [ البقرة : 30]. فصار إلى ذلك بالمعصية التي ابتلى بها، وكما كان إبليس في سابق علمه أنه سيكون مذموماً مدحوراً، فصار إلى ذلك بما ابتلى به من السجود لآدم فأبى، فتلقى آدم التوبة فرحم، وتلقى إبليس اللعنة فغوى، ثم هبط آدم إلى ما خلق له من الأرض مرحوماً متوباً عليه، وأهبط إبليس بنظرته مدحوراً مذموماً مسخوطاً عليه. وقلتم أنتم: أن إبليس وأوليائه من الجن قد كانوا ملكوا رد علم الله والخروج من قسمه الذي أقسم به إذ قال: (قَالَ فَالْحَقّ وَالْحَقّ أَقُولُ * قُلْ مَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَآ أَنَآ مِنَ الْمُتَكَلّفِينَ) [ ص 85: 86].(3/6)
حتى لا ينفذ له علم إلا بعد مشيئتهم، فماذا تريدون بهلكة أنفسكم في رد علم الله ؟ فإن الله عز وجل لم يشهدكم خلق أنفسكم فكيف يحيط جهلكم بعلمه، وعلم الله ليس بمقصر عن شىء هو كائن، ولا يسبق علمه في شىء فيقدر أحد على رده، فلو كنتم تنتقلون في كل ساعة من شىء إلى شىء هو كائن من العباد في الأرض من الفساد وسفك الدماء فيها، وما كان لهم في الغيب من علم، فكان في علم الله الفساد وسفك الدماء، وما قالوا تخرصاً إلا بتعليم العليم الحكيم لهم، فظن ذلك منهم وقد أنطقهم به، فأنكرتم أن الله أزاغ قوماً قبل أن يرفعوا، وأضل قوماً قبل أن يضلوا، وهذا مما لاشك فيه المؤمنون بالله، إن الله قد عرف قبل أن يخلق العباد مؤمنهم من كافرهم، وبرهم من فاجرهم، وكيف يستطيع عبد هو عند الله مؤمن أن يكون كافراً، أو هو عند الله كافر أن يكون مؤمناً ؟ والله تعالى يقول: : (أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النّاسِ كَمَن مّثَلُهُ فِي الظّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مّنْهَا ) [ الأنعام : 122]. فهو في الضلالة ليس بخارج منها أبداً إلا بأذن الله، ثم آخرون اتخذوا من بعد الهدى عجلاً جسداً فضلوا به، فعفى عنهم لعلهم يشكرون، فصاروا من أمة قوم موسى، أمة يهدون بالحق وبه يعدلون، وصاروا إلى ما سبق لهم، ثم ضلت ثمود بعد الهدى فلم يعف عنهم ولم يرحموا، فصاروا في علمه إلى صيحة واحدة فإذا هم خامدون فنفذوا إلى ما سبق لهم أن صالحاً رسولهم، وأن الناقة فتنة لهم وأنه مميتهم كفاراً فعقروها، وكان إبليس فيما كانت فيه الملائكة من التسبيح والعبادة ابتلى فعصى فلم يرحم، وابتلى آدم فعصى فرحم، وهم آدم بالخطيئة فنسى، وهم يوسف بالخطيئة فعصم، فأين كانت الاستطاعة عند ذلك ؟ هل كنت تغني شيئاً فيما كان من ذلك حتى لا يكون ؟ أو تغني فيما لم يكن حتى يكون ؟ فتعرف لكم بذلك حجة بل الله أعز مما تصفون وأقدر.(3/7)
وأنكرتم أن يكون سبق لأحد من الله ضلالة أو هدى، وإنما علمه بزعمكم حافظ وأن المشيئة في الأعمال إليكم إن شئتم أحببتم الإيمان فكنتم من أهل الجنة ثم جعلتم بجهلكم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي جاء به أهل السنة وهو مصدق للكتاب المنزل أنه من ذنب مضاه ذنباً خبيثاً في قول النبي صلى الله عليه وسلم حين سأله عمر: أرأيت ما نعمل الشىء قد فرغ منه أم شىء نأتنفه ؟ فقال صلى الله عليه وسلم: بل شىء قد فرغ منه، فطعنتم بالتكذيب له، وتعليم من الله في علمه إذ قلتم إن كنا لا نستطيع الخروج منه فهو الجبر والجبر عندكم الحيف، فسميتم نفاذ علم الله في الخلق حيفاً، وقد جاء الخبر إن الله خلق آدم فنثر ذريته في يده، فكتب أهل الجنة وما هم عاملون، وكتب أهل النار وما هم عاملون وقال سهل بن حنيف يوم صفين: أيها الناس اتهموا آراءكم على دينكم فو الذي نفسي بيده لقد رأيتنا يوم أبي جندل ولو نستطيع رد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لرددناه، والله ما وضعنا سيوفنا على عواتقنا إلا أسهل بنا على أمر نعرفه قبل أمركم هذا.(3/8)
ثم أنتم بجهلكم قد أظهرتم دعوة حق على تأويلٍ باطل تدعون الناس إلى رد علم الله، فقلتم الحسنة من الله والسيئة من أنفسنا، وقال: أئمتكم وهم أهل السنة: الحسنة من الله في علم قد سبق، والسيئة من أنفسنا في علم قد سبق، فقلتم: لا يكون ذلك حتى يكون بدؤها من أنفسنا كما بدء السيئات من أنفسنا، وهذا رد للكتاب منكم، ونقض للدين. وقد قال ابن عباس حين نجم القول بالقدر: هذا أول شرك هذه الأمة، والله ما ينتهي بهم سوء رأيهم حتى يخرجوا الله من أن يكون قدر خيراً، كما أخرجوه من أن يكون قدر شراً، فأنتم تزعمون بجهلكم أن من كان في علم الله ضالاً فاهتدى فهو بما ملك ذلك حتى كان في هداه ما لم يكن الله علمه فيه، وأن من شرح صدره للإسلام فهو بما فوض إليه قبل أن يشرحه الله له، وأنه إن كان مؤمناً فكفر فهو مما شاء لنفسه، وملك من ذلك لها، وكانت مشيئته في كفره أنفذ من مشيئة الله في إيمانه، بل أشهد أنه من عمل حسنة فبغير معونة كانت من نفسه عليها، وأن من عمل سيئة فبغير حجة كانت له فيها وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء وأن لو أراد الله أن يهدى الناس جميعاً لنفذ أمره فيمن ضل حتى يكون مهتدياً، فقلتم.(3/9)
بمشيئة الله شاء لكم تفويض الحسنات إليكم، وتفويض السيئات، ألقى عنكم سابق علمه في أعمالكم، وجعل مشيئته تبعاً لمشيئتكم، ويحكم فوالله ما أمضى لبني إسرائيل مشيئتهم حين أبوا أن يأخذوا ما آتاهم بقوة حتى نتق الجبل فوقهم كأنه ظلة، فهل رأيتموه أمضى مشيئته لمن كان في ضلالته حين أراد هداه حتى صار إلى أن أدخله بالسيف إلى الإسلام كرها بموضع علمه بذلك فيه، أم هل أمضى لقوم يونس مشيئتهم حين أبوا أن يؤمنوا حتى أظلهم العذاب فآمنوا وقبل منهم، ورد على غيرهم الإيمان فلم يقبل منهم، وقال تعالى: (فَلَمّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا قَالُوَاْ آمَنّا بِاللّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا سُنّةَ اللّهِ الّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ) [ غافر 84: 85] . وذلك كان موقعهم عنده أن يهلكوا بغير قبول منهم، بل الهدى والضلالة، والكفر والإيمان، والخير والشر، بيد الله يهدى من يشاء ويذر من يشاء في طغيانهم يعمهون. كذلك قال إبراهيم عليه السلام: ( وَاجْنُبْنِي وَبَنِيّ أَن نّعْبُدَ الأصْنَامَ) [ إبراهيم : 35]. وقال عليه السلام: (رَبّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرّيّتِنَآ أُمّةً مّسْلِمَةً ) [ البقرة : 128] . أي أن الإيمان والإسلام بيديك، وإن عبادة من عبد الأصنام بيدك، فأنكرتم ذلك وجعلتموه ملكاً بأيديكم دون مشيئة الله عز وجل.
(9) وصية عمر بن عبد العزيز لولي العهد بعده :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ(3/10)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن قتادة أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى ولى العهد من بعده: بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله عمر بن عبد العزيز أمير المؤمنين إلى يزيد بن عبد الملك، سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد فإني كنت وأنا دنف من وجعي وقد علمت أني مسئول عما وليت يحاسبني عليك مليك الدنيا والآخرة، ولست أستطيع أن أخفى عليه من عملي شيئاً، يقول فيما يقول: (فَلَنَقُصّنّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنّا غَآئِبِينَ) [ الأعراف : 7] فإن يرض عني الرحيم فقد أفلحت ونجوت من الهوان الطويل، وإن سخط على فياويح نفسي إلى ما أصير، أسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يجيرني من النار برحمته، وأن يمن على برضوانه والجنة، فعليك بتقوى الله، والرعية الرعية فإنك لن تبقى بعدي إلا قليلاً حتى تلحق باللطيف الخبير. والسلام.
(10) وصية عمر بن عبد العزيز لولده عبد الملك :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــــ ـ(3/11)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن ليث بن أبي رقية - كاتب عمر بن عبد العزيز في خلافته ـ أن عمر كتب إلى ابنه في العام الذي استخلف فيه ـ وابنه إذ ذاك بالمدينة يقال له عبد الملك ـ أما بعد: فإن أحق من تعاهدت بالوصية والنصيحة بعد نفسى أنت، وإن أحق من رعى ذلك وحفظه عني أنت، وإن الله تعالى له الحمد قد أحسن إلينا إحساناً كثيراً بالغاً في لطيف أمرنا وعامته، وعلى الله إتمام ما عبر من النعمة وإياه نسأل العون على شكرها، فاذكر فضل الله على أبيك وعليك، ثم أعن أباك على ما قوى عليه وعلى ما ظننت أن عنده منه عجزاً عن العمل فيما أنعم به عليه وعليك في ذلك، فراع نفسك وشبابك وصحتك، وإن استطعت أن أكثر تحريك لسانك بذكر الله حمداً وتسبيحاً وتهليلاً فافعل، فإن أحسن ما وصلت به حديثاً حسناً حمد الله وذكره، وإن أحسن ما قطعت به حديثاً سيئاً حمد الله وذكره، ولا تفتتن فيما أنعم الله به عليك فيما عسيت أن تفرط به أباك فيما ليس فيه، إن اباك كان بين ظهرانى إخوته عند أبيه يفضل عليه الكبير، ويدني دونه الصغير، وإن كان الله وله الحمد قد رزقني من والدي حسباً جميلاً، كنت به راضياً أرى أفضل الذي يبره ولده على حقاً، حتى ولدت وولد طائفة من إخوتك، ولا أخرج بكم من المنزل الذي أنا فيه، فمن كان راغباً في الجنة وهارباً من النار فالآن في هذه الحالة والتوب مقبول، والذنب مغفور ، قبل نفاذ الأجل، وانقضاء العمل، وفراغ من الله للثقلين ليدينهم بأعمالهم في موطن لا تقبل فيه الفدية، ولا تنفع فيه المعذرة، تبرز فيه الخفيات، وتبطل فيه الشفاعات، يرده الناس بأعمالهم، ويصدرون فيه أشتاتاً إلى منازلهم، فطوبى يومئذ لمن أطاع الله، وويل يومئذ لمن عصى الله، فإن ابتلاك الله بغنى فاقتصد في غناك، وضع الله نفسك، وأد إلى الله فرائض حقه في مالك وقل عند ذلك ما قال العبد الصالح: قال تعالى: ( هََذَا مِن فَضْلِ رَبّي لِيَبْلُوَنِيَ أَأَشْكُرُ(3/12)
أَمْ أَكْفُرُ ) [ النمل : 40]. وإياك أن تفخر بقولك، وأن تعجب بنفسك، أو يخيل إليك أن ما رزقته لكرامة بك على ربك، وفضيلة على من لم يرزق مثل غناك، فإذا أنت أخطأت باب الشكر، ونزلت منازل أهل الفقر، وكنت ممن طغى للغنى وتعجل طيباته في الحياة الدنيا، فإني لأعظك بهذا وإني لكثير الإسراف على نفسي، غير محكم لكثير من أمري، ولو أن المرء لم يعظ أخاه حتى يحكم نفسه، ويكمل في الذي خلق له لعبادة ربه، إذاً تواكل الناس الخير، وإذاً يرفع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واستحلت المحارم، وقل الواعظون، والساعون لله بالنصيحة في الأرض. فلله الحمد رب السموات والأرض رب العالمين، وله الكبرياء في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم.
(11) ورع عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن ميمون بن مهران، قال: أهدى إلى عمر ابن عبد العزيز تفاح وفاكهة، فردها وقال: لا أعلمن أنكم قد بعثتم إلى أحد من أهل عملي بشيء، قيل له: ألم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية ؟ قال: بلى ولكنها لنا ولمن بعدنا رشوة.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عمرو بن مهاجر قال: اشتهى عمر تفاحاً، فقال: لو أن عندنا شيئاً من التفاح فإنه طيب ؟ فقام رجل من أهله فأهدى إليه تفاحاً، فلما جاء به الرسول قال: ما أطيبه وأطيب ريحه وأحسنه، ارفع يا غلام واقرأ على فلان السلام وقل له: إن هديتك قد وقعت عندنا بحيث تحب، قال عمرو بن مهاجر: فقلت له: يا أمير المؤمنين ابن عمك رجل من أهل بيتك وقد بلغك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة، قال: إن الهدية كانت للنبي صلى الله عليه وسلم هدية، وهي لنا رشوة.(3/13)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عبد الله بن مسلم يحدث، عن أبيه، قال: دخلت على عمر بن عبد العزيز وعنده كاتب يكتب، قال: وشمعة تزهر وهو ينظر في أمور المسلمين، قال: فخرج الرجل وأطفئت الشمعة وجىء بسراج إلى عمر، فدنوت منه فرأيت عليه قميصاً فيه رقعة قد طبق ما بين كفيه، قال: فنظر في أمري.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عوف بن مهاجر، أن عمر بن عبد العزيز كانت تسرج له شمعة ما كان في حوائج المسلمين، فإذا فرغ من حاجتهم أطفأها ثم أسرج عليه سراجه.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن خالد بن أبي الصلت. قال: أتى عمر ابن عبد العزيز بماء قد سخن في فحم الإمارة، فكرهه ولم يتوضأ به.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن حفص بن عمر بن أبي الزبير قال كتب عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر بن حزم أن أدق قلمك وقارب بين أسطرك فإني أكره أن أخرج من أموال المسلمين ما لا ينتفعون به .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الأوزاعي قال : كان عمر بن عبد العزيز إذا أراد أن يعاقب رجلا حبسه ثلاثا ثم عاقبه كراهية أن يعجل في أول غضبه.
(12) من دُررِ مواعظ عمر بن عبد العزيز :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ ـــ ـ
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن حمزة الجزري، قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى رجل، أوصيك بتقوى الله الذي لا يقبل غيرها، ولا يرحم إلا أهلها، ولا يثيب إلا عليها، فإن الواعظين بها كثير، والعاملين بها قليل.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن محمد بن الوليد قال: مر عمر بن عبد العزيز برجل وفي يده حصاة يلعب بها وهو يقول: اللهم زوجني من الحور العين، فمال إليه عمر فقال: بئس الخاطب أنت، ألا ألقيت الحصاة وأخلصت إلى الله الدعاء.(3/14)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عمر بن عبد العزيز قال: لا ينفع القلب إلا ما خرج من القلب.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عمر بن عبد العزيز: يا معشر المستترين اعلموا أن عند الله مسألة فاضحة، قال الله تعالى: (فَوَرَبّكَ لَنَسْأَلَنّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) [ الحجر 92، 93]
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عمر بن عبد العزيز: من لم يعلم أن كلامه من عمله كثرت ذنوبه.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار،، قال: قال عمر لرجل: أوصيك بتقوى الله فإنها ذخيرة الفائزين، وحرز المؤمنين، وإياك والدنيا أن تفتنك فإنها قد فعلت ذلك بمن كان قبلك، إنها تغر المطمئنين إليها، وتفجع الواثق بها، وتسلم الحريص عليها، ولا تبقى لمن استبقاها، ولا يدفع التلف عنها من حواها، لها مناظر بهجة. ما قدمت منها أمامك لم يسبقك، وما أخرت منها خلفك لم يلحقك.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الأوزاعي قال كتب إلينا عمر بن عبد العزيز رسالة لم يحفظها غيري وغير مكحول أما بعد فإنه من أكثر ذكر الموت رضي من الدنيا باليسير ومن عد كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما ينفعه والسلام .
(13) وصية عمر بن عبد العزيز لعماله :
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن ضمرة قال كتب عمر بن عبد العزيز إلى بعض عماله أما بعد فإذا دعتك قدرتك على الناس إلى ظلمهم فاذكر قدرة الله تعالى عليك ونفاد ما تأتي إليهم وبقاء ما يأتون إليك .
(14) كانت نفس عمر بن عبد العزيز تواقة رحمه الله تعالى :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ(3/15)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن جويرية بن أسماء قال: قال عمر بن عبد العزيز إن نفسي تواقة وإنها لم تعط من الدنيا شيئا إلا تاقت إلى ما هو أفضل منه فلما أعطيت ما لا أفضل منه في الدنيا تاقت إلى ما هو أفضل منه يعني الجنة .
(15) مروءة عمر بن عبد العزيز وكرمه رحمه الله تعالى :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن وعن عبد العزيز بن عمر قال لي رجاء بن حيوة ما أكمل مروءة أبيك سمرت عنده فغشي السراج وإلى جانبه وصيف نام قلت ألا أنبهه قال لا دعه قلت أنا أقوم قال لا ليس من مروءة الرجل استخدامه ضيفه فقام إلى بطة الزيت وأصلح السراج ثم رجع وقال : قمت وأنا عمر بن عبدالعزيز ورجعت وأنا عمر بن عبد العزيز وكان رحمه الله فصيحا مفوها.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم في الحلية عن أبي عمرو قال: دخلت ابنة أسامة بن زيد على عمر بن عبد العزيز ومعها مولاة لها تمسك بيدها، فقام عمر ومشى إليها حتى حتى جعل يديها في يده ويده في ثيابه، ومشى بها حتى أجلسها في مجلسه وجلس بين يديها، وما ترك لها حاجة إلا قضاها.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن لوط بن يحيى قال كان الولاة من بني أمية قبل عمر بن عبد العزيز يشتمون رجلا رضي الله عنه فلما ولي هو أمسك عن ذلك فقال كثير عزة الخزاعي :
وُلِيْتَ فلم تشتم علياً ولم تخف ... بريا ولم تتبع مقالة مجرم
تكلمت بالحق المبين وإنما ... تبين آيات الهدى بالتكلم
فصدقت معروف الذي قلت بالذي ... فعلت فأضحى راضيا كل مسلم
لو كنت أملك والأقدار غالبة ... تأتي رواحا وتبيانا وتبتكر
رددت عن عمر الخيرات مصرعه ... بدير سمعان لكن يغلب القدر
(16) عدم محبة عمر بن عبد العزيز للمدح رحمه الله :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ(3/16)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن يزيد عن جعونة قال دخل رجل على عمر بن عبد العزيز فقال يا أمير المؤمنين إن من قبلك كانت الخلافة لهم زينا وأنت زين الخلافة فأعرض عنه.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن ابن عيينة قال: قال رجل لعمر بن عبد العزيز جزاك الله عن الإسلام خيرا قال بل جزى الله الإسلام عني خيرا.
وعن بشير بن الحارث قال: أطرى رجل عمر بن عبد العزيز في وجهه، فقال له عمر: يا هذا لو عرفت من نفسي ما أعرف منها، ما نظرت في وجهي.
(17) أول خطبة خطبها عمر بن عبد العزيز وآخر خطبة رحمه الله :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
أول خطبة خطبها عمر بن عبد العزيز رحمه الله :
أول خطبة له : حمد الله وأثنى عليه ثم قال : أيها الناس من صحبنا فليصحبنا بخمس وإلا فليفارقنا ، يرفع إلينا حاجة من لا يستطيع رفعها ، ويعيننا على الخير بجهده ، ويدلنا على الخير ما نهتدي إليه ، ولا يغتابنّ عندنا أحداً ، ولا يعرضن فيما لا يعنيه . فانقشع عنه الشعراء ... وثبت معه الفقهاء والزهاد .
آخر خطبة خطبها عمر بن عبد العزيز رحمه الله :(3/17)
كانت آخر خطبة خطبها : حمد الله وأثنى عليه ثم قال : أما بعد فإنكم لم تخلقوا عبثاً ، ولم تتركوا سدىً وإن لكم معاداً ينزل الله فيه للحكم فيكم والفصل بينكم ، فخاب وخسر من خرج من رحمة الله تعالى ، وحرم جنة عرضها السماوات والأرض ، ألم تعلموا أنه لا يأمن غداً إلا من حذر اليوم الآخر وخافه ، وباع فانياً بباقٍ ، ونافداً بما لا نفاد له ، وقليلاً بكثير ، وخوفاً بأمان ، ألا ترون أنكم في أسلاب الهالكين وسيكون من بعدكم للباقين ، كذلك ترد إلى خير الوارثين ، ثم إنكم في كل يوم تشيعون غادياً ورائحاً إلى الله لا يرجع، قد قضى نحبه حتى تغيبوه في صدع من الأرض ، في بطن صدع غير موسد ولا ممهد ، قد فارق الأحباب ، وواجه التراب والحساب ، فهو مرتهن بعمله ، غني عما ترك ، فقير لما قدم ، فاتقوا الله قبل القضاء ، راقبوه قبل نزول الموت بكم ، أما إني أقول هذا ... ثم وضع طرف ردائه على وجهه فبكى وأبكى من حوله ، وفي رواية : وأيم الله إني لأقول قولي هذا ولا أعلم عند أحد من الذنوب أكثر مما أعلم من نفسي ، ولكنها سنن من الله عادلة أمر فيها بطاعته ، ونهى فيها عن معصيته ، وأستغفر الله ، ووضع كمّه على وجهه فبكى حتى بلّ لحيته فما عاد لمجلسه حتى مات رحمه الله .
(18) حسن ظن عمر بن عبد العزيز بالمسلمين :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عبد العزيز ابن عمر بن عبد العزيز قال: قال لي أبي: يا بني إذا سمعت كلمة من امرىء مسلم فلا تحملها على شيء من الشر ما وجدت لها محملاً من الخير.
(19) مجالسة عمر بن عبد العزيز لأهل العلم واحترامه لهم :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ(3/18)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن ابن أبي الزناد عن أبيه قال لما قدم عمر بن عبد العزيز المدينة واليا فصلى الظهر دعا بعشرة عروة وعبيد الله وسليمان بن يسار والقاسم وسالما وخارجة وأبا بكر بن عبد الرحمن وأبا بكر بن سليمان بن أبي حثمة وعبد الله بن عامر بن ربيعة فحمد الله وأثنى عليه ثم قال إني دعوتكم لأمر تؤجرون فيه ونكون فيه أعوانا على الحق ما أريد أن أقطع أمرا إلا برأيكم أو برأي من حضر منكم فإن رأيتم أحدا يتعدى أو بلغكم عن عامل ظلامة فأحرج بالله على من بلغه ذلك إلا أبلغني فجزوه خيرا.
(20) تواضعه عمر بن عبد العزيز وإنكاره لذاته :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن حماد بن زيد عن أيوب قال قيل لعمر بن عبد العزيز يا أمير المؤمنين لو أتيت المدينة فإن قضى الله موتا دفنت في موضع القبر الرابع مع رسول الله ، قال والله لأن يعذبني الله بغير النار أحب إلي من أن يعلم من قلبي أني أراني لذلك أهلا.
(21) كان عمر بن عبد العزيز لا يخشى في الله لومة لائم رحمه الله :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الأوزاعي أن عمر بن عبد العزيز جلس في بيته وعنده أشراف بني أمية فقال أتحبون أن أولي كل رجل منكم جندا من هذه الأجناد فقال له رجل منهم لم تعرض علينا ما لا تفعله قال ترون بساطي هذا إني لأعلم أنه يصير إلى بلى وإني أكره أن تدنسوه علي بأرجلكم فكيف أوليكم ديني وأوليكم أعراض المسلمين وأبشارهم تحكمون فيهم هيهات هيهات قالوا : لِمَ ؟ أما لنا قرابة أما لنا حق قال ما أنتم وأقصى رجل من المسلمين عندي في هذا الأمر إلا سواء إلا رجل حبسه عني طول شقة.
(22) كانت صلاة عمر بن عبد العزيز أشبه بصلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - :(3/19)
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : ما صليت وراء إمام أشبه بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الفتى . يعني عمر بن عبد العزيز رحمه الله وكان والياً على المدينة.
(23) صبر عمر بن عبد العزيز وحلمه :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
كان عمر بن عبد العزيز حليمًا عادلاً، خرج ذات ليلة إلى المسجد ومعه رجل من الحراس، فلما دخل عمر المسجد مرَّ في الظلام برجل نائم، فأخطأ عمر وداس
عليه، فرفع الرجل رأسه إليه وقال أمجنون أنت؟ فقال: لا، فتضايق الحارس وهَمَّ أن يضرب الرجل النائم فمنعه عمر، وقال له: إن الرجل لم يصنع شيئًا غير أنه
سألني: أمجنون أنت؟ فقلت: لا .
وفاة عمر بن عبد العزيز :
سبب وفاة عمر بن عبد العزيز :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ
كان سبب وفاة عمر بن عبد العزيز أن مولى له سمَّه في طعام أو شراب وأعطي على ذلك ألف دينار ، فحصل له بسبب ذلك مرض ، فأُخبر أنه مسموم ، فقال : لقد علمت يوم سُقيت السُّم ، ثم استُدعي مولاه الذي سقاه ، فقال له : ويحك ما حملك على ما صنعت، فقال : ألف دينار أُعطيتها ، فقال : هاتها ، فأحضرها فوضعها في بيت المال ، ثم قال له : اذهب حيث لا يراك أحد فتهلك .
أتدرون كم تولى الخلافة؟ سنتين وخمسة أشهر وأياماً، لكنها عند الله - عز وجل - أفضل من قرنين، إنني أعرف أناسًا في التاريخ، تولى الواحد منهم خمسين سنة، فلما مات لعنه المسلمون، وإن بعضهم تولى أربعين سنة، فلما مات بشّر بعض المسلمين بعضهم بموته، فليس العمر بالكثرة، العمر بالبركة، تولى سنتين، فأزال الظلم، فتح بابه، فتح صدره، فتح عينه، فتح قلبه ففتح الله عليه.(3/20)
ولما اشتد به المرض تحولت الملايين من أبناء أمته إلى أطفال ، يوشك اليتم أن يحيق بهم حين يفقدون أباهم .. الجياع الذين شبعوا .. والعراة الذين اكتسوا .. والخائفون الذين أمنوا .. والمستضعفون الذين سادوا .. واليتامى الذين وجدوا فيه أباهم .. والأيامى اللاتي وجدن فيه عائلهن .. والضائعون الذين وجدوا فيه ملاذهم بعد الله .. كل هؤلاء وأولئك في شعبه وأمته سحقتهم أنباء مرضه الدَّاهم .
ولما حضرته سكرات الموت أمر بدعوة أبنائه فجاءوا مسرعين اثني عشر ولداً وبنتاً ، شعثاً غبراً ، قد زايلت جسومهم الشاحبة نضرة النعيم !! .. وجلسوا يحيطون به ، وراح يُعانقهم بنظراته الحانية الآسية .. وراح يودعهم بقوله : يا بني إن أباكم خُيِّر بين أمرين ، أن تستغنوا ويدخل النار أو تفتقروا ويدخل الجنة ، فاختار الجنة وآثر أن يترككم لله الذي نزَّل الكتاب وهو يتولّى الصالحين وقال لهم: والله ما خلّفت لكم من الدنيا شيئًا - عنده غرفة واحدة - إن كنتم صالحين فالله يتولى الصالحين، وإن كنتم فجَرة فلن أُعينكم بمالي على الفجور. تعالوا، فاقتربوا فقبّلَهم واحدًا واحدًا، ودعا لهم، وكأن قلبه يُسَلُّ من بين جوارحه، وخرج أبناؤه.
قال أهل التاريخ: أغفى التاريخ إغفاءة عن أبناء عمر بن عبد العزيز السبعة أو الثمانية، وقد خلّف لكل واحد منهم اثني عشر درهمًا فقط، وأما هشام بن عبد الملك الخليفة، فخلّف لكل ابن من أبنائه مائة ألف دينار، وبعد عشرين سنة، أصبح أبناء عمر بن عبد العزيز، يُسرجون الخيول في سبيل الله، منفقين متصدقين من كثرة أموالهم، وأبناء هشام بن عبد الملك في عهد أبي جعفر المنصور، يقفون في مسجد دار السلام، يقولون: من مال الله يا عباد الله!
إنَّ من حفظ الله حفظه الله، ومن ضيّع الله ضيّعه الله، هذه سنة من سنن الله - عز وجل ـ مصداقاً للحديث الآتي :(3/21)
(حديث ابن عباس في صحيح الترمذي) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : يا غلام لِلَّهِ إني أعلمك كلمات احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده تجاهك إذا سألت فاسأل الله و إذا استعنت فاستعن بالله و اعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك و لو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك بشيء إلا قد كتبه الله عليك رفعت الأقلام و جفت الصحف .
هذه وصية رسول صلى الله عليه وسلم، لأتباعه وأنصاره، أن يتقوا الله تعالى، وأن يحفظوه في السر والعلانية.
قال بعض الصالحين: إذا أردت أن توصي صاحبك، أو أخاك، أو ابنك، فقل له: "احفظ الله يحفظك". فالله - عز وجل - يحفظ أوليائه، في أنفسهم، وفي أهليهم، وفي أموالهم، وفي جوارحهم، وفي أعراضهم، يحفظهم من مكر الأعداء، وكيد الحاقدين، وتدبير المارقين .
ثم أمر عمر أبناءه بالخروج فخرج أطفاله أمام عينيه، ينظر إليهم، ومع كل طفل يخرج، قطَرَات من الدموع تسقط، وقال: أَدخِلوا أمّكم عليَّ، فدخلت امرأته، فودعها، وسألها أن تتقي الله، وأن تبقى على الزهد وعلى الفقر، لتكون زوجته في الجنة، ثم قال: يا فاطمة، إني أرى نفَرًا، ليسوا بإنس ولا جن، أظنهم ملائكة، فاخرجي عنّي، فخرجت زوجته، وأغلقت الباب، ودخل الملائكة على عمر بن عبد العزيز مبشرة (إِنّ الّذِينَ قَالُواْ رَبّنَا اللّهُ ثُمّ اسْتَقَامُواْ تَتَنَزّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ أَلاّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِالْجَنّةِ الّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَآؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَفِي الاَخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِيَ أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدّعُونَ * نُزُلاً مّنْ غَفُورٍ رّحِيمٍ) [سورة: فصلت 30: 32](3/22)
ولما احتضر قال : أجلسوني فأجلسوه ، فقال : إلهي أنا الذي أمرتني فقصّرت ونهيتني فعصيت ثلاثاً ولكن لا إله إلا الله ، ثم رفع رأسه فَأَحَدَ النظر ، فقالوا : إنك لتنظر نظراً شديداً يا أمير المؤمنين ، فقال : إني لأرى حضرة ما هم بأنس ولا جان ، ثم قُبض من ساعته ، وكان موته سنة إحدى ومائة ، وكانت خلافته سنتين وخمسة أشهر وأياماً .
سَقْي الغلام السم لعمر بن عبد العزيز رحمه الله :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن مجاهد قال لي عمر بن عبد العزيز ما يقول في الناس قلت يقولون مسحور قال ما أنا بمسحور ثم دعا غلاما له فقال ويحك ما حملك على أن سقيتني السم قال ألف دينار أعطيتها وعلى أن أعتق قال هاتها فجاء بها فألقاها في بيت المال وقال اذهب حيث لا يراك أحد .
{ تنبيه } : قال بعض المؤرخين أن عمر عبد العزيز قد قتل مسموما على أيدى بعض أمراء بنى أمية بعد أن اوقف عطياهم وصادر ممتلاكتهم و أعطها لبيت مال المسلمين وهذا الرائى الأرجح. استمرت خلافته فترة قصيرة جداً، فلم تطل مدة خلافته سوى عامين ونصف ، ثم حضره أجله ولاقى ربه عادلاً في الرعية قائماً فيها بأمر الله.وعندما توفي لم يكن في سجنه رجل واحد. وفي عهده انتشر العلم وكثرت المساجد في ارجاء الدولة الأموية .
[*] قال الذهبي رحمه الله في سير أعلام النبلاء :(3/23)
قد كان حسن الخَلْق والخُلُق ، كامل العقل ، حسن السمت ، جيد السياسة ، حريصاً على العدل بكل ممكن ، وافر العلم ، فقيه النفس، ظاهر الذكاء والفهم ، أوّاهاً منيباً ، قانتاً لله حنيفاً ، زاهداً مع الخلافة ، ناطقاً بالحق مع قلة المعين ، وكثرة الأمراء الظَّلمة الذين ملُّوه وكرهوا مماقتته لهم ونقصه أعطياتهم ، وأخذه كثيراً مما في أيديهم مما أخذوه بغير حق ، فما زالوا به حتى سقوه السم ، فحصلت له الشهادة والسعادة ، وعُدَّ عند أهل العلم من الخلفاء الراشدين ، والعلماء العاملين .
اليوم الذي مات فيه عمر بن عبد العزيز رحمه الله :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن خليفة بن خياط وغيره أن عمر بن عبد العزيز مات يوم الجمعة لخمس بقين من رجب سنة إحدى ومئة بدير سمعان من أرض حمص قال وإنما هو من أرض المعرة ولكن المعرة كانت من أعمال حمص هي وحماة وعاش تسعا وثلاثين سنة ونصفا وقال جعفر الصادق عن سفيان بن عاصم إنه مات لخمس مضين من رجب يوم الخميس ودفن بدير سمعان وصلى عليه مسلمة بن عبد الملك قال وكان أسمر دقيق الوجه حسنه نحيف الجسم حسن اللحية بجبهته شجة ، وقال أبو عمر الضرير مات بدير سمعان من أرض حمص يوم الجمعة لعشر بقين من رجب وله تسع وثلاثون سنة ونصف وقال طائفة في رجب لم يذكروا اليوم وكانت خلافته سنتين وخمسة أشهر وأياماً .
شراء عمر بن عبد العزيز لقبره رحمه الله :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أبي أمية الخصي غلام عمر بن عبد العزيز قال بعثني عمر بدينارين إلى أهل الدير فقال إن بعتموني موضع قبري وإلا تحولت عنكم .(3/24)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن حماد بن زيد عن أيوب قال قيل لعمر بن عبد العزيز يا أمير المؤمنين لو أتيت المدينة فإن قضى الله موتا دفنت في موضع القبر الرابع مع رسول الله ، قال والله لأن يعذبني الله بغير النار أحب إلي من أن يعلم من قلبي أني أراني لذلك أهلا.
آخر ما تكلم به عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن ابن عيينة قال : قلت لعبد العزيز بن عمر ما آخر ما تكلم به أبوك فقال كان له من الولد أنا وعبد الله وعاصم وإبراهيم وكنا أغيلمة فجئنا كالمُسَلِّمِين عليه والمُوَدِّعِين له فقيل له تركت ولدك ليس له مال ولم تؤوهم إلى أحد فقال ما كنت لأعطيهم ما ليس لهم وما كنت لآخذ منهم حقاً هو لهم وإن وليي الله فيهم الذي يتولى الصالحين إنما هم أحد رجلين صالح أو فاسق.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن ليث بن أبي رقية أن عمر بن عبد العزيز قال أجلسوني فأجلسوه فقال أنا الذي أمرتني فقصرت ونهيتني فعصيت ثلاثا ولكن لا إله إلا الله ثم أحد النظر وقال إني لأرى حضرة ما هم بإنس ولا جن ثم قبض .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن المغيرة بن حكيم قال: قلت لفاطمة بنت عبد الملك كنت أسمع عمر بن عبد العزيز في مرضه يقول اللهم أخف عليهم أمري ولو ساعة قالت قلت له ألا أخرج عنك فإنك لم تنم فخرجت فجعلت أسمعه يقول (تِلْكَ الدّارُ الاَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأرْضِ وَلاَ فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتّقِينَ) [ القصص : 83]مرارا ثم أطرق فلبثت طويلا لا يسمع له حس فقلت لوصيف ويحك انظر فلما دخل صاح فدخلت فوجدته ميتا قد أقبل بوجهه على القبلة ووضع إحدى يديه على فيه والأخرى على عينيه .(3/25)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عبيد بن حسان قال لما احتضر عمر بن عبد العزيز قال اخرجوا عني فقعد مسلمة وفاطمة على الباب فسمعوه يقول مرحبا بهذه الوجوه ليست بوجوه إنس ولا جان ثم تلا " تِلْكَ الدّارُ الاَخِرَةُ نَجْعَلُهَا " الآية ثم هدأ الصوت فقال مسلمة لفاطمة : قد قبض صاحبك فدخلوا فوجدوه قد قبض .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن هشام بن حسان عن خالد الربعي قال إنا نجد في التوراة أن السماوات والأرض تبكي على عمر بن عبد العزيز أربعين صباحا وقال هشام لما جاء نعيه إلى الحسن قال مات خير الناس .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عبد الرحمن بن محمد قال أوصى عمر بن عبد العزيز عند الموت فدعا بِشَعْرِ مِنْ شَعْرِ النبي - صلى الله عليه وسلم - وأظفار من أظفار فقال اجعلوه في كفني.
ومات عمر بعد أن ضرب المثل الأعلى في العدل والزهد والورع... مات أمير المؤمنين خامس الخلفاء الراشدين!!
رثاء عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن إبراهيم بن ميسرة أن عمر بن عبد العزيز اشترى موضع قبره قبل أن يموت بعشرة دنانيرن، ولكثير عزة يرثيه :
عمت صنائعه فعم هلاكه ... فالناس فيه كلهم مأجور
والناس مأتمهم عليه واحد ... في كل دار رنة وزفير
يثني عليك لسان من لم توله ... خيرا لأنك بالثناء جدير
ردت صنائعه عليه حياته ... فكأنه من نشرها منشور
[*] قال الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء :ولعمر بن عبد العزيز من الولد ابنه عبد الملك الذي توفي قبله وعبد الله الذي ولي العراق وعبد العزيز الذي ولي الحرمين وعاصم وحفص وإسماعيل وعبيد الله وإسحاق ويعقوب ويزيد وإصبغ والوليد وزبان وآدم وإبراهيم فأم إبراهيم كلبية وسائرهم لعلات ومات معه في سنة إحدى ومئة .(3/26)
[*] رابعاً : نماذج من سير الزاهدين من أئمة تابعي التابعين رحمهم الله تعالى :
سيرة مالك بن أنس رحمه الله :
كان مالك بن أنس رحمه الله من أئمة تابعي التابعين ، من أئمة الهدى وأعلام التقى ومصابيح الدجى ، من حلية الأولياء وأعلام النبلاء ،الأضواء اللامعة والنجوم الساطعة ، إمام دار الهجرة، وصاحب أحد المذاهب الفقهية الأربعة في الإسلام وهو المذهب المالكي، وصاحب كتب الصحاح في السنة النبوية وهو كتاب الموطأ. يقول الإمام الشافعي: إذا ذكر العلماء فمالك النجم.
اسم مالك ابن أنس ونسبه ومولده :
[*] قال الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء :
هو شيخ الإسلام حجة الأمة إمام دار الهجرة أبو عبد الله مالك ابن أنس بن مالك بن أبى عامر بن عمرو بن الحارث بن غيمان بن خثيل بن عمرو بن الحارث وهو ذو أصبح بن عوف بن مالك بن زيد بن شداد بن زرعة وهو حمير الأصغر الحميري ثم الأصبحي المدني حليف بني تيم من قريش فهم حلفاء عثمان أخي طلحة بن عبيد الله أحد العشرة المبشرين بالجنة.
وأمه هي عالية بنت شريك الأزدية وأعمامه هم أبو سهل نافع وأويس والربيع والنضر أولاد أبي عامر.
ولد مالك على الأصح في سنة ثلاثٍ وتسعين هـ عام موت أنس خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم ونشأ في صون ورفاهية وتجمل .
صفة الإمام مالك :
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عيسى بن عمر قال ما رأيت قط بياضا ولا حمرة أحسن من وجه مالك ولا أشد بياض ثوب من مالك ونقل غير واحد أنه كان طوالا جسيما عظيم الهامة أشقر أبيض الرأس واللحية عظيم اللحية أصلع وكان لا يحفي شاربه ويراه مثله وقيل كان أزرق العين روى بعض ذلك ابن سعد عن مطرف بن عبد الله وقال محمد بن الضحاك الحزامي كان مالك نقي الثوب رقيقه يكثر اختلاف اللبوس وقال الوليد بن مسلم كان مالك يلبس البياض ورأيته والأوزاعي يلبسان السيجان قال أشهب كان مالك إذا عتم جعل منها تحت ذقنه ويسدل طرفها بين كتفيه .(3/27)
نشأة مالك بن أنس رحمه الله :
لقد نشأ الإمام مالك رحمه الله تعالى في بيت اشتغل بعلم والحديث.وكان أكثر هم عناية عمه نافع المكنى بأبي سهيل, ولذا عد من شيوخ ، وفي أعمام ما لم وجده أسرة من الأسر المشهورة بالعلم وكان أخوه النضر مشتغلا بالعلم ملازما ً للعلماء حتى إن مالك كان يكنى بأخي النضر لشهرة أخيه دونه بدأ الإمام مالك يطلب العلم صغيرا تحت تأثير البيئة التي نشأ فيها. حفظ القرآن ثم اتجه لحفظ الحديث وكان لابد من كل طالب علم من ملازمة عالم من بين العلماء وقد جالس مالك ناشئا صغيرا ثم انقطع لابن هرمز سبع سنين لم يخلطه بغيره ثم اتجه مالك إلى نافع مولى ابن عمر فجالسه وأخذ عنه علما كثيرا وقد اشتهر أن أصح الأسانيد: " مالك عن نافع عن ابن عمر".كما اخذ مالك عن ابن شهاب الزهري ولولعه بالعلم نقض سقف بيته ليبيعه ويطلب به العلم وملازمة كبار العلماء. يقول الإمام مالك : حينما بلغت سن التعليم جاءت عمتي وقالت :إذهب فاكتب تريد الحديث ، فانطلق يلتمس العلم وحرص على جمعه وتفرغ له ولازم العديد من كبار العلماء ، لعل أشدهم أثراً في تكوين عقليته العلمية التي عرف بها هو أبو بكر بن عبد الله بن يزيد
المعروف بابن هرمز المتوفى سنة ثمان وأربعين ومائة هـ ،فقد روي عن مالك أنه قال: كنت آتي ابن هرمز من بكرة فما أخرج من بيته حتى الليل .
وكذلك يعد مالك أكثر وأشهر الفقهاء والمحدثين الذين لازموا نافع مولى ابن عمر و راويتٌه يقضي معه اليوم كله من الصباح إلى المساء سبع سنوات أو ثماني ، وكان يجله ويخصه بما لا يخص به غيره لكثرة ملازمته له ولما ربط بينهما من حب وتآلف ووداد .(3/28)
وأخذ لإمام مالك عن الإمام ابن شهاب الزهري وهو أول من دون الحديث ومن أشهر شيوخ المدينة المنورة ، وقد روى عنه الإمام مالك في موطئه 132 حديثا بعضها مرسل ، كما أخذ عن الإمام جعفر الصادق وأخرج له في موطئه تسعة أحاديث منها خمسة متصلة مسندة أصلها حديث واحد طويل هو حديث جابر في الحج والأربعة منقطعة ، وكذلك روى عن هشام بن عروة بن الزبير وغيرهم .
شيوخ الإمام مالك رحمه الله :
أخذ الإمام مالك رحمه الله عن خلق كثير وهم في الموطأ وكان أهمهم ما يلي :
ابن هرمز وأبو زناد ونافع وربيعة محسن وابن شهاب الأنصاري ويحي ابن سعيد وسعيد المقبري وعامر ابن عبد الله بن زبير ، وابن المنكدر وعبد الله ابن دينار .
تلاميذ الإمام مالك رحمه الله :
كان أكثر الأئمة الذين ظهروا في عصر الإمام مالك تلامذة له ، وقد كان تلاميذه من شتى بقاع الأرض لا يعدون ولا يحصون والذي ساعده على ذلك أنه كان مقيماً بالمدينة المنورة وكان الحجاج يذهبون لزيارة مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم فيجلسون نحوه يتعلمون منه العلم ، فمنهم من كان يطول به المقام عند الإمام مالك ومنهم من كان يقصر به المقام . والذي جعل أيضاً تلاميذ الإمام مالك كثيري أن الإمام مالكاً كان معمراً فلقد أطال الله في عمره حيث عاش تسعين عاماً .واحصى الذهبي ما يزيد عن ألف وأربعمائة تلميذ فمن تلاميذه ما يلي :
عبد الرحمن بن القاسم وعبد الله بن وهب وأشهب بن عبد العزيز القيسي وأسد بن الفرات وعبد الملك بن عبد العزيز الماجشون .
ومن تلاميذ مالك أيضا:(3/29)
ابن أبي إياس أبو الحسن الخرساني ، وابن الوليد ابو يحمد الحميري وابن خداش أبو الهيثم المهلبي ، وأبو عبد الله اللخمي وسعيد ابن شعبة أبو عثمان الخرساني وسليمان بن جارود أبو داوود الطياليسي وابن ذكوان أبو عبد الله الترمذي وبن حماد ابو يحي النرسي وبن جبلة عبدان المروزي وعبد الله بن نافع الزبيري وبن عمرو القيسي أبو عامر العقدي ووكيع بن جراح ابو سفيان الرؤاسي.
[*] مناقب الإمام مالك رحمه الله :
كان مالك بن أنس رحمه الله من أئمة تابعي التابعين ، من أئمة الهدى وأعلام التقى ومصابيح الدجى ، من حلية الأولياء وأعلام النبلاء ،الأضواء اللامعة والنجوم الساطعة ، إمام دار الهجرة، وصاحب أحد المذاهب الفقهية الأربعة في الإسلام وهو المذهب المالكي، وصاحب كتب الصحاح في السنة النبوية وهو كتاب الموطأ. يقول الإمام الشافعي: إذا ذكر العلماء فمالك النجم.
وهاك غَيْضٍ من فيض ونقطةٍ من بحر مما ورد في مناقبه رحمه الله تعالى جملةً وتفصيلا :
أولاً مناقب مالك بن أنس جملةً رحمه الله :
(1) ثناء العلماء على مالك ابن أنس :
(2) حرص مالك بن أنس على طلب العلم :
(3) تعظيم مالك بن أنس لحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
(4) محنة الإمام مالك بن أنس :
(5) ورع مالك ابن أنس رحمه الله :
(6) منابذة مالك ابن أنس لأهل الأهواء :
(7) زهد مالك ابن أنس رحمه الله تعالى :
(8) من دُررِ مواعظ مالك ابن أنس :
ثانياً مناقب مالك بن أنس تفصيلا رحمه الله:
(1) ثناء العلماء على مالك ابن أنس :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
[*] قال عنه الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء :
فمنهم إمام الحرمين، المشهور في البلدين الحجاز والعراقين، المستفيض مذهبه في المغربين والمشرقين، مالك بن أنس رضي الله تعالى عنه.
كان أحد النبلاء وأكمل العقلاء، ورث حديث الرسول ونشر في أمته علم لأحكام والأصول تحقق بالتقوى فابتلى بالبلوى.(3/30)
[*] وقال عنه الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء :
هو شيخ الإسلام ، حجة الأمة ، إمام دار الهجرة أبو عبد الله مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر بن عمرو بن الحارث بن غيمان بن خثيل بن عمرو بن الحارث ، وهو ذو أصبح بن عوف بن مالك بن زيد بن شداد بن زرعة ، وهو حمير الأصغر الحميري ثم الأصبحي المدني ، حليف بني تيم من قريش،فهم حلفاء عثمان أخي طلحة بن عبيد الله أحد العشرة .
[*] وقال عنه الإمام بن كثير في البداية والنهاية : الإمام مالك هو أشهرهم وهو أحد الأئمة الأربعة أصحاب المذاهب المتبعة .
[*] وقال عنه الإمام السخاوي في التحفة اللطيفة في تاريخ المدينة الشريفة: الإمام العالم نجم السنن وعالم المدينة، أبو عبد الله الأصبحي المدني .
يروي عن الزهري ونافع وعبد الله بن دينار. وخلق قل من هو من غير المدينة منهم. وكان أول من انتقى الرجال من الفقهاء بالمدينة، وأعرض عن من ليس بثقة في الحديث. فلم يكن يروي إلا ماصح، ولا يحدث إلا عن ثقة، مع الفقه والدين والفضل والنسك. روى عنه السفيانان والحمادان وشعبة والأوزاعي والليث. وبه تخرج إمامنا الشافعي ـ رحمهما الله. وإياه ينصر ومذهبه يتبجل حيث كان بالعراق قديماً قبل دخوله مصر. ثم اجتهد وصار إماماً متبعاً. وكان يقول: لولا مالك وابن عيينة لذهب علم الحجاز، وما في الأرض كتاب في العلم أكثر صواباً من الموطأ. وآخر الرواة عنه وفاة أحمد بن إسماعيل السهمي. ولفتياه في عين المكره بعدم الوقوع تعرض له جعفر بن سليمان.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن المفضل بن محمد الجندي يقول: سمعت أبا مصعب، يقول: سمعت مالك بن أنس يقول: ما أفتيت حتى شهد لي سبعون أني أهل لذلك.(3/31)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن خلف بن عمرو قال: سمعت مالك بن أنس يقول: ما أجبت في الفتيا حتى سألت من هو أعلم مني: هل يراني موضعاً لذلك ؟ سألت ربيعة، وسألت يحيى بن سعيد فأمراني بذلك، فقلت له: يا أبا عبد الله فلو نهوك ؟ قال: كنت أنتهي، لا ينبغي لرجل أن يرى نفسه أهلاً لشيء حتى يسأل من هو أعلم منه، قال خلف: دخلت على مالك فقال لي انظر ما ترى تحت مصلاي، أو حصيري ؟ فنظرت فإذا أنا بكتاب، فقال: أقرأه فإذا فيه رؤيا رآها له بعض إخوانه، فقال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام في مسجده قد اجتمع الناس عليه، فقال لهم: إني قد خبأت لكم تحت منبري طيباً أو علماً، وأمرت مالكاً أن يفرقه على الناس، فانصرف الناس وهم يقولون إذا ينفذ مالك ما أمره به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بكى فقمت عنه.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن إسماعيل بن مزاحم المروزي ـ وكان من أصحاب ابن المبارك من العباد ـ قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، فقلت: يا رسول الله من نسأل بعدك ؟ قال: مالك بن أنس.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن مطرف أبو صعب، حدثني أبو عبد الله مولى الليثيين ـ وكان مختاراً ـ قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد قاعداً والناس حوله، ومالك قائم بين يديه، وبين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم مسك، وهو يأخذ منه قبضة قبضة فيدفعها إلى مالك ومالك ينشرها على الناس، قال مطرف: فأولت ذلك العلم واتباع السنة.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن المثني بن سعيد القصير، قال: سمعت مالك بن أنس يقول: ما بت ليلة إلا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم.(3/32)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن ابن أبي أويس، قال: كان مالك إذا أراد أن يحدث توضأ وجلس على فراشه، وسرح لحيته، وتمكن في الجلوس بوقار وهيبة ثم حدث، فقيل له في ذلك، فقال: أحب أن أعظم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أحدث به إلا على طهارة متمكناً، وكان يكره أن يحدث في الطريق وهو قائم أو يستعجل، فقال: أحب أن أتفهم ما أحدث به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن المفضل بن محمد الجندي، يقول: سمعت أبا مصعب، يقول: كان مالك لا يحدث بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وهو على الطهارة إجلالاً لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن معين بن عيسى، يقول: كان مالك بن أنس يتقي في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الباء والتاء ونحوهما.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عبد الرحمن بن مهدي يقول: ما بقي على وجه الأرض أحد آمن على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من مالك بن أنس.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أبي يونس المدني، قال: أنشدني بعض أصحابنا من المدنيين في مالك بن أنس رضي الله تعالى عنه:
يدع الجواب فلا يراجع هيبة والسائلون نواكس الأذقان
أدب الوقار وعز سلطان التقى فهو المطاع وليس ذا سلطان
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن شعبة، قال: أتيت المدينة بعد موت نافع بسنة، فإذا الحلقة لمالك بن أنس.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن نافع بن عبد الله، يقول: جالست مالكاً أربعين سنة أو خمساً وثلاثين سنة ـ كل يوم أبكر وأهجر وأروح، ما سمعته يقرأ على ـ إنسان شيئاً قط، وسمعت معن بن عيسى يقول: ما من حديث أحدث به عن مالك إلا وقد جمعته منه نحواً أو أكثر من ثلاثين مرة.(3/33)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الحارث بن مسكين، قال: كان عبد الرحمن بن القاسم، يقول: إنما أقتدي في ديني برجلين: مالك بن أنس في علمه، وسليمان بن القاسم في ورعه.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن القعنبي، يقول: أتينا سفيان بن عيينة فرأيته حزيناً، فقيل: بلغه موت مالك بن أنس رحمه الله، ثم قال سفيان: ما ترك على الأرض مثله.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن محمد بن الربيع بن سليمان، يقول: سمعت الشافعي رضي الله تعالى عنه، يقول: إذا جاء الحديث عن مالك فاشدد يديك به.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن محمد بن الربيع، يقول: سمعت الشافعي، يقول: لولا مالك وسفيان لذهب علم الحجاز.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عن سفيان بن عيينة، قال: كان مالك لا يأخذ الحديث إلا من جيده.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن ابن مهدي، يقول: ما أقدم على مالك في صحة الحديث أحداً.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عبد العزيز بن عبد الله، قال: كان نقش خاتم مالك بن أنس حسبنا الله ونعم الوكيل، فقيل له في ذلك فقال: ( وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوَءٌ وَاتّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ) [ آل عمران 173: 174]
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن محمد بن زبان بن حبيب، قال: سمعت الربيع بن سليمان، يقول: سمعت الشافعي، يقول: ما بعد كتاب الله تعالى كتاب أكثر صواباً من موطأ مالك.(3/34)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الشافعي، يقول: قال محمد بن الحسن: أقمت على مالك بن أنس ثلاث سنين وكسراً، وكان يقول: إنه سمع منه لفظاً أكثر من سبعمائة حديث، قال: وكان إذا حدثهم عن مالك امتلأ منزله وكثر الناس عليه حتى يضيق عليهم الموضع، وإذا حدث غير مالك لم يجئه إلا اليسير، فكان يقول: ما أعلم أحداً أسوأ ثناء على أصحابكم منكم، إذا حدثتكم عن مالك ملآتم على الموضع، وإذا حدثتكم عن أصحابكم إنما تأتوني متكارهين.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الشافعي، يقول: قالت لي عمتي ـ ونحن بمكة: رأيت في هذه الليلة عجباً، فقلت لها: وما هو؟ قالت: رأيت كأن قائلاً يقول: مات الليلة أعلم أهل الأرض، قال الشافعي: فحسبنا ذلك فإذا هو يوم مات مالك بن أنس.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن مالك بن أنس، يقول لفتى من قريش: يا ابن أخي تعلم الأدب قبل أن تتعلم العلم.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن ابن عيينة قال : مالك عالم أهل الحجاز ، وهو حجة زمانه .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الشافعي قال - وصدق وبر - إذا ذكر العلماء فمالك النجم .
[*] أورد أبو إسحاق الشيرازي في طبقات الفقهاء عن ابن وهب قال: سمعت منادياً ينادي بالمدينة، ألا لا يفتي الناس إلا مالك بن أنس وابن أبي ذئب.(3/35)
[*] أورد أبو إسحاق الشيرازي في طبقات الفقهاء عن الشافعي قال : قال لي محمد بن الحسن: أيهما أعلم: صاحبكم أو صاحبنا، يعني أبا حنيفة ومالكاً، قال: قلت: على الإنصاف؟ قال: نعم، قلت: فأنشدك الله من أعلم بالقرآن: صاحبنا أو صاحبكم؟ قال: اللهم صاحبكم، قال: فأنشدك الله من أعلم بالسنة: صاحبنا أو صاحبكم؟ قال: اللهم صاحبكم، قال: فأنشدك الله من أعلم بأقاويل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم المتقدمين: صاحبنا أو صاحبكم؟ قال: اللهم صاحبكم، قال الشافعي: فلم يبق إلا القياس، والقياس لا يكون إلا على هذه الأشياء، فعلى أي شيء يقيس ؟
[*] أورد الإمام بن كثير في البداية والنهاية عن البخاري قال: أصح الأسانيد مالك عن نافع عن ابن عمر.
[*] أورد الإمام بن كثير في البداية والنهاية عن سفيان بن عيينة قال : ما كان أشد انتقاده للرجال .
(2) حرص مالك بن أنس على طلب العلم :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ
[*] قال الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء :
طلب مالك العلم ، وهو ابن بضع عشرة سنة ، وتأهل للفتيا ، وجلس للإفادة ، وله إحدى وعشرون سنة ، وحدث عنه جماعة وهو حي شاب طري ، وقصده طلبة العلم من الآفاق في آخر دولة أبي جعفر المنصور وما بعد ذلك ، وازدحموا عليه في خلافة الرشيد ، وإلى أن مات .
[*] قال الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء :
طلب العلم وهو حدث بعيد موت القاسم وسالم . فأخذ عن نافع ، وسعيد المقبري ، وعامر بن عبد الله بن الزبير ، وابن المنكدر ، والزهري ، وعبد الله بن دينار ، وغيرهم .(3/36)
ومن أقرانه : معمر ، وابن جريج ، وأبو حنيفة ، وعمرو بن الحارث ، والأوزاعي ، وشعبة ، والثوري ، وجويرية بن أسماء ، والليث ، وحماد بن زيد ، وخلق ، وإسماعيل بن جعفر ، وسفيان بن عيينة ، وعبد الله بن المبارك ، والدراوردي ، وابن أبي الزناد ، وابن علية ، ويحيى بن أبي زائدة ، وأبو إسحاق الفزاري ، ومحمد بن الحسن الفقيه ، وعبد الرحمن بن القاسم ، وعبد الرحمن بن مهدي ، ومعن بن عيسى القزاز ، وعبد الله بن وهب ، وأبو قرة موسى بن طارق ، والنعمان بن عبد السلام ، ووكيع ، والوليد بن مسلم ، ويحيى القطان ، وإسحاق بن سليمان الرازي ، وأنس بن عياض الليثي ، وضمرة بن ربيعة ، وأمية بن خالد ، وبشر بن السري الأفوه ، وبقية بن الوليد ، وبكر بن الشرود الصنعاني ، وأبو أسامة ، وحجاج بن محمد ، وروح بن عبادة ، وأشهب بن عبد العزيز ، وأبو عبد الله الشافعي ، وعبد الله بن عبد الحكم ، وزياد بن عبد الرحمن شبطون الأندلسي ، وأبو داود الطيالسي ، وأبو كامل مظفر بن مدرك ، وأبو عاصم النبيل ، وعبد الرزاق ، وأبو عامر العقدي ، وأبو مسهر الدمشقي ، وعبد الله بن نافع الصائغ ، وعبد الله بن عثمان المروزي عبدان ، ومروان بن محمد الطاطري ، وعبد الله بن يوسف التنيسي ، وعبد الله بن مسلمة القعنبي ، وأبو نعيم الفضل بن دكين ، ومعلى بن منصور الرازي ، ومنصور بن سلمة الخزاعي ، والهيثم بن جميل الأنطاكي ، وهشام بن عبيد الله الرازي ، وأسد بن موسى ، وآدم بن أبي إياس ، ومحمد بن عيسى بن الطباع ، وخالد بن مخلد القطواني ، ويحيى بن صالح الوحاظي ، وأبو بكر ، وإسماعيل ابنا أبي أويس ، وعلي بن الجعد ، وخلف بن هشام .(3/37)
ويحيى بن يحيى التميمي ، ويحيى بن يحيى الليثي ، وسعيد بن منصور ، ويحيى بن بكير ، وأبو جعفر النفيلي ، وقتيبة بن سعيد ، ومصعب بن عبد الله الزبيري ، وأبو مصعب الزهري ، وأحمد بن يونس اليربوعي ، وسويد بن سعيد ، ومحمد بن سليمان لوين ، وهشام بن عمار ، وأحمد بن حاتم الطويل ، وأحمد بن نصر الخزاعي الشهيد ، وأحمد بن محمد الأزرقي ، وإبراهيم بن يوسف البلخي الماكياني ، وإبراهيم بن سليمان الزيات البلخي ، وإسماعيل بن موسى الفزاري ، وإسحاق بن عيسى بن الطباع أخو محمد ، وإسحاق بن محمد الفروي ، وإسحاق بن الفرات ، وإسحاق بن إبراهيم الحنيني ، وبشر بن الوليد الكندي ، وحبيب بن أبي حبيب كاتب مالك ، والحكم بن المبارك الخاشتي وخالد بن خداش المهلبي ، وخلف بن هشام البزار ، وزهير بن عباد الرؤاسي ، وسعيد بن عفير المصري ، وسعيد بن داود الزبيري ، وسعيد بن أبي مريم ، وأبو الربيع سليمان بن داود الزهراني ، وصالح بن عبد الله الترمذي ، وعبد الله بن نافع بن ثابت الزبيري ، وعبد الله بن نافع الجمحي ، وعبد الرحمن بن عمرو البجلي الحراني ، وعبد الأعلى بن حماد النرسي ، وعبد العزيز بن يحيى المدني ، وأبو نعيم عبيد بن هشام الحلبي ، وعلي بن عبد الحميد المعني ، وعتبة بن عبد الله اليحمدي المروزي ، وعمرو بن خالد الحراني ، وعاصم بن علي الواسطي ، وعباس بن الوليد النرسي ، وكامل بن طلحة ، ومحمد بن معاوية النيسابوري ، ومحمد بن عمر الواقدي ، وأبو الأحوص محمد بن حبان البغوي ، ومحمد بن جعفر الوركاني ، ومحمد بن إبراهيم بن أبي سكينة ، ومنصور بن أبي مزاحم ، ومطرف بن عبد الله اليساري ، ومحرز بن سلمة العدني ، ومحرز بن عون ، والهيثم بن خارجة ، ويحيى بن قزعة المدني ، ويحيى بن سليمان بن نضلة المدني ، ويزيد بن صالح النيسابوري الفراء .(3/38)
ولم يكن بالمدينة عالم من بعد التابعين يشبه مالكا في العلم والفقه والجلالة والحفظ فقد كان بها بعد الصحابة مثل سعيد بن المسيب والفقهاء السبعة والقاسم وسالم وعكرمة ونافع وطبقتهم ثم زيد بن أسلم وابن شهاب وأبي الزناد ويحيى بن سعيد وصفوان بن سليم وربيعة بن أبي عبد الرحمن وطبقتهم فلما تفانوا اشتهر ذكر مالك بها وابن أبي ذئب وعبد العزيز بن الماجشون وسليمان بن بلال وفليح بن سليمان وأقرانهم فكان مالك هو المقدم فيهم على الإطلاق والذي تضرب إليه آباط الإبل من الآفاق رحمه الله تعالى.
قال أبو عبد الله الحاكم ما ضربت أكباد الإبل من النواحي إلى أحد من علماء المدينة دون مالك واعترفوا له وروت الأئمة عنه ممن كان أقدم منه سنا كالليث عالم أهل مصر والمغرب والأوزاعي عالم أهل الشام ومفتيهم والثوري وهو المقدم بالكوفة وشعبة عالم أهل البصرة إلى أن قال وحمل عنه قبلهم يحيى بن سعيد الأنصاري حين ولاه أبو جعفر قضاء القضاة فسأل مالكا أن يكتب له مائة حديث حين خرج إلى العراق ومن قبل كان ابن جريج حمل عنه.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن خالد بن خداش، قال: ودعت مالك بن أنس، فقلت: أوصني يا أبا عبد الله، قال: تقوى الله، وطلب الحديث من عند أهله.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن ابن وهب، قال: قال مالك: العلم نور يجعله الله حيث يشاء، ليس بكثرة الرواية.(3/39)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن ابن وهب، قال: سمعت مالك بن أنس، يقول: قال عيسى بن مريم عليهما السلام تأتي أمة محمد صلى الله عليه وسلم علماء حكماء كأنهم من الفقه أنبياء، قال مالك: أراهم صدر هذه الأمة، قال مالك: وحق على من طلب العلم أن يكون له وقار وسكينة وخشية، والعلم حسن لمن رزق خيره، وهو قسم من الله فلا تمكن الناس من نفسك، فإن من سعادة المرء أن يوفق للخير، وإن من شقوة المرء أن لا يزال يخطئ، وذل وإهانة للعلم أن يتكلم الرجل بالعلم عند من لا يطيعه، قال مالك: وبلغني أن لقمان قال لابنه: يا بني ليس غناء كصحة، ولا نعيم كطيب نفس، وقال مالك: قال لقمان لابنه: يا بني إن الناس قد تطاول عليهم ما يوعدون وهم إلى الآخرة سراع يذهبون، وإنك قد استدبرت الدنيا منذ كنت، واستقبلت الآخرة وإن داراً تسير إليها أقرب إليك من دار تخرج منها.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن القعنبي، يقول: سمعت مالك بن أنس يقول: كان الرجل يختلف إلى الرجل ثلاثين سنة يتعلم منه.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن مالك، قال: لا يبلغ أحد ما يريد من هذا العلم حتى يضربه الفقر، ويؤثره على كل حاجة.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أبي خليد، قال: أقمت على مالك فقرأت الموطأ في أربعة أيام فقال مالك: علم جمعه شيخ في ستين سنة أخذتموه في أربعة أيام ؟ لا فقهتم أبداً.
تحري مالك في العلم والفتيا :
كان مالك رحمه الله تعالى يتحرى تحريا عظيما في الفتوى عند التحمل وعند الأداء فكان يُسأل في العدد الكثير من المسائل ولا يجيب إلا في القلي لوكان يفكر في المسألة سنين فما يتفق فيها رأي.وكثيرا ما كان يتبع فتواه بالآية الكريمة ( إِن نّظُنّ إِلاّ ظَنّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ) [ الجاثية : 32]، وكان لا يحدث إلا عن ثقة وكان إذا شك في الحديث طرحه.(3/40)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سعيد بن سليمان، يقول: قلما سمعت مالكاً يفتي بشيء إلا تلا هذه الآية( إِن نّظُنّ إِلاّ ظَنّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ) [ الجاثية : 32]
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عمرو بن يزيد - شيخ من أهل مصر - صديق لمالك بن أنس، قال: قلت لمالك: يا أبا عبد الله يأتيك ناس من بلدان شتى قد أنضوا مطاياهم، وأنفقوا نفقاتهم، يسألونك عما جعل الله عندك من العلم تقول: لا أدري فقال: يا عبد الله يأتيني الشامي من شامه، والعراقي من عراقه، والمصري من مصره، فيسألونني، عن الشيء لعلي أن يبدو لي فيه غير ما أجيب به فأين أجدهم? قال عمرو: فأخبرت الليث بن سعد بقول مالك.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الحسن بن سعيد، قال: سمعت محمد بن الربيع، يقول: سمعت الشافعي، يقول: كان مالك إذا شك في الحديث طرحه كله.
[*] أورد الإمام بن كثير في البداية والنهاية عن البخاري قال: أصح الأسانيد مالك عن نافع عن ابن عمر.
[*] أورد الإمام بن كثير في البداية والنهاية عن سفيان بن عيينة قال : ما كان أشد انتقاده للرجال .
[*] أورد الإمام بن كثير في البداية والنهاية عن الشافعي قال : إذا جاء الحديث فمالك النجم.
وقال: من أراد الحديث فهو عيال على مالك.
(3) تعظيم مالك بن أنس لحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن ابن أبي أويس، قال: كان مالك إذا أراد أن يحدث توضأ وجلس على فراشه، وسرح لحيته، وتمكن في الجلوس بوقار وهيبة ثم حدث، فقيل له في ذلك، فقال: أحب أن أعظم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أحدث به إلا على طهارة متمكناً، وكان يكره أن يحدث في الطريق وهو قائم أو يستعجل، فقال: أحب أن أتفهم ما أحدث به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(3/41)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن المفضل بن محمد الجندي، يقول: سمعت أبا مصعب، يقول: كان مالك لا يحدث بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وهو على الطهارة إجلالاً لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن معين بن عيسى، يقول: كان مالك بن أنس يتقي في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الباء والتاء ونحوهما.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الحسن بن سعيد، قال: سمعت محمد بن الربيع، يقول: سمعت الشافعي، يقول: كان مالك إذا شك في الحديث طرحه كله.
[*] أورد الإمام بن كثير في البداية والنهاية عن البخاري قال: أصح الأسانيد مالك عن نافع عن ابن عمر.
[*] أورد الإمام بن كثير في البداية والنهاية عن سفيان بن عيينة قال : ما كان أشد انتقاده للرجال .
[*] أورد الإمام بن كثير في البداية والنهاية عن الشافعي قال : إذا جاء الحديث فمالك النجم.
وقال: من أراد الحديث فهو عيال على مالك.
(4) محنة الإمام مالك بن أنس :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
تعرض الإمام مالك لمحنة وبلاء بسبب حسد ووشاية بينه وبين والي المدينة جعفر بن سليمان ويروى أنه ضرب بالسياط حتى أثر ذلك على يده فيقول إبراهيم بن حماد أنه كان ينظر إلى مالك إذا أقيم من مجلسه حمل يده بالأخرى .
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أبو بكر بن محمد بن أحمد بن راشد، قال: سمعت أبا داود، يقول: ضرب جعفر بن سليمان مالك بن أنس في طلاق المكره وحكى لي بعض أصحاب ابن وهب، عن ابن وهب أن مالكاً لما ضرب حلق وحمل على بعير فقيل له: ناد على نفسك، قال: فقال: ألا من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا مالك بن أنس بن أبي عامر الأصبحي، وأنا أقول طلاق المكره ليس بشيء، قال: فبلغ جعفر بن سليمان أنه ينادي على نفسه بذلك فقال أدركوه أنزلوه.(3/42)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الفضل بن زياد القطان، قال: سألت أحمد بن حنبل: من ضرب مالك بن أنس ؟ قال: ضربه بعض الولاة لا أدري من هو، إنما ضربه في طلاق المكرة كان لا يجيزه فضربه لذلك.
[*] أورد ابن خلكان في وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان أن مالك بن أنس رحمه الله تعالى سُعِيَ به إلى جعفر بن سليمان بن علي بن عبد الله بن العباس رضي الله عنهما وهو ابن عم أبي جعفر المنصور، وقالوا له: إنه لا يرى أيمان بيعتكم هذه بشيء، فغضب جعفر ودعا به وجرده وضربه بالسياط، ومدت يده حتى انخلعت كتفه وارتكب منه أمراً عظيماً، فلم يزل بعد ذلك الضرب في علو ورفعة وكأنما كانت تلك السياط حلياً حلي به. وذكر ابن الجوزي في " شذور العقود " في سنة سبع وأربعين ومائة: وفيها ضرب مالك بن أنس سبعين سوطاً لأجل فتوى لم توافق غرض السلطان ، والله أعلم.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن محمد بن جرير كان مالك قد ضرب بالسياط واختلف في سبب ذلك فحدثني العباس بن الوليد حدثنا ابن ذكوان عن مروان الطاطري أن أبا جعفر نهى مالكا عن الحديث ليس على مستكرة طلاق ثم دس إليه من يسأله فحدثه به على رؤوس الناس فضربه بالسياط .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن إبراهيم بن حماد أنه كان ينظر إلى مالك إذا أقيم من مجلسه حمل يده بالأخرى.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الواقدي قال ما دعي مالك وشوور وسمع منه وقبل قوله حسد وبغوة بكل شيء فلما ولي جعفر بن سليمان المدينة سعوا به إليه وكثروا عليه عنده وقالوا لا يرى أيمان بيعتكم هذه بشيء وهو يأخذ بحديث رواه عن ثابت بن الأحنف في طلاق المكره أنه لا يجوز عنده قال فغضب جعفر فدعا بمالك فاحتج عليه بما رفع إليه عنه فأمر بتجريده وضربه بالسياط وجبذت يده حتى انخلعت من كتفه وارتكب منه أمر عظيم فوالله ما زال مالك بعد في رفعه وعلو .(3/43)
[*] قال الذهبي رحمه الله :
قلت هذا ثمرة المحنة المحمودة أنها ترفع العبد عند المؤمنين وبكل حال فهي بما كسبت أيدينا ويعفو الله عن كثير ، ومن يرد الله به خيرا يصيب منه ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم كل قضاء المؤمن خير له وقال الله تعالى: (وَلَنَبْلُوَنّكُمْ حَتّىَ نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصّابِرِينَ ) [ محمد : 31] وأنزل الله تعالى في وقعه أحد قوله تعالى: (أَوَ لَمّا أَصَابَتْكُمْ مّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنّىَ هََذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ ) [ آل عمران : 165] وقال تعالى: (وَمَآ أَصَابَكُمْ مّن مّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ ) [ الشورى : 30] فالمؤمن إذا امتحن صبر واتعظ واستغفر ولم يتشاغل بذم من انتقم منه فالله حكم مقسط ثم يحمد الله على سلامة دينه ويعلم أن عقوبة الدنيا أهون وخير له .
(5) ورع مالك ابن أنس رحمه الله :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عمرو بن يزيد ـ شيخ من أهل مصر ـ صديق لمالك بن أنس، قال: قلت لمالك: يا أبا عبد الله يأتيك ناس من بلدان شتى قد أنضوا مطاياهم ، وأنفقوا نفقاتهم، يسألونك عما جعل الله عندك من العلم تقول: لا أدري فقال: يا عبد الله يأتيني الشامي من شامه، والعراقي من عراقه، والمصري من مصره، فيسألونني، عن الشيء لعلي أن يبدو لي فيه غير ما أجيب به فأين أجدهم ؟ قال عمرو: فأخبرت الليث بن سعد بقول مالك.
(6) منابذة مالك ابن أنس لأهل الأهواء :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الشافعي قال : كان مالك بن أنس إذا جاءه بعض أهل الأهواء، قال: أما إني على بينة من ربي وديني، وأما أنت فشاك إلى شاك مثلك فخاصمه، وكان يقول: لست أرى لأحد يسب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في الفيء سهماً.(3/44)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن يحيى بن خلف بن الربيع الطرسوسي - وكان من ثقات المسلمين وعبادهم، قال: كنت عند مالك بن أنس ودخل عليه رجل، فقال: يا أبا عبد الله ما تقول فيمن يقول القرآن مخلوق? فقال مالك: زنديق اقتلوه، فقال: يا أبا عبد الله إنما أحكي كلاماً سمعته، فقال: لم أسمعه من أحد، إنما سمعته منك، وعظم هذا القول.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أبي همام البكراوي، يقول: سمعت أبا مصعب، يقول: سمعت مالك بن أنس، يقول: القرآن كلام الله غير مخلوق.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن ابن أبي أويس، قال: سمعت مالك بن أنس، يقول: القرآن كلام الله، وكلام الله من الله، وليس من الله شيء مخلوق.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن جعفر بن عبد الله، قال: كنا عند مالك بن أنس فجاءه رجل، فقال: يا أبا عبد الله الرحمن على العرش استوى كيف استوى؟ فما وجد مالك من شيء ما وجد من سألته، فنظر إلى الأرض وجعل ينكت بعود في يده حتى علاه الرحضاء - يعني العرق - ثم رفع رأسه ورمى بالعود وقال: الكيف منه غير معقول، والاستواء منه غير مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وأظنك صاحب بدعة، وأمر به فأخرج.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن ابن وهب، قال: سمعت مالكاً يقول لرجل: سألتني أمس عن القدر ؟ قال: نعم، قال: إن الله تعالى يقول (وَلَوْ شِئْنَا لاَتَيْنَا كُلّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلََكِنْ حَقّ الْقَوْلُ مِنّي لأمْلأنّ جَهَنّمَ مِنَ الْجِنّةِ وَالنّاسِ أَجْمَعِينَ) [ السجدة : 13]. فلا بد من أن يكون ما قال الله تعالى.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أبو بكر بن أبي عاصم، قال: سمعت سعيد بن عبد الجبار، يقول: سمعت مالك بن أنس، يقول: رأى فيهم أن يستتابوا فإن تابوا وإلا قتلوا، يعني القدرية.(3/45)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن مروان ابن محمد، قال: سئل مالك بن أنس، عن تزويج القدري فقرأ قوله تعالى: ( وَلَعَبْدٌ مّؤْمِنٌ خَيْرٌ مّن مّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ ) [ البقرة : 221]
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن محمد بن إسحاق، قال: سمعت عثمان بن صالح، وأحمد ابن سعيد الدارمي، قالا: حدثنا عثمان، قال: حدثنا عثمان، قال: جاء رجل إلى مالك وسأله عن مسألة، قال: فقال له: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، فقال الرجل: أرأيت ؟ قال: ( فَلْيَحْذَرِ الّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [ النور : 63].
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الحنيني، قال: قال مالك بن أنس: إياكم وأصحاب الرأي فإنهم أعداء أهل السنة.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سوار بن عبد الله العنبري، حدثنا أبي، قال: قال مالك بن أنس: من تنقص أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو كان في قلبه عليهم غل، فليس له حق في فيء المسلمين ثم تلا قوله تعالى: (مّآ أَفَآءَ اللّهُ عَلَىَ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَىَ فَلِلّهِ وَلِلرّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىَ وَالْيَتَامَىَ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السّبِيلِ كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأغْنِيَآءِ ) [ الحشر : 7]. حتى أتى قوله تعالى: (وَالّذِينَ جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاّ لّلّذِينَ آمَنُواْ رَبّنَآ إِنّكَ رَءُوفٌ رّحِيمٌ) [ الحشر : 10]. فمن تنقصهم أو كان في قلبه عليهم غل فليس له في الفيء حق.(3/46)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن رسته أبو عروة ـ رجل من ولد الزبير ـ قال: كنا عند مالك فذكروا رجلاً ينتقص أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقرأ مالك هذه الآية: قال تعالى: (مّحَمّدٌ رّسُولُ اللّهِ وَالّذِينَ مَعَهُ أَشِدّآءُ عَلَى الْكُفّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكّعاً سُجّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مّنَ اللّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مّنْ أَثَرِ السّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَىَ عَلَىَ سُوقِهِ يُعْجِبُ الزّرّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفّارَ ) [ الفتح : 29]. فقال مالك من أصبح في قلبه غيظ على أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أصابته الآية.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن وكيع ، يقول: سمعت مالك بن أنس، يقول: واعجباً يسأل جعفر وأبو جعفر عن أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما.
(7) زهد مالك ابن أنس رحمه الله تعالى :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أبي مسهر، يقول: سأل المأمون مالك بن أنس هل لك دار ؟ فقال: لا، فأعطاه ثلاثة آلاف دينار وقال: اشتر لك بها داراً، قال: ثم أراد المأمون الشخوص وقال لمالك: تعال معنا فإني عزمت أن أحمل الناس على الموطأ كما حمل عثمان الناس على القرآن، فقال له: مالك إلى ذلك سبيل، وذلك أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم افترقوا بعده في الأمصار فحدثوا، فعند كل أهل مصر علم، ولا سبيل إلى الخروج معك فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون . وقال: المدينة تنفي خبثها كما ينفى الكير خبث الحديد ، وهذه دنانيركم فإن شئتم فخذوه، وإن شئتم فدعوه.(3/47)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن مالك بن أنس، يقول: شاورني هارون الرشيد في ثلاث؛ في أن يعلق الموطأ في الكعبة ويحمل الناس على ما فيه، وفى أن ينقض منبر النبي صلى الله عليه وسلم ويجعله من جوهر وذهب وفضة، وفى أن يقدم نافع بن أبي نعيم إماماً يصلي في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا أمير المؤمنين؛ أما تعليق الموطأ في الكعبة فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلفوا في الفروع وتفرقوا في الآفاق، وكل عند نفسه مصيب، وأما نقض منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم واتخاذك إياه من جوهر وذهب وفضة فلا أرى أن تحرم الناس أثر النبي صلى الله عليه وسلم، وأما تقدمتك نافعاً إماماً يصلي بالناس في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن نافعاً إمام في القراءة، ولا يؤمن أن تندر منه نادرة في المحراب فتحفظ عليه، قال وفقك الله يا أبا عبد الله .
(8) من دُررِ مواعظ مالك ابن أنس :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الحارث بن مسكين، وعبد الله ابن يوسف، قالا: سئل مالك بن أنس عن الداء العضال، فقال: الخبث في الدين.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن ابن وهب قال: سئل مالك بن أنس، عن الرجل يدعو يقول: يا سيدي ؟ فقال: يعجبني أن يدعو بدعاء الأنبياء؛ ربنا، ربنا.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الفروي، قال: سمعت مالكاً، يقول: إذا لم يكن للإنسان في نفسه خير لم يكن للناس فيه خير.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن في حلية الأولياء ابن مهدي يقول: سأل رجل مالكاً عن مسألة، فقال: لا أحسنها، فقال الرجل: إني ضربت إليك من كذا وكذا لأسألك عنها، فقال له مالك: فإذا رجعت إلى مكانك وموضعك فأخبرهم أني قد قلت لك إني لا أحسنها.(3/48)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سعيد بن سليمان، يقول: قلما سمعت مالكاً يفتي بشيء إلا تلا هذه الآية: إن نظن إلا ظناً وما نحن بمستيقنين الجاثية 32.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن ابن وهب، قال: سمعت مالكاً، يقول: أن حقاً على من طلب العلم أن يكون له وقار وسكينة وخشية، وأن يكون متبعاً لأثر من مضى قبله.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن ابن وهب، قال: قال مالك بن أنس: الناس ينظرون الله عز وجل يوم القيامة بأعينهم.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الحنيني، قال: قال مالك بن أنس: إياكم وأصحاب الرأي فإنهم أعداء أهل السنة.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عبد الله ابن نافع، قال: كان مالك يقول: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن مالك أنه بلغه أن عيسى عليه السلام كان يقول: لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله فتقسو قلوبكم، فإن القلب القاسي بعيد من الله ولكن لا تعلمون، ولا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب، ولكن انظروا فيها كأنكم عبيد، فإنما الناس رجلان، مبتلى ومعافى، فارحموا أهل البلاء، واحمدوا الله على العافية.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن مالك أنه بلغه أن لقمان الحكيم قيل له: ما بلغ بك ما نرى ؟ قال: صدق الحديث، وأداء الأمانة، وتركي ما لا يعنيني.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن مالك، حدثني من أرضي أن عمر بن الخطاب أوصى رجلاً، فقال: لا تعترض فيما لا يعنيك، واجتنب عدوك، واحذر خليلك، ولا أمير من القوم إلا من خشي الله، والأمين من القوم لا تعدل به شيئاً، ولا تصحبن فاجراً كي تعلم من فجوره، ولا تفش إليه سرك، واستشر في أمرك الذين يخشون الله.(3/49)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن مالك بن أنس، قال: ليس شيء أشبه بثمار الجنة من الموز، لا تطلبه في شتاء ولا صيف إلا وجدته وقرأ: ( أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلّهَا ) [ الرعد : 35]
وفاة مالك بن أنس :
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن القعنبي قال : سمعتهم يقولون عمر مالك تسع وثمانون سنة مات سنة تسع وسبعين ومئة ، وقال إسماعيل بن ابي أويس مرض مالك فسألت بعض أهلنا عما قال عند الموت قالوا تشهد ثم قال: ( لِلّهِ الأمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ ) [ الروم : 4] وتوفي صبيحة اربع عشرة من ربيع الأول سنة تسع وسبعين ومئة فصلى عليه الأمير عبدالله بن محمد بن إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس الهاشمي ولد زينب بنت سليمان العباسية ويعرف بأمه رواها محمد بن سعد عنه ثم قال وسألت مصعبا فقال بل مات في صفر فأخبرني معن بن عيسى بمثل ذلك وقال أبو مصعب الزهري مات لعشر مضت من ربيع الأول سنة تسع وقال محمد بن سحنون مات في حادي عشر ربيع الأول وقال ابن وهب مات لثلاث عشرة خلت من ربيع الأول قال القاضي عياض الصحيح وفاته في ربيع الأول يوم الأحد لتمام اثنين وعشرين يوما من مرضه وغسله ابن ابي زنبر وابن كنانه وابنه يحيى وكاتبه حبيب يصبان عليهما الماء ونزل في قبره جماعة وأوصى أن يكفن في ثياب بيض وأن يصلى عليه في موضع الجنائز فصلى عليه الأمير المذكور قال وكان نائبا لأبيه محمد على المدينة ثم مشى أمام جنازته وحمل نعشه وبلغ كفنه خمسة دنانير .
قال الإمام الذهبي رحمه الله : قلت تواترت وفاته في سنة تسع فلا اعتبار لقول من غلط وجعلها في سنة ثمان وسبعين ولا اعتبار بقول حبيب كاتبه ومطرف فيما حكي عنه فقالا سنة ثمانين ومئة .
[*] أورد أبو إسحاق الشيرازي في طبقات الفقهاء أن مالك بن أنس مات سنة تسع وسبعين ومائة وله أربع وثمانون سنة، قال الواقدي: مات وهو ابن تسعين سنة .(3/50)
[*] أورد ابن خلكان في وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان أن مالك بن أنس توفي في شهر ربيع الأول سنة تسع وسبعين ومائة، رضي الله عنه، فعاش أربعاً وثمانين سنة؛ وقال الواقدي: مات وله تسعون سنة [ والله أعلم بالصواب ]
[*] أورد الحافظ أبو عبد الله الحميدي في كتاب جذوة المقتبس : وفاة مالك بن أنس كانت بالمدينة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، ودفن بالبقيع جوار إبراهيم ولد النبي صلى الله عليه وسلم.
ورثاه أبو محمد جعفر بن أحمد بن حسين السراج بقوله:
سقى جدثاً ضم البقيع لمالك من المزن مرعاد السحائب مبراق
إمام موطاه الذي طبقت به أقاليم في الدنيا فساح وآفاق
أقام به شرع النبي محمد له حذر من أن يضام وإشفاق
له سند عال صحيح وهيبة فاللكل منه حين يرويه إطراق
وأصحاب صدق كلهم علم فسل بهم إنهم إن أنت ساءلت حذاق
ولو لم يكن إلا ابن إدريس وحده كفاه ألا إن السعادة أرزاق
سيرة سفيان الثوري رحمه الله :
كان سفيان الثوري رحمه الله من أئمة تابعي التابعين ، من أئمة الهدى وأعلام التقى ومصابيح الدجى ، من حلية الأولياء وأعلام النبلاء ،الأضواء اللامعة والنجوم الساطعة .
اسم سفيان الثوري ونسبه :
[*] قال الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء :
هو سفيان ابن سعيد بن مسروق بن حبيب بن رافع بن عبد الله بن موهبة بن أبي ابن عبد الله بن منقذ بن نصر بن الحارث بن ثعلبة بن عامر بن ملكان بن ثور ابن عبد مناة بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان وكذا نسبه ابن أبي الدنيا عن محمد بن خلف التيمي غير أنه أسقط منه منقذا والحارث وزاد بعد مسروق حمزة والباقي سواء وكذلك ذكر نسبه الهيثم بن عدي وابن سعد وأنه من ثور طابخة وبعضهم قال هو من ثور همدان وليس بشيء .
مولد سفيان الثوري رحمه الله :
[*] قال الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء :ولد سنة سبع وتسعين اتفاقاً أهـ .
وولد بالكوفة في خلافة سليمان بن عبد الملك.(3/51)
نشأة سفيان الثوري رحمه الله :
نشأ سفيان الثوري -رحمه الله- في الكوفة ، وقد اعتنى به والده ، ووجهه إلى العلم وهو حدث وقد نبغ في وقت مبكر ، وما ذلك إلا لفرط ذكائه وقوة حافظته .
شيوخ سفيان الثوري رحمه الله :
يقال أن عدد شيوخه ستمائة شيخ وكبارهم الذين حدثوه عن أبي هريرة وجريربن عبدالله وابن عباس وامثالهم
تلامذة سفيان الثوري ومن حدث عنه :
وأما الرواة عنه فخلق ذكر أبو الفرج ابن الجوزي أنهم : أكثر من عشرين ألفاً ، قال الذهبي في السير : وهذا مدفوع ممنوع ، فإن بلغوا ألفا فبالجهد ، وما علمت أحداً من الحفاظ روي عنه أكثر من مالك وبلغوا بالمجاهيل وبالكذابين ألفا وأربعمائة .
حدث عنه من القدماء من مشيخته وغيرهم خلق ، منهم : الأعمش ، وأبان بن تغلب ،وابن عجلان، وخصيف، وابن جريج
وجعفر الصادق ،وأبو حنيفة ،والأوزاعي ،وشعبة ،ومعمر- كلهم ماتوا قبله -وإبراهيم بن سعد ،وأبو إسحاق الفرازي ،وأحمد بن يونس اليربوعي ،وابن علية وخلائق .
[*] مناقب سفيان الثوري رحمه الله :
كان سفيان الثوري رحمه الله من أئمة تابعي التابعين ، من أئمة الهدى وأعلام التقى ومصابيح الدجى ، من حلية الأولياء وأعلام النبلاء ،الأضواء اللامعة والنجوم الساطعة .
وهاك غَيْضٍ من فيض ونقطةٍ من بحر مما ورد في مناقبه رحمه الله تعالى جملةً وتفصيلا :
أولاً مناقب سفيان الثوري جملةً رحمه الله :
(1) ثناء العلماء على سفيان الثوري رحمه الله :
(2) حرص سفيان الثوري على طلب العلم :
(3) فقه سفيان الثوري رحمه الله :
(4) نُصْح سفيان الثوري للولاة رحمه الله :
(5) دعوة سفيان الثوري للكسب الحلال رحمه الله :
(6) زهد سفيان الثوري رحمه الله :
(7) إيثار سفيان الثوري للخمول وإنكار الذات :
(8) موالاة سفيان الثوري لأهل السنة :
(9) منابذة سفيان الثوري لأهل الأهواء :
(10) تَفَّكُر سفيان الثوري في أمر الآخرة :
(11) قيام سفيان الثوري الليل :(3/52)
(12) حافظة سفيان الثوري رحمه الله :
(13) خشية سفيان الثوري لله تعالى وبكاؤه :
(14) دعوة سفيان الثوري للعمل في خفاء :
(15) دعوة سفيان الثوري لصلاح السلطان :
(16) دعوة سفيان الثوري لصلاح العلماء وبعدهم عن السلطان :
(17) محنة سفيان الثوري رحمه الله تعالى :
(18) من دُررِ مواعظ سفيان الثوري رحمه الله :
(19) أمر سفيان الثوري بالمعروف ونهيه عن المنكر :
(20) شدة عبادة سفيان الثوري رحمه الله تعالى :
(21) دعوة سفيان الثوري لإكراه الولد على العلم :
(22) تعظيم سفيان الثوري للإسناد :
(23) ثناء سفيان الثوري على الحديث وأهله:
(24) دعوة سفيان الثوري إلى التقليل من معرفة الناس :
ثانياً مناقب سفيان الثوري تفصيلا رحمه الله:
(1) ثناء العلماء على سفيان الثوري رحمه الله :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ
[*] قال عنه الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء :
ومنهم الإمام المرضي، والورع الدري، أبو عبد الله سفيان بن سعيد الثوري رضي الله تعالى عنه ، كانت له النكت الرائقة، والنتف الفائقة، مسلم له في الإمامة، ومثبت به الرعاية، العلم حليفه، والزهد أليفه.
[*] وقال عنه الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء :
هو شيخ الإسلام إمام الحفاظ سيد العلماء العاملين في زمانه أبو عبد الله الثوري الكوفي المجتهد مصنف كتاب الجامع .
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عبد الرحمن بن مهدي، يقول: أدركت من الناس الأئمة منهم أربعة: مالك بن أنس، وحماد بن زيد، وسفيان بن سعيد، وذكر الرابع ونسيته إن لم يكن ابن المبارك فلا أدري.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن شعبة، يقول: سفيان الثوري أمير المؤمنين الحديث.(3/53)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان بن عيينة، يقول: أئمة الناس ثلاثة بعد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ابن عباس في زمانه والشعبي في زمانه، وسفيان الثوري في زمانه.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن ابن المبارك يقول: ما أعلم على الأرض أعلم من سفيان الثوري رحمه الله.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أحمد بن بونس سمعت زائدة وذكر عنده سفيان فقال ذاك أفقه أهل الدنيا .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن ابن إدريس قال : ما رأيت بالكوفة رجلا أتبع للسنة ولا أود أني في مسلاخه من سفيان الثوري.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن ابن عيينة ما رأى سفيان مثل نفسه.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن إبراهيم بن محمد الشافعي قال : قلت لابن المبارك رأيت مثل سفيان الثوري فقال وهل رأى هو مثل نفسه.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الخريبي قال : ما رأيت محدثا أفضل من الثوري.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن يحيى بن سعيد قال : ما كتبت عن سفيان عن الأعمش أحب إلي مما كتبت عن الأعمش .
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الأوزاعي قال : لو قيل لي اختر رجلاً يقوم بكتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم لاخترت لهما الثوري.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن فضيل ابن عياض، يقول: إن هؤلاء أشربت قلوبهم حب أبي حنيفة وأفرطوا فيه حتى لا يرون أن أحد كان أعلم منه، كما أفرطت الشيعة في حب علي، وكان والله سفيان أعلم منه.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أبو بكر بن عياش: إني لأرى الرجل يحدث، عن سفيان فينبل في عيني.(3/54)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن ابن المبارك يقول: تعجبني مجالس سفيان الثوري، كنت إذا شئت رأيته في الورع، وإذا شئت رأيته مصلياً، واذا شئت رأيته غائصاً في الفقه، فأما مجلس أتيته فلا أعلم أنهم صلوا على النبي صلى الله عليه وسلم حتى قاموا، عن شغب - يعني مجلس أبي حنيفة وأصحابه.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عبد الرزاق، قال: كنت جالساً مع أبي حنيفة في دير الكعبة، فجاء رجل، فقال: يا أبا حنيفة ألا أعجبك من الثوري - رأيته يلبي على الصفا، قال: اذهب ويحك فالزمه فإنه لا يلبي على الصفا إلا لعلم. قال عبد الرزاق: فتعجب منه، فقلت: ألم تسمع حديث مسروق، عن عبد الله أنه لبى على الصفا.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عبد الله ابن داود الخريبي، يقول: ما رأيت محدثاً أفضل من سفيان الثوري.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أحمد بن يونس، يقول: ما رأيت أحداً أعلم من سفيان، ولا أورع من سفيان، ولا أفقه من سفيان، ولا أزهد من سفيان.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عبد الرحمن بن مهدي، قال: ما رأيت أعقل من مالك، ولا رأيت أعلم من سفيان.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سهل بن عاصم قال: سمعت ثابتاً - أو إسماعيل الزاهد - يقول - وذكر الثوري - فقال: رحم الله أب عبد الله، يا زين الفقهاء، يا سيد العلماء، يا قرير العيون، تبكي العيون لفقدك على واصل الأرحام في زمانهم ثم قال: أصيب المسلمون بعمر بن الخطاب، وأصبنا بأبي عبد الله في زماننا.(3/55)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أبو بكر بن خلاد، قال: سمعت يحيى بن سعيد يقول: وسألوه عن سفيان وشعبة، قال: ليس الأمر بالمحاباة ولو كان الأمر بالمحاباة لقد منا شعبة على سفيان لتقدمه، سفيان يرجع إلى كتاب وشعبة لا يرجع إلى كتاب، وسفيان أحفظهما. قد رأيناهما يختلفان فوجدنا الأمر على ما قال سفيان.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عبد الله ابن أحمد بن حنبل، قال: سمعت أبي، يقول: كان يحيى بن سعيد لا يعدل بسفيان الثوري أحداً.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أيوب السختياني، يقول: ما قدم علينا من الكوفة أفضل من سفيان الثوري.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن يحيى بن سعيد يقول: رأيت الثوري فيما يرى النائم، فنظرت إلى صدره فإذا في صدره مكتوب في موضعين: ( فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ ) [ البقرة : 137]
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عبد الرحمن بن مهدي يقول: لما أن غسلت سفيان الثوري وجدت في جسده مكتوباً: ( فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ ) [ البقرة : 137](3/56)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سالم الخواص، قال: قال رجل لسفيان الثوري: يا أبا عبد الله إن فيك لعجباً، قال: يا ابن أخي ما الذي بان لك مني حتى عجبت ؟ قال: تنقلك من بلد إلى بلد، إن للناس مأوى، ولسبع مأوى، ومالك مأوى تأوى إليه، فقال له سفيان: أي رجل كان المغيرة بن مقسم الضبي ؟ قال رجل صالح إن شاء الله، قال: وأي الرجال كان إبراهيم النخعي؟ قال: بخ بخ قال: فأي الرجال كان علقمة. قال: لا تسأل، قال: فأي الرجال كان عبد الله ابن مسعود؟ قال: الثقة الصدوق، فقال سفيان: حدثنا المغيرة بن مقسم، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله ابن مسعود، قال: اقتحم عن أهل الجنة نور في قبابهم كاد أن يخطف نوره أبصار القوم، فإذا نور سن حوراء ضحكت في وجه وليها، فما كنت أدع هذا الخير أبداً لقولك، ثم أنشد سفيان يقول:
ما ضر من كانت الفردوس مسكنه ماذا تجرع من بؤس واقتار
تراه يمشي كئيباً خائفاً وجلاً إلى المساجد يمشي بين أطمار
ثم أقبل على نفسه فقال :
يا نفس مالك من صبر على النار قد حان أن تقبلي من بعد إدبار
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن إبراهيم بن أعين البجلي، قال: رأيت سفيان الثوري في المنام ولحيته حمراء صفراء، فقلت: ما صنعت فديتك ؟ قال: أنا مع السفرة، قلت: وما السفرة ؟ قال: الكرام البررة.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن ابن المبارك، قال: رأيت سفيان الثوري في المنام فقلت ما فعل بك ربك، قال: لقيت محمداً أو حزبه صلى الله عليه وسلم، ورضي عنهم.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عثمان بن زائدة، قال: رأيت في النوم كأني أدخلت الجنة، فإذا سفيان يطير من شجرة إلى شجرة وهو يقول: (تِلْكَ الدّارُ الاَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأرْضِ وَلاَ فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتّقِينَ) [ القصص : 83](3/57)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن صخر بن راشد، قال: رأيت عبد الله ابن المبارك في منامي بعد موته، فقلت: أليس قدمت ؟ قال: بلى، قلت: فما صنع بك ربك ؟ قال: غفر لي مغفرة أحاطت بكل ذنب، قال: قلت: فسفيان الثوري ؟ قال: بخ بخ ذاك ( مَعَ الّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مّنَ النّبِيّينَ وَالصّدّيقِينَ وَالشّهَدَآءِ وَالصّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولََئِكَ رَفِيقاً) [ النساء : 69]
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن حيى بن يمان يقول: أتعب سفيان القراء بعده، ولا رأينا مثل سفيان، ولا رأى سفيان مثله، أقبلت عليه الدنيا فانصرف بوجهه عنها.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن ابن المبارك قال : كتبت عن ألف ومئة شيخ ما كتبت عن أفضل من سفيان .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أيوب السختياني قال ما لقيت كوفيا أفضل على سفيان .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن يونس بن عبيد يقول ما رأيت أفضل من سفيان فقيل له فقد رأيت سعيد بن جبير وإبراهيم وعطاء ومجاهدا وتقول هذا قال: هو ما أقول ما رأيت أفضل من سفيان .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن ابن المهدي قال ما رأت عيناي أفضل من أربعة أو مثل أربعة ما رأيت أحفظ للحديث من الثوري ولا أشد تقشفا من شعبة ولا أعقل من مالك ولا أنصح للأمة من ابن المبارك .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عباس الدوري قال : رأيت يحيى بن معين لا يقدم على سفيان أحدا في زمانه في الفقه والحديث والزهد وكل شيء .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أبي حنيفه يقول لو كان سفيان الثوري في التابعين لكان فيهم له شأن .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أبي حنيفة قال لو حضر علقمة والأسود لاحتاجا إلى سفيان .(3/58)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن المثنى بن الصباح قال سفيان عالم الأمة وعابدها .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن ابن أبي ذئب قال ما رأيت أشبه بالتابعين من سفيان الثوري .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن شعبة قال : ساد سفيان الناس بالورع والعلم .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن يعقوب الحضرمي سمعت شعبة يقول سفيان أمير المؤمنين في الحديث .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن ابن عيينة قال ما رأيت رجلا أعلم بالحلال والحرام من سفيان الثوري .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن ابن المبارك قال ما نعت لي أحد فرأيته إلا وجدته دون نعته إلا سفيان الثوري وقال : قال لي ابن عيينة لن ترى بعينيك مثل سفيان الثوري حتى تموت .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عبد الرحمن بن مهدي ذكر سفيان وشعبة ومالكا وابن المبارك فقال أعلمهم بالعلم سفيان .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن بشرالحافي كان الثوري عندنا إمام الناس وعنه قال سفيان في زمانه كأبي بكر وعمر في زمانهما .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن ابن عيينة أصحاب الحديث ثلاثة ابن عباس في زمانه والشعبي في زمانه والثوري في زمانه .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أحمد بن حنبل قال أتدري من الإمام الإمام سفيان الثوري لا يتقدمه أحد في قلبي.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن حذيفة المرعشي قال قال سفيان لأن أخلف عشرة آلاف درهم يحاسبني الله عليها أحب إلي من أن أحتاج إلى الناس .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن رواد بن الجراح سمعت الثوري يقول كان [*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن المال فيما مضى يكره فأما اليوم فهو ترس المؤمن .(3/59)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عبد الله بن محمد الباهلي جاء رجل إلى الثوري يشاوره في الحج قال لا تصحب من يكرم عليك فإن ساويته في النفقة أضر بك وإن تفضل عليك استذلك ونظر إليه رجل وفي يده دنانير فقال يا أبا عبد الله تمسك هذه الدنانير قال اسكت فلولاها لتمندل بنا الملوك .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن ابن وهب قال : رأيت الثوري في الحرم بعد المغرب صلى ثم سجد سجدة فلم يرفع حتى نودي بالعشاء.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن قال الفريابي زارني ابن المبارك فقال أخرج إلي حديث الثوري فأخرجته إليه فجعل يبكي حتى أخضل لحيته وقال رحمه الله ما أرى أني أرى مثله أبدا.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أبي حاتم الرازي قال: سفيان فقيه حافظ زاهد إمام هو أحفظ من شعبة .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أبي زرعة قال: سفيان أحفظ من شعبة في الإسناد والمتن.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عبد المؤمن النسفي قال: سألت صالح بن محمد جزرة عن سفيان ومالك فقال سفيان ليس يتقدمه عندي أحد وهو أحفظ وأكثر حديثا ولكن كان مالك ينتقي الرجال وسفيان أحفظ من شعبة وأكثر حديثا يبلغ حديثه ثلاثين ألفا وشعبة نحو عشرة آلاف.
(2) حرص سفيان الثوري على طلب العلم :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ
بكر سفيان الثوري في طلب العلم حتى رآه أبو اسحق السبيعي مقبلا وقال قال تعالى: ( وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً) [ مريم : 12] قال أبو المثنى: سمعتهم بمرو يقولون قد جاء الثوري قد جاء الثوري، وخرجت أنظر إليه فإذا هو غلام قد بقل وجهه ـ أي خرج شعره ـ قال عبد الرازق وغيره عن سفيان قال: ما استودعت قلبي شيئا قط فخانني .
وهاك بعض الآثار الواردة في حرصه على طلب العلم ودعوته إلى طلب العلم :(3/60)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان الثوري يقول: ليس عمل بعد الفرائض أفضل من طلب العلم.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان الثوري، قال : لا نزال نتعلم العلم ما وجدنا من يعلمنا.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان الثوري قال : كان الرجل إذا أراد أن يكتب الحديث تأدب وتعبد قبل ذلك بعشرين سنة.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن يحيى بن أبي بكير يقول قيل لسفيان الثوري إلى متى تطلب الحديث قال وأي خير أنه فيه خير من الحديث فأصبر إليه أن الحديث خير علوم الدنيا .
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان الثوري قال : الأعمال السيئة داء، والعلماء دواء، فإذا فسد العلماء فمن يشفي الداء ؟.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان الثوري قال : العلم طبيب الدين، والدرهم داء الدين، فإذا جذب الطبيب الداء إلى نفسه فمتى يداوى غيره ؟.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان الثوري قال : إنما يطلب العلم ليتقي الله به فمن ثم فضل، لولا ذلك لكان كسائر الأشياء.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن بن المبارك، قال : سئل سفيان الثوري: طلب العلم أحب إليك يا أبا عبد الله أو العمل. فقال: إنما يراد العلم للعمل، لا تدع طلب العلم للعمل، ولا تدع العمل لطلب العلم.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان الثوري قال : تعلموا هذا العلم واكظموا وافرغوا عليه ولا تخلطوه بضحك فتجمد القلوب.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان الثوري قال : إنما هو طلبه، ثم حفظه، ثم العمل به، ثم نشره.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان الثوري قال : كان يقال أول العلم الصمت ، والثاني الاستماع له وحفظه ، والثالث العمل به، والرابع نشره وتعليمه.(3/61)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان، قال: أكثروا من الأحاديث فإنها سلاح.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان الثوري - وسأله شيخ عن حديث فلم يجبه، قال: فجلس الشيخ يبكي، فقام إليه سفيان فقال: يا هذا تريد ما أخذته في أربعين سنة أن تأخذه أنت في يوم واحد ؟.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان الثوري قال : ينبغي للرجل أن يكره ولده على طلب الحديث فإنه مسؤول عنه.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان الثوري قال : ليس شيء أنفع للناس من الحديث.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان الثوري قال : لو أني أعلم أن أحداً يطلب الحديث بنية لأتيته في منزله حتى أحدثه.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن محمد بن يوسف الفريابي، يقول: سمعت الثوري، يقول: ما من عمل أفضل من طلب الحديث إذ صحت النية فيه، قال أحمد: قلت للفريابي: وأي شيء النية ؟ قال: تريد به وجه الله والدار الآخرة.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان الثوري قال : طلبت العلم ولم تكن لي نية، ثم رزقني الله النية.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن في حلية الأولياء عن: سفيان الثوري قال : تعلموا العلم فإذا علمتوه فاكظموا عليه ولا تخلطوه بضحك ولا لعب فتمجه القلوب.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان الثوري قال : مثل العلم مثل الطبيب لا يضع الدواء إلا على موضع الداء.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان الثوري يقول: ليس طلب العلم فلان عن فلان، إنما طلب العلم الخشية لله عز وجل.
(3) فقه سفيان الثوري رحمه الله :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ(3/62)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أبي الحسن بن إبراهيم البياضي، قال: أخبرت أن أمير المؤمنين هارون الرشيد قال لزبيدة: أتزوج عليك ؟ قالت زبيدة: لا يحل لك أن تتزوج علي، قال: بلى قالت زبيدة: بيني وبينك من شئت، قال: ترضين بسفيان الثوري ؟ قالت: نعم : فوجه إلى سفيان الثوري، فقال: إن زبيدة تزعم أنه لا يحل في أن أتزوج عليها، وقد قال الله تعالى: ( فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ النّسَآءِ مَثْنَىَ وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ ) [ النساء : 3]. ثم سكت فقال سفيان: تمم الآية، يريد أن يقرأ: ( فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَىَ أَلاّ تَعُولُواْ) [ النساء : 3]. وأنت لا تعدل، قال: فأمر لسفيان بعشرة آلاف درهم فأبى أن يقبلها.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عبد الرزاق سمعت الثوري يقول امسح عليهما ما تعلقتا بالقدم وإن تخرقا قال وكذلك خفاف المهاجرين والأنصار مخرقة مشققة مشايخ.
(4) نُصْح سفيان الثوري للولاة رحمه الله :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان الثوري: دخلت على المهدي فرأيت ما قد هيأه للحج، فقلت: ما هذا حج عمر بن الخطاب فأنفق ستة عشر ديناراً.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان الثوري قال: دخلت على المهدي فقلت: بلغني أن عمر بن الخطاب أنفق في حجته اثني عشر ديناراً، وأنت فيما أنت فيه قال: فغضب قال: تريد أن أكون مثل الذي أنت فيه ؟ قال: فقلت: فإن لم تكن في مثل ما أنا فيه ففي دون ما أنت فيه، فقال لي: يا أبا عبد الله قد جاءتنا كتبك فأنفذتها، قال: قلت له: ما كتبت إليك شيئاً قط.(3/63)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن محمد بن يوسف الفريابي سمعت سفيان يقول أدخلت على أبي جعفر بمنى فقلت له أتق الله فإنما أنزلت في هذه المنزلة وصرت في هذا الموضع بسيوف المهاجرين والأنصار وأبناؤهم يموتون جوعا حج عمر فما أنفق إلا خمسة عشر دينارا وكان ينزل تحت الشجر فقال أتريد أن أكون مثلك قلت لا ولكن دون ما أنت فيه وفوق ما أنا فيه قال أخرج.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان الثوري قال: لا يأمر السلطان بالمعروف إلا رجل عالم بما يأمر، عالم بما ينهى، رفيق فيما يأمر، رفيق فيما ينهى، عدل فيما يأمر، عدل فيما ينهى.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن في حلية الأولياء الفريابي، يقول: سمعت سفيان الثوري يقول: أدخلت على أبي جعفر بمنى فقلت له: اتق الله فإنما أنزلت هذه المنزله وصرت في هذا الموضع بسيوف المهاجرين والأنصار، وأبناؤهم يموتون جوعاً. حج عمر بن الخطاب فما أنفق إلا خمسة عشر ديناراً، وكان ينزل تحت الشجرة، فقال لي: أتريد أن أكون مثلك. قلت: لا تكونا مثلي، ولكن كن دون ما أنت فيه، وفوق ما أنا فيه، فقال لي: اخرج، قال أبو جعفر: كتبه عني بشر بن الحارث.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عبد الرزاق يقول: أخذ أبو جعفر بتلباب الثوري وحول وجهه إلى الكعبة، فقال: برب هذه البنية أي رجل رأيتني ؟ قال: برب هذه البنية بئس الرجل رأيتك واطلق يده.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان الثوري قال : ما يريد مني أبو جعفر. فوالله لئن قمت بين يديه لأقولن له: قم من مقامك فغيرك أولى به منك.(3/64)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الهيثم بن جميل عن مفضل بن مهلهل قال حججت مع سفيان فوافينا بمكة الأوزاعي فاجتمعنا في دار وكان على الموسم عبد الصمد بن علي فدق داق الباب قلنا من ذا قال الأمير فقام الثوري فدخل المخرج وقام الأوزاعي فتلقاه فقال له من أنت أيها الشيخ قال أنا الأوزاعي قال حياك الله بالسلام أما إن كتبك كانت تأتينا فنقضي حوائجك ما فعل سفيان قال فقلت دخل المخرج قال فدخل الأوزاعي في إثره فقال إن هذا الرجل ما قصد إلا قصدك فخرج سفيان مقطبا فقال سلام عليكم كيف أنتم فقال له عبد الصمد أتيت أكتب عنك هذه المناسك قال أولا أدلك على ما هو أنفع لك منها قال وما هو قال تدع ما أنت فيه قال وكيف أصنع بأمير المؤمنين قال إن أردت كفاك الله أبا جعفر فقال له الأوزاعي يا أبا عبد الله إن هؤلاء ليس يرضون منك إلا بالإعظام لهم فقال يا أبا عمرو إنا لسنا نقدر أن نضربهم وإنما نؤدبهم بمثل هذا الذي ترى قال مفصل فالتفت إلى الأوزاعي فقال لي قم بنا من ها هنا فإني لا آمن أن يبعث هذا من يضع في رقابنا حبالا وإن هذا ما يبالي.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن سفيان الثوري قال أدخلت على المهدي بمنى فسلمت عليه بالإمرة فقال أيها الرجل طلبناك فأعجزتنا فالحمد لله الذي جاء بك فارفع إلينا حاجتك فقلت قد ملأت الأرض ظلما وجورا فاتق الله وليكن منك في ذلك عبرة فطأطأ رأسه ثم قال أرأيت إن لم أستطع دفعه قال تخليه وغيرك فطأطأ رأسه ثم قال ارفع إلينا حاجتك قلت أبناء المهاجرين والأنصار ومن تبعهم بإحسان بالباب فاتق الله وأوصل إليهم حقوقهم فطأطأ رأسه فقال أبو عبيد الله أيها الرجل ارفع إلينا حاجتك قلت وما أرفع حدثني إسماعيل بن أبي خالد قال حج عمر فقال لخازنه كم أنفقت قال بضعة عشر درهما وإني أرى ها هنا أمورا لا تطيقها الجبال.(3/65)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن ابن نمير حدثنا أبي لقيني الثوري بمكة فأخذ بيدي وسلم علي ثم انطلق إلى منزله فإذا عبد الصمد قاعد على بابه ينتظره وكان والي مكة فلما رآه قال ما أعلم في المسلمين أحدا أغش لهم منك.
(5) دعوة سفيان الثوري للكسب الحلال رحمه الله :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أبي الأحوص سلام بن سليمل قال: قال لي سفيان الثوري: عليك بعمل الأبطال، الكسب من الحلال، والإنفاق على العيال، قال: وكان سفيان الثوري إذا أعجبه تجر الرجل، قال: نعم الفتى إن عوجل.
(6) زهد سفيان الثوري رحمه الله :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان الثوري قال : الزهد في الدنيا قصر الأمل، ليس بأكل الغليظ ولا لبس العبا.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان الثوري قال : ليس الزهد في الدنيا بلبس الخشن، ولا أكل الجشب، إنما الزهد في الدنيا قصر الأمل.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن وكيع سمعت سفيان يقول ليس الزهد بأكل الغليظ ولبس الخشن ولكنه قصر الأمل وارتقاب الموت.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن سفيان الزاهد في الدنيا هو الزهد في الناس وأول ذلك زهدك في نفسك .
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن بشر بن الحارث، قال: قيل لسفيان الثوري: أيكون الرجل زاهداً ويكون له المال؟ قال: نعم، إن كان إذا ابتلى صبر وإذا أعطى شكر.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان الثوري، قال: إذا زهد العبد في الدنيا أنبت الله الحكمة في قلبه، وأطلق بها لسانه، وبصره عيوب الدنيا وداءها ودواءها.(3/66)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان قال : عليك بالزهد يبصرك الله عورات الدنيا، وعليك بالورع يخفف الله عنك حسابك، ودع ما يريبك إلى مالا يريبك، وادفع الشك باليقين يسلم لك دينك.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان الثوري قال : لا يكون للقراءة ملح حتى يكون معها زهد.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان الثوري قال : لا تصلح القراءة إلا بالزهد، واغبط الأحياء بما تغبط به الأموات، أحبهم على قدر أعمالهم، وذل عند الطاعة، واستعص عند المعصية.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان الثوري قال : ما رأيت الزهد في شيء أقل منه في الرياسة، ترى الرجل يزهد في المطعم والمشرب والمال والثياب، فإذا تورع في الرياسة حامي عليها وعادي.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن في حلية الأولياء قال سفيان الثوري: الزهد في الدنيا هو الزهد في الناس، وأول الزهد في الناس زهدك في نفسك.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن سفيان قال ما أنفقت درهما في بناء .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن ابن يمان ما رأيت مثل سفيان أقبلت الدنيا عليه فصرف وجهه عنها .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن خلف بن تميم سمعت سفيان يقول من أحب أفخاذ النساء لم يفلح .
تقسيم سفيان الثوري للزهد :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن قال سفيان الزهد زهدان زهد فريضة وزهد نافلة فالفرض أن تدع الفخر والكبر والعلو والرياء والسمعة والتزين للناس وأما زهد النافلة فأن تدع ما أعطاك الله من الحلال فإذا تركت شيئا من ذلك صار فريضة عليك ألا تتركه إلا لله.
(7) إيثار سفيان الثوري للخمول وإنكار الذات :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ(3/67)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان الثوري أنه كتب إلى أخ له: واحذر حب المنزلة فإن الزهادة فيها أشد من الزهادة في الدنيا.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان الثوري قال : إذا رأيت القارئ يلوذ بباب السلطان فاعلم أنه لص، فإذا رأيته يلوذ بالأغنياء فاعلم أنه مرائي.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان الثوري قال : أحب أن أكون في موضع لا أعرف ولا أستذل.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان الثوري، يقول: إذا عرفت نفسك فلا يضرك ما قيل فيك.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن ابن المبارك قال لي سفيان إياك والشهرة فما أتيت أحدا إلا وقد نهى عن الشهرة .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن خلف بن تميم رأيت الثوري بمكة وقد كثروا عليه فقال إنا لله أخاف أن يكون الله قد ضيع هذه الأمة حيث احتاج الناس إلى مثلي وسمعته يقول لولا أن أستذل لسكنت بين قوم لا يعرفوني ونقل غير واحد أن سفيان كان مستكينا في لباسه عليه ثياب رثة.
(8) موالاة سفيان الثوري لأهل السنة :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان الثوري قال : يوسف بن اسباط، قال: قال سفيان: يا يوسف إذا بلغك عن رجل المشرق صاحب سنة فابعث إليه بالسلام، وإذا بلغك عن آخر بالمغرب صاحب سنة فابعث إليه بالسلام، فقد قل أهل السنة والجماعة.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان الثوري قال : لا يستقيم قول إلا بعمل، ولا يستقيم قول وعمل إلا بنية، ولا يستقيم قول وعمل ونية إلا بموافقة السنة.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن سفيان استوصوا بأهل السنة خيرا فإنهم غرباء.
(9) منابذة سفيان الثوري لأهل الأهواء :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ(3/68)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عبد الوهاب الحلي، يقول: سألت سفيان الثوري ونحن نطوف بالبيت عن الرجل يحب أبا بكر وعمر إلا أنه يجد لعلي من الحب مالا يجد لهما ؟ قال: هذا رجل به داء ينبغي أن يسقى دواء.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان الثوري قال : من قدم علياً على أبي بكر وعمر فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار، وأخشى أن لا ينفعه مع ذلك عمل.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان الثوري قال : من قدم علياً على أبي بكر وعمر فقد أزرى عليهما وعلى علي وعلى غيرهم من الناس.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عبد العزيز بن أبان سمعت الثوري يقول من قدم على أبي بكر وعمرا أحدا فقد أزرى على اثني عشر ألفا من أصحاب رسول الله توفي رسول الله وهو عنهم راض .
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن حمزة الثقفي، قال: قال رجل لسفيان: ما أزعم أن علياً أفضل من أبي بكر وعمر. ولكن أجد لعلي مالا أجد لهما، فقال سفيان: أنت رجل منقوص.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الفريابي سمعت سفيان ورجل يسأله عن من يشتم أبا بكر فقال كافر بالله العظيم قال نصلي عليه قال لا ولا كرامة قال فزاحمه الناس حتى حالوا بيني وبينه فقلت للذي قريبا منه ما قال قلنا هو يقول لا اله إلا الله ما نصنع به قال لا تمسوه بأيديكم ارفعوه بالخشب حتى تواروه في قبره.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان الثوري قال : من أصغى بسمعه إلى صاحب بدعة وهو يعلم أنه صاحب بدعة خرج من عصمة الله ووكل إلى نفسه.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان الثوري قال : من سمع بدعة فلا يحكها لجلسائة لا يلقيها في قلوبهم.(3/69)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن سفيان الثوري قال : من أصغى بسمعه إلى صاحب بدعة وهو يعلم خرج من عصمة الله ووكل إلى نفسه وعنه من يسمع ببدعة فلا يحكها لجلسائه لا يلقيها في قلوبهم.
[*] قال الإمام الذهبي رحمه الله :
قلت أكثر أئمة السلف على هذا التحذير يرون أن القلوب ضعيفة والشبه خطافة .
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان الثوري قال : إذا أحببت الرجل في الله ثم أحدث حدثاً في الإسلام فلم تبغضه عليه فلم تحبه في الله.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن مؤمل بن إسماعيل قال: لم يصل سفيان على ابن أبي رواد للإرجاء .
(10) تَفَّكُر سفيان الثوري في أمر الآخرة :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن يوسف بن أسباط: قال لي سفيان الثوري وأنا وهو في المسجد: يا يوسف ناولني المطهرة أتوضأ، فناولته، فأخذها بيمينه ووضع يساره على خده، ونمت فاستيقظت وقد طلع الفجر فنظرت إليه فإذا المطهرة في يده على حالها، فقلت: يا أبا عبد الله قد طلع الفجر، قال: لم أزل منذ ناولتني المطهرة أتفكر في الآخرة إلى هذه الساعة.
(11) قيام سفيان الثوري الليل :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن في حلية الأولياء الحواري بن أبي الحواري أبو عيسى، قال: رأيت سفيان الثوري يصلي قائماً حتى تغلبه عيناه، ثم يصلي قاعداً حتى يعي فيضطجع فيصلي مضطجعاً.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الفربي، قال: كان سفيان الثوري يصلي ثم يلتفت إلى الشباب. فيقول: إذا لم تصلوا اليوم فمتى.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن يحيى بن يمان، قال: رأيت سفيان يخرج يدور بالليل وينضح في عينيه الماء حتى يذهب عنه النعاس.(3/70)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عبد الرحمن بن مهدي يقول: ما عاشرت في الناس رجلاً هو أرق من سفيان، قال: وقال ابن مهدي: وكنت ارامقه الليلة بعد الليلة فما كان ينام إلا في أول الليل ثم ينتفض فزعاً مرعوباً ينادي: النار شغلني ذكر النار عن النوم والشهوات، كأنه يخاطب رجلاً في البيت، ثم يدعو بماء إلى جانبه فيتوضأ ثم يقول على إثر وضوئه: اللهم إنك عالم بحاجتي غير معلم بما أطلب، وما أطلب إلا فكاك رقبتي من النار، اللهم إن الجزع قد أرقني من الخوف فلم يؤمني، وكل هذا من نعمتك السابغة علي، وكذلك فعلت بأوليائك وأهل طاعتك، إلهي قد علمت أن لو كان لي عذر في التخلي ما أقمت مع الناس طرفة عين، ثم يقبل على صلاته، وكان البكاء يمنعه من القراءة حتى إني كنت لا أستطيع سماع قراءته من كثرة بكاءه، قال ابن مهدي وما كنت أقدر أن أنظر إليه استحياء وهيبة منه.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن في حلية الأولياء إسحاق بن إبراهيم الحنيني، يقول: كنا في مجلس الثوري وهو يسأل رجلاً رجلاً عما يصنع في ليله فيخبره حتى دار القوم فقالوا: يا أبا عبد الله قد سألتنا فأخبرناك فأخبرنا أنت كيف تصنع في ليلك. فقال لها عندي أول نومة تنام ما شاءت لا أمنعها، فإذا استيقظت فلا أقيلها والله.
(12) حافظة سفيان الثوري رحمه الله :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ
كان سفيان الثوري رحمه الله تعالى لا يسمع شيئاً إلا حفظه حتي كان يخاف عليه. قال الذهبي في السير:كان ينوه بذكره في صغره من أجل فرط ذكائه وحفظه، وحدث وهو شاب . قال ابن أيوب العابد :حدثنا أبو المثني قال : سمعتهم بمرو يقولون :قد جاء الثوري، فخرجت أنظر إليه ،فإذا هو غلام قد بقل وجهه .(3/71)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان الثوري قال : ما استودعت أذني شيئاً قط إلا حفظته، حتى أني أمر بكذا ـ كلمة قالها ـ فأسد أذني مخافة أن أحفظ ما يقول.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان الثوري قال : ما استودعت قلبي شيئاً قط فخانني.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن وكيع عن شعبة قال سفيان أحفظ مني .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن مهران الرازي يقول كتبت عن سفيان الثوري أصنافه فضاع مني كتاب الديات فذكرت ذلك له فقال إذا وجدتني خاليا فاذكر لي حتى أمله عليك فحج فلما دخل مكة طاف بالبيت وسعى ثم اضطجع فذكرته فجعل يملي علي الكتاب بابا في إثر باب حتى أملاه جميعه من حفظه.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الأشجعي يقول سمعت من الثوري ثلاثين ألف حديث .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عبد الرحمن ما رأينا أحفظ من سفيان.
(13) خشية سفيان الثوري لله تعالى وبكاؤه :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أبي نعيم، قال: كان سفيان الثوري إذا ذكر الموت لا ينتفع به أياماً، فإذا سئل عن الشيء، قال: لا أدري، لا أدري.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن يوسف بن أسباط كان سفيان إذا أخذ في ذكر الآخرة يبول الدم.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أبي نعيم قال :كان سفيان إذا ذكر الموت لم ينتفع به أياما وقال يوسف بن أسباط كان سفيان يبول الدم من طول حزنه وفكرته .(3/72)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عبد الرحمن بن مهدي يقول: ما عاشرت في الناس رجلاً هو أرق من سفيان، قال: وقال ابن مهدي: وكنت ارامقه الليلة بعد الليلة فما كان ينام إلا في أول الليل ثم ينتفض فزعاً مرعوباً ينادي: النار شغلني ذكر النار عن النوم والشهوات، كأنه يخاطب رجلاً في البيت، ثم يدعو بماء إلى جانبه فيتوضأ ثم يقول على إثر وضوئه: اللهم إنك عالم بحاجتي غير معلم بما أطلب، وما أطلب إلا فكاك رقبتي من النار، اللهم إن الجزع قد أرقني من الخوف فلم يؤمني، وكل هذا من نعمتك السابغة علي، وكذلك فعلت بأوليائك وأهل طاعتك، إلهي قد علمت أن لو كان لي عذر في التخلي ما أقمت مع الناس طرفة عين، ثم يقبل على صلاته، وكان البكاء يمنعه من القراءة حتى إني كنت لا أستطيع سماع قراءته من كثرة بكاءه، قال ابن مهدي وما كنت أقدر أن أنظر إليه استحياء وهيبة منه.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عبد الرحمن بن مهدي، قال: مات سفيان الثوري عندي، فلما اشتد به جعل يبكي، فقال له رجل: يا أبا عبد الله أراك كثير الذنوب ؟ فرفع شيئاً من الأرض، فقال: والله لذنوبي أهون عندي من ذا، إني أخاف أن أسلب الإيمان قبل أن أموت.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عطاء الخفاف، قال: ما لقيت سفيان الثوري إلا باكياً، فقلت: ما شأنك. قال: أخاف أن أكون في أم الكتاب شقياً.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أحمد بن يونس سمعت الثوري مالا أحصيه يقول اللهم سلم سلم اللهم سلمنا وارزقنا العافية في الدنيا والآخرة.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أبي الأحوص قال : سمعت سفيان يقول وددت أني أنجو من هذا الأمر كفافا لا علي ولا لي .(3/73)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن سفيان الثوري قال وددت أني قرأت القرآن ووقفت عنده لم أتجاوزه إلى غيره وعن سفيان قال من يزدد علما يزدد وجعا ولو لم أعلم كان أيسر لحزني وعنه قال وددت أن علمي نسخ من صدري ألست أريد أن أسأل غدا عن كل حديث رويته أيش أردت به.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن قال أبو أسامة مرض سفيان فذهبت بماءه إلى الطبيب فقال هذا بول راهب هذا رجل قد فتت الحزن كبده ما له دواء .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن قبيصة قال : كان سفيان إذا نظرت إليه كأنه راهب فإذا أخذ في الحديث أنكرته قلت قد كان لحق سفيان خوف مزعج إلى الغاية قال ابن مهدي كنا نكون عنده فكأنما وقف للحساب وسمعه عثام بن علي يقول لقد خفت الله خوفا عجبا لي كيف لا أموت ولكن لي أجل وددت أنه خفف عني من الخوف أخاف أن يذهب عقلي.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن ابن مهدي قال : كنت أرمق سفيان في الليلة بعد الليلة ينهض مرعوبا ينادي النار النار شغلني ذكر النار عن النوم والشهوات .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن ابن مهدي كنت لا أستطيع سماع قراءة سفيان من كثرة بكائه.
(14) دعوة سفيان الثوري للعمل في خفاء :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان الثوري قال : بلغني أن العبد يعمل العمل سراً فلا يزال به الشيطان حتى يغلبه فيكتب في العلانية، ثم لا يزال الشيطان به حتى يحب أن يحمد عليه فينسخ من العلانية فيثبت في الرياء.
(15) دعوة سفيان الثوري لصلاح السلطان :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان الثوري قال : لله قراء، وللشيطان قراء، وصنفان إذا صلحا صلح الناس، السلطان والقراء.(3/74)
(16) دعوة سفيان الثوري لصلاح العلماء وبعدهم عن السلطان :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن في حلية الأولياء سفيان الثوري قال : كان يقال: تعوذوا بالله من فتنة العابد الجاهل والعالم الفاجر، فإن فتنتهما لكل مفتون.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان الثوري قال :إذا لم يكن لله في العبد حاجة نبذه إليهم، يعني السلطان .
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان الثوري قال : إذا دعوك لتقرأ عليهم قل هو الله أحد فلا تأتهم، قلت لأبي شهاب: يعني السلاطين؟، قال: نعم.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن في حلية الأولياء ابن المبارك قال : قيل لسفيان الثوري: لو دخلت عليهم. قال: إني أخشى أن يسألني الله عن مقامي ما قلت فيه، قيل له: تقول وتتحفظ، قال: تأمروني أن أسبح في البحر ولا تبتل ثيابي. قال حيان: وبلغني أنه قال: ليس أخاف ضربهم، ولكني أخاف أن يميلوا على بدنياهم، ثم لا أرى سيئتهم سيئة.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء أن عبد الصمد عم المنصور دخل على سفيان يعوده فحول وجهه إلى الحائط ولم يرد السلام فقال عبد الصمد يا سيف أظن أبا عبد الله نائما قال أحسب ذلك أصلحك الله فقال سفيان لا تكذب لست بنائم فقال عبد الصمد يا أبا عبد الله لك حاجة قال نعم ثلاث حوائج لا تعود إلى ثانية ولا تشهد جنازتي ولا تترحم علي فخجل عبد الصمد وقام فلما خرج قال والله لقد هممت أن لا أخرج إلا ورأسه معه.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن يحيى بن يمان سمعت سفيان يقول المال داء هذه الأمة والعالم طبيب هذه الأمة فإذا جر العالم الداء إلى نفسه فمتى يبرىء الناس.(3/75)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن سفيان الثوري قال أحب أن يكون صاحب العلم في كفاية فإن الآفات إليه أسرع والألسنة إليه أسرع.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عطاء بن مسلم قال لما استخلف المهدي بعث إلى سفيان فلما دخل عليه خلع خاتمه فرمى به إليه وقال يا أبا عبد الله هذا خاتمي فاعمل في هذه الأمة بالكتاب والسنة فأخذ الخاتم بيده وقال تأذن في الكلام يا أمير المؤمنين قلت لعطاء قال له يا أمير المؤمنين قال نعم قال أتكلم على أني آمن قال نعم قال لا تبعث إلي حتى آتيك ولا تعطني حتى أسألك قال فغضب وهم به فقال له كاتبه أليس قد آمنته قال بلى فلما خرج حف به أصحابه فقالوا ما منعك وقد أمرك أن تعمل في الأمة بالكتاب والسنة فاستصغر عقولهم وخرج هاربا إلى البصرة.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن سفيان قال ليس أخاف إهانتهم إنما أخاف كرامتهم فلا أرى سيئتهم سيئة لم أر للسلطان مثلا إلا مثلا ضرب على لسان الثعلب قال عرفت للكلب نيفا وسبعين دستانا ليس منها دستان خيرا من أن لا أرى الكلب ولا يراني.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن سفيان قال إن هؤلاء الملوك قد تركوا لكم الآخرة فاتركوا لهم الدنيا.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن سفيان قال : لا ينفعك ما كتبت حتى يكون إخفاء بسم الله الرحمن الرحيم في الصلاة أفضل عندك من الجهر .
(17) محنة سفيان الثوري رحمه الله تعالى :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
قصة سفيان الثوري مع أبى جعفر المنصور :
دعى أبو جعفر سفيان الثوري ليوليه القضاء ولما مثل بين يديه قال أبي جعفر نريد أن نوليك القضاء في بلدة كذا وكذا فأبى علية سفيان فأصر أبى جعفر وكرر عليه الكلام وسفيان يأبى علية..
قال أبى جعفر إذاً نقتلك.
قال افعل ما شئت .(3/76)
قال يا غلام النطع والسيف فأقبلوا بالنطع وهو جلد يفرش تحت الذي يقتل حتى لا تتسخ الأرض بدمة وفرثة. ثم أقبلوا بالسيف .
ولما رأى سفيان أن الموت أمامه وعلم أن الأمر جد.
فقال أيها الخليفة أنظرني إلى غدٍ آتيك بزي القضاة. فلما أظلم الليل حمل متاعة على بغلة وركب على بغلة ولم يكن له زوجة ولا أولاد وخرج من الكوفة هاربا ولما أصبح أبى جعفر أنتظر أن يقدم إلية أبى عبد الله سفيان الثوري ولم يقدم علية ولما أضحى وكاد أن يأتي الزوال سأل من حوله فقال التمسوا لي سفيان الثوري فالتمسوه ثم رجعوا إلية وقالوا أنة خالفك وهرب في السحر في ظلمة الليل عندها غضب أبو جعفر وأرسل إلى جميع المماليك أنة من جاءنا بسفيان الثوري حياً أو ميتاً فله كذا وكذا.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عطاء بن مسلم قال: لما استخلف المهدى بعث إلى سفيان فلما دخل خلع خاتمه ورمى به إليه فقال: يا أبا عبد الله هذا خاتمي فاعمل في هذه الأمة بالكتاب والسنة فأخذ الخاتم بيده وقال: تأذن في الكلام يا أمير المؤمنين؟ وقال عبيد: قلت لعطاء: يا أبا مخلد، قال له يا أمير المؤمنين؟ قال: نعم قال: أتكلم على أنى آمن؟ قال: نعم قال: لا تبعث إلى حتى آتيك ولا تعطني شيئا حتى أسألك قال: فغضب من ذلك وهم به فقال له كاتبه أليس قد أمنته يا أمير المؤمنين؟ قال: بلى فلما خرج حف به أصحابه فقالوا ما منعك يا أبا عبد الله وقد أمرك أن تعمل بالكتاب والسنة؟ فاستصغر عقولهم ثم خرج هاربا إلى البصرة.(3/77)
[*] قال ابن سعد في الطبقات : وطلب سفيان فخرج إلى مكة فكتب المهدي أمير المؤمنين إلى محمد بن إبراهيم وهو على مكة يطلبه فبعث محمد إلى سفيان فأعلمه ذلك وقال إن كنت تريد إتيان القوم فاظهر حتى أبعث بك إليهم وإن كنت لا تريد ذلك فتوار قال فتوارى سفيان وطلبه محمد بن إبراهيم وأمر مناديا فنادى بمكة من جاء بسفيان فله كذا وكذا فلم يزل متواريا بمكة لا يظهر إلا لأهل العلم ومن لا يخافه ، قالوا: فلما خاف سفيان بمكة من الطلب خرج إلى البصرة فقدمها فنزل قرب منزل يحي بن سعيد القطان فقال لبعض أهل الدار أما قربك أحد من أصحاب الحديث؟ قالوا: بلى يحي بن سعيد قال: جئنى به فأتاه به فقال: أنا هنا منذ ستة أيام أو سبعة فحوله يحي إلى جواره وفتح بينه وبينه بابا وكان يأتيه بمحدثى أهل البصرة فيسلمون عليه ويسمعون منه وكان فيمن أتاه جرير بن حازم والمبارك بن فضالة وحماد بن سلمة ومرحوم العطار وحماد بن زيد وغيرهم وأتاه عبد الرحمن بن مهدى ولازمه فكان يحي وعبد الرحمن يكتبون عنه تلك الأيام. ولما تخوف سفيان أن يشهر مقامه بالبصرة قرب يحي بن سعيد قال له: حولني من هذا الموضع فحوله إلى منزل الهيثم بن منصور الأعرجي من بني سعد بن زيد مناة بن تميم فلم يزل فيهم فكلمه حماد بن زيد في تنحيه عن السلطان وقال هذا فعل أهل البدع وما تخاف منهم فأجمع سفيان وحماد بن زيد على أن يقدما بغداد .
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن في حلية الأولياء عبد الرزاق، يقول: بعث أبو جعفر الخشابين حين خرج إلى مكة، فقال: إن رأيتم سفيان الثوري فاصلبوه، قال: فجاء النجارون فنصبوا الخشب ونودي سفيان، وإذا رأسه في حجر فضيل بن عياض، ورجلاه في حجر ابن عيينة، فقالوا له: يا أبا عبد الله اتق الله ولا تشمت بنا الأعداء، قال: فتقدم إلى الأستار ثم دخله ثم أخذه وقال: برئت منه إن دخلها أبو جعفر، قال: فمات قبل أن يدخل مكة، فأخبر بذلك سفيان فلم يقل شيئاً.(3/78)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن محمد بن سعد قال طلب سفيان فخرج إلى مكة فنفذ المهدي إلى محمد بن إبراهيم وهو على مكة في طلبه فأعلم سفيان بذلك وقال له محمد إن كنت تريد إتيان القوم فاظهر حتى أبعث بك إليهم وإلا فتوار قال فتوارى سفيان وطلبه محمد وأمر مناديا فنادى بمكة من جاء بسفيان فله كذا وكذا فلم يزل متواريا بمكة لا يظهر لأهل العلم ومن لا يخافه .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أبي شهاب الحناط قال بعثت أخت سفيان بجراب معي إلى سفيان وهو بمكة فيه كعك وخشكنان فقدمت فسألت عنه فقيل لي ربما قعد عند الكعبة مما يلي الحناطين فأتيته فوجدته مستلقيا فسلمت عليه فلم يسائلني تلك المساءلة ولم يسلم علي كما كنت أعرفه فقلت إن أختك بعثت معي بجراب فاستوى جالسا وقال عجل بها فكلمته في ذلك فقال يا أبا شهاب لا تلمني فلي ثلاثة أيام لم أذق فيها ذواقا فعذرته.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن ابن سعد قال فلما خاف من الطلب بمكة خرج إلى البصرة ونزل قرب منزل يحيى بن سعيد ثم حوله إلى جواره وفتح بينه وبينه بابا فكان يأتيه بمحدثي أهل البصرة يسلمون عليه ويسمعون منه .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أبي أحمد الزبيري كنت في مسجد الخيف مع سفيان والمنادي ينادي من جاء بسفيان فله عشرة آلاف وقيل إنه لأجل الطلب هرب إلى اليمن فسرق شيء فاتهموا سفيان قال فأتوا بي معن بن زائد وكان قد كتب إليه في طلبي فقيل له هذا قد سرق منا فقال لم سرقت متاعهم قلت ما سرقت شيئا فقال لهم تنحوا لأسائله ثم أقبل علي قال ما اسمك قلت عبد الله بن عبد الرحمن فقال نشدتك الله لما انتسبت قلت أنا سفيان بن سعيد بن مسروق قال الثوري قلت الثوري قال أنت بغية أمير المؤمنين قلت أجل فأطرق ساعة ثم قال ما شئت فأقم ومتى شئت فارحل فوالله لو كنت تحت قدمي ما رفعتها .(3/79)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن إبراهيم الفراء قال كتب سفيان إلى المهدي مع عصام جبر طردتني وشردتني وخوفتني والله بيني وبينك وأرجو أن يخير الله لي قبل مرجوع الكتاب فرجع الكتاب وقد مات .
(18) من دُررِ مواعظ سفيان الثوري رحمه الله :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان الثوري قال : زينوا العلم بأنفسكم ولا تزينوا بالعلم.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان الثوري قال : الحديث أكثر من الذهب والفضة وليس يدرك، وفتنة الحديث أشد من فتنة الذهب والفضة.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان، قال: من رق وجهه رق عمله.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان الثوري قال : يا معشر القراء ارفعوا رؤوسكم لا تزيدوا التخشع على ما في القلب، فقد وضح الطريق، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، ولا تكونوا عيالاً على المسلمين.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان بن عيينة: رأيت الثوري في المنام فقلت: أوصني، قال: أقلل من مخالطة الناس، قلت: زدني، قال: سترد فتعلم.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان الثوري قال : قال عيسى بن مريم عليه السلام: حب الدنيا رأس كل خطيئة، والمال فيه داء كثير، قيل: يا روح الله: ما داؤه ؟ قال: لا يؤدي حقه، قالوا: فإن أدى حقه. قال: لا يسلم من الفخر والخيلاء، قالوا: فإن سلم من الفخر والخيلاء ؟ قال: يشغله استصلاحه عن ذكر الله.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان الثوري قال : وجدنا أصل كل عداوة اصطناع المعروف إلى اللئام.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان الثوري قال : ما عالجت شيئاً قط أشد على من نفسي، مرة علي ومرة لي.(3/80)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان الثوري: حرمت قيام الليل بذنب أحدثته خمسة أشهر.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان الثوري قال : كان يقال: من كانت سريرته أفضل من علانيته فذلك الفضل، ومن كانت سريرته شراً من علانيته فذلك الجور.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان الثوري قال : إذا أراد الله بعبد خيراً أفرغ عليه السداد وكنفه بالعصمة.(3/81)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن مبارك أبو حماد، قال: سمعت سفيان الثوري يقرأ على علي بن الحسن: واعلم أن السنة سنتان، سنة أخذها هدى وتركها ضلالة، وسنة أخذها هدى وتركها ليس بضلالة، وأن الله لا يقبل نافلة حتى تؤدي الفريضة، وأن لله حقاً بالليل لا يقبله بالنهار، وحقاً بالنهار لا يقبله بالليل، وأنه يحاسب العبد يوم القيامة بالفرائض، فإن جاء بها تامة قبلت فرائضه ونوافله، وإن لم يؤديها وأضاعها لحقت النوافل بالفرائض، فإن شاء غفر له وإن شاء عذبه، وأولى الفرائض الانتهاء عن الحرام والمظالم، وأن الله تعالى يقول في كتابه: (إِنّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدّواْ الأمَانَاتِ إِلَىَ أَهْلِهَا ) [ النساء: 58]، الآية، وقال: ( إِنّ اللّهَ نِعِمّا يَعِظُكُمْ بِهِ [ النساء : 58]، وقال تعالى: قال تعالى: ( وَتَزَوّدُواْ فَإِنّ خَيْرَ الزّادِ التّقْوَىَ ) [ البقرة : 197]. وإنما عنى به التقوى عن المظالم أن تتناولوها فتنفقوها في أعمال البر، يا أخي عليك بتقوى الله ولسان صادق ونية خالصة، وأعمال شتى صالحة، ليس فيها غش ولا خدعة، فإن الله يراك وإن لم تكن تراه، وهو معك أينما كنت، لا يسقط عليه شيء من أمرك لا تخدع الله فيخدعك، فإنه من يخادع الله يخدعه ويخلع منه الإيمان ونفسه لا تشعر ولا تمكرن بأحد من المسلمين المكر السيء، فإنه لا يحيق المكر السيء إلا بأهله، ولا تبغين على أحد من المسلمين فإن الله تعالى يقول: قال تعالى: ( يَأَيّهَا النّاسُ إِنّمَا بَغْيُكُمْ عَلَىَ أَنفُسِكُمْ ) [ يونس : 23]. ولا تغش أحداً من المؤمنين فقد بلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: من غش مؤمنا فقد بريء من المؤمنين .(3/82)
ولا تخدعن أحداً من المؤمنين فيكون نفاقاً في قلبك، ولا تحسدن ولا تغتابن فتذهب حسناتك، وقد كان بعض الفقهاء يتوضأ من الغيبة كما يتوضأ من الحدث، وأحسن سريرتك يحسن الله علانيتك وأصلح فيما بينك وبين الله يصلح الله فيما بينك وبين الناس، واعمل لآخرتك يكفك الله أمر دنياك، بع دنياك بآخرتك تربحهما جميعاً، ولا تبع آخرتك بدنياك فتخسرهما جميعاً.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان الثوري قال : إياكم والبطنة فإنها تقسي القلب، واكظموا الغيظ ولا تكثروا الضحك فإنه يميت القلوب.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن المفضل ابن مهلهل، قال: خرجت حاجاً مع سفيان فلما صرنا إلى مكة وافينا الأوزاعي بها، فاجتمعنا أنا والأوزاعي وسفيان في دار، قال: وكان على الموسم عبد الصمد بن علي الهاشمي، فدق داق الباب، فقلنا: من هذا. قال: الأمير، فقام الثوري فدخل المخدع وقام الأوزاعي فتلقاه فقال له عبد الصمد بن علي: من أنت أيها الشيخ. قال: أبو عمرو الأوزاعي، قال: حياك الله بالسلام، أما إن كتبك كانت تأتينا فكنا نقضي حوائجك، ما فعل سفيان الثوري؟ قال: قلت: دخل المخدع، فدخل الأوزاعي في إثره، فقال: إن هذا الرجل ما قصد إلا قصدك فخرج سفيان مغضباً، فقال: سلام عليكم، كيف أنتم؟ فقال له عبد الصمد: أتيتك أكتب هذه المناسك عنك، فقال له سفيان: أو لا أدلك على ما هو انفع لك منها. قال: وما هو. قال: تدع ما أنت فيه، فقال: وكيف اصنع بأمير المؤمنين أبي جعفر. قال: إن أردت الله كفاك أبا جعفر، فقال له الأوزاعي: يا أبا عبد الله إن هؤلاء ليس يرضون منك إلا بالإعظام لهم فقال: يا أبو عمرو إنا لسنا نقدر أن نضربهم وإنما نؤذيهم بمثل هذا الذي ترى، قال مفضل: فالتفت إلى الأوزاعي، فقال: قم بنا من ههنا فإني لا آمن من هذا يبعث من يضع في رقابنا حبالاً، وإن هذا ما يبالي.(3/83)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان الثوري قال : من دعا لظالم بالبقاء فقد أحب أن يعصى الله.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان الثوري قال : إني لأعرف حب الرجل للدنيا من تسليمه على أهل الدنيا.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن في حلية الأولياء سفيان الثوري قال : الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان الثوري قال :بصر العينين من الدنيا، وبصر القلب من الآخرة، وإن الرجل ليبصر بعينه فلا ينتفع ببصره وإذا أبصر بالقلب انتفع.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان الثوري قال : ليس بفقيه من لم يعد البلاء نعمة، والرخاء مصيبة.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن محمد بن يزيد بن خنيس المكي، قال: سمعت سفيان الثوري سئل عن قوله تعالى ( وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً) [ النساء : 28]. ما ضعفه ؟. قال: المرأة تمر بالرجل فلا يملك نفسه عن النظر إليها، ولا هو ينتفع بها، فأي شيء أضعف من هذا.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان قال: كان يقال الصمت زين العالم وستر الجاهل.
(19) أمر سفيان الثوري بالمعروف ونهيه عن المنكر :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن قال شجاع بن الوليد كنت أحج مع سفيان فما يكاد لسانه يفتر من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ذاهبا وراجعا.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن إبراهيم بن أعين قال: كنت مع سفيان والأوزاعي فدخل علينا عبد الصمد بن علي وهو أمير مكة وسفيان يتوضأ وأنا أصب عليه كأنه بطأه وهو يقول لا تنظروا إلي أنا مبتلى فجاء عبد الصمد فسلم فقال له سفيان من أنت فقال أنا عبد الصمد فقال كيف أنت اتق الله اتق الله وإذا كبرت فأسمع .(3/84)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن يحيى بن يمان قال: سمعت سفيان يقول إني لأرى المنكر فلا أتكلم فأبول أكدم دما .
(20) شدة عبادة سفيان الثوري رحمه الله تعالى :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن ابن وهب قال : رأيت الثوري في الحرم بعد المغرب صلى ثم سجد سجدة فلم يرفع حتى نودي بالعشاء.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن يحيى القطان يقول ما رأيت رجلا أفضل من سفيان لولا الحديث كان يصلي ما بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء فإذا سمع مذاكرة الحديث ترك الصلاة وجاء.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن علي بن الفضيل رأيت الثوري ساجدا فطفت سبعة أسابيع قبل أن يرفع رأسه .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن مؤمل بن إسماعيل قال أقام سفيان بمكة سنة فما فتر من العبادة سوى من بعد العصر إلى المغرب كان يجلس مع أصحاب الحديث وذلك عبادة .
(21) دعوة سفيان الثوري لإكراه الولد على العلم :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن سفيان ينبغي للرجل أن يكره ولده على العلم فإنه مسئول عنه .
(22) تعظيم سفيان الثوري للإسناد :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عبد الصمد بن حسان سمعت سفيان يقول الإسناد سلاح المؤمن فمن لم يكن له سلاح فبأي شيء يقاتل .
(23) ثناء سفيان الثوري على الحديث وأهله:
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الخريبي قال : سمعت سفيان يقول ليس شيء أنفع للناس من الحديث.(3/85)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن قبيصة قال : سمعت سفيان يقول الملائكة حراس السماء وأصحاب الحديث حراس الأرض .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن يحيى بن يمان قال : قيل لسفيان ليست لهم نية يعني أصحاب الحديث قال طلبهم له نية لو لم يأتني أصحاب الحديث لأتيتهم في بيوتهم.
(24) دعوة سفيان الثوري إلى التقليل من معرفة الناس :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن سفيان قال : أَقِلَّ من معرفة الناس تقل غيبتك .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن سفيان قال : كثرة الإخوان من سخافة الدين .
احتمال العلماء تدليس سفيان الثوري :
[*] قال الحافظ ابن حجر في تقريب التهذيب :
سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري أبو عبد الله الكوفي ، ثقة حافظ فقيه عابد إمام حجة من رؤوس الطبقة السابعة ، وكان ربما دَلٌس .
[*] وقال الحافظ في طبقات المدلسين : و صفه النسائى و غيره بالتدليس،و قال البخارى : ما أقل تدليسه.
: وما كان في الصحيحين وشبههما عن المدلسين ب (عن) فمحمول علي ثبوت السماع له من جهة أخرى.
[*] قال السيوطي : وإنما اختار ص(4) الصحيح طريق العنعنة على طريق التصريح بالسماع لكونها علي شرطه دون تلك .
[*] وقال السيوطي في التدريب : قال الخطيب : وكان الأعمش وسفيان يفعلون مثل ذلك ( أي يدلسون تدليس التسوية ، قال العراقي : وهو قادح فيمن تعمد فعله .
[*] وقال شيخ الإسلام ـ أي الحافظ ابن حجر ـ لا شك أنه جرح وإن وصف به الثوري والأعمش؛ والاعتذار عنهما أنهما لا يفعلانه إلا في حق من يكون ثقة عندهما ضعيفاً عند غيرهما.
[*] وقال الذهبي في السير :وكان سفيان يذكر علي الملوك ولا يري الخروج عليهم أصلاً ، وربما دلس عن الضعفاء .
معني التدليس وأنواعه:(3/86)
[*] قال الفيروز أبادي في القاموس : التدليس : كتمان عيب السلعة عن المشتري ، ومنه التدليس في الإسناد وهو أن يحدث عن الشيخ عن الأكبر ، ولعله ما رآه وإنما سمعه ممن هو دونه ، والتدليس التكتم
[*] وقال السيوطي في التدريب :التدليس ليس كذباً ، وإنما هو ضرب من الإيهام .
[*] وقال الحافظ بن حجر في طبقات المدلسين :
التدليس تارة يكون في الإسناد، وتارة يكون في الشيخ، فالذي في الإسناد:
أي يروي عمن لقيه شيئاً لم يسمعه منه بصيغة محتملة ، ويلتحق به من رآه ولم يجالسه .
ويلتحق به تدليس القطع، وهو أن يحذف الصيغة، ويقتصر علي قوله مثلاً: الزهري عن
وتدليس العطف: وهو يصرح بالتحديث في شيخ له ، ويعطف عليه شيخاً آخر له ، ولا يكون سمع من ذلك الثاني .
وتدليس التسوية: وهو أن ينصع ذلك لشيخه؛ فإن أطلعه علي أنه دلس حكم به، وإن لم يطلعه طرقه الاحتمال، فيقبل من الثقة ما صرح فيه بالتحديث ويتوقف عما عداه.
وإذا روي عمن عاصره - ولم يثبت لقيه له - شيئاً بصيغة محتملة فهو الإرسال الخفي، ومنهم من ألحقه بالتدليس، والأولي التفرقة لتمييز الأنواع.
ويلتحق بالتدليس ما يقع من بعض المحدثين من التعبير بالتحديث، أو الإخبار عن الإجازة موهماً للسماع، ولا يكون سمع من ذلك الشيخ شيئاً.
وأما تدليس الشيوخ: فهو أن يصف شيخه بما لم يشتهر به من اسم أو لقب أو كنية أو نسبة إيهاماً للتكثير غالباً، وقد يفعل ذلك لضعف شيخه، وهو خيانة ممن تعمده كما إذا وقع ذلك في تدليس الإسناد.
والمدلسون علي خمس مراتب:
الأولي : من لم يوصف بذلك إلا نادراً كيحيي بن سعيد الأنصاري .
الثانية: من احتمل الأئمة تدليسه وأخرجوا له في الصحيح لإمامته وقلة تدليسه في جنب ما روي، كالثوري، أو كان لا يدلس إلا عن ثقة كابن عيينة.
الثالثة : من أكثر من التدليس فلم يحتج الأئمة من أحاديثهم إلا بما صرحوا فيه بالسماع ، ومنهم من رد حديثهم مطلقا ، منهم من قبلهم كأبي الزبير المكي .(3/87)
الرابعة : من اتفق علي أنه لا يحتج بشيء من حديثهم إلا بما صرحوا فيه بالسماع لكثرة تدليسهم علي الضعفاء والمجاهيل ، كبقية بن الوليد .
الخامسة : من ضعف بأمر آخر سوي التدليس فحديثهم مردود ، ولو صرحوا بالسماع إلا أن يوثق من كان ضعفه يسيرا كابن لَهيعَة.
وفاة سفيان الثوري :
قال ابن المدينى: أقام سفيان في اختفاؤه نحو سنة وقال ابن المهدى: مرض سفيان بالبطن فتوضأ تلك الليلة ستين مرة حتى إذا عاين الأمر نزل عن فراشه فوضع خده بالأرض وقال: يا عبد الرحمن ما أشد الموت ولما غمضته وجاء الناس في جوف الليل وعلموا وقيل: اخرج بجنازته على أهل البصرة بغتة فشهده الخلق وصلى عليه عبد الرحمن بن عبد الملك بن أبجر الكوفى بوصية من سفيان لصلاحه وكان موته في شعبان سنة احدى وستين ومائة.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن ابن المهدي قال مرض سفيان بالبطن فتوضأ تلك الليلة ستين مرة حتى إذا عاين الأمر نزل عن فراشه فوضع خده بالأرض وقال يا عبد الرحمن ما أشد الموت ولما مات غمضته وجاء الناس في جوف الليل وعلموا وقال عبد الرحمن كان سفيان يتمنى الموت ليسلم من هؤلاء فلما مرض كرهه وقال لي اقرأ علي (يسَ) فإنه يقال يخفف عن المريض فقرأت فما فرغت حتى طفىء وقيل أخرج بجنازته على أهل البصرة بغتة فشهده الخلق وصلى عليه عبد الرحمن بن عبد الملك بن أبجر الكوفي بوصية من سفيان لصلاحه .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن يحيى القطان مات في أول سنة إحدى وستين ومئة.
قال الإمام الذهبي رحمه الله تعالى : قلت الصحيح موته في شعبان سنة إحدى كذلك أرخه الواقدي ووهم خليفة فقال مات سنة اثنتين وستين .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن وكيع قال : ولد سفيان سنة ثمان وتسعين ومات وله ثلاث وستون سنة .(3/88)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن وكيع مات سفيان وله مئة دينار بضاعة فأوصى إلى عمار بن سيف في كتبه فأحرقها ولم يعقب سفيان كان له ابن فمات قبله فجعل كل شيء له لأخته وولدها .
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن يحيى بن سعيد يقول: رأيت الثوري فيما يرى النائم، فنظرت إلى صدره فإذا في صدره مكتوب في موضعين: ( فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ ) [ البقرة : 137]
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عبد الرحمن بن مهدي يقول: لما أن غسلت سفيان الثوري وجدت في جسده مكتوباً: ( فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ ) [ البقرة : 137]
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن إبراهيم بن أعين البجلي، قال: رأيت سفيان الثوري في المنام ولحيته حمراء صفراء، فقلت: ما صنعت فديتك ؟ قال: أنا مع السفرة، قلت: وما السفرة ؟ قال: الكرام البررة.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن ابن المبارك، قال: رأيت سفيان الثوري في المنام فقلت ما فعل بك ربك، قال: لقيت محمداً أو حزبه صلى الله عليه وسلم، ورضي عنهم.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عثمان بن زائدة، قال: رأيت في النوم كأني أدخلت الجنة، فإذا سفيان يطير من شجرة إلى شجرة وهو يقول: (تِلْكَ الدّارُ الاَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأرْضِ وَلاَ فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتّقِينَ) [ القصص : 83]
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن صخر بن راشد، قال: رأيت عبد الله ابن المبارك في منامي بعد موته، فقلت: أليس قدمت ؟ قال: بلى، قلت: فما صنع بك ربك ؟ قال: غفر لي مغفرة أحاطت بكل ذنب، قال: قلت: فسفيان الثوري ؟ قال: بخ بخ ذاك ( مَعَ الّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مّنَ النّبِيّينَ وَالصّدّيقِينَ وَالشّهَدَآءِ وَالصّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولََئِكَ رَفِيقاً) [ النساء : 69](3/89)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن يوسف بن أسباط قال: رأيت الثوري في النوم فقلت أي الأعمال وجدت أفضل قال القرآن فقلت الحديث فولى وجهه .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن مؤمل قال رأيت سفيان في المنام فقلت يا أبا عبد الله ما وجدت أنفع قال الحديث.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن سعير بن الخمس قال : رأيت سفيان في المنام يطير من نخلة إلى نخلة وهو يقرأ ( الْحَمْدُ للّهِ الّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ ) [ الزمر : 74]
سيرة سفيان بن عيينة رحمه الله :
اسم سفيان بن عيينة ونسبه رحمه الله :
[*] قال الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء :
سفيان بن عيينة ابن أبي عمران ميمون مولى محمد بن مزاحم أخي الضحاك ابن مزاحم .
مولد سفيان بن عيينة رحمه الله تعالى :
عن محمد بن عمر قال أنبأ سفيان أنه ولد سنة سبع ومائة وكان أصله من الكوفة وكان أبوه من عمال خالد بن عبد الله القسري فلما عزل خالد عن العراق وولى يوسف بن عمر الثقفي طلب عمال خالد فهربوا منه فلحق عيينة بمكة فنزلها .
[*] قال الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء :
الإمام الكبير حافظ العصر شيخ الإسلام أبو محمد الهلالي الكوفي ثم المكي مولده بالكوفة في سنة سبع ومئة .
نشأة سفيان بن عيينة رحمه الله :
قال إبراهيم بن ازداد الرافقي: قال سفيان بن عيينة لما بلغت خمس عشرة سنة دعاني أبي فقال لي: يا سفيان قد انقطعت عنك شرائع الصبا فاحتفظ من الخير تكن من أهله، ولا يغرنك من اغتر بالله فمدحك بما يعلم الله خلافه منك فإنه ما من أحد يقول في أحد من الخير إذا رضي إلا وهو يقول فيه من الشر مثل ذلك إذا سخط فاستأنس بالوحدة من جلساء السوء لا تنقل أحسن ظني بك إلى غير ذلك ولن يسعد بالعلماء إلا من أطاعهم.
قال سفيان فجعلت وصية أبي قِبلة أميل معها ولا أميل عنها .
[*] مناقب سفيان بن عيينة :(3/90)
وهاك غَيْضٍ من فيض ونقطةٍ من بحر مما ورد في مناقب سفيان بن عيينة جملةً وتفصيلا رحمه الله تعالى :
أولاً مناقب سفيان بن عيينة جملةً رحمه الله :
(1) ثناء العلماء على سفيان بن عيينة رحمه الله :
(2) حرص سفيان بن عيينة على العلم منذ نعومة أظفاره :
(3 علم سفيان بن عيينة وفقهه :
( 4) حسن منطق سفيان بن عيينة رحمه الله :
(5) قوة حفظ سفيان بن عيينة وإتقانه رحمه الله :
(6) دعوة سفيان بن عيينة إلى فضل العلم :
( 7) دعوة سفيان بن عيينة للعمل بالعلم :
( 8) منابذة سفيان بن عيينة لأهل البدع رحمه الله :
(9) دعوة سفيان بن عيينة إلى البعد عن السلطان :
(10) دعوة سفيان بن عيينة إلى الخمول ونكران الذات :
(11) دعوة سفيان بن عيينة إلى الورع :
(12) دعوة سفيان بن عيينة إلى الإقلال من معرفة الناس :
(13) دعوة سفيان بن عيينة إلى الزواج على الدين :
(14) دعوة سفيان بن عيينة إلى مكارم الأخلاق :
(15) دعوة سفيان بن عيينة إلى النصح لله تعالى :
(16) دعوة سفيان بن عيينة إلى صِلَةِ الإخوان :
(17) دعوة سفيان بن عيينة إلى الشكر على المعافاة من المعاصي :
(18) دعوة سفيان بن عيينة إلى الصبر :
(19) دعوة سفيان بن عيينة إلى لزوم سبل الحق مع قلة السالكين :
(20) دعوة سفيان بن عيينة إلى موافقة السريرة العلانية :
(21) دعوة سفيان بن عيينة إلى التفكر :
(22) حُزْنُ سفيان بن عيينة رحمه الله تعالى :
(23) زهد سفيان بن عيينة ودعوته إليه رحمه الله :
(24) نُصْحُ سفيان بن عيينة للولاة رحمه الله :
(25) صبر سفيان بن عيينة على شظف العيش رحمه الله :
(26) تحذير سفيان بن عيينة من الكبر :
(27) تواضع سفيان بن عيينة رحمه الله :
(28) تحذير سفيان بن عيينة من غضب الله تعالى :
(29) التقاط سفيان بن عيينة لِدُرَرِ الدعوات إذا وقعت من الرجل الصالح :
(30) رؤية سفيان بن عيينة للأيام التي يعيشها الإنسان :
(31) من دُررِ مواعظ سفيان بن عيينة رحمه الله :(3/91)
(32) حرص سفيان بن عيينة على تكرار الحج :
ثانياً مناقب سفيان بن عيينة تفصيلا رحمه الله:
(1) ثناء العلماء على سفيان بن عيينة رحمه الله :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
كان سفيان بن عيينة رحمه الله من أئمة تابعي التابعين ، من أئمة الهدى وأعلام التقى ومصابيح الدجى ، من حلية الأولياء وأعلام النبلاء ،الأضواء اللامعة والنجوم الساطعة .
[*] قال عنه الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء :
ومنهم الإمام الأمين، ذو العقل الرصين، والرأي الراجح الركين، المستنبط للمعاني، والمرتبط للمباني، أبو محمد سفيان بن عيينة الهلالي. كان عالماً ناقداً، وزاهداً عابداً، علمه مشهور، وزهده معمور.
[*] وقال عنه الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء :
الإمام الكبير حافظ العصر شيخ الإسلام أبو محمد الهلالي الكوفي ثم المكي مولده بالكوفة في سنة سبع ومئة وطلب الحديث وهو حدث بل غلام ولقي الكبار وحمل عنهم علما جما وأتقن وجود وجمع وصنف وَعَمَّرَ دهرا وازدحم الخلق عليه وانتهى إليه علو الإسناد ورحل إليه من البلاد وألحق الأحفاد بالأجداد سمع في سنة تسع عشرة ومئة وسنة عشرين وبعد ذلك فسمع من عمرو بن دينار وأكثر عنه ومن زياد بن علاقة والأسود بن قيس وعبيد الله بن أبي يزيد وابن شهاب الزهري وأكثر عنه 00 إلى أن قال : وخلق كثير وتفرد بالرواية عن خلق من الكبار .
وقال أيضاً :
عاش إلى سنة اثنتين وثمانين ومئتين وماهو بالقوي ولقد كان خلق من طلبة الحديث يتكلفون الحج وما المحرك لهم سوى لقي سفيان بن عيينه لإمامته وعلو إسناده ، وجاور عنده غير واحد من الحفاظ ومن كبار أصحابه المكثرين عنه الحميدي والشافعي وابن المديني وأحمد وإبراهيم الرمادي .(3/92)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الإمام الشافعي قال : لولا مالك وسفيان بن عيينه لذهب علم الحجاز ، وعنه قال : وجدت أحاديث الأحكام كلها عند ابن عيينه سوى ستة أحاديث ووجدتها كلها عند مالك سوى ثلاثين حديثا فهذا يوضح لك سعة دائرة سفيان في العلم وذلك لأنه ضم أحاديث العراقيين الى أحاديث الحجازين وارتحل ولقي خلقا كثيرا مالقيهم مالك وهما نظيران في الإتقان ولكن مالكا أجل وأعلى فعنده نافع وسعيد المقبري .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عبدالرحمن بن مهدي قال : كان ابن عيينة من أعلم الناس بحديث الحجاز .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أبي عيسى الترمذي قال : سمعت محمداً يعني البخاري يقول ابن عيينة أحفظ من حماد بن زيد .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن حرملة قال : سمعت الشافعي يقول ما رأيت أحدا فيه من آله العلم ما في سفيان بن عيينه ومارأيت أكف عن الفتيا منه قال وما رأيت أحدا أحسن تفسيرا للحديث منه .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عبدالله بن وهب قال : لا أعلم أحدا أعلم بتفسير القرآن من ابن عيينه وقال أحمد بن حنبل أعلم بالسنن من سفيان .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن علي ابن المديني قال : ما في أصحاب الزهري أحد أتقن من سفيان بن عيينة .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أحمدبن عبدالله العجلي كان ابن عيينة ثبتا في الحديث وكان حديثه نحوا من سبعة آلاف ولم تكن له كتب .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن بهز بن أسد قال :مارأيت مثل سفيان بن عيينه فقيل له ولا شعبة قال ولا شعبة .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن ابن مهدي قال عن ابن عيينة من معرفته بالقرآن وتفسير الحديث مالم يكن عند سفيان الثوري .(3/93)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن ابن المديني قال لي يحيى القطان ما بقي من معلمي أحد غير سفيان بن عيينة وهو إمام منذ أربعين سنة.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن بشر بن المفضل قال : ما بقي على وجه الأرض أحد يشبه ابن عيينة .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أبي حاتم الرازي سفيان بن عيينة إمام ثقة كان أعلم بحديث عمرو بن دينار من شعبة قال وأثبت أصحاب الزهري هو ومالك وقال عبد الرزاق ما رأيت بعد ابن جريج مثل ابن عيينة في حسن المنطق.
[*] أورد الإمام أبو حاتم الرازي في الجرح والتعديل عن سهل ابن زنجلة قال سمعت وكيعا يقول: ما كتبنا عن ابن عيينة الا والاعمش حي سنة ست واربعين ومائة.
[*] أورد الإمام أبو حاتم الرازي في الجرح والتعديل عن محمود بن آدم المروزي فيما كتب إلي قال ما رأيت وكيعاً عند بن عيينة قط إلا جاثيا بين يديه على ركبتيه ساكتا لا يتكلم.
(2) حرص سفيان بن عيينة على العلم منذ نعومة أظفاره :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن شعبة بن الحجاج قال رأيت ابن عيينة غلاما معه ألواح طويلة عند عمرو بن دينار وفي أذنه قرط أو قال شنف .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن ابن المديني قال : سمعت ابن عيينة يقول جالست عبد الكريم الجزري سنتين وكان يقول لأهل بلده أنظروا إلى هذا الغلام يسألني وأنتم لا تسألوني .
[*] أورد الإمام أبو حاتم الرازي في الجرح والتعديل عن حماد بن زيد يقول رأيت سفيان بن عيينة عند عمرو بن دينار غلاما له ذؤابة معه ألواح .
[*] أورد الإمام أبو حاتم الرازي في الجرح والتعديل عن بن المديني قال سمعت سفيان يقول جالست بن شهاب وأنا بن ستة عشرة وثلاثة اشهر .(3/94)
[*] أورد الإمام أبو حاتم الرازي في الجرح والتعديل عن بن المديني قال سمعت سفيان قال ربما عادني بن أبى نجيح وأنا غليم وكنت طويل الملازمة بالليل والنهار.
(3 ) علم سفيان بن عيينة وفقهه :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الإمام الشافعي قال : لولا مالك وسفيان بن عيينه لذهب علم الحجاز ، وعنه قال : وجدت أحاديث الأحكام كلها عند ابن عيينه سوى ستة أحاديث ووجدتها كلها عند مالك سوى ثلاثين حديثا فهذا يوضح لك سعة دائرة سفيان في العلم وذلك لأنه ضم أحاديث العراقيين الى أحاديث الحجازين وارتحل ولقي خلقا كثيرا مالقيهم مالك وهما نظيران في الإتقان ولكن مالكا أجل وأعلى فعنده نافع وسعيد المقبري .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أبي عيسى الترمذي قال : سمعت محمداً يعني البخاري يقول ابن عيينة أحفظ من حماد بن زيد .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عبدالله بن وهب قال : لا أعلم أحدا أعلم بتفسير القرآن من ابن عيينه وقال أحمد بن حنبل أعلم بالسنن من سفيان .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن علي ابن المديني قال : ما في أصحاب الزهري أحد أتقن من سفيان بن عيينة .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن ابن مهدي قال عن ابن عيينة من معرفته بالقرآن وتفسير الحديث مالم يكن عند سفيان الثوري .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن ابن المديني قال لي يحيى القطان ما بقي من معلمي أحد غير سفيان بن عيينة وهو إمام منذ أربعين سنة.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أبي حاتم الرازي سفيان بن عيينة إمام ثقة كان أعلم بحديث عمرو بن دينار من شعبة قال وأثبت أصحاب الزهري هو ومالك وقال عبد الرزاق ما رأيت بعد ابن جريج مثل ابن عيينة في حسن المنطق.
( 4) حسن منطق سفيان بن عيينة رحمه الله :(3/95)
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ
[*] أورد الإمام أبو حاتم الرازي في الجرح والتعديل عن أحمد بن منصور قال سمعت عبد الرزاق قال ما رأيت بعد بن جريج مثل بن عيينة في حسن المنطق .
(5) قوة حفظ سفيان بن عيينة وإتقانه رحمه الله :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن مجاهد بن موسى قال : سمعت ابن عيينة يقول ما كتبت شيئا إلا حفظته قبل أن أكتبه .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن يحيى بن آدم ما رأيت أحدا يختبر الحديث إلا ويخطىء إلا سفيان بن عيينة .
[*] أورد الإمام أبو حاتم الرازي في الجرح والتعديل عن المديني قال سمعت يحيى بن سعيد يقول بن عيينة أحب إلي في الزهري من معمر.
[*] أورد الإمام أبو حاتم الرازي في الجرح والتعديل عن يحيى بن معين يقول سفيان بن عيينة أثبت من محمد بن مسلم الطائفي وأوثق منه وهوأثبت من داود العطار في عمرو بن دينار وأحب إلي منه .
[*] أورد الإمام أبو حاتم الرازي في الجرح والتعديل عن على بن المديني يقول ما في أصحاب الزهري أتقن من بن عيينة .
(6) دعوة سفيان بن عيينة إلى فضل العلم :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ(3/96)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم في الحلية عن الربيع بن نافع الحلبي الطرسوسي قال: سئل سفيان بن عيينة، عن فضل العلم، فقال: ألم تسمع إلى قوله حين بدأ به فقال : (فَاعْلَمْ أَنّهُ لاَ إِلََهَ إِلا اللّهُ ) [ محمد : 19] . ثم أمره بالعمل، فقال: (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ). وهو شهادة أن لا إله إلا الله لا يغفر إلا بها من قالها غفر له ، وقال: (قُل لِلّذِينَ كَفَرُوَاْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مّا قَدْ سَلَفَ ) [ الأنفال : 38] وقال: ( وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) [ الأنفال : 33] . يوحدون، وقال: قال تعالى: ( اسْتَغْفِرُواْ رَبّكُمْ إِنّهُ كَانَ غَفّاراً) [ نوح : 10]. يقول: وحدوه والعلم قبل العمل ألا تراه قال: (اعْلَمُوَاْ أَنّمَا الْحَيَاةُ الدّنْيَا ) [ الحديد : 20] إلى قوله: (سَابِقُوَاْ إِلَىَ مَغْفِرَةٍ مّن رّبّكُمْ وَجَنّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السّمَآءِ وَالأرْضِ ) [ الحديد : 21]. ثم قال: (وَاعْلَمُوَاْ أَنّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ ) [ الأنفال : 28] ثم قال: (يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُوَاْ إِنّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوّاً لّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ ) [ التغابن : 14]. بعد وقال: (وَاعْلَمُوَا أَنّمَا غَنِمْتُمْ مّن شَيْءٍ فَأَنّ للّهِ ) [ الأنفال - 41]. ثم أمر بالعمل به.
( 7) دعوة سفيان بن عيينة للعمل بالعلم :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم في الحلية عن صامت بن معاذ، قال: سمعت سفيان ابن عيينة يقول: من تزين للناس بشيء يعلم الله تعالى منه غير ذلك شانه الله.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم في الحلية عن ميمون الخياط، قال: سمعت سفيان بن عيينة يقول: إذا كان نهاري نهار سفيه وليلي ليل جاهل، فما أصنع بالعلم الذي كتبت؟.(3/97)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم في الحلية عن إبراهيم الجوهري، يقول: سمعت سفيان بن عيينة يقول: إنما أرباب العلم الذين هم أهله الذين يعملون به.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم في الحلية عن ابن عيينة يقول: ما شيء أضر عليكم من ملوك السوء، وعلم لا يعمل به.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن ابن عيينة قال:العلم إذا لم ينفعك ضرك .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن ابن عيينة قال : من عمل بما يعلم كفي ما لم يعلم .
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم في الحلية عن سفيان بن عيينة قال: كان يقال أشد الناس حسرة يوم القيامة ثلاثة، رجل كان له عيد فجاء يوم القيامة أفضل عملاً منه، ورجل له مال فلم يتصدق منه فمات فورثه غيره فتصدق منه، ورجل عالم لم ينتفع بعلمه فعلمه غيره فانتفع به.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن ابن عيينة قال الورع طلب العلم الذي به يعرف الورع.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان بن عيينة قال: ليس العالم الذي يعرف الخير والشر إنما العالم الذي يعرف الخير فيتبعه، ويعرف الشر فيجتنبه.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن ابن عيينة قال : أول العلم الاستماع، ثم الإنصات ثم الحفظ ثم العمل، ثم النشر.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان ابن عيينة يقول: قال بعض الفقهاء: كان يقال العلماء ثلاثة عالم بالله، وعالم بالله وبأمر الله، وعالم بأمر الله، وأما العالم بأمر الله، فهو الذي يعلم السنة ولا يخاف الله، وأما العالم بالله فهو الذي يخاف الله ولا يعلم السنة، وأما العالم بالله وبأمر الله، فهو الذي يعلم السنة ويخاف الله. فذاك يدعى عظيماً في ملكوت السموات.
( 8) منابذة سفيان بن عيينة لأهل البدع رحمه الله :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ(3/98)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان بن عيينة: ليس في الأرض صاحب بدعة إلا وهو يجد ذلة تغشاه، قال: وهي في كتاب الله، قالوا وأين هي من كتاب الله ؟ قال: أما سمعتم قوله تعالى: قال تعالى: (إِنّ الّذِينَ اتّخَذُواْ الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مّن رّبّهِمْ وَذِلّةٌ فِي الْحَياةِ) [ الأعراف : 152 ]، قالوا: يا أبا محمد هذه لأصحاب العجل خاصة، قال: كلا، اتلوا ما بعده: (الدّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ ) ، فهي لكل مفتر ومبتدع إلى يوم القيامة.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم في الحلية عن الحميدي قال : قيل لسفيان ابن عيينة إن بشرا المريسي يقول إن الله لايرى يوم القيامة فقال قاتل الله الدويبة ألم تسمع إلى قوله تعالى (كَلاّ إِنّهُمْ عَن رّبّهِمْ يَوْمَئِذٍ لّمَحْجُوبُونَ) [ المطففين : 15] فإذا احتجب عن الأولياء والأعداء فأي فضل للأولياء على الأعداء .
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم في الحلية عن عبد الرحمن بن عفان قال: سمعت ابن عيينة في السنة التي أخذوا بشراً المريسي بمنى فقام سفيان من المجلس مغضباً فأخذ بيد إسحاق بن المسيب فدخل يسب الناس وقال لقد تكلموا في القدور والاعتزال، وأمرنا باجتناب القوم، فقال رأينا علماءنا، هذا عمرو بن دينار، وهذا ابن المنكدر حتى ذكر أيوب ابن موسى حتى آخرين ذكر الأعمش ومنصوراً ومسعراً ما يعرفونه إلا كلام الله فمن قال غير هذا فعليه لعنة الله مرتين، فما أشبه هذا بكلام النصارى فلا تجالسوهم.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن ابن عيينة قال :رأينا علماءنا هذا عمرو بن دينار وهذا محمد بن المنكدر حتى ذكر أيوب بن موسى والأعمش ومسعرا ما يعرفونه إلا كلام الله ولا نعرفه إلا كلام الله فمن قال غير ذا فعليه لعنة الله مرتين فما أشبه هذا بكلام النصارى فلا تجالسوهم .
(9) دعوة سفيان بن عيينة إلى البعد عن السلطان :(3/99)
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم في الحلية عن ابن عيينة يقول: ما شيء أضر عليكم من ملوك السوء، وعلم لا يعمل به.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم في الحلية عن ابن عيينة يقول قال علي: لا يقيم أمر الله إلا من لا يصانع ولا يضارع ولا يتبع المطامع.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم في الحلية عن سفيان بن عيينة أن سليمان بن عبد الملك قال لأبي حازم: ارفع إلي حاجتك، قال: أيهات، أيهات، قد رفعتها إلى من لا تختزن الحوائج دونه، فما أعطاني منها قنعت، وما زوى عنى رضيت قال: ودخل أبو حازم على أمير المدينة فقال له تكلم فقلت له: انظر الناس ببابك إن أدنيت أهل الخير ذهب أهل الشر، وإن أدنيت أهل الشر ذهب أهل الخير.
(10) دعوة سفيان بن عيينة إلى الخمول ونكران الذات :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم في الحلية عن إسحاق بن منيب قال قلا سفيان بن عيينة: لم يعرفوا حتى يحبوا أن لا يعرفوا.
(11) دعوة سفيان بن عيينة إلى الورع :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم في الحلية عن سفيان بن عيينة قال: لا يصيب رجل حقيقة التقوى حتى يحيل بينه وبن الحرام حاجزاً من الحلال، وحتى يدع الإثم وما تشابه منه.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن ابن عيينة قال الورع طلب العلم الذي به يعرف الورع.
(12) دعوة سفيان بن عيينة إلى الإقلال من معرفة الناس :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم في الحلية عن سفيان بن عيينة يقول: قال لي بشر بن منصور الزاهد: يا سفيان أقلل من معرفة الناس، لعله أن يكون في القيامة غداً أقل لفضيحتك، إذا نودي عليك بسوء أعمالك.(3/100)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم في الحلية عن سمعت ابن عيينة يقول: سمعت مساور الوراق يقول: إنما تطيب المجالس بخفة الجلساء.
(13) دعوة سفيان بن عيينة إلى الزواج على الدين :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم في الحلية عن يحيى بن يحيى يقول: كنت عند سفيان بن عيينة إذ جاء رجل، فقال: يا أبا محمد أشكو إليك من فلانة- يعني امرأته- أنا أذل الأشياء عندها وأحقرها، فأطرق سفيان ملياً ثم رفع رأسه، فقال: لعلك رغبت إليها لتزداد عزاً، فقال: نعم يا أبا محمد، قال: من ذهب إلى العز ابتلى بالذل، ومن ذهب إلى المال ابتلى بالفقر، ومن ذهب إلى الدين يجمع الله له العز والمال مع الدين، ثم أنشأ يحدثه، فقال: كنا إخوة أربعة، محمد وعمران وإبراهيم وأنا فمحمد أكبرنا وعمران أصغرنا، وكنت أوسطهم، فلما أراد محمد أن يتزوج رغب في الحسب فتزوج من هي أكبر منه حسباً فابتلاه الله بالذل، وعمران رغب في المال فتزوج من هي أكثر منه مالاً فابتلاه الله بالفقر، أخذوا ما في يديه ولم يعطوه شيئاً، فبقيت في أمرهما فقدم علينا معمر بن راشد فشاورته وقصصت عليه قصة إخوتي، فذكرني حديث يحيى بن جعدة وحديث عائشة، فأما حديث يحيى بن جعدة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: تنكح المرأة على أربع، على دينها وحسبها ومالها وجمالها، فعليك بذات الدين تربت يداك . وحديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أعظم النساء بركة أيسرهن مؤنة . فاخترت لنفسي الدين وتخفيف الظهر اقتداء بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فجمع الله لي العز والمال مع الدين.
(14) دعوة سفيان بن عيينة إلى مكارم الأخلاق :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ(3/101)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم في الحلية عن أبي توبة الربيع، قال: سئل سفيان عن قوله: (لَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ) [ الأنبياء : 10]، قال: أنزل عليه القرآن بمكارم الأخلاق فهم الذين كانوا يشرفون بها ويفضل بعضهم بعضاً بها، من حسن الجوار، ووفاء بالعهد، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، فقال: إنما جاءكم محمد صلى الله عليه وسلم بمكارم أخلاقكم التي كنتم بها تشرفون وتعظمون، انظروا هل جاء بشيء مما كنتم تعيبون من الأخلاق القبيحة التي كنتم تعيبونها، فلم يقبح القبيح ولم يحسن الحسن، وقال الحسن بن أبي الحسن: أمسك عليكم دينكم أخلاق القرآن. وقال مجاهد: وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ) [ الشرح : 4]. قال: لا أذكر إلا ذكرت معي، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(15) دعوة سفيان بن عيينة إلى النصح لله تعالى :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم في الحلية عن سفيان بن عيينة عليك بالنصح لله في خلقه فلن تلقى الله بعمل أفضل منه .
(16) دعوة سفيان بن عيينة إلى صِلَةِ الإخوان :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم في الحلية عن سفيان بن عيينة قال : قيل لمحمد بن المنكدر: ما بقي من لذتك. قال: التقاء الإخوان وإدخال السرور عليهم.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم في الحلية عن سفيان بن عيينة قال: قيل لمحمد بن النكدر: ما بقي مما يستلذ ؟ قال: الإفضال على الإخوان.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم في الحلية عن سفيان بن عيينة قال: سمعت مساوراً الوراق يقول: ما كنت أقول لرجل إني أحبك في الله ثم أمنعه شيئاً من الدنيا.(3/102)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم في الحلية عن سفيان بن عيينة قال : صلى ابن المنكدر على رجل فقيل له: تصلي على فلان فقال: إني أستحي من الله أن يعلم مني أن رحمته تعجز، عن أحد من خلقه.
(17) دعوة سفيان بن عيينة إلى الشكر على المعافاة من المعاصي :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم في الحلية عن سفيان بن عيينة قال : عمل رجل من أهل الكوفة بخلق دني فأعتق رجل جار له جارية شكراً لله إذ عافاه الله من ذلك الخلق، قال وأمطرت مكة مطراً تهدمت منه البيوت فأعتق عبد العزيز بن أبي رواد جارية له شكراً لله إذ عافاه الله منه.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم في الحلية عن سفيان بن عيينة قال : أوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام أن أول من مات إبليس، وذلك أنه أول من عصاني، وإنما أعد من عصاني من الموتى.
(18) دعوة سفيان بن عيينة إلى الصبر :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم في الحلية عن سفيان بن عيينة يقول: لم يعط العباد أفضل من الصبر، به دخلوا الجنة.
(19) دعوة سفيان بن عيينة إلى لزوم سبل الحق مع قلة السالكين :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم في الحلية عن سفيان بن عيينة يقول: كان يقال: اسلكوا سبل الحق ولا تستوحشوا من قلة أهلها.
(20) دعوة سفيان بن عيينة إلى موافقة السريرة العلانية :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان بن عيينة قال: كان يقال: من كانت سريرته أفضل من علانيته فذلك الفضل، ومن كانت سريرته شراً من علانيته فذلك الجور.(3/103)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان ابن عيينة يقول: من تزين للناس بشيء يعلم الله تعالى منه غير ذلك شانه الله.
(21) دعوة سفيان بن عيينة إلى التفكر :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان بن عيينة، قال: التفكر مفتاح الرحمة، ألا ترى أنه يتفكر فيتوب.
(22) حُزْنُ سفيان بن عيينة رحمه الله تعالى :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن منصور بن عمار يقول: تكلمت في مجلس فيه سفيان بن عيينة وفضيل بن عياض وعبد الله بن المبارك. فأما سفيان بن عيينة فتغرغرت عيناه ثم نشفتا من الدموع، وأما ابن المبارك فسالت دموعه، وأما الفضيل فانتحب، فلما قام فضيل وابن المبارك قلت لسفيان: يا أبا محمد ما منعك أن يجيء منك ما جاء من صاحبك. قال: هذا أكمد للحزن، إن الدمعة إذا خرجت استراح القلب.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عبد الله ابن ثعلبة يقول لسفيان بن عيينة: يا أبا محمد واحزناه على الحزن، فقال سفيان: هل حزنت قط لعلم الله فيك. فقال عبد الله: آه تركتني لا أفرح أبداً.
(23) زهد سفيان بن عيينة ودعوته إليه رحمه الله :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن ابن عيينة قال الزهد الصبر وارتقاب الموت.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أحمد بن أبي الحواري قلت لسفيان بن عيينة ما الزهد في الدنيا قال إذا أنعم عليه فشكر وإذا ابتلي ببلية فصبر فذلك الزهد.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن حرملة بن يحيى يقول: أخذ سفيان بن عيينة بيدي فأقامني في ناحية وأخرج من كمه، رغيف شعير وقال لي: دع يا حرملة ما يقول الناس، هذا طعامي منذ ستين سنة.(3/104)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أحمد بن أبي الحواري يقول قلت لسفيان: يا أبا محمد أي شيء الزهد في الدنيا ؟ قال: من إذا أنعم الله عليه نعمة فشكرها وابتلى ببلية فصبر، فذلك الزهد. قلت له: يا أبا محمد فإن أنعم عليه بنعمة فشكر وابتلى فصبر وهو ممسك للنعمة كيف يكون زاهداً ؟ قال: اسكت فمن لم تمنعه البلوى من الصبر والنعمة من الشكر فذلك الزاهد.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان بن عيينة قال: الزهد في الدنيا الصبر وارتقاب الموت.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان ابن عيينة يقول: ليس من حب الدنيا طلبك منها ما لا بد منه.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن المسيب بن واضح قال: سئل ابن عيينة عن الزهد قال الزهد فيما حرم الله فأما ما أحل الله فقد أباحكه الله فإن النبيين قد نكحوا وركبوا ولبسوا وأكلوا لكن الله نهاهم عن شيء فانتهوا عنه وكانوا به زهادا وعن ابن عيينة قال إنما كان عيسى ابن مريم لا يريد النساء لأنه لم يخلق من نطفة.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان بن عيينة يقول: كأنك بالدنيا ولم تكن، وكأنك بالآخرة ولم تزل، وكأنك بآخر من يموت وقد مات. قال سفيان كان يقال: إن للدنيا أجلاً كأجل ابن آدم إذا جاء أجلها ماتت.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان بن عيينة قال : كان عيسى عليه السلام لا يخبأ غداء لعشاء ولا عشاء لغداء، ويقول: مع كل يوم وليلة رزقها ليس له بيت يخرب، وقيل له: ألا تتزوج، قال: أتزوج امرأة تموت ؟ وقيل له ألا تبني بيتاً. قال: إني على طريق السبيل.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان بن عيينة قال: سئل الزهري، عن الزهد في الدنيا، قال: من لم يغلب الحلال شكره ولا الحرام صبره.(3/105)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان ابن عيينة: لا تصلح عبادة إلا بزهد، ولا يصلح زهد إلا بفقه، ولا يصلح فقه إلا بصبر.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم في الحلية عن سفيان بن عيينة قال: بلغ عمر بن الخطاب أن رجلاً بنى بالآجر فقال: ما كنت أحسب أن في هذه الأمة مثل فرعون، قال: يريد قوله: ( ابْنِ لِي صَرْحاً ) [ غافر : 36]. ، ( فَأَوْقِدْ لِي يَهَامَانُ عَلَى الطّينِ فَاجْعَل لّي صَرْحاً ) [القصص : 38]
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم في الحلية عن سفيان بن عيينة عن الأحوص بن حكيم، عن راشد بن سعد قال: بلغ عمر أن أبا الدرداء ابتنى كنيفاً بحمص فكتب إليه: أما بعد يا عويمر أما كانت لك كفاية فيما بنت الروم عن تزيين الدنيا وتجديدها ؟ وقد آذن الله بخرابها فإذا أتاك كتابي هذا فانتقل من حمص إلى دمشق قال سفيان: عاقبه بهذا.
(24) نُصْحُ سفيان بن عيينة للولاة رحمه الله :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أحمد بن حنبل قال : دخل سفيان بن عيينة على معن بن زائدة يعني أمير اليمن ولم يكن سفيان تلطخ بعد بشيء من أمر السلطان فجعل يعظه .
... ... [*] أورد الإمام أبو حاتم الرازي في الجرح والتعديل عن أحمد بن حنبل قال : دخل سفيان بن عيينة على معن بن زائدة وهو باليمن ولم يكن سفيان تلطخ بشيء من أمر السلطان بعد فجعل سفيان يعظه ويذكر له أمر المسلمين فجعل معن يقول له أبوهم أنت أخوهم أنت .
(25) صبر سفيان بن عيينة على شظف العيش رحمه الله :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن حرملة بن يحيى يقول: أخذ سفيان بن عيينة بيدي فأقامني في ناحية وأخرج من كمه، رغيف شعير وقال لي: دع يا حرملة ما يقول الناس، هذا طعامي منذ ستين سنة.(3/106)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الحميدي أنه سمع سفيان يقول لا تدخل هذه المحابر بيت الرجل إلا أشقى أهله وولده وقال سفيان مرة لرجل ما حرفتك قال طلب الحديث قال بشر أهلك بالإفلاس.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن ابن عيينة قال من زيد في عقله نقص من رزقه.
(26) تحذير سفيان بن عيينة من الكبر :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم في الحلية عن من رأى أنه خير من غيره فقد استكبر، وذاك أن إبليس إنما منعه من السجود لآدم عليه السلام استكباره.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم في الحلية عن ابن عيينة قال: من كانت معصيته في الشهوة فارج له التوبة، فإن آدم عليه السلام عصى مشتهياً فغفر له، وإذا كانت معصيته في كبر فاحش على صاحبه اللعنة، فإن إبليس عصى مستكبراً فلعن.
(27) تواضع سفيان بن عيينة رحمه الله :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عبيد بن جناد سمعت ابن عيينة وسألوه أن يحدث فقال ما أراكم للحديث موضعا ولا أراني أن يؤخذ عني أهلا وما مثلي ومثلكم إلا ما قال الأول افتضحوا فاصطلحوا .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن سفيان بن عيينة قال من رأى أنه خيرٌ من غيره فقد استكبر ثم ذكر إبليس.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن علي ابن المديني كان سفيان إذا سئل عن شيء يقول لا أحسن فنقول من نسأل فيقول سل العلماء وسل الله التوفيق.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم في الحلية عن محمد ابن الصباح، قال: سمعت سفيان بن عيينة يقول: إني لأغضب على نفسي إذا رأيتكم تأتوني، أقول لم يأتني هؤلاء إلا من خير يظنون بي.
[*] أورد الإمام أبو حاتم الرازي في الجرح والتعديل عن أبي قدامه السرخسي يقول سمعت بن عيينة كثيرا ما يرثى نفسه يقول ذهب الزمان فسرت غير مسود ومن الشقاء تفردى بالسؤدد .(3/107)
(28) تحذير سفيان بن عيينة من غضب الله تعالى :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عبد الرحمن بن بشر سمعت ابن عيينة يقول غضب الله الداء الذي لا دواء له ومن استغنى بالله أحوج الله إليه الناس.
(29) التقاط سفيان بن عيينة لِدُرَرِ الدعوات إذا وقعت من الرجل الصالح :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم في الحلية عن سفيان بن عيينة قال: بينا أنا أطوف بالبيت وإلى جانبي أعرابي يطوف وهو ساكت، فلما أتم طوافه جاء إلى المقام فصلى ركعتين ثم جاء فقام بحذاء البيت فقال: إلهي من أولى بالزلل والتقصير مني، وقد خلقتني ضعيفاً، ومن أولى بالعفو منك وعلمك في سابق وقضاؤك في محيط ؟ أطعتك بإذنك والمنتهى لك، وعصيتك بعلمك والحجة لك فأسألك بوجوب حجتك علي وانقطاع حجتي، وفقري إليك وغناك عني إلا ما غفرت لي، قال سفيان: ففرحت فرحاً ما أعلم أني فرحت مثله حين سمعته يتكلم بهؤلاء الكلمات.
(30) رؤية سفيان بن عيينة للأيام التي يعيشها الإنسان :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم في الحلية عن سفيان بن عيينة قال :قال بعض أهل الحكم: الأيام ثلاثة، فأمس حكيم مؤدب أبقى فيك موعظة وترك فيك عبرة، واليوم ضيف كان عنك طويل الغيبة وهو عنك سريع الظعن، وغداً لا يدري من صاحبه.
(31) من دُررِ مواعظ سفيان بن عيينة رحمه الله :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ(3/108)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن ابن عيينة يقول: إذا جمعت هاتين كل أمري إذا صبرت على البلاء ورضيت بالقضاء قال سفيان وقال عمر بن الخطاب: ما أبالي على ما أصبحت على ما أحب أو على ما أكره إني لا أدري الخير فيما أحب أو فيما أكره.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان ابن عيينة يقول: من تزين للناس بشيء يعلم الله تعالى منه غير ذلك شانه الله.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان بن عيينة يقول: إذا كان نهاري نهار سفيه وليلي ليل جاهل، فما أصنع بالعلم الذي كتبت؟.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان ابن عيينة يقول: من زيد في عقله نقص من رزقه.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان بن عيينة يقول: من رأى أنه خير من غيره فقد استكبر، وذاك أن إبليس إنما منعه من السجود لآدم عليه السلام استكباره.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان بن عيينة: يقال لا إله إلا الله في الآخرة بمنزلة الماء في الدنيا، لا يحيي شيء في الدنيا إلا على الماء، قال الله تعالى: وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون الأنبياء 30. فلا إله إلا الله بمنزلة الماء في الدنيا، من لم تكن معه لا إله إلا الله فهو ميت، ومن كانت معه لا إله إلا الله فهو حي.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان بن عيينة يقول: ما أنعم الله على العباد نعمة أفضل من أن عرفهم لا إله إلا الله، فان لا اله إلا الله، لهم في الآخرة كالماء في الدنيا.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان بن عيينة، قال: قال عيسى عليه السلام: إن للحكمة أهلا فإن ، وضعتها في غير أهلها ضيعت، وإن منعتها من أهلها ضيعت، كن كالطبيب يضع الدواء حيث ينبغي.(3/109)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان بن عيينة قال: ليس العالم الذي يعرف الخير والشر إنما العالم الذي يعرف الخير فيتبعه، ويعرف الشر فيجتنبه.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن ابن عيينة قال : أول العلم الاستماع، ثم الإنصات ثم الحفظ ثم العمل، ثم النشر.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان بن عيينة قال: إذا ترك العالم لا أدري أصيبت مقاتله.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان بن عيينة قال : الغيبة أشد من الدين، الدين يقضى والغيبة لا تقضى.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان ابن عيينة يقول: قال بعض الفقهاء: كان يقال العلماء ثلاثة عالم بالله، وعالم بالله وبأمر الله، وعالم بأمر الله، وأما العالم بأمر الله، فهو الذي يعلم السنة ولا يخاف الله، وأما العالم بالله فهو الذي يخاف الله ولا يعلم السنة، وأما العالم بالله وبأمر الله، فهو الذي يعلم السنة ويخاف الله. فذاك يدعى عظيماً في ملكوت السموات.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان بن عيينة، قال: كان يقال جالس الحكماء فإن مجالستهم غنيمة، وصحبتهم سليمة، ومؤاخاتهم كريمة.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن ابن عيينة قال: لأن يقال فيك الشر وليس فيك، خير من أن يقال فيك الخير وهو فيك، ثم تلا: (إِنّ الّذِينَ جَآءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مّنْكُمْ لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لّكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ ) [ النور : 11]
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان ابن عيينة قال : قال علي: لا يقيم أمر الله إلا من لا يصانع ولا يضارع ولا يتبع المطامع.(3/110)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان ابن عيينة قال : ما أخلص عبد لله أربعين يوما إلا أنبت الله الحكمة في قلبه نباتاً، وأنطق لسانه بها، وبصره عيوب الدنيا داءها ودواءها، قال: وسمعت ابن عيينة يقول: ما شيء أضر عليكم من ملوك السوء، وعلم لا يعمل به.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان بن عيينة عليك بالنصح لله في خلقه فلن تلقى الله بعمل أفضل منه .
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن ابن عيينة وسئل عن الورع، فقال: الورع طلب العلم الذي يعرف به الورع، وهو عند قوم طول الصمت، وقلة الكلام، وما هو كذلك إن المتكلم العالم أفضل عندي وأورع من الجاهل الصامت.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان بن عيينة قال: قال عثمان بن عفان: لو طهرت قلوبكم ما شبعت من كلام الله، وما أحب أن يأتي علي يوم ولا ليلة إلا أنظر في كلام الله ـ يعني في المصحف.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان بن عيينة، قال: التفكر مفتاح الرحمة، ألا ترى أنه يتفكر فيتوب.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان بن عيينة يقول: كان يقال: اسلكوا سبل الحق ولا تستوحشوا من قلة أهلها.
(32) حرص سفيان بن عيينة على تكرار الحج :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم في الحلية عن سليمان بن أيوب، قال: سمعت ابن عيينة يقول: شهدت ثمانين موقفاً.
احتمال العلماء تدليس سفيان ابن عيينة :(3/111)
[*] قال الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء : وقد كان سفيان مشهورا بالتدليس عمد إلى أحاديث رفعت إليه من حديث الزهري فيحذف اسم من حدثه ويدلسها إلا أنه لا يدلس إلا عن ثقة عنده فأما ما بلغنا عن يحيى بن سعيد القطان أنه قال اشهدوا أن ابن عيينة اختلط سنة سبع وتسعين ومئة فهذا منكر من القول ولا يصح ولا هو بمستقيم فإن يحيى القطان مات في صفر سنة ثمان وتسعين مع قدوم الوفد من الحج فمن الذي أخبره باختلاط سفيان ومتى لحق أن يقول هذا القول وقد بلغت التراقي وسفيان حجة مطلقاً وحديثه في جميع دوواين الإسلام ووقع لي كثير من عواليه بل وعند عبد الرحمن سبط الحافظ السكفي من عواليه جملة صالحة منها جزء ابن عيينة رواية المروزي عنه وفي جزء علي ابن حرب رواية العبادان وجزآن لعلي بن حرب رواية نافلته أبي جعفر محمد بن يحيى بن عمر الطائي وفي الثقفيات وغير ذلك وقد جمع عوالي ابن عيينة أبو عبد الله بن مندة وأبو عبد الله الحاكم وبعدهما أبو إسحاق الحبال وكان سفيان رحمه الله صاحب سنة واتباع قال الحافظ بن أبي حاتم حدثنا محمد بن الفضل بن موسى حدثنا محمد بن منصور الجواز قال رأيت سفيان بن عينة سأله رجل ما تقول في القرآن قال كلام الله منه خرج واليه يعود وقال محمد بن إسحاق الصاغاني حدثنا لوين قال قيل لابن عيينة هذه الأحاديث التي تروى في الرؤية قال حق على ما سمعناها ممن نثق به ونرضاه وقال أحمد بن إبراهيم الدورقي حدثني أحمد بن نصر قال سألت ابن عيينة وجعلت الح عليه فقال دعني اتنفس فقلت كيف حديث عبد الله عن النبي إن الله يحمل السماوات على إصبع وحديث إن قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن وحديث إن الله يعجب أو يضحك ممن يذكره في الأسواق فقال سفيان : هي كما جاءت نقر بها ونحدث بها بلا كيف.
وفاة سفيان بن عيينة ومبلغ سنه رحمه الله تعالى :(3/112)
عَمَّر الإمام سفيان بن عيينة دهراً ونحسبه ممن طال عمره وحسن عمله مصداقاً لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الآتي ، ولا نزكي على الله أحداً :
(حديث أبي بكرة الثابت في صحيح الترمذي) أَنّ رَجُلاً قَالَ يَا رَسُولَ الله أَيّ النّاسِ خَيْرٌ؟ قَالَ مَنْ طَالَ عُمُرهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ. قَالَ فَأَيّ النّاسِ شَرّ؟ قَالَ: مَنْ طَالَ عُمُرهُ وَسَاءَ عَمَلُهُ".
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن حامد بن يحيى البلخي سمعت ابن عيينة يقول رأيت كأن أسناني سقطت فذكرت ذلك للزهري فقال تموت أسنانك وتبقى أنت قال فمات أسناني وبقيت أنا فجعل الله كل عدو لي محدثا .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن سليمان بن أيوب سمعت سفيان بن عيينة يقول شهدت ثمانين موقفا ويروي أن سفيان كان يقول في كل موقف اللهم لاتجعله آخر العهد منك فلما كان العام الذي مات فيه لم يقل شيئا وقال قد استحييت من الله تعالى .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عبد الرحمن بن بشر قال سمعت ابن عيينة عشية السبت نصف شعبان سنة ست وتسعين ومئة يقول كمل لي في هذا اليوم تسع وثمانون سنة ولدت للنصف من شعبان سنة سبع ومئة .
قال الإمام الذهبي رحمه الله :قلت عاش إحدى وتسعين سنة في فاصل الرامهزمزي.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن محمد بن الصباح الجرداني قال الخطيم في ابن عيينة :
سيرى نجاء وقاك الله من عطب ... حتى تلاقي بعد البيت سفيانا
شيخ الأنام ومن حلت مناقبه ... لاقى الرجال وحازالعلم أزمانا
حوى بيانا وفهما عاليا عجبا ... إذا ينص حديثاً نص برهانا
ترى الكهول جميعا عند مشهده ... مستنصتين وشيخانا وشبانا
يضم عمرا الى الزهري يسنده ... وبعد عمرو إلى الزهري صفوانا
وعبدة وعبيد الله ضمهما ... وابن السبيعي أيضا وابن جدعانا
فعنهم عن رسول الله يوسعنا ... علما وحكماً وتأويلا وتبيانا(3/113)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الرياشي قال : قال الأصمعي يرثي ابن عيينة :
ليبك سفيان باغي سنة درست ... ومستبين أثارات وآثار
ومبتغي قرب إسناد وموعظة ... وواقفيون من طار ومن ساري
أمست منازله وحشاً معطلة ... من قاطنين وحجاج وعمَّار
من الحديث عن الزهري يسنده ... وللأحاديث عن عمرو بن دينار
ما قام من بعده من قال حدثنا ... الزهري في أهل بدو أو بإحصار
وقد أراه قريبا من ثلاث مني ... قد خف مجلسه من كل أقطار
بنو المحابر والأقلام مرهفة ... وسماسمات فراها كل نجار
[*] أورد الإمام أبو حاتم الرازي في الجرح والتعديل عن حامد بن يحيى البلخي قال سمعت بن مناذر يقول لما مات سفيان بن عيينة: من كان يبكى ورعا عالما فليبك للإسلام سفيانا راحوا بسفيان إلى قبره والعلم مكسوين أكفانا لا يبعدنك الله من هالك أورثنا غما وأحزانا .
[*] أورد الإمام أبو حاتم الرازي في الجرح والتعديل عن محمد بن عثمان بن مخلد قال سمعت بعض مشايخ البصريين قال حضرت جنازة سفيان بن عيينة بمكة قال وابن المناذر يقول فيها مرثية فكان فيما قال: نجلو من الحكمة أنوارها ما تشتهى الأنفس ألوانا ، يا واحد الأمة في علمها لقيت من ذي العرش رضوانا ، راحوا بسفيان على نعشه والعلم مكسوين أكفانا.
سيرة الفضيل بن عياض رحمه الله :
كان الفضيل بن عياض رحمه الله من أئمة تابعي التابعين ، من أئمة الهدى وأعلام التقى ومصابيح الدجى ، من حلية الأولياء وأعلام النبلاء ،الأضواء اللامعة والنجوم الساطعة .
قصة توبة الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى :(3/114)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الفضل بن موسى قال كان الفضيل بن عياض شاطرا يقطع الطريق بين أبيورد وسرخس وكان سبب توبته أنه عشق جارية فبينا هو يرتقي الجدران إليها إذ سمع تاليا يتلو " (أَلَمْ يَأْنِ لِلّذِينَ آمَنُوَاْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللّهِ وَمَا ) [ الحديد : 16] " فلما سمعها قال بلى يا رب قد آن فرجع فآواه الليل إلى خربة فإذا فيها سابلة فقال بعضهم نرحل وقال بعضهم حتى نصبح فإن فضيلاً على الطريق يقطع علينا، قال : ففكرت وقلت أنا أسعى بالليل في المعاصي وقوم من المسلمين ها هنا يخافوني وما أرى الله ساقني إليهم إلا لأرتدع اللهم إني قد تبت إليك وجعلت توبتي مجاورة البيت الحرام .
قال الإمام الذهبي تعليقا على القصة :
وبكل حال : فالشرك أعظم من قطع الطريق ، وقد تاب من الشرك خلق صاروا أفضل الأمة ، فنواصي العباد بيد الله ، وهو يضل من يشاء ، ويهدي إليه من أناب .
[*] مناقب الفضيل بن عياض :
كان الفضيل بن عياض رحمه الله من أئمة تابعي التابعين ، من أئمة الهدى وأعلام التقى ومصابيح الدجى ، من حلية الأولياء وأعلام النبلاء ،الأضواء اللامعة والنجوم الساطعة .
وهاك غَيْضٍ من فيض ونقطةٍ من بحر مما ورد في مناقبه جملةً وتفصيلا رحمه الله تعالى :
أولاً مناقب الفضيل بن عياض جملةً رحمه الله :
(1) ثناء العلماء على الفضيل بن عياض رحمه الله:
(2) خشية الفضيل بن عياض وبكاؤه رحمه الله :
(3) تواضع الفضيل بن عياض وإيثاره للخمول :
(4) عظيم قول الفضيل بن عياض في الخوف والرجاء :
(5) زهد الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى :
(6) تعريف الفضيل بن عياض للتواضع رحمه الله :
(7) دعوة الفضيل بن عياض لفضول المخالطة رحمه الله :
(8) دعوة الفضيل بن عياض لقلة الكلام رحمه الله :
(9) دعوة الفضيل بن عياض لقلة الضحك رحمه الله :
(10) تعظيم الفضيل بن عياض لفرائض الله تعالى :(3/115)
(11) تواضع الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى :
(12) دعوة الفضيل بن عياض لسلامة الصدر:
(13) منابذة الفضيل بن عياض لأهل البدع :
(14) نُصْحُ الفضيل بن عياض للولاة :
(15) دعوة الفضيل بن عياض للدعاء للإمام رحمه الله:
(16) من دُررِ مواعظ الفضيل بن عياض رحمه الله:
(17) دعوة الفضيل بن عياض لتحري الحلال :
(18) دعوة الفضيل بن عياض للخوف من الله وحده :
(19) تحذير الفضيل بن عياض من إيذاء المسلمين .
(20) دعوة الفضيل بن عياض للتحري في السماع من العالم الرباني :
(21) تحذير الفضيل بن عياض من الرياء :
(22) تحذير الفضيل من المعاصي وأنها تحرم العبد من الطاعة :
(23) دعوة الفضيل بن عياض لحفظ اللسان :
(24) دعوة الفضيل بن عياض للخمول وإنكار الذات :
(25) دعوة الفضيل للغبطة وتحذيره من الحسد :
(26) كيف كان الفضيل يمقت نفسه في جنب الله تعالى :
(27) دعوة الفضيل بن عياض للبعد عن السلطان :
(28) قبول الفضيل بن عياض التذكرة من العلماء بخضوعٍ وإذعان :
ثانياً مناقب الفضيل بن عياض تفصيلا رحمه الله:
(1) ثناء العلماء على الفضيل بن عياض رحمه الله:
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
[*] قال عنه الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء : ومنهم الراحل من المفاوز والقفار، إلى الحصون والحياض، والناقل من المهالك والسباخ إلى الغصون والرياض، أبو علي الفضيل بن عياض. كان من الخوف نحيفاً، وللطواف أليفاً.
[*] وقال عنه الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء :(3/116)
الفضيل بن عياض ابن مسعود بن بشر الإمام القدوة الثبت شيخ الإسلام أبو علي التميمي اليربوعي الخراساني المجاور بحرم الله ، ولد بسمرقند ونشأ بأبيورد وارتحل في طلب العلم فكتب بالكوفة عن منصور والأعمش وبيان بن بشر وحصين بن عبد الرحمن وليث وعطاء بن السائب وصفوان بن سليم وعبد العزيز بن رفيع وأبي إسحاق الشيباني ويحيى بن سعيد الأنصاري وهشام بن حسان وابن أبي ليلى ومجالد وأشعث بن سوار وجعفر الصادق وحميد الطويل وخلق سواهم من الكوفيين والحجازيين حدث عنه ابن المبارك ويحيى القطان وعبد الرحمن بن مهدي وابن عيينة والأصمعي وعبد الرزاق وعبد الرحمن بن مهدي ابن هلال شيخ واسطي وحسين الجعفي وأسد السنة والشافعي وأحمد بن يونس ويحيى بن يحيى التميمي وابن وهب ومسدد وقتيبة وبشر الحافي والسري بن مغلس السقطي وأحمد بن المقدام وعبيدالله القواريري ومحمد بن زنبور المكي ولوين ومحمد بن يحيى العدني والحميدي وعبد الصمد بن يزيد مروديه وعبدة بن عبد الرحيم المروزي ومحمد بن أبي السري العسقلاني ومحمد بن قدامة المصيصي ويحيى بن أيوب المقابري وخلق كثير آخرهم موتا الحسين ابن داود البلخي وروى عنه سفيان الثوري أجل شيوخه وبينهما في الموت مئة وأربعون عاما .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن سفيان بن عيينة قال : فضيل ثقة .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن ابن مهدي فضيل رجل صالح ولم يكن بحافظ.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن العجلي قال : كوفي ثقة متعبد رجل صالح سكن مكة .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أبي حاتم قال : صدوق .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن النسائي قال ثقة مأمون رجل صالح .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الدارقطني قال : ثقة .(3/117)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن محمد بن سعد قال ولد بخراسان بكورة أبيورد وقدم الكوفة وهو كبير فسمع من منصور وغيره ثم تعبد وانتقل إلى مكة ونزلها إلى أن مات بها في أول سنة سبع وثمانين ومئة في خلافة هارون وكان ثقة نبيلا فاضلا عابدا ورعا كثير الحديث .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن ابن المبارك قال : رأيت أعبد الناس عبد العزيز بن أبي رواد وأورع الناس الفضيل بن عياض وأعلم الناس سفيان الثوري وأفقه الناس أبا حنيفة ما رأيت في الفقه مثله .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن ابن المبارك قال ما بقي على ظهر الأرض عندي أفضل من الفضيل بن عياض .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عبيد الله القواريري قال : أفضل من رأيت من المشايخ بشر بن منصور وفضيل بن عياض وعون بن معمر وحمزة بن نجيح .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن النصر بن شميل قال : سمعت الرشيد يقول ما رأيت في العلماء أهيب من مالك ولا أورع من الفضيل .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الهيثم بن جميل قال ك سمعت شريكا يقول لم يزل لكل قوم حجة في أهل زمانهم وإن فضيل بن عياض حجة لأهل زمانه فقام فتى من مجلس الهيثم فلما توارى قال الهيثم إن عاش هذا الفتى يكون حجة لأهل زمانه قيل من كان الفتى قال أحمد ابن حنبل .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن ابن المبارك قال : إن الفضيل بن عياض صدق الله فأجرى الحكمة على لسانه فالفضيل ممن نفعه علمه .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أبو بكر عبد الرحمن بن عفان قال : سمعت ابن المبارك يقول لأبي مريم القاضي ما بقي في الحجاز أحد من الأبدال إلا فضيل بن عياض وابنه علي وعلي مقدم في الخوف وما بقي أحد في بلاد الشام إلا يوسف ابن أسباط وأبو معاوية الأسود وما بقي أحد بخراسان إلا شيخ حائك يقال له معدان .(3/118)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن بشر بن الحارث قال : عشرة ممن كانوا يأكلون الحلال لا يدخلون بطونهم إلا حلالا ولو استفوا التراب والرماد قلت من هم يا أبا نصر قال سفيان وإبراهيم بن أدهم والفضيل بن عياض وابنه وسليمان الخواص ويوسف بن أسباط وأبو معاوية نجيح الخادم وحذيفة المرعشي وداود الطائي ووهيب بن الورد .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن إبراهيم بن الأشعث قال :ما رأيت أحدا كان الله في صدره أعظم من الفضيل كان إذا ذكر الله أو ذكر عنده أو سمع القرآن ظهر به من الخوف والحزن وفاضت عيناه وبكى حتى يرحمه من يحضره وكان دائم الحزن شديد الفكرة ما رأيت رجلا يريد الله بعلمه وعمله وأخذه وعطائه ومنعه وبذله وبغضه وحبه وخصاله كلها غيره كنا إذا خرجنا معه في جنازة لا يزال يعظ ويذكر ويبكي كأنه مودع أصحابه ذاهب إلى الآخرة حتى يبلغ المقابر فيجلس مكانه بين الموتى من الحزن والبكاء حتى يقوم وكأنه رجع من الآخرة يخبر عنها .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن إبراهيم بن سعيد الجوهري قال : قال لي المأمون قال لي الرشيد ما رأت عيناي مثل فضيل بن عياض دخلت عليه فقال لي فرغ قلبك للحزن وللخوف حتى يسكناه فيقطعاك عن المعاصي ويباعداك من النار .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن قال إبراهيم بن الأشعث رأيت سفيان بن عيينة يقبل يد الفضيل مرتين .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن ابن المبارك قال إذا نظرت إلى الفضيل جدد لي الحزن ومقت نفسي ثم بكى .
(2) خشية الفضيل بن عياض وبكاؤه رحمه الله :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ(3/119)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن إبراهيم بن الأشعث، قال: كنا إذا خرجنا مع الفضيل في جنازة لا يزال يعظ ويذكر ويبكي حتى لكأنه يودع أصحابه، ذاهب إلى الآخرة حتى يبلغ المقابر فيجلس، فكأنه بين الموتى جلس من الحزن والبكاء حتى يقوم، ولكأنه رجع من الآخرة يخبر عنها.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان بن عيينة، قال: ما رأيت أحداً أخوف من الفضيل وأبيه.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن : إبراهيم بن الأشعث، قال: ما رأيت أحداً كان الله في صدره أعظم من الفضيل، كان إذا ذكر الله أو ذكر عنده أو سمع القرآن ظهر به من الخوف والحزن، وفاضت عيناه وبكى حتى يرحمه من بحضرته، وكان دائم الحزن شديد الفكرة، ما رأيت رجلا يريد الله بعلمه وأخذه وإعطائه ومنعه وبذله وبغضه وحبه وخصالله كلها غيره، يعني الفضيل.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الفيض بن إسحاق، قال: سمعت فضيلاً، يقول: والله لأن أكون هذا التراب أو هذا الحائط أحب إلى من أن أكون في مسلخ أفضل أهل الأرض اليوم، وما يسرني أن أعرف الأمر حق معرفته إذاً لطاش عقلي، ولو أن أهل السماء وأهل الأرض طلبوا أن يكونوا ترابا فشفعوا كانوا قد أعطوا عظيما، ولو أن جميع أهل الأرض من جن وأنس والطير الذي في الهواء، والوحش الذي في البر، والحيتان التي في البحر، علموا الذي يصيرون إليه ثم حزنوا لذلك وبكوا كنت موضع ذلك، فأنت تخاف الموت أو تعرف الموت، لو أخبرتني أنك تخاف الموت ما قبلت منك، ولو خفت الموت ما نفعك طعام ولا شراب ولا شيء في الدنيا، وقال: سأل داود عليه السلام ربه أن يلقي الخوف في قلبه ففعل فلم يحتمله قلبه، وطاش عقله، حتى ما كان يفعل صلاة ولا ينتفع بشيء، فقال له: تحب أن ندعك كما أنت أو نردك إلى ما كنت عليه ؟ قال: ردني، فرد الله إليه عقله.(3/120)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن إسحاق بن إبراهيم الطبري، قال: سمعت الفضيل بن عياض يقول: أنت تخاف الموت ؟ لو قلت أنك تخاف الموت ما قبلت منك، ولو خفت الموت ما نفعك طعام أو شراب ولا شيء من الدنيا، ولو عرفت الموت حق معرفته ما تزوجت ولا طلبت الولد، وقال الفضيل: ما يسرني أن أعرف هذا الأمر حق معرفته، إذا لطاش عقلبي، ولم أنتفع بشيء.(3/121)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن إسحاق بن إبراهيم، قال: قال رجل للفضيل: كيف أصبحت يا أبا علي ؟ فكان يثقل عليه كيف أصبحت وكيف أمسيت، فقال: في عافية، فقال: كيف حالك ؟ فقال: عن أي حال تسأل ؟ عن حال الدنيا أو حال الآخرة ؟ إن كنت تسأل عن حال الدنيا فإن الدنيا قد مالت بنا وذهبت بنا كل مذهب، وإن كنت تسأل عن حال الآخرة فكيف ترى حال من كثرت ذنوبه، وضعف عمله وفنى عمره، و لم يتزود لمعاده، ولم يتأهب للموت، و لم يخضع للموت، و لم يتشمر للموت، ولم يتزين للموت، وتزين للدنيا، هيه. وقعد يحدث يعني نفسه واجتمعوا حولك يكتبون عنك، بخ فقد تفرغت للحديث، ثم قال: هاه وتنفس طويلا ؟ً ويحك أنت تحسن تحدث، أو أنت أهل أن يحمل عنك، استحيى يا أحمق بين الحمقان، لولا قلة حيائك وسفاهة وجهك ما جلست تحدث وأنت أنت، أما تعرف نفسك ؟ أما تذكر ما كنت، وكيف كنت ؟ أما لو عرفوك ما جلسوا إليك، ولا كتبوا عنك، ولا سمعوا منك شيئاً أبداً، فيأخذ في مثل هذا، ثم يقول: ويحك أما تذكر الموت ؟ أما للموت في قلبك موضع ؟ أما تدري متى تؤخذ فيرمي بك في الآخرة فتصير في القبر وضيقه ووحشته، أما رأيت قبرا قط ؟ أما رأيت حين دفنوه ؟ أما رأيت كيف سلوه في حفرته وهالوا عليه التراب والحجارة، ثم قال ما ينبغي لك أن تتكلم بفمك كله يعني نفسه تدري من تكلم بفمه كله، عمر بن الخطاب كان يطعمهم الطيب ويأكل الغليظ، ويكسوهم اللين ويلبس الخشن، وكان يعطيهم حقوقهم ويزيدهم، أعطي رجلا عطاءه أربعة آلاف درهم وزاده الفاً، فقيل له: ألا تزيد أخاك وكما زدت هذا ؟ قال: إن أبا هذا ثبت يوم أحد ولم يثبت أبو هذا.(3/122)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن إسحاق بن إبراهيم، قال: ما رأيت أحداً أخوف على نفسه ولا أرجى للناس من الفضيل، كانت قراءته حزينة شهية بطيئة مترسلة كأنه يخاطب إنساناً، وكان إذا مر بآية فيها ذكر الجنة تردد فيها، وسأل، وكانت صلاته بالليل أكثر ذلك قاعداً، تلقى له حصير في مسجده فيصلي من أول الليل ساعة حتى تغلبه عينه، فيلقى نفسه على الحصير فينام قليلاً، ثم يقوم فإذا غلبه النوم نام ثم يقوم هكذا حتى يصبح، وكان دأبه إذا نعس أن ينام ويقال أشد العبادة ما يكون هكذا، وكان صحيح الحديث صدوق اللسان شديد الهيبة للحديث، إذا حدث، وكان يثقل عليه الحديث جداً، ربما قال لي : لو أنك تطلب مني الدراهم كان أحب إلي من أن تطلب مني الأحاديث، وسمعته يقول: لو طلبت مني الدنانير كان أيسر علي من أن تطلب مني الحديث، فقلت له: لو حدثتني بأحاديث فوائد ليست عندي كان أحب إلي من أن تهب لي عددها دنانير، قال: إنك مفتون، أما والله لو عملت بما سمعت من سليمان بن مهران يقول: إذا كان بين يديك طعام تأكله فتأخذ اللقمة فترمي بها خلف ظهرك كلما أخذت لقمة رميت بها خلف ظهرك متى تشبع .
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الفضيل بن عياض قال : لا تجعل الرجال أوصياءك، كيف تلومهم أن يضيعوا وصيتك وأنت قد ضيعتها في حياتك، وأنت بعد هذا تصير إلى بيت الوحشة وبيت الظلمة، وبيت الدود، ويكون زائرك فيها منكراً ونكيراً وقبرك روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار، ثم بكى الفضيل وقال: أعاذنا الله وإياكم من النار.(3/123)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الفضيل بن عياض قال : لم تر أقر عينا ممن خرج من شدة إلى رخاء، ويقدم على خير مقدم، وينزل على خير منزل، فإذا رأى ما يرى من الكرامة، يقول: لو علمت ما سألتك إلا الموت، و لم تر يوم القيامة أقر عيناً ممن خرج من الضيق والشدة والجوع والعطش، ثم نزل على الجنة، يقال لهم: ادخلوا الجنة بما كنتم تعلمون، ولم تر يومئذ أسخن عينا ممن خرج من الروح والسعة والرخاء والنعمة، ثم نزل على النار بقول الله: (ادْخُلُوَاْ أَبْوَابَ جَهَنّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبّرِينَ) [ الزمر:72 ،غافر:76 ]
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الفضيل بن عياض قال : وعزته لو أدخلني النار فصرت فيها ما أيست. ووقفت مع الفضيل بعرفات فلم أسمع من دعائه شيئا إلا أنه واضعاً يده اليمنى على خده وواضعا رأسه يبكي بكاء خفياً، فلم يزل كذلك حتى أفاض الإمام فرفع رأسه إلى السماء، فقال: واسوأتاه والله منك إن عفوت. ثلاث مرات.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الفضيل بن عياض قال : المؤمن في الدنيا مغموم يتزود ليوم معاده، قليل فرحه، ثم بكى .
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الفضيل بن عياض قال : صبر قليل ونعيم طويل، وعجلة قليلة، وندامة طويلة، رحم الله عبداً أخمد ذكره، وبكى على خطيئته قبل أن يرتهن بعمله.(3/124)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن إبراهيم بن الأشعث قال : سمعت الفضيل يقول رهبة العبد من الله على قدر علمه بالله وزهادته في الدنيا على قدر رغبته في الآخرة من عمل بما علم استغنى عما لا يعلم ومن عمل بما علم وفقه الله لما لا يعلم ومن ساء خلقه شان دينه وحسبه ومروءته وسمعته يقول أكذب الناس العائد في ذنبه وأجهل الناس المدل بحسناته وأعلم الناس بالله أخوفهم منه لن يكمل عبد حتى يؤثر دينه على شهوته ولن يهلك عبد حتى يؤثر شهوته على دينه .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الفضيل قال : لو خيرت بين أن أعيش كلبا وأموت كلبا ولا أرى يوم القيامة لاخترت ذلك .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن وقال فيض بن إسحاق سمعت الفضيل يقول والله لأن أكون ترابا أحب إلي من أن أكون في مسلاخ أفضل أهل الأرض وما يسرني أن أعرف الأمر حق معرفته إذا لطاش عقلي .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن وقال إسحاق بن إبراهيم الطبري سمعت الفضيل يقول لو قلت إنك تخاف الموت ما قبلت منك لو خفت الموت ما نفعك طعام ولا شراب ولا شيء ما يسرني أن أعرف الأمر حق معرفته إذا لطاش عقلي ولم أنتفع بشيء .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن يحيى بن أيوب قال : دخلت مع زافر بن سليمان على الفضيل بن عياض فإذا معه شيخ فدخل زافر وأقعدني على الباب قال زافر فجعل الفضيل ينظر إلي ثم قال هؤلاء المحدثون يعجبهم قرب الإسناد ألا أخبرك بإسناد لا شك فيه رسول الله عن جبريل عن الله " ( نَاراً وَقُودُهَا النّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ ) [ التحريم : 6] " فأنا وأنت يا أبا سليمان من الناس ثم غشي عليه وعلى الشيخ وجعل زافر ينظر اليهما ثم خرج الفضيل وقمنا والشيخ مغشي عليه .
(3) تواضع الفضيل بن عياض وإيثاره للخمول :
ـ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ(3/125)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الفضيل بن عياض قال : كان يقال كن شاهداً لغائب ولا تكن غائباً لشاهد، قال: كأنه يقول: إذا كنت في جماعة الناس فأخف شخصك وأحضر قلبك وسمعك، وعما تسمع، فهذا شاهد لغائب، ولا تكن غائباً لشاهد، قال: كأنه يقول: تحضر المجالس بيديك وسمعك وقلبك لاه ساه، قال: وسمعت الفضيل يقول: عامة الزهد في الناس- يعني إذا لم يحب ثناء الناس عليه ولم يبال بمذمتهم-وسمعته يقول: إن قدرت أن لا تعرف فافعل وما عليك أن لم يثن عليك، وما عليك أن تكون مذموما عند الناس إذا كنت عند الله محموداً، وسمعته يقول: من أحب أن يذكر لم يذكر ومن كره أن يذكر ذكر.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الفضيل بن عياض قال : صبر قليل ونعيم طويل، وعجلة قليلة، وندامة طويلة، رحم الله عبداً أخمد ذكره، وبكى على خطيئته قبل أن يرتهن بعمله.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن فضيل بن عياض قال : حيث ما كنت فكن ذَنَبَاً ولا تكن رأسا، فإن الرأس تهلك والذَنَبَ ينجو.
(4) عظيم قول الفضيل بن عياض في الخوف والرجاء :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الفضيل بن عياض قال : الخوف أفضل من الرجاء مادام الرجل صحيحاً، فإذا نزل به الموت فالرجاء أفضل من الخوف يقول: إذا كان في صحته محسناً عظم رجاؤه عند الموت، وحسن ظنه. إذا كان في صحته مسيئاً ساء ظنه عند الموت ولم يعظم رجاؤه.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الخوف أفضل من الرجاء مادام الرجل صحيحا فإذا نزل به الموت فالرجاء أفضل .
قال الذهبي رحمه الله تعالى : قلت وذلك لقوله لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله .
(5) زهد الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ(3/126)
ولد الفضيل بن عياض في أرض خراسان ثم رحل إلى الكوفة في العراق، فسمع الأحاديث النبوية الشريفة والفقه من العلماء؛ أمثال الأعمش ويحيي بن سعيد الأنصاري وجعفر الصادق فأثرت تأثيرًا كبيرًا في شخصيته، حتى أصبح من الزهاد الذين يرون أن الدنيا لا تساوي عند الله جناح بعوضة، ولا تستحق أن يتكالب الناس عليها، ويتصارعون من أجلها، فهي فانية زائلة، بل الأولى أن يعمل الناس
لأخراهم، فهي الباقية الدائمة بفعل الخير، وتجنب المعاصي، ثم انتقل إلى مكة وأقام بها حتى توفي ، وكان إذا خرج في جنازة مع الناس، يعظهم ويذكرهم بالآخرة، حتى إذا وصل إلى المقبرة، جلس في حزن شديد، وظل يبكي ولا ينقطع بكاؤه.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الفضيل بن عياض قال : لو أن الدنيا بحذافيرها عَرِضَتْ عليّ حلالا لا أحاسبُ بها في الآخرة لكنت أتقذرها كما يتقذر أحدكم الجيفة إذا مر بها أن تصيب ثوبه.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الفضيل بن عياض قال : أكذب الناس المدل بحسناته، وأعلم الناس به أخونهم له. وسمعته يقول: إن رهبة العبد من الله عز وجل على قدر علمه بالله، وإن زهادته في الدنيا على قدر رغبته في الآخرة.(3/127)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الفضيل بن عياض قال : قيل: يا ابن آدم اجعل الدنيا داراً تبلغك لأثقالك، واجعل نزولك فيها استراحة لا تحبسك كالهارب من عدوه، والمتسرع إلى أهله في طريق مخوف لا يجد مسالماً يقدم فيه من الراحة، متبذلا في سفره ليستبقى صالح ما عنده لإقامته، فإن عجزت أن تكون كذلك في العمل فليكن ذلك هو الأمل ، وإياك أن تكون لصاً من لصوص تلك الطريق ممن: ( يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ) [ الأنعام : 26]. فإن العين ما لم يكن بصرها من القلب فكأنما أبصرت سهواً، و لم تبصره، وإن آية العمى إذا أردت أن تعرف بذلك نفسك أو غيرك، فإنها لا تقف عن الهلكة، ولا تمضيه في الرغبة فذلك أعمى القلب، وإن كان بصير النظر، فإذا العاقل أخرج عقله فهو يدبر له أمره، ومن تدبر الكتاب تمضيه الرغبة وترده الرهبة، فذلك البصير، وإن كان أعمى البصر.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن فضيل بن عياض قال: ليست الدار دار إقامة، وإنما أهبط آدم إليها عقوبة، ألا ترى كيف يزويها عنه ويمرر عليه بالجوع مرة وبالعرى مرة وبالحاجة مرة ؟ كما تصنع الوالدة الشفيقة بولدها، تسقيه مرة حضيضا ومرة صبرا وإنما تريد بذلك ما هو خير له،
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الفضيل بن عياض قال : لا يسلم لك قلبك حتى لا تبالي من كل الدنيا، وقيل للفضيل: ما الزهد في الدنيا ؟ قال: القنع وهو الغنى، وقيل: ما الورع ؟ قال: اجتناب المحارم. وسئل ما العبادة ؟ قال: أداء الفرائض. وسئل عن التواضع قال: أن تخضع للحق، وقال: أشد الورع في اللسان، وقال: التعبير كله باللسان لا بالعمل. وقال: جعل الخير كله في بيت وجعل مفتاحه الزهد في الدنيا. وقال: قال الله عز وجل: إذا عصاني من يعرفني سلطت عليه من لا يعرفني.(3/128)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الفيض بن إسحاق: اشتريت دارا وكتبت كتابا وأشهدت عدولا فبلغ ذلك الفضيل بن عياض فأرسل إلي يدعوني فلم أذهب، ثم أرسل إلي فمررت إليه، فلما رآني قال: يا ابن يزيد بلغني إنك اشتريت دارا وكتبت كتابا وأشهدت عدولا، قلت: قد كان ذلك، قال:فإنه يأتيك من لا ينظر في كتابك ولا يسأل عن بينتك حتى يخرجك منها شاخصا، يسلمك إلى قبرك خالصاً، فانظر أن لا تكون اشتريت هذه الدار من غير مالك، أو ورثت مالا من غير حله، فتكون قد خسرت الدنيا والآخرة، ولو كنت حين اشتريت كتبت على هذه النسخة: هذا ما اشترى عبد ذليل من ميت قد أزعج بالرحيل، اشترى منه دارا تعرف بدار الغرور، حد منها في زقاق الفناء إلى عسكر الهالكين، ويجمع هذه الدار حدود أربعة: الحد الأول ينتهي منها إلى دواعي العاهات، والحد الثاني ينتهي إلى دواعي المصيبات، والحد الثالث ينتهي منها إلى دواعي الآفات، والحد الرابع ينتهي إلى الهوى المردى، والشيطان المغوي، وفيه يشرع باب هذه الدار على الخروج من عز الطاعة إلى الدخول في ذل الطلب، فما أدركك في هذه الدار فعلى مبلبل أجسام الملوك، وسالب نفوس الجبابرة، ومزيل ملك الفراعنة، مثل كسرى وقيصر، وتبع وحمير، ومن جمع المال فأكثر، واتحد ونظر بزعمه الولد، ومن بني وشيد وزخرف، وأشخصهم إلى موقف العرض إذا نصب الله عز وجل كرسيه لفصل القضاء، وخسر هنالك المبطلون، يشهد على ذلك العقل إذا خرج من أسر الهوى، ونظر بالعينين إلى زوال الدنيا، وسمع صارخ الزهد عن عرصاتها، ما أبين الحق لذي عينين، إن الرحيل أحد اليومين، فبادروا بصالح الأعمال فقد دنا النقلة والزوال.(3/129)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن إبراهيم بن الأشعث، قال: سمعت الفضيل بن عياض يقول في مرضه الذي مات فيه: ارحمني بحبي إياك، فليس شيء أحب إلي منك، قال: وسمعته وهو يشتكي يقول: مسني الضر وأنت أرحم الراحمين. قال: وسمعت الفضيل كثيرا يقول: ارحمني فإنك بي عالم. ولا تعذبني فإنك علي قادر. وسمعته يقول: اللهم زهدنا في الدنيا فإنه صلاح قلوبنا وأعمالنا وجميع طلباتنا ونجاح حاجاتنا.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الفضيل قال : ليست الدنيا دار إقامة وإنما آدم هبط إليها عقوبة ألا ترى كيف يزويها عنه ويمررها عليه بالجوع بالعري بالحاجة كما تصنع الوالدة الشفيقة بولدها تسقيه مرة حضضا ومرة صبرا وإنما بذلك ما هو خير له .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الفضيل قال : حرام على قلوبكم أن تصيب حلاوة الإيمان حتى تزهدوا في الدنيا .
(6) تعريف الفضيل بن عياض للتواضع رحمه الله :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الفضيل بن عياض وسُئِلَ : ما التواضع ؟ قال: أن تخضع للحق وتنقاد له، ولو سمعته من صبي قبلته منه، ولو سمعته من أجهل الناس قبلته منه. وسألته: ما الصبر على المصيبة ؟ قال: أن لا تبث.(3/130)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الفضيل قال : لا يسلم لك قلبك حتى لا تبالي من أكل الدنيا وقيل له ما الزهد قال القنوع قيل ما الورع قال اجتناب المحارم قيل ما العبادة قال أداء الفرائض قيل ما التواضع قال أن تخضع للحق وقال أشد الورع في اللسان قلت هكذا هو فقد ترى الرجل ورعا في مأكله وملبسه ومعاملته وإذا تحدث يدخل عليه الداخل من حديثه فإما أن يتحرى الصدق فلا يكمل الصدق وإما أن يصدق فينمق حديثه ليمدح على الفصاحة وإما أن يظهر أحسن ما عنده ليعظم وإما أن يسكت في موضع الكلام ليثني عليه ودواء ذلك كله الانقطاع عن الناس إلا من الجماعة .
(7) دعوة الفضيل بن عياض لفضول المخالطة رحمه الله :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الفضيل بن عياض قال : إذا خالطت فخالط حسن الخلق فإنه لا يدعو إلا إلى خير، وصاحبه منه في راحة، ولا تخالط سيىء الخلق فإنه لا يدعو إلا إلى شر وصاحبه منه في عناء.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الفضيل بن عياض قال : إني لأسمع صوت حلقة الباب فأكره ذلك قريباً كان أم بعيداً، ولوددت أنه طار في الناس أني قدمت حتى لا أسمع له بذكر، ولا يسمع لي بذكر، وإني لأسمع صوت أصحاب الحديث فيأخذني البول فرقاً منهم.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عبد الله الحذاء يقول: وقفنا للفضيل بن عياض على باب المسجد الحرام ونحن شبان علينا الصوف، فخرج علينا، فلما رآنا، قال: وددت أني لم أركم و لم تروني، أتروني سلمت منكم أن أكون ترسا لكم حيث رأيتكم وتراءيتم لي، لأن أحلف عشراً إني مرائي وإني مخادع أحب إلي من أن أحلف واحدة أنى لست كذلك.(3/131)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن علي بن الحسن قال بلغ الفضيل أن حريزا يريد أن يأتيه فأقفل الباب من خارج فجاء فرأى الباب مقفلا فرجع فأتيته فقلت له حريز قال ما يصنع بي يظهر لي محاسن كلامه وأظهر له محاسن كلامي فلا يتزين لي ولا أتزين له خير له ثم قال علي : ما رأيت أنصح للمسلمين ولا أخوف منه ولقد رأيته في المنام قائما على صندوق يعطي المصاحف والناس حوله فيهم سفيان بن عيينة وهارون أمير المؤمنين فما رأيته يودع أحدا فيقدر أن يتم وداعه .
(8) دعوة الفضيل بن عياض لقلة الكلام رحمه الله :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن فضيل بن عياض قال : المؤمن قليل الكلام كثير العمل، والمنافق كثير الكلام قليل العمل، كلام المؤمن حكم، وصمته تفكر، ونظره عبرة، وعمله بر، وإذا كنت كذا لم تزل في عبادة .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الفضيل قال : إن استطعت أن لا تكون محدثا ولا قارئا ولا متكلما إن كنت بليغا قالوا ما أبلغه وأحسن حديثه وأحسن صوته فيعجبك ذلك فتنتفخ وإن لم تكن بليغا ولا حسن الصوت قالوا ليس يحسن يحدث وليس صوته بحسن أحزنك ذلك وشق عليك فتكون مرائيا وإذا جلست فتكلمت فلم تبال من ذمك ومن مدحك فتكلم .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الفضيل بن عياض قال : خصلتان تقسيان القلب كثرة الكلام وكثرة الأكل .
(9) دعوة الفضيل بن عياض لقلة الضحك رحمه الله :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن : فضيل بن عياض قال : ما يؤمنك أن تكون بارزت الله بعمل مقتك عليه، فاغلق دونك أبواب المغفرة وأنت تضحك، كيف ترى أن يكون حالك ؟(3/132)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أبي علي الرازي، قال: صحبت الفضيل بن عياض ثلاثين سنة ما رأيته ضاحكا ولا متبسما إلا يوم مات ابنه علي فقلت له في ذلك فقال: إن الله عز وجل أحب أمراً فأحببت ما أحب الله.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن فضيل ورأى قوما من أصحاب الحديث يمرحون ويضحكون فناداهم مهلا يا ورثة الأنبياء مهلا ثلاثا إنكم أئمة يقتدى بكم .
(10) تعظيم الفضيل بن عياض لفرائض الله تعالى :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن فضيل بن عياض قال : لن يتقرب العباد إلى الله بشيء أفضل من الفرائض، الفرائض رءوس الأموال والنوافل الأرباح.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن فضيل بن عياض قال : يا سفيه ما أجهلك ألا ترضى أن تقول أنا مؤمن حتى تقول أنا مستكمل الإيمان ؟ لا والله لا يستكمل العبد الإيمان حتى يؤدي ما افترض الله تعالى عليه، ويجتنب ما حرم الله تعالى عليه، ويرضى بما قسم الله تعالى له، ثم يخاف مع ذلك أن لايتقبل منه.
(11) تواضع الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ
كان الفضيل رحمه الله تعالى شديد التواضع، يشعر دائمًا بأنه مقصر في حق الله، رغم كثرة صلاته وعبادته.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن فضيل بن عياض قال : أخذت بيد سفيان بن عيينة في هذا الوادي فقلت له: إن كنت تظن أنه بقى على وجه الأرض شر مني ومنك فبئس ما تظن.
(12) دعوة الفضيل بن عياض لسلامة الصدر:
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ(3/133)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن فضيل بن عياض قال : يكون شغلك في نفسك ولا يكون شغلك في غيرك، فمن كان شغله في غيره فقد مكر به، وقال الفضيل: لم يدرك عندنا من أدرك بكثرة صيام ولا صلاة وإنما أدرك عندنا بسخاء الأنفس وسلامة الصدور والنصح للأمة.
(13) منابذة الفضيل بن عياض لأهل البدع :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن فضيل بن عياض قال : إذا رأيت مبتدعا في طريق فخذ في طريق آخر، وقال الفضيل: لا يرتفع لصاحب بدعة إلى الله عز وجل عمل.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن فضيل بن عياض قال : من أعان صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام .
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن فضيل بن عياض قال : لأن آكل عند اليهودي والنصراني أحب إلي من أن آكل عند صاحب بدعة، فإني إذا أكلت عندهما لا يقتدى بي، وإذا أكلت عند صاحب بدعة اقتدى بي الناس، أحب أن يكون بيني وبين صاحب بدعة حصن من حديد، وعمل قليل في سنة خير من عمل صاحب بدعة، ومن جلسى مع صاحب بدعة لم يعط الحكمة، ومن جلس إلى صاحب بدعة فاحذره، وصاحب بدعة لا تأمنه على دينك ولا تشاوره في أمرك، ولا تجلس إليه فمن جلس إليه ورثه الله عز وجل العمى، وإذا علم الله من رجل أنه مبغض لصاحب بدعة رجوت أن يغفر الله له وإن قل عمله، فإني أرجو له، لأن صاحب السنة يعرض كل خير، وصاحب البدعة لا يرتفع له إلى الله عمل، وإن كثر عمله.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن فضيل بن عياض قال : إن الله عز وجل وملائكتة يطلبون حلق الذكر، فأنظر مع من يكون مجلسك، لا يكون مع صاحب بدعة، فإن الله تعالى لا ينظر إليهم، وعلامة النفاق أن يقوم الرجل ويقعد مع صاحب بدعة. وأدركت خيار الناس كلهم أصحاب سنة وهم ينهون عن أصحاب البدعة.(3/134)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن فضيل بن عياض قال : من أحب ص(4) بدعة أحبط الله عمله وأخرج نور الإسلام من قلبه.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الفضيل قال : من أحب صاحب بدعة أحبط الله عمله وأخرج نور الإسلام من قلبه ، لا يرتفع لصاحب بدعة إلى الله عمل ، نظر المؤمن إلى المؤمن يجلو القلب ونظر الرجل إلى صاحب بدعة يورث العمى ، من جلس مع صاحب بدعة لم يعط الحكمة .
(14) نُصْحُ الفضيل بن عياض للولاة :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الفضيل بن عياض قال: لما دخل على هارون أمير المؤمنين قال: أيكم هو ؟ قال: فأشاروا إلى أمير المؤمنين، فقال: أنت هو يا حسن الوجه ؟ لقد وليت أمراً عظيماً إني ما رأيت أحدا هو أحسن وجها منك، فإن قدرت أن لا تسود هذا الوجه بلفحة من النار فافعل، فقال لي: عظني، فقلت: ماذا أعظك، هذا كتاب الله تعافى بين الدفتين، انظر ماذا عمل بمن أطاعه، وماذا عمل بمن عصاه. وقال: إنى رأيت الناس يغوصون على النار غوصا شديدا، ويطلبونها طلبا حثيثا، أما والله لو طلبوا الجنة بمثلها أو أيسر لنالوها، فقال: عد إلي، فقال: لو لم تبعث إلي لم آتك، وإن انتفعت بما سمعت مني عدت إليك.(3/135)
[*] وأخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الفضل بن الربيع ـ وزير هارون الرشيد ـ ، قال: حج أمير المؤمنين فاتأني فخرجت مسرعاً، فقلت: يا أمير المؤمنين لو أرسلت إلي أتيتك، فقال: ويحك قد حاك في نفسي شيء فأنظر لي رجلاً أسأله، فقلت: هاهنا سفيان بن عيينة، فقال: امض بنا إليه، فأتيناه فقرعنا الباب، فقال: من ذا ؟ قلت: أجب أمير المؤمنين، فخرج مسرعاً، فقال: يا أمير المؤمنين لو أرسلت إلي أتيتك، فقال: خذ لما جئناك له رحمك الله ، فحدثه ساعة ثم قال له: عليك دين ؟ فقال: نعم، قال: أبا عباس اقض دينه، فلما خرجنا قال: ما أغنى عني صاحبك شيئا، أنظر لي رجلا أسأله، قلت: هاهنا عبد الرزاق بن همام ، قال: امض بنا إليه، فاتيناه فقرعنا الباب فخرج مسرعاً فقال: من هذا ؟ قلت: أجب أمير المؤمنين ، فقال: يا أمير المؤمنين لو أرسلت إلي أتيتك، فقال: خذ لما جئناك له، فحادثه ساعة ثم قال له: عليك دين ؟ قال: نعم قال: أبا عباس اقض دينه. فلما خرجنا قال: ما أغنى عني صاحبك شيئاً، أنظر لي رجلاً أسأله، قلت: هاهنا الفضيل بن عياض قال: امض بنا إليه، فأتيناه فإذا هو قائم يصلي يتلو آية من القرآن يرددها، فقال: اقرع الباب، فقرعت الباب، فقال: من هذا ؟ قلت: أجب أمير المؤمنين، فقال: مالي ولأمير المؤمنين ؟ فقلت: سبحان الله، أما عليك طاعة ؟ أليس قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ليس للمؤمن بذل نفسه فنزل ففتح الباب ثم ارتقى إلى الغرفة فأطفأ السراج ثم التجأ إلى زاوية من زوايا البيت، فدخلنا فجعلنا نجول بأيدينا، فسبقت كف هارون قبلي إليه، فقال: يا لها من كف ، ما ألينها إن نجت غداً من عذاب الله عز وجل.(3/136)
فقلت في نفسي: ليكلمنه الليلة بكلامٍ تقي من قلبٍ نقي ، فقال له: خذ لما جئناك له رحمك الله، فقال: إن عمر بن عبد العزيز لما ولى الخلافة دعا سالم بن عبد الله ومحمد بن كعب القرظي ورجاء بن حيوة فقال لهم : إني قد ابتليت بهذا البلاء فأشيروا علي، فَعَدَّ الخلافة بلاء وعددتها أنت وأصحابك نعمة، فقال له سالم بن عبد الله: إن أردت النجاة من الله فصم الدنيا وليكن إفطارك منها الموت، وقال له محمد بن كعب: إن أردت النجاة من عذاب الله فليكن كبير المؤمنين عندك أبا، وأوسطهم عندك أخا، وأصغرهم عندك ولدا، فوقر أباك وأكرم أخاك وتحنن على ولدك ، وقال له رجاء بن حيوة: إن أردت النجاة غداً من عذاب الله فأحب للمسلمين ما تحب لنفسك، واكره لهم ما تكره لنفسك، ثم مت إذا شئت، وإني أقول لك فإني أخاف عليك أشد الخوف يوماً تزل فيه الأقدام ، فهل معك رحمك الله مثل هذا ؟ أومن يشيرعليك بمثل هذا فبكى هارون بكاء شديدا حتى غشى عليه، فقلت له: ارفق بأمير المؤمنين، فقال: يا ابن الربيع تقتله أنت وأصحابك وأرفق به أنا ؟ ثم أفاق فقال له: زدني رحمك الله ، فقال: يا أمير المؤمنين بلغني أن عاملاً لعمر بن عبد العزيز شكى إليه فكتب إليه عمر: يا أخي أذكرك طول سهر أهل النار مع خلود الأبد، وإياك أن ينصرف بك من عند الله فيكون أخر العهد وانقطاع الرجاء، قال: فلما قرأ الكتاب طوى البلاد حتى قدم على عمر بن عبد العزيز، فقال له: ما أقدمك ؟ قال: خلعت قلبي بكتابك لا أعود إلى ولاية حتى ألقى الله عز وجل ، قال: فبكى هارون بكاء شديدا، ثم قال له: زدني رحمك الله، فقال: يا أمير المؤمنين إن العباس عم المصطفى صلى الله عليه وسلم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أمِّرْنِّي على إمارة، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: إن الإمارة حسرة وندامة يوم القيامة، فإن استطعت أن لا تكون أميراً فافعل .(3/137)
فبكى هارون بكاء شديداً، فقال له: زدني رحمك الله، قال: يا حسن الوجه، أنت الذي يسألك الله عز وجل عن هذا الخلق يوم القيامة، فإن استطعت أن تقي هذا الوجه من النار، فإياك أن تصبح وتمسي وفي قلبك غش لأحد من رعيتك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من أصبح لهم غاشاً لم يرح رائحة الجنة . فبكى هارون وقال له: عليك دين ؟ قال: نعم دين لربي لم يحاسبني عليه، فالويل لي إن سألني والويل لي إن ناقشني، والويل لي إن لم اللهم حجتي. قال: إنما أعني من دين العباد، قال: إن ربي لم يأمرني بهذا، إنما أمرني أن أصدق وعده وأطيع أمره، فقال جل وعز ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنّ وَالإِنسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ * مَآ أُرِيدُ مِنْهُم مّن رّزْقٍ وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ * إِنّ اللّهَ هُوَ الرّزّاقُ ذُو الْقُوّةِ الْمَتِينُ ) [الذاريات 56: 58] . فقال له: هذه ألف دينار خذها فأنفقها على عيالك وتقو بها على عبادتك، فقال: سبحان ا لله أنا أدلك على طريق النجاة، وأنت تكافئني بمثل هذا ؟ سلمك الله ووفقك. ثم صمت فلم يكلمنا، فخرجنا من عنده، فلما صرنا على الباب قال هارون: إذا دللتني على رجل فدلني على مثل هذا، هذا سيد المسلمين، فدخلت عليه امرأة من نسائه فقالت: ياهذا قد ترى ما نحن فيه من ضيق الحال، فلو قبلت هذا المال فتفرجنا به ؟ فقال لها: مثلي ومثلكم كمثل قوم كان لهم بعير يأكلون من كسبه، فلما كبر نحروه فأكلوا لحمه. فلما سمع هارون هذا الكلام قال: ندخل فعسى أن يقبل المال، فلما علم الفضيل خرج فجلس في السطح على باب الغرفة فجاء هارون فجلس إلى جنبه فجعل يكلمه فلا يجيبه، فبينا نحن كذلك إذ خرجت جارية سوداء فقالت: يا هذا قد آذيت الشيخ منذ الليلة، فانصرف رحمك الله، فانصرفنا .(3/138)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الفضيل بن عياض قال : لما قدم هارون الرشيد إلى مكة قعد في الحجر هو وولده وقوم من الهاشمين وأحضروا المشايخ فبعثوا إلي فأردت أن لا أذهب فاستشرت جاري فقال اذهب لعله يريد أن تعظه فدخلت المسجد فلما صرت إلى الحجر قلت لأدناهم أيكم أمير المؤمنين فأشار إليه فقلت السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته فرد علي وقال اقعد ثم قال إنما دعوناك لتحدثنا بشيء وتعظنا فأقبلت عليه فقلت يا حسن الوجه حساب الخلق كلهم عليك فجعل يبكي ويشهق فرددت عليه وهو يبكي حتى جاء الخادم فحملوني وأخرجوني وقال اذهب بسلام .
[*] أورد ابن خلكان في وفيات العيان أن الرشيد قال للفضيل يوما: ما أزهدك! فقال الفضيل: أنت أزهد مني, قال: وكيف ذلك؟ قال: لأني أزهد في الدنيا وأنت تزهد في الآخرة والدنيا فانية والآخرة باقية.
(15) دعوة الفضيل بن عياض للدعاء للإمام رحمه الله:
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الفضيل بن عياض قال : لو أن لي دعوة مستجابة ما صيرتها إلا في الإمام، قيل له: وكيف ذلك يا أبا علي ؟ قال: متى ما صيرتها في نفسي لم تجزني، ومتى صيرتها في الإمام فصلاح الإمام صلاح العباد والبلاد، قيل: وكيف ذلك يا أبا علي ؟ فسر لنا هذا، قال: أما صلاح البلاد فإذا أمن الناس ظلم الإمام عمروا الخرابات ونزلوا الأرض، وأما العباد فينظر إلى قوم من أهل الجهل فيقول: قد شغلهم طلب المعيشة عن طلب ما ينفعهم من تعلم القرآن وغيره فيجمعهم في دار خمسين خمسين أقل أو أكثر، يقول للرجل: لك ما يصلحك، وعلم هؤلاء أمر دينهم، وأنظر ما أخرج الله وعز وجل من فيهم مما يزكي الأرض فرده عليهم. قال: فكان صلاح العباد والبلاد، فقبل ابن المبارك جبهته وقال: يا معلم الخير من يحسن هذا غيرك.(3/139)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الفضيل قال : لو أن لي دعوة مستجابة ما جعلتها إلا في إمام فصلاح الإمام صلاح البلاد والعباد .
(16) من دُررِ مواعظ الفضيل بن عياض رحمه الله:
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن فضيل بن عياض قال : ما تزين الناس يشيء أفضل من الصدق، والله عز وجل يسأل الصادقين عن صدقهم، منهم عيسى بن مريم عليه السلام، كيف بالكذابين المساكين، ثم بكى وقال: أتدرون في أي يوم يسأل الله عز وجل عيسى ابن مريم عليه السلام ؟ يوم يجمع الله فيه الأولين والآخرين آدم فمن دونه، ثم قال: وكم من قبيح تكشفه القيامة غداً.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الفضيل بن عياض قال : أدركت أقواماً يستحيون من الله سواد الليل، من طول الهجعة، إنما هو على الجنب، فإذا تحرك قال: ليس هذا لك، قومي خذي حظك من الآخرة .
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الفضيل ابن عياض في المسجد الحرام يقول: أصلح ما أكون أفقر ما أكون، وأني لأعصي الله فأعرف ذلك في خلق حماري وخادمي.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عبد الله بن محمد الهباري يقول: اعتل فضيل بن عياض فاحتبس عليه البول، فقال: بحبي إياك لما أطلقته، قال: فبال .
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن فضيل بن عياض قال : لا حج ولا جهاد ولا رباط أشد من حبس اللسان ، لو أصبحت يهمك لسانك أصبحت في غم شديد، وسجن اللسان سجن المؤمن، وليس أحد أشد غما ممن سجن لسانه.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الفضيل بن عياض قال : إنما يهابك الخلق على قدر هيبتك لله.(3/140)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عبد الرحمن بن حيان المصري، قال: قيل للفضيل بن عياض: يا أبا علي ما بال الميت ينزع نفسه وهو ساكت، وابن آدم يضطرب من القرصة ؟ قال: إن الملائكة توثقه ثم قرأ: ( تَوَفّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرّطُونَ) [ الأنعام : 61]
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن فضيل ابن عياض أن رجلاً سأله فقال: يا أبا علي متى يبلغ الرجل غايته من حب الله تعالى ؟ فقال له الفضيل: إذا كان عطاؤه ومنعه إياك عندك سواء، فقد بلغت الغاية من حبه.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن فضيل بن عياض قال : ليس من عبد إلا وفيه ثلاث خصال، أما اثنتان يسترهما وأما الثالثة فلا يقوى، قيل: كيف ذاك يا أبا علي ؟ قال: يظهر الرجل حسن الخلق في الخيرات، وليس بحسن الخلق، ويظهر السخاء وليس بسخى، ولكن الثالثة عقل الرجل عند المحاورة، إن كان له عقل عرفته لا يقدر يتصنع.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الفضيل بن عياض قال : إذا أحب الله عبدا أكثر غمه، وإذا أبغض الله عبداً أوسع عليه دنياه.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الفضيل بن عياض قال : ليس من عبد أعطى شيئاً من الدنيا إلا كان نقصاناً له من الدرجات في الجنة، وإن كان على الله كريماً.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الفضيل بن عياض قال : عاملوا الله عز وجل بالصدق في السر، فإن الرفيع من رفعه الله، وإذا أحب الله عبداً أسكن محبته في قلوب العباد.(3/141)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الفضيل بن عياض قال : من خاف الله تعالى لم يضره شيء ومن خاف غير الله لم ينفعه أحد. وسألله عبد الله بن مالك، فقال: يا أبا علي ما الخلاص مما نحن فيه ؟ فقال له:أخبرني من أطاع الله عز وجل هل تضره معصية أحد ؟ قال: لا، قال: فمن عصى الله سبحانه وتعالى هل تنفعه طاعة أحد ؟ قال: لا، قال: فهو الخلاص إن أردت الخلاص.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن شعيب بن حرب، قال: بينا أنا أطوف بالبيت إذا رجل يمد ثوبي من خلفي فالتفت فإذا بفضيل بن عياض، فقال: لو شفع في وفيك أهل السماء كنا أهلاً أن لا يشفع فينا، قال شعيب: ولم أكن رأيته قبل ذلك بسنة، قال: فكسرني وتمنيت أني لم أكن رأيته.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن فضيل بن عياض قال: ما أغبط ملكا مقرباً، ولا نبيا مرسلا، يعاين القيامة وأهوالها، وما أغبط إلا من لم يكن شيئاً.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن فضيل بن عياض قال: تريد الجنة مع النبيين والصديقين، وتريد أن تقف الموقف مع نوح وإبراهيم ومحمد عليهم الصلاة والسلام، بأي عمل ؟ وأي شهوة تركتها لله عز وجل ، وأي قريب باعدته في الله، وأي بعيد قربته في الله .
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن فضيل بن عياض قال: لا يترك الشيطان الإنسان حتى يحتال له بكل وجه، فيستخرج منه ما يخبر به من عمله، لعله يكون كثير الطواف فيقول: ما كان أجلي الطواف الليلة، أو يكون صائما فيقول ما أثقل السحور أو ما أشد العطش، فإن استطعت أن لا تكون محدثاً ولا متكلماً ولا قارئاً، وإن كنت بليغاً، قالوا: ما أبلغه وأحسن حديثه وأحسن صوته، فيعجبك ذلك فتنتفخ ، وإن لم تكن بليغا ولا حسن الصوت قالوا ليس يحسن يحدث وليس صوته بحسن أحزنك وشق عليك، فتكون مرائيا، وإذا جلست فتكلمت ولم تبال من ذمك ومن مدحك من الله فتكلم .(3/142)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الفضيل بن عياض قال : إنما هما عالمان عالم دنيا وعالم آخرة، فعالم الدنيا علمه منشور، وعالم الآخرة علمه مستور، فاتبعوا عالم الآخرة واحذروا عالم الدنيا، لا يصدكم بسكره، ثم تلا هذه الآية: (يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ إِنّ كَثِيراً مّنَ الأحْبَارِ وَالرّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ [ التوبة : 34]. الآية. تفسير الأحبار العلماء، والرهبان العباد، ثم قال الفضيل: إن كثيراً من علمائكم زيه أشبه بزي كسرى وقيصر منه لمحمد صلى الله عليه وسلم، إن محمداً لم يضع لبنة على لبنة، ولا قصبة على قصبة، لكن رفع له علم فسموا إليه، قال: وسمعت الفضيل يقول: العلماء كثيرون والحكماء قليلون، وإنما يراد من العلم الحكمة، فمن أوتي الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا، وقال: لو كان مع علمائنا صبر ما غدوا لأبواب هؤلاء، يعني الملوك. وسمعت رجلاً يقول للفضيل: العلماء ورثة الأنبياء، فقال الفضيل: الحكماء ورثة الأنبياء. وقال رجل للفضيل: العلماء كثير، فقال الفضيل: الحكماء قليل، وسمعت الفضيل يقول: حامل القرآن حامل راية الإسلام، لا ينبغي له أن يلغو مع من يلغو، ولا أن يلهو مع من يلهو، ولا يسهو مع من يسهو، وينبغي لحامل القرآن أن لا يكون له إلى الخلق حاجة، لا إلى الخلفاء فمن دونهم، وينبغي أن يكون حوايج الخلق إليه.(3/143)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الفضيل بن عياض قال : ما من ليلة اختلط ظلامها وأرخى الليل سربال سترها إلا نادى الجليل جل جلاله : من أعظم مني جوداً، والخلائق عاصون، وأنا لهم مراقب، أكلؤهم في مضاجعهم كأنهم لم يعصوني، وأتولى حفظهم كأنهم لم يذنبوا، من بيني وبينهم أجود بالفضل على العاصي، وأتفضل على المسىء، من ذا الذي دعاني فلم أسمع إليه ؟ أو من ذا الذي سألني فلم أعطه ؟ أم من ذا الذي أناخ ببابي ونحيته، أنا الفضل ومني الفضل، أنا الجواد ومني الجود، أنا الكريم ومني الكرم، ومن كرمي أن أغفر للعاصي بعد المعاصي، ومن كرمي أن أعطي التائب كأنه لم يعصني، فأين عني تهرب الخلائق، وأين عن بابي يتنحى العاصون ؟
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الفضيل بن عياض قال : لا يبلغ العبد حقيقة الإيمان حتى يعد البلاء نعمة والرخاء مصيبة وحتى لا يبالي من أكل الدنيا، وحتى لا يحب أن يحمد على عبادة الله عز وجل.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الفضيل بن عياض قال : الغبطة من الإيمان، والحسد من النفاق، والمؤمن يغبط ولا يحسد، والمنافق يحسد ولا يغبط، والمؤمن يستر ويعظ وينصح، والفاجر يهتك ويعير ويفشي .
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الفضيل بن عياض قال : إذا لم تقدر على قيام الليل وصيام النهار فاعلم أنك محروم مكبل كبلتك خطيئتك.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن فضيل بن عياض قال : لأن يدنو الرجل من جيفة منتنة خير له من أن يدنو إلى هؤلاء ـ يعني السلطان ـ وسمعته يقول: رجل لا يخالط هؤلاء ولا يزيد على المكتوبة أفضل عندنا من رجل يقوم الليل ويصوم النهار ويحج ويعتمر ويجاهد في سبيل الله ويخالطهم.(3/144)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن فضيل بن عياض قال : إن الله تعالى يقسم المحبة كما يقسم الرزق وكل ذا من الله تعالى، وإياكم والحسد، فإنه ليس له دواء، من عامل الله عز وجل بالصدق أورثه الله عز وجل الحكمة.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن فضيل بن عياض قال : حزن الدنيا يذهب بِهَمِ الآخرة، وفرح الدنيا للدنيا يذهب بحلاوة العبادة.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الفضيل بن عياض قال : كفى بالله محباً وبالقرآن مؤنساً وبالموت واعظاً وبخشية الله علما وبالاغترار جهلا .
(17) دعوة الفضيل بن عياض لتحري الحلال :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عبد الصمد بن يزيد مردويه قال : سمعت الفضيل يقول لم يتزين الناس بشيء أفضل من الصدق وطلب الحلال فقال ابنه علي يا أبة إن الحلال عزيز قال يا بني وإن قليله عند الله كثير .
(18) دعوة الفضيل بن عياض للخوف من الله وحده :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن سري بن المغلس قال : سمعت الفضيل يقول من خاف الله لم يضره أحد ومن خاف غير الله لم ينفعه أحد .
(19) تحذير الفضيل بن عياض من إيذاء المسلمين .
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الفضيل قال : والله ما يحل لك أن تؤذي كلباً ولا خنزيرا بغير حق فكيف تؤذي مسلما .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن فضيل قال : لا يكون العبد من المتقين حتى يأمنه عدوه .
(20) دعوة الفضيل بن عياض للتحري في السماع من العالم الرباني :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ(3/145)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الفضيل بن عياض قال : إنما هما عالمان عالم دنيا وعالم آخرة، فعالم الدنيا علمه منشور، وعالم الآخرة علمه مستور، فاتبعوا عالم الآخرة واحذروا عالم الدنيا، لا يصدكم بسكره، ثم تلا هذه الآية: (يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ إِنّ كَثِيراً مّنَ الأحْبَارِ وَالرّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ [ التوبة : 34]. الآية. تفسير الأحبار العلماء، والرهبان العباد، ثم قال الفضيل: إن كثيراً من علمائكم زيه أشبه بزي كسرى وقيصر منه لمحمد صلى الله عليه وسلم، إن محمداً لم يضع لبنة على لبنة، ولا قصبة على قصبة، لكن رفع له علم فسموا إليه، قال: وسمعت الفضيل يقول: العلماء كثيرون والحكماء قليلون، وإنما يراد من العلم الحكمة، فمن أوتي الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا، وقال: لو كان مع علمائنا صبر ما غدوا لأبواب هؤلاء، يعني الملوك. وسمعت رجلاً يقول للفضيل: العلماء ورثة الأنبياء، فقال الفضيل: الحكماء ورثة الأنبياء. وقال رجل للفضيل: العلماء كثير، فقال الفضيل: الحكماء قليل، وسمعت الفضيل يقول: حامل القرآن حامل راية الإسلام، لا ينبغي له أن يلغو مع من يلغو، ولا أن يلهو مع من يلهو، ولا يسهو مع من يسهو، وينبغي لحامل القرآن أن لا يكون له إلى الخلق حاجة، لا إلى الخلفاء فمن دونهم، وينبغي أن يكون حوايج الخلق إليه.
(21) تحذير الفضيل بن عياض من الرياء :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الفضيل قال : ترك العمل من أجل الناس رياء والعمل من أجل الناس شرك والإخلاص أن يعافيك الله عنهما .(3/146)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الفضيل قال : لو حلفت أني مراء كان أحب الي من أن أحلف أن ليست بمراء ولو رأيت رجلا اجتمع لناس حوله لقلت هذا مجنون من الذي اجتمع الناس حوله لا يحب أن يجود كلامه لهم .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الفيض قال : قال لي الفضيل لو قيل لك امرائي غضبت وشق عليك وعسى ما قيل لك حق تزينت للدنيا وتصنعت وقصرت ثيابك وحسنت سمتك وكففت أذاك حتى يقال أبو فلان عابد ما أحسن سمته فيكرمونك وينظرونك ويقصدونك ويهدون إليك مثل الدرهم الستوق لا يعرفه كل أحد فإذا قشر قشر عن نحاس .
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن فضيل بن عياض قال: لا يترك الشيطان الإنسان حتى يحتال له بكل وجه، فيستخرج منه ما يخبر به من عمله، لعله يكون كثير الطواف فيقول: ما كان أجلي الطواف الليلة، أو يكون صائما فيقول ما أثقل السحور أو ما أشد العطش، فإن استطعت أن لا تكون محدثاً ولا متكلماً ولا قارئاً، وإن كنت بليغاً، قالوا: ما أبلغه وأحسن حديثه وأحسن صوته، فيعجبك ذلك فتنتفخ ، وإن لم تكن بليغا ولا حسن الصوت قالوا ليس يحسن يحدث وليس صوته بحسن أحزنك وشق عليك، فتكون مرائيا، وإذا جلست فتكلمت ولم تبال من ذمك ومن مدحك من الله فتكلم .
(22) تحذير الفضيل من المعاصي وأنها تحرم العبد من الطاعة :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الفضيل بن عياض قال : إذا لم تقدر على قيام الليل وصيام النهار فاعلم أنك محروم مكبل كبلتك خطيئتك.
(23) دعوة الفضيل بن عياض لحفظ اللسان :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الفضيل : كثيرا يقول احفظ لسانك وأقبل على شانك واعرف زمانك وأخف مكانك .
(24) دعوة الفضيل بن عياض للخمول وإنكار الذات :(3/147)
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
وقال أحمد بن إبراهيم الدورقي حدثنا الفيض بن إسحاق سمعت الفضيل يقول وددت أنه طار في الناس أني مت حتى لا أُذَْكَر ، إني لأسمع صوت أصحاب الحديث فيأخذني البول فرقا منهم .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الفضيل قال : بلغني أن العلماء فيما مضى كانوا إذا تعلموا عملوا وإذا عملوا شغلوا وإذا شغلوا فقدوا وإذا فقدوا طلبوا فإذا طلبوا هربوا .
(25) دعوة الفضيل للغبطة وتحذيره من الحسد :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الفضيل بن عياض قال : الغبطة من الإيمان، والحسد من النفاق، والمؤمن يغبط ولا يحسد، والمنافق يحسد ولا يغبط، والمؤمن يستر ويعظ وينصح، والفاجر يهتك ويعير ويفشي .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الفضيل قال المؤمن يغبط ولا يحسد الغبطة من الإيمان والحسد من النفاق .
قال الذهبي رحمه الله : قلت هذا يفسر لك قوله عليه الصلاة والتسليم لا حسد إلا في اثنتين رجل أتاه الله مالا ينفقه في الحق ورجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وأطراف النهار فالحسد هنا معناه الغبطة أن تحسدوا أخاك على ما آتاه الله لا أنك تحسده بمعنى أنك تود زوال ذلك عنه فهذا بغي وخبث .
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن فضيل بن عياض قال : إن الله تعالى يقسم المحبة كما يقسم الرزق وكل ذا من الله تعالى، وإياكم والحسد، فإنه ليس له دواء، من عامل الله عز وجل بالصدق أورثه الله عز وجل الحكمة.
(26) كيف كان الفضيل يمقت نفسه في جنب الله تعالى :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الفضيل بن عياض قال : كيف ترى حال من كثرت ذنوبه وضعف علمه وفني عمره ولم يتزود لمعاده .(3/148)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الفضيل بن عياض قال : يا مسكين أنت مسيء وترى أنك محسن وأنت جاهل وترى أنك عالم وتبخل وترى أنك كريم وأحمق وترى أنك عاقل أجلك قصير وأملك طويل .
قال الذهبي رحمه الله : قلت إي والله صدق وأنت ظالم وترى أنك مظلوم وآكل للحرام وترى أنك متورع وفاسق وتعتقد أنك عدل وطالب العلم للدنيا وترى أنك تطلبه لله .
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن شعيب بن حرب، قال: بينا أنا أطوف بالبيت إذا رجل يمد ثوبي من خلفي فالتفت فإذا بفضيل بن عياض، فقال: لو شفع في وفيك أهل السماء كنا أهلاً أن لا يشفع فينا، قال شعيب: ولم أكن رأيته قبل ذلك بسنة، قال: فكسرني وتمنيت أني لم أكن رأيته.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن فضيل بن عياض قال : أخذت بيد سفيان بن عيينة في هذا الوادي فقلت له: إن كنت تظن أنه بقى على وجه الأرض شر مني ومنك فبئس ما تظن.
(27) دعوة الفضيل بن عياض للبعد عن السلطان :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن فضيل بن عياض قال : لأن يدنو الرجل من جيفة منتنة خير له من أن يدنو إلى هؤلاء ـ يعني السلطان ـ وسمعته يقول: رجل لا يخالط هؤلاء ولا يزيد على المكتوبة أفضل عندنا من رجل يقوم الليل ويصوم النهار ويحج ويعتمر ويجاهد في سبيل الله ويخالطهم.
(28) قبول الفضيل بن عياض التذكرة من العلماء بخضوعٍ وإذعان :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ ــ
[*] روى الحافظ ابن عساكر في تاريخ مدينة دمشق عن محمد بن إبراهيم بن أبي سكينة قال: أملي عليَّ عبد اللّه بن المبارك هذه الأبيات بطرسوس وأنشدها إلى الفضيل بن عياض في سنة سبعين ومائة:
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا ... لعلمت أنك في العبادة تلعب
من كان يخضب خده بدموعه ... فنحورنا بدمائنا تتخضب(3/149)
أو كان يتعب خيله في باطل ... فخيولنا يوم الصبيحة تتعب
ريح العبير لكم ونحن عبيرنا ... رهج السنابك والغبار الأطيب
ولقد أتانا من مقال نبينا ... قول صحيح صادق لا يكذب
لا يستوي غبَّار خيل اللّه في ... أنف امرىء ودخان نار تلهب
هذا كتاب اللّه ينطق بيننا ... ليس الشهيد بميت لا يكذب
قال: فلقيت الفضيل بن عياض بكتابه في المسجد الحرام ، فلما قرأه ذرفت عيناه وقال: صدق أبو عبد الرحمن ونصحني ، ثم قال : أنت ممن يكتب الحديث ؟ قال : قلت : نعم ، قال : فاكتب هذا الحديث كراء حملك كتاب أبي عبد الرحمن إلينا ، وأملى عليّ الفضيل بن عياض :
حدثنا منصور بن المعتمر ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة أن رجلاً قال : يا رسول اللّه علِّمني عملاً أنال به ثواب المجاهدين في سبيل اللّه ، فقال : "هل تستطيع أن تصلي فلا تفتر ، وتصوم فلا تفطر ؟ " فقال : يا رسول اللّه أنا أضعف من أن أستطيع ذلك ، ثم قال النبي صلى اللّه عليه وسلم : " فوالذي نفسي بيده لو طُوِّقت ذلك ما بلغت المجاهدين في سبيل الله ، أوما علمت أن الفرس المجاهد ليستن في طوله فيكتب له بذلك الحسنات ؟!
والحديث رواه البخاري في كتاب الجهاد والسير ، باب الجهاد والسير .
وفاة الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى :
مرض الفضيل فسُمِع يقول: ارحمني بحبي إياك، فليس شيء أحب إلي منك، وأقام الزاهد العابد الفضيل بن عياض بـ(مكة) حتى توفي عام سبع وثمانين ومائة هـ وأطلق عليه هناك شيخ الحرم المكي ، رحمه الله رحمة واسعة وجمعنا به مع نبينا صلى الله عليه وسلم في الفردوس .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن إبراهيم بن الأشعث سمعت الفضيل يقول في مرضه ارحمني بحبي إياك فليس شيء إلي منك وسمعته يقول وهو يشتكي مسني الضر وأنت أرحم الراحمين.
[*] قال الذهبي في سير أعلام النبلاء :(3/150)
وللفضيل رحمه الله مواعظ وقدم في التقوى راسخ وله ترجمة في كتاب الحلية وفي تاريخ أبي القاسم ابن عساكر وكان يعيش من صلة ابن المبارك ونحوه من أهل الخير ويمتنع من جوائز الملوك قال بعضهم كنا جلوسا عند الفضيل بن عياض فقلنا له كم سنك فقال * بلغت الثمانين أو جزتها * فماذا أومل أو أنتظر * علتني السنون فأبليتني * فدق العظام وكل البصر *
قال الذهبي رحمه الله : قلت هو من أقران سفيان بن عيينه في المولد ولكنه مات قبله بسنوات وكان ابنه علي من كبار الأولياء ومات قبل والده .
سيرة ابن المبارك رحمه الله :(3/151)
هو أبو عبد الرحمن عبد الله بن المبارك بن واضح الحنظلي، الإمام المجمع على إمامته وجلالته، سمع هشام بن عروة ويحيى الأنصاري وسليمان التيمي والأعمش وجماعات غيرهم من التابعين وأتباع التابعين ، الإمام المحدث أمير المؤمنين ، قالوا عنه: الزاهد العابد، الفقيه المجاهد، ثم قالوا عنه: شيخ الإسلام ، من أئمة تابعي التابعين ، من أئمة الهدى وأعلام التقى ومصابيح الدجى ، من حلية الأولياء وأعلام النبلاء ،الأضواء اللامعة والنجوم الساطعة ، من حراس العقيدة وحماة السنة وأشياع الحق وأنصار دين الله عز وجل ، حاملُ لواء السنة وناصرها وقامع البدعة ودامغها ، كان الكتاب والسنة له كالجناحين للطائر يتمسك بهما ويعضُ عليهما بالنواجذ، كان رحمه الله تعالى شهاباً ثاقباً ونجماً ساطعاً وبدراً طالعاً وسهماً نافذاً ، وكان كوكبَ نُظَرَائه وزهرةَ إخوانه ، تفوح منه علامات اليُمْنِ وأمارات الخير ورائحة التوفيق والسداد ، واحد زمانه، وإمام عصره وأوانه ، العالم الحبر، ذو الأحلام والصبر، العلم حليفه، والزهد أليفه ، كان رحمه الله تعالى خزانة علم فكان علمه واسعاً مباركا كالغيث من السماء أينما حل نفع ، يتفجَّرُ العلمُ من جوانبه، وتنطِق الحكمةُ من نواحيه، لا يُشَقُ له غُبارٌ في غزارة علمه ودقة استنباطه للفوائد والأحكام وسعة فقهه ومعرفته بأسرار اللغة العربية وبلاغتها ، وكان رحمه الله ذا همةٍ عاليةٍ تناطح السحاب في طلب العلم فكان يُقْبِلُ على طلب العلم إقبالَ الظامئ على الموردِ العذب فقد أفنى جلَّ عمره في طلب العلم فكان إماماً يقتدى به في ذلك وكان مناراً عظيماً من منارات العلم ، مناراً راسي القواعد مُشَيَّدَ الأركان ثابتَ الوطائد ، الإمام اللبيب، ذو اللسان الخطيب، الشهاب الثاقب، والنصاب العاقب، صاحب الإشارات الخفية، والعبارت الجلية ، ذوالتصانيف المفيدة ، والمؤلفات الحميدة ، الصوَّام القوَّام ، الزاهد في الدنيا الراغب في الآخرة ،(3/152)
صاحب الأخلاق الرضية ، والمحاسن السنية ، العالم الرباني المتفق على علمه وإمامته وجلالته وزهده وورعه وعبادته وصيانته في أقواله وأفعاله وحالاته، كان رحمه الله تعالى سراج العباد، ومنار البلاد ، رحمه الله تعالى رحمةً واسعةً تعمُ أرجائه ، وتغمده برحمةٍ فوق ما يخطر ببال أو يدور في الخيال ، وأنعم عليه برضا الكبير المتعال إنه وليُ ذلك والقادرُ عليه .
اسم ابن المبارك ونسبه :
هو: عبد الله بن المبارك المروزي ، كان أبوه تركيًّا مملوكًا لرجل من همدان وأمه خوارزمية.
نشأ ابن المبارك في أسرة متواضعة؛ كان أبوه مبارك مولى من الموالي .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن قعنب بن المحرر قال: ابن المبارك مولى بني عبد شمس من تميم وقال ولاؤه لبني حنظلة. وقال العباس بن مصعب في تاريخ مرو: كانت أم عبد الله بن المبارك خوارزمية وأبوه تركي وكان عبدا لرجل تاجر من همذان من بني حنظلة فكان عبد الله اذا قدم همذان يخضع لوالديه ويعظمهم .
ومن غرر الفوائد ودرر الفرائد في ترجمة ابن المبارك أنها تكسر التمييز العنصري لأننا نخجل من أنفسنا أن يوجد في أوساطنا تمييز عنصري، أقول هذا وكلنا خَجَلٌ، فإن في بعض النواحي لا زال التميز العنصري وارداً، ولا زال التميز الطبقي حاصلاً، فمن أين أخذناه؟ أمن الكتاب والله يقول: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13]؟
(حديث جابر رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : يا أيها الناس لِلَّهِ إن ربكم واحد ، وإن أباكم واحد ، ألا لا فضل لعربي على عجمي ، ولا لعجمي على عربي ، ولا لأحمر على أسود ، ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } ، ألا هل بلغت ؟ قالوا: بلى يا رسول الله لِلَّهِ قال: فيبلغ الشاهد الغائب .
وإنما أُخِذَت هذه من الجاهلية، أخذت من الأرض، أخذت من السفهاء، حتى وجدت في بلاد الإسلام.(3/153)
ابن المبارك أبوه مبارك مولى من الموالي، دخل بلاد الإسلام واعتنق هذا الدين وشرف به.
والرسول عليه الصلاة والسلام كانت أعظم المؤهلات عنده من يحمل لا إله إلا الله محمداً رسول الله بصدق.
ومن يتشرف بحمل العقيدة فهو ولي الله وحبيبه، بلال من أساتذة الإسلام، وصهيب وعمار وسلمان وأنسابهم ليسوا من العرب القح، فأين أبو جهل ؟ وأين الوليد بن المغيرة ؟ وأين حاتم الطائي ؟ وأين عنترة بن شداد ؟ لا شيء قال تعالى: فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ [الرعد:17].،دخل بلاد الإسلام واعتنق هذا الدين وشرف به ، وكان يعمل حارساً على بستان، يحرس الرمان والتفاح والليمون أن يعتدي عليه سراق أو لصوص بأجرة بسيطة، فكان يبدأ من الصباح في عمله، وكان يتخلل عمله بركعات يركعها في البستان، ولا يفتر لسانه من ذكر الله عز وجل، فإذا استلم راتبه من سيده تصدق بثلث الراتب، وأنفق عليه وعلى أهله ثلثه وخزن ثلثه، لما سوف يعرض له.
كان أبوه أجيرًا بسيطًا يعمل حارسًا لبستان أحد الأثرياء، غير أن والده هذا كان سبب رخائه أورثه المال رذاذًًا، ثم صار على يده وابلاً ثجاجًا.
تأمل لهذا المال الذي وصف بأنه رذاذ ليعلم أنه سبب الخير كله، فقد اكتسبه "والده المبارك" بجد وجهدٍ وكفاح وصبر، فكان ثمرة يانعة مقنعة لرجل ورع، حريص على أداء حق العمل، فلم يرض إلا أن يشغل كل وقته في العمل تحريًا للأجر الحلال، فلم يتطلع يومًا للأكل من البستان، وهو ما يكتشفه صاحب البستان ويتعجب له.
دخل سيده ومعه ضيف يزور البستان، قال: يا مبارك لِلَّهِ ائتنا برمان، فأتى برمان حامض، ووضعه بين يديه، قال: هذا حامض، ائتنا بغيره، فأتى برمان حامض، قال: أنت لا تفهم ولا تعي؟ هذا حامض، قال: والله لا أعرف الحامض من الحلو، قال: أما ذقته وأنت في البستان من كذا وكذا سنة؟ قال مبارك : أنت لم تأذن لي أن أذوق ما في البستان.(3/154)
أي ورع هذا! أي صفاء عقدي! أي عبادة! أي مراقبة لله! فأنجب هذا المبارك -وهو مبارك على اسمه- عبد الله بن المبارك ، وترعرع شاباً فصيحاً ذكياً، لكن يقال: إذا واجهته عرفت أنه ليس بعربي، تعرف أنه مروزي وعجمي من شكله. كان فصيحاً ينظم الشعر البليغ، وهو من أكبر الشعراء، وسوف تسمعون هذه الليلة أبياته التي تهز أنياط القلوب وهو يحرك بها الأمة الإسلامية من شرقها إلى غربها.
من هنا نعرف لأي أبٍ ينتمي عبد الله، إنه ينتمي لأب صالح ولصلاح الأب جائزة عظمى يجدها عند لقاء ربه، ويبقى أثرها في ولده وهو ما نجده في القصص القرآني الحكيم من قصة الغلامين اليتيمين قال تعالى: { وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً } [الكهف:82].
فكان صلاح الأب سببًا في استخراج الكنز، وكذلك كان الحال مع عبد الله بن المبارك، فسنة الله لا تتخلف، كان الأب صالحًا فاستخرج عبد الله كنزًا تمثل في مال صار على يديه وابلاً ثجاجًا، وحصّل علما وأدبًا وفقها مازالت تتوارثه الأجيال!
فانظر بعين الاعتبار وتفكر جلياً وتأمل ملياً كيف كان ثمرة صلاح الأب أن أنتج عالماً جليلاً مثل ابن المبارك الذي ملأ الدنيا علماً وورعاً وزهداً ، رحمه الله تعالى فقد قَلَّدَه أقرانه من العلماء في أفعاله فعجزوا، وقلده الأغنياء في كرمه وجوده وسخائه فلم يفلحوا!! فهو السخي الجواد، وقبل ذلك العالم العامل، العابد الشجاع المجاهد ، قالوا عنه: الزاهد العابد، الفقيه المجاهد، ثم قالوا عنه: شيخ الإسلام.
مولد ابن المبارك رحمه الله :
[*] قال الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء :(3/155)
ولد ابن المبارك سنة ثمان عشرة ومئة وأما الحاكم فروى عن أبي أحمد الحمادي سمعت محمد بن موسى الباشاني سمعت عبدان بن عثمان يقول سمعت عبد الله يقول ولدت سنة تسع عشرة ومئة .
[*] مناقب ابن المبارك رحمه الله تعالى :
كان ابن المبارك رحمه الله تعالى من أئمة الهدى وأعلام التقى ومصابيح الدجى ، من حلية الأولياء وأعلام النبلاء وحراس العقيدة وحماة السنة وأشياع الحق وأنصار دين الله عز وجل ، حاملُ لواء السنة وناصرها وقامع البدعة ودامغها ، كان الكتاب والسنة له كالجناحين للطائر يتمسك بهما ويعضُ عليهما بالنواجذ، كان رحمه الله تعالى شهاباً ثاقباً ونجماً ساطعاً وبدراً طالعاً وسهماً نافذاً ، وكان كوكبَ نُظَرَائه وزهرةَ إخوانه ، تفوح منه علامات اليُمْنِ وأمارات الخير ورائحة التوفيق والسداد ، واحد زمانه، وإمام عصره وأوانه ، العالم الحبر، ذو الأحلام والصبر، العلم حليفه، والزهد أليفه ، كان رحمه الله تعالى خزانة علم فكان علمه واسعاً مباركا كالغيث من السماء أينما حل نفع ، يتفجَّرُ العلمُ من جوانبه، وتنطِق الحكمةُ من نواحيه، لا يُشَقُ له غُبارٌ في غزارة علمه ودقة استنباطه للفوائد والأحكام وسعة فقهه ومعرفته بأسرار اللغة العربية وبلاغتها ، وكان رحمه الله ذا همةٍ عاليةٍ تناطح السحاب في طلب العلم فكان يُقْبِلُ على طلب العلم إقبالَ الظامئ على الموردِ العذب فقد أفنى جلَّ عمره في طلب العلم فكان إماماً يقتدى به في ذلك وكان مناراً عظيماً من منارات العلم ، مناراً راسي القواعد مُشَيَّدَ الأركان ثابتَ الوطائد ، الإمام اللبيب، ذو اللسان الخطيب، الشهاب الثاقب، والنصاب العاقب، صاحب الإشارات الخفية، والعبارت الجلية ، ذوالتصانيف المفيدة ، والمؤلفات الحميدة ، الصوَّام القوَّام ، الزاهد في الدنيا الراغب في الآخرة ، صاحب الأخلاق الرضية ، والمحاسن السنية ، العالم الرباني المتفق على علمه وإمامته وجلالته وزهده وورعه(3/156)
وعبادته وصيانته في أقواله وأفعاله وحالاته، كان رحمه الله تعالى سراج العباد، ومنار البلاد ، رحمه الله تعالى رحمةً واسعةً تعمُ أرجائه ، وتغمده برحمةٍ فوق ما يخطر ببال أو يدور في الخيال ، وأنعم عليه برضا الكبير المتعال إنه وليُ ذلك والقادرُ عليه .
وهاك غَيْضٍ من فيض ونقطةٍ من بحر مما ورد في مناقب ابن المبارك جملةً وتفصيلا رحمه الله تعالى :
أولاً مناقب ابن المبارك جملةً رحمه الله :
(1) ثناء العلماء على ابن المبارك :
(2) حرص ابن المبارك طلب العلم ونشره :
(3) توقير ابن المبارك للعلم وأهله :
(4) جود ابن المبارك وسخاؤه رحمه الله :
(5) ورع ابن المبارك رحمه الله ورجاحة عقله :
(6) توقير ابن المبارك للحديث ولآل البيت :
(7) دعاء ابن المبارك عند ختم القرآن :
(8) رسالة ابن المبارك إلى الفضيل في الجهاد :
(9) حفظ ابن المبارك لوقته رحمه الله :
(10) زهد ابن المبارك رحمه الله :
(11) منابذة ابن المبارك للمبتدعين :
(12) خشية ابن المبارك لله تعالى :
(13) تواضع ابن المبارك رحمه الله :
(14) حسن أدب ابن المبارك في تذكير الناس بما تغافلوا عنه :
(15) حرص ابن المبارك على إخفاء العمل رحمه الله :
(16) دعوة ابن المبارك لكسب المال ليستعين به على طاعة الله :
(17) حفظ ابن المبارك وإتقانه رحمه الله :
(18) كان ابن المبارك مستجاب الدعوة رحمه الله :
(19) حُسن أداء ابن المبارك للأمانة رحمه الله :
(20) حُسن تدبر ابن المبارك للقرآن :
(21) دعوة ابن المبارك إلى التغافل عن مساوئ الإنسان إذا غلبت محاسنه مساوئه :
(22) دعوة ابن المبارك إلى البعد عن السلطان :
(23) دعوة ابن المبارك إلى طول الصمت :
(24) دعوة ابن المبارك إلى بالغ الاهتمام بإخلاص النية :
(25) دعوة ابن المبارك إلى الانشغال بصحيح الحديث عن سقيمه :
(26) دعوة ابن المبارك إلى التلقي عن الثقة :
(27) سلامة لسان ابن المبارك من الخوض في الصحابة :(3/157)
(28) دعوة ابن المبارك إلى الخوف من أن يسلب الإنسان الإيمان وهو لا يشعر :
(29) كان ابن المبارك لا يخشى في الحق لومة لائم :
(30) تحذير ابن المبارك من الكبر والعجب والعياذ بالله :
(31) شجاعة ابن المبارك رحمه الله :
(32) كان ابن المبارك شاعرا مُحْسِنَاً قَوَّالاً بالحق :
(33) حرص ابن المبارك على تلقي العلم مع الأدب :
ثانياً مناقب ابن المبارك تفصيلا رحمه الله:
(1) ثناء العلماء على ابن المبارك :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
كان ابن المبارك رحمه الله تعالى أئمة الهدى وأعلام التقى ومصابيح الدجى ، من حلية الأولياء وأعلام النبلاء ،وهاك غيضٌ من فيض ونقطةٌ من بحر من ثناء العلماء عليه :
[*] قال عنه الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء :
ومنهم السخي الجراد، الممهد للمعاد، المتزود من الوداد، أليف القرآن والحج والجهاد، جَادَ فَسَاد، ووجع فزاد، مالله مشارك، وفعله مبارك، وقوله مبارك، شاها نشاه، عبد الله بن المبارك رضى الله تعالى عنه.
[*] وقال عنه الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء :(3/158)
الإمام شيخ الإسلام عالم زمانه وأمير الأتقياء في وقته أبو عبد الرحمن الحنظلي مولاهم التركي ثم المروزي الحافظ الغازي أحد الأعلام ، وكانت أمه خوارزمية مولده في سنة ثمان عشرة ومئة فطلب العلم وهو ابن عشرين سنة فأقدم شيخ لقيه هو الربيع بن أنس الخراساني تحيل ودخل إليه إلى السجن فسمع منه نحوا من أربعين حديثا ثم ارتحل في سنة إحدى وأربعين ومئة وأخذ عن بقايا التابعين وأكثر من الترحال والتطواف وإلى أن مات في طلب العلم وفي الغزو وفي التجارة والإنفاق على الإخوان في الله وتجهيزهم معه إلى الحج ، سمع من سليمان التيمي وعاصم الأحول وحميد الطويل وهشام ابن عروة والجريري وإسماعيل بن أبي خالد والأعمش وبريد بن عبد الله بن أبي بردة وخالد الحذاء ويحيى بن سعيد الأنصاري وعبد الله بن عون وموسى بن عقبة وأجلح الكندي وحسين المعلم وحنظلة السدوسي وحيوة بن شريح المصري وكهمس وأبي حنيفة وابن جريج ومعمر والثوري وشعبة وابن أبي ذئب ويونس الأيلي والحمادين ومالك والليث وابن لهيعة وهشيم وإسماعيل بن عياش وابن عيينة وبقية بن الوليد وخلق كثير وصنف التصانيف النافعة الكثيرة حدث عنه معمر والثوري وأبو إسحاق الفزاري وطائفة من شيوخه وبقية وابن وهب وابن مهدي وطائفة من أقرانه وأبو داود وعبد الرزاق بن همام والقطان وعفان وابن معين وحبان بن موسى وأبو بكر بن أبي شيبة ويحيى بن آدم وأبو أسامة وأبو سلمه المنقري ومسلم بن إبراهيم وعبدان والحسن بن الربيع البوراني وأحمد بن منيع وعلي بن حجر والحسن بن عيسى بن ماسرجس والحسين بن الحسن المروزي والحسن بن عرفة وإبراهيم بن مجشر ويعقوب الدورقي وأمم يتعذر إحصاؤهم ويشق استقصاؤهم ، وحديثه حجة بالإجماع وهو في المسانيد والأصول .
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عبيد بن جناد أبو سعيد، قال: قال لي عطاء بن مسلم: يا عبيد رأيت عبد الله بن المبارك ؟ قلت: نعم، قال: ما رأيت مثله ولا ترى مثله.(3/159)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عبد الله بن يزيد بن عثمان الحمصي، قال: قال لي الأوزاعي: رأيت عبد الله بن المبارك ؟ قلت: لا، قال: لو رأيته لقرت عينك.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عبيد بن جناد، قال: قال العمري: ابن المبارك يصلح لهذا الأمر، فقال له رجل: أي شىء ؟ قال: الإمامة.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن العمري قال : ما رأيت في دهرنا هذا من يصلح لهذا الأمر ـ يعني الإمامة ـ إلا ابن المبارك.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أبي إسحاق الفزاري يقول: ابن المبارك إمام المسلمين ، قال: ورأيته قاعداً بين يديه يسائله.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عبد الرحمن بن مهدي قال : ما رأت عيناي مثل سفيان، ولا أقدم على عبد الله بن المبارك أحداً.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عبد الرحمن بن مهدي قال : ابن المبارك آدب عندنا من سفيان.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن المعتمر بن سليمان يقول: ما رأيت مثل ابن المبارك تصيب عنده الشيء الذي لا تصيبه عند أحد.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان الثوري يقول: لو جهدت جهدي أن أكون في السنة ثلاثة أيام على ما عليه ابن المبارك لم أقدر.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عبد الرحمن بن عبيد الله يقول: كنا عند الفضيل بن عياض فجاء فتى في شهر رمضان سنة إحدى وثمانين فنعى إليه ابن المبارك فقال: رحمه الله، أما إنه ما خلف بعده مثله، قال: وقال أبو إسحاق الفزاري إني لأمقت نفسي على ما أرى بها من قلة الاكتراث لموت ابن المبارك.(3/160)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أبي بكر الصولي، عن بعضهم قال: ورد على أمير المؤمنين الرشيد كتاب صاحب الحيرة من هيت أنه مات رجل بهذا الموضع غريب، فاجتمع الناس على جنازته، فسألت عنه فقالوا: عبد الله بن المبارك الخراساني، فقال الرشيد: إنا لله وإنا اليه راجعون، يافضل ـ للفضل بن الربيع وزيره ـ ائذن للناس من يعذرنا في عبد الله بن المبارك، فأظهر الفضل تعجبا، فقال: ويحك إن عبد الله هو الذي يقول:
الله يدفع بالسلطان معضلة عن ديننا رحمة منه ورضوانا
لولا الأئمة لم يأمن لنا سبل وكان أضعفنا نهبا لأقوانا
من سمع هذا القول من مثل ابن المبارك مع فضله وزهده وعظمه في صدور العامة، ولا يعرف حقنا.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أحمد العجلي قال :ابن المبارك ثقة ثبت في الحديث رجل صالح يقول الشعر وكان جامعا للعلم .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن العباس بن مصعب قال: جمع عبد الله الحديث والفقه والعربية وأيام الناس والشجاعة والسخاء والتجارة والمحبة عند الفرق.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن محمد بن عبد الوهاب الفراء قال: ما أخرجت خراسان مثل هؤلاء الثلاثة ابن المبارك والنضر بن شميل ويحيى بن يحيى.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن يحيى بن آدم قال : كنت إذا طلبت دقيق المسائل فلم أجده في كتب ابن المبارك أيست منه .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن شعيب بن حرب قال ما لقي ابن المبارك رجلا إلا وابن المبارك أفضل منه، قال: وسمعت أبا أسامة يقول: ابن المبارك في المحدثين مثل أمير المؤمنين في الناس .(3/161)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أشعث بن شعبة المصيصي قال: قدم الرشيد الرقة فانجفل الناس خلف ابن المبارك وتقطعت النعال وارتفعت الغبرة فأشرفت أم ولد لأمير المؤمنين من برج من قصر الخشب فقالت: ما هذا قالوا عالم من أهل خراسان قدم قالت: هذا والله الملك لا ملك هارون الذي لا يجمع الناس إلا بشرط وأعوان .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عبد العزيز بن أبي رزمة قال: قال لي شعبة: ما قدم علينا من ناحيتكم مثل ابن المبارك.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن معاذ بن خالد قال تعرفت إلى إسماعيل بن عياش بعبد الله بن المبارك فقال إسماعيل ما على وجه الأرض مثل ابن المبارك ولا أعلم أن الله خلق خصلة من خصال الخير إلا وقد جعلها في عبد الله بن المبارك ولقد حدثني أصحابي أنهم صحبوه من مصر إلى مكة فكان يطعمهم الخبيص وهو الدهر صائم .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عن ابن مهدي قال: الأئمة أربعة سفيان ومالك وحماد بن زيد وابن المبارك .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عباس الدوري سمعت يحيى يقول ما رأيت أحدا يحدث لله إلا ستة نفر منهم ابن المبارك .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن ابن مهدي قال: ما رأيت رجلا أعلم بالحديث من سفيان ولا أحسن عقلا من مالك ولا أقشف من شعبة ولا أنصح للأمة من ابن المبارك .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن نعيم بن حماد قلت لابن مهدي أيهما أفضل ابن المبارك أو سفيان الثوري فقال ابن المبارك قلت إن الناس يخالفونك قال إنهم لم يجربوا ما رأيت مثل ابن المبارك
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن ابن مهدي قال حدثنا ابن المبارك وكان نسيج وحده .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن ابن مهدي يقول ابن المبارك أعلم من سفيان الثوري .(3/162)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عبد الرحمن بن مهدي واجتمع إليه أصحاب الحديث فقالوا له جالست الثوري وسمعت منه ومن ابن المبارك فأيهما أرجح قال لو أن سفيان جهد على أن يكون يوما مثل عبد الله لم يقدر .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن شعيب بن حرب يقول قال سفيان إني لأشتهي من عمري كله أن أكون سنة مثل ابن المبارك فما أقدر أن أكون ولا ثلاثة أيام .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عمران بن موسى الطرسوسي قال سأل رجل سفيان فقال من أين أنت قال من أهل المشرق قال: أوليس عندكم أعلم أهل المشرق؟ قال: ومن هو؟ قال: عبد الله بن المبارك قال: وهو أعلم أهل المشرق؟ قال: نعم وأهل المغرب .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أحمد بن عبدة قال كان فضيل وسفيان ومشيخة جلوسا في المسجد الحرام فطلع ابن المبارك من الثنية فقال سفيان هذا رجل أهل المشرق فقال فضيل رجل أهل المشرق والمغرب وما بينهما .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عبد الرحمن بن أبي جميل قال كنا حول ابن المبارك بمكة فقلنا له يا عالم الشرق حدثنا وسفيان قريب منا يسمع فقال ويحكم عالم المشرق والمغرب وما بينهما .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن محمد بن عبد الله بن قهزاد سمعت أبا الوزير يقول قدمت على سفيان بن عيينة فقالوا له هذا وصي عبد الله فقال رحم الله عبد الله ما خلف بخراسان مثله .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عبد الوهاب ابن عبد الحكم قال : لما مات ابن المبارك بلغني أن هارون أمير المؤمنين قال مات سيد العلماء .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن المسيب بن واضح سمعت أبا إسحاق الفزاري يقول ابن المبارك إمام المسلمين أجمعين .
قال الذهبي رحمه الله :قلت هذا الإطلاق من أبي إسحاق معني بمسلمي زمانه .(3/163)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن ابن عيينة قال: نظرت في أمر الصحابة وأمر عبد الله فما رأيت لهم عليه فضلا إلا بصحبتهم النبي صلى الله عليه وسلم وغزوهم معه .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن محمود بن والان قال سمعت عمار بن الحسن يمدح ابن المبارك ويقول
إذا سار عبد الله من مرو ليلة * فقد سار منها نورها وجمالها
إذا ذكر الأحبار في كل بلدة * فهم أنجم فيها وأنت هلالها
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن علي بن المديني يقول انتهى العلم إلى رجلين إلى ابن المبارك ثم إلى ابن معين .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن علي ابن المديني عبد الله بن المبارك أوسع علما من عبد الرحمن بن مهدي ويحيى بن آدم .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن إبراهيم بن عبد الله بن الجنيد سمعت يحيى بن معين وذكروا عبد الله بن المبارك فقال رجل إنه لم يكن حافظا فقال ابن معين كان عبد الله رحمه الله كيسا مستثبتا ثقة وكان عالما صحيح الحديث وكانت كتبه التي يحدث بها عشرين ألف أو واحدا وعشرين ألفا .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن إبراهيم بن شماس قال: رأيت أفقه الناس ابن المبارك وأورع الناس الفضيل وأحفظ الناس وكيع بن الجراح .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن قال جعفر بن أبي عثمان قلت لابن معين اختلف القطان ووكيع قال القول قول يحيى قال فإذا اختلف عبد الرحمن ويحيى قال يحتاج من يفصل بينهما قلت فأبو نعيم وعبد الرحمن قال يحتاج من يفضل بينهما قلت: الأشجعي قال: مات الأشجعي ومات حديثه معه. قلت: ابن المبارك قال: ذاك أمير المؤمنين في الحديث .(3/164)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن محمود بن والان سمعت محمد بن موسى سمعت إبراهيم بن موسى يقول كنت عند يحيى بن معين فجاءه رجل فقال من أثبت في معمر ابن المبارك أو عبد الرزاق وكان يحيى متكئا فجلس وقال كان ابن المبارك خيرا من عبد الرزاق ومن أهل قريته كان عبد الله سيدا من سادات المسلمين .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أسود بن سالم قال: كان ابن المبارك إماما يقتدى به كان من أثبت الناس في السنة إذا رأيت رجلا يغمز ابن المبارك فاتهمه على الإسلام.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أحمد بن حنبل قال : لم يكن أحد في زمان ابن المبارك أطلب للعلم منه .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عبد الله بن إدريس قال: كل حديث لا يعرفه ابن المبارك فنحن منه براء .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن قال علي بن الحسن بن شقيق قمت لأخرج من ابن المبارك في ليلة باردة من المسجد فذاكرني عند الباب بحديث أو ذاكرته فما زلنا نتذاكر حتى جاء المؤذن للصبح .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن فضالة النسائي قال: كنت أجالسهم بالكوفة فإذا تشاجروا في حديث قالوا مروا بنا إلى هذا الطبيب حتى نسأله يعنون ابن المبارك.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الحسن بن عيسى بن ما سرجس مولى ابن المبارك قال : اجتمع جماعة مثل الفضل بن موسى ومخلد بن الحسين فقالوا تعالوا نعد خصال ابن المبارك من أبواب الخير فقالوا العلم والفقه والأدب والنحو واللغة والزهد والفصاحة والشعر وقيام الليل والعبادة والحج والغزو والشجاعة والفروسية والقوة وترك الكلام فيما لا يعنيه والإنصاف وقلة الخلاف على أصحابه.(3/165)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن نعيم بن حماد يقول ما رأيت ابن المبارك يقول قط حدثنا كان يرى أخبرنا أوسع وكان لا يرد على أحد حرفا إذا قرأ وقال نعيم ما رأيت أعقل من ابن المبارك ولا أكثر اجتهادا في العبادة .
مكانة ابن المبارك عند الإمام مالك :
لأجل هذه الدقة التي توفرت لدى ابن المبارك والتزم بها، كان اهتمام الإمام مالك به.. فقد روي عن يحيى بن يحيى الليثي قال: كنا عند مالك، فاستؤذن لعبد الله بن المبارك بالدخول، فأذن له، فرأينا مالكًا تزحزح له في مجلسه ثم أقعده بلصقه، وما رأيت مالكًا تزحزح لأحد في مجلسه غيره، فكان القارئ يقرأ على مالك، فربما مر بشيء فيسأله مالك: ما مذهبكم في هذا؟ أو ما عندكم في هذا؟ فرأيت ابن المبارك يجاوبه، ثم قام فخرج، فأعجب مالك بأدبه، ثم قال لنا مالك: هذا ابن المبارك فقيه خراسان.
ولنا أن نستعيد ما قاله والي المدينة حين جاءه الإمام الشافعي يحمل كتابًا من والي مكة ليتمكن الشافعي من لقاء الإمام مالك؛ حيث قال والي المدينة للشافعي: "يا فتى! لو كلفتني المشي من جوف المدينة راجلاً حافيًا كان أهون عليَّ من المشي إلى باب مالك.. وليتنا إذا ركبنا ووقفنا على بابه يفتح لنا الباب". لنعلم من هذا منزلة عبد الله بن المبارك عند الإمام مالك!!
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن يحيى بن يحيى الليثي قال كنا عند مالك فاستؤذن لعبد الله بن المبارك بالدخول فإذن له فرأينا مالكا تزحزح له في مجلسه ثم أقعده بلصقه وما رأيت مالكا تزحزح لأحد في مجلسه غيره فكان القارئ يقرأ على مالك فربما مر بشيء فيسأله مالك ما مذهبكم في هذا أو عندكم في هذا فرأيت ابن المبارك يجاوبه ثم قام فخرج فأعجب مالك بأدبه ثم قال لنا مالك هذا ابن المبارك فقيه خراسان .
مكانة ابن المبارك عند سفيان ابن عيينة :
أما منزلته عند ابن عيينة فهي شيء فوق ذلك كله؛(3/166)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن ابن عيينة قال: "نظرت في أمر الصحابة فما رأيت لهم فضلاً على ابن المبارك إلا بصحبتهم النبي صلى الله عليه وسلم وغزوهم معه".
(2) حرص ابن المبارك طلب العلم ونشره :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
كان رحمه الله تعالى ذا همةٍ عاليةٍ تناطح السحاب في طلب العلم فكان علمه واسعاً مباركا كالغيث من السماء أينما حل نفع ، لا يشق له غبار في غزارة علمه ودقة استنباطه للفوائد والأحكام وسعة فقهه ومعرفته بأسرار اللغة العربية وبلاغتها ، ارتحل ابن المبارك إلى الحرمين والشام ومصر والعراق والجزيرة وخراسان.
لقد أثمرت رحلات ابن المبارك لأنه قد ارتسم لنفسه منهاجًا يسير عليه، فلم يكن همه من ارتحاله جمع العلم مهما كان مصدره، بل كان التحقق من مصدره أساس منهجه؛ فقد سأله أبو إسحاق قائلاً: "يا أبا عبد الرحمن الحديث الذي جاء إن من البر بعد البر أن تصلي لأبويك مع صلاتك وتصوم لهما مع صومك. فقال عبد الله: يا أبا إسحاق عن من هذا؟ قال: قلت: هذا من حديث شهاب بن خراش. قال: ثقة عن من قال؟ قلت: عن الحجاج بن دينار. قال: ثقة قال: عن من؟ قلت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: يا أبا إسحاق إن بين الحجاج بن دينار وبين النبي صلى الله عليه وسلم مفاوز تنقطع فيها أعناق المطي ولكن ليس في الصدقة اختلاف".
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أبي إسحاق الطالقاني قال قلت لعبد الله بن المبارك يا ابا عبد الرحمن الحديث الذي جاء إن من البر بعد البر أن تصلي لأبويك مع صلاتك وتصوم لهما مع صومك فقالى يا أبا إسحاق عمن هذا قلت هذا من حديث شهاب بن خراش قال ثقة عمن قلت عن الحجاج ابن دينار قال ثقة عمن قلت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إن بين الحجاج وبين النبي صلى الله عليه وسلم مفاوز تنقطع فيها أعناق المطي ولكن ليس في الصدقة اختلاف .(3/167)
فهو حين يتوقف أمام هذا الحديث، لا ينكر ما فيه من البر، إلا أنه لا ينسب الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم مادام لم يتوفر لديه السند إلى رسول الله وإن كان الحجاج ثقة!!
ولهذا صار حديثه حجة بالإجماع، روى عنه البخاري ومسلم ، وتجاوز القنطرة وهو محدث جهبذ صادق لا يعرف الكذب أبداً، ينقي الأحاديث تنقية كما ينقي الصيرفي البهرج من الذهب.
أتوا بكذاب إلى هارون الرشيد وضع أربعة آلاف حديث هي كذب على محمد عليه الصلاة والسلام، فقال هارون الرشيد : والله لأذبحنك الآن، قال: اذبحني أولا تذبحني والله لقد وضعت عليكم أربعة آلاف حديث، قال: ما علي! يعيش لها الجهابذة عبد الله بن المبارك وأبو إسحاق المروزي ، ثم استدعى عبد الله بن المبارك وذاك فنقوها في ثلاثة أيام وأخرجوا أربعة آلاف حديث. قالوا: هذه كلها كذب.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أحمد بن حنبل قال : لم يكن أحد في زمان ابن المبارك أطلب للعلم منه .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن شعبة قال ما قدم علينا أحد مثل ابن المبارك وقال أبو أسامة ما رأيت رجلا أطلب للعلم من أين المبارك وهو في المحدثين مثل أمير المؤمنين في الناس.
ومن مظاهر دعوته للعلم ما يلي :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن رسته الطالقاني قال: قام رجل إلى ابن المبارك فقال: يا أبا عبد الرحمن في أي شىء أجعل فضل يومي، في تعلم القرآن أو في طلب العلم ؟ فقال: هل تقرأ من القرآن ما تقيم به صلاتك قال: نعم، قال: فاجعله في طلب العلم الذي يعرف به القرآن.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن ابن المبارك قال : ليكن الذي تعتمدن عليه هذا الأثر؛ وخذوا من الرأي ما يفسر لكم الحديث.(3/168)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن ابن المبارك قال : أهل الدنيا خرجوا من الدنيا قبل أن يتطعموا أطيب ما فيهما، قيل له: وما أطيب ما فيها ؟ قال: المعرفة بالله عز وجل.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن ابن المبارك قال أول منفعة العلم أن يفيد بعضهم بعضا.
يفيد بعضهم بعضاً : أي: أنك تستفيد وتفيد، المجالس العلمية، الندوات والمحاضرات أن ينصح الناس بعضهم لبعض، وهم أفضل الناس .
تحذير ابن المبارك من كتمان العلم :
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن ابن المبارك قال : من بخل بالعلم ابتلى بثلاث، إما موت فيذهب علمه، وإما ينسى، وإما يصحب فيذهب علمه.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن محبوب بن الحسن قال : سمعت ابن المبارك يقول من بخل بالعلم ابتلي بثلاث إما موت يذهب علمه وإما ينسى وإما يلزم السلطان فيذهب علمه.
رحلة ابن المبارك في طلب العلم :
[*] قال الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء :ارتحل ابن المبارك إلى الحرمين والشام ومصر والعراق والجزيرة وخراسان وحدث بأماكن.
شيوخ ابن المبارك رحمه الله :
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن ابن المبارك قال حملت العلم عن أربعة آلاف شيخ فرويت عن ألف شيخ .(3/169)
[*] قال الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء : سمع من سليمان التيمي وعاصم الأحول وحميد الطويل وهشام ابن عروة والجريري وإسماعيل بن أبي خالد والأعمش وبريد بن عبد الله بن أبي بردة وخالد الحذاء ويحيى بن سعيد الأنصاري وعبد الله بن عون وموسى بن عقبة وأجلح الكندي وحسين المعلم وحنظلة السدوسي وحيوة بن شريح المصري وكهمس وأبي حنيفة وابن جريج ومعمر والثوري وشعبة وابن أبي ذئب ويونس الأيلي والحمادين ومالك والليث وابن لهيعة وهشيم وإسماعيل بن عياش وابن عيينة وبقية بن الوليد وخلق كثير وصنف التصانيف النافعة الكثيرة حدث عنه معمر والثوري وأبو إسحاق الفزاري وطائفة من شيوخه وبقية وابن وهب وابن مهدي وطائفة من أقرانه وأبو داود وعبد الرزاق بن همام والقطان وعفان وابن معين وحبان بن موسى وأبو بكر بن أبي شيبة ويحيى بن آدم وأبو أسامة وأبو سلمه المنقري ومسلم بن إبراهيم وعبدان والحسن بن الربيع البوراني وأحمد بن منيع وعلي بن حجر والحسن بن عيسى بن ماسرجس والحسين بن الحسن المروزي والحسن بن عرفة وإبراهيم بن مجشر ويعقوب الدورقي وأمم يتعذر إحصاؤهم ويشق استقصاؤهم ، وحديثه حجة بالإجماع وهو في المسانيد والأصول .
[*] قال الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء : قد تفقه ابن المبارك بأبي حنيفة وهو معدود في تلامذته وكان عبد الله غنيا شاكرا رأس ماله نحو الأربع مائة ألف .
كتابة ابن المبارك للعلم رحمه الله:
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن قال أحمد بن حنبل كان ابن المبارك يحدث من الكتاب فلم يكن له سقط كثير وكان وكيع يحدث من حفظه فكان يكون له سقط كم يكون حفظ الرجل وروى غير واحد أن ابن المبارك قيل له إلى متى تكتب العلم قال لعل الكلمة التي أنتفع بها لم أكتبها بعد .(3/170)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أبي صالح الفراء قال : سألت ابن المبارك عن كتابه العلم فقال لولا الكتاب ما حفظنا وسمعته يقول الحبر في الثوب خلوق العلماء، وقال تواطؤ الجيران على شيء أحب إلي من شهادة عدلين .
" الحبر في الثوب خلوق العلماء " أي: الحبر في الثوب خضاب العلماء، ما أجمل الحبر في ثوب طلبة العلم وهو شرف لهم!!
[*] وذكر الغزالي في الإحياء : "أن الحبر الذي يكتب به العلماء يوزن يوم القيامة بدم الشهداء" ولكن هذا يحتاج إلى نقل من المعصوم عليه الصلاة والسلام، وقد تفقه ابن المبارك بأبي حنيفة وأحبه، وهو معدود في تلامذته، ولو أنه لا يوافقه في كثير من المسائل، لأن ابن المبارك محدث وعالم في الحديث، ومن ضمن ما اختلفوا فيه: أن أبا حنيفة صلى إماماً وعلى ميمنته ابن المبارك ، فكبر أبو حنيفة فرفع ابن المبارك يديه، والأحناف لا يرفعون أيديهم إلا في تكبيرة الإحرام، أما ما بعدها من التكبيرات فلا يرون الرفع، وابن المبارك محدث يرى أن ترفع الأيدي مع التكبيرات الأربع، فكان أبو حنيفة لا يرفع يديه وكان ابن المبارك كلما قال أبو حنيفة : (الله أكبر) وهو إمام قال ابن المبارك : الله أكبر، ورفع يديه، فلما سلم قال أبو حنيفة : خشيت أن تطير من جانبي .
(3) توقير ابن المبارك للعلم وأهله :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن بشر بن الحارث قال : سأل رجل ابن المبارك، عن حديث وهو يمشي قال: ليس هذا من توقير العلم، قال بشر: فاستحسنته جداً.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سنيد بن داود يقول: سألت ابن المبارك: من الناس ؟ قال العلماء، قلت: فمن الملوك ؟ قال: الزهاد، قلت: فكم الغوغاء ؟ قال: خزيمة وأصحابه، قلت: فمن السفله ؟ قال: الذين يعيشون بدينهم.(3/171)
{ تنبيه } : وخزيمة رجل مبتدع وشرير، والغوغاء هؤلاء الذين ليس لهم عمل إلا تتبع الشائعات والحوادث وسد السيل وإطفاء الحريق، ويستبشرون بالحوادث. الآن الحوادث المرورية إذا وقع حادث تجد الغوغاء ثلاثمائة في دقيقتين تجدهم واقفين وتجد أحدهم يبقى عند الحادث أو عند الحريق، ويبقى عند الزحام في السير وعند الطوارئ التي تحدث والشائعات ساعات طوال .
[*] يقول أهل العلم: رأى عمر رضي الله عنه وأرضاه رجلاً جُلِدَ من المسلمين، وإذا هو يمشى به إلى بيت عمر رضي الله عنه وإذا الناس وراءه كثير، الغوغاء الذين يسمعون بالمجلودين والحوادث، أي: كل الذي وقع في السوق يخبرك به، لأنه لا يقرأ ولا يسبح ولا يشتغل بنفسه، فقط معه الحوادث، فأخذ عمر حفنة من التراب وحثا بها على وجوههم قال:
شاهت هذه الوجوه التي لا تُرى إلا في الشر : يعني: لو دعوتهم في الخير لا يأتون، مثل المحاضرات والدورس العلمية واللقاءات التربوية والعبادات والجمع والجماعات.
[ قيل: فمن السفلة؟ قال: الذي يعيشون بدينهم ] الذي يعيش بدينه، هذا يسمى سافل أي: أنه يتظاهر بالدين ليعيش به، تجده يتقرب إلى الناس ليعيش بدينه، ويتقرب إلى الظلمة ليعيش بدينه، فيفتي ويتكلم ويمدح وينافق ويجامل .
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عباس بن عبد الله قال: قيل لعبد الله بن المبارك: من أئمة الناس ؟ قال سفيان وذووه، وقيل له: من سفلة الناس ؟ قال: من يأكل بدينه.
{ تنبيه } : وكان ابن المبارك رجلاً يحفظ حق أساتذته ويجل شيوخه، فلم يكن يُحدث في وجود أحد منهم، ولكن محبيه طلبوا ذلك في وجود حماد بن زيد وهو من هو في ذلك العصر، فما عسى ابن المبارك أن يفعل؟!(3/172)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن إسماعيل الخطبي قال : بلغني عن ابن المبارك أنه حضرعند حماد ابن زيد فقال أصحاب الحديث لحماد سل أبا عبد الرحمن أن يحدثنا فقال يا أبا عبد الرحمن تحدثهم فإنهم قد سألوني قال سبحان الله يا أبا إسماعيل أحدث وأنت حاضر فقال أقسمت عليك لتفعلن فقال خذوا حدثنا أبو إسماعيل حماد بن زيد فما حدث بحرف إلا عن حماد .
لقد وجد ابن المبارك نفسه أمام قسم حماد، ولكن ما فعله يشهد له بسعة العلم ودماثة الخلق!!
وقد سُمع ابن المبارك يقول إعظامًا لقدر حماد بن زيد:
أيها الطالب علمًا .. ... .. إئت حماد بن زيد
فاستفد حلما وعلما. ... .. ثم قيده بقيد
وإن كان شعره هذا يشهد بالعلم لحماد بن زيد، فقد أحسن عندما قال عن أبي حنيفة:
رأيت أبا حنيفة كل يوم .. ... .. يزيد نبالة ويزيد خيرًا
لقد كان ابن المبارك خير من يعترف لأساتذته بالفضل وحسبه أن قال: "لولا أن الله عز وجل أغاثني بأبي حنيفة وسفيان كنت كسائر الناس".
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن ابن المبارك قال من استخف بالعلماء ذهبت آخرته ومن استخف بالأمراء ذهبت دنياه ومن استخف بالإخوان ذهبت مروءته .
{ تنبيه } : هذا كلام عجيب، يقول: من استخف بأهل العلم واستهزأ بهم ولم يتأدب معهم أذهب الله عليه آخرته؛ لأنهم خلفاء الأنبياء، ومن استهزأ بالسلطان وسخر منه ذهبت دنياه، يقول: احذروا السلطان واحذروا بطشه لأنه إذا قال فعل ، ومن استخف بالإخوان ذهبت مروءته ، فيصبح بلا أخ.
(4) جود ابن المبارك وسخاؤه رحمه الله :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
أما عن جود ابن المبارك وسخاءه فحدث ولا حرج، فمواقف سخائه كثيرة مبثوثة في كتب التراث نذكر منها ما يلي :(3/173)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عمر بن حفص الصوفي بمنبج قال: خرج ابن المبارك من بغداد يريد المصيصة فصحبه الصوفية فقال لهم أنتم لكم أنفس تحتشمون أن ينفق عليكم يا غلام هات الطست فألقى عليه منديلا ثم قال يلقي كل رجل منكم تحت المنديل ما معه فجعل الرجل يلقي عشرة دراهم والرجل يلقي عشرين فأنفق عليهم إلى المصيصة. ثم قال هذه بلاد نفير فنقسم ما بقي فجعل يعطي الرجل عشرين دينارا فيقول: يا أبا عبد الرحمن إنما أعطيت درهما فيقول وما تنكر أن يبارك الله للغازي في نفقته .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن محمد بن علي بن الحسن بن شقيق سمعت أبي قال كان ابن المبارك إذا كان وقت الحج اجتمع إليه إخوانه من أهل مرو فيقولون نصحبك فيقول هاتوا نفقاتكم فيأخذ نفقاتهم فيجعلها في صندوق ويقفل عليها ثم يكتري لهم ويخرجهم من مرو إلى بغداد فلا يزال ينفق عليهم يطعمهم أطيب الطعام وأطيب الحلوى ثم يخرجهم من بغداد بأحسن زي أكمل مروءة حتى يصلوا إلى مدينة الرسول فيقول لكل واحد ما أمرك عيالك أن تشتري لهم من المدينة من طرفها فيقول كذا وكذا ثم يخرجهم إلى مكة فإذا قضوا حجهم قال لكل واحد منهم ما أمرك عيالك أن تشتري لهم من متاع مكة فيقول كذا وكذا فيشتري لهم ثم يخرجهم من مكة فلا يزال ينفق عليهم إلى أن يصيروا إلى مرو فيجصص بيوتهم وأبوابهم فإذا كان بعد ثلاثة أيام عمل لهم وليمة كساهم فإذا أكلوا وسروا دعا بالصندوق ففتحه ودفع إلى كل رجل منهم صرته عليها اسمه. قال أبي أخبرني خادمه أنه عمل آخر سفرة سافرها دعوة فقدم إلى الناس خمسة وعشرين خوانا فالوذج فبلغنا أنه قال للفضيل: لولاك وأصحابك ما اتجرت. وكان ينفق على الفقراء في كل سنة مئة ألف درهم .(3/174)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن سلمة بن سليمان قال جاء رجل إلى ابن المبارك فسأله أن يقضي دينا عليه فكتب له إلى وكيل له فلما ورد عليه الكتاب قال له الوكيل كم الدين الذي سألته قضاءه قال سبع مئة درهم وإذا عبد الله قد كتب له أن يعطيه سبعة آلاف درهم فراجعه الوكيل وقال إن الغلات قد فنيت فكتب إليه عبد الله إن كانت الغلات قد فنيت فإن العمر أيضا قد فني فأجز له ما سبق به قلمي .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن محمد بن عيسى قال كان ابن المبارك كثير الاختلاف إلى طرطوس وكان ينزل الرقة في خان فكان شاب يختلف إليه ويقوم بحوائجه ويسمع منه الحديث فقدم عبد الله مرة فلم يره فخرج في النفير مستعجلا فلما رجع سأل عن الشاب فقال محبوس على عشرة آلاف درهم فاستدل على الغريم ووزن له عشرة آلاف وحلفه ألا يخبر أحدا ما عاش فأخرج الرجل وسرى ابن المبارك فلحقه الفتى على مرحلتين من الرقة فقال لي يا فتى أين كنت لم أرك قال يا أبا عبد الرحمن كنت محبوسا بدين قال وكيف خلصت قال جاء رجل فقضى ديني ولم أدر قال فأحمد الله ولم يعلم الرجل إلا بعد موت عبد الله .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن حبان بن موسى قال عوتب ابن المبارك فيما يفرق من المال في البلدان دون بلده قال إني اعرف مكان قوم لهم فضل وصدق طلبوا الحديث فأحسنوا طلبه لحاجة الناس إليهم احتاجوا فإن تركناهم ضاع علمهم وإن أعناهم بثوا العلم لأمة محمد لا أعلم بعد النبوة أفضل من بث العلم .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أبو إسحاق الطالقاني قال : رأيت بعيرين محملين دجاجا مشويا لسفرة ابن المبارك .(3/175)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن محمد بن عبد الرحمن بن سهم قال كنت مع ابن المبارك فكان يأكل كل يوم فيشوي له جدي ويتخذ له فالوذق فقيل له في ذلك فقال إني دفعت إلى وكيلي ألف دينار وَأَمَرْتُه أن يُوَسِّعَ علينا.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الحسن بن حماد قال: دخل أبو أسامة على ابن المبارك فوجد في وجهه عبد الله أثر الضر فلما خرج بعث إليه أربعة آلاف درهم وكتب إليه :
وفتى خلا من ماله * ومن المروءة غير حال
أعطاك قبل سؤاله * وكفاك مكروه السؤال
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن المسيب بن واضح قال : أرسل ابن المبارك إلى أبي بكر بن عياش أربعة آلاف درهم فقال سد بها فتنة القوم عنك.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن علي بن خشرم قال: قلت لعيسى بن يونس كيف فضلكم ابن المبارك ولم يكن بأسن منكم؟ قال كان يقدم ومعه الغلمة الخراسانية والبزة الحسنة فيصل العلماء ويعطيهم وكنا لا نقدر على هذا .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن نعيم بن حماد قال: قدم ابن المبارك أيله على يونس بن يزيد ومعه غلام مفرغ العمل الفالوذج يتخذه للمحدثين.
(5) ورع ابن المبارك رحمه الله ورجاحة عقله :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عبد الله بن المبارك قال : لو أن رجلاً اتقى مائة شيء ولم يتورع عن شيء واحد لم يكن ورعاً، ومن كان فيه خلة من الجهل كان من الجاهلين، أما سمعت الله تعالى قال لنوح عليه السلام: ( وَنَادَى نُوحٌ رّبّهُ فَقَالَ إِنّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي ) [ هود:45]. فقال الله: (إِنّيَ أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ) هود : 46]
[*] قال ابن المبارك: استعرت قلماً بأرض الشام ، فذهب عليّ أن أرده، فلما قدمت مرو نظرت فإذا هو معي فرجعت إلى الشام حتى رددته على صاحبه.(3/176)
دمشق في سوريا ومرو في جهة شرق إيران أو شمال إيران ، استعار قلماً من رجل دمشقي يكتب به، فكتب به ووضعه في جيبه ونسي أن يرده وركب بغلته وسافر ما يقارب خمسة عشر أو عشرين يوماً، فلما دخل مرو نظر فإذا القلم في جيبه، قلم لا يساوي درهماً، لكنه ركب البغلة ورجع ووصل إلى الدمشقي وقال: هذا قلمك، فانظروا هذا الورع العظيم.
وبعض الناس جهاراً نهاراً يتلاعب بالأموال، ويحاول أن يحتال بكل وسيلة ليخدع عباد الله، من أجل أن يحصل على شيء من المال، فانظر إلى هذا، أين هذا الورع؟ قلم واحد لا يساوي درهماً، الناس الآن لا يسألون عن هذا، ولا يسأل أحدهم عن هذه الأمور البسيطة، حتى لو حدثتهم أنت عن هذا لضحكوا عليك؛ لأن بعض الناس أصبح يأكل من الحرام كالجبال.
الآن مثلاً: كثير من التجار أموالهم رباً، يأكلون ويشربون ويلبسون من الربا، ويطعمون أطفالهم من الربا، سيارتهم ومساكنم رباً ويأتيك ويسأل: هل يقص الشارب أو يحلق؟ ويقول: الضحى أربع ركعات أم ركعتان!
الله يحرم الربا، ويعلن الحرب والقتال لمن يأكل الربا، وهؤلاء يصلون ويصومون ويحجون ويعتمرون وهم أغنياء ولكن كله رباً، أنا أوقف هؤلاء أمام قلم ابن المبارك .
يقول ابن المبارك استعرت قلماً بأرض الشام ، فذهب عليّ أن أرده، فلما قدمت مرو نظرت فإذا هو معي فرجعت إلى الشام حتى رددته على صاحبه.
دمشق في سوريا ومرو في جهة شرق إيران أو شمال إيران ، استعار قلماً من رجل دمشقي يكتب به، فكتب به ووضعه في جيبه ونسي أن يرده وركب بغلته وسافر ما يقارب خمسة عشر أو عشرين يوماً، فلما دخل مرو نظر فإذا القلم في جيبه، قلم لا يساوي درهماً، لكنه ركب البغلة ورجع ووصل إلى الدمشقي وقال: هذا قلمك، فانظروا هذا الورع العظيم.(3/177)
وبعض الناس جهاراً نهاراً يتلاعب بالأموال، ويحاول أن يحتال بكل وسيلة ليخدع عباد الله، من أجل أن يحصل على شيء من المال، فانظر إلى هذا، أين هذا الورع؟ قلم واحد لا يساوي درهماً، الناس الآن لا يسألون عن هذا، ولا يسأل أحدهم عن هذه الأمور البسيطة، حتى لو حدثتهم أنت عن هذا لضحكوا عليك؛ لأن بعض الناس أصبح يأكل من الحرام كالجبال.
الآن مثلاً: كثير من التجار أموالهم رباً، يأكلون ويشربون ويلبسون من الربا، ويطعمون أطفالهم من الربا، سيارتهم وفللهم رباً ويأتيك ويسأل: هل يقص الشارب أو يحلق؟ ويقول: الضحى أربع ركعات أم ركعتان!
يقول عليه الصلاة والسلام عن صاحب الربا وهو يدعو الله: { يارب يا رب، ومطعمه حرام، وملبسه حرام، ومشربه حرام، فأنى يستجاب له! } الله يحرم الربا، ويعلن الحرب والقتال لمن يأكل الربا، وهؤلاء يصلون ويصومون ويحجون ويعتمرون وهم أغنياء ولكن كله رباً، أنا أوقف هؤلاء أمام قلم ابن المبارك .
قال: كان ابن المبارك إماماً يقتدى به، كان من أثبت الناس في السنة، إذا رأيت رجلاً يغمز ابن المبارك ، فاتهمه على الإسلام، أي: اعرف أن في إسلام هذا الذي يغمز ابن المبارك شيئاً؛ لأن هذا إمام نصر الله به الدنيا، وقالوا: كنا نعد خصال ابن المبارك ، وكان فيه العلم والفقه، والأدب والنحو واللغة، والزهد والفصاحة والشعر، وقيام الليل والعبادة والحج، والغزو والشجاعة، والفروسية والقوة، وترك الكلام فيما لا يعنيه، والإنصاف، وقلة الخلاف على أصحابه .(3/178)
ولما احتضر ابن المبارك في السفر قال: أشتهي سويقاً ، كان جائعاً ويريد سويقاً، أي سويق الشعير الذي يلت بالتمر أو بغيره، قال: فلم نجده إلا عند رجل كان يعمل للسلطان ـ كان هذا الرجل يعمل عند السلطان صاحب السويق ـ وكان معنا في السفينة، فذكرنا لابن المبارك فقال: دَعَوه ، فمات ولم يأكله، مادام يعمل هذا العمل أنا لا أريده، لا يدري من أين أتى الدخل، وهذه نظرية للسلف ، لأنهم يقولون: الذي لا يظهر دخله أو يكون عند الظلمة ففي دخله شبهة، حتى إن الإمام أحمد ما رأى أن يمر على الجسر الذي بناه أبو مسلم الخراساني على دجلة ، كان يأتي الإمام أحمد ببغلته من طريق بعيد ولا يمر على الجسر، قالوا: لماذا؟ قال: "بناه من الظلم من أموال المسلمين"، قالوا: ترى أن نصلي في مسجد أبي مسلم الخراساني ، قال: "لا، لا تصلوا فيه" لأنه جزاه الله خيراً ما قصر، قتل ألف ألف من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ثم بنى مسجداً، أي: قدم مشروعاً للأمة، بنى مسجداً جامعاً وذبح مليوناً من أمة محمد صلى الله عليه وسلم المصلين الصائمين.
فلما بنى مسجداً قال الإمام أحمد : "لا تصلوا فيه" فكان الجسر هذا من المشاريع التي نفذها أبو مسلم على نهر دجلة ، وكان الإمام أحمد إذا وصل إلى رأس الجسر ضرب البغلة وردها، انظر الورع حتى لا تمر البغلة من على الجسر، فابن المبارك وأمثاله يتورعون من هذا ويخافون كثيراً، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ [هود:113].
وقد رأى الحسن البصري رجلاً ينظر إلى موكب ظالم، قال: [[لا تنظر إليه، قال: وماذا يضر النظر؟ قال: يقول الله: وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا َتَمَسَّكُمُ النَّارُ [هود:113]
(6) توقير ابن المبارك للحديث ولآل البيت :
ــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ ـــ ـــ ـــ(3/179)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن ابن المبارك قال ليكن عمدتكم الأثر وخذوا من الرأي ما يفسر لكم الحديث.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أحمد بن أبي الحواري قال: جاء رجل من بني هاشم إلى عبد الله ابن المبارك ليسمع منه فأبى أن يحدثه فقال الشريف لغلامه قم فإن أبا عبد الرحمن لا يرى أن يحدثنا فلما قام ليركب جاء ابن المبارك ليمسك بركابه ، فقال يا أبا عبد الرحمن تفعل هذا ولا ترى أن تحدثني فقال أذل لك بدني ولا أذل لك الحديث.
توضيح موقف ابن المبارك رحمه الله تعالى :
الهاشمي هذا شريف من الأشراف السادة، جاء والطلاب فقراء عند ابن المبارك ، فأراد هذا الشريف أن يأخذ ابن المبارك في مجلس خاص ويحدثه بالحديث، قال ابن المبارك : لا. أنا لا أحدثك وحدك، اجلس مع الطلبة وأنا أحدثك معهم، فقام وقال: أنا استأذنك إذن، قال ابن المبارك : لا أعطيك، فخرج هذا الرجل الشريف، فأمسك ابن المبارك بركابه يهيء له الركاب لأنه من أسرة الرسول عليه الصلاة والسلام، وحق علينا أن نقدر الطائعين من أسرته عليه الصلاة والسلام، قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى [الشورى:23] قال هذا الشريف: تمنعني من الحديث الآن وتهيء لي ركابي، قال: " أذل لك بدني ولا أذل العلم "
(7) دعاء ابن المبارك عند ختم القرآن :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ(3/180)
وكان ابن المبارك رحمه الله يعجبه إذا ختم القرآن أن يكون دعاؤه في السجود، فقد كان للسلف ختمات، ومعظم السلف يختمون القرآن في سبعة أيام، كانوا يحزبون القرآن، يجعلون لليوم الأول ثلاث سور، واليوم الثاني خمس سور، واليوم الثالث سبع، اليوم الرابع تسع سور، واليوم الخامس إحدى عشرة سورة، واليوم السادس ثلاث عشرة سورة، واليوم السابع من (ق) إلى (الناس) وهذا ترتيب وتجزئة للقرآن، فإن لم يستطيعوا ختموه في شهر، فكل يوم جزء وهو ثلاثون جزءاً، وما كانوا يتجاوزون الشهر، فكان ابن المبارك إذا ختم القرآن يجعل آخر ختمة في صلاة؛ فإذا وصل إلى (قل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس) صلى ركعتين وختم فيها القرآن ودعا وابتهل لأنه يؤثر أن من أحوال إجابة الدعاء ختم القرآن.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عبد الكريم السكري قال كان عبد الله يعجبه إذا ختم القرآن أن يكون دعاؤه في السجود.
(8) رسالة ابن المبارك إلى الفضيل في الجهاد :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
[*] روى الحافظ ابن عساكر في تاريخ مدينة دمشق عن محمد بن إبراهيم بن أبي سكينة قال: أملي عليَّ عبد اللّه بن المبارك هذه الأبيات بطرسوس وأنشدها إلى الفضيل بن عياض في سنة سبعين ومائة:
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا ... لعلمت أنك في العبادة تلعب
من كان يخضب خده بدموعه ... فنحورنا بدمائنا تتخضب
أو كان يتعب خيله في باطل ... فخيولنا يوم الصبيحة تتعب
ريح العبير لكم ونحن عبيرنا ... رهج السنابك والغبار الأطيب
ولقد أتانا من مقال نبينا ... قول صحيح صادق لا يكذب
لا يستوي غبَّار خيل اللّه في ... أنف امرىء ودخان نار تلهب
هذا كتاب اللّه ينطق بيننا ... ليس الشهيد بميت لا يكذب(3/181)
قال: فلقيت الفضيل بن عياض بكتابه في المسجد الحرام ، فلما قرأه ذرفت عيناه وقال: صدق أبو عبد الرحمن ونصحني ، ثم قال : أنت ممن يكتب الحديث ؟ قال : قلت : نعم ، قال : فاكتب هذا الحديث كراء حملك كتاب أبي عبد الرحمن إلينا ، وأملى عليّ الفضيل بن عياض :
حدثنا منصور بن المعتمر ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة أن رجلاً قال : يا رسول اللّه علِّمني عملاً أنال به ثواب المجاهدين في سبيل اللّه ، فقال : "هل تستطيع أن تصلي فلا تفتر ، وتصوم فلا تفطر ؟ " فقال : يا رسول اللّه أنا أضعف من أن أستطيع ذلك ، ثم قال النبي صلى اللّه عليه وسلم : " فوالذي نفسي بيده لو طُوِّقت ذلك ما بلغت المجاهدين في سبيل الله ، أوما علمت أن الفرس المجاهد ليستن في طوله فيكتب له بذلك الحسنات ؟!
والحديث رواه البخاري في كتاب الجهاد والسير ، باب الجهاد والسير .
(9) حفظ ابن المبارك لوقته رحمه الله :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن شقيق البلخي قال : قيل لابن المبارك: إذا صليت معنا لم لا تجلس معنا: قال: أذهب مع الصحابة والتابعين، قلنا له: ومن أين الصحابة والتابعون ؟ قال: أذهب أنظر في علمي فأدرك آثارهم وأعماللهم فما أصنع معكم؟ أنتم تغتابون الناس، فإذا كان سنة ثمانين فالبعد من كثير من الناس أقرب إلى الله، وفر من الناس كفرارك من الأسد، وتمسك بدينك يسلم الله لك مجهودك.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن نعيم بن حماد قال كان ابن المبارك يكثر الجلوس في بيته فقيل له ألا تسوحش فقال كيف أستوحش وأنا مع النبي وأصحابه .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن شقيق البلخي قال :قيل لابن المبارك إذا أنت صليت لم لا تجلس معنا قال أجلس مع الصحابة والتابعين أنظر في كتبهم وآثارهم فما أصنع معكم أنتم تغتابون الناس .(3/182)
كان رحمه الله يفر من المجالس العامة، وإذا حضر مجلساً اندفع في الحديث يحدثهم قال الله وقال رسوله عليه الصلاة والسلام.
(10) زهد ابن المبارك رحمه الله :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عبد الله بن محمد ابن عبيد، قال: دفع إلى رجل من أهل مرو كتاباً فيه سئل عبد الله بن المبارك: ما ينبغي للعالم أن يتكرم عنه، قال: ينبغي أن يتكرم عما حرم الله تعالى عليه، ويرفع نفسه عن الدنيا فلا تكون منه على بال ، قال: وسئل عبد الله وقيل له: ما ينبغي أن يجعل عظة شكرنا له؟ قال: زيادة آخرتكم ونقصان دنياكم، وذلك أن زيادة آخرتكم لا تكون إلا بنقصان دنياكم، وزيادة دنياكم لا تكون إلا بنقصان آخرتكم.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عبد الله بن المبارك قال: حب الدنيا في القلب والذنوب احتوشته فمتى يصل الخير إليه ؟
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سنيد بن داود يقول: سألت ابن المبارك: من الناس ؟ قال العلماء، قلت: فمن الملوك ؟ قال: الزهاد، قلت: فكم الغوغاء ؟ قال: خزيمة وأصحابه، قلت: فمن السفله ؟ قال: الذين يعيشون بدينهم.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أحمد بن أبي الحواري، حدثني بعض أصحابنا قال: جاء عبد الله بن أبي العباس الطرسوسي وكان والياً بمرو إلى منزل عبد الله بن المبارك بالليل ومعه كاتبه والدواة والقرطاس معه، قال: فسأله عن حديث فأبى أن يحدثه، ثم سأله عن حديث فأبى أن يحدثه ثلاث مرار فقال لكاتبه: اطو قرطاسك، ما أرى أبا عبد الرحمن يرانا أهلاً أن يحدثنا، فلما قام يركب مشى معه ابن المبارك إلى باب الدار فقال له: يا أبا عبد الرحمن لم لم ترنا أهلاً أن تحدثنا وتمشي معنا ؟ فقال: إني أحببت أن أذل لك بدني ولا أذل لك حديث رسول الله .
(11) منابذة ابن المبارك للمبتدعين :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ(3/183)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن ابن المبارك: يكون مجلسك مع المساكين، وإياك أن تجلس مع صاحب بدعة.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عبد الله بن عمر السرخسي يقول إن الحارث قال: أكلت عند صاحب بدعة أكلة فبلغ ذلك ابن المبارك فقال: لا كلمتك ثلاثين يوماً.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن بن المبارك يقول إنا لنحكي كلام اليهود والنصاري ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الحسن بن شقيق يقول قلت لعبد الله بن المبارك كيف يعرف ربنا عز وجل قال في السماء على العرش قلت له إن الجهمية تقول هذا قال لا نقول كما قالت الجهمية هو معنا ها هنا قلت الجهمية يقولون إن الباري تعالى في كل مكان والسلف يقولون إن علم الباري في كل مكان ويحتجون بقوله تعالى " وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ " يعني بالعلم ويقولون إنه على عرشه استوى كما نطق به القرآن والسنة وقال الأوزاعي وهو إمام وقته كنا والتابعون متوافرون تقول إن الله تعالى فوق عرشه ونؤمن بما وردت به السنة من صفاته ومعلوم عند أهل العلم من الطوائف أن مذهب السلف إمرار آيات الصفات وأحاديثها كما جاءت من غير تأويل ولا تحريف ولا تشيبه ولا تكييف فإن الكلام في الصفات فرع على الكلام في الذات المقدسة وقد علم المسلمون أن ذات الباري موجودة حقيقية لا مثل لها وكذلك صفاته تعالى موجودة لا مثل لها أخبرنا .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن علي بن الحسن بن شقيق قال سألت ابن المبارك كيف ينبغي لنا أن نعرف ربنا قال على السماء السابعة على عرشه ولا نقول كما تقول الجهمية إنه ها هنا في الأرض .(3/184)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن ابن المبارك أن رجلا قال له يا أبا عبد الرحمن قد خفت الله تعالى من كثرة ما أدعو على الجهمية قال لا تخف فإنهم يزعمون أن ألهك الذي في السماء ليس بشيء .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أحمد بن يونس قال :سمعت ابن المبارك قرأ شيئا من القرآن ثم قال من زعم أن هذا مخلوق فقد كفر بالله العظيم .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن العلاء بن الأسود قال: ذكر جهم عند ابن المبارك فقال :عجبت لشيطان أتى الناس داعيا * إلى النار وانشق اسمه من جهنم .
(12) خشية ابن المبارك لله تعالى :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الفضيل بن عياض قال : قال ابن المبارك: أكثركم علماً ينبغي أن يكون أشدكم خوفاً، وقال لي ابن المبارك: استعد للموت ولما بعد الموت، قال الفضيل: فشهق علي شهقة فلم يزل مغشياً عليه عامة الليل.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن نعيم بن حماد قال: كان ابن المبارك إذا قرأ كتاب الرقاق يصير كأنه ثور منحور أو بقرة منحورة من البكاء لايجترئ أحد منا أن يسأله عن شيء إلا دفعه.
(13) تواضع ابن المبارك رحمه الله :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن ابن المبارك قال : إذا عرف الرجل قدر نفسه يصير عند نفسه أذل من الكلب.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عبد الله بن المبارك يقول: أحب الصالحين ولست منهم، وأبغض الطالحين وأنا شر منهم، ثم أنشأ عبد الله يقول:
الصمت أزين بالفتى من منطق في غير حينه
والصدق أجمل بالفتى في القول عندي من يمينه
وعلى الفتى بوقاره سمة تلوح على جبينه
فمن الذي يخفى عليك إذا نظرت إلى قرينه
رب امريء متيقن غلب الشقاء على يقينه
فأزاله عن رأيه فابتاع دنياه بدينه(3/185)
(14) حسن أدب ابن المبارك في تذكير الناس بما تغافلوا عنه :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن ابن حميد قال عطس رجل عند ابن المبارك فقال له ابن المبارك أيش يقول الرجل إذا عطس قال الحمد لله فقال له يرحمك الله .
(15) حرص ابن المبارك على إخفاء العمل رحمه الله :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن محمد بن عيسى قال كان ابن المبارك كثير الاختلاف إلى طرطوس وكان ينزل الرقة في خان فكان شاب يختلف إليه ويقوم بحوائجه ويسمع منه الحديث فقدم عبد الله مرة فلم يره فخرج في النفير مستعجلا فلما رجع سأل عن الشاب فقال محبوس على عشرة آلاف درهم فاستدل على الغريم ووزن له عشرة آلاف وحلفه ألا يخبر أحدا ما عاش فأخرج الرجل وسرى ابن المبارك فلحقه الفتى على مرحلتين من الرقة فقال لي يا فتى أين كنت لم أرك قال يا أبا عبد الرحمن كنت محبوسا بدين قال وكيف خلصت قال جاء رجل فقضى ديني ولم أدر قال فأحمد الله ولم يعلم الرجل إلا بعد موت عبد الله .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عبدة بن سليمان المروزي قال : كنا سرية مع ابن المبارك في بلاد الروم فصادفنا العدو فلما التقى الصفان خرج رجل من العدو فدعا إلى البراز فخرج إليه رجل فقتله ثم آخر فقتله ثم آخر فقتله ثم دعا إلى البزاز فخرج إليه رجل فطارده ساعة فطعنه فقتله فازدحم إليه الناس فنظرت فإذا هو عبد الله بن المبارك واذا هو يكتم وجهه بكمه فأخذت بطرف كمه فمددته فإذا هو هو فقال وأنت يا أبا عمرو ممن يشنع علينا .
(16) دعوة ابن المبارك لكسب المال ليستعين به على طاعة الله :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ(3/186)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن علي بن الفضيل قال : سمعت أبي يقول لابن المبارك أنت تأمرنا بالزهد والتقلل والبلغة ونراك تأتي بالبضائع كيف ذا قال يا أبا علي إنما أفعل ذا لأصون وجهي وأكرم عرضي وأستعين به على طاعة ربي قال يا ابن المبارك ما أحسن ذا إن تم ذا .
(17) حفظ ابن المبارك وإتقانه رحمه الله :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن قال الحسن بن عيسى أخبرني صخر صديق ابن المبارك قال كنا غلمانا في الكتاب فمررت أنا وابن المبارك ورجل يخطب فخطب خطبة طويلة فلما فرغ قال لي ابن المبارك قد حفظتها فسمعه رجل من القوم فقال هاتها فأعادها وقد حفظها .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن نعيم بن حماد سمعت ابن المبارك قال لي أبي لئن وجدت كتبك لأحرقنها قلت وما علي من ذلك وهي في صدري .
(18) كان ابن المبارك مستجاب الدعوة رحمه الله :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن العباس بن مصعب قال: حدثني بعض أصحابنا قال سمعت أبا وهب يقول مر ابن المبارك برجل أعمى فقال له اسألك أن تدعو لي أن يرد الله علي بصري فدعا الله فرد عليه بصره وأنا أنظر .
(19) حُسن أداء ابن المبارك للأمانة رحمه الله :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الحسن بن عرفة قال : قال لي ابن المبارك استعرت قلما بأرض الشام فذهبت على أن أرده فلما قدمت مرو نظرت فإذا هو معي فرجعت إلى الشام حتى رددته على صاحبه.
(20) حُسن تدبر ابن المبارك للقرآن :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ(3/187)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن قال نعيم بن حماد قال رجل لابن المبارك قرأت البارحة القرآن في ركعة فقال لكني أعرف رجلا لم يزل البارحة يكرر (أَلْهَاكُمُ التّكّاثُرُ) إلى الصبح ما قدر أن ي يتجاوزها يعني نفسه.
(21) دعوة ابن المبارك إلى التغافل عن مساوئ الإنسان إذا غلبت محاسنه مساوئه :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن ابن المبارك : قال إذا غلبت محاسن الرجل على مساوئه لم تذكر المساوئ وإذا غلبت المساوئ عن المحاسن لم تذكر المحاسن .
(22) دعوة ابن المبارك إلى البعد عن السلطان :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن محبوب بن الحسن قال : سمعت ابن المبارك يقول من بخل بالعلم ابتلي بثلاث إما موت يذهب علمه وإما ينسى وإما يلزم السلطان فيذهب علمه.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الحسن بن الربيع قال: لما احتضر ابن المبارك في السفر قال أشتهي سويقا فلم نجده إلا عند رجل كان يعمل للسلطان وكان معنا في السفينة فذكرنا ذلك لعبد الله فقال دعوه فمات ولم يشربه.
(23) دعوة ابن المبارك إلى طول الصمت :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن حبيب الجلاب قال: سألت ابن المبارك ما خير ما أعطي الإنسان ؟ قال غريزة عقل، قلت فإن لم يكن ؟ قال حسن أدب، قلت فإن لم يكن ؟ قال أخ شفيق يستشيره، قلت فإن لم يكن؟ قال صمت طويل قلت فإن لم يكن ؟ قال موت عاجل .
غريزة عقل : أي يكون عنده عقل ، لأن بعض الناس سكوته أحسن من كلامه، وبعض الناس يعجبك حتى يتكلم، فإذا تكلم سقط، فالأحسن في مثل هذا أن يصمت.(3/188)
كان أبو حنيفة جالساً فقدم عليه رجل عليه شارة وأبهة، وجمال ووسامة وعمامة، وكان أبو حنيفة ماداً رجله، فضم رجله وتهيأ لاستقبال الرجل، واستقبله وأجلسه بجانبه، وهابه واستحى منه، فسكت الرجل فكان أبو حنيفة يستحي منه ويتكلم معه بوقار، ثم بدأ الرجل يسأل ويتكلم ـ أنطقه الله الذي أنطق كل شيء ـ قال: يا إمام! متى يفطر الصائم؟ قال: أبو حنيفة إذا غربت الشمس، قال: فإذا لم تغرب إلا نصف الليل؟ -حلها الآن! سمعتم عن شمس لا تغرب إلا نصف الليل، فلماذا يأتي الليل إذاً؟! سبب مجيء الليل غروب الشمس- قال: فإذا لم تغرب الشمس إلا نصف الليل؟ فمدد أبو حنيفة رجليه الإثنتين وقال: آن لأبي حنيفة أن يمد رجليه .
(24) دعوة ابن المبارك إلى بالغ الاهتمام بإخلاص النية :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ ـــ ـــ ـــ ــ ــ
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن ابن المبارك قال لا يقع موقع الكسب على العيال شيء ولا الجهاد في سبيل الله وقال رب عمل صغير تكثره النية ورب عمل كثير تصغره النية .
{ إنما الأعمال بالنيات } ربما تعمل عملاً قليلاً لكن بنيتك وإخلاصك وصدقك يكبر هذا العمل، فمثلاً من يتصدق بعشرة ريالات، لكنه لا يجد إلا هي وفي قلبه من الحب لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم وحب نصرة الإسلام وأن ينفع الله عز وجل بهذا الدين فيأجره الله كالجبال.
وبعضهم يتصدق بالمليون لكن فيه من الرياء والسمعة وحب الذكر، من يتبرع في مشاريع الخير الآن والجهاد، والفقراء والمساكين، ثم يطلب من الصحافة أن تعلن باسمه في الصحف والتلفاز والراديو، ما حكم هذا في الإسلام؟! فيأتون يقرءون على الأسماع، والصحف الصباحية: تبرع بمائة ألف ريال فلان بن فلان بن فلان، أين الإخلاص؟!
فإنه من سمَّعَ سمَّعَ الله به ومن يُرائي يُرائي الله به بنص السنة الصحيحة وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة :(3/189)
(حديثُ جندب ابن عبد الله في الصحيحين ) : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال من سمَّعَ سمَّعَ الله به ومن يُرائي يُرائي الله به .
(حديثُ أبي أُمامة صحيح النسائي ) : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال إن الله تعالى لا يقبلُ من العملِ إلا ما كان خالصاً وابتُغيَ به وَجهُهُ .
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها قال قاتلت فيك حتى استشهدت قال كذبت ولكنك قاتلت لأن يقال جريء فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها قال تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن قال كذبت ولكنك تعلمت العلم ليقال عالم وقرأت القرآن ليقال هو قارئ فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها قال ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك قال كذبت ولكنك فعلت ليقال هو جواد فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه ثم ألقي في النار .
(حديثُ أبي هريرةَ صحيح مسلم ) : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال - قال الله تعالى : أنا أغنى الشركاءِ عن الشرك ، من عمل عملاً أشركَ فيه معي غيري تركته وشركه .
(حديثُ جندب ابن عبد الله في الصحيحين ) : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال من سمَّعَ سمَّعَ الله به ومن
(حديثُ أبي أُمامة صحيح النسائي ) : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال إن الله تعالى لا يقبلُ من العملِ إلا ما كان خالصاً وابتُغيَ به وَجهُهُ .(3/190)
كان السلف إذا أراد أحدهم أن يتصدق جعل يده اليسرى في جيبه ، وكان علي بن الحسين زين العابدين رضي الله عنه وأرضاه إذا أظلم الليل ونام الناس، أخذ الصدقات وحملها على كتفه ووزعها على فقراء المدينة
، فلا يعلم الفقير من الذي أعطاه، لكن الواحد الأحد يعلم.
فيا أيها الإخوة لنتجنب الشهرة في أعمال الخير، ولنحذر الرياء والتبجح بما قدمنا قال تعالى: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً [الفرقان:23]
(25) دعوة ابن المبارك إلى الانشغال بصحيح الحديث عن سقيمه :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ ـــ ـــ ـــ ــ ــ ـــ ـــ ــ
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن ابن المبارك قال في صحيح الحديث شغل عن سقيمة .
يقول: يكفيك الحديث الصحيح عن غيره، فتشاغل به واستنبط منه، تجد بعض الناس حاطب ليل يتكلم من الأحاديث الموضوعة والضعيفة، والأحاديث الصحيحة لا يمسها، حتى إني أعلم أن بعض الشباب يركز مثلاً على غير الكتب الستة ليبرز للناس، ليقولوا: ماشاء الله يقرأ حتى وصل إلى الطبراني لِلَّهِ فدائماً يقول: رواه الطبراني ، رواه الدار قطني ، رواه ابن خزيمة ، هذا إذا كان طالب العلم متضلعاً في طلب الحديث، أو أحوجه العلم إلى ذلك الأثر فلا بأس، أما أن يذهب يقفز هناك ويترك كتب العلم المشهورة فهذا فيه نظر.(3/191)
فيا أيها الإخوة: يوجد من الوعاظ والخطباء من يأتي إلى الحديث الضعيف ويشرحه للناس، أليس عندنا أحاديث صحيحه؟ أليس عندنا البخاري ومسلم ؟ أنا أنصح الخطباء إذا تكلموا أن ينقلوا من القرآن ومن الصحيحين أو مما صححه الشيخ الألباني حفظه الله مثل صحيح أبي داود و صحيح الترمذي و صحيح النسائي و صحيح ابن ماجة و صحيح الأدب المفرد وصحيح الجامع والسلسلة الصحيحة وصحيح الترغيب والترهيب ، وهذا يكفي الناس، أما من يأتي بالغرائب، حديث علقمة، حديث ثعلبة، والناس يحبون الغرائب، حتى تجد في الترهيب والترغيب حديثاً يقول: { من قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله بنى الله له سبعين قصراً في الجنة، في كل قصر سبعين حورية، على كل حورية سبعين وصيفة، في كل سبعين وصيفة سبعين... } فيبقى في السبعين ساعة ونصف! كله موضوع، ألا تكفينا الأحاديث في البخاري ومسلم والكتب الصحاخ السالف ذكرها ؟!
فلا تشغل الأمة بالحديث الضعيف ولا الموضوع، ولا بالغرائب والخرافات والخزعبلات.
(26) دعوة ابن المبارك إلى التلقي عن الثقة :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ ـــ
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن المسيب بن واضح أنه سمع ابن المبارك وسأله رجل عمن يأخذ فقال قد يلقي الرجل ثقة وهو يحدث عن غير ثقة وقد يلقى الرجل غير ثقة يحدث عن ثقة ولكن ينبغي أن يكون ثقة عن ثقة .
(27) سلامة لسان ابن المبارك من الخوض في الصحابة :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ ـــ ـــ ــ ـــ ــ
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن نعيم بن حماد قال : سمعت ابن المبارك يقول السيف الذي وقع بين الصحابة فتنة ولا أقول لأحد منهم هو مفتون.(3/192)
معنى كلام ابن المبارك رحمه الله: " السيف الذي وقع بين الصحابة فتنة، ولا أقول أن أحداً منهم مفتون " يقول: الذي وقع بين الصحابة في الجمل وصفين فتنة، لكن لا أقول لأحد منهم: مفتون؛ لأن الله عصم الصحابة في مجموعهم من الفتنة فليسوا بأهل فتنة رضي الله عنهم، بل كلهم -إن شاء الله- في الجنة، لكن أن نقول: أنهم مفتونون أو نخوض فيهم، فحذارِ حذارِ من هذا، وليس من السداد أن يتكلم الإنسان في أعراض الصحابة، أو يخوض فيما شجر بينهم فإن الله قد غفر لهم سيئاتهم، وتقبل منهم حسناتهم، أسأل الله أن يجمعنا بهم في دار الكرامة.
(28) دعوة ابن المبارك إلى الخوف من أن يسلب الإنسان الإيمان وهو لا يشعر :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن ابن المبارك قال إن البصراء لا يأمنون من أربع: ذنب قد مضى لا يدري ما يصنع فيه الرب عز وجل وعمر قد بقي لا يدري ما فيه من الهلكة وفضل قد أعطي العبد لعله مكر واستدراج وضلالة قد زينت يراها هدى وزيغ قلب ساعة فقد يسلب المرء دينه ولا يشعر .
" إن البصراء ـ يعني: الأتقياء ـ لا يأمنون من أربع ": ذنب قد مضى لا يدرى ما يصنع الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى فيه ، وعمر قد بقي لا يدرى ما فيه من الهلكة ، وفضل قد أعطيه العبد لعله مكر واستدراج ، وزيغ قلب في ساعة "
ذنب قد مضى لا يدرى ما يصنع الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى فيه : فأنت خائف دائماً من الذنب الماضي، لا تدري ماذا يُصنع فيه، لأنه ليس عندك وثيقة أنه قد غفر لك .
وعمر قد بقي لا يدرى ما فيه من الهلكة : لا تدري ما يأتي من الفتن، نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن، قد يفاجأ العبد بفتنة تذهب عليه دينه، فعليه أن يعتصم بالله، وأن يخلص وأن يلتجئ إلى الله أن يعصمه من الفتن .(3/193)
وفضل قد أعطيه العبد لعله مكر واستدراج : بعض الناس يمكر به سُبحَانَهُ وَتَعَالَى بمال أو بغنى أو بمنصب حتى يتلفه بهذا الشيء ويظن أنه خير، ولكنه قد يكون شراً وضلالة قد زينت وهو يراها هدى .
وزيغ قلب في ساعة : فقد يسلب المرء دينه ولا يشعر، ببدعة وهوى وارتكاب الشبهات والشهوات، هذا مما يزيغ به قلب العبد.
(29) كان ابن المبارك لا يخشى في الحق لومة لائم :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن قال إبراهيم بن نوح الموصلي قدم الرشيد عين زربة فأمر أبا سليم أن يأتيه بابن المبارك قال فقلت لا آمن أن يجيب ابن المبارك بما يكره فيقتله فقلت يا أمير المؤمنين هو رجل غليظ الطباع جلف فأمسك الرشيد.
(30) تحذير ابن المبارك من الكبر والعجب والعياذ بالله :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أبو وهب المروزي قال : سألت ابن المبارك ما الكبر قال أن تزدري الناس فسألته عن العجب قال أن ترى أن عندك شيئا ليس عند غيرك لا أعلم في المصلين شيئا شرا من العجب .
(31) شجاعة ابن المبارك رحمه الله :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ(3/194)
كان ابن المبارك رحمه الله من الشجاعة بالمكان الجهير، وله في ساحة الجهاد نوادر ذائعة، فقد كان في سرية ببلاد الروم خرجت للاستطلاع لا للقتال، ففاجأتها قوة ضخمة من الأعداء، واصطف الفريقان ونهض فارس رومي يدعو للمبارزة وفقًا لما كان معهودًا إذ ذاك، فتقدم إليه بطل مسلم، فلم يستطع نزاله، وخر شهيدًا، وتقدم ثانٍ فكانت النتيجة هي النتيجة، وتخوف المسلمون وذعروا من رهبة هذا الصائل الفاتك. وغلا الدم في رأس ابن المبارك، فخف إليه، واشتد الصراع بين الفارسين، وكل منهما يبدي من أساليب الصيال ما في طوقه كرًّا وفرًّا، في واقعة شديدة، لم ير الناس أرهب منها! ثم حصلت المفاجأة حين طعن ابن المبارك غريمه طعنة أصابت منه مقتلاً فسقط على الأرض، وكبر المسلمون، ورجع ابن المبارك وقد غطى وجهه حتى لا يشتهر بين الناس.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عبدة بن سليمان المروزي قال : كنا سرية مع ابن المبارك في بلاد الروم فصادفنا العدو فلما التقى الصفان خرج رجل من العدو فدعا إلى البراز فخرج إليه رجل فقتله ثم آخر فقتله ثم آخر فقتله ثم دعا إلى البزاز فخرج إليه رجل فطارده ساعة فطعنه فقتله فازدحم إليه الناس فنظرت فإذا هو عبد الله بن المبارك واذا هو يكتم وجهه بكمه فأخذت بطرف كمه فمددته فإذا هو هو فقال وأنت يا أبا عمرو ممن يشنع علينا .
لقد كان الإمام العالم يعرف فضل الجهاد، وهو الذي أرسل إلى أخيه الفضيل بن عياض برسالة يقول فيها:
[*] روى الحافظ ابن عساكر في تاريخ مدينة دمشق عن محمد بن إبراهيم بن أبي سكينة قال: أملي عليَّ عبد اللّه بن المبارك هذه الأبيات بطرسوس وأنشدها إلى الفضيل بن عياض في سنة سبعين ومائة:
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا ... لعلمت أنك في العبادة تلعب
من كان يخضب خده بدموعه ... فنحورنا بدمائنا تتخضب
أو كان يتعب خيله في باطل ... فخيولنا يوم الصبيحة تتعب
ريح العبير لكم ونحن عبيرنا ... رهج السنابك والغبار الأطيب(3/195)
ولقد أتانا من مقال نبينا ... قول صحيح صادق لا يكذب
لا يستوي غبَّار خيل اللّه في ... أنف امرىء ودخان نار تلهب
هذا كتاب اللّه ينطق بيننا ... ليس الشهيد بميت لا يكذب
قال : فلقيت الفضيل بن عياض بكتابه في المسجد الحرام ، فلما قرأه ذرفت عيناه وقال: صدق أبو عبد الرحمن ونصحني ، ثم قال : أنت ممن يكتب الحديث ؟ قال : قلت : نعم ، قال : فاكتب هذا الحديث كراء حملك كتاب أبي عبد الرحمن إلينا ، وأملى عليّ الفضيل بن عياض :
حدثنا منصور بن المعتمر ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة أن رجلاً قال : يا رسول اللّه علِّمني عملاً أنال به ثواب المجاهدين في سبيل اللّه ، فقال : "هل تستطيع أن تصلي فلا تفتر ، وتصوم فلا تفطر ؟ " فقال : يا رسول اللّه أنا أضعف من أن أستطيع ذلك ، ثم قال النبي صلى اللّه عليه وسلم : " فوالذي نفسي بيده لو طُوِّقت ذلك ما بلغت المجاهدين في سبيل الله ، أوما علمت أن الفرس المجاهد ليستن في طوله فيكتب له بذلك الحسنات ؟!
والحديث رواه البخاري في كتاب الجهاد والسير ، باب الجهاد والسير .
(32) كان ابن المبارك شاعرا مُحْسِنَاً قَوَّالاً بالحق :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
[*] قال الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء : وقد كان ابن المبارك رحمه الله شاعرا مُحْسِنَاً قَوَّالاً بالحق قال أحمد بن جميل المروزي قيل لابن المبارك إن إسماعيل بن عليه قد ولي القضاء فكتب إليه
يا جاعل العلم له بازيا * يصطاد أموال المساكين
احتلت للدنيا ولذاتها * بحيلة تذهب بالدين
فصرت مجنونا بها بعدما * كنت دواء للمجانين
أين رواياتك في سردها * * عن ابن عون وابن سرين
أين رواياتك فيما مضى * * في ترك أبواب السلاطين
إن قلت أكرهت فما ذا كذا * زل حمار العلم في الطين(3/196)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن محمد بن إبراهيم بن أبي سكينة قال أملى علي ابن المبارك سنة سبع وسبعين ومئة وأنفذها معي إلى الفضل بن عياض من طرسوس
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا * لعلمت أنك في العبادة تلعب
من كان يخضب جيده بدموعه * فنحورنا بدائنا تتخضب
أو كان يتعب خيلة في باطل * فخيولنا يوم الصبيحة تتعب
ريح العبير لكم ونحن عبيرنا * رهج السنابك والغبار الأطيب
ولقد أتانا من مقال نبينا * قول صحيح صادق لا يكذب
لا يستوي وغبار خيل الله في * أنف امرئ ودخان نار تلهب
هذا كتاب الله ينطق بيننا * ليس الشهيد بميت لايكذب
فلقيت الفضيل بكتابه في الحرم فقرأه وبكى ثم قال صدق أبو عبد الرحمن ونصح .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن ابن سهم الأنطاكي قال: سمعت ابن المبارك ينشد
فكيف قرت لأهل العلم أعينهم * أو استلذوا لذيذ النوم أو هجعوا
والنار ضاحية لابد موردها * وليس يدرون من ينجو ومن يقع
وطارت الصحف في الأيدي منشرة * فيها السرائر والجبار مطلع
إما نعيم وعيش لا انقضاء له * أو الجحيم فلا نبقي ولا تدع
تهوي بساكنها طورا وترفعه * إذا رجوا مخرجا من غمها قمعوا
لينفع العلم قبل الموت عالمه * قد سال قوم بها الرجعى فما رجعوا
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن إسحاق بن سنين أنه روى لابن المبارك
إني امرؤ ليس في ديني لغامره * لين ولست على الإسلام طعانا
فلا أسب أبا بكر ولا عمرا * ولن أسب معاذ الله عثمانا
ولا ابن عم رسول الله أشتمه * حتى ألبس تحت الترب أكفانا
ولا الزبير حواري الرسول ولا * أهدي لطلحة شتما عز أو هانا
ولا أقول علي في السحاب إذا * قد قلت والله ظلما ثم عدوانا
ولا أقول بقول الجهم إن له * قولا يضارع أهل الشرك أحيانا
ولا أقول تخلى من خليقته * رب العباد وولى الأمر شيطانا
ما قال فرعون هذا في تمرده * فرعون موسى ولا هامان طغيانا(3/197)
الله يدفع بالسطان معضلة * عن ديننا رحمة منه ورضوانا
لولا الأئمة لم تأمن لنا سبل * وكان أضعفنا نهبا لأقوانا
فيقال إن الرشيد أعجبه هذا فلما أن بلغه موت ابن المبارك بهيت قال إنا لله وإنا أليه راجعون يا فضل إيذن للناس يعزونا في ابن المبارك وقال أما هو القائل الله يدفع بالسلطان معضلة فمن الذي يسمع هذا من ابن المبارك ولا يعرف حقنا .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عبدة بن عبد الرحيم قال كنت عند فضيل ابن عياض وعنده ابن المبارك فقال قائل إن أهلك وعيالك قد احتاجوا مجهودين محتاجين إلة هذا المال فاتق الله وخذ من هؤلاء القوم فزجره ابن المبارك وأنشأ يقول :
خذ من الجاروش وال * رز والخبز الشعير
واجعلن ذاك حلالا * تنج من حر السعير
وأنا ما اسطعت هدا * ك الله عن دار الأمير
لا تزرها واجتنبها * إنها شر مزور
توهن الدين وتد * نيك من الحواب الكبير
قبل أن تسقط * يا مغرور في حفرة بير
وارض يا ويحك من * دنياك بالقوت اليسير
إنها دار بلاء * وزوال وغرور
ماترى قد صرعت * قبلك أصحاب القصور
كم ببطن الأرض من * ثاو شريف ووزير
وصغير الشأن عبد * خامل الذكر حقير
لو تصفحت وجو * ه القوم في يوم نضير
لم تميزهم ولم * تعرف غنيا من فقير
خمدوا فالقوم صرعى * تحت أشقاق الصخور
واستووا عند مليك * بمساويهم خبير
احذر الصرعة يا * مسكين من دهر عثور
أين فرعون وها * مان ونمرود النسور
أو ما تخشاه أن * يرميك بالموت المبير
أو ما تحذر من * يوم عبوس قمطرير
اقمطر الشر فيه * بعذاب الزمهرير
قال فغشي على الفضيل فرد ذلك ولم يأخذه
ولابن المبارك :
جربت نفسي فما وجدتها لها * من بعد تقوى الإله كالأدب
في كل حالاتها وإن كرهت * أفضل من صمتها عن الكذب
أو غيبة الناس إن عيبتهم * حرمها ذو الجلال في الكتب
قلت لها طائعا وأكرهها * الحلم والعلم زين ذي الحسب
إن كان من فضة كلامك يا * نفس فإن السكوت من ذهب(3/198)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أبي العباس السراج قال : أنشدني يعقوب بن محمد لابن المبارك :
أبإذن نزلت بي يا مشيب * أي عيش وقد نزلت يطيب
وكفى الشيب واعظا غير أني * آمل العيش والممات قريب
وكم أنادي الشباب إذ بان * مني وندائي موليا ما يجيب
وبه
ياعائب الفقر ألا تزدجر * عيب الغنى أكثر لو تعتبر
من شرف الفقر ومن فضله * على الغنى لو صح منك النظر
أنك تعصي لتنال الغنى * وليس تعصي الله كي تفتقر
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن حبان بن موسى قال : سمعت ابن المبارك ينشد
كيف القرار وكيف يهدأ مسلم * والمسلمات مع العدو المعتدي
الضاربات خدودهن برنة * الداعيات نبيهن محمد
القائلات إذا خشين فضيحة * جهد المقالة ليتنا لم نولد
ما تستطيع ومالها من حيلة * إلا التستر من أخيها باليد
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أبي إسحاق الطالقاني قال: كنا عند ابن المبارك فانهد القهندز فأتى بسنين فوجد وزن أحدهما منوان فقال عبد الله
أتيت بسنين قد رمتا * من الحصن لما أثاروا الدفينا
على وزن منوين إحداهما * تقل به الكف شيئا رزينا
ثلاثون سنا على قدرها * تباركت يا أحسن الخالقينا
فماذا يقوم لأفواهها * وما كان يملأ تلك البطونا
إذا ما تذكرت أجسامهم * تصاغرت النفس حتى تهونا
وكل على ذاك ذاق الردى * فبادوا جميعا فهم هامدونا
وجاء من طرق عن ابن المبارك ويقال بل هي لحميد النحوي
اغتنم ركعتين زلفى إلى الله * إذا كنت فارغا مستريحا
وإذا ما هممت بالنطق بالباطل * فاجعل مكانه تسبيحا
فاغتنام السكوت أفضل من * خوض وإن كنت بالكلام فصيحا
وسمع بعضهم ابن المبارك وهو ينشد على سور طرسوس
ومن البلاء وللبلاء علامة * أن لايرى لك عن هواك نزوع
العبد عبد النفس في شهواتها * والحر يشبع مرة ويجوع(3/199)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أبي أمية الأسود قال سمعت ابن المبارك يقول أحب الصالحين ولست منهم وأبغض الطالحين وأنا شر منهم ثم أنشأ يقول
الصمت أزين بالفتى * من منطق في غير حينه
والصدق أجمل * بالفتى في القول عندي من يمينه
وعلى الفتى بوقاره * سمة تلوح على جبينه
فمن الذي يخفي علي * اذا نظرت إلى قرينه
رب امرئ متيقن * غلب الشقاء على يقينه
فأزاله عن رأيه * فابتاع دنياه بدينه
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أبي صالح الفراء قال : سمعت ابن المبارك يقول
المرء مثل هلال عند رؤيته * يبدو ضئيلا تراه ثم يتسق
حتى إذا ما تراه ثم اعقبه * كر الجديدن نقصا ثم يمحق
(33) حرص ابن المبارك على تلقي العلم مع الأدب :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
كان ابن المبارك يسير على منهج السلفِ الصالحِ في التعلم حيث كان منهجهم في التعلم ( أن يتلقوْا العلمَ مع الأدب ) لأن العلمَ بلا أدبٍ يجني على صاحبه ويُهلكه لأن الأدب طريقُ العلم النافع : فطالب العلم لن ينال العلم وبركته بدون أدب لأن العلمَ بلا أدبٍ يجني على صاحبه ويُهلكه ، وقد حذّر السلف كثيراً من طلب العلم بدون أدب ، فقال الإمام البوشنجي الفقيه المالكي (ت:291هـ ) ( من أراد العلم والفقه بغير أدب فقد اقتحم أن يكذب على الله ورسوله) سير أعلام النبلاء (13/586) للذهبي .
[*] أورد الإمام بن الجزري في غاية النهاية في طبقات القُراء عن ابن المبارك قال: طلبت الأدب ثلاثين سنة ، وطلبت العلم عشرين سنة ، وكانوا يطلبون الأدب ثم العلم .
[*] أورد ابن الجوزي في صفة الصفوة عن ابن المبارك قال : كاد الأدب يكون ثلثي العلم .
وفاة ابن المبارك وماله من المبشرات :(3/200)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أحمد بن عبد الله العجلي قال: حدثني أبي قال لما احتضر ابن المبارك جعل رجل يلقنه قل لا اله إلا الله فأكثر عليه فقال له لست تحسن وأخاف أن تؤذي مسلما بعدي إذا لقنتني فقلت لا اله إلا الله، ثم لم أحدث كلاما بعدها فدعني فإذا أحدثت كلاما فلقني حتى تكون آخر كلامي.
{ تنبيه } : السنة إذا لقنت المحتضر لا إله إلا الله ألا تعيدها عليه إلا إذا تكلم بكلام أو أغمي عليه فقل: قل لا إله إلا الله، أما أن تبقى عند رأسه وتقول: قل لا إله إلا الله، قل لا إله إلا الله فلا، ويكفي مرة فإذا قال: لا إله إلا الله فاصبر لأن هذه هي السنة، لأنه في حشرجة وفي هول، وفي ساعة ما مر بالعالم مثلها، الساعة التي يذعن فيها الجبار، ويذل فيها المتكبر، ويضعف فيها القوي ويتوب فيها العاصي، ساعة أليمة سوف نمر بها جميعاً، أسأل الله أن يسهلها علينا وعليكم.
فمن السنة ألا تضجره فإن أمامه هول وفزع وخوف ومشقة، يتذكر صحفه وعمره وسيئاته، ثم تلاحقه: قل لا إله إلا الله قل: لا إله إلا الله .
[*] قال الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء : يقال إن الرشيد لما بلغه موت عبد الله قال مات اليوم سيد العلماء.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عبدان بن عثمان قال: مات ابن المبارك بهيت وعانات في شهر رمضان سنة إحدى وثمانين ومئة .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن حسن بن الربيع قال : قال لي ابن المبارك قبل أن يموت أنا ابن ثلاث وستين سنة .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن قال أحمد بن حنبل ذهبت لأسمع من ابن المبارك فلم أدركه وكان قد قدم بغداد فخرج إلى الثغر ولم أره .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الحسن بن الربيع يقول شهدت موت ابن المبارك مات لعشر مضى من رمضان سنة إحدى وثمانين ومئة ومات سحرا ودفناه بهيت .(3/201)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن محمد بن الفضيل بن عياض قال: رأيت ابن المبارك في النوم فقلت أي العمل أفضل قال الأمر الذي كنت فيه قلت الرباط والجهاد قال نعم قلت فما صنع بك ربك قال غفر لي مغفرة ما بعدها مغفرة .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أبي حاتم الفربري يقول رأيت ابن المبارك واقفا على باب الجنة بيده مفتاح فقلت ما يوقفك ههنا قال هذا مفتاح الجنة دفعه الي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال حتى أزور الرب فكن أميني في السماء كما كنت أميني في الأرض .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن إسماعيل بن إبراهيم المصيصي قال : رأيت الحارث بن عطية في النوم فسألته فقال غفر لي قلت فابن المبارك قال بخ بخ ذاك في علين ممن يلج على الله كل يوم مرتين .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن نوفل قال رأيت ابن المبارك في النوم فقلت ما فعل الله بك قال غفر لي برحلتي في الحديث عليك بالقرآن عليك بالقرآن .
سيرة إبراهيم بن أدهم رحمه الله :
اسم إبراهيم بن أدهم ونسبه :
[*] قال الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء :
إبراهيم بن أدهم ابن منصور بن يزيد بن جابر القدوة الإمام العارف سيد الزهاد أبو إسحق العجلي وقيل التميمي الخراساني البلخي نزيل الشام .
مولد إبراهيم بن أدهم رحمه الله :
[*] قال الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء :
مولده في حدود المئة . أهـ
أي أنه ولد سنة مائة من الهجرة تقريبًا.
من حدث عنهم إبراهيم بن أدهم :
[*] قال الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء :
حدث عن أبيه ومحمد بن زياد الجمحي صاحب أبي هريرة وأبي إسحاق السبيعي ومنصور بن المعتمر ومالك بن دينار وأبي جعفر محمد بن علي وسليمان الأعمش وابن عجلان ومقاتل بن حيان .
من حدثوا عن إبراهيم بن أدهم :
[*] قال الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء :(3/202)
حدث عنه رفيقه سفيان الثوري وشقيق البلخي وبقية بن الوليد وضمرة بن ربيعة ومحمد بن حمير وخلف بن تميم ومحمد بن يوسف الفريابي وإبراهيم بن بشار الخراساني خادمه وسهل بن هاشم وعتبة بن السكن وحكى عنه الأوزاعي وأبو إسحاق الفزاري .
قصة توبة إبراهيم بن أدهم رحمه الله :
كان والد إبراهيم بن أدهم من أغنى أغنياء خراسان وأحد ملوكها، ولد (إبراهيم) بمكة حينما خرج أبوه وأمه إلى الحج عام مائة هـ أو قريبًا منها، وفتح عينيه على الحياة؛ ليجد الثراء يحيط به من كل جانب؛ فعاش حياة الترف والنعيم، يأكل ما يشاء من أطيب الطعام، ويركب أحسن الجياد، ويلبس أفخم الثياب.
وفي يوم من الأيام خرج إبراهيم ابن ادهم راكبًا فرسه، وكلبه معه، وأخذ يبحث عن فريسة يصطادها، وكان إبراهيم يحب الصيد، وبينما هو كذلك إذ سمع نداء من خلفه يقول له: (يا إبراهيم ليس لذا خلقت، ولا بذا أمرت) فوقف ينظر يمينه وشماله، ويبحث عن مصدر هذا الصوت فلم ير أحدًا، فأوقف فرسه ثم قال: والله لا عصيت الله بعد يومي ذا ما عصمني ربي.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن يونس البلخي قال كان إبراهيم بن أدهم من الأشراف وكان أبوه كثير المال والخدم والمراكب والجنائب والبزاة فبينا إبراهيم في الصيد على فرسه يركضه إذا هو بصوت من فوقه يا إبراهيم ما هذا العبث " (أَفَحَسِبْتُمْ أَنّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً ) [ المؤمنون :115] " اتق الله عليك بالزاد ليوم الفاقة فنزل عن دابته ورفض الدنيا .(3/203)
ورجع إبراهيم بن أدهم إلى أهله، فترك حياة الترف والنعيم ورحل إلى بلاد الله الواسعة ليطلب العلم، وليعيش حياة الزهد والورع والتقرب إلى الله سبحانه وتعالى، ولم يكن إبراهيم متواكلاً يتفرغ للعبادة والزهد فقط ويعيش عالة على غيره، بل كان يأكل من عمل يده، ويعمل أجيرًا عند أصحاب المزارع، يحصد لهم الزروع، ويقطف لهم الثمار ويطحن الغلال، ويحمل الأحمال على كتفيه، وكان نشيطًا في عمله، يحكي عنه أنه حصد في يوم من الأيام ما يحصده عشرة رجال، وفي أثناء حصاده كان ينشد قائلا: اتَّخِذِ اللَّه صاحبًا... ودَعِ النَّاسَ جانبا.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن علي بن بكار قال : كان إبراهيم من بني عجل كريم الحسب وإذا حصد ارتجز وقال * اتخذ الله صا حبا ودع الناس جانبا * وكان يلبس فروا بلا قميص وفي الصيف شقتين بأربعة دراهم إزار ورداء ويصوم في الحضر والسفر ولا ينام الليل وكان يتفكر ويقبض أصحابه أجرته فلا يمسها بيده ويقول كلوا بها شهواتكم وكان ينطر وكان يطحن بيد واحدة مدين من قمح .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء أن إبراهيم بن أدهم حصد ليلة ما يحصده عشرة فأخذ أجرته دينارا .
[*] مناقب إبراهيم بن أدهم رحمه الله :
كان إبراهيم بن أدهم رحمه الله من أئمة تابعي التابعين ، من أئمة الهدى وأعلام التقى ومصابيح الدجى ، من حلية الأولياء وأعلام النبلاء ،الأضواء اللامعة والنجوم الساطعة .
وهاك غَيْضٍ من فيض ونقطةٍ من بحر مما ورد في مناقبه جملةً وتفصيلا رحمه الله تعالى :
أولاً مناقب إبراهيم بن أدهم جملةً رحمه الله :
(1) ثناء العلماء على إبراهيم بن أدهم رحمه الله :
(2) يقين إبراهيم بن أدهم بالله تعالى :
(3) تواضع إبراهيم بن أدهم بالله تعالى :
(4) زهد إبراهيم بن أدهم بالله تعالى وصبره :
(5) خشية إبراهيم بن أدهم لله تعالى :
(6) إيثار إبراهيم بن أدهم للخمول ونكران الذات :(3/204)
(7) من دُررِ مواعظ إبراهيم بن أدهم :
(8) دعوة إبراهيم بن أدهم إلى الخروج من المظالم :
(9) عظيم تحري إبراهيم بن أدهم لأكل الحلال :
(10) ما حصل لإبراهيم بن أدهم من كرامات الأولياء :
(11) تحذير إبراهيم بن أدهم من علماء السوء :
(12) مَقْتُ إبراهيم بن أدهم لنفسه في جنب الله :
(13) حسن بيان إبراهيم بن أدهم لأسباب موت القلوب :
(14) جود إبراهيم بن أدهم وسخاؤه :
(15) كان إبراهيم بن أدهم مستجاب الدعوة رحمه الله :
ثانياً مناقب إبراهيم بن أدهم تفصيلا رحمه الله:
(1) ثناء العلماء على إبراهيم بن أدهم رحمه الله :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
[*] قال عنه الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء :
ومنهم الحازم الأحرم، والعازم الألزم، أبو إسحاق إبراهيم بن أدهم أيد بالمعارف فوجد، وأمد بالملاطف فعبد، كان عن المقطوع والمرذول وبالمرفوع الموصول متشاغلاً، كان شرع الرسول نهجه، واختياره عليه السلام مرجعه ألف الميمون الموصول، وخالف المفتون المخذول.
[*] وقال عنه الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء :
إبراهيم بن أدهم ابن منصور بن يزيد بن جابر القدوة الإمام العارف سيد الزهاد أبو إسحق العجلي وقيل التميمي الخراساني البلخي نزيل الشام .
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن إبراهيم بن أدهم يقول: كان أدهم رجلاً صالحاً فولد إبراهيم بمكة فرفعه في خرقة وجعل يتتبع أولئك العباد والزهاد ويقول: ادعوا الله له، يرى أنه قد استجيب لبعضهم فيه.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أبي إسحاق الفزاري، قال: كان إبراهيم بن أدهم في شهر رمضان يحصد الزرع بالنهار ويصلي بالليل، فمكث ثلاثين يوماً لا ينام بالليل ولا بالنهار.(3/205)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن مخلد بن الحسين، قال: ما أنتبهت من الليل إلا أصبت إبراهيم بن أدهم يذكر الله فأغتم، ثم أتعزى بهذه الآية: ( ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ ) [ الحديد:21 ] ، [ الجمعة:4]
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أبي سليمان الدارأني، قال: صلى إبراهيم بن أدهم خمس عشرة صلاة بوضوء واحد.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن إبراهيم بن أدهم يقول: رأني محمد بن عجلان فاستقبل القبلة ثم سجد، فقال: أتدري لم سجدت؟ سجدت شكرا لله تعالى حيث رأيتك.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن النسائي قال:هو ثقة مأمون أحد الزهاد .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن خلف بن تميم قال : سمعت إبراهيم يقول رآني ابن عجلان فاستقبل القبلة ساجدا وقال سجدت لله شكرا حين رأيتك .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عبد الرحمن بن مهدي قال: قلت لابن المبارك إبراهيم بن أدهم ممن سمع قال قد سمع من الناس وله فضل في نفسه صاحب سرائر وما رأيته يظهر تسبيحا ولا شيئا من الخير ولا أكل مع قوم قط إلا كان آخر من يرفع يده .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أبي نعيم سمعت سفيان الثوري يقول كان إبراهيم بن أدهم يشبه إبراهيم الخليل ولو كان في الصحابة لكان رجلا فاضلا.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن بشر الحافي قال : ما أعرف عالما إلا وقد أكل بدينه إلا وهيب بن الورد وإبراهيم بن أدهم ويوسف بن أسباط وسلم الخواص .
(2) يقين إبراهيم بن أدهم بالله تعالى :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ(3/206)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن إبراهيم بن بشار الخراساني خادم إبراهيم بن أدهم، قال: أمسينا مع إبراهيم بن أدهم ذات ليلة وليس معنا شيء نفطر عليه ولا بنا حيلة، فرآني مغتماً حزيناً، فقال: يا إبراهيم بن بشار ماذا أنعم الله تعالى على الفقراء والمساكين من النعيم والراحة في الدنيا والآخرة، لا يسألهم الله يوم القيامة عن زكاة، ولا عن حج، ولا عن صدقة، ولا عن صلة رحم، ولا عن مواساة، وإنما يسأل ويحاسب عن هذا هؤلاء المساكين أغنياء في الدنيا فقراء في الآخرة، أعزة في الدنيا أذلة يوم القيامة، لا تغتم ولا تحزن فرزق الله مضمون سيأتيك، نحن والله الملوك الأغنياء، نحن الذين قد تعجلنا الراحة في الدنيا، لا نبالي على أي حال أصبحنا وأمسينا، إذ أطعنا الله عز وجل، ثم قام إلى صلاته وقمت إلى صلاتي فما لبثنا إلا ساعة إذا نحن برجل قد جاء بثمانية أرغفة وتمر كثير فوضعه بين أيدينا وقال: كلوا رحمكم الله، قال: فسلم وقال: كل يا مغموم، فدخل سائل فقال: أطعموني شيئاً، فأخذ ثلاثة أرغفة مع تمر فدفعه إليه وأعطاني ثلاثة وأكل رغيفين، وقال: المواساة من أخلاق المؤمنين.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن خلف بن تميم، قال: كنا مع إبراهيم ابن أدهم في سفر له فأتاه الناس، فقالوا:أن الأسد قد وقف على طريقنا، قال:فأتاه، فقال: يا أبا الحارث، إن كنت أمرت فينا بشيء فامض لما أمرت به، وإن لم تكن أمرت فينا بشيء فتنح عن طريقنا، قال: فمضى وهو يهمهم، فقال لنا إبراهيم ابن أدهم: وما على أحدكم إذا أصبح وإذا أمسى أن يقول: اللهم احرسنا بعينك التي لا تنام واحفظنا بركنك الذي لا يرام، وارحمنا بقدرتك علينا ولا تهلكنا وأنت الرجاء، قال إبراهيم:أني لأقولها على ثيابي ونفقتي فما فقدت منها شيئاً.(3/207)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عطاء بن مسلم قال:سمعت رجلا من أصحاب إبراهيم بن أدهم يقول: خرجنا إلى الجبل فاكترأنا قوم نقطع الخشب يهبون منه القصالح والأقداح، فبينما إبراهيم يصلي إذ أقبل السبع فإنصدع الناس فدنوت منه فقلت: الأ ترى ما الناس فيه؟ قال: وما لهم? قلت:هذا السبع خلف ظهرك، فالتفت إليه فقال: يا خبيث وراءك، ثم قال: الأ قلتم حين نزلتم:اللهم احرسنا بعينك التي لا تنام، واكنفنا بكنفك الذي لا يرام، وارحمنا بقدرتك علينا، ولا تهلكنا وأنت ثقتنا ورجاؤنا.
(3) تواضع إبراهيم بن أدهم بالله تعالى :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
كان إبراهيم بن أدهم رحمه الله تعالى شديد التواضع، محذراً من الكبر والعجب والعياذ بالله تعالى .
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن إبراهيم بن بشار الرطابي، قال: بينا أنا وإبراهيم بن أدهم وأبو يوسف الغسولي وأبو عبد الله السخاوي ونحن متوجهون نريد الاسكندرية فصرنا إلى نهر يقال له نهر الأردن فقعدنا نستريح فقرب أبو يوسف الغسولي فقرب أبو يوسف الغسولي كسيرات يابسات فأكلنا وحمدنا وحمدنا الله تعالى، وقام أحدنا ليسقى إبراهيم فسارعه فدخل النهر حتى بلغ الماء ركبتيه ثم قال بسم الله فشرب، ثم قال: الحمد لله ثم يبدأ ثانية فقال بسم الله، ثم شرب ثم قال الحمد لله ثم خرج، فمد رحليه ثم قال: يا أبا يوسف: لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من السرور والنعيم إذا لجالدونا على ما نحن فيه بأسيافهم أيام الحياة على ما نحن فيه من لذة العيش وقلة التعب، زاد جعفر فقلت له: يا أبا إسحاق طلب القوم الراحة والنعيم فأخطأوا الطريق المستقيم فتبسم ثم قال: من أين لك هذا الكلام ؟.(3/208)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم في الحلية عن إبراهيم بن أدهم إياكم والكبر، إياكم والأعجاب بالأعمال، أنظروا إلى من دونكم ولا تنظروا إلى من فوقكم، من ذلل نفسه رفعه مولاه، ومن خضع له أعزه، ومن اتقاه وقاه، ، ومن أقبل إليه أرضاه، ومن توكل عليه كفاه، ومن سأله أعطاه، ومن أقرضه قضاه، ومن شكره جازاه فينبغي للعبد أن يزن نفسه قبل أن يوزن، ويحاسب نفسه قبل أن يحاسب، ويتزين ويتهيأ للعرض على الله العلي الأكبر.
(4) زهد إبراهيم بن أدهم بالله تعالى وصبره :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ(3/209)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن إبراهيم بن بشار قال: ما رأيت في جميع من لقيته من العباد والعلماء والصالحين والزهاد أحداً يبغض الدنيا ولا ينظر إليها مثل إبراهيم بن أدهم، ربما مررنا على قوم قد هدموا حائطا أو دارا أو حانوتا فيحول وجهه ولا يملأ عينيه من النظر إليه، فعاتبته على ذلك، فقال: يا ابن بشار اقرأ ما قال الله تعالى: ( لِيَبْلُوَكُمْ أَيّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ) [ الملك : 2] و لم يقل أيكم أحسن عمارة للدنيا وأكثر حبا وذخرا وجمعا لها، ثم بكى وقال: صدق الله عز اسمه فيما يقول: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنّ وَالإِنسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ) [ الذاريات : 56] و لم يقل وما خلقت الجن والأنس إلا ليعمروا الدنيا ويجمعوا الأموال، ويبنوا الدور ويشيدوا القصور ويتلذذوا ويتفكهوا، ويجعل يومه أجمع يردد ذلك ويقول: (فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ) [ الأنعام: 90]. قال تعالى: (وَمَآ أُمِرُوَاْ إِلاّ لِيَعْبُدُواْ اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ حُنَفَآءَ وَيُقِيمُواْ الصّلاَةَ وَيُؤْتُواْ الزّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ القَيّمَةِ) [ البينة : 5] وسمعته يقول: قد رضينا من أعمالنا بالمعاني، ومن التوبة بالتواني ، ومن العيش الباقي بالعيش الفاني. وكان يقول: إياكم والكبر، إياكم والأعجاب بالأعمال، أنظروا إلى من دونكم ولا تنظروا إلى من فوقكم، من ذلل نفسه رفعه مولاه، ومن خضع له أعزه، ومن اتقاه وقاه، ، ومن أقبل إليه أرضاه، ومن توكل عليه كفاه، ومن سأله أعطاه، ومن أقرضه قضاه، ومن شكره جازاه فينبغي للعبد أن يزن نفسه قبل أن يوزن، ويحاسب نفسه قبل أن يحاسب، ويتزين ويتهيأ للعرض على الله العلي الأكبر.(3/210)
قال: وسمعت إبراهيم يقول: اشغلوا قلوبكم بالخوف من الله، وأبدانكم بالدأب في طاعة الله، ووجوهكم بالحياء من الله، وألسنتكم بذكر الله، وغضوا أبصاركم عن محارم الله، فإن الله تعالى أوحى إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم يا محمد كل ساعة تذكرني فيها فهي لك مذحورة، والساعة التي لا تذكرني فيها فليست لك، وهي عليك لا لك.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن إبراهيم بن أدهم: أقرب الزهاد من الله عز وجل أشدهم خوفا، وأحب الزهاد إلى الله أحسنهم له عملا، وأفضل الزهاد عند الله أعظمهم فيما عنده رغبة، وأكرم الزهاد عليه أتقاهم له، وأتم الزهاد زهدا أسخاهم نفسا وأسلمهم صدرا، وأكمل الزهاد زهدا أكثرهم يقينا .
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن إبراهيم بن أدهم قال : الزاهد يكتفي من الأحاديث والقال والقيل وما كان وما يكون بقول الله تعالى: ( لأيّ يَوْمٍ أُجّلَتْ * لِيَوْمِ الْفَصْلِ * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ ) [ المرسلات 12: 15] . يوم يقال: ( اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَىَ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً ) [ الإسراء : 14]. قال إبراهيم: فبلغني أن الحسن قال في قوله: كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا . لكل آدمي قلادة فيها نسخة عمله، فإذا مات طويت وقلدها، فإذا بعث نشرت. وقيل:اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً .
لمن هذه الظبية ؟ يعني الجراب قالوا لأخيك إبراهيم بن أدهم فقال سفيان: لعل فيه شيئاً من فاكهة الشام، قال: فأنزله فحلة فإذا هو محشو بالطين، فشد الجراب ورده إلى الوتد، وخرج سفيان فرجع إبراهيم وأخبره عبد العزيز بفعل سفيان فقال: أما إنه طعامي منذ شهر.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عطاء بن مسلم قال: ضاعت نفقة إبراهيم بن أدهم بمكة فمكث خمسة عشر يوماً يستف الرمل.(3/211)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن إسحاق الفزاري. قال: أخبرني إبراهيم بن أدهم أنه أصابته مجاعة فمكث أياماً يبل الرمل بالماء فيأكله.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن إبراهيم بن أدهم: الزهد ثلاثة أصناف، فزهد فرض، وزهد فضل، وزهد سلامة، فالفرض الزهد في الحرام، والفضل الزهد في الحلال، والسلامة الزهد في الشبهات.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عيسى بن حازم قال: كنت مع إبراهيم بن أدهم بمكة إذا لقيه قوم قالوا: آجرك الله، مات أبوك. قال: مات؟ قالوا: نعم قال: إنا لله وإنا إليه راجعون رحمه الله، قالوا: قد أوصى إليك وقد ضجر العامل جمع ما خلف، قال: فسبقهم إلى البلد فأتى العامل، فقال: أنا ابن الميت، فقال: ومن يعلم؟ قال: السلام عليكم، وخرج يريد مكة، فقال الناس للعامل: هذا إبراهيم بن أدهم، ألحقه لا تكون أغضبته فيدعو عليك، فلحقه وقال: ارجع واجعلني في حل، ما عرفتك، قال: قد جعلتك في حل من قبل أن تقول لي، فرجع وأنفذ وصايا أبيه، وقسم نصيبه على الورثة، وخرج راجعاً إلى مكة.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن ضمرة قال :سمعت ابن ادهم قال أخاف أن لا أؤجر في تركي أطايب الطعام لأني لا أشتهيه وكان إذا جلس على طعام طيب قدم إلى أصحابه وقنع بالخبز والزيتون .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن سفيان بن عيينة قال قيل لإبراهيم ابن أدم لو تزوجت قال لو أمكنني أن أطلق نفسي لفعلت .
(5) خشية إبراهيم بن أدهم لله تعالى :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن إبراهيم بن بشار، قال: سمعت إبراهيم بن أدهم، يقول هذا ويتمثل به إذا خلا في جوف الليل بصوت حزين موجع للقلوب:(3/212)
ومتى أنت صغيراً وكبيراً أخو علل فمتى ينقضي الردى ومتى ويحك العمل ثم يقول: يا نفس إياك والغرة با لله، فقد قال الصادق : ( فَلاَ تَغُرّنّكُمُ الْحَيَاةُ الدّنْيَا وَلاَ يَغُرّنّكُمْ بِاللّهِ الْغَرُورُ) [ فاطر : 5]
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن إبراهيم بن بشار، قال: سمعت إبراهيم بن أدهم يقول: الهوى يردى وخوف الله يشفي، واعلم أن ما يزيل عن قلبك هواك إذا خفت من تعلم أنه يراك .
(6) إيثار إبراهيم بن أدهم للخمول ونكران الذات :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عبد الرحمن بن مهدي عن طالوت سمعت إبراهيم بن أدهم يقول ما صدق الله عبد أحب الشهرة .
قال الذهبي رحمه الله : قلت علامة المخلص الذي قد يحب شهرة ولا يشعر بها أنه إذا عوتب في ذلك لا يحرد ولا يبرىء نفسه بل يعترف ويقول رحم الله من أهدى إلي عيوبي ولا يكن معجبا بنفسه لا يشعر بعيوبها بل لا يشعر أنه لا يشعر فإن هذا داء مزمن .
(7) من دُررِ مواعظ إبراهيم بن أدهم :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن إبراهيم بن أدهم أن عمر بن الخطاب قال: لؤم بالرجل أن يرفع يده من الطعام قبل أصحابه.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن يعلى بن عبيد، قال: دخل إبراهيم بن أدهم على أبي جعفر أمير المؤمنين، فقال: كيف شأنكم يا أبا إسحاق؟ قال: يا أمير المؤمنين:
نرقع دنيانا بتمزيق ديننا فلا ديننا يبقى ولا ما نرقع
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أبي عمير عن ضمرة، قال: دخل إبراهيم بن أدهم على بعض الولاة، فقال له: مم معيشتك؟ قال:
نرقع دنيأنا بتمزيق ديننا فلا ديننا يبقى ولا ما نرقع
فقال: أخرجوه فقد استقتل.(3/213)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن إبراهيم بن بشار، قال: سئل إبراهيم بن أدهم: بم يتم الورع ؟ قال: بتسوية كل الخلق من قلبك واشتغالك عن عيوبهم بذنبك وعليك باللفظ الجميل من قلب ذليل لرب جليل، فكر في ذنبك وتب إلى ربك يثبت الورع في قلبك، واحسم الطمع الأ من ربك.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن إبراهيم بن بشار، قال: سمعت إبراهيم بن أدهم يقول: أشد الجهاد جهاد الهوى، من منع نفسه هواها فقد استراح من الدنيا وبلائها، وكان محفوظا ومعافى من أذاها.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن إبراهيم بن أدهم قال : بلغني أن عمر بن عبد العزيز، قال لخالد بن صفوان: عظني وأوجز، فقال خالد: يا أمير المؤمنين أن أقواما غرهم ستر الله وفتنهم حسن الثناء، فلا يغلبن جهل غيرك بك علمك بنفسك، أعاذنا الله وإياك أن نكون بالستر مغرورين، وبثناء الناس مسرورين، وعما افترض الله علينا متخلفين ومقصرين، وإلى الأهواء مائلين. قال: فبكى ثم قال: أعاذنا الله وإياك من اتباع الهوى.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن إبراهيم بن أدهم قال : حب لقاء الناس من حب الدنيا، وتركهم من ترك الدنيا.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سهل بن هاشم، قال: قال لنا إبراهيم ابن أدهم: أقلوا من الإخوان والأخلاء.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن إبراهيم بن أدهم قال: لم يصدق الله من أحب الشهرة.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن إبراهيم بن بشار قال: اجتمعنا ذات يوم في مسجد فما منا أحد إلا تكلم، إلا إبراهيم بن أدهم فإنه ساكت، فقلت: لم لا تتكلم ؟ فقال: الكلام يظهر حمق الأحمق، وعقل العاقل، فقلت: لا نتكلم إذا كان هكذا الكلام، فقال: إذا اغتممت بالسكوت فتذكر سلامتك من زلل اللسان.(3/214)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن إبراهيم بن أدهم، قال : مَنَّ الله عليكم بالإسلام فأخرجكم من الشقاء إلى السعادة، ومن الشدة إلى الرخاء، ومن الظلمات إلى الضياء، فشبتم نعمه عليكم بالكفران، وَمَررْتُم بالخطأ حلاوة الإيمان، وزهدتم بالذنوب عرى الإيمان ، وهدمتم الطاعة بالعصيان، وإنما تمرون بمراصد الآفات، وتمضون على جسور الهلكات، وتبنون على قناطر الزلات، وتحصنون بمحاصن الشبهات، فبالله تغترون، وعليه تجترئون، ولأنفسكم تخدعون، و لله لا تراقبون، فإنا لله وأنا إليه راجعون.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن إبراهيم بن أدهم: إنما زهد الزاهدون في الدنيا اتقاء أن يشاركوا الحمقى والجهال في جهلهم.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن إبراهيم بن أدهم يقول: كثرة النظر إلى الباطل تذهب بمعرفة الحق من القلب.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن إبراهيم بن أدهم، قال: أن الله تعالى بالمسافر لرحيم، وأن الله تعالى لينظر إلى المسافر كل يوم نظرات، وأقرب ما يكون المسافر من ربه إذا فارق أهله.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن إبراهيم بن أدهم، قال: أول ما كلم الله تعالى آدم عليه السلام قال: أوصيك بأربع، أن لقيتني بهذه أدخلتك الجنة، ومن لقيني بهذه من ولدك أدخلته الجنة، واحدة لي، وواحدة لك، وواحدة بيني وبينك، وواحدة بيني وبينك وبين الناس. فأما التي لي فتعبدني لا تشرك بي شيئا، وأما التي لك فما عملت من عمل وفيتك إياه، وأما التي بيني وبينك فمنك الدعاء ومني الأجابة، وأما التي بيني وبينك وبين الناس فما كرهت لنفسك فلا تأته إلى غيرك.(3/215)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن إبراهيم بن أدهم يقول: ليس من أعلام الحب أن تحب ما يبغض حبيبك، ذم مولانا الدنيا فمدحناها، وأبغضها فأحببناها، وزهدنا فيها فآثرناها ورغبنا في طلبها، وعدكم خراب الدنيا فحصنتموها، ونهيتم عن طلبها فطلبتموها، وأنذركم الكنوز فكنزتموها دعتكم إلى هذه الغرارة دواعيها، فأجبتم مسرعين مناديها، خدعتكم بغرورها ومنتكم، فأنفذتم خاضعين لأمنيتها تتمرغون في زهواتها، وتتمتعون في لذاتها، وتتقلبون في شهواتها، وتتلوثون بتبعاتها، تنشبون بمخالب الحرص عن خزائنها، وتحفرون بمعاول الطمع في معادنها، وتبنون بالغفلة في أماكنها وتحصنون بالجهل في مساكنها، تريدون أن تجاوروا الله في داره، وتحطوا رحالكم بقربه، بين أوليائه وأصفيائه، وأهل ولايته، وأنتم غرقى في بحار الدنيا حيارى، ترتعون في زهواتها، وتتمتعون في لذاتها، وتتنافسون في غمراتها، فمن جَمْعِها ما تشبعون، ومن التنافس فيها ما تَمِلُّون، كذبتم و الله أنفسكم وغرتكم ومنتكم الأماني، وعللتكم بالتواني، حتى لا تعطوا اليقين من قلوبكم، والصدق من نياتكم، وتتنصلون إليه من مساوىء ذنوبكم وتعصوه في بقية أعماركم ، أما سمعتم الله تعالى يقول في محكم كتابه : ( أَمْ نَجْعَلُ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتّقِينَ كَالْفُجّارِ ) [ ص : 28]. لا تنال جنته إلا بطاعته، ولا تنال ولايته إلا بمحبته، ولا تنال مرضاته إلا بترك معصيته، فإن الله تعالى قد أعد المغفرة للأوابين، وأعد الرحمة للتوابين، وأعد الجنة للخائفين، وأعد الحور للمطيعين، وأعد رؤيته للمشتاقين، قال تعالى: ( وَإِنّي لَغَفّارٌ لّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحَاً ثُمّ اهْتَدَىَ ) [ طه : 82]. من طريق العمى إلى طريق الهدى .(3/216)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن إبراهيم بن أدهم قال : أنك إذا أدمت النظر في مرآة التوبة بأن لك شين قبح المعصية.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن إبراهيم ابن أدهم، قال: كان يقال ليس شيء أشد على إبليس من العالم الحليم، إن تكلم تكلم بعلم، وإن سكت سكت بحلم.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن إبراهيم بن أدهم قال : لقيت عابداً من العباد قيل أنه لا ينام الليل، فقلت له: لم لا تنام ؟ فقال لي: منعتني عجائب القرآن أن أنام.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن إبراهيم بن أدهم: أطب مطعمك ولا عليك أن لا تقوم بالليل وتصوم بالنهار.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن إبراهيم بن أدهم قال : والله ما الحياة بثقة فيرجى يومها، ولا المنية تغدر فيؤمن غدرها، ففيم التفريط والتقصير والاتكال والتأخير والأبياء ؟ وأمر الله جد.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن إبراهيم بن أدهم قال : على القلب ثلاثة أغطية، الفرح والحزن والسرور، فإذا فرحت بالموجود فأنت حريص، والحريص محروم، وإذا حزنت على المفقود فأنت ساخط، والساخط معذب، وإذا سررت بالمدح فأنت معجب، والعجب يحبط العمل. ودليل ذلك كله قوله تعالى: ( لّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ عَلَىَ مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآ آتَاكُمْ وَاللّهُ لاَ يُحِبّ كُلّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ) [ الحديد : 23](3/217)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن إبراهيم بن أدهم قال : خالفتم الله فيما أنذر وحذر، وعصيتموه فيما نهى وأمر، وكذبتموه فيما وعد وبشر وكفرتموه فيما أنعم وقدر، وإنما تحصدون ما تزرعون، وتجنون ما تغرسون، وتكافئون بما تفعلون، وتجزون بما تعملون، فاعلموا إن كنتم تعقلون، وانتهوا من وسن رقدتكم لعلكم تفلحون، قال: وسمعته يقول: الله الله في هذه الأرواح والأبدان الضعيفة، الحذر الحذر، الجد الجد، كونوا على حياء من الله، فو الله لقد ستر وأمهل، وجاد فأحسن، حتى كأنه قد غفر كرما منه لخلقه. قال: وسمعت إبراهيم يقول: قلة الحرص والطمع تورث الصدق والورع، وكثرة الحرص والطمع تورث كثرة الغم والجزع.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن إبراهيم بن أدهم قال : محال أن تواليه ولا يواليك.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن إبراهيم بن أدهم أنه قال ذات يوم: لو أن العباد علموا حب الله عز وجل لقل مطعمهم ومشربهم وملبسهم وحرصهم، وذلك أن ملائكة الله أحبوا الله فاشتغلوا بعبادته عن غيره، حتى أن منهم قائماً وراكعاً وساجداً منذ خلق الله تعالى الدنيا ما التفت إلى من عن يمينه وشماله، اشتغالاً بالله عز وجل وبخدمته.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن إبراهيم بن أدهم في قوله تعالى: ( فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذُنِ اللّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ) [ فاطر : 32 ] قال: السابق مضروب بسوط المحبة، مقتول بسيف الشوق، مضطجع على باب الكرامة، والمقتصد مضروب بسوط الندامة، مقتول بسيف الحسرة مضطجع على باب العفو، والظالم لنفسه مضروب بسوط الغفلة، مقتول بسيف الأمل مضطجع على باب العقوبة.(3/218)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن حذيفة المرعشي، قال: دخلنا مكة مع إبراهيم بن أدهم، فإذا شقيق البلخي قد حج في تلك السنة فاجتمعنا في شق الطواف فقال إبراهيم لشقيق: على أي شيء أصلتم أصلكم ؟ قال: أصلنا أصلنا على أنا إذا رزقنا أكلنا وإذا منعنا صبرنا، فقال إبراهيم: هكذا تفعل كلاب بلخ، فقال له شقيق: فعلى ماذا أصلتم ؟ قال: أصلنا على أنا إذا رزقنا آثرنا وإذا منعنا شكرنا وحمدنا، فقام شقيق فجلس بين يدي إبراهيم فقال: يا أستاذ أنت أستاذنا.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن حذيفة المرعشي قال : صحبت إبراهيم بن أدهم بالبادية في طريق الكوفة، فكان يمشي ويدرس ويصلي عند كل ميل ركعتين فبقينا بالبادية حتى بليت ثيابنا، فدخلنا الكوفة وآوينا إلى مسجد خراب فنظر إلى إبراهيم بن أدهم، فقال: يا حذيفة أرى بك الجوع، فقلت: ما رأى الشيخ، فقال: على بدواة وقرطاس، فخرجت فجئته بهما، فكتب: بسم الله الرحمن الرحيم. أنت المقصود إليه بكل حال، والمشار إليه بكل معنى:
أنا حاضر أنا ذاكر أنا شاكر أنا جائع أنا حاسر أنا عاري
هي ستة وأنا الضمين بنصفها فكن الضمين لنصفها يا باري
مدحي لغيرك لفح نار خضتها فأجر فديتك من دخول النار
ودفع إلي الرقعة وقال: اخرج ولا تعلق سرك بغير الله وأعطها أول من تلقاه، فخرجت فاستقبلني رجل راكب على بغلة فأعطيته فقرأها وبكى وقال: أين صاحب هذه الرقعة ؟ فقلت: في المسجد الفلاني الخراب، فأخرج من كمه صرة دنأنير فأعطأني، فسألت عنه فقيل: هو نصراني، فرجعت إلى إبراهيم فأخبرته، فقال: لا تمسه فإنه يجيء الساعة، فما كان بأسرع أن وافى النصراني فإنكب على رأس إبراهيم فقال: يا شيخ قد حسن إرشادك إلى الله، فأسلم وصار صاحباً لإبراهيم بن أدهم رحمه الله تعالى.(3/219)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن إبراهيم بن بشار، قال: كان إبراهيم بن أدهم يقول هذا الكلام في كل جمعة إذا أصبح عشر مرات، وإذا أمسى يقول مثل ذلك: مرحباً بيوم المزيد، والصبح الجديد، والكاتب الشهيد، يومنا هذا يوم عيد، اكتب لنا فيه ما نقول: بسم الله الحميد المجيد، الرفيع الودود، الفعال في خلقه ما يريد. أصبحت بالله مؤمناً وبلقاء الله مصدقاً، وبحجته معترفاً، ومن ذنبي مستغفراً، ولربوبية الله خاضعاً، ولسوى الله جاحداً، وإلى الله تعالى فقيراً، وعلى الله متوكلاً، وإلى الله منيباً، أشهد الله وأشهد ملائكته وأنبياءه ورسله وحملة عرشه، ومن خلق ومن هو خالق بأن الله لا الله الأ هو وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله،صلى الله عليه وسلم، وأن الجنة حق، والنار حق، والحوض حق، والشفاعة حق، ومنكرا ونكيرا حق، ولقاءك حق، ووعدك حق، والساعة آتيه لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، على ذلك أحيا وعليه أموت وعليه أبعث أن شاء الله، اللهم أنت ربي لا رب لي الأ أنت، خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك اللهم من شر كل ذي شر.(3/220)
اللهم أني ظلمت نفسي فاغفر لي ذنوبي أنه لا يغفر الذنوب الأ أنت، واهدني لأحسن الأخلاق فإنه لا يهدي لأحسنها إلا أنت، وأميرف عني سيئها فإنه لا يصرف سيئها إلا أنت، لبيك وسعديك والخير كله بيديك، وأنا لك أستغفرك وأتوب إليك، آمنت اللهم بما أرسلت من رسول وآمنت اللهم بما أنزلت من كتاب، صلى الله وسلم على محمد وعلى الله وسلم كثيرا خاتم كلامي ومفتاحه، وعلى أنبيائه ورسله أجمعين آمين يا رب العالمين، اللهم أوردنا حوضه، واسقنا بكأسه مشربا مريا سائغا هذهياً لا نظماً بعده أبدا، واحشرنا في زمرته غير خزايا ولا ناكسين ولا مرتأبين ولا مقبوحين ولا مغضوبا علينا ولا ضالين، اللهم أدهمني من فتن الدنيا ووفقني لما تحب من العمل وترضى، وأصلح لي شأني كله وثبتني بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ولا تضلني وأن كنت ظالما سبحانك سبحانك يا علي يا عظيم يا باري يا رحيم يا عزيز يا جبار، سبحان من سبحت له السموات بأكنافها، وسبحان من سبحت له الجبال بأصواتها، وسبحان من سبحت له البحار بأمواجها وسبحان من سبحت له الحيتأن بلغاتها وسبحان من سبحت له النجوم في السماء بأبراقها، وسبحان من سبحت له الشجر بأصولها ونضارتها، وسبحان من سبحت له السموات السبع والأرضون السبع ومن فيهذه ومن عليهذه، سبحانك سبحانك يا حي يا حليم، سبحانك لا الله الأ أنت وحدك.
(8) دعوة إبراهيم بن أدهم إلى الخروج من المظالم :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن إبراهيم بن أدهم قال : من أراد التوبة فليخرج من المظالم وليدع مخالطة الناس وإلا لم ينل ما يريد .
(9) عظيم تحري إبراهيم بن أدهم لأكل الحلال :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ(3/221)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن شقيق بن إبراهيم قال : قلت لإبراهيم بن أدهم تركت خراسان قال ما تهنأت بالعيش إلا في الشام أفر بديني من شاهق إلى شاهق فمن رآني يقول موسوس ومن رآني يقول جمال يا شقيق ما نبل عندنا من نبل بالجهاد ولا بالحج بل كان يعقل ما يدخل بطنه قال خلف بن تميم سألت إبراهيم منذ كم قدمت الشام قال منذ أربع وعشرين سنة ما جئت لرباط ولا لجهاد جئت لأشبع من خبز الحلال .
(10) ما حصل لإبراهيم بن أدهم من كرامات الأولياء :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن مكي بن إبراهيم قال قيل لابن أدهم ما تبلغ من كرامة المؤمن قال أن يقول للجبل تحرك فيتحرك قال فتحرك الجبل .(3/222)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم في الحلية عن نصر بن منصور المصيصي أبو محمد، قال: ورد إبراهيم المصيصة فأتى منزل أبي إسحاق الفزاري فطلبه فقيل له وهو خارج، فقال: أعلموه إذا أتى أن أخاه إبراهيم طلبه وقد ذهب إلى مرج كذا وكذا يرعى فرسه، فمضى إلى ذلك المرج فإذا الناس يرعون دوابهم فرعى حتى أمسى، فقالوا له: ضم فرسك إلى دوابنا فإن السباع تأتينا، فأبى وتنحى ناحية، فأوقدوا النيران حولهم، ثم أخذوا فرسانهم صؤولاً فأتوه به وفيه شكالان يقودونه بينهم فقالوا له إن في دوابنا رماكاً أو حجوراً فليكن هذا عندك، قال: و ما يصنع بهذه الحبال ؟ فمسح وجهه وأدخل يده بين فخذيه فوقف لا يتحرك فتعجبوا من ذلك لامتناعه، فقال لهم: اذهبوا فجلسوا يرمقون ما يكون منه ومن السباع فقام إبراهيم يصلي وهم ينظرون، فلما كان في بعض الليل أتته أسد ثلاثة يتلو بعضها بعضاً، فتقدم الأول إليه فشمه ودار به ثم تنحى ناحية فربض، وفعل الثاني والثالث كفعل الأول، ولم يزل إبراهيم يصلي ليلته قائماً حتى إذا كان السحر قال للأسد: ما جاء بكم تريدون أن تأكلوني امضوا، فقامت الأسد فذهبت، فلما كان الغد جاء الفزاري إلى أولئك فسألهم فقال أجاءكم رجل. قالوا: أتانا رجل مجنون، وأخبروه بقصته وأروه، فقال: أو تدرون من هو. قالوا: لا قال هو إبراهيم بن أدهم فمضوا معه إليه فسلم وسلموا عليه ثم انصرف به الفزاري إلى منزله، فمرا برجل قد كان إبراهيم بن أدهم سأله مقوداً يبيعه ساومه به درهماً ودانقين، فقال إبراهيم للفزاري، تريد هذا المقود، فقال الفزاري لصاحب المقود: بكم هذا. قال بأربعة دوانيق، فدفع إليه وأخذ المقود، فقال إبراهيم للفزاري أربعة دوانيق في دين من هو.
(11) تحذير إبراهيم بن أدهم من علماء السوء :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ(3/223)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن إبراهيم بن أدهم قال كل ملك لا يكون عادلا فهو واللص سواء وكل عالم لا يكون تقيا فهو والذئب سواء وكل من ذل لغير الله فهو والكلب سواء .
(12) مَقْتُ إبراهيم بن أدهم لنفسه في جنب الله :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن براهيم بن بشار قال :سمعت إبراهيم بن أدهم يقول وأي دين لو كان له رجال من طلب العلم لله كان الخمول أحب إليه من التطاول والله ما الحياة بثقة فيرجى نومها ولا المنية بعذر فيؤمن عذرها ففيم التفريط والتقصير والاتكال والإبطاء قد رضينا من أعمالنا بالمعاني ومن طلب التوبة بالتواني ومن العيش الباقي بالعيش الفاني .
(13) حسن بيان إبراهيم بن أدهم لأسباب موت القلوب :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم في الحلية عن شقيق بن إبراهيم قال: مر إبراهيم بن أدهم في أسواق البصرة فاجتمع الناس إليه، فقالوا له: يا أبا إسحاق أن الله تعالى يقول في كتابه: (وَقَالَ رَبّكُمْ ادْعُونِيَ أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) [ غافر : 60] ونحن ندعوه منذ دهر فلا يستجيب لنا، قال: فقال إبراهيم: يا أهل البصرة ماتت قلوبكم في عشرة أشياء: أولها: عرفتم الله و لم تؤدوا حقه، الثاني: قرأتم كتاب الله و لم تعملوا به، والثالث: ادعيتم حب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركتم سنته، والرابع: ادعيتم عداوة الشيطان ووافقتموه، والخامس: قلتم نحب الجنة و لم تعملوا لها، والسادس: قلتم نخاف النار وزهدتم أنفسكم بها، والسابع: قلتم أن الموت حق و لم تستعدوا له، والثامن: اشتغلتم بعيوب إخوانكم ونبذتم عيوبكم، والتاسع: أكلتم نعمة ربكم و لم تشكروها، والعاشر: دفنتم موتاكم و لم تعتبروا بهم.
(14) جود إبراهيم بن أدهم وسخاؤه :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ(3/224)
كان إبراهيم بن أدهم رحمه الله تعالى كريمًا جوادًا، فالعسل والسمن غالبًا ما يكونان على مائدته يطعم من يأتيه .
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم في الحلية عن إبراهيم بن بشار، قال: سمعت إبراهيم بن أدهم يقول: ذهب السخاء والكرم والجود والمواساة فمن لم يواس الناس بماله وطعامه وشرابه فليواسهم ببسط الوجه والخلق الحسن، لا تكونون في كثرة أموالكم تتكبرون على فقرائكم ولا تميلون إلى ضعفائكم، ولا تبسطون إلى مساكينكم، قال وسمعت إبراهيم، يقول: قال لقمان لابنه: ثلاثة لا يعرفون إلا في ثلاثة مواطن، لا يعرف الحليم إلا عند الغضب، ولا الشجاع إلا في الحرب إذ لقي الأقران، ولا أخاك إلا عند حاجتك إليه.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم في الحلية عن أبي عثمان الصياد، قال: دعا رجل إبراهيم بن أدهم وكان فيهم ابن المبارك ومخلد بن الحسين، قال: فأخذ إبراهيم ينقر الطعام ثم انصرفوا، قال فجاءه صاحب الطعام إلى منزل إبراهيم بن أدهم فوجده قاعداً قد ثرد ثريده وهو يأكل، فقال له: يا أبا إسحاق كنت تنقر، قال: وأنت إذ هيأت طعاماً فأكثروا قلل الأيدي.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم في الحلية عن علي بن بكار، قال: دعانا إبراهيم أنا ومخلداً وذكر عدة، فقال من فقهه أراه قال كره أن يدعونا بالنهار أو بعد العشاء فدعانا بعد العتمة لئلا نشتغل عن صلاتنا، فقدم إلينا قصعتين فيهما لحم سمين ، وهو وأصحابه قيام على رؤسنا يسقوننا الماء، ثم قدم إلينا بطيخاً، قال على : وكان ذاك في دار بكر بن خنيس، فأنا أسر بذاك منى بالدنيا، وإني لأرجو أن يدخلني الله تعالى الجنة بذلك الطعام.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم في الحلية عن مضاء بن عيسى، يقول: ما فاق إبراهيم بن أدهم أصحابه بصوم ولا صلاة، ولكن بالصدق والسخاء.(3/225)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم في الحلية عن إبراهيم بن قديد: بينا أنا جالس عند إبراهيم بن أدهم في البيت إذ دخل عليه رجل فقال: استودعك الله يا إبراهيم، فقال له: أين تريد ؟ فقال: أريد ساحل كذا وكذا، قال: خذ جراب ابن قديد فاجعل فيه زادك قال إبراهيم بن قديد. فقلت له يا أبا إسحاق هذا جراب رفيقي، قال: فأنت تريد تصحب من لا يكون بشيئه أولى منه ؟ قال ابن قديد وكنت عنده يوماً جالساً في البيت فأهديت إليه فاكهة ونحن جماعة في البيت، فقال: يا ابن قديد دعه لا آكل لا أنا ولا أنت منه شيئاً ويأكله أصحابنا، فال: فأكله أصحابنا ولم نذقه.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم في الحلية عن إبراهيم بن أدهم أن عمر بن الخطاب قال: لؤم بالرجل أن يرفع يده من الطعام قبل أصحابه.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم في الحلية عن ضمرة، قال: صنع إبراهيم بن أدهم طعاماً بصور ودعا إخوانه، قال: ودعا رجلاً يقال له خلاد الصقيل، قال: فأكل ثم قال: الحمد لله ثم قام فقال إبراهيم بن أدهم بعد أن قام: لقد ساء في خصلتين، لقد قام بغير إذن ولقد حشم أصحابه.
(15) كان إبراهيم بن أدهم مستجاب الدعوة رحمه الله :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن ضمرة قال : كنا مع إبراهيم في البحر فهاجت ريح واضطربت السفينة وبكوا فقلنا يا أبا إسحاق ما ترى فقال يا حي حين لا حي ويا حي قبل كل حي ويا حي بعد كل حي يا حي يا قيوم يا محسن يا مجمل قد أريتنا قدرتك فأرنا عفوك فهدأت السفينة من ساعته .
وفاة إبراهيم بن أدهم رحمه الله :(3/226)
توفي إبراهيم بن أدهم سنة إحدى وستين ومائة هـ ، وهو مرابط مجاهد في إحدى جزر البحر المتوسط ، ولما شعر بدنو أجله قال لأصحابه :- أوتروا لي قوسي . فأوتروه . فقبض على القوس ومات وهو قابض عليها يريد الرمي بها ، وقيل إنه مات في حملة بحرية على البيزنطيين ، ودفن في مدينة جبلة على الساحل السوري ، وأصبح قبره مزاراً ، وجاء في معجم البلدان أنه مات بحصن سوقين ببلاد الروم.
سيرة الشافعي رحمه الله :
اسم الشافعي ونسبه رحمه الله :
محمد بن ادريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد ابن عبد يزيد بن هشام بن المطلب بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة ابن كعب بن لؤي بن غالب الإمام عالم العصر ناصر الحديث فقيه الملة أبو عبد الله القرشي ثم المطلبي الشافعي المكي الغزي المولد نسيب رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن عمه فالمطلب هو أخو هاشم والد عبد المطلب .
وقال أيضاً :
أما جدهم السائب المطلبي فكان من كبراء من حضر بدرا مع الجاهلية فأسر يومئذ وكان يشبه بالنبي صلى الله عليه وسلم ووالدته هي الشفاء بنت أرقم بن نضلة ونضلة هو أخو عبد المطلب جد النبي صلى الله عليه وسلم فيقال إنه بعد أن فدى نفسه أسلم وابنه شافع له رؤية وهو معدود في صغار الصحابة وولده عثمان تابعي لا أعلم له كبير رواية وكان أخوال الشافعي من الأزد .
كنية الشافعي رحمه الله :
[*] قال عنه الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء :
محمد بن ادريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد ابن عبد يزيد بن هشام بن المطلب بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة ابن كعب بن لؤي بن غالب الإمام عالم العصر ناصر الحديث فقيه الملة أبو عبد الله القرشي ثم المطلبي الشافعي المكي الغزي المولد نسيب رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن عمه فالمطلب هو أخو هاشم والد عبد المطلب .
مولد الشافعي رحمه الله :
[*] قال الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء :(3/227)
اتفق مولد الإمام بغزة ومات أبوه ادريس شابا فنشأ محمد يتيما في حجر أمه فخافت عليه الضيعة فتحولت به إلى محتده وهو ابن عامين فنشأ بمكة .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن ابن ابي حاتم سمعت عمرو بن سواد قال لي الشافعي ولدت بعسقلان فلما أتى علي سنتان حملتني أمي إلى مكة .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن ابن عبد الحكم قال : قال لي الشافعي ولدت بغزة سنة خمسين ومئة وحملت إلى مكة ابن سنتين .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الربيع بن سليمان يقول ولد الشافعي يوم مات أبو حنيفة رحمهما الله تعالى .
نشأة الشافعي رحمه الله :
[*] قال الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء :(3/228)
اتفق مولد الإمام بغزة ومات أبوه ادريس شابا فنشأ محمد يتيما في حجر أمه فخافت عليه الضيعة فتحولت به إلى محتده وهو ابن عامين فنشأ بمكة وأقبل على الرمي حتى فاق فيه الأقران وصار يصيب من عشرة أسهم تسعة ثم أقبل على العربية والشرع فبرع في ذلك وتقدم ، ثم حبب إليه الفقه فساد أهل زمانه وأخذ العلم ببلده عن مسلم بن خالد الزنجي مفتي مكة وداود ابن عبد الرحمن العطار وعمه محمد بن علي بن شافع فهو ابن عم العباس جد الشافعي وسفيان بن عيينة وعبد الرحمن بن ابي بكر المليكي وسعيد بن سالم وفضيل بن عياض وعدة ، ولم أر له شيئا عن نافع بن عمر الجمحي ونحوه وكان معه بمكة وارتحل وهو ابن نيف وعشرين سنة وقد أفتى وتأهل للإمامة إلى المدينة فحمل عن مالك بن أنس الموطأ عرضه من حفظه وقيل من حفظه لأكثره وحمل عن ابراهيم عن أبي يحيى فأكثر وعبد العزيز الدراوردي وعطاف بن خالد واسماعيل بن جعفر وابراهيم بن سعد وطبقتهم ، وأخذ باليمن عن مطرف بن مازن وهشام بن يوسف القاضي وطائفة وببغداد عن محمد بن الحسن فقيه العراق ولازمه وحمل عنه وقر بعير وعن إسماعيل ابن علية وعبد الوهاب الثقفي وخلق وصنف التصانيف ودون العلم ورد على الأئمة متبعاً الأثر وصنف في أصول الفقه وفروعه وبعد صيته وتكاثر عليه الطلبة ، حدث عنه الحميدي وأبو عبيد القاسم بن سلام وأحمد بن حنبل وسليمان بن داود الهاشمي وأبو يعقوب يوسف البويطي وأبو ثور إبراهيم بن خالد الكلبي وحرملة بن يحيى وموسى بن أبي الجارود المكي وعبد العزيز المكي صاحب الحيدة وحسين بن علي الكرابيسي وإبراهيم بن المنذر الحزامي والحسن بن محمد الزعفراني وأحمد بن محمد الأزرقي وأحمد بن سعيد الهمداني وأحمد بن أبي شريح الرازي وأحمد بن يحيى بن وزير المصري وأحمد بن عبد الرحمن الوهبي وابن عمه إبراهيم بن محمد الشافعي وإسحاق بن راهويه وإسحاق بن بهلول وأبو عبد الرحمن احمد بن يحيى الشافعي المتكلم والحارث بن سريج النقال(3/229)
وحامد بن يحيى البلخي وسليمان بن داود المهري وعبد العزيز بن عمران بن مقلاص وعلي بن معبد الرقي وعلي بن سلمة اللبقي وعمرو بن سواد وأبو حنيفة قحزم بن عبد الله الأسواني ومحمد بن يحيى العدني ومسعود ابن سهل المصري وهارون بن سعيد الايلي واحمد بن سنان القطان وأبو الطاهر احمد بن عمرو بن السرح ويونس بن عبد الأعلى والربيع ابن سليمان المرادي والربيع بن سليمان الجيزي ومحمد بن عبد الله بن عبد الحكم وبحر بن نصر الخولاني وخلق سواهم وقد أفرد الدارقطني كتاب من له رواية عن الشافعي في جزأين ، وصنف الكبار في مناقب هذا الإمام قديما وحديثا ونال بعض الناس منه غضا فما زاده ذلك إلا رفعة وجلالة ولاح للمنصفين أن كلام أقرانه فيه بهوى وقل من برز في الإمامة ورد على من خالفه إلا وعودي نعوذ بالله من الهوى .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الربيع المؤذن قال : سمعت الشافعي يقول كنت ألزم الرمي حتى كان الطبيب يقول لي أخاف أن يصيبك السل من كثرة وقوفك في الحر قال وكنت أصيب من العشرة تسعة .
{ تنبيه } : استقر الحال بالشافعي رحمه الله في نهاية المطاف في مصر حيث أحكم كتبه ، وكان يثني على مصر خيراً :
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن محمد بن مسلم بن وارة قال : سألت أحمد بن حنبل ما ترى في كتب الشافعي التي عند العراقيين أهي أحب إليك أو التي بمصر قال عليك بالكتب التي عملها بمصر فإنه وضع هذه الكتب بالعراق ولم يحكمها ثم رجع إلى مصر فأحكم تلك وقلت لأحمد ما ترى لي من الكتب أن أنظر فيه رأي مالك أو الثوري أو الأوزاعي فقال لي قولا اجلهم أن أذكره وقال عليك بالشافعي فإنه أكثرهم صوابا وأتبعهم للآثار .(3/230)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء أن الشافعي لما دخل مصر أتاه جلة أصحاب مالك وأقبلوا عليه فلما أن رأوه يخالف مالكا وينقض عليه جفوه وتنكروا له فأنشأ يقول * أأنثر دار بين سارحة النعم * وأنظم منثورا لراعية الغنم * * لعمري لئن ضيعت في شر بلدة * فلست مضيعا بينهم غرر الحكم * * فإن فرج الله اللطيف بلطفه * وصادفت أهلا للعلوم وللحكم * * بثثت مفيدا واستفدت ودادهم * وإلا فمخزون لدي ومكتتم * * ومن منح الجهال علما أضاعه * ومن منع المستوجبين فقد ظلم * * وكاتم علم الدين عمن يريده * يبوء بإثم زاد وآثم إذا كتم *
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الربيع للشافعي * لقد أصبحت نفسي تتوق إلى مصر * ومن دونها أرض المهامة والقفر * * فو الله ما أدري أللمال والغنى * أساق إليها أم أساق إلى قبري *
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الشافعي يقول يقولون ماء العراق وما في الدنيا مثل ماء مصر للرجال لقد قدمت مصر وأنا مثل الخصي ما أتحرك قال فما برح من مصر حتى ولد له .
رحلات الشافعي في طلب العلم :
رحل الإمام الشافعي رحلات كثيرة كان لها أكبر الأثر في علمه ومعرفته ،فقد رحل من مكة إلى بني هذيل ، ثم عاد إلى مكة، ومنها رحل للمدينة، ليلقى فيها إمام دار الهجرة مالك بن أنس رضي الله عنه، وبعد وفاة الإمام مالك رضي الله عنه، رحل إلى بغداد ، ثم عاد إلى مكة، ثم رجع إلى بغداد، ومنها خرج إلى مصر.
[*] قال ابن خلكان في وفيات الأعيان :(3/231)
وحديث رحلته إلى الإمام مالك مشهور، فلا حاجة إلى التطويل فيه، وقدم بغداد سنة 195هـ، فأقام فيها سنتين، ثم خرج إلى مكة، ثم عاد إلى بغداد سنة ثمان وتسعين ومائة هـ فأقام شهرا، ثم خرج إلى مصر، وكان وصوله إليها في سنة تسع وتسعين ومائة هـ وقيل سنة إحدى ومائتين هـ ، ولم يزل بها إلى أن توفي يوم الجمعة آخر يوم من رجب سنة204هـ وذكر الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في كتاب طبقات الفقهاء ما مثاله وحكى الزعفراني عن أبي عثمان ابن الشافعي قال مات أبي وهو ابن ثمان وخمسين سنة وقد اتفق العلماء قاطبة من أهل الحديث والفقه والأصول واللغة والنحو وغير ذلك على ثقته وأمانته وعدالته وزهده وورعه ونزاهة عرضه وعفة نفسه وحسن سيرته وعلو قدره وسخائه
[*] مناقب الشافعي رحمه الله :
كان الشافعي رحمه الله من أئمة تابعي التابعين ، من أئمة الهدى وأعلام التقى ومصابيح الدجى ، من حلية الأولياء وأعلام النبلاء ،الأضواء اللامعة والنجوم الساطعة .
وهاك غَيْضٍ من فيض ونقطةٍ من بحر مما ورد في مناقبه جملةً وتفصيلا رحمه الله تعالى :
أولاً مناقب الشافعي جملةً رحمه الله :
(1) ثناء العلماء على الشافعي رحمه الله :
(2) قدرة الشافعي الفائقة في المناظرة لإظهار الحق :
(3) تأصيل الشافعي للأصول :
(4) تعظيم الشافعي لحديث رسول الله ( :
(5) حرص الشافعي على طلب العلم :
(6) سعة علم الشافعي وجمعه لشتى العلوم :
(7) حسن فهم الشافعي وفقهه رحمه الله تعالى :
(8) منابذة الشافعي لأهل الأهواء :
(9) إنصاف الشافعي للعلماء :
(10) توقير الشافعي للإمام مالك :
(11) قوة يقين الشافعي بالله تعالى :
(12) قوله في آداب الصحبة ومعاشرة الخلق :
(13) جود الشافعي وسخاؤه رحمه الله :
(14) اجتهاد الشافعي في العبادة :
(15) تغليب الشافعي للمصلحة الراجحة :
(16) فقه الشافعي في النصيحة :
(17) فراسة الشافعي رحمه الله تعالى :
(18) ذم الشافعي لفضول المخالطة :(3/232)
(19) من دُررِ مواعظ الشافعي :
(20) اتباع الشافعي للآثار :
(21) خشية الشافعي رحمه الله :
(22) تحذير الشافعي من المراء في الدين بغير حق :
(23) تدبر الشافعي للقرآن رحمه الله :
(24) تحذير الشافعي من الشبع :
(25) زهد الشافعي رحمه الله :
(26) حفظ الشافعي ليمينه رحمه الله :
(27) فصاحة الشافعي رحمه الله تعالى :
(28) دعوة الشافعي للعمل بالعلم :
(29) علاج الشافعي للعجب إذا طرأ على تفكير الإنسان :
(30) تواضع الشافعي رحمه الله تعالى :
(31) حُسْنُ صلاة الشافعي رحمه الله تعالى :
(32) تَمَهُلُ الشافعي في الفتوى ولو أخذت أياماً :
ثانياً مناقب الشافعي تفصيلا رحمه الله:
(1) ثناء العلماء على الشافعي رحمه الله :
[*] قال عنه الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء :
ومنهم الإمام الكامل، العالم العامل، ذو الشرف المنيف، والخلق الظريف، له السخاء والكرم، وهو الضياء في الظلم، أوضح المشكلات، وأفصح عن المعضلات، المنتشر علمه شرقاً وغرباً، المستفيض مذهبه في براً وبحراً، المتبع السنن والآثار، والمقتدي بما اجتمع عليه المهاجرون والأنصار، اقتبس عن الأئمة الأخيار. فحدث عنه الأئمة الأحبار، الحجازي المطلبي، أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي، رضى الله تعالى عنه وأرضاه ، حاز المرتبة العالية، وفاز بالمنقبة السامية، إذ المناقب والمراتب يستحقها من له الدين والحسب. وقد ظفر الشافعي رحمه الله تعالى بهما جميعاً، شرف العلم العمل به، وشرف الحسب قربه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشرفه في العلم ما خصه الله تعالى به من تصرفه في وجوه العلم، ولبسطه في فنون الحكم، فاستيقظ خفيات المعاني، وشرح بفهمه الأصول والمباني، ونال بما يخص الله تعالى به قريشاً من نبل الرأي.(3/233)
وقال عنه أيضاً : كان الإمام الشافعي رضي الله عنه للآثار والسنن تابعاً، وفي استنباط الأحكام والأقضية رائعاً، وبالمقاييس المبنية على الأصول قائلا، وعن الآراء الفاسدة المخالفة للأصول عادلا.
وقال عنه أيضاً : وكان الشافعي لطيف النظر، عجيب الحذر، حصيفاً في الفكر، نجيباً في العبر.
[*] وقال عنه الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء :
محمد بن ادريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد ابن عبد يزيد بن هشام بن المطلب بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة ابن كعب بن لؤي بن غالب الإمام عالم العصر ناصر الحديث فقيه الملة أبو عبد الله القرشي ثم المطلبي الشافعي المكي الغزي المولد نسيب رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن عمه فالمطلب هو أخو هاشم والد عبد المطلب .
وقال أيضاً :
وصنف التصانيف ودون العلم ورد على الأئمة متبعاً الأثر وصنف في أصول الفقه وفروعه وبعد صيته وتكاثر عليه الطلبة
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن محمد بن الحسن: إن تكلم أصحاب الحديث يوماً فبلسان الشافعي، يعني لما وضع كتابه.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أحمد بن محمد ابن بنت الشافعي قال: سمعت أبي وعمي يقولان: كان سفيان بن عيينة إذا جاءه شيء من التفسير والرؤيا يسأل عنها، التفت إلى الشافعي فيقول: سلوا هذا.(3/234)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن إبراهيم بن محمد الشافعي، قال: كنا في مسجد سفيان بن عيينة يحدث عن الزهري، عن علي بن الحسين: أن النبي صلى الله عليه وسلم مر به رجل في بعض الليل وهو مع امرأته صفية فقال: هذه امرأتي صفية، فقال: سبحان الله يا رسول الله فقال: إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم . فقال سفيان بن عيينة للشافعي: ما فقه هذا الحديث يا أبا عبد الله ؟ فقال: إن كان القوم اتهموا النبي صلى الله عليه وسلم كانوا بتهمتهم إياه كفاراً، لكن النبي صلى الله عليه وسلم أذن من بعده فقال: إذا كنتم هكذا فافعلوا هكذا، حتى لا يظن بكم ظن السوء لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يتهم وهو أمين الله في أرضه. فقال ابن عيينة: جزاك الله خيراً يا أبا عبد الله.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أبي معين يقول: سمعت بعض أصحابنا يقول: سأل رجل سفيان بن عيينة عن من نفخ في صلاته ما كفارته ؟ قال: فسأل سفيان الشافعي ـ وكان في مجلسه ـ فقال الشافعي: نفخ ن ف خ ثلاثة أحرف. يكفره سبحان هو أربعة أحرف لكل حرف من ذلك حرف من هذا وزيادة حرف. قال الله عز وجل : (مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا ) [ الأنعام : 160] . فقال سفيان بن عيينة: وددت أني كنت أحسن مثلها.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عبد الرحمن بن مهدي يقول ـ وذكر الشافعي ـ فقال: كان شاباً مفهماً.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن يحيى بن معين قال : سمعت يحيى بن سعيد يقول أنا أدعو الله في صلاتي للشافعي منذ أربع سنين.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الزنجي مسلم بن خالد يقول للشافعي: أفت يا أبا عبد الله، فقد والله آن لك أن تفتي. وهو ابن خمس عشرة سنة.(3/235)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أحمد بن محمد الشافعي يقول: كانت الحلقة في الفتيا بمكة في المسجد الحرام لابن عباس، وبعد ابن عباس لعطاء بن أبي رباح، وبعد عطاء لعبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، وبعد ابن جريج لمسلم بن خالد الزنجي، وبعد مسلم لسعيد بن سالم القداح، وبعد سعيد لمحمد ابن إدريس الشافعي وهو شاب.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن ابن عثمان وجعفر الوراق يقولان: سمعنا أبا عبيد يقول: ما رأيت رجلا أعقل من الشافعي.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الحميدي يقول: سمعت سيد الفقهاء محمد ابن إدريس الشافعي.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سويد بن سعيد يقول: كنا عند سفيان بن عيينة فجاء محمد بن إدريس فجلس فروى ابن عيينة حديثاً رقيقاً فغشي على الشافعي، فقيل: يا أبا محمد مات محمد بن إدريس، فقال ابن عيينة: إن كان قد مات محمد بن إدريس فقد مات أفضل أهل زمانه.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أبي زرعة يقول: سمعت قتيبة بن سعيد يقول: مات الشافعي وماتت السنة.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الزعفراني، قال: حج بشر المريسي سنة إلى مكة ثم قدم فقال: لقد رأيت بالحجاز رجلا ما رأيت مثله سائلا ولا مجيباً، يعني الشافعي.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن بشر المريسي قال : رأيت بالحجاز فتى لئن بقي ليكونن ـ أظنه قال ـ واحد الدنيا، فلما كان بعد ذلك قال لي بشر: إن الفتى الذي قلت لك قد قدم، اذهب بنا إليه، فسلمنا عليه ثم تساءلا، فجعل الشافعي يصيب وبشر يخطئ، فلما خرجنا قال: كيف رأيته ؟ قال قلت: كنت تخطئ وكان يصيب. قال: ما رأيت أفقه منه.(3/236)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الحسن بن علي الرازي، قال: سألت محمد بن عبد الله بن نمير فقلت: أكتب رأي أبي حنيفة ؟ قال: لا، ولا كتابه، قال: فقلت: رأي من أكتب ؟ قال: رأي مالك والأوزاعي والثوري، ورأي الشافعي.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أبي بكر بن إدريس ـ وراق الحميدي ـ قال: قال الحميدي: كنا نريد أن نرد على أصحاب الرأي فلم نحسن كيف نرد عليهم حتى جاءنا الشافعي ففتح لنا.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الحميدي يقول: صحبت الشافعي إلى البصرة فكان يستفيد مني الحديث وأستفيد منه المسائل.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الحميدي يقول: كان أحمد بن حنبل قد أقام عندنا بمكة على سفيان بن عيينة، فقال لي ذات يوم ـ أو ذات ليلة: هاهنا رجل من قريش يكون له هذه المعرفة وهذا البيان ـ أو نحو هذا من القول - يمر بمائة مسألة يخطئ خمساً أو عشراً، اترك ما اخطأ فيه وخذ ما أصاب. قال: فكان كلامه وقع في قلبي، فجالسته فغلبتهم عليه، فلم يزل يقدم مجلس الشافعي حتى كان يقرب مجلس سفيان قال: وخرجت مع الشافعي إلى مصر فكان هو ساكناً في العلو ونحن في الأوسط فربما خرجت في بعض الليل فأرى المصباح فأصيح بالغلام فيسمع صوتي فيقول: بحقي عليك أيرق. فأريق فإذا قرطاس ودواة فأقول: مه يا أبا عبد الله فيقول: تفكرت في معنى حديث، أو مسألة، فخفت أن يذهب علي. فأمرت بالمصباح وكتبت ما أملاني.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن يحيى بن معين يقول: الشافعي صدوق ليس به بأس.(3/237)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن محمد بن مسلم بن واره قال : قدمت من مصر فأتيت أبا عبد الله أحمد بن حنبل أسلم عليه قال: كتبت كتب الشافعي؟ قلت. لا. قال: فرطت، ما علمنا المجمل من المفصل، ولا ناسخ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من منسوخه حتى جالسنا الشافعي، قال: فحملني ذلك إلى أن رجعت إلى مصر وكتبتها ثم قدمت.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن محمد بن مسلم بن واره قال: سألت أحمد بن حنبل قلت: ما ترى لي من الكتب أن أنظر فيها لنفتح الآثار. رأي مالك أو الثوري، أو الأوزاعي. فقال لي قولا أجلهم أن أذكره لك. فقال: عليك بالشافعي فإنه أكبرهم صواباً وأتبعهم للآثار. قلت لأحمد: فما ترى في كتب الشافعي التي عند العراقيين أحب إليك، أو التي عندهم بمصر. قال: عليك بالكتب التي وضعها بمصر، فإنه وضع هذه الكتب بالعراق ولم يحكمها، ثم رجع إلى مصر فأحكم ذاك. فلما سمعت ذاك من أحمد ـ وكنت قبل ذلك قد عزمت على الرجوع إلى البلد وتحدث الناس بذلك ـ تركت ذلك وعزمت الرجوع إلى مصر.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن ابن راهوية يقول: كنت مع أحمد بمكة فقال: تعال حتى أريك رجلا لم تر عيناك مثله. فأراني الشافعي.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن حميد بن زنجويه قال: سمعت أحمد ابن حنبل يقول: يروي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله يمن على أهل دينه في رأس كل مائة سنة برجل من أهل بيتي يبين لهم أمر دينهم، وإني نظرت في سنة مائة فإذا رجلا من آل رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بن عبد العزيز ونظرت في رأس المائة الثانية فإذا هو رجل من آل رسول الله صلى الله عليه وسلم محمد بن إدريس الشافعي .
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أحمد بن حنبل فقال: هذا الذي ترون كله أو عامته من الشافعي وما بت منذ ثلاثين سنة إلا وأنا أدعو للشافعي.(3/238)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أحمد بن حنبل يقول: ما صليت صلاة منذ كذا سنة إلا وأنا أدعو للشافعي.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أحمد بن حنبل يقول: كانت أنفس أصحاب الحديث في أيدي أبي حنيفة ما تبرح حتى رأينا الشافعي وكان أفقه الناس، في كتاب الله وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ما كان يكفيه قليل الطلب في الحديث. قال: وسمعت ذئباً يقول: كنت مع أحمد بن حنبل في المسجد الجامع فمر حسين ـ يعني الكرابيسي ـ فقال: هذا ـ يعني الشافعي ـ رحمة من الله، لأنه من آل محمد صلى الله عليه وسلم. ثم جئت إلى حسين، فقلت: ما تقول في الشافعي ؟ فقال: ما أقول في رجل أسدى إلى أفواه الناس الكتاب والسنة والاتفاق. ما كنا ندري ما الكتاب والسنة نحن ولا الأولون حتى سمعت منا الشافعي الكتاب والسنة والإجماع، قال: وسمعت محمد بن الفضل البزاز يقول: سمعت أبي يقول: حججت جمع أحمد بن حنبل ونزلت معه في مكان واحد ـ أو في دار بمكة ـ وخرج أبو عبد الله باكراً وخرجت أنا بعده، فلما صليت الصبح درت في المسجد فجئت إلى مجلس سفيان بن عيينة وكنت أدور مجلساً مجلساً طلباً لأبي عبد الله أحمد بن حنبل، حتى وجدته عند شاب أعرابي، وعليه ثياب مصبوغة، وعلى رأسه جمة فراحمية ... حتى قعدت عند أحمد بن حنبل، فقلت: أبا عبد الله تركت ابن عيينة وعنده الزهري وعمرو بن دينار وزياد بن علاقة، ومن التابعين ما الله به عليم ؟ قال: اسكت، فإن فاتك حديث بعلو تجده بنزول ولا يضرك في دينك ولا في عقلك ولا في فهمك، إن فاتك عقل هذا الفتى أخاف أن لا تجده إلى يوم القيامة، ما رأيت أفقه في كتاب الله من هذا الفتى القرشي. قلت: من هذا. قال: محمد بن إدريس الشافعي.(3/239)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الحسن بن محمد الزعفراني يقول: ما ذهبت إلى الشافعي مجلساً قط إلا وجدت فيه أحمد بن حنبل، وقد كان الشافعي ألزم منك إلى ما انتبهك إلا بضبة الباب.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أبي توبة البغدادي قال: رأيت أحمد بن حنبل عند الشافعي في المسجد الحرام. فقلت: يا أبا عبد الله هذا سفيان بن عيينة قي ناحية المسجد يحدث. فقال: هذا يفوت ـ يعني الشافعي ـ وذاك لا يفوت، يعني ابن عيينة.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن محمد بن ماجه القزويني، قال: جاء يحيى بن معين يوماً إلى أحمد بن حنبل، فبينما هو عنده إذ مر الشافعي على بغلته، فوثب أحمد فسلم عليه وتبعه، فأبطأ ويحيى جالس، فلما جاء قال يحيى: يا أبا عبد الله، كم هذا ؟ فقال أحمد: دع هذا عنك، إن أردت الفقه فالزم ذنب البغلة.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أبي العباس الساجي، قال: سمعت أحمد بن حنبل ما لا أحصيه في المناظرة تجري بيني وبينه وهو يقول: هكذا قال أبو عبد الله الشافعي. ومن ذلك أنه كان يقول: سجدتا السهو قبل السلام في الزيادة والنقصان. وقال أحمد بن حنبل: ما رأيت أحداً أتبع للأثر من الشافعي.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عبد الملك بن حبيب بن ميمون بن مهران، قال: قال لي أحمد بن حنبل: مالك لا تنظر في كتب الشافعي. فما من أحد وضع الكتب أتبع للسنة من الشافعي.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أبي جعفر الترمذي يقول: أردت أن أكتب كتب الرأي فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقلت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أكتب رأي مالك ؟ قال ما وافق منه سنتي. فقلت: يا رسول الله. فأكتب رأي الشافعي فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنه ليس برأي، إنه رد على من خالف سنتي .(3/240)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عبد الله بن محمد بن نصر الترمذي، قال: كتبت الحديث تسعاً وعشرين سنة، وسمعت مسائل مالك وقوله، ولم يكن في حسن رأي في الشافعي، فبينما أنا قاعد في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، إذ غفوت غفوة فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقلت: يا رسول الله أكتب رأي أبي حنيفة ؟ قال: لا، قلت: أكتب رأي مالك ؟ قال: اكتب ما وافق سنتي. قلت له: أكتب رأي الشافعي. فطأطأ رأسه شبه الغضبان يتولى، وقال: ليس بالرأي، هذا رد على من خالف سنتي، قال: فخرجت في أثر هذه الرؤيا إلى مصر فكتبت كتب الشافعي.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أحمد بن حنبل قال : قدم علينا نعيم بن حماد وحثنا على طلب المسند، فلما قدم علينا الشافعي وضعنا على المحجة البيضاء.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أحمد بن حنبل، قال : ما رأيت أتبع للحديث من الشافعي.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أحمد بن حنبل قال : ما سبق أحد الشافعي إلى كتاب الحديث.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن إسحاق بن راهوية قال : ما تكلم أحد بالرأي ـ وذكر الثوري والأوزاعي ومالكاً وأبا حنيفة ـ إلا أن الشافعي أكثر اتباعاً وأقل خطأ منهم.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن إسحاق بن راهوية قال : كتبت إلى أحمد بن حنبل وسألته أن يوجه إلى من كتب الشافعي ما يدخل في حاجتي. فوجه إلى كتاب الرسالة. قال: وحدثنا أبو زرعة قال: بلغني أن إسحاق بن راهويه كتب له كتب الشافعي فسن في كلامه أشياء قد أخذها من الشافعي وجعلها لنفسه.(3/241)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أحمد بن مسلمة النيسابوري قال: تزوج إسحاق بن راهويه بمرو بامرأة رجل كان عنده كتب الشافعي فتوفي، لم يتزوج بها إلا لحال كتب الشافعي، فوضع جامعه الكبير على كتاب الشافعي، ووضع جامعه الصغير على جامع الثوري الصغير. وقدم أبو إسماعيل الترمذي نيسابور وكان عنده كتب الشافعي، عن البويطي، فقال له إسحاق بن راهويه: لي إليك حاجة أن لا تحدث بكتب الشافعي ما دامت بنيسابور، فأجابه إلى ذلك فما حدث بها حتى خرج.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أبي ثور، قال: لما ورد الشافعي العراق جاءني حسين الكرابيسي ـ وكان يختلف معي إلى أصحاب الرأي ـ فقال: قد ورد رجل من أصحاب الحديث يتفقه: فقم بنا نسخر به. فذهبنا حتى دخلنا عليه، فسأله الحسين عن مسألة فلم يزل الشافعي يقول قال الله، وقال رسول الله، حتى أظلم علينا البيت، فتركنا بدعتنا واتبعناه.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن ابن عبد الحكم، قال: سمعت الشافعي يقول: نظرت في كتاب لأبي حنيفة فيه عشرون ومائة، أو ثلاثون ومائة ورقة، فوجدت فيه ثمانين ورقة في الوضوء والصلاة، ووجدت فيه إما خلافاً لكتاب أو لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو اختلاف قول أو تناقض، أو خلاف قياس.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أبي محمد ابن أخت الشافعي يقول: قالت أمي: ربما قدمنا في ليلة واحدة ثلاثين مرة أو أقل أو كثر المصباح إلى بين يدي الشافعي وكان يستلقي ويتفكر ثم ينادي يا جارية هلمي المصباح، فتقدمه ويكتب ما يكتب، ثم يقول ارفعيه، فقلت لأبي محمد: ما أراد برد المصباح ؟ قال: الظلمة أجلى للقلب.(3/242)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن ابن عبد الحكم قال لما حملت والدة الشافعي به رأت كأن المشتري خرج من فرجها حتى انقض بمصر ثم وقع في كل بلدة منه شظيه فتأوله المعبرون أنها تلد عالما يخص علمه أهل مصر ثم يتفرق في البلدان .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن المزني قال : ما رأيت أحسن وجها من الشافعي رحمه الله وكان ربما قبض على لحيته فلا يفضل عن قبضته .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن المزني أنه سمع الشافعي يقول حفظت القرآن وأنا ابن سبع سنين وحفظت الموطأ وأنا ابن عشر .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أبي عبيد قال : ما رأيت أعقل من الشافعي ، وكذا قال يونس بن عبد الأعلى حتى انه قال لو جمعت أمة لوسعهم عقله .
قال الذهبي رحمه الله : قلت هذا على سبيل المبالغة فإن الكامل العقل لو نقص من عقله نحو الربع لبان عليه نقص ما ولبقي له نظراء فلو ذهب نصف ذلك العقل منه لظهر عليه النقص فكيف به لو ذهب ثلثا عقله فلو أنك اخذت عقول ثلاثة أنفس مثلا وصيرتها عقل واحد لجاء منه كامل العقل وزيادة .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن مسلم بن خالد الزنجي قال للشافعي أفت يا أبا عبد الله فقد والله آن لك أن تفتي وهو ابن خمس عشرة سنة .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن يونس الصدفي قال : ما رأيت أعقل من الشافعي ناظرته يوماً في مسألة ثم افترقنا ولقيني فأخذ بيدي ثم قال يا أبا موسى ألا يستقيم أن نكون إخوانا وان لم نتفق في مسألة .
قال الذهبي تعليقاً على هذا : قلت هذا يدل على كمال عقل هذا الامام وفقه نفسه فما زال النظراء يختلفون .(3/243)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أبي عبد الله الصاغاني قال : سألت يحيى بن أكثم عن أبي عبيد والشافعي أيهما اعلم ؟ قال : أبو عبيد كان يأتينا ها هنا كثيرا وكان رجلا إذا ساعدته الكتب كان حسن التصنيف من الكتب وكان يرتبها بحسن ألفاظه لاقتداره على العربية وأما الشافعي فقد كنا عند محمد بن الحسن كثيرا في المناظرة وكان رجلا قرشي العقل والفهم والذهن صافي العقل والفهم والدماغ سريع الإصابة أو كلمة نحوها ولو كان أكثر سماعا للحديث لا ستغنى امة محمد صلى الله عليه وسلم به عن غيره من الفقهاء .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن معمر بن شبيب قال :سمعت المأمون يقول قد امتحنت محمد بن إدريس في كل شيء فوجدته كاملا .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أحمد بن محمد بن بنت الشافعي سمعت أبي وعمي يقولان كان سفيان بن عيينة إذا جاءه شيء من التفسير والفتيا التفت إلى الشافعي فيقول سلوا هذا .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن سويد بن سعيد قال : كنت عند سفيان فجاء الشافعي فسلم وجلس فروى ابن عيينة حديثا رقيقا فغشي على الشافعي فقيل يا أبا محمد مات محمد بن إدريس فقال ابن عيينة إن كان مات فقد مات أفضل أهل زمانه .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن يحيى القطان قال : أنا أدعو الله للشافعي اخصه به .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أبي بكر بن خلاد قال ك أنا أدعو الله في دبر صلاتي للشافعي .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن محمد بن أحمد ابن نصر الترمذي يقول رأيت في المنام النبي صلى الله عليه وسلم في مسجده بالمدينة فكأني جئت فسلمت عليه وقلت يا رسول الله اكتب رأي مالك قال لا قلت أكتب رأي أبي حنيفة قال لا قلت أكتب رأي الشافعي فقال بيده هكذا كأنه انتهرني وقال تقول رأي الشافعي إنه ليس برأي ولكنه رد على من خالف سنتي .(3/244)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن محمد بن حسن البلخي قال قلت في المنام يا رسول الله ما تقول في قول أبي حنيفة والشافعي ومالك فقال لا قول إلا قولي لكن قول الشافعي ضد قول أهل البدع .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أحمد بن الحسن الترمذي الحافظ قال رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فسألته عن الاختلاف فقال أما الشافعي فمني وإلي .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عبد الرحمن بن مهدي قال : ما أصلي صلاة إلا وأنا أدعو للشافعي فيها .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أحمد بن حنبل قال : ستة أدعو لهم سحرا أحدهم الشافعي .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن قال أبي داود ما رأيت أبا عبد الله يميل إلى أحد ميله إلى الشافعي .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن قتيبة بن سعيد قال : الشافعي إمام .
قال الذهبي تعليقاً على هذا : قلت كان هذا الإمام مع فرط ذكائه وسعة علمه يتناول ما يقوي حافظته قال هارون بن سعيد الأيلي قال لنا الشافعي أخذت اللبان سنة للحفظ فأعقبني رمي الدم سنة .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن قتيبة بن سعيد قال : مات الثوري ومات الورع ومات الشافعي وماتت السنن ويموت احمد ابن حنبل وتظهر البدع .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أبي ثور الكلبي قال : ما رأيت مثل الشافعي ولا رأى هو مثل نفسه .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أيوب بن سويد قال : ما ظننت أني أعيش حتى أرى مثل الشافعي .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن احمد بن حنبل من طرق عنه إن الله يقيض للناس في رأس كل مئة من يعلمهم السنن وينفي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الكذب قال فنظرنا فإذا في رأس المئة عمر بن عبد العزيز وفي رأس المئتين الشافعي .(3/245)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن حرملة قال : سمعت الشافعي يقول سميت ببغداد ناصر الحديث .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أحمد قال : كان الشافعي من أفصح الناس .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن إبراهيم الحربي قال : سألت أبا عبد الله عن الشافعي فقال حديث صحيح ورأي صحيح .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن إسحاق بن راهويه قال : ما تكلم أحد بالرأي وذكر جماعة من أئمة الاجتهاد إلا والشافعي أكثر اتباعا منه وأقل خطأ منه الشافعي إمام .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أبي زرعة الرازي قال ما عند الشافعي حديث فيه غلط .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أبي داود السجستاني قال : ما أعلم للشافعي حديثا خطأ .
قال الذهبي تعليقاً على هذا : قلت هذا من أدل شيء على أنه ثقة حجة حافظ وناهيك يقول مثل هذين وقد صنف الحافظ أبو بكر الخطيب كتابا في ثبوت الاحتجاج بالإمام الشافعي ، وما تكلم فيه إلا حاسد أو جاهل بحاله فكان ذلك الكلام الباطل منهم موجباً لارتفاع شأنه وعلو قدره وتلك سنة الله في عباده (يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالّذِينَ آذَوْاْ مُوسَىَ فَبرّأَهُ اللّهُ مِمّا قَالُواْ وَكَانَ عِندَ اللّهِ وَجِيهاً * يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اتّقُواْ اللّهَ وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً) [الأحزاب 69، 70]
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أبي حاتم الرازي قال : محمد بن إدريس صدوق .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الربيع بن سليمان قال : كان الشافعي والله لسانه أكبر من كتبه لو رأيتموه لقلتم إن هذه ليست كتبه .(3/246)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن يونس بن عبد الأعلى قال : ما كان الشافعي إلا ساحرا ما كنا ندري ما يقول إذا قعدنا حوله كأن الفاظه سكر وكان قد أوتي عذوبة منطق وحسن بلاغة وفرط ذكاء وسيلان ذهن وكمال فصاحة وحضور حجة .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عبد الملك بن هشام اللغوي قال : طالت مجالستنا للشافعي فما سمعت منه لحنة قط .
قال الذهبي تعليقاً على هذا : قلت أنى يكون ذلك وبمثله في الفصاحة يضرب المثل كان أفصح قريش في زمانه وكان مما يؤخذ عنه اللغة
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أحمد بن أبي سريج الرازي ما رأيت أحدا أفوه ولا أنطق من الشافعي .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الأصمعي قال :أخذت شعر هذيل عن الشافعي .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أبي ثور قال : سمعت الشافعي وكان من معادن الفقه ونقاد المعاني وجهابذة الألفاظ يقول حكم المعاني خلاف حكم الألفاظ لأن المعاني مبسوطة إلى غير غاية وأسماء المعاني معدودة محدودة وجميع أصناف الدلالات على المعاني لفظا وغير لفظ خمسة أشياء اللفظ ثم الإشارة ثم العقد ثم الخط ثم الذي يسمى النصبة والنصبة في الحال الدلالة التي لا تقوم مقام تلك الأصناف ولا تقصر عن تلك الدلالات ولكل واحد من هذه الخمسة صورة بائنة من صورة صاحبتها وحلية مخالفة لحلية أختها وهي التي تكشف لك عن أعيان المعاني في الجملة وعن خفائها عن التفسير وعن أجناسها وأفرادها وعن خاصها وعامها وعن طباعها في السار والضار وعما يكون بهوا بهرجا وساقطا مدحرجا .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال : ما رأيت أحدا أقل صباً للماء في تمام التطهر من الشافعي .(3/247)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن ابن عبد الحكم قال : ما رأت عيني قط مثل الشافعي قدمت المدينة فرأيت اصحاب عبد الملك بن الماجشون يغالون بصاحبهم يقولون صاحبنا الذي قطع الشافعي قال فلقيت عبد الملك فسألته عن مسألة فأجابني فقلت الحجة قال لان مالكا قال كذا وكذا فقلت في نفسي هيهات هيهات أسألك عن الحجة وتقول قال معلمي وإنما الحجة عليك وعلى معلمك .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن ابراهيم بن أبي طالب الحافظ قال : سألت أبا قدامة السرخسي عن الشافعي وأحمد وأبي عبيد وابن راهويه فقال الشافعي أفقههم .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن يحيى بن منصور القاضي قال : سمعت إمام الأئمة ابن خزيمة يقول وقلت له هل تعرف سنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الحلال والحرام لم يودعها الشافعي كتبه قال لا .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الشافعي قال : كنت أقرئ الناس وأنا ابن ثلاث عشرة سنة وحفظت الموطأ قبل أن أحتلم .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن محمد بن مسلم بن وارة قال : سألت احمد بن حنبل ما ترى في كتب الشافعي التي عند العراقيين أهي أحب إليك أو التي بمصر قال عليك بالكتب التي عملها بمصر فإنه وضع هذه الكتب بالعراق ولم يحكمها ثم رجع إلى مصر فأحكم تلك وقلت لأحمد ما ترى لي من الكتب أن أنظر فيه رأي مالك أو الثوري أو الأوزاعي فقال لي قولا اجلهم أن أذكره وقال عليك بالشافعي فإنه أكثرهم صوابا وأتبعهم للآثار .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عبدالله بن ناجية الحافظ قال : سمعت ابن وارة يقول قدمت من مصر فأتيت احمد بن حنبل فقال لي كتبت كتب الشافعي قلت لا قال فرطت ما عرفنا العموم من الخصوص وناسخ الحديث من منسوخه حتى جالسنا الشافعي قال فحملني ذلك على الرجوع إلى مصر فكتبتها .(3/248)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن علي بن المديني يقول عليكم بكتب الشافعي .
قال الذهبي رحمه الله : قلت ومن بعض فنون هذا الإمام الطب كان يدريه نقل ذلك غير واحد فعنه قال عجبا لمن يدخل الحمام ثم لا يأكل من ساعته كيف يعيش وعجبا لمن يحتجم ثم يأكل من ساعته كيف يعيش .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن احمد بن حنبل وسئل عن الشافعي فقال لقد من الله علينا به لقد كنا تعلمنا كلام القوم وكتبنا كتبهم حتى قدم علينا فلما سمعنا كلامه علمنا انه أعلم من غيره وقد جالسناه الأيام والليالي فما رأينا منه إلا كل خير فقيل له يا أبا عبد الله كان يحيى وأبو عبيد لا يرضيانه يشير إلى التشيع وإنهما نسباه إلى ذلك فقال أحمد بن حنبل ما ندري ما يقولان والله ما رأينا منه إلا خيرا .
قال الذهبي تعليقاً على هذا : قلت من زعم أن الشافعي يتشيع فهو مفتر لا يدري ما يقول قد قال الزبير بن عبد الواحد الاستراباذي أخبرنا حمزة بن علي الجوهري حدثنا الربيع بن سليمان قال حججنا مع الشافعي فما ارتقى شرفا ولا هبط واديا إلا وهو يبكي وينشد * يا راكبا قف بالمحصب من منى * واهتف بقاعد خيفنا والناهض * * سحرا إذا فاض الحجيج إلى منى * فيضا كملتطم الفرات الفائض * * إن كان رفضا حب آل محمد * فليشهد الثقلان أني رافضي *
قلت لو كان شيعيا وحاشاه من ذلك لما قال الخلفاء الراشدون خمسة بدأ بالصديق وختم بعمر بن عبد العزيز .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أبي بكر محمد بن علي الشاشي الفقيه يقول دخلت على ابن خزيمة فقال يا بني على من درست الفقه فسميت له أبا الليث فقال وعلى من درس قلت على ابن سريج فقال وهل اخذ ابن سريج العلم إلا من كتب مستعارة فقال رجل أبو الليث هذا مهجور بالشاشي فإن البلد حنابلة فقال ابن خزيمة وهل كان ابن حنبل إلا غلاما من غلمان الشافعي .(3/249)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن احمد بن سلمة النيسابوري تزوج إسحاق بن راهويه بامرأة رجل كان عنده كتب الشافعي مات لم يتزوج بها إلا للكتب قال فوضع جامع الكبير على كتاب الشافعي ووضع جامع الصغير على جامع سفيان فقدم أبو إسماعيل الترمذي نيسابور وكان عنده كتب الشافعي عن البويطي فقال له إسحاق لا تحدث بكتب الشافعي ما دمت هنا فأجابه قال داود بن علي سمعت ابن راهويه يقول ما كنت أعلم أن الشافعي في هذا المحل ولو علمت لم أفارقه .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أبو نعيم بن عدي الحافظ سمعت الربيع مرارا يقول لو رأيت الشافعي وحسن بيانه وفصاحته لعجبت ولو أنه ألف هذه الكتب على عربيته التي كان يتكلم بها معنا في المناظرة لم نقدر على قراءة كتبه لفصاحته وغرائب ألفاظه غير أنه كان في تأليفه يوضح للعوام .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أحمد بن حنبل قال : الشافعي فيلسوف في أربعة أشياء في اللغة واختلاف الناس والمعاني والفقه .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن يونس بن عبد الأعلى قال كان الشافعي إذا أخذ في التفسير كأنه شهد التنزيل .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أحمد بن حنبل قال : إذا سئلت عن مسألة لا أعرف فيها خبرا قلت فيها بقول الشافعي لأنه إمام قرشي وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال عالم قريش يملأ الأرض علما إلى أن قال احمد واني لأدعو للشافعي منذ أربعين سنة في صلاتي .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن يحيى بن سعيد قال : أنا أدعو الله للشافعي في صلاتي منذ أربع سنين .(3/250)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن ابن ماجة القزويني قال :جاء يحيى بن معين إلى أحمد بن حنبل فبينا هو عنده إذ مر الشافعي على بغلته فوثب أحمد يسلم عليه وتبعه فأبطأ ويحيى جالس فلما جاء قال يحيى يا أبا عبد الله كم هذا فقال دع عنك هذا إن أردت الفقه فالزم ذنب البغلة .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أحمد بن العباس النسائي سمعت أحمد بن حنبل مالا أحصيه وهو يقول قال أبو عبد الله الشافعي ثم قال ما رأيت أحدا أتبع للأثر من الشافعي .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن إبراهيم بن محمد الشافعي ما رأيت أحدا أحسن صلاة من الشافعي وذاك أنه أخذ من مسلم بن خالد وأخذ مسلم من ابن جريج وأخذ ابن جريج من عطاء وأخذ عطاء من ابن الزبير وأخذ ابن الزبير من أبي بكر الصديق وأخذ أبو بكر من النبي صلى الله عليه وسلم .
(2) قدرة الشافعي الفائقة في المناظرة لإظهار الحق :
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الشافعي قال : ناظرت محمد بن الحسن فاشتدت مناظرتي إياه، فجعلت أوداجه تنتفخ، وأزراره تنقطع زراً زراً.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن هارون بن سعيد: لو أن الشافعي ناظر على هذا العمود الذي من حجارة أنه من خشب لغلب بالمناظرة لاقتداره عليها.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن محمد. قال: ما رأيت أحداً يناظر الشافعي إلا رحمته مع الشافعي.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن ابن عبد الحكم قال : ما رأيت الشافعي يناظر أحدا إلا رحمته ولو رأيت الشافعي يناظرك لظننت أنه سبع يأكلك وهو الذي علم الناس الحجج .(3/251)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن محمد قال: ما رأيت أحداً يناظر الشافعي إلا رحمته مع الشافعي. قال: وقال هارون ابن سعيد: لو أن الشافعي ناظر على هذا العمود الذي من حجارة أنه من خشب لغلب في اقتداره على المناظرة. وقال الشافعي: ناظرت رجلا بالعراق فجاءه بكل ما جاء بمعنى أدخلت عليه معنى آخر فيبقى، فتناظرنا في شيء فقلت له: من قال بهذا. قال: أمسك: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، فلم يزل يعد حتى عد العشرة، فبلغ كل مبلغ، وكان حولنا قوم لا معرفة لهم بالرواية، فاجتمعنا بعد ذلك المجلس فقلت له: الذي رويت، عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي من حدثك به. فقال: لم أرو لك شيئاً ولم يحدثني أحد، وإنما قلت لك: أمسك أبو بكر وعمر وعثمان وعلي. قال محمد: كان أعلم بكل فن لو كنت أدركته وأنا رجل كامل لاستخرجت من جنبيه علوماً جمة، ولقد رأيت عنده أشعار هذيل وما كنت أذكر له قصيدة إلا ربما أنشدنيها من أولها إلى آخرها، على أنه مات وهو ابن أربع وخمسين سنة.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن حسين بن علي الكرابيسي قال : شهدت الشافعي ودخل عليه بشر المريسي فقال لبشر أخبرني عما تدعو إليه أكتاب ناطق وفرض مفترض وسنة قائمة ووجدت عن السلف البحث فيه والسؤال ؟ فقال بشر: لا إلا أنه لا يسعنا خلافه ، فقال الشافعي : أقررت بنفسك على الخطأ فأين أنت عن الكلام في الفقه والأخبار يواليك الناس وتترك هذا ؟ قال: لنا نهمة فيه فلما خرج بشر قال الشافعي لا يفلح.
إخلاص نية الشافعة في المناظرة لإظهار الحق :
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الشافعي قال : ما ناظرت أحد قط إلا على النصيحة.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الشافعي قال : ما ناظرت أحداً قط إلا أحببت أن يوفق ويسدد ويعان، ويكون عليه رعاية من الله وحفظه. وما ناظرت أحداً إلا ولم أبال بين الله الحق على لساني أو لسانه.(3/252)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الشافعي يقول ما ناظرت أحدا على الغلبة إلا على الحق عندي .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الشافعي قال : ما ناظرت أحدا في الكلام إلا مرة وأنا استغفر الله من ذلك .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الشافعي قال : ما كابرني أحد على الحق ودافع إلا سقط من عيني ولا قبله إلا هبته واعتقدت مودته .
(3) تأصيل الشافعي للأصول :(3/253)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن يونس بن عبد الأعلى، قال: قال محمد بن إدريس الشافعي: الأصل قرآن وسنة، فإن لم يكن فقياس عليهما، وإذا اتصل الحديث، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصح الإسناد عنه فهو سنة. والإجماع أكثر من الخبر المنفرد، والحديث على ظاهر. وإذا احتمل المعاني فما أشبه منها ظاهره أولاها به. وإذا تكافأت الأحاديث فأصحها إسناداً أولاها. وليس المنقطع بشيء ما عدا منقطع ابن المسيب. ولا يقاس أصل على أصل. ولا يقال لأصل: لم، ولا كيف، وإنما يقال للفروع: لم، فإذا صح قياسه على الأصل صح وقامت به الحجة، قال الشافعي: وكلا قد رأيته استعمل الحديث المنفرد، استعمل أهل المدينة حديث النبي صلى الله عليه وسلم في التغليس. واستعمل أهل العراق حديث الغرر. وكل قد استعمل الحديث، هؤلاء أخذوا بهذا وتركوا الآخر، وهؤلاء أخذوا بهذا وتركوا الآخر. والذي لزم قرآن وسنة، وأنا أظلم في إلزام تقليد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا اختلفوا نظراً أتبعهم القياس إذا لم يوجد أصل يخالفهم أتبع أتبعهم للقياس. قد اختلف عمر وعلي في ثلاث مسائل القياس فيها مع علي، وبقوله أخذ منها المفقود. قال عمر: يضرب الأجل إلى أربع سنين ثم تعتد امرأته أربعة أشهر وعشراً. وقال علي: امرأته لا تنكح أبداً. وقد اختلف فيه عن علي حتى يتضح بموت أو فراق. وقال عمر في الرجل يطلق امرأته في سفر ثم يرتجعها فسيبلغها الطلاق ولا تبلغها الرجعة حتى تحل وتنكح: إن زوجها الآخر أولى بها إذا دخل بها. وقال علي: هي للأول وهو أحق بها. وقال عمر في الذي ينكح المرأة في العمق ويدخل بها أنه يفرق بينهما ثم لا ينكحها أبداً.(3/254)
وقال علي: ينحكها بعد. واختلفوا في الأقراء، وأصح ذلك أن الأقراء الأطهار لقول النبي صلى الله عليه وسلم لعمر: مُرْهُ ـ يعني ابن عمر ـأن يطلقها في طهر لم يمسها فيه، فتلك العدة التي أمر الله عز وجل أن يطلق لها النساء . فلما سماها رسول الله صلى الله عليه وسلم عدة، كان أصح القول فيها، لأن النبي صلى الله عليه وسلم سمى الأطهار العدة.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن يونس بن عبد الأعلى، قال: سمعت الشافعي يقول: الأصل القرآن والسنة أو قياس عليهما، والإجماع أكثر من الحديث.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن محمد بن يزيد بن حكيم. قال: رأيت محمد بن إدريس الشافعي في المسجد الحرام، وقد جُعلت له طنافس يجلس عليها، فآتاه رجل من أهل خراسان فقال: يا أبا عبد الله ما تقول في أكل فرخ الزنبور ؟ قال: حرام. فقال الخراساني: حرام. فقال نعم. من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والمعقول. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم: ( وَمَآ آتَاكُمُ الرّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ ) [ الحشر : 7] وحدثنا سفيان، عن زائدة، عن عبد الملك بن عمير، عن مولى الربعي، عن حذيفة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: اقتدوا بالذين من بعدي، أبي بكر وعمر . هذه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وحدثونا عن إسرائيل، قال أبو بكر المستلمي: حدثنا أبو أحمد، عن إسرائيل، عن إبراهيم بن عبد الأعلى، عن سويد بن غفلة أن عمر بن الخطاب أمر بقتل الزنبور. وفي المعقول أن ما أمر بقتله فحرام أكله. فسكت الرجل ومضى. وكان هذا إعجاباً من المستملي بالشافعي.(3/255)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أبي ثور قال : سمعت الشافعي وكان من معادن الفقه ونقاد المعاني وجهابذة الألفاظ يقول حكم المعاني خلاف حكم الألفاظ لأن المعاني مبسوطة إلى غير غاية وأسماء المعاني معدودة محدودة وجميع أصناف الدلالات على المعاني لفظا وغير لفظ خمسة أشياء اللفظ ثم الإشارة ثم العقد ثم الخط ثم الذي يسمى النصبة والنصبة في الحال الدلالة التي لا تقوم مقام تلك الأصناف ولا تقصر عن تلك الدلالات ولكل واحد من هذه الخمسة صورة بائنة من صورة صاحبتها وحلية مخالفة لحلية أختها وهي التي تكشف لك عن أعيان المعاني في الجملة وعن خفائها عن التفسير وعن أجناسها وأفرادها وعن خاصها وعامها وعن طباعها في السار والضار وعما يكون بهوا بهرجا وساقطا مدحرجا .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن البويطي قال : سئل الشافعي كم أصول الأحكام فقال خمس مئة قيل له كم أصول السنن قال خمس مئة قيل له كم منها عند مالك قال كلها إلا خمسة وثلاثين حديثا قيل له كم عند ابن عيينة قال كلها إلا خمسة .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عبدالله بن ناجية الحافظ قال : سمعت ابن وارة يقول قدمت من مصر فأتيت احمد بن حنبل فقال لي كتبت كتب الشافعي قلت لا قال فرطت ما عرفنا العموم من الخصوص وناسخ الحديث من منسوخه حتى جالسنا الشافعي قال فحملني ذلك على الرجوع إلى مصر فكتبتها .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الشافعي المحدثات من الأمور ضربان ما أحدث يخالف كتابا أو سنة أو أثرا أو إجماعا فهذه البدعة ضلالة وما أحدث من الخير لا خلاف فيه لواحد من هذا فهذه محدثة غير مذمومة قد قال عمر في قيام رمضان نعمت البدعة هذه يعني أنها محدثة لم تكن وإذا كانت فليس فيها رد لما مضى .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الميموني سمعت احمد يقول سألت الشافعي عن القياس فقال عند الضرورات .(3/256)
(4) تعظيم الشافعي لحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الشافعي يقول قراءة الحديث خير من صلاة التطوع وقال طلب العلم أفضل من صلاة النافلة .
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الربيع بن سليمان يقول: سأل رجل الشافعي عن حديث النبي صلى الله عليه وسلم فقال له الرجل: فما تقول ؟ فارتعد وانتفض وقال: أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقلت بغيره.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الربيع بن سليمان يقول: سمعت الشافعي ـ وذكر حديثاً ـ فقال له رجل: تأخذ بالحديث. فقال لنا ـ ونحن خلفه كثير ـ: اشهدوا أني إذا صح عندي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم آخذ به فإن عقلي قد ذهب.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الحميدي روى الشافعي يوما حديثا فقلت أتأخذ به فقال رأيتني خرجت من كنيسة أو علي زنار حتى إذا سمعت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا لا أقول به .
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن حرملة بن يحيى يقول: قال الشافعي: كلما قلت: وكان عن النبي صلى الله عليه وسلم خلاف قولي مما يصح، فحديث النبي صلى الله عليه وسلم أولى ولا تقلدوني.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن حرملة بن يحيى، قال: سمعت الشافعي يقول: سميت ببغداد ناصر الحديث.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أبي الوليد بن أبي الجارود يقول: قال الشافعي: إذا صح الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت قولا فأنا راجع عن قولي وقائل بذلك.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عن الشافعي قال: إذا وجدتم لرسول الله صلى الله عليه وسلم سنة فاتبعوها ولا تلتفتوا إلى قول أحد.(3/257)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الشافعي قال : إذا صح الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو أولى أن يؤخذ به من غيره.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الشافعي قال : إذا صح الحديث فهو مذهبي وإذا صح الحديث فاضربوا بقولي الحائط .
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عبد الله بن أحمد بن حنبل يقول: سمعت أبي يقول وذكر الشافعي ـ فقال: سمعته يقول: إذا صح عندكم الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا لي حتى أذهب به في أي بلد كان.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الشافعي قال : من تعلم القرآن عظمت قيمته ومن تكلم في الفقه نما قدره ومن كتب الحديث قويت حجته ومن نظر في اللغة رق طبعه ومن نظر في الحساب جزل رأيه ومن لم يصن نفسه لم ينفعه علمه .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أحمد بن العباس النسائي سمعت أحمد بن حنبل مالا أحصيه وهو يقول قال أبو عبد الله الشافعي ثم قال ما رأيت أحدا أتبع للأثر من الشافعي .
توقير الشافعي لأصحاب الحديث :
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الشافعي قال إذا رأيت رجلا من أصحاب الحديث فكأني رأيت رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم جزاهم الله خيرا هم حفظوا لنا الأصل فلهم علنيا الفضل .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الشافعي قال : عليكم بأصحاب الحديث فإنهم أكثر الناس صوابا .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عبد الله بن احمد بن حنبل قال : سمعت أبي يقول قال الشافعي أنتم اعلم بالأخبار الصحاح منا فإذا كان خبر صحيح فأعلمني حتى اذهب إليه كوفيا كان أو بصريا أو شاميا .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الشافعي قال لبعض أصحاب الحديث أنتم الصيادلة ونحن الأطباء .
(5) حرص الشافعي على طلب العلم :(3/258)
في مكة المكرمة حفظ القرآن وهو حدث ، ثم أخذ يطلب اللغة والأدب والشعر حتى برع في ذلك كله . قال إسماعيل بن يحيى : سمعت الشافعي يقول : حفظت القرآن وأنا ابن سبع سنين وحفظت الموطأ وأنا إبن عشر سنين .
ثم رحل من مكة إلى بني هذيل وبق يفيهم سبعة عشر سنة، وكانوا أفصح العرب، فأخذ عنهم فصاحة اللغة وقوتها، ثم انصرفت همته لطلب الحديث والفقه من شيوخهما، فحفظ الموطأ وقابل الإمام مالك فأعجب به وبقراءته وقال له: يا بن أخي تفقه تعل.
وقال له أيضا: يا محمد اتق الله فسيكون لك شأن.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الشافعي قال : حفظت الموطأ قبل أن آتي مالكاً، فلما أتيته قال لي: اطلب من يقرأ لك، فقلت: لا عليك أن تستمع لقراءتي، فإن أعجبتك وإلا طلبت من يقرأ، فقال لي: اقرأ فقرأت عليه.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الشافعي قال : أتيت مالكاً وقد حفظت الموطأ. فقال لي: اطلب من يقرأ، قلت: لا عليك أن تستمع قراءتي، فإن خفت عليك وإلا طلبت من يقرأ لي، فقال لي، اقرأ، فقرأت لنفسي فكان الشافعي يقول: أخبرنا مالك.(3/259)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سمعت حسيناً الكرابيسي يقول: سمعت الشافعي يقول: كنت امرءاً أكتب الشعر فآتي البوادي فأسمع منهم، قال: فقدمت مكة فخرجت منها وأنا أتمثل بشعر للبيد، وأضرب وحشي قدمي بالسوط ، فضربني رجل من ورائي من الحجبة، فقال رجل من قريش ثم ابن المطلب رضي من دينه ودنياه أن يكون معلماً، ما الشعر؟ هل الشعر إذا استحكمت فيه إلا قصدت معلماً، تفقه يعلمك الله. قال: فنفعني الله بكلام ذلك الحجي، قال: ورجعت إلى مكة وكتبت من ابن عيينة ما شاء الله أن أكتب ثم كنت أجالس مسلم بن خالد الزنجي، ثم قرأت على مالك بن أنس فكتبت موطأه فقلت له: يا أبا عبد الله أقرأ عليك، قال: يا بن أخي تأتي برجل يقرأه علي فتسمع، فقلت أقرأ عليك فتسمع إلى كلامي: فقال لي اقرأ، فلما سمع قراءتي أذن فقرأت عليه حتى بلغت كتاب السير، فقال لي اطوه يا ابن أخي، تفقه تعلم ، قال: فجئت إلى مصعب بن عبد الله فكلمته أن يكلم بعض أهلنا فيعطيني شيئاً من الدنيا، فإنه كان بي من الفقر والفاقة ما الله به عليم، فقال لي مصعب: أتيت فلاناً فكلمته فقال لي: تكلمني في رجل كان منا فخالفنا، قال: فأعطاني مائة دينار وقال لي مصعب: إن هارون الرشيد كتب إلي أن أصير إلى اليمن قاضياً فتخرج معنا لعل الله أن يعوضك ما كان من هذا الرجل يقرضك ؟ قال: فخرج قاضياً على اليمن وخرجت معه، فلما صرنا باليمن وجالسنا الناس كتب مطرف بن مازن إلى هارون الرشيد إن أردت اليمن لا يفسد عليك ولا يخرج من يديك فأخرج عنه محمد بن إدريس وذكر أقواماً من الطالبيين، قال: فبعث إلى حماد العزيزي فأوثقت بالحديد حتى قدمنا على هارون قال: فأدخلت على هارون. قال: فأخرجت من عنده. قال: وقدمت ومعي خمسون ديناراً.(3/260)
قال: ومحمد بن الحسن يومئذ بالرقة قال فأنفقت تلك الخمسين ديناراً على كتبهم، قال: فوجدت مثلهم ومثل كتبهم مثل رجل كان عندنا يقال له فروخ وكان يحمل الدهن في زق له، فكان إذا قيل له عندك فرشنان ؟ قال: نعم، فإن قيل له عندك زنبق ؟ قال: نعم، فإن قيل عندك حبر ؟ قال: نعم، فإذا قيل له أرني ـ وللزق رءوس كثيرة ـ فيخرج له من تلك الرءوس، وإنما هي دهن واحد وكذلك وجدت كتاب أبي حنيفة إنما يقول كتاب الله وسنة نبيه عليه السلام وإنما هم مخالفون له. قال: فسمعت ما لا أحصيه محمد بن الحسن يقو ؟ : إن تابعكم الشافعي فما عليكم من حجازي كلفه بعده، فجئت يوماً فجلست إليه وأنا من أشد الناس هماً وغماً من سخط أمير المؤمنين، وزادي قد نفد. قال: فلما أن جلست إليه أقبل محمد بن الحسن يطعن على أهل دار الهجرة، فقلت: على من تطعن، على البلد أم على أهله. والله لئن طعنت على أهله إنما تطعن على أبي بكر وعمر والمهاجرين والأنصار، وإن طعنت على البلدة فإنها بلدتهم التي دعا لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبارك لهم في صالحهم ومدهم، وحرمه كما حرم إبراهيم عليه الصلاة والسلام مكة، لا يقتل صيدها، على أيهم تطعن ؟ فقال: معاذ الله أن أطعن على أحد منهم أو على بلدته، وإنما أطعن على حكم من أحكامه، فقلت: ما هو ؟ فقال: اليمين مع الشاهد، فقلت له: ولم طعنت ؟ قال: فإنه مخالف لكتاب الله، فقلت له: فكل خبر يأتيك مخالفاً لكتاب الله أتسقطه ؟ قال: فقال كذا يجب، فقلت له: ما تقول في الوصية للوالدين ؟ قال: فتفكر ساعة، فقلت له: أجب، فقال: لا تجب، قال: فقلت له: هذا مخالف لكتاب الله، لم قلت: إنه لا يجوز. قال: فقال: لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا وصية للوالدين .(3/261)
قال: فقلت له: فأخبرني عن الشاهدين حتم من الله ؟ قال: فما تريد من ذا ؟ قال: فقلت له: لئن زعمت أن الشاهدين حتم من الله لا غير ينبغي لك أن تقول: إذا زنى زان فشهد عليه شاهدان إن كان محصناً رجمته، وإن كان غير محصن جلدته. قال: ليس هو حتماً من الله. قال: قلت له: إذا لم يكن حتماً من الله فتنزل الأحكام منازلها، في الزنا أربعاً وفي غيره شاهدين، وفي غيره رجلاً وامرأتين. وإنما أعنى في القتل لا يجوز إلا بشاهدين، فلما رأيت قتلاً وقتلاً أعني بشهادة الزنا وأعني بشهادة القتل، فكان هذا قتلاً وهذا قتلاً، غير أن أحكامهما مختلفة فكذلك كل حكم أنزله الله، منها بأربع ومنها بشاهدين، ومنها برجل وامرأتين ومنها بشاهد واليمين، فرأيتك تحكم بدون هذا، قال: فقلت له: فما تقول في الرجل والمرأة إذا اختلفا في متاع البيت. فقال: أصحابي يقولون فيه: ما كان للرجال فهو للرجال، وما كان للنساء فهو للنساء، قال: فقلت له: أبكتاب الله هذا أم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فقلت له: فما تقول في الرجلين إذا اختلفا في الحائط. قال: فقال: في قول أصحابنا إن لم يكن لهم بينة ننظر إلى العقد من أين هو إلينا، فأحكم لصاحبه، قال: فقلت: أبكتاب الله هذا أم بسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. قلت: قلت: فما تقول في رجلين بينهما حص فيختلفان، لمن تحكم إذا لم تكن لهم بينة? قال: أنظر إلى معاقده من أي وجه هو فأحكم له، قلت: بكتاب الله هذا أم بسنة رسوله صلى الله عليه وسلم قال: فقلت له: فما تقول في ولادة المرأة إذا لم يكن يحضرها إلا امرأة واحدة، وهي القابلة، و لم يكن غيرها. فقال لي: الشهادة جائزة بشهادة القابلة وحدها نقبلها، قال: فقلت له: هذا بكتاب الله أم بسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.(3/262)
قال: ثم قلت له: أتعجب من حكم حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم وحكم به أبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما وحكم به علي بن أبي طالب بالعراق، وقضى وحكم به شريح ؟ قال: ورجل من ورائي يكتب ألفاظي وأنا لا أعلم، قال: فأدخل على هارون وقرأه عليه، قال: فقال هرثمة بن أعين ـ وكان متكما فاستوى جالساً ـ فقال: اقرأه ثانياً، قال: فأنشأ هارون يقول: صدق الله ورسوله، صدق الله ورسوله، صدق الله ورسوله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تعلموا من قريش ولا تعلموها، قدموا قريشاً ولا تقدموها ما أنكر أن يكون محمد بن إدريس أعلم من محمد بن الحسن، قال: فرضي عني وأمر لي بخمسمائة دينار. قال: فخرج به هرثمة وقال لي بالشرط: هكذا، فاتبعته، فحدثني بالقصة وقال لي: قد أمر بخمسمائة دينار وقد أضفنا إليه مثله، قال: فوالله ما ملكت قبلها ألف دينار إلا في ذاك الوقت، قال: وكنت رجلاً أستتبع فأغناني الله عز وجل على يدي مصعب.رأتين ومنها بشاهد واليمين، فرأيتك تحكم بدون هذا، قال: فقلت له: فما تقول في الرجل والمرأة إذا اختلفا في متاع البيت. فقال: أصحابي يقولون فيه: ما كان للرجال فهو للرجال، وما كان للنساء فهو للنساء، قال: فقلت له: أبكتاب الله هذا أم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فقلت له: فما تقول في الرجلين إذا اختلفا في الحائط. قال: فقال: في قول أصحابنا إن لم يكن لهم بينة ننظر إلى العقد من أين هو إلينا، فأحكم لصاحبه، قال: فقلت: أبكتاب الله هذا أم بسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. قلت: قلت: فما تقول في رجلين بينهما حص فيختلفان، لمن تحكم إذا لم تكن لهم بينة ؟ قال: أنظر إلى معاقده من أي وجه هو فأحكم له، قلت: بكتاب الله هذا أم بسنة رسوله صلى الله عليه وسلم قال: فقلت له: فما تقول في ولادة المرأة إذا لم يكن يحضرها إلا امرأة واحدة، وهي القابلة، و لم يكن غيرها.(3/263)
فقال لي: الشهادة جائزة بشهادة القابلة وحدها نقبلها، قال: فقلت له: هذا بكتاب الله أم بسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. قال: ثم قلت له: أتعجب من حكم حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم وحكم به أبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما وحكم به علي بن أبي طالب بالعراق، وقضى وحكم به شريح ؟ قال: ورجل من ورائي يكتب ألفاظي وأنا لا أعلم، قال: فأدخل على هارون وقرأه عليه، قال: فقال هرثمة بن أعين ـ وكان متكما فاستوى جالساً ـ فقال: اقرأه ثانياً، قال: فأنشأ هارون يقول: صدق الله ورسوله، صدق الله ورسوله، صدق الله ورسوله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تعلموا من قريش ولا تعلموها، قدموا قريشاً ولا تقدموها ما أنكر أن يكون محمد بن إدريس أعلم من محمد بن الحسن، قال: فرضي عني وأمر لي بخمسمائة دينار. قال: فخرج به هرثمة وقال لي بالشرط: هكذا، فاتبعته، فحدثني بالقصة وقال لي: قد أمر بخمسمائة دينار وقد أضفنا إليه مثله، قال: فوالله ما ملكت قبلها ألف دينار إلا في ذاك الوقت، قال: وكنت رجلاً أستتبع فأغناني الله عز وجل على يدي مصعب.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الشافعي، قال: كنت يتيماً في حجر أمي، ولم يكن معها ما تعطي المعلم، وكان المعلم قد رضي مني أخلفه إذا قام، فلما ختمت القرآن دخلت المسجد فكنت أجالس العلماء فأحفظ الحديث أو المسألة، وكان منزلنا بمكة في شعب الخيف، فكنت أنظر إلى العظم يلوح، فأكتب فيه الحديث والمسألة، وكانت لنا جرة قديمة فإذا امتلأ العظم طرحته في الجرة.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الحميدي قال : سمعت الشافعي يقول كنت يتيما في حجر أمي ولم يكن لها ما تعطيني للمعلم وكان المعلم قد رضي مني أن أقوم على الصبيان إذا غاب وأخفف عنه .(3/264)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الشافعي، قال: طلبت هذا الأمر، عن خفة ذات يد، كنت أجالس الناس وأتحفظ، ثم اشتهيت أن أدون، وكان منزلنا بمكة بقرب شعب الخيف، فكنت أجمع العظام والأكتاف فأكتب فيها حتى امتلأ من دارنا من ذلك جباب.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الشافعي قال : ما اشتد علي موت أحد من العلماء مثل موت ابن أبي ذيب والليث بن سعد. فذكرت ذلك لأبي، فقال: ما ظننت أنه أدركهما حتى تأسف عليهما.(3/265)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الشافعي قال :كنت أطلب الشعر وأنا صغير وأكتب، فبينا أنا أمضي بمكة أو في ناحية من مكة إذ سمعت صائحاً يقول: يا محمد ابن إدريس، عليك بطلب العلم، قال: فالتفت فلم أر أحداً، فرجعت فكنت أطلب العلم وأكتبه على الخرق وأطرحه في الزير حتى امتلأ، وكنت يتيماً و لم يكن لأمي شيء، فولي عم لي ناحية اليمين على القضاء فخرجت معه، فلما قدمت من اليمن أتيت مسلم بن خالد الزنجي فسلمت عليه فلم يرد علي السلام وقال أحدهم يجيئنا حتى إذا ظننا أنه يصلح أفسد نفسه، قال: فسرت إلى سفيان ابن عيينة فسلمت عليه فرد علي السلام وقال: قد بلغني يا أبا عبد الله ما كنت فيه، وما بلغني إلا خير فلا تعد، قال: ثم خرجت إلى المدينة فقرأت الموطأ على مالك. ثم خرجت إلى العراق فصرت إلى محمد بن الحسن فكنت أناظر أصحابه، قال: فشكوني إلى محمد ابن الحسن، فقالوا: إن هذا الحجازي يعيب علينا قولنا ويخطئنا. فذكر محمد بن الحسن ذلك، فقلت له: إنا كنا لا نعرف إلا التقليد، فلما قدمنا عليكم سمعناكم تقولون: لا تقلدوا واطلبوا الحق والحجاج، فقال لي: فناظرني، فقلت: أناظر بعض أصحابك وأنت تسمع، فقال: لا، إلا أنا. قال: فقلت: ذلك. قال: فتسأل أو أسأل? قلت: ما شئت، قال: فما تقول في رجل غصب من رجل عموداً فبنى عليه قصراً فجاءه مستحق فاستحقه. قلت: يخير بن العمود وبين قيمته، فإن اختار العمود هدم القصر وأخرج العمود فرده على صاحبه، قال: فما تقول في رجل غصب من رجل خشبة فبنى عليها سفينة ثم لجج بها في البحر، ثم جاء صاحبها فاستحقها. قلت: تقدم إلى أقرب المرسيين فيخير بين القيمة وبين الخشبة فإن أخذ قيمتها وإلا نقض السفينة ورد الخشبة إلى صاحبها، قال: فماذا تقول في رجل غصب من رجل خيط إبريسم فخاط به خرجه، ثم جاء صاحبه فاستحقه.(3/266)
قلت: له قيمته فكبر وكبر أصحابه وقالوا: تركت قولك يا حجازي، فقلت له: على رسلك أرأيت لو أن صاحب القصر أراد أن يهدم قصره ويرد العمود إلى صاحبه ولا يعطه قيمته كان للسلطان أن يمنعه من ذلك ؟ فقال: لا، فقلت: أرأيت أن صاحب السفينة لو أراد إن ينقض السفينة ويرد الخشبة إلى صاحبها أكان للسلطان أن يمنعه ؟ قال: لا، قلت: أرأيت أن صاحب الخرج لو أراد أن ينقض خرجه ويخرج الخيط الذي خاط به الخرج ويرده على صاحبه، أكان للسلطان أن يمنعه. قال: نعم، قلت: فكيف تقيس ما هو محظور بما هو ليس بممنوع.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الشافعي قال : طلب العلم أفضل من صلاة النافلة.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الشافعي قال : قال محمد بن الحسن: ليس يبلغ هذا الشأن إلا من أحرق قلبه البن ؟ يريد في طلب العلم.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الشافعي قال : لا يبلغ هذا الشأن رجل حتى يضربه الفقر أن يؤثره على كل شيء.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الشافعي قال : ما طلب أحد العلم بالتعمق وعز النفس فأفلح، ولكن من طلبه بضيق اليد، وذلة النفس وخدمة العالم أفلح.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الشافعي قال : طالب العلم يحتاج إلى ثلاث خصال، إحداها حسن ذات اليد، والثانية طول العمر، والثالثة يكون له ذكاء.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الشافعي قال : خرجت إلى اليمن في طلب كتب الفراسة حتى كتبتها وجمعتها.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الشافعي، قال : كفى بالعلم فضيلة أن يدعيه من ليس فيه، ويفرح إذا نسب إليه، وكفى بالجهل شيئاً أن يتبرأ منه من هو فيه ويغضب إذا نسب إليه.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الشافعي قال : كنت أكتب في الأكتاف والعظام وكنت أذهب إلى الديوان فأستوهب الظهور فأكتب فيها .(3/267)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عمرو بن سواد قال : قال لي الشافعي كانت نهمتي في الرمي وطلب العلم فنلت من الرمي حتى كنت أصيب من عشرة عشرة وسكت عن العلم فقلت أنت والله في العلم أكبر منك في الرمي .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن المزني أنه سمع الشافعي يقول حفظت القرآن وأنا ابن سبع سنين وحفظت الموطأ وأنا ابن عشر .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الشافعي قالت أتيت مالكا وأنا ابن ثلاث عشرة سنة كذا قال والظاهر انه كان ابن ثلاث وعشرين سنة قال فأتيت ابن عم لي والي المدينة فكلم مالكا فقال اطلب من يقرأ لك قلت أنا أقرأ فقرأت عليه فكن ربما قال لي لشيء قد مر أعده فأعيده حفظا فكأنه أعجبه ثم سألته عن مسألة فأجابني ثم أخرى فقال أنت تحب أن تكون قاضيا .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن ابن عبد الحكم قال : سمعت الشافعي يقول قرأت القرآن على إسماعيل بن قسطنطين وقال قرأت على شبل واخبر شبل انه قرأ على عبد الله بن كثير وقرا على مجاهد وأخبر مجاهد انه قرأ على ابن عباس قال الشافعي وكان إسماعيل يقول القران اسم ليس بمهموز ولم يؤخذ من قرأت ولو أخذ من قرأت كان كل ما قرئ قرآنا ولكنه اسم للقرآن مثل التوراة والإنجيل .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن مسلم بن خالد الزنجي قال للشافعي أفت يا أبا عبد الله فقد والله آن لك أن تفتي وهو ابن خمس عشرة سنة .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الشافعي قال : وددت أن الناس تعلموا هذا العلم يعني كتبه على أن لا ينسب إلي منه شيء .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الشافعي أصل العلم التثبيت وثمرته السلامة وأصل الورع القناعة وثمرته الراحة وأصل الصبر الحزم وثمرته الظفر وأصل العمل التوفيق وثمرته النجح وغاية كل أمر الصدق .(3/268)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الشافعي قال : العالم يسأل عما يعلم وعما لا يعلم فيثبت ما يعلم ويتعلم ما لا يعلم والجاهل يغضب من التعلم ويأنف من التعليم .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الشافعي قال : العلم علمان علم الدين وهو الفقه وعلم الدنيا وهو الطب وما سواه من الشعر وغيره فعناء وعبث .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الشافعي قال : كنت أقرئ الناس وأنا ابن ثلاث عشرة سنة وحفظت الموطأ قبل أن أحتلم .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن البويطي قال : سئل الشافعي كم أصول الأحكام فقال خمس مئة قيل له كم أصول السنن قال خمس مئة قيل له كم منها عند مالك قال كلها إلا خمسة وثلاثين حديثا قيل له كم عند ابن عيينة قال كلها إلا خمسة .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الشافعي قال : وددت أن كل علم أعلمه تعلمه الناس أوجر عليه ولا يحمدوني .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الشافعي قال :العلم ما نفع ليس العلم ما حفظ .
(6) سعة علم الشافعي وجمعه لشتى العلوم :
كان الشافعي رحمه الله تعالى واسع العلم ، وكان علمه كالغيث من السماء أينما حل نفع ، حدث الربيع بن سليمان قال: كان الشافعي رحمه الله يجلس في حلقته إذا صلى الصبح، فيجيئه أهل القرآن فإذا طلعت الشمس قاموا وجاء أهل الحديث فيسألونه تفسيه ومعانيه، فإذا ارتفعت الشمس قاموا فاستوت الحلقة للمذاكرة والنظر ، فإذا ارتفع الضحى تفرقوا، وجاء أهل العربية والعروض والنحو والشعر فلا يزالون إلى قرب انتصاف النهار ، ثم ينصرف، رضي الله عنه.(3/269)
وحدث محمد بن عبد الحكم قال: ما رأيت مثل الشافعي ، كان أصحاب الحديث يجيئون إليه ويعرضون عليه غوامض علم الحديث، وكان يوقفهم على أسرار لم يقفوا عليها فيقومون وهم متعجبون منه، وأصحاب الفقه الموافقون والمخالفون لا يقومون إلا وهم مذعنون له ، وأصحاب الأدب يعرضون عليه الشعر فيبين لهم معانيه. وكان يحفظ عشرة آلاف بيت لهذيل إعرابها ومعانيها، وكان من أعرف الناس بالتواريخ، وكان ملاك أمره إخلاص العمل لله تعالى.(3/270)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن محمد بن إسماعيل بن الحبال الحميري، عن أبيه قال:كان محمد ابن إدريس الشافعي رجلا شريفاً، وكان يطلب اللغة والعربية والفصاحة والشعر في صغره، وكان كثيراً ما يخرج إلى البدو ويحمل ما فيه من الأدب، فبينما هو ذات يوم في حي من أحياء العرب، إذ جاء إليه رجل بدوي فقال له: ما تقول في امرأة تحيض يوماً وتطهر يوماً ؟ فقال: لا أدري. فقال له: يا بن أخي: الفضيلة أولى بك من النافلة، فقال له: إنما أريد هذا لذاك، وعليه قد عزمت وبالله التوفيق وبه أستعين، ثم خرج إلى مالك بن أنس، وكان مالك صدوقاً في حديثه، صادقاً في مجلسه، وحيداً في جلوسه، فدخل عليه وارتفع على أصحابه فنهره مالك فوجده موقراً في الأدب، فرفعه على أصحابه وقدمه عليهم وقربه من نفسه، فلم يزل مع مالك إلى أن توفى مالك رحمه الله، ثم خرج إلى اليمن، وقد خرج بها الخارجي على هارون الرشيد، وطعن الشافعي عليه، وأعرض عمن ساعده، ورفع من قعد عنه، فبلغ ذلك الخارجي ما يقول فيه، فبعث إليه فأحضره عندهم وهم بقتله، فلما سمع كلامه وتبين له شرفه وفضله وعفته، عفا عنه وعرض عليه قضاء اليمن فامتنع من ذلك، ثم أشخص هارون جيشه إلى ذلك الخارجي، فقبض عليه وحمل إلى بساط السلطان، وحمل معه الشافعي، وأحضرا جميعاً بين يدي الرشيد، فأمر بقتلهما، فقال له الشافعي: يا أمير المؤمنين: إن رأيت تسمع كلامي وتجعل عقوبتك من رواء لساني، ثم تضمني بعد ذلك إلى ما يليق لي من الشدة والرخاء، فقال له: هات. فبين له القصة وعرفه شرفه، وذكر له كلاماً استحسنه هارون وأمره أن يعيده عليه، فأعاد تلك المعاني بألفاظ أعذب منها.(3/271)
فقال له هارون: كثر الله في أهل بيتي مثلك وكان محمد بن الحسن حاضراً فلم يقصر، وخلى له السبيل، وسأله محمد بن الحسن فنزل عليه أياماً، ثم سأله الشافعي أن يمكنه من كتبه وكتب أبي حنيفة، فأجابه إلى ذلك ثلاث ليال، وكان الشافعي قد استبعد الوراقين، فكتبوا له منها ما أراد ثم خرج إلى الشام فأقام بها مدة ينقض أقاويل أبي حنيفة ويرد عليه، حتى دون كلامه، ثم استخار في الرد على مالك فأري ذلك في المنام، فرد عليه خمسة أجزاء من الكلام ـ أو نحو ذلك ـ ثم خرج إلى مصر والدار لمالك وأصحابه يحكمون فيه، ويستسقون بموطنه، فلما عاينوه فرحوا به، فلما خالفهم وثبوا عليه ونالوا منه، فبلغ ذلك سلطانهم، فجمعهم بين يديه، فلما سمع كلامه وتبين له فضله عليهم، قدمه عليهم وأمره أن يقعد في الجامع، وأمر الحاجب أن لا يحجبه أي وقت جاء. فلم يزل أمره يعلو، وأصحابه يتزايدون، إلى أن وردت مسألة هارون الرشيد يدعو الناس إليها وقد استكتمها الفقهاء فأجابوه إلى ذلك وقبلوها منه طوعاً ومنهم كرهاً، فجيء بالمسألة إلى الشافعي فلما نظر فيها قال: غفل والله أمير المؤمنين، عن الحق وأخطأ المسير عليه بهذا، وحق الله علينا أوجب وأعظم من حق أمير المؤمنين وهذا خلاف ما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخلاف ما اعتقدته الأئمة والخلف. فكتب بذلك إلى هارون، فكتب في حمله مقيداً فحمل حتى أحضر في دار أمير المؤمنين فأجلس في بعض الحجر، ثم دخل محمد بن الحسن وبشر المريسي جميعاً، فقال لهما هارون الرشيد: القرشي الذي خالفنا في مسألتنا قد أحضر في دارنا مقيداً، فما الذي تقولان في أمره ؟ فقال محمد بن الحسن: يا أمير المؤمنين وقد بلغني أيضاً أنه قد خالف صاحبه، وقد رد عليه وعلى صاحبي أيضاً، وجعل لنفسه مقالة يدعو الناس إليها، ويتشبه بالأئمة، فإن رأيت أن تحضره حتى نبلو خبره ونقطع حجته. ثم تضاعف عليه عقوبة أمير المؤمنين.(3/272)
فدعا به بقيده، فأحضر بين يدي أمير المؤمنين فسلم عليه فلم يرد عليه، وبقى قائماً طويلا لا يؤذن له بالجلوس، وأمير المؤمنين مقبل عليهما دونه، ثم أومأ إليه فجلس بين الناس، فقال محمد بن الحسن: هات مسألة يا شافعي نتكلم عليها، فقال له الشافعي: سلوني عما أحببتم، فتجرد بشر وقال له: لولا أنك في مجلس أمير المؤمنين وطاعته فرض لننزلن بك ما تستحقه، فليس أنت في كنف العمر، ولا أنت في ذمة العلم فيليق بك هذا. فقال له الشافعي: عض ما أنت. وذا بلغة أهل اليمن فانشأ يقول:
أهابك يا عمرو ما هبتني وخاف بشراك إذ هبتني
وتزعم أمي عن أبيه من أولاد حام بها عبتني
فأجابه الشافعي وهو يقول:
ومن هاب الرجال تهيبوه ومن حقر الرجال فلن يهابا
من قضت الرجال له حقوقا ولم يعص الرجال فما أصابا
فأجابه بشر وهو يقول:
هذا أوان الحرب فاشتدي زيم فأجابه الشافعي وهو يقول:
سيعلم ما يريد إذا التقينا بشط الراب أي فتى أكون
فقال بشر: يا أمير المؤمنين دعني وإياه. فقال له هارون: شأنك وإياه. فقال له بشر: أخبرني ما الدليل على أن الله تعالى واحد.
فقال الشافعي:
يا بشر ما تدرك من لسان الخواص فأكلمك على لسانهم، إلا أنه لا بد لي أن أجيبك على مقدارك من حيث أنت، الدليل عليه به ومنه وإليه، واختلاف الأصوات في المصوت إذا كان المحرك واحداً دليل على أنه واحد، وعدم الضد في الكمال على الدوام دليل على أنه واحد، وأربع نيرات مختلفات في جسد واحد متفقات على ترتيبه في استفاضة الهيكل، دليل على أن الله تعالى واحد وأربع طبائع مختلفات في الخافقين أضداد غير أشكال مؤلفات على إصلاح الأحوال، دليل على أن الله تعالى واحد، وفي خلق السموات والأرض بعد موتها، وبث فيها من كل دابة، وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون، كل ذلك دليل على أن الله تعالى واحد لا شريك به.(3/273)
فقال بشر: وما الدليل على أن محمداً رسول الله. قال: القرآن المنزل، وإجماع الناس عليه، والآيات التي لا تليق بأحد، وتقدير المعلوم في كون الإيمان بدليل واضح دليل على أنه رسول الله، لا بعده مرسل يعزله، وامتحانك إياي بهذين السؤالين، وقصدك إياي بهما دون فنون العلوم دليل على أنك حائر في الدين، تائه في الله عز وجل، ولو وسعني السكوت، عن جوابك لاخترته. وإن قلت أمراً لي لا تشمر من سؤاليك هذين، لقلت: بعيد من بركان اليقين، وكيف قصرت يدي عنك، لقد وصل لساني إليك.
فقال له بشر: ادعيت الإجماع، فهل تعرف شيئاً أجمع الناس عليه ؟ قال: نعم أجمعوا على أن هذا الحاضر أمير المؤمنين، فمن خالفه قتل. فضحك هارون وأمر بأخذ القيد، عن رجليه. قال: ثم انبسط الشافعي في الكلام فتكلم بكلام حسن، فأعجب به الرشيد وقربه من مجلسه ورفعه عليهما. قال: ثم غاصا في اللغة ـ وكان بشر مدلا بها ـ حتى خرجا إلى لغة أهل اليمن، فانقطع بشر في مواضع كثيرة فقال محمد بن الحسن لبشر: يا هذا إن هذا رجل قرشي واللغة من نسكه، وأنت تتكلفها من غير طبع، فدعوني ومالكاً، ودعو مالكاً معي،
قال الشافعي:
إن كنت أبا ثور يعقر الحرف. فجرى بينهما عشر مسائل انقطع محمد بن الحسن في خمس منها، حتى أمر هارون الرشيد بجز رجل محمد ابن الحسن، فأراد الشافعي أن يكافئه، لما كان له عليه من اليد، فقال: يا أمير المؤمنين والله ما رأيت يمنياً هو أفقه منه، وجعل يمدحه بين يدي أمير المؤمنين ويفضله، فعلم هارون الرشيد ما يريد الشافعي بذلك، فخلع عليهما وحمل كل واحد منهما على مهري قرطاس، يريد بذلك مرضاة الشافعي وخلع على الشافعي خاصة، وأمر له بخمسين ألف درهم. فانصرف إلى البيت وليس معه شيء، قد تصدق بجميع ذلك ووصل به الناس،
فقال له هارون الرشيد:
أنا أمير المؤمنين وأنت القدوة، فلا يدخل علي أحد من الفقهاء قبلك، فأنشأ محمد بن الحسن يقول:
أخذت ناراً بيدي أشعلتها في كبدي(3/274)
فقلت: ويحي سيدي قتلت نفسي بيدي
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عبد الله بن محمد البلوي. قال: لما جيء بأبي عبد الله الشافعي إلى العراق ادخل إليها ليلا على بغل قتب، وعليه طيلسان مطبق، وفي رجليه حديد وذاك أنه كان من أصحاب عبد الله بن الحسن، وأصبح الناس في يوم الاثنين لعشر خلون من شعبان سنة أربع وثمانين ومائة، وكان قد اعتور على هارون الرشيد أبو يوسف القاضي، وكان قاضي القضاة محمد بن الحسن على المظالم، فكان الرشيد يصدر عن رأيهما، ويتفقه بقولهما، فسبقا في ذلك اليوم إلى الرشيد فأخبراه بمكان الشافعي، وانبسطا جميعاً في الكلام، فقال محمد بن الحسن الحمد لله الذي مكن لك في البلاد، وملكك رقاب العباد، من باغ ومعاند إلى يوم المعاد، لا زلت مسموعاً لك ومطاعاً، فقد علت الدعوة وظهر أمر الله وهم كارهون، وإن جماعة من أصحاب عبد الله بن الحسن اجتمعت وهم متفرقون قد أتاك من ينوب، عن الجميع وهو على الباب، يقال له محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع ابن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن عبد المطلب بن عبد مناف، يزعم أنه أحق بهذا الأمر منك، وحاش لله، ثم إنه يدعي من العلم ما لم يبلغه سنه، ولا يشهد له بذلك قدره وله لسان ومنطق ورواء، وسيحليك بلسانه وأنا خائف، كفاك الله مهماتك، وأقالك عثراتك. ثم أمسك. فأقبل الرشيد على أبي يوسف فقال: يا يعقوب قال: لبيك يا أمير المؤمنين. قال: أنكرت من مقالة محمد شيئاً? فقال له أبو يوسف: محمد صادق فيما قاله، والرجل كما خلق. فقال الرشيد: لا خبر بعد شاهدين ولا إقرار أبلغ من المحنة، وكفى بالمرء إنما أن يشهد بشهادة يخفيها، عن خصمه. على رسلكما لا تبرحا.(3/275)
ثم أمر بالشافعي فأدخل فوضع بين يديه الحديد الذي كان في رجليه، فلما استقر به المجلس ورمى القوم إليه بأبصارهم، رمى الشافعي بطرفه نحو أمير المؤمنين وأشار بكفه كتابه مسلماً، فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، فقال له الرشيد: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، بدأت بسنة لم تؤمر بإقامتها، وزدنا فريضة قامت بذاتها، ومن أعجب العجب أنك تكلمت في مجلسي بغير أمري. فقال له الشافعي: يا أمير المؤمنين إن الله عز وجل وعد الذين آمنوا وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً النور 55 . وهو الذي إذا وعد وفى، فقد مكنني في أرضه وأمنني بعد خوفي يا أمير المؤمنين، فقال له الرشيد: أجل قد أمنك الله إن أمنتك. فقال الشافعي: فقد حدثت أنك لا تقتل قومك صبراً، ولا تزدريهم بهجرتك غدراً، ولا تكذبهم إذا أقاموا لديك عذراً. فقال الرشيد: هو كذلك، فما عذرك مع ما أرى من حالك، وتسييرك من حجازك إلى عراقنا التي فتحها الله علينا بعد أن بغى صاحبك ثم اتبعه الأرذلون وأنت رئيسهم? فما ينفع لك القول مع إقامة الحجة ولن تضر الشهادة مع إظهار التوبة. فقال له الشافعي: يا أمير المؤمنين أما إذا استطلقني الكلام، فلسنا نكلم إلا على العدل والنصفة. فقال له الرشيد: ذلك لك. فقال الشافعي: والله يا أمير المؤمنين لو اتسع لي الكلام على ما بي لما شكوت لكن الكلام مع ثقل الحديد يعور، فإن جدت علي بفكة تركت كسره إياي وفصحت، عن نفسي، وإن كانت الأخرى فيدك العليا ويدي السفلى، والله غني حميد. فقال الرشيد لغلامه: يا سراح حل عنه.(3/276)
فأخذ ما في قدميه من الحديد فجثى على ركبته اليسرى ونصب اليمنى وابتدر الكلام فقال: والله يا أمير المؤمنين لأن يحشرني الله تحت راية عبد الله بن الحسن وهو ممن قد علمت لا ينكر عنه اختلاف الأهواء، وتفرق الآراء، أحب إلي وإلى كل مؤمن من أن يحشرني تحت راية قطري بن الفجاءة المازني. وكان الرشيد متكئاً فاستوى جالساً، وقال: صدقت وبررت، لأن تكون تحت راية رجل من أهل بيت رسول الله وأقاربه إذا اختلفت الأهواء، خير من أن يحضرك الله تحت راية خارجي يأخذه الله بغتة، فأخبرني يا شافعي ما حجتك على أن قريشاً كلها أئمة وأنت منهم. قال الشافعي: قد افتريت على الله كذباً يا أمير المؤمنين إن تطب نفسي لها. وهذه كلمة ما سبقت بها، والذين حكوها لأمير المؤمنين أبطلوا معانيه، فإن الشهادة لا تجوز إلا كذلك. فنظر أمير المؤمنين إليهما، فلما رآهما لا يتكلمان علم ما في ذلك وأمسك عنهما، ثم قال له الرشيد: قد صدقت يا ابن إدريس، فكيف بصرك بكتاب الله تعالى ؟ فقال له الشافعي: عن أي كتاب الله تسألني ؟ فإن الله سبحانه وتعالى أنزل ثلاثة وسبعين كتاباً على خمسة أنبياء، وأنزل كتاباً موعظة لنبي وحده، وكان سادساً، أولهم آدم عليه السلام وعليه أنزل ثلاثين صحيفة كلها أمثال، وأنزل على أخنوخ وهو إدريس عليه السلام ست عشرة صحيفة كلها حكم، وعلم الملكوت الأعلى. وأنزل على إبراهيم عليه السلام ثمانية صحف كلها حكم مفصلة، فيها فرائض ونذر. وأنزل على موسى عليه السلام التوراة كلها تخويف وموعظة. وأنزل على عيسى عليه السلام الإنجيل ليبين لبني إسرائيل ما اختلفوا فيه من التوراة وأنزل على داود عليه السلام كتاباً كله دعاء وموعظة لنفسه حتى يخلصه به من خطيئته، وحكم فيه لنا واتعاظ لداود وأقاربه من بعده. وأنزل على محمد صلى الله عليه وسلم الفرقان وجمع فيه سائر الكتب فقال: ( تِبْيَاناً لّكُلّ شَيْءٍ ) [ النحل : 89] .(3/277)
( وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لّلْمُتّقِينَ ) [ المائدة : 46] . : (الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمّ فُصّلَتْ ) [ هود : 1] .
فقال له الرشيد: قد أحسنت في تفصيلك أفكل هذا علمته ؟ فقال له: أي والله يا أمير المؤمنين. فقال له الرشيد: قصدي كتاب الله الذي أنزله الله على ابن عمي رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي دعانا إلى قبوله، وأمرنا بالعمل بمحكمة، والإيمان بمتشابهه فقال: عن أي آية تسألني ؟ عن محكمه أم عن متشابهه ؟ أم عن تقديمه أم عن تأخيره ؟ أم عن ناسخه أم عن منسوخه ؟ أم عن ما ضربه الله مثلا، أم عن ما ضربه الله اعتباراً أم عن ما أحصى فيه فعال الأمم السالفة، أم عن ما قصدنا الله به من فعله تحذيراً ؟ قال: بم ذاك ؟ حتى عد له الشافعي ثلاثة وسبعين حكماً في القرآن.
فقال له الرشيد: ويحك يا شافعي، أفكل هذا يحيط به علمك. فقال له يا أمير المؤمنين المحنة على القائل كالنار على الفضة، تخرج جودتها من رداءتها فها أنا ذا فامتحن.
فقال له الرشيد: ما أحسن، أعد ما قلت فسأسألك عنه بعد هذا المجلس إن شاء الله. قال له: وكيف بصرك بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.(3/278)
فقال الشافعي: إني لأعرف منها ما يخرج على وجه الإيجاب ولا يجوز تركه كما لا يجوز ترك ما أوجبه الله تعالى في القرآن. وما خرج على وجه التأديب، وما خرج على وجه الخاص لا يشرك فيه العام وما خرد على وجه العموم يدخل فيه الخصوص، وما خرج جواباً عن سؤال سائل ليس لغيره استعماله، وما خرج منه ابتداء لازدحام العلوم في صدره. وما فعله في خاصة نفسه واقتدى به الخاصة والعامة، وما خص به نفسه دون الناس كلهم مع مالا ينبغي ذكره، لأنه أسقطه عليه السلام، عن الناس وسنه ذكراً. فقال له الرشيد: أخذت الترتيب يا شافعي لسنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحسنت موضعها لوصفها، فما حاجتنا إلى التكرار عليك، ونحن نعلم ومن حضرنا أنك حامل نصابها مقلابها. فقال له الشافعي: ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس، وإنما شرفنا برسول الله صلى الله عليه وسلم فيك. فقال: كيف بصرك بالعربية ؟ قال: هي مبدأنا وطباعنا بها قومت، وألسنتنا بها جرت، فصارت كالحياة لا تتم إلا بالسلامة. وكذلك العربية لا تسلم إلا لأهلها، ولقد ولدت وما أعرف اللحن، فكنت كمن سلم من الداء ما سلم له الدواء، وعاش بكامل الهناء. وبفلك شهد لي القرآن: (وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رّسُولٍ إِلاّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ ) [ إبراهيم : 4] - يعني قريشاً ـ وأنت منهم وأنا منهم يا أمير المؤمنين، والعنصر نظيف والجرثومة منيعة شامخة، أنت أصل ونحن فرع، وهو صلى الله عليه وسلم مفسر ومبين، به اجتمعت أحسابنا فنحن بنو الإسلام، وبذلك ندعي وننسب، فقال له الرشيد: صدقت، بارك الله فيك.(3/279)
ثم قال له: كيف معرفتك بالشعر ؟ فقال: إني لأعرف طويله وكامله، وسريعه ومجتثه، ومنسرحه وخفيفة، وهزجه ورجزه، وحكمه وغزله وما قيل فيه على الأمثال تبياناً للأخبار، وما قصد به العشاق رجاء للتلاق وما رثى به الأوائل ليتأدب به الأواخر، وما امتدح به المكثرون بابتلاء أمرائهم وعامتها كذباً وزوراً وما نطق به الشاعر ليعرف تنبيهاً وحال لشيخه فوجل شاعره، وما خرج على طرب من قائله لا أرب له، وما تكلم به الشاعر فصار حكمة لمستمعه، فقال له الرشيد: اكفف يا شافعي فقد أنفقت في الشعر، ما ظننت أن أحداً يعرف هذا ويزيد على الخليل حرفاً، ولقد زدت وأفضلت. فكيف معرفتك بالعرب ؟ قال: أما أنا فمن أضبط الناس لآبائها وجوامع أحسابها، وشوابك أنسابها، ومعرفة وقائعها، وحمل مغازيها في أزمنتها وكمية ملوكها وكيفية ملكها وماهية مراتبها، وتكميل منازلها وأندية عراضها ومنازلها، منهم تبع وحمير، وجفنة، والأسطح، وعيص وعويص، والإسكندر وأسفاد، وأسططاويس وسوط وبقراط وأرسططاليس، ومن أمثالهم من الروم إلى كسرى وقيصر ونوبة وأحمر وعمرو بن هند وسيف بن ذي يزن والنعمان بن المنذر وقطر بن أسعد وسعد بن سعفان وهو جد سطح الغساني لأبيه، في أمثالهم من ملوك قضاعة وهمدان، والحيان ربيعة ومضر،
فقال له الرشيد: يا شافعي لولا أنك من قريش لقلت: إنك ممن لين له الحديد، فهل من موعظة ؟
فقال الشافعي: إنك تخلع رداء الكبر عن عاتقك، وتضع تاج الهيبة عن رأسك، وتنزع قميص التجبر عن جسدك، وتفتش نفسك، وتنشر سرك، وتلقي جلباب الحياء عن وجهك، مستكيناً بين يدي ربك. وأكون واعظاً لك عن الحق، وتكون مستمعاً بحسن القبول، فينفعني الله بما أقول، وينفعك بما تسمع.(3/280)
فقال له الرشيد: أما إني قد فعلت وسمعت لله والرسول وللواعظين بعدهما، فعظ وأوجز. فحل الشافعي عنه إزاره، وحسر عن ذراعيه، وقال: أيا أمير المؤمنين، اعلم أن الله جل ثناؤه امتحنك بالنعم، وابتلاك بالشكر، ففضل النعمة أحسن لتستغرق بقليلها كثيراً من شكرك، فكن لله تعالى شاكراً ولآلائه ذاكراً، تستحق منه المزيد. واتق الله في السر والعلانية تستكمل الطاعة، واسمع لقائلليس، ومن أمثالهم من الروم إلى كسرى وقيصر ونوبة وأحمر وعمرو بن هند وسيف بن ذي يزن والنعمان بن المنذر وقطر بن أسعد وسعد بن سعفان وهو جد سطح الغساني لأبيه، في أمثالهم من ملوك قضاعة وهمدان، والحيان ربيعة ومضر،(3/281)
فقال له الرشيد: يا شافعي لولا أنك من قريش لقلت: إنك ممن لين له الحديد، فهل من موعظة ؟ فقال الشافعي: إنك تخلع رداء الكبر عن عاتقك، وتضع تاج الهيبة عن رأسك، وتنزع قميص التجبر عن جسدك، وتفتش نفسك، وتنشر سرك، وتلقي جلباب الحياء عن وجهك، مستكيناً بين يدي ربك. وأكون واعظاً لك عن الحق، وتكون مستمعاً بحسن القبول، فينفعني الله بما أقول، وينفعك بما تسمع. فقال له الرشيد: أما إني قد فعلت وسمعت لله والرسول وللواعظين بعدهما، فعظ وأوجز. فحل الشافعي عنه إزاره، وحسر عن ذراعيه، وقال: أيا أمير المؤمنين، اعلم أن الله جل ثناؤه امتحنك بالنعم، وابتلاك بالشكر، ففضل النعمة أحسن لتستغرق بقليلها كثيراً من شكرك، فكن لله تعالى شاكراً ولآلائه ذاكراً، تستحق منه المزيد. واتق الله في السر والعلانية تستكمل الطاعة، واسمع لقائل الحق وإن كان دونك تشرف عند الله، وتزد في عين رعيتك، واعلم أن الله سبحانه وتعالى يفتش سرك فإن وجده بخلاف علانيتك شغلك بهم الدنيا وفتق لك ما يزنق عليك، واستغنى الله والله غني حميد وإن وجده موافقاً لعلانيتك أحبك وصرف هم الدنيا عن قلبك، وكفاك مئونة نظرك لغيرك، وترك لك نظرك لنفسك، وكان المقوي لسياستك. ولن تطاع إلا بطاعتك لله تعالى، فكن طائعاً تكتسب بذلك السلامة في العاجل، وحسن المنقلب في الآجل: (إِنّ اللّهَ مَعَ الّذِينَ اتّقَواْ وّالّذِينَ هُم مّحْسِنُونَ) [ النحل : 128] .(3/282)
واحذر الله حذر عبد علم مكان عدوه، وغاب عنه وليه، فتيقظ خوف السرى، لا تأمن من مكر الله لتواتر نعمه عليك، فإن ذلك مفسدة لك، وذهاب لدينك، وأسقط المهابة في الأولين والآخرين، وعليك بكتاب الله الذي لا يضل المسترشد به، ولن تهلك ما تمسكت به فاعتصم بالله تجده تجاهك، وعليك بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تكن على طريقة الذين هداهم الله فبهداهم اقتد، وما نصب الخلفاء المهديون في الخراج والأرضين، والسواد والمساكن والديارات، فكن لهم تبعاً وبه عاملا راضياً مسلماً، واحذر التلبيس فيه فإنك مسئول عن رعيتك، وعليك بالمهاجرين والأنصار: (وَالّذِينَ تَبَوّءُوا الدّارَ [ الحشر : 9]. فاقبل من محسنهم وتجاوز عن مسيئهم وآتهم من مال الله الذي أتاك، ولا تكرههم على إمساك عن حق، ولا على خوض في باطل، فإنهم الذين مكنوا لك البلاد، واستخلصوا لك العباد ونوروا لك الظلمة، وكشفوا عنك الغمة، ومكنوا لك في الأرض، وعرفوك السياسة وقلدوك الرياسة، فنهضت بثقلها بعد ضعف، وقويت عليها بعد فشل، كل ذلك يرجوك من كان أمثالهم لعفتهم طمع الزيادة لهم، فلا تطع الخاصة تقرباً إليهم بظلم العامة، ولا تطع العامة تقرباً إليهم بظلم الخاصة لتستديم السلامة وكن لله كما تحب أن يكون لك أولياوك من العامة من السمع والطاعة، فإنه ما ولى أحد على عشرة من المسلمين فلم يحطهم بنصيحة إلا جاء يوم القيامة ويده مغلولة إلى عنقه، لا يفكها إلا عدله، وأنت أعرف بنفسك، قال: فبكى الرشيد ـ وقد كان في خلال هذه الموعظة يبكي لا يسمع له صوت ـ فلما بلغ إلى هذا الفصل بكى الرشيد وعلا نحيبه وبكى جلساؤه وبكى محمد وأبو يوسف.(3/283)
فقال الوالي: يا هذا الرجل احبس لسانك، عن أمير المؤمنين فقد قطعت قلبه حزناً وقال محمد بن الحسن وهو قائم على قدمه: اغمد لسانك يا شافعي عن أمير المؤمنين فإنه أمضى من سيفك ـ والرشيد يبكي لا يفيق ـ فأقبل الشافعي على محمد والجماعة فقال: اسكتوا أخرسكم الله لا تذهبوا بنور الحكمة يا معشر عبيد الرعاع وعبيد السوط والعصا، أخذ الله لأمير المؤمنين منكم لتلبيسكم الحق عليه، وهو يرثكم الملك لديه، أما والله ما زالت الخلافة بخير ما صرف عنها أمثالكم، ولن تزال بضر ما اعتصمت بكم، فرفع الرشيد رأسه وأشار إليهم أن كفوا، وأقبل علي بسيف فقال: خذ هذا الكهل إليك ولا تحلني منه. ثم اقبل على الشافعي فقال: قد أمرت لك بصلة، فرأيك في قبولها موقف. فقال له الشافعي: كلا، والله لا يراني الله تعالى قد سودت وجه موعظتي بقبول الجزاء عليها، ولقد عاهدت الله عهداً أني لا أخلط بملك من الملوك تكبر في نفسه وتصغر عند ربه، إلا ذكرت الله تعالى لعله أن يحدث له ذكراً. ثم نهض فلما خرج أقبل الرشيد على محمد ويعقوب فقال لهما: ما رأيت كاليوم قط، أفرأيتما كيومكما ? فلم نجد بداً من أن نقول: لا. فقال الرشيد لهما: أبهذا تغرياني ؟ لقد بؤتما اليوم بإثم عظيم، لولا أن من الله علي بالتأييد في أمره، كيفما أوقعتماني فيما لا خلاص لي منه عند ربي. ثم وثب الرشيد وانصرف الناس. فلقد رأيت محمداً وهو بعد ذلك يكثر التردد إلى الشافعي، وربما حجب، ثم إن الشافعي بعد ذلك دخل على الرشيد فأمر له بألف دينار فقبلها، فضحك الرشيد، وقال: لله درك ما أفطنك? قاتل الله عدوك فقد أصبح لك ولياً. وأمر الرشيد خادمه سراجاً باتباعه، فما زال يفرقها قبضة قبضة حتى انتهى إلى خارج الدار وما معه إلا قبضة واحدة، فدفعها إلى غلامه وقال له: انتفع بها. فاخبر سراج الرشيد بذلك، فقال: لهذا ذرع همه وقوي متنه. فاستمر الرشيد عليهما.(3/284)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أبي ثور قال : سمعت الشافعي وكان من معادن الفقه ونقاد المعاني وجهابذة الألفاظ يقول حكم المعاني خلاف حكم الألفاظ لأن المعاني مبسوطة إلى غير غاية وأسماء المعاني معدودة محدودة وجميع أصناف الدلالات على المعاني لفظا وغير لفظ خمسة أشياء اللفظ ثم الإشارة ثم العقد ثم الخط ثم الذي يسمى النصبة والنصبة في الحال الدلالة التي لا تقوم مقام تلك الأصناف ولا تقصر عن تلك الدلالات ولكل واحد من هذه الخمسة صورة بائنة من صورة صاحبتها وحلية مخالفة لحلية أختها وهي التي تكشف لك عن أعيان المعاني في الجملة وعن خفائها عن التفسير وعن أجناسها وأفرادها وعن خاصها وعامها وعن طباعها في السار والضار وعما يكون بهوا بهرجا وساقطا مدحرجا .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أحمد بن حنبل قال : إذا سئلت عن مسألة لا أعرف فيها خبرا قلت فيها بقول الشافعي لأنه إمام قرشي وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال عالم قريش يملأ الأرض علما إلى أن قال احمد واني لأدعو للشافعي منذ أربعين سنة في صلاتي .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أحمد بن حنبل قال : الشافعي فيلسوف في أربعة أشياء في اللغة واختلاف الناس والمعاني والفقه .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن يونس بن عبد الأعلى قال كان الشافعي إذا أخذ في التفسير كأنه شهد التنزيل .(3/285)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن يونس بن عبد الأعلى سمعت أبا عبد الله الشافعي يقول وقد سئل عن صفات الله تعالى وما يؤمن به فقال لله أسماء وصفات جاء بها كتابه واخبر بها نبيه صلى الله عليه وسلم أمته لا يسع أحدا قامت عليه الحجة ردها لأن القرآن نزل بها وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم القول بها فإن خالف ذلك بعد ثبوت الحجة عليه فهو كافر فأما قبل ثبوت الحجة فمعذور بالجهل لأن علم ذلك لا يدرك بالعقل ولا بالروية والفكر ولا نكفر بالجهل بها أحدا إلا بعد انتهاء الخبر إليه بها ونثبت هذه الصفات وننفي عنها التشبيه كما نفاه عن نفسه فقال ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السّمِيعُ الْبَصِيرُ) [ الشورى : 11]
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن احمد بن سلمة النيسابوري تزوج إسحاق بن راهويه بامرأة رجل كان عنده كتب الشافعي مات لم يتزوج بها إلا للكتب قال فوضع جامع الكبير على كتاب الشافعي ووضع جامع الصغير على جامع سفيان فقدم أبو إسماعيل الترمذي نيسابور وكان عنده كتب الشافعي عن البويطي فقال له إسحاق لا تحدث بكتب الشافعي ما دمت هنا فأجابه قال داود بن علي سمعت ابن راهويه يقول ما كنت أعلم أن الشافعي في هذا المحل ولو علمت لم أفارقه .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أبي بكر محمد بن علي الشاشي الفقيه يقول دخلت على ابن خزيمة فقال يا بني على من درست الفقه فسميت له أبا الليث فقال وعلى من درس قلت على ابن سريج فقال وهل اخذ ابن سريج العلم إلا من كتب مستعارة فقال رجل أبو الليث هذا مهجور بالشاشي فإن البلد حنابلة فقال ابن خزيمة وهل كان ابن حنبل إلا غلاما من غلمان الشافعي .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن علي بن المديني يقول عليكم بكتب الشافعي .(3/286)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عبدالله بن ناجية الحافظ قال : سمعت ابن وارة يقول قدمت من مصر فأتيت احمد بن حنبل فقال لي كتبت كتب الشافعي قلت لا قال فرطت ما عرفنا العموم من الخصوص وناسخ الحديث من منسوخه حتى جالسنا الشافعي قال فحملني ذلك على الرجوع إلى مصر فكتبتها .
قال الذهبي رحمه الله : قلت ومن بعض فنون هذا الإمام الطب كان يدريه نقل ذلك غير واحد فعنه قال عجبا لمن يدخل الحمام ثم لا يأكل من ساعته كيف يعيش وعجبا لمن يحتجم ثم يأكل من ساعته كيف يعيش .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن محمد بن مسلم بن وارة قال : سألت أحمد بن حنبل ما ترى في كتب الشافعي التي عند العراقيين أهي أحب إليك أو التي بمصر قال عليك بالكتب التي عملها بمصر فإنه وضع هذه الكتب بالعراق ولم يحكمها ثم رجع إلى مصر فأحكم تلك وقلت لأحمد ما ترى لي من الكتب أن أنظر فيه رأي مالك أو الثوري أو الأوزاعي فقال لي قولا اجلهم أن أذكره وقال عليك بالشافعي فإنه أكثرهم صوابا وأتبعهم للآثار .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن ابن ماجة القزويني قال :جاء يحيى بن معين إلى أحمد بن حنبل فبينا هو عنده إذ مر الشافعي على بغلته فوثب أحمد يسلم عليه وتبعه فأبطأ ويحيى جالس فلما جاء قال يحيى يا أبا عبد الله كم هذا فقال دع عنك هذا إن أردت الفقه فالزم ذنب البغلة .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الربيع قال : قال أصحاب مالك كانوا يفخرون فيقولون انه يحضر مجلس مالك نحو من ستين معمما والله لقد عددت في مجلس الشافعي ثلاث مئة معمم سوى من شذ عني .
علم الشافعي بالطب :
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن ملة كان الشافعي يتلهف على ما ضيع المسلمون من الطب ويقول ضيعوا ثلث العلم ووكلوه إلى اليهود والنصارى .(3/287)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الربيع بن سليمان قال : سمعت الشافعي يقول ثلاثة أشياء دواء من لا دواء له وأعيت الأطباء مداواته العنب ولبن اللقاح وقصب السكر لولا قصب السكر ما أقمت ببلدكم وسمعته يقول كان غلامي أعشى لم يكن يبصر باب الدار فأخذت له زيادة الكبد فكحلته بها فأبصر وعنه عجبا لمن تعشى البيض المسلوق فنام كيف لا يموت وعنه الفول يزيد في الدماغ والدماغ يزيد في العقل ، وعنه لم أر أنفع للوباء من البنفسج يدهن به ويشرب .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الشافعي قال : لا أعلم علما بعد الحلال والحرام أنبل من الطب إلا أن أهل الكتاب قد غلبونا عليه .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الشافعي قال من أكل الأترج ثم نام لم آمن أن تصيبه ذبحة .
علم الشافعي بأيام الناس :
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن مصعب بن عبد الله قال : ما رأيت أحدا أعلم بأيام الناس من الشافعي ونقل الإمام ابن سريج عن بعض النسابين قال كان الشافعي من أعلم الناس بالأنساب لقد اجتمعوا معه ليلة فذاكرهم بأنساب النساء إلى الصباح وقال أنساب الرجال يعرفها كل أحد .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن المزني قال : قدم علينا الشافعي فأتاه ابن هشام صاحب المغازي فذاكره أنساب الرجال فقال له الشافعي دع عنك أنساب الرجال فإنها لا تذهب عنا وعنك وحدثنا في أنساب النساء فلما أخذوا فيها بقي ابن هشام .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن يونس الصدفي كان الشافعي إذا أخذ في أيام الناس قلت هذه صناعته .
(7) حسن فهم الشافعي وفقهه رحمه الله تعالى :
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الربيع بن سليمان، قال: سمعت الشافعي يقول: قال ربيعة بن أبي عبد الرحمن: من أفطر يوماً من رمضان قضى اثنا عشر يوماً، لأن الله عز وجل اختار شهراً من اثني عشر شهراً.(3/288)
قال الشافعي له: قال الله تعالى: (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مّنْ أَلْفِ شَهْرٍ) [ القدر : 3] . فمن ترك الصلاة ليلة القدر وجب عليه أن يصلي ألف شهر على قياسه.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الربيع بن سليمان قال: سأل رجل من أهل بلخ الشافعي عن الإيمان، فقال للرجل: فما تقول أنت فيه. قال: أقول: إن الإيمان قول، قال: ومن أين قلت. قال: من قول الله تعالى: (إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ ) [ البقرة : 277] . فصارت الواو فصلا بين الإيمان والعمل فالإيمان قول والأعمال شرائعه.
فقال الشافعي: وعندك الواو فصل. قال: نعم. قال: فإذا كنت تعبد إلهين إلهاً في المشرق وإلها في المغرب، لأن الله تعالى يقول: (رَبّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبّ الْمَغْرِبَيْنِ) [ الرحمن : 17] . فغضب الرجل وقال: سبحان الله، أجعلتني وثنيا ؟
فقال الشافعي: بل أنت جعلت نفسك كذلك، قال: كيف ؟ قال: بزعمك أن الواو فصل. فقال الرجل: فإني أستغفر الله مما قلت، بل لا أعبد إلا رباً واحداً، ولا أقول بعد اليوم إن الواو فصل، بل أقول: إن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص. قال الربيع: فأنفق على باب الشافعي مالاً عظيماً، وجمع كتب الشافعي وخرج من مصر سنياً.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الشافعي قال : إنما خلق الله الخلق بكن فإذا كانت كن مخلوقة فكأن مخلوقاً خلق بمخلوق.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن يونس بن عبد الأعلى يقول: كان الشافعي يكلمنا بقدر ما نفهم عنه، ولو كلمنا بحسب فهمه ما عقلنا عنه.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الشافعي قال : من زعم أنه يرى الجن أبطلنا شهادته: يقول الله عز وجل في كتابه: ( إِنّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ ) [ الأعراف : 27](3/289)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن حرملة بن يحيى يقول: سمعت الشافعي يقول في رجل يضع في فمه تمرة فيقول لامرأته أنت طالق إن أكلتها أو طرحتها، قال: يأكل نصفها ويطرح نصفها.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الشافعي قال : يقال لمن ترك الصلاة لا يعلمها فإن صليت وإلا استتبناك فإن تبت وإلا قتلناك كما تكفر فنقول إن آمنت وإلا قتلناك .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الربيع قال : سأل رجل الشافعي عن قاتل الوزغ هل عليه غسل فقال هذا فتيا العجائز .
{ تنبيه } : ومن أقوى الدلائل على حسن فهم الشافعي رحمه الله تعالى مخالفته للإمام مالك أحياناً وهذا دليلٌ أوفى على رجاحة عقله وحسن فهمه وعلى عظيم اتباعه للآثار وأنه رحمه الله كان الرجال بالحق ولا يعرف الحق بالرجال .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء أن الشافعي لما دخل مصر أتاه جلة أصحاب مالك وأقبلوا عليه فلما أن رأوه يخالف مالكا وينقض عليه جفوه وتنكروا له فأنشأ يقول * أأنثر دار بين سارحة النعم * وأنظم منثورا لراعية الغنم * * لعمري لئن ضيعت في شر بلدة * فلست مضيعا بينهم غرر الحكم * * فإن فرج الله اللطيف بلطفه * وصادفت أهلا للعلوم وللحكم * * بثثت مفيدا واستفدت ودادهم * وإلا فمخزون لدي ومكتتم * * ومن منح الجهال علما أضاعه * ومن منع المستوجبين فقد ظلم * * وكاتم علم الدين عمن يريده * يبوء بإثم زاد وآثم إذا كتم *
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن ابن ماجة القزويني قال :جاء يحيى بن معين إلى أحمد بن حنبل فبينا هو عنده إذ مر الشافعي على بغلته فوثب أحمد يسلم عليه وتبعه فأبطأ ويحيى جالس فلما جاء قال يحيى يا أبا عبد الله كم هذا فقال دع عنك هذا إن أردت الفقه فالزم ذنب البغلة .
(8) منابذة الشافعي لأهل الأهواء :(3/290)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الشافعي يقول: لأن يبتلى المرء بكل ما نهى الله عنه ما عدا الشرك به، خير من النظر في الكلام، فإني والله اطلعت من أهل الكلام على شيء ما ظننته قط.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الشافعي قال : لأن يلقى الله العبد بكل ذنب ما خلا الشرك بالله، خير من أن يلقاه بشيء من الأهواء.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الشافعي قال : ما ارتدى أحد بالكلام فأفلح .
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الشافعي قال : لو علم الناس ما في الكلام والأهواء لفروا منه كما يفرون من الأسد.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الشافعي قال : إياكم والنظر في الكلام، فإن رجلا لو سئل عن مسألة من الفقه فأخطأ فيها، أو سئل عن رجل قتل رجلا فقال: ديته بيضة كان أكبر شيء أن يضحك فيه. ولو سئل عن مسألة من الكلام فأخطأ فيها نسب إلى البدعة.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الشافعي قال : رأي ومذهبي في أصحاب الكلام أن يضربوا بالجريد ويجلسوا على الجمال ويطاف بهم في العشائر والقبائل وينادي عليهم: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأخذ في الكلام.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الشافعي يقول حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد ويحملوا على الإبل ويطاف بهم في العشائر ينادى عليهم هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الشافعي قال : مذهبي في أهل الكلام تقنيع رؤوسهم بالسياط وتشريدهم في البلاد .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الربيع قال : سمعت الشافعي يقول في كتاب الوصايا لو أن رجلا أوصى بكتبه من العلم لآخر وكان فيها كتب الكلام لم تدخل في الوصية لأنه ليس من العلم .(3/291)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن حدثنا أبي ثور، قال: سمعت الشافعي يقول: من ارتدى بالكلام لا يفلح. وذهب الشافعي مذهب أهل الحديث. كان يأخذ بعامة قوله أحمد بن حنبل والبويطي، والحميدي، وأبو ثور، وعامة أصحاب الحديث. وقال: كان مالك بن أنس إذا جاءه بعض أهل الأهواء قال: أما أنا فعلى بينة من ديني، وأما أنت فشاك. اذهب إلى شاك مثلك فخاصمه. وكان يقول: لست أرى لأحد سب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في الفيء سهماً.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الشافعي قال : لأن يلقى الله العبد بكل ذنب ما خلا الشرك، خير من أن يلقاه بشيء من هذه الأهواء. وذلك أنه رأى قوماً يتجادلون في القدر بين يديه، فقال الشافعي: في كتاب الله المشيئة دون خلقه، والمشيئة إرادة الله، يقول الله تعالى: (وَمَا تَشَآءُونَ إِلاّ أَن يَشَآءَ اللّهُ إِنّ اللّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً) [ الإنسان : 30]. فأعلم خلقه أن المشيئة له. وكان يثبت القدر. وقال في كتابه: من حلف باسم من أسماء الله فحنث فعليه كفارة لأنه حلف بغير مخلوق.(3/292)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أبي شعيب المصري قال : حضرت الشافعي وعن يمينه عبد الله بن عبد الحكم، وعن يساره يوسف بن عمرو بن يزيد، وحفص الفرد حاضر، فقال لابن عبد الحكم: ما تقول في القرآن. قال: أقول كلام الله. قال: ليس إلا ؟ ثم سأل يوسف بن عمرو فقال له مثل ذلك. فجعل الناس يومئون أن يسأل الشافعي، فقال حفص الفرد: يا أبا عبد الله، الناس يحيلون عليك. قال: فقال: دم الكلام في هذا قالوا: فقال للشافعي: ما تقول يا أبا عبد الله في القرآن ؟ قال: أقول القرآن كلام الله غير مخلوق. فناظره وتحاربا في الكلام حتى كفره الشافعي فقام حفص مغضباً، فلقيته من الغد في سوق الدجاج بمصر، فقال لي: رأيت ما فعل بي الشافعي أمس ؟ كفرني، قال: ثم مضى ثم رجع، فقال: أما انه مع هذا ما أعلم إنساناً أعلم منه.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن حرملة بن يحيى، قال: كنا عند محمد بن إدريس الشافعي، فقال حفص الفرد ـ وكان صاحب كلام ـ القرآن مخلوق، فقال الشافعي: كفرت.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الشافعي قال : من قال القرآن مخلوق فهو كافر.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الشافعي قال : تدري من القدري؟ القدري الذي يقول إن الله لم يخلق الشر حتى عمل به.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الشافعي قال : ما ساق الله هؤلاء الذين يتقولون في علي، وفي أبي بكر وعمر وغيرهم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلا ليجري الله لهم الحسنات وهم أموات.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الشافعي، قال: قيل لعمر بن عبد العزيز: ما تقول في أهل صفين. قال: تلك دماء طهر الله يدي منها، فلا أحب أن أخضب لساني فيها.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الشافعي قال : لم أر أحداً من أصحاب الأهواء أشهد بالزور من الرافضة.(3/293)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الشافعي قال : لو علم الناس ما في الكلام من الأهواء لفروا منه كما يفرون من الأسد .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الشافعي وسئل عن القرآن فقال أف أف القرآن كلام الله من قال مخلوق فقد كفر .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن محمد ابن عبد الله بن عبد الحكم قال : كان الشافعي بعد أن ناظر حفصاً الفرد يكره الكلام وكان يقول والله لأن يفتي العالم فيقال اخطأ العالم خير له من أن يتكلم فيقال زنديق وما شيء أبغض إلي من الكلام وأهله .
قال الذهبي تعليقاً على هذا : قلت هذا دال على أن مذهب أبي عبد الله أن الخطأ في الأصول ليس كالخطأ في الاجتهاد في الفروع .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الشافعي قال : من حلف باسم من أسماء الله فحنث فعليه الكفارة لأن اسم الله غير مخلوق ومن حلف بالكعبة وبالصفا والمروة فليس عليه كفارة لأنه مخلوق وذاك غير مخلوق .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الشافعي وسئل عن القرآن فقال أف أف القرآن كلام الله من قال مخلوق فقد كفر .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن محمد ابن عبد الله بن عبد الحكم قال : كان الشافعي بعد أن ناظر حفصاً الفرد يكره الكلام وكان يقول والله لأن يفتي العالم فيقال اخطأ العالم خير له من أن يتكلم فيقال زنديق وما شيء أبغض إلي من الكلام وأهله .
قال الذهبي تعليقاً على هذا : قلت هذا دال على أن مذهب أبي عبد الله أن الخطأ في الأصول ليس كالخطأ في الاجتهاد في الفروع .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الشافعي قال : من حلف باسم من أسماء الله فحنث فعليه الكفارة لأن اسم الله غير مخلوق ومن حلف بالكعبة وبالصفا والمروة فليس عليه كفارة لأنه مخلوق وذاك غير مخلوق .(3/294)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن يونس قال : قلت للشافعي صاحبنا الليث يقول لو رأيت صاحب هوى يمشي على الماء ما قبلته قال : قصر لو رأيته يمشي في الهواء لما قبلته .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن المزني قال : كنت أنظر في الكلام قبل أن يقدم الشافعي فلما قدم أتيته فسألته عن مسألة من الكلام فقال لي تدري أين أنت قلت نعم في مسجد الفسطاط قال لي أنت في تاران ـ قال عثمان وتاران موضع في بحر القلزم لا تكاد تسلم منه سفينة ثم ألقى علي مسألة في الفقه فأجبت فأدخل شيئا أفسد جوابي فأجبت بغير ذلك فأدخل شيئا افسد جوابي فجعلت كلما أجبت بشيء أفسده ثم قال لي هذا الفقه الذي فيه الكتاب والسنة وأقاويل الناس يدخله مثل هذا فكيف الكلام في رب العالمين الذي فيه الزلل كثير فتركت الكلام وأقبلت على الفقه .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الإمام أحمد بن حنبل قال : كان الشافعي إذا ثبت عنده الخبر قلده ، وخير خصلة كانت فيه لم يكن يشتهي الكلام أما همته الفقه .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن حسين بن علي الكرابيسي قال : شهدت الشافعي ودخل عليه بشر المريسي فقال لبشر أخبرني عما تدعو إليه أكتاب ناطق وفرض مفترض وسنة قائمة ووجدت عن السلف البحث فيه والسؤال ؟ فقال بشر : لا إلا أنه لا يسعنا خلافه ، فقال الشافعي : أقررت بنفسك على الخطأ فأين أنت عن الكلام في الفقه والأخبار يواليك الناس وتترك هذا ؟قال: لنا نهمة فيه فلما خرج بشر قال الشافعي لا يفلح .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن المزني قال : سألت الشافعي عن مسألة من الكلام فقال سلني عن شيء إذا أخطأت فيه قلت أخطأت ولا تسألني عن شيء إذا أخطأت فيه قلت كفرت .(3/295)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الربيع قال : قال الشافعي يا ربيع اقبل مني ثلاثة لا تخوضن في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن خصمك النبي صلى الله عليه وسلم غدا ولا تشتغل بالكلام فإني قد اطلعت من أهل الكلام على التعطيل وزاد المزني ولا تشتغل بالنجوم .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن حسين الكرابيسي قال : سئل الشافعي عن شيء من الكلام فغضب وقال سل عن هذا حفصاً الفرد وأصحابه أخزاهم الله .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الربيع قال : لما كلم الشافعي حفص الفرد فقال حفص القرآن مخلوق فقال له الشافعي كفرت بالله العظيم .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن البويطي قال : سألت الشافعي أصلي خلف الرافضي ؟ قال : لا تصل خلف الرافضي ولا القدري ولا المرجئ قلت صفهم لنا ؟ قال من قال الإيمان قول فهو مرجئ ومن قال إن أبا بكر وعمر ليسا بإمامين فهو رافضي ومن جعل المشيئة إلى نفسه فهو قدري .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الربيع بن سليمان قال : قال لي الشافعي لو أردت أن أضع على كل مخالف كتابا لفعلت ولكن ليس الكلام من شأني ولا أحب أن ينسب إلي منه شيء .
قال الذهبي تعليقاً على هذا : قلت هذا النفس الزكي متواتر عن الشافعي .(3/296)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن المزني قال : قلت إن كان أحد يخرج ما في ضميري وما تعلق به خاطري من أمر التوحيد فالشافعي فصرت إليه وهو في مسجد مصر فلما جثوت بين يديه قلت هجس في ضميري مسألة في التوحيد فعلمت أن أحدا لا يعلم علمك فما الذي عندك فغضب ثم قال : أتدري أين أنت ؟ قلت نعم ، قال هذا الموضع الذي اغرق الله فيه فرعون ، أبلغك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالسؤال عن ذلك ؟ قلت لا قال هل تكلم فيه الصحابة ؟ قلت لا قال تدري كم نجما في السماء ؟ قلت لا قال فكوكب منها تعرف جنسه طلوعه أفوله مم خلق ؟ قلت لا قال فشيء تراه بعينك من الخلق لست تعرفه تتكلم في علم خالقه ثم سألني عن مسألة في الوضوء فاخطأت فيها ففرعها على أربعة أوجه فلم أصب في شيء منه فقال شيء تحتاج إليه في اليوم خمس مرات تدع علمه وتتكلف علم الخالق إذا هجس في ضميرك ذلك فارجع إلى الله وإلى قوله تعالى (وَإِلََهُكُمْ إِلََهٌ وَاحِدٌ لاّ إِلََهَ إِلاّ هُوَ الرّحْمََنُ الرّحِيمُ * إِنّ فِي خَلْقِ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللّيْلِ وَالنّهَارِ وَالْفُلْكِ الّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النّاسَ وَمَآ أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السّمَآءِ مِن مّآءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثّ فِيهَا مِن كُلّ دَآبّةٍ وَتَصْرِيفِ الرّيَاحِ وَالسّحَابِ الْمُسَخّرِ بَيْنَ السّمَآءِ وَالأرْضِ لاَيَاتٍ لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) [ البقرة 163: 164] فاستدل بالمخلوق على الخالق ولا تتكلف علم ما لم يبلغه عقلك قال فتبت .
الدفاع عن الشافعي :(3/297)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن احمد بن حنبل وسئل عن الشافعي فقال لقد من الله علينا به لقد كنا تعلمنا كلام القوم وكتبنا كتبهم حتى قدم علينا فلما سمعنا كلامه علمنا انه أعلم من غيره وقد جالسناه الأيام والليالي فما رأينا منه إلا كل خير فقيل له يا أبا عبد الله كان يحيى وأبو عبيد لا يرضيانه يشير إلى التشيع وإنهما نسباه إلى ذلك فقال أحمد بن حنبل ما ندري ما يقولان والله ما رأينا منه إلا خيرا .
قال الذهبي تعليقاً على هذا : قلت من زعم أن الشافعي يتشيع فهو مفتر لا يدري ما يقول قد قال الزبير بن عبد الواحد الاستراباذي أخبرنا حمزة بن علي الجوهري حدثنا الربيع بن سليمان قال حججنا مع الشافعي فما ارتقى شرفا ولا هبط واديا إلا وهو يبكي وينشد * يا راكبا قف بالمحصب من منى * واهتف بقاعد خيفنا والناهض * * سحرا إذا فاض الحجيج إلى منى * فيضا كملتطم الفرات الفائض * * إن كان رفضا حب آل محمد * فليشهد الثقلان أني رافضي *
قال الذهبي : قلت لو كان شيعيا وحاشاه من ذلك لما قال الخلفاء الراشدون خمسة بدأ بالصديق وختم بعمر بن عبد العزيز .
(9) إنصاف الشافعي للعلماء :(3/298)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن محمد بن عبد الحكم قال: سمعت الشافعي يقول: قال لي محمد بن الحسن: صاحبنا أعلم أم صاحبكم. قلت: تريد المكابرة أو الإنصاف ؟ قال: بل الإنصاف، قال: قلت: فما الحجه عندكم. قال: الكتاب والسنة والإجماع والقياس، قال: قلت: أنشدك الله أصاحبنا أعلم بكتاب الله أم صاحبكم. قال: إذ أنشدتني بالله فصاحبكم، قلت: فصاحبنا أعلم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أم صاحبكم ؟ قال: صاحبكم، قلت: فصاحبنا أعلم بأقاويل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أم صاحبكم. قال: فقال: صاحبكم، قال: قلت: فبقي شيء غير القياس ؟ قال: لا، قلت: فبحق ندعى القياس أكثر مما تدعونه، وإنما يقاس على الأصول فيعرف القياس، قال: ويريد بصاحبه مالك بن أنس.
(10) توقير الشافعي للإمام مالك :
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الشافعي قال : ما نظرت في موطأ مالك إلا ازددت فهماً.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الشافعي قال : ما كتاب بعد كتاب الله تعالى أنفع من كتاب مالك بن أنس.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الشافعي قال : لولا مالك وابن عيينة لذهب علم الحجاز.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الشافعي قال : إذا جاء مالك فمالك كالنجم.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الشافعي قال أقمت على مالك بن أنس ثلاث سنين وكسراً، وكان يقول: إنه سمع منه لفظاً أكثر من سبعمائة حديث، قال: وكان إذا حدثهم عن مالك امتلأ منزله وكثر الناس حتى يضيق عليهم الموضع ؟ وإذا حدث عن غير مالك لم يجئه إلا اليسير، فكان يقول: ما أعلم أحداً أسوأ ثناء على أصحابكم منكم، إذا حدثتكم عن مالك ملأتم علي الموضع، إذا حدثتكم عن أصحابكم إنما تألون متكارهين.
(11) قوة يقين الشافعي بالله تعالى :(3/299)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عبد الأعلى بن حماد النرسي، قال: قال الرشيد يوماً للفضل بن الربيع وهو واقف على رأسه: يا فضل، أين هذا الحجازي؟ ـ كالمغضب ـ فقلت: ها هنا، فقال: علي به، فخرجت وبي من الغم والحزن لمحبتي للشافعي لفصاحته وبراعته وعقله، فجئت إلى بابه فأمرت من دق عليه، وكان قائماً يصلي فتنحنح، فوقفت حتى فرغ من صلاته وفتح الباب، فقلت: أجب أمير المؤمنين، فقال: سمعاً وطاعة. وجدد الوضوء وارتدى وخرج يمشي حتى انتهينا إلى الدار، فمن شفقتي عليه قلت: يا أبا عبد الله قف حتى أستأذن لك، فدخلت على أمير المؤمنين فإذا هو على حالته كالمغضب، وقال: أين الحجازي فقلت: عند السير، فجئت إليه، فقام يمضي رويداً ويحرك شفتيه، فلما بصر به أمير المؤمنين قام إليه فاستقبله وقبل بين عينيه، وهش وبش وقال: لم لا تزورنا أو تكون عندنا ؟ فأجلسه وتحدثا ساعة، ثم أمر له ببدرة دنانير، فقال: لا أرب لي فيه، قال الفضل: فأومات إليه فسكت، وأمرني أمير المؤمنين أن رده إلى منزله، فخرجت والبدرة تحمل معه، فجعل ينفقها يمنة ويسرة حتى رجع إلى منزله وما معه دينار، فلما دخل منزله قلت: قد عرفت محبتي لك، فبالذي سكن غضب أمير المؤمنين عنك إلا ما علمتني ما كنت تقول في دخولك معي عليه فقال: حدثني مالك، عن نافع، عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ يوم الأحزاب: (شَهِدَ اللّهُ أَنّهُ لاَ إِلََهَ إِلاّ هُوَ ) إلى قوله: (إِنّ الدّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ ) [آل عمران 18، 19] .(3/300)
ثم قال: وأنا اشهد بما شهد الله به وأستودع الله هذه الشهادة، وديعة لي عند الله يؤديها إلى يوم القيامة، اللهم إني أعوذ بنور قدسك وعظيم بركتك وعظمة طهارتك، من كل آفة وعاهة، ومن طوارق الليل والنهار، إلا طارقاً يطرق بخير، اللهم أنت غياثي بك أستغيث، وأنت ملاذي بك ألوذ وأنت عياذي بك أعوذ، يا من ذلت له رقاب الجبابرة، وخضعت له أعناق الفراعنة، أعوذ بك من خزيك، ومن كشف سترك، ونسيان ذكرك، والانصراف عن شكرك، أنا في حرزك ليلي ونهاري، ونومي وقراري، وظعني وأسفاري، وحياتي ومماتي، ذكرك شعاري، وثناؤك دثاري، لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك تشريفاً لعظمتك، وتكريماً لسبحات وجهك، أجرني من خزيك ومن شر عبادك، واضرب علي سرادقات حفظك، وأدخلني في حفظ عنايتك، وجد علي منك بخير يا أرحم الراحمين. قال عبد الأعلى: قال الفضل: فحفظته فلم يغضب على الرشيد بعد ذلك. فهذا أول بركة الشافعي.
(12) قوله في آداب الصحبة ومعاشرة الخلق :(3/301)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن يونس بن عبد الأعلى يقول: قال لي الشافعي ذات يوم: يا يونس إذا بلغت عن صديق لك ما تكرهه فإياك أن تبادر بالعداوة وقطع الولاية، فتكون ممن أزال يقينه بشك، ولكن ألقه وقل له: بلغني عنك كذا وكذا، وأجدر أن تسمى المبلغ، فإن أنكر ذلك فقل له: أنت أصدق وأبر، ولا تزيدن على ذلك شيئاً. وإن اعترف بذلك فرأيت له في ذلك وجهاً بعذر فاقبل منه، وإن لم يرد ذلك فقل له: ماذا أردت بما بلغني عنك ؟ فإن ذكر ماله وجه من العذر فاقبله، وإن لم يذكر لذلك وجها لعذر وضاق عليك المسلك فحينئذ أثبتها عليه سيئة أتاها. ثم أنت في ذلك بالخيار، إن شئت كافئه بمثله من غير زيادة، وإن شئت عفوت عنه، والعفو أبلغ للتقوى وأبلغ في الكرم، لقول الله تعالى: (وَجَزَآءُ سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللّهِ إِنّهُ لاَ يُحِبّ الظّالِمِينَ) [ الشورى : 40] . فإن نازعتك نفسك بالمكافأة فاذكر فيما سبق له لديك، ولا تبخس باقي إحسانه السالف لهذه السيئة، فإن ذلك الظلم بعينه وقد كان الرجل الصالح يقول: رحم الله من كافأني على إساءتي من غير أن يزيد ولا يبخس حقاً لي. يا يونس، إذا كان لك صديق فشد يديك به، فإن اتخاذ الصديق صعب ومفارقته سهل. وقد كان الرجل الصالح يشبه سهولة مفارقة الصديق بصبي يطرح في البئر حجراً عظيماً فيسهل طرحه عليه، ويصعب إخراجه على الرجال البرك فهذه وصيتي لك. والسلام.
(13) جود الشافعي وسخاؤه رحمه الله :
لقد ضرب الشافعي رحمه الله أروع المثل في الجود والسخاء فقد بلغ فيه غاية جعلته علماً عليه، لا يستطيع أحد أن يتشكك فيه أو ينكره ، وكثرة أقوال من خالطه في الحديث عن سخائه وكرمه ، وهاك بعض الآثار الدالة على ذلك .(3/302)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الحميدي يقول: قدم الشافعي من صنعاء إلى مكة بعشرة آلاف دينار في منديل فضرب خباءه في موضع خارجاً من مكة فكان الناس يأتونه فيه فما برح حتى وهب كلها.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الربيع قال: أخذ رجل بركاب الشافعي فقال: يا ربيع أعطه أربعة دنانير واعذرني عنده.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الربيع: سأل رجل الشافعي فقال: إني رجل من أمري كيت وكيت، تأمر لي بشيء ؟ وما كان معه يومئذ إلا ديناراً فأعطاه إياه، فقال له بعض جلسائه: هذا لو أعطته درهماً أو درهمين كان كثيراً. فقال: إني أستحي أن يطلب مني رجل بيني وبينه معذرة فلا أعطيه.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عبد الله بن محمد البلوي. قال: أمر الرشيد لمحمد بن إدريس الشافعي بألف دينار فقبلها، فأمر الرشيد خادمه سراجاً باتباعه فما زال يفرقها قبضة قبضة حتى انتهى إلى خارج الدار وما معه إلا قبضة واحدة، فدفعها إلى غلامه وقال: انتفع بها. فأخبر سراج الرشيد بذلك فقال: لهذا فرغ همه وقوي متنه.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن محمد بن إسماعيل الحميري، عن أبيه. قال: كان محمد ابن إدريس الشافعي لما أدخل على أمير المؤمنين هارون الرشيد وناظر بشراً المريسي فقطعه، خلع هارون الرشيد على الشافعي وأمر له بخمسين ألف درهم، فانصرف إلى البيت وليس معه شيء، قد تصدق بجميع ذلك ووصل به الناس.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن المزني قال: ما رأيت رجلا أكرم من الشافعي، خرجت معه ليلة عيد من المسجد وأنا أذاكره في مسألة حتى أتيت باب داره فأتاه غلام بكيس فقال: مولاي يقرئك السلام ويقول لك: خذ هذا الكيس. فأخذه منه وأدخله في كمه، فأتاه رجل من الحلقة فقال، يا أبا عبد الله ولدت امرأتي الساعة ولا شيء عندي، فدفع إليه الكيس وصعد وليس معه شيء.(3/303)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال: كان الشافعي أسخى الناس بما يجده، فكان يمر بنا فإن وجدني وإلا قال: قولي لمحمد إذا جاء يأتي المنزل، فإني لست أتغدى حتى يجيء. فربما جئته فإذا قعدت معه على الغداء، قال: يا جارية اضربي لنا فالوذجا فلا تزال المائدة بين يديه حتى تفرغ منه ويتغدي.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عمرو بن سواد السرحي قال: كان الشافعي أسخى الناس على الدينار والدرهم والطعام. وقال لي الشافعي: أفلست من دهري ثلاثة إفلاسات، وكنت أبيع قليلي وكثيري، حتى حلي ابنتي وزوجتي ولم أرهن قط.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أبي ثور. قال: كان الشافعي من أجود الناس وأسمحهم كفاً، كان يشتري الجارية الصناع التي تطبخ وتعمل الحلوى، ويشترط عليها أنه لا يقربها، لأنه كان عليلا لا يمكنه أن يقرب النساء في وقته ذلك ثم يأتينا فيقول لنا: تشهوا ما أحببتم فقد اشتريت جارية تحسن أن تعمل ما تريدون. فيقول لها بعض أصحابنا: اعملي لنا كذا وكذا. فكنا نأمرها بما نريد وهو مسرور بذلك.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن المزني قال : كنت مع الشافعي يوما فخرجنا الأكوام فمر بهدف فإذا برجل يرمي بقوس عربية فوقف عليه الشافعي ينظر وكان حسن الرمي فأصاب بأسهم فقال الشافعي أحسنت وبرك عليه ثم قال أعطه ثلاثة دنانير واعذرني عنده .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الربيع قال : كان الشافعي ماراً بالحذائين فسقط سوطه فوثب غلام ومسحه بكمه وناوله فأعطاه سبعة دنانير .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الربيع بن سليمان قال : تزوجت فسألني الشافعي كم أصدقتها قلت ثلاثين دينارا عجلت منها ستة فأعطاني أربعة وعشرين دينارا.(3/304)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن بن سليمان قال : كان بالشافعي هذه البواسير وكانت له لبدة محشوة بحلبة يجلس عليها فإذا ركب أخذت تلك اللبدة ومشيت خلفه فناوله إنسان رقعة يقول فيها إنني بقال رأس مالي درهم وقد تزوجت فأعني ؟ فقال يا ربيع أعطه ثلاثين دينارا واعذرني عنده ، فقلت أصلحك الله إن هذا يكفيه عشرة دراهم فقال ويحك وما يصنع بثلاثين أفي كذا أم في كذا يعد ما يصنع في جهازه أعطه .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الشافعي قال خرج هرثمة فأقرأني سلام أمير المؤمنين هارون وقال قد أمر لك بخمسة آلاف دينار قال فحمل إليه المال فدعا بحجام فأخذ شعره فأعطاه خمسين دينارا ثم أخذ رقاعاً فصر صررا وفرقها في القرشيين الذين هم بالحضرة ومن بمكة حتى ما رجع إلى بيته إلا بأقل من مئة دينار .
(14) اجتهاد الشافعي في العبادة :
اجتهاده الشافعي في العبادة شهد له بها كل من عاشره أستاذا كان أو تلميذا ، أو جار ، أو صديقا .
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الربيع بن سليمان يقول: كان محمد بن إدريس الشافعي يختم في شهر رمضان ستين ختمة، ما منها شيء إلا في صلاة.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الربيع يقول كان الشافعي يختم القرآن في كل رمضان ستين ختمة وفي كل شهر ثلاثين ختمة .
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الربيع بن سليمان يقول: كان الشافعي قد جزأ الليل ثلاثة أجزاء، الثلث الأول يكتب، والثلث الثاني يصلي، والثلث الثالث ينام.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الشافعي قال : ما شبعت منذ ست عشرة سنة إلا مرة فأدخلت يدي فتقيأتها لأن الشبع يثقل البدن ويقسي القلب ويزيل الفطنة ويجلب النوم ويضعف عن العبادة .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الشافعي قال : ما أفلح سمين قط إلا أن يكون محمد بن الحسن .(3/305)
قال الذهبي رحمه الله : قيل ولم قال لأن العاقل لا يعدو من إحدى خلتين إما يغتم لآخرته أو لدنياه والشحم مع الغم لا ينعقد .
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الربيع بن سليمان يقول: كان محمد بن إدريس الشافعي يختم في شهر رمضان ستين ختمة، ما منها شيء إلا في صلاة.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الربيع يقول كان الشافعي يختم القرآن في كل رمضان ستين ختمة وفي كل شهر ثلاثين ختمة .
(15) تغليب الشافعي للمصلحة الراجحة :
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الشافعي قال : ليس العاقل الذي يدفع بين الخير والشر فيختار الخير، ولكن العاقل الذي يدفع بين الشرين فيختار أيسرهما .
(16) فقه الشافعي في النصيحة :
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الشافعي قال : من وعظ أخاه سراً فقد نصحه وزانه، ومن وعظه علانية فقد فضحه وخانه.
(17) فراسة الشافعي رحمه الله تعالى :(3/306)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الشافعي قال : خرجت إلى اليمن في طلب كتب الفراسة حتى كتبتها وجمعتها، ثم لما حان انصرافي مررت على رجل في الطريق وهو محتب بفناء داره، أزرق العين ناتئ الجبهة سناط، فقلت له: هل من منزل ؟ فقال: نعم. قال الشافعي: وهذا النعت أخبث ما يكون في الفراسة، فأنزلني فرأيته أكرم ما يكون من رجل، بعث إلي بعشاء وطيب وعلف لدابتي وفراش ولحاف فجعلت أتقلب الليل أجمع، ما أصنع بهذه الكتب إذا رأيت النعت في هذا الرجل. فرأيت أكرم رجل فقلت: أرمي بهذه الكتب فلما أصبحت قلت للغلام: أسرج، فأسرج فركبت ومررت عليه وقلت له: إذا قدمت مكة ومررت بذي طوى فاسأل، عن محمد بن إدريس الشافعي. فقال لي الرجل: أمولى لأبيك أنا ؟ قال: قلت: لا قال: فهل كانت لك عندي نعمة ؟ فقلت: لا. فقال: أين ما تكلفته لك البارحة؟ قلت: وما هو ؟ قال: اشتريت لك طعاماً بدرهمين، وأداماً بكذا وكذا، وعطراً بثلاثة دراهم، وعلفاً لدابتك بدرهمين. وكراء الفرش واللحاف درهمان. قال قلت: يا غلام أعطه. فهل بقي من شيء ؟ قال: كراء البيت فإني قد وسعت عليك وضيقت على نفسي. قال الشافعي: فغبطت بتلك الكتب. فقلت له بعد ذلك: هل بقي لك من شيء قال: امض أخزاك الله: فما رأيت قط شراً منك.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الربيع بن سليمان قال : اشتريت للشافعي طيبا بدينار فقال ممن اشتريت قلت من ذاك الأشقر الأزرق قال أشقر ازرق رده رده ما جاءني خير قط من أشقر .
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الشافعي قال : احذر الأعور والأحول والأعرج والأحدب والأشقر والكوسج وكل من به عاهة في بدنه، وكل ناقص الخلق فاحذروه فإن فيه التواء ومخالطته معسرة. وقال الشافعي مرة أخرى: فإنهم أصحاب خبث.(3/307)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الربيع قال : كنت أنا والمزني والبويطي عند الشافعي فنظر إلينا فقال لي أنت تموت في الحديث وقال للمزني هذا لو ناظره الشيطان قطعه وجدله وقال للبويطي أنت تموت في الحديد قال فدخلت على البويطي ايام المحنة فرأيته مقيدا مغلولا .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الربيع بن سليمان قال : مر أخي فرآه الشافعي فقال هذا أخوك ولم يكن رآه قلت نعم .
(18) ذم الشافعي لفضول المخالطة :
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن يونس بن عبد الأعلى الصدفي، يقول: سمعت الشافعي يقول: يا يونس الانقباض عن الناس مكسبة للعداوة، والانبساط إليهم مجلبة لقرناء السوء، فكن بين المنقبض والمنبسط.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن يونس ابن عبد الأعلى يقول: قال لي الشافعي رضي الله عنه: رضا الناس غاية لا تدرك، وليس لي إلى السلامة من سبيل، فعليك بما ينفعك فالزمه.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الشافعي قال :
ليت الكلاب لنا كانت مجاورة وليتنا لا نرى مما نرى أحدا
إن الكلاب لتهدأ في مواطنها والناس ليس بهاد شرهم أبدا
فاهرب بنفسك واستأنس بوحدتها تبقى سعيداً إذا ما كنت منفردا
(19) من دُررِ مواعظ الشافعي :
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أحمد بن يحيى الوزير. قال: خرج الشافعي يوماً من سوق القناديل متوجهاً إلى حجرته، فتبعناه فإذا رجل يسفه على رجل من أهل العلم، فالتفت إلينا الشافعي فقال: نزهوا أسماعكم عن استماع الخنا كما تنزهون ألسنتكم عن النطق به، فإن المستمع شريك القائل، وإن السفيه ينظر إلى أخبث شيء في وعائه فيحرص أن يفرغه في أوعيتكم، ولو رددت كلمة السفيه لسعد رادها كما شقي بها قائلها.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الشافعي قال : ليس العلم ما حفظ العلم ما نفع.(3/308)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الربيع بن سليمان يقول قال الشافعي: يا ربيع رضي الناس غاية لا تدرك، فعليك بما يصلحك فالزمه، فإنه لا سبيل إلى رضاهم. واعلم أن من تعلم القرآن جل في عيون الناس، ومن تعلم الحديث قويت حجته، ومن تعلم النحو هيب، ومن تعلم العربية رق طبعه، ومن تعلم الحساب جل رأيه، ومن تعلم الفقه نبل قدره ومن لم يضر نفسه لم ينفعه علمه، وملاك ذلك كله التقوى.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الشافعي قال : اللبيب العاقل، هو الفطن المتغافل.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أبي محمد ابن بنت الشافعي يقول: سألت أبي فقلت: يا ابتي أي العلم أطلب. فقال: يا بني أما الشعر فيضع الرفيع ويرفع الخسيس، وأما النحو فإذا بلغ الغاية صار مؤدباً، وأما الفرائض فإذا بلغ صاحبها فيها غاية صار معلم حساب. وأما الحديث فتأتي بركته وخيره عند فناء العمر. وأما الفقه فللشاب والشيخ وهو سيد العلم.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الربيع، قال: سمعت الشافعي يقول وذكر من يحمل العلم جزافا، قال: هذا مثل حاطب أقبل يقطع حزمة حطب فيحملها، ولعل فيها أفعى فتلدغه وهو لا يدري. قال الربيع يعني الذين لا يسألون عن الحجة من أين ؟ يكتب العلم وهو لا يدري على غير فهم فيكتب عن الكذاب وعن الصدوق وعن المبتدع وغيره، فيحمل عن الكذاب والمبتدع الأباطيل فيصير ذلك نقصاً لإيمانه وهو لا يدري.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الشافعي يقول: ما حلفت بالله لا صادقاً ولا كاذباً قط.(3/309)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الحارث بن مسكين: لقد أحببت الشافعي وقرب من قلبي لما بلغني أنه كان يقول: الكفاءة في الدين لا في النسب، لو كانت الكفاءة في النسب لم يكن أحد من الخلق كفؤاً لفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا لبنات رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد زوج ابنتيه من عثمان وزوج أبا العاص بن الربيع.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الربيع قال: سأل رجل الشافعي، عن سنه فقال: ليس من المروءة أن يخبر الرجل بسنه، سأل رجل مالكاً، عن سنه فقال: أقبل على شأنك.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الشافعي يقول: سئل عمر بن عبد العزيز، عن قتلى صفين فقال دماء طهر الله يدي منها لا أحب ألطخ لساني بها.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الشافعي: قال رجل للشعبي: عندي مسائل شداد خبأتها لك. فقال: أخبئها لأخيك الشيطان.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الشافعي قال : العلم مروءة من لا مروءة له.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الشافعي قال : من استغضب فلم يغضب فهو حمار، ومن غضب فاسترضي فلم يرض فهو حمار.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الشافعي قال :
يريد المرء أن يعلى مناه ويأبى الله إلا ما أرادا
يقول المرء فائدتي ومالي وتقوى الله أفضل ما استفادا
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الشافعي قال : بئس الزاد إلى المعاد العدوان على العباد .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الشافعي قال ما رفعت من أحد فوق منزلته إلا وضع مني بمقدار ما رفعت منه .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الشافعي قال ضياع العالم أن يكون بلا إخوان وضياع الجاهل قلة عقله وأضيع منهما من وآخى من لا عقل له .(3/310)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الشافعي قال آلات الرياسة خمس صدق اللهجة وكتمان السر والوفاء بالعهد وابتداء النصيحة وأداء الأمانة .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الشافعي قال أيما أهل بيت لم يخرج نساؤهم إلى رجال غيرهم ورجالهم إلى نساء غيرهم إلا وكان في أولادهم حمق .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أحمد بن صالح قال لي الشافعي تعبد من قبل أن ترأس فإنك إن ترأست لم تقدر أن تتعبد .
(20) اتباع الشافعي للآثار :
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الشافعي قال : كل متكلم على الكتاب والسنة فهو الجد وما سواه فهو هذيان .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عبد الله بن احمد بن حنبل قال : سمعت أبي يقول قال الشافعي أنتم اعلم بالأخبار الصحاح منا فإذا كان خبر صحيح فأعلمني حتى اذهب إليه كوفيا كان أو بصريا أو شاميا .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الشافعي قال : كل ما قلته فكان من رسول الله صلى الله عليه وسلم خلاف قولي مما صح فهو أولى ولا تقلدوني .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الشافعي قال : إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا بها ودعوا ما قلته .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الحميدي روى الشافعي يوما حديثا فقلت أتأخذ به فقال رأيتني خرجت من كنيسة أو علي زنار حتى إذا سمعت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا لا أقول به .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أحمد بن العباس النسائي سمعت أحمد بن حنبل مالا أحصيه وهو يقول قال أبو عبد الله الشافعي ثم قال ما رأيت أحدا أتبع للأثر من الشافعي .
(21) خشية الشافعي رحمه الله :(3/311)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن سويد بن سعيد قال : كنت عند سفيان فجاء الشافعي فسلم وجلس فروى ابن عيينة حديثا رقيقا فغشي على الشافعي فقيل يا أبا محمد مات محمد بن إدريس فقال ابن عيينة إن كان مات فقد مات أفضل أهل زمانه .
(22) تحذير الشافعي من المراء في الدين بغير حق :
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الشافعي قال : المراء في الدين يقسي القلب ويورث الضغائن .
(23) تدبر الشافعي للقرآن رحمه الله :
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن حسين الكرابيسي بت مع الشافعي ليلة فكان يصلي نحو ثلث الليل فما رأيته يزيد على خمسين آية فإذا أكثر فمئة آية وكان لا يمر بآية رحمة إلا سأل الله ولا بآية عذاب إلا تعوذ وكأنما جمع له الرجاء والرهبة جميعا .
(24) تحذير الشافعي من الشبع :
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الشافعي قال : ما شبعت منذ ست عشرة سنة إلا مرة فأدخلت يدي فتقيأتها لأن الشبع يثقل البدن ويقسي القلب ويزيل الفطنة ويجلب النوم ويضعف عن العبادة .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الشافعي قال : ما أفلح سمين قط إلا أن يكون محمد بن الحسن .
قال الذهبي رحمه الله : قيل ولم قال لأن العاقل لا يعدو من إحدى خلتين إما يغتم لآخرته أو لدنياه والشحم مع الغم لا ينعقد .
(25) زهد الشافعي رحمه الله :
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الربيع بن سليمان قال : قال لي الشافعي عليك بالزهد فإن الزهد على الزاهد أحسن من الحلي على المرأة الناهد .
{ تنبيه } : كان الشافعي رحمه الله آيةً في الزهد ويتجلى زهده رحمه الله تعالى في إنفاقه لله تعالى لعلمه الراسخ أن الزهد ليس أن تملك المال ولكن هو أن تملم المال بل تملك الدنيا بأسرها وتكون الدنيا في يدك لا في قلبك ، وهاك بعض مظاهر إنفاقه رحمه الله تعالى :(3/312)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الحميدي يقول: قدم الشافعي من صنعاء إلى مكة بعشرة آلاف دينار في منديل فضرب خباءه في موضع خارجاً من مكة فكان الناس يأتونه فيه فما برح حتى وهب كلها.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الربيع قال: أخذ رجل بركاب الشافعي فقال: يا ربيع أعطه أربعة دنانير واعذرني عنده.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الربيع: سأل رجل الشافعي فقال: إني رجل من أمري كيت وكيت، تأمر لي بشيء ؟ وما كان معه يومئذ إلا ديناراً فأعطاه إياه، فقال له بعض جلسائه: هذا لو أعطته درهماً أو درهمين كان كثيراً. فقال: إني أستحي أن يطلب مني رجل بيني وبينه معذرة فلا أعطيه.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عبد الله بن محمد البلوي. قال: أمر الرشيد لمحمد بن إدريس الشافعي بألف دينار فقبلها، فأمر الرشيد خادمه سراجاً باتباعه فما زال يفرقها قبضة قبضة حتى انتهى إلى خارج الدار وما معه إلا قبضة واحدة، فدفعها إلى غلامه وقال: انتفع بها. فأخبر سراج الرشيد بذلك فقال: لهذا فرغ همه وقوي متنه.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن محمد بن إسماعيل الحميري، عن أبيه. قال: كان محمد ابن إدريس الشافعي لما أدخل على أمير المؤمنين هارون الرشيد وناظر بشراً المريسي فقطعه، خلع هارون الرشيد على الشافعي وأمر له بخمسين ألف درهم، فانصرف إلى البيت وليس معه شيء، قد تصدق بجميع ذلك ووصل به الناس.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن المزني قال: ما رأيت رجلا أكرم من الشافعي، خرجت معه ليلة عيد من المسجد وأنا أذاكره في مسألة حتى أتيت باب داره فأتاه غلام بكيس فقال: مولاي يقرئك السلام ويقول لك: خذ هذا الكيس. فأخذه منه وأدخله في كمه، فأتاه رجل من الحلقة فقال، يا أبا عبد الله ولدت امرأتي الساعة ولا شيء عندي، فدفع إليه الكيس وصعد وليس معه شيء.(3/313)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال: كان الشافعي أسخى الناس بما يجده، فكان يمر بنا فإن وجدني وإلا قال: قولي لمحمد إذا جاء يأتي المنزل، فإني لست أتغدى حتى يجيء. فربما جئته فإذا قعدت معه على الغداء، قال: يا جارية اضربي لنا فالوذجا فلا تزال المائدة بين يديه حتى تفرغ منه ويتغدي.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عمرو بن سواد السرحي قال: كان الشافعي أسخى الناس على الدينار والدرهم والطعام. وقال لي الشافعي: أفلست من دهري ثلاثة إفلاسات، وكنت أبيع قليلي وكثيري، حتى حلي ابنتي وزوجتي ولم أرهن قط.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أبي ثور. قال: كان الشافعي من أجود الناس وأسمحهم كفاً، كان يشتري الجارية الصناع التي تطبخ وتعمل الحلوى، ويشترط عليها أنه لا يقربها، لأنه كان عليلا لا يمكنه أن يقرب النساء في وقته ذلك ثم يأتينا فيقول لنا: تشهوا ما أحببتم فقد اشتريت جارية تحسن أن تعمل ما تريدون. فيقول لها بعض أصحابنا: اعملي لنا كذا وكذا. فكنا نأمرها بما نريد وهو مسرور بذلك.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن المزني قال : كنت مع الشافعي يوما فخرجنا الأكوام فمر بهدف فإذا برجل يرمي بقوس عربية فوقف عليه الشافعي ينظر وكان حسن الرمي فأصاب بأسهم فقال الشافعي أحسنت وبرك عليه ثم قال أعطه ثلاثة دنانير واعذرني عنده .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الربيع قال : كان الشافعي ماراً بالحذائين فسقط سوطه فوثب غلام ومسحه بكمه وناوله فأعطاه سبعة دنانير .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الربيع بن سليمان قال : تزوجت فسألني الشافعي كم أصدقتها قلت ثلاثين دينارا عجلت منها ستة فأعطاني أربعة وعشرين دينارا.(3/314)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن بن سليمان قال : كان بالشافعي هذه البواسير وكانت له لبدة محشوة بحلبة يجلس عليها فإذا ركب أخذت تلك اللبدة ومشيت خلفه فناوله إنسان رقعة يقول فيها إنني بقال رأس مالي درهم وقد تزوجت فأعني ؟ فقال يا ربيع أعطه ثلاثين دينارا واعذرني عنده ، فقلت أصلحك الله إن هذا يكفيه عشرة دراهم فقال ويحك وما يصنع بثلاثين أفي كذا أم في كذا يعد ما يصنع في جهازه أعطه .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الشافعي قال خرج هرثمة فأقرأني سلام أمير المؤمنين هارون وقال قد أمر لك بخمسة آلاف دينار قال فحمل إليه المال فدعا بحجام فأخذ شعره فأعطاه خمسين دينارا ثم أخذ رقاعاً فصر صررا وفرقها في القرشيين الذين هم بالحضرة ومن بمكة حتى ما رجع إلى بيته إلا بأقل من مئة دينار .
(26) حفظ الشافعي ليمينه رحمه الله :
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الشافعي يقول: ما حلفت بالله لا صادقاً ولا كاذباً قط.
(27) فصاحة الشافعي رحمه الله تعالى :
لقد كان الشافعي رضي الله عنه فصيح اللسان بليغا حجة في لغة العرب ونحوهم ، اشتغل بالعربية عشرين سنة مع بلاغته وفصاحته ، ومع أنه عربي اللسان والدار والعصر وعاش فترة من الزمن في بني هذيل فكان لذلك أثره الواضح على فصاحته وتضلعه في اللغة والأدب والنحو ، إضافة إلى دراسته المتواصلة و إطلاعه الواسع حتى أضحى يرجع إليه في اللغة والنحو .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الربيع بن سليمان قال : كان الشافعي والله لسانه أكبر من كتبه لو رأيتموه لقلتم إن هذه ليست كتبه .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن يونس بن عبد الأعلى قال : ما كان الشافعي إلا ساحرا ما كنا ندري ما يقول إذا قعدنا حوله كأن الفاظه سكر وكان قد أوتي عذوبة منطق وحسن بلاغة وفرط ذكاء وسيلان ذهن وكمال فصاحة وحضور حجة .(3/315)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عبد الملك بن هشام اللغوي قال : طالت مجالستنا للشافعي فما سمعت منه لحنة قط .
قال الذهبي تعليقاً على هذا : قلت أنى يكون ذلك وبمثله في الفصاحة يضرب المثل كان أفصح قريش في زمانه وكان مما يؤخذ عنه اللغة
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أحمد بن أبي سريج الرازي ما رأيت أحدا أفوه ولا أنطق من الشافعي .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الأصمعي قال :أخذت شعر هذيل عن الشافعي .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أحمد قال : كان الشافعي إذا تكلم كأن صوته صوت صنج وجرس من حسن صوته .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أبو نعيم بن عدي الحافظ سمعت الربيع مرارا يقول لو رأيت الشافعي وحسن بيانه وفصاحته لعجبت ولو أنه ألف هذه الكتب على عربيته التي كان يتكلم بها معنا في المناظرة لم نقدر على قراءة كتبه لفصاحته وغرائب ألفاظه غير أنه كان في تأليفه يوضح للعوام .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الشافعي قال ما أردت بها يعني العربية والأخبار إلا للاستعانة على الفقه .
(28) دعوة الشافعي للعمل بالعلم :
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الشافعي قال : ليس العلم ما حفظ العلم ما نفع.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الشافعي قال : إن لم يكن الفقهاء العاملون أولياء الله فما لله ولي .
(29) علاج الشافعي للعجب إذا طرأ على تفكير الإنسان :
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الشافعي قال إذا خفت على عملك العجب فاذكر رضا من تطلب وفي أي نعيم ترغب ومن أي عقاب ترهب فمن فكر في ذلك صغر عنده عمله .
(30) تواضع الشافعي رحمه الله تعالى :(3/316)
كان الشافعي رضي الله عنه مشهورا بتواضعه وخضوعه للحق ، تشهد له بذلك مناظراته ودروسه ومعاشرته لأقرانه ولتلاميذه وللناس ، ودونك ما تيسر من المواقف الدالة على ذلك :
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الشافعي قال : ينبغي للفقيه أن يضع التراب على رأسه تواضعا لله وشكرا لله .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الربيع بن سليمان دخلت على الشافعي وهو مريض فسألني عن أصحابنا فقلت إنهم يتكلمون فقال ما ناظرت أحدا قط على الغلبة وبودي أن جميع الخلق تعلموا هذا الكتاب يعني كتبه على أن لا ينسب إلي منه شيء قال هذا يوم الأحد ومات يوم الخميس وانصرفنا من جنازته ليلة الجمعة فرأينا هلال شعبان سنة أربع ومئتين وله نيف وخمسون سنة .
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الشافعي قال : ما ناظرت أحد قط إلا على النصيحة.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الشافعي قال : ما ناظرت أحداً قط إلا أحببت أن يوفق ويسدد ويعان، ويكون عليه رعاية من الله وحفظه. وما ناظرت أحداً إلا ولم أبال بين الله الحق على لساني أو لسانه.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الشافعي يقول ما ناظرت أحدا على الغلبة إلا على الحق عندي .
(31) حُسْنُ صلاة الشافعي رحمه الله تعالى :
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن إبراهيم بن محمد الشافعي ما رأيت أحداً أحسن صلاة من الشافعي وذاك أنه أخذ من مسلم بن خالد وأخذ مسلم من ابن جريج وأخذ ابن جريج من عطاء وأخذ عطاء من ابن الزبير وأخذ ابن الزبير من أبي بكر الصديق وأخذ أبو بكر من النبي صلى الله عليه وسلم .
(32) تَمَهُلُ الشافعي في الفتوى ولو أخذت أياماً :(3/317)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن المزني أو الربيع كنا يوما عند الشافعي إذ جاء شيخ عليه ثياب صوف وفي يده عكازة فقام الشافعي وسوى عليه ثيابه وسلم الشيخ وجلس وأخذ الشافعي ينظر إلى الشيخ هيبة له إذ قال الشيخ أسأل قال سل قال ما الحجة في دين الله قال كتاب الله قال وماذا قال سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وماذا قال اتفاق الأمة قال من أين قلت اتفاق الأمة فتدبر الشافعي ساعة فقال الشيخ : قد أجلتك ثلاثا فإن جئت بحجة من كتاب الله وإلا تب إلى الله تعالى فتغير لون الشافعي ثم إنه ذهب فلم يخرج إلى اليوم الثالث بين الظهر والعصر وقد انتفخ وجهه ويداه ورجلاه وهو مسقام فجلس فلم يكن بأسرع من أن جاء الشيخ فسلم وجلس فقال حاجتي فقال الشافعي نعم أعوذ بالله من الشيطان الرجيم قال الله تعالى (وَمَن يُشَاقِقِ الرّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيّنَ لَهُ الْهُدَىَ وَيَتّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلّهِ مَا تَوَلّىَ وَنُصْلِهِ جَهَنّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً) [ النساء : 115] قال فلا يصليه على خلاف المؤمنين إلا وهو فرض فقال صدقت وقام فذهب فقال الشافعي قرأت القرآن في كل يوم وليلة ثلاث مرات حتى وقفت عليه .
وفاة الشافعي رحمه الله تعالى :
تُوفّي الشافعي رحمه الله بمصر سنة أربع ومائتين وهو ابن أربع وخمسين سنة .(3/318)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن المزني قال دخلت على الشافعي في مرضه الذي مات فيه فقلت يا أبا عبد الله كيف أصبحت فرفع رأسه وقال أصبحت من الدنيا راحلا ولإخواني مفارقا ولسوء عملي ملاقيا وعلى الله واردا ما أدري روحي تصير إلى جنة فأهنيها أو إلى نار فأعزيها ثم بكى وأنشأ يقول * ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي * جعلت رجائي دون عفوك سلما * * تعاظمني ذنبي فلما قرنته * بعفوك ربي كان عفوك أعظما * * فما زلت ذا عفو عن الذنب لم تزل * تجود وتعفو منه وتكرما * * فإن تنتقم مني فلست بآيس * ولو دخلت نفسي بجرمي جهنما * * ولولاك لم يغوي بإبليس عابد * فكيف وقد أغوى صفيك آدما * * وإني لآتي الذنب أعرف قدره * وأعلم أن الله يعفو ترحما *
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الربيع بن سليمان دخلت على الشافعي وهو مريض فسألني عن أصحابنا فقلت إنهم يتكلمون فقال ما ناظرت أحدا قط على الغلبة وبودي أن جميع الخلق تعلموا هذا الكتاب يعني كتبه على أن لا ينسب إلي منه شيء قال هذا يوم الأحد ومات يوم الخميس وانصرفنا من جنازته ليلة الجمعة فرأينا هلال شعبان سنة أربع ومئتين وله نيف وخمسون سنة .
[*] قال ابن خلكان في وفيات الأعيان :(3/319)
وحديث رحلته إلى الإمام مالك مشهور، فلا حاجة إلى التطويل فيه، وقدم بغداد سنة 195هـ، فأقام فيها سنتين، ثم خرج إلى مكة، ثم عاد إلى بغداد سنة ثمان وتسعين ومائة هـ فأقام شهرا، ثم خرج إلى مصر، وكان وصوله إليها في سنة تسع وتسعين ومائة هـ وقيل سنة إحدى ومائتين هـ ، ولم يزل بها إلى أن توفي يوم الجمعة آخر يوم من رجب سنة204هـ وذكر الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في كتاب طبقات الفقهاء ما مثاله وحكى الزعفراني عن أبي عثمان ابن الشافعي قال مات أبي وهو ابن ثمان وخمسين سنة وقد اتفق العلماء قاطبة من أهل الحديث والفقه والأصول واللغة والنحو وغير ذلك على ثقته وأمانته وعدالته وزهده وورعه ونزاهة عرضه وعفة نفسه وحسن سيرته وعلو قدره وسخائه
سيرة أحمد بن حنبل رحمه الله :
اسم أحمد بن حنبل ونسبه :
[*] قال الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء :
أحمد بن حنبل هو الامام حقا وشيخ الاسلام صدقا أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن اسد بن ادريس بن عبد الله بن حيان بن عبد الله ابن أنس بن عوف بن قاسط بن مازن بن شيبان بن ذهل بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر وائل الذهلي الشيباني المروزي ثم البغدادي أحد الأئمة الأعلام هكذا ساق نسبه ولده عبد الله واعتمده أبو بكر الخطيب في تاريخه وغيره .
مولد أحمد بن حنبل ونشأته :
[*] قال الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء : كان محمد والد أبي عبد الله من أجناد مرو مات شاباً له نحو من ثلاثين سنة وربي أحمد يتيما وقيل إن أمه تحولت من مرو وهي حامل به فقال صالح قال لي أبي ولدت في ربيع الأول سنة أربع وستين ومئة .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن صالح بن أحمد بن حنبل قال : جيء بأبي حمل من مرو فمات أبوه شابا فوليته أمه .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أبي داود قال : سمعت يعقوب الدورقي سمعت أحمد يقول ولدت في شهر ربيع الأول سنة أربع وستين ومئة .(3/320)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن المروذي قال : قال لي أبو عبد الله اختلفت إلى الكتاب ثم اختلفت إلى الديوان وأنا ابن أربع عشرة سنة .
من صفات الإمام أحمد بن حنبل :
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن ابن ذريح العكبري قال : طلبت أحمد بن حنبل فسلمت عليه وكان شيخاً مخضوباً طوالا أسمر شديد السمرة .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن محمد بن عباس النحوي قال رأيت أحمد بن حنبل حسن الوجه ربعة يخضب بالحناء خضابا ليس بالقاني في لحيته شعرات سود ورأيت ثيابه غلاظا بيضا ورأيته معتما وعليه ازار .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن المروذي قال : رأيت أبا عبد الله إذا كان في البيت عامة جلوسه متربعا خاشعا فإذا كان برا لم يتبين منه شدة خشوع وكنت أدخل والجزء في يده يقرأ .
متى تزوج أحمد بن حنبل :
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن حنبل قال : سمعت أبا عبد الله يقول تزوجت وأنا ابن أربعين سنة فرزق الله خيرا كثيرا .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن المروذي أن أبا عبد الله قال ما تزوجت إلا بعد الأربعين .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن زهير بن صالح بن أحمد قال : تزوج جدي عباسة بنت الفضل من العرب فلم يولد له منها غير أبي وتوفيت فتزوج بعدها ريحانة فولدت عبد الله عمي ثم توفيت فاشترى حسن فولدت أم علي زينب وولدت الحسن والحسين توأماً وماتا بقرب ولادتهما ثم ولدت الحسن ومحمدا فعاشا حتى صارا من السن إلى نحو من أربعين سنة ثم ولدت سعيدا قيل كانت والدة عبد الله عوراء وأقامت معه سنين .
زوجات أحمد بن حنبل وآله :
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن زهير بن صالح قال : تزوج جدي بأم أبي عباسة فلم يولد له منها سوى أبي ثم توفيت ثم تزوج بعدها ريحانة امرأة من العرب فما ولدت له سوى عمي عبد الله .(3/321)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن المروذي قال :سمعت أبا عبد الله ذكر اهله فترحم عليها وقال مكثنا عشرين سنة ما اختلفنا في كلمة وما علمنا أحمد تزوج ثالثة .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن يعقوب بن بختان قال : أمرنا أبو عبد الله ان نشتري له جارية فمضيت أنا وفوران فتبعني أبو عبد الله وقال يا أبا يوسف يكون لها لحم .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن زهير بن صالح قال : لما توفيت أم عبد الله اشترى جدي حسن فولدت له أم علي زينب والحسن والحسين توأما وماتا بالقرب من ولادتهما ثم ولدت الحسن ومحمدا فعاشا نحو الأربعين ثم ولدت بعدهما سعيدا .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن حسن أم ولد أبي عبد الله قالت : قلت لمولاي أصرف فَرْدَ خلخالي قال وتطيب نفسك ؟ قلت نعم ، فبيع بثمانية دنانير ونصف وفرقها وقت حملي فلما ولدت حسنا أعطى مولاتي كرامة ودرهما فقال اشتري بهذا رأسا فجاءت به فأكلنا فقال يا حسن ما أملك غير هذا الدرهم قالت وكان إذا لم يكن عنده شيء فرح يومه وقال يوما أريد احتجم وما معه شيء فبعت نصيفا من غزل بأربعة دراهم فاشتريت لحما بنصف وأعطى الحجام درهما ، قالت واشتريت طيبا بدرهم ولما خرج إلي سر من رأى كنت قد غزلت غزلا ليناً وعملت ثوبا حسنا فلما قدم أخرجته اليه وكنت قد أعطيت كراءه خمسة عشر درهما من الغلة فلما نظر إليه قال ما أريده قلت يا مولاي عندي غير هذا فدفعت الثوب إلى فوران فباعه باثنين وأربعين درهما وغزلت ثوبا كبيرا فقال لا تقطعيه دعيه فكان كفنه ، وكان أسن بني أحمد بن حنبل صالح فولي قضاء اصبهان ومات بها سنة خمس وستين ومئتين عن نيف وستين سنة .
رحلات أحمد بن حنبل في طلب العلم :(3/322)
طفق أحمد بن حنبل يطوف ببلاد المسلمين ليلتقي بكبار علمائها وشيوخها لينقل عنهم الأحاديث التي حفظوها، فزار الكوفة والبصرة، ومكة، والمدينة، واليمن، والشام والعراق وفارس وغيرها من بلاد الإسلام، فكان في رحلاته إذا لم يجد دابة يركبها يمشي حتى تتشقق قدماه ليلتقي بكبار العلماء في هذه البلاد، وظل أحمد طيلة حياته ينتقل من بلد إلى آخر، ليتعلم الحديث حتى أصبح من كبار العلماء.
سأله أحد أصحابه ذات يوم: إلى متى تستمر في طلب العلم، وقد أصبحت إمامًا للمسلمين وعالمًا كبيرًا؟! فقال له: مع المحبرة إلى المقبرة ومعنى ذلك أنه سيستمر في طلب العلم إلى أن يموت ويدخل القبر، ولم يكن في عصره أحد أحفظ منه لحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى سَمَّوْه إمام السنة وفقيه المحدثين وقالوا: إنه كان يحفظ ألف ألف حديث!! شملت المكرر من الحديث والآثار، وفتوى التابعين ونحو ذلك .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن صالح بن أحمد بن حنبل قال :سمعت أبي يقول مات هشيم فخرجت إلى الكوفة سنة ثلاث وثمانين وأول رحلاتي إلى البصرة سنة ست وخرجت إلى سفيان سنة سبع فقدمنا وقد مات الفضيل بن عياض وحججت خمس حجج منها ثلاث راجلا أنفقت في إحداها ثلاثين درهما وقدم ابن المبارك في سنة تسع وسبعين وفيها أول سماعي من هشيم فذهب إلى مجلس ابن المبارك فقالوا قد خرج إلى طرسوس وكتبت عن هشيم أكثر من ثلاثة آلاف ولو كان عندي خمسون درهما لخرجت إلى جرير إلى الري ، قال :وسمعت أبي يقول : كتبت عن إبراهيم ابن سعد في ألواح وصليت خلفه غير مرة فكان يسلم واحدة .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أحمد بن حنبل قال : سمعت من علي بن هاشم سنة تسع وسبعين فأتيته المجلس الآخر وقد مات وهي السنة التي مات فيها مالك وأقمت بمكة سنة سبع وتسعين وأقمت عند عبد الرزاق سنة تسع وتسعين ورأيت ابن وهب بمكة ولم اكتب عنه .(3/323)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن صالح بن أحمد عن أبيه قال مات هشيم وأنا ابن عشرين سنة وأنا احفظ ما سمعت منه .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن حنبل قال : سمعت أبا عبد الله يقول طلبت الحديث سنة تسع وسبعين فسمعت بموت حماد بن زيد وأنا في مجلس هشيم .
شيوخ أحمد بن حنبل رحمه الله :
[*] قال الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء :(3/324)
طلب العلم وهو ابن خمس عشرة سنة في العام الذي مات فيه مالك وحماد بن زيد فسمع من ابراهيم بن سعد قليلا ومن هشيم بن بشير فأكثر وجود ومن عباد بن عباد المهلبي ومعتمر بن سليمان التيمي وسفيان بن عيينة الهلالي وايوب بن النجار ويحيى بن أبي زائد وعلي بن هاشم بن البريد وقران بن تمام وعمار بن محمد الثوري والقاضي أبي يوسف وجابر بن نوح الحماني وعلي بن غراب القاضي وعمر بن عبيد الطنافسي وأخويه يعلي وحمد والمطلب بن زياد ويوسف بن الماجشون وجرير بن عبد الحميد وخالد بن الحارث وبشر بن المفضل وعباد بن العوام وأبي بكر بن عياش ومحمد بن عبد الرحمن الطفاوي وعبد العزيز بن عبد الصمد العمي وعبدة بن سليمان ويحيى بن عبد الملك بن أبي غنية والنصر بن إسماعيل البجلي وأبي خالد الاحمر وعلي بن ثابت الجزري وأبي عبيدة الحداد وعبيدة بن حميد الحذاء ومحمد بن سلمة الحراني وأبي معاوية الضرير وعبد الله بن ادريس ومروان بن معاوية وغندر وابن علية ومخلد بن يزيد الحراني وحفص بن غياث وعبد الوهاب الثقفي ومحمد بن فضيل وعبد الرحمن بن محمد المحاربي والوليد بن مسلم ويحيى بن سليم حديثا واحدا ومحمد بن يزيد الواسطي ومحمد بن الحسن المزني الواسطي ويزيد بن هارون وعلي ابن عاصم وشعيب بن حرب ووكيع فأكثر ويحيى القطان فبالغ ومسكين بن بكير وأنس بن عياض الليثي وإسحاق الازرق ومعاذ بن معاذ ومعاذ بن هشام وعبد الاعلى السامي ومحمد بن أبي عدي وعبد الرحمن بن مهدي وعبد الله بن نمير ومحمد بن بشر وزيد بن الحباب وعبد الله بن بكر ومحمد بن ادريس الشافعي وأبي عاصم وعبد الرزاق وأبي نعيم وعفان وحسين بن علي الجعفي وأبي النضر ويحيى بن آدم وأبي عبد الرحمن المقرئ وحجاج بن محمد وأبي عامر العقدي وعبد الصمد بن عبد الوارث وروح بن عبادة وأسود ابن عامر ووهب بن جرير ويونس بن محمد وسليمان بن حرب ويعقوب بن ابراهيم بن سعد وخلائق إلى ان ينزل في الرواية عن قتيبة بن سعيد(3/325)
وعلي بن المديني وأبي بكر بن أبي شيبة وهارون بن معروف وجماعة اقرانه فعدة شيوخه الذين روى عنهم في المسند مئتان وثمانون ونيف .
من حدثوا عن أحمد بن حنبل رحمه الله :
[*] قال الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء :
حدث عنه البخاري حديثا وعن أحمد بن الحسن عنه حديثا آخر في المغازي وحدث عنه مسلم وأبو داود بجملة وافرة وروى أبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجة عن رجل عنه وحدث عنه ايضا ولداه صالح وعبد الله وابن عمه حنبل بن إسحاق وشيوخه عبد الرزاق والحسن بن موسلى الاشيب وأبو عبد الله الشافعي لكن الشافعي لم يسمه بل قال حدثني الثقة وحدث عنه علي بن المديني ويحيى بن معين ودحيم وأحمد بن صالح وأحمد بن أبي الحواري ومحمد بن يحيى الذهلي وأحمد بن ابراهيم الدورقي وأحمد بن الفرات والحسن ابن الصباح البزار والحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني وحجاج بن الشاعر ورجاء بن مرجي وسلمة بن شبيب وأبو قلابة الرقاشي والفضل بن سهل الاعرج ومحمد بن منصور الطوسي وزياد بن ايوب وعباس الدوري وأبو زرعة وأبو حاتم وحرب بن إسماعيل الكرماني وإسحاق الكوسج وأبو بكر الاثرم وابراهيم الحربي وأبو بكر المروذي وأبو زرعة الدمشقي وبقي بن مخلد وأحمد بن اصرم المغفلي وأحمد ابن منصور الرمادي وأحمد بن ملاعب وأحمد بن أبي خيثمة وموسى ابن هارون وأحمد بن علي الأبار ومحمد بن عبد الله مطين وأبو طالب أحمد بن حميد وابراهيم بن هانئ النيسابوري وولده إسحاق بن ابراهيم وبدر المغازلي وزكريا بن يحيى الناقد ويوسف بن موسى الحربي وأبو محمد فوران وعبدوس بن مالك العطار ويعقوب بن بختان ومهني بن يحيى الشامي وحمدان بن علي الوراق وأحمد بن محمد القاضي البرتي والحسين بن إسحاق التستري وابراهيم بن محمد ابن الحارث الاصبهاني وأحمد بن يحيى ثعلب وأحمد بن الحسن بن عبد الجبار الصوفي وادريس بن عبد الكريم الحداد وعمر بن حفص السدوسي وأبو عبد الله محمد بن ابراهيم البوشنجي ومحمد(3/326)
بن عبد الرحمن السامي وعبد الله بن محمد البغوي وأمم سواهم .
[*] مناقب أحمد بن حنبل رحمه الله :
كان الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله من أئمة تابعي التابعين ، من أئمة الهدى وأعلام التقى ومصابيح الدجى ، من حلية الأولياء وأعلام النبلاء ،الأضواء اللامعة والنجوم الساطعة .
وهاك غَيْضٍ من فيض ونقطةٍ من بحر مما ورد في مناقبه جملةً وتفصيلا رحمه الله تعالى :
أولاً مناقب أحمد بن حنبل جملةً :
(1)ثناء العلماء على أحمد بن حنبل رحمه الله :
(2)زهد أحمد بن حنبل رحمه الله :
(3) حرص أحمد بن حنبل على طلب العلم :
(4) حافظة أحمد بن حنبل رحمه الله :
(5) سعة علم أحمد بن حنبل رحمه الله :
(6) عمل أحمد بن حنبل بالعلم :
(7) حرص أحمد بن حنبل على نشر العلم :
(8) توقير أحمد بن حنبل لأصحاب الحديث :
(9) منابذة أحمد بن حنبل لأهل الأهواء :
(10) استعفاف أحمد بن حنبل وغنى نفسه رحمه الله :
(11) اجتهاد أحمد بن حنبل في العبادة رحمه الله :
(12) ورع أحمد بن حنبل رحمه الله :
(13) تواضع أحمد بن حنبل رحمه الله :
(14) إيثار أحمد بن حنبل للوحدة عن فضول المخالطة :
(15) إيثار أحمد بن حنبل للخمول وإنكار الذات :
(16) ذم أحمد بن حنبل للمدح رحمه الله :
(17) رفض أحمد بن حنبل تولي القضاء :
(18) خشية أحمد بن حنبل رحمه الله :
(19) حُسْنُ أدب أحمد بن حنبل وسَمْتِه رحمه الله :
(20) جود أحمد بن حنبل وسخاؤه :
(21) حسن خلق أحمد بن حنبل رحمه الله :
(22) بُعْدُ أحمد بن حنبل عن التنعم و إيثاره لخشونة العيش :
(23) عظيم صبر أحمد بن حنبل ورضاه :
(24) كان أحمد بن حنبل مستجاب الدعوة رحمه الله :
(25) هيبة أحمد بن حنبل رحمه الله :
(26) جهاد أحمد بن حنبل ومرابطته :
(27) محنة أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى :
ثانياً ً مناقب أحمد بن حنبل تفصيلاً :
(1) ثناء العلماء على أحمد بن حنبل رحمه الله :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ(3/327)
[*] قال عنه الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء :
ومنهم الإمام المبجل، والهمام المفضل، أبو عبد الله أحمد ابن حنبل.
لزم الاقتداء، وظفر بالاهتداء، علم الزهاد وقلم النقاد، امتحن فكان في المحنة صبوراً، واحتبى فكان للنعمة شكوراً. كان للعلم والحلم واعياً، وللهم والفكر راعياً.
وقال أيضاً : وكان رحمه الله عالماً زاهداً، وعاملا عابداً.
وقال أيضاً : وكان الإمام أحمد بن حنبل موضعه من الإمامة موضع الدعامة، لقدوته بالآثار، وملازمته للأخيار، ولا يرى له عن الآثار معدلا، ولا يرى للرأى معقلا. كان في حفظ الآثار الجبل العظيم، وفي العلل والتعليل البحر العميم .
[*] وقال عنه الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء :
أحمد بن حنبل هو الامام حقا وشيخ الاسلام صدقا أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن اسد بن ادريس بن عبد الله بن حيان بن عبد الله ابن أنس بن عوف بن قاسط بن مازن بن شيبان بن ذهل بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر وائل الذهلي الشيباني المروزي ثم البغدادي أحد الأئمة الأعلام هكذا ساق نسبه ولده عبد الله واعتمده أبو بكر الخطيب في تاريخه وغيره .
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن نوح بن حبيب النرسي، قال: رأيت أبا عبد الله أحمد بن حنبل في مسجد الخيف في سنة ثمان وتسعين ومائة، مستنداً إلى المنارة، وجاءه أصحاب الحديث وهو مستند، فجعل يعلمهم الفقه والحديث ويفتي لنا في المناسك.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أبي داود السجستاني يقول: لقيت مائتين من مشايخ العلم فما رأيت أحمد بن حنبل، لم يكن يخوض في شيء مما يخوض فيه الناس من أمر الدنيا، فإذا ذكر العلم تكلم.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عبد الرحمن بن مهدي أنه رأى أحمد بن حنبل أقبل إلينا وقام إليه ومن عنده فقال: هذا أعلم الناس بحديث سفيان الثوري.(3/328)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن صالح بن أحمد بن حنبل، قال: قال أبي: جاء إنسان إلى باب ابن علية ومعه كتب هشيم فجعل يلقيها علي وأنا أقول: هذا إسناده كذا. فجاءه المعيطي وكان يحفظ فقلت له: أجبه فيها فسها، وقال: إني لم أعرف من حديثه ما لم أسمع. قال أبي: وكتبت عن هشيم سنة سبع وسبعين ولم أعقل بعض سماعي، ولزمته سنة ثمانين وإحدى وثمانين واثنتين وثلاث ومات في سنة ثلاث وثمانين، كتبنا عنه كتاب الحج نحواً من ألف حديث، وبعض التفسير، وكتاب القضاء وكتباً صغاراً، قال: قلت: يكون ثلاثة آلاف حديث. قال: أكثر.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أبي زرعة يقول: ما رأيت مثل أحمد بن حنبل في فنون العلم، وما قام أحد مثل ما قام أحمد به.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أبي همام السكوني قال : ما رأيت مثل أحمد بن حنبل ولا رأى هو مثله .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن حجاج بن الشاعر قال : ما رأيت أفضل من أحمد وما كنت أحب أن أقتل في سبيل الله ولم أصل على أحمد ، بلغ والله في الإمامة أكبر من مبلغ سفيان ومالك .
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أبي زرعة يقول: ما رأت عيناي مثل أحمد بن حنبل، قال: سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل يقول: حفظت كل شيء سمعته من هشيم وهشيم حي قبل موته.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن علي بن المديني يقول: ليس في أصحابنا أحفظ من أبي عبد الله أحمد بن حنبل، أنه لا يحدث إلا من كتابه، ولنا فيه أسوة حسنة.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عبد الله ابن أحمد بن حنبل يقول: ما رأيت أبي حدث من حفظه من غير كتاب إلا بأقل من مائة حديث.(3/329)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن مهنا بن يحيي الشامي قال: ما رأيت أحداً أجمع لكل خير من أحمد بن حنبل، ورأيت سفيان بن عيينة ووكيعاً وعبد الرزاق وبقية بن الوليد وضمرة بن ربيعة وكثيراً من العلماء فما رأيت مثل أحمد بن حنبل، في علمه وفقهه وزهدة وورعه.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن علي بن المديني قال : أحمد بن حنبل سيدنا.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن يحيى بن سعيد القطان: ما قدم علي مثل هذين الرجلين أحمد بن حنبل ويحيى بن معين.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أبي عبد الرحمن ابن أحمد يقول: حضر قوم من أصحاب الحديث في مجلس أبي عاصم الضحاك بن مخلد فقال لهم: ألا تتفقهون وليس فيكم فقيه ؟ وجعل يذمهم، فقالوا: فينا رجل. فقال: من هو ؟ فقلنا الساعة يجيء فلما جاء أبي قالوا: قد جاء فنظر إليه فقال له: تقدم. فقال: أكره أن أتخطى الناس. فقال أبو عاصم: هذا من فقهه وأخذه فقال وسعوا له، فوسعوا فدخل فأجلسه بين يديه فألقى إليه مسألة فأجاب، وألقى ثانية فأجاب، وثالثة فأجاب، ومسائل فأجاب. فقال: أبو عاصم هذا من دواب البحر.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن ابراهيم الحربي قال : عالم وقته سعيد بن المسيب في زمانه وسفيان الثوري في زمانه وأحمد بن حنبل في زمانه .
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن قتيبة بن سعيد قال : لو أدرك أحمد بن حنبل عصر الثوري ومالك والأوزاعي والليث بن سعد لكان هو المقدم.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن قتيبة بن سعيد يقول: لولا أحمد بن حنبل لمات الورع.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن قتيبة بن سعيد يقول: بموت أحمد بن حنبل تظهر البدع، وبموت الشافعي ماتت السنن، وبموت الثوري مات الورع.(3/330)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أحمد بن إبراهيم الصوفي، قال: قال لي رجل من أهل العلم ـ وكان حبرا فاضلا يكنى بأبي جعفر في العضية التي دفنا فيها أبا عبد الله ـ : تدري من دفنا اليوم. قلت: من ؟ قال سادس خمسة قلت: من ؟ قال أبو بكر الصديق وعمر ابن الخطاب وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وعمر بن عبد العزيز، وأحمد ابن حنبل، قال أبو العباس: فاستحسنت ذلك منه وعني بذلك أن كل واحد في زمانه.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أبي العباس أحمد بن إبراهيم يقول: من دون أحمد كلهم في ميزان أحمد. كما أن الناس من دون أبي بكر في ميزان أبي بكر الصديق.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن نصر بن علي، قال: قال عبد الله بن داود الخربي: كان الأوزاعي أفضل أهل زمانه، وكان بعده أبو إسحاق الفزاري أفضل أهل زمانه، قال نصر بن علي: وأنا أقول: كان أحمد بن حنبل أفضل أهل زمانه.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن يحيى بن سعيد القطان قال : ما قدم علي مثل أحمد بن حنبل.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن خلف بن سالم يقول: كنا في مجلس يزيد بن هارون فمزح يزيد مع مستمليه فتنحنح أحمد بن حنبل ـ وكان في المجلس ـ فقال يزيد: من المتنحنح ؟ فقيل له: أحمد بن حنبل فضرب بيده على جبينه وقال ألا أعلمتموني أن أحمد ها هنا حتى لا أمزح.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أبي جعفر النفيلي يقول: كان أحمد بن حنبل من أعلام الدين.(3/331)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن محمد بن الحسين الأنماطي قال كنا في مجلس فيه يحيى بن معين وأبو خيثمة زهير بن حرب وجماعة من كبار العلماء، فجعلوا يثنون على أحمد بن حنبل، ويذكرون من فضائله. فقال رجل: لا تكثروا بعض هذا القول: فقال يحيى بن معين. وكثرة الثناء على أحمد بن حنبل يستكثر ؟ لو جالسنا مجالسنا بالثناء عليه ما ذكرنا فضائله بكمالها.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عبد الله بن أحمد بن حنبل يقول: سمعت أبي يقول: قال محمد بن إدريس الشافعي: يا أبا عبد الله إذا صح عندكم الحديث، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرونا به حتى نرجع إليه.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عبد الله بن أحمد يقول: سمعت أبي يقول قال لي محمد بن إدريس الشافعي: يا أبا عبد الله أنت أعلم بالأخبار الصحاح منا، فإذا كان خبر صحيح فأعلمني حتى أذهب إليه، كوفياً كان أبو بصرياً أو شامياً. قال عبد الله: جميع ما حدث به الشافعي في كتابه، فقال: حدثني الثقة أو أخبرني الثقة، فهو أبي رحمه الله قال عبد الله: وكتابه الذي صنفه ببغداد هو أعدل من كتابه الذي صنفه بمصر، وذلك أنه حيث كان هاهنا يسأل وسمعت أبي يقول: استفاد منا الشافعي ما لم نستفد منه.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أبي زرعة يقول: ما رأيت مثل أحمد بن حنبل في فنون العلم، وما قام أحد مثل ما قام أحمد.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن زهير بن حرب يقول: ما رأيت مثل أحمد بن حنبل أشد قلباً منه أن يكون قام ذلك المقام، ويرى ما يمر به من الضرب والقتل، قال: وما قام أحد مثل ما قام أحمد، امتحن كذا كذا سنة وطلب فما ثبت أحد علي ما ثبت عليه.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن محمد بن إسحاق بن راهويه، قال: سمعت أبي يقول: لولا أحمد بن حنبل وبذل نفسه لما بذلها له لذهب الإسلام.(3/332)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن محمد بن إسحاق بن راهويه قال : حدثني أبي قال قال لي أحمد ابن حنبل تعال حتى أريك من لم ير مثله فذهب بي إلى الشافعي قال أبي وما رأى الشافعي مثل أحمد بن حنبل ولولا أحمد وبذل نفسه لذهب الإسلام يريد المحنة .
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن إدريس بن عبد الكريم المقري الحداد، قال: رأيت علماءنا مثل الهيثم بن خارجة، ومصعب الزبيري، ويحيى بن معين، وأبي بكر ابن أبي شيبة، وعثمان بن أبي شيبة، وعبد الأعلى بن حماد النرسي، ومحمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، وعلي بن المديني، وعبيد الله بن عمر القواريري، وأبي خيثمة زهير بن حرب، وأبي معمر القطعي، ومحمد بن جعفر الوركاني، وأحمد بن محمد بن أيوب صاحب المغازي، ومحمد بن بكار بن الريان، وعمرو بن محمد الناقد، ويحيى بن أيوب المقابري العابد، وشريح بن يونس، وخلف بن هشام البزار، وأبي الربيع الزهراني، فيمن لا أحصيهم من أهل العلم والفقه، يعظمون أحمد بن حنبل ويجلونه ويوقرونه ويبجلونه ويقصدونه للسلام عليه.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن مهنا بن يحيى قال: رأيت يعقوب بن إبراهيم بن سعد الزهري حين أخرج أحمد ابن حنبل من الحبس وهو يقبل جبهة أحمد ووجهه، ورأيت سليمان بن داود الهاشمي يقبل جبهة أحمد بن حنبل ورأسه.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن محمد بن عبد الله الشافعي قال : لما مات سعيد بن أحمد بن حنبل جاء إبراهيم الحربي إلى عبد الله بن أحمد فقام إليه عبد الله فقال تقوم إلي قال والله لو رآك أبي لقام إليك فقال إبراهيم والله لو رأى ابن عيينة أباك لقام إليه .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن إبراهيم الحربي قال : التابعون كلهم وآخرهم أحمد بن حنبل وهو عندي أجلهم .(3/333)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أحمد بن القاسم بن مساور، قال: كنا عند يحيى بن معين وعنده مصعب الزبيري فذكر رجل أحمد بن حنبل فأطراه وزاد فقال له رجل : (يَأَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ ) [ النساء 171 ، المائدة 77 ] . فقال يحيى بن معين: وكان مدح أبي عبد الله غلوا ؟ ذكر أبي عبد الله من مجلس الذكر. وصاح يحيى بالرجل .
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن هلال بن العلاء يقول: شيئان لو لم يكونا في الدنيا لاحتاج الناس إليهما، محنة أحمد بن حنبل، لولاها لصار الناس جهمية، ومحمد بن إدريس الشافعي فإنه فتح للناس الأقفال.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن ابن نمير قال : كنت عند وكيع فجاءه رجل أو قال جماعة من أصحاب أبي حنيفة فقالوا له ها هنا رجل بغدادي يتكلم في بعض الكوفيين فلم يعرفه وكيع فبينا نحن إذ طلع أحمد بن حنبل فقالوا هذا هو فقال وكيع ها هنا يا أبا عبد الله فأفرجوا له فجعلوا يذكرون عن أبي عبد الله الذي ينكرون وجعل أبو عبد الله يحتج بالأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا لوكيع هذا بحضرتك ترى ما يقول فقال رجل يقول قال رسول الله إيش أقول له ثم قال ليس القول إلا كما قلت يا أبا عبد الله فقال القوم لوكيع خدعك والله البغدادي .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن إبراهيم الحربي قال : رأيت أبا عبد الله كأن الله جمع له علم الأولين والأخرين .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن رجل قال ما رأيت أحدا اعلم بفقه الحديث ومعانيه من أحمد .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن ابن راهوية قال : كنت أجالس أحمد وابن معين ونتذاكر فأقول ما فقهه ما تفسيره فيسكتون إلا أحمد .(3/334)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن إبراهيم بن شماس قال : سمعت وكيعاً وحفص بن غياث يقولان ما قدم الكوفة مثل ذاك الفتى يعنيان أحمد بن حنبل .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن يحيى بن آدم قال : أحمد بن حنبل إمامنا .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أثرم قال : حدثني بعض من كان مع أبي عبد الله أنهم كانوا يجتمعون عند يحيى بن آدم فيتشاغلون عن الحديث بمناظرة أحمد يحيى بن آدم ويرتفع الصوت بينهما وكان يحيى بن آدم واحد أهل زمانه في الفقه .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن محمد بن يحيى القطان قال : رأيت أبي مكرما لأحمد بن حنبل لقد بذل له كتبه أو قال حديثه .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن يحيى القطان قال : ما قدم علينا مثل هذين أحمد ويحيى بن معين يحيى القطان ما قدم علينا مثل هذين أحمد ويحيى بن معين وما قدم علي من بغداد أحب إلي من أحمد بن حنبل.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عبد الرحمن بن مهدي أنه ذكر أصحاب الحديث فقال أعلمهم بحديث الثوري أحمد بن حنبل قال فأقبل أحمد فقال ابن مهدي من أراد أن ينظر إلى ما بين كتفي الثوري فلينظر إلى هذا .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن ابن مهدي قال ما نظرت إلى أحمد إلا ذكرت به سفيان .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أبي عاصم يقول لرجل بغدادي من تعدون عندكم اليوم من أصحاب الحديث ؟ قال عندنا أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وأبو خيثمة والمعيطي والسويدي حتى عد له جماعة بالكوفة أيضا وبالبصرة فقال أبو عاصم قد رأيت جميع من ذكرت وجاءوا إلي لم أر مثل ذاك الفتى .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن شجاع بن مخلد قال : سمعت أبا الوليد الطيالسي يقول ما بالمصرين رجل أكرم علي من أحمد بن حنبل .(3/335)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن سليمان بن حرب انه قال لرجل سل أحمد بن حنبل وما يقول في مسألة كذا فإنه عندنا إمام .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن المروذي قال : قلت لأحمد أكان أغمي عليك أو غشي عليك عند ابن عيينة قال نعم في دهليزه زحمني الناس فأغمي علي وروي أن سفيان قال يومئذ كيف أحدث وقد مات خير الناس .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن مهني بن يحيى قال : قد رأيت ابن عيينة ووكيعاً وبقية وعبد الرزاق وضمرة والناس ما رأيت رجلا أجمع من أحمد في علمه وزهده وورعه وذكر أشياء .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عبد الله بن أحمد قال : سمعت أبي يقول قدمت صنعاء أنا ويحيى بن معين فمضيت إلى عبد الرزاق في قريته وتخلف يحيى فلما ذهبت أدق الباب قال لي بقال تجاه داره مه لا تدق فان الشيخ يهاب فجلست حتى إذا كان قبل المغرب خرج فوثبت إليه وفي يدي أحاديث انتقيتها فسلمت وقلت حدثني بهذه رحمك الله فإني رجل غريب قال ومن أنت وزبرني ، قلت أنا أحمد بن حنبل قال فتقاصر وضمني إليه وقال بالله أنت أبو عبد الله ثم أخذ الأحاديث وجعل يقرؤها حتى اظلم فقال للبقال هلم المصباح حتى خرج وقت المغرب وكان عبد الرزاق يؤخر صلاة المغرب .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن سهل بن عسكر قال : سمعت عبد الرزاق يقول إن يعيش هذا الرجل يكون خلفاً من العلماء .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن إسماعيل ابن علية أنه أقيمت الصلاة فقال ها هنا أحمد بن حنبل قولوا له يتقدم يصلي بنا .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أحمد بن سنان القطان ما رأيت يزيد لأحد أشد تعظيما منه لأحمد ابن حنبل ولا أكرم أحدا مثله كان يقعده إلى جنبه ويوقره ولا يمازحه .(3/336)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عبد الرزاق قال : ما رأيت أحدا افقه ولا أورع من أحمد بن حنبل .
قال الذهبي تعليقاً على هذا : قلت قال هذا وقد رأى مثل الثوري ومالك وابن جريح .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن حفص بن غياث قال : ما قدم الكوفة مثل أحمد .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الهيثم بن جميل الحافظ قال : إن عاش أحمد سيكون حجة على أهل زمانه .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن قتيبة قال : خير أهل زماننا ابن المبارك ثم هذا الشاب يعني أحمد ابن حنبل وإذا رأيت رجلا يحب أحمد فاعلم انه صاحب سنة ولو أدرك عصر الثوري والأوزاعي والليث لكان هو المقدم عليهم فقيل لقتيبة يضم أحمد إلى التابعين قال إلى كبار التابعين وقال قتيبة لولا الثوري لمات الورع ولولا أحمد لأحدثوا في الدين ، أحمد إمام الدنيا .
قال الذهبي رحمه الله : قلت قد روى أحمد في مسنده عن قتيبة كثيرا وقيل لأبي مسهر الغساني تعرف من يحفظ على الأمة أمر دينها قال شاب في ناحية المشرق يعني أحمد .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن المزني قال : قال لي الشافعي رأيت ببغداد شابا إذا قال حدثنا قال الناس كلهم صدق قلت ومن هو قال أحمد بن حنبل .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الشافعي قال : خرجت من بغداد فما خلفت بها رجلا أفضل ولا أعلم ولا أفقه ولا أتقى من أحمد بن حنبل .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الشافعي قال : ما رأيت أعقل من أحمد وسليمان ابن داود الهاشمي .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن إسحاق بن راهويه قال أحمد حجة بين الله وبين خلقه .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن علي بن المديني يقول أحمد أفضل عندي من سعيد بن جبير في زمانه لأن سعيدا كان له نظراء .(3/337)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن ابن المديني قال أعز الله الدين بالصديق يوم الردة وبأحمد يوم المحنة .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أبي عبيد انتهى العلم إلى أربعة أحمد بن حنبل وهو أفقههم وذكر الحكاية وقال أبو عبيد إني لأتدين بذكر أحمد ما رأيت رجلا اعلم بالسنة منه .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الحسن بن الربيع ما شبهت أحمد بن حنبل إلا بابن المبارك في سمته وهيئته .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن محمد بن الحسين الأنماطي قال كنا في مجلس فيه يحيى بن معين وأبو خيثمة فجعلوا يثنون على أحمد بن حنبل فقال رجل فبعض هذا فقال يحيى وكثرة الثناء على أحمد تستنكر لو جلسنا مجالسنا بالثناء عليه ما ذكرنا فضائله بكمالها .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن يحيى ابن معين قال ما رأيت مثل أحمد .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن المروذي قال : حضرت أبا ثور سئل عن مسألة فقال قال أبو عبد الله أحمد بن حنبل شيخنا وإمامنا فيها كذا كذا .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن ابن معين قال : ما رأيت من يحدث لله إلا ثلاثة يعلي بن عبيد والقعنبي وأحمد بن حنبل .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن ابن معين قال : أرادوا أن أكون مثل أحمد والله لا أكون مثله أبدا .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أبي خيثمة قال : ما رأيت مثل أحمد ولا أشد منه قلبا .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن بشر بن الحارث قال : أنا اسأل عن أحمد بن حنبل؟ إن أحمد أُدْخِلَ الكير فخرج ذهباً أحمر .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عبد الله بن أحمد قال : قال أصحاب بشر الحافي له حين ضُرِبَ أبي لو انك خرجت فقلت إني على قول أحمد فقال أتريدون أن أقوم مقام الأنبياء .(3/338)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن المروذي قال : دخلت على ذي النون السجن ونحن بالعسكر فقال أي شيء حال سيدنا يعني أحمد بن حنبل .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن محمد بن حماد الظهراني قال : سمعت أبا ثور الفقيه يقول أحمد ابن حنبل أعلم أو أفقه من الثوري .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن نصر بن علي الجهضمي قال : أحمد أفضل أهل زمانه .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عمرو الناقد قال : إذا وافقني أحمد بن حنبل على حديث لا أبالي من خالفني .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن ابن أبي حاتم قال : سألت أبي عن علي بن المديني وأحمد بن حنبل أيهما أحفظ ؟ فقال كانا في الحفظ متقاربين وكان أحمد أفقة إذا رأيت من يحب أحمد فاعلم أنه صاحب سنة .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أبي زرعة قال : أحمد بن حنبل أكبر من إسحاق وأفقة ما رأيت أحدا أكمل من أحمد .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن إمام الأئمة ابن خزيمة قال : سمعت محمد بن سحتويه سمعت أبا عمير بن النحاس الرملي وذكر أحمد بن حنبل فقال رحمه الله عن الدنيا ما كان أصبره وبالماضين ما كان أشبهه وبالصالحين ما كان ألحقه عرضت له الدنيا فأباها والبدع فنفاها .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أبي عبد الله البوشنجي قال ما رأيت اجمع في كل شيء من أحمد بن حنبل ولا أعقل منه .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن ابن وارة قال : كان أحمد صاحب فقه صاحب حفظ صاحب معرفة .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن النسائي قال : جمع أحمد بن حنبل المعرفة بالحديث والفقه والورع والزهد والصبر .(3/339)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عبد الوهاب الوراق قال لما قال النبي صلى الله عليه وسلم فردوه إلى عالمه رددناه إلى أحمد بن حنبل وكان أعلم أهل زمانه .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أبي داود قال : كانت مجالس أحمد مجالس الآخرة لا يذكر فيها شيء من أمر الدنيا ما رأيته ذكر الدنيا قط .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن صالح بن محمد جزرة قال أفقه من أدركت في الحديث أحمد بن حنبل .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن محمد بن ياسين البلدي قال : سمعت ابن أبي أويس وقيل له ذهب أصحاب الحديث فقال ما أبقي الله أحمد بن حنبل فلم يذهب أصحاب الحديث .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن ابن المديني قال : أمرني سيدي أحمد بن حنبل أن لا أحدث إلا من كتاب .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أبي عبيد القاسم ابن سلام قال : انتهى العلم إلى أربعة أحمد بن حنبل وهو أفقههم فيه وإلى ابن أبي شيبة وهو أحفظهم له وإلى علي بن المديني وهو أعلمهم به وإلى يحيى بن معين وهو أكتبهم له .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن محمد ابن أبي بشر قال : أتيت أحمد بن حنبل في مسألة فقال ائت أبا عبيد فان له بيانا لا تسمعه من غيره فأتيته فشفاني جوابه فأخبرته بقول أحمد فقال ذاك رجل من عمال الله نشر الله رداء عمله وذخر له عنده الزلفى أما تراه محببا مألوفا ما رأيت عيني بالعراق رجلا اجتمعت فيه خصال هي فيه فبارك الله له فيما أعطاه من الحلم والعلم والفهم فإنه لكما قيل
* يزينك اما غاب عنك فان دنا * رأيت له وجها يسرك مقبلا * * يعلم هذا الخلق ما شذ عنهم * من الأدب المجهول كهفا ومعقلا * * ويحسن في ذات الإله إذا رأى * مضيما لأهل الحق لا يسام البلا * * وإخوانه الأدنون كل موفق بصير * بأمر الله يسمو على العلا(3/340)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن المزني قال : أحمد بن حنبل يوم المحنة أبو بكر الردة وعمر يوم السقيفة وعثمان يوم الدار وعلي يوم صفين .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أحمد بن صالح المصري يقول ما رأيت بالعراق مثل هذين أحمد بن حنبل ومحمد بن عبد الله بن نمير رجلين جامعين لم أر مثلهما بالعراق .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن يعقوب الفسوي قال : كتبت عن ألف شيخ حجتي فيما بيني وبين الله رجلان أحمد بن حنبل وأحمد بن صالح .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن محمد بن نصر المروزي يقول صرت إلى دار أحمد بن حنبل مرارا وسألته عن مسائل فقيل له أكان أكثر حديثا أم إسحاق قال بل أحمد أكثر حديثا وأورع ، أحمد فاق أهل زمانه .
قال الذهبي تعليقاً على هذا : قلت كان أحمد عظيم الشأن رأسا في الحديث وفي الفقه وفي التأله أثنى عليه خلق من خصومه فما الظن بإخوانه وأقرانه وكان مهيبا في ذات الله حتى لقال أبو عبيد ما هبت أحدا في مسألة ما هبت أحمد بن حنبل .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الأثرم قال ناظرت رجلا فقال من قال بهذه المسألة قلت من ليس في شرق ولا غرب مثله قال من ؟ قلت أحمد بن حنبل .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أبي زرعة وقيل له اختيار أحمد وإسحاق أحب إليك أم قول الشافعي قال بل اختيار أحمد وإسحاق ما اعلم في أصحابنا أسود الرأس أفقه من أحمد بن حنبل وما رأيت أحدا أجمع منه في فضله وتألهه وشمائله .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أبي يحيى الناقد قال : كنا عند إبراهيم بن عرعرة فذكروا يعلى بن عاصم فقال رجل أحمد بن حنبل يضعفه فقال رجل وما يضره إذا كان ثقة فقال ابن عرعرة والله لو تكلم أحمد في علقمة والأسود لضرهما .(3/341)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن محمد بن يحيى النيسابوري حين بلغه وفاة أحمد يقول ينبغي لكل أهل دار ببغداد أن يقيموا عليه النياحة في دورهم .
قال الذهبي تعليقاً على هذا : قلت تكلم الذهلي بمقتضى الحزن لا بمقتضى الشرع .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عبد الله بن أحمد قال : حدثنا أبي وذكر عنده الشافعي رحمه الله فقال ما استفاد منا مما استفدنا منه ثم قال عبد الله كل شيء في كتاب الشافعي حدثنا فهو عن أبي .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن المروذي قال : رأيت طبيبا نصرانيا خرج من عند أحمد ومعه راهب فقال إنه سألني أن يجيء معي ليرى أبا عبد الله وأدخلت نصرانيا على أبي عبد الله فقال له إني لأشتهي أن أراك منذ سنين ما بقاؤك صلاح للإسلام وحدهم بل للخلق جميعا وليس من أصحابنا أحد إلا وقد رضي بك فقلت لأبي عبد الله إني لأرجو أن يكون يدعى لك في جميع الأمصار فقال يا أبا بكر إذا عرف الرجل نفسه فما ينفعه كلام الناس .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عبد الله بن أحمد قال رأيت كثيراً من العلماء والفقهاء والمحدثين وبني هاشم وقريش والأنصار يقبلون أبي بعضهم يده وبعضهم رأسه ويعظمونه تعظيماً لم أرهم يفعلون ذلك بأحد من الفقهاء غيره ولم أره يشتهي ذلك .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن مهني قال رأيت أبا عبد الله مرات يُقَبَّلُ وَجْهُهُ وَرَأْسُهُ ولا يقول شيئا ولا يمتنع ورأيت سليمان بن داود الهاشمي يُقَبِّلُ رَأْسَه وَجَبْهَتُه لا يمتنع من ذلك ولا يكرهه .
(2) زهد أحمد بن حنبل رحمه الله :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن علي بن المديني يقول: دخلت منزل أحمد بن حنبل فما بيته إلا بما وصف به بيت سويد بن غفلة من زهده وتواضعه.(3/342)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن نصر بن علي يقول: أحمد بن حنبل أمره بالآخره كان أفضل لأنه أتته الدنيا فدفعها عنه.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أبي داود قال : كانت مجالس أحمد مجالس الآخرة لا يذكر فيها شيء من أمر الدنيا ما رأيته ذكر الدنيا قط .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن علي بن سهل بن المغيرة قال كنا عند عفان مع أحمد بن حنبل وأصحابهم وصنع لهم عفان حملا وفالوذج فجعل أحمد يأكل من كل شيء قدموا إلا الفالوذج فسألته فقال كان يقال هو أرفع الطعام فلا يأكله .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن إسحاق بن هانئ قال : مات أبو عبد الله وما خلف الا ست قطع في خرقة قدر دانقين .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن المروذي قال رأيت أحمد بن عيسى المصري ومعه قوم من المحدثين دخلوا على أبي عبد الله بالعسكر فقال له أحمد يا أبا عبد الله ما هذا الغم الإسلام حنيفية سمحة وبيت واسع فنظر إليهم وكان مضطجعا فلما خرجوا قال ما أريد أن يدخل علي هؤلاء .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن إسحاق بن هانئ قال لي أبو عبد الله : بَكِّرْ حتى نعارض بشيء من الزهد فَبَكَّرْتُ إلية وقلت لأم ولدة أعطيني حصيرا ومخدة وبسطت في الدهليز فخرج أبو عبد الله ومعه الكتب والمحبرة فقال ما هذا ؟ فقلت لنجلس عليه فقال : ارفعه الزهد لا يحسن الا بالزهد فرفعته وجلس على التراب .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الميموني قال : كان منزل أبي عبد الله ضيقا صغيرا وينام في الحر في أسفله وقال لي عمه ربما قلت له فلا يفعل ينام فوق وقد رأيت موضع مضجعه وفيه شاذكونة وبرذعة قد غلب عليها الوسخ .(3/343)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الحسن بن محمد بن الحارث قال : دخلت دار أحمد فرأيت في بهوه حصيرا خلقا ومخدة وكتبه مطروحة حواليه وحب خزف وقيل كان على بابه مسح من شعر .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن إسحاق بن ابراهيم النيسابوري قال : قال لي الأمير إذا حل إفطار أبي عبد الله فأرنيه قال فجاؤوا برغيفين خبز وخبازة فأريته الأمير فقال هذا لا يجيبنا إذا كان هذا يعفه .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عبد الله بن أحمد قال : دخل علي أبي يعودني في مرضي فقلت يا ابة عندنا شيء مما كان يبرنا به المتوكل أفأحج منه قال نعم قلت فاذا كان هذا عندك هكذا فلم لا تأخذ منه قال نعم ليس هو عندي حرام ولكن تنزهت عنه .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن المروذي قال :كان أبو عبد الله إذا ذكر الموت خنقته العبرة وكان يقول الخوف يمنعني أكل الطعام والشراب وإذا ذكرت الموت هان علي كل أمر الدنيا ، إنما هو طعام دون طعام ولباس دون لباس وإنها أيام قلائل ما أعدل بالفقر شيئا ولو وجدت السبيل لخرجت حتى لا يكون لي ذكر ، وقال أريد أن أكون في شعب بمكة حتى لا اعرف قد بليت بالشهرة إني أتمنى الموت صباحا ومساء .
(3) حرص أحمد بن حنبل على طلب العلم :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ(3/344)
كان أحمد بن حنبل رحمه الله ذا همةٍ عاليةٍ تناطح السحاب في طلب العلم فكان يُقْبِلُ على طلب العلم إقبالَ الظامئ على الموردِ العذب فقد أفنى جلَّ عمره في طلب العلم فكان إماماً يقتدى به في ذلك ، تفوح منه علامات اليُمْنِ وأمارات الخير ورائحة التوفيق والسداد ، فقد حفظ أحمد القرآن الكريم، ولما بلغ أربع عشرة سنة، درس اللغة العربية، وتعلم الكتابة، وكان يحب العلم كثيرًا حتى إن أمه كانت تخاف عليه من التعب والمجهود الكبير الذي يبذله في التعلم، وقد حدث ذات يوم أنه أراد أن يخرج للمكان الذي يتعلم فيه الصبية قبل طلوع الفجر، فجذبته أمه من ثوبه، وقالت له: يا أحمد انتظر حتى يستيقظ الناس .
ومضت الأيام حتى بلغ أحمد الخامسة عشرة من عمره فأراد أن يتعلم أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من كبار العلماء والشيوخ، فلم يترك شيخًا في بغداد إلا وقد استفاد منه، ومن شيوخه: أبو يوسف، وهشيم بن مشير.
وهاك بعض الآثار الدالة على مدى حرصه على طلب العلم :
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أحمد بن إبراهيم الدورقي قال: لما قدم ابن حنبل مكة من عند عبد الرزاق رأيت به شحوباً، وقد تبين عليه أثر النصب والتعب، فقلت: يا أبا عبد الله لقد شققت على نفسك في خروجك إلى عبد الرزاق. فقال: ما أهون المشقة فيما استفدنا من عبد الرزاق، كتبنا عنه حديث الزهري، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه، وحديث الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن المروذي قال : قال لي أبو عبد الله اختلفت إلى الكتاب ثم اختلفت إلى الديوان وأنا ابن أربع عشرة سنة .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عبد الله قال : سمعت أبي يقول ربما أردت البكور في الحديث فتأخذ أمي بثوبي وتقول حتى يؤذن المؤذن وكنت ربما بكرت إلى مجلس أبي بكر بن عياش .(3/345)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أحمد الدورقي قال : لما قدم أحمد بن حنبل من عند عبد الرزاق رأيت به شحوبا بمكة وقد تبين عليه النصب والتعب فكلمته فقال هين فيما استفدنا من عبد الرزاق .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عبد الله قال أبي ما كتبنا عن عبد الرزاق من حفظه إلا المجلس الأول وذلك أنا دخلنا بالليل فأملى علينا سبعين حديثا وقد جالس معمرا تسع سنين وكان يكتب عنه كل ما يقول .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عمار بن رجاء سمعت أحمد بن حنبل يقول طلب إسناد العلو من السنة .
(4) حافظة أحمد بن حنبل رحمه الله :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عبد الله بن أحمد قال : قال لي أبي خذ أي كتاب شئت من كتب وكيع من المصنف فإن شئت أن تسألني عن الكلام حتى أخبرك بالإسناد وإن شئت بالإسناد حتى أخبرك أنا بالكلام .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عبد الله بن أحمد قال : قال لي أبو زرعة أبوك يحفظ ألف ألف حديث فقيل له وما يدريك ؟ قال ذاكرته فأخذت عليه الأبواب .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن المروذي قال : قال لي أبو عبد الله كنا عند يزيد بن هارون فوهم في شيء فكلمته فأخرج كتابه فوجده كما قلت فغيره فكان إذا جلس يقول يا ابن حنبل ادن يا ابن حنبل ادن ها هنا ومرضت فعادني فنطحه الباب .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن ابن المديني قال : ليس في أصحابنا أحفظ من أحمد وبلغني انه لا يحدث إلا من كتاب ولنا فيه أسوة وعنه قال أحمد اليوم حجة الله على خلقه .
تحديث أحمد بن حنبل من كتاب رغم قوة حافظته:(3/346)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عبد الله ما رأيت أبي حدث من غير كتاب إلا بأقل من مئة حديث وسمعت أبي يقول قال الشافعي يا أبا عبد الله إذا صح عندكم الحديث فأخبرونا حتى نرجع إليه أنتم أعلم بالأخبار الصحاح منا فإذا كان خبر صحيح فأعلمني حتى أذهب إليه كوفيا كان أو بصريا أو شاميا .
قال الذهبي تعليقاً على هذا : قلت لم يحتج إلى أن يقول حجازيا فإنه كان بصيرا بحديث الحجاز ولا قال مصريا فإن غيرهما كان أقعد بحديث مصر منهما .
(5) سعة علم أحمد بن حنبل رحمه الله :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
كان الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله خزانة علم فكان علمه واسعاً مباركا كالغيث من السماء أينما حل نفع ، يتفجَّرُ العلمُ من جوانبه، وتنطِق الحكمةُ من نواحيه، لا يُشَقُ له غُبارٌ في غزارة علمه ودقة استنباطه للفوائد والأحكام وسعة فقهه ومعرفته بأسرار اللغة العربية وبلاغتها وهاك بعض الآثار الدالة على ذلك :
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عبد الله بن أحمد قال : قال لي أبو زرعة أبوك يحفظ ألف ألف حديث فقيل له وما يدريك ؟ قال ذاكرته فأخذت عليه الأبواب .
قال الذهبي تعليقاً على هذا : فهذه حكاية صحيحة في سعة علم أبي عبد الله وكانوا يعدون في ذلك المكرر والأثر وفتوى التابعي وما فسر ونحو ذلك وإلا فالمتون المرفوعة القوية لا تبلغ عشر معشار ذلك .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن سعيد بن عمرو قال : يا أبا زرعة أأنت أحفظ أم أحمد ؟ قال بل أحمد قلت كيف علمت قال وجدت كتبه ليس في أوائل الأجزاء أسماء الذين حدثوه فكان يحفظ كل جزء ممن سمعه وأنا لا أقدر على هذا .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أبي زرعة قال حزرت كتب أحمد يوم مات فبلغت اثني عشر حملا وعدلا ما كان على ظهر كتاب منها حديث فلان ولا في بطنه حدثنا فلان كل ذلك كان يحفظه .(3/347)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أبي زرعة قال : أخرج إلي أبو عبد الله أجزاء كلها سفيان سفيان ليس على حديث منها حدثنا فلان فظننتها عن رجل واحد فانتخبت منها فلما قرأ ذلك علي جعل يقول حدثنا وكيع ويحيى وحدثنا فلان فعجبت ولم اقدر أنا على هذا.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن إبراهيم الحربي قال : رأيت أبا عبد الله كأن الله جمع له علم الأولين والأخرين .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن رجل قال ما رأيت أحدا اعلم بفقه الحديث ومعانيه من أحمد .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن ابن راهوية قال : كنت أجالس أحمد وابن معين ونتذاكر فأقول ما فقهه ما تفسيره فيسكتون إلا أحمد .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أبي بكر الخلال قال : كان أحمد قد كتب كُتُبَ الرأي وحفظها ثم لم يلتف إليها .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن نوح بن حبيب القومسي قال : سلمت على أحمد بن حنبل في سنة ثمان وتسعين ومئة بمسجد الخيف وهو يفتي فتيا واسعة .
عظيم فقه أحمد بن حنبل رحمه الله :(3/348)
اشتُهِرَ الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى الفقه والحديث معاً ، ومن شدة ورعه ما كان يأخذ من القياس إلا الواضح وعند الضرورة فقط وذلك لأنه كان محدِّث عصره وقد جُمِعَ له من الأحاديث ما لم يجتمع لغيره، فقد كتب مسنده من أصل سبعمائة وخمسين ألف حديث، و كان لا يكتب إلا القرآن والحديث من هنا عُرِفَ فقه الإمام أحمد بأنه الفقه بالمأثور، ولأنه كان لديه ثروة هائلة من الحديث فقد مكّنه ذلك من الاستنباط ، وقد ضيق باب القياس مما جعل الأحكام أقرب إلى مرامي الشارع ومقاصده المستوحاة من أعمال الرسول وأقواله. وكانت هناك حاجة ماسة إلى أحكامه، لأنّ العرب تفرّقوا بين الأمصار التي فتحوها وفيها أمم وشعوب مختلفة ، وقد قدّم الإمام أحمد الحديث على الرأي والقياس ولو كان ضعيفاً ، كما أنه أكمل مشوار الشافعي من ناحية تعظيم دور السنة في البناء الفقهي , وكانت شخصية الإمام أحمد رمزاً للصمود والثبات على الإيمان الراسخ ورفض الأفكار الدخيلة على الإسلام والعقيدة الإسلامية.
وهكذا فقد تميز فقهه أنه في العبادات لا يخرج عن الأثر قيد شعرة، فليس من المعقول عنده أن يعبد أحد ربه بالقياس أو بالرأي و كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " صلوا كما رأيتموني أصلي "، ويقول في الحج: " خذوا عني مناسككم ". كان الإمام أحمد شديد الورع فيما يتعلق بالعبادات التي يعتبرها حق لله على عباده وهذا الحق لا يجوز مطلقاً أن يتساهل أو يتهاون فيه.
أما في المعاملات فيتميز فقهه بالسهولة والمرونة و الصلاح لكل بيئة وعصر، فقد تمسَّك أحمد بنصوص الشرع التي غلب عليها التيسير لا التعسير. مثال ذلك: " الأصل في العقود عنده الإباحة ما لم يعارضها نص "، بينما عند بعض الأئمة الأصل في العقود الحظر ما لم يرد على إباحتها نص.(3/349)
وكان شديد الورع في الفتاوى وكان ينهى تلامذته أن يكتبوا عنه الأحاديث فإذا رأى أحداً يكتب عنه الفتاوى، نهاه وقال له: " لعلي أطلع فيما بعد على ما لم أطلع عليه من المعلوم فأغير فتواي فأين أجدك لأخبرك؟.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن ابن أبي حاتم قال : سألت أبي عن علي بن المديني وأحمد بن حنبل أيهما أحفظ ؟ فقال كانا في الحفظ متقاربين وكان أحمد أفقة إذا رأيت من يحب أحمد فاعلم أنه صاحب سنة .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أبي زرعة قال : أحمد بن حنبل أكبر من إسحاق وأفقة ما رأيت أحدا أكمل من أحمد .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن ابن وارة قال : كان أحمد صاحب فقه صاحب حفظ صاحب معرفة .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن النسائي قال : جمع أحمد بن حنبل المعرفة بالحديث والفقه والورع والزهد والصبر .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن صالح بن محمد جزرة قال أفقه من أدركت في الحديث أحمد بن حنبل .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أبي عبيد القاسم ابن سلام قال : انتهى العلم إلى أربعة أحمد بن حنبل وهو أفقههم فيه وإلى ابن أبي شيبة وهو أحفظهم له وإلى علي بن المديني وهو أعلمهم به وإلى يحيى بن معين وهو أكتبهم له .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن محمد بن ابراهيم البوشنجي وذكر أحمد بن حنبل فقال هو عندي أفضل وأفقه من سفيان الثوري وذلك أن سفيان لم يمتحن بمثل ما امتحن به أحمد ولا عِلْم سفيان ومن يقدم من فقهاء الأمصار كعلم أحمد بن حنبل لأنه كان أجمع لها وأبصر بأغاليطهم وصدوقهم وكذوبهم قال ولقد بلغني عن بشر بن الحارث انه قال قام أحمد مقام الانبياء وأحمد عندنا امتحن بالسراء والضراء فكان فيهما معتصماً بالله .(3/350)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أبي زرعة وقيل له اختيار أحمد وإسحاق أحب إليك أم قول الشافعي قال بل اختيار أحمد وإسحاق ما اعلم في أصحابنا أسود الرأس أفقه من أحمد بن حنبل وما رأيت أحدا أجمع منه في فضله وتألهه وشمائله .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن إبراهيم الحربي قال : سئل أحمد عن المسلم يقول للنصراني أكرمك الله قال نعم ينوي بها الإسلام ، وقيل سئل أحمد عن رجل نذر ان يطوف على اربع فقال يطوف طوافين ولا يطف على اربع .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن قال ابن عقيل من عجيب ما سمعته عن هؤلاء الأحداث الجُهَّال أنهم يقولون أحمد ليس بفقيه لكنه محدث قال وهذا غاية الجهل لأن له اختيارات بناها على الأحاديث بناء لا يعرفه أكثرهم وربما زاد على كبارهم .
قال الذهبي تعليقاً على هذا : قلت احسبهم يظنونه كان محدثا وبس بل يتخيلونه من بابه محدثي زماننا ووالله لقد بلغ في الفقه خاصة رتبة الليث ومالك والشافعي وأبي يوسف وفي الزهد والورع رتبة الفضل وابراهيم بن ادهم وفي الحفظ رتبة شعبة ويحيى القطان وابن المديني ولكن الجاهل لا يعلم رتبة نفسه فكيف يعرف رتبة غيره .
(6) عمل أحمد بن حنبل بالعلم :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن المروذي قال : قال لي أحمد ما كتبت حديثا إلا وقد عملت به حتى مر بي أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وأعطى أبا طيبة دينارا فأعطيت الحجام دينارا حين احتجمت .(3/351)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم في الحلية عن إبراهيم بن هاني: اختفى عندي أحمد بن حنبل ثلاثة أيام ثم قال: اطلب لي موضعاً حتى أتحول إليه. قلت: لا آمن عليك يا أبا عبد الله، قال: إذا فعلت أفدتك، فطلبت له موضعاً فلما خرج قال لي: اختفى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار ثلاثة أيام، ثم تحول، وليس ينبغي أن نتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرخاء ونتركه في الشدة.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن وقال صالح كان أبي إذا دعا له رجل قال ليس يحرز الرجل المؤمن إلا حفرته الأعمال بخواتيمها وقال أبي في مرضه أخرج كتاب عبد الله بن إدريس فقال اقرأ علي حديث ليث أن طاووسا كان يكره الأنين في المرض فما سمعت لأبي حتى مات وسمعه ابنه عبد الله يقول تمنيت الموت وهذا أمر أشد علي من ذلك ذاك فتنة الضرب والحبس كنت أحمله وهذه فتنة الدنيا .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن صالح بن أحمد قال مضيت مع أبي يوم جمعة إلى الجامع فوافقنا الناس قد انصرفوا فدخل إلى المسجد وكان معنا إبراهيم بن هانئ فتقدم أبي فصلى بنا الظهر أربعا وقال قد فعله ابن مسعود بعلقمة والأسود وكان أبي إذا دخل مقبرة خلع نعليه وأمسكهما بيده .
(7) حرص أحمد بن حنبل على نشر العلم :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن ابن الجوزي قال : كان الإمام لا يرى وضع الكتب وينهي عن كتبة كلامه ومسائله ولو رأى ذلك لكانت له تصانيف كثيرة وصنف المسند وهو ثلاثون ألف حديث وكان يقول لابنه عبد الله : احتفظ بهذا المسند فإنه سيكون للناس إماما ، والتفسير وهو مئة وعشرون ألفا والناسخ والمنسوخ والتاريخ وحديث شعبة والمقدم والمؤخر في القرآن وجوابات القرآن والمناسك الكبير والصغير وأشياء أخر .(3/352)
قال الذهبي تعليقاً على هذا : قلت وكتاب الأيمان وكتاب الأشربة ورأيت له ورقة من كتاب الفرائض فتفسيره المذكور شيء لا وجود له ولو وجد لاجتهد الفضلاء في تحصيله ولاشتهر ثم لو ألف تفسيرا لما كان يكون أزيد من عشرة آلاف اثر ولاقتضى أن يكون في خمس مجلدات فهذا تفسير ابن جرير الذي جمع فيه فأوعى لا يبلغ عشرين ألفا وما ذكر تفسير أحمد أحد سوى أبي الحسين بن المنادي فقال في تاريخه لم يكن أحد أروى في الدنيا عن أبيه من عبد الله بن أحمد لأنه سمع منه المسند وهو ثلاثون ألفا والتفسير وهو مئة وعشرون ألفا سمع ثلثيه والباقي وجادة .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن حنبل قال : جمعنا أحمد بن حنبل أنا وصالح وعبد الله وقرأ علينا المسند ما سمعه غيرنا وقال هذا الكتاب جمعته وانتقيته من أكثر من سبع مئة ألف وخمسين ألفا فما اختلف المسلمون فيه من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فارجعوا اليه فإن وجدتموه فيه وإلا فليس بحجة .
قال الذهبي تعليقاً على هذا : قلت في الصحيحين احاديث قليلة ليست في المسند لكن قد يقال لا ترد على قوله فان المسلمين ما اختلفوا فيها ثم ما يلزم من هذا القول ان ما وجد فيه ان يكون حجة ففيه جملة من الاحاديث الضعيفة مما يسوغ نقلها ولا يجب الاحتجاج بها وفيه احاديث معدودة شبه موضوعة ولكنها قطرة في بحر وفي غضون المسند زيادات جمة لعبد الله بن أحمد .
مصنفات أحمد بن حنبل رحمه الله :(3/353)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن ابن الجوزي قال : وله ـ يعني أبا عبد الله ـ من المصنفات كتاب نفي التشبيه مجلدة وكتاب الامامة مجلدة صغيرة وكتاب الرد على الزنادقة ثلاثة اجزاء وكتاب الزهد مجلدة كبير وكتاب الرسالة في الصلاة قلت هو موضوع على الإمام قال وكتاب فضائل الصحابة مجلدة قلت فيه زيادات لعبد الله ابنه ولأبي بكر القطيعي صاحبه وقد دون عنه كبار تلامذته مسائل وافرة في عدة مجلدات كالمروذي والأثرم وحرب وابن هانئ والكوسج وأبي طالب وفوران وبدر المغازلي وأبي يحيى الناقد ويوسف بن موسى الحربي وعبدوس العطار ومحمد بن موسى بن مشيش ويعقوب بن بختان ومهني الشامي وصالح بن أحمد وأخيه وابن عمهما حنبل وأبي الحارث أحمد بن محمد الصائغ والفضل بن زياد وأبي الحسن الميموني والحسن بن ثواب وأبي السجستاني وهارون الحمال والقاضي أحمد بن محمد البرتي وأيوب بن إسحاق بن سافري وهارون المستملي وبشر بن موسى وأحمد بن القاسم صاحب أبي عبيد ويعقوب بن العباس الهاشمي وحبيش بن سندي وأبي الصقر يحيى بن يزداد الوراق وأبي جعفر محمد بن يحيى الكحال ومحمد بن حبيب البزاز ومحمد بن موسى النهرتيري ومحمد بن أحمد بن واصل المقريء وأحمد بن اصرم المزني وعبدوس الحربي قديم عنده عن أحمد نحو من عشرة الاف مسالة لم يحدث بها وإبراهيم الحربي وأبي جعفر محمد بن الحسن بن هارون بن بدينا وجعفر بن محمد بن الهذيل الكوفي وكان يشبهونه في الجلالة بمحمد بن عبد الله بن نمير وأبي شيبة إبراهيم بن أبي بكر بن أبي شيبة ومحمد بن عبد الله مطين وجعفر بن أحمد الواسطي والحسن بن علي الإسكافي والحسن بن علي بن بحر بن بري القطان والحسين بن إسحاق التستري والحسن بن محمد بن الحارث السجستاني قال الخلال يقرب من أبي داود في المعرفة وبصر الحديث والتفقه وإسماعيل بن عمر السجزي الحافظ وأحمد بن الفرات الرازي الحافظ وخلق سوى هؤلاء سماهم الخلال في أصحاب أبي عبد(3/354)
الله نقلوا المسائل الكثيرة والقليلة وجمع أبو بكر الخلال سائر ما عند هؤلاء من أقوال أحمد وفتاويه وكلامه في العلل والرجال والسنة والفروع حتى حصل عنده من ذلك مالا يوصف كثرة ورحل إلى النواحي في تحصيله وكتب عن نحو من مئه نفس من أصحاب الإمام ثم كتب كثيرا من ذلك عن أصحاب أصحابه وبعضه عن رجل عن آخر عن الإمام أحمد ثم أخذ في ترتيب ذلك وتهذيبه وتبويبه وعمل كتاب العلم وكتاب العلل وكتاب السنة كل واحد من الثلاثة في ثلاث مجلدات ويروي في غضون ذلك من الأحاديث العالية عنده عن أقران أحمد من أصحاب ابن عيينة ووكيع وبقية ما يشهد له بالامامة والتقدم وألف كتاب الجامع في بضعة عشر مجلدة أو أكثر وقد قال في كتاب أخلاق أحمد بن حنبل لم يكن أحد علمت عنى بمسائل أبي عبد الله قط ما عنيت بها أنا وكذلك كان أبو بكر المروذي رحمه الله يقول لي أنه لم يعن أحد بمسائل أبي عبد الله ما عنيت بها أنت إلا رجل بمهدان يقال له متويه واسمه محمد بن أبي عبد الله جمع سبعين جزءا كبارا ومولد الخلال كان في حياة الإمام أحمد يمكن أن يكون رآه وهو صبي .
(8) توقير أحمد بن حنبل لأصحاب الحديث :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن موسى بن هارون قال : سئل أحمد أين نطلب البدلاء فسكت ثم قال إن لم يكن من أصحاب الحديث فلا أدري .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن محمد بن إسماعيل الترمذي قال : كنت أنا وأحمد بن الحسن الترمذي عند أحمد بن حنبل فقال له أحمد يا أبا عبد الله ذكروا لابن أبي قتيلة بمكه أصحاب الحديث فقال أصحاب الحديث قوم سوء فقام أبو عبدالله ينفض ثوبه ويقول زنديق زنديق ودخل البيت .
(9) منابذة أحمد بن حنبل لأهل الأهواء :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ(3/355)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أحمد بن شهاب الاسفراييني قال : سمعت أحمد بن حنبل وسئل عمن نكتب في طريقنا فقال عليكم بهناد وبسفيان بن وكيع وبمكة ابن أبي عمر وإياكم أن تكتبوا يعني عن أحد من أصحاب الأهواء قليلا ولا كثيرا عليكم بأصحاب الآثار والسنن .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن البغوي قال :سمعت أحمد يقول من قال القرآن مخلوق فهو كافر .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن صالح قال : سمعت أبي يقول الجهمية ثلاث فرق فرقة قلت القرآن مخلوق وفرقة قالوا كلام الله وسكتوا وفرقة قالوا لفظنا به مخلوق ثم قال أبي لا يصلي خلف واقفي ولا لفظي .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أحمد بن زنجويه قال : سمعت أحمد يقول اللفظية شر من الجهمية .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن المروذي قال : أخبرت أبا عبد الله أن أبا شعيب السوسي الرقي فَرَّقَ بين ابنته وزوجها لما وقف في القرآن فقال أحسن ،عافاه الله وجعل يدعو له .(3/356)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن المروذي قال : ولما أظهر يعقوب بن شيبة الوقف حذر عنه أبو عبد الله وأمر بهجرانه ، لأبي عبد الله في مسألة اللفظ نقول : فأول من أظهر مسألة اللفظ حسين بن علي الكرابيسي وكان من أوعية العلم ووضع كتابا في المدلسين يحط على جماعة فيه أن ابن الزبير من الخوارج وفيه أحاديث يقوي به الرافضة فأعلم أحمد فحذر منه فبلغ الكرابيسي فتنمر وقال لأقولن مقالة حتى يقول ابن حنبل بخلافها فيكفر فقال لفظي بالقرآن مخلوق فقال المروذي في كتاب القصص فذكرت ذلك لأبي عبد الله أن الكرابيسي قال لفظي بالقرآن مخلوق وأنه قال أقول إن القرآن كلام الله غير مخلوق من كل الجهات الا أن لفظي به مخلوق ومن لم يقل لفظي بالقرآن مخلوق فهو كافر فقال أبو عبد الله : بل هو الكافر قاتله الله وأي شيء قالت الجمهية إلا هذا وما ينفعه وقد نقض كلامه الأخير كلامه الأول ثم قال إيش خبر أبي ثور أوافقه على هذا قلت قد هجره قال أحسن لن يفلح أصحاب الكلام .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عبد الله بن أحمد قال : سئل أبي وانا اسمع عن اللفظية والواقفة فقال من كان منهم يحسن الكلام فهو جهمي .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أحمد الدورقي قال : قلت لأحمد بن حنبل ما تقول في هؤلاء الذين يقولون لفظي بالقرآن مخلوق ؟ فرأيته استوى واجتمع وقال هذا شر من قول الجهمية من زعم هذا فقد زعم أن جبريل تكلم بمخلوق وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بمخلوق .(3/357)
قال الذهبي تعليقاً على هذا : فقد كان هذا الإمام لا يرى الخوض في هذا البحث خوفا من أن يتذرع به إلى القول بخلق القرآن والكف عن هذا أولى آمنا بالله تعالى وبملائكته وبكتبه ورسله وأقداره والبعث والعرض على الله يوم الدين ولو بسط هذا السطر وحرر فيها بأدلته لجاء في خمس مجلدات بل ذلك موجود مشروح لمن رامه والقرن فيه شفاء ورحمة للمؤمنين ومعلوم أن التلفظ شيء من كسب القارئ غير الملفوظ والقراءة غير الشيء المقروء والتلاوة وحسنها وتجويدها غير المتلو وصوت القارئ من كسبه فهو يحدث التلفظ والصوت والحركة والنطق وإخراج الكلمات من أدواته المخلوقة ولم يحدث كلمات القرآن ولا ترتيبه ولا تأليفه ولا معانيه فلقد أحسن الإمام أبو عبد الله حيث منع من الخوض في المسألة من الطرفين إذ كل واحد من إطلاق الخلقية وعدمها على اللفظ موهم ولم يات به كتاب ولا سنة بل الذي لا نرتاب فيه أن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق والله أعلم .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن صالح بن أحمد قال : سمعت أبي يقول من زعم أن أسماء الله مخلوقة فقد كفر .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن المروذي قال : سمعت أبا عبد الله يقول من تعاطى الكلام لا يفلح من تعاطي الكلام لم يخل من أن يتجهم .(3/358)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أبي مزاحم الخاقاني قال : قال لي عمي عبد الرحمن بن يحيى بن خاقان أمر المتوكل بمسألة أحمد عمن يقلد القضاء فسألت عمي أن يخرج إلي جوابه فوجه إلي نسخته : بسم الله الرحمن الرحيم نسخة الرقعة التي عرضتها على أحمد بن محمد بن حنبل بعد أن سألته فأجابني بما قد كتبته سألته عن أحمد بن رباح فقال فيه جهمي معروف وأنه إن قلد شيئا من أمور المسلمين كان فيه ضرر عليهم وسألته عن الخلنجي فقال فيه كذلك وسألته عن شعيب بن سهل فقال جهمي معروف بذلك وسألته عن عبيد الله بن أحمد فقال كذلك وسألته عن المعروف بأبي شعيب فقال كذلك وسألته عن محمد بن منصور قاضي الأهواز فقال كان مع ابن أبي دواد وفي ناحيته وأعماله إلا أنه كان من أمثلهم وسألته عن علي بن الجعد فقال كان معروفا بالتجهم ثم بلغني أنه رجع وسألته عن الفتح بن سهل فقال جهمي من أصحاب المريسي وسألته عن الثلجي فقال مبتدع صاحب هوى وسألته عن إبراهيم بن عتاب فقال لا أعرفه إلا أنه كان من أصحاب بشر المريسي ، وفي الجملة إن أهل البدع والأهواء لا ينبغي أن يستعان بهم في شيء من أمور المسلمين مع ما عليه رأي أمير المؤمنين أطال الله بقاءه من التمسك بالسنة والمخالفة لأهل البدع .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن حنبل قال : سمعت أبا عبد الله يقول من أحب الكلام لم يفلح لأنه يؤول أمرهم إلى حيرة ، عليكم بالسنة والحديث وإياكم والخوض في الجدال والمراء أدركنا الناس وما يعرفون هذا الكلام عاقبة الكلام لا تؤول إلى خير .(3/359)
[*] قال الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء : وللإمام أحمد كلام كثير في التحذير من البدع وأهلها وأقوال في السنة ومن نظر في كتاب السنة لأبي بكر الخلال رأى فيه علما غزيرا ونقلا كثيرا وقد أوردت من ذلك جملة في ترجمة أبي عبد الله في تاريخ الإسلام وفي كتاب العزة للعلي العظيم فترني عن إعادته هنا عدم النية فنسأل الله الهدي وحسن القصد وإلى الامام أحمد المنتهى في معرفة السنة علما وعملا وفي معرفة الحديث وفنونه ومعرفة الفقه وفروعه وكان رأسا في الزهد والورع والعبادة والصدق .
(10) استعفاف أحمد بن حنبل وغنى نفسه رحمه الله :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن إسحاق بن راهويه يقول: لما خرج أحمد بن حنبل إلى عبد الرزاق انقصت به النفقة، فأكرى نفسه من بعض الحمالين إلى أن وافى صنعاء، وقد كان أصحابه عرضوا عليه المواساة فلم يقبل من أحد شيئاً.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عبد الرزاق يقول: قدم علينا أحمد بن حنبل ها هنا فقام سنتين إلا شيئاً فقلت له: يا أبا عبد الله خذ هذا الشيء فانتفع به فإن أرضنا ليس بأرض متجر ولا مكسب، وأرانا عبد الرزاق كفه ومدها فيها دنانير. قال أحمد: أنا بخير ولم يقبل مني.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أحمد بن سليمان الواسطي يقول: بلغني أن أحمد بن حنبل رهن نعله عند خباز على طعام أخذه منه عند خروجه من اليمن وأكرى نفسه من ناس من الحمالين عند خروجه وعرض عليه عبد الرزاق دراهم صالحة فله يقبلها منه.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: حج أبي خمس حجج ماشياً واثنتين راكباً وأنفق في بعض حجاته عشرين درهماً.(3/360)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن محمد بن موسى بن حماد اليزيدي قال: حمل إلى الحسن ابن عبد العزيز الجروي ميراثه من مصر مائة ألف دينار، فحمل إلى أحمد بن حنبل ثلاثة أكياس، في كل كيس ألف دينار فقال: يا أبا عبد الله هذه من ميراث حلال فخذها واستعن بها على عيلتك. قال: لا حاجة لي بها أنا في كفاية فردها ولم يقبل منها شيئاً.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن حمدان بن سنان الواسطي: قدم علينا أحمد بن حنبل ومعه جماعة، قال: فنفدت نفقاتهم فأخذوا. قال وجاء أحمد بن حنبل بفروة فقال: قل لمن يبيع هذه ويجيئني بثمنها فأتسع به، قال: فأخذت صرة دراهم فمضيت بها إليه فردها، فقالت امرأتي: هذا رجل صالح لعله لم يرضها فأضعفها. قال: فأضعفتها فلم يقبل فأخذ الفروة مني وخرج.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أحمد ابن محمد التستري يقول: ذكروا أنه مر عليه ـ يعني أحمد بن حنبل ـ ثلاثة أيام ما كان طعم فيها، فبعث إلى صديق له فاستقرض شيئاً من الحقيق فعرفوا في البيت شدة حاجته إلى الطعام، فخبزوا بالعجلة، فلما وضع بين يديه قال: كيف عملتم ؟ خبزتم بسرعة هذا ؟ فقيل له: كان التنور في دار صالح ـ ابنه ـ مسجراً وخبزنا بالعجلة. فقال: ارفعوا ولم يأكل، فأمر بسد بابه إلى دار صالح.(3/361)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن علي بن الجهم بن بدر قال: كان لنا جار فأخرج إلينا كتاباً فقال: أتعرفون هذا الخط ؟ قلنا: نعم، هذا خط أحمد بن حنبل. فقلنا له: كيف كتب ذلك ؟ قال: كنا بمكة مقيمين عند سفيان بن عيينة فقصدنا أحمد بن حنبل أياماً فلم نره، ثم جئنا إليه لنسأل عنه فقال لنا أهل الدار التي هو فيها. هو في ذلك البيت، فجئنا إليه والباب مردود عليه، وإذا عليه خلقان. فقلنا له: يا أبا عبد الله ما خبرك لم نرك منذ أيام ؟ فقال: سرقت ثيابي. فقلت: له معي دنانير، فإن شئت خذ قرضاً، وإن شئت صلة. فأبى أن يفعل، فقلت: تكتب لي بأخذه ؟ قال: نعم، فأخرجت ديناراً فأبى أن يأخذه وقال: اشتر لي ثوباً واقطعه بنصفين، فأومئ أنه يأتزر بنصف ويرتدي بالنصف الآخر. وقال: جئني ببقيته، ففعلت وجئت بورق وكاغد فكتب لي فهذا خطه.(3/362)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن صالح بن أحمد بن حنبل قال: دخلت علي أبي في أيام الواثق ـ والله يعلم في أي حالة نحن ـ وقد خرج لصلاة العصر، وقد كان له لبد يجلس عليها، قد أتت عليه سنون كثيرة، حتى قد بلي، فإذا تحته كتاب كاغد، وإذا فيه بلغني يا أبا عبد الله ما أنت فيه من الضيق وما عليك من الدين، وقد وجهت إليك بأربعة آلاف درهم على يدي فلان لتقضي بها دينك وتوسع بها على عيالك، وما هي من صدقة ولا زكاة، وإنما هو شيء ورثته من أبي . فقرأت الكتاب ووضعته فلما دخل قلت: يا أبت ما هذا الكتاب. فاحمر وجهه وقال: رفعته منك، ثم قال: تذهب بجوابه، فكتب إلى الرجل: وصل كتابك إلي ونحن في عافية، فأما الدين فإنه لرجل لا يرهقنا وأما عيالنا فهم في نعمة والحمد لله. فذهبت بالكتاب إلى الرجل الذي كان أوصل كتاب الرجل، فقال: ويحك لو أن أبا عبد الله قبل هذا الشيء ورمى به مثلا في الدجلة كان مأجوراً، لأن هذا رجل لا يعرف له معروف، فلما كان بعد حين ورد كتاب الرجل بمثل ذلك، فرد عليه الجواب بمثل ما رد، فلما مضت سنة أو أقل أو أكثر ذكرناها فقال: لو كنا قبلناها كانت قد ذهبت.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الرمادي قال : سمعت عبد الرزاق وذكر أحمد بن حنبل فدمعت عيناه فقال بلغني أن نفقته نفدت فأخذت بيده فأقمته خلف الباب وما معنا أحد فقلت له انه لا تجتمع عندنا الدنانير إذا بعنا الغلة اشغلناها في شيء وقد وجدت عند النساء عشرة دنانير فخذها وأرجو أن لا تنفقها حتى يتهيأ شيء فقال لي يا أبا بكر لو قبلت من أحد شيئا قبلت منك .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عبد الله قال : قلت لأبي بلغني أن عبد الرزاق عرض عليك دنانير قال نعم وأعطاني يزيد بن هارون خمس مئة درهم أظن فلم أقبل وأعطى يحيى بن معين وأبا مسلم فأخذا منه .(3/363)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن صالح بن أحمد قال : شهدت ابن الجروي وقد جاء بعد المغرب فقال لأبي أنا رجل مشهور وقد أتيتك في هذا الوقت وعندي شيء قد اعتدته لك وهو ميراث فأحب أن تقبله فلم يزل به فلما أكثر عليه قام ودخل قال صالح فأخبرت عن ابن الجروي انه قال قلت له يا أبا عبد الله هي ثلاثة آلاف دينار فقام وتركني .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أحمد بن سنان قال بلغني أن أحمد ابن حنبل رهن نعله عند خباز باليمن وأكرى نفسه من جمالين عند خروجه وعرض عليه عبد الرزاق دراهم صالحة فلم يقبلها وبعث ابن طاهر حين مات أحمد بأكفان وحنوط فأبى صالح أن وقال إن أبي قد اعد كفنه وحنوطه ورده فراجعه فقال إن أمير المؤمنين أعفى أبا عبد الله مما يكره وهذا مما يكره فلست أقبله .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن صالح قال قلت لأبي إن أحمد الدورقي أعطى ألف دينار فقال يا بني ( وَرِزْقُ رَبّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَىَ ) [ طه : 131] .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن ادريس الحداد قال كان أحمد ابن حنبل إذا ضاق به الأمر آجرنفسه من الحاكه فسوى لهم فلما كان أيام المحنة وَصُرِفَ إلى بيته حُمِلَ إليه مال فرده وهو محتاج إلى رغيف فجعل عمه إسحاق يحسب ما يرد فإذا هو نحو خمس مئه ألف قال فقال يا عم لو طلبناه لم يأتنا وإنما أتانا لما تركناه .
(11) اجتهاد أحمد بن حنبل في العبادة رحمه الله :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: كان أبي يصلي في كل يوم وليلة ثلاثمائة ركعة، فلما مرض من تلك الأسواط أضعفته، فكان يصلي في كل يوم وليلة مائة وخمسين ركعة، وكان قرب الثمانين.(3/364)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عبد الله بن أحمد قال: كان أبي يقرأ في كل يوم سُبْعًاً يختم في كل سبعة أيام، وكانت له ختمة في كل سبع ليال، سوى صلاة النهار، وكان ساعة يصلي عشاء الآخرة ينام نومة خفيفة ثم يقوم إلى الصباح يصلي ويدعو.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن المروذي قال : رأيت أبا عبد الله يقوم لِوِرْدِهِ قريباً من نصف الليل حتى يقارب السحر ورأيته يركع فيما بين المغرب والعشاء .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عاصم بن عصام البيهقي قال : بت ليلة عند أحمد بن حنبل فجاء بماء فوضعه فلما أصبح نظر إلى الماء بحاله فقال سبحان الله رجل يطلب العلم لا يكون له وردٌ في بالليل .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عبد الله ربما سمعت أبي في السحر يدعو لأقوام بأسمائهم وكان يكثر الدعاء ويخفيه ويصلي بين العشاءين فإذا صلى عشاء الآخرة ركع ركعات صالحة ثم يوتر وينام نومة خفيفة ثم يقوم فيصلي وكانت قراءته لينة ربما لم أفهم بعضها وكان يصوم ويدمن ثم يفطر ما شاء الله ولا يترك صوم الاثنين والخميس وأيام البيض فلما رجع من العسكر أدمن الصوم إلى أن مات .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن إبراهيم بن شماس قال كنت أعرف أحمد بن حنبل وهو غلام وهو يحيى الليل .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عبد الله بن أحمد خرج أبي إلى طرسوس ماشيا وحج حجتين أو ثلاثا ماشيا وكان أصبر الناس على الوحدة وبشر لم يكن يصبر على الوحدة كان يخرج إلى ذا وإلى ذا .
(12) ورع أحمد بن حنبل رحمه الله :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ(3/365)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن ابن محمد بن يعقوب يقول: جاءه يوماً رسول من داره ـ يعني أحمد بن حنبل ـ يذكر له أن أبا عبد الرحمن عليل واشتهى الزبد، فناول رجلا من أصحابه قطعة وقال: اشتر له بها زبداً، فجاء به على ورق سلق، فلما أن نظر إليه قال: من أين هذا الورق ؟ قال: أخذته من عند البقال. فقال: استأذنته في ذلك. قال: لا قال: رده.
(13) تواضع أحمد بن حنبل رحمه الله :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن يحيى بن معين يقول: ما رأيت مثل أحمد ابن حنبل، صحبناه خمسين سنة ما افتخر علينا بشيء مما كان فيه من الصلاح والخير.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عبد الله بن أحمد بن حنبل: حضرت أبي الوفاة لجلست عنده وبيدي الخرقة وهو في النزع لأشد لحييه، فكان يغرف حتى نظن أن قد قضي، ثم يفيق ويقول: لا بعد لا بعد بيده، ففعل ها مرة وثانية، فلما كان في الثالثة قلت له: يا أبت إيش هذا الذي قد لهجت به في هذا الوقت ؟ فقال لي: يا بني ما تدرس ؟ فقلت: لا فقال: إبليس لعنه الله، قام بحذائي عاضاً علي أنامله يقول: يا أحمد فُتَّنِّي وأنا أقول: لا بعد. حتى أموت.(3/366)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن العباس بن محمد الدوري حدثني علي بن أبي حرارة ـ جار لنا ـ قال: كانت أمي مقعدة نحو عشرين سنة فقالت لي يوماً: اذهب إلى أحمد بن حنبل فاسأله أن يدعو الله لي. فسرت إليه فدققت عليه الباب وهو في دهليزه فلم يفتح لي وقال: من هذا ؟ فقلت: أنا رجل من أهل ذاك الجانب سألتني أمي وهي زمنة مقعدة أن أسألك أن تدعو الله لها، فسمعت كلامه كلام رجل مغضب فقال: نحن أحوج إلى أن تدعو الله لنا. فوليت منصرفاً فخرجت امرأة عجوز من داره فقالت: أنت الذي كلمت أبا عبد الله قلت: نعم قالت: قد تركته يدعو الله لها. قال فجئت من فوري إلى البيت فدققت الباب فخرجت أمي على رجليها تمشي حتى فتحت الباب فقالت: قد وهب الله لي العافية.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن المروذي قال : قلت لأبي عبد الله ما أكثر الداعي لك قال أخاف أن يكون هذا استدراجا بأي شيء هذا وقلت له قدم رجل من طرسوس فقال كنا في بلاد الروم في الغزو إذا هدأ الليل رفعوا أصواتهم بالدعاء ادعوا لأبي عبد الله وكنا نمد المنجنيق ونرمي عن أبي عبد الله ولقد رمي عنه بحجر والعلج على الحصن متترس بدرقه فذهب برأسه وبالدرقة قال فتغير وجه أبي عبد الله وقال ليته لا يكون استدراجا قلت كلا .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن المروذي قال : رأيت طبيبا نصرانيا خرج من عند أحمد ومعه راهب فقال إنه سألني أن يجيء معي ليرى أبا عبد الله وأدخلت نصرانيا على أبي عبد الله فقال له إني لأشتهي أن أراك منذ سنين ما بقاؤك صلاح للإسلام وحدهم بل للخلق جميعا وليس من أصحابنا أحد إلا وقد رضي بك فقلت لأبي عبد الله إني لأرجو أن يكون يدعى لك في جميع الأمصار فقال يا أبا بكر إذا عرف الرجل نفسه فما ينفعه كلام الناس .(3/367)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن يحيى بن معين ما رأيت مثل أحمد صحبناه خمسين سنة ما افتخر علينا بشيء مما كان فيه من الخير .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الميموني قال :كثيرا ما كنت اسأل أبا عبد الله عن الشيء فيقول لبيك لبيك .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن المروذي قال لم أر الفقير في مجلس أعز منه في مجلس أحمد كان مائلا إليهم مقصرا عن أهل الدنيا وكان فيه حلم ولم يكن بالعجول وكان كثير التواضع تعلوه السكينة والوقار وإذا جلس في مجلسه بعد العصر للفتيا لا يتكلم حتى يسأل وإذا خرج إلى مسجده لم يتصدر .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن محمد بن موسى قال رأيت أبا عبد الله وقد قال له خراساني الحمد لله الذي رأيتك قال اقعد أي شيء ذا من أنا .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن رجل قال : رأيت أثر الغم في وجه أبي عبد الله وقد أثنى عليه شخص وقيل له جزاك الله عن الإسلام خيرا قال بل جزى الله الإسلام عني خيرا من أنا وما أنا .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن علي بن عبد الصمد الطيالسي قال مسحت يدي على أحمد بن حنبل وهو ينظر فغضب وجعل ينفض يده ويقول عمن أخذتم هذا .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن خطاب بن بشر قال : سألت أحمد بن حنبل عن شيء من الورع فتبين الاغتمام عليه ازدراء على نفسه .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن المروذي قال : سمعت أبا عبد الله ذكر أخلاق الورعين فقال اسأل الله أن لا يمقتنا أين نحن من هؤلاء .(3/368)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن المروذي قال : أَدْخَلْتُ إبراهيم الحصري على أبي عبد الله وكان رجلاً صالحاً فقال : إن أمي رأت لك مناما هو كذا وكذا وذكرت الجنة فقال : يا أخي إن سهل بن سلامة كان الناس يخبرونه بمثل هذا وخرج إلى سفك الدماء وقال الرؤيا تسر المؤمن ولا تغره .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أحمد بن الحسن الترمذي قال رأيت أبا عبد الله يشتري الخبز من السوق ويحمله في الزنبيل ورأيته يشتري الباقلاء غير مرة ويجعله في خرقة فيحمله آخذا بيد عبد الله ابنه .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن المروذي قال : قلت لأبي عبد الله قال لي رجل من هنا إلى بلاد الترك يدعون لك فكيف تؤدي شكر ما أنعم الله عليك وما بث لك في الناس فقال أسأل الله أن لا يجعلنا مرائين .
(14) إيثار أحمد بن حنبل للوحدة عن فضول المخالطة :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
كان أحمد بن حنبل يؤثر الوحدة، هروبا من الشهرة، وتحصيلا للمعرفة، وتجنبا للقيل والقال، فهو يرى الخلوة أروح لقلبه؛ تذكره بربه ودونك بعض الآثار الدالة على ذلك :
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عبد الله بن أحمد بن حنبل يقول: كنت جالساً عند أبي رحمه الله يوماً فنظر إلى رجلي وهما لَيِّنَتَان ليس فيها شقاق، فقال لي: ما هذان الرجلان، لم لا تمشي حافياً حتى تصير رجلين خشنين قال عبد الله: وخرج إلى طرسوس ماشياً على قدميه، قال عبد الله: وكان أبي أصبر الناس على الوحدة، لم يره أحد إلا في مسجد أو حضور جنازة أو عيادة مريض، وكان يكره المشي في الأسواق.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عبد الله بن أحمد خرج أبي إلى طرسوس ماشيا وحج حجتين أو ثلاثا ماشيا وكان أصبر الناس على الوحدة وبشر لم يكن يصبر على الوحدة كان يخرج إلى ذا وإلى ذا .(3/369)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن المروذي وذكر لأحمد أن رجلا يريد لقاءه فقال أليس قد كره بعضهم اللقاء يتزين لي وأتزين له لقد استرحت ما جاءني الفرج إلا منذ حلفت أن لا أُحَدِث وليتنا نترك الطريق ما كان عليه بشر بن الحارث فقلت له إن فلانا قال لم يزهد أبو عبد الله في الدراهم وحدها قال زهد في الناس فقال ومن أنا حتى أزهد في الناس ، الناس يريدون أن يزهدوا في ، وسمعته يكره للرجل النوم بعد العصر يفاف على عقله وقال لا يفلح من تعاطي الكلام ولا يخلو من أن يتجهم وسئل عن القراءة بالألحان فقال هذه بدعة لا تسمع .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن ابراهيم الحربي قال : كان أحمد يجيب في العرس والختان ويأكل وذكر غيره أن أحمد ربما استعفى من الإجابة وكان إن رأى إناء فضة أو منكرا خرج وكان يحب الخمول والانزواء عن الناس ويعود المريض وكان يكره المشي في الأسواق ويؤثر الوحدة .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن فتح بن نوح قال : سمعت أحمد بن حنبل يقول اشتهي مالا يكون أشتهي مكانا لا يكون فيه أحد من الناس .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الميموني قال : قال أحمد رأيت الخلوة أروح لقلبي .
(15) إيثار أحمد بن حنبل للخمول وإنكار الذات :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عبيد القاري قال دخل على أحمد عمه فقال يا ابن أخي إيش هذا الغم وإيش هذا الحزن فرفع رأسه وقال يا عم طوبي لمن أخمل الله ذكره .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن المروذي قال لي أحمد قل لعبد الوهاب أخمل ذكرك فإني أنا قد بليت بالشهرة .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن محمد بن الحسن بن هارون قال : رأيت أبا عبد الله إذا مشى في الطريق يكره أن يتبعه أحد .(3/370)
قال الذهبي تعليقاً على هذا : قلت إيثار الخمول والتواضع وكثرة الوجل من علامات التقوى والفلاح .
(16) ذم أحمد بن حنبل للمدح رحمه الله :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن المروذي قال : قلت لأبي عبد الله الرجل يقال في وجهه أحببت السنة قال هذا فساد لقلبه .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن محمد بن موسى قال رأيت أبا عبد الله وقد قال له خراساني الحمد لله الذي رأيتك قال اقعد أي شيء ذا من أنا .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن رجل قال : رأيت أثر الغم في وجه أبي عبد الله وقد أثنى عليه شخص وقيل له جزاك الله عن الإسلام خيرا قال بل جزى الله الإسلام عني خيرا من أنا وما أنا .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن علي بن عبد الصمد الطيالسي قال مسحت يدي على أحمد بن حنبل وهو ينظر فغضب وجعل ينفض يده ويقول عمن أخذتم هذا .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن صالح بن أحمد قال : كان أبي إذا دعا له رجل يقول الأعمال بخواتيمها .
(17) رفض أحمد بن حنبل تولي القضاء :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الأثرم قال : أخبرت أن الشافعي قال لأبي عبد الله إن أمير المؤمنين يعني محمدا سألني أن التمس له قاضيا لليمن وأنت تحب الخروج إلى عبد الرزاق فقد نلت حاجتك وتقضي بالحق فقال للشافعي : يا أبا عبد الله إن سمعت هذا منك ثانية لم ترني عندك فظننت انه كان لأبي عبد الله ثلاثين سنة أو سبعا وعشرين .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الشافعي أنه كان كثيرا عند محمد بن زبيدة يعني الأمين فذكروا له محمد يوما اغتمامه برجل يصلح للقضاء صاحب سنة قال قد وجدت قال ومن هو ؟ فذكر أحمد بن حنبل قال فلقيه أحمد فقال أخمل هذا واعفني وإلا خرجت من البلد .(3/371)
(18) خشية أحمد بن حنبل رحمه الله :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن المروذي قال : قلت لأحمد أكان أغمي عليك أو غشي عليك عند ابن عيينة قال نعم في دهليزه زحمني الناس فأغمي علي وروي أن سفيان قال يومئذ كيف أحدث وقد مات خير الناس .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن المروذي قال :كان أبو عبد الله إذا ذكر الموت خنقته العبرة وكان يقول الخوف يمنعني أكل الطعام والشراب وإذا ذكرت الموت هان علي كل أمر الدنيا ، إنما هو طعام دون طعام ولباس دون لباس وإنها أيام قلائل ما أعدل بالفقر شيئا ولو وجدت السبيل لخرجت حتى لا يكون لي ذكر ، وقال أريد أن أكون في شعب بمكة حتى لا اعرف قد بليت بالشهرة إني أتمنى الموت صباحا ومساء .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عبد الله بن أحمد قال : سمعت أبي يقول وددت أني نجوت من هذا الأمر كفانا لا علي ولا لي .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن المروذي قال : بال أبو عبد الله في مرض الموت دماً عبيطاً فأريته الطبيب فقال هذا رجل قد فتت الغم أو الخوف جوفه .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن المروذي قال قلت لأحمد كيف أصبحت ؟ قال كيف أصبح من ربه يطالبه بأداء الفرائض ونبيه يطالبه بأداء السنة والملكان يطالبانه بتصحيح العمل ونفسه تطالبه بهواها وإبليس يطالبه بالفحشاء وملك الموت يراقب قبض روحه وعياله يطالبونه بالنفقة .
(19) حُسْنُ أدب أحمد بن حنبل وسَمْتِه رحمه الله :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الحسين بن إسماعيل عن أبيه قال كان يجتمع في مجلس أحمد زهاء خمسة آلاف أو يزيدون نحو خمس مئة يكتبون والباقون يتعلمون منه حسن الأدب والسمت .(3/372)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أبي بكر بن المطوعي قال : اختلفت إلى أبي عبد الله ثنتي عشرة سنة وهو يقرأ المسند على أولاده فما كتبت عنه حديثاً واحدا إنما كنت أنظر إلى هديه واخلاقه .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن حميد بن عبدالرحمن الرواسي قال : يقال لم يكن أحد من الصحابة أشبة هدياً وسمتاً ودلاً من ابن مسعود بالنبي صلى اللة علية وسلم وكان أشبة الناس بة علقمة وكان أشبة الناس بعلقمة إبراهيم وكان أشبههم بإبراهيم منصور بن المعتمر وأشبة الناس به سفيان الثوري وأشبة الناس بة وكيع وأشبة الناس بوكيع فيما قالة محمد بن يونس الجمال أحمد بن حنبل .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن ابن المنادي عن جدة أبي جعفر قال كان أحمد من أحيى الناس وأكرمهم وأحسنهم عشرة وأدبا كثير الإطراق لا يسمع منه إلا المذاكرة للحديث وذكر الصالحين في وقار وسكون ولفظ حسن وإذا لقيه إنسان بش به وأقبل عليه وكان يتواضع للشيوخ شديدا وكانوا يعظمونه وكان يفعل بيحيى بن معين ما لم أره يعمل بغيره من التواضع والتكريم والتبجيل كان يحيى أكبر منه بسبع سنين .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عبد الملك بن عبد الحميد الميموني قال ما أعلم أني رأيت أحدا أنظف بدنا ولا أشد تعاهدا لنفسه في شاربه وشعر رأسه وشعر بدنه ولا أنقى ثوبا بشدة بياض من أحمد بن حنبل رضي الله عنه كان ثيابه بين الثوبين تسوى ملحفته خمسه عشر درهما وكان ثوب قميصه يؤخذ بالدينار ونحوه لم يكن له دقة تنكر ولا غلط ينكر ولا غلط ينكر وكان ملحفته مهذبة .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عبدوس العطار وجهت بابني مع الجارية يسلم على أبي عبد الله فرحب به وأجلسه في حجره وساءله واتخذ له خبيصا وقال للجارية كلي معه وجعل يبسطه .(3/373)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الميموني كان أبو عبد الله حسن الخلق دائم البشر ويحتمل الأذى من الجار .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن إسحاق بن هانئ قال : كنا عند أحمد بن حنبل في منزله ومعه المروذي ومهنى فدق داق الباب وقال المروذي ها هنا فكان المروذي كره أن يعلم موضعه فوضع مهنى أصبعه في راحته وقال ليس المروذي ها هنا وما يصنع المروذي ها هنا فضحك أحمد ولم ينكر .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن حمدان بن علي قال : لم يكن لباس أحمد بذاك إلا أنه قطن نظيف .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الفضل بن زياد قال : رأيت على أبي عبد الله في الشتاء قميصين وجبة ملونة بينهما وربما قميصا وفروا ثقيلا ورأيته عليه عمامة فوق القلنسوة وكساء ثقيلا فسمعت أبا عمران الوركاني يقول له يوما يا أبا عبد الله هذا اللباس كله فضحك ثم قال أنا رقيق في البرد وربما لبس القلنسوة بغير عمامة .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الفضل بن زياد قال : رأيت على أبي عبد الله في الصيف قميصا وسراويل ورداء وكان كثيرا ما يتشح فوق القميص .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الميموني قال : ما رأيت أبا عبد الله طيلسان قط ولا رداء إنما هو إزار صغير .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أبي داود قال : كنت أرى إذار أبي عبد الله محلولة ورأيت عليه من النعال ومن الخفاف غير زوج فما رأيت فيه محضرا ولا شيئا له قبالان .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أبي داود قال : رأيت على أبي عبد الله نعلين حمراوين لهما قبال واحد .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عبد الملك الميموني قال : ما رأيت عمامة أبي عبد الله قط إلا تحت ذقنه ورأيته يكره غير ذلك .(3/374)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عبد الله بن أحمد قال : كان أبي إذا أتى البيت من المسجد ضرب برجله حتى يسمعوا صوت نعله وربما تنحنح ليعلموا به .
(20) جود أحمد بن حنبل وسخاؤه :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن المروذي قال قدم رجل من الزهاد فأدخلته على أحمد وعليه فرو خلق وخريقة على رأسه وهو حافٍ في بردٍ شديد فَسَلَّمَ وقال يا أبا عبد الله قد جئت من موضعٍ بعيد وما أردت إلا السلام عليك وأريد عبادان وأريد إن أنا رجعت أُسَلِّمَ عليك فقال إن قدر فقام الرجل وَسَلَّمَ وأبو عبد الله قاعد فما رأيت أحدًا قام من عند أبي عبد الله حتى يقوم هو إلا هذا الرجل فقال لي أبو عبد الله ما ترى ما أشبهه بالأبدال أو قال إني لأذكر به الأبدال وأخرج إليه أبو عبد الله أربعة أرغفٍ مشطورة بكامخ وقال لو كان عندنا شيء لواسيناك .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عبد الله بن أحمد قال : قال أبو سعيد بن أبي حنيفة المؤدب كنت آتي أباك فيدفع إلي الثلاثة دراهم وأقل وأكثر ويقعد معي فيتحدث وربما أعطاني الشيء ويقول أعطيتك نصف ما عندنا فجئت يوما فأطلت القعود أنا وهو قال ثم خرج ومعه تحت كسائه أربعة أرغفة فقال هذا نصف ما عندنا فقلت هي أحب إلي من أربعة آلاف من غيرك .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن هارون المستملي قال : لقيت أحمد بن حنبل فقلت ما عندنا شيء فأعطاني خمسة دراهم وقال ما عندنا غيرها .(3/375)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن روذي قال : رأيت أبا عبد الله قد وهب لرجل قميصه وقال ربما واسى من قوته وكان إذا جاءه أمر يهمه من أمر الدنيا لم يفطر وواصل وجاءه أبو سعيد الضرير وكان قال قصيدة في ابن أبي داود فشكى إلى أبي عبد الله فقال يا أبا سعيد ما عندنا الا هذا الجذع فجيء بحمال قال فبعته بتسعة دراهم ودانقين وكان أبو عبد الله شديد الحياء كريم الأخلاق يعجبه السخاء.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الروذي قال :سمعت أبا الفوارس ساكن أبي عبد الله يقول : قال لي أبو عبد الله يا محمد ألقى الصبي المقراض في البئر فنزلت فأخرجته فكتب لي إلى البقال أعطه نصف درهم قلت هذا لا يساوي قيراط والله لا أخذته قال فلما كان بعد دعاني فقال كم عليك من الكراء فقلت ثلاثة أشهر قال أنت في حل ، ثم قال أبو بكر الخلال فاعتبروا يا أولي الألباب والعلم هل تجدون أحدا بلغكم عنه هذه الأخلاق .
(21) حسن خلق أحمد بن حنبل رحمه الله :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
كان الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله - خيار الناس، وأكرمهم نفسا، وأحسنهم عشرة وأدبا، كثير الإطراق والغض، معرضا عن القبيح واللغو، لا يسمع منه إلا المذاكرة للحديث وذكر الصالحين والزهاد، في وقار وسكون ولفظ حسن، وإذا لقيه إنسان بش به وأقبل عليه، وكان يتواضع للشيوخ تواضعا شديدا، وكانوا يكرمونه ويعظمونه، وكان قدوة عالية لأهل زمانه بعلمه وخلقه وورعه .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أبي بكر المروذي حدثهم في آداب أبي عبد الله قال كان أبو عبد الله لا يجهل وان جهل عليه حلم واحتمل ويقول يكفي الله ولم يكن بالحقود ولا العجول كثير التواضع حسن الخلق دائم البشر لين الجانب ليس بفظ وكان يحب في الله ويبعض في الله وإذا كان في أمر من الدين اشتد له غضبه وكان يحتمل الأذى من الجيران .(3/376)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن حنبل قال : صليت بأبي عبد الله العصر فصلى معنا رجل يقال له محمد بن سعيد الختلي وكان يعرفه بالسنة فقعد أبو عبد الله بعد الصلاة وبقيت أنا وهو والختلي في المسجد ما معنا رابع فقال لأبي عبد الله نهيت عن زيد بن خلف أن لا يكلم قال كتب إلى أهل الثغر يسألوني عن أمره فكتبت إليهم فأخبرتهم بمذهبه وما أحدث وأمرتهم أن لا يجالسوه فاندفع الختلي على أبي عبد الله فقال والله لأزدنك إلى محبسك ولأدقن أضلاعك في كلام كثير فقال لي أبو عبد الله لا تكلمه ولا تجبه وأخذ أبو عبد الله نعليه وقام فدخل وقال : مُرْ السكان أن لا يكلموه ولا يردوا عليه فما زال يصيح ثم خرج فلما كان بعد ذلك ذهب هذا الختلي إلى شعيب وكان قد ولي على قضاء بغداد وكانت له في يديه وصية فسألته عنها ثم قال له شعيب يا عدو الله وثبت على أحمد بالأمس ثم جئت تطلب الوصية إنما أردت أن تتقرب إلي بذا فزبره ثم أقامه فخرج بعد إلى حسبة العسكر .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن هارون بن سفيان المستملي قال جئت إلى أحمد بن حنبل حين أراد أن يفرق الدراهم التي جاءته من المتوكل فأعطاني مائتي درهم فقلت لا تكفيني قال ليس هنا غيرها ولكن هو ذا اعمل بك شيئا أعطيك ثلاث مائة تفرقها قال فلما أخذتها قلت ليس والله أعطي أحدا منها شيئا فتبسم .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عبد الله بن حنبل قال : حدثني أبي قال قيل لأبي عبد الله لما ضُرِبَ وبرئ وكانت يده وجعة مما علق وكانت تضرب عليه فذكروا له الحمام وألحوا عليه فقال أبي : يا أبا يوسف كلم صاحب الحمام يخليه لي ففعل ثم امتنع وقال ما أريد أن أدخل الحمام .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عبد الله قال : ما رأيت أبي دخل الحمام قط .
(22) بُعْدُ أحمد بن حنبل عن التنعم و إيثاره لخشونة العيش :(3/377)
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عبد الله بن أحمد بن حنبل يقول: كنت جالساً عند أبي رحمه الله يوماً فنظر إلى رجلي وهما لَيِّنَتَان ليس فيها شقاق، فقال لي: ما هذان الرجلان، لم لا تمشي حافياً حتى تصير رجلين خشنين قال عبد الله: وخرج إلى طرسوس ماشياً على قدميه، قال عبد الله: وكان أبي أصبر الناس على الوحدة، لم يره أحد إلا في مسجد أو حضور جنازة أو عيادة مريض، وكان يكره المشي في الأسواق.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أبي إسحاق الجوزجاني قال كان أحمد بن حنبل يصلي بعبد الرزاق فسها فسأل عنه عبد الرزاق فأخبر انه لم يأكل منذ ثلاثة أيام شيئا .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن صالح قال ربما رأيت أبي يأخذ الكسر ينفض الغبار عنها ويصيرها في قصعة ويصب عليها ماء ثم يأكلها بالملح وما رأيته اشترى رمانا ولا سفرجلا ولا شيئا من الفاكهة إلا أن تكون بطيخة فيأكلها بخبز وعنبا وتمرا وقال لي كانت والدتك في الظلام تغزل غزلا دقيقا فتبيع الأستار بدرهمين أقل أو أكثر فكان ذلك قوتنا وكنا إذا اشترينا الشيء نستره عنه كيلا يراه فيوبخنا وكان ربما خبز له فيجعل في فخارة عدسا وشحما وتمرات شهريز فيجيء الصبيان فيصوت ببعضهم فيدفعه إليهم فيضحكون ولا يأكلون وكان يأتدم بالخل كثيرا .
(23) عظيم صبر أحمد بن حنبل ورضاه :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أبي القاسم البغوي قال : سمعت أحمد بن حنبل يقول في سنة ثمان وعشرين ومائتين وقد حدث بحديث معونة في البلاء اللهم رضينا اللهم رضينا .
(24) كان أحمد بن حنبل مستجاب الدعوة رحمه الله :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ(3/378)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن العباس بن محمد الدوري حدثني علي بن أبي حرارة ـ جار لنا ـ قال: كانت أمي مقعدة نحو عشرين سنة فقالت لي يوماً: اذهب إلى أحمد بن حنبل فاسأله أن يدعو الله لي. فسرت إليه فدققت عليه الباب وهو في دهليزه فلم يفتح لي وقال: من هذا ؟ فقلت: أنا رجل من أهل ذاك الجانب سألتني أمي وهي زمنة مقعدة أن أسألك أن تدعو الله لها، فسمعت كلامه كلام رجل مغضب فقال: نحن أحوج إلى أن تدعو الله لنا. فوليت منصرفاً فخرجت امرأة عجوز من داره فقالت: أنت الذي كلمت أبا عبد الله قلت: نعم قالت: قد تركته يدعو الله لها. قال فجئت من فوري إلى البيت فدققت الباب فخرجت أمي على رجليها تمشي حتى فتحت الباب فقالت: قد وهب الله لي العافية.
(25) هيبة أحمد بن حنبل رحمه الله :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن المروذي قال : قال جارنا فلان دخلت على إسحاق بن ابراهيم الأمير وفلان وفلان ذكر سلاطين ما رأيت أهيب من أحمد بن حنبل صرت الية أكلمة في شيء فوقعت علي الرعدة من هيبتة ثم قال المروذي ولقد طرقة الكلبي صاحب خبر السر ليلا فمن هيبتة لم يقرعوا ودقوا باب عمة .
(26) جهاد أحمد بن حنبل ومرابطته :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عبد الله بن أحمد يقول خرج أبي إلى طرسوس ورابط بها وغزا ثم قال أبي رأيت العلم بها يموت .
(27) محنة أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
اعتقد المأمون برأي المعتزلة في مسألة خلق القرآن، وطلب من ولاته في الأمصار عزل القضاة الذين لا يقولون برأيهم.(3/379)
وقد رأى أحمد بن حنبل ان رأي المعتزلة يحوِّل الله سبحانه وتعالى إلى فكرة مجرّدة لا يمكن تعقُّلُها فدافع ابن حنبل عن الذات الإلهية ورفض قبول رأي المعتزلة، فيما أكثر العلماء والأئمة أظهروا قبولهم برأي المعتزلة خوفاً من المأمون وولاته.
وألقي القبض على الإمام ابن حنبل ليؤخذ إلى الخليفة المأمون، وطلب الإمام من الله أن لا يلقاه ، لأنّ المأمون توعّد بقتل الإمام أحمد.
وفي طريقه إليه، وصل خبر وفاة المأمون، فتم ردّ الإمام أحمد إلى بغداد وحُبس ووَلِيَ الخلافة المعتصم، الذي امتحن الإمام، وتمّ تعرضه للضرب بين يديه.
وقد ظل الإمام محبوساً طيلة ثمانية وعشرين شهراً ، ولما تولى الخلافة الواثق، وهو أبو جعفر هارون بن المعتصم، أمر الإمام أن يختفي، فاختفى إلى أن توفّي الواثق .
وحين وصل المتوكّل ابن الواثق إلى السلطة، خالف ما كان عليه المأمون والمعتصم والواثق من الاعتقاد بخلق القرآن، ونهى عن الجدل في ذلك، وأكرم المتوكل الإمام أحمد ابن حنبل، وأرسل إليه العطايا، ولكنّ الإمام رفض قبول عطايا الخليفة.
قصة محنة خلق القرآن :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ
[*] قال الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء :(3/380)
كان الناس امة واحدة ودينهم قائما في خلافة أبي بكر وعمر فلما استشهد قفل باب الفتنة عمر رضي الله عنه وانكسر الباب قام رؤوس الشر على الشهيد عثمان حتى ذبح صبرا وتفرقت الكلمة وتمت وقعة الجمل ثم وقعة صفين فظهرت الخوارج وكفرت سادة الصحابة ثم ظهرت الروافض والنواصب وفي آخر زمن الصحابة ظهرت القدرية ثم ظهرت المعتزلة بالبصرة والجهمية والمجسمة بخراسان في أثناء عصر التابعين مع ظهور السنة وأهلها إلى بعد المئتين فظهر المأمون الخليفة وكان ذكيا متكلما له نظر في المعقول فاستجلب كتب الأوائل وعرب حكمة اليونان وقام في ذلك وقعد وخب ووضع ورفعت الجهمية والمعتزلة رؤوسها بل والشيعة فانه كان كذلك وآل به الحال أن حمل الأمة على القول بخلق القران وامتحن العلماء فلم يمهل وهلك لعامه وخلى بعده شرا وبلاء في الدين فإن الأمة ما زالت على أن القران العظيم كلام الله تعالى ووحيه وتنزيله لا يعرفون غير ذلك حتى نبغ لهم القول بأنه كلام الله مخلوق مجعول وانه إنما يضاف إلى الله تعالى إضافة تشريف كبيت الله وناقة الله فأنكر ذلك العلماء ولم تكن الجمهية يظهرون في دولة المهدي والرشيد والأمين فلما ولي المأمون كان منهم وأظهر المقالة .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن محمد بن نوح قال : إن الرشيد قال بلغني أن بشر بن غياث المريسي يقول القرآن مخلوق فلله علي إن أظفرني به لأقتلنه قال الدورقي وكان متواريا أيام الرشيد فلما مات الرشيد ظهر ودعا إلى الضلالة قلت ثم إن المأمون نظر في الكلام وناظر وبقي متوقفا في الدعاء إلى بدعته ، قال أبو الفرج بن الجوزي خالطه قوم من المعتزلة فحسنوا له القول بخلق القران وكان يتردد ويراقب بقايا الشيوخ ثم قوي عزمه وامتحن الناس .(3/381)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن ابن اكثم قال : قال لنا المأمون لولا مكان يزيد بن هارون لأظهرت أن القرآن مخلوق فقال بعض جلسائه : يا أمير المؤمنين ومن يزيد حتى يتقي فقال ويحك إني أخاف إن أظهرته فيرد علي يختلف الناس وتكون فتنة وأنا اكره الفتنة فقال الرجل فأنا أخبر ذلك منه قال له نعم فخرج إلى واسط فجاء إلى يزيد وقال يا أبا خالد إن أمير المؤمنين يقرئك السلام ويقول لك إني أريد أن أظهر خلق القران فقال كذبت على أمير المؤمنين أمير المؤمنين لا يحمل الناس على ما لا يعرفونه فان كنت صادقا فاقعد فإذا اجتمع الناس في المجلس فقل ، قال فلما أن كان الغد اجتمعوا فقام فقال كمقالته فقال يزيد كذبت على أمير المؤمنين إنه لا يحمل الناس على ما لا يعرفونه وما لم يقل به احد قال فقدم وقال يا أمير المؤمنين كنت أعلم وقص عليه قال ويحك يلعب بك .
دخلنا على إسحاق بن إبراهيم للمحنة قرأ علينا كتاب الذي صار إلى طرسوس يعني المأمون فكان فيما قرئ علينا ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) [ الشورى : 11] و ( هُوَ خَالِقُ كُلّ شَيْءٍ ) [ الأنعام : 102] فقلت ( وَهُوَ السّمِيعُ الْبَصِيرُ) [ الشورى : 11] قال صالح ثم امتحن القوم ووجه بمن امتنع إلى الحبس فأجاب القوم جميعا غير أربعة أبي ومحمد بن نوح والقواريري والحسن بن حماد سجادة ثم أجاب هذان وبقي أبي ومحمد في الحبس أياما ثم جاء كتاب من طرسوس بحملهما مقيدين زميلين .
ثبات قلب أحمد بن حنبل على الحق ورباطة جأشه :(3/382)
يقف الإمام أحمد بين يدي الخليفة المعتصم ثابت الجنان قوي الإيمان، وقد ازدحم الناس ليشاهدوا مشهدا رهيبا؛ فهذا الخليفة وحوله جنوده، وهذا أحمد في قيوده، الأول سلاحه البطش والجبروت، والثاني سلاحه القرآن والسنة يستعذب العذاب في سبيل الله، ويسأله وحده العفو والمغفرة، ويرجوه رضاه ورضوانه يجلس الخليفة على كرسيه، ويقف الإمام أحمد بين يديه والسيوف قد جردت، والرماح قد ركزت، والأتراس قد نصبت، والسياط قد طرحت، يريدون إرهابه وهو قد باع نفسه لربه، وبكل ما يصنعون وأكثر لا يأبه.
يرد على الخليفة بالبرهان الساطع والدليل القاطع، ويعجز الخليفة في ترغيبه أو ترهيبه ليقول بكلام المعتزلة القرآن مخلوق والعياذ بالله ، ويحضر المعتصم له الفقهاء والقضاة فيناظرونه بحضرته ثلاثة أيام، وهو يناظرهم ويقهرهم، فيقول ابن أبي دؤاد وبشر المريسي للخليفة: اقتله حتى نستريح منه.
ولكن المعتصم يقيم مباراة بين الجلادين لقتله بالسياط الموجعة، ويحدثونه في الرجوع عن إصراره، ولكنه يقول لهم في صلابة: أعطوني شيئا من كتاب الله وسنة رسوله أقول به.
ويستمر الضرب وتزداد شدته، حتى يقع الإمام أحمد - رحمه الله - على الأرض في غيبوبة، لا يدري ما يفعلون به.
وعندما عادت لأحمد ذاكرته، تقدم إليه ابن أبي دؤاد، وقال له: يا أحمد قل في أذني القرآن مخلوق حتى أخلصك من يد الخليفة؛ فقال له الإمام أحمد: يا بن أبي دؤاد قل في أذني القرآن كلام الله وليس بمخلوق حتى أخلصك من عذاب الله عز وجل، فقال المعتصم: أدخلوه إلى الحبس، فحمل إلى الحبس وانصرف الناس
وهكذا واجه الإمام أحمد بن حنبل المحنة في صبر جميل وشجاعة نادرة، يقول أحد جلاديه: "ضربت أحمد بن حنبل ثمانين سوطا لو ضربته فيلا لهدمته"
وينتصر الدين بصاحب العقيدة القوية، ويتحمله في سبيل نصرة دين الله على كل بلية، وترفع راية الإسلام عالية ويندحر أصحاب البدعة والضلالة.(3/383)
ويصفح الإمام أحمد رضوان الله عليه عن المعتصم، راجيا غفران ربه، وحسن ثوابه، مستجيبا لأوامره؛ ( وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ) [ النور : 22]، ولقوله عز وجل: ( فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) [ الشورى : 40]
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن ابن أبي اسامة قال : حكي لنا أن أحمد قيل له أيام المحنة يا أبا عبد الله أولا ترى الحق كيف ظهر عليه الباطل قال كلا إن ظهور الباطل على الحق أن تنتقل القلوب من الهدى إلى الضلالة وقلوبنا بعد لازمة للحق .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أبي جعفر الأنباري قال : لما حُمِلَ أحمد إلى المأمون أخبرت فعبرت الفرات فإذا هو جالس في الخان فسلمت عليه فقال يا أبا جعفر تعنيت فقلت يا هذا أنت اليوم رأس والناس يقتدون بك فو الله لئن أجبت إلى خلق القرآن ليجيبن خلق وإن أنت لم تجب ليمتنعن خلق من الناس كثير ومع هذا فإن الرجل إن لم يقتلك فإنك تموت لابد من الموت فاتق الله ولا تجب فجعل أحمد يبكي ويقول ما شاء الله ثم قال يا أبا جعفر أعد علي فأعدت عليه وهو يقول ما شاء الله .(3/384)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن صالح بن أحمد بن حنبل، قال أبي: لما كان في شهر رمضان لليلة سبع عشرة خلت منه حولت من السجن إلى دار إسحاق ابن إبراهيم وأنا مقيد بقيد واحد يوجه إلي في كل يوم رجلان سماهما أبي، قال أبو الفضل: وهما أحمد بن رباح، وأبو شعيب الحجاج، يكلماني ويناظراني، فإذا أرادا الانصراف دعوا بقيد فقيدت به، فمكثت على هذه الحال ثلاثة أيام فصار في رجلي أربعة أقياد، فقال لي أحدهما في بعض الأيام في كلام دار بيننا وسألته عن علم الله فقال: علم الله مخلوق. فقلت له: يا كافر كفرت، فقال لي الرسول الذي كان يحضر معهم من قبل إسحاق: هذا رسول أمير المؤمنين، قال: فقلت له: إن هذا زعم أن علم الله مخلوق، فنظر إليه كالمنكر عليه ما قال ثم انصرفا.
قال أبي: وأسماء الله في القرآن والقرآن من علم الله، فمن زعم إن القرآن مخلوق فهو كافر، ومن زعم أن أسماء الله مخلوقه فقد كفر.
قال أبي رحمه الله: فلما كانت ليلة الرابعة بعد العشاء الآخرة وجه المعتصم بنا إلى إسحاق بن إبراهيم الموصلي يأمره بحملي، فأدخلت على إسحاق فقال لي: يا أحمد إنها والله نفسك إنه حلف أن لا يقتلك بالسيف وأن يضربك ضرباً بعد ضرب، وأن يلقيك في موضع لا ترى فيه الشمس، أليس قد قال الله عز وجل: (إِنّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً ) [ الزخرف : 3] الزخرف 3 . فيكون مجعولا إلا مخلوق .
قال أبي: فقلت له: قد قال: (فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مّأْكُولِ) [ الفيل : 5] . أفخلقهم، فقال: اذهبوا به،
قال أبي: فأنزلت إلى شاطئ دجلة فأحدرت إلى الموضع المعروف بباب البستان ومعي بغا الكبير ورسول من قبل إسحاق. قال: فقال بغا لمحمد المحاربي بالفارسية: ما تريدون من هذا الرجل. قال: يريدون منه أن يقول القرآن مخلوق . فقال: ما أعرف شيئاً من هذه الأقوال، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وقرابة أمير المؤمنين من رسول الله صلى الله عليه وسلم.(3/385)
قال أبي: فلما صرنا إلى الشط أخرجت من الزورق فجعلت أكاد أخر علي وجهي حتى انتهي بي إلى الدار، فأدخلت ثم عرج بي إلى الحجرة فصيرت في بيت منها وأغلق علي الباب وأقعد عليه رجل ، وذلك في جوف الليل، وليس في البيت سراج. فاحتجت إلى الوضوء فمددت يدي أطلب شيئاً فإذا أنا بإناء فيه ماء وطشت فتهيأت للصلاة وقمت أصلي، فلما أصبحت جاءني الرسول فأخذ بيدي وأدخلني الدار وإذا هو جالس وابن أبي دؤاد حاضر، قد جمع أصحابه والدار غاصة بأهلها، فلما دنوت سلمت فقال لي: ادن، فلم يزل يدنيني حتى قربت منه، ثم قال لي: اجلس، فجلست وقد أثقلتني الأقياد، فلما مكثت هنيهة قلت: تأذن في الكلام ؟ فقال: تكلم، فقلت: إلى ما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: إلى شهادة أن لا إله إلا الله، قال: قلت أنا أشهد أن لا إله إلا الله. ثم قلت له: إن جدك ابن عباس يحكي أن وفد عبد القيس لما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم بالإيمان بالله، قال: أتدرون ما الإيمان بالله ؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وأن تعطوا الخمس من الغنم.
قال أبو الفضل: حدثناه أبي، حدثنا يحيى بن سعيد، عن شعبة، قال: حدثني أبو حمزة قال: قال: سمعت ابن عباس قال: إن وفد عبد القيس لما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم بالإيمان بالله فذكر الحديث. قال أبو الفضل قال أبي: فقال لي عند ذلك لولا أن وجدتك في يد من كان قبلي ما تعرضت لك، ثم التفت إلى عبد الرحمن بن إسحاق فقال له: يا عبد الرحمن، ألم آمرك أن ترفع المحنة،
قال أبي : فقلت في نفسي: الله أكبر، إن في هذا فرجاً للمسلمين. قال: ثم قال: ناظروه وكلموه، ثم قال: يا عبد الرحمن كلمه، فقال لي عبد الرحمن: ما تقول في القرآن ؟ قال: قلت ما تقول في علم الله. فسكت.(3/386)
قال أبي: فجعل يكلمني هذا وهذا فأرد علي هذا وأكلم هذا، ثم أقول: يا أمير المؤمنين أعطوني شيئاً من كتاب الله عز وجل أو سنة رسوله عليه الصلاة والسلام أقول به. أراه قال: فيقول ابن أبي دؤاد: فأنت ما تقول إلا ما في كتاب الله أو سنة رسوله. قال: فقلت تأولت تأويلا فأنت أعلم وما تأولت تحبس عليه وتقيد عليه، قال: فقال ابن أبي دؤاد: هو والله يا أمير المؤمنين ضال مضل مبتدع وهؤلاء قضاتك والفقهاء فسلهم، فيقول: ما تقولون فيه ؟ فيقولون: يأتك والفقهاء فسلهم، فيقول: ما تقولون فيه ؟ فيقولون: يا أمير المؤمنين هو ضال مضل مبتدع. قال: ولا يزالون يكلموني، قال وجعل صوتي يعلو أصواتهم، وقال إنسان منهم قال الله تعالى: (مَا يَأْتِيهِمْ مّن ذِكْرٍ مّن رّبّهِمْ مّحْدَثٍ ) [ الأنبياء: 2]. أفيكون محدثاً إلا مخلوقاً ؟ قال: فقلت له: قال الله تعالى: (صَ وَالْقُرْآنِ ذِي الذّكْرِ) [ ص : 1] . فالقرآن هو الذكر والذكر هو القرآن، ويلك ليس فيها ألف ولام، قال: فجعل ابن سماعة لا يفهم ما أقول، قال: فجعل يقول لهم: ما يقول ؟ قال: فقالوا: إنه يقول كذا وكذا، قال: فقال لي إنسان منهم حديث خباب: تقرب إلى الله بما استطعت فإنك لن تتقرب إليه بشيء هو أحب إليه من كلامه ،
قال أبي : فقلت لهم نعم هكذا هو. فجعل ابن أبي دؤاد ينظر إليه ويلحظه متغيظاً عليه.
قال أبي : وقال بعضهم أليس قال: قال تعالى: ( خَالِقُ كُلّ شَيْءٍ ) [ الأنعام : 102] . قلت: قد قال: تدمر كل شيء الأحقاف 25 . فدمرت إلا ما أراد الله. قال: فقال بعضهم فما تقول وذكر حديث عمران ابن حصين: إن الله كتب الذكر فقال: إن الله خلق الذكر. فقلت: هذا خطأ حدثناه غير واحد إن الله كتب الذكر.(3/387)
قال أبي: فكان إذا انقطع الرجل منهم اعترض ابن أبي دؤاد فتكلم. فلما قارب الزوال قال لهم: قوموا ثم حبس عبد الرحمن ابن إسحاق فخلا بي وبعبد الرحمن، فجعل يقول: أما تعرف صالحاً الرشيدي كان مؤدبي، وكان في هذا الموضع جالساً وأشار إلى ناحية من الدار قال فتكلم وذكر القرآن فخالفني فأمرت به فسحب ووطئ ثم جعل يقول لي ما أعرفك ألم تكن تأتينا، فقال له عبد الرحمن: يا أمير المؤمنين أعرفه منذ ثلاثين سنة يرى طاعتك والحج والجهاد معك وهو ملازم لمنزله. قال: فجعل يقول: والله إنه لفقيه وإنه لعالم وما يسوءني أن يكون معي يرد على أهل الملك، ولئن أجابني إلى شيء له فيه أدنى فرج لأطلقن عنه بيدي، لأطأن عقبه ولأركبن إليه بجندي. قال: ثم يلتفت إلي فيقول: ويحك يا أحمد ما تقول، قال: فأقول: يا أمير المؤمنين أعطوني شيئاً من كتاب الله أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما طال بنا المجلس ضجر فقام فرددت إلى الموضع الذي كنت فيه ثم وجه إلي برجلين إحداهما وهما صاحب الشافعي وغسان من أصحاب ابن أبي دؤاد يناظراني فيقيمان معي حتى إذا حضر الإفطار وجه إلينا بمائدة عليها طعام فجعلا يأكلان وجعلت أتعلل حتى ترفع المائدة، وأقاما إلى غدو في خلال ذك يجيء ابن أبي دؤاد فيقول لي: يا أحمد يقول لك أمير المؤمنين ما تقول، فأقول له: أعطوني شيئاً من كتاب الله عز وجل أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أقول به، فقال لي ابن أبي دؤاد: والله لقد كتب اسمك في السبعة فمحوته ولقد ساءني أخذهم إياك، وإنه والله ليس السيف إنه ضرب بعد ضرب، ثم يقول لي: ما تقول فأرد عليه نحواً مما رددت عليه.(3/388)
ثم يأتيني رسوله فيقول أين أحمد بن عمار أجب الرجل الذي أنزلت في حجرته فيذهب ثم يعود، فيقول: يقول لك أمير المؤمنين: ما تقول فأرد عليه نحواً مما رددت على ابن أبي دؤاد فلا تزال رسله تأتي أحمد بن عمار وهو يختلف فيما بيني وبينه، ويقول: يقول لك أمير المؤمنين: أجبني حتى أجيء فأطلق عنك بيدي. قال: فلما كان في اليوم الثاني أدخلت عليه، فقال: ناظروه وكلموه، قال: فجعلوا يتكلمون هذا من هاهنا وهذا من هاهنا فأرد علي هذا وهذا فإذا جاؤا بشيء من الكلام مما ليس في كتاب الله عز وجل ولا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا فيه خبر ولا أثر، قلت: ما أدري ما هذا ؟ قال: فيقولون: يا أمير المؤمنين إذا توجهت له الحجة علينا وثب وإذا كلمناه بشيء يقول: لا أدري ما هذا، قال: فيقول: ناظروه ثم يقول: يا أحمد إني عليك شفيق. فقال رجل منهم: أراك تذكر الحديث وتنتحله فقال له: ما تقول في قول الله تعالى: قال تعالى: (يُوصِيكُمُ اللّهُ فِيَ أَوْلاَدِكُمْ لِلذّكَرِ مِثْلُ حَظّ الاُنْثَيَيْنِ ) [ النساء : 11] . فقال: خص الله بها المؤمنين، قال: فقلت له: ما تقول إن كان قاتلا أو عبداً أو يهودياً أو نصرانياً فسكت،(3/389)
قال أبي : وإنما احتججت عليهم بهذا لأنهم كانوا يحتجون علي بظاهر القرآن ولقوله تنتحل الحديث وكان إذا انقطع الرجل منهم اعترض ابن أبي دؤاد فيقول: يا أمير المؤمنين والله لئن أجابك لهو أحب إلي من مائة ألف دينار ومائة ألف دينار فيعدد ما شاء الله من ذلك. ثم أمرهم بعد ذلك بالقيام وخلا بي وبعبد الرحمن فيدور بيننا كلام كثير وفي خلال ذلك يقول ندعو أحمد ابن دؤاد ؟ فأقول ذلك إليك فيوجه إليه فيجيء فيتكلم. فلما طال بنا المجلس قام ورددت إلى الموضع الذي كنت فيه وجاءني الرجلان اللذان كانا عندي بالأمس فجعلا يتكلمان فدار بيننا كلام كثير فلما كان وقت الإفطار جيء بطعام على نحو ما أتي به في أول ليلة فأفطروا فتعللت وجعلت رسله تأتي أحمد بن عمار فيمضي إليه فيأتيني برسالة على نحو ما كان لي أول ليلة، وجاء ابن أبي دؤاد فقال إنه قد حلف أن يضربك ضرباً وأن يحبسك في موضع لا ترى فيه الشمس، فقلت له: فما صنع ؟ حتى إذا كدت أن أصبح قلت لخليق أن يحدث في هذا اليوم من أمري شيء، وقد كنت خرجت تكتي من سراويلي فشددت بها الأقياد أحملها بها إذا توجهت إليه فقلت لبعض من كان معي الموكل بي أريد لي خيطاً، فجاءني بخيط فشددت به الأقياد وأعدت التكة في سراويلي ولبستها كراهية أن يحدث شيء من أمري فأتعرى.(3/390)
فلما كان في اليوم الثالث أدخلت عليه والقوم حضور فجعلت أدخل من دار إلى دار وقوم معهم السيوف وقوم معهم السياط وغير ذلك من الزي والسلاح وقد حشيت الدار بالجند ولم يكن في اليومين الماضيين كبير أحد من هؤلاء حتى إذا صرت إليه قال ناظروه وكلموه فعادوا لمثل مناظرتهم فدار بيننا وبينهم كلام كثير حتى إذا كان في الوقت الذي كان يخلو بي فيه فجاءني ثم اجتمعوا فشاورهم ثم نحاهم ودعاني فخلا بي وبعبد الرحمن فقال لي: ويحك يا أحمد وأنا والله عليك شفيق وإني لأشفق عليك مثل شفقتي على هارون ابني، فأجبني، فقلت: يا أمير المؤمنين أعطوني شيئاً من كتاب الله عز وجل أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم. فلما ضجر وطال المجلس قال عليك لعنة الله لقد طمعت فيك، خذوه اخلعوه واسحبوه. قال فأخذت فسحبت ثم خلعت ثم قال العقابين والسياط، فجيء بعقابين والسياط.(3/391)
قال أبي : وقد كان صار إلي شعرتان من شعر النبي صلى الله عليه وسلم فصررتهما في كم قميصي، فنظر إسحاق بن إبراهيم إلى الصرة في كم قميصي فوجه إلي: ما هذا المصرور في كمك ؟ فقلت شعر من شعر النبي صلى الله عليه وسلم. فسعى بعض القوم إلى القميص ليحرقه في وقت ما أقمت بين القابين فقال لهم لا تحرقوه وانزعوه عنه قال أبي فظنت أنه بسبب الشعر الذي كان فيه. ثم صيرت بين العقابين وشدت يدي وجيء بكرسي فوضع له وابن أبي دؤاد قائم على رأسه والناس اجتمعوا وهم قيام ممن حضر فقال لي إنسان ممن شدني خذ أي الخشبتين بيدك وشد عليها. فلم أفهم ما قال. قال فتخلعت يدي لما شدت ولم أمسك الخشبتين قال أبو الفضل ولم يزل أبي رحمه الله يتوجع منها من الرسغ إلى أن توفي ثم قال للجلادين تقدموا فنظر إلى السياط فقال ائتوا بغيرها، ثم قال لهم تقدموا فقال لأحدهم أدنه أوجع قطع الله يدك. فتقدم فضربني سوطين ثم تنحى، فلم يزل يدعو واحداً بعد واحد فيضربني سوطين ويتنحى ثم قام حتى جاءني وهم محمقون به فقال: ويحك يا أحمد تقتل نفسك. ويحك أجبني حتى أطلق عنك بيدي. فقال فجعل بعضهم يقول ويحك إمامك على رأسك قائم، قال: وجعل يعجب وينخسني بقالم سيفه ويقول تريد أن تغلب هؤلاء كلهم وجعل إسحاق بن إبراهيم يقول ويلك الخليفة على رأسك قائم: قال ثم يقول بعضهم يا أمير المؤمنين دمه في عنقي قال ثم رجع فجلس على الكرسي ثم قال للجلاد: أدنه شد ـ قطع الله يدك ـ ثم لم يزل يدعو بجلاد بعد جلاد فيضربني سوطين ويتنحى وهو يقول له شد قطع الله يدك ثم قام لي الثانية فجعل يقول: يا أحمد أجبني وجعل عبد الرحمن بن إسحاق يقول لي: من صنع بنفسه من أصحابك في هذا الأمر ما صنعت ؟ هذا يحيى بن معين وهذا أبو خيثمة وابن أبي ...... وجعل يعدد علي من أجاب، وجعل هو يقول: ويحك أجبني، قال: فجعلت أقول نحواً مما كنت أقول لهم، قال: فرجع فجلس ثم جعل يقول للجلاد: شد ـ قطع الله يدك ـ(3/392)
قال أبي : فذهب عقلي وما عقلت إلا وأنا في حجرة طلق عني الأقياد، فقال إنسان ممن حضر: إنا كببناك على وجهك وطرحنا على ظهرك سارية ودسناك،
قال أبي : فقلت: ما شعرت بذلك. قال: فجاؤني بسويق، فقالوا لي: اشرب وتقيا، فقلت: لا أفطر ثم جيء بي إلى دار إسحاق بن إبراهيم،
قال أبي : فنودي بصلاة الظهر فصلينا الظهر، قال ابن سماعة صليت والدم يسيل من ضربك. فقلت: قد صلى عمر وجرحه يثعب دماً فسكت ثم خلى عنه ووجه إليه برجل ممن يبصر الضرب والجراحات ليعالج فيها، فنظر إليه فقال لنا: والله لقد رأيت من ضرب ألف سوط ما رأيت ضرباً أشد من هذا، لقد جر عليه من خلفه ومن قدامه ثم أدخل ميلا في بعض تلك الجراحات، وقال: لم يثعب فجعل يأتيه ويعالجه وقد كان أصاب وجهه غير ضربة ثم مكث يعالجه ما شاء الله ثم قال: إن هاهنا شيئاً أريد أن أقطعه، فجاء بحديدة فجعل يعلق اللحم بها ويقطعه بسكين معه وهو صابر لذلك يحمد الله في ذلك فبرأه منه ولم يزل يتوجع من مواضع منه، وكان أثر الضرب بيناً في ظهره إلى أن توفي رحمه الله.
قال أبو الفضل: سمعت أبي يقول: والله لقد أعطت المجهود من نفسي ولوددت إن أنجو من هذا الأمر كفافاً لا علي ولا لي،
قال أبو الفضل: فأخبرني أحد الرجلين اللذين كانا معه وقد كان هذا الرجل ـ يعني صاحب الشافعي ـ صاحب حديث قد سمع ونظر ثم جاءني بعد، فقال لي: يا ابن أخي رحمة الله على أبي عبد الله، والله ما رأيت أحداً يشبهه، قد جعلت أقول له في وقت ما يوجه إلينا بالطعام : يا أبا عبد الله أنت صائم وأنت في موضع مسغبة، ولقد عطش فقال لصاحب الشراب ناولني فناوله قدحاً فيه ماء وثلج فأخذه فنظر إليه هنيهة ثم رده عليه،(3/393)
قال: فجعلت أعجب إليه من صبره على الجوع والعطش وما هو فيه من الهول ، قال أبو الفضل: وكنت ألتمس وأحتال أن أوصل إليه طعاماً أو رغيفاً أو رغيفين في هذه الأيام فلم أقدر على ذلك وأخبرني رجل حضره، قال: تفقدته في هذه الأيام وهم يناظرونه ويكلمونه فما لحن في كلمة وما ظننت أن أحداً يكون في مثل شجاعته وشدة قلبه .
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أحمد بن الفرج: كنت أتولى شيئاً من أعمال السلطان فبينما أنا ذات يوم قاعد في مجلس إذا أنا بالناس قد أغلقوا أبواب دكاكينهم وأخذوا أسلحتهم، فقلت: مالي أرى الناس قد استعدوا للفتنة. فقالوا: إن أحمد بن حنبل يحمل ليمتحن في القرآن، فلبست ثيابي وأتيت حاجب الخليفة وكان لي صادقاً، فقلت: أريد أن تدخلني حتى أنظر كيف يناظر أحمد الخليفة ؟ فقال: أتطيب نفسك بذلك ؟ فقلت: نعم فجمع جماعة وأشهدهم علي وتبرأ من إثمي ثم قال لي: امض فإذا كان يوم الدخول بعثت إليك. فلما أن كان اليوم الذي أدخل فيه أحمد على الخليفة أتاني رسوله، فقال: البس ثيابك واستعد للدخول فلبست قباء فوقه قفطان وتمنطقت بمنطقة وتقلدت سيفاً وأتمت الحاجب فأخذ بيدي وأدخلي إلى الفوج الأول مما يلي أمير المؤمنين وإذا أنا بابن الزيات وإذا بكرسي من ذهب مرصع بالجوهر قد غشي أعلاه بالديباج فخرج الخليفة فقعد عليه ثم قال: أين هذا الذي يزعم أن الله عز وجل يتكلم بجارحتين ؟ علي به. فأدخل أحمد وعليه قميص هروي وطيلسان أزرق وقد وضع يداً على يد وهو يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، حتى وقف بين يدي الخليفة، فقال: أنت أحمد بن حنبل، فقال: أنا أحمد بن محمد بن حنبل، فقال: أنت الذي بلغني عنك أنك تقول القرآن كلام الله غير مخلوق ، منه بدأ وإليه يعود ؟ من أين قلت هذا ؟ قال أحمد: من كتاب الله تعالى وخبر نبيه صلى الله عليه وسلم.
قال: وما قال النبي صلى الله عليه وسلم ؟(3/394)
فقال: حدثني عبد الرزاق، عن معمر عن الزهري، عن سالم، عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله كلم موسى بمائة ألف كلمة وعشرين ألف كلمة وثلاثمائة كلمة وثلاث عشرة كلمة فكان الكلام من الله والاستماع من موسى. فقال موسى: أي رب أنت الذي تكلمني أم غيرك ؟ قال الله تعالى: يا موسى أنا أكلمك لا رسول بيني وبينك ، قال: كذبت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أحمد: فإن يك هذا كذباً مني على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد قال الله تعالى: ( وَلََكِنْ حَقّ الْقَوْلُ مِنّي لأمْلأنّ جَهَنّمَ مِنَ الْجِنّةِ وَالنّاسِ أَجْمَعِينَ) [ السجدة : 13] فإن يكن القول من غير الله فهو مخلوق، وإن كان مخلوقاً فقد ادعى حركة لا يطيق فعلها، فالتفت إلى أحمد وابن الزيات، فقال: ناظروه قالوا: يا أمير المؤمنين اقتله ودمه في أعناقنا، قال فرفع يده فلطم حر وجهه فخر مغشياً عليه فتفرق وجوه قواد خراسان وكان أبوه من أبناء قواد خراسان، فخاف الخليفة على نفسه منهم فدعا بكوز من ماء فجعل يرش على وجهه. فلما أفاق رفع رأسه إلى عمه وهو واقف بين يدي الخليفة فقال: يا عم لعل هذا الماء الذي صب على وجهي غضب صاحبه عليه، فقال الخليفة: ويحكم ما ترون ما يهجم علي من هذا الحديث، وقرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم لا رفعت عنه السوط حتى يقول القرآن مخلوق. ثم دعا بجلاد يقال له أبو الدن، فقال: في كم تقتله ؟ قال: في خمسة أو عشرة أو خمسة عشرة أو عشرين، فقال: أقتله فكلما أسرعت كان أخفى للأمر، ثم قال: جردوه، قال: فنزعت ثيابه ووقف بين العقابين وتقدم أبو الدن قطع الله يده فضربه بضعه عشر سوطاً فأقبل الدم من أكتافه إلى الأرض، وكان أحمد ضعيف الجسم، فقال إسحاق بن إبراهيم: يا أمير المؤمنين إنه إنسان ضعيف الجسم، فقال: قد سمعت قولي، وقرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم لا رفعت السوط عنه حتى يقول كما أقول.(3/395)
فقال: يا أبا عبد الله البشري إن أمير المؤمنين قد تاب عن مقالته وهو يقول لا إله إلا الله. فقال أحمد: كلمة الإخلاص وأنا أقول لا إله إلا الله، فقال: يا أمير المؤمنين إنه قد قال كما تقول. فقال: خل سبيله. وارتفعت بالباب، فقال: أخرج فانظر ما هذه الضجة. فخرج ثم دخل فقال: يا أمير المؤمنين إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فأخرج أحمد بن حنبل إني لك من الناصحين فأخرج وقد وضع طيلسانه وقميصه على يده وكنت أول من وافى الباب، فقال الناس: ما قلت يا أبا عبد الله حتى نقول، قال: وما عسى أن أقول أكتبوا يا أصحاب الأخبار واشهدوا يا معشر العامة أن القرآن كلام الله غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود.
قال أحمد بن الفرج: وكنت أنظر إلى أحمد بن حنبل والسوط قد أخذ كتفيه وعليه سراويل فيه خيط فانقطع الخيط ونزل السراويل فلحظته وقد حرك شفتيه فعاد السراويل كما كان، فسألته عن ذلك، فقال: نعم إنه لما انقطع الخيط قلت: اللهم إلهي وسيدي واقفتني هذا الموقف فلا تهتكني على رءوس الخلائق فعاد السراويل كما كان.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أحمد بن حنبل قال : ما سمعت كلمة منذ وقعت في هذا الأمر أقوى من كلمة أعرابي كلمني بها في رحبة طوق قال يا أحمد إن يقتلك الحق مت شهيدا وإن عشت حميدا فقوى قلبي ، قال صالح بن أحمد : قال أبي فلما صرنا إلى أذنة ورحلنا منها في جوف الليل وفتح لنا بابها إذا رجل قد دخل فقال البشرى قد مات الرجل يعني المأمون قال أبي وكنت أدعو الله أن لا أراه .(3/396)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أحمد بن حنبل قال : تبينت الإجابة في دعوتين دعوت الله أن لا يجمع بيني وبين المأمون ودعوته أن لا أرى المتوكل فلم أر المأمون مات بالبذندون قلت وهو نهر الروم وبقي أحمد محبوسا بالرقة حتى بويع المعتصم إثر موت أخيه فرد أحمد إلى بغداد وأما المتوكل فانه نوه بذكر الإمام أحمد والتمس الاجتماع به فلما أن حضر أحمد دار الخلافة بسامراء ليحدث ولد المتوكل ويبرك عليه جلس له المتوكل في طاقة حتى نظر هو وأمه منها إلى أحمد ولم يره أحمد .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أحمد بن حنبل قال : ما رأيت أحدا على حداثة سنه وقدر علمه أَقْوَمُ بأمر الله من محمد بن نوح إني لأرجو أن يكون قد ختم له بخير قال لي ذات يوم يا أبا عبد الله إنك لست مثلي أنت رجل يقتدي بك قد مد الخلق أعناقهم إليك لما يكون منك فاتق الله واثبت لأمر الله أو نحو هذا فمات وصليت عليه ودفنته أظن قال بعانة .
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عبد الله بن أحمد بن حنبل يقول: مكث أبي بالعسكر عند الخليفة ستة عشر يوماً، ما ذاق إلا مقدار ربع سويق، كل ليلة كان يشرب شربة ماء. وفي كل ثلاث ليال يستف حفنة من السويق، فرجع إلى البيت ولم ترجع إليه نفسه إلا بعد ستة أشهر، ورأيت موقيه دخلتا في حدقتيه.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن محمد بن أبي سمينة عن شابا من التائب قال لقد ضرب أحمد بن حنبل ثمانين سوطا لو ضربته على فيل لهدته .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أحمد بن حنبل قال : قيل لي اكتب ثلاث كلمات ويخلى سبيلك فقلت هاتوا قالوا : اكتب الله قديم لم يزل قال فكتبت فقالوا اكتب كل شيء دون الله مخلوق وقالوا اكتب الله رب القرآن ، قلت : أما هذه فلا ورميت بالقلم فقال بشر بن الحارث لو كتبها لأعطاهم ما يريدون .(3/397)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن المهتدي بالله محمد بن الواثق قال : كان أبي إذا أراد أن يقتل أحدا أحضرنا فأتي بشيخ مخضوب مقيد فقال أبي ائذنوا لأبي عبد الله وأصحابه يعني ابن أبي داود قال فأدخل الشيخ فقال السلام عليك يا أمير المؤمنين فقال لا سلم الله عليك فقال يا أمير المؤمنين بئس ما ادبك مؤدبك قال الله تعالى (وَإِذَا حُيّيتُم بِتَحِيّةٍ فَحَيّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ أَوْ رُدّوهَآ إِنّ ) [ النساء : 86] فقال ابن أبي داود الرجل متكلم قال له كلمه فقال يا شيخ ما تقول في القرآن قال لم ينصفني ولي السؤال قال سل قال ما تقول في القرآن قال مخلوق قال الشيخ : هذا شيء علمه النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر والخلفاء الراشدون أم شيء لم يعلموه ؟ قال شيء لم يعلموه ، فقال سبحان الله شيء لم يعلمه النبي صلى الله عليه وسلم علمته أنت فخجل فقال أقلني قال المسألة بحالها قال نعم علموه فقال علموه ولم يدعوا الناس اليه قال نعم قال أفلا وسعك ما وسعهم قال فقام أبي فدخل مجلسا واستلقى وهو يقول شئ لم يعلمه النبي صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ولا الخلفاء الراشدون علمته أنت سبحان الله شيء علموه ولم يدعوا الناس اليه أفلا وسعك ما وسعهم ثم أمر برفع قيوده وأن يعطي أربع مئة دينار وَيُؤْذَنُ له في الرجوع وسقط من عينه ابن أبي داود ولم يمتحن بعدها احدا .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن حامد بن العباس عن رجل عن المهتدي أن الواثق مات وقد تاب عن القول بخلق القرآن .
قصة خروج أحمد بن حنبل من السجن :
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن محمد بن إبراهيم البوشنجي ذكروا أن المعتصم ألان في أمر أحمد لما علق في العقابين ورأى ثباته وتصميمه وصلابته حتى أغراه أحمد بن أبي داوود وقال يا أمير المؤمنين إن تركته قيل قد ترك مذهب المأمون وسخط قوله فهاجه ذلك على ضربه .(3/398)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أبي زرعة قال : دعا المعتصم بعم أحمد ثم قال للناس تعرفونه قالوا نعم هو أحمد بن حنبل قال فانظروا إليه أليس هو صحيح البدن قالوا نعم ولولا انه فعل ذلك لكنت أخاف أن يقع شيء لا يقام له قال ولما قال قد سلمته إليكم صحيح البدن هدأ الناس وسكنوا.
قال الذهبي تعليقاً على هذا : قلت ما قال هذا مع تمكنه في الخلافة وشجاعته إلا عن أمر كبير كأنه خاف أن يموت من الضرب فتخرج عليه العامة ولو خرج عليه عامة بغداد لربما عجز عنهم .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن حنبل قال : لما أمر المعتصم بتخلية أبي عبد الله خلع عليه مبطنة وقميصاً وطيلسانا وقلنسوة وخفاً ، فبينا نحن على باب الدار والناس في الميدان والدروب وغيرها وغلقت الأسواق إذ خرج أبو عبد الله على دابة من دار المعتصم في تلك الثياب وأحمد بن أبي داود عن يمينه وإسحاق بن إبراهيم يعني نائب بغداد عن يساره فلما صار في الدهليز قبل أن يخرج قال لهم ابن أبي داود اكشفوا رأسه فكشفوه يعني من الطيلسان وذهبوا يأخذون به ناحية الميدان نحو طريق الحبس فقال لهم إسحاق خذوا به ها هنا يريد دجلة فذهب به إلى الزورق وحمل إلى دار إسحاق بن إبراهيم فأقام عنده إلى أن صليت الظهر وبعث إلى والدي والى جيراننا ومشايخ المحال فجمعوا وأدخلوا عليه فقال لهم هذا أحمد بن حنبل إن كان فيكم من يعرفه وإلا فليعرفه .(3/399)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن ابن سماعة قال : حين دخل الجماعة لهم هذا أحمد بن حنبل وإن أمير المؤمنين ناظره في أمره وقد خلى سبيله وها هو ذا فاخرج على فراس لإسحاق بن إبراهيم عند غروب الشمس فصار إلى منزله ومعه السلطان والناس وهو منحن فلما ذهب لينزل احتضنته ولم أعلم فوقعت يدي على موضع الضرب فصاح فنحيت يدي فنزل متوكئا علي وأغلق الباب ودخلنا معه ورمى بنفسه على وجهه لا يقدر أن يتحرك إلا بجهد ونزع ما كان خلع عليه فأمر به فبيع وتصدق بثمنه وكان المعتصم أمر إسحاق بن إبراهيم أن لا يقطع عنه خبره وذلك أنه ترك فيما حكي لنا عند الإياس منه وبلغنا أن المعتصم ندم وأسقط في يده حتى صلح فكان صاحب خبر إسحاق بن إبراهيم يأتينا كل يوم يتعرف خبره حتى صح وبقيت إبهاماه منخلعتين يضربان عليه في البرد فيسخن له الماء ، ولما أردنا علاجه خفنا أن يدس أحمد بن أبي داوود سماً إلى المعالج فعملنا الدواء والمرهم في منزلنا وسمعته يقول كل من ذكرني ففي حل إلا مبتدعا وقد جعلت أبا إسحاق يعني المعتصم في حل ورأيت الله يقول ^ وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون ان يغفر الله لكم ^ وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر بالعفو في قصة مسطح قال أبو عبد الله وما ينفعك أن يعذب الله أخاك المسلم في سببك .
تحديد إقامة الإمام أحمد في عهد الواثق:(3/400)
وتولى الواثق الحكم بعد المعتصم في ربيع الأول سبع وعشرين ومائتين ولم يتعرض للإمام، وقد رأى أن التعذيب لا يفيد فيمن كانت إرادته كالحديد، وعرف فيه أنه عن الحق لا ولن يحيد، ورأى أتباعه في مزيد، ولكنه كتب إلى محمد بن أبي الليث بامتحان الناس أجمعين، فلم يبق أحد فقيه ومحدث ولا مؤذن ولا معلم حتى أخذ بالمحنة، فهرب كثير من الناس وملئت السجون بمن أنكر المحنة، وأمر ابن أبي الليث أن يكتب على المساجد "لا إله إلا الله رب القرآن المخلوق"، فكتب ذلك على المساجد بفسطاط مصر، ومنع الفقهاء من أصحاب مالك والشافعي من الجلوس في المساجد
وبعث إلى الإمام أحمد يحدد إقامته: "لا تساكني بأرض"، وقيل: أمره أن يخرج من بيته، ويظل الإمام أحمد متخفيا حتى مات الواثق، ووقاه الله شره، وأراه سبحانه ثمرة جهاده وصبره، فكرمه وأعلى ذكره، وخسف بأعدائه، وأذلهم وكان في ذلك عبرة.(3/401)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن حنبل قال : لم يزل أبو عبد الله بعد ان برئ من الضرب يحضر الجمعة والجماعة ويحدث ويفتي حتى مات المعتصم وولي ابنه الواثق فأظهر ما أظهر من المحنة والميل إلى أحمد بن أبي دواد وأصحابه فلما اشتد الأمر على أهل بغداد وأظهرت القضاة المحنة القرآن وفرق بين فضل الأنماطي وبين امرأته وبين أبي صالح وبين امراته كان أبو عبد الله يشهد الجمعة ويعيد الصلاة اذا رجع ويقول تؤتى الجمعة لفضلها والصلاة تعاد خلف من قال بهذه المقالة وجاء نفر إلى أبي عبد الله وقالوا هذا الأمر قد فشا وتفاقم ونحن نخافه على أكثر من هذا وذكروا ابن أبي دواد وأنه يأمر المعلمين بتعليم الصبيان في المكاتب القرآن كذا وكذا فنحن لا نرضى بإمارته فمنعهم من ذلك وناظرهم وحكى أحمد قصده في المناظرتهم وأمرهم بالصبر قال فبينا نحن في أيام الواثق اذ جاء يعقوب ليلا برسالة الأمير إسحاق بن ابراهيم إلى أبي عبد الله يقول لك الأمير إن أمير المؤمنين قد ذكرك فلا يجتمعن إليك احد ولا تساكني بأرض ولا مدينة أنا فيها فاذهب حيث شئت من أرض الله قال فاختفى أبو عبد الله بقية حياة الواثق وكانت تلك الفتنة وقتل أحمد بن نصر الخزاعي ولم يزل أبو عبد الله مختفيا في البيت لا يخرج إلى صلاة ولا إلى غيرها حتى هلك الواثق .
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم في الحلية عن إبراهيم بن هاني: اختفى عندي أحمد بن حنبل ثلاثة أيام ثم قال: اطلب لي موضعاً حتى أتحول إليه. قلت: لا آمن عليك يا أبا عبد الله، قال: إذا فعلت أفدتك، فطلبت له موضعاً فلما خرج قال لي: اختفى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار ثلاثة أيام، ثم تحول، وليس ينبغي أن نتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرخاء ونتركه في الشدة.
انتصار أهل السنة واندحار أهل البدعة:(3/402)
ففي عهد المتوكل بعد الواثق ـ وهو أبو الفضل جعفر بن المعتصم ، وكانت ولايته في ذي الحجة سنة اثنتين وثلاثين ومائتين ـ خالف ما كان عليه المأمون والمعتصم والواثق من الاعتقاد، وطعن عليهم فيما كانوا يقولونه من خلق القرآن، ونهى عن الجدال والمناظرة في الآراء وعاقب عليهما، وأمر بإظهار الرواية للحديث فأظهر الله به السنة، وأمات به البدعة، وكشف عن الخلق تلك الغمة، وأنار به تلك الظلمة، وأطلق من كان قد اعتقل بسبب القول بخلق القرآن، ورفع المحنة عن الناس فاستبشر الناس بولايته، وأمر بالقبض على محمد بن عبد الملك الزيات الوزير، ووضعه في تنور إلى أن مات، وذلك في سنة ثلاث ومائتين، وابتلى الله أحمد بن أبي دؤاد بالفالج بعد موت الوزير بسبعة وأربعين يوما، فولي القضاء مكانه ولده أبو الوليد محمد، فلم تكن طريقته مرضية، وكثر ذاموه، وقل شاكروه، ثم سخط المتوكل على أحمد بن دؤاد وولده محمد في سنة تسع وثلاثين ومائتين، وأخذ جميع ضياع الأب وأمواله من الولد؛ مائة وعشرين ألف دينار وجواهر بأربعين ألف دينار، وسيره من بغداد من سر من رأى، وولى القضاء يحيى بن أكثم قاضي القضاة، فإنه كان من أئمة الدين وعلماء السنة، ثم مات أحمد بن أبي دؤاد بمرض الفالج في المحرم سنة أربعين ومائتين، ومات ولده محمد قبله بعشرين يوما، وكان بشر المريسي قد أهلكه الله ومات في ذي الحجة سنة ثماني عشرة، وقيل: تسع عشرة ومائتين.(3/403)
وقد أقبلت الدنيا على الإمام أحمد وهو زاهد فيها، لا يريد منصبا ولا جاها، ولا يريد طعاما فاخرا، أو خلعة سنية، أو مسكنا شاهقا في الدنيا الدنية، وهو يريد أخرى فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، لا يريد بعد صبره الطويل في محنته أن يبيع الآجلة بالعاجلة؛ إنه يرفض عطايا السلطان حتى لا يوجده عليه، ولكنه يتصدق بها، ويأتيه طعام الخليفة المتوكل الخاص فلا يأكل منه لقمة، رغم فقره المدقع، ولكن الغني غنى النفس؛ فيا لها من نفس أبية غنية!.
وعظمت مكانة الإمام أحمد لدى الخليفة المتوكل؛ فكان لا يولي أحدا إلا بمشورته، "ومكث الإمام إلى حين وفاته قل أن يأتي يوم إلا ورسالة الخليفة تنفذ إليه في أمور يشاوره فيها ويستشيره، رحمهما الله ورضي عنهما"
وهكذا خرج من الاختبار رجلا صالحا، وقد تنوعت طرائق الاختبار، اختبره المأمون بالقيد، فساقه إليه مقيدا مغلولا يثقله الحديد مع بعد الشقة وعظم المشقة، واختبره المعتصم بالحبس والضرب، واختبره الواثق بالمنع والتضييق، فما نالوا من نفسه وما يعتقد، وبعد تلك البلايا ابتلي بالبلاء الأكبر، فساق إليه المتوكل بالنعم، فردها وهو عيوف النفس، وكان يشد على بطنه من الجوع، ولا يتناول مما يشك في حله أو يتورع منه، ثم ابتلي أحمد بعد كل هذا بأعظم بلاء ينزل بالنفس البشرية، وهو إعجاب الناس؛ فقد ابتلي بعد أن انتصر على كل الرزايا بإعجاب الناس، فما أورثه ذلك عجبا ولا ولاه بغرور، بل كان المؤمن المحتسب المتواضع لعزة الله وجلاله الذي لم يأخذه الثناء، وبذلك نجح في أعظم البلاء رحمه الله تعالى .
فضل ثبات أحمد بن حنبل في المحنة على المسلمين :(3/404)
إن ثبات الإمام أحمد في المحنة صَوَّرَ تلك البطولة الفذة في مواجهة الجيوش الخاسرة أبدع تصوير وأصدقه، صور الزبد والحق؛ (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ) [ الرعد : 17 ]
، صور الجبروت والإيمان، صور سيف الحق، صور سجن الدار وحرية النفس، صور قيد الحديد وانطلاق القلب واللسان، صور أن دولة الباطل ساعة ودولة الحق إلى قيام الساعة، صور واجب العلماء في مواجهة المنكر.
لقد كان ثبات الإمام أحمد في المحنة دليل الحيران في هذا الزمان، ومصباح الرشاد في بحر الظلمات، وكان نشره اليوم إسهاما في الدعوة إلى الله، ورسما للسلوك القويم، وما ينبغي أن يكون عليه الداعية من ثبات في العقيدة وقوة في الإيمان وصلابة في الحق"
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن محمد بن إسحاق بن راهويه قال : حدثني أبي قال قال لي أحمد ابن حنبل تعال حتى أريك من لم ير مثله فذهب بي إلى الشافعي قال أبي وما رأى الشافعي مثل أحمد بن حنبل ولولا أحمد وبذل نفسه لذهب الإسلام يريد المحنة .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن ابن المديني قال أعز الله الدين بالصديق يوم الردة وبأحمد يوم المحنة .
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن هلال بن العلاء يقول: شيئان لو لم يكونا في الدنيا لاحتاج الناس إليهما، محنة أحمد بن حنبل، لولاها لصار الناس جهمية، ومحمد بن إدريس الشافعي فإنه فتح للناس الأقفال.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن المزني قال : أحمد بن حنبل يوم المحنة أبو بكر الردة وعمر يوم السقيفة وعثمان يوم الدار وعلي يوم صفين .(3/405)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن محمد بن ابراهيم البوشنجي وذكر أحمد بن حنبل فقال هو عندي أفضل وأفقه من سفيان الثوري وذلك أن سفيان لم يمتحن بمثل ما امتحن به أحمد ولا عِلْم سفيان ومن يقدم من فقهاء الأمصار كعلم أحمد بن حنبل لأنه كان أجمع لها وأبصر بأغاليطهم وصدوقهم وكذوبهم قال ولقد بلغني عن بشر بن الحارث انه قال قام أحمد مقام الانبياء وأحمد عندنا امتحن بالسراء والضراء فكان فيهما معتصماً بالله .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن محمد بن الفضل الأسدي قال لما حُمِلَ أحمد ليُضْرَب جاءوا إلى بشر بن الحارث وقالوا قد وجب عليك أن تتكلم فقال أتريدون مني أقوم مقام الأنبياء ليس ذا عندي حفظ الله أحمد من بين يديه ومن خلفه .
حال أحمد بن حنبل في دولة المتوكل :
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن حنبل قال : ولي المتوكل جعفر فأظهر الله السنة وُفُرِّجَ عن الناس وكان أبو عبد الله يحدثنا ويحدث أصحابه في أيام المتوكل وسمعته يقول ما كان الناس إلى الحديث والعلم أحوج منهم إليه في زماننا .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن حنبل قال : ثم إن المتوكل ذكره وكتب إلى إسحاق بن إبراهيم في إخراجه إليه فجاء رسول إسحاق إلى أبي عبد الله يأمره بالحضور فمضى أبو عبد الله ثم رجع فسأله أبي عما دُعِيَ له ؟ فقال قرأ علي كتاب جعفر يأمرني بالخروج إلى المعسكر يعني سر من رأى قال وقال لي إسحاق ابن إبراهيم ما تقول في القرآن ؟ فقلت إن أمير المؤمنين قد نهى عن هذا ، قال وخرج إسحاق إلى العسكر وقدم ابنه محمدا ينوب عنه ببغداد ،قال أبو عبد الله وقال لي إسحاق بن إبراهيم لا تعلم أحدا أني سألتك عن القرآن فقلت له مسألة مسترشد أو مسألة متعنت قال بل مسترشد قلت القرآن كلام الله ليس بمخلوق .(3/406)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن صالح بن أحمد : قال أبي قال لي إسحاق بن إبراهيم اجعلني في حل من حضوري ضربك فقلت قد جعلت كل من حضرني في حل ، وقال لي من أين قلت انه غير مخلوق فقلت قال الله ^ ألا له الخلق والأمر ^ ففرق بين الخلق والأمر فقال إسحاق الأمر مخلوق فقال يا سبحان الله أمخلوق يخلق خلقا قلت يعني إنما خلق الكائنات بأمره وهو قوله ^ كن ^ الأنعام قال ثم قال لي عمن تحكي أنه ليس بمخلوق قلت عن جعفر بن محمد قال ليس بخالق ولا مخلوق .(3/407)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن حنبل ولم يكن عند أبي عبد الله ما يتحمل به أو ينفقه وكانت عندي مئة درهم فأتيت بها أبي فذهب بها اليه فأصلح بها ما احتاج اليه واكترى وخرج ولم يمض إلى محمد بن إسحاق بن ابراهيم ولا سلم عليه فكتب بذلك محمد إلى ابيه فحقدها إسحاق عليه وقال يا امير المؤمنين ان أحمد خرج من بغداد ولم يات مولاك محمدا فقال المتوكل يرد ولو وطئ بساطي وكان أحمد قد بلغ بصري فرد فرجع وامتنع من الحديث الا لولده ولنا وربما قرأ علينا في منزلنا ثم ان رافعا رفع إلى المتوكل ان أحمد ربص علويا في منزله يريد ان يخرجه ويبايع عليه قال ولم يكن عندنا علم فبينا نحن ذات ليلة نيام في الصيف سمعنا الجلبة وراينا النيران في دار أبي عبد الله فأسرعنا واذا به قاعد في ازار ومظفر بن الكلبي صاحب الخبر وجماعة معهم فقرأ صاحب الخبر كتاب المتوكل ورد على امير المؤمنين ان عندكم علويا ربصته لتبايع له وتظهره في كلام طويل ثم قال له مظفر ما تقول قال ما اعرف من هذا شيئا واني لا ارى له السمع والطاعة في عسري ويسري ومنشطي ومكرهي واثرة علي واني لادعو الله له بالتسديد والتوفيق في الليل والنهار في كلام كثير فقال مظفر قد امرني امير المؤمنين ان احلفك قال فاحلفه بالطلاق ثلاثا ان ما عنده طلبة امير المؤمنين ثم فتشوا منزل أبي عبد الله والسرب والغرف والسطوح وفتشوا تابوت الكتب وفتشوا النساء والمنازل فلم يروا شيئا ولم يحسوا بشي ورد الله الذين كفروا بغيظهم وكتب بذلك إلى المتوكل فوقع منه موقعا حسنا وعلم ان أبا عبد الله مكذوب عليه وكان الذي دس عليه رجل من اهل البدع ولم يمت حتى بين الله امره للمسلمين وهو ابن الثلجي فلما كان بعد ايام بينا نحن جلوس بباب الدار اذا يعقوب احد حجاب المتوكل قد جاء فاستأذن على عبد الله فدخل ودخل أبي وانا ومع بعض غلمانه بدرة على بغل ومعه كتاب المتوكل فقراه على أبي عبد الله انه صح عند امير(3/408)
المؤمنين براءة ساحتك وقد وجه اليك بهذا المال تستعين به فابى ان يقبله وقال مالي اليه حاجة فقال يا أبا عبد الله اقبل من امير المؤمنين ما امرك به فانه خير لك عنده فانك ان رددته خفت ان يظن بك سوءا فحينئذ قبلها فلما خرج قال يا أبا علي قلت لبيك قال ارفع هذه الانجانة وضعها يعني البذرة تحتها ففعلت وخرجنا فلما كان من الليل اذا ام ولد أبي عبد الله تدق علينا الحائط فقالت مولاي يدعو عمه فأعلمت أبي وخرجنا فدخلنا على أبي عبد الله وذلك في جوف الليل فقال يا عم ما اخذني النوم قال ولم قال لهذا المال وجعل يتوجع لأخذه وأبي يسكنه ويسهل عليه وقال حتى تصبح وترى فيه رأيك فإن هذا ليل والناس في المنازل فأمسك وخرجنا فلما كان من السحر وجه إلى عبدوس بن مالك والى الحسن ابن البزار فحضرا وحضر جماعة منهم هارون الحمال وأحمد بن منيع وابن الدورقي وأبي وأنا وصالح وعبد الله وجعلنا نكتب من يذكرونه من اهل الستر والصلاح ببغداد والكوفة فوجه منها إلى أبي كريب وللاشج والى من يعلمون حاجته ففرقها كلها ما بين الخمسين إلى المئة والى المئتين فما بقي في الكيس درهم فلما كان بعد ذلك مات الامير إسحاق بن ابراهيم وابنه محمد ثم ولي بغداد عبد الله بن إسحاق فجاء رسول إلى أبي عبد الله فذهب اليه فقرا عليه كتاب المتوكل وقال له يامرك بالخروج يعني إلى سامراء فقال انا شيخ ضعيف عليل فكتب عبد الله بما رد عليه فورد جواب الكتاب ان امير المؤمنين يأمره بالخروج فوجه عبد الله اجنادا فباتوا على بابنا اياما حتى تهيأ أبو عبد الله للخروج فخرج ومعه صالح وعبد الله وأبي زميلة وقال صالح كان حمل أبي إلى المتوكل سنة سبع وثلاثين ثم إلى ان مات أبي قل يوم يمضي الا ورسول المتوكل يأتيه .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن صالح قال : وجه إسحاق إلى أبي الزم بيتك ولا تخرج إلى جماعة ولا جمعة والا نزل بك ايام أبي إسحاق .(3/409)
صلة المتوكل لأحمد بن حنبل رحمه الله :
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن ابن الكلبي قال : أريد أن أفتش منزلك ومنزل أبيك فقام مظفر وابن الكلبي وامرأتان معهما ففتشوا ودلوا شمعة في البئر ونظروا ثم خرجوا فلما كان بعد يومين ورد كتاب علي بن الجهم أن أمير المؤمنين قد صح عنده براءتك وذكر نحوا من رواية حنبل قال حنبل فأخبرني أبي قال دخلنا إلى العسكر فإذا نحن بموكب عظيم مقبل فلما حاذى بنا قالوا هذا وصيف وإذا بفارس قد أقبل فقال لأبي عبد الله الأمير وصيف يقرئك السلام ويقول لك إن الله قد أمكنك من عدوك يعني ابن أبي داوود وأمير المؤمنين يقبل منك فلا تدع شيئا إلا تكلمت به فما رد عليه أبو عبد الله شيئا وجعلت أنا ادعو لأمير المؤمنين ودعوت لوصيف ومضينا فأنزلنا في دار ايتاخ ولم يعرف أبو عبد الله فسأل بعد لمن هذه الدار قالوا هذه الدار ايتاخ قال حولوني اكتروا لي دارا قالوا هذه دار أنزلكها أمير المؤمنين قال لا أبيت ها هنا ولم يزل حتى اكترينا له دارا وكانت تأتينا في كل يوم مائدة فيها ألوان يأمر بها المتوكل والثلج والفاكهة وغير ذلك فما ذاق منها أبو عبد الله شيئا ولا نظر إليها وكان نفقة المائدة في اليوم مئة وعشرين درهما وكان يحيى بن خاقان وابنه عبيد الله وعلي بن الجهم يختلفون إلى أبي عبد الله برسالة المتوكل ودامت العلة بأبي عبد الله وضعف شديدا وكان يواصل ومكث ثمانية أيام لا يأكل ولا يشرب ففي الثامن دخلت عليه وقد كاد أن يطفا فقلت يا أبا عبد الله ابن الزبير كان يواصل سبعة وهذا لك اليوم ثمانية أيام قال إني مطيق قلت بحقي عليك قال فإني أفعل فأتيته بسويق فشرب ووجه إليه المتوكل بمال عظيم فرده فقال له عبيد الله بن يحيى فإن أمير المؤمنين يأمرك أن تدفعها إلى ولدك وأهلك قال هم مستغنون فردها عليه فأخذها عبيد الله فقسمها على ولده ثم أجرى المتوكل على أهله وولده في كل شهر أربعة الآف فبعث إليه أبو عبد(3/410)
الله إنهم في كفاية وليست بهم حاجة فبعث إليه المتوكل إنما هذا لولدك فما لك ولهذا فأمسك أبو عبد الله فلم يزل يجري علينا حتى مات المتوكل وجرى بين أبي عبد الله وبين أبي كلام كثير وقال يا عم ما بقي من أعمارنا كأنك بالأمر قد نزل فالله الله فإن أولادنا إنما يريدون أن يأكلوا بنا وإنما هي أيام قلائل وإنما هذه فتنة قال أبي فقلت أرجو أن يؤمِنَّكَ الله مما تحذر فقال كيف وأنتم لا تتركون طعامهم ولا جوائزهم لو تركتموها لتركوكم ماذا ننتظر إنما هو الموت فإما إلى جنة وإما إلى نار فطوبى لمن قدم على خير قال فقلت أليس قد أمرت ما جاءك من هذا المال من غير إشراف نفس ولا مسألة أن تأخذه قال قد أخذت مرة بلا إشراف نفس فالثانية وألم تستشرف نفسك قلت أفلم يأخذ ابن عمر وابن عباس فقال ما هذا وذاك وقال لو أعلم أن هذا المال يؤخذ من وجهه ولا يكون فيه ظلم ولا حيف لم أبال ، قال حنبل ولما طالت علة أبي عبد الله كان المتوكل يبعث بابن ماسويه المتطبب فيصف له الأدوية ويدخل فلا ابن ما سويه فقال يا أمير المؤمنين ليست بأحمد علة إنما هو من قلة الطعام والصيام والعبادة فسكت المتوكل ، وبلغ أم المتوكل خبر أبي عبد الله فقلت لابنها اشتهي أن أرى هذا الرجل فوجه المتوكل إلى أبي عبد الله يساله أن يدخل على ابنه المعتز ويدعو له ويسلم عليه ويجعله في حجره فامتنع ثم أجاب رجاء أن يطلق وينحدر إلى بغداد فوجه اليه المتوكل خلعة وأتوه بدابة يركبها إلى المعتز فامتنع وكانت عليه ميثرة نمور فقدم إليه بغل لتاجر فركبه وجلس المتوكل مع أمه في مجلس من المكان وعلى المجلس ستر رقيق فدخل أبو عبد الله على المعتز ونظر إليه المتوكل وأمه فلما رأته قالت يا بني الله الله في هذا الرجل فليس هذا ممن يريد ما عندكم ولا المصلحة أن تحبسه عن منزله فائذن له ليذهب فدخل أبو عبد الله على المعتز فقال السلام عليكم وجلس ولم يسلم عليه بالإمرة فسمعت أبا عبد الله بعد يقول لما(3/411)
دخلت عليه وجلست قال مؤدبه أصلح الله الأمير هذا هو الذي أمره أمير المؤمنين يؤدبك ويعلمك فقال الصبي إن علمني شيئا تعلمته قال أبو عبد الله فعجبت من ذكائه وجوابه على صغره وكان صغيرا ودامت علة أبي عبد الله وبلغ المتوكل ما هو فيه وكلمه يحيى بن خاقان أيضا وأخبره أنه رجل لا يريد الدنيا فأذن له في الانصراف فجاء عبيد الله بن يحيى وقت العصر فقال إن أمير المؤمنين قد أذن لك وأمر أن يفرش لك حراقة تنحدر فيها فقال أبو عبد الله اطلبوا لي زورقا أنحدر الساعة فطلبوا له زورقا فانحدر لوقته ، قال حنبل فما علمنا بقدومه حتى قيل أنه قد وافى فاستقبلته بناحية القطيعة وقد خرج من الزورق فمشيت معه فقال لي تقدم لا يراك الناس فيعرفوني فتقدمته قال فلما وصل ألقى نفسه على قفاه من التعب والعياء وكان ربما استعار الشيء من منزلنا ومنزل ولده فلما صار الينا من مال السلطان ما صار امتنع من ذلك حتى لقد وصف له في علته قرعة تشوى فشويت في تنور صالح فعلم فلم يستعملها ومثل هذا كثير .
[*] قال الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء : وقد ذكر صالح قصة خروج أبيه إلى العسكر ورجوعه وتفتيش بيوتهم على العلوي وورود يعقوب بالبدرة وأن بعضها كان مئتي دينار وأنه بكى وقال سلمت منهم حتى إذا كان في آخر عمري بليت بهم عزمت عليك أن تفرقها غدا فلما أصبح جاءه حسن بن البزار فقال جئني يا صالح بميزان وجهوا إلى أبناء المهاجرين والأنصار وإلى فلان حتى فرق الجميع ونحن في حالة الله بها عليم فجاءني ابن لي فطلب درهما فأخرجت قطعة فأعطيته فكتب صاحب البريد أنه تصدق بالكل ليومه حتى بالكيس قال علي بن الجهم فقلت يا أمير المؤمنين قد تصدق بها وعلم الناس أنه قد قبل منك وما يصنع أحمد بالمال وإنما قوته رغيف قال صدقت .(3/412)
{ تنبيه } : إن في ذكر محنة الإمام أحمد بن حنبل لعبرة للذين يتصدون للبدع والمبتدعين، تظهر مكانة الإمام أحمد بن حنبل في إعلاء كلمة الدين، وكيف حقق الله له ولأتباعه المخلصين النصر المبين، فحفظ بمنه وكرمه للسنة مكانتها وأعلى رايتها.
وصية أحمد بن حنبل رحمه الله :
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عبد الله بن أحمد أوصى أبي هذه هذا ما أوصى به أحمد بن محمد بن حنبل أوصى أنه يشهد أن لا إله إلا الله إلى أن قال وأوصى أنَّ علي لفوران نحوا من خمسين دينارا وهو مصدق فيما قال فيقضي من غلة الدار فإذا استوفى أعطي ولد عبد الله وصالح كل ذكر وأنثى عشرة دارهم شهد أبو يوسف وعبد الله وصالح ابنا أحمد .
وفاة أحمد بن حنبل رحمه الله :
توفي الإمام يوم الجمعة الموافق إثنى عشر من ربيع الأول سنة إحدى وأربعين ومائتين للهجرة ، وله من العمر سبع وسبعون سنة. وقد اجتمع الناس يوم جنازته حتى ملأوا الشوارع. وحضر جنازته من الرجال مائة ألف ومن النساء ستين ألفاً، غير من كان في الطرق وعلى السطوح. وقيل أكثر من ذلك.
وقد دفن الإمام أحمد بن حنبل في بغداد في جانب الكرخ قرب مدينة ماتسمى مدينة الكاظمية , قبره بين مقابر المسلمين وغير معروف سوى مكان المقبرة .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عبد الله قال : سمعت أبي يقول استكملت سبعا وسبعين سنة ودخلت في ثمان فحم من ليلته ومات اليوم العاشر .(3/413)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن صالح بن أحمد بن حنبل قال : لما كان أول ربيع الأول من سنة إحدى وأربعين ومئتين حُمَّ أبي ليلة الاربعاء وبات وهو محموم يتنفس تنفسا شديدا وكنت قد عرفت علته وكنت أمرضه إذا اعتل فقلت له يا ابة على ما أفطرت البارحة قال على ماء باقلي ثم أراد القيام فقال خذ بيدي فأخذت بيده فلما صار إلى الخلاء ضعف وتوكأ علي وكان يختلف إليه غير متطبب كلهم مسلمون فوصف له متطبب قرعة تشوي ويسقي ماءها وهذا كان يوم الثلاثاء فمات يوم الجمعة فقال يا صالح قلت لبيك قال لا تشوي في منزلك ولا في منزل أخيك ، وصار الفتح بن سهل إلى الباب ليعوده فحجبته وأتى ابن علي بن الجعد فحبسته وكثر الناس فقال فما ترى قلت تأذن لهم فيدعون لك قال أستخير الله فجعلوا يدخلون عليه أفواجا حتى تمتليء الدار فيسألونه ويدعون له ويخرجون ويدخل فوج وكثر الناس وامتلأ الشارع وأغلقنا باب الزقاق وجاء جار لنا قد خضب فقال أبي إني لأرى الرجل يحيي شيئا من السنة فأفرح به فقال لي وجه فاشتر تمرا وكفر عني كفارة يمين قال فبقي في خريقته نحو ثلاثة دراهم فأخبرته فقال الحمد لله وقال اقرأ علي الوصية فقرأتها فأقرها ، وكنت أنام إلى جنبه فإذا أراد حاجة حركني فأناوله وجعل يحرك لسانه ولم يئن إلا في الليلة التي توفي فيها ولم يزل يصلي قائما أمسكه فيركع ويسجد وأرفعه في ركوعه قال واجتمعت عليه أوجاع الحصر وغير ذلك ولم يزل عقله ثابتا فلما كان يوم الجمعة لاثنتي عشرة خلت من ربيع الأول لساعتين من النهار توفي .(3/414)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن المروذي قال : مرض أحمد تسعة أيام وكان ربما أذن للناس فيدخلون عليه أفواجا يسلمون ويرد بيده وتسامع الناس وكثروا وسمع السلطان بكثرة الناس فوكل السلطان ببابه وبباب الزقاق الرابطة وأصحاب الأخبار ثم أغلق باب الزقاق فكان الناس في الشوارع والمساجد حتى تعطل بعض الباعة وكان الرجل إذا أراد أن يدخل عليه ربما دخل من بعض الدور وطرز الحاكة وربما تسلق وجاء أصحاب الأخبار فقعدوا على الأبواب وجاءه حاجب ابن طاهر فقال إن الأمير يقرئك السلام وهو يشتهي أن يراك فقال هذا مما أكره وأمير المؤمنين قد أعفاني مما أكره قال وأصحاب الخبر يكتبون إلى العسكر والبرد تختلف كل يوم وجاء بنو هاشم فدخلوا عليه وجعلوا يبكون عليه وجاء قوم من القضاة وغيرهم فلم يؤذن لهم ودخل عليه شيخ فقال اذكر وقوفك بين يدي الله فشهق أبو عبد الله وسالت دموعه فلما كان قبل وفاته بيوم أو يومين قال ادعوا لي الصبيان بلسان ثقيل قال فجعلوا ينضمون اليه وجعل يشمهم ويمسح رؤوسهم وعينه تدمع وأدخلت تحته الطست فرأيت بوله دماً عبيطاً فقلت للطبيب فقال هذا رجل قد فتت الحزن والغم جوفه واشتدت علته يوم الخميس ووضاته فقل خلل الأصابع فلما كانت ليلة الجمعة ثقل وقبض صدر النهار فصاح الناس وعلت الأصوات بالبكاء حتى كأن الدنيا قد ارتجت وامتلأت السكك والشوارع .
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن حنبل قال : أعطى بعض ولد الفضل بن الربيع أبا عبد الله وهو في الحبس ثلاث شعرات فقال هذه من شعر النبي صلى الله عليه وسلم فأوصى أبو عبد الله عند موته أن يجعل على كل عين شعرة وشعرة على لسانه ففعل ذلك عند موته .
يوم موت أحمد بن حنبل :(3/415)