إن الحمدَ لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرورِ أنفسنا وسيئاتِ أعمالنا ، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فلا مُضِلَ لَه ومَنْ يُضْلِلْ فلا هَادِيَ لَه ، وأشهد أن لا إله إلا الله الواحد القهار شهادةٌ أدخرها ليومٍ تذهل فيه العقول وتشخصُ فيه الأبصار شهادةٌ أرجو بها النجاةَ من دار البوار وأؤمل بها جناتٍ تجري من تحتها الأنهار، هو الأولُ فليس قبله شيء والآخرُ فليس بعده شيء والظاهر فليس فوقه شيء والباطن فليس دونه شيء، ليس كمثلهِ شيءٌ وهو السميع البصير ، وأشهد أن محمد عبده ورسوله المصطفى المختار الماحي لظلام الشرك بثواقب الأنوار صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه البررة الأطهار صلاةً تدوم بتعاقب الليل والنهار .
(يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ )[ آل عمران :102]
( يا أيها النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًاً )
[ النساء/ 1 ]
( يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا )[ الأحزاب 70 - 71 ]
أما بعد(1/1)
لما كان الداعية إلى الله تعالى يحتاج إلى الزهد حاجةً مُلِّحَةً مَاسَّةً لأن الزهد ليس من نافلة القول ، بل هو أمر لازم لكل من أراد رضوان الله تعالى والفوز بجنته ، فالزهد طريق النجاة، وسلم الوصول، ومنهاج القاصدين ، ومطلب العارفين، ومطية الصالحين ، وطريق السالكين إلى مرضاة رب العالمين ، والزهد في الدنيا مقام شريف من مقامات السالكين ودربُ من دروب عباد الله الصالحين ، وهو مسلكٌ شريف لنيل حب الله تعالى الذي هو منتهى أمل العبد وأقصى غايته لأنه من نال حب الله تعالى نال السعادة في الدارين ، فنيل محبة الله تعالى هو الغاية القصوى وغايةُ النهاية من المقامات ، والذروة العليا من الدرجات ، فما بعد إدراك المحبة مقام إلا وهو ثمرة من ثمارها ، وتابع من توابعها ، وهو مسلك للتأسي بالنبي - صلى الله عليه وسلم - لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إمام العابدين وسيد الزاهدين ، والزهد كذلك هو سبيل النجاة من حب الدنيا الذي هو رأس كل خطيئة ومصدر كل شر وأساس كل بلية ، وهو أكبر عَوْنٍ بعد الله تعالى في الرغبة في الآخرة إذ لا تتم الرغبة في الآخرة إلا بالزهد في الدنيا ، فالدنيا دار سفر لا دار إقامة، ومنزل عبور لا موطن حبور، وينبغي للمؤمن أن يكون فيها على جناح سفر، يهيئ زاده ومتاعه للرحيل المحتوم، والسعيد من وُفَّق لرؤية الأشياء على حقيقتها واتخذ لهذا السفر زاداً يبلغه إلى رضوان الله تعالى والفوز بالجنة والنجاة من النار.(1/2)
ولما كان المسلمون بأسرهم المتعلم منهم والأمي والمتحضر والبدوي والمدنَّي والقروِّي يحتاجون حاجةً مُلًّحةً ماسَّة إلى ما يُرَقَّق قلوبهم ويتسبب في خشوعها وإنابتها إلى ربها في زمن قست فيه القلوب، وظهرت فيه الذنوب، ولم يستحي الكثير من علام الغيوب فطفقوا يبارزونه بالإثم والحوب ، وفي وقت كثرت فيه الدعوات الأرضية المضلة، واشتد فيه الظلام وظهر الباطل على الحق ظهورا آنيا، وسيطرت فيه المادية حتى تغيرت كثير من القيم السامية ، فما أشد حاجة العبد المسلم إلى الرقائق التي تثبت قلبه في زمن حار فيه الكثير من الناس فانغمسوا في القيم الهابطة التي غزت العقول والقلوب والمجتمعات ، فقد أصبحنا نعيش في مجتمع طغت عليه المادية وانتشرت الشهوات بكل لون وفي كل وقتٍ وحين حتى صار الإنسان غارقاً في الشهوات إلى الأذقان وبلغ فسقه عنان السماء ـ إلا ما رحم ربي ـ ، فأصبحنا في أيام الصبر الذي أخبر عنها النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الآتي :
(حديث أبي ثعلبة الخُشَنِّي رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :إن من ورائكم أيام الصبر ، للمتمسك فيهن يومئذ بما أنتم عليه أجر خمسين منكم . قالوا: يا نبي الله لِلَّهِ أو منهم ؟ قال: بل منكم .(1/3)
ـ وأيام الصبر هي أيام الإبتلاء في الدين والشهوات المستعرة والشبهات المستحكمة ومع ذلك المرء صابر لدينه. فسماها أيام الصبر لأنه لا يستعمل فيها إلا الصبر ولا حلّ إلا الصبر، والصبر هو القائد وهو الملاذ والحصن الحصين ، الذي من دخله عُصِم ـ بخلاف من كان قبلنا كانوا يعيشون في محيطٍ إسلامي والمنكرات تُسْتَتَر، أما الآن فالمنكرات كثرة مما يزيد من احتمال تأثر المؤمن بها من حيث لا يريد ، فتكون الرقائق بمثابة الوقود التي تعطي المسلم طاقة في مواجهة هذه المنكرات ، لأن الرقائق تعطي قوة دفع للمسلم لامتثال ما يؤمر به والانتهاء عما ينهى عنه ، فمثلا كان أول ما أنزل ذكر الجنة والنار وما فيهما وما أعد لأهلهما ، ثم نزلت الأحكام بعد أن تهيأت النفوس للقبول ، تقول عائشة : "أول ما نزل من القرآن سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام ولو نزل أول ما نزل لا تشربوا الخمر لقالوا : لا ندع الخمرة أبدا" ، فالرقائق تقوي الإيمان الذي يعين المسلم على الثبات في مواجهة الشهوات ، ومن المعلوم أن الشهوات سببت ضعف إيمان كثير من المسلمين لأن مخاطبة العقل وحده قد لا تكفي ما لم تكن ممزوجة بإثارة العاطفة ، إذ أن مخاطبة العقل وحده قد لا تنتج إلا معلومات نظرية جافة لا حياة فيها ، أما مخاطبة العقل والعاطفة فتؤدي إلى الإقناع والتطبيق العملي ، ثم إن العناية بالرقائق تجنب طالب العلم بإذن الله الإصابة بالأمراض الفتاكة التي تفتك بدين المسلم كآفة العجب أو الحسد أو الهوى أو غيرها والعياذ بالله .(1/4)
ولما كان المسلم بحاجة ماسةٍ إلى سلوك الأدب وتحقيقه بين الأفراد لأن الناس إذا تحلوا بمراعاة الأدب بينهم حصل الاطمئنان والأمن بينهم ، فحقوقهم مكفولة وسمعتهم محترمة ومكانتهم محفوظة ، فيطمئنون على أنفسهم لأن الأدب ينزع الأحقاد من صدور الناس وإذا التزم الناس بالآداب الشرعية صَفت النفوس فسادت الأخوّة والمحبة والألفة المجتمع ، ثم إن الداعيةُ إلى الله تعالى يحتاجُ إلى التحلي بالآداب سيراً على منهج السلفِ الصالحِ في التعلم حيث كان منهجهم في التعلم ( أن يتلقوْا العلمَ مع الأدب ) لأن العلمَ بلا أدبٍ يجني على صاحبه ويُهلكه لأن الأدب طريقُ العلم النافع : فطالب العلم لن ينال العلم وبركته بدون أدب لأن العلمَ بلا أدبٍ يجني على صاحبه ويُهلكه ، وقد حذّر السلف كثيراً من طلب العلم بدون أدب ، فقال الإمام البوشنجي الفقيه المالكي (ت:291هـ ) ( من أراد العلم والفقه بغير أدب فقد اقتحم أن يكذب على الله ورسوله) سير أعلام النبلاء (13/586) للذهبي ، وأورد الإمام بن الجزري في غاية النهاية في طبقات القُراء عن ابن المبارك قال: طلبت الأدب ثلاثين سنة ، وطلبت العلم عشرين سنة ، وكانوا يطلبون الأدب ثم العلم ، أورد ابن الجوزي في صفة الصفوة عن ابن المبارك قال : كاد الأدب يكون ثلثي العلم ، ،وقال بكر أبو زيد في حلية طالب العلم صـ6 ( لقد تواردت موجبات الشرع على أن التحلّي بمحاسن الأدب ومكارم الأخلاق سِمةُ أهل الإسلام وأن العلم لا يصل إليه إلا المُتحلي بآدابه المتخلي عن آفاته)أهـ ، فالحاصل أن الأدب مهم جداً للفرد وللمجتمع وخاصةً طالب العلم ، وإنما أعني بالآداب أدب الدين والدنيا لأن َأَعْظَمُ الأمور خَطَرًا وَقَدْرًا وَأَعُمُّهَا نَفْعًا وَرِفْدًا مَا اسْتَقَامَ بِهِ الدِّينُ وَالدُّنْيَا وَانْتَظَمَ بِهِ صَلاَحُ الآخرة والأولى؛ لِأَنَّ بِاسْتِقَامَةِ الدِّينِ تَصِحُّ الْعِبَادَةُ، وَبِصَلاَحِ الدُّنْيَا تَتِمُّ(1/5)
السَّعَادَةُ .
لهذه الأسبابِ الثلاثةِ مجتمعة رأيت أن أقدم هذا الجهدَ المُقل المسمى ( فَصْلُ الخِطَابِ في الزُهْدِ والرَقَائِقِ والآداب) مبتدأ بـ ( الزهد ) ثم (الرقائق) ، ثم أنتقل إلى (الآداب) ليتحلى بها طالب فيكون الداعيةُ إلى الله بعد دراسته لهذا الكتاب قد عمل على تزكية نفسه وتهذيبها فيكون زاهداً رقيقَ القلبِ متحلياً بالآداب مما يُؤهله إلى الدعوة إلى الله على بصيرة امتثالاً لقوله تعالى: (قُلْ هََذِهِ سَبِيلِيَ أَدْعُو إِلَىَ اللّهِ عَلَىَ بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [سورة: يوسف - الآية: 108] .
عملي في هذا الكتاب :
(1) إيراد لُباب النقول من الكتب الفحول في الزهد والرقائق والآداب ، بادئاً بكتاب الزهد فأقدم زُبْدَةَ مسائله في إيجازٍ غيرِ مُخِّل فَأُبَيِّنُ حقيقة الدنيا وذم التنافس على الدنيا ثم أقسام الناس في حبهم للدنيا وبيان أضرار حب الدنيا ثم بيان حقيقة الموت ثم أورد تعريف الزهد وبيان حقيقة الزهد ودرجات الزهد وأقسامه وحكم الزهد وفضائل الزهد وحاجة الناس إلى الزهد وبيان كيف يزهد العبد في الدنيا ويرغب في الآخرة وما هي خصال الزهد وعلامات الزهد و متعلقات الزهد وما ليس بزهد وَيُتَوَهَمُ أنه زهد ثم أختم كتاب الزهد ببيان الأسباب المعينة على الزهد في الدنيا . ...(1/6)
ثم أنتقل إلى كتاب الرقائق فأقدم زُبْدَةَ مسائله تعريفاً وَحُكْمَاً في إيجازٍ غيرِ مُخِّل ، فأقوم بتعريف الرقائق ثم بيان حاجة الناس إلى الرقائق ، ثم بيان الأشياء التي تسبب رقة القلب من معرفة الله ومعرفة أسمائه وصفاته واقتضاء هذه المعرفة لآثار هذه الأسماء الحسنى والصفات العلا من العبودية ، وذكر الجنة والنار، وذكر الموت وما بعده من عذاب القبر ونعيمه، والتفكر في أهوال يوم القيامة ، وزيارة القبور وما لها من أثر بالغ في ترقيق القلوب ، واستحضار سوء الخاتمة وحسنها ، وتذكر الذنوب السابقة ، ومعرفة الدنيا وما جُبِلَت عليه من التقلب ، والتفكر في آيات الله الكونية ، ومجالسة الصالحين ، والاستكثار من الأعمال الصالحة ، ثم أتطرق إلى تزكية النفوس وهو من أعظم أبواب الرقائق لأنه يحصل بتزكية النفس تطهيرها وتطييبها، حتى تستجيب لربها وتفلح فى دنياها وآخرتها كما قال تعالى : { قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا } ( الشمس : 9 ،10) .
مما يعمل على ترقيق القلب لا محالة ، فأورد صفوة مسائل تزكية النفوس مبتدأً بشرطي قبول العمل ، ثم فضل العلم والعلماء ، وحكم تعلم العلم و آداب طالب العلم ، ثم أنواع القلوب وأقسامها ، و سموم القلب الأربعة ، و أسباب حياة القلب وأغذيته النافعة من ذكر الله عز وجل وتلاوة القرآن والاستغفار والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - والدعاء ، ثم قيام الليل وفضله ، ثم أحوال النفس ومحاسبتها ، ثم التفكر ، ثم الصبر والشكر ، ثم التوكل ، ثم مقامات الإيمان من المحبة والخوف والرجاء ، ثم التوبة ، ثم التقوى ، ثم الورع وترك الشبهات ، وغيرها .(1/7)
ثم أنتقل إلى كتاب الآداب فأقدم زُبْدَةَ مسائله تعريفاً وَحُكْمَاً في إيجازٍ غيرِ مُخِّل ، فأقوم بتعريف الأدب ، ثم بيان منزلته وفضله، وبيان حاجتنا إلى الأدب ، وما هي مراتبه وأنواعه وكيف نكتسب الأدب الشرعي ، وإنما أعني بالآداب أدب الدين والدنيا لأن َأَعْظَمُ الأمور خَطَرًا وَقَدْرًا وَأَعُمُّهَا نَفْعًا وَرِفْدًا مَا اسْتَقَامَ بِهِ الدِّينُ وَالدُّنْيَا وَانْتَظَمَ بِهِ صَلاَحُ الآخرة والأولى؛ لِأَنَّ بِاسْتِقَامَةِ الدِّينِ تَصِحُّ الْعِبَادَةُ، وَبِصَلاَحِ الدُّنْيَا تَتِمُّ السَّعَادَةُ ، ثم أقوم بشرح كل أدب على حدة في إيجازٍ غير مُخِل ، وما أحَسَنَ تقسيم الإمام الماوردي رحمه الله تعالى في ذلك في كتاب أدب الدين والدنيا ، فإنه كتاب عظيم النفع جداً في الآداب فقد جذبني إليه إنجذاب الحديد للمغناطيس مما جعلني أصنف كتاب الآداب على تصنيفه على أبواب خمسة هي : الْبَابُ الأوَّلُ فَضْلُ الْعَقْلِ وَذَمُّ الْهَوَى ، الْبَابُ الثَّانِي أَدَبُ الْعِلْمِ ، الْبَابُ الثَّالِثُ أَدَبُ الدِّينِ ،الْبَابُ الرَّابِعُ أَدَبُ الدُّنْيَا ، الْبَابُ الْخَامِسُ أَدَبُ النَّفْسِ ، غير أني لم أقتصر على ما فيه من علم رغم سعة علمه وغزارة فهمه ودقة استنباطه بل أضفت إليه زُبدة كتب الآداب مثل الآداب الشرعية لابن مفلح ، لباب الآداب لأسامة بن منقذ رحمه الله توفي سنة (584) ، الأدب المفرد للإمام البخاري رحمه الله ، وأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم وآدابه للحافظ بن حيان الأصبهاني( توفي 369هـ) محقق في أربعة مجلدات ، وكتاب الآداب لفؤاد بن عبد العزيز الشلهوب ،وزاد المعاد في هدي خير العباد لابن القيم (توفي 751هـ) ، وغيرها فاجتمع عندي لُباب النقول من الكتب الفحول ، أسأل الله تعالى أن يُلْبسها حُلل القبول وأن يرزقني وإياكم الثواب المأمول إنه ولي ذلك والقادر عليه .(1/8)
(2) إن هذا الكتاب خلاصةٌ انتَخَلْتها وزبدةٌ استخلصتها بفضل الله تعالى ومعونته وَمِنَتِه من صفوة الكتب في الزهد والرقائق والآداب ، عدا كتب التفسير والحديث والفقه ونحوها ، جمعت منها غرر الفوائد ، ودرر الفرائد ، وأخذتُ منها لباب النقول من الكتب الفحول ، أهديها لكل ِلسَانٍ سَؤوْلٍ وَقَلْبٍ عَقُولٍ ، سائلاً الله تعالى أن يُلْبِسَها حُلَل القبول وأن يرزقني وإياكم الثواب المأمول ، وهآنذا أضع هذا الجهد المُقِل بين يدي القارئ الكريم من باب الذكرى لمن كان له قلب ، أو ألقى السمع وهو شهيد ، يجد فيه وصايا ذهبية صادرة عن إخلاصٍ وحُسنِ طوية لكل من أراد أن تكون نفسه زاكيَةً عليَّةً ، تقيةً نقيةً عفيفةً حييًّةً حرةً أبيَّة مُشَمِّراً في الطاعة حتى تأتيه المَنِيِّة ، راجياً منه أن يُعِرْها سمعه وَفِكْرَه وأن تجد له في سمعه مسمعاً وفي قلبه موقِعاً عسى الله أن ينفعه بها ويُوَفِقْه إلى تطبيقها .
(3) أنني لا أورد حديثاً إلا عزوته إلى بعض الكتب الصحيحة على المنهج الآتي :(1/9)
ما كان في الصحيحين أو أحدهما أكتفي بذلك ، وما لم يكن في الصحيحين أو أحدهما أعزوه إلى صحيح السنن الأربعة إن كان موجوداً بها كلها ، وإن كان موجوداً في بعضها فإنني أعزوه إلى كتابين فقط منهم وإن كان موجوداً في ثلاث ، وإن كان موجوداً في كتاب واحد منهم أعزوه إليه ، وهكذا تجدني أيها القارئ الكريم أُقَدِّمُ الكتبَ الستةَ على غيرها لأنها عماد طالب العلم في الحديث ـ بعد الله تعالى ـ ، وما لم يكن في الكتب الستة فإنني أعزو الحديث إلى غيرها من الكتب الصحيحة مثل صحيح الجامع ، صحيح الأدب المفرد ، السلسلة الصحيحة ، صحيح الترغيب والترهيب ، صحيح السيرة النبوية ، كما أنك تجدني أيها القارئ الكريم أحيل في تصحيح الحديث وتضعيفه على العلامةِ الضياءِ اللامعِ والنجم الساطع الشيخ الألباني رحمه الله ، ونحن حينما نحيل على الشيخ الألباني فإننا ـ ولاشك ـ نُحِيْلُُ على مليٍّ لأنه كوكبُ نظائره وزهرةُ إخوانه في هذا الشأن في زماننا ، هذا العالم الجليل الذي وسَّع دائرةَ الاستفادةِ من السنة بتقديمه مشروع ( تقريب السنة بين يدي الأمة ) ذلك المشروع الذي بذل فيه أكثر من أربعين سنة ، ومن أراد أن يعرف هذه الفائدة العظيمة فلينظر على سبيل المثال إلى السنن الأربعة التي ظلَّت مئات السنين محدودة الفائدة جداً حيث كانت الاستفادة منها مقتصرة على من كان له باع في تصحيح الحديث وتضعيفه ولكن بعد تقديم الشيخ الألباني لصحيح السنن الأربعة اتسعت دائرة الاستفادة حتى تعم كل طالب أراد أن يستفيد ، وهذا ولا شك فائدة عظيمة جداً عند من نور الله بصيرته وأراد الإنصاف ، ومن المؤسف في زماننا هذا أن نرى بعض طلبة العلم ممن لا يقام لهم وزناً في العلم يتطاولون على الشيخ الألباني ويجترئون عليه ويترقبون له الهفوات ويتصيدون له الأخطاء ويلتمسون العثرات ليشهروا به ، وهذا ـ ولا شك ـ يدل على فسادِ النية وسوء الطوية وسقامةِ الضمائر ولؤم السرائر ويدل(1/10)
كذلك على أن قلبه أخلى من جوف البعير ، إذ لو تعلم العلم لَعَلِمَ أن من أدب العلم التوادَ فيه ، ولقد كان ابن عباس - رضي الله عنهما ـ يأخذ بركاب زيد ابن ثابت ـ رضي الله عنه ... ـ ويقول هكذا أمرنا أن نفعل بالعلماء ، وكان الشافعي رحمه الله يقول لعبد الله ابن الإمام أحمد : أبوك من الستة الذين أدعو لهم كل يوم عند السحر ، ولا أدري كيف سوَّلت لهم أنفسهم أن يتطاولوا على عالمٍ صاحب حديث رسول الله أكثر من نصف قرن ؟!، أما كان يجب عليهم أن يدعوا له في كل سجدةٍ يسجدونها لله تعالى جزاءاً لما وفقه الله تعالى في هذا العمل الجليل تجاه السنة المُشَرَّفة بدلاً من أن يتجرئوا عليه ، نعوذ بالله تعالى من الخبال !، ثم ماذا ينقمون عليه ؟! فقد كان رحمه الله تعالى من أئمة الهدى وأعلام التقى ومصابيح الدجى ، من حلية الأولياء وأعلام النبلاء وحراس العقيدة وحماة السنة وأشياع الحق وأنصار دين الله عز وجل ، حاملُ لواء السنة وناصرها وقامع البدعة ودامغها ، كان الكتاب والسنة له كالجناحين للطائر يتمسك بهما ويعضُ عليهما بالنواجذ، وكان رحمه الله تعالى شهاباً ثاقباً ونجماً ساطعاً وبدراً طالعاً وسهماً نافذاً ، وكان كوكبَ نُظَرَائه وزهرةَ إخوانه ، تفوح منه علامات اليُمْنِ وأمارات الخير ورائحة التوفيق والسداد ، واحد زمانه، وإمام عصره وأوانه ، العالم الحبر، ذو الأحلام والصبر، العلم حليفه، والزهد أليفه ، وكان رحمه الله تعالى خزانة علم فكان علمه واسعاً مباركا كالغيث من السماء أينما حل نفع ، يتفجَّرُ العلمُ من جوانبه، وتنطِق الحكمةُ من نواحيه، لا يُشَقُ له غُبارٌ في غزارة علمه ودقة استنباطه للفوائد والأحكام وسعة فقهه ومعرفته بأسرار اللغة العربية وبلاغتها ، وكان رحمه الله ذا همةٍ عاليةٍ تناطح السحاب في طلب العلم فكان يُقْبِلُ على طلب العلم إقبالَ الظامئ على الموردِ العذب فقد أفنى جلَّ عمره في طلب العلم فكان إماماً يقتدى به في(1/11)
ذلك وكان مناراً عظيماً من منارات العلم ، مناراً راسيَ القواعد مُشَيَّدَ الأركان ثابتَ الوطائد ، الإمام اللبيب، ذو اللسان الخطيب، الشهاب الثاقب، والنصاب العاقب، صاحب الإشارات الخفية، والعبارت الجلية ، ذوالتصانيف المفيدة ، والمؤلفات الحميدة ، الصوَّام القوَّام ، الزاهد في الدنيا الراغب في الآخرة ، صاحب الأخلاق الرضية ، والمحاسن السنية ، العالم الرباني المتفق على علمه وإمامته وجلالته وزهده وورعه وعبادته وصيانته في أقواله وأفعاله وحالاته، كان رحمه الله تعالى سراج العباد، ومنار البلاد ، رحمه الله تعالى رحمةً واسعةً تعمُ أرجائه ، وتغمده برحمةٍ فوق ما يخطر ببال أو يدور في الخيال ، وأنعم عليه برضا الكبير المتعال إنه وليُ ذلك والقادرُ عليه .
،(1/12)
ولا أدري كيف يتطاولون على العالم والكتاب والسنة طافحين بما يدل على احترام أهل العلم وتوقيرهم ، ألا فليحذر طالب العلم من أن يكون سيئ الخلق ناطحاً للسحاب يترقب للعالم الهفوات ويلتمس العثرات لِيُشَهِّرَ به فإن ذلك ينقصُ من مقدار التقوى عنده مما يكون سبباً في حرمانه من العلم ، بل ينبغي لطالب العلم أن يكون كريمَ الطباع حميدَ السجايا مهذبَ الأخلاق سليمَ الصدر مفتاحاً للخير مغلاقاً للشر إذا تكلم غَنِم وإذا سكت سَلِم وينبغي له أن يعرف أن العالم مع جلالته وسعة علمه قد يخطأ في اجتهاده فإن لكل جوادٍ كبوة ولكل عالمٍ هَفْوَة وسبحان من له الكمال ، فلا يكن خطأ العالم سبب لانتقاصك لحقه أو فرصة للنيلِ منه ، وليكن نصب عينيك ومحط نظرك وقِبْلة قلبك أن العالم مثابٌ على اجتهاده سواء أصاب أم أخطأ وحسبُك حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - الثابت في الصحيحين عن عبد الله ابن عمرو ـ رضي الله عنهما ـ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران ، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر . ، ثم عليك بعد ذلك أن تترك العالم هو الذي يحكم على العالم واخرج من بين النسور ولا تناطح السحاب .
(4) أنا أقدم هذا الكتاب كتمرين لطالب العلم على حفظ المسألة بأدلتها من الكتاب والسنة الصحيحة حتى ينشأ طالب العلم على هذا النحو وحتى يصل إلى أن يكون ذلك طبعاً له لا تكلفاً ويكون الكتاب والسنة له كالجناحين للطائر يتمسك بهما ويعض عليهما بالنواجذ ، لأن ذلك سبيل النجاةِ من الضلال لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما ثبت في صحيح الجامع عن أبى هريرة رضي الله عنه (تركتُ فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما كتاب الله وسنتي ، ولن يتفرقا حتى يردا عليَّ الحوض )
ولسان حاله يقول : أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا خالفت الوحيين الشريفيين الكتاب والسنة الصحيحة .(1/13)
ويجب التنبيه على طالب العلم أن يتمسك بالوحيين كليهما (الكتاب والسنة) وليس الكتاب فقط لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما ثبت في صحيح أبي داوود عن المقدام ابن معد يكرب رضي الله عنه (ألا وإني أوتيتُ القرآنَ ومثلَه معه ) ومن المؤسف فى زماننا هذا تجرئ بعض الجهلة على النبي - صلى الله عليه وسلم - فيقولون إنه بشر مثلنا هات الدليل من القرآن فقط ـ وهذا يدل ولا شك ـ على أن قائل هذه العبارة جاهل جهلا مركباً بل هو أضل من حمار أهله ، وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن هذا سيقع في أمته فقال فيما ثبت في صحيحي أبى داود والترمذي عن المقدام ابن معد يكرب رضي الله عنه (يوشك الرجل متكئاً على أريكته يُحَدَثُ بحديثٍ من حديثٍ فيقول بيننا وبينكم كتاب الله ،فما وجدنا فيه من حلالٍ استحللناه وما وجدنا فيه من حرامٍ حرمناه ، ألا وإن ما حرَّم رسول الله مثل ما حرم الله )
ولقد كان السلف الصالح رحمهم الله تعالى يدعون إلى التمسك بالوحيين كليهما ويُضَلِلُون من يتمسك بالكتاب فقط ، قال أبو قلابة : إذا رأيت رجل يقول هات الكتاب ودعنا من السنة فاعلم أنه ضال .
[*] وقال الإمام احمد رحمه الله:
دين النبي محمدٍ أخبارُ ... نعم المطيةُ للفتى الآثارُ
لا ترغبَّنَّ عن الحديثِ وأهله ... فالرأيُ ليلٌ والحديثُ نهارُ
[*] وقال الشافعي رحمه الله
كُلُ العلومِ سوى القرآنِ مشغلةٌ ... إلا الحديثِ وعلم الفقه في الدين
العلمُ ما كان فيه قال حدثنا ... وما سوى ذاك وسواسِ الشياطين
(5) أختم الكتاب بفهرس مزود بأرقام الصفحات لسهولة الحصول على العنصر المراد من الكتاب .(1/14)
هذا والله أسأل أن يجعل عملي خالصاً لوجهه الكريم وسبباً لنيلِ جناتِ النعيم وأن يعصمني وقارئه من الشيطان الرجيم ، وأن يتقبل ذلك عنده بقبولٍ حسن ، كما أسأله سبحانه أن يُعلِّمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما عَلَّمنا، وأن يزيدنا عِلمًا، وما كان في هذا الكتاب من صوابٍ فمن الواحد المنان ، وما كان من خطأ فمن نفسي ومن الشيطان ، والله برئ منه وأنا راجعٌ عنه بإذن الله ، فنسأل الله أن يحملنا على فضله ولا يحملنا على عدله إنه سبحانه على من يشاءُ قدير وبالإجابة جدير وهو حسبنا ونعم الوكيل وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه.
أبو رحمة / محمد نصر الدين محمد عويضة
المدرس بالجامعة الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم بجدة فرع مدركة ورهاط وهدى الشام
22/10/1418 هجرية
كتاب الزهد
... باب :حقيقة الدنيا وذم التنافس على الدنيا
- حقيقة الدنيا :
الدنيا دار سفر لا دار إقامة ودار ممرّ لا دار مقرّ، و دار عبور لا دار سرور ، وأنت في الدنيا عُرْضَةُ الأَسْقَامِ وَرَهِينَةُ الأيامِ وأَسِير الْمَنَايَا وَقَرِينُ الرَّزَايَا وَصَرِيعُ الشَّهَوَاتِ وَنُصُب الآفاتِ وَخَلِيفَةُ الأَمْوَاتِ ، لا يحرص على الدنيا لبيب ، ولا يُسَرُّ بها أريب ، وهو على ثقة من فنائها ، وغير طامع في بقائها ، فكيف تنام عينُ من يخشى البيات وكيف تسكن نفس من تَوَقَّعَ في جميع أموره الممات .
واعلم أن الدُّنْيَا خُلِقَت لِتَجُوزَهَا لا لِتَحُوزَهَا ، ولِتَعْبُرَها لا لِتَعْمُرها فاقْتُلْ هَوَاكَ الْمَائِلَ إِلَيْهَا ولا تُعَوّلْ عَلَيهَا ، واعْلَمْ أَنَّ الدُنْيَا مَزْرعةُ النَّوائِبِ ومَشْرَعَةُ المَصَائِبِ ومُفَرّقَةُ المَجَامِعِ ومُجْرِيَةُ المَدَامِعْ .(1/15)
فلا تَغُرَّنكم الحياة الدنيا فإنها دارٌ بِالبَلاءِ مَحْفُوفَة ، وَبِالفَنَاءِ مَعْرُوفَة ، وَبِالغَدْرِ مَوْصُوفَة ، وَكُلُّ مَا فِيهَا إِلَى زَوَالٍ وَهِيَ بَيْنَ أَهْلِهَا دُوَلٌ وَسِجَال .
لا تَدُومُ أَحْوَالُهَا ، وَلا تَسْلَمُ مِنْ شَرِّهَا نُزَّالُهَا ، بَيْنَا أَهْلُهَا فِي صَفِاءٍ وَرَخَاءِ إِذَا هُمْ مِنْهَا في كدرٍ و بَلاءٍ ، وبينا هم في َسُرُورٍ وَحَبُور إِذَا هُمْ مِنْهَا فِي نَكَدٍ وَغُرُور ، العَيْشُ فِيهَا مَذْمُوم وعِزُها لا يَدُوم وفناؤها محتوم .
بَقَاؤُهَا قَلِيلٌ ، وَعَزِيزُهَا ذَلِيل وَغَنِّيها فَقِير ، َحَيُّهَا يَمُوت وودُّها يفوت ، فلا يغرنَّك إِقْبَالُهَا فسريعٌ إِدْبَارِهَا .
والدنيا ظلٍ زائلٍ وخيال حائر إن أضحكت قليلاً أبكت كثيرًا وإن سرت يومًا أساءت دهرًا ، جمعها على انصداع ووصلها على انقطاع ، لا تصفو لشارب ولا تبقي لصاحب .
وَمِقْدارُ اللُّبثِ في الدنيا قَلِيل ، والحبسُ في القُبور طَوِيل ، والعذابُ على مُوافَقَة الهَوى وبيل .
فأينَ لَذّةُ أَمْس ؟! رَحَلَتْ وأَبْقَتْ نَدَمًا ، وأينَ شَهْوةُ النفسِ ؟ كم نَكَّسَتْ رَأْسًا ، وَزَلَّتْ قَدَمًا ، وما سَعِدَ مَن سَعِدَ إلا بِخِلاف هَواهُ ، ولا شَقِيَ مَن شَقِيَ إلا بإيثار دُنياه ، أهلها كلاب عاوية وسباع ضارية، يهر بعضها بَعْضًا ، ويأكل عزيزها ذليلها ، ويقهر كبيرها صغيرها .
فانظر إليها بعين الحقيقة فإنها دار كثير بوائقها وذمها خالقها ، وهي دار نفاد لا دار إخلاد ودار عبور لا دار حبور ودار فناء لا بقاء ودار انصرام لا دار دوام ، جديدها يبلى وملكها يفنى وعزيزها يذل وكثيرها يقل ودها يموت وخيرها يفوت .(1/16)
إقبالها خديعة وإدبارها فجيعة لا تدوم أحوالها ولا يسلم نزالها ، حالها انتقال وسكونها زوال ، غَرَّارَةٌ خَدُوع مُعْطِيَةٌ مَنُوع نزوع ، ويكفي في هوانها على الله أن الله تعالى لا يعصى إلا فيها ولا ينال ما عنده إلا بتركها .
كيف أمنت هذه الحالة ؟!، وأنت صائر إليها لا محالة ، أم كيف ضيعت حياتك وهى مطيتك إلى مماتك ، أم كيف تهنأ بالشهوات ، وهى مطية الآفات .
عباد الله إن من نظر إلى الدُّنْيَا بعين البصيرة أيقن أن نعيمها ابتلاء ، وحياتها عناء ، وعيشها نكد وصفوها كدر ، وأهلها مَنْهَا على وجل إما بنعمة زائلة ، أَوْ بلية نازلة أَوْ مَنيَّة قاضية .
مسكين من اطمأن ورضي بدارٍ حلالها حساب ، وحرامها عقاب ، إن أخذه من حلال حوسب عَلَيْهِ ، وإن أخذه من حرام عذب به ، من استغنى فِي الدُّنْيَا فتن ، ومن افتقر فيها حزن ، من أحبها أذلته ، ومن التفت إليها ونظرها أعمته .
كَيْفَ يطمعُ عاقِلٌ في الإقامة بدار الرحيل ، كيف يَضحَك من هو مَحْفُوفَ بمُوجبات البُكاء والعَويل ، أسْمَعَنا النَّاصِحُ فَتَصَامَمْنَا ، وَأيْقَظَتْنَا الغيَر فَتَنَاومْنَا ، وَرَضِينَا بَالْحَياةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخرِة ، واشْتَرَيْنَا مَا يَفْنَى بِمَا يَبْقَى فَتِلْكَ إِذًا صفقَةٌ خَاسِرَة .
أَيْنَ الآذَانُ الْواعِية ، أيْنَ الأعْيُنُ البَاكِية ، قَوْلٌ بلا فِعَال وأمْرٌ بلا امتثال ، رُسُلُ مَلَكِ الموت في كُل نَفَس تَدْنُوا إلى أنْفُسِنَا وأجْسَادُ أَحِبَّتِنَا تحتَ أطباق الثرى هَامدة .
وتأمل في قول الخليفة الراشد علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - الذي وعى حقيقة الدنيا ، تأمله بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد ، ودرر الفرائد .(1/17)
[*] قَالَ عَلِيّ رَضيَ اللهُ عَنْهُ لِعَمَّارٍ عَلاَمَ تَتَأَوَّهُ ؟ إن ْكَانَ عَلَى الدُّنْيَا فَقَدْ خَسِرَتْ صَفْقَتُكَ ، وإنْ كانَ علَى الآخِرَةِ فَقَدْ رَبِحَتْ تِجَارَتُكَ ، يَا عَمَّارُ إنَّيْ وَجَدْتُ لَذّاتِ الدُّنْيَا في أَحْقَرِ الأشْيَاءِ الطَّعَامِ وَأَفْضَلُهُ العَسَلُ وَهُوَ مِنْ حَشَرَةِ ،المَشْرُوْبَاتِ وَأَفْضَلْهَا سَائِرَةٌ في الهَوَاءِ ، المَلْبُوْسَاتُ وَأَفْضلُهَا الحَرِيْرُ وَهُوَ مِنْ دُوْدِ القَزِّ ، المَشْمُوْمَاتُ وَأَفْضَلُهَا المِسْكُ وَهُوَ مِنْ فَأرَةٍ ، المَسْمُوْعَاتُ وَهِيَ أعْرَاضٌ سَائِرَةٌ في الهَوَاءِ ، النِّكَاحُ وَهُوَ مَبَالٌ في مَبَالٍ وَحَسْبُكَ أَنَّ المَرْأةَ تَتَزَيَّا بأَقْبَحِ شَئٍ فِيْهَا : هَذِهِ العِظَةُ تَكْشِفُ لَنَا عَنْ هَوَانِ الدُّنْيَا عَلَى اللهِ حَيْثُ جَعَلَ لَذَّاتِهَا في أحْقَرِ الأَشياء والله أعلم
فلا تَغُرنّكُم الحَياةُ الدنيا فإنها داٌر بالبلاء مَحفُوفةٌ ، وبالفناء معروفة ، وبِالغَدر مَوْصُوفَةٌ ، كُلُ ما فيها زَوال وهي بينَ أهلِها دُوَلٌ وسِجَال ، لا تَدُومُ أهوالُها ،ولن يَسْلَمَ مِن شرِها نُزَّالهُا ، بينا أهلِها منها في رَخَاءٍ وسُرور ، إِذا هم مِنها في بلاء وغُرُور ، أَحْوَالٌ مُخْتَلِفة ، وتاراتٌ مُتَصَرّفَةٌ .
العيشُ فيها مَذْمُوم ، والرخاءُ فيها لا يَدُوم ، وإنما أهلهُا فيها أغراضٌ مُسْتَهْدفَة تَرْمِيهم بسهامِها ، وتقصِمُهم بِحِمامِها ، حتفُه فيها مَقْدُور وحظُّه فيها مَوْفُور .
واعلموا عِبَادَ اللهِ أن ما أنتم فيه مِن زهرةِ الدُنيا على سبيل مَن قد مَضَى مِمَّنْ كان أطولَ منكم أعماراً ، وأَشَدَّ مِنكم بَطْشاً ، وأَعمَرَ دِياراً ، وأبعدَ آثاراً .
فأصْبَحَتْ أموالُهم هامِدَةً مِن بعدِ نُقْلَتِهِم، وأَجْسَادُهُم بالِية وَدِيارُهُم خَالِية ، وآثارُهُم عافِية ،(1/18)
فاستبدلُوا بالقُصور الْمُشَيَّدَةِ والنمارِقِ الْمُمَّهَدَةِ الصُّخُورَ والأحجارَ في القُبور التي قَدْ بُنيَ على الخراب فِناؤُهَا ، وشُيِّدَ بالتراب بِنَاؤُهَا .
فَمَحَلُّهَا مُقْتَرب ، وساكنها مُغْتَرب ، بينَ أَهْلَ عِمَارَةٍ مُوْحِشِين ، وأَهْلِ مَحَلَّةٍ مُتَشَاغِلِين ، لا يَسْتأْنِسُونَ بالعُمْران ، ولا يَتَواصَلُون تَواصُلَ الجِيران والإِخوان ، على مَا بينهُم مِن قُرْبِ الجِوار ، ودُّنُوّ الدار .
وكَيْفَ يكونُ بَيْنَهُم تَواصُلٌ وقد طَحَنَهُم بِكَلْكَلِةِ البِلَى وأَظَلَّتْهُمُ الجَنَادِلُ والثرَّى ، فَأَصْبَحُوا بعد الحياة أَمْوَاتاً ، وبَعْدَ غَضَارَةِ العَيشِ رُفَاتاً .
فُجِعَ بِهِم الأَحْبَاب ، وسَكَنُوا التُراب ، وظَعَنُوا فليسَ لهم إِياب ، هَيْهَاتَ هَيْهاتَ ، { كَلاّ إِنّها كَلمةٌ هو قائلها ومنِ وَرَائِهمْ بَرزَخٌ إلى يومِ يُبْعَثُون } [ المؤمنون : 100 ]
وكأن قد صِرْتُم إلى مَا صَارُوا إِليه مِن البِلى ، والوَحْدَةِ في دَارِ المَثْوَى ، وارْتُهِنْتم في ذلك المَضْجَع ، وضَمَّكُم ذلك الْمُسْتَودَع .
فكيف بكم لو قَدْ تَنَاهَت الأُمُور ، وبُعثِرتِ القُبور ، وحُصّلَ ما في الصُدور ، وَوَقَفْتُم لِلَّتحْصِيل ، بين يَدَي الملِكِ الجَليلِ .
فَطَارَتِ القُلُُُوبِ ، لإِشْفَاقِها مِن سَالفِ الذُنُوبِ ، وهُتَكَتْ عَنكُم الحُجُب و الأَسْتَار ، وظَهَرتْ مِنكم العُيوبُ والأَسْرَار .
هُنَالِكَ { تُجْزى كلُّ نَفْسٍ بِما كسَبتْ } [ غافر : 17 ] ألم تسمع قول الله تعالى : { لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى } [ النجم : 31 ](1/19)
وقال تعالى : { وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَي الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إلا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ) . [ الكهف : 49 ]
فِي صَلاتِهِمْ وَصِيَامِهِمْ وَنِكَاحِهِمْ وَمُكْثِهِمْ فِي الأَمْلاكِ الْمَسْكُونَة قَهْرًا وَغَضْبًا ؟ أَيْنَ الْمُتَفَقِّدُونَ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ الذِينَ لَيْسَ لَهُم مَوَارِدٌ ؟(1/20)
عَثَرَتْ واللهِ بِهِمْ العَوَاثِرُ وَأَبَادَتْهُمْ السِّنِينُ الغَوَابِرُ ، وَبَتَرَتْ أَعْمَارُهُم الحَادِثَاتُ البَوَاتِرُ وَاخْتَطَفَهَمُ عَقَبَاتٌ كَوَاسِر ، وَخَلَتْ مِنْهُمْ الْمَشَاهِدُ وَالْمَحَاضِرُ وَعُدِمَتْ مِنْ أَجْسَادِهِمْ تِلْكَ الجَوَاهِرُ وَطَفِئَتْ مِنْ وُجُوهِهِمْ الأَنْوَارُ الزَّوَاهِرُ وَابْتَلَعَتْهُمْ الحُفَرُ وَالْمَقَابِرُ إِلي يَوْمِ تُبْلَى السَّرَائِرُ فَلَوْ كُشِفَتْ عَنْهُمْ أَغْطِيَةُ القُبُورِ بَعْدَ لَيْلَتَيْنِ أَوْ ثَلاثِ لَيَالٍ لَرَأَيْتَ الأَحْدَاقَ عَلَى الخُدُودِ سَائِلَةٌ وَالأوْصَال بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ مَائِلَةٌ وَدِيدَانَ الأَرْضِ فِي نَوَاعِمِ تَلْكَ الأَبْدَانِ جَائِلَةٌ وَالرُّؤُوسَ الْمُوَسَّدَةُ عَلَى الإِيمَانِ زَائِلَةً يُنْكِرُهَا مَنْ كَانَ عَارِفًا بِهَا وَيَنْفُرُ عَنْهَا مَنْ لَمْ يَزَلْ آلِفًا بِهَا ، فَلا يُعْرَفُ السَّيدُ مِنْ الْمَسُودِ وَلا الْمَلِكُ مِنْ الْمَمْلُوكِ وَلا الذَّكِيُّ مِنْ البَلِيدِ وَلا الغَنيُّ مِنْ الفَقِيرِ فَرَحِمَ اللهُ عَبْدًا بَادَرَ بالإقْلاعِ عَنْ السَّيِّئَاتِ وَوَاصَلَ الإِسْرَاعَ وَالْمُبَادَرَةَ فِي الأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ قَبْلَ انْقِطَاعِ مُدَدِ الأَوْقَاتِ وَطَيِّ صَحَائِفِ الْمُسْتَوْدَعَاتِ وَنَشْرِ فَضَائِحِ الاقْتِرَافَاتِ وَالجِنَايَاتِ فَلا تَغْتَرُّوا بِحَيَاةٍ تَقُودُ إلى الْمَمَاتِ فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّمَا تُوْعَدُونَ لآتٍ فَالبِدَارَ الْبِدَارَ قَبْلَ أَنْ تَتَمَنَّوا الْمُهْلَةَ وَهَيْهَاتَ .
التحذير من الافتتان بالدنيا والركون إليها :(1/21)
يا أَيُّهَا النَّاس إِنَّ هَذِهِ الدَّارَ دَارُ التواء لا دَارُ استواء ، ومَنزل تَرَح ، لا منزل فَرَح ، مَنْ عَرَفَهَا لَمْ يَفْرَحِ لِرَخَاءٍ ، وَلَمْ يحزَن لشقاء أَلا وَإِنَّ الله عَزَّ وجل خلَقَ َالدُّنْيَا دَارَ بَلْوَى ، والآخرةَ دَارِ عُقْبَى فجعلَ بَلْوَى الدُّنْيَا لِثوابِ الآخرةِ سَبَبًا وَثَوَابَ الآخرة مِنْ بَلْوَى الدُّنْيَا عِوَضًا ، فيأخذ لِيُعْطي ، وَيُبْتَلى لِيَجْزي ، إِنَّهَا لَسَرِيعَةُ الذَّهَابِ ، وَشِيكَةُ الانْقِلاب ، فاحْذَرُوا حَلاوَةَ رِضَاعِهَا لِمَرَارَةِ فِطَامِهَا ، وَاهْجُرُوا لَذِيذَ عَاجِلِها لِكَرِيهِ آجِلِهَا وَلا تَسْعَوا فِي عُمْرَانِ دَارٍ قَدْ قَضَى الله خَرَابَها وَلا تُوَاصِلُوهَا ، وَقَدْ أَرَادَ الله مِنْكُمْ اجْتِنَابِهَا ، فَتَكُونُوا لِسُخْطِهِ مُتَعَرِّضِينَ ، وَلِعُقُوبَتِه مُسْتَحِقِّينَ .
واعلم علم اليقين الذي لا يخالطه شك أن حب الدنيا رأس كل خطيئة :
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان الثوري. قال قال عيسى بن مريم عليه السلام: حب الدنيا رأس كل خطيئة، والمال فيه داء كثير، قيل: يا روح الله: ما داؤه ؟ قال: لا يؤدي حقه، قالوا: فإن أدى حقه. قال: لا يسلم من الفخر والخيلاء، قالوا: فإن سلم من الفخر والخيلاء ؟ قال: يشغله استصلاحه عن ذكر الله.
[*] وأخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الحسن، قال : والله لقد عبدت بنو إسرائيل الأصنام بعد عبادتهم للرحمن تعالى بحبهم الدنيا.(1/22)
[*] وأخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن إبراهيم بن أدهم قال : ليس من أعلام الحب أن تحب ما يبغض حبيبك، ذم مولانا الدنيا فمدحناها، وأبغضها فأحببناها، وزهدنا فيها فآثرناها ورغبنا في طلبها، وعدكم خراب الدنيا فحصنتموها، وَنُهِيْتُم عن طلبها فطلبتموها، وأنذركم الكنوز فكنزتموها دعتكم إلى هذه الغرارة دواعيها، فأجبتم مسرعين مناديها، خدعتكم بغرورها ومنتكم، فأنفذتم خاضعين لأمنيتها تتمرغون في زهواتها، وتتمتعون في لذاتها، وتتقلبون في شهواتها، وتتلوثون بتبعاتها، تنشبون بمخالب الحرص عن خزائنها، وتحفرون بمعاول الطمع في معادنها، وتبنون بالغفلة في أماكنها وتحصنون بالجهل في مساكنها، تريدون أن تجاوروا الله في داره، وتحطوا رحالكم بقربه، بين أوليائه وأصفيائه، وأهل ولايته، وأنتم غرقى في بحار الدنيا حيارى، ترتعون في زهواتها، وتتمتعون في لذاتها، وتتنافسون في غمراتها، فمن جَمْعِها ما تشبعون، ومن التنافس فيها ما تَمِلُّون، كذبتم والله أنفسكم وغرتكم ومنتكم الأماني، وعللتكم بالتواني، حتى لا تعطوا اليقين من قلوبكم، والصدق من نياتكم، وتتنصلون إليه من مساوىء ذنوبكم وتعصوه في بقية أعماركم ، أما سمعتم الله تعالى يقول في محكم كتابه : ( أَمْ نَجْعَلُ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتّقِينَ كَالْفُجّارِ ) [ ص : 28]. لا تنال جنته إلا بطاعته ، ولا تنال ولايته إلا بمحبته، ولا تنال مرضاته إلا بترك معصيته، فإن الله تعالى قد أعد المغفرة للأوابين، وأعد الرحمة للتوابين، وأعد الجنة للخائفين، وأعد الحور للمطيعين، وأعد رؤيته للمشتاقين، قال تعالى: ( وَإِنّي لَغَفّارٌ لّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحَاً ثُمّ اهْتَدَىَ ) [ طه : 82]. من طريق العمى إلى طريق الهدى .(1/23)
[*] وأخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن إبراهيم بن بشار قال: ما رأيت في جميع من لقيته من العباد والعلماء والصالحين والزهاد أحداً يبغض الدنيا ولا ينظر إليها مثل إبراهيم بن أدهم، ربما مررنا على قوم قد هدموا حائطا أو دارا أو حانوتا فيحول وجهه ولا يملأ عينيه من النظر إليه، فعاتبته على ذلك، فقال: يا ابن بشار اقرأ ما قال الله تعالى: ( لِيَبْلُوَكُمْ أَيّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ) [ الملك : 2] و لم يقل أيكم أحسن عمارة للدنيا وأكثر حبا وذخرا وجمعا لها، ثم بكى وقال: صدق الله عز اسمه فيما يقول: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنّ وَالإِنسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ) [ الذاريات : 56] و لم يقل وما خلقت الجن والأنس إلا ليعمروا الدنيا ويجمعوا الأموال، ويبنوا الدور ويشيدوا القصور ويتلذذوا ويتفكهوا، ويجعل يومه أجمع يردد ذلك ويقول: (فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ) [ الأنعام: 90]. قال تعالى: (وَمَآ أُمِرُوَاْ إِلاّ لِيَعْبُدُواْ اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ حُنَفَآءَ وَيُقِيمُواْ الصّلاَةَ وَيُؤْتُواْ الزّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ القَيّمَةِ) [ البينة : 5] وسمعته يقول: قد رضينا من أعمالنا بالمعاني، ومن التوبة بالتواني ، ومن العيش الباقي بالعيش الفاني. وكان يقول: إياكم والكبر، إياكم والأعجاب بالأعمال، أنظروا إلى من دونكم ولا تنظروا إلى من فوقكم، من ذلل نفسه رفعه مولاه، ومن خضع له أعزه، ومن اتقاه وقاه، ، ومن أقبل إليه أرضاه، ومن توكل عليه كفاه، ومن سأله أعطاه، ومن أقرضه قضاه، ومن شكره جازاه فينبغي للعبد أن يزن نفسه قبل أن يوزن، ويحاسب نفسه قبل أن يحاسب، ويتزين ويتهيأ للعرض على الله العلي الأكبر.(1/24)
قال: وسمعت إبراهيم يقول: اشغلوا قلوبكم بالخوف من الله، وأبدانكم بالدأب في طاعة الله، ووجوهكم بالحياء من الله، وألسنتكم بذكر الله، وغضوا أبصاركم عن محارم الله، فإن الله تعالى أوحى إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم يا محمد كل ساعة تذكرني فيها فهي لك مذحورة، والساعة التي لا تذكرني فيها فليست لك، وهي عليك لا لك .
[*] وأخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن شقيقٍ البلخي قال : عملت في القرآن عشرين سنة حتى ميزت الدنيا عن الآخرة فأصبته في حرفين وهو قوله تعالى: (وَمَآ أُوتِيتُم مّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِندَ اللّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَىَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ) [ القصص : 60]
[*] وأخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن فضيل بن عياض قال: ليست الدار دار إقامة، وإنما أهبط آدم إليها عقوبة، ألا ترى كيف يزويها عنه ويمرر عليه بالجوع مرة وبالعرى مرة وبالحاجة مرة ؟ كما تصنع الوالدة الشفيقة بولدها، تسقيه مرة حضيضا ومرة صبرا وإنما تريد بذلك ما هو خير له .(1/25)
[*] وأخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الفيض بن إسحاق: اشتريت دارا وكتبت كتابا وأشهدت عدولا فبلغ ذلك الفضيل بن عياض فأرسل إلي يدعوني فلم أذهب، ثم أرسل إلي فمررت إليه، فلما رآني قال: يا ابن يزيد بلغني أنك اشتريت داراً وكتبت كتاباً وأشهدت عدولا، قلت: قد كان ذلك، قال: فإنه يأتيك من لا ينظر في كتابك ولا يسأل عن بينتك حتى يخرجك منها شاخصا، يسلمك إلى قبرك خالصاً، فانظر أن لا تكون اشتريت هذه الدار من غير مالك، أو ورثت مالا من غير حله، فتكون قد خسرت الدنيا والآخرة، ولو كنت حين اشتريت كتبت على هذه النسخة : هذا ما اشترى عبد ذليل من ميت قد أزعج بالرحيل، اشترى منه دارا تعرف بدار الغرور، حد منها في زقاق الفناء إلى عسكر الهالكين، ويجمع هذه الدار حدود أربعة: الحد الأول ينتهي منها إلى دواعي العاهات، والحد الثاني ينتهي إلى دواعي المصيبات، والحد الثالث ينتهي منها إلى دواعي الآفات، والحد الرابع ينتهي إلى الهوى المردى، والشيطان المغوي، وفيه يشرع باب هذه الدار على الخروج من عز الطاعة إلى الدخول في ذل الطلب، فما أدركك في هذه الدار فعلى مبلبل أجسام الملوك، وسالب نفوس الجبابرة، ومزيل ملك الفراعنة، مثل كسرى وقيصر، وتبع وحمير، ومن جمع المال فأكثر، واتحد ونظر بزعمه الولد، ومن بني وشيد وزخرف، وأشخصهم إلى موقف العرض إذا نصب الله عز وجل كرسيه لفصل القضاء، وخسر هنالك المبطلون، يشهد على ذلك العقل إذا خرج من أسر الهوى، ونظر بالعينين إلى زوال الدنيا، وسمع صارخ الزهد عن عرصاتها، ما أبين الحق لذي عينين، إن الرحيل أحد اليومين، فبادروا بصالح الأعمال فقد دنا النقلة والزوال.(1/26)
[*] وأخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الفضل بن الربيع قال: حج أمير المؤمنين فاتأني فخرجت مسرعاً، فقلت: يا أمير المؤمنين لو أرسلت إلى أتيتك، فقال: ويحك قد حاك في نفسي شيء فأنظر لي رجلاً أسأله، فقلت: هاهنا سفيان بن عيينة، فقال: امض بنا إليه، فأتيناه فقرعنا الباب، فقال: من ذا ؟ قلت: أجب أمير المؤمنين، فخرج مسرعاً، فقال: يا أمير المؤمنين لو أرسلت إلي أتيتك، فقال: خذ لما جئناك له رحمك الله، فحدثه ساعة ثم قال له: عليك دين ؟ فقال: نعم، قال: أبا عباس اقض دينه، فلما خرجنا قال: ما أغنى عني صاحبك شيئا، أنظر لي رجلا أسأله، قلت: هاهنا عبد الرزاق بن همام، قال: امض بنا إليه، فاتيناه فقرعنا الباب فخرج مسرعاً فقال: من هذا ؟ قلت: أجب أمير المؤمنين، فقال: يا أمير المؤمنين لو أرسلت إلي أتيتك، فقال: خذ لما جئناك له، فحادثه ساعة ثم قال له: عليك دين ؟ قال: نعم قال: أبا عباس اقض دينه. فلما خرجنا قال: ما أغنى عني صاحبك شيئاً، أنظر لي رجلاً أسأله، قلت: هاهنا الفضيل بن عياض قال: امض بنا إليه، فأتيناه فإذا هو قائم يصلي يتلو آية من القرآن يرددها، فقال: اقرع الباب، فقرعت الباب، فقال: من هذا ؟ قلت: أجب أمير المؤمنين، فقال: مالي ولأمير المؤمنين ؟ فقلت: سبحان الله، أما عليك طاعة ؟ أليس قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ليس للمؤمن بذل نفسه فنزل ففتح الباب ثم ارتقى إلى الغرفة فأطفأ السراج ثم التجأ إلى زاوية من زوايا البيت، فدخلنا فجعلنا نجول بأيدينا، فسبقت كف هارون قبلي إليه، فقال: يا لها من كف، ما ألينها إن نجت غداً من عذاب الله عز وجل.(1/27)
فقلت في نفسي: ليكلمنه الليلة بكلامٍ تقي من قلبٍ نقي ، فقال له: خذ لما جئناك له رحمك الله، فقال: إن عمر بن عبد العزيز لما ولى الخلافة دعا سالم بن عبد الله ومحمد بن كعب القرظي ورجاء بن حيوة فقال لهم: إني قد ابتليت بهذا البلاء فأشيروا علي، فعد الخلافة بلاء وعددتها أنت وأصحابك نعمة، فقال له سالم بن عبد الله: إن أردت النجاة من الله فصم الدنيا وليكن إفطارك منها الموت، وقال له محمد بن كعب: إن أردت النجاة من عذاب الله فليكن كبير المؤمنين عندك أبا، وأوسطهم عندك أخا، وأصغرهم عندك ولدا، فوقر أباك وأكرم أخاك وتحنن على ولدك ، وقال له رجاء بن حيوة: إن أردت النجاة غداً من عذاب الله فأحب للمسلمين ما تحب لنفسك، واكره لهم ما تكره لنفسك، ثم مت إذا شئت، وإني أقول لك فإني أخاف عليك أشد الخوف يوماً تزل فيه الأقدام، فهل معك رحمك الله مثل هذا ؟ أو من يشيرعليك بمثل هذا فبكى هارون بكاء شديدا حتى غشى عليه، فقلت له: ارفق بأمير المؤمنين، فقال: يا ابن الربيع تقتله أنت وأصحابك وأرفق به أنا ؟ ثم أفاق فقال له: زدني رحمك الله، فقال: يا أمير المؤمنين بلغني أن عاملاً لعمر بن عبد العزيز شكى إليه فكتب إليه عمر: يا أخي أذكرك طول سهر أهل النار مع خلود الأبد، وإياك أن ينصرف بك من عند الله فيكون أخر العهد وانقطاع الرجاء، قال: فلما قرأ الكتاب طوى البلاد حتى قدم على عمر بن عبد العزيز، فقال له: ما أقدمك ؟ قال: خلعت قلبي بكتابك لا أعود إلى ولاية حتى ألقى الله عز وجل ، قال: فبكى هارون بكاء شديدا، ثم قال له: زدني رحمك الله، فقال: يا أمير المؤمنين إن العباس عم المصطفى صلى الله عليه وسلم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أمِّرْنِّي على إمارة، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: إن الإمارة حسرة وندامة يوم القيامة، فإن استطعت أن لا تكون أميراً فافعل ، فبكى هارون بكاء شديداً، فقال له: زدني رحمك الله، قال: يا(1/28)
حسن الوجه، أنت الذي يسألك الله عز وجل عن هذا الخلق يوم القيامة، فإن استطعت أن تقي هذا الوجه من النار، فإياك أن تصبح وتمسي وفي قلبك غش لأحد من رعيتك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من أصبح لهم غاشاً لم يرح رائحة الجنة . فبكى هارون وقال له: عليك دين ؟ قال: نعم دين لربي لم يحاسبني عليه، فالويل لي إن سألني والويل لي إن ناقشني، والويل لي إن لم اللهم حجتي. قال: إنما أعني من دين العباد، قال: إن ربي لم يأمرني بهذا، إنما أمرني أن أصدق وعده وأطيع أمره، فقال جل وعز ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنّ وَالإِنسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ * مَآ أُرِيدُ مِنْهُم مّن رّزْقٍ وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ * إِنّ اللّهَ هُوَ الرّزّاقُ ذُو الْقُوّةِ الْمَتِينُ ) [الذاريات 56: 58] . فقال له: هذه ألف دينار خذها فأنفقها على عيالك وتقو بها على عبادتك، فقال: سبحان الله أنا أدلك على طريق النجاة، وأنت تكافئني بمثل هذا ؟ سلمك الله ووفقك. ثم صمت فلم يكلمنا، فخرجنا من عنده، فلما صرنا على الباب قال هارون: إذا دللتني على رجل فدلني على مثل هذا، هذا سيد المسلمين، فدخلت عليه امرأة من نسائه فقالت: ياهذا قد ترى ما نحن فيه من ضيق الحال، فلو قبلت هذا المال فتفرجنا به ؟ فقال لها: مثلي ومثلكم كمثل قوم كان لهم بعير يأكلون من كسبه، فلما كبر نحروه فأكلوا لحمه. فلما سمع هارون هذا الكلام قال: ندخل فعسى أن يقبل المال، فلما علم الفضيل خرج فجلس في السطح على باب الغرفة فجاء هارون فجلس إلى جنبه فجعل يكلمه فلا يجيبه، فيبنا نحن كذلك إذ خرجت جارية سوداء فقالت: يا هذا قد آذيت الشيخ منذ الليلة، فانصرف رحمك الله، فانصرفنا .(1/29)
[*] وأخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن يحيى بن معاذ قال : الدنيا أمير من طلبها، وخادم من تركها، الدنيا طالبة ومطلوبة، فمن طلبها رفضته ومن رفضها طلبته، الدنيا قنطرة الآخرة فاعبروها ولا تعمروها، ليس من العقل بنيان القصور على الجسور، الدنيا عروس وطالبها ماشطتها، وبالزهد ينتف شعرها ويسود وجهها ويمزق ثيابها. ومن طلق الدنيا فالآخرة زوجته. فالدنيا مطلقة الأكياس لا تنقضي عدتها أبداً، فخل الدنيا ولا تذكرها، واذكر الآخرة ولا تنسها، وخذ من الدنيا ما يبلغك الآخرة، ولا تأخذ من الدنيا ما يمنعك الآخرة.(1/30)
[*] وأخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن يحيى بن معاذ قال: اعلموا أنه لا يصح الزهد والعبادة ولا شيء من أمور الطاعة لرجل أبداً وفيه للطمع بقية، فإن أردتم الوصول إلى محض الزهد والعبادة فأخرجوا من قلبكم هذه الخصلة الواحدة وكونوا رحمكم الله من أبناء الآخرة وتعاونوا واصبروا وأبشروا تظفروا إن شاء الله. واعلموا أن ترك الدنيا هو الربح نفسه الذي ليس بعده أمر أشد منه، فإن ذبحتم بتركها نفوسكم أحييتموها، وإن أحييتم أنفسكم بأخذها قتلتموها، فارفضوها من قلوبكم تصيروا إلى الروح لراحة في الدنيا والآخرة، وتصيبوا شرف الدنيا والآخرة، وعيش الدنيا والآخرة إن كنتم تعلمون. عذبوا أنفسكم في طاعة الله بترك شهواتها قبل أن تلقي الشهوة منها أجسامكم في دبار عاقبتها، واعلموا أن القرآن قد ندبكم إلى وليمة الجنة ودعاكم إليها فأسرع الناس إليها أتركهم لدنياه، وأوجدهم لذة لطعم تلك الوليمة أشدهم تجويعاً لنفسه ومخالفة لها فإنه ليس أمر من أمور الطاعة إلا وأنتم تحتاجون أن تخرجوه من بين ضدين مختلفين بجهد شديد، وسأظهر لكم هذا الأمر، فإني وجدت أمر الإنسان أمراً عجيباً، قد كلف الطاعة على خلاف ما كلف سائر الخلق من أهل الأرض والسماء فأحسن النظر فيه وليكن العمل منك فيه على حساب الحاجة منك إليه، واستعن بالله فنعم المعين، واعلم أنك لم تسكن الدنيا لتتنعم فيها جاهلاً وعن الآخرة غافلاً، ولكنك أسكنتها لتتعبد فيها غافلاً وتمتطي الأيام إلى ربك عاملاً، فإنك بين دنيا وآخرة ولكل واحدة منهما نعيم، وفي وجود احداهما بطول الأخرى، فانظر أن تحسن طلب النعيم، فقد حكى عن إبراهيم بن أدهم أنه قال: غلط الملوك، طلبوا النعيم فلم يحسنوا.(1/31)
وعلى حسب اقتراب قلبك من الدنيا يكون بعدك من الله، وعلى حسب بعد قلبك من الدنيا يكون قربك من الله، وكما كان معدوماً وجود نفسك في مكانين فكذلك معدوم وجود قلبك في دارين، فإن كنت ذا قلبين فدونك اجعل أحدهما للدنيا وأحدهما للآخرة، وإن كنت ذا قلب واحد فاجعله لأولى الدارين بالنعيم والمقام والبقاء والإنعام. واعلم أن النفس والهوى لا يقهران بشيء أفضل من الصوم الدائم، وهو بساط العبادة ومفتاح الزهد وطلع ثمرات الخير، وأجساد العمال من شجراته دائم الجذاذ دائم الإطعام، وهو الطريق إلى مرتبة الصديقين، وما دونه فمزرعة الأعمال، فثمر غرسها وربيع بذرها في تركها، وفقدها في أخذها، وليس معنى الترك الخروج من المال والأهل والولد، ولكن معنى الترك العمل بطاعة الله وإيثار ما عند الله عليها مأخوذة ومتروكة، فهذا معنى الترك لا ما تدعيه المتصوفة الجاهلون. أنت من الدنيا بين منزلتين فإن زويت عنك كفيت المؤنة، وإن صرفت إليك ألزمتها طاعة مولاك، وإن كانت طاعتك لله في شأنها تصلحها ومعصيتك لله في أمرها يفسدها، فدع منك لوم الدنيا واحفظ من نفسك وعملك ما فيه صلاحها، فإن المطيع فيها محمود عند الله إنما تلزمه التهمة وعيب الأخذ لها إذا خان الله فيها، لأن الدنيا مال الله والخلق عباد الله. وهم في هذا المال صنفان: خونة وأمناء، فإذا وقع المال في أيدي الخائنين فهو سبب دمارهم ولا عتب على المال إنما العتب على فعلهم بالمال، وإذا وقع في أيدي الأمناء كان سبب شرفهم وخلاصهم، ولا معنى للمال إنما كسب لهم الشرف عند الله فعلهم بالمال أمانة الله في أموالهم فلحق بهم نفع المال. لا ذنب للمال، الذنب لك، الذنوب إنما تكتسب بالجوارح وليس للضيعة والحانوت جوارح، إنما الجوارح لك وبها تكتسب الذنوب فعلك بمالك أسقطك من عين ربك لا مالك، وفعلك بمالك يصحبك إلى قبرك لا مالك، وفعلك بما لك يوزن يوم القيامة لا مالك.(1/32)
فالكيِّس الفطِن هو الذي يجعل نصبَ عينيه أن الدّنيا دارُ اختبارٍ وبلاء، وأنّها مزرَعةٌ للآخرة، وأن الله تعالى استخلفنا فيها فينظر كيف نعمل بنص السنة الصحيحة كما في الحديث الآتي :
( حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون فاتقوا الدنيا واتقوا النساء فإن أول فتنة بنى إسرائيل كانت في النساء .
وما يزرعه النّاس فيها اليومَ يحصدوه غدًا في الآخرة إن شاء الله تعالى ، فمن زرع الطاعة رجا المغفرة ، ومن زرع الشوك لا يجني عنباً ، قال الله تعالى: الَّذِى خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً [الملك:2]، وهي صائرةٌ إلى فناءٍ وزوال، قال الله تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبّكَ ذُو الْجَلْالِ وَالإكْرَامِ [الرحمن:26، 27].
- ذم الدنيا :
إن الذي يُمْعِنُ النظر في كتاب الله تعالى والسنة الصحيحة إذا تفكَّر جليا وتأمل مليا يعلم علم اليقين الذي لا يخالطه شك أن الدنيا مذمومة في الوحيين الشريفيين .
قال تعالى: وَفَرِحُواْ بِالْحياةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحياةُ الدُّنْيَا فِى الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ [الرعد:26]
قال تعالى: { كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا } [ الحديد : 20](1/33)
ووصف القرآن الكريمُ الدنيا كزهرةٍ تزهِر بنضارَتها، تسحَر الألباب، تستهوي القلوبَ، ثمّ لا تلبث إلا برهةً حتى تذبُل فتتلاشى تلك النضَارة، وتحطّمها الريح، كأنّها لم تكن، هكذا مثل الدّنيا، زهرةٌ فتّانة غرّارة تغدر وتُغوي، فإذا أقبلت عليها النفوس وتعلّقت بها الألباب ذوَت أيّامها واستحالت نضرتُها إلى هشيم، فغدت نعمتُها غرورًا، وصدق الله: وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحياةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرّياحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلّ شَىْء مُّقْتَدِرًا الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحياةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً [الكهف:45، 46].
إنّ هذا التصويرَ البليغ يُجلِّي حقيقةَ الدنيا في ميزان الإسلام، كيلا يصبِح الناس عبيدًا لها، تستهويهم خضرتها، ويؤثرونها على نعيمِ الآخرة، وليس مِن سداد الرّأي أن يبيعَ العبدُ دينَه بدنياه، فيتكثّر بالحرامِ وجَمع الحُطام.
وتراكض الناس في طلب الدنيا خوفًا من فواتها وطمعًا في المزيد، ويبذلون الأوقات النفيسةَ ويقاسون شدّةَ الطلب، بينما قد يفرّطون في الصّلاة ويقعدون عن الجماعة ويتساهلون في الطّاعة وتلاوة القرآن ويتثاقلون في البذل والإنفاق.
إنّ الحياةَ الدّنيا مهما بلغ شأوُ نعيمِها لا يزن ذرّةَ رملٍ من معين الدّار الآخرة، وإنّ أعظمَ ما في الدّنيا من مصائبَ وشدائد يهون أمامَ نعيم دار الآخرة ولا يعادِل مقدارَ شرارةٍ صغيرةٍ من عذاب جهنّم.
وبيَّن الله تبارك وتعالى في القرآن حقارة الدنيا وسرعة زوالها واستصغار شأنها ، وحثهم على عمل ما خلقوا لأجلها وهي العبادة فقال تعالى : ( يَأَيَّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الغَرُورْ )[ فاطر:5] .(1/34)
وقال أيضاً: ( وَمَا هَذِهِ الحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَ لَعِبٌ وَإِنَّ الدَارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُون ) [ العنكبوت :64]
وقال تعالى : (المَالُ وَالبَنُونَ زِيْنَةُ الحَيَاةِ الدًّنْيَا وَالبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوابَاً وَخَيْرٌ أَمَلاً ) [ الكهف :64]
وأخبرنا عن سوء عاقبة المغترين ، وحذرنا مثل مصارعهم وذم من رضي بها واطمأن إليها، ولعلمه أن وراءها داراً أعظم منها قدراً وأجل خطراً، وهي دار البقاء، يضاف إلى ذلك معرفته وإيمانه الحق بأن زهده في الدنيا لا يمنعه شيئاً كتب له منها، وأن حرصه عليها لا يجلب له ما لم يقض له منها، فمتى تيقن ذلك ترك الرغبة فيما لا ينفع في الدار الآخرة ، فأما ما ينفع في الدار الآخرة فالزهد فيه ليس من الدين بل صاحبه داخل في قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } [ المائدة:87 ]
[*] قال ابن مسعود رضي الله عنه : (من أراد الآخرة أضر بالدنيا، ومن أراد الدنيا أضر بالآخرة، فيا قوم أضروا بالفاني للباقي).
[*] وقال بعض السلف: الدنيا والآخرة ضرتان، إن أرضيت إحداهما أسخطت الأخرى.
وتأمل أخي التقي النقي العفيف الحييّ الحر الأبيّ في الأحاديث الآتية بعين البصيرة لتطلع على حقيقة الدنيا وضآلةِ حجمها عند الله تعالى وعند رسوله - صلى الله عليه وسلم - .
( حديث أبي هريرة في صحيح ابن ماجة ) أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه وعالماً أو متعلما .(1/35)
( حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون فاتقوا الدنيا واتقوا النساء فإن أول فتنة بنى إسرائيل كانت في النساء .
{ تنبيه } : إن العاقل هو من تنبه لحقيقة الدنيا وأنزلها منه بمنزلة الدنيا ولم يأخذ منها إلا ما يُقيمه ، وما أحسن قول الإمام وكيع ابن الجراح في ذلك فتأمله بعين البصيرة ، وتقبله بقبولٍ حسن وأعِرْهُ سمعك وبصرك واجعل له في سمعك مسمعاً وفي قلبك موقعاً عسى الله أن ينفعك به ويوفقك إلى تطبيقه .
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن محمد البيهقي، قال: سمعت وكيعا يقول،وقد جاءه رجل يناظره في شيء من أمر المعاش أو الورع : فقال له وكيع: من أين تأكل ؟ قال: ميراثا ورثته عن أبي، قال: من أين هو لأبيك ؟ قال: ورثه عن أبيه. قال: من أين هو كان لجدك ؟ قال لا أدري. فقال له وكيع: لو أن رجلا نذر لا يأكل إلا حلالاً ولا يلبس إلا حلالاً ولا يمشي إلا في حلال لقلنا له اخلع ثيابك وارم بنفسك في الفرات، ولكن لا تجد إلا السعة. ثم قال وكيع: لو أن رجلا بلغ في ترك الدنيا مثل سلمان وأبي ذر وأبي الدرداء ما قلنا له زاهدا، لأن الزهد لا يكون إلا على ترك الحلال المحض، والحلال المحض لا نعرفه اليوم، فالدنيا عندنا حلال وحرام وشبهات، فالحلال حساب، والحرام عذاب، والشبهات عتاب. فأنزل الدنيا بمنزل الميتة، خذ منها ما يقيمك، فإن كانت حلالاً كنت قد زهدت فيها، وإن كانت حراما كنت قد أخذت منها ما يقيمك لأنه لا يحل لك من الميتة إلا قدر ما يقيمك، إن كانت شبهات كان فيها عتاب يسير.
وما أحسن قول يحيي ابن معاذ في ذلك فتأمله بعين البصيرة :(1/36)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن يحيى بن معاذ قال : الدنيا أمير من طلبها، وخادم من تركها، الدنيا طالبة ومطلوبة، فمن طلبها رفضته ومن رفضها طلبته، الدنيا قنطرة الآخرة فاعبروها ولا تعمروها، ليس من العقل بنيان القصور على الجسور، الدنيا عروس وطالبها ماشطتها، وبالزهد ينتف شعرها ويسود وجهها ويمزق ثيابها. ومن طلق الدنيا فالآخرة زوجته. فالدنيا مطلقة الأكياس لا تنقضي عدتها أبداً، فخل الدنيا ولا تذكرها، واذكر الآخرة ولا تنسها، وخذ من الدنيا ما يبلغك الآخرة، ولا تأخذ من الدنيا ما يمنعك الآخرة.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن يحيى بن معاذ الرازي قال : الناس ثلاثة: فرجل شغله معاده عن معاشه فتلك درجة الصالحين، ورجل شغله معاشه لمعاده فتلك درجة الفائزين ، ورجل شغله معاشه عن معاده فتلك درجة الهالكين.
ولو تفكر الإنسان في عاقبة الدنيا إذا شغلت عن طاعة الله تعالى لزهد فيها .
( حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :يؤتي بأنعم أهل الدنيا من أهل النار فيصبغ في النار صبغة، ثم يقال: يا ابن آدم هل رأيت نعيماً قط؟ فيقول: لا والله ما رأيت نعيماً قط، ويؤتي بأبأس أهل الدنيا من أهل الجنة فيصبغ في الجنة صبغة ثم يقال: يا ابن آدم هل رأيت بؤساً قط؟ فيقول: لا والله ما رأيت بؤساً قط .
- أمرُ الدّنيا في جنب الآخرة قليل :
قال تعالى: وَفَرِحُواْ بِالْحياةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحياةُ الدُّنْيَا فِى الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ [الرعد:26]
( حديث المستورد بن شداد رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : والله ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم أصبعه في اليم؛ فلينظر بم يرجع .(1/37)
(حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب ) قال نام رسول الله صلى الله عليه وسلم على حصير فقام وقد أثر في جنبه قلنا يا رسول الله لو اتخذنا لك وطاء فقال ما لي وللدنيا ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها .
(حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب ) قال : دخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو على حصير قال فجلست فإذا عليه إزاره وليس عليه غيره وإذا الحصير قد أثر في جنبه وإذا أنا بقبضة من شعير نحو الصاع وقرظ في ناحية في الغرفة وإذا إهاب معلق فابتدرت عيناي فقال ما يبكيك يا ابن الخطاب فقال يا نبي الله وما لي لا أبكي وهذا الحصير قد أثر في جنبك وهذه خزانتك لا أرى فيها إلا ما أرى وذاك كسرى وقيصر في الثمار والأنهار وأنت نبي الله وصفوته وهذه خزانتك قال: يا ابن الخطاب أما ترضى أن تكون لنا الآخرة ولهم الدنيا ؟ قلت بلى .
والدنيا لا وزن لها ولا قيمة عند رب العزة إلا ما كان منها طاعة لله تبارك وتعالى:
( حديث سهل بن سعد رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء .
(حديث سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجه ) قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِذِي الْحُلَيْفَةِ. فَإِذَا هُوَ بِشَاةٍ مَيِّتَةٍ شَائِلَةٍ بِرِجْلِهَا. فَقَالَ: أَتُرَوْنَ هذِهِ هَيِّنَةً عَلَى صَاحِبِهَ؟ فَوَ الَّذِي نَفْسِي يِيَدِهِ! لَلدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللهِ، مِنْ هذِهِ عَلَى صَاحِبِهَا، وَلَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَزِنُ عِنْدَ اللهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ، مَا سَقَى كَافِراً مِنْهَا قَطْرَةً أَبَداً .(1/38)
( حديث أبي ابن كعب رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :إن من هوان الدنيا على الله أن يحيى بن زكريا قتلته امرأة .
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير :
( إن من هوان الدنيا ) أي احتقارها
( على اللّه أن يحيى ) من الحياة سمي به لأن اللّه أحيا قلبه فلم يذنب ولم يهم وفي خبر ما من آدمي إلا قد أخطأ أو هم بخطيئة إلا يحيى
( ابن زكريا ) النبي ابن النبي عليهما أفضل الصلاة والسلام
( قتلته امرأة ) بغي من بغايا بني إسرائيل ذبحته بيدها ذبحاً أو ذبح لرضاها وأهدى رأسه إليها في طست من ذهب كما في الربيع وفي المستدرك عن ابن الزبير من أنكر البلاء فإني لا أنكره لقد ذكر أن قتل يحيى بن زكريا عليهما السلام في زانية وفي البيهقي عن ابن عباس قصة قتله أن بنت أخ للملك سألته ذبحه فذبحه حين حرم نكاح بنت الأخ وكانت [ ص 543 ] تعجب الملك ويريد نكاحها اهـ . وكما أن ذلك من هوان الدنيا على اللّه وهو تحفة ليحيى عليه السلام وإذا أراد اللّه تعالى أن يتحف عبداً سلط عليه من يظلمه ثم يرزقه التسليم والرضى فيكتب في ديوان الراضين حتى يستوجب غداً الرضوان الأكبر والفردوس الأعظم الأفخر قال الزمخشري : وهذا تسلية عظيمة لفاضل يرى الناقص الفاجر يظفر من الدنيا بالحظ الأسنى والعيش الأهنئ كما أصابت تلك الفاجرة تلك الهدية العظيمة الفاخرة .
( حديث أبي هريرة في صحيح ابن ماجة ) أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه وعالماً أو متعلما .
- والدنيا عمرها قد قارب على الانتهاء :
( حديث أنس رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : بعثت أنا والساعة كهاتين قال وضم السبابة والوسطى .
- زوال الدنيا :(1/39)
وصف القرآن الكريمُ الدنيا كزهرةٍ تزهِر بنضارَتها، تسحَر الألباب، تستهوي القلوبَ، ثمّ لا تلبث إلا برهةً حتى تذبُل فتتلاشى تلك النضَارة، وتحطّمها الريح، كأنّها لم تكن، هكذا مثل الدّنيا، زهرةٌ فتّانة غرّارة تغدر وتُغوي، فإذا أقبلت عليها النفوس وتعلّقت بها الألباب ذوَت أيّامها واستحالت نضرتُها إلى هشيم، فغدت نعمتُها غرورًا، وصدق الله: وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحياةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرّياحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلّ شَىْء مُّقْتَدِرًا الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحياةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً [الكهف:45، 46].
إنّ هذا التصويرَ البليغ يُجلِّي حقيقةَ الدنيا في ميزان الإسلام، كيلا يصبِح الناس عبيدًا لها، تستهويهم خضرتها، ويؤثرونها على نعيمِ الآخرة، وليس مِن سداد الرّأي أن يبيعَ العبدُ دينَه بدنياه، فيتكثّر بالحرامِ وجَمع الحُطام فإنما الدنيا جدارٌ يريد أن ينقض .
وتراكض الناس في طلب الدنيا خوفًا من فواتها وطمعًا في المزيد، ويبذلون الأوقات النفيسةَ ويقاسون شدّةَ الطلب، بينما قد يفرّطون في الصّلاة ويقعدون عن الجماعة ويتساهلون في الطّاعة وتلاوة القرآن ويتثاقلون في البذل والإنفاق.
إنّ الحياةَ الدّنيا مهما بلغ شأوُ نعيمِها لا يزن ذرّةَ رملٍ من معين الدّار الآخرة، وإنّ أعظمَ ما في الدّنيا من مصائبَ وشدائد يهون أمامَ نعيم دار الآخرة ولا يعادِل مقدارَ شرارةٍ صغيرةٍ من عذاب جهنّم.
ولقد كان النبيّ - صلى الله عليه وسلم - يتخوّف من فتحِ الدّنيا على أمّته، يخاف عليهم الافتتانَ بها(1/40)
(حديث عمرو بن عوف رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للأنصار لمّا جاءه مالٌ من البحرين: أبشِروا وأمِّلوا ما يسرُّكم، فو الله ما الفقرَ أخشى عليكم، ولكنّي أخشى أن تُبسَط عليكم الدّنيا كما بُسِطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلِككم كما أهلكتهم .
- فتنافسوها :
التنافس يعني التغالب على الشيء، والتسابق إلى الشيء، فتنافسوا فيها، تتسابقون إلى نيلها، وإلى الظفر بأكبر قدر، تنافسوا فيها كما تنافس فيها من كان قبلكم، والتنافس على الدنيا التسابق عليها مذموم، إنما التنافس المحمود هو ما قال الله فيه وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ أما الدنيا فلا ينبغي أن تكون موضع تنافس وتسابق.
ومن التنافس على الدنيا التكاثر، أن كل واحد يريد أن يكون أكثر من الآخر في الدنيا، التطاول في البنيان، يتطاولون، كل واحد يريد أن يكون قصره أطول وحظوظه من هذه الدنيا أعظم وأكثر وإنما أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم .
ومن أشد أضرار التنافس على الدنيا أنها تُلْهِي عن ذكر الله تعالى وكفى بذلك هلاكاً محققا .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [ المنافقون : 9]
أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ [ التكاثر 1،2]
فحظوظ الدنيا إذا ألهت عن ذكر الله، وعن القيام بما أوجب الله، كانت وبالا، وكانت سببا للهلكة، كانت سببا للهلاك.(1/41)
أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ : يعني: أشغلكم التكاثر، وهذا التكاثر يكون بالمال، ويكون بالولد، ويكون بالجند، ويكون بالجاه، ويكون بالسلطان، ويكون بكل متاع من متاع الحياة الدنيا، إذا تكاثر به الإنسان، وألهاه عن طاعة الله جل وعلا.
فهذه الآية تذم المتكاثرين الذين يتكاثرون بالدنيا؛ لأن الدنيا لا ينبغي للمسلم أن يتكاثر بها؛ لأنها متاع زائل؛ ولهذا ذمها الله -جل وعلا- وذم هذا التكاثر. فقال جل وعلا: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا ) [ الحديد : 20]
فهذا التكاثر مصيره إلى زوال، والعمل الصالح هو الذي يكون إلى البقاء، فذم الله -جل وعلا- المتشاغلين بالتكاثر على أيّ وجه كان هذا التكاثر، ولهذا حذف الله -جل وعلا- المتكاثَر به، ولم يذكره؛ ليعم كل شيء يتكاثر به الإنسان.
حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ : يعني: حتى متم، ودفنتم في المقابر فهم استمروا على هذا اللهو، أو استمروا على هذا التكاثر الذي أغفلهم عن الآخرة، حتى وضعوا في قبورهم، وهذا الانشغال عن أمر الآخرة إنما جاء من الغفلة التي أورثها التكاثر؛ ولهذا قال الله -جل وعلا- مبينا أن الغفلة تجعل الإنسان يعرض عما أمامه:
قال تعالى : { اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مَّعْرِضُونَ } [ الأنبياء : 1]
وقوله جل وعلا: حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ ما قال الله -جل وعلا- حتى صرتم إلى الآخرة، ولكن قال: حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ ليبين للعباد أن هناك رجعة بعد الموت؛ لأن كل زائر يرجع، فالإنسان إذا زار أحدا بعد هذه الزيارة يرجع إلى أهله، فكذلك هذا الميت إذا مات، ووضع في قبره فهو زائر؛ لأن له مثوًى أخيرا، وهو الجنة، أو النار.(1/42)
ولهذا قال العلماء: لا يصح أن يقال: دفن في مثواه الأخير؛ لأن القبر ليس مثوى أخيرا، وإنما المثوى الأخير الجنة أو النار ، كما قال الله -تعالى عن النار:( فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ ) [ النحل : 29]
فالمثوى الحقيقي هو ما يُرَدُّ إليه العبد في الآخرة إما إلى الجنة وإما إلى النار، وأما القبور والوضع فيها والدفن فيها، فإنما هو زيارة فقط، بعدها يرجع العبد إما إلى الجنة وإما إلى النار.
وهذه الآية خرجت أو هذه الآيات خرجت مخرج الذم، يعني: أن الإنسان الذي يصنع ذلك هو مذموم؛ لأنه انشغل بما لا ينفعه عما ينفعه؛ ولهذا ذم الله -جل وعلا- الاشتغال بالدنيا مع تضييع الآخرة فقال جل وعلا:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ) [ المنافقون :9]
وقال جل وعلا: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ) [ فاطر : 5] .
فتهلككم بسبب التنافس، التنافس يتضمن إيثار الدنيا على الآخرة، وهذا يتضمن طلب المال أو غيره من حظوظ الدنيا من غير حله، ويؤدي إلى الشح وإلى البخل بما أوجب الله، ولهذا أثنى الله على أولئك الرجال رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ [ النور : 37]
مدحهم بأنها لا تلهيهم، إذن هم يتجرون أم لا يتجرون؟ يتجرون؟ نعم، يتجرون ويكتسبون ويسعون فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ [ الجمعة : 10]
فتجد في نفس هذه الآيات من سورة الجمعة نهاهم عما يلهيهم وَذَرُوا الْبَيْعَ [الجمعة: 9](1/43)
نهاهم أن يلهوا بالبيع عن الصلاة، وبعد الصلاة أذن لهم بطلب الفضل فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا [ الجمعة : 10]
وهذا إذن بعد الحظر يقتضي الإباحة كقوله تعالى: وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا [ المائدة : 2]
ويشهد لهذا الحديث قوله تعالى: كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ
بِخَلَاقِهِمْ : أي: بنصيبهم
فالرسول -صلى الله عليه وسلم- في هذا الحديث بَشَرَهُم، وَحَذَرَهُم من خطر الدنيا وبسط الدنيا، فلا ينبغي للإنسان أن يفرح بها، اللهم إلا الفرح الطبيعي، فهذا أمر جبلي في الإنسان، فإذا كان الإنسان مجبولا على حب المال فلا بد أن يفرح بما يحصل له، لكن فرحا طبيعيا محدودا لا يخرجه إلى الأشر والبطر والاغترار، كفرح قارون المغرور بما أوتي من الثراء :
قال تعالى : فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ [ القصص :79]
هذا من المنافسة، نفسوا عليه وغبطوه على هذا الحظ العظيم قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ [ القصص :80](1/44)
المقصود أن بسط الدنيا هو من الفتن، هذا هو الشاهد، بسط الدنيا هو من الفتن التي يُبتلَى بها الناس، والفقر أيضا هو ابتلاء، لكن فتنة البسط أخطر من فتنة القَدْر والتضييق في المعيشة في الفقر، الابتلاء بالثراء والغنى والبسط في حظوظ الدنيا هو الخطر.
[*] قال بعض السلف: ابتلينا بالضراء فصبرنا، وابتلينا بالسراء فلم نصبر.
واقرءوا التاريخ تجدون الأمر عيانا، واقرءوا الواقع تجدونه كذلك، فبسط الدنيا هو ابتلاء وفتنة عظمى، ويفضي كذلك إلى الفتن التي أشار إليها النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في الحديث الآتي :
( حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إذا فُتحت عليكم فارسُ والرّوم أيّ قومٍ أنتم؟ قال عبد الرحمن بن عوف: نقول كما أمرنا الله، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أو غير ذلك؛ تتنافسون، ثم تتحاسدون، ثمّ تتدابرون، ثمّ تتباغضون .
هذه بعضُ آثار فتحِ الدّنيا، تنافسٌ ثمّ تخالُف ثم تقاتل وسفكٌ للدّماء، ومِن آثارها الانغماس في التّرف ونسيان الله والدّار الآخرة والسّقوط في المعاصي والآثام.
هذا ما ذكره الرسول -عليه الصلاة والسلام- أثرا بفتح فارس والروم، ففتح فارس والروم أدى إلى البسط، إلى بسط الدنيا، وبسط الدنيا أدى إلى التنافس، والتنافس أدى إلى التدابر والتقاطع والتباغض .
وهذا الحديث يعطينا صورة مما أشار إليه الرسول -عليه الصلاة والسلام- بقوله: وإنما أخشى أن تبسط عليكم الدنيا فنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم .
[*] قال الحسن البصريّ: "رحِم الله أقوامًا كانت الدّنيا عندهم وديعة، فأدَّوها إلى من ائتمنهم عليها، ثمّ قاموا حفافًا .
[*] وقال مالك بن دينار: "بقدرِ ما تحزن للدّنيا يخرج همّ الآخرة من قلبك، وبقدر ما تحزن للآخرة يخرج همّ الدنيا من قلبك .(1/45)
فلا تَغُرَّنكم الحياة الدنيا فإنها بِالبَلاءِ مَحْفُوفَة ، وَبِالفَنَاءِ مَعْرُوفَة ، وَبِالغَدْرِ مَوْصُوفَة ، وَكُلُّ مَا فِيهَا إِلَى زَوَالٍ وَهِيَ بَيْنَ أَهْلِهَا دُوَلٌ وَسِجَال .
* لا تَدُومُ أَحْوَالُهَا ، وَلا تَسْلَمُ مِنْ شَرِّهَا نُزَّالُهَا ، بَيْنَا أَهْلُهَا فِي صَفِاءٍ وَرَخَاءِ إِذَا هُمْ مِنْهَا في كدرٍ و بَلاءٍ ، وبينا هم في َسُرُورٍ وَحَبُور إِذَا هُمْ مِنْهَا فِي نَكَدٍ وَغُرُور ، العَيْشُ فِيهَا مَذْمُوم وعِزُها لا يَدُوم وفناؤها محتوم .
* بَقَاؤُهَا قَلِيلٌ ، وَعَزِيزُهَا ذَلِيل ، وَغَنِّيها فَقِير ، شَابُّهَا ، وَحَيُّهَا يَمُوت ، وودُّها يفوت ، فلا يغرنَّك إِقْبَالُهَا فسريعٌ إِدْبَارِهَا .
* كيف أمنت هذه الحالة ، وأنت صائر إليها لا محالة ، أم كيف ضيعت حياتك
وهى مطيتك إلى مماتك ، أم كيف تهنأ بالشهوات ، وهى مطية الآفات .
وَاعْلَمُوا عِبَادَ اللهِ أَنَّكَمْ وَمَا أَنْتُمْ فِيهِ مِنْ هَذِهِ الدُّنْيَا عَلَى سَبِيل مَنْ قَدْ أَمْضَى مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُُمْ مِمَّنْ كَانَ أَطْوَل مِنْكُمْ أَعْمَارًا وَأَشَدَّ مِنْكُمْ بَطْشًا وَأَعْمَرِ دِيَارًا وَأَبْعَدَ آثَارًا فَأَصْبَحَتْ أَصْوَاتُهُم هَامِدَةً خَامِدَةً مِنْ بَعْدِ طُولِ تَقَلُّبِهَا وَأَصْبَحَتْ أَجْسَادُهُم بَإلية وَدَيَارُهُم عَلَى عُرُوشِهَا خَاوِيَة وآثارهم عافية .
وَاسْتَبْدَلُوا القُصُورَ المُشَيَّدَةِ وَالسُّرُرِ وَالنَّمَارِقِ المُمَهَّدَةِ بِالتُّرَابِ وَالصُّخُورِ وَالأَحْجَارِ المُسَنَّدَةِ فِي القُبور اللاطِئَة المُلَحَّدَةِ فَمَحَلُّهَا مُقْتَرَب وَسَاكِنُهَا مُغْتَرِب بَيْنَ أَهْلِ مَحِلَّةٍ مُوحِشِينِ .(1/46)
لا يَسْتَأْنِسُونَ بِالعُمْرَانِ وَلا يَتَوَاصُلُونَ تَوَاصُل الجِيران على ما بَيْنَهُمْ مِنْ قُرْبِ المَكَانِ وَالجَوِارِ وَدُنُوِّ الدارِ وَكَيْفَ يَكُونُ بَيْنَهُمْ تَوَاصُلٍ وَقَدْ أَكَلَتْهُمْ الجنَاَدِلُ وَالثَّرى وَأَصْبَحُوا بَعْدَ الحَيَاةِ أَمْوَاتًا وَبَعْدَ نَضَارَةِ العَيْشِ رُفَاتًا .
فُجِعَ بِهِمُ الأَحْبَابِ وَسَكَنُوا تَحْتَ التُّرَابِ ، ظَعَنُوا فَلَيْسَ لَهُمْ إِيَاب فَكَأَّنْ صِرْتُمْ إِلَى مَا صَارُوا إليه مِنَ البَلاءِ وَالوِحْدَة فِي دَارِ المَثْوَى وَارْتُهِنْتُمْ فِي ذَلِكَ المَضْجَعِ وَضَمَّكُمْ ذَلِكَ المُسْتَوْدَع .
فَكَيْفَ بِكُمْ إِذَا عَايَنْتُمُ الأُموُرَ بُعْثِرَتِ القُبُورِ وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ وَوُقِّفْتُمْ لِلتَّحْصِيلِ بَيْنَ يَدَيْ المَلِك الجَلِيلِ فَطَارَتْ القُلُوبُ لإِشْفَاقِهَا مِنْ سَالِفِ الذُّنُوبِ وَهُتِكَتِ الحُجُبُ وَالأَسْتَار وَظَهَرتْ مِنْكُم العُيُوبُ وَالأَسْرَار .
هُنَالِكَ تُجْزَى كل نَفْس بِمَا كَسَبتْ قَالَ اللهُ جَلَّ جَلاله : { لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى } [ النجم : 31 ] ، وَقَالَ تَعَالَى : { وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ } [ الكهف : 49 ]
أَيْنَ سُكَّانُهَا الذِينَ بَنُوا مَرَابِعَهَا وَشَقَّقُوا أَنْهَارَهَا وَغَرَسُوا أَشْجَارِهَا وَأَقَامُوا فِيهَا أَيَّامًا يَسِيرَةً وَغَرَّتْهُمْ بِصُحْبَتِهم وَغُرُّوا بِنَشَاطِهِمْ فَرَكِبُوا المَعَاصِي إِنَّهُمْ كَانُوا وَاللهِ بِالدُّنْيَا مَغْبُوطِينَ بِالمَالِ عَلَى كثرة المَنْعِ عَلَيْهِ مَحْسُودِينَ عَلَى جَمْعِهِ .(1/47)
مَا صَنَعَ التُّرَابُ بِأَبْدَانِهِمْ وَالرَّمْلُ بِأَجْسَامِهِم وَالدِّيدَانُ بِأَوْصَالِهِم وَلُحُومِهِم وِعِظَامِهِم وَإِذَا مَرَرْتَ فَنَادِهِمْ إِنْ كُنْتَ مُنَادِيًا وَادْعُهُمْ إِنْ كُنْتَ لا بُدَّ دَاعِيًا .
وَمُرَّ بِعَسْكَرِهِم وِانْظُرْ إِلَى تَقَارُبِ مَنَازِلِهِمْ وَسَلْ غَنِيَّهُمْ مَا بَقَى مِنْ غِنَاهُ وَسَلْ فَقِيرِهُمْ مَا بَقَى مِنْ فَقْرِهِ ، وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الأَلْسُنِ الَّتِي كَانُوا بِهَا يَتَكَلَّمُونَ
* وعن الأعين التي كَانُوا بها ينظرون وسلهم عن الأعضاء الرقيقة . والوجوه الحسنة والأجساد الناعمة ما صنعت بها الديدان محت الألوان ، وأكلت اللحمان ، وعفرت الوجوه ، ومحت المحاسن ، وكسرت الفقار ، وأبانْتِ الأعضاء ، ومزقت الأشلاء قَدْ حيل بينهم وبين الْعَمَل وفارقوا الأحبة .
فكم من ناعم وناعمة أصبحت وجوهم بإلية ، وأجسادهم من أعناقهم بائنة ، وأوصالهم متمزقة ، وقَدْ سألت الحدق على الوجنات ، وامتلأت الأفواه صديدًا ، ودبت دواب الأَرْض في أجسامهم ، وتفرقت أعضاؤهم .
ثُمَّ لم يلبثوا إِلا يسيرًا حتى عادت العظام رميمًا قَدْ فارقوا الحدائق فصاروا بعد السعة إلى المضائق قَدْ تزوجت نساؤهم وترددت في الطرق أبناؤهم .(1/48)
فمِنْهُمْ والله الموسع له في قبره الغض الناعم فيه المتنعم بلذاته ، فيا ساكن القبر ما الَّذِي غرك في الدُّنْيَا هل تظن أنك تبقى أو تبقى لك أين دارك الفيحاء ونهرك المطرد وأين ثمرتك الحاضر ينعها وأين رقاق ثيابك وأين كسوتك لصيفك وشتائك هيهات هيهات يا مغمض الوالد والأخ وغاسلةً وحاملةً يا مدليه في قبره وراحل عَنْهُ ، ليت شعري كبف نمت على خشونة الثرى ، وبأي خديك بدأ البلى ، يا مجاور الهلكى صرت في محله الموت ، ليت شعري ما الَّذِي يلقاني به ملك الموت عَنْدَ خروج روحي من الدُّنْيَا ، واعجباً لنفس الموت موئلها، والقبر مدخلها، واللحد منزلها، ثم يسوء عملها ،ولن يؤخر الله نفساً إذا جاء أجلها ، ، يا من زينتم الفُلل والقصور ونسيتم القبور ، اذكروا القبر وظلمته ووحشته والموت وسكرته والميزان وخفته أو رجحته والكِتَاب وأخذته والصراط ودقته ،
، وَيَا أَيُّهَا الْمُهْمِلُون الغافلون تيقظوا فإليكم يوجه الخطاب ، ويا أيها النائمون انتبهوا قبل أن تناخ للرحيل الركاب قبل هجوم اللذات ومفرق الجماعات ومذل الرقاب ، ومشتِّت الأحباب ، فيا له من زائر لا يعوقه عائق ، ولا يضرب دونه حجاب ، ويا لَهُ من نازل لا يستأذن على الملوك ولا يلج من الأبواب ، ولا يرحم صغيرًا ولا يوقر كبيرًا ، ولا يخاف عظيمًا ولا يهاب ، ألا وإن بعده ما هُوَ أعظم منه من السؤال والجواب ، وراءه هول البعث والحشر وأحواله الصعاب من طول المقام والازدحام فِي الأجسام والميزان والصراط والحساب والْجَنَّة أَوْ النار .
عباد الله : ما هذا التكاسل عن الطاعات وزرع الأعمار قد دنا للحصاد وما هذا التباعد ومدد الأيام قد قاربت للنفاد ، وما هذا التغافل والتكاسل عن إعداد الزاد ليوم الميعاد .(1/49)
عباد الله :مَنْ كَانَ الْمَوْتُ يَطْلُبُهُ كَيْفَ يَقِرُّ لَهُ قَرَار وَمَنْ كَانَ الدَّهْرُ يُجَارِيهِ فَكَيْفَ يُطِيقُ الانْتِصَار ، وَمَنْ كَانَ رَاحِلاً عَنِ الدُّنْيَا إلى الآخِرَةِ كَيْفَ يَلَذُّ لَهُ قَرَارُ ، عَجَبًا لِمَنْ يَمْلأ عَيْنهُ بِالنَّوْمِ وَهُوَ لا يَدْرِي أَيُسَاقُ إلى الْجَنَّةِ أَوْ إلى النَّارِ
عباد الله : أين الحسرات على فوت أمس أين العبرات على مقاسات الرمس أين الاستعداد ليوم تدنو فيه منكم الشمس ، { وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ } [ مريم : 39 ]
من سعة قصره ، إلى مضيق قبره ، فلما استقر في اللحد ، وهيء عليه اللبن احتوشته أعماله وأحاطت به خطاياه وأوزاره ، وضاق ذرعًا بما رآه ، ثم حثوا بأيديهم عليه التراب ، وأكثروا عليه البكاء والانتحاب ، ثم وقفوا ساعة عليه وأيسوا من النظر إليه ، وتركوه رهنًا بما كسب وطلب .
وأصْبَحَتْ أموالُهم هامِدَةً مِن بعدِ نُقْلَتِهِم ، وأَجْسَادُهُم بالِية وَدِيارُهُم خَالِية ، وآثارُهُم عافِية .
فاستبدلُوا بالقُصور الْمُشَيَّدَةِ والنمارِقِ الْمُمَّهَدَةِ الصُّخُورَ والأحجارَ في القُبور التي قَدْ بُنيَ على الخراب فِناؤُهَا ، وشُيِّدَ بالتراب بِنَاؤُهَا .
فَمَحَلُّهَا مُقْتَرب ، وساكنها مُغْتَرب ، بينَ أَهْلَ عِمَارَةٍ مُوْحِشِين ، وأَهْلِ مَحَلَّةٍ مُتَشَاغِلِين ، لا يَسْتأْنِسُونَ بالعُمْران ، ولا يَتَواصَلُون تَواصُلَ الجِيران والإِخوان ، على مَا بينهُم مِن قُرْبِ الجِوار ، ودُّنُوّ الدار .
وكَيْفَ يكونُ بَيْنَهُم تَواصُلٌ وقد طَحَنَهُم بِكَلْكَلِهِ البِلَى وأَظَلَّتْهُمُ الجَنَادِلُ والثرَّى ، فَأَصْبَحُوا بعد الحياة أَمْوَاتاً ، وبَعْدَ غَضَارَةِ العَيشِ رُفَاتاً .(1/50)
فُجِعَ بِهِم الأَحْبَاب ، وسَكَنُوا التُراب ، وظَعَنُوا فليسَ لهم إِياب ، فُجِعَ بِهِم الأَحْبَاب ، وسَكَنُوا التُراب ، وظَعَنُوا فليسَ لهم إِياب .
جدير بمن الموت مصرعه، والتراب مضجعه، والدود أنيسه ومنكر ونكير جليسه، والقبر مقره، وبطن الأرض مستقره، والقيامة موعده، والجنة أو النار مورده ، أن لا يكون له فكر إلا في الموت، ولا ذكر إلا له، ولا استعداد إلا لأجله، ولا تدبير إلا فيه، ولا تطلع إلا إليه، ولا تأهب إلا له، ولا تعريج إلا عليه، ولا اهتمام إلا به، ولا انتظار ولا تربص إلا له.
- وهآنذا أسوق لك كلاماً من أنفس ما كتب في ذم الدنيا ، وهو كلام الإمام الحسن البصري الذي قيل أن كلامه يُشبه كلام الأنبياء ، ثم أتبعه بكلام غيره من أئمةِ الهدى وأعلام التقى ومصابيح الدُجى :(1/51)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أبي حميد الشامي، قال: كتب الحسن على عمر بن عبد العزيز : اعلم أن التفكر يدعو إلى الخير والعمل به، والندم على الشر يدعو إلى تركه، وليس ما يفنى وإن كان كثيراً يعدل ما يبقى وإن كان طلبه عزيزاً، واحتمال المؤونة المنقطعة التي تعقب الراحة الطويلة خير من تعجيل راحة منقطعة تعقب مؤونة باقية، فاحذر هذه الدار الصارعة الخادعة الخاتلة التي قد تزينت بخدعها، وغرت بغرورها، وقتلت أهلها بأملها، وتشوفت لخطابها، فأصبحت كالعروس المجلولة. العيون إليها ناظرة، والنفوس لها عاشقة، والقلوب إليها والهة، ولألبابها دامغة، وهي لأزواجها كلهم قاتلة. فلا الباقي بالماضي معتبر، ولا الآخر بما رأى من الأول مزدجر، ولا اللبيب بكثرة التجارب منتفع، ولا العارف بالله والمصدق له حين أخبر عنها مدكر، فأبت القلوب لها إلا حباً، وأبت النفوس بها إلا ضناً، وما هذا منالها إلا عشقاً، ومن عشق شيئاً لم يعقل غيره، ومات في طلبه أو يظفر به، فهما عاشقان طالبان لها؛ فعاشق قد ظفر بها واغتر وطغى ونسي بها المبدأ والمعاد. فشغل بها لبه، وذهل فيها عقله، حتى زلت عنها قدمه، وجاءته أسر ما كانت له منيته فعظمت ندامته، وكثرت حسرته، واشتدت كربته مع ما عالج من سكرته. واجتمعت عليه سكرات الموت بألمه، وحسرة الموت بغصته، غير موصوف ما نزل به. ولآخر مات قبل أن يظفر منها بحاجته فذهب بكربه وغمه لم يدرك ما طلب، ولم يرح نفسه من التعب والنصب. خرجا جميعاً بغير زاد، وقدما على غير مهاد.(1/52)
فاحذرها الحذر كله فإنها مثل الحية لين مسها وسمها يقتل، فأعرض عما يعجبك فيها لقلة ما يصحبك منها، وضع عنك همومها لما عانيت من فجائعها وأيقنت به من فراقها، وشدد ما اشتد منها لرخاء ما يصيبك وكن أسر ما تكون فيها أحذر ما تكون لها، فإن صاحبها كلما اطمأن فيها إلى سرور له أشخصته عنها بمكروه، وكلما ظفر بشيء منها وثنى رجلاً عليه انقلبت به، فالسار فيها غار، والنافع فيها غدا ضار، وصل الرخاء فيها بالبلاء، وجعل البقاء فيها إلى فناء، سرورها مشوب بالحزن، وآخر الحياة فيها الضعف والوهن، فانظر إليها نظر الزاهد المفارق، ولا تنظر نظر العاشق الوامق، واعلم أنها تزيل الثاوي الساكن، وتفجع المغرور الآمن، لا يرجع ما تولى منها فأدبر، ولا يدري ما هو آت فيها فينتظر.(1/53)
فاحذرها فإن أمانيها كاذبة، وإن آمالها باطلة، عيشها نكد، وصفوها كدر، وأنت منها على خطر. إما نعمة زائلة، وإما بلية نازلة، وإما مصيبة موجعة، وإما منية قاضية، فلقد كدرت عليه المعيشة إن عقل، وهو من النعماء على خطر، ومن البلوة على حذر، ومن المنايا على يقين؛ فلو كان الخالق تعالى لم يخبر عنها بخير، ولم يضرب لها مثلاً، ولم يأمر فيها بزهد؛ لكانت الدار قد أيقظت النائم، ونبهت الغافل، فكيف وقد جاء من الله تعالى عنها زاجر، وفيها واعظ. فما لها عند الله عز وجل قدر، ولا لها عند الله تعالى وزن من الصغر، ولا تزن عند الله تعالى مقدار الحصا، ولا مقدار ثراة في جميع الثرى، ولا خلق خلقاً فيما بلغت أبغض إليه من الدنيا، ولا نظر إليها منذ خلقها مقتاً لها، ولقد عرضت على نبينا صلى الله عليه وسلم بمفاتيحها وخزائنها ولم ينقصه ذلك عنده جناح بعوضة فأبى أن يقبلها، وما منعه من القبول لها، ولا ينقصه عند الله تعالى شيء إلا أنه علم أن الله تعالى أبغض شيئاً فأبغضه، وصغر شيئاً فصغره، ووضع شيئاً فوضعه، ولو قبلها كان الدليل على حبه إياها قبولها، ولكنه كره أن يحب ما أبغض خالقه، وأن يرفع ما وضع مليكه.(1/54)
ولو لم يدله على صغر هذه الدار إلا أن الله تعالى حقرها أن يجعل خيرها ثواباً للمطيعين، وأن يجعل عقوبتها عذاباً للعاصين. فأخرج ثواب الطاعة منها وأخرج عقوبة المعصية عنها. وقد يدلك على شر هذه الدار أن الله تعالى زواها عن أنبيائه وأحبائه اختباراً، وبسطاً لغيرهم اعتباراً واغتراراً؛ ويظن المغرور بها والمفتون عليها أنه إنما أكرمه بها، ونسي ما صنعه بمحمد المصطفى صلى الله عليه وسلم وموسى المختار عليه السلام بالكلام له ومناجاته، فأما محمد صلى الله عليه وسلم فشد الحجر على بطنه من الجوع، وأما موسى عليه السلام فرئي خضرة البقل من صفاق بطنه من هذاله، ما سأل الله تعالى يوم أوى إلى الظل إلا طعاماً يأكله من جوعه. ولقد جاءت الروايات عنه أن الله تعالى أوحى إليه؛ أن يا موسى إذا رأيت الفقر مقبلاً فقل مرحباً بشعار الصالحين، وإذا رأيت الغنى قد أقبل فقل ذنب عجلت عقوبته. وإن شئت ثلثته بصاحب الروح والكلمة ففي أمره عجيبة، كان يقول: أدمي الجوع وشعاري الخوف، ولباسي الصوف ودابتي رجلي، وسراجي بالليل القمر، وصلايتي في الشتاء الشمس، وفاكهتي وريحاني ما أنبتت الأرض للسباع والأنعام. أبيت وليس لي شيء وليس أحد أغنى مني. ولو شئت ربعت بسليمان بن داود عليهما السلام، فليس دونهم في العجب. يأكل خبز الشعير في خاصته ويطعم أهله الخشكار والناس الدرمك فإذا جنه الليل لبس المسوح وغل اليد إلى العنق وبات باكياً حتى يصبح، يأكل الخشن من الطعام ويلبس الشعر من الثياب. كل هذا يبغضون ما أبغض الله عز وجل، ويصغرون ما صغر الله تعالى، ويزهدون فيما زهد.(1/55)
ثم اقتص الصالحون بعد منهاجهم، وأخذوا بآثارهم وألزموا الكد والعبر وألطفوا التفكر، وصبروا في مدة الأجل القصير، عن متاع الغرور الذي إلى الفناء يصير، ونظروا إلى آخر الدنيا ولم ينظروا إلى أولها، ونظروا إلى عاقبة مرارتها ولم ينظروا إلى عاجلة حلاوتها؛ ثم ألزموا أنفسهم الصبر وأنزلوها من أنفسهم بمنزلة الميتة التي لا يحل الشبع منها إلا في حال الضرورة إليها؛ فأكلوا منها بقدر ما يرد النفس ويقي الروح ويسكن القرم وجعلوها بمنزلة الجيفة التي اشتد نتن ريحها فكل من مر بها أمسك على أنفه منها، فهم يصيبون منها لحال الضر ولا ينتهون منها إلى الشبع من النتن، فغربت عنهم وكانت هذه منزلتها من أنفسهم، فهم يعجبون من الآكل منها شبعاً، والمتلذذ بها أشراً. ويقولون في أنفسهم: أما ترى هؤلاء لا يخافون من الأكل، أما يجدون ريح النتن ؟ وهي والله يا أخي في العاقبة والآجلة أنتن من الجيفة المرصوفة، غير أن أقواماً استعجلوا الصبر فلا يجدون من ريح النتن، والذي نشأ في ريح الإهاب النتن لا يجد نتنه، ولا يجد من ريحه ما يؤذي المارة والجالس عنده، وقد يكفي العاقل منهم أنه من مات عنها وترك مالاً كثيراً سره أنه كان فيها فقيراً، أو شريفاً أنه كان فيها وضيعاً، أو كان فيها معافى سره أنه كان فيها مبتلي، أو كان مسلطنا سره أنه كان فيها سوقه. وإن فارقتها سرك أنك كنت أوضع أهلها ضعة، وأشدهم فيها فاقة، أليس ذلك الدليل على خزيها لمن يعقل أمرها.
والله لو كانت الدنيا من أراد منها شيئاً وجده إلى جنبه من غير طلب ولا نصب غير أنه إذا أخذ منها شيئاً لزمته حقوق الله فيه وسأله عنه ووقفه على حسابه لكان ينبغي للعاقل أن لا يأخذ منها إلا قدر قوته وما يكفى، حذر السؤال وكراهية لشدة الحساب، وإنما الدنيا إذا فكرت فيها ثلاثة أيام؛ يوم مضى لا ترجوه، ويوم أنت فيه ينبغي أن تغتنمه، ويوم يأتي لا تدري أنت من أهله أم لا ؟ ولا تدري لعلك تموت قبله.(1/56)
فأما أمس فحكيم مؤدب، وأما اليوم فصديق مودع، غير أن أمس وإن كان قد فجعك بنفسه فقد أبقى في يديك حكمته، وإن كنت قد أضعته فقد جاءك خلف منه وقد كان عنك طويل الغيبة وهو الآن عنك سريع الرحلة، وغدا أيضاً في يديك منه أمله. فخذ الثقة بالعمل، واترك الغرور بالأمل قبل حلول الجل، وإياك أن تدخل على اليوم هم غد أو هم ما بعده، زدت في حزنك وتعبك وأردت أن تجمع في يومك ما يكفيك أيامك، هيهات كثر الشغل وزاد الحزن وعظم التعب وأضاع العبد العمل بالأمل.
ولو أن الأمل في غدك خرج من قلبك أحسنت اليوم في عملك، واقتصرت لهم يومك، غير أن الأمل منك في الغد دعاك إلى التفريط، ودعاك إلى المزيد في الطلب، ولئن شئت واقتصرت لأصفن لك الدنيا ساعة بين ساعتين، ساعة ماضية، وساعة لآتية، وساعة أنت فيها. فأما الماضية فليس تجد لراحتهما لذة، ولا لبلائهما ألماً. وإنما الدنيا ساعة أنت فيها فخدعتك تلك الساعة عن الجنة وصيرتك إلى النار. وإنما اليوم إن عقلت ضيف نزل بك وهو مرتحل عنك، فإن أحسنت نزله وقراه شهد لك وأثنى عليك بذلك وصدق فيك، وإن أسأت ضيافته ولم تحسن قراه جال في عينيك. وهما يومان بمنزلة الأخوين نزل بك أحدهما فأسأت إليه ولم تحسن قراه فيما بينك وبينه، فجاءك الآخر بعده، فقال: إني قد جئتك بعد أخي فإن إحسانك إلي يمحو إساءتك إليه، ويغفر لك ما صنعت، فدونك إذ نزلت بك وجئتك بعد أخي المرتحل عنك فقد ظفرت بخلف منه إن عقلت، فدارك ما قد أضعت. وإن ألحقت الآخر بالأول فما أخلقك أن تهلك بشهادتهما عليك.(1/57)
إن الذي بقي من العمر لا ثمن له ولا عدل، فلو جمعت الدنيا كلها ما عدلت يوماً بقي من عمر صاحبه، فلا تبع اليوم وتعدله من الدنيا بغير ثمنه، ولا يكونن المقبور أعظم تعظيماً لما في يديك منك وهو لك فلعمري لو أن مدفوناً في قبره قيل له هذه الدنيا أولها إلى آخرها تجعلها لولدك من بعدك يتنعمون فيها من ورائك، فقد كنت وليس لك هم غيرهم. أحب إليك أم يوم تترك فيه تعمل لنفسك لاختار ذلك، وما كان ليجمع مع اليوم شيئاً إلا اختار اليوم عليه رغبة فيه وتعظيماً له، بل لو اقتصر على ساعة خيرها وما بين أضعاف ما وصفت لك وأضعافه يكون لسواه إلا اختار الساعة لنفسه على أضعاف ذلك ليكون لغيره، بل لو اقتصر على كلمة يقولها تكتب له وبين ما وصفت لك وأضعافه لاختار الكلمة الواحدة عليه، فانتقد اليوم لنفسك وأبصر الساعة وأعظم الكلمة واحذر الحسرة عند نزول السكرة، ولا تأمن أن تكون لهذا الكلام حجة، نفعنا الله وإياك بالموعظة، ورزقنا وإياك خير العواقب، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(1/58)
[*] وأخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عبيدة سعيد بن زربي، قال: سمعت الحسن يعظ أصحابه يقول: إن الدنيا دار عمل من صحبها بالنقص لها والزهادة فيها سعد بها ونفعته صحبتها، ومن صحبها على الرغبة فيها والمحبة لها شقي بها وأجحف بحظه من الله عز وجل ثم أسلمته إلى ما لا صبر له عليه ولا طاقة له به من عذا الله، فأمرها صغير، ومتاعها قليل، والفناء عليها مكتوب، والله تعالى ولي ميراثها، وأهلها محولون عنها إلى منازل لا تبلى ولا يغيرها طول الثواء منها يخرجون. فاحذروا ولا قوة إلا بالله ذلك الموطن، وأكثروا ذكر ذلك المنقلب، واقطع يا ابن آدم من الدنيا أكثر همك، أو لتقطعن حبالها بك فينقطع ذكر ما خلقت له من نفسك ويزيغ عن الحق قلبك، وتميل إلى الدنيا فترديك، وتلك منازل سوء بين ضرها، منقطع نفعها مفضية والله بأهلها إلى ندامة طويلة وعذاب شديد، فلا تكونن يا ابن آدم مغتراً، ولا تأمن ما لم يأتك الأمان منه، فإن الهول الأعظم ومفظعات الأمور أمامك لم تخلص منها حتى الآن، ولا بد من ذلك المسلك وحضور تلك الأمور إما يعافيك من شرها وينجيك من أهوالها، وإما الهلكة. وهي منازل شديدة مخوفة محذورة مفزعة للقلوب، فلذلك فاعدد، ومن شرها فاهرب، ولا يلهينك المتاع القليل الفاني، ولا تربص بنفسك فهي سريعة الانتقاص من عمرك فبادر أجلك ولا تقلل غدا فإنك لا تدري متى إلى الله تصير واعلموا أن الناس أصبحوا جادين في زينة الدنيا يضربون في كل غمرة وكل معجب بما هو فيه، راض به حريص على أن يزداد منه، فما لم يكن من ذلك لله عز وجل في طاعة الله فقد خسر أهله وضاع سعيه، وما كان من ذلك في الله في طاعة الله فقد أصاب أهله به وجه أمرهم، ووفقوا فيه بحظهم، عندهم كتاب الله وعهده وذكر ما مضى وذكر ما بقى، والخير عمن وراءهم.(1/59)
كذلك أمر الله اليوم وقبل ذلك أمره فيمن مضى لأن حجة الله بالغة، والعذر بارز، وكل مواف الله ولما عمل. ثم يكون القضاء من الله وعباده على أحد أمرين: فمقضي له رحمته وثوابه فيالها نعمة وكرامة ومقضي له سخطه وعقوبته فيالها حسرة وندامة، ولكن حق على من جاءه البيان من الله بأن هذا أمره وهو واقع أن يصغر في عينه ما هو عند الله صغير، وأن يعظم في نفسه ما هو عند الله عظيم، أو ليس ما ذكر الله من الكراهة لأهلها فيما بعد الموت والهوان ما يطيب نفس امرئ عن عيشة دنياه، فإنها قد أذنت بزوال. أيدوم نعيمها، ولا يؤمن فجائعها، يبلى جديدها، ويسقم صحيحها، ويفتقر غنيها. ميالة بأهلها، لعابة بهم على كل حال. ففيها عبرة لمن اعتبر، وبيان فعلامَ تنتظر.
يا ابن آدم أنت اليوم في دار هي لافظتك وكأن قد بدا لك أمرها وإلى انصرام ما تكون سريعاً ثم يفضى بأهلها إلى أشد الأمور وأعظمها خطراً، فاتق الله يا ابن آدم وليكن سعيك في دنياك لآخرتك فإنه ليس لك من دنياك شيء إلا ما صدرت أمامك، فلا تدخرن عن نفسك مالك، ولا تتبع نفسك ما قد علمت أنك تاركه خلفك، ولكن تزود لبعد الشقة، واعدد العدة أيام حياتك وطول مقامك قبل أن ينزل بك من قضاء الله ما هو نازل فيحول دون الذي تريد، فإذا أنت يا ابن آدم قد ندمت حيث لا تغني الندامة عنك، ارفض الدنيا ولتسخ بها نفسك ودع منها الفضل فإنك إذا فعلت ذلك أصبت أربح الأثمان من نعيم لا يزول، ونجوت من عذاب شديد ليس لأهله راحة ولا فترة، فاكدح لما خلقت له قبل أن تفرق بك الأمور فيشق عليك اجتماعها، صاحب الدنيا بجسدك، وفارقها بقلبك، ولينفعك ما قد رأيت مما قد سلف بين يديك من العمر، وحال بين أهل الدنيا وبين ما هم فيه فإنه عن قليل فناؤه، ومخوف وباله، وليزدك إعجاب أهلها بها زاهداً فيها وحذراً منها، فإن الصالحين كذلك كانوا.(1/60)
واعلم يا ابن آدم أنك تطلب أمراً عظيماً لا يقصر فيه إلا المحروم الهالك، فلا تركب الغرور وأنت ترى سبيله؛ ولا تدع حظك وقد عرض عليك، وأنت مسئول ومقول لك فأخلص عملك، وإذا أصبحت فانتظر الموت، وإذا أمسيت فكن على ذلك ولا حول ولا قوة إلا بالله، وإن أنجى الناس من عمل بما أنزل الله في الرخاء والبلاء، وأمر العباد بطاعة الله وطاعة رسوله، فإنكم أصبحتم في دار مذمومة خلقت فتنة وضرب لأهلها أجل إذا انتهوا إليه يبيد. أخرج نباتها، وبث فيها من كل دابة، ثم أخبرهم بالذي هم إليه صائرون، وأمر عباده فيما أخرج لهم من ذلك بطاعته، وبين لهم سبيلها يعني سبيل الطاعة ووعدهم عليها الجنة، وهم في قبضته ليس منهم بمعجز له، وليس شيء من أعمالهم يخفى عليه، سعيهم فيها شتى بين عاص ومطيع له، ولكل جزاء من الله بما عمل، ونصيب غير منقوص، ولم أسمع الله تعالى فيما عهد إلى عباده وأنزل عليهم في كتابه رغب في الدنيا أحداً من خلقه، ولا رضي له بالطمأنينة فيها، ولا الركون إليها، بل صرف الآيات وضرب الأمثال بالعيب لها، والنهي عنها، ورغب في غيرها. وقد بين لعباده أن الأمر الذي خلقت له الدنيا وأهلها عظيم الشأن، هائل المطلع، نقلهم عنه، أراه إلى دار لا يشبه ثوابهم ثواباً، ولا عقابهم عقاباً، لكنها دار خلود يدين الله تعالى فيها العباد بأعمالهم ثم ينزلهم منازلهم، لا يتغير فيها بؤس عن أهلها ولا نعيم، فرحم الله عبداً طلب الحلال جهده حتى إذا دار في يده وجَّهه وجهه الذي هو وجهه.(1/61)
ويحك يا ابن آدم ما يضرك الذي أصابك من شدائد الدنيا إذا خلص لك خير الآخرة؛ ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر؛ هذا فضح القوم، ألهاكم التكاثر عن الجنة عند دعوة الله تعالى وكرامته، والله لقد صحبنا أقواماً كانوا يقولون ليس لنا في الدنيا حاجة، ليس لها خلقنا، فطلبوا الجنة بغدوهم ورواحهم وسهرهم نعم والله حتى أهرقوا فيها دماءهم ورجوا فأفلحوا ونجوا. هنيئاً لهم لا يطوي أحدهم ثوباً، ولا يفترشه، ولا تلقاه إلا صائماً ذليلاً متبائساً خائفاً حتى إذا دخل إلى أهله إن قرب إليه شيء أكله وإلا سكت لا يسألهم عن شيء ما هذا وما هذا، ثم قال:
ليس من مات فاستراح بميت إنما الميت ميت الأحياء
[*] وأخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن موهب بن عبد الله، قال: لما استخلف عمر بن عبد العزيز كتب إليه الحسن البصري كتاباً بدأ فيه بنفسه أما بعد؛ فإن الدنيا دار مخيفة، إنما أهبط آدم من الجنة إليها عقوبة، واعلم أن صرعتها ليست كالصرعة، من أكرمها يهن، ولها في كل حين قتيل، فكن فيها يا أمير المؤمنين كالمداوي جرحه يصبر على شدة الدواء خيفة طول البلاء والسلام.
[*] وأخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن إبراهيم ابن عيسى اليشكري، قال: سمعت الحسن إذا ذكر صاحب الدنيا يقول: والله ما بقيت له ولا بقي لها، ولا سلم من تبعها ولا شرها ولا حسابها، ولقد أخرج منها من خرق.
[*] وأخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الحسن قال : فضح الموت الدنيا فلم يترك فيها لذي لب فرحاً.
[*] وأخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن المبارك بن فضالة، قال: كان الحسن إذا تلا هذه الآية: فلا تغرنك الحياة الدنيا ولا يغركم بالله الغرور . قال: من قال ذا ؟ قاله من خلقها وهو أعلم بها، قال: وقال الحسن: إياكم وما شغل من الدنيا فإن الدنيا كثيرة الأشغال لا يفتح رجل على نفسه باب شغل إلا أوشك ذلك الباب أن يفتح عليه عشرة أبواب.(1/62)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عبد الله بن عياش، عن أبيه: أن عمر بن عبد العزيز شيع جنازة، فلما انصرفوا تأخر عمر وأصحابه ناحية عن الجنازة، فقال له أصحابه: يا أمير المؤمنين جنازة أنت وليها تأخرت عنها فتركتها وتركتها ؟ فقال: نعم، ناداني القبر من خلفي يا عمر بن عبد العزيز ألا تسألني ما صنعت بالأحبة ؟ قلت: بلى، قال: خرقت الأكفان، ومزقت الأبدان، ومصصت الدم وأكلت اللحم، ألا تسألني ما صنعت بالأوصال؟ قلت: بلى، قال: نزعت الكفين من الذراعين، والذراعين من العضدين، والعضدين من الكتفين، والوركين من الفخذين، والفخذين من الركبتين، والركبتين من الساقين، والساقين من القدمين، ثم بكى عمر فقال: ألا إن الدنيا بقاؤها قليل، وعزيزها زليل، وغنيها فقير، وشبابها يهرم، وحيها يموت، فلا يغرنكم إقبالها مع معرفتكم بسرعة إدبارها، والمغرور من اغتر بها، أين سكانها الذين بنوا مدائنها، وشققوا أنهارها، وغرسوا أشجارها، وأقاموا فيها أياماً يسيرة، غرتهم بصحتهم، وغزوا بنشاطهم، فركبوا المعاصي، إنهم كانوا والله في الدينا مغبوطين بالأموال على كثرة المنع، محسودين على جمعه، ما صنع التراب بأبدانهم، والرمل بأجسادهم، والديدان بعظامهم وأوصالهم، كانوا في الدنيا على أسرة ممهدة، وفرش منضدة، بين خدم يخدمون، وأهل يكرمون، وجيران يعضدون، فإذا مررت فنادهم إن كنت منادياً، وادعهم إن كنت داعياً، ومر بعسكرهم، وانظر إلى تقارب منازلهم التي كان بها عيشهم، وسل غنيهم ما بقى من غناه، وسل فقيرهم ما بقى من فقره، وسلهم عن الألسن التي كانوا بها يتكلمون، وعن الأعين التي كانت إلى اللذات بها ينظرون، وسلهم عن الجلود الرقيقة، والوجوه الحسنة، والأجساد الناعمة، ما صنع بها الديدان ؟ محت الألوان، وأكلت اللحمان، وعفرت الوجوه، ومحت المحاسن، وكسرت الفقار وأبانت الأعضاء، ومزقت الأشلاء، وأين حجالهم وقبابهم، وأين خدمهم وعبيدهم، وجمعهم ومكنوزهم،(1/63)
والله ما زودوهم فراشاً، ولا وضعوا هناك متكأً، ولا غرسوا لهم شجراً، ولا أنزلوهم من اللحد قراراً، أليسوا في منازل الخلوات والفلوات أليس الليل والنهار عليهم سواء ؟ أليس هم في مدلهمة ظلماء ؟ قد حيل بينهم وبين العمل، وفارقوا الأحبة. فكم من ناعم وناعمة أصبحوا ووجوهم بالية، وأجسادهم من أعناقهم نائية، وأوصالهم ممزقة، قد سالت الحدق على الوجنات، وامتلأت الأفواه دماً وصديداً، ودبت دواب الأرض في أجسادهم ففرقت أعضاءهم، ثم لم يلبثوا والله إلا يسيرا حتى عادت العظام رميماً، قد فارقوا الحدائق، فصاروا بعد السعة إلى المضايق، قد تزوجت نساؤهم، وترددت في الطرق أبناؤهم، وتوزعت القرابات ديارهم وتراثهم، فمنهم والله الموسع له في قبره، الغض الناضر فيه، المتنعم بلذته. يا ساكن القبر غداً مالذي غرك من الدنيا، هل تعلم أنك تبقى أو تبقى لك، أين دارك الفيحاء، ونهرك المطرد، وأين ثمرك الناضر ينعه وأين رقاق ثيابك وأين طيبك وأين بخورك، وأين كسوتك لصيفك وشتائك، أما رأيته قد نزل به الأمر فما يدفع عن نفسه وجلا، وهو يرشح عرقاً، ويتلمظ عطشاً، يتقلب من سكرات الموت وغمراته، جاء الأمر من السماء، وجاء غالب القدر والقضاء، جاء من الأمر والأجل ما تمتنع منه، هيهات هيهات، يا مغمض الوالد والأخ والولد وغاسله، يا مكفن الميت وحامله، يا مخليه في القبر وراجعاً عنه، ليت شعري كيف كنت على خشونة الثرى، يا ليت شعري بأي خديك بدأ البلى، يا مجاور الهلكات صرت في محلة الموتى، ليت شعري مالذي يلقاني به ملك الموت عند خروجي من الدنيا، وما يأتيني به من رسالة ربي، ثم تمثل:
تسر بما يفنى وتشغل بالصبا ... كما غر باللذات في النوم حالم
نهارك يا مغرور سهو وغفلة ... وليلك نوم والردى لك لازم
وتعمل فيما سوف تكره غبه ... كذلك في الدنيا تعيش البهايم
ثم انصرف فما بقى بعد ذلك إلا جمعه.(1/64)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أسد بن زيد قال: كنا مع عمر بن عبد العزيز في جنازة، فلما أن دفن الميت ركب بغلة له صغيرة ثم جاء إلى قبر فركز عليه المقرعه فقال: السلام عليك يا صاحب القبر، قال عمر فنادانى مناد من خلفى وعليك السلام يا عمر بن عبد العزيز عم تسأل ؟ فقلت، عن ساكنك وجارك، قال: أما البدن فعندي، والروح عرج به إلى الله عز وجل ما أدري أي شيء حاله، قلت أسألك، عن ساكنك وجارك ؟ قال: دمغت المقلتين، وأكلت الحدقتين، ومزقت الأكفان، وأكلت الأبدان .
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أبي قرة، قال: خرج عمر بن عبد العزيز على بعض جنائز بني مروان، فلما صلى عليها وفرغ، قال لأصحابه: توقفوا، فوقفوا، فضرب بطن فرسه حتى أمعن في القبور وتوارى عنهم، فاستبطأه الناس حتى ظنوا، فجاء وقد احمرت عيناه، وانتفخت أوداجه، قالوا: يا أمير المؤمنين أبطأت علينا ؟ قال: أتيت قبور الأحبة، قبور بني آبائي فسلمت عليهم فلم يردوا السلام، فلما ذهبت أقفى ناداني التراب فقال: ألا تسألني يا عمر عليهم ما لقيت الأحبة؟ قلت: وما لقيت الأحبة؟ قال: خرقت الأكفان، وأكلت الأبدان، ونزعت المقلتين، فذكر نحوه. وزاد: فلما ذهبت أقفي ناداني: يا عمر عليك بأكفان لا تبلى، قلت: وما أكفان لا تبلى ؟ قال: اتقاء الله، والعمل الصالح.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أبي صالح الشامى، قال: قال عمر بن عبد العزيز:
أنا ميت وعز من لا يموت ... قد تيقنت أنني سأموت
ليس ملك يزيله الموت ملكا ... إنما الملك ملك من لا يموت(1/65)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن مفضل بن يونس، قال: قال عمر بن عبد العزيز: لقد نغص هذا الموت على أهل الدنيا ما هم فيه من غضارة الدنيا وزهوتها، فبينا هم كذلك وعلى ذلك أتاهم جاد من الموت فاخترمهم مما هم فيه، فالويل والحسرة هنا لك لمن لم يحذر الموت، ويذكره في الرخاء فيقدم لنفسه خيراً يجده بعدما فارق الدنيا وأهلها، قال: ثم بكى عمر حتى غلبه البكاء فقام.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن جابر بن نوح، قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى بعض أهل بيته، أما بعد فإنك إن استشعرت ذكر الموت في ليلك أو نهارك بغض إليك كل فان، وحبب إليك كل باق. والسلام.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أسماء بن عبيد قال: دخل عنبسة بن سعيد بن العاص على عمر بن عبد العزيز، فقال: يا أمير المؤمنين إن من كان قبلك من الخلفاء كانوا يعطون عطايا منعتناها، ولي عيال وضيعة، أفتأذن لي أن أخرج إلى ضيعتي وما يصلح عيالي ؟ فقال عمر: أحبكم إلينا من كفانا مؤنته. فخرج من عنده فلما صار عن الباب قال عمر: أبا خالد أبا خالد، فرجع. فقال: أكثر من ذكر الموت فإن كنت في ضيق من العيش وسعه عليك، وإن كنت في سعة من العيش ضيقه عليك.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عن جعونة، قال: قال عمر بن عبد العزيز: يا أيها الناس إنما أنتم أغراض تنتضل فيها المنايا، إنكم لا تؤتون نعمة إلا بفراق أخرى، وأية أكلة ليس معها غصة، وأية جرعة ليس معها شرقة، وإن أمْس شاهد مقبول قد فجعكم بنفسه، وخلف في أيديكم حكمته، وإن اليوم حبيب مودع وهو وشيك الظعن، وإن غداً آت بما فيه، وأين يهرب من يتقلب في يدي طالبه، إنه لا أقوى من طالب، ولا أضعف من مطلوب. إنما أنتم سفر تحلون عقد رحالكم في غير هذه الدار، إنما أنتم فروع أصول قد مضت فما بقاء فرع بعد ذهاب أصله.(1/66)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عبيد الله بن العيزار، قال: خطبنا عمر بن عبد العزيز بالشام على منبر من طين، فحمد الله وأثنى عليه، ثم تكلم بثلاث كلمات فقال: أيها الناس أصلحوا سرائركم تصلح علانيتكم، واعملوا لآخرتكم تكفوا دنياكم، واعلموا أن رجلاً ليس بينه وبين آدم آب حي لمغرق له في الموت. والسلام عليكم.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أبي الحسن المدائني، قال: كتب عمر بن عبد العزيزإلى عمر بن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة يعزيه على ابنه: أما بعد، فإنا قوم من أهل الآخرة أسكنا الدنيا، أموات أبناء أموات، والعجب لميت يكتب إلى ميت يعزيه عن ميت. والسلام.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عبد الله بن المفضل التميمي، قال: آخر خطبة خطبها عمر بن عبد العزيز أن صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، فإن ما في أيديكم أسلاب الهالكين، وسيتركها الباقون كما تركها الماضون، ألا ترون أنكم في كل يوم وليلة تشيعون غادياً أو رائحاً إلى الله تعالى، وتضعونه في صدع الأرض ثم في بطن الصدع، غير ممهد ولا موسد، قد خلع الأسلاب، وفارق الأحباب، وأسكن التراب، وواجه الحساب، فقير إلى ما قدم أمامه، غنى عما ترك بعده. أما والله إني لأقول لكم هذا وما أعرف من أحد من الناس مثل ما أعرف من نفسي، قال: ثم قال بطرف ثوبه على عينه فبكى ثم نزل، فما خرج حتى أخرج إلى حفرته.(1/67)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن شعيب بن صفوان، عن عيسى أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى رجل: أما بعد: فإني أوصيك بتقوى لله، والانشمار لما استطعت من مالك وما رزقك الله إلى دار قرارك، فكأنك والله ذقت الموت وعاينت ما بعده بتصريف الليل والنهار فإنهما سريعان في طي الأجل ونقص العمر، لم يفتهما شىء إلا أفنياه، ولا زمن مرا به إلا أبلياه، مستعدان لمن بقى بمثل الذي أصاب من قد مضى، فنستغفر الله لسيء أعمالنا، ونعوذ به من مقته إيانا على ما نعظ به مما نقصر عنه.
*اخْوَانِي إِنَّكُمْ فِي دَارٍ هِيَ مَحَلُّ العِبَرِ وَالآفَاتِ ، وَأَنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ ، وَالطَّرِيقُ كَثِيرَةُ الْمُخَافَاتِ ، فَتَزَوَّدُوا مِنْ دُنْيَاكُم قَبْلَ الْمَمَاتِ ، وَتَدَارَكُوا هَفَوَاتِكُمْ قَبْلَ الفَوَاتِ ، وَحَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ وَرَاقِبُوا اللهَ فِي الخَلَواتِ ، وَتَفَكَّرُوا فِيمَا أَرَاكُمْ مِنْ الآيَاتِ ، وَبَادِرُوا بالأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ ، وَاسْتَكْثِرُوا فِي أَعْمَارِكُمْ القَصِيرَةِ مِنْ الحَسَنَاتِ ، قَبْْلَ أَنْ يُنَادِي بِكُمْ مُنَادِ الشَّتَاتِ ، قَبْلَ أَنْ يُفَاجِئكُمْ هَادِمُ اللَّذَاتِ ، قَبْلَ أَنْ يَتَصَاعَدَ مِنْكُمْ الأَنِينُ وَالزَّفَرَاتِ ، قَبْلَ أَنْ تَنْقَطِعَ قُلُوبَكُمْ عِنْدَ فِرَاقِكُمْ حَسَرَاتٍ ، قَبْلَ أَنْ يَغْشَاكُمْ مِنْ غَمَّ الْمَوْتِ الغَمَرَاتُ ، قَبْلَ أَنْ تُزْعَجُوا مِنْ القُصُورِ إلى بُطُونِ الفَلَوَاتِ ، قَبْلَ أَنْ يُحَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ مَا تَشْتَهُونَ مِنْ هَذِهِ الحَيَاةِ ، قَبْلَ أَنْ تَتَمَنَّوا رُجُوعَكُمْ إلى الدُّنْيَا وَهَيْهَاتَ . يَوْمَ يَتَجَرَّعُونَ كَأْسَ الْمَمَاتِ ، وَيَشْهَدُ بِهَا عَلَيْهِمْ الْمَلَكَانِ كَاتِبُ الحَسَنَاتِ ، وَكَاتِبُ السَّيِّئَاتِ .(1/68)
آه لساعات شديدة الكربات ، فيها غمرات ليست بنوم ولا سبات ، تتقطع الأفئدة باللوم على الفوات ، تبكي عين الأسى لما مضى من فوات ، والمريض ملقى على فراش الحرقات ، لِلَّهِ دَرّ أقَوامٍ بادَرُوا الأَوْقاتِ ، واسْتَدْركُوا الْهَفَوات ، واغتنموا الأوقات للعمل بالباقيات الصالحات، فالعَينُ مَشْغُولةٌ بالدَّمْع عن المحرَّماتِ ، واللسانُ مَحبوسٌ في سِجْن الصَّمْت عن الهَلَكَاتْ ، والكفُّ قد كُفَّتْ بالخوفِ عن الشهوات ، والقَدَم قد قُيِّدت بِقَيدِ المحاسبَات . ولسان حالها يقول : كيف تهنأ بالشهوات ، وهى مطية الآفات ،
فإذا حَلَّ بهم الليلُ رأيتهم يَجْأَرُونَ فيه بالأصْواتْ ، وإذا جَاءَ النهارُ قَطَعُوهُ بمُقَاطَعة اللَّذات ، فكَمِ مِن شَهْوَةٍ مَا بَلَغُوهَا حَتَّى الممات .
فتيقَّظْ لِلِحَاقِهم مِن هَذِهِ الرَّقَدات ، ولا تَطْمَعَنَّ في الخَلاص مَعَ عَدمِ الإخلاص في الطاعات ، ولا تُؤَمّلنّ النجاة وأنت مقيمٌ على المعاصي والموبقات ، ذهبت اللذات وأعقبت الحسرات وانقضت الشهوات وأورثت الحسرات ، ولا تغتر بصفاء الأوقات فإن تحتها غوامض الآفات. قال الله جل وعلا : { أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } وَذَهَبَتْ البَرَكَاتُ وَقلّتِ الْخَيْرَاتُ ،(1/69)
* لَقَدْ ذَهَبَ أَكْثَرُ عَامِكُمْ وَفَاتَ ، وَتَقَضَّتْ أَيَّامُهُ وَلَيَاليه وَأَنْتُمْ مُنْهَمِكُونَ فِي اللَّذَاتِ ، فَمَا أَسْرَعَ مَا تَضَرَّمَتْ مِنْهُ الأَوْقَاتُ ، وَمَا أَكْثَرَ مَا خَطَبَكُمْ لِسَانُ حَاله بِزَوِاجِرِ العِظَاتِ ، وَمَا أَطْوَلَ مَا نَادَى بِكُمْ مُنَادِي الشِّتَاتِ . فَطُوبَى لِمَنْ تَدَارَكَ الهَفَوَاتِ ، وَبُشْرَى لِمَنْ لازَمَ تَقْوَى اللهِ ، وَعَمِلَ بِالبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ ، وَهَنِيئًَا لِمَنْ أَذْهَبَ السَّيِّئَاتِ بِالحَسَنَاتِ ، وَيَا خَيْبِةَ مَنْ شَغَلَتْهُ المَلاهِي وَالمُنْكَرَاتِ عَنْ طَاعَةِ رَفِيعِ الدَّرَجَاتِ ، وَمَا أَعْظَمَ خَسَارَةَ مَنْ بَاعَ نَفِيسَ آخِرَتِهِ بِخَسِيسِ دُنْيَاهُ ، وَحَسْرَةً لَهُ يَوْمَ { يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ } وَتَعْسًا وَجَدْعًا لَهُ { يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ } .(1/70)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أبي سريع الشامي، قال: قال عمر بن عبد العزيز لرجل من جلسائه: أبا فلان لقد أرقت الليلة تفكراً، قال: فيم يا أمير المؤمنين ؟ قال: في القبر وساكنه، إنك لو رأيت الميت بعد ثالثة في قبره لاستوحشت من قربه بعد طول الأنس منك بناحيته، ولرأيت بيتاً تجول فيه الهوام، ويجرى فيه الصديد، وتخترقه الديدان. مع تغير الريح، وبلى الأكفان بعد حسن الهيئة وطيب الريح، ونقاء الثوب، ثم شهق شهقة وخر مغشياً عليه. فقالت فاطمة: يا مزاحم ويحك، أخرج هذا الرجل عنا فلقد نغص على أمير المؤمنين الحياة منذ ولى، فليته لم يل، قال: فخرج الرجل فجاءت فاطمة تصب على وجهه الماء وتبكى حتى أفاق من غشيته فرآها تبكي، فقال: ما يبكيك يا فاطمة ؟ قالت: يا أمير المؤمنين رأيت مصرعك بين أيدينا فذكرت به مصرعك بن يدي الله للموت، وتخليك من الدنيا وفراقك لنا، فذاك الذي أبكاني. فقال: حسبك يا فاطمة فلقد أبلغت. ثم مال ليسقط فضمته إلى نفسها، فقالت: بأبي أنا يا أمير المؤمنين ما نستطيع أن نكلمك بكل ما نجد لك في قلوبنا، فلم يزل على حاله تلك حتى حضرته الصلاة، فصبت على وجهه ماء ثم نادته: الصلاة يا أمير المؤمنين، فأفاق فزعاً.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عبد السلام مولى مسلمة بن عبد الملك، قال: بكى عمر بن عبد العزيز فبكت فاطمة فبكى أهل الدار، لا يدري هؤلاء ما أبكى هؤلاء، فلما تجلى عنهم العبر قالت له فاطمة: بأبي أنت يا أمير المؤمنين مم بكيت ؟ قال: ذكرت يا فاطمة منصرف القوم من بين يدي الله عز وجل، فريق في الجنة وفريق في السعير، قال: ثم صرخ وغشى عليه.(1/71)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن ميمون بن مهران، قال: خرجت مع عمر بن عبد العزيز إلى المقبرة، فلما نظر إلى القبور بكى ثم أقبل علي فقال: يا أبا أيوب هذه قبور آبائي بني أمية كأنهم لم يشاركوا أهل الدنيا في لذتهم وعيشهم. أما تراهم صرعى قد خلت بهم المثلات، واستحكم فيهم البلاء، وأصابت الهوام في أبدانهم مقيلاً. ثم بكى حتى غشى عليه، ثم أفاق فقال: انطلق بنا فوالله ما أعلم أحداً أنعم ممن صار إلى هذه القبور وقد أمن عذاب الله.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن محمد بن إبراهيم، حدثني أبي، عن جدي، قال: حج سليمان بن عبد الملك ومعه عمر بن عبد العزيز، فلما أشرفت على عقبة عسفان نظر سليمان إلى عسكره فأعجبه ما رأى من حجره وأبنيته، فقال: كيف ترى ما ها هنا يا عمر؟ قال: أرى يا أمير المؤمنين دنيا يأكل بعضها بعضاً، أنت المسئول عنها والمأخوذ بما فيها، فطار غراب من حجرة سليمان ينعب في منقاره كسره، فقال سليمان: ما ترى هذا الغراب يقول؟ قال: أظنه يقول من أين دخلت هذه الكسرة وكيف خرجت، قال: إنك لتجىء بالعجب يا عمر، قال: إن شئت أخبرك من هذا أخبرتك؟ قال: فأخبرني، قال: من عرف الله فعصاه. ومن عرف الشيطان فأطاعه، ومن رأى الدنيا وتقلبها بأهلها ثم اطمأن إليها، قال سليمان: نغصت علينا ما نحن فيه يا عمر، وضرب دابته وسار. فأقبل عمر حتى نزل عن دابته فأمسك برأسها وذلك أنه سبق ثقله، فرأى الناس كل من قدم شيئاً قدم عليه، فبكى عمر فقال سليمان: ما يبكيك ؟ قال: هكذا يوم القيامة من قدم شيئاً قدم عليه، ومن لم يقدم شيئاً قدم على غير شيء.(1/72)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن ليث بن أبي رقية - كاتب عمر بن عبد العزيز في خلافته ـ أن عمر كتب إلى ابنه في العام الذي استخلف فيه ـ وابنه إذ ذاك بالمدينة يقال له عبد الملك ـ أما بعد: فإن أحق من تعاهدت بالوصية والنصيحة بعد نفسى أنت، وإن أحق من رعى ذلك وحفظه عني أنت، وإن الله تعالى له الحمد قد أحسن إلينا إحساناً كثيراً بالغاً في لطيف أمرنا وعامته، وعلى الله إتمام ما عبر من النعمة وإياه نسأل العون على شكرها، فاذكر فضل الله على أبيك وعليك، ثم أعن أباك على ما قوى عليه وعلى ما ظننت أن عنده منه عجزاً عن العمل فيما أنعم به عليه وعليك في ذلك، فراع نفسك وشبابك وصحتك، وإن استطعت أن أكثر تحريك لسانك بذكر الله حمداً وتسبيحاً وتهليلاً فافعل، فإن أحسن ما وصلت به حديثاً حسناً حمد الله وذكره، وإن أحسن ما قطعت به حديثاً سيئاً حمد الله وذكره، ولا تفتتن فيما أنعم الله به عليك فيما عسيت أن تفرط به أباك فيما ليس فيه، إن اباك كان بين ظهرانى إخوته عند أبيه يفضل عليه الكبير، ويدني دونه الصغير، وإن كان الله وله الحمد قد رزقني من والدي حسباً جميلاً، كنت به راضياً أرى أفضل الذي يبره ولده على حقاً، حتى ولدت وولد طائفة من إخوتك، ولا أخرج بكم من المنزل الذي أنا فيه، فمن كان راغباً في الجنة وهارباً من النار فالآن في هذه الحالة والتوب مقبول، والذنب مغفور ، قبل نفاذ الأجل، وانقضاء العمل، وفراغ من الله للثقلين ليدينهم بأعمالهم في موطن لا تقبل فيه الفدية، ولا تنفع فيه المعذرة، تبرز فيه الخفيات، وتبطل فيه الشفاعات، يرده الناس بأعمالهم، ويصدرون فيه أشتاتاً إلى منازلهم، فطوبى يومئذ لمن أطاع الله، وويل يومئذ لمن عصى الله، فإن ابتلاك الله بغنى فاقتصد في غناك، وضع الله نفسك، وأد إلى الله فرائض حقه في مالك وقل عند ذلك ما قال العبد الصالح: قال تعالى: ( هََذَا مِن فَضْلِ رَبّي لِيَبْلُوَنِيَ أَأَشْكُرُ(1/73)
أَمْ أَكْفُرُ ) [ النمل : 40]. وإياك أن تفخر بقولك، وأن تعجب بنفسك، أو يخيل إليك أن ما رزقته لكرامة بك على ربك، وفضيلة على من لم يرزق مثل غناك، فإذا أنت أخطأت باب الشكر، ونزلت منازل أهل الفقر، وكنت ممن طغى للغنى وتعجل طيباته في الحياة الدنيا، فإني لأعظك بهذا وإني لكثير الإسراف على نفسي، غير محكم لكثير من أمري، ولو أن المرء لم يعظ أخاه حتى يحكم نفسه، ويكمل في الذي خلق له لعبادة ربه، إذاً تواكل الناس الخير، وإذاً يرفع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واستحلت المحارم، وقل الواعظون، والساعون لله بالنصيحة في الأرض. فلله الحمد رب السموات والأرض رب العالمين، وله الكبرياء في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم.(1/74)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن إسماعيل بن إبراهيم بن أبي حبيبة: أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى بعض عماله، أما بعد: فإني أوصيك بتقوى الله ولزوم طاعته، فإن بتقوى الله نجا أولياء الله من سخطه، وبها تحقق لهم ولايته، وبها رافقوا أنبيائهم، وبها نضرت وجوههم، وبها نظروا إلى خالقهم، وهي عصمة في الدنيا من الفتن، والمخرج من كرب يوم القيامة، ولم يقبل ممن بقى إلا بمثل ما رضي عمن مضى ولمن بقى عبرة فيما مضى، وسنة الله فيهم واحدة، فبادر بنفسك قبل أن تؤخذ بكظمك، ويخلص إليك كما خلص إلى من كان قبلك، فقد رأيت الناس كيف يموتون وكيف يتفرقون، ورأيت الموت كيف يعجل التائب توبته وذا الأمل أمله، وذا السلطان سلطانه، وكفى بالموت موعظة بالغة، وشاغلاً عن الدنيا، ومرغباً في الآخرة، فنعوذ بالله من شر الموت وما بعده، ونسأل الله خيره وخير ما بعده، ولا تطلبن شيئاً من عرض الدنيا بقول ولا فعل تخاف أن يضر بآخرتك، فيزري بدينك، ويمقتك عليه ربك، واعلم أن القدر سيجري إليك برزقك، ويوفيك أملك من دنياك بغير مزيد فيه بحول منك ولا قوة، ولا منقوصاً منه بضعف. إن أبلاك الله بفقر فتعفف في فقرك وأخبت لقضاء ربك، واعتبر بما قسم الله لك من الإسلام، ما ذوى منك من نعمة الدنيا فإن في الإسلام خلفاً من الذهب والفضة من الدنيا الفانية. اعلم أنه لن يضر عبداً صار إلى رضوان الله وإلى الجنة ما أصابه في الدنيا من فقر أو بلاء، وأنه لن ينفع عبداً صار إلى سخط الله و وإلى النار ما أصاب في الدنيا من نعمة أو رخاء، ما يجد أهل الجنة من مكروه أصابهم في دنياهم، ما يجد أهل النار طعم لذة نعموا بها في دنياهم، كل شيء من ذلك كأن لم يكن.(1/75)
تشيعون غادياً أو رائحاً إلى الله قد قضى نحبه، وانقضى أجله، وتغيبونه في صدع من الأرض، ثم تدعونه غير متوسد ولا متمهد، فارق الأحبة، وخلع الأسلاب، وسكن التراب، وواجه الحساب، مرتهناً بعمله، فقيراً إلى ما قدم، غنياً عما ترك، فاتقوا الله قبل نزول الموت، وانقضاء موافاته، وأيم الله إني لأقول لكم هذه المقالة وما أعلم عند أحد منكم من الذنوب أكثر مما أعلم عندي، وأستغفر الله وأتوب إليه.(1/76)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سالم بن عبد الله بن عمر: أن عمر بن عبد العزيز كتب إليه: من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى سالم بن عبد الله، سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد: فإن الله ابتلاني به من أمر هذه الأمة من غير مشاورة مني فيها، ولا طلبة مني لها، إلا قضاء الرحمن وقدره، فأسأل الذي ابتلاني من أمر هذه الأمة بما ابتلاني أن يعينني على ما ولاني، وأن يرزقني منهم السمع والطاعة وحسن مؤازرة، وأن يرزقهم مني الرأفة والمعدلة، فإذا أتاك كتابي هذا فابعث إلى بكتب عمر بن الخطاب وسيرته وقضاياه في أهل القبلة وأهل العهد، فإني متبع أثر عمر وسيرته إن أعانني الله على ذلك والسلام. فكتب إليه سالم ابن عبد الله: بسم الله الرحمن الرحيم، من سالم بن عبد الله بن عمر إلى عبد الله عمر أمير المؤمنين، سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد: فإن الله خلق الدنيا لما أراد، وجعل لها مدة قصيرة كان بين أولها وآخرها ساعة من نهار، ثم قضى عليها وعلى أهلها الفناء فقال: ( كُلّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [ القصص : 88].(1/77)
لا يقدر منها أهلها على شيء حتى تفارقهم ويفارقوها، أنزل بذلك كتابه، وأنزل بذلك رسله، وقدم فيه بالوعيد، وضرب فيه الأمثال، ووصل به القول، وشرع فيه دينه، وأحل الحلال وحرم الحرام وقص فأحسن القصص، وجعل دينه في الأولين والآخرين فجعله ديناً واحداً فلم يفرق بين كتبه، ولم تختلف رسله، ولم يشق أحد بشيء من أمر سعد به أحد، ولم يسعد أحد من أمره بشىء شقى به أحد، وإنك اليوم يا عمر لم تعد أن تكون إنساناً من بني آدم، يكفيك من الطعام والشراب والكسوة ما يكفي رجلاً منهم، فاجعل فضل ذلك فيما بينك وبين الرب الذي توجه إليه شكر النعم، فإنك قد وليت أمراً عظيماً ليس يليه عليك أحد دون الله، قد أفضى فيما بينك وبين الخلائق، فإن استطعت أن تغنم نفسك وأهلك فافعل، ولا قوة إلا بالله، فإنه قد كان قبلك رجال عملوا بما عملوا، وأماتوا ما أماتوا من الحق، وأحيوا ما أحيوا من الباطل، حتى ولد فيه رجال ونشأوا فيه وظنوا أنها السنة، ولم يسددوا على العباد باب رخاء إلا فتح عليهم باب بلاء، فإن استطعت أن تفتح عليهم أبواب الرخاء فإنك لا تفتح عليهم منها باباً إلا سد به عنك باب بلاء، ولا يمنعك من نزع عامل أن تقول لا أجد من يكفيني عمله، فإنك إذا كنت تنزع لله وتعمل لله أتاح الله لك رجالاً وكالا بأعوان الله، وإنما العون من الله على قدر النية، فإذا تمت نية العبد تم عون الله له، ومن قصرت نيته قصر من الله العون له بقدر ذلك، فإن استطعت أن تأتي الله يوم القيامة ولا يتبعك أحد بظلم ويجىء من كان قبلك وهم غابطون لك بقلة إتباعك وأنت غير غابط لهم بكثرة أتباعهم فافعل، ولا قوة إلا بالله، فإنهم قد عاينوا وعالجوا نزع الموت الذي كانوا منه يفرون، وانشقت بطونهم التي كانوا فيها لا يشبعون، وانفقأت أعينهم التي كانت لا تنقضي لذاتها، واندقت رقابهم في التراب غير موسدين بعد ما تعلم من تظاهر الفرش والمرافق، فصاروا جيفاً تحت بطون الأرض تحت آكامها، لو كانوا(1/78)
إلى جنب مسكين تأذى بريحهم، بعد إنفاق ما لا يحصى عليهم من الطيب، كان إسرافاً وبداراً عن الحق، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ما أعظم يا عمر وأفظع الذي سبق إليك من أمر هذه الأمة، فأهل العراق فليكونوا من صدرك بمنزلة من لا فقر بك إليه، ولا غنى بك عنه، فإنهم قد وليتهم عمال ظلمة قسموا المال وسفكوا الدماء، فإنه من تبعث من عمالك كلهم أن يأخذوا بجبية، وأن يعملوا بعصبية، وأن يتجبروا في عملهم، وأن يحتكروا على المسلمين بيعاً، وأن يسفكوا دماً حراماً. الله الله يا عمر في ذلك، فإنك توشك إن اجترأت على ذلك أن يؤتى بك ضغيراً ذليلاً، وإن أنت اتقتيت ما أمرتك به وجدت راحته على ظهرك وسمعك وبصرك، ثم أنك كتبت إلى تسأل أن أبعث إليك بكتاب عمر بن الخطاب وسيرته وقضائه في المسلمين وأهل العهد، وأن عمر عمل في غير زمانك، وإني أرجو إن عملت بمثل ما عمل أن تكون عند الله أفضل منزلة من عمر، وقل كما قال العبد الصالح: ( وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىَ مَآ أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِيَ إِلاّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) [ هود : 88]. والسلام عليك.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عمر بن محمد المكي، قال: خطب عمر بن عبد العزيز فقال: إن الدنيا ليست بدار قراركم، دار كتب الله عليها الفناء، وكتب على أهلها منها الظعن، فكم عامر موثق عما قليل مخرب، وكم مقيم مغتبط عما قليل يظعن، فأحسنوا رحمكم الله منها الرحلة بأحسن ما يحضركم من النقلة، وتزودوا فإن خير الزاد التقوى، إنما الدنيا كفيء ظلال قلص فذهب. بينا ابن آدم في الدنيا ينافس فيها وبها قرير العين إذ دعاه الله بقدره، ورماه بيوم حتفه، فسلبه آثاره ودنياه، وصير لقوم آخرين مصانعه ومغناه، إن الدنيا لا تسر بقدر ما تضر، إنها تسر قليلاً، وتجر حزناً طويلاً.(1/79)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن يعقوب بن عبد الرحمن، عن أبيه قال: خطب عمر بن عبد العزيز هذه الخطبة، وكان آخر خطبة خطبها، حمد الله وأثنى عليه ثم قال: إنكم لم تخلقوا عبثاً، ولم تتركوا سدى، وإن لكم معاداً ينزل الله فيه ليحكم بينكم ويفصل بينكم، وخاب وخسر من خرج من رحمة الله وحرم جنة عرضها السموات والأرض، ألم تعلموا أنه لا يأمن غداً إلا من حذر الله اليوم وخافه وباع نافداً بباق، وقليلاً بكثير، وخوفاً بأمان ؟ ألا ترون أنكم في أسلاب الهالكين، وستصير من بعدكم للباقين، وكذلك حتى تردوا إلى خير الوارثين.
ثم إنكم تشيعون كل يوم غادياً ورائحاً، قد قضى نحبه، وانقضى أجله، حتى تغيبوه في صدع من الأرض، في شق صدع، ثم تتركوه غير ممهد ولا موسد، فارق الأحباب، وباشر التراب، ووجه للحساب، مرتهن بما عمل، غني عما ترك، فقير إلى ما قدم. فاتقوا الله وموافاته وحلول الموت بكم، أما والله إني لأقول هذا وما أعلم عند أحد من الذنوب أكثر مما عندي وأستغفر الله، وما منكم من أحد يبلغنا حاجته لا يسع له ما عندنا إلا تمنيت أن يبدأ بي وبخاصتي حتى يكون عيشنا وعيشه واحداً، أما والله لو أردت غير هذا من غضارة العيش لكان اللسان به ذلولاً، وكنت بأسبابه عالماً، ولكن سبق من الله كتاب ناطق، وسنة عادلة، دل فيها على طاعته، ونهى فيها عن معصيته، ثم رفع طرف ردائه فبكى وأبكى من حوله.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عون بن معمر قال: كتب الحسن إلى عمر بن عبد العزيز: أما بعد، فكأنك بآخر من كتب عليه الموت قيل قد مات. فأجابه عمر: أما بعد، فكأنك بالدنيا ولم تكن، وكأنك بالآخرة ولم تزل.(1/80)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار، قال: قال عمر لرجل: أوصيك بتقوى الله فإنها ذخيرة الفائزين، وحرز المؤمنين، وإياك والدنيا أن تفتنك فإنها قد فعلت ذلك بمن كان قبلك، إنها تغر المطمئنين إليها، وتفجع الواثق بها، وتسلم الحريص عليها، ولا تبقى لمن استبقاها، ولا يدفع التلف عنها من حواها، لها مناظر بهجة. ما قدمت منها أمامك لم يسبقك، وما أخرت منها خلفك لم يلحقك.
رحم الله رجلاً أيقظ نفسه في مهلة الحياة قبل الممات، واستعد للموت قبل حلول الفوات ، وتضرَّع إلى الله قائلاً : اللهم يا عالم الخفيات ويا رفيع الدرجات ، وَيَا مُجِيبَ الدَّعَوَاتِ وَيَا قَاضِي الحَاجَاتِ وَيَا سَامِعَ الأَصْوَاتِ وَيَا بَاعِثَ الأَمْواتِ و يَا خَالَق الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ ، اعصمنا عن المعاصي والزلات ووفقنا لاغتنام الأوقات للعمل بالباقيات الصالحات .
رحم الله رجلاً له واعظٌ من نفسه يبكي على خطيئته ويقول : ويحي، بأي شيء لم أعص ربي، ويحي إنما عصيته بنعمته عندي، ويحي من خطيئة ذهبت شهوتها وبقيت تبعتها، عندي كتاب كتبه كتاب لم يغيبوا عني، واسوأتاه لم أستحيهم ولم أراقب ربي. ويحي نسيت ما لم ينسوا مني. ويحي غفلت ولم يغفلوا عني، ولم أستحيهم ولم أراقب. وأسوأتاه ويحي حفظوا ما ضيعت مني، ويحي طاوعت نفسي وهي لم تطاوعني، ويحي طاوعتها فيما يضرني ويضرها، ويحي إلا تطاوعني نفسي وهي لم تطاوعني، ويحي طاوعتها فيما يضرني ويضرها، ويحي ألا تطاوعني فيما ينفعها وينفعني، أريد إصلاحها وتريد أن تفسدني، ويحها إني لأنصفها وما تنصفني، أدعوها لرشدها وتدعوني لتغويني، ويحها إنها لعدو لو أنزلته تلك المنزلة مني. ويحها تريد اليوم أن تردني وغداً تخاصمني.(1/81)
رب لا تسلطها علي ذلك مني، رب إن نفسي لم ترحمني فارحمني، رب إني أعذرها ولا تعذرني، إنه إن يك خيراً أخذلها وتخذلني، وإن يك شراً أحبها وتحبني، رب فعافني منها وأعفها مني، حتى لا أظلمها ولا تظلمني، وأصلحني لها وأصلحها لي، فلا أهلكها ولا تهلكني، ولا تكلني إليها ولا تكلها إلي.
ويحي كيف أنساه ولا ينساني، ويحي إنه يقص أثري فإن فررت لقيني، وإن أقمت أدركني. ويحي هل عسى أن يكون قد أظلني فمساني ؟ وصبحني أو طرقني فبغتني ؟ ويحي أزعم أن خطيئتي قد أقرحت قلبي، ولا يتجافى جنبي، ولا تدمع عيني ولا تسهر لي. ويحي كيف أنام على مثلها ليلي، ويحي هل ينام على مثلها مثلي، ويحي لقد خشيت أن لا يكون هذا الصدق مني ؟ بل ويلي إن لم يرحمني ربي.
ويحي كيف لا تهون قوتي ولا تعطش هامتي، بل ويلي إن لم يرحمني ربي. ويحي كيف لا أنشط فيما يطفئها عني ؟ بل ويلي إن ل يرحمني ربي.(1/82)
ويحي كيف لا يذهب ذكر خطيئتي كسلي، ولا يبعثني إلى ما يذهبها عني، بل ويلي إن لم يرحمني ربي، ويحي كي تنكأ قرحتي ما تكسب يدي، ويح نفسي بل ويلي إن لم يرحمني ربي. ويحي لا تنهاني الأولى من خطيئتي عن الآخرة، ولا تذكرني الآخرة من خطيئتي بسوء ما ركبت من الأولى، فويلي ثم ويلي إن لم يتم عفو ربي، ويحي لقد كان لي فيما استوعبت من لساني وسمعي وقلبي وبصري اشتغال، فويل لي إن لم يرحمني ربي، ويحي إن حجبت يوم القيامة عن ربي لم يزكني ولم ينظر إلي ولم يكلمني، فأعوذ بنور وجه ربي من خطيئتي، وأعوذ بك أن أُعطى كتابي بشمالي أو من وراء ظهري، فيسود به وجهي، وتزرق به مع العمى عيني. بل ويلي إن لم يرحمني ربي. ويحي بأي شيء استقبل ربي ؟ بلساني أم بيدي أم بسمعي أم بقلبي أم ببصري. ففي كل هذا له الحجة والطلبة عندي، ويل لي إن لم يرحمني ربي، كيف لا يشغلني ذكر خطيئتي عما لا يعنيني ؟ ويحك يا نفس مالك لا تنسين مالا ينسى ؟ وقد أتيت مالا يؤتى، وكل ذلك عند ربك يحصى، كتاب لا يبيد ولا يبلى، ويحك لا تخافين أن أجزي فيمن يجزي يوم تجزى كل نفس بما تسعى وقد آثرت ما يفني على ما يبقى.
يا نفس ويحك إلا تستفيقين مما أنت فيه ؟ إن سقمت تندمين، وإن صححت تأثمين، مالك إن افتقرت تحزنين، وإن استغنيت تفتنين. مالك إن نشطت تزهدين، فلم إن دعيت تكسلين ؟ أراك ترغبين قبل أن تنصبي، ولم لا تنصبين فيما ترغبين.
يا نفس ويحك لم تخالفين ؟ تقولين في الدنيا قول الزاهدين وتعملين فيها عمل الراغبين. ويحك لم تكرهين الموت ؟ لم لا تذعنين وتحبين الحياة، لم لا تصنعين.
يا نفس ويحك أترجين أن ترضى ولا ترضين، وتجانبين وتعصين، مالك إن سألت تكثرين، فلم إن أنفقت تقترين ؟ أتريدين الحياة ؟ ولم تحذرين بتغير الزيادة، ولم تشكرين، تعظمين في الرهبة حين تسألين، وتقصرين في الرغبة حين تعملين، تريدين الآخرة بغير عمل، وتؤخرين التوبة لطول الأمل.(1/83)
لا تكوني كمن يقال هو في القول مدل، ويستصعب عليه الفعل، بعض بني آدم إن سقم ندم، وإن صح أمن، وإن افتقر حزن، وأن استغنى فتن، وإن نشط زهد، وإن رغب كسل، يرغب قبل أن ينصب، ولا ينصب فيما يرغب، يقول قول الزاهد، ولا يعمل عمل الراغب، يكره الموت ما لا يدع، ويحب الحياة لما لا يصنع. إن سأل أكثر، وإن أنفق قتر، يرجو الحياة ولم يحذر، ويبغي الزيادة ولم يشكر، يبلغ الرغبة حين يسأل، ويقصر في الرغبة حين يعمل، يرجو الأجر بغير عمل.
ويح لنا ما أغرنا، ويح لنا ما أغفلنا، ويح لنا ما أجهلنا، ويح لنا لأي شيء خلقنا ؟ للجنة أم للنار، ويح لنا أي خطر خطرنا، ويح لنا من أعمال قد أخطرتنا، ويح لنا مما يراد بنا، ويح لنا كأنما يعني غيرنا، ويح لنا إن ختم على أفواهنا، وتكلمت أيدينا، وشهدت أرجلنا. ويح لنا حين تفتش سرائرنا، ويح لنا حين تشهد أجسادنا، ويح لنا مما قصرنا، لا براءة لنا، ولا عذر عندنا، ويح لنا ما أطول أملنا، ويح لنا حيث نمضي إلى خالقنا . ويح لنا الويل الطويل إن لم يرحمنا ربنا، فارحمنا يا ربنا.
رب ما أحكمك، وأمجدك، وأجودك، وأرأفك، وأرحمك، وأعلاك، وأقربك، وأقدرك، وأقهرك، وأوسعك، وأقضاك، وأبينك، وأنورك، وألطفك، وأخبرك، وأعلمك، وأشكرك، وأرحلمك، وأحكمك، وأعطفك، وأكرمك.
رب ما أرفع حجتك، وأكثر مدحتك، رب ما أبين كتابك، وأشد عقابك، رب ما أكرم مآبك، وأحسن ثوابك، رب ما أجزل عطاءك، وأجل ثناءك، رب ما أحسن بلاءك، وأسبغ نعماءك، رب ما أعلى مكانك، وأعظم سلطانك، رب ما أعظم عرشك، وأشد بطشك، رب ما أوسع كرسيك، وأهدى مهديك، رب ما أوسع رحمتك، وأعرض جنتك، رب ما أعز نصرك، واقرب فتحك، رب ما أعمر بلادك، وأكثر عبادك، رب ما أوسع رزقك، وأزيد شكرك، رب ما أسرع فرجك، وأحكم صنعك، رب ما ألطف خيرك، وأقوى أمرك، رب ما أنور عفوط، وأجل ذكرك، رب ما أعدل حكمك، وأصدق قولك، رب ما أوفى عهدك، وانجز وعدك، رب ما أحضر نفعك، وأتقن صنعك.(1/84)
ويحي ؟ كيف أغل ولا يغل عني، أم كيف تهنئني معيشتي واليوم الثقيل ورائي، أم كي لا يطول حزني ولا أدري ما يفعل بي ؟ أم كيف تهنئني الحياة ولا أدري ما أجلي ؟ أم كيف تعظم فيها رغبتي والقليل فيها يكفيني، أم كيف آمن ولا يدوم بها حالي ؟ أم كيف يشتد حبي لدار ليست بداري ؟ أم كي أجمع لها وفي غيرها قراري ؟ أم كيف يشتد عليها حرصي ولا ينفعني ما تركت فيها بعدي، أم كيف أوثرها وقد أضرت بمن آثرها قبلي، أم كي لا أبادر بعملي قبل أن يغلق باب توبتي، أم كيف يشتد إعجابي بما يزايلني وينقطع عني، أم كيف أغفل عن أمر حسابي وقد أظلني واقترب مني، أم كيف أجعل شغلي بما قد تكفل به لي، أم كيف اعاود ذنوبي وأنا معروض على عملي، أم كيف لا أعمل بطاعة ربي وفيها النجاة مما أحذر على نفسي، أم كيف لا يكثر بكائي ولا أدري ما يراد ربي ؟ أم كيف تقر عيني مع ذكر ما سلف مني، أم كيف أعرض نفسي لما لا يقوى له هوائي، أم كيف لا يشتد هولي مما يشتد منه جزعي، أم كيف تطيب نفسي مع ذكرها ما هو أمامي، أم كيف يطول أملي والموت أثري، أم كيف لا أراقب ربي وقد أحسن طلبي.
ويحي فهل ضرت غفلتي أحدا سوائى، أم هل يعمل لي غيري إن ضيعت حظي، أم هل يكون عملي إلا لنفسي، فبم ادخر عن نفسي ما يكون نفعه لي ؟ ويحي كأنه قد تصرم أجلي ثم أعاد ربي خلقي كما بدأني، ثم أوقفني وسألني وسأل عني وهو أعلم بي ثم أشهدت الأمر الذي أذهلني عن أحبابي وأهلي، وشغلت بنفسي عن غيري، وبدلت السموات والأرض وكانتا تطيعان وكنت أعصي؛ وسيرت الجبال وليس لها مثل خطيئتي، وجمع الشمس والقمر وليس عليهما مثل حسابي؛ وانكدرت النجوم وليست تطلب بما عندي، وحشرت الوحوش ولم تعمل بمثل عملي، وشاب الوليد وهو أقل ذنباً مني.(1/85)
ويحي ما أشد حالي وأعظم خطري، فاغفر لي واجعل طاعتك همي، وقو عليها جسدي، وسخ نفسي عن الدنيا واشغلني فيما يعنيني، وبارك لي في قواها حتى ينقضي مني حالي، وامتن علي وارحمني حين تعيد بعد اللقاء خلقي، ومن سوء الحساب فعافني يوم تبعثني فتحاسبني، ولا تعرض عني يوم تعرضني بما سلف من ظلمي وجرمي، وآمني يوم الفزع الأكبر يوم لا تهمني إلا نفسي، وارزقني نفع عملي يوم لا ينفعني عمل غيري.
إلهي أنت الذي خلقتني، وفي الرحم صورتني، ومن أصلاب المشركين نقلتني، قرنا فقرنا حتى أخرجتني في الأمة المرحومة، إلهي فارحمني إلهي فكما مننت علي بالإسلام فامنن علي بطاعتك، وبترك معاصيك أبداً ما أبقيتني ولا تفضحني بسرائري، ولا تخذلني بكثرة فضائحي.
سبحانك خالقي أنا الذي لم أزل لك عاصيا فمن أجل خطيئتي لا تقر عيني، وهلكت إن لم تعف عني، سبحانك خالقي بأي وجه ألقاك ؟ وبأي قدم أقف بين يديك? وبأي لسان أناطقك ؟ وبأي عين أنظر إليك ؟ وأنت قد علمت سرائر أمري، وكيف أعتذر إليك إذا ختمت على لساني، ونطقت جوارحي بكل الذي قد كان مني.
سبحانك خالقي فأنا تائب إليك متبصبص، فاقبل توبتي، واستجب دعائي وارحم شبابي، وأقلني عثرتي، وارحم طول عبرتي، ولا تفضحني بالذي قد كان مني.
سبحانك خالقي أنت غياث المستغيثين، وقرة أعين العابدين، وحبيب قلوب الزاهدين، فإليك مستغاثي ومنقطعي، فارحم شبابي، واقبل توبتي، واستجب دعوتي، ولا تخذلني بالمعاصي إلى كانت مني.
إلهي علمتني كتابك الذي أنزلته على رسولك محمد صلى الله عليه وسلم. ثم وقعت على معاصيك وأنت تراني، فمن أشقى مني إذا عصيتك وأنت تراني، وفي كتابك المنزل قد نهيتني، إلهي أنا إذا ذكرت ذنوبي ومعاصيي لم تقر عيني للذي كان مني، فأنا تائب إليك فاقبل ذلك مني، ولا تجعلني لنار جهنم وقودا بعد توحيدي، وإيماني بك. فاغفر لي ولوالدي ولجميع المسلمين برحمتك آمين رب العالمين.(1/86)
أما علمت أخي أن الدنيا نعيمها ابتلاء ، وحياتها عناء ، كم نقلتك من صَفِاءٍ وَرَخَاءِ إلى كَدَرٍ وبلاء ، ومن وَسُرُورٍ و وَحَبُور إلى هُمٍ و بَلاءٍ ، فَاصْبِرْ عَلَى شِدَّةِ الدَّوَاءِ لِمَا تَخَافُ مِنْ طُولِ الْبَلاءِ ،وأصلح نفسك قبل أن يسْتَفْحَلَ الدَّاءُ فلَمْ ينفع دَّوَاءُ .
عجبت لمن كان الْمَوْتُ يَطْلُبُهُ كَيْفَ يَقِرُّ لَهُ قَرَار وَمَنْ كَانَ الدَّهْرُ يُجَارِيهِ فَكَيْفَ يُطِيقُ الانْتِصَار ، وَمَنْ كَانَ رَاحِلاً عَنِ الدُّنْيَا إلى الآخِرَةِ كَيْفَ يَلَذُّ لَهُ قَرَارُ ، عَجَبًا لِمَنْ يَمْلأ عَيْنهُ بِالنَّوْمِ وَهُوَ لا يَدْرِي أَيُسَاقُ إلى الْجَنَّةِ أَوْ إلى النَّارِ ، نسأل الله العزيز الغفار أن يجعلنا من جملة الأخيار وأن يجعلنا من عباده الأبرار ، وأن يجعلنا ممن أحبه فزهده في هذه الدار ، وحرص على مرضاته وتأهب لدار القرار واجتهد في طاعته وملازمة ذكره وحمده وشكره بالعشي والإبكار .
ما للأنفسِ إلى زهرة الحياة الدُّنْيَا الفانية ناظرة ، وما للأقدام عن طَرِيق الهداية الواضحة حائرة وما للعزائم والهمم عن الْعَمَل الصالح فاترة وما للنفوس لا تتزود من التقوى وهي مسافرة وما لها لا تتأهب وتستعد للنقلة إلى دار الآخِرَة ، أركونًا إلى الدُّنْيَا وقَدْ فرقت الجموع وكسرت أعناق الأكاسرة وقصرت آمال القياصرة وأدارت على أهلها من تقلبها الدائرة أم اغترارًا بالإقامة ، ومطايا الأيام بكم في كُلّ لحظة سائرةٍ أم تسويفًا بالتوبة والأعمال فهذه وَاللهِ الفكرة والصفقة الخاسرة .(1/87)
عباد الله أوصي نفسي وإياكم بِتَقْوَى اللهِ الملك العَلام الحَيِّ القَيُّومِ الذي لا يَنَامُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ أَحْسَنَ فَعَلَيْهِ بالتَّمَامِ ، وَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ أساء فَلْيَخْتِم بالْحُسْنَى ، فَالعَمَلُ بَالْخِتَامِ ، أَمَّا أَوْضْحَ لَكُمْ الطَّريقَ المُوصِلَ إلى دَارِ السَّلامِ ، أَمَّا بَعَثَ إِلَيْكُمْ مُحَمَّدًا - صلى الله عليه وسلم - لِتَبْلِيغِ الشَّرَائِعَ وَالأحْكَامِ ، أَمَّا أَنْزَلَ عَلَيْهِ الذِّكْرَ لِيُبَيّنَ لِلنَّاسِ مَا أَوْدَعَهُ فِيهِ مِنْ الأَحْكَام ، أَمَا دَعَاكُمْ إِلى التَّوَكّلِ عَلَيْهِ وَالاعْتِصَامِ ، أَمَّا حَثَّكُم إلى العَمَلَ فِيمَا يُقَرِّبُ إلى دَارِ السَّلامِ ، أَمَّا حَذَّرَكُمْ عَوَاقِبَ مَعَاصِيهِ وَنَهَاكُمْ عَنْ الآثَامِ ، أَمَا أنْذَركُم هَوْلَ يَوْمٍ أَطْوَلَ الأَيَّامِ ، اليَوْمُ الذي يَشِيبُ فِيهِ الوِلْدَانْ ، وَتَنْفَطِرُ فِيهِ السَّمَاءُ ، وَتَنْكَدِرُ فِيهِ النُّجُومِ ، وَتَظْهَرُ فِيهِ أَمُورٌ عِظَامٌ ، أَمَّا خَوَّفكمُ مَوَارِدُ الحَمَامِ ، أَمَا ذَكَّرَكُمْ مَصَارِعَ مَنْ قَبْلَكُمْ مِنْ الأَنَامِ ، أَمَا أَمَدَّكُم بالأبْصَارِ وَالأَسْمَاعِ وَصِحَّةِ الأَجْسَامِ ، أَمَا وَعَدَكَمُ بِقَبُولِ تَوْبَةِ التَّائِبِينَ رَحْمَةً مِنْهُ جَرَتْ بِهِ الأَقْلامُ ، فَوَاللهِ لَحُقَّ لِهَذَا الرَّبِ العَظِيمِ أَنْ يُطَاعَ فَلا يُعْصَى عَلَى الدَّوَامِ ، فَيَا أَيُّهَا الشُّيُوخُ بَادِرُوا فَمَا لِلزرْعِ إِذَا أَحْصَدَ إلا الصِّرَامُ ، وَيَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ جُدُّوا في العَمَلِ فُرَبُّ امْرئٍ مَا بَلَغَ التَّمَامَ ، وَاحْذَرُوا عِقَابَ رَبِّكُم يَوْمَ يُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ ،
عباد الله عليكم بتقوى الله ، فإن تقواه عروة مالها انفصام وقدوة يأتم بها الكرام ، وسراج يضيء للأفهام(1/88)
أما آن لكم أن ترجعوا إلى ربكم ذي الجلال والإكرام وأن تخشوْا يَومًا تُزَلْزَلُ فِيهِ الأَقْدَامُ ، وَتُرعدُ فِيهِ الأَجْسَامُ ، وَتَتَضَاعَفُ فِيهِ الآلامُ ، وَتَتَزَايَدُ فِيهِ الأَسْقَامُ . وَيَطُولُ فِيهِ الْقِيَامُ ،
أما آن لكم أن تغْتَنِمُوا بَقِيَّةَ الْعُمُرِ وَالأَيَّامِ ، وأن تَبَادِرُوا بِالتَّوْبَةِ مِنَ الْمَعَاصِيَ وَالإِجْرَامِ ، قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ تَشَقَّقُ فِيهِ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَتَظْهَرُ فِيهِ الْخَفَايَا وَالدَّوَاهِي وَالأَهْوَالُ الطَّوَام ، وَتُنَكِّسُ فِيهِ الظَّلَمَةُ رُؤُوسَهَا وَيَعْلُوهَا الذُّلُ مِن الرُّؤُوسِ إلى الأَقْدَامِ وَيَتَجَلَّى لِفَصْلِ الْقَضَاءِ بَيْنَ عِبَادِهِ حَاكِمُ الْحُكَّام .
أما علمتم أن السعي للجنة لا يكون بالكلام ، ولا بالأماني والأحلام ، ولكن بالجِدِ والاهتمام
أما آن لكم أن تنتبهوا من نومكم ، أوما علمتم أن الدُّنْيَا أضغاث أحلام ، ودار فناء لَيْسَتْ بدار مقام ، ستعرفون نصحي لكم بعد أيام .
رَحِمَ اللهُ عَبْدًا أَقْبَلَ عَلَى الْبَاقِي وَأَعْرَضَ عَن الْفَانِي مِنَ الْحُطَامِ . وَجَعَلَ لِشَارِدِ النَّفْسِ مِنَ التَّقْوَى أَقْوَى زِمَام . وَاجْتَنَبَ الظُّلْم فَإِنَّ الظُّلْمَ يُخْرُجُ مِنَ النُّورِ إِلى الظَّلامِ . فَنَسْأَلُكَ اللَّهُمَّ تَوْفِيقًا يُقَرِّبُنَا مِنَ الْحَلالِ وَيُبْعِدُنَا عَن الْحَرَامِ . وَطَرِيقًا إِلى الْخَيْرَاتِ لِنَتَمَسَّكَ بِالزَّمَامِ . وَأَمْنًا يَوْمَ الْفَزَعِ الأَكْبَرِ يُبَلِّغُنَا غَايَةَ الْمُنَى . قَالَ اللهُ جَلَّ وَعَلا : { وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ } [ إبراهيم : 23 ](1/89)
عباد الله : َالْبَقَاءُ فِي الدُّنْيَا مُحَالٌ ، لابد من الارتحال ليومٍ شديد الأهوال ، حيثُ لا عثرة تُقال ولا رجعة تُنال، لا يفكرون بالزوال ، ولا يهمون بانتقال ، ولا يخطر الموت لهم على بال ، فهل أعددت له صالح الأعمال ،
و تزودوا للرحيل فقَدْ دنت الآجال و قرب الارتحال ، فَإِيَّاكُمْ والاغترار بالآمال ، واستعدوا له بصالح الأَعْمَال ، واستشعروا التَّقْوَى فِي الأقوال والأفعال ، ، وكفى ما ضاع من أَعْمَارَنَا فِي الْقِيلِ وَالْقَالِ، وكثرة الجدال ، وقَوْلٌ بلا فِعَال وأمْرٌ بلا امتثال ، فكيف بك إذا أنت مُتُ على هذا الحال ، وتقطعت منك الأوصال ولم يبقَ إلا الحساب على أقبح الخصال وأشنع الخِلال، أما تخشى سوء المآل ، أما تَعِي ما أقول أم ران على قلبك قبائح الأعمال وضُرِب على قلبك وسمعِك من الذنوب أقفال .
أما ضرب الله لكم الأمثال ، ووقَّتَ لكم الآجال ، و جَادَ عَلَى عِبَادِهِ بِالأنْعَامِ وَالأَفْضَالِ ،فهل أعددتم ِصَالِحِ الأَعْمَالِ ، للنجاة من النَّارِ وَمَا أَعَدَّهُ فِيهَا مِنَ العَذَابِ وَالنَّكَالِ وَالأَغْلالِ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا فِيهَا مِنَ الأَهْوَالِ ،
اعملوا هداكم من بأنواره يهتدي الضلال ، وبرضاه ترفع الأغلال ، وبالتماس قربه يحصل الكمال ، إذا ذهب المال ، وأخلفت الآمال ، وتبرأت من يمينها الشمال
عباد الله : َالْبَقَاءُ فِي الدُّنْيَا مستحيل لابد من الرحيل فتزود للسفر الطويل لابد من الإرتحال ليومٍ شديد الأهوال فأعدَّ له صالح الأعمال قبل طي الآجال
عباد الله : َإِنَّ الدُّنْيَا قَدْ آذَنَتْ بِالْفُرَاقِ وَإِنَّ الآخِرَة قَدْ أَشْرَفَتْ لِلتَّلاقِ ، رحم الله رجلاً أضمر نفسه للسباق ، وساقها إلى الغاية أشد مساق واستعد للموت قبل هجومه وأخذ حذره منه قبل قدومه وأنفذ دموعه على الأوقات التي أضاعها قبل أن تزل به القدم ويؤخذ بما علم وبما لم يعلم.(1/90)
فَكَيْفَ إِذَا جُمِعُوا لِيَوْمِ التَّلاقِ ، وَتَجَلَّى اللهُ - جَلَّ جَلالهُ - لِلْعِبَادِ وَقَدْ كَشَفَ عَنْ سَاقٍ ؟ وَدُعُوا إِلى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ { خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ } .[ القلم : 43 ]
عباد الله اعلموا أن الدُّنَيْا حَلالُهَا حِسَاب ، وَحَرَامُهَا عَذَابُ ، وَإِلَى اللهِ الْمآبُ ، العمرُ يمَرَّ السَّحَابِ ، فَبَادِرُوا بِالتَّوْبَةِ قَبْلَ أَنْ يُغْلَقَ عَنْكُمُ البَابَ .
أما آن لكم أن تَصُونُوا قلوبكم مِن الْخَرَابِ ، وَتَحْفَظُونَ دينكم مِنَ التَّلاشِي وَالذِّهَابِ ، وَتَرْجُونَ رِضَا رَبَّكُمْ وَعَفْوَهُ يَوْمَ الْبَعْثِ وَالْحِسَابِ
أما كان لكم عبرةٌ فيمن ماتوا ودُفِنوا تحت التراب ، كيف فُجِعَ بِهِم الأَحْبَاب ، وأكثروا عليهم البكاء والانتحاب ، وسَكَنُوا التُراب ، وظَعَنُوا فليسَ لهم إِياب ،
أما آن لكم أن تنتبهوا من غفلتكم فإليكم يوجه الخطاب ، وتُفِيقوا من نومكم قبل أن تناخ للرحيل الركاب قبل هجوم اللذات ومفرق الجماعات ومذل الرقاب ، ومشتِِّت الأحباب ، أما تذكر ما أمامك من شدة الحساب وشر المآب ، فيا له من زائر لا يعوقه عائق ، ولا يضرب دونه حجاب ، ويا لَهُ من نازل لا يستأذن على الملوك ولا يلج من الأبواب ، ولا يرحم صغيرًا ولا يوقر كبيرًا ، ولا يخاف عظيمًا ولا يهاب ، ألا وإن بعده ما هُوَ أعظم منه من السؤال والجواب ، وراءه هول البعث والحشر وأحواله الصعاب من طول المقام والازدحام فِي الأجسام والميزان والصراط والحساب والْجَنَّة أَوْ النار .
فيا خجلة من سئل فعدم الجواب أو بجوابٍ يستحق عَلَيْهِ أليم الْعَذَاب ويا حَسْرَة من نوقش عن الدقيق والجليل في الآخِرَة الحساب ، ويا ندامة من لم يحصل إِلا على الْغَضَب من الكريم الوهاب(1/91)
ويا ويلةَ من كانت وجوههم مسودة لسوء الحساب ، والزبانية تقمعهم فيذوقون أليم العقاب ، فياله من يومٍ شديد َيَشْتَدُّ فِيهِ الْحِسَابُ ، وَيُشْفَقُ فِيهِ العذاب ، يومٌ تخضعُ فيه الرِّقَابُ ويَذَلُ فيه كُلُّ فَاجِرٍ كَذَّابِ ويَرَجَعُ الأَشْقِيَاءُ بِالْخُسْرَانِ وَالتَّبَابِ ،
ويا حَسْرَة نفوس أسرفت على نفسها في دار الغرور ، ويا خراب قُلُوب عمرت بأماني كُلّهَا باطل وزورٍ ، وغرقت في الدواهي من الأمور ، أما علمت أن الله ( { يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ } [ غافر : 19 ] فَكَيْفَ بِها إِذَا عَايَنْت الأُموُرَ وبُعْثِرَتِ القُبُورِ وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ ، ، أم كيف بها إذا دخلت قبرها المحفور ، وما فيه من الدواهي والأمور ، تحت الجنادلِ والصخور ، ثم سُئِلت عن هذه الأمور، أم كيف بها حين تقفُ بين يدي ربها ويسألها عن هذه الأمور ، ثم لم تجد جواباً على هذه الأمور ، هنالك تعرفُ أنها ما كانت إلا في غرور ، فتندم ندماً لا يخطرُ على الصدور ، ولا يُكْتَبُ بالسطور ، لكنه ندمٌ لا ينفعُ في أي أمرٍ من الأمور .
فكيف بكم لو قَدْ تَنَاهَت الأُمُور ، ثم تبلغك صيحة النشور ونفخة الصور ، وبُعثِرتِ القُبور ، وحُصّلَ ما في الصُدور ، ودهمتكُم مُفْظِعاتُ الأُمور بنفخةِ الصُوْر ، وَبَعْثَرةِ القُبور
أَيْنَ مَنْ شَيَّدَ القُصُورَ ، وَنَسَى القُبُورَ ، أما علموا أن الدنيا دار عبور لا دار سرور ، بينا أهلِها منها في رَخَاءٍ وسُرور ، إِذا هم مِنها في بلاء وغُرُور، أَعْوَامٌ سَرِيعَةُ المُرُورِ ، وَشُهُورٌ تَقْتَفِي إِثْرَ شُهُورٍ وَعِبَرٌ بَيْنَ ذَلِكَ تَتْرَى ، فَعَلامَ الغُرُورُ ، كيف أنت إذا بعثر ما في القبور وحصل ما في الصدور وكل إنسان ألزم طائره في عنقه يوم النشور .(1/92)
عِبَادَ اللهِ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةِ وَقَرُبَ التَّحَوُّلُ وَالْمَسِير ، فالعُمْرُ قَصِيْرٌ ولم يبق مِنْهُ إلا اليَسِيْرُ ، وَأَزِفَتِ الآزِفَةُ وَلَيْسَ هُنَاكَ حَمِيمٌ وَلا نَصِيرٌ ، فكيف بك إذا وقفت بين يدي العلي الكبير فسئلت عن القليل والكثير و الفَتِيلِ والنَّقيرِ ، و أنتَ لا تعرفُ أتكون مِنْ فرِيقِ الجَنَّةِ أمْ مِنْ فَرِيقِ السَّعِيرِ .
فيا ساكنا عن الصواب ، كيف بك إذا وقفت للحساب بين يدي سريع الحساب ، هل أعددت للسؤال جواب ، ألم تخفْ سوء الحساب يوم المآب .
يا غافلاً عن مصيره ، يا واقفًا في تقصيره سبقك أَهْل العزائم وأَنْتَ في اليقظة نائم ، قف على الْبَاب وقوف نادم ، ونكس رأس الذل وقل أَنَا ظَالِم وناد في الأسحار مذنب وواهم ، وتشبه بالقوم وإن لم تكن مِنْهُمْ وزاحم ، عساك أن تخرج من الدنيا سالم .
َيَا مُعْرِضاً عَنْ حَيَاتِهِ الدَائِمَةِ وَنَعِيْمِهِ المُقِيمِ وَيَا بَائِعاً سَعَادَتَهُ العُظْمَى بِالعَذَابِ الألْيِمِ ، هل ذهب عقلك يا لئيم ، إِنّمَا هِيَ لَذّةٌ فَانِيةٌ وشَهْوَةٌ مُنْقِضَيةٌ تَذْهَبُ لذّاتُها وتَبَقَى تَبِعَاتُهَا فَرَحُ سَاعَةٍ لاَ شَهْرٍ وغَمُّ سَنَةٍ بَلْ دَهْرِ طَعَامٌ لَذْيِذٌ مَسْمُومٌ أوَّلُهُ لذّةٌ وآخِرُهُ هَلاَكُ ، فالعَالِم عَلَيْهَا والساعي في توصيلها كدودة القز يسد علي نَفْسهُ المذاهب بما نسج عَلَيْهَا من المعاطب فيندم حين لا تنفع الندامة ويستقيل حين لا تقبل الاستقالة فطوبي لمن أقبل علي الله بكليته وعكف عَلَيْهِ بإرادته ومحبته .(1/93)
يا حاضر الجسم والْقَلْب غائب ، اجتماع العيب مَعَ الشيب من أعظم المصائب ، يَا غافلاً فاته الأرباح وأفضل المناقب ، أين البُكَاء والحزن والقلق لخوف العَظِيم الطالب ، أين الزمان الَّذِي فرطت فيه أما تخش العواقب ، من لَكَ يوم ينكشف عَنْكَ غطاؤك فِي موقف المحاسب ، إِذَا قِيْل لَكَ : ما صنعت فِي كُلّ واجب ، كيف ترجو النجاة وأَنْتَ تلهو بأسر الملاعب ، لَقَدْ ضيعتك الأماني بالظن الكاذب ، أما علمت أن الموت صعب شديد المشارب ، يلقي شره بكأس صدور الكتائب ، وأنه لا مفر منه لهارب فَانْظُرْ لنفسك واتق الله أن تبقى سَلِيمًا من النوائب ، فقد بنيت كنسج العنكبوت بيتًا ، أين الذين علو فوق السفن والمراكب أين الَّذِينَ علو على متون النجائب ، هجمت عَلَيْهمْ الْمَنَايَا فأصبحوا تحت النصائب وأَنْتَ فِي أثرهم عَنْ قريب عاطب ، فَانْظُرْ وتفكر واعتبر وتدبر قبل هجوم من لا يمنع عَنْهُ حرس ولا باب ولا يفوته هرب هارب .
فَوَاعَجَبًا لَكَ كُلَّمَا دُعِيتَ إِلى اللهِ تَوَانَيْت ، وَكُلَّمَا حَرَّكَتْكَ الْمَوَاعظُ إِلى الخيراتِ أَبُيت ، وعلى غَيَّكَ وَجَهْلِكَ تَمَادَيْت ، وَكَمْ حُذِّرت مَن الْمَنُون فما التَفَتَّ إلى قول الناصِحِ وَتَركْتَهُ وما بَالَيْت .
عِبَادَ اللهِ إِنَّ الدُّنْيَا قَدْ آذَانَتْ بِفِرَاق فَيَا وَيْحَ مَنْ كَانَ بِهَا جُلَّ اشْتِغَالِهِ ، كَيْفَ يَطْمَئِنُّ الْعَاقِلُ إِلَيْهَا مَعَ تَحقَّقِهِ بِدُنُوِّ ارْتِحَالِهِ . كَيْفَ يَنْخَدِعُ الْيَوْمَ بِبَوَارِقَهَا مَنْ هُوَ غَدًا مُرْتَهِنٌ بَأَعْمَالِهِ كَيْفَ يَغْتَرُّ فِيهَا بِإِمْهَالِهِ وَإِمْهَاله لَمْ يَنْشَأْ إِلا عَنْ إِهْمَالِهِ ، كَيْفَ يَبِيتُ آمِنًا فِي تَوَسَّعِ آمَالِهِ . وَهُوَ لا يَدْرِي مَا يَطْرُقُ مِنْ بَغْتَةِ آجَالِهِ أَفَمَا تَرَوْنَ طَيْفَ الشَّبِيبَةَ قَدْ رَحَلَ ؟ وَكَثِيرًا مَا حَلَّ بِالشَّبَابِ الْمَنُونِ(1/94)
أما اعتبرت بمن رحل ، أما وعظتك العبر أما كان لك سمعٌ ولا بصر ، هَذِهِ دُورُهَمُ فِيهَا سِوَاهمُ ، هَذا صَدِيقُهم قَد نَسِيَهَمْ وَجَفَاهمُ .
اسْتَلِبْ زَمَانِكَ يَا مَسْلُوبْ لِلَّهِ وَغَالِبِ الهَوَى يَا مَغْلُوبْ لِلَّهِ وَحَاسِبْ نَفْسَكَ فَالعُمْرُ مَحْسُوبْ ، وَامْحِ قَبِيحَكَ فَالقَبِيحُ مَكْتُوبْ ، وَاعَجِبًا لِنَائِمٍ وَهُوَ مَطْلُوبْ ، وَلِضَاحِكٍ وَعَلَيْهِ ذُنُوبْ ، ، واعلم أنه ما ركن إلى الدنيا أحد إلا لزمه عيب القلوب ، ولا مكَّن الدنيا من نفسه أحد إلا وقع في بحر الذنوب ، كيف بك يوم تتصدع القلوب ، وتتفطرُ الأكبادُ وتذوب، ويفر المرء على وجهه فلا يرجع ولا يؤوب، ويود الرجعة وأنى له المطلوب ، اللهم أزِل عنا حجاب الغفلة الذي غطى القلوب ، وامنع عن قلوبنا ران الذنوب حتى نرى العيوب ، ووفقنا يا مولانا إلى التوبةِ من كل ذنبٍ وَحُوب .
أَيْنَ الآذَانُ الْواعِية ، أيْنَ الأعْيُنُ البَاكِية ، أين الدموع الجارية ، والخدود الدامية ، أيْنَ النفوس الزاكية، والقلوب الصافية .
عِبَادَ اللهِ إِنَّ قَوَارِعَ الأَيَّامِ خَاطِبَةٌ ، فَهَلْ أُذُنٌ لِعِظَاتِهَا وَاعِيةٌ ، وَإِنَّ فَجَائِعَ الْمَوْتِ صَائِبَةٌ فَهَلْ نَفْسٌ لأَمْرِ الآخِرَةِ مُرَاعِيَةٌ ، إِنَّ مَطَالِعَ الآمَالَ إِلى الْمُسَارَعَةِ إلى الخَيْرَاتِ سَاعِيَةٌ ، انظر إلى الأمم الماضية والملوك الفانية ، أينَ مَنَ كان قَبْلَكُم في الأوقاتِ الماضيةِ ؟ أما وَافَتْهَمُ المنايا وَقَضَتْ عَليهم القَاضيَةُ ، رزقنا وإياكم الاستعداد للنقلة من الدار الفانية إلى الدار الباقية ، أهلها كلاب عاوية وسباع ضارية ، يهر بعضها بَعْضًا ، ويأكل عزيزها ذليلها ، ويقهر كبيرها صغيرها .(1/95)
عِبَادَ اللهِ : إن من رَزَقَه الله تعالى التوفيق والسداد هو من لزم طريق الأئمة والأوتاد ، طريق الجد والاجتهاد، والتشمر والارتياد والتسابق إلى المعاد، طريق السخي الجراد، المتزود من الوداد، العابد السجاد، المخلص الحمًّاد والشاكر العوَّاد ، أليف القرآن والحج والجهاد، جَادَ فَسَاد، ووجع فزاد ، ولا يتمُ له ذلك إلا إذا زهد في الدنيا الفتانة السحارة، ونظر إلى طلابها بعين الحقارة، وسلك منهج السابقين بالحث والنذارة، ورغب عن الدنيا مع تقلد الولايات، وقيامه فيها برعايته العهود والأمانات.
يعلم علم اليقين أن الموت مورده وأن الساعة موعده، وأن القيام بين يدي الله تعالى مشهده، فيطول حزنه، ويرتعد قلبه فيكون حليف الخوف والحزن، أليف الهم والشجن، عديم النوم والوسن ، فقيهٌ زاهد، متشمر عابد ، لتلاوةِ القرآن فائقا ، ولكل خيرٍ سابقا ، يستقبل المصائب بالتجمل ويواجه النعم بالتذلل ، منزلته في العلم من البحور، مواصل الرواح بالبكور، منابذ للدنيا خيفة الغرة والعثور،
لو تدبَّرت أحوالَه لوجدت أحواله سامية، وأعماله خافية، ونفسه زاكية ، يتطلع إلى قوله تعالى : ( كُلُواْ وَاشْرَبُواْ هَنِيئَاً بِمَآ أَسْلَفْتُمْ فِي الأيّامِ الْخَالِيَةِ ) [ الحاقة : 24]
وكان ذا ورع وأمانة وحيطة وصيانة، كان بالليل بكاءً نائحاً، وبالنهار بساماً سائحاً، يصوم يوماً ويفطر يوماً.
له من نفسه واعظٌ فهو منتبهٌ يقظان ، يخشى الرحمن ويمتثل القرآن ويتجنب العصيان والخذلان واستحواذ الشيطان ، وينصب قدماه في خدمة الملك الديان .
عالماً حافظاً، وعاملاً واعظاً ، وعى فارعوى، ونوى فاستوى، قليل الكلام والرواية، طويل الصيام والسعاية .
فقيهاً محجاجاً، وناسكاً حجاجاً، عن الخلق آيساً، وبالحق آنساً.
الورع السديد، ذو العقل الرشيد، ذو الكلام الموزون، واللسان المخزون(1/96)
الحافظ للسانه، الضابط لأركانه، ذو القلب السليم، والطريق المستقيم، الوفي النجيب ، المتعبد اللبيب ، العفيف اللبيب، الفقيه الأديب ، قوة في العبادة، وتقشف وزهادة، المأخوذ عن العاجلة، المردود إلى الآجلة ، المستقيل آثامه، المتدارك أيامه، المستأنس بوحدته، المعتبر بشيبته ، حافظ الطرف واللسان، رابط القلب والجنان ، زين العابدين، ومنار القانتين، كان عابداً وفياً، وجواداً حفياً .
المجتهد الوفي، المتعبد السخي ، التقي النقي ، الفقيه الرضي ، الواله الذابل، المجتهد الناحل ، مسارعٌ إلى كل خير و ينتفض من خوف ربه انتفاض الطير ، على وقته شحيحاً، وبالإغضاء عن اللاهين نجيحاً، آيةً في التسليم والتراضي، والقيام على نفسه بالمحاسبة والتقاضي.
مغتنم الساعات، ومكتتم الطاعات ، يبتغي رضا رب الأرض والسموات .
منقبض عن الهزل والأباطيل، مُحَصِّن لسانه في الفتن عن الأقاويل ، الواعظ البصير ، المتأهب للمسير ، عازمٌ على الرحيل ، مُتَضَّرعٌ إلى العلي الكبير ، تضَّرُع الأسير بقلبٍ كسير ، ويقول : اللهم يا من لا يظلمُ الفتيل والنقير تجاوز عن الخطأ والتقصير ونجنا من دار السعير وارزقنا شفاعة البشير النذير .
حليف الصيام والقيام ، على مدى السنين والأعوام ، يفشي السلام ويطعم الطعام ، ويصلي بالليل والناس نيام ، عساه أن يدخل الجنة بسلام .
في التعبد لبيب، وفي التعليم أريب ، تواضع فارتفع، وتطاوع فانتفع ، القارىء الخاشع، التقي المتواضع
لم يركن للعاجلة ، وتزود للآخرة ، تيقن للإنتقال وتزود للارتحال فأعد صالح الأعمال ليومٍ شديد الأهوال ، تيقن أن البقاء في الدنيا مستحيل ، لابد من الرحيل فتزود للسفرِ الطويل ،
يحب الأخيار ويفرك الأشرار ، عليه سكينةٌ ووقار ونقاءٌ يشبه الأبرار ، حليف الذكر بالليل والنهار ، عدو الفتنةِ والأخطار ،(1/97)
المتخشع البَكَّاء، المتضرِّع الدعاء ، حليف الخشوع والخضوع ، والبكاء وجريان الدموع ، المتبرئ من الجزع والهلوع ، ملازمٌ للتوبة والرجوع .
ذو الخوف العظيم، والقلب السليم ، كافل الأرملةَ واليتيم ،
فارق الشهوات، وعانق القربات ، يبتغي رضا رب الأرض والسموات ،
أيقن الموت فخشي الفوت
العلم حليفه، والزهد أليفه ، لا يصانع ولا يضارع ولا يتبع المطامع.
عليه سيما الصالحين، ومنظر الخائفين، وكان مصفر الوجه من غير مرض أعمش العينين من غير عمش، ناحل الجسم من غير سقم، يحب الخلوة ويأنس بالوحدة، تراه أبداً كأنه قريب عهد بالمصيبة، أو قد فدحته نائبة .
المخبت الورع ، المتثبت القنع، الحافظ لسره، الضابط لجهره، المعترف بذنبه، المفتقر إلى ربه ، منطقه ذكراً، وصمته تفكراً وسيره تدبراً .
وبعد ما سمعت ما سمعت ، أما آن لك أخي أت تستدرك ما فات ، أما أيقنت أن زرع الأعمار قد دنا للحصاد ومدد الأيام قد قاربت للنفاد ، فلما ... ذا هذا التغافل والتكاسل عن إعداد الزاد ليوم الميعاد ، اللَّهُمَّ يا كريم يا جواد ووفقنا لسلوك طَرِيق الحق والرشاد ، وأقمَعَ الكفر والزيغ والشر والفساد ، وانصر دينك وانصر من نصره من العباد .
لله در أقوام تركوا الدنيا فأصابوا ، وسمعوا مناديَ الله فأجابوا ، وحضروا مشاهد التقي فما غابوا ، واعتذروا مع التحقيق ثم تابوا وأنابوا ، وقصدوا باب مولاهم فما ردوا ولا خابوا .(1/98)
لله در أقوام أَقْبَلُوا على خِدْمَةِ رَبِّهِمْ إقْبَالَ عَالِمْ وَمَا سَلَكُوا إلا الطريقَ السَّالِمُ تَذَكَّرُوا ذُنُوبَهُمْ القَدَائِمَ فَجَدَّدُوا التَّوْبَةَ بِصِدْقِ العَزَائِمْ وَعَدُّوا التَّقْصِيرَ مِنْ العَظَائِمِ وَبَدَّلُوا الْمُهْجَ الكِرَائِمَ فَإِذَا أَجَنَّ اللَّيْلُ فَسَاجِدُ وَقَائِمُ ، وَلا يَخَافُونَ فِي اللهِ لَوْمَةَ لائِم ، أَيْنَ أَنْتَ وَهُمْ ؟ فَهَلْ تَرَى السَّاهِرَ كَالنَّائِمْ ؟ كَلا وَلا الْمُفْطِرَ كالصَّائِمْ ، فَإِنَّ الْهَوْلَ شَدِيدٌ ، والطَّرِيقَ بَعِيدٌ ، وأخشى أن َيُحَالَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ مَا تُرِيد ،
لله در أقوامٍ نظروا إلى باطن العاجلة فرفضوها، وإلى ظاهر بهجتها وزينتها فوضعوها، جعلوا الرُكَبَ لجباههم وساداً، والتراب لجنوبهم مهاداً ، قوم خالط القرآن لحومهم ودمائهم ، فعزلهم عن الأزواج وحركهم بالإدلاج، فوضعوه على أفئدتهم فانفرجت، وضموه إلى صدورهم فانشرحت، وتصدعت هممهم به فكدحت، فجعلوه لظلمتهم سراجاً، ولنومهم مهاداً، ولسبيلهم منهاجاً، ولحجتهم إفلاجاً، يفرح الناس ويحزنون، وينام الناس ويسهرون، ويفطر الناس ويصومون، ويأمن الناس ويخافون. فهم خائفون حذرون، وجلون مشفقون مشمرون، يبادرون من الفوت، ويستعدون للموت، لم يتصغر جسيم ذلك عندهم لعظم ما يخافون من العذاب وخطر ما يوعدون من الثواب، درجوا على شرائع القرآن، وتخلصوا بخالص القربان، واستناروا بنور الرحمن، فما لبثوا أن ينجزهم لهم القرآن موعوده، وأوفى لهم عهودهم، وأحلهم سعوده، وأجارهم وعيده، فنالوا به الرغائب، وعانقوا به الكواعب، وأمنوا به العواطب، وحذروا به العواقب،(1/99)
لله در أقوامٍ فارقوا بهجة الدنيا بعين قالية، ونظروا إلى ثواب الآخرة بعين راضية، واشتروا الباقية بالفانية، فنعم ما اتجروا ربحوا الدارين، وجمعوا الخيرين، واستكملوا الفضلين، بلغوا المنازل، بصبر أيام قلائل، قطعوا الأيام باليسير، حذار يوم قمطرير، وسارعوا في المهلة، وبادروا خوف حوادث الساعات، و لم يركبوا أيامهم باللهو واللذات، بل خاضوا الغمرات للباقيات الصالحات، مسارعين الى الخيرات، منقطعين عن اللهوات ، أحلى الناس منطقاً ومذاقاً، وأوفى الناس عهداً وميثاقاً، سراج العباد، ومنار البلاد، وصاروا أئمة الهدى وأعلام التقى ومصابيح الدجى ، من حلية الأولياء وأعلام النبلاء ، من الأضواء اللامعة والنجوم الساطعة . وأعلام التقى ومصابيح الدجى ، من حلية الأولياء وأعلام النبلاء ، ومعادن الرحمة، ومنابع الحكمة، وقوام الأمة، نظروا إلى ثواب الله عز وجل بأنفس تائقة، وعيون رامقة، وأعمال موافقة، فحلوا عن الدنيا مطي رحالهم، وقطعوا منها حبال آمالهم، صانوا أبدانهم عن المحارم، وكفوا أيديهم عن ألوان المطاعم، وهربوا بأنفسهم عن المآثم ،هم الأتقياء الأخفياء، الذين إذا غابوا لم يفتقدوا، وإذا شهدوا لم يعرفوا .(1/100)
لله در أقوامٍ أخلاهم الحق من الركون إلى شيء من العروض، وعصمهم من الافتتان بها عن الفروض. وجعلهم قدوة للمتجردين من الفقراء، كما جعل من تقدم ذكرهم أسوة للعارفين من الحكماء. لا يأوون إلى أهل ولا مال، ولا يلهيهم عن ذكر الله تجارة ولا حال، لم يحزنوا على ما فاتهم من الدنيا، ولا يفرحون إلا بما أيدوا به من العقبى. كانت أفراحهم بمعبودهم ومليكهم وأحزانهم على فوت الاغتنام من أوقاتهم وأورادهم، هم الرجال الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع، عن ذكر الله، و لم يأسوا على مافاتهم، و لم يفرحوا بما أتاهم. حماهم مليكهم، عن التمتع بالدنيا والتبسيط فيها لكيلا يبغوا ولا يطغوا، رفضوا الحزن على ما فات، من ذهاب وشتات، والفرح بصاحب نسب إلى بلى ورفات.
زوى الله عز وجل عنهم الدنيا، وقبضها ابقاء عليهم وصوناً لهم، لئلا يطغوا، فصاروا في حماه محفوظين من الأثقال، ومحروسين من الأشغال، لا تذلهم الأموال، ولا تتغير عليهم الأحوال، يعزفون عن الاشتغال بالدنيا والإقبال عليها إلى ما هو أليق بحالهم، وأصلح لبالهم، من الاشتغال بالأذكار، وما يعود عليهم من منافع البيان والأنوار، ويعصمون به من المهالك والأخطار، ويستروحون إليه مما يرد من الأماني على الأسرار.(1/101)
أعلام الصدق لهم شاهرة، وبواطنهم بمشاهدة الحق عامرة، وَحُقَّ لمن أعرض عن الدنيا وغرورها، وأقبل على العقبى وحبورها، فعزفت نفسه عن الزائل الواهي، ونابذ الزخارف والملاهي، وشاهد صنع الواحد الباقي، واستروح روائح المقبل الآتي. من دوام الآخرة ونضرتها، وخلود المجاورة وبهجتها، وحضور الزيارة وزهرتها، ومعاينة المعبود ولذتها، أن يكون بما اختار له المعبود راضياً، وعما اقتطعه منه سالياً، ولما ندبه إليه ساعياً، ولخواطر قلبه راعياً، ليصير في جملة المطهرين ، ويقرب مما خص به الأبرار من المقربين، فيغتنم ساعاته، عن مخالطة المخلطين، ويصون أوقاته، عن مسالمة المبطلين، ويجتهد في معاملة رب العالمين، مقتدياً في جميع أحواله بسيد المرسلين .
لله در أقوامٍ صفوا من الأكدار، ونقوا من الأغيار، وعصموا من حظوظ النفوس والأبشار، وأثبتوا في جملة المصطنع لهم من الأبرار، فأنزلوا في رياض النعيم، وسقوا من خالص التسنيم.
قومٌ ألبسوا الأنوار. فاستطابوا الأذكار، واستراحت لهم الأعضاء والأطوار، واستنارت منهم البواطن والأسرار بما قدح فيها المعبود من الرضا والأخبار. فأعرضوا عن المشغوفين بما غرهم، ولهوا، عن الجامعين لما ضرهم من الحطام الزائل البائد، ومسالمة العدو الحاسد، معتصمين بما حماهم به الواقي الذائد ، لم يعدلوا إلى أحد سواه، و لم يعولوا إلا على محبته ورضاه. رغبت الملائكة في زيارتهم وخلتهم، وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالصبر على محادثتهم ومجالستهم.(1/102)
لله در أقوامٍ بحقوق ربهم عارفون وعلى العلم والعبادة عاكفون ، وعن التمتع بالدنيا عازفون ، وإلى الإقبال على الآخرة مرابطون ، قلوبهم محزونة، وشرورهم مأمونة، حوائجهم خفيفة، وأنفسهم عفيفة، صبروا أياماً قصاراً تعقب راحة طويلة، أما الليل فمصافة أقدامهم، تسيل دموعهم على خدودهم، يجأرون إلى ربهم ربنا ربنا، وأما النهار فحلماء علماء بررة أتقياء كأنهم القداح ينظر إليهم الناظر فيحسبهم مرضى وما بالقوم من مرض، أو خولطوا وقد خالط القوم من ذكر الآخرة أمر عظيم.
لله در أقوامٍ تصوروا مآلهم واستقلوا أعمالهم ، (كَانُواْ قَلِيلاً مّن اللّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * َفِيَ أَمْوَالِهِمْ حَقّ لّلسّآئِلِ وَالْمَحْرُومِ) عساهم أن ينجو من نار السموم ، تعبوا والله قليلاً واستراحوا كثيراً ، والمسكين من لم يجد إلى لحاقهم سبيلاً ، والمغبون من رَضِيَ بحظه العاجلِ بديلا .
لله در أقوامٍ غسلوا وجوههم بدومع الأحزان ، وأحيوْا ليلهم بالذكرِ وتلاوة القرآن ، ونصبوا أقدامهم في خدمة الملكِ الديَّان ، فكلُ زمانهم رمضان ، أفشوا السلام وأطعموا الطعام ، وصلوا بالليل والناس نيام ، عساهم أن يدخلوا الجنة بسلام .
لله در أقوامٍ غسلتها الدموع وأذلها الخشوع وظهر عليها الاصفرار من الجوع ، أحسنوا في الإسلام ثم رحلوا بسلام ، لقد سبقوا سبقاً بعيدا وأتعبوا مَنْ بعدهم إتعاباً شديدا ، ما بقيَ إلا من إذا صام افتخر بصيامه وطال ، وإذا قام أُعجب بقيامه وقال ، وتناسى أن هذا وإن كان من كسبه فإنه من فضل ربه الكبير المتعال ، وفضله فوق ما يخطر ببال أو يدور في الخيال ، ولو سلب الله تعالى عنه فضله لصار قلبه أخلى من جوف البعير .
لله در أقوامٍ عزفوا عن الدنيا فأصابوا ، وسمعوا منادي الله فأجابوا ، واعتذروا مع التحقيق ثم تابوا وأنابوا ، وقصدوا باب مولاهم فما ردوا ولا خابوا .(1/103)
لله در أقوامٍ غسلوا وجوهم بدموع الأحزان ، وأحيوْا ليلهم بالذكرِ وقراءةِ القرآن ، ونصبوا أقدامهم في خدمةالملكِ الديان ، فكل زمانهم رمضان ، أفشوا السلام وأطعموا الطعام وصلوا بالليل والناس نيام ، عساهم أن يدخلوا الجنة بسلام .
لِلَّهِ دَرّ أقَوامٍ بادَرُوا الأَوْقاتِ ، واسْتَدْركُوا الْهَفَوات ، واغتنموا الأوقات للعمل بالباقيات الصالحات، فالعَينُ مَشْغُولةٌ بالدَّمْع عن المحرَّماتِ ، واللسانُ مَحبوسٌ في سِجْن الصَّمْت عن الهَلَكَاتْ ، والكفُّ قد كُفَّتْ بالخوفِ عن الشهوات ، والقَدَم قد قُيِّدت بِقَيدِ المحاسبَات . ولسان حالها يقول : كيف تهنأ بالشهوات ، وهى مطية الآفات ،
فإذا حَلَّ بهم الليلُ رأيتهم يَجْأَرُونَ فيه بالأصْواتْ ، وإذا جَاءَ النهارُ قَطَعُوهُ بمُقَاطَعة اللَّذات ، فكَمِ مِن شَهْوَةٍ مَا بَلَغُوهَا حَتَّى الممات .
فتيقَّظْ لِلِحَاقِهم مِن هَذِهِ الرَّقَدات ، ولا تَطْمَعَنَّ في الخَلاص مَعَ عَدمِ الإخلاص في الطاعات ، ولا تُؤَمّلنّ النجاة وأنت مقيمٌ على المعاصي والموبقات ، ذهبت اللذات وأعقبت الحسرات وانقضت الشهوات وأورثت الحسرات ، ولا تغتر بصفاء الأوقات فإن تحتها غوامض الآفات. قال الله جل وعلا : { أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } وَذَهَبَتْ البَرَكَاتُ وَقلّتِ الْخَيْرَاتُ ،(1/104)
* لَقَدْ ذَهَبَ أَكْثَرُ عَامِكُمْ وَفَاتَ ، وَتَقَضَّتْ أَيَّامُهُ وَلَيَاليه وَأَنْتُمْ مُنْهَمِكُونَ فِي اللَّذَاتِ ، فَمَا أَسْرَعَ مَا تَضَرَّمَتْ مِنْهُ الأَوْقَاتُ ، وَمَا أَكْثَرَ مَا خَطَبَكُمْ لِسَانُ حَاله بِزَوِاجِرِ العِظَاتِ ، وَمَا أَطْوَلَ مَا نَادَى بِكُمْ مُنَادِي الشِّتَاتِ . فَطُوبَى لِمَنْ تَدَارَكَ الهَفَوَاتِ ، وَبُشْرَى لِمَنْ لازَمَ تَقْوَى اللهِ ، وَعَمِلَ بِالبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ ، وَهَنِيئًَا لِمَنْ أَذْهَبَ السَّيِّئَاتِ بِالحَسَنَاتِ ، وَيَا خَيْبِةَ مَنْ شَغَلَتْهُ المَلاهِي وَالمُنْكَرَاتِ عَنْ طَاعَةِ رَفِيعِ الدَّرَجَاتِ ، وَمَا أَعْظَمَ خَسَارَةَ مَنْ بَاعَ نَفِيسَ آخِرَتِهِ بِخَسِيسِ دُنْيَاهُ ، وَحَسْرَةً لَهُ يَوْمَ { يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ } وَتَعْسًا وَجَدْعًا لَهُ { يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ } .
لله در أقوامٍ صفت منهم القلوب، لعلام الغيوب ، صفت من الكدر، وخلصت من العكر، وامتلأت من الفكر، وتساوت عندها الذهب والمدر.
لله در أقوامٍ آثروا العزوف عن العاجلة والأزوف من الآجلة ، وتطليق الدنيا بتاتاً، والإعراض عن منالها ثباتاً.
لله در أقوامٍ صفت من الأغيار أسرارهم، فعلت في الأبرار أذكارهم ، تمت أنوارهم، فانتفت أكدارهم، دامت أذكارهم فماتت أوزارهم. فهم العمد والأوتاد، وبهجة العباد والبلاد .(1/105)
* أبدانهم دنيوية، وقلوبهم سماوية ، قد احتوت قلوبهم من المعرفة كأنهم يعبدونه مع الملائكة بين تلك الفرج وأطباق السموات، لم يخبتوا في ربيع الباطل، ولم يرتعوا في مصيف الآثام، ونزهوا الله أن يراهم يثبون على حبائل مكره، هيبة منهم له وإجلالا أن يراهم يبيعون أخلاقهم بشيء لا يدوم، وبلذة من العيش مزهودة، هم أهل المعرفة بالأدواء والنظر في منابت الدواء، هم أهل الورع والبصر، إن أتاهم عليل داووه، أو مريض أدنوه، أو ناس لنعمةِ الله ذكَّروه ، أو مبارز لله بالمعاصي نابذوه أو محب لله فواصلوه، ليسوا جبارين، ولا متكبرين، وليس عليهم صفات المترفين، إذا خلوا أجهشوا بالبكاء وإذا عوملوا فإخوان حياء، وإذا كلموا فحكماء، وإذا سئلوا فعلماء، وإذا جهل عليهم فحلماء فلو قد رأيتهم لقلت عذارى في الخدور، وقد تحركت لهم المحبة في الصدور بحسن تلك الصور التي قد علاها النور، إذا كشفت عن القلوب رأيت قلوباً لينة منكسرة ، لا يشغلون قلوبهم بغيره، ولا يميلون إلى ما دونه، قد ملأت محبة الله صدورهم، فليس يجدون لكلام المخلوقين شهوة، ولا بغير الأنيس ومحادثة الله لذة، إخوان صدق ، وأصحاب حياء ووفاء وتقى وورع وإيمان ومعرفة ودين، قطعوا الأودية، بغير مفاوز، واستقلوا الوفاء بالصبر على لزوم الحق، واستعانوا بالحق على الباطل، فأوضح لهم على الحُجْة، ودلهم على المَحَجَة، فرفضوا طريق المهالك، وسلكوا خير المسالك ، أولئك هم الأوتاد الذين بهم توهب المواهب، وبهم تفتح الأبواب، وبهم ينشأ السحاب، وبهم يستقي العباد والبلاد، فرحمة الله علينا وعليهم.(1/106)
لله در أقوامٍ صحبوا الدنيا بالأشجان، وتنعموا فيها بطول الأحزان ، ونصبوا أقدامهم في خدمة الملك الديان ، فما نظروا إليها بعين راغب، ولا تزودوا منها إلا كزاد الراكب ، خافوا البيات فأسرعوا، ورجوا النجاة فأزمعوا، نصبوا الآخرة نصب أعينهم، وأصغوا إليها بآذان قلوبهم، فلو رأيتهم رأيت قوماً ذبلا شفاههم، خَمْصاً بطونهم، حزينةً قلوبهم، ناحلةً أجسامهم، باكيةً أعينهم، لم يصحبوا العلل والتسويف، وقنعوا من الدنيا بقوت طفيف لبسوا من اللباس أطماراً بالية، وسكنوا من البلاد قفاراً خالية، هربوا من الأوطان واستبدلوا الوحدة من الإخوان، فلو رأيتهم لرأيت قوماً قد ذبحهم الليل بسكاكين السهر، وفصل الأعضاء منهم بخناجر التعب، خمص لطول السرى شعث لفقد الكرا، قد وصوا الكلال بالكلال، وتأهبوا للنقلة والإرتحال.
لله در أقوامٍ نفوسهم نفسٌ على الجوع صبرت، وفي سربال الظلام خطرت. نفس ابتاعت الآخرة بالدنيا بلا شرط ولا ثنيا. نفس تدرعت رهبانية القلق، ورعت الدجا إلى واضح الفلق، فما ظنك بنفس في وادي الزهد سلكت، وهجرت اللذات فملكت، وإلى الآخرة نظرت، وإلى العناء أبصرت، وعن الذنوب أقصرت، وعلى الذر من القوت اقتصرت، ولجيوش الهوى قهرت، وفي ظلم الدياجي سهرت، فهي بقناع الشوق مختمرة، وإلى عزيزها في ظلم الدجا مشتمرة، قد نبذت المعايش، ورعت الحشايش. هذه نفس خدوم عملت ليوم القدوم، وكل ذلك بتوفيق الحي القيوم.(1/107)
لله در أقوامٍ استظلوا تحت رواق الحزن، وقرأوا صحف الخطايا ونشروا دواوين الذنوب فأورثهم الفكر الصالحة في القلب ، أدبوا أنفسهم بلذة الجوع وتزينوا بالعلم، وسكنوا حظيرة الورع، وغلقوا أبواب الشهوات وعرفوا مسير الدنيا بموقنات المعرفة حتى نالوا علو الزهد فاستعذبوا مذلة النفوس ، أدرجوا أنفسهم في مصاف المسبحين ولاذوا بأفنية المقدسين فتعلقوا بحجاب العزة وناجوا ربهم عند مطارفة كل شهوة حتى نظروا بأبصار القلوب إلى عز الجلال إلى عظيم الملكوت فرجعت القلوب إلى الصدور على الثبات بمعرفة توحيدك فلا إله إلا أنت.
لله در أقوامٍ قوماً أزعجهم الهم عن أوطانهم، وثبتت الأحزان في أسرارهم، فهممهم إليه سائرة، وقلوبهم إليه من الشوق طائرة، فقد أضجعهم الخوف على فرش الأسقام، وذبحهم الرجاء بسيف الانتقام، وقطع نياط قلوبهم كثرة بكائهم عليه، وزهقت أرواحهم من شدة الوله إليه، قد هد أجسامهم الوعيد، وغير ألوانهم السهر الشديد .
لله درُّ تلك القلوب الطاهرة ، أنوارها في ظلام الدُجى ظاهرة ، لله درُّ أقوامٍ تدرعوا بالوقار والسكينة ، وعملوا ليومٍ فيه كلُ نفسٍ رهينة ، كلُ واحدٌ منهم صدره مشروح، وقلبه مجروح، وجسمه بين يدي ربه مطروح ، فلو رأيتهم بين ساجدٍ وراكع ، وذليلٍ مخمومٍ متواضع ، ومُنَكَّسِ الطرفِ من الخوفِ خاشع ، تتجافى جنوبهم عن المضاجع .
{ تنبيه } : طغى حبّ الدنيا على قلوبِ بعضِ النّاس واستهوتهم خضرتها، يصرف لها همّه، يحرّك فيها همَّته، عبدوها من دون الله، آثروها على... الآخرة، وتناسوا قول النبي - صلى الله عليه وسلم - تعِس عبدُ الدّينار وعبد الدّرهم وعبد الخميصة .(1/108)
(حديث أبي هريرة في صحيح البخاري) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : تعس عبد الدينار ،و عبد الدرهم ، و عبد الخميصة ، ، إن أُعطِيَ ؛ رضي ، وإن لم يُعط ، سخط ، تعس وأنتكس ، وإذا شيك فلا انتقش . طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله ، أشعثٌ رأسُه ، مغبَّرةٌ قدماه ، إن كان في الحراسة ، كان في الحراسة ، وإن كان في الساقة ، كان في الساقة ، إن أستأذن ، لم يؤذن له ، وأن شفع ، لم يشفع "
وتسربَل آخرون بالفَقر والمسكَنة والذلَّة وهجر الطيّبات، يرغبون في الأجور والزّوايا بزعم التفرّغ للعبادة وإيثار عملِ الآخرة، ويصابون بعد ذلك بداءِ الكَسَل والإخلاد إلى الرّاحة وداء الطمَع بعطاءات النّاس ومِنحهم وما يبذلونه لهم من مآكلَ ومشارب، تركوا عمارةَ الأرض وأردفوا بها...، ويصوغونها ويصوغها صنّاع الضلال.
إنّ فقدَ التوازنِ بين أمورِ الدنيا والدين أضعَف الأمّةَ وقعَد بها عن أداءِ دورها في قيادة الأمَم.
الإسلام ـ عبادَ الله ـ لا يحرّم الطيباتِ ولا يذمّ المنافعَ والمآكل والمشارب والأموال، قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِى أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرّزْقِ [الأعراف:32].
ولا يُفهم ممّا سبق تركُ السعي في عمران الدّنيا وبنائها الحضاريّ والانتفاع بخيراتها، بل المراد أن يأخذ المرء من الدّنيا ضمنَ الحدود التي أذن الله بها، وأن لا تكون متاعًا للهموم يَرفع متاعها فوق كلّ القِيَم، تُفقِدْ الإنسانَ وعيَه، تفسِد عليه دينَه وأخلاقه.
الدّنيا التي يذمّها الإسلامُ دنيا الشهواتِ والملهِيات، دنيا تضييعِ الحقوق والواجبات والتّساهل بالمحرَّمات، الدنيا التي تشغل عن الله وتلهي عن الآخرة، أراد الله أن تكونَ الدّنيا مُلكًا لنا، فجاء صغار الهِمم وأبَوا إلاّ أن يكونوا مُلكًا لها.(1/109)
إخوة الإسلام، إنّ المرتبةَ المثلى الجمعُ بين الدّين والدّنيا، بين الصّبر والفقر، بين التّقوى والغِنى ، لذلك كان نعم المال الصالح للمرء الصالح بنص السنة الصحيحة :
(حديث عمرو بن العاص الثابت في صحيحالأدب المفرد) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : نعم المال الصالح للمرء الصالح .
(حديث يسار بن عُبيد الثابت في صحيح ابن ماجة) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لا بأس بالغنى لمن اتقى و الصحة لمن اتقى خير من الغنى و طيب النفس من النعيم .
(حديث أبي كبشة الأنماري في صحيحي الترمذي وابن ماجة ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إِنَّمَا الدُّنْيَا لأَرْبَعَةِ نَفَرٍ عَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالاً وَعِلْماً فَهُوَ يَتَّقِى فِيهِ رَبَّهُ وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ وَيَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا فَهَذَا بِأَحسنِ الْمَنَازِلِ عند الله وَرجلٍ رَزَقَهُ اللَّهُ عِلْماً وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالاً فَهُوَ يَقُولُ لَوْ أَنَّ لي مَالاً لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلاَنٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ وهما في الأجرِ سَوَاءٌ ، وَرجلٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالاً وَلَمْ يَرْزُقْهُ عِلْماً فَهُوَ يَخْبِطُ في مَالِهِ لاَ يَتَّقِى فِيهِ رَبَّهُ وَلاَ يَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ وَلاَ يَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا فهو بِأَسوءِ الْمَنَازِلِ عند الله وَرجلٍ لَمْ يَرْزُقْهُ اللَّهُ مَالاً وَلاَ عِلْماً فَهُوَ يَقُولُ لَوْ أَنَّ لي مَالاً لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلاَنٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ وهما في الوزر سَوَاءٌ
وكان من دعاء النبي : [ وأصلِح لي دنياي التي فيها معاشي ]
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم ) قال كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي و أصلح لي آخرتي التي فيها معادي و اجعل الحياة زيادة لي في كل خير و اجعل الموت راحة لي من كل شر .(1/110)
إنّ التفريق بين شؤون الدّنيا وشؤون الآخِرة كان سببَ التّخلّف الذي أزرى بأمّتنا وأقعدها عن نشرِ رسالتِها، حين فهِم أقوامٌ مِن ذمّ الدّنيا إهمالَ الحياة الدّنيا وتركَ عمارتها والهروبَ عن إصلاحها وتنميتها والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولّد فيهم ذلك سلبيةً مقيتة وانهزاميّة وضعفًا وخوَرًا يأباه الدّين، قال تعالى: وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا ءاتِنَا فِى الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201].
الحسنة في الدّنيا تشمَل كلَّ مطلوبٍ دنيويّ من عافية ودارٍ رحبة ورزق واسع وعلمٍ نافع وعمل صالح ومركَب هجِل وثناءٍ جميل، والحسنة في الآخرة أعلاها دخولُ الجنّة وتوابعُه من الأمنِ من الفزع الأكبر وتيسير الحساب.
والصّحابة هم القدوة والنموذجُ في فهم الإسلام، يأخذون بالأسبابِ في الكسب من تجارةٍ وزراعة، ويطلبون العلمَ ويبذلون في سبيل ذلك أوقاتهم ونفوسَهم وأموالهم، فيهم الأغنياءُ دون بطر والفقراء مع التعفُّف، ومع هذا كانوا أبعدَ النّاس عن التهالك على الدنيا، فتَحوا البلدان، وأنشؤوا المدُن، وأقاموا الدّولَ، ونشروا الإسلام.
كان بعضُ كبار الصحابة من الأغنياء، ولم يَدْعُهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى ترك المال وترك الاشتغالِ بالتّجارة، كما أنّ الدّنيا لم تكن تساوي جناحَ بعوضة في حياتهم .
[*] قال سفيان بن عيينة: "ليس من حبّ الدنيا أن تطلبَ منها ما يصلِحك .
[*] سعيد بن المسيّب : "لا خيرَ فيمن لا يطلب الدّنيا يقضي به دَينَه ويصون به عرضَه، وإن مات تركه ميراثًا لمن بعده .(1/111)
الدّنيا في المفهوم الإسلاميّ وسيلة وذريعةٌ لتحصيل مقاصدِ الشريعة ومطيّة للآخرة، فإنّها إذا فسدت فربّما أدّى فسادُها إلى إيقاف الدّين، فلا شكّ أنّ الدين سيضعف إذا وصل حالُ أهلها إلى قلّةِ الرزق والقتل، فلا يُقبَل أن يقول مسلم: أنا أحفظ ديني وأدَع الدنيا يُعبَث بها ويُفسد فيها؛ لأنّ من صلحت حاله مع فساد الدّنيا واختلال أمورِها لم يعدم أن يتعدّى إليه فسادُها ويقدح فيه اختلالها؛ لأنّه منها يستمدّ، ومن فسَدت حاله مع صلاح الدّنيا وانتظام أمورِها لم يجِد لصلاحها لذّةً ولا لاستقامتها أثرًا؛ لأنّ الإنسانَ دنيا نفسِه، قال الله تعالى: وَابْتَغِ فِيمَا ءاتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادَ فِى الأرْضِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ [القصص:77].
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن يحيى بن معاذ الرازي قال : الناس ثلاثة: فرجل شغله معاده عن معاشه فتلك درجة الصالحين، ورجل شغله معاشه لمعاده فتلك درجة الفائزين ، ورجل شغله معاشه عن معاده فتلك درجة الهالكين.
{ تنبيه } : الآثار الواردة في ذم الدنيا في كتاب الله تعالى وفي سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - إذا كانت تشغل العبد عن طاعة الله مما يكون قبل الموت ، وعلى هذا فإن الأموال والأولاد والمناصب إذا استعان بها صاحبها على طاعة الله فليست مذمومة، وإذا شغلت عن طاعة الله أو أدت إلى معصيته فهي مذمومة.
قال تعالى : ( فَمِنَ النّاسِ مَن يَقُولُ رَبّنَآ آتِنَا فِي الدّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الاَخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ * وِمِنْهُمْ مّن يَقُولُ رَبّنَآ آتِنَا فِي الدّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الاَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النّارِ) [البقرة:200-201].(1/112)
وكذلك ليس ذم الدنيا راجعاً إلى مكان الدنيا وهو الأرض ، وما أودع فيها من جبال وبحار وأنهار ومعادن ، فإن ذلك كله من نعم الله على عباده ، لما لهم فيها من المنافع ، والاعتبار ، والاستدلال على وحدانية الصانع سبحانه، وقدرته وعظمته ، وإنما الذم راجع إلى أفعال بنى آدم الواقعة فى الدنيا ، لأن غالبها واقع على غير الوجه الذى تحمد عاقبته ، كما قال عز وجل : { اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأمْوَالِ والأولاد َ } ( الحديد : من الآية : 20 ) .
وإنما الذم الوارد فى الكتاب والسنّة راجع إلى زمانها الذى هو الليل والنهار المتعاقبان إلى يوم القيامة ، فإن الله عز وجل جعلهما خلفة لمن أراد أن يذّكر أو أراد شُكوراً .
[*] وورد فى الأثر : " إن هذا الليل والنهار خزانتان فانتظروا ماتصنعون فيهما " .
[*] وقال مجاهد : " ما من يوم إلا يقول : ابن آدم : قد دخلت ، عليك اليوم ولن أرجع إليك بعد اليوم فانظر ماذا تعمل فى ، فإذا انقضى طوى، ثم يختم عليه فلا يفك حتى يكون الله هو الذى يقضيه يوم القيامة " .
إنما الدنيا إلى الجنة والنار طريقٌ والليالى متجرُ الإنسان والأيام سوقٌ فالوقت هو رأس مال العبد ، وقد صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " من قال : سبحان الله وبحمده غرست له نخلة فى الجنة " (1) .
فانظر إلى مُضَيع الساعات كم يفوته من النخيل .
وكان أحد الصالحين إذا أثقل الناس فى الجلوس عنده يقول : "أما تريدون أن تقوموا ، إن ملك الشمس يجرها لا يفتر " .
وقال رجل لأحد العلماء: " قف أكلمك " قال : " أوقف الشمس " .
- والآخرة هي الباقية، وهى دار القرار :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
كما قال مؤمن آل فرعون:
__________
(1) تقدم تخريجه ص (39) .(1/113)
( يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ * مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ ) [ غافر: 39 ، 40]
ولهذا فقد أمرنا بالتنافس في طلب الآخرة وفي العمل الصالح، ونهينا عن التنافس في الدنيا.
قال: ابن عباس رضي الله عنهما : (يؤتى بالدنيا يوم القيامة على صورة عجوز شمطاء زرقاء أنيابها بادية مشوهة الخلقة، لا يراها أحد إلا كرهها فتشرف على الخلائق فيقال لهم: أتعرفون هذه؟ هذه التي تفاخرتم وتحاربتم عليها ثم يؤمر بها إلى النار، فتقول: يا رب أين أتباعي وأحبابي وأصحابي فيلحقونها).
وقال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى :
ومن يذق الدنيا فإني طعمتها ... وسيق إلينا عذبها وعذابها
فلم أرها إلا غروراً وباطلاً ... كما لاح في ظهر الفلاة سرابها
وما هي إلا جيفة مستحيلة ... عليها كلاب همهن اجتذابها
فإن تجتنبها كنت سلماً لأهلها ... وإن تجتذبها تنازعتك كلابها
ومما ورد في ذم التنافس على الدنيا ما يلي :
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : اشترى رجل من رجل عقارا له، فوجد الرجل الذي اشترى العقار في عقاره جرة فيها ذهب، فقال له الذي اشترى العقار: خذ ذهبك مني، إنما اشتريت منك الأرض، ولم أبتع منك الذهب. وقال الذي له الأرض: إنما بعتك الأرض وما فيها، فتحاكما إلى رجل، فقال الذي تحاكما إليه: ألكما ولد؟ قال أحدهما: لي غلام، وقال الآخر: لي جارية، قال: أنحكوا الغلام الجارية، وأنفقوا على أنفسهما منه وتصدقا .
وقد تضمن هذا الحديث غرر الفوائد ، ودرر الفرائد :(1/114)
ففي هذا الحديث الجليل يخبرنا نبينا - صلى الله عليه وسلم - عن رجلين صالحين من الأمم السابقة اشترى أحدهما من الآخر أرضاً فوجد في هذه الأرض جرّة (إناء كبير من الخزف) مملوءة ذهباً فلم يقع منهما التنافس للحصول على هذا الذهب والاستئثار به دون الآخر، بل لم يقبل كل واحد منهما أن يأخذ من الذهب شيئاً ويترك لصاحبه الباقي خوفاً من أن يكون حراماً، والمال الحرام يّذهب البركة ويجلب غضب الربا ويمنع إجابة الدعاء ويؤدي إلى دخول النار ويكون الحساب عليه يوم القيامة بالحسنات والسيئات حيث لا درهم ولا دينار.
فلصلاح هذين الرجلين ذهبا يحتكمان إلى عالم من علمائهم، وكانت حجة البائع أنه باع الأرض بما فيها، فالذهب ليس له، وكانت حجة المشتري أنه اشترى الأرض ولم يشتر الذهب، ولو كان غيرهما من الناس لكانت هذه الحجج يستدل بها كل طرف على استحقاقه هو للمال دون صاحبه، ولكن الخوف من الله تعالى زهدهما في هذا المال المشتبه فيه.
فجاء الحكم الذي رضي به الطرفان وهو تزويج ابن أحدهما ببنت الآخر، والإنفاق من هذا المال على الأسرة الجديدة التي تقوي أخوة الإيمان بين هاتين الأسرتين الصالحتين، وكذلك التصدق من هذا المال .
( حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون فاتقوا الدنيا واتقوا النساء فإن أول فتنة بنى إسرائيل كانت في النساء .
باب : أقسام الناس في حبهم للدنيا
... ... - انقسم بنو آدم فى الدنيا إلى قسمين :(1/115)
أحدهما : من أنكر أن للعباد داراً بعد الدنيا للثواب والعقاب وهؤلاء هم الذين قال الله فيهم : { إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النُّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } ( يونس: الآية : 7 -8 ) .
وهؤلاء همهم التمتع فى الدنيا واغتنام لذاتها قبل الموت كما قال تعالى : { وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأنعام وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ } (محمد : من الآية : 12 ) .
والقسم الثانى : من يُقِرُّ بدارٍ بعد الموت للثواب والعقاب ، وهم المنتسبون إلى المرسلين، وهم منقسمون إلى ثلاثة أقسام : ظالم لنفسه ومقتصد ، وسابق بالخيرات بإذن الله .
والظالم لنفسه : هم الأكثرون ، وأكثرهم واقف مع زهرة الدنيا وزينتها ، فأخذها من غير وجهها ، واستعملها فى غير وجهها ، وصارت الدنيا أكبر همّه ، بها يرضى ، وبها يغضب ، ولها يوالى ، وعليها يعادى ، وهؤلاء أهل اللعب واللهو والزينة ، وإن كانوا يؤمنون بالآخرة إيماناً مجملاً فهم لم يعرفوا المقصود من الدنيا ، ولا أنها منزلة يتزود فيها لما بعدها .
والمقتصد : من أخذ الدنيا من وجوهها المباحة، وأدى واجبها، وأمسك لنفسه الزائد على الواجب يتوسع به فى التمتع بشهوات الدنيا ، وهؤلاء لا عقاب عليهم فى ذلك إلا أنه ينقص درجاتهم كما قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - : لولا أن تنقص من حسناتى لخالفتكم فى لين عيشكم ولكن سمعت الله عَيََّر قوماً فقال : { أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا } ( الأحقاف: من الآية : 20 ) .(1/116)
وأما السابق بالخيرات بإذن الله : فهم الذين فهموا المراد من الدنيا وعملوا بمقتضى ذلك ، فعلموا أن الله إنما أسكن عبادة فى الدار ليبلوهم أيهم أحسن عملاً كما قال تعالى : { إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } ( الكهف: الآية : 7 ) .
يعنى : أزهد فى الدنيا وأرغب فى الآخرة ، ثم قال تعالى : { وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا } ( الكهف: الآية : 8 ) .
فاكتفى السابقون منها بما يكفى المسافر من الزاد، كما في الحديث الآتي :
(حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب ) قال نام رسول الله صلى الله عليه وسلم على حصير فقام وقد أثر في جنبه قلنا يا رسول الله لو اتخذنا لك وطاء فقال ما لي وللدنيا ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها .
وعاش فيها كأنه غريب أو عابر سبيل امتثالاً لوصية النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في الحديث الآتي :
( حديث بن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح البخاري ) قال:أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل). وكان ابن عمر يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك.
وكان زاده فيها كزاد الراكب امتثالاً لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في الحديث الآتي :
( حديث سلمان الفارسي رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ليكف الرجل منكم كزاد الراكب .
ومتى نوى من تناول شهواته المباحة التقوى على طاعة الله كانت شهواته له طاعة يثاب عليها ، كما قال معاذ - رضي الله عنه - : " إنى لأحتسب نومتى كما أحتسب قومتى " .
[*] قال سعيد بن جبير : " متاع الغرور ما يلهيك عن طلب الآخرة، وما لم يلهك فليس بمتاع الغرور ولكن متاع بلاغ إلى ما هو خير منه " .(1/117)
[*] وقال يحيى بن معاذ : " كيف لا أحب دنيا قُدر لى فيها قوت أكتسب به حياة ، أدرك به طاعة ، أنال بها الجنة " .
[*]وسُئل أبو صفوان الرعينى: ما هى الدنيا التى ذمها الله فى القرآن والتى ينبغى للعاقل أن يتجنبها ؟ ، فقال : " كل ما أصبت فى الدنيا تريد به الدنيا فهو مذموم، وكل ماأصبت منا تريد به الآخرة فليس منها " .
[*] وقال الحسن : " نعمت الدار الدنيا كانت للمؤمن ، وذلك أنه عمل قليلاً وأخذ زاده منها للجنة ، وبئست الدار كانت للكافر والمنافق ، وذلك أنه ضيع لياليه وكان زاده منها إلى النار " .
[*] قال عون بن عبد الله : " الدنيا والآخرة فى القلب ككفتى الميزان ما ترجح إحداهما تخف الأخرى ".
[*] وقال وهب :" إنما الدنيا والآخرة كرجل له امرأتان إذا أرضى إحداهما أسخط الأخرى .
[*] وقال أبو الدرداء : " لئن حلفتم لى على رجل أنه أزهدكم لأحلفن لكم أنه خيركم " .
[*] وقال رجل للتابعين : " لأنتم أكثر عملاً من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولكنهم كانوا خيراً منكم ، كانوا أزهد فى الدنيا ".
[*] قول سعيد ابن المسيب في الدنيا :
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان بن عيينة، قال: قال سعيد بن المسيب: أن الدنيا نذلة، وهي إلى كل نذل أميل، وأنذل منها من أخذها بغير حقها، وطلبها بغير وجهها، ووضعها في غير سبيلها.
باب : أضرار حب الدنيا
... حب الدنيا أمره خطير وشره مستطير أشر من البرص وأضر من الجرب ، حب الدنيا رأس كل خطيئة وأصل كل رزية ومنبع كل بلية ، ... وحب الدنيا هو الذى عمّر النار بأهلها ، الزهد فى الدنيا هو الذى عمّر الجنة بأهلها ، والسكر بحب الدنيا أعظم من السكر بالخمر، فصاحبه لا ييق إلا فى ظلمة اللحد.(1/118)
[*] قال يحيى بن معاذ : " الدنيا خمر الشيطان ، من سكر منها فلا يفيق إلا فى عسكر الموتى نادماً بين الخاسرين " ، وأقل ما فيها أنه يلهى عن حب الله وذكره ، ومن ألهاه ماله فهو من الخاسرين ، وإذا لهى القلب عن ذكر الله سكنه الشيطان ، وصرفه حيث أراد ... ومن فقهه فى الشر أن يرضيه ببعض أعمال الخير ليريه أنه يفعل الخير.
ويقول ابن مسعود - رضي الله عنه - : " ماأصبح أحد فى الدنيا إلا ضيف وماله عارية ، فالضيف مرتحل والعارية مؤداة " .
وإنما كان حب الدنيا رأس الخطايا ، ومفسداً للدين من وجوه:
أحدها : أن حبها يقتضى تعظيمها وهى حقيرة عند الله ،ومن أكبر الذنوب تعظيم ما حقّر الله .
ثانيها : أن الله لعنها ، ومقتها، وأبغضها، إلا ما كان له فيها ، ومن أحب ما لعنه الله ومقته وأبغضه فقد تعرض للفتنة ، ومقته وغضبه .
وثالثها : أنه إذا أحبها صيّرها غايته ، وتوسل إليها بالأعمال التى جعلها الله وسائل إليه وإلى الدار الآخرة، فعكس الأمر وقلب الحكمة، فها هنا أمران:
أحدهما : جعل الوسيلة غاية ،
والثانى : التوسل بأعمال الآخرة إلى الدنيا، وهذا شر معكوس من كل وجه ، وقلب منكوس غاية الانتكاس ، وهذا هو الذى انطبق عليه: حذْوَ القُذة بالقُذّة ، قوله تعالى : { مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } ( هود: الآية : 15 - 16 ) .
والأحاديث كثيرة ، منها ما يلي :(1/119)
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها قال قاتلت فيك حتى استشهدت قال كذبت ولكنك قاتلت لأن يقال جريء فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها قال تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن قال كذبت ولكنك تعلمت العلم ليقال عالم وقرأت القرآن ليقال هو قارئ فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها قال ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك قال كذبت ولكنك فعلت ليقال هو جواد فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه ثم ألقي في النار .
فانظر محبة الدنيا كيف حَرَمتْ هؤلاء من الأجر، وأفسدت عليهم عملهم ، وجعلتهم أول الداخلين إلى النار .
رابعاً : أن محبتها تعترض بين العبد وبين فعل ما يعود عليه نفعه فى الآخرة باشتغاله عنه بمحبوه ، والناس ها هنا مراتب : فمنهم من يشغله محبوبه عن الإيمان وشرائعه ، ومنهم من يشغله حبها عن كثير من الواجبات ، ومنهم من يشغله عن واجب يعارض تحصيلها - وإن قام بغيره - ومنهم من يشغله عن القيام بالواجب فى الوقت الذى ينبغى على الوجه الذى ينبغى ، فيفرط فى وقته وفى حقوقه، ومنهم من يشغله عن عبودية قلبه فى الواجب ، وتفريغه لله عند أدائه ، فيؤديه ظاهراً لا باطناً ، وأين هذا من عشاق الدنيا ومحبيها ، هذا من أندرهم وأقل درجات حبها أن يشغل عن سعادة العبد ، وهو تفريغ القلب لحب الله ، و لسانه لذكره ، وجمع قلبه على لسانه ، وجمع لسانه وقلبه على ربه ، فعشقها ومحبتها تضر بالآخرة ولا بد ، كما أن محبة الآخرة تضر بالدنيا .(1/120)
خامساً : أن محبتها تجعلها أكبر همّ العبد مما يضر به ضرراً بليغاً كما في الحديث الآتي :
( حديث أنس بن مالك رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من كانت الآخرة همّه جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة ، ومن كانت الدنيا همّه جعل الله فقره بين عينيه ، وفرَّق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قُدِّر له .
[ من كانت الآخرة همّه ] : يعني: أي شغله الشاغل ،يعمل لها ويرغب فيها عن الآخرة ،كان جزائه ما يلي :
جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة :
[ ومن كانت الدنيا همّه ] : فالإنسان مخلوق من أجل العبادة، فإذا نسي هذا الأمر وأصبح نهماً على الدنيا يريد أن يجمعها من أي جهة كانت، وأصبحت هذه الدنيا همه الوحيد فهذا جزاؤه [جعل الله فقره بين عينيه ، وفرَّق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قُدِّر له ]
[جعل الله فقره بين عينيه ] : يعني: أنه دائماً مستحضر الفقر يرى الفقر بين عينيه، مهما وجد معه من المال،
[ وفرَّق عليه شمله ] : فالذي يجمع لك الأمور ويؤلف بين القلوب هو الله سبحانه وتعالى، فالإنسان يجمع من شمال ويمين وربنا يفرق عليه هذا كله ما دام همه الوحيد .
[ولم يأته من الدنيا إلا ما قُدِّر له ] : فلا تتعب نفسك وتحملها فوق طاقتها فتقصر في عبادة الله سبحانه، وتقول: المال المال، ولكن ابحث عن المال من حلال، واحذر الحرام، واحذر أن تضيع الدين وتضيع الطاعة فيضيع منك الجميع الدنيا والآخرة.
(حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجه ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من جعل الهموم هماً واحدا هم المعاد كفاه الله هم دنياه، ومن تشعبت به الهموم في أحوال الدنيا لم يبال الله في أي أوديته هلك .(1/121)
من جعل الهموم هماً واحدا هم المعاد : ولو أن كلاً منا في قلبه الآخرة، فسيدرك أن الله سبحانه على كل عمل يقوم به، فإنه إذا قام للصلاة تذكر: الله سيحاسبني على هذه الصلاة فيحسنها، وإذا صام أحسن الصيام، وإذا عمل أي عمل من الأعمال أتقن ذلك العمل، ولا من أجل أن يأخذ الجزاء من الناس، ليس من أجل أن يترقى، ولكن ابتغاء مرضات الله سبحانه وتعالى؛ لأن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه، فإذا كانت الآخرة على بال الإنسان دائماً فإن الله سوف يكفيه أمر دنياه، قال: (كفاه الله هم دنياه).
ومن تشعبت به الهموم : يعني: نسي الآخرة وبدأ يفكر يريد أن يأكل ويشرب ويلبس ويريد كذا وكذا، ويعمل طول النهار وهو يفكر في أمور الدنيا، ناسياً ربه سبحانه فهذا يكون حاله كما في الحديث:
( لم يبال الله في أي أوديته هلك ) : يعني: في أي مكان هلك لا يبالي الله عز وجل به. فالمؤمن قريب من الله، والله يحبه ويفرح بتوبته وبإقباله عليه، أما الإنسان البعيد عن الله سبحانه وتعالى فإن يهلك في أي واد لا يبالي الله به.
سادساً : أن محبها أشد الناس عذاباً بها، وهو معذب فى دوره الثلاث : يعذب فى الدنيا بتحصيلها والسعى فيها ومنازعة أهلها، وفى دار البرزخ بفواتها والحسرة عليها ، وكونه قد حيل بينه وبين محبوبه على وجه لا يرجو اجتماعه به أبداً ، ولم يحصل له هناك محبوب يعوضه عنه، فهذا أشد الناس عذاباً فى قبره، يعمل الهمّ والحزنُ والغم والحسرة فى روحه ما تعمل الديدان وهوام الأرض فى جسمه .
والمقصود : أن محب الدنيا يعذب فى قبره ، ويعذب يوم لقاء ربه قال تعالى : { فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ } ( التوبة: الآية : 55 ) .
[*] قال بعض السلف : " يعذبهم بجمعها، وتزهق أنفسهم بحبها، وهم كافرون بمنع حق الله فيها " .(1/122)
سابعا : أن عاشقها ومحبها الذى يؤثرها على الآخرة من أسفه الخلق وأقلهم عقلاً ، إذ آثر الخيال على الحقيقة، والمنام على اليقظة، والظل الزائل على النعيم الدائم ، والدار الفانية على الدار الباقية، وباع حياة الأبد فى أرغد عيش بحياة إنما هى أحلام نوم، أو كظل زائل، إن اللبيب بمثلها لا يخدع.
وكان بعض السلف يتمثل هذا البيت :
يا أهل لذات دنيا لا بقاء لها إن اغتراراً بظل زائل حمق
[*] قال يونس بن عبد الأعلى : " ما شبهت الدنيا إلا كرجل نام فرأى فى منامه ما يكره وما يحب ، فبينما هو كذلك انتبه " .
وأشبه الأشياء بالدنيا: الظل تحسب له حقيقة ثابتة وهو فى تقلص وانقباض فتتبعه لتدركه فلا تلحقه، وأشبه الأشياء بها السراب يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً ، ووجد الله عنده فوفاه حسابه ، والله سريع الحساب ، وأشبه الأشياء بها : عجوز شوهاء قبيحة المنظر والمخبر ، غدارة بالأزواج، تزينت للخطاب بكل زينة ، وسترت كل قبح، فاغتر بهامن لم يجاوز بصره ظاهرها، فطلب النكاح، فقالت : لا مهر إلا فقد الآخرة ، فإننا ضرتان ، واجتماعنا غير مأذون فيه ولا مستباح، فآثر الخطاب العاجلة ، وقالوا : ما على مَن واصل حبيبته من جناح، فلما كشف قناعها ، وحل إزارها، إذا كل آفة وبلية ، فمنهم من طلق واسترح، ومنهم من اختار المقام، فما استتمت ليلة عرسه إلا بالعويل والصياح .
تالله لقد أذن مؤذنها على رؤوس الخلائق ، بحىّ على غير الفلاح، فقام المجتهدون والمصلون لها فواصلوا فى طلبها الغدو بالرواح، وسروا ليلهم ، فلم يحمد القوم السرى عند الصباح،طاروا فى صيدها ، فما رجع أحد منهم إلا وهو مكسور الجناح ، فوقعوا فى شبكتها، فأسلمتهم للذبّاح .
باب : حقيقة الموت
حقيقة الموت :(1/123)
يخطئ من يظن أن الموت فناء محض وعدم تام، ليس بعده حياة ولا حساب ولا حشر ولا نشر ولا جنة ولا نار . إذ لو كان الأمر كذلك لا نتفت الحكمة من الخلق والوجود، واستوى الناس جميعاً بعد الموت واستراحوا، فيكون المؤمن والكافر سواء، والقاتل والمقتول سواء، والظالم والمظلوم سواء، والطائع والعاصي سواء، والزاني والمصلي سواء، والفاجر والتقي سواء، وهذا مذهب الملاحدة الذين هم شر من البهائم، فلا يقول ذلك إلا من خلع رداء الحياء، ونادى على نفسه بالسفه والجنون. قال تعالى: ( زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) [ التغابن:7 ]
وقال تعالى : (وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) [ يس 79،78 ]
فالموت هو انقطاع تعلق الروح بالبدن، ومفارقتها له، والانتقال من دار إلى دار، وبه تطوى صحف الأعمال،و تنقطع التوبة والإمهال وأن الله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر
(حديث ابنِ عُمَرَ رضي الله عنهما الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : "إنّ الله يَقْبَلُ تَوْبَةَ العَبْدِ ما لَمْ يُغَرْغِرْ" .
ولله درُّ القائل :
ولو أنا إذا متنا تركنا لكان الموت غابة كل حي :
ولكنا إذا متنا بعثنا ونسأل بعده عن كل شيء
الموت من أعظم المصائب :
والموت من أعظم المصائب، وقد سماه الله تعالى مصيبة في قوله سبحانه: ( فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ) [ المائدة: 106 ](1/124)
فإذا كان العبد طائعاً ونزل به الموت ندم أن لا يكون ازداد وإذا كان العبد مسيئاً تدم على التفريط وتمنى العودة إلى دار الدنيا، ليتوب إلى الله تعالى، ويبدأ العمل الصالح من جديد. ولكن هيهات هيهات!! قال تعالى : (وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنْ الْمُعْتَبِينَ) [ فصلت: 24 ]
وقال تعالى ( حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِي * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) [ المؤمنون: 100،99]
ولله درُّ القائل :
قد مضى العمر وفات ياأسير الغفلات ... حصّل الزاد وبادر مسرعاً قبل الفوات
فإلى كم ذا التعامي عن أمور واضحات ... وإلى كم أنت غارق في بحار الظلمات
لم يكن قلبك أصلا بالزواجر واالعظات ... بينما الإنسان يسأل عن أخيه قيل مات
وتراهم حملوه سرعة للفلوات ... أهله يبكوا عليه حسرة بالعبرات
أين من قد كان يفخر بالجياد الصافنات ... وله مال جزيل كالجبال الراسيات
سار عنها رغم أنف للقبور الموحشات ... كم بها من طول مكث من عظام ناخرات
فاغنم العمر وبادر بالتقى قبل الممات ... واطلب الغفران ممن ترتجي منه الهبات
عبرة الموت :
يروى أن أعرابياً كان يسير على جمل له، فخر الجمل ميتاً، فنزل الأعرابي عنه، وجعل
طوف به ويتفكر فيه، ويقول: ما لك لا تقوم؟
مالك لا تنبعث؟
هذه أعضاؤك كاملة !
وجوارحك سالمة !
ما شأنك ؟
ما الذي كان يحملك ؟
ما الذي صرعك ؟
ما الذي عن الحركة منعك ؟
ثم تركه وانصرف متعجباً من أمره، متفكراً في شأنه!!
[*] قال ابن السماك:
بينما صياد في الدهر الأول يصطاد السمك، إذ رمى بشبكته في البحر، فخرج فيها جمجمة
إنسان، فجعل الصياد ينظر إليها ويبكي ويقول:
عزيز فلم تترك لعزك!
غني فلم تترك لغناك!!
فقير فلم تترك لفقرك!!
جواد فلم تترك لجودك!!
شديد لم تترك لشدتك!!
عالم فلم تترك لعلمك !! يردد هذا الكلام ويبكي .(1/125)
فتفكر يا مغرور في الموت وسكرته، وصعوبة كأسه ومرارته، فيا للموت من وعد ما أصدقه، ومن حاكم ما أعدله. كفى بالموت مقرحاً للقلوب، ومبكياً للعيون، ومفرقاً للجماعات، وهادماً للّذّات، وقاطعاً للأمنيات.
فيا جامع المال! والمجتهد في البنيان لِلَّهِ ليس لك والله من مالك إلا الأكفان، بل هي والله للخراب والذهاب، وجسمك للتراب والمآب، فأين الذي جمعته من المال؟
هل أنقذك من الأهوال؟ كلا .. بل تركته إلى من لا يحمدك، وقدمت بأوزارك على من لا يعذرك.
فما لك ليس يعمل فيك وعظ ... ولا زجر كأنك من جماد
ستندم إن رحلت بغير زاد ... وتشقى إذ يناديك المنادي
فلا تأمن لذي الدنيا صلاحا ... فإن صلاحها عين الفساد
ولا تفرح بمال تقتنيه ... فإنك فيه معكوس المراد
وتب مما جنيت وأنت حس ... وكن متنبها قبل الرقاد
أترضى أن تكون رفيق قوم ... لهم زاد وأنت بغير زاد؟!
يا كثير السيئات غداً ترى عملك، ويا هاتك الحرمات إلى متى تديم زللك؟ أما تعلم أن الموت يسعى في تبديد شملك؟ أما تخاف أن تؤخذ على قبيح فعلك؟ واعجبا لك من راحل تركت الزاد في غير رحلك!! أين فطنتك ويقظتك وتدبير عقلك؟ أما بارزت بالقبيح فأين الحزن؟ أما علمت أن الحق يعلم السر والعلن؟ ستعرف خبرك يوم ترحل عن الوطن، وستنتبه من رقادك ويزول هذا الوسن.
فيا جامع المال! والمجتهد في البنيان لِلَّهِ ليس لك والله من مالك إلا الأكفان، بل هي والله للخراب والذهاب، وجسمك للتراب والمآب، فأين الذي جمعته من المال؟ هل أنقذك من الأهوال؟ كلا .. بل تركته إلى من لا يحمدك، وقدمت بأوزارك على من لا يعذرك ، لن ينفعك مالك إذا أوبقتك أعمالك ، أراك ضعيف اليقين يا مؤثر الدنيا على الدين .
[*] قال يزيد بن تميم: من لم يردعه الموت والقرآن، ثم تناطحت عنده الجبال لم يرتدع!!
أين استعدادك للموت وسكرته؟
أين استعدادك للقبر وضمته؟
أين استعدادك للمنكر والنكير ؟
أين استعدادك للقاء العلي القدير ؟(1/126)
[*] وقال سعيد بن جبير: الغرة بالله أن يتمادى الرجل بالمعصية،ويتمنى على الله المغفرة .
تزود من التقوى فإنك لا تدري ... إذا جن ليل هل تعيش إلى الفجر
فكم من صحيح مات من غير علة ... وكم من سقيم عاش حينا من الدهر
وكم من صبي يرتجى طول عمره ... وقد نسجت أكفانه وهو لا يدري
ولله درُّ القائل :
رب مذكور لقوم ... غاب عنهم فنسوه
وإذا أفنى سنيه ... المرء أفنته سنوه
وكأن بالمرء قد ... يبكي عليه أقربوه
وكأن القوم قد ماتوا ... فقالوا أدركوه
سائلوه كلموه ... حركوه لقنوه
فإذا استيأس منه الـ ... قوم قالوا أحرقوه
حرفوه وجهوه ... مددوه غمضوه
عجلوه لرحيل ... عجلوا لا تحبسوه
ارفعوه غسلوه ... كفنوه حنطوه
فإذا ما لف في الـ ... أكفان قالوا فاحملوه
أخرجوه فوق أعواد ... المنايا شيعوه
فإذا صلوا عليه ... قيل هاتوا واقبروه
فإذا ما استودعوه ... الأرض رهناً تركوه
خلفوه تحت رمس ... أوقروه أثقلوه
أبعدوه أسحقوه ... أوحدود أفردوه
ودعوه فارقوه ... أسلموه خلفوه
وانثنوا عنه وخلوه ... كأن لم يعرفوه
وكأن القوم فيما ... كان فيه لم يلوه
وهآنذا أذكر لك كلاماً حُقَّ له أن يُنْقَشَ على الصدور وأن يُكْتَبَ بماء الذهب من عمر ابن عبد لعزيز رحمه الله تعالى الذي ملأ الدنيا زهداً وكفافاً وقناعةً وعدلاً(1/127)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عبد الله بن عياش، عن أبيه: أن عمر بن عبد العزيز شيع جنازة، فلما انصرفوا تأخر عمر وأصحابه ناحية عن الجنازة، فقال له أصحابه: يا أمير المؤمنين جنازة أنت وليها تأخرت عنها فتركتها وتركتها ؟ فقال: نعم، ناداني القبر من خلفي يا عمر بن عبد العزيز ألا تسألني ما صنعت بالأحبة ؟ قلت: بلى، قال: خرقت الأكفان، ومزقت الأبدان، ومصصت الدم وأكلت اللحم، ألا تسألني ما صنعت بالأوصال؟ قلت: بلى، قال: نزعت الكفين من الذراعين، والذراعين من العضدين، والعضدين من الكتفين، والوركين من الفخذين، والفخذين من الركبتين، والركبتين من الساقين، والساقين من القدمين، ثم بكى عمر فقال: ألا إن الدنيا بقاؤها قليل، وعزيزها زليل، وغنيها فقير، وشبابها يهرم، وحيها يموت، فلا يغرنكم إقبالها مع معرفتكم بسرعة إدبارها، والمغرور من اغتر بها، أين سكانها الذين بنوا مدائنها، وشققوا أنهارها، وغرسوا أشجارها، وأقاموا فيها أياماً يسيرة، غرتهم بصحتهم، وغزوا بنشاطهم، فركبوا المعاصي، إنهم كانوا والله في الدينا مغبوطين بالأموال على كثرة المنع، محسودين على جمعه، ما صنع التراب بأبدانهم، والرمل بأجسادهم، والديدان بعظامهم وأوصالهم، كانوا في الدنيا على أسرة ممهدة، وفرش منضدة، بين خدم يخدمون، وأهل يكرمون، وجيران يعضدون، فإذا مررت فنادهم إن كنت منادياً، وادعهم إن كنت داعياً، ومر بعسكرهم، وانظر إلى تقارب منازلهم التي كان بها عيشهم، وسل غنيهم ما بقى من غناه، وسل فقيرهم ما بقى من فقره، وسلهم عن الألسن التي كانوا بها يتكلمون، وعن الأعين التي كانت إلى اللذات بها ينظرون، وسلهم عن الجلود الرقيقة، والوجوه الحسنة، والأجساد الناعمة، ما صنع بها الديدان ؟ محت الألوان، وأكلت اللحمان، وعفرت الوجوه، ومحت المحاسن، وكسرت الفقار وأبانت الأعضاء، ومزقت الأشلاء، وأين حجالهم وقبابهم، وأين خدمهم وعبيدهم، وجمعهم ومكنوزهم،(1/128)
والله ما زودوهم فراشاً، ولا وضعوا هناك متكأً، ولا غرسوا لهم شجراً، ولا أنزلوهم من اللحد قراراً، أليسوا في منازل الخلوات والفلوات أليس الليل والنهار عليهم سواء ؟ أليس هم في مدلهمة ظلماء ؟ قد حيل بينهم وبين العمل، وفارقوا الأحبة. فكم من ناعم وناعمة أصبحوا ووجوهم بالية، وأجسادهم من أعناقهم نائية، وأوصالهم ممزقة، قد سالت الحدق على الوجنات، وامتلأت الأفواه دماً وصديداً، ودبت دواب الأرض في أجسادهم ففرقت أعضاءهم، ثم لم يلبثوا والله إلا يسيرا حتى عادت العظام رميماً، قد فارقوا الحدائق، فصاروا بعد السعة إلى المضايق، قد تزوجت نساؤهم، وترددت في الطرق أبناؤهم، وتوزعت القرابات ديارهم وتراثهم، فمنهم والله الموسع له في قبره، الغض الناضر فيه، المتنعم بلذته. يا ساكن القبر غداً مالذي غرك من الدنيا، هل تعلم أنك تبقى أو تبقى لك، أين دارك الفيحاء، ونهرك المطرد، وأين ثمرك الناضر ينعه وأين رقاق ثيابك وأين طيبك وأين بخورك، وأين كسوتك لصيفك وشتائك، أما رأيته قد نزل به الأمر فما يدفع عن نفسه وجلا، وهو يرشح عرقاً، ويتلمظ عطشاً، يتقلب من سكرات الموت وغمراته، جاء الأمر من السماء، وجاء غالب القدر والقضاء، جاء من الأمر والأجل ما تمتنع منه، هيهات هيهات، يا مغمض الوالد والأخ والولد وغاسله، يا مكفن الميت وحامله، يا مخليه في القبر وراجعاً عنه، ليت شعري كيف كنت على خشونة الثرى، يا ليت شعري بأي خديك بدأ البلى، يا مجاور الهلكات صرت في محلة الموتى، ليت شعري مالذي يلقاني به ملك الموت عند خروجي من الدنيا، وما يأتيني به من رسالة ربي، ثم تمثل:
تسر بما يفنى وتشغل بالصبا ... كما غر باللذات في النوم حالم
نهارك يا مغرور سهو وغفلة ... وليلك نوم والردى لك لازم
وتعمل فيما سوف تكره غبه ... كذلك في الدنيا تعيش البهايم
ثم انصرف فما بقى بعد ذلك إلا جمعه.(1/129)
[*] وأخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أسد بن زيد قال: كنا مع عمر بن عبد العزيز في جنازة، فلما أن دفن الميت ركب بغلة له صغيرة ثم جاء إلى قبر فركز عليه المقرعه فقال: السلام عليك يا صاحب القبر، قال عمر فنادانى مناد من خلفى وعليك السلام يا عمر بن عبد العزيز عم تسأل ؟ فقلت، عن ساكنك وجارك، قال: أما البدن فعندي، والروح عرج به إلى الله عز وجل ما أدري أي شيء حاله، قلت أسألك، عن ساكنك وجارك ؟ قال: دمغت المقلتين، وأكلت الحدقتين، ومزقت الأكفان، وأكلت الأبدان .
[*] وأخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أبي قرة، قال: خرج عمر بن عبد العزيز على بعض جنائز بني مروان، فلما صلى عليها وفرغ، قال لأصحابه: توقفوا، فوقفوا، فضرب بطن فرسه حتى أمعن في القبور وتوارى عنهم، فاستبطأه الناس حتى ظنوا، فجاء وقد احمرت عيناه، وانتفخت أوداجه، قالوا: يا أمير المؤمنين أبطأت علينا ؟ قال: أتيت قبور الأحبة، قبور بني آبائي فسلمت عليهم فلم يردوا السلام، فلما ذهبت أقفى ناداني التراب فقال: ألا تسألني يا عمر عليهم ما لقيت الأحبة؟ قلت: وما لقيت الأحبة؟ قال: خرقت الأكفان، وأكلت الأبدان، ونزعت المقلتين، فذكر نحوه. وزاد: فلما ذهبت أقفي ناداني: يا عمر عليك بأكفان لا تبلى، قلت: وما أكفان لا تبلى ؟ قال: اتقاء الله، والعمل الصالح.
[*] وأخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أبي صالح الشامى، قال: قال عمر بن عبد العزيز:
أنا ميت وعز من لا يموت ... قد تيقنت أنني سأموت
ليس ملك يزيله الموت ملكا ... إنما الملك ملك من لا يموت(1/130)
[*] وأخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن مفضل بن يونس، قال: قال عمر بن عبد العزيز: لقد نغص هذا الموت على أهل الدنيا ما هم فيه من غضارة الدنيا وزهوتها، فبينا هم كذلك وعلى ذلك أتاهم جاد من الموت فاخترمهم مما هم فيه، فالويل والحسرة هنا لك لمن لم يحذر الموت، ويذكره في الرخاء فيقدم لنفسه خيراً يجده بعدما فارق الدنيا وأهلها، قال: ثم بكى عمر حتى غلبه البكاء فقام.
[*] وأخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن جابر بن نوح، قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى بعض أهل بيته، أما بعد فإنك إن استشعرت ذكر الموت في ليلك أو نهارك بغض إليك كل فان، وحبب إليك كل باق. والسلام.
[*] وأخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أسماء بن عبيد قال: دخل عنبسة بن سعيد بن العاص على عمر بن عبد العزيز، فقال: يا أمير المؤمنين إن من كان قبلك من الخلفاء كانوا يعطون عطايا منعتناها، ولي عيال وضيعة، أفتأذن لي أن أخرج إلى ضيعتي وما يصلح عيالي ؟ فقال عمر: أحبكم إلينا من كفانا مؤنته. فخرج من عنده فلما صار عن الباب قال عمر: أبا خالد أبا خالد، فرجع. فقال: أكثر من ذكر الموت فإن كنت في ضيق من العيش وسعه عليك، وإن كنت في سعة من العيش ضيقه عليك.
[*] وأخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عن جعونة، قال: قال عمر بن عبد العزيز: يا أيها الناس إنما أنتم أغراض تنتضل فيها المنايا، إنكم لا تؤتون نعمة إلا بفراق أخرى، وأية أكلة ليس معها غصة، وأية جرعة ليس معها شرقة، وإن أمْس شاهد مقبول قد فجعكم بنفسه، وخلف في أيديكم حكمته، وإن اليوم حبيب مودع وهو وشيك الظعن، وإن غداً آت بما فيه، وأين يهرب من يتقلب في يدي طالبه، إنه لا أقوى من طالب، ولا أضعف من مطلوب. إنما أنتم سفر تحلون عقد رحالكم في غير هذه الدار، إنما أنتم فروع أصول قد مضت فما بقاء فرع بعد ذهاب أصله.(1/131)
[*] وأخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عبيد الله بن العيزار، قال: خطبنا عمر بن عبد العزيز بالشام على منبر من طين، فحمد الله وأثنى عليه، ثم تكلم بثلاث كلمات فقال: أيها الناس أصلحوا سرائركم تصلح علانيتكم، واعملوا لآخرتكم تكفوا دنياكم، واعلموا أن رجلاً ليس بينه وبين آدم آب حي لمغرق له في الموت. والسلام عليكم.
[*] وأخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أبي الحسن المدائني، قال: كتب عمر بن عبد العزيزإلى عمر بن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة يعزيه على ابنه: أما بعد، فإنا قوم من أهل الآخرة أسكنا الدنيا، أموات أبناء أموات، والعجب لميت يكتب إلى ميت يعزيه عن ميت. والسلام.
[*] وأخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عبد الله بن المفضل التميمي، قال: آخر خطبة خطبها عمر بن عبد العزيز أن صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، فإن ما في أيديكم أسلاب الهالكين، وسيتركها الباقون كما تركها الماضون، ألا ترون أنكم في كل يوم وليلة تشيعون غادياً أو رائحاً إلى الله تعالى، وتضعونه في صدع الأرض ثم في بطن الصدع، غير ممهد ولا موسد، قد خلع الأسلاب، وفارق الأحباب، وأسكن التراب، وواجه الحساب، فقير إلى ما قدم أمامه، غنى عما ترك بعده. أما والله إني لأقول لكم هذا وما أعرف من أحد من الناس مثل ما أعرف من نفسي، قال: ثم قال بطرف ثوبه على عينه فبكى ثم نزل، فما خرج حتى أخرج إلى حفرته.(1/132)
[*] وأخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن شعيب بن صفوان، عن عيسى أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى رجل: أما بعد: فإني أوصيك بتقوى لله، والانشمار لما استطعت من مالك وما رزقك الله إلى دار قرارك، فكأنك والله ذقت الموت وعاينت ما بعده بتصريف الليل والنهار فإنهما سريعان في طي الأجل ونقص العمر، لم يفتهما شىء إلا أفنياه، ولا زمن مرا به إلا أبلياه، مستعدان لمن بقى بمثل الذي أصاب من قد مضى، فنستغفر الله لسيء أعمالنا، ونعوذ به من مقته إيانا على ما نعظ به مما نقصر عنه.
[*] وأخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أبو ربيعة عبيد الله بن عبيد بن عدى الكندي، عن أبيه، عن جده، قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى بعض عماله، أما بعد: فكأن العباد قد عادوا إلى الله ثم ينبئهم بما عملوا ليجزى الذين أساءوا بما عملوا، ويجزى الذين أحسنوا بالحسنى، فإنه لا معقب لحكمه ولا ينازع في أمره، ولا يقاطع في حقه الذي استحفظه عباده وأوصاهم به، وإني أوصيك بتقوى الله، وأحثك على الشكر فيما اصطنع عندك من نعمة، وآتاك من كرامة، فإن نعمه يمدها شكره، ويقطعها كفره، أكثر ذكر الموت الذي لا تدري متى يغشاك، ولا مناص ولا فوت، وأكثر من ذكر يوم القيامة وشدته، ثم كن مما أوتيت من الدنيا على وجل، فإن من لا يحذر ذلك ولا يتخوفه توشك الصرعة أن تدركه في الغفلة، وأكثر النظر في عملك في دنياك بالذي أمرت به، ثم اقتصر عليه، فإن فيه لعمري شغلاً عن دنياك، ولن تدرك العلم حتى تؤثره على الجهل، ولا الحق حتى تذر الباطل فنسأل الله لنا ولك حسن معونته، وأن يدفع عنا وعنك بأحسن دفاعه برحمته.(1/133)
[*] وأخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أبي سريع الشامي، قال: قال عمر بن عبد العزيز لرجل من جلسائه: أبا فلان لقد أرقت الليلة تفكراً، قال: فيم يا أمير المؤمنين ؟ قال: في القبر وساكنه، إنك لو رأيت الميت بعد ثالثة في قبره لاستوحشت من قربه بعد طول الأنس منك بناحيته، ولرأيت بيتاً تجول فيه الهوام، ويجرى فيه الصديد، وتخترقه الديدان. مع تغير الريح، وبلى الأكفان بعد حسن الهيئة وطيب الريح، ونقاء الثوب، ثم شهق شهقة وخر مغشياً عليه. فقالت فاطمة: يا مزاحم ويحك، أخرج هذا الرجل عنا فلقد نغص على أمير المؤمنين الحياة منذ ولى، فليته لم يل، قال: فخرج الرجل فجاءت فاطمة تصب على وجهه الماء وتبكى حتى أفاق من غشيته فرآها تبكي، فقال: ما يبكيك يا فاطمة ؟ قالت: يا أمير المؤمنين رأيت مصرعك بين أيدينا فذكرت به مصرعك بن يدي الله للموت، وتخليك من الدنيا وفراقك لنا، فذاك الذي أبكاني. فقال: حسبك يا فاطمة فلقد أبلغت. ثم مال ليسقط فضمته إلى نفسها، فقالت: بأبي أنا يا أمير المؤمنين ما نستطيع أن نكلمك بكل ما نجد لك في قلوبنا، فلم يزل على حاله تلك حتى حضرته الصلاة، فصبت على وجهه ماء ثم نادته: الصلاة يا أمير المؤمنين، فأفاق فزعاً .
[*] وأخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن ميمون بن مهران، قال: خرجت مع عمر بن عبد العزيز إلى المقبرة، فلما نظر إلى القبور بكى ثم أقبل علي فقال: يا أبا أيوب هذه قبور آبائي بني أمية كأنهم لم يشاركوا أهل الدنيا في لذتهم وعيشهم. أما تراهم صرعى قد خلت بهم المثلات، واستحكم فيهم البلاء، وأصابت الهوام في أبدانهم مقيلاً. ثم بكى حتى غشى عليه، ثم أفاق فقال: انطلق بنا فوالله ما أعلم أحداً أنعم ممن صار إلى هذه القبور وقد أمن عذاب الله.(1/134)
[*] وأخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن إسماعيل بن إبراهيم بن أبي حبيبة: أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى بعض عماله، أما بعد: فإني أوصيك بتقوى الله ولزوم طاعته، فإن بتقوى الله نجا أولياء الله من سخطه، وبها تحقق لهم ولايته، وبها رافقوا أنبيائهم، وبها نضرت وجوههم، وبها نظروا إلى خالقهم، وهي عصمة في الدنيا من الفتن، والمخرج من كرب يوم القيامة، ولم يقبل ممن بقى إلا بمثل ما رضي عمن مضى ولمن بقى عبرة فيما مضى، وسنة الله فيهم واحدة، فبادر بنفسك قبل أن تؤخذ بكظمك، ويخلص إليك كما خلص إلى من كان قبلك، فقد رأيت الناس كيف يموتون وكيف يتفرقون، ورأيت الموت كيف يعجل التائب توبته وذا الأمل أمله، وذا السلطان سلطانه، وكفى بالموت موعظة بالغة، وشاغلاً عن الدنيا، ومرغباً في الآخرة، فنعوذ بالله من شر الموت وما بعده، ونسأل الله خيره وخير ما بعده، ولا تطلبن شيئاً من عرض الدنيا بقول ولا فعل تخاف أن يضر بآخرتك، فيزري بدينك، ويمقتك عليه ربك، واعلم أن القدر سيجري إليك برزقك، ويوفيك أملك من دنياك بغير مزيد فيه بحول منك ولا قوة، ولا منقوصاً منه بضعف. إن أبلاك الله بفقر فتعفف في فقرك وأخبت لقضاء ربك، واعتبر بما قسم الله لك من الإسلام، ما ذوى منك من نعمة الدنيا فإن في الإسلام خلفاً من الذهب والفضة من الدنيا الفانية. اعلم أنه لن يضر عبداً صار إلى رضوان الله وإلى الجنة ما أصابه في الدنيا من فقر أو بلاء، وأنه لن ينفع عبداً صار إلى سخط الله و وإلى النار ما أصاب في الدنيا من نعمة أو رخاء، ما يجد أهل الجنة من مكروه أصابهم في دنياهم، ما يجد أهل النار طعم لذة نعموا بها في دنياهم، كل شيء من ذلك كأن لم يكن.(1/135)
تشيعون غادياً أو رائحاً إلى الله قد قضى نحبه، وانقضى أجله، وتغيبونه في صدع من الأرض، ثم تدعونه غير متوسد ولا متمهد، فارق الأحبة، وخلع الأسلاب، وسكن التراب، وواجه الحساب، مرتهناً بعمله، فقيراً إلى ما قدم، غنياً عما ترك، فاتقوا الله قبل نزول الموت، وانقضاء موافاته، وأيم الله إني لأقول لكم هذه المقالة وما أعلم عند أحد منكم من الذنوب أكثر مما أعلم عندي، وأستغفر الله وأتوب إليه.
[*] وأخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الحسين بن محمد الخزاعي، عن رجل من ولد عثمان: أن عمر بن عبد العزيز، قال في بعض خطبه: إن لكل سفر زاداً لا محالة، فتزودوا لسفركم من الدنيا إلى الآخرى التقوى، وكونوا كمن عاين ما أعد الله من ثوابه وعقابه وترغبوا وترهبوا، ولا يطولن عليكم الأمد فتقسى قلوبكم، وتنقادوا لعدوكم، فإنه والله ما بسط أمل من لا يدري لعله لا يصبح بعد مسائه، ولا يمسي بعد صباحه، ولربما كانت بين ذلك خطفات المنايا. فكم رأيت ورأيتم من كان بالدنيا مغتراً، وإنما تقر عين من وثق بالنجاة من عذاب الله، وإنما يفرح من أمن من أهوال يوم القيامة، فأما من لا يداوي كلماً إلا أصابه جرح في ناحية أخرى، أعوذ بالله أن آمركم بما أنهى عنه نفسي فتخسر صفقتي، وتظهر غيلتي، وتبدو مسكنتي في يوم فيه الغنى والفقر، والموازين منصوبة، ولقد عنيتم بأمر لو عنيت به النجوم لانكدرت، ولو عنيت به الجبال لذابت، ولو عنيت به الأرض لتشققت، أما تعلمون أنه ليس بين الجنة والنار منزلة، وإنكم صائرون إلى إحداهما.(1/136)
[*] وأخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عمر بن محمد المكي، قال: خطب عمر بن عبد العزيز فقال: إن الدنيا ليست بدار قراركم، دار كتب الله عليها الفناء، وكتب على أهلها منها الظعن، فكم عامر موثق عما قليل مخرب، وكم مقيم مغتبط عما قليل يظعن، فأحسنوا رحمكم الله منها الرحلة بأحسن ما يحضركم من النقلة، وتزودوا فإن خير الزاد التقوى، إنما الدنيا كفيء ظلال قلص فذهب. بينا ابن آدم في الدنيا ينافس فيها وبها قرير العين إذ دعاه الله بقدره، ورماه بيوم حتفه، فسلبه آثاره ودنياه، وصير لقوم آخرين مصانعه ومغناه، إن الدنيا لا تسر بقدر ما تضر، إنها تسر قليلاً، وتجر حزناً طويلاً.
[*] وأخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن يعقوب بن عبد الرحمن، عن أبيه قال: خطب عمر بن عبد العزيز هذه الخطبة، وكان آخر خطبة خطبها، حمد الله وأثنى عليه ثم قال: إنكم لم تخلقوا عبثاً، ولم تتركوا سدى، وإن لكم معاداً ينزل الله فيه ليحكم بينكم ويفصل بينكم، وخاب وخسر من خرج من رحمة الله وحرم جنة عرضها السموات والأرض، ألم تعلموا أنه لا يأمن غداً إلا من حذر الله اليوم وخافه وباع نافداً بباق، وقليلاً بكثير، وخوفاً بأمان ؟ ألا ترون أنكم في أسلاب الهالكين، وستصير من بعدكم للباقين، وكذلك حتى تردوا إلى خير الوارثين.(1/137)
ثم إنكم تشيعون كل يوم غادياً ورائحاً، قد قضى نحبه، وانقضى أجله، حتى تغيبوه في صدع من الأرض، في شق صدع، ثم تتركوه غير ممهد ولا موسد، فارق الأحباب، وباشر التراب، ووجه للحساب، مرتهن بما عمل، غني عما ترك، فقير إلى ما قدم. فاتقوا الله وموافاته وحلول الموت بكم، أما والله إني لأقول هذا وما أعلم عند أحد من الذنوب أكثر مما عندي وأستغفر الله، وما منكم من أحد يبلغنا حاجته لا يسع له ما عندنا إلا تمنيت أن يبدأ بي وبخاصتي حتى يكون عيشنا وعيشه واحداً، أما والله لو أردت غير هذا من غضارة العيش لكان اللسان به ذلولاً، وكنت بأسبابه عالماً، ولكن سبق من الله كتاب ناطق، وسنة عادلة، دل فيها على طاعته، ونهى فيها عن معصيته، ثم رفع طرف ردائه فبكى وأبكى من حوله.
[*] وأخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن ميمون بن مهران أنه قال: دخلت على عمر بن عبد العزيز يوماً وعنده سابق البربري الشاعر، وهو ينشد شعراً، فانتهى في شعره إلى هذه الأبيات:
فكم من صحيح بات للموت آمناً ... أتته المنايا بغتة بعد ما هجع
فلم يستطع إذ جاءه الموت بغتة ... فراراً ولا منه بقوته امتنع
فأصبح تبكيه النساء مقنعاً ... ولا يسمع الداعى وإن صوته رفع
وقرب من لحد فصار مقيله ... وفارق ما قد كان بالأمس قد جمع
فلا يترك الموت الغنى لماله ... ولا معدماً في المال ذا حاجة يدع
قال: فلم يزل عمر يبكى ويضطرب حتى غشى عليه، فقمنا فانصرفنا عنه.
[*] وأخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن خالد بن يزيد العمري، قال: سمعت وهيب بن الورد يقول: كان عمر بن عبد العزيز كيراً ما يتمثل بهذه الأبيات:
يرى مستكيناً وهو للهو ماقت ... به عن حديث القوم ما هو شاغله
وأزعجه علم عن الجهل كله ... وما عالم شيئاً كمن هو جاهله
عبوس عن الجهال حين يراهم ... فليس له منهم خدين يهازله
تذكر ما يبقى من العيش آجلاً ... فأشغله عن عاجل العيش آجله
شدة الموت :(1/138)
( حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيح البخاري ) قالت : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بين يديه ركوة، أو: علبة فيها ماء - يشك عمر - فجعل يدخل يده في الماء، فيمسح بها وجهه، ويقول: (لا إله إلا الله، إن للموت سكرات). ثم نصب يده فجعل يقول: (في الرفيق الأعلى). حتى قبض ومالت يده.
(حديث عائشة الثابت في صحيح البخاري) قالت : مَا أَغْبِطُ أَحَدًا بِهَوْنِ مَوْتٍ بَعْدَ الَّذِي رَأَيْتُ مِنْ شِدَّةِ مَوْتِ النبي - صلى الله عليه وسلم - .
( مَا أَغْبِطُ ) بِكَسْرِ الْبَاءِ يُقَالُ: غَبَطْتُ الرَّجُلَ أَغْبِطُهُ، إِذَا اشْتَهَيْتَ أَنْ يَكُونَ لَكَ مِثْلُ مَا لَهُ، وَأَنْ يَدُومَ عَلَيْهِ مَا هُوَ فِيهِ
( أَحَدًا ) وَلَا أَتَمَنَّى وَلَا أَفْرَحُ لِأَحَدٍ
( بِهَوْنِ مَوْتٍ ) الْهَوْنُ بِالْفَتْحِ الرِّفْقُ وَاللِّينُ أَيْ: بِسُهُولَةِ مَوْتٍ، وَالْإِضَافَةُ فِيهِ إِضَافَةُ الصِّفَةِ إِلَى الْمَوْصُوفِ أَيْ: لَمَّا رَأَيْتُ شِدَّةَ وَفَاتِهِ عَلِمْتُ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنَ الْمُنْذِرَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى سُوءِ عَاقِبَةِ الْمُتَوَفَّى، وَأَنَّ هَوْنَ الْمَوْتِ وَسُهُولَتَهُ لَيْسَ مِنْ الْمُكْرِمَاتِ، وإِلَّا لَكَانَ - صلى الله عليه وسلم - أَوْلَى النَّاسِ بِهِ فَلَا أَكْرَهُ شِدَّةَ الْمَوْتِ لِأَحَدٍ وَلَا أَغْبِطُ أَحَدًا يَمُوتُ مِنْ غَيْرِ شِدَّةٍ.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عبد الله بن أبي ملكية أن عمر بن الخطاب، قال: يا كعب حدثنا عن الموت، قال: يا أمير المؤمنين غصن كثير الشوك يدخل في جوف الرجل فتأخذ كل شوكة بعرق يجذبه رجل شديد الجذب، فأخذ ما أخذ، وأبقى ما أبقى.
ولهذا كان موت الفجأة أخذة أسف للعاصي :وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة :
(حديث عبيد الله بن خالد السلمي الثابت في صحيح أبي داود) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : موت الفجأة أخذةُ أسف .(1/139)
وزاد البيهقي في شعب الإيمان ورزين في كتابه: "" أخذة الأسف للكافر ورحمة للمؤمن "
[*] قال ص(4) عون المعبود في شرح سنن أبي داوود :
( موت الفجأة ) : بضم الفاء مدا وبفتحها وسكون الجيم قصرا قال بن الأثير في النهاية يقال فجئه الأمر وفجأة فجاءة بالضم والمد وفاجأه مفاجأة إذا جاءه بغتة من غير تقدم سبب وقيده بعضهم بفتح الفاء وسكون الجيم من غير مد انتهى .
( أخذةُ أسف ) : أي أخذةُ غضب مستفاداً من قوله تعالى: (فَلَمّآ آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ) [ الزخرف : 55]
{ تنبيه } : موت الفجأة لا يُعّدُ أخذةُ أسف لغيرِ العاصي :
(لحديث عائشة الثابت في الصحيحين) أن رجلا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال * يا رسول الله إن أمي افتلتت نفسها وأظنها لو تكلمت تصدقت فهل لها أجر إن تصدقت عنها قال نعم .
[*] قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح :
( افتلتت نفسها ) : أي ماتت فلتة والفلتة ما يعمل بغير روية ، وفي الحديث إشارة إلى أنه ليس بمكروه لأنه صلى الله عليه وسلم لم يظهر منه كراهيته لما أخبره الرجل بأن أمه إفتلتت نفسها .
فوائد ذكر الموت :
في الإكثار من ذكر الموت فوائد منها :ما يلي :
(1) أنه يحث على الاستعداد للموت قبل نزوله.
(2) أن ذكر الموت يقصر الأمل في طول البقاء. وطول الأمل من أعظم أسباب الغفلة.
(3) أنه يزهد في الدنيا ويرضي بالقليل منها :
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أكثروا ذكر هاذم اللذات: الموت فإنه لم يذكره أحد في ضيق من العيش إلا وسعه عليه و لا ذكره في سعة إلا ضيقها عليه .
(4) أنه يرغّب في الآخرة ويدعو إلى الطاعة.
(5) أنه يهوّن على العبد مصائب الدنيا .
(6) أنه يمنع من الأشر والبطر والتوسع في لذات الدنيا.
(7) أنه يحث على التوبة واستدراك ما فات .(1/140)
(8) أنه يرقق القلوب ويدمع الأعين، ويجلب باعث الدين، ويطرد باعث الهوى.
(9) أنه يدعو إلى التواضع وترك الكبر والظلم.
(10) أنه يدعو إلى سل السخائم ومسامحة الإخوان وقبول أعذارهم.
حضور الموت :
قال تعالى :( حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ* فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ ) [المؤمنون 101:99]
( حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري ) قال : خط رسولُ الله صلى الله عليه وسلم خطا وقال هذا الإنسان ، وخط إلى جنبه خطا وقال هذا أجله ، وخط آخر بعيدا منه فقال هذا الأمل ، فبينما هو كذلك إذ جاءه الأقرب .
جاءه الأقرب : أي جاءه أجله.
( حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري ) قال : خط النبي صلى الله عليه وسلم خطا مربعا وخط خطا في الوسط خارجا منه وخط خطوطا صغارا إلى هذا الذي في الوسط من جانبه الذي في الوسط فقال هذا الإنسان وهذا أجله محيط به أو قد أحاط به وهذا الذي هو خارج أمله وهذه الخطط الصغار الأعراض فإن أخطأه هذا نهشه هذا وإن أخطأه هذا نهشه هذا .
( حديث ابن عباس رضي الله عنهما الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : اغتنم خمسا قبل خمس : حياتك قبل موتك و صحتك قبل سقمك و فراغك قبل شغلك و شبابك قبل هرمك و غناك قبل فقرك .
[*] قال القرطبي رحمه الله تعالى : ( وأجمعت الأمة على أن الموت ليس له سن معلوم، ولا زمن معلوم، ولا مرض معلوم، وذلك ليكون المرء على أهبة من ذلك، مستعداً لذلك.
وكان بعض الصالحين ينادي بليل على سور المدينة: الرحيل الرحيل. فلما توفي فقد صوته أمير المدينة، فسأل عنه فقيل: إنه قد مات فقال :(1/141)
ما زال يلهج بالرحيل وذكره ... حتى أناخ ببابه الجمال
فأصابه مستيقظاً متشمراً ... ذا أهبة لم تلهه الآمال
[*] وكان يزيد الرقاشي يقول لنفسه: ( ويحك يا يزيد! من ذا يصلي عنك بعد الموت؟ من ذا يصوم عنك بعد الموت؟ من ذا يترضى ربك عنك بعد الموت؟ ثم يقول: أيها الناس! ألا تبكون وتنوحون على أنفسكم باقي حياتكم؟ مَن الموت طالبه.. والقبر بيته.. والتراب فراشه.. والدود أنيسه.. وهو مع هذا ينتظر الفزع الأكبر.. كي يكون حاله؟ ) ثم يبكي رحمه الله.
سكرات الموت :
إن للموت ألماً لا يعلمه إلا الذي يعالجه ويذوقه، فالميت ينقطع صوته، وتضعف قوته عن الصياح لشدة الألم والكرب على القلب، فإن الموت قد هد كل جزء من أجزاء البدن، وأضعف كل جوارحه، فلم يترك له قوة للاستغاثة أما العقل فقد غشيته وسوسة، وأما اللسان فقد أبكمه، وأما الأطراف فقد أضعفها، ويود لو قدر على الاستراحة بالأنين والصياح، ولكنه لا يقدر على ذلك، فإن بقيت له قوة سمع له عند نزع الروح وجذبها خوار وغرغرة من حلقه وصدره، وقد تغير لونه، وأزبد، ولكل عضو من أعضائه سكرة بعد سكرة، وكربة بعد كربة، حتى تبلغ روحه إلى الحلقوم، فعند ذلك ينقطع نظره عن الدنيا وأهلها، وتحيط به الحسرة والندامة إن كان من الخاسرين، أو الفرح والسرور إن كان من المتقين.
وقال تعالى: ( وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ) [ ق :19]
( حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيح البخاري ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أن رسول الله كانت بين يديه ركوة أو علبة فيها ماء, فجعل يدخل يديه في الماء فيمسح بهما وجهه ويقول: "لا إله إلا الله إن للموت سكرات" ثم نصب يديه فجعل يقول: "في الرفيق الأعلى" حتى قبض ومالت يده.
( حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيح الترمذي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :ما أغبط أحداً بهون الموت, بعد الذي رأيت من شدة موت رسول الله .(1/142)
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجه ) قال : لما وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم من كرب الموت ما وجد قالت فاطمة وا كرب أبتاه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا كرب على أبيك بعد اليوم إنه قد حضر من أبيك ما ليس بتارك منه أحدا الموافاة يوم القيامة .
{ تنبيه } : وتشديد الله تعالى على أنبيائه عند الموت رفعة في أحوالهم، وكمال لدرجاتهم، ولا يفهم من هذا أن الله تعالى شدد عليهم أكثر مما شدد على العصاة والمخلطين، فإن تشديده على هؤلاء عقوبة لهم ومؤاخذة على إجرامهم، فلا نسبة بينه وبين هذا.
[*] قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه :
يا كعب حدثنا عن الموت فقال نعم يا أمير المؤمنين . هو كغصن كثير الشوك أدخل في جوف رجل فأخذت كل شوكة بعرق ثم جذبه رجل شديد الجذب فأخذ ما أخذ وأبقى ما أبقى .
ويروى أن إبراهيم عليه السلام لما مات:
قال اللّه عز وجل له : كيف وجدت الموت؟
قال :كسفود جعل في صوف رطب ثم جذب.
فقال الله تعالى له : أما إنا قد هونا عليك .
وعن موسى صلوات اللّه عليه:
أنه لما صارت روحه إلى اللّه عز وجل قال له :
يا موسى كيف وجدت الموت قال: وجدت نفسي كشاة حية بيد القصاب تسلخ.
[*] وكان عمرو بن العاص رضي اللّه عنه يقول:
لوددت لو أني رأيت رجلاً لبيباً حازماً قد نزل به الموت فيخبرني عن الموت فلما أنزل به الموت قيل له يا أبا عبد اللّه كنت تقول أيام حياتك لوددت أني رأيت رجلاً لبيباً حازماً قد نزل به الموت يخبرني عن الموت وأنت ذلك الرجل اللبيب الحازم وقد نزل بك الموت فأخبرنا عنه.
فقال: أجد كأن السماوات انطبقن على الأرض وأنا بينهما وكأن نفسي تخرج على ثقب إبرة.
رُسُلُ ملك الموت :
ورد في بعض الأخبار أن نبيا من الأنبياء عليهم السلام قال لملك الموت: أما لك رسول تقدمه بين يديك، ليكون الناس على حذر منك؟ قال: نعم، لي والله رسل كثيرة: من الإعلال، والأمراض، والشيب، والهموم، وتغير السمع والبصر.(1/143)
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أعذر الله إلى امرئ أخَّر أجله حتى بلَّغه ستين سنة).
وأكبر الأعذار إلى بني آدم بعثة الرسل إليهم، ليتم حجته عليهم كما قال سبحانه: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً [الإسراء:15]، وقال سبحانه: وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ [فاطر:37]، قيل: هو القرآن وقيل: الرسل وقال ابن عباس: هو الشيب.
حسن الخاتمة :
اعلم أن حسن الخاتمة لا تكون إلا لمن استقام ظاهرة وصلح باطنه، أما سوء الخاتمة فإنها تكون لمن كان له فساد في العقل، أو إصرار على الكبائر، وإقدام على العظائم، فربما غلب عليه ذلك حتى ينزل به الموت قبل التوبة، أو يكون مستقيماً ثم يتغير عن حاله، ويخرج عن سننه، ويقبل على معصية ربه، فيكون ذلك سبباً لسوء خاتمته، والعياذ بالله.
صور من سوء الخاتمة :
قيل لرجل عند الموت: قل لا إله إلا الله، وكان سمساراً، فأخذ يقول: ثلاثة ونصف.. أربعة
ونصف.. غلبت عليه السمسرة.
وقيل لآخر: قل لا إله إلا الله، فجعل يقول: الدارالفلانية أصلحوا فيها كذا وكذا، والبستان
الفلاني أعملوا فيه كذا، حتى مات.
وقيل لأحدهم وهو في سياق الموت: قل لا إله إلا الله، فجعل يغني، لأنه كان مفتوناً بالغناء، والعياذ بالله.
وقيل لشارب خمر عند الموت: قل لا إله إلا الله، فجعل يقول: اشرب واسقني نسأل الله العافية.
صور من حسن الخاتمة :
[*] دخل صفوان بن سليم على محمد بن المنكدر وهو في الموت فقال له: يا أبا عبدالله! كأني أراك قد شق عليك الموت، فما زال يهون عليه ويتجلى عن وجه محمد، حتى لكأن وجهه المصابيح، ثم قال له: لو ترى ما أنا فيه لقرت عينك، ثم مات.
[*] وقال محمد بن ثابت البناني: ذهبت ألقن أبي وهو في الموت فقلت: يا أبت! قل لا إله إلا الله. فقال: يا بني، خل عني، فإني في وردي السادس أو السابع!!(1/144)
[*] ولما احتضر عبدالرحمن بن الأسود بكى. فقيل له: مم البكاء؟ فقال: أسفاً على الصلاة والصوم، ولم يزل يتلو القرآن حتى مات.
[*] وسمع عامر بن عبدالله المؤذن وهو في مرض الموت فقال: خذوا بيدي إلى المسجد، فدخل مع الإمام في صلاة المغرب، فركع ركعة ثم مات رحمة الله.
بشائر تدل على حسن الخاتمة :
نبه النبي على بشائر تدل على حسن الخاتمة، إذا كانت وفاة العبد مع واحدة منها كان ذلك فألاً طيباً وبشارةً حسنة، منها ما يلي:
(1) نطقه بكلمة التوحيد عند الموت :
(حديث معاوية الثابت في صحيح أبي داود) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة .
(2) أن يموت شهيدا من أجل إعلاء كلمة الله :
قال تعالى: وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ ) [آل عمران:169-171]
(3) أن يموت غازيا في سبيل الله، أو محرماً بحج، قال : { من قتل في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في سبيل الله فهو شهيد } ،
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجه ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :ما تقولون في الشهيد فيكم قالوا القتل في سبيل الله قال إن شهداء أمتي إذا لقليل من قتل في سبيل الله فهو شهيد ومن مات في سبيل الله فهو شهيد والمبطون شهيد والمطعون شهيد .
وقال في المحرم الذي وقصته ناقته: { اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبيه ولا تخمروا رأسه، فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً .(1/145)
(حديث ابن عباس الثابت في الصحيحين ) أن رجلاً كان مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فوقصته ناقته وهو محرم فمات، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبيه، ولا تمسُّوه بطيب، ولا تخمروا رأسه، فإنه يُبعثُ يوم القيامة ملبياً )
(حديث حذيفة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :من قال لا إله إلا الله ابتغاء وجه الله ختم له بها دخل الجنة، ومن صام صوماً ابتغاء وجه الله ختم له به دخل الجنة، ومن تصدق بصدقة ابتغاء وجه الله ختم له بها دخل الجنة .
(5) الموت في سبيل الدفاع عن الخمس التي حفظتها الشريعة وهي: الدين، والنفس، والمال، والعرض، والعقل.
( حديث سعيد بن زيد رضي الله عنه الثابت في صحيحي أبي داوود و الترمذي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد.
(6) أن يموت صابراً محتسباً بسبب أحد الأمراض الوبائية، وقد نبه النبي إلى بعضها فمنها:
أ- الطاعون:
( حديث أنس بن مالك رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : الطاعون شهادة لكل مسلم .
ب- السل:
( حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :
السل شهادة .
ج - داء البطن:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : الشهداء خمسة: المطعون و المبطون و الغريق و صاحب الهدم و الشهيد في سبيل الله .
د- ذات الجنب:(1/146)
( حديث جابر بن عتيك رضي الله عنه الثابت في صحيحي أبي داوود و النسائي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :الشهداء سبعة سوى المقاتل في سبيل الله: المطعون شهيد، والغرق شهيد، وصاحب ذات الجنب شهيد، والمبطون شهيد، والحرق شهيد، والذي يموت تحت الهدم شهيد، والمرأة تموت بجمع شهيدة
والمرأة تموت بجمع : أي تموت وفي بطنها ولد
(7) موت المرأة في نفاسها بسبب ولدها:
( حديث جابر بن عتيك رضي الله عنه الثابت في صحيحي أبي داوود و النسائي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :الشهداء سبعة سوى المقاتل في سبيل الله: المطعون شهيد،والغرق شهيد، وصاحب ذات الجنب شهيد، والمبطون شهيد، والحرق شهيد، والذي يموت تحت الهدم شهيد، والمرأة تموت بجمع شهيدة
والمرأة تموت بجمع : أي تموت وفي بطنها ولد
(8) الموت بالغرق والحرق والهدم:
( حديث جابر بن عتيك رضي الله عنه الثابت في صحيحي أبي داوود و النسائي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :الشهداء سبعة سوى المقاتل في سبيل الله: المطعون شهيد، والغرق شهيد، وصاحب ذات الجنب شهيد، والمبطون شهيد، والحرق شهيد، والذي يموت تحت الهدم شهيد، والمرأة تموت بجمع شهيدة
والمرأة تموت بجمع : أي تموت وفي بطنها ولد
(9) الموت ليلة الجمعة أو نهارها:
(حديث عبد الله بن عمرو الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ما من مسلم يموت يوم الجمعة أو ليلة الجمعة إلا وقاه الله فتنة القبر .
(10) عرق الجبين عند الموت:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : المؤمن يموت بعرق الجبين .
الوسائل التي يجعلها الله سبباً في حسن الخاتمة:(1/147)
أ- تقوى الله في السر والعلن والتمسك بما جاء به النبي فهو سبيل النجاة، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102]
وأن يحذر العبد أشد الحذر من كبائر الذنوب ، فإن الكبائر موبقات، وإن الصغائر مع الإصرار تتحول إلى كبائر، وكثرة الصغائر مع عدم التوبة والاستغفار ران على القلب.
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في السلسلة الصحيحة )أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : يا عائشة لِلَّهِ إياك ومحقرات الذنوب ؛ فإن لها من الله طالبا .
(حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إياكم ومحقرات الذنوب فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه ، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب لهن مثلا كمثل قوم نزلوا أرض فلاة فحضر صنيع القوم فجعل الرجل ينطلق فيجيء بالعود والرجل يجيء بالعود حتى جمعوا سوادا وأججوا نارا وأنضجوا ما قذفوا فيها .
ب- المداومة على ذكر الله، فمن داوم على ذكر الله وختم به جميع أعماله، وكان آخر ما يقول من الدنيا لا إله إلا الله، نال بشارة النبي حيث قال: { من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة .
(حديث معاوية الثابت في صحيح أبي داود) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة .
( حديث عبدالله بن بسر رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : خير العمل أن تفارق الدنيا و لسانك رطب من ذكر الله .
باب : تعريف الزهد
- تعريف الزهد :(1/148)
الزهد هو :انصراف الرغبة عن الشيء إلى ما هو خير منه، ولا بد أن المرغوب عنه مرغوباً فيه بوجه من الوجوه فمن رغب عما ليس مطلوباً في نفسه لا يسمى زاهداً فتارك الحجر والتراب وما أشبهه لا يسمى زاهداً وإنما يسمى زاهداً من ترك الدراهم والدنانير.
فالزهد انصراف الرغبة عن الدنيا لحقارتها والإقبال على الآخرة والرغبة فيها لنفاستها ، والدنيا كالثلج الموضوع في الشمس لا يزال في الذوبان إلى الانقراض ،والآخرة كالجوهر الذي لا فناء له ، وبقدر اليقين بالتفاوت بين الدنيا والآخرة تقوى الرغبة في البيع . وقد تعددت عبارات السلف من أئمة الهدى وأعلام التقى ومصابيح الدجى ، من حلية الأولياء وأعلام النبلاء ، من الأضواء اللامعة والنجوم الساطعة في تعريف الزهد في الدنيا وكلها تدور على عدم الرغبة فيها وخلو القلب من التعلق بها.
وهاك غيضٌ من فيض مما ورد في ذلك :
[*] قال الإمام أحمد : الزهد في الدنيا قصر الأمل.
[*] وقال سفيان الثوري : الزهد في الدنيا قصر الأمل، ليس بأكل الغليظ ولا لبس العبا.
[*] وقال سفيان ابن عيينة : الزهد في الدنيا الصبر وارتقاب الموت.
[*] قال الحسن البصري : ليس الزهد في الدنيا بتحريم الحلال ، ولا إضاعة المال ، ولكن أن تكون بما في يد الله أوثق منك بما في يدك .
[*] وقال ابن الجلاّء : الزهد هو النظر إلى الدنيا بعين الزوال لتصغر في عينك فيسهل عليك الإعراض عنها .
[*] وقال إبراهيم ابن أدهم رحمه الله تعالى : الزهد فراغ القلب من الدنيا لا فراغ اليد .
وقال بعضهم :الزهد هو انصراف الرغبة عن الشيء إلى ما هو خير منه، وهو ترك راحة الدنيا طلباً لراحة الآخرة وأن يخلو قلبك مما خلت منه يداك .
[*] وقال عبدالواحد بن زيد: الزهد في الدينار والدرهم.
[*] وسئل الجنيد عن الزهد فقال : استصغار الدنيا، ومحو آثارها من القلب.
[*] وقال أبو سليمان الداراني: الزهد: ترك ما يشغل عن الله.
أجمع تعريف للزهد :(1/149)
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
هذه التعريفات للزهد والتي عرفها أئمة الهدى وأعلام التقى ومصابيح الدجى ، من حلية الأولياء وأعلام النبلاء ، من الأضواء اللامعة والنجوم الساطعة بينها اختلاف تنوع وليس اختلاف تضاد ، ولا شك أن الزهد يشملها جميعا ، ولعل أجمع تعريف للزهد هو ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حيث قال : " الزهد: هو ترك ما لا ينفع في الآخرة " ، وهذا يشمل ترك ما يضر ، وترك ما لا ينفع ولا يضر .
،ويعين العبد على ذلك علمه أن الدنيا ظل زائل، وخيال زائر فهي كما قال تعالى: { كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا } [ الحديد : 20] ، و سماها الله { مَتَاعُ الْغُرُورِ } و نهى عن الاغترار بها ، لذلك تجد الزاهد ينأى بنفسه عن الدنيا وعزف عنها فهو لا يصانع ولا يضارع ولا يتبع المطامع.
وبيَّن الله تبارك وتعالى في القرآن حقارة الدنيا وسرعة زوالها واستصغار شأنها ، وحثهم على عمل ما خلقوا لأجلها وهي العبادة فقال تعالى : ( يَأَيَّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الغَرُورْ )[ فاطر:5] .
وقال أيضاً: ( وَمَا هَذِهِ الحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَ لَعِبٌ وَإِنَّ الدَارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُون ) [ العنكبوت :64]
وقال تعالى : (المَالُ وَالبَنُونَ زِيْنَةُ الحَيَاةِ الدًّنْيَا وَالبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوابَاً وَخَيْرٌ أَمَلاً ) [ الكهف :64](1/150)
وأخبرنا عن سوء عاقبة المغترين ، وحذرنا مثل مصارعهم وذم من رضي بها واطمأن إليها، ولعلمه أن وراءها داراً أعظم منها قدراً وأجل خطراً، وهي دار البقاء، يضاف إلى ذلك معرفته وإيمانه الحق بأن زهده في الدنيا لا يمنعه شيئاً كتب له منها، وأن حرصه عليها لا يجلب له ما لم يقض له منها، فمتى تيقن ذلك ترك الرغبة فيما لا ينفع في الدار الآخرة ، فأما ما ينفع في الدار الآخرة فالزهد فيه ليس من الدين بل صاحبه داخل في قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } [ المائدة:87 ]
باب : حقيقة الزهد
مسألة : ماذا نعني بالزهد ؟
نعني بالزهد استصغار الدنيا، والحذر من طغيانها وسيطرتها على القلب.
طلب عمر بن عبد العزيز رحمه الله النصيحة من الحسن رحمه الله تعالى، فكتب إليه الحسن: إن رأس ما هو مصلحك ومصلح به على يديك : الزهد في الدنيا، وإنما الزهد باليقين ، واليقين بالتفكر ، والتفكر بالاعتبار ، فأنت إذا فكرت في الدنيا لم تجدها أهلاً أن تبيع بها نفسك ، ووجدت نفسك أهلا أن تكرمها بهوان الدنيا ، فإن الدنيا دار بلاء ومنزل قُلْعَةٍ.( أي دار رحيل وانتقال).
وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبهما موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد ، ودرر الفرائد .
( حديث أبي أيوب رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجة ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :إذا قمت في صلاتك فَصَلِ صلاةَ مُوَدِّعٍ و لا تكلم بكلام تَعْتَذِرُ منه وأجْمِع اليأس عما في أيدي الناس .
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
( إذا قمت في صلاتك ) أي شرعت فيها
( فصل صلاة مودع ) أي إذا شرعت فيها فأقبل على الله وحده ودع غيره لمناجاة ربك ( ولا تكلم ) بحذف إحدى التاءين تخفيفاً(1/151)
( بكلام تعتذر منه ) أي لا تتكلم بشيء يوجب أن يطلب من غيرك رفع اللوم عنك بسببه
( وأجْمِع اليأس عما في أيدي الناس ) أي اعزم وصمم على قطع الأمل مما في يد غيرك من جميع الخلق فإنه يريح القلب والبدن . وإذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله قال الراغب : وأكثر ما يقال أجمع فيما يكون جمعا يتوصل إليه بالفكر نحو { أجمعوا أمركم وشركاءكم }
والإياس : القنوط وقطع الأمل
( تنبيه ) من البين أن كلا من الكلام المحوح للعذر والإياس مما في أيدي الناس مأمور به لا بقيد القيام إلى الصلاة . أهـ
(حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب ) قال : أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم رجلٌ فقال : يا رسول الله : أوصني وأوجز، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " عليك بالإياس مما في أيدي الناس ، وإياك مما يعتذر منه".
فمن زهد في الدنيا رنا بطرفه وقلبه نعيم الجنات ، وجوار الكبير المتعال.
والزهد في الدنيا هو ما كان عليه رسول الله وأصحابه، فهو ليس بتحريم الطيبات وتضييع الأموال، ولا بلبس المرقع من الثياب، ولا بالجلوس في البيوت وانتظار الصدقات، فليس الزهد أن ترفض المال وأن تكون فقيراً ، أن تكون عالةً على الناس ، أن تكون يدك هي السفلى ، ولكن الزهد أن تكسب المال وأن تجعله بيديك لا بقلبك فإن المؤمن القوي خيرٌ وأحبُ إلى الله من المؤمن الضعيف .
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :المؤمن القوي خير وأحب إلي الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كان كذا وكذا ولكن قل قدر الله وما شاء فعل فإن لو تفتح عمل الشيطان .(1/152)
ولا شك أن العمل الحلال والكسب الحلال والنفقة الحلال عبادة يتقرب بها العبد إلى الله ، بشرط أن تكون الدنيا في الأيدي، ولا تكون في القلوب، وإذا كانت الدنيا في يد العبد لا في قلبه، استوى في عينه إقبالها وإدبارها ، فلم يفرح بإقبالها، ولم يحزن على إدبارها.
[*] قال ابن القيم في وصف حقيقة الزهد:
وليس المراد ـ من الزهد ـ رفضها ـ أي الدنيا ـ من الملك، فقد كان سليمان وداود - عليهما السلام- من أزهد أهل زمانهما، ولهما من المال والملك والنساء مالهما.
وكان نبينا من أزهد البشر على الإطلاق وله تسع نسوة.
وكان علي بن أبي طالب، وعبدالرحمن بن عوف، والزبير وعثمان - رضي الله عنهم- من الزهاد مع ما كان لهم من الأموال.
فلو نظرنا إلى العشرة المبشرين بالجنة لوجدنا أن أكثرهم كانوا من أصحاب رؤوس الأموال الطائلة ومن التجار، فهذا أبو بكر وعثمان وعبد الرحمن بن عوف لو نظرنا إليهم بمنظار العصر لقيل عنهم أنهم من أصحاب الملايين، فهل تخلف أحدهم عن غزوة مع رسول الله ؟ هل ألهاهم التكاثر فمنعوا الإنفاق في سبيل الله؟ كلا والله ثم كلا، هل سعوا للرئاسة والتفاخر وتزكية النفس وطلب المدح؟ لا والله ما فعلوا، بل هم أبعد الأمة عن هذه الأمور، وكانوا يجودون بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله ولنصرة دينه ولنصرة النبي صلى الله عليه وسلم.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن بشر بن الحارث، قال: قيل لسفيان الثوري: أيكون الرجل زاهداً ويكون له المال؟ قال: نعم، إن كان إذا ابتلى صبر وإذا أعطى شكر.
[*] قال يونس بن ميسرة : " ليس الزهادة فى الدنيا بتحريم الحلال ، ولا إضاعة المال، ولكن الزهادة فى الدنيا أن تكون بما فى يد الله أوثق منك بما فى يدك، وأن تكون حالك فى المصيبة وحالك إذا لم تصب بها سواء وأن يكون مادحكم وذامّكم فى الحق سواء " .(1/153)
ففسر الزهد فى الدنيا بثلاثة أشياء كلها من أعمال القلوب لامن أعمال الجوارح، ولهذا كان أبو سليمان يقول : لاتشهد لأحد بالزهد .
أحدها : أن يكون العبد بما فى يد الله أوثق منه بما فى يد نفسه، وهذا ينشأ من صحة اليقين وقوته ، قيل لأبى حازم الزاهد: ما مالك ؟ قال : " مالان لا أخشى معهما الفقر : الثقة بالله ، واليأس مما فى أيدى الناس ".
وقيل له : أما تخاف الفقر ؟ فقل : " أنا أخاف الفقر ومولاى له ما فى السموات ، وما فى الأرض ، وما بينهما ، وما تحت الثرى ؟ " .
[*] قال الفضيل رحمه الله : أصل الزهد : الرضى عن الله عزّ وجلّ .
وقال : القنوع هو الزاهد، وهو الغنى ، فمن حقق اليقين، وثق بالله فى أموره كلها ، ورضى بتدبيره له ، وانقطع عن التعلق بالمخلوقين رجاءاً وخوفاً ، ووضعه ذلك من طلب الدنيا بالأسباب المكروهة، ومن كان كذلك كان زاهداً حقاً ، وكان من أغنى الناس ، وإن لم يكن له شىء من الدنيا ، كما قال عمار - رضي الله عنه - : كفى بالموت واعظاً ، وكفى باليقين غنى، وكفى بالعبادة شغلاً " .
[*] وقال ابن مسعود - رضي الله عنه - : " اليقين أن لا تُرضى الناس بسخط الله، ولا تحسد أحداً على رزق الله ، ولا تلم أحداً على مالم يؤتك الله ، فإن رزق الله لا يسوقه حرص حريص ، ولا يرده كراهية كاره، فإن الله يقسطه ، وعلمه ، وحكمته ، جعل الروح والفرح فى اليقين والرضى، وجعل الهم والحزن فى السخط والشك " .
الثانى : أن يكون العبد إذا أصيب بمصيبة فى دنياه : من ذهاب مال، أو ولد، أو غير ذلك ، أرغب فى ثواب ذلك مما ذهب منه من الدنيا أن يبقى له، وهذا أيضاً ينشأ من كمال اليقين.
[*] قال علىّ كرم الله وجهه : " من زهد فى الدنيا هانت عليه المصيبات ". وقال بعض السلف : لولا مصائب الدنيا لوردنا الآخرة من المفاليس .(1/154)
الثالث : أن يستوى عند العبد مادحه وذامه فى الحق، وإذا عظمت الدنيا فى قلب العبد اختار المدح وكره الذم ، وربما حمله ذلك على ترك كثير من الحق خشية الذم، على فعل كثير من الباطل رجاء المدح.
فمن استوى عنده حامده وذامه فى الحق دلّ على سقوط منزلة المخلوقين من قلبه وامتلاه من محبة الحق، وما فيه رضى مولاه، كما قال ابن مسعود - رضي الله عنه - : " اليقين أن لا ترضى الناس بسخط الله " .
وقد مدح الله عزّ وجلّ الذين يجاهدون فى سبيله ، ولا يخافون لومة لائم، وقد ورد عن السلف روايات أخرى فى تفسير الزهد.
قال الحسن : " الزاهد الذى إذا رأى أحداً قال : هو أزهد منى ". وسئل بعضهم - أظنه الإمام أحمد - عمن معه مال هل يكون زاهداً ؟ قال : " إن كان لايفرح بزيادته ولا يحزن بنقصه فهو زاهد " .
فالزاهد من أتته الدنيا راغمة صفواً عفواً وهو قادر على التنعم بها من غير نقصان جاه وقبح اسم ولا فوات حظ للنفس، فتركها خوفاً من أن يأنس بها، فيكون آنساً بغير الله ومحباً لما سوى الله، ويكون مشركاً في حب الله تعالى غيره. أو تركها طمعاً في ثواب الله في الآخرة فترك التمتع بأشربة الدنيا طمعاً في أشربة الجنة، وترك التمتع بالسراري والنسوان طمعاً في الحور العين، وترك التفرج في البساتين طمعاً في بساتين الجنة وأشجارها، وترك التزين والتجمل بزينة الدنيا طمعاً في زينة الجنة، وترك المطاعم اللذيذة طمعاً في فواكه الجنة وخوفاً من أن يقال له: " أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا" فآثر في جميع ذلك ما وعد على ما تيسر له في الدنيا عفواً صفواً لعلمه بأن ما في الآخرة خير وأبقى، وأن ما سوى هذا فمعاملات دنيوية لا جدوى لها في الآخرة أصلاً.(1/155)
لقد وعى سلفنا الصالح تلك المعاني ، وقدروها حقّ قدرها ، فترجموها إلى مواقف مشرفة نقل التاريخ لنا كثيرا منها ، وكان حالهم ما قاله الحسن البصري رحمه الله : " أدركت أقواما وصحبت طوائف ما كانوا يفرحون بشيء من الدنيا إذا أقبل ، ولا يأسفون على شيء منها إذا أدبر ، وكانت في أعينهم أهون من التراب ، كان أحدهم يعيش خمسين سنة أو ستين سنة لم يُطوَ له ثوبٌ ، ولم يُنصب له قدرٌ ، ولم يجعل بينه وبين الارض شيئاً، ولا أمَرَ مَنْ فى بيته بصنعة طعام قط ، فإذا كان الليل ، فقيام على أقدامهم يفترشون وجوههم ، تجرى دموعهم على خدودهم يناجون ربهم فى فكاك رقابهم ، كانوا إذا عملوا الحسنة دأبوا فى شكرها، وسألوا الله أن يقبلها، وإذا عملوا السيئة أحزنتهم ، وسألوا الله أن يغفرها، فلم يزالوا على ذلك ، ووالله : ما سلموا من الذنوب ولا نجوا إلا بالمغفرة ، فرحمة الله عليهم ورضوانه ".
لقد نظروا إليها بعين البصيرة ، ووضعوا نُصب أعينهم قول الله تعالى : { يا أيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور } (فاطر : 5 ) ، وقوله : { واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح } ( الكهف : 45 ) ، فهانت عليهم الدنيا بكلّ ما فيها ، واتخذوها مطيّة للآخرة ، وسبيلاً إلى الجنّة .
ومن أحسن ما قيل في الزهد كلام الحسن أو غيره: ليس الزهد في الدنيا بتحريم الحلال ولا إضاعة المال، ولكن أن تكون بما في يد الله أوثق منك بما في يدك.
فالزهد ليس تجنب المال بالكلية بل تساوي وجوده وعدمه.
فقد كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يأكل اللحم والحلوى والعسل ، ويحب النساء والطيب والثياب الحسنة .
[*] جاء رجل إلى الحسن فقال : إن لي جاراً لا يأكل الفالوذج، فقال الحسن: ولم؟ قال: يقول: لا أؤدي شكره، فقال الحسن: إن جارك جاهل، وهل يؤدي شكر الماء البارد؟.(1/156)
[*] وقد سئل الإمام أحمد: أيكون الإنسان ذا مال وهو زاهد، قال: نعم، إن كان لا يفرح بزيادته ولا يحزن بنقصانه،أهـ
[*] قال بشر الحافي : قل لمن طلب الدنيا ، تهيأ للذل.
قال بشر بن الحارث: قيل لسفيان الثوري : أيكون الرجل زاهدا ويكون له المال؟ قال : نعم إذا ابتلي صبر ، وإذا أعطي شكر.
هذا هو حقيقة الزهد فالزاهد لا يفرح من الدنيا بموجود ، ولا يأسف منها على مفقود امتثالاً لقوله تعالى : { لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ } [ الحديد : 23]
[*] وقال الحسن : ليس الزهد بإضاعة المال ولا بتحريم الحلال، ولكن أن تكون بما في يد الله أوثق منك بما في يد نفسك، وأن تكون حالك في المصيبة، وحالك إذا لم تصب بها سواء، وأن يكون مادحك وذامك في الحق سواء .
ويشهد لذلك الأحاديث الآتية :
(حديث عمرو بن العاص في صحيح الأدب المفرد) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : نعم المال الصالح للمرء الصالح .
(حديث يسار بن عُبيد في صحيح ابن ماجة) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لا بأس بالغنى لمن اتقى و الصحة لمن اتقى خير من الغنى و طيب النفس من النعيم .(1/157)
(حديث أبي كبشة الأنماري في صحيحي الترمذي وابن ماجة ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إِنَّمَا الدُّنْيَا لأَرْبَعَةِ نَفَرٍ عَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالاً وَعِلْماً فَهُوَ يَتَّقِى فِيهِ رَبَّهُ وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ وَيَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا فَهَذَا بِأَحسنِ الْمَنَازِلِ عند الله وَرجلٍ رَزَقَهُ اللَّهُ عِلْماً وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالاً فَهُوَ يَقُولُ لَوْ أَنَّ لي مَالاً لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلاَنٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ وهما في الأجرِسَوَاءٌ ، وَرجلٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالاً وَلَمْ يَرْزُقْهُ عِلْماً فَهُوَ يَخْبِطُ في مَالِهِ لاَ يَتَّقِى فِيهِ رَبَّهُ وَلاَ يَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ وَلاَ يَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا فهو بِأَسوءِ الْمَنَازِلِ عند الله وَرجلٍ لَمْ يَرْزُقْهُ اللَّهُ مَالاً وَلاَ عِلْماً فَهُوَ يَقُولُ لَوْ أَنَّ لي مَالاً لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلاَنٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ وهما في الوزر سَوَاءٌ .
هذه هي حقيقة الزهد، وعلى هذا فقد يكون العبد أغنى الناس لكنه من أزهدهم؛ لأنه لم يتعلق قلبه بالدنيا، وقد يكون آخر أفقر الناس وليس له في الزهد نصيب؛ لأن قلبه يتقطع على الدنيا.
مسألة : هل الزهد لبس الثياب المرقعة ، وصيام الدهر ، والابتعاد عن المجتمع ، أو غير ذلك ؟
الجواب :(1/158)
"ليس الزهد لبس المرقع من الثياب ، ولا اعتزال الناس والبعد عن المجتمع ، ولا صيام الدهر ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم سيد الزاهدين ، وكان يلبس الجديد من الثياب ، ويتزين للوفود وفي الجمع والأعياد ، ويخالط الناس ، ويدعوهم إلى الخير ويعلمهم أمور دينهم ، وكان ينهى أصحابه رضي الله عنهم عن صيام الدهر ، وإنما الزهد التعفف عن الحرام ، وما يكرهه الله تعالى ، وتجنب مظاهر الترف والإفراط في متع الدنيا ، والإقبال على عمل الطاعات ، والتزود للآخرة بخير الزاد ، وخير تفسير له سيرة النبي صلى الله عليه وسلم العملية .
وبالله التوفيق ، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم" انتهى .
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء .
الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز ... الشيخ عبد الرزاق عفيفي ... الشيخ عبد الله بن غديان ... الشيخ عبد الله بن قعود .
"فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء" (24/369) .
باب : درجات الزهد وأقسامه
- درجات الزهد وأقسامه :
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن إبراهيم بن أدهم: الزهد ثلاثة أصناف، فزهد فرض، وزهد فضل، وزهد سلامة، فالفرض الزهد في الحرام، والفضل الزهد في الحلال، والسلامة الزهد في الشبهات.
[*] وقال الغزالي رحمه الله في الإحياء :
الزهد في نفسه يتفاوت بحسب تفاوت قوته على درجات ثلاث:
- الدرجة الأولى وهي السفلى : منها أن يزهد في الدنيا وهو لها مشته وقلبه إليها مائل ونفسه إليها ملتفتة، ولكنه يجاهدها ويكفها، وهذا يسمى المتزهد، وهو مبدأ الزهد في حق من يصل إلى درجة الزهد بالكسب والاجتهاد، والمتزهد يذيب أولاً نفسه ثم كيسه والزاهد أولاً يذيب كيسه ثم يذيب نفسه في الطاعات لا في الصبر على ما فارقه، والمتزهد على خطر، فإنه ربما تغلبه نفسه وتجذبه شهوته فيعود إلى الدنيا وإلى الاستراحة بها في قليل أو كثير.(1/159)
- الدرجة الثانية: الذي يترك الدنيا طوعاً لاستحقاره إياها بالإضافة إلى ما طمع فيه، كالذي يترك درهماً لأجل درهمين، فإنه لا يشق عليه ذلك وإن كان يحتاج إلى انتظار قليل، ولكن هذا الزاهد يرى لا محالة زهده ويلتفت إليه، كما يرى البائع المبيع ويلتفت إليه فيكاد يكون معجباً بنفسه وبزهده، ويظن في نفسه أنه ترك شيئاً له قدر لما هو أعظم قدراً منه، وهذا أيضاً نقصان.
- الدرجة الثالثة وهي العليا: أن يزهد طوعاً ويزهد في زهده فلا يرى زهده، إذ لا يرى أنه ترك شيئاً ، لأنه عرف أن الدنيا لا شيء فيكون كمن ترك خزفة وأخذ جوهرة، فلا يرى ذلك معاوضة، ولا يرى نفسه تاركاً شيئاً والدنيا بالإضافة إلى الله تعالى نعيم الآخرة أخس من خزفة بالإضافة إلى جوهرة، فهذا هو الكمال في الزهد. وسببه كمال المعرفة، ومثل هذا الزهد آمن من خطر الالتفات إلى الدنيا، كما أن تارك الخزفة بالجوهرة أمن من طلب الإقالة في البيع.
فهذا تفاوت درجات الزهد، وكل درجة من هذه أيضاً لها درجات، إذ تصبر المتزهد يختلف ويتفاوت أيضاً باختلاف قدر المشقة في الصبر، وكذلك درجة المعجب بزهده بقدر التفاته إلى زهده.
وأما انقسام الزهد بالإضافة إلى المرغوب فيه أيضاً على ثلاث درجات:
- الدرجة السفلى : أن يكون المرغوب فيه النجاة من النار ومن سائر الآلام كعذاب القبر، ومناقشة الحساب وخطر الصراط وسائر ما بين يدي العبد من الأهوال .
- الدرجة الثانية: أن يزهد رغبة في ثواب الله ونعيمه واللذات الموعودة في جنته من الحور والقصور وغيرها، وهذا زهد الراجين، فإن هؤلاء ما تركوا الدنيا قناعة بالعدم والخلاص من الألم بل طمعوا في وجود دائم ونعيم سرمد لا آخر له.(1/160)
- الدرجة الثالثة وهي العليا: أن لا يكون له رغبة إلا في الله وفي لقائه، فلا يلتفت قلبه إلى الآلام ليقصد الخلاص منها ولا إلى اللذات ليقصد نيلها والظفر بها، بل هو مستغرق الهم بالله تعالى؛ وهو الذي أصبح وهمومه هم واحد؛ وهو الموحد الحقيقي الذي لا يطلب غير الله تعالى؛ لأن من طلب غير الله فقد عبده، وكل مطلوب معبود، وكل طالب عبد بالإضافة إلى مطلبه، وطلب غير الله من الشرك الخفي، وهذا زهد المحبين وهم العارفون لأنه لا يحب الله تعالى خاصة إلا من عرفه، وكما أن من عرف الدينار والدرهم وعلم أنه لا يقدر على الجمع بينهما لم يحب إلا الدينار، فكذلك من عرف الله وعرف لذة النظر إلى وجهه الكريم وعرف أن الجمع بين تلك اللذة وبين لذة التنعم بالحور العين والنظر إلى نقش القصور وخضرة الأشجار غير ممكن، فلا يحب إلا لذة النظر ولا يؤثر غيره، ولا تظنن أن أهل الجنة عند النظر إلى وجه الله تعالى يبقى للذة الحور والقصور متسع في قلوبهم، بل تلك اللذة بالإضافة إلى لذة نعيم أهل الجنة كلذة ملك الدنيا والاستيلاء على أطراف الأرض ورقاب الخلق بالإضافة إلى لذة الاستيلاء على عصفور واللعب به، والطالبون لنعيم الجنة عند أهل المعرفة وأرباب القلوب كالصبي الطالب للعب بالعصفور التارك للذة الملك، وذلك لقصوره عن إدراك لذة الملك لا لأن اللعب بالعصفور في نفسه أعلى وألذ من الاستيلاء بطريق الملك على كافة الخلق .أهـ
[*] قال الإمام أحمد رحمه الله : الزهد على ثلاثة أوجه : الأول ترك الحرام. وهو زهد العوام . والثاني ترك الفضول من الحلال وهو زهد الخواص والثالث : ترك ما يشغل عن الله وهو زهد العارفين .
باب : حكم الزهد
مسألة : ما حكم الزهد ؟
[*] قال ابن القيم رحمه الله الزهد أقسام:
1ـ زهد في الحرام وهو فرض عين.
2ـ وزهد في الشبهات، وهو بحسب مراتب الشبهة، فإن قويت التحق بالواجب،
إن ضعفت كان مستحباً.(1/161)
3ـ وزهد في الفضول، وهو زهد فيما لا يعني من الكلام والنظر والسؤال واللقاء وغيره.
4ـ وزهد في الناس.
5ـ وزهد في النفس، بحيث تهون عليه نفسه في الله.
6ـ وزهد جامع لذلك كله، وهو الزهد فيما سوى الله وفي كل ما يشغلك عنه.
وأفضل الزهد إخفاء الزهد.. والقلب المعلق بالشهوات لا يصح له زهد ولا ورع.
باب : فضائل الزهد
للزهد فضائلُ عظيمة ومزايا جسيمة والكتاب والسنة طافحان بما يدل على فضائل الزهد ، وإليك غيضٌ من فيض ونقطةٌ من بحر مما ورد في فضائل الزهد :
(1) من أعظم فضائل الزهد امتثال أمر الله تعالى :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
إن الذي يمعن النظر في كتاب الله تعالى إذا تَفَكَّر جلياً وتأمَّل ملياً يجد لا محالة أن الله تعالى الزهد في الدنيا وذم الرغبة فيها في غير موضع فقال تعالى: { وَفَرِحُواْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ } [ الرعد: 26] ، وقال عز وجل: { إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } [ يونس:24]، وقال: { لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ } [ الحديد: 23](1/162)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن إبراهيم بن أدهم قال : على القلب ثلاثة أغطية، الفرح والحزن والسرور، فإذا فرحت بالموجود فأنت حريص، والحريص محروم، وإذا حزنت على المفقود فأنت ساخط، والساخط معذب، وإذا سررت بالمدح فأنت معجب، والعجب يحبط العمل. ودليل ذلك كله قوله تعالى: ( لّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ عَلَىَ مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآ آتَاكُمْ وَاللّهُ لاَ يُحِبّ كُلّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ) [ الحديد : 23]
وقال تعالى حاكياً عن مؤمن آل فرعون أنه قال: { يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ } [ غافر: 39]
وقال تعالى : { بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى } ( الأعلى : 16-17 )
وقال تعالى : { تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ } ( الأنفال: من الآية : 67 ) .
(2) التأسي بالنبي - صلى الله عليه وسلم - سيد الزاهدين وإمام العابدين :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
إن من يطالع سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - سيد الأولين والآخرين يعلم علم اليقين الذي لا يخالطه شك أنه - صلى الله عليه وسلم - سيد الزاهدين وإمام العابدين و يعلم كيف كان صلى الله عليه وسلم يرقع ثوبه، ويخصف نعله، ويحلب شاته، وما شبع من خبز الشعير يومين متتابعين حتى قبض، وكان لربما ظل اليوم يتلوى لا يجد من الدَقَل [ ردئ التمر ] ما يملأ بطنه ، وهاك غيضاً من فيض ونقطةً من بحر مما ورد في ذلك :
( حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يخيط ثوبه و يخصف نعله و يعمل ما يعمل الرجال في بيوتهم .
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير :(1/163)
( كان يخيط ثوبه ويخصف نعله ويعمل ما يعمل الرجال في بيوتهم ) من الاشتغال بمهنة الأهل والنفس إرشاداً للتواضع وترك التكبر لأنه مشرف بالوحي والنبوة ومكرم بالمعجزات والرسالة وفيه أن الإمام الأعظم يتولى أموره بنفسه وأنه من دأب الصالحين .
( حديث عائشة رضي الله عنهاالثابت في صحيح الترمذي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يفلي ثوبه و يحلب شاته و يخدم نفسه .
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير :
( كان يفلي ثوبه ) بفتح فسكون من فلى يفلي كرمي يرمي ومن لازم التفلي وجود شيء يؤذي في الجملة كبرغوث وقمل فدعوى أنه لم يكن القمل يؤذيه ولا الذباب يعلوه دفعت بذلك وبعدم الثبوت ومحاولة الجمع بأن ما علق بثبوته من غيره لا منه ردت بأنه نفي أذاه وأذاه غذاؤه من البدن وإذا لم يتغذ لم يعش
( ويحلب شاته ويخدم نفسه ) عطف عام على خاص فنكتته الإشارة إلى أنه كان يخدم نفسه عموماً وخصوصاً قال المصري : ويجب حمله على أحيان فقد ثبت أنه كان له خدم فتارة يكون بنفسه وتارة بغيره وتارة بالمشاركة وفيه ندب خدمة الإنسان نفسه وأن ذلك لا يخل بمنصبه وإن جل .
(حديث أبي هريرة في صحيح البخاري) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ما بعث الله نبيا إلا رعى الغنم ، قال أصحابه وأنت ؟ فقال نعم كنت أرعاها على قراريط َ لأهل مكة.
[*] قال الإمام ابن حجر في الفتح :
( ما بعث الله نبيا إلا رعى الغنم ) :(1/164)
قال العلماء الحكمة في إلهام الأنبياء من رعى الغنم قبل النبوة أن يحصل لهم التمرن برعيها على ما يكلفونه من القيام بأمر أمتهم ولأن في مخالطتها ما يحصل لهم الحلم والشفقة لأنهم إذا صبروا على رعيها وجمعها بعد تفرقها في المرعى ونقلها من مسرح إلى مسرح ودفع عدوها من سبع وغيره كالسارق وعلموا اختلاف طباعها وشدة تفرقها مع ضعفها واحتياجها إلى المعاهدة ألفوا من ذلك الصبر على الأمة وعرفوا اختلاف طباعها وتفاوت عقولها فجبروا كسرها ورفقوا بضعيفها وأحسنوا التعاهد لها فيكون تحملهم لمشقة ذلك أسهل مما لو كلفوا القيام بذلك من أول وهلة لما يحصل لهم من التدريج على ذلك برعي الغنم وخصت الغنم بذلك لكونها أضعف من غيرها ولأن تفرقها أكثر من تفرق الإبل والبقر لإمكان ضبط الإبل والبقر بالربط دونها في العادة المألوفة ومع أكثرية تفرقها فهي أسرع انقياد من غيرها وفي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم لذلك بعد أن علم كونه أكرم الخلق على الله ما كان عليه من عظيم التواضع لربه والتصريح بمنته عليه وعلى إخوانه من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليه وعلى سائر الأنبياء
( كنت أرعاها على قراريط َ لأهل مكة ) :
يعني كل شاة بقيراط يعني القيراط الذي هو جزء من الدينار أو الدرهم .
( حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في الصحيحين ) قالت : " ما شبع آل محمد - صلى الله عليه وسلم - منذ قدم المدينة من خبز بُرٍ ثلاث ليال تباعاً حتى قبض " .
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت الثابت في الصحيحين) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا .
قوتاً : أي شيءٌ يسدُ الرمق .
[*] قال الإمام ابن حجر في الفتح :
قوتاً :أي اكفهم من القوت بما لا يرهقهم الى ذل المسألة ولا يكون فيه فضول تبعث على الترفه والتبسط في الدنيا وفيه حجة لمن فضل الكفاف لأنه إنما يدعو لنفسه وآله بأفضل الأحوال .(1/165)
( حديث عبد الله بن عمر الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (قد أفلح من أسلم ورُزق كفافاً و قنَّعه الله بما آتاه .
[*] قال الإمام النووي في شرح صحيح مسلم :
ورُزق كفافاً : الكفاف الكفاية بلا زيادة ولا نقص، وفيه فضيلة هذه الأوصاف :
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
( قد أفلح من أسلم ورزق كفافاً ) أي ما يكف عن الحاجات ، ويدفع الضرورات والفاقات ، ولا يلحقه بأهل الترفهات . قال القاضي : الفلاح الفوز بالبغية
( وقنعه اللّه بما آتاه ) بمد الهمزة أي جعله قانعاً بما أعطاه إياه ولم يطلب الزياد لمعرفته أن رزقه مقسوم لن يعدو ما قدر له والفلاح الفوز بالبغية في الدارين والحديث قد جمع بينهما والمراد بالرزق الحلال منه فإن المصطفى صلى اللّه تعالى عليه وعلى آله وسلم مدح المرزوق وأثبت له الفلاح وذكر الأمرين وقيد الثاني بقنع أي رزق كفافاً وقنعه اللّه بالكفاف فلم يطلب الزيادة وأطلق الأوّل ليشمل جميع ما يتناوله الإسلام ذكره الطيبي وصاحب هذه الحالة معدود من الفقراء لأنه لا يترفه في طيبات الدنيا بل يجاهد نفسه في الصبر على القدر الزائد على الكفاف فلم يفته من حال الفقراء إلا السلامة من قهر الرجال وذل المسألة .
(حديث عبيد الله بن محصن الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :( من أصبح منكم آمناً في سربه معافى في جسده عنده قوتُ يومه فكأنما حيزت له الدنيا .
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
( من أصبح منكم آمنا في سربه ) بكسر السين على الأشهر أي في نفسه وروي بفتحها أي في مسلكه وقيل بفتحتين أي في بيته
( معافى في جسده ) أي صحيحاً بدنه(1/166)
( عنده قوت يومه ) أي غذاؤه وعشاؤه الذي يحتاجه في يومه ذلك ، يعني من جمع اللّه له بين عافية بدنه وأمن قلبه حيث توجه وكفاف عيشه بقوت يومه وسلامة أهله فقد جمع اللّه له جميع النعم التي من ملك الدنيا لم يحصل على غيرها فينبغي أن لا يستقبل يومه ذلك إلا بشكرها بأن يصرفها في طاعة المنعم لا في معصية ولا يفتر عن ذكره
( فكأنما حيزت ) بكسر المهملة
( له الدنيا ) أي ضمت وجمعت
( بحذافيرها ) أي بجوانبها أي فكأنما أعطي الدنيا بأسرها ، ومن ثم قال نفطويه : إذا ما كساك الدهر ثوب مصحة * ولم يخل من قوت يحلى ويعذب فلا تغبطن المترفين فإنه * على حسب ما يعطيهم الدهر يسلب وقال : إذا القوت يأتي لك والصحة والأمن * وأصبحت أخا حزن فلا فارقك الحزن وفيه حجة لمن فضل الفقر على الغنى .
( حديث سلمان الفارسي رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ليكف الرجل منكم كزاد الراكب .
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
( ليكف الرجل منكم ) من الدنيا(1/167)
( كزاد الراكب ) يعني ليكفك من الدنيا ما يبلغك إلى الآخرة فالمؤمن يتزود منها والفاجر يستمتع فيها والأصل أن من امتلأ قلبه بالإيمان استغنى عن كثير من مؤن دنياه واحتمل المشاق في تكثير مؤن أخراه ، وفيه تنبيه على أن الإنسان مسافر لا قرار له فيحمل ما يبلغه المنزلة بين يديه مرحلة مرحلة ويقتصر عليه وفي بعض الكتب المنزلة ابن آدم خذ من الددنيا ما شئت وخذ من الهم أضعافه . ( تنبيه ) كان بعض العارفين إذا انقضى فصل الشتاء أو الصيف يتصرف في الثياب الذي يلبسها في ذلك الفصل ولا يدخرها إلى الفصل الآخر وهو مقام عيسوي فإن المسيح عليه السلام لم تكن له ثياب تطوى زيادة على ما عليه من جبة صوف أو قطن وكانت مخدته ذراعيه وقصعته بطنه ووضع لبنة على لبنة من طين تحت رأسه فقال له ابليس قد رغبت يا عيسى في الدنيا بعد ذلك الزهد فرمى بهما واستغفر وتاب ، وكان أبو حذيفة يقول : أحب الأيام إلي يوم يأتيني الخادم فيقول : ما في بيتنا اليوم شيء نأكله ، هذا تأكيد شديد في الترغيب في الزهد ، قال العلائي : والباعث عليه قصر الأمل ولهذا أشار إليه بقوله كزاد الراكب تشبيهاً للإنسان في الدنيا بحال المسافر .
وكان يربط الحجر على بطنه من الجوع :
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يربط الحجر على بطنه من الغرث .
الغرث : الجوع(1/168)
(حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب ) قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فرأيته متغيرا ؟ فقلت بأبي أنت ما لي أراك متغيرا قال ما دخل جوفي ما يدخل جوف ذات كبد منذ ثلاث ، قال فذهبت فإذا يهودي يسقي إبلا له فسقيت له على كل دلو بتمرة فجمعت تمرا فأتيت به النبي صلى الله عليه وسلم فقال من أين لك يا كعب فأخبرته فقال النبي صلى الله عليه وسلم أتحبني يا كعب قلت بأبي أنت نعم ، قال إن الفقر أسرع إلى من يحبني من السيل إلى معادنه وإنه سيصيبك بلاء فأعد له تجفافا ، قال ففقده النبي صلى الله عليه وسلم فقال ما فعل كعب قالوا مريض فخرج يمشي حتى دخل عليه فقال له أبشر يا كعب فقالت أمه هنيئا لك الجنة يا كعب فقال النبي صلى الله عليه وسلم من هذه المتألية على الله عز وجل قلت هي أمي يا رسول الله ، قال ما يدريك يا أم كعب لعل كعبا قال ما لا ينفعه ومنع ما لا يغنيه .
وكان - صلى الله عليه وسلم - يمر على أهله الهلال ثم الهلال ثم الهلال لا يوقد في بيتهم النار، طعامهم الأسودان: التمر والماء
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في الصحيحين ) أنها قالت لعروة: ابن أختي، إن كنا لننظر إلى الهلال، ثم الهلال، ثلاثة أهلة في شهرين، وما أوقدت في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار. فقلت: يا خالة، ما كان يُعَيِّشُكُم؟ قالت: الأسودان التمر والماء، إلا أنه قد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم جيران من الأنصار، كانت لهم منائح، وكانوا يمنحون رسول الله صلى الله عليه وسلم من ألبانهم فيسقينا .
[*] قال الإمام ابن حجر في الفتح :
إن كنا لننظر إلى الهلال، ثم الهلال، ثلاثة أهلة في شهرين : المراد بالهلال الثالث هلال الشهر الثالث وهو يرى عند انقضاء الشهرين وبرؤيته يدخل أول الشهر الثالث .
وما أوقدت في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار : لا يوقد في شيء من بيوته نار لا لخبز ولا لطبخ .(1/169)
ما كان يُعَيِّشُكُم ؟ بضم أوله يقال أعاشه الله أي أعطاه العيش .
الأسودان التمر والماء : الأسودان يطلق على التمر والماء والسواد للتمر دون الماء فنعتا بنعت واحد تغليبا وإذا اقترن الشيئان سميا باسم أشهرهما .
منائح : جمع منيحة بنون وحاء مهملة
( حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري ) قال : ما أكل النبي صلى الله عليه وسلم خبزاً مرققاً، ولا شاة مسموطة حتى لقي الله .
[*] قال الحافظ بن حجر في الفتح :
ما أكل النبي صلى الله عليه وسلم خبزاً مرققاً : وأكل المرقق إنما هو لدفع طيبات الدنيا اختيارا لطيبات الحياة الدائمة .
ولا شاة مسموطة : المسموط الذي ازيل شعره بالماء المسخن وشوى بجلده أو يطبخ وإنما يصنع ذلك في الصغير السن الطري وهو من فعل المترفين من وجهين أحدهما المبادرة إلى ذبح ما لو بقي لازداد ثمنه وثانيهما أن المسلوخ ينتفع بجلده في اللبس وغيره .
( حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري ) قال : ما علمت النبي صلى الله عليه وسلم أكل على سُكُرُّجَةٍ قطُّ، ولا خُبِزَ له مرقَّق قطُّ، ولا أكل على خِوَان قطُّ. قيل لقتادة: فعلى ما كانوا يأكلون؟ قال: على السُّفَر.
[*] قال صاحب تحفة الأحوذي :
( سُكُرُّجَةٍ) بِضَمِّ السِّينِ وَالْكَافِ وَالرَّاءِ وَالتَّشْدِيدِ إِنَاءٌ صَغِيرٌ يُؤْكَلُ فِيهِ الشَّيْءُ الْقَلِيلُ مِنَ الْأُدْمِ وَهِيَ فَارِسِيَّةٌ، وَأَكْثَرُ مَا يُوضَعُ فِيهِ الْكَوَامِخُ وَنَحْوُهَا كَذَا فِي النِّهَايَةِ.(1/170)
قَالَ الْعِرَاقِيُّ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ: تَرْكُهُ الْأَكْلَ فِي السُّكُرُّجَةِ إِمَّا لِكَوْنِهَا لَمْ تَكُنْ تُصْنَعُ عِنْدَهُمْ إِذْ ذَاكَ أَوِ اسْتِصْغَارًا لَهَا؛ لِأَنَّ عَادَتَهُمْ لِلِاجْتِمَاعِ عَلَى الْأَكْلِ أَوْ لِأَنَّهَا كَانَتْ تُعَدُّ لِوَضْعِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي تُعِينُ عَلَى الْهَضْمِ وَلَمْ يَكُونُوا غَالِبًا يَشْبَعُونَ فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ حَاجَةٌ بِالْهَضْمِ انْتَهَى.
(عَلَى خِوَانٍ) بِكَسْرِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَيُضَمُّ أَيْ مَائِدَةٍ.
( حديث ابن عباس رضي الله عنهما الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يجلس على الأرض و يأكل على الأرض و يعتقل الشاة و يجيب دعوة المملوك على خبز الشعير .
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
( كان يجلس على الأرض ) أي من غير حائل
( ويأكل على الأرض ) من غير مائدة ولا خوان إشارة إلى طلب التساهل في أمر الظاهر وصرف الهمم إلى عمارة الباطن وتطهير القلوب وتأسى به أكابر صحبه فكانوا يصلون على الأرض في المساجد ويمشون حفاة في الطرقات ولا يجعلون غالباً بينهم وبين التراب حاجزاً في مضاجعهم قال الغزالي : وقد اتنهت النوبة الآن إلى طائفة يسمون الرعونة نظافة ويقولون هي مبنى الدين فأكثر أوقاتهم في تزيين الظاهر كفعل الماشطة بعروسها والباطن خراب ولا يستنكرون ذلك ولو مشى أحدهم على الأرض حافياً أو صلى عليها بغير سجادة مفروشة أقاموا عليه القيامة وشددوا عليه النكير ولقبوه بالقذر وأخرجوه من زمرتهم واستنكفوا عن مخالطته فقد صار المعروف منكراً والمنكر معروفاً
( ويعتقل الشاة )أي يجعل رجليه بين قوائمها ليحلبها إرشاداً إلى التواضع وترك الترفع .(1/171)
( ويجيب دعوة المملوك على خبز الشعير ) زاد في رواية والإهالة السنخة أي الدهن المتغير الريح وعلمه ذلك أنها بإخبار الداعي أو للعلم بفقره ورثاثة حاله أو مشاهدة غالب مأكوله ونحو ذلك من القرابين الخالية فكان لا يمنعه ذلك من إجابته وإن كان حقيراً وهذا من كمال تواضعه ومزيد براءته من سائر صنوف الكبر وأنواع الترفع .
وكان يقول: (اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة
(حديث سهل بن سعد رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخندق، وهم يحفرون، ونحن ننقل التراب على أكتادنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم لا عيش الا عيش الآخرة فاغفر للمهاجرين والأنصار).
( حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيح مسلم ) قالت: إنما كان فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ينام عليه أدماً حشوه ليف.
[*] قال الإمام النووي في شرح صحيح مسلم :
وفي الحديث ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من الزهادة في الدنيا والإعراض عن متاعها وملاذها وشهواتها وفاخر لباسها ونحوه واجتزائه بما يحصل به أدنى التجزية في ذلك كله، وفيه الندب للاقتداء به صلى الله عليه وسلم في هذا وغيره.
[*] وقال العلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:
وَالْأَدَمُ بِفَتْحَتَيْنِ: اسْمٌ لِجَمْعِ الْأَدِيمِ وَهُوَ الْجِلْدُ الْمَدْبُوغُ عَلَى مَا فِي الْمُغْرِبِ(1/172)
(حَشْوُهُ لِيفٌ) : قَالَ فِي الْقَامُوسِ: لِيفُ النَّخْلِ بِالْكَسْرِ مَعْرُوفٌ. وَقَالَ فِي الصُّرَاحِ لِيفٌ بِالْكَسْرِ يوست درخت خرما. وَفِي الْحَدِيثِ جَوَازُ اتِّخَاذِ الْفِرَاشِ،، وَالْوِسَادَةِ وَالنَّوْمِ عَلَيْهَا وَالِارْتِفَاقِ بِهَا، قَالَهُ النَّوَوِيُّ. قَالَ الْقَارِيُّ: الْأَظْهَرُ أَنَّهُ يُقَالُ فِيهِ بِالِاسْتِحْبَابِ لِمُدَاوَمَتِهِ عَلَيْهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلِأَنَّهُ أَكْمَلُ لِلِاسْتِرَاحَةِ الَّتِي قُصِدَتْ بِالنَّوْمِ لِلْقِيَامِ عَلَى النَّشَاطِ فِي الْعِبَادَةِ.
(حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة ) قال نام رسول الله صلى الله عليه وسلم على حصير فقام وقد أثر في جنبه قلنا يا رسول الله لو اتخذنا لك وطاء فقال ما لي وللدنيا ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها .
[*] قال صاحب تحفة الأحوذي :
( فَقَامَ ) أَيْ عَنِ النَّوْمِ
( وَقَدْ أَثَّرَ ) أَيْ أَثَّرَ الْحَصِيرُ
( لَوِ اتَّخَذْنَا لَكَ وِطَاءً ) بِكَسْرِ الجزء السابع الْوَاوِ وَفَتْحِهَا كَكِتَابٍ وَسَحَابٍ أَيْ فِرَاشًا وَكَلِمَةُ ( لَوْ ) تَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ لِلتَّمَنِّي وَأَنْ تَكُونَ لِلشَّرْطِيَّةِ وَالتَّقْدِيرُ لَوِ اتَّخَذْنَا لَكَ بِسَاطًا حَسَنًا وَفِرَاشًا لَيِّنًا لَكَانَ أَحْسَنَ مِنَ اضْطِجَاعِكَ عَلَى هَذَا الْحَصِيرِ الْخَشِنِ(1/173)
( مَالِي وَلِلدُّنْيَا ) قَالَ الْقَارِي: مَا نَافِيَةٌ أَيْ لَيْسَ لِي أُلْفَةٌ وَمَحَبَّةٌ مَعَ الدُّنْيَا وَلَا لِلدُّنْيَا أُلْفَةٌ وَمَحَبَّةٌ مَعِي حَتَّى أَرْغَبَ إِلَيْهَا، وَأَنْبَسِطُ عَلَيْهَا وَأَجْمَعُ مَا فِيهَا وَلَذَّتِهَا أَوِ اسْتِفْهَامِيَّةٌ أَيْ: أَيُّ أُلْفَةٍ وَمَحَبَّةٍ لِي مَعَ الدُّنْيَا أَوْ أَيُّ شَيْءٍ لِي مَعَ الْمَيْلِ إِلَى الدُّنْيَا أَوْ مَيْلِهَا إِلَيَّ فَإِنِّي طَالِبُ الْآخِرَةِ وَهِيَ ضَرَّتُهَا الْمُضَادَّةُ لَهَا. قَالَ وَاللَّامُ فِي لِلدُّنْيَا مُقْحَمَةٌ لِلتَّأْكِيدِ إِنْ كَانَ الْوَاوُ بِمَعْنَى مَعَ وَإِنْ كَانَ لِلْعَطْفِ فَالتَّقْدِيرُ مَالِي مَعَ الدُّنْيَا وَمَا لِلدُّنْيَا مَعِي
( { اسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا } (1) ) وَجْهُ التَّشْبِيهِ سُرْعَةُ الرَّحِيلِ وَقِلَّةُ الْمُكْثِ وَمِنْ ثَمَّ خَصَّ الرَّاكِبَ.
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيح الترغيب والترهيب ) قالت دخلت علي امرأة من الأنصار فرأت فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم قطيفة مثنية فبعثت إلي بفراش حشوه الصوف فدخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ما هذا يا عائشة قالت قلت يا رسول الله فلانة الأنصارية دخلت فرأت فراشك فذهبت فبعثت إلي بهذا فقال رُدِّيْه يا عائشة فو الله لو شئت لأجرى الله معي جبال الذهب والفضة .
( حديث أبي بردة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) قال * دخلت على عائشة فأخرجت إلينا إزارا غليظا مما يصنع باليمن وكساء من التي يسمونها الملبدة قال فأقسمت بالله إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبض في هذين الثوبين .
[*] قال الإمام النووي في شرح صحيح مسلم :
__________
(1) - سنن أبي داود اللباس (4104).(1/174)
الملبدة : قال العلماء الملبد بفتح الباء وهو المرقع، يقال: لبدت القميص ألبده بالتخفيف فيهما، ولبدته ألبده بالتشديد، وقيل هو الذي ثخن وسطه حتى صار كاللبد.
( حديث عمرو بن الحارث رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري ) قال: ما ترك النبي صلى الله عليه وسلم دينارا، ولا درهما، ولا عبدا، ولا أمة، إلا بغلته البيضاء التي كان يركبها، وسلاحه، وأرضا جعلها لابن السبيل صدقة .
{ تنبيه } : وهذا مثل أعلى في الزهد في الدنيا والتقلل من متاعها , فلقد كان بإمكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يكون أغنى رجل في العرب وربما في العالم , فلقد أفاء الله تعالى عليه في الغزوات أموالا عظيمة, ويكفي مثالا على ذلك غزوة حنين حيث كان يعطي الرجل الواحد مابين جبلين من الغنم والإبل, وأعطى عددا من زعماء العرب وأكابرهم كل واحد مائة من الإبل ولم يدخر لنفسه من ذلك شيئا, والْتَحق - صلى الله عليه وسلم - بالرفيق الأعلى وهو على تلك الصفة المذكورة من التقشُّف والزهد البالغ .
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( لو أن عندي مثلَ أحدٍ ذهباٍ ما يسرني أن لا يمَّر عليَّ ثلاث وعندي منه شيءٌ إلا شيءٌ أرْصُدُه لدين .
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير .
( لو أن عندي مثلَ أحدٍ) أي جبل أحد
( ذهباً ) بالنصب على التمييز قال ابن مالك بوقوع التمييز بعد مثل قليل وجواب لو
( ما يسرني ) من السرور بمعنى الفرح
( أن لا يمر عليَّ ) بالتشديد
( ثلاث ) من الليالي ويجوز الأيام بتكلف
( وعندي منه شيء ) أي من الذهب ، وفي التقييد بثلاث مبالغة في سرعة الإنفاق
( إلا شيء أرصده ) بضم الهمزة وكسر الصاد أعدَّه(1/175)
( لدين ) أي أحفظه لأداء دين لأنه مقدم على الصدقة واستثنى الشيء من الشيء لكون الثاني مقيداً خاصاً ورفعه لكونه جواب لو في حكم النفي وجعل لو هنا للتمني متعقب بالرد وخص الذهب بضرب المثل لكونه أشرف المعادن وأعظم حائل بين الخليقة وبين فوزها الأكبر يوم معادها وأعظم شيء عصى اللّه به وله قطعت الأرحام وأريقت الدماء واستحلت المحارم ووقع التظالم وهو المرغب في الدنيا المزهد في الآخرة وكم أميت به من حق وأحيي به من باطل ونصر به ظالم وقهر به مظلوم فمن سره أن لا يكون عنده منه شيء فقد آثر الآخرة .
(3) أن الله تعالى وصف أهله بالعلم وهو غاية الثناء :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
قال تعالى : { فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ } [ القصص 79،80]
(4) أن الله تعالى وصف الكفار أنهم يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ
قال تعالى : { وَوَيْلٌ لِّلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ } * الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُوْلَئِكَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ } [ إبراهيم 2، 3]
فمفهومه أن المؤمن هو الذي يتصف بنقيضه وهو أن يستحب الآخرة على الحياة الدنيا.
(5) من كانت الآخرة همّه جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة بنص السنة الصحيحة :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ(1/176)
( حديث أنس بن مالك رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من كانت الآخرة همّه جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة ، ومن كانت الدنيا همّه جعل الله فقره بين عينيه ، وفرَّق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قُدِّر له .
[ من كانت الآخرة همّه ] : يعني: أي شغله الشاغل ،يعمل لها ويرغب فيها عن الآخرة ،كان جزائه ما يلي :
جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة :
[ ومن كانت الدنيا همّه ] : فالإنسان مخلوق من أجل العبادة، فإذا نسي هذا الأمر وأصبح نهماً على الدنيا يريد أن يجمعها من أي جهة كانت، وأصبحت هذه الدنيا همه الوحيد فهذا جزاؤه [جعل الله فقره بين عينيه ، وفرَّق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قُدِّر له ]
[جعل الله فقره بين عينيه ] : يعني: أنه دائماً مستحضر الفقر يرى الفقر بين عينيه، مهما وجد معه من المال،
[ وفرَّق عليه شمله ] : فالذي يجمع لك الأمور ويؤلف بين القلوب هو الله سبحانه وتعالى، فالإنسان يجمع من شمال ويمين وربنا يفرق عليه هذا كله ما دام همه الوحيد .
[ولم يأته من الدنيا إلا ما قُدِّر له ] : فلا تتعب نفسك وتحملها فوق طاقتها فتقصر في عبادة الله سبحانه، وتقول: المال المال، ولكن ابحث عن المال من حلال، واحذر الحرام، واحذر أن تضيع الدين وتضيع الطاعة فيضيع منك الجميع الدنيا والآخرة.
(حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجه ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من جعل الهموم هماً واحدا هم المعاد كفاه الله هم دنياه، ومن تشعبت به الهموم في أحوال الدنيا لم يبال الله في أي أوديته هلك .(1/177)
من جعل الهموم هماً واحدا هم المعاد : ولو أن كلاً منا في قلبه الآخرة، فسيدرك أن الله سبحانه على كل عمل يقوم به، فإنه إذا قام للصلاة تذكر: الله سيحاسبني على هذه الصلاة فيحسنها، وإذا صام أحسن الصيام، وإذا عمل أي عمل من الأعمال أتقن ذلك العمل، ولا من أجل أن يأخذ الجزاء من الناس، ليس من أجل أن يترقى، ولكن ابتغاء مرضات الله سبحانه وتعالى؛ لأن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه، فإذا كانت الآخرة على بال الإنسان دائماً فإن الله سوف يكفيه أمر دنياه، قال: (كفاه الله هم دنياه).
ومن تشعبت به الهموم : يعني: نسي الآخرة وبدأ يفكر يريد أن يأكل ويشرب ويلبس ويريد كذا وكذا، ويعمل طول النهار وهو يفكر في أمور الدنيا، ناسياً ربه سبحانه فهذا يكون حاله كما في الحديث:
( لم يبال الله في أي أوديته هلك ) : يعني: في أي مكان هلك لا يبالي الله عز وجل به. فالمؤمن قريب من الله، والله يحبه ويفرح بتوبته وبإقباله عليه، أما الإنسان البعيد عن الله سبحانه وتعالى فإن يهلك في أي واد لا يبالي الله به.
(6) إن من خير الناس من يشنأ الدنيا ويحب الآخرة بنص السنة الصحيحة :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
( حديث عبد الله ابن عمرو رضي الله عنهما الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : خير الناس ذو القلب المخموم و اللسان الصادق قيل: ما القلب المخموم ؟ قال: هو التقي النقي الذي لا إثم فيه و لا بغي و لا حسد قيل: فمن على أثره ؟ قال: الذي يشنأ الدنيا و يحب الآخرة قيل: فمن على أثره ؟ قال: مؤمن في خلق حسن .فمن على أثره ؟ قال: الذي يشنأ الدنيا و يحب الآخرة : ومفهوم هذا أن شر الناس الذي يحب الدنيا.
كلمات ينبغي أن تكتب بماء الذهب، ونور لا يخرج إلا من مشكاة النبوة، إنها دعوة لإرشاد النفس إلى طريق الخير دعوة امتزجت بالإخلاص المحض .(1/178)
( مخموم القلب ): يقال: خممت الشيء إذا كنسته، وخممت البيت إذا كنسته، مخموم القلب أي أنه يزيل ما علق بقلبه أول بأول، مثلما تكنس البيت وتزيل ما به من النجاسات والقاذورات.
( هو التقي النقي الذي لا إثم فيه و لا بغي و لا حسد ): فعلى المسلم أن يربي نفسه على خلق العفو والصفح ، وسلامة الصدر من شوائب الغل والحسد ، ذلك الحسد الآفة العظيمة والمرض العضال ، من سَلِمَ منه فقد سلم ، وهو مثل الغيرة يثير الحقد والكراهية ، ويدفع إلى تمني وقوع الأذى للشخص المحسود .
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان الثوري. قال قال عيسى بن مريم عليه السلام: حب الدنيا رأس كل خطيئة، والمال فيه داء كثير، قيل: يا روح الله: ما داؤه ؟ قال: لا يؤدي حقه، قالوا: فإن أدى حقه. قال: لا يسلم من الفخر والخيلاء، قالوا: فإن سلم من الفخر والخيلاء ؟ قال: يشغله استصلاحه عن ذكر الله.(1/179)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن إبراهيم بن أدهم يقول: ليس من أعلام الحب أن تحب ما يبغض حبيبك، ذم مولانا الدنيا فمدحناها، وأبغضها فأحببناها، وزهدنا فيها فآثرناها ورغبنا في طلبها، وعدكم خراب الدنيا فحصنتموها، ونهيتم عن طلبها فطلبتموها، وأنذركم الكنوز فكنزتموها دعتكم إلى هذه الغرارة دواعيها، فأجبتم مسرعين مناديها، خدعتكم بغرورها ومنتكم، فأنفذتم خاضعين لأمنيتها تتمرغون في زهواتها، وتتمتعون في لذاتها، وتتقلبون في شهواتها، وتتلوثون بتبعاتها، تنشبون بمخالب الحرص عن خزائنها، وتحفرون بمعاول الطمع في معادنها، وتبنون بالغفلة في أماكنها وتحصنون بالجهل في مساكنها، تريدون أن تجاوروا الله في داره، وتحطوا رحالكم بقربه، بين أوليائه وأصفيائه، وأهل ولايته، وأنتم غرقى في بحار الدنيا حيارى، ترتعون في زهواتها، وتتمتعون في لذاتها، وتتنافسون في غمراتها، فمن جَمْعِها ما تشبعون، ومن التنافس فيها ما تَمِلُّون، كذبتم و الله أنفسكم وغرتكم ومنتكم الأماني، وعللتكم بالتواني، حتى لا تعطوا اليقين من قلوبكم، والصدق من نياتكم، وتتنصلون إليه من مساوىء ذنوبكم وتعصوه في بقية أعماركم ، أما سمعتم الله تعالى يقول في محكم كتابه : ( أَمْ نَجْعَلُ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتّقِينَ كَالْفُجّارِ ) [ ص : 28]. لا تنال جنته إلا بطاعته، ولا تنال ولايته إلا بمحبته، ولا تنال مرضاته إلا بترك معصيته، فإن الله تعالى قد أعد المغفرة للأوابين، وأعد الرحمة للتوابين، وأعد الجنة للخائفين، وأعد الحور للمطيعين، وأعد رؤيته للمشتاقين، قال تعالى: ( وَإِنّي لَغَفّارٌ لّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحَاً ثُمّ اهْتَدَىَ ) [ طه : 82]. من طريق العمى إلى طريق الهدى .
(7) إن الزهد في الدنيا من أسباب نيل حب الله تعالى الذي هو غاية كل مؤمن :(1/180)
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
(حديث سهل بن سعد الثابت في صحيح ابن ماجة) قال أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلٌ فقال يا رسول الله : دلني على عملٍ إذا عملته أحبني الله وأحبني الناس فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ازهد في الدنيا يحبك الله وازهد فيما عند الناس يحبك الناس .
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
( ازهد ) من الزهد بكسر أوله وقد يفتح ، وهو لغة : الإعراض عن الشيء احتقاراً ، وشرعاً الاقتصار على قدر الضرورة مما يتيقن حله . وقيل أن لا يطلب المفقود حتى يفقد الموجود
( في الدنيا ) باستصغار جملتها واحتقار جميع شأنها لتحذير الله تعالى منها واحتقاره لها ، فإنك إن فعلت ذلك
( يحبك الله ) لكونك أعرضت عما أعرض عنه ولم ينظر إليه منذ خلقه . وفي إفهامه أنك إذا أحببتها أبغضك ، فمحبته مع عدم محبتها ولأنه سبحانه وتعالى يحب من أطاعه ، ومحبته مع محبة الدنيا لا يجتمعان ، وذلك لأن القلب بيت الرب فلا يحب أن يشرك في بيته غيره ، ومحبتها الممنوعة هي إيثارها بنيل الشهوات لا لفعل الخير والتقرب بها ،والمراد بمحبته غايتها من إرادة الثواب ، فهي صفة ذاتية أو الإثابة فهي صفة فعلية ( وازهد فيما عند الناس ) منها
( يحبك الناس ) لأن قلوبهم مجبولة على حبها مطبوعة عليها ومن نازع إنساناً في محبوبه كرهه وقلاه ، ومن لم يعارضه فيه أحبه واصطفاه ولهذا قال الحسن البصري لا يزال الرجل كريماً على الناس حتى يطمع في دنياهم فيستخفون به ويكرهون حديثه . وقيل لبعض أهل البصرة : من سيدكم؟ قال الحسن ، قال بم سادكم؟ قال : احتجنا لعلمه واستغنى عن دنيانا
ماأعظم هذه الوصية النبوية ، وما أشد حاجتنا إلى فهمها ، والعمل بمقتضاها ، حتى ننال بذلك المحبة بجميع صورها .(1/181)
{ تنبيه } : الزهد سبباً للمحبة، فمن أحبه الله تعالى فهو في أعلى الدرجات؛ فينبغي أن يكون الزهد في الدنيا من أفضل المقامات، ومفهومه أيضاً أن من محب الدنيا متعرض لبغض الله تعالى .
أقوال السلف في الزهد :
ولما كان صلى الله عليه وسلم هو الأسوة والقدوة، فقد سار على دربه الأفاضل، فعن على رضي الله عنه أنه قال: طوبى للزاهدين في الدنيا والراغبين في الآخرة أولئك قوم اتخذوا الأرض بساطاً، وترابها فراشاً، وماءها طيباً، والكتاب شعاراً، والدعاء دثاراً، ورفضوا الدنيا رفضاً.
[*] وكتب أبو الدرداء إلى بعض إخوانه، أما بعد: فإني أوصيك بتقوى الله، والزهد في الدنيا، والرغبة فيما عند الله، فإنك إذا فعلت ذلك أحبك الله لرغبتك فيما عنده، وأحبك الناس لتركك لهم دنياهم، والسلام .
[*] وقال أبو الدرداء حين تولى القضاء في الشام :
في خلافة عثمان ، أصبح أبو الدرداء واليا للقضاء في الشام ، فخطب بالناس يوما وقال : يا أهل الشام ، أنتم الإخوان في الدين ، والجيران في الدار ، والأنصار على الأعداء ، و لكن مالي أراكم لا تستحيون ؟؟
تجمعون مالا تأكلون ، وتبنون مالا تسكنون ، وترجون مالا تبلغون ، قد كانت القرون من قبلكم يجمعون فيوعون ، ويؤملون فيطيلون ، ويبنون فيوثقون ، فأصبح جمعهم بورا ، وأملهم غرورا ، وبيوتهم قبورا أولئك قوم عاد ، ملئوا ما بين عدن إلى عمان أموالا وأولادا .
ثم ابتسم بسخرية لافحة: من يشتري مني تركة أل عاد بدرهمين ؟!
[*] وعن عروة بن الزبير أن أم المؤمنين عائشة جاءها يوماً من عند معاوية ثمانون ألفاً، فما أمسى عندها درهم، قالت لها جاريتها: فهلا اشتريت لنا منه لحماً بدرهم؟ قالت: لو ذكرتني لفعلت .
[*] قال ابن مسعود رضي الله عنه: الدنيا دار من لا دار له، ومال من لا مال له، ولها يجمع من لا علم له.
وقال أيضاً : ركعتين من زاهد قلبه خير له وأحب إلى الله من عبادة المتعبدين المجتهدين إلى آخر الدهر أبداً سرمداً.(1/182)
وقال ابن مسعود لأصحابه : أنتم أكثر صلاة وصوماً وجهاداً من أصحاب محمد ، وهم كانوا خيراً منكم ، قالوا : كيف ذلك ؟ قال : كانوا أزهد منكم في
الدنيا وأرغب منكم في الآخرة.
[*] وقال عمر رضي الله عنه: الزهادة في الدنيا راحة القلب والجسد.
ولما قدم عمر رضي الله عنه الشام تلقاه الجنود وعليه إزار وخفان وعمامة، وهو آخذ برأس راحلته يخوض الماء، فقالوا: يا أمير المؤمنين، يلقاك الجنود وبطارقة الشام وأنت على حالتك هذه، فقال: (إنا قوم أعزنا الله بالإسلام، فلن نلتمس العز بغيره) ودخل رجل على أبي ذر رضي الله عنه فجعل يقلب بصره في بيته، فقال يا أبا ذر: ما أرى في بيتك متاعاً، ولا أثاثاً، فقال: إن لنا بيتاً نوجه إليه صالح متاعنا وقال: إن صاحب المنزل لا يدعنا فيه.
[*] وقال على رضي الله عنه : تزوجت فاطمة ومالي ولها فراش إلا جلد كبش، كنا ننام عليه بالليل، ونعلف عليه الناضح (البعير) بالنهار ومالي خادم غيرها، ولقد كانت تعجن، وإن قصتها لتضرب حرف الجفنة من الجهد الذي بها.
وقال أيضاً : إن الدنيا قد ارتحلت مدبرة، وإن الآخرة قد ارتحلت مقبلة، ولكل منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب وغداً حساب ولا عمل، وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [البقرة:197]
[*] وكان عمرو بن العاص - رضي الله عنه- يخطب بمصر ويقول: ما أبعد هديكم من
هدي نبيكم صلى الله عليه وسلم، أما هو فكان أزهد الناس في الدنيا وأما أنتم فأرغب الناس فيها.
[*] ولما حضرت الوفاة معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: اللهم إنك تعلم أني لم أكن أحب الدنيا وطول البقاء فيها لكرى الأنهار، ولا لغرس الأشجار، ولكن لظمأ الهواجر، ومكابدة الساعات، ومزاحمة العلماء بالركب عند حلق الذكر.(1/183)
[*] وقد ذكر الإمام أحمد أن أفضل التابعين علماً سعيد بن المسيب، أما أفضلهم على جهة العموم والجملة فأويس القرني، وكان أويس يقول: توسدوا الموت إذا نمتم و اجعلوه نصب أعينكم إذا قمتم،
[*] وقال الفضيل : حرام على قلوبكم أن تصيب حلاوة الإيمان حتى تزهدوا في الدنيا.
[*] وقال أبو داود : كانت مجالس أحمد مجالس الآخرة لا يذكر فيها شيء من أمر الدنيا ، ما رأيته ذكر الدنيا قط .
[*] قال مالك بن دينار : يقولون : مالك زاهد . أي زهد عند مالك ، وله جبة وكساء . إنما الزاهد عمر بن عبدالعزيز أتته الدنيا فاغرة فتركها.
[*] وصية إمام الزاهدين إبراهيم بن أدهم :
قيل لسلطان الزاهدين إبراهيم بن أدهم { أوصنا بما ينفعنا فقال :
* إذا رأيتم الناس مشغولين بامر الدنيا فاشتغلوا بأمر الآخرة .
* وإذا اشتغلوا بتزيين ظواهرهم فاشتغلوا بتزيين بواطنكم.
* وإذا اشتغلوا بعمارة البساتين والقصور فاشتغلوا بعمارة القبور .
* وإذا اشتغلوا بخدمة المخلوقين فاشتغلوا بخدمة رب العالمين .
* و إذا اشتغلوا بعيوب الناس فاشتغلوا بعيوب أنفسكم .
* واتخذوا من الدنيا زادا يوصلكم الى الآخرة فإنما الدنيا مزرعة الآخرة .
[*] وكان كثير من السلف يعرض لهم بالمال الحلال، فيقولون: لا نأخذه، نخاف أن يفسد علينا ديننا .
[*] وكان حماد بن سلمة إذا فتح حانوته وكسب حبتين قام .
[*] وكان سعيد بن المسيب يتجر في الزيت، وخلف أربعمائة دينار، وقال: إنما تركتها لأصون بها عرضي وديني.
[*] وقال سفيان الثورى: الزهد في الدنيا قصر الأمل، ليس بأكل الغليظ ولا بلبس العباءة.
وقال أيضا ً : إذا زهد العبد في الدنيا أنبت الله الحكمة في قلبه، وأطلق بها لسانه، وبصره عيوب الدنيا وداءها ودواءها.
وقال أيضا ً : عليك بالزهد يبصرك الله عورات الدنيا، وعليك بالورع يخفف الله عنك حسابك، ودع ما يريبك إلى مالا يريبك، وادفع الشك باليقين يسلم لك دينك.(1/184)
وقال أيضا ً : لا تصلح القراءة إلا بالزهد، واغبط الأحياء بما تغبط به الأموات، أحبهم على قدر أعمالهم، وذل عند الطاعة، واستعص عند المعصية.
وقال أيضا ً : لا يكون للقراءة ملح حتى يكون معها زهد.
[*] وقال الشافعي في ذم الدنيا والتمسك بها : وما هي إلا جيفة مستحيلة عليها كلاب همهن اجتذابها فإن تجتنبها كنت سلما لأهلها وان تجتذبها نازعتك كلابها.
[*] وكان أبو سليمان الداراني يقول: كل ما شغلك عن الله، من أهل ومال وولد فهو مشئوم طويت الدنيا عمن هم أفضل منا .
ويكفي أن في الزهد التأسي برسول الله صلي اله عليه وسلم وصحابته الكرام، كما أن فيه تمام التوكل على الله، وهو يغرس في القلب القناعة، إنه راحة في الدنيا وسعادة في الآخرة.
[*] وقال عبدالله بن عون : إن من كان قبلنا كانوا يجعلون للدنيا ما فضل عن آخرتهم، وإنكم تجعلون لآخرتكم ما فضل عن دنياكم.
[*] قال الحسن البصري رحمه الله : " أدركت أقواما وصحبت طوائف ما كانوا يفرحون بشيء من الدنيا إذا أقبل ، ولا يأسفون على شيء منها إذا أدبر ، وكانت في أعينهم أهون من التراب "
[*] وقال الحسن : دخلنا على صفوان بن محيريز وهو في بيت من قصب قد مال عليه فقيل له : لو أصلحته . فقال : كم من رجل قد مات ، وهو قائم على حاله.
[*] وكان الحسن البصري إذا ذكر له صاحب الدنيا يقول : والله ما بقيت له ولا بقي لها. لقد أخرج منها في خرق.
[*] وقال الحسن رحمه الله : والله لقد أدركت سبعين بدرياً أكثر لباسهم الصوف. [*] قال إبراهيم التيمي : كم بينكم وبين القوم ؟ أقبلت عليهم الدنيا فهربوا منها ، وأدبرت عنكم فاتّبعتموها.
[*] وقال بلال بن سعد: كفى به ذنباً أن الله تعالى يزهدنا في الدنيا ونحن نرغب فيها.(1/185)
والزاهد يحبه الله ويحبه الناس فإن امتلكت فاشكر، وأخرج الدنيا من قلبك، وان افتقرت فاصبر فقد طويت عمن هم أفضل منك، فقد كان نبيك صلي الله عليه وسلم ينام على الحصير حتى يؤثر في جنبه، ومات وفي رف أم المؤمنين عائشة حفنة من الشعير تأكل منها، وكنت إذا دخلت بيوت رسول الله صلي الله عليه وسلم نلت السقف، وخطب عمر بن الخطاب وهو خليفة المؤمنين وعليه إزار به اثنتا عشرة رقعة لقد طويت الدنيا عنهم ولم يكن ذلك لهوانهم على الله، بل لهوان الدنيا عليه سبحانه. فهي لا تزن عنده جناح بعوضه، وركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها.
فلا تأس ولا تجزع على ما فاتك منها، ولا تفرح بما أتاك؛ فالمؤمن لا يجزع من ذلها ولا يتنافس في عزها له شأن وللناس شان، وكن عبداً لله في عسرك ويسرك ومنشطك ومكرهك، وسواء أقبلت عليك الدنيا أو أدبرت فإقبالها إحجام، وإدبارها إقدام، والأصل أن تلقاك بكل ما تكره فإذا لاقتك بما تحب فهو استثناء.
وفصل الخطاب في فضائل الزهد : هو ما قاله الفضيل ابن عياض : جعل الخير كله في بيت وجعل مفتاحه الزهد في الدنيا .
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الفضيل بن عياض قال : لا يسلم لك قلبك حتى لا تبالي من كل الدنيا، وقيل للفضيل: ما الزهد في الدنيا ؟ قال: القنع وهو الغنى، وقيل: ما الورع ؟ قال: اجتناب المحارم. وسئل ما العبادة ؟ قال: أداء الفرائض. وسئل عن التواضع قال: أن تخضع للحق، وقال: أشد الورع في اللسان، وقال: التعبير كله باللسان لا بالعمل. وقال: جعل الخير كله في بيت وجعل مفتاحه الزهد في الدنيا. وقال: قال الله عز وجل: إذا عصاني من يعرفني سلطت عليه من لا يعرفني.
باب : حاجة الناس إلى الزهد
إن الزهد في الدنيا ليس من نافلة القول، بل هو أمر لازم لكل من أراد رضوان الله تعالى والفوز بجنته، ويكفي في فضيلته أنه اختيار نبينا محمد وأصحابه،(1/186)
[*] قال ابن القيم رحمه الله : لا تتم الرغبة في الآخرة إلا بالزهد في الدنيا، فإيثار الدنيا على الآخرة إما من فساد في الإيمان، وإما من فساد في العقل، أو منهما معاً.
ولذا نبذها رسول الله وراء ظهره هو وأصحابه، وصرفوا عنها قلوبهم، وهجروها ولم يميلوا إليها، عدوها سجناً لا جنة، فزهدوا فيها حقيقة الزهد، ولو أرادوها لنالوا منها كل محبوب، ولوصلوا منها إلى كل مرغوب، ولكنهم علموا أنها دار عبور لا دار سرور، وأنها سحابة صيف ينقشع عن قليل، وخيال طيف ما استتم الزيارة حتى أذن بالرحيل.
باب : كيف يزهد العبد في الدنيا ويرغب في الآخرة
[*] قال ابن القيم -رحمه الله- : لا تتم الرغبة في الآخرة إلا بالزهد في الدنيا ، ولا يستقيم الزهد في الدنيا إلا بعد نظرين صحيحين :
النظر الأول : النظر في الدنيا ، وسرعة زوالها وفنائها ، واضمحلالها ، ونقصها ، وخستها ، وألم المزاحمة عليها ، والحرص عليها ، وما في ذلك من الغصص والنغص ، والأنكاد ، وآخر ذلك الزوال ، والانقطاع ، مع ما يعقب من الحسرة والأسف ، فطالبها لا ينفك من هم قبل حصولها ، وهم في حال الظفر بها ، وغم وحزن بعد فواتها ، فهذا أحد النظرين.
النظر الثاني : النظر في الآخرة ، وإقبالها ، ومجيئها ولابد ، ودوامها ، وبقائها ، وشرف ما فيها من الخيرات ، والمسرات ، والتفاوت الذي بينه وبين ما ههنا ، فهي كما قال تعالى : ( وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ) [ الأعلى :17].
فهي خيرات كاملة دائمة ، وهذه خيالات ناقصة منقطعة مضمحلة.
فإذا تم له هذان النظران آثر ما يقتضي العقل إيثاره ، وزهد فيما يقتضي الزهد فيه ، فكل أحدٍ مطبوع على أن لا يترك النفع العاجل واللذة الحاضرة إلى النفع الآجل واللذة الغائبة المنتظرة ، إلا تبين له فضل الآجل على العاجل ، وقويت رغبته في الأعلى الأفضل.
فإذا آثر الفاني الناقص ، كان ذلك إما لعدم تبين الفضل له ، وإما لعدم رغبته في الأفضل.(1/187)
وكل واحد من الأمرين يدل على ضعف الإيمان ، وضعف العقل والبصيرة فإن الراغب في الدنيا الحريص عليها المؤثر لها ، إما أن يُصَدِّق بأن ما هناك أشرف وأفضل وأبقى ، وإما أن لا يصدق . فإن لم يصدق بذلك كان عادمًا للإيمان رأسًا ، وإن صدق بذلك ولم يؤثره كان فاسد العقل ، سيء الاختيار لنفسه ، وهذا تقسيم حاضر ضروري ، لا ينفك العبد من أحد القسمين منه ، فإيثار الدنيا على الآخرة إما من فساد في الإيمان ، وإما من فساد في العقل ، وما أكثر ما يقوم منهما ، ولهذا نبذها رسول الله صلى الله عليه وسلم وراء ظهره هو وأصحابه ، وصرفوا عنها قلوبهم ، وأطرحوها ولم يألفوها ، وهجروها ولم يميلوا إليها ، وعَدُّوها سجنًا لا جنة ، فزهدوا فيها حقيقة الزهد ، ولو أرادوها لنالوا منها كل محبوب ، ولوصلوا منها إلى كل مرغوب ، فقد عرضت عليه مفاتيح كنوزها فردها ، وفاضت على أصحابه فآثروا بها ، ولم يبيعوا حظهم من الآخرة بها ، وعلموا أنها معبر لا ممر، لا دار مقام ومستقر ، وأنها دار عبور لا دار سرور، وأنها سحابة صيف تنقشع عن قليل ، وخيال طيف ما استتم الزيارة حتى أذّن بالرحيل.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ما لي وللدنيا ، إنما أنا كراكب قال في ظل شجرة ، ثم راح وتركها)0
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( ما الدنيا في الآخرة، إلا كما يدخل أحدكم إصبعه في اليم ، فلينظر بما ترجع) 0
وقد توعد سبحانه أعظم الوعيد لمن رضي بالحياة الدنيا واطمأن بها ، وغفل عن آياته ، ولم يرج لقائه ، فقال : ( { إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النُّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ). [ يونس:7، 8].
من كتاب (خواطر إيمانية)لـ د/أحمد فريد(1/188)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن شقيق بن إبراهيم البلخي قال : سبعة أبواب يسلك بها طريق الزهاد: الصبر على الجوع بالسرور لا بالفتور، بالرضا لا بالجزع، والصبر على العرى بالفرح لا بالحزن، والصبر على طول الصيام بالتفضل لا بالتعسف، كأنه طاعم ناعم، والصبر على الذل بطيب نفسه لا بالتكره، والصبر على البؤس بالرضا لا بالسخط، وطول الفكرة فيما يودع بطنه من المطعم والمشرب، ويكسو به ظهره من أين، وكيف، ولعل، وعسى. فإذا كان في هذه الأبواب السبعة فقد سلك صدرا من طريق الزهاد وذلك الفضل العظيم.
باب : خصال الزهد
- الخصال المطلوبة في تحقق الزهد :
تعددت أقوال السلف من أئمة الهدى وأعلام التقى ومصابيح الدُجى في خصال الزهد وهاك صفوة ماقالوه في خصال الزهد :
[*] قال يحيى بن معاذ: لا يبلغ أحد حقيقة الزهد حتى يكون فيه ثلاث خصال :
عمل بلا علاقة ، وقول بلا طمع، وعز بلا رياسة .
[*] وقال بعض الحكماء : الزهد خمس خصال : الثقة بالله ، والتبرى عن الخلق، الإخلاص في العمل ، واحتمال الظلم ، والقناعة في اليد
[*] ومن أحسن ما قيل في خصال الزهد ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال " الزهد ثلاثة أحرف ( زاي وهاء ودال ) ، فالزاي زاد للمعاد ، والهاء هدي للدين ، والدال دوام على الطاعة " . وفي موضع آخر ، قال " الزهد ثلاثة أحرف ، الزاي ترك الزينة ، والهاء ترك الهوى ، والدال ترك الدنيا..
ومن خصال الزهد : أن يميل على الهوى ولا يميل مع الهوى ، والثانية ينقطع الزاهد إلى الزهد بقلبه، وأن يذكر كلما خلا بنفسه كيف مدخله في قبره وكيف مخرجه :(1/189)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن شقيق البلخي قال : ثلاث خصال هي تاج الزاهد، الأولى أن يميل على الهوى ولا يميل مع الهوى، والثانية ينقطع الزاهد إلى الزهد بقلبه، والثالثة أن يذكر كلما خلا بنفسه كيف مدخله في قبره وكيف مخرجه، ويذكر الجوع والعطش والعرى، وطول القيامة والحساب والصراط، وطول الحساب والفضيحة البادية، فإذا ذكر ذلك شغله عن ذكر دار الغرور، فإذا كان ذلك كان من محبى الزهاد ومن أحبهم كان معهم.
عشرةٌ من خِصال الزهد :(1/190)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن شقيق بن إبراهيم قال : عشرة أبواب من الزهد يسمى الرجل فيها زاهدا إذا فعلها، فإذا خالفها سمى متزهدا، والمتزهد الذي يتشبه بالزهاد في رؤيته وسمعته وخشوعه وقوله، ومدخله ومخرجه، ومطعمه وملبسه، ومركبه، وفعله وحرصه، وحب الدنيا يشهد عليه بخلافه، ترى رضاه رضا الراغبين، وبساطه في كلامه وعجلته بساط الراغبين، وحسده وبغيه وتطاوله وكبره وفخره وسوء خلقه وحفا لسانه وطول خوضه فيما لا يعنيه يدل على نفاق المتزهد، لا على خشوع الزاهد، فاحذر من هذه الصفة، وإذا وجدت فيمن يزعم أنه زاهد الخصال التي أصفها لك فارج له أن يكون في بعض طريق الزهاد، إذا أسرته حسنة وساءته سيئة، وكره أن يحمد بما لم يفعل من البر، فأما إذا لم يفعل يكره هذه كما يكره لحم الخنزير والميتة والدم، وإذا عرف هذه الخصال صرف فيها نهاره وساعاته وليلته وساعاتها، نقص أمله وطال غمه بما أمامه، فإذا شغل نفسه بغير ما خلق له طال حزنه، وعلم أنه مفتون وترك من شغله عن الطاعة في تلك الساعة، فبهذا يجدون حلاوة الزهد، وبه يحترزون من حزب الشيطان، وإن ذكر الله عندهم أحلى من العسل، وأبرد من البرد وأشفى من الماء العذب الصافي عند العطشان في اليوم الصائف، وتكون مجالستهم مع من يصف لهم بالزهاد ويعظهم أحب إليهم وأشهى عندهم ممن يعطيهم الدنانير والدراهم عند الحاجة وذلك بقلوبهم لا بألسنتهم، وأن يخلو أحدهم بالبكاء على ذنوبه وعلى الخوف الشديد أن لا يقبل منه ما يعمل، ويظهر للناس من التبسم والنشاط كأنه ذو رغبة لا ذو رهبة، وأن لا يحدث نفسه أنه خير من أحد من أهل قبلته: وأن يعرف ذنوبه ولا يعرف ذنوب غيره، فإذا كانت فيه هذه الأبواب العشرة كان في طريق الزهاد، فأرجو أن يسلكه إن شاء الله، وسبعة أبواب تتلو هذه الأبواب، التواضع لله بالقلب لا بالتصنع، والخضوع للحق طوعا لا بالاضطرار، وحسن المعاشرة مع من ابتلى بمعاشرتهم لا لرغبة(1/191)
فيما عندهم، والهرب من المنكبين على الدنيا كهرب الحمار من البيطار والنفور عنها كنفور الحمار من زئير السبع، وطلب العافيه من كل ما يخاف عقابه ولا يرجو ثوابه، ومجالسة البكائين على الذنوب، والرحمة لنفسه ولأنفسهم، ومخاطبة العالمين بظاهره لا بقلبه، ولا يتخوف من الكائن بعد الموت والأهوال والشدائد، فإذا فعل ذلك سلك طريق الزهاد ونال أفضل العبادة .
ومن خصال الزهد : الخوف والرجاء والرغبة والرهبة والسخاء وسلامة الصدر واليقين التام :
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن إبراهيم بن أدهم: أقرب الزهاد من الله عز وجل أشدهم خوفا، وأحب الزهاد إلى الله أحسنهم له عملا، وأفضل الزهاد عند الله أعظمهم فيما عنده رغبة، وأكرم الزهاد عليه أتقاهم له، وأتم الزهاد زهدا أسخاهم نفسا وأسلمهم صدرا، وأكمل الزهاد زهدا أكثرهم يقينا .
ومن خصال الزهد : أن الزاهد يعزف عن القيل والقال ويضع نصب عينيه ومحط نظره وقِبلة قلبه الوحيين الشريفيين الكتاب والسنة الصحيحة يتمسك بهما ويعض عليهما بالنواجذ ، وينشغل بهما عن غيرهما ، ويستمد من نورهما نوراً ومن ضيائهما لمعاناً ليُضئ له الطريق ، وينشغل عن مخالطة أهل الدنيا بقوله تعالى : ( لأيّ يَوْمٍ أُجّلَتْ * لِيَوْمِ الْفَصْلِ * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ ) [ المرسلات 12: 15] . يوم يقال: ( اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَىَ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً ) [ الإسراء : 14].(1/192)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم في حلية الأولياء عن إبراهيم بن أدهم قال : الزاهد يكتفي من الأحاديث والقال والقيل وما كان وما يكون بقول الله تعالى: ( لأيّ يَوْمٍ أُجّلَتْ * لِيَوْمِ الْفَصْلِ * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ ) [ المرسلات 12: 15] . يوم يقال:( اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَىَ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً )[ الإسراء : 14]. قال إبراهيم: فبلغني أن الحسن قال في قوله: كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا. لكل آدمي قلادة فيها نسخة عمله، فإذا مات طويت وقلدها، فإذا بعث نشرت. وقيل:اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً .
ومن خصال الزاهد وهو يصلي :
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن رباح بن الهروي، قال: مر عصام بن يوسف بحاتم الأصم وهو يتكلم في مجلسه، فقال: يا حاتم تحسن تصلي ؟ قال: نعم قال: كيف تصلي ؟ قال حاتم: أقوم بالأمر وأمشي بالخشية وأدخل بالنية وأكبر بالعظمة وأقرأ بالترتيل والتفكر وأركع بالخشوع وأسجد بالتواضع وأجلس للتشهد بالتمام وأسلم بالسبل والسنة وأسلمها بالإخلاص إلى الله عز وجل وأرجح على نفسي بالخوف أخاف أن لا يقبل مني وأحفظه بالجهد إلى الموت، قال: تكلم فأنت تحسن لصلي.
ومن أخص صفات الزهد هو العلم بالتوحيد لأن التوحيد مُقَدَّمٌ على العمل والأصل الذي يترتب عليه غيره إذ لا ينفعُ مع الشركِ عمل ، وإذا لم يكن الزاهد على علم بالتوحيد ربما يقع في الشرك وهو لايدري فلا ينفعه الزهد حينئذ .
قال تعالى :(فَاعْلَمْ أَنّهُ لاَ إِلََهَ إِلا اللّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ) ( محمد / 19 )(1/193)
( حديث ا بن عباس في الصحيحين ) قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمعاذٍ ابن جبل حين بعثه إلى اليمن : إنك ستأتي قوماً أهل كتاب ، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمسَ صلواتٍ في كل يومٍ وليلة ، فإن هم أطاعوا لك بذلك
فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقةً تؤخذ من أغنيائهم فتُردُ على فقرائهم ، فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائم أموالهم ، واتقِ دعوةَ المظلومِ فإنه ليس بينه وبين الله حجاب .
الشاهد : قوله - صلى الله عليه وسلم - فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لاإله إلا الله وأن محمداً رسول الله فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات ، فجعل إخبارهم بالصلاةِ معلقٌ على قبولِ التوحيد فإن لم يقبلوه فلا تخبرهم ، وذلك لأن التوحيد مُقَدَّمٌ على العمل والأصلُ الذي يترتب عليه غيره إذ لا ينفع مع الشركِ عمل .
(حديثُ جندب ابن عبد الله صحيح ابن ماجة ) قال كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ونحن فتيانٌ حزَاوِرَة ، فتعلمنا الإيمانَ قبل أن نتعلم القرآن ، ثم تعلمنا القرآنَ فازددنا به إيمانا .
معنى حزاوره : جمع حَزْوَر وهو الغلام إذا اشتد وقوى .
[*] قال الشيخ حافظ ابن أحمد الحكمي في سلم الوصول :
أولُ واجبٍِ على العبيدِ ... معرفةُ الرحمنِ بالتوحيدِ
إذ هو من كل الأوامرِ أعظمُ ... وهو نوعان أيا من يفهمُ(1/194)
ومن أخص صفات الزهد الفقه ، فإنه لا يصلح زهد إلا بفقه ، لأن الفقه ميزانٌ صحيح ومقياسٌ دقيقٌ معتبر يطَّلع الإنسان من خلاله على حقيقة الزهد وحقيقة الدنيا فيرغب عنها وحقيقة الآخرة فيرغب فيها فيرزقه الله تعالى التوفيق والسداد ، ويعصمه من الشطط ، ولأنه إذا لم يتفقه في دين الله تعالى لربما فعل أشياء ظناً منه أنها من الزهد وليس الأمر كذلك ، لجهله ثم إنه وبفقه الأحكام سيُصححُ عمله الذي سيلقي به ربه ولا سبيل له إلى تصحيح عمله الذي سيلقي به ربه إلا عن طريق الفقه .
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان ابن عيينة: لا تصلح عبادة إلا بزهد، ولا يصلح زهد إلا بفقه، ولا يصلح فقه إلا بصبر.
[*] وأخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عمران القصير، قال: سألت الحسن، عن شيء فقلت: إن الفقهاء يقولون كذا وكذا فقال: وهل رأيت فقيهاً بعينك ؟ إنما الفقيه الزاهد في الدنيا، البصير بدينه، المداوم على عبادة ربه عز وجل.(1/195)
ومن أخص صفات الزهد التحلي بالفضائل والتخلي عن الرذائل إذ لا معنى للزهد الذي هو من أفضل أبواب تزكية النفس إلا بالتحلي بالفضائل من قراءة القرآن والذكر والدعاء والاستغفار وقيام الليل وبر الوالدين وصلة الرحم والإحسان إلى الجار وعدم إيذائه و إكرام الضيف والتعاون على البر والتقوى والتحلي بآداب الصحبة والأخوة ومعاشرة الخلق و بذل النصيحة وقضاء حوائج المسلمين وخدمتهم وصنع المعروف و شكر المعروف و الحب في الله تعالى والحرص على مجالسة الصالحين ورحمة الصغير وتوقير الكبير وضبط اللسان وحسن الخلق والحِلمِ والأناة و الرفق واحتمال الأذى والعفو والإعراض عن الجاهلين و التواضع وخفض الجناح وإيثار الخمول وعدم الشهرة والصمت وقلةِ الكلام والصدق والحياء والجود والسخاء والإنفاق في وجوه الخير والإيثار والمواساة في السَنَةِ والمجاعة ومجاهدة النفس والهوى ، وكذلك لايتم تحقيق الزهد إلا بالتخلي عن الرذائل من اجتناب الغش والخداع للمسلمين و اجتناب الغدر للمسلمين و اجتناب ظلم العباد فإنه بئس الزاد ليوم المعاد و اجتناب مجالس الظالمين و اجتناب إيذاء المسلمين و اجتناب التباغض والتقاطع والتدابر واجتناب الحسد واجتناب احتقار المسلمين واجتناب التجسس على المسلمين وعدم تتبع عورات المسلمين وزلاتهم والتخلي عن رذيلة كثرة الكلام والتخلي عن رذيلة التحدث بكل ما سمع والتخلي عن الكذب والتخلي عن الغناء والاحتراز منه والتخلي والاحتراز من الشعر المحرم والتخلي عن رذيلة الغيبة والتخلي عن رذيلة النميمة والتخلي عن رذيلة ذي الوجهين والاحتراز من فحش القول وبذاءة اللسان و التخلي عن رزيلة الغضب والتخلي عن رذيلة السباب والتخلي عن آفة التكلم فيما لا يعنيه والتخلي عن آفة كثرة المزاح والتخلي عن رذيلة شهادة الزور وحفظ اللسان من قذف المحصنات والعياذ بالله والتخلي عن الجدال العقيم والتخلي عن شهوة الخصومة وحفظ اللسان من الحلف بغير الله وحفظ(1/196)
اللسان عن الحلف بالأمانة وحفظ اللسان عن الحلف باللات والعزى وحفظ اللسان عن الحلف بالله كذباً وحفظ اللسان عن اليمين الغموس وحفظ اللسان من المدح المذموم وحفظ اللسان من اللعن وحفظ اللسان من إخلاف الوعد والتخلي عن رزيلة الكبر والعياذ بالله والاحتراز من رذيلة العجب والعياذ بالله والتخلي من رذيلة البخل والعياذ بالله والاحتراز من رذيلة الحرص والطمع ، وسيأتي بسط ذلك في كتاب الآداب إن شاء الله تعالى .
الزاهد والراغب لا يجتمعان بغيتهما مخالفة، وهواهما شتى :
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن شقيق البلخي قال : والزاهد والراغب كرجلين يريد أحدهما المشرق والآخر يريد المغرب، هل يتفقان على أمر واحد وبغيتهما مخالفة، وهواهما شتى ؟ دعاء الراغب: اللهم ارزقني مالا وولدا وخيرا وانصرني على أعدائي وادفع عني شرورهم وحسدهم وبغيهم وبلاءهم وفتنهم آمين. ودعاء الزاهد: اللهم ارزقني علم الخائفين. وخوف العاملين ويقين المتوكلين. وتوكل الموقنين. وشكر الصابرين. وصبر الشاكرين. وإخبات المغلبين. وإنابة المخبتين. وزهد الصادقين. وألحقني بالشهداء والأحياء المرزوقين. آمين رب العالمين. هذا دعاؤه هل من شيء من دعاء الراغب يحيط به ؟ لا والله هذا طريق وذاك طريق.
رأس الزهد ووسط الزهد وآخر الزهد :(1/197)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أبي تراب الزاهد، قال: جاء رجل إلى حاتم الأصم، فقال: يا أبا عبد الرحمن أي شيء رأس الزهد ووسط الزهد وآخر الزهد فقال: رأس الزهد الثقة بالله، ووسطه الصبر، وآخره الإخلاص، قال حاتم: وأنا أدعو الناس إلى ثلاثة أشياء: إلى المعرفة وإلى الثقة وإلى التوكل، فأما معرفة القضاء فإن تعلم أن القضاء عدل منه فإذا علمت أن ذلك عدل منه فإنه لا ينبغي لك أن تشكو إلى الناس أو تهتم أو تسخط، ولكنه ينبغي لك أن ترضى وتصبر. وأما الثقة فالإياس من المخلوقين، وعلامة الإياس أن ترفع القضاء من المخلوقين فإذا رفعت القضاء منهم استرحت منهم واستراحوا منك، وإذا لم ترفع القضاء منهم فإنه لابد لك أن تتزين لهم وتتصنع لهم، فإذا فعلت ذلك فقد وقعت في أمر عظيم، وقد وقعوا في أمر عظيم، وتصنع فإذا وضعت عليهم الموت فقد رحمتهم وأيست منهم، وأما التوكل فطمأنينة القلب بموعود الله تعالى، فإذا كنت مطمئنا بالموعود استغنيت غنى لا تفتقر أبداً.(1/198)
قال حاتم: والزهد اسم والزاهد الرجل، وللزهد ثلاث شرايع، أولها الصبر بالمعرفة والاستقامة على التوكل والرضاء بالعطاء، فأما تفسير الصبر بالمعرفة فإذا أنزلت الشدة أن تعلم بقلبك أن الله عز وجل يراك على حالك وتصبر وتحتسب وتعرف ثواب ذلك الصبر، ومعرفة ثواب الصبر أن تكون مستوطن النفس في ذلك الصبر، وتعلم أن لكل شيء وقتا، والوقت على وجهين إما أن يجيء الفرج وإما أن يجيء الموت، فإذا كان هذان الشيئان عندك فأنت حينئذ عارف صابر، وأما الاستقامة على التوكل فالتوكل إقرار باللسان وتصديق بالقلب، فإذا كان مقرا مصدقاً أنه رازق لا شك فيه فإنه يستقيم، والاستقامة على معنيين، أن تعلم أن شيئاً لك وشيئاً لغيرك، وأن كل شيء لك لا يفوتك، والذي لغيرك لا تنالله ولو احتلت بكل حيلة، فإذا كان مالك لا يفوتك فينبغي لك أن تكون واثقا ساكنا فإذا علمت أنك لا تنال ما لغيرك فينبغي لك أن لا تطمع فيه. وعلامة صدق هذين الشيئين أن تكون مشتغلا بالمعروض. وأما الرضا بالعطاء فالعطاء ينزل على وجهين عطاء تهوى أنت فيجب عليك الشكر والحمد، وأما العطاء الذي لا تهوى فيجب عليك أن ترضى وتصبر.
باب : علامات الزهد
[*] قال الإمام الغزالي رحمه الله في الإحياء :(1/199)
اعلم أنه قد يظن أن تارك المال زاهد، وليس كذلك؛ فإن ترك المال وإظهار الخشونة سهل على من أحب المدح بالزهد، فكم من الراهبين من ردوا أنفسهم كل يوم إلى قدر يسير من الطعام ولازموا ديراً لا باب له، وإنما مسرة أحدهم معرفة الناس حاله ونظرهم إليه ومدحهم له، فذلك لا يدل على الزهد دلالة قاطعة، بل لا بد من الزهد في المال والجاه جميعاً حتى يكمل الزهد في جميع حظوظ النفس من الدنيا بل قد يدعي جماعة الزهد مع لبس الأصواف الفاخرة والثياب الرفيعة، كما قال الخواص في وصف المدعين إذ قال: وقوم ادعوا الزهد ولبسوا الفاخر من اللباس يموهون بذلك على الناس ليهدى إليهم مثل لباسهم، لئلا ينظر إليهم بالعين التي ينظر بها إلى الفقراء فيحتقروا فيعطوا كما تعطى المساكين، ويحتجون لنفوسهم بابتاع العلم وأنهم على السنة، وأن الأشياء داخلة إليهم وهم خارجون منها وإنما يأخذون بعلة غيرهم. هذا إذا طولبوا بالحقائق وألجئوا إلى المضايق، وكل هؤلاء أكلة الدنيا بالدين لم يعنوا بتصفية أسرارهم ولا بتهذيب أخلاق نفوسهم، فظهرت عليهم صفاتهم فغلبتهم فادعوها حالاً لهم، فهم مائلون إلى الدنيا متبعون للهوى. فهذا كله كلام الخواص رحمه الله؛ فإذن معرفة الزهد أمر مشكل، بل حال الزهد على الزاهد مشكل.
وينبغي أن يعول في باطنه على ثلاث علامات:
- العلامة الأولى: أن لا يفرح بموجود ولا يحزن على مفقود، كما قال تعالى: " لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم " بل ينبغي أن يكون بالضد من ذلك: وهو أن يحزن بوجود المال ويفرح بفقده.
- العلامة الثانية: أن يستوي عنده ذامه ومادحه، فالأول علامة الزهد في المال والثاني علامة الزهد في الجاه.(1/200)
- العلامة الثالثة: ان يكون أنسه بالله تعالى والغالب على قلبه حلاوة الطاعة إذ لا يخلو القلب عن حلاوة المحبة إما محبة الله، وهما في القلب كالماء والهواء في القدح، فالماء إذا دخل خرج الهواء ولا يجتمعان، وكل من أنس بالله اشتغل به ولم يشتغل بغيره، ولذلك قيل لبعضهم: إلى ماذا أفضى بهم الزهد؟ فقال: إلى الأنس بالله؛ فأما الأنس بالدنيا وبالله فلا يجتمعان.
[*] قال يحيى بن معاذ : الدنيا كالعروس، ومن يطلبها يحرص على زينتها و الزاهد يسخم أي يسود وجهها، وينتف شعرها، ويخرق ثوبها، والعارف مشتغل بالله تعالى عنها.
باب : متعلقات الزهد
- متعلقات الزهد خمسة أشياء وهي :
1- المال: وليس المراد من الزهد في المال رفضه وعدم السعي لكسبه وتجميعه، وإنما نعم المال الصالح للمرء الصالح، فالمال قد يكون نعمة إذا حصل عليه صاحبه من الحلال وأعانه على طاعة الله سبحانه وتعالى وأنفقه في رضوان الله وفي نصرة قضايا الإسلام والمسلمين ، فعلى سبيل المثال أبو بكر الصديق وعبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان وعمرو بن العاص كانوا من كبار الأثرياء وكانوا يستخدمون أموالهم في طاعة ربهم، أما المال الذي يفسد صاحبه فيدفعه إلى الطغيان والظلم ونشر الفاحشة فإن ذلك المال يكون نقمة على صاحبه، يقول الله تعالى:( كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى). [العلق:6،7].
2- الملك والرئاسة: ليس المراد من الزهد أيضًا رفض الملك والرياسة والوزارة وعدم المشاركة في الحياة السياسية وتركها لأراذل القوم ، فسليمان وداود عليهما السلام كانا من أزهد الناس في زمانهما، ولهما من الملك والأموال والنساء ما لا يعلمه إلا الله ، كذلك كان يوسف عليه السلام وزيرا على خزائن الأرض قال:( رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ ) [يوسف: 101].(1/201)
وإنما الملك الذي يطغى صاحبه ويجعله فاسدا مستبدا هو الذي نهى الله عنه، يقول سبحانه:( ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الملك ) [البقرة:852].
3- المظهر: فليس من الزهد أن يكون الرجل أشعث أغبر، رث الملابس ، كريه الرائحة ، حاله وسخ ينفر كل من يراه ، ف إن الله جميل يحب الجمال .
(حديث ابن مسعود في صحيح مسلم) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر قيل : إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا و نعله حسنة قال : إن الله جميل يحب الجمال الكبر بَطَرُ الحقِ و غَمطُ الناس .
4- ما في أيدي الناس: ويقصد بذلك الزهد عما في أيدي الناس وعدم استشرافه أو التطلع إليه أوالطمع فيه أو محاولة الإستيلاء عليه يطرق غير شرعية، وفي هذا يقول صلى الله عليه وسلم : "ازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس"
(حديث سهل بن سعد الثابت في صحيح ابن ماجة) قال أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلٌ فقال يا رسول الله : دلني على عملٍ إذا عملته أحبني الله وأحبني الناس فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ازهد في الدنيا يحبك الله وازهد فيما عند الناس يحبك الناس .
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
( ازهد ) من الزهد بكسر أوله وقد يفتح ، وهو لغة : الإعراض عن الشيء احتقاراً ، وشرعاً الاقتصار على قدر الضرورة مما يتيقن حله . وقيل أن لا يطلب المفقود حتى يفقد الموجود
( في الدنيا ) باستصغار جملتها واحتقار جميع شأنها لتحذير الله تعالى منها واحتقاره لها ، فإنك إن فعلت ذلك(1/202)
( يحبك الله ) لكونك أعرضت عما أعرض عنه ولم ينظر إليه منذ خلقه . وفي إفهامه أنك إذا أحببتها أبغضك ، فمحبته مع عدم محبتها ولأنه سبحانه وتعالى يحب من أطاعه ، ومحبته مع محبة الدنيا لا يجتمعان ، وذلك لأن القلب بيت الرب فلا يحب أن يشرك في بيته غيره ، ومحبتها الممنوعة هي إيثارها بنيل الشهوات لا لفعل الخير والتقرب بها ، والمراد بمحبته غايتها من إرادة الثواب ، فهي صفة ذاتية أو الإثابة فهي صفة فعلية ( وازهد فيما عند الناس ) منها
( يحبك الناس ) لأن قلوبهم مجبولة على حبها مطبوعة عليها ومن نازع إنساناً في محبوبه كرهه وقلاه ، ومن لم يعارضه فيه أحبه واصطفاه ولهذا قال الحسن البصري لا يزال الرجل كريماً على الناس حتى يطمع في دنياهم فيستخفون به ويكرهون حديثه . وقيل لبعض أهل البصرة : من سيدكم؟ قال الحسن ، قال بم سادكم؟ قال : احتجنا لعلمه واستغنى عن دنيانا
ماأعظم هذه الوصية النبوية ، وما أشد حاجتنا إلى فهمها ، والعمل بمقتضاها ، حتى ننال بذلك المحبة بجميع صورها .
( حديث أبي أيوب رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجة ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :إذا قمت في صلاتك فَصَلِ صلاةَ مُوَدِّعٍ و لا تكلم بكلام تَعْتَذِرُ منه وأجْمِع اليأس عما في أيدي الناس .
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
( إذا قمت في صلاتك ) أي شرعت فيها
( فصل صلاة مودع ) أي إذا شرعت فيها فأقبل على الله وحده ودع غيره لمناجاة ربك ( ولا تكلم ) بحذف إحدى التاءين تخفيفاً
( بكلام تعتذر منه ) أي لا تتكلم بشيء يوجب أن يطلب من غيرك رفع اللوم عنك بسببه
( وأجْمِع اليأس عما في أيدي الناس ) أي اعزم وصمم على قطع الأمل مما في يد غيرك من جميع الخلق فإنه يريح القلب والبدن . وإذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله قال الراغب : وأكثر ما يقال أجمع فيما يكون جمعا يتوصل إليه بالفكر نحو { أجمعوا أمركم وشركاءكم }(1/203)
واليأس : القنوط وقطع الأمل
( تنبيه ) من البين أن كلا من الكلام المحوح للعذر والإياس مما في أيدي الناس مأمور به لا بقيد القيام إلى الصلاة . أهـ
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء قال سفيان الثوري: الزهد في الدنيا هو الزهد في الناس، وأول الزهد في الناس زهدك في نفسك.
(حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب ) قال : أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم رجلٌ فقال : يا رسول الله : أوصني وأوجز، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " عليك بالإياس مما في أيدي الناس ، وإياك مما يعتذر منه".
فمن زهد في الدنيا رنا بطرفه وقلبه نعيم الجنات ، وجوار الكبير المتعال.
{ تنبيه } : فإن جاء من الناس للعبد شيء بدون استشراف نفس أو طمع أو تحايل فلا بأس به.
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) قال : سمعت عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقول: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعطيني العطاءَ، فأقولُ أعطهِ من هو أفقر مني فقال: (خذه، إذا جاءك من هذا المال شيءٌ، وأنت غير مشرفٍ ولا سائل، فخُذهُ، وما لا، فلا تُتْبعِه نفسك)
5- النفس: ويقصد بذلك عدم إعجاب المرء بنفسه فيظن أنه سيخرق الأرض، أو يبلغ الجبال طولاً، فيتكبر بمنصبه أو بما أعطاه الله من صورة على خلق الله، وإنما يتواضع ويخفض جناحه للمؤمنين، كما أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم(واخفض جناحك للمؤمنين) [الحجر:88] ( من تواضع أحدٌ لله إلا رفعه الله) .
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ما نقصت صدقةٌ من مال ، وما زاد الله عبداً بعفوٍ إلا عزا ، وما تواضع أحدٌ لله إلا رفعه الله )
باب : ما ليس بزهد ويتوهم أنه زهد(1/204)
... يظن الكثيرون أن الزهد في ترك المال والفقر ، وفي ترك الدنيا وتخليها من اليد والقعود صفراً منها ، وكله ظن خاطيء وغير صائب.. فلا يكون الزهد بترك المال كلية ، ولا بترك الدنيا كلية، ولا بهجر النساء وعدم معاشرتهن أبداً ، ولا بالفقر كما يظن بعض الناس، وإليك بعض تفاصيلها
(1) لا يكون بترك المال : فترك المال وإظهار الخشونة سهل على من أحب المدح بالزهد ، ومن ظن أنه يكون زاهداً بإضاعة المال فهو جاهل لأن إضاعة المال فيما لا يحق سفه لا زهد .
فالزهد في الدنيا هو ما كان عليه رسول الله وأصحابه، فهو ليس بتحريم الطيبات وتضييع الأموال، ولا بلبس المرقع من الثياب، ولا بالجلوس في البيوت وانتظار الصدقات، فليس الزهد أن ترفض المال وأن تكون فقيراً ، أن تكون عالةً على الناس ، أن تكون يدك هي السفلى ، ولكن الزهد أن تكسب المال وأن تجعله بيديك لا بقلبك فإن المؤمن القوي خيرٌ وأحبُ إلى الله من المؤمن الضعيف .
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :المؤمن القوي خير وأحب إلي الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كان كذا وكذا ولكن قل قدر الله وما شاء فعل فإن لو تفتح عمل الشيطان .
ولا شك أن العمل الحلال والكسب الحلال والنفقة الحلال عبادة يتقرب بها العبد إلى الله ، بشرط أن تكون الدنيا في الأيدي، ولا تكون في القلوب، وإذا كانت الدنيا في يد العبد لا في قلبه، استوى في عينه إقبالها وإدبارها ، فلم يفرح بإقبالها، ولم يحزن على إدبارها.
[*] قال ابن القيم في وصف حقيقة الزهد:
وليس المراد ـ من الزهد ـ رفضها ـ أي الدنيا ـ من الملك، فقد كان سليمان وداود - عليهما السلام- من أزهد أهل زمانهما، ولهما من المال والملك والنساء مالهما.
وكان نبينا من أزهد البشر على الإطلاق وله تسع نسوة.(1/205)
وكان علي بن أبي طالب، وعبدالرحمن بن عوف، والزبير وعثمان - رضي الله عنهم- من الزهاد مع ما كان لهم من الأموال.
فلو نظرنا إلى العشرة المبشرين بالجنة لوجدنا أن أكثرهم كانوا من أصحاب رؤوس الأموال الطائلة ومن التجار، فهذا أبو بكر وعثمان وعبد الرحمن بن عوف لو نظرنا إليهم بمنظار العصر لقيل عنهم أنهم من أصحاب الملايين، فهل تخلف أحدهم عن غزوة مع رسول الله؟ هل ألهاهم التكاثر فمنعوا الإنفاق في سبيل الله؟ كلا والله ثم كلا، هل سعوا للرئاسة والتفاخر وتزكية النفس وطلب المدح؟ لا والله ما فعلوا، بل هم أبعد الأمة عن هذه الأمور، وكانوا يجودون بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله ولنصرة دينه ولنصرة النبي صلى الله عليه وسلم.
ولقد وعى سلفنا الصالح تلك المعاني ، وقدروها حقّ قدرها ، فترجموها إلى مواقف مشرفة نقل التاريخ لنا كثيرا منها ، وكان حالهم ما قاله الحسن البصري رحمه الله : " أدركت أقواما وصحبت طوائف ما كانوا يفرحون بشيء من الدنيا إذا أقبل ، ولا يأسفون على شيء منها إذا أدبر ، وكانت في أعينهم أهون من التراب " .
لقد نظروا إليها بعين البصيرة ، ووضعوا نُصب أعينهم قول الله تعالى : { يا أيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور } (فاطر : 5 ) ، وقوله : { واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح } ( الكهف : 45 ) ، فهانت عليهم الدنيا بكلّ ما فيها ، واتخذوها مطيّة للآخرة ، وسبيلاً إلى الجنّة .
ومن أحسن ما قيل في الزهد كلام الحسن أو غيره: ليس الزهد في الدنيا بتحريم الحلال ولا إضاعة المال، ولكن أن تكون بما في يد الله أوثق منك بما في يدك.
فالزهد ليس تجنب المال بالكلية بل تساوي وجوده وعدمه، فقد كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يأكل اللحم والحلوى والعسل ، ويحب النساء والطيب والثياب الحسنة(1/206)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن شقيق بن إبراهيم قال : من أراد أن يعرف معرفته بالله فلينظر إلى ما وعده الله ووعده الناس بأيهما قلبه أوثق.
[*] جاء رجل إلى الحسن فقال : إن لي جاراً لا يأكل الفالوذج، فقال الحسن: ولم؟ قال: يقول: لا أؤدي شكره، فقال الحسن: إن جارك جاهل، وهل يؤدي شكر الماء البارد؟.
[*] وقد سئل الإمام أحمد: أيكون الإنسان ذا مال وهو زاهد، قال: نعم، إن كان لا يفرح بزيادته ولا يحزن بنقصانه،أهـ
[*] قال بشر الحافي : قل لمن طلب الدنيا ، تهيأ للذل.
قال بشر بن الحارث: قيل لسفيان الثوري : أيكون الرجل زاهدا ويكون له المال؟ قال : نعم إذا ابتلي صبر ، وإذا أعطي شكر.
[*] وقال الحسن : ليس الزهد بإضاعة المال ولا بتحريم الحلال، ولكن أن تكون بما في يد الله أوثق منك بما في يد نفسك، وأن تكون حالك في المصيبة، وحالك إذا لم تصب بها سواء، وأن يكون مادحك وذامك في الحق سواء .
ويشهد لذلك الأحاديث الآتية :
(حديث عمرو بن العاص في صحيح الأدب المفرد) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : نعم المال الصالح للمرء الصالح .
(حديث يسار بن عُبيد في صحيح ابن ماجة) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لا بأس بالغنى لمن اتقى و الصحة لمن اتقى خير من الغنى و طيب النفس من النعيم .(1/207)
(حديث أبي كبشة الأنماري في صحيحي الترمذي وابن ماجة ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إِنَّمَا الدُّنْيَا لأَرْبَعَةِ نَفَرٍ عَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالاً وَعِلْماً فَهُوَ يَتَّقِى فِيهِ رَبَّهُ وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ وَيَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا فَهَذَا بِأَحسنِ الْمَنَازِلِ عند الله وَرجلٍ رَزَقَهُ اللَّهُ عِلْماً وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالاً فَهُوَ يَقُولُ لَوْ أَنَّ لي مَالاً لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلاَنٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ وهما في الأجرِسَوَاءٌ ، وَرجلٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالاً وَلَمْ يَرْزُقْهُ عِلْماً فَهُوَ يَخْبِطُ في مَالِهِ لاَ يَتَّقِى فِيهِ رَبَّهُ وَلاَ يَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ وَلاَ يَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا فهو بِأَسوءِ الْمَنَازِلِ عند الله وَرجلٍ لَمْ يَرْزُقْهُ اللَّهُ مَالاً وَلاَ عِلْماً فَهُوَ يَقُولُ لَوْ أَنَّ لي مَالاً لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلاَنٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ وهما في الوزر سَوَاءٌ .
هذه هي حقيقة الزهد، وعلى هذا فقد يكون العبد أغنى الناس لكنه من أزهدهم؛ لأنه لم يتعلق قلبه بالدنيا، وقد يكون آخر أفقر الناس وليس له في الزهد نصيب؛ لأن قلبه يتقطع على الدنيا.
(2) ولا يكون الزهد في الفقر : كما يظن البعض أن الزاهد هو الفقير الذي لا يملك شيئاً مما يملكه الناس فإن نعم المال الصالح للمرء الصالح .
(حديث عمرو بن العاص في صحيح الأدب المفرد) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : نعم المال الصالح للمرء الصالح .
(حديث يسار بن عُبيد في صحيح ابن ماجة) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لا بأس بالغنى لمن اتقى و الصحة لمن اتقى خير من الغنى و طيب النفس من النعيم .(1/208)
(حديث أبي كبشة الأنماري في صحيحي الترمذي وابن ماجة ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إِنَّمَا الدُّنْيَا لأَرْبَعَةِ نَفَرٍ عَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالاً وَعِلْماً فَهُوَ يَتَّقِى فِيهِ رَبَّهُ وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ وَيَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا فَهَذَا بِأَحسنِ الْمَنَازِلِ عند الله وَرجلٍ رَزَقَهُ اللَّهُ عِلْماً وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالاً فَهُوَ يَقُولُ لَوْ أَنَّ لي مَالاً لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلاَنٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ وهما في الأجرِسَوَاءٌ ، وَرجلٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالاً وَلَمْ يَرْزُقْهُ عِلْماً فَهُوَ يَخْبِطُ في مَالِهِ لاَ يَتَّقِى فِيهِ رَبَّهُ وَلاَ يَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ وَلاَ يَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا فهو بِأَسوءِ الْمَنَازِلِ عند الله وَرجلٍ لَمْ يَرْزُقْهُ اللَّهُ مَالاً وَلاَ عِلْماً فَهُوَ يَقُولُ لَوْ أَنَّ لي مَالاً لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلاَنٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ وهما في الوزر سَوَاءٌ .
هذه هي حقيقة الزهد، وعلى هذا فقد يكون العبد أغنى الناس لكنه من أزهدهم؛ لأنه لم يتعلق قلبه بالدنيا، وقد يكون آخر أفقر الناس وليس له في الزهد نصيب؛ لأن قلبه يتقطع على الدنيا.
(3) ولا يكون الزهد أيضاً بترك الدنيا وتخليها من اليد والقعود صفراً منها: فليس الزهد أن تترك الدنيا من يدك وهي في قلبك . وإنما الزهد أن تتركها من قلبك وإن كانت في يدك .
[*] وقال سفيان الثوري: الزهد في الدنيا قصر الأمل ، ليس بأكل الغليظ ولا لبس العباء .
وهكذا كان حال رسول الله صلى الله عليه وسلم سيد الزاهدين ، وحال الخلفاء الراشدين ومعهم عمر بن عبد العزيز وقد ضربوا بزهدهم المثل مع أن خزائن الأموال كانت تحت أيديهم ، وفتح الله عليهم من الدنيا ما فتح ، فما زادهم ذلك إلا زهداً فيها..
(5) ولا يكون الزهد باعتزال الأزواج أبداً .(1/209)
فلا يقربهن ولا يضاجعهن ، فهذا ليس بزهد ، بقدر ما هو ظلم ومطل القادر ، ومنع أصحاب الحقوق حقوقهم .. فالزوجة لها الحق في أن يجامعها زوجها ، فإن ترك جماعها زهداً فيه فلا يجوز .
ومثله ما ظنه أبو الدرداء رضي الله عنه ، حيث كان زاهداً في الدنيا حتى اعتزل أهله ولم يعطهن حق الفراش ، كما في الحديث الآتي :
( حديث أبي جحيفة رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري ) قال : قال: آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين سلمان وأبي الدرداء، فزار سلمان أبا الدرداء، فرأى أم الدرداء متبذلة، فقال لها: ما شأنك؟. قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا. فجاء أبو الدرداء، فصنع له طعاما، فقال: كل، قال: فإني صائم، قال: ما أنا بآكل حتى تأكل، قال: فأكل، فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم، قال: نم، فنام، ثم ذهب يقوم، فقال: نم، فلما كان من آخر الليل، قال سلمان: قم الآن، فصليا، فقال له سلمان: إن لربك عليك حقا، ولنفسك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا، فأعط كل ذي حق حقه، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (صدق سلمان).
فوضح أنه ليس من الزهد أن يمنع الزوج المرأة من حقها في الوطء ، ولا يشترط في تحقق المنع أن تطلب المرأة لنفسها فيمتنع الزوج عن إجابتها ، ولكن باعتزله لها طويلاً حتى تشعر أنه لا يريدها ولا يرغب في قربانها ، فتجد في نفسها كثيراً ، في حين أنه ابتعد عنها زهداً في حاجات الدنيا ، فيجب عليه أن يعلم أن لأهله عليه حقاً يجب إيفاؤه ، وأن اعتزالها وتجافيها ليس بزهد وإنما هو ظلم لها وجور عليها .. عافانا الله من كل جور .
{ تنبيه } : وكذلك ليس من الزهد ترك الزواج فإن اتباع السنة أولى من كثرة العمل كما في الحديث الآتي :(1/210)
(حديث أنس الثابت في الصحيحين) جاء ثلاثةُ رهطٍ إلى بيوت النبي - صلى الله عليه وسلم - يسألون عن عبادة النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما أخبروا كأنهم تقاُّلوها وقالوا : أين نحن من النبي - صلى الله عليه وسلم - قد غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر قال أما أنا أصلي الليل أبداً ، وقال آخر : وأنا أصوم الدهر أبداً ، وقال آخر : وأنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً ، فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : أنتم الذين قلتم كذا وكذا ، أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني .
مسألة : هل الزهد لبس الثياب المرقعة ، وصيام الدهر ، والابتعاد عن المجتمع ، أو غير ذلك ؟
الجواب :
"ليس الزهد لبس المرقع من الثياب ، ولا اعتزال الناس والبعد عن المجتمع ، ولا صيام الدهر ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم سيد الزاهدين ، وكان يلبس الجديد من الثياب ، ويتزين للوفود وفي الجمع والأعياد ، ويخالط الناس ، ويدعوهم إلى الخير ويعلمهم أمور دينهم ، وكان ينهى أصحابه رضي الله عنهم عن صيام الدهر ، وإنما الزهد التعفف عن الحرام ، وما يكرهه الله تعالى ، وتجنب مظاهر الترف والإفراط في متع الدنيا ، والإقبال على عمل الطاعات ، والتزود للآخرة بخير الزاد ، وخير تفسير له سيرة النبي صلى الله عليه وسلم العملية .
وبالله التوفيق ، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم" انتهى .
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء .
الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز ... الشيخ عبد الرزاق عفيفي ... الشيخ عبد الله بن
ديان ... الشيخ عبد الله بن قعود .
"فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء" (24/369) .
باب : بيان تفضيل الزهد فيما هو من ضروريات الحياة(1/211)
اعلم أن ما الناس منهمكون فيه ينقسم إلى فضول مهم؛ فالفضول كالخيل المسومة مثلاً، إذ غالب الناس إنما يقتنيها للترفه بركوبها وهو قادر على المشي والمهم كالأكل والشرب، ولسنا نقدر على تفصيل أصناف الفضول فإن ذلك لا ينحصر، وإنما ينحصر المهم الضروري، والمهم أيضاً يتطرق إليه الفضول في مقداره وجنسه وأوقاته، فلا بد من بيان وجه الزهد فيه، والمهمات ستة أمور: أولاً :المطعم .
ثانياً :الملبس .
ثالثاً : المسكن .
رابعاً : أثاث المسكن .
خامساً : المنكح .
سادساً : المال والجاه .
- وإليك بيان كيفية الزهد في هذه المهمات الست :
- أولاً بيان الزهد في المطعم:
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ(1/212)
لا بد للإنسان من قوت حلال يقيم صلبه ولكن له طول وعرض، فلا بد من قبض طوله وعرضه حتى يتم به الزهد؛ فأما طوله فبالإضافة إلى جملة العمر، فإن من يملك طعام يومه فلا يقنع به، وأما عرضه ففي مقدار الطعام وجنسه ووقت تناوله؛ أما طوله فلا يقصر إلا بقصر الأمل، وأقل درجات الزهد فيه الاقتصار على قدر دفع الجوع عند شدة الجوع وخوف المرض، ومن هذا حاله فإذا استقل بما تناوله لم يدخر من غدائه لعشائه، وهذه هي الدرجة العليا. الدرجة الثانية: أن يدخر لشهر أو أربعين يوماً. الدرجة الثالثة: أن يدخر لسنة فقط، وهذه رتبة ضعفاء الزهاد، ومن ادخر لأكثر من ذلك فتسميته زاهداً محال؛ لأن من أمل بقاء أكثر من سنة فهو طويل الأمل جداً فلا يتم منه الزهد إلا إذا لم يكن له كسب ولم يرض لنفسه الأخذ من أيدي الناس، كداود الطائي فإنه ورث عشرين ديناراً فأمسكها وأنفقها في عشرين سنة، فهذا لا يضاد أصل الزهد إلا عند من جعل التوكل شرط الزهد، وأما عرضه فبالإضافة إلى المقدار، وأقل درجاته في اليوم والليلة نصف رطل، وأوسطه رطل، وأعلاه مد واحد، وهو ما قدره الله تعالى في إطعام المسكين في الكفارة، وما وراء ذلك فهو من اتساع البطن والاشتغال به، ومن لم يقدر على الاقتصار على مد لم يكن له من الزهد في البطن نصيب، وأما بالإضافة إلى الجنس فأقله كل ما يقوت، ولو الخبز من النخالة، وأوسطه خبز الشعير والذرة، وأعلاه خبز البر غير منخول، فإذا ميز من النخالة وصار حواري فقد دخل في التنعم وخرج عن آخر أبواب الزهد فضلاً عن أوائله.(1/213)
وأما الأدم: فأقله الملح أو البقل والخل، وأوسطه الزيت أو يسير من الأدهان أي دهن كان، وأعلاه اللحم أي لحم كان، وذلك في الأسبوع مرة أو مرتين، فإن صار دائماً أو أكثر من مرتين في الأسبوع خرج عن آخر أبواب الزهد فلم يكن صاحبه زاهداً في البطن أصلاً، وأما بالإضافة إلى الوقت فأقله في اليوم والليلة مرة وهو أن يكون صائماً، وأوسطه أن يصوم ويشرب ليلة ولا يأكل، ويأكل ليلة ولا يشرب، وأعلاه أن ينتهي إلى أن يطوي ثلاثة أيام أو أسبوعاً وما زاد عليه، ولينظر إلى أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة رضوان الله عليهم في كيفية زهدهم في المطاعم وتركهم الأدم .
فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يمر على أهله الهلال ثم الهلال ثم الهلال لا يوقد في بيتهم النار، طعامهم الأسودان: التمر والماء
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في الصحيحين ) أنها قالت لعروة: ابن أختي، إن كنا لننظر إلى الهلال، ثم الهلال، ثلاثة أهلة في شهرين، وما أوقدت في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار. فقلت: يا خالة، ما كان يُعَيِّشُكُم؟ قالت: الأسودان التمر والماء، إلا أنه قد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم جيران من الأنصار، كانت لهم منائح، وكانوا يمنحون رسول الله صلى الله عليه وسلم من ألبانهم فيسقينا .
[*] قال الإمام ابن حجر في الفتح :
إن كنا لننظر إلى الهلال، ثم الهلال، ثلاثة أهلة في شهرين : المراد بالهلال الثالث هلال الشهر الثالث وهو يرى عند انقضاء الشهرين وبرؤيته يدخل أول الشهر الثالث .
وما أوقدت في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار : لا يوقد في شيء من بيوته نار لا لخبز ولا لطبخ .
ما كان يُعَيِّشُكُم ؟ بضم أوله يقال أعاشه الله أي أعطاه العيش .
الأسودان التمر والماء : قال الصغاني الاسودان يطلق على التمر والماء والسواد للتمر دون الماء فنعتا بنعت واحد تغليبا وإذا اقترن الشيئان سميا باسم أشهرهما .(1/214)
منائح : جمع منيحة بنون وحاء مهملة
( حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري ) قال : ما أكل النبي صلى الله عليه وسلم خبزاً مرققاً، ولا شاة مسموطة حتى لقي الله .
[*] قال الحافظ بن حجر في الفتح :
ما أكل النبي صلى الله عليه وسلم خبزاً مرققاً : وأكل المرقق إنما هو لدفع طيبات الدنيا اختيارا لطيبات الحياة الدائمة .
ولا شاة مسموطة : المسموط الذي ازيل شعره بالماء المسخن وشوى بجلده أو يطبخ وإنما يصنع ذلك في الصغير السن الطري وهو من فعل المترفين من وجهين أحدهما المبادرة إلى ذبح ما لو بقي لازداد ثمنه وثانيهما أن المسلوخ ينتفع بجلده في اللبس وغيره .
( حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري ) قال : ما علمت النبي صلى الله عليه وسلم أكل على سُكُرُّجَةٍ قطُّ، ولا خُبِزَ له مرقَّق قطُّ، ولا أكل على خِوَان قطُّ. قيل لقتادة: فعلى ما كانوا يأكلون؟ قال: على السُّفَر.
[*] قال صاحب تحفة الأحوذي :
( سُكُرُّجَةٍ) بِضَمِّ السِّينِ وَالْكَافِ وَالرَّاءِ وَالتَّشْدِيدِ إِنَاءٌ صَغِيرٌ يُؤْكَلُ فِيهِ الشَّيْءُ الْقَلِيلُ مِنَ الْأُدْمِ وَهِيَ فَارِسِيَّةٌ، وَأَكْثَرُ مَا يُوضَعُ فِيهِ الْكَوَامِخُ وَنَحْوُهَا كَذَا فِي النِّهَايَةِ.
قَالَ الْعِرَاقِيُّ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ: تَرْكُهُ الْأَكْلَ فِي السُّكُرُّجَةِ إِمَّا لِكَوْنِهَا لَمْ تَكُنْ تُصْنَعُ عِنْدَهُمْ إِذْ ذَاكَ أَوِ اسْتِصْغَارًا لَهَا؛ لِأَنَّ عَادَتَهُمْ لِلِاجْتِمَاعِ عَلَى الْأَكْلِ أَوْ لِأَنَّهَا كَانَتْ تُعَدُّ لِوَضْعِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي تُعِينُ عَلَى الْهَضْمِ وَلَمْ يَكُونُوا غَالِبًا يَشْبَعُونَ فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ حَاجَةٌ بِالْهَضْمِ انْتَهَى.
(عَلَى خِوَانٍ) بِكَسْرِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَيُضَمُّ أَيْ مَائِدَةٍ.
وكان يربط الحجر على بطنه من الجوع :(1/215)
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يربط الحجر على بطنه من الغرث .
الغرث : الجوع
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة ) قالت : ما شبع رسول الله صلى الله عليه وسلم من خبز شعير يومين متتابعين .
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت الثابت في الصحيحين) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا .
قوتاً : أي شيءٌ يسدُ الرمق .
[*] قال الإمام ابن حجر في الفتح :
قوتاً :أي اكفهم من القوت بما لا يرهقهم الى ذل المسألة ولا يكون فيه فضول تبعث على الترفه والتبسط في الدنيا وفيه حجة لمن فضل الكفاف لأنه إنما يدعو لنفسه وآله بأفضل الأحوال .
( حديث عبد الله بن عمر الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (قد أفلح من أسلم ورُزق كفافاً و قنَّعه الله بما آتاه .
[*] قال الإمام النووي في شرح صحيح مسلم :
ورُزق كفافاً : الكفاف الكفاية بلا زيادة ولا نقص، وفيه فضيلة هذه الأوصاف :
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
( قد أفلح من أسلم ورزق كفافاً ) أي ما يكف عن الحاجات ، ويدفع الضرورات والفاقات ، ولا يلحقه بأهل الترفهات . قال القاضي : الفلاح الفوز بالبغية(1/216)
( وقنعه اللّه بما آتاه ) بمد الهمزة أي جعله قانعاً بما أعطاه إياه ولم يطلب الزياد لمعرفته أن رزقه مقسوم لن يعدو ما قدر له والفلاح الفوز بالبغية في الدارين والحديث قد جمع بينهما والمراد بالرزق الحلال منه فإن المصطفى صلى اللّه تعالى عليه وعلى آله وسلم مدح المرزوق وأثبت له الفلاح وذكر الأمرين وقيد الثاني بقنع أي رزق كفافاً وقنعه اللّه بالكفاف فلم يطلب الزيادة وأطلق الأوّل ليشمل جميع ما يتناوله الإسلام ذكره الطيبي وصاحب هذه الحالة معدود من الفقراء لأنه لا يترفه في طيبات الدنيا بل يجاهد نفسه في الصبر على القدر الزائد على الكفاف فلم يفته من حال الفقراء إلا السلامة من قهر الرجال وذل المسألة .
(حديث عبيد الله بن محصن الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :( من أصبح منكم آمناً في سربه معافى في جسده عنده قوتُ يومه فكأنما حيزت له الدنيا .
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
( من أصبح منكم آمنا في سربه ) بكسر السين على الأشهر أي في نفسه وروي بفتحها أي في مسلكه وقيل بفتحتين أي في بيته
( معافى في جسده ) أي صحيحاً بدنه
( عنده قوت يومه ) أي غذاؤه وعشاؤه الذي يحتاجه في يومه ذلك ، يعني من جمع اللّه له بين عافية بدنه وأمن قلبه حيث توجه وكفاف عيشه بقوت يومه وسلامة أهله فقد جمع اللّه له جميع النعم التي من ملك الدنيا لم يحصل على غيرها فينبغي أن لا يستقبل يومه ذلك إلا بشكرها بأن يصرفها في طاعة المنعم لا في معصية ولا يفتر عن ذكره
( فكأنما حيزت ) بكسر المهملة
( له الدنيا ) أي ضمت وجمعت(1/217)
( بحذافيرها ) أي بجوانبها أي فكأنما أعطي الدنيا بأسرها ، ومن ثم قال نفطويه : إذا ما كساك الدهر ثوب مصحة * ولم يخل من قوت يحلى ويعذب فلا تغبطن المترفين فإنه * على حسب ما يعطيهم الدهر يسلب وقال : إذا القوت يأتي لك والصحة والأمن * وأصبحت أخا حزن فلا فارقك الحزن وفيه حجة لمن فضل الفقر على الغنى .
[*] قال يحيى بن معاذ الرازي: الزاهد الصادق قوته ما وجد، ولباسه ما ستر، ومسكنه حيث أدرك، الدنيا سجنه، والقبر مضجعه، والخلو مجلسه، والاعتبار فكرته، والقرآن حديثه، والرب أنيسه، والذكر رفيقه، والزهد قرينه، والحزن شأنه، والحياء شعاره، والجوع إدامه، والحكمة كلامه، والتراب فراشه، والتقوى زاده، والصمت غنيمته والصبر معتمده، والتوكل حسبه، والعقل دليله، والعبادة حرفته والجنة مبلغه إن شاء الله تعالى.
- ثانيا ً كيفية الزهد في الملبس :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
وأقل درجته ما يدفع الحر والبرد ويستر العورة. وهو كساء يتغطى به، وأوسطه قميص وقلنسوة ونعلان ، وأعلاه أن يكون معه منديل وسراويل. وما جاوز هذا من حيث المقدار فهو مجاوز حد الزهد.
وشرط الزاهد: أن لا يكون له ثوب يلبسه إذا غسل ثوبه. بل يلزمه القعود في البيت. فإذا صار صاحب قميصين وسراويلين ومنديلين فقد خرج من جميع ألوان الزهد من حيث المقدار. أما الجنس فأقله المسوح الخشنة وأوسطه الصوف الخشن وأعلاه القطن الغليظ. وأما من حيث الوقت فأقصاه ما يستر سنة، وأقله ما يبقى يوماً حتى رقع بعضهم ثوبه بورق الشجر وإن كان يتسارع الجفاف إليه، وأوسطه ما يتماسك عليه شهراً وما يقاربه فطلب ما يبقى أكثر من سنة خروج إلى طول الأمل وهو مضاد للزهد، وإلا إذا كان المطلوب خشونته، ثم قد يتبع ذلك قوته ودوامه؛ فمن وجد زيادة من ذلك فينبغي أن يتصدق به، فإن أمسكه لم يكن زاهداً بل كان محباً للدنيا، ولينظر فيه إلى أحوال الأنبياء والصحابة كيف تركوا الملابس:(1/218)
(حديث عائشة في الصحيحين) أنها أخرجت كساءاً وإزاراً غليظاً فقالت : قُبِضَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذين .
(حديث أبي أُمامةَ في صحيحي أبي داوود وابن ماجة) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: البذاذةُ من الإيمان. [*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
( البذاذة ) بفتح الموحدة وذالين معجمتين قال الراوي : يعني التقحل بالقاف وحاء مهملة رثاثة الهيئة وترك الترفه وإدامة التزين والتنعم في البدن والملبس إيثاراً للخمول بين الناس
( من الإيمان ) أي من أخلاق أهل الإيمان إن قصد به تواضعاً وزهداً وكفاً للنفس عن الفخر والتكبر لا إن قصد إظهار الفقر وصيانة المال وإلا فليس من الإيمان من عرَّض النعمة للكفران وأعرض عن شكر المنعم المنان فالحسن والقبح في أشباه هذا بحسب قصد القائم بها إنما الأعمال بالنيات ( تنبيه ) قال العارف ابن عربي : عليك بالبذاذة فإنها من الإيمان وورد اخشوشنوا وهي من صفات الحاج وصفة أهل القيامة فإنهم غبر شعث عراة حفاة وذلك أنفى للكبر وأبعد من العجب والزهو والخيلاء والصلف وهي أمور ذمها الشرع والعرف فلذلك جعلها من الإيمان وألحقها بشعبه فإن المصطفى صلى اللّه عليه وسلم قال : الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها لا إله إلا اللّه وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ولا شك أن الزهو والعجب والكبر أذى في طريق سعادة المؤمن ولا يماط هذا الأذى إلا بالبذاذة فلذلك جعلها من الإيمان .
(حديث معاذ في صحيح الجامع) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إياك و التنعم فإن عباد الله ليسوا بالمتنعمين .
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:(1/219)
( إياك والتنعم فإن عباد اللّه ليسوا بالمتنعمين ) لأن التنعم بالمباح وإن كان جائزاً لكنه يوجب الأنس به ثم إن هذا محمول على المبالغة في التنعم والمداومة على قصده فلا ينافيه ما ورد في المستدرك وغيره أن المصطفى صلى اللّه عليه وسلم أهديت له حلة اشتريت بثلاثة وثلاثين بعيراً وناقة فلبسها مرة على أنه وإن داوم على ذلك فليس غيره مثله فإن المعصوم واقف على حدود المباح فلا يحمله ذلك على ما يخاف غائلته من نحو بطر وأشر ومداهنة وتجاوز إلى مكروه ونحو ذلك وأما غيره فعاجز عن ذلك فالتفريج على تنعمه بالمباح خطر عظيم لإبعاده عن الخوف قال العارف الجنيد : دخلت على العارف السري وهو يبكي فسألته فقال : جاءته البارحة الصبية فقالت : يا أبت هذا الكوز أعلقه لك يبرد فنمت فرأيت جارية من أحسن الخلق نزلت من السماء فقلت : لمن أنت قالت : لمن لا يشرب الماء المبرد فكسرت الكوز .
[*] وعد على قميص عمر رضي الله عنه اثنتا عشرة رقعة بعضها من أدم.
[*] واشترى علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ثوباً بثلاثة دراهم ولبسه وهو في الخلافة وقطع كميه من الرسغين وقال: الحمد لله الذي كساني هذا من رياشه.
[*] وقال الثوري وغيره: البس من الثياب ما لا يشهرك عند العلماء ولا يحقرك عند الجهال، وكان يقول: إن الفقير ليمر بي وأنا أصلي فأدعه يجوز، ويمر بي واحد من أبناء الدنيا وعليه هذه البزة فأمقته ولا أدعه يجوز.
[*] وقال بعضهم: قومت ثوبي سفيان ونعليه بدرهم وأربعة دوانق.
[*] وقال ابن شبرمة: خير ثيابي ما خدمني وشرها ما خدمته.
[*] وقال بعض السلف: البس من الثياب ما يخلطك بالسوقة، ولا تلبس منها ما يشهرك فينظر إليك.
[*] وقال أبو سليمان الداراني: الثياب ثلاثة: ثوب لله وهو ما يستر العورة، وثوب للنفس وهو ما يطلب لينه، وثوب للناس وهو ما يطلب جوهره وحسنه.
[*] وقال بعضهم: من رق ثوبه رق دينه.(1/220)
وكان جمهور العلماء من التابعين قيمة ثيابهم ما بين العشرين إلى الثلاثين درهماً، وكان الخواص لا يلبس أكثر من قطعتين قميص ومئزر تحته، وربما يعطف ذيل قميصه على رأسه.
وقال بعض السلف: أول النسك الزي.
[*] وقال علي كرم الله وجهه: إن الله تعالى أخذ على أئمة الهدى أن يكونوا في مثل أدنى أحوال الناس ليقتدي بهم الغني ولا يزري بالفقير فقره.ولما عوتب في خشونة لباسه قال: هو أقرب إلى التواضع وأجدر أن يقتدي به المسلم.
[*] وقال علي لعمر رضي الله عنهما: إن أردت أن تلحق بصاحبيك فارفع القميص ونكس الإزار واخصف النعل وكل دون الشبع.
[*] وقال عمر: اخشوشنوا وإياكم وزي العجم كسرى وقيصر.
[*] وقال علي كرم الله وجهه: من تزيا بزي قوم فهو منهم.
وعلى الزاهد أن يحذر لباس الشهرة فإنه حرام فضلاً عن كونه يعارض الزهد من كل جانب
(حديث ابن عمر في صحيحي أبي داوود وابن ماجة) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من لبس ثوبَ شُهْرة ألبسه الله يوم القيامة ثوب مَذَلةٍ ثم يُلْهِبُ فيه النار .
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
( من لبس ثوب شهرة )قال القاضي :الشهرة ظهور الشيء في شنعة بحيث يشتهر به .
( ألبسه اللّه يوم القيامة ) التي هي دار الجزاء وكشف الغطاء
( ثوب مَذَلةٍ ) أي يشمله بالذل كما يشمل الثوب البدن في ذلك الجمع الأعظم بأن يصغره في العيون ويحقره في القلوب لأنه لبس شهوة الدنيا ليفتخر بها على غيره فيلبسه اللّه مثله
( ثم يلهب فيه النار ) عقوبة له بنقيض فعله والجزاء من جنس العمل فأذله اللّه كما عاقب من أطال ثوبه خيلاء بأن خسف به فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة ولبس الدنيء من الثياب يذم في موضع ويحمد في موضع فيذم إذا كان شهرة وخيلاء ويمدح إذا كان تواضعاً واستكانة كما أن لبس الرفيع منها يذم إذا كان لكبر أو فخر ويمدح إذا كان تجملاً وإظهاراً للنعمة .
- ثالثاً بيان الزهد في المسكن :(1/221)
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
وللزهد فيه أيضاً ثلاث درجات: أعلاها أن لا يطلب موضعاً خاصاً لنفسه فيقنع بزاويا المساجد كأصحاب الصفة. وأوسطها: أن لا يطلب موضعاً خاصاً لنفسه مثل كوخ مبني من سعف أو خص أو ما يشبهه، وأدناها أن يطلب حجرة مبنية إما بشراء أو إجارة؛ فإن كان قدر سعة المسكن على قدر حاجته من غير زيادة ولم يكن فيه زينة لم يخرجه هذا القدر عن آخر درجات الزهد؛ فإن طلب التشييد والتجصيص والسعة وارتفاع السقف أكثر من ستة أذرع فقد جاوز بالكلية حد للزهد في المسكن، فاختلاف جنس البناء بأن يكون من الجص أو القصب أو بالطين أو بالآجر، واختلاف قدره بالسعة والضيق، واختلاف طوله بالإضافة إلى الأوقات بأن يكون مملوكاً أو مستأجراً أو مستعاراً، والزهد مدخل في جميع ذلك. وبالجملة كل ما يراد للضرورة فلا ينبغي أن يجاوز حد الضرورة، وقدر الضرورة من الدنيا آلة الدين ووسيلته، وما جاوز ذلك فهو مضاد للدين والغرض من المسكن دفع المطر والبرد ودفع الأعين والأذى، وأقل الدرجات فيه معلوم، وما زاد عليه فهو الفضول والفضول كله من الدنيا وطالب الفضول والساعي له بعيد من الزهد جداً، وتأمل في الحديث الآتي بعين الاعتبار :
( حديث عبد الله ابن عمرو رضي الله عنهما الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي ) قال : مَرَّ علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وحن نعالج خصا لنا وَهَى ، فقال: "" ما هذا ؟ "" فقلنا: خصٌ لنا وَهَى فنحن نصلحه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "" ما أرى الأمر إلا أعجل من ذلك .
نعالج خصا لنا : الخص: بيت يعمل من الخشب والقصب .
وَهَى : بفتح الواو والهاء: أي خرب أو كاد .
ما أرى الأمر إلا أعجل من ذلك :
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
( ما أرى الأمر ) يعني الموت(1/222)
( إلا أعجل من ذلك ) أي من أن يبني الإنسان لنفسه بناء ويشيده فوق ما لا بد منه فقد اتخذ نوح بيتاً من قصب فقيل له : لو بنيت فقال : هذا كثير لمن يموت وقيل لسليمان : ما لك لا تبني قال : ما للعبد وللبناء فإذا أعتق فله واللّه قصور لا تبلى أبداً .
وقد قيل: أول شيء ظهر من طول الأمل بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم التدريز والتشييد، يعني بالتدريز: كف دروز الثياب فإنها كانت تشل شلاً والتشييد: هو البنيان بالجص والآجر، وإنما كانوا يبنون بالسعف والجريد (1) .
[*] وقال الحسن: مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يضع لبنة على لبنة ولا قصبة على قصبة (2) .
واتخذ نوحاً عليه السلام بيتاً من قصب. فقيل له: لو بنيت؟ فقال: هذا كثير لمن يموت .
[*] وقال الحسن: دخلنا على صفوان بن محيريز وهو في بيت من قصب قد مال عليه، فقيل له: لو أصلحته؟ فقال: كم من رجل قد مات وهذا قائم على حاله.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " من بنى فوق ما يكفيه كلف أن يحمله يوم القيامة" (3) .
__________
(1) حديث كانت الثياب تشل شلا وكانوا يبنون بالسعف والجريد أما شل الثياب من غير كف فروى الطبراني والحاكم أن عمر قطع ما فضل عن الأصابع من غير كف وقال هكذا رأيت رسول الله ? وأما البناء ففي الصحيحين من حديث أنس في قصة بناء مسجد المدينة فصفوا النخل قبلة المسجد وجعلوا عضادتيه الحجارة الحديث ولهما من حديث أبي سعيد كان المسجد على عريش فوكف المسجد.
(2) حديث الحسن مات رسول الله ? ولم يضع لبنة على لبنة الحديث رواه ابن حبان في الثقات وأبو نعيم في الحلية هكذا مرسلا والطبراني في الأوسط من حديث عائشة من سأل عني أو سره أن ينظر إلي فلينظر إلى أشعث شاحب مشمر لم يضع لبنة على لبنة الحديث وإسناده ضعيف.
(3) حديث من بنى فوق ما يكفيه كلف يوم القيامة أن يحمله رواه الطبراني من حديث ابن مسعود بإسناد فيه لين وانقطاع.(1/223)
[*] ونظر عمر رضي الله عنه في طريق الشام إلى صرح قد بني بجص وآجر، فكبر وقال: ما كنت أظن أن يكون في هذه الأمة من يبني بنيان هامان لفرعون؛ يعني قول فرعون " فأوقد لي يا هامان على الطين " يعني به الآجر، ويقال: إن فرعون هو أول من بني له بالجص والآجر، وأول من عمله هامان، ثم تبعهما الجبابرة، وهذا هو الزخرف.
[*] ورأى بعض السلف جامعاً في بعض الأمصار فقال: أدركت هذا المسجد مبنياً من الجريد والسعف، ثم رأيته من رهص، ثم رأيته الآن مبنياً باللبن، فكان أصحاب السعف خيراً من أصحاب الرهص خير من أصحاب اللبن.
وكان من السلف من يبني داره مراراً في مدة عمره لضعف بنائه وقصر أمله وزهده في إحكام البنيان، وكان منهم من إذا حج أو غزا نزع بيته أو وهبه لجيرانه، فإذا رجع أعاده، وكانت بيوتهم من الحشيش والجلود وهي عادة العرب الآن ببلاد اليمن، وكان ارتفاع بناء السقف قامة وبسطة.
[*] وقال الحسن: كنت إذا دخلت بيوت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضربت بيدي إلى السقف.
[*] وقال عمرو بن دينار: إذا أعلى العبد البناء فوق ستة أذرع ناداه ملك: إلى أين يا أفسق الفاسقين؟.
[*] وقد نهى سفيان عن النظر إلى بناء مشيد وقال: لولا نظر الناس لما شيدوا فالنظر إليه معين عليه.
[*] وقال الفضيل: إني لم أعجب ممن بنى وترك، ولكن أعجب ممن نظر ولم يعتبر.
[*] وقال ابن مسعود رضي الله عنه: يأتي قوم يرفعون الطين ويضعون الدين ويستعملون البرازين. يصلون إلى قبلتكم ويموتون على غير دينكم.
- رابعاً بيان الزهد في أثاث البيت :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ(1/224)
وللزهد فيه أيضاً درجات: أعلاها حال عيسى المسيح صلوات الله عليه وسلامه وعلى كبد عبد مصطفى، إذ كان لا يصحبه إلا مشط وكوز فرأى إنساناً يمشط لحيته بأصابعه، فرمى بالمشط، ورأى آخر يشرب من النهر بكفيه فرمى الكوز، وهذا حكم كل أثاث، فإنه إنما يراد المقصود، فإذا استغنى عنه فهو وبال في الدنيا والآخرة، وما لا يستغنى عنه فيقتصر فيه على أقل الدرجات وهو الخزف في كل ما يكفي فيه الخزف ولا يبالي بأن يكون مكسور الطرف إذا كان المقصود يحصل به.
وأوسطها أن يكون له أثاث بقدر الحاجة صحيح في نفسه ولكن يستعمل الآلة الواحدة في مقاصد، كالذي معه قصعة يأكل فيها ويشرب فيها ويحفظ المتاع فيها، وكان السلف يستحبون استعمال آلة واحدة في أشياء للتخفيف.
وأدناها أن يكون له بعدد كل حاجة آلة من الجنس النازل الخسيس، فإن زاد في العدد أو في نفاسة الجنس خرج عن جميع أبواب الزهد وركن إلى طلب الفضول، ولينظر إلى سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، وتأمل في الأحاديث الآتية بعين الاعتبار :
( حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيح مسلم ) قالت: إنما كان فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ينام عليه أدماً حشوه ليف.
[*] قال الإمام النووي في شرح صحيح مسلم :
وفي الحديث ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من الزهادة في الدنيا والإعراض عن متاعها وملاذها وشهواتها وفاخر لباسها ونحوه واجتزائه بما يحصل به أدنى التجزية في ذلك كله، وفيه الندب للاقتداء به صلى الله عليه وسلم في هذا وغيره.
[*] وقال صاحب تحفة الأحوذي :
وَالْأَدَمُ بِفَتْحَتَيْنِ: اسْمٌ لِجَمْعِ الْأَدِيمِ وَهُوَ الْجِلْدُ الْمَدْبُوغُ عَلَى مَا فِي الْمُغْرِبِ(1/225)
(حَشْوُهُ لِيفٌ) : قَالَ فِي الْقَامُوسِ: لِيفُ النَّخْلِ بِالْكَسْرِ مَعْرُوفٌ. وَقَالَ فِي الصُّرَاحِ لِيفٌ بِالْكَسْرِ يوست درخت خرما. وَفِي الْحَدِيثِ جَوَازُ اتِّخَاذِ الْفِرَاشِ،، وَالْوِسَادَةِ وَالنَّوْمِ عَلَيْهَا وَالِارْتِفَاقِ بِهَا، قَالَهُ النَّوَوِيُّ. قَالَ الْقَارِيُّ: الْأَظْهَرُ أَنَّهُ يُقَالُ فِيهِ بِالِاسْتِحْبَابِ لِمُدَاوَمَتِهِ عَلَيْهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلِأَنَّهُ أَكْمَلُ لِلِاسْتِرَاحَةِ الَّتِي قُصِدَتْ بِالنَّوْمِ لِلْقِيَامِ عَلَى النَّشَاطِ فِي الْعِبَادَةِ.
(حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة ) قال نام رسول الله صلى الله عليه وسلم على حصير فقام وقد أثر في جنبه قلنا يا رسول الله لو اتخذنا لك وطاء فقال ما لي وللدنيا ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها .
[*] قال صاحب تحفة الأحوذي :
( فَقَامَ ) أَيْ عَنِ النَّوْمِ
( وَقَدْ أَثَّرَ ) أَيْ أَثَّرَ الْحَصِيرُ
( لَوِ اتَّخَذْنَا لَكَ وِطَاءً ) بِكَسْرِ الجزء السابع الْوَاوِ وَفَتْحِهَا كَكِتَابٍ وَسَحَابٍ أَيْ فِرَاشًا وَكَلِمَةُ ( لَوْ ) تَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ لِلتَّمَنِّي وَأَنْ تَكُونَ لِلشَّرْطِيَّةِ وَالتَّقْدِيرُ لَوِ اتَّخَذْنَا لَكَ بِسَاطًا حَسَنًا وَفِرَاشًا لَيِّنًا لَكَانَ أَحْسَنَ مِنَ اضْطِجَاعِكَ عَلَى هَذَا الْحَصِيرِ الْخَشِنِ(1/226)
( مَالِي وَلِلدُّنْيَا ) قَالَ الْقَارِي: مَا نَافِيَةٌ أَيْ لَيْسَ لِي أُلْفَةٌ وَمَحَبَّةٌ مَعَ الدُّنْيَا وَلَا لِلدُّنْيَا أُلْفَةٌ وَمَحَبَّةٌ مَعِي حَتَّى أَرْغَبَ إِلَيْهَا، وَأَنْبَسِطُ عَلَيْهَا وَأَجْمَعُ مَا فِيهَا وَلَذَّتِهَا أَوِ اسْتِفْهَامِيَّةٌ أَيْ: أَيُّ أُلْفَةٍ وَمَحَبَّةٍ لِي مَعَ الدُّنْيَا أَوْ أَيُّ شَيْءٍ لِي مَعَ الْمَيْلِ إِلَى الدُّنْيَا أَوْ مَيْلِهَا إِلَيَّ فَإِنِّي طَالِبُ الْآخِرَةِ وَهِيَ ضَرَّتُهَا الْمُضَادَّةُ لَهَا. قَالَ وَاللَّامُ فِي لِلدُّنْيَا مُقْحَمَةٌ لِلتَّأْكِيدِ إِنْ كَانَ الْوَاوُ بِمَعْنَى مَعَ وَإِنْ كَانَ لِلْعَطْفِ فَالتَّقْدِيرُ مَالِي مَعَ الدُّنْيَا وَمَا لِلدُّنْيَا مَعِي
( { اسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا } (1) ) وَجْهُ التَّشْبِيهِ سُرْعَةُ الرَّحِيلِ وَقِلَّةُ الْمُكْثِ وَمِنْ ثَمَّ خَصَّ الرَّاكِبَ.
( حديث أبي بردة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) قال * دخلت على عائشة فأخرجت إلينا إزارا غليظا مما يصنع باليمن وكساء من التي يسمونها الملبدة قال فأقسمت بالله إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبض في هذين الثوبين .
[*] قال الإمام النووي في شرح صحيح مسلم :
الملبدة : قال العلماء الملبد بفتح الباء وهو المرقع، يقال: لبدت القميص ألبده بالتخفيف فيهما، ولبدته ألبده بالتشديد، وقيل هو الذي ثخن وسطه حتى صار كاللبد.
[*] وقال الحسن: أدركت سبعين من الأخيار ما لأحدهم إلا ثوبه وما وضع أحدهم بينه وبين الأرض ثوباً قط: كان إذا أراد النوم باشر الأرض بجسمه وجعل ثوبه فوقه.
- خامساً بيان الزهد في المنكح :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
__________
(1) - سنن أبي داود اللباس (4104).(1/227)
لا معنى للزهد في أصل النكاح ولا في كثرته، وإليه ذهب سهل بن عبد الله وقال: قد حبب إلى سيد الزاهدين النساء فكيف تزهد فيهن؟ ولا شك أن النبي إمام العابدين وسيد الزاهدين وهو - صلى الله عليه وسلم - لا يفعل إلا الأفضل وكان أزهد الصحابة علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكان له أربع نسوة وبضع عشرة سرية.
- سادساً بيان الزهد في المال والجاه :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ
أما المال فهو ضروري في المعيشة أعني القليل منه، فإن كان كسوباً فإذا اكتسب حاجة يومه فينبغي أن يترك الكسب، كان بعضهم إذا اكتسب حبتين رفع سفطه وقام، هذا شرط الزهد؛ وتأمل في الحديث الآتي بعين الاعتبار :
(حديث عبيد الله بن محصن الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :( من أصبح منكم آمناً في سربه معافى في جسده عنده قوتُ يومه فكأنما حيزت له الدنيا )
( حديث عبد الله بن عمر الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (قد أفلح من أسلم و رُزق كفافاً و قنَّعه الله بما آتاه )
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :( اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا .
قوتاً : أي شيءٌ يسدُ الرمق .(1/228)
فإن جاوز ذلك إلى ما يكفيه أكثر من سنة فقد خرج عن حد ضعفاء الزهاد وأقويائهم جميعاً، وإن كانت له ضيعة ولم يكن له قوة يقين في التوكل فأمسك منها مقدار ما يكفي ريعه لسنة واحدة فلا يخرج بهذا القدر عن الزهد بشرط أن يتصدق بكل ما يفضل عن كفاية سنته، ولكن يكون من ضعفاء الزهاد، فإن شرط التوكل في الزهد كما شرطه أويس القرني رحمه الله، فلا يكون هذا من الزهاد. وقولنا: إنه خرج من حد الزهاد نعني به أن ما وعد للزاهدين في الدار الآخرة من المقامات المحمودة لا يناله، وإلا فاسم الزهد قد لا يفارقه بالإضافة إلى ما زهد فيه من الفضول والكثرة، وأمر المنفرد في جميع ذلك أخف من أمر المعيل، وقد قال أبو سليمان: لا ينبغي أن يرهق الرجل أهله إلى الزهد بل يدعوهم إليه، فإن أجابوا وإلا تركهم وفعل بنفسه ما شاء: معناه أن التضييق المشروط على الزاهد يخصه ولا يلزمه كل ذلك في عياله، نعم لا ينبغي أن يجيبهم أيضاً فيما يخرج عن حد الاعتدال .(1/229)
وأما الجاه فمعناه ملك القلوب بطلب محل فيها ليتوصل به إلى الاستعانة في الأغراض والأعمال، وكل من لا يقدر على القيام بنفسه في جميع حاجته وافتقر إلى من يخدمه افتقر إلى جاه لا محالة في قلب خادمه، لأنه إن لم يكن له عنده محل وقدر لم يقم بخدمته، وقيام القدر والمحل في القلوب هو الجاه؛ وهذا له أول قريب ولكن يتمادى به إلى هاوية لا عمق لها، ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه، وإنما يحتاج إلى المحل في القلوب إما لجلب نفع أو لدفع ضر أو لخلاص من ظلم، فأما النفع فيغني عنه المال فإن من يخدم بأجرة يخدم وإن لم يكن عنده للمستأجر قدر، وإنما يحتاج إلى الجاه في قلب من يخدم بغير أجرة، وأما دفع الضر فيحتاج لأجله إلى الجاه في بلد لا يكمل فيه العدل، أو يكون بين جيران يظلمونه ولا يقدر على دفع شرهم إلا بمحل له في قلوبهم أو محل له عند السلطان، وقدر الحاجة فيه لا ينضبط لا سيما إذا انضم إليه الخوف وسوء الظن بالعواقب، والخائض في طلب الجاه سالك طريق الهلاك، بل حق الزاهد أن لا يسعى لطلب المحل في القلوب أصلاً فإن اشتغاله بالدين والعبادة يمهد له من المحل في القلوب ما يدفع به عنه الأذى ولو كان بين الكفار، فكيف بين المسلمين، فأما التوهمات والتقديرات التي تحوج إلى زيادة في الجاه على الحاصل بغير كسب فهي أوهام كاذبة، إذ من طلب الجاه أيضاً لم يخل عن أذى في بعض الأحوال، فعلاج ذلك بالاحتمال والصبر أولى من علاجه بطلب الجاه، فإذن طلب المحل في القلوب لا رخصة فيه أصلاً، واليسير منه داع إلى الكثير، وضراوته أشد من ضراوة الخمر فليحترز من قليله وكثيره،
والجدير بالذكر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعلم أصحابه إيثار الخمول والبعد عن الجاه أو الشهرة لما في ذلك من حصول التواضع والإخلاص وصلاح القلب وتأمل في الأحاديث الآتية بعين الاعتبار :(1/230)
(حديث سعد ابن أبي وقاص في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي .
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
( إن اللّه تعالى يحب العبد التقي ) بمثناة فوقية من يترك المعاصي امتثالاً للمأمور به واجتناباً للمنهي عنه وهو [ ص 289 ] فعيل من الوقاية تاؤه مقلوبة عن واو وقيل هو المبالغ في تجنب الذنوب
( الغني ) غنى النفس كما جزم به في الرياض وهو الغني المحبوب وأشار البيضاوي وعياض والطيبي إلى أن المراد غنى المال والمال غير محذور لعينه بل لكونه يعوق عن اللّه فكم من غني لم يشغله غناه عن اللّه وكم من فقير شغله فقره عن اللّه فالتحقيق أنه لا يطلق القول بتفضيل الغني على الفقير وعكسه
( الخفي ) بخاء معجمة أي الخامل الذكر المعتزل عن الناس الذي يخفي عليهم مكانه ليتفرغ للتعبد قال ابن حجر وذكر للتعميم إشارة إلى ترك الرياء وروى بمهملة ومعناه الوصول للرحم اللطيف بهم وبغيرهم من الضعفاء قال الطيبي والصفات الثلاثة الجارية على العبد واردة على التفضيل والتمييز فالتقى مخرج للعاصي والغني للفقير والخفي على الروايتين لما يضادها فإذا قلنا إن المراد بالغنى غنى القلب اشتمل على الفقير الصابر والغني الشاكر منهم وفيه على الأول حجة لمن فضل الاعتزال وآثر الخمول على الاشتهار . قال بعض العارفين : طريق القوم لا تصلح إلا لمن كنست بأرواحهم المزابل ، وقيل : ليس الخمول بعار * على امرئ ذي كمال * فليلة القدر تخفى * وتلك خير الليالي .
(حديث الزبير بن العوام في صحيح الجامع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :من استطاع منكم أن يكون له خَبِءٌ من عمل صالح فليفعل .
خَِبٌِء من عمل صالح : أي من الأعمال الخفيّة التي لا يطّلع عليها أحد من الناس, خالية من الرياء, فتكون خالصة لله تبارك و تعالى مثل صلاة النافلة في جوف الليل أو صدقة السر أو أي عمل آخر من الأعمال الصالحة .(1/231)
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
( من استطاع ) أي قدر إذ هي والقدرة والقوة إذا أطلقت في حق العبد ألفاظ مترادفة عند أهل الأصول كما سبق
( أن يكون له خبء ) أي شيء مخبوء أي مدخر
( من عمل صالح فليفعل ) أي من قدر منكم أن يمحو ذنوبه بفعل الأعمال الصالحة فليفعل ذلك وحذف المفعول اختصاراً ، قال ابن الكمال : والاستطاعة عرض يخلقه اللّه في الحيوان يفعل به الأفعال الاختيارية .
(حديث معاذ في صحيح الجامع) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : استعينوا على إنجاح الحوائج بالكتمان فإن كل ذي نعمة محسود .
(حديث أبي هريرة في صحيح البخاري) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : تعس عبد الدينار ،و عبد الدرهم ، و عبد الخميصة ، ، إن أُعطِيَ ؛ رضي ، وإن لم يُعط ، سخط ، تعس وأنتكس ، وإذا شيك فلا انتقش . طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله ، أشعثٌ رأسُه ، مغبَّرةٌ قدماه ، إن كان في الحراسة ، كان في الحراسة ، وإن كان في الساقة ، كان في الساقة ، إن أستأذن ، لم يؤذن له ، وأن شفع ، لم يشفع "
قوله : " تَعِس " . بفتح العين أو كسرها ، أي : خاب وهلك .
قوله : " عبد الدينار" الدينار : هو النقد من الذهب ، وسماه عبد الدينار ، لأنه تعلق به تعلق العبد بالرب فكان أكبر همه ، وقدمه على طاعة ربه ، ويقال في عبد الدرهم ما قيل في عبد الدينار ، والدرهم هو النقد من الفضة.
قوله : " [و عبد الخميصة] ، وهذا من يعنى بمظهره ، لأن الخميصة كساء جميل ، ليس له هم إلا هذا الأمر ، فإذا كان عابداً لهذه الأمور لأنه صرف لها جهوده وهمته ، فكيف بمن أراد بالعمل الصالح شيئاً من الدنيا فجعل الدين وسيلة للدنيا ؟ لِلَّهِ فهذا أعظم .(1/232)
قوله : " إن أعطي رضي ، وإن لم يعط سخط " . يحتمل أن يكون المعطي هو الله فيكون الإعطاء قدرياً ، أي : إن قدر الله له الرزق والعطاء رضي وانشرح صدره ، وإن منع وحرم المال سخط بقلبه وقوله ، كأن يقول : لماذا كنت فقيراً وهذا غنياً ؟ وما أشبه ذلك ، فيكون ساخطاً على قضاء الله وقدرة لأن الله منعه .
والله سبحانه وتعالى يعطي ويمنع لحكمةٍ بالغةً قضاها يستوجب الحمد على اقتضاها ، ويعطي الدنيا لمن يحب ومن لا يحب ، ولا يعطي الدين لمن يحب .
والواجب على المؤمن أن يرضي بقضاء الله وقدره ، إن أعطي شكر ، وإن منع صبر .
ويحتمل أن يراد بالإعطاء هنا الإعطاء الشرعي ، أي: إن أعطي من مال يستحقه من الأموال الشرعية رضي ، وإن لم يعط سخط ، وكلا المعنيين حق ، وهما يدلان على أن هذا الرجل لا يرضي إلا للمال ولا يسخط إلا له ، ولهذا سمّاه الرسول - صلى الله عليه وسلم - عبداً له .
قوله :" تعس وانتكس " . تعس ، أي : خاب وهلك ، وانتكس ، أي : أنتكست عليه الأمور بحيث لا تتيسر له ، فكلما أراد شيئاً انقلبت عليه الأمور خلاف ما يريد ، ولهذا قال :
وإذا شيك فلا انتقش" أي : إذا أصابته شوكة ، فلا يستطيع أن يزيل ما يؤذيه عن نفسه .
وهذه الجمل الثلاث يحتمل خبراً منه - صلى الله عليه وسلم - عن حال هذا الرجل ، وأنه في تعاسة وانتكاس وعدم خلاص من الأذى ، ويحتمل أن يكون من باب الدعاء على من هذه حاله ، لأنه لا يهتم إلا للدنيا ، فدعا عليه أن يهلك ، وأن لا يصيب من الدنيا شيئاً ، وأن لا يتمكن من إزالة ما يؤذيه ، وقد يصل إلى الشرك عندما يصده ذلك عن طاعة الله حتى أصبح لا يرضي إلا للمال ولا يسخط إلا له .
قوله : " طوبي لعبد أخذ بعنان فرسه في سبيل الله " . هذا عكس الأول ، فهو لا يهتم للدنيا ، وإنما يهتم للآخرة ، فهو في استعداد دائم للجهاد في سبيل الله .(1/233)
و" طوبى " فُعْلى من الطيب ، وهي اسم تفضيل ، فأطيب للمذكر وطوبي للمؤنث ، والمعني : أطيب حال تكون لهذا الرجل ، وقيل إن طوبي شجرة في الجنة ، والأول ، أعم ،
وقوله : " آخذ بعنان فرسه " . أي ممسك بمقود فرسه الذي يقاتل عليه .
قوله : " في سبيل الله " . ضابطه أن يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا لا للحمية أو الوطنية أو ما أشبه ذلك ، لكن إن قاتل وطنية وقصد حماية وطنه لكونه بلداً إسلامياً يجب الذود عنه ، فهو في سبيل الله ، وكذلك من قاتل دفاعاً عن نفسه أو ماله أو أهله ؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " من قتل دون ذلك ، فهو شهيد " ، فأما من قاتل للوطنية المحضة ، فليس في سبيل الله لأن هذا قتال عصبية يستوي فيه المؤمن والكافر ، فإن الكافر يقاتل من أجل وطنه .
قوله : [ أشعثٌ رأسه ، مغبَّرة قدماه ] أي: رأسه أشعث من الغبار في سبيل الله ، فهو لا يهتم بحاله ولا بدنه مادام هذا الآمر ناتجاً عن طاعة الله عز وجل وقدماه مغبرة في السير في سبيل الله ، وهذا دليل على أن أهم شيء عنده هو الجهاد في سبيل الله ، أما أن يكون شعره أو ثوبه أو فراشه نظيفاً ، فليس له هم فيه .
قوله : [ إن كان في الحراسة ، فهو في الحراسة ، وإن كان في الساقة ، كان في الساقة] المعنى أنه يُنكر ذاته فالأمر يستوي عنده سواء كان في المنزلة العليا كمرتبة الحراسة التي تكون في مقدمة الجيش أو في المنزلة الدنيا كالسقي ال ... ي يكون في مؤخرة الجيش فهو لا يحرص على مكانة دنيوية حتى إنه إن استأذن لم يؤذن له ، وإن شفع لم يشفع .
قوله :" إن استأذن لم يؤذن له ، وإن شفع لم يشفع " . أي : هو عند الناس ليس له جاه ولا شرف ، حتى إنه إن استأذن لم يؤذن له ، وهكذا عند أهل السلطة ليس له مرتبه ، فإن شفع لم يُشَفّع، ولكنه وجيه عند الله وله المنزلة العالية ، لأنه يقاتل في سبيله .
والشفاعة : هي التوسط للغير بجلب منفعة أو دفع مضرة .
والاستئذان : طلب الإذن بالشيء .(1/234)
وقد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - أن حرص الإنسان على المال والجاه يفسد الدين فساداً كبيراً أكبر من الفساد الحاصل من إطلاق ذئبان جائعان على غنم وتأمل في الحديث الآتي بعين الاعتبار :
(حديث كعب بن مالك في صحيح الترمذي) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ما ذئبان جائعان أُرسلا في غنم بأفسدَ لها من حرص المرء على المال و الشرف لدينه .
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
( ما ) بمعنى ليس
( ذئبان جائعان ) صفة له وفي رواية عاديان والعادي الظالم المتجاوز للحد
( أرسلا في غنم ) الجملة في محل رفع صفة
( بأفسد ) خبر ما والباء زائدة أي أشد فساداً والضمير في
( لها ) للغنم واعتبر فيه الجنسية فلذا أنث وقوله
( من حرص المرء على المال والشرف ) عطف على المال والمراد به الجاه والمنصب ( لدينه ) اللام فيه للبيان ، نحوها في قوله { لمن أراد أن يتم الرضاعة } فكأنه قيل هنا بأفسد لأي شيء؟ قيل لدينه ، ذكره الطيبي ،
فمقصود الحديث أن الحرص على المال والشرف أكثر إفساداً [ ص 446 ] للدين من إفساد الذئبين للغنم لأن ذلك الأشر والبطر يستفز صاحبه ويأخذ به إلى ما يضره وذلك مذموم لاستدعائه العلو في الأرض والفساد المذمومين شرعاً ، قال الحكيم : وضع اللّه الحرص في هذه الأمة ثم زمه في المؤمنين بزمام التوحيد واليقين وقطع علائق الحرص بنور السبحات فمن كان حظه من نور اليقين ونور السبحات أوفر كان وثاق حرصه أوثق والحرص يحتاجه الآدمي لكن بقدر معلوم وإذا لم يكن لحرصه وثاق وهبت رياحه استفزت النفس فتعدى القدر المحتاج إليه فأفسد وعرف بعضهم الحرص بأنه مدد القوة الموضوعة في الآدمي ومثيرها وعمادها .
باب : الأسباب المعينة على الزهد في الدنيا
لما كان الزهد في الدنيا مطلبٌ ثمين لنيل حب الله تعالى كما في الحديث الآتي :(1/235)
(حديث سهل بن سعد الثابت في صحيح ابن ماجة) قال أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلٌ فقال يا رسول الله : دلني على عملٍ إذا عملته أحبني الله وأحبني الناس فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ازهد في الدنيا يحبك الله وازهد فيما عند الناس يحبك الناس .
لذا وجب علينا أن نتعرف على الأسباب المعينة على الزهد في الدنيا وأن نتمسك بها وأن نعض عليها بالنواجذ ، وهاك الأسباب المعينة على الزهد في الدنيا جملةً وتفصيلا :
[*] أولاً الأسباب المعينة على الزهد في الدنيا جملةً :
(1) النظر في الدنيا وسرعة زوالها وفنائها ونقصها وخستها وما في المزاحمة عليها من الغصص والنغص والأنكاد.
(2) النظر في الآخرة وإقبالها ومجيئها ودوامها وبقائها وشرف ما فيها من الخيرات.
(3) الإكثار من ذكر الموت والدار الآخرة.
(4) تشييع الجنائز والتفكر في مصارع الآباء والإخوان وأنهم لم يأخذوا في قبورهم شيئاً من الدنيا ولم يستفيدوا غير العمل الصالح.
(5) التفرغ للآخرة والإقبال على طاعة الله وإعمار الأوقات بالذكر وتلاوة القرآن.
(6) إيثار المصالح الدينية على المصالح الدنيوية:
(7) البذل والإنفاق وكثرة الصدقات :
(8) ترك مجالس أهل الدنيا والاشتغال بمجالس الآخرة :
(9) الإقلال من الطعام والشراب والنوم والضحك والمزاح.
(10) مطالعة سير الزاهدين وبخاصة سيرة النبي وأصحابه:
[*] ثانياً الأسباب المعينة على الزهد في الدنيا تفصيلاً :
(1) النظر في الدنيا وسرعة زوالها وفنائها ونقصها وخستها وما في المزاحمة عليها من الغصص والنغص والأنكاد.
إن الدنيا دار سفر لا دار إقامة، ومنزل عبور لا موطن حبور، فينبغي للمؤمن أن يكون فيها على جناح سفر، يهيئ زاده ومتاعه للرحيل المحتوم، فالسعيد من اتخذ لهذا السفر زاداً يبلغه إلى رضوان الله تعالى والفوز بالجنة والنجاة من النار.(1/236)
[*] قال الإمام ابن القيم : والقرآن مملوء من التزهيد في الدنيا، والإخبار بخستها، وقلتها، وانقطاعها وسرعة فنائها، والترغيب في الآخرة والإخبار بشرفها ودوامها.
ومن الآيات التي حثت على التزهيد في الدنيا ما يلي :
قال تعالى : ( اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ) [ الحديد:20]
وقال تعالى : { زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ } [ آل عمران:14] .
وقال تعالى : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ } [ الشورى:20] .
وقال تعالى : { قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً } [ النساء:77] .
وقال تعالى : { بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَ * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى } [ الأعلى:16-17] .
أما أحاديث النبي التي رغبت في الزهد في الدنيا والتقلل منها والعزوف عنها فهي كثيرة منها ما يلي :(1/237)
( حديث بن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح البخاري ) قال:أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل). وكان ابن عمر يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك ، ومن حياتك لموتك .
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر .
(حديث المستورد بن شداد رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : والله ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم أصبعه في اليم؛ فلينظر بم يرجع .
(حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب ) قال نام رسول الله صلى الله عليه وسلم على حصير فقام وقد أثر في جنبه قلنا يا رسول الله لو اتخذنا لك وطاء فقال ما لي وللدنيا ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها .
( حديث سهل بن سعد رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء .
(حديث سهل بن سعد الثابت في صحيح ابن ماجة) قال أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلٌ فقال يا رسول الله : دلني على عملٍ إذا عملته أحبني الله وأحبني الناس فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ازهد في الدنيا يحبك الله وازهد فيما عند الناس يحبك الناس .
(2) النظر في الآخرة وإقبالها ومجيئها ودوامها وبقائها وشرف ما فيها من الخيرات :
إن من أعظم الأسباب المعينة على الزهد النظر في الآخرة وإقبالها ومجيئها ودوامها وبقائها وشرف ما فيها من الخيرات ، فإن من أعظم فوائده النجاة من الغفلة عن الآخرة والذي يسبب مرض حب الدنيا والركون إليها والإنغماس فيها وهذا هو رأس كل خطيئة ومصدر كل شر وأساس كل بلية .(1/238)
[*] قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى : "جميع الأمم المكذِّبة لأنبيائهم إنما حملهم على كفرهم وهلاكهم حبُّ الدنيا.. فكل خطيئة في العالم أصلها حبُّ الدنيا، فحب الدنيا والرياسة هو الذي عمر النار بأهلها، والزهد في الدنيا والرياسة هو الذي عمر الجنة بأهلها.. والدنيا تسحر العقول أعظم سحر.." .
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان الثوري. قال قال عيسى بن مريم عليه السلام: حب الدنيا رأس كل خطيئة، والمال فيه داء كثير، قيل: يا روح الله: ما داؤه? قال: لا يؤدي حقه، قالوا: فإن أدى حقه. قال: لا يسلم من الفخر والخيلاء، قالوا: فإن سلم من الفخر والخيلاء? قال: يشغله استصلاحه عن ذكر الله.
والغفلة عن الآخرة تجعل كل مقاييس الغافلين تختلُّ، وتؤرجح في أكفِّهم ميزان القِيَم؛ فلا يملكون تصوُّر الحياة وأحداثها وقيمها تصوُّراً صحيحاً، ويظل علمهم بها ظاهراً سطحياً ناقصاً؛ لأن حساب الآخرة في ضمير الإنسان يغيِّر نظرته إلى كل ما يقع في هذه الأرض؛ فحياته على الأرض إن هي إلا مرحلة قصيرة من رحلته الطويلة في الكون.
ومن ثمَّ لا يلتقي إنسان يؤمن بالآخرة ويحسب حسابها، مع آخر يعيش لهذه الدنيا وحدها، ولا ينتظر ما وراءها؛ لا يلتقي هذا وذاك في تقدير أمر واحد من أمور هذه الحياة، ولا قيمة واحدة من قيمها الكثيرة، فلكل منهما ميزان؛ هذا يرى ظاهراً من الحياة الدنيا، وذاك يدرك ما وراء الظاهر من روابط وسنن ونواميس شاملة للظاهر والباطن، والغيب والشهادة، والدنيا والآخرة، والحياة والموت .
ذم الغفلة عن الآخرة :(1/239)
معنى الغفلة : تأتي بمعنى اللهو والنسيان والانشغال عن العظيم بالحقير، وعن المهم بالتافه، قال تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْغَافِلُونَ )
[ النحل 107،108 ]
والغفلة تأتي عقبي النسيان والترك ، قال تعالى: ((وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاه .[ الكهف : 28]
والغفلة صفة ذم ونقص نهى الله عز وجل عنها عباده وحذر منها ونزه نفسه العلية عنها فقال عز وجل (وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) [ البقرة : 74]
وقال تعالى (وَمَا كُنَّا عَنْ الْخَلْقِ غَافِلِينَ ) [ المؤمنون : 17]
وقال تعالى ((وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ)) [ إبراهيم : 42]
، ونهى نبيه صلى الله عليه وسلم وحذره في الوقوع في الغفلة حاثاً على كثرة الذكر وملازمته .
قال تعالى ((وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنْ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنْ الْغَافِلِينَ) [ الأعراف : 205]
وبين الله سبحانه وتعالى أن أهل النار أهل الغفلة فقال عز وجل (وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ *أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ النَّارُ) [ يونس 8،7 ]
إن الإعراض عن دار الخلود يورث في هذه الدنيا هشاشةً في المواقف والنوازل، وإيثاراً للراحة والسلامة، وملاينةً للأعداء، وتنصُّلاً من المسؤوليات الجِسَام؛ فمن كانت الدنيا همّه وشغله ؛ أتراه يبذل وقته وماله وقلمه في سبيل الله تعالى؛ فضلاً عن أن يقدِّم مهجته؟!(1/240)
قال تعالى : ( وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنْ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنْ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ ) [الروم 6، ?]
أي أن قلوبهم وإرادتهم توجهت إلى الدنيا وشهواتها فعملت لها وغفلت عن الآخرة فلا تشتاق إلى الجنة ولا تخشى النار، وهذا علامة الشقاء وعنوان الغفلة.
والغفلة عن الآخرة، وضعف اليقين بأحوال القيامة قد شمل القاصي والداني، والبرّ والفاجر، والذكر والأنثى - إلا ما شاء الله - فمستقل ومستكثر، وفتِّش نفسك هل أنت سالم؟!
لقد حذَّر السلف الصالح من الغفلة عن الآخرة، وعدم تذكُّر أهوال الآخرة وزواجرها؛
( حديث أنس بن مالك رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من كانت الآخرة همّه جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة ، ومن كانت الدنيا همّه جعل الله فقره بين عينيه ، وفرَّق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قُدِّر له .
[ من كانت الآخرة همّه ] : يعني: أي شغله الشاغل ،يعمل لها ويرغب فيها عن الآخرة ،كان جزائه ما يلي :
جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة :
[ ومن كانت الدنيا همّه ] : فالإنسان مخلوق من أجل العبادة، فإذا نسي هذا الأمر وأصبح نهماً على الدنيا يريد أن يجمعها من أي جهة كانت، وأصبحت هذه الدنيا همه الوحيد فهذا جزاؤه [جعل الله فقره بين عينيه ، وفرَّق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قُدِّر له ]
[جعل الله فقره بين عينيه ] : يعني: أنه دائماً مستحضر الفقر يرى الفقر بين عينيه، مهما وجد معه من المال،
[ وفرَّق عليه شمله ] : فالذي يجمع لك الأمور ويؤلف بين القلوب هو الله سبحانه وتعالى، فالإنسان يجمع من شمال ويمين وربنا يفرق عليه هذا كله ما دام همه الوحيد .(1/241)
[ولم يأته من الدنيا إلا ما قُدِّر له ] : فلا تتعب نفسك وتحملها فوق طاقتها فتقصر في عبادة الله سبحانه، وتقول: المال المال، ولكن ابحث عن المال من حلال، واحذر الحرام، واحذر أن تضيع الدين وتضيع الطاعة فيضيع منك الجميع الدنيا والآخرة.
(حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجه ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من جعل الهموم هماً واحدا هم المعاد كفاه الله هم دنياه، ومن تشعبت به الهموم في أحوال الدنيا لم يبال الله في أي أوديته هلك .
من جعل الهموم هماً واحدا هم المعاد : ولو أن كلاً منا في قلبه الآخرة، فسيدرك أن الله سبحانه على كل عمل يقوم به، فإنه إذا قام للصلاة تذكر: الله سيحاسبني على هذه الصلاة فيحسنها، وإذا صام أحسن الصيام، وإذا عمل أي عمل من الأعمال أتقن ذلك العمل، ولا من أجل أن يأخذ الجزاء من الناس، ليس من أجل أن يترقى، ولكن ابتغاء مرضات الله سبحانه وتعالى؛ لأن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه، فإذا كانت الآخرة على بال الإنسان دائماً فإن الله سوف يكفيه أمر دنياه، قال: (كفاه الله هم دنياه).
ومن تشعبت به الهموم : يعني: نسي الآخرة وبدأ يفكر يريد أن يأكل ويشرب ويلبس ويريد كذا وكذا، ويعمل طول النهار وهو يفكر في أمور الدنيا، ناسياً ربه سبحانه فهذا يكون حاله كما في الحديث:
( لم يبال الله في أي أوديته هلك ) : يعني: في أي مكان هلك لا يبالي الله عز وجل به. فالمؤمن قريب من الله، والله يحبه ويفرح بتوبته وبإقباله عليه، أما الإنسان البعيد عن الله سبحانه وتعالى فإن يهلك في أي واد لا يبالي الله به.
(حديث ابن مسعود في صحيح البخاري) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله، والنار مثل ذلك).(1/242)
[*] قال ابن حجر رحمه الله تعالى : "فينبغي للمرء أن لا يزهد في قليل من الخير أن يأتيه، ولا في قليل من الشرِّ أن يجتنبه، فإنه لا يعلم الحسنة التي يرحمه الله بها، ولا السيئة التي يسخط عليه بها"
[*] وكان الحسن البصري - رحمه الله - يقول: "لقد رأيتُ رجالاً لو رأيتموهم لقلتم: مجانين، ولو رأوكم لقالوا: هؤلاء شياطين، ولو رأوا خياركم لقالوا: هؤلاء لا خلاق لهم، ولو رأوا شراركم لقالوا: هؤلاء لا يؤمنون بيوم الحساب" .
وكان للحسن مجلس خاص في منزله لا يكاد يتكلم فيه إلا في معاني الزهد والنسك .
[*] ومن خواطر ابن الجوزي ومواعظه:
"من تفكَّر في عواقب الدنيا أخذ الحذر، ومن أيقن بطول الطريق تأهَّب للسفر. ما أعجب أمرك يا من يوقن بأمر ثم ينساه، ويتحقق ضرر حال ثم يغشاه، وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه.
تغترُّ بصحتك وتنسى دنوَّ السقم، وتفرح بعافيتك غافلاً عن قرب الألم، لقد أراك مصرعُ غيرك مصرعَك.
وكيف تنامُ العينُ وهي قريرةٌ ولم تدرِ من أيِّ المحلّين تنزلُ"
وقال أيضاً: "همة المؤمن متعلقة بالآخرة، فكل ما في الدنيا يحركه إلى ذكر الآخرة، وكل من شَغَله شيء فهمّته شغله. ألا ترى أنه لو دخل أرباب الصنائع إلى دار معمورة رأيتَ البَزَّاز ينظر إلى الفرش ويحزر قيمته، والنجار إلى السقف، والبنَّاء إلى الحيطان، والحائك إلى النسيج المخيط.والمؤمن إذا رأى ظلمة ذكر ظلمة القبر، وإن رأى مؤلماً ذكر العقاب، وإن سمع صوتاً فظيعاً ذكر نفخة الصور، وإن رأى الناس نياماً ذكر الموتى في القبور، وإن رأى لذَّة ذكر الجنة، فهمّته متعلقة بما ثَمَّ، وذلك يشغله عن كل ما تمَّ " .(1/243)
إن تَذَكُرَ الآخرة أصل صلاح القلب، وأصل الرغبة في الخير والرهبة من الشر، اللذان هما أساس الخيرات، فالإيمان بيوم القيامة يفتح للإنسان باب الخوف والرجاء اللذين إن خلا القلب منهما؛ خرب كلَّ الخراب، وإن عُمر بهما أوجب له الخوفُ الانكفافَ عن المعاصي، والرجاءُ تيسيرَ الطاعة وتسهيلها .
[*] ورحم الله ابن القيم إذ يقول: "لا تتمُّ الرغبة في الآخرة إلا بالزهد في الدنيا، ولا يستقيم الزهد في الدنيا إلا بالنظر في الآخرة وإقبالها ومجيئها ولا بد، ودوامها وبقائها وشرف ما فيها من الخيرات والمسرَّات، كما قال الله - سبحانه -: { وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى } [الأعلى: ??]، فهي خيرات كاملة دائمة، وهذه خيالات ناقصة منقطعة مضمحلة" .أهـ
فإيثار الدنيا على الآخرة إما من فساد في الإيمان ، وإما من فساد في العقل ، أو منهما معاً0
ولذا نبذها رسول الله صلى الله عليه وسلم وراء ظهره هو وأصحابه ، وصرفوا عنها قلوبهم ، وهجروها ولم يميلوا إليها ، عدوها سجناً لا جنة ، فزهدوا فيها حقيقة الزهد ، ولو أرادوها لنالوا منها كل محبوب ، ولوصلوا منها إلى كل مرغوب ، ولكنهم علموا أنها دار عبور لا دار سرور ، وأنها سحابة صيف ينقشع عن قليل ، وخيال طيف ما استتم الزيارة حتى أذن بالرحيل ) 0
ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يربِّي صحابته الكرام - رضي الله عنهم - على العزوف عن الدنيا والاشتغال بيوم المعاد ومن ذلك ما يلي :
( حديث بن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح البخاري ) قال:أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل). وكان ابن عمر يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك.(1/244)
[*] قال ابن رجب: "وهذا الحديث أصل في قصر الأمل في الدنيا، وأن المؤمن لا ينبغي له أن يتخذ الدنيا وطناً ومسكناً فيطمئن فيها، ولكن ينبغي أن يكون فيها كأنه على جناح سفر يُهيِّئ جهازه للرحيل، وقد اتفقت على ذلك وصايا الأنبياء وأتباعهم.." .
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر .
(حديث المستورد بن شداد رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : والله ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم أصبعه في اليم؛ فلينظر بم يرجع .
{ تنبيه } : ... ... كم هو موجع حقاً حال طائفة منا - معشرَ الدعاة وطلابَ العلم - إذ كانوا في ريعان شبابهم على حظ كبير من الزهد في الدنيا والإقبال على الآخرة، والبذل والحرص على أداء القربات وأنواع التضحيات، ثم لما وهن العظم، واشتعل الرأس شيباً، ودنا الرحيل؛ إذا هم ينكبُّون على حطام الدنيا الزائل، ويتثاقلون عن تلك القربات، ويغالبهم العجز والكسل! "واعجباً! كلما صعد العمر نزلتَ، وكلما جدَّ الموت هزلتَ! أتُراك ممن ختم بفتنة، وقُضيت عليه عند آخر عمره المحنة؟ كنت في زمن الشباب أصلح منك في زمن أيام المشيب" .
واحسرتاه! تقضَّى العمر وانصرمت ... ساعاته بين ذلّ العجز والكسلِ
والقوم قد أخذوا درْب النجاة وقد ... ساروا إلى المطلب الأعلى على مَهَلِ
(3) الإكثار من ذكر الموت والدار الآخرة.
إن من أعظم الأسباب التي تعين على الزهد في الدنيا الإكثار من ذكر الموت والدار الآخرة ، فإن الموت هو الخَطب الأفظع والأمر الأشنع .. إنه هادم اللذات ، وقاطع الراحات ، وجالب الكريهات .. إنه فراق الأحباب ، وانقطاع الأسباب ، ومواجهة الحساب .
ذكر الموت حياة ونسيانه غفلة ..ومن استحيا من الله حقَّ الحياء لم يغفل عن الموت ولا عن الاستعداد للموت .(1/245)
( حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : استحيوا من الله حق الحياء ، قال : قلنا يا رسول الله إنا نستحيي والحمد لله، قال ليس ذاك ولكن الاستحياء من الله حق الحياء أن تحفظ الرأس وما وعى والبطن وما حوى ولتذكر الموت والبلى ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء .
ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر أصحابه وسلم بالإكثار من ذكر الموت والدار الآخرة ومن ذلك ما يلي :
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أكثروا ذكر هاذم اللذات .
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أكثروا ذكر هاذم اللذات: الموت فإنه لم يذكره أحد في ضيق من العيش إلا وسعه عليه و لا ذكره في سعة إلا ضيقها عليه .
[*] قال الإمام القرطبي رحمه الله تعالى : "قال علماؤنا: قوله عليه السلام: { أكثروا ذكر هاذم اللذات } كلام مختصر وجيز، وقد جمع التذكرة وأبلغ في الموعظة، فإن من ذكر الموت حقيقة ذكره نغص عليه لذته الحاضرة، ومنعه من تمنيها في المستقبل، وزهده فيما كان منها يؤمل، ولكن النفوس الراكدة، والقلوب الغافلة، تحتاج إلى تطويل الوعاظ، وتزويق الألفاظ، وإلا ففي قوله عليه الصلاة والسلام: { أكثروا ذكر هاذم اللذات } مع قوله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران:185]، ما يكفي السامع له، ويشغل الناظر فيه".
ولقد أحسن من قال: ( اذكر الموت هاذم اللذات وتجهز لمصرع سوف يأتي ).
وقال غيره: ( اذكر الموت تجد راحةفي ادكار الموت تقصير الأمل )(1/246)
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح ابن ماجة) قال : أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت عليك السلام ، فقال لا تقل عليك السلام فإن عليك السلام تحية الميت ،قلت يا رسول الله أي المؤمنين أفضل قال أحسنهم خلقا قال فأي المؤمنين أكيس قال أكثرهم للموت ذكرا وأحسنهم لما بعده استعدادا أولئك الأكياس .
[*] قال الدقاق : من أكثر من ذكر الموت أُكرم بثلاثة أشياء: تعجيل التوبة, وقناعة القلب, ونشاط العبادة, ومن نسي الموت عوقب بثلاثة أشياء: تسويف التوبة, وترك الرضى بالكفاف, والتكاسل في العبادة .
في الإكثار من ذكر الموت فوائد منها :ما يلي :
(1) أنه يحث على الاستعداد للموت قبل نزوله.
(2) أن ذكر الموت يقصر الأمل في طول البقاء، وطول الأمل من أعظم أسباب الغفلة.
(3) أنه يزهد في الدنيا ويرضي بالقليل منها :
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أكثروا ذكر هاذم اللذات: الموت فإنه لم يذكره أحد في ضيق من العيش إلا وسعه عليه و لا ذكره في سعة إلا ضيقها عليه .
(4) أنه يرغّب في الآخرة ويدعو إلى الطاعة.
(5) أنه يهوّن على العبد مصائب الدنيا .
(6) أنه يمنع من الأشر والبطر والتوسع في لذات الدنيا .
(7) أنه يحث على التوبة واستدراك ما فات .
(8) أنه يرقق القلوب ويدمع الأعين، ويجلب باعث الدين، ويطرد باعث الهوى.
(9) أنه يدعو إلى التواضع وترك الكبر والظلم.
(10) أنه يدعو إلى سل السخائم ومسامحة الإخوان وقبول أعذارهم.
[*] قال التميمي: ( شيئان قطعا عني لذة الدنيا: ذكر الموت، وذكر الموقف بين يدي الله تعالى.
[*] وكان عمر بن عبدالعزيز يجمع العلماء فيتذكرون الموت والقيامة والآخرة، فيبكون حتى كأن بين أيديهم جنازةَ !!
[*]وقال الحسن: إن هذا الموت قد أفسد على أهل النعيم نعيمهم، فالتمسوا عشياً لا موت فيه.
ولله درُّ القائل :
أذكر الموت ولا أرهبه ... إن قلبي لغليظ كالحجر(1/247)
أطلب الدنيا كأني خالد ... وورائي الموت يقفو بالأثر
وكفى بالموت فاعلم واعظاً ... لمن الموت عليه قدر
والمنايا حوله ترصده ... ليس ينجي المرء منهن المفر
فاذكروا الموت لتستعينوا بذكره على مطامع نفوسكم، وقسوة قلوبكم
اذكروه لتكونوا أرق قلباً و أكرم يداً، و أقبل للموعظة، و أدنى إلى الإيمان
اذكروه لتستعدوا له .
أين استعدادك للموت وسكرته؟
أين استعدادك للقبر وضمته؟
أين استعدادك للمنكر والنكير؟
أين استعدادك للقاء العلي القدير؟
فاستعدوا للموت بالتوبة التي تصفي حسابكم مع الله، و أداء الحقوق، ودفع المظالم، لتصفوا حسابكم مع الناس.
ولا تقل أنا شاب... و لا تقل أنا عظيم... و لا تقل أنا غني ....
فإن ملك الموت إن جاء بمهمته لا يعرف شاباً و لا شيخاً، و لا عظيما و لا حقيراً و لاغنياً و لا فقيراً .
فتفكر يا مغرور في الموت وسكرته، وصعوبة كأسه ومرارته، فيا للموت من وعد ما أصدقه، ومن حاكم ما أعدله. كفى بالموت مقرحاً للقلوب، ومبكياً للعيون، ومفرقاً للجماعات، وهاذماً للذات، وقاطعاً للأمنيات.
فيا جامع المال! والمجتهد في البنيان! ليس لك والله من مالك إلا الأكفان، بل هي والله للخراب والذهاب، وجسمك للتراب والمآب، فأين الذي جمعته من المال؟ هل أنقذك من الأهوال؟ كلا.. بل تركته إلى من لا يحمدك، وقدمت بأوزارك على من لا يعذرك.
أما قرأتم قول الله تعالى : { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ } [ العنكبوت :57]
وقوله تعالى :( كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ ) [ الرحمن: 26،27]
وقوله تعالى : (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [ القصص:88 ]
سيموت كل صغير وكبير, وكل أمير ووزير, كل عزيز وحقير, كل غني وفقير, كل نبي وولي, وكل صحيح وسقيم ومريض وسليم, كل نفس تموت غير ذي العزة .(1/248)
فالموت لا ريب فيه، ويقين لا شك فيه (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ) [ ق:19] فمن يجادل في الموت وسكرته؟! ومن يخاصم في القبر وضمته؟! ومن يقدر على تأخير موته وتأجيل ساعته؟! (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) [ الأعراف :34]
فلماذا تتكبر أيها الإنسان وسوف تأكلك الديدان؟!
ولماذا تطغى وفي التراب ستلقى ؟!
ولماذا التسويف والغفلة وأنت تعلم أن الموت يأتي بغتة ؟!
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه أن المؤمن لا ينبغي له أن يتخذ الدنيا وطناً ومسكناً فيطمئن فيها، ولكن ينبغي أن يكون فيها كأنه على جناح سفر يُهيِّئ جهازه للرحيل،
( حديث بن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح البخاري ) قال:أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل). وكان ابن عمر يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك .
[*] قال المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير :(1/249)
( كن في الدنيا كأنك غريب ) أي عش بباطنك عيش الغريب عن وطنه بخروجك عن أوطان عاداتها ومألوفاتها بالزهد في الدنيا والتزود منها للآخرة فإنها الوطن أي أن الآخرة هي دار القرار كما أن الغريب حيث حلّ نازع لوطنه ومهما نال من الطرف أعدها لوطنه وكلما قرب مرحلة سره وإن تعوق ساعة ساءه فلا يتخذ في سفره المساكن [ ص 52 ] والأصدقاء بل يجتزئ بالقليل قدر ما يقطع به مساقة عبوره لأن الإنسان إنما أوجد ليمتحن بالطاعة فيثاب أو بالإثم فيعاقب { ليبلوكم أيكم أحسن عملاً } فهو كعبد أرسله سيده في حاجة فهو إما غريب أو عابر سبيل فحقه أن يبادر لقضائها ثم يعود إلى وطنه وهذا أصل عظيم في قصر الأمل وأن لا يتخذ الدنيا وطناً وسكناً بل يكون فيها على جناح سفر مهيأ للرحيل وقد اتفقت على ذلك وصايا جميع الأمم وفيه حث على الزهد والإعراض عن الدنيا والغريب المجتهد في الوصول إلى وطنه لا بدّ له من مركب وزاد ورفقاء وطريق يسلكها فالمركب نفسه ولا بدّ من رياضة المركوب ليستقيم للراكب والزاد التقوى والرفقاء الذين أنعم اللّه عليهم من النبيين والصديقين والصراط المستقيم وإذا سلك الطريق لم يزل خائفاً من القطاع إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع
( أو عابر سبيل ) قال الطيبي : الأحسن جعل أو بمعنى بل شبه الناسك السالك بغريب لا مسكن له يأويه ثم ترقى وأضرب عنه إلى عابر سبيل لأن الغريب قد يسكن بلد الغربة وابن السبيل بينه وبين مقصده أودية رديئة ومفارز مهلكة وقطاع وشأنه أن لا يقيم لحظة ولا يسكن لمحة قال بعض العارفين : الأرواح خلقت قبل الأجساد ثم أفيضت من عالمها العلوي النوراني فأودعت هذا الجسد الترابي الظلماني فاجتمعا اجتماع غربة كل منهما يشير إلى وطنه ويطير إلى مسكنه فالبدن أخلد إلى الأرض والروح بدون السموّ لم ترضَ . راحت مشرقة ورحت مغرباً * شتان بين مشرق ومغرب .(1/250)
[*] قال ابن رجب: "وهذا الحديث أصل في قصر الأمل في الدنيا، وأن المؤمن لا ينبغي له أن يتخذ الدنيا وطناً ومسكناً فيطمئن فيها، ولكن ينبغي أن يكون فيها كأنه على جناح سفر يُهيِّئ جهازه للرحيل، وقد اتفقت على ذلك وصايا الأنبياء وأتباعهم.." .
[*] قال على بن أبي طالب رضي الله عنه : إن الدنيا قد ارتحلت مدبرة ، وإن الآخرة قد ارتحلت مقبلة ، ولكل منهما بنون ، فكونوا من أبناء الآخرة ، ولا تكونوا من أبناء الدنيا ، فإن اليوم عمل ولا حساب وغداً حساب ولا عمل .
وما ترك النبي صلى الله عليه وسلم فرصة إلا ذكَّر أصحابه بالموت وما بعده .
(حديث البراء رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجه ) قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة فجلس على شفير القبر فبكى حتى بل الثرى ثم قال يا إخواني لمثل هذا فأعدوا .
وهكذا سار السلف من بعد نبيهم صلى الله عليه وسلم يذكرون الموت ويُذكّرون الناس به.. فهذا أويس القرني رحمه الله يخاطب أهل الكوفة قائلاً : يا أهل الكوفة توسدوا الموت إذا نمتم ، واجعلوه نصب أعينكم إذا قمتم .
إنَّ في ذكر الموت أعظم الأثر في إيقاظ النفوس وانتشالها من غفلتها ، فكان الموت أعظم المواعظ .
قيل لبعض الزهَّاد : ما أبلغ العظات ؟ قال : النظر إلى محلة الأموات .
وقال آخر : من لم يردعه القرآن والموت فلو تناطحت الجبال بين يديه لم يرتدع .
من استعدَّ للموت جدَّ َفي العمل ، وقصَّر الأمل .
[*] يقول اللبيدي : رأيت أبا اسحاق في حياته يُخرج ورقة يقرؤها دائماً ، فلما مات نظرت في الورقة فإذا مكتوب فيها : أحسن عملك فقد دنا أجلك .. أحسن عملك فقد دنا أجلك.
إنَّ الذي يعيش مترقباً للنهاية يعيش مستعداً لها ، فيقلُّ عند الموت ندمه وحسراته.
لذا قال شقيق البلخي رحمه الله : استعد إذا جاءك الموت أن لا تصيح بأعلى الصوت تطلب الرجعة فلا يستجاب لك .(1/251)
التذكير بالموت يحصل به إيقاظ القلوب من سباتها ، وزجر النفوس عن التمادي في غيها وشهواتها ، فيزيد الصالح في صلاحه ، وأن يستيقظ الغافل قبل حسرته وقبل مماته .
[*] قال عون بن عبدالله : كم من مستقبل يوماً لا يستكمله ومنتظر غد لا يبلغه لو تنظرون إلى الأجل ومسيره لأبغضتم الأمل وغروره .
... [*] وكان عمرو بن عتبة بن فرقد يخرج على فرسه فيقف ليلا على القبور فيقول يا أهل القبور قد طويت الصحف وقد رفعت الاعمال ثم يبكي ثم يصفن بين قدميه حتى يصبح ثم يرجع فيشهد صلاة الصبح .
إن من أعظم ما يعين على الزهد الإكثار من ذكر الموت والدار الآخرة
[*] عن مالك بن مغول قال : قيل للربيع بن أبي راشد: ألا تجلس فتحدث؟ قال: إن ذكر الموت إذا فارق قلبي ساعة فسد علي قلبي قال مالك ولم أر رجلا أظهر حزنا منه .
[*] عن الربيع بن خثيم قال : ما غائب ينتظره المؤمن خير له من الموت.
[*] عن مسروق قال: ما غبطت شيئاً بشيء كمؤمن في لحده قد أمن من عذاب الله واستراح من الدنيا.
إن من المعلوم شرعاً وعقلاً وبداهةً أن الدنيا دار فناء لا دار بقاء... فالموت هذا الذي حير الأطباء ... ولم يجدوا له دواء ... لأنه صلى الله عليه وسلم قال لا دواء ... لم ينج منه حتى الأنبياء ... ولا الصحابة الفضلاء ..ولا التابعين والأولياء .. لكنهم أخذوا حاجتهم وتزودوا لغايتهم كان ابن عمر يقول: " إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك"... الفقراء والأغنياء ... الأذلاء والأعزاء .. كلهم سيمر .. لأنها دار ممر .. لا دار مقر ..
هادم اللذات ... ومفرق الجماعات ... ومخرب الدور والقصور والضيعات ... وقاطع كل الشهوات ... ومنهي الآمال والتطلعات ...
كفى بالموت واعظاً ...وللحياة مكدراً ...و للقلوب مقطعا... وللعيون مبكيا... وللذات هادما... وللجماعات مفرقا... وللأماني قاطعا.(1/252)
إنها الحقيقة التي سماها الله في قرآنه بالحق فقال تعالى : ( وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ .) [ ق 21:19 ]
أخي قف وتأمل .. كيف لو نزل بك الموت ... تخيل وقد شخصت منك العينان ... وبردت منك القدمان ... وتجمد الدم في اليدان ... كيف لو بلغت الروح التراقي ... والتفت الساق بالساق ... أتعرف إلى أين المصير ؟ إلى ربك يومئذ المساق .. فأقرأ كَلا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ ..
أخي الحبيب لو كان أحد ينجو من الموت لنجى منه النبي صلى الله عليه وسلم
( حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيح البخاري ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أن رسول الله كانت بين يديه ركوة أو علبة فيها ماء, فجعل يدخل يديه في الماء فيمسح بهما وجهه ويقول: "لا إله إلا الله إن للموت سكرات" ثم نصب يديه فجعل يقول: "في الرفيق الأعلى" حتى قبض ومالت يده.
( حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيح الترمذي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :ما أغبط أحداً بهون الموت, بعد الذي رأيت من شدة موت رسول الله .
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجه ) قال : لما وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم من كرب الموت ما وجد قالت فاطمة وا كرب أبتاه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا كرب على أبيك بعد اليوم إنه قد حضر من أبيك ما ليس بتارك منه أحدا الموافاة يوم القيامة .
فكيف بي وبك أخي الحبيب ... كيف لو نزلوا بنا الملائكة لقبض أرواحنا ... ما حالي وحالك ... هل هم ملائكة عذاب أم رحمة نسأل الله الرحمة .(1/253)
أيً أُخي هل وقفت مع نفسك لتذكر هذا القادم الغائب المنتظر وإنما هي سويعات ثم ترحل فجد السير وهي مركب السير قبل أن تخرج الروح فتقول (رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ ) فيقال لك (كَلَّا)[ المؤمنون : 100]
ولله درُّ القائل :
تزود من الدنيا فإنك لا تدري ... إذا جنَ ليلُ هل تعيشَ إلى الفجرِ
فكم من صحيحٍ مات من غيرِ علةٍ ... وكم من سقيمٍ عاش حيناً من الدهرِ
وكم من صغارٍ يرتجى طولَ عمرِهم ... وقد أُدخلت أجسادُهم ظُلمةَ القبرِ
وكم من عروسٍ زينوها لزوجِها ... وقد نُسجت أكفانُها وهي لا تدري
{ تنبيه } : ... إننا حين ندعو أنفسنا والناس من حولنا إلى الإكثار من ذكر الموت فليس ذلك بسبب اليأس من الحياة أو التشاؤم، لكنه التذكير بالكأس الذي لابد لكل منَّا أن يشربه وهو عنه غافل لاهٍ.فإن الموت إذا نزل بساحة العبد نسي ما كان فيه من اللذة والنعيم ، قال تعالى : ( أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ . ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ . مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ) (الشعراء: 205-207) قرأ بعض السلف هذه الآيات فبكى وقال: إذا جاء الموت لم يغن عن العبد ما كان فيه من اللذة والنعيم.
ولهذا وجدنا السلف يتواصون بالإكثار من ذكر الموت واستحضاره، مع أنهم فتحوا مشارق الأرض ومغاربها، وسادوا الدنيا بطاعة الله، وجاءهم الموت فكانوا أفرح بقدومه من الأم بقدوم ولدها الغائب.
فوجدنا منهم من يقول وهو على فراش الموت:
"واطرَبَاه!! غدًا نلقى الأحبة محمدًا وحزبه".
وآخر يقول: "مرحبًا بالموت؟ زائر مُغبٍّ (قليل الزيارة) جاء على فاقة".
وآخر يقول: "اللهم إني إليك لمشتاق".
ولا عجب فإن العبد إذا كان على فراش الموت بُشر إما بجنة وإما بنار،فإن العبد يموت
على ما عاش عليه ، والخواتيم مواريث الأعمال.
نسأل الله حُسنَ الخاتمة والفوز بالجنة والنجاة من النار.(1/254)
(4) تشييع الجنائز والتفكر في مصارع الآباء والإخوان وأنهم لم يأخذوا في قبورهم شيئاً من الدنيا ولم يستفيدوا غير العمل الصالح.
فضل اتباع الجنائز :
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من اتبع جنازة مسلمٍ إيماناً واحتساباً وكان معه حتى يصلي عليها ويُفْرَغ من دفنها فإنه يرجع من الأجرِ بقيراطين كلُ قيراطٍ مثل أحد، ومن صلى عليها ثم رجع قبل أن تدفن فإنه يرجعُ بقيراط .
مراتب أجر اتباع الجنازة :
لرسول صلى الله عليه وسلم جعل الأجر على مرتبتين؛ لأن تجهيزه يقوم به أهله، ثم يبقى تشييعه وحمله ودفنه، فمن حضر الجنازة حتى يصلى عليها، سواءٌ في المسجد أو عند المقبرة، فهذه مرحلة أولى. والمرتبة الثانية: أن ينتظر عند القبر حتى يفرغ من دفنها، وإذا استطاع أن يشارك في الدفن ولو بحفنة تراب فهو أفضل، كما جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه حضر جنازة، وانتظر حتى انتهوا من الدفن، وجمع التراب عليه، فأخذ قبضة من التراب ووضعها على القبر، كأنه شارك في الدفن. ومكان القبر قد لا يسع كل المشيعين ليشاركوا، وكثير من الناس يحبون المشاركة، فينبغي الرفق. والمرتبة الثالثة: أن ينتظر المرء إلى الفراغ من الدفن. إذاً: المرحلة الأولى خاصة بأهله، والمرحلتان الباقيتان في تشييعه حتى الصلاة، وفي تشييعه حتى الدفن، فمن حضر المرحلة الثانية، وهي تشييعه إلى أن يصلى عليه، ثم يتركه بعد ذلك ؛ سواءً تركه لعجزٍ فيه، أو لاشتغال بأمر أهم، أو نحو ذلك، فله قيراط من الأجر، فإذا واصل حتى دفنت فله قيراطان.
بيان معنى القيراط :(1/255)
الواقع أن القيراط اصطلاح وزن، واصطلاح نسبة، تقول مثلاً: هذا البيت أربعة وعشرون قيراطاً، الزوجة لها الثمن أي لها ثلاثة قراريط، فهي نسبة حسابية. والأربعة والعشرون قيراطاً تأتي في الذهب، وتأتي في الفضة، وفي غيرها؛ لأن الأربعة والعشرين عددٌ يمكن أن تؤخذ منه جميع الكسور الموجودة في فروض الميراث (نصف، ربع، ثلثين، ثلث، ثمن، سدس)، ولهذا اصطلحوا عليها، وكذلك الذهب، عند كونه خالصاً يكون أربعة وعشرين قيراطاً، وعند كونه مضافاً إليه من النحاس أو معدن آخر يقال: فيه قيراط أو قيراطان من النحاس، فإذا قيل: ذهب عيار أربعة وعشرين، فمعناه أنه: خالص، مع أنه ليس هناك ذهب خالص أبداً؛ لأن الذهب وحده لا يصلح للتصنيع إلا قدر اثنين وعشرين قيراطاً، ولابد أن يكون فيه شيء من النحاس حتى يشده؛ لأنه لين. فإذا قيل: عيار واحد وعشرين، فيبقى فيه ثلاثة قراريط، أي أن: الثمن من معدن آخر، وإذا قيل: عيار عشرين فمعناه أن فيه السدس من معدن آخر ... وهكذا.
وجاء القيراط في الأجور، ففي الحديث (من اقتنى كلباً ليس بكلب صيد ولا حراسة، نقص من أجره كل يوم قيراط) فلا ندري ما القيراط هنا، لكن لو جعلناه من مجموع عمله، فمعناه أنه إذا كان في اليوم ألف حسنة فإنه يسقط منها واحد من أربعة وعشرين، والله تعالى أعلم.
وفي هذا الحديث بيَّن لنا صلى الله عليه وسلم وزن هذا القيراط، فليس هو بالجرام، لكن (كلُ قيراطٍ مثل أحد) فعين ذلك صلى الله عليه وسلم بأنه كجبل أحد .
حكم تشييع الجنازة :
حكم تشييع الجنازة أن يكون الركبان خلفها , وأن يكون الماشي حيث شاء , عن يمينها أو شمالها أو أمامها أو خلفها .
(حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :الراكب خلف الجنازة والماشي منها حيث شاء .(1/256)
( حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح النسائي ) أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر , وعمر , وعثمان يمشون بين يدي الجنازة .
منكرات الجنائز :
(1) النياحة :
و النوح ما كانت الجاهلية تفعله ، كان النساء يقفن متقابلات يصحن ، ويحثن التراب على رؤوسهن و يضربن وجوههن .
(حديث أبي موسى في صحيح مسلم) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركوهن : الفخر بالأحساب و الطعن في الأنساب و الاستسقاء بالنجوم والنياحة .
(2) لبس السواد :
و هذه العادة انتقلت إلى المسلمين من اليهود و النصارى .
(3) النعي :
(حديث حذيقة بن اليمان رضي الله عنه الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة ) أنه كان إذا مات له الميت قال : لا تؤذنوا به أحدا إني أخاف أن يكون نعيا إني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم ينهى عن النعي .
{ تنبيه } : النعي المنهي عنه ما يشبه ما كان اهل الجاهلية يصنعونه من إرسال من يعلن بخبر موت الميت على أبواب الدرر والاسواق .
أما إعلام الناس بموت قريبهم فهو مباح كما في الحديث الآتي :
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نعى النجاشي في اليوم الذي مات فيه وخرج بهم إلى المصلى فصف أصحابه وكبر عليه أربعاً .
التفكر في مصارع الآباء والإخوان :
على الإنسان أن يتفكر في الموتى، ألم يكونوا أقوياء الأبدان يملكون الأموال ويأمرون وينهون، واليوم قد تسلط الدود على أجسادهم فنخرها، وعلى عظامهم فبددها؟ ثم يفكر هل له أن يسلم من الموت أم أنه سيصل إلى ما وصل إليه أولئك فيستعد لتلك الدار،ويتأهب بالأعمال الصالحة، فإنها العملة النافقة في الآخرة...(1/257)
[*] وقد كان مكحول الدمشقي إذا رأى جنازة قال: اغدوا فإنا رائحون، موعظة بليغة وغفلة سريعة، يذهب الأول، والآخر لا عقل له، وكان عثمان إذا شيع الجنازة ووقف على القبر بكى، فقيل له: تذكر الجنة والنار فلا تبكي، وتبكي إذا وقفت على القبر؟ فقال: سمعت رسول الله يقول: إن القبر أول منازل الآخرة، فإن نجا منه صاحبه فما بعده أيسر منه، وإن لم ينج منه فما بعده أشد .
(5) التفرغ للآخرة والإقبال على طاعة الله وإعمار الأوقات بالذكر وتلاوة القرآن.
إن نصيب الإنسان من الدنيا عمره، فإن أحسن استغلاله فيما ينفعه في دار القرار ربحت تجارته، وإن أساء استغلاله في المعاصي والسيئات حتى لقي الله على تلك الخاتمة السيئة فهو من الخاسرين، وكم حسرة تحت التراب والعاقل من حاسب نفسه قبل أن يحاسبه الله ، وخاف من ذنوبه قبل أن تكون سببا في هلاكه ، لذا يجب على الإنسان أن يغتنم عمره بإشغاله في الأعمال الصالحة ، فاليوم عملٌ ولا حساب وغداً حسابٌ ولا عمل ، الدنيا ساعة فاجعلها طاعة والنفس طماعة فالزمها القناعة .
[*] قال الإمام الشافعي رحمه الله :
الوقت كالسيف أن لم تقطعه قطعك فبادر أنت فاقطعه في :- طاعة الله .
وأبواب طاعة الله تعالى كثيرة ومتنوعة مثل : - صلاة النافلة . - قراءة القرآن . - الذكر والدعاء . - الوعظ والإرشاد . - قراءة الأحاديث النبوية . - تشييع الجنائز . - صلة الرحم . - عيادة المريض . - الصدقات . - قيام الليل . - صيام التطوع . - الجهاد في سبيل الله . - إغاثة الملهوف في تفريج كربة مكروب . - إدخال السرور على قلب أخيك المسلم - نصرة مظلوم . - إفشاء السلام بالمصافحة والكلمة الطيبة . - تبسمك في وجه أخيك فإنه صدقة .
نعم في مثل هذه الأعمال ينبغي أن تقطع فراغك وتشغل وقتك إذا أردت لنفسك حياة سعيدة في الفردوس الأعلى من الجنة .(1/258)
ولقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتفقد أحوال أصحابه رضوان الله تعالى عليهم ويسألهم عن قيامهم بأفعال الخير المختلفة كما في الحديث الآتي :
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من أصبح منكم اليوم صائما قال أبو بكر رضي الله عنه أنا قال فمن تبع منكم اليوم جنازة قال أبو بكر رضي الله عنه أنا قال فمن أطعم منكم اليوم مسكينا قال أبو بكر رضي الله عنه أنا قال فمن عاد منكم اليوم مريضا قال أبو بكر رضي الله عنه أنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما اجتمعن في امرئٍ إلا دخل الجنة .
وعلى المسلم أن يعلم أنه في حياته كلها يجب أن تكون عبادة لله تعالى ، فيراقب ربه سبحانه في كل عمل يقوم به ويخلص النية له فيه، وبهذا تكون أعمال الإنسان كلها من عادات وعبادات ومعاملات عبادة لله سبحانه وتعالى ، وبذلك يكون المسلم متفرغاً لعبادة الله؛ لأنه يعبد الله في كل أوقاته، ويراقبه في علنه وخلواته، فبهذا يحصل على الأجر العظيم من الله سبحانه وتعالى، ويفتح عليه أبواب الرزق والسعادة ويكون قد اغتنم حياته في طاعة الله تعالى وأشغل وقته في مرضات الله .(1/259)
والمؤمن يعلم الحكمة من خلقه في هذه الدنيا، حيث قال الله سبحانه: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56] فسبب خلق الإنسان ووجوده في هذه الدنيا، هو عبادة الله سبحانه، والعبادة هنا بالمعنى الأعم، فتكون الحياة كلها لله سبحانه وتعالى، فيكون في صلاته، وصيامه وزكاته وحجه وعمرته واعتكافه؛ مراقباً لله سبحانه وتعالى؛ لأن هذه كلها أعمال عبادية يتعبد بها لله سبحانه. وكذلك يكون في معاملاته مع الخلق مراقباً لله سبحانه وتعالى، فهو يراقبه تعالى في تجارته وبيعه وشرائه وإجارته ووكالته وكفالته وضمانه وأمانته ووديعته. فهو يراقب الله تبارك وتعالى دائماً في كل عمل من الأعمال؛ لأنه يستشعر أنه يعبد الله بهذا العمل، فإذا باع واشترى استشعر قول النبي صلى الله عليه وسلم: (رحم الله رجلاً سمحاً إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى)، فإذا استشعر ذلك فإنه يتعامل مع الناس بناءً على هذا الشعور. فمن يرجو رحمة الله سبحانه وتعالى، فإنه إذا تعامل مع الناس تعامل بحسن الخلق، لا ليقال: خلقه حسن -وإن كان من الحسن أن يمدح الإنسان وهو لا يطلب ذلك- وإنما يطلب ما عند الله سبحانه، فإن صاحب الخلق الحسن يكون يوم القيامة في درجة عظيمة جداً بجوار النبي صلوات الله وسلامه عليه بجوار باقي النبيين عليهم السلام. فالعبادة التي نحن مخلوقون لها ليست هي الصلاة وحدها -وإن كانت الصلاة من أعظم العبادات- ولكن العبادة التي خُلقنا من أجلها هي العبادة بمعناها الأعم، فيدخل فيها العبادات والمعاملات وأحوال الإنسان مع أهله وغيرهم.(1/260)
فإذا علم العبد هذا فإنه سيفرغ نفسه لهذه العبادة، فإذا به يراقب ربه ليل نهار، فيكون نومه وقيامه عبادة لله سبحانه، فهو عندما ينام إنما ينام ليستريح ويتقوى ليؤدي عبادة الله سبحانه وتعالى ويقيم الصلاة في أوقاتها، وهكذا لا يزال هذا العبد ينتظر عبادة وراء عبادة مدى حياته، كما قال تعالى: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162-163]، فالمؤمن يقول لنفسه: إني أمرت بذلك وأنا من المسلمين. والتفرغ للعبادة ليس معناه أن تحبس نفسك في البيت للصلاة والصوم فقط وتترك العمل، وإنما العبادة التي نذكرها هي العبادة بمعناها الأعم وهي أنك تصلي وتصوم وتزكي وتحج وتعتكف وتجاهد وتتعامل مع الناس بالخلق الحسن وأنك تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتحسن إلى الخلق وتصلح بين الناس بعضهم مع بعض وتعين الإنسان فتدله على الطريق أو تعينه في رفع حاجته على دابته، فكل ذلك من العبادة، فإذا تفرغت للعبادة بهذا المعنى، فالله عز وجل سوف يرزقك من حيث لا تحتسب. وكذلك إذا خرجت لطلب الرزق وأخلصت النية لله ونويت أن تطعم أولادك المال الحلال، فإن الله سبحانه وتعالى لن يتركك بغير رزق، بل الله عز وجل هو الرزاق الكريم سبحانه وتعالى قال: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ [الذاريات:56-57]، أي: أنه لم يخلقك من أجل أن ترزقه ولا من أجل أن تطعمه تبارك وتعالى، وإنما خلقك ليطعمك أنت ويعطيك.
ولقد حث النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته في اغتنام حياتهم في الأعمال الصالحة كما في الأحاديث الآتية:(1/261)
( حديث ابن عباس رضي الله عنهما الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : اغتنم خمسا قبل خمس : حياتك قبل موتك و صحتك قبل سقمك و فراغك قبل شغلك و شبابك قبل هرمك و غناك قبل فقرك .
[*] قال المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير :
( اغتنم خمساً قبل خمس ) : أي افعل خمسة أشياء قبل حصول خمسة أشياء
( حياتك قبل موتك ) يعني اغتنم ما تلقى نفعه بعد موتك فإن من مات انقطع عمله وفاته أمله وحق ندمه وتوالى همه فاقترض منك لك
( وصحتك قبل سقمك ) أي اغتنم العمل حال الصحة فقد يمنع مانع كمرض فتقدم المعاد بغير زاد
( وفراغك قبل شغلك ) أي اغتنم فراغك في هذه الدار قبل شغلك بأهوال القيامة التي أول منازلها القبر فاغتنم فرصة الإمكان لعلك تسلم من العذاب والهوان
( وشبابك قبل هرمك ) أي اغتنم الطاعة حال قدرتك قبل هجوم عجز الكبر عليك فتندم على ما فرطت في جنب اللّه
( وغناك قبل فقرك ) أي اغتنم التصدق بفضول مالك قبل عروض جائحة تفقرك فتصير فقيراً في الدنيا والآخرة فهذه الخمسة لا يعرف قدرها إلا بعد زوالها ولهذا جاء في خبر سيجيء نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ
( حديث ابن عباس رضي الله عنهما الثابت في صحيح البخاري ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس : الصحة و الفراغ .
( نعمتان ) تثنية نعمة ، وهي الحالة الحسنة ، أو النفع المفعول على وجه الإحسان للغير . وزاد في رواية " من نعم اللّه "
( مغبون فيهما ) بالسكون والتحريك قال الجوهري : في البيع بالسكون وفي الراوي بالتحريك ، فيصح كل في الخبر . إذ من لا يستعملهما فيما ينبغي فقد غبن ولم يحمد رأيه(1/262)
( كثير من الناس : الصحة والفراغ ) من الشواغل الدنيوية المانعة للعبد عن الاشتغال بالأمور الآخروية ، فلا ينافي الحديث المار : إن اللّه يحب العبد المحترف ، لأنه في حرفة لا تمنع القيام بالطاعات . شبه المكلف بالتاجر ، والصحة والفراغ برأس المال لكونهما من أسباب الأرباح ومقدمات النجاح فمن عامل اللّه بامتثال أوامره ربح ، ومن عامل الشيطان باتباعه ضيع رأس ماله . والفراغ نعمة غبن فيها كثير من الناس . ونبه بكثير على أن الموفق لذلك قليل . وقال حكيم : الدنيا بحذافيرها في الأمن والسلامة . وفي منشور الحكم : من الفراغ تكون الصبوة ، ومن أمضى يومه في حق قضاه ، أو فرض أدَّاه ، أو مجد أثله ، أو حمد حصله ، أو خير أسسه ، أو علم اقتبسه فقد عتق يومه وظلم نفسه . قال : لقد هاج الفراغ عليك شغلا * وأسباب البلاء من الفراغ . أهـ
وقد حثنا النبي - صلى الله عليه وسلم - على الترغيب في الفراغ للعبادة والإقبال على الله تعالى وحذرنا من الاهتمام بالدنيا والانهماك عليها : ومن ذلك ما يلي :
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن الله تعالى يقول يا ابن آدم تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنى وأسد فقرك وإلا تفعل ملأت يديك شغلا ولم أسد فقرك .
[*] قال الإمام المنذري رحمه الله تعالى في الترغيب والترهيب :(1/263)
يا بن آدم تفرغ لعبادتي: أي فرغ قلبك وأقبل علي وحدي، فتكون في كل أحوالك ناظراً إلى ربك سبحانه، مراقباً له، خائفاً منه، تعمل ما يرضيه سبحانه وتعالى، فهذا هو التفرغ لعبادة رب العالمين، فإذا فعلت هذا فالنتيجة هي ما جاء في الحديث حيث قال: أملأ صدرك غنى وأسد فقرك . فإذا امتلأ القلب غنى فلا يحتاج الإنسان إلى شيء بعد ذلك؛ لأن الغنى هو غنى القلب، فالإنسان إذا كان مفلساً لا شيء معه وقلبه غني فإنه سيشعر أنه ملك، وأنه أفضل من جميع من معه مال؛ لأن من معه مال يحتاج إلى أن يحرس ماله، أما هذا فلا يحتاج أن يحرس شيئاً؛ لأن القلب ممتلئ غنى، أما إذا ملأ الله قلب الإنسان فقراً وحاجة، فإنه سيشعر أنه فقير ولو كان من أغنى الناس؛ لأنه يحس أن ماله سينفد، وأن هناك أمراضاً يمكن أن تصيبه، فيظل يكنز ويكنز ولا يشبع أبداً. إذاً: الغنى هو غنى القلب والفقر هو فقر القلب، وربنا يعدك أنك إذا تفرغت للعبادة وأحسنت فيها فإنه سوف يملأ قلبك غنى، ولم ينته الأمر عند غنى القلب فقط، بل وفوق ذلك قال: أملأ صدرك غنى وأسد فقرك . أي: سأملأ القلب واليدين .
وإلا تفعل ملأت يديك شغلا: فالإنسان الذي يتباعد عن الله فيسمع المؤذن يؤذن فيقول: أنا لست فارغاً، بل ورائي شغل.. أريد أن آكل.. أو أريد أن أشرب، كيف أترك العمل وأنا محتاج إليه؟ فمثل هذا سوف يظل محروماً طول حياته .
ولم أسد فقرك : أي ستحس أنك فقير دائماً مهما كان معك من أموال كثيرة،
سبحان الله! البعيد عن طاعة الله سبحانه وتعالى يحدث له عكس ما يحدث للمتفرغ لطاعة الله سبحانه، فتجده كثير العمل، يشتغل هنا وهناك، وفي النهاية لا يجد معه شيئاً من الأموال؛ لأن الله يبتليه بالأمراض وبالإنفاق على العمال وغير ذلك، فلا يبقى معه شيء؛ لأنه ابتعد عن الله تبارك وتعالى .(1/264)
( حديث بن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح البخاري ) قال:أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل). وكان ابن عمر يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك .
(حديث أبي الدرداء رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :ما طلعت شمس قط ؛ إلا بعث بجنبتيها ملكان يناديان يسمعان أهل الأرض ؛ إلا الثقلين: يا أيها الناس لِلَّهِ هلموا إلى ربكم ؛ فإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى . ولا آبت شمس قط ؛ إلا بعث بجنبتبها ملكان يناديان يسمعان أهل الأرض ؛ إلا الثقلين: اللهم أعط منفقا خلفا ، واعط ممسكا مالا تلفا .
ولا آبت شمس : أي غربت
[*] قال الإمام المنذري رحمه الله تعالى في الترغيب والترهيب :
ما طلعت شمس قط : أي: وقت شروق الشمس تطلع الشمس وبجوارها عن يمينها وشمالها ملكان يناديان في الخلق:
أيها الناس لِلَّهِ هلموا إلى ربكم : أي أقبلوا إلى ربكم
فإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى : أي: إن جاءك القليل وكفاك فهو خير من أن يأتيك الكثير الذي يطغيك ،
يعني: الله سبحانه وتعالى يحذرك من أن تنشغل بالأعمال الدنيوية وتنسى العمل للآخرة بحجة مخافة الفقر أو عدم الكفاية .
ولا آبت شمس : أي غربت
اللهم أعط منفقا خلفا : فالإنسان المنفق الذي وعلى عياله، وعلى ضيفه، ينفق على جيرانه، ينفق من زكاة ماله، فيتصدق ويعطي، فالله يبارك له ويعطيه ويأمر الملكين بالدعاء له: اللهم أعط منفقا خلفا . يعني: إذا أنفقت الآن فإنه سوف يُسخر لك بعد قليل أكثر مما أنفقت، من فضل الله سبحانه وتعالى.
واعط ممسكا مالا تلفا : يدعوان على الممسك المقتر البخيل الذي لا يؤدي زكاة ماله ولا ينفق صدقة ولا ينفق على عياله، فيدعوان عليه أن يتلف الله ماله.(1/265)
( حديث أنس بن مالك رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من كانت الآخرة همّه جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة ، ومن كانت الدنيا همّه جعل الله فقره بين عينيه ، وفرَّق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قُدِّر له .
[ من كانت الآخرة همّه ] : يعني: يعمل ويطعم عياله يبتغي وجه الله سبحانه وتعالى، ويرغب فيها عن الآخرة (حتى اللقمة يجعلها في فِي امرأته كان له أجر) كما ورد في حديث آخر، محتسب ذلك عند الله عز وجل، فهذا الإنسان الذي الآخرة همه يقول صلى الله عليه وسلم عن جزائه ما يلي : جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة :
[ ومن كانت الدنيا همّه ] : فالإنسان مخلوق من أجل العبادة، فإذا نسي هذا الأمر وأصبح نهماً على الدنيا يريد أن يجمعها من أي جهة كانت، وأصبحت هذه الدنيا همه الوحيد فهذا جزاؤه [جعل الله فقره بين عينيه ، وفرَّق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قُدِّر له ]
[جعل الله فقره بين عينيه ] : يعني: أنه دائماً مستحضر الفقر يرى الفقر بين عينيه، مهما وجد معه من المال،
[ وفرَّق عليه شمله ] : فالذي يجمع لك الأمور ويؤلف بين القلوب هو الله سبحانه وتعالى، فالإنسان يجمع من شمال ويمين وربنا يفرق عليه هذا كله ما دام همه الوحيد .
[ولم يأته من الدنيا إلا ما قُدِّر له ] : فلا تتعب نفسك وتحملها فوق طاقتها فتقصر في عبادة الله سبحانه، وتقول: المال المال، ولكن ابحث عن المال من حلال، واحذر الحرام، واحذر أن تضيع الدين وتضيع الطاعة فيضيع منك الجميع الدنيا والآخرة.
(حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجه ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من جعل الهموم هماً واحدا هم المعاد كفاه الله هم دنياه، ومن تشعبت به الهموم في أحوال الدنيا لم يبال الله في أي أوديته هلك .(1/266)
من جعل الهموم هماً واحدا هم المعاد : ولو أن كلاً منا في قلبه الآخرة، فسيدرك أن الله سبحانه على كل عمل يقوم به، فإنه إذا قام للصلاة تذكر: الله سيحاسبني على هذه الصلاة فيحسنها، وإذا صام أحسن الصيام، وإذا عمل أي عمل من الأعمال أتقن ذلك العمل، ولا من أجل أن يأخذ الجزاء من الناس، ليس من أجل أن يترقى، ولكن ابتغاء مرضات الله سبحانه وتعالى؛ لأن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه، فإذا كانت الآخرة على بال الإنسان دائماً فإن الله سوف يكفيه أمر دنياه، قال: (كفاه الله هم دنياه).
ومن تشعبت به الهموم : يعني: نسي الآخرة وبدأ يفكر يريد أن يأكل ويشرب ويلبس ويريد كذا وكذا، ويعمل طول النهار وهو يفكر في أمور الدنيا، ناسياً ربه سبحانه فهذا يكون حاله كما في الحديث:
( لم يبال الله في أي أوديته هلك ) : يعني: في أي مكان هلك لا يبالي الله عز وجل به. فالمؤمن قريب من الله، والله يحبه ويفرح بتوبته وبإقباله عليه، أما الإنسان البعيد عن الله سبحانه وتعالى فإن يهلك في أي واد لا يبالي الله به.
( حديث بن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح البخاري ) قال:أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال: كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل. وكان ابن عمر يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك.
[*] قال المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير :(1/267)
( كن في الدنيا كأنك غريب ) أي عش بباطنك عيش الغريب عن وطنه بخروجك عن أوطان عاداتها ومألوفاتها بالزهد في الدنيا والتزود منها للآخرة فإنها الوطن أي أن الآخرة هي دار القرار كما أن الغريب حيث حلّ نازع لوطنه ومهما نال من الطرف أعدها لوطنه وكلما قرب مرحلة سره وإن تعوق ساعة ساءه فلا يتخذ في سفره المساكن [ ص 52 ] والأصدقاء بل يجتزئ بالقليل قدر ما يقطع به مساقة عبوره لأن الإنسان إنما أوجد ليمتحن بالطاعة فيثاب أو بالإثم فيعاقب { ليبلوكم أيكم أحسن عملاً } فهو كعبد أرسله سيده في حاجة فهو إما غريب أو عابر سبيل فحقه أن يبادر لقضائها ثم يعود إلى وطنه وهذا أصل عظيم في قصر الأمل وأن لا يتخذ الدنيا وطناً وسكناً بل يكون فيها على جناح سفر مهيأ للرحيل وقد اتفقت على ذلك وصايا جميع الأمم وفيه حث على الزهد والإعراض عن الدنيا والغريب المجتهد في الوصول إلى وطنه لا بدّ له من مركب وزاد ورفقاء وطريق يسلكها فالمركب نفسه ولا بدّ من رياضة المركوب ليستقيم للراكب والزاد التقوى والرفقاء الذين أنعم اللّه عليهم من النبيين والصديقين والصراط المستقيم وإذا سلك الطريق لم يزل خائفاً من القطاع إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع
( أو عابر سبيل ) قال الطيبي : الأحسن جعل أو بمعنى بل شبه الناسك السالك بغريب لا مسكن له يأويه ثم ترقى وأضرب عنه إلى عابر سبيل لأن الغريب قد يسكن بلد الغربة وابن السبيل بينه وبين مقصده أودية رديئة ومفارز مهلكة وقطاع وشأنه أن لا يقيم لحظة ولا يسكن لمحة قال بعض العارفين : الأرواح خلقت قبل الأجساد ثم أفيضت من عالمها العلوي النوراني فأودعت هذا الجسد الترابي الظلماني فاجتمعا اجتماع غربة كل منهما يشير إلى وطنه ويطير إلى مسكنه فالبدن أخلد إلى الأرض والروح بدون السموّ لم ترضَ . راحت مشرقة ورحت مغرباً * شتان بين مشرق ومغرب .(1/268)
[*] قال أبي موسى الأشعري : ما ننتظر من الدنيا إلا كَلاً (1) محزناً أو فتنة تنتظر.
[*] قال الحسن البصري رحمه الله تعالى : ابن آدم إياك والتسويف فإنك بيومك ولست بغد فإن يكن غد لك فكن في غد كما كنت في اليوم وإلا يكن لك لم تندم على ما فرطت في اليوم وقال أيضاً : أدركت أقواما كان أحدهم أشح على عمره منه على دراهمه ودنانيره .
وقال أيضاً: أي قوم المداومة المداومة فإن الله لم يجعل لعمل المؤمن أجلا دون الموت .
وقال أيضاً: إذا نظر إليك الشيطان فرآك مداوما في طاعة الله فبغاك وبغاك (2) فرآك مداوماً ملك ورفضك وإذا كنت مرة هكذا ومرة هكذا طمع فيك.
[*] قال عون بن عبدالله : كم من مستقبل يوماً لا يستكمله ومنتظر غد لا يبلغه لو تنظرون إلى الأجل ومسيره لأبغضتم الأمل وغروره .
[*] قال أبي إسحاق : قيل لرجل من عبد القيس في مرضه أوصنا قال أنذرتكم سوف.
[*] قال ثمامة بن بجاد السلمي لقومه : أي قوم أنذرتكم سوف أعمل سوف أصلي سوف أصوم .
[*] كتب عمر بن عبدالعزيز إلى يزيد بن عبد الملك: إياك أن تدركك الصرعة عند الغرة فلا تقال العثرة ولا تمكن من الرجعة ولا يحمدك من خلفت بما تركت ولا يعذرك من تقدم عليه بما اشتغلت به والسلام.
[*] قال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه : إذا كان العبد في صلاته فإنه يقرع باب الملك وأنه من يدأب قرع باب الملك يوشك أن يفتح له ؛ قال وقال مرة قال عبد الله في هذه الآية اتقوا الله حق تقاته قال حق تقاته أن يطاع فلا يعصى وأن يشكر فلا يكفر وأن يذكر فلا ينسى .
... [*] وكان عمرو بن عتبة بن فرقد يخرج على فرسه فيقف ليلا على القبور فيقول يا أهل القبور قد طويت الصحف وقد رفعت الإعمال ثم يبكي ثم يصفن بين قدميه حتى يصبح ثم يرجع فيشهد صلاة الصبح .
ولله درُّ القائل :
يا من بدنياه انشغل وغره طول الأمل ... الموت يأتي بغتة والقبر صندوق العمل
__________
(1) الكَلّ: الثقل والعيال.
(2) أي طلبك مرة بعد مرة.(1/269)
[*] قال حاتم الأصم رحمه الله : نظرت إلى الناس فإذا كل شخص له محبوب فإذا وصل إلى القبر فارقه محبوبه فجعلت محبوبي حسناتي لنكون معي في قبري ).
[*] وقال وهيب بن الورد رحمه الله : إذا إستطعت ألا يسبقك إلى الله أحد فافعل .
(6) إيثار المصالح الدينية على المصالح الدنيوية:
معنى المصلحة في الشريعة الإسلامية :
المصلحة : هي كل ما يخدم مقاصد الشرع ومقاصد الشرع هي جميع المصالح الأساسية الدينية والدنيوية والأخروية التي تتقوم بها حياة الناس وتدفع عنهم الأضرار والضيق والحرج والعنت .
[*] قال الإمام أبو حامد الغزالي لما : "ونعني بالمصلحة حفظ مقصود الشرع"،
هذا هو مفهوم المصلحة ومعيارها وأساسها وهو جلب ما ينفع الناس ودفع ما يضرهم .
لأن المصلحة لا تنفك أيضا عن المفسدة ولذلك قال الغزالي كل ما يخدم مصالح الشرع فهو مصلحة وكل ما يفوتها فهو مفسدة.
وجديرٌ بالذكر أن الشريعة الإسلامية ترعى المصالح الفردية والمصالح الجماعية ومصلحة البشرية ومصلحة الجماعة والفرد ومصلحة الدنيا والآخرة والمصالح المادية والمعنوية هذا كله داخل لا يستثنى منه شيء .
ولا شك أن أوسع مفهوم وأشمل مفهوم للمصلحة هو المفهوم الإسلامي لأن المفاهيم السائدة عادة أن المصالح هي مصالح البطون ومصالح الجيوب ومصالح الأبدان وفي أقصى الحالات بعض المصالح ذات الطابع الاجتماعي والسلوكي ولكن المصالح الإسلامية هي مصالح القلوب ومصالح النفوس ومصالح الروح ومصالح العقل فضلا عن مصلحة البدن والأموال وما إلى ذلك .
وقد ذم الله تعالى من يقدم المصالح الدنيوية على المصالح الدينية قال تعالى : ( بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ) [ الأعلى 16،17 ]
( بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ) أي: تقدمونها على الآخرة، وتختارون نعيمها المنغص المكدر الزائل على الآخرة.(1/270)
( وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ) : وللآخرة خير من الدنيا في كل وصف مطلوب، وأبقى لكونها دار خلد وبقاء وصفاء، والدنيا دار فناء، فالمؤمن العاقل لا يختار الأردأ على الأجود، ولا يبيع لذة ساعة، بترحة الأبد، فحب الدنيا وإيثارها على الآخرة رأس كل خطيئة.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان الثوري. قال قال عيسى بن مريم عليه السلام: حب الدنيا رأس كل خطيئة، والمال فيه داء كثير، قيل: يا روح الله: ما داؤه? قال: لا يؤدي حقه، قالوا: فإن أدى حقه. قال: لا يسلم من الفخر والخيلاء، قالوا: فإن سلم من الفخر والخيلاء ؟ قال: يشغله استصلاحه عن ذكر الله.
أمثلة لمن قدم المصالح الدنيوية على المصالح الدينية :
(1) أن يريد المال ، كمن أذن ليأخذ راتب المؤذن ، أو حج ليأخذ المال .
(2) أن يريد المرتبة ، كمن تعلم في كلية ليأخذ الشهادة فترتفع مرتبته .
مسألة : : هل يدخل فيه من يتعلمون في الكليات أو غيرها يريدون شهادة أو مرتبة بتعلمهم ؟
فالجواب : أنهم يدخلون في ذلك إذا لم يريدوا غرضاَ شرعياَ ، فنقول لهم :
أولاً : لا تقصدوا بذلك المرتبة الدنيوية ، بل اتخذوا هذه الشهادات وسيلة للعمل في الحقول النافعة للخلق ، لأن الأعمال في الوقت الحاضر مبنية على الشهادات ، والناس لا يستطعون الوصول إلى منفعة الخلق إلا بهذه الوسيلة ، وبذلك تكون النية سليمة فيكونوا قدموا المصالح الدينية على الدنيوية .
ثانياً : أن من أراد العلم لذاته قد لا يجده إلا في الكليات ، فيدخل الكلية أو نحوها لهذا الغرض ، وأما بالنسبة للمرتبة ، فإنها لا تهمه .
ثالثاً : أن الإنسان إذا أراد بعمله الحسنيين - حسني الدنيا وحسني الأخرة ، فلا شيء عليه لأن الله يقول : ( وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ) [ الطلاق : 2،3] فرغبه في التقوي بذكر المخرج من كل ضيق والرزق من حيث لا يحتسب .(1/271)
وقد ذم النبي من قدم المصالح الدنيوية على المصالح الدينية في سنته الصحيحة منها الحديث الآتي :
(حديث أبي هريرة في صحيح البخاري) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : تعس عبد الدينار ،و عبد الدرهم ، و عبد الخميصة ، ، إن أُعطِيَ ؛ رضي ، وإن لم يُعط ، سخط ، تعس وأنتكس ، وإذا شيك فلا انتقش . طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله ، أشعثٌ رأسُه ، مغبَّرةٌ قدماه ، إن كان في الحراسة ، كان في الحراسة ، وإن كان في الساقة ، كان في الساقة ، إن أستأذن ، لم يؤذن له ، وأن شفع ، لم يشفع "
قوله : " تَعِس " . بفتح العين أو كسرها ، أي : خاب وهلك .
قوله : " عبد الدينار" الدينار : هو النقد من الذهب ، وسماه عبد الدينار ، لأنه تعلق به تعلق العبد بالرب فكان أكبر همه ، وقدمه على طاعة ربه ، ويقال في عبد الدرهم ما قيل في عبد الدينار ، والدرهم هو النقد من الفضة.
ويتضح من الحديث أن يتبين أن من الناس من يعبد الدنيا ، أي : يتذلل لها ويخضع لها ، وتكون مناه وغايته ، فيغضب إذا فقدت ويرضي إذا وجدت ، ولهذا سمي النبي - صلى الله عليه وسلم - من هذا شأنه عبداً لها ،وهذا من يُعنى بجمع المال من الذهب والفضة ، فيكون مريداً بعمله الدنيا .
قوله : " [و عبد الخميصة] ، وهذا من يعنى بمظهره ، لأن الخميصة كساء جميل ، ليس له هم إلا هذا الأمر ، فإذا كان عابداً لهذه الأمور لأنه صرف لها جهوده وهمته ، فكيف بمن أراد بالعمل الصالح شيئاً من الدنيا فجعل الدين وسيلة للدنيا ؟ لِلَّهِ فهذا أعظم .
قوله : " إن أعطي رضي ، وإن لم يعط سخط " . يحتمل أن يكون المعطي هو الله فيكون الإعطاء قدرياً ، أي : إن قدر الله له الرزق والعطاء رضي وانشرح صدره ، وإن منع وحرم المال سخط بقلبه وقوله ، كأن يقول : لماذا كنت فقيراً وهذا غنياً ؟ وما أشبه ذلك ، فيكون ساخطاً على قضاء الله وقدرة لأن الله منعه .(1/272)
والله سبحانه وتعالى يعطي ويمنع لحكمةٍ بالغةً قضاها يستوجب الحمد على اقتضاها ، ويعطي الدنيا لمن يحب ومن لا يحب ، ولا يعطي الدين لمن يحب .
والواجب على المؤمن أن يرضي بقضاء الله وقدره ، إن أعطي شكر ، وإن منع صبر .
ويحتمل أن يراد بالإعطاء هنا الإعطاء الشرعي ، أي: إن أعطي من مال يستحقه من الأموال الشرعية رضي ، وإن لم يعط سخط ، وكلا المعنيين حق ، وهما يدلان على أن هذا الرجل لا يرضي إلا للمال ولا يسخط إلا له ، ولهذا سمّاه الرسول - صلى الله عليه وسلم - عبداً له .
قوله :" تعس وانتكس " . تعس ، أي : خاب وهلك ، وانتكس ، أي : أنتكست عليه الأمور بحيث لا تتيسر له ، فكلما أراد شيئاً انقلبت عليه الأمور خلاف ما يريد ، ولهذا قال :
وإذا شيك فلا انتقش" أي : إذا أصابته شوكة ، فلا يستطيع أن يزيل ما يؤذيه عن نفسه .
وهذه الجمل الثلاث يحتمل خبراً منه - صلى الله عليه وسلم - عن حال هذا الرجل ، وأنه في تعاسة وانتكاس وعدم خلاص من الأذى ، ويحتمل أن يكون من باب الدعاء على من هذه حاله ، لأنه لا يهتم إلا للدنيا ، فدعا عليه أن يهلك ، وأن لا يصيب من الدنيا شيئاً ، وأن لا يتمكن من إزالة ما يؤذيه ، وقد يصل إلى الشرك عندما يصده ذلك عن طاعة الله حتى أصبح لا يرضي إلا للمال ولا يسخط إلا له .
قوله : " طوبي لعبد أخذ بعنان فرسه في سبيل الله " . هذا عكس الأول ، فهو لا يهتم للدنيا ، وإنما يهتم للآخرة ، فهو في استعداد دائم للجهاد في سبيل الله .
فُعْلى من الطيب ، وهي اسم تفضيل ، فأطيب للمذكر وطوبي للمؤنث ، والمعني : أطيب حال تكون لهذا الرجل ، وقيل إن طوبي شجرة في الجنة ، والأول ، أعم ،
وقوله : " آخذ بعنان فرسه " . أي ممسك بمقود فرسه الذي يقاتل عليه .(1/273)
قوله : " في سبيل الله " . ضابطه أن يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا لا للحمية أو الوطنية أو ما أشبه ذلك ، لكن إن قاتل وطنية وقصد حماية وطنه لكونه بلداً إسلامياً يجب الذود عنه ، فهو في سبيل الله ، وكذلك من قاتل دفاعاً عن نفسه أو ماله أو أهله ؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " من قتل دون ذلك ، فهو شهيد " ، فأما من قاتل للوطنية المحضة ، فليس في سبيل الله لأن هذا قتال عصبية يستوي فيه المؤمن والكافر ، فإن الكافر يقاتل من أجل وطنه .
قوله : [ أشعثٌ رأسه ، مغبَّرة قدماه ] أي: رأسه أشعث من الغبار في سبيل الله ، فهو لا يهتم بحاله ولا بدنه مادام هذا الآمر ناتجاً عن طاعة الله عز وجل وقدماه مغبرة في السير في سبيل الله ، وهذا دليل على أن أهم شيء عنده هو الجهاد في سبيل الله ، أما أن يكون شعره أو ثوبه أو فراشه نظيفاً ، فليس له هم فيه .
قوله : [ إن كان في الحراسة ، فهو في الحراسة ، وإن كان في الساقة ، كان في الساقة] المعنى أنه يُنكر ذاته فالأمر يستوي عنده سواء كان في المنزلة العليا كمرتبة الحراسة التي تكون في مقدمة الجيش أو في المنزلة الدنيا كالسقي ال ... ي يكون في مؤخرة الجيش فهو لا يحرص على مكانة دنيوية حتى إنه إن استأذن لم يؤذن له ، وإن شفع لم يشفع .
قوله :" إن استأذن لم يؤذن له ، وإن شفع لم يشفع " . أي : هو عند الناس ليس له جاه ولا شرف ، حتى إنه إن استأذن لم يؤذن له ، وهكذا عند أهل السلطة ليس له مرتبه ، فإن شفع لم يُشَفّع، ولكنه وجيه عند الله وله المنزلة العالية ، لأنه يقاتل في سبيله .
والشفاعة : هي التوسط للغير بجلب منفعة أو دفع مضرة .
والاستئذان : طلب الإذن بالشيء .
والحديث قسم الناس إلى قسمين :
الأول : ليس له هم إلا الدنيا ، إما لتحصيل المال ، أو لتجميل الحال ، فقد استبعدت قلبه حتى أشغلته عن ذكر الله وعبادته .(1/274)
الثاني : أكبر همه الآخرة ، فهو يسعى لها في أعلى ما يكون مشقة وهو الجهاد في سبيل الله ، ومع ذلك أدى ما يجب عليه من جميع الوجوه .
ويستفاد من الحديث .
(1) أن الناس قسمان كما سبق .
(2) أن الذي ليس له هم إلا الدنيا قد تنقلب عليه الأمور ، ولا يستطيع الخلاص من أدنى أذية وهى الشوكة ، بخلاف الحازم الذي لا تهمه الدنيا ، بل أراد أذية وهي الشوكة ، بخلاف الحازم الذي لا تهمه الدنيا ، وقنع بما قدره الله له .
(3) أنه ينبغي لمن جاهد في سبيل الله ألا تكون همه المراتب ، بل يكون همه القيام بما يجب عليه ، إما في الحراسة ، أو الساقة ، أو القلب ، أو الجنب ، حسب المصلحة .
(4) أن دنو الإنسان عند الناس لا يستلزم منه دنو مرتبته عند الله عز وجل ، فهذا الرجل الذي إن شفع لم يشفّع وإن استأذن لم يؤذن له قال فيه الرسول - صلى الله عليه وسلم - : " طوبي له " ، ولم يقل : إن سأل لم يعط ، بل لا تهمه الدنيا حتى يسأل عنها، لكن يهمه الخير فيشفع للناس ويستأذن للدخول على ذوي السلطة للمصالح العامة .
{ تنبيه } : بعض الناس عندما يتكلمون على فوائد العبادات يحولونها إلى فوائد دنيوية فمثلاً يقولون : في الصلاة رياضة وإفادة للأعصاب ، وفي الصيام فائدة إزالة الرطوبة وترتيب الوجبات ، والمفروض ألا نجعل الفوائد الدنيوية هي الأصل ، لأن الله لم يذكر ذلك في كتابه ، بل ذكر أن الصلاة تنهي عن الفحشاء والمنكر .
وعن الصوم أنه سبب التقوي ، فالفوائد الدينية في العبادات هي الأصل والدنيوية ثانوية ، لكن عندما نتكلم عند عامة الناس ، فإننا نخاطبهم بالنواحي الدينية ، وعندما نتكلم عند من لا يقتنع إلا بشيء مادي ، فإننا نخاطبه بالنواحي الدينية والدنيوية ، ولكن مقام مقال .
وقال الله تعالى : ( مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ } [ هود : 15 ](1/275)
... ( من كان يريد الحياة الدنيا ) : أي البقاء في الدنيا .
( وزينتها ) : أي المال ، والبنين ، والنساء ، والحرث ، والأنعام ، والخيل المسومة ،
كما قال الله تعالى : ( زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ ) [ آل عمران : 14]
( نوف إليهم ) . فعل مضارع معتل الآخر مجزوم بحذف حرف العلة الياء ، لأنه جواب الشرط .
والمعني : أنهم يعطون ما يريدون في الدنيا ، ومن ذلك الكفار لا يسعون إلا للدنيا وزينتها ، فعجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا ، كما قال تعالى: ( وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ ) [ الأحقاف : 20]
ولهذا لما بكي عمر حين رأي النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أثر في جنبه الفراش ، فقال : " ما يبكيك ؟ " . قال يا رسول الله لِلَّهِ كسري وقيصر يعيشان فيما يعيشان فيه من نعيم وأنت على هذا الحال . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم "
وفي الحقيقة هي ضرر عليهم ، لأنهم إذا انتقلوا من دار النعيم إلى الجحيم ، صار عليهم أشد وأعظم في فقد ما متعوا به في الدنيا .
( وهم فيها إلا يبخسون ): البخس : النقص ، أي : لا ينقصون مما يجازون فيه ، لأن الله عدل لا يظلم ، فيعطعون ما أرادوه .
( أولئك ) : المشار إليه يريدون الحياة الدنيا وزينتها .(1/276)
( ليس لهم في الآخرة إلا النار ) : فيه حصر وطريقة النفي والإثبات ، وهذا يعني أنهم لن يدخلوا الجنة ، لأن الذي ليس له إلا النار محروم من الجنة والعياذ بالله .
( وحبط ما صنعوا فيها ) : الحبوط : الزوال ، أي : زال عنهم ما صنعوا في الدنيا .
( وباطل ما كانوا يعملون ) : ( باطل ) : خبر مقدم لأجل مراعاة الفواصل في الآيات والمبتدأ " ما " في قوله : ( ما كانوا يعملون ) ، فأثبت الله أنه ليس لهؤلاء إلا النار ، وأن ما صنعوا في الدنيا قد حبط ، وأن أعمالهم باطلة .
{ تنبيه } : قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى :
وقوله تعالى : ( مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ } [ هود : 15 ]
مخصوصة بقوله تعالى : { مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا ) [ الإسراء : 18 ]
فأن قيل : لماذا لا نجعل آيه هود حاكمة على آية الإسراء ويكون الله توعد من يريد العاجلة في الدنيا أن يجعل له ما يشاء لمن يريد ؟ ثم وعد أن يعطيه ما يشاء؟
أجيب : إن هذا المعنى لا يستقيم لأمرين :
أولاً : أن القاعدة الشرعية في النصوص أن الأخص مقدم على الأعم ، وآية هود عامة ، لأن كل من أراد الحياة الدنيا وزينتها وفِّي إليه العمل وأعطي ما أراد أن يعطي ، أما آية الإسراء ، فهي خاصة : )عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ([ الإسراء : 18] ، ولا يمكن أن يُحكَم بالأعم على الأخص .
الثاني : أن الواقع يشهد على ما تدل عليه آية الإسراء : لأن في فقراء الكفار من هو أفقر من فقراء المسلمين ، فيكون عموم آية هود مخصوصاً بآية الإسراء فالأمر موكول إلى مشيئة الله وفيمن يريده .
واختلف فيمن نزلت فيه آية هود :(1/277)
(1) قيل : نزلت في الكفار ، لأن الكافر لا يريد إلا الحياة الدنيا ، ويدل لهذا سياقها والجزاء المرتب على هذا ، وعليه يكون وجه مناسبتها للترجمة أنه إذا كان عمل الكافرين يراد به الدنيا ، فكل من شاركهم في شيء من ذلك ، ففيه شيء من شركهم وكفرهم .
(2) وقيل : نزلت في المرائين ، لأنهم لا يعملون إلا للدنيا ، فلا ينفعهم يوم القيامة .
(3) وقيل : نزلت فيمن يريد مالاً بعمله الصالح .
والسياق يدل للقول الأول ، لقوله تعالى : ) أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون ( [ هود : 16] .
(7) البذل والإنفاق وكثرة الصدقات :
فضل البذل والإنفاق وكثرة الصدقات :
جاءت النصوص الكثيرة التي تبين فضائل الصدقة والإنفاق في سبيل الله ، وتحث المسلم على البذل والعطاء ابتغاء الأجر الجزيل من الله سبحانه ، وإليك بعض ما ورد في ذلك فارعها سمعك وفكرك واجعل لها في سمعك مسمعاً وفي قلبك موقعاً عسى الله أن ينفعك بها ويوفقك إلى تطبيقها .
قد جعل الله الإنفاق على السائل والمحروم من أخص صفات عباد الله المحسنين ، فقال عنهم : ( إِنّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُواْ قَلِيلاً مّن اللّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَفِيَ أَمْوَالِهِمْ حَقّ لّلسّآئِلِ وَالْمَحْرُومِ) [ الذاريات 19:16]
وضاعف العطية للمنفقين بأعظم مما أنفقوا أضعافاً كثيرة في الدنيا والآخرة فقال تعالى: (مّن ذَا الّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً ) [ البقرة : 245]
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال من تصدق بعدل تمرةٍ من كسب طيب و لا يقبل الله إلا الطيب فإن الله يتقبلها بيمينه ثم يُرَبِيها له كما يربي أحدكم فَلَوَّه حتى تكون مثل الجبل .(1/278)
معنى الفَلُّو: المهر وهو صغير الحصان ، واختير في التشبيه لأنه يزيد زيادةً بينة بسرعة .
والصدقة من أبواب الخير العظيمة ، ومن أنواع الجهاد المتعددة ، بل إن الجهاد بالمال مقدم على الجهاد بالنفس في جميع الآيات التي ورد فيها ذكر الجهاد إلا في موضع واحد ،
( حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح أبي داوود ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم .
والبذل والإنفاق من أفضل العمل بنص السنة الصحيحة كما في الحديث الآتي :
(حديث محمد بن المنكدر في صحيح الجامع) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من أفضل العمل إدخال السرور على المؤمن تقضي عنه دينا تقضي له حاجة تنفس له كربة .
(حديث عبد الله ابن عمرو في الصحيحين) أن رجلاً سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي الإسلامُ خير ؟ قال : تُطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف .
والصدقة ترفع صاحبها حتى توصله أعلى المنازل كما في الحديث الآتي :(1/279)
(حديث أبي كبشة الأنماري في صحيحي الترمذي وابن ماجة ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إِنَّمَا الدُّنْيَا لأَرْبَعَةِ نَفَرٍ عَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالاً وَعِلْماً فَهُوَ يَتَّقِى فِيهِ رَبَّهُ وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ وَيَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا فَهَذَا بِأَحسنِ الْمَنَازِلِ عند الله وَرجلٍ رَزَقَهُ اللَّهُ عِلْماً وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالاً فَهُوَ يَقُولُ لَوْ أَنَّ لي مَالاً لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلاَنٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ وهما في الأجرِسَوَاءٌ ، وَرجلٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالاً وَلَمْ يَرْزُقْهُ عِلْماً فَهُوَ يَخْبِطُ في مَالِهِ لاَ يَتَّقِى فِيهِ رَبَّهُ وَلاَ يَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ وَلاَ يَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا فهو بِأَسوءِ الْمَنَازِلِ عند الله وَرجلٍ لَمْ يَرْزُقْهُ اللَّهُ مَالاً وَلاَ عِلْماً فَهُوَ يَقُولُ لَوْ أَنَّ لي مَالاً لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلاَنٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ وهما في الوزر سَوَاءٌ .
كما أنها تدفع عن صاحبها المصائب والبلايا ، وتنجيه من الكروب والشدائد كما في الحديث الآتي :
(حديث أنس في صحيح الجامع) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : صنائع المعروف تقي مصارع السوء و الآفات و الهلكات و أهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة .
أضف إلى ذلك إطفاؤها للخطايا وتكفيرها للسيئات وأنها مما يُتقى به من النار كما في الحديث الآتي :
(حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدَّم من عمله، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدَّم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشِقِّ تمرة).
ومن فضائل الصدقة أن نفقة الصدقة مخلوفة :(1/280)
قال تعالى : ( وَمَآ أَنفَقْتُمْ مّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرّازِقِينَ ) [سبأ : 39]
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :(ما من يوم يصبح العباد فيه، إلا ملكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقا خلفا ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكا تلفا)
... [*] قال الإمام ابن حجر في الفتح :
أن الخلف هو التيسير لليسرى ، مستفاداًَ من قوله تعالى : (فَأَمّا مَنْ أَعْطَىَ وَاتّقَىَ * وَصَدّقَ بِالْحُسْنَىَ * فَسَنُيَسّرُهُ لِلْيُسْرَىَ ) [ الليل / 7:5 ]
والتيسير لليسرى هو التوفيق لأعمال البر الذي يترتب عليه الثواب في الآخرة ،
وأن معنى التلف هو التيسير للعسرى مستفاداًَ من قوله تعالى : (وَأَمّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَىَ * وَكَذّبَ بِالْحُسْنَىَ * فَسَنُيَسّرُهُ لِلْعُسْرَىَ) [ الليل / 10:8 ]
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ما نقصت صدقةٌ من مال ، وما زاد الله عبداً بعفوٍ إلا عزا ، وتواضع أحدٌ لله إلا رفعه الله )
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أنفق يا بلال ولا تخشى من ذي العرش إقلالاً )
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : قال الله تعالى [أنفق يا ابن آدم أُنفق عليك]
الصدقة هي الباقية :
(حديث عبد الله بن الشخير الثابت في صحيح مسلم ) أنه إنتهى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يقرأ (ألهاكم التكاثر) قال : يقول بن آدم مالي مالي ، وهل لك من مالك إلا ما تصدقت فأمضيت أو أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت .
حث النبي - صلى الله عليه وسلم - على الصدقة فأخبر أن على كل مسلمٍ صدقة على سبيل الإستحباب :(1/281)
(حديث أبي موسى الأشعري الثابت الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (على كلِ مسلمٍ صدقة فقالوا: يا نبي الله، فمن لم يجد؟ قال: يعمل بيده، فينفع نفسه ويتصدَّق قالوا: فإن لم يجد؟ قال: يعين ذا الحاجة الملهوف قالوا: فإن لم يجد؟ قال: فليعملْ بالمعروف، وليمسك عن الشر، فإنها له صدقة .
حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : كلُ ُسلامى من الناس عليه صدقة، كل يومٍ تطلع فيه الشمس، َيعِدلُ بين الاثنين صدقة، ويعين الرجلُ على دابته فيحمل عليها، أو يرفع عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وكلُ خطوةٍ يخطوها إلى الصلاة صدقة، ويميطُ الأذى عن الطريق صدقة)
ومعنى الحديث :
أن على كلِ إنسان أن يتصدق كل يومٍ على سبيل الإستحباب بعدد مفاصله وهي (360) مفصل شكراً لله تعالى أن جعل له مفاصل تمكن العظام من الثني .
دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - لصاحب الصدقة :
( حديث عبد الله بن أبي الأوفى الثابت في الصحيحين ) قال : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أتاه قومٌ بصدقتهم قال : اللهم صلِّ على آل فلان فأتاه أبي بصدقته فقال : اللهم صلِّ على آل أبي أوفى )
أن المُكْثِر من الصدقة يُغْبَطُ في جنب الله تعالى :
(حديث ابن مسعود في الصحيحين) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لا حسد إلا في اثنتين : رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق و رجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها و يُعَلِمُها .
(8) ترك مجالس أهل الدنيا والاشتغال بمجالس الآخرة :
[*] أولاً ترك مجالس أهل الدنيا :
يجب على كل مسلم أن يحذر من مجالس أهل الدنيا لأنها لا تخلوا غالباً من غيبة أو نميمة أو كثرة الضحك أومزاح بالباطل ليضحك به القوم ، وكل هذا مما نهى الشرع عنه .(1/282)
والغيبة من آفات اللسان التي يجب على طالب العلم أن يحفظ لسانه منها ، وجاء في الكتاب والسنة الصحيحة النكيرُ الشديد والنهي الأكيد عن ارتكاب هذه الرذيلة
قال تعالى: (وَلاَ يَغْتَب بّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتّقُواْ اللّهَ إِنّ اللّهَ تَوّابٌ رّحِيمٌ) [الحجرات / 12]
الشاهد من الآية : أن الله تعالى نهى عن الغيبة ، والأصل في الأمر التحريم ، وشبه المغتاب بأكل الميتة ،
تعريف الغيبة : الغيبة هي ذكرك أخاك بما يكره بنص السنة الصحيحة
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أتدرون ما الغيبة ؟ قالوا الله ورسوله أعلم . قال : ذكرك أخاك بما يكره ، قيل أفرأيت إن كان في أخي ما أقول ؟ قال : إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته و إن لم يكن فيه فقد بهته .
والسنة الصحيحة طافحةٌ بما يدل على تحريم الغيبة منها ما يلي :
(حديث عائشة في صحيحي أبي داوود والترمذي ) قالت قلت للنبي - صلى الله عليه وسلم - حبكَ من صفية كذا وكذا - تعني قصيرة - فقال : لقد قلتِ كلمةً لو مُزِجَت بماء البحر لمزجته .
*معنى مزجته : أي خالطته مخالطةً شديدةً يتغير بها طعمه أو ريحه لشدة نتنها وقبحها ، وهذا من الزجر .
(حديث سعيد ابن زيد في صحيح أبي داود) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أربى الربا الاستطالة في عِرض المسلم بغير حق .
(حديث أبي برزة في صحيح أبي داوود ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : يا معشر من آمن بلسانه و لم يدخل الإيمان قلبه لِلَّهِ لا تغتابوا المسلمين و لا تتبعوا عوراتهم ، فمن اتبع عوراتهم يتبع الله عورته ، ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته .
{ تنبيه } : في الحديث تحذير من الغيبة والوعيد لمن يتبع عورات المسلمين وكسف مساويهم أن يتبع الله عورته ويكشف مساويه على قاعدة الجزاء من جنس العمل .(1/283)
(حديث أنس في صحيح أبي داود) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لما عرج بي ربي عز و جل مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجههم و صدورهم فقلت : من هؤلاء يا جبريل ؟ قال : هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس و يقعون في أعراضهم .
*معنى يخمشون : يخدشون
(حديث المستورد ابن شداد في صحيح أبي داود) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من أكل برجل مسلم أكلة فإن الله يطعمه مثلها من جهنم و من اكتسى برجل مسلم ثوبا فإن الله يكسوه مثله من جهنم و من قام برجل مسلم مقام سمعة و رياء فإن الله يقوم به مقام سمعة و رياء يوم القيامة .
الشاهد : في الحديث الوعيد الشديد لمن أكل برجلٍ مسلم أي بسبب اغتيابه والوقيعة فيه أو بتعريضه للأذية عند من يعاديه .
مسألة : ما يصنع من سمع غيبة أخيه ؟
من سمع غيبة أخيه وجب عليه أن يرد عن عرض أخيه :
(حديث أبي في صحيح الترمذي) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من ردَّ عن عرض أخيه رد الله عن وجهه النار يوم القيامة .
(حديث أسماء بنت يزيد في صحيح الجامع) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ?من ذب عن عرض أخيه بالغيبة كان حقا على الله أن يعتقه من النار .
(حديث جابر في صحيح أبي داوود ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :ما من امرئ يخذل امرءا مسلما في موطن ينتقص فيه من عرضه و ينتهك فيه من حرمته إلا خذله الله تعالى في موطن يحب فيه نصرته و ما من أحد ينصر مسلما في موطن ينتقص فيه من عرضه و ينتهك فيه من حرمته إلا نصره الله في موطن يحب فيه نصرته .
مسألة : ماهي الأمور التي يجوز فيها الغيبة ؟
[*] قال النووي رحمه الله تعالى : تباح الغيبة لغرضٍ صحيحٍ شرعي لا يمكن الوصول إليه إلا بها ، وهي ستة أسباب :
(1) التظلم : فيجوز للمظلوم أن يتظلم إلى السلطان والقاضي وغيرهما ممن له ولايةٌ أو قدرة على إنصافه من ظالمه فيقول ظلمني فلانٌ بكذا .(1/284)
(حديث عائشة في الصحيحين ) قالت : قالت هند بنت عتبة يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح وليس يعطيني ما يكفيني وولدي إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم فقال خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف
(2) الاستعانة على تغيير المنكر ورد العاصي إلى الصواب فيقول لمن يرجو قدرته فلان يعمل كذا فازجره عنه أو نحو ذلك .
( حديث زيد ابن أرقم في الصحيحين ) قال : خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر أصاب الناس فيه شدة فقال عبد الله بن أبي لأصحابه { لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا } من حوله وقال { لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل } فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته فأرسل إلى عبد الله بن أبي فسأله فاجتهد يمينه ما فعل قالوا كذب زيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فوقع في نفسي مما قالوا شدة حتى أنزل الله عز وجل تصديقي في { إذا جاءك المنافقون } فدعاهم النبي صلى الله عليه وسلم ليستغفر لهم فلووا رؤوسهم
(3) الاستفتاء : بأن يقول للمفتي ظلمني فلان بكذا ، فهل له ذلك وما الطريق في دفع ظلمه عني .
(حديث عائشة في الصحيحين ) قالت : قالت هند بنت عتبة يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح وليس يعطيني ما يكفيني وولدي إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم فقال خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف .
(4) تحذير المسلمين من الشر ونصيحتهم وذلك من وجوه : منها جرح المجروحين من الرواة والشهود وذلك جائزٌ بإجماع المسلمين للحاجة . ومنها المشاورة في مصاهرة إنسان أو مشاركته أو معاملته أو مجاورته أو غير ذلك ، ويجب على المشاور أن لا يخفي حاله بل يذكر المساوئ التي فيه بنية النصيحة لأن المستشار مؤتمن بنص السنة الصحيحة
(حديث أبي هريرة في صحيح أبي داوود ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : المستشار مؤتمن .(1/285)
ومنها إذا رأى متفقهاً يتردد على مبتدع أو فاسق يأخذ عنه العلم فعليه أن ينصحه ببيان حاله قاصدا النصيحة . ومنها أن يكون له ولاية لا يقوم بها على وجهها لعدم أهليته أو لفسقه فيذكره لمن له عليه ولاية ليستدل به على حاله فلا يغتر به ويلزم الاستقامة .
( حديث عائشة في الصحيحين ) قالت استأذن رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ائذنوا له بئس أخو العشيرة أو بن العشيرة فلما دخل ألان له الكلام قلت يا رسول الله قلت الذي قلت ثم ألنت له الكلام قال أي عائشة إن شر الناس من تركه الناس أو ودعه الناس اتقاء فحشه .
(5) أن يكون مجاهراً بفسقه أو بدعته فيجوز ذكره بما يجاهر به ولا يجوز بغيره إلا بسبب آخر .
(حديث فاطمة بنت قيس في صحيح مسلم ) قالت : أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت إن معاوية بن أبي سفيان وأبا جهم خطبا ني فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه وأما معاوية فصعلوك لا مال له .
(6) التعريف : فإذا كان معروفاً بلقب كالأعمش والأعرج والقصير والأعمى ونحوها جاز تعريفه به ويحرم ذكره به تنقصاً ولو أمكن تعريفه بغيرها كان أولى .
تعريف النميمةُ :
النميمةُ نقل الكلام بين الناس بغرضِ الإفساد .
خطر النميمة : النميمة أمرها خطير وشرها مستطير وهي من قبائح الذنوب وفواحش العيوب وهي تشبه سحر التفريق لأنها يحصل بها التفريق بين الأحباب ، والنميمة أشر من السحر وذلك لأن النمَّام يفسد في ساعة ما لا يفسده الساحر في سنة . والنمَّام فيه شبهٌ من الشيطان من جهة الحرص على التحريش بين المسلمين .
قال تعالى: (هَمّازٍ مّشّآءِ بِنَمِيمٍ، مّنّاعٍ لّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ) [القلم /12،11)
وقوله تعالى "هماز" قال ابن عباس وقتادة يعني الاغتياب "مشاء بنميم" يعني الذي يمشي بين الناس ويحرش بينهم وينقل الحديث لفساد ذات البين وهي الحالقة(1/286)
والسنة الصحيحة طافحةٌ بما يشين النمام ويدل على أنه غارقٌ في القبائح إلى الأذقان ، ومنها ما يلي :
(حديث حذيفة في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لا يدخل الجنة قتَّات.
*معنى قتات : أي نمَّام
[*] قال الحافظ ابن حجر في الفتح :
معنى ( لا يدخل الجنة قتَّات ) : أي لا يدخلها في أول وهلة .
وهذا هي عقيدة أهل السنة والجماعة في هذه المسألة ، فإنهم لا يكفرون أحداً من أهل القبلة بشيء من المعاصي ما لم يستحله .
(حديث ابن عباس في الصحيحين ) قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبرين فقال "إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير أما أحدهما فكان لا يستتر من البول وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة"
[*] قال النووي رحمه الله تعالى :
معنى (وما يعذبان في كبير) أي ما يعذبان في كبير في زعمهما ، وقيل ما يعذبان في كبير تركه عليهما .
(حديث أبي الدر داء في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام و الصلاة و الصدقة ؟ إصلاح ذات البين، وفساد ذات البين هي الحالقة .
(حديث ابن مسعود في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ألا أنبئكم ما العَضَةُ ؟ هي النميمةُ القالةُ بين الناس .
معنى العضة : الكذب والبهتان
مسألة :ما الذي يجب على من حُملت إليه النميمة أن يفعله ؟
[*] قال الإمام النووي رحمه الله تعالى :
وكل من حملت إليه نميمةٌ وقيل له فلانٌ يقول فيك كذا ستة أمور :
الأول : أن لا يصدِّقه لأن النمام فاسق .
الثاني : أن ينهاه عن ذلك وينصحه ويقبِّح له فعله
الثالث : أن يبغضه في الله تعالى فإنه بغيضٌ عند الله تعالى ، ويجب بغض من أبغضه الله تعالى
الرابع : ألا يظن بأخيه الغائب السوء
الخامس : أن لا يحمله ما حُكِي له على التجسس والبحث عن ذلك .(1/287)
السادس : أن لا يرضى لنفسه ما نهى النمام عنه فلا يحكي نميمته عنه فيقول فلان حكى كذا فيصير به نماماً ، ويكون آتياً ما نهى عنه .
النهي عن كثرة الضحك :
يجب على المسلم إذا أراد إصلاح قلبه أن يتجنب كثرة الضحك لأن كثرة الضحك تميت القلب بنص السنة الصحيحة كما في الحديث الآتي :
( حديث أبي هريرة في صحيح ابن ماجة) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : يا أبا هريرة كن ورعا تكن أعبد الناس وكن قنعا تكن أشكر الناس وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مؤمنا وأحسن جوار من جاورك تكن مسلما وأقل الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب .
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير .
( كن ورعاً تكن أعبد الناس ) أي داوم عليه في جميع الحالات حتى يصير طبعاً لك فتكون أعبد الناس لدوام مراقبتك واشتغالك بأفضل العبادات بظاهرك وباطنك بإيثار حقك على حظك وهذا كمال العبودية ولهذا قال الحسن : ملاك الدين الورع وقد رجع ابن المبارك من خراسان إلى الشام في رد قلم استعاره منها وأبو يزيد إلى همدان لرد نملة وجدها في قرطم اشتراه وقال : غريبة عن وطنها وابن أدهم من القدس للبصرة لرد تمرة ، فانظر إلى قوة ورع هؤلاء وتشبه بهم إن أردت السعادة
( وكن قنعا تكن أشكر الناس ) لأن العبد إذا قنع بما أعطاه اللّه رضي بما قسم له وإذا رضي شكر فزاده اللّه من فضله جزاء لشكره وكلما زاد شكراً ازداد فضلاً { لئن شكرتم لأزيدنكم }
( وأحب للناس ما تحب لنفسك ) من الخير ( تكن مؤمناً ) أي كامل الإيمان لإعراضك عن هواك وإن لم تحب لهم ما تحب لنفسك فأنت مؤمناً ناقص الإيمان لمتابعتك هواك
( وأحسن مجاورة من جاورك تكن مسلماً ) أي كامل الإسلام فإن المسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه
( وأقل الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب ) وفي رواية البيهقي بدله فإن في كثرة الضحك فساد لقلب وإذا فسد القلب فسد الجسد كله .(1/288)
( تنبيه ) الضحك المميت للقلب ينشأ من الفرح والبطر بالدنيا وللقلب حياة وموت فحياته بدوام الطاعة وموته بإجابة غير اللّه من النفس والهوى والشيطان ، بتواتر أسقام المعاصي تموت الأجسام بأسقامها واقتصر من أسباب موته على كثرة الضحك وهو ينشأ عن جميعها لانتشائه من حب الدنيا وحبها رأس كل خطيئة بنص الخبر أوحى اللّه إلى داود ومن عصاني فقد مات ومن أسباب موت [ ص 53 ] القلب الأشر والبطر والفرح وإذا مات لم يستجب له اللّه إذا دعاه .
( تنبيه ) المأمور بالكف عن كثرة الضحك إنما هو أمثالنا أما من ذاق مشرب القوم من الأحباب فليس مراداً بهذا الخطاب ، قال بعض العارفين : جلس ذو النون للوعظ والناس حوله يبكون وشاب يضحك فزجره ، فأنشأ يقول : كلهم يعبدون اللّه من خوف النار * ويرون النجاة حظا جزيلا ليس لي في الجنان والنار رأي * أنا لا أبتغي بحبي بديلا فقيل له : فإن طردك فما تفعل؟ قال : فإذا لم أجد من الحب وصلا * رمت في النار منزلا ومقيلا ثم أزعجت أهلها ببكائي * بكرة في ضريعها وأصيلا معشر المشركين نوحوا عليّ * أنا عبد أحببت مولىً جليلا لم أكن في الذي ادّعيت صدوقاً * فجزائي منه العذاب الوبيلا وقال ابن عربي : خدمت امرأة من المخبآت العارفات تسمى فاطمة بنت المثنى القرطبي خدمتها وسنها فوق خمس وتسعين سنة وكنت أستحي أنظر إليها من حمرة خديها وحسن نغمتها وجمالها كأنّ عمرها دون عشرين سنة وكانت تضرب بالدف وتفرح وتقول اعتنى بي وجعلني من أوليائه واصطنعني لنفسه فكيف لا أفرح ومن أنا حتى يختارني على ابن جني .
( حديث أبي هريرة في صحيح الترمذي) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : اتق المحارم تكن أعبد الناس و ارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس و أحسن إلى جارك تكن مؤمنا و أحب للناس ما تحب لنفسك تكن مسلما و لا تكثر الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب .
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير .(1/289)
( اتق المحارم ) أي احذر الوقوع في جميع ما حرم الله عليك
( تكن أعبد الناس ) أي من أعبدهم لما أنه يلزم من ترك المحارم فعل الفرائض فباتقاء المحارم تبقى الصحيفة نقية من التبعات فالقليل من التطوع مع ذلك ينمو وتعظم بركته فيصير ذلك المتقي من أكابر العباد وقال الذهبي هنا والله تكسب العبرات فيريد أن يكون يسيراً بكل واجب فيقوم به وعارفاً بكل محرم فيجتنبه
( وارض ) أي اقنع
( بما قسم الله لك ) أي أعطاك وجعله حظك من الرزق
( تكن أغنى الناس ) فإن من قنع استغنى ليس الغنى بكثرة العرض ولكن الغنى غنى النفس والقناعة غنى وعز بالله وضدها فقر وذل للغير ومن لم يقنع لم يشبع أبداً ففي القناعة العز والغنى والحرية وفي فقدها الذل والتعبد للغير تعس عبد الدنيا تعس عبد الدينار فيتعين على كل عاقل أن يعلم أن الرزق بالقسم والحظ لا بالعلم والعقل ولا فائدة للجد حكمة بالغة دل بها على قدرته وإجراء الأمور على مشيئته قال الحكماء : ولو جرت الأقسام على قدر العقول لم تعش البهائم ونظمه أبو تمام فقال : ينال الفتى من عيشه وهو جاهل * ويكدى الفتى في دهره وهو عالم ولو كانت الأقسام تجري على الحجا * هلكن إذن من جهلن البهائم ومن كلامهم كم رأيت أعرج في المعالي عرج
( وأحسن إلى جارك ) بالقول والفعل والجار المجاور لك وما قرب من منزلك عرفاً
( تكن مؤمناً ) أي كامل الإيمان فإذا لم تقدر على الإحسان إليه فكف عن أذاه وإن كان مؤذياً لك فيلزمك الصبر حتى يجعل الله لك فرجاً قال الراغب : والإحسان يقال للإنعام على الغير وللإحسان في فعله وذلك إذا علم علماً حسناً أو عمل عملاً حسناً وعليه قول علي كرم الله وجهه " الناس أبناء ما يحسنون أي منسوبون إلى ما يعلمون ويعملون من الأفعال الحسنة والإحسان أعم من الإنعام والعدل إذ العدل أن يعطي ما عليه ويأخذ ماله والإحسان أن يعطي أكثر مما عليه ويأخذ أقل مما له
( وأحب ) أي ارض
( للناس ما تحب لنفسك ) من الخير(1/290)
( تكن مسلماً ) كامل الإسلام بأن تحب لهم حصول ما تحبه لنفسك من جهة لا يزاحمونك فيها فإن انتفت المحبة لنحو حقد أو غل أو حسد انتفى عنه كمال الإيمان وغاير في ما بين لفظي الإيمان والإسلام تفنناً إذ المراد بهما هنا واحد قال السدي لي ثلاثون سنة في الاستغفار عن قولي الحمد لله وذلك أنه وقع ببغداد حريق فاستقبلني رجل فقال نجا حانوتك فقلت الحمد للّه فمذ قلتها فأنا نادم حيث أردت لنفسي خيراً دون المسلمين
( ولا تكثر الضحك ) بفتح وكسر وهو كيفية يحصل منها انبساط في القلب مما يعجب الإنسان من السرور ويظهر ذلك في الوجه والإكثار منه مضر بالقلب منهي عنه شرعاً وهو من فعل السفهاء والأراذل مورث للأمراض النفسانية ولذا قال ( فإن كثرة الضحك تميت القلب ) أي تصيره مغموراً في الظلمات بمنزلة الميت الذي لا ينفع نفسه بنافعة ولا يدفع عنها شيئاً من مكروه وحياته وإشراقه مادة كل خير وموته وظلمته مادة كل شر وبحياته تكون قوته وسمعه وبصره وتصور المعلومات وحقائقها على ما هي عليه ولهذا قال لقمان [ ص 125 ] لابنه يا بني لا تكثر الضحك من غير عجب ولا تمشي من غير أرب ولا تسأل عما لا يعنيك ولا تضيع مالك وتصلح مال غيرك فإن مالك ما قدمت ومال غيرك ما أخرت وقال موسى للخضر : أوصني فقال : كن بساماً ولا تكن غضاباً وكن نفاعاً ولا تكن ضراراً وانزع عن اللجاجة ولا تمش في غير حاجة ولا تضحك من غير عجب ولا تعير الخطائين بخطاياهم وابك على خطيئتك يا ابن عمران وفي صحف موسى عجباً لمن أيقن بالنار كيف يضحك عجباً لمن أيقن بالموت كيف يفرح عجباً لمن أيقن بالقدر كيف ينصب عجباً لمن رأى الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها وفي الحديث إيذان بالإذن في قليل الضحك لا سيما لمصلحته .
ولهذا ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يضحك إنما كان يبتسم(1/291)
( حديث عائشة في الصحيحين ) قالت ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضاحكاً حتى أرى لهواته إنما كان يبتسم .
(حديث جرير ابن عبد الله في الصحيحين ) قال ما رآني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منذ أن أسلمت إلا تبسم في وجهي .
( حديث أبي ذر رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :تبسمك في وجه أخيك لك صدقة وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر صدقة وإرشادك الرجل في أرض الضلال لك صدقة وبصرك للرجل الرديء البصر لك صدقة وإماطتك الحجر والشوكة والعظم عن الطريق لك صدقة وإفراغك من دلوك في دلو أخيك لك صدقة .
النهي عن المزاح كذباً ليضحك به القوم :
وقد حذر النبي من المزاح كذباً ليضحك به القوم كما في الحديث الآتي :
(حديث معاوية ابن حيدة في صحيحي أبي داوود والترمذي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :ويلٌ للذي يُحَدِّثُ فيكذبُ ليضحك به القوم ويلٌ له ويلٌ له .
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير .
( ويل للذي يحدث فيكذب ) في حديثه
( ليضحك به القوم ويل له ويل له ) كرره إيذاناً بشدة هلكته وذلك لأن الكذب وحده رأس كل مذموم وجماع كل فضيحة فإذا انضم إليه استجلاب الضحك الذي يميت القلب ويجلب النسيان ويورث الرعونة كان أقبح القبائح ، ومن ثم قال الحكماء : إيراد المضحكات على سبيل السخف نهاية القباحة .
{ تنبيه } : يجوز للإنسان أن يمزح إن لم يكن كثيراً بشرط أن يكون مزحه صدقاً فإن فيه إجماماً للقلوب وتفريجاً للكروب .
( حديث أبي هريرة في صحيح الترمذي) قالوا يا رسول الله إنك تداعبنا قال : إني لا أقول إلا حقاً .
{ تنبيه } : ومما يجب اجتنابه في المزح أن لا يأخذ متاع أخيه على سبيل المزاح ، وكذلك يحرم عليه أن يروِّع أخيه على سبيل المزح .
وقد حذر النبي من أي مجلس يخلو من ذكر الله تعالى كما في الأحاديث الآتية :(1/292)
(حديث أبي هريرة في صحيح أبي داوود ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ما من قوم يقومون من مجلس لا يذكرون الله تعالى فيه إلا قاموا عن مثلِ جيفةِ حمار و كان لهم حسرة .
معنى( إلا قاموا عن مثلِ جيفةِ حمار ) : أي مجلس نتن كجيفة حمار لخلوه من ذكر الله تعالى ، لأن المجالس لا تعمرُ إلا بذكر الله تعالى .
معنى ( وكان لهم حسرة) : أي كان هذا المجلس ندامة لهم يوم القيامة لخلوه من الذكر
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ما جلس قومٌ مجلسا لم يذكروا الله فيه ولم يصلوا على نبيهم إلا كان عليهم ترةٌ فإن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم .
ترةٌ : حسرة وندامة
[*] ثانياً : الاشتغال بمجالس الآخرة :
يجب على كل مسلم أن يحرص على مجالس الآخرة وأن يتمسك بها وأن يعض عليها بالنواجذ وأن يقبل عليها إقبال الظامئ على المورد العذب ، وقد أمرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - بالحرص على مجالسة الصالحين فيجب على المسلم أن يعتني بها اهتماماً بالغاً لأن الطباع سَرَّاقة والناس مجبولون على تقليد بعضهم البعض ، فالمرء على دين خليله .
(حديث أبي موسى في الصحيحين) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : مثل الجليس الصالح و الجليس السوء كحامل المسك و نافخ الكير ، فحامل المسك إما أن يُحْذِيَك وإما أن تبتاع منه وإما تجد منه ريحا طيبة ، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك أو تجد منه ريحا خبيثة .
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير .
بين به النهي عن مجالسة من يتأذى به ديناً أو دنيا والترغيب فيمن ينتفع بمجالسته فيهما وجواز بيع المسك وطهارته .(1/293)
قال الراغب : نبه بهذا الحديث على أن حق الإنسان أن يتحرى بغاية جهده مصاحبة الأخيار ومجالستهم فهي قد تجعل الشرير خيراً كما أن صحبة الأشرار قد تجعل الخير شريراً قال الحكماء : من صحب خيراً أصاب بركته فجليس أولياء اللّه لا يشقى وإن كان كلباً ككلب أهل الكهف ولهذا أوصت الحكماء الأحداث بالبعد عن مجالسة السفهاء ، قال علي كرم اللّه وجهه : لا تصحب الفاجر فإنه يزين لك فعله ويود لو أنك مثله ، وقالوا : إياك ومجالسة الأشرار فإن طبعك يسرق منهم وأنت لا تدري وليس إعداء الجليس جليسة بمقاله وفعاله فقط بل بالنظر إليه والنظر في الصور يورث في النفوس أخلاقاً مناسبة لخلق المنظور إليه فإن من دامت رؤيته للمسرور سر أو للمحزون حزن وليس ذلك في الإنسان فقط بل في الحيوان والنبات فالحمل الصعب يصير ذلولاً بمقاربة الجمل الذلول والذلول قد ينقلب صعباً بمقارنة الصعاب والريحانة الغضة تذبل بمجاورة الذابلة ولهذا يلتقط أهل الفلاحة الرمم عن الزرع لئلا تفسدها ومن المشاهد أن الماء والهواء يفسدان بمجاورة الجيفة فما الظن بالنفوس البشرية التي موضعها لقبول صور الأشياء خيرها وشرها؟ فقد قيل سمي الإنس لأنه يأنس بما يراه خيراً أو شراً .
(حديث أبي هريرة في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يُخالل .
(حديث أبي سعيد في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال تصاحب إلا مؤمنا و لا يأكل طعامك إلا تقي .
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير .
[لا تصاحب إلا مؤمناً ] : وكامل الإيمان أولى لأن الطباع سراقة ، ومن ثم قيل صحبة الأخيار تورث الخير وصحبة الأشرار تورث الشر كالريح إذا مرت على النتن حملت نتناً ، وإذا مرت على الطيب حملت طيباً .(1/294)
[ ولا يأكل طعامك إلا تقي ] : لأن المطاعمة توجب الألفة وتؤدي إلى الخلطة بل هي أوثق عرى المداخلة ومخالطة غير التقي يخل بالدين ويوقع في الشبه والمحظورات فكأنه ينهى عن مخالطة الفجار إذ لا تخلو عن فساد إما بمتابعة في فعل أو مسامحة في إغضاء عن منكر فإن سلم من ذلك ولا يكاد فلا تخطئه فتنة الغير به وليس المراد حرمان غير التقي من الإحسان لأن المصطفى صلى اللّه عليه وسلم أطعم المشركين وأعطى المؤلفة المئين بل يطعمه ولا يخالطه .
[*] قال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه :
عليك بإخوان الصدق تعش في أكنافهم فإنهم زينةٌ في الرخاء وعدةٌ في البلاء ، وضع أمر أخيك على أحسنه حتى يجيئك ما يقيلك منه ، واعتزل عدوك واحذر صديقك إلا الأمين ولا أمين إلا من يخشى الله ، ولا تصحب الفاجر فتتعلم من فجوره ، ولا تطلعه على سرك واستشر في أمرك الذين يخشون الله تعالى .
ومجالس الآخرة لا تخلو عن كونها مجاس الذكر أو تعلم القرآن أو تعلم العلم
(أ) مجاس الذكر :
فضل مجالس الذكر :
(1) مجالس الذكر سبب عظيم بل هي سبب رئيسي من أسباب حفظ اللسان :
فإن العبد لا بد له من أن يتكلم فإن رَوَّضَ نَفْسَه على الكلام بالخير صار ذلك طبعاً له لا تكلفاً فإنه من يتحرَّ الخير يُعْطَه ومن يتق الشر يُوَقَّه .
(حديث أبي هريرة في صحيح الجامع) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال إنما العلم بالتعلم و إنما الحلم بالتحلم و من يتحر الخير يعطه و من يتق الشر يُوَقَّه .
إن مجالس الذكر هي أزكى المجالس وأشرفها وأنفعها وهي أعلى المجالس قدرا عند الله وأجلها مكانة عنده سبحانه وتعالى , فمجالس الذكر حياة للقلوب وزيادة للأيمان وصلاح وزكاء للعبد بخلاف مجالس الغفلة التي لا يقوم منها الجالس إلا بنقص في الإيمان وتكون عليه حسرة وندامة(1/295)
من أجل ذلك كان الصحابة رضوان الله عليهم وكذلك السلف رحمهم الله يهتمون بهذه المجالس أعظم الاهتمام وغاية العناية , فكان عبدالله بن رواحة رضي الله عنه يأخذ بيد النفر من أصحابة فيقول (( تعالوا نؤمن ساعة تعالوا فلنذكر الله ونزداد إيماناً بطاعته لعله يذكرنا بمغفرته .
فإن لم يتكلم بذكر الله وذكر أوامره بالخير والفائدة تكلم ولا بد ببعض المحرمات من غيبة ونميمة , فمن عود لسانه على ذكر الله صان لسانه عن الباطل واللغو فلا سبيل إلي السلامة منها البتة إلا بذكر الله تعالى .
[*] قال ابن القيم رحمه الله تعالى :
والمشاهدة والتجربة شاهدان بذلك فمن عود لسانه ذكر الله صان لسانه عن الباطل واللغو ومن يبس لسانه عن ذكر الله ترطب بكل باطل ولغو وفحش ولا حول ولا قوة إلا بالله .
[*] قال مكحول : ذكر الله شفاء وذكر الناس داء .
نسأل الله أن يشغل مجالسنا بذكره وشكره وحسن عبادته وأن يقينا من مجالس الغفلة وللهو والباطل
(2) حلق الذكر هي رياض الجنة :
( حديث أنس بن مالك رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : "إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا". قالوا: وما رياض الجنة؟ قال: "حلق الذكر .
الرتع: هو الأكل والشرب في خصب وسعة.
[*] قال المناوي في فيض القدير :
"إذا مررتم برياض الجنة": جمع روضة وهي الموضع المعجب بالزهر سميت به لاستراضة الماء السائل إليها .
"فارتعوا" : أي ارتعوا كيف شئتم وتوسعوا في اقتناص الفوائد قالوا : أي الصحابة أي بعضهم .
"وما رياض الجنة" : أي ما المراد بها "قال حلق الذكر" بكسر ففتح جمع حلقة بفتح فسكون ، وهي جماعة من الناس يستديرون لحلقة الباب وغيره والتحلق تفعل منها وهو أن يتعمد ذلك .
[*] قال النووي رحمه الله : كما يستحب الذكر يستحب الجلوس في حلق أهله وقد تظاهرت على ذلك الأدلة. اهـ .(1/296)
(3) ومن فضائل مجالس الذكر التماس الفضل المذكور في حديث ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه فيما بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده ، فقد استفيد منه أن كل قوم اجتمعوا لما ذُكر حصل لهم الأجر من غير اشتراط وصف خاص فيهم من علم أو صلاح أو زهد .
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه.
[*] قال علي : لا خير في عبادة لا فقه فيها، ولا في قراءة لا تدبر فيها.
[*] وقال ابن عباس ما: لأن أقرأ إذا زلزلت والقارعة أتدبرهما، أحب إليّ من أقرأ البقرة وآل عمران تهذيرا.
[*] وقال ابن مسعود : من أراد علم الأولين والآخرين، فليتدبر القرآن .
وقد بات الكثير من السلف يتلو أحدهم آية واحدة ليلة كاملة، يرددها ليتدبر ما فيها، وكلما أعادها انكشف له من معانيها، وظهر له من أنوارها، وفاض عليه من علومها وبركاتها.
[*] قال الأحنف بن قيس : عرضت نفسي على القرآن، فلم أجد نفسي بشيء أشبه مني بهذه الآية وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ [ التوبة/ 102]
{ تنبيه } : واقعنا هو تطبيق جزء من الحديث وهو التلاوة أما الدراسة والتدبر فهي - في نظر بعضنا - تؤخر الحفظ وتقلل من عدد الحروف المقروءة فلا داعي لها .
( وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله ) : المراد به المسجد فإن بيوت الله هي المساجد قال الله تعالى ( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) [النور36/ ](1/297)
و قال تعالى ( وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا)[الجن/18]
و قال تعالى ( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) [البقرة/114 ]
فأضاف المساجد إليه ؛ لأنها موضع ذكره .
قوله( يتلون كتاب الله و يتدارسونه بينهم ) يتلونه : يقرءونه و يتدارسونه أي : يدرس بعضهم على بعض .
( إلا نزلت عليهم السكينة و غشيتهم الرحمة و حفتهم الملائكة ) : نزلت عليهم السكينة يعني : في قلوبهم و هي الطمأنينة و الاستقرار ، و غشيتهم الرحمة : غطتهم و شملتهم .
و حفتهم الملائكة : صارت من حولهم . - و ذكرهم الله فيمن عنده- أي : من الملائكة .
*ومن فوائد الحديث : فضيلة اجتماع الناس على قراءة القرآن لقوله - و ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله .. الخ .
* ومن فوائد الحديث : أن حصول هذا الثواب لا يكون إلا إذا اجتمعوا في بيت الله أي : في مسجد من المساجد لينالوا بذلك شرف المكان لأن أفضل البقاع مساجدها .
*ومن فوائد الحديث : بيان حصول هذا الأجر العظيم تنزل عليهم السكينة و هي الطمأنينة القلبية و تغشاهم الرحمة أي : تغطيهم و تحفهم الملائكة أي :تحيط بهم من كل جانب و يذكرهم الله فيمن عنده من الملائكة لأنهم يذكرون الله تعالى عن ملأ ، و قد قال الله تعالى في الحديث القدسي -من ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم- .
( حديث البراء بن عازب رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري ) قال : كان رجلٌ يقرأ سورة الكهف، وإلى جانبه حصان مربوط بشطنين، فتغشته سحابة، فجعلت تدنو وتدنو، وجعل فرسه ينفر، فلما أصبح أتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال: (تلك السكينة تنزلت بالقرآن .
(4) ومن فضائل حلق الذكر أنهم هم الجلساء لا يشقى بهم جليسهم .(1/298)
(حديث أبي هريرة في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن لله ملائكة يطوفون في الطرقات يلتمسون الذكر فإذا وجدوا قوما يذكرون الله تنادوا : هلموا إلى حاجاتكم فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا فيسألهم ربهم و هو أعلم منهم : ما يقول عبادي ؟ فيقولون : يسبحونك و يكبرونك و يحمدونك و يمجدونك فيقول : هل رأوني ؟ فيقولون : لا و الله ما رأوك فيقول : كيف لو رأوني ؟ فيقولون : لو رأوك كانوا أشد لك عبادة و أشد لك تمجيدا و أكثر لك تسبيحا فيقول : فما يسألوني ؟ فيقولون : يسألونك الجنة فيقول : و هل رأوها ؟ فيقولون : لا و الله يا رب ما رأوها فيقول : فكيف لو أنهم رأوها ؟ فيقولون : لو أنهم رأوها كانوا أشد عليها حرصا و أشد لها طلبا و أعظم فيها رغبة قال : فمم يتعوذون ؟ فيقولون : من النار فيقول الله : هل رأوها ؟ فيقولون : لا و الله يا رب ما رأوها فيقول : فكيف لو رأوها ؟ فيقولون : لو رأوها كانوا أشد منها فرارا و أشد لها مخافة فيقول : فأشهدكم أني قد غفرت لهم فيقول ملك من الملائكة : فيهم فلان ليس منهم إنما جاء لحاجة لِلَّهِ فيقول : هم الجلساء لا يشقى بهم جليسهم .
وفي الحديث من الفوائد:
فضيلة الذكر وفضيلة مجالسه والجلوس مع أهله وإن لم يشاركهم، وفضيلة مجالسة الصالحين وبركتهم.
قوله: فضلاً: قال العلماء: أنهم ملائكة زائدون على الحفظة فهؤلاء السيارة لا وظيفة لهم وإنما مقصودهم حلق الذكر.
وقوله : "هم الجلساء لا يشقى بهم جليسهم"(1/299)
[*] قال ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى في الوابل الصيب : فهذا من بركتهم على نفوسهم وعلى جليسهم فلهم نصيب من قوله : { وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ } . (1) فهكذا المؤمن مبارك أين حل ، والفاجر مشئوم أين حل ، فمجالس الذكر مجالس الملائكة ، ومجالس الغفلة مجالس الشياطين وكل مضاف الى شكله واشباهه فكل امرئ يصير الى ما يناسبه. اهـ . (2)
[*] قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى :
فهؤلاء الذين هم من أفضل أولياء الله كان مطلوبهم الجنة ومهربهم من النار . اهـ . (3)
[*] قال ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى :
قالوا والعمل على طلب الجنة والنجاة من النار مقصود الشارع من أمته ليكونا دائما على ذكر منهم فلا ينسونهما ، ولأن الإيمان بهما شرط في النجاة ، والعمل على حصول الجنة والنجاة من النار هو محض الإيمان .
(5) ومن فضائل مجالس الذكر أن غنيمة مجالس الذكر الجنة :
(حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما الثابت في السلسلة الصحيحة )قال: قلت يا رسول الله ما غنيمة مجالس الذكر؟ قال: "غنيمة مجالس الذكر الجنة" .
الغنيمة : هو الفوز بالشيء وحيازته ، وهو مافيه من الأجر والثواب .
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : "ما من قوم اجتمعوا يذكرون الله عز وجل لا يريدون بذلك إلا وجهه إلا ناداهم منادٍ من السماء أن قوموا مغفوراً لكم قد بدلت سيئاتكم حسنات .
__________
(1) ) ) سورة مريم الآية(31) .
(2) الوابل الصيب (1/101) .
(3) كتاب الزهد والورع والعبادة (1/135) .(1/300)
(6) من شرف مجالس الذكرعلو مكانتها عند الله أنه سبحانه وتعالى يباهي بالذاكرين ملائكته،إن أهل الذكر ليسوا سابقين للبشر فحسب ، بل هم في مقام المباهاة والمضاهاة للملائكة الكرام : { الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون } ، الملائكة المفطورون على الطاعة ، والمجبولون على العبادة الذين { يسبحون الليل والنهار لا يفترون } ؛ لأن أصل خلقهم وغاية وجودهم الذكر والتنسك ، ومع ذلك كله ؛ فإن أهل الذكر من المؤمنين في مكانة رفيعة عالية حتى باهى الله بهم ملائكته ، ويكفي في شرف الذكر أن الله يباهي ملائكته بأهله [ تهذيب المدارج ص 466 ] .
( حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) قال : خرج معاوية على حلقة في المسجد فقال : ما أجلسكم ؟ قالوا : جلسنا نذكر الله تعالى ، قال : آلله ما أجلسكم إلا ذاك ؟ قالوا : والله ما أجلسنا إلا ذاك ، قال : أما إني لم استحلفكم تهمة لكم ، وما كان أحد بمنزلتي من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أقل عنه حديثًا مني ، وإن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ خرج على حلقة من أصحابه فقال : ((ما أجلسكم ؟ قالوا : جلسنا نذكر الله تعالى ونحمده على ما هدانا للإسلام ومنَّ علينا بك ، قال : آلله ما أجلسكم إلا ذاك ؟ قالوا : آلله ما أجلسنا إلا ذاك ، قال : أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم ، ولكن أتاني جبريل فأخبرني أن الله تبارك وتعالى يباهي بكم الملائكة .
[*] قال النووي شرح صحيح مسلم : قوله : "لم أستحلفكم تهمة لكم" هى بفتح الهاء واسكانها ، وهى فعلة وفعلة من الوهم والتاء بدل من الواو واتهمته به إذا ظننت به ذلك .
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : "إن الله عز وجل يباهى بكم الملائكة" معناه يظهر فضلكم لهم ويريهم حسن عملكم ويثنى عليكم عندهم، وأصل البهاء الحسن والجمال، وفلان يباهى بماله أي يفخر ويتجمل به على غيره ويظهر حسنه . اهـ .(1/301)
والمباهاة : المفاخرة [ النهاية1/169] فالله يفاخر بهؤلاء الذاكرين ملائكته المقربين .
إن مجالس الذكر هي أزكى المجالس وأشرفها وأنفعها وهي أعلى المجالس قدرا عند الله وأجلها مكانة عنده سبحانه وتعالى , فمجالس الذكر حياة للقلوب وزيادة للأيمان وصلاح وزكاء للعبد بخلاف مجالس الغفلة التي لا يقوم منها الجالس إلا بنقص في الإيمان وتكون عليه حسرة وندامة
من أجل ذلك كان الصحابة رضوان الله عليهم وكذلك السلف رحمهم الله يهتمون بهذه المجالس أعظم الاهتمام وغاية العناية , فكان عبدالله بن رواحة رضي الله عنه يأخذ بيد النفر من أصحابة فيقول (( تعالوا نؤمن ساعة تعالوا فلنذكر الله ونزداد إيماناً بطاعته لعله يذكرنا بمغفرته .
فإن لم يتكلم بذكر الله وذكر أوامره بالخير والفائدة تكلم ولا بد ببعض المحرمات من غيبة ونميمة , فمن عود لسانه على ذكر الله صان لسانه عن الباطل واللغو فلا سبيل إلي السلامة منها البتة إلا بذكر الله تعالى .
ثانياً : فضل مجالس القرآن الكريم :(1/302)
إن من المعلوم شرعاً وعقلاً وبداهةً أن القرآن الكريم أكبر منةٍ امتن الله تعالى بها على هذه الأمة ، ففيه حياةُ القلوب ويحصل بالتمسك به سعادة الدارين ، لم تظفر الدنيا كلها بكتاب أجمع للخير كله ، وأهدى للتي هي أقوم ، وأوفى بما يُسْعد الإنسانية، من هذا القرآن المجيد الذي فتح الله به أعينًا عميًا، وآذانًا صمًّا، وقلوبًا غلفًا، وهدى به من الضلالة وبصر به من العمى وأخرج به من الظلمات إلى النور ، هذا الكتاب العظيم الذي ضمن للإنسانية الأمن والسعادة في دنياهم وأخراهم، إذا هم آمنوا به وتلوه حقَّ تلاوته، وتفهموا سوره وآياته، وتفقهوا جمله وكلماته، ووقفوا عند حدوده وَأْتمروا بأوامره، وانتهوا بنواهيه، وتخلقوا بأخلاقه، وطبقوا مبادئه ومُثُله وقيمه على أنفسهم وأهليهم ومجتمعاتهم ، والقرآن الكريم هو : كتاب الله الذي منه بدأ وإليه يعود، نزل به الروح الأمين على قلب محمد صلى الله عليه وسلم بلسان عربي مبين ، وصفه الله تعالى بقوله( وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت 41 - 42]. كما وصفه -جلت قدرته- بقوله: كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [هود1/]
حقا، إن آيات القرآن الكريم في غاية الدقة والإحكام، والوضوح والبيان، أحكمها حكيم، وفصَّلها خبير، وسيظل هذا الكتاب معجزًا من الناحية البلاغية والتشريعية والعلمية والتاريخية وغيرها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، لم يتطرق إليه أدنى شيء من التحريف؛ تحقيقا لقوله تعالى( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) [الحجر/9](1/303)
فالدنيا كلها لم تظفر بكتاب أجمع للخير كله، وأهدى للتي هي أقوم، وأوفى بما يُسْعد الإنسانية، من هذا القرآن المجيد، الذي قال الله فيه: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا [الإسراء:9]
هذا القرآن الكريم أنزله الله على رسوله محمد -صلى الله عليه وسلم-؛ ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، قال تعالى( كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ) [ إبراهيم :1]
نعم لقد تأثر به الجن ساعة سمعوه، وامتلأت قلوبهم بمحبته وتقديره، وأسرعوا لدعوة قومهم إلى اتباعه فَقَالُوا( إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا * وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَدًا) [الجن 1 - 3].
وقد حكى الله في القرآن الكريم عنهم أنهم قَالُوا( يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ )[الأحقاف 30 - 31]
ومن عظيم شأنه وجلالة قدره أنَّه لو نزل على الجبال الصمّ لتصدَّعت ، قال تعالى: (لَوْ أَنزَلْنَا هََذَا الْقُرْآنَ عَلَىَ جَبَلٍ لّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مّتَصَدّعاً مّنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنّاسِ لَعَلّهُمْ يَتَفَكّرُونَ) [الحشر / 21](1/304)
وتحدى الثقلين أن يأتوا بمثله ولو اجتمعوا لذلك حيث قال تعالى: (قُل لّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنّ عَلَىَ أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هََذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) [الإسراء / 88]
إنَّ القرآن الكريم معجز في أسلوبه وهديه، غنيٌّ في معانيه ودلالاته، ثمين في كنوزه وحقائقه، حي في نصوصه وتوجيهاته، قويٌّ في أهدافه وأغراضه، أقبل عليه المسلمون في مختلف مراحل التاريخ، قرؤوه وتدبروه، نظروا في نصوصه وتأملوه، فسروا آياته وبينوا شرائعه، تحدثوا عن توجيهاته واستخرجوا من كنوزه وجنوا من ثماره، والعلماء والمفسرون والمتدبرون أخذوا هذا في كل قرن، وسجلوه في كل عصر، وبقي القرآن بحول الله قادراً على العطاء، كنوزه ثمينة لا تنفد، ومعينه ثر كريم لا ينضب، وظلاله ممتدة وارفة لا تزول، وأنواره مشعة مضيئة ولو طال عليها الزمان وامتدت بها السنون .
وقد فضّل الله عزّ وجل القرآن العظيم على غيره من الكتب السابقة، وجعله ناسخاً لها ومهيمناً عليها، فقال تعالى : (وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ) [المائدة / 48]
من أجل ذلك كله فاق هذا الكتاب المبارك كل ما تقدمه من الكتب السماوية، وكانت منزلته فوق منزلتها، قال تعالى: ( وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ )[الزخرف : 4].(1/305)
وعلى هذا فلا يُتَصوَّر طلب العلم على جادةِ الاستقامة إلا بعد حفظ كتاب الله تعالى كاملاً ومن فرَّط فيه فرَّط في غيره ولا شك ، وليس معنى ذلك أنه يشترط في طلب العلم حفظ كتاب الله تعالى كاملاً غير أنه لا يستقيم علمه ولا يكون له وزناً في العلم إلا إذا حفظ كتاب الله تعال كاملاً وذلك لأن كل كتب العلم تخدم كتاب الله تعالى ، ولذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحث أمته دائماً على حفظ كتاب الله تعالى وأن يُقبلوا عليه إقبالَ الظامئِ على المورد العذب .
فضائل تلاوة القرآن الكريم :
أثنى الله عز وجل على التالين لكتاب الله فقال تعالى: (إِنّ الّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللّهِ وَأَقَامُواْ الصّلاَةَ وَأَنفَقُواْ مِمّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لّن تَبُورَ * لِيُوَفّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مّن فَضْلِهِ إِنّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ) [فاطر: 29-30] .
والسنة الصحيحة طافحةٌ بما يحث على فضل تلاوة القرآن الكريم وتعلمه وتعليمه وهاك بعضٌ منها :
(حديث أبي أمامة في صحيح مسلم)أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه اقرءوا الزهراوين : البقرة و آل عمران فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان أو كأنهما فرقان من طير صواف يحاجان عن أصحابهما اقرءوا سورة البقرة فإن أخذها بركة و تركها حسرة و لا تستطيعها البطلة .
اقرءوا الزهراوين : أي النيرتين
[*] قال النووي رحمه الله تعالى في شرح صحيح مسلم :
"و سميتا الزهراوين لنورهما و هدايتهما و عظيم أجرهما"
"كأنهما غمامتان أو كأنهما غيايتان" : قال أهل اللغة: الغمامة والغياية كل شيء أظل الإنسان من فوق رأسه من سحابة وغبرة وغيرهما. نقله النووي. وفي القاموس: الغمامة: السحابة أو البيضاء من السحب. والغياية كل ما أظل الإنسان من فوق رأسه كالسحاب ونحوه. والمراد أن ثوابهما يأتي بهذا المنظر.(1/306)
"أو كأنهما فرقان من طير صواف" : الفرقان والحزقان: معناهما واحد، وهما قطيعان وجماعتان، يقال في الواحد: فرق وحزق وحزيقه، أي جماعة، ومعنى "صواف": باسطة أجنحتها ملتصق بعضها ببعض كما كانت تظلل سليمان عليه السلام، وقوله صلى الله عليه وسلم: "تحاجان عن أصحابهما" أي تدافعان بالحجة عن أصحابهما.
"فإن أخذها بركة وتركها حسرة" : أي قراءتها بركة وترك قراءتها حسرة وخسارة.
أخذها بركة : أي زيادةٌ ونماء
وتركها حسرة : أي على ما فاته من الثواب
"ولا تستطيعها البطلة" أي السحرة ، تسمية لهم باسم فعلهم، لأن ما يأتون به الباطل، وإنما لم يقدروا على قراءتها ولم يستطيعوها لزيغهم عن الحق وانهماكهم في الباطل، ويصح أن يكون المعنى ولا يستطيع دفعها واختراق تحصينها لقارئها السحرة.
وقيل: المراد من البطلة أهل البطالة، أي لا يستطيعون قراءتها وتدبر معانيها لكسلهم.
(حديث أبي موسى في الصحيحين) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترُجَّة ريحها طيب و طعمها طيب و مثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة لا ريح لها و طعمها حلو و مثل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحها طيب و طعمها مر و مثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة ليس لها ريح و طعمها مر .
مثَّل النبي - صلى الله عليه وسلم - المؤمن الذي يقرأ القرآن بالأترجة ريحها طيب وطعمها طيب وكذا المؤمن الذي يقرأ القرآن مرضيٌ حاله قلباً وقالباً _ وهذا إن كان عاملاً بكتاب الله تعالى _ وإلا انقلب علمه من نورٍ إلى نار .
وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه يترتب الأجر الوفير على قراءة القرآن الكريم :(1/307)
(حديث عقبة ابن عامر في صحيح مسلم) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أيكم يحب أن يغدو كل يوم إلى بطحان أو إلى العقيق فيأتي منه بناقتين كوماوين زهراوين في غير إثم و لا قطع رحم فلأن يغدو أحدكم إلى المسجد فيتعلم أو يقرأ آيتين من كتاب الله خير له من ناقتين و ثلاث خير له من ثلاث و أربع خير له من أربع و من أعدادهن من الإبل .
(حديث ابن مسعودٍ في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة و الحسنة بعشر أمثالها لا أقول : { ألم } حرف و لكن : ألف حرف و لام حرف و ميم حرف .
(حديث ابن عباس في صحيحي الترمذي) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال { إذا زلزلت } تعدل نصف القرآن و { قل يا أيها الكافرون } تعدل ربع القرآن و { قل هو الله أحد } تعدل ثلث القرآن .
{ تنبيه } : ومن مظاهر سعة رحمة الله تعالى لعباده وكذا من مظاهر يسر الإسلام أن الله تعالى رتب الأجر الوفير على قراءة القرآن الكريم سواء كان القارئ يجيد القراءة أم يتتعتع في القراءة .
(حديث عائشة في الصحيحين) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال الذي يقرأ القرآن وهو حافظٌ له مع السفرةِ الكرامِ البررة والذي يقرأ القرآن ويتعاهده وهو عليه شديد فله أجران .
(حديث جابر في صحيح أبي داود) قال : خرج علينا رسول الله ونحن نقرأ القرآن وفينا الأعرابي والأعجمي فقال : اقرؤوا فكلٌ حسن وسيجئُ أقوامٌ يقيمونه كما يُقام القدحُ يتعجلونه ولا يتأجلونه .
الشاهد :(1/308)
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل أمر قراءة القرآن على التساهل حيث قال في قراءة الأعرابي والأعجمي (اقرؤوا فكلٌ حسن ) وهما غالباً لا يحسنان القراءة لأن الأعرابي غالباً بعيدٌ عن العلم والأعجمي ليس عربياً أصلاً ، ثم بين النبي - صلى الله عليه وسلم - أن المهم في القراءة الاحتساب وإخلاص النية ثم نبه - صلى الله عليه وسلم - أنه سيجئُ أقوامٌ يقرؤون القرآن قراءةً صحيحةً ويقيمون الألفاظ كما يُقام القدح (أي السهم) ولكنهم مع ذلك يتعجلون ثوابه في الدنيا ولا يؤجلون ثوابه في الآخرة .
{ تنبيه } : ... لسماع القران أثر إيجابي على المخ فقد ثبت علمياً أن تلاوة القرآن الكريم وترتيله والاستماع إلى آياته والإنصات لها يعزز القوى العقلية ، وأن الترددات العقلية الصادرة عن أصوات تلاوة القرآن الكريم يجعل العقل يصدر سلسلة من الترددات والطاقات تعرف علمياً باسم (موجات العقل)
فإذا كنت حقاً تريد تزويد عقلك بالموجات الصوتية المغذية استمع للقرآن الكريم وأنصت جيداً لآياته وراقب جيداً كيف تزداد قواك العقلية ، وكيف تصبح مبدعاً في
تفكيرك .
وثبت فعلياً أن الإنسان يحتاج للاستماع إلى الآيات المحكمات من كتاب الله كغذاء فعال للروح والعقل معاً أكثر من حاجة العقل إلى المغذيات الطبيعية والأعشاب
الطبية والفيتامينات وغيرها من منشطات العقل.
والعجيب فعلاً أن الاستماع للقرآن الكريم يزيل الضجر والتشتت والنسيان السريع بعكس الاستماع لأي أي شيء آخر.
لذا فاحرصوا قدر استطاعتكم أن تظلوا يقظين أثناء الاستماع ولا تعطوا لعوامل التشتت الفرصة ، فقد ثبت أن السر في تركيبة عقولنا يكمن في أنه بالاستماع للقرآن الكريم تبقى خلايا مخك حية سعيدة حتى في أثناء فترات الضغط عليها .(1/309)
وثبت توقف خلايا المخ عن التناقص بعد دوام الاستماع للقرآن الكريم ،وكذلك زيادة قدرة المستمع على التركيز واستدعاء الذاكرة والقيام بعمليات حسابية لم يكن بالإمكان القيام بها من قبل .
نسأل الله العظيم أن يعيننا على تلاوة القرآن الكريم, وحفظه, وتدبّر آياته, واتّباع سنة نبيّه عليه أفضل الصلاة والسلام, وأن تكون منزلتنا عند آخر آية نقرؤها, وأن نكون ممن نقرأ فنرقى, ولا نكون ممن يقرأ فيشقى, وأن نقيم حدوده, ولا نضيّع حدوده, وأن نأمر بالمعروف, وننهى عن المنكر, ونسارع في فعل الخيرات والطاعات وترك المنكرات وحب المساكين إنه ولي ذلك والقادرُ عليه .
فضل تعلم القرآن وتعليمه :
مما لا شك فيه أن القرآن الكريم هو أفضل ما يُتعلم، وأفضل ما يُعلَّم، لاشك أن الجامع بين تعلم القرآن وتعليمه هو أكثر كمالاً لأنه مكمِّل لنفسه ولغيره، جامع بين النفع القاصر على نفسه والنفع المتعدي إلى غيره، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (خيركم من تعلّم القرآن وعلّمه )
(حديث عثمان في صحيح البخاري) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال خيركم من تعلم القرآن وعلمه .
[*] قال الحافظ ابن كثير في فضائل القرآن :
"والغرض أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: خيركم من تعلم القرآن وعلمه، وهذه صفات المؤمنين المتبعين للرسل، وهم الكُمَّلُ في أنفسهم المُكَمِّلون لغيرهم، وذلك جمع بين النفع القاصر والمتعدي، وهذا بخلاف صفة الكفار الجبارين الذين لا ينفعون، ولا يتركون أحدا ممن أمكنهم أن ينتفع، كما قال الله في حقهم: (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ) [النحل :88].
وكما قال تعالى:( وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ) [الأنعام : 26].(1/310)
في أصح قولي المفسرين في هذا، وهو أنهم ينهون الناس عن اتباع القرآن مع نأيهم وبعدهم عنه أيضا، فجمعوا بين التكذيب والصد، كما قال تعالى: ( فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا) [الأنعام: 157]. فهذا شأن شرار الكفار كما أن شأن الأخيار الأبرار أن يتكملوا في أنفسهم، وأن يسعوا في تكميل غيرهم، كما في هذا الحديث، وكما قال تعالى:( وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ)
[ فصلت/ 33]
فجمع بين الدعوة إلى الله سواء كان بالأذان أو بغيره من أنواع الدعوة إلى الله -تعالى- من تعليم القرآن والحديث والفقه، وغير ذلك مما يُبتغى به وجه الله، وعمل هو في نفسه صالحا، وقال قولا صالحا -أيضا- فلا أحد أحسن حالا من هذا. انتهى.
وكان صلى الله عليه وسلم حريصاً كل الحرص على تعليم صحابته القرآن ، وتعاهدهم على تلاوته والعمل به، فقد جاء عن علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرئهم القرآن. ونُقل عن ابن مسعود أنه أقرأ رجلاً ، فقال له حين أخطأ: ما هكذا أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وكان من أمره صلى الله صلى الله عليه وسلم أن يرسل القراء إلى كل بلد يعلِّمون أهله كتاب الله، فأرسل مصعب بن عمير وابن أم مكتوم إلى أهل المدينة قبل هجرته، وبعث معاذ بن جبل إلى مكة بعد فتحها. وعلى هذا الدرب سار السلف الصالح من بعدُ، فاهتموا بتعلِّم كتاب ربهم وتعليمه، فأقاموا المساجد والمدارس تحقيقاً لهذا الغرض .
ثالثاً : فضل مجالس العلم :(1/311)
يجب على المسلم أن يحرص على حلق العلم وأن يُقبل عليها إقبال الظامئ على المورد العذب . وقد كان السلف يؤثرون العلم على كل شيء حتى الزواج ولذا فإن الإمام أحمد رحمه الله تعالى لم يتزوج إلا بعد الأربعين ، وأُهديت إلى أبي بكرٍ الأنباري جاريةٌ فلما دخلت عليه تفكَّر في استخراج مسألةٍ فعزبت عنه فقال : أخرجوها إلى النخاس فقالت هل لي من ذنب ؟ قال :لا إلا أن قلبي اشتغل بك ، وما قدْرُ مِثْلِكِ أن يمنعني علمي .
والسنة الصحيحة طافحةٌ بما يدل على فضل العلم منها ما يلي :
( حديث أبي موسى الأشعري في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : مثل ما بعثني الله به من الهدى و العلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ و العشب الكثير و كانت منها أخاذات أمسكت الماء فنفع الله بها الناس شربوا منها و سقوا وزرعوا و أصاب طائفة منها أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء و لا تنبت كلأ فذلك مثل من فقه في دين الله و نفعه ما بعثني الله به فعلم و علم و مثل من لم يرفع بذلك رأسا و لم يقبل هدى الله الذي أرسلت به .
[*] شرح الحديث :
قسَّم النبي - صلى الله عليه وسلم - الناس من حيث قبول العلم والانتفاع به إلى قسمين :
القسم الأول :
وهو قسمٌ محمود ، وينقسم إلى نوعين :
1) نوعٌ كالأرض النقية التي تقبل الماء فتستفيد في نفسها ثم تفيد غيرها بإنبات الكلأ والعشب الكثير ، وهؤلاء هم الفقهاء أولي الفهم لأنهم فهموا فاستفادوا ثم أفادوا .
2) نوعٌ آخر محمود ولكنه دون النوع الأول ، وهم كالأرض الصلبة (أخاذات) التي تجمع الماء وتحفظه لينتفع به الناس من السقي والزراعة والشرب ، فهؤلاء كالمحدثين الذين لم يُرزقوا الفقه والفهم بل حفظوا العلم ونقلوه لغيرهم ليستفيدوا به .(1/312)
{ تنبيه } : ليس المقصود بذلك أن كل محدثٍ ليس بفقيه فهناك كثيرٌ من العلماء جمعوا بين الحديث والفقه كالإمام أحمد والإمام البخاري رحمهما الله تعالى
القسم الثاني :قسمٌ مذموم لم يهتم بالعلم ولم يرفع بذلك رأساً ولم يشغل باله بالعلم لا تعلماً ولا تعليماً ولا حفظاً ولا سماعاً ، فلم ينتفع بالهدى والعلم وعاش هائماً في الضلال بل ربما كان أضل من حمار أهله .
وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - أن طلب العلم من المسالك المؤدية إلى الجنة وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضاً لطالب العلم ، وإن العلم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض حتى الحيتان في البحر ، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب ، وإن العلماء ورثة الأنبياء .
[*] قال الإمام أحمد رحمه الله كما في طبقات الحنابلة (1/390 ) :
الناس يحتاجون إلى العلم مثل الخبز والماء ، لأن العلم يحتاج إليه في كل ساعة ، والخبز والماء في كل يوم مرة أو مرتين .
[*] روى ابن عبدالبر في جامع بيان العلم وفضله (1/225) بإسناد صحيح عن الزهري قال : ( ما عُبِدَ الله بِمِثْلِ العِلم ).
والغرض من تعلم العلم الشرعي العمل به ، وطلب الأجر والثواب من الله ، ورفع الجهل عن النفس .
ولقد كان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا تعلموا عشر آيات لم يخلفوها حتى يعملوا بما فيها من العمل فتعلمنا القرآن والعمل جميعا .
ولم يكن السلف يطلقون اسم الفقيه إلا على من جمع بين العلم والعمل .
والعمل بالعلم سبب للثبات ،
قال تعالى: ( وَلَوْ أَنّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لّهُمْ وَأَشَدّ تَثْبِيتاً) [ النساء / 66](1/313)
[*] روى الخطيب البغدادي بسنده في اقتضاء العلم العمل : " عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه : هتف العلم بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل " (1) .
[*] قال ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (1/704) قال عبدالملك بن إدريس رحمه الله :
والعلم ليس بنافع أربابه ... ما لم يفد عملاً وحسن تبصر
سيان عندي من لم يستفد ... عملاً به وصلاة من لم يطهر
فاعمل بعلمك توف نفسك وزنها ... لا ترض بالتضييع وزن المخسر
[*] قال أبو الدرداء رضي الله عنه :
" إن أخوف ما أخاف إذا وقفت على الحساب أن يقال لي : قد علمت فماذا عملت فيما علمت ؟ " (2) .
وقد كان السلف رحمهم الله يستعينون على حفظ الحديث والعلم بالعمل به .
[*] قال الخطيب البغدادي في اقتضاء العلم العمل :
" العلم شجرة ، والعمل ثمرة ... فلا تأنس بالعمل ما دمت مستوحشا من العلم ، ولا تأنس بالعلم ما كنت مقصرا في العمل ، ولكن اجمع بينهما وإن قل نصيبك منهما " .
[*] قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى :
في زاد المعاد (3/10) : السلف مجمعون على أن العالم لا يستحق أن يسمى ربانياً حتى يعرف الحق ، ويعمل به ، ويعلمه ، فمن علم وعمل وعلم دعي عظيما في ملكوت السماوات .
(حديث أبي مدينة الدارمي وكانت له صحبة الثابت في السلسلة الصحيحة) قال كان الرجلان من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا التقيا لم يفترقا حتى يقرأ أحدهما على الآخر والعصر إن الإنسان لفي خسر ثم يسلم أحدهما على الآخر .
[*] قال الإمام ابن القيم :
__________
(1) رواه الخطيب في اقتضاء العلم العمل (35) وفيه لطيفة إسنادية مسلسل برواية تسعة آباء ..تدريب الراوي (2/261).
(2) رواه ابن المبارك في الزهد (52)،وأحمد في الزهد (2/58)، وأبونعيم في الحلية (1/231)،ورواه بنحوه الحارث بن أسامة في مسنده (1124) ، والخطيب في اقتضاء العلم العمل (41 ).وهو حسن .(1/314)
في مفتاح دار السعادة عن سورة العصر(1/238) : " فذكر تعالى المراتب الأربع في هذه السورة ، وأقسم سبحانه في هذه السورة بالعصر أن كل أحد في خسر ، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، وهم الذين عرفوا الحق ، وصدقوا به. فهذه مرتبة.
وعملوا الصالحات ، وهم الذين عملوا بما علموه من الحق.فهذه مرتبة أخرى .
وتواصوا بالحق ، وصى به بعضهم بعضاً ، تعليماً وإرشاداً.فهذه مرتبة ثالثة.
وتواصوا بالصبر ، صبروا على الحق ، ووصى بعضهم بعضاً بالصبر عليه ، والثبات.فهذه مرتبة رابعة.
وهذا نهاية الكمال ، فإن الكمال أن يكون الشخص كاملاً في نفسه ، مكملاً لغيره ، وكماله بإصلاح قوتيه العلمية والعملية ، فصلاح القوة العلمية بالإيمان ، وصلاح القوة العملية بعمل الصالحات ، وتكميله غيره ، وتعليمه إياه ، وصبره عليه ، وتوصيته بالصبر على العلم والعمل.فهذه السورة على اختصارها هي من أجمع سور القرآن للخير بحذافيره والحمد لله الذي جعل كتابه كافياً عن كل ما سواه ، شافياً من كل داءٍ ، هادياً إلى كل خير " ا.هـ.
[*] قال الجوزي في صيد الخاطر (218) :
" فالله الله في العلم بالعمل ، فإنه الأصل الأكبر، والمسكين كل المسكين من ضاع عمره في علم لم يعمل به ، ففاتته لذات الدنيا وخيرات الآخرة ، فقدم مفلسا ، مع قوة الحجة عليه "
ومن فضل حلق العلم ومجالسها أنها تجعل صاحبها في منزلة المجاهد في سبيل الله :
(حديث أبي هريرة في صحيح الجامع) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من جاء مسجدي هذا لم يأته إلا لخير يتعلمه أو يعلمه فهو في منزلة المجاهد في سبيل الله ، ومن جاءه لغير ذلك فهو بمنزلة الرجل ينظر إلى متاع غيره "
ومن فضل حلق العلم ومجالسها أن من رزق فقهًا في الدين فذاك الموفق على الحقيقة ، فالفقه في الدين من أعظم المنن .(1/315)
(حديث معاوية في الصحيحين) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين و إنما أنا قاسم و الله يعطي و لن تزال هذه الأمة قائمة على أمر الله لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله عز و جل .
وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - أن العلم يترتب عليه الأجر الوفير لدلالة الناس على الخير ولا يأتي هذا إلا من حلق العلم ومجالسه :
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا و من دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا .
الحرص على مجالس العلم ولو بالتناوب :
(حديث بن عباس ـ رضي الله عنهما ـ الثابت في الصحيحين ) عن عمر قال : كنت أنا وجار لي من الأنصار في بني أمية بن زيد وهي من عوالي المدينة ، وكنا نتناوب النزول على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ينزل يومًا ، وأنزل يومًا ، فإذا نزلت جئته بخبر ذلك اليوم من الوحي وغيره ، وإذا نزل فعل مثل ذلك .
وكثير من المسلمين في عهده الذين لم يستطيعوا التعلم بهذه الطريقة تلقوه بطريق السؤال ، كانوا يأتون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من كل حدب وصوب يسألون عن الضروري من أمور دينهم ، فيجيبهم - صلى الله عليه وسلم - بأوجز وأبلغ عبارة ، فيفهمون المراد ، ويرجعون إلى بلادهم وأقوامهم ، يبادرون إلى العمل .
فهذا رجل من ثقيف يأتي بعد أن امتن الله على قبيلته فدخلت في الإسلام لكن ذلك كان في فترة متأخرة ، فيرغب في الخير الذي حصَّله من سبقه ، فيسأل النبي سؤالاً جامعًا ، ويجيبه النبي بإجابة بليغة وجيزة .
عن سفيان بن عبد الله الثقفي قال : قلت : يا رسول الله قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك ـ وفي رواية "غيرك " ـ قال : قل آمنت بالله فاستقم وهو ثابت في صحيح مسلم .(1/316)
وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يفرحون بمجيء أحد من الأطراف ، خاصة إذا كان من البادية ؛ لأنهم كانوا يسألون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن مسائل كان الصحابة يتهيبون من سؤاله صلى الله عليه وسلم عنها .
ولذلك قال أنس : كنا نهاب أن نسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن شيء ،
وكان يعجبنا أن يأتيه الرجل من أهل البادية فيسأله ، ونحن نستمع .
وذلك بعد أن أنزل الله تعالى قوله : " يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم" [ المائدة/101 ]
بل وحتى النساء كن يحرصن على سؤاله - صلى الله عليه وسلم - ، وتعلم أمور الدين منه - صلى الله عليه وسلم - ، فكانت المرأة من الصحابيات إذا استحيت أن تسأله مباشرة ، سألته بواسطة بعض أمهات المؤمنين إذا كان الأمر يتعلق بشيء مما يستحي منه النساء ، وأما في غير ذلك فيسألنه - صلى الله عليه وسلم - ، ويحرصن على تلقي العلم منه .
(حديث عائشة في الصحيحين ) أن امرأة سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن غسلها من المحيض فأمرها كيف تغتسل . قال خذي ِفرصةٍ من مسكٍ فتطهري بها. قالت كيف أتطهر بها ؟ قال تطهري بها . قالت كيف ؟ قال سبحان الله تطهري بها . فاجتبذتها إليَّ فقلت تتبعي بها أثر الدم .
وسألته عن غسل الجنابة فقال : تأخذ ماء فتطهر فتحسن الطهور أو تبلغ الطهور ثم تصب على رأسها فتدلكه حتى تبلغ شؤون رأسها ، ثم تفيض عليها الماء .
[*] فقالت عائشة رضي الله عنها : نعم النساء نساء الأنصار لم يكن يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين .(1/317)
فهذه طريقتهم في طلب العلم وحرصهم عليه وحسن سؤالهم عن شئونهم الحقيقية ، وتوصيفهم الصحيح لواقعهم بعد فهمهم الدين ، فلم يكونوا يفترضون الأمثلة ، ولا يطرحون الأمثلة للترف العلمي والفكري ، فتعلموا ونقلوا الدين بأمانة ، فوصلنا الدين من خلال هؤلاء الصحابة العلماء الأجلاء كاملاً مكملاً ، فلا تجد ثغرة في ديننا ولا مسألة إلا وعندك منها علمًا ، فجزى الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - عنَّا وعن أمة الإسلام خير الجزاء ، وجزى صحابته خير الجزاء ، وإنما أعرضوا عمَّا لا ينفع ، وهذا ما علمه لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : لما جاءه رجل يقول : متى الساعة ؟ قال : وماذا أعددت لها .اليوم أنت ـ أخي طالب العلم ـ من هؤلاء ، وكيف تطلب ؟ وعمَّ تسأل ؟ وفيم تبحث ؟!!!
فضل مجالس الوعظ والإرشاد :
ينبغي لطالب العلم أن يتعهد الناس بالموعظة ويراعي في ذلك شيئين أساسيين هما :
الأول : أن تكون الموعظة خلال الأيام وليست كل يوم حتى لا يمل الناس .
(حديث أبن مسعودٍ في الصحيحين) قال : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتخولنا بالموعظةِ خلال الأيام كراهة السآمة علينا .
السآمة : أي الملل
الثاني : أن يعظَ الناس بما يستطيع ولو آية يعلم معناها الصحيح ولا ينتظر حتى يكتمل علمه فإن هذا لا يحصلُ غالباً فسبحان من له الكمال
(حديث عبد الله ابن عمرو في صحيح البخاري) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : بلغوا عني و لو آية و حدثوا عن بني إسرائيل و لا حرج و من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار .
(حديث زيد بن ثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : نضر الله امرءاً سمع منا حديثا فحفظه حتى يبلغه فرب حامل فقه إلى من هو أفقه و رب حامل فقه ليس بفقيه.
معنى نضَّر الله : الدعاء له بالنضارة وهي النعمة والبهجة
[*] قال سفيان ابن عيينة : ما من أحدٍ يطلب الحديث إلا في وجهه نضرة(1/318)
(9) الإقلال من الطعام والشراب والنوم والضحك والمزاح.
أولاً : الإقلال من الطعام والشراب :
الغاية من الإقلال من الطعام والشراب هو إصلاح القلب الذي هو سيد الأعضاء والذي إذا صلح صلح الجسد كله كما في الحديث الآتي :
(حديث النعمان بن بشير الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :الحلال بين و الحرام بين و بينهما أمور مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لعرضه و دينه و من وقع في الشبهات وقع في الحرام كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه ألا و إن لكل ملك حمى ألا و إن حمى الله تعالى في أرضه محارمه ألا و إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله و إذا فسدت فسد الجسد كله ألا و هي القلب .
إن كثرة الطعام والشبع المفرط يفسد القلب يثقله عن الطاعات ، ومن أكل كثيرا شرب كثيرا فنام كثيرا فخسر كثيرا.
[*] قال ابن القيم رحمه الله تعالى :
من مفسدات القلب: الطعام :
والمفسد له من ذلك نوعان:
أحدهما: ما يفسده لعينه وذاته كالمحرمات. وهي نوعان:
محرمات لحق الله: كالميتة والدم، ولحم الخنزير، وذي الناب من السباع والمخلب من الطير.
ومحرمات لحق العباد: كالمسروق والمغصوب والمنهوب، وما أخذ بغير رضا صاحبه، إما قهرا وإما حياء وتذمما.
والثاني: ما يفسده بقدره وتعدي حده، كالإسراف في الحلال، والشبع المفرط، فإنه يثقله عن الطاعات، ويشغله بمزاولة مؤنة البطنة ومحاولتها حتى يظفر بها، فإذا ظفر بها شغله بمزاولة تصرفها ووقاية ضررها، والتأذي بثقلها، وقوى عليه مواد الشهوة، وطرق مجاري الشيطان ووسعها، فإنه يجري من ابن آدم مجرى الدم. فالصوم يضيق مجاريه ويسد طرقه، والشبع يطرقها ويوسعها. ومن أكل كثيرا شرب كثيرا فنام كثيرا فخسر كثيرا.
وفي الحديث المشهور: ثم ذكر الأحاديث الآتية :(1/319)
(حديث مِقْدَامِ بْنِ مَعْدِيكَرِبَ رضي الله عنه الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " مَا مَلأَ آدَمِىٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ أُكُلاَتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ فَإِنْ كَانَ لاَ مَحَالَةَ فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِوَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ "
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير :
( ما ملأ آدمي وعاء شراً من بطنه ) لما فاته من خيور كثيرة جعل البطن وعاء كالأوعية التي تتخذ ظروفاً توهيناً لشأنه ثم جعله شر الأوعية لأنها تستعمل في غير ما هي له والبطن خلق لأن يتقوم به الصلب بالطعام وامتلاؤه يفضي إلى فساد الدين والدنيا فيكون شراً منها ، ووجه تحقق ثبوت الوصف في المفضل عليه أن ملء الأوعية لا يخلو عن طمع أو حرص في الدنيا وكلاهما شر على الفاعل والشبع يوقع في مداحض فيزيغ صاحبه عن الحق ويغلب عليه الكسل فيمنعه من التعبد ويكثر فيه مواد الفضول فيكثر غضبه وشهوته ويزيد حرصه فيوقعه في طلب ما زاد على الحاجة ، قال بعضهم : الشبع نهر في النفس يرده الشيطان والجوع نهر في الروح ترده الملائكة
( بحسب ابن آدم ) أي يكفيه ( لقيمات) بالضم وهي اللقمة أي يكفيه هذا القدر في سد الرمق وإمساك القوة ولهذا قال
( يقمن صلبه ) أي ظهره تسمية للكل باسم جزئه إذ كل شيء من الظهر فيه فقار فهو صلب كناية عن أنه لا يتجاوز ما يحفظه من السقوط ويتقوى به على الطاعة
قال الغزالي : وهذه الصيغة في الجميع للقلة فهو لما دون العشرة
( فإن كان لا محالة ) من التجاوز عما ذكر فلتكن أثلاثاً
( فثلث ) يجعله ( لطعامه ) أي مأكوله
( وثلث ) يجعله ( لشرابه ) أي مشروبه(1/320)
( وثلث ) يدعه ( لنفسه ) بالتحريك يعني أن يبقى من ملئه قدر الثلث ليتمكن من التنفس ويحصل له نوع صفاء ورقة وهذا غاية ما اختير للأكل وهو أنفعها للبدن والقلب فإن البطن إذا امتلأ طعاماً ضاق عن الشراب فإذا ورد عليه الشراب ضاق عن النفس وعرض للكرب والثقل ولما كان في الإنسان ثلاثة أجزاء أرضي ومائي وهوائي قسم طعامه وشرابه ونفسه إلى الأجزاء الثلاثة وترك الناري لقول جمع من الأطباء ليس في البدن جزء ناري ذكره ابن القيم وقال القرطبي : ولو سمع بقراط هذه القسمة لعجب من هذه الحكمة وقال الغزالي : ذكر هذا الحديث لبعض الفلاسفة فقال : ما سمعت كلاماً في قلة الأكل أحكم منه وإنما خص الثلاثة بالذكر لأنها أسباب حياة الحيوان . ( تنبيه ) قال ابن عربي : الجوع قسمان جوع اختيار وهو جوع السالكين وجوع اضطرار وهو جوع المحققين فإن المحقق لا يجوع نفسه بل يقلل أكله إن كان في مقام الأنس وإن كان في مقام الهيبة كثر أكله فكثرة الأكل للمحققين دليل على صحة سطوات أنوار الحقيقة على قلوبهم بحال العظمة من مشهودهم وقلة الأكل دليل على صحة المحادثة بحال المؤانسة من مشهودهم وكثرة الأكل للسالكين دليل على بعدهم من اللّه وبعدهم عن بابه واستيلاء النفس الشهوانية البهيمية بسلطانها عليهم وقلة الأكل لهم دليل على نفحات الجود الإلهي على قلوبهم فيشغلهم ذلك عن تدبير جسومهم والجوع بكل حال سبب داخل للسالك والمحقق إلى نيل عظيم الأحوال للسالكين والأسرار للمحققين ما لم يفرط بضجر من الجائع فإن إفراطه يؤدي إلى الهوس وذهاب العقل وفساد المزاج فلا سبيل للسالك أن يجوع الجوع المطلوب لنيل الأحوال إلا عن أمر شيخ أما وحده فلا ، لكن يتعين عليه تقليل الطعام وإدامة الصيام ولزوم أكلة واحدة بين الليل والنهار وأن يغب بالإدام الدسم فلا يأتدم في الجمعة إلا مرتين حتى يجد شيخاً فيسلم أمره إليه ليدبر حاله .(1/321)
(حديث ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : قَالَ تَجَشَّأَ رَجُلٌ عِنْدَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ " كُفَّ عَنَّا جُشَاءَكَ فَإِنَّ أَكْثَرَهُمْ شِبَعاً فِى الدُّنْيَا أَطْوَلُهُمْ جُوعاً يَوْمَ الْقِيَامَةِ " .
(حديث معاذ رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إياكم والتنعم فإن عباد الله ليسوا بالمتنعمين .
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن رجلاً كان يأكل أكلاً كثيراً، فأسلم، فكان يأكل أكلاً قليلاً، فذُكر ذلك للنبي فقال: (إن المؤمن يأكل في مِعًى واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء).
ولذلك نهى النبي عن كل شيءٍ يدعو إلى الشره في الطعام كأن يقرن الرجل بين التمرتين جميعا الحديث الآتي :
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين ) قال : نهى النبي أن يقرن الرجل بين التمرتين جميعا حتى يستأذن أصحابه.
{ تنبيه } : السبب في ذلك لأن ذلك يكون سبباً في الطمع والشره وسوء الخلق .
ونهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن التجشأ كما في الحديث الآتي :
(حديث ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : قَالَ تَجَشَّأَ رَجُلٌ عِنْدَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ " كُفَّ عَنَّا جُشَاءَكَ فَإِنَّ أَكْثَرَهُمْ شِبَعاً فِى الدُّنْيَا أَطْوَلُهُمْ جُوعاً يَوْمَ الْقِيَامَةِ " .
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير .
( كف عنا جشاءك ) هو الريح الذي يخرج من المعدة عند الشبع
( فإن أكثرهم ) يعني الناس(1/322)
( شبعاً في الدنيا أطولهم جوعاً يوم القيامة ) والنهي عن الجشاء نهي عن سببه وهو الشبع وهو مذموم طباً وشرعاً كيف وهو يقرب الشيطان ويهيج النفس إلى الطغيان والجوع يضيق مجاري الشيطان ويكسر سطوة النفس فيندفع شرهما ومن الشبع تنشأ شدة الشبق إلى المنكوحات ثم يتبعها شدة الرغبة إلى الجاه والمال اللذان هما الوسيلة إلى التوسع في المطعومات والمنكوحات ثم يتبع ذلك استكثار المال والجاه وأنواع الرعونات وضروب المنافسات والمحاسدات ثم يتولد من ذلك آفة الرياء وغائلة التفاخر والتكاثر والكبرياء ثم يتداعى ذلك إلى الحسد والحقد والعداوة والبغضاء ثم يفضي ذلك بصاحبه إلى اقتحام البغي والمنكر والفحشاء والبطر والأشر وذلك مفض إلى الجوع في القيامة وعدم السلامة إلا من رحم ربك .
(حديث معاذ رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إياك والتنعم فإن عباد الله ليسوا بالمتنعمين .
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير .
( إياك والتنعم فإن عباد اللّه ليسوا بالمتنعمين ) لأن التنعم بالمباح وإن كان جائزاً لكنه يوجب الأنس به ثم إن هذا محمول على المبالغة في التنعم والمداومة على قصده فلا ينافيه ما ورد في المستدرك وغيره أن المصطفى صلى اللّه عليه وسلم أهديت له حلة اشتريت بثلاثة وثلاثين بعيراً وناقة فلبسها مرة على أنه وإن داوم على ذلك فليس غيره مثله فإن المعصوم واقف على حدود المباح فلا يحمله ذلك على ما يخاف غائلته من نحو بطر وأشر ومداهنة وتجاوز إلى مكروه ونحو ذلك وأما غيره فعاجز عن ذلك فالتفريج على تنعمه بالمباح خطر عظيم لإبعاده عن الخوف قال العارف الجنيد : دخلت على العارف السري وهو يبكي فسألته فقال : جاءته البارحة الصبية فقالت : يا أبت هذا الكوز أعلقه لك يبرد فنمت فرأيت جارية من أحسن الخلق نزلت من السماء فقلت : لمن أنت قالت : لمن لا يشرب الماء المبرد فكسرت الكوز .(1/323)
وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - أن المؤمن يأكل في مِعًى واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء :
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن رجلاً كان يأكل أكلاً كثيراً، فأسلم، فكان يأكل أكلاً قليلاً، فذُكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: (إن المؤمن يأكل في مِعًى واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء).
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير .
( المؤمن يأكل في معي ) بكسر الميم مقصور مصران(1/324)
( واحد والكافر يأكل في سبعة أمعاء ) قيل ذا خاص بمعاء رجل قيل هو نضلة الغفاري وقيل غيره فاللام عهدية وقيل عام وهو تمثيل لكون المؤمن يأكل بقدر ما يمسك رمقه ويقوى به على الطاعة فكأنه يأكل في معاء واحد والكافر لشدة حرصه كأنه يأكل في أمعاء كثيرة فالسبعة للتكثير قال القرطبي : وهذا أرجح أو المؤمن يأكل للضرورة والكافر يأكل للشهوة أو المؤمن يقل حرصه وشرهه على الطعام ويبارك له في مأكله ومشربه فيشبع من قليل والكافر شديد الحرص لا يطمح بصره إلا للمطاعم والمشارب كالأنعام فمثل ما بينهما من التفاوت كما بين من يأكل في وعاء ومن يأكل في سبعة وهذا باعتبار الأعم الأغلب ولعلك إن وجدت مسلماً أكولاً ولو فحصت وجدت من الكفار من تفضل نهمته أضعافاً مضاعفة وقيل أراد بالسبعة صفات سبع الحرص والشره وبعد الأمل والطمع وسوء الطبع والحسد وحب السمن وقيل شهوات الطعام سبع شهوة النفس وشهوة العين وشهوة الفم وشهوة الأذن وشهوة الأنف وشهوة الجوع وهي الضرورة وهي التي يأكل بها المؤمن قال بعض الصحابة : وددت لو جعل رزقي في حصاة ألوكها حتى أموت أو المراد المؤمن الكامل الإيمان لأن شدة خوفه وكثرة تفكره تمنعه من استيفاء شهوته أو المؤمن يسمى فلا يشركه الشيطان فيكفيه القليل بخلاف الكافر وقال ابن العربي : السبعة كناية عن الحواس الخمس والشهوة والحاجة وفيه حث على التقلل من الدنيا والزهد والقناعة بما تيسر وقد كان العقلاء في الجاهلية والإسلام يمتدحون بقلة الأكل ويذمون كثرته وقال الغزالي : المعاء كناية عن الشهوة فشهوته سبعة أمثال شهوة المؤمن .
ثانياً : الإقلال من النوم :
وذلك لأن كثرة النوم يميت القلب ويثقل البدن، ويضيع الوقت، ويورث كثرة الغفلة والكسل.
[*] قال ابن القيم رحمه الله تعالى :
فإنه يميت القلب، ويثقل البدن، ويضيع الوقت، ويورث كثرة الغفلة والكسل. ومنه المكروه جدا، ومنه الضار غير النافع للبدن .(1/325)
وأنفع النوم : ما كان عند شدة الحاجة إليه. ونوم أول الليل أحمد وأنفع من آخره، ونوم وسط النهار أنفع من طرفيه. وكلما قرب النوم من الطرفين قل نفعه، وكثر ضرره، ولاسيما نوم العصر. والنوم أول النهار إلا لسهران.
ومن المكروه عندهم: النوم بين صلاة الصبح وطلوع الشمس؟ فإنه وقت غنيمة، وللسير ذلك الوقت عند السالكين مزية عظيمة حتى لو ساروا طول ليلهم لم يسمحوا بالقعود عن السير ذلك الوقت حتى تطلع الشمس، فإنه أول النهار ومفتاحه، ووقت نزول ا لأرزاق، وحصول القسم، وحلول البركة. ومنه ينشأ النهار، وينسحب حكم جميعه علي حكم تلك الحصة. فينبغي أن يكون نومها كنوم المضطر.
بالجملة فأعدل النوم وأنفعه : نوم نصف الليل الأول، وسدسه الأخير، وهو مقدار ثماني ساعات. وهذا أعدل النوم عند الأطباء، وما زاد عليه أو نقص منه أثر عندهم في الطبيعة انحرافا بحسبه.
ومن النوم الذي لا ينفع أيضا: النوم أول الليل، عقيب غروب الشمس حتى تذهب فحمة العشاء. وكان رسول الله يكرهه. فهو مكروه شرعا وطبعا. والله المستعان.
( حديث أبي برزة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يكره النوم قبل العشاء والحديث بعدها .
أولاً : الإقلال من الضحك والمزاح :
يجب على المسلم إذا أراد إصلاح قلبه أن يتجنب كثرة الضحك لأن كثرة الضحك تميت القلب بنص السنة الصحيحة كما في الحديث الآتي :
( حديث أبي هريرة في صحيح ابن ماجة) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : يا أبا هريرة كن ورعا تكن أعبد الناس وكن قنعا تكن أشكر الناس وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مؤمنا وأحسن جوار من جاورك تكن مسلما وأقل الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب .
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير .(1/326)
( كن ورعاً تكن أعبد الناس ) أي داوم عليه في جميع الحالات حتى يصير طبعاً لك فتكون أعبد الناس لدوام مراقبتك واشتغالك بأفضل العبادات بظاهرك وباطنك بإيثار حقك على حظك وهذا كمال العبودية ولهذا قال الحسن : ملاك الدين الورع وقد رجع ابن المبارك من خراسان إلى الشام في رد قلم استعاره منها وأبو يزيد إلى همدان لرد نملة وجدها في قرطم اشتراه وقال : غريبة عن وطنها وابن أدهم من القدس للبصرة لرد تمرة ، فانظر إلى قوة ورع هؤلاء وتشبه بهم إن أردت السعادة
( وكن قنعا تكن أشكر الناس ) لأن العبد إذا قنع بما أعطاه اللّه رضي بما قسم له وإذا رضي شكر فزاده اللّه من فضله جزاء لشكره وكلما زاد شكراً ازداد فضلاً { لئن شكرتم لأزيدنكم }
( وأحب للناس ما تحب لنفسك ) من الخير ( تكن مؤمناً ) أي كامل الإيمان لإعراضك عن هواك وإن لم تحب لهم ما تحب لنفسك فأنت مؤمناً ناقص الإيمان لمتابعتك هواك
( وأحسن مجاورة من جاورك تكن مسلماً ) أي كامل الإسلام فإن المسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه
( وأقل الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب ) وفي رواية البيهقي بدله فإن في كثرة الضحك فساد لقلب وإذا فسد القلب فسد الجسد كله .
( تنبيه ) الضحك المميت للقلب ينشأ من الفرح والبطر بالدنيا وللقلب حياة وموت فحياته بدوام الطاعة وموته بإجابة غير اللّه من النفس والهوى والشيطان ، بتواتر أسقام المعاصي تموت الأجسام بأسقامها واقتصر من أسباب موته على كثرة الضحك وهو ينشأ عن جميعها لانتشائه من حب الدنيا وحبها رأس كل خطيئة بنص الخبر أوحى اللّه إلى داود ومن عصاني فقد مات ومن أسباب موت [ ص 53 ] القلب الأشر والبطر والفرح وإذا مات لم يستجب له اللّه إذا دعاه .(1/327)
( تنبيه ) المأمور بالكف عن كثرة الضحك إنما هو أمثالنا أما من ذاق مشرب القوم من الأحباب فليس مراداً بهذا الخطاب ، قال بعض العارفين : جلس ذو النون للوعظ والناس حوله يبكون وشاب يضحك فزجره ، فأنشأ يقول : كلهم يعبدون اللّه من خوف النار * ويرون النجاة حظا جزيلا ليس لي في الجنان والنار رأي * أنا لا أبتغي بحبي بديلا فقيل له : فإن طردك فما تفعل؟ قال : فإذا لم أجد من الحب وصلا * رمت في النار منزلا ومقيلا ثم أزعجت أهلها ببكائي * بكرة في ضريعها وأصيلا معشر المشركين نوحوا عليّ * أنا عبد أحببت مولىً جليلا لم أكن في الذي ادّعيت صدوقاً * فجزائي منه العذاب الوبيلا وقال ابن عربي : خدمت امرأة من المخبآت العارفات تسمى فاطمة بنت المثنى القرطبي خدمتها وسنها فوق خمس وتسعين سنة وكنت أستحي أنظر إليها من حمرة خديها وحسن نغمتها وجمالها كأنّ عمرها دون عشرين سنة وكانت تضرب بالدف وتفرح وتقول اعتنى بي وجعلني من أوليائه واصطنعني لنفسه فكيف لا أفرح ومن أنا حتى يختارني على ابن جني .
( حديث أبي هريرة في صحيح الترمذي) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : اتق المحارم تكن أعبد الناس و ارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس و أحسن إلى جارك تكن مؤمنا و أحب للناس ما تحب لنفسك تكن مسلما و لا تكثر الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب .
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير .
( اتق المحارم ) أي احذر الوقوع في جميع ما حرم الله عليك
( تكن أعبد الناس ) أي من أعبدهم لما أنه يلزم من ترك المحارم فعل الفرائض فباتقاء المحارم تبقى الصحيفة نقية من التبعات فالقليل من التطوع مع ذلك ينمو وتعظم بركته فيصير ذلك المتقي من أكابر العباد وقال الذهبي هنا والله تكسب العبرات فيريد أن يكون يسيراً بكل واجب فيقوم به وعارفاً بكل محرم فيجتنبه
( وارض ) أي اقنع
( بما قسم الله لك ) أي أعطاك وجعله حظك من الرزق(1/328)
( تكن أغنى الناس ) فإن من قنع استغنى ليس الغنى بكثرة العرض ولكن الغنى غنى النفس والقناعة غنى وعز بالله وضدها فقر وذل للغير ومن لم يقنع لم يشبع أبداً ففي القناعة العز والغنى والحرية وفي فقدها الذل والتعبد للغير تعس عبد الدنيا تعس عبد الدينار فيتعين على كل عاقل أن يعلم أن الرزق بالقسم والحظ لا بالعلم والعقل ولا فائدة للجد حكمة بالغة دل بها على قدرته وإجراء الأمور على مشيئته قال الحكماء : ولو جرت الأقسام على قدر العقول لم تعش البهائم ونظمه أبو تمام فقال : ينال الفتى من عيشه وهو جاهل * ويكدى الفتى في دهره وهو عالم ولو كانت الأقسام تجري على الحجا * هلكن إذن من جهلن البهائم ومن كلامهم كم رأيت أعرج في المعالي عرج
( وأحسن إلى جارك ) بالقول والفعل والجار المجاور لك وما قرب من منزلك عرفاً
( تكن مؤمناً ) أي كامل الإيمان فإذا لم تقدر على الإحسان إليه فكف عن أذاه وإن كان مؤذياً لك فيلزمك الصبر حتى يجعل الله لك فرجاً قال الراغب : والإحسان يقال للإنعام على الغير وللإحسان في فعله وذلك إذا علم علماً حسناً أو عمل عملاً حسناً وعليه قول علي كرم الله وجهه " الناس أبناء ما يحسنون أي منسوبون إلى ما يعلمون ويعملون من الأفعال الحسنة والإحسان أعم من الإنعام والعدل إذ العدل أن يعطي ما عليه ويأخذ ماله والإحسان أن يعطي أكثر مما عليه ويأخذ أقل مما له
( وأحب ) أي ارض
( للناس ما تحب لنفسك ) من الخير
( تكن مسلماً ) كامل الإسلام بأن تحب لهم حصول ما تحبه لنفسك من جهة لا يزاحمونك فيها فإن انتفت المحبة لنحو حقد أو غل أو حسد انتفى عنه كمال الإيمان وغاير في ما بين لفظي الإيمان والإسلام تفنناً إذ المراد بهما هنا واحد قال السدي لي ثلاثون سنة في الاستغفار عن قولي الحمد لله وذلك أنه وقع ببغداد حريق فاستقبلني رجل فقال نجا حانوتك فقلت الحمد للّه فمذ قلتها فأنا نادم حيث أردت لنفسي خيراً دون المسلمين(1/329)
( ولا تكثر الضحك ) بفتح وكسر وهو كيفية يحصل منها انبساط في القلب مما يعجب الإنسان من السرور ويظهر ذلك في الوجه والإكثار منه مضر بالقلب منهي عنه شرعاً وهو من فعل السفهاء والأراذل مورث للأمراض النفسانية ولذا قال ( فإن كثرة الضحك تميت القلب ) أي تصيره مغموراً في الظلمات بمنزلة الميت الذي لا ينفع نفسه بنافعة ولا يدفع عنها شيئاً من مكروه وحياته وإشراقه مادة كل خير وموته وظلمته مادة كل شر وبحياته تكون قوته وسمعه وبصره وتصور المعلومات وحقائقها على ما هي عليه ولهذا قال لقمان [ ص 125 ] لابنه يا بني لا تكثر الضحك من غير عجب ولا تمشي من غير أرب ولا تسأل عما لا يعنيك ولا تضيع مالك وتصلح مال غيرك فإن مالك ما قدمت ومال غيرك ما أخرت وقال موسى للخضر : أوصني فقال : كن بساماً ولا تكن غضاباً وكن نفاعاً ولا تكن ضراراً وانزع عن اللجاجة ولا تمش في غير حاجة ولا تضحك من غير عجب ولا تعير الخطائين بخطاياهم وابك على خطيئتك يا ابن عمران وفي صحف موسى عجباً لمن أيقن بالنار كيف يضحك عجباً لمن أيقن بالموت كيف يفرح عجباً لمن أيقن بالقدر كيف ينصب عجباً لمن رأى الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها وفي الحديث إيذان بالإذن في قليل الضحك لا سيما لمصلحته .
ولهذا ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يضحك إنما كان يبتسم
( حديث عائشة في الصحيحين ) قالت ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضاحكاً حتى أرى لهواته إنما كان يبتسم .
(حديث جرير ابن عبد الله في الصحيحين ) قال ما رآني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منذ أن أسلمت إلا تبسم في وجهي .
(حديث يزيد ابن سعيد في صحيحي أبي داوود والترمذي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لا يأخذ أحدكم متاع أخيه لاعباً و لا جاداً و من أخذ عصا أخيه فليرُدَّها .(1/330)
(حديث عبد الرحمن ابن أبي ليلى في صحيح أبي داود) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لا يحلُ لمسلمٍ أن يُروِّعَ مسلماً .
النهي عن كثرة المزاح :
[*] قال علي ابن أبي طالب رضي الله عنه : أعط الكلام من المزح بمقدار ما تعطي الطعام من الملح نحن لا نستغني عن المزاح في حياتنا اليومية الملئية بالضغوطات والمشاكل والصعوبات التي تعترضنا دائماً..لذا علينا أن نجعل مزاحنا مع الآخرين بمقدار ما تعطي الطعام من الملح..
فيجب أن لا نتمادى في الضحك و المزح حتى يصبح الضحك سخرية من الآخرين و المزح اسفافاً و ابتذالاً و نحن لا ندعو إلى تجنب المزاح مع الآخرين، فالنفس البشرية تحب المزح والمرح وخصوصاً أن ضغوطات الحياة اليومية تدفع بالمرء دفعاً إلى أن يقضي بعض الوقت في المزح البريء غير الجارح أو الهادم للعلاقات والمشاعر و قديماً قالوا "للضحك موضع وله مقدار، وللمزح موضع وله مقدار، متى جازهما أحد، وقصّر عنهما أحد صار الفاضل خطلاً والتّقصير نقصاً. فالناس لم يعيبوا الضحك إلا بقدر ولم يعيبوا المزح إلا بقدر. ومتى أريد بالمزح النفع، وبالضحك الشيء الذي له جعل الضحك، صار المزح جدّا"، والضحك وقاراً."
النهي عن المزاح كذباً ليضحك به القوم :
وقد حذر النبي من المزاح كذباً ليضحك به القوم كما في الحديث الآتي :
(حديث معاوية ابن حيدة في صحيحي أبي داوود والترمذي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :ويلٌ للذي يُحَدِّثُ فيكذبُ ليضحك به القوم ويلٌ له ويلٌ له .
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير .
( ويل للذي يحدث فيكذب ) في حديثه
( ليضحك به القوم ويل له ويل له ) كرره إيذاناً بشدة هلكته وذلك لأن الكذب وحده رأس كل مذموم وجماع كل فضيحة فإذا انضم إليه استجلاب الضحك الذي يميت القلب ويجلب النسيان ويورث الرعونة كان أقبح القبائح ، ومن ثم قال الحكماء : إيراد المضحكات على سبيل السخف نهاية القباحة .(1/331)
{ تنبيه } : يجوز للإنسان أن يمزح إن لم يكن كثيراً بشرط أن يكون مزحه صدقاً فإن فيه إجماماً للقلوب وتفريجاً للكروب .
( حديث أبي هريرة في صحيح الترمذي) قالوا يا رسول الله إنك تداعبنا قال : إني لا أقول إلا حقاً .
وهاك عينات من مزاح و طرفة النبي - صلى الله عليه وسلم - :
( حديث أنس بن مالك رضي الله عنه الثابت في صحيحي أبي داوود و الترمذي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :أن رجلا استحمل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إني حاملك على ولد الناقة فقال يا رسول الله ما أصنع بولد الناقة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهل تلد الإبل إلا النوق .
( حديث أنس بن مالك رضي الله عنه الثابت في صحيحي أبي داوود و الترمذي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له يا ذا الأذنين .
( حديث أنس بن مالك رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة ) قال: " أتت عجوز إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله ادع الله لي أن يدخلني الجنة فقال: يا أم فلان إن الجنة لا تدخلها عجوز قال: فولت تبكي فقال: أخبروها أنها لا تدخلها وهى عجوز إن الله تعالى يقول " إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً. فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً. عُرُباً أَتْرَاباً "
{ تنبيه } : ومما يجب اجتنابه في المزح أن لا يأخذ متاع أخيه على سبيل المزاح ، وكذلك يحرم عليه أن يروِّع أخيه على سبيل المزح .
(10) مطالعة سير الزاهدين وبخاصة سيرة النبي وأصحابه:
إن الهممَ لَتَخْمُدُ, وإن الرياح لَتَسْكُنُ, وإن النفوس ليعتريها الملل, وينتابها الفتور، وإن سِيَرَ العظماء لمن أعظم ما يُذكي الأُوار, ويبعث الهمم, ويرتقي بالعقول, ويوحي بالاقتداء.
وكم من الناس من أقبل على الجد, وتداعى إلى العمل, وانبعث إلى معالي الأمور, وترقى في مدارج الكمالات _ بسبب حكاية قرأها, أو حادثة رُويت له.(1/332)
هذا وإن من أعظم المقاصد لرواية تلك السير والتراجم بيانَ الجوانب المشرقة _وما أكثرها_ من سير عظمائنا, والتنويهَ بما لهم من أعمال جليلة, وأياد بيضاء, وإيقاظ الهمم وحفزها, والارتقاء بالأخلاق وتقويم عوجها, وتزويدَ القارئ بشيء من خلاصات التجارب, وقرائح الأفهام وإطلاعه على التطبيق العملي للزهد من خلالهم .
ويتضمن هذا الموضوع ستة محاور رئسية هي :
أولاً : زهد النبي - صلى الله عليه وسلم - :
ثانياً : نماذج من سير الزاهدين من الصحابة رضوان الله عليهم :
ثالثاً : نماذج من سير الزاهدين من أئمة التابعين رحمهم الله تعالى :
رابعاً : نماذج من سير الزاهدين من أئمة تابعي التابعين رحمهم الله تعالى :
خامساً : نماذج من سير الزاهدين من أئمة الحديث أصحاب الكتب الستة .
سادساً : نماذج من سير الزاهدين من المُجَدِدين المتأخرين :
- أولاً : مطالعة زهد النبي - صلى الله عليه وسلم - :
من طالع حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - سيد الأولين والآخرين علم أنه سيد الزاهدين وإمام العابدين و علم كيف كان صلى الله عليه وسلم يرقع ثوبه، ويخصف نعله، ويحلب شاته، وما شبع من خبز الشعير يومين متتابعين حتى قبض، وكان لربما ظل اليوم يتلوى لا يجد من الدقل [ ردئ التمر ] ما يملأ بطنه .
( حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يخيط ثوبه و يخصف نعله و يعمل ما يعمل الرجال في بيوتهم .
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير :
( كان يخيط ثوبه ويخصف نعله ويعمل ما يعمل الرجال في بيوتهم ) من الاشتغال بمهنة الأهل والنفس إرشاداً للتواضع وترك التكبر لأنه مشرف بالوحي والنبوة ومكرم بالمعجزات والرسالة وفيه أن الإمام الأعظم يتولى أموره بنفسه وأنه من دأب الصالحين .
( حديث عائشة رضي الله عنهاالثابت في صحيح الترمذي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يفلي ثوبه و يحلب شاته و يخدم نفسه .(1/333)
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير :
( كان يفلي ثوبه ) بفتح فسكون من فلى يفلي كرمي يرمي ومن لازم التفلي وجود شيء يؤذي في الجملة كبرغوث وقمل فدعوى أنه لم يكن القمل يؤذيه ولا الذباب يعلوه دفعت بذلك وبعدم الثبوت ومحاولة الجمع بأن ما علق بثبوته من غيره لا منه ردت بأنه نفي أذاه وأذاه غذاؤه من البدن وإذا لم يتغذ لم يعش
( ويحلب شاته ويخدم نفسه ) عطف عام على خاص فنكتته الإشارة إلى أنه كان يخدم نفسه عموماً وخصوصاً قال المصري : ويجب حمله على أحيان فقد ثبت أنه كان له خدم فتارة يكون بنفسه وتارة بغيره وتارة بالمشاركة وفيه ندب خدمة الإنسان نفسه وأن ذلك لا يخل بمنصبه وإن جل .
(حديث أبي هريرة في صحيح البخاري) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ما بعث الله نبيا إلا رعى الغنم ، قال أصحابه وأنت ؟ فقال نعم كنت أرعاها على قراريط َ لأهل مكة.
[*] قال الإمام ابن حجر في الفتح :(1/334)
(ما بعث الله نبيا إلا رعى الغنم ): قال العلماء الحكمة في إلهام الأنبياء من رعى الغنم قبل النبوة أن يحصل لهم التمرن برعيها على ما يكلفونه من القيام بأمر أمتهم ولأن في مخالطتها ما يحصل لهم الحلم والشفقة لأنهم إذا صبروا على رعيها وجمعها بعد تفرقها في المرعى ونقلها من مسرح إلى مسرح ودفع عدوها من سبع وغيره كالسارق وعلموا اختلاف طباعها وشدة تفرقها مع ضعفها واحتياجها إلى المعاهدة ألفوا من ذلك الصبر على الأمة وعرفوا اختلاف طباعها وتفاوت عقولها فجبروا كسرها ورفقوا بضعيفها وأحسنوا التعاهد لها فيكون تحملهم لمشقة ذلك أسهل مما لو كلفوا القيام بذلك من أول وهلة لما يحصل لهم من التدريج على ذلك برعي الغنم وخصت الغنم بذلك لكونها أضعف من غيرها ولأن تفرقها أكثر من تفرق الإبل والبقر لإمكان ضبط الإبل والبقر بالربط دونها في العادة المألوفة ومع أكثرية تفرقها فهي أسرع انقياد من غيرها وفي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم لذلك بعد أن علم كونه أكرم الخلق على الله ما كان عليه من عظيم التواضع لربه والتصريح بمنته عليه وعلى إخوانه من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليه وعلى سائر الأنبياء
( كنت أرعاها على قراريط َ لأهل مكة ) :يعني كل شاة بقيراط يعني القيراط الذي هو جزء من الدينار أو الدرهم .
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة ) قالت : ما شبع رسول الله صلى الله عليه وسلم من خبز شعير يومين متتابعين .
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت الثابت في الصحيحين) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا .
قوتاً : أي شيءٌ يسدُ الرمق .
[*] قال الإمام ابن حجر في الفتح :
قوتاً :أي اكفهم من القوت بما لا يرهقهم الى ذل المسألة ولا يكون فيه فضول تبعث على الترفه والتبسط في الدنيا وفيه حجة لمن فضل الكفاف لأنه إنما يدعو لنفسه وآله بأفضل الأحوال .(1/335)
( حديث عبد الله بن عمر الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (قد أفلح من أسلم ورُزق كفافاً و قنَّعه الله بما آتاه .
[*] قال الإمام النووي في شرح صحيح مسلم :
ورُزق كفافاً : الكفاف الكفاية بلا زيادة ولا نقص، وفيه فضيلة هذه الأوصاف :
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
( قد أفلح من أسلم ورزق كفافاً ) أي ما يكف عن الحاجات ، ويدفع الضرورات والفاقات ، ولا يلحقه بأهل الترفهات . قال القاضي : الفلاح الفوز بالبغية
( وقنعه اللّه بما آتاه ) بمد الهمزة أي جعله قانعاً بما أعطاه إياه ولم يطلب الزياد لمعرفته أن رزقه مقسوم لن يعدو ما قدر له والفلاح الفوز بالبغية في الدارين والحديث قد جمع بينهما والمراد بالرزق الحلال منه فإن المصطفى صلى اللّه تعالى عليه وعلى آله وسلم مدح المرزوق وأثبت له الفلاح وذكر الأمرين وقيد الثاني بقنع أي رزق كفافاً وقنعه اللّه بالكفاف فلم يطلب الزيادة وأطلق الأوّل ليشمل جميع ما يتناوله الإسلام ذكره الطيبي وصاحب هذه الحالة معدود من الفقراء لأنه لا يترفه في طيبات الدنيا بل يجاهد نفسه في الصبر على القدر الزائد على الكفاف فلم يفته من حال الفقراء إلا السلامة من قهر الرجال وذل المسألة .
(حديث عبيد الله بن محصن الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :( من أصبح منكم آمناً في سربه معافى في جسده عنده قوتُ يومه فكأنما حيزت له الدنيا .
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
( من أصبح منكم آمنا في سربه ) بكسر السين على الأشهر أي في نفسه وروي بفتحها أي في مسلكه وقيل بفتحتين أي في بيته
( معافى في جسده ) أي صحيحاً بدنه(1/336)
( عنده قوت يومه ) أي غذاؤه وعشاؤه الذي يحتاجه في يومه ذلك ، يعني من جمع اللّه له بين عافية بدنه وأمن قلبه حيث توجه وكفاف عيشه بقوت يومه وسلامة أهله فقد جمع اللّه له جميع النعم التي من ملك الدنيا لم يحصل على غيرها فينبغي أن لا يستقبل يومه ذلك إلا بشكرها بأن يصرفها في طاعة المنعم لا في معصية ولا يفتر عن ذكره
( فكأنما حيزت ) بكسر المهملة
( له الدنيا ) أي ضمت وجمعت
( بحذافيرها ) أي بجوانبها أي فكأنما أعطي الدنيا بأسرها ، ومن ثم قال نفطويه : إذا ما كساك الدهر ثوب مصحة * ولم يخل من قوت يحلى ويعذب فلا تغبطن المترفين فإنه * على حسب ما يعطيهم الدهر يسلب وقال : إذا القوت يأتي لك والصحة والأمن * وأصبحت أخا حزن فلا فارقك الحزن وفيه حجة لمن فضل الفقر على الغنى .
وكان يربط الحجر على بطنه من الجوع :
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يربط الحجر على بطنه من الغرث .
الغرث : الجوع
، ويمر على أهله الهلال ثم الهلال ثم الهلال لا يوقد في بيتهم النار، طعامهم الأسودان: التمر والماء
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في الصحيحين ) أنها قالت لعروة: ابن أختي، إن كنا لننظر إلى الهلال، ثم الهلال، ثلاثة أهلة في شهرين، وما أوقدت في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار. فقلت: يا خالة، ما كان يُعَيِّشُكُم؟ قالت: الأسودان التمر والماء، إلا أنه قد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم جيران من الأنصار، كانت لهم منائح، وكانوا يمنحون رسول الله صلى الله عليه وسلم من ألبانهم فيسقينا .
[*] قال الإمام ابن حجر في الفتح :
إن كنا لننظر إلى الهلال، ثم الهلال، ثلاثة أهلة في شهرين : المراد بالهلال الثالث هلال الشهر الثالث وهو يرى عند انقضاء الشهرين وبرؤيته يدخل أول الشهر الثالث .(1/337)
وما أوقدت في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار : لا يوقد في شيء من بيوته نار لا لخبز ولا لطبخ .
ما كان يُعَيِّشُكُم ؟ بضم أوله يقال أعاشه الله أي أعطاه العيش .
الأسودان التمر والماء : قال الصغاني الاسودان يطلق على التمر والماء والسواد للتمر دون الماء فنعتا بنعت واحد تغليبا وإذا اقترن الشيئان سميا باسم أشهرهما .
منائح : جمع منيحة بنون وحاء مهملة
( حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري ) قال : ما أكل النبي صلى الله عليه وسلم خبزاً مرققاً، ولا شاة مسموطة حتى لقي الله .
[*] قال الحافظ بن حجر في الفتح :
ما أكل النبي صلى الله عليه وسلم خبزاً مرققاً : وأكل المرقق إنما هو لدفع طيبات الدنيا اختيارا لطيبات الحياة الدائمة .
ولا شاة مسموطة : المسموط الذي ازيل شعره بالماء المسخن وشوى بجلده أو يطبخ وإنما يصنع ذلك في الصغير السن الطري وهو من فعل المترفين من وجهين أحدهما المبادرة إلى ذبح ما لو بقي لازداد ثمنه وثانيهما أن المسلوخ ينتفع بجلده في اللبس وغيره .
( حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري ) قال : ما علمت النبي صلى الله عليه وسلم أكل على سُكُرُّجَةٍ قطُّ، ولا خُبِزَ له مرقَّق قطُّ، ولا أكل على خِوَان قطُّ. قيل لقتادة: فعلى ما كانوا يأكلون؟ قال: على السُّفَر.
[*] قال صاحب تحفة الأحوذي :
( سُكُرُّجَةٍ) بِضَمِّ السِّينِ وَالْكَافِ وَالرَّاءِ وَالتَّشْدِيدِ إِنَاءٌ صَغِيرٌ يُؤْكَلُ فِيهِ الشَّيْءُ الْقَلِيلُ مِنَ الْأُدْمِ وَهِيَ فَارِسِيَّةٌ، وَأَكْثَرُ مَا يُوضَعُ فِيهِ الْكَوَامِخُ وَنَحْوُهَا كَذَا فِي النِّهَايَةِ.(1/338)
قَالَ الْعِرَاقِيُّ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ: تَرْكُهُ الْأَكْلَ فِي السُّكُرُّجَةِ إِمَّا لِكَوْنِهَا لَمْ تَكُنْ تُصْنَعُ عِنْدَهُمْ إِذْ ذَاكَ أَوِ اسْتِصْغَارًا لَهَا؛ لِأَنَّ عَادَتَهُمْ لِلِاجْتِمَاعِ عَلَى الْأَكْلِ أَوْ لِأَنَّهَا كَانَتْ تُعَدُّ لِوَضْعِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي تُعِينُ عَلَى الْهَضْمِ وَلَمْ يَكُونُوا غَالِبًا يَشْبَعُونَ فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ حَاجَةٌ بِالْهَضْمِ انْتَهَى.
(عَلَى خِوَانٍ) بِكَسْرِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَيُضَمُّ أَيْ مَائِدَةٍ.
وكان يقول: (اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة
(حديث سهل بن سعد رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخندق، وهم يحفرون، ونحن ننقل التراب على أكتادنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم لا عيش الا عيش الآخرة فاغفر للمهاجرين والأنصار).
( حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيح مسلم ) قالت: إنما كان فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ينام عليه أدماً حشوه ليف.
[*] قال الإمام النووي في شرح صحيح مسلم :
وفي الحديث ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من الزهادة في الدنيا والإعراض عن متاعها وملاذها وشهواتها وفاخر لباسها ونحوه واجتزائه بما يحصل به أدنى التجزية في ذلك كله، وفيه الندب للاقتداء به صلى الله عليه وسلم في هذا وغيره.
[*] وقال صاحب تحفة الأحوذي :
وَالْأَدَمُ بِفَتْحَتَيْنِ: اسْمٌ لِجَمْعِ الْأَدِيمِ وَهُوَ الْجِلْدُ الْمَدْبُوغُ عَلَى مَا فِي الْمُغْرِبِ(1/339)
(حَشْوُهُ لِيفٌ) : قَالَ فِي الْقَامُوسِ: لِيفُ النَّخْلِ بِالْكَسْرِ مَعْرُوفٌ. وَقَالَ فِي الصُّرَاحِ لِيفٌ بِالْكَسْرِ يوست درخت خرما. وَفِي الْحَدِيثِ جَوَازُ اتِّخَاذِ الْفِرَاشِ،، وَالْوِسَادَةِ وَالنَّوْمِ عَلَيْهَا وَالِارْتِفَاقِ بِهَا، قَالَهُ النَّوَوِيُّ. قَالَ الْقَارِيُّ: الْأَظْهَرُ أَنَّهُ يُقَالُ فِيهِ بِالِاسْتِحْبَابِ لِمُدَاوَمَتِهِ عَلَيْهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلِأَنَّهُ أَكْمَلُ لِلِاسْتِرَاحَةِ الَّتِي قُصِدَتْ بِالنَّوْمِ لِلْقِيَامِ عَلَى النَّشَاطِ فِي الْعِبَادَةِ.
(حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة ) قال نام رسول الله صلى الله عليه وسلم على حصير فقام وقد أثر في جنبه قلنا يا رسول الله لو اتخذنا لك وطاء فقال ما لي وللدنيا ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها .
[*] قال صاحب تحفة الأحوذي :
( فَقَامَ ) أَيْ عَنِ النَّوْمِ
( وَقَدْ أَثَّرَ ) أَيْ أَثَّرَ الْحَصِيرُ
( لَوِ اتَّخَذْنَا لَكَ وِطَاءً ) بِكَسْرِ الجزء السابع الْوَاوِ وَفَتْحِهَا كَكِتَابٍ وَسَحَابٍ أَيْ فِرَاشًا وَكَلِمَةُ ( لَوْ ) تَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ لِلتَّمَنِّي وَأَنْ تَكُونَ لِلشَّرْطِيَّةِ وَالتَّقْدِيرُ لَوِ اتَّخَذْنَا لَكَ بِسَاطًا حَسَنًا وَفِرَاشًا لَيِّنًا لَكَانَ أَحْسَنَ مِنَ اضْطِجَاعِكَ عَلَى هَذَا الْحَصِيرِ الْخَشِنِ(1/340)
( مَالِي وَلِلدُّنْيَا ) قَالَ الْقَارِي: مَا نَافِيَةٌ أَيْ لَيْسَ لِي أُلْفَةٌ وَمَحَبَّةٌ مَعَ الدُّنْيَا وَلَا لِلدُّنْيَا أُلْفَةٌ وَمَحَبَّةٌ مَعِي حَتَّى أَرْغَبَ إِلَيْهَا، وَأَنْبَسِطُ عَلَيْهَا وَأَجْمَعُ مَا فِيهَا وَلَذَّتِهَا أَوِ اسْتِفْهَامِيَّةٌ أَيْ: أَيُّ أُلْفَةٍ وَمَحَبَّةٍ لِي مَعَ الدُّنْيَا أَوْ أَيُّ شَيْءٍ لِي مَعَ الْمَيْلِ إِلَى الدُّنْيَا أَوْ مَيْلِهَا إِلَيَّ فَإِنِّي طَالِبُ الْآخِرَةِ وَهِيَ ضَرَّتُهَا الْمُضَادَّةُ لَهَا. قَالَ وَاللَّامُ فِي لِلدُّنْيَا مُقْحَمَةٌ لِلتَّأْكِيدِ إِنْ كَانَ الْوَاوُ بِمَعْنَى مَعَ وَإِنْ كَانَ لِلْعَطْفِ فَالتَّقْدِيرُ مَالِي مَعَ الدُّنْيَا وَمَا لِلدُّنْيَا مَعِي
( { اسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا } (1) ) وَجْهُ التَّشْبِيهِ سُرْعَةُ الرَّحِيلِ وَقِلَّةُ الْمُكْثِ وَمِنْ ثَمَّ خَصَّ الرَّاكِبَ.
( حديث أبي بردة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) قال * دخلت على عائشة فأخرجت إلينا إزارا غليظا مما يصنع باليمن وكساء من التي يسمونها الملبدة قال فأقسمت بالله إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبض في هذين الثوبين .
[*] قال الإمام النووي في شرح صحيح مسلم :
الملبدة : قال العلماء الملبد بفتح الباء وهو المرقع، يقال: لبدت القميص ألبده بالتخفيف فيهما، ولبدته ألبده بالتشديد، وقيل هو الذي ثخن وسطه حتى صار كاللبد.
( حديث عمرو بن الحارث رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري ) قال: ما ترك النبي صلى الله عليه وسلم دينارا، ولا درهما، ولا عبدا، ولا أمة، إلا بغلته البيضاء التي كان يركبها، وسلاحه، وأرضا جعلها لابن السبيل صدقة .
__________
(1) - سنن أبي داود اللباس (4104).(1/341)
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( لو أن عندي مثلَ أحدٍ ذهباٍ ما يسرني أن لا يمَّر عليَّ ثلاث وعندي منه شيءٌ إلا شيءٌ أرْصُدُه لدين)
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير .
( لو أن عندي مثلَ أحدٍ) أي جبل أحد
( ذهباً ) بالنصب على التمييز قال ابن مالك بوقوع التمييز بعد مثل قليل وجواب لو
( ما يسرني ) من السرور بمعنى الفرح
( أن لا يمر عليَّ ) بالتشديد
( ثلاث ) من الليالي ويجوز الأيام بتكلف
( وعندي منه شيء ) أي من الذهب ، وفي التقييد بثلاث مبالغة في سرعة الإنفاق
( إلا شيء أرصده ) بضم الهمزة وكسر الصاد أعدَّه
( لدين ) أي أحفظه لأداء دين لأنه مقدم على الصدقة واستثنى الشيء من الشيء لكون الثاني مقيداً خاصاً ورفعه لكونه جواب لو في حكم النفي وجعل لو هنا للتمني متعقب بالرد وخص الذهب بضرب المثل لكونه أشرف المعادن وأعظم حائل بين الخليقة وبين فوزها الأكبر يوم معادها وأعظم شيء عصى اللّه به وله قطعت الأرحام وأريقت الدماء واستحلت المحارم ووقع التظالم وهو المرغب في الدنيا المزهد في الآخرة وكم أميت به من حق وأحيي به من باطل ونصر به ظالم وقهر به مظلوم فمن سره أن لا يكون عنده منه شيء فقد آثر الآخرة .
{ تنبيه } : كان النبي يوصي أصحابه دائماً وأبداً إلى الزهد في الدنيا وعدم المبالغة في الاهتمام بما هو من ضرورياتها كالمسكن مثلا وتأمل في الحديث الآتي بعين الاعتبار :
( حديث عبد الله ابن عمرو رضي الله عنهما الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي ) قال : مَرَّ علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وحن نعالج خصا لنا وَهَى ، فقال: "" ما هذا ؟ "" فقلنا: خصٌ لنا وَهَى فنحن نصلحه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "" ما أرى الأمر إلا أعجل من ذلك .
نعالج خصا لنا : الخص: بيت يعمل من الخشب والقصب .
وَهَى : بفتح الواو والهاء: أي خرب أو كاد .(1/342)
ما أرى الأمر إلا أعجل من ذلك :
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
( ما أرى الأمر ) يعني الموت
( إلا أعجل من ذلك ) أي من أن يبني الإنسان لنفسه بناء ويشيده فوق ما لا بد منه فقد اتخذ نوح بيتاً من قصب فقيل له : لو بنيت فقال : هذا كثير لمن يموت وقيل لسليمان : ما لك لا تبني قال : ما للعبد وللبناء فإذا أعتق فله واللّه قصور لا تبلى أبداً .
بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم :
أخرج ابن سعد : عن الواقدي قال: حدثني معاذ بن محمد الأنصاي قال: سمعت عطاء الخراساني في مجلس فيه عِمران بن أبي أنس يقول وهو فيما بين القبر والمنبر: أدركت حُجَر أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم من جريد النخل، وعلى أبوابها المسوح من شعر أسود، فحضرت كتاب الوليد بن عبد الملك يُقرأ يأمر بإدخال حُجَر أزواج النبي في مسجد رسول الله، فما رأيت يوماً أكثر باكياً من ذلك اليوم، قال عطاء: فسمعت سعيد بن المسيِّب يقول يومئذ: واللَّهِ لوددتُ أنهم تركوها على حالها؛ ينشأ ناشىء من أهل المدينة، ويقدم القادم من الأفق، فيرى ما اكتفى به رسول الله في حياته، فيكون ذلك ممَّا يزهِّد الناس في التكاثر والتفاخر فيها ـ يعني الدنيا ـ. قال معاذ: فلما فرغ عطاء الخراساني من حديثه قال عمران بن أبي أنس: كان منها أربعة أبيات بلبن لها حُجَر من جريد، وكانت خمسة أبيات من جريد مطيّنة لا حُجر لها، على أبوابها مُسوح الشعر، ذرعتُ الستر فوجدته ثلاث أذرع في ذرع، والعظم أو أدنى من العظم، فأما ما ذكرت من كثرة البكاء فلقد رأيتني في مجلس فيه نفر من أبناء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم أبو سَلَمة ابن عبد الرحمن، وأبو أمامة بن سهل بن حُنَيف، وخارجة بن زيد، وإنهم ليبكون حتى أخضل لحاهم الدمعُ، وقال يومئذ أبو أمامة: ليتها تُركت فلم تُهدم حتى يقصرَ الناس عن البناء، ويَروا ما رضي الله لنبيه ومفاتيح خزائن الدنيا بيده .(1/343)
[*] ثانياً نماذج من سير الزاهدين من الصحابة - رضي الله عنهم - :
مسألة : من هو الصحابي وما هو منهج أهل السنة و الجماعة في حق الصحابة رضي الله عنهم ؟
الصحابي من اجتمع مع النبي - صلى الله عليه وسلم - أو رآه ولو لحظة مؤمنا ومات على ذلك .
منهج أهل السنة و الجماعة في حق الصحابة رضي الله عنهم :
محبتهم والثناء عليهم بما يستحقون ، وسلامة قلوبهم من البغضاء والحقد عليهم ، وسلامة ألسنتهم من قول ما فيه نقص أو شتم للصحابة كما وصفهم الله بقوله :(وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإخْوَاننَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمان وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّا لِلَّذِينَ امَنُوا رَبَّنَا انكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ) (الحشر:10).
(حديث أبي سعيد في صحيح البخاري) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - : (لا تسبوا أصحابي ، فوالذي نفسي بيده ، لو انفق أحدكم مثل جبل أحد ذهبا ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نصيفه ) .
اختلاف مراتب الصحابة رضي الله عنهم:
تختلف مراتب الصحابة لقوله تعالى:(لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ انفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أولَئِكَ أعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ انفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى )(الحديد: من الآية10) . وسبب اختلاف مراتبهم : قوة الإيمان والعلم والعمل الصالح والسابق إلى الإسلام .(1/344)
أفضلهم جنسا المهاجرون ثم الأنصار؛ لان الله قدم المهاجرين عليهم فقال تعالى : (لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأنصَارِ)(التوبة: من الآية117). ولأنهم جمعوا بين الهجرة من ديارهم وأموالهم والنصرة .وأفضل الصحابة عينا أبو بكر، ثم عمر بالإجماع ، ثم عثمان ثم علي على رأي جمهور أهل السنة الذي استقر عليه أمرهم ، بعدما وقع الخلاف في المفاضلة بين علي وعثمان ، فقدم قوم عثمان وسكتوا ، وقدم قوم عليا ثم عثمان ، وتوقف قوم في التفضيل . ولا يضلل من قال بأن عليا أفضل من عثمان لأنه قد قال به بعض أهل السنة .
الخلفاء الأربعة :
الخلفاء الأربعة هم : أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ، وترتيبهم في الخلافة أبو بكر ، ثم عمر ، ثم عثمان ، ثم علي .
ويضلل من خالف في خلافة واحد منهم ، أو خالف في ترتيبهم ؛ لأنه مخالف لإجماع الصحابة وإجماع أهل السنة . وثبتت خلافة أبى بكر بإشارة من النبي - صلى الله عليه وسلم - إليها،حيث قدمه في الصلاة وفي أمارة الحج ، وبكونه أفضل الصحابة فكان أحقهم بالخلافة. وثبتت خلافة عمر بعهد أبى بكر إليه بها ، وبكونه أفضل الصحابة بعد أبى بكر .
وثبتت خلافة عثمان باتفاق أهل الشورى عليه ، وثبتت خلافة علي بمبايعة أهل الحل والعقد له ، وبكونه أفضل الصحابة بعد عثمان .
فضل العشرة المبشرين بالجنة :
[*] قال الذهبي رحمه الله في سير أعلام النبلاء عن العشرة المبشرون بالجنة بعد ما أنهى الكلام عن سيرتهم - رضي الله عنهم - :(1/345)
هذا ما تيسر من سيرة العشرة وهم أفضل قريش وأفضل السابقين المهاجرين وأفضل البدريين وأفضل أصحاب الشجرة وسادة هذه الأمة في الدنيا والآخرة فأبعد الله الرافضة ما أغواهم وأشد هواهم كيف اعترفوا بفضل واحد منهم وبخسوا التسعة حقهم وافتروا عليهم بأنهم كتموا النص في علي أنه الخليفة فوالله ما جرى من ذلك شيء وأنهم زوروا الأمر عنه بزعمهم وخالفوا نبيهم وبادروا إلى بيعة رجل من بني تيم يتجر ويتكسب لا لرغبة في أمواله ولا لرهبة من عشيرته ورجاله ويحك أيفعل هذا من له مسكة عقل ولو جاز هذا على واحد لما جاز على جماعة ولو جاز وقوعه من جماعة لاستحال وقوعه والحالة هذه من ألوفٍ من سادة المهاجرين والانصار وفرسان الأمة وأبطال الإسلام لكن لا حيلة في برء الرفض فإنه داء مزمن والهدى نور يقذفه الله في قلب من يشاء فلا قوة إلا بالله .
فضل أهل بدر:
أهل بدر هم الذين قاتلوا في غزوة بدر من المسلمين ، وعددهم ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا . والفضيلة التي حصلت لهم أن الله اطلع عليهم وقال:(اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ) ومعناه أن ما يحصل منهم من المعاصي يغفره الله بسبب الحسنة الكبيرة التي نالوها في غزوة بدر ، ويتضمن هذا بشارة بأنه لن يرتد أحد منهم عن الإسلام .
( حديث رفاعة بن رافع الزُرْقِي رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري ) قال: جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما تعدون أهل بدر فيكم ؟ قال: (من أفضل المسلمين). أو كلمة نحوها، قال: وكذلك من شهد بدرا من الملائكة.(1/346)
( حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد، فقال: (انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها ظعينة معها كتاب، فخذوه منها). فذهبنا تعادى بنا خيلنا حتى أتينا الروضة، فإذا نحن بالظعينة، فقلنا: أخرجي الكتاب، فقالت: ما معي من كتاب، فقلنا: لتخرجن الكتاب أو لنلقين الثياب، فأخرجته من عقاصها، فأتينا به النبي صلى الله عليه وسلم فإذا فيه: من حاطب ابن أبي بلتعة إلى أناس من المشركين ممن بمكة، يخبرهم ببعض أمر النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما هذا يا حاطب). قال: لا تعجل علي يا رسول الله، إني كنت امرأ من قريش، ولم أكن من أنفسهم، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها أهليهم وأموالهم بمكة، فأحببت إذ فاتني من النسب فيهم، أن أصطنع إليهم يدا يحمون قرابتي، وما فعلت ذلك كفرا، ولا ارتدادا عن ديني. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنه قد صدقكم). فقال عمر: دعني يا رسول الله فأضرب عنقه، فقال: (إنه شهد بدرا، وما يدريك؟ لعل الله عز وجل اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم).
أهل بيعة الرضوان :
أهل بيعة الرضوان هم الذين بايعوا النبي - صلى الله عليه وسلم - عام الحديبية على قتال قريش ، وألا يفروا حتى الموت ، وسببها ما أشيع من أن عثمان قتلته قريش حين أرسله النبي - صلى الله عليه وسلم - إليهم للمفاوضة . وسميت ببيعة الرضوان ، لان الله رضي عنهم بها ، وعددهم نحو ألف وأربعمائة . والفضيلة التي حصلت لهم هي :
(1) رضا الله عنهم : لقوله تعالى: ( لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ اذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ ) (الفتح: من الآية18).
(2) سلامتهم من دخول النار : لان النبي - صلى الله عليه وسلم -
أخبر انه لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة .(1/347)
(حديث أم بشر في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة .
- فضل سيرة الصحابة :
إنَّ لسيرة الصحابة - رضي الله عنهم - فضلٌ عظيم ، تلك السيرة العطرة التي نستمد من نورها نوراً ومن ضيائها لَمَعَاناً يُنِيْرُ القلوب ، ونقتبس مها شُعْلَةَ الإيمان ونشعل بها مجامر القلوب التي يسرع انطفاؤها في مهب الريح والعواصف المادية ، فليس أنقى ولا أصدق من قلوب الرعيل الأول الذين سكنوا الدنيا بقلوبٍ مُعَلَقةٌ بالآخرة ، طردوا الدنيا من قلوبهم فكانت في أيديهم ، ما أظلت الخضراء ولا اقلت الغبراء أصدق منهم ، أولئك الذين تعلموا العلم من فم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعلمهم الكتاب والحكمة وزكاهم ، رجالاً آمنوا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمدٍ - صلى الله عليه وسلم - نبياً ورسولا ، كانوا أبرَّ هذه الأمة قلوباً وأعمقها علماً وأقلها تكلفاً ، أئمة الهدى وأعلام التقى ومصابيح الدجى ، من حلية الأولياء وأعلام النبلاء الأضواء اللامعة والنجوم الساطعة الذين اصطفاهم الله تعالى لصحبة أفضل الأنبياء والمرسلين وكفى بذلك فضلاً ، وكفى بذلك فوزاً عظيما ، وتأمل كيف أثنى الله على المهاجرين والأنصار ومن اتبعهم بإحسان قال الله عز وجل: لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [الحشر:8] هذا الفيء لمن؟ للفقراء المهاجرين الذين أصابهم ما أصابهم في سبيل الله وصبروا أولئك هم الصادقون وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ [الحشر:9] ما هي الدار؟ المدينة، من الذي تبوأها قبل المهاجرين؟ الأنصار وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ(1/348)
فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا [الحشر:9] لا يجد الأنصار في صدورهم حقداً ولا حسداً على المهاجرين من الفضل الذي أوتيه المهاجرون، فإن المهاجرين أفضل، لكن الأنصار ما حسدوهم على هذه الأفضلية: وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر:9] والذين جاءوا من بعدهم وساروا على هديهم، الذين جاءوا من بعدهم هم التابعون بإحسان: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ [الحشر:10] وهنا يأتي الشاهد الآن: وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا [الحشر:10] هذا من دعاء التابعين بإحسان، نسأل الله أن يجعلنا منهم (وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا [الحشر:10] لا تجعل في قلوبنا بغضاء ولا حقداً ولا حسداً ولا غلاً للذين آمنوا: رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ [الحشر:10].
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عبد الله ابن وهب، حدثني مالك بن أنس، قال: أن رهباً كان بالشام، فلما رأى أوائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين قدموا الشام ونظرآه، وقال: والذي نفسي بيده ما بلغ حواري عيسى بن مريم عليهما السلام الذين صلبوا على الخشب ونشروا بالمناشير من الاجتهاد ما بلغ أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، قال عبد الله ابن وهب: قلت لمالك بن أنس: تسميهم? فسمى أبا عبيدة، ومعاذاً، وبلالاً وسعد بن عبادة.(1/349)
[*] وأخرج أبو نعيم في حلية الأولياء عن ابن مسعود قال: إن الله نظر في قلوب العباد فاختار محمداً صلى الله عليه وسلم فبعثه إلى خلقه، فبعثه برسالته وانتخبه بعلمه، ثم نظر في قلوب الناس بعده فاختار الله له أصحابه فجعلهم أنصار دينه، ووزراء نبيه صلى الله عليه وسلم فما رآه المؤمنون حسناً فهو حسن، وما رآه المؤمنون قبيحاً فهو قبيح.
فالصحابة لهم فضلٌ عظيم وأجرٌ جسيم على هذه الأمة لأنهم كانوا مثلاً أعلى في اتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - ولاسيما عهد الخلافة الراشدة ومنهاج النبوة خطوة لا بد منها في تحقيق الأهداف التي تسعى الأمة لتحقيقها في هذه الحياة، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - : أمرنا بالتمسك بسنته وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعده كما في الحديث الآتي :
(حديث العرباض بن سارية في صحيحي أبي داوود والترمذي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أوصيكم بتقوى الله و السمع و الطاعة و أن أمر عليكم عبد حبشي فإنه من يعش منكم بعدي فسيري اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي و سنة الخلفاء المهديين الراشدين تمسكوا بها و عضوا عليها بالنواجذ و إياكم و محدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة و كل بدعة ضلالة .(1/350)
إن تاريخ عصر الخلفاء الراشدين مليء بالدروس والعبر وهي متناثرة في بطون الكتب والمصادر والمراجع، سواء كانت تاريخية أو حديثية أو فقهية أو أدبية أو تفسيرية، فنحن في أشد الحاجة لجمعها وترتيبها وتوثيقها وتحليلها، فتاريخ الخلافة الراشدة -إذا أحسن عرضه- يغذي الأرواح ويهذب النفوس, وينور القلوب ويبني العقول، ويشحذ الهمم، ويقدم الدروس، ويسهل العِبَر، وينضج الأفكار، ويوضح معالمها، وصفات قادتها, ونظام حكمها، وأخلاق جيلها، وعوامل ازدهارها، وأسباب زوالها، فنستفيد من ذلك في إعداد الجيل المسلم الذي يتربى على منهاج النبوة وفقه الخلافة الراشدة، ونتعرف على حياة عصر من قال الله تعالى فيهم: ( وَالسَّابِقُونَ الأوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ )"[التوبة: 100].
وقال تعالى ( مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا ) " [الفتح: 29].
والصحابة خير القرون بنص السنة الصحيحة كما في الحديث الآتي :
(حديث ابن مسعود في الصحيحين) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يجيء أقوام تسبق شهادة أحدهم يمينه و يمينه شهادته .
وقد أشاد النبي - صلى الله عليه وسلم - بفضلهم كما في الحديث الآتي :
(حديث أبي سعيد في صحيح البخاري) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (لا تسبوا أصحابي ، فوالذي نفسي بيده ، لو انفق أحدكم مثل جبل أحد ذهبا ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نصيفه ) .(1/351)
[*] وقال فيهم عبد الله بن مسعود: "من كان مستنًّا فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة, أولئك أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - ، كانوا والله أفضل هذه الأمة، وأبرها قلوبا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم في آثارهم، وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم ودينهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم". (1)
فالصحابة قاموا بتطبيق أحكام الإسلام ونشروه في مشارق الأرض ومغاربها فعصرهم خير العصور، فهم الذين علموا الأمة القرآن الكريم، ورووا السنن والآثار عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فتاريخهم هو الكنز الذي حفظ مدخرات الأمة في: الفكر والثقافة والعلم والجهاد، وحركة الفتوحات، والتعامل مع الشعوب والأمم، فتجد الأجيال في هذا التاريخ المجيد ما يعينها على مواصلة رحلتها في الحياة على منهج صحيح، وهدى رشيد، وتعرف من خلاله حقيقة رسالتها ودورها في دنيا الناس .
وهاك غيضٌ من فيض ونقطةٌ من بحر مما ورد في فضل أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - :
[*] أَخرج أَبو نُعيم في الحلية عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: ( إِنَّ الله نظر في قلوب العباد فاختار محمداً صلى الله عليه وسلم فبعثه برسالته وانتخبه بعلمه. ثم نظر في قلوب الناس بعده فاختار الله له أصحاباً، فجعلَهم أَنصارَ دينه ووزراءَ نبيِّه صلى الله عليه وسلم فما رآه المؤمنون حسناً فهو حسنٌ وما رآه المؤمنون قبيحاً فهو عند الله قبيحٌ).
__________
(1) شرح السنة للبغوي (1/214، 215).(1/352)
[*] وأَخرج أبو نُعيم أَيضاً عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (من كان مُستنّاً فليستنَّ بمن قد مات، أولئك أَصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا خير هذه الأمّة، أبرَّها قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلَّها تكلُّفاً، قوم اختارهم الله لصحبة نبيِّه صلى الله عليه وسلم ونقل دينه، فتشبَّهوا بأَخلاقهم وطرائقهم؛ فهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا على الهدى المستقيم والله ربِّ الكعبة: كذا في الحلية وأَخرج أَيضاً عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (أنتم أَكثرُ صياماً وأَكثرُ صلاةً وأَكثرُ اجتهاداً من أَصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم كانوا خيراً منكم قالوا: لِمَ يا أبا عبد الرحمن، قال: هم كانوا أزهد في الدنيا وأَرغب في الآخرة) كذا في الحلية .
[*] وأخرج أيضاً عن أَبي وائل قال: سمع عبد الله رجلاً يقول: أين الزاهدون في الدنيا الراغبون في الآخرة؟ فقال عبد الله: (أولئك أَصحاب الجابية، اشترط خمسُ مائة من المسلمين أن لا يرجعوا حتى يُقتلوا، فحلقوا رؤوسهم ولقُوا العدو فقُتلوا إِلا مخبرٌ عنهم) كذا في حلية الأَولياء .
[*] وأَخرج أيضاً عن ابن عمر رضي الله عنهما أَنه سمع رجلاً يقول: أَين الزاهدون في الدنيا الراغبون في الآخرة ؟ فأَراه قبرَ النبي صلى الله عليه وسلم وأَبي بكر وعمر رضي الله عنهما فقال: (عن هؤلاء تسأَل) كذا في الحلية .(1/353)
[*] وأَخرج ابن أَبي الدنيا عن أَبي أَراكة يقول: صليتُ مع علي رضي الله عنه صلاة الفجر، فلما انفَتَلَ عن يمينه مكث كأَنَّ عليه كآبةً، حتى إِذا كنت الشمس على حائِط المسجد قِيدَ رُمْح صلَّى ركعتين ثم قَلَب يده فقال: ( والله لقد رأَيت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فما أرى اليوم شيئاً يُشبههم لقد كانوا يُصبحون صُفْراً شُعْثاً غُبْراً بين أعينهم كأَمثال رُكَب المِعزى، قد باتوا لله سُجّداً وقياماً، يتلُون كتاب الله، يتراوحون بين جباهم وأقدامهم، فإِذا أَصبحوا فذكروا الله مادُوا كما يميد الشجر في يوم الريح وهملت أعينهم حتى تنبل ثيابهم، والله لكأَنّ القومَ باتوا غافلين) ثم نهض فما رُئِيَ بعد ذلك مفترَّاً يضحك حتى قتله ابن مُلْجَم عدوُّ الله الفاسق، كذا في البداية . وأخرجه أيضاً أبو نُعيم في الحلية والدينَوَرِي والعسكري وابن عساكر كما في الكنز .(1/354)
[*] وأَخرج أبو نعيم أَيضاً عن أبي صالح قال: دخل ضرار بن ضمرة الكِناني على معاوية فقال له: صِفْ لي علياً، فقال: أَوَ تُعْفيني يا أمير المؤمنين؟ قال لا أُعفيك، قال: (أما إِذْ لا بدَّ؛ فإنَّه كان ـ والله ـ بعيد المدى، شديد القوى، يقول فَصْلاً ويحكم عدلاً، يتفجَّرُ العلمُ من جوانبه، وتنطِق الحكمةُ من نواحيه، يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويستأنسُ بالليل وظلمته، كان ـ والله ـ غزير العَبْرة، طويل الفكرة، يقلِّبُ كفّه ويخاطب نفسه، يُعجبه من اللباس ما قَصُر. ومن الطعام ما جَشُب، كان ـ والله ـ كأَحدنا يُدنينا إِذا أتيناه، ويُجيبنا إِذا سأَلناه، وكان مع تقرُّبِه إِلينا وقربهِ منا لا نكلمه هيبة له، فإِن تبسم فَعَنْ مثل اللؤلؤ المنظوم، يُعَظِّمُ أَهل الدين، ويُحبُّ المساكين، لا يطمعُ القويُّ في باطله، ولا ييأَسُ الضعيف من عدله، فأَشْهدُ بالله لقد رأيتُه في بعض مواقفه ـ وقد أَرخى الليل سدوله وغارت نجومه ـ يميلُ في محرابه قابضاً على لحيته، يتململ تململ السليم، ويبكي بكاء الحزين، فكأَني أسمعه الآن وهو يقول: يا ربنا، يا ربنا: يتضرع إِليه ثم يقول للدنيا: إِليَّ تَغَرَّرْتِ؟ إِليَّ تشوَّفتِ؟ هيهات هيهات، غُرِّي غيري، قد بتَتُّكَ ثلاثاً. فعمرُك قصيرٌ، ومجلسُك حقيرٌ، وخطرُك يسير، آه، آه، من قلة الزاد وبعد السفر ووحشةِ الطريق) فَوَكَفَتْ دموع معاوية على لحيته يملكها وجعل ينشفها بكمه ـ وقد اختنق القوم بالبكاء ـ فقال: (كذا كان أبو الحسن رحمه الله، كيف وَجْدُك عليه يا ضرار)؟ قال: "وَجْد مَنْ ذُبح واحدها في حِجْرها، لا ترقأُ دمعتها، ولا يسكن حزنها) ثم قام فخرج. وأَخرجه أيضاً ابن عبد البر في الإستيعاب عن الحِرماني ـ رجل من همْدان ـ عن ضِرار الصُدَائي بمعناه.(1/355)
[*] وأخرج أبو نُعيم عن قتادة قال: سُئل ابن عمر رضي الله عنهما هل كان أَصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يضحكون قال: (نعم والإِيمانُ في قلوبهم أعظمُ من الجبال) كذا في الحلية . وأَخرج هنَّاد عن سعيد بن عمر القرشي أنَّ عمر رضي الله عنه رأى رُفْقة من أهل اليمن رحالهم الأَدَمُ فقال: (من أحبَّ أن ينظر إلى شَبَهٍ كانوا بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلينظر إلى هؤلاء) كذا في كنز العمال .
[*] وأَخرج الحاكم في المستدرك عن أَبي سعيد المَقْبُري قال: لما طُعن أبو عبيدة رضي الله عنه قال: يا معاذُ صلِّ بالناس، فصلى معاذ بالناس، ثم مات أبو عبيدة بن الجراح، فقام معاذ في الناس فقال: (يا أيّها الناس، توبوا إلى الله من ذنوبكم توبة نصوحاً فإِن عبد الله لا يلقى الله تائباً من ذنبه إلا كان حقاً على الله أَن يغفر له. ثم قال: إنكم أيها الناس، قد فُجِعتم برجل ـ والله ـ ما أَزعم أَني رأيت من عباد الله عبداً قطُّ أَقل غِمْراً، ولا أبرأ صدراً، ولا أَبعد غائلة، ولا أَشد حباً للعاقبة، ولا أَنصح للعامة منه، فترحَّموا عليه ثم أَصْحِروا للصلاة عليه، فوالله لا يلي عليكم مثله أبداً). فاجتمع الناس وأُخرج أَبو عبيدة رضي الله عنه وتقدَّم معاذ رضي الله عنه فصلّى عليه، حتى إذا أُتي به قبره دخل قبره معاذ بن جبل وعمرو ابن العاص والضحَّاك بن قيس، فلما وضعوه في لحده وخرجوا فشنّوا عليه التراب، فقال معاذ بن جبل: (يا أبا عبيدة، لأثنِيَنَّ عليك ولا أقول باطلاً أَخاف أَن يلحقني بها من الله مَقْتٌ: كنتَ ـ والله ـ ما علمتُ من الذاكرين الله كثيراً، ومن الذين يمشون على الأَرض هَوْناً وإِذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً، ومن الذين إِذا أَنفقوا لم يُسرفوا ولم يقتُروا وكان بين ذلك قواماً، وكنت والله من المُخبتين، المتواضعين، الذين يرحمون اليتيم والمسكين ويُبغضون الخائنين المتكبرين).(1/356)
[*] وأخرج الطبراني عن رِبْعي بن حِرَاش قال : استأذن عبد الله ابن عباس على معاوية رضي الله عنهم وقد عَلِقت عنده بطون قريش وسعيد ابن العاص جالس عن يمينه، فلما رآه معاوية مقبلاً قال: يا سعيد، والله لأُلقِيَنَّ على ابن عباس مسائل يعيَى بجوابها، فقال له سعيد: ليس مثل ابن عباس يعيى بمسائلك، فلما جلس قال له معاوية: ما تقول في أَبي بكر؟ قال: (رحم الله أبا بكر، كان ـ والله للقرآن تالياً، وعن المَيْل نائياً، وعن الفحشاء ساهياً، وعن المنكر ناهياً، وبدينه عارفاً، ومن الله خائفاً. وبالليل قائماً، وبالنهار صائماً، ومن دنياه سالماً وعلى عدل البرية عازماً، وبالمعروف آمراً وإِليه صائراً، وفي الأحوال شاكراً، ولله في الغدو والرواح ذاكراً، ولنفسه بالمصالح قاهراً. فاق أَصحابه ورعاً وكفافاً وزهداً وعفافاً وبرّاً وحِياطة زهادة وكفاءة، فأعقبَ الله مَنْ ثَلَبه اللعائن إِلى يوم القيامة).
قال معاوية: فما تقول في عمر بن الخطاب؟ قال: (رحم الله أبا حفص، كان ـ والله ـ حليف الإسلام، ومأوى الأيتام، ومحلَّ الإيمان، ومعاذَ الضعفاء، ومعقلَ الحنفاء، للخَلْق حصناً، وللناس عوناً، قام بحق الله صابراً محتسباً حتى أَظهر الله الدين وفتح الديار، وذُكِر الله في الأقطار والمناهل وعلى التلال وفي الضواحي والبقاع، وعند الخَنى وقوراً، وفي الشّدة والرخاء شكوراً، ولله في كل وقت وأَوان ذكوراً، فأَعقب الله من يبغضه اللعنة إِلى يوم الحسرة).
قال معاوية رضي الله عنه: فما تقول في عثمان بن عفان؟ قال: (رحم الله أبا عمرو، كان ـ والله ـ أَكرم الحَفَدة، وأَوصلَ البررة، وأَصبرَ الغزاة، هجّاداً بالأَسحار. كثيرَ الدموع عند ذكر الله، دائمَ الفكر فيما يعنيه الليلَ والنهارَ، ناهضاً إِلى كل مكرمة، يسعى إلى كل منجية، فرّاراً من كل مُوبقة، وصاحب الجيش والبئر، وخَتَن المصطفى على ابنتيه، فأعقب الله من سبَّه الندامة إلى يوم القيامة).(1/357)
قال معاوية: فما تقول في علي بن أبي طالب؟ قال: (رحم الله أَبا الحسن كان ـ والله ـ علمَ الهدى، وكهفَ التقى، ومحل الحجى، وطَوْدَ البهاء، ونور السُّرَى في ظلم الدُّجَى، داعياً إلى المَحَجَّة العظمى، عالماً بما في الصحف الأُولى، وقائماً بالتأويل والذكرى، متعلِّقاً بأسباب الهدى، وتاركاً للجَوْر والأَذى. وحائداً عن طرقات الرَّدَى، وخيرَ من آمن واتقى، وسيِّدَ من تقمَّص وارتدى، وأَفضلَ من حجَّ وسعى، وأسمحَ من عدل وسوَّى، وأَخطبَ أَهل الدنيا إِلا الأنبياء والنبي المصطفى، وصاحب القبلتين، فهل يوازيه موحِّدٌ؟ وزوج خير النساء، وأبو السبطين، لم تَرَ عيني مثله ولا ترى إِلى يوم القيامة واللقاء، من لعنه فعليه لعنةُ الله والعباد إِلى يوم القيامة).
قال: فما تقول في طلحةَ والزبير؟ قال: (رحمة الله عليهما، كانا ـ والله ـ عفيفَين، برّين، مسلمَين، طاهرَين، متطهِّرَين، شهيدَين، عالَمَين، زَلا زلَّة والله غافرٌ لهما إِن شاء الله بالنُّصرة القديمة والصُّحبة القديمة والأفعال الجميلة).
قال معاوية: فما تقول في العبَّاس؟ قال: (رحم الله أَبا الفضل كان ـ والله ـ صِنوَ أَبي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرَّة عين صفيِّ الله، كهف الأقوام، وسيّد الأعمام، وقد عَلا بصراً بالأمور ونظراً بالعواقب. قد زانَه علمٌ، قد تلاشت الأحساب عند ذكر فضيلته، وتباعدت الأسباب عند فخر عشيرته، ولم لا يكون كذلك وقد ساسه أكرم من دبَّ وهب عبدُ المطلب، أفخر من مشى من قريش وركب)؟... فذكر الحديث. قال الهيثمي : رواه الطبراني، وفيه من لم أعرفهم.(1/358)
{ تنبيه } : لقد حاول المستشرقون -ومن قبلهم الروافض- أن ينشروا كل رواية باطلة تنقص من شأن الصحابة الكرام، وتطعن في تاريخ الأمة المجيد، وتصور تاريخهم بأنه صراع على السلطة والسيادة والنفوذ، ولذلك يجب الحذر من كل رافضي كاذب، ومستشرق حاقد، وعلماني جاهل, وكل من سار على نهجهم. ولا بد من الدفاع المستميت عن تاريخنا الخالد والهجوم الشجاع على مناهج الكذابين والمنحرفين، ويكون هذا الهجوم المبارك بقذائف الحق العلمية المملوءة بالحقائق الساطعة والأدلة القاطعة والبراهين الدامغة.
إن صياغة التاريخ الإسلامي بمنهج أهل السنة والجماعة ضرورة ملحة لأبناء الأمة، وقد بدأت أقلام الباحثين والكتاب تصوغ التاريخ من هذا المنظور وهم لم يبدأوا من فراغ؛ لأن الله حمى دينه وحمى أمة الإسلام فقيض لتاريخ الصحابة من يحقق وقائعه ويصحح أخباره، ويكشف الستر عن الوضاعين والكذابين من ملفقي الأخبار، ويرجع الفضل في ذلك التصحيح إلى الله ثم أهل السنة والجماعة من أئمة الفقهاء والمحدثين الذين حفلت مصادرهم بالكثير من الإشارات والروايات الصحيحة التي تنقض وترد كل ما وضعه الملفِّقون (1) .
وهاك نماذج من سيرة أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ورضي الله عنهم :
[*] زهد العشرة المبشرين بالجنة وهم :
(1) أبو بكرٍ الصديق رضي الله عنه :
(2) عمر بن الخطاب رضي الله عنه :
(3) عثمان بن عفان رضي الله عنه :
(4) علي ابن أبي طالب رضي الله عنه :
(5) طلحة ابن عبيد الله رضي الله عنه :
(6) الزبير ابن العوام رضي الله عنه :
(7) عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه :
(8) سعدُ ابن أبي وقاص رضي الله عنه :
(9) سعيدُ ابن زيد رضي الله عنه :
(10) أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه :
__________
(1) المنهج الإسلامي لكتابة التاريخ، د. محمد محزون، ص 4.(1/359)
( حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أبو بكر في الجنة وعمر في الجنة وعثمان في الجنة وعليٌ في الجنة وطلحة في الجنة والزبير في الجنة وعبد الرحمن بن عوف في الجنة وسعدُ ابن أبي وقاص في الجنة وسعيدُ ابن زيد في الجنة وأبو عبيدة بن الجراح في الجنة .
وهاك سيرة بعض أعلام الهدى ومصابيح الدُجى وصورٌ من زهدهم :
[*] سيرة أبي بكرٍ الصديق رضي الله عنه وصورٌ من زهده :
وسوف نتناول شيئين أساسيين في هذه السيرة العطرة وهما :
أولاً : لمحات من سيرة أبي بكرٍ الصديق - رضي الله عنه - :
ثانياً : صورٌ مشرقة من زهد أبي بكر الصدَّيق - رضي الله عنه - :
وهاك تفصيل ذلك :
أولاً : لمحات من سيرة أبي بكرٍ الصديق - رضي الله عنه - :
[*] قال عنه الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء :(1/360)
أبو بكر الصديق، السابق إلى التصديق، الملقب بالعتيق، المؤيد من الله بالتوفيق، صاحب النبي صلى الله عليه وسلم في الحضر والأسفار، ورفيقه الشفيق في جميع الأطوار، وضجيعه بعد الموت في الروضة المحفوفة بالأنوار، المخصوص في الذكر الحكيم بمفخر فاق به كافة الأخيار، وعامة الأبرار، وبقى له شرفه على كرور الأعصار، و لم يسم إلى ذروته همم أولى الأيد والأبصار، حيث يقول عالم الأسرار: ( ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ ) [التوبة : 40] إلي غير ذلك من الآيات والآثار، ومشهور النصوص الواردة فيه والأخبار، التي غدت كالشمس في الانتشار، وفضل كل من فاضل، وفاق كل من جادل وناضل، ونزل فيه: قال تعالى: ( لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ ) [الحديد : 10]. توحد الصديق، في الأحوال بالتحقيق، واختار الاختيار من الله حين دعاه إلى الطريق، فتجرد من الأموال والأعراض، وانتصب في قيام التوحيد للتهدف والأغراض، صار للمحن هدفاً، وللبلاء غرضاً، وزهد فيما عز له جوهراً كان أو عرضاً، تفرد بالحق، عن الالتفات إلى الخلق، وقد قيل إن التصوف الاعتصام بالحقائق، عند اختلاف الطرائق.
اسم أبي بكر الصديق ونسبه وكنيته وألقابه :
هو عبد الله بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة ابن كعب بن لؤي بن غالب القرشي التيمي (1) ، ويلتقي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في النسب في الجد السادس مرة بن كعب (2) ويكنى بأبي بكر، وهي من البكر وهو الفتى من الإبل، والجمع بكارة وأبكر وقد سمَّت العرب بكراً، وهو أبو قبيلة عظيمة (3) ولُقب أبوبكر - رضي الله عنه - ، بألقاب عديدة كلها تدل على سمو المكانة، وعلو المنزلة وشرف الحسب منها:
(1) العتيق :
ـــ ـــ ـــ ـــ
__________
(1) الإصابة لابن حجر (4/144،145).
(2) سيرة وحياة الصديق، مجدي فتحي السيد، ص27.
(3) ابو بكر الصديق، علي الطنطاوي، ص46.(1/361)
لقبّه به النبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ فقد قال له - صلى الله عليه وسلم - : (أنت عتيقُ الله من النار) فسُمِّيَ عتيقاً (1)
( حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيح الترمذي ) أن أبا بكر دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أنت عتيق الله من النار فيومئذٍ سُمِّيَ عتيقا .
(2) الصديق :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
لقبه به النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في الحديث الآتي :
( حديث أنس بن مالك رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صعد أحدا، وأبو بكر وعمر وعثمان، فرجف بهم، فقال: اثبت أحد، فإنما عليك نبي وِصِدِّيْق، وشهيدان).
وقد لقب بالصديق لكثرة تصديقه للنبي - صلى الله عليه وسلم - .
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في السلسلة الصحيحة ) قالت :لما أسري بالنبي - صلى الله عليه وسلم - الى المسجد الاقصى، أصبح يتحدث الناس بذلك، فارتد ناسُ، كانوا آمنوا به وصدقوه وسعى رجال الى أبي بكر، فقالوا: هل لك الى صاحبك؟ يزعم أن أسري به الليله الى بيت المقدس! قال: وقد قال ذلك؟ قالوا: نعم، قال: لئن قال ذلك فقد صدق. قالوا: أو تصدقه أنه ذهب الليلة الى بيت المقدس، وجاء قبل أن يصبح؟!! قال نعم ، إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك، أصدقه بخبر السماء في غدوة أو روحة، فلذلك سمي أبوبكر الصديق .
وقد أجمعت الأمة على تسميته بالصديق لأنه بادر الى تصديق الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولازمه الصدق فلم تقع منه هناة أبداً (2) ، فقد اتصف بهذا اللقب ومدحه الشعراء:
قال أبو محجن الثقفي :
وسُمِّيت صديقاً وكل مهاجر ... ... ... ... ... سواك يُسَمَّى باسمه غير منكر
سبقت الى الاسلام والله شاهد ... ... ... ... ... وكنت جليساً في العريش المشهر (3)
... ...
__________
(1) الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان (15/280) إسناده صحيح.
(2) الطبقات الكبرى (2/172).
(3) أسد الغابة (3/310).(1/362)
وأنشد الأصمعي (1) ، فقال:
ولكني أحبّ بكل قلبي ... ... ... ... ... ... ... ... وأعلم أن ذاك من الصواب
رسول الله والصدِّيق حبَّاً ... ... ... ... ... به أرجو غداً حسن الثواب (2)
(3) الصاحب :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
لقبه به الله عز وجل في القرآن الكريم: { إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } (التوبة، الآية:40)
وقد أجمع العلماء على أن الصاحب المقصود هنا هو أبوبكر - رضي الله عنه - (3) ،
( حديث أنس رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن أبا بكر حدثه فقال: قلت للنبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في الغار: لو أن أحدهم نظر الى قدميه لأبصرنا تحت قدميه!! فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (ياأبابكر ماظنك باثنين الله ثالثهما) .
[*] قال الحافظ ابن حجر رحمه الله : ومن أعظم مناقبه قول الله تعالى: { إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا......... إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا } فإن المراد بصاحبه هنا أبوبكر بلا منازع (4) ، والاحاديث في كونه كان معه في الغار كثيرة شهيرة ولم يشركه في المنقبة غيره (5) .
(4) الأتقى :
ـــ ـــ ـــ
لقبه به الله عز وجل في القرآن العظيم في قوله تعالى: { وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى } (سورة الليل، الآية: 17).
الْأَتْقَى : أي المتقي الخائف .
__________
(1) هو عبدالملك بن قريب الباهلي رواية العرب ونابغة الدنيا في الحفظ.
(2) أبوبكر الصديق للطنطاوي، ص49.
(3) تاريخ الدعوة في عهد الخلفاء، يسري محمد هاني، ص39.
(4) الإصابة في تمييز الصحابة (4/148).
(5) نفس المصدر (4/148).(1/363)
[*] قال ابن عباس : هو أبو بكر - رضي الله عنه - يزحزح عن دخول النار .
(5) الأواه:
ـــ ـــ ــ
لقب أبو بكر بالأواه وهو لقب يدل على الخوف والوجل والخشية من الله تعالى، فعن ابراهيم النخعي قال: كان أبوبكر يسمى بالأواه لرأفته ورحمته (1) .
كنيته : أبو بكر
- مولد أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - :
لم يختلف العلماء في أنه ولد بعد عام الفيل، وإنما اختلفوا في المدة التي كانت بعد عام الفيل، فبعضهم قال بثلاث سنين، وبعضهم ذكر بأنه ولد بعد عام الفيل بسنتين وستة أشهر، وآخرون قالوا بسنتين وأشهر ولم يحددوا عدد الأشهر (2) ، وقد نشأ نشأة كريمة طيبة في حضن أبوين لهما الكرامة والعز في قومهما مما جعل أبا بكر ينشأ كريم النفس، عزيز المكانة في قومه (3) .
- صفة أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - :
كان أبو بكر رضي الله عنه أبيض نحيفاً ، خفيف العارضين ، معروق الوجه ، ناتئ الجبهة ، وكان يخضب بالحناء والكَتَم .
وكان رجلاً اسيفاً أي رقيق القلب رحيماً .
- إسلام أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - :
__________
(1) الطبقات الكبرى (3/171).
(2) سيرة وحياة الصديق، مجدي فتحي السيد، ص29؛ تاريخ الخلفاء، ص56.
(3) تاريخ الدعوة الى الاسلام في عهد الخلفاء الراشدين، ص30.(1/364)
كان إسلام أبي بكر رضي الله عنه وليد رحلة إيمانية طويلة في البحث عن الدين الحق الذي ينسجم مع الفطر السليمة ويلبي رغباتها، ويتفق مع العقول الراجحة، والبصائر النافذة، فقد كان بحكم عمله التجاري كثير الأسفار، قَطَعَ الفيافي، والصحاري، والمدن والقرى في الجزيرة العربية وتنقل من شمالها إلى جنوبها، وشرقها إلى غربها، واتصل اتصالاً وثيقاً، بأصحاب الديانات المختلفة وبخاصة النصرانية، وكان كثير الإنصات لكلمات النفر الذين حملوا راية التوحيد، راية البحث عن الدين القويم (1) ، فقد حدّث عن نفسه فقال: كنت جالساً بفناء الكعبة، وكان زيد بن عمرو بن نُفيْل قاعداً، فمرّ ابن أبي الصَّلْتِ، فقال: كيف أصبحت يا باغي الخير؟ قال: بخير، قال: وهل وجدت؟ قال: لا، فقال: ... ... كل دين يوم القيامة إلا : ... ... ... ... ما مضَى في الحنيفية بُور (2) أما إنّ هذا النبي الذي ينتظر منا أو منكم، قال: ولم أكن سمعت قبل ذلك بنبي يُنتظر ويُبعث، قال: فخرجت أريد ورقة بن نوفل -وكان كثير النظر إلى السماء، كثير همهمة الصّدر- فاستوقفته، ثم قصصت عليه الحديث، فقال: نعم يا ابن أخي، إنّا أهل الكتب والعلوم، ألا إن هذا النبي الذي يُنتظر من أوسط العرب نسباً -ولي علم بالنسب- وقومك أوسط العرب نسباً. قلت: يا عمّ وما يقول النبي؟ قال: يقول ماقيل له؟ إلا إنّه لا يظلم، ولا يُظلم ولا يُظالم، فلما بُعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آمنت به وصدّقته (3) ، وكان يسمع ما يقوله أمية بن أبي الصلت:
في مثل قوله : ألا نبي لنا منا فيخبرنا ... ... ... ... مابعد غايتنا من رأس مجرانا
إني أعوذ بمن حج الحجيج له ... والرافعون لدين الله أركانا
__________
(1) مواقف الصديق مع النبي بمكة، د.عاطف لماضة، ص6.
(2) تاريخ الخلفاء للسيوطي، ص52.
(3) تاريخ الخلفاء للسيوطي، ص52.(1/365)
لقد عايش أبو بكر هذه الفترة، ببصيرة نافذة، وعقل نير، و فكر متألق، وذهن وقاد، وذكاء حاد، وتأمل رزين ملأ عليه أقطار نفسه، ولذلك حفظ الكثير من هذه الأشعار، ومن تلك الأخبار، فعندما سأل الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - أصحابه يوماً -وفيهم أبو بكر الصديق قائلاً: من منكم يحفظ كلام -قيس بن ساعدة- في سوق عكاظ؟ فسكت الصحابة، ونطق الصديق قائلاً: إني أحفظها يا رسول الله، كنت حاضراً يومها في سوق عكاظ ، ومن فوق جمله الأورق وقف قيس- يقول: أيها الناس: اسمعوا وَعُوا، وإذا وعيتم فانتفعوا إن من عاش مات ومن مات فات، وكل ماهو آتٍ، آت، إن في السماء لخبراً، وإنَّ في الأرض لعبراً، مهاد موضوع، وسقف مرفوع، ونجوم تمور، وبحار لن تغور، ليل داج، وسماء ذات أبراج!!
يُقسم قيس، إن لله ديناً هو أحب إليه من دينكم الذي أنتم عليه. مالي أرى الناس يذهبون، ولايرجعون، أرضوا بالمقام فأقاموا، أم تركوا فناموا ثم أنشد قائلاً:
في الذاهبين الأولين ... من القرون لنا بصائر ... لما رأيت موارداً ... للموت ليس لها مصائر
ورأيت قومي نحوها ... يسعى الأكابر والأصاغر ... أيقنت أني لامحالة ... حيث صار القوم صائر (1)
وبهذا الترتيب الممتاز، وبهذه الذاكرة الحديدية، وهي ذاكرة استوعبت هذه المعاني يقص الصديق ماقاله قس بن ساعدة على رسول الله وأصحابه (2) .
وقد رأى رؤيا لما كان في الشام فقصّها على بحيرا الراهب (3) ، فقال له: من أين أنت؟ قال: من مكة، قال: من أيها؟ قال: من قريش، قال: فأي شيء أنت؟ قال: تاجر، قال: إن صدق الله رؤياك، فإنه يبعث بنبي من قومك، تكون وزيره في حياته، وخليفته بعد موته، فأسر ذلك أبو بكر في نفسه (4) .
__________
(1) مواقف الصديق مع النبي بمكة، ص8.
(2) نفس المصدر ، ص9.
(3) الخلفاء الراشدون، محمود شاكر، ص34.
(4) نفس المصدر، ص34.(1/366)
لقد كان إسلام الصديق بعد بحث وتنقيب وانتظار وقد ساعده على تلبية دعوة الإسلام معرفته العميقة وصلته القوية بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في الجاهلية، فعندما نزل الوحي على النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذ يدعو الأفراد إلى الله وقع أول اختياره على الصديق رضي الله عنه، فهو صاحبه الذي يعرفه قبل البعثة بدماثة خلقه، وكريم سجاياه، كما يعرف أبو بكر النبي بصدقه وأمانته، وأخلاقه التي تمنعه من الكذب على الناس فكيف يكذب على الله (1) ؟
فعندما فاتحه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدعوة الله وقال له: .. إني رسول الله ونبيه، بعثني إلى الله وحده لاشريك له، ولاتعبد غيره، والموالاة على طاعته (2) ، فأسلم الصديق ولم يتلعثم وتقدم ولم يتأخر، وعاهد رسول الله على نصرته فقام بما تعهد ولهذا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حقه: إن الله بعثني إليكم فقلتم كذبت وقال أبو بكر صدق، وواساني بنفسه وماله فهل أنتم تاركو لي صاحبي؟ مرتين .
__________
(1) تاريخ الدعوة في عهد الخلفاء الراشدين، ص44.
(2) السيرة النبوية لابن هشام (1/286)؛ السيرة الحلبية (1/440).(1/367)
( حديث أبي الدرداء رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري ) قال :كنت جالسا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أقبل أبو بكر آخذا بطرف ثوبه، حتى أبدى عن ركبته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أما صاحبكم فقد غامر). فسلم وقال: إني كان بيني وبين ابن الخطاب شيء، فأسرعت إليه ثم ندمت، فسألته أن يغفر لي فأبى علي، فأقبلت إليك، فقال: (يغفر الله لك يا أبا بكر). ثلاثا، ثم إن عمر ندم فأتى منزل أبي بكر، فسأل: أثم أبو بكر، فقالوا: لا، فأتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسلم، فجعل وجه النبي صلى الله عليه وسلم يتمعر، حتى أشفق أبو بكر، فجثا على ركبتيه فقال: يا رسول الله، والله أنا كنت أظلم، مرتين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله بعثني إليكم فقلتم كذبت، وقال أبو بكر صدق. وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركوا لي صاحبي). مرتين، فما أوذي بعدها.
وبذلك كان الصديق رضي الله عنه أول من أسلم من الرجال الأحرار، قال إبراهيم النخعي، وحسان بن ثابت وابن عباس وأسماء بنت أبي بكر: أول من أسلم أبو بكر. وقال يوسف بن يعقوب الماجشون: أدركت أبي ومشيختنا: محمد بن المنكدر، وربيعة بن عبدالرحمن، وصالح بن كيسان وسعد بن ابراهيم وعثمان بن محمد الأخنس وهم لايشكون أن أول القوم إسلاماً أبو بكر (1) ،
[*] عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:
أول من صلى أبو بكر ثم تمثل بأبيات حسان:
إذا تذكرت شجواً من أخي ثقة ... فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلا
خير البرية أتقاها وأعدلها ... إلا النبي وأوفاها بما حملا
الثاني التالي المحمود مشهده ... وأول الناس صدق الرسلا (2)
وثاني أثنين في الغار المنيف وقد ... ... ... ... طاف العدو به إذ صعد الجبلا
وعاش حميداً لأمر الله متبعاً ... ... ... ... بهدى صاحبه الماضي وما انتقلا
__________
(1) صفة الصفوة (1/237)؛ احمد فضائل الصحابة (3/206).
(2) ديوان حسان بن ثابت تحقيق وليد عرفات (1/17).(1/368)
وكان حب رسول الله قد علموا ... ... ... ... من البرية لم يعدل به رجلا (1)
وبإسلام أبي بكر عمٍّ السرور قلب النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: فلما فرغ من كلامه -أي النبي - صلى الله عليه وسلم - أسلم أبو بكر فانطلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عنده، ومابين الأخشبين أحد أكثر سروراً منه بإسلام أبي بكر (2) . لقد كان أبوبكر كنزاً من الكنوز ادخره الله تعالى لنبيه وكان من أحب قريش لقريش، فذلك الخلق السمح الذي وهبه الله تعالى إياه جعله من الموطئين أكنافاً، من الذين يألفون ويؤلفون، والخلق السمح وحده عنصر كافٍ لإلفة القوم وهو الذي قال فيه عليه الصلاة والسلام: أرحم أمتي بأمتي أبوبكر ، كما في الحديث الآتي :
(حديث أنس بن مالك رضي الله عنه الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أرحم أمتي بأمتي أبو بكر وأشدهم في دين الله عمر وأصدقهم حياء عثمان وأقضاهم علي بن أبي طالب وأقرؤهم لكتاب الله أبي بن كعب وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل وأفرضهم زيد بن ثابت ألا وإن لكل أمة أمينا وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح .
__________
(1) ديوان حسان (1/17).
(2) البداية والنهاية (3/29).(1/369)
وعلم الأنساب عند العرب، وعلم التاريخ هما أهم العلوم عندهم، ولدى أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - النصيب الأوفر منهما، وقريش تعترف للصدِّيق بأنه أعلمها بأنسابها وأعلمها بتاريخها، ومافيه من خير وشر، فالطبقة المثقفة ترتاد مجلس أبي بكر لتنهل منه علماً لا تجده عند غيره غزارة ووفرة وسعة، ومن أجل هذا كان الشباب النابهون والفتيان الأذكياء يرتادون مجلسه دائماً، إنهم الصفوة الفكرية المثقفة التي تود أن تلقى عنده هذه العلوم، وهذا جانب آخر من جوانب عظمته، وطبقة رجال الأعمال، ورجال المال في مكة، هي كذلك من رواد مجلس الصديق، فهو إن لم يكن التاجر الأول في مكة، فهو من أشهر تجارها، فأرباب المصالح هم كذلك قصاده، ولطيبته وحسن خلقه تجد عوام الناس يرتادون بيته، فهو المضياف الدمث الخلق ، الذي يفرح بضيوفه، ويأنس بهم، فكل طبقات المجتمع المكي تجد حظها عند الصديق رضوان الله عليه (1) ، كان رصيده الأدبي والعلمي والاجتماعي في المجتمع المكي عظيماً، ولذلك عندما تحرك في دعوته للاسلام استجاب له صفوة من خيرة الخلق (2) .
- مناقب أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - :
ما حاز رجل الفضائل مثل ما حاز أبو بكر رضي الله عنه، فقد سبق إلى الإيمان ، وصحب النبي صلى الله عليه وسلم وصدّقه ، واستمر معه في مكة طول إقامته رغم ما تعرّض له من الأذى ، ورافقه في الهجرة ، وهاك غيضاً من فيض ونقطةً من بحر مما ورد في مناقبه - رضي الله عنه - جملةً وتفصيلاً:
أولاً مناقب أبي بكر جملة ً :
(1) إنه أفضل هذه الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم بنص السنة الصحيحة :
(2) أبو بكر أول من أظهر الإسلام بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
(3) دعوة أبي بكر - رضي الله عنه - :
(4) وهو ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ :
__________
(1) انظر: التربية القيادية للغضبان (1/115).
(2) نفس المصدر (1/116).(1/370)
(5) وهو أول الخلفاء الراشدين الذي أمرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - أن نقتدي بهم:
(6) ورع أبي بكرٍ الصديق - رضي الله عنه - :
(7) تفقده لأحوال الناس ومحتاجيهم :
(8) وكان أبو بكر ممن يُفتي على عهد النبي صلى الله عليه وسلم :
(9) إنفاق أبي بكر رضي الله عنه ماله كله عند الهجرة :
(10) وأنفق ماله كله لما حث النبي صلى الله عليه وسلم على النفقة :
(11) ومن مناقبه أنه أحب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم :
(12) ومن مناقبه رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذه أخاً له :
(13) ومن مناقبه رضي الله عنه أن الله زكّاه :
(14) ومن مناقبه رضي الله عنه أنه يُدعى من أبواب الجنة كلها :
(15) ومن مناقبه أنه جمع خصال الخير في يوم واحد :
(16) ومن مناقبه رضي الله عنه أن وصفه رجل المشركين بمثل ما وصفت خديجة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم .
(17) وجمع بيت أبي بكر وآل أبي بكر من الفضائل الجمة الشيء الكثير الذي لم يجمعه بيت في الإسلام .
(18) غضبه إذا انتهكت حرمات الله تعالى :
(19) حفظ سر النبي - صلى الله عليه وسلم - :
(20) الصديق وآية صلاة الجمعة:
(21) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينفي الخيلاء عن أبي بكر :
(22) أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر:
(23) إكرامه للضيوف :
(24) ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر:
(25) انتصار النبي للصديق رضي الله عنه:
(26) قل: غفر الله لك يا أبا بكر:
(27) مسابقته في الخيرات:
(28) كظمه للغيظ :
(29) بلى والله إني أحب أن يغفر الله لي:
(30) غيرة الصديق - رضي الله عنه - وتزكية النبي - صلى الله عليه وسلم - لزوجه:
(31) خوفه من الله تعالى :
(32) رسوخ إيمانه بالله تعالى :
(33) علمه رضي الله تعالى عنه :
(34) دعاؤه وشدة تضرعه - رضي الله عنه - :
(35) دفاعه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - :
(36) أنه أول العشرة المبشرين بالجنة وأفضلهم :(1/371)
(37) ومن أعظم مناقبه - رضي الله عنه - أن أحق الناس بالخلافة بالكتاب والسنة والإجماع :
(38) أعماله العظيمة :
(39) إكرامه لأهل البيت :
ثانياً مناقب أبي بكر تفصيلا ً :
(1) إنه أفضل هذه الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم بنص السنة الصحيحة :
( حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح البخاري ) قال: كنا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لا نعدل بأبي بكر أحدا، ثم عمر، ثم عثمان، ثم نترك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا نفاضل بينهم.
( حديث أبي الدرداء رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري ) قال: كنت جالساً مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ أقبل أبو بكر آخذاً بطرف ثوبه حتى أبدى عن ركبته، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (أما صاحبكم فقد غامر) (1) ، فسلم، وقال: يارسول الله إنه كان بيني وبين ابن الخطاب شيء فأسرعت إلي ثم ندمت، فسألته أن يغفر لي فأبي علي، فأقبلت إليك. فقال: يغفر الله لك ياأبابكر ثلاثاً. ثم إن عمر ندم فأتى منزل أبي بكر فسأل : أثم أبو بكر؟ قالوا: لا. فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فسلم عليه، فجعل وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتمعر (2) ، حتى أشفق أبو بكر (3) فجثى على ركبتيه فقال يا رسول الله: والله أنا كنت أظلم مرتين (4) ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : إن الله بعثني إليكم فقلتم: كذبت، وقال أبوبكر: صدق، وواساني بنفسه وماله (5) ، فهل أنتم تاركوا لي صاحبي مرتين. فما أوذي بعدها .
__________
(1) غامر: خاصم. أي دخل في غمرة الخصومة.
(2) يتمعر: تذهب نضارته من الغضب.
(3) أن يكون لعمر من الرسول مايكره.
(4) لأنه هو الذي بدأ.
(5) المراد به أن صاحب المال يجعل يده ويد صاحبه في ماله سواء.(1/372)
وفي هذه القصة دروس وعبر كثيرة منها؛ الطبيعة البشرية للصحابة وما يحدث بينهم من خلاف، وسرعة رجوع المخطئ وطلب المغفرة والصفح من أخيه، تواد الصحابة فيما بينهم، مكانة الصديق الرفيعة عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم أصحابه.......الخ.
(2) أبو بكر أول من أظهر الإسلام بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
(حديث بن مسعود رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجه ) قال كان أول من أظهر إسلامه سبعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمار وأمه سمية وصهيب وبلال والمقداد فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنعه الله بعمه أبي طالب وأما أبو بكر فمنعه الله بقومه وأما سائرهم فأخذهم المشركون وألبسوهم أدراع الحديد وصهروهم في الشمس فما منهم من أحد إلا وقد واتاهم على ما أرادوا إلا بلالا فإنه هانت عليه نفسه في الله وهان على قومه فأخذوه فأعطوه الولدان فجعلوا يطوفون به في شعاب مكة وهو يقول أحد أحد .
(3) دعوة أبي بكر - رضي الله عنه - :(1/373)
قال ابن إِسحاق: فلمَّا أسلم أبو بكر رضي الله عنه وأظهر إِسلامه دعا إلى الله عزّ وجلّ، وكان أبو بكر رجلاً مأْلَفاً لقومه ومحبَّباً سَهْلاً، وكان أنسب قريش لقريش، وأعلم قريش بما كان فيها من خير وشر. وكان رجلاً تاجراً ذا خُلُق ومعروف، وكان رجال قومه يأتونه ويألفونه لغير واحد من الأمر: لعله، وتجارته، وحسن مجالسته. فجعل يدعو إلى الله وإلى الإِسلام من وثق به من قومه ممَّن يَغْشاه ويجلس إِليه. فأسلم على يديه فيما بلغني: الزبير بن العوام، وعثمان بن عفان، وطلحة بن عبيد الله، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف، رضي الله عنهم، فانطلقوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعهم أبو بكر فعرض عليهم الإِسلام، وقرأ عليهم القرآن، وأنبأهم بحقِّ الإِسلام فآمنوا، وكان هؤلاء النفر الثمانية الذين سبقوا في الإِسلام صدّقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وآمنوا بما جاء من عند الله، كذا في البداية .
(4) وهو ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ :
قال تعالى: { إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } (سورة التوبة، آية:40).
[*] قال السهيلي : ألا ترى كيف قال : لا تحزن ولم يقل لا تخف ؟ لأن حزنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم شغله عن خوفه على نفسه .
( حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) قال:قلت للنبي صلى الله عليه وسلم وأنا في الغار: لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا، فقال: (ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما).(1/374)
ولما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يدخل الغار دخل قبله لينظر في الغار لئلا يُصيب النبي صلى الله عليه وسلم شيء .
ولذا لما ذكر رجال على عهد عمر رضي الله عنه فكأنهم فضّلوا عمر على أبي بكر رضي الله عنهما ، فبلغ ذلك عمر رضي الله عنه فقال : والله لليلة من أبي بكر خير من آل عمر ، وليوم من أبي بكر خير من آل عمر ، لقد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لينطلق إلى الغار ومعه أبو بكر ، فجعل يمشي ساعة بين يديه وساعة خلفه ، حتى فطن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا أبا بكر مالك تمشي ساعة بين يدي وساعة خلفي ؟ فقال : يا رسول الله أذكر الطلب فأمشي خلفك ، ثم أذكر الرصد فأمشي بين يديك . فقال :يا أبا بكر لو كان شيء أحببت أن يكون بك دوني ؟ قال : نعم والذي بعثك بالحق ما كانت لتكون من مُلمّة إلا أن تكون بي دونك ، فلما انتهيا إلى الغار قال أبو بكر : مكانك يا رسول الله حتى استبرئ الجحرة ، فدخل واستبرأ ، قم قال : انزل يا رسول الله ، فنزل . فقال عمر : والذي نفسي بيده لتلك الليلة خير من آل عمر . رواه الحاكم والبيهقي في دلائل النبوة .
(5) وهو أول الخلفاء الراشدين الذي أمرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - أن نقتدي بهم: كما في الحديث الآتي :
(حديث العرباض بن سارية في صحيحي أبي داوود والترمذي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أوصيكم بتقوى الله و السمع و الطاعة و أن أمر عليكم عبد حبشي فإنه من يعش منكم بعدي فسيري اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي و سنة الخلفاء المهديين الراشدين تمسكوا بها و عضوا عليها بالنواجذ و إياكم و محدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة و كل بدعة ضلالة .
واستقر خليفة للمسلمين دون مُنازع ، ولقبه المسلمون بـ " خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
( حديث حذيفة رضي الله عنه الثابت صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : اقتدوا باللذين بعدي أبي بكر وعمر .(1/375)
[*] قال لعلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:
فقوله - صلى الله عليه وسلم - : (اقتدوا باللذين من بعدي) أي: بالخليفتين اللذين يقومان من بعدي وهما أبوبكر وعمر وحث على الا قتداء بهما لحسن سيرتهما وصدق سريرتهما، وفي الحديث إشارة لأمر الخلافة (1) .
(6) ورع أبي بكرٍ الصديق - رضي الله عنه - :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ
( حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيح البخاري ) ، قالت : كان لأبي بكرٍ الصديق رضي الله عنهُ ، غلام يخرجُ لهُ الخرج وكان أبو بكرٍ يأكلُ من خراجه، فجاء يوماً بشيءٍ ، فأكل منه أبو بكرٍ، فقال له الغلامُ: تدري ما هذا؟ فقال أبو بكرٍ؟ وما هو؟ قال: كنت تكهنت لإنسانٍ في الجاهلية وما أحسنُ الكهانةَ إلا أني خدعتهُ، فلقيني فأعطاني بذلك هذا الذي أكلت منهُ، فأدخل أبو بكرٍ يده فقاء كلَّ شيءٍ في بطنهِ .
وكان أبو بكر يخارجه : يعني يدعه يشتغل ويضرب عليه خراجاً معيناً، يقول: أئتِ لي كل يوم بكذا وكذا، وما زاد فهو لك.
وهذه المخارجة جائزة بالنسبة للعبيد، إذا كان الإنسان عنده عبيد وقال لهم: اذهبوا اشتغلوا وأتوني كل يوم بكذا وكذا من الدراهم وما زاد فهو لكم؛ فإن هذا جائز؛ لأن العبيد ملك للسيد، فما حصَّلوه فهو له سواء خارجهم على ذلك أم لم يخارجهم.
لكن فائدة المخارجة أن العبد إذا حصَّل ما اتفق عليه مع سيده فإن له أن يبقى من غير عمل، أن يبقى في طلب العلم، أن يبقى مستريحاً في بيته أو أن يشتغل ويأخذ ما زاد.
أما بالنسبة للعمال الذين يجلبهم الإنسان إلى البلاد ويقول: اذهبوا وعليكم كل شهر كذا وكذا من الدراهم، فإن هذا حرامٌ وظلم ومخالف لنظام الدولة، والعقد على هذا الوجه باطل، فليس لصاحب العمل شيء مما فرضه على هؤلاء العمال؛ لأن العامل ربما يكدح ويتعب ولا يحصل ما فرضه عليه كفيله، وربما لا يحصل شيئاً أبداً، فكان في هذا ظلم.
__________
(1) تحفة الاحوذي بشرح الترمذي (10/147).(1/376)
أما العبيد فهم عبيد الإنسان، مالهم وما في أيديهم فهو له.
هذا الغلام لأبي بكر، كان أبو بكر قد خارجه على شيء معين يأتي به إليه كل يوم، وفي يوم من الأيام قدّم هذا الغلام طعاماً لأبي بكر فأكله فقال: أتدري ما هذا؟ قال : وما هو؟ قال : هذا عوض عن أجرة كهانة تكهنت بها في الجاهلية وأنا لا أحسن الكهانة، لكنى خدعت الرجل فلقيني فأعطاني إياها.
وعوض الكهانة حرام، سواء كان الكاهن يحسن صنعة الكهانة أو لا يحسن؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن (( حُلوان الكاهن)) كما في الحديث الآتي :
( حديث أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) قال:
نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب، ومهر البغي، وحُلوان الكاهن.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
( نهى عن ثمن الكلب ومهر البغي وحلوان الكاهن ) أي ما يأخذه على كهانته عن إخباره عن الكائنة المستقبلة بزعمه وهو بضم الحاء وسكون اللام من حلوت الرجل حبوته بشيء أعطيته إياه أو من الحلاوة شبه ما يعطى الكاهن بشيء حلو لأخذه إياه سهلاً بلا كلفة يقال حلوته أطعمته الحلو والنهي يشمل الآخذ والمعطي وفي الأحكام السلطانية ينهى المحتسب من يتكسب بالكهانة واللهو ويؤدَّب عليه الآخذ والمعطي .
فلما قال لأبي بكر هذه المقالة، أدخل أبو بكر يده في فمه فقاء كلّ ما أكل ، كل ما أكل قاءه وأخرجه من بطنه لماذا؟ لئلا يتغذى بطنه بحرام. وهذا مال حرام؛ لأنه عوض عن حرام، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( إن الله إذا حرَّم شيئاً حرَّم ثمنه)).
فالأجرة على فعل الحرام حرام، ومن ذلك تأجير بعض الناس دكاكينهم على الحلاقين الذين يحلقون اللحى، فإن هذه الأجرة حرام ولا تحل لصاحب الدكان؛ لأنه استؤجر منه لعمل محرم.(1/377)
ومن ذلك أيضاً تأجير البنوك في المحلات، فإن تأجير البنوك حرام؛ لأن البنك معاملته كلها أو غالبها حرام، وإذا وجد فيه معاملة حلال؛ فهي خلاف الأصل الذي من أجله أنشأ هذا البنك، الأصل في إنشاء البنوك أنها للربا، فإذا أجرَّ الإنسان بيته أو دكانه للبنك فتعامل فيه بالربا فإن الأجرة حرامٌ ولا تحل لصاحب البيت أو صاحب الدكان.
وكذلك من أجَّر شخصاً يبيع المجلات الخليعة أو المفسدة في الأفكار الرديئة ومصادمة الشرع؛ فإنه لا يجوز تأجير المجلات لمن يبيع هذه المحلات؛ لأن الله تعالى قال ( وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإثْمِ وَالْعُدْوَانِ )(المائدة:2) ، وتأجير المحلات لهؤلاء معونة لهم، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( إن الله إذا حرَّم شيئاً حرَّم ثمنه)).
وفي هذا الحديث دليلٌ على شدة ورع أبي بكر رضي الله عنه، فهو جدير بهذا؛ لأنه الخليفة الأول على هذه الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم، ولهذا كان قول أهل السنة والجماعة إن أبا بكر رضي الله عنه أفضل هذه الأمة؛ لأنه الخليفة الأول.
لقد ضرب أبي بكر - رضي الله عنه - أروع المثل في تحرى الحلال في مطعمه ومشربه، ويتجنب الشبهات، وهذه الخصلة تدل على بلوغه درجات عُليا في التقوى، ولا يَخفَى أهمية طيب المطعم والمشرب والملبس في الدين، وعلاقة ذلك بإجابة الدعاء (1) ، كما في الحديث الآتي :
__________
(1) التاريخ الاسلامي للحميدي (19/13).(1/378)
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (إنّ الله طَيّبٌ ولاَ يَقْبَلُ إلاّ طَيّباً، وَإِنّ الله أمَرَ المُؤْمِنِينَ بِمَا أمَرَ بِهِ المُرْسَلِينَ، قال تعالى:(يَا أَيّهَا الرّسُلُ كُلُوا مِنَ الطّيّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إني بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ)وَقالَ تعالى : (يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ للّهِ إِن كُنْتُمْ إِيّاهُ تَعْبُدُونَ) ثم َذَكَرَ الرّجُلَ يُطِيلُ السّفَرَ أشْعَثَ أغْبَرَ يَمُدّ يَدَيه إلَى السّمَاءِ يارب يارب وَمَطْعَمُهُ حَرَامُ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ فَانّى يُسْتَجَابُ له.
ورع أبي بكر في مال المسلمين :
رد أبي بكر الصديق رضي الله عنه المال قصة ردِّه رضي الله عنه وظيفته من بيت المال
أخرج البيهقي عن الحسن أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه خطب الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إنَّ أكيسَ الكَيْس التقوى ـ فذكر الحديث، وفيه: فلما أصبح غدا إِلى السوق فقال له عمر رضي الله عنه: أين تريد؟ قال: السوق، قال: قد جاءك ما يشغلك عن السوق، قال: سبحان الله، يشغلني عن عيالي قال: نفرض بالمعروف؛ قال: ويحَ عمر إِني أخاف أن لا يسعني أن آكل من هذا المال شيئاً. قال: فأنفقَ في سنتين وبعض أخرى ثمانية آلاف درهم، فلما حضره الموت قال: قد كنت قلت لعمر: إني أخاف أن لا يسعَني أن آكل من هذا المال شيئاً، فغلبني؛ فإذا أنا متُّ فخذوا من مالي ثمانية آلاف درهم وردوها في بيت المال قال: فلما أُتي بها عمر قال: رحم الله أبا بكر، لقد أتعب من بعده تعباً شديداً.
ما وقع بينه وبين أم المؤمنين عائشة في هذا الأمر :
وأخرج ابن سعد عن أبي بكر بن حفص بن عمر قال: جاءت عائشة رضي الله عنها إلى أبي بكر رضي الله عنه وهو يعالج ما يعالج الميت ونَفَسُه في صدره، فتمثَّلَتْ هذا البيت:(1/379)
لعمرُك ما يغني الثراءُ عنِ الفتى إذا حَشْرجَتْ يوماً وضاق بها الصدر ، فنظر إليها كالغضبان ثم قال: ليس كذاك يا أم المؤمنين ولكن { وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ } (ق: 19)، إنِّي قد كنت نحلتك حائطاً، وإِن في نفسي منه شيئاً، فردِّيه إلى الميراث. قالت: نعم، فرددته؛ فقال: أما إنَّا منذ وُلِّينا أمر المسلمين لم نأكل لهم ديناراً ولا درهماً، ولكنَّا قد أكلنا من جريش طعامهم في بطوننا، ولبسنا من خشن ثيابهم على ظهورنا، وليس عندنا من فَيء المسلمين قليل ولا كثير إلا هذا العبد الحبشي، وهذا البعير الناضح، وجَرْد هذه القطيفة؛ فإذا متُّ فابعثي بهنَّ إِلى عمر وابرئي منهن، ففعلت. فلما جاء الرسول عمر بكى حتى جعلت دموعه تسيل في الأرض ويقول: رحم الله، أبا بكر، لقد أتعب من بعده رحم الله أبا بكر، لقد أتعب من بعده يا غلام إرفعهنَّ. فقال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: سبحان الله، تسلُب عيال أبي بكر عبداً حبشياً وبعيراً ناضحاً وجَرْدَ قطيفة ثمنَ خمسة الدراهم؟ قال: فما تأمر؟ قال: تردهنَّ على عياله، فقال: لا والذي بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالحق ـ أو كما حلف ـ لا يكون هذا في ولايتي أبداً، ولا خرج أبو بكر منهنَّ عند الموت وأردهن (أنا) على عياله الموت أقرب من ذلك.
(7) تفقده لأحوال الناس ومحتاجيهم :
أخرج الخطيب عن أبي صالح الغِفاري أنَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يتعاهد عجوزاً كبيرة عمياء في حواشي المدينة من الليل، فيستسقي لها ويقوم بأمرها، وكان إذا جاءها وجد غيره قد سبقه إليها فأصلح ما أرادت. فجاءها غير مرّة فلا يُسبق إليها، فرصده عمر فإذا هو بأبي بكر الصديق ـ رضي الله عنهما ـ الذي يأتيها وهو خليفة. فقال لعمر: أنت لعمري كذا في منتخب الكنز .
(8) وكان أبو بكر ممن يُفتي على عهد النبي صلى الله عليه وسلم :(1/380)
ولذا بعثه النبي صلى الله عليه وسلم أميراً على الحج في الحجّة التي قبل حجة الوداع
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) قال: بعثني أبو بكر في تلك الحجة، في مؤذنين يوم النحر، نؤذن بمنى: ألا لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، قال حميد بن عبد الرحمن: ثم أردف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليا، فأمره أن يؤذن بـ "براءة". قال أبو هريرة: فأذن معنا علي في أهل منى يوم النحر: لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان .
(9) إنفاق أبي بكر رضي الله عنه ماله كله عند الهجرة :
أخرج ابن إسحاق عن أسماء رضي الله عنها قالت: لمَّا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرج أبو بكر رضي الله عنه معه إحتمل أبو بكر مالَه كله معه ـ خمسة آلاف درهم، أو ستة آلاف درهم ـ، فانطلق بها معه. قالت: فدخل علينا جدِّي أبو قحافة وقد ذهب بصره، فقال: والله إني لأُراه قد فجعكم بماله مع نفسه. قالت: قلت: كلا يا أبت، إِنه قد ترك لنا خيراً كثيراً. قالت: وأخذت أحجاراً فوضعتها في كوّة في البيت الذي كان أبي يضع ماله فيها، ثم وضعت عليها ثوباً ثم أخذت بيده فقلت: يا أبت ضع يدك على هذا المال. قالت: فوضع يده عليه فقال: لا بأس، إذا كان قد ترك لكم هذا فقد أحْسَن، وفي هذا بَلاغٌ لكم؛ ولا ـ والله ـ ما ترك لنا شيئاً، ولكن أردت أن أُسَكِّن الشيخ بذلك، كذا في البداية . وأخرجه أحمد والطبراني بنحوه. قال الهيثمي : رجال أحمد رجال الصحيح غير ابن إسحاق، وقد صرح بالسماع. انتهى.
(10) وأنفق ماله كله لما حث النبي صلى الله عليه وسلم على النفقة :
علم النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه كيف ينفقون الأموال وما أعطاهم الله تبارك وتعالى في سبيل الله ومواقع رضاء الله، وكيف كان ذلك أحبَّ إليهم من الإِنفاق على أنفسهم، وكيف كانوا يُؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ، وقد ضرب أبو بكر أروع المثل في ذلك يوم أنفق ماله كله .(1/381)
( حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه الثابت في صحيحي أبي داوود و الترمذي ) قال : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما أن نتصدق ، فوافق ذلك مالا عندي فقلت: اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يوما ، فجئت بنصف مالي ، فقال [ لي ] رسول الله صلى الله عليه وسلم: "" ما أبقيت لأهلك ؟ "" فقلت: مثله ، قال: وأتى أبو بكر [ رضي الله عنه ] بكل ما عنده ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "" ما أبقيت لأهلك ؟ "" قال: أبقيت لهم الله ورسوله قلت: لا أسابقك إلى شىء أبدا .
[*] قال صاحب تحفة الأحوذي :
قَوْلُهُ: ( أَنْ نَتَصَدَّقَ ) أَيْ: فِي بَعْضِ الْجِهَاتِ
( وَوَافَقَ ذَلِكَ عِنْدِي مَالًا ) أَيْ: صَادَفَ أَمْرُهُ بالتَّصَدُّقِ حُصُولَ مَالٍ عِنْدِي، فَعِنْدِي حَالٌ مِنْ مَالٍ، وَالْجُمْلَةُ حَالٌ مِمَّا قَبْلَهُ يَعْنِي: وَالْحَالُ أَنَّهُ كَانَ لِي مَالٌ كَثِيرٌ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ
( الْيَوْمَ أَسْبِقُ أَبَا بَكْرٍ من مناقبه ) أَيْ: بِالْمُبَارَزَةِ، أَوْ بِالْمُبَالَغَةِ
( إِنْ سَبَقْتُهُ يَوْمًا ) أَيْ: مِنَ الْأَيَّامِ وَإِنْ شَرْطِيَّةٌ دَلَّ عَلَى جَوَابِهَا مَا قَبْلَهَا، أَوِ التَّقْدِيرُ إِنْ سَبَقْتُهُ يَوْمًا فَهَذَا يَوْمُهُ، وَقِيلَ: إِنْ نَافِيَةٌ أَيْ: مَا سَبَقْتُهُ يَوْمًا قَبْلَ ذَلِكَ فَهُوَ اسْتِئْنَافُ تَعْلِيلٍ ( قَالَ ) أَيْ: عُمَرُ ( قُلْتُ مِثْلَهُ ) أَيْ: أَبْقَيْتُ مِثْلَهُ يَعْنِي نِصْفَ مَالِهِ
( بِكُلِّ مَا عِنْدَهُ ) أَيْ: مِنَ الْمَالِ ( اللَّهَ وَرَسُولَهُ ) مَفْعُولُ: أَبْقَيْتُ أَيْ: رِضَاهُمَا
(لا أسابقك إلى شىء أبدا) أَيْ: مِنَ الْفَضَائِلِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى مُغَالَبَتِهِ حِينَ كَثْرَةِ مَالِهِ وَقِلَّةِ مَالِ أَبِي بَكْرٍ فَفِي غَيْرِ هَذَا الْحَالِ أَوْلَى أَنْ لَا يَسْبِقَهُ.أهـ(1/382)
كان فعل عمر فيما فعله من المنافسة والغبطة مباحاً ولكن حال الصديق - رضي الله عنه - أفضل منه لأنه خال من المنافسة مطلقاً ولا ينظر إلى غيره (1) .
(11) ومن مناقبه أنه أحب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه الثابت في الصحيحين )أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه على جيش ذات السلاسل، فأتيته فقلت: أي الناس أحب إليك؟ قال: (عائشة). فقلت: من الرجال؟ فقال: (أبوها). قلت: ثم من؟ قال: (عمر بن الخطاب). فعد رجالا.
(12) ومن مناقبه رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذه أخاً له :
( حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري ) قال: خطب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (إن الله خير عبدا بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ما عند الله). فبكى أبو بكر رضي الله عنه، فقلت في نفسي: ما يبكي هذا الشيخ؟ إن يكن الله خير عبدا بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ما عند الله، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو العبد، وكان أبو بكر أعلمنا، قال: يا أبا بكر لا تبك، إن أمنَّ الناس علي في صحبته وماله أبي بكر، ولو كنت متخذا خليلا من أمتي لاتخذت أبا بكر، ولكن أخوة الإسلام ومودته، لا يبقين في المسجد باب إلا سد، إلا باب أبي بكر .
(13) ومن مناقبه رضي الله عنه أن الله زكّاه :
__________
(1) الفتاوى لابن تيمية (10/72،73).(1/383)
أنزل الله تعالى في شأن الصديق قرآناً يتلى الى يوم القيامة قال تعالى: { فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى - وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى - فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى - وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى - وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى - فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى - وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى - إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى - وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَالأُولَى - فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى - لا يَصْلاهَا إِلاَّ الأَشْقَى - الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى - وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى - الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى - وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى - إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى - وَلَسَوْفَ يَرْضَى - } (1) (سورة الليل، الآيات: 5-21).
لقد كان الصديق من أعظم الناس إنفاقاً لماله فيما يرضي الله ورسوله.وهو من السابقين الأولين بل هو أول السابقين :
قال تعالى: (وَالسّابِقُونَ الأوّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ وَالّذِينَ اتّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدّ لَهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [ التوبة : 100]
قد زكّاه النبي صلى الله عليه وسلم :
(حديث ابن عمر في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من جر ثوبه خُيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة فقال أبو بكر : يا رسول اللّه إن أحد شِقَي ثوبي يسترخي إلا أن أتعاهد ذلك منه فقال له : إنك لست تصنع ذلك خُيلاء .
(14) ومن مناقبه رضي الله عنه أنه يُدعى من أبواب الجنة كلها :
__________
(1) تفسير الآلوسي (30/152).(1/384)
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من أنفق زوجين في سبيل الله، نودي من أبواب الجنة: يا عبد الله هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة ، فقال أبو بكر رضي الله عنه: بأبي وأمي يا رسول الله، ما على من دعي من تلك الأبواب من ضرورة، فهل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها؟. قال: نعم، وأرجو أن تكون منهم .
(15) ومن مناقبه أنه جمع خصال الخير في يوم واحد :
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من أصبح منكم صائماً؟ قال أبو بكر: أنا. قال: فمن تبع منكم اليوم جنازة؟ قال أبو بكر: أنا. قال: فمن أطعم منكم مسكيناً؟ قال أبو بكر: أنا. قال: فمن عاد منكم اليوم مريضاً؟ قال أبو بكر: أنا.
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة .
(16) ومن مناقبه رضي الله عنه أن وصفه رجل المشركين بمثل ما وصفت خديجة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم.(1/385)
( حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيح البخاري ) قالت : لما ابتلي المسلمون في مكة واشتد البلاء خرج أبو بكر مهاجراً قِبل الحبشة حتى إذا بلغ بَرْك الغماد لقيه ابن الدغنة وهو سيد القارَة ، فقال : أين تريد يا أبا بكر ؟ فقال أبو بكر : أخرجني قومي فأنا أريد أن أسيح في الأرض فأعبد ربي . قال ابن الدغنة : إن مثلك لا يخرج ولا يخرج فإنك تكسب المعدوم وتصل الرحم وتحمل الكَلّ وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق ، وأنا لك جار فارجع فاعبد ربك ببلادك ، فارتحل ابن الدغنة فرجع مع أبي بكر فطاف في أشراف كفار قريش فقال لهم : إن أبا بكر لا يَخرج مثله ولا يُخرج ، أتُخرجون رجلا يكسب المعدوم ويصل الرحم ويحمل الكل ويقري الضيف ويعين على نوائب الحق ؟! فأنفذت قريش جوار ابن الدغنة وآمنوا أبا بكر وقالوا لابن الدغنة : مُر أبا بكر فليعبد ربه في داره فليصل وليقرأ ما شاء ولا يؤذينا بذلك ولا يستعلن به ، فإنا قد خشينا أن يفتن أبناءنا ونساءنا قال ذلك ابن الدغنة لأبي بكر فطفق أبو بكر يعبد ربه في داره ولا يستعلن بالصلاة ولا القراءة في غير داره ، ثم بدا لأبي بكر فابتنى مسجدا بفناء داره وبرز فكان يصلي فيه ويقرأ القرآن فيتقصف عليه نساء المشركين وأبناؤهم يعجبون وينظرون إليه وكان أبو بكر رجلاً بكّاءً لا يملك دمعه حين يقرأ القرآن فأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين فأرسلوا إلى ابن الدغنة فقدم عليهم فقالوا له : إنا كنا أجرنا أبا بكر على أن يعبد ربه في داره وإنه جاوز ذلك فابتنى مسجدا بفناء داره وأعلن الصلاة والقراءة وقد خشينا أن يفتن أبناءنا ونساءنا فأته فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربه في داره فعل وإن أبى إلاّ أن يعلن ذلك فَسَلْهُ أن يرد إليك ذمتك فإنا كرهنا أن نخفرك ، ولسنا مقرين لأبي بكر الاستعلان .(1/386)
قالت عائشة فأتى ابن الدغنة أبا بكر فقال : قد علمت الذي عقدت لك عليه فإما أن تقتصر على ذلك وإما أن ترد إلي ذمتي فإني لا أحب أن تسمع العرب أني أخفرت في رجل عقدت له قال أبو بكر : إني أرد إليك جوارك وأرضى بجوار الله . رواه البخاري .
(17) وجمع بيت أبي بكر وآل أبي بكر من الفضائل الجمة الشيء الكثير الذي لم يجمعه بيت في الإسلام .
فقد كان بيت أبي بكر رضي الله عنه في خدمة النبي صلى الله عليه وسلم ، كما في الاستعداد للهجرة ، وما فعله عبد الله بن أبي بكر وأخته أسماء في نقل الطعام والأخبار لرسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه في الغار
وعائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم هي بنت أبي بكر رضي الله عنه وعنها
[*] قال ابن الجوزي رحمه الله :
أربعة تناسلوا رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم :أبو قحافة وابنه أبو بكر وابنه عبد الرحمن وابنه محمد
(18) غضبه إذا انتهكت حرمات الله تعالى :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
موقفه من فنحاص الحبر اليهودي:(1/387)
ذكر غير واحد من كتّاب السيّر والمفسرين أن أبا بكر - رضي الله عنه - دخل بيت المدارس (1) ، على يهود، فوجد منهم ناساً قد اجتمعوا إلى رجل منهم، يقال له فنحاص، وكان من علمائهم وأحبارهم، ومعه حبر من أحبارهم، يقال له أشيع (2) ، فقال أبو بكر لفنحاص: ويحك! اتق الله وأسلم، فوالله إنك تعلم أن محمداً لرسول الله، قد جاءكم بالحق من عنده، تجدونه مكتوباً عندكم في التوراة والإنجيل، فقال فنحاص لأبي بكر: والله يا أبا بكر، ما بنا إلى الله من فقر، وإنه إلينا لفقير، وما نتضرع إليه كما يتضرع إلينا، وإنا عنه لأغنياء وما هو عنا بغني، ولو كان عنا غنياً ما استقرضنا أموالنا، كما يزعم صاحبكم، ينهاكم عن الربا ويعطيناه، ولو كان غنياً ما أعطانا الربا فغضب أبوبكر، فضرب وجه فنحاص ضرباً شديداً، وقال: والذي نفسي بيده لولا العهد الذي بيننا وبينك لضربت رأسك، أي عدو الله، فذهب فنحاص إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال: يا محمد انظر ما صنع بي صاحبك. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر: ما حملك على ما صنعت؟ فقال أبو بكر: يا رسول الله، إن عدو الله قال قولاً عظيماً، إنه يزعم أن الله فقير وأنهم أغنياء فلما قال ذلك غضبت لله مما قال، وضربت وجهه، فجحد ذلك فنحاص وقال: ما قلت ذلك، فأنزل الله تعالى فيما قال فنحاص رداً عليه، وتصديقاً لأبي بكر: { لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ } (سورة آل عمران، الآية: 181).
__________
(1) مكان يتلى فيه التوارة.
(2) السيرة النبوية لابن هشام (1/558-559).(1/388)
ونزل في أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - ، وما بلغه في ذلك من الغضب (1) قوله تعالى { لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ } (سورة آل عمران، الآية:186).
(19) حفظ سر النبي - صلى الله عليه وسلم - :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
( حديث ا بن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح البخاري ) يحدث: أن عمر بن الخطاب، حين تأيمت حفصة بنت عمر من خنيس بن حذافة السهمي، وكان من أصحاب رسول الله ، فتوفي بالمدينة، فقال عمر ابن الخطاب: أتيت عثمان بن عفان، فعرضت عليه حفصة، فقال: سأنظر في أمري، فلبثت ليالي ثم لقيني فقال: قد بدا لي أن لا أتزوج يومي هذا. قال عمر: فلقيت أبا بكر الصديق، فقلت: إن شئت زوجتك حفصة بنت عمر، فصمت أبو بكر فلم يرجع إلي شيئا، وكنت أوجد عليه مني على عثمان، فلبثت ليالي ثم خطبها رسول الله فأنكحتها إياه، فلقيني أبو بكر فقال: لعلك وجدت علي حين عرضت علي حفصة فلم أرجع إليك شيئا؟ قال عمر: قلت: نعم، قال أبو بكر: فإنه لم يمنعني أن أرجع إليك فيما عرضت علي، إلا أني كنت علمت أن رسول الله قد ذكرها، فلم أكن لأفشي سر رسول الله ، ولو تركها رسول الله قبلتها.
(20) الصديق وآية صلاة الجمعة:
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
( حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين ) قال: بينما نحن نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم، إذ أقبلت عير تحمل طعاما، فالتفتوا إليها حتى ما بقي مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا اثنا عشر رجلا، فنزلت هذه الآية: { وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما } .(سورة الجمعة، الآية 11) أهـ
__________
(1) تفسير القرطبي (4/295).(1/389)
وقال: في الإثنىعشر الذين ثبتوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبوبكر وعمر (1) .
(21) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينفي الخيلاء عن أبي بكر :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
(حديث ابن عمر في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من جر ثوبه خُيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة فقال أبو بكر : يا رسول اللّه إن أحد شِقَي ثوبي يسترخي إلا أن أتعاهد ذلك منه فقال له : إنك لست تصنع ذلك خُيلاء .
(22) أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر:
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
(حديث عائشة الثابت في الصحيحين) قالت : دخل أبو بكر وعندي جاريتان من جواري الأنصار تغنيان بما تقاولت الأنصار يوم بُعاث قالت وليستا بمغنيتين فقال أبو بكر : أمزامير الشيطان في بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذلك في يوم عيد ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يا أبا بكر إن لكل قوم عيدا وهذا عيدنا .
ففي الحديث بيان : أن هذا لم يكن من عادة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه الاجتماع عليه، ولهذا سماه الصديق مزمار الشيطان، والنبي - صلى الله عليه وسلم - أقر الجواري عليه معللاً ذلك بأنه يوم عيد، والصغار يرخص لهم في اللعب في الأعياد، كما جاء في الحديث: لتعلم يهود أن في ديننا فسحة .
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في السلسلة الصحيحة ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لتعلم يهود أن في ديننا فسحة , إني أرسلت بحنيفية سمحة "
__________
(1) الإحسان في تقريب صحيح بن حيان (15/300)؛ مسلم رقم 863.(1/390)
وكان لعائشة لُعَب تلعب بهن ويجئن صواحباتها من صغار النسوة يلعبن معها، وليس في حديث الجاريتين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استمع إلى ذلك، والأمر والنهي إنما يتعلق بالاستماع لا بمجرد السماع (1) . ومن هذا نفهم أنه يرخص لمن يصلح له اللعب أن يلعب في الأعياد، كالجاريتين الصغيرتين من الأنصار اللتين تغنيان في العيد في بيت عائشة (2) .
ومن مظاهر أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر أيضاً الحديث الآتي :
( حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في الصحيحين ) أن فاطمة عليها السلام، ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم: سألت أبا بكر الصديق بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن يقسم لها ميراثها، ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم مما أفاء الله عليه، فقال أبو بكر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(لا نورث، ما تركنا صدقة).فغضبت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فهجرت أبا بكر،فلم تزل مهاجرته حتى توفيت .
( حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في الصحيحين ) قالت: إن أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - ، حين توفى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، أردن أن يبعثن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - إلى أبي بكر، يسألنه ميراثهن، فقالت عائشة: أليس قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا نورث ماتركنا صدقة .
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :لا يقتسم ورثتي ديناراً، ما تركت بعد نفقة نسائي ومؤنة عاملي فهو صدقة .
__________
(1) نفس المصدر (30/118).
(2) المصدر السابق (30/118).(1/391)
وهذا ما فعله أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - مع فاطمة رضي الله عنها امتثالا لقوله - صلى الله عليه وسلم - لذلك قال الصديق: لست تاركاً شيئاً كان رسول الله يعمل به إلا عملت به (1) ، وقال: والله لا أدع أمراً رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصنعه فيه إلا صنعته (2) .
وقد تركت فاطمة رضي الله عنها منازعته بعد احتجاجه بالحديث وبيانه لها وفيه دليل على قبولها الحق واذعانها لقوله - صلى الله عليه وسلم - :
[*] قال ابن قتيبة (3) ، وأما منازعة فاطمة أبا بكر رضي الله عنهما في ميراث النبي - صلى الله عليه وسلم - فليس بمنكر، لأنها لم تعلم ما قاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وظنت أنها ترثه كما يرث الأولاد آباءهم فلما أخبرها بقوله كفت (4) .
[*] وقال القاضي عياض: وفي ترك فاطمة منازعة أبي بكر بعد احتجاجه عليها بالحديث التسليم للإجماع على قضية، وأنها لما بلغها الحديث وبين لها التأويل تركت رأيها ثم لم يكن منها ولا من ذريتها بعد ذلك طلب ميراث ثم ولي علي الخلافة فلم يعدل بها عما فعله أبو بكر وعمر رضي الله عنهم (5) .
__________
(1) مسلم رقم 1758.
(2) البخاري رقم 6726.
(3) عبدالله بن مسلم بن قتيبة ت 276هـ (شذرات الذهب (2/169).
(4) تأويل مختلف الحديث، ص189.
(5) شرح صحيح مسلم للنووي (12/318).(1/392)
[*] وقال حماد بن إسحاق : والذي جاءت به الروايات الصحيحة فيما طلبه العباس وفاطمة وعلي لها وأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - من أبي بكر رضي الله عنهم جميعاً إنما هو الميراث حتى أخبرهم أبو بكر والأكابر من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (لانورث ماتركنا صدقة) فقبلوا بذلك وعلموا أنه الحق ولو لم يقل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك كان لأبي بكر وعمر فيه الحظ الوافر بميراث عائشة وحفصة رضي الله عنهما فآثروا أمر الله وأمر رسوله، ومنعوا عائشة وحفصة، ومن سواهما ذلك، ولو كان رسول، يورث، لكان لأبي بكر وعمر أعظم الفخر به أن تكون ابنتاهما وارثتي محمد - صلى الله عليه وسلم - (1) .
وأما ما ذكره من الرواة في كون فاطمة رضي الله عنها غضبت وهجرت الصديق حتى ماتت فبعيد جداً لعدة أدلة منها:
أ-مارواه البيهقي من طريق الشعبي: أن أبا بكر عاد فاطمة، فقال لها علي: هذا أبو بكر يستأذن عليك فقالت: أتحب أن آذن له قال: نعم فأذنت له فدخل عليها فترضاها حتى رضيت (2) ، وبهذا يزول الإشكال الوارد في تمادي فاطمة رضي الله عنها لهجر أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - ، كيف وهو القائل: والله لقرابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، أحب إليّ أن أصل من قرابتي (3) ، ومافعل - رضي الله عنه - إلا امتثالاً وإتباعاً لأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (4) .
__________
(1) البداية والنهاية (5/252-253) وقال إسناده جيد قوي.
(2) اباطيل يجب أن تمحى من التاريخ، ص109.
(3) البخاري رقم 4036.
(4) العقيدة في أهل البيت بين الإفراط والتفريط، د.سالم السحيمي ، ص291.(1/393)
ب-لقد انشغلت عن كل شيء بحزنها لفقدها أكرم الخلق، وهي مصيبة تزري بكل المصائب، كما أنها انشغلت بمرضها الذي ألزمها الفراش عن أي مشاركة في أي شأن من الشؤون، فضلاً عن لقاء خليفة المسلمين المشغول -لكل لحظة من لحظاته- بشؤون الأمة، وحروب الردة وغيرها، كما أنها كانت تعلم بقرب لحوقها بأبيها، فقد أخبرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأنها أول من يلحق به من أهله -ومن كان في مثل علمها لايخطر بباله أمور الدنيا، وما أحسن قول المهلب الذي نقله العيني: ولم يرو أحد، أنهما ألتقيا وامتنعا عن التسليم، وإنما لازمت بيتها، فعبر الراوي عن ذلك بالهجران (1) .
هذا ومن الثابت تاريخياً أن أبابكر دام أيام خلافته يعطي أهل البيت حقهم في فيء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المدينة، ومن أموال فدك وخمس خيبر، إلا أنه لم ينفذ فيها أحكام الميراث، عملاً بما سمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد روي عن محمد بن علي بن الحسين المشهور بمحمد الباقر، وعن زيد بن علي أنهما قالا: إنه لم يكن من أبي بكر -فيما يختص بآبائهم- شيء من الجور أو الشطط، أو مايشكونه من الحيف أو الظلم (2) .
__________
(1) أباطيل يجب أن تمحى من التاريخ، ص108.
(2) المرتضى لأبي الحسن الندوي، ص90،91 نقلاً عن نهج البلاغة شرح أبي الحديد.(1/394)
ولما توفيت فاطمة رضي الله عنها بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بستة أشهر على الأشهر، وقد كان صلوات الله وسلامه عليه عهد إليها أنها أول أهله لحوقاً به، وقال لها مع ذلك: أما ترضين أن تكوني سيدة نساء أهل الجنة (1) ، وذلك ليلة الثلاثاء لثلاث خلون من رمضان سنة إحدى عشرة، عن مالك عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده علي بن الحسين، قال: ماتت فاطمة بين المغرب والعشاء، فحضرها أبوبكر وعمر وعثمان والزبير وعبدالرحمن بن عوف، فلما وُضِعت ليُصلى عليها، قال علي: تقدم ياأبابكر، قال أبوبكر: وأنت شاهد ياأبا الحسن؟ قال: نعم تقدم، فوالله لا يصلي عليها غيرك؛ فصلى عليها أبوبكر ودفنت ليلاً، وجاء في رواية: صلى أبوبكر الصديق على فاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكبر عليها أربعاً (2) وفي رواية مسلم صلى عليها علي بن أبي طالب (3) .
هذا وقد كانت صلة سيدنا أبي بكر الصديق خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأعضاء أهل البيت، صلة ودية تقديرية تليق به وبهم، وقد كانت هذه المودة والثقة متبادلتين بين أبي بكر وعلي، فقد سمَّى علي أحد أولاده بأبي بكر (4) ، وقد احتضن علي ابن أبي بكر محمداً بعد وفاة الصديق وكفله بالرعاية ورشحه للولاية في خلافته حتى حسب عليه، وانطلقت الألسنة بانتقاده من أجله (5) .
(23) إكرامه للضيوف :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ ــ
__________
(1) المرتضى للندوي، ص94.
(2) المرتضى للندوي، ص94 نقلاً عن الطبقات الكبرى (7/29).
(3) مسلم رقم 1759.
(4) المرتضى للندوي، ص98.
(5) نفس المصدر، ص98.(1/395)
( حديث عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين ) : رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء بعد ما مضى من الليل ما شاء الله قالت له امرأته ما حبسك عن أضيافك أو قالت ضيفك قال أو ما عشيتهم قالت أبوا حتى تجيء قد عرضوا عليهم فغلبوهم قال فذهبت أنا فاختبأت وقال يا غنثر (1) - فجدع وسب وقال كلوا لا هنيئا وقال والله لا أطعمه أبدا قال فأيم الله ما كنا نأخذ من لقمة إلا ربا من أسفلها أكثر منها قال حتى شبعنا وصارت أكثر مما كانت قبل ذلك فنظر إليها أبو بكر فإذا هي كما هي أو أكثر قال لامرأته يا أخت بني فراس ما هذا قالت لا وقرة عيني لهي الآن أكثر منها قبل ذلك بثلاث مرار قال فأكل منها أبو بكر وقال إنما كان ذلك من الشيطان يعني يمينه ثم أكل منها لقمة ثم حملها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأصبحت عنده قال وكان بيننا وبين قوم عقد فمضى الأجل فعرفنا اثنا عشر رجلا مع كل رجل منهم أناس الله أعلم كم مع كل رجل إلا أنه بعث معهم فأكلوا منها أجمعون (2) .
(24) ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر:
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
__________
(1) غنثر: الثقيل الوخيم وقيل الجاهل.
(2) مسلم، كتاب الأشربة رقم 2057.(1/396)
( حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيح البخاري ) قالت : خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض أسفاره حتى إذا كنا بالبيداء - أو بذات الجيش- انقطع عقد لي فأقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على التماسه، وأقام الناس معه، وليس على ماء وليس معهم ماء فأتى الناس أبابكر فقالوا: ألا ترى ما صنعت عائشة؟ أقامت برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبالناس معه وليسوا على ماء وليس معهم ماء فجاء أبو بكر ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - واضع رأسه على فَخِذِي قد نام فقال: حِبَستٍ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والناس وليسوا على ماء وليس معهم ماء قلت: فعاتبين وقال ما شاء الله أن يقول، وجعل يطعنني بيده في خاصرتي فلا يمنعني من التحرك إلا مكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على فخذي فنام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أصبح على غير ماء فأنزل الله آية التيمم: { ....فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا } (سورة النساء، الآية43)فقال أسيد بن حضير: ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر فقالت عائشة: فبعثنا البعير الذي كنت عليه فوجدنا العقد تحته .
وفي هذه القصة يظهر حرص الصديق على التأدب مع رسوله، وحساسيته الشديدة على أن يضايقه شيئاً ولا يقبل ذلك ولو كان من أقرب الناس وأحبهم الى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، كعائشة رضي الله عنهم، فقد كان - رضي الله عنه - قدوة للدعاة في الأدب الجم مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ومع نفسه ومع المسلمين (1) .
(25) انتصار النبي للصديق رضي الله عنه:
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
لقد ثبت من الأحاديث الصحيحة ما يدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان ينتصر لأبي بكر وينهى الناس عن معارضته،
__________
(1) تاريخ الدعوة الاسلامية، ص402،403.(1/397)
( حديث أبي الدرداء رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري ) قال: كنت جالساً مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ أقبل ابوبكر آخذاً بطرف ثوبه حتى أبدى عن ركبته، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (أما صاحبكم فقد غامر) (1) ، فسلم، وقال: يارسول الله إنه كان بيني وبين ابن الخطاب شيء فأسرعت إلي ثم ندمت، فسألته أن يغفر لي فأبي علي، فأقبلت إليك. فقال: يغفر الله لك ياأبابكر ثلاثاً. ثم إن عمر ندم فأتى منزل أبي بكر فسأل : أثم أبوبكر؟ قالوا: لا. فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فسلم عليه، فجعل وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتمعر (2) ، حتى أشفق أبوبكر (3) فجثى على ركبتيه فقال يارسول الله: والله أنا كنت أظلم مرتين (4) ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : إن الله بعثني إليكم فقلتم: كذبت، وقال أبوبكر: صدق، وواساني بنفسه وماله (5) ، فهل أنتم تاركوا لي صاحبي مرتين. فما أوذي بعدها .
وفي هذه القصة دروس وعبر كثيرة منها؛ الطبيعة البشرية للصحابة وما يحدث بينهم من خلاف، وسرعة رجوع المخطئ وطلب المغفرة والصفح من أخيه، تواد الصحابة فيما بينهم، مكانة الصديق الرفيعة عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم أصحابه.......الخ.
(26) قل: غفر الله لك يا أبا بكر:
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ
__________
(1) غامر: خاصم. أي دخل في غمرة الخصومة.
(2) يتمعر: تذهب نضارته من الغضب.
(3) أن يكون لعمر من الرسول مايكره.
(4) لأنه هو الذي بدأ.
(5) المراد به أن صاحب المال يجعل يده ويد صاحبه في ماله سواء.(1/398)
(حديث ربيعة الأسلمي رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة ) قال : كنت أخدم النبي - صلى الله عليه وسلم - ...وذكر حديثاً ثم قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعطاني بعد ذلك أرضا وأعطى أبوكر أرضاً وجاءت الدنيا فاختلفنا في عذق نخلة، فقلت أنا: هي في حدِّي، وقال أبوكر، هي في حدي، فكان بيني وبين أبي بكر كلام، فقال أبو بكر كلمة كرهها وندم فقال لي: يا ربيعة رد عليها مثلها حتى تكون قصاصاً، قال: قلت: لا أفعل، فقال أبو بكر: لتقولن أو لاستعدين عليك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقلت: ما أنا بفاعل، قال: ورفض الأرض (1) ، وأنطلق أبو بكر - رضي الله عنه - إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وانطلقت أتلوه، فجاء ناس من أسلم فقالوا لي: رحم الله أبا بكر، في أي شيء يستعدي عليك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو قد قال لك ما قال، قلت: أتدرون من هذا؟ هذا أبو بكر الصديق، هذا ثاني أثنين، وهذا ذو شيبة المسلمين، إياكم لا يلتفت فيراكم تنصروني عليه فيغضب، فيأتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيغضب لغضبه فيغضب الله عز وجل لغضبهما فيهلك ربيعة، قال: ما تأمرنا؟ قال: ارجعوا، قال: فانطلق أبو بكر - رضي الله عنه - إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتبعته وحدي حتى أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فحدثه الحديث كما كان، فرفع إليّ رأسه فقال: يا ربيعة ما لك وللصديق؟ قلت: يا رسول الله كان كذا كان كذا، قال لي كلمة كرهها فقال: قل لي كما قلت حتى يكون قصاصاً فأبيت، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أجل فلا ترد عليه، ولكن قل: غفر الله لك يا أبا بكر، فقلت: غفر الله لك يا أبا بكر. قال الحسن (البصري): فولىَّ أبو بكر - رضي الله عنه - وهو يبكي .
__________
(1) أي فارق أبوبكر الأرض.(1/399)
{ تنبيه } : لله درُّ أبي بكر ٍ الصديق رضي الله تعالى عنه : أي وجدان هذا الوجدان، وأي نفس تلك النفس، بادرة بدرت منها لمسلم فلم ترض إلا اقتصاصه منها، وصفحه عنها، تناهيا بالفضيلة، واستمساكاً بالأدب وشعوراً تمكن من الجوانح، وأخذ بمجامع القلوب، فكانت عنده زلة اللسان ولو صغيرة ألما يتململ منه الضمير فلا يستريح إلا بالقصاص منه، ورضا ذلك المسلم عنه) .
كانت كلمة هينة، ولكنها أصابت من ربيعة مَوجعاً..فإذا أبو بكر يُزَلزلُ من أجلها، ويأبى إلا القصاص عليها، مع أنه يومئذ كان الرجل الثاني في الإسلام بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهي كلمة لا يمكن أن تكون من فُحش القول أبداً: لأن أخلاقه لم تسمع بهذا، ولم يؤثر عنه حتى في الجاهلية شيء من هذا (1) .
لقد خشي الصديق مغبة تلك الكلمة، ولهذا اشتكى لرسول الله ، وهذا أمر عجيب فإن أبا بكر قد نسى أرضه ونسى قضية الخلاف، وشغل باله أمر تلك الكلمة لأن حقوق العباد لابد فيها من عفو صاحب الحق (2) ، وفي هذا درس للشيوخ والعلماء والحكام والدعاة في كيفية معالجة الأخطاء ومراعاة حقوق الناس وعدم الدوس عليها بالأرجل.
وقد استنكر قوم ربيعة أن يذهب أبو بكر يشتكي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو الذي قال ما قال، ولم يعلموا ما علمه أبو بكر من لزوم إنهاء قضايا الخصومات، وإزالة ما قد يعلق في القلوب من الوجدة في الدنيا قبل أن يكتب ذلك في الصحف ويترتب عليه الحساب يوم القيامة.
وبالرغم مما ظهر من رضي ربيعة وتوجيه النبي - صلى الله عليه وسلم - الى عدم الرد على أبي بكر فإن أبا بكر قد بكى من خشية الله تعالى، وهذا دليل على قوة إيمانه، ورسوخ يقينه.
__________
(1) خلفاء الرسول، خالد محمد خالد، ص103.
(2) التاريخ الاسلامي (19/16).(1/400)
وأخيراً موقف يذكر لربيعة بن كعب الأسلمي - رضي الله عنه - ، حيث قام بإجلال أبي بكر - رضي الله عنه - ، وأبى أن يرد عليه بالمثل، وهذا من تقدير أهل الفضل والتقدم والمعرفة بحقهم، وهو دليل على قوة الدين ورجاحة العقل (1) .
(27) مسابقته في الخيرات:
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
اتصف الصديق - رضي الله عنه - بالأخلاق الحميدة، والصفات الرفيعة ومسابقته في الخيرات حتى صار في الخير قدوة، وفي مكارم الأخلاق أسوة، وكان حريصاً أشد الحرص على الخيرات، فقد أيقن أن ما يمكن أن يقوم به المرء اليوم، قد يكون غير ممكن في الغد، فاليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل ولذلك كان من المسارعين في الخيرات،
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من أصبح منكم صائماً؟ قال أبو بكر: أنا. قال: فمن تبع منكم اليوم جنازة؟ قال أبو بكر: أنا. قال: فمن أطعم منكم مسكيناً؟ قال أبو بكر: أنا. قال: فمن عاد منكم اليوم مريضاً؟ قال أبو بكر: أنا.
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة .
(28) كظمه للغيظ :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ
__________
(1) نفس المصدر (19/16).(1/401)
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة )أن رجلاً شتم أبا بكر، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس، فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يعجب ويبتسم، فلما أكثر الرجل، رد عليه أبوبكر بعض قوله، فغضب النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وقام فلحقه أبوبكر، وقال: يارسول الله، كان يشتمني وأنت جالس، فلما أكثر رددت عليه بعض قوله، غضبت وقمت!! فقال عليه الصلاة والسلام: إنه كان معك ملك يرد عنك، فلما رددت عليه بعض قوله وقع الشيطان، فلم أكن لأقعد مع الشيطان ثم قال: يا أبا بكر ثلاث كلهنّ حق: ما من عبد ظلم بمظلمة، فيغضي عنها لله عز وجل إلا أعز الله بها نصره، وما فتح رجل باب عطية، يريد بها صلة إلا زاده الله بها كثرة، وما فتح رجل باب مسألة يريد بها كثرة إلا زاده الله بها قلة (1) .
إن الصديق - رضي الله عنه - اتصف بكظم الغيظ ولكنه رد ما ظن أنه به يسكت هذا الرجل، فرغبه النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحلم والأناة، وأرشده الى ضرورة تحليه بالصبر في مواطن الغيظ فإن الحلم وكظم الغيظ مما يزيد المرء ويحمله في أعين الناس، ويرفع قدره عند الله تعالى.
ويتبين لنا كذلك من هذا الموقف حرص الصديق - رضي الله عنه - على عدم إغضاب النبي - صلى الله عليه وسلم - والمسارعة إلى إرضائه وفي الحديث ذم الغضب للنفس، والنهي عنه، والتحذير منه، واعتزال الأنبياء للمجالس التي يحضرها الشيطان، وبيان الفضل للمظلوم، الصابر، المحتسب للأجر والثواب، وفيه حث على العطايا، وصلة الأرحام، وذم للمسألة وأهلها.
وظل الصديق متمسكاً بالحلم، وكظم الغيظ، حتى عُرف بالحلم والأناة، ولين الجانب، والرفق، وهذا لا يعني أن أبا بكر لم يكن يغضب، وإنما كان غضبه لله تعالى، فإذا رأى محارم الله قد انتهكت غضب لذلك غضباً شديداً (2) .
__________
(1) الدر المنثور للسيوطي (2/74؛ مجمع الزوائد (8/190) حديث مرسل.
(2) سيرة وحياة الصديق، مجدي فتحي السيد، ص145.(1/402)
(29) بلى والله إني أحب أن يغفر الله لي:
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
كان أبو بكر - رضي الله عنه - يَعُول مِسْطَحَ ابن أُثَاثَة، فلما قال في عائشة رضي الله عنها ما قال، في حديث الإفك المشهور - أقسم بالله أبو بكر ألا ينفعه أبداً، فلما أنزل الله عز وجل: { وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } (سورة النور، الآية22). قال أبو بكر : والله إني أحب أن يغفر الله لي فرجع الى النفقة التي كان ينفق عليه وقال: والله لا أنزعها منه أبداً .
( حديث عائشة رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري ) قالت : قال أبو بكر الصديق، وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه وفقره: والله لا أنفق على مسطح شيئا أبدا، بعد الذي قال لعائشة ما قال. فأنزل الله: { وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } (سورة النور، الآية22). قال أبو بكر الصديق: بلى والله إني لأحب أن يغفر الله لي، فرجع إلى مسطح النفقة التي ينفق عليه، وقال: والله لا أنزعها منه أبدا .(1/403)
*لقد فهم الصدِّيق من الآية بأن على المؤمن التخلق بأخلاق الله، فيعفو عن الهفوات والزلات والمزالق، فإن فعل، فالله يعفو عنه ويستر ذنوبه، وكما تدين تدان، والله سبحانه قال: { أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ } أي كما تحبون عفو الله عن ذنوبكم فكذلك اغفروا لمن دونكم (1) وكما أن في الآية من حلف على شيء ألا يفعله، فرأى أن فعله أولى من تركه، أتاه وكفّر عن يمينه، وقال بعض العلماء: هذه أرجى آية في كتاب الله تعالى، من حيث لطف الله بالقذفة العصاة بهذا اللفظ (2) .
لقد دلت هذه الآية على أن أبا بكر أفضل الناس بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - ، لأن الله وصفه بصفات عجيبة في هذه الآية، دالة على علو شأنه في الدين، أورد الرازي في تفسيره أربع عشرة صفة مستنبطة من هذه الآية: { وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ } منها أنه وصفه بأنه صاحب الفضل على الإطلاق من غير تقييد لذلك بشخص دون شخص، والفضل يدخل فيه الإفضال، وذلك يدل على أنه - رضي الله عنه - ، كان فاضلاً على الإطلاق كان مفضلاً على الإطلاق.ومنها أنه لما وصفه تعالى بأنه أولوا الفضل والسعة بالجمع لا بالواحد وبالعموم لابالخصوص على سبيل المدح، وجب أن يقال: إنه كان خالياً عن المعصية لأن الممدوح إلى هذا الحد لايكون من أهل النار (3) .
(30) غيرة الصديق - رضي الله عنه - وتزكية النبي - صلى الله عليه وسلم - لزوجه:
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
__________
(1) تفسير المنير (18/190).
(2) نفس المصدر (18/190).
(3) تفسير الرازي (18/351)(1/404)
( حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما الثابت في صحيح مسلم ) أن نفرا من بني هاشم دخلوا على أسماء بنت عميس فدخل أبو بكر الصديق وهي تحته يومئذ فرآهم فكره ذلك فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لم أر إلا خيرا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله قد برأها من ذلك ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر فقال لا يدخلن رجل بعد يومي هذا على مغيبة إلا ومعه رجل أو اثنان .
(31) خوفه من الله تعالى :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
إن الخوف من الله عز وجل فضيلة تدفع العبد إلى الحذر من المعاصي، ومراقبة الله تعالى في السر والعلن، فتزكو أفعاله، وتجمل أعماله وقد أمر المؤمنين بالخوف منه فقال: { يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ } (سورة البقرة، آية:40). وقال: { فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } (سورة هود، آية:112). وجعل للعبد الخائف منه أجراً عظيماً فقال: { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ } (سورة الرحمن، آية:46).
والسنة الصحيحة طافحة بوجوب الخوف من الله تعالى منها ما يلي :
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة ما سمعت مثلها قط قال: (لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا). قال فغطى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوههم لهم خنين .
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : "مَنْ خَافَ أَدْلَجَ وَمَنْ أَدْلَجَ بَلَغَ المَنْزِلَ أَلاَ إِنّ سِلْعَةَ الله غَالِيَةٌ أَلاَ إِنّ سِلْعَةَ الله الْجَنّةُ".(1/405)
( حديث جابر رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:مررت ليلة أسري بي بالملأ الأعلى و جبريل كالحِلْسِ البَالِي من خشية الله تعالى .
( حديث شداد بن أوس رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :قال الله تعالى: و عزتي و جلالي لا أجمع لعبدي أمنين و لا خوفين إن هو أمنني في الدنيا أخفته يوم أجمعُ عبادي و إن هو خافني في الدنيا أمنته يوم أجمعُ عبادي .
وقد كان الصديق - رضي الله عنه - على جانب من الخوف والرجاء عظيم جعله قدوة عملية لكل مسلم سواء حاكماً أو محكوماً قائداً أو جندياً، يريد النجاح والفلاح في الآخرة (1) ،
[*] فعن محمد بن سيرين قال: لم يكن أحد أهيب لما يعلم بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - من أبي بكر.
[*] وعن قيس قال: رأيت أبا بكر آخذ بطرف لسانه ويقول: هذا الذي أوردني الموارد (2) ،
[*] وقد قال أبو بكر - رضي الله عنه - : ابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا (3)
[*] وعن ميمون بن مهران قال: أتى أبو بكر بغراب وافر الجناحين فقلبه ثم قال: ما صيد من صيد ولاعضدت من شجرة إلا بما ضيعت من التسبيح (4) ،
[*] وعن الحسن قال: قال أبو بكر: والله لوددت أني كنت هذه الشجرة تؤكل وتعضد (5) ،
[*] وقال أبو بكر: لوددت أني كنت شعرة في جنب عبد مؤمن (6) ، وكان رضي الله عنه يتمثل بهذا البيت من الشعر:
لا تزال تنعي حبيباً حتى تكونه
... ... ... وقد يرجوا الرجا يموت دونه (7)
__________
(1) تاريخ الدعوة الى الاسلام، يسري محمد ، ص396.
(2) صفة الصفوة (2/253).
(3) الزهد، للامام أحمد، باب زهد أبي بكر، ص108.
(4) الزهد للامام أحمد، باب زهد أبي بكر، ص110.
(5) نفس المصدر، ص112.
(6) المصدر السابق، ص112.
(7) الزهد للامام أحمد، باب زهد أبي بكر، ص108.(1/406)
وأخرج ابن أبي شيبة، وهنَّاد، والبيهقي عن الضحاك قال: رأى أبو بكر الصديق رضي الله عنه طيراً واقفاً على شجرة فقال: طوبى لكَ يا طير والله لوددتُ أني كنت مثلك، تقع على الشجر، وتأكل من الثمر، ثم تطير وليس عليك حساب ولا عذاب والله لوددت أنِّي كنت شجرة إلى جانب الطريق مرّ عليَّ جمل فأخذني، فأدخلني فاه، فلاكني ثم ازدردني، ثم أخرجني بعراً ولم أكُ بشراً. وعند ابن فَتْحَويه في الوَجَل عن الضحَّاك بن مزاحم قال: قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه ـ ونظر إلى عصفور ـ: طوبى لك يا عصفور تأكل من الثمار، وتطير في الأشجار، لا حساب عليك ولا عذاب والله لوددتُ أني كبش يسمِّنني أهلي، فإذا كنت أعظم ما كنت وأسمنه يذبحوني، فيجعلون بعضي شواء، وبعضي قديداً، ثم أكلوني، ثم ألقوني عَذِرَةً في الحش، وأني لم أكن خُلقت بشراً. وعند أحمد في الزهد عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: وددت أني شعرة في جنب عبد مؤمن. كذا في منتخب الكنز .
(32) رسوخ إيمانه بالله تعالى :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ ــ
كان إيمان الصديق بالله عظيماً، فقد فهم حقيقة الإيمان وتغلغلة كلمة التوحيد في نفسه وقلبه وانعكست آثارها على جوارحه وعاش بتلك الآثار في حياته، فتحلى بالأخلاق الرفيعة، وتطهر من الأخلاق الوضيعة وحرص على التمسك بشرع الله والاقتداء بهديه - صلى الله عليه وسلم - وكان إيمانه بالله تعالى باعثاً له على الحركة والهمة والنشاط والسعي، والجهد والمجاهدة، والجهاد والتربية، والاستعلاء والعزة، وكان في قلبه من اليقين والإيمان شيء عظيم لا يساويه فيه أحد من الصحابة .
[*] قال أبو بكر بن عياش: ما سبقهم أبو بكر بكثرة صلاة ولا صيام ولكن بشيء وقر في قلبه (1) ، ولهذا قيل: لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان أهل الأرض لرجح،كما في الحديث الآتي :
__________
(1) فضائل الصحابة للامام أحمد (1/173).(1/407)
( حديث أبي بكرة رضي الله عنه الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم: "" من رأى منكم رؤيا ؟ "" فقال رجل: أنا ، رأيت كأن ميزانا نزل من السماء فوزنت أنت وأبو بكر فرجحت أنت بأبي بكر ، ووزن عمر وأبو بكر فرجح أبو بكر ، ووزن عمر وعثمان فرجح عمر ، ثم رفع الميزان ، فرأينا الكراهية في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم .
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح، ثم أقبل على الناس فقال: (بينا رجل يسوق بقرة إذ ركبها فضربها، فقالت: إنا لم نخلق لهذا، إنما خلقنا للحرث). فقال الناس: سبحان الله بقرة تكلم، فقال: (فإني أومن بهذا أنا وأبو بكر وعمر - وما هما ثم - وبينما رجل في غنمه إذ عدا الذئب فذهب منها بشاة، فطلب حتى كأنه استنقذها منه، فقال له الذئب هذا: استنقذتها مني، فمن لها يوم السبع، يوم لا راعي لها غيري). فقال الناس: سبحان الله ذئب يتكلم، قال: (فإني أومن بهذا أنا وأبو بكر وعمر). وما هما ثم.
ومن شدة إيمانه والتزامه بشرع الله تعالى وصدقه وإخلاصه للإسلام أحبه النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأصبحت تلك المحبة مقدمة عند النبي - صلى الله عليه وسلم - على غيره من الصحابة كما في الحديث الآتي :
( حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ): أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعثه على جيش ذات السلاسل، قال: فأتيته فقلت: أي الناس أحب إليك؟ قال: عائشة. فقلت من الرجال؟ قال: أبوها. قلت ثم من؟ قال عمر بن الخطاب فعد رجالاً .
وبسبب هذا الإيمان العظيم والتزامه بشرع الله القويم ولجهوده التي بذلها لنصرة دين رب العالمين استحق بشارة رسول الله بالجنة وأنه يدعى من جميع أبوابها،(1/408)
( حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أبو بكر في الجنة وعمر في الجنة وعثمان في الجنة وعليٌ في الجنة وطلحة في الجنة والزبير في الجنة وعبد الرحمن بن عوف في الجنة وسعدُ ابن أبي وقاص في الجنة وسعيدُ ابن زيد في الجنة وأبو عبيدة بن الجراح في الجنة .
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من أنفق زوجين في سبيل الله، نودي من أبواب الجنة: يا عبد الله هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة ، فقال أبو بكر رضي الله عنه: بأبي وأمي يا رسول الله، ما على من دعي من تلك الأبواب من ضرورة، فهل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها؟. قال: نعم، وأرجو أن تكون منهم .
- ومما يدل على رسوخ إيمانه موقفة عندما مات النبي - صلى الله عليه وسلم - :(1/409)
فارق رسول الله الدنيا وهو يحكم جزيرة العرب ويرهبه ملوك الدنيا، ويفديه أصحابه بنفوسهم وأولادهم وأموالهم، وما ترك عند موته ديناراً ولادرهماً، ولاعبداً، ولا أمة، ولاشيئاً، إلا بغلته البيضاء، وسلاحه وأرضا جعلها صدقة (1) وتوفي - صلى الله عليه وسلم - ودرعه مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعاً من شعير (2) ، وكان ذلك يوم الاثنين 12 ربيع الأول سنة 11هـ للهجرة بعد الزوال (3) ، وله ثلاث وستون سنة (4) ، وكان أشد الأيام سواداً ووحشة ومصاباً على المسلمين، ومحنة كبرى للبشرية، كما كان يوم ولدته أسعد يوم طلعت فيه الشمس (5) ، يقول أنس - رضي الله عنه - : كان اليوم الذي قدم فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة أضاء منها كل شيء، فلما كان الذي مات فيه أظلم منها كل شيء (6) وبكت أم أيمن فقيل لها مايبكيك على النبي قالت: إني قد علمت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سيموت ولكن إنما أبكي على الوحي الذي رفع عنا (7) .
هول الفاجعة وموقف أبي بكر منها:
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ
[*] قال ابن رجب رحمه الله :
ولما توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اضطرب المسلمون، فمنهم من دُهش فخولط ومنهم من أقعد فلم يُطق القيام، ومنهم من أعتُقل لسانه فلم يطق الكلام، ومنهم من أنكر موته بالكلية (8) .
[*] والمصيبة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أعظم المصائب المصيبة في الدين بنص السنة الصحيحة :
__________
(1) البخاري، كتاب المغازي رقم 4461.
(2) السيرة النبوية للندوي، ص403.
(3) البداية والنهاية (4/223).
(4) مسلم، كتاب الفضائل (4/825).
(5) انظر: السيرة النبوية للندوي، ص404.
(6) الترمذي (5/549) رقم 3618.
(7) مسلم (4/1907).
(8) لطائف المعارف، ص114.(1/410)
( حديث ابن عباس رضي الله عنهما الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إذا أصاب أحدكم مصيبة فليذكر مصيبته بي فإنها من أعظم المصائب .
وصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، لأن المصيبة به أعظم من كل مصيبة يصاب بها المسلم بعده إلى يوم القيامة، انقطع الوحي، وماتت النبوة، وكان أول ظهور الشر بارتداد العرب وغير ذلك، وكان أول انقطاع الخير وأول نقصانه (1) .
[*] وقال ابن اسحاق: ولما توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عظمت به مصيبة المسلمين، فكانت عائشة فيما بلغني تقول: لما توفي النبي - صلى الله عليه وسلم - ارتدت العرب، واشرأبت اليهودية، والنصرانية ونجم النفاق، وصار المسلمون كالغنم المطيرة في الليلة الشاتية لفقد نبيهم (2) .
[*] وقال القاضي أبو بكر بن العربي: ... واضطربت الحال .. فكان موت النبي - صلى الله عليه وسلم - قاصمة الظهر، ومصيبة العمر، فأما علي فاستخفى في بيت فاطمة، وأما عثمان فسكت، وأما عمر فأهجر وقال: ما مات رسول الله وإنما واعده ربه كما واعد موسى، وليرجعن رسول الله، فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم (3)
واسمع إلى الحديث الآتي لتعلم مدى ثبات أبي بكرٍ في الشدائد ورسوخ إيمانه وفضله على سائر الصحابة رضوان الله عنهم أجمعين :
__________
(1) تفسير القرطبي (2/176).
(2) ابن هشام (4/323).
(3) القواصم من العواصم، ص38.(1/411)
(حديث عائشة الثابت في صحيح البخاري) أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مات وأبو بكرٍ بالسُّنحِ فقام عمر يقول : والله ما مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وقال عمر ـ والله ما كان يقع في نفسي إلا ذاك ـ وليبعثنه الله فليقطعنَّ أيدي رجالٍ وأرجلهم ، فجاء أبو بكرٍ فكشف عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقبَّله فقال بأبي أنت وأمي طبت حياً وميتاً والذي نفسي بيده لا يذيقك الله الموتتين أبداً ثم خرج فقال : أيها الحالف على رَسْلِك ، فلما تكلم جلس عمر ، فحمد الله أبو بكر وأثنى عليه وقال : ألا من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حيٌ لا يموت وقال: (إِنّكَ مَيّتٌ وَإِنّهُمْ مّيّتُونَ) وقال: (وَمَا مُحَمّدٌ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرّسُلُ أَفإِنْ مّاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَىَ أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشّاكِرِينَ)
وبهذه الكلمات القلائل، واستشهاد الصديق بالقرآن الكريم خرج الناس من ذهولهم وحيرتهم ورجعوا إلى الفهم الصحيح رجوعاً جميلاً، فالله هو الحي وحده الذي لايموت، وأنه وحده الذي يستحق العبادة، وأن الإسلام باق بعد موت محمد - صلى الله عليه وسلم - (1) ، كما جاء في رواية من قول الصديق: إن دين الله قائم، وإن كلمة الله تامة وإن الله ناصر من نصره، ومعز دينه، وإن كتاب الله بين اظهرنا، وهو النور والشفاء وبه هدا الله محمد - صلى الله عليه وسلم - وفيه حلال الله وحرامه، والله لانبالي من أجلب علينا من خلق الله، إن سيوف الله لمسلولة ماوضعناها بعد، ولنجاهدنَّ من خالفنا كما جاهدنا مع رسول الله فلا يبغين أحد إلا على نفسه (2) .
__________
(1) استخلاف ابوبكر الصديق، جمال عبدالهادي، ص160.
(2) دلائل النبوة للبيهقي (7/218).(1/412)
كان موت محمد - صلى الله عليه وسلم - مصيبة عظيمة، ابتلاءاً شديداً، ومن خلاها وبعدها ظهرت شخصية الصديق كقائد للأمة فذ لا نظير له ولامثيل (1) ، فقد أشرق اليقين في قلبه وتجلى ذلك في رسوخ الحقائق فيه فعرف حقيقة العبودية، والنبوة، والموت، وفي ذلك الموقف العصيب ظهرت حكمته - رضي الله عنه - ، فانحاز بالناس إلى التوحيد (من كان يعبد الله فإن الله حي لايموت) ومازال التوحيد في قلوبهم غضاً طرياً، فما أن سمعوا تذكير الصديق لهم حتى رجعوا إلى الحق (2) تقول عائشة رضي الله عنها فوالله لكأن الناس لم يكونوا يعلمون أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر - رضي الله عنه - فتلقاها منه الناس، فما يسمع بشر إلا يتلوها (3) .
(33) علمه رضي الله تعالى عنه :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
كان الصديق من أعلم الناس بالله وأخوفهم له (4) ، وقد اتفق أهل السنة على أن أبا بكر أعلم الأمة، وحكى الإجماع على ذلك غير واحد (5) ، وكان الصحابة رضي الله تعالى عنهم يُسَلمنو بذلك وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة :
__________
(1) أبوبكر رجل الدولة، مجدي حمدي، ص25،26.
(2) استخلاف ابوبكر الصديق، ص160.
(3) البخاري، كتاب الجنائز رقم 1241، 1242.
(4) تاريخ الخلفاء للسيوطي، ص59.
(5) الفتاوى (13/127).(1/413)
( حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري ) قال: خطب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (إن الله خير عبدا بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ما عند الله). فبكى أبو بكر رضي الله عنه، فقلت في نفسي: ما يبكي هذا الشيخ؟ إن يكن الله خير عبدا بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ما عند الله، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو العبد، وكان أبو بكر أعلمنا، قال: يا أبا بكر لا تبك، إن أمنَّ الناس علي في صحبته وماله أبي بكر، ولو كنت متخذا خليلا من أمتي لاتخذت أبا بكر، ولكن أخوة الإسلام ومودته، لا يبقين في المسجد باب إلا سد، إلا باب أبي بكر .(1/414)
وسبب تقدمه على كل الصحابة في العلم والفضل ملازمته للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقد كان أدوم اجتماعاً به ليلاً ونهاراً، وسفراً وحضراً، وكان يسمر عند النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد العشاء، يتحدث معه في أمور المسلمين، دون غيره من أصحابه، وكان إذا استشار أصحابه أول من يتكلم أبو بكر في الشورى، وربما تكلم غيره، وربما لم يتكلم غيره، فيعمل برأيه وحده، فإذا خالفه غيره اتبع رأيه دون رأي من يخالفه (1) ، وقد استعمله النبي - صلى الله عليه وسلم - على أول حجة حجت من مدينة النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلم المناسك أدق ما في العبادات، ولولا سعة علمه لم يستعمله، وكذلك الصلاة استخلفه عليها ولولا علمه لم يستخلفه ولم يستخلف غيره لا في حج ولا في صلاة، وكتاب الصدقة التي فرضها رسول الله أخذه أنس من أبي بكر وهو أصح ما روى فيها (2) وعليه اعتمد الفقهاء وغيرهم في كتابة ما هو متقدم منسوخ، فدل على أنه أعلم بالسنة الناسخة، ولم يحفظ له قول يخالف فيه نصاً، وهذا يدل على غاية البراعة والعلم، وفي الجملة لا يعرف لأبي بكر مسألة في الشريعة غلط فيها، وقد عرف لغيرة مسائل كثيرة (3) ، وكان - رضي الله عنه - يقضي ويفتي بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - ويقره، لقد تربى الصديق على يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحفظ كتاب الله تعالى وعمل به في حياته وتأمل فيه كثيراً وكان لا يتحدث بغير علم، فعندما سئل عن آية لايعرفها أجاب بقوله: أي أرض تسعني أو أي سماء تُظِلنُّي إذا قلت في كتاب الله مالم يُرد الله (4)
__________
(1) ابو بكر الصديق، محمد مال الله، ص334،335.
(2) البخاري رقم 1448.
(3) أبوبكر الصديق أفضل الصحابة وأحقهم بالخلافة، ص60.
(4) تاريخ الخلفاء للسيوطي، ص117 هذه الرواية فيها انقطاع..(1/415)
ومن أقواله التي تدل على تدبره وتفكره في القرآن الكريم قوله: (إن الله ذكر أهل الجنة، فذكرهم بأحسن أعمالهم وغفر لهم سيئها، فيقول الرجل: أين أنا من هؤلاء؟! يعني: حسنها، فيقول قائل: لست من هؤلاء، يعني: وهو منهم (1) ، وكان يسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما استشكل عليه بأدب وتقدير واحترام، فلما نزل قوله تعالى: { لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا } (سورة النساء، الاية:123) قال أبوبكر يارسول الله، قد جاءت قاصمة الظهر، وأينا لم يعمل سوءاً؟ فقال: ياأبابكر، ألست تنصب؟ ألست تحزن؟ ألست تصيبك اللأوى؟ فذلك مما تجزون به (2) .
(حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب ) أنه قال يا رسول الله كيف الصلاح بعد هذه الآية(لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ ) الآية وكل شيء عملناه جزينا به فقال : غفر الله لك يا أبا بكر ألست تمرض ألست تحزن ألست يصيبك اللأواء قال فقلت بلى قال هو ما تجزون به .
__________
(1) الفتاوى لابن تيمية (6/212).
(2) احمد (1/11) وقال الشيخ شاكر اسانيدها ضعاف. وهو صحيح بطرقه وشواهده. انظر: مسند الامام احمد رقم 68.(1/416)
وقد فسر الصديق بعض الآيات مثل قوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ المَلَائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ } (سورة فصلت، الآية: 30) قال فيها: فلم يلتفتوا عنه يمنة ولا يسرة، فلم يلتفتوا بقلوبهم إلى ماسواه لا بالحب ولا بالخوف، ولا بالرجاء ولا بالسؤال ولا بالتوكل عليه، بل لا يحبون إلا الله ولا يحبون معه أنداداً، ولايحبون إلا إياه، لا لطلب منفعة، ولا لدفع مضرة، ولا يخافون غيره كائناً من كان، ولا يسألون غيره ولا يتشرفون بقلوبهم الى غيره (1) ، وغير ذلك من الآيات.
وكان رضي الله تعالى عنه أعلم الصحابة بالأنساب :
فهو عالم من علماء الأنساب وأخبار العرب، وله في ذلك باع طويل جعله أستاذ الكثير من النسابين كعقيل بن أبي طالب وغيره، وكانت له مزية حببته إلى قلوب العرب وهي: أنه لم يكن يعيب الأنساب، ولايذكر المثالب بخلاف غيره (2) ، فقد كان أنسب قريش لقريش وأعلم قريش بها، وبما فيها من خير وشر (3) ، بدلالة الحديث الآتي :
( حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن أبا بكر أعلم قريش بأنسابها .
ومع كونه - رضي الله عنه - من أعلم الصحابة إلا أنه من أبعد الناس عن التكلف، فعن ابراهيم النخعي قال: قرأ أبو بكر الصديق { وَفَاكِهَةً وَأَبًّا } (سورة عبس: آية31) فقيل ماالأب: فقيل كذا وكذا فقال أبو بكر: إن هذا لهو التكلف، أي أرض تقلني وأي سماء تظلني إذا قلت في كتاب الله مالا أعلم (4) .
(34) دعاؤه وشدة تضرعه - رضي الله عنه - :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
__________
(1) الفتاوى (28/22).
(2) التهذيب (2/183).
(3) الإصابة (4/146).
(4) فتح الباري (13/285) فيه انقطاع بين ابراهيم النخعي وأبي بكر.(1/417)
إن الدعاء باب عظيم، فإذا فتح للعبد تتابعت عليه الخيرات وانهالت عليه البركات، ولذلك حرص الصديق على حسن الصلة بالله وكثرة الدعاء، كما أن الدعاء من أعظم وأقوى عوامل النصر على الأعداء قال تعالى: { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } (سورة غافر، آية:60) . وقال تعالى: { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ } (سورة البقرة، آية:186).
ولقد لازم الصديق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورأى كيف كان رسول الله يستغيث بالله ويستنصره ويطلب المدد منه وقد حرص الصديق على أن يتعلم هذه العبادة من رسول الله، وأن يكون دعاؤه وتسبيحه على الصيغة التي يأمر بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويرتضيها، إذ ليس للمسلم أن يفضل على الصيغة المأثورة في الدعاء والتسبيح والصلاة على النبي صيغاً أخرى، مهما كانت في ظاهرها حسنة اللفظ، جيدة المعنى، لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو معلم الخير، والهادي إلى الصراط المستقيم، وهو أعرف بالأفضل والأكمل (1) ،
وكان الصديق رضي الله عنه يسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يعلمه دعاءاً يدعو به كما في الأحاديث الآتية :
(حديث أبي بكر الصديق الثابت في الصحيحين ) أنه قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - علمني دعاء أدعو به في صلاتي قال قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كبيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم .
__________
(1) أبوبكر الصديق، علي طنطاوي، ص207.(1/418)
ففي هذا الدعاء وصف العبد لنفسه المقتضى حاجته إلى المغفرة، وفيه وصف ربه الذي يوجب، أنه لا يقدر على هذا المطلوب غيره، وفيه التصريح بسؤال العبد لمطلوبه، وفيه بيان المقتضى للإجابة، وهو وصف الرب بالمغفرة، والرحمة، فهذا ونحوه أكمل أنواع الطلب (1)
( حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه الثابت في صحيحي أبي داوود و الترمذي ) أنه قال: يا رسول الله ، مرني بكلمات أقولهن إذا أصبحت ، وإذا أمسيت قال: "" قل: اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة رب كل شىء ومليكه ، أشهد أن لا إله إلا أنت ، أعوذ بك من شر نفسي ، وشر الشيطان وشركه "" قال: "" قلها إذا أصبحت وإذا أمسيت ، وإذا أخذت مضجعك .
__________
(1) الفتاوى (9/146).(1/419)
فقد تعلم الصديق من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه ليس لأحد أن يظن استغناءه عن التوبة إلى الله والاستغفار من الذنوب، بل كل أحد محتاج إلى ذلك دائماً قال تعالى: { إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا - لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا - } (سورة الأحزاب، آية:72-73) فالإنسان ظالم جاهل وغاية المؤمنين والمؤمنات التوبة، وقد أخبر الله تعالى في كتابه بتوبة عباده الصالحين ومغفرته لهم. وثبت في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:(لن يدخل الجنة أحد بعلمه) قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: (ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته) (1) وهذا لا ينافي قوله تعالى: { كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ } (سورة الحاقة، آية:24) فإن الرسول نفيى باء المقابلة والمعادلة والقرآن أثبت باء السبب، وقول من قال: إذا أحب الله عبداً لم تضره الذنوب، معناه: أنه إذا أحب عبداً ألهمه التوبة والاستغفار فلم يصر على الذنوب، ومن ظن أن الذنوب لا تضر من أصر عليها فهو ضال مخالف للكتاب والسنة، وإجماع السلف والأئمة، فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره (2) .
كان أبو بكر دائم الذكر لله تعالى شديد التضرع كثير التوجه لله، لا ينفك عن الدعاء في كل أحيانه وقد نقل إلينا بعض أدعيته وتضرعاته ومنها:
__________
(1) البخاري في الرقاق رقم 6463.
(2) الفتاوى (11/142).(1/420)
أ-أسألك تمام النعمة في الأشياء كلها، والشكر لك عليها حتى ترضى، وبعد الرضى، والخيرة في جميع ما تكون إليه الخَيَرةُ، بجميع ميسور الأمور كلها، لابمعسورها ياكريم (1) .
ب- وكان يقول في دعائه: اللهم إني أسألك الذي هو خير لي في عاقبة الخير،اللهم اجعل آخر ما تعطيني من الخير رضوانك والدرجات العلا من جنات النعيم (2) .
جـ-وكان يقول في دعائه: اللهم اجعل خير عمري آخره، وخير عملي خواتمه، وخير أيامي يوم ألقاك (3) .
د-وكان إذا سمع أحداً يمدحه من الناس يقول:(اللهم أنت أعلم بي من نفسي، وأنا أعلم بنفسي منهم، اللهم أجعلني خيراً مما يظنون، واغفر لي ما لا يعلمون، ولا تؤاخذني بما يقولون) (4) .
(35) دفاعه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
من صفات الصديق التي تميز بها: الجرأة والشجاعة، فقد كان لا يهاب أحداً في الحق، ولا تأخذه لومة لائم في نصرة دين الله والعمل له والدفاع عن رسوله - صلى الله عليه وسلم - .
( حديث عروة بن الزبير رضي الله عنهما الثابت في صحيح البخاري ) قال:سألت عبد الله بن عمرو عن أشد ما صنع المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: رأيت عقبة بن أبي معيط، جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، فوضع رداءه في عنقه فخنقه به خنقا شديدا، فجاء أبو بكر حتى دفعه عنه، فقال: أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله، وقد جاءكم بالبينات من ربكم. [ غافر:28] .
__________
(1) الشكر لابن أبي الدنيا رقم 109 نقلاً عن خطب ابي بكر، ص39.
(2) خطب أبي بكر الصديق، ص139.
(3) كنز العمال رقم 5030 نقلاً عن خطب أب بكر ، ص39.
(4) أسد الغابة (3/324).(1/421)
وأما في حديث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - فقد قام خطيباً وقال: يا أيها الناس من أشجع الناس؟ فقالوا: أنت يا أمير المؤمنين فقال: أما إني مابارزني أحد إلا انتصفت منه، ولكن هو أبو بكر، إنا جعلنا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - عريشاً فقلنا من يكون مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لئلا يهوي عليه أحد من المشركين، فوالله مادنا منه أحد إلا أبو بكر شاهراً بالسيف على رأس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، لايهوي إليه أحد إلاّ أهوى إليه فهذا أشجع الناس. قال ولقد رأيت رسول الله وأخذته قريش فهذا يُحادُه، وهذا يتلتله ويقولون أنت جعلت الآلهة إلهاً واحداً فوالله مادنا منه أحد إلا أبو بكر يضرب ويجاهد هذا ويتلتل هذا، وهو يقول: ويلكم أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله ثم رفع على بردة كانت عليه فبكى حتى اخضلت لحيته، ثم قال: أنشدكم الله أمؤمن آل فرعون خير أم هو؟ فبكت القوم، فقال عليّ: فوالله لساعة من أبي بكر خير من ملء الأرض من مؤمن آل فرعون، ذاك رجل يكتم إيمانه وهذا رجل أعلن إيمانه (1) .
هذه صورة مشرقة تبين طبيعة الصراع بين الحق والباطل والهدى والضلال، والإيمان والكفر، وتوضح ما تحمله الصديق من الألم والعذاب في سبيل الله تعالى كما تعطي ملامح واضحة عن شخصيته الفذة، وشجاعته النادرة التي شهد له بها الإمام علي - رضي الله عنه - في خلافته أي بعد عقود من الزمن، وقد تأثر علي - رضي الله عنه - حتى بكى وأبكى.
__________
(1) البداية والنهاية (3/271-272).(1/422)
إن الصديق - رضي الله عنه - أول من أوذي في سبيل الله بعد رسول الله، وأول من دافع عن رسول الله، وأول من دعا الى الله (1) ، وكانت الذراع اليمنى لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وتفرغ للدعوة وملازمة رسول الله وإعانته على من يدخلون الدعوة في تربيتهم وتعليمهم وإكرامهم، فهذا ابوذر - رضي الله عنه - يقص لنا حديثه عن إسلامه ففيه: (...فقال أبوبكر: ائذن لي يارسول الله في طعامه الليلة - وأنه أطعمه من زبيب الطائف (2) ، وهكذا كان الصديق في وقوفه مع رسول الله يستهين بالخطر على نفسه، ولا يستهين بخطر يصيب النبي - صلى الله عليه وسلم - قل أو كثر حيثما رآه واستطاع أن يذود عنه العادين عليه، وانه ليراهم آخذين بتلابيبه فيدخل بينهم وبينه وهو يصيح بهم: (ويلكم أتقتلون رجلاً ان يقول ربي الله؟) فينصرفون عن النبي وينحون عليه يضربونه، ويجذبونه من شعره فلا يدعونه إلا وهو صديع) (3) .
(36) أنه أول العشرة المبشرين بالجنة وأفضلهم :
( حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أبو بكر في الجنة وعمر في الجنة وعثمان في الجنة وعليٌ في الجنة وطلحة في الجنة والزبير في الجنة وعبد الرحمن بن عوف في الجنة وسعدُ ابن أبي وقاص في الجنة وسعيدُ ابن زيد في الجنة وأبو عبيدة بن الجراح في الجنة .
(37) ومن أعظم مناقبه - رضي الله عنه - أن أحق الناس بالخلافة بالكتاب والسنة والإجماع :
...
- الآيات الدالة على خلافة أبي بكر - رضي الله عنه - :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ
__________
(1) انظر: ابوبكر الصديق ، محمد عبدالرحمن قاسم، ص29،30،32.
(2) الفتح (7/213)؛ الخلافة الراشدة، يحيى اليحيى، ص156.
(3) عبقرية الصديق للعقاد، ص87؛ صديع: المشقوق الثوب.(1/423)
وردت آيات في كتاب الله عز وجل فيها الإشارة إلى أن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - أحق الناس في هذه الأمة بخلافة سيد الأولين والآخرين وتلك الآيات هي:
أ-قوله تعالى: { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ - صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ - } (سورة الفاتحة، آية:6-7). ووجه الدلالة أن أبا بكر - رضي الله عنه - فيمن أمر الله -جلا وعلا- عباده أن يسألوه أن يهديهم طريقهم وأن يسلك بهم سبيلهم وهم الذين أنعم الله عليهم وذكر منهم الصديقين في قوله تعالى: { وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا } (سورة النساء، آية:69). وقد أخبر المصطفى - صلى الله عليه وسلم - أن أبا بكر - رضي الله عنه - من الصديقين، فدل ذلك على أنه واحد منهم بل هو المقدم فيهم ولما كان أبو بكر - رضي الله عنه - ممن طريقهم هو الصراط المستقيم فلا يبقى أي شك لدى العاقل في أنه أحق خلق الله في هذه الأمة بخلافة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - (1) .
__________
(1) عقيدة أهل السنّة والجماعة في الصحابة، ناصر حسن الشيخ (2/532).(1/424)
[*] قال محمد بن عمر الرازي: قوله: { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ - صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ - } يدل على إمامة أبي بكر - رضي الله عنه - لأنا ذكرنا أن تقدير الآية: اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم والله تعالى قد بين في آية أخرى أن الذين أنعم الله عليهم من هم؟ فقال: { فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ } الآية ولا شك أن رأس الصديقين ورئيسهم أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - فكان معنى الآية أن الله أمرنا أن نطلب الهداية التي كان عليها أبو بكر الصديق وسائر الصديقين ولو كان أبو بكر ظالاً لما جاز الاقتداء به فثبت بما ذكرناه دلالة هذه الآية على إمامة أبي بكر - رضي الله عنه - (1) .
[*] وقال محمد الأمين الشنقيطي : يؤخذ من هذه الآية الكريمة صحة إمامة أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - لأنه داخل فيمن أمرنا الله في السبع المثاني والقرآن العظيم
-أعني الفاتحة- بأن نسأله أن يهدينا صراطهم فدل على أن صراطهم هو الصراط المستقيم وذلك في قوله تعالى { اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم } وقد بين الذين أنعم عليهم فعد منهم الصديقين وقد بين - صلى الله عليه وسلم - أن أبا بكر - رضي الله عنه - من الصديقين فاتضح أنه داخل في الذين أنعم الله عليهم الذين أمرنا الله أن نسأله الهداية إلى صراطهم فلم يبق لبس في أن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - على الصراط المستقيم وإن إمامته حق (2) .
__________
(1) تفسير الرازي (1/260).
(2) أضواء البيان (1/36).(1/425)
ب-قال تعالى: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } (سورة المائدة، آية:54).
هذه الصفات المذكورة في هذه الآية الكريمة أول من تنطبق عليه أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - وجيوشه من الصحابة الذين قاتلوا المرتدين فقد مدحهم الله بأكمل الصفات ووجه دلالة الآية على خلافة الصديق أنه (كان في علم الله سبحانه وتعالى ما يكون بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ارتداد قوم فوعد سبحانه -ووعده صدق- أنه يأتي بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم، فلما وجد ما كان في علمه من ارتداد من ارتد بعد وفاة رسول الله وجد تصديق وعده بقيام أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - بقتالهم فجاهد بمن أطاعه من الصحابة من عصاه من الأعراب، ولم يخف في الله لومة لائم حتى ظهر الحق وزهق الباطل وصار تصديق وعده بعد وفاة رسوله - صلى الله عليه وسلم - آية للعالمين ودلالة على صحة خلافة الصديق - رضي الله عنه - (1) .
جـ-قال تعالى: { إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } (سورة التوبة، آية:40).
__________
(1) الاعتقاد للبيهقي، ص173-174.(1/426)
[*] قال أبو عبدالله القرطبي: قال بعض العلماء في قوله تعالى: { ثاني اثنين إذ هما في الغار } ما يدل على أن الخليفة بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - لأن الخليفة لا يكون أبداً إلا ثانياً وسمعت شيخنا أبا العباس أحمد بن عمر يقول: إنما استحق أن يقال ثاني اثنين لقيامه بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - بالأمر كقيام النبي - صلى الله عليه وسلم - به أولاً، وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما مات ارتدت العرب كلها ولم يبقى الإسلام إلا بالمدينة وجواثا (1) ، فقام أبو بكر يدعو الناس إلى الإسلام ويقاتلهم على الدخول في الدين كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - فاستحق من هذه الجهة أن يقال في حقه ثاني اثنين (2) .
{ تنبيه } : هذه الآية الكريمة دلالة على أفضلية الصديق من سبعة أوجه ففي الآية الكريمة من فضائل أبي بكر - رضي الله عنه - :
1- أن الكفار أخرجوه :
الكفار أخرجوا الرسول (ثاني أثنين) فلزم أن يكونوا أخرجوهما، وهذا هو الواقع.
2- أنه صاحبه الوحيد :
الذي كان معه حين نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا هو أبوبكر، وكان ثاني أثنين الله ثالثهما.
قوله { ثَانِيَ اثْنَيْنِ } ففي المواضع التي لا يكون مع النبي - صلى الله عليه وسلم - من أكابر الصحابة إلا واحد يكون هو ذلك الواحد مثل سفره في الهجرة ومقامه يوم بدر في العريش لم يكن معه فيه إلا أبوبكر، ومثل خروجه الى قبائل العرب يدعوهم الى الإسلام كان يكون معه من أكابر الصحابة أبوبكر، وهذا اختصاص في الصحبة لم يكن لغيره باتفاق أهل المعرفة بأحوال النبي - صلى الله عليه وسلم - .
3- أنه صاحبه في الغار :
الفضيلة في الغار ظاهرة بنص القرآن والسنة الصحيحة :
__________
(1) جواثا: قرية بالبحرين.انظر: معجم البلدان (2/174).
(2) تفسير القرطبي (8/147-148).(1/427)
( حديث أنس رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن أبا بكر حدثه فقال: قلت للنبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في الغار: لو أن أحدهم نظر الى قدميه لأبصرنا تحت قدميه!! فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (ياأبابكر ماظنك باثنين الله ثالثهما) .
وهذا الحديث مع كونه مما اتفق أهل العلم على صحته وتلقيه بالقبول فلم يختلف في ذلك اثنان منهم فهو مما دل القرآن على معناه (1) .
4- أنه صاحبه المطلق :
قوله: { إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ } لايختص بمصحابته في الغار، بل هو صاحبه المطلق الذي عمل في الصحبة كما لم يشركه فيه غيره -فصار مختصاً بالأكملية من الصحبة، وهذا مما لا نزاع فيه بين أهل العلم بأحوال النبي - صلى الله عليه وسلم - ولهذا قال من قال من العلماء: إن فضائل الصديق خصائص لم يشركه فيها غيره (2) .
5- أنه المشفق عليه :
__________
(1) منهاج السنّة (4/240،241).
(2) منهاج السنّة (4/252،245).(1/428)
قوله { لا تَحْزَنْ } يدل على أن صاحبه كان مشفقاً عليه محباً له ناصراً له حيث حزن ، وإنما بحزن الإنسان حال الخوف على من يحبه، وكان حزنه على النبي - صلى الله عليه وسلم - لئلا يقتل ويذهب الإسلام، ولهذا لما كان معه في سفر الهجرة كان يمشي أمامه تارة، ووراءه تارة، فسأله النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، فقال: أذكر الرصد فأكون أمامك، وأذكر الطلب فأكون وراءك (1) ، وفي رواية أحمد في كتاب فضائل الصحابة: ...فجعل أبوبكر يمشي خلفه ويمشي أمامه فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - مالك؟ قال: يارسول الله أخاف أن تؤتى من أمامك فأتقدم، قال: فلما انتهينا الى الغار قال أبوبكر: يارسول الله كما أنت حتى أيمه...فلما رأى أبوبكر حجراً في الغار فألقمها قدمه، وقال يارسول الله إن كانت لسعة أو لدغة كانت بي (2) . فلم يكن يرضى بمساواة النبي؛ بل كان لا يرضى بأن يقتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يعيش؛ بل كان يختار أن يفديه بنفسه وأهله وماله. وهذا واجب على كل مؤمن، والصديق أقوم المؤمنين بذلك (3) .
6- المشارك له في معية الاختصاص :
__________
(1) ابوبكر الصديق أفضل الصحابة وأحقهم بالخلافة، ص43.
(2) منهاج السنّة (4/262،263).
(3) نفس المصدر (4/263).(1/429)
قوله: { إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا } صريح في مشاركة الصديق للنبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه المعية التي اختص بها الصديق لم يشركه فيها أحد من الخلق... وهي تدل على أنه معهم بالنصر والتأييد والإعانة على عدوهم - فيكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أخبر أن الله ينصرني وينصرك يا أبابكر، ويعيننا عليهم، نصر إكرام ومحبة كما قال الله تعالى: { إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءَامَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ } (سورة غافر، الآية 51). وهذا غاية المدح لأبي بكر؛ إذ دل على أنه ممن شهد له الرسول بالايمان المقتضي نصر الله له مع رسوله في مثل هذه الحال التي يخذل فيها عامة الخلق إلا من نصره الله (1) .
[*] وقال الدكتور عبدالكريم زيدان عن المعية في هذه الآية الكريمة وهذه المعية الربانية المستفادة من قوله تعالى { إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا } أعلى من معيته للمتقين والمحسنين في قوله تعالى { إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ } لأن المعية هنا لذات الرسول وذات صاحبه، غير مقيدة بوصف هو عمل لهما، كوصف التقوى والإحسان بل هي خاصة برسوله وصاحبه مكفولة هذه المعية بالتأييد بالآيات وخوارق العادات (2) .
7- أنه صاحبه في حال إنزال السكينة والنصر:
__________
(1) منهاج السنّة (4/242،243).
(2) المستفاد من قصص القرآن (2/100).(1/430)
قال تعالى { فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا... } (سورة التوبة، الآية 40) فإن من كان صاحبه في حال الخوف الشديد فلأن يكون صاحبه في حضور النصر والتأييد أولى وأحرى، فلم يحتج أن يذكر صحبته له في هذه الحال لدلالة الكلام والحال عليها. وإذا علم أنه صاحبه في هذه الحال علم أنما حصل للرسول من إنزال السكينة والتأييد بالجنود التي لم يرها الناس لصاحبه فيها أعظم مما لسائر الناس. وهذا من بلاغة القرآن وحسن بيانه (1) .
ح- قال تعالى : { وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } (سورة التوبة، آية:100) الآية
__________
(1) منهاج السنّة (4/272).(1/431)
ووجه دلالة الآية على أحقية الصديق بالإمامة بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الهجرة فعل شاق على النفس ومخالف للطبع فمن أقدم عليه أولاً صار قدوة لغيره في هذه الطاعة وكان ذلك مقوياً لقلب الرسول عليه الصلاة والسلام وسبباً لزوال الوحشة عن خاطره وكذلك السبق في النصرة فإن الرسول عليه الصلاة والسلام لما قدم المدينة فلاشك أن الذين سبقوا إلى النصرة والخدمة فازوا بمنصب عظيم وإذا ثبت هذا فإن أسبق الناس إلى الهجرة أبو بكر الصديق فإنه كان في خدمة المصطفى عليه الصلاة والسلام وكان مصاحباً له في كل مسكن وموضع فكان نصيبه من هذا المنصب أعلى من نصيب غيره وإذا ثبت هذا صار محكوماً عليه بأنه رضي الله عنه ورضي هو عن الله وذلك في أعلى الدرجات من الفضل، وإذا ثبت هذا وجب أن يكون إماماً حقاً بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصارت هذه الآية من أدل الدلائل على فضل أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وعلى صحة إمامتهما (1) .
خ- قال تعالى: { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } (النور آية:55).
هذه الآية منطبقة على خلافة الصديق - رضي الله عنه - وعلى خلافة الثلاثة بعده فلما وجدت هذه الصفة من الاستخلاف والتمكين في أمر أبي بكر وعمر وعثمان وعلي دل ذلك على أن خلافتهم حق (2) ، وقال الحافظ بن كثير: وقال بعض السلف خلافة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما حق في كتاب الله ثم تلا هذه الآية (3) .
__________
(1) تفسير الرازي (16/168-169).
(2) تفسير القرآن العظيم لابن كثير (5/121).
(3) نفس المصدر (5/121).(1/432)
د-قال تعالى: { قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا } (سورة الفتح، آية:16) قال أبو الحسن الأشعري رحمه الله تعالى:(وقد دل على إمامة أبي بكر في سورة براءة فقال للقاعدين عن نصرة نبيه عليه السلام والمتخلفين عن الخروج معه : { فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ } (سورة التوبة، آية:83). وقال في سورة أخرى: { سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ } يعني الى قوله: { لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا } ثم قال الله تعالى { كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلا قَلِيلا } وقال تعالى: { قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا } -يعني تعرضوا عن إجابة الداعي لكم الى قتالكم- كما { تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا } (سورة الفتح، آيتان:(1/433)
15-16). والداعي لهم إلى ذلك غير النبي - صلى الله عليه وسلم - قال الله -عزوجل- له { فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا } وقال في سورة الفتح: { يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ } فمنعهم عن الخروج مع نبيه عليه السلام وجعل خروجهم معه تبديلاً لكلامه فوجب بذلك أن الداعي الذي يدعوهم إلى القتال داع يدعوهم بعد نبيه - صلى الله عليه وسلم - (1) ،
[*] وقد قال مجاهد في قوله: { أُولِي بَأْسٍ شَدِيد } . هم فارس والروم وبه قال الحسن البصري. قال عطاء: هم فارس وهو أحد قولي ابن عباس - رضي الله عنه - ، وفي رواية أخرى عنه أنهم بنو حنيفة يوم اليمامة فإن كانوا أهل اليمامة فقد قوتلوا في أيام أبي بكر: وهو الداعي إلى قتال مسيلمة وبني حنيفة من أهل اليمامة، وإن كانوا أهل فارس والروم (2) ، فقد قوتلوا في أيام أبي بكر وقاتلهم عمر من بعده وفرغ منهم وإذا وجبت إمامة عمر وجبت إمامة أبي بكر كما وجبت إمامة عمر لأنه العاقد له الإمامة فقد دل القرآن على إمامة الصديق والفاروق رضي الله عنهما، وإذا وجبت إمامة أبي بكر بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجب أنه أفضل المسلمين - رضي الله عنه - (3) .
هـ- قال تعالى: { لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } (سورة الحشر، الآية: 8).
__________
(1) الإبانة عن أصول الديانة، ص67؛ مقالات الاسلاميين (2/144).
(2) جامع البيان للطبري (26/82-84)؛ الاعتقاد للبيهقي، ص173.
(3) الإبانة في أصول الديانة، ص67.(1/434)
وجه دلالة هذه الآية على خلافته - رضي الله عنه - أن الله عز وجل سماهم (صادقين) ومن شهد له الرب - جل وعلا- بالصدق فإنه لا يقع في الكذب ولا يتخذه خلقاً بحال وقد أطبق هؤلاء الموصوفون بالصدق على تسمية الصديق - رضي الله عنه - (خليفة رسول الله) (1) - صلى الله عليه وسلم - ومن هنا كانت الآية دالة على ثبوت خلافته - رضي الله عنه - (2) .
الأحاديث الدالة على خلافة أبي بكر - رضي الله عنه - :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
وأما الأحاديث النبوية التي جاء التنبيه فيها على خلافة أبي بكر - رضي الله عنه - فكثيرة شهيرة متواترة ظاهرة الدلالة إما على وجه التصريح أوالإشارة ولاشتهارها وتواترها صارت معلومة من الدين بالضرورة بحيث لا يسع أهل البدعة إنكارها (3) ومن تلك الأحاديث .
(1) (جبير بن مطعم رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) قال: أتت امرأة النبي - صلى الله عليه وسلم - فأمرها أن ترجع إليه قالت: أرأيت إن جئت ولم أجدك - كأنها تقول الموت- قال - صلى الله عليه وسلم - إن لم تجديني فأتي أبابكر .
[*] قال ابن حجر رحمه الله : وفي الحديث أن مواعيد النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت على من يتولى الخلافة بعده تنجيزها وفيه رد على الشيعة في زعمهم أنه نص على استخلاف علي والعباس (4) .
(2) ( حديث حذيفة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : اقتدوا باللذين بعدي أبي بكر وعمر .
[*] قال لعلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:
__________
(1) منهاج السنّة (1/135)؛ الفصل في الملل والأهواء والنحل (4/107).
(2) عقيدة أهل السنّة والجماعة (2/538)، ناصر حسن الشيخ.
(3) عقيدة أهل السنّة والجماعة في الصحابة (2/539).
(4) فتح الباري (7/24).(1/435)
فقوله - صلى الله عليه وسلم - : (اقتدوا باللذين من بعدي) أي: بالخليفتين اللذين يقومان من بعدي وهما أبوبكر وعمر وحث على الاقتداء بهما لحسن سيرتهما وصدق سريرتهما، وفي الحديث إشارة لأمر الخلافة (1) .
(3)( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : بينا أنا نائم، رأيتني على قليب عليها دلو، فنزعت منها ما شاء الله، ثم أخذها ابن أبي قحافة، فنزع بها ذنوبا أو ذنوبين، وفي نزعه ضعف، والله يغفر له ضعفه، ثم استحالت غربا، فأخذها ابن الخطاب، فلم أر عبقريا من الناس ينزع نزع عمر، حتى ضرب الناس بعطن).
[*] قال الشافعي رحمه الله: رؤيا الأنبياء وحي وقوله: وفي نزعه ضعف قصر مدته وعجلة موته وشغله بالحرب لأهل الردة عن الافتتاح والتزيد الذي بلغه عمر في طول مدته (2) .
(4)( حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيح مسلم ) قالت : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم * في مرضه ادعي لي أبا بكر وأخاك حتى اكتب كتابا فإني أخاف أن يتمنى متمن ويقول قائل أنا أولى ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر .
دل هذا الحديث دلالة واضحة على فضل الصديق - رضي الله عنه - حيث أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بما سيقع في المستقبل بعد التحاقه بالرفيق الأعلى وأن المسلمين يأبون عقد الخلافة لغيره - رضي الله عنه - وفي الحديث إشارة أنه سيحصل نزاع ووقع كل ذلك كما أخبر عليه الصلاة والسلام ثم اجتمعوا على أبي بكر - رضي الله عنه - (3) .
__________
(1) تحفة الاحوذي بشرح الترمذي (10/147).
(2) الاعتقاد للبيهقي ، ص171.
(3) عقيدة أهل السنّة والجماعة في الصحابة (2/542).(1/436)
(5)(حديث أبي موسى الثابت في الصحيحين) قال : مروا أبا بكر فليصل بالناس قالت عائشة إنه رجل رقيق إذا قام مقامك لم يستطع أن يصلي بالناس . قال مروا أبا بكر فليصل بالناس ، فعادت فقال مُري أبا بكر فليصل بالناس فإنكن صواحب يوسف ، فأتاه فصلى بالناس في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - .
ولذا قال عمر رضي الله عنه : أفلا نرضى لدنيانا من رضيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا ؟!
هذا الحديث اشتمل على فوائد عظيمة منها: فضيلة أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - وترجيحه على جميع الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين وتفضيله، وتنبيه على أنه أحق بخلافة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غيره ومنها أن الإمام إذا عرض له عذر عن حضور الجماعة استخلف من يصلي بهم وأنه لا يستخلف إلا أفضلهم، ومنها فضيلة عمر بعد أبي بكر - رضي الله عنه - لأن أبابكر - رضي الله عنه - لم يعدل الى غيره (1) .
مسألة : ما المراد بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - صواحب يوسف ؟
[*] قال الإمام ابن حجر رحمه الله والمراد أنهن مثل صواحب يوسف في إظهار خلاف ما في الباطن .
ووجه المشابهة بينهما في ذلك أن زليخا استدعت النسوة وأظهرت لهن الإكرام بالضيافة ومرادها زيادة على ذلك وهو أن ينظرن إلى حسن يوسف ويعذرنها في محبته وأن عائشة أظهرت أن سبب إرادتها صرف الإمامة عن أبيها كونه لا يسمع المأمومين القراءة لبكائه ومرادها زيادة على ذلك وهو أن لا يتشاءم الناس به .أهـ
ومن هنا يتبين أن من صفات المرأة أنها تظهر شيئاً لا تريده وتُخْفي في نفسها وبين جنبيها شيئاً آخر هو الذي تريده .
__________
(1) شرح النووي (4/137).(1/437)
(6) ( حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري ) قال: خطب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (إن الله خير عبدا بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ما عند الله). فبكى أبو بكر رضي الله عنه، فقلت في نفسي: ما يبكي هذا الشيخ؟ إن يكن الله خير عبدا بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ما عند الله، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو العبد، وكان أبو بكر أعلمنا، قال: يا أبا بكر لا تبك، إن أمنَّ الناس علي في صحبته وماله أبي بكر، ولو كنت متخذا خليلا من أمتي لاتخذت أبا بكر، ولكن أخوة الإسلام ومودته، لا يبقين في المسجد باب إلا سد، إلا باب أبي بكر .
(7) قال عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - : لما قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالت الأنصار:منا أمير ومنكم أمير قال: فأتاهم عمر - رضي الله عنه - فقال: يامعشر الأنصار، ألستم تعلمون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أمر أبابكر يؤم الناس فأيكم تطيب نفسه أن يتقدم أبابكر - رضي الله عنه - فقالت الأنصار: نعوذ بالله أن نتقدم أبابكر (1) .
(8) روى ابن سعد بإسناده الى الحسن قال: قال علي: لما قبض النبي - صلى الله عليه وسلم - نظرنا في أمرنا فوجدنا النبي - صلى الله عليه وسلم - قد قدم أبابكر في الصلاة فرضينا لدنيانا من رضي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لديننا فقدمنا أبابكر (2) .
__________
(1) المستدرك (3/67).
(2) الطبقات لابن سعد (3/183).(1/438)
[*] وقد علق أبو الحسن الأشعري على تقديم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر في الصلاة فقال: وتقديمه له أمر معلوم بالضرورة من دين الاسلام قال: وتقديمه له دليل على أنه أعلم الصحابة وأقرؤهم لما ثبت في الخبر المتفق على صحته بين العلماء: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنّة، فإن كانوا في السنّة سواء فأكبرهم سناً، فإن كانوا في السن سواء فأقدمهم إسلاماً) - قال ابن كثير- وهذا من كلام الأشعري رحمه الله مما ينبغي أن يكتب بماء الذهب ثم قد اجتمعت هذه الصفات كلها في الصديق - رضي الله عنه - وأرضاه (1) .
انعقاد الإجماع على خلافة الصديق - رضي الله عنه - :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
__________
(1) البداية والنهاية (5/265).(1/439)
أجمع أهل السنّة والجماعة سلفاً وخلفاً على أن أحق الناس بالخلافة بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - لفضله وسابقته ولتقديم النبي - صلى الله عليه وسلم - إياه في الصلوات على جميع الصحابة وقد فهم أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - مراد المصطفى عليه الصلاة والسلام من تقديمه في الصلاة فأجمعوا على تقديمه في الخلافة ومتابعته ولم يتخلف منهم أحد ولم يكن الرب جل وعلا ليجمعهم على ضلالة فبايعوه طائعين وكان لأوامره ممتثلين ولم يعارض أحد في تقديمه (1) ، فعندما سئل سعيد بن زيد متى بويع أبو بكر؟ قال: يوم مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : كرهوا أن يبقوا بعض يوم وليسوا في جماعة (2) ، وقد نقل جماعة من أهل العلم المعتبرين إجماع الصحابة ومن جاء بعدهم من أهل السنّة والجماعة على أن أبابكر - رضي الله عنه - أولى بالخلافة من كل أحد (3) وهذه بعض أقوال أهل العلم:
[*] قال الخطيب البغدادي -رحمه الله- أجمع المهاجرون والأنصار على خلافة أبي بكر قالوا له: ياخليفة رسول الله ولم يسم أحد بعده خليفة، وقيل: إنه قبض النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ثلاثين ألف مسلم كل قال لأبي بكر: ياخليفة رسول الله ورضوا به من بعده رضي الله عنهم (4) .
__________
(1) عقيدة أهل السنة في الصحابة (2/550).
(2) أباطيل يجب أن تمح من التاريخ، ابراهيم شعوط، ص101.
(3) عقيدة أهل السنّة والجماعة في الصحابة (2/550).
(4) تاريخ بغداد (10/130-131).(1/440)
[*]وقال ابو الحسن الأشعري: أثنى الله -عز وجل- على المهاجرين والأنصار والسابقين الى الاسلام، ونطق القرآن بمدح المهاجرين والأنصار في مواضع كثيرة وأثنى على أهل بيعة الرضوان فقال عز وجل: { لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ } (سورة الفتح، الآية 18). قد أجمع هؤلاء الذين أثنى الله عليهم ومدحهم على إمامة أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - وسموه خليفة رسول الله وبايعوه وانقادوا له وأقروا له بالفضل وكان أفضل الجماعة في جميع الخصال التي يستحق بها الإمامة من العلم والزهد وقوة الرأي وسياسة الأمة وغير ذلك (1) .
__________
(1) الإبانة عن أصول الديانة، ص66.(1/441)
[*] قال ابن تيمية رحمه الله: والتحقيق أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دل المسلمين على استخلاف أبي بكر وأرشدهم إليه بأمور متعددة من أقوله وأفعاله وأخبر بخلافته إخبار رضي بذلك حامد له وعزم على أن يكتب بذلك عهداً ثم علم أن المسلمين يجتمعون عليه فترك الكتاب اكتفاء بذلك... فلو كان التعيين مما يشتبه على الأمة لبينه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بياناً قاطعاً للعذر ولكن لما دلهم دلالات متعددة على أن أبابكر هو المتعين وفهموا ذلك حصل المقصود ولهذا قال عمر بن الخطاب في خطبته التي خطبها بمحضر من المهاجرين والأنصار: وليس فيكم من تقطع إليه الأعناق مثل أبي بكر...) الى أن قال: (فخلافة أبي بكر الصديق دلت النصوص الصحيحة على صحتها وثبوتها ورضا الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - له بها وانعقدت بمبايعة المسلمين له واختيارهم إياه اختياراً استندوا فيه الى ما عملوه من تفضيل الله ورسوله فصارت ثابتة بالنص والإجماع جميعاً لكن النص دل على رضا الله ورسوله بها وأنها حق وأن الله أمر بها وقدرها وأن المؤمنين يختارونها وكان هذا أبلغ من مجرد العهد بها لأنه حينئذ كان يكون طريق ثبوتها مجرد العهد ، وأما إذا كان المسلمون قد اختاروه من غير عهد ودلت النصوص على صوابهم فيما فعلوه ورضا الله ورسوله بذلك كان ذلك دليلاً على أن الصديق كان فيه من الفضائل التي بان بها عن غيره ما علم المسلمون به أنه أحقهم بالخلافة فإن ذلك لايحتاج فيه الى عهد خاص (1) .
{ تنبيه } : على الرغم من أن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - كان أحق الناس بالخلافة بالكتاب والسنة والإجماع إلا أنه لم يكن حريصاً على الخلافة ولا يوماً واحداً فقد ضرب أروع المثل في الزهد في الدنيا والعزوف عنها والرغبة في الآخرة والإقبال عليها إقبال الظامئ على المورد العذب :
__________
(1) منهاج السنّة (1/139-141)؛ مجموع الفتاوى (35/47-49).(1/442)
وعند العُشّاري عن أبي الجحَّاف قال: لما بُويع أبو بكر رضي الله عنه أغلق بابه ثلاثة أيام يخرج إليهم في كل يوم فيقول: أيها الناس، قد أقلتكم بيعتكم فبايعوا من أحببتم. وكل ذلك يقوم إليه علي بن أبي طالب رضي الله عنه فيقول: لا نُقيلك ولا نستقيلك وقد قدّمك رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن ذا يؤخرك؟ كذا في الكنز . وأخرجه ابن النجار عن زيد بن علي عن آبائه رضي الله عنهم قال: قام أبو بكر رضي الله عنه على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هل من كاره فأقيله؟ ــــ ثلاثاً يقول ذلك ــــ فعند ذلك يقوم علي بن أبي طالب فيقول: لا والله لا نُقيلك ولا نستقيلك، من ذا الذي يؤخرك وقد قدّمك رسول الله صلى الله عليه وسلم . كذا في الكنز .
وأخرج ابن راهَوَيْه، والعدَني، والبَغَوي، وابن خُزيمة عن رافع بن أبي رافع قال: لما استخلف الناس أبا بكر رضي الله عنه قلت: يا صاحبي الذي أمرني أن لا أتأمر على رجلين، فارتحلت فانتهيت إلى المدينة فتعرَّضت لأبي بكر فقلت له: يا أبا بكر أتعرفني؟ قال: نعم. قلت: أتذكر شيئاً قلته لي؛ أن لا أتأمَّر على رجلين وقد وَلِيتَ أمر الأمة؟ فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قُبض والناس حديثو عهد بكفر، فخفت عليهم أن يرتدوا وأن يختلفوا؛ فدخلت فيها وأنا كاره، ولم يزل بي أصحابي. فلم يزل يعتذر حتى عذرته. كذا في الكنز .
الحزن على قبول الخلافة قول أبي بكر لعمر: أنت كلفتني هذا الأمر :(1/443)
وأخرج ابن راهَوَيْه، وخيثمة في فضائل الصحابة وغيرهُما عن رجل من آل ربيعة أنه بلغه: أن أبا بكر رضي الله عنه حين استُخلف قعد في بيته حزيناً، فدخل عليه عمر رضي الله عنه، فأقبل عليه يلومه وقال: أنت كلّفتني هذا الأمر، وشكا إليه الحُكْمَ بين الناس. فقال له عمر: أوَ ا علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الوالي إذا اجتهد فأصاب الحق فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ الحق فله أجر واحد"؛ فكأنه سهَّل على أبي بكر رضي الله عنه، كذا في الكنز .
(38) أعماله العظيمة :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
من أعظم أعمال الصديق - رضي الله عنه - سبقه إلى الإسلام وهجرته مع النبي صلى الله عليه وسلم ، ومن أعماله قبل الهجرة أنه أعتق سبعة كلهم يُعذّب في الله ، وهم : بلال بن أبي رباح ، وعامر بن فهيرة ، وزنيرة ، والنهدية وابنتها ، وجارية بني المؤمل ، وأم عُبيس .
- ومن أعظم أعماله التي قام بها بعد تولّيه الخلافة حرب المرتدين :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ
فقد كان رجلا رحيما رقيقاً ولكنه في ذلك الموقف ، في موقف حرب المرتدين كان أصلب وأشدّ من عمر رضي الله عنه الذي عُرِف بالصلابة في الرأي والشدّة في ذات الله
وقد أشار بعض الصحابة ومنهم عمر على الصديق بأن يترك مانعي الزكاة ويتألفهم حتى يتمكن الإيمان من قلوبهم ثم هم بعد ذلك يزكون فامتنع الصديق عن ذلك وأباه (1) ،
__________
(1) البداية والنهاية (6/315).(1/444)
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) قال : لمَّا توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان أبو بكر ، وكفر من كفر من العرب، قال عمر : كيف تقاتل الناس، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قالها عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله). فقال: والله لأقاتلنَّ من فرَّق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حقُّ المال، والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدُّونه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقاتلتهم على منعها. قال عمر: فوالله ما هو إلا أن قد شرح الله صدر أبي بكر فعرفت أنه الحق.
(عناقاً ) : صغير الماعز .
ثم قال عمر بعد ذلك؛ والله لقد رجح إيمان أبي بكر بإيمان هذه الأمة جميعاً في قتال أهل الردة (1) ، وبذلك يكون أبو بكر قد كشف لعمر (وهو يناقشه) عن ناحية فقهية مهمة أجلاها له، وكانت قد غابت عنه وهي أن جملة جاءت في الحديث النبوي الشريف الذي احتج به عمر هي الدليل على وجوب محاربة من منع الزكاة حتى وإن نطق بالشهادتين وهي قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها (2) ، وفعلاً كان رأي أبو بكر في حرب المرتدين رأياً ملهماً، وهو الرأي الذي تمليه طبيعة الموقف لمصلحة الإسلام والمسلمين، وأي موقف غيره سيكون فيه الفشل والضياع والهزيمة والرجوع إلى الجاهلية، ولولا الله ثم هذا القرار الحاسم من أبي بكر لتغير وجه التاريخ وتحولت مسيرته، ورجعت عقارب الساعة إلى الوراء، ولعادت الجاهلية تعيث في الأرض فساداً (3) .
__________
(1) حروب الردة، محمد أحمد باشميل، ص24.
(2) مسلم رقم 21.
(3) الشورى بين الأصالة والمعاصرة، ص86.(1/445)
لقد تجلى فهمه الدقيق للإسلام، وشدة غيرته على هذا الدين، وبقائه على ما كان عليه في عهد نبيه في الكلمة التي فاض بها لسانه ونطق بها جنانه، وهي الكلمة التي تساوي خطبة بليغة طويلة وكتاباً حافلاً، وهي قوله عندما امتنع كثير من قبائل العرب أن يدفعوا الزكاة الى بيت المال، أو منعوها مطلقاً وأنكروا فرضيتها: قد انقطع الوحي وتم الدين، أينقص وأنا حي (1) وفي رواية قال عمر: فقلت يا خليفة رسول الله تألف الناس وأرفق بهم، فقال لي: أجبّار في الجاهلية خوَّار في الإسلام، قد انقطع الوحي، وتم الدين أينقص وأنا حي (2) .
لقد سمع أبو بكر وجهات نظر الصحابة في حرب المرتدين وما عزم على خوض الحرب إلا بعد أن سمع وجهات النظر بوضوح، إلا أنه كان سريع القرار حاسم الرأي فلم يتردد لحظة واحدة بعد ظهور الصواب له وعدم التردد كان سمة بارزة من سمات أبي بكر -هذا الخليفة العظيم- في حياته كلها (3) ، ولقد اقتنع المسلمون بصحة رأيه ورجعوا إلى قوله واستصوبوه.
لقد كان أبو بكر - رضي الله عنه - أبعد الصحابة نظراً، وأحقهم فهماً، وأربطهم جناناً في هذه الطامة العظيمة (4) ، والمفاجئة المذهلة، ومن هنا أتى قول سعيد بن المسيب رحمه الله: وكان أفقهم، يعني الصحابة، وأمثلهم رأياً (5) . من خطباء الإيمان .
لقد سُجِّل هذا الموقف الصلب القوي لأبي بكر رضي الله عنه حتى قيل : نصر الله الإسلام بأبي بكر يوم الردّة ، وبأحمد يوم الفتنة .
فحارب رضي الله عنه المرتدين ومانعي الزكاة ، وقتل الله مسيلمة الكذاب في زمانه .
ومع ذلك الموقف إلا أنه أنفذ جيش أسامة الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم أراد إنفاذه نحو الشام.
وفي عهده فُتِحت فتوحات الشام ، وفتوحات العراق .
__________
(1) المرتضى لأبي الحسن الندوي، ص70.
(2) مشكاة المصابيح، كتاب المناقب رقم 6034.
(3) الشورى بين الأصالة والمعاصرة، ص87.
(4) حركة الردة، ص165.
(5) البدر والتاريخ للمقدسي (5/153).(1/446)
- :ومن أجَّلِ أعماله جمع القرآن الكريم:
( حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري ) قال: بعث إليَّ أبو بكر مقتل أهل اليمامة وعنده عمر، فقال أبو بكر: إنَّ عمر أتاني فقال: إنَّ القتل قد استحرَّ يوم اليمامة بقرَّاء القرآن، وإني أخشى أن يستحرَّ القتل بقرَّاء القرآن في المواطن كلِّها، فيذهب قرآن كثير، و إني أرى أن تأمر بجمع القرآن، قلت: كيف أفعل شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال عمر: هو والله خير، فلم يزل عمر يراجعني في ذلك حتَّى شرح الله صدري للذي شرح له صدر عمر، ورأيت في ذلك الذي رأى عمر. قال زيد: قال أبو بكر: وإنك رجل شابّ عاقل لا نتَّهمك، قد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتتبَّع القرآن فاجمعه. قال زيد: فوالله لو كلَّفني نقل جبل من الجبال ما كان بأثقل عليَّ ممَّا كلَّفني من جمع القرآن. قلت كيف تفعلان شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال أبو بكر: هو والله خير، فلم يزل يحثُّ مراجعتي حتى شرح الله صدري للَّذي شرح الله له صدر أبي بكر وعمر، ورأيت في ذلك الذي رأيا، فتتبَّعت القرآن أجمعه من العُسُبِ والرقاع و اللخاف وصدور الرجال، فوجدت في آخر سورة التوبة: { لقد جاءكم رسول من أنفسكم } . إلى آخرها مع خزيمة، أو أبي خزيمة، فألحقتها في سورتها، فكانت الصحف عند أبي بكر حياته حتى توفاه الله عز وجل، ثم عند عمر حياته حتى توفاه الله، ثم عند حفصة بنت عمر.
اللخاف: يعني الخزف.
إنَّ القتل قد استحرَّ : أي اشتد وكثر(1/447)
كان من ضمن شهداء المسلمين في حرب اليمامة كثير من حفظة القرآن، وقد نتج عن ذلك أن قام أبو بكر - رضي الله عنه - بمشورة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بجمع القرآن حيث جمع من الرقاع والعظام والسعف ومن صدور الرجال (1) ، وأسند الصديق هذا العمل العظيم المشروع الحضاري الضخم إلى الصحابي الجليل زيد بن ثابت الأنصاري - رضي الله عنه - ، يروي زيد بن ثابت - رضي الله عنه - فيقول: بعث إليّ أبو بكر - رضي الله عنه - لمقتل أهل اليمامة (2) ، فإذا عمر بن الخطاب عنده، قال أبو بكر - رضي الله عنه - : إن عمر أتاني فقال: إن القتل قد استحر (3) يوم اليمامة بقراء القرآن، وإني أخشى أن يستحر القتل استحر (4) يوم اليمامة بقراء القرآن، وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن (5) ، كلها فيذهب كثير من القرآن، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن قلت لعمر: كيف أفعل شيئاً لم يفعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (6) ؟!! فقال عمر: هذا والله خير، فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر عمر، ورأيت في ذلك الذي رأى عمر. قال زيد: قال أبو بكر: وإنك رجل شاب عاقل، لا نتهمك (7) ، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فتتبع القرآن فاجمعه (8)
__________
(1) حروب الردة وبناء الدولة الاسلامية، احمد سعيد، ص145.
(2) يعني واقعة يوم اليمامة ضد مسيلمة الكذاب وأعوانه.
(3) استحر: كثر واشتد.
(4) استحر: كثر واشتد.
(5) أي في الأماكن التي يقع فيها القتال مع الكفار.
(6) يحتمل أن يكون - صلى الله عليه وسلم - إنما لم يجمع القرآن في المصحف، لما كان يترقبه من ورود ناسخ لبعض أحكامه أو تلاوته، فلما انقضى نزوله بوفاته - صلى الله عليه وسلم - ألهم الله الخلفاء الراشدين بذلك. (سيرة وحياة الصديق، ص120).
(7) هذه الصفات جعلت زيداً يتقدم على غيره في هذا العمل.
(8) أي : من الاشياء التي عندي وعند غيرك..(1/448)
قال زيد: فو الله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان بأثقل عليّ مما كلفني به من جمع القرآن، فتتبعت القرآن من العسب (1) ، واللخاف (2) ، وصدور الرجال، والرقاع (3) ، والأكتاف (4) . قال: حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري، لم أجدها مع أحد غيره. { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } (سورة التوبة، آية:128) حتى خاتمة براءة وكانت الصحف عند أبي بكر حياته حتى توفاه الله، ثم عند عمر حياته حتى توفاه الله، ثم عند حفصة بنت عمر رضي الله عنهم (5) وعلق البغوي على هذا الحديث فقال: فيه البيان الواضح أن الصحابة -رضي الله عنهم- جمعوا بين الدفتين القرآن الذي أنزله الله سبحانه وتعالى على رسوله - صلى الله عليه وسلم - من غير أن يزادوا فيه أو ينقصوا منه شيئاً والذي حملهم على جمعه ما جاء في الحديث وهو أنه كان مفرقاً في العسب، واللخاف، وصدور الرجال، فخافوا ذهاب بعضه بذهاب حفظته، ففزعوا فيه إلى خليفة رسول الله، ودعوه إلى جمعه، فرأى في ذلك رأيهم فأمر بجمعه في موضع واحد باتفاق من جميعهم، فكتبوه كما سمعوا من رسول الله من غير أن قدموا شيئاً أو أخروا، أو وضعوا له ترتيباً لم يأخذوه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُلقى أصحابه، ويعلمهم ما ينزل عليه من القرآن على الترتيب الذي هو الآن في مصاحفنا بتوقيف جبريل صلوات الله عليه، إياه على ذلك، وإعلامه عند نزول كل آية أن هذه الآية تكتب عقيب آية كذا في السور التي يذكر فيها كذا (6) ،
__________
(1) العسب: هو جريد النخل.
(2) اللخاف: جمع لخفة: وهي صفائح الحجارة.
(3) الرقاع: جمع رقعة وهي قطع الجلود.
(4) الأكتاف: جمع كتف، وهو العظم الذي للبعير او الشاة.
(5) البخاري رقم 4986.
(6) شرح السنّة (4/522) للبغوي..(1/449)
وهكذا يتضح للقارئ الكريم أن من أوليات أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - : أنه أول مَنْ جمع القرآن الكريم، يقول صعصعة بن صوحان رحمه الله: أول من جمع بين اللوحين، وورت الكلالة (1) : أبو بكر (2) .
وقال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - : يرحم الله أبا بكر هو أول من جمع بين اللوحين (3) .
وقد اختار أبو بكر - رضي الله عنه - زيد بن ثابت لهذه المهمة العظيمة، وذلك لأنه رأى فيه المقومات الأساسية للقيام بها وهي:
1-كونه شاباً، حيث كان عمره 21 سنة، فيكون أنشط، لما يطلب منه.
2-كونه أكثر تأهيلاً، فيكون أوعى له، إذ من وهبه الله عقلا راجحاً فقد يسر له سبيل الخير.
3-كونه ثقة، فليس هو موضعاً للتهمة، فيكون عمله مقبولاً، وتركن إليه النفس، ويطمئن إليه القلب.
4-كونه كاتباً للوحي، فهو بذلك ذو خبرة سابقة في هذا الأمر، وممارسة عملية له فليس غريباً عن هذا العمل، ولا دخيلاً عليه (4) .
هذه الصفات الجليلة جعلت الصديق يُرشِّح زيداً لجمع القرآن، فكان به جديراً، وبالقيام به خبيراً.
5-ويضاف لذلك أنه أحد الأربعة الذين جمعوا القرآن على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ، كما في الحديث الآتي :
( حديث قتادة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) قال: سألت أنس بن مالك رضي الله عنه: من جمع القرآن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: أربعة كلهم من الأنصار: أبي بن كعب، ومعاذ ابن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد.
__________
(1) الكلالة في رأي ابوبكر الصديق من لا ولد له ولا والد، فقد قال - رضي الله عنه - : رأيت في الكلالة رأياً فإن يك صواباً فمن الله، وإن يكن خطأ من قِبَلي والشيطان، الكلالة ماعدا الولد والوالد، أي هم الأخوة. انظر: موسوعة فقه أبي بكر الصديق، ص36.
(2) إسناده صحيح: اخرجه ابن أبي شيبة (7/196).
(3) أسناده صحيح: اخرجه ابن أبي شيبة (7/196).
(4) التفوق والنجابة على نهج الصحابة، حمد العجمي، ص73.(1/450)
وأما الطريقة التي اتبعها زيد في جمع القرآن فكان لا يثبت شيئاً من القرآن، إلا إذا كان مكتوباً بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ومحفوظاً من الصحابة، فكان لا يكتفي بالحفظ دون الكتابة، خشية أن يكون في الحفظ خطأ أو وهم، وأيضاً لم يقبل من أحد شيئاً جاء به إلا إذا أتى معه شاهدان يشهدان أن ذلك المكتوب كتب بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وأنه من الوجوه التي نزل بها القرآن (1) ، وعلى هذا المنهج استمر زيد - رضي الله عنه - في جمع القرآن حذراً متثبتاً مبالغاً في الدقة والتحري.
- :ومن أجل استخلاف الصديق لعمر بن الخطاب :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ ـــ ــ ـــ
في شهر جمادي الآخرة من العام الثالث عشر للهجرة النبوية مرض الخليفة أبو بكر - رضي الله عنه - ، واشتد به المرض (2) فلما ثقل واستبان له من نفسه -جمع الناس إليه فقال: إنه قد نزل بي ما قد ترون ولا أظنني إلا ميت لما بي وقد أطلق الله أيمانكم من بيعتي، وحل عنكم عقدتي، ورد عليكم أمركم فأمَّروا عليكم من أحببتم فإنكم إن أمرتم في حياة منِّي كان أجدر أن لا تختلفوا بعدي (3) .
وقد قام أبو بكر - رضي الله عنه - بعدة إجراءات لتتم عملية اختيار الخليفة القادم:
1-استشارة أبي بكر كبار الصحابة من المهاجرين والأنصار:
__________
(1) التفوق والنجابة على نهج الصحابة، ص74.
(2) البداية والنهاية (7/18)؛ تاريخ الطبري (4/238).
(3) التاريخ الاسلامي (9/258).(1/451)
وتشاور الصحابة رضي الله عنهم، وكل يحاول أن يدفع الأمر عن نفسه ويطلبه لأخيه إذ يرى فيه الصلاح والأهلية، لذا رجعوا إليه، فقالوا: رأينا يا خليفة رسول الله رأيك، قال: فأمهلوني حتى أنظر لله ولدينه ولعباده، فدعا أبو بكر عبد الرحمن بن عوف فقال له: أخبرني عن عمر بن الخطاب فقال له: ما تسألني عن أمر إلا وأنت أعلم به مني: فقال أبو بكر: وإن فقال عبد الرحمن: هو والله أفضل من رأيك فيه، ثم دعا عثمان بن عفان. فقال: أخبرني عن عمر بن الخطاب. فقال: أنت أخبرنا به. فقال: على ذلك يا أبا عبد الله فقال عثمان: اللهم علمي به أن سريرته خير من علانيته، وأنه ليس فينا مثله. فقال أبو بكر: يرحمك الله والله لو تركته ما عَدَتْك ثم دعا أسيد بن حضير فقال له: مثل ذلك، فقال أسيد: اللهم أعلمه الخيرة بعدك، يرضى للرضا، ويسخط للسخط، والذي يسر خير من الذي يعلن، ولن يلي هذا الأمر أحد أقوى عليه منه، وكذلك استشار سعيد بن زيد وعدداً من الأنصار والمهاجرين، وكلهم تقريباً كانوا برأي واحد في عمر إلا طلحة بن الله خاف من شدته، فقد قال لأبي بكر ما أنت قائل لرَبِّك إذا سألك عن استخلافك عمر علينا وقد ترى غلظته؟ فقال أبو بكر: أجلسوني أبالله تخوفوني؟ خاب من تزوَّدَ من أمركم بظلم أقول اللهم استخلفت عليهم خيْرَ أهْلكَ (1) .
وبين لمن نبهه إلى غلظة عمر وشدته فقال: ذلك لأنه يراني رقيقاً ولو أفضى الأمر إليه لترك كثيراً مما عليه (2) .
2-ثم كتب عهداً مكتوباً يقرأ على الناس في المدينة وفي الأنصار عن طريق أمراء الأجناد فكان نص العهد:
__________
(1) الكامل لابن الأثير (2/79)؛ التاريخ الاسلامي، محمود شاكر، ص101 الخلفاء الراشدون.
(2) الكامل لابن الأثير (2/79).(1/452)
بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما عهد أبو بكر بن أبي قحافة في آخر عهده بالدنيا خارجاً منها، وعند أول عهده بالآخرة داخلاً فيها، حيث يؤمن الكافر، ويوقن الفاجر، ويصدق الكاذب، إني أستخلفت عليكم بعدي عمر بن الخطاب فاستمعوا له وأطيعوا، وإني لم آلُ الله ورسوله ودينه ونفسي، وإياكم خيراً، فإن عَدَلَ فذلك ظني به وعلمي فيه، وإن بدل فلكل امرئ ما اكتسب، والخير أردت ولا أعلم الغيب { وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ } (1) (سورة الشعراء، آية:227).
__________
(1) تاريخ الاسلام للذهبي - عهد الخلفاء- ص116-117.(1/453)
إن عمر هو نصح أبي بكر الأخير للأمة، فقد أبصر الدنيا مقبلة تتهادى وفي قومه فاقة قديمة يعرفها، فإذا ما أطلوا لها استشرفتهم شهواتها، فنكلت بهم واستبدت، وذاك ما حذرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إياه (1) ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : فو الله لا الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بُسِطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها وتهلككم كما أهلكتهم (2) . لقد أبصر أبو بكر الداء فأتى لهم - رضي الله عنه - بدوء ناجع.. جبل شاهق، إذا ما رأته الدنيا أيست وولت عنهم مدبرة، إنه الرجل الذي قال فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - : أيها يا ابن الخطاب، والذي نفسي بيده مالقيك الشيطان سالكا فجاً قط إلا سلك فجّاً غير فجّك (3) . إن الأحداث الجسام التي مرت بالأمة، قد بدأت بقتل عمر، هذه القواصم خير شاهد على فراسة أبي بكر وصدق رؤيته في العهد لعمر، فعن عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: أفرس الناس ثلاثة صاحبة موسى التي قالت: يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين، وصاحب يوسف حيث قال: أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا، وأبو بكر حين استخلف عمر (4) ، فقد كان عمر هو سد الأمة المنيع الذي حال بينها وبين أمواج الفتن (5) .
ما وقع بين أبي بكر وبين عبد الرحمن وعثمان في إستخلاف عمر :
__________
(1) أبوبكر رجل الدولة، ص99.
(2) البخاري، كتاب الجزية والموادعة رقم 3158.
(3) البخاري، كتاب فضائل أصحاب النبي رقم 3683
(4) مجمع الزوائد (10/268) قال الهيثمي رواه الطبراني بإسنادين ورجال أحدهما رجال الصحيح، وأخرجه الحاكم (3/90) وصححه ووافقه الذهبي.
(5) أبوبكر رجل الدولة، ص100.(1/454)
وسمع بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بدخول عبد الرحمن، وعثمان على أبي بكر ـ رضي الله عنهم ـ وخَلْوتهما به، فدخلوا على أبي بكر فقال له قائل منهم: ما أنت قائل لربك إذا سألك عن إستخلافك عمر علينا وقد ترى غِلظته؟ فقال أبو بكر: أجلسوني، أبالله تُخوِّقوني، خاب من تزوَّد من أمركم بظلم أقول: اللهم إستخلفت عليهم خير أهلك. أبلغ عني ما قلت لك مَنْ وراءك، ثم اضطجع ودعا عثمان بن عفان، فقال أكتب:
بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما عهد أبو بكر بن أبي قحافة في آخر عهده من الدنيا خارجاً منها، وعند أول عهده بالآخرة داخلاً فيها، حيث يؤمن الكافر، ويوقن الفاجر، ويصدُق الكاذب: إني استخلفت عليكم بعدي عمر بن الخطاب، فاسمعوا له وأطيعوا وإِني لم آلُ الله ورسولَ ودينَه ونفسي وإِياكم خيراً، فإن عدل فذلك ظنِّي به، وعلمي فيه؛ وإن بدّل فلكل امرىء ما اكتسب (من الإِثم). الخيرَ أردتُ، ولا أعلم الغيب { ظُلِمُواْ وَسَيَعْلَمْ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَىَّ مُنقَلَبٍ } (الشعراء: 227) والسلام عليكم ورحمة الله.
ثم أمر بالكتاب فختمه. ثم قال بعضهم: لما أملَى أبو بكر رضي الله عنه صَدْر هذا الكتاب بقي ذِكْرُ عمر، فذُهب به قبل أن يُسمّي أحداً. فكتب عثمان رضي الله عنه: إني قد استخلفت عليكم عمر بن الخطاب. ثم أفاق أبو بكر فقال: إقرأ عليّ ما كتبت. فقرأ عليه ذكر عمر، فكبَّر أبو بكر وقال: أراك خفت إن أقبلت نفسي في غشيتي تلك فتختلف، فجزاك الله عن الإِسلام وأهله خيراً، والله إِنْ كنت لها لأهلاً. ثم أمره فخرج بالكتاب مختوماً ومعه عمر بن الخطاب وأُسَيد بن سعيد القرظي، فقال عثمان للناس: أتبايعون لمن في هذا الكتاب؟ فقالوا: نعم. وقال بعضهم: قد علمنا به ـ قال ابن سعد: عليٌّ القائل ـ وهو عمر. فأقرُّوا بذلك جميعاً. ورضوا به وبايعوا.(1/455)
ثم دعا أبو بكر عمر خالياً وأوصى به بما أوصاه به، ثم خرج من عنده فرفع أبو بكر يديه مدّاً فقال؛ اللهمَّ إني لم أُرِدْ بذلك إلا صلاحهم، وخفت عليهم الفتنة، فعملت فيهم بما أنت أعلم به واجتهدت لهم رأيي، فولَّيت عليهم خيرهم، وأقواهم عليهم، وأحصرهم على ما أرشدهم، وقد حضرني من أمرك ما حضر فأخلفني فيهم، فهم عبادك ونواصيهم بيدك أصلِحْ لهم وإليَهم، واجعله من خلفائك الراشدين يتبع هَدْي نبي الرحمة وهَدْي الصالحينَ بعده، وأصلح له رعيته. وكذا في الكنز .
جواب أبي بكر لطلحة إذ خالفه في استخلاف عمر :
وعند الّلكالئي عن عثمان بن عبيد الله بن عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهم ـ قال: لما حضرت أبا بكر الصديق الوفاةُ دعا عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ فأملى عليه عهده، ثم أُغمِي على أبي بكر قبل أن يملي أحداً، فكتب عثمان: عمر بن الخطاب، فأفاق أبو بكر فقال لعثمان: كتبتَ أحداً؟ فقال: ظننتك لمآبك وخشيت الفُرقة فكتبت عمر بن الخطاب. فقال: يرحمك الله أما لو كتبت نفسك لكنت لها أهلاً. فدخل عليه طلحة بن عبيد الله فقال: أنا رسول مَنْ ورائي إليك، يقولون: قد علمت غِلظة عمر علينا في حياتك فكيف بعد وفاتك إذا أفضيت إليه أُمورنا؟ والله سائلك عنه، فانظر ما أنت قائل. فقال: أجلسوني. أبالله تخوِّقوني، قد خاب أمرؤ ظنَّ من أمركم وهماً، إذا سألني الله قلت: إستخلفت على أهلك خيرهم لهم، فأبلْغهم هذا عنِّي.
وصية أبي بكر لعمر لما أراد أن يستخلفه :
أخرج ابن عساكر عن سالم بن عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهم ـ قال: لما حضر أبا بكر رضي الله عنه الموتُ أوصى:
"بسم الله الرحمن الرحيم. هذا عهد من أبي بكر الصدِّيق، عند آخر عهده بالدنيا، خارجاً منها، وأول عهده بالآخرة داخلاً فيها، حيث يؤمن الكافر، ويتَّقي الفاجر، ويصدّق الكاذب: إني استخلفت من بعدي عمر بن الخطاب. فإن عدل فذلك ظنِّي فيه، وإِن جار وبدَّل فالخيرَ أردت، ولا أعلم الغيب.(1/456)
ثم بعث إلى عمر رضي الله عنه فدعاه فقال: "يا عمر، أبغضك مبغض، وأحبك محب، وقِدْماً يُبغض الخير ويُحب الشر ـ قال: فلا حاجة لي فيها ـ قال: لكن لها بك حاجة، وقد رأيتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبتَه، ورأيت أثرته أنفسنا على نفسه، حتى إِن كنا لنهدي لأهله فضل ما يأتينا منه، ورأيتني وصحبتني وإِنما اتبعت أثر من كان قبلي، والله ما نمت فحلمت، ولا شهدت فتوهَّمت، وإِني لعلى طريق ما زغت، تَعَلَّم يا عمر، إِنَّ لله حقاً في الليل لا يقبله بالنهار، وحقاً بالنهار لا يقبله بالليل، وإِنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه يوم القيامة باتَّباعهم الحق، وحُقَّ الميزان أن يثقل لا يكون فيه إِلا الحق، وإِنما خفَّت موازين من خفَّت موازينه يوم القيامة باتباعهم الباطل، وحُقَّ لميزان أن يخفَّ لا يكون فيه إلا الباطل. إنَّ أول ما أحذرك نفسك، وأحذرك الناس فإنَّهم قد طمحت أبصارهم، وانتفخت أهواؤهم، وأن لهم الخيرة عن زلّة تكون، فإياه تكونه، فإنهم لن يزالوا خائفين لك فرقين منك ما خفت الله وفرقته. وهذه وصيتي، وأقرأُ عليك السلام".
كذا في الكنز .(1/457)
وعند ابن المبارك، وابن أبي شيبة، وهَنَّاد، وابن جرير، وأبي نُعَيم في الحلية عن عبد الرحمن بن سابط، وزيد بن زبيد بن الحارث، ومجاهد قالوا: لما حضر أبا بكر الموتُ دعا عمر - رضي الله عنه - وقال له: "إتَّق الله يا عمر، واعلم أن لله عملاً بالنهار لا يقبله بالليل، وعملاً بالليل لا يقبله بالنهار، وأنه لا يقبل نافلة حتى تُؤدى الفريضة، وإنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه يوم القيامة باتباعهم الحق في دار الدنيا وثقله عليهم، وحُقّ لميزان يوضع فيه الحق غداً أن يكون ثقيلاً، وإنما خفَّت موازين من خفَّت موازينه يوم القيامة باتَّباعهم الباطل في الدنيا وخفَّته عليهم، وحُقّ لميزان يوضع فيه الباطل غداً أن يكون خفيفاً. وأن الله تعالى ذكر أهل الجنة فذكرهم بأحسن أعمالهم، وتجاوز عن سيئته، فإذا ذكرتهم قلت: إِني لأخاف أن لا ألحق بهم؛ وأن الله تعالى ذكر أهل النار فذكرهم بأسوأ أعمالهم، وردَّ عليهم أحسنه؛ فإذا ذكرتهم قلت: إِني أخاف أن أكون مع هؤلاء ــ وذكر آية الرحمة وآية العذاب ـ فيكون العبد راغباً راهباً، ولا يتمنَّى على الله غير الحق، ولا يقنط من رحمته، ولا يُلقي بيديه إلى الهلكة. فإن أنت حفظت وصيتي فلا يكُ غائب أحب إليك من الموت وهو آتيك وإن أنت ضيَّعت وصيتي فلا يكُ. غائب أبغض إليك من الموت، ولست بمعجِزِه".
كذا في منتخب الكنز .
(39) إكرامه لأهل البيت :
أخرج أبو نُعيم والجابري في جزئه عن عبد الرحمن بن الأصبهاني قال: جاء الحسن بن علي إلى أبي بكر رضي الله عنهم وهو على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: انزل عن مجلس أبي، قال: صدقت، إنه مجلس أبيك، وأجلسه في حجره وبكى. فقال علي رضي الله عنه: والله ما هذا عن أمري. فقال: صدقتَ والله ما اتهمتك. وعند ابن سعد عن عروة أن أبا بكر خطب يوماً فجاء الحسن فصعد إليه المنبر، فقال: انزل عن منبر أبي، فقال علي: إن هذا شيء من غير ملأ منا. كذا في الكنز .(1/458)
وأخرج ابن سعد وأحمد والبخاري والنسائي والحاك عن عقبة بن الحارث قال: خرجت مع أبي بكر رضي الله عنه من صلاة العصر بعد وفات رسول الله صلى الله عليه وسلم بليال، وعلي رضي الله عنه يمشي إلى جنبه. فمر بحسن بن علي يلعب مع غِلمان، فاحتمله على رقبته وهو يقول: بأبي شبيهُ بالنبي ليس شبيهاً بعلي وعلي يضحك. كذا في الكنز .
- وفاة الصديق - رضي الله عنه - :
قالت عائشة رضي الله عنها: أول ما بُدئ مرض أبي بكر أنه اغتسل، وكان يوماً بارداً فحُمّ خمسة عشرة يوماً لا يخرج إلى صلاة، وكان يأمر عمر بالصلاة، وكانوا يعودونه، وكان عثمان ألزمهم له في مرضه (1) ، ولما اشتد به المرض قيل له: ألا تدعو لك الطبيب؟ فقال: قد رآني فقال إني فعال لما أريد (2) ، وقالت عائشة رضي الله عنها قال أبو بكر: انظروا ماذا زاد في مالي منذ دخلت في الإمارة فابعثوا به إلى الخليفة بعدي. فنظرنا فإذا عبد نوبي كان يحمل صبيانه، وإذا ناضح (3) كان يسقي بستاناً له. فبعثنا بهما إلى عمر، فبكى عمر وقال: رحمة الله على أبي بكر لقد أتعب من بعده تعباً شديداً (4) .
وقالت عائشة رضي الله عنها: لما مرض أبو بكر مرضه الذي مات فيه، دخلت عليه وهو يعالج مايعالج الميت ونفسه في صدره فتمثلت هذا البيت:
لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى
... ... ... إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر
__________
(1) أصحاب الرسول، محمد المصري (1/104).
(2) ترتيب وتهذيب البداية والنهاية، ص33.
(3) الناضح: هوالبعير الذي يستقى عليه.
(4) صفة الصفوة (1/265).(1/459)
فنظر إليّ كالغضبان، ثم قال: ليس كذلك يا أم المؤمنين، ولكن قول الله أصدق { وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ } (سورة ق، آية:19). ثم قال: يا عائشة: إنه ليس أحد من أهلي أحب إليَّ منك، وقد كنت نحلتك حائطاً (1) ، وإن في نفسي منه شيئاً فردِّيه إلى الميراث. قالت: نعم فرددته. وقال - رضي الله عنه - : أما إنا منذ ولينا أمر المسلمين لم نأكل لهم ديناراً ولا درهماً، ولكنا قد أكلنا من جريش طعامهم في بطوننا، ولبسنا من خشن ثيابهم على ظهورنا، وليس عندنا من فيء المسلمين قليل ولا كثير إلا هذا العبد الحبشي، وهذا البعير الناضح، وجرد هذه القطيفة، فإذا مت فابعثي بهن إلى عمر، وابرئي منهن ففعلت، فلما جاء الرسول إلى عمر بكى حتى جعلت دموعه تسيل في الأرض، ويقول: رحم الله أبا بكر، لقد أتعب من بعده، رحم الله أبا بكر، لقد أتعب من بعده، رحم الله أبا بكر، لقد أتعب من بعده (2) .
ويظهر من هذه المواقف ورع الصديق في المال العام، فقد ترك هذا الخليفة العظيم تجارته وتخلى عن ذرائع كسبه اشتغالاً عنها بأمور المسلمين وقياماً بوظائف الخلافة فيضطر الى أخذ نفقته من بيت المال بما لايزيد عن الحاجة الى سد الجوع وستر العورة، ثم هو يؤدي للمسلمين خدمة هيهات أن تؤدي حقها الخزائن ولما أشرف على وفاته، وعنده فضلة من مال المسلمين وهي ذلك المتاع الحقير، يأمر بردها إلى المسلمين ليلقى ربه آمناً مطمئناً، نزيه القلب، طاهر النفس، خفيف الحمل إلا من التقوى، فارغ اليدين إلا من الإيمان، إن في هذا لبلاغاً وانها لموعظة لقوم يعقلون (3) .
__________
(1) حائطاً: وفي رواية جَداد وهي بمعنى قطع ثمرة النخل (صفة الصفوة، 1/266).
(2) الطبقات لابن سعد (3/146،147) رجاله ثقات.
(3) أشهر مشاهير الاسلام (1/94).(1/460)
وقد استمر مرض أبي بكر مدة خمسة عشر يوماً حتى كان يوم الاثنين ليلة الثلاثاء في الثاني والعشرين من جمادي الآخرة سنة ثلاث عشرة للهجرة، قالت عائشة -رضي الله عنها-: إن أبا بكر قال لها: في أي يوم مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ قالت في يوم الإثنين، قال: إني لأرجو فيما بيني وبين الليل، قال: ففيم كفنتموه؟
قالت: في ثلاثة أثواب بيض سحولية يمانية ليس فيها قميص، ولاعمامة فقال أبو بكر: انظري ثوبي هذا فيه ردع زعفران أو مشق فاغسليه واجعلي معه ثوبين آخرين (1) ، فقيل له قد رزق الله وأحسن نكفنك في جديد، قال: إن الحي هو أحوج إلى الجديد ليصون به نفسه عن الميت، إنما يصير الميت إلى الصديد، وإلى البلى (2) ، وقد أوصى أن تغسله زوجه أسماء بنت عميس، وأن يدفن بجانب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وكان آخر ما تكلم به الصديق في هذه الدنيا قول الله تعالى: { تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ } (3) (سورة يوسف، آية:101).
__________
(1) أصحاب الرسول (1/106).
(2) التاريخ الاسلامي، محمود شاكر، الخلفاء الراشدون، ص104.
(3) الشيخان ابوبكر الصديق وعمر بن الخطاب برواية البلاذري في انساب الأشراف. تحقيق د. إحسان صدقي العمد، ص69.(1/461)
وارتجّت المدينة لوفاة أبي بكر الصديق، ولم تر المدينة منذ وفاة الرسول يوماً، أكثر باكياً، وباكية من ذلك المساء الحزين وأقبل علي بن أبي طالب مسرعاً، باكياً، مسترجعاً ووقف على البيت الذي فيه أبو بكر فقال: رحمك الله يا أبا بكر.. كنت إلف رسول الله وأنيسه ومستراحه وثقته وموضع سره ومشاورته، وكنت أول القوم إسلاماً، وأخلصهم يقيناً، وأشدهم لله يقيناً، وأخوفهم لله، وأعظمهم غناء في دين الله عز وجل، وأحوطهم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وأحدبهم على الإسلام، وأحسنهم صحبة، وأكثرهم مناقب، وأفضلهم سوابق، وأرفعهم درجة وأقربهم وسيلة، وأشبههم برسول الله هدياً وسمتاً، وأشرفهم منزلة، وأرفعهم عنده، وأكرمهم عليه، فجزاك الله عن رسول الله وعن الإسلام أفضل الجزاء. صدقت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين كذبه الناس، وكنت عنده بمنزلة السمع والبصر، سماك الله في تنزيله، صديقاً فقال: { وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ } (سورة الزمر، آية:33). واسيته حين بخلوا، وقمت معه على المكاره حين قعدوا، وصحبته في الشدة أكرم الصحبة، ثاني اثنين صاحبه في الغار، والمُنَّزل عليه السكينة، ورفيقه في الهجرة، وخليفته في دين الله وأمته، أحسن الخلافة حين ارتدوا، فقمت بالأمر مالم يقم به خليفة نبي، ونهضت حين وهن أصحابه وبرزت حين استكانوا، وقويت حين ضعفوا، ولزمت منهاج رسول الله إذ وهنوا، وكنت كما قال رسول الله ضعيفاً في بدنك قوياً في أمر الله تعالى، متواضعاً في نفسك عظيماً عند الله تعالى، جليلاً في أعين الناس كبيراً في أنفسهم، لم يكن لأحدهم فيك مغمز، ولا لقائل فيك مهمز، ولا لمخلوق عندك هوادة، الضعيف الذليل عندك قوي عزيز حتى تأخذ بحقه القريب والبعيد عنك في ذاك سواء، وأقرب الناس عندك أطوعهم لله عز وجل، وأتقاهم ...(1/462)
شأنك الحق والصدق والرفق قولك حكم وحتم، وأمرك حلم وحزم، ورأيك علم وعزم، اعتدل بك الدين وقوي بك الإيمان وظهر أمر الله، فسبقت -والله- سبقاً بعيداً، واتعبت من بعدك إتعاباً شديداً، وفزت بالخير فوزاً مبيناً، فإنا لله وإنا إليه راجعون رضينا عن الله عز وجل قضاءه وسلمنا له أمره، والله لن يصاب المسلمون بعد رسول الله بمثلك أبداً، كنت للدين عزاً، وحرزاً وكهفاً فألحقك الله عز وجل بنبيك محمد - صلى الله عليه وسلم - ، ولا حرمنا أجرك، ولا أضلنا بعدك، فسكت الناس حتى قضى كلامه، ثم بكوا حتى علت أصواتهم وقالوا: صدقت (1) وجاء في رواية: إن علياً قال عندما دخل على أبي بكر بعدما سُجِّي أنه قال: ما أحد ألقى الله بصحيفته أحب إليّ من هذا المُسَجَّى (2) هذا وقد توفي الصديق رحمه الله وهو ابن ثلاث وستين سنة ... مجمع على ذلك في الروايات كلها، استوفى سن رسول الله، وغسلته زوجه أسماء بنت عميس، وكان قد أوصى بذلك (3) ، ودفن جانب رسول الله، وقد جعل رأسه عند كتفي رسول الله (4) ، وصلى عليه خليفته عمر بن الخطاب، ونزل قبره عمر وعثمان وطلحة وابنه عبدالرحمن، وألصق اللحد بقبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (5) .
- ثانياً : صورٌ مشرقة من زهد أبي بكر الصدَّيق - رضي الله عنه - :
__________
(1) التبصرة لابن الجوزي (1/477-479) نقلاً عن أصحاب الرسول (1/108).
(2) تاريخ الاسلام للذهبي ، عهد الخلفاء الراشدين، ص120.
(3) الطبقات لابن سعد (3/203،204) وإسناده صحيح.
(4) تاريخ الاسلام للذهبي، عهد الخلفاء الراشدين، ص120.
(5) أصحاب رسول الله (1/106).(1/463)
لقد فهم أبي بكرٍ الصديق رضي الله عنه رضي الله عنه من خلال معايشته للقرآن الكريم، ومصاحبته للنبي الأمين صلى الله عليه وسلم ومن تفكره في هذه الحياة بأن الدنيا دار اختبار وابتلاء، وعليه فإنها مزرعة للآخرة، ولذلك تحرر من سيطرة الدنيا بزخارفها، و زينتها، وبريقها، وطلقها ثلاثة ونفض يديه منها ، وخضع وانقاد وأسلم نفسه لربه ظاهرا وباطنا، فكانت الدنيا في يده ولم تقترب من قلبه الشريف ، وقد وصل إلى حقائق استقرت في قلبه ساعدته على الزهد في هذه الدنيا ومن هذه الحقائق ما يلي :
(1) اليقين التام بأننا في هذه الدنيا أشبه بالغرباء، أو عابري سبيل كما قال النبى صلى الله عليه وسلم: كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ .
( حديث بن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح البخاري ) قال:أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل). وكان ابن عمر يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك.
(2) أن هذه الدنيا لا وزن لها ولا قيمة عند رب العزة إلا ما كان منها طاعة لله تبارك وتعالى:
( حديث سهل بن سعد رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء .
( حديث أبي هريرة في صحيح ابن ماجة ) أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه وعالماً أو متعلما .
(3) أن عمرها قد قارب على الانتهاء :
( حديث أنس رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : بعثت أنا والساعة كهاتين قال وضم السبابة والوسطى .
(4) أن الآخرة هى الباقية، وهى دار القرار :
كما قال مؤمن آل فرعون:(1/464)
( يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ * مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ ) [ غافر: 39 ، 40]
كانت هذه الحقائق قد استقرت في قلب أبي بكر، فترِفَّع رضي الله عنه عن الدنيا وحطامها وزهد فيها،
وهاك بعض صور زهده رضي الله عنه :
- يتجلى زهد الصديق رضي الله عنه في إنفاقه للمال في سبيل الله تعالى : فقد وَعَى حقيقة الزهد بحذافيره وأيقن أن الزهد ليس بأن لا تملك المال بل الزهد أن تملك الدنيا كلها لكنها تكون في يدك وليست في قلبك ، كانت الدنيا في يده ولم تقترب من قلبه الشريف رضي الله عنه فكان آيةً في الجود والسخاء والبذل والإنفاق في سبيل الله تعالى ، ويتجلى ذلك في المواقف الآتية :
(1) إنفاقه الأموال لتحرير المعذبين في الله :(1/465)
فقد أعتق بلال ابن رباح رضي الله عنه و عامر بن فهيرة الذي شهد بدراً وأحداً، وقتل يوم بئر معونة شهيداً و وأم عبيس، وزنِّيرة التي أصيب بصرها حين أعتقها فقالت قريش: ماأذهب بصرها إلا اللات والعزى، فقالت: كذبوا وبيت الله ما تضر اللات والعزى وماتنفعان، فرد الله بصرها (1) ،وأعتق النهدية وبنتها وكانتا لامرأة من بني عبدالدار مرّ بهما وقد بعثتهما سيدتهما بطحين لها وهي تقول: والله لا أعتقكما أبداً: فقال أبو بكر - رضي الله عنه - حِلُّ (2) يأم فلان فقالت: حل أنت، أفسدتهما فأعتقهما؛ قال: فبكم هما؟ قالت: بكذا وكذا. وقال: قد أخذتهما وهما حرتان ألينها طحينها. قالتا: أو نفرغ منه ياأبابكر ثم نرده إليها؟ قال: وذلك إن شئتما (3) . وغيرهم ن وهكذا كان الصديق يكسب المعدوم، ويصل الرحم، ويحمل الكل، ويقري الضيف، ويعين على نوائب الحق ، ولا عجب إذا كان الله سبحانه أنزل في شأن الصديق قرآناً يتلى الى يوم القيامة قال تعالى: { فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى - وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى - فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى - وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى - وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى - فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى - وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى - إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى - وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَالأُولَى - فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى - لا يَصْلاهَا إِلاَّ الأَشْقَى - الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى - وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى - الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى - وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى - إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى - وَلَسَوْفَ يَرْضَى - } (4) (سورة الليل، الآيات: 5-21).
(2) نفقة الصديق في تبوك :
__________
(1) السيرة النبوية لابن هشام (1/393).
(2) حل: تحللي من يمينك.
(3) السيرة النبوية لابن هشام (1/393).
(4) تفسير الآلوسي (30/152).(1/466)
حث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصحابة في غزوة تبوك على الإنفاق بسبب بعدها، وكثرة المشركين فيها، ووعد المنفقين بالأجر العظيم من الله، فأنفق كل حسب مقدرته وكان عثمان - رضي الله عنه - صاحب القدح المعلى في الإنفاق في هذه الغزوة (1) .
وتصدق عمر بن الخطاب بنصف ماله وظن أنه سيسبق أبابكر بذلك ونترك الفاروق يحدثنا بنفسه عن ذلك .
( حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه الثابت في صحيحي أبي داوود و الترمذي ) قال : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما أن نتصدق ، فوافق ذلك مالا عندي فقلت: اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يوما ، فجئت بنصف مالي ، فقال [ لي ] رسول الله صلى الله عليه وسلم: "" ما أبقيت لأهلك ؟ "" فقلت: مثله ، قال: وأتى أبو بكر [ رضي الله عنه ] بكل ما عنده ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "" ما أبقيت لأهلك ؟ "" قال: أبقيت لهم الله ورسوله قلت: لا أسابقك إلى شىء أبدا .
[*] قال صاحب تحفة الأحوذي :
قَوْلُهُ: ( أَنْ نَتَصَدَّقَ ) أَيْ: فِي بَعْضِ الْجِهَاتِ
( وَوَافَقَ ذَلِكَ عِنْدِي مَالًا ) أَيْ: صَادَفَ أَمْرُهُ بالتَّصَدُّقِ حُصُولَ مَالٍ عِنْدِي، فَعِنْدِي حَالٌ مِنْ مَالٍ، وَالْجُمْلَةُ حَالٌ مِمَّا قَبْلَهُ يَعْنِي: وَالْحَالُ أَنَّهُ كَانَ لِي مَالٌ كَثِيرٌ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ
( الْيَوْمَ أَسْبِقُ أَبَا بَكْرٍ من مناقبه ) أَيْ: بِالْمُبَارَزَةِ، أَوْ بِالْمُبَالَغَةِ
__________
(1) السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، ص615.(1/467)
( إِنْ سَبَقْتُهُ يَوْمًا ) أَيْ: مِنَ الْأَيَّامِ وَإِنْ شَرْطِيَّةٌ دَلَّ عَلَى جَوَابِهَا مَا قَبْلَهَا، أَوِ التَّقْدِيرُ إِنْ سَبَقْتُهُ يَوْمًا فَهَذَا يَوْمُهُ، وَقِيلَ: إِنْ نَافِيَةٌ أَيْ: مَا سَبَقْتُهُ يَوْمًا قَبْلَ ذَلِكَ فَهُوَ اسْتِئْنَافُ تَعْلِيلٍ ( قَالَ ) أَيْ: عُمَرُ ( قُلْتُ مِثْلَهُ ) أَيْ: أَبْقَيْتُ مِثْلَهُ يَعْنِي نِصْفَ مَالِهِ
( بِكُلِّ مَا عِنْدَهُ ) أَيْ: مِنَ الْمَالِ ( اللَّهَ وَرَسُولَهُ ) مَفْعُولُ: أَبْقَيْتُ أَيْ: رِضَاهُمَا
(لا أسابقك إلى شىء أبدا) أَيْ: مِنَ الْفَضَائِلِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى مُغَالَبَتِهِ حِينَ كَثْرَةِ مَالِهِ وَقِلَّةِ مَالِ أَبِي بَكْرٍ فَفِي غَيْرِ هَذَا الْحَالِ أَوْلَى أَنْ لَا يَسْبِقَهُ.أهـ
كان فعل عمر فيما فعله من المنافسة والغبطة مباحاً ولكن حال الصديق - رضي الله عنه - أفضل منه لأنه خال من المنافسة مطلقاً ولا ينظر إلى غيره (1) .
- وكان أبو بكرٍ الصديق من أزهد الناس وأتقى الناس .
(حديث عائشة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) قالت :" دخلت على أبي بكر رضي الله عنه، فقال: في كم كفنتم النبي صلى الله عليه وسلم؟ قالت: في ثلاثة أثواب بيض سحولية، ليس فيها قميص ولا عمامة. وقال لها: في أي يوم توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: يوم الاثنين. قال: فأي يوم هذا؟ قالت: يوم الاثنين. قال: أرجو فيما بيني وبين الليل. فنظر إلى ثوب عليه كان يمرض فيه، به ردع من زعفران، فقال: اغسلوا ثوبي هذا، وزيدوا عليه ثوبين، فكفنوني فيها. قلت: إن هذا خَلَق ؟ قال: إن الحي أحق بالجديد من الميت، إنما هو للمهلة.
فلم يتوف حتى أمسى من ليلة الثلاثاء. ودفن قبل أن يصبح " ( البخاري 1321) .
[*] قال الإمام ابن حجر في الفتح :
__________
(1) الفتاوى لابن تيمية (10/72،73).(1/468)
في كم كفنتم النبي صلى الله عليه وسلم؟ : أي كم ثوبا كفنتم النبي صلى الله عليه وسلم فيه .
وقوله في كم معمول مقدم لكفنتم قيل ذكر لها أبو بكر ذلك بصيغة الإستفهمام توطئة لها للصبر على فقده واستنطاقا لها بما يعلم أنه يعظم عليه ذكره لما في بداءته لها بذلك من إدخال الغم العظيم عليها لأنه يبعد أن يكون أبو بكر نسي ما سأل عنه مع قرب العهد ويحتمل أن يكون السؤال عن قدر الكفن على حقيقته لأنه لم يحضر ذلك لإشتغاله بأمر البيعة وأما تعيين اليوم فنسيانه أيضا محتمل لأنه صلى الله عليه وسلم دفن ليلة الأربعاء فيمكن أن يحصل التردد هل مات يوم الإثنين أو الثلاثاء .
قلت: إن هذا خَلَق : خلق بفتح المعجمة واللام أي غير جديد ، وظاهره أن أبا بكر كان يرى عدم المغالاة في الأكفان ويؤيده قوله بعد ذلك إنما هو للمهلة ، ولا يعارضه حديث جابر في الأمر بتحسين الكفن أخرجه مسلم فإنه يجمع بينهما بحمل التحسين على الصفة وحمل المغالاة على الثمن . أهـ
[*] قال شيخ الإسلام ابن تيمية :" أهل العلم يقولون : أبو بكر الصديق أزهد الناس بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الزهد الشرعي أبو بكر وعمر " ( المنهاج )
- مات أبو بكر رضي الله عنه وما ترك درهما ولا دينارا :
[*] قال الحسن بن علي - رضي الله عنه:" لما احتضر أبو بكر - رضي الله عنه - قال : يا عائشة انظري اللقحة التي كنا نشرب من لبنها ، والجفنة التي كنا نصطبح فيها ، والقطيفة التي كنا نلبسها ، فإنا كنا ننتفع بذلك حين كنا في أمر المسلمين فإذا مت فرديه إلى عمر ، فلما مات أبو بكر - رضي الله عنه - أرسلت به إلى عمر - رضي الله عنه - فقال عمر - رضي الله عنه - : رضي الله عنك يا أبا بكر لقد أتعبت من جاء بعدك " .(1/469)
- روت عائشة رضي الله تعالى عنها أنه لمّا اجتمع أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وكانوا ثمانية وثلاثين رجلاً ألحَّ أبو بكر - رضي الله عنه - على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الظهور، فقال: يا أبا بكر إنَّا قليل . فلم يزل أبو بكر يُلِحُ حتى ظهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وتفرق المسلمين في نواحي المسجد كل رجل في عشيرته، وقام أبو بكر في الناس خطيباً ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس، فكان أوّل خطيب دعا إلى الله تعالى وإلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، وثار المشركون على أبي بكر وعلى المسلمين، فضربوه في نواحي المسجد ضرباً شديداً، وَوُطِئ أبو بكر وَضُرِبَ ضرباً شديداً، ودنا منه الفاسق عتبة بن ربيعة فجعل يضربه بنعلين مخصوفتين ويُحرِّفهما لوجهه، ونزا على بطن أبي بكر - رضي الله عنه - ، حتى ما يُعْرَف وَجْهُهُ من أنفه، وجاءت بنو تميم يتعادون فأجلت المشركين عن أبي بكر، وحَمَلت بنو تميم أبا بكر في ثوب حتى أدخلوه منزله، ولا يشكون في موته، ثم رجعت بنو تميم فدخلوا المسجد وقالوا: والله لئن مات أبو بكر لنقتلن عتبة بن ربيعة فرجعوا إلى أبي بكر فجعل أبو قحافة (والده) وبنو تيم يكلمون أبا بكر حتى أجاب، فتكلم آخر النهار فقال: ما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ فمسّوا منه بألسنتهم وعذلوه، وقالوا لأمه أم الخير: انظري أن تطعميه شيئاً أو تسقيه إياه. فلما خلت به ألحت عليه، وجعل يقول: ما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ فقالت: والله مالي علم بصاحبك. فقال: اذهبي إلى أم جميل بنت الخطاب فاسأليها عنه، فخرجت حتى جاءت أم جميل، فقالت: إن أبا بكر سألك عن محمد بن عبد الله. فقالت: ما أعرف أبا بكر ولا محمد بن عبد الله، وإن كنت تحبين أن أذهب معك إلى ابنك.(1/470)
قالت: نعم، فمضت معها حتى وجدت أبا بكر صريعاً دَنِفاً، فدنت أم جميل، وأعلنت بالصياح، وقالت: والله إن قوماً نالوا منك لأهل فسق وكفر إنني لأرجوا أن ينتقم الله لك منهم، قال: فما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ قالت: هذه أمك تسمع، قال: فلا شيء عليك منها، قالت: سالم صالح، قال: أين هو؟ قالت: في دار الأرقم. قال: فإن لله علي أن لا أذوق طعاماً ولا أشرب شراباً أو آتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فأمهلتا حتى إذا هدأت الرِّجل وسكن الناس، خرجتا به يتكئ عليهما، حتى أدخلتاه على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال: فأكب عليه رسول الله فقبله، وأكب عليه المسلمون، ورقّ له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رقة شديدة فقال أبو بكر : بأبي وأمي يارسول الله، ليس بي بأس إلا ما نال الفاسق من وجهي، وهذه أمي برة بولدها وأنت مبارك فادعها إلى الله، وأدع الله لها عسى الله أن يستنقذها بك من النار. قال: فدعا لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودعاها إلى الله فأسلمت (1) .
الشاهد على زهده :
__________
(1) السيرة النبوية لابن كثير (1/439-441)؛ البداية والنهاية (3/30).(1/471)
إن هذا الحدث العظيم في طياته دروس وعبر لكل مسلم حريص على الاقتداء بهؤلاء الصحب الكرام فقد كانوا آيةً في الزهد في الدنيا والعزوف عنها والإقبال على الآخرة متحملين من الأذى والشدة واللأواء ما تنوء به الجبال ، وما ذلك إلا لاستصغار الدنيا في أعينهم وإيثار مصالح الآخرة على مصالح الدنيا ، دون أدنى اهتمام للمحافظة على وجاهتهم في قومهم ، فيصيبه من أذى القوم وسفههم، مع أن الصديق يعتبر من كبار رجال قريش المعروفين بالعقل والإحسان، فأبْصِرْ وَتعَلَم من أبي بكرٍ الصديق رضي الله تعالى عنه الذي لا تأخذه لومة لائم في نصرة دين الله والعمل له والدفاع عن رسوله - صلى الله عليه وسلم - و لم يعد يهمه -بعد إسلامه- إلا أن تعلوا راية التوحيد، ويرتفع النداء لا إله إلا الله محمد رسول الله في أرجاء مكة حتى لو كان الثمن حياته، وكاد أبو بكر فعلاً أن يدفع حياته ثمناً لعقيدته وإسلامه .
- دفاع أبي بكر الصديق عن النبي - صلى الله عليه وسلم - :
( حديث عروة بن الزبير رضي الله عنهما الثابت في صحيح البخاري ) قال:سألت عبد الله بن عمرو عن أشد ما صنع المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: رأيت عقبة بن أبي معيط، جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، فوضع رداءه في عنقه فخنقه به خنقا شديدا، فجاء أبو بكر حتى دفعه عنه، فقال: أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله، وقد جاءكم بالبينات من ربكم. [ غافر:28] .
إن هذا الحدث العظيم في طياته منقبتين متلازمتين لأبي بكر الصديق رضي الله عنه وهما : محبة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وزهده في الدنيا وإقباله على الآخرة وإن عرضه ذلك لأي مصاعب أو مشاق .(1/472)
كان الصديق في وقوفه مع رسول الله يستهين بالخطر على نفسه، ولا يستهين بخطر يصيب النبي - صلى الله عليه وسلم - قل أو كثر حيثما رآه واستطاع أن يذود عنه العادين عليه، وانه ليراهم آخذين بتلابيبه فيدخل بينهم وبينه وهو يصيح بهم: (ويلكم أتقتلون رجلاً ان يقول ربي الله؟) فينصرفون عن النبي وينحون عليه يضربونه، ويجذبونه من شعره فلا يدعونه إلا وهو صديع)
- رد جوار ابن الدغنة عليه مما يدل على أنه لا يريد وجاهة أو منعة بل كان رضي الله تعالى عنه عابداً زاهدا(1/473)
( حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيح البخاري ) قالت: لم أعقل أبوي قط إلا وهما يدينان الدين، ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طرفي النهار: بكرة وعشية فلما ابتلى المسلمون، خرج أبو بكر مهاجراً نحو أرض الحبشة حتى برك الغماد لقيه ابن الدغنة -وهو سيد القارة (1) - فقال: أين تريد ياأبابكر؟ فقال أبوبكر: أخرجني قومي فأريد أن أسيح في الأرض وأعبد ربي، قال ابن الدغنة: فإن مثلك ياأبابكر لا يخرج ولا يُخْرَجُ إنك تكسب المعدوم، وتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق. فأنا لك جار. ارجع وأعبد ربك ببلدك. فرجع، وارتحل معه ابن الدغنة، فطاف ابن الدغنة عشية في أشراف قريش فقال لهم: إن أبابكر لا يخرج مثله ولا يخرج، أتخرجون رجلاً يكسب المعدوم، ويصل الرحم، ويحمل الكل ويقري الضيف، ويعين على نوائب الحق؟ فلم تكذب قريش بجوار ابن الدغنة، وقالوا لابن الدغنة: مر أبابكر فليعبد ربه في داره، فليصل فيها وليقرأ ماشاء ولا يؤذينا بذلك ولا يستعلن به، فإنا نخشى أن يفتن نساءنا وأبناءنا. فقال ذلك ابن الدغنة لأبي بكر، فلبث أبوبكر بذلك يعبد ربه في داره، ولا يستعلن بصلاته ولا يقرأ في غير داره.
__________
(1) ابن الدغنة: قيل اسمه الحارث بن يزيد وقيل مالك وقيل ربيعة بن رفيع. والقارة قبيلة من بني الهون بن خزيمة.(1/474)
ثم بدا لأبي بكر فابتنى مسجداً بفناء داره، وكان يصلي فيه ويقرأ القرآن، فيتقذف عليه نساء المشركين، وأبناؤهم، وهم يعجبون منه وينظرون إليه، وكان أبوبكر رجلاً بكاءً لايملك عينه إذا قرأ القرآن، فأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين، فأرسلوا الى ابن الدغنة، فقدم عليهم فقالوا: إنا كنا أجرنا أبابكر بجوارك على أن يعبد ربه في داره، فقد جاوز ذلك فابتنى مسجداً بفناء داره، فأعلن بالصلاة والقراءة فيه، وإنا قد خشينا أن يفتن نساءنا وأبناءنا فانهه، فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربه في داره فعل، وإن أبى إلا أن يعلن بذلك فسله أن يرد إليك ذمته، فإنا قد كرهنا أن نغفرك ولسنا بمقرين لأبي بكر الاستعلان. قالت عائشة: فأتى ابن الدغنة إلى أبي بكر فقال: قد علمت الذي عاقدت لك عليه، فإما أن تقتصر على ذلك وإما أن ترجع اليّ ذمتي، فإني لا أحب أن تسمع العرب أنى أخفرت في رجل عقدت له. فقال أبو بكر: فإني أرد إليك جوارك، وأرضى بجوار الله عز وجل . ورسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ بمكة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قد أريت دار هجرتكم، رأيت سبخة ذات نخل بين لابتين). وهما الحرتان، فهاجر من هاجر قبل المدينة حين ذكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورجع إلى المدينة بعض من كان هاجر إلى أرض الحبشة، وتجهز أبو بكر مهاجرا، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (على رسلك، فإني أرجو أن يؤذن لي). قال أبو بكر: هل ترجو ذلك بأبي أنت؟ قال: (نعم). فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصحبه، وعلف راحلتين كانتا عنده ورق السمر أربعة أشهر.
...
[*] سيرة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وصورٌ من زهده:
وسوف نتناول شيئين أساسيين في هذه السيرة العطرة وهما :
أولاً : لمحات من سيرة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - :
ثانياً : صورٌ مشرقة من زهد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - :
وهاك تفصيل ذلك :(1/475)
أولاً : لمحات من سيرة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - :
[*] قال عنه الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء :
ثاني القوم عمر الفاروق، ذو المقام الثابت المأنوق، أعلن الله تعالى به دعوة الصادق المصدوق، وفرق به بين الفصل والهزل، وأيد بما قواه به من لوامع الطول، ومهد له من منائح الفضل شواهد التوحيد، وبدد به مواد التنديد، فظهرت الدعوة، ورسخت الكلمة، فجمع الله تعالى بما منحه من الصولة، ما نشأت لهم من الدولة، فعلت بالتوحيد أصواتهم بعد تخافت، وتثبتوا في أحوالهم بعد تهافت، غلب كيد المشركين بما ألزم قلبه من حق اليقين، لا يلتفت إلى كثرتهم وتواطيهم، ولا يكترث لممانعتهم وتعاطيهم، اتكالا على من هو منشئهم وكافيهم، واستنصاراً بمن هو قاصمهم وشافيهم، محتملاً لما احتمل الرسول، ومصطبراً على المكاره لما يؤمل من الوصول، ومفارقاً لمن اختار التنعيم والترفيه، ومعانقاً لما كلف من التشمير والتوجيه، المخصوص من بين الصحابة بالمعارضة للمبطلين، والموافقة في الأحكام لرب العالمين، السكينة تنطق على لسانه، والحق يجري الحكمة عن بيانه، كان للحق مائلاً، وبالحق صائلاً، وللأثقال حاملاً، و لم يخف دون الله طائلاً، وقد قيل: إن التصوف ركوب الصعب، في جلال الكرب.
وقال أيضاً : أمره الرسول صلى الله عليه وسلم بالمحاربة من بين أصحابه لما اختص به من الصولة والمهابة، وما عهد منه في ملازمته للتفريد، ومحاماته على معارضة التوحيد، وأنه لا ينهنهه عن مصاولتهم العدة والعديد.(1/476)
وقال أيضاً : كان رضي الله تعالى عنه للدين معلناً، ولأعمال البر مبطناً ، كان رضي الله تعالى عنه مخصصاً بالسكينة في الإنطاق، ومحرزاً من القطيعة والفراق، ومشهراً في الأحكام يالإصابة والوفاق ، أخلى همه في مفارقة الخلق، فأنزل الله تعالى الوحي في موافقته للحق، وكان رضي الله تعالى عنه بالحقائق لهجاً عروفاً، وعن الأباطيل منعرجاً عزوفاً ، وكان عن فناء الملاذ منتهياً، ولباقي المعاد مبتغياً، يلازم المشقات، ويفارق الشهوات .
- اسم عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ونسبه وكنيته وألقابه:
هو عمر بن الخطاب بن نُفيل بن عبد العُزَّى بن رياح بن عبد الله بن قرُط بن رَزاح بن عدي بن كعب بن لؤي (1) ، بن غالب القرشي العدوي (2) ، يجتمع نسبه مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في كعب بن لؤي بن غالب (3) ، ويكنى أبا حفص (4) ، ولقب بالفاروق (5) ، لأنه أظهر الإسلام بمكة ففرّق الله به بين الكفر والإيمان (6) .
- مولد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وصفته الخَلْقية :
__________
(1) الطبقات الكبرى لابن سعد (3/265) ، محض الصواب لابن عبد الهادي (1/131).
(2) محض الصواب في فضائل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب (1/131).
(3) نفس المصدر (1/131).
(4) صحيح التوثيق في سيرة وحياة الفاروق عمر بن الخطاب ص15 .
(5) نفس المصدر ص15 .
(6) نفس المصدر ص15 .(1/477)
ولد عمر رضي الله عنه بعد عام الفيل بثلاث عشرة سنة (1) وأما صفته الخَلْقية، فكان رضي الله عنه، أبيض أمهق، تعلوه حمرة، حسن الخدين والأنف والعينين، غليظ القدمين والكفين، مجدول اللحم، وكان طويلاً جسيماً أصلع، قد فرع الناس، كأنه راكب على دابة، وكان قوياً شديداً، لا واهناً ولا ضعيفاً (2) ، وكان يخضب بالحناء، وكان طويل السَّبلة (3) وكان إذا مشى أسرع وإذا تكلم أسمع، وإذا ضرب أوجع (4) .
- إسلام عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - :
كان أول شعاعة من نور الإيمان لامست قلبه، يوم رأى نساء قريش يتركن بلدهن ويرحلن إلى بلد بعيد عن بلدهن بسبب ما لقين منه ومن أمثاله، فرق قلبه، وعاتبه ضميره، فرثى لهن، وأسمعهن الكلمة الطيبة التي لم يكنّ يطمعن أن يسمعن منه مثلها (5) .
قالت أم عبد الله بنت حنتمة: لما كنا نرتحل مهاجرين إلى الحبشة، أقبل عمر حتى وقف عليّ، وكنا نلقى منه البلاء والأذى والغلظة علينا، فقال لي: إنه الانطلاق يا أم عبد الله؟ قلت نعم، والله لنخرجنّ في أرض الله، آذيتمونا وقهرتمونا، حتى يجعل الله لنا فرجاً. فقال عمر: صحبكم الله. ورأيت منه رقة لم أرها قط. فلما جاء عامر بن ربيعة وكان قد ذهب في بعض حاجته وذكرت له ذلك فقال: كأنك قد طمعت في إسلام عمر؟ قلت له: نعم فقال: إنه لا يسلم حتى يسلم حمار الخطاب (6) .
__________
(1) تاريخ الخلفاء للسيوطي ص133 .
(2) الخليفة الفاروق عمر بن الخطاب للعاني ص15 .
(3) السبلة: طرف الشارب وكان إذا غضب أو حزنه أمر يمسك بها ويفتلها.
(4) تهذيب الأسماء (2/14) للنووي، أوليات الفاروق للقرشي ص24 .
(5) أخبار عمر، الطنطاويات ص12 .
(6) سيرة ابن هشام (1/216)، فضائل الصحابة للإمام أحمد (1/341) إسناد حسن.(1/478)
لقد تأثر عمر من هذا الموقف وشعر أن صدره قد أصبح ضيقاً حرجاً؛ فأي بلاء يعانيه أتباع هذا الدين الجديد، وهم على الرغم من ذلك صامدون! ما سر تلك القوة الخارقة؟ وشعر بالحزن وعصر قلبه الألم (1) ، وبعد هذه الحادثة بقليل أسلم عمر رضي الله عنه ،
- قصة إسلام عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - :
لما سمع عمر أن أخته وزوجها قد أسلما احتمله الغضب وذهب إليهم فلما قرع الباب قالوا: من هذا؟ قال: ابن الخطاب. وكانوا يقرؤون كتاباً في أيديهم، فلما سمعوا حس عمر قاموا مبادرين فاختبئوا ونسوا الصحيفة على حالها، فلما دخل ورأته أخته عرفت الشر في وجهه، فخبأت الصحيفة تحت فخذها قال: ما هذه الْهَيْنَمَة والصوت الخفي التي سمعته عندكم؟ (( وكانوا يقرؤون طه )) فقالا: ما عدا حديثاً تحدثناه بيننا. قال: فلعلكما قد صبوتما، فقال له ختنه: أرأيت يا عمر إن كان الحق في غير دينك؟ فوثب عمر على ختنه سعيد وبطش بلحيته فتواثبا، وكان عمر قوياً شديداً، فضرب بسعيد الأرض ووطئه وطأ ثم جلس على صدره، فجاءت أخته فدفعته عن زوجها فنفحها نفحة بيده، فدمى وجهها، فقالت وهي غضبى: يا عدو الله، أتضربني على أن أوحّد الله؟ قال: نعم. قالت: ما كنت فاعلاً فأفعل، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، لقد أسلمنا على رغم أنفك، فلما سمعها عمر ندم وقام عن صدر زوجها، فقعد، ثم قال: أعطوني هذه الصحيفة التي عندكم فأقرأها، فقالت أخته: لا أفعل. قال: ويحك قد وقع في قلبي ما قلت، فأعطينيها أنظر إليها، وأعطيك من المواثيق أن لا أخونك حتى تحرزيها حيث شئت. قالت: إنك رجس فـ { لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ } فقم فاغتسل أو توضأ، فخرج عمر ليغتسل ورجع إلى أخته فدفعت إليه الصحيفة وكان فيها طه وسور أخرى فرأى فيها:
بسم الله الرحمن الرحيم
__________
(1) الفاروق عمر ص9 .(1/479)
فلما مرّ بالرحمن الرحيم ذعر، فألقى الصحيفة من يده، ثم رجع إلى نفسه فأخذها فإذا فيها: { طه(1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى(2) إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى(3) تَنزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الأرض وَالسَّمَواتِ الْعُلاَ(4) الرحمن عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى(5) لَهُ مَا فِي السَّمَواتِ وَمَا فِي الأرض وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى(6) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى(7) اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى(8) } . (طه،الآيات:1-8)
فعظمت في صدره. فقال: من هذا فرّت قريش؟ ثم قرأ. فلما بلغ إلى قوله تعالى: { إنّني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري. إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى } (طه،الآيات:14،15،16).
قال: ينبغي لمن يقول هذا أن لا يُعبد معه غيره دلوني على محمد (1) .
وكانت دعوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - السبب الأساسي في إسلامه فقد دعا له كما في الحديث الآتي :
( حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح الترمذي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :اللهم أعزَّ الإسلام بأحب الرجلين إليك: بأبي جهل بن هشام، أو بعمر بن الخطاب، قال: وكان أحبهما إليه عمر .
(حديث عائشة رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجه ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :اللهم أعز الإسلام بعمر بن الخطاب .
- ذهاب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإعلان إسلامه:
فلما سمع خبّاب رضي الله عنه ذلك خرج من البيت وكان مختفياً وقال أبشر يا عمر، فإني أرجو أن تكون قد سبقت فيك دعوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الإثنين:
__________
(1) فضائل الصحابة للإمام أحمد (1/344).(1/480)
(( اللهم أعز الإسلام بأحب هذين الرجلين إليك: بأبي جهل بن هشام، أو بعمر بن الخطاب )) .
قال: دلوني على مكان رسول الله، فلما عرفوا منه الصدق قالوا: هو في أسفل الصفا. فأخذ عمر سيفه فتوشّحه ثم عمد إلى رسول الله وأصحابه فضرب عليهم الباب، فلما سمعوا صوته وَجِلوا ولم يجترئ أحد منهم أن يفتح له، لما قد علموا من شدته على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فلما رأى حمزة رضي الله عنه وجَلَ القوم قال: مالكم؟ قالوا عمر بن الخطاب قال: عمر بن الخطاب؟ افتحوا له، فإن يرد الله به خيراً يُسلم، وإن يرد غير ذلك يكن قتله عليناً هيناً، ففتحوا، وأخذ حمزة ورجل آخر بعضديه حتى أدخلاه على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال أرسلوه (1) ، ونهض إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأخذ بحجزته (2) ، وبجمع ردائه ثم جبذه جَبْذَة شديدة، وقال: ما جاء بك يا ابن الخطاب؟ والله ما أرى أن تنتهي حتى ينزل الله بك قارعة، فقال له عمر:
يا رسول الله جئتك أؤمن بالله وبرسوله وبما جئت به من عند الله، قال: فكبّر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعرف أهل البيت من أصحاب رسول الله أن عمر قد أسلم، فتفرق أصحاب رسول الله من مكانهم وقد عزّوا في أنفسهم حين أسلم عمر مع إسلام حمزة بن عبد المطلب، وعرفوا أنهما سيمنعان رسول الله، وينتصفون بهما من عدوهم (3) .
- أثر إسلام عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - على الدعوة:
__________
(1) أخبار عمر الطنطاويات ص18 .
(2) حجز الإنسان: معقد السراويل والإزار لسان العرب (5/332).
(3) فضائل الصحابة للإمام أحمد (1/344).(1/481)
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر، ولقد رأيتنا وما نستطيع أن نطوف بالبيت ونصلي، حتى أسلم عمر، فلما أسلم قاتلهم حتى تركونا، فصلينا وطفنا (1) . وقال أيضاً: كان إسلام عمر فتحاً، وكانت هجرته نصراً، وكانت إمارته رحمة، لقد رأيتنا وما نستطيع أن نصلي ونطوف بالبيت حتى أسلم عمر، فلما أسلم قاتلناهم حتى تركونا نصلي (2) وقال صهيب بن سنان:
لما أسلم عمر بن الخطاب، ظهر الإسلام، ودعي إليه علانية، وجلسنا حول البيت حلقاً، وطفنا بالبيت وانتصفنا ممن غلظ علينا ورددنا عليه (3) .
- دعوة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - :
أخرج ابن سعد عن أستق قال: كنت مملوكاً لعمر بن الخطاب رضي الله عنه وأنا نصراني. فكان يعرض عليَّ الإِسلام ويقول: إِنَّك إن أسلمت إستعنت بك على أمانتي، فإنه لا يحلُّ لي أن أستعين بك على أمانة المسلمين ولست على دينهم، فأبيت عليه، فقال: لا إِكراه في الدين. فلما حضرته الوفاة، أعتقني وأنا نصراني، وقال: إذهب حيث شئت. وأخرجه أيضاً سعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم بنحوه مختصراً. كذا في الكنز وأخرجه أبو نعيم في الحلية عن وسق الرومي مثله، إلا أنّ في روايته: على أمانة المسلمين فإنه لا ينبغي لي أن أستعين على أمانتهم بمن ليس منهم.
__________
(1) فضائل الصحابة (1/344) إسناده حسن.
(2) الشيخان أبو بكر وعمر برواية البلاذري ص141 .
(3) الطبقات الكبرى (3/269)، صفة الصفوة (1/274).(1/482)
وأخرج الدارقطني، وابن عساكر عن أسلم قال: لمَّا كنَّا بالشام أتيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه بماء توضأ منه. فقال: من أين جئت بهذا الماء؟ فما رأيت ماء عذباً ولا ماء السماء أطيب منه. قلت: جئت به من بيت هذه العجوز النصرانية. فلما توضأ أتاها فقال: أيتها العجوز، أسلمي، بعث الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم بالحق، فكشفت عن رأسها فإذا مثل الثغامة، فقالت: عجوز كبيرة وإنما أموت الآن. فقال عمر: اللَّهم أشهد. كذا في الكنز .
- هجرة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - :
لما أراد عمر الهجرة إلى المدينة أبى إلا أن تكون علانية يقول ابن عباس رضي الله عنهما: قال لي علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ما علمت أن أحداً من المهاجرين هاجر إلا متخفياً، إلا عمر بن الخطاب، فإنه لما همّ بالهجرة، تقلد سيفه، وتنكّب قوسه، وانتضى في يده أسهماً، واختصر عنزته (1) ، ومضى قبل الكعبة، والملأ من قريش بفنائها، فطاف بالبيت سبعاً متمكناً، ثم أتى المقام، فصلى متمكناً، ثم وقف على الحلق واحدة، واحدة، فقال لهم: شاهت الوجوه، لا يُرغم الله إلا هذه المعاطس (2) ، من أراد أن تثكله أمه، ويوتم ولده، أو يرمل زوجه فليلقني وراء هذا الوادي. قال عليُّ رضي الله عنه: فما تبعه أحد إلا قوم من المستضعفين علمهم، وأرشدهم ومضى لوجهه (3) .
__________
(1) عنزته: العنزة عصا في قدر نصف الرمح وهي أطول من العصا وأقوى من الرمح.
(2) المعاطس: الأنوف.
(3) خبر لا بأس به انظر صحيح التوثيق في سيرة الفاروق ص30 .(1/483)
وكان قدوم عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى المدينة قبل مقدم النبي - صلى الله عليه وسلم - إليها، وكان معه من لحق به من أهله وقومه، وأخوه زيد بن الخطاب، وعمرو وعبد الله ابنا سراقة بن المعتمر، وخنيس بن حذافة السهمي، زوج ابنته حفصة، وابن عمه سعيد بن زيد، وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة، وواقد بن عبد الله التميمي، حليف لهم، وخولى بن أبي خولى، ومالك بن أبي خولى، حليفان لهم من بني عجل وبنو البكير، وإياس وخالد، وعاقل، وعامر، وحلفاؤهم من بني سعد بن ليث، فنزلوا على رفاعة بن عبد المنذر في بني عمرو بن عوف بقباء (1) .
يقول البراء بن عازب رضي الله عنه: أول من قدم علينا مصعب بن عمير، وابن أبي مكتوم، وكانوا يُقرئون الناس، فقدم بلال، وسعد، وعمار بن ياسر، ثم قدم عمر بن الخطاب في عشرين نفراً من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ثم قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيء فرحهم برسول الله - صلى الله عليه وسلم - (2) .
- مناقب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - :
هو الخليفة الثاني وأفضل الصحابة الكرام بعد أبي بكر الصديق رضي الله عنهم جميعاً وقد حثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأمرنا باتباع سنتهم والاهتداء بهديهم كما في الحديث الآتي :
(حديث العرباض بن سارية في صحيحي أبي داوود والترمذي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أوصيكم بتقوى الله و السمع و الطاعة و أن أمر عليكم عبد حبشي فإنه من يعش منكم بعدي فسيري اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي و سنة الخلفاء المهديين الراشدين تمسكوا بها و عضوا عليها بالنواجذ و إياكم و محدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة و كل بدعة ضلالة .
__________
(1) فتح الباري (7/261) نقلاً عن صحيح التوثيق ص31 .
(2) البخاري رقم 3925 .(1/484)
فعمر - رضي الله عنه - خير الصالحين بعد الأنبياء والمرسلين وأبي بكر الصديق - رضي الله عنه - وقد قال فيهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : اقتدوا باللذين من بعدي ،أبي بكر وعمر كما في الحديث الآتي :
( حديث حذيفة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : اقتدوا باللذين بعدي أبي بكر وعمر .
[*] قال العلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:
فقوله - صلى الله عليه وسلم - : (اقتدوا باللذين من بعدي) أي: بالخليفتين اللذين يقومان من بعدي وهما أبوبكر وعمر وحث على الاقتداء بهما لحسن سيرتهما وصدق سريرتهما، وفي الحديث إشارة لأمر الخلافة (1) .
والسنة طافحةٌ بما يدل على فضائل الفاروق وهذا غيضٌ من فيض ونقطةٌ من بحر مما ورد في ذلك جملةً وتفصيلاً :
أولاً مناقب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - جملة ً :
(1) إيمانه وعلمه ودينه:
(2) هيبة عمر وخوف الشيطان منه:
(3) عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - مُلْهَمُ هذه الأمة:
(4) لم أر عبقرياً ينزع نزع عمر:
(5) غَيْرَةُ عمر رضي الله وبشرى رسول الله له بقصر في الجنة:
(6) عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أحب أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليه بعد أبي بكر:
(7) بشرى لِعُمَرَ بالجنة:
(8) موافقات عمر للقرآن الكريم:
(9) إلمام عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بأسباب النزول :
(10) تفسير عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لبعض الآيات وبعض تعليقاته:
(11) ملازمة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
(12) من صدقات عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ووقفه:
(13) دعاء رسول الله لعمر بن الخطاب - رضي الله عنه - :
(14) زواج حفصة بنت عمر رضي الله عنهما من رسول الله:
(15) فراسة عمر الصادقة في أبي مسلم الخولاني :
(16) مشورة عمر على أبي بكر بجمع القرآن :
__________
(1) تحفة الاحوذي بشرح الترمذي (10/147).(1/485)
(17) تفقد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لأحوال أمراءه :
(18) قبول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - للحق إذا سمعه من الرعية وعدم استنكافه من ذلك :
(19) تحقيقه للعدل والمساواة رضي الله عنه :
(20) شدة خوف عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - من الله تعالى بمحاسبته لنفسه :
(21) لين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وشدته :
(22) رحمة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - :
(23) ومن أعظم مناقب عمر - رضي الله عنه - اعترافه بفضل أبي بكرٍ عليه إذعاناً للحق :
( 24 ) شجاعة عمر بن الخطاب رضي الله عنه :
(25) حكم عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - على الناس بظاهر الأعمال مما يدل على رسوخ العلم والإيمان في قلبه - رضي الله عنه - :
(26) ورع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - :
(27) كان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وقافاً عند حدود الله تعالى :
(28) إكرام عمر لأهل البيت :
(29) توقير عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - للصحابه :
(30) تواضع عمر :
(31) غيرة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - على أعراض المسلمين :
ثانياً مناقب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - تفصيلا ً :
(1) إيمان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وعلمه ودينه:
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ
(حديث عمر في صحيح البخاري) أن عمر رضي الله عنه للنبي - صلى الله عليه وسلم - : " إنك لأحب إلى من كل شيء إلا من نفسي. قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : لا والذي نفسي بيده ، حتى أكون أحب إليك من نفسك . قال : الآن والله لأنت أحب إلى من نفسي . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - الآن يا عمر "
وأما علمه :
ـــ ـــ ـــ ــــ(1/486)
( حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح البخاري ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (بينا أنا نائم أتيت بقدح لبن، فشربت منه، حتى إني لأرى الرِّيَّ يخرج من أظفاري، ثم أعطيت فضلي - يعني - عمر). قالوا: فما أوَّلته يا رسول الله؟ قال: (العلم).
وجه التعبير :
ـــ ـــ ـــ ـــ
وجه التعبير بذلك من جهة اشتراك اللبن والعلم في كثرة النفع وكونهما سبباً للصلاح، فاللبن للغذاء البدني والعلم للغذاء المعنوي وفي الحديث فضيلة - ومنقبة لعمر رضي الله عنه - وإن الرؤيا من شأنها أن لا تحمل على ظاهرها وإن كانت رؤيا الأنبياء من الوحي لكن منها ما يحتاج إلى تعبير ومنها ما يحمل على ظاهره.. والمراد بالعلم - في الحديث - سياسة الناس بكتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واختص عمر بذلك لطول مدته بالنسبة إلى أبي بكر وباتفاق الناس على طاعته بالنسبة إلى عثمان فإن مدة أبي بكر كانت قصيرة فلم تكثر فيها الفتوح التي هي أعظم الأسباب في الاختلاف ومع ذلك فساس عمر فيها مع طول مدته الناس بحيث لم يخالفه أحد ثم ازدادت اتساعاً في خلافة عثمان فانتشرت الأقوال واختلفت الآراء ولم يتفق له ما اتفق لعمر في طواعية الخلق له فنشأت من ثم الفتن إلى أن أفضى الأمر إلى قتله واستخلف عليُّ فما ازداد الأمر إلا اختلافاً والفتن إلا انشاراً.
وأما دينه :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
(حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (بينا أنا نائم، رأيت الناس يعرضون علي وعليهم قمص، منها ما يبلغ الثدي، ومنها ما دون ذلك، وعرض علي عمر بن الخطاب وعليه قميص يجره). قالوا: فما أولت ذلك يا رسول الله؟ قال: (الدين).
(2) هيبة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وخوف الشيطان منه:
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ(1/487)
( حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إيه يا ابن الخطاب والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكاً فجاً (1) قط إلا سلك فجاً غير فجك .
[*] قال ابن حجر: فيه فضيلة لعمر تقتضي أن الشيطان لا سبيل له عليه لا أن ذلك يقتضي وجود العصمة إذ ليس فيه إلا فرار الشيطان منه أن يشاركه في طريق يسلكها، ولا يمنع ذلك من وسوسته له بحسب ما تصل إليه قدرته، فإن قيل عدم تسليطه عليه بالوسوسة يؤخذ بطريق مفهوم الموافقة لأنه إذا منع من السلوك في طريق فأولى أن لا يلابسه بحيث يتمكن من وسوسته له فيمكن أن يكون حفظ من الشيطان، ولا يلزم من ذلك ثبوت العصمة له لأنها في حق النبي واجبة وفي حق غيره ممكنة ووقع في حديث حفصة عند الطبراني في الأوسط بلفظ: إن الشيطان لا يلقى عمر منذ أسلم إلا فر لوجهه. وهذا دال على صلابته في الدين، واستمرار حاله على الجد الصرف والحق المحض، وقال النووي: هذا الحديث محمول على ظاهره وأن الشيطان يهرب إذا رآه: وقال عياض: يحتمل أن يكون ذاك على سبيل ضرب المثل وأن عمر فارق سبيل الشيطان وسلك طريق السداد فخالف كل
ما يحبه الشيطان قال ابن حجر والأول أولى (2) .
( حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : رأيت شياطين الإنس و الجن فروا من عمر .
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
( رأيت شياطين الإنس والجن فروا من عمر ) بن الخطاب لأن القلب إذا كان مطهراً عن مرعى الشيطان وقوته وهو الشهوات وكان له حظ من سلطان الجلال والهيبة لم يثبت لمقاومته شيء وهابه كل من رآه قال ابن عباس : كانت درته أهيب عند الناس من سيوف غيره وكانوا إذا أرادوا أن يكلموه رفعوا إلى بنته حفصة هيبة له .
__________
(1) الفج: الطريق الواسع ويطلق على المكان المنخرق بين الجبلين.
(2) فتح الباري (7/47-48)، شرح النووي (15/165-167).(1/488)
(3) عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - مُلْهَمُ هذه الأمة:
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لقد كان فيما كان قبلكم من الأمم ناس مُحَدَثُون، فإن يك في أمتي أحد فإنه عمر .
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
( قد كان فيما مضى قبلكم من الأمم )
( أناس مُحَدَثُون ) قال القرطبي : الرواية بفتح الدال اسم مفعول جمع محدث بالفتح أي ملهم أو صادق الظن وهو من ألقى في نفسه شيء على وجه الإلهام والمكاشفة من الملأ الأعلى أو من يجري الصواب على لسانه بلا قصد أو تكلمه الملائكة بلا نبوّة أو من إذا رأى رأياً أو ظنّ ظناً أصاب كأنه حدث به وألقى في روعه من عالم الملكوت فيظهر على نحو ما وقع له وهذه كرامة يكرم اللّه بها من شاء من صالح عباده وهذه منزلة جليلة من منازل الأولياء
( فإن يك في أمتي أحد فإنه عمر) هذا شأنه وفي رواية بدله وإن يك في أمتي من أحد(1/489)
( فإنه عمر) كأنه جعله في انقطاع قرينه في ذلك كأنه نبيّ فلذلك أتى بلفظ إن بصورة الترديد قال القاضي : ونظير هذا التعليق في الدلالة على التأكيد والاختصاص قولك إن كان لي صديق فهو زيد فإن قائله لا يريد به الشك في صداقته بل المبالغة في أن الصداقة مختصة به لا تتخطاه إلى غيره وقال القرطبي : قوله فإن يكن دليل على قلة وقوعه وندرته وعلى أنه ليس المراد بالمحدثين المصيبون فيما يظنون لأنه كثير في العلماء بل وفي العوام من يقوى حدسه فتصح إصابته فترتفع خصوصية الخبر وخصوصية عمر ومعنى الخبر قد تحقق ووجد في عمر قطعاً وإن كان النبي صلى اللّه عليه وسلم لم يجزم بالوقوع وقد دلّ على وقوعه لعمر أشياء كثيرة كقصة الجبل يا سارية الجبل وغيره وأصح ما يدلّ على ذلك شهادة النبي صلى اللّه عليه وسلم له بذلك حيث قال : إن اللّه جعل الحق على لسان عمر وقلبه وليس لك أن تقول [ ص 508 ] هذا كالصريح في تفضيل الفاروق على الصديق لأنا نمنعه بأن الصديق لا يتلقى عن قلبه بل عن مشكاة النبوة وهي معصومة والمحدث تارة يتلقى عنها وتارة عن قلبه وهو غير معصوم ولهذا كان عمر يزن الوارد بميزان الشرع فإن وافق وإلا لم يلتفت إليه قال ابن حجر : وقد كثر هؤلاء المحدثون بعد العصر الأول وحكمته زيادة شرف هذه الأمة بوجود أمثالهم فيها ومضاهاة بني إسرائيل في كثرة الأنبياء فلما فات هذه الأمة المحمدية كثرة الأنبياء لكون نبيهم خاتم الأنبياء عوضوا تكثير الملهمين ومما تقدم عرف أنه ليس لأحد من الأولياء العمل بالوارد حتى يزنه بالميزان فإن وافق انتفع به هو ومن كاشفه به ممن يعتقد صدقة وزادهم إيماناً ( تنبيه ) قال الغزالي : قال بعض العارفين سألت بعض الأبدال عن مسألة من مشاهد النفس فالتفت إلى شماله وقال ما تقول رحمك اللّه ثم إلى يمينه كذلك ثم أطرق إلى صدره فقال ما تقول ثم أجاب فسألته عن التفاته فقال لم يكن عندي علم فسألت الملكين فكل قال لا أدري فسألت قلبي(1/490)
فحدثني بما أجبت فإذا هو أعلم منهما قال الغزالي : وكأن هذا معنى الحديث .
(4) لم أر عبقرياً ينزع نزع عمر:
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ ـ
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : بينا أنا نائم، رأيتني على قليب عليها دلو، فنزعت منها ما شاء الله، ثم أخذها ابن أبي قحافة، فنزع بها ذَنُوبَا أو ذَنُوبَيْن، وفي نزعه ضعف، والله يغفر له ضعفه، ثم استحالت غربا، فأخذها ابن الخطاب، فلم أر عبقريا من الناس ينزع نزع عمر، حتى ضرب الناس بعطن).
[*] قال الشافعي رحمه الله : رؤيا الأنبياء وحي وقوله: وفي نزعه ضعف قصر مدته وعجلة موته وشغله بالحرب لأهل الردة عن الافتتاح والتزيد الذي بلغه عمر في طول مدته (1) .
[*] قال الإمام النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم :
__________
(1) الاعتقاد للبيهقي ، ص171.(1/491)
رأيتني على قليب عليها دلو : أما القليب فهي البئر غير المطوية والدلو يذكر ويؤنث، والذنوب : بفتح الذال الدلو المملوءة، والغرب بفتح الغين المعجمة وإسكان الراء وهي الدلو العظيمة، والنزع الاستقاء، والضعف بضم الضاد وفتحها لغتان مشهورتان الضم أفصح، ومعنى استحالت صارت وتحولت من الصغر إلى الكبر، وأما العبقري فهو السيد وقيل الذي ليس فوقه شيء، ومعنى ضرب الناس بعطن أي أرووا إبلهم ثم آووها إلى عطنها وهو الموضع الذي تساق إليه بعد السقي لتستريح. قال العلماء: هذا المنام مثال واضح لما جرى لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما في خلافتهما وحسن سيرتهما وظهور آثارهما وانتفاع الناس بهما، وكل ذلك مأخوذ من النبي صلى الله عليه وسلم ومن بركته وآثار صحبته، فكان النبي صلى الله عليه وسلم هو ص(4) الأمر، فقام به أكمل قيام، وقرر قواعد الإسلام، ومهد أموره وأوضح أصوله وفروعه ودخل الناس في دين الله أفواجاً، وأنزل الله تعالى: { اليوم أكملت لكم دينكم } ثم توفي صلى الله عليه وسلم فخلفه أبو بكر رضي الله عنه سنتين وأشهراً وهو المراد بقوله صلى الله عليه وسلم ذنوباً أو ذنوبين وهذا شك من الراوي والمراد ذنوبان كما صرح به في الرواية الأخرى، وحصل في خلافته قتال أهل الردة وقطع دابرهم واتساع الإسلام ثم توفي فخلفه عمر رضي الله عنه فاتسع الإسلام في زمنه، وتقرر لهم من أحكامه ما لم يقع مثله، فعبر بالقليب عن أمر المسلمين لما فيها من الماء الذي به حياتهم وصلاحهم وشبه أميرهم بالمستقى لهم وسقيه هو قيامه بمصالحهم وتدبير أمورهم. وأما قوله صلى الله عليه وسلم في أبي بكر رضي الله عنه وفي نزعه ضعف فليس فيه حط من فضيلة أبي بكر ولا إثبات فضيلة لعمر عليه وإنما هو إخبار عن مدة ولايتهما وكثرة انتفاع الناس في ولاية عمر لطولها ولاتساع الإسلام وبلاده والأموال وغيرها من الغنائم والفتوحات ومصر الأمصار ودون الدواوين.(1/492)
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: والله يغفر له فليس فيه تنقيص له ولا إشارة إلى ذنب وإنما هي كلمة كان المسلمون يدعمون بها كلامهم ونعمت الدعامة، وقد سبق في الحديث في صحيح مسلم أنها كلمة كان المسلمون يقولونها افعل كذا والله يغفر لك. قال العلماء: وفي كل هذا إعلام بخلافة أبي بكر وعمر وصحة ولايتهما وبيان صفتها وانتفاع المسلمين بها. قوله صلى الله عليه وسلم: "فجاءني أبو بكر فأخذ الدلو من يدي ليروحني" قال العلماء: فيه إشارة إلى نيابة أبي بكر عنه وخلافته بعده وراحته صلى الله عليه وسلم بوفاته من نصب الدنيا ومشاقها كما قال صلى الله عليه وسلم: مستريح ومستراح منه الحديث، والدنيا سجن المؤمن، ولا كرب على أبيك بعد اليوم. قوله صلى الله عليه وسلم: "فلم أر عبقرياً من الناس يفري فريه" أما يفري فبفتح الياء وإسكان الفاء وكسر الراء، وأما فريه فروي بوجهين: أحدهما فريه بإسكان الراء وتخفيف الياء والثانية كسر الراء وتشديد الياء وهما لغتان صحيحتان، وأنكر الخليل التشديد وقال هو غلط اتفقوا على أن معناه لم أر سيداً يعمل عمله ويقطع قطعه، وأصل الفري بالإسكان القطع يقال فريت الشيء أفريه فرياً قطعته للإصلاح فهو مفري وفرى وأفريته إذا شققته على جهة الإفساد، وتقول العرب: تركته يفري الفرى إذا عمل العمل فأجاده، ومنه حديث حسان لأفرينهم فري الأديم أي أقطعهم بالهجاء كما يقطع الأديم. قوله صلى الله عليه وسلم: "حتى ضرب الناس بعطن" سبق تفسيره، قال القاضي: ظاهره أنه عائد إلى خلافة عمر خاصة، وقيل يعود إلى خلافة أبي بكر وعمر جميعاً لأن بنظرهما وتدبيرهما وقيامهما بمصالح المسلمين تم هذا الأمر وضرب الناس بعطن لأن أبا بكر قمع أهل الردة وجمع شمل المسلمين وألفهم وابتدأ الفتوح ومهد الأمور وتمت ثمرات ذلك وتكاملت في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما.
(5) غَيْرَةُ عمر عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وبشرى رسول الله له بقصر في الجنة:(1/493)
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال: (بينا أنا نائم رأيتني في الجنة، فإذا امرأة تتوضأ إلى جانب قصر، فقلت: لمن هذا القصر؟ فقالوا: لعمر بن الخطاب، فذكرت غيرته، فوليت مدبرا). فبكى عمر وقال: أعليك أغار يا رسول الله .
هذا الحديث يشتمل على فضيلة ظاهرة لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه حيث أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - برؤيته قصراً في الجنة للفاروق وهذا يدل على منزلته عند الله تعالى (1) .
(6) عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أحب أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليه بعد أبي بكر:
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
( حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه الثابت في الصحيحين )أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه على جيش ذات السلاسل، فأتيته فقلت: أي الناس أحب إليك؟ قال: (عائشة). فقلت: من الرجال؟ فقال: (أبوها). قلت: ثم من؟ قال: (عمر بن الخطاب). فعد رجالا.
(7) بشرى لِعُمَرَ بن الخطاب - رضي الله عنه - بالجنة:
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
__________
(1) عقيدة أهل السنة والجماعة والصحابة (1/245).(1/494)
( حديث أبي موسى رضي الله عنه قال الثابت في صحيح البخاري ): كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في حائط من حيطان المدينة، فجاء رجل فاستفتح، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (افتح له وبشره بالجنة). ففتحت له، فإذا هو أبو بكر، فبشرته بما قال النبي صلى الله عليه وسلم، فحمد الله، ثم جاء رجل فاستفتح، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (افتح له وبشره بالجنة). ففتحت له فإذا هو عمر، فأخبرته بما قال النبي صلى الله عليه وسلم فحمد الله، ثم استفتح رجل، فقال لي: (افتح له وبشره بالجنة، على بلوى تصيبه). فإذا عثمان، فأخبرته بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمد الله، ثم قال: الله المستعان .
( حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أبو بكر في الجنة وعمر في الجنة وعثمان في الجنة وعليٌ في الجنة وطلحة في الجنة والزبير في الجنة وعبد الرحمن بن عوف في الجنة وسعدُ ابن أبي وقاص في الجنة وسعيدُ ابن زيد في الجنة وأبو عبيدة بن الجراح في الجنة .
(8) موافقات عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - للقرآن الكريم:
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
... ( حديث عمر رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) قال: وافقت ربي في ثلاث: فقلت: يا رسول الله، لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى، فأنزلت: { واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى } . وآية الحجاب، قلت: يا رسول الله، لو أمرت نساءك أن يحتجبن، فإنه يكلمهن البر والفاجر، فنزلت آية الحجاب، واجتمع نساء النبي صلى الله عليه وسلم في الغيرة عليه، فقلت لهن: عسى ربه إن طلقكن، أن يبدله أزواجا خيرا منكن، فأنزلت هذه الآية .
ومن موافقته في ترك الصلاة على المنافقين :(1/495)
( حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين ) قال: لما توفي عبد الله، جاء ابنه عبد الله بن عبد الله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه فأعطاه، ثم سأله أن يصلي عليه، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي، فقام عمر فأخذ بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله تصلي عليه، وقد نهاك ربك أن تصلي عليه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما خيرني الله فقال: { استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة } . وسأزيده على السبعين). قال: أنه منافق، قال: فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله: { ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره } .
موافقته في أسرى بدر:(1/496)
( حديث ابن عباس رضي الله عنهما الثابت في صحيح مسلم ) فلما أسروا الأسارى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر ما ترون في هؤلاء الأسارى فقال أبو بكر يا نبي الله هم بنو العم والعشيرة أرى أن تأخذ منهم فدية فتكون لنا قوة على الكفار فعسى الله أن يهديهم للإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ترى يا بن الخطاب قلت لا والله يا رسول الله ما أرى الذي رأى أبو بكر ولكني أرى أن تمكنا فنضرب أعناقهم فتمكن عليا من عقيل فيضرب عنقه وتمكني من فلان نسيبا لعمر فأضرب عنقه فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها فهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت فلما كان من الغد جئت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر قاعدين يبكيان قلت يا رسول الله أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك فإن وجدت بكاء بكيت وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أبكي للذي عرض علي أصحابك من أخذهم الفداء لقد عرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة شجرة قريبة من نبي الله صلى الله عليه وسلم وأنزل الله عز وجل !< ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض >! إلى قوله !< فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا >! الأنفال فأحل الله الغنيمة لهم موافقته في الاستئذان :(1/497)
أرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - غلاماً من الأنصار إلى عمر بن الخطاب. وقت الظهيرة ليدعوَه، فدخل عليه وكان نائماً وقد انكشف بعض جسده، فقال: اللهم حرّم الدخول علينا في وقت نومنا وفي (رواية) قال: يا رسول الله وددت لو أن الله أمرنا ونهانا في حال الاستئذان (1) فنزلت { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمْ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاَةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنْ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاَةِ الْعِشَاءِ } (النور،آية:58) (2) .
عمر ودعاؤه في تحريم الخمر :
( حديث عمر رضي الله عنه الثابت في صحيح النسائي ) قال : لما نزل تحريم الخمر قال عمر اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا فنزلت الآية التي في البقرة فدعي عمر فقرئت عليه فقال عمر اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا فنزلت الآية التي في النساء يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى فكان منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقام الصلاة نادى لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى فدعي عمر فقرئت عليه فقال اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا فنزلت الآية التي في المائدة فدعي عمر فقرئت عليه فلما بلغ فهل أنتم منتهون قال عمر رضي الله عنه انتهينا انتهينا .
(9) إلمام عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بأسباب النزول :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
__________
(1) الرياض النضرة ص332 سنده ضعيف ذكره الواقدي بدون إسناد.
(2) الفتاوى (28/10).(1/498)
حفظ عمر القرآن كله (1) ، في الفترة التي بدأت بإسلامه، وانتهت بوفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقد حفظه مع أسباب التنزيل إلا ما سبق نزوله قبل إسلامه، فذلك مما جمعه جملة ولا مبالغة إذا قلنا: أن عمر كان على علم بكثير من أسباب التنزيل، وبخاصة في الفترة الإسلامية من حياته، ثم لشدة اتصاله بالتلقي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم هو قد حفظ منه ما فاته، فإن يلم بأسباب النزول والقرآن بكر التنزيل، والحوادث لا تزال تترى فذلك أمر يسير (2) .
وقد كان عمر سبباً في التنزيل لأكثر من آية، بعضها متفق على مكيته، وبعضها مدني، بل كان بعض الآيات يحظى من عمر بمعرفة زمانه ومكانه على وجه دقيق،منها ما يلي :
( حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن رجلا من اليهود قال له: يا أمير المؤمنين، آية في كتابكم تقرؤونها، لو علينا معشر اليهود نزلتـ لاتخذنا ذلك اليوم عيدا. قال: أي آية؟ قال: { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا } . قال عمر: قد عرفنا ذلك اليوم، والمكان الذي نزلت فيه على النبي صلى الله عليه وسلم، وهو قائم بعرفة يوم جمعة.
،
__________
(1) الإتقان في علوم القرآن للسيوطي (1/72)
(2) عمر بن الخطاب د. علي الخطيب ص90،91،92 .(1/499)
وقد كان عمر - وحده أو مع غيره - سبباً مباشراً في تنزيل بعض الآيات منها، قول الله تعالى: { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الأخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ(19) الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ(20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ(21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ(22) } (التوب22:19).
(النعمان بن بشير رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) قال: كنت عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رجل * ما أبالي أن لا أعمل عملا بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج وقال آخر ما أبالي أن لا أعمل عملا بعد الإسلام إلا أن أعمر المسجد الحرام وقال آخر الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلتم فزجرهم عمر وقال لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يوم الجمعة ولكن إذا صليت الجمعة دخلت فاستفتيته فيما اختلفتم فيه فأنزل الله عز وجل : { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } [ التوبة :19 ] .(1/500)
ولما نزل قول الله تعالى: { سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ(45) } (القمر،آية:45). قال عمر: أي جمع يهزم؟ أي جمع يغلب؟ قال عمر: فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يثبت في الدرع وهو يقول: { سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ } فعرفت تأويلها يومئذ (1) .
( حديث ابن عباس رضي الله عنهما الثابت في صحيح البخاري ) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال وهو في قبة يوم بدر: "" اللهم أنشدك عهدك ووعدك اللهم إن تشأ لا تعبد بعد اليوم "" فأخذ أبو بكر بيده فقال حسبك يا رسول الله لِلَّهِ ألححت على ربك فخرج وهو يثب في الدرع وهو يقول: "" [ سيهزم الجمع ويولون الدبر ] .
(10) تفسير عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لبعض الآيات وبعض تعليقاته:
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ
كان عمر يتحرّج في تفسير القرآن برأيه ولذلك لما سئل عن قوله تعالى
{ وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا } قال: هي الرياح، ولولا أني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقوله ما قلته، قيل: { فَالْحَامِلاَتِ وِقْرًا } . قال: السحاب، ولولا أني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقوله ما قلته، قيل: { فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا } ؟ قال: السفن، ولولا أني سمعت رسول الله يقوله ما قلته، قيل: { فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا } ؟ قال: هي الملائكة، ولولا أني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقوله ما قلته (2) ، وكان رضي الله عنه له منهج في تفسيره للآيات، فإنه رضي الله عنه إذا وجد لرسول الله تفسيراً أخذ به، وكان هو الأفضل مثل ما مرّ معنا من تفسيره وإذا لم يجد طلبه في مظانه عند بعض الصحابة مثل: ابن عباس، وأبي بن كعب، وعبد الله بن مسعود ومعاذ وغيرهم - رضي الله عنهم _ وهذا مثال على ذلك
__________
(1) تفسير ابن كثير (4/266).
(2) أخبار عمر بن الخطاب الطنطاويان ص308 نقلاً عن الرياض النظرة.(2/1)
فقد قال عمر رضي الله عنه يوماً لأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - : فيم ترون هذه الآية نزلت { أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الأيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ(266) } (البقرة،آية:266)، قالوا: الله أعلم. فغضب عمر فقال: قولوا نعلم أولا نعلم. فقال ابن عباس: في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين. قال عمر: يا ابن أخي قل ولا تحقر نفسك. قال ابن عباس: ضربت مثلاً لعمل، قال عمر: أي عمل؟ قال ابن عباس: لعمل. قال عمر: لرجل غني يعمل بطاعة الله عز وجل، ثم بعث الله له الشيطان فعمل بالمعاصي حتى أغرق أعماله (1) ، وفي رواية قال ابن عباس: عني بها العمل، ابن آدم أفقر ما يكون إلى جنته إذا كبر سنه وكثر عياله، وابن آدم أفقر ما يكون إلى عمله يوم يبعث، فقال عمر: صدقت يا ابن أخي (2) .
وكانت له بعض التعليقات على بعض الآيات مثل قوله تعالى: { الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ(156) أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ(157) } (البقرة،آية:156،157). فقال: نعم العدلان ونعم العلاوة (3) ، ويقصد بالعدلين الصلاة والرحمة والعلاوة الاهتداء (4) .
__________
(1) فتح الباري (8/49).
(2) الخلافة الراشدة والدولة الأموية، د. يحيى اليحيى ص305 .
(3) المستدرك (2/270).
(4) الخلافة الراشدة والدولة الأموية ص305 .(2/2)
وسمع القارئ يتلو قول الله تعالى: { يَاأَيُّهَا الأنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ(6) } (الانفطار،آية:6). فقال عمر: الجهل (1) . وفسر قول الله تعالى: { وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ(7) } (التكوير،آية:7). بقوله: الفاجر مع الفاجر والطالح مع الطالح (2) ، وفسر قول الله تعالى: { تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا } (التحريم،آية:8). بقوله: أن يتوب ثم لا يعود، فهذه التوبة الواجبة التامة (3)
وذات يوم مر بدير راهب فناداه يا راهب فأشرف الراهب، فجعل عمر ينظر إليه ويبكي فقيل له يا أمير المؤمنين: ما يبكيك من هذا؟ قال ذكرت قول الله عز وجل في كتابه { عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ(3) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً(4) } (الغاشية،آية:4،3). فذاك الذي أبكاني (4) ، وفسر الجبت بالسحر، والطاغوت بالشيطان في قوله تعالى: { يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ } (5) (النساء،آية:51).
(11) ملازمة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ
__________
(1) تفسير ابن كثير (4/513).
(2) الفتاوى (7/44).
(3) الفتاوى (11/382).
(4) تفسير ابن كثير (4/537).
(5) تفسير ابن كثير (1/524).(2/3)
إن الرافد القوي الذي أثر في شخصية عمر وصقل مواهبه، وفجر طاقاته وهذب نفسه هو مصاحبته لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتتلمذه على يديه في مدرسة النبوة، ذلك أن عمر لازم الرسول - صلى الله عليه وسلم - في مكة بعد إسلامه كما لازمه كذلك في المدينة المنورة - حيث سكن العوالي - وهي ضاحية من ضواحي المدينة، وإن كانت قد اتصلت بها الآن وأصبحت ملاصقة لمسجد الرسول، حيث امتد العمران، وتوسعت المدينة، وزحفت على الضواحي، في هذه الضاحية نظم عمر نفسه،وحرص على التلمذة في حلقات مدرسة النبوة في فروع شتى من المعارف والعلوم على يدي معلم البشرية وهاديها، والذي أدبه ربه فأحسن تأديبه، وقد كان لا يفوته علم من قرآن، أو حديث أو أمر أو حدث أو توجيه وإن لم يحدث بنفسه تناوب هو وأحدٌ من أصحابه فيحضر هذا مرة ويأتيه بما يكون من رسول الله ويحضر الآخر مرة ويأتيه بما يكون من رسول الله .
قال عمر: كنت أنا وجار لي من الأنصار من بني أمية بن زيد - وهي من عوالي المدينة - وكنا نتناوب النزول على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينزل يوماً وأنزل يوماً، فإذا نزلت جئت بخبر ذلك اليوم من الوحي وغيره، وإذا نزل فعل مثل ذلك (1) .
(حديث عمر في صحيح البخاري) قال : وكان رجلاً من الأنصار إذا غاب عن رسول الله وشهدته أتيته بما يكون من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
__________
(1) نفس المصدر ص87 .(2/4)
وهذا الخبر يوقفنا على الينبوع المتدفق، الذي استمد منه عمر علمه وتربيته وثقافته، وهو كتاب الله الحكيم، الذي كان ينزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منجماً على حسب الوقائع والأحداث، وكان الرسول يقرأه على أصحابه، الذين وقفوا على معانيه، وتعمقوا في فهمه، وتأثروا بمبادئه، وكان له عميق الأثر في نفوسهم وعقولهم وقلوبهم وأرواحهم وكان عمر واحداً من هؤلاء الذين تأثروا بالمنهج القرآني في التربية والتعليم ، وظل عمر ملازماً للرسول يتلقى عنه ما أنزل عليه، حتى تم له حفظ جميع آياته وسوره، وقد أقرأه الرسول - صلى الله عليه وسلم - بعضه وحرص على الرواية التي أقرأه بها الرسول (1) وكان لعمر أحياناً شرف السبق إلى سماع بعض آياته فور نزوله كما عني بمراجعة محفوظه منه (2) ، فقد تربى عمر رضي الله عنه على المنهج القرآني وكان المربي له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، و كان عمر شديد الحرص على ملازمة رسول الله وكان رضي الله عنه إذا جلس إلى رسول الله لم يترك المجلس حتى ينفض، فهو واحد من الجمع القليل الذي لم يترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يخطب حين قدمت عير إلى المدينة (3) ، وكان يجلس في حلقات ودروس ومواعظ رسول الله نشطاً يستوضح، ويستفهم، ويلقي الأسئلة بين يدي رسول الله في الشؤون الخاصة والعامة (4) ، ولذلك فقد روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - خمسمائة حديث وتسعة وثلاثين حديثاً (5) ، وفي رواية: خمسمائة وسبعة وثلاثين حديثاً (6) ،
__________
(1) نفس المصدر ص88 .
(2) نفس المصدر ص88 .
(3) الإحسان في تقريب صحيح بن حبان (15/300) مسلم رقم 863.
(4) انظر: عمر بن الخطاب، د. علي الخطيب ص 108.
(5) تاريخ الخلفاء للسيوطي ص133.
(6) انظر: عمر بن الخطاب، د. علي الخطيب ص 109..(2/5)
اتفق الشيخان في صحيحيهما على ستة وعشرين منها، وانفرد البخاري بأربعة وثلاثين ومسلم بواحد وعشرين (1) ، والبقية في كتب الأحاديث الأخرى (2) ، وقد وفقه الله إلى رواية أحاديث لها قيمتها الأولوية في حقيقة الإيمان والإسلام والإحسان والقضاء والقدر، وفي العلم والذكر والدعاء وفي الطهارة والصلاة والجنائز، والزكاة والصدقات، والصيام، والحج، وفي النكاح والطلاق والنسب، والفرائض، والوصايا والاجتماع، وفي المعاملات والحدود، وفي اللباس والأطعمة والأشربة والذبائح، وفي الأخلاق والزهد والرقاق والمناقب والفتن والقيامة، وفي الخلافة والإمارة والقضاء، وقد أخذت هذه الأحاديث مكانها في مختلف العلوم الإسلامية، ولا تزال رافداً يمد هذه العلوم (3)
وإليك بعض المواقف التعليمية والتربوية والاجتماعية من حياة الفاروق مع رسول الله في المدينة.
أولاً : رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسأل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - عن السائل:
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
__________
(1) دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين (1/40).
(2) عمر بن الخطاب د. علي الخطيب ص 109.
(3) عمر بن الخطاب د. علي الخطيب ص 112.(2/6)
(حديث عمر بن الخطاب الثابت في صحيح مسلم ) قال : بينما نحن عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد حتى جلس إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفيه على فخذيه وقال يا محمد أخبرني عن الإسلام فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا قال صدقت قال فعجبنا له يسأله ويصدقه قال فأخبرني عن الإيمان قال أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره قال صدقت قال فأخبرني عن الإحسان قال أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك قال فأخبرني عن الساعة قال ما المسئول عنها بأعلم من السائل قال فأخبرني عن إمارتها قال أن تلد الأمة ربتها وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان قال ثم انطلق فلبثت مليا ثم قال لي يا عمر أتدري من السائل قلت الله ورسوله أعلم قال فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم .
وهذا الحديث يبين أن الفاروق تعلم معاني الإسلام والإيمان والإحسان بطريقة السؤال والجواب من أفضل الملائكة وأفضل الرسل.
... ثانياً : نهي رسول الله عن الحلف بالآباء وحثه على التوكل على الله:
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أدرك عمر بن الخطاب في ركب وهو يحلف بأبيه، فقال : (ألا، إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالفاً فليحلف بالله، أو ليصمت).
قال ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ: "لئن أحلف بالله كاذباً أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقاً"(2/7)
( حديث بن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيحي أبي داوود و الترمذي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك .
ثالثاُ : رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً ورسولاً:
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
( حديث أنس بن مالك رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري ): أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج، فقام عبد الله بن حذافة فقال: من أبي؟ فقال: (أبوك حذافة). ثم أكثر أن يقول: (سلوني). فبرك عمر على ركبتيه فقال: رضينا بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا، فسكت.
رابعاً : حكم العائد في صدقته:
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
(حديث عمر رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أنه قال :حملت على فرس في سبيل الله، فأضاعه الذي كان عنده، فأردت أن أشتريه، وظننت أنه يبيعه برخص، فسألت النبي فقال: (لا تشتره، ولا تعد في صدقتك، وإن أعطاكه بدرهم، فإن العائد في صدقته كالعائد في قيئه).
( حديث ابن عباس الثابت في صحيح البخاري ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ليس لنا مثل السوء العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه .
(12) من صدقات عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ووقفه:
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ ـــ ـــ ـــ ــ ـــ ـــ ـ
( حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح البخاري ): أن عمر بن الخطاب أصاب أرضا بخيبر، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم يستأمره فيها، فقال: يا رسول الله، إني أصبت أرضا بخيبر، لم أصب مالا قط أنفس عندي منه، فما تأمر به؟ قال: (إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها). قال: فتصدق بها عمر: أنه لا يباع ولا يوهب ولا يورث، وتصدق بها في الفقراء، وفي القربى، وفي الرقاب، وفي سبيل الله، وابن السبيل، والضيف، لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف، ويطعم غير متمول.(2/8)
هذا الموقف العمري فيه فضيلة ظاهرة للفاروق رضي الله عنه ورغبته في المسارعة للخيرات، وإيثاره الحياة الآخرة على الحياة الفانية.
قصة بنت خفاف بن إِيماء الغفاري مع عمر رضي الله عنهم :
أخرج البخاري، والبيهقي عن أسلم قال: خرجت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى السوق، فلحقت عمر إمرأة شابة فقالت: يا أمير المؤمنين، هلك زوجي، وترك صبية صغاراً. والله ما يُنضحون كراعاً ولا هم زرع ولا ضرع، وخشيت أن يأكلهم الضَّبعُ وأنا بنت خَفاف بن أيماء الغِفاري، وقد شهد أبي الحديبية مع النبي صلى الله عليه وسلم فوقف معها عمر ولم يمضِ، ثم قال: مرحباً بنسب قريب. ثم انصرف إلى بعير ظهير كان مربوطاً في الدار، فحمل عليه غِرارتين ملأهما طعاماً، وجعل بينها نفقة وثياباً، ثم ناولها خِطامه، ثم قال: إقتاديه فلن يفنى حتى يأتيَكم الله بخير. فقال رجل: يا أمير المؤمنين، أكثرت لها فقال عمر: ثكلتك أمك شهد أبها الحديبية مع النبي صلى الله عليه وسلم والله إِني لأرى أبا هذه وأخاها وقد حاصرا حصناً زماناً فافتتحناه، ثم أصبحنا نستفيء سهمانَنا فيه. كذا في الكنز .
صنيع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - عام الرمادة في ضيافة العرب :(2/9)
وأخرج ابن سعد عن أسلم قال: لمَّا كان عام الرمادة تجلَّبت العرب من كل ناحية فقدموا المدينة. فكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد أمر رجالاً يقومون عليهم ويقسمون عليهم أطعمتهم وإدامهم، فكان يزيد بن أخت النمر، وكان المِسْوَر بن مَخْرَمة، وكان عبد الرحمن بن عبد القاريّ، وكان عبد الله بن عتبة بن مسعود رضي الله عنهم، فكانوا إذا أمسَوا إجتمعوا عند عمر فيخبرونه بكل ما كانوا فيه، وكان كل رجل منهم على ناحية من المدينة؛ وكان الأعراب حلولاً فيما بين رأس الثنية إلى راتج، إلى بني حارثة، إلى بني عبد الأشهل، إلى البقيع، إلى بني قريظة، ومنهم طائفة بناحية بني سَلِمة؛ هم محدقون بالمدينة. فسمعت عمر يقول ليلة ـ وقد تعشَّى الناس عنده ـ أحصُوا من تعشَّى عندنا. فأحصَوهم من القابلة فوجدوهم سبعة آلاف رجل. وقال: أحصوا العيالات الذين لا يأتون والمرضى والصبيان فأحصَوا فوجدوهم أربعين ألفاً.
ثم مكثنا ليالي فزاد الناس، فأمر بهم، فأُحصوا، فوجدوا من تعشَّى عنده عشرة آلاف الآخرين خمسين ألفاً. فما برحوا حتى أرسل الله السماء، فلما مطرت رأيت عمر قد وكل كل قوم من هؤلاء النفر بناحيتهم يُخرجونهم إلى البادية، ويعطونهم قوتاً وحُمْلاناً إلى باديتهم؛ ولقد رأيت عمر يخرجهم هو بنفسه. قال أسلم: وقد كان وقع فيهم الموت فأراه مات ثلثاهم وبقي ثلث، وكانت قدور عمر يقوم إليها العمال في السَّحَر يعملون الكركور حتى يصبحوا، ثم يطعمون المرضى منهم، ويعملون العصائد وكان عمر يأمر بالزيت فيفار في القدور الكبار على النار حتى يذهب حمته وحره، ثم يُثْرَد الخبز ثم يؤدَم بذلك الزيت.t فكانت العرب يُحمُّون من الزيت. وما أكل عمر في بيت أحد من ولده ولا بيت أحد من نسائه ذَواقاً زمان الرمادة؛ إِلا ما يتعشَّى مع الناس حتى أحيا الله الناس أول ما أُحْيَوا.
قصة أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه مع أهل البيت جياع :(2/10)
وأخرج الدِينَوَري، وابن شاذان، وابن عساكر عن أسلم أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه طاف ليلة، فإذا هو بامرأة في جوف دار له وحولَها صبيان يبكون. وإذا قِدْر على النار قد ملأتها ماءً، فدنا عمر من الباب فقال: يا أمةَ الله، ما بكاء هؤلاء الصبيان؟ قالت: بكاؤهم من الجوع، قال: فما هذا القدر التي على النار؟ قالت: قد جعلت ماءً هو ذا أعلِّلهم به حتى يناموا وأوهمهم أن فيها شيئاً. فبكى عمر، ثم جاء إلى دار الصَّدَقة، وأخذ غِرارة، وجعل فيها شيئاً من دقيق وشحم وسمن وتمر وثياب ودراهم حتى ملأ الغِرارة، ثم قال: يا أسلم إحملْ عليَّ. فقلت: يا أمير المؤمنين أنا أحمله عنك، فقال لي: لا أمَّ لك يا أسلم أنا أحمله لأني أنا المسؤول عنهم في الآخرة؛ فحمله حتى أتى به منزل المرأة، فأخذ القدر فجعل فيها دقيقاً وشيئاً من شحم وتمر وجعل يحركه بيده وينفخ تحت القِدْر، فرأيت الدخان يخرج من خَلَل لحيته حتى طبخ لهم، ثم جعل غرف بيده ويطعمهم حتى شبعوا. ثم خرج وربض بحذائهم كأنه سُبُع خفت أن أكلّمه، فلم يزل كذلك حتى لعب الصبيان وضحكوا. ثم قام فقال: يا أسلم تدري لم ربضت بحذائهم؟ قلت: لا، قال: رأيتهم يبكون، فكرهت أن أذهب وأدعهم حتى أراهم يضحكون، فلما ضحكوا طابت نفسي. كذا في منتخب الكنز . وذكر في البداية عن أسلم قال: خرجت ليلة مع عمر إلى حرَّة وأقِم حتى إذا كنا بصرار إِذا بنار، فقال: يا أسلم ها هنا رَكُب قد قَصَّر بهم الليل، إنطلق بنا إليهم. فأتيناهم، فإذا إمرأة معها صبيان لها ـ فذكره بمعناه. وأخرجه الطبري بمعناه مع زيادات.
كتاب عمر إلى عمرو بن العاص رضي الله عنهما عام الرمادة وجوابه إليه :
وأخرج ابن عبد الحَكَم عن الليث بن سعد أن الناس بالمدينة أصابهم جَهْد شديد في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه في سنة الرمادة، فكتب إِلى عمرو بن العاص رضي الله عنه وهو بمصر:(2/11)
"من عبد الله عمر أمير المؤمنين إِلى العاصي بن العاصي، سلام، أما بعد: فلعمري ـ يا عمرو ـ ما تبالي إِذا شبعت أنت ومن معك أن أهلك (أنا) ومن معي، فيا غوثاه، ثم يا غوثاه". يردّد قوله.
فكتب إليه عمرو بن العاص :
"لعبد الله عمر أمير المؤمنين من عمرو بن العاص أما بعد: فيا لبيك، ثم يا لبيك، وقد بعثت إِليك بعيرٍ أولها عندك وآخرها عندي. والسلام عليك ورحمة الله وبركاته".
تقسيم عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - الطعام الذي أرسله عمرو بين سكان المدينة المنوّرة :
وبعث عمرو بعيرٍ عظيمة، فكان أولها بالمدينة وآخرها بمصر، يتبع بعضها بعضاً، فلما قدمت على عمر وسَّع بها على الناس، ودفع إلى أهل كل بيت بالمدينة وما حولها بَعيراً بما عليه من الطعام، وبعث عبد الرحمن بن عوف، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهم يقسمونها على الناس، فدفعوا إلى أهل كل بيت بعيراً بما عليه من الطعام أن يأكلوا الطعام وينحروا البعير، فيأكلوا لحمه ويأتدموا شحمه، ويحتذوا جلده، وينتفعوا بالوعاء الذي كان فيه الطعام لما أرادوا من لحاف أو غيره؛ فوسَّع الله بذلك على الناس ـ فذكر الحديث بطوله في حفر الخليج من النيل إلى القلزُم لحمل الطعام إلى المدينة ومكة. كذا في المنتخب .
قصة عمر رضي الله عنه مع سبطي رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك :(2/12)
وأخرج ابن سعد عن جعفر بن محمد عن أبيه قال: قدم على عمر رضي الله عنه حُلَلٌ من اليمن فكسا الناس، فراحوا في الحلل وهو بين القبر والمنبر جالس، والناس يأتونه فيسلِّمون عليه ويدعُون له، فخرج الحسن، والحسين رضي الله عنهما من بيت أمهما فاطمة رضي الله عنها يتخطَّيان الناس، وليس عليهما من تلك الحلل شيء، وعمر قاطب صارٌّ بين عينيه، ثم قال: والله ما هنأ لي ما كسوتكم، قالوا: يا أمير المؤمنين، كسوت رعيتك فأْسنت، قال: من أجل الغلامين يتخطَّيان الناس وليس عليهما منها شيء، كَبُرت عنهما وصغرا عنها، ثم كتب إلى اليمن: أن أبعث بحلَّتين لحسنٍ، وحسينٍ وعجِّل. فبعث إليه بحلَّتين فكساهما، كذا في كنز العمال .
(13) دعاء رسول الله لعمر بن الخطاب - رضي الله عنه - :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ ــ
(حديث ابن عمر في صحيح ابن ماجة ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى على عمر قميصاً أبيضاً فقال : ثوبك هذا غسيلٌ أم جديد ؟ قال لا بل غسيل ، قال : البس جديدا و عش حميدا و مت شهيدا .
(14) زواج حفصة بنت عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - عنهما من رسول الله:
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ ـــ ـــ ـــ ــ ـــ ـــ ـــ ــ(2/13)
( حديث ا بن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح البخاري ) يحدث: أن عمر بن الخطاب، حين تأيمت حفصة بنت عمر من خنيس بن حذافة السهمي، وكان من أصحاب رسول الله ، فتوفي بالمدينة، فقال عمر ابن الخطاب: أتيت عثمان بن عفان، فعرضت عليه حفصة، فقال: سأنظر في أمري، فلبثت ليالي ثم لقيني فقال: قد بدا لي أن لا أتزوج يومي هذا. قال عمر: فلقيت أبا بكر الصديق، فقلت: إن شئت زوجتك حفصة بنت عمر، فصمت أبو بكر فلم يرجع إلي شيئا، وكنت أوجد عليه مني على عثمان، فلبثت ليالي ثم خطبها رسول الله فأنكحتها إياه، فلقيني أبو بكر فقال: لعلك وجدت علي حين عرضت علي حفصة فلم أرجع إليك شيئا؟ قال عمر: قلت: نعم، قال أبو بكر: فإنه لم يمنعني أن أرجع إليك فيما عرضت علي، إلا أني كنت علمت أن رسول الله قد ذكرها، فلم أكن لأفشي سر رسول الله ، ولو تركها رسول الله قبلتها.
(15) فراسة عمر الصادقة في أبي مسلم الخولاني :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ ـــ ـــ ـــ ـ
كان عمر رضي الله عنه يتمتع بفراسة يندر وجودها في هذه الحياة فقد روى الذهبي: أن الأسود العنسي تنبأ باليمن - ادعى النبوة - فبعث إلى أبي مسلم الخولاني، فأتاه بنار عظيمة، ثم إنه ألقى أبا مسلم فيها، فلم تضره ... فقيل للأسود: إن لم تنف هذا عنك أفسد عليك من اتبعك، فأمره بالرحيل،فقدم المدينة، فأناخ في راحلته، ودخل المسجد فبصر به فقام إليه، فقال: ممن الرجل؟ قال: من اليمن قال: وما فعل الذي حرقه الكذاب بالنار؟ قال: ذاك عبد الله بن ثُوَب. قال نشدتك بالله، أنت هو؟ قال: اللهم نعم. فأعتنقه عمر، وبكى، ثم ذهب به حتى أجلسه فيما بينه وبين الصديق، فقال: الحمد لله الذي لم يُمتني حتى أراني في أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - من صنُع به كما صُنع بإبراهيم الخليل (1) .
(16) مشورة عمر على أبي بكر بجمع القرآن :
__________
(1) سير أعلام النبلاء (4/8+9)، أصحاب الرسول (1/137).(2/14)
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ ـــ ـــ
قال أبو بكر رضي الله عنه: إن عمر أتاني فقال: إن القتل قد استحر (1) يوم اليمامة بقراء القرآن الكريم، وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن (2) ، كلها فيذهب كثير من القرآن، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن قلت لعمر: كيف أفعل شيئاً لم يفعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟!! فقال عمر: هذا والله خير، فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر عمر، ورأيت في ذلك الذي رأى عمر، قال زيد: قال
أبو بكر: وإنك رجل شاب عاقل، لا نتهمك وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فتتبع القرآن فاجمعه (3) . قال زيد: فوالله لو كلفني نقل جبل من الجبال ما كان بأثقل عليَّ مما كلفني به من جمع القرآن (4) .
(17) تفقد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لأحوال أمراءه :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ ـــ ـــ
أخرج البيهقي عن الأسود (بن يزيد) قال: كان عمر رضي الله عنه إذا قدم عليه الوفد سألهم عن أميرهم: أيعود المريض؟ أيجيب العبد؟ كيف صنيعه؟ من يقوم على بابه؟، (فإن قالوا لخصلةٍ منها لا؛ عزله). كذا في الكنز . وأخرجه الطبري عن الأسود بمعناه.
وعند هَنَّاد عن إبراهيم قال: كان عمر رضي الله عنه إذا استعمل عاملاً فقدم إِليه الوفد من تلك البلاد قال: كيف أميركم؟ أيعود المملوك؟ أيتبع الجنازة؟ كيف بابه؟ ألَينٌ هو؟ فإن قالوا: بابه لين، ويعود المملوك، تركه، وإلا بعث إليه بنزعه. كذا في كنز العمال .
شرائط عمر على العمال :
__________
(1) استحر: كثر واشتد.
(2) أي في الأماكن التي يقع فيها القتال مع الكفار.
(3) أي من الأشياء التي عندي وعند غيرك.
(4) البخاري رقم 4986 .(2/15)
وأخرج البيهقي عن عاصم بن أبي النُّجُود أنِّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا بعث عماله شرط عليهم أن لا تركبوا بِرْذوناً، ولا تأكلوا نقيّاً، ولا تلبسوا رقيقاً، ولا تغلقوا أبوابكم دون حوائج الناس، فإن فعلتم شيئاً من ذلك فقد حلّت بكم العقوبة؛ ثم يُشيِّعهم. فإذا أراد أن يرجع قال: إني لم أسلطكم على دماء المسلمين، ولا على أبشارهم، ولا على أعراضهم، ولا على أموالهم، ولكني بعثتكم لتقيموا بهم الصلاة، وتقسموا فيهم فَيْئهم، وتحكموا بينهم بالعدل، فإذا أشكل عليكم شيء فارفعوه إليّ. ألا فلا تضربوا العرب فتذلّوها، ولا تحمِّروها فتفتنوا، ولا تَعْتَلوا عليها فتُحرَموها، جرِّدوا القرآن. كذا في الكنز .
وأخرجه الطبري عن أبي حُصَين بمعناه مختصراً، وزاد: جرِّدوا القرآن، وأقلِّوا الرواية عن محمد صلى الله عليه وسلم وأنا شريككم، وكان يُقِصُّ من عماله، وإذا شُكِي إِليه عامل له جمع بينه وبين من شكاه، فإن صحَّ عليه أمرٌ يجب أخذُه به أخذه به.
قول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في فرائض الأمير :
وأخرج ابن سعد، وابن عساكر عن عبد الرحمن بن سابط قال: أرسل عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى سعيد بن عامر الجمحي فقال: إِنا مستعملوك على هؤلاء تسير بهم إلى أرض العدو فتجاهد بهم، فقال: يا عمر لا تفتيِّ. فقال عمر: والله لا أدعكم، جعلتموها في عنقي ثم تخلَّيتم عني، إِنا أبعثك على قوم لست أفضلهم، ولست أبعثك لتضرب أبشارهم، ولتنتهك أعراضهم؛ ولكن تجاهد بهم عدوهم، وتقسم بينهم فيْئَهم. كذا في الكنز .
كتاب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إِلى عمرو بن العاص في كسر المنبر :
وأخرج ابن عبد الحكم عن أبي تميم الجيشاني رضي الله عنه قال: كتب عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص - رضي الله عنه - :
"أما بعد: فإنه بلغني أنك اتخذت منبراً ترقى به على رقاب الناس، أو ما بحسبك أن تقوم قائماً والمسلمون تحت عقبيك. فعزمت عليك لما كسرته".
كذا في الكنز .(2/16)
كتاب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إِلى عتبة بن فرقد في أن لا يترفع عن الرعية :
وأخرج مسلم عن أبي عثمان رضي الله عنه قال؛ كتب إِلينا عمر رضي الله عنه ونحن بأذربيجان:
"يا عتبة بن فرقد، إنَّه ليس من كدِّك ولا من كدِّ أبيك ولا من كدِّ أمك، فأشبع المسلمين في رحالهم مما تشبع منه في رَحْلك؛ وإياكم والتنعّم وزيّ أهل الشرك ولبوس الحرير".
مؤاخذة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أمير حمص على بنائه العِلَيَّة :
وأخرج ابن عساكر عن عروة بن رُوَيم أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه تصفَّح الناس، فمر به أهل حمص، فقال: كيف أميركم؟ قالوا: خير أمير إلا أنّه بني عِلِيَّة يكون فيها. فكتب كتاباً وأرسل بريداً، وأمره أن يحرقها. فلما جاءها جمع حطباً وحرق بابها. فأخبر بذلك فقال: دعوه فإنه رسول؛ ثم ناوله الكتاب، فلم يضعه من يده حتى ركب إِليه. فلما رآه عمر رضي الله عنه قال: إلحقني إلى الحرَّة ـ وفيها إبل الصدقة ـ. قال: إنزع ثيابك، فألقى إِليه نمرة من أوبار الإِبل، ثم قال: إفتح واسق هذه الإِبل، فلم يزل ينزل حتى تعب، ثم قال: متى عهدك بهذا؟ قال: قريب يا أمير المؤمنين، قال: فلذلك بنيت العِلِّيَّة وارتفعت بها على المسكين، والأرملة، واليتيم. إرجع إلى عملك لا تَعُدْ. كذا في كنز العمال .
مؤاخذة عمر سعداً إذا اتخذ قصرا :(2/17)
وأخرج ابن المبارك، وابن راهَوَيْه، ومسدَّد عن عَتّاب بن رِفاعة قال: بلغ عمر بن الخطاب أنَّ سعداً ـ رضي الله عنه ـ إتخذ قصراً وجعل عليه باباً، وقال: إنقطع الصوت. فأرسل عمر محمد بن مسلمة رضي الله عن ـ وكان عمر إذا أحب أن يُؤتى بالأمر كما يريد بعثه ـ فقال: إئتِ سَعْداً وأحرق عليه بابه. فقدم الكوفة، فلما أتى الباب أخرج زَنْده فاستوَى ناراً ثم أحرق الباب، فأُتي سعدٌ فأُخبر، ثم وُصِف له صفته، فعرفه. فخرج إليه سعد، فقال محمد: إنه بلغ أمير المؤمنين عنك أنك قلت: إنقطع الصوت. فحلف سعد بالله ما قال ذلك، فقال محمد: نفعل الذي أمرنا ونؤدِّي عنك ما تقول.
وأقبل يعرض عليه أن يزوّده فأبى، ثم ركب راحلته حتى قدم المدينة. فلما أبصره عمر رضي الله عنه قال: لولا حسن الظن بك ما رأينا أنك أدَّيت، وذكر أنه أسرع السير، وقال: قد فعلتُ، وهو يعتذر ويحلف بالله ما قال فقال عمر: هل أمر لك بشيء؟ قال: ما كرهت من ذلك إنَّ أرض العراق أرض رقيقة، وإنَّ أهل المدينة يموتون حولي من الجوع، فخشيت أن آمر لك فيكون لك البارد ولي الحار) أما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا يشبع المؤمن دون جاره". كذا في الكنز
ما وقع بين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وجماعة من الصحابة في الشام :(2/18)
وأخرج ابن عساكر، واليشكري عن جُوَيرية رضي الله عنها ـ قال بعضه عن نافع،وبعضه عن رجل من ولد أبي الدرداء ـ قال: إستأذن أبو الدرداء عمرَ في أن يأتي الشام. فقال: لا آذن لك إلا أن تعمل. قال: فإني لا أعمل. قال: فإني لا آذن لك. قال: فأنطلقُ، فأُعلّمُ الناس سنّة نبيهم صلى الله عليه وسلم وأصلِّي بهم، فأذن له. فخرج عمر رضي الله عنه إلى الشام، فلما كان قريباً منهم أقام حتى أمسى. فلما جنّه الليل قال: يا يرفأ إنطلق إلى يزيد ابن (أبي) سفيان، أبصره عنده سُمَّار، ومصباح، مفترشاً ديباجاً، وحريراً من فيء المسلمين، فتسلِّم عليه فيرد عليك السلام، وتستأذن فلا يأذن لك حتى يعلم من أنت. فانطلقنا حتى انتهينا إلى بابه فقال: السلام عليكم. فقال: وعليكم السلام. قال: أدخل؟ قال: ومن أنت؟ قال يرفأ: هذا من يسوءك، هذا أمير المؤمنين. ففتح الباب. فإذا سمّار، ومصباح، وإذا هو مفترش ديباجاً وحريراً. فقال: يا يرفأ، الباب، الباب. ثم وضع الدِّرَّة بين أذنيه ضرباً، وكوَّر المتاع فوضعه وسط البيت، ثم قال للقوم: لا يبرح منكم أحد حتى أرجع إليكم.
ثم خرجا من عنده ثم قال: يا يرفأ إنطلق بنا إلى عمرو بن العاص أبصر عنده سمّار، ومصباح، مفترش ديباجاً من فيء المسلمين، فتسلِّم عليه فيرد عليك، وتستأذن عليه فلا يأذن لك حتى يعلم من أنت. فانتهينا إلى بابه، فقال عمر: السلام عليكم. قال: وعليكم السلام. قال: أدخل؟ قال: ومن أنت؟ قال يرفأ: هذا من يسوءك، هذا أمير المؤمنين. ففتح الباب. فإذا سُمّار ومصباح، وإذا هو مفترش ديباجاً وحريراً. قال: يا يرفأ، الباب، الباب. ثم وضع الدِّرَّة بين أذنيه ضرباً، ثم كوَّر المتاع فوضعه في وسط البيت. ثم قال للقوم: لا تبرحُنَّ حتى أعود إِليكم .(2/19)
فخرجا من عنده فقال: يا يرفأ إنطلق بنا إلى أبي موسى أبصره عنده سُمّار، ومصباح، مفترشاً صوفاً من مال فيء المسلمين، فتستأذن عليه، فلا يأذن لك حتى يعلم من أنت. فانطلقنا إليه وعنده سُمَّار ومصباح مفترشاً صوفاً، فوضع الدِّرَّة بين أذنيه ضرباً وقال: أنت أيضاً يا أبا موسى؟ فقال: يا أمير المؤمنين هذا وقد رأيت ما صنع أصحابي، أما والله لقد أصبت مثل ما أصابوا. قال: فما هذا؟ قال: زعم أهل البلد أنه لا يصلح إلا هذا. فكوَّر المتاع فوضعه في وسط البيت وقال للقوم: لا يخرجنَّ منكم أحد حتى أعود إليكم.
فلما خرجنا من عنده قال: يا يرفأ إنطلق بنا إلى أخي لنبصرنه، ليس عنده سمّار، ولا مصباح، وليس لبابه غَلَق، فتسلِّم عليه فيرد عليك السلام، وتستأذن فيأذن لك من قبل أن يعلم من أنت. فانطلقنا حتى إذا قمنا على بابه قال: السلام عليكم. قال: وعليك السلام. قال: أأدخل؟ قال: أدخل. فدفع الباب فإذا ليس له غَلَق. فدخلنا إلى بيت مظلم، فجعل عمر رضي الله عنه يلمسه حتى وقع عليه، فجسّ وساده فإذا برذعة، وجسّ فراشه فإذا بطحاء، وجسّ دثاره فإذا كساء رقيق. فقال أبو الدرداء رضي الله عنه: من هذا أمير المؤمنين؟ قال: نعم. قال: أما ـ والله ـ لقد إستبطأتك منذ العام. قال عمر رضي الله عنه: رحمك الله، ألم أوسع عليك؟ ألم أفعل بك؟ فقال له أبو الدرداء رضي الله عنه: أتذكر حديثاً حدَّثناه رسول الله صلى الله عليه وسلم يا عمر؟ قال: أيّ حديث؟ قال: "لِيَكُنْ بَلاغُ أحدكم من الدنيا كزاد الراكب". قال: نعم. قال: فماذا فعلنا بعده يا عمر؟ قال: فما زالا يتجاوبان بالبكاء حتى أصبحا. كذا في كنز العمال .
رعاية الأمير المسلمين فيما نزل بهم قصة عمر وأبي عبيدة في ذلك في طاعون عَمَواس(2/20)
أخرج ابن عساكر عن طارق بن شهاب عن أبي موسى أن أمير المؤمنين كتب إلى أبي عبيدة بن الجراح ـ رضي الله عنه ـ حيث سمع بالطاعون الذي أخذ الناس بالشام: إنِّي بدت لي حاجة إليك فلا غنى لي عنك فيها، فإن أتاك كتابي ليلاً فإني أعزم عليك أن تصبح حتى تركب إليّ، وإِن أتاك نهاراً فإِني أعزم عليك أن تمسي حتى تركب إليّ. فقال أبو عبيدة رضي الله عنه: قد علمت حاجة أمير المؤمنين التي عرضت، وإنه يريد أن يستبقي من ليس بباقٍ. فكتب إِليه: إِني في جند من المسلمين لن أرغب بنفسي عنهم، وإِني قد علمت حاجتك التي عرضت لك، وإنك تستبقي من ليس بباقٍ، فإذا أتاك كتابي هذا فحلِّلني من عزمك، وائذن لي في الجلوس .
فلما قرأ عمر رضي الله عنه كتابه فاضت عيناه وبكى. فقال له من عنده: يا أمير المؤمنين، مات أبو عبيدة؟ قال: لا، وكأنْ قد. فكتب إِليه عمر رضي الله عنه أن الأردن أرض وبئة وكان قد كتب عمقه، وأن الجابية أرض نَزِهة، فاظهرْ بالمهاجرين إليها. قال أبو عبيدة حين قرأ الكتاب: أمّا هذا فنسمع فيه أمر أمير المؤمنين ونطيعه، فأمرني أن أركب وأبوّىء الناس منازلهم. فطُعنت إمرأتي، فجئت أبا عبيدة فانطلق أبو عبيدة يبوىء الناس منازلهم، فطُعن فتوفي، وانكشف الطاعون. قال أبو الموجِّه: زعموا أن أبا عبيدة كان في ستة وثلاثين ألفاً من الجند، فماتوا فلم يبقَ إلا ستة آلاف رجل. وروى سفيان بن عيينة أخصر منه. كذا في الكنز .
تفقده لأحوال سعيد ابن عامر حين استعمله على حمص :(2/21)
أخرج أبو نعيم في الحلية عن خالد بن معدان قال: إستعمل علينا عمر بن الخطاب بحمص سعيد بن عامر بن حذيم الجمحي ـ رضي الله عنه ـ. فلما قدم عمر بن الخطاب حمص قال: يا أهل حمص، كيف وجدتم عاملكم؟ فشكوه إليه ـ وكان يقال لأهل حمص الكُوَيفة الصغرى لشكايتهم العمال ـ قالوا: نشكوا أربعاً: لا يخرج إِلينا حتى يتعالَى النهار. قال: أعْظِم بها. قال: وماذا قالوا: لا يجيب أحداً بليل. قال: وعظيمة. قال: وماذا؟ قالوا: وله يوم في الشهر لا يخرج فيه إلينا. قال: عظيمة. قال: وماذا؟ قالوا: يغنظ الغنظة بين الأيام ـ يعني تأخذه مُوتَة ـ.
قال: فجمع عمر رضي الله عنه بينهم وبينه وقال: اللهمّ لا تفل رأيي فيه اليوم، ما تشْكون منه؟ قالوا: لا يخرج إِلينا حتى يتعالى النهار. قال: والله إن كنت لأكره ذكره؛ ليس لأهلي خادم، فأعجن عجيني، ثم أجلس حتى يختمر، ثم أخبز خبزي، ثم أتوضأ ثم أخرج إليهم. فقال: ما تشْكون منه؟ قالوا: لا يجيب أحداً بليل. قال ما تقول؟ قال: إن كنت لأكره ذكره؛ إنِّي جعلت النهار لهم، وجعلت الليل لله عزّ وجلّ. قال: وما تشكون؟ قالوا: إنَّ له يوماً في الشهر لا يخرج إلينا فيه. قال: ما تقول؟ قال: ليس لي خادم يغسل ثيابي ولا لي ثياب أبلها. قال: ما تشكون منه؟ قالوا: يغنظ الغنظة بين الأيام. قال: ما تقول؟ قال: شهدت مصرع خُبَيب الأنصاري رضي الله عنه بمكة، وقد بضَّعت قريش لحمه، ثم حملوه على جذعة فقالوا؛ أتحب أن محمداً مكانك؟ فقال: والله ما أحب أنِّي في أهلي وولدي وأن محمداً صلى الله عليه وسلم شِيك بشوكة، ثم نادى: يا محمد، فما ذكرت ذلك اليوم، وتَرْكي نُصرته في تلك الحال، وأنا مشرك لا أؤمن بالله العظيم؛ إلا ظننت أن الله عزّ وجلّ لا يغفر لي بذلك الذنب أبداً. قال: فتصيبني تلك الغنظة. فقال عمر: الحمد لله الذي لم يفل فراستي.(2/22)
فبعث إليه بألف دينار وقال: إستعن بها على أمرك، فقالت إمرأته: الحمد لله الذي أعنانا عن خدمتك، فقال لها: فهل لك في خير من ذلك؟ ندفعها إِلى من يأتينا بها أحوج ما نكون إليها، قالت: نعم. فدعا رجلاً من أهل بيته يثق به فصرَّرها صرراً، ثم قال: إنطلق بهذه إلى أرملة آل فلان، وإِلى يتيم آل فلان، وإِلى مسكين آل فلان، وإِلى مُبتَلى آل فلان. فبقيت منها ذُهيبة. فقال: أنفقي هذه، ثم عاد إلى عمله. فقالت: ألا تشتري لنا خادماً؟ ما فعل ذلك المال. قال: سيأتيك أحوج ما تكونين.
(18) قبول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - للحق إذا سمعه من الرعية وعدم استنكافه من ذلك :
أخرج ابن راهَوَيْه عن الحسن أنَّ عمر بن الخطاب ردّ عن أُبيّ بن كعب ـ رضي الله عنهما ـ قراءة آية، فقال أبيّ: لقد سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت يلهيك ـ يا عمر ـ الصَّفْق بالبقيع. فقال عمر رضي الله عنه: صدقت إنما أردت أن أجربكم هل منكم من يقول الحق؟ فلا خير في أمير لا يُقال عنده الحق ولا يقوله. كذا في كنز العمال .
وعند عبد بن حُمَيد، وابن جرير، وابن عديّ عن أبي مِجْلَزم أن أُبي بن كعب قرأ: { مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الاْوْلَيَانِ } [ المائدة: 107] فقال عمر رضي الله عنه: كذبت. قال: أنت أكذب. فقال رجل: تكذِّب أمير المؤمنين؟ قال: أنا أشد تعظيماً لحقِّ أمير المؤمنين منك، ولكن كذَّبه في تصديق كتاب الله، ولم أُصدِّق أمير المؤمنين في تكذيب كتاب الله. فقال عمر: صدق. كذا في الكنز .
قول بشير بن سعد لعمر: لو فعلت ذلك قوَّمناك تقويم القدح:(2/23)
وأخرج ابن عساكر، وأبو ذر الهَرَوِي في الجامع عن النعمان بن بشير أن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ قال في مجلس وحوله المهاجرين والأنصار: أرأيتم لو ترخصت في بعض الأمور ما كنتم فاعلين؟ فسكتوا. فقال ذلك مرتين وثلاثاً، فقال بشير بن سعد: لو فعلت ذلك قوَّمناك تقويم القِدْح. فقال عمر: أنتم إذاً، أنتم إذاً كذا في الكنز .
قصة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ومحمد بن مسلمة في ذلك :
وعند ابن المبارك عن موسى بن أبي عيسى قال: أتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه مَشْرَبة بني حارثة فوجد محمد بن مسلمة، فقال عمر: كيف تراني يا محمد؟ قال: أراك ـ والله ـ كما أحب وكما يحب من يحب لك الخير، أراك قوياً على جمع المال، عفيفاً عنه، عَدْلاً في قَسْمه، ولو مِلْتَ عدَّلْناك كما يعدل السهم في الثِّقاب. فقال عمر رضي الله عنه: هاه وقال: لو ملت عدَّلناك كما يعدل السهم في الثقاب. فقال: الحمد لله الذي جعلني في قوم إذا مِلْت عدَّلوني. كذا في منتخب كنز العمال .
نصيحة سعيد بن عامر لأمير المؤمنين عمر - رضي الله عنه - :
أخرج ابن سعد، وابن عساكر عن مكحول أنَّ سعيد بن عامر بن جِذْيم الجُمحي من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: إِني أريد أن أوصيك يا عمر، قال: أجل فأوصني، قال: "أوصيك أن تخشى الله في الناس، ولا تخشَ الناس في الله، ولا يختلف قولك وفعلك، فإن خير القول ما صدَّقه الفعل، لا تقض في أمر واحد بقضاءين فيختلف عليك أمرك وتزيغ عن الحق، وخُذْ بالأمر ذي الحجة تأخذ بالفَلْج، ويعينك الله ويصلح رعيتك على يديك، وأقم وجهك وقضاءك لمن ولاك الله أمره من بعيد المسلمين وقريبهم، وأحبّ لهم ما تحب لنفسك وأهل بيتك، واكره لهم ما تكره لنفسك وأهل بيتك، وخُضْ الغمراتِ إلى الحق، ولا تخف في الله لومة لائم".(2/24)
فقال عمر: من يستطيع ذلك؟ فقال سعيد: مثلك، من ولاه الله أمر أمة محمد صلى الله عليه وسلم ثم لم يحل بينه وبين الله أحد. كذا في منتخب الكنز .
كتاب أبي عبيدة ومعاذ إلى عمر وكتابه إليهما :
وأخرح أبو نعيم في الحلية عن محمد بن سُوقة قال: أتيت نُعيم بن أبي هند فأخرج إليّ صحيفة فإذا فيها:
من أبي عبيدة بن الجراح، ومعاذ بن جبل إِلى عمر بن الخطاب: سلام عليك، أما بعد: فإن عهدناك وأمر نفسك لك مهمٌّ، فأصبحت قد وُليت أمر هذه الأمة أحمرها وأسودها، يجلس بين يديك الشريف والوضيع، العدو والصديق، ولكل حصتُه من العدل، فانظر كيف أنت عند ذلك يا عمر. فإنا نحذِّرك يوماً تَعْنا فيه الوجوه، وتجفّ فيه القلب، وتنقطع فيه الحجج لحجة ملك قهرهم بجبروته؛ فالخلق داخرون له، يرجون رحمته، ويخافون عقابه. وإِنّا نُحدَّث أنَّ أمر هذه الأمة سيرجع في آخر زمانها إِلى أن يكونوا إِخوان العلانية، أعداء السريرة؛ وإنا نعوذ بالله أن ينزل كتابنا إِليك سوى المنزل الذي نزل من قلوبنا، فإنما كتبنا به نصيحة لك، والسلام عليك".
فكتب إِليهما عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه:(2/25)
"من عمر بن الخطاب إِلى أبي عبيدة، ومعاذ، سلام عليكما. أما بعد: أتاني كتابما، تَذْكران أنكما عهدتماني وأمر نفسي لي مهم، فأصبحت قد وُلِّيت أمر هذه الأمة أحمرها وأسودها، يجلس بين يديَّ الشريف والوضيع، والعدو والصديق، ولكل حصته من العدل؛ كتبتما: فانظر كيف أنت عند ذلك يا عمر. وإنَّه لا حول ولا قوة لعمر عند ذلك إلا بالله عزّ وجلّ. وكتبتما تحذِّراني ما حُذِّرت منه الأمم قبلنا، وقديماً كان إختلاف الليل والنهار بآجال الناس يقرِّبان كل بعيد، ويبليان كل جديد، ويأتيان بكل موعود حتى يصير الناس إلى منازلهم من الجنة والنار. كتبتما تحذراني: أنَّ أمر هذه الأمة سيرجع في آخر زمانها إلى أن يكونوا إِخوان العلانية أعداء السريرة، ولستم بأولئك، وليس هذا بزمان ذاك، وذلك زمان تظهر فيه الرغبة والرهبة، تكون رغبة الناس بعضهم إلى بعض لصلاح دنياهم. كتبتما تعوذاني بالله أن أُنزل كتابكما سوى المنزل الذي نزل من قلوبكما؛ وإنكما كتبتما به نصيحة لي وقد صدَقتُما، فلا تَدَعا الكتاب إِليَّ فإنه لا غنى بي عنكما، والسلام عليكما".
{ تنبيه } : كان عمر - رضي الله عنه - يقبل الحق بتسليم تام لعلمه علم اليقين بالحديث الآتي فتأمله بعين البصيرة :
( حديث معاوية رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :ستكون أئمة من بعدي يقولون فلا يرد عليهم قولهم يتقاحمون في النار كما تقاحم القردة .
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
( ستكون أئمة من بعدي يقولون فلا يرد عليهم قولهم يتقاحمون في النار ) أي يقعون فيها كما يقتحم الإنسان الأمر العظيم وتقحمه رمى نفسه بلا روية وتثبت(2/26)
( كما تقاحم القردة ) قال بعضهم : إذا اتصف القلب بالمكر والخديعة والفسق وانصبغ بذلك صبغة تامة صار صاحبه على خلق الحيوان الموصوف بذلك من القردة والخنازير وغيرهما ثم لا يزال يتزايد ذلك الوصف فيه حتى يبدو على صفحات وجهه بدواً خفياً ثم يقوى ويتزايد حتى يصير ظاهراً جلياً عند من له فراسة فيرى على صور الناس مسخاً من صور الحيوانات التي تخلقوا بأخلاقها باطناً فقل أن ترى محتالاً مكاراً مخادعاً إلا على وجهه مسخة قرد وأن ترى شرهاً نهماً إلا على وجهه مسخة كلب فالظاهر [ ص 101 ] مرتبط بالباطن أتم ارتباط . ( 1 ) .
(19) تحقيقه للعدل والمساواة رضي الله عنه :
كان عمر رضي الله عنه آيةً في العدل ، وهاك بعض مواقفه في إقامته للعدل والقسط بين الناس : وهاك بعض المواقف الدالة على عدله - رضي الله عنه - :
أخرج ابن عساكر، وسعيد بن منصور، والبيهقي عن الشَّعْبي قال: كان بين عمر وبين أُبيّ بن كعب ـ رضي الله عنهما ـ خصومة. فقال عمر: أجلع بيني وبينك رجلاً، فجعلا بينهما زيد بن ثابت رضي الله عنه. فأتياه فقال عمر: أتيناك لتحكم بيننا وفي بيته يُؤتى الحَكَمُ. فلما دخلا عليه وسَّع له زيد عن صدر فراشه فقال: ها هنا أمير المؤمنين. فقال له عمر: هذا أول جَوْر جُرْت في حكمك، ولكن أجلس مع خصمي، فجلسا بين يديه. فادّعى أُبيّ وأنكر عمر، فقال زيد لأُبيّ: أعفِ أمير المؤمنين من اليمين وما كنت لأسألها لأحد غيره، فحلف عمر، ثم أقسم: لا يدرك زيدٌ القضاءَ حتى يكون عمرُ ورجلٌ من عُرْض المسلمين عنده سواء. وعند ابن عساكر عن الشَّعْبي قال: تنازع في جعذاذ نخل أبيّ بن كعب، وعمر بن الخطاب ـ رضي الله عنهما ـ، فبكى أبيّ ثم قال: أفي سلطانك يا عمر؟ فقال عمر: إجعل بيني وبينك رجلاً من المسلمين. قال أبيّ: زيد، قال: رِضًى، فانطلقا حتى دخلا على زيد ـ فذكر الحديث كما في كنز العمال .
قصة العباس وعمر في توسيع المسجد النبوي :(2/27)
وأخرج عبد الرزاق عن زيد بن أسلم قال: كان للعباس بن عبد المطلب ـ رضي الله عنه ـ دار إلى جنب مسجد المدينة، فقال له عمر رضي الله عنه: بِعْنيها، فأراد عمر أن يزيدها في المسجد، فأبى العباس أن يبيعها إِيّاه. فقال عمر: فهَبْها لي، فأبى. فقال: فوسِّعْها أنت في المسجد، فأبى. فقال عمر: لا بدّ لك من إِحداهنّ، فأبى عليه. فقال: خذ بيني وبينك رجلاً، فأخذ أبيّ بن كعب رضي الله عنه، فاختصما إليه. فقال أبيّ لعمر: ما أرى أن تخرجه من داره حتى ترضيَه. فقال له عمر: أرأيت قضاءك هذا في كتاب الله وجدته أم سنّةً من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبيّ: بل سنّة من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمر: وما ذاك؟ فقال: إِني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن سليمان بن داود ـ عليهما الصلاة والسلام ـ لما بنى بيت المقدس جعل كلّما بني حائطاً أصبح منهدماً، فأوحى الله إليه أن لا تبني في حقِّ رجل حتى ترضيَه". فتركه عمر، فوسَّعها العباس بعد ذلك في المسجد.
قصة عبد الرحمن بن عمر بن الخطاب وأبي سَرْوعة :(2/28)
وأخرج عبد الرزاق، والبيهقي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: شرب أخي عبد الرحمن، وشرب معه أبو سَرْوَعة عُقْبة بن الحارث ـ وهما بمصر ـ في خلافة عمر رضي الله عنه، فسكرا. فلما أصبحا إنطلقا إلى عمرو بن العاص رضي الله عنه ـ وهو أمير مصر ـ فقالا: طهِّرنا، فإن قد سكرنا من شرب شربناه. قال عبد الله؛ فذكر لي أخي أنه سكر، فقلت: أدخل الدار أطهرك لم أشعر أنها قد أتيا عَمْراً، فأخبرني أخي أنه قد أخبر أمير المؤمنين بذلك. فقلت لا تُحلق اليوم على رؤوس الناس، أدخل الدار أحلقك، وكانوا إِذْ ذاك يحلقون مع الحد، فدخلا الدار. قال عبد الله فحلقت أخي بيدي ثم جلدهم عمرو. فسمع بذلك عمر فكتب إِلى عمرو رضي الله عنهما: أن أبعث إليّ بعبد الرحمن على قَتَب، ففعل ذلك. فلما قدم على عمر رضي الله عنه جلده وعاقبه لمكانه منه. ثم أرسله فلبث شهراً صحيحاً ثم أصابه قدره فمات، فيحسب عامة الناس إنما مات من جلد عمر، ولم يمت من جلد عمر. قال في منتخب كنز العمال : وسنده صحيح.
حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وامرأة مغيبة :
وأخرج عبد الرزاق، والبيهقي عن الحسن قال: أرسل عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى إمرأة مُغَيِّبة كان يُدخل عليها، فأنكر ذلك، فأرسل إليها فقيل له: أجيبي عمر؛ فقالت: يا ويلها ما لها ولعمر فبينما هي في الطرق فزعت فضربها الطَّلْق، فدخلت داراً؛ فألقت ولدها؛ فصاح الصبي صيحتين ثم مات: فاستشار عمر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فأشار عليه بعضهم أن ليس عليك شيء، إنما أنت والٍ ومؤدب؛ وصمت علي رضي الله عنه، فأقبل على علي فقال: ما تقول؟ قال: إن كانوا قالوا برأيهم فقد أخطأ رأيهم، وإن كانوا قالوا في هواك فلم ينصحوا لك، أرى أنَّ ديته عليك فإنك أنت أفزعتها، وألقت ولدها في سببك؛ فأمر علياً رضي الله عنه أن يقسم عَقْله على قريش يعني يأخذ عقله من قريش لأنه خطأ كذا في كنز العمال .(2/29)
ما كان يعمله عمر رضي الله عنه في الموسم للعدل بين الناس :
وأخرج ابن سعد عن عطاء: قال كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يأمر عماله أن يوافوه بالمَوْسم، فإذا اجتمعوا قال:"يا أيها الناس، إني لم أبعث عمالي عليكم ليصيبوا من أبشاركم، ولا من أموالكم، (ولا من أعراضكم) إِنما بعثتهم ليحجزوا بينكم، وليقسموا فيئكم بينكم، فمن فعل به غير ذلك فليقم".
فما قام أحد إلا رجل، قام فقال: يا أمير المؤمنين إِنَّ عاملك فلاناً ضربني مائة سوط. قال: فيم ضربته؟ قم فاقتص منه. فقام عمرو بن العاص رضي الله عنه فقال: يا أمير المؤمنين إنك إن فعلت هذا يكثر عليك، وتكن سنّة يأخذ بها مَنْ بعدك. فقال: أنا لا أُقيد وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقيد في نفسه؟ قال: فدعنا لنرضيه. قال: دونكم فأرضوه، فافتدى منه بمائتي دينار عن كل سَوْط بدينارين. وأخرجه أيضاً ابن راهويه؛ كما في منتخب الكنز .
قصة مصري وابن عمرو بن العاص :
وأخرج ابن عبد الحكم عن أنس رضي الله عنه أن رجلاً من أهل مصر أتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: يا أمير المؤمنين عائذ بك من الظلم. قال: عذتَ معَاذاً. قال: سابقت ابن عمرو بن العاص فسبقته، فجعل يضربني بالسوط ويقول: أنا ابن الأكرمين. فكتب عمر إلى عمرو ـ رضي الله عنهما ـ يأمره بالقدوم ويقدَم بابنه معه. فقدم فقال عمر: أين المصري؟ خذ السوط ضرب. فجعل يضربه بالسوط ويقول عمر: إضرب ابن الألأمَينْ. قال أنس: فضرب والله لقد ضربه ونحن نحب ضربه؛ فلما أقلع عنه حتى تمنينا أنه يرفع عنه. ثم قال للمصري: ضَعْ على صلعة عمرو. فقال: يا أمير المؤمنين إِنّما ابنه الذي ضربني وقد استَقَدْت منه. فقال عمر لعمرو؛ مذ كم تعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟ قال: يا أمير المؤمنين لم أعلم ولم يأتني. كذا في منتخب كنز العمال .
قصة أبي موسى ورجل وكتاب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في ذلك :(2/30)
وأخرج البيهقي عن جرير أنَّ رجلاً كان مع أبي موسى - رضي الله عنه - فغنموا مغنماً، فأعطاه أبو موسى نصيبه ولم يُوَفِّه، فأبى أن يأخذه إلا جميعه، فضربه أبو موسى عشرين سوطاً وحلق رأسه. فجمع شعره وذهب به إلى عمر رضي الله عنه. فأخرج شَعَراً من جيبه فضرب به صدر عمر. قال: ما لك؟ فذكر قصته. فكتب عمر إلى أبي موسى:"سلام عليك، أما بعد، فإن فلان بن فلان أخبرني بكذا وكذا، وإني أقسم عليك إن كنت فعلت ما فعلت في ملأ من الناس (إلا) جلست له في ملأ فاقتصَّ منك، وإِن كنت فعلت ما فعلت في خلأ فاقعد له في خلأ فليقتص منك".
فلما دُفع إليه الكتاب قعد للقصاص. فقال الرجل: قد عفوت عنه صلى الله عليه وسلم كذا في كنز العمال .
قصة جارية وعدل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - رضي الله عنه :
وأخرج الطبراني في الأوسط، وابن عساكر، والبيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاءت جارية إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقالت إن سيدي إتهمني فأقعدني على النار حتى احترق فرجي. فقال لها عمر: هل رأى ذلك عليك؟ قالت: لا. قال: فهل اعترفت له بشيء؟ قالت: لا. فقال عمر: عليَّ به. فلما رأى عمر الرجل قال: أتعذِّب بعذاب الله؟ قال: يا أمير المؤمنين إتهمتها في نفسها. قال: أرأيت ذلك عليها؟ قال: لا. قال: فاعترفت لك به؟؟ قال: لا. قال: والذي نفسي بيده لو لم أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يُقاد مملوك من مالكه، ولا ولد من والده" لأقدتها منك، وضربه مائة سوط، وقال للجارية: إذهبي فأنت حرة لوجه الله، وأنت مولاة الله ورسوله؛ أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من حُرِق بالنار أو مُثِّل به فهو حرٌّ، وهو مولى الله ورسوله". كذا في الكنز .
قصة عوف بن مالك الأشجعي مع يهودي وعدل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - :(2/31)
وأخرج أبو عُبيد، والبيهقي، وابن عساكر عن سُوَيد بن غَفْلة رضي الله عنه قال: لما قدم عمر رضي الله عنه الشام قام إليه رجل من أهل الكتاب فقال: يا أمير المؤمنين، إنَّ رجلاً من المؤمنين صنع بي ما ترى، فقال: ـ وهو مشجوج مضروب ـ. فغضب عمر رضي الله عنه غضباً شديداً، ثم قال لصهيب رضي الله عنه: إنطلق وانظر مَنْ صاحبه فأتني به. فانطلق صهيب فإذا هو عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه، فقال: إن أمير المؤمنين قد غضب عليك غضباً شديداً فأتِ معاذ بن جبل فلْيكلِّمْه، فإنِّي أخاف أن يَعْجَل إليك. فلما قضى عمر الصلاة قال: أين صهيب؟ أجئت بالرجل؟ قال: نعم. وقد كان عوف أتى معاذاً فأخبره بقصته، فقام معاذ فقال: يا أمير المؤمنين، إنه عوف بن مالك فاسمع منه ولا تَعْجَل إليه. فقال له عمر: ما لك ولهذا؟ قال: يا أمير المؤمنين، رأيت هذا يسوق بامرأة مسلمة على حمار، فنخس بها ليصرع بها، فلم يصرع بها، فدفعها فصُرِعت فغَشِيَها أو أكب عليها. فقال له: إئتني بالمرأة فلتصدِّق ما قلت. فأتاها عوف فقال له أبوها وزوجها: ما أردت إلى صاحبتنا قد فضحتنا. فقالت: والله لأذهبنَّ معه، فقال أبوها وزوجها: نحن نذهب فنبلِّغ عنك. فأتيا عمر رضي الله عنه فأخبراه بمثل قول عوف، وأمر عمر باليهودي فصُلِب. وقال: ما على هذا صالحناكم، ثم قال: أيها الناس، اتقوا الله في ذمَّة محمد، فمن فعل منهم هذا فلا ذمَّة له. قال سويد: فذلك اليهودي أول مصلوب رأيته في الإِسلام. كذا في الكنز . وأخرجه الطبراني عن عوف بن مالك رضي الله عنه مختصراً. قال الهيثمي : ورجاله رجال الصحيح. انتهى.
إجراء عمر من بيت المال على شيخ من أهل الذمة :(2/32)
وأخرج ابن عساكر، والواقدي عن عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي رضي الله عنهما قال: لما قدمنا مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه الجابية؛ إِذا هو بشيخ من أهل الذمة يستطعم، فسأل عنه فقال: هذا رجل من أهل الذمة كبر وضعف. فوضع عنه عمر رضي الله عنه الجزية التي في رقبته، وقال: كلّفتموه الجزية حتى إذا ضعف تركتموه يستطعم؟؟ فأجرى عليه من بيت المال عشرة دراهم وكان له عيال. وعند أبي عُبيد، وابن زنجويه، والعُقَيلي عن عمر رضي الله عنه أنه مرَّ بشيخ من أهل الذمة يسأل على أبواب المساجد. فقال: ما أنصفناك. كنا أخذنا منك الجزية في شبيبتك ثم ضيعناك في كبرك، ثم أجرى عليه من بيت المال ما يصلحه. كذا في الكنز (2301 ـ 302).
قصة رجل من أهل الذمة مع عمر رضي الله عنه :
وأخرج أبو عبيد عن يزيد بن أبي مالك قال: كان المسلمون بالجابية وفيهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فأتاه رجل من أهل الذمة يخبره أنَّ الناس قد أسرعوا في عنبه. فخرج عمر رضي الله عنه حتى لقي رجلاً من أصحابه يحلم ترساً عليه عنب، فقال عمر: وأنت أيضاً؟ فقال: يا أمير المؤمنين أصابتنا مجاعة، فانصرف عمر رضي الله عنه وأمر لصاحب الكرم بقيمة عنبه. كذا في كنز العمال .
قصة قضائه رضي الله عنه ليهودي خلاف مسلم :
وأخرج مالك عن سعيد بن المسيِّب أنَّ مسلماً ويهودياً إختصما إلى عمر رضي الله عنه، فرأى الحق لليهودي فقضى له مر به. فقال له اليهودي: والله لقد قضيت بالحق، فضربه عمر بالدِّرة وقال: وما يدريك؟ فقال اليهودي: والله إنا نجد في التوراة: ليس قاض يقضي بالحق إلا كان عن يمينه مَلَك وعن شماله ملك يسدِّدانه ويوفقانه ما دام مع الحق، فإذا ترك الحق عرجا وتركاه. كذا في الترغيب .
قصة عمر وإياس بن سلمة :(2/33)
وأخرج الطبري عن إياس بن سلمة عن أبيه قال: مر عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ في السوق ومعه الدِّرَّة، فخفقني بها خفقة فأصاب طرف ثوبي فقال: أمط عن الطريق. فلما كان في العام المقبل لقيني فقال: يا سلمة تريد الحج؟ فقلت: نعم. فأخذ بيدي فانطلق بي إلى منزله فأعطاني ست مائة درهم وقال: إستعن بها على حجَّك، واعلم أنها بالخفقة التي خفقتك. قلت: يا أمير المؤمنين ما ذكرتها. قال: وأنا ما نسيتها.
قصة عدل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في طائر :
أخرج الإِمام الشافعي في مسنده (ص 47) عن نافع بن عبد الحارث قال: قدم عمر بن الخطاب رضي الله عنه مكة، فدخل دار النَّدْوة في يوم الجمعة، وأراد أن يستقرب منها الرواح إِلى المسجد، فألقى رداءه على واقف في البيت، فنقع عليه طير من هذا الحمام فأطاره، فانتهزته حيّة فقتلته. فلما صلَّى الجمعة دخلت عليه أنا وعثمان بن عفان رضي الله عنه فقال: إحكما عليّ في شيء صنعته اليوم: إني دخلت هذه الدار وأردت أن أستقرب منها الرواح إلى المسجد، فألقيت ردائي على هذا الواقف، فوقع عليه طير من هذا الحمام، فخشيت أن يطلخه بسَلْحه فأَطرته عنه، فوقع على (ظهر) هذا الواقف الآخر، فانتهزته حيّة فقتلته. فوجدت في نفسي أني أطرته من منزل كان فيه آمناً إِلى موقعة كان فيها حتفه. فقلت لعثمان بن عفان رضي الله عنه: كيف ترى في عنزٍ ثنيةٍ عفراء تحكم بها على أمير المؤمنين؟ فقال: إني أرى ذلك، فأمر بها عمر رضي الله عنه.
قصة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - مع عربية ومولاة لها :(2/34)
وأخرج البيهقي عن عيسى بن عبد الله الهاشمي عن أبيه عن جده قال: أتت علياً رضي الله عنه إمرأتان تسألانه عربية ومولاة لها، فأمر لكل واحدة منهما بُكُرَ من طعام، وأربعين درهماً، أربعين درهماً. فأخذت المولاة الذي أعطيت وذهبت. وقالت العربية: يا أمير المؤمنين تعطيني مثل الذي أعطيت هذه وأنا عربية وهي مولاة؟ قال لها علي رضي الله عنه: إِني نظرت في كتاب الله عزَّ وجلَّ فلم أرَ فيه فضلاً لولد إِسماعيل على ولد إِسحاق .
لقد قامت دولة الخلفاء الراشدين على مبدأ العدل وما أجمل ما قاله ابن تيمية: إن الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة ولا ينصر الدولة الظالمة ولو كانت مسلمة، ... بالعدل تستصلح الرجال وتستغزر الأموال (1) .
قصة جلد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - عامله قدامة خال حفصة :
وأخرج عبد الرزاق عن عبد الله بن عامر بن ربيعة أن عمر رضي الله عنه استعمل قُدامة بن مظعون رضي الله عنه على البحرين وهو خال حفصة وعبد الله بني عمر ـ رضي الله عنهم، فقدم الجارود ـ رضي الله عنه ـ سيد عبد القيس على عمر من البحرين فقال: يا أمير المؤمنين، إن قدامة شرب فسكر، وإني رأيت حدّاً من حدود الله حقاً عليَّ أن أرفعه إليك. قال: من يشهد معك؟ قال: أبو هريرة، فدعا أبا هريرة فقال: بم تشهد؟ قال: لم أره شرب ولكني رأيته سكران يقيء. فقال: لقد تنطَّعت في الشهادة
__________
(1) السياسة الشرعية ص10.(2/35)
ثم كتب إلى قدامة أن يقدم عليه من البحرين، فقدم، فقال الجارود: أقم على هذا كتاب الله، فقال عمر: أخصم أنت أم شهيد ؟ فقال: شهيد، فقال: قد أدَّيت شهادتك. قال: فصمت الجارود ثم غدا على عمر فقال: أقم على هذا حد الله، فقال عمر: ما أراك إلاَّ خصماً وما شهد معك إلاَّ رجل واحد، فقال الجارود: أنشدك الله، فقال عمر: لتمسكنَّ لسانك أو لأسوأنَّك، فقال: يا عمر، ما ذلك بالحق أن يشرب ابن عمك الخمر وتسوؤني؟ فقال أبو هريرة: يا أمير المؤمنين، إن كنت تشك في شهادتنا فأرسل إلى ابنة الوليد فاسألها وهي امرأة قُدامة. فأرسل عمر إلى هند بنت الوليد ينشدها، فأقامت الشهادة على زوجها. فقال عمر لقُدامة: إني حادُّك، فقال: لو شربت كما تقول ما كان لكم أن تحدُّوني، فقال عمر: لم؟ قال قدامة: قال الله عز وجل: { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ } (سورة المائدة، الآية: 93) ـ الآية. فقال عمر: أخطأت التأويل إنك إذا اتَّقيت الله اجتنبت ما حرم الله، ثم أقبل عمر على الناس فقال: ما ترون في جلد قُدامة؟ فقالوا: لا نرى أن تجلده ما دام مريضاً. فسكت على ذلك أياماً ثم أصبح وقد عزم على جلده، فقال: ما ترون في جلد قدامة؟ فقالوا: لا نرى أن تجلده ما دام وَجِعاً. فقال عمر: لأن يلقى الله تحت السياط أحب إليَّ من أن ألقاه وهو في عنقي، ائتوني بسوط تام، فأمر به فجُلد.
فغاضب عمر قُدامة، وهجره، فحج عمر وحج قُدامة وهو مغاضِب له. فلما قفلا من حجهما ونزل عمر بالسُّقْيا نام. فلما استيقظ من نومه قال: عجِّلوا بقدامة، فوالله لقد أتاني آتٍ في منامي فقال لي: سالِمْ قدامة فإنه أخوك، فعجِّلوا عليَّ به، فلما أتَوه أبى أن يأتي، فأمر به عمر أن يجروه إليه؛ فكلمه واستغفر له. وأخرجها أبو علي ابن السَّكَن. كذا في الإِصابة .
وأما المساواة :(2/36)
وأما مبدأ المساواة الذي اعتمده الفاروق في دولته، فيعد أحد المبادئ العامة التي أقرها الإسلام قال تعالى: { يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ(13) } (الحجرات، آية:13).
إن الناس جميعاً في نظر الإسلام سواسية، الحاكم والمحكوم، الرجال والنساء، العرب والعجم، الأبيض والأسود، لقد ألغى الإسلام الفوارق بين الناس بسبب الجنس واللون أو النسب أو الطبقة، والحكام والمحكومون كلهم في نظر الشرع
سواء (1) ، وجاءت ممارسة الفاروق لهذا المبدأ خير شاهد وهذه بعض المواقف التي جسدت مبدأ المساواة في دولته:
__________
(1) فقه التمكين في القرآن الكريم ص501.(2/37)
ـ أصاب الناس في إمارة عمر رضي الله عنه سَنَة (جدب) بالمدينة وما حولها، فكانت تسقي إذا ريحت (1) تراباً كالرماد، فسمي ذلك العام عام الرمادة، فآلى (حلف) عمر ألا يذوق سمناً ولا لبناً ولا لحماً حتى يحي الناس من أول الحياء، فقدمت السوق عُكَّة من سمن، ووطب من لبن، فاشتراهما غلام لعمر بأربعين، ثم أتى عمر فقال: يا أمير المؤمنين، قد أبر الله يمينك، وعظم أجرك، قدم السوق وطب من لبن، وعكة من سمن، فابتعناهما بأربعين، فقال عمر: أغليت بهما، فتصدق بهما، فإني أكره أن آكل إسرافاً، وقال عمر: كيف يعنيني شأن الرعية إذا لم يمسني ما مسهم (2) ، هذا موقف أمير المؤمنين عام القحط الذي سمي عام الرمادة، ولم يختلف موقفه عام الغلاء، فقد: أصاب الناس سنة غلاء، فغلا السمن، فكان عمر يأكل الزيت، فتقرقر بطنه، فيقول: قرقر ما شئت، فو الله لا تأكل السمن حتى يأكله الناس (3) ، ولم يقتصر مبدأ المساواة في التطبيق عند خلفاء الصدر الأول على المعاملة الواحدة للناس كافة، وإنما تعداه إلى شؤون المجتمع الخاصة، ومنها ما يتعلق بالخادم والمخدوم، فعن ابن عباس أنه قال: قدم عمر بن الخطاب حاجاً، فصنع له صفوان بن أمية طعاماً، فجاؤوا بجفنه يحملها أربعة، فوضعت بين يدي القوم يأكلون وقام الخُدّام فقال عمر: أترغبونه عنهم؟ فقال سفيان بن عبد الله: لا والله يا أمير المؤمنين، ولكنا نستأثر عليهم، فغضب عمر غضباً شديداً، ثم قال: ما لقوم يستأثرون على خدامهم، فعل الله بهم وفعل، ثم قال للخدام: اجلسوا فكلوا، فقعد الخدام يأكلون، ولم يأكل أمير المؤمنين (4) ،
__________
(1) فقه التمكين في القرآن الكريم ص501.
(2) تاريخ الطبري (4/ 98) نقلاً عن نظام الحكم في الشريعة والتاريخ الإسلامي (1/ 87).
(3) مناقب أمير المؤمنين لابن الجوزي ص101.
(4) مناقب أمير المؤمنين لابن الجوزي ص101..(2/38)
وكذلك فإن عمر رضي الله عنه لم يأكل من الطعام ما لا يتيسر لجميع المسلمين، فقد كان يصوم الدهر، فكان زمن الرمادة إذا أمسى أتى بخبز قد ثُرد بالزيت، إلى أن نحروا يوماً من الأيام جزوراً (1) ، فأطعمها الناس وغرفوا له طيبها فأتي به، فإذا قديد من سنام ومن كبد، فقال: أنى هذا؟ فقالوا: يا أمير المؤمنين، من الجزور التي نحرناها اليوم. فقال: بخ بخ، بئس الوالي أنا إن أكلت طيبها، وأطعمت الناس كرادسها، ارفع هذه الجفنة، هات غير هذا الطعام، فأتي بخبز وزيت، فجعل يكسر بيده ويثرد ذلك الخبز (2) ولم يكن عمر ليطبق مبدأ المساواة في المدينة وحدها، من غير أن يعلمه لعماله في الأقاليم، حتى في مسائل الطعام والشراب (3) فعندما قدم عتبة بن فرقد أذربيجان أتى بالخبيص، فلما أكله وجد شيئاً حلواً طيباً، فقال: والله لو صنعت لأمير المؤمنين من هذا، فجعل له سفطين عظيمين، ثم حملهما على بعير مع رجلين، فسرّح بهما إلى عمر. فلما قدما عليه فتحهما، فقال: أي شيء هذا؟ قالوا: خبيص فذاقه، فإذا هو شيء حلو. فقال: أكل المسلمين يشبع من هذا في رحله؟ قال: لا. قال: أما لا فارددهما. ثم كتب إليه: أما بعد، فإنه ليس من كد أبيك ولا من كد أمك. أشبع المسلمين مما تشبع منه في رحلك (4) .
(20) شدة خوف عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - من الله تعالى بمحاسبته لنفسه :
كان رضي الله عنه يقول: أكثروا من ذكر النار، فإن حرّها شديد، وقعرها بعيد، ومقامها حديد (5) ، وجاء ذات يوم أعرابي، فوقف عنده وقال:
يا عمر الخير جزيت الجنة ... جهِّز بُنيَّاتي وأمهنَّه
أقسم بالله لتفعلنه
قال: فإن لم أفعل ماذا يكون يا أعرابي؟ قال:
أقسم أني سوف أمضينه
__________
(1) نظام الحكم في الشريعة والتاريخ الإسلامي (1/ 87).
(2) نفس المصدر (1/ 188).
(3) نفس المصدر (1/ 188).
(4) مناقب أمير المؤمنين لابن الجوزي ص147.
(5) فرائد الكلام للخلفاء الكرام ص155.(2/39)
قال: فإن مضيت ماذا يكون يا أعرابي؟ قال:
والله عن حالي لتسألنه ... ثم تكون المسألات ثمّه
والواقف المسئول بينهنّه ... إما إلى نار وإما جنة
فبكى عمر حتى اخضلت لحيته بدموعه، ثم قال: يا غلام أعطه قميصي هذا لذلك اليوم، لا لشعره، والله ما أملك قميصاً غيره (1) ، وهكذا بكى أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه بكاءً شديداً تأثراً بشعر ذلك الأعرابي الذي ذكّره بموقف الحساب يوم القيامة، مع أنه لا يذكر أنه ظلم أحداً من الناس، ولكنه لعظيم خشيته وشدة خوفه من الله تعالى تنهمر دموعه أمام كل من يذكّره بيوم القيامة (2) ، وكان رضي الله عنه من شدة خوفه من الله تعالى يحاسب نفسه حساباً عسيراً، فإذا خيل إليه أنه أخطأ في حق أحد طلبه، وأمره بأن يقتص منه، فكان يقبل على الناس يسألهم عن حاجاتهم، فإذا أفضوا إليه بها قضاها، ولكنه ينهاهم عن أن يشغلوه بالشكاوى الخاصة إذا تفرغ لأمر عام، فذات يوم كان مشغولاً ببعض الأمور العامة (3) ، فجاءه رجل فقال: يا أمير المؤمنين، انطلق معي فأعني على فلان، فإنه ظلمني، فرفع عمر الدرة، فخفق بها رأس الرجل، وقال: تتركون عمر وهو مقبل عليكم، حتى إذا اشتغل بأمور المسلمين أتيتموه، فانصرف الرجل متذمراً، فقال عمر علَيَّ بالرجل: فلما أعادوه ألقى عمر بالدرة إليه، وقال، أمسك الدرة، واخفقني كما خفقتك قال الرجل: لا يا أمير المؤمنين، أدعها لله ولك قال عمر: ليس كذلك: إما أن تدعها لله وإرادة ما عنده من الثواب، أو تردها عليّ، فأعلم ذلك، فقال الرجل: أدعها لله يا أمير المؤمنين، وانصرف الرجل، أما عمر فقد مشى حتى دخل بيته (4) ومعه بعض الناس منهم الأحنف بن قيس الذي حدثنا عمّا رأى: ...
__________
(1) تاريخ بغداد (4/312).
(2) التاريخ الإسلامي (19/46).
(3) الفاروق للشرقاوي ص222.
(4) نفس المصدر ص222.(2/40)
فافتتح الصلاة فصلى ركعتين ثم جلس، فقال: يا ابن الخطاب كنت وضيعاً فرفعك الله، وكنت ضالاً فهداك الله، وكنت ذليلاً فأعزك الله، ثم حملك على رقاب المسلمين، فجاء رجل يستعديك، فضربته، ما تقول لربك غداً إذا أتيته؟ فجعل يعاتب نفسه معاتبة ظننت أنه خير أهل الأرض (1) ، وعن إياس بن سلمة عن أبيه قال: مر عمر رضي الله عنه وأنا في السوق، وهو مار في حاجة، ومعه الدرة، فقال: هكذا أمِطْ (2) عن الطريق يا سلمة، قال: ثم خفقني بها خفقة فما أصاب إلا طرف ثوبي، فأمطت عن الطريق، فسكت عني حتى كان في العام المقبل، فلقيني في السوق، فقال: يا سلمة أردت الحج العام؟ قلت نعم يا أمير المؤمنين، فأخذ بيدي، فما فارقت يدي يده حتى دخل بيته، فأخرج كيساً في ست مائة درهم فقال: يا سلمة استعن بهذه واعلم أنها من الخفقة التي خفقتك عام أول، قلت والله يا أمير المؤمنين، ما ذكرتها حتى ذكرتنيها قال: والله ما نسيتها بعد (3) ، وكان رضي الله عنه يقول في محاسبة النفس ومراقبتها: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوها قبل أن توزنوا، وتهيئوا للعرض الأكبر { يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ(18) } (4) ، وكان من شدة خشيته لله ومحاسبته لنفسه يقول: لو مات جدْي بطف (5) الفرات لخشيت أن يحاسب الله به عمر (6) ، وعن علي رضي الله عنه قال: رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه على قتب يعدو، فقلت: يا أمير المؤمنين أين تذهب؟ قال: بعير ندَّ (7) من إبل الصدقة أطلبه فقلت: أذللت الخلفاء بعدك، فقال يا أبا الحسن لا تلمني فوالذي بعث محمداً بالنبوة لو أن عناقاً (8)
__________
(1) محض الصواب (2/503).
(2) ماطه وأماطه: نحّاه ودفعه.
(3) تاريخ الطبري (4/244) وإسناده ضعيف.
(4) مختصر منهاج القاصدين ص372، فرائد الكلام ص143.
(5) طف: الشاطئ.
(6) مناقب عمر ص160، 161.
(7) ندَّ: شرد وهرب.
(8) العناق: الأنثى من المعز ما لم يتم له سنة..(2/41)
أخذت بشاطئ الفرات لأخذ بها عمر يوم القيامة (1) ، وعن أبي سلامة قال: انتهيت إلى عمر وهو يضرب رجالاً ونساء في الحرم على حوض يتوضئون منه، حتى فرق بينهم، ثم قال: يا فلان، قلت: لبيك، قال لا لبيك ولا سعديك، ألم آمرك أن تتخذ حياضاً للرجال وحياضاً للنساء، قال: ثم اندفع فلقيه علي رضي الله عنه فقال: أخاف أن أكون هلكت قال: وما أهلكك؟ قال ضربت رجالاً ونساءً في حرم الله -عز وجل- قال: يا أمير المؤمنين أنت راع من الرعاة، فإن كنت على نصح وإصلاح فلن يعاقبك الله، وإن كنت ضربتهم على غش فأنت الظالم (2)
[*] وعن الحسن البصري أنه قال: بينما عمر رضي الله عنه يجول في سكك المدينة إذ عرضت له هذه الآية { وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } فانطلق إلى أبي بن كعب فدخل عليه بيته وهو جالس على وسادة فانتزعها أبي من تحته وقال: دونكها يا أمير المؤمنين قال: فنبذها برجله وجلس، فقرأ عليه هذه الآية وقال: أخشى أن أكون أنا صاحب الآية، أوذي المؤمنين، قال: لا تستطيع إلا أن تعاهد رعيتك، فتأمر وتنهى فقال عمر: قد قلت والله أعلم (3) ،
وكان عمر رضي الله عنه ربما توقد النار ثم يدلي يده فيها، ثم يقول: ابن الخطاب هل لك على هذا صبر (4) .
وأخرج هنَّاد، وأبو نُعيم في الحلية ، والبيهقي عن الضحاك قال: قال عمر رضي الله عنه: يا ليتني كنت كبش أهلي، يسمِّنوني ما بدا لهم، حتى إذا كنت أسمن ما أكون زارهم بعض من يحبون، فجعلوا بعضي شِواء، وبعضي قديداً، ثم أكلوني، فأخرجوني عَذِرَةً، ولم أكن بشراً.
__________
(1) مناقب عمر ص161.
(2) مصنف عبد الرزاق (1/75، 76) وإسناده حسن، محض الصواب (2/622).
(3) مناقب عمر ص162، محض الصواب (2/623).
(4) نفس المصدر ص62.(2/42)
وعند ابن المبارك، وابن سعد، وابن أبي شيبة، ومسدِّد، وابن عساكر عن عامر بن ربيعة قال: رأيت عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ أخذ تبنة من الأرض فقال: يا ليتني كنت هذه التبنة، ليتني لم أُخلق، ليتني لم أكن شيئاً، ليت أُمي لم تلدني، ليتني كنت نَسْياً مَنْسياً.
وعند أبي نُعيم في الحلية عن عمر رضي الله عنه قال: لو نادى منادٍ من السماء: يا أيها الناس، إنكم داخلون الجنة كلكم إلا رجلاً واحداً لخفتُ أن أكون أنا هو. ولو نادى منادٍ: أيها الناس، إِنكم داخلون النار إلا رجلاً واحداً لرجوت أن أكون أن هو.
وعند ابن عساكر عن ابن عمر رضي الله عنهما أن عمر لقي أبا موسى الأشعري رضي الله عنه، فقال له: يا أبا موسى، أيسرك أنَّ عملك الذي كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خَلَص لك، وأنك خرجت من عملك كفافاً، خيره بشره، وشره بخيره كفافاً، لا لك، ولا عليك؟ قال: لا يا أمير المؤمنين. والله قدمت البصرة وإن الجفاء فيهم لفاشٍ، فعلَّمتهم القرآن والسنّة، وغزوت بهم في سبيل الله، وإني لأرجو بذلك فضله. قال عمر رضي الله عنه: لكن وددتُ أني خرجت من عملي خيره بشره، وشره بخيره كفافاً، لا علي ولا لي، وخَلَص لي عملي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المخلص. كذا في منتخب الكنز .
وأخرج أبو نُعيم في الحلية عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما طُعن مر رضي الله عنه دخلت عليه فقلت له: أبشر يا، فإن الله قد مصَّر بك الأمصار، ودفع بك النفاق، وأفشَى بك الرزق. قال: أفي الإِمارة تثني عليّ يا ابن عباس؟ فقلت: وفي غيرها. قال: والذي نفسي بيده، لوددت أني خرجت منها كما دخلت فيها، لا أجر ولا وزر.(2/43)
وأخرجه الطبراني من حديث ابن عمر رضي الله عنهما في حديث طويل، وأبو يَعْلى كذلك عن أبي رافع كما في المجمع . وأخرجه ابن سعد عن ابن عباس رضي الله عنهما بنحوه. وأخرج أيضاً من طريق آخر عنه ـ فذكر الحديث، وفيه: فقلت: أبشر بالجنة. صاحبت رسول الله فأطلت صحبته؛ ووُلِّيتَ أمر المؤمنين فقويت، وأديت الأمانة. فقال: أما تبشيرك إياي بالجنة فو الله الذي لا إِله إلا هو، لو أنّ لي الدنيا وما فيها لافتديت به من هول ما أمامي قبل أن أعلم الخبر. وأما قولك في بإمرة المؤمنين، فو الله لوددتُ أن ذلك كفاف لا لي ولا عليَّ. وأما ما ذكرت من صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم فذاك. وأخرجه أيضاً من حديث عبد الله بن عبيد بن عُمَير مطوَّلاً، وزاد فيه: فقال عمر رضي الله عنه: أجلسوني. فلما جلس قال لابن عباس رضي الله عنه: أعد عليَّ كلامك، فلما أعاد عليه قال: أتشهد بذلك عند الله يوم تلقه؟ فقال ابن عباس رضي الله عنه: نعم. قال: ففرح عمر رضي الله عنه بذلك وأعجبه.
وعند أبي نعيم في الحلية عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان رأس عمر على فخذي في مرضه الذي مات فيه. فقال لي: ضَعْ رأسي على الأرض. قال: فقلت: وما عليك، كان على فخذي أم على الأرض؟ قال: ضعه على الأرض. قال: فوضعته على الأرض، فقال: ويلي وويلَ أمي إن لم يرحمني ربي. وعن المِسْوَر قال: لما طُعن مر رضي الله عنه قال: والله لو أنَّ لي طِلاعَ الأرض ذهباً لافتديت به من عذاب الله من قبل أن أراه.
بكاء عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - على مجاهدة راهب :(2/44)
وأخرج البيهقي وابن المنذر والحاكم عن أبي عمران الجوني قال: مرّ عمر رضي الله عنه براهب فوقف ونودي بالراهب فقيل له: هذا أمير المؤمنين، فاطَّلَع فإذا إنسان به من الضر والاجتهاد وترْكِ الدنيا، فلما رآه عمر بكى، فقيل له: إنه نصراني، فقال عمر: قد علمت ولكني رحمته، ذكرت قول الله عزّ وجلّ: { عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً } (الغاشية: 3، 4) رحمتُ نصبَه واجتهاده وهو في النار، كذا في كنز العمال .
خوف عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وبكاؤه على بسط الدنيا :
أخرج البيهقي عن المِسْوَر بن مخرمة رضي الله عنه قال: أُتيَ عمر بن الخطاب رضي الله عنه بغنائم من غنائم القادسية، فجعل يتصفَّحها وينظر إليها وهو يبكي معه عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، فقال له عبد الرحمن: يا أمير المؤمنين، هذا يوم فرح وهذا يوم سرور، قال: فقال: أجل، ولكن لم يُؤتَ هذا قوم قطُّ إلا أورثهم العداوة والبغضاء. وأخرجه الخرائطي أيضاً عن المِسْوَر مثله، كما في الكنز .(2/45)
وعند البيهقي أيضاً عن الحسن أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أُتي بفروة كسرى، فوضعت بين يديه وفي القوم سُراقة بن مالك بن جُعْشُم رضي الله عنه، قال: فألقى إليه سِوارَيْ كسرى بن هرمز، فجعلها في يده فبلغا مَنكبيه، فلما رآهما في يدي سراقة قال: الحمد لله سواري كسرى بن هرمز في يدِ سُراقة بن مالك بن جُعْشُم، أعرابيَ من بني مُدْلج ثم قال: اللهمَّ إني قد علمت أن رسولك صلى الله عليه وسلم كان يحب أن يصيب مالاً فينفقَه في سبيلك وعلى عبادك، وزويت ذلك عنه نظراً منك له وخياراً، ثم قال: اللهَّم إِني قد علمت أن أبا بكر رضي الله عنه كان يحب أن يصيب مالاً فينفقِ في سبيلك وعلى عبادك، فزويت ذلك عنه عنه نظراً منك له وخياراً، اللهمَّ إِني أعوذ بك أن يكون هذا مكراً منك بعمر، ثم تلا: { أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِى الْخَيْراتِ بَل لاَّ يَشْعُرُونَ } (المؤمنون: 55، 56). وأخرجه عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن عساكر عن الحسن مثله، كما في منتخب الكنز .(2/46)
وأخرج الحُميدي وابن سعد والبزَّار، وسعيد بن منصور، والبيهقي وغيرهم عن ابن عباس رضي الله عنها قال: كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا صلَّى صلاة جلس للناس، فمن كان له حاجة كلَّمه، وإن لم يكن لأحد حاجة قام، فصلَّى صلوات للناس لا يجلس فيهن، فقلت: يا يرفأ أبأمير المؤمنين شَكاة؟ فقال: ما بأمير المؤمنين شكو، فجلست فجاء عثمان بن عفان رضي الله عنه فجلس، فخرج يَرْفأ فقال: قم يا ابن عفان، قم يا ابن عباس. فدخلنا على عمر فإذا بين يديه صُبَرٌ من مال على كل صُبْرة منها كتف، فقال: إِني نظرت إِلى أهل المدينة فوجدتكما من أكثر أهلها عشيرة، فخذا هذا المال فاقتسماه، فما كان من فَضْل فردّا. فأمّا عثمان فجثا، وأما أنا فجثوت لركبتي وقلت: وإن كان نقصاناً رددت علينا؟ فقال عمر: شِنْشِنَةٌ من أخشن ـ (قال سفيان): يعني حجراً من جبل ـ أما كان هذا عند الله إذ محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه يأكلون القِد: فقلت؛ بلى، والله لقد كان هذا عند الله ومحمد حيّ، ولو عليه فُتِح لصنع فيه غير الذي تصنع؛ فغضب عمر وقال: إذن صنع ماذا؟ قلت: إذاً لأكل وأطعمنا. فنشج عمر حتى اختلفت أضلاعه، ثم قال: وددتُ أني خرجت منها كفافاً لا لي ولا عليّ. كذا في الكنز ؛ وقال الهيثمي : رواه البزّار وإسناده جيد. ا هـ.
عن ابن عباس رضي الله عنها قال: دعاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأتيته، فإذا بين يديه نِطَعٌ فيه الذهب منثور. قال: هلمَّ فاقسم هذا بين قومك، فالله أعلم حيث زوى هذا عن نبيه صلى الله عليه وسلم وعن أبي بكر فأُعطيته، لخير أعطيته أم لشر؟ ثم بكى وقال: كلا والذي نفسي بيده، ما حبسه عن نبيه وعن أبي بكر إِرادة الشرِّ لهما وأعطاه عمر إرادة الخير له. كذا في الكنز .(2/47)
وأخرج أبو عُبَيد العدني عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال: بعث إليَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأتيته، فلما بلغت الباب سمعت نحيبه، فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون أعتُري ـ والله ـ أمير المؤمنين، فدخلت فأخذت بمنكبه وقلت: لا بأس لا بأس يا أمير المؤمنين. قال: بل أشد البأس، فأخذ بيدي فأدخلني الباب، فإذا حقائق بعضها فوق بعض فقال: الآن هان آل الخطاب على الله، إنَّ الله لو شاء لجعل هذا إلى صاحبيَّ ـ يعني النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر ـ فسنَّا لي فيه سُنّة أقتدي بها، قلت: إجلس بنا نفكر، فجعلنا لأمهات المؤمنين أربعة آلاف أربعة آلاف، وجعلنا للمهاجرين أربعة آلاف أربعة آلاف، ولسائر الناس ألفين ألفين، حتى وزعنا ذلك المال. كذا في الكنز .
(21) لين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وشدته :
أخرج الحاكم عن سعيد بن المسيِّب رضي الله عنه قال: لما وَلي عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ خطب الناس على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فد الله وأثنى عليه ثم قال:(2/48)
يا أيها الناس، إِني قد علمت أنكم تؤنسون مني شدة وغلظة، وذلك أني كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكنت عبده وخادمه، وكان كما قال الله تعالى: { بِالْمُؤْمِنِينَ رَءوفٌ رَّحِيمٌ } (التوبة: 128). فكنت بين يديه كالسيف المسلول إلا أن يغمدني أو ينهاني عن أمر فأكفَّ، وإلا قدمت على الناس لمكان لينه، فلم أزل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك حتى توفاه الله وهو عني راضٍ، والحمد لله على ذلك كثيراً، وأنا به أسعد. ثم قمت ذلك المقام مع أبي بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده. وكان قد علمتم في كرمه، ودَعته ولينه، فكنت خادمه كالسيف بين يديه أخلط شدتي بلينه؛ إِلا أن يتقدم إليّ فأكف وإِلا قدمت. فلم أزل على ذلك حتى توفاه الله وهو عني راضٍ، والحمد لله على ذلك كثيراً، وأنا به أسعد. ثم صر أمركم إِليَّ اليوم، وأنا أعلم فسيقول قائل: كان يشتد علينا والأمر إِلى غيره فكيف به إِذا صار إليه؟ واعلموا أنكم لا تسألون عني أحداً، قد عرفتموني، وجربتموني، وعرفتم من سنّة نبيكم ما عرفت، وما أصبحت نادماً على شيء أكون أحب أن أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه إلا وقد سألته." فاعلموا أن شدَّتي التي كنتم ترون قد ازدادت أضعافاً إِذا صار الأمر إليّ على الظالم، والمعتدي، والأخذ للمسلمين لضعيفهم من قويهم، وإني بعد شدتي تلك واضع خدِّي بالأرض لأهل العفاف والكفّ منكم والتسليم، وإني لا آبى إن كان بيني وبين أحد منكم شيء من أحكامكم أن أمشي معه إلى من أحببتم منكم، فلينظر فيما بيني وبينه أحد منكم. فاتَّقوا الله عباد الله، وأعينوني على أنفسكم بكفّها عني، وأعينوني على نفسي (بالأمر) بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإحضاري النصيحة فيما ولاني الله من أمركم ثم نزل كذا في كنز العمال .(2/49)
وأخرج ابن سعد وابن عساكر عن محمد بن زيد رضي الله عنه قال: إجتمع عليّ، وعثمان، والزبير، وطلحة، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد ـ رضي الله عنهم ـ وكان أجرأهم على عمر عبدُ الرحمن بن عوف قالوا: يا عبد الرحمن، لو كلمتَ أمير المؤمنين للناس فإنَّه يأتي الرجل طالب الحاجة فتمنعه هيبتك أن يكلمك في حاجته حتى يرجع ولم يقضِ حاجته، فدخل عليه فكلَّمه. فقال: يا أمير المؤمنين، لِنْ للناس فإنه يقدم القادم فتمنعه هيبتك أن يكلمك (في حاجته حتى يرجع ولم يكلمك). قال: يا عبد الرحمن، أنشدك الله أعلي، وعثمان، وطلحة، والزبير، وسعد أمروك بهذا؟ قال: اللهمّ نعم. قال: يا عبد الرحمن، والله لقد لنت للناس حتى خشيت الله في اللِّين، ثم اشتددت عليهم حتى خشيت الله في الشدّة، فأين المخرج؟ فقام عبد الرحمن يبكي يجرّ رداءه يقول بيده: أفَ لهم بعدك (أفَ لهم بعدك).
وعند ابن عساكر عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما ولِيَ عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال له رجل: لقد كاد بعض الناس أن يحيد هذا الأمر عنك. قال عمر: وما ذاك؟ قال: يزعمون أنك فظ. قال عمر: الحمد لله (الذي) ملأ قلبي لهم رُحْماً، وملأ قلوبهم لي رُعْباً. كذا في منتخب الكنز .(2/50)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن يزيد بن الأصم: أن رجلاً كان ذا بأس وكان يوفد على عمر لبأسه وكان من أهل الشام، وأن عمر فقده فسأل عنه فقيل له: تتابع في هذا الشراب فدعا كاتبه فقال اكتب: من عمر بن الخطاب إلى فلان، سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير، ثم دعا وأمن من عنده ودعوا له أن يقبل الله بقلبه وأن يتوب عليه، فلما أتت الصحيفة الرجل جعل يقرأ ويقول: غافر الذنب قد وعدني الله أن يغفر لي، وقابل التوب شديد العقاب. قد حذرني الله عقابه، ذي الطول والطول الخير الكثير، لا إله إلا هو إليه المصير، فلم يزل يرددها على نفسه ثم بكى ثم نزع فاحسن النزع، فلما بلغ عمر أمره، قال: هكذا فاصنعوا إذا رأيتم أخاً لكم زل فسددوه ووفقوه وادعوا الله أن يتوب عليه.
(22) رحمة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - :
وأخرج ابن المنذر، والحاكم، والبيهقي عن بُرَيدة قال: كنت جالساً عند عمر رضي الله عنه إِذ سمع صائحة، فقال: يا يَرْفأ أنظر ما هذا الصوت؟ فنظر ثم جاء فقال: جارية من قريش تبع أمها. فقال عمر رضي الله عنه: أدع لي المهاجرين والأنصار، فلم يمكث إلا ساعة حتى امتلأ الدار والحجرة. فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:
"أما بعد: فهل تعلمونه كان فيما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم القطيعة؟ قالوا: لا. فإنها أصبحت فيكم فاشية ثم قرأ: { فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِى الاْرْضِ وَتُقَطّعُواْ أَرْحَامَكُمْ } (محمد: 22) ثم قال: وأي قطيعة أقطع من أن تباع أم إمرأة فيكم وقد أوسع الله لكم؟. قالوا: فاصنع ما بدا لك. فكتب في الآفاق أن لا تباع أمُّ حرَ فأنها قطيعة رحم وإنه لا يحل". كذا في كنز العمال .(2/51)
وأخرج البيهقي وهَنَّاد عن أبي عثمان النَّهْدي قال: إستعمل عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجلاً من بني أسد على عمل، فجاء يأخذ عهده، (قال فأُتي عمرُ ببعض ولده فقبّله. فقال الأسديّ: أتقبل هذا يا أمير المؤمنين؟ والله ما قبّلت ولداً قط قال عمر رضي الله عنه: فأنت ـ والله ـ بالناس أقل رحمة، هاتِ عهدنا، لا تعمل لي عملاً أبداً، فردّ عهده. كذا في الكنز .
وأخرجه الدِّينَوَري عن محمد بن سلام وفي حديثه؛ قال عمر: فما ذنبي إن كان نزع من قلبك الرحمة، إنَّ الله لا يرحم من عباده إلا الرحماء، ونزعه عن عمله فقال: أنت لا ترحم ولدك فكيف ترحم الناس. كذا في الكنز .
(23) ومن أعظم مناقب عمر - رضي الله عنه - اعترافه بفضل أبي بكرٍ عليه إذعاناً للحق :
( حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في صحيح النسائي ) قال لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: الأنصار منا أمير ومنكم أمير فأتاهم عمر فقال ألستم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر أبا بكر أن يصلي بالناس فأيكم تطيب نفسه أن يتقدم أبا بكر قالوا نعوذ بالله أن نتقدم أبا بكر .(2/52)
وأخرج البيهقي عن ابن سِيرين قال: ذكر رجال على عهد عمر رضي الله عنه فكأنهم فضَّلوا عمر على أبي بكر، فبلغ ذلك عمر فقال: والله لليلةٌ من أبي بكر خيرٌ من آل عمر، وليومٌ من أبي بكر خيرٌ من آل عمر. لقد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة انطلق إلى الغار ومعه أبو بكر، فجعل يمشي ساعة بين يديه وساعة خلفه، حتى فطن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا أبا بكر، مالك تمشي ساعة خلفي وساعة بين يدي؟" فقال: يا رسول الله، أذكر الطَلَب فأمشي خلفك، ثم أذكر الرَّصَد، فأمشي بين يديك. فقال: "يا أبا بكر، لو كان شيء لأحببتَ أن يكون بك دوني؟" قال: نعم، والذي بعثك بالحق. فلما انتهيا إلى الغار قال أبو بكر: مكانك ـ يا رسول الله ـ حتى استبرىء لك الغار. فدخل فاستبرأه، حتى إذا كان ذكر أنه لم يستبرىء الجِحَرَةَ، فقال: مكانك ـ يا رسول الله ـ حتى أستبرأ، فدخل فاستبرأ، ثم قال: إنزل يا رسول الله، فنزل. ثم قال عمر: والذي نفسي بيده، لتلك الليلة خيرٌ من آل عمر. كذا في البداية . وأخرجه الحاكم أيضاً كما في منتخب كنز العمال . وأخرجه البغوي عن ابن مُلَيكة مرسلاً بمعناه. قال ابن كثير: هذا مرسل حسن كما في كنز العمال .
إنكار عمر على من فضَّله على أبي بكر وتهديده في ذلك :
وأخرج أبو نعيم في فضائل الصحابة عن جبير بن نُفير أن نفراً قالوا لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: والله ما رأينا رجلاً أقضى بالقسط، ولا أقولَ بالحق، ولا أشد على المنافقين منك يا أمير المؤمنين فأنت خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عوف بن مالك رضي الله عنه: كذبتم ـ والله ـ لقد رأينا خيراً منه بعد النبي صلى الله عليه وسلم فقال: من هو يا عوف؟ فقال: أبو بكر، فقال عمر: صدق عوف وكذبتم، والله لقد كان أبو بكر أطيب من ريح المسك وأنا أضل من بعير أهلي. قال ابن كثير: إسناده صحيح. كذا في منتخب الكنز .
( 24 ) شجاعة عمر بن الخطاب رضي الله عنه :(2/53)
أخرج ابن عساكر عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: ما علمت أحداً هاجر إلا مختفياً إلا عمرَ بن الخطاب فإنه لما همّ بالهجرة تقلّد سيفه، وتنكّب قوسه، وانتضى في يده أسهُماً، وأتى الكعبة ـ وأشراف قريش بفِنائها ـ فطاف سبعاً، ثم صلَّى ركعتين عند المَقام، ثم أتى حِلَقهم واحدة واحدة فقال: شاهت الوجوه. من أراد أن تثكله أمه، ويُؤتَم ولده، وتَرْمُل زوجته؛ فليقني وراء هذا الوادي. فما تبعه منهم أحد. كذا في منتخب كنز العمال .
(25) حكم عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - على الناس بظاهر الأعمال مما يدل على رسوخ العلم والإيمان في قلبه - رضي الله عنه - :
( حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري ) قال : إن أناسا كانوا يؤخذون بالوحي في عهد رسول الله ، وإن الوحي قد انقطع، وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم، فمن أظهر لنا خيرا أمناه وقربناه، وليس إلينا من سريرته شيء، الله يحاسبه في سريرته، ومن أظهر لنا سوءا لم نأمنه ولم نصدقه، وإن قال: إن سريرته حسنة.
وأخرج ابن سعد والبيهقي عن الحسن قال: إن أول خطبة خطبها عمر رضي الله عنه حمد الله وأثنى عليه ثم قال: "أما بعد: فقد ابتليت بكم، وابتليتم بي، وخلفت فيكم بعد صاحبيَّ؛ فمن كان بحضرتنا باشرناه بأنفسنا؛ ومهما غاب عنا ولّيناه أهل القوة والأمانة. فمن يحسن نزده حسناً، ومن يسيء نعاقبه؛ ويغفر الله لنا ولكم". كذا في الكنز .
(26) ورع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - :
أخرج مالك والبيهقي عن زيد بن أسلم قال: شرب عمر رضي الله عنه لبناً فأعجبه فسأل الذي سقاه: من أين لك هذا اللبن؟ فأخبره أنه ورد على ماء فإذا نَعَم من نعم الصدقة وهم يسقون، فحلبوا لنا من ألبانها فجعلته في سقائي هذا، فأدخل عمر أصبعه فاستقاءه . كذا في المنتخب وأخرج ابن سعد عن المِسْوعر بن مَخْرمة رضي الله عنه قال: كنا نلزم عمر بن الخطاب نتعلم منه الورع .(2/54)
ما وقع بين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وابنته حفصة في شأن مال المسلمين :
وأخرج أحمد في الزهد عن الحسن قال: جيء إلى عمر رضي الله عنه بمال، فبلغ ذلك حفصة إبنة عمر رضي الله عنهما، فجاءت فقالت: يا حقُّ أقربائك من هذا المال، قد أوصى الله عزّ وجلّ بالأقربين، فقال لها: يا بنيَّة حقُّ أقربائي في مالي، فأما هذا ففيء المسلمين، غَشَشْتِ أباك، قومي، فقامت تجرُّ ذَيلَها. كذا في منتخب الكنز .
وأخرج ابن أبي شيبة، وأحمد، وابن أبي الدنيا، وابن أبي حاتم، وابن عساكر عن أسلم قال: رأيت عبد الله بن الأرقم جاء إلى عمر رضي الله عنهما فقال: يا أمير المؤمنين، عندنا حِلية من حِلية جَلُولاء آنية فضة، فانظر أن تفرغ يوماً فيها فتأمرنا بأمرك، فقال: إِذا رأيتني فارغاً فذنِّي، فجاء يوماً فقال: إني أراك اليوم فارغاً، قال: أجل، أبسُط لي نِطْعاً فأر بذلك المال فأُفيض عليه، ثم جاء حتى وقف عليه فقال: اللهمَّ إنك ذكرت هذا المال فقلت: { زُيّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ } (آل عمران: 14) ـ حتى فرغ من الآية ـ وقلت: { لّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآ ءاتَاكُمْ } (الحديد: 23)، وإنَّ لا نستطيع إلا أن نفرح بما زيَّنت لنا. اللهمَّ فجعلنا ننفقه في حقَ، وأعوذ بك من شره. قال: فأُتي بابن له يُحمل يقال له عبد الرحمن بن بهية، فقال: يا أبت هَبْ لي خاتَماً، قال: إذهب إِلى أمك تسقيك سَوِيقاً، قال: فوالله ما أعطاه شيئاً. كذا في منتخب الكنز .
قصة قَسْم المسك والعنبر الذي جاء من البحرين :(2/55)
أخرج أحمد في الزند عن إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقّاص قال: قدم على عمر رضي الله عنه مسك وعنبر من البحرين، فقال عمر: والله لوددتُ أنِّي وجدت إمرأة حسنة الوزن تزن لي هذا الطيب حتى أقسمه بين المسلمين، فقالت له إمرأته عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل رضي الله عنهما: أنا جيّدة الوزن فهلمَّ أزن لك؟ قال: لا، قلت: لِمَ؟ قال: إني أخشى أن تأخذيه فتجعليه هكذا ـ أدخل أصابعه في صدغيه وتمسحين به عنقك، فأصبت فَضْلاً على المسلمين. كذا في منتخب الكنز .
قصة ابن عمر مع أبيه رضي الله عنها في بنت ابن عمر :
وأخرج ابن سعد، وابن أبي شيبة، وابن عساكر عن الحسن أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى جارية تطيش هزالاً، فقال: من هذه الجارية؟ فقال عبد الله رضي الله عنه: هذه إحدى بناتك، قال: وأيّ بناتي هذه قال: إبنتي، قال: ما بلغ بها ما أرى؟ قال: عملك، لا تنفق عليها، قال: إني ـ والله ـ ما أغرك من ولدك، فأَوسع على ولدك أيها الرجل. كذا في المنتخب .
قصة عاصم بن عمر في هذا الأمر :
وأخرج ابن سعد، وأبو عبيد في الأموال عن عاصم بن عمر رضي الله عنهما قال: لما زوجني عمر أنفق عليَّ من مال الله شهراً، ثم أرسل إليّ عمر يرفأ فأتيته فقال: والله ما كنت أرى هذا المال يحلُّ لي من قبل أن ألِيَه إِلا بحقِّه، وما كان قط أحرم عليّ منه إِذ وليته فعاد أمانتي، وقد أنفقت عليك شهراً من مال الله ولست بزائدك ولكني معينك بثمر مالي بالغابة، فأجْدُدْه فبِعْه، ثم إئتِ رجلاً من قومك من تجّارهم فقم إلى جنبه، فإِذا اشترى فاستشركه فاستنفق وأنفق على أهلك. كذا في المنتخب .
قصة إمرأة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - معه في هذا الأمر :(2/56)
وأخرج الدِّينوَري في المجالسة عن مالك بن أوس بن الحَدَثان قال: قدم بريد ملك الروم على عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فاستقرضت إمرأة عمر بن الخطاب ديناراً، فاشترت به عطراً، وجعلته في قوارير، وبعثت به مع البريد إلى إمرأة ملك الروم. فلما أتاها فرَّغتهن وملأتهن جواهر، وقالت: إذهب إلى إمرأة عمر بن الخطاب. فلما أتاها فرغتهن على البساط، فدخل عمر بن الخطاب فقال: ما هذا؟ فأخبرته بالخبر، فأخذ عمر الجواهر فباعه، ودفع إلى إمرأته ديناراً، وجعل ما بقي من ذلك في بيت المال للمسلمين. كذا في منتخب الكنز .
قصة إبل بن عمر مع والده عمر في ذلك :
وأخرج سعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، والبيهقي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: إشتريت إِبلاً وارتجعتها إلى الحِمَى، فلمّا سمنت قدمت بها، فدخل عمر السوق فرأى إبلاً سماناً، فقال: لمن هذه الإِبل؟ فقيل: لعبد الله بن عمر، فجعل يقول: يا عبد الله بن عمر، بَخٍ بخٍ، ابن أمير المؤمنين، فجئت أسعى فقلت: ما لك يا أمير المؤمنين؟ قال: ما هذه الإِبل؟ قلت: بل اشتريتها وبعثت بها إلى الحِمَى أبتغي ما يبتغي المسلمون، فقال: أرعوا إبل ابن أمير المؤمنين أسقوا إبل ابن أمير المؤمنين يا عبد الله بن عمر أُغْدُ على رأس مالك واجعل الفَضْل في بيت مال المسلمين. كذا في المنتخب .
زجر عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لصهره حين طلب من بيت المال شيئا :
وأخرج ابن سعد وابن جرير، وابن عساكر عن محمد بن سيرين أنَّ صِهْراً لعمر بن الخطاب رضي الله عنه قدم على عمر، فعرَّض له أن يعطيه من بيت المال، فانتهره عمر وقال: أردتَ أن ألقى الله مَلِكاً خائناً؟ فلما كان بعد ذلك أعطاه من صُلْب ماله عشرة آلاف درهم. كذا في كنز العمال .
قصة إِعطاء عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - رجلا أصابته ضربة في سبيل الله :(2/57)
وأخرج أبو نُعيم في الحلية عن عبد الله بن عبيد بن عمير قال: بينما الناس يأخذون أَعطِيتهم بين يدي عمر إذ رفع رأسه فنظر إلى رجل في وجهه ضربة، قال: فسأله فأخبره أنه أصابته في غزاة كان فيها، فقال: عُدُّوا له ألفاً، فأعطى الرجل ألف درهم، ثم حول المال ساعة، ثم قال: عدُّوا له ألفاً، فأعطى الرجل ألفاً أخرى؛ قال له أربع مرات كل ذلك يعطيه ألف درهم. فاستحيَى الرجل من كثرة ما يعطيه فخرج، قال: فسأل عنه فقيل له: إنا رأينا أنه استحيَى من كثرة ما أُعطي فخرج؛ فقال عمر: أما ـ والله ـ لو أنه مكث ما زلت أعطيه ما بقي من المال درهم، رجل ضُرب ضربة في سبيل الله خضَّرت وجهه.
قَسْم عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - جميع ما في بيت المال :
أخرج البيهقي عن يحيى بن سعيد عن أبيه قال: قال عمر بن الخطاب لعبد الله بن الأرقم رضي الله عنهما: إقسم بيت مال المسلمين في كل شهر مرة، إقسم مال المسلمين في كل جمعة مِرة، ثم قال: إقسم بيت المال في كل يوم مرة، قال: فقال رجل من القوم: يا أمير المؤمنين، لو أبقيت في بيت مال المسلمين بقية تعدّها لنائبة أو صوت ـ يعني خارجة ـ قال: فقال عمر للرجل الذي كلَّمه: جرى الشيطان على لسانك، لقَّنني لله حجتها ووقاني شرها، أعدّ لها ما أعدّ لها رسول الله صلى الله عليه وسلم طاعة الله عزّ وجلّ ورسوله صلى الله عليه وسلم .
وعند أبي نعيم في الحلية عن ابن عمر رضي الله عنها قال: قدم على عمر مال من العراق فأقبل يقسمه، فقام إليه رجل فقال: يا أمير المؤمنين لو أبقيت من هذا المال لعدو إن حصر أو نائبة إن نزلت. فقال عمر: ما لك قاتلك الله؟ نطق بها على لسانك شيطان، لقَّاني الله حجَّتها، والله لا أعصينَّ الله اليوم لغدٍ، لا، ولكن أعدُّ لهم ما أعدَّ لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم .(2/58)
وعند ابن عساكر عن سَلَمة بن سعيد قال: أُتي عمر بن الخطاب رضي الله عنه بمال، فقام إِليه عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه فقال: يا أمير المؤمنين لو حبست من هذا المال في بيت المال لنائبة تكون أو أمر يحدث، فقال: كلمة ما عرض بها إلا شيطان، لقَّاني الله حجَّتها ووقاني فتنتها، أعصي الله العام مخافة قابل؟ أعدّ لهم تقوى الله، قال الله تعالى: { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُواْ ذَوَى عَدْلٍ مّنكُمْ وَأَقِيمُواْ الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلّ شَىْء قَدْراً } (الطلاق: 2، 3)؛ ولتكون فتنة على من يكون بعدي. كذا في منتخب الكنز .
كتاب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إلى أبي موسى الأشعري في ذلك :
وأخرج ابن سعد وابن عساكر كما في الكنز عن الحسن قال: كتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى رضي الله عنهما:
"أما بعد: فأعلم يوماً من السنة لا يبقى في بيت المال درهم، حتى يكتسح إكتساحاً، حتى يعلم الله أني قد أدَّيت إِلى كل ذي حقَ حقَّه".
كتاب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إِلى حذيفة في ذلك :
وأخرج ابن سعد عن الحسن قال: كتب عمر إلى حذيفة رضي الله عنهما أن أعطِ الناس أعطيتهم وأرزاقهم فكتب إليه: إنَّا قد فعلنا وبقي شيء كثير. فكتب إليه عم: إنَّه فيئهم الذي أفاء الله عليهم، ليس هو لعمر ولا لآل عمر؛ إقسمه بينهم.
رأي عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في حق المسلمين في المال :(2/59)
أخرج البيهقي عن أسلم قال: سمعت عمر رضي الله عنه يقول: إجتمعوا لهذا المال فانظروا لمن ترونه. ثم قال لهم: إني أمرتكم أن تجتمعوا لهذا المال فتنظرا لمن ترونه، وإِني قد قرأت آيات من كتاب الله سمعت الله يقول: { مَّآ أَفَآء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَى لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الاْغْنِيَآء مِنكُمْ وَمَآ ءاتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ لِلْفُقَرَآء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْواناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } (الحشر: 7، 8) والله ما هو لهؤلاء وحدهم { وَالَّذِينَ تَبَوَّءوا الدَّارَ وَالإيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِى صُدُورِهِمْ حَاجَةً مّمَّآ أُوتُواْ وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ } (الحشر: 9) ـ الآية ـ. والله ما هو لهؤلاء وحدهم { وَالَّذِينَ جَآءوا مِن بَعْدِهِمْ } (الحشر: 10) ـ الآية ـ، والله ما من أحد من المسلمين إلا وله حق في هذا المال أُعطي منه أو مُنع حتى راعٍ بعَدَن.(2/60)
وأخرج أيضاً عن مالك بن أوس بن الحَدَثان رضي الله عنه في قصة ذكرها قال: ثم تلا: { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَآء وَالْمَسَاكِينِ } (التوبة: 60) ـ إلى الآية ـ، فقال: هذه لهؤلاء، ثم تلا: { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مّن شَىْء فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ } (الأنفال: 41) ـ إلى آخر الآية ـ، ثم قال: هذ لهؤلاء، ثم تلا: { مَّآ أَفَآء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى } ـ إلى آخر الآية ـ، ثم قرأ: { لِلْفُقَرَآء الْمُهَاجِرِينَ } ـ إلى آخر الآية ـ ، ثم قال: هؤلاء المهاجرون، ثم تلا: { وَالَّذِينَ تَبَوَّءوا الدَّارَ وَالإيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ } ـ إلى آخر الآية ـ، فقال: هؤلاء الأنصار، قال: وقال: { والذين جاؤوا من بعدم يقولون ربنا إغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان } ـ إلى آخر الآية ـ. قال: فهذه إستوعبت الناس، ولم يبق أحد من المسلمين إلا وله في هذا المال حق إلا ما تملكون من رقيقكم، فإن أعِشْ ـ إن شاء الله ـ لم يبقَ أحد من المسلمين إلا سيأتيه حقُّه حتى الراعي بسروِ حمير يأتيه حقه ولم يعرق فيه جبينه. وأخرجه أيضاً ابن جرير عن مالك بن أوس نحوه، كما في التفسير لابن كثير .
(27) كان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وقافاً عند حدود الله تعالى :
أخرج عبد الرزاق وعبد بن حُمَيد والخرائطي عن المِسْور بن مَخْرَمة عن عبد الرحمن بن عوف أنه حرس مع عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنهما ـ ليلةً المدينة، فبينما هم يمشون شبَّ لهم سراج في بيت، فانطلقوا يؤمونه، فلما دنوا منه إذاباب مُجاف على قوم لهم فيه أصوات مرتفعة ولَغَط. فقال عمر ـ وأخذ بيد عبد الرحمن بن عوف ـ: أتدري بيت من هذا؟ قال: هذا بيت ربيعة بن أمية بن خَلَف وهم الآن شَرْب فما ترى؟ قال: أرى أن قد أتينا ما نهى الله عنه، قال الله: { وَلاَ تَجَسَّسُواْ } (سورة الحجرات: الآية: 12) فقد تجسسنا فانصرف عنهم عمر رضي الله عنه وتركهم.(2/61)
قصة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - مع رجل ومع جماعة في هذا الشأن :
وأخرج ابن المنذر وسعيد بن منصور عن الشَّعْبي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقد رجلاً من أصحابه، فقال لابن عوف رضي الله عنه: انطلق بنا إلى منزل فلان فننظر، فأتيا منزله فوجدا بابه مفتوحاً وهو جالس وامرأته تصب له في الإناء فتناوله إياه، فقال عمر لابن عوف: هذا الذي شغله عنا. فقال ابن عوف لعمر: وما يُدريك ما في الإِناء؟ فقال عمر: أتخاف أن يكون هذا هو التجسس؟ قال: بل هو التجسس. قال: وما التوبة من هذا؟ قال: لا تُعلمه بما اطَّلعت عليه من أمره، ولا يكونَنَّ في نفسك إلاَّ خيراً، ثم انصرفا. كذا في الكنز .
تسوّر عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - على المُغَنِّي بيته :
وأخرج الخرائطي عن ثَوحر الكندي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يَعُس بالمدينة من الليل، فسمع صوت رجل في بيت يتغنَّى، فتسوَّر عليه فقال: يا عدو الله، أظننت أن الله يسترك وأنت في معصية فقال: وأنت يا أمير المؤمنين لا تعجل عليَّ؛ إن أكن عصيت الله واحدة فقد عصيت الله في ثلاث قال: "ولا تجسسوا" وقد تجسست. وقال: { وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِهَا } (سورة البقرة، الآية: 189) وقد تسوَّرت عليَّ، ودخلت عليَّ بغير إذن وقال الله تعالى: { لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُواْ وَتُسَلّمُواْ عَلَى أَهْلِهَا } (سورة النور، الآية: 27) قال عمر: فهل عندك من خير إن عفوت عنك؟ قال: نعم، فعفا عنه وخرج وتركه. كذا في الكنز .
قصة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - مع شيخ كبير في هذا الشأن :(2/62)
وأخرج أبو الشيخ عن السُّدِّي قال: خرج عمر بن الخطاب رضي الله عنه فإذا هو بضوء نار ومعه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فأتْبَع الضوء حتى دخل داراً فإذا بسراج في بيت، فدخل وذلك في جوف الليل، فإذا شيخ جالس وبين يديه شراب وقَيْنة تغنِّيه، فلم يشعر حتى هجم عليه عمر، فقال عمر: ما رأيت كالليلة منظراً أقبح من شيخ ينتظر أجله فرفع رأسه إليه، فقال: بلى، يا أمير المؤمنين ما صنعت أنت أٌبح أتجسست وقد نُهي عن التجسس، ودخلت بغير إذن؟ فقال عمر: صدقت. ثم خرج عاضاً على ثوبه يبكي وقال: ثكلت عمر أمه إن لم يغفر له ربه، يجد هذا كان يستخفي به من أهله فيقول الآن رآني عمر فيتتابع فيه. وهجر الشيخ مجلس عمر حيناً، فبينا عمر بعد ذلك جالس إذ به قد جاء شبه المستخفي حتى جلس في أخريات الناس، فرآه عمر فقال: عليَّ بهذا اشيخ، فأُتي فقيل له: أجب، فقام وهو يرى أن عمر سيسوءه بما رأى منه، فقال عمر: ادنُ مني، فما زال يدنيه حتى أجلسه بجنبه، فقال: إدنِ مني أذنك، فالتقم أذنه فقال: أما والذي بعث محمداً بالحق رسولاً ما أخبرت أحداً من الناس بما رأيت منك ولا ابن مسعود فإنه كان معي، فقال: يا أمير المؤمنين أدنِ مني أذنك، فالتقم أذنه فقال: ولا أنا والذي بعث محمداً بالحق رسولاً ما عدت إليه حتى جلست مجلسي هذا، فرفع عمر صوته يكبِّر، فما يدري الناس من أي شيء يكبر. كذا في الكنز .
قصة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - مع أبي محجن الثقفي :
وأخرج الطبراني عن أبي قِلابة أن عمر رضي الله عنه حُدِّث أن أبا محجن الثقفي يشرب الخمر في بيته هو وأصحاب له، فانطلق عمر حتى دخل عليه، فإذا ليس عنده إلا رجل، فقال أبو محجن: يا أمير المؤمنين إن هذا لا يحل لك قد نهاك الله عن التجسس؛ فقال عمر: ما يقول؟ فقال له زيد بن ثابت وعبد الرحمن بن الأرقم ـ رضي الله عنهما ـ : صدق يا أمير المؤمنين، هذا من التجسس، فخرج عمر وتركه. كذا في الكنز .(2/63)
أخرج البخاري وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قدم عيينة بن حصن (بن حذيفة) بن بدر رضي الله عنه فنزل على ابن أخيه الحرِّ بن قيس رضي الله عنه ـ وكان من النفر الذين يُدينهم عمر رضي الله عنه، وكان القرّاء أصحاب مجلس عمر ومشورته كهولاً كانوا أو شباناً ـ، فقال عيينة لابن أخيه: يا ابن أخي لك وجه عند هذا الأمير فاستأذن لي عليه، فاستأذن له فأذن له (عمر)، فلما دخل عليه قال: هِي يا ابن الخطاب، فوالله ما تعطينا الجَزْل، ولا تحكم بيننا بالعدل فغضب عمر حتى همَّ أن يُوقع به، فقال الحر: يا أمير المؤمنين إن الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم { خُذِ الْعَفْوَ } { وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ } { وَأَعْرِض عَنِ الْجَاهِلِينَ } (سورة الأعراف، الآية: 119). وإنَّ هذا من الجاهلين. فوالله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقافاً عند كتاب الله عز وجل. كذا في المنتخب . وعند ابن سعد عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ما رأيت عمر غضب قط فذُكر الله عنده أو خُوِّف، أو قرأ عنده إنسان آية من القرآن إلا رقد عما كان يريد.
وعند أسلم قال قال بلاد رضي الله عنه: يا أسلم كيف تجدون عمر؟ قلت: خير، إذا غضب فهو أمر عظيم، فقال بلال: لو كنت عنده إذا غضب قرأت عليه القرآن حتى يذهب غضبه. وعن مالك الدار قال: صاح عليَّ عمر رضي الله عنه يوماً وعلاني بالدِّرَّة فقلت: أذكِّرك بالله، فطرحها فقال: لقد ذكرتني عظيماً. كذا في المنتخب .
(28) إكرام عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لأهل البيت :(2/64)
أخرج ابن سعد وابن راهَوَيه والخطيب عن حسين بن علي رضي الله عنهما قال: صعدت إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه المنبر فقلت له: انزل عن منبر أبي واصعد منبر أبيك، فقال: إن أبي لم يكن له منبر، فأقعدني معه. فلما نزل ذهب إلى منزله فقال: أيْ بني من علَّمك هذا؟ قلت: ما علمنيه أحد. قال: أيْ بني لو جعلت تأتينا وتغشانا، فجئت يوماً وهو خالٍ بمعاوية، وابنُ عمر بالباب لم يُؤذن له فجرعت. فلقيني بعد فقال: يا بني لم أرَك أتيتنا؟ قلت: جئت وأنت خالٍ بمعاوية، فرأيت ابن عمر رجع فرجعت. فقال: أنت أحق بالإِذن من عبد الله بن عمر، إنما أنبت في رؤوسنا ما ترى الله، ثم أنتم، ووضع يده على رأسه. كذا في الكنز . قال في الإِصابة : سنده صحيح.
عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يخطب أم كلثوم بنت علي لشرف النسب :
وأخرج البيهقي عن حسن بن حسن عن أبيه أن عمر بن الخطاب خطب أم كلثوم، فقال له علي ـ رضي الله عنه ـ إنها تصغر عن ذلك، فقال عمر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كل سبب ونسب منقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي" فأحبُّ أن يكون لي من رسول الله صلى الله عليه وسلم سبب ونسب، فقال علي للحسن والحسين رضي الله عنهم: زوِّجا عمكما، فقالا: هي امرأة من النساء تختار لنفسها. فقام علي مُغْضباً، فأمسك الحسن بثوبه وقال: لا صبر لي على هجرانك يا أبتاه، قال: فزوَّجاه. كذا في الكنز .(2/65)
وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور عن أبي جعفر رضي الله عنه قال: خطب عمر رضي الله عنه إلى علي رضي الله عنه ابنته، فقال: أبعث بها إليك فإن رضيت فهي امرأتك، فبعث إليه فكشف عن ساقها فقالت له: أرسل فلولا أنك أمير المؤمنين لصككتُ عينك. كذا في الكنز . وأخرجه ابن عمر المقدسي عن محمد بن علي نحون، كما في الإصابة . وعند ابن سعد عن محمد أن عمر خطب أم كلثوم رضي الله عنها إلى علي، فقال: إنما حسبت بناتي على بني جعفر. فقال: زوِّجنيها ـ فوالله ـ ما على ظهر الأرض رجل يُرْصد من كرامتها ما أرصد، قال: قد فعلت، فجاء عمر إلى المهاجرين فقال: زُفُّوني فزفُّوه، فقالوا: بمن تزوجت؟ قال: بنت علي، إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل نسب وسبب سيقطع يوم القيامة إلا نسبي وسببي" وكنت قد صاهرت فأحببت هذا أيضاً. ومن طريق عطاء الخراساني أن عمر أمهرها أربعين ألفاً. كذا في الإصابة.
(29) توقير عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - للصحابه :
ضرب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - رجلين لأجل ابن مسعود :
وأخرج ابن عساكر عن أبي وائل أن ابن مسعود رضي الله عنه رأى رجلاً قد أسبل فقال: ارفع إزارك، فقال: وأنت يا ابن مسعود ارفع إزارك، فقال له عبد الله: إني لست مثلك إن بساقيَّ حُموشةً وأنا أؤم الناس. فبلغ ذلك عمر رضي الله عنه، فجعل يضرب الرجل ويقول: أتردُّ على ابن مسعود؟ كذا في الكنز .
وأخرج يعقوب بن سفيان وابن عساكر عن العلاء عن أشياخ لهم قال: كان عمر على دار لابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ بالمدينة ينظر إلى بنائها. فقال رجل من قريش: يا أمير المؤمنين إنك تُكفى هذا، فأخذ لبنة فرمى بها، وقال:أترغب بي عن عبد الله؟ كذا في الكنز .
ضرب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - رجلاً لأجل أم سلمة :(2/66)
وأخرج أبو عبيد في الغريب وسفيان بن عيينة واللألكائي عن أبي وائل أن رجلاً كان له حقٌّ على أم سَلَمة رضي الله نها، فأقسم عليها، فضربه عمر رضي الله عنه ثلاثين سوطاً تَبضَع وتَحدِر. كذا في المنختب .
إنكار عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - على رجل نال من علي :
وأخرج ابن عساكر عن عروة رضي الله عنه أن رجلاً وقع في علي بمحضر من عمر رضي الله عنهما. فقال عمر: تعرف صاحب هذا القبر؛ محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، وعلي بن أبي طالب بن عبد المطلب لا تذكر علياً إلا بخير، فإنك إن آذيته آذيت هذا في قبره. كذا في المنتخب .
وأخرج أبو يَعْلَى عن أبي بكر بن خالد بن عُرْفْطة أنه أتى سعد بن مالك رضي الله عنه فقال: بلغني أنكم تُعرَضون على سبِّ علي بالكوفة فهل سببته؟ قال: مَعاذ الله والذي نفس سعد بيده لقدسمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في علي شيئاً لو وُضع المنشار على مفرقي ما سببته أبداً. قال الهيثمي : إسناده حسن.
(30) تواضع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - :
أخرج ابن أبي حاتم والدارمي والبيهقي عن أبي يزيد قال: لقي عمر بن الخطاب رضي الله عنه امرأة يقال لها خولة ـ رضي الله عنها ـ وهي تسير مع الناس، فاستوقفته فوقف لها، ودنا منها وأصغى إليها رأسه، ووضع يديه على مَنْكبيها حتى قضت حاجتها وانصرفت. فقال له رجل: يا أمير المؤمنين حبست رجالات قريش على هذا العجوز؟ قال: ويك أتدري من هذه؟ قال: لا، قال: هذه امرأة سمع الله شكواها من فوق سبع سماوات هذه خولة بنت ثعلبة، والله لو لم تنصرف عني إلى الليل ما انصرفت حتى تُقضي حاجتها.(2/67)
وعند البخاري في تاريخه وابن مَرَدَوَيه عن ثُمامة بن حَزْن رضي الله عنه قال: بينما عمر بن الخطاب رضي الله عنه يسير على حماره لقيته امرأة فقالت: قف يا عمر، فوقف فأغلظت له القول، فقال رجل: يا أمير المؤمنين ما رأيت كاليوم، قال: وما يمنعني أن أسمع لها وهي التي سمع الله لها وأنزل فيها ما أنزل: { قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِى تُجَادِلُكَ فِى زَوْجِهَا } (سورة المجادلة، الآية: 1). كذا في الكنز .
وأخرج ابن سعد عن الشَّعبي قال: جاءت امرأة إلى عمر بن الخطاب فقالت: أشكو إليك خير أهل الدنيا إلا رجلاً سبقه بعمل أو عمل مثل عمله. يقوم الليل حتى يصبح، ويصوم النهار حتى يمسي، ثم تجلاّها الحياء، فقالت: أقِلْني يا أمير المؤمنين، فقال: جزاك الله خيراً؛ فقد أحسنت الثناء. قد أقتلك، فلما ولّت قال كعب بن سخور: يا أمير المؤمنين لقد أبلغت إليك في الشكوى، فقال: ما اشتكت؟ قال: زوجَها، قال: عليَّ المرأة (فأرسل إلى زوجها فجاء)، فقال لكعب: اقضِ بينهما، قال: أقضي وأنت شاهد قال: إنك قد فطنت إلى ما لم أفطن له، قال: فإن الله تعال يقول: ( فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ النّسَآءِ مَثْنَىَ وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ ) [ النساء : 3] صم ثلاثة أيام وأفطر عندها يوماً، وقم ثلاث ليالٍ وبتْ عندها ليلة. فقال عمر: لهَذا أعجب إليَّ من الأول؛ فبعثه قاضياً لأهل البصرة.(2/68)
أخرج أبو عبيد وابن عساكر عن عبد الله بن قيس أو ابن أبي قيس قال: كنت فيمن تلقَّى عمر رضي الله عنه مع أي عبيدة رضي الله عنه مَقْدَمه الشام، فبينا عمر يسير إذ لقيه المقلَّسون من أهل أذرعات بالسيوف فقال: مَهْ، ردُّوهم وانعوهم، فقال: أبو عبيد رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين هذه سنة العجم، فإنَّك إن تمنعهم منها يروا أن في نفسك نقضاً لعهدهم، فقال عمر: دعوهم (عمر وآل عمر) في طاعة أبي عبيدة، كذا في الكنز . وأخرج المحاملي عن ابن عمر رضي الله عنهما أن عمر سابق الزبير رضي الله عنه فسبقه الزبير، فقال: سبقتك ورب الكعبة، ثم إن عمر سابقه مرة أخرى فسبقه عمر فقال عمر: سبقتك ورب الكعبة كذا في الكنز .
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الشعبي، قال: غزا رجل من المسلمين من الأنصار وأوصى جاراً له بأهله، قال: فكان يهودي يأتي أهله، فذكر ذلك للرجل فرصده ليلة فإذا هو مستلق على فراش الرجل واضعاً إحدى رجليه على الأخرى وهو يقول:
وأشعث غره الإسلام مني خلوت بعرسه يوم التمام
أبيت على ترائبها ويضحي على قباء لا حقة الحزام
كأن مجامع الربلات منها ثمام قد جمعن إلى ثمام
قال: فنزل الرجل فقمصه بسيفه حتى قتله، فلما أصبح ذكر ذلك لعمر رضي الله تعالى عنه، فقال: اعزم على من كان يعلم من هذا شيئاً إلا قام، فقام الرجل فقال: كان من أمره كيت وكيت، فخبره بالقصة، فقال عمر رضي الله تعالى عنه: إن عادوا فعد.
مقتل عمر وجعله الأمر للستة أصحاب الشورى :(2/69)
أخرج الطبراني عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: لما طعن أبو لؤلؤة عمر رضي الله عنه طعنه طعنتين، فظن عمر أنَّ له ذنباً في الناس لا يعلمه، فدعا ابن عباس رضي الله عنهما ـ وكان يحبه ويدنيه ويسمع منه ـ فقال: أحب أن نعلم: عن ملأ من الناس كان هذا؟ فخرج ابن عباس فكان لا يمر بملأ من الناس إلا وهم يبكون، فرجع إلى عمر فقال: يا أمير المؤمنين، ما مررتُ على ملأ إلا رأيتهم يبكون، كأنهم فقدوا اليوم أبكار أولادهم. فقال من قتلني؟ فقال: أبو لؤلؤة المجوسي عبد المغيرة بن شعبة. قال ابن عباس: فرأيت البشْر في وجهه، فقال: الحمد لله الذي لم يبتلني أحد يحاجّني بقول لا إله إلا الله. أما إِني قد نهيتكم أن تجلبوا إلينا من العلوج أحداً فعصيتموني.
ثم قال: أدعوا لي إِخواني. قالوا: ومن؟ قال: عثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص ـ رضي الله عنهم ـ فأرسل إليهم، ثم وضع رأسه في حِجْري. فلما جاؤوا قلت: هؤلاء قد حضروا، قال: نعم، نظرت في أمر المسلمين فوجدتكم ـ أيها الستة ـ رؤوس الناس وقادتهم، ولا يكون هذا الأمر إِلا فيكم، ما استقمتم يستقم أمر الناس، وإن يكن إختلاف يكن فيكم ـ فما سمعته ذكر الإختلاف والشقاق وإِن يكن؛ ظننت أنَّه كائن، لأنه قلَّما قال شيئاً إلا رأيتُه ثم نزفه الدم، فهمسوا بينهم حتى خشيت أن يبايعوا رجلاً منهم، فقلت: إِن أمير المؤمنين حيّ بعد ولا يكون خليفتان ينظر أحدهما إلى الآخر. فقال: إحملوني فحملناه، فقال: تشاوروا ثلاثاً، ويصلِّي بالناس صُهَيب. قالوا: من نشاور يا أمير المؤمنين؟ قال: شاوروا المهاجرين والأنصار وسَرَاة من هنا من الأجناد.(2/70)
ثم دعا بشَرْبة من لبن فشرب، فخرج بياض اللبن من الجرحين، فعرف أنَّه الموت، فقال: الآن لو أنَّ لي الدنيا كلَّها لافتديت بها من هول المُطَّلَع، وما ذاك ـ والحمد لله ـ أن أكون رأيت إلا خيراً. فقال (ابن عباس) وإن قلت فجزاك الله خيراً، أليس قد دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعزَّ الله بك الدين والمسلمين إِذ يخافون بمكة، فلما أسلمت كان إِسلامك عزَّاً، وظهر بك الإِسلام ورسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وهاجرت إلى المدينة فكانت هجرتك فتحاً، ثم لم تَغِب عن مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم من قتال المشركين من يوم كذا ويوم كذا. ثم قُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنك راضٍ، فوازرت الخليفة بعده على منهاج رسول الله صلى الله عليه وسلم فضربت بمن أقبل على من أدبر حتى دخل الناس في الإِسلام طوعاً وكرهاً. ثم قُبض الخليفة وهو عنك راضٍ. ثم وَلِيت بخير ما وليَ الناس، مصَّرَ الله بك الأمصار، وجبى بك الأموال، ونفى بك العدو، وأدخل الله بك على كل أهل بيت من توسِعتهم في دينهم وتوسِعتهم في أرزاقهم؛ ثم ختم لك بالشهادة؛ فهنيئاً لك.(2/71)
فقال: والله إنّ المغرور من تَغرونه، ثم قال: أتشهد لي يا عبد الله عند الله يوم القيامة؟ فقال: نعم، فقال: اللهمَّ لك الحمد، ألصِق خدي بالأرض يا عبد الله بن عمر فوضعته من فخذي على ساقي فقال: ألصق خدي بالأرض، فترك لحيته وخدَّه حتى وقع بالأرض، فقال: ويلك وويلَ أمك يا عمر إن لم يغفر الله لك يا عمر ثم قُبض رحمه الله. فلما قُبض أرسلوا إلى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، فقال: لا آتيكم إن لم تفعلوا ما أمرك به من مشاورة المهاجرين والأنصار وسَراة من هنا من الأجناد. قال الحسن ـ وذُكر له فعل عمر رضي الله عنه عند موته وخشيته من ربه ـ فقال: هكذا المؤمن جمع إحساناً وشفقة، والمنافق جمع إساءة وغرَّة، والله ما وجدت فيما مضى ولا فيما بقي عبداً إزداد إساءة إلا إزداد غرَّة. قال الهيثمي : وإسناده حسن.
دَيْن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ودفنه مع صاحبيه واستخلافه النفر الستة :(2/72)
وأخرج بن سعد ، وأبو عبيد، وابن أبي شيبة، والبخاري، والنِّسائي وغيرهم عن عمرو بن ميمون ـ فذكر الحديث في قصة شهادة عمر رضي الله عنه ـ وفيه: فقال لعبد الله بن عمر: أنظر ما عليَّ من الدَّين فأحسبه، فقال: ستة وثمانون ألفاً. فقال: إِن وفَى بها مال آل عمر فأدِّها عني من أموالهم، وإلا فسَلْ بني عدي بن كعب، فإن تفِ أموالهم وإِلا فسَلْ قريشاً، ولا تعْدُهم إلى غيرهم فأدِّها عني. إذهب إلى عائشة أم المؤمنين فسلِّم وقل: يستأذن عمر بن الخطاب ـ ولا تقل: أمير المؤمنين فإني لست اليوم بأمير المؤمنين ـ أن يدفن مع (صاحبيه). فأتاها عبد الله بن عمر رضي الله عنهما فوجدها قاعدة تبكي فسلَّم ثم قال: يستأذن عمر بن الخطاب أن يُدفن مع (صاحبيه). قالت: قد كنت ـ والله ـ أريده لنفسي، ولأوثرنَّه اليوم على نفسي. فلما جاء قال: ما لديك؟ قال: أذنت لك. فقال عمر: ما كان شيء بأهمَّ عندي من ذلك، ثم قال؛ إذا أنا متُّ فاحملوني على سريري، ثم استأذن فقل: يستأذن عمر بن الخطاب، فإن أذنت لك فأدخلني وإن لم تأذن فردَّني إلى مقابر المسلمين.(2/73)
فلا حُمل كأنَّ الناس لم تصبهم مصيبة إلا يومئذٍ، فسلَّم عبد الله بن عمر، فقال: يستأذن عمر بن الخطاب فأذنت له (فدفن رحمه الله) حيث أكرمه (الله مع النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر). فقالوا له حين حضره الموت: إستخلف، فقال: لا أجد أحداً أحقّ بهذا الأمر من هؤلاء النفر الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راضٍ، فأيهم إستخلفوا فهو الخليفة بعدي، فسمَّى علياً، وعثمان، وطلحة، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وسعداً ـ رضي الله عنهم ـ فإن أصابت الإِمرة سعداً فذاك، وإلا فأيُّهم إستخلف فليستعن به، فإني لم أنزعه عن عجز ولا خيانة، وجعل عبد الله يشاورونه معهم وليس له من الأمر شيء. إجتمعوا قال عبد الرحمن بن عوف: إجعلوا أمركم إلى ثلاثة نفر، فجعل الزبير أمره إلى عليٌّ، وجعل طلحة أمره إلى عثمان، جعل سعد أمره إلى عبد الرحمن. فأتمر أولئك الثلاثة حين جُعل الأمر لهم. فقال عبد الرحمن: أيكم يتبرأ من الأمر، ويجعل الأمر ليّ؟ ولكم الله عليَّ أن لا آلو عن أفضلكم وخيركم للمسلمين. قالا: نعم، فخَلا بعليِّ فقال: إن لك من القرابة من رسول الله صلى الله عليه وسلم والتقدم، ولي الله عليك لئن أستُخلف لتعدلنَّ ولئن إستخلفتُ عثمان لتسمعنَّ ولتطيعنَّ. قال: نعم. وخلا بعثمان فقال له مثل ذلك، فقال عثمان؛ نعم. ثم قال لعثمان: إبسط يدك يا عثمان، فبسط يده، فبايعه وبايعه عليٌّ والناس.
وصية عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لولي الأمر من بعده :
أخرج ابن أبي شيبة، وأبو عُبَيد في الأموال، أبو يَعْلى، والنِّسائي، وابن حِبّان، والبيهقي عن عمر رضي الله عنه أنه قال:(2/74)
"أُوصي الخليفة بعدي بالمهاجرين الأوَّلين أن يعلم لهم حقَّهم، ويحفظ لهم حرمتهم. وأوصيه بالأنصار الذين تبوؤا الدار والإِيمان من قبلهم؛ أن يقبل من محسنهم، وأن يعفو عن مسيئهم. وأوصيه بأهل الأمصار خيراً، فإنَّهم رِدْء الإِسلام، وجُباة الأموال، وغَيْظ العدو، وأن يأخذ منهم إلا فضلهم عن رضاهم، وأوصيه بالأعراب خيراً فإنهم أصل العرب ومادة الإِسلام؛ أن يأخذ من حواشي أموالهم فيرد على فقرائهم. وأوصيه بذمّة الله وذمّة رسوله أن يوفي لهم بعهدهم، وأن يقاتل من ورائهم، ولا يكلَّفهم إلا طاقتهم".
كذا في المنتخب .
وأخرج ابن سعد ، وابن عساكر عن القاسم بن محمد قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "ليَعْلم من وُلِّيَ هذا الأمر من بعدي أنْ سَيريدُه عنه القريبُ والبعيدُ، إني لأقاتل الناس عن نفسي قتالاً، ولو علمتُ أنَّ أحداً من الناس أقوى عليه مني لكنت أُقدَّمُ فتُضربُ عنقي أَحبُّ إليَّ من أن أَليَه". كذا في الكنز .
- ثانياً :صورٌ مشرقة من زهد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - :
عمر بن الخطاب هو ثاني الخلفاء الراشدين و أول من تسمى بلقب أمير المؤمنين، كان أزهد الأمة بعد نبيها وبعد أبي بكرٍ الصديق ، لقد فهم عمر ابن الخطاب رضي الله عنه رضي الله عنه من خلال معايشته للقرآن الكريم، ومصاحبته للنبي الأمين صلى الله عليه وسلم ومن تفكره في هذه الحياة بأن الدنيا دار اختبار وابتلاء، وعليه فإنها مزرعة للآخرة، ولذلك تحرر من سيطرة الدنيا بزخارفها، و زينتها، وبريقها، وطلقها ثلاثة ونفض يديه منها ، وخضع وانقاد وأسلم نفسه لربه ظاهرا وباطنا، فكانت الدنيا في يده ولم تقترب من قلبه الشريف ، وقد وصل إلى حقائق استقرت في قلبه ساعدته على الزهد في هذه الدنيا ومن هذه الحقائق ما يلي :(2/75)
(1) اليقين التام بأننا في هذه الدنيا أشبه بالغرباء، أو عابري سبيل كما قال النبى صلى الله عليه وسلم: كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ .
( حديث بن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح البخاري ) قال:أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل). وكان ابن عمر يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك.
(2) أن هذه الدنيا لا وزن لها ولا قيمة عند رب العزة إلا ما كان منها طاعة لله تبارك وتعالى :
( حديث سهل بن سعد رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء .
( حديث أبي هريرة في صحيح ابن ماجة ) أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه وعالماً أو متعلما .
(3) أن عمرها قد قارب على الانتهاء :
( حديث أنس رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : بعثت أنا والساعة كهاتين قال وضم السبابة والوسطى .
(4) أن الآخرة هى الباقية، وهى دار القرار :
كما قال مؤمن آل فرعون:
( يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ * مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ ) [ غافر: 39 ، 40]
كانت هذه الحقائق قد استقرت في قلب أبي بكر، فترِفَّع رضي الله عنه عن الدنيا وحطامها وزهد فيها،
وهاك بعض صور زهده رضي الله عنه :(2/76)
- يتجلى زهد الفاروق عمر رضي الله عنه في إنفاقه للمال في سبيل الله تعالى : فقد وَعَى حقيقة الزهد بحذافيره وأيقن أن الزهد ليس بأن لا تملك المال بل الزهد أن تملك الدنيا كلها لكنها تكون في يدك وليست في قلبك ، كانت الدنيا في يده ولم تقترب من قلبه الشريف رضي الله عنه فكان آيةً في الجود والسخاء والبذل والإنفاق في سبيل الله تعالى ، ويتجلى ذلك في المواقف الآتية :
(1) إنفاقه نصف ماله في غزوة تبوك :
علم النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه كيف ينفقون الأموال وما أعطاهم الله تبارك وتعالى في سبيل الله ومواقع رضاء الله، وكيف كان ذلك أحبَّ إليهم من الإِنفاق على أنفسهم، وكيف كانوا يُؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة . وقد ضرب الفاروق عمر أروع المثل في ذلك يوم أنفق نصف ماله .
حث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصحابة في غزوة تبوك على الإنفاق بسبب بعدها، وكثرة المشركين فيها، ووعد المنفقين بالأجر العظيم من الله، فأنفق كل حسب مقدرته وكان عثمان - رضي الله عنه - صاحب القدح المعلى في الإنفاق في هذه الغزوة (1) .
وتصدق عمر بن الخطاب بنصف ماله وظن أنه سيسبق أبابكر بذلك ونترك الفاروق يحدثنا بنفسه عن ذلك .
( حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه الثابت في صحيحي أبي داوود و الترمذي ) قال : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما أن نتصدق ، فوافق ذلك مالا عندي فقلت: اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يوما ، فجئت بنصف مالي ، فقال [ لي ] رسول الله صلى الله عليه وسلم: "" ما أبقيت لأهلك ؟ "" فقلت: مثله ، قال: وأتى أبو بكر [ رضي الله عنه ] بكل ما عنده ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "" ما أبقيت لأهلك ؟ "" قال: أبقيت لهم الله ورسوله قلت: لا أسابقك إلى شىء أبدا .
[*] قال صاحب تحفة الأحوذي :
قَوْلُهُ: ( أَنْ نَتَصَدَّقَ ) أَيْ: فِي بَعْضِ الْجِهَاتِ
__________
(1) السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، ص615.(2/77)
( وَوَافَقَ ذَلِكَ عِنْدِي مَالًا ) أَيْ: صَادَفَ أَمْرُهُ بالتَّصَدُّقِ حُصُولَ مَالٍ عِنْدِي، فَعِنْدِي حَالٌ مِنْ مَالٍ، وَالْجُمْلَةُ حَالٌ مِمَّا قَبْلَهُ يَعْنِي: وَالْحَالُ أَنَّهُ كَانَ لِي مَالٌ كَثِيرٌ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ
( الْيَوْمَ أَسْبِقُ أَبَا بَكْرٍ من مناقبه ) أَيْ: بِالْمُبَارَزَةِ، أَوْ بِالْمُبَالَغَةِ
( إِنْ سَبَقْتُهُ يَوْمًا ) أَيْ: مِنَ الْأَيَّامِ وَإِنْ شَرْطِيَّةٌ دَلَّ عَلَى جَوَابِهَا مَا قَبْلَهَا، أَوِ التَّقْدِيرُ إِنْ سَبَقْتُهُ يَوْمًا فَهَذَا يَوْمُهُ، وَقِيلَ: إِنْ نَافِيَةٌ أَيْ: مَا سَبَقْتُهُ يَوْمًا قَبْلَ ذَلِكَ فَهُوَ اسْتِئْنَافُ تَعْلِيلٍ ( قَالَ ) أَيْ: عُمَرُ ( قُلْتُ مِثْلَهُ ) أَيْ: أَبْقَيْتُ مِثْلَهُ يَعْنِي نِصْفَ مَالِهِ
( بِكُلِّ مَا عِنْدَهُ ) أَيْ: مِنَ الْمَالِ ( اللَّهَ وَرَسُولَهُ ) مَفْعُولُ: أَبْقَيْتُ أَيْ: رِضَاهُمَا
(لا أسابقك إلى شىء أبدا) أَيْ: مِنَ الْفَضَائِلِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى مُغَالَبَتِهِ حِينَ كَثْرَةِ مَالِهِ وَقِلَّةِ مَالِ أَبِي بَكْرٍ فَفِي غَيْرِ هَذَا الْحَالِ أَوْلَى أَنْ لَا يَسْبِقَهُ.أهـ
كان فعل عمر فيما فعله من المنافسة والغبطة مباحاً ولكن حال الصديق - رضي الله عنه - أفضل منه لأنه خال من المنافسة مطلقاً ولا ينظر إلى غيره (1) .
(2) جعل أنفس ماله وقفاً لله تعالى :
__________
(1) الفتاوى لابن تيمية (10/72،73).(2/78)
( حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح البخاري ): أن عمر بن الخطاب أصاب أرضا بخيبر، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم يستأمره فيها، فقال: يا رسول الله، إني أصبت أرضا بخيبر، لم أصب مالا قط أنفس عندي منه، فما تأمر به؟ قال: (إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها). قال: فتصدق بها عمر: أنه لا يباع ولا يوهب ولا يورث، وتصدق بها في الفقراء، وفي القربى، وفي الرقاب، وفي سبيل الله، وابن السبيل، والضيف، لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف، ويطعم غير متمول.
هذا الموقف العمري فيه فضيلة ظاهرة للفاروق رضي الله عنه ورغبته في المسارعة للخيرات، وإيثاره الحياة الآخرة على الحياة الفانية.
[*] عن نافع قال: سمعت ابن عمر رضي الله عنهما يقول: (والله ما شمل النبي صلى الله عليه وسلم في بيته ولا خارج بيته ثلاثة أثواب، ولا شمل أبا بكر في بيته ثلاثة أثواب، غير أني كنت أرى كساهم إذا أحرموا، كان لكل واحد منهم مئزر ومشمل لعلها كلها بثمن درع أحدكم، والله لقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يرقع ثوبه، ورأيت أبا بكر تخلل بالعباءة، ورأيت عمر يرقع جبته برقاع من أدم وهو أمير المؤمنين، وإني لأعرف في وقتي هذا من يجيز المائة، ولو شئت لقلت ألفاً ["تاريخ عمر بن الخطاب" لابن الجوزي ص102].
[*] وقالت حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنهما لعمر: يا أمير المؤمنين لو لبسْتَ ثوباً هو ألين من ثوبك، وأكلت طعاماً هو ألين من طعامك، وقد وسَّع الله من الرزق وأكثر من الخير، فقال: إني سأخصمك إلى نفسك، ألا تذكرين ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقى من شدة العيش ؟ فما زال يُذكِّرها حتى أبكاها، فقال لها: أما والله لئن استطعتُ لأشاركهما في مثل عيشهما الشديد لعلِّي أدرك معهما عيشهما الرخي ["تاريخ عمر بن الخطاب" لابن الجوزي ص104 ](2/79)
[*] وعن قتادة رضي الله عنه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أبطأ عن الناس يوم الجمعة، قال: ثم خرج فاعتذر إليهم في احتباسه وقال: إنما حبسني غسل ثوبي هذا، كان يُغسل ولم يكن لي ثوب غيره) ["تاريخ عمر بن الخطاب" ص102].
[*] يقول طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه.
ما كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه بأولنا إسلامًا، ولا أقدمنا هجرة، ولكنه كان أزهدنا في الدنيا، وأرغبنا في الآخرة.
[*] ويقول سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه:
والله ما كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه أقدمنا هجرة وقد عرفت بأي شيء فَضَلنا، كان أزهدنا في الدنيا.
[*] روى ابن الجوزي ان اعرابيا اتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأنشده:
يا عمر الخير رزقت الجنة... اكس بنياتي وامهنه
وكن لهم من الزمن جنة ... اقسم بالله لتفعلنه
فأجاب عمر : "فان لم أفعل يكون ماذا؟:قال اذا ابا حفص لأمضينه
فقال عمر: " فان مضيت يكون ماذا؟ " فقال الاعرابي :
تكون عن حالي لتسالنه ......يوم تكون الاعطيات منة
وموقف المسئول عندهنه ........... اما الى النار واما جنة
فبكى عمر حتى بلت دموعه لحيته ثم قال لغلامه : " يا غلام اعطه قميصي هذا لموقف ذلك اليوم لا لشعره أما والله اني لا املك غيره".
اليكم هذه الابيات التي تبين زهد الخيلفة العادل عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعن الصحابة أجمعين:
إن جاع في شدة قومٌ شركتهم ... في الجوع أو تنجلي عنهم غواشيها
جوع الخليفة و الدنيا بقبضته ... في الزهد منزلة سبحان موليها
فمن يباري أبا حفص و سيرته ... أو من يحاول للفاروق تشبيها
يوم اشتهت زوجه الحلوى فقال لها ... من أين لي ثمن الحلوى فأشريها
لا تمتطي شهوات النفس جامحة ... فكسرة الخبز عن حلواك تجزيها
و هل يفي بيت مال المسلمين بما ... توحي إليك إذا طاوعت موحيها
قالت لك الله إني لست أرزؤه ... مالا لحاجة نفس كنت أبغيها
لكن أجنب شيأ من وظيفتنا ... في كل يوم على حال أسويها
حتى إذا ما ملكنا ما يكافئها ... شريتها ثم إني لا أثنيها(2/80)
قال اذهبي و اعلمي إن كنت جاهلة ... أن القناعة تغني نفس كاسيها
و أقبلت بعد خمس و هي حاملة ... دريهمات لتقضي من تشهيها
فقال نبهت مني غافلا فدعي ... هذي الدراهم إذ لا حق لي فيها
ويلي على عمر يرضى بموفية ... على الكفاف و ينهى مستزيدها
ما زاد عن قوتنا فالمسلمين به ... أولى فقومي لبيت المال رديها
كذاك أخلاقه كانت و ما عهدت ... بعد النبوة أخلاق تحاكيها(2/81)
[*] قال الحسن البصري رحمه الله تعالى : أتيت مجلساً في جامع البصرة، فإذا أنا بنفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يتذاكرون زهد أبي بكر وعمر وحُسن سيرتهما، وما فتح الله عليهما من الخير، قال الحسن: فدنوت من القوم، فإذا فيهم الأحنف بن قيس، فسمعته يقول: أخرجنا عمر بن الخطاب في سرية إلى العراق، ففتح الله علينا العراق وبلاد فارس، فاكتسينا من أقمشتها الجميلة وثيابها الناعمة المترفة، ثم قدمنا المدينة المنورة، فلما دخلنا على عمر بن الخطاب أعرض عنا بوجهه، وجعل لا يكلمنا، فاشتد ذلك على أصحاب النبي الكريم منا، قال الأحنف: فأتينا عبد الله بن عمر، وهو جالس في المجلس، فشكونا ما نزل بنا من الجفاء والإعراض من أمير المؤمنين عمر، فقال ابنه عبد الله أن أمير المؤمنين رأى عليكم لباساً ناعماً مترفاً، لم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبسه، ولا الخليفة من بعده أبو بكر، فهذا سبب إعراضه عنكم، وجفوته لكم، قال الأحنف: فأتينا منازلنا، فنزعنا ما كان علينا من ثياب، وأتينا عمر في البزة وفي الثياب الخشنة التي كان يعهدنا فيها، فلما دخلنا عليه ورآنا، قام لنا فرحاً مستبشراً وسلم علينا رجلاً رجلاً، وعانقنا رجلاً رجلاً، حتى كأنه لم يرنا قبل ذلك، فقدمنا إليه الغنائم، فقسمها بيننا بالسوية، وكان من بينها أنواع الحلويات الفاخرة فذاقها عمر، فوجدها لذيذة الطعم، طيبة الرائحة، فأعرض عنها، ثم أقبل علينا بوجهه وقال: يا معشر المهاجرين والأنصار: والله ليقتلن الابن أباه، والأخ أخاه، على زهرة هذه الحياة الدنيا، ثم أمر عمر، بتلك المجامع من الحلويات، أن توزع على أبناء الشهداء والأيتام، ثم إن عمر قام منصرفاً، فمشى وراءه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم لبعض: ألا ترون يا معشر المهاجرين والأنصار إلى زهد هذا الرجل وإلى حليته؟ لقد تقاصرت إلينا أنفسنا، منذ فتح الله على يديه، ديار كسرى وقيصر، وطرفي المشرق والمغرب، فها هي(2/82)
وفود العرب والعجم يأتونه، فيرون عليه هذه الجبة العتيقة قد رقعها اثنتي عشرة رقعة، فلو سألتموه تغييرها واستبدالها بثوب لين يهاب فيه منظره .
وأن يبدل طعامه الخشن الرخيص، بطعام مترف لذيذ، فقال القوم: ليس لتحقيق هذه المهمة، وتنفيذ هذا الغرض، إلا علي بن أبي طالب، فإنه أجرأ الناس عليه، فعرضوا الأمر على علي كرم الله وجهه فأبى، ولكن قال لهم: عليكم بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم، فإنهن أمهات المؤمنين، يجترئن عليه، ولعلهن يستطعن أن يعدلن رأيه.
قال الأحنف بن قيس فسألوا عائشة وحفصة وكانتا مجتمعتين، فقالت عائشة: إني سائلة أمير المؤمنين ذلك، وقالت حفصة ما أرى أمير المؤمنين يحقق لنا رغبتنا وينفذ طلبتنا، ثم دخلتا على عمر أمير المؤمنين، فاحتفل بهما وأدنا إليه مجلسهما، فقالت عائشة: يا أمير المؤمنين أتأذن لي في الكلام معك؟ قال: تكلمي يا أم المؤمنين، قالت: إن النبي الكريم مضى لسبيله، إلى جنة ربه ورضوانه، لم يرد الدنيا ولم ترده، وكذلك مضى أبو بكر على أثره لسبيله، بعد أن أحيا سنن النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، وبعد أن قاتل المكذبين، وأدحض حجة المبطلين مع عدله في الرعية، وقسمه بالسوية، وإرضائه رب البرية، ثم قبضه الله إلى رحمته ورضوانه، وألحقه بنبيه في الملأ الأعلى، لم يرد الدنيا ولم ترده، وأما أنت يا أمير المؤمنين، فقد فتح الله على يديك كنوز كسرى وقيصر، ودانت لك أطراف المشرق والمغرب، ونرجو لك وللمسلمين من الله المزيد، وها هي رسل العجم يأتونك، ووفود العرب يردون، وعليك هذه الجبة الخلقة، وقد رقعتها اثنتي عشرة رقعة، فلو غيرتها بثوب لائق جميل، يهاب فيه منظرك، ولو استبدلت طعامك الخشن، بطعام طيب لذيذ، ليقوى بدنك، وينشط جسدك على حمل أعباء الأمة والرعية.(2/83)
فما أتمت عائشة كلامها حتى بكى عمر بن الخطاب بكاءً شديداً. ثم قال يا عائشة، سألتك بالله، هل تعلمين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، شبع من خبز بر ثلاثة أيام؟ أو جمع بين عشاء وغذاء في يوم واحد حتى لقي الله؟ قالت عائشة لا.
قال يا عائشة. هل تعلمين أن النبي صلى الله عليه وسلم لبس جبة من الصوف. ربما حك جلده من خشونتها؟
أتعلمان ذلك يا عائشة ويا حفصة؟ قالتا: اللهم نعم، قال: يا عائشة هل تعلمين أن النبي صلى الله عليه وسلم، كان فراشه الذي ينام عليه عباءة، تمد له على طاق واحد؟ أما كان جلد في بيتك يا عائشة، كان لكم في النهار بساطاً، وفي الليل فراشاً؟ وكنا ندخل على النبي الكريم، فنرى أثر الحصير على جنبه .
ثم التفت عمر إلى حفصة ابنته، أم المؤمنين، فقال لها: ألم تحدثيني يا حفصة أنك ثنيت للنبي صلى الله عليه وسلم عباءته ذات ليلة لينام عليها؟ فوجد لينها فنام ولم يستيقظ إلا بأذان بلال. فقال لك يا حفصة ماذا صنعت أثنيت العباءة والمهاد ليلتي هذه، حتى ذهب بي النوم إلى الصباح؟ مالي وللدنيا، وكيف شغلتموني بلين العباءة عن مناجاة ربي؟ يا حفصة أما تعلمين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مغفوراً له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. وكان يمضي جائعاً، ويرقد لله ذاكراً، ولم يزل لله راكعاً وساجداً وباكياً ومتضرعاً، آناء الليل وأطراف النهار، إلى أن قبضه الله إلى رحمته ورضوانه؟ فلا أكل عمر طيباً، ولا لبس ليناً، إنما مثلي ومثل صاحبيَّ قبلي كثلاثة نفر سلكوا طريقاً، فمضى الأول وقد تزود زاداً فبلغ، ثم أتبعه الآخر فسلك طريقه فأفضى ووصل إليه، ثم أتبعهما الثالث، فإن سلك طريقهما ورضي بزادهما لحق بهما وكان معهما، وإن سلك غير طريقهما لم يصل إليهما ولم يجتمع بهما .
فلما سمعت حفصة وعائشة من عمر ما سمعتا، رجعتا إلى الصحابة وأخبرتهم بما سمعتا، ولم يزل عمر على تلك الحال حتى لقي ربه .(2/84)
ومن الصور المشرقة لزهد عمر - رضي الله عنه - ما أخرج ابن عبد الحكم عن أبي صالح الغِفاري قال: كتب عمرو بن العاص إلى عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ: إنا قد خَططْنا لك داراً عند المسجد الجامع. فكتب إليه عمر: إنَّى لرجل من الحجاز تكون له دار بمصر، وأمره أن يجعلها سوقاً للمسلمين. كذا في الكنز .
من الصور المشرقة لزهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه رغبة بعض الصحابة بزيادة رزق عمر ورفضه ذلك :
وأخرج الطبري عن سالم بن عبد الله قال: لما ولي عمر رضي الله عنه قعد على رزق أبي بكر رضي الله عنه الذي كانوا فرضوا له، فكان بذلك فاشتدت حاجته، فاجتمع نفر من المهاجرين منهم: عثمان، وعلي، وطلحة، والزبير رضي الله عنهم. فقال الزبير؛ لو قلنا لعمر في زيادة نزيدها إياه في رزقه، فقال علي؛ وددنا قَبل ذلك، فانطلقوا بنا، فقال عثمان: إنّه عمر فهلُّموا فلنستبرىء ما عنده من وراء، نأتي حفصة فنسأله ونستكتمها. فدخلوا عليها وأمروها أن تخبر بالخبر عن نفر ولا تسمِّي له أحداً إلا أن يقبل، وخرجوا من عندها.(2/85)
فلقيت عمر في ذلك فعرفت الغضب في وجهه، وقال: من هؤلاء؟ قالت: لا سبيل إلى علمهم حتى أعلم رأيك، فقال: لو علمت من هم لسؤت وجوههم، أنت بيني وبينهم، أنشدك بالله: ما أفضل ما اقتنى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتك من الملبس؟ قالت؛ ثوبين مُمَشَّقين كان يلبسهما للوفد ويخطب فيهما للجمع. قال: فأيُّ الطعام ناله عندك أرفع ؟ قالت: خبزنا خبزة شعير فصببنا عليها وهي حارة أسفل عُكَّة لنا، فجعلناها هشَّة دسمة، فأكل منها وتطعَّم منها إستطابة لها. قال: فأيُّ مبسط كان يبسطه عندك كان أوطأ؟ قالت: كساء لنا ثخين كنا نربِّعه في الصيف فنجعله تحتنا، فإذا كان الشتاء بسطنا نصفه وتدثَّرنا بنصفه. قال: يا حفصة، فأبلغيهم عني أن رسول الله قَدَّر فوضع الفُضول مواضعها وتبلغ بالتزجية، وإني قدرت فو الله وضعنَّ الفُضول مواضعها لأتبلغنَّ بالتزجية، وإنما مثلي ومثل صاحبيَّ كثلاثة سلكوا طريقاً، فمضى الأول وقد تزود زاداً فبلغ ثم اتَّبعه الآخر فسلك طريقه فأفضى إليه، ثم اتَّبعه الثالث فإن لزم طريقهما ورضي بزادهما لحق بهما وكان معهما، وإن سلك غير طريقهما لم يجامعهما. وأخرجه أيضاً ابن عساكر عن سالم بن عبد الله فذكر نحوه، كما في منتخب الكنز .(2/86)
وأخرج ابن عساكر عن الحسن البصري قال: أتيت مجلساً في جامع البصرة، فإذا أنا بنفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتذاكرون زهد أبي بكر، وعمر رضي الله عنهما وما فتح الله عليهما من الإِسلام وحسن سيرتهما، فدنَوت من القوم، فإذا فيهم الأحنف بن قيس التميمي رضي الله عنه (جالس) معهم، فسمعته يقول: أخرَجنا عمر بن الخطاب في سرية إلى العراق ففتح الله علينا العراق وبلد فارس، فأصبنا فيها من بياض فارس، وخراسان، فجعلناه معنا واكتسينا منها. فلما قدمنا على عمر أعرض عنا بوجهه وجعل لا يكلمنا، فاشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتينا إبنه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وهو جالس في المسجد، فشكونا إليه ما نزل بنا من الجفاء من أمير المؤمنين عمر بن الخطاب؛ فقال عبد الله: إن أمير المؤمنين رأى عليكم لباساً لم يرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبسه ولا الخليفة من بعده أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فأتينا منازلنا فنزعنا ما كان علينا وأتيناه في البِزة التي كان يعهدنا فيها، فقام يسلم علينا على رجل رجل، ويعانق منَّا رجلاً رجلاً؛ حتى كأنه لم يرنا قبل ذلك، فقدَّمنا إليه الغنائم فقسمها بيننا بالسوية، فعُرض عليه في الغنائم سلال من أنواع الخبيص من أصفر وأحمر، فذاقه عمر فوجده طيبَ الطعم طيبَ الريح، فأقبل علينا بوجهه وقال: والله يا معشر المهاجرين والأنصار ليقتلن منكم الابن أباه والأخ أخاه على هذا الطعام ثم أمر به فحُمل إلى أولاد من قُتلوا بين يديّ رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار.(2/87)
ثم إنَّ عمر قام منصرفاً فمشى وراءه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في أثره، فقالوا: ما ترون يا معشر المهاجرين والأنصار إلى زهد هذا الرجل وإلى حِلْيته؟ لقد تقاصرت إِلينا أنفسنا مذ فتح الله على يديه ديار كسرى وقيصر، وطرفي المشرق والمغرب، ووفود العرب والعجم يأتونه فيَرون عليه هذه الجبَّة وقد رقعها إثنتي عشرة رقعة، فلو سأَلتم معاشر أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ـ وأنتم الكبراء من أهل المواقف والمشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم والسابقين من المهاجرين والأنصار ـ يغير هذه الجبة بثوب ليِّن يُهاب فيه منظره، ويُغدَى عليه بجفنة من الطعام، ويُراح عليه بجفنة يأكله ومن حضره من المهاجرين والأنصار. فقال القوم بأجمعهم: ليس لهذا القول إلا علي بن أبي طالب فإنه أجرأ الناس عليه وصهره على إبنته، أو إبنته حفصة فإنها زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مُوجب لها لموضعها من رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلموا علياً، فقال عليٌّ: لست بفاعل ذلك، ولكن عليكم بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم فإنهن أمهات المؤمنين يجترئن عليه.(2/88)
قال الأحنف بن قيس: فسألوا عائشة وحفصة رضي الله عنهما وكانتا مجتمعتين. فقالت عائشة: إني سائلة أمير المؤمنين ذلك، وقالت حفصة: ما أراه يفعل وسيبِينُ لك ذلك. فدخلتا على أمير المؤمنين فقرَّبهما وأدناهما، فقالت عائشة: يا أمير المؤمنين، أتأذن أكلمك؟ قال: تكلَّمي يا أمَّ المؤمنين. قالت: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مضى لسبيله إلى جنته ورضوانه لم يُرد الدنيا ولم تُرده، وكذلك مضى أبو بكر رضي الله عنه على إثره لسبيله بعد إحياء سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقَتَل المكذبين، وأدحض حجة المبطلين بعد عدله في الرعية، وقسمه بالسوية، وإِرضاء رب البرية، فقبضه الله إلى رحمته ورضوانه وألحقه بنبيه صلى الله عليه وسلم بالرفيع الأعلى لم يرد الدنيا ولم ترده. وقد فتح الله على يديك كنز كسرى وقيصر وديارهما، وحُمل إليك أموالهما ودانت لك أطراف المشرق والمغرب ونرجو من الله المزيد وفي الإِسلام التأييد، ورسل العجم يأتونك ووفود العرب يردون عليك وعليك هذه الجبة قد رقعتها إثنتي عشرة رقعة فلو غيَّرتها بثوب لين يُهاب فيه منظرك، ويُغدى عليك بجفنة من الطعام ويُراح عليك بجفنة تأكل أنت ومن حضرك من المهاجرين والأنصار.(2/89)
فبكى عمر عند ذلك بكاءً شديداً، ثم قال: سألتك بالله هل تعلمين أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم شبع من خبز برَ عشر أيام أو خمسة أو ثلاثة، أو جمع بين عشاء وغداء حتى لحق بالله؟ فقالت: لا، فأقبل على عائشة فقال: هل تعلمين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قُرِّب إليه طعام على مائدة في ارتفاع شبر من الأرض، كان يأمر بالطعام فيوضع على الأرض ويأمر بالمائدة فتُرفع؟ قالتا: اللهمَّ نعم. فقال لهما: أنتما زوجتا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمهات المؤمنين ولكما على المؤمنين حق وعليَّ خاصة؛ ولكن أتيتما ترغِّباني في الدنيا وإِنِّي لأعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لبس جبة من الصوف فربما حك جلده من خشونتها، أتعلمان ذلك؟ قالتا اللهمَّ نعم، فقال: هل تعلمين أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرقد على عباءة على طاقة واحدة وكان مِسْحاً في بيتك يا عائشة، تكون بالنهار بساطاً وبالليل فراشاً، فندخل عليه فنرى أثر الحصير على جنبه؟ ألا يا حفصة أنت حدثتيني أنك ثنيت له ذا ليلة فوجد لينها فرقد فلم يستيقظ إلا بأذان بلال، فقال لك: "يا حفصة ماذا صنعت؟ أَثَنيت المهاد ليلتي حتى ذهب بي النوم إلى الصباح ؟ ما لي وللدنيا وما لي شغلتموني بلين الفراش" يا حفصة أما تعلمين أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مغفوراً له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر، أمسى جائعاً، ورقد ساجداً، ولم يزل راكعاً وساجداً وباكياً ومتضرعاً في آناء الليل والنهار إِلى أن قبضه الله برحمته ورضوانه لا أكل عمر طيباً، ولبس ليِّناً، فله أُسوة بصاحبيه، ولا جمع بين أُدْمين إلا الملح والزيت، ولا أكل لحماً إلا في كل شهر ينقضي ما انقضى من القوم. فخرجتا فخبَّرتا بذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يزل كذلك حتى لحق بالله عزّ وجلّ. كذا في منتخب كنز العمال .
ذم عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - الدنيا أمام أصحابه :(2/90)
وأخرج أبو نعيم في الحلية عن الحسن قال: مرّ عمر رضي الله عنه على مَزبلة فاحتبس عندها، فكأن أصحابه تأذِّوا بها. فقال: هذه دنياكم التي تحرصون عليها ـ أو تتكلون عليها ـ.
كتاب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إلى أبي الدرداء لما ابتنى بدمشق قنطرة :
وأخرج ابن عساكر عن سَلَمة بن كلثوم أن أبا الدرداء رضي الله عنه إبتنى بدمشق قنطرة، فبلغ ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو بالمدينة، فكتب إليه: يا عُويمر بن أم عويمر، أما كان لك في بنيان فارس، والروم ما يكفيك حتى تبني البنيانات؟ وإِنما أنتم يا أصحاب محمد قدوة. وعنده أيضاً وهَنَّاد والبيهقي عن راشد بن سعد قال: بلغ عمر أنَّ أبا الدرداء ـ رضي الله عنه ـ ابتنى كنيفاً بحمص، فكتب إليه: أما بعد: يا عُويمر، أما كنت لك كفاية فيما بَنَت الروم عن تزيين الدنيا وقد أمر الله بخرابها كذا في كنز العمال . وأخرجه أبو نُعيم في الحلية عن راشد بن سعد مثله، وزاد بعد قوله تزيين الدنيا: وتجديدها وقد آذن الله بخرابها، إذا أتاك كتابي هذا فانتقل من حمص إلى دمشق. قال سفيان: عاقبه بهذا.
كتاب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إِلى عمرو بن العاص - رضي الله عنه - في هدم غرفة خارجة بن حذافة :
وأخرج ابن عبد الحكم عن يزيد بن أبي حبيب قال: أول من بنى غرفة بمصر خارجة بن حذافة رضي الله عنه، فبلغ ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فكتب إلى عمرو بن العاص رضي الله عنه:
سلام، أما بعد فإنه بلغني أن خارجة بن حذافة بني غرفة، ولقد أراد خارجة أن يطَّلع على عورات جيرانه، فإذا أتاك كتابي هذا فاهدمها إِن شاء الله، والسلام".
كذا في الكنز .
أم طلق ووصية عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - :(2/91)
وأخرج بن سعد، والبخاري في الأدب عن عبد الله الرومي قال: دخلتُ على أمِّ طَلْق بيتها، فإذا سقف بيتها قصير، فقلت: ما أقصر سقف بيتك يا أم طَلْق؟ قالت: يا بنيّ إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إِلى عماله أن لا تطيلوا بناءكم؛ فإن شر أيامكم يوم تُطيلون بناءكم. كذا في الكنز .
كتابه إِلى سعد حين استأذنه في بناء بيت :
وأخرج بن أبي الدنيا، والدِينَوَري عن سفيان بن عُيَينة قال: كتب سعد بن أبي وقاص إلى عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنهما ـ وهو على الكوفة يستأذنه في بناء بيت يسكنه، فوقَّع في كتابه: ابن ما يسترك من الشمس، ويكنّك من الغيث، فإن الدنيا دار بُلْغة. وكتب إلى عمر بن العاص رضي الله عنه وهو على مصر: كان لرعيتك كما تحب أن يكون لك أميرك. كذا في منتخب الكنز .
إِنكار عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - على رجل بني بالآجر :
وأخرج أبو نُعيم في الحلية عن سفيان قال: بلغ عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رجلاً بنى بالآجر فقال: ما كنت أحسب أنَّ في هذه الأمة مثل فرعون قال: يريد قوله: "فأوقد لي يا هامانُ على الطين فاجعل لي صَرْحاً".
زهد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في الأكل :
أخرج عبد الرزاق، وابن عساكر عن عكرمة بن خالد أنَّ حفصة، وابن مطيع، وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم كلَّموا عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقالوا: لو أكلت طعاماً طيِّباً كان أقوى لك على الحق، فقال: قد علمت أنه ليس منكم إلا ناصح، ولكني تركت صاحبيَّ ـ يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر رضي الله عنه ـ على جادّة فإنْ تركت جادتهما لم أدركهما في المنزل. كذا في منتخب الكنز .(2/92)
وأخرج ابن سعد عن أبي أمامة بن سهل بن حُنَيف رضي الله عنهما قال: مكث عمر رضي الله عنه زماناً طويلاً لا يأكل من المال شيئاً حتى دخلت عليه في ذلك خَصاصة، وأرسل إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستشارهم، فقال: قد شغلت نفسي في هذا الأمر فما يصلح لي منه. فقال عثمان بن عفان رضي الله عنه: كل وأطعم. وقال ذلك سعيد بن (زيد بن) عمرو بن نفيل رضي الله عنه، وقال: لعلي رضي الله عنه: ما تقول أنت في ذلك؟ قال: غداء وعشاء. فأخذ بذلك عمر. كذا في منتخب الكنز .
وأخرج عبد بن حُمَيد وابن جرير عن قتادة رضي الله عنه قال: ذُكر لنا أنَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يقول: لو شئت كنت أطيبكم طعاماً، وألينكم لباساً، لكن أستبقي طيباتي. وذُكر لنا أنَّ عمر بن الخطاب لمَّا قدم الشام صُنع له طعام لم يَرَ قبله مثله، قال: هذا لنا، فما لفقراء المسلمين الذين ماتوا وهم لا يشبعون من خبز الشعير؟ فقال عمر بن الوليد: لهم الجنة، فاغرورقت عَينا عمر وقال: لئن كان حظُّنا من هذا الحطام وذهبوا بالجنة لقد بانوا بَوْناً عظيماً. كذا في المنتخب .
وأخرج ابن سعد عن أنس رضي الله عنه قال: رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو يومئذٍ أمير المؤمنين يُطرح له صاع من تمر فيأكلها حتى يأكل حشفها. وعن السائب بن يزيد قال: ربما تعشَّيت عند عمر بن الخطاب فيأكل الخبز واللحم، ثم يمسح يده على قدمه، ثم يقول: هذا منديل عمر وآل عمر. وعند الدينوَرَي عن ثابت قال: أكل الجارود عند عمر بن الخطاب فلما فرغ قال: يا جارية هلمِّي الدستار ـ يعني المنديل يمسح يده ـ فقال عمر: إمسح يدك بإستِك.(2/93)
وأخرج أبو نعيم في الحلية عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: قدم على عمر رضي الله عنه ناس من أهل العراق فرأى كأنهم يأكلون تعذيزاً، فقال هذا يا أهل العراق، لو شئت أن يُدَهْمق لي كما يُدَهمق لكم؛ ولكنا نستبقي من دنيانا نجده في آخرتنا، أما سمعتم الله عزّ وجلّ قال لقوم: { أَذْهَبْتُمْ طَيّبَاتِكُمْ فِى حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا } (الأحقاف: 20)؟.
وعنده أيضاً وهنَّاد عن حبيب بن أبي ثابت عن بعض أصحابه عن عمر رضي الله عنه أنه قدم عليه ناس من أهل العراق فيهم جرير بن عبد الله رضي الله عنه فأتاهم بجفنة قد صنعت بخبز وزيت، فقال لهم: خذوا، فأخذوا أخذاً ضعيفاً، فقال لهم عمر: قد أرى ما تفعلون، فأي شيء تريدون؟ أحلواً وحامضاً وحاراً وبارداً، ثم قَذْفاً في البطون كذا في منتخب الكنز .
وأخرج ابن سعد وعبد بن حُمَيد عن حُمَيد بن هلال أنَّ حفص بن أبي العاص رضي الله عنه كان يحضر طعام عمر رضي الله عنه وكان لا يأكل، فقال له عمر: ما يمنعك من طعامنا؟ قال: إن طعامك خشن غليظ، وإني راجع إلى طعام ليِّن قد صنع لي فأصيب منه. قال: أتراني أعجز أن آمر بشاة فيُلقى عنها شعرها، وآمر بدقيق فينخل في خرقة، ثم آخر به فيخبز خبزاً رُقاقاً، وآمر بصاع من زبيب فيقذف في سُعْن، ثم يُصبُّ عليه من الماء فيصبح كأنه دم غزال؟ فقال حفص: إني لأراك عالماً بطيِّب العيش. فقال عمر: أجل، والذي نفسي بيده لولا كراهية أن ينقص من حسناتي يوم القيامة لشاركتكم في (ليِّن) عيشكم. كذا في منتخب الكنز .(2/94)
وعند أبي نُعيم في الحلية عن سالم عبد الله أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يقول: والله ما نعبأ بلذت العيش، أن نأمر بصغار المِعزى فتُسمط لنا. ونأمر بلباب الحنطة فيخبز لنا، ونأمر بالزبيب فينتبذ لنا في الأسعان، حيى إذا صار مثل عين اليعقوب أكلنا هذا، وشربنا هذا، ولكنا نريد أن نستبقي طيّباتنا لأنا سمعنا الله تعالى يقول: { أَذْهَبْتُمْ طَيّبَاتِكُمْ فِى حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا } ـ الآية ـ.
إنكار عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - على ابنه عبد الله حين رأى عنده اللحم :
وأخرج عبد الرزاق، وأحمد في الزهد، والعسكري في المواعظ، وابن عساكر عن الحسن قال: دخل عمر على ابنه عبد الله رضي الله عنهم وإنَّ عنده لحماً، فقال: ما هذا اللحم؟ قال: إشتهيت، قال: وكلما اشتهيت شيئاً أكلته؟ كفى بالمرء سَرَفاً أن يأكل كل ما اشتهاه. كذا في منتخب الكنز .
وصية عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ليزيد بن أبي سفيان :
وأخرج ابن المبارك عن سعيد بن جبير قال: بلغ عمر بن الخطاب أن يزيد بن أبي سفيان ـ رضي الله عنهما ـ يأكل ألوان الطعام، فقال لمولى له يقال له يَرْفَأ: إذا علمت أنه قد حضر عشاؤه فأعلمني، فلما حضر عشاؤه أعلمه أتى عمر فسلَّم واستأذن فأذن له فدخل، فقُرِّب عشاؤه، فجاء بثريد ولحم فأكل عمر معه، ثم قُرِّب شواء فبسط يزيد يده وكف عمر، ثم قال عمر: الله يا يزيد بن أبي سفيان أطعام بعد طعام؟ والذي نفس عمر بيده لئن خالفتم عن سنّتهم ليخالَفَنَّ بكم عن طريقهم. كذا في منتخب كنز العمال .
لباس عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ونفقته وبعض سيرته في ذلك :(2/95)
وأخرج الطبري عن عروة قال: لما قدم عمر بن الخطاب رضي الله عنه عنه أيْلة ومعه المهاجرون والأنصار دفع قميصاً له من كرابيس قد انجاب مؤخره عن قعدته من طول السير إلى الأُسقُف، وقال: إغسل هذا وارقعه، فانطلق الأُسقُف بالقميص ورقعه وخاط له آخر مثله، فراح به إلى عمر فقال: ما هذا؟ قال الأُسقْف: أما هذا فقميصك قد غسلته ورقعته، وأما هذه فكسوة لك مني؛ فنظر إليه عمر ومسحه ثم لبس قميصه ورد عليه ذلك القميص، وقال: هذا أنشفهما للعرق. وأخرجه ابن المبارك عن عروة عن عامل لعمر رضي الله عنه بنحوه؛ كما في المنتخب .
وأخرج الدينَوري وابن عساكر عن قتادة رضي الله عنه قال: كنا عمر رضي الله عنه ـ وهو خليفة ـ يلبس جبة من صوف مرقوعة بعضها بأَدَم، ويطوف بالأسواق وعلى عاتقه الدِّرَّة يؤدب الناس ويمر بالنِكث والنوى فيلقطه ويلقيه في منازل الناس لينتفعوا به.
وعند أحمد في الزهد وهَنَّاد، وابن جرير، وأبي نُعيم عن الحسن قال: خطب عمر بن الخطاب رضي الله عنه الناس ـ وهو خليفة ـ وعليه إزار فيه اثنا عشر رقعة. كذا في المنتخب .
وعند مالك عن أنس رضي الله عنه قال: رأيت عمر رضي الله عنه ـ وهو يومئذٍ أمير المؤمنين ـ وقد رقّع بين كتفيه برقاع ثلاث لبَّد بعضها على بعض. كذا في الترغيب .
وأخرج ابن سعد عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان عمر يقوت نفسه أهله، ويكتسي الحلَّة في الصيف، ولربما خُرق الإِزار حتى يرقعه فما يبدل مكانه حتى يأتي الإِبّان، وما من عام يكثر فيه المال إلا كسوته فيما أرى أدنى من العام الماضي؛ فكلَّمَتْه في ذلك حفصة رضي الله عنها فقال: إنما أكتسي من مال المسلمين وهذا يُبَلِّغني. كذا في المنتخب .
إرشاد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - للمرأة التي طلبت الكسوة منه لأن درعها تخَّرق :(2/96)
وأخرج البيهقي عن أنس رضي الله عنه أن امرأة أتت عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقالت: يا أمير المؤمنين إن دِرعي مخرَّق، قال: ألم أكسُك؟ قالت: بلى ولكنه تخرَّق، فدعا لها بدرع نجيب وخيط، وقال لها: البسي هذا ـ يعني الخَلَق ـ إذا خبزت وإذ جعلت البُرمة، والبسي هذا إذا فرغت؛ فإنه لا جديد لمن لا يلبس الخَلَق. كذا في الكنز .
وأخرج ابن سعد عن محمد بن إبراهيم قال: كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يستنفق كل يوم درهمين له ولعياله. كذا في المنتخب .
[*] سيرة عثمان بن عفان - رضي الله عنه - و صورٌ مشرقة من زهده:
وسوف نتناول شيئين أساسيين في هذه السيرة العطرة وهما :
أولاً : لمحات من سيرة عثمان ابن عفان - رضي الله عنه - :
ثانياً : صورٌ مشرقة من زهد عثمان ابن عفان - رضي الله عنه - :
وهاك تفصيل ذلك :
أولاً : لمحات من سيرة عثمان ابن عفان - رضي الله عنه - :
[*] قال عنه الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء :
وثالث القوم القانت ذو النورين، والخائف ذو الهجرتين، والمصلي إلى القبلتين، هو عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه. كان من الذين: اتّقَواْ وَآمَنُواْ ثُمّ اتّقَواْ وّأَحْسَنُواْ ) [ المائدة : 93] فكان ممن هو قانت آناء الليل ساجداً وقائماً يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه. غالب أحواله الكرم والحياء، والحذر والرجاء، حظه من النهار الجود والصيام، ومن الليل السجود والقيام، مبشر بالبلوى، ومنعم بالنجوى.
وقال أيضاً : كان رضي الله تعالى عنه مبشراً بالمحن والبلوى، ومحفوظا فيها من الجزع والشكوى، يتحرز من الجزع بالصبر، ويتبرر في المحن بالشكر، وكان بالمال إلى رضاء الله متوصلاً، وببذله لعباد الله متنفلاً، ولحظ نفسه منه متقللاً، وفي لباسه متعللاً.
- اسم عثمان ابن عفان - رضي الله عنه - ونسبه :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ(2/97)
هو عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي بن كلاب (1) , ويلتقي نسبه بنسب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عبد مناف. وأمه أروى بنت كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي. (2) وأمها أم حكيم البيضاء بنت عبد المطلب، وهي شقيقة عبد الله والد النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ويقال: إنهما ولدا توأما (حكاه الزبير بن بكار)، فكان ابن بنت عمة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - ابن خال والدته. وقد أسلمت أم عثمان وماتت في خلافة ابنها عثمان, وكان ممن حملها إلى قبرها (3) ، وأما أبوه فهلك في الجاهلية .
- كنية عثمان ابن عفان - رضي الله عنه - :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
كان يكنى في الجاهلية أبا عمرو، فلما ولد له من رقية بنت رسول الله غلام سماه عبد الله، واكتنى به، فكناه المسلمون أبا عبد الله (4) .
- لقب عثمان ابن عفان - رضي الله عنه - :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
__________
(1) الطبقات لابن سعد (3/53)، الإصابة (4/377) رقم (5463).
(2) التمهيد والبيان في مقتل الشهيد عثمان، محمد يحيى الأندلسي، ص19.
(3) الخلافة الراشدة والدولة الأموية، د. يحيى اليحيى، ص388.
(4) التمهيد والبيان في مقتل الشهيد عثمان، ص19.(2/98)
كان عثمان - رضي الله عنه - يلقب بذي النورين، وقد ذكر بدر الدين العيني (1) في شرحه على صحيح البخاري، أنه قيل للمهلب بن أبي صفرة (2) : لم قيل لعثمان ذو النورين؟ فقال: لأنا لا نعلم أحدا أرسل سترا على بنتي نبي غيره. (3) وقال عبد الله بن عمر بن أبان الجعفي: قال لي خالي حسين الجعفي: يا بني، أتدري لِمَ سمي عثمان ذا النورين؟ قلت: لا أدري، قال: لم يجمع بين ابنتي نبي منذ خلق الله آدم إلى أن تقوم الساعة غير عثمان، فلذلك سمي ذا النورين. (4) وقيل: سمي بذي النورين لأنه كان يكثر من تلاوة القرآن في كل ليلة في صلاته، فالقرآن نور وقيام الليل نور (5) .
- مولد عثمان ابن عفان - رضي الله عنه - :
ـــ ـــ ـــ ــ ـــ ـــ ـــ ــ ـــ ـــ
ولد في مكة بعد عام الفيل بست سنين على الصحيح (6) ، وقيل: ولد في الطائف، فهو أصغر من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنحو خمس سنين (7) .
- صفة عثمان ابن عفان - رضي الله عنه - الْخَلْقيَّة:
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
__________
(1) هو محمود بن أحمد بن موسى العيني، أبو محمد: من علماء التاريخ والحديث والفقه، له تآليف كثيرة، توفي 855هـ ، انظر: شذرات الذهب (7/286)، والضوء اللامع (10/131).
(2) هو المهلب بن أبي صفرة الأزدي العقلي: من الأمراء الأبطال، غزا المهلب الهند في خلافة معاوية، وولي الجزيرة لابن الزبير، وحارب الخوارج في عهد عبد الملك بن مروان، ثم ولي خراسان من قبله سنة 79هـ، وترجع شهرته إلى حرب الخوارج، توفي 83هـ، انظر: وفيات الأعيان (5/350)، سير أعلام النبلاء (4/383).
(3) عمدة القاري، شرح صحيح البخاري (16/201).
(4) سنن البيهقي (7/73)، قال الدكتور عاطف لماضة: خبر حسن.
(5) عثمان بن عفان ذو النورين، عباس العقاد، ص79.
(6) الإصابة (4/377)، رقم (5465).
(7) عثمان بن عفان، صادق عرجون، ص45.(2/99)
كان رجلا ليس بالقصير ولا بالطويل، رقيق البشرة، كث اللحية عظيمها، عظيم الكراديس (1) ، عظيم ما بين المنكبين، كثير شعر الرأس، يصفِّر لحيته. وقال الزهري: كان عثمان رجلا مربوعا، حسن الشعر، حسن الوجه، أصلع، أروح الرجلين (2) , وأقنى (3) , خدل الساقين (4) , طويل الذراعين، قد كسا ذراعيه جعد الشعر، أحسن الناس ثغرا، جُمَّته (5) أسفل من أذنيه، حسن الوجه، والراجح أنه أبيض اللون، وقد قيل:
أسمر اللون (6) .
- مكانة عثمان ابن عفان - رضي الله عنه - في الجاهلية:
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
__________
(1) الكراديس: جمع كردوس، وهو كل عظمين التقيا في مفصل.
(2) تاريخ الطبري (5/440) أروح الرجلين: منفرج ما بينهما.
(3) أقنى: طويل الأنف مع دقة أرنبته، وحدب في وسطه.
(4) خدل الساقين: أي ضخم الساقين.
(5) جمته: مجتمع شعر الرأس.
(6) صفة الصفوة (1/295)، صحيح التوثيق في سيرة وحياة ذي النورين، ص15.(2/100)
كان عثمان ابن عفان - رضي الله عنه - في أيام الجاهلية من أفضل الناس في قومه؛ فهو عريض الجاه ثري، شديد الحياء، عذب الكلمات، فكان قومه يحبونه أشد الحب ويوقرونه. لم يسجد في الجاهلية لصنم قط ولم يقترف فاحشة قط، فلم يشرب خمرا قبل الإسلام وكان يقول: إنها تُذْهب العقل والعقل أسمى ما منحه الله للإنسان، وعلى الإنسان أن يسمو به، لا أن يصارعه. وفي الجاهلية كذلك لم تجذبه أغاني الشباب ولا حلقات اللهو، ثم إن عثمان كان يتعفف عن أن يرى عورة (1) . ويرحم الله عثمان - رضي الله عنه - فقد يسر لنا سبيل التعرف عليه؛ حيث قال: ما تغنيت، ولا تمنيت، و لا مسست ذكري بيمني منذ بايعت بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولا شربت خمرًا في جاهلية ولا إسلام، ولا زنيت في جاهلية ولا في إسلام. (2) وكان - رضي الله عنه - على علم بمعارف العرب في الجاهلية ومنها الأنساب والأمثال وأخبار الأيام، وساح في الأرض فرحل إلى الشام والحبشة، وعاشر أقواما غير العرب فعرف من أحوالهم وأطوارهم ما ليس يعرفه غيره. (3) واهتم بتجارته التي ورثها عن والده، ونمت ثرواته, وأصبح يعد من رجالات بني أمية الذين لهم مكانة في قريش كلها، فقد كان المجتمع المكي الجاهلي الذي عاش فيه عثمان يقدر الرجال حسب أموالهم، ويهاب فيه الرجال حسب أولادهم وإخوتهم ثم عشيرتهم وقومهم، فنال عثمان مكانة مرموقة في قومه، ومحبة كبيرة.
ومن أطرف ما يروى عن حب الناس لعثمان لما تَجَمَّع فيه من صفات الخير أن المرأة العربية في عصره كانت تغني لطفلها أغنية تحمل تقدير الناس له وثناءهم عليه، فقد كانت تقول:
أحبك والرحمن ... حبَّ قريش لعثمان (4)
- إسلام عثمان ابن عفان - رضي الله عنه - :
__________
(1) موسوعة التاريخ الإسلامي، أحمد شلبي، (1/618).
(2) حلية الأولياء (1/60، 61) الخبر صحيح.
(3) عبقرية عثمان للعقاد، ص72.
(4) موسوعة التاريخ الإسلامي، (1/618).(2/101)
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
كان عثمان ابن عفان - رضي الله عنه - قد ناهز الرابعة والثلاثين من عمره حين دعاه أبو بكر الصديق إلى الإسلام، ولم يعرف عنه تكلؤ أو تلعثم بل كان سباقا أجاب على الفور دعوة الصديق، فكان بذلك من السابقين الأولين حتى قال أبو إسحاق: كان أول الناس إسلاما بعد أبى بكر وعلي وزيد بن حارثة عثمان. (1) فكان بذلك رابع من أسلم من الرجال، ولعل سبقه هذا إلى الإسلام كان نتيجة لما حدث له عند عودته من الشام، وقد قصه - رضي الله عنه - على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين دخل عليه هو وطلحة بن عبيد الله، فعرض عليهما الإسلام وقرأ عليهما القرآن، وأنبأهما بحقوق الإسلام ووعدهما الكرامة من الله فآمنا وصدقا، فقال عثمان: يا رسول الله، قدمت حديثا من الشام، فلما كنا بين معان والزرقاء فنحن كالنيام فإذا منادٍ ينادينا: أيها النيام هبوا، فإن أحمد قد خرج بمكة، فقدمنا فسمعنا بك. (2)
__________
(1) السيرة النبوية لابن هشام، (1/287- 289).
(2) الطبقات لابن سعد، (3/55).(2/102)
لا شك أن هذه الحادثة تترك في نفس صاحبها أثرًا إيجابيًا لا يستطيع أن يتخلى عنه، عندما يرى الحقيقة ماثلة بين عينيه، فمن ذا الذي يسمع بخروج النبي قبل أن يصل إلى البلد الذي يعيش فيه، حتى إذا نزله ووجد الأحداث والحقائق تنطق كلها بصدق ما سمع به ثم يتردد في إجابة الدعوة؟ لا يستطيع الإنسان مهما كان مكابرا إلا أن يذعن للحق، ومهما أظهر الجفاء فإن ضميره لا يزال يتلجلج في صدره حتى يؤمن به أو يموت، فيتخلص من وخز الضمير وتأنيبه, ولم تكن سرعة تلبيته عن طيش أو حمق، ولكنها كانت عن يقين راسخ وتصديق لا يتطرق إليه شك. (1) فقد تأمل في هذه الدعوة الجديدة بهدوء كعادته في معالجة الأمور، فوجد أنها دعوة إلى الفضيلة، ونبذ الرذيلة، دعوة إلى التوحيد وتحذير من الشرك، دعوة إلى العبادة وترهيب من الغفلة، ودعوة إلى الأخلاق الفاضلة، وترهيب من الأخلاق السيئة، ثم نظر إلى قومه، فإذا هم يعبدون الأوثان، ويأكلون الميتة، ويسيئون
الجوار، ويستحلون المحارم من سفك الدماء وغيرها. (2) وإذا بالنبي محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - صادق أمين يعرف عنه كل خير, ولا يعرف عنه شر قط، فلم تعهد عليه كذبة ولم تحسب عليه خيانة، فإذا هو يدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له وإلى صلة الرحم، وحسن الجوار، والصلاة والصوم, وألا يعبد غير الله (3) , فأسلموا على يد أبي بكر الصديق، ومضى في إيمانه قُدُمًا قويا هاديا، وديعا صابرا, عظيما راضيا، عفوا كريما، محسنا رحيما، سخيًّا باذلا، يواسي المؤمنين، ويعين المستضعفين، حتى اشتدت قناة الإسلام. (4)
- مناقب عثمان ابن عفان - رضي الله عنه - :
__________
(1) جولة تاريخية في عصر الخلفاء الراشدين، ص302.
(2) انظر: مرويات العهد المكي، عادل عبد الغفور، (2/805).
(3) فتنة مقتل عثمان، د. محمد عبد الله الغبان (1/37).
(4) عثمان بن عفان، صادق عرجون، ص53.(2/103)
لقد حاز عثمان ابن عفان - رضي الله عنه - شرفاً ما حازه غيره رضي الله عنه، ونال مكانة سامية ومنزلة عليّة بين أصحاب رسول الهدى صلى الله عليه وسلم ، إنه من شرفت به الدنيا وسمت به في أفياء العلياء، صاحب الإنفاق والبذل، وكريم النفس والسجايا، مع مكانته ومنزلته نتوقف، وفي أفياء النبوة الطاهرة نستمتع بذكر شيء من قدر ذي النورين رضي الله عنه؛ ذو النورين رضي الله عنه رجل حكم المسلمين بالعدل والإحسان، وسار فيهم سيرة سيد الأنام وطبّق فيهم شريعة سيد ولد عدنان عليه الصلاة والسلام، فقد كان كصاحبيه إحساناً وتقوى، وهدىً وعلماً. حكم الأمة الإسلامية اثنا عشرة سنة، كثرت في عهده الفتوحات، واتسعت رقعة الدولة الإسلامية، وجمع القرآن في عهده على حرف واحد ونشر في الأمصار،
ذو النورين رضي الله عنه؛ كان رابع أربعة دخلوا في الإسلام، إنه أمير البررة وقتيل الفجرة، مخذول من خذله، ومنصور من نصره إنه صاحب الهجرتين، وزوج ابنتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذو النورين أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد الستة أصحاب الشورى، وأحد الثلاثة الذين خلصت لهم الخلافة من الستة. ثم تعينت فيه بإجماع المهاجرين والأنصار، فكان ثالث الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين. إنه عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية، أبو عمرو وأبو عبد الله القرشي أمير المؤمنين .
لقد جمع الله لعثمان من الفضائل والمكارم ما جعله بحق أن يكون في الدرجة الثالثة في الإسلام بعد الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وهاك غيضٌ من فيض وقليلٌ من كثير مما ورد في فضل عثمان جملةً وتفصيلاً
أولاً مناقب عثمان ابن عفان - رضي الله عنه - جملة ً :
(1) عثمان ذو النورين :
(2) حياء عثمان رضي الله عنه :
(3) عثمان - رضي الله عنه - أحد العشرة المبشرين بالجنة :
(4) عثمان - رضي الله عنه - ابن عمة النبي - صلى الله عليه وسلم - :
(5) عثمان - رضي الله عنه - من السابقين الأولين في الإسلام :(2/104)
(6) بشارات لعثمان رضي الله عنه :
(7) منزلة عثمان بين الصحابة :
(8) إنفاقه في سبيل الله تعالى :
(9) عثمان ابن عفان - رضي الله عنه - جامع القرآن العظيم :
(10) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شهد لعثمان ابن عفان - رضي الله عنه - أنه يُقتل مظلوما :
(11) أشاد النبي بخلافة عثمان ابن عفان - رضي الله عنه - وأمره بالتمسك بها وإن أراد المنافقون أن يُعْزَلَ منها :
(12) ابن عمر يشهد ببراءة عثمان مما اتهم به :
(13) عدل عثمان ذي النورين رضي الله عنه :
ثانياً مناقب عثمان ابن عفان - رضي الله عنه - تفصيلا ً :
(1) عثمان ذو النورين :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
[*] قال علي رضي الله عنه : ذاك امرؤ يُدعى في الملأ الأعلى ذا النورين ، كان ختن رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابنتيه .
(حديث عقبة بن أوس رضي الله عنه الثابت في ظلال الجنة تخريج السنة ) قال كنا عند عبد الله بن عمرو فقال أبو بكر الصديق أصبتم اسمه عمر الفاروق قرن من حديد أصبتم اسمه وعثمان بن عفان ذو النورين قتل مظلوما أوتي كفلين من الرحمة .
[*] قال الحسن البصري: سمي عثمان ذا النورين لأنه لا نعلم أحداً أغلق بابه على ابنتي نبيّ غيره.(2/105)
لقد أكرمه الله تعالى بالزواج من بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رقية، وقصة ذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان قد زوجها من عتبة بن أبي لهب، وزوج أختها أم كلثوم عتيبة بن أبي لهب، فلما نزلت سورة المسد ( تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ - مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ - سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ - وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ - فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ ) " [المسد: 1- 5]. قال لهما أبو لهب وأمهما أم جميل بنت حرب بن أمية "حَمَّالَةَ الْحَطَبِ" فارقا ابنتي محمد، ففارقاهما قبل أن يدخلا بهما كرامة من الله تعالى لهما، وهوانًا لابني أبي لهب (1) , وما كاد عثمان بن عفان - رضي الله عنه - يسمع بخبر طلاق رقية حتى استطار (2) فرحا، وبادر فخطبها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فزوجها الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - منه، وزفتها (3) أم المؤمنين خديجة بنت خويلد، وقد كان عثمان من أبهى قريش طلعة، وكانت هي تضاهيه قسامة وصباحة، فكان يقال لها حين زفت إليه:
أحسن زوجين رآهما إنسان ... رقية، وزوجها عثمان (4)
ظنت أم جميل بنت حرب وزوجها أبو لهب أنهما بتسريح رقية وأم كلثوم -رضي الله عنهما- سيصيبان من البيت المحمدي مقتلا أو سيوهنانه، ولكن الله -عز وجل- اختار لرقية وأم كلثوم الخير، وباءت أم جميل وأبو لهب بغيظهما لم ينالا خيرا, وكفى الله البيت النبوي شرهما، وكان أمر الله قدرا مقدورا (5) .
(2) حياء عثمان رضي الله عنه :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
__________
(1) ذو النورين عثمان بن عفان، محمد رشيد رضا، ص12.
(2) كاد يطير من شدة الفرح. ...
(4) زفتها: قدمتها إلى زوجها.
(3)
(4) أنساب الأشراف، ص89.
(5) دماء على قميص عثمان، د. إبراهيم المنتاوي، ص84.(2/106)
(حديث أنس بن مالك رضي الله عنه الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أرحم أمتي بأمتي أبو بكر وأشدهم في دين الله عمر وأصدقهم حياء عثمان وأقضاهم علي بن أبي طالب وأقرؤهم لكتاب الله أبي بن كعب وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل وأفرضهم زيد بن ثابت ألا وإن لكل أمة أمينا وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح .
( حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيح الأدب المفرد ) : أن أبا بكر استأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو مضطجع على فراش عائشة ، لابسا مرط عائشة- فأذن لأبي بكر وهو كذلك ، فقضى إليه حاجته ، ثم انصرف . ثم استأذن عمر رضي الله عنه ، فأذن له وهو كذلك ، فقضى إليه حاجته ، ثم انصرف . قال عثمان: ثم استأذنت عليه ، فجلس . وقال لعائشة: "" اجمعي إليك ثيابك "" . فقضيت إليه حاجتي ثم انصرفت . قال: فقالت عائشة: يا رسول الله! لم أرك فزعت لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما كما فزعت لعثمان ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "" إن عثمان رجل حيي ، وإني خشيت أن أذنت له- وأنا على تلك الحال- أن لا يبلغ إلي في حاجته .
استحياء الملائكة من عثمان رضي الله عنه :
( حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيح مسلم ) قالت * كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مضطجعا في بيتي كاشفا عن فخذيه أو ساقيه فاستأذن أبو بكر فأذن له وهو على تلك الحال فتحدث ثم استأذن عمر فأذن له وهو كذلك فتحدث ثم استأذن عثمان فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وسوى ثيابه قال محمد ولا أقول ذلك في يوم واحد فدخل فتحدث فلما خرج قالت عائشة دخل أبو بكر فلم تهتش له ولم تباله ثم دخل عمر فلم تهتش له ولم تباله ثم دخل عثمان فجلست وسويت ثيابك فقال ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة .
[*] قال الإمام النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم :(2/107)
(دخل أبو بكر فلم تهتش له ولم تباله) هكذا هو في جميع نسخ بلادنا تهتش بالتاء بعد الهاء، وفي بعض النسخ الطارئة بحذفها وكذا ذكره القاضي وعلى هذا فالهاء مفتوحة يقال هش يهش كشم يشم، وأما الهش الذي هو خبط الورق من الشجر فيقال منه هش يهش بضمها، قال الله تعالى: { وأهش بها } قال أهل اللغة: الهشاشة والبشاشة بمعنى طلاقة الوجه وحسن اللقاء، ومعنى لم تباله لم تكترث به وتحتفل لدخوله.
قوله صلى الله عليه وسلم: "ألا أستحي ممن تستحي منه الملائكة" هكذا هو في الرواية أستحي بياء واحدة في كل واحدة منهما، قال أهل اللغة: يقال استحيي يستحيي بياءين واستحي ويستحي بياء واحدة لغتان الأولى أفصح وأشهر وبها جاء القرآن،
وفيه فضيلة ظاهرة لعثمان وجلالته عند الملائكة، وأن الحياء صفة جميلة من صفات الملائكة .
(3) عثمان ابن عفان - رضي الله عنه - أحد العشرة المبشرين بالجنة :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
( حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أبو بكر في الجنة وعمر في الجنة وعثمان في الجنة وعليٌ في الجنة وطلحة في الجنة والزبير في الجنة وعبد الرحمن بن عوف في الجنة وسعدُ ابن أبي وقاص في الجنة وسعيدُ ابن زيد في الجنة وأبو عبيدة بن الجراح في الجنة .
[*] أورد الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الشعبي يقول أدركت خمس مئة أو أكثر من الصحابة يقولون علي وعثمان وطلحة والزبير في الجنة .
قال الذهبي رحمه الله :
قلت لأنهم من العشرة المشهود لهم بالجنة ومن البدريين ومن أهل بيعة الرضوان ومن السابقين الأولين الذين أخبر تعالى أنه رضي عنهم ورضوا عنه ولأن الأربعة قتلوا ورزقوا الشهادة فنحن محبون لهم باغضون للأربعة الذين قتلوا الأربعة .أهـ
(4) عثمان ابن عفان - رضي الله عنه - ابن عمة النبي - صلى الله عليه وسلم - :(2/108)
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
أمه أروى بنت كريز بن ربيعة كانت عمة النبي صلى الله عليه وسلم ، وبذلك نال فضل القربة إلى رسول الله كما نال فضل الصهر والصحبة .
(5) عثمان ابن عفان - رضي الله عنه - من السابقين الأولين في الإسلام :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
كان عثمان ابن عفان - رضي الله عنه - من السابقين الأولين في الإسلام كان رابع أربعة دخلوا في الإسلام .
[*] قال ابن إسحاق : عثمان أول الناس إسلاماً بعد أبي بكر وعلي وزيد بن حارثة ، كما كان ممن تحمل وصبر على الإيمان ، فقد أخرج ابن سعد عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي قال: لما أسلم عثمان بن عفان أخذه عمه الحكم بن أبي العاص بن أمية فأوثقه رباطاً ، وقال : ترغب عن ملة آبائك إلى دين محدث ؟ والله لا أدعك أبداً حتى تدع ما أنت عليه ، فقال عثمان : والله لا أدعه أبداً ولا أفارقه ، فلما رأى الحكم صلابته في دينه تركه.
(6) بشارات لعثمان ابن عفان - رضي الله عنه - :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
... ( حديث أبي موسى رضي الله عنه قال الثابت في الصحيحين ): كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في حائط من حيطان المدينة، فجاء رجل فاستفتح، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (افتح له وبشره بالجنة). ففتحت له، فإذا هو أبو بكر، فبشرته بما قال النبي صلى الله عليه وسلم، فحمد الله، ثم جاء رجل فاستفتح، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (افتح له وبشره بالجنة). ففتحت له فإذا هو عمر، فأخبرته بما قال النبي صلى الله عليه وسلم فحمد الله، ثم استفتح رجل، فقال لي: (افتح له وبشره بالجنة، على بلوى تصيبه). فإذا عثمان، فأخبرته بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمد الله، ثم قال: الله المستعان .
(حائط من حيطان المدينة) أَيْ: بُسْتَان(2/109)
(افتح له وبشره بالجنة، على بلوى تصيبه). أَشَارَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِهَذَا إِلَى مَا أَصَابَ عُثْمَانَ فِي آخِرِ خِلَافَتِهِ مِنَ الشَّهَادَةِ يَوْمَ الدَّارِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: فِي الْحَدِيثِ فَضِيلَةُ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ أبو بكر وعمر وعثمان وَأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَفَضِيلَةٌ لِأَبِي مُوسَى، وَفِيهِ مُعْجِزَةٌ ظَاهِرَةٌ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - لِإِخْبَارِهِ بِقِصَّةِ عُثْمَانَ، وَالْبَلْوَى من معجزات رسول الله ، وَأَنَّ الثَّلَاثَةَ يَسْتَمِرُّونَ عَلَى الْإِيمَانِ، وَالْهُدَى.
( حديث أنس بن مالك رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صعد أحدا، وأبو بكر وعمر وعثمان، فرجف بهم، فقال: اثبت أحد، فإنما عليك نبي وِصِدِّيْق، وشهيدان).
( فَرَجَفَ ) أَيْ: تَحَرَّكَ أُحُدٌ وَاضْطَرَبَ
" اثْبُتْ" أَمْرٌ مِنَ الثَّبَاتِ، وَهُوَ الِاسْتِقْرَارُ " أُحُدُ" بِضَمِّ الدَّالِ مُنَادَى قَدْ حُذِفَ حَرْفُ نِدَائِهِ تَقْدِيرُهُ: يَا أُحُدُ، قَالَ الْحَافِظُ: وَنِدَاؤُهُ وَخِطَابُهُ يَحْتَمِلُ الْمَجَازَ وَحَمْلُهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ أَوْلَى، وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَقَعَ فِي مَنَاقِبِ عُمَرَ أَنَّهُ ضَرَبَهُ بِرِجْلِهِ، وَقَالَ اثْبُتْ.انْتَهَى
" وَصِدِّيقٌ" هُوَ أَبُو بَكْرٍ وفضله - رضي الله عنه - " وَشَهِيدَانِ" هُمَا عُمَرُ وَعُثْمَانُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-.(2/110)
{ تنبيه } : وَالْمُرَادُ: شُهَدَاءُ فِي أَحْكَامِ الْآخِرَةِ وَعِظَمِ ثَوَابِ الشُّهَدَاءِ، وَأَمَّا فِي الدُّنْيَا فَيُغَسَّلُونَ وَيُصَلَّى عَلَيْهِمْ، وَفِيهِ بَيَانُ فَضِيلَةِ الصحابة هَؤُلَاءِ، وَفِيهِ إِثْبَاتُ التَّمْيِيزِ فِي الْحِجَارَةِ وَجَوَازُ التَّزْكِيَةِ وَالثَّنَاءِ عَلَى الْإِنْسَانِ فِي وَجْهِهِ إِذَا لَمْ يُخَفْ عَلَيْهِ فِتْنَةٌ بِإِعْجَابٍ وَنَحْوِهِ.
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) قال : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان على حراء هو و أبو بكر و عمر و عثمان و علي و طلحة و الزبير فتحركت الصخرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اهدأ فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد .
{ تنبيه } : وهذا يصدق على كل من وقف في هذا الموقف؛ لأنه قال: (أو شهيد) و(شهيد) نكرة في سياق النفي فتفيد العموم.
(7) منزلة عثمان ابن عفان - رضي الله عنه - بين الصحابة :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ
( حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح البخاري ) قال: كنا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لا نعدل بأبي بكر أحدا، ثم عمر، ثم عثمان، ثم نترك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا نفاضل بينهم .
وَفِي الْحَدِيثِ تَقْدِيمُ عُثْمَانَ بَعْدَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ كَمَا هُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ جُمْهُورِ أَهْلِ السُّنَّةِ .
(8) إنفاق عثمان ابن عفان - رضي الله عنه - في سبيل الله تعالى :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ ـ ـــ ـــ ـــ ــ ـ ـــ ـــ
علم النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه رضي الله عنهم كيف ينفقون الأموال وما أعطاهم الله تبارك وتعالى في سبيل الله ومواقع رضاء الله، وكيف كان ذلك أحبَّ إليهم من الإِنفاق على أنفسهم، وكيف كانوا يُؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة(2/111)
ولقد ضرب عثمان ابن عفان - رضي الله عنه - أروع المثل في ذلك فعلى الرغم أنه كان تاجراً موفقاً ومن أصحاب الدخول الرغيدة إلا أنه كان آيةً في الإنفاق في سبيل الله تعالى وآيةً في تحقيق الزهد لأن الزهد ليس أن تملك المال ، بل الزهد أن تملك الدنيا بأسرها لكنها تكون في يديك ولا تقترب من قلبك ، وكان عثمان ابن عفان - رضي الله عنه - مثلاً أعلى في ذلك ، وهاك بعض مواقفه الدالة على ذلك :
حفر بئر رومة وتجهيز جيش العسرة :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ ـــ ـــ ـــ
علم النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه كيف ينفقون الأموال وما أعطاهم الله تبارك وتعالى في سبيل الله ومواقع رضاء الله، وكيف كان ذلك أحبَّ إليهم من الإِنفاق على أنفسهم، وكيف كانوا يُؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة . وقد ضرب عثمان بن عفان ذو النورين عمر أروع المثل في ذلك في مشاهد كثيرة منها حفر بئر رومة وتجهيز جيش العسرة و توسعة المسجد النبوي .
( حديث أبي عبدالرحمن رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري ) أن عثمان رضي الله عنه حين حوصر أشرف عليهم وقال: ( أنشدكم الله ، ولا أنشد إلا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: ألستم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من حفر بئر رومة فله الجنة فحفرتها ؟ ألستم تعلمون أنه قال من جهز جيش العسرة فله الجنة فجهزته؟ قال فصدقوه بما قال .
( حديث عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي ) قال جاء عثمان إلى النبي صلى الله عليه وسلم بألف دينار حين جهز جيش العسرة فينثرها في حجره قال عبد الرحمن : فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقلبها في حجره ويقول ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم مرتين .
[*] قال العلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:
( يُقَلِّبُهَا ) أَيِ: الدَّنَانِيرَ "(2/112)
{ مَا ضَرَّ عُثْمَانَ مَا عَمِلَ بَعْدَ الْيَوْمِ } (1) " أَيْ: فَلَا عَلَى عُثْمَانَ بَأْسُ الَّذِي عَمِلَ بَعْدَ هَذِهِ مِنَ الذُّنُوبِ فَإِنَّهَا مَغْفُورَةٌ مُكَفَّرَةٌ، وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - فِي حَدِيثِ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ: { لَعَلَّ اللَّهَ قَدِ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ } (2)
[*] يقول ابن شهاب الزهري:
قَدّم عثمان لجيش العسرة في غزوة تبوك تسعمائة وأربعين بعيراً، وستين فرساً أتم بها الألف، وجاء عثمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في جيش العسرة بعشرة آلاف دينار صبها بين يديه، فجعل الرسول يقلبها بيده ويقول: ما ضر عثمان ما عمل بعد هذه .
توسعة المسجد النبوي :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
بعد بناء مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتشار الإسلام وزيادة عدد المسلمين، ضاقت مساحة المسجد النبوي بالمسلمين، فرغب النبي صلى الله عليه وسلم من بعض الصحابة أن يشتري بقعة بجانب المسجد، لكي تضم إلى المسجد حتى يتسع لأهله، فقال صلى الله عليه وسلم، من يشتري بقعة آل فلان فيزيدها في المسجد بخير له منها في الجنة؟ فاشتراها عثمان بن عفان رضي الله عنه من صلب ماله وهكذا كان عثمان بن عفان سباقاً للخير ووسع على المسلمين ونال شرف أن يجري الله أول توسعة للمسجد النبوي على يديه رضي الله عنه وأرضاه.
__________
(1) - الترمذي المناقب (3701),أحمد (5/63).
(2) - البخاري الجهاد والسير (2845),مسلم فضائل الصحابة (2494),الترمذي تفسير القرآن (3305),أبو داود الجهاد (2650),أحمد (1/79).(2/113)
(حديث ثمامة بن حزن القشيري رضي الله عنه الثابت في صحيحي الترمذي والنسائي ) قال : شهدت الدار حين أشرف عليهم عثمان فقال: ائتوني بصاحبيكم اللذَيْنِ ألْبَاكُم عليَّ قال فجيء بهما فكأنهما جملان أو كأنهما حماران قال فأشرف عليهم عثمان فقال : أنشدكم بالله والإسلام هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وليس بها ماء يُسْتَعْذَبُ غيرُ بئر رومة فقال من يشتري بئر رومة فيجعل دلوه مع دلاء المسلمين بخير له منها في الجنة فاشتريتها من صلب مالي فأنتم اليوم تمنعوني أن أشرب حتى أشرب من ماء البحر قالوا اللهم نعم ،
قال أنشدكم بالله والإسلام هل تعلمون أن المسجد ضاق بأهله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من يشتري بقعة آل فلان فيزيدها في المسجد بخير منها في الجنة فاشتريتها من صلب مالي فأنتم اليوم تمنعوني أن أصلي فيها ركعتين قالوا اللهم نعم ،
قال أنشدكم بالله والإسلام هل تعلمون أني جهزت جيش العسرة من مالي قالوا اللهم نعم ثم قال أنشدكم بالله والإسلام هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان على ثبير مكة ومعه أبو بكر وعمر وأنا فتحرك الجبل حتى تساقطت حجارته بالحضيض قال فركضه برجله وقال اسكن ثبير فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان قالوا اللهم نعم قال الله أكبر شهدوا لي ورب الكعبة أني شهيد ثلاثا .
[*] قال العلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:(2/114)
( فَقَالَ ائْتُونِي بِصَاحِبَيْكُمُ الَّذَيْنِ أَلَّبَاكُمْ عَلَيَّ ) مِنْ أَلَّبْتُ عَلَيْهِ النَّاسَ أَيْ: جَمَعْتُهُمْ عَلَيْهِ وَحَمَلْتُهُمْ عَلَى قَصْدِهِ فَصَارُوا عَلَيْهِ إِلْبًا وَاحِدًا أَيِ: اجْتَمَعُوا عَلَيْهِ يَقْصِدُونَهُ ( أَنْشُدُكُمْ ) بِضَمِّ الشِّينِ أَيْ: أَسْأَلُكُمْ ( بِاللَّهِ، وَالْإِسْلَامِ ) أَيْ: بِحَقِّهِمَا يُقَالُ: نَشَدْتُ فُلَانًا أَنْشُدُهُ إِذَا قُلْتُ لَهُ نَشَدْتُكَ اللَّهَ أَيْ: سَأَلْتُكَ بِاللَّهِ كَأَنَّكَ ذَكَّرْتَهُ إِيَّاهُ .
( وَلَيْسَ بِهَا ) أَيْ: بِالْمَدِينَةِ، وَالْوَاوُ لِلْحَالِ ( مَاءٌ يُسْتَعْذَبُ ) أَيْ: يُعَدُّ عَذْبًا أَيْ: حُلْوًا ( غَيْرُ بِئْرِ رُومَةَ وقف عثمان له ) بِرَفْعِ غَيْرُ وَجُوِّزَ نَصْبُهُ، وَالْبِئْرُ مَهْمُوزٌ وَيُبْدَلُ " فَيُجْعَلُ دَلْوُهُ مَعَ دِلَاءِ الْمُسْلِمِينَ" بِكَسْرِ الدَّالِ جَمْعُ دَلْوٍ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْوَقْفِ الْعَامِّ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ وَقْفِ السِّقَايَاتِ، وَعَلَى خُرُوجِ الْمَوْقُوفِ عَنْ مِلْكِ الْوَاقِفِ حَيْثُ جَعَلَهُ مَعَ غَيْرِهِ سَوَاءً.
وَفِيهِ جَوَازُ تَحَدُّثِ الرَّجُلِ بِمَنَاقِبِهِ عِنْدَ الِاحْتِيَاجِ إِلَى ذَلِكَ لِدَفْعِ مَضَرَّةٍ، أَوْ تَحْصِيلِ مَنْفَعَةٍ، وَإِنَّمَا يُكْرَهُ ذَلِكَ عِنْدَ الْمُفَاخَرَةِ، وَالْمُكَاثَرَةِ، وَالْعُجْبِ.(2/115)
( مِنْ صُلْبِ مَالِي ) بِضَمِّ الصَّادِ أَيْ: أَصْلِهِ، أَوْ خَالِصِهِ ( حَتَّى أَشْرَبَ مِنْ مَاءِ الْبَحْرِ ) أَيْ: مِمَّا فِيهِ مُلُوحَةٌ كَمَاءِ الْبَحْرِ، وَالْإِضَافَةُ فِيهِ لِلْبَيَانِ أَيْ: مَاءٍ يُشْبِهُ الْبَحْرَ ( هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ الْمَسْجِدَ ) أَيْ: مَسْجِدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي الْمَدِينَةِ " فَيَزِيدُهَا" أَيْ: تِلْكَ الْبُقْعَةَ ( أَنْ أُصَلِّيَ فِيهَا ) أَيْ: فِي تِلْكَ الْبُقْعَةِ فَضْلًا عَنْ سَائِرِ الْمَسْجِدِ ( كَانَ عَلَى ثَبِيرِ مَكَّةَ ) بِفَتْحِ مُثَلَّثَةٍ وَكَسْرِ مُوَحَّدَةٍ وَتَحْتِيَّةٍ سَاكِنَةٍ فَرَاءٍ جَبَلٌ بِمَكَّةَ، وَفِي الْمِصْبَاحِ: جَبَلٌ بَيْنَ مَكَّةَ وَمِنًى وَهُوَ يُرَى مِنْ مِنًى، وَهُوَ عَلَى يَمِينِ الذَّاهِبِ مِنْهَا إِلَى مَكَّةَ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: ثَبِيرٌ جَبَلٌ بِالْمُزْدَلِفَةِ عَلَى يَسَارِ الذَّاهِبِ إِلَى مِنًى، وَهُوَ جَبَلٌ كَبِيرٌ مُشْرِفٌ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ بِمَعْنًى، وَبِمَكَّةَ جِبَالٌ، كُلٌّ مِنْهَا اسْمُهُ ثَبِيرٌ ( بِالْحَضِيضِ ) أَيْ: أَسْفَلَ الْجَبَلِ وَقَرَارِ الْأَرْضِ ( فَرَكَضَهُ بِرِجْلِهِ ) أَيْ: ضَرَبَهُ بِهَا " اسْكُنْ ثَبِيرُ " أَيْ: يَا ثَبِيرُ ( قَالَ ) أَيْ: عُثْمَانُ ( اللَّهُ أَكْبَرُ ) كَلِمَةٌ يَقُولُهَا الْمُتَعَجِّبُ عِنْدَ إِلْزَامِ الْخَصْمِ وَتَبْكِيتِهِ تَعَجُّبًا مِنْ إِقْرَارِهِمْ بِكَوْنِهِ عَلَى الْحَقِّ وَإِصْرَارِهِمْ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَاهُ ( ثَلَاثًا ) أَيْ: قَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ إِلَى آخِرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ لِزِيَادَةِ الْمُبَالَغَةِ فِي إِثْبَاتِ الْحُجَّةِ عَلَى الْخَصْمِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يُظْهِرَ لَهُمْ أَنَّهُ عَلَى الْحَقِّ وَأَنَّ خُصَمَاءَهُ عَلَى الْبَاطِلِ عَلَى طَرِيقٍ يُلْجِئُهُمْ إِلَى الْإِقْرَارِ بِذَلِكَ،(2/116)
أَوْرَدَ حَدِيثَ ثَبِيرِ مَكَّةَ وَأَنَّهُ مِنْ أَحَدِ الشَّهِيدَيْنِ مُسْتَفْهِمًا عَنْهُ فَأَقَرُّوا بِذَلِكَ، وَأَكَّدُوا إِقْرَارَهُمْ بِقَوْلِهِمْ: اللَّهُمَّ نَعَمْ، فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ تَعَجُّبًا وَتَعْجِيبًا وَتَجْهِيلًا لَهُمْ وَاسْتِهْجَانًا لِفِعْلِهِمْ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عُثْمَانَ عِنْدَ أَحْمَدَ وَالنَّسَائِيِّ: { أَنْشُدُ اللَّهَ رَجُلًا شَهِدَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ يَقُولُ: " هَذِهِ يَدُ رَسُولِ اللَّهِ وَهَذِهِ يَدُ عُثْمَانَ } (1) ".
(9) عثمان ابن عفان - رضي الله عنه - جامع القرآن العظيم :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
عثمان ذو النورين، جامع القرآن العظيم، والإمام الخاشع البكاء الشجاع، كان مكثراً من تلاوة وتدبر كلام الله رب العالمين ، كان المنهج التربوي الذي تربى عليه عثمان بن عفان وكل الصحابة الكرام هو القرآن الكريم، المنزل من عند رب العالمين، فهو المصدر الوحيد للتلقي، فقد حرص الحبيب المصطفى على توحيد مصدر التلقي وتفرده، وأن يكون القرآن الكريم وحده هو المنهج الذي يتربى عليه الفرد المسلم والأسرة المسلمة والجماعة المسلمة، فكانت الآيات الكريمة التي سمعها عثمان - رضي الله عنه - من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مباشرة لها أثرها في صياغة شخصية ذي النورين الإسلامية؛ فقد طهرت قلبه، وزكت نفسه، وتفاعلت معها روحه؛ فتحول إلى إنسان جديد بقيمه ومشاعره وأهدافه وسلوكه وتطلعاته. (2)
__________
(1) - النسائي الأحباس (3609).
(2) السيرة النبوية للصلابي (1/145). ... (2) الفتاوى (13/177).(2/117)
وقد تعلق عثمان - رضي الله عنه - بالقرآن الكريم، وحدثنا أبو عبد الرحمن السلمي كيف تعلمه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وله أقوال تدل على حبه الشديد للعيش مع كتاب الله تعالى؛ فعن أبي عبد الرحمن السلمي قال: حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن -كعثمان بن عفان، وعبد الله بن مسعود وغيرهما- أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي - صلى الله عليه وسلم - عشر آيات لم يتجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعا، ولهذا كانوا يبقون مدة في حفظ السورة (1) , وذلك أن الله تعالى قال: ( كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الألْبَابِ ) [ص: 29] وقد روى عثمان - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قوله: "خيركم من تعلم القرآن وعلمه". (2)
وقد عرض القرآن الكريم كاملا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل وفاته. ومن أشهر تلاميذ عثمان في تعلم القرآن الكريم أبو عبد الرحمن السلمي، والمغيرة بن أبي شهاب وأبو الأسود، وزر بن حبيش. (3) وقد حفظ لنا التاريخ بعض أقوال عثمان - رضي الله عنه - في القرآن الكريم منها ما يلي :
[*] قال عثمان ابن عفان - رضي الله عنه - : لو طهرت قلوبنا لما شبعت من كلام الله عز وجل. (4)
وقال أيضاً : إني لأكره أن يأتي عليَّ يوم لا أنظر فيه إلى عهد الله (5) (يعني المصحف).
وقال أيضاً : حُبب إليَّ من الدنيا ثلاث: إشباع الجيعان، وكسوة العريان، وتلاوة القرآن. (6)
__________
(1)
(2) البخاري، فضائل القرآن، رقم: (5027)
(3) تاريخ الإسلام، عهد الخلفاء الراشدين للذهبي، ص 467.
(4) الفتاوى (11/122)، البداية والنهاية (7/225).
(5) البداية والنهاية (7/225)، فرائد الكلام، ص 275.
(6) إرشاد العباد للاستعداد ليوم المعاد، ص 88. ...
(2) المصدر نفسه، ص90، فرائد الكلام، ص278.(2/118)
وقال أيضاً : أربعة ظاهرهن فضيلة وباطنهن فريضة: مخالطة الصالحين فضيلة والاقتداء بهم فريضة، وتلاوة القرآن فضيلة والعمل به فريضة، وزيارة القبور فضيلة والاستعداد للموت فريضة، وعيادة المريض فضيلة واتخاذ الوصية منه فريضة. (1) وقال - رضي الله عنه - : أضيع الأشياء عشرة: عالم لا يُسْأل عنه، وعلم لا يعمل به، ورأي صواب لا يقبل، وسلاح لا يستعمل، ومسجد لا يصلى فيه، ومصحف لا يقرأ فيه، ومال لا ينفق منه، وخيل لا تُرْكب، وعلم الزهد في بطن من يريد الدنيا، وعمر طويل لا يتزود صاحبه فيه لسفره. (2)
وكان - رضي الله عنه - حافظا لكتاب الله، وكان حجره لا يكاد يفارق المصحف، فقيل له في ذلك فقال: إنه مبارك جاء به مبارك. (3) وما مات عثمان حتى خرق مصحفه من كثرة ما يديم (4) النظر فيه.
[*] وقالت امرأة عثمان يوم الدار: اقتلوه أو دعوه، فوالله لقد كان يحيي الليل بالقرآن في ركعة (5) , وقد ذكر عنه أنه قرأ القرآن ليلة في ركعة لم يصل غيرها (6) , وقد تحقق فيه قول الله تعالى: ( أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا
يَحْذَرُ الآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبَابِ ) [الزمر: 9].
__________
(1)
(2) إرشاد العباد، ص91، فرائد الكلام، ص278.
(3) البيان والتبيان في مقتل الشهيد عثمان، (3/177)، فرائد الكلام، ص273.
(4) يديم: يطيل، البداية والنهاية (7/225).
(5) البداية والنهاية (7/225).
(6) الخلافة الراشدة والدولة الأموية، ص397.(2/119)
لقد تشرب عثمان - رضي الله عنه - بالمنهج القرآني وتتلمذ على يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعرف من خلال القرآن الكريم من هو الإله الذي يجب أن يعبده، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يغرس في نفسه معاني تلك الآيات العظيمة، فقد حرص - صلى الله عليه وسلم - أن يربي أصحابه على التصور الصحيح عن ربهم وعن حقه عليهم، مدركا أن هذا التصور سيورث التصديق واليقين عندما تصفى النفوس وتستقيم الفطرة، فأصبحت نظرة ذي النورين إلى الله عز وجل، والكون والحياة والجنة والنار، والقضاء والقدر، وحقيقة الإنسان، وصراعه مع الشيطان مستمدة من القرآن الكريم وهدي النبي - صلى الله عليه وسلم - .
(10) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شهد لعثمان ابن عفان - رضي الله عنه - أنه يُقتل مظلوما :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
( حديث ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما الثابت في صحيح الترمذي ) قَالَ : ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِتْنَةً فَقَالَ يُقْتَلُ فِيهَا هَذَا مَظْلُومًا لِعُثْمَانَ .
[*] قال العلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:
" يُقْتَلُ" بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ " هَذَا" أَيْ: عُثْمَانُ " فِيهَا " أَيْ: فِي تِلْكَ الْفِتْنَةِ ( لِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ ) بَيَانُ هَذَا.
(11) أشاد النبي بخلافة عثمان ابن عفان - رضي الله عنه - وأمره بالتمسك بها وإن أراد المنافقون أن يُعْزَلَ منها :
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : يا عثمان إن ولاك الله هذا الأمر يوما فأرادك المنافقون أن تخلع قميصك الذي قمصك الله فلا تخلعه يقول ذلك ثلاث مرات .
[*] قال العلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:(2/120)
فأرادك المنافقون أن تخلع قميصك الذي قمصك الله فلا تخلعه : أَيْ: حَمَلُوكَ عَلَى نَزْعِهِ " فَلَا تَخْلَعْهُ لَهُمْ " يَعْنِي إِنْ قَصَدُوا عَزْلَكَ عَنِ الْخِلَافَةِ فَلَا تَعْزِلْ نَفْسَكَ عَنْهَا لِأَجْلِهِمْ لِكَوْنِكَ عَلَى الْحَقِّ وَكَوْنِهِمْ عَلَى الْبَاطِلِ، فَلِهَذَا الْحَدِيثِ كَانَ عُثْمَانُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- مَا عَزَلَ نَفْسَهُ حِينَ حَاصَرُوهُ يَوْمَ الدَّارِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: اسْتَعَارَ الْقَمِيصَ لِلْخِلَافَةِ وَرَشَّحَهَا بِقَوْلِهِ عَلَى خَلْعِهِ.
(12) ابن عمر يشهد ببراءة عثمان مما اتهم به :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ(2/121)
( حديث عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَوْهَبٍ رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري ) أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ مِصْرَ حَجَّ الْبَيْتَ فَرَأَى قَوْمًا جُلُوسًا فَقَالَ مَنْ هَؤُلَاءِ قَالُوا قُرَيْشٌ قَالَ فَمَنْ هَذَا الشَّيْخُ قَالُوا ابْنُ عُمَرَ فَأَتَاهُ فَقَالَ إِنِّي سَائِلُكَ عَنْ شَيْءٍ فَحَدِّثْنِي أَنْشُدُكَ اللَّهَ بِحُرْمَةِ هَذَا الْبَيْتِ أَتَعْلَمُ أَنَّ عُثْمَانَ فَرَّ يَوْمَ أُحُدٍ قَالَ نَعَمْ قَالَ أَتَعْلَمُ أَنَّهُ تَغَيَّبَ عَنْ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ فَلَمْ يَشْهَدْهَا قَالَ نَعَمْ قَالَ أَتَعْلَمُ أَنَّهُ تَغَيَّبَ يَوْمَ بَدْرٍ فَلَمْ يَشْهَدْ قَالَ نَعَمْ قَالَ اللَّهُ أَكْبَرُ فَقَالَ لَهُ ابْنُ عُمَرَ تَعَالَ أُبَيِّنْ لَكَ مَا سَأَلْتَ عَنْهُ أَمَّا فِرَارُهُ يَوْمَ أُحُدٍ فَأَشْهَدُ أَنَّ اللَّهَ قَدْ عَفَا عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ وَأَمَّا تَغَيُّبُهُ يَوْمَ بَدْرٍ فَإِنَّهُ كَانَتْ عِنْدَهُ أَوْ تَحْتَهُ ابْنَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَكَ أَجْرُ رَجُلٍ شَهِدَ بَدْرًا وَسَهْمُهُ وَأَمَرَهُ أَنْ يَخْلُفَ عَلَيْهَا وَكَانَتْ عَلِيلَةً وَأَمَّا تَغَيُّبُهُ عَنْ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ فَلَوْ كَانَ أَحَدٌ أَعَزَّ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ عُثْمَانَ لَبَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَكَانَ عُثْمَانَ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عُثْمَانَ إِلَى مَكَّةَ وَكَانَتْ بَيْعَةُ الرِّضْوَانِ بَعْدَ مَا ذَهَبَ عُثْمَانُ إِلَى مَكَّةَ قَالَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِيَدِهِ الْيُمْنَى هَذِهِ يَدُ عُثْمَانَ وَضَرَبَ بِهَا عَلَى يَدِهِ فَقَالَ هَذِهِ لِعُثْمَانَ قَالَ لَهُ اذْهَبْ بِهَذَا الْآنَ مَعَكَ .(2/122)
[*] قال العلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:
( عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَوهِبٍ )، بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْوَاوِ وَكَسْرِ الْهَاءِ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ مَوْلَى بَنِي تَيْمٍ بَصْرِيٌّ تَابِعِيٌّ وَسَطٌ وَهُوَ ثِقَةٌ بِاتِّفَاقِهِمْ كَذَا فِي الْفَتْحِ.(2/123)
قَوْلُهُ: ( فَرَأَى قَوْمًا جُلُوسًا ) أَيْ: جَالِسِينَ ( فَمَنْ هَذَا الشَّيْخُ ) أَيْ: فَمَنْ هَذَا الْعَالَمُ الْكَبِيرُ ( أَنْشُدُكَ ) بِضَمِّ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ أَسْأَلُكَ ( أَتَعْلَمُ أَنَّ عُثْمَانَ فَرَّ يَوْمَ أُحُدٍ الفتنة بين الصحابة إِلَخْ ) الَّذِي يَظْهَرُ مِنْ سِيَاقِهِ أَنَّ السَّائِلَ كَانَ مِمَّنْ يَتَعَصَّبُ عَلَى عُثْمَانَ فَأَرَادَ بِالْمَسَائِلِ الثَّلَاثِ أَنْ يُقَرِّرَ مُعْتَقَدَهُ وَلِذَلِكَ كَبَّرَ مُسْتَحْسِنًا لِمَا أَجَابَهُ بِهِ ابْنُ عُمَرَ ( فَلَمْ يَشْهَدْهَا ) أَيْ: فَلَمْ يَحْضُرْهَا ( فَقَالَ ) أَيِ: الرَّجُلُ الْحَاجُّ ( اللَّهُ أَكْبَرُ ) كَلِمَةٌ يَقُولُهَا الْمُتَعَجِّبُ عِنْدَ إِلْزَامِ الْخَصْمِ وَتَبْكِيتِهِ قَالَهُ الطِّيبِيُّ ( فَقَالَ لَهُ ابْنُ عُمَرَ تَعَالَ حَتَّى أُبَيِّنَ لَكَ مَا سَأَلْتَ عَنْهُ ) كَأَنَّ ابْنَ عُمَرَ فَهِمَ مِنْهُ مُرَادَهُ لَمَّا كَبَّرَ وَإِلَّا لَوْ فَهِمَ ذَلِكَ مِنْ أَوَّلِ سُؤَالِهِ لَقَرَنَ الْعُذْرَ بِالْجَوَابِ وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ عَابَهُ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ فَأَظْهَرَ لَهُ ابْنُ عُمَرَ الْعُذْرَ عَنْ جَمِيعِهَا، أَمَّا الْفِرَارُ فَبِالْعَفْوِ، وَأَمَّا التَّخَلُّفُ فَبِالْأَمْرِ وَقَدْ حَصَلَ لَهُ مَقْصُودُ مَنْ شَهِدَ بَدْرًا مِنْ تَرَتُّبِ الْأَمْرَيْنِ الدُّنْيَوِيِّ وَهُوَ السَّهْمُ، وَالْأُخْرَوِيِّ وَهُوَ الْأَجْرُ، وَأَمَّا الْبَيْعَةُ فَكَانَ مَأْذُونًا لَهُ فِي ذَلِكَ أَيْضًا وَيَدُ رَسُولِ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - خَيْرٌ لِعُثْمَانَ مِنْ يَدِهِ ( فَأَشْهَدُ أَنَّ اللَّهَ قَدْ عَفَا عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ ) يُرِيدُ قَوْله تَعَالَى(2/124)
( عِنْدَهُ، أَوْ تَحْتَهُ ) أَيْ: تَحْتَ عَقْدِهِ وَ أَوْ لِلشَّكِّ ( ابْنَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ) هِيَ رُقَيَّةُ فَرَوَى الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ { خَلَّفَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عُثْمَانَ وَأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ عَلَى رُقَيَّةَ فِي مَرَضِهَا لَمَّا خَرَجَ إِلَى بَدْرٍ فَمَاتَتْ رُقَيَّةُ حِينَ وَصَلَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ بِالْبِشَارَةِ وَكَانَ عُمْرُ رُقَيَّةَ لَمَّا مَاتَتْ عِشْرِينَ سَنَةً } ( فَلَوْ كَانَ أَحَدٌ أَعَزَّ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ عُثْمَانَ ) أَيْ: عَلَى مَنْ بِهَا مَكَانَ عُثْمَانَ أَيْ: بَدَلَهُ ( بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عُثْمَانَ وَكَانَتْ بَيْعَةُ الرِّضْوَانِ ) أَيْ: بَعْدَ أَنْ بَعَثَهُ، وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - بَعَثَ عُثْمَانَ لِيُعْلِمَ قُرَيْشًا أَنَّهُ إِنَّمَا جَاءَ مُعْتَمِرًا لَا مُحَارِبًا فَفِي غَيْبَةِ عُثْمَانَ شَاعَ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ تَعَرَّضُوا لِحَرْبِ الْمُسْلِمِينَ فَاسْتَعَدَّ الْمُسْلِمُونَ لِلْقِتَالِ وَبَايَعَهُمُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - حِينَئِذٍ تَحْتَ الشَّجَرَةِ عَلَى أَنْ لَا يَفِرُّوا، وَذَلِكَ فِي غَيْبَةِ عُثْمَانَ، وَقِيلَ: بَلْ جَاءَ الْخَبَرُ بِأَنَّ عُثْمَانَ قُتِلَ فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبَ الْبَيْعَةِ ( فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِيَدِهِ الْيُمْنَى ) أَيْ: أَشَارَ بِهَا ( هَذِهِ يَدُ عُثْمَانَ ) أَيْ: بَدَلَهَا ( وَضَرَبَ بِهَا عَلَى يَدِهِ ) أَيِ: الْيُسْرَى ( وَقَالَ هَذِهِ لِعُثْمَانَ ) أَيْ: هَذِهِ الْبَيْعَةُ عَنْ عُثْمَانَ من مناقب عثمان ( قَالَ ) أَيِ: ابْنُ عُمَرَ ( لَهُ ) أَيْ: لِلرَّجُلِ(2/125)
الْحَاجِّ السَّائِلِ
( اذْهَبْ بِهَذَا الْآنَ مَعَكَ ) اقْرِنْ هَذَا الْعُذْرَ بِالْجَوَابِ حَتَّى لَا يَبْقَى لَكَ فِيمَا أَجَبْتُكَ بِهِ حُجَّةٌ عَلَى مَا كُنْتَ تَعْتَقِدُهُ مِنْ غَيْبَةِ عُثْمَانَ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: قَالَ ابْنُ عُمَرَ ذَلِكَ تَحَكُّمًا بِهِ أَيْ: تَوَجَّهْ بِمَا تَمَسَّكْتَ بِهِ فَإِنَّهُ لَا يَنْفَعُكَ بَعْدَمَا بَيَّنْتُ لَكَ قَوْلُهُ .
{ تنبيه } : وهذا موقف جليل، وشهادة صدق من ابن عمر رضي الله تعالى عنهما ، يقدم رجل من بلاد مصر، وقد نبتت عنده نبتة فتنة، وترسخ في قلبه جذر شبهة، وتنامى على لسانه حديث لوثته الشائعات وقبحته الأهواء .
(13) عدل عثمان ذي النورين رضي الله عنه :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
أخرج السمَّان في الموافقة عن أبي الفرات قال: كان لعثمان رضي الله عنه عبد، فقال له: إني كنت عركت أُذنك فاقتصَّ مني، أخذ بأذنه ثم قال عثمان رضي الله عنه: أشدد، يا حبذا قصص في الدنيا، لا قصاص في الآخرة. كذا في الرياض النضرة في مناقب العشرة للمحب الطبري .
مقتل عثمان - رضي الله عنه - :
أخرج أبو أحمد عن شدَّاد بن أوس رضي الله عنه قال: لما اشتد الحصار بعثمان رضي الله عنه يوم الدار أشرف على الناس فقال: يا عباد الله، قال: فرأيت علي بن أبي طالب رضي الله عنه خارجاً من منزله، معتماً بعمامة رسول الله، متقلداً سيفه، أمامه الحسن عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهم ـ في نفر من المهاجرين والأنصار حتى حملوا على الناس وفرقوهم. ثم دخلوا على عثمان رضي الله عنه فقال له عليٌّ رضي الله عنه: السلام عليك يا أمير المؤمنين، إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يَلْحَق هذا الأمر حتى ضرب بالمقبل المدبر، وإني ـ والله ـ لا أرى القوم إلا قاتليك، فمرنا فلنقاتل. فقال عثمان رضي الله عنه:(2/126)
"أنشد الله رجلاً رأى لله حقاً، وأقر أنَّ لي عليه حقاً؛ أن يُهريق في سببي ملء حجمة من دم، أو يهريق دمه فيَّ".
فأعاد عليٌّ رضي الله عنه عليه القول. فأجابه بمثل ما أجابه. قال: فرأيت علياً خارجاً من الباب وهو يقول: اللهمَّ إِنَّك تعلم أنا بذلنا المجهود. ثم دخل المسجد وحضرت الصلاة. فقالوا له: يا أبا الحسن، تقدَّم فصلِّ بالناس. فقال: لا أصلِّي بكم والإِمام محصور، ولكن أصلِّي وحدي، فصلّى وحده وانصرف إلى منزله، فلحقه إبنه وقال: والله يا أبت قد اقتحموا عليه الدار. قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، هم والله قاتلوه. قالو: أين هو يا أبا الحسن؟ قال: في الجنة ـ والله ـ زلفى. قالوا: وأين هم يا أبا الحسن؟ قال: في النار والله ـ ثلاثاً ـ. كذا في الرياض النضرة في مناقب العشرة .
وأخرح أبو أحمد عن أبي سَلَمة بن عبد الرحمن قال: دخل أبو قَتادة ورجل آخر على عثمان ـ رضي الله عنهم ـ وهو محصور، فاستأذناه في الحج فأذن لهم. فقالا له: إن غلب هؤلاء القوم مع من نكون؟ قال: عليكم بالجماعة. قال: فإن كانت الجماعة هي التي تغلب عليك مع من نكون؟ قال: فالجماعة حيث كانت، فخرجنا فاستقبلنا الحسن بن علي رضي الله عنهما عند باب الدار داخلاً على عثمان رضي الله عنه، فرجعنا معه لنسمع ما يقول: فسلَّم على عثمان ثم قال: يا أمير المؤمنين مرني بما شئت، فقال عثمان:
"يا ابن أخي، إرجع واجلس حتى يأتي الله بأمره".
فخرج وخرجنا عنه، فاستقبلنا ابن عمر رضي الله عنهما داخلاً إلى عثمان رضي الله عنه، فرجعنا معه نسمع ما يقول، فسلَّم على عثمان رضي الله عنه ثم قال: يا أمير المؤمنين، صحبتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمعتُ وأطعتُ، ثم صحبتُ أبا بكر رضي الله عنه فسمعتُ وأطعتُ، ثم صحبتُ عمر رضي الله عنه فسمعتُ وأطعتُ ورأيتُ له حقَّ الوالد وحقَّ الخلافة، وها أنا طوع يديك ، فمرني بما شئت، فقال عثمان رضي الله عنه:(2/127)
"جزاكم الله يا آل عمر خيراً ـ مرتين ـ لا حاجة لي في إِراقة الدم.
كذا في الرياض النضرة في مناقب العشرة .
وأخرج أبو عمر عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: إِني لمحصور مع عثمان رضي الله عنه في الدار. قال: فرُمِيَ رجل منَّا، فقلت: يا أمير المؤمنين الآن طاب الضِّراب، قتلوا منا رجلاً. قال: "عزمتُ عليك يا أبا هريرة إِلا رميتَ سيفك، فإنما تُراد نفسي وسَأقِي المؤمنين بنفسي".
قال أبو هريرة رضي الله عنه: فرميت سيفي لا أدري أين هو حتى الساعة. كذا في الرياض النضرة في مناقب العشرة .
وصية عثمان ذي النورين - رضي الله عنه - :
أخرح الفضائلي الرازي عن العلاء بن الفضل عن أمه قال: لما قُتل عثمان رضي الله عنه
تَّشوا خزانته، فوجدوا فيها صندوقاً مقفلاً، ففتحوه فوجدوا فيه ورقة مكتوب فيها:
"هذه وصية عثمان: بسم الله الرحمن الرحيم. عثمان بن عفان يشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأنَّ محمداً عبده ورسوله، وأنَّ الجنة حق، وأنَّ النار حق، وأنَّ الله يبعث من في القبور ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد، عليها يحيي، وعليها يموت وعليها يُبعث إن شاء الله".
وأخرجه أيضاً نظام المُلْك وزاد: ووجدوا في ظهرها مكتوباً:
غنى النفس يُغني النفس حتى يُجلَّها
وإِن غضَّها حتى يَضُرَّ بها الفقرُ
وما عُسرة فاصبر لها إِن لقيتها
بكائنة إِلا سيتبعها يُسْرُ
ومن لم يقاسِ الدهر لم يعرف الأسَى
وفي غَيَر الأيام ما وعد الدهرُ .
صورٌ مشرقة من زهد عثمان ابن عفان - رضي الله عنه - :(2/128)
عثمان ابن عفان - رضي الله عنه - هو ثالث الخلفاء الراشدين ، كان أزهد الأمة بعد نبيها وبعد أبي بكرٍ وعمر ، لقد فهم عثمان ابن عفان رضي الله عنه من خلال معايشته للقرآن الكريم، ومصاحبته للنبي الأمين صلى الله عليه وسلم ومن تفكره في هذه الحياة بأن الدنيا دار اختبار وابتلاء، وعليه فإنها مزرعة للآخرة، ولذلك تحرر من سيطرة الدنيا بزخارفها، و زينتها، وبريقها، وطلقها ثلاثة ونفض يديه منها ، وخضع وانقاد وأسلم نفسه لربه ظاهرا وباطنا، فكانت الدنيا في يده ولم تقترب من قلبه الشريف ، وقد وصل إلى حقائق استقرت في قلبه ساعدته على الزهد في هذه الدنيا ومن هذه الحقائق ما يلي :
(1) اليقين التام بأننا في هذه الدنيا أشبه بالغرباء، أو عابري سبيل كما قال النبى صلى الله عليه وسلم: كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ .
( حديث بن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح البخاري ) قال:أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل). وكان ابن عمر يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك.
(2) أن هذه الدنيا لا وزن لها ولا قيمة عند رب العزة إلا ما كان منها طاعة لله تبارك وتعالى :
( حديث سهل بن سعد رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء .
( حديث أبي هريرة في صحيح ابن ماجة ) أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه وعالماً أو متعلما .
(3) أن عمرها قد قارب على الانتهاء :
( حديث أنس رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : بعثت أنا والساعة كهاتين قال وضم السبابة والوسطى .
(4) أن الآخرة هى الباقية، وهى دار القرار :(2/129)
كما قال مؤمن آل فرعون:
( يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ * مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ ) [ غافر: 39 ، 40]
كانت هذه الحقائق قد استقرت في قلب أبي بكر، فترِفَّع رضي الله عنه عن الدنيا وحطامها وزهد فيها،
وهاك بعض صور زهده رضي الله عنه :
- يتجلى زهد عثمان رضي الله عنه في إنفاقه للمال في سبيل الله تعالى : فقد وَعَى حقيقة الزهد بحذافيره وأيقن أن الزهد ليس بأن لا تملك المال بل الزهد أن تملك الدنيا كلها لكنها تكون في يدك وليست في قلبك ، كانت الدنيا في يده ولم تقترب من قلبه الشريف رضي الله عنه فكان آيةً في الجود والسخاء والبذل والإنفاق في سبيل الله تعالى ، ويتجلى ذلك في المواقف الآتية :
حفر بئر رومة وتجهيز جيش العسرة :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ ـــ ـــ ـــ
( حديث أبي عبدالرحمن رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري ) أن عثمان رضي الله عنه حين حوصر أشرف عليهم وقال: ( أنشدكم الله ، ولا أنشد إلا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: ألستم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من حفر بئر رومة فله الجنة فحفرتها ؟ ألستم تعلمون أنه قال من جهز جيش العسرة فله الجنة فجهزته؟ قال فصدقوه بما قال .
( حديث عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي ) قال جاء عثمان إلى النبي صلى الله عليه وسلم بألف دينار حين جهز جيش العسرة فينثرها في حجره قال عبد الرحمن : فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقلبها في حجره ويقول ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم مرتين .
[*] قال العلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:
( يُقَلِّبُهَا ) أَيِ: الدَّنَانِيرَ "(2/130)
{ مَا ضَرَّ عُثْمَانَ مَا عَمِلَ بَعْدَ الْيَوْمِ } (1) " أَيْ: فَلَا عَلَى عُثْمَانَ بَأْسُ الَّذِي عَمِلَ بَعْدَ هَذِهِ مِنَ الذُّنُوبِ فَإِنَّهَا مَغْفُورَةٌ مُكَفَّرَةٌ، وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - فِي حَدِيثِ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ: { لَعَلَّ اللَّهَ قَدِ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ } (2)
[*] يقول ابن شهاب الزهري:
قَدّم عثمان لجيش العسرة في غزوة تبوك تسعمائة وأربعين بعيراً، وستين فرساً أتم بها الألف، وجاء عثمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في جيش العسرة بعشرة آلاف دينار صبها بين يديه، فجعل الرسول يقلبها بيده ويقول: ما ضر عثمان ما عمل بعد هذه .
توسعة المسجد النبوي :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
بعد بناء مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتشار الإسلام وزيادة عدد المسلمين، ضاقت مساحة المسجد النبوي بالمسلمين، فرغب النبي صلى الله عليه وسلم من بعض الصحابة أن يشتري بقعة بجانب المسجد، لكي تضم إلى المسجد حتى يتسع لأهله، فقال صلى الله عليه وسلم، من يشتري بقعة آل فلان فيزيدها في المسجد بخير له منها في الجنة؟ فاشتراها عثمان بن عفان رضي الله عنه من صلب ماله وهكذا كان عثمان بن عفان سباقاً للخير ووسع على المسلمين ونال شرف أن يجري الله أول توسعة للمسجد النبوي على يديه رضي الله عنه وأرضاه.
__________
(1) - الترمذي المناقب (3701),أحمد (5/63).
(2) - البخاري الجهاد والسير (2845),مسلم فضائل الصحابة (2494),الترمذي تفسير القرآن (3305),أبو داود الجهاد (2650),أحمد (1/79).(2/131)
(حديث ثمامة بن حزن القشيري رضي الله عنه الثابت في صحيحي الترمذي والنسائي ) قال : شهدت الدار حين أشرف عليهم عثمان فقال: ائتوني بصاحبيكم اللذَيْنِ ألْبَاكُم عليَّ قال فجيء بهما فكأنهما جملان أو كأنهما حماران قال فأشرف عليهم عثمان فقال : أنشدكم بالله والإسلام هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وليس بها ماء يُسْتَعْذَبُ غيرُ بئر رومة فقال من يشتري بئر رومة فيجعل دلوه مع دلاء المسلمين بخير له منها في الجنة فاشتريتها من صلب مالي فأنتم اليوم تمنعوني أن أشرب حتى أشرب من ماء البحر قالوا اللهم نعم ،
قال أنشدكم بالله والإسلام هل تعلمون أن المسجد ضاق بأهله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من يشتري بقعة آل فلان فيزيدها في المسجد بخير منها في الجنة فاشتريتها من صلب مالي فأنتم اليوم تمنعوني أن أصلي فيها ركعتين قالوا اللهم نعم ،
قال أنشدكم بالله والإسلام هل تعلمون أني جهزت جيش العسرة من مالي قالوا اللهم نعم ثم قال أنشدكم بالله والإسلام هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان على ثبير مكة ومعه أبو بكر وعمر وأنا فتحرك الجبل حتى تساقطت حجارته بالحضيض قال فركضه برجله وقال اسكن ثبير فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان قالوا اللهم نعم قال الله أكبر شهدوا لي ورب الكعبة أني شهيد ثلاثا .
[*] قال العلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:(2/132)
( فَقَالَ ائْتُونِي بِصَاحِبَيْكُمُ الَّذَيْنِ أَلَّبَاكُمْ عَلَيَّ ) مِنْ أَلَّبْتُ عَلَيْهِ النَّاسَ أَيْ: جَمَعْتُهُمْ عَلَيْهِ وَحَمَلْتُهُمْ عَلَى قَصْدِهِ فَصَارُوا عَلَيْهِ إِلْبًا وَاحِدًا أَيِ: اجْتَمَعُوا عَلَيْهِ يَقْصِدُونَهُ ( أَنْشُدُكُمْ ) بِضَمِّ الشِّينِ أَيْ: أَسْأَلُكُمْ ( بِاللَّهِ، وَالْإِسْلَامِ ) أَيْ: بِحَقِّهِمَا يُقَالُ: نَشَدْتُ فُلَانًا أَنْشُدُهُ إِذَا قُلْتُ لَهُ نَشَدْتُكَ اللَّهَ أَيْ: سَأَلْتُكَ بِاللَّهِ كَأَنَّكَ ذَكَّرْتَهُ إِيَّاهُ .
( وَلَيْسَ بِهَا ) أَيْ: بِالْمَدِينَةِ، وَالْوَاوُ لِلْحَالِ ( مَاءٌ يُسْتَعْذَبُ ) أَيْ: يُعَدُّ عَذْبًا أَيْ: حُلْوًا ( غَيْرُ بِئْرِ رُومَةَ وقف عثمان له ) بِرَفْعِ غَيْرُ وَجُوِّزَ نَصْبُهُ، وَالْبِئْرُ مَهْمُوزٌ وَيُبْدَلُ " فَيُجْعَلُ دَلْوُهُ مَعَ دِلَاءِ الْمُسْلِمِينَ" بِكَسْرِ الدَّالِ جَمْعُ دَلْوٍ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْوَقْفِ الْعَامِّ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ وَقْفِ السِّقَايَاتِ، وَعَلَى خُرُوجِ الْمَوْقُوفِ عَنْ مِلْكِ الْوَاقِفِ حَيْثُ جَعَلَهُ مَعَ غَيْرِهِ سَوَاءً.
وَفِيهِ جَوَازُ تَحَدُّثِ الرَّجُلِ بِمَنَاقِبِهِ عِنْدَ الِاحْتِيَاجِ إِلَى ذَلِكَ لِدَفْعِ مَضَرَّةٍ، أَوْ تَحْصِيلِ مَنْفَعَةٍ، وَإِنَّمَا يُكْرَهُ ذَلِكَ عِنْدَ الْمُفَاخَرَةِ، وَالْمُكَاثَرَةِ، وَالْعُجْبِ.(2/133)
( مِنْ صُلْبِ مَالِي ) بِضَمِّ الصَّادِ أَيْ: أَصْلِهِ، أَوْ خَالِصِهِ ( حَتَّى أَشْرَبَ مِنْ مَاءِ الْبَحْرِ ) أَيْ: مِمَّا فِيهِ مُلُوحَةٌ كَمَاءِ الْبَحْرِ، وَالْإِضَافَةُ فِيهِ لِلْبَيَانِ أَيْ: مَاءٍ يُشْبِهُ الْبَحْرَ ( هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ الْمَسْجِدَ ) أَيْ: مَسْجِدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي الْمَدِينَةِ " فَيَزِيدُهَا" أَيْ: تِلْكَ الْبُقْعَةَ ( أَنْ أُصَلِّيَ فِيهَا ) أَيْ: فِي تِلْكَ الْبُقْعَةِ فَضْلًا عَنْ سَائِرِ الْمَسْجِدِ ( كَانَ عَلَى ثَبِيرِ مَكَّةَ ) بِفَتْحِ مُثَلَّثَةٍ وَكَسْرِ مُوَحَّدَةٍ وَتَحْتِيَّةٍ سَاكِنَةٍ فَرَاءٍ جَبَلٌ بِمَكَّةَ، وَفِي الْمِصْبَاحِ: جَبَلٌ بَيْنَ مَكَّةَ وَمِنًى وَهُوَ يُرَى مِنْ مِنًى، وَهُوَ عَلَى يَمِينِ الذَّاهِبِ مِنْهَا إِلَى مَكَّةَ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: ثَبِيرٌ جَبَلٌ بِالْمُزْدَلِفَةِ عَلَى يَسَارِ الذَّاهِبِ إِلَى مِنًى، وَهُوَ جَبَلٌ كَبِيرٌ مُشْرِفٌ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ بِمَعْنًى، وَبِمَكَّةَ جِبَالٌ، كُلٌّ مِنْهَا اسْمُهُ ثَبِيرٌ ( بِالْحَضِيضِ ) أَيْ: أَسْفَلَ الْجَبَلِ وَقَرَارِ الْأَرْضِ ( فَرَكَضَهُ بِرِجْلِهِ ) أَيْ: ضَرَبَهُ بِهَا " اسْكُنْ ثَبِيرُ " أَيْ: يَا ثَبِيرُ ( قَالَ ) أَيْ: عُثْمَانُ ( اللَّهُ أَكْبَرُ ) كَلِمَةٌ يَقُولُهَا الْمُتَعَجِّبُ عِنْدَ إِلْزَامِ الْخَصْمِ وَتَبْكِيتِهِ تَعَجُّبًا مِنْ إِقْرَارِهِمْ بِكَوْنِهِ عَلَى الْحَقِّ وَإِصْرَارِهِمْ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَاهُ ( ثَلَاثًا ) أَيْ: قَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ إِلَى آخِرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ لِزِيَادَةِ الْمُبَالَغَةِ فِي إِثْبَاتِ الْحُجَّةِ عَلَى الْخَصْمِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يُظْهِرَ لَهُمْ أَنَّهُ عَلَى الْحَقِّ وَأَنَّ خُصَمَاءَهُ عَلَى الْبَاطِلِ عَلَى طَرِيقٍ يُلْجِئُهُمْ إِلَى الْإِقْرَارِ بِذَلِكَ،(2/134)
أَوْرَدَ حَدِيثَ ثَبِيرِ مَكَّةَ وَأَنَّهُ مِنْ أَحَدِ الشَّهِيدَيْنِ مُسْتَفْهِمًا عَنْهُ فَأَقَرُّوا بِذَلِكَ، وَأَكَّدُوا إِقْرَارَهُمْ بِقَوْلِهِمْ: اللَّهُمَّ نَعَمْ، فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ تَعَجُّبًا وَتَعْجِيبًا وَتَجْهِيلًا لَهُمْ وَاسْتِهْجَانًا لِفِعْلِهِمْ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عُثْمَانَ عِنْدَ أَحْمَدَ وَالنَّسَائِيِّ: { أَنْشُدُ اللَّهَ رَجُلًا شَهِدَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ يَقُولُ: " هَذِهِ يَدُ رَسُولِ اللَّهِ وَهَذِهِ يَدُ عُثْمَانَ } (1) ".
عثمان رضي الله عنه وقحط المطر :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
__________
(1) - النسائي الأحباس (3609).(2/135)
عن ابن عباس قال: قحط المطر على عهد أبي بكر الصديق فاجتمع الناس إلى أبي بكر فقالوا: السماء لم تمطر والأرض لم تُنبت والناس في شدة شديدة فقال أبو بكر انصرفوا واصبروا فإنكم لا تُمسون حتى يُفرج الله الكريم عنكم، قال فما لبثنا أن جاء أجراء عثمان من الشام، فجاءته مائة راحلة بُراً- أو قال طعاماً- فاجتمع الناس إلى باب عثمان فقرعوا عليه الباب، فخرج إليهم عثمان في ملأ من الناس فقال: ما تشاءون ؟ قالوا: الزمان قد قحط : السماء لا تمطر والأرض لا تنبت والناس في شدة شديدة، وقد بلغنا أن عندك طعاماً فبعنا حتى نوسع على فقراء المسلمين . فقال عثمان: حباً وكرامة، ادخلوا فاشتروا، فدخل التجار فإذا الطعام موضوع في دار عثمان فقال يا معشر التجار كم تربحونني على شرائي من الشام ؟ قالوا للعشرة اثنا عشر، قال عثمان قد زادوني قال التجار يا أبا عمر ما بقي بالمدينة تجار غيرنا فمن زادك ؟ قال: زادني الله - تبارك وتعالى- بكل درهم عشرة أعندكم زيادة ؟ قالوا: اللهم لا، قال: فإني أشهد الله أني قد جعلت هذا الطعام صدقة على فقراء المسلمين، قال ابن عباس فرأيت من ليلتي رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام وهو برذون أبلق الذي فيه سواد وبياض عليه حُلَّة من نور، في رجليه نعلان من نور وبيده قصبة من نور وهو مستعجل. فقلت: يا رسول الله قد اشتَدّ شوقي إليك وإلى كلامك فأين تُبادر؟ قال: يا ابن عباس، إن عثمان قد تصدق بصدقة وإن الله قد قبلها منه وزوجه عروساً في الجنة وقد دعينا إلى عرسه.
عثمان رضي الله عنه وعتق رقبة كل جمعه :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ(2/136)
كان عثمان رضي الله عنه يعتق كل جمعه رقبة في سبيل الله منذ أسلم فجميع ما اعتقه ألفان وأربعمائة رقبة تقريباً. ( تيسر الكريم المنان في سيرة عثمان بن عفان). فقد أُثر عنه رضي الله عنه قوله: لقد اختبأتُ عند ربي عشراً: إني لرابع أربعة في الإسلام, وما تعتَّيْتُ ولا تمنيت,ولا وضعت يميني على فرجي منذ بايعت بها رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولا مرت بي جمعةٌ منذ أسلمت إلا وأنا أعتق فيها رقبة, إلا أن لا يكون عندي فأُعتقها بعد ذلك , ولا زنيت في جاهلية ولا إسلام قط .
عثمان بن عفان رضي الله عنه وإسقاط الدين :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
روي أن عثمان بن عفان رضي الله عنه كان له على طلحة بن عبيد الله - وكان من أجود الناس- خمسون ألفاً، فقال له طلحة يوماً:- قد تهيأ مالك فاقبضه، فقال له عثمان رضي الله عنه: هو لك معونة على مروءتك. (تيسر الكريم المنان في سيرة عثمان بن عفان )
عثمان بن عفان رضي الله عنه وإطعام الطعام :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
سن عثمان رضي الله عنه سنة جديدة، حيث كان يضع الطعام في المسجد في رمضان ويقول: هو للمتعبد الذي يتخلف في المسجد وابن السبيل والمعترين .
والمعتر هو: الفقير، المعترض للمعروف بدون سؤال .
كما بلغ عثمان رضي الله عنه أن أبا سمال الأسدي ومعه نفر من أهل الكوفة ينادي مناد لهم إذا قدم الميار (الميارهو جالب الميرة - والميرة: الطعام أن من كان من القبائل ليس لقومهم بالكوفة منزل، فمنزله على أبي سمال. فاتخذ عثمان رضي الله عنه بعض الدور كمنازل للضيافة ينزل بها الغرباء ممن ليس لهم منزل ، ومن هذه الدور منزل عبد الله بن مسعود في هذيل، وكان الأضياف ينزلون داره في هذيل إذا ضاق عليهم ما حول المسجد. (تيسر الكريم المنان في سيرة عثمان بن عفان )(2/137)
[*] وقال الحسن: رأيت عثمان بن عفان-رضي الله عنه-يقيل ينام وقت الظهيرة في المسجد وهو يومئذ خليفة، وقد أثر الحصى بجنبه فنقول: هذا أمير المؤمنين! هذا أمير المؤمنين!
وكان - رضي الله عنه- وهو خليفة يحمل حزمة الحطب على عاتقه.
[*] أخرج أبو نعيم في الحلية عن عبد الملك بن شداد قال: رأيت عثمان بن عفان رضي الله عنه يوم الجمعة على المنبر عليه إزار عدني غليظ ثمنه أربعة دراهم أو خمسة دراهم، ورَيْطة كوفية مُمَشَّقة. وعن الحسن وسئل عن القائلين في المسجد فقال: رأيت عثمان بن عفان رضي الله عنه يقيل في المسجد وهو يومئذٍ خليفة، قال: ويقوم وأثر الحصى بجنبه. قال: فيقال: هذا أمير المؤمنين هذا أمير المؤمنين وأخرجه أحمد كما في صفة الصفوة مثله. وعن شرحبيل بن مسلم أن عثمان رضي الله عنه كان يطعم الناس طعم الإِمارة ويدخل بيته فيأكل الخلَّ والزيت.
[*] وقال شرحبيل بن مسلم: كان عثمان -رضي الله عنه- يطعم الناس طعام الإمارة، وعندما يدخل بيته كان يأكل الخل والزيت .
[*] سيرة علي ابن أبي طالب - رضي الله عنه - و صورٌ من زهده :
وسوف نتناول شيئين أساسيين في هذه السيرة العطرة وهما :
أولاً : لمحات من سيرة علي ابن أبي طالب - رضي الله عنه - :
ثانياً : صورٌ مشرقة من زهد علي ابن أبي طالب - رضي الله عنه - :
وهاك تفصيل ذلك :
أولاً : لمحات من سيرة علي ابن أبي طالب - رضي الله عنه - :
[*] قال عنه الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء :(2/138)
سيد القوم، محب المشهود، ومحبوب المعبود، باب مدينة العلم والعلوم ورأس المخاطبات، ومستنبط الإشارات، راية المهتدين، ونور المطيعين، وولي المتقين، وإمام العادلين، أقدمهم إجابة وإيماناً، وأقومهم قضية وإيقاناً وأعظمهم حلماً، وأوقرهم علماً، علي بن أبي طالب كرم الله وجهه. قدوة المتقين، وزينة العارفين، المنبئ عن حقائق التوحيد، المشير إلى لوامع علم التفريد، صاحب القلب العقول، واللسان السؤول، والأذن الواعي، والعهد الوافي، فقاء عيون الفتن، ووقى من فنون المحن، فدفع الناكثين، ووضع القاسطين، ودمغ المارقين، الأخيشن في دين الله، الممسوس في ذات الله.
وقال أيضاً : وكان مزيناً من بين العباد، متحققاً بزينة الأبرار والزهاد.
وكان بذات الله عليماً، وعرفان الله في صدره عظيماً.
- اسم علي ابن أبي طالب - رضي الله عنه - ونسبه :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
هو على بن أبى طالب (عبد مناف) (1) بن عبد المطلب، ويقال له شيبة الحمد (2) بن هاشم بن عبد مناف بن قصى بن كلاب بن لؤى بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان (3) , فهو ابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويلتقي معه في جده الأول عبد المطلب بن هاشم، وولده أبو طالب شقيق عبد الله والد النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وكان اسم علىٍّ عند مولوده أسد، سمته بذلك أمه رضي الله عنها باسم أبيها أسد بن هاشم، ويدل على ذلك ارتجازه يوم خيبر حيث يقول:
__________
(1) أبو طالب اسمه عبد مناف.
(2) عبد المطلب اسمه شيبة الحمد، الاستيعاب (3/1089).
(3) الطبقات الكبرى (3/19)، صفة الصفوة (1/308)، البداية والنهاية (7/333)، الإصابة (1/507), الاستيعاب (10891), المنتظم (5/66), المعجم الكبير للطبراني (1/50).(2/139)
أنا الذي سمتني أمي حيدرة (1) ... كليث غابات كريه المنظرة (2)
وكان أبو طالب غائبًا فلما عاد، لم يعجبه هذا الأسم وسماه عليًا (3) .
- مولد علي ابن أبي طالب - رضي الله عنه - :
وُلِد قبل البعثة بعشر سنين ، وتربّى في حجر النبي صلى الله عليه وسلم ولم يُفارقه .
- كنية علي ابن أبي طالب - رضي الله عنه - :
أبو الحسن، نسبه إلى أبنه الأكبر الحسن وهو من ولد فاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ويكنى أيضًا بأبى تراب، كنية كناه بها النبي - صلى الله عليه وسلم - كما جاء في الحديث الآتي :
(حديث سهل بن سعد رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) قال : جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت فاطمة، فلم يجد علياً في البيت، فقال: ( أين ابن عمك ؟ ). قالت: كان بيني وبينه شيء فغاضبني، فخرج فلم يقل عندي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لإنسان : ( أنظر أين هو ؟ ). فجاء فقال يا رسول الله هو في المسجد راقد. فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مضطجع قد سقط رداؤه عن شقه وأصابه تراب، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسحه عنه ويقول: ( قم أبا تراب، قم أبا تراب ) .
، وكان - رضي الله عنه - يفرح إذا نودي بها، ومن كُنَاه: أبو الحسن والحسين وأبو القاسم الهاشمى (4) , وأبو السبطين (5) .
- لقب علي ابن أبي طالب - رضي الله عنه - :
أمير المؤمنين ، ورابع الخلفاء الراشدين (6) .
- إسلام علي ابن أبي طالب - رضي الله عنه - :
__________
(1) حيدرة: من أسماء الأسد.
(2) الرياض النضرة في مناقب العشرة، ص (617).
(3) غريب الحديث للخطابي (2/170)، خلافة علىّ بن أبى طالب، عبد الحميد بن على ناصر فقيهي ص (18).
(4) البداية والنهاية (7/223).
(5) أسد الغابة (4/16)، والسبطان: الحسن والحسين.
(6) تاريخ الإسلام للذهبي: ص (376)، البداية والنهاية (7/223)، خلاصة تهذيب الكمال (25012).(2/140)
ذكر ابن إسحاق أنَّ علي بن أبي طالب رضي الله عنه جاء وهما ـ أي النبي صلى الله عليه وسلم وخديجة رضي الله عنها ـ يصلِّين، فقل علي: يا محمد، ما هذا؟ قال: "دين الله الذي اصطفَى لنفسه وبعث به رسله، فأدعوك إلى الله وحده لا شريك له، وإلى عبادته، وأن تكفر اللات والعُزَّى"، فقال علي: هذا أمر لم أسمع به قبل اليوم، فلست بقاض أمراً حتى أُحدِّث به أبا طالب؛ فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفشيَ عليه سرَّه قبل أن يستعلن أمره، فقال له: يا علي، إذ لم تسلم فاكتم، فمكث عليٌّ تلك الليلة، ثم إنَّ الله أوقع في قلب عليَ الإِسلام فأصبح غادياً إلى رسول الله حتى جاءه، فقال: ماذا عرضت عليَّ يا محمد؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم "تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وتكفر باللات والعزَّى، وتبرأ من الأنداد"، ففعل عليٌّ وأسلم، ومكث يأتيه على خوف من أبي طالب، وكتم عليٌّ إسلامَه ولم يظهره، كذا في البداية .
- مناقب علي ابن أبي طالب - رضي الله عنه - :
للخليفة الراشد علي ابن أبي طالب - رضي الله عنه - مناقب عظيمة وفضائل جسيمة وهاك غيضٌ من فيض ونقطةٌ من بحر مما ورد في ذلك جملةً وتفصيلاً :
أولاً مناقب علي ابن أبي طالب - رضي الله عنه - جملة ً :
(1) علي ابن أبي طالب - رضي الله عنه - يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله بنص السنة الصحيحة :
(2) علي ابن أبي طالب - رضي الله عنه - من النبي - صلى الله عليه وسلم - والنبي - صلى الله عليه وسلم - منه بنص السنة الصحيحة :
(3) علي ابن أبي طالب - رضي الله عنه - مولى من كان النبي - صلى الله عليه وسلم - مولاه بنص السنة الصحيحة :
(4) منزلة علي ابن أبي طالب - رضي الله عنه - من النبي - صلى الله عليه وسلم - بمنزلة هارون من موسى إلا أنه ليس نبي بعدي :
(5) لا يقضي دين النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا هو أو علي :(2/141)
(6) لا يحب علي إلا مؤمن ولا يُبْغِضه إلا منافق بنص السنة الصحيحة :
(7) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أَمَرَ بِسَدِّ الْأَبْوَابِ إِلَّا بَابَ عَلِيٍّ بنص السنة الصحيحة :
(8) علي أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الصِّبْيَانِ :
(9) علي أحد العشرة المبشرين بالجنة بنص السنة الصحيحة :
(10) ومن مناقبه - رضي الله عنه - أنه زوج فاطمة البتول رضي الله عنها ، سيدة نساء العالمين :
(11) ومن مناقبه - رضي الله عنه - أنه اجتمع له من الفضائل الجمّة ما لم يجتمع لغيره :
(12) ومن مناقبه شدة تواضعه - رضي الله عنه - :
(13) ومن مناقبه - رضي الله عنه - أن قاتله أشقى الناس بنص السنة الصحيحة :
(14) ومن مناقبه - رضي الله عنه - أنه أقضى الصحابة بنص السنة الصحيحة :
(15) ومن مناقبه - رضي الله عنه - شدة شجاعته :
(16) ومن مناقبه - رضي الله عنه - كريم خُلقه :
(17) ومن مناقبه - رضي الله عنه - شدة ابتلاؤه :
(18) ومن مناقبه - رضي الله عنه - إنصافه لخصومه :
(19) ومن مناقبه أن النبي بشره بالشهادة :
(20) ومن مناقبه شدة ورعه في مال المسلمين :
(21) ومن مناقبه إنكاره على من فضله على أبي بكر وعمر :
( 22) اعترافه بفضل عثمان وإنصافه له :
ثانياً مناقب علي ابن أبي طالب - رضي الله عنه - تفصيلا ً :
(1) علي ابن أبي طالب - رضي الله عنه - يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله بنص السنة الصحيحة :
كما في الحديث الآتي :(2/142)
( حديث سهل بن سعد رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال يوم خيبر: (لأعطين هذه الراية غدا رجلا يفتح الله على يديه، يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله). قال: فبات الناس يدركون ليلتهم أيهم يعطاها، فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يرجو أن يعطاها، فقال: (أين علي ابن أبي طالب). فقيل: هو يا رسول الله يشتكي عينيه، قال: (فأرسلوا إليه). فأتي به فبصق رسول الله صلى الله عليه وسلم في عينيه ودعا له، فبرأ حتى كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية، فقال علي: يا رسول الله، أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟ فقال: (انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه، فو الله لأن يهدي الله بك رجلا واحد، خير لك من أن يكون لك حمر النعم .
[*] قال الإمام النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم :
( يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله) منها جواز الثناء على من فعل جميلاً واستحباب ذلك إذا ترتب عليه مصلحة .
(فبات الناس يدركون ليلتهم أيهم يعطاها) :
( فو الله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من أن تكون لك حمر النعم ) :
هي الإبل الحمر وهي أنفس أموال العرب يضربون بها المثل في نفاسة الشيء وأنه ليس هناك أعظم منه، وقد سبق بيان أن تشبيه أمور الاَخرة بإعراض الدنيا إنما هو للتقريب من الإفهام وإلا فذرة من الاَخرة الباقية خير من الأرض بأسرها وأمثالها معها لو تصورت، وفي هذا الحديث بيان فضيلة العلم والدعاء إلى الهدى وسن السنن الحسنة.
( حديث أُمُّ عَطِيَّةَ رضي الله عنها الثابت في صحيح الترمذي ) قَالَتْ : بَعَثَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - جَيْشًا فِيهِمْ عَلِيٌّ قَالَتْ فَسَمِعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ رَافِعٌ يَدَيْهِ يَقُولُ اللَّهُمَّ لَا تُمِتْنِي حَتَّى تُرِيَنِي عَلِيًّا .(2/143)
[*] قال العلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:
( فَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ رَافِعٌ يَدَيْهِ يَقُولُ ) أَيْ: حِينَ إِرْسَالِهِ، أَوْ عِنْدَ تَوَقُّعِ إِقْبَالِهِ "
( اللَّهُمَّ لَا تُمِتْنِي ) : ِضَمٍّ فَكَسْرٍ مِنَ الْإِمَاتَةِ أَيْ: لَا تَقْبِضْ رُوحِي .
( حَتَّى تُرِيَنِي عَلِيًّا ) بِضَمٍّ فَكَسْرٍ مِنَ الْإِرَاءَةِ ، أَيْ: رُجُوعَهُ بِالسَّلَامَةِ .
(2) علي ابن أبي طالب - رضي الله عنه - من النبي - صلى الله عليه وسلم - والنبي - صلى الله عليه وسلم - منه بنص السنة الصحيحة :
كما في الحديث الآتي :
( حديث عمران بن حصين رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي ) قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشا واستعمل عليهم علي بن أبي طالب فمضى في السرية فأصاب جارية فأنكروا عليه وتعاقد أربعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا إذا لقينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرناه بما صنع علي وكان المسلمون إذا رجعوا من السفر بدءوا برسول الله صلى الله عليه وسلم فسلموا عليه ثم انصرفوا إلى رحالهم فلما قدمت السرية سلموا على النبي صلى الله عليه وسلم فقام أحد الأربعة فقال يا رسول الله ألم تر إلى علي بن أبي طالب صنع كذا وكذا فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قام الثاني فقال مثل مقالته فأعرض عنه ثم قام الثالث فقال مثل مقالته فأعرض عنه ثم قام الرابع فقال مثل ما قالوا فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم والغضب يعرف في وجهه فقال ما تريدون من علي ما تريدون من علي ما تريدون من علي إن عليا مني وأنا منه وهو ولي كل مؤمن بعدي .
[*] قال العلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:(2/144)
( فَأَصَابَ جَارِيَةً ) أَيْ: وَقَعَ عَلَيْهَا وَجَامَعَهَا، وَاسْتُشْكِلَ وُقُوعُ عَلِيٍّ عَلَى الْجَارِيَةِ بِغَيْرِ اسْتِبْرَاءٍ وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ بِكْرًا غَيْرَ بَالِغٍ وَرَأَى أَنَّ مِثْلَهَا لَا يُسْتَبْرَأُ كَمَا صَارَ إِلَيْهِ غَيْرُهُ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ حَاضَتْ عَقِبَ صَيْرُورَتِهَا لَهُ ثُمَّ طَهُرَتْ بَعْدَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ ثُمَّ وَقَعَ عَلَيْهَا، وَلَيْسَ فِي السِّيَاقِ مَا يَدْفَعُهُ
( فَأَنْكَرُوا عَلَيْهِ):أَيْ عَلَى عَلِيٍّ، وَوَجْهُ إِنْكَارِهِمْ أَنَّهُمْ رَأَوْا أَنَّهُ أَخَذَ مِنَ الْمَغْنَمِ فَظَنُّوا أَنَّهُ غَلَّ .
( وَتَعَاقَدَ ) أَيْ: تَعَاهَدَ
فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم والغضب يعرف في وجهه : جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ
فقال ما تريدون من علي ما تريدون من علي ما تريدون من علي
(إن عليا مني وأنا منه ) أَيْ: فِي النَّسَبِ وَالصِّهْرِ، وَالْمُسَابَقَةِ، وَالْمَحَبَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَزَايَا، وَلَمْ يُرِدْ مَحْضَ الْقَرَابَةِ وَإِلَّا فَجَعْفَرٌ شَرِيكُهُ فِيهَا، قَالَهُ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ { قَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي شَأْنِ جُلَيْبِيبٍ - رضي الله عنه - " هَذَا مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ " } (1) مَعْنَاهُ الْمُبَالَغَةُ فِي اتِّحَادِ طَرِيقَتِهِمَا، وَاتِّفَاقِهِمَا فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى.
( حديث حبشي بن جنادة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : عَلِيٌّ مِنِّي وَأَنَا مِنْ عَلِيٍّ وَلَا يُؤَدِّي عَنِّي إِلَّا أَنَا أَوْ عَلِيٌّ .
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
__________
(1) - مسلم فضائل الصحابة (2472),أحمد (4/422).(2/145)
( عليٌّ مني وأنا من عليٍّ ) أي هو متصل بي وأنا متصل به في الاختصاص والمحبة وغيرهما ومن هذه تسمى اتصالية من قولهم فلان كأنه بعضه متحد به لاختلاطهما
( ولا يؤدي عني إلا أنا أو عليّ ) كان الظاهر أن يقال لا يؤدي عني إلا عليّ فأدخل أنا تأكيداً لمعنى الاتصال في قوله عليّ مني وأنا من عليّ وأخرج الطبراني عن وهب بن حمزة قال : صحبت علياً إلى مكة فرأيت منه بعض ما أكره فقلت : لئن رجعت لأشكونك إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فلما قدمت قلت : يا رسول اللّه رأيت من عليّ كذا وكذا فقال : لا تقل هذا فهو أولى الناس بكم بعدي رواه الطبراني قال الهيثمي : فيه دكين ذكره أبو حاتم ولم يضعفه أحد وبقية رجاله وثقوا اهـ . ( تتمة ) أخرج أحمد من طريق الأجلح الكندي عن ابن بريدة عن أبيه قال : بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعثين إلى اليمن على أحدهما عليّ والآخر خالد فقال : إذا التقيتما فعليّ على الناس وإن افترقتما فكل منكم على حده فظهر المسلمون فسبوا فاصطفى عليّ امرأة من السبي لنفسه فكتب خالد إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم بذلك فلما أتيته دفعت الكتاب فقرئ عليه فرأيت الغضب في وجهه فقلت : يا رسول اللّه هذا مكان العائذ بك فقال : لا تقع في عليّ فإنه مني وأنا منه وهو وليكم بعدي قال جدنا للأم الزين العراقي : الأجلح الكندي وثقه الجمهور وباقيهم رجاله رجال الصحيح وروى الترمذي والنسائي من حديث عمران بن الحصين في قصة طويلة مرفوعاً ما تريدون من عليٍّ إن علياً مني وآنا من عليّ وهو ولي كل مؤمن بعدي وقال الترمذي : حديث حسن غريب .(2/146)
{ تنبيه } : احْتَجَّ الشِّيعَةُ بِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم - " { إِنَّ عَلِيًّا مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ } (1) " عَلَى أَنَّ عَلِيًّا - رضي الله عنه - أَفْضَلُ مِنْ سَائِرِ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- زَعْمًا مِنْهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - جَعَلَ عَلِيًّا مِنْ نَفْسِهِ حَيْثُ قَالَ: " { إِنَّ عَلِيًّا مِنِّي } (2) " وَلَمْ يَقُلْ هَذَا الْقَوْلَ فِي غَيْرِ عَلِيٍّ. قُلْتُ: زَعْمُهُمْ هَذَا بَاطِلٌ جِدًّا فَإِنَّهُ لَيْسَ مَعْنَى قَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم - " { إِنَّ عَلِيًّا مِنِّي } (3) " أَنَّهُ جَعَلَهُ مِنْ نَفْسِهِ حَقِيقَةً، بَلْ مَعْنَاهُ هُوَ مَا قَدْ عَرَفْتَ آنِفًا، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: لَمْ يَقُلْ هَذَا الْقَوْلَ فِي غَيْرِ عَلِيٍّ فَبَاطِلٌ أَيْضًا فَإِنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ فِي شَأْنِ جُلَيْبِيبٍ -رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ- فَفِي حَدِيثِ أَبِي بَرْزَةَ { أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ فِي مَغْزًى لَهُ فَأَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْهِ فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: " هَلْ تَفْقِدُونَ مِنْ أَحَدٍ " ؟ قَالُوا نَعَمْ فُلَانًا وَفُلَانًا وَفُلَانًا الْحَدِيثَ، وَفِيهِ قَالَ: " لَكِنِّي أَفْقِدُ جُلَيْبِيبًا فَاطْلُبُوهُ " فَطُلِبَ فِي الْقَتْلَى فَوَجَدُوهُ إِلَى جَنْبِ سَبْعَةٍ قَدْ قَتَلَهُمْ ثُمَّ قَتَلُوهُ. فَأَتَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَوَقَفَ عَلَيْهِ فَقَالَ: " قَتَلَ سَبْعَةً ثُمَّ قَتَلُوهُ هَذَا مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ " } (4)
__________
(1) - الترمذي المناقب (3712),أحمد (4/437).
(2) - الترمذي المناقب (3712),أحمد (4/437).
(3) - الترمذي المناقب (3712),أحمد (4/437).
(4) - مسلم فضائل الصحابة (2472),أحمد (4/422)..(2/147)
وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَقَالَ - صلى الله عليه وسلم - هَذَا الْقَوْلَ فِي شَأْنِ الْأَشْعَرِيِّينَ. فَفِي حَدِيثِ أَبِي مُوسَى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - " { إِنَّ الْأَشْعَرِيِّينَ إِذَا أَرَمَلُوا فِي الْغَزْوِ، أَوْ قَلَّ طَعَامُ عِيَالِهِمْ بِالْمَدِينَةِ جَمَعُوا مَا كَانَ عِنْدَهُمْ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ ثُمَّ اقْتَسَمُوهُ بَيْنَهُمْ فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ بِالسَّوِيَّةِ فَهُمْ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ } (1) ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ، وَقَالَ - صلى الله عليه وسلم - هَذَا الْقَوْلَ فِي شَأْنِ بَنِي نَاجِيَةَ، فَفِي حَدِيثِ سَعْدٍ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لِبَنِي نَاجِيَةَ: " أَنَا مِنْهُمْ وَهُمْ مِنِّي " } (2) .
__________
(1) - البخاري الشركة (2354),مسلم فضائل الصحابة (2500).
(2) - أحمد (1/169).(2/148)
رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ " وَهُوَ وَلِيُّ كُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْ بَعْدِي " كَذَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ بِزِيَادَةِ مِنْ، وَوَقَعَ فِي بَعْضِهَا بَعْدِي بِحَذْفِ مِنْ وَكَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ فِي مُسْنَدِهِ، وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهِ الشِّيعَةُ عَلَى أَنَّ عَلِيًّا - رضي الله عنه - كَانَ خَلِيفَةً بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ منتعصب الشيعه للامام على - صلى الله عليه وسلم - مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ، وَاسْتِدْلَالُهُمْ بِهِ عَنْ هَذَا بَاطِلٌ فَإِنَّ مَدَارَهُ عَنْ صِحَّةِ زِيَادَةِ لَفْظِ بَعْدِي وَكَوْنُهَا صَحِيحَةً مَحْفُوظَةً قَابِلَةً لِلِاحْتِجَاجِ، وَالْأَمْرُ لَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّهَا قَدْ تَفَرَّدَ بِهَا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ وَهُوَ شِيعِيٌّ بَلْ هُوَ غَالٍ فِي التَّشَيُّعِ، قَالَ فِي تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ: قَالَ الدُّورِيُّ: كَانَ جَعْفَرٌ إِذَا ذَكَرَ مُعَاوِيَةَ شَتَمَهُ وَإِذَا ذَكَرَ عَلِيًّا قَعَدَ يَبْكِي، وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ فِي كِتَابِ الثِّقَاتِ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ أَبِي كَامِلٍ حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ بَيْنَ يَدَيْ أَبِيهِ قَالَ: بَعَثَنِي أَبِي إِلَى جَعْفَرٍ، فَقُلْتُ: بَلَغَنَا أَنَّكَ تَسُبُّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ ؟ قَالَ: أَمَّا السَّبُّ فَلَا وَلَكِنِ الْبُغْضُ مَا شِئْتُ فَإِذَا هُوَ رَافِضِيٌّ الْحِمَارُ.(2/149)
انْتَهَى فَسَبُّهُ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا- يُنَادِي بِأَعْلَى نِدَاءٍ أَنَّهُ كَانَ غَالِيًا فِي التَّشَيُّعِ، لَكِنْ قَالَ ابْنُ عَدِيٍّ عَنْ زَكَرِيَّاءَ السَّاجِيِّ: وَأَمَّا الْحِكَايَةُ الَّتِي حُكِيَتْ عَنْهُ فَإِنَّمَا عَنَى بِهِ جَارَيْنِ كَانَا لَهُ قَدْ تَأَذَّى بِهِمَا يُكَنَّى أَحَدُهُمَا: أَبَا بَكْرٍ، وَيُسَمَّى الْآخَرُ عُمَرُ فَسُئِلَ عَنْهُمَا فَقَالَ: أَمَّا السَّبُّ فَلَا وَلَكِنْ بُغْضًا مَا لَكَ وَلَمْ يَعْنِ بِهِ الشَّيْخَيْنِ، أَوْ كَمَا قَالَ.انْتَهَى. فَإِنْ كَانَ كَلَامُ ابْنِ عَدِيٍّ هَذَا صَحِيحًا فَغُلُوُّهُ مُنْتَفٍ، وَإِلَّا فَهُوَ ظَاهِرٌ، وَأَمَّا كَوْنُهُ شِيعِيًّا فَهُوَ بِالِاتِّفَاقِ، قَالَ فِي التَّقْرِيبِ: جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ الضُّبَعِيُّ أَبُو سُلَيْمَانَ الْبَصْرِيُّ صَدُوقٌ زَاهِدٌ لَكِنَّهُ كَانَ يَتَشَيَّعُ.انْتَهَى، وَكَذَا فِي الْمِيزَانِ وَغَيْرِهِ، وَظَاهِرٌ أَنَّ قَوْلَهُ بَعْدِي فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِمَّا يَقْوَى بِهِ مُعْتَقَدُ الشِّيعَةِ وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي مَقَرِّهِ أَنَّ الْمُبْتَدِعَ إِذَا رَوَى شَيْئًا يُقَوِّي بِهِ بِدْعَتَهُ فَهُوَ مَرْدُودٌ، قَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْحَقِّ الدَّهْلَوِيُّ فِي مُقَدِّمَتِهِ: وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ إِنْ كَانَ دَاعِيًا إِلَى بِدْعَتِهِ وَمُرَوِّجًا لَهُ رُدَّ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ قُبِلَ إِلَّا أَنْ يَرْوِيَ شَيْئًا يُقَوِّي بِهِ بِدْعَتَهُ فَهُوَ مَرْدُودٌ قَطْعًا.انْتَهَى.
(3) علي ابن أبي طالب - رضي الله عنه - مولى من كان النبي - صلى الله عليه وسلم - مولاه بنص السنة الصحيحة : كما في الحديث الآتي :
( حديث ابن عباس رضي الله عنهما الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : علي بن أبي طالب مولى من كنت مولاه .(2/150)
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير :
( علي بن أبي طالب مولى من كنت مولاه ) قيل في معناه من كنت أتولاه فعليّ يتولاه قال الحرالي : والمولى هو الولي اللازم الولاية القائم بها الدائم عليها لمن تولاه بإسناد أمره إليه فيما هو ليس بمستطيع له .
(4) منزلة علي ابن أبي طالب - رضي الله عنه - من النبي - صلى الله عليه وسلم - بمنزلة هارون من موسى إلا أنه ليس نبي بعدي :
( حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى تبوك، واستخلف عليا، فقال: أتخلفني في الصبيان والنساء؟ قال: (ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟ إلا أنه ليس نبي بعدي .
( حديث أبي سعيد رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : علي مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي .
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
( عليّ مني بمنزلة هارون من ) أخيه ( موسى ) يعني متصل بي ونازل مني منزلته حين خلفه في قومه بني إسرائيل لما خرج إلى الطور فالباء زائدة كما قاله الكرماني ولما كان وجه الشبه مبهماً في الجملة بينه بقول(2/151)
( إلا أنه لا نبي بعدي ) ينزل بشرع ناسخ لهذه الشريعة نفى الاتصال به من جهة النبوة فبقى من جهة الخلافة لأنها تلي النبوة في الرتبة ثم إنها محتملة لأن تكون في حياته أو بعد مماته فخرج بعد مماته لأن هارون مات قبل موسى بنحو أربعين سنة فتعين أن يكون في حياته عند مسيره إلى غزوة تبوك كمسير موسى إلى مناجاة ربه ذكره جمع منهم القرطبي قال : وإنما قال إلا إلخ تحذيراً مما وقع فيه قوم موسى من غلاة الروافض فإنهم زعموا أن علياً نبي يوحى إليه وتناهى بعضهم في الغلو إلى أن صار في عليّ ما صارت إليه النصارى في المسيح قالوا : إنه الإله وقد حرق عليّ من قال ذلك فافتتن به جماعة منهم وزادهم ضلالاً فقالوا : الآن تحققنا أنه اللّه لأنه لا يعذب بالنار إلا اللّه ، وهذه كلها أقوال عوامّ جهال سخفاء العقول لا يبالي أحدهم بما يقول فلا ينفع معهم البرهان لكن السيف والسنان .
(5) لا يقضي دين النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا هو أو علي :
( حديث حبشي بن جنادة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : عَلِيٌّ مِنِّي وَأَنَا مِنْ عَلِيٍّ وَلَا يُؤَدِّي عَنِّي إِلَّا أَنَا أَوْ عَلِيٌّ .
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
( عليٌّ مني وأنا من عليٍّ ) أي هو متصل بي وأنا متصل به في الاختصاص والمحبة وغيرهما ومن هذه تسمى اتصالية من قولهم فلان كأنه بعضه متحد به لاختلاطهما(2/152)
( ولا يؤدي عني إلا أنا أو عليّ ) كان الظاهر أن يقال لا يؤدي عني إلا عليّ فأدخل أنا تأكيداً لمعنى الاتصال في قوله عليّ مني وأنا من عليّ وأخرج الطبراني عن وهب بن حمزة قال : صحبت علياً إلى مكة فرأيت منه بعض ما أكره فقلت : لئن رجعت لأشكونك إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فلما قدمت قلت : يا رسول اللّه رأيت من عليّ كذا وكذا فقال : لا تقل هذا فهو أولى الناس بكم بعدي رواه الطبراني قال الهيثمي : فيه دكين ذكره أبو حاتم ولم يضعفه أحد وبقية رجاله وثقوا اهـ . ( تتمة ) أخرج أحمد من طريق الأجلح الكندي عن ابن بريدة عن أبيه قال : بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعثين إلى اليمن على أحدهما عليّ والآخر خالد فقال : إذا التقيتما فعليّ على الناس وإن افترقتما فكل منكم على حده فظهر المسلمون فسبوا فاصطفى عليّ امرأة من السبي لنفسه فكتب خالد إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم بذلك فلما أتيته دفعت الكتاب فقرئ عليه فرأيت الغضب في وجهه فقلت : يا رسول اللّه هذا مكان العائذ بك فقال : لا تقع في عليّ فإنه مني وأنا منه وهو وليكم بعدي قال جدنا للأم الزين العراقي : الأجلح الكندي وثقه الجمهور وباقيهم رجاله رجال الصحيح وروى الترمذي والنسائي من حديث عمران بن الحصين في قصة طويلة مرفوعاً ما تريدون من عليٍّ إن علياً مني وآنا من عليّ وهو ولي كل مؤمن بعدي وقال الترمذي : حديث حسن غريب .
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع)أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:علي يقضي ديني .
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:(2/153)
( عليّ يقضي ديني ) بفتح الدال أخرج الطبراني عن ذؤيب أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لما احتضر قالت له صفية : لكل امرأة من نسائك أهل تلجأ إليهم ، وإنك أجليت أهلي فإن حدث حدث فإلى من ألجأ؟ قال : إلى عليّ . قال الهيثمي : رجاله رجال الصحيح وأخرج البزار عن جابر دعا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم العباس فقال : اضمن عني ديني ومواعيدي قال : لا أطيق ذلك فوقع به ابنه عبد اللّه فقال : فعل اللّه بك من شيخ فقال : دعني فدعا عليّ بن أبي طالب فقال : نعم هي عليّ فضمنها فلما قدم على أبي بكر مال قال : هذا مال اللّه وما أفاء على المسلمين فحق ما قضى عن نبيه فقضاها قال الهيثمي : فيه إسماعيل بن يحيى متروك .
(6) لا يحب علي إلا مؤمن ولا يُبْغِضه إلا منافق بنص السنة الصحيحة : كما جاء في الحديث الآتي :
( حديث عليّ ابن أبي طالب رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إنه لعهد النبي الأمي صلى الله عليه وسلم إلي أن لا يحبني إلا مؤمن ولا يُبْغِضُنِي إلا منافق .
[*] قال جابر بن عبد الله: ما كنا نعرف منافقينا معشر الأنصار إلا ببغضهم عليا.
( حديث عمرو بن شاس رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :
من آذى عليا فقد آذاني .
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
( من آذى علياً ) بن أبي طالب
( فقد آذاني ) قال ذلك ثلاثاً وقد كانت الصحابة يعرفون له ذلك ، أخرج الدارقطني عن عمر أنه سمع رجلاً يقع في عليّ فقال : ويحك أتعرف علياً هذا ابن عمه ـ وأشار إلى قبر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ـ واللّه ما آذيت إلا هذا في قبره . وروى الإمام أحمد في زوائد المسند بلفظ إنك إن انتقصته فقد آذيت هذا في قبره .
إنكار عمر على رجل نال من علي :(2/154)
وأخرج ابن عساكر عن عروة رضي الله عنه أن رجلاً وقع في علي بمحضر من عمر رضي الله عنهما. فقال عمر: تعرف صاحب هذا القبر؛ محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، وعلي بن أبي طالب بن عبد المطلب لا تذكر علياً إلا بخير، فإنك إن آذيته آذيت هذا في قبره. كذا في المنتخب .
وأخرج أبو يَعْلَى عن أبي بكر بن خالد بن عُرْفْطة أنه أتى سعد بن مالك رضي الله عنه فقال: بلغني أنكم تُعرَضون على سبِّ علي بالكوفة فهل سببته؟ قال: مَعاذ الله والذي نفس سعد بيده لقدسمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في علي شيئاً لو وُضع المنشار على مفرقي ما سببته أبداً. قال الهيثمي : إسناده حسن.
(7) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أَمَرَ بِسَدِّ الْأَبْوَابِ إِلَّا بَابَ عَلِيٍّ بنص السنة الصحيحة : كما في الحديث الآتي :
( حديث ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما الثابت في صحيح الترمذي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أَمَرَ بِسَدِّ الْأَبْوَابِ إِلَّا بَابَ عَلِيٍّ .
[*] قال العلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:
( أَمَرَ بِسَدِّ الْأَبْوَابِ ) أَيِ: الْمَفْتُوحَةِ فِي الْمَسْجِدِ ( إِلَّا بَابَ عَلِيٍّ النبي - صلى الله عليه وسلم - )
{ تنبيه } : وَضَعَتْ الرَّوَافِضُ هذا الحديث فِي مُعَارَضَةِ حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ الآتي :(2/155)
( حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري ) قال: خطب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (إن الله خير عبدا بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ما عند الله). فبكى أبو بكر رضي الله عنه، فقلت في نفسي: ما يبكي هذا الشيخ؟ إن يكن الله خير عبدا بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ما عند الله، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو العبد، وكان أبو بكر أعلمنا، قال: يا أبا بكر لا تبك، إن أمنَّ الناس علي في صحبته وماله أبي بكر، ولو كنت متخذا خليلا من أمتي لاتخذت أبا بكر، ولكن أخوة الإسلام ومودته، لا يبقين في المسجد باب إلا سد، إلا باب أبي بكر .
ورَدَّ الإمام ابْنُ حَجَرٍ عَلَيْهِ، وَقَالَ: لِحَدِيثِ عَلِيٍّ طُرُقٌ كَثِيرَةٌ بَلَغَتْ بَعْضُهَا حَدَّ الصِّحَّةِ وَبَعْضُهَا مَرْتَبَةَ الْحَسَنِ وَلَا مُعَارَضَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِسَدِّ الْأَبْوَابِ وَفَتْحِ بَابِ عَلِيٍّ كَانَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ، وَالْأَمْرُ بِسَدِّ الْخَوْخَاتِ إِلَّا خَوْخَةَ أَبِي بَكْرٍ كَانَ فِي آخِرِ الْأَمْرِ فِي مَرَضِهِ حِينَ بَقِيَ مِنْ عُمْرِهِ ثَلَاثَةٌ، أَوْ أَقَلُّ .
(8) عليٌ أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الصِّبْيَانِ :
( حديث ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما الثابت في صحيح الترمذي) قَالَ: أَوَّلُ مَنْ صَلَّى عَلِيٌّ .
[*] قال العلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:
( أَوَّلُ مَنْ صَلَّى ) أَيْ: أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الصِّبْيَانِ
( عَلِيٌّ ) أَيِ: ابْنُ أَبِي طَالِبٍ
( حديث زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي ) قَالَ: أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ عَلِيٌّ .
[*] قال العلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:
( أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ) أَيْ: أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الصِّبْيَانِ
( عَلِيٌّ ) أَيِ: ابْنُ أَبِي طَالِبٍ(2/156)
(9) علي أحد العشرة المبشرين بالجنة بنص السنة الصحيحة : كما في الحديث الآتي :
( حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أبو بكر في الجنة وعمر في الجنة وعثمان في الجنة وعليٌ في الجنة وطلحة في الجنة والزبير في الجنة وعبد الرحمن بن عوف في الجنة وسعدُ ابن أبي وقاص في الجنة وسعيدُ ابن زيد في الجنة وأبو عبيدة بن الجراح في الجنة .
(حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له يا علي إن لك كنزا في الجنة وإنك ذو قرنيها فلا تتبع النظرة النظرة فإنما لك الأولى وليست لك الآخرة .
[*] أورد الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الشعبي يقول أدركت خمس مئة أو أكثر من الصحابة يقولون علي وعثمان وطلحة والزبير في الجنة .
قال الذهبي رحمه الله :
قلت لأنهم من العشرة المشهود لهم بالجنة ومن البدريين ومن أهل بيعة الرضوان ومن السابقين الأولين الذين أخبر تعالى أنه رضي عنهم ورضوا عنه ولأن الأربعة قتلوا ورزقوا الشهادة فنحن محبون لهم باغضون للأربعة الذين قتلوا الأربعة .أهـ
(10) ومن مناقبه - رضي الله عنه - أنه زوج فاطمة البتول رضي الله عنها ، سيدة نساء العالمين :
وهو أبو السبطين الحسن والحسين ، سيدا شباب أهل الجنة .
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة وأبوهما خير منهما .
(11) ومن مناقبه - رضي الله عنه - أنه اجتمع له من الفضائل الجمّة ما لم يجتمع لغيره :
فمن ذلك ما أخرجه ابن عساكر أن علياً رضي الله عنه قال :
محمد النبي أخي وصهري * وحمزة سيد الشهداء عمي
وجعفر الذي يمسي ويضحى * يطير مع الملائكة ابن أمي
وبنت محمد سكني وعرسي * مَسُوطٌ لحمها بدمي ولحمي
وسبطا أحمد ولداي منها * فأيكم له سهم كسهمي ؟(2/157)
(12) ومن مناقبه شدة تواضعه - رضي الله عنه - :
( حديث محمد ابن الحنفية رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري ) قال: قلت لأبي: أي الناس خير بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أبو بكر، قلت: ثم من؟ قال: ثم عمر، وخشيت أن يقول عثمان، قلت: ثم أنت؟ قال: ما أنا إلا رجل من المسلمين .
[*] قال عليّ رضي الله عنه : لا أوتي برجل فضلني على أبي بكر وعمر ، إلا جلدته حد المفتري .
أخرج ابن عساكر، وأبو موسى المديني في كتاب استدعاء اللباس عن أصْبَغ بن نُباتة قال: جاء رجل إلى علي رضي الله عنه فقال: يا أمير المؤمنين، إن لي إليك حاجة قد رفعتها إلى الله قبل أن أرفعها إليك، فإن أنت قضيتها حمدتُ الله وشكرتُك، وإن لم تقضِها حمدت الله عذرتك؛ فقال علي: أكتب على الأرض؛ فإني أكره أن أرى ذلّ السؤال في وجهك، فكتب: إني محتاج، فقال علي: عليَّ بحلّة، فأُتيَ بها فأخذها الرجل فلبسها ثم أنشأ يقول:
كسوتني حلّة تبلَى محاسنها
فسوف أكسوك من حسن الثنا حُلَلا
إِن نلت حسن ثنائي نلتَ مكرمة
ولست تبغي بما قد قلتُه بدلا
إنَّ الثناء لَيُحيي ذكر صاحبه
كالغيث يُحيي نَدَاه السهل والجبلا
لا تزهد الدهرَ في خير تُوفَّقُه
فكل عبد سيُجزى بالذي عمِلا
فقال علي : عليَّ بالدنانير فأُتي بمائة دينار فدفعها إليه، قال الأصبغ: فقلت: يا أمير المؤمنين، حلة ومائة دينار؟ قال: نعم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أنزلوا الناس منازلهم" وهذه منزلة هذا الرجل عندي. كذا في الكنز .
(13) ومن مناقبه - رضي الله عنه - أن قاتله أشقى الناس بنص السنة الصحيحة : كما في الحديث الآتي :
( حديث عمار بن ياسر رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ألا أحدثكم بأشقى الناس رجلين ؟ أحيمر ثمود الذي عقر الناقة و الذي يضربك يا علي على هذه حتى يبل منها هذه .
(يضربك يا علي على هذه ) :
حتى يبل منها هذه ) يعني قرنه .(2/158)
( حتى يبل منها هذه ) من الدم _ يعني لحيته
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
( ألا أحدثكم ) في رواية أحمد والطبراني أحدثكما خطاباً لعمار وعليٌّ لما رآهما وقد اضطجعا في صور من النخل فناما فحركهما برجله وقال : ألا أحدثكما
(بأشقى الناس؟ رجلين ) عطف بيان وقال أبو البقاء : تمييز كما تقول هذا أشقى الناس رجلاً وجاز تثنيته وجمعه كما قالوا نعم الرجلين الزيدان ونعم رجالاً الزيدون وهم أفضل الناس رجالاً
( أحيمر ثمود ) تصغير أحمر وهو قدار بن سالف ( الذي عقر الناقة ) أي قتلها لأجل قول نبيهم صالح عليه السلام { ناقة اللّه وسقياها } أي احذروا أن تصيبوها بمكروه ولا تمنعوها عن شربها وكان أخبرهم أن لها شرب يوم ولهم شرب يوم وإنما قال أحيمر لأنه كان أحمر أشقر أزرق قصيراً ذميماً
( والذي ) أي وعبد الرحمن بن ملجم المرادي قبحه اللّه ( يضربك يا علي ) بن أبي طالب بالسيف
( على هذه ) يعني هامته ( حتى يبل منها ) بالدم(2/159)
( هذه ) يعني لحيته فمرض علي كرم اللّه وجهه بعد موت المصطفى صلى اللّه عليه وسلم فخرج فضالة بن عبيد الأنصاري له عائداً فقال : ما يقيمك بهذا المنزل لو هلكت به لم يسلك إلا أعراب جهينة فقال : لست ميتاً من مرضي هذا ثم ذكر الحديث رواه أحمد وعن أبي سنان الدولي أنه عاد علياً فقال : قد تخوفنا عليك قال : لكني بما ما تخوفت على نفسي سمعت الصادق المصدوق صلى اللّه عليه وسلم يقول : فذكر نحوه خرجه الطبراني وحسنه الهيثمي ، واعلم أن هذا الحديث من معجزات المصطفى صلى اللّه عليه وسلم لأنه إخبار عن غيب وقع ، وذلك أنه لما كانت ليلة الجمعة سابع عشر رمضان سنة أربعين استيقظ عليٌّ كرم اللّه وجهه سحراً فقال لابنه الحسن : رأيت الليلة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وشكوت له ما لقيت من أمته من اللدد فقال لي : ادع اللّه عليهم فقلت : اللّهم أبدلني بهم خيراً وأبدلهم بي شراً لهم مني فدخل المؤذن على أثر ذلك فقال : الصلاة فخرج عليٌّ كرم اللّه وجهه من الباب ينادي الصلاة الصلاة فاعترضه ابن ملجم فضربه بالسيف فأصاب جبهته إلى قرنه ووصل لدماغه فشد عليه الناس من كل جانب فأمسك وأوثق وأقام عليٌّ الجمعة والسبت وانتقل إلى رحمة اللّه ليلة الأحد فقطعت أطراف ابن ملجم ثم جعل في قوصرة وأحرق بالنار .
(14) ومن مناقبه - رضي الله عنه - أنه أقضى الصحابة بنص السنة الصحيحة : كما يلي :
(حديث أنس بن مالك رضي الله عنه الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أرحم أمتي بأمتي أبو بكر وأشدهم في دين الله عمر وأصدقهم حياء عثمان وأقضاهم علي بن أبي طالب وأقرؤهم لكتاب الله أبي بن كعب وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل وأفرضهم زيد بن ثابت ألا وإن لكل أمة أمينا وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح .(2/160)
( حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :إذا تقاضى إليك رجلان فلا تقض للأول حتى تسمع كلام الآخر فسوف تدري كيف تقضي .
(15) ومن مناقبه - رضي الله عنه - شدة شجاعته :
( حديث أبي ذر رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) قال : نزلت: { هذان خصمان اختصموا في ربهم } . في ستة من قريش: علي وحمزة وعبيدة بن الحارث، وشيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة والوليد بن عتبة.
وفي اُحد قام طلحة بن عثمان صاحب لواء المشركين فقال : يا معشر أصحاب محمد إنكم تزعمون أن الله يعجلنا بسيوفكم إلى النار ، ويعجلكم بسيوفنا إلى الجنة ، فهل منكم أحد يعجله الله بسيفي إلى الجنة أو يعجلني بسيفه إلى النار ؟! فقام إليه علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال : والذي نفسي بيده لا أفارقك حتى يعجلك الله بسيفي إلى النار ، أو يعجلني بسيفك إلى الجنة ، فضربه عليّ فقطع رجله فسقط فانكشفت عورته فقال : أنشدك الله والرحم يا ابن عمّ . فكبر رسول الله
وقال أصحاب عليّ لعلي : ما منعك أن تُجهز عليه ؟ قال : إن ابن عمي ناشدني حين انكشفت عورته ، فاستحييت منه .
وبارز مَرْحَب اليهودي يوم خيبر
فخرج مرحب يخطر بسيفه فقال :
قد علمت خيبر أني مرحب = شاكي السلاح بطل مجرب
إذا الحروب أقبلت تلهب
فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه :
أنا الذي سمتني أمي حيدرة = كليث غابات كريه المنظرة
أوفيهم بالصاع كيل السندرة
ففلق رأس مرحب بالسيف ، وكان الفتح على يديه .
وعند الإمام أحمد من حديث بُريدة رضي الله عنه : فاختلف هو وعليٌّ ضربتين ، فضربه على هامته حتى عض السيف منه بيضة رأسه ، وسمع أهل العسكر صوت ضربته . قال : وما تتامّ آخر الناس مع عليّ حتى فتح له ولهم .(2/161)
وعند الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: دخل علي بن أبي طالب رضي الله عنه على فاطمة رضي الله عنها يوم أُحد فقال: خذي هذا السيف غير ذميم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم "لئن كنت أحسنت القتال لقد أحسنه سهل بن حُنَيْف وأبو دُجانة سِماك بن حَرَشَة" قال الهيثمي : رجاله رجال الصحيح. انتهى.
قتله عمرو بن عبد ود :
أخرج ابن جرير من طريق ابن إسحاق عن يزيدَ بن رومان عن عروة وعبد الله بن كعب بن مالك الأنصاري رضي الله عنهما قالا: لما كان يوم الخندق خرج عمرو بن عبد وعدّ مُعْلَماً ليُرى مشهدُه، فلما وقف هو وخيله قال له علي: يا عمرو، إنَّك قد كنت تعاهد الله لقريش ألا يدعوك رجل إلى خَلَّتين إلا اخترت إحداهما. قال: أجَل. قال فإني أدعوك إلى الله وإلى رسوله وإلى الإِسلام. قال لا حاجة لي في ذلك، قال: فإني أدعوك إلى المبارزة. قال: لم يا ابن أخي؟ فوالله ما أحب أن أقتلك. قال علي رضي الله عنه: ولكني ـ والله ـ أحب أن أقتلك. فحمي عمرو عند ذلك، وأقبل إلى علي رضي الله عنه فتنازلا، فتجاولا، فقتله علي رضي الله عنه. كذا في الكنز .
أشعار علي عند قتل عمرو بن عبد ود :
ثبت في البداية من طريق البيهقي عن ابن إسحاق قال: خرج عمرو بن عبد وعدّ وهو مقنَّع بالحديد، فنادى من يبارز؟ فقام علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقال: أنا لها يا نبي الله، فقال: "إنه عمرو، إجلس". ثم نادى عمرو: ألا رجل يبرز؟ فجعل يؤنّبهم، ويقول: أين جنتكم التي تزعمون أنه من قتل منكم دخلها؟ أفلا تُبرزون إِليّ رجلاً؟ فقام علي رضي الله عنه فقال: أنا يا رسول الله، فقال: "إجلس". ثم نادى الثالثة. فقال: فذكر شعره. قال: فقام علي رضي الله عنه فقال: يا رسول الله أنا. فقال: "إنه عمرو". فقال: "وإن كان عَمْراً. فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فمشى إليه حتى أتى وهو يقول:
لا تعجلنَّ فقد أتاكْ
مجيبُ صوتك غير عاجزْ
في نية وبصيرة
والصدق مَنْجَى كلِّ فائزْ(2/162)
إني لأرجو أن أقيم
عليك نائحة الجنائزْ
من ضربة نَجْلاء
يبقى ذكرها عند الهزاهزْ
فقال له عمرو: من أنت؟ قال: أنا علي، قال: ابن عبد مناف؟ قال: أنا علي بن أبي طالب، فقال: يا ابن أخي مِنْ أعمامك من هو أسنّ منك؛ فإني أكره أن أُهَريق دمك، فقال له علي رضي الله عنه: لكني ـ والله ـ لا أكره أن أهَريق دمك. فغضب فنزل وسلَّ سيفه كأنه شعلة نار، ثم أقبل نحو علي رضي الله عنه مُغضَباً، واستقبله علي بدَرَقَته؛ فضربه عمرو في دَرَقَته، وأثبت فيها السيف وأصاب رأسه فشجّه. وضربه علي رضي الله عنه على حبل عاتقه فسقط، وثار العَجاج؛ وسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم التكبير، فعرفنا أن علياً رضي الله عنه قد قتله؛ فثَمَّ يقول علي رضي الله عنه:
أعليَّ تقتحم الفوارسُ هكذا
عني وعنهم أخِّروا أصحابي
اليوم يمنعني الفرارَ حفيظتي
ومُصَمِّمٌ في الرأس ليس بنابي
إلى أن قال:
عبد الحجارة من سفاهة رأيه
وعبدتُ ربَّ محمدٍ بصوابي
فصدرت حين تركته متجدلاً
كالجِذْع بين دكادكٍ وروابي
وعففت عن أثوابه ولو أنني
كنت المَقَطَّر بزّني أثوابي
لا تحسبُنَّ الله خاذلَ دينه
ونبيِّه يا معشرَ الأحزابِ
قال: ثم أقبل علي رضي الله عنه نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجهه يتهلّل، فقال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه: هلا إستلبته درعه؟ فإنه ليس للعرب درع خير منها، فقال: ضربته فأقتاني بسوأته، فاستحييت ابن عمي أن أسلبه. انتهى.
قتله مرحب اليهودي وبطولته يوم خيبر :
وأخرج مسلم، والبيهقي ـ واللفظ له ـ عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه ـ فذكر حديثاً طويلاً، وذكر فيه رجوعهم من غزوة بني فَزارة. قال: فلم نمكث إلا ثلاثاً حتى خرجنا إلى خيبر. قال: وخرج عامر رضي الله عنه فجعل يقول:
والله لولا أنت ما اهتدينا
ولا تصدَّقنا ولا صلَّينا
ونحن من فضلك ما استغنينا
فأنزلنْ سكينةً علينا
وثبِّتِ الأقدامِ إِن لاقينا(2/163)
قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من هذا القائل؟" فقالوا: عامر فقال: "غفر لك ربك". قال: ما خصّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قطُّ أحداً به إِلا استشهد ـ. فقال عمر رضي الله عنه ـ وهو على جمل ـ: لولا متَّعْتَنا بعامر. قال: فقدمنا خيبر، فخرج مرحب وهو يخطِر بسيفه ويقول:
قد علمت خيبر أني مَرْحَبْ
شاكي السلاحِ بطل مُجَرّبْ
إذا الحروب أقبلت تَلَهَّبْ
قال: فبرز له عامر رضي الله عنه وهو يقول:
قد علمت خيبر أني عامر
شاكي السلاحِ بطل مغامر
قال: فاختلفنا ضربتين، فوقع سيف مرحب في ترس عامر رضي الله عنه، فذهب يسعل له، فرجع على نفسه فقطع أكْحَله فكانت فيها نَفْسهُ. قال سلمة رضي الله عنه: فخرجت فإذا نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: بَطَل عَملُ عامر، قَتَلَ نفسَه. قال: فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي. فقال: "ما لك؟" فقلت: قالوا: إن عامراً بطل عمله فقال: "من قال ذلك؟" فقلت: نفر من أصحابك. فقال: "كذب أولئك، بل له الأجر مرّتين". قال: وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى علي يدعو وهو أرمد؛ وقال: "لأُعْطِيَنَّ الراية اليوم رجلاً يحبُّ الله ورسولَه". قال: فجئت به أقوده. قال: فبصق رسول الله صلى الله عليه وسلم في عينه فبرأ؛ فأعطاه الراية. فبرز مرحب وهو يقول:
قد علمت خيبر أني مرحبْ
شاكي السلاحِ بطل مجرّبْ
إذا الحروب أقبلت تَلَهَّبْ
قال فبرز له رضي الله عنه وهو يقول:
أنا الذي سمتني أمي حَيْدَرَة
كَلَيْثِ غاباتٍ كريهِ المنظرهْ
أُوفيهم بالصاع كيل السَّنْدَره
قال فضرب مرحباً ففلق رأسه فقلته، وكان الفتح. هكذا وقع في هذا السياق: أنّ علياً هو الذي قتل مرحباً اليهودي ـ لعنه الله ـ.
ومما يدلّ على شجاعته رضي الله عنه أنه نام مكان النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الهجرة .
(16) ومن مناقبه - رضي الله عنه - كريم خُلقه :
ولأدل على ذلك الموقف الآتي :(2/164)
أنه جاءه رجل فقال : يا أمير المؤمنين إن لي إليك حاجة فرفعتها إلى الله قبل أن أرفعها إليك ، فإن أنت قضيتها حمدت الله وشكرتك ، وإن أنت لم تقضها حمدت الله وعذرتك ، فقال عليّ : اكتب حاجتك على الأرض ، فإني أكره أن أرى ذل السؤال في وجهك .
(17) ومن مناقبه - رضي الله عنه - شدة ابتلاؤه :
فقد ابتُلي رضي الله عنه من قبل أقوام ادّعوا محبّته ، فقد ادّعى أقوام من الزنادقة أن علياً رضي الله عنه هو الله لِلَّهِ فقالوا : أنت ربنا لِلَّهِ فاغتاظ عليهم ، وأمر بهم فحرّقوا بالنار ، فزادهم ذلك فتنة وقالوا : الآن تيقنا أنك ربنا لِلَّهِ إذ لا يعذب بالنار إلا الله .
وقال رضي الله عنه : يهلك فيّ اثنان ؛ محب يُقرّظني بما ليس فيّ ، ومبغض يحمله شنآني على أن يبهتني ، ألا إني لست بنبي ولا يوحى إليّ ، ولكني أعمل بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ما استطعت ، فما أمرتكم من طاعة الله فحقّ عليكم طاعتي فيما أحببتم وكرهتم .
وقد قيل لعلي رضي الله عنه : إن هنا قوماً على باب المسجد يدّعون أنك ربهم ، فدعاهم ، فقال لهم : ويلكم ما تقولون ؟ قالوا : أنت ربنا وخالقنا ورازقنا لِلَّهِ فقال : ويلكم إنما أنا عبدٌ مثلكم ؛ أكل الطعام كما تأكلون ، وأشرب كما تشربون ، إن أطعت الله أثابني إن شاء ، وإن عصيته خشيت أن يعذبني ، فاتقوا الله وأرجعوا ، فأبوا ، فلما كان الغد غدوا عليه ، فجاء قنبر فقال : قد والله رجعوا يقولون ذلك الكلام ، فقال : أدخلهم ، فقالوا : كذلك ، فلما كان الثالث قال : لئن قلتم ذلك لأقتلنكم بأخبث قتلة ، فأبوا إلا ذلك ، فقال : يا قنبر ائتني بفعلة معهم ، فخدّ لهم أخدوداً بين باب المسجد والقصر . وقال : احفروا فابعدوا في الأرض ، وجاء بالحطب فطرحه بالنار في الأخدود وقال : إني طارحكم فيها أو ترجعوا ، فأبوا أن يرجعوا ، فقذف بهم فيها حتى إذا احترقوا قال رضي الله عنه :(2/165)
لما رأيت الأمر أمراً منكراً *** أوقدت ناري ودعوت قنبرا .
قال الحافظ في الفتح : وهذا سند حسن .
(18) ومن مناقبه - رضي الله عنه - إنصافه لخصومه :
فقد رأى عليٌّ رضي الله عنه طلحة رضي الله عنه في واد مُلقى ، فنزل فمسح التراب عن وجهه وقال : عزيز عليّ أبا محمد بأن أراك مجدلا في الأودية تحت نجوم السماء . إلى الله أشكو عجري وبجري . يعني : سرائري وأحزاني التي تموج في جوفي .
وقال طلحة بن مصرف انتهى علي رضي الله عنه إلى طلحة رضي الله عنه وقد مات ، فنزل عن دابته وأجلسه ، ومسح الغبار عن وجهه ولحيته ، وهو يترحم عليه ، وقال : ليتني مت قبل هذا اليوم بعشرين سنة.
وكان يقول : أني لأرجو أن أكون أنا وطلحة والزبير ممن قال الله عز وجل : ( وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ ) رواه ابن أبي شيبة والبيهقي .
ولما سُئل عن أهل النهروان [ من الخوارج ] أمشركون هم ؟ قال : من الشرك فرُّوا .
قيل: أفمنافقون ؟ قال : إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلا . فقيل : فما هم يا أمير المؤمنين ؟ قال : إخواننا بَغَوا علينا ، فقاتلناهم ببغيهم علينا . رواه ابن أبي شيبة والبيهقي .
(19) ومن مناقبه أن النبي بشره بالشهادة :
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) قال : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان على حراء هو و أبو بكر و عمر و عثمان و علي و طلحة و الزبير فتحركت الصخرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اهدأ فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد .
{ تنبيه } : وهذا يصدق على كل من وقف في هذا الموقف؛ لأنه قال: (أو شهيد) و(شهيد) نكرة في سياق النفي فتفيد العموم.
(20) ومن مناقبه شدة ورعه في مال المسلمين :(2/166)
أخرج أبو نُعيم في الحلية عن علي بن ربيعة الوالبي (عن علي بن أبي طالب) قال: جاءه ابن النبَّاح فقال: يا أمير المؤمنين إمتلأ بيت مال المسلمين، من صفراء وبيضاء، فقال: الله أكبر فقام متوكئاً على ابن النبّاح حتى قام على بيت مال المسلمين، فقال:
هذا جنيَ وخيارُه فيهْ
وكلُّ جانٍ يَدُه إلى فيهْ
يا ابن النبَّاح ليَّ بأشياع الكوفة، قال: فنُودي في الناس، فأعطى جميع ما في بيت مال المسلمين وهو يقول: يا صفراء، ويا بيضاء، غُرِّي غيري، ها، وها؛ حتى ما بقي منه دينار ولا درهم. ثم أمره بنَضْحه وصلَّى فيه ركعتين.
وعن مُجَمَّع التَّيمي قال: كان علي رضي الله عنه يكنس بيت المال ويصلي فيه يتخذه مسجداً رجاءَ أن يشهد له يوم القيامة. وأخرجه ابن عبد البرّ في الإستيعاب عن مُجَمِّع التَّيْمي نحوه.
وعن معاذ بن العلاء عن أبيه عن جده قال: سمعت علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: ما أصبت من فيئكم إلا هذه القارورة أهدها إليَّ الدِّهقان، ثم نزل إلى بيت المال ففرَّق كل ما فيه، ثم جعل يقول:
أفلح من كانت له قوْصَرَّة
يأكل منها كلّ يوم مرّة
وعن عنترة الشيباني قال: كان علي رضي الله عنه يأخذ في الجزية والخراج من أهل كل صناعة من صناعته وعمل يده، حتى يأخذ من أهل الابر، الإِبر، والمسال، والخيوط، والحبال، ثم يقسمه بين الناس؛ وكان لا يدع في بيت المال مالاً يبيت فيه حتى يقسمه؛ إلا أن يغلبه شغل فيصبح إِليه، وكان يقول: يا دنيا، لا تغريني وغُرِّي غيري، وينشد:
هذا جنايَ وخيارُه فيهْ
وكلُّ جانٍ يَدهُ إلى فيهْ(2/167)
وأخرج أبو عبيد عن عنترة قال: أتيت علياً رضي الله عنه يوماً فجاءه قنبر، فقال: يا أمير المؤمنين إنَّك رجل لا تليق شيئاً، وإنَّ لأهل بيتك في هذا المال نصيباً، وقد خبأت لك خبيئة، قال: وما هي؟ قال: إنطلق فانظر ما هي، قال: فأدخله بيتاً فيه باسنة مملوءة آنية ذهب وفضة مموَّهة بالذهب، فلما رآها علي قال: ثكلتك أمك لقد أردت أن تدخل بيتي ناراً عظيمة؟ ثم جعل يزنها ويعطي كل عريف بحصته؛ ثم قال:
هذا جني وخيارُه فيهْ
وكلُّ جانٍ يدهُ إلى فيهْ
لا تغريني، وغرِّي غيري. كذا في منتخب الكنز وأخرج أحمد في الزهد ومسدَّد عن مجمِّع نحو ما تقدم عن أبي نعيم في الحلية كما في المنتخب .
وأخرج أبو عبيد عن عنترة قال: دخلت على علي بن أبي طالب بالخَوَرْنَق وعليه قطيفة وهو يُرعد من البرد، فقلت: يا أمير المؤمنين، إنَّ الله قد جعل لك ولأهل بيتك نصيباً في هذا المال وأنت تُرعد من البرد؟ فقال: إنِّي ـ والله ـ لا أرزأ من مالكم شيئاً، وهذه القطيفة هي التي خرجت من بيتي ـ أو قال من المدينة ـ، كذا في البداية . وأخرجه أيضاً أبو نُعيم في الحلية عن هارون بن عنترة عن أبيه نحوه .
حديثه فيما يحل للخليفة من مال الله :
وأخرج أحمد عن عبد الله بن رزين قال: دخلت على علي بن أبي طالب رضي الله عنه يوم الأضحى، فقرب إِلينا خزيرة، فقلنا: أصلحك الله لو أطعمتنا هذا البط ـ يعني الإِوز ـ فإن الله قد أكثر الخير، قال: يا ابن رزين، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا يحل للخليفة من مال الله إلا قصعتان: قصعة يأكلها هو وأهله، وقصة يضعها بين يدي الناس". كذا في البداية .
(21) ومن مناقبه إنكاره على من فضله على أبي بكر وعمر :(2/168)
وأخرج خيثمة وابن عساكر عن أبي الزِّناد قال: قال رجل لعلي رضي الله عنه يا أمير المؤمنين ما بال المهاجرين والأنصار قدَّموا أبا بكر وأنت أوفى منه مَنْقَبَة، وأقدم منه سِلماً، وأسبق سابقة؟ قال: إن كنت مقرشياً فأحسبك من عائذة، قال: نعم، قال: لولا أن المؤمن عائذ الله لقتلتك، ولئن بقيت ليأتينَّك مني روعة حصراء، ويحك إن أبا بكر سبقني إلى أربع: سبقني إلى الإِمامة، وتقديم الإِمامة، وتقديم الهجرة وإلى الغار، وإفشاء الإِسلام؛ ويحك إن الله ذمَّ الناس كلَّهم ومدح أبا بكر فقال: { إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ } (سورة التوبة، الآية 40) الآية. كذا في منتخب الكنز . وأخرجه العِشاري عن ابن عمر بمعناه، كما في المنتخب .
هَمُ عليٍ بقتل ابن سبأ لتفضيله إياه على الشيخين :
أخرج أبو نعيم في الحلية عن أم موسى قالت: بلغ علياً رضي الله عنه أن ابن سبأ يفضله على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فهمَّ علي بقتله، فقيل له: أتقتل رجلاً إنما أجلَّك وفضلك؟ فقال: لا جَرَم لا يساكنني في بلدة أنا فيها.
وأخرج العِشَاري واللألكائي عن إبراهيم قال: بلغ علياً رضي الله عنه أن عبد الله بن الأسود ينتقص أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، فدعا بالسيف فهمَّ بقتله، فكُلم فيه، فقال: لا يساكنني في بلد أنا فيه، فنفاه إلى الشام. كذا في المنتخب .
وأخرج العِشَاري عن الحسن بن كَثِير عن أبيه قال: أتى علياً رضي الله عنه رجل فقال: أنت خير الناس، فقال: هل رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا، قال: ما رأيت أبا بكر؟ قال: لا، قال: أما إنك لو قلت إنك رأيت النبي صلى الله عليه وسلم لقتلتك، ولو قلت رأيت أبا بكر وعمر لحددتك.(2/169)
وأخرج ابن أبي عاصم وابن شاهين واللألكائي والأصبهاني وابن عساكر عن علقمة قال: خطبنا علي رضي الله عنه، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إنه بلغني أن ناساً يفضلوني على أبي بكر وعمر، ولو كنت تقدمت في ذلك لعاقبت فيه، ولكني أكره العقوبة قبل التقدُّم، فمن قال شيئاً من ذلك بعد مقامي هذا فهو مفتر، عليه ما على المفتري. خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر، ثم عمر، ثم أحدَثْنا بعدهم أحداثاً يقضي الله فيها ما يشاء.
خطبة عظيمة لعلي في بيان فضل الشيخين :
وعند خيثمة واللألكائي وأبي الحسن البغدادي والشيرازي وابن مَنْده وابن عساكر عن سُويد بن غَفْلة قال: مررتُ بقوم يذكرون أبا بكر وعمر رضي الله عنهما وينتقصونهما. فأتيت علياً رضي الله عنه فذكرت له ذلك فقال: لعن الله من أضمر لهما إلا الحسن الجميل، أخوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ووزيراه ثم صعد المنبر فخطب خطبة بليغة فقال:(2/170)
ما بال أقوام يذكرون سيدَي قريش وأبوَي المسلمين بما أنا عنه متنزه، وممَّا يقولون بريء، وعلى ما يقولون معاقب؟ والذي فَلَق الحبة وبرأ النَّسَمة إنه لا يحبهما إلا مؤمن تقي، ولا يُبغضهما إلا فاجر رديء، صحبا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصدق والوفاء يأمران وينهيان ويعاقبان، فما يجاوزان فيما يصنعان رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم كرأيهما رأياً، ولا يحب حبهما حباً، مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهما راضٍ والناس راضون، ثم وُلي أبو بكر الصلاة، فلما قبض الله نبيه صلى الله عليه وسلم ولاَّه المسلمون ذلك وفوَّضوا إليه الزكاة لأنهما مقرونتان، ـ وكنت أولَ من يُسمَّى له من بني عبد المطلب ـ وهو لذلك كاره، يود أن يعضنا كفاه، فكان ـ والله ـ خير من بقي، أرأفه رأفة، وأرحمه رحمة، وأكيسه ورعاً، وأقدمه إسلاماً، شبهه رسول الله صلى الله عليه وسلم بميكائيل رأفة ورحمة، وبإبراهيم عفواً ووقاراً، فسار بسيرة رسول الله حتى قبض رحمة الله عليه.(2/171)
ثم وَلي الأمر من بعده عمر بن الخطاب، واستُأمر في ذلك الناس، فمنهم من رضي ومنهم من كره، فكنت ممن رضي. فو الله ما فارق عمر الدنيا حتى رضي من كان له كارهاً، فأقام الأمر على منهاج النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه، وناصر المظلوم على الظالم. ثم ضرب الله بالحق على لسانه حتى رأينا أن مَلَكاً ينطلق على لسانه، وأعز الله بإسلامه الإسلام، وجعل هجرته للدين قِواماً، وقذف في قلوب المؤمنين الحب له وفي قلوب المنافقين الرهبة له، شبهه رسول الله صلى الله عليه وسلم بجبريل فظاً غليظاً على الأعداء، وبنوح حَنقاً ومغتاظاً على الكافرين. فمن لكم بمثلهما؟ لا يُبلغ مبلغهما إلا بالحبِّ لهما واتباع آثارهما، فمن أحبهما فقد أحبني، و من أبغضهما فقد أبغضني وأنا منه بريء. ولو كنت تقدمتُ في أمرهما لعاقبت أشد العقوبة، فمن أُتيت به بعد مقامي هذا فعليه ما على المفتري. ألا وخير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر ثم الله أعلم بالخير أين هو. أقول قولي هذا ويغفر الله لي ولكم. كذا في منتخب الكنز .
( 22) اعترافه بفضل عثمان وإنصافه له :
أخرج ابن عساكر عن أبي إسحاق قال: قال رجل لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: إن عثمان ـ رضي الله عنه ـ في النار. قال: ومن أين علمت؟ قال: لأَنَّه أحدث أحداثاً، فقال له علي: أتراك لو كانت لك بنت أكنت تزوجها حتى تستشير؟ قال: لا، قال: فرأي هو خير من رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم لابنتيه؟ وأخبرني عن النبي صلى الله عليه وسلم أكان إذا أراد أمراً يستخير الله أو لا يستخيره ؟ قال: لا، بل كان يستخيره، قال: أفكان الله يخير له أم لا ؟ قال: بل يخير له، قال: فيخبرني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم اختار الله له في تزويجه عثمان أم لم يختر له ؟ ثم قال: لقد تجردتُ لك لأضرب عنقك فأبى الله ذلك، أما والله لو قلت غير ذلك لضربت عنقك. كذا في المتنخب .
ثانياً : صورٌ مشرقة من زهد علي ابن أبي طالب - رضي الله عنه - :(2/172)
لقد فهم علي ابن أبي طالب - رضي الله عنه - من خلال معايشته للقرآن الكريم، ومصاحبته للنبي الأمين صلى الله عليه وسلم ومن تفكره في هذه الحياة بأن الدنيا دار اختبار وابتلاء، وعليه فإنها مزرعة للآخرة، ولذلك تحرر من سيطرة الدنيا بزخارفها، و زينتها، وبريقها، وطلقها ثلاثة ونفض يديه منها ، وخضع وانقاد وأسلم نفسه لربه ظاهرا وباطنا، فكانت الدنيا في يده ولم تقترب من قلبه الشريف ، وقد وصل إلى حقائق استقرت في قلبه ساعدته على الزهد في هذه الدنيا ومن هذه الحقائق ما يلي :
(1) اليقين التام بأننا في هذه الدنيا أشبه بالغرباء، أو عابري سبيل كما قال النبى صلى الله عليه وسلم: كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ .
( حديث بن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح البخاري ) قال:أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل). وكان ابن عمر يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك.
(2) أن هذه الدنيا لا وزن لها ولا قيمة عند رب العزة إلا ما كان منها طاعة لله تبارك وتعالى :
( حديث سهل بن سعد رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء .
( حديث أبي هريرة في صحيح ابن ماجة ) أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه وعالماً أو متعلما .
(3) أن عمرها قد قارب على الانتهاء :
( حديث أنس رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : بعثت أنا والساعة كهاتين قال وضم السبابة والوسطى .
(4) أن الآخرة هى الباقية، وهى دار القرار :
كما قال مؤمن آل فرعون:(2/173)
( يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ * مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ ) [ غافر: 39 ، 40]
كانت هذه الحقائق قد استقرت في قلب أبي بكر، فترِفَّع رضي الله عنه عن الدنيا وحطامها وزهد فيها،
وهاك بعض صور زهده رضي الله عنه :
تعريف علي ابن أبي طالب رضي الله عنه للزهد :
قال على رضي الله عنه : الزهد بين كلمتين من القرآن، قال تعالى ( لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ) [ الحديد : 23] ومن لم يأس على الماضي ولم يفرح بالآتي فقد أخذ الزهد بطرفيه .
{ تنبيه } : وفي كلمته هذه من تحديد الزهد ضمن إطار (لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ) لإفهام الناس معنى الزهد في هذه الدنيا وذلك بالهدوء وعدم الاهتياج فلا العُسر يبقى ولا اليُسر والمطلوب هو الصبر والشكر على كل حال ، وتنبيه الناس عن الفهم السلبي للزهد بالابتعاد عن نِعَمِ الله تعالى وطيباته وزينته التي أخرج لعباده، كما هم عليه بعض الجاهلين الذين يحاولون إبعاد المسلمين عن أي اهتمام بالأمور المادية الدنيوية مع ما فيها من المفاسد من قبيل فتح المجال لسيطرة الآخرين من أعداء الإسلام على خيرات المسلمين وبركاتهم ومنابعهم المادية الغنية التي قل مثلها في غير بلاد المسلمين ،
فلتوعية المسلمين وغيرهم وإيصال المعنى المطلوب من الزهد : فليس الزهد في الدنيا بإضاعة المال ولا بتحريم الحلال، بل الزهد في الدنيا أن لا تكون بما في يدك أوثق منك بما في يد الله عز وجل ، وألا تأسَ على ما فاتك ولا تفرح بما آتاك .(2/174)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن شقيق بن إبراهيم قال : من أراد أن يعرف معرفته بالله فلينظر إلى ما وعده الله ووعده الناس بأيهما قلبه أوثق.
فلا بد من الاعتدال في كل شيء دون الإفراط والتفريط وعدم نسيان الآخرة قال تعالى :( وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ) [ القصص : 77] إذن ليس الزهد أن لا تملك شيئاً إنما أن لا يملك شيء.
[*] قال على رضي الله عنه : طوبى للزاهدين في الدنيا و الراغبين في الآخرة أولئك قوم اتخذوا الأرض بساطاً ، و ترابها فراشاً ، و ماءها طيباً ، و الكتاب شعاراً ، و الدعاء دثاراً ، و رفضوا الدنيا رفضاً .
وقال أيضا : فو الله ما كنزت من دنياكم تبرا، ولا ادخرت من غنائمها وفرا، ولا أعددت لبالي ثوبي طمرا، ولا حزت من أرضها شبرا.
وكان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه آيةً في الزهد ممتنعاً عن تناول الاطعمة الشهية فقد اقتصر على ما يسد الرمق من الأطعمة البسيطة كالخبز والملح وربما تعداه إلى اللبن أو الخل وكان في أيام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يربط الحجر على بطنه من الجوع وكان قليل التناول للحم وقد قال رضي الله تعالى عنه لا تجعلوا بطونكم مقابر للحيوانات".
كان وهو أمير المؤمنين يأكل الشعير الذي تطحنه امرأته بيديها. وقد أُثر عن عمر بن عبد العزيز أنه قال ¸أزهد الناس في الدنيا علي بن أبي طالب·. وقد أبى أن ينزل القصر الأبيض بالكوفه إيثارًا للخِصَاص التي يسكنها الفقراء. وقد كان من كرمه أن يؤثر الفقراء والمساكين على نفسه، وكثيرًا ما قدم طعامه الذي لا يملك غيره لمسكين أو يتيم أو أسير .(2/175)
إن أمير المؤمنين رضي الله تعالى عنه لم ينل من أطايب الطعام حتى وافته المنية ، فقد افطر أخر يوم من حياته في شهر رمضان على خبز وجريش ملح، وأمر برفع اللبن الذي قدمته ابنته السيدة أم كلثوم، وهو في نفس الوقت كان رضي الله عنه يطعم اليتامى العسل بيده حتى قال بعض أصحابه، وددت أني كنت يتيماً.
لقد زهد الإمام في جميع متع الحياة الدنيا وتجرد تجرداً تاماً من جميع رغباتها ،
[*] قال ابن أبي الحديد: انه ما شبع من طعام قط، وقد أتي له بفالوذج وهو حلواء تصنع من الدقيق والماء والعسل، فلما رآه قال : إنه طيب الريح، حسن اللون، طيب الطعم، ولكن اكره أن أُعَوَّدَ نفسي ما لم تعتد".
[*] عن أبي صالح الذي كان يخدم أم كلثوم ابنة علي قال : دخلت على أم كلثوم وهي تمشط وستر بينها وبيني , فجلست أنتظرها حتى تأذن لي , فجاء حسن وحسين فدخلا عليها وهي تمشط , فقالا : ألا تطعمون أبا صالح شيئا ؟ قالت : بلى , قال : فأخرجوا قصعة فيها مرق بحبوب , فقلت : أتطعمونني هذا وأنتم أمراء ؟ فقالت أم كلثوم : يا أبا صالح , فكيف لو رأيت أمير المؤمنين وأتي بأترنج فذهب حسن أو حسين يتناول منه أترنجة فنزعها من يده ثم أمر به فقسم .
[*] عن الحارث عن علي قال : أهديت فاطمة ليلة أهديت إلي وما تحتنا إلا جلد كبش .
[*] عن الشَّعْبي قال: قال علي رضي الله عنه: لقد تزوجت فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم وما لي ولها فراش غيرُ جلد كَبْش ننام عليه بالليل ونعلف عليه ناضحنا بالنهار، وما لي خادم غيرها. كذا في الكنز .
[*] روى صالح بن الاسود قال: رأيت علياً قد ركب حماراً وأدلى برجليه إلى موضع واحد وهو يقول: أنا الذي أهنت الدنيا. أجل والله لقد احتقر الإمام الدنيا فلم يحفل بأي مظهر من مظاهر السلطة والحكم، واتجه نحو الله تعالى، وعمل كل ما يقربه إليه زلفى.(2/176)
[*] وجاءه ابن التياح فقال : يا أمير المؤمنين امتلأ بيت المال من صفراء وبيضاء. فقال: الله أكبر فقام متوكئًا على ابن التياح حتى قام على بيت المال وهو يقول: يا صفراء ويا بيضاء غُري غيري، هاء وهاء، حتى ما بقي فيه دينار ولا درهم. ثم أمر بنضحه وصلى فيه ركعتين.
[*] ودخل مرةً بيت المال فرأى فيه شيئًا، فقال: لا أرى هذا هنا وبالناس حاجة إليه، فأمر به فقُسّم، وأمر بالبيت فكنس، ونَضح فصلى فيه أو نام فيه.
[*] وصعد رضي الله عنه يومًا المنبر وقال: من يشتري مني سيفي هذا، فلو كان عندي ثمن إزار ما بعته، فقام إليه رجل وقال: أسلفك ثمن إزار.
[*] واشترى مرة تمرًا بدرهم فحمله في ملحفته فقيل له: يا أمير المؤمنين ألا نحمله عنك فقال: أبو العيال أحق بحمله. وعوتب في لباسه، فقال: مالكم وللباسي هذا هو أبعد من الكبر وأجدر أن يقتدي به المسلم.(2/177)
[*]وأخرج أبو نُعيم في الحلية عن زيد بن وهب قال: قدم على عليَ وفد من أهل البصرة فيهم رجل من أهل الخوارج يقال له الجعد بن نَعجة. فعاتب علياً في لَبوسه، فقال علي: مالك وللبوسي؟ إنَّ لبوسي أبعد من الكِبْر، وأجدر أن يقتدي بي المسلم. وعن عمرو بن قيس قال قيل لعليّ: يا أمير المؤمنين لم ترقع قميصك؟ قال: يخشع (به) القلب، ويقتدي به المؤمن. وأخرجه هنّاد عن عمرو بن قيس مثله، كما في المنتخب . وأخرجه ابن سعد عن عمرو نحوه. وأخرج ابن أبي شيبة وهنّاد عن عطاء أبي محمد قال: رأيت على عليَّ قميصاً من هذه الكرابيس غير غسيل. وعند هنَّاد وابن عساكر عن عبد الله بن أبي الهذيل قال: رأيت على عليَ بن أبي طالب قميصاً رازيَّاً إذا مدَّ يده بلغ أطراف الأصابع، وإذا تركه رجع إلى قريب نصف الذراع. كذا في المنتخب . وأخرج بن عيينة في جامعه والعسكري في المواعظ وسعيد بن منصور والبيهقي وابن عساكر عن عليَ أنَّه كان يلبس القميص ثم يمدُّ الكم، حتى إذا بلغ الأصابع قطع ما فضَل ويقول: لا فضل لكمَّين على اليدين. كذا في الكنز .
وعند أبي نُعيم في الحلية عن أبي سعيد الأزدي ـ وكان إماماً من أئمة الأزد ـ قال: رأيت علياً رضي الله عنه أتى السوق وقال: من عند قميص صالح بثلاثة دراهم؟ فقال رجل: عندي، فجاء به فأعجبه قال: لعلَّه خير من ذلك، قال: لا، ذاك ثمنه؛ قال: فرأيت علياً يقرِض رباط الدراهم من ثوبه، فأعطاه فلبسه، فإذا هو يفضل عن أطراف أصابعه، فأمر به فقُطع ما فضَل عن أطراف أصابعه. وأخرج أحمد في ازلهد عن مولى لأبي غُصعين قال: رأيت علياً خرج فأتى رجلاً من أصحاب الكرابيس، فقال له: عندك قميص سنبلاني؟ قال: فأخرج إليه قميصاً، فلبسه فإذا هو إلى نصف ساقيه، فنظر عن يمنيه وعن شماله فقال: ما أرى إلا قدراً حسناً، بكم هذا؟ قال: بأربعة دراهم يا أمير المؤمنين، قال: فحلَّها من إزاره فدفعها إليهثم انطلق. كذا في البداية .(2/178)
وهاك بعض أبيات من أنفس ما قاله أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب رضي الله عنه في الزهد :
النفس تبكي على الدنيا وقد علمت ... أن السعادة فيها ترك ما فيها
لا دار للمرء بعد الموت يسكنها ... إلا التي كان قبل الموت بانيها
فإن بناها بخير طاب مسكنة ... وإن بناها بشر خاب بانيها
أموالنا لذوي الميراث نجمعها ... ودورنا لخراب الدهر نبنيها
أين الملوك التي كانت مسلطنة ... حتى سقاها بكأس الموت ساقيها
فكم مدائن في الأفاق قد بُنيت ... أمست خرابا وأفتى الموت أهليها
لا تركنن إلى الدنيا وما فيها ... فالموت لاشك يفنينها ويفنيها
لكل نفس وإن كانت على وجلٍ ... من المنية أمال تقويها
المرء يبسطها والدهر يقبضها ... والنفس تنشرها والموت يطويها
إنما المكارم أخلاقٌ مطهرةٌ ... الدين أولها والعقل ثانيها
والعلم ثالثها والحلم رابعها ... والجود خامسها والفضل سادسها
والبر سابعها والشكر ثامنها ... والصبر تاسعها واللين باقيها
والنفس تعلم أني لا أصادقها ... ولست أرشد إلا حين اعصيها
واعمل لدارٍ غدا رضوان خازنها ... والجار أحمد والرحمن ناشيها
قصورها ذهب والمسك طينتها ... والزعفران حشيش نابت فيها
أنهارها لبن محض ومن العسل ... والخمر يجري رحيقا في مجاريها
والطير تجري على الأغصان عاكفة ... تسبح الله جهرا في مغانيها
من يشتري الدار في الفردوس يعمرها ... بركعة في الظلام الليل يحييها
من صور زهد علي بن أبي طالب رضي الله عنه في طعامه :(2/179)
أخرج أبو نعيم في الحلية عن رجل من ثقيف أن علياً إستعمله على عُكَبرا قال: ولم يكن السَّواد يسكنه المصلون، وقال لي: إذا كان عند الظهر فَرُح إليَّ، فرحت إليه فلم أجد عنده حاجباً يحبسني عنه دونه، فوجدته جالساً وعنده قدح وكوز من ماء، فدعا بطينة فقلت في نفسي: لقد أمِنَني حتى يخرج إليَّ جوهراً ولا أدري ما فيها، فإذا عليها خاتم فكسر الخاتم، فإذا فيها سَوِيق فأخرج منها فصبَّ في القدح فصب عليه ماء فشرب وسقاني، فلم أصبر فقلت: يا أمير المؤمنين أتصنع هذا بالعراق وطعام العراق أكثر من ذلك؟ قال: أما والله ما أختم عليه بخلاً عليه، ولكني أبتاع قدر ما يكفيني، فأخاف أن يفنى فيصنع من غيره، وإنما حفظي لذلك، وأكره أن أدخل بطني إلا طيباً. وعن الأعمش قال: كان علي رضي الله عنه يُغدِّي ويُعشِّي، ويأكل هو من شيء يجيئه من المدينة.
قول علي ابن أبي طالب - رضي الله عنه - لما أُتي بالفالوذج :
وأخرج أيضاً عن عبد الله بن شريك عن جده عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه أُتي بفالوذج فوضع قدامه بين يديه، فقال: إِنك طيب الريح، حسن اللون، طيب الطعم؛ لكن أكره أن أعوّد نفسي ما لم تعتده. وأخرجه أيضاً عبد الله بن الإمام أحمد في زوائده عن عبد الله بن شريك مثله، كما في المنتخب .
إِزار علي ابن أبي طالب - رضي الله عنه - رضي الله عنه:
وأخرج ابن المبارك عن زيد بن وهب قال: خرج علينا علي رضي الله عنه وعليه رداء وإزار قد وثَّقه بخرقة فقيل له، فقال: إنما ألبس هذين الثوبين ليكون أبعد لي من الزَّهْو، خيراً لي في صلاتي، وسنّة للمؤمن. كذا في المنتخب . وأخرج البيهقي عن رجل قال: رأيت على علي رضي الله عنه إزارا غليظاً، قال: إشتريته بخمسة دراهم، فمن أربحني فيه درهاً بعته إِياه. كذا في منتخب الكنز .
بيع علي ابن أبي طالب - رضي الله عنه - سيفه لشراء الإِزار:(2/180)
وأخرج يعقوب بن سفيان عن مُجمِّع بن سمعان التيمي قال: خرج علي بن أبي طالب رضي الله عنه بسيفه إلى السوق فقال: من يشتري مني سيفي هذا فلو كان عندي أربعة دراهم أشتري بها إِزاراً ما بعته. كذا في البداية . وأخرج أبو القاسم البغوي عن صالح بن أبي الأسود عمَّن حدثه أنه رأى علياً رضي الله عنه قد ركب حماراً ودلَّى رجليه إلى موضع واحد ثم قال: أنا الذي أهنتُ الدنيا. كذا في البداية .
[*] سيرة طلحة بن عبيد الله - رضي الله عنه - و صورٌ من زهده :
وسوف نتناول شيئين أساسيين في هذه السيرة العطرة وهما :
أولاً : لمحات من سيرة طلحة ابن عبيد الله - رضي الله عنه - :
ثانياً : صورٌ مشرقة من زهد طلحة ابن عبيد الله - رضي الله عنه - :
وهاك تفصيل ذلك :
أولاً : لمحات من سيرة طلحة ابن عبيد الله - رضي الله عنه - :
[*] قال عنه الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء :
من الأعلام الشاهرة، صاحب الأحوال الزاهرة، الجواد بنفسه، الفياض بماله، طلحة بن عبيد الله، قضي نحبه، وأقرض ربه، كان في الشدة والقلة لنفسه بذولاً، وفي الرخاء والسعة بماله وصولاً.
[*] قال عنه الذهبي في سير أعلام النبلاء :
طلحة بن عبيد الله ابن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة القرشي التيمي المكي أبو محمد أحد العشرة المشهود لهم بالجنة له ، قال أبو عبد الله بن مندة كان رجلا آدم كثير الشعر ليس بالجعد القطط ولا بالسبط حسن الوجه إذا مشى أسرع ولا يغير شعره ، موسى بن طلحة قال كان أبي أبيض يضرب إلى الحمرة مربوعا إلى القصر هو أقرب رحب الصدر بعيد ما بين المنكبين ضخم القدمين إذا التفت التفت جميعا .(2/181)
وقال الذهبي رحمه الله : كان ممن سبق إلى الإسلام وأوذي في الله ثم هاجر فاتفق أنه غاب عن وقعة بدر في تجارة له بالشام وتألم لغيبته فضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهمه وأجره قال أبو القاسم بن عساكر الحافظ في ترجمته كان مع عمر لما قدم الجابية وجعله على المهاجرين وقال غيره كانت يده شلاء مما وقى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد .
- اسم طلحة بن عبيد الله - رضي الله عنه - وكنيته :
طلحة بن عبيد الله ابن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة القرشي التيمي المكي أبو محمد .
- قصة إسلام طلحة بن عبيد الله - رضي الله عنه - :(2/182)
لقد كان في تجارة له بأرض بصرى حين لقي راهبا من خيار رهبانها، وأنبأه أن النبي الذي سيخرج من بلاد الحرم، والذي تنبأ به الأنبياء الصالحون قد أهلّ عصره وأشرقت أيامه..وحّر طلحة أن يفوته موكبه، فانه موكب الهدى والرحمة والخلاص..وحين عاد طلحة إلى بلده مكة بعد شهور قضاها في بصرى وفي السفر، ألفى بين أهلها ضجيجا.. وسمعهم يتحدثون كلما التقى بأحدهم، أو بجماعة منهم عن محمد الأمين.. وعن الوحي الذي يأتيه.. وعن الرسالة التي يحملها إلى العرب خاصة، والى الناس كافة..وسأل طلحة أول ما سأل أبي بكر فعلم أنه عاد مع قافلته وتجارته من زمن غير بعيد، وأنه يقف إلى جوار محمد مؤمنا منافحا، أوّابا..وحدّث طلحة نفسه: محمد، وأبو بكر..؟؟تالله لا يجتمع الاثنان على ضلالة أبدا.!!ولقد بلغ محمد الأربعين من عمره، وما عهدنا عليه خلال هذا العمر كذبة واحدة.. أفيكذب اليوم على الله، ويقول: أنه أرسلني وأرسل إلي وحيا..؟؟وهذا هو الذي يصعب تصديقه..وأسرع طلحة الخطى ميمما وجهه شطر دار أبي بكر..ولم يطل الحديث بينهما، فقد كان شوقه إلى لقاء الرسول صلى الله عليه وسلم ومبايعته أسرع من دقات قلبه..فصحبه أبو بكر إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، حيث أسلم وأخذ مكانه في القافلة المباركة..وهكذا كان طلحة من المسلمين المبكرين.(2/183)
وعلى الرغم من جاهه في قومه، وثرائه العريض، وتجارته الناجحة فقد حمل حظه من اضطهاد قريش، اذ وكل به وبأبي بكر نوفل بن خويلد، وكان يدعى أسد قريش، بيد أن اضطهادهما لم يطل مداه، اذ سرعان ما خجلت قريش من نفسها، وخافت عاقبة أمرها..وهاجر طلحة إلى المدينة حين أمر المسلمون بالهجرة، ثم شهد المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، عدا غزوة بدر، فان الرسول صلى الله عليه وسلم كان قد ندبه ومعه سعيد بن زيد لمهمة خارج المدينة..ولما أنجزاها ورجعا قافلين إلى المدينة، كان النبي وصحبه عائدين من غزوة بدر، فآلم نفسيهما أن يفوتهما أجر مشاركة الرسول صلى الله عليه وسلم بالجهاد في أولى غزواته..بيد أن الرسول أهدى إليهما طمأنينة سابغة، حين أنبأهما أن لهما من المثوبة والأجر مثل ما للمقاتلين تماما، بل وقسم لهما من غنائم المعركة مثل من شهدوها..وتجيء غزوة أحد لتشهد كل جبروت قريش وكل بأسها حيث جاءت تثأر ليوم بدر وتؤمّن مصيرها بإنزال هزيمة نهائية بالمسلمين، هزيمة حسبتها قريش أمرا ميسورا، وقدرا مقدورا..!!ودارت حرب طاحنة سرعان ما غطّت الأرض بحصادها الأليم.. ودارت الدائرة على المشركين..ثم لما رآهم المسلمون ينسحبون وضعوا أسلحتهم، ونزل الرماة من مواقعهم ليحوزوا نصيبهم من الغنائم..وفجأة عاد جيش قريش من الوراء على حين بغتة، فامتلك ناصية الحرب زمام المعركة..واستأنف القتال ضراوته وقسوته وطحنه، وكان للمفاجأة أثرها في تشتيت صفوف المسلمين..وأبصر طلحة جانب المعركة التي يقف فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فألفاه قد صار هدفا لقوى الشرك والوثنية، فسارع نحو الرسول..وراح رضي الله عنه يجتاز طريقا ما أطوله على قصره..!(2/184)
طريقا تعترض كل شبر منه عشرات السيوف المسعورة وعشرات من الرماح المجنونة!!ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم من بعيد يسيل من وجنته الدمو ويتحامل على نفسه، فجنّ جنونه، وقطع طريق الهول في قفزة أو قفزتين وأمام الرسول وجد ما يخشاه.. سيوف المشركين تلهث نحوه، وتحيط به تريد أن تناله بسوء..ووقف طلحة كالجيش اللجب، يضرب بسيفه البتار يمينا وشمالا..ورأى دم الرسول الكريم ينزف، وآلامه تئن، فسانده وحمله بعيدا عن الحفرة التي زلت فيها قدمه..كان يساند الرسول عليه الصلاة والسلام بيسراه وصدره، متأخرا به إلى مكان آمن، بينما بيمينه، بارك الله يمينه، تضرب بالسيف وتقاتل المشركين الذين أحاطوا بالرسول، وملؤا دائرة القتال مثل الجراد..!!
ولندع الصدّيق أبا بكر رضي الله عنه يصف لنا المشهد..تقول عائشة رضي الله عنها:" كان أبو بكر إذا ذكر يوم أحد يقول: ذلك كله كان يوم طلحة.. كنت أول من جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لي الرسول صلى الله عليه وسلم ولأبي عبيدة بن الجرّاح: دونكم أخاكم.. ونظرنا وإذا به بضع وسبعون بين طعنة.. وضربة ورمية.. وإذا أصبعه مقطوع. فأصلحنا من شأنه" .(2/185)
وفي جميع المشاهد والغزوات، كان طلحة في مقدّمة الصفوف يبتغي وجه الله، ويفتدي راية رسوله. ويعيش طلحة وسط الجماعة المسلمة، يعبد الله مع العابدين، ويجاهد في سبيله مع المجاهدين، ويرسي بساعديه مع سواعد إخوانه قواعد الدين الجديد الذي جاء ليخرج الناس من الظلمات إلى النور..فإذا قضى حق ربه، راح يضرب في الأرض، ويبتغي من فضل الله منمّيا تجارته الرابحة، وأعماله الناجحة.فقد كان طلحة رضي الله عته من أكثر المسلمين ثراء، وأنماهم ثروة..وكانت ثروته كلها في خدمة الدين الذي حمل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم رايته...كان ينفق منها بغير حساب..وكان ربه ينمّيها له بغير حساب!لقد لقّبه رسول الله صلى الله عليه وسلم بـ طلحة الخير، وطلحة الجود، وطلحة الفيّاض اطراء لجوده المفيض.وما أكثر ما كان يخرج من ثروته مرة واحدة، فاذا الله الكريم يردها اليه مضاعفة.تحدّثنا زوجته سعدى بنت عوف فتقول:" دخلت على طلحة يوما فرأيته مهموما، فسألته ما شانك..؟فقال المال الذي عندي.. قد كثر حتى أهمّني وأكربني..وقلت له ما عليك.. اقسمه..فقام ودعا الناس، واخذ يقسمه عليهم حتى ما بقي منه درهم"...ومرّة أخرى باع أرضا له بثمن مرتفع، ونظر إلى كومة المال ففاضت عيناه من الدمع ثم قال:" إن رجلا تبيت هذه الأموال في بيته لا يدري ما يطرق من أمر، لمغرور بالله"...ثم دعا بعض أصحابه وحمل معهم أمواله هذه، ومضى في شوارع المدينة وبيوتها يوزعها، حتى أسحر وما عنده منها درهم..!!ويصف جابر بن عبد الله جود طلحة فيقول:" ما رأيت أحد أعطى لجزيل مال من غير مسألة، من طلحة بن عبيد الله".وكان أكثر الناس برّا بأهله وبأقربائه، فكان يعولهم جميعا على كثرتهم..وقد قيل عنه في ذلك:".. كان لا يدع أحدا من بني تيم عائلا إلا كفاه مؤنته، ومؤنة عياله..وكان يزوج أيامهم، ويخدم عائلهم، ويقضي دين غارمهم"..(2/186)
ويقول السائب بن زيد:" صحبت طلحة بن عبيد الله في السفر والحضر فما وجدت أحدا، أعمّ سخاء على الدرهم، والثوب والطعام من طلحة"..!!
- مناقب طلحة ابن عبيد الله - رضي الله عنه - :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
لطلحة ابن عبيد الله - رضي الله عنه - مناقب عظيمة وفضائل جسيمة وهاك غيضٌ من فيض ونقطةٌ من بحر مما ورد في ذلك جملةً وتفصيلاً :
أولاً مناقب طلحة ابن عبيد الله - رضي الله عنه - جملة ً :
(1) طلحة أحد العشرة المبشرين بالجنة :
(2) طلحة شهيد يمشي على الأرض :
(3) طَلْحَةُ مِمَّنْ قَضَى نَحْبَهُ :
(4) إنفاق طلحة في سبيل الله تعالى :
(5) شجاعة طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه :
(6) موقف طلحة بن عبيد الله من الفتنة :
ثانياً مناقب طلحة ابن عبيد الله - رضي الله عنه - تفصيلا ً :
(1) طلحة أحد العشرة المبشرين بالجنة :
( حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أبو بكر في الجنة وعمر في الجنة وعثمان في الجنة وعليٌ في الجنة وطلحة في الجنة والزبير في الجنة وعبد الرحمن بن عوف في الجنة وسعدُ ابن أبي وقاص في الجنة وسعيدُ ابن زيد في الجنة وأبو عبيدة بن الجراح في الجنة .
( حديث قيس ابن حازم رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري ) قال: رأيت يد طلحة شلاء، وقى بها النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد.
( حديث الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي ) قَالَ : كَانَ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - دِرْعَانِ يَوْمَ أُحُدٍ فَنَهَضَ إِلَى الصَّخْرَةِ فَلَمْ يَسْتَطِعْ فَأَقْعَدَ طَلْحَةَ تَحْتَهُ فَصَعِدَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَيْهِ حَتَّى اسْتَوَى عَلَى الصَّخْرَةِ فَقَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ أَوْجَبَ طَلْحَةُ .(2/187)
[*] قال العلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:
( كَانَ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - دِرْعَانِ ) َفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى جَوَازِ الْمُبَالَغَةِ فِي أَسْبَابِ الْمُجَاهَدَةِ وَأَنَّهُ لَا يُنَافِي التَّوَكُّلَ وَالتَّسْلِيمَ بِالْأُمُورِ الْوَاقِعَةِ الْمُقَدَّرَةِ (يَوْمَ أُحُدٍ ) بِضَمَّتَيْنِ مَوْضِعٌ مَعْرُوفٌ بِالْمَدِينَةِ (فَنَهَضَ) أَيْ قَامَ مُتَوَجِّهًا (إِلَى الصَّخْرَةِ) أَيِ الَّتِي كَانَتْ هُنَاكَ يَسْتَوِي عَلَيْهَا وَيَنْظُرُ إِلَى الْكُفَّارِ وَيُشْرِفُ عَلَى الْأَبْرَارِ
(أَوْجَبَ طَلْحَةُ ) أَيِ الْجَنَّةَ كَمَا فِي رِوَايَةٍ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ أَثْبَتَهَا لِنَفْسِهِ بِعَمَلِهِ هَذَا أَوْ بِمَا فَعَلَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، فَإِنَّهُ خَاطَرَ بِنَفْسِهِ يَوْمَ أُحُدٍ وَفَدَى بِهَا رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَجَعَلَهَا وِقَايَةً لَهُ حَتَّى طُعِنَ بِبَدَنِهِ وَجُرِحَ جَمِيعُ جَسَدِهِ حَتَّى شُلَّتْ يَدُهُ بِبِضْعٍ وَثَمَانِينَ جِرَاحَةً كَذَا فِي الْمِرْقَاةِ.
[*] أورد الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الشعبي يقول أدركت خمس مئة أو أكثر من الصحابة يقولون علي وعثمان وطلحة والزبير في الجنة .
قال الذهبي رحمه الله :
قلت لأنهم من العشرة المشهود لهم بالجنة ومن البدريين ومن أهل بيعة الرضوان ومن السابقين الأولين الذين أخبر تعالى أنه رضي عنهم ورضوا عنه ولأن الأربعة قتلوا ورزقوا الشهادة فنحن محبون لهم باغضون للأربعة الذين قتلوا الأربعة .أهـ
(2) طلحة شهيد يمشي على الأرض :
( حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من سَرَّهُ أن ينظر إلى شهيد يمشي على وجه الأرض فلينظر إلى طلحة بن عبيد الله .
[*] قال العلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:(2/188)
" مَنْ سَرَّهُ" أَيْ: أَحَبَّهُ وَأَعْجَبَهُ وَأَفْرَحَهُ " فَلْيَنْظُرْ إِلَى طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ مناقبه " هَذَا مَعْدُودٌ مِنْ مُعْجِزَاتِهِ - صلى الله عليه وسلم - فَإِنَّهُ اسْتُشْهِدَ فِي وَقْعَةِ الْجَمَلِ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ أهـ
لم تكن ثمة بشرى يتمنّاها أصحاب رسول الله، وتطير قلوبهم شوقا إليها أكثر من هذه التي قلّدها النبي طلحة بن عبيد الله..لقد اطمأن اذن الى عاقبة أمره ومصير حياته.. فسيحيا، ويموت، وهو واحد من الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه ولن تناله فتنة، ولن يدركه لغوب..ولقد بشّره الرسول بالجنة .
شهد له النبي - صلى الله عليه وسلم - بالشهادة في عدة مواضع منها ما يلي :
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) قال : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان على حراء هو و أبو بكر و عمر و عثمان و علي و طلحة و الزبير فتحركت الصخرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اهدأ فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد .
(حديث سعيد بن زيد رضي الله عنه الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : اثبت حراء فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد ، وعدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وابن عوف وسعيد بن زيد .
{ تنبيه } : وهذا يصدق على كل من وقف في هذا الموقف؛ لأنه قال: (أو شهيد) و(شهيد) نكرة في سياق النفي فتفيد العموم.
(3) طَلْحَةُ مِمَّنْ قَضَى نَحْبَهُ:
(حديث معاوية ابن أبي سفيان رضي الله عنه الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : طَلْحَةُ مِمَّنْ قَضَى نَحْبَهُ .
[*] قال العلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:(2/189)
{ " طَلْحَةُ مِمَّنْ قَضَى نَحْبَهُ " } (1) قَالَ فِي النِّهَايَةِ النَّحْبُ: النَّذْرُ كَأَنَّهُ أَلْزَمَ نَفْسَهُ أَنْ يَصْدُقَ أَعْدَاءَ اللَّهِ فِي الْحَرْبِ فَوَفَّى بِهِ، وَقِيلَ: النَّحْبُ الْمَوْتُ كَأَنَّهُ يُلْزِمُ نَفْسَهُ أَنْ يُقَاتِلَ حَتَّى يَمُوتَ.انْتَهَى، وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: النَّذْرُ وَالنَّحْبُ الْمُدَّةُ، وَالْوَقْتُ، وَمِنْهُ قَضَى فُلَانٌ نَحْبَهُ إِذَا مَاتَ وَعَلَى الْمَعْنَيَيْنِ يُحْمَلُ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: { فَمِنْهُمْ مّن قَضَىَ نَحْبَهُ) [ الأحزاب : 23] فَعَلَى النَّذْرِ أَيْ: نَذْرَهُ فِيمَا عَاهَدَ اللَّهَ عَلَيْهِ مِنَ الصِّدْقِ فِي مَوَاطِنِ الْقِتَالِ وَالنُّصْرَةِ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَعَلَى الْمَوْتِ: أَيْ: مَاتَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ عَاهَدُوا اللَّهَ أَنْ يَبْذُلُوا نُفُوسَهُمْ فِي سَبِيلِهِ فَأَخْبَرَ أَنَّ طَلْحَةَ مِمَّنْ وَفَّى بِنَفْسِهِ ، أَوْ مِمَّنْ ذَاقَ الْمَوْتَ فِي سَبِيلِهِ وَإِنْ كَانَ حَيًّا أهـ.
فيكون معنى قضى نحبه :
أي صدق في عهده أو صدق في نذره حتى لقي ربه وهو شهيد صادق وعاهد الله على الشهادة ونذر حياته لذلك حتى مات على الشهادة في سبيل الله فلم يبدل ولم يحرف ولم يقع في خيانة .
(4) إنفاق طلحة في سبيل الله تعالى :
علم النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه رضي الله عنهم كيف ينفقون الأموال وما أعطاهم الله تبارك وتعالى في سبيل الله ومواقع رضاء الله، وكيف كان ذلك أحبَّ إليهم من الإِنفاق على أنفسهم، وكيف كانوا يُؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة
ولقد ضرب طلحة ابن عبيد الله أروع المثل في ذلك حتى سمَّاه النبي - صلى الله عليه وسلم - طلحة الخير وطلحة الفياض وطلحة الجود .
__________
(1) - الترمذي تفسير القرآن (3202),ابن ماجه المقدمة (127).(2/190)
(حديث طلحة ابن عبيد الله رضي الله عنه الثابت في ظلال الجنة تخريج السنة ) قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رآني قال سلفي في الدنيا والآخرة وسماني رسول الله صلى الله عليه وسلم طلحة الخير وفي غزوة ذات العسيرة طلحة الفياض ويوم حنين طلحة الجود وقال من أحب أن ينظر إلى شهيد يمشي على وجه الأرض فلينظر إلى طلحة .
وأخرج أبو نعيم في الحلية عن سُعدى إمرأة طلحة رضي الله عنهما قالت: فقد تصدّق طلحة يوماً بمائة ألف درهم، ثم حبسه عن الرواح إلى المسجد أن جمعت له بين طرفي ثوبه.
[*] أورد الذهبي في سير أعلام النبلاء عن سُعْدَى بنت عوف المرية قالت دخلت على طلحة يوما وهو خاثر فقلت ما لك لعل رابك من أهلك شيء قال لا والله ونعم حليلة المسلم أنت ولكن مال عندي قد غمني فقلت ما يغمك عليك بقومك قال يا غلام ادع لي قومي فقسمه فيهم فسألت الخازن كم أعطى قال أربع مئة ألف .
[*] أورد الذهبي في سير أعلام النبلاء عن موسى بن محمد بن إبراهيم التيمي عن أبيه قال كان طلحة يغل بالعراق أربع مئة ألف ويغل بالسراة عشرة آلاف دينار أو ( أقل أو ) أكثر ( وبالأعراض له غلات ) وكان لا يدع أحدا من بني تيم عائلا إلا كفاه وقضى دينه ولقد كان يرسل إلى عائشة ( إذا جاءت غلته ) كل سنة بعشرة آلاف ولقد قضى عن فلان التيمي ثلاثين ألفا .
[*] أورد الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عثمان بن عبد الرحمن أن طلحة بن عبيد الله قضى عن عبيد الله بن معمر وعبد الله بن عامر بن كريز ثمانين ألف درهم .(2/191)
[*] أورد الذهبي في سير أعلام النبلاء عن موسى بن طلحة عن أبيه أنه أتاه مال من حضرموت سبع مئة ألف فبات ليلته يتململ فقالت له زوجته : مَالَكَ ؟ قال تفكرت منذ الليلة فقلت ما ظن رجل بربه يبيت وهذا المال في بيته قالت فأين أنت عن بعض أخلائك فإذا أصبحت فادع بجفان وقصاع فقسمه فقال لها رحمك الله إنك موفقة بنت موفق وهي أم كلثوم بنت الصديق فلما أصبح دعا بجفان فقسمها بين المهاجرين والأنصار فبعث إلى علي منها بجفنة ، فقالت له زوجته أبا محمد أما كان لنا في هذا المال من نصيب قال فأين كنت منذ اليوم فشأنك بما بقي قالت فكانت صرة فيها نحو ألف درهم .
[*] أورد الذهبي في سير أعلام النبلاء عن علي بن زيد قال جاء أعرابي إلى طلحة يسأله فتقرب إليه برحم فقال إن هذه لرحم ما سألني بها أحد قبلك ، إن لي أرضا قد أعطاني بها عثمان ثلاث مئة ألف فاقبضها وإن شئت بعتها من عثمان ودفعت إليك الثمن فقال الثمن فأعطاه .
(5) شجاعة طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه :(2/192)
( حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح النسائي ) قال: لما كان يوم أحد وولى الناس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في ناحية في أثنى عشر رجلا من الأنصار وفيهم طلحة بن عبيد الله فأدركهم المشركون فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال من للقوم فقال طلحة أنا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أنت فقال رجل من الأنصار أنا يا رسول الله فقال أنت فقاتل حتى قتل ثم التفت فإذا المشركون فقال من للقوم فقال طلحة أنا قال كما أنت فقال رجل من الأنصار أنا فقال أنت فقاتل حتى قتل ثم لم يزل يقول ذلك ويخرج إليهم رجل من الأنصار فيقاتل قتال من قبله حتى يقتل حتى بقي رسول الله صلى الله عليه وسلم وطلحة بن عبيد الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من للقوم فقال طلحة أنا فقاتل طلحة قتال الأحد عشر حتى ضربت يده فقطعت أصابعه فقال حس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو قلت بسم الله لرفعتك الملائكة والناس ينظرون ثم رد الله المشركين .
[*] أورد الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عائشة وأم إسحاق بنتي طلحة قالتا جرح أبونا يوم أحد أربعا وعشرين جراحة وقع منها في رأسه شجة مربعة وقطع نساه يعني العرق وشلت أصبعه وكان سائر الجراح في جسده وغلبه الغشي ورسول الله صلى الله عليه وسلم مكسورة رباعيته مشجوج في وجهه قد علاه الغشي وطلحة محتمله يرجع به القهقرى كلما أدركه أحد من المشركين قاتل دونه حتى أسنده إلى الشعب .(2/193)
[*] أورد الذهبي في سير أعلام النبلاء عن موسى بن طلحة أن معاوية سأله كم ترك ابو محمد من العين قال ترك ألفي ألف درهم ومئتي ألف درهم ومن الذهب مئتي ألف دينار فقال معاوية عاش حميدا سخياً شريفاً وقتل فقيدا رحمه الله وأنشد الرياشي لرجل من قريش * أيا سائلي عن خيار العباد * صادفت ذا العلم والخبرة * * خيار العباد جميعا قريش * وخير قريش ذوو الهجرة * * وخير ذوي الهجرة السابقون * ثمانية وحدهم نصره * * علي وعثمان ثم الزبير * وطلحة وإثنان من زهرة * * وبران قد جاورا أحمدا * وجاور قبرههما قبره * * فمن كان بعدهم فاخرا * فلا يذكرن بعدهم فخره *
(6) موقف طلحة بن عبيد الله من الفتنة :
[*] أورد الذهبي في سير أعلام النبلاء عن علقمة بن وقاص الليثي قال لما خرج طلحة والزبير وعائشة للطلب بدم عثمان عرجوا عن منصرفهم بذات عرق فاستصغروا عروة بن الزبير وأبا بكر بن عبد الرحمن فردوهما قال ورأيت طلحة وأحب المجالس إليه أخلاها وهو ضارب بلحيته على زوره فقلت يا أبا محمد إني أراك وأحب المجالس إليك أخلاها إن كنت تكره هذا الأمر فَدَعْهُ فقال يا علقمة لا تلمني كنا أمس يدا واحدة على من سوانا فأصبحنا اليوم جبلين من حديد يزحف أحدنا إلى صاحبه ولكنه كان مني شيء في أمر عثمان مما لا أرى كفارته إلا سفك دمي وطلب دمه .
قال الذهبي رحمه الله : قلت : الذي كان منه في حق عثمان تمغفل وتأليب فعله باجتهاد ثم تغير عندما شاهد مصرع عثمان فندم على ترك نصرته رضي الله عنهما وكان طلحة أول من بايع عليا أرهقه قتلة عثمان واحضروه حتى بايع .
[*] أورد الذهبي في سير أعلام النبلاء عن حكيم بن جابر قال قال طلحة إنا داهنا في أمر عثمان فلا نجد اليوم أمثل من أن نبذل دماءنا فيه اللهم خذ لعثمان مني اليوم حتى ترضى .
قتل طلحة بن عبيد الله - رضي الله عنه - :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ(2/194)
[*] أورد الذهبي في سير أعلام النبلاء عن قيس قال رأيت مروان بن الحكم حين رمى طلحة يومئذ بسهم فوقع في ركبته فما زال ينسح حتى مات .
قال الذهبي رحمه الله : قلت : قاتل طلحة في الوزر بمنزلة قاتل علي .
[*] أورد الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الشعبي قال رأى علي طلحة في واد ملقى فنزل فمسح التراب عن وجهه وقال عزيز علي أبا محمد بأن أراك مجدلا في الأودية تحت نجوم السماء إلى الله أشكو عجري وبجري قال الأصمعي معناه سرائري وأحزاني التي تموج في جوفي عبد الله بن إدريس عن ليث عن طلحة بن مصرف أن عليا إنتهى إلى طلحة وقد مات فنزل عن دابته وأجلسه ومسح الغبار عن وجهه ولحيته وهو يترحم عليه وقال ليتني مت قبل هذا اليوم بعشرين سنة .
[*] أورد الذهبي في سير أعلام النبلاء عن محمد بن عبد الله من الأنصار عن أبيه أن عليا قال بشروا قاتل طلحة بالنار .
[*] أخرج الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أبي حبيبة مولى لطلحة قال دخلت على علي مع عمران بن طلحة بعد وقعة الجمل فرحب به وأدناه ثم قال إني لأرجو أن يجعلني الله وأباك ممن قال فيهم (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مّنْ غِلّ إِخْوَاناً عَلَىَ سُرُرٍ مّتَقَابِلِينَ) [ الحجر : 47] فقال رجلان جالسان أحدهما الحارث الاعور الله أعدل من ذلك أن يقبلهم ويكونوا إخواننا في الجنة قال قوما أبعد أرض وأسحقها فمن هو إذا لم أكن أنا وطلحة يا ابن أخي إذا كانت لك حاجة فائتنا .
ثانياً : صورٌ مشرقة من زهد طلحة ابن عبيد الله - رضي الله عنه - :(2/195)
لقد فهم طلحة ابن عبيد الله - رضي الله عنه - من خلال معايشته للقرآن الكريم، ومصاحبته للنبي الأمين صلى الله عليه وسلم ومن تفكره في هذه الحياة بأن الدنيا دار اختبار وابتلاء، وعليه فإنها مزرعة للآخرة، ولذلك تحرر من سيطرة الدنيا بزخارفها، و زينتها، وبريقها، وطلقها ثلاثة ونفض يديه منها ، وخضع وانقاد وأسلم نفسه لربه ظاهرا وباطنا، فكانت الدنيا في يده ولم تقترب من قلبه الشريف ، وقد وصل إلى حقائق استقرت في قلبه ساعدته على الزهد في هذه الدنيا ومن هذه الحقائق ما يلي :
(1) اليقين التام بأننا في هذه الدنيا أشبه بالغرباء، أو عابري سبيل كما قال النبى صلى الله عليه وسلم: كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ .
( حديث بن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح البخاري ) قال:أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل). وكان ابن عمر يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك.
(2) أن هذه الدنيا لا وزن لها ولا قيمة عند رب العزة إلا ما كان منها طاعة لله تبارك وتعالى :
( حديث سهل بن سعد رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء .
( حديث أبي هريرة في صحيح ابن ماجة ) أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه وعالماً أو متعلما .
(3) أن عمرها قد قارب على الانتهاء :
( حديث أنس رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : بعثت أنا والساعة كهاتين قال وضم السبابة والوسطى .
(4) أن الآخرة هى الباقية، وهى دار القرار :
كما قال مؤمن آل فرعون:(2/196)
( يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ * مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ ) [ غافر: 39 ، 40]
كانت هذه الحقائق قد استقرت في قلب أبي بكر، فترِفَّع رضي الله عنه عن الدنيا وحطامها وزهد فيها،
وهاك بعض صور زهده رضي الله عنه :
لقد وعى طلحة ابن عبيد الله رضي الله عنه حقيقة الزهد وأن الزهد أن يكون المال في يدك وليس في قلبك فكان آيةً في الجود والسخاء والبذل والإنفاق في سبيل الله تعالى ، فكان المال في يده ولم يقترب من قلبه الشريف رضي الله عنه ،
وكان طلحة رضي الله عنه من أكثر المسلمين ثراء، وأنماهم ثروة وكانت ثروته كلها في خدمة الدين الذي حمل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم رايته كان ينفق منها بغير حساب وكان الله ينمّيها له بغير حساب ، فكان كلما أخرج منها الكثير ، أعاده الله إليه مضاعفا
لقد لقّبه رسول الله صلى الله عليه وسلم بـ طلحة الخير، وطلحة الجود، وطلحة الفيّاض إطراء لجوده المفيض. وما أكثر ما كان يخرج من ثروته مرة واحدة، فاذا الله الكريم يردها اليه مضاعفة
[*] عن الحسن قال: باع طلحة أرضا له بسبعمائة ألف، فبات ذلك المال عنده ليلة، فبات أَرِقا من مخافة ذلك المال، حتى أصبح ففرَّقه .
[*] وعن جابر بن قَبيصة قال: صحبتُ طلحة، فما رأيتُ رجلا أعطى لجزيل مال من غير مسألة منهhttp://qaradawi.net/site/topics/article.asp?cu_no=2&item_no=6025&version=1&template_id=119&parent_id=13 - _ftn14 .(2/197)
[*] تحدّثنا زوجته سُعدى بنت عوف فتقول: دخل عليَّ طلحة ورأيتُه مغموما فقلتُ: ما لي أراك كالح الوجه؟ وقلتُ: ما شأنك، أرابك مني شيء فأعتبك (أي أسترضيك)؟ قال: لا. ولنعم حليلةُ المسلم أنت! قلتُ: فما شأنك؟ قال: المال الذي عندي قد كثر وكَرَبَني! قلتُ: وما عليك، اقسمه. قالت: فقسمه حتى ما بقي منه درهم.
قال يحيى بن طلحة: فسألتُ خازن طلحة: كم المال؟ قال: أربعمائة ألف.
وقالت سُعدى بنت عوف أيضاً : لقد تصدَّق طلحة يوما بمائة ألف، ثم حبسه عن المسجد أن جمعتُ له بين طرفي ثوبه. تعني: لم يستطع الذهاب إلى المسجد حتى رقع ثوبه!!
ومرّة أخرى باع أرضاً له بثمن مرتفع، ونظر الى كومة المال ففاضت عيناه من الدمع ثم قال : إن رجلاً تبيت هذه الأموال في بيته لا يدري ما يطرق من أمر، لمغرور بالله
ثم دعا بعض أصحابه وحمل معهم أمواله هذه، ومضى في شوارع المدينة وبيوتها يوزعها، حتى أسحر وما عنده منها درهم
[*] ويصف جابر بن عبد الله جود طلحة فيقول : ما رأيت أحد أعطى لجزيل مال من غير مسألة، من طلحة بن عبيد الله
وكان أكثر الناس برّا بأهله وبأقربائه، فكان يعولهم جميعا على كثرتهم..وقد قيل عنه في ذلك: كان لا يدع أحدا من بني تيم عائلا إلا كفاه مؤنته، و مؤنة عياله وكان يزوج أياماهم، ويخدم عائلهم، ويقضي دين غارمهم
[*] ويقول السائب بن زيد: صحبت طلحة بن عبيد الله في السفر والحضر فما وجدت أحداً، أعمّ سخاء على الدرهم، والثوب والطعام من طلحة .
ويتجلى زهد طلحة ابن عبيد الله رضي الله عنه كذلك في تركه ما لا ينفع في الآخرة وعدم إصراره على الخطأ إن صدر منه ، فكان وَقَّافاً لحدود الله تعالى وكان إذا ذُكِّرَ ذكر ويظهر هذا وضوحاً جلياً في موقف من الفتنة في خلافة عثمان وهاك موقفه بإيجاز :(2/198)
نشبت الفتنة المعروفة في خلافة عثمان رضي الله عنه ويؤيد طلحة حجة المعارضين لعثمان، ويزكي معظمهم فيما كانوا ينشدونه من تغيير وإصلاح ، لكن هل كان بموقفه هذا، يدعو إلى قتل عثمان، أو يرضى به..؟؟ كلا
ولو كان يعلم أن الفتنة ستتداعى حتى تتفجر آخر الأمر حقداً مخبولاً، ينفس عن نفسه في تلك الجناية البشعة التي ذهب ضحيتها ذو النورين عثمان رضي الله عنه نقول: لو كان يعلم أن الفتنة ستتمادى إلى هذا المأزق والمنتهى لقاومها، ولقاومها معه بقية الأصحاب الذين آزروها أول أمرها باعتبارها حركة معارضة وتحذير، لا أكثر
على أن موقف طلحة هذا، تحوّل إلى عقدة حياته بعد الطريقة البشعة التي حوصر بها عثمان وقتل، فلم يكد الإمام عليّ يقبل بيعة المسلمين بالمدينة ومنهم طلحة والزبير، حتى استأذن الاثنان في الخروج إلى مكة للعمرة ومن مكة توجها إلى البصرة، حيث كانت قوات كثيرة تتجمّع للأخذ بثأر عثمان
وكانت وقعة الجمل حيث التقى الفريق المطالب بدم عثمان، والفريق الذي يناصر عليّا..وكان عليّ كلما أدار خواطره على الموقف العسر الذي يجتازه الإسلام والمسلمون في هذه الخصومة الرهيبة، تنتفض همومه، وتهطل دموعه، ويعلو نشيجه
لقد اضطر إلى المأزق الوعر فبوصفه خليفة المسلمين لا يستطيع، وليس من حقه أن يتسامح تجاه أي تمرّد على الدولة، أو أي مناهضة مسلحة للسلطة المشروعة وحين ينهض لقمع تمرّد من هذا النوع ، فإن عليه أن يواجه إخوانه وأصحابه وأصدقاءه ، وأتباع رسوله ودينه، أولئك الذين طالما قاتل معهم جيوش الشرك، وخاضوا معا تحت راية التوحيد معارك صهرتهم وصقلتهم، وجعلت منهم إخواناً بل إخوة متعاضدين فأي مأزق هذا..؟ وأي ابتلاء عسير..؟(2/199)
وفي سبيل التماس مخرج من هذا المأزق، وصون دماء المسلمين لم يترك الإمام علي وسيلة إلا توسّل بها، ولا رجاء إلا تعلق به ولكن العناصر التي كانت تعمل ضدّ الإسلام ، وما أكثرها، والتي لقيت مصيرها الفاجع على يد الدولة المسلمة، أيام عاهلها العظيم عمر، هذه العناصر كانت قد أحكمت نسج الفتنة، وراحت تغذيها وتتابع سيرها وتفاقمها
بكى عليّ رضي الله عنه بكاء غزيرا، عندما أبصر أم المؤمنين عائشة في هودجها على رأس الجيش الذي يخرج الآن لقتاله وعندما أبصر وسط الجيش طلحة والزبير، حوراييّ رسول الله فنادى طلحة والزبير ليخرجا إليه، فخرجا حتى اختلفت أعناق أفراسهم فقال لطلحة : يا طلحة، أجئت بعرس رسول الله تقاتل بها وخبأت عرسك في البيت..؟؟
ثم قال للزبير: يا زبير، نشدتك الله، أتذكر يوم مرّ بك رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن بمكان كذا، فقال لك: يا زبير، ألا تحبّ عليّا..؟
فقلت: ألا أحب ابن خالي، وابن عمي، ومن هو على ديني..؟؟
فقال لك: يا زبير، أما والله لتقاتلنه وأنت له ظالم
قال الزبير رضي الله عنه : نعم أذكر الآن، وكنت قد نسيته، والله لا أقاتلك وأقلع الزبير وطلحة عن الاشتراك في هذه الحرب الأهلية
أقلعا فور تبيّنهما الأمر، وعندما أبصرا عمار بن ياسر يحارب في صف عليّ، تذكرا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمّار: تقتلك الفئة الباغية فإن قتل عمّار إذن في هذه المعركة التي يشترك فيها طلحة، فسيكون طلحة باغياً
انسحب طلحة والزبير من القتال، ودفعا ثمن ذلك الانسحاب حياتهما، ولكنهما لقيا الله قريرة أعينهما بما منّ عليهما من بصيرة وهدى.. أما الزبير فقد تعقبه رجل اسمه عمرو بن جرموز وقتله غيلة وغدرا وهو يصلي
وأما طلحة فقد رماه مروان بن الحكم بسهم أودى بحياته(2/200)
كان مقتل عثمان قد تشكّل في نفسية طلحة، حتى صار عقدة حياته..كل هذا، مع أنه لم يشترك بالقتل، ولم يحرّض عليه، وإنما ناصر المعارضة ضدّه، يوم لم يكن يبدو أن المعارضة ستتمادى وتتأزم حتى تتحول إلى تلك الجريمة البشعة
وحين أخذ مكانه يوم الجمل مع الجيش المعادي لعلي بن أبي طالب والمطالب بدم عثمان، كان يرجو أن يكون في موقفه هذا كفّارة تريحه من وطأة ضميره.. وكان قبل بدء المعركة يدعو ويضرع بصوت تخنقه الدموع، ويقول : اللهم خذ مني لعثمان اليوم حتى ترضى
فلما واجهه عليّ هو والزبير، أضاءت كلمات عليّ جوانب نفسيهما، فرأيا الصواب وتركا أرض القتال..بيد أن الشهادة من حظ طلحة يدركها وتدركه أيّان يكون ألم يقل الرسول عنه : هذا ممن قضى نحبه، ومن سرّه أن يرى شهيداً يمشي على الأرض، فلينظر الى طلحة لقي الشهيد اذن مصيره المقدور والكبير، وانتهت وقعة الجمل
وأدركت أم المؤمنين أنها تعجلت الأمور فغادرت البصرة إلى البيت الحرام فالمدينة، نافضة يديها من هذا الصراع، وزوّدها الإمام علي في رحلتها بكل وسائل الراحة والتكريم..وحين كان عليّ يستعرض شهداء المعركة راح يصلي عليهم جميعا، الذين كانوا معه، والذين كانوا ضدّه و لما رأى على طلحة مقتولاً جعل يمسح التراب عن وجهه و قال : عزيز علي أبا محمد أن أراك مجولاً تحت نجوم السماء ثم قال : إلى الله أشكو عجري و بجري و ترحم عليه وقال : ليتني من قبل هذا اليوم بعشرين سنة و بكى هو وأصحابه عليه ولما فرغ من دفن طلحة، والزبير، وقف يودعهما بكلمات جليلة، اختتمها قائلا: إني لأرجو أن أكون أنا، وطلحة والزبير وعثمان من الذين قال الله فيهم: ونزعنا ما صدورهم من غلّ إخوانا على سرر متقابلين ،ثم ضمّ قبريهما بنظراته الحانية الصافية الآسية وقال : سمعت أذناي هاتان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : طلحة والزبير، جاراي في الجنّة .
[*] سيرة الزبير بن العوام - رضي الله عنه - و صورٌ من زهده :(2/201)
وسوف نتناول شيئين أساسيين في هذه السيرة العطرة وهما :
أولاً : لمحات من سيرة الزبير ابن العوام - رضي الله عنه - :
ثانياً : صورٌ مشرقة من زهد الزبير ابن العوام - رضي الله عنه - :
وهاك تفصيل ذلك :
أولاً : لمحات من سيرة الزبير ابن العوام - رضي الله عنه - :
[*] قال عنه الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء :
وقرينه الزبير بن العوام، الثابت القوام، صاحب السيف الصارم، والرأي الحازم، كان لمولاه مستكيناً، وبه مستعيناً، قاتل الأبطال، وباذل الأموال .
مدح حسان بن ثابت الزبير، فقال في مديحه للزبير:
فكم كربة ذب الزبير بسيفه ... عن المصطفي والله يعطي ويجزل
فما مثله فيهم ولا كان قبله ... وليس يكون الدهر مادام يذبل
ثناؤك خير من فعال معاشر ... وفعلك يا بن الهاشمية أفضل
[*] قال عنه الذهبي في سير أعلام النبلاء :
الزبير بن العوام ابن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن عمته صفية بنت عد المطلب وأحد العشرة المشهود لهم بالجنة وأحد الستة أهل الشورى وأول من سل سيفه في سبيل الله أبو عبد الله رضي الله عنه أسلم وهو حدث له ست عشرة سنة وقد ورد أن الزبير كان رجلا طويلا إذا ركب خطت رجلاه الأرض وكان خفيف اللحية والعارضين روى أحاديث يسيرة حدث عنه بنوه عبد الله ومصعب وعروة وجعفر ومالك بن أوس بن الحدثان والأحنف بن قيس وعبد الله بن عامر بن كريز ومسلم بن جندب وأبو حكيم مولاه وآخرون .
قال موسى بن طلحة : كان علي والزبير وطلحة وسعد عذار عام واحد يعني ولدوا في سنة .
وقال المدائني : كان طلحة والزبير وعلي أترابا .(2/202)
وقال عروة أن الزبير: كان طويلا تخط رجلاه الارض إذا ركب الدابة أشعر وكانت أمه صفية تضربه ضربا شديدا وهو يتيم فقيل لها قتلته أهلكته قالت * إنما أضربه لكي يدب * ويجر الجيش ذا الجلب * قال وكسر يد غلام ذات يوم فجيء بالغلام إلى صفية فقيل لها ذلك فقالت * كيف وجدت وبرا * أأقطا أم تمرا * أم مشمعلا صقرا *
وفيه يقول عامر بن صالح بن عبد الله بن الزبير :
جدي ابن عمة أحمد ووزيره ... عند البلاء وفارس الشقراء
وغداة بدر كان أول فارس ... شهد الوغى في اللامة الصفراء
نزلت بسيماه الملائك نصرة ... بالحوض يوم تألب الاعداء
- اسم الزبير بن العوام - رضي الله عنه - وكنيته :
أبو عبدالله الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب يلتقي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجد الخامس (قصي)
أمه : صفية بنت عبد المطلب عمة النبي صلى الله عليه وسلم
عمته : أم المؤمنين خديجة بنت خويلد رضي الله عنها
زوجته : وزوجته أسماء بنت أبي بكر ذات النطاقين رضي الله عنها وهي أم عبدالله بن الزبير أول مولود للمسلمين بعد الهجرة
- مولد الزبير بن العوام - رضي الله عنه - ونشأته:
كَانَ عَلِيٌّ، وَالزُّبَيْرُ، وَطَلْحَةُ، وَسَعْدٌ، أترابا، يَعْنِي: وُلِدُوا فِي سَنَةٍ ، وَكَانَتْ أُمُّهُ صَفِيَّةُ تَضْرِبُهُ ضَرْباً شَدِيْداً ، وَهُوَ يَتِيْمٌ . فَقِيْلَ لَهَا : قَتَلْتِهِ ، أَهْلَكْتِهِ . قَالَتْ : إِنَّمَا أَضْرِبُهُ لِكَي يَدِبّ * وَيَجُرَّ الجَيْشَ ذَا الجَلَبْ .
- إسلام الزبير بن العوام - رضي الله عنه - :
أسلم الزبير بن العوام وعمره خمس عشرة سنة أو أقل ، وكان من السبعة الأوائل الذين سارعوا بالإسلام .
- ثبات الزبير بن العوام - رضي الله عنه - في الإسلام:(2/203)
كان للزبير -رضي الله عنه- نصيبا من العذاب على يد عمه ، فقد كان يلفه في حصير ويدخن عليه بالنار كي تزهق أنفاسه ، ويناديه : ( اكفر برب محمد أدرأ عنك هذا العذاب ) 000فيجيبه الفتى الزبير رضي الله عنه : ( لا والله ، لا أعود للكفر أبدا )
- سيفه هو أول سيف شهر بالإسلام :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـ
ففي أيام الإسلام الأولى سرت شائعة بأن الرسول الكريم قد قتل ، فما كان من الزبير إلا أن استل سيفه وامتشقه ، وسار في شوارع مكة كالإعصار ،وفي أعلى مكة لقيه الرسول -صلى الله عليه وسلم- فسأله ماذا به ؟فأخبره النبأ فصلى عليه الرسول ودعا له بالخير ولسيفه بالغلب .
- مَنَاقِبِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ - رضي الله عنه - :
للزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ - رضي الله عنه - مناقب عظيمة وفضائل جسيمة وهاك غيضٌ من فيض ونقطةٌ من بحر مما ورد في ذلك جملةً وتفصيلاً :
أولاً مناقب مَنَاقِبِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ - رضي الله عنه - جملة ً :
(1) الزبير ابن عمة النبي - صلى الله عليه وسلم - وحواريه :
(2) الزبير أحد العشر المبشرين بالجنة ومن الستة أصحاب الشورى :
(3) تبشيره بالشهادة :
(4) جَمَعَ النبي - صلى الله عليه وسلم - له أَبَوَيْهِ :
(5) شجاعة الزبير بن العوام رضي الله عنه :
(6) إنفاق الزبير في سبيل الله عز وجل :
(7) الزبير من الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح :
(8) الزبير ركن من أركان الدين :
(9) اعتزال الزبير للفتنة :
ثانياً مناقب مَنَاقِبِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ - رضي الله عنه - تفصيلا ً :
(1) الزبير ابن عمة النبي - صلى الله عليه وسلم - وحواريه :(2/204)
(حديث جابر رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من يأتني بخبر القوم). يوم الأحزاب، قال الزبير: أنا، ثم قال: (من يأتيني بخبر القوم). قال الزبير: أنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن لكل نبي حواريا، وحواري الزبير .
( حديث جابر رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :الزبير ابن عمتي و حواريي من أمتي .
{ إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوَارِيًّا" } بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ وَيَجُوزُ تَخْفِيفُهَا أَيْ: نَاصِرًا مُخْلِصًا " { وَإِنَّ حَوَارِيَّ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ مناقب الزبير } (1) " أَيْ: خَاصَّتِي مِنْ أَصْحَابِي وَنَاصِرِي قَالَهُ فِي النِّهَايَةِ، قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: قَالَ الْقَاضِي: اخْتُلِفَ فِي ضَبْطِهِ فَضَبَطَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ بِفَتْحِ الْيَاءِ كَمُصْرِخِيَّ، وَضَبَطَهُ أَكْثَرُهُمْ بِكَسْرِهَا، وَالْحَوَارِيُّ النَّاصِرُ وَقِيلَ: الْخَاصَّةُ.انْتَهَى
__________
(1) - البخاري الجهاد والسير (2692),مسلم فضائل الصحابة (2415),الترمذي المناقب (3745),ابن ماجه المقدمة (122),أحمد (3/365).(2/205)
[*] أورد الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أسماء بنت أبي بكر قالت مر الزبير بمجلس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وحسان ينشدهم من شعره وهم غير نشاط لما يسمعون منه فجلس معهم الزبير ثم قال مالي أراكم غير أذنين لما تسمعون من شعر ابن الفريعة فلقد كان يعرض به رسول الله صلى الله عليه وسلم فيحسن استماعه ويجزل عليه ثوابه ولا يشتغل عنه فقال حسان يمدح الزبير * أقام على عهد النبي وهديه * حواريه والقول بالفعل يعدل * * أقام على منهاجه وطريقه * يوالي ولي الحق والحق اعدل * * هو الفارس المشهور والبطل الذي * يصول إذا ما كان يوم محجل * * إذا كشفت عن ساقها الحرب حشها بأبيض سباق إلى الموت يرقل * * وإن امرءا كانت صفية أمه * ومن أسد في بيتها لمؤثل * * له من رسول الله قربى قريبة * ومن نصرة الاسلام مجد مؤثل * * فكم كربة ذب الزبير بسيفه * عن المصطفى والله يعطي فيجزل ** ثناؤك خير من فعال معاشر * وفعلك يا ابن الهاشمية أفضل *
(2) الزبير أحد العشر المبشرين بالجنة ومن الستة أصحاب الشورى :
( حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أبو بكر في الجنة وعمر في الجنة وعثمان في الجنة وعليٌ في الجنة وطلحة في الجنة والزبير في الجنة وعبد الرحمن بن عوف في الجنة وسعدُ ابن أبي وقاص في الجنة وسعيدُ ابن زيد في الجنة وأبو عبيدة بن الجراح في الجنة .
[*] أورد الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الشعبي يقول أدركت خمس مئة أو أكثر من الصحابة يقولون علي وعثمان وطلحة والزبير في الجنة .
قال الذهبي رحمه الله :
قلت لأنهم من العشرة المشهود لهم بالجنة ومن البدريين ومن أهل بيعة الرضوان ومن السابقين الأولين الذين أخبر تعالى أنه رضي عنهم ورضوا عنه ولأن الأربعة قتلوا ورزقوا الشهادة فنحن محبون لهم باغضون للأربعة الذين قتلوا الأربعة .أهـ(2/206)
[*] أورد الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عمرو بن ميمون قال قال عمر إنهم يقولون استخلف علينا فإن حدث بي حدث فالأمر في هؤلاء الستة الذين فارقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهوعنهم راض ثم سماهم .
(3) تبشيره بالشهادة :
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) قال : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان على حراء هو و أبو بكر و عمر و عثمان و علي و طلحة و الزبير فتحركت الصخرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اهدأ فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد .
(حديث سعيد بن زيد رضي الله عنه الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : اثبت حراء فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد ، وعدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وابن عوف وسعيد بن زيد .
{ تنبيه } : وهذا يصدق على كل من وقف في هذا الموقف؛ لأنه قال: (أو شهيد) و(شهيد) نكرة في سياق النفي فتفيد العموم.
(4) جَمَعَ النبي - صلى الله عليه وسلم - له أَبَوَيْهِ :
( حديث الزبير ابن العوام رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) قال : من يأت بني قريظة فيأتيني بخبرهم . فانطلقت، فلما رجعت جمع لي رسول الله صلى الله عليه وسلم أبويه فقال: (فداك أبي وأمي).
قَوْلُهُ: ( جَمَعَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَبَوَيْهِ ) أَيْ: فِي التَّفْدِيَةِ " فَقَالَ بِأَبِي وَأُمِّي" أَيْ: فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي، وَفِي هَذِهِ التَّفْدِيَةِ تَعْظِيمٌ لِقَدْرِهِ وَاعْتِدَادٌ بِعَمَلِهِ وَاعْتِبَارٌ بِأَمْرِهِ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُفَدِّي إِلَّا مَنْ يُعَظِّمُهُ فَيَبْذُلُ نَفْسَهُ، أَوْ أَعَزَّ أَهْلِهِ لَهُ .
(5) شجاعة الزبير بن العوام رضي الله عنه :(2/207)
أخرج ابن عساكر عن سعيد بن المسيِّب قال: إن أول من سلّ سيفاً في الله الزبير بن العوام رضي الله عنه، بين هو ذات يوم قائل إذ سمع نغمةً: قُتِلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج متجِّداً بالسيف صلتاً، فلقيها كُنَةً كَنَةً قال: "مالك يا زبير" فقال: سمعت أنك قُتلت. قال: "فما أردت أن تصنع؟" قال: أردت ـ والله ـ أستعرض أهل مكة. فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم بخير، وفي ذلك يقول الأسَديّ:
هاذاك أول سيف سُلّ في غضب
لله سيف الزبير المرتَضى أنَفَا
حميَّةٌ سبقت من فضل نجدته
قد يحبس النجدات المحبس الأرفا
وعند ابن عساكر أيضاً وأبي نعيم في الحلية عن عروة أن الزبير بن العوَّام رضي الله عنهما سمع نفخة من الشيطان أن محمداً صلى الله عليه وسلم أُخذ، بعدما أسلم، وهو ابن إثنتي عشرة سنة؛ فسلّ سيفه، وخرج يشتدّ في الأزقة حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم ـ وهو بأعلى مكة ـ والسيف في يده. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم "ما شأنك؟" قال: سمعت أنك قد أخذت. فقال النبي صلى الله عليه وسلم "ما كنت تصنع؟" قال: كنت أضرب بسيفي هذا من أخذك. فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم ولسيفه، وقال: "انصرف". وكان أول سيف سُلّ في سبيل الله. كذا في منتخب كنز العمال . وأخرجه الزبير بن بكار، كما في الإِصابة .
[*] أورد الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الثوري قال هؤلاء الثلاثة نجدة الصحابة حمزة وعلي والزبير .
[*] أورد الذهبي في سير أعلام النبلاء عن علي قال : حاربني خمسة أطوع الناس في الناس عائشة وأشجع الناس الزبير وأمكر الناس طلحة لم يدركه مكر قط واعطى الناس يعلى بن منية وأعبد الناس محمد بن طلحة كان محمودا حتى استزله أبوه وكان يعلى يعطي الرجل الواحد ثلاثين دينارا والسلاح والفرس على أن يحاربني .
[*] أورد الذهبي في سير أعلام النبلاء عن علي بن زيد أخبرني من رأى الزبير وفي صدره أمثال العيون من الطعن والرمي .(2/208)
[*] أورد الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عروة قال كان في الزبير ثلاث ضربات بالسيف إحداهن في عاتقه إن كنت لأدخل أصابعي فيها ضرب ثنتين يوم بدر وواحدة يوم اليرموك .
قتله طلحة العبدري يوم أُحد :
وذكر يونس عن ابن إسحاق أن طلحة بن أبي طلحة العبدري حاملَ لواء المشركين يوم أُحد دعا إلى البراز، فأحجم عنه الناس؛ فبرز إليه الزبير بن العوام رضي الله عنه. فوثب حتى صار معه على جمله، ثم اقتحم به الأرض، فألقاه عنه، وذبحه بسيفه، فأثنى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "إنَّ لكل نبي حوارِيّاً، وحوارِيّ الزبير"، وقال: "لو لم يبرز إِليه لبرزت أنا إليه، لِمَا رأيت من إحجام الناس عنه". كذا في البداية .
قتله نوفل المخزومي وقصته في قتل رجل آخر :
وذكر يونس عن ابن إسحاق قال: خرج نوفل بن عبد الله بن المغيرة المخزومي ـ أي يوم الخندق ـ، فسأل المبارزة. فخرج إليه الزبير بن العوام رضي الله عنه فضربه، فشقّه باثنتين حتى فلّ في سيفه فلا؛ وانصرف وهو يقول:
إني أمرؤ أُحمي وأحتمي
عن النبي المصطفى الأمي
كذا في البداية .
وقد أخرج ابن جرير عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت؛ أقبل رجل من المشركين وعليه السلاح، حتى صعد على مكان مرتفع من الأرض فقال: من يبارز؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل من القوم: "أتقوم إليه؟" فقال له الرجل: إن شئت يا رسول الله. فأخذ الزبير رضي الله عنه يتطلَّع، فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "قم يا ابن صفية" فانطلق إِليه حتى استوى معه، فاضطربا ثم عانق أحدهما الآخر، ثم تدحرجا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أيهما وقع الحضيض أول فهو المقتول"، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم ودعا الناس فوقع الكافر، ووقع الزبير رضي الله عنه على صدره فقتله. كذا في منتخب الكنز .
حملة الزبير يوم الخندق ويوم اليرموك :(2/209)
وأخرج البيهقي عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما قال: جُعلت يوم الخندق مع النساء والصبيان في الأُطُم، ومعي عمر بن أبي سلمة، فجعل يطأطىء لي، فأصعد على ظهره، فأنظر. قال: فنظرت إلى أبي وهو يحمل مرة ها هنا، ومرة ها هنا، فما يرتفع له شيء إلا أتاه. فلما أمسى جاءنا إلى الأُطُم قلت: يا أبت رأيتك اليوم وما تصنع. قال: ورأيتني يا بني؟ قلت: نعم. قال: فدىً لك أبي وأمي. كذا في البداية .
وأخرج البخاري عن عروة رضي الله عنه أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا للزبير رضي الله عنه يوم اليرموك: لا تشدّ فنشدّ معك؟ فقال: إني إن شددت كذبتم. فقالوا: لا نفعل. فحمل عليهم حتى شقّ صفوفهم فجاوزهم، وما معه أحد، ثم رجع مقبلاً، فأخذوا بلجامه، فضربوه ضربتين على عاتقه، بينهما ضربة ضُربها يوم بدر. قال عروة رضي الله عنه: كنت أدخل أصابعي في تلك الضربات، ألعب وأنا صغير. قال عروة رضي الله عنه: وكان معه عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما يومئذٍ، وهو ابن عشر سنين؛ فحمله على فرس ووكّل به رجلاً. وذكره في البداية ـ بمعناه وزاد: ثم جاؤوا إليه مرّة ثانية، ففعل كما فعل في المرة الأولى.
(6) إنفاق الزبير في سبيل الله عز وجل :
أخرج أبو نُعيم في الحلية عن سعيد بن (عبد) العزيز قال: كان للزبير بن العوام رضي الله عنه ألف مملوك يؤدُّون إِليه الخراج، فكان يقسمه كل ليلة، ثم يقوم إِلى منزله وليس معه منه شيء.
[*] أورد الذهبي في سير أعلام النبلاء عن مغيث بن سمي قال كان للزبير بن العوام ألف مملوك يؤدون إليه الخراج فلا يدخل بيته من خراجهم شيئا .
[*] أورد الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عروة بن الزبير قال : قال أوصى إلى الزبير سبعة من الصحابة منهم عثمان وابن مسعود وعبد الرحمن فكان ينفق على الورثة من ماله ويحفظ أموالهم .(2/210)
[*] أورد الذهبي في سير أعلام النبلاء عن جويرية بن أسماء باع الزبير دارا له بست مئة ألف فقيل له يا أبا عبد الله غبنت قال كلا هي في سبيل الله .
(7) الزبير من الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ــ
( حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في الصحيحين )قالت : (الّذِينَ اسْتَجَابُواْ للّهِ وَالرّسُولِ مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتّقَواْ أَجْرٌ عَظِيمٌ) [ آل عمران : 172] قالت لعروة: يا ابن أختي، كان أبوك منهم: الزبير وأبو بكر، لما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أصاب يوم أحد، وانصرف عنه المشركون، خاف أن يرجعوا، قال: (من يذهب في إثرهم). فانتدب منهم سبعون رجلا، قال: كان فيهم أبو بكر والزبير.
[*] قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح :
قوله القرح : الجراح هو تفسير أبي عبيدة وكذا أخرجه بن جرير من طريق سعيد بن جبير مثله ،
قوله استجابوا : أجابوا ويستجيب يجيب هو قول أبي عبيدة قال في قوله تعالى (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبّهُمْ أَنّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مّنْكُمْ [ آل عمران : 195] أي أجابهم تقول العرب استجيتك أي أجبتك .
وحاصل القصة : لما انصرف المشركون من أحد وأصاب النبي صلى الله عليه وسلم اصحابه ما أصابهم خاف أن يرجعوا فقال من ينتدب لهؤلاء في آثارهم حتى يعلموا أن بنا قوة فانتدب أبو بكر والزبير في سبعين فخرجوا في آثار المشركين فسمعوا بهم فانصرفوا قال تعالى (فَانْقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوَءٌ وَاتّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ) [ آل عمران :
(7) الزبير من الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح :(2/211)
[*] أورد الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عمرو بن ميمون قال قال عمر إنهم يقولون استخلف علينا فإن حدث بي حدث فالأمر في هؤلاء الستة الذين فارقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهوعنهم راض ثم سماهم .
الشاهد : أن هذا هو قول عمر وقول عمر رضي الله تعالى عنه سنة متبعة لأنه من الخلفاء الراشدين للحديث الآتي :
(حديث العرباض بن سارية الثابت في صحيح أبي داوود والترمذي)أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أوصيكم بتقوى الله و السمع و الطاعة و إن أمر عليكم عبد حبشي فإنه من يعش منكم بعدي فسيري اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي و سنة الخلفاء المهديين الراشدين تمسكوا بها و عضوا عليها بالنواجذ و إياكم و محدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة و كل بدعة ضلالة .
(8) الزبير ركن من أركان الدين :
[*] أورد الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عروة بن الزبير قال : قال أوصى إلى الزبير سبعة من الصحابة منهم عثمان وابن مسعود وعبد الرحمن فكان ينفق على الورثة من ماله ويحفظ أموالهم .
الشاهد : أنه هذا قول عمر وقول عمر رضي الله تعالى عنه سنة متبعة لأنه من الخلفاء الراشدين .
(حديث العرباض بن سارية الثابت في صحيح أبي داوود والترمذي)أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أوصيكم بتقوى الله و السمع و الطاعة و إن أمر عليكم عبد حبشي فإنه من يعش منكم بعدي فسيري اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي و سنة الخلفاء المهديين الراشدين تمسكوا بها و عضوا عليها بالنواجذ و إياكم و محدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة و كل بدعة ضلالة .
(9) اعتزال الزبير للفتنة :(2/212)
[*] أورد الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عن مطرف قلت للزبير ما جاء بكم ضيعتم الخليفة حتى قتل ثم جئتم تطلبون بدمه قال إنا قرأنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان قال تعالى: (وَاتّقُواْ فِتْنَةً لاّ تُصِيبَنّ الّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصّةً ) [ الأنفال : 25] لم نكن نحسب أنا أهلها حتى وقعت منا حيث وقعت .
[*] أورد الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الأسود بن قيس حدثني من رأى الزبير يقتفي آثار الخيل قعصا بالرمح فناداه علي يا أبا عبد الله فأقبل عليه حتى التفت أعناق دوابهما فقال أنشدك بالله أتذكر يوم كنت أناجيك فأتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال تناجيه فوالله ليقاتلنك وهو لك ظالم قال فلم يعد أن سمع الحديث فضرب وجه دابته وذهب .
[*] أورد الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أبي جرو المازني قال شهدت عليا والزبير حين تواقفا فقال علي يا زبير أنشدك الله أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إنك تقاتلني وأنت لي ظالم قال نعم ولم أذكره إلا في موقفي هذا ثم انصرف .
[*] أورد الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال : انصرف الزبير يوم الجمل عن علي فلقيه ابنه عبد الله فقال جبنا جبنا قال قد علم الناس أني لست بجبان ولكن ذكرني علي شيئا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم فحلفت أن لا أقاتله ثم قال * ترك الامور التي أخشى عواقبها * في الله أحسن في الدنيا وفي الدين * وقيل إنه أنشد * ولقد علمت لو أن علمي نافعي * أن الحياة من الممات قريب * فلم ينشب أن قتله ابن جرموز .
قتل الزبير بن العوام - رضي الله عنه - :(2/213)
[*] أورد الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عمرو بن جاوان قال قتل طلحة وانهزموا فأتى الزبير سفوان فلقيه النعر المجاشعي فقال يا حواري رسول الله أين تذهب تعال فأنت في ذمتي فسار معه وجاء رجل إلى الأحنف فقال إن الزبير بسفوان فما تأمر إن كان جاء فحمل بين المسلمين حتى إذا ضرب بعضهم حواجب بعض بالسيف أراد أن يلحق ببنيه قال فسمعها عمير بن جرموز وفضالة بن حابس ورجل يقال له نفيع فانطلقوا حتى لقوه مقبلا مع النعر وهم في طلبه فأتاه عمير من خلفه وطعنه طعنة ضعيفة فحمل عليه الزبير فلما استلحمه وظن أنه قاتله قال يا فضالة يا نفيع قال فحملوا على الزبير حتى قتلوه .
[*] أورد الذهبي في سير أعلام النبلاء عن زر قال استأذن ابن جرموز على علي وأنا عنده فقال علي بشر قاتل ابن صفية بالنار سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ( لكل نبي حواري وحواري الزبير .
[*] أورد الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عروة ابن الزبير قال : بلغ حصة عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل زوجة الزبير من ميراثه ثمانين ألف درهم وقالت ترثيه * غدر ابن جرموز بفارس بهمة * يوم اللقاء وكان غير معرد * * يا عمرو لو نبهته لوجدته * لا طائشا رعش البنان ولا اليد * * ثكلتك أمك إن ظفرت بمثله * فيما مضى مما تروح وتغتدي * * كم غمرة قد خاضها لم يثنه * عنها طرادك يا إبن فقع الفدفد * * والله ربك ان قتلت لمسلما * حلت عليك عقوبة المتعمد *
ثانياً : صورٌ مشرقة من زهد الزبير بن العوام - رضي الله عنه - :(2/214)
لقد فهم الزبير ابن العوام - رضي الله عنه - من خلال معايشته للقرآن الكريم، ومصاحبته للنبي الأمين صلى الله عليه وسلم ومن تفكره في هذه الحياة بأن الدنيا دار اختبار وابتلاء، وعليه فإنها مزرعة للآخرة، ولذلك تحرر من سيطرة الدنيا بزخارفها، و زينتها، وبريقها، وطلقها ثلاثة ونفض يديه منها ، وخضع وانقاد وأسلم نفسه لربه ظاهرا وباطنا، فكانت الدنيا في يده ولم تقترب من قلبه الشريف ، وقد وصل إلى حقائق استقرت في قلبه ساعدته على الزهد في هذه الدنيا ومن هذه الحقائق ما يلي :
(1) اليقين التام بأننا في هذه الدنيا أشبه بالغرباء، أو عابري سبيل كما قال النبى صلى الله عليه وسلم: كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ .
( حديث بن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح البخاري ) قال:أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل). وكان ابن عمر يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك.
(2) أن هذه الدنيا لا وزن لها ولا قيمة عند رب العزة إلا ما كان منها طاعة لله تبارك وتعالى :
( حديث سهل بن سعد رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء .
( حديث أبي هريرة في صحيح ابن ماجة ) أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه وعالماً أو متعلما .
(3) أن عمرها قد قارب على الانتهاء :
( حديث أنس رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : بعثت أنا والساعة كهاتين قال وضم السبابة والوسطى .
(4) أن الآخرة هى الباقية، وهى دار القرار :
كما قال مؤمن آل فرعون:(2/215)
( يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ * مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ ) [ غافر: 39 ، 40]
كانت هذه الحقائق قد استقرت في قلب أبي بكر، فترِفَّع رضي الله عنه عن الدنيا وحطامها وزهد فيها،
وهاك بعض صور زهده رضي الله عنه :
كان يدير تجارة رابحة ناجحة، وكان ثراؤه عريضا، ولكنه أنفقه في الإسلام حتى مات مدينا!!
وكان توكله على الله منطلق جوده ، ومنطلق شجاعته وفدائيته..
حتى وهو يجود بروحه، ويوصي ولده عبد الله بقضاء ديونه قال له:
" ذا أعجزك دين، فاستعن بمولاي"..
وسأل عبد الله: أي مولى تعني..؟
فأجابه: الله، نعم المولى ونعم النصير"..
يقول عبد الله فيما بعد:
" فو الله ما وقعت في كربة من دينه إلا قلت: يا مولى الزبير اقضي دينه، فيقضيه".(2/216)