كلما واجه المؤمن الصعاب، وحاصرته المشكلات: أسرع الرجوع إلى مفاخر التاريخ الإسلامي، يستنطقها وينهل منها ويستعير حلاً مناسباً لما هو فيه، وهذا النمط الذي تولع به الدعاة وعامة المسلمين تجابهه اعتراضات من كثير من النقاد، ويحسبونه ضرباً من التصرف العاطفي، وتهرباً من واجب التفكير الإبداعي، ومن ثم تكون لهم جرأة في اتهام هؤلاء المستلهمين للتاريخ بالرجعية والقصور.
ولست مع هؤلاء المنكرين، ولا استظرف أسلوبهم في ازدراء العبر التاريخية وما تحمل من قدرة على الوعظ والتعليم لحائر أصابته الدهشة فنوى حث الأجداد على أن يعينوه برأي، بل ذلك تصرف معرفي سليم ونهج تخطيطي قويم ما دام الداعية صاحب نظر جلي في التفريق بين الثابت والمتغير، ودلالة النص وطبائع المصالح وأحكام الضرورات، فان الخلل إنما ينشأ من الاستعارة الجامدة وتقليد تجارب السلف حرفياً، وأما صاحب المرونة الذي له فهم للواقع المتغير ويأخذ يستعير ويدع بما تستلزمه مداراة المستجدات فانه في سلوك علمي صحيح.
بل أنا أذهب إلى أبعد من هذا وأرى في أي تجربة تاريخية دليلاً كاملاً على واقعية الإسلام وقابلية مذاهب الفقه والتربية الإيمانية على أن تتجسد في عالم الواقع وتكون تجربة إنسانية حقيقية تنفي ما يتهمنا به الفلسفي والعلماني من أنَّ الإسلام كله رمزيات ومثاليات وتحليقات في عالم الأوهام، فحدوث تلك التجارب عبر التاريخ الإسلامي الطويل شاهد على أن الصفات الأخلاقية العالية التي يطلبها الإسلام من الإنسان ممكنة الحدوث ويمكن أن تصاغ عملياً وتظهر آثارها الإصلاحية في المجتمع، وبخاصة إذا كان المهتدي الخلوق خليفةً وحاكماً، إذ أن سلطته تجعل جمهور الناس يقلدونه في طريقته الأخلاقية وعفافه وعدله، ويكون منهم إذعان عن طواعية لأوامره وخططه البناءة، ولطموحاته الحضارية.(1/1)
وتتجلى تجربة هارون الرشيد كشاهد على هذا النجاح من بعد تجربة عمر بن عبد العزيز، ومن مقاربة قاربها أبو جعفر المنصور، فإن هارون الرشيد خليفة مؤمن عادل، حضاري الرؤية والممارسة، وارتفع بهمم الناس في زمنه لتتوازى مع تحليقات همته السامية، وذلك واضح فيما وصفه به الثقات، وهو هارون الرشيد بن المهدي بن المنصور، بويع له سنة 170 هـ ومات سنة 193 هـ، قالوا:
(كان من أحسن الناس سيرة وأكثرهم غزواً وحجاً، ولهذا قال فيه أبو السعلي:
فمنْ يطلبْ لقاءكَ أو يُردهُ فبالحرمينِ أو أقصى الثغورِ
(وكان يحبُّ الفقهاء والشعراء ويعطيهم، ولا يضيع لديه بر ومعروف، وكان نقش خاتمه لا إله إلا الله، وكان يصلي في كل يوم مائة ركعة تطوعاً، إلى أن فارق الدنيا، إلا أن تعرض له علة)، وزوجته زبيدة(كانت أرغب الناس في كل خير وأسرعهم إلى كل بر ومعروف)، وفضائل الرشيد ومكارمه كثيرة جداً(1)، ولذلك كان عصره أزهى العصور، وطريقتنا في الاستمداد من مفاخر السلف تقرر بان داعية الإسلام اليوم لو تمنى حاكماً يطيل السجود ويحفظ التهجد ويحج ويجاهد: فإنه إنما يتمنى أمراً واقعياً هو في قدرة البشر، وليس خيالياً ولا فيه إعنات بل هو طبيعي مألوف وأمر ينساب انسياباً من غير تكلف إذا كان القلب حياً وطاهراً، وفي الأصل نجابة، وإذا أراد حاكم أن يتوب من الكسل والهوى العلماني فانه عما قريب سيكون شريكاً في الحضارة نشطاً، بل يمكن أن يأتي بحضارة إسلامية متميزة عن حضارة الانحراف الحالية العالمية هي تكرار لحضارة أيام الرشيد الإيمانية، وفي هذا ما يعطي لنقدنا السياسي شرعية وصواباً، فان الدعوة الإسلامية إنما تنقد انحرافات الحكومات العلمانية لا استنادا إلى نصوص الشرع فقط بل إلى ما ظاهرها من هذه الحقائق التاريخية أيضاً.
__________
(1) البداية والنهاية10/230.(1/2)
وليس الحاكم فقط هو المؤهل للبرهنة على المقدار الوافر من الحيوية الكامنة في اصل الحقيقة الإسلامية، والتي تنتظر من يفجرها من الحكام تفجيراً ويجعلها تجربة إصلاحية تسعد بها البشرية، بل ذلك متاح أيضاً لكل ذي ذكاء أو شجاعة أو نبل أو وجه آخر من وجوه الخير والعطاء والحرص على نفع الناس، فإنَّ الساحة مفتوحة لمثل هذه العناصر المتميزة ذات النزعة القيادية، لتؤدي دورها الإصلاحي المكمل لدور الحاكمين، ولترتكب إبداعاً وتنتصب قدوة، لا يكبتها كابت مهما ظلم، ويمكن أن تتضاعف تأثيرات هذه القدوات وأن تتناوش النتائج الإصلاحية من طريق قريب إذا اجتمعت ووحدت جهودها وتغافرت وعلت هممها لتكون فوق الخلافيات وصغار الهفوات، ناظرة نحو الصالح العام، مهدرة لحقوقها الشخصية.(1/3)
وإبراهيم بن ادهم مثال لهؤلاء، فقد جمع بين الزهد وفقه النفوس، وحرص على دور وعظي تربوي، وجمع إلى ذلك حياة جهادية حتى وفاته سنة 162 هـ، وله مشهد متميز وإبداع في الإصرار على نية الجهاد وهو على فراش المرض، فانه كان يكثر الغزو…(وذكروا أنه توفي في جزيرة من جزائر بحر الروم وهو مرابط…فلما كانت غشية الموت قال: أوتروا لي قوسي، فأوتروه، فقبض عليه، فمات يريد الرمي به إلى العدو-رحمه الله-)(1)، وهذا المشهد بريء من تكلف يظنه المستعجل الذي لا خبرة له في التربية العملية، وإنما أراد إبراهيم صناعة مشهد من التربية بالمنظر الغني بالمعاني التأثيرية النفسية، وما كان الوضع آنذاك يحتاج رميته، إذ الرماة ألوف، ولكنه أراد إلقاء معنى الجهاد في نفوس الناظرين وفي نفوس أفراد كل جيل مؤمن تبلغه قصته، وهذا الاحتفال بالجهاد والإذعان لأمر الله بالدفاع والغزو هو أحد الدروس التي يليق للتربية الدعوية اليوم أن تستلهمها من تاريخنا المجيد، فان الاستعمار الأمريكي يريد أن يرسخ قدمه، ويريد أن يغير عقائد المسلمين ومناهجهم التربوية وأفكارهم وأخلاقهم بما يوازي الفلسفة المادية الغربية، وأيما جنوح للسلم إذ الاحتلال جاثم سيكون بداية الهزيمة لنا، وستنحل العزائم، وسيكون من الصعوبة بمكان أن نستأنف الجهاد، وبخاصة بعد ما تكشفت أساليب التخدير المعنوي والتضليل الإعلامي وتسويغ الفساد والإغراء بالمال والفرص والنساء، ولذلك يجب أن تبقى الجذوة الجهادية، ساخنة متصلة ضاغطة، فان الجهاد هو خط الدفاع الأهم، وكم في تاريخنا الأغر من نماذج جهادية يسهل استلهام دروسها وتوظيفها في معركتنا الجهادية الحالية، وفي هذا الإمكان الدليل على واقعية الحل الإسلامي.
(مساوئ الخَلف
__________
(1) البداية والنهاية 10/148.(1/4)
وبضدها تتميز الأشياء، ولكي نعرف ما في الدين من مِنحٍ وحلولٍ وعافية للمجتمع إذا ساس العدول الثقات أهل الورع: فإنه يلزمنا أن ننظر الفوضى والأحوال الردية عند حصول الغفلات، وحال كثير من أقطار أمة الإسلام اليوم، ثم حال العراق بخاصة، يبرز كمثال كثير الدروس والعبر التي تبين جسامة انحراف الناس إذا انحرف الرأس، ومبلغ الاستهتار إذا انطلق الإفساد بلا رادع يردعه من واعظ محتسب أو حاكم له سلطة، وهذه الترديات حصلت خلال التاريخ الإسلامي مراراً كثيرة، ويتبين للفاحص أنها سلسلة من السوء لها جذر ضارب في العمق فتنمو شجرة السوء حينا وتقطع حينا بحسب ما يكون من جهود رجال سلسلة الإصلاح المقابلة لها، تماما كالجرثوم الذي تشله الوقاية فيختفي أثره ثم تمده بالنشاط بيئة الأوساخ فيكون الوباء، حتى إذا أثخن هذا الوباء في القتل وبلغ المدى: تاب الوسخون وعادوا إلى شيء من النظافة فيتراجع الجرثوم، وذلك كله من مظاهر حكمة الله في خلق النفس فاضلة زكية في نصفها، ولها نصف فاجر.
وساقتني المطالعات إلى أن نكتشف سابقة في الفوضى عمت بلاد مصر قبل قرنين هي صورة تامة الشبه بما جرى للعراق هذه الأيام، يرويها لنا المؤرخ الجبرتي واصفاً عهد المماليك الذي سبق حكم محمد علي باشا، وبالذات سنة 1219 هـ .
فكان أول العدوان: الابتعاد عن الرونق الإسلامي والأُبهة الإيمانية، ففي سنة الفوضى هذه(نزلوا بقطع الكسوة أمام أمير الحاج، وركب أمامه الأغا والوالي والمحتسب وناظر الكسوة، بهيئة محتقرة من غير نظام ولا ترتيب، ومن خلفهم المحمل على جمل صغير أعرج)(1)، وهي الحال المزرية التي عليها الحكومات ودواوين الأوقاف في كثير من بلاد الإسلام في زمن النكرات إذا احتفلوا بأمر إيماني، وحمل الفقهاء الذي تنوء به سيارة قديمة ذات أعطال هي سلسلة ذاك البعير الأعرج .
__________
(1) تاريخ الجبرتي 3/40.(1/5)
ورصد الجبرتي آنذاك أيضاً(خراب البلاد وتتابع الطلب والفرد(1) والتعايين والشكاوى والتساويف، ووقوف العربان بسائر النواحي، وتعطيل المراكب عن السفر لعدم الأمن، وغصبهم ما يرد من السفائن والمعاشات، وانقضت السنة وما حصل بها من الغلاء وتتابع المظالم والفرد على البلاد، وإحداث الباشا له مرتبات وشهريات على جميع البلاد، والقبض على أفراد الناس بأدنى شبهة، وطلب الأموال منهم وحبسهم)(2)، فكأنه يتحدث عن حال اليوم.
ومن يوميات الفساد والظلم التي سجلها الجبرتي: قصص جبروت العساكر عند اختلال الأمن سنة 1219 هـ أيضاً وكيف أنهم(سكنوا بيوت الخليج مع قحابهم من النساء، ومات في ذلك اليوم عدة أشخاص نساء ورجالاً أصيبوا من بنادقهم، ومما وقع أنه أصيب شخص من أولاد البلد برصاصة منهم ومات، وحضر أهله يصرخون، وأرادوا أخذه ليواروه، فمنعهم الوالي وطلب منهم ثلاثةآلاف درهم فضة، ولم يمكنهم من شيله حتى صالحوه على ألف وخمسمائة)(3) ، والمثل يقول: فوق حقه دقه، فالوالي يقتل لإيناس قحبته، ثمَّ يبيع الجثة بيعاً، فتأمل، والعجب أن الأمر بعد مائتي سنة كاملة يتكرر في صورة من الصور المقابلة لذاك الاستهتار، وحكايات اليوم في اعتقال الناس وفك أسرهم بفدية ثلاثة آلاف دولار ومضاعفاتها أكثر من ألف حكاية كل موسم، وبلغ الأمر في العراق أن رسول الديمقراطية الضابط الأميركي يفعلها مع المستضعفين، لكن ليس لنا جبرتي يؤرخ للقهر والجبر.
__________
(1) الفردة : نوع من الضرائب، وكذا التعيين.
(2) تاريخ الجبرتي 3/46.
(3) تاريخ الجبرتي 3/27.(1/6)
ويحكي الجبرتي القصة المكررة: قصة ابتلاء الأمة بحكام لا يعرفون الأعراف ومنازل الناس وإرشاد الشرع، فتكون المتاهة والفوضى، ويكون التخريب ورجوع القهقرى، وما ثم غير(جهل القائمين المتآمرين بطرائق سياسة الإقليم، ولا يعرفون من الأحكام إلا أخذ الدراهم بأي وجه كان، وتمادي قبائح العسكر بما لا تحيط به الأوراق والدفاتر، بحيث أنه لا يخلو يوم من زعجان ورجفات)(1) .
وهل يجهل أحد سياسة الأقاليم إن كان هناك إيمان وعقل وإنصاف؟ لكنه زيغ القلوب يسبب الرجفات لكل نبيل وحرة، واستعلاء النكرات يجرح كل أصيل، وتاريخ العراق وليبيا واكثر الأمصار كمثل مصر، وهل" الزعجان"الذي أقلق الجبرتي إلا من الفلتان والفيضان والحظ الطيحان، وأنَّ الغوغائي والثائر الثأري بآلاء ربهما يكذبان؟
(أسمار شهرزاد بغداد
وسنة 1424هـ ببغداد تشابه سنة 1219هـ بمصر، لكثرة ما تمت سرقته من سيارات الناس، ففي تلك السنة(كَثر أذى العسكر للناس، وخطفوا الحمير، وتعطلت أشغال الناس في السعي إلى مصالحهم ونقل بضائعهم) ثمَّ(صاروا يخطفون حمير الناس والجمال)(2)، وهذا واضح، لأن"التويوتا" تكسد أحياناً، ولابدَّ من مرسيدس.
وقد حفزتني مبادرات الجبرتي لتدوين التاريخ، فقمت بدوري بتدوين تاريخ بغداد زمن الاحتلال الأميركي، وقلتُ من الشعر العامي باللغة البغدادية:
يمصيبتي يجبيرهْ(3) … بالشُعله صار حماري
ولما ردت تحريرهْ … مجبور أظل مداري
__________
(1) تاريخ الجبرتي 3/8.
(2) تاريخ الجبرتي 3/34.
(3) أي: يا مصيبتي يا كبيرة، و"الشعلة": حي في ظاهر بغداد يسكنه الفقراء واتخذته عصابات السلب ملاذاً، و"الجزدان": حافظة النقود، و"وشّل": أي أصابه جفاف وذهبت النقود التي فيه، و"زمال المصلحه": أي حمار المهنة، و"مجان": أي ما كان، و"مجاري": أي مكاري-أي الذي يُعد دابته ليركبها الناس بالكراء والأجرة، وفي هذه الكلمات الجيم المثقلة الفارسية التي تقابل CH بالإنجليزية.(1/7)
جزداني وَشَّل وانتهب مرتهب ليلي نهاري
وفْديت زمال المصلحهْ وبعت الأثاث وداري
ثمَّ نْدمت والله وصحت مجان أبويه مجاري
(اختلاف فِطَر الناس يتيح التدافع
وإنما نشأ كل هذا الاعوجاج بسبب شيوع الجهل بأحكام الشرع، ونمط التسيب المعرفي، وطباع اللاأبالية لدى رجال الدولة والسياسة، فحين يسقط شرط العلم والتقوى: ترتفع رؤوس الطمع والقباحة والكبت ومصادرة حقوق الناس وإخلاء الساحة من المعارضة بالاغتيال والسجن والتهجير، ووصفهم في الأعم أنهم جزء من طبقة لا توفق إلى عمل صالح وتلزم التعطل، كمثل من اكتشفهم ابن الأثير وذمهم وأشار إلى أنهم(أهل البطالات الذين لا همَّ لهم إلا ترجئة الأيام بالباطل، فلا هم في عمل الدنيا ولا هُم في عمل الآخرة)(1)، فهم الكسالى السلبيون الذين يميلون إلى السلبية وعدم الإنتاج، الذين لا يؤسسون لهم حقاً ولا يعينون صاحب حق، بل أر كسهم الباطل المخالف لمطالب الشرع، فخسروا المشيتين، واجتمع عليهم شقاء الدارين، وهم عجزة حتى عن أعمال مدنية وهندسية نافعة.
وهذا المثل واضح في العراق، فبعد اكثر من ثلاثين سنة من حكم"صدام":ترك العراق خرباً، وبغداد بلا عمارات وحدائق نجدها في الخليج وأكثر العواصم.
__________
(1) الآداب الشرعية لابن مفلح1/145.(1/8)
لذلك لا ينبغي أن يعجب المرء لطبيعة الفوضى التي أعقبت زواله، لأن التربية الأولى أنتجت الحال الثاني، والجذر واحد، والاستمداد من مصادر الجهل مستمر، حتى صحَّ المثل الذي رواه ابن مفلح أن(لا نظام للدهماء مع دولة الغوغاء)(1)، فإن العلاقة بينهما متبادلة، وهي معادلة تربوية في أصلها وإن علاها مظهر سياسي، وإذا كان رجال الدولة هم الغوغاء من بقايا الأحزاب الظالمة، ومن المتحالفين مع الغازي فإن الأمر ينعكس ولابدّ على العامة من الناس والدهماء… فلا يكون لهم نظام ولا رؤيا مصلحية ولا عرف جميل، بل يكون السلب والنهب والقتل العشوائي وشبهات الخوارج ومنطق التكفير الجزافي الذي يترك العراق للأمريكي ويلتهي بتعويق المتأول عن سعيه الخيري، ولولا أنَّ دروس التاريخ تعدنا بزوال كل ظلم لكان اليأس منا قريباً، ولكان من الممكن أن نرتكب خطيئة التقاعد عن العمل، ولكن الشاعر أخبرنا أنه:
وما من يدٍ إلا يدُ الله فوقها وما منْ ظالمٍ إلا سَيُبلى بظلم
فكما نبغ ظالم أميركي ليزيح صدام، فيما رأيناه من استرسال القدر: سينبغ ظالم آخر ليزيح الغوغاء وفوضى الدهماء، في رواية قدرية أخرى، وإن كنا لا نحب ذلك، بل نريد أن يتجسد هذا القدر الآتي في دعاة الإسلام.
__________
(1) الآداب الشرعية1/203.(1/9)
ومحركات الحياة واحدة عبر العصور والأجيال وكان عمرو بن العاص-رضي الله عنه-قد حذرنا ووعظنا أن نستوحش من اللئيم الشبعان، وهذا الذي نخشاه اليوم أيام النفوذ الأميركي، فإنهم يتخيرون كل لئيم ليعاونوه، واللئيم بدوره يتقرب منهم ويطمع أن يسرقوا له أموال النفط فيشبع اللؤماء، فتكون الوحشة، بل كانت، وذلك أن المال في يد اللئيم أداة سوء بها تشترى الضمائر، وبها تجند جنود الفوضى السياسية، وقد صادف هذا الشراء في أرض العراق حصاراً طويلاً سبقه أجاع الناس فأرخصوا الثمن وهبطت قيمة العفاف ليشتريها إقليمي حاقد كما يشتريها آت من وراء البحار يحركه الطموح. ولأنَّ العالم الشرعي والواعظ الإيماني هما أساتذة التوعية في مجتمع العراق وكافة المجتمعات الإسلامية، فإنَّ خطط الهدم وتدخلات الغريب تحرص على توجيه أعمال هذه البضاعة المشتراة نحو النيل من ممثلي الدين والعلم الشرعي الحنيف، وذلك درس طالما كرره التاريخ، ومن أحداث سنة 1219 هـ بمصر أنه(تعدى جماعة من العسكر وخطفوا عمائم الناس واتفق أنَّ الشيخ إبراهيم السجيني مرَّ من جهة الداودية وهو راكب بهيئته، فاخذوا طيلسانه من على كتفه وعمامة تابعه، وقتلوا من بعضهم أنفاراً)(1)، والاعتداء اليوم على عمائم شيوخ العراق له هذا الجذر القديم ، وهي قصة مكررة، الهدف منها مقصود وواضح، وذلك ما يخرجنا إلى رؤية شمولية للرد الإسلامي الواجب إزاء هجمة الغزو الاستعماري، وهذا الشمول يحملنا-ولابدّ-إلى أن لا نقنع بدعوى استقلال صوري جزئي تبقى فيه السيادة أو بعضها لغريب، وأن لا تبقى الأرض الطاهرة مدنسة بحذاء محتل يتبختر ويتبجح، وينبغي أن يكون المشروع السياسي للدعوة الإسلامية العراقية حاوياً ما هو أبعد من هذا من الحفاظ على مصالح العراق النفطية، وأن تصان بشروط جازمة واضحة تحفظ ثروة الأمة وتمنع المستعمر الطامع أن يتحايل لأخذها في صفقات شبه مجانية، ثم لابدَّ من المرور
__________
(1) تاريخ الجبرتي 3/31(1/10)
بوصفٍ منهجي كامل يحفظ القيم التربوية الإسلامية في مدارسنا وجامعاتنا وأدواتنا الإعلامية، ليكون من بعد ذلك تتويج هذا المشروع بموقفٍ جهاديٍ حاسم يمنع خطة السلم والتطبيع مع الغاصب اليهودي، وإذا لم تذهب المشاريع السياسية للحكومة والأحزاب هذه المذاهب فإنَّ صوت الدعوة سيعلو مطالباً بها، وسيكون من شباب الصحوة الإسلامية تلقين عملي لأصحاب الوسوسة والمواقف الانهزامية، وسيكون إلحاح منهم حتى يتوب من اقترف ظلماً، وينسجم معهم من ارتكب عجزا، والأمة الإسلامية اليوم في أشد انعطافاتها حساسيةً وأهمية، ولابدَّ لها أن تتخذ من هذا الفهم الشمولي شعاراً، وأن تلوذ بالجهاد الواعي المتميز عن العمل التخريبي والولع بالسيارات المفخخة، ثم أنْ تتخذ من وعاة دعاة الإسلام قيادة، ومن فكرهم منهجا.
(عقيدة التوحيد تسبّب عُلو نظام العدل(1/11)
ويوماً ما قبل قرنين، يوم ادلهمت هذه الخطوب وأمثالها على الأمة الإسلامية: سارع نقي صفي إلى الانتفاض عليها والاستدراك، في محاولة لتكوين صورة تعيد محاسن السلف بعد أن لطَّخت السمعةَ الطيبةَ مساوئ الخلف، وذلك هو شيخ الإصلاح محمد بن عبد الوهاب-رحمه الله-، ويكفينا أن ندرك طرفاً من نجاحه في محاولته إعادة الأمور إلى نصابها حين ننصت إلى الجبرتي المؤرخ المصري وهو يصف سلوك الوهابية العفيف عند احتلالها مكة والمدينة بعد سنة فقط من حدوث الانفلات الأمني بمصر مما رويناه عنه قبل قليل، ولست بوهابي، ولكني سلفي مطلق حر أحكم بالعدل وأروي بنظرة الحياد، واستل شيئاً من حياد الجبرتي نفسه حين تصدى لذكر الحقيقة مقارنة بما كان من حماقات عساكر مصر، وهو يومها غريب عن الوهابية وتفصله عنها صحراء ثم بحر ثم صحراء، فقد ذكر أخلاق المتدين إذا حارب بمقابل ظلم وتجبر المنتسب إلى الدين، ففي سنة 1220 هـ(وردت الأخبار بأنَّ الوهابيين استولوا على المدينة المنورة-على ساكنها افضل الصلاة وأتم التسليم-بعد حصارها نحو سنة ونصف من غير حرب، بل تحلقوا حولها وقطعوا عنها الوارد، وبلغ الاردب الحنطة بها مائة ريال فرانسة، فلما اشتد بهم الضيق سلموها ودخلها الوهابيون، ولم يحدثوا بها حدثاً غير منع المنكرات وشرب التنباك في الأسواق وهدم القباب ما عدا قبة الرسول - صلى الله عليه وسلم -)(1)، وإنما أردت المقارنة ومن المصدر نفسه، وأنا سلفي وسطي، والجبرتي ربيب بيئة مذهبية تقليدية، لكني أعجبني عدله وعفاف لسانه وقوله(ولم يحدثوا بها حدثاً غير منع المنكرات)، وفي نفس السنة كان جهلة من المسلمين يقترفون الآثام العظيمة بمصر، وهم(الدالاتية)أو(الدلاة)الذين استقدمهم والي مصر من الشام لنجدته وتثبيت حكمه، فسلبوا الناس ورجعوا إلى الشام ولم يفيدوه .
__________
(1) تاريخ الجبرتي 3/91.(1/12)
(وذهب الدلاة إلى جهة الشام بما معهم من المال والغنائم والجمال والأحمال، وعدتها اكثر من أربعة آلاف جمل، وما نهبوه من البلاد وأسروه من النساء والصبيان وغير ذلك، وكانوا من نقمة الله على خلقه، ولم يحصل من مجيئهم وذهابهم إلا زيادة الضرر، ولم يحصل للباشا المخلوع الذي استدعاهم لنصرته إلا الخذلان، وكان في عزمه وظنه أنهم يصيرون أعوانه وأنصاره ويستعين بهم وبطائفته الينكجرية على إزالة الطائفة الأخرى)(1)، وذكر في سياق آخر(الدالاتية الأنجاس)و(هم مستمرون على نهب البلاد وسلب الأموال وأذية العباد، ونهبوا كاشف الغربية، وهجموا على سمنود-وهي مدينة عظيمة-فنهبوا بيوتها وأسواقها وأخذوا ما فيها من الودائع والأموال، وسبوا النساء، وفعلوا فعالاً شنيعةً تقشعر منها الأبدان)(2)،(وحضروا إلى بولاق، وهجموا على البيوت وأخرجوا سكانها قهراً عنهم وأزعجوهم من أوطانهم وسكنوها، وربطوا خيولهم بخانات التجار ووكالة الزيت)(3).
فقارن بين هذه القبائح وعفاف الوهابية، في حوادث متزامنة في نفس الشهر، وفي هذا تفسير لما يحدث اليوم في العراق زمن الاحتلال الأميركي وتحت مظلته وحمايته من تسلط غوغاء الشارع على البيوت الشريفة بتهمة الوهابية، وقد أذن لهم باشا واشنطن، وظن أنهم يصيرون أعوانه ويستعين بهم وبالمترجمين وبطائفة الينكجرية البولنديين والبلغار على إزالة الطائفة العفيفة، لكن لم يحصل له ولهم غير الخذلان.
__________
(1) تاريخ الجبرتي 3/88.
(2) تاريخ الجبرتي 3/82.
(3) تاريخ الجبرتي 3/78.(1/13)
وينعطف الجبرتي ثانية فيذكر عفاف الوهابيين حين دانت لهم مكة وشريفها، واقتصار شأنهم على الأمر بالمعروف وتصحيح العقائد ونبذ البدع، فيقول في أحداث سنة 1221 هـ:(وفي هذه الأيام أيضاً وصلت الأخبار من الديار الحجازية بمسالمة الشريف غالب للوهابيين، وذلك لشدة ما حصل لهم من المضايقة الشديدة وقطع الجالب عنهم من كل ناحية…فلم يسع الشريف إلا مسالمتهم والدخول في طاعتهم وسلوك طريقتهم)، (وأمر بمنع المنكرات والتجاهر بها وشرب الاراجيل بالتنباك في المسعى وبين الصفا والمروة)،(وإبطال المكوس والمظالم، وكانوا(1)خرجوا عن الحدود في ذلك حتى أنَّ الميت يأخذون عليه خمسة فرانسة(2)، وعشرة، بحسب حاله، وإن لم يدفع أهله القدر الذي يتقرر عليه فلا يقدرون على رفعه ودفنه، ولا يتقرب إليه الغاسل ليغسله حتى يأتيه الإذن، وغير ذلك من البدع والمكوس والمظالم التي أحدثوها على المبيعات والمشتروات على البائع والمشتري، ومصادرات الناس في أموالهم ودورهم، فيكون الشخص من سائر الناس جالساً بداره، فما يشعر على حين غفلة منه إلا الأعوان يأمرونه بإخلاء الدار وخروجه منها، ويقولون أن سيد الجميع (3)محتاج إليها، فإما أن يخرج منها جملة وتصير من أملاك الشريف، وإما أن يصالح عليها بمقدار ثمنها أو أقل أو أكثر، فعاهده(4)على ترك ذلك كله واتباع ما أمر الله به في كتابه العزيز من إخلاص التوحيد لله وحده واتباع سنة الرسول-عليه الصلاة والسلام-وما كان عليه الخلفاء الراشدون والصحابة والتابعون والأئمة المجتهدون إلى آخر القرن الثالث، وترك ما حدث في الناس من الالتجاء لغير الله من المخلوقين الأحياء والأموات في الشدائد والمهمات، وما أحدثوه من بناء القباب على القبور والتصاوير والزخارف
__________
(1) أي الشريف غالب وجماعته-لا الوهابية-، وبقية النص توضح ذلك.
(2) أي ريال فرنسي، وكان التعامل به سائداً آنذاك.
(3) أي الشريف غالب.
(4) أي عاهد الشريفُ رئيسَ الوهابية.(1/14)
وتقبيل الأعتاب والخضوع والتذلل والمناداة والطواف والنذور والذبح والقربان وعمل الأعياد والمواسم لها، واجتماع أصناف الخلائق واختلاط النساء بالرجال، وباقي الأشياء التي فيها شركة المخلوقين مع الخالق في توحيد الألوهية التي بُعثت الرسل إلى مقاتلة مَن خالفها، ليكون الدين كله لله، فعاهده على منع ذلك كله، وعلى هدم القباب المبنية على القبور والأضرحة، لأنها من الأمور المحدثة التي لم تكن على عهده، بعد المناظرة مع علماء تلك الناحية وإقامة الحجة عليهم بالأدلة القطعية التي لا تقبل التأويل من الكتاب والسنة، وإذعانهم لذلك، فعند ذلك أمنت السبل وسُلكت الطرق بين مكة والمدينة، وبين مكة والطائف، وانحلت الأسعار وكثر وجود المطعومات)(1).
وهي قطعة من سياق تاريخ الإصلاح يحتاج الوضع العراقي المعاصر إلى مثلها، لتأمن السبل وتسلك الطرق ويرتفع الغلاء والبلاء، وفي النص إبراء واضح للوهابية-رغم ارتكابهم خطأ الحصار-، وأنَّ الخير ورد حين حكموا، وما أنا بوهابي، وإنما أنا رفيق معتدل، ولكنّ الحق أحق أن يُذكر ويُعترف به.
__________
(1) تاريخ الجبرتي 3/116.(1/15)
ودليل التوفيق في ذلك العمل الوهابي الأول أنه رغم ما اختلط به من بعد ذلك من خلفاء محمد بن عبد الوهاب من قسوة وعمل جزافي لا يمكن تسويغهُ، ورغم النكبة التي حلّت بحركته حين بطشَ بها إبراهيم باشا بن محمد علي الكبير، فإنَّ نمطها الإصلاحي صار حافزاً لحركاتٍ أخرى أنضج، وبخاصة الحركة السنوسية التي انتقلت مرحلةً أخرى في طريقة العمل الهادئ الطويل النفس، ثمَّ في العمل الجهادي في مراحلها الأخيرة في دفع الطّليان، بل منَ الإنصاف أن نقولَ أنَّ الإتقان الذي وصلت إليه الحركات الإسلامية المعاصرة ما كان له أن يوجد لولا تلك اللمعة النجدية، وهذا التحليل يبعث في قلوبنا اليوم أملاً جديداً وثقةً مؤكدة بأنَّ المشروع الدعوي الإسلامي العراقي الذي يريد أن يعالج أسواء العراق ويدفع العدوان الأمريكي، وهو الذي يوضحهُ شأن"الحزب الإسلامي العراقي"وخططه الواعية ومنهجيته المتأنية: سيكون متلاحماً مع المشروع الحضاري الإسلامي العالمي العريض، وسيظلُ يسيرُ موازياً لهُ وفي ظلهِ حتى يتم إنجاز تربية إيمانية تُبطل مفعول الإفساد التربوي الأميركي في أقطار أمة الإسلام كلها، ثم في تحقيق وعي سياسي استقلالي، ووعي اقتصادي يحفظ موارد الأمة، واستمرار التوغل في هذه الدروب الخيرية كلها عبرَ إحياء الجهاد واستلهام منظومات القيم الإيمانية والشروط الفقهية وثوابت الشرع.
(سُباعية الاستدراك الواعي(1/16)
وحين نُلزم أنفسنا بمشروعٍ عريضٍ فإنَّ التبجحَ يعجزُ آنذاك عن أن يكشف الفحوى أو أن يُدل على علامات الطريق، ولكن الشأن الأصوب إنما يكون في تعيين الدلالات التفصيلية وبيان تكامل المعاني وترادف الأعمال بحيث تُحقَّق كتلةٌ تنفيذية مندمجةٌ بفكرٍ يؤصل لها ويوجهها، فيسهل على فتى الصحوة الإسلامية الداعية الصاعد أن يستوعب مهمتهُ والمطلوب منه فيسير ضمن التيار الجماعي بانسجامٍ معهُ وعلى بينةٍ من الأمر ووضوح في الخطوات المطلوبة، ووجدتُ هذه الكتلة العملية العقائدية الفكرية تتجلى في سبعة مشاهد.
( أولُها: إحياء الإيمان في نفوس رجال الإصلاح وفي نفوس جمهور الناس، كلٌ بالقدر الذي يناسبهُ ويلزمهُ، في تزايد كلما وضحت مكانةُ المُصلح، ويكون في تخلية وتحلية، فيهما تعاقبٌ: كلما أخلى باطنهُ من جزءٍ من المعاصي: سارع إلى إحلال جزءٍ من الخير والإيمان بديلاً عنه، والموفق يُجيد الإنصات إلى ما أرشد إليه ابن عقيل الحنبلي العبدَ الصادق في توجهه من بعد غفلةٍ ألمت به إلى أن يلاحظ اختلاط عمله(بكثرة الخلل والعلل، التي ينبغي أن يكون معها على غاية الخجل، والخوف من أن يقع الطرد والرد، فإنَّ المُسيء مستوحش)(1).
قال ابن الجوزي:(وفهم هذا ينكس رأس الكبير، ويوجب مساكنة الذل، فتأمله، فإنه أصل عظيم).
__________
(1) الآداب الشرعية لابن مفلح 1/151.(1/17)
…ويجدر بالداعية أن يفهم هذه الظاهرة من ظواهر الحياة، التي تؤدي بالتالي إلى أن تكون قانوناً من قوانين حركة الحياة، وهي ما لخصها ابن عقيل من أنَّ(المُسيء مستوحش)، فالمعاصي تنتج سلسلة من السلبيات في نفس صاحبها، من مظاهرها الحزن والقلق والتشاؤم والإحباط والخوف من المجهول والحيرة والتردد وقلة الثقة بالأقران وبجميع المحيط، وهو ما يجمعه لفظ(الوحشة)، حتى أنَّ الجماد لينطق بالجمال من حوله في صورة وردةٍ وخضرةٍ وماءٍ منسابٍ وشمسٍ تغيب ونخلةٍ تشمخ، ثمَّ لا يحرك ذلك في داخله حِساً ولا تبدرُ منه استجابةً والتذاذ، أما المطيع وصاحب الخيرات فتجدهُ طروباً واثقاً وكأنَّ روحهُ تبعثُ ومضاتٍ تلتفت لها الزهور وتديرُ النخيلُ أعناقها إليه، فإذا كانت ثمَّ روحُ مؤمنٍ آخر يجلسُ تحت النخلات فإنَّ روحهُ تنجذب إلى هذا المؤمن الخيري المطيع لربهِ فيكون ائتلافٌ واندماج.(1/18)
…إنَّ القيمة الجمالية مُحركٌ فاعلٌ شديد التأثير من جملة محركات الحياة، وقد أدرك السلف ما في هذه القيمة من طاقةٍ في هز النفوس ونفض الأرواح فأحسنوا توظيفها لصالح وعظهم الإيماني، أفلا تعجب لابن السمَّاك الزاهد الذي هو من رجال صدر الإسلام، وفي عِداد العامة الفقراء من الناس الذين تشغلهم همومهم المعاشية، استنباطاً من كونهِ ابن صياد سمك، حينَ رأى وسيماً صبيحاً فقال لهُ واعظاً:(لم أرَ أحسن من وجهك، فلا تجعلهُ لجهنمَ حطباً)، فهذا توظيفٌ للقيمة الجمالية في خدمة الإيمان والتزكية، وخلاصة ميزان ابن السمّاك أنَّ للجمال ضريبتهُ، وهي أن يستقيم الفرد الجميل ويلتزم التقوى وينأى عن قُبح جهنّم قبل أن يخاف من عذابها، وما أظنُّ أنه استطاع هذا الربطَ لو لم تكن نفسهُ شفافة تتعاطى التعامل المستطرد الطويل مع ظاهرة الجمال، وفي هذا ما يتيحُ لدعاة الإسلام اليومَ إذ هم في عصرٍ مدني متطور صارت للجمال فيه فلسفةٌ وقواعد وأوصاف معرفية: أن يطوروا أساليبهم إلى مستوى الخطاب الفني، ليصفوا ويبدوا التكامل والترابط المؤكد بين إيحاءات الجمال وإلقاءات الإيمان، والذي أفهمهُ أنَّ ذلك ينبغي أن يكون عبرَ قصصٍ ووثائق توصيف لواقع حياة المسلمين الحاضرة، فإنَّ من شأن هذا الأدب العاطفي إذا وصلَ إلى درجة من الكثافة والترادف واجتماع المعاني أن يُصلحَ نفوس المثقفين ويحملها على التحرر من غفلةٍ تعتريهم بسبب عيشهم في مجتمع مادي معقد، ومع ذلك فإنَّ الأمي والأعرابي لن يكونا عن تأثيرات هذا الأدب بمعزل ما دام هناك من الدعاة من يقف فيهم واعظاً يترجمهُ لهم ويبسطهُ.(1/19)
وبمثل هذا نستطيع إدراك المعنى التجديدي والمُنَح الإبداعية في هذه الطريقة الإيمانية الواعظة، فأصل حقيقتها قديمة ثابتة منذ عصر النبوات الأولى، ولكنَّ الفقه الدعوي مكلفٌ بتطوير أساليب عرضها وإيصال معانيها إلى طبقات الناس، وفي هذا السياق لستُ آبهُ لتصنعٍ وتكلفٍ يمتزجُ بالكلمة الوعظية إذا كنا نحرص على مخاطبة الناس لا على قدر عقولهم فقط بل وباصطلاحاتهم ولغتهم المهنية وبطريقة العامة في التمثيل والتفهيم واستفزاز دواخل المخاطب، فكما أنَّ الحداد يتكلم عن(مطارق الأشواق)و(سندان القلب)فإنَّ سائقاً ركبتُ معهُ قال لي في حوارهِ السريع معي: عجباً كيف سنلقى الله ونقف في ساحة الحساب وأحدنا يجلب معه إلى الساحة عشرة شاحنات ثقيلة من الخطايا والذنوب؟!
ولذلك ربما يوظّف البارع الأبعاد الهندسية والزوايا والتثليثات والتربيعات والتدويرات والتكويرات في خطابه الوعظي، كما قال ابن الجوزي لشيخ عشيرة وعينٍ:(إنهُ-سبحانه-لم يجعل أحداً فوقك، فلا ترضَ أن يكون أحداً أشكرَ لهُ منك)(1).
فهذه الفوقية والمحل العلوي وصفٌ هندسي ربطهُ الواعظُ بمعنىً إيماني، والاسترسال يدعُ المبدعَ يستعمل حقائق وألفاظ التحتانية والأمام والوراء والتوازي والميل والانفراد وأشباه ذلك في تجديد لغة الوعظ والتذكير، وهي لغةٌ ربما تعاكست مع رمزيات ومجازات الرقائق، ولكنها قد تكون مطلوبةً في مجتمعٍ عُمالي وصناعي وميكانيكي، ثمَّ الإيمان أقرب من ذلك لمن حباهُ الله بفطرةٍ أو ألقى السمعَ وهو شهيد، ومن الناس السعداء من تكفيهم نظرة العين من المربي لينتهوا عن غيٍ شرعوا فيه، ولكنَّ المسرف قد يحتاج ما اقترحناه من تكلفٍ وتصنعٍ، وهو الله يهدي من يشاء، ثمّ هي الملائكة تُظلُ بأجنحتها من يُنيب.
__________
(1) الآداب الشرعية لابن مفلح 1/197.(1/20)
وهذا النمط من تجديد الخطاب يمكن أن يكون أبعد من أداءٍ فردي لواعظٍ بليغ، وذلك بأن يتطور ليكون جانباً مهماً من جوانب الخطة التربوية الدعوية، وفحوى ذلك أن نطور المنهج التربوي عبر تجديد الخطاب القديم، وشرح وصايا الثوري والجنيد والفضيل بلغةٍ عصريةٍ وأسلوبٍ يستفيد من عطايا العلوم والمعرفة، وبعضُ ما صدر من كتابات دعوية إنما شاع ونجح في تحريك الهمم بسبب هذا التجديد، والنجاح الأول يعني إمكان نجاح ثانٍ وثالث.
( الاستدراك الثاني: تأسيس معنى"تمحيض الولاء"في قلوب شباب الصحوة الإسلامية، وتربية عموم الناس على ذلك، كلٌ بحسب مركزه وثقافته وطبيعة أدائهِ، حتى العامي الذي يظنُ أنه غير مقصود بهذا الأداء: هو مكلفٌ أيضاً بأن يبرأ من حب ظالمٍ أو منحرف، وأن يعتز بفقرهِ دون أن يسمح لنفسه بتمني المنافع من كافرٍ أو فاسقٍ يستدرجهُ ويريد أن يصعد على أكتاف الفقراء إلى تحقيق علوٍ في الأرض واستكبارٍ يعود بتدمير.
إنَّ صورة الصلاة قد تكون واسعة، وقد شاعت العبادةُ وعمرّت المساجد، لكن الدعاة ما زالت مشكلتهم مع الناس قائمة، لأنَّ الكثير من هؤلاء الناس يرضونَ بأن يتعاملوا بشخصيتين: شخصية السجود لله، ولزوم الأخلاق، وشخصية الانتساب إلى حزبٍ علماني، أو التبعية لزعيمٍ لا ينتهجُ منهج الخضوع لأحكام الشرع، بل قد يرضى لنفسه أن يدخلَ دائرة الشُبهات فيكون تابعاً لمتعاملٍ مع مستعمرٍ من وراء البحار.(1/21)
وهذا هو الداء الدوي، لأنَّ صلاح الفرد إنما يعود على نفسه أو على عائلته بالفائدة، وربما يكون في جانبٍ فيه مفيداً لكل المجتمع، بأن يكون ذلك الفرد الصالح نقطةً حياديةً لا تحتاج علاجاً أو اهتماماً زائداً، وهذه إيجابية لكنها محدودة، أما الولاء والتعاون مع علماني ومشبوه فإنه يؤدي إلى تمكينهم من السلطة، ومن موطن التسلط يباشرون الإفساد العريض عبر مناهج الدراسة ووسائل الإعلام والفساد الإداري ونهب الثروات واستقدام جيوش العولمة، في سيئاتٍ عديدة أخرى ليس لها آخر، وهذا هو سبب جسامة خطر الولاء لغير المؤمنين، فإنه من الواضح لو أجرينا المقابلة وانعكاس المعنى لوجدنا أنَّ ولاء المسلم لدعاة الإسلام وسعيه إلى تمكينهم من مقعد البرلمان ووظائف الدولة والنقابات وجمعيات المجتمع المدني سيكون بالغ الأثر والوسيلة الفعالة لتحقيق العدل والقسمة السوية وعمران الأخلاق ورفض التطبيع مع يهودي ومحتل كافر، ومن هذه المقارنة البسيطة تظهرُ مكانة خطة تعميم الولاء للمؤمنين والبراءة من الفسقة والكافرين، ويظهرُ أثر الصوت الانتخابي الواحد أو الكلمة الطيبة المفردة العابرة أو اللسان المُنصف أو ألفاظ الدعاة: يظهرُ أثر هذه الخيريات الصغيرة في تحقيق الخير الكبير والتفوق الإسلامي على محاولات الاندساس العلماني، وظاهرٌ هنا أنَّ الصوت الواحد قد انضم إلى مثيلٍ له وإلى ألوف أصوات ليكون في النهاية ترجيحاً لعابدٍ لله على حليف لشيطان، فقضية الولاء والبراء قضية فردية في أصلها وهي مسؤولية شخصية، لكنها حقيقة جماعية في نهايتها، وتُقاسُ باقي مظاهر العمل السياسي والاجتماعي والاقتصادي على هذا المثال ليبدو في الصورة الختامية أنَّ مجموعة أفعال الفرد الواحد مهما كانت صغيرة لها قابلية عظيمة أن تتكثف وتنظم إلى بعضها لتكون عاملاً حاسماً في إيصال المؤمن إلى الحكم ومركز صناعة القرار وتقنين الدستور والقوانين وتنظيف الوزارات والدواوين وتفعيل(1/22)
النقابات والجمعيات، وهذا يوضح أنَّ الإيمان في أصلهِ مسؤولية فردية لا يصحُ فيها توكيل الغير ولا التبرع بحمل تكاليف الإيمان نيابةً عن الغير، بل كلُ امرئٍ بما كسب رهين، كما نطق القرآن الكريم، فمن طلب العدل والمساواة والأمن والاستقرار والحرية وحفظ مصالح البلاد الكبرى: فليصلح نفسه أولاً ثمَّ ليترجم ذلك في صورة انحياز شامل لخطط المؤمنين وأحزابهم وتنظيماتهم، وتلك هي حقيقة الولاء والبراء، ولا يصحُ أبداً أن يبخس المؤمن دورهُ الذاتي الشخصي في عملية الإصلاح، فإنه دورٌ كبير وحاسم ما دام يوالي ويبرأ، وواهمٌ هذا الذي يُصلي ثمَّ يبيع صوته أو جهدهُ أو كلمته لمنحرف ووكيلٍ لمحتل، لأنَّ البركة الربانية هي التي تجعله ينعم ويرفل برزقٍ من السماء تحملهُ الملائكة إذا باع واشترى وتعامل مع الله، وأما ملايين تأتي بها الشبهات فإنها محرومة من البركة، فتزول سريعاً ويبقى وزرها، وهذا التفريق يشهدهُ كل قلب سليم، ولا حاجة لكي نستطرد في الشرح والبيان، وكل امرئٍ فقيهُ نفسه، وعند الله تجتمع النوايا، وسيخيبُ من افترى كذباً وحادَّ ومالَ ومشى برجلٍ عرجاء، لكنَّ الراكض نحو أرض البراء والجهاد هو الفائز، وكفى.
وهذا المرض ليس بالجديد في أمتنا، بل هو قديمٌ منذ أيام التراجع بعد القرون الفاضلة الأولى، فقد نقل ابن مفلح عن ابن عقيل الحنبلي أنه قال:(إذا أردت أن تعلم محل الإسلام من أهل الزمان فلا تنظر إلى زحامهم في أبواب الجوامع، ولا ضجيجهم في الموقف بلبيك، وإنما انظر إلى مواطأتهم أعداء الشريعة)(1).
__________
(1) الآداب الشرعية لابن مفلح 1/268.(1/23)
فإسلام المسلم عنده: ليس السباق إلى المسجد ومكة، ولكن هو الولاء السياسي والفكري لله ولرسوله ولأئمة الإسلام في عصره، من الدعاة العاملين وأحزاب الله، ثمَّ البراء من أئمة السوء وأحزاب الشيطان، وكأنه ينقد زماننا، فكم من حزبٍ علماني يسنده حاجٌ وراكع، وكم من داعيةٍ مؤمنٍ أول مَن يكذبه الساجدون، لقلة الفقه وانحراف القلب وانقلاب الموازين-والعياذ بالله-، (وهذا يدلُ على برودة الدينِ في القلب)كما قال ابن عقيل معقباً، ولسنا نقول بكفر مخلط جمع بين التكبير والهتاف لزعيمٍ ماجن، ولكنه افتقاد حرارة الإيمان والذهول عن موازين الشرع، والسبب في ذلك هو إلهام الفجور في النفس حين يكون صاحبها هيناً ليناً ليس لهُ صبرٌ على ضرائب ما تُلهمه التقوى، من التضحية والصبر والزهد بالمال والمنصب والجاه، وتزداد ظواهر وآثار هذه المحنة إذا كان من لهُ طرفٌ من العلم الشرعي عامي المزاج والسلوك والأمنيات، فإنه يوجد رهطٌ من مثل هؤلاء في كل جيل ومع كل حاكم، حتى رصد ابن الجوزي أنهم:(ترخصوا، وتأولوا، وخالطوا السلاطين، فذهبت بركة العلم)(1)، وهي تفسيرُ بعض قصة جفاف العراق، فإنَّ البعض خالطوا السلطان"صدام"، ووجدوا لهم في التأول سنداً، ثمَّ نزلوا ثانيةً فخالطوا نائب السلطان، فخمدت الجذوة، ودخلوا الكهف البارد، وارتفعت بركة القول الشرعي، وذهبت حرارة آيات يتلونها، ولولا أنَّ الشباب الدعاة كانوا قد تلقفوا الراية لساء الحال، ولكنهم رفعوا الآذان بنبرةٍ عفيفة ورداءٍ نظيف، فعادت الحياة إلى قلوب الجيل.
وإنما ذلك من النفاق، وقد قال الله - سبحانه وتعالى - في وصف المنافقين: { كأنهم خُشبٌ مُسنّدة } .
قال ابن عقيل النحوي الحنبلي:
(أي مقطوعة مُمالة إلى الحائط، لا تقوم بنفسها، ولا هي ثابتة، إنما كانوا يستندون إلى مَن ينصرهم، وإلى مَن يتظاهرون به)(2).
__________
(1) الآداب الشرعية لابن مفلح 1/245.
(2) الآداب الشرعية لابن مفلح 1/7.(1/24)
ومع ذلك فإنَّ نفوسنا لها عزاءٌ أحياناً عبرَ التأول بأنهم لم يبعدوا جداً، لأنهم إنما يواكبون جهالات مسلم ظالم، ولكن ما بالُ أقوامٍ يبعد بهم التأول إلى أقاصي المنطق البارد فيطلبون من ينصرهم من ضباط الاحتلال الاستعماري والساسة الذين أغروه بغزو ديار الإسلام؟ بل غزو عاصمة الإسلام، عاصمة الرشيد؟!
ويكاد السائب الذي لا يحملُ الروح الدعوية الواثقة بأنَّ المستقبل محتكر لدين الإسلام وأهله: أن ييأس ويناله الإحباط حين يرى مثل هؤلاء المترخصين المقارفين للشبهات والمعاصي السياسية الغليظة، ولكن رجال الإيمان الوعاة وشباب الصحوة الإسلامية يعرفون ويميزون جيداً أنَّ أصحاب الاختيارات الواطئة والمقاييس الدنيوية العمياء إنما هم بثلُ المجتمع، ووعاة المؤمنين تغشاهم سكنية يعلمون بها أنَّ التعويل والاستناد والأمل لا يقومُ على ثلةٍ قليلة منحرفة، وإنما ينتظرونه من وعاةٍ دعاةٍ علماء عاشوا في ظلال القرآن، وتخيلوا الجنة فاستراحوا تحت أفياء أغصانها، وهم عصبةٌ تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وترفع راية الولاء للإسلام وتصيح صيحة البراء من الكافر المستعمر، وهي العصبة المباركة التي تقتدي بمثل الشيخ عمر المنصوري المتوفى سنة 1386هـ، وهو من علماء طرابلس(رحل إلى الأزهر…ولما احتل الطليان طرابلس كان في مقدمة المجاهدين..اشترك في كثير من المجالس والمؤتمرات التي أنيط بها في النظر في مصالح الوطن وإدارة الجهاد، وكان عزيز النفس، لم يدنس نفسه بالانتماء إلى الطليان)(1).
__________
(1) أعيان علماء ليبيا - ص379.(1/25)
وهذه العبارة الأخيرة تفصح عن ميزانٍ دعوي ثابت، الدعاة اليوم بحاجة ماسة إلى استذكاره بعدما روّج دعاة الواقعية معنى تجويز التقرب من الأميركان عندما استعمروا العراق وأفغانستان، مؤداه أنَّ انتماء العراقي إلى حملة الأميركان: دَنَس ووسخ ونجاسة، وكل ذلك ينافي عزة النفس، ولا يستثنى من ذلك غير مسلم جيد الإيمان له وعي في السياسة، يقبل منهم المنصب من أجل أن يقلل شرهم ويحفظ حقوق المسلمين، ويكون قد تقرّب منهم بقرار جماعي، ويمارس تحت رقابة جماعية.
المظنون: أنه ينتظرنا يوم أشد من يوم التعامل مع الأميركان، كأنه محتوم على العراق، وهو التعامل مع إسرائيل عبر معاهدة سلام، والتطبيع مع يهود، والحل إنما يكون عبر اللواذ بقاعدة الولاء والبراء وشرحها بأسانيدها القرآنية والحديثية وشواهدها من السيرة المصطفوية المطهرة وتاريخ الأمة، واستذكار قصص العلماء الوعاة، كمثل ما كان من الفقيه الليبي أحمد بن إبراهيم بن سحبان التاجوري المتوفى سنة 1276هـ الذي جدد إرساء هذه القاعدة من قواعد الوعي الدعوي حين شدّد على قضية تمحيض الولاء للمؤمنين، والبراء والبُعد عن اليهود والأجانب وأعداء الدين، وذلك لما استُفتي حول النظام القانوني الجديد الذي صدر في عهد السلطان العثماني محمود خان الثاني، ومنح الامتيازات للأجانب واليهود وملل أخرى، ولم يخضعهم للمحاكم الشرعية، وإضفاء عصمة لكل مسلم يدخل تحت حماية السفارات الأجنبية، فقال ابن سحبان-رحمه الله-:
(وأعجب العجب من المفاتي الفاتنين المفتونين من الديار التونسية الزاعمين أنهم حنفية(1)، المادحين لهذا النظام، الذين هدموا بذلك دين الإسلام بقصيدة طويلة طويلة مطلعها:
نظامك أيها الملك الهُمام به للدينِ قدْ ظهر ابتسامُ
فقلتُ في الرد عليه:
__________
(1) - يشير إلى أنَّ مذهب الدولة العثمانية كان هو مذهب أبي حنيفة، وأنَّ هؤلاء العلماء يجارونه ويحرصون على رضا السلطان الحنفي.(1/26)
الحمد لله الذي أمرنا بالاقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في الأقوال والأفعال…ونهانا عن التشبه بالكفار، فكان بسبب ذلك النجاة من الضلال، فقال:((من تشبهَ بقومٍ فهو منهم))، ولذا قلتُ نظماً:
نظامكَ أيها الغمر الرغامُ بدى منه إلى الدينِ انهدامُ).
ولهُ رسالة مؤرخة في 19 ذي القعدة 1267هـ يشدد النكير فيها على مواطنيه من المسلمين ممن يستأمنون اليهود ويكلون إليهم قضاء حوائجهم، فيقول:
(فكيف يا خير فرقة من خير أمة تستأمنون اليهود، وقد قال الله تبارك وتعالى في كتابه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه { لتجدنَّ أشدَّ النَّاسِ عداوةً للذينَ آمنوا اليهود.. } المائدة، فكيف بعد هذا التحذير يطمع مؤمن من يهودي خيراً؟ وعلى أنهم أعداء الأنبياء…فكيف لمن آمن بالكتاب والرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يركن لهؤلاء أو يرضى بمخالطتهم أو يأمن مكرهم، هذا من الخطأ الفاحش والغفلة الكبيرة.
نعم… وإلى يومنا هذا مهما أمكنهم قتل مؤمن أو غشه لا يتركونه، لأنهم يتعبدون ويتقربون بذلك على زعمهم وقبحهم…فانظروا بارك الله فيكم آخر الشفاء(1)وكلام صاحب المدخل على الأطباء…فإذا كان يا أعز الأخوان الأمان قلّ في أهل الإيمان: فكيف يكون حال اليهود البهت أهل الجحود والخسران، وقد علمتَ يا أخي أنَّ نصح المسلمين متعين، لا سيما على من علمهُ الله شيئاً من العلم، ويتأكد ذلك في أوقات الغفلات والتهاون بأمور الديانات…فتنبهوا…أمة النبي - صلى الله عليه وسلم - …فهذا وما بعده من المتأكد عليكم، وبينوه للعامة تبياناً كلياً)(2).
__________
(1) يعني كتاب القاضي عياض.
(2) أعيان علماء ليبيا – ص 275.(1/27)
وهذا هو الجذر الدعوي الحديث لفقه مقاومة التطبيع، وهو معلم من معالم تطور الدعوة، وأحرى بالدعوة الإسلامية في العراق أن تجعل مثل هذه المواعظ من هذا الفاضل الليبي درساً تضعه بين يدي جمهور أهل العراق، وأن تعتقد أنَّ الغمرَ الرغام الذي يتصدرُ ويدور في دائرة خطة الأميركان سينتهي الأمر بمنهجه إلى أن يبدو منه إلى الدين انهدامُ، ولنا أن نشيع وعياً بين الناس يبين تجدد العمل بنظام محمود خان حين أقر عصمةً لكل مسلم يدخل تحت حماية السفارات الأجنبية، وذلك يعني بوضوح أنَّ السفارات ستصطفي لها عدداً من أبناء الشعب يخونون القضية الإسلامية ويجعلون أنفسهم في عداد الجواسيس من دون توجيه تهمة قانونية لهم، وهذا هو ما تحرص عليه أميركا اليوم، فإنها تريد تكوين جيل من العراقيين المتعاونين مع طموحاتها السياسية في الاستبداد بجميع العالم، ويروجون لمفاهيمها التربوية وأقاويلها الإعلامية، ويُسهلون لأدواتها الاقتصادية أن تجول في أرض العراق وتحتكر نفطه وثرواته ثمّ تعبر إلى بقية بلدان العرب وأمة الإسلام ثمَّ إلى العالم أجمع، وهذه الثلة من المصافحين للأميركان تمارس حرباً نفسية أيضاً عبر دعواها أنَّ أميركا جاءت لتبقى، وأنها قوية لا تقهر، في تجاهل لحقيقة أنَّ التحدي الجهادي يضع المسلم المعتصم بروح الاستعلاء في مركز التفوق إذا انفرد بالغازي وجهاً لوجه بعد أن ينتهي مجال استخدام التفوق التكنولوجي، وأنَّ خِلقة نفس الأميركي هي مثلُ خِلقة نفس العراقي، فيها دواعي الشجاعة والثبات وفيها دواعي الهزيمة والنكوص، فيتفوق العراقي المؤمن بما معه من توكل على الله وما مع الأميركي من توكل على الدولار، فأميركا تريد اليوم حماية هذه الثلة الخيانية، ويأبى الله إلا أن يجعل وعي أهل العراق مانعاً لغشها وتدليسها وبهرج خططها وزيف آدابها وفنونها وبحوثها التي تلوي الحقائق لياً وتحرف الدلائل والإحصاءات حرفاً، ولئن أتانا هؤلاء بمزاعم الديمقراطية(1/28)
الأميركية المنحازة: فلنأتينهم بعقائد"البراء"تبطل سحرهم، وقد خاب من افترى.
( وثالث الاستدراك: "الجهاد"، فإنه باب العزة الإيمانية، ومفتاح تثبيت مصالح الشعب الدنيوية من أن يسرقها ويعكر عليها غريبٌ وقحٌ شيمته الظلم والتعسف.
وفي الفهم الدعوي أن أمرنا يشابه فقه خطط التنمية، فكما أنَّ هذه الخطط تقول بأنَّ الإنسان هو أغلى استثمار، فتهدف الخطط نحو تطويره وتدريبه وتعليمه المهارات وتستعيرُ لهُ أسباب التمدن والسلوك الحضاري، فإنَّ اللمسة الدعوية تهدفُ أيضاً إلى تطوير مؤمني العراق روحياً ونفسياً وفكرياً وعملياً، فتغيرهم في موسم واحد إلى خلق آخر، وتنقلهم إلى وادٍ جديد يتركون خلفه وساوس الإحباط والقلق والتثاقل إلى الأرض، وتلك هي معجزة الدعوة في اقتدارها على إحداث دفعةٍ تربوية وصعودٍ في مدارج التطوير، وذلك هو ما اكتشفه الإمام الشهيد"حسن البنا"حينَ نظر وحللَ وقاسَ وفحصَ فاستوعب، وأخبر دعاة الإسلام أنَّ الشعوب ضحية تقصيرات الحكام، وأصدر تعليماته في أن لا نسبَّ الشعب ولا نزدري طاقاته الكامنة مهما تورط في سلبيات أو انخداع لهُ بالزعامات الفارغة، لأنَّ الزهد بالناس الذين هم مجالنا التنفيذي يفقدنا قابلية التحرك في الميدان السياسي والإصلاحي بعامة والجهادي بخاصة.(1/29)
نعم، قد يكون الشعبُ تائهاً ويسلك سلوكاً فوضوياً، ولا يعرف مصالحه ولا مناهج العمل ولا موازين توثيق الرجال، لكننا نحن دعاة الإسلام الذين نصلحه عبر كسب تأييده العاطفي أولاً، ثم عبر توعيته وتربيته بتدرجٍ وخطوٍ موزونٍ واكتشاف شغل خير يتناسب مع كلِ نوعٍ من أنواع الناس واستعدادهم، في تنويعٍ كثيرٍ يتكامل به الاستدراك وتكون كتلة العمل الناتجة موظفة توظيفاً واقعياً تسيرُ فيه أنواع مفردات العمل الإيجابي النافع المحقق للمصالح في خطوط متوازية يعضد بعضها بعضاً لتكون تياراً واحداً هادراً له قدرة التأثير واكتساح العقبات، وليس هذا السلوك القيادي الذي نبديه هو من تغليب العاطفية والخضوع لردود الفعل المستفزة كما يظنُ البعض، ولا هو ركوبٌ للخيالات التي تغيبنا عن تقدير الواقع، فإنَّ هذه الاتهامات تصحُ لو ارتكب خطة الإصلاح فردٌ يريد بزعامته الشخصية أن يديرَ عملاً استدراكياً وحملةً جهادية، ولكنَّ تصورنا للاستدراك الناجح الذي يلجُ من باب العاطفية إنما يكون من جماعةٍ منظمةٍ ذات منهجية وقيادة وجندية وخبرة تخصصية وتجريب ناجح وإسناد عالمي يظاهرها ويمدها بالرأي والفكر والاجتهاد والبلاغ الإعلامي، فتنتقل بالنخبة المستجيبة من أبناء الشعب عبر الفورة العاطفية والتحليقات الرمزية والمحركات الروحية والأشواق الإيمانية إلى أداء عقلاني منهجي، وهذا الوصف النموذجي هو الذي جعل"الإخوان المسلمون"في العراق يرشحون أنفسهم لقيادة الشعب الأبي بعدما نجحوا في إرساء البنية الأساسية لعملٍ دعوي نموذجي صاروا به أكثف الجماعات الإسلامية في العراق تأثيراً، وأوسعها انتشاراً، وأطولها تجربة، وأثراها في الاستمداد من النُصرة العالمية، وهم يمدون أياديهم التي ظلت عفيفة طيلة عهد الظلم إلى كل جماعة مخلصةٍ، وعالمٍ شرعي، ومفكرٍ إسلامي، وشيخ عشيرةٍ، وذي مالٍ أنعم الله عليهِ، من أجل تكوين حلف عريض يجهر بأنَّ الإسلام هو الحل، وأنَّ الجهاد هو(1/30)
الطريق.
وإنما نعني ظاهر هذا الذي نقول وباطنهُ المختفي الذي ينبغي استنباطه وعرضهُ على من لم يحط بالمراد كُله، فإنَّ من لا تجربة له عميقة مكافئة لتعقد الظرف والقضية العراقية يتمنى دوراً لأهل السنة يقيسه على أداء الحوزة الشيعية، فيدعو إلى مرجعية سُنيةٍ عليا، وهذا النمط يحصرنا في أداءٍ قيادي فردي لا نؤيده، بل الصوابُ أن تتوغل في الاستدراك عبر عطاء عمل تنظيمي واسع وقيادة جماعيةِ تتكامل علومها وخبراتها وتخصصاتها وتجاربها، مسنودة بمشروع إسلامي عريض، حضاري المدى، مدني الطريقة، علمي الأسلوب، حر الاجتهاد، شوروي النمط، فإنه إذا وجد مثل هذا العمل الحركي الشمولي فان ما سنجنيه من تأييد الناس إذا توفرت الحرية هو أهم وأوسع من منح نجنيها من أداء الوزارات وجهاز الحكم، ومن عطايا يتصدق بها المحتل، إذا سالمناه وهادناه ورضينا به وصياً علينا وسيداً ومربيا.
إن تاريخ الثورات، وقصص التحرر، وتجارب الجهاد: كلها تؤكد أن الغلبة في الآخر إنما هي للباذل وان احتكر الحق محتكر لوقتٍ وقَتَل وسجن واعدم واستبد وانتهك الأعراض والحرمات، وتزداد دلالة هذه الحقيقة حين نكتشف أنّ رفضنا العراقي يتزامن مع تصاعد الوتيرة الإسلامية ضد أميركا، بل وغير الإسلامية من أحرار العالم وفي أوربا بخاصة، ومع جهاد فلسطين وإصرار أهلها على مواصلة البذل بعد أن أهدر الرئيس"بوش"حق العودة واعترف بالمستوطنات .(1/31)
وكانت المقاومة العراقية الباسلة قد أبلت بلاءاً حسناً وما تزال، وهي التي رفعت رأس العراقي وأجبرت أميركا أن تبدل خططها وتفكر بالانسحاب، وهذه الحقيقة راسخة في عمق وعي دعاة الإسلام في العراق، وقد استمدوا من دماء شهدائهم الذين صافحوا المجاهدين طريقة للتوازي بين تصعيد المقاومة السلمية والبذل الجهادي، لكن مذاهب الوعي الدعوي تفيد بان الجهاد يكون واعياً وغير واع في نفس الوقت، والدعاة إنما ينكرون طريقة السيارات المفخخة والقتل العشوائي للشرطة وتدمير دوواين الحكومة، لما يظنونه من اختلاط أمرها بغايات إقليمية وامتداد أيادٍ غريبة غير عراقية خلطت الأمور وأوجدت تشابكاً، وليس كل من يقاتل يحتكم إلى علم ووعي ويستند إلى خلق قويم، بل هناك الحدث الذي لم تنضجه حكمة الرجال، وهناك الذي يسرف في الدماء ويقتل بعض المساكين بحجة التجسس من غير روية ولا إقامة دليل قاطع، ثم هناك من يجعل ساحته الأماكن المزدحمة بالمدنيين، فتذهب هدراً أرواح بريئة كثيرة، وليست تخلو الجمهرة من نفعي ومزايد ودعي يفاخر ويريد العنتريات التي ليس لها نكاية بمستعمر ولكن نكايتها تكون بمجاهد ينافسه أو ببعض الأهالي، ومثل هذه الخروقات لأخلاقيات الجهاد وموازينه وقواعده هي التي ينكرها دعاة الإسلام، فيظن المستعجل أن الدعاة ينتقدون عموم الجهاد، وما كانوا عنه في الحقيقة غائبين ، والمستعجل يقذف بالكلام على رسله ويتمنى ويتهم، وما ثم عند الدعاة غير تأول وحرص على رفع الحرج عن الناس وقول في التمييز بين جهاد له أهداف ووضوح ومنهجية والتزام وإرث تجريبي وتنفيذ مصلحي ومرونة لا تأبى تبدل(التكتيك)وتقبل التغيرات التعبوية، وتخلط كل ذلك بتواضع وتجرد وشكر لله وتودد للناس، وبين جهاد آخر تزاحم به قلة فوضوية ترتيبات الأكثرية، فتلجأ إلى التعالي على الناس، ويكون ديدنها الإسراع إلى قتل الرهائن، واستعمال السلاح في غير موضعه، وهذا التمييز بين النوعيين حقُ ثابت لكل(1/32)
مخلص من أبناء الشعب، وليست العصمة من الخطأ مكفولة لكل من حمل البندقية، بل منطق الواقع يشير إلى احتمال أن يختلط بالدعاة من هو مجازف ولا تردعه التقوى عن ظلم مخلص يعظه بالتروي، ودعاة الإسلام لهم تاريخ عظيم في العالم اجمع عنوانه الجهاد والبذل، وهم الذين علموا الناس طريقة مكافحة الاستعمار وحكروا جهودهم لإسناد القضايا التحررية في بلاد أمة الإسلام حتى ارتوت ارض فلسطين وقناة السويس وأفغانستان والبوسنة بدمائهم، وكان علي بن أبي طالب يقول:(إذا حدثتم عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - حديثاً فظنوا به الذي هو أهدى وهو أتقى وهو أهيا)، والعلماء ورثة الأنبياء، والدعاة حلفاء العلماء، فيسوغ أن نقيس الحكم ونقول: أيها الناس إذا حدثتم عن أداء دعاة الإسلام في العراق وغيره فظنوا بهم الذي هو أهدى واتقى وأليق بتاريخهم وطهرهم الملائكي وحالهم الجهادي.(1/33)
ولسنا نشعر بحرج إذا تهامسنا وأشرنا إلى أنَّ المقاومة العراقية تفتقد وحدة القيادة والتنظيم، فهي جهات عديدة لا يتحقق بينها الانسجام، ولها أساليب متنوعة ربما تتعاكس نتائجها في أرض الواقع، بل ربما يكون لدى بعضها ارتجال تعده العناصر المتربية على التخطيط عيباً ونقصاً، فكما أن فيهم الإسلامي الملتزم الذي هذبته معيشة المسجد وانعكاسات العلم الشرعي فصار اقرب إلى الصواب والعمل المنظم: هناك أيضاً الأعرابي الذي تسوقه فطرته إلى الجهاد وينتصر لبلده حميةً ورفضاً للذل، لكنه يبقى محتاجاً لفن الممارسة وخبرة الميدان، وهناك البعثي الذي يحركه الانتصار لمجده الزائل ويظل يحتفظ بشعور الفوقية على الآخرين ويريد فرض تصوره ورؤيته وطريقته على الآخرين، ولا ترتقي نظرته السياسية إلى درجة تمييز إمكان جمع المخلص بين المقاومة السلمية والمقاومة الجهادية، فيشرع يشيع الإشاعات والتهم، ويغمز ويلمز، وربما يهاجم مقرات إخوانه يزعم انهم لانوا، ويعجز عن أن يتصور المناورة والفذلكة والالتفاف، وعنده أنَّ الصواب ينحصر فقط في أن يجبه جبهاً، ثم هو يفاخر، وتقوده مفاخرته إلى أن يهدر أسراره وأسرار الآخرين، ولا يصل إلى خياله أنَّ الآخر يصمت ويبدو ساكناً لمصلحةِ يقتضيها الأداء، لأنه لم يقرأ آية { وترى الجِبال تحسبُها جامدةً وهي تمر مرَّ السحاب } ، ومجمع الدعاة أسبق من غيرهم إلى سوح الجهاد، ولكنَّ العلمانيين لا يعلمون.(1/34)
وفينا شجاعة أيضاً تجيز لنا أن نقترح أن تبقى ساحة الجهاد العراقي: عراقية الرجال والطريقة والقيادة، فقد تسربت عناصر غير عراقية إلى ساحة العراق، لسنا ننكر إيمانها وإخلاصها وأشواقها الجهادية وعواطفها السامية، ولكنها لا تدري أخبار ساحة العراق، وتريد أن تنقل تجربة غريبة على حس الداعية العراقي وعموم أفراد الشعب العراقي، وتلجأ إلى أساليب السيارات المفخخة ومهاجمة الجيش والشرطة والميلشيات الحزبية والدوائر الحكومية، وهذا يتناقض مع قاعدة عراقية تفيد بوجوب الحفاظ على المعادلة العراقية السياسية المذهبية القومية، بحيث تبقى ساكنة مستقرة ما استطعنا من دون اهتزاز وتعكير، حتى لو أبدى طرف من أطرافها بعض التحرش، لأن احتمالات الحرب الأهلية عند ذلك قائمة، وهذا ما يجفلنا جداً ويجفل جميع أطراف المعادلة، لأننا نعلم أنها سوف لا تُبقي ولا تذر، وأنها نفق مظلم ليست له نهاية، وبعض الدول الإقليمية التي تخاف أن يطالها العدوان الأميركي وتتعرض لما تعرض له العراق تطرب لحدوث هذه الحرب وترحب بها، لأنها ستؤدي إلى انشغال الأميركان بها فيؤجلون عدوانهم على ما جاور العراق، وهؤلاء الجيران يحفظون دماء شعوبهم بإسالة دماء العراقيين هدراً، لا يصدهم شعور إسلامي ولا حس إنساني، بل تنبني سياستهم على الأنانية.(1/35)
والمجاهدون الآتون من خارج العراق لإسناد الساحة العراقية غرباء عن البيئة ومن بلاد شتى، ولا يعرف بعضهم بعضاً بصورة جيدة وعن معايشة وفحص ليوميات تصرف كل أحد، ولذلك يسهل الاندساس بينهم، فيخدعهم جاسوس ومخرب ويشجعهم لا على ضرب الأميركان بل على التفخيخ والهجوم على الشرطة واعتقال الرهائن وما شابه ذلك من أعمال مرجوحة وتكون أحياناً عملاً حراماً عند وزنها بالميزان الشرعي، بل حتى اكتشف أحدهم في"راوة"عميلاً إسرائيلياً من يهود اليمن تخرّج من كلية الشريعة ويتكلم مثل كلام المجاهدين، وكل ذلك يجعلنا نقول بوجوب تبعية المجاهد الغريب لمجاهدي العراق، وأن لا يستقل في قراره وخطته وأدائه، لأن الفوارق كبيرة، ولكل بلد ما يصلح له ونقل تجارب الآخرين ينبغي أن تحده النظرات النسبية لا التقليد الجزافي،وحملة الجهاد العراقية مكلفة أن تعي هذا الدرس حق الوعي، وأن تأمر بهذا المعروف وتنهى عن منكر الفضول وتدخّل المجاهد فيما لا يعنيه وما لا خبرة له به، ومثل هذه الصراحة من قبل دعاة الإسلام في العراق هي التي دعت البعض إلى سوء الظن بهم إذ هم أبرياء من السوء بحمد الله، بل حتى ضاق المستعجل بهم ذرعاً بسبب وصاياهم المنطقية فراح يهدد ويتهم، وما ثم غير حقيقية تجريبية نبشر بها نريد من خلالها أن يميز الجهاد العراقي بين الفوضوية الجزافية، والمنهجية المنطقية العقلانية النسبية في فهم الواقع والعلاج والمسار.(1/36)
ومن فروع هذه القضية أن الداعية المسلم بدأ يتعامل مع فتيان من المجاهدين أحداث الأسنان تعوزهم التجربة، ولكن دفعهم إيمانهم الوافر إلى حمل السلاح، وصاروا صدوراً وقادة بين أقرانهم، وقد قال عمر بن الخطاب- رضي الله عنه -:(إذا تَصدّر الحدث فاته علمٌ كثير)، ومن إفرازات الحداثة: أن تراه عنيداً عند المفاوضة والتفهيم مستسهلاً العنف والقتل، ميالاً إلى اعتقاد صوابه المطلق وخطأ المقابل، وقد يمزج ذلك بكلمة غليظة ونبرة استعلاء، وكل ذلك من الغرور الذي يصاب به صاحب العمل الصالح إذا غفل عن الاستعاذة من الشيطان، والحل لهذه الظاهرة السلبية أن يتصدر الكبار، أهل الرجولة والحفاظ على الأعراف، ممن وَخَطَ الشيب لحاهم، ولقنتهم أمهاتهم احترام الكبير والمخلص، وهذا أمر قريب المنال إذا نوى الجميع نوايا الصلاح والإصلاح.
( الاستدراك الرابع: استيعاب تجارب الحركة الإسلامية في العالم، فإنَّ فيها خيراً وافراً، وهي تجعلنا نواصل من حيث انتهى الآخرون لا من حيث بدأوا، وتعصمنا من تكرار الخطأ وإهدار الجهود والوقوع في المتاهات، وكم من مخلص استغنى عن عقل غيره وقصص تاريخ الدعاة فعثر وانكبح وانكسرت يده وأصابت ركبته الرضوض، وكم لتأملات فقهاء الدعوة من فوائد إذا استطاعوا استنطاق الحوادث وأدركوا أسباب الفشل والنجاح في الساحة الإسلامية الواسعة.
وتجربة "محفوظ النحناح"عبر العمل الدعوي الجزائري هي من أقرب التجارب البليغة التي يمكن أن تسعف الدعوة الإسلامية العراقية في مرحلة ما بعد زوال الظلم وانفتاح المجال لكل أطياف العمل السياسي ودخول جماعات إلى الميدان ليس لها تاريخ يعظها ولا فقه يقومها، والأمر فيه زحام شديد، وضرب بالأكتاف وتصادم، والعنف سيد الموقف.(1/37)
ولتفهيم العبرة الكامنة في دروس"محفوظ"وعصبة الدعاة الذين معه، إنما يكمن فهمها من خلال التعقيب على كلمة رثاء كتبتها يوم موته ونشرتها في ذلك الوقت في موقع"الرواق" في الإنترنت، وأستحسن أن أسوق الكلمة كلها لأدع طلاب فقه الدعوة يستمتعون بجميع ما فيها من عاطفة يعبق عطرها الزكي عند ذكر محفوظ، ثم أعود وأقيس مرحلة العراق الراهنة على تجربة هذا الفقيه الجزائري الذي أحيا سنن المعروف والرصانة واستقرار النفس وثقل المواقف الأصولية القواعدية المعتصمة بموازين المنهجية،وقد شجعني على إيراد هذه الكلمة كلها أنها أُعيد نشرها في العدد الخاص بالذكرى الأولى لوفاته-رحمه الله-من مجلة"المؤسس" في الجزائر، ولكنها كانت كثيرة الأخطاء المطبعية ولا يستطيع أحد أن يفهمها على وجهها الصحيح، وقد قلت فيها:
(مناقب محفوظ..وكتلتهُ الجمالية
(مضى واثقاً، بعد أن ضرب مثالاً للقيادة الناجحة التي تستوعب جيداً موازين الفقه الدعوي التي تحكم المواقف المشتبهة.
هذا موجز وصف شخصية أخي في الله، الفقيد الغالي، الهمام الثابت على الدرب المستقيم، الأستاذ محفوظ النحناح-رحمه الله-.
رسخ ............ يوم هبت العواصف.
وفصح.......... يوم تلعثم المترددون.
وجسر واقدم ........... لما هاب الواجفون.
وصرخ بالحق ........... حين تخافت به الهامسون.
وفاصل على بينة من الأمر يوم جنح الغبش بأهله نحو الحلول الضبابية.
وقد راقبت صدور الدعوة على مدى نصف قرن، وصعدت عواطفي ونزلت مع سِيَر أجيال من القادة والزعماء ورجال الفكر الإسلامي، فأقنعتني مراقبتي الدقيقة أنَّ وتيرةً من الفقه الشرعي الموزون الممتزج بدروس تجريبية مقتبسة: كانت تحرك النحناح، حتى استوى في النهاية منتصباً شامخاً ضمن الرموز الكبرى التي نباهي بها ونفخر ونجعلها عناوين للدعوة الإسلامية الحديثة المعاصرة، التي بها نقتدي، وإلى أفعالها نحتكم، وبحبها نرجو أن نلقى الله.(1/38)
إنه مؤسس دعوة، وسابق، وصاحب إبداع، وليقل فيه القائل ما يشاء من عمق التجرد، وكثرة البذل، مع التواضع، والسكينة، إلا أنَّ جميع ذلك يجعله مجرد شريك في هذه المناقب، وفي غيره من أهل الجزائر بركة، وقد نالوا من هذه الخيرات مثل ما نال، ولكنَّ ميزة"محفوظ"الكبرى تكمن في إيمانه الشديد الذي أبداه بوجوب الحفاظ على الشروط الدعوية المتكاملة وعلى الطبيعة التدرجية التربوية للعمل الإسلامي حين أهدرها عن عمد أو نسيان من استحوذ على إعجابهم الصعود المفاجئ للصوت الإسلامي في الشارع الجزائري خلال موسم واحد لما حدث الفراغ السياسي فملأته الخدمات الإسلامية .(1/39)
كان المفروض في الدعاة أن يلوذوا بحقائق فقه الدعوة، وأن يميزوا أنَّ كل توسع سريع يتجاوز إتمام عملية تربية وتطوير الجيل الدعوي التأسيسي الأول: سيكون توسعاً خطيراً يحمل في ثناياه احتمالات الاستعجال، بل والانحراف والإرهاق وإعنات الناس لو أرادوا الريث، وإحراج الحكومة إذا نوت توبة، وقد كان هذا المعنى واضحاً لدى محفوظ، فاستمسك به، وأفتى إخوانه باللبث مع مفاد الوعي وأن لا تستفزهم المكاسب الأولية السريعة، فإنها ربما تأتي سهلة، ولكن يكون من بعدها دفع ضريبة كبيرة، ولات حين استئناف تربية واستدراك على قفز المراحل، وقد أبديت له تأييداً في ذلك، وصوبتُ منحاه، وثنيت على اختياره، وعضدته، في قلائل آخرين، ولكن الكثير من الدعاة غرتهم الصورة الظاهرة، فذهلوا عن(الشروط المتكاملة)الضامنة لاعتدال السياسة الدعوية، فطفقوا مع الحلم الوردي باختصار الزمن، ولم يدركوا المجازفة الكامنة في دخول مرحلة العمل المتقدمة من دون تربية كافية وبناء تنظيم مكافئ لها، وحاولوا تحريك قدم"محفوظ"عن موضعها الثابت، فكان كالطود الثقيل، وأبدى عناداً واعياً، واستمسك بالذي انتهت إليه الموازنات العقلية والمذاهب التجريبية، غير آبه بهتاف العواطف، ثم انتظر حتى صدَّقته الأيام والحوادث، وأخذت قصته مكانها المميز في التاريخ الإسلامي، وشهد له الفقه، وأذعن له الناشز، ويوم زرته بالمستشفى بالعاصمة الفرنسية قبل موته بأسبوعين بعد غيبة عنه طالت سنوات: قال لمن حوله من أعوانه وأركان جماعته: هذا الأخ الراشد أول من فهم موقفنا وأيدنا وشد أزرنا ولمح الخفي الذي غاب عن غيره.(1/40)
وما كانت غير سنة واحدة بعد ذلك الموقف واللبث مع الثوابت الدعوية: حتى أظهرت الأقدار الميزة الكبرى الثانية لمحفوظ، يوم حصل الاختلاط، وصِيحَتْ صيحات الثأر والهدم والدم، وأصاب الناس الرعب، فأبى "محفوظ" التورط، ولاذ بالعفاف والبراءة من الدم، والتمس أسباب السكينة والطمأنينة ليشيعها بين جماعته وعموم الناس، وآمن بالحوار،والسلام، وثبت عند الرؤية الحضارية، ونبذ العنف، وأدرك أن تراكم مفردات العمل الحضاري المنطلق من المعايير الإيمانية هو الكفيل بإنقاذ الجزائر من وهدتها، في خطة طويلة الأمد، لكنها مأمونة العواقب، وجازفت عناصر الغوغاء بذبح بوسليماني-رحمه الله-، مستفزة له محاصرة له في الزاوية الضيقة، لينفجر ويكون شريكاً في الخطأ، فكان رحيما بالدعوة وبالجزائر وبمنافسيه الذين ابقوا الخنجر محمولاً في كفوفهم يقطر منه الدم، وأنزل الله السكينة على قلبه، وتحالم، وكبت، ولعن الشيطان، واعتصم بالرحمن، وعارض بكفه العاصفة، فتكسرت ريحها العاتية، وبقيت تتناقص حدتها، وحافظ على جماعته أن يبددها جهل وردود فعل انتقامية، وكتب التاريخ الإسلامي قصة ثانية من قصص"محفوظ"يلقى بها ربه واثقاً معتدا.
ثم يأتي متبطر ظالم لنفسه وللناس ليقول: أخطأ"محفوظ"في خطبته يوم كذا، وصرح بما لا نرضاه في الصحيفة الفلانية، وصَدق وإنا على ذلك من الشاهدين، ورصدت لمحفوظ زلات لسان وتعابير مفضولة وكلمات مرجوحة، ولكن أين هذه الصغائر من تلك(الكبائر الخيرية الإيمانية الواعية)التي وفق لها وألهمها الله إياها إلهاما؟
لقد كان محفوظاً بحفظ الرحمن، وبشريته التي وقف عندها الناقدون تجاوزتها ملائكيته التي حلق بها في السماء .(1/41)
هذا، مع روح بدوية أصيلة فطرية يلتذ بها المتعامل حين يقترب منه فينفتح، وكرم وعزة نفس وشمم، وفهم عربي رصين لمعاني الشرع المبين، مكنه منه تخصصه في اللغة العربية، أضاف جمالاً إلى مناقبه الحسنى، رحمه الله رحمة واسعة، والأمل أن يلحظ أعوانه وخلفاؤه تلك الكتلة الجمالية لرجل من المؤمنين سمي في الناس بمحفوظ النحناح، فيراعوها ولا يخدشوها، بأن يلتزموا وحدة الكلمة من بعده، وتقديم حق الجماعة على حقوقهم الفردية، فإن الجمال قد ندر).(1/42)
وفي كل هذه الإشارات فوائد لمن يريد التفقه، ولكنَّ الدرس الأهم يكمن في قياس قضايا الدعوة الإسلامية العراقية زمن الجهاد ومنازلة الاحتلال الأميركي على ملابسات القضية الإسلامية الجزائرية سنة 1990م وما قبلها بقليل وما بعدها، ففي الدرس الأول يستوقفنا إيمان"محفوظ"بوجوب الحفاظ على الشروط الدعوية المتكاملة وعلى الطبيعة التدرجية التربوية للعمل الإسلامي حين أهدرها عن عمد أو نسيان من اعجبوا بالصعود المفاجئ للصوت الإسلامي لهيئة الإنقاذ خلال موسم واحد لما حدث الفراغ، فالقياس يبدي أنَّ هناك فراغاً كبيراً في العراق بعد الغزو الأميركي، وخلاله بدأت تسعى كل المجاميع الإسلامية لاحتلال جزء من الفراغ، أو الطموح لاحتلاله كله، في وهم البعض، وحالة سباقية مثل هذه هي المسؤولة عن ظواهر التساهل في شروط التجميع، وقلة الاكتراث بجوانب التربية، والزهد في العلم والبناء الفكري الرصين، لان كل هذه الجوانب الإيجابية تقتضي جهداً مكثفاً وتدرجاً بطيئاً ، بينما التكاثر بالأعضاء والموالين يغري جداً، ويشير إلى احتمال التفوق على الأطراف الأخرى، والفوز في الانتخابات، ومزيداً من الضمان الأمني والعون المالي، والأبهة واستعراض القوة فكثير من المجموعات وقعت في هذا الفخ الذي تعظ دروس التخطيط ومناهج التربية بالحذر من مقاربتهِ، وبدأنا نرى في الساحة شباباً يزعمون الانتماء إلى جماعة معينة ويزعم قادتها أنهم قبلوهم، لكنَّ التعامل معهم يشهد بأنهم يحتاجون مقداراً كبيراً من الإنصاف والذوق وصواب السلوك فضلاً عن حاجتهم لمزيد علم ووعي وعبادة، ولذلك بدأنا نرى سوقاً رائجة للخلافيات والانتقادات المتبادلة والفحص عن الصغائر، حتى ليكون الخطأ التافه كأنه جريمة كبرى، أو أن يكون الاجتهاد المخالف كأنه كفر، وهذا حالٌ يستفز المخضرمين من أساتذة العمل، لأنه يؤدي إلى انعدام وحدة الموقف في أشد أيام العراق حاجة إلى الموقف الصٌلب الموحد، ونحن نعلم أن(1/43)
البيئة التنافسية مع العدو هي التي تشجع رجال مختلف الجماعات على قفز المراحل التربوية والخططية، وتُسوغ لمن هناك هذه التساهلات وغض الطرف عن هذه العيوب، لكن ذلك لا يمنعنا من أن نعظ العقلاء في جميع الجماعات بوجوب الاعتدال، وتزكية نوايا الاتباع، و ترجيح مصلحة المسلمين العُليا على مصالح الجماعة الخاصة فضلاً عن المصلحة الشخصية مع محاولة ضبط تصرفات الأعضاء والمؤيدين ومنع تحرش أحد منهم بالجماعات الأخرى من مصّلين ورواد المساجد وعامة الناس، حتى"الحزب الإسلامي العراقي"توعظ قيادته بأن تلبثَ مع الخطط التربوية والطرائق العلمية الفقهية، لأن المحيط يغريها أيضاً بتكاثر مثيل فيه إهدار بعض الشروط، وليكن من الحزبِ ومن جميع الجماعات إقتداءٌ بالأعراف الراسخة للإخوان المسلمين في العمل أيام العافية والمحنة معاً بما عُرف عنهم ويحرصون عليه من متانة التربية وحُسن الطاعة الواعية والأفق الفكري الواسع والفقه المصلحي المقاصدي المرن وتزيين كل ذلك بالنمط الشوروي، والأداء المؤسسي، والفهم الشمولي والممارسة العملية، مع قلة القول وشدة التواضع واللبث عند ركن الأخلاق.(1/44)
إن تمسك"محفوظ"بمثل هذه الموازين والقواعد المستنبطة من التجربة العالمية هي التي مكنته ومكّنت جماعتهُ من الفهم الواقعي لقيمة الوجود الدعوي أمام قيمة وجود الحكومة وأجهزتها ووجود الجيش، وهي معادلةٌ ما كانت الحكومة ولا قيادة الجيش لتسمحا بالإخلال فيها والنيل منها مهما كان هذا النيلُ صادراً بحقٍ ومتوسلاً بوسائل النصر الانتخابي بعدما قدمت جبهة الإنقاذ للشعب مقداراً هائلاً من الخدمات التي جلبت رضاه، فالمسيطر يستقتل ويجب أن تزيحه بلطف وتدرج، وأما الفجائية فتحمله على الإصرار ومواصلة الظلم والتمسك بالكرسي والسلطة، وهو درسٌ استوعبته الحركة المغربية جيداً فأخذت تتنازل عن ترشيح نفسها لمقاعد مضمونة الفوز من أجل أن لا تستفز حلف العلمانيين القابضين على الأمر، وعلى الدعوة العراقية أن تفهم بدورها مغزى هذا السلوك، وأن المعادلة العراقية الداخلية الخاصة لا تسمح لها بانفراد، ولا المعادلة الدولية والثقل الأمريكي فيها يسمحُ بهذا الانفراد، وبينهما البعد الإقليمي أيضاً، ولذلك فإن سيطرة الدعوة الإسلامية في المستقبل المنظور القريب إذا كانت غير ممكنة، فإن سبب التكاثر يبطلُ ونكون بدون حاجة إليه، وهو ما يعيدنا إلى الملاحظة الأولية التي لاحظناها من أن طريقة الإخوان المسلمين المتأنية المتعاملة مع حقائق الواقع بحذر والسائرة عبر أحكام البناء التربوي وتعميق الفكر السياسي والاجتهاد المصلحي تكون هي الطريقة اللائقة للعراق في مرحلته هذه، وذلك يعني أن طموح الجهاد أيضاً بأن تعقب نجاحهُ سيطرة المجاهدين على الحكم إنما هي طموحاتٌ تعوزها التقديرات الواقعية، بل طريق ذلك طويل، وحسب الجهاد العراقي اليوم أن يزيل الشر الأكبر ويدفعه ويبقى محتملاً للشر الأصغر وتوابعه، وأن يحول بين أمريكا وتطبيق خططها التربوية والاجتماعية والثقافية والسياسية في المنطقة بعد إحرازها النصر العسكري، فإذا فعل ذلك وتوصل الجهاد إلى هذه النتيجة كان(1/45)
وصف النجاح تاماً، ثم تتفرغ كل فصائل الدعوة الإسلامية ، من كان جاهد برصاصة أو جاهد بطريق سلمي لمعالجة خلل المعادلة العراقية المحلية، وهي معالجة تمر بطريق التدرج ولابُد، وآية ذلك إتقان التوازن وتجزئة الأهداف وتحقيقها تباعاً.
والدعوة في العراق مرشحة لاستيعاب الدرس الجزائري الثاني، حين سال دم الدعاةِ بأيدي الخوارج من المصلين الساجدين، وكان ممكناً أن يكون تأثرٌ وردود، ولكن"محفوظ"تحالم وأبى التورط في معركة لا تبدو لها نهاية وتديرها المخابرات الفرنسية والجزائرية، فلأول مرة في العراق تصلُ اليوم إليه عدوى التكفير، وتمتد الأيادي فيها إلى السلاح لتقتل مسلماً يتأول في موقفه ويستعمل حقهُ في الاجتهاد، على نمطٍ مستعجل هو في الحقيقة خارجية جديدة تسير على خُطى الخارجية العتيقة البالية البائدة، ويجسدها شبابٌ صغار ليس لهم فقه كافٍ، وقد يكون المفتي الذي يحرضهم على ذلك ابن عشرين سنةٍ فقط يزعم أنه رجلٌ والشافعي ومالك رجال، ويضع نفسهُ في موضع الموازاة لهم والاستدراك عليهم، ويدعي أنه يستنبط من الآيات ما عجزوا عن استنباطه، ويعطي لتشنجه وتهوّره وتسّرعهِ صفةً شرعيةً، ويدقُ على صدرهِ أمام أصحابه الصغار ويقسم أنه الكفيل لهم بالجنة، الضامن له صحة فتواه، وهكذا بدأت أعمال جزافية تحصد أرواح المؤمنين، ولسنا ندري أي دواءٍ نشتريه من الصيادلة يطيل تحالمنا وعفونا، ولكنا ندري أن ضباط المخابرات في الدول الإقليمية هم وراء هذا التحريض من طرف خفي لا يكتشفه الشباب السذج المنفذون، ونخشى أن تزداد الحوادثُ التي ما زالت قليلة وتحت السيطرة لتكون كأحداث الجزائر الدامية البشعة، وهذا هو ما يحركنا لمثل هذا التنبيه، لعل العقلاء يستدركون ويأخذون على أيادي الشباب المستعجل الواهم، الأقرب فالأقرب، كل فقيه وإمام مسجدٍ ونبيل عائلةٍ ينصح من هم في محيطه ومسجدهِ وعائلتهِ، لعلنا نستطيعُ وأدَ الفتنةِ قبل استفحالها.(1/46)
وكان الخوارجُ في القديم قد احتلوا الكوفة وعاثوا في مسجدها قتلاً، وأمسكوا بأبي حنيفة النعمان بن ثابتٍ وهم لا يعرفونهُ، فموّه عليهم وزعم أنه نصرانيٌ، فقالوا لهُ إن قرآننا يقول: { وإن أحدٌ من المشركين استجارك فأجره حتى يسمعَ كلام الله ثمَّ أبلغهُ مأمنه } فاظهر رفضه وزعم أنه يصرُ على نصرانيته، فسألوه عن منازل قومه فقال لهم إنه من دير كذا .. ، لمحل هو قرب المحمودية جنوب غرب بغداد الآن وكان يقع خارج سيطرة الخوارج، فأوصلوه إلى مأمنه ونجا. والذي نراه أن الفتنة التكفيرية اليوم بدأت تسلك مثل هذا المسلك، فينجو جنود المارينز من رصاصها، وتتوجه الرصاصات إلى الأتقياء الأبرياء من ذرية النعمان بن ثابت، وهو حال عجيب غريب يدع الحليم حيرانا، ويشيب له رأس الوليد، ولابدَّ لهؤلاء الشباب من وقفة مراجعة ومحاسبة للنفس وتدقيق لفتاوى رؤسائهم، فإنا نؤكد لهم أنهم على خطأ، جزماً قطعاً، على جميع مذاهب المسلمين، فإنَّ العرش يهتز لقتل المؤمن، والدم حرام في شريعتنا الغراء وكل الشرائع، ومن مفاد الاستنباط أنه يكون من عمق عميق من معاني النص، وهو المفاد اللغوي لكلمة الاستنباط، ولكنا لا نجد ذلك العمق، وليس هناك غير آخذ بظواهر النصوص ومتشابه الألفاظ، وقال الفقهاء أنَّ استعمال كلمة الاجتهاد تعني أنَّ المجتهد قد استعمل كل جهده وطاقته العقلية للوصول إلى الرأي الصواب، وهذا يتطلب زمناً وتفكيراً متأنيا، وكان أبو حنيفة يحفظ الرأي المنقدح عنده في ذهنه سنة"كاملة"قبل أن يبوح به ويجعله اجتهاداً، ولسنا نرى مثل هذا التأني عند هؤلاء الشباب الجانحين للتكفير والقتل، بل نرى استعجالاً ونمطاً من الظاهرية التي لا تغوص إلى أعماق النصوص، ولا تعرف حكمة الشريعة ومقاصدها، وطريق التوبة منهم قريب، فلعلهم يكفون شرهم عن المسلمين ويتقون الله في الدماء، ولسنا نأبه أن يصفونا بكفر وزندقة، لأنَّ الله مطلع على سرائرهم وسرائرنا، وعلى علمنا وجزافهم،(1/47)
وعلى تحالمنا وظلمهم، ولكنا نأبه للدماء الزكية الطاهرة أن تسيل هدراً وبلا سبب.
ثم تعال أخي التكفيري أقول لك بهدوء لعلك تتدبر: نعم نحن زنادقة وأقبح الكفرة، لكن من جعلك قاضياً وسيّافاً تقتص منا وتنفذ أمر الشريعة؟؟؟ هل خولك عمر بن الخطاب ذلك أم علي بن أبي طالب- رضي الله عنهم -، أم الأمة أم سادة المسلمين اليوم!!
ارجع إلى نفسك أخي واستشعر انتقام الله وثأره لعلك ترتدع وتتوقف عن اقتراف هذا الإثم المبين، فإن لم تخف ثأر الله فخف ثأر المؤمنين، فقد ذهب تحالم"محفوظ"معه، ولدعاة العراق يدُ طويلةُ أيضاً، وأكثر المجتهدين يقولون بقطع دابر الفتنة إذ هي في بدايتها قبل أن تستفحل، وللدعاة استعداد أن يجهلوا فوق الجاهلينا، بفتوى الشرع في الدفاع عن النفس وبرضا نبلاء المسلمين ونصيحتهم، لكننا نقدم مقدمة التحالم ما استطعنا ونحفظ فقه"محفوظ"وتحالمه ما وجدنا إلى ذلك سبيلاً، لأنا نخاف فتنة مرهقة ليس لها آخر.
وفي التحليل أن هذا النمط من العدوان إنما ساعد عليه الانفلات الأمني العام في العراق بعد الغزو الأميركي مباشرةً، وافتقاد الشرطة والجيش، فصار كل أحد يعبث في الأرض، والدليل على ذلك أنَّ الأمور بعد أن بدأت تسير نحو الأحسن وبدأ تأسيس الشرطة والجيش: صار أمر الانفلات إلى انحسار، واتعظ المجازفون بموعظة القوة بعد أن فاتهم الاتعاظ بالآيات، وأنَّ الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، وكاد الأمر أن يرجع إلى طبيعته لكن الدول الإقليمية تريد أن تبعث الفتنة مجدداً، فوجدت في صيحة التكفير وفقه الخوارج مخرجاً يعيد الفوضى، بزعم إرباك أميركا عن أن تغزو دولهم.
(قُدسية الدماء البيضاء(1/48)
وفي درس"محفوظ"الثاني عبرة أوفى، يوم امتص الصدمة الدموية فلاذ بالتعقل ونظر إلى سوء المنقلب إذا سلك مسلك الهابطين، فخاف من نتيجة داكنة اللون مرة الطعم، فكان منه العفاف، فهذا هو الصبر الأصعب، لأن التخطيط التربوي كانت تنضجه ظروف هادئة، بينما في الصبر الثاني دماءٌ واستفزاز وفراق أحبة، والعراق اليوم فيه مثل ذلك الاستفزاز، واللائق أن نحرص على تقديم نموذج في العمل الإسلامي عالي المواصفات، منطقي المحاورات، عقلاني التعامل مع الشذوذ والنشاز والدروب العوجاء والخطوات العرجاء، ومن أول ذلك أن نعترف بان مشكلتنا ليست مع الجمهور الأعظم من دعاة الإسلام على اختلاف مسميات جماعاتهم وطرائق فهمهم، ولا مع قيادات الجهاد والمقاومة، وإنما هي مع مجاميع صغيرة يسودها التوتر دون الفكر، وقيادات لهذه المجاميع الصغيرة تسيرها مصالح خاصة وفوضوية، وقد تصدرت قبل أن تنضجها تربية أو تسعفها تجربة أو يحتضنها محراب، وكان ابن عقيل الفقيه الحنبلي قد قال:(نعوذ بالله من طفيلي تصدَّر بالوقاحة)، فأعراف المؤمنين تأبى أن تجعله مكافئاً موازياً للمخضرمين والسادة النجباء وأشراف الجهاد العشائري وتلامذة المنابر الشرعية، وفي تاريخ الجهاد السابق في أقطار أمة الإسلام شيء من هذا، فنشأت من فقهاء المجاهدين تحذيرات لنا ووصايا تستند إلى تجاربهم، كالذي كان من الفقيه الليبي الأديب أبو بكر بن لطيف الذي نجهل سنة وفاته، ولكنه عاصر الجهاد ضد الطليان، فقد(كان محباً لاقتناء الكتب، ميالاً إلى حديث السياسة، ربما لأنه كان من أسرة ذات صلة بالبلاط العثماني، وكان يكره الفاشيين، ويثني على المجاهدين بخير، ويلعن الفرقة التي مكنت للطليان .. وكان يرجع خذلان المجاهدين للزعماء الجهلة ذوي الأنفس المريضة)(1)، واكتشافه هذا لجريرة الزعماء الجهلة إنما هو مَعلم من معالم تطور فقه الدعوة وميزان دعوي مهم في الكتلة التجريبية الدعوية،
__________
(1) أعيان علماء ليبيا - ص407.(1/49)
احتاجته الدعوة مراراً لبيان عذرها وتعيين المطلوب وترشيح نفسها للقيادة، وهو جذر ما اعلنتُه في فتواي حول الغزو الأميركي للعراق من انعدام(الأمن الجهادي)وقولي بعدم عينية الجهاد، لمزاجية"صدام"وانحراف رجاله وضباط مخابراته، مما خفت معه التلاعب بمصير المجاهدين الوافدين من خارج العراق، وقد كان ذلك وحصل ما خفته، ويقارن ذلك أيضاً بأحوال الجهاد الأفغاني وجناية بعض قياداته عليه، ممن أبدى جهالة بالغةً وأنانية.
وما زال هذا الجهر بمثل هذه الحقائق غامضاً عند المستعجلين المتهورين، ولا يفهمونه، بل ولا يريدون فهمه، وهذا مظهر من مظاهر محنة دائمة في المجتمع الإسلامي منذ القديم، إذ أن وعي الدعاة ممن نزل إلى الساحة ولبث طويلاً مع العلم والتعليم والإصلاح يترجمه قول صريح لهم يخرج مخرج النصيحة للآخرين، ويكونُ صادراً من أعماقِ بيئة التجريب والمعاناة، لذلك لا يفهمه الطارئ والهامشيُّ والظاهريُّ ومن يلبثُ عند السطح ولا يغوصُ، فيستغربه وينكرهُ ويُكذبهُ، وتلك هي الملاحظة التي لاحظها ابن عقيل الحنبلي ثانيةً فقال:(يخطر بقلوب العلماء نوعُ يقظة، فإذا نطقوا بها وبحكمها: نفرت منها قلوب غيرهم، ولو من العلماء، ولا أقول: العوام)(1).
فالدعاة من العلماء لهم طول تدبر، وتجريب، وغوص إلى أعماق القلوب وأفعالها، فيرون ما لا يرى المستعجل، وإذا أرادوا وصف ذلك لعلماء الظاهر فضلاً عن العوام: استغربوه وأنكروه، وقد لقنتنا الأيام درساً: أن نترفق في عرض المفاهيم الحساسة والتجارب الدقيقة على من لم يحز مثل معاناتنا ومعانينا، ولكنَّ مأساة الدماء هي التي تجبرنا على أن نتجاوز الخطوط الحمراء والحدود الحساسة، ونعلمُ أنَّ أنوفاً ستشمخ إذا قرأت أحرفنا هذه، أو تتوجه إلى صدورنا رصاصات غبية ربما، ومع ذلك نجهرُ بمفاد الوعي تشجيعاً لبقية العقلاء أن يجهروا بالإنكارِ كجهرنا، لعلّ متهوراً يتئدْ.
__________
(1) الآداب الشرعية 1/314.(1/50)
أهو أمرٌ صعبٌ على المتهورين أن يلحظوا توجه خطة أعدائنا من اليهود والأميركان نحو استدراج المؤمنين إلى العنف وقتل المدنيين وإلهاء الدعاة بعضهم بدماء بعض من أجل عرض صورةٍ مشوهةٍ لمعنى الإسلام والدعوة ينفرُ منها المسلمون والكفار معاً؟؟؟
إنَّ التفجيرات التي تقتل المدنيين في فرنسا وإسبانيا وأميركا هي أعمالٌ يستحيلُ أنْ يتم تخريجُها تخريجاً فقهياً سليماً على قواعد الجهاد الإسلامي، والنَفرة التي حصلت في قلوب البشر كلهم من هذهِ الأعمال العنفية هي نتيجةٌ كانت مقصودة عند من خطط لها من رجال المخابرات الأميركية والموساد الذين حرصوا على تشويه صورة الإسلام والمسلمين وكلفوا عملاء مسلمين ليستدرجوا شباباً مخلصين في قمة الإخلاص من أصحاب النوايا الجهادية الذين يعوزهم الوعي والتجريب والفقه ووجدوا فيهم مادةً خاماً يوجهونهم من وراء الستار وهم غافلون، وأحداث الجزائر المريرة التي جرى فيها ارتكاب مذابح بشعة قد ثبتَ ثبوتاً قطعياً عند أهل التتبع أنَّ رجال المخابرات الفرنسية وغيرها هي التي كانت قد خططت لها ومولتها وأغرت الشباب الساذج بارتكابها، وعلى أنغام الأنين الجزائري كانت عيون كبار المخططين الأمنيين تنعسُ لتنامْ.(1/51)
أوَ ليسَ لمستعجلي العراق اتعاظٌ بما حصل من توبةِ الجماعات الجهادية في مصر وتخليها عن طريق القتل العشوائي؟ فقد بات من المعروف المشتهر أنَّ قيادات مجموعات المجاهدين قد نقدت نفسها نقداً صريحاً، ودونت ذلك في كتبٍ منشورة خُلاصتها أنهم كانوا على خطأٍ حين ابتدعوا طريقة قتل الشرطة والسائحين والدخول في مصادمات جزئية مع الحكومات، وآمنوا في الآخر بمثل ما آمن"الإخوان"عند أول خطواتهم باتباع طريق التربية التدريجية وإصلاح المجتمع وحشد الطاقات واستعمال وسائل التخصص والعلوم والمعرفة والسياسة من أجل تكوين كتلةٍ ضخمةٍ في المجتمع ذات فكرٍ وتنظيمٍ وممارسة منهجية خططية، للقيام بضغطٍ شديدٍ عبرَ الإعلام والبرلمان والمنابر السياسية من أجل تطبيق أحكام الإسلام وحفظ مصالح الأمة، فإن نجحوا فبها، وإن ظلمهم ظالمٌ وحجب حق هذه الأكثرية الإسلامية: صاروا عندئذٍ فقط إلى استعمال الأذن الشرعي بإزاحة الظالم، فأين هذا الطريق العقلاني المنهجي من قتل شرطي بريء صاحب عيال، وانفجار سيارة مفخخة في ساحة مزدحمة تترك مئة يتيم يصرخون؟؟ والطرق الخارجية في العراق تملؤها أرتالُ المدرعات الأميركية، فلماذا تتركهم يا سليل الخوارج وتتحول إلينا نحنُ أصحاب رأفة القلوب والدواخل؟؟؟ فلولا سارعَ إلى الانتفاع بالموعظة تقيٌ يختلي مع نفسه يسألها ويحاسبها ويفحص وفق الموازين الإيمانية والشرعية أوامر المفتي الفتى ابن العشرين إليه!!!
إنَّ"الفتى المفتي"هو نقطة الوهن في النسيج العراقي الدعوي الحاضر، ونحن نشكوه إلى الله، وما تقدمّ عن علمٍ ولا لسان، وإنما قدمهُ سلاحٌ بيدهِ، وقلة إنصافٍ أخافت المتعبين من رهقٍ جديد فتركوه يصول، وتلك هي قصة مأساتنا.(1/52)
ومن أقبح الإفتاء المتداول: أنَّ المتهورين يقولون أنهم يقتلون الأبرياء في مثل هذه الأعمال العنفية التي يزعمون أنها جهادية ثم يبعث الله هؤلاء الأبرياء على نياتهم، ويجادلون بان هذا الاستنباط هو فرع من الفتوى المجمع عليها بجواز ضرب المسلمين إذا تترس بهم الكفار وجعلوهم درعاً يتقون به ضربة جيش المسلمين، مما هو مشهور في كتب الفقه. وهذا اجتهاد غريب وتكلف يدل على فهم معوج متسرع، لأن الأمور تدور مع عللها، وفتوى التترس إنما تكون حين يتأكد لدى القائد العسكري الإسلامي أنه إذا لم يضرب جيشَ الكفار المختلط بأسارى المسلمين ومستضعفيهم فان جيش الكفار سيقتحم ديار المسلمين ويقتل من المسلمين أضعاف أضعاف عدد الأسرى الذين تترس بهم وجعلهم درعاً مانعاً، وقد أقام المفتون القضية مقام الضرورات، ورأوا موازنات المصالح فأجازوا قتل العدد الصغير من المسلمين من اجل نجاة العدد الكبير والدفاع عن دين الأمة وبيضة الإسلام وشرف الإيمان، قالوا: ثم يبعث الله المستضعفين القتلى على نياتهم، فهذه فتوى ضرورة إذن لا يتحقق وصفها في حالنا الحاضر عندما تفجر السيارات المفخخة في الشوارع المزدحمة، وهناك قياس مع الفارق كما يقول الفقهاء، إذ لا ضرورة اليوم، والمجال مفتوح لضرب العدو مباشرةً دون التورط بدم مسلم، وكل الأمر قائم على مراوغة يقودها هوى النفس.
(عُمق العلم وتكامل الأداء يعوضان عن القوة
( الاستدراك الخامس: الاعتصام بالعلم، واللواذ بالمعرفة وعبر التاريخ، وعواطف الأدب، وابتسامات القلوب عند ومضات الفنون، مما تجتمع به مكونات الأداء الحضاري، فإننا لسنا أصحاب عروض موسمية ولا حلول سنوية، ولا خاطرات ارتجالية، ولا ثورات مرحلية، بل نحن أصحاب مشروع مدني حضاري سيبلغ عمق الزمن، ونكاد نبصر وصف خطوة جيلين بعدنا، وكأننا نراهم يرفعون طبقة في البناء يرسونها على أساسنا الذي جعلناه لهم متيناً.(1/53)
وإن من المحركات القدرية للحياة: تنوع المناصب والأرزاق، بحيث لا يتاح تنقل المرء من منصب إلى منصب بسهولة، بل يحتاج جهداً ووقتاً طويلاً إن أراد وصمم على الانتقال، وليس كل أحد يملكها، ثم يتعلق الأمر بالذكاء والقابليات الفطرية، فتجتمع الثلاثة لتقذف في قلوب العاجزين اليأس من ذلك، فيترجم اليأس إلى قناعة بالنصيب، يوماً بعد يوم، فتفرض هذه القناعة على صاحبها التجانس مع مجرى القدر ، ويعود إلى استسلام، لكن الطاقة المكبوتة في داخل نفس المستسلم تحركه لإنتاجٍ هو من لوازم استمرار منصبه الذي وضعه القدر فيه، فيكون هذا الإنتاج معلماً واضحاً من معالم تحرك الحياة وحصول النبض فيها، ويتاح تأثير إيجابي يدفع أمثاله من الشركاء له في نوع المنصب إلى الاستفادة من نتاجه، كما يدفع أيضاً أصحاب المناصب الأخرى المغايرة إلى أن يجعلوا نتاجه وسيلة من وسائل إتقان أدائهم لعمل مناصبهم، أو حتى المثابرة ومحاولة الانتقال من منصب إلى آخر أرفع منه، أي من قَدَر إلى قَدَر، لوجود عامل الطموح فيهم، بشكل قوي فوَّار هو أقوى من أن يتركهم إلى استسلام كالذي أحاط بالأول، بل لا يقنعون، فيكون التحدي، وتكون محاولة القفز متغير الموقع، وقد تكون المحاولة في وقت يقل فيه المنافس، ولا تكون زحمة، فتكون إمكانية النجاح، وتتحرك الحياة حركة أخرى، وكل ذلك واضحٌ في أبيات الأديب ثعلب احمد بن يحيى حين يقول:
إنْ صحبنا الملوك تاهوا وعقوا واستخفوا كبراً بحق الجليس
أو صَحبنا التجار صرنا إلى البؤس وعدنا إلى عداد الفلوس
فلزمنا البيوت نستخرج العلم ونملأ به بطون الطروس(1)
__________
(1) الآداب الشرعية لابن مفلح 3/586.(1/54)
فأهل المناصب هنا في هذا المشهد الحيوي ثلاثة: ملك، وتاجرٌ، وعالم، فلما لم يكن ثعلب ثعلباً، وإنما لُقب به مجازاُ ولم تنعقد في ذيله غير خمس لفات لا سبعاً: لم يستطع المناورة وتأسيس حزب ليكون بعد المغامرات ملكاً، كما فعل المنصور الأندلسي مثلاُ وانتقل من طالب علم إلى ملكٍ انتصر في خمسين غزوة غزاها، وأيضاً: لم يستطع ثعلب أن يبخل ويعصر الدراهم سبع عصرات يستخرج دهنها ليكون تاجراً، بل ارتعشت يده في العصرة الرابعة، فرضي بالعلم ومنصب الأدب، فهيج بآدابه وعواطفه قلوب رهط أُدباء، فملأتهم النشوة، ثمَّ حرَّك قلوب رهط طامح أيضاً فولجوا أبواب السياسة فكانوا ملوكاً إذ هو جالس مع صحبه يطرب للشعر، فكان استسلامه سبباً لطموح غيره، فتحركت الحياة.(1/55)
وكل الذي يتغير هنا أننا تبنا من الاستسلام، ومن جعْل علومنا وآدابنا مدارج يصعد عليها الضباط الطامعون من رواد الانقلابات العسكرية، فلطالما حصل غياب دعاة الإسلام عن الساحة واتهموا أنفسهم بعجز وجنحوا إلى توكيل غيرهم ممّن يظنونه أمهر في الحكم والسياسة، وتدبير الاقتصاد، فينحرف ويحتكر الأمر دونهم ويكون ناكراً للجميل ويبني حساباته على أساس إرضاء الأطراف الإقليمية والدولية، وقد آن الأوان لاستقلال الدعاة في خطواتهم، ولكن هذا الاستقلال ينبغي أن نبنيه على أسس العلم وخبرة الواقع، فلماذا لا يكون من الدعاة الخلص من يدرس العلوم السياسية، والاقتصاد، والتخطيط، والإعلام، والتصنيع، والتمويل، والقانون الدولي، والقانون الدستوري، والإدارة العليا، ويأخذ في ذلك الدكتوراه، ويتوصل إلى دوائر التنفيذ العملي والممارسة الواقعية، لتكوين جمهرة واسعة تكون بهم إدارة الدولة العصرية على أتم الوجوه، لتحقيق أقصى الطموح عبر ما يضيفونه من إخلاصهم وعفافهم ونواياهم الطاهرة إلى علومهم وبحوثهم ومعرفتهم الميدانية؟ وتسندهم عند ذلك حملة انتخابية توصل أمثالهم من الدعاة ليكونوا أكثرية في البرلمان، فيكون التكامل ويدفعهم الناس لبناء دولة متقدمة.(1/56)
لسنا بغافلين عن التدخل الأميركي عندئذ، أو الغربي بعامة، أو اليهودي، ولكن خطة هؤلاء الخبراء ستكون فيما نفترض بارعة في التفلت من المجابهات، والمهارة في الالتفافات، وتحقيق مرونة في المواقف تمنع التشنج الدولي، ويكون اللجوء إلى خطوات مدروسة وتدرج مرحلي يؤدي إلى تفويت فرص الحصار والكيد، وكأن الغزو الأميركي للعراق كان هو أوج الخطة الأميركية وبه بلغت المدى الأقصى، ثم سيكون تراجع حِدّة التدخل الأميركي، وبدأت الشعوب تحتاط وتتعاون، بل أن المقاومة الجهادية العراقية للغزوة الأميركية قد حققت نجاحاً اجبر القيادة الأميركية على تبديل الخطط وتحديد موعد للانسحاب هو اقرب مما افترضوه سابقاً، وهذا سيشجع أحرار الأمة الإسلامية على موقف دفاعي مثيل يأبى الاستسلام، ويشجع أحرار العالم على وقوفهم مواقف داعمة، وتلك هي الحقيقة الكبرى التي طرأت في المعادلات الأميركية بعد غزو العراق، ومنها نستفيد.(1/57)
وهذا الحال، ثم طروء هذه الحقيقة التي بدأت تجبر الأميركان على التقلص: تغري الدعوة الإسلامية العراقية أن تستثمر أجواء الديمقراطية مهما كانت ناقصة، وأن تحاول إثبات جدارتها في تحدي التيارات الأخرى عن طريق المشاركة في العملية الانتخابية البرلمانية، وهذه أُمنية سهلة في اللسان والخيال، ولنا أن نتمنى ما نشاء، لكنها صعبة في ساحة الواقع، ولن يكون نيل الأصوات من الشعب ميسوراً، وذلك لأنَّ الشعب العراقي كان محروماً، وأضرت الحروب ثم الحصار بمصالح كل عائلة وفرد، واقترنت بذلك تربية من"صدام"لهم على المصلحية والنفعية والتبعية والخوف والمداهنة، في أنواع أخرى من الأسواء والسلبيات والطبائع الضعيفة، بحيث صار الوعي الانتخابي مضمحلاً، وصار بالإمكان شراء الأصوات، فدخلت الدول الإقليمية على الخط تبذل مالاً وتشتري الضمائر، ودخلت فصائل المتعاونين مع الأميركان على الخط أيضاً، تبذل الوعود بالمناصب والوظائف، وأصبح الأحرار الذين يتمسكون بثوابت الإيمان والشرع وينحازون إلى صف الدعاة والمصلحين أرهاطاً قليلة في كل مدينة مقابل غثاء نفعي يبيع مستقبله بثمن بخس، وزادت المشاعر الطائفية والقومية والجهوية في اختلال المعادلة، حتى بات جلياً لكل داعية مصلح أنَّ الدعوة يجب أن تقدم لحملاتها السياسية بحملات تربوية فكرية ووعظ إيماني ورقابة سلوكية، لعل القلوب تفيق من سكرات الصفقات الخاسرة المعدومة البركة، ولعل النوايا تميل إلى صفاء وبراءة من الشوائب والاختلاطات والنفعيات التي ما أنزل الله بها من سلطان، ثم لعل الأفكار ترجع إلى موازين القرآن ووصايا الفقهاء، وبدون مثل هذه التربية والتصفية لا نستطيع أن نحمل جموع أبناء الشعب على الصمود أمام مغريات الدولار المبذول، وهذا عودٌ على بدء، وانعطاف نحو أول ما كانت عليه المسيرة ، لان الفرصة التي أُتيحت لشيطان أن يفسد كانت طويلة، ولأن الضربات التي تلقاها العراق خلال قرن كامل كانت شديدة(1/58)
الوطأة ذات عرامة ورهق، ولعل الجذر السلبي في العراقي ابن اليوم قد نشأ فيه منذ أيام جده الأول والثاني .
من هنا ينبغي على الدعوة أن تضع في حساباتها اللجوء إلى تحالفات انتخابية، مع الأقرب فالأقرب، ومع الذي لا يتولد مع فوزه ضرر ديني أو ضرر سياسي يكون طويل الأمد. وهذا التوجه بدوره يفرض اللجوء إلى تربية الدعاة أنفسهم على قبول منطق التحالف والمناورة من اجل إبعاد الموغل في الأذى، الذي يحمل مشروعاً استراتيجياً ينظر إلى عمق المستقبل ويستحضر عمق التاريخ، وذلك أن المنافس المرحلي أقل مزاحمة لمشروعنا الحضاري الشمولي، الذي هو بدوره استراتيجي الطبيعة.(1/59)
ومن هنا ذكرنا آنفاً وجوب تطوير مجموعة الدعوة، وصناعة الخبراء، فإن هذا التطوير هو باب الولوج الناجح إلى ميدان السياسة والخدمة العامة، فإن الحكم يُراد له أن يحقق مصالح الناس وأمن البلد وأن يحفظ مصالح العراق العليا ذات البعد الاستراتيجي، من مثل تحقيق اتفاقات نفطية تؤمن أعلى مردود مالي للعراق، إذ تحاول الشركات الأميركية أن تستبد وتشتري نفطنا بثمن بخس ثم تمنعه عمن تشاء من دول أوربا كأداة ضغط، ومن مصلحة العراق أن يسيطر على توزيع نفطه وأن يحقق مع كل الدول تعاوناً متوازناً وموقفاً سياسياً يؤيد قضايانا عبر توفير النفط لها، كألمانيا وفرنسا، ومن مثل الحفاظ على مياه دجلة والفرات بدل أن تتلاعب تركيا بحصة العراق من هذه المياه لتنقذ بها إسرائيل عبر خط مائي يمر عبر سوريا بعد إجراء صلح إسرائيلي معها بضغط أميركي، ومن مثل نقل التكنولوجيا العالمية إلى أرض العراق ومواكبة طموحات نوابغ المهندسين والصناعيين العراقيين الذين أتاح الغزو الأميركي للعراق قتل مئات منهم من قبل الموساد الإسرائيلي، ومن مثل تنمية الزراعة العراقية، وبالذات التوصل إلى تصنيع المنتوج الزراعي عبر التعليب والصناعة التحويلية التي ترفع ثمنه أضعافاً، ومن مثل إلغاء أو تخفيض العقوبات المالية والتعويضات المفروضة على العراق عبر طرق قانونية وسياسية معاً؛ إذ كان هناك جزافٌ في التقدير وظلمٌ أتاحته الأحوال النفسية المصاحبة لعثرة"صدام"في الكويت، فكل هذه المصالح هي مصالح استراتيجية بها ينتظم أمر العراق أو يتأخر، ويضطرب مستقبله إذا لم يدافع عنها رجال دولة من أهل الكفاية والإخلاص والتخطيط السليم، ولذلك ألزمنا أنفسنا نحن قيادات الدعوة الإسلامية في العراق أن نكون نحن الذين نرعى ونحفظ ونصون هذه الحقوق العراقية ذات المدى الاستراتيجي، لما نعلمه من تسيب كثير من الساسة ولينهم ودورانهم في الفلك الأميركي أو الإقليمي، مما أوجب علينا أن ننتدب أنفسنا لهذه(1/60)
المهمة الجبارة وأن ننادي بها جهراً، أو همساً تعليمياً في حملة تربيةٍ وتوعيةٍ للدعاة وجمهور الناس، ووعظنا مكلفٌ بأن يذكرَ آداب الإيمان وموازين الفقه الشرعي، لكن وعظ الفرديين هو الذي يقتصر على ذلك ويجرد كلامه لتفسير آيةٍ أو إسناد حديث، أما الوعظ الدعوي الجماعي فهو فكرٌ متطورٌ يمر بالآية والحديث وقول الشافعي وأبي حنيفة، لكن لهُ عبورٌ إلى مزج ذلك بفقه الواقع ومعادلات السياسة وفنون حفظ هذه المصالح الاستراتيجية للعراق والأمة، ونحن أهل الإخلاص والوفاء، ثم نحن أهل العقول التي لم يخربها خمرٌ وزناء، وأهل النفوس المطمئنة بالصلاة والذكر الحكيم التي لا يعكرها قلقٌ، حتى أصبحت قلوبنا مليئة بالرؤى والأفكار وليست ذات خواء، وأمرٌ عظيم كهذا فيه حفظ حقوق العراق السياسية والنفطية والمالية، وفيه إنماء أحوالهِ الزراعية والصناعية: هو أمرٌ كبير ومهمة جبارة يلزم أن نتوصل إلى تنفيذها عبر تطوعات الدعاة وجميع المخلصين ليكونوا معنا جنوداً في خطة التطوير وتدريب الكفايات وصنع الخبراء، وينبغي أن لا يزدري أحدٌ نفسه أبداً، بل أن تكون له ثقةٌ بنفسه، وأن يقبل تبعات منهجية التدريب والتطوير، بأن يتشاور معنا لتحديد موقعه المقترح في صناعة الحياة، وأن يوقع معنا عقداً على أن يتلف روحهُ عبر عملية التطوير ليسلم دينهُ وعراقهُ الأبي، وذلك يكون بأن يطالع كتباً كثيرة نسميها له، وأن ينصت لمحاضرات نتيح لهُ سماعها، وأن يتخصص ببحث يرجع فيه إلى الإحصاء والمعرفة الميدانية ومدونات العلوم من المراجع المعتمدة، وأن يفكر ملياً في أمر تخصصه ليُدلي بدلوه إذا حضر ندوات نقيمها لهُ ولصحبه أو نرسلهُ إلى مؤتمراتٍ جامعة، ثمَّ أن يصنع له إرشيفاً، ويحاور أقرانه من أهل التخصص، ويظل يكتب ويستعين بوسائل الإعلام لترويج وعيه، ثمَّ يظل بعد كل هذا متهجداً في جوف الليل متغنياً بالقرآن، ليظل رطباً مستقياً من نبع الإيمان، لا يقربه غرور ولا إدلال.(1/61)
والطريق إلى كل ذلك إنما يكون عبر تجاوز اللبث الدائم في المجتمع الدعوي الخاص، بل اللجوء إلى سياحة واسعةٍ في المجتمع العام، وما المجتمع الدعوي إلا مثابةٌ نرجع إليها بعد كل جولةٍ ناجحةٍ لنتشاور ونتزود بجديد الأفكار ونتيح لقلوبنا أن تنعم بلقاء المربين والأقران والأخيار، والوسيلة المفضلة في هذا اليوم الذي تتوفر فيه مقادير من الحرية: أن نصنع لأنفسنا سلسلةً من جمعيات المجتمع المدني، أو أن نمازج ما أوجده غيرنا منها، من أجل تكوين بيئة تخصصية وتوظيف طاقاتٍ سائبة كثيرة أجفلتها طرائق غوغاء"صدام"عن الثقة بحزبٍ ما، فبقيت سعيدة بفرديتها ذاهلة عن الفروقات الكثيرة بين حزبنا الإسلامي وجمهرتنا الدعوية عن الأحزاب العلمانية في الفكر والمنهج والوسيلة والرؤى والأساليب والقادة والرجال، فنحن دعاة الإسلام-ولا فخر-: حزبٌ ولسنا بحزب، وساسةٌ ولسنا بساسة، فنحنُ نمطٌ جديد ومثالٌ نادر، وقد أبعدنا الأفق الإيماني والمدار السامي الذي نحلّق فيه عن الارتباط بكل التعريفات العرفية السائدة بين الناس والاصطلاحات المتبادلة بينهم في وصف فردٍ أو مجموعة، وإنما نحن خلقٌ آخر، وحقيقة ثرية، ومعادلةٌ إصلاحية، ونريد لقلوب أهل العراق أن تنعم بالإيمان وبعطايا التمدن والحضارة بعد أن لذعتهم لذعات الحكم الفوضوي، وذلك هو مستندنا حين نطلبُ من كل مخلصٍ عراقيٍ أن ينتخبنا ويختارنا لتمثيله في البرلمان، مع أنَّ الأمر فيما نفهم هو أوسع بكثير من أداء برلماني وإنما هو إصلاحٌ اجتماعي وذوقي وسياسي، ونهيٌ عن المنكر في صورته الجديدة التي تظهر بمظهر الفساد الإداري المتنوع الأشكال في كثيرٍ من الوزارات ودواوين الدولة، ويتواصل ذلك النهي مع إصلاحٍ آخر لأعمال البلديات، حتى أننا يجب أن نتخذ لمدننا نمطاً معمارياً متجانساً لا يرضى بالنشاز والقبح والاستعارات غير المتجانسة مع بيئتنا التي رسمتها موازين فنون العمارة الإسلامية وانعكاسات الشخصية العراقية(1/62)
بعامة والبغدادية بخاصة، ثمّ يمر إصلاحنا عبر رقابة المستشفيات والمدارس والجامعات والنوادي، وكل ذلك يمكن أن تؤديه عصبةٌ واسعةٌ من الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر الحكومي والإداري، وهذا كلهُ جزءٌ من الخدمات التي يجب أن نقدمها لصالح البلد والشعب، من أجلِ أن يفهم الناس أننا نحن دعاة الإسلام الأجدر بأن نتوكل عنهم وننوب لنقرر في البرلمان ما يمنح مصالحهم بُعداً دستورياً وقانونياً ويثبتها بالأصالة من دون أن تكون هذه الخدمات منحة من سياسي يخادع ورجل دولة يفخر ويجعل ما هو حقٌ للناس منناً يمتن بها وكأنه يعطيها من إرث جدهِ، كالذي كان يفعله"صدام"من تسمية المكرمات الرئاسية الزائفة، حتى ليسفلُ الأمر إلى درجة أن يمنح"دجاجةً مفردةً في القائمة التموينية الشهرية"ويعدّها من مكارم جده السابع عشر.
وبموازاة هذه الخدمات التي ينبغي أن يقدمها الدعاة للناس، والتي هي من أجلى الدروس المستفادة من أساليب هيئة الإنقاذ الإسلامي في الجزائر: ينبغي أن تكون جمهرة عريضة من القانونيين الإسلاميين الذين يتقدمون بمشروع الدستور الإسلامي، ومشاريع ما يتفرع عنه من قوانين مدنية وتجارية وجنائية، مع القيام بحملات ترويج لهذه المعاني الدستورية عبر الصحف والفضائيات والندوات والمحاضرات والمظاهرات السلمية والمهرجانات الشعبية والمسيرات الضاغطة، بحيث لا يتوقف الأمر على تقديم مشروع دستور فقط يمكن أن ننجزه خلال أسبوعين، بل على شاكلة مواصلة البشارة والنذارة، بأن نبشرهم بعدل الإسلام وأحكام الشريعة الغراء، وننذرهم أن الإتيان بشكلٍ علماني جديد يكرر الشكل العلماني البائد إنما هو مغالطةٌ كبرى ستؤدي إلى نفس النتائج وتبقينا ندور في الدائرة المغلقة ذات الكدر.(1/63)
ويتزامن مع هذا الأداء أداءٌ آخر لمجموعةٍ من الدعاة والأخيار والأنصار يتجردون للدفاع عن حقوق الإنسان المسلم، وحقوق الإنسان غير المسلم أيضاً، بحيث يتصدون لكل ظالم، وينتصرون لكل مظلوم، وفرقُ هذا العمل عن الحملة القانونية أنه هنا يتجسد في صورة قصص واقعية وأحداث تدور في زوايا المحاكم والسجون ومراكز التحقيق ودور المخابرات والشرطة والجيش، فنتخذ من وسائل الإعلام أداةً لكشف كل عدوانٍ والمطالبة برفع الحيف عن كلّ مستضعف.
ومجال الفن والأدب ينبغي أن يكون ظهيراً لكل ذلك، فيتخذ الدعاة من معنى(الحرية)مطلباً وهدفاً يروجون له بالكلمة والقصة والشعر والفن التشكيلي والفلم التسجيلي والفلم المُمثَّل، وينبغي أن يضيف كل داعية فنان أو أديب عشرةً من العراقيين أصحاب الأداء الفردي، يظاهرونه ويتكلمون بمثل ما يتكلم ويرسمون مثل ما يرسم، لتتطور الإشارات الدعوية والمعاني الرمزية التجريدية إلى ظاهرة عامة ولغة شعبية ذات أشكال معبرة وألوان تتقاسم الإيحاء والتأثير، فتموج القلوب، لتتحرك الحياة.(1/64)
والدرس المستفاد من كل ذلك أنَّ طبائع الأداء الدعوي يجب أن تتطور، ويجب أن ينهي الدعاة ظاهرة الانكفاء على أنفسهم، وما في ذلك من عزلةٍ ولبثٍ في المحيط المسجدي فقط، لينزلوا إلى محيط الناس الواسع ومجتمعات المثقفين والفقراء وأهل المدن والحواضر ثمّ أهل القرى والأرياف والبداوة، وأن يركزوا على ترشيح أنفسهم كقادة للناس يعلمونهم المنهجية والتخطيط والعمل التعاوني والجمعي والنقابي، وأن يكونوا في مقدمة جمهرة الطاقات الكثيرة السائبة في كل هذه الميادين والتي هي أضعاف الطاقة الدعوية، فالداعية نقطة ارتكاز محورية تدور حولها نقاط محيطية كثيرة، وفي مثل هذه العمليات والامتزاج بالبيئة الشعبية وبالذكاء السائب وعبر تجمع الخبرة المتناثرة: سيتكون تيار إسلامي عام قادته هم الدعاة الذين يستثمرون ظاهرة الولاء، وتكرار هذا الأداء هو المصعد الطبيعي السليم لصناعة رجال الدولة الإسلامية، الذين سيكون منهم الوزير والسفير والمدير، وقلة عددهم اليوم في المحيط الدعوي يمثل اكبر مظاهر النقص في عملنا السياسي، والاستدراك إنما يكون بمثل هذه المشاركة في الحياة العامة، وإلا فإن الأزمة ستبقى .
(عواصف الفكر صناعة أَسَّسها السلف(1/65)
( الاستدراك السادس: إتقان الإبداع، وجعل تعليمه علامة بارزة في منهجية تربيتنا الدعوية، فقد ذهب عهد الاكتفاء بالتلقين المجرد وحمل الاتباع على التقليد المحض، وغرس الإعجاب بالرؤساء وانتظار أوامرهم وتعليماتهم، فتلك اتكالية تفسد التلامذة وجنود الدعوة، وفيها تفويت لفرص جزئية كثيرة طيبة مباركة مبثوثة في زوايا الساحة العريضة يعلمها الداعية القريب منها ويؤذن له أن يستثمرها إذا ربيناه على النزعة الابتكارية الإبداعية وجعلناه يثق بنفسه ويقتحم المجهول، ولا يعلم تلك الفرص الصغيرة من كان قائداً يعتني بالمجمل والعموميات والأعمال الجامعة، مهما كان هذا القائد ذكياً ألمعياً ملهماً، بل من الظلم أن نكلفه بذلك حتى لو استطاع، لأنها تشتت جهده وتذهله عن ضبط مسيرة كل الكتلة الدعوية، وقد جعل الله لكل شيء قدْرا، وأقدار القادة أن يتعاملوا مع كبار القضايا، وأقدار الاتباع أن يتعاملوا مع الأمثلة الجزئية والصور المتناثرة، حتى صار التنفيذ والإبداع فيه صنعة خاصة لجيل من الدعاة كثير العدد في كل بلد، ولو أردنا من القياديين ممارسة هذا التنفيذ لأشكل الأمر عليهم وما عرفوه، والعكس يصح أيضاً، فإنك لو طلبت من التنفيذي رؤية شمولية للساحة أو نظراً استراتيجياً لعجز وأتى بالغرائب، لضعف صنعة التحليل والتركيب لديه، ولافتقاده عناصر الربط بين المقدمات والنتائج، وكل ميسرٌ لما خلق له، والتكامل بين الفريقين أسلك سبيلا.(1/66)
لكن من شرط وصول الجميع إلى الإبداع والمهارة فيه أن نوفر مجالاً حوارياً جدلياً حراً لكل رهطٍ من الأقران، بحيث نعفيهم من ضمانهم لصواب أقوالهم، بل ندعهم يفكرون بصوتٍ عالٍ، ويذكرون ما يظنونه صواباً، من دون منح أنفسنا حقاً في لومهم وتقريعهم وإعابة منحى تفكيرهم، فإنَّ الإبداع لا يتأتى مع الكبت والزجر والسخرية، مما يجعلنا نسوغ طريقة الإبداعيين في"العصف الذهني"، وهي جلسات يحضرها العشرون والثلاثون، ونرفع عنهم الأحكام العرفية وقوانين الطوارئ، ونتركهم يفكرون في القضية بعد القضية تفكيراً لا تقيده أوصاف الموضوعية ولا حدود المنطقية ولا ارتباطات الواقعية أو إذعانٌ لأرقام إحصائية، لينتج من التفكير الفوضوي الخيالي المطلق الجزافي عددٌ كبير من الاقتراحات والأفكار الجزئية حول تفاصيل القضية المبحوثة، ثمَّ بعد ذلك ترجع المجموعة بقيادة الأرشد الأفقه إلى تصفية رُكام القول، واستخلاص ما هو منطقيٌ منهُ ويتجانس مع حقائق المحيط والنمط المنهجي، وهذه طريقةٌ عامرةٌ في العالم، ضامرةٌ في العراق، لأنَّ الحاكم الفردي شاء أن يحرمَ أهل العراق من أدوات الاجتهاد والإبداع، لئلا يتمردوا عليه ويحَدّثوا أنفسهم بثورةٍ عليه، فَساقهم سَوقاً، وحرمهم من حوارٍ ونقدٍ ذاتي، ومنع التناجي الخيري العلمي، فحصل الانغلاق وتحجرت أنماط التبعية العمياء التي لا يؤذن لها أن تقارب رُشداً أو نوع ابتكار، ومن اللائق أن تنتبه التربية الدعوية لمثل ذلك، فتمارس أساليب الإبداع داخل الصف، ثمَّ مع بقية أنصار الدعوة من رواد المساجد والمتحلقين حولها في دائرة الهالة الواسعة المُنيرة حول قمرها الفكري، وبذلك يكون من الممكن أن نفجر ما في دواخل أنفس أجيال المؤمنين العراقيين من طاقةٍ كامنةٍ تتخذ من الاختراع والإتيان بالطريف ديدناً وطريقةً للاستدراك على ما فات، ثمَّ اللحاق ببقية الشعوب والأمم والسير بموازاتها والاقتباس من نجاحاتها.(1/67)
وطريقة"العصف الذهني"عند أهل الإبداع صحيحة في مجملها، ولها عاضد من التجريب الذاتي في ممارساتنا، ثمَّ وجدتُ لها اصلاً وجذراً في طرائق أئمتنا من السلف المجتهدين المبدعين، وذلك واضح فيما(قال سفيانُ بن عُيينة: مررتُ بأبي حنيفة وهو مع أصحابه في المسجد وقد ارتفعت أصواتهم، فقلتُ: يا أبا حنيفة: هذا في المسجد والصوت لا ينبغي أن يُرفع فيه؟
فقال: دعهم، لأنهم لا يفقهون إلا بهذا)(1).
والشاهدُ في قول أبي حنيفة: لأنهم لا يفقهون إلا بهذا، فهو صريحٌ في أنه يؤمن بأنَّ رفع الصوت ضرورة لحصول ومضات الفقه، ورفع الصوت هنا إنما هو كناية عن كتلة من التحديات والاعتراضات المتأججة بين أصحاب أبي حنيفة، والردود والتوهيم والافتراق والموافقة، بحيث ينطق الكل في وقتٍ واحد، أو تعاقبٍ سريع، فتنشأ ضوضاء وصيحات مختلطة، يبرز من بين عنفوانها الصواب الإبداعي الاجتهادي، وتلك هي صفة"العصف الذهني"لمن ذاقها، وهي بضاعة إسلامية إذاً رُدتْ إلينا، ونحن أولى بها من أميركي وأوربي وياباني.
وليس من وصف الإبداع الناجح أن يتناول حتماً قضيةً كبيرةً أو أن يكتشف سراً خطيراً، بل في كثير من يوميات الحياة المنسابة قابلية لأنْ تجر صاحبها إلى إبداع فيها، ومن ابرز أمثلة هذا الإبداع الذي تجلى لي عبر اطلاعاتي التاريخية خبر فقيهٍ مصري قبل قرنين كان يحرص على تعليم العامة السُذج البسطاء أُصول الإيمان، هو الشيخ العلامة مصطفى العقباوي المالكي، فقد كان(إنساناً حسن الأخلاق، مقبلاً على الإفادة…متورعاً متواضعاً، ومن مناقبه أنه كان يحب إفادة العوام، حتى أنه كان إذا ركب مع المكاري: يعلمه عقائد التوحيد وفرائض الصلاة)(2).
__________
(1) الآداب الشرعية 3/397.
(2) تاريخ الجبرتي 3/145.(1/68)
وقد جهل كثير من عامة أهل العراق، ولا ينفع إلا أن ننزل إليهم نعلمهم في أسواقهم ومجالسهم وبيوتهم، ونبدي خطة إصلاحية تربوية تعليمية وعظية تعيد الناس إلى الإيمان والأخلاق والصلاة، وأن نرحل إلى البادية والقرى، وأن ندخل المحلات الشعبية الفقيرة، ونمنع الدعوة أن تكون نُخبوية تُربي المثقفين فقط .
لكن المكاري البغدادي كان يوماً ما صاحب فقه، وكانت بعض أزقة بغداد القديمة تنقطع إذا نزل المطر الغزير وتتكون بُحيرة تمنع مرور الناس، فتنشط مهنة الحمالين الذين يحملون العابرين على ظهورهم، وكان الأخ أبو أديبة سلفي النزعة، وشاركني في الأخذ عن شيخنا عبد الكريم الصاعقة، فلما استوى على ظهر الحمال قرأ"سبحان الذي سخّر لنا هذا وما كنا له مقرنين"، وذهل عن أنَّ هذا المكاري من أهل الفقه-وليس مثل مكاري مصر-، فقال له الحمال المكاري التاكسي: أعِد، فأعاد الدعاء، فقرأ الحمال"وإنا إلى ربنا لمنقلبون"ثم أمال كتفه، وقلب أبا أديبة في الماء، وكان أستاذنا شاعر الإسلام وليد الأعظمي يروي لنا هذه النكتة الطريفة مراراً، فإن كانت حقيقة فهي إبداع من المكاري العراقي يحملنا على تربيته وتنظيمه واعتماده في خطتنا الدعوية، وإن كانت مخترعة فهي إبداع وليدي يحملنا على أن نقرأ شعره ونعظ أنفسنا به ونعيد سيرته، فقد كان-رحمه الله-جليس الفقراء ومعلمهم، وأحرى أن نجعل سيرته منهجاً دعوياً يصحح معادلة النخبوية.
(خصوصية القضية العراقية ذات الدماء الزكية
( وسابع الاستدراكات: نتركهُ لفراستك ولا نبوحُ به، ولا نعلّمك إياه، ولكنك تستطيع استنباطه من فحوى استشهاد آخر خمسة شهداء اغتالتهم يد الغدر من أعضاء الحزب الإسلامي العراقي: الأخوة الأبطال..
قحطان كاظم الربيعي
و
محمد نوري الكبيسي
وبالبصرة
عبد المجيد عبد الودود و قُصي عبد الحميد
وآخرهم
عبد الصمد الأعظمي(1/69)
رحمهم الله تعالى، فقد دخلوا سجل الشرف خلال الشهر الأخير الذي سبق نشر هذه الرسالة، وأنا أذكر جيداً يوماً من أيام سنة 1963م رأيتُ فيه شاباً صغيراً يافعاً أتى للصلاة في جامع أبي حنيفة بالأعظمية في بغداد أول رمضان، فأرسلتُ له بعضَ من معي، فلاطفوه، فشافهته في اليوم الثاني وأثرتُ فيه العاطفة، فكانت منه تلبية وعرّفني باسمه أنه"عبد الصمد"، وصار تلميذاً لي، وعاهد، ثمَّ كان منه الوفاء بعد أربعين سنة ولقي ربه مضرّجاً بدمائه بعدما اكتال من التسبيح والتهليل والذكر، فقد مالَ نحو العبادة ميلاً عظيماً، وصار روحاني المشرب، وإني لأظنه وأصحابه في عِلّيين.
وفي قصصهم عبرة تضاف إلى فقه الدعوة العراقي: أنَّ القضية العراقية معقدة جداً، وفي لغتها دماء، ولذلك لا يفهمها حق فهمها غير عراقي.(1/70)
وكنتُ قد دعوتُ في العدد الأول من مجلة"الإسلام اليوم"لأخي سلمان العودة إلى ضرورة(فهم سلوكيات الدعوة الإسلامية في العراق في مرحلة الاحتلال الأمريكي أمام حشد من المتناقضات التي تعج بها الساحة، فواضح أنَّ العراق يعيش حالة انقسام مذهبي وقومي، وأنَّ التيارات السياسية فيه عديدة ومتعادية بعنف أحياناً، وأنَّ الطبيعة الثورية في السياسة العراقية جعلت لجوء الأطياف المتصارعة إلى استعمال السلاح والاغتيال أمراً مألوفاً، فوق ما هناك من تأثيرات أقليمية من دول مجاورة تقوم نشاطات مخابراتها في الأرض العراقية مقام أحزاب وأطياف تزيد الوضع إشكالاً وغموضاً وصراعاً، فمثل هذه الحالة المتشابكة لا يفهمها غير عراقي فهماً يستطيع أن ينافس فهم الداعية العراقي الذي يمارس في الساحة ويتعامل مع أشياء ومؤثرات لا تكتب ولا يصرح بها يجهلها من هو خارج العراق، ومن هنا فإنَّ التقدير الصحيح للموقف يحتاج مقادير من تفويض الدعاة في أقطار الأمة الإسلامية لإخوانهم داخل العراق أن يختاروا ما يناسبهم وأن يحسنوا الظن بهم وبموازناتهم المصلحية وبتقديراتهم للضرورات التي تلجؤهم في ظاهر الأمر إلى خلاف ما يرغب به كل داعية مسلم، ومثل هذا الحال من استغراب غير العراقي للاختيارات الدعوية العراقية يثير ألماً في نفوس دعاة العراق الذين يكتوون بنيران متعددة داخلية هي أشد حماوة من نيران المستعمر الأمريكي، بل أتاحت مواقع الإنترنت وسهولة الدخول إليها مجالاً خصباً لكل ناشئ لم ينضج بعد أنْ يكيل التهم الجزاف-وربما المسبة-لدعاة العراق الذين يناورون ويحاولون الالتفاف الذكي على منغصات اجتماعية وسياسية تواجههم، وقد يزايد هؤلاء الشباب المستعجلون على قدماء الدعاة العراقيين ويتقدمون لهم بمواعظ تدعوهم إلى توبة وإلى رؤية بديهيات يتجاوزها الداعية من أول سنة من سنوات تربيته الدعوية، وفي مثل بيئة نجد والحجاز والأحساء حيث تسود العقيدة السلفية النقية: يكون(1/71)
استغراب السلوك الدعوي العراقي أكثر وأقوى، تبعاً لظاهر النصوص التي يلجأ إليها التوجه السلفي، لكن لو علم هذا التوجه السلفي بطبيعة التوجه الدعوي العراقي لكان أقرب إلى حسن الظن وإلى التأول لدعاة العراق، وذلك لأنَّ التوجه الغالب في الطبيعة الدعوية العراقية هو التوجه السلفي أيضاً وإن سُميت المجموعة الدعوية الأكبر باسم آخر غير اسم السلف، مما هو امتداد للدعوة العالمية الواسعة، فمنذ نشأة هذا التوجه الدعوي العراقي بعد الحرب العالمية الثانية كان سلفي المعتقد، واتخذ له من كتب شيخ الإسلام ابن تيمية ثمّ ابن القيم منهجاً تربوياً واضحاً، وتلمذ جيل التأسيس آنذاك الذين هم قادة الدعوة اليوم لمشايخ السلف العراقيين كأمثال فضيلة الشيخ عبد الكريم الصاعقة وعبد الوهاب ملوكي في بغداد وعلى مشايخ آخرين في الزبير من أصول نجدية، وعلى أفاضل من علماء السلف في الموصل أودعوا في مثل شخصية محمد محمود الصواف-رحمه الله-ميلاً سلفياً واضحاً، ثمَّ ما كان من أثر الدكتور محمد تقي الدين الهلالي المغربي-رحمه الله-من أثر في ترويج المفهوم السلفي في العراق والتفاف الجيل الدعوي الأول حوله لسنين طويلة خلال مدة إقامته في العراق، ولهذا فإنَّ قادة الدعوة اليوم في العراق حين يتخذون مواقفهم السياسية يكون منهم استحضار للنصوص الشرعية ولاختيارات أئمة السلف القدماء يتوازى تماماً مع استحضار جيل السلف الحاضر في نجد والحجاز، وما هو ببعيد عنه، والفرق ينحصر في أنَّ العراقي تحيطه ضرورات يكتوي بنارها، وتقوم عنده موازنات يذهل عنها غير العراقي، فيفتي العراقي نفسه بشيء مغاير لرغبات من هو بعيد عن الساحة، فماذا نقول مثلاً في جهاز الدولة الذي يعاد تأسيسه في زمن الاحتلال: أيليق بجمهرة الدعاة أن تقاطع الوظيفة الحكومية ليحتكرها المنافس فقط؟ وهل يليق بمثل هذا التعفف أن تُترك القوات المسلحة من جيش وشرطة واستخبارات ليحتكرها المنافس أيضاً؟ فالقول(1/72)
بالمفاصلة والتعالي على التعامل مع المحتل الأمريكي يجعل الطاقات الواسعة المتاحة عبر الوزارات والقوات المسلحة والجامعات موظفة توظيفاً كاملاً ضد التوجه الإسلامي النقي في العراق، ويجعل لإيران-مثلاً-مكانة واسعة في الانتفاع من هذا الصدود والعمل بحرية، ويتيح للأفكار المتطرفة أن تهزم أصحاب الفكر الإسلامي الصحيح، وفي هذه النتائج السلبية ما يحمل دعاة الإسلام على التحايل والرضا بأقل الشرين عند التعامل من أجل الالتفاف على المصاعب، ويزداد ذلك وضوحاً إذا علمنا أنَّ الإدارة الأمريكية جاءت إلى العراق بدون تصور واضح عن طبيعة المجتمع العراقي وتناقضاته، ونرى فيها أكثر من مدرسة وأكثر من تأول، وهو ما جعل هذه الإدارة تتخبط أول مجيئها عبر ظنها وجوب الاقتراب والتعاون مع خطوط ترتضيها إيران، ومن أجل كسب إيران أيضاً وتحييدها والشعور بعدم الحاجة إلى الدخول في صراع معها إذا رضيت بهذه الخطة الأمريكية، ولكن ما حدث وآل إليه الأمر بعد سنة من الاحتلال أودع قناعة أخرى لدى الأمريكان بأنَّ هناك حقائق عراقية تدعو إلى ضرورات الموازنة وحفظ حقوق العراقيين جميعاً، وزادت المقاومة العراقية العنيفة من هذه القناعة في نفوس صُناع القرار الأمريكي، وأنهم لا يستطيعون تجاوز حقائق الصراع العراقية، فماذا عسى داعية له ظاهر الأمر يعيش خارج العراق أن يدرك من هذه التحولات وأسبابها وحجم تأثيرها في المعادلات العراقية؟ نحن نزعم أنه لا يفهم الكثير من ذلك مهما بلغ من علم أو من اطلاع على تصريحات السياسيين ومن نقول إعلامية، فهناك دائماً وراء التلال ما لا يراه إلا شخص محلي، أو آخر يتمكن من معرفة ما كان وراءها في الماضي البعيد والقريب، فيشرع بتخمينات عن طريق القياس تقربه من معرفة ما لا يراه، وهذه صنعة يحتكرها العراقي، وما هو بمتكبر ولا زاهد في وصايا إخوانه وفي تحليلات يمكن أن يهديها له دعاة يعيشون في العالم الواسع، ولكن إهداء هذه(1/73)
التحليلات يعين ويقرب لدى العراقي الرؤية الكاملة الشاملة؛ ولا تستطيع أن تحمل هذه التحليلات-إذ هي ظن فقط-على أن يلغي الداعية العراقي ما تراه عينه أو تلمسه يده أو ما قارب الدقة من قياساته التي يبنيها على تراثه التجريبي الخاص.
إنَّ هذا المثل للقضية العراقية وملابساتها ولحاجة الوعي الدعوي العام إلى قول عراقي فيها، يعطينا قناعة بأنَّ صنعة إتقان اكتشاف الوعي الدعوي والسياسي-بخاصة في مرحلة ما بعد التعميم-إنما هي صنعة مهمة لا زال ينتظرها الكثير من التفصيل والقول التخصصي، وكذلك هي بحاجة إلى ثقة بقدماء الدعاة وبقولهم، ثم بحاجة إلى أن يفوض جيل الصحوة قادتهم مساحة كبيرة من القول يكون فيها تأول المخضرمين نافذا( ( ((1/74)