وقال تَعَالَى:
{كلَّمَا أَرَادوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أعِيدوا فِيهَا وذُوقُوا عَذَابَ الحَرِيق} . [22-الحج-22] .
وَقَالَ الإِمام أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ، حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي السَّمْحِ، عَنِ ابْنِ حُجَيْرَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ في أهل النار:
"إن الحميم ليصب على رأس أحدهم، فينفذ من الجمجمة، حتى يخلص إلى جوفه، فيسلب ما في جوفه، ثم يَمْرُقَ مِنْ قَدَمَيْهِ".
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ، وَالطَّبَرَانِيُّ: وَاللَّفْظُ لَهُ مِنْ حَدِيثِ قُطْبَةَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عن الأعمش، عن شهر بْنِ عَطِيَّةَ، عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"يُلْقَى عَلَى أَهْلِ النَّارِ الْجُوعُ، فَيَعْدِلُ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْعَذَابِ، فَيَسْتَغِيثُونَ بِالطَّعَامِ فَيُؤْتَوْنَ بِطَعَامٍ ذي غصة، فيذكرون أنهم كانوا يستغيثون في الدنيا بالشراب، فيستغيثون بالشراب، فيؤتون بالحميم، في أكواب من نار، فإذا أدنيت من وجوههبم قشرت وجوههم، فإذا أدخلت بطونهم قطعت بطونهم، فيستغيثون عند ذلك، فيقال لهم: {أوَ لَمْ تك تَآتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} . [40-غافر-50] .
فيقولون: بلى: فيقال: {فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} . فَيَقُولُونَ: ادْعُوا لَنَا مَالِكًا(2/179)
فَيَقُولُونَ: {يَا مَالِكُ لِيَقْض عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ} . [43-الزخرف-77] .
فيقولون: {ربَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكًنّا قَوْماً ضَالِّينَ} . [23-المؤمنين-106] .
فيقال: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلاَ تكَلِّمُونِ} . [23-المؤمنين-108] .
رواه التِّرْمِذِيُّ: عَنِ الدَّارِمِيِّ، وَحَكَى عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: الناس لا يعرفون هَذَا الْحَدِيثَ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: إِنَّمَا يُرْوَى عَنْ أبي الدرداء.(2/180)
طَعَامِ أَهْلِ النَّارِ وَشَرَابِهِمْ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
{لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٌ لاَ يسْمِنُ وَلاَ يُغْنِي مِنْ جُوع} . [88-الْغَاشِيَةِ-6-7] .
وَالضَّرِيعُ: شَوْكٌ بِأَرْضِ الْحِجَازِ يُقَالُ لَهُ: الشِّبْرِقُ، وَفِي حَدِيثِ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا:
"الضَّرِيعُ: شَيْءٌ يَكُونُ فِي النَّارِ، يُقَالُ: يُشْبِهُ الشَّوْكَ. أَمَرُّ مِنَ الصَّبْرِ، وَأَنْتَنُ مِنَ الْجِيفَةِ، وَأَشَدُّ حَرًّا مِنَ النَّارِ، إِذَا طَعِمَهُ صَاحِبُهُ لَا يَدْخُلُ الْبَطْنَ، وَلَا يَرْتَفِعُ إِلَى الفم، فيبقى بين ذلك، ولا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ"، وَهَذَا حَدِيثٌ غريب جداً.(2/180)
وَقَالَ تَعَالَى:
{إِنَّ لَدَيْنَا أنْكَالاً وَجَحِيماً وَطَعَامَاً ذَا غصَّةٍ وَعَذَاباً أَلِيماً} . [73-المزمل-12-13] .
وقال:
{واسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ مِنْ وَرَائِهِ جَهًنّمُ ويئسقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} . [14- إِبْرَاهِيمَ-15-17] .
وَقَالَ تَعَالَى:
{ثمَّ إِنَّكُمْ أيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ لآكلُونَ مِنْ شَجَر مِنْ زَقوم فَمَالِئُونَ مِنْهَا البُطُونَ فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيم فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيم هذَا نُزلهُمْ يَوْمَ الدِّين} . [56-الواقعة- 51-56] .
وقال تعالى:
{أذلِكَ خَيْرٌ نزُلاً أَمْ شَجَرَة الزَّقوم إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخرجُ فِي أصْل الْجَحِيم طَلْعُهَا كَأنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِين فَإِنَّهُمْ لآكلونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِنْ حَمِيم ثمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإِلى الْجَحِيم} . [37- الصَّافَّاتِ-62-56] .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: حَدَّثَنَا صَفْوَانُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بِشْرٍ الْيَحْصُبِيِّ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي قَوْلِ الله تعالى:
{وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ} .(2/181)
قَالَ: "يُقَرَّبُ إِلَيْهِ فَيَتَكَرَّهُهُ، فَإِذَا أُدْنِيَ مِنْهُ شَوَى وَجْهَهُ، وَوَقَعَتْ فَرْوَةُ رَأْسِهِ فِيهِ، فَإِذَا شَرِبَهُ قَطَّعَ أَمْعَاءَهُ. حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ دُبُرِهِ".
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
{وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أمْعَاءَهُمْ} . [47-محمد-15] .
ويقول الله تَعَالَى:
{وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثوا بِمَاءٍ كَالمُهْل يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ} . [18- الكهف-29] .
رواه الترمدي: عن سويد بن نضر، عن المبارك، به نحوه وقال: حسن غريب ... وفي حديثأبي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ. {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتنَّ إِلاّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} . [3-آل عمران- 102] .
فقال: "لَوْ أَنَّ قَطْرَةً مِنَ الزَّقُّومِ قُطِرَتْ فِي بحار الدنيا، لأفسدت على أهل الدنيا مَعَايِشَهُمْ، فَكَيْفَ بِمَنْ يَكُونُ طَعَامُهُ".
رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ: عَنْ مَحْمُودِ بْنِ غَيْلَانَ، عَنْ أَبِي دَاوُدَ، قال: حَسَنٌ صَحِيحٌ.. وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، مِنْ حديث شعبة به وَقَالَ أَبُو يَعْلَى: حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُوسَى الْأَشْيَبُ، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ، حَدَّثَنَا دَرَّاجٌ أَبُو السَّمْحِ، أَنَّ أَبَا الْهَيْثَمِ حَدَّثَهُ: عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
"لَوْ أَنَّ دَلْوًا من غساق يهراق في الدُّنْيَا لَأَنْتَنَ أَهْلُ الدُّنْيَا".(2/182)
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ: مِنْ حَدِيثِ دَرَّاجٍ، وَعَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ أَنَّهُ قَالَ:
"إِنَّ اللَّهَ لَيَنْظُرُ إِلَى عَبْدِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهُوَ غَضْبَانُ، فَيَقُولُ: خُذُوهُ، فيأخذه مئة أَلْفِ مَلَكٍ، أَوْ يَزِيدُونَ، فَيَجْمَعُونَ بَيْنَ نَاصِيَتِهِ وَقَدَمَيْهِ، غَضَبًا لِغَضَبِ اللَّهِ، فَيَسْحَبُونَهُ عَلَى وَجْهِهِ إلى النار، فالنار أَشَدُّ غَضَبًا مِنْهُمْ بِسَبْعِينَ ضِعْفًا، فَيَسْتَغِيثُ بِشَرْبَةٍ، فَيُسْقَى شَرْبَةً يَسْقُطُ مِنْهَا لَحْمُهُ وَعَصَبُهُ، وَيُكَدَّسُ فِي النَّارِ، فَوَيْلٌ لَهُ مِنَ النَّارِ".
وَعَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: "هَلْ تَدْرُونَ مَا غَسَّاقٌ? قالوا: لا، قال: إنه عين في جهنم، تسيل إليها حمة كل ذي حُمَةٍ، مِنْ حَيَّةٍ أَوْ عَقْرَبٍ، أَوْ غَيْرِ ذلك، يستنقع، يؤتى بِالْآدَمِيِّ فَيُغْمَسُ فِيهِ غَمْسَةً وَاحِدَةً، فَيَخْرُجُ وَقَدْ سقط جلده عن العظام، ويعلق جلده ولحمه في كعبه، فَيَجُرُّ لَحْمَهُ كَمَا يَجُرُّ الرَّجُلُ ثَوْبَهُ".(2/183)
ذكر أحاديت وَرَدَتْ بَأسْمائِهَا وبَيَان صحيح ذلِك مِنْ سَقيمه
الهاوية: قال ابن جريج: أسفل درك في النار، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
{وَأَمَّا مَن خفَّتْ مَوَازِينُهُ، فَأمُّهُ هاوِيَةٌ} ، [101-القارعة-8] .
قيل: فأم رأسه هاوية: أي ساقطة، من الهوى في النار.
كما ورد في الحديث: "إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله، يهوي بها في النار سبعين خريفاً". 1
__________
1 حديث صحيح رواه أحمد في مسنده 6214، 7945- معارف. ورواه الترمذي 3- 260. والبخاري 11/265-267- فتح. ومسلم 2- 390. والمنذري في الترغيب والترهيب 4-9. غريب اللغة: سبعين خريفا: أي عاما قال ابن الأثير: الخريف الزمان المعروف من فصول السنة ما بين الصيف والشتاء.(2/183)
وفي رواية: "أبعد ما بين المشرق والمغرب".
وقيل: المراد بقوله: فأمه هاوية: أي الدرك الأسفل من النار، أو صِفَةُ النَّارِ مِنْ حَيْثُ هِيَ وَقَدْ وَرَدَ الحديث بما يُقَوِّي هَذَا الْمَعْنَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُوسَى بْنِ مَرْدَوَيْهِ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَالِدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ رُسْتُمٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ طَاهِرِ بْنِ أَبِي الدميك، حدثنا إبراهيم بن زياد، حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ عَبَّادٍ، حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ المسيب: أنه سمع ثابت الْبُنَانِيَّ يُحَدِّثُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"إِذَا مَاتَ المؤمن يسألونه ماذا فَعَلَ فُلَانٌ? مَا فَعَلَتْ فُلَانَةٌ? فَإِنْ كَانَ مَاتَ وَلَمْ يَأْتِهِمْ، قَالُوا: خُولِفَ بِهِ إِلَى أُمِّهِ الْهَاوِيَةِ، فَبِئْسَتِ الْأُمُّ، وَبِئْسَتِ الْمُرَبِّيَةُ، حَتَّى يَقُولُوا: مَا فَعَلَ فُلَانٌ? هَلْ تَزَوَّجَ? مَا فَعَلَتْ فُلَانَةٌ? هَلْ تَزَوَّجَتْ? فَيَقُولُونَ: دَعُوهُ يَسْتَرِيحُ فقد خرج من مركب".
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، حدثنا ابن مسور، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الْأَشْعَثِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَعْمَى، قَالَ: "إِذَا مَاتَ الْمُؤْمِنُ ذُهِبَ بِرُوحِهِ إلى أرواح المؤمنين، فيقولون: زوجوا أَخَاكُمْ، فَإِنَّهُ كَانَ فِي غَمِّ الدُّنْيَا، قَالَ: ويسألونه ما فعل فلان? فيقول: مات، أو ما جَاءَكُمْ? فَيَقُولُونَ: ذُهِبَ بِهِ إِلَى أُمِّهِ الْهَاوِيَةِ".(2/184)
وَرَوَى الْحَافِظُ الضِّيَاءُ: مِنْ طَرِيقِ شَرِيكٍ الْقَاضِي، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ زَاذَانَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"الْقَتْلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُكَفِّرُ الذُّنُوبَ كُلَّهَا أَوْ قَالَ: يُكَفِّرُ كُلَّ ذَنْبٍ إِلَّا الْأَمَانَةَ، يُؤْتَى بِصَاحِبِ الْأَمَانَةِ فَيُقَالُ لَهُ: أدِّ أَمَانَتَكَ، فَيَقُولُ: أنَّى يَا رَبِّ، وَقَدْ ذَهَبَتِ الدُّنْيَا?"- ثَلَاثَ مَرَّاتٍ- "فَيُقَالُ: اذْهَبُوا بِهِ إِلَى الْهَاوِيَةِ، فَيُذْهَبُ بِهِ إِلَيْهَا، فَيَهْوِي فِيهَا حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى قَعْرِهَا، فَيَجِدُهَا هُنَاكَ، كَهَيْئَتِهَا، فَيَحْمِلُهَا، فَيَضَعُهَا عَلَى عَاتِقِهِ، ثُمَّ يَصْعَدُ بِهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ، حَتَّى إِذَا رَأَى أَنَّهُ قَدْ خرج، زلت وهوت، وهوى فِي أَثَرِهَا أَبَدَ الْآبِدِينَ"، قَالَ: "وَالْأَمَانَةُ فِي الصَّلَاةِ، وَالْأَمَانَةُ فِي الصَّوْمِ، وَالْأَمَانَةُ فِي الْوُضُوءِ، والأمانة في الحديث، وأشد من ذَلِكَ الْوَدَائِعُ": قَالَ: - يَعْنِي زَاذَانَ- فَلَقِيتُ الْبَرَاءَ فقلت: ألا تسمع ما يقول أخو عَبْدُ اللَّهِ? فَقَالَ: "صَدَقَ".
وَهَذَا الْحَدِيثُ لَيْسَ هُوَ فِي الْمُسْنَدِ، وَلَا فِي شَيْءٍ مِنَ الكتب الستة.(2/185)
سجْن في جهنم له بُولس أعاذنا الله عزَّ وجلّ منه
تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي حَدِيثٍ رَوَاهُ الإِمام أَحْمَدُ: مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(2/185)
جُبُّ الْحَزَنِ
قَالَ عَلِيُّ بْنُ حَرْبٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا عَمَّارُ بْنُ سَيْفٍ، عَنْ أَبِي مُعَاذٍ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"اسْتَعِيذُوا بِاللَّهِ مِنْ جُبِّ الْحَزَنِ"، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ: وَمَا جُبُّ الْحَزَنِ. قَالَ: "وَادٍ فِي جَهَنَّمَ، تَسْتَعِيذُ جهنم منه كل يوم أربعمائة مرة، أعد(2/185)
لِلْقُرَّاءِ الْمُرَائِينَ بِأَعْمَالِهِمْ، وَإِنَّ مِنْ أَبْغَضِ الْقُرَّاءِ الى الله الذين يراءون الْأُمَرَاءَ الْجَوَرَةَ" 1.
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ: مِنْ حديث عمار بن سيف، عن أبي معاذ وهو الصواب اخْتَصَرَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: غَرِيبٌ، وَعِنْدَهُ- مِائَةُ مَرَّةٍ-. وبسط ابن ماجه وعنده: "يراءون الأمراء الجورة".
__________
1 الحديث رواه ابن ماجه. 1-94.(2/186)
ذكر نفر فيها هو مِنْهَا بمنزلة الأوْساخ والأقْذار والنَّتن في الدنيا
أعاذَنَا اللَّهُ سبحانه وتعالى مِنْهُ بمنَه وكَرَمِهِ
لا يدخل الجنة مدمن خمر، ولا قاطع رحم ولا مصدق بسحر
قَالَ الإِمام أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: قَرَأْتُ عن الفضل بن ميسرة، من حديث أبي جرير، أن أبا بردة حدثه من حَدِيثِ أَبِي مُوسَى، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
"ثَلَاثَةٌ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ: مُدْمِنُ خَمْرٍ، وَقَاطِعُ رَحِمٍ، وَمُصَدِّقٌ بِالسِّحْرِ، وَمَنْ مات مدمن الخمر سقاه الله مِنْ نَهَرِ الْغُوطَةِ"، قِيلَ: وَمَا نَهَرُ الْغُوطَةِ؟ قَالَ: "نَهَرٌ يَجْرِي مِنْ فُرُوجِ الْمُومِسَاتِ، يُؤْذِي أهل النار ريح فروجهن". 1
__________
1 الحديث روا أحمد في مسنده 4- 399.(2/186)
ذِكْرُ وَادِي لَمْلَمَ
قَالَ الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ: حَدَّثَنَا حِبَّانُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"إِنَّ فِي جهنم لوادياً يقال له لملم، وإن أَوْدِيَةَ جَهَنَّمَ لَتَسْتَعِيذُ بِاللَّهِ مِنْ حَرِّهِ" هَذَا حديث غريب.(2/187)
ذكر واد وبئر فِيهَا يُقَالُ لَهُ هَبْهَبٌ
قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنَا أَبُو خَيْثَمَةَ، حَدَّثَنَا يزيد بن هارون، حدثنا الأزهر بن سفيان، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ وَاسِعٍ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى بِلَالِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا بِلَالُ، إِنَّ أَبَاكَ حَدَّثَنِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ:
"إِنَّ فِي جَهَنَّمَ وَادِيًا يُقَالُ لَهُ هَبْهَبٌ، حَقٌّ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُسْكِنَهُ كُلَّ جَبَّارٍ، فإياك يا فلان أَنْ تَكُونَ مِمَّنْ يَسْكُنُهُ".
وَقَدْ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ: مِنْ حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَزْهَرَ بْنِ سِنَانٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ وَاسِعٍ: أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى بِلَالِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ أَبِي مُوسَى، فَقَالَ لَهُ: إِنَّ أَبَاكَ حَدَّثَنِي، عَنْ جَدِّكَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ:
"إِنَّ فِي جَهَنَّمَ وادياً في الوادي بئر يقال لها هبهب، على الله أن يسكنه كل جبار". تَفَرَّدَ بِهِ أَزْهَرُ بْنُ سِنَانٍ، وَقَدْ تَكَلَّمَ فِيهِ بَعْضُ الْحُفَّاظِ وَلَيَّنَهُ.(2/187)
ذكر وَيل وصعُود
معنى الويل
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبينَ} . [77- المرسلات- 15] .
وقال: {سأرْهِقُهُ صَعُوداً} . [74- المدثر- 17] .
وَقَالَ الإِمام أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حسن بن لَهِيعَةَ، عَنْ دَرَّاجٍ، عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
"وَيْلٌ: وَادٍ فِي جَهَنَّمَ، يهوي فيه الكفار أَرْبَعِينَ خَرِيفًا، قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ قَعْرَهُ، وَالصَّعُودُ: جَبَلٌ مِنْ نَارٍ، يَتَصَعَّدُ فِيهِ سَبْعِينَ خَرِيفًا، ثم يهوي به كذلك، فيه أبداً" 1.
وكذلك رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، عَنْ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ، عَنْ الْحَسَنِ بْنِ مُوسَى الْأَشْيَبِ، عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ، عَنْ دَرَّاجٍ ثُمَّ قَالَ: غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ طريق ابن لهيعة، وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ دَرَّاجٍ بِهِ. وَبِكُلِّ حَالٍ فَهُوَ حَدِيثٌ غَرِيبٌ بَلْ مُنْكَرٌ.
وَالْأَظْهَرُ فِي تَفْسِيرِ وَيْلٍ، أَنَّهُ ضِدُّ السَّلَامَةِ وَالنَّجَاةِ، كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ: وَيْلٌ له: ويا ويله، وويله.
__________
1 الحديث رواه أحمد في مسنده 4- 75.(2/188)
معنى صعود
وَقَدْ رَوَى الْبَزَّارُ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ: مِنْ حَدِيثِ شَرِيكٍ الْقَاضِي، عن عمار الذهبي، عَنْ عَطِيَّةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم في قوله: صعوداً:
"هو جبل في النار، يكلف الكافر أَنْ يَصْعَدَهُ، فإِذا وَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ ذَابَتْ، فإِذا رَفَعَهَا عَادَتْ، وإِذا وَضَعَ رِجْلَهُ عَلَيْهِ ذَابَتْ، فإِذا رَفَعَهَا عَادَتْ".
وَقَالَ قَتَادَةُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: صَعُودٌ صَخْرَةٌ فِي جَهَنَّمَ يُسْحَبُ عَلَيْهَا الْكَافِرُ عَلَى وَجْهِهِ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: صَعُودٌ: صخرة ملساء في جهنم، يكلف الكافر أن يصعدها.
وقال مجاهد: سأرهقه صعوداً: أَيْ مَشَقَّةً مِنَ الْعَذَابِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: عَذَابًا لَا رَاحَةَ فِيهِ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ.(2/189)
ذكر حياتها وعقاربها
أعاذنا الله منها
قال الله تعالى: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخلونَ بِمَا آتاهمُ اللَّهُ مِنْ فَضلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} . [3- آل عمران-180] .
وَثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ: مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:(2/189)
"مَا مِنْ صَاحِبِ كَنْزٍ لَا يُؤَدِّي زَكَاتَهُ، إِلَّا مُثِّلَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ، لَهُ زَبِيبَتَانِ، يَأْخُذُ بِلِهْزِمَتَيْهِ فَيَقُولُ: أَنَا مَالُكَ، أَنَا كَنْزُكَ".
وَفِي رِوَايَةٍ: "يَفِرُّ مِنْهُ، وَهُوَ يتبعه، ويتقي منه فيلقم يَدَهُ، ثُمَّ يُطَوِّقُهُ". وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ، وَقَدْ رُوِيَ مِثْلُهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا.
وَقَالَ الأعمش: عن عبد الله بن مروة، عن مسروق، عن عبد الله بن دينار فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيل اللَّهِ زِدْنَاهمْ عَذَاباً فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانوا يفْسدونَ} . [16-النحل-88] .
قال: عقارب لها أذناب، كالنحل الطِّوَالِ.
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ: عَنِ الْحَاكِمِ، عَنِ الْأَصَمِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ أَصْبَغَ بْنِ الْفَرَجِ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، أن دراجاً حَدَّثَهُ: أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ جَزْءٍ الزُّبَيْدِيَّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"إِنَّ في النار لحيات، أمثال أعناق البخت، يلسعن اللسعة أحدهم، فيجد حموها أربعين خريفاً".
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ الْحَنْظَلِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عثمان أبو الجماهير، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ يوسف، وعن يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَّامٍ، حَدَّثَنِي الْحَجَّاجُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الثُّمَالِيُّ- وَكَانَ قَدْ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحج معه حجة الوداع- أن نصر بن نجيب- وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقدمائهم- حدثه: إِنَّ فِي جَهَنَّمَ سَبْعِينَ أَلْفَ(2/190)
وادٍ، فِي كُلِّ وَادٍ سَبْعُونَ أَلْفَ شِعْبٍ، في كل شعب سَبْعُونَ أَلْفَ بَيْتٍ، فِي كُلِّ بَيْتٍ سَبْعُونَ أَلْفَ شِقٍّ، فِي كُلِّ شِقٍّ سَبْعُونَ أَلْفَ ثعبان، في شق كُلِّ ثُعْبَانٍ سَبْعُونَ أَلْفَ عَقْرَبٍ، لَا يَنْتَهِي الكافر والمنافق حتى يوافق ذلك كله.
وهذا موقوف، غريب جِدًّا، بَلْ مُنْكَرٌ نَكَارَةً شَدِيدَةً، وَسَعِيدُ بْنُ يوسف الذي حدث عنه به إسماعيل ابن عياش مجهول، والله أعلم، وبتقدير إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ لَهُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أبي كثير، فهو حجازي، وإسماعيل من الشاميين، وهو غير مقبول.
وقد ذكرهذا الأثر فِي تَارِيخِهِ الْكَبِيرِ بِنَحْوٍ مِنْ هَذَا السِّيَاقِ، والله أعلم.
وقد ذكر بعض المفسرين في غي وأثام: أَنَّهُمَا وَادِيَانِ مِنْ أَوْدِيَةِ جَهَنَّمَ ... أَجَارَنَا اللَّهُ مِنْهَا..
وَقَالَ بَعْضُهُمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقَاً} . [18- الكهف- 52] .
هُوَ نَهَرٌ مِنْ قَيْحٍ وَدَمٍ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو، وَمُجَاهِدٌ: هُوَ وَادٍ مِنْ أودية جهنم، وزاد عبد الله بن عمرو: يفرق يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَيْنَ أَهْلِ الْهُدَى، وَأَهْلِ الضَّلَالَةِ.
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ: عَنِ الْحَاكِمِ، عَنِ الْأَصَمِّ، عَنْ الْعَبَّاسِ الدوري، عن ابن معين، عن هشيم بن الْعَوَّامِ بْنِ حَوْشَبٍ، عَنْ عَبْدِ الْجَبَّارِ الْخَوْلَانِيِّ، قال: قدم علينا رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِمَشْقَ، فَرَأَى مَا في الناس فَقَالَ: وَمَا يُغْنِي عَنْهُمْ. أَلَيْسَ مِنْ وَرَائِهِمُ الغلق? قيل: وما الغلق? قال: جب في جهنم، إِذا فتح هرب منه أهل النار". هكذا قال يحيى هرب منه أهل النار ولم يقل فر منه.(2/191)
خطبة واعظة، ترغب وترهب من كان له قلب، أو ألقى السمع وهو شهيد
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ، عَنِ الْحَاكِمِ، عَنِ الْأَصَمِّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَرْزُوقٍ، بِمِصْرَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَامِرٍ، عَنْ شُعْبَةَ. قَالَ: كَتَبَ إِلَيَّ مَنْصُورٌ، وَقَرَأْتُهُ عَلَيْهِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ شجرة، قال: كان يَزِيدُ بْنُ شَجَرَةَ رَجُلًا مِنَ الزُّهَّادِ، وَكَانَ مُعَاوِيَةُ يَسْتَعْمِلُهُ عَلَى الْجُيُوشِ، فَخَطَبَنَا يَوْمًا، فَحَمِدَ اللَّهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ:
أَيُّهَا النَّاسُ، اذكروا نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، لَوْ تَرَوْنَ مَا أَرَى، مِنْ بَيْنِ أَحْمَرَ وَأَصْفَرَ، وَمِنْ كُلِّ لَوْنٍ- وَفِي الرِّحَالِ مَا فِيهَا- إِنَّهُ إِذَا أُقِيمَتِ الصلاة، فتحت أبواب السماء وأبواب الجنة، وزين الحور العين، وإِذا أقبل أحدكم على القتال بوجهه، زينته الحور العين، وانطلقن يقلن: اللهم ثبته، اللهم انصره، فإِذا أدبر، احتجبن عنه، وقلن: اللهم عليه فانهلوا من دماء الْقَوْمِ فِدَاكُمْ أَبِي وَأُمِّي، فإِن أَوَّلَ قَطْرَةٍ تقطر من دمائكم، يحط الله بها عنكم خطاياكم، كما يحط ورق الشجر عن الغصن، وَتَبْتَدِرُهُ اثْنَتَانِ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ، وَيَمْسَحَانِ التُّرَابَ عن وجهه، ويقولان: نحن لك فداء، ويقول هو: أنا لكما فداء، فَيُكْسَى مِائَةَ حُلَّةٍ، لَوْ وُضِعَتْ بَيْنَ إِصْبَعِي هَاتَيْنِ لَوَسِعَتَاهُنَّ، لَيْسَتْ مِنْ نَسْجِ بَنِي آدَمَ، وَلَكِنَّهَا مِنْ ثِيَابِ الْجَنَّةِ، إِنَّكُمْ مَكْتُوبُونَ عِنْدَ الله بأسمائكم، وسيماكم، ونجواكم، وحلالكم، وحرامكم، وَمَجَالِسِكُمْ، فإِذا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ قِيلَ: يَا فلان هذا نورك، يَا فُلَانُ هَذَا نُورُكَ، يَا فُلَانُ لَا نور لك، وإن لجهنم ساحلاً كساحلا البحر، فيه هوام وحيات، كالبخاتي البزل، فإِذا سَأَلَ أَهْلُ النَّارِ التَّخْفِيفَ قِيلَ: اخْرُجُوا إِلَى السَّاحِلِ، فَتَأْخُذُهُمْ تِلْكَ الْهَوَامُّ بِشِفَاهِهِمْ، وَجَنُوبِهِمْ، وبما شاء من ذلك، فيسلطها عليهم، فيرجعون فيتأدون إِلَى مُعْظَمِ النَّارِ، وَيُسَلَّطُ عَلَيْهِمُ الْجَرَبُ، حَتَّى إِنَّ أَحَدَهُمْ لَيَحُكُّ جِلْدَهُ حَتَّى يَبْدُوَ الْعَظْمُ، فيقال: يَا فُلَانُ: هَلْ يُؤْذِيكَ هَذَا? فَيَقُولُ: نَعَمْ، فَيُقَالُ لَهُ: ذَلِكَ بِمَا كُنْتَ تُؤْذِي الْمُؤْمِنِينَ.
وقال الترمذي: بإِسناده عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ سَأَلَ اللَّهَ الْجَنَّةَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، قَالَتِ الْجَنَّةُ: اللَّهُمَّ أَدْخِلْهُ الجنة، ومن استجار من النار ثلاثاً، قالت النار: اللهم أجره من النار".(2/192)
رحمة الله قريب ممن يستجير به مخلصاً من حر النار وزمهريرها
وروى البيهقي: عن أبي سعيد، عن أبي حجيرة، والأكثر عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ أَحَدَهُمَا حَدَّثَهُ: عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
"إِذَا كَانَ يَوْمٌ حَارٌّ، أَلْقَى اللَّهُ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ إِلَى أَهْلِ السَّمَاءِ، وَأَهْلِ الْأَرْضِ، فإِذا قَالَ الْعَبْدُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، مَا أَشَدَّ حَرَّ هَذَا الْيَوْمِ? اللَّهُمَّ أَجِرْنِي مِنْ حر نار جهنم. قال الله لِجَهَنَّمَ: إِنَّ عَبْدًا مِنْ عِبَادِي قَدِ اسْتَجَارَ بِي مِنْكِ، وَإِنِّي أُشْهِدُكِ أَنِّي قَدْ أَجَرْتُهُ، وَإِذَا كَانَ يَوْمٌ شَدِيدُ الْبَرْدِ، أَلْقَى اللَّهُ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ إِلَى أَهْلِ السَّمَاءِ، وَأَهْلِ الْأَرْضِ، فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، مَا أَشَدَّ بَرْدَ هَذَا الْيَوْمِ? اللَّهُمَّ أَجِرْنِي من برد زمهرير جهنم، قال الله لِجَهَنَّمَ: إِنَّ عَبْدًا مِنْ عباديَ قَدِ اسْتَجَارَ بِي مِنْ زَمْهَرِيرِكِ، وَإِنِّي أُشْهِدُكِ أَنِّي قَدْ أجرته". قالوا: وما زمهرير جهنم? قال: "حيث يلقي الله الكافر، فيتميز من شدة بردها بعضه من بعض".(2/193)
فصل دركات جهنم
نستعيذ بالله من عذابها
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: قَالَ الْعُلَمَاءُ: "أَعْلَى الدَّرَكَاتِ جَهَنَّمُ، وَهِيَ مُخْتَصَّةٌ بِالْعُصَاةِ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهي التي تخلي مِنْ أَهْلِهَا فَتَصْفِقُ الرِّيَاحُ أَبْوَابَهَا، ثُمَّ لَظَى، ثُمَّ الْحُطَمَةُ، ثُمَّ السَّعِيرُ، ثُمَّ سَقَرُ، ثُمَّ الْجَحِيمُ، ثُمَّ الْهَاوِيَةُ".(2/193)
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: فِي الدَّرْكِ الْأَعْلَى الْمُحَمَّدِيُّونَ، وَفِي الثَّانِي النَّصَارَى، وَفِي الثَّالِثِ الْيَهُودُ، وَفِي الرَّابِعِ الصَّابِئُونَ، وَفِي الْخَامِسِ، الْمَجُوسُ، وَفِي السَّادِسِ مُشْرِكُو الْعَرَبِ، وَفِي السَّابِعِ الْمُنَافِقُونَ قُلْتُ: هَذِهِ الْمَرَاتِبُ وَتَخْصِيصُهَا بِهَؤُلَاءِ، مِمَّا يَحْتَاجُ إِثْبَاتُهُ إِلَى سَنَدٍ صحيح إلى المعصوم الذي: {وَمَا يَنْطِقُ عَن الْهَوَى إِنْ هوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى عًلّمَهُ شدِيدُ الْقوَى} . [53- النجم- 3-5] .
ومعلوم أن هؤلاء كلهم يدخلون النار، ولكن كونه على هذه الصفة والترتيب الله أَعْلَمُ بِذَلِكَ ...
فَأَمَّا الْمُنَافِقُونَ: فَفِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ بِنَصِّ الْقُرْآنِ لَا مَحَالَةَ.
قَالَ القرطبي: "ومن هَذِهِ الْأَسْمَاءِ مَا هُوَ عَلَمٌ لِلنَّارِ كُلِّهَا لجملتها، نحو جهنم، وسعير، ولظى، فهذه أعلام، وليست لباب دون باب". وصدق فيما قال، رضي الله عنه.(2/194)
ذكر بعض أفاعي جهنم والعياذ بالله تعالى
...
وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو يَزِيدَ الْقَرَاطِيسِيُّ، حَدَّثَنَا أسد بن موسى حدثنا إسماعيل بنِ عباس، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:
{زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فوْقَ الْعَذَابِ} . [16- النحل- 88] .
فقال: عقارب أمثال النحل الطِّوَالِ تَنْهَشُهُمْ فِي جَهَنَّمَ.
وَقَدْ رَوَاهُ الثَّوْرِيُّ: عَنِ الْأَعْمَشُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ، عَنْ مسروق، عن ابن مسعود.
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنَا شجاع بن أشرس، حدثنا إسماعيل بن عباس، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ قَالَ: "حَيَّاتُ جَهَنَّمَ أَمْثَالُ الْأَوْدِيَةِ، وَعَقَارِبُهَا كأمثال القلاع، وإن لها أذناباً كأمثال الرماح، يلقى أحدها الكافر، فيلسعه، فَيَتَنَاثَرُ لَحْمُهُ عَلَى قَدَمَيْهِ".(2/195)
ذكر بكَاء أهل النار فيها
أجارنا الله عَزّ وَجَلّ مِنها
قَالَ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بن عبد الصمد بن أبي خراش، حدثنا محمد بن حمير، عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ زَيْدٍ، حَدَّثَنَا يَزِيدَ الرَّقَاشِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
"يَا أَيُّهَا النَّاسُ: ابْكُوا، فإِن لَمْ تَبْكُوا فَتَبَاكَوْا، فإِن أَهْلَ النَّارِ يَبْكُونَ فِي النَّارِ، حَتَّى تَسِيلَ دُمُوعُهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ، كأنها جداول، وحتى تنقطع الدموع، فَتُقَرِّحَ الْعُيُونَ، فَلَوْ أَنَّ سُفُنًا أُرْسِلَتْ فِيهَا لجرت".(2/195)
ورواه ابن ماجه1: من حدبث الأعمش، عن يزيد الرقاشي، عن أنس به نَحْوَهُ، وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا، حَدَّثَنِي محمد بن العباس، حدثنا حماد الحريري، عن زيد بن رفيع، رفعه: قال:
"أَهْلَ النَّارِ إِذَا دَخَلُوا النَّارَ، بَكَوُا الدُّمُوعَ زماناً، ثم بكوا القبح زَمَانًا".
فَيَقُولُ لَهُمُ الْخَزَنَةُ: يَا مَعْشَرَ الْأَشْقِيَاءِ: تَرَكْتُمُ الْبُكَاءَ فِي الدَّارِ الْمَرْحُومِ فِيهَا أَهْلُهَا في الدنيا، هَلْ تَجِدُونَ الْيَوْمَ مَنْ تَسْتَغِيثُونَ بِهِ? قَالَ: فَيَرْفَعُونَ أَصْوَاتَهُمْ. يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ: يَا مَعْشَرَ الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ، وَالْأَوْلَادِ: خَرَجْنَا مِنَ الْقُبُورِ عِطَاشًا، وكنا طول الموقف عطاشاً، ونحن اليوم عِطَاشٌ، فَأَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ، أَوْ مِمَّا رزقكم الله، قال فيودعون أربعين سنة، لا يجيبهم أحد، ثم يجابون: إنكم ماكثون. قَالَ: فَيَيْأَسُونَ مِنْ كُلِّ خَيْرٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحونَ} . [23- المؤمنون- 104] .
قَالَ الإِمام أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، هُوَ ابْنُ الْمُبَارَكِ، أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ يَزِيدَ أَبُو شُجَاعٍ، عَنْ أَبِي السَّمْحِ، عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قرأ: {وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} . ثم قال:
"تشويه النار، فتتقلص شفته العليا وسط رأسه، وتسترخي شفته الدنيا، حتى تبلغ سرته" 2.
__________
1 الحديث رواه ابن ماجه في سننه 2- 2446.
2 الحديث رواه أحمد في مسنده 3- 88.(2/196)
ورواه الترمذي: عن سويد، عن الْمُبَارَكِ بِهِ، وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ، وَقَالَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يحيى الفزار: حَدَّثَنَا الْخَضِرُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ يُوسُفَ الْقَطَّانُ: حَدَّثَنَا عَمُّ الْحَارِثِ بْنِ الْخَضِرِ الْقَطَّانُ، حَدَّثَنَا سعيد بن سعد المقري، عَنْ أَخِيهِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم في قول الله:
{تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ} .
قَالَ: "تَلْفَحُهُمْ لَفْحَةً، فَتَسِيلُ لُحُومُهُمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ".(2/197)
أَحَادِيثُ شَتَّى فِي صِفَةِ النَّارِ وَأَهْلِهَا
قَالَ: أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، حدثنا أبو الشعثاء، عن أبي الْحَسَنِ الْوَاسِطِيُّ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ نَافِعٍ الْأَشْعَرِيُّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"إِذا اجْتَمَعَ أَهْلُ النَّارِ فِي النَّارِ، وَمَعَهُمْ مَنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ، قَالَ الْكُفَّارُ لِلْمُسْلِمِينَ: أَلَمْ تَكُونُوا مُسْلِمِينَ? قَالُوا: بَلَى قَالُوا: فَمَا أَغْنَى عَنْكُمُ الإِسلام، وَقَدْ صِرْتُمْ مَعَنَا فِي النَّارِ? قَالُوا: كَانَتْ لَنَا ذُنُوبٌ فَأُخِذْنَا بِهَا، فَسَمِعَ اللَّهُ مَا قَالُوا? فأمرِ بِمَنْ كَانَ فِي النَّارِ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ، فَأُخْرِجُوا، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ مَنْ بقي مِنَ الْكُفَّارِ: {قَالُوا يَا لَيْتَنَا كُنَّا مُسْلِمِينَ فنَخْرُج كَمَا خَرَجُوا} .
ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَعُوذُ باللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيم: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٌ مُبِين ربَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانوا مُسْلِمِينَ} . [15- الحجر- 1-2] .(2/197)
وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ هَارُونَ، حَدَّثَنَا إسحاق بن راهويه، قال: قلت لأبي أمامة: أَحَدَّثَكُمْ أَبُو رَوْقٍ عَطِيَّةُ بْنُ الْحَارِثِ، حَدَّثَنِي صَالِحُ بْنُ أَبِي طَرِيفٍ، سَأَلْتُ أَبَا سَعِيدِ الخدري، قلت لَهُ: هَلْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَو كَانُوا مُسْلِمِينَ} . [15- الحجر- 2] .
قال: نعم: سمعته يقول: "يخرج الله أناساً من النار، مَا يَأْخُذُ نِقْمَتَهُ مِنْهُمْ".
وَقَالَ: "لَمَّا أَدْخَلَهُمُ اللَّهُ النَّارَ مَعَ الْمُشْرِكِينَ، قَالَ لَهُمُ الْمُشْرِكُونَ: تزعمون أنكم أَوْلِيَاءَ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا، فَمَا بَالُكُمْ مَعَنَا فِي النَّارِ. فإِذا سَمِعَ اللَّهُ ذَلِكَ مِنْهُمْ، أذن في الشفاعة لهم، فشفع الملائكة، وشفع النبيون، وشفع الْمُؤْمِنُونَ، حَتَّى يَخْرُجُوا بإِذن اللَّهِ، فإِذا رَأَى المشركون ذلك، قالوا: ليتنا كنا مثلهم، لتدركنا الشفاعة، فنخرج معهم".
قال فذلك قول الله تَعَالَى: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} . [15- الحجر-2] .
فيسمون في الجنة الجهنميين، مِنْ أَجْلِ سَوَادٍ فِي وُجُوهِهِمْ، فَيَقُولُونَ: يَا رب أَذْهِبْ عَنَّا هَذَا الِاسْمَ، فَيَأْمُرُهُمْ، فَيَغْتَسِلُونَ فِي نَهَرِ الْجَنَّةِ، فَيَذْهَبُ ذَلِكَ الِاسْمُ عَنْهُمْ". فَأَقَرَّ بِهِ أَبُو أُسَامَةَ وَقَالَ: نَعَمْ ...
وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حدثنا محمد بن العباس- هو الأخزم، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ الطُّوسِيُّ، حَدَّثَنَا صَالِحُ بن إسحاق، حدثنا يحيى بن معين، حدثنا(2/198)
معروف بْنُ وَاصِلٍ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ أَبِي نُبَاتَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمِنِ الْأَغَرِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"أَنَّ نَاسًا مِنْ أَهل لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَدْخُلُونَ النَّارَ بِذُنُوبِهِمْ، فَيَقُولُ أَهْلُ اللَّاتِ وَالْعُزَّى: مَا أَغْنَى عَنْكُمْ قَوْلُكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنْتُمْ مَعَنَا فِي النَّارِ? فَيَغْضَبُ اللَّهُ لَهُمْ فَيُخْرِجُهُمْ، فَيُلْقِيهِمْ فِي نهر الحياة، فيبرؤون مِنْ حُرَقِهِمْ كَمَا يَبْرَأُ الْقَمَرُ مِنْ كُسُوفِهِ فَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، وَيُسَمَّوْنَ فِيهَا الْجَهَنَّمِيِّينِ".
فَقَالَ رَجُلٌ: يا أنس: أنت سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول مَنْ كَذَبَ عليَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ، فهل سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول هذا? فقال أنس: سَمِعْتَ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الجهبذ. قال الطبراني: لم يروه عن معروف بن واصل، إلا صالح بن إسحاق.
أَثر غَريب وسِيَاق عَجِيب
قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنِ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْقُرَشِيُّ، حَدَّثَنَا طَلْحَةُ بْنُ سِنَانٍ، حدثنا عبد الملك بن أبي، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ:
"يُؤْتَى بِجَهَنَّمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، تُقَادُ بِسَبْعِينَ أَلْفَ زِمَامٍ، آخذاً بِكُلِّ زِمَامٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ، وَهَى تَمَايَلُ عليهم، حتى يوقف عَنْ يَمِينِ الْعَرْشِ، وَيُلْقِي اللَّهُ عَلَيْهَا الذُّلَّ يَوْمَئِذٍ فَيُوحِي اللَّهُ إِلَيْهَا، مَا هَذَا الذُّلُّ? فتقول: يا رب: أخاف أن تكون لَكَ فِيَّ نِقْمَةٌ، فَيُوحِي اللَّهُ إِلَيْهَا: إِنَّمَا خَلَقْتُكِ نِقْمَةً، وَلَيْسَ لِي فِيكِ نِقْمَةٌ، فَيُوحِي اللَّهُ إِلَيْهَا، فَتَزْفَرُ زَفْرَةً لَا تَبْقَى دَمْعَةٌ فِي عَيْنٍ إِلَّا جَرَتْ، قَالَ: ثُمَّ تَزْفَرُ أُخْرَى، فَلَا يَبْقَى مَلَكٌ مُقَرَّبٌ، وَلَا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، إِلَّا صَعِقَ، إِلَّا نَبِيُّكُمْ، نَبِيُّ الرَّحْمَةِ، يَقُولُ: يَا رَبِّ، أُمَّتِي أُمَّتِي".(2/199)
أثر آخر من أغرب الأخبار:
وقال الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ الْأَصْبَهَانِيُّ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أحمد بن محمد بن الحسين البغداري، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْجُنَيْدِ، حدثنا عبيد الله بن محمد بن عائشة، حدثنا مسلم الْخَوَّاصُ، عَنْ فُرَاتِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ زَاذَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ كَعْبَ الْأَحْبَارِ يَقُولُ:
"إِذَا كَانَ يوم القيامة، جمع الله الأولين والآخرون فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، فَنَزَلَتِ الْمَلَائِكَةُ، فَصَارُوا صُفُوفًا، فيقال: يَا جِبْرِيلُ ائْتِنِي بِجَهَنَّمَ، فَيَأْتِي بِهَا جِبْرِيلُ، تُقَادُ بِسَبْعِينَ أَلْفَ زِمَامٍ، حَتَّى إِذَا كَانَتْ مِنَ الْخَلَائِقِ عَلَى قَدْرِ مِائَةِ عَامٍ، زَفَرَتْ زَفْرَةً طَارَتْ لَهَا أَفْئِدَةُ الْخَلَائِقِ، ثُمَّ زَفَرَتْ ثانياً، فَلَا يَبْقَى مَلَكٌ مُقَرَّبٌ، وَلَا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، إلا جثا على ركبتيه، ثم زفرت الثالثة، فبلغت القلوب الحناجر، وذهلت العقول، فيفزع كل امرىء الى عمله، حتى إبراهيم الخليل، يقول: بخلتي لا أسألك إلا نفسي، وإن عيسى لَيَقُولُ: بِمَا أَكْرَمَتْنِي لَا أَسْأَلُكَ إِلَّا نَفْسِي. لا أسألك لمريم التي ولدتني، أما محمد صلى الله عليه وسلم فيقول: لَا أَسْأَلُكَ الْيَوْمَ نَفْسِي، إِنَّمَا أَسْأَلُكَ أُمَّتِي. قال: فيجيبه الجليل: أَوْلِيَائِي مِنْ أُمَّتِكَ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ، فَوَعِزَّتِي وَجَلَالِي لَأُقِرَّنَّ عَيْنَكَ فِي أمتك.
قال: ثُمَّ تَقِفُ الْمَلَائِكَةُ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ عَزَّ وجل، ينظرون مَا يُؤَمَرُونَ بِهِ، فَيَقُولُ لَهُمُ الرَّبُّ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ: مَعَاشِرَ الزَّبَانِيَةِ: انْطَلِقُوا بِالْمُصِرِّينَ مِنْ أَهْلِ الكبائر مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى النار، فقد اشتد غضبي بِتَهَاوُنِهِمْ بِأَمْرِي فِي دَارِ الدُّنْيَا، وَاسْتِخْفَافِهِمْ بِحَقِّي، وانتهاكهم حرمتي، يستخفون من الناس، ويبارزوني، مَعَ كَرَامَتِي لَهُمْ، وَتَفْضِيلِي إِيَّاهُمْ عَلَى الْأُمَمِ، لم يَعْرِفُوا فَضْلِي، وَعِظَمَ نِعْمَتِي، فَعِنْدَهَا تَأْخُذُ الزَّبَانِيَةُ بلحى الرجال، وذوائب النساء، فينطلق بِهِمْ إِلَى النَّارِ، وَمَا مِنْ عَبْدٍ يُسَاقُ إِلَى النَّارِ مِنْ غَيْرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِلَّا مسوداً وجهه، وقد وضعت الأنكال في قدمه، وَالْأَغْلَالُ فِي عُنُقِهِ، إِلَّا مَا كَانَ مِنْ هذه الأمة، فإنهم يساقون بأوانهم، فَإِذَا وَرَدُوا عَلَى مَالِكٍ قَالَ لَهُمْ: مُعَاشِرَ الأشقياء أَيِّ أُمَّةٍ أَنْتُمْ? فَمَا(2/200)
وَرَدَ عَلَيَّ أَحْسَنُ وُجُوهًا مِنْكُمْ، فَيَقُولُونَ: يَا مالك: نحن أمة القرآن، فيقول لهم: معاشر الأشقياء: أو ليس الْقُرْآنُ أُنْزِلُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ? قَالَ: فَيَرْفَعُونَ أَصْوَاتَهُمْ بِالنَّحِيبِ وَالْبُكَاءِ، وَامُحَمَّدَاهُ. يا محمد اشفع لمن أُمِرَ بِهِ إِلَى النَّارِ مِنْ أُمَّتِكَ. قَالَ: فينادي مالك: يا مالك? من أمرك بمعاتبة الأشقياء ومحاكمتهم وَالتَّوَقُّفِ عَنْ إِدْخَالِهِمُ الْعَذَابَ? يَا مَالِكُ: لَا تسود وجوههم، فقد كانوا يسجدون لله رب العالمين، في دار الدنيا، يا مالك: لا تثقلهم بِالْأَغْلَالِ، فَقَدْ كَانُوا يَغْتَسِلُونَ مِنَ الْجَنَابَةِ، يَا مَالِكُ: لَا تُقَيِّدْهُمْ بِالْأَنْكَالِ، فَقَدْ طَافُوا حَوْلَ بَيْتِيَ الْحَرَامِ، يَا مَالِكُ: لَا تُلْبِسْهُمُ الْقَطِرَانَ، فقد خلعوا ثيابهم للإِحرام، يَا مَالِكُ: قُلْ لِلنَّارِ تَأْخُذُهُمْ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ، فَالنَّارُ أَعْرَفُ بِهِمْ، وَبِمَقَادِيرِ اسْتِحْقَاقِهِمْ، مِنَ الْوَالِدَةِ بِوَلَدِهَا، فَمِنْهُمْ مَنْ تَأْخُذُهُ النَّارُ إِلَى كعبيه، ومنهم من تأخذه إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَأْخُذُهُ النَّارُ إِلَى سرته، ومنهم من تأخذه إِلَى صَدْرِهِ، قَالَ: فَإِذَا انْتَقَمَ اللَّهُ مِنْهُمْ عَلَى قَدْرِ كَبَائِرِهِمْ وَعُتُوِّهُمْ وَإِصْرَارِهِمْ، فَتَحَ بَيْنِهِمْ وبين المشركين باباً، وهم في الدرك الْأَعْلَى مِنَ النَّارِ، لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا، يَبْكُونَ، وَيَقُولُونَ: يَا مُحَمَّدَاهُ: ارْحَمْ مِنْ أُمَّتِكَ الْأَشْقِيَاءَ، وَاشْفَعْ لَهُمْ، فَقَدْ أَكَلَتِ النَّارُ لُحُومَهُمْ، وَعِظَامَهُمْ، وَدِمَاءَهُمْ، ثُمَّ يُنَادُونَ: يَا رَبَّاهُ: يَا سَيِّدَاهُ: ارْحَمْ مَنْ لَمْ يُشْرِكْ بِكَ فِي دَارِ الدُّنْيَا، وَإِنْ كَانَ قَدْ أساء، وأخطأ، وتعدى، فعندها يقول المشركون: مَا أَغْنَى عَنْكُمْ إِيمَانُكُمْ بِاللَّهِ وَبِمُحَمَّدٍ? فَيَغْضَبُ اللَّهُ لِذَلِكَ فَيَقُولُ: يَا جِبْرِيلُ: انْطَلِقْ، فَأَخْرِجْ مَنَ فِي النَّارِ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُخْرِجُهُمْ ضَبَائِرَ1 قَدِ امْتَحَشُوا2، فيلقيهم على نَهَرٍ عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ، يُقَالُ لَهُ نَهَرُ الْحَيَاةِ، فَيَمْكُثُونَ حَتَّى يَعُودُوا أَنْضَرَ مَا كَانُوا، ثم يأمر الملائكة بإدخالهم عُتَقَاءُ الرَّحْمَنِ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُعْرَفُونَ مِنْ بَيْنِ أَهْلِ الْجَنَّةِ بذلك، فيتضرعون إلى الله أَنْ يَمْحُوَ عَنْهُمْ تِلْكَ السِّمَةَ، فَيَمْحُوهَا اللَّهُ عَنْهُمْ، فَلَا يُعْرَفُونَ بِهَا بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ بين أهل الجنة".
__________
1 ضباءر: جماعات.
2 امتحشوا: احترقوا.(2/201)
لبعض هذا الأثر شواهد من أحاديث أخر، والله تعالى أعلم.
وسيأتي بعد ذكر أحاديث الشفاعة، آخِرِ مَنْ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ، وَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ، إن شاء الله تعالى.(2/202)
بسم الله الرحمن الرحيم
ذِكْرُ الأَحاديث الْوَارِدَةِ فِي شَفَاعَةِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَيَانُ أنواعها وتعْدَادِها
الشفاعة العظمى
فَالنَّوْعُ الْأَوَّلُ مِنْهَا: شَفَاعَتُهُ الْأُولَى، وَهِيَ الْعُظْمَى، الْخَاصَّةُ بِهِ، مِنْ بَيْنِ سَائِرِ إِخْوَانِهِ مِنَ المؤمنين، وَالْمُرْسَلِينَ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ وَهِيَ الَّتِي يَرْغَبُ إِلَيْهِ فِيهَا الْخَلْقُ كُلُّهُمْ، حتى الخليل إبراهيم، وَمُوسَى الْكَلِيمُ، وَيَتَوَسَّلُ النَّاسُ إِلَى آدَمَ. فَمَنْ بعده من المرسلين، فكل يحيد عندها، وَيَقُولُ: لَسْتُ بِصَاحِبِهَا، حَتَّى يَنْتَهِيَ الْأَمْرُ إِلَى سَيِّدِ وَلَدِ آدَمَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دائماً، فَيَقُولُ: "أَنَا لَهَا، أَنَا لَهَا" فَيَذْهَبُ، فَيَشْفَعُ عِنْدَ اللَّهِ- عَزَّ وَجَلَّ- فِي أَنْ يَأْتِيَ للفصل بين عباده، ويريحهم من مقامهم ذلك، وَيُمَيِّزَ بَيْنَ مُؤْمِنِهِمْ وَكَافِرِهِمْ بِمُجَازَاةِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْجَنَّةِ، والكافرين بالنار، وقد ذكرنا ذلك عند تفسير سورة سبحان:
{وَمِنَ اللَّيْل فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ ربُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً} . [17- الإسراء- 79] .
وَقَدْ قدمنا الأحاديث الدالة على هذا المقام، بما فيه كفاية، ولله الحمد والمنة.(2/202)
ما خُصَّ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دون جميع الأنبياء والمرسلين عليهم صلوات الله أجمعين
وثبت في الصحيحين: من طريق هشام، عن سيار، عن يزيد، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلِي: نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَجُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، وَأُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ، وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ، وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ، وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً".
وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ: عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ سعيد، عَنْ وَاصِلٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ.
فَقَوْلُهُ: وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ، يَعْنِي بِذَلِكَ الشَّفَاعَةَ الْعُظْمَى، وَهِيَ الْأُولَى، الَّتِي يَشْفَعُ فِيهَا عِنْدَ اللَّهِ عز وجل، ليأتي لفصل القضاء، وَهِيَ الَّتِي يَرْغَبُ إِلَيْهِ فِيهَا الْخَلْقُ كُلُّهُمْ، حتى الخليل إبراهيم، وموسى الكليم، وسائر النبيين، والمرسلين، والمؤمنين، ويعترف بها الأولون، والآخرون، فهذه هي الشفاعة التي اختص بها دون غيره، فأما الشفاعة في العصاة، فكما ثبتت لغيره من الأنبياء، وكذلك ثبتت للملائكة وسائر النبيين كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ، فِيمَا نُورِدُهُ مِنَ الْأَحَادِيثِ الصحيحة، إن شاء الله تعالى.
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: عَنْ أَبِي عَمَّارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ فَرُّوخٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال:
"أَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ، وَأَوَّلُ شافع، وأول مشفع".
وكذلك رواه الْبَيْهَقِيُّ، عَنْ مَعْمَرِ بْنِ رَاشِدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي يَعْقُوبَ، عَنْ بشر بن سعاف، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ، قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:(2/203)
"أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ، وَلَا فَخْرَ، وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ، وَأَنَا أَوَّلُ شافع ومشفع، وبيدي لواء الحمد، حتى آدَمُ، فَمَنْ دُونَهُ".
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
"إِنَّ رَبِّي أَرْسَلَ إِلَيَّ: أَنِ اقْرَأِ الْقُرْآنَ عَلَى حَرْفٍ، فَرَدَدْتُ عَلَيْهِ: يَا رَبِّ: هَوِّنْ عَلَى أُمَّتِي، فَرَدَّ عليَّ الثانية: أن أقرأه على حرف، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَبِّ: هَوِّنْ عَلَى أُمَّتِي، فَرَدَّ عليَّ الثَّالِثَةَ: أَنِ اقْرَأْهُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، وَلَكَ بِكُلِّ رَدَّةٍ رُدِدْتَهَا مَسْأَلَةٌ تَسْأَلُنِيهَا، فقلت: اللهم اغفر لأمتي، وأخرجت الثانية إِلَى يَوْمٍ يرغبَ إِلَيَّ فِيهِ الْخَلْقُ حَتَّى إبراهيم".(2/204)
النوع الثاني والثالث: شفاعته صلى الله عليه وسلم في أقوام قد تساوت حسناتهم وسيئاتهم وفي أقوام قد أمر بهم إلى النار
...
النوع الثاني والثالث من الشفاعة، شفاعته صلى الله عليه وسلم في أقوام قد تساوت حسناتهم وسيئاتهم لِيَدْخُلُوا الْجَنَّةَ، وَفِي أَقْوَامٍ آخَرِينَ قَدْ أُمِرَ بهم إلى النار، أن لا يدخلوا.
قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا في كتابه الْأَهْوَالِ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْجَرْمِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدَةَ الْحَدَّادُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَابِتٍ الْبُنَانِيُّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"يُنْصَبُ لِلْأَنْبِيَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنَابِرُ مِنْ ذَهَبٍ، فَيَجْلِسُونَ عَلَيْهَا، قَالَ: وَيَبْقَى مِنْبَرِي، لَا أَجْلِسُ عَلَيْهِ، قَائِمًا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، مُنْتَصِبًا بِأُمَّتِي مخافة أن يبعث بي إلى الجنة، ويبقى أُمَّتِي بَعْدِي، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ: أُمَّتِي، فَيَقُولُ اللَّهُ: يَا مُحَمَّدُ: وَمَا تُرِيدُ أَنْ أَصْنَعَ بأمتك? فأقول: يا رب: عجل حسابهم، فيدعو بِهِمْ فَيُحَاسَبُونَ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ بِرَحْمَةِ الله تعالى، ومنهم من يدخل الجنة بشفاعتي، وما أزل أَشْفَعُ، حَتَّى أُعْطَى صِكَاكًا(2/204)
بِرِجَالٍ قَدْ بُعِثَ بِهِمْ إِلَى النَّارِ، حَتَّى إن مالكاً خازن جهنم لَيَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ: مَا تَرَكْتَ لِغَضَبِ رَبِّكَ على أمتك مِنْ نِقْمَةٍ".
وَحَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ عمير بن أبي كريبة، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحِيمِ، حَدَّثَنِي زَيْدُ بْنُ أَبِي أُنَيْسَةَ، عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الحارث، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
"يُحْشَرُ النَّاسُ عُرَاةً، فَيَجْتَمِعُونَ شَاخِصَةً أَبْصَارُهُمْ إلى السماء، يبصرون فَصْلَ الْقَضَاءِ، قِيَامًا أَرْبَعِينَ سَنَةً، فَيَنْزِلُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنَ الْعَرْشِ إِلَى الْكُرْسِيِّ فَيَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُدْعَى إِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَيُكْسَى قُبْطِيَّتَيْنِ مِنَ الْجَنَّةِ، ثُمَّ يَقُولُ الله عز وجل: ادعوا إلى النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ مُحَمَّدًا، قَالَ: فَأَقُومُ، فَأُكْسَى حُلَّةً مِنْ ثِيَابِ الْجَنَّةِ. قَالَ: وَيُفَجَّرُ لِيَ الْحَوْضُ، وَعَرْضُهُ كَمَا بَيْنَ أَيْلَةَ إِلَى الْكَعْبَةِ. قَالَ: فَأَشْرَبُ، وَأَغْتَسِلُ، وَقَدْ تَقَطَّعَتْ أَعْنَاقُ الْخَلَائِقِ مِنَ الْعَطَشِ، ثُمَّ أَقُومُ عَنْ يَمِينِ الْكُرْسِيِّ، لَيْسَ أحد قائم ذَلِكَ الْمَقَامَ غَيْرِي، ثُمَّ يُقَالُ: سَلْ تُعْطَهْ، واشفع تشفع، فَقَالَ رَجُلٌ: أَتَرْجُو لِوَالِدَيْكَ شَيْئًا يَا رَسُولَ اللَّهِ? قَالَ: إِنِّي لَشَافِعٌ لَهُمَا، أُعْطِيتُ أَوْ مُنِعْتُ، وَمَا أَرْجُو لَهُمَا شَيْئًا".
ثُمَّ قَالَ الْمِنْهَالُ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ أَيْضًا إِنْ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَمُرُّ بِقَوْمٍ مِنْ أُمَّتِي قَدْ أُمِرَ بِهِمْ إِلَى النَّارِ فَيَقُولُونَ: يَا مُحَمَّدُ: نَنْشُدُكَ الشَّفَاعَةَ، قَالَ: فَآمُرُ الْمَلَائِكَةَ أَنْ يَقِفُوا بِهِمْ، قال: فأنطلق واستأذن عَلَى الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ، فَيُؤْذَنُ لِي، فَأَسْجُدُ، وأقول: رَبِّ: قَوْمٌ مِنْ أُمَّتِي قَدْ أَمَرْتَ بِهِمْ الى النار، قال: فيقول: انطلق فأخرج من شاء الله أن تخرج، ثُمَّ يُنَادِي الْبَاقُونَ يَا مُحَمَّدُ: نَنْشُدُكَ الشَّفَاعَةَ، فأرجع إلى الرب، فأستأذن، فيؤذن لي، فأسجد، فيقول: ارفع رأسك، سل تعط، واشفع تشفع. فأقول فأثني على الله بثناء لم يثن عليه أحد، ثم أقول: قَوْمٌ مِنْ أُمَّتِي قَدْ أُمِرَ بِهِمْ إِلَى(2/205)
النار، فيقول: انطلق فأخرج مِنْهُمْ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فأقول: وَمَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ. قَالَ: فَيَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ لَيْسَتْ تِلْكَ لَكَ، تِلْكَ لِي، قَالَ: فَأَنْطَلِقُ فَأُخْرِجُ مَنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ أُخْرِجَ قَالَ: وَيَبْقَى قَوْمٌ فَيَدْخُلُونَ النَّارَ، فَيُعَيِّرُهُمْ أَهْلُ النَّارِ، فَيَقُولُونَ: أَنْتُمْ كنتم تعبدون الله ولا تشركون به، وقد أدخلكم إلى النار قال: فيحزنون لذلك، قَالَ: فَيَبْعَثُ اللَّهُ مَلِكًا بِكَفٍّ مِنْ مَاءٍ، فينضح بها في النار، فَلَا يَبْقَى أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ لَا إِلَهَ إلا الله، إلا وقعت في وجهه قَطْرَةٌ قَالَ: فَيُعْرَفُونَ بِهَا، وَيَغْبِطُهُمْ أَهْلُ النَّارِ، ثُمَّ يَخْرُجُونَ، فَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، فَيُقَالُ لَهُمْ: انْطَلِقُوا، فيضيفون النَّاسَ، فَلَوْ أَنَّ جَمِيعَهُمْ نَزَلُوا بِرَجُلٍ وَاحِدٍ، كان لهم عنده سعة، ويسمون المجردين".
وهذا السياق يقتضي تعدد الشَّفَاعَةِ، فِيمَنْ أُمِرَ بِهِمْ إِلَى النَّارِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ أَنْ لَا يَدْخُلُوهَا، وَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ: فأخرج: أَنْقِذْ: بِدَلِيلِ قَوْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ: وَيَبْقَى قَوْمٌ فيدخلون النار، والله تعالى أعلم.(2/206)
النوع الرابع من الشفاعة: شفاعته صلى الله عليه وسلم في رفع درجات من يدخل الجنة فيها،
فوق ما كان يَقْتَضِيهِ ثَوَابُ أَعْمَالِهِمْ، وَقَدْ وَافَقَتِ الْمُعْتَزِلَةُ عَلَى هذه الشفاعة خاصة، وقد خالفوا فيما عداها من المقامات مَعَ تَوَاتُرِ الْأَحَادِيثِ فِيهَا، عَلَى مَا سَتَرَاهُ قريباً إن شاء تعالى، وبه الثقة، وعليه التكلان.
فأما دليل هذا النوع، فَهُوَ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَغَيْرِهِمَا: مِنْ رِوَايَةِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، لَمَّا أُصِيبَ عَمُّهُ أبو عامر، في غزوة الأوطاس وأخبر أَبُو مُوسَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ وَقَالَ:(2/206)
"اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِعُبَيْدٍ، أَبِي عَامِرٍ، وَاجْعَلْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَوْقَ كَثِيرٍ مِنْ خَلْقِكَ".
وَهَكَذَا حَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دعا لأبي سلمة بعدما تُوُفِّيَ، فَقَالَ:
"اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِأَبِي سَلَمَةَ، وَارْفَعْ دَرَجَتَهُ فِي الْمَهْدِيِّينَ، وَاخْلُفْهُ فِي عَقِبِهِ فِي الْغَابِرِينَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلَهُ، يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ، وَأَفْسِحْ لَهُ فِي قَبْرِهِ، وَنَوِّرْ لَهُ فِيهِ". وهو في صحيح مسلم.(2/207)
من الشفاعة ما يدخل من شفع له الجنة بغير حساب ومنها ما يخفف عن المذنب من العذاب
وَقَدْ ذَكَرَ الْقَاضِي عِيَاضٌ، وَغَيْرُهُ نَوْعًا آخَرَ من الشفاعة، وهو الخامس، فِي أَقْوَامٍ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ، وَلَمْ أَرَ لِهَذَا شَاهِدًا فِيمَا عَلِمْتُ، وَلَمْ يَذْكُرِ القاضي فيما رأيت مستند ذلك، ثُمَّ تَذَكَّرْتُ حَدِيثَ عُكَّاشَةَ بْنِ مِحْصَنٍ حِينَ دَعَا لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ يَجْعَلَهُ مِنَ السَّبْعِينَ أَلْفًا الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ.
وَالْحَدِيثُ مُخَرَّجٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ، كَمَا تَقَدَّمَ، وَهُوَ يُنَاسِبُ هَذَا الْمَقَامَ.
وَذَكَرَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُرْطُبِيُّ فِي التَّذْكِرَةِ: نوعاً آخر سَادِسًا مِنَ الشَّفَاعَةِ، وَهُوَ شَفَاعَتُهُ فِي عَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ، أَنْ يُخَفَّفَ عَذَابُهُ ...
وَاسْتَشْهَدَ بِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذُكِرَ عِنْدَهُ أَبُو طَالِبٍ فَقَالَ:(2/207)
"لَعَلَّهُ تَنْفَعُهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُجْعَلُ فِي ضَحْضَاحٍ مِنْ نَارٍ، يَبْلُغُ كَعْبَيْهِ، يَغْلِي مِنْهُ دِمَاغُهُ".
ثُمَّ قَالَ: فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَمَا تَنْفَعُهًمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} . [74- المدثر-48] .
قيل له: لَا تَنْفَعُهُ فِي الْخُرُوجِ مِنَ النَّارِ، كَمَا تَنْفَعُ عُصَاةَ الْمُوَحِّدِينَ، الَّذِينَ يَخْرُجُونَ مِنْهَا، وَيَدْخُلُونَ الجنة.(2/208)
النوع السابع: شفاعته صلى الله عليه وسلم لِجَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ قَاطِبَةً فِي أَنْ يُؤْذَنَ لَهُمْ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ
...
النَّوْعُ السَّابِعُ مِنَ الشَّفَاعَةِ: شفاعته صلى الله عليه وسلم لِجَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ قَاطِبَةً فِي أَنْ يُؤْذَنَ لَهُمْ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ
كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
"أَنَا أول شافع فِي الْجَنَّةِ".
وَقَالَ فِي حَدِيثِ الصُّورِ بَعْدَ ذِكْرِ مُرُورِ النَّاسِ عَلَى الصِّرَاطِ:
"فَإِذَا أَفْضَى أهل الجنة إلى أبواب الْجَنَّةِ، قَالُوا: مَنْ يَشْفَعُ لَنَا إِلَى رَبِّنَا، فَنَدْخُلَ الْجَنَّةَ، فَيَقُولُونَ: مَنْ أَحَقُّ بِذَلِكَ مِنْ أبيكم آدم? إنه خَلَقَهُ اللَّهُ بِيَدِهِ. وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ، وَكَلَّمَهُ قِبَلًا، فَيَأْتُونَ آدَمَ، فَيُطْلَبُ ذَلِكَ إِلَيْهِ، فَيَذْكُرُ ذَنْبًا، وَيَقُولُ: مَا أَنَا بِصَاحِبِ ذَلِكَ، وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِنُوحٍ، فإنَهُ أَوَّلُ رُسُلِ اللَّهِ، فَيُطْلَبُ ذَلِكَ إِلَيْهِ، فَيَذْكُرُ ذَنْبًا، وَيَقُولُ: مَا أنا بصاحب ذلك، عليكم بموسى، فَيُطْلَبُ ذَلِكَ إِلَيْهِ، فَيَذْكُرُ ذَنْبًا، وَيَقُولُ: مَا أنا بصاحب ذلك، وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِمُحَمَّدٍ". قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فيأتون إِليَّ، ولي عند ربي عز وجل ثَلَاثُ شَفَاعَاتٍ وَعَدَنِيهِنَّ، فَأَنْطَلِقُ فَآتِي الْجَنَّةَ، فَآخُذُ بحلقة الباب، ثمِ أستفتح، فيفتح لي، فأحيي، وَيُرَحَّبُ بِي، فَإِذَا دَخَلْتُ فَنَظَرْتُ إِلَى رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ خَرَرْتُ لَهُ سَاجِدًا، فَيَأْذَنُ اللَّهُ من حمده وتمجيده بشيء ما أذن بت(2/208)
لأحد من خلقه، ثم يقول الله لي: ارفع يا محمد رأسك، واشفع تشفع، وسل تعطه، فإذا رفعت رأسي، قَالَ اللَّهُ: - وَهُوَ أَعْلَمُ- مَا شَأْنُكَ? فَأَقُولُ: يَا رَبِّ: وَعَدْتَنِي الشَّفَاعَةَ، فَشَفِّعْنِي فِي أَهْلِ الْجَنَّةِ، يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: قَدْ شَفَّعْتُكَ، وَأَذِنْتُ لَهُمْ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ"، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "وَالَّذِي بَعَثَنِي بِالْحَقِّ، مَا أَنْتُمْ فِي الدُّنْيَا بِأَعْرَفَ بِأَزْوَاجِكُمْ وَمَسَاكِنِكُمْ، مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ بأزواجهم ومسا كنهم".
فيدخل كل رجل منهم على اثنتين وسبعين زوجة مما ينشىء الله عز وجل، واثنتين مِنْ بَنَاتِ آدَمَ، لَهُمَا فَضْلٌ عَلَى مَنْ يشاء الله، بعبادتهما الله في الدنيا ثم ذكر بعد هذا الشَّفَاعَةَ فِي أَهْلِ الْكَبَائِرِ وَهُوَ النَّوْعُ الثَّامِنُ.(2/209)
النَّوْعُ الثَّامِنُ: شَفَاعَتُهُ فِي أَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أمة محمد ممن دخل النار، فيخرجون منها
...
النوع الثامن: من الشفاعة، شفاعته في أهل الكبائر من أمة محمد ممن دخل النار، فَيَخْرُجُونَ مِنْهَا
وَقَدْ تَوَاتَرَتْ بِهَذَا النَّوْعِ الْأَحَادِيثُ.
خفي علم الشفاعة على الخوارج والمعتزلة فأنكروها، وعاند بعضهم فرفضوا القول بها.
وَقَدْ خَفِيَ عِلْمُ ذَلِكَ عَلَى الْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ، فَخَالَفُوا فِي ذَلِكَ، جَهْلًا مِنْهُمْ بِصِحَّةِ الْأَحَادِيثِ، وَعِنَادًا مِمَّنْ عَلِمَ ذَلِكَ، وَاسْتَمَرَّ عَلَى بِدْعَتِهِ، وَهَذِهِ الشَّفَاعَةُ يُشَارِكُهُ فِيهَا الْمَلَائِكَةُ، وَالنَّبِيُّونَ، وَالْمُؤْمِنُونَ أيضاً، وهذه الشفاعة تتكرر منه صلوات الله وسلامه عليه.(2/209)
بَيَان طُرق الأحَاديث وألْفَاظِها وَمِنَ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدة فِي شَفَاعَة المُؤمنين لأهَالِيهم
رِوَايَةُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ
قَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَضَّاحٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَمَانٍ، عَنْ شَرِيكٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ، عَنِ الطُّفَيْلِ بْنِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"أَنَا خَطِيبُ الْأَنْبِيَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَإِمَامُهُمْ، وَصَاحِبُ شَفَاعَتِهِمْ".
رِوَايَةُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ ليث، عن الربيع، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"أَنَا أَوَّلُهُمْ خُرُوجًا، وَأَنَا قَائِدُهُمْ إِذَا وَفَدُوا، وَأَنَا خَطِيبُهُمْ إِذَا أَنْصَتُوا، وَأَنَا شَفِيعُهُمْ إِذَا حُبِسُوا، وَأَنَا مبشرهم إذا يئسوا، والكرامة وَالْمَفَاتِيحُ يَوْمَئِذٍ بِيَدِي، وَلِوَاءُ الْحَمْدِ يَوْمَئِذٍ بِيَدِي، وأنا أكرم ولد آدم على الله عز وجل، يَطُوفُ عَلَيَّ أَلْفُ خَادِمٍ، كَأَنَّهُمْ بَيْضٌ مُكَنُّونٌ، أَوْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَنْثُورٌ".
ثُمَّ رَوَاهُ عَنْ خلف، عن هشام، عن جبير بن علي العري، عَنْ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زَحْر، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، عن أَنَسٍ فَذَكَرَهُ مَرْفُوعًا كَمَا تَقَدَّمَ.(2/210)
طَرِيقٌ أُخْرَى عَنْهُ
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا بسطام بن حرب، عن أشعث الحذاء، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"شَفَاعَتِي لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِي" 1.
وَهَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ: عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ بِسْطَامٍ، عَنْ أَشْعَثَ بْنِ عبد الله، عن جابر الحماني، عن أنس.
طريق أخرى
قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ، حدثنا الخزرج بن عثمان، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"شَفَاعَتِي لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِي".
ثُمَّ قَالَ: لَمْ يَرْوِهِ عَنْ ثَابِتٍ إلا الخزرج بن عثمان.
وهكذا روى أَبُو يَعْلَى مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ الرَّقَاشِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ:
"شَفَاعَتِي لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ من أمتي".
طريق أخرى
قال الإِمام أحمد: حدثنا عارم، عن مُعْتَمِرُ، سَمِعْتُ أَبِي يُحَدِّثُ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
"كل نبي سَأَلَ سُؤَالًا أَوْ قَالَ: لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ قد دعاها، فاستجيب له، وقد استجاب الله تعالى دعوتي، شفاعة لأمتي يوم القيامة" 2.
__________
1 الحديث رواه أحمد في مسنده 3/213.
2 الحديث رواه أحمد في مسنده 3/219.(2/211)
أَوْ كَمَا قَالَ.
وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا فَقَالَ: وَقَالَ مُعْتَمِرٌ: عَنْ أَبِيهِ، وَأَسْنَدَهُ مُسْلِمٌ، فَرَوَاهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبَدِ الْأَعْلَى، عَنْ مُعْتَمِرٍ، عَنْ أَبِيهِ سُلَيْمَانَ بْنِ طَرْخَانَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أنس به نحوه:
طَرِيقٌ أُخْرَى
قَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنَا فُضَيْلِ بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بن عياش، عن حميد، عن أنس ابن مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"شَفَاعَتِي لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِي".
وقال ابن أبي الدنيا: حدثنا محمد بن يَزِيدَ الْعِجْلِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم:
"إن كان يوم القيامة أوتيت الشَّفَاعَةَ، فَأَشْفَعُ لِمَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ، حَتَّى لَا يَبْقَى أَحَدٌ فِي قَلْبِهِ مِنَ الإِيمان مِثْلُ هَذَا" وَحَرَّكَ الإِبهام والمسبحة.
طريق أخرى
قَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا بَهْزٌ، وَعَفَّانُ، قَالَا: حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، حَدَّثَنَا قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
"لِكُلِّ نبي دعوة قد دعاها، واستجيب له، وإني قد خبأت دعوتي، شفاعة لأمتي يوم القيامة".(2/212)
على شرطيهما، وَلَمْ يُخْرِجُوهُ مِنْ حَدِيثِ هَمَّامٍ، وَإِنَّمَا أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي عَوَانَةَ الْوَضَّاحِ بْنِ عبد الملك الْيَشْكُرِيِّ، عَنْ قَتَادَةَ.
ثُمَّ رَوَاهُ مُسْلِمٌ: مِنْ حَدِيثِ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم:
"يجتمع المؤمنون يوم القيامة، فيهتمون بذلك، أو يهمون لذك، فيقولون: لو استشفعنا إلى ربنا حتى يريحنا من مكاننا هذا، فيأتون آدم صلى الله عليه وسلم فيقولون: أنت آدم أبو الخلق، خلقك الله تعالى بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ، وَأَمَرَ الْمَلَائِكَةَ فسجدوا لك. اشفع لنا عند ربك، ليريحنا من مكاننا هذا، فيقول: لست هناكم، فيذكر خطيئته التي أصاب، فيستحي من ربه منها" بِمِثْلِ حَدِيثِ أَبِي عَوَانَةَ وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ:
"ثُمَّ آتِيهِ الرَّابِعَةَ، أَوْ أَعُودُ الرَّابِعَةَ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ: مَا بَقِيَ إِلَّا مَنْ حَبَسَهُ القرآن".
طريق أخرى
قال أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، حَدَّثَنَا قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
"يُحْبَسُ الْمُؤْمِنُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فيهتمون لذلك، فيقولون: لو استشفعنا إلى ربنا فيريحنا من مكاننا هذا، قال: فَيَأْتُونَ آدَمَ، فَيَقُولُونَ: أَنْتَ أَبُونَا، خَلَقَكَ اللَّهُ تعالى بِيَدِهِ، وَأَسْجَدَ لَكَ مَلَائِكَتَهُ، وَعَلَّمَكَ أَسْمَاءَ كُلِّ شيء، فاشفع لنا عند ربك، فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ، وَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ الَّتِي أَصَابَ، أَكْلَهُ مِنَ الشَّجَرَةِ، وَقَدْ نُهِيَ عَنْهَا، وَلَكِنِ أتوا نُوحًا، أَوَّلَ نَبِيٍّ بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ، قَالَ: فَيَأْتُونَ نُوحًا، فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ، ويذكر خطيئته، بسؤاله ربه بغير علم، ولكن ائتوا إبراهيم، فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ فَيَقُولُ: لَسْتُ(2/213)
هُنَاكُمْ: وَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ الَّتِي أَصَابَ، ثَلَاثَ كَذَبَاتٍ، كَذَبَهُنَّ، قَوْلُهُ: {إِنِّي سَقِيمٌ} وَقَوْلُهُ: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} وأتى على الجبار النمرود وَمَعَهُ امْرَأَتُهُ فَقَالَ: أَخْبِرِيهِ أَنِّي أَخُوكِ، فإِني مُخْبِرُهُ أَنَّكِ أُخْتِي، وَلَكِنِ ائْتُوا مُوسَى، عَبْدًا كَلَّمَهُ اللَّهُ تَكْلِيمًا، وَأَعْطَاهُ التَّوْرَاةَ، قَالَ: فَيَأْتُونَ مُوسَى، فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ، وَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ الَّتِي هي قتله الرجل، ولكن ائتوا عيسى، عبداً هو كلمة اللَّهِ وَرُوحَهُ. قَالَ: فَيَأْتُونَ عِيسَى فَيَقُولُ: لَسْتُ هناكم، ولكن ائتوا محمداً، عبداً غفر الله مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، قَالَ: فيأتون فأستأذن على ربي فِي دَارِهِ، فَيُؤْذَنُ لِي عَلَيْهِ فإِذا رَأَيْتُهُ وَقَعْتُ سَاجِدًا، فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَدَعَنِي، ثُمَّ يَقُولُ: ارْفَعْ رَأْسَكَ يَا مُحَمَّدُ، وقل تسمع، واشفع تشفع، وسل تعط، فَأَحْمَدُ رَبِّي بِثَنَاءٍ وَتَحُمَيْدٍ يُعَلِّمُنِيهِ، ثُمَّ أَشْفَعُ، فَيَحِدُّ لِي حَدًّا، فَأُخْرِجُهُمْ، فَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ، قَالَ: ثم استأذن على ربي الثَّانِيَةَ، فَيُؤْذَنُ لِي عَلَيْهِ، فإِذا رَأَيْتُهُ وَقَعْتُ سَاجِدًا، فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَدَعَنِي، ثُمَّ يَقُولُ: ارْفَعْ رَأْسَكَ يَا مُحَمَّدُ، وَقُلْ تُسْمَعْ، واشفِع تُشَفَّعْ، وَسَلْ تُعْطَ، قَالَ: فَأَرْفَعُ رَأْسِي، فَأَحْمَدُ رَبِّي بِثَنَاءٍ وَتَحُمَيْدٍ يُعَلِّمُنِيهِ، ثُمَّ أشفع، فيحد لي حداً، فأدخلهم الجنة، قال همام: وأيضاً سمعته يَقُولُ: فَأُخْرِجُهُمْ مِنَ النَّارِ، فَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ قَالَ: ثم استأذن على ربي الثَّالِثَةَ، فإِذا رَأَيْتُهُ وَقَعْتُ سَاجِدًا، فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَدَعَنِي، ثُمَّ يَقُولُ: ارْفَعْ رَأْسَكَ يَا مُحَمَّدُ، وَقُلْ تُسْمَعْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، وَسَلْ تُعْطَ، فَأَرْفَعُ رَأْسِي فَأَحْمَدُ رَبِّي بِثَنَاءٍ وتحميد يعلمينه، ثُمَّ أَشْفَعُ، فَيَحِدُّ لِي حَدًّا، فَأُخْرِجُهُمْ مِنَ النَّارِ فَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ"، قَالَ هَمَّامٌ: وَسَمِعَتُهُ يَقُولُ: فَأُخْرِجُهُمْ مِنَ النَّارِ فَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ فَمَا يَبْقَى فِي النَّارِ إِلَّا مَنْ حَبَسَهُ الْقُرْآنُ أَيْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْخُلُودُ1.
ثُمَّ تَلَا قَتَادَةُ: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبًّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً} . [17-الإسراء- 79] .
__________
1 الحديث رواه أحمد في مسنده 3- 244، 245.(2/214)
قَالَ هُوَ الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ الَّذِي وَعَدَ اللَّهُ تعالى نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ مُعَلَّقًا فَقَالَ: وَقَالَ حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ، عَنْ هَمَّامٍ، فَذَكَرَهُ بِنَحْوِهِ.
طرق آخر متعددة
قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، حَدَّثَنَا معبد بن هلال البغوي، قال: اجتمعنا مع ناس من البصرة، فذهبنا إلى أنس بن مالك، وذهب معنا ثابت البناني، ليسأله لَنَا عَنْ حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ، فإِذا هُوَ فِي منزله يصلي الضحى، فوقفنا حتى انتهى من صلاته، فاستأذناه، فَأَذِنَ لَنَا، وَهُوَ قَاعِدٌ عَلَى فِرَاشِهِ، فَقُلْنَا لثابت: لا تسأله عن شيء أولى مِنْ حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ، فَقَالَ: يَا أَبَا حَمْزَةَ: هَؤُلَاءِ إِخْوَانُكَ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، جَاءُوا يَسْأَلُونَكَ عن الشَّفَاعَةِ، فَقَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
"إِذا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، مَاجَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ، فَيَأْتُونَ آدَمَ. فَيَقُولُونَ: اشفع لنا إلى ر بك، فيقول: لست لها، ولكن عليكم بإِبراهيم، فَيَقُولُ: لَسْتُ لَهَا وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِمُوسَى، فإِنه كَلِيمُ اللَّهِ، فَيَأْتُونَ مُوسَى، فَيَقُولُ: لَسْتُ لَهَا، وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِعِيسَى، فإِنه رُوحُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ، فَيَأْتُونَ عِيسَى، فَيَقُولُ: لَسْتُ لَهَا، وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بمحمد، فيأتوني، فأقول: أنا لها، فأستأذن على ر بي، فَيُؤْذَنُ لِي، وَيُلْهِمُنِي مَحَامِدَ أَحْمَدُهُ بِهَا، لَا تَحْضُرُنِي الْآنَ، فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ الْمَحَامِدِ، وأخِر لَهُ سَاجِدًا، فَيُقَالُ يَا مُحَمَّدُ، ارْفَعْ رَأْسَكَ وَقُلْ يسمع لك، واشفع تشفع، وسل تعط،(2/215)
فأقول: يا رب: أمتي، فيقال: انطلق، فأخرج مِنَ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ شَعِيرَةٍ مِنْ إِيمَانٍ، فَأَنْطَلِقُ، فَأَفْعَلُ، ثُمَّ أَعُودُ، فأحمد الله بِتِلْكَ الْمَحَامِدِ، ثُمَّ أَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا، فَيُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ، واشفع تشفع وسل تعط، فأقول: يا رب: أمتي أمتي، فيقال، انطلق فأخرج من كان في قلبه أدنى مثقال حبة من خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ، فَأَخْرِجْهُ مِنَ النَّارِ، فَأَنْطَلِقُ فَأَفْعَلُ".
قَالَ: فَلَمَّا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِ أَنَسٍ، قُلْتُ لِبَعْضِ أَصْحَابِي لَوْ مَرَرْنَا بِالْحَسَنِ وَهُوَ مُتَوَارٍ فِي مَنْزِلِ أَبِي خَلِيفَةَ، فَحَدَّثْنَاهُ بِمَا حدثناه أنس بن مالك، فلم ير مِثْلَ مَا حَدَّثَنَا فِي الشَّفَاعَةِ، فَقَالَ: هِيهِ: فحدثناه بالحديث، فانتيهنا إلى هذا الموضع، فقال: لم يرو على هذا، فقال: لقد حدثني بهذا الحديث مُنْذُ عِشْرِينَ سَنَةً، فَمَا أَدْرِي أَنَسِيَ أَمْ كره أن تتكلموا? فَقُلْنَا: يَا أَبَا سَعِيدٍ: فَحَدِّثْنَا، فَضَحِكَ، وَقَالَ: {وَكَانَ الإِنْسَانُ عَجًولاً} . [17-الإسراء-11] .
مَا ذَكَرْتُهُ إِلَّا وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أُحَدِّثَكُمْ، حَدَّثَنِي كَمَا حَدَّثَكُمْ قَالَ: "ثُمَّ أَعُودُ الرَّابِعَةَ فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ الْمَحَامِدِ، ثُمَّ أَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا، فَيُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ: ارْفَعْ رَأْسَكَ وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ، وَسَلْ تُعْطَهْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ: ائْذَنْ لِي فِيمَنْ قَالَ: لَا إِله إلا الله، فيقول: وعزتي، وَكِبْرِيَائِي، وَعَظَمَتِي لَأُخْرِجَنَّ مِنْهَا مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ".
وَهَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ: عَنْ أَبِي الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيِّ، وَسَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، كِلَاهُمَا عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، بِهِ نَحْوَهُ.
وَقَدْ رواه أَحْمَدُ: عَنْ عَفَّانَ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ وَقَالَ:
"فَأَحْمَدُ رَبِّي بِمَحَامِدَ لَمْ يَحْمَدْهُ بِهَا أَحَدٌ كَانَ قَبْلِي، وَلَا يَحْمَدُهُ بِهَا أَحَدٌ بَعْدِي، قال: فَأَخْرِجْ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ شَعِيرَةٍ، ثُمَّ يَعُودُ فَيُقَالُ: مِثْقَالُ ذَرَّةٍ" وَلَمْ يَذْكُرِ الرابعة.(2/216)
وهكذا رَوَاهُ الْبَزَّارُ: عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ بَشَّارٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ مَعْمَرٍ، كِلَاهُمَا عَنْ حَمَّادِ بْنِ مَسْعَدَةَ، عن محمد بن عجلان، عن جونة بْنِ عُبَيْدٍ الْمَدَنِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، فذكر الحديث بطوله، وذكر فيه الشَّفَاعَةُ ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ: لَمْ يَرْوِ عَنْ جونة بن عبيد إلا ابن عجلان.
وهكذا رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى: مِنْ حَدِيثِ الْأَعْمَشِ، عَنْ زيد الرقاشي، عن أنس فذكر الحديث بطوله، فذكر ثَلَاثُ شَفَاعَاتٍ، وَقَالَ فِي آخِرِهِنَّ: فَأَقُولُ: أُمَّتِي، فيقال: "لَكَ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُخْلِصًا".
طَرِيقٌ أُخْرَى
قَالَ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بن علي، حدثنا عمرو بْنُ مَسْعَدَةَ، عَنْ عِمْرَانَ الْعَمِّيِّ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"لَا أَزَالُ أَشْفَعُ وَأُشَفَّعُ- أَوْ قَالَ: وَيُشَفِّعُنِي رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ، حَتَّى أَقُولَ: أَيْ رَبِّ: شَفِّعْنِي فِيمَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ". ثُمَّ قَالَ: لَا نَعْلَمُهُ يُرْوَى إِلَّا بِهَذَا الإِسناد. وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا: عَنْ أَبِي حَفْصٍ الصَّيْرَفِيِّ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ مَسْعَدَةَ بِهِ.
طَرِيقٌ أُخْرَى
قَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا حَرْبُ بْنُ مَيْمُونٍ أَبُو الْخَطَّابِ الْأَنْصَارِيُّ، عَنِ النَّضْرِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: حَدَّثَنَا نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
"إِنِّي لَقَائِمٌ أَنْتَظِرُ أُمَّتِي تَعْبُرُ الصِّرَاطَ، إِذْ جَاءَنِي عِيسَى، فَقَالَ: هَذِهِ الْأَنْبِيَاءُ قَدْ جَاءَتْكَ يَا مُحَمَّدُ يسألون، أو قال: يجتمعون إليك، لتدعو الله أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ جَمِيعِ الْأُمَمِ، إِلَى حَيْثُ يشاء لهم، فيخرجهم مما هم فيه، والخلق مُلْجَمُونَ بِالْعَرَقِ، فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَهُوَ عَلَيْهِ كَالزُّكْمَةِ، وأما الكافر(2/217)
فيغشاه الموت، قال: فأقول: يَا عِيسَى: انْتَظِرْ حَتَّى أَرْجِعَ إِلَيْكَ، قَالَ: فأذهب حتى أقوم تحت العرش، فألقي ما لم يلق نبي مصطفى، ولا نبي مرسل، فيوحي الله إِلَى جِبْرِيلَ: اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ فَقُلْ: ارْفَعْ رأسك، وسل تعط، واشفع تشفع، قال: فأشفع فِي أُمَّتِي، أَنْ أَخْرِجْ مِنْ كُلِّ تِسْعَةٍ وتسعين إنسانَاً واحداً، قال: فما أزال أتردد على ربي، فلا أقوم بين يديه مقاماً إلا شفعت، حتى يعطيني الله عز وجل من ذلك أن يقول سبحانه وتعالى: يا محمد: أدخل مِنْ أُمَّتِكَ مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، يَوْمًا وَاحِدًا مُخْلِصًا، وَمَاتَ عَلَى ذَلِكَ". تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ، وَقَدْ حَكَمَ التِّرْمِذِيُّ بِالْحُسْنِ لِهَذَا الإِسناد.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حدثنا أبو يوسف العلوي: حدثنا عبد الله بن رجاء، أخبرنا حَرْبُ بْنُ مَيْمُونٍ، حَدَّثَنِي النَّضْرُ بْنُ أَنَسٍ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: "جَاءَ جِبْرِيلُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ حَضَرَ مِنْ أمر العباد منا حضر، فقال: أستأذن إِلَى رَبِّكَ، فَسَلْ لِأُمَّتِكَ الشَّفَاعَةَ، قَالَ: فَدَنَوْتُ من العرش، فقصت عِنْدَ الْعَرْشِ، فَلَقِيتُ مَا لَمْ يَلْقَ نَبِيٌّ، وَلَا مَلَكٌ مُقَرَّبٌ، فَقَالَ: سَلْ تُعْطَهْ، وَاشْفَعْ تشفع، فقلت: أمتي". وذكر الحديث كنحو سياق الإِمام أحمد.
قَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مَعْبَدٍ، حَدَّثَنَا الْأَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ، حَدَّثَنَا أَبُو إسرائيل، عن الحارث ابن حصيرة، عن ابن أبي بريدة، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أشفع في عَدَدَ كُلِّ حَجَرٍ وَمَدَرٍ لِأُمَّتِي".(2/218)
رِوَايَةُ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
قَالَ الإِمام أَحْمَدُ: حدثنا معمر، حدثنا عبد الله، حدثنا هشام، سمعت الحسن يذكر عن جابر بنعبد الله، قال: قال رسول الله:
"إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةً قَدْ دَعَا بِهَا، وَإِنِّي اخْتَبَأْتُ دَعْوَتِي، شَفَاعَةً لِأُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ" 1.. تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
طَرِيقٌ أخرى
شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم يوم القيامة تكون لمن أوثق نفسه وأثقل ظهره:
قال الحافظ البيهقي: أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ داود العلوي، أنبأنا محمد بن حمدويه بن سهل المروزي، أخبرنا أَبُو نَصْرٍ الْغَازِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حماد الأيلي، حَدَّثَنَا صَفْوَانُ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ، حَدَّثَنَا زهر بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم:
"شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِي".
فَقُلْتُ: مَا هَذَا يَا جَابِرُ? قَالَ: نَعَمْ يَا مُحَمَّدُ، إِنَّهُ مَنْ زَادَتْ حَسَنَاتُهُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ فَذَلِكَ الَّذِي يَدْخُلُ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ، ومن استوت حسناته وسيئاته فذلك الَّذِي يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا، ثُمَّ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ، وَإِنَّمَا شَفَاعَةُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَنْ أوثق نفسه وأعلق ظهره.
__________
1 الحديث رواه أحمد في مسنده 3- 396.(2/219)
وَقَدْ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا: عَنِ الْحَاكِمِ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَحْمَدَ الْمُزَكِّي، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْعَبْدِيِّ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ كَعْبٍ الْحَلَبِيِّ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ مسلم، عن زهر بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَابِرٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تلا: {وَلاَ يَشْفَغونَ إِلاَّ لِمَن ارتَضَى وهمْ مِنْ خَشْيتهِ مشْفِقونَ} . [21-الأنبياء-28] .
ثم قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"شَفَاعَتِي لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِي". قَالَ الْحَاكِمُ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَظَاهِرُهُ يُوجِبُ أَنْ تَكُونَ الشَّفَاعَةُ في أهل الكبائر، تختص برسول الله صلى الله عليه وسلم، فالملائكة إنما يشفعون في أهل الصغائر، واستزادة الدَّرَجَاتِ، وَقَدْ يَكُونُ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ، بَيَانَ كَوْنِ الْمَشْفُوعِ فِيهِ مُرْتَضًى بإِيمانه، وَإِنْ كَانَتْ لَهُ كَبَائِرُ وَذُنُوبٌ، دُونَ الشِّرْكِ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالْآيَةِ، نَفْيَ الشَّفَاعَةِ لِلْكُفَّارِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لم يأذن بها، ولم يرض اعتقاد جوازها.
طريق أخرى
قال أحمد: حدثنا روح، حدثنا ابن جرير، أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ، أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: قال رسول الله:
"لكل نبي دعوة مستجابة قد دعاها فِي أُمَّتِهِ، وَخَبَأْتُ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لِأُمَّتِي يَوْمَ القيامة". وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ: عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ أبي خلف، عن روح بن عبادة.(2/220)
طَرِيقٌ أُخْرَى
قَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ، حدثنا زهر، حَدَّثَنَا أَبُو الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"إِذَا مُيِّزَ أَهْلُ الْجَنَّةِ، وَأَهْلُ النَّارِ، فَدَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ، قَامَتِ الرُّسُلُ، فشفعوا، فيقال: انطلقوا واذهبوا، فمن عرفتموه فَأَخْرِجُوهُ، فَيُخْرِجُونَهُمْ قَدِ امْتَحَشُوا فَيُلْقُونَهُمْ فِي نَهَرٍ-أو على نهر- يقال له نهر الحياة".
قال: "فيسقط امتحاشهم على حافتي النهر، ويخرجون بيضاً، كالقوارير ثم يشفعون، فيقال: اذهبوا وانطلقوا، فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة قيراط من إيمان فأخرجوه، قال: فيخرجون سراعاً، ويشفعون، فيقال: اذهبوا وانطلقوا، فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خردل من إيمان فأخرجوه، ثم يقول الله: أَنَا الْآنَ أُخْرِجُ بِعِلْمِي وَرَحْمَتِي، فَيُخْرِجُ أَضْعَافَ مَا أَخْرَجُوا، وَأَضْعَافَهُ، فَيُكْتَبُ فِي رِقَابِهِمْ عُتَقَاءُ الله، ثُمَّ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، فَيُسَمَّوْنَ فِيهَا الْجَهَنَّمِيِّينَ" 1. تَفَرَّدَ به أحمد.
حَدِيثُ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قَالَ أحمد: حدثنا إبراهيم بْنُ نَافِعٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ رَاشِدِ بْنِ دَاوُدَ الصَّنْعَانِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَسَّانَ، عَنْ رَوْحِ بْنِ زِنْبَاعٍ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، قَالَ: فَقَدَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةً أَصْحَابُهُ، وَكَانُوا إِذا نزلوا أنزلوه أوسطهم، ففزعوا وظنوا أن الله تبارك وتعالى اختار له أصحاباً غيرهم،
__________
1 الحديث رواه أحمد في مسنده 3-326.(2/221)
فإِذا هُمْ بِخَيَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَبَّرُوا حِينَ رَأَوْهُ، وَقَالُوا: يَا رَسُولَ الله، أشفقنا أن يكون الله تبارك وتعالى اخْتَارَ لَكَ أَصْحَابًا غَيْرَنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"لَا، بَلْ أَنْتُمْ أَصْحَابِي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَيْقَظَنِي، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنِّي لَمْ أَبْعَثْ نَبِيًّا، وَلَا رَسُولًا إِلَّا وَقَدْ سَأَلَنِي مَسْأَلَةً أعطيتها إياه، فاسأل يَا مُحَمَّدُ تُعْطَهْ، فَقُلْتُ: مَسْأَلَتِي شَفَاعَةٌ لِأُمَّتِي يوم القيامة فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا الشَّفَاعَةُ? قَالَ: أَقُولُ: يَا رَبِّ شَفَاعَتِي الَّتِي اختبأت لأمتي عندك، فيقول الرب تبارك وتعالى نعم، فيخرج الله بقية أمتي من النار فينبذهم في الجنة"، تفرد به أَحْمَدُ.
طَرِيقٌ أُخْرَى
قَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ، حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ الْفَضْلِ الْحُدَّانِيُّ، حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ، قَالَ: قَالَ طَلْقُ بْنُ حَبِيبٍ: كُنْتُ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ تَكْذِيبًا بِالشَّفَاعَةِ، حَتَّى لَقِيتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، فَقَرَأْتُ عَلَيْهِ كُلَّ آيَةٍ أَقْدِرُ عليها، فيها ذكر خلود أهل النار في النَّارِ، فَقَالَ لِي: يَا طَلْقُ: أَتُرَاكَ أَقْرَأُ لكتاب الله، وأعلم بسنة نبيه مني? قال: إن الذي قرأت هُمُ الْمُشْرِكُونَ، وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ أَصَابُوا ذُنُوبًا عُذِّبُوا بِهَا، ثُمَّ أُخْرِجُوا مِنَ النَّارِ- ثُمَّ أومأ بيده إلى أذنيه- ثُمَّ قَالَ: صَمَّتَا، إِنْ لَمْ أَكُنْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُهُ ونحن نقرأ الذي نقرأ.
قَالَ الإِمام أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ بْنِ أَبِي نَضْرَةَ، قَالَ: خَطَبَنَا ابْنُ عَبَّاسٍ عَلَى مِنْبَرِ الْبَصْرَةِ فَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:(2/222)
"إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيٌّ إِلَّا لَهُ دَعْوَةٌ، قد أنجزها فِي الدُّنْيَا، وَإِنِّي قَدِ اخْتَبَأْتُ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لِأُمَّتِي، وَأَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا فَخْرَ، وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الأرض، ولا فخر، بيدي لِوَاءُ الْحَمْدِ، وَلَا فَخْرَ، آدَمُ فَمَنْ دُونَهُ تحت لوائي، ولا فخر، ويطول عَلَى النَّاسِ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، فَيَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: انْطَلِقُوا بِنَا إِلَى آدَمَ أَبِي الْبَشَرِ، فَيَشْفَعُ لنا إلى ربنا، ليقضي بَيْنَنَا، فَيَأْتُونَ آدَمَ، فَيَقُولُونَ: يَا آدَمُ: أَنْتَ الَّذِي خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ، وَأَسْكَنَكَ جَنَّتَهُ، وَأَسْجَدَ لَكَ مَلَائِكَتَهُ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّنَا، فَلْيَقْضِ بَيْنَنَا، فَيَقُولُ إِنِّي لَسْتُ هُنَاكُمْ، إِنِّي قَدْ أخرجت من الجنة بخطيئتي، وإني لَا يُهِمُّنِي الْيَوْمَ إِلَّا نَفْسِي، وَلَكِنِ ائْتُوا إبراهيم الخليل، فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ فَيَقُولُونَ: يَا إِبْرَاهِيمُ اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّنَا، فَلْيَقْضِ بَيْنَنَا، فَيَقُولُ: إِنِّي لَسْتُ هناكم إني كذبت في الإسلام ثلاث كذبات والله إن حاول بهن إلا الدفاع عن دين الله، قوله: {ِنِّي سَقِيمٌ} وَقَوْلُهُ: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} وَقَوْلُهُ لِامْرَأَتِهِ حِينَ أَتَى عَلَى الْمَلِكِ: أُخْتِي، وإنه لا يهمني اليوم إلا نفسي، ولكن ائتوا موسى، اصطفاه الله برسالته، وبكلامه، فيأتون موسى، فيقولون اشفع لنا إلى ربك، فليقض بيننا، فيقول: لَسْتُ هُنَاكُمْ، إِنِّي قَتَلْتُ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ، وإنه لا يهني الْيَوْمَ إِلَّا نَفْسِي، وَلَكِنِ ائْتُوا عِيسَى، رُوحَ الله وكلمته، فيأتون عيسى فيقولون: اشفع لنا رَبِّنَا فَلْيَقْضِ بَيْنَنَا، فَيَقُولُ: إِنِّي لَسْتُ هُنَاكُمْ، إِنِّي اتُّخِذْتُ إِلَهًا مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَإِنَّهُ لا يهمني إِلَّا نَفْسِي، وَلَكِنْ أَرَأَيْتُمْ لَوْ كَانَ مَتَاعٌ فِي وِعَاءٍ مَخْتُومٍ عَلَيْهِ، أَكَانَ يُقْدَرُ عَلَى مَا فِي جَوْفِهِ حَتَّى يُفَضَّ الْخَاتَمُ? قَالَ، فيقولون: لا، قال: فَيَقُولُ: إِنَّ مُحَمَّدًا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ، وَقَدْ حَضَرَ الْيَوْمَ، وَقَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيأتون، فيقولون: يا محمد، اشفع إِلَى رَبِّكَ، فَلْيَقْضِ بَيْنَنَا، فَأَقُولُ: أَنَا لَهَا، حَتَّى يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَصْدَعَ بَيْنَ خَلْقِهِ نَادَى مُنَادٍ: أَيْنَ أَحْمَدُ وَأُمَّتُهُ. فَنَحْنُ الْآخِرُونَ الْأَوَّلُونَ، آخِرُ الْأُمَمِ، وَأَوَّلُ مَنْ يُحَاسَبُ، فَتُفْرِجُ لَنَا(2/223)
الْأُمَمُ طَرِيقًا، فَنَمْضِي غُرًّا مُحَجَّلِينَ، مِنْ أَثَرِ الوضوء، فيقال: كادت هذه الأمة أن تكون أنبياء كلها، فَآتِي بَابَ الْجَنَّةِ، فَآخُذُ بِحَلْقَةِ، الْبَابِ فَأَقْرَعُ الْبَابَ، فَيُقَالُ مَنْ أَنْتَ? فَأَقُولُ: أَنَا مُحَمَّدٌ، فيفتح، فأرى رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ وَهُوَ عَلَى كُرْسِيِّهِ، أَوْ سَرِيرِهِ- شَكَّ حَمَّادٌ- فَأَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا، فَأَحْمَدُهُ بِمَحَامِدَ لَمْ يَحْمَدْهُ بِهَا أَحَدٌ كَانَ قَبْلِي، وَلَيْسَ يَحْمَدُهُ بِهَا أَحَدٌ بَعْدِي، فَيُقَالُ: يَا محمد: ارفع رأسك، وسل تعطه، وقل يسمع لَكَ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ. قَالَ: فَأَرْفَعُ رَأْسِي، فَأَقُولُ: أَيْ رَبِّ، أُمَّتِي أُمَّتِي، فَيَقُولُ: أَخْرِجْ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ كَذَا وَكَذَا- لَمْ يَحْفَظْ حَمَّادٌ- ثُمَّ أَعُودُ فَأَسْجُدُ فَأَقُولُ مَا قلت، فيقول: ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَقُلْ تُسْمَعْ، وَسَلْ تُعْطَهْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَقُولُ: أَيْ رَبِّ. أُمَّتِي أُمَّتِي، فَيَقُولُ: أَخْرِجْ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ كَذَا وَكَذَا. دُونَ الْأَوَّلِ، ثُمَّ أَعُودُ فَأَسْجُدُ وَأَقُولُ مِثْلَ ذَلِكَ، فَيُقَالُ لِيَ: ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَقُلْ يسمع، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ فَأَقُولُ: أَيْ رَبِّ، أُمَّتِي أُمَّتِي? فَيَقُولُ: أَخْرِجْ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ كَذَا وَكَذَا دُونَ ذَلِكَ" 1.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ مَاجَهْ بَعْضَهُ: مِنْ رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عن سعيد بن إياس الجوهري عَنْ أَبِي نَضْرَةَ الْمُنْذِرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ قطنة، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، بِهِ، وَتَقَدَّمَ فِي الصِّنْفِ الثاني والثالث من أنواع الشَّفَاعَةِ، فِي أَقْوَامٍ قَدْ أُمِرَ بِهِمْ إِلَى النار أن لا يدخلوها.
رِوَايَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ البزار: حدثنا "هنا بياض بالأصل إلى العنوان الآتي".
__________
1 اححديث رواه أحمدفي مسنده 2546- معارف وقال أحمد شاكر: إسناده صحيح.(2/224)
طَرِيقٌ أُخْرَى
وَقَدْ رَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ الْكَبِيرِ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "شَفَاعَتِي لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أمتي".
طَرِيقٌ أُخْرَى
قَالَ الإِمام أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مَعْمَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ الرَّقِّيُّ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا زِيَادُ بْنُ خَيْثَمَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ النُّعْمَانِ بْنِ قُرَادٍ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
"خيرت بين الشفاعة، وبين أن يكون نصف أمتي في الجنة فاخترت الشفاعة، لأنها أعم وأكفأ، أترونها للمتقين? لا، ولكنها للمتأوبين الخطائين" 1 قال زياد: أما إنها الحق، لكن هكذا الَّذِي حَدَّثَنَا.
وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَرَفَةَ، عَنْ عَبْدِ السَّلَامِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ نُعْمَانَ بْنِ قُرَادٍ، عَنْ عَبْدِ الله، فَذَكَرَهُ بِنَحْوِهِ.
هَكَذَا رَأَيْتُهُ فِي كِتَابِ الْأَهْوَالِ، وَكَذَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ، مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ بْنِ عَرَفَةَ.
رِوَايَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ
قَالَ مُسْلِمٌ: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى الصدفي، أنبأنا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، أَنَّ بَكْرَ بْنَ سَوَادَةَ حَدَّثَهُ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، أن رسولط اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَلَا قَوْلَ الله حكاية لسان إبراهيم:
__________
1 الحديث روته أحمد في مسنده 5452- معارف وقال أحمد شاكر: اسناده ضعيف لإيهام التابعي الراوي عن ابن عمر.(2/225)
{رَبِّ إِنَّهُنّ أَضْلَلْن كَثِيراً مِنَ النَّاس فَمَنْ تَبْعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَاني فَإِنَّكَ غَفورٌ رَحِيمٌ} . [14- إبراهيم-36] . الآية.
وقول الله تعالى حكاية على لسان عِيسَى: {إِنْ تعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادكَ، وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم} . [5- المائدة- 118] .
وقول الله تعالى حكاية على لسان نُوحٌ: {رَبِّ لاَ تذَرْ عَلَى الأَرْض مِنَ الكَافِرِينَ دَيَّاراً} . [71- نوح- 26]
فَرَفَعَ يَدَيْهِ، وَقَالَ: "اللَّهُمَّ أُمَّتِي أُمَّتِي"، وَبَكَى، فَقَالَ اللَّهُ: يَا جِبْرِيلُ اذْهَبْ إِلَى مَحَمَّدٍ- وَرَبُّكَ أَعْلَمُ- فَسَلْهُ مَا يُبْكِيكَ? فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ، فَسَأَلَهُ، فَأَخْبَرَهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا قال، فأخبر جبريل ربه بِمَا قَالَ- وَهُوَ أَعْلَمُ- فَقَالَ اللَّهُ: يَا جبريل: اذهب إلى محمد، فقل له: إِنَّا سَنُرْضِيكَ فِي أُمَّتِكَ وَلَا نَسُوءُكَ.
رِوَايَةُ عبد الله بن مسعود
قد تقدمت رواية علقمة فِي الْحَوْضِ وَالْمَقَامِ الْمَحْمُودِ وَفِيهِ ذِكْرُ الشَّفَاعَةِ.
رواية عبد الرحمن بن أبي عقيل
قال البيهقي: أخبرنا أبو الحسن بْنُ الْفَضْلِ الْقَطَّانُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ يَزِيدُ الْأَسَدِيُّ، حَدَّثَنَا عَوْنُ بْنُ أَبِي جُحَيْفَةَ السُّوَائِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَلْقَمَةَ الثَّقَفِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَقِيلٍ، قَالَ:(2/226)
انْطَلَقْتُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وَفْدٍ، فَأَتَيْنَاهُ، فَأَنَخْنَا بِالْبَابِ، - وَمَا فِي النَّاسِ أَبْغَضُ إِلَيْنَا مِنْ رَجُلٍ نَلِجُ عَلَيْهِ- فلما خرجنا، خرجنا وما فِي النَّاسِ أَحَبُّ إِلَيْنَا مِنْ رَجُلٍ دَخَلْنَا عليه، فقال قائل منهم: يا رسول الله: سألت ر بك كَمُلْكِ سُلَيْمَانَ? فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قال:
"فلعل قضاء حوائجكم عِنْدَ اللَّهِ أَفْضَلَ مِنْ مُلْكِ سُلَيْمَانَ، إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَبْعَثْ نَبِيًّا إِلَّا أَعْطَاهُ دَعْوَةً، فَمِنْهُمْ مَنِ اتَّخَذَهَا دُنْيَا فَأُعْطِيَهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ دعاها عَلَى قَوْمِهِ إِذْ عَصَوْهُ فَأُهْلِكُوا بِهَا، وَإِنَّ اللَّهَ أَعْطَانِي دَعْوَةً، فَاخْتَبَأْتُهَا عِنْدَ رَبِّي، شَفَاعَةً لأمتي يوم القيامة". قلت: إسناد غريب، وَحَدِيثٌ غَرِيبٌ.
رِوَايَةُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عنه:
الشفعاء يوم القيامة هم الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء:
قَالَ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا عَنْبَسَةُ بْنُ عَبْدِ الرحمن بن عنبسة القرشي، عن علاف بْنِ أَبِي مُسْلِمٍ، عَنْ أَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ، عن عثمان، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"يَشْفَعُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثَلَاثَةٌ: الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الْعُلَمَاءُ، ثُمَّ الشُّهَدَاءُ".
وَقَالَ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ غِيَاثٍ، حَدَّثَنَا عَنْبَسَةُ بْنُ عَبْدِ الرحمن، عن علاف بْنِ أَبِي مُسْلِمٍ، قَالَ: وَرَأَيْتُهُ فِي مَوْضِعٍ آخر عندي، عن عبد الملك بن علاف، عَنْ أَبَانٍ عَنْ عُثْمَانَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
"أَوَّلُ مَنْ يَشْفَعُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الشُّهَدَاءُ، ثُمَّ الْمُؤْمِنُونَ ".
قال البزار: وعنبسة هذا لين الحديث، وعبد الملك بن علاف لا يعلم من روى عنه غير عنبسة.(2/227)
رواية عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زيد المداري، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَاصِمٍ، حَدَّثَنَا حَرْبُ بْنُ شريح الْبَزَّارُ، قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ: أَرَأَيْتَ هَذِهِ الشَّفَاعَةَ الَّتِي يَتَحَدَّثُ بِهَا أَهْلُ الْعِرَاقِ، أَحَقٌّ هِيَ? قَالَ: شَفَاعَةُ مَاذَا? قُلْتُ: شَفَاعَةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: حق: إي والله: والله لقد حدثني عمي محمد بن علي بن الْحَنَفِيَّةِ: عَنْ عَلَى، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
"أَشْفَعُ لِأُمَّتِي حَتَّى يُنَادِيَنِي رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ فَيَقُولُ: أَرَضِيتَ يَا مُحَمَّدُ. فَأَقُولُ: رَبِّ رَضِيتُ". ثُمَّ قَالَ: لَا نعلمه يروى هذا، إِلَّا بِهَذَا الْإِسْنَادِ.
رِوَايَةُ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ خداش بن خلف بن هشام، قال: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي الْمَلِيحِ، عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
"أتاني الليلة آت من ربي، فخبرني بَيْنَ أَنْ يَدْخُلَ نِصْفُ أُمَّتِي الْجَنَّةَ، وَبَيْنَ الشفاعة، فاخترت الشفاعة". قالوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ: نَنْشُدُكَ اللَّهَ وَالصُّحْبَةَ، لَمَا جَعَلْتَنَا مِنْ أَهْلِ شَفَاعَتِكَ. قَالَ: "فَإِنِّي أُشْهِدُ مَنْ حَضَرَ، أَنَّ شَفَاعَتِي لِمَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا مِنْ أُمَّتِي".
وَقَدْ رَوَاهُ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ: عَنْ يَحْيَى بْنِ صَالِحٍ الْوُحَاظِيِّ، عَنْ جَابِرِ بْنِ غَانِمٍ، عَنْ سُلَيْمِ بن عامر، عن معدي كرب بن عبد بلال، عن عوف بن مالك، قال:
"أتاني جبريل عليه السلام، من قبل ربي، فخيرني بَيْنَ خَصْلَتَيْنِ، أَنْ يُدْخِلَ نِصْفَ أُمَّتِي الْجَنَّةَ، وَبَيْنَ الشَّفَاعَةِ، فَاخْتَرْتُ الشَّفَاعَةَ".(2/228)
وَقَدْ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ: عَنِ الْحَاكِمِ، عَنِ الْأَصَمِّ بن بَحْرِ بْنِ نَصْرٍ، عَنْ بِشْرِ بْنِ بَكْرٍ، عن أبي جَابِرٍ، عَنْ سُلَيْمِ بْنِ عَامِرٍ، سَمِعْتُ عَوْفَ بن مالك: فذكر الحديث وفيه: وَرَوَاهُ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قلابة، يرد الْحَدِيثَ إِلَى عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ.
رِوَايَةُ كَعْبِ بن عجرة
قال البيهقي: أخبرنا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى بْنِ الْفَضْلِ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّفَّارُ، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ أبي عثمان الطَّيَالِسِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكَّارٍ، حَدَّثَنَا عَنْبَسَةُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ، عَنْ وَاصِلٍ مَوْلَى أَبِي عيينة، عن أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: الشَّفَاعَةُ الشَّفَاعَةُ، فَقَالَ:
"شَفَاعَتِي لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أمتي".
رواية أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه وأرضاه
قَالَ الإِمام أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ إِسْحَاقَ الطَّالْقَانِيُّ، حَدَّثَنِي النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ الْمَازِنِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو نَعَامَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو هُنَيْدَةَ الْبَرَاءُ بْنُ نَوْفَلٍ، عَنْ وَالَانَ الْعَدَوِيِّ عَنْ حُذَيْفَةَ، عَنْ أبي بكر الصديق قَالَ: أَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ، فَصَلَّى الْغَدَاةَ، ثُمَّ جَلَسَ، حتى إذا كان من الضحاة ضحك، ثُمَّ جَلَسَ مَكَانَهُ، حَتَّى صلَّى الْأُولَى، وَالْعَصْرَ، وَالْمَغْرِبَ، كُلُّ ذَلِكَ لَا يَتَكَلَّمُ، حَتَّى صَلَّى الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ، ثُمَّ قَامَ إِلَى أَهْلِهِ، فَقَالَ الناس لأبي بكر الصديق: أَلَا تَسْأَلُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا شَأْنُهُ. صَنَعَ الْيَوْمَ شَيْئًا لَمْ يَصْنَعْهُ قَطُّ، فَسَأَلَهُ، فَقَالَ:
"نَعَمْ: عُرِضَ عليَّ مَا هُوَ كَائِنٌ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا، وَأَمْرِ الآخرة، يَجْمَعُ اللَّهُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، فقطع الناس كذلك، حتى انطلقوا إلى(2/229)
آدم، والعرق يُلْجِمُهُمْ، فَقَالُوا: يَا آدَمُ: أَنْتَ أَبُو الْبَشَرِ، أَنْتَ اصْطَفَاكَ اللَّهُ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، فقال: قد لَقِيتُ مِثْلَ الَّذِي لَقِيتُمُ، انْطَلِقُوا إِلَى أَبِيكُمْ بَعْدَ أَبِيكُمْ، إِلَى نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وآلَ إبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} . [3- آل عمران- 33] .
قَالَ: "فَيَنْطَلِقُونَ إِلَى نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَيَقُولُونَ: اشفع لنا إلى ربك، فأنت الذي اصْطَفَاكَ اللَّهُ، وَاسْتَجَابَ لَكَ فِي دُعَائِكَ، وَلَمْ يدعِ أحد من الأنبياء بمثل دعوتك.
فَيَقُولُ: لَيْسَ ذَاكُمْ عِنْدِي، انْطَلِقُوا إِلَى إِبْرَاهِيمَ، فَإِنَّ اللَّهَ اتَّخَذَهُ خَلِيلًا، فَيَنْطَلِقُونَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ، فيقول: ليس ذاكم عندي، انْطَلِقُوا إِلَى مُوسَى، فَإِنَّ اللَّهَ كَلَّمَهُ تَكْلِيمًا، فيقول موسى: ليس ذاكم عندي، انْطَلِقُوا إِلَى سَيِّدِ وَلَدِ آدَمَ، فَإِنَّهُ أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، انْطَلِقُوا إلى محمد، فيشفعِ لكم إلى ربكم، قال: فينطلقون، فيأتون إليّ، فأستأذن على ربي، فيؤذن لي، فَإِذَا رَأَيْتُهُ وَقَعْتُ سَاجِدًا، فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ الله أن يدعني، ثم يقول الله. ارفع رأسك، وقل تسمع، واشفع تشفع: قال: فأرفع رأسي، فإذا نظر إليّ ربي عز وجل، خررت سَاجِدًا قَدْرَ جُمُعَةٍ أُخْرَى، فَيَقُولُ اللَّهُ: ارْفَعْ رأسك، وقل تسمع، واشفع تشفع. قال: فأرفع رأسي، فإذا نظر إليَّ ربي عز وجل، خررت سَاجِدًا قَدْرَ جُمُعَةٍ أُخْرَى، فَيَقُولُ اللَّهُ: ارْفَعْ رأسك، وقل تسمع، واشفع تشفع. قال: فأذهب لأقع ساجداً، فيأخذ جبريل بضبعي ويفتح عليَّ من الدعاء شيء لم يفتحه على بشر قط، فأقول: أَيْ رَبِّ: خَلَقْتَنِي سَيِّدَ وَلَدِ آدَمَ وَلَا فَخْرَ، وَأَوَّلَ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا فَخْرَ، حَتَّى إِنَّهُ لَيَرِدُ عَلَيَّ الحوض من أمتي أَكْثَرُ مِمَّا بَيْنَ صَنْعَاءَ وَأَيْلَةَ، ثُمَّ يُقَالُ: ادعوا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، قَالَ: فَيَجِيءُ النَّبِيُّ وَمَعَهُ الْعِصَابَةُ، وَالنَّبِيُّ وَمَعَهُ الخمسة، والستة، والنبي ليس(2/230)
معه أحد ثم يقال: ادعوا الشهداء، فيشفعون فيمن أَرَادُوا، قَالَ: فَإِذَا فَعَلَتِ الشُّهَدَاءُ ذَلِكَ، يَقُولُ الله: أَنَا أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، أَدْخِلُوا جَنَّتِي مَنْ كَانَ لا يشرك بالله شَيْئًا، قَالَ: فَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، ثُمَّ يَقُولُ اللَّهُ: انظروا إلى النَّارِ، هَلْ تَلْقَوْنَ مِنْ أَحَدٍ عَمِلَ خَيْرًا قَطُّ? قَالَ: فَيَجِدُونَ فِي النَّارِ رجَلاً، فَيُقَالُ لَهُ: هَلْ عَمِلْتَ خَيْرًا قَطُّ. فَيَقُولُ: لَا، غَيْرَ أَنِّي كُنْتُ أُسَامِحُ النَّاسَ فِي الْبَيْعِ، فيقول الله: أسمحوا إلى لعبدي، كإسماحه إلى عبادي، ثُمَّ يُخْرِجُونَ مِنَ النَّارِ رَجُلًا، فَيُقَالُ لَهُ: هَلْ عَمِلْتَ خَيْرًا قَطُّ? فَيَقُولُ: لَا غَيْرَ أني قد أمرت ولدي فقلت لهم: إذا مت فأحرقوني في النار، ثم اطحنوني، حتى إذا صرت مثل الكحل، فأذهبوا بي إلى البحر، فذروني فِي الرِّيحِ، فَوَاللَّهِ لَا يَقْدِرُ عليَّ رَبُّ العالمين أبداً، فيقول الله له: لم فعلت ذلك. فيقول: من مخافتك، قال: فيقول الله: انْظُرْ إِلَى مُلْكِ أَعْظَمِ مَلِكٍ، فَإِنَّ لَكَ مِثْلَهُ وَعَشَرَةَ أَمْثَالِهِ. قَالَ: فَيَقُولُ: لِمَ تَسْخَرُ مني وَأَنْتَ الْمَلِكُ?" قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَذَاكَ الَّذِي ضَحِكْتُ مِنْهُ مِنَ الضُّحَى" 1.
وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ فِي آخر مسند الصديق بكلام طويل.
رواية أبي سعيد الخدري
قَالَ الإِمام أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حدثنا محمد بن إسحاق، حدثنا عبد الله بن المغيرة، عن معيقب، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَبْدٍ الْعُتْوَارِيِّ قال أحمد: -وهو أبو الهيثم- قال. حدثني ليث- وكان فِي حِجْرِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "يُوضَعُ الصِّرَاطُ بَيْنَ ظَهْرَيْ جَهَنَّمَ، عَلَيْهِ حَسَكٌ كَحَسَكِ السَّعْدَانِ، ثُمَّ يستجيز الناس، فناج مسلم، ومجروح به ناج، ومحتبس فمكدوس فيها،
__________
1 الحديث رواه أحمد في مسنده 10- معارف وقال أحمد شاكر إسناده صحيح.(2/231)
فَإِذَا فَرَغَ اللَّهُ مِنَ الْقَضَاءِ بَيْنَ الْعِبَادِ، تفقد الْمُؤْمِنُونَ رِجَالًا، كَانُوا مَعَهُمْ فِي الدُّنْيَا، يُصَلُّونَ كصلاتهم، ويزكون كزكاتهم، ويصومون كصيامهم، ويحجون كحجهم، ويغزون كغزوهم، فَيَقُولُونَ: أَيْ رَبَّنَا، عِبَادٌ مِنْ عِبَادِكَ، كَانُوا معنا، يصلون في الدنيا صَلَاتَنَا، وَيُزَكُّونَ زَكَاتَنَا وَيَصُومُونَ صِيَامَنَا، وَيَحُجُّونَ حَجَّنَا، وَيَغْزُونَ غَزْوَنَا، لَا نَرَاهُمْ? فَيَقُولُ: اذْهَبُوا إِلَى النار، فمن وجدتم فيها منهم فأخرجوهم. قَالَ: فَيَجِدُونَهُمْ، وَقَدْ أَخَذَتْهُمُ النَّارُ عَلَى قَدْرِ أعمالهم، فمنهم من أخذته قَدَمَيْهِ وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ إِلَى نِصْفِ سَاقَيْهِ، ومنهم من أخذته إلى ركبتيه، وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ إِلَى آزِرَتِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ إِلَى ثَدْيَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ إِلَى عُنُقِهِ، وَلَمْ تَغْشَ الْوُجُوهَ، فَيَسْتَخْرِجُونَهُمْ مِنْهَا، فَيَطْرَحُونَهُمْ فِي مَاءِ الْحَيَاةِ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: وما ماء الْحَيَاةُ. قَالَ: غُسْلُ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَيَنْبُتُونَ نَبَاتَ المزرعة، وقال: مرة تنبت المرزعة فِي غُثَاءِ السَّيْلِ، ثُمَّ يَشْفَعُ الْأَنْبِيَاءُ فِي كُلِّ مَنْ كَانَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، مُخْلِصًا، فَيُخْرِجُونَهُمْ مِنْهَا، قَالَ: ثُمَّ يتجلى الله برحمته على من فيها، فلا يَتْرُكُ فِيهَا عَبْدًا فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ من إيمان، إلا أخرجه الله مِنْهَا" 1. تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ.
وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي الدنيا: من حديث إسحاق به، قال: موضع الصراط جهنم، قال محمد: لا أعلمهإلا كحد السيف، وذكر تمام الحديث.
قَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ سُلَيْمَانَ، - يَعْنِي التَّيْمِيَّ-، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أهل النار الذي هُمْ أَهْلُهَا، لَا يَمُوتُونَ، وَلَا يَحْيَوْنَ، وَأَمَّا من يريد الله بهم الرحمة فإنه يميتهم في النار، ثم يدخل ضبارة فيهم، فيبثهم أو قال: فيبثون على نهر الحياة، أَوْ قَالَ: نَهَرِ الْجَنَّةِ، فَيَنْبُتُونَ نَبَاتَ الْحَبَّةِ في حميل
__________
1 الحديث رواه أحمد في مسنده 2- 11.12.(2/232)
السَّيْلِ"، قَالَ: فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَمَا تَرَوْنَ الشَّجَرَةَ تَكُونُ خَضْرَاءَ، ثُمَّ تَكُونُ صَفْرَاءَ، ثُمَّ تَكُونُ خَضْرَاءَ؟ ". قَالَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ بِالْبَادِيَةِ1.
طَرِيقٌ أُخْرَى
قَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا إسماعيل بن سعيد بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"أَمَّا أَهْلُ النَّارِ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُهَا، فَإِنَّهُمْ لَا يَمُوتُونَ فِيهَا، وَلَا يَحْيَوْنَ، ولكن هم أناس أو كما قال: يصلون النار بذنوبهم -أو قال: بخطيئاتهم- فتميتهم إماتة، حتى إذا صاروا فحماً أذن الله في الشفاعة، فجيء بهم ضبائر فبثوا على أنهار الجنة، فيقول: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ أَفِيضُوا عَلَيْهِمْ، فَيَنْبُتُونَ نَبَاتَ الْحَبَّةِ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ".
فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان بالبادية". وهذا إسناد على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، وهو صحيح مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
طَرِيقٌ أُخْرَى
قَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عاد، حَدَّثَنِي أَبُو نَضْرَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: لايعرض الناس على جسر جهنم، عليه كلاليب، وحسك، وخطاطيف تخطف الناس، قال: فيمر ناس مِثْلَ الْبَرْقِ، وَآخَرُونَ مِثْلَ الرِّيحِ، وَآخَرُونَ مِثْلَ الفرس المجري، وَآخَرُونَ يَزْحَفُونَ زَحْفًا، فَأَمَّا أَهْلُ النَّارِ، فَلَا يموتون
__________
1 الحديث رواه أحمد في مسنده 3-5.(2/233)
ولا يحيون، وأما أهل الذنوب فَيُؤْخَذُونَ بِذُنُوبِهِمْ، فَيُحْرَقُونَ، فَيَكُونُونَ فَحْمًا، ثُمَّ يَأْذَنُ اللَّهُ فِي الشَّفَاعَةِ، فَيُؤْخَذُونَ ضِبَارَاتٍ ضِبَارَاتٍ، فَيُقْذَفُونَ عَلَى نَهَرٍ، فَيَنْبُتُونَ كَمَا تَنْبُتُ الْحَبَّةُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ. قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم:
"فيخرج أدنى رجل من النار، فيكوق عَلَى شَفَتِهَا، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ اصْرِفْ وَجْهِي عَنْهَا، قَالَ: فَيَقُولُ: وَعَهْدِكَ وَذِمَّتِكَ لَا تَسْأَلْنِي غيرها. فيقول: وعهدي وذمتي لا أسلك غيرها، فيصرف وجهه عنها، قَالَ: فَيَرَى شَجَرَةً فَيَقُولُ: يَا رَبِّ أَدْنِنِي مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ أَسْتَظِلُّ بِظِلِّهَا، وَآكُلُ مِنْ ثمرها. قَالَ، فَيَقُولُ: وَعَهْدِكَ وَذِمَّتِكَ لَا تَسْأَلْنِي غَيْرَهَا? فيقول: وعهدي وذمتي لا أسألك غيرها، فيدنيه منها، قال: فيرى شجرة أخرى أحسن منها، قال: فَيَقُولُ: يَا رَبِّ حَوِّلْنِي إِلَى هَذِهِ الشَّجَرَةِ، أستظل بظلها، وآكل من ثمرها. قَالَ: فَيَقُولُ: وَعَهْدِكَ وَذِمَّتِكَ لَا تَسْأَلْنِي غَيْرَهَا. فيقول: وعهدي وذمتي لا أسألك غيرها، فيحوله إليها، قال: فيرى الثالثة، فيقول: رَبِّ حَوِّلْنِي إِلَى هَذِهِ الشَّجَرَةِ، أَسْتَظِلُّ بِظِلِّهَا وآكل من ثمرها قال: فيقو ل: وعهدك وذمتك لا تسألني غيرها. فيقول: وعهدي وذمتي لا أسلك غيرها، فيحوله، قَالَ: فَيَرَى سَوَادَ النَّاسِ، وَيَسْمَعُ أَصْوَاتَهُمْ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ أَدْخِلْنِي الْجَنَّةَ".
قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: وَرَجُلٌ آخَرُ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اخْتَلَفَا، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: "فَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ وَيُعْطَى الدُّنْيَا وَمِثْلَهَا".
وَقَالَ الْآخَرُ: "فَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ وَيُعْطَى الدُّنْيَا وَعَشَرَةَ أَمْثَالِهَا" 1.
وَقَدْ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، مِنْ حَدِيثِ عُثْمَانَ بْنِ غِيَاثٍ، بِهِ نَحْوَهُ.
__________
1 الحديث رواه أحمد في مسنده 2- 373.(2/234)
رِوَايَةُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قَالَ الإِمام أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ- يَعْنِي ابْنَ دَاوُدَ- حدثنا إسماعيل، حدثنا عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قُلْتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ فَقَالَ النبي:
"لَقَدْ ظَنَنْتُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، أَنْ لَا يسألني عن هذا الحديث أحد أولى مِنْكَ لِمَا رَأَيْتُ مِنْ حِرْصِكَ عَلَى الْحَدِيثِ، أَسْعَدَ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، مَنْ قَالَ لا إله إلا الله خالصة من نَفْسِهِ" 1. هَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِهِمَا، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
طَرِيقٌ أُخْرَى
قَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، وَيَعْلَى بْنُ عُبَيْدٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةً مُسْتَجَابَةً، فَتَعَجَّلَ كُلُّ نَبِيٍّ دَعْوَتَهُ، وَإِنِّي اخْتَبَأْتُ دعوتي، شفاعة لأمتي، نائلة إن شاء الله تعالى مَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا" 2.
قَالَ- يعني شفاعته- وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ: مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُعَاوِيَةَ مُحَمَّدِ بن حازم الضَّرِيرِ، عَنِ الْأَعْمَشِ بِهِ.
طَرِيقٌ أُخْرَى
قَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا هَاشِمٌ، وَالْخُزَاعِيُّ- يَعْنِي أَبَا سَلَمَةَ- قَالَا: حَدَّثَنَا لَيْثٌ، حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي سَالِمٍ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ مُعَتِّبٍ الْهُذَلِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ: سَأَلْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
__________
1 الْحَدِيثَ رواه أحمد في مسنده 3- 73.
2 الحديث رواه أحمد في مسنده 2- 426. ورواه مسلم في صحيحه 1- 75.(2/235)
ماذا أراد إِلَيْكَ رَبُّكَ فِي الشَّفَاعَةِ? فَقَالَ:
"وَالَّذِي نَفْسُ محمد بيده، لقد ظنت أَنَّكَ أَوَّلُ مَنْ يَسْأَلُنِي عَنْ ذَلِكَ مِنْ أُمَّتِي، لِمَا رَأَيْتُ مِنْ حِرْصِكَ عَلَى الْعِلْمِ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَمَا يُهِمُّنِي مِنَ وقوفهم عَلَى أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، أَهَمُّ عِنْدِي مِنْ تَمَامِ شَفَاعَتِي، وَشَفَاعَتِي لِمَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إلا الله، مخلصاً، فصدق قَلْبُهُ لِسَانَهُ، وَلِسَانُهُ قَلْبَهُ" 1.
تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
طَرِيقٌ أُخْرَى
قَالَ أَحْمَدُ: قَرَأْتُ عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَالِكٍ، حدثنا إِسْحَاقُ، حَدَّثَنَا مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
"لِكُلِّ نَبِيٍّ دعوة يدعو بها، وأريد أن أختبىء دَعْوَتِي شَفَاعَةً لِأُمَّتِي فِي الْآخِرَةِ".
قَالَ إِسْحَاقُ: "فأردت أن أختبىء" 2. وَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ: مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ بِهِ.
طَرِيقٌ أُخْرَى
قَالَ مُسْلِمٌ: حَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، حَدَّثَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّ عَمْرَو بْنَ أَبِي سُفْيَانَ بن أبي أسيد بن حارثة الثَّقَفِيَّ أَخْبَرَهُ: أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ لِكَعْبِ الْأَحْبَارِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
"لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ يَدْعُو بِهَا، فأنا أريد- إن شاء الله- أن أختبىء دعوتي، شفاعة لأمتي يوم القيامة".
__________
1 الحديث رواه أحمد في مسنده 8056- معارف.
2 رواه أحمد في مسنده 2- 486، 487.(2/236)
قال كَعْبٌ لِأَبِي هُرَيْرَةَ: أَنْتَ سَمِعْتَ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: نَعَمْ. تفرَّد بِهِ مُسْلِمٌ.
طَرِيقٌ أُخْرَى
قَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: اجْتَمَعَ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَكَعْبٌ، فَجَعَلَ أَبُو هُرَيْرَةَ يُحَدِّثُ كَعْبًا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكعب يحدث أبا هريرة عن الكتب، قال أَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ، وَإِنِّي اخْتَبَأْتُ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لِأُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ".
انْفَرَدَ بِهِ أَحْمَدُ وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، عَلَى شَرْطِهِمَا، وَلَمْ يُخْرِجْهُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ الْكُتُبِ السِّتَّةِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
طَرِيقٌ أُخْرَى
قَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ شُعْبَةَ وَمُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ غُنْدَرٌ فِي حَدِيثِهِ. قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
"إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةً دَعَا بِهَا، وإني أُرِيدُ أَنْ أَدَّخِرَ دَعْوَتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ شَفَاعَةً لِأُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، قَالَ ابْنُ جَعْفَرٍ: فِي أُمَّتِي". وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ شعبة به.
طَرِيقٌ أُخْرَى
قَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ تُسْتَجَابُ له، فأريد إن شاء الله أن أدخردعوتي شَفَاعَةً لِأُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ". وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِهِمَا، وَلَمْ يُخْرِجُوهُ.(2/237)
طَرِيقٌ أُخْرَى
قَالَ مُسْلِمٌ: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ عُمَارَةَ، وَهُوَ ابْنُ الْقَعْقَاعِ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ يَدْعُو بِهَا، فَيُسْتَجَابُ لًهُ، فَيُؤْتَاهَا، وَإِنِّي اخْتَبَأْتُ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لِأُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ". انْفَرَدَ بِهِ مُسْلِمٌ.
طَرِيقٌ أُخْرَى
قَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي الْعَبَّاسِ، حَدَّثَنَا أَبُو أُوَيْسٍ قَالَ: قَالَ الزُّهْرِيُّ: أَخْبَرَنِي أَبُو سلمة ابن عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"لِكُلِّ نبي دعوة، وأريد إن شاء الله أن أختبىء دَعْوَتِي لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ شَفَاعَةً لِأُمَّتِي".
تَفَرَّدَ بِهِ أيضاً مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ وَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ شُعَيْبِ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ، وَمُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، كِلَاهُمَا عَنِ الزُّهْرِيِّ بِهِ.
طَرِيقٌ أخرى
قال أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ، حَدَّثَنَا دَاوُدُ الْأَوْدِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْموداً} . [17- الْإِسْرَاءِ- 97] .
قَالَ: هُوَ الْمَقَامُ الَّذِي أَشْفَعُ لِأُمَّتِي فِيهِ.
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي كُرَيْبٍ، عَنْ وَكِيعٍ، عَنْ دَاوُدَ، وَقَالَ: حَسَنٌ.(2/238)
طَرِيقٌ أُخْرَى
قَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، حَدَّثَنِي الْعَلَاءُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بن يعقوب، عن أبيدارة مولى عثمان، قال: إنا بالبقيع مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ إِذْ سَمِعْنَاهُ يَقُولُ: أَنَا أَعْلَمُ النَّاسِ بِشَفَاعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يوم القيامة، قال: فتدارك النَّاسُ عَلَيْهِ، فَقَالُوا: إِيهِ يَرْحَمُكَ اللَّهُ. قَالَ: يَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"اللَّهُمَّ اغفر لكل عبد لقيك، يؤمن بك، لا يشرك بك" 1. تفرَّد به أَحْمَدُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
رِوَايَةُ أَمِّ حَبِيبَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَخْبَرَنَا أَبُو زَكَرِيَّا يَحْيَى بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمُزَكِّي، أَخْبَرَنَا أَبُو داود الْحُسَيْنِ أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ يَحْيَى الْأَدَمِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ الْهَيْثَمِ، حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَنَسٍ، عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال:
"أرأيت مَا تَلْقَى أُمَّتِي مِنْ بَعْدِي، وَسَفْكَ بَعْضِهِمْ دماء بعض، سبق ذَلِكَ مِنَ اللَّهِ، كَمَا سَبَقَ فِي الْأُمَمِ قبلهم، فسألت الله أن يوليني منهم شَفَاعَةً، فَفَعَلَ". قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: هَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ.
__________
1 رواه أحمد في مسنده 2-441.(2/239)
ذكر شفاعة المؤمنين لأهاليهم
تقدم حديث أبي هريرة، عن أمير المؤمنين عثمان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
"أَوَّلُ مَنْ يَشْفَعُ يَوْمَ القيامة الأنبياء، ثم الشهداء، ثم المؤمنون".
رواه البزار، وابن ماجة، ولفظه: "يَشْفَعُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثَلَاثَةٌ: الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الْعُلَمَاءُ، ثم الشهداء".
فأما مَا أَوْرَدَهُ الْقُرْطُبِيُّ فِي التَّذْكِرَةِ مِنْ طَرِيقِ أبي عمرو السَّمَّاكِ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزِّبْرِقَانِ، أخبرنا على عاصم، حدثنا خالد الخزاعي، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي الزَّعْرَاءِ، قَالَ: قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: "يَشْفَعُ نَبِيُّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَابِعَ أَرْبَعَةٍ: جِبْرِيلُ، ثُمَّ إِبْرَاهِيمُ، ثُمَّ مُوسَى، أَوْ عِيسَى ثُمَّ نَبِيُّكُمْ، ثُمَّ الْمَلَائِكَةُ، ثُمَّ الصِّدِّيقُونَ، ثُمَّ الشهداء".
وقد رواه أبوداود الطيالسي، عن أبي سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ بِهِ، وَزَادَ أبو داود في روايته: "لا يشفع بعده أكبر مِنْهُ" وَهُوَ الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ الَّذِي قَالَ اللَّهُ تعالى فيه: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً} . [17- الإسراء- 79] .
فإِنه حَدِيثٌ غَرِيبٌ جِدًّا، وَيَحْيَى بْنُ سَلَمَهَ بْنِ كُهَيْلٍ ضَعِيفٌ، وَفِي الصَّحِيحِ: مِنْ طَرِيقِ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عنِ أَبِي سَعِيدٍ، مَرْفُوعًا:
"إِذَا أخلصَ المؤمِنونَ مِنَ الصِّرَاطِ، وَرَأَوْا أَنهم قَدْ نَجوا، فما أَنتُم بِأَشدَّ منهم شِدَّةَ في الحق، بعدما تبين منهم لربهم في إِخوانهم الذين في النار، يقولون: يا رَبَّنَا: إِخواننا، كَانُوا يُصَلُّونَ مَعَنَا، وَيَصُومُونَ مَعَنَا، ويحجون معنا، ويقرأون معنا، فيقول الله: اذْهَبُوا، فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ من إيمان فأَخرجوه من النار".(2/240)
قال أبو سعيد: اقرأوا إِنْ شَئْتُمْ: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيؤتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً} . [4- النساء-40] .
قَالَ: "فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: شَفَعَتِ الْمَلَائِكَةُ، وَشَفَعَ النَّبِيُّونَ، وَشَفَعَ الْمُؤْمِنُونَ، وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، فَيَقْبِضُ قَبْضَةً مِنَ النَّارِ، فَيُخْرِجُ مِنْهَا قَوْمًا لَمْ يَعْمَلُوا خَيْرًا قَطُّ، قَدْ عَادُوا حُمَمًا، فَيُلْقِيهِمْ فِي نَهَرٍ فِي أَفْوَاهِ الْجَنَّةِ، يُقَالُ لَهُ: نَهَرُ الْحَيَاةِ، فَيَخْرُجُونَ كَمَا تَخْرُجُ الْحَبَّةُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ، فَيَخْرُجُونَ كَاللُّؤْلُؤِ، فِي رِقَابِهِمُ الْخَوَاتِيمُ، يَعْرِفُهُمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ، فَيَقُولُونَ: هَؤُلَاءِ عُتَقَاءُ اللَّهِ، أَدْخَلَهُمُ اللَّهُ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ عَمَلٍ عَمِلُوهُ، وَلَا خَيْرٍ قَدَّمُوهُ، ثُمَّ يَقُولُ: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ، فَمَا رَأَيْتُمُوهُ فَهُوَ لَكُمْ، فَيَقُولُونَ: ر بنا، أي شيء أفضل من هذا? أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ، فيقال لهم: عِنْدِي أَفْضَلُ مِنْ هَذَا، فَيَقُولُونَ: رَبَّنَا: أَيُّ شيء أفضل من هذا? فيقول: رضائي، فلا أسخط عليكم أبداً".(2/241)
يشفع المؤمنون يوم القيامة، إلا اللعانين، فلا شفاعة لهم
وَفِي حَدِيثِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ رَافِعٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ذكر دخول الجنة:
"ثم أقول: يَا رَبِّ شَفِّعْنِي فِيمَنْ وَقَعَ فِي النَّارِ مِنْ أُمَّتِي، فَيَقُولُ: نَعَمْ. أَخْرِجُوا مِنَ النَّارِ من كان في قلبه ثلثي دِينَارٍ، نِصْفُ دِينَارٍ، ثُلُثُ دِينَارٍ، رُبُعُ دِينَارٍ حتْى بَلَغَ قِيرَاطَيْنِ. أَخْرِجُوا مَنْ لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ. قَالَ: ثُمَّ يُؤْذَنُ فِي الشَّفَاعَةِ، فَلَا يَبْقَى أَحَدٌ إِلَّا شُفِّعَ، إِلَّا اللَّعَّانُ، فَإِنَّهُ لَا يَشْفَعُ، حَتَّى إِنَّ إِبْلِيسَ لَيَتَطَاوَلُ يَوْمَئِذٍ فِي النَّارِ، رَجَاءَ أَنْ يُشْفَعَ لَهُ، مما يرى من رحمة الله، حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ أَحَدٌ إِلَّا شُفِّعَ، قال: بقيت أنا أَرْحَمُ الرَاحِمِينَ، فَيُخْرِجُ مِنْهَا(2/241)
ما لا يحصى عدتهم غيره، كَأَنَّهُمُ الْخُشُبُ الْمُحْتَرِقَةُ، فَيُطْرَحُونَ عَلَى شَطِّ نَهَرٍ عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ، يُقَالُ لَهُ نَهَرُ الْحَيَاةِ، فينبتون فيه كَمَا تَنْبُتُ الْحَبَّةُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ"
رَوَاهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا ...
وَقَدْ قَالَ الْحَافِظُ أَبُو يعلى: حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ النَّرْسِيُّ، حَدَّثَنَا يُوسُفُ بن خالد، هو السمني، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
"يُعْرَضُ أَهْلُ النَّارِ صُفُوفًا، فَيَمُرُّ بِهِمُ الْمُؤْمِنُونَ، فَيَرَى الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ الرَّجُلَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَرَفَهُ فِي الدُّنْيَا فَيَقُولُ: يَا فُلَانُ: أَمَا تذكر يوم استعنتني على حاجة كذا? ويقول: أَمَا تَذْكُرُ يَوْمَ أَعْطَيْتُكَ قَالَ، أُرَاهُ قَالَ: كَذَا وَكَذَا-? فَيَذْكُرُ ذَلِكَ الْمُؤْمِنُ، فَيَعْرِفُهُ، فَيَشْفَعُ لَهُ إِلَى رَبِّهِ، فَيُشَفِّعُهُ فِيهِ" فِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ.
طَرِيقٌ أُخْرَى عَنْ أَنَسٍ
قَالَ ابْنُ مَاجَهْ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نمر، وعلي بن محمد، قالا: حدثنا لأعمش، عَنْ يَزِيدَ الرَّقَاشِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"يُصَفُّ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صُفُوفًا"، وَقَالَ ابن نمير: أهل الجنة فَيَمُرُّ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ عَلَى الرَّجُلِ، فيقول: يا فلان: أَمَا تَذْكُرُ يَوْمَ اسْتَسْقَيْتَنِي فَسَقَيْتُكَ شَرْبَةً? قَالَ: فَيَشْفَعُ لَهُ، وَيَمُرُّ الرَّجُلُ عَلَى الرَّجُلِ، فَيَقُولُ: أَمَا تَذْكُرُ يَوْمَ نَاوَلْتُكَ طَهُورًا? فَيَشْفَعُ لَهُ وَيَمُرُّ الرَّجُلُ عَلَى الرَّجُلِ فَيَقُولُ: أَمَا تَذْكُرُ يَوْمَ بَعَثْتَنِي لِحَاجَةِ كَذَا وَكَذَا فَذَهَبْتُ لَكَ? فَيَشْفَعُ لَهُ". وَرَوَاهُ الطَّحَاوِيُّ بِلَفْظٍ آخَرَ قَرِيبٍ من هذا المعنى.(2/242)
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى، حَدَّثَنَا حفص بن عمر، حدثنا حماد ابن سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم:
"يقول الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: يَا رَبِّ: إِنَّ فُلَانًا سَقَانِي شَرْبَةً مِنْ مَاءٍ فِي الدُّنْيَا، فَشَفِّعْنِي فِيهِ، فَيَقُولُ اللَّهُ. اذْهَبْ فأخرجه من النار، فيتحسس، يخرجه منها". وهذا مرسل من مرسلات الحسن الحسان.
وَمِنَ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي شَفَاعَةِ الْمُؤْمِنِينَ لِأَهَالِيهِمْ
حكى بعضهم عن زبور داود عليه السلام: أنه مكتوب فيه: يقول الله:
"إِنَّ عِبَادِيَ الزَّاهِدِينَ، أَقُولُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: عبادي: إِنِّي لَمْ أزوِ عَنْكُمُ الدُّنْيَا لَهَوَانِكُمْ عليَّ، ولكن أردت أن تستوفوا نصيبكم موفوراً اليوم، فَتَخَلَّلُوا الصُّفُوفَ، فَمَنْ أَحْبَبْتُمُوهُ فِي الدُّنْيَا، أَوْ قَضَى لَكُمْ حَاجَةً، أَوْ رَدَ عَنْكُمْ غِيبَةً، أو أطعمكم لقمة ابْتَغَاءَ وَجْهِي، وَطَلَبَ مَرْضَاتِي، فَخُذُوا بِيَدِهِ، وَأَدْخِلُوهُ الْجَنَّةَ".
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ: مِنْ طَرِيقِ مَالِكِ بْنِ مِغْوَلٍ، عَنْ عَطِيَّةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم:
"إن من أمتي لرجالاً يَشْفَعُ الرَّجُلُ مِنْهُمْ فِي الْفِئَامِ مِنَ النَّاسِ، فَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِشَفَاعَتِهِ، وَيَشْفَعُ الرَجُلُ لِلْقَبِيلَةِ، فَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِشَفَاعَتِهِ، وَيَشْفَعُ الرَّجُلُ مِنْهُمْ لِلرَّجُلِ وَأَهْلِهِ، فيدخلون الجنة بشفاعته". وروى البزار: بسنده، مرفوعاً: "إن الرجل ليشفع للاثنين والثلاثة".(2/243)
وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ آدَمَ بْنِ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"يُقَالُ للرجل: قم يا فلان: واشفع، فيقول الرجل، فيشفع للقبيلة، ولأهل البيت، وللرجل، والرجلين، على قدرعمله".
وَمِنْ حَدِيثِ الْحُسَيْنِ بْنِ وَاقَدٍ: عَنْ أَبِي غالب، أن أبا ثمامة حَدَّثَهُ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
"يَدْخُلُ الْجَنَّةَ بِشَفَاعَةِ رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَكْثَرُ مِنْ عَدَدِ مُضَرَ، وَيَشْفَعُ الرجل في أهل بيته، ويشفع على قدرعمله".
وروي عَنِ الْحَاكِمِ، عَنِ الْأَصَمِّ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مكرم، عن يزيد بن هارون، أخبرنا جرير بن عبد الرحمن أو عبد الله بن أبي ميسرة، عن أبي أمامة، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
"لَيَدْخُلَنُّ الْجَنَّةَ بِشَفَاعَةِ رَجُلٍ لَيْسَ مثل الحسين أو مثل الحسن، مثل رَبِيعَةَ وَمُضَرَ، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وما ربيعة من مضر? قال: إِنَّمَا أَقُولُ مَا أُقَوَّلُ".
وَقَالَ الإِمام أَحْمَدُ: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، أخبرنا خالد الحذاء، عن عبد الله بن شقيق، قَالَ: جَلَسْتُ إِلَى رَهْطٍ أَنَا رَابِعُهُمْ بِإِيلِيَاءَ، فَقَالَ أَحَدُهُمْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول:
"ليدخلن الجنة بشفاعة رجل مِنْ أُمَّتِي أَكْثَرُ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، قُلْنَا: سِوَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ?: قَالَ: سِوَايَ".
قُلْتُ: أَنْتَ سَمِعْتَهُ? قَالَ: نَعَمْ، فَلَمَّا قَامَ، قُلْتُ: من هذا?: قالوا ابن أبي الجدعاء1.
__________
1 رواه أحمد يفي مسنده 3- 470.(2/244)
ثُمَّ رَوَاهُ أَحْمَدُ: عَنْ غُنْدَرٍ عَنْ شُعْبَةَ، وعن عفان، عن وهب، كلاهما عن خالد الحذاء، به ونحوه. ورواه أبو عمر بْنُ السَّمَّاكِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ سنان، عن جرير بن عثمان، عن عبد الله بن ميسرة، وحبيب بن عدي الرَحَبِيِّ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"يَدْخُلُ بِشَفَاعَةِ رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي الْجَنَّةَ مِثْلُ أَحَدِ الْحَيَّيْنِ، رَبِيعَةَ وَمُضَرَ".
قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: وَمَا رَبِيعَةُ وَمُضَرُ? قَالَ: "إِنَّمَا أَقُولُ مَا أُقَوَّلُ". قال: فكان الصحابة يرون أن ذلك الرجل هُوَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ الْفِرْيَابِيُّ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شقيق العقيلي، فقال: جَلَسْتُ إِلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أبي الجدعاء، فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
"لَيَدْخُلَنَّ الْجَنَّةَ بِشَفَاعَةِ رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَكْثَرُ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ". قَالُوا: سِوَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ? قَالَ: "سِوَايَ"، قَالَ الْفِرْيَابِيُّ: يُقَالُ إِنَّهُ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عنه ...
رواه الترمذي، والبيهقي، وَابْنُ مَاجَهْ، وَغَيْرُهُمْ: مِنْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ، بِهِ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَلَيْسَ لِابْنِ أَبِي الْجَدْعَاءِ حَدِيثٌ سِوَاهُ.
وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ الأسدي، عن الحارث بن قيس، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"إِنَّ مِنْ أُمَّتِي مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ بشفاعته أكثر من ربيعة ومضر، وَإِنَّ مِنْ أُمَّتِي مَنْ سَيَعْظُمُ لِلنَّارِ حَتَّى يَكُونَ أَحَدَ زَوَايَاهَا" وَكَذَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ ماجة،(2/245)
مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، وَفِي لَفْظٍ لِأَحْمَدَ: "إِنَّ مِنْ أُمَّتِي لَمَنْ يَشْفَعُ لِأَكْثَرَ مِنْ رَبِيعَةَ وَمُضَرَ، وَإِنَّ من أمتي لمن يعظم للنار حتى يكون رُكْنًا مِنْ أَرْكَانِهَا".
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ، عَنْ الْحَسَنِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"يَدْخُلُ بِشَفَاعَةِ رَجُلٍ مِنْ أمتي أَكْثَرُ مِنْ رَبِيعَةَ وَمُضَرَ"، قَالَ هِشَامٌ: أَخْبَرَنِي حَوْشَبٌ، عَنِ الْحَسَنِ: أَنَّهُ أُوَيْسٌ الْقَرَنِيُّ، قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ: قُلْتُ لِرَجُلٍ مِنْ قومه: أويس بأي شيء يبلغ هَذَا? قَالَ: فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ".
وَقَالَ الإِمام أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بن زيد، حدثنا سُلَيْمَانَ الْعَصَرِيَّ، حَدَّثَنِي عُقْبَةُ بْنُ صُهْبَانَ، سَمِعْتُ أَبَا بَكْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
"يحصل الناس على الصراط يوم القيامة فتتقادع الناس بِهِمْ جَنَبَتَا الصِّرَاطِ، تَقَادُعَ الْفَرَاشِ فِي النَّارِ، قال فينجي الله تبارك وتعالى برحمته من يشاء قال: ثُمَّ يُؤْذَنُ لِلْمَلَائِكَةِ، وَالنَّبِيِّينَ، وَالشُّهَدَاءِ أَنْ يَشْفَعُوا، فيشفعون ويخرجون ويشفعون، ويخرجون وزاد عفان مرة أخرى فَقَالَ: وَيَشْفَعُونَ وَيُخْرِجُونَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مَا يَزِنُ ذَرَّةً مِنْ إِيمَانٍ".
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ أبو سَعِيدِ بْنُ أَبِي عَمْرٍو، قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ، مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، حَدَّثَنَا الْخَضِرُ بْنُ أَبَانٍ، حَدَّثَنَا سَيَّارٌ، حَدَّثَنَا جَعْفَرٌ، يَعْنِي ابْنَ سليمان، حدثنا أبو طلال، حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، حَدَّثَنَا، رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
"سَلَكَ رَجُلَانِ مفازة، أحدهما عابد، والآخر به رهق، رفع الَّذِي بِهِ رَهَقٌ إِدَاوَةٌ فِيهَا مَاءٌ، وَلَيْسَ مَعَ الْعَابِدِ مَاءٌ، فَعَطِشَ الْعَابِدُ، فَقَالَ: أَيْ فُلَانُ، اسْقِنِي فَهُوَ ذَا أَمُوتُ، فَقَالَ: إِنَّمَا مَعِي إِدَاوَةٌ، وَنَحْنُ فِي مَفَازَةٍ، فَإِنْ سَقَيْتُكَ هَلَكْتُ، فَسَلَكَا، ثُمَّ إِنَّ الْعَابِدَ اشْتَدَّ بِهِ الْعَطَشُ فَقَالَ: أَيْ فُلَانُ، اسْقِنِي فَهُوَ ذَا أَمُوتُ فَقَالَ: إِنَّمَا مَعِي إِدَاوَةٌ وَنَحْنُ فِي مَفَازَةٍ، فَإِنْ سَقَيْتُكَ هَلَكْتُ، فَسَلَكَا، ثُمَّ إِنَّ العابد(2/246)
سَقَطَ، فَقَالَ: أَيْ فُلَانُ اسْقِنِي فَهُوَ ذَا أَمُوتُ، قَالَ الَّذِي بِهِ رَهَقٌ، وَاللَّهِ إِنَّ هذا العبد الصالح يموت ضياعاً، لا يبلني عند الله أَبَدًا، فرشَّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَاءِ وَسَقَاهُ، ثُمَّ سلكا إلى الْمَفَازَةَ، فَقَطَعَاهَا، قَالَ: فَيُوقَفَانِ لِلْحِسَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُؤْمَرُ بِالْعَابِدِ إِلَى الْجَنَّةِ، وَيُؤْمَرُ بِالَّذِي بِهِ رَهَقٌ إِلَى النَّارِ، قَالَ فَيَعْرِفُ الَّذِي بِهِ رَهَقٌ الْعَابِدَ، وَلَا يَعْرِفُ الْعَابِدُ الَّذِي بِهِ رَهَقٌ، فَيُنَادِيهِ: أَيْ فُلَانُ، أَنَا الَّذِي آثَرْتُكَ عَلَى نَفْسِي يَوْمَ الْمَفَازَةِ، وَقَدْ أُمِرَ بِي الى النار، فاشفع إلى ربك، فيقول: أَيْ رَبِّ، إِنَّهُ قَدْ آثَرَنِي عَلَى نَفْسِهِ، أي رب هبه لي اليوم، فيوهب له، فيأخذه بِيَدِهِ فَيَنْطَلِقُ بِهِ إِلَى الْجَنَّةِ، زَادَ فِيهِ: فيقول: يا فلان، لشد ما غرتك نِعْمَةُ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ".
ثُمَّ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: هذا الْإِسْنَادُ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ قَوِيٍّ فَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، حَدَّثَنَا أَبُو سعيد الزَّاهِدُ، إِمْلَاءً، حَدَّثَنَا أَبُو الْحُسْنِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعِيدٍ الْبُوشَنْجِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي سَارَةَ، عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"إِنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ يُشْرِفُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى النَّارِ، فَيُنَادِيهِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَيَقُولُ: يَا فُلَانُ، هَلْ تَعْرِفُنِي، فَيَقُولُ: لَا، وَاللَّهِ مَا أَعْرِفُكَ، مَنْ أَنْتَ? فَيَقُولُ: أَنَا الَّذِي مَرَرْتَ بِي فِي الدُّنْيَا فَاسْتَسْقَيْتَنِي شربة من ماء فسقيتك، قال: قد عرفت، قال: فاشفع بِهَا عِنْدَ رَبِّكَ، قَالَ: فَيَسْأَلُ اللَّهَ عَزَّ وجل فيقول إِنِّي أَشْرَفْتُ عَلَى النَّارِ فَنَادَانِي رَجُلٌ مِنْ أَهْلِهَا، فَقَالَ: هَلْ تَعْرِفُنِي? قُلْتُ: لَا وَاللَّهِ، مَا أَعْرِفُكَ، مَنْ أَنْتَ? قَالَ: أَنَا الَّذِي مَرَرْتَ بِي فِي الدُّنْيَا فَاسْتَسْقَيْتَنِي شَرْبَةً مِنْ ماء. فسقيتك فاشفع لي عند ربك، فشفعني، فيشفعه الله، فيأمر بِهِ فَيُخْرَجُ مِنَ النَّارِ".
أَنْبَأَنَا أَبُو طَالِبٍ طَاهِرٌ الْفَقِيهُ، أَنْبَأَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الصَّفَّارُ، الأصبهاني، أَبُو قَبِيصَةَ، مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُمَارَةَ، بْنِ الْقَعْقَاعِ الضَّبِّيُّ، الْأَصْبَهَانِيُّ(2/247)
البغدادي، حدثنا أحمد بن عمران الأحبشي، سمعت أبا بكر بن عياش يحدث صالحاً الخزاز، عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"يَجْمَعُ اللَّهُ أَهْلَ الْجَنَّةِ صُفُوفًا، وَأَهْلَ النَّارِ صُفُوفًا، فَيَنْظُرُ الرَّجُلُ مِنْ صُفُوفِ أَهْلِ النَّارِ إِلَى رَجُلٍ مِنْ صُفُوفِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فيقول: يا فلان: أما تَذْكُرُ يَوْمَ اصْطَنَعْتُ إِلَيْكَ فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا? فَيَقُولُ: يَا رَبِّ إِنَّ هَذَا اصْطَنَعَ إليَّ مَعْرُوفًا، فَيُقَالُ: خُذْ بِيَدِهِ، وَأَدْخِلْهُ الْجَنَّةَ"، قَالَ أَنَسٌ: أَشْهَدُ إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُهُ، قَالَ: وَكَذَا رَوَاهُ الصنعاني، عن أحمد بن عمران، تفرّد به أَحْمَدَ بْنِ عِمْرَانَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.(2/248)
حديث فيه شفاعة الأعمال لصاحبها
قال عبد الله بن المبارك: حدثنا رِشْدِينُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ حُيَيٍّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحُبُلِيِّ، عَنْ عَبْدِ الله بن عَمْرٍو، قَالَ: إِنَّ الصِّيَامَ، وَالْقُرْآنَ لَيَشْفَعَانِ لِلْعَبْدِ، يَقُولُ الصِّيَامُ: رَبِّ مَنَعْتُهُ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ، وَالشَّهَوَاتِ بِالنَّهَارِ، فَشَفِّعْنِي فِيهِ، وَيَقُولُ الْقُرْآنُ: مَنَعْتُهُ النَّوْمَ بِاللَّيْلِ فَشَفِّعْنِي فِيهِ.
وَرَوَى نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَكَمِ بْنِ أَبَانٍ، عَنْ أبيه، عن أبي قلابة، قال: إن ابْنُ أَخِي يَتَعَاطَى الشَّرَابَ، فَمَرِضَ، فَبَعَثَ إليَّ لَيْلًا أَنِ الْحَقْ بِي فَأَتَيْتُهُ، فَرَأَيْتُ أَسْوَدَيْنِ قد دنيا منه، فقلت: إنا لله هَلَكَ ابْنُ أَخِي، فَاطَّلَعَ أَبْيَضَانِ مِنَ الْكُوَّةِ الَّتِي فِي الْبَيْتِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: انْزِلْ إِلَيْهِ، فَلَمَّا نَزَلَ تَنَحَّى عَنْهُ الْأَسْوَدَانِ، فَشَمَّ فاه، فقال: ما أرى فيها ذِكْرًا. ثُمَّ شَمَّ بَطْنَهُ، فَقَالَ: مَا أَرَى فِيهَا صِيَامًا، ثُمَّ شَمَّ رِجْلَيْهِ فَقَالَ: مَا أَرَى فِيهِمَا صَلَاةً فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. رَجُلٌ مِنْ أُمَّةِ محمد لَيْسَ لَهُ مِنَ الْخَيْرِ شَيْءٌ. وَيْحَكَ، عُدْ فانظر، فعاد فَلَمْ يَجِدْ شَيْئًا، فَنَزَلَ الْآخَرُ، فَشَمَّ، فَلَمْ يجد شيئاً، ثم عاد فإذا في طرفي لِسَانِهِ تَكْبِيرَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ،(2/248)
قَالَهَا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ بِأَنْطَاكِيَةَ، فَقَبَضُوا رُوحَهُ، فَشَمُّوا فِي الْبَيْتِ رَائِحَةَ الْمِسْكِ وَشَهِدَ النَّاسُ جِنَازَتَهُ، حَدِيثٌ غَرِيبٌ جِدًّا.
قَالَ الْعَلَّامَةُ أَبُو مُحَمَّدٌ الْقُرْطُبِيُّ فِي التَّذْكِرَةِ: وَخَرَّجَ أَبُو الْقَاسِمِ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، بْنِ مُحَمَّدٍ الْخُتَّلِيُّ فِي كِتَابِ الدِّيبَاجِ لَهُ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي الحارث، حدثنا عبد المجيد بن أبي داود، عَنْ مَعْمَرِ بْنِ رَاشِدٍ، عَنِ الْحَكَمُ بْنُ أَبَانٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ:
"إِذَا فَرَغَ اللَّهُ مِنَ الْقَضَاءِ بَيْنَ خَلْقِهِ أَخْرَجَ كِتَابًا مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ: إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي، وَأَنَا أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ قَالَ: فَيُخْرِجُ من أهل النَّارِ مِثْلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، أَوْ قَالَ: مِثْلَيْ أهل الجنة، قال: ظَنِّي أَنَّهُ قَالَ: مِثْلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، مَكْتُوبٌ بَيْنَ أَعْيُنِهِمْ: عُتَقَاءُ اللَّهِ".
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ، عَنْ أَنَسٍ، مَرْفُوعًا: يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَخْرِجُوا مِنَ النَّارِ مَنْ ذَكَرَنِي يَوْمًا، أَوْ خَافَنِي فِي مَقَامٍ، وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ.
وَلَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
"إِنَّ رَجُلَيْنِ مِمَّنْ دَخَلَ النَّارَ اشْتَدَّ صِيَاحُهُمَا، فَقَالَ الرَّبُّ تَعَالَى: أَخْرِجُوهُمَا، فَلَمَّا أُخْرِجَا قَالَ لَهُمَا: لِأَيِّ شَيْءٍ اشْتَدَّ صِيَاحُكُمَا? فَقَالَا: فَعَلْنَا ذَلِكَ لِتَرْحَمَنَا، قَالَ: إِنَّ رَحْمَتِي لَكُمَا أَنْ تَنْطَلِقَا، فَتُلْقِيَا أَنْفُسَكُمَا حَيْثُ كُنْتُمَا مِنَ النَّارِ، فَيَنْطَلِقَانِ فَيُلْقِي أَحَدُهُمَا نَفْسَهُ فَيَجْعَلُهَا عَلَيْهِ بَرْدًا وَسَلَامًا، وَيَقُومُ الْآخَرُ، فَلَا يُلْقِي نفسه، فيقول الرب تعالى: ما منعك أن تلقي بنفسك، كَمَا أَلْقَى صَاحِبُكَ? فَيَقُولُ: رَبِّ إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ لَا تُعِيدَنِي فِيهَا بَعْدَ مَا أَخْرَجْتَنِي منها فيقول الرب: لَكَ رَجَاؤُكَ، فَيَدْخُلَانِ الْجَنَّةَ جَمِيعًا بِرَحْمَةِ اللَّهِ". وَفِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ لِحَالِ رِشْدِينَ بْنِ سَعْدٍ، عن ابن أبي نعم وهما ضعيفان، ولكن يغتفر رواية هذا في هذا الباب مِنَ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.(2/249)
وقال عبد الله بن المبارك: حدثنا رشدين بن سعد، حدثنا أبو هانىء الخولاني، عن عمرو بن مالك الخشني: أن فضالة بن عبود، وعبادة الصَّامِتِ حَدَّثَاهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
"إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَفَرَغَ اللَّهُ مِنْ قَضَاءِ الْخَلْقِ فَيَبْقَى رَجُلَانِ، فَيُؤْمَرُ بِهِمَا إِلَى النَّارِ، فَيَلْتَفِتُ أَحَدُهُمَا، فَيَقُولُ الْجَبَّارُ: رُدُّوهُ، فَيَرُدُّونَهُ، فَيَقُولُ لَهُ: لِمَ الْتَفَتَّ? فَيَقُولُ: كُنْتُ أَرْجُو أَنْ تُدْخِلَنِي الْجَنَّةَ، فَيُؤْمَرُ بِهِ إِلَى الْجَنَّةِ، فَيَقُولُ: لَقَدْ أَعْطَانِي رَبِّي حَتَّى لَوْ أَنِّي أَطْعَمْتُ أَهْلَ الْجَنَّةِ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي شَيْئًا، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا ذَكَرَهُ يرى السرور في وجهه".(2/250)
فصل: أَصْحَابِ الْأَعْرَافِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيماهُمْ وَنَادوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أنْ سَلاَمٌ عَلَيْكمْ لَمْ يَدْخُلوهَا وَهمْ يَطْمَعُونَ، وَإِذَا صُرفَتْ أَبْصَارهمْ تِلْقَاء أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْم الظَّالِمين} . [7- الْأَعْرَافِ-46-47] .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: الْأَعْرَافُ سُورٌ بين الجنة والنار: وقال العتبي: عَنْ صِلَةَ بْنِ زُفَرَ، عَنْ حُذَيْفَةَ، قَالَ: "أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ، قَوْمٌ تَجَاوَزَتْ بِهِمْ حَسَنَاتُهُمُ النَّارَ، وَقَصَّرَتْ بِهِمْ سَيِّئَاتُهُمْ عَنِ الْجَنَّةِ".(2/250)
{وإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجعَلْنَا مَعَ الْقَوْم الظَّالِمِينَ} .
فَبَيْنَمَا هم كذلك إذا طلع عليهم ربك، فقال: قوموا فادخلوا الجنة، فإني قد غفرت لكم.
ورواه البيهقي: من وَجْهٍ آخَرَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ حُذَيْفَةَ، مَرْفُوعًا وَفِيهِ نَظَرٌ. وَقَالَ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ: عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنِ مُجَاهِدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ، قَالَ: "أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالٌ تَسْتَوِي حَسَنَاتُهُمْ وَسَيِّئَاتُهُمْ، فَيُذْهَبُ بِهِمْ إلى نهر يقال له نهر الْحَيَاةُ- تُرْبَتُهُ وَرْسٌ وَزَعْفَرَانُ، وَحَافَتَاهُ، قَصَبٌ مِنْ ذهب، مكلل باللؤلؤ فيغتسلون منه، فتبدو فِي نُحُورِهِمْ شَامَةٌ بَيْضَاءُ، ثُمَّ يَغْتَسِلُونَ، فَيَزْدَادُونَ بَيَاضًا، ثُمَّ يُقَالُ لَهُمْ: تَمَنَّوْا مَا شِئْتُمْ، فَيَتَمَنَّوْنَ مَا شَاءُوا، فَيُقَالُ لَهُمْ: لَكُمْ مَا تمنيتم وأضعافه سَبْعِينَ مَرَّةً، فَأُولَئِكَ مَسَاكِينُ الْجَنَّةِ".
وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ فِيهَا غَرَابَةٌ، فِي شَأْنِ أَصْحَابِ الْأَعْرَافِ، وصفاتهم، تركناها لضعفها.(2/251)
ذكر أول من يخرج من النارِ فيدخل الجنة
...
ذكر آخر مَن يَخْرُجْ مِن النَّارِ فَيَدْخُل الجَنَة
ثبت في صحيح مسلم: من حديث الزهري، عن عطاء بن يزيد الليثي أن أبا هريرة أخبره: أن أناساً قالوا لرسول الله: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ? فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"هل تضارون في الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ?" قَالُوا: لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: "هَلْ تُضَارُّونَ فِي الشَّمْسِ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ?" قَالُوا: لَا، قَالَ:(2/251)
"فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَهُ كَذَلِكَ، يَجْمَعُ اللَّهُ النَّاسَ يَوْمَ القيامة، فيقول: من كان يعبد شيئاً، فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس، ويتبع من كان يعبد القمر القمر، ويتبع من كَانَ يَعْبُدُ الطَّوَاغِيتَ الطَّوَاغِيتَ، وَتَبْقَى هَذِهِ الْأُمَّةُ، فيها منافقوها، فيأتيهم الله فِي صُورَةٍ غَيْرِ صُورَتِهِ الَّتِي يَعْرِفُونَ، فَيَقُولُ: أنا ر بكم، فَيَقُولُونَ: نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ، هَذَا مَكَانُنَا، حَتَّى يَأْتِيَنَا رَبُّنَا. فَإِذَا جَاءَ رَبُّنَا عَرَفْنَاهُ، فَيَأْتِيهِمُ اللَّهُ فِي صُورَتِهِ الَّتِي يَعْرِفُونَ فَيَقُولُ: أَنَا ر بكم، فيقولون: أنت ر بنا، فيتبعونه، ويضرب الصراط بين ظهراني جهنم، فأكون أنا وأمتي أول من نجتاز، ولا يتكلم يومئذ إلا الرسل، ودعاء الرُّسُلِ يَوْمَئِذٍ: اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ. وَفِي جَهَنَّمَ كلاليب مثل شوك السعدان، هل رأيتم السَّعْدَانِ? قَالُوا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: فَإِنَّهَا مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ قَدْرَ عِظَمِهَا إِلَّا اللَّهُ، تَخْطَفُ النَّاسَ بِأَعْمَالِهِمْ، فَمِنْهُمُ الْمُوبَقُ بِعَمَلِهِ، وَمِنْهُمُ الْمُجَازَى، حَتَّى إِذَا فَرَغَ اللَّهُ مِنَ الْقَضَاءِ بَيْنَ الْعِبَادِ، وَأَرَادَ أَنْ يُخْرِجَ بِرَحْمَتِهِ مَنْ أَرَادَ مِنْ أهل النار يأمر الْمَلَائِكَةَ أَنْ يُخْرِجُوا مِنَ النَّارِ مَنْ كَانَ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا، مِمَّنْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَرْحَمَهُ، مِمَّنْ يَقُولُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَيَعْرِفُونَهُمْ فِي النَّارِ، يَعْرِفُونَهُمْ بِأَثَرِ السُّجُودِ، تَأْكُلُ النَّارُ مِنَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا أَثَرَ السجود، فيخرجون من النار، قد امْتَحَشُوا، فَيُصَبُّ عَلَيْهِمْ مِنْ مَاءِ الْحَيَاةِ، فَيَنْبُتُونَ مِنْهُ كَمَا تَنْبُتُ الْحَبَّةُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ، وَيَفْرُغُ اللَّهُ مِنَ الْقَضَاءِ بَيْنَ الْعِبَادِ، وَيَبْقَى رَجُلٌ مُقْبِلٌ بِوَجْهِهِ عَلَى النَّارِ، وَهُوَ آخِرُ أهل النار دخولاً الْجَنَّةِ، فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ، اصْرِفْ وَجْهِي عَنِ النار، فإنه قد مسني رِيحُهَا، وَأَحْرَقَنِي ذَكَاؤُهَا، فَيَدْعُو اللَّهَ مَا شَاءَ أَنْ يَدْعُوَهُ، ثُمَّ يَقُولُ اللَّهُ: هَلْ عَسَيْتَ إن أعطيت ذَلِكَ، أَنْ تَسْأَلَنِي غَيْرَهُ? فَيَقُولُ: لَا أَسْأَلُكَ غَيْرَهُ، وَيُعْطِي رَبَّهُ مِنْ عُهُودٍ وَمَوَاثِيقَ مَا شَاءَ، فَيَصْرِفُ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ، فَإِذَا أَقْبَلَ عَلَى الْجَنَّةِ، وَرَآهَا، سَكَتَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَسْكُتَ ثُمَّ يَقُولُ: أَيْ رَبِّ: قَدِّمْنِي إلى باب الجنة،(2/252)
فيقول الله: أليس قد أعطيت عهودك ومواثيقك، لا تسألني شيئاً غير الذي أعطيت? ويلك يا ابن آدَمَ: مَا أَغْدَرَكَ? فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ، وَيَدْعُو الله، حتى يقول: فَهَلْ عَسَيْتَ إِنْ أَعْطَيْتُكَ ذَلِكَ أَنْ تَسْأَلَنِي غيره? فيقول: لا وعزتك، ويعطي رَبَّهُ مَا شَاءَ مِنْ عُهُودٍ وَمَوَاثِيقَ، فَيُقَدِّمُهُ إِلَى بَابِ الْجَنَّةِ، فَإِذَا قَامَ عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ، انْفَهَقَتْ لَهُ الْجَنَّةُ، فَرَأَى مَا فِيهَا مِنَ الْخَيْرِ وَالسُّرُورِ، فَيَسْكُتُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَسْكُتَ، ثُمَّ يَقُولُ: أَيْ رَبِّ: أَدْخِلْنِي الجنة، فيقول الله تعالى: أَلَيْسَ قَدْ أَعْطَيْتَ عُهُودَكَ وَمَوَاثِيقَكَ، أَنْ لَا تسأل غير ما أعطيت? ويحك يا ابن آدَمَ? مَا أَغْدَرَكَ? فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ، لَا أَكُونُ أَشْقَى خَلْقِكَ، فَلَا يَزَالُ يَدْعُو اللَّهَ، حتى يضحك الله منه، ثم يقول له: ادخل الجنة، فيدخلها فيقول الله: تَمَنَّهْ، فَيَسْأَلُ اللَّهَ وَيَتَمَنَّى. حَتَّى إِنَّ اللَّهَ لَيُذَكِّرُهُ، مِنْ كَذَا وَكَذَا، حَتَّى إِذَا انْقَطَعَتْ به الأماني، قال الله، لك ذلك وَمِثْلُهُ مَعَهُ".
قَالَ عَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ: وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ، لَا يَرُدُّ عليه شيئاً من حديثه، حتى إذا قال أَبُو هُرَيْرَةَ: أَنَّ اللَّهَ قَالَ لِذَلِكَ الرَّجُلِ: وَمِثْلُهُ مَعَهُ. قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ معه يا أبا هريرة، فقال أبو هريرة: ما حفظت إلا قوله: لك ذلك مثله مَعَهُ، فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ: أَشْهَدُ أَنِّي حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قول: "لك ذلك وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ"، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَذَلِكَ الرَّجُلُ آخر أهل الجنة دخولاً.
هذا لفظ مُسْلِمٍ، مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، ثُمَّ أَوْرَدَ الْحَدِيثَ مِنْ رِوَايَةِ عَطَاءِ بْنَ يَسَارٍ، وَغَيْرِهِ: عَنْ أبي سعيد، فساقه بِطُولِهِ نَحْوَهُ، وَفِيهِ: "أَنَّهُ يُعْطَى ذَلِكَ وَعَشَرَةَ أَمْثَالِهِ" وَفِي بَعْضِ سِيَاقَاتِهِ: "أَنَّهُ يَنْتَقِلُ مِنَ النَّارِ إِلَى بَابِ الْجَنَّةِ فِي ثَلَاثِ مَرَاحِلَ، كُلُّ مَرْحَلَةٍ يَجْلِسُ تَحْتَ شَجَرَةٍ كُلُّ وَاحِدَةٍ هِيَ أَحْسَنُ مِنْ أُخْتِهَا الَّتِي قَبْلَهَا".(2/253)
وَكَذَلِكَ رَوَاهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا: مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مسعود وفيه: "وعشرة أَمْثَالِهِ" كَمَا حَفِظَهُ أَبُو سَعِيدٍ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أعظم وأكرم.
وكذا رواه البخاري: عن ابن مسعود، وفيه: "وعشرة أمثاله" فَقَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عُبَيْدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"إِنِّي لَأَعْلَمُ آخِرَ أَهْلِ النَّارِ خُرُوجًا مِنْهَا، وآخر أهل الجنة دخولاً الجنة، رَجُلٌ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ حَبْوًا، فَيَقُولُ اللَّهُ له: اذْهَبْ فَادْخُلِ الْجَنَّةَ، فَيَأْتِيهَا، فَيُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهَا مَلْأَى، فَيَرْجِعُ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ وَجَدْتُهَا مَلْأَى، فَيَقُولُ: اذْهَبْ فَادْخُلِ الْجَنَّةَ، فَإِنَّ لَكَ مِثْلَ الدُّنْيَا، وَعَشَرَةَ أَمْثَالِهَا، أَوْ إِنَّ لَكَ مِثْلَ عشرة أمثال الدنيا- فيقول: تسخربي- أَوْ تَضْحَكُ مِنِّي- وَأَنْتَ الْمَلِكُ? فَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يضحك حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ وَكَانَ يُقَالُ: ذَلِكَ أَدْنَى أهل الجنة منزلة".
فصل
رَوَى الدَارَقُطْنِيُّ فِي كِتَابِهِ: الرُّوَاةِ عَنْ مَالِكٍ، وَالْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ، مِنْ طَرِيقٍ غَرِيبَةٍ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ الْحَكَمِ، حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" إِنَّ آخِرَ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ رَجُلٌ مِنْ جُهَيْنَةَ، يُقَالُ لَهُ جُهَيْنَةُ، فَيَقُولُ أَهْلُ الْجَنَّةِ. عِنْدَ جُهَيْنَةَ الْخَبَرُ اليقين، سلوه: هل بقي من الخلائق أحد"? وَهَذَا الْحَدِيثُ لَا تَصِحُّ نِسْبَتُهُ إِلَى الإِمام مَالِكٍ، لِجَهَالَةِ رُوَاتِهِ عَنْهُ، وَلَوْ كَانَ مَحْفُوظًا عنه مِنْ حَدِيثِهِ لَكَانَ فِي كُتُبِهِ الْمَشْهُورَةِ عَنْهُ، كالموطإِ وَغَيْرِهِ مِمَّا رَوَاهُ عَنْهُ الثِّقَاتُ. وَالْعَجِيبُ أَنَّ أبا عبد الله الْقُرْطُبِيَّ ذَكَرَهُ فِي التَّذْكِرَةِ، وَجَزَمَ بِهِ، فَقَالَ: قَالَ ابْنُ عُمَرَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"آخِرُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ رَجُلٌ مِنْ جُهَيْنَةَ، يُقَالُ لَهُ جُهَيْنَةُ، فَيَقُولُ أَهْلُ الْجَنَّةِ: وَعِنْدَ جُهَيْنَةَ الْخَبَرُ الْيَقِينُ".(2/254)
وكذلك ذكره السهيلي، ولم يضعفه، وحكى عن السهيل قول آخر: أن اسمه هناد فالله أعلم إلى هنا.
وقال مسلم: حدثنا محمد بن مسعود بن نمير، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنِ الْمَعْرُورِ بْنِ سُوَيْدٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"إِنِّي لَأَعْلَمُ آخِرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولًا الْجَنَّةَ، وَآخِرَ أَهْلِ النَّارِ خُرُوجًا مِنْهَا، رَجُلٌ يُؤْتَى بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُقَالُ له: عملت يوم كذا، كذا وكذا. وعملت يوم كذا، كَذَا وَكَذَا. فَيَقُولُ: نَعَمْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ ينكر، وهومشفق مِنْ كِبَارِ ذُنُوبِهِ أَنْ تُعْرَضَ عَلَيْهِ، فَيُقَالُ له: إن لَكَ مَكَانَ كُلِّ سَيِّئَةٍ حَسَنَةً. فَيَقُولُ: رَبِّ: عملت أشياء لا أرها هاهنا، فَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَحِكَ، حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ ".
وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ يَحْيَى المزكي، حَدَّثَنَا أَبُو فَرْوَةَ يَزِيدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ الرَّهَاوِيُّ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، حَدَّثَنِي أَبُو يَحْيَى الْكَلَاعِيُّ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم:
"إِنَّ آخِرَ رَجُلٍ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ، رَجُلٌ يَتَقَلَّبُ على ظهر الصِّرَاطِ ظَهْرًا لِبَطْنٍ، كَالْغُلَامِ يَضْرِبُهُ أَبُوهُ، وَهُوَ يَفِرُّ مِنْهُ، يَعْجِزُ عَنْهُ عَمَلُهُ أَنْ يَسْعَى، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ: بَلِّغْ بِيَ الْجَنَّةَ، وَنَجِّنِي مِنَ النَّارِ، فَيُوحِي اللَّهُ إِلَيْهِ: عَبْدِي إِنْ أَنَا نَجَّيْتُكَ مِنَ النَّارِ، وَأَدْخَلْتُكَ الْجَنَّةَ، أَتَعْتَرِفُ لِي بِذُنُوبِكَ، وِخَطَايَاكَ? فَيَقُولُ الْعَبْدُ: نَعَمْ يَا رب: وعزتك إن نجيتني من النار لأعترف لَكَ بِذُنُوبِي وَخَطَايَايَ، فَيَجُوزَ الْجِسْرَ، وَيَقُولُ الْعَبْدُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ نَفْسِهِ: لَئِنِ اعْتَرَفْتُ لَهُ بِذُنُوبِي وَخَطَايَايَ، لَيَرُدُّنِي إِلَى النَّارِ، فَيُوحِي اللَّهُ إليه: عبدي: اعترف بِذُنُوبِكَ، وَخَطَايَاكَ، أَغْفِرْهَا لَكَ، وَأُدْخِلْكَ الْجَنَّةَ، فَيَقُولُ الْعَبْدُ: لَا وَعِزَّتِكَ وَجَلَالِكَ مَا أَذْنَبْتُ ذَنْبًا قَطُّ، وَلَا أَخْطَأْتُ خَطِيئَةً قَطُّ، فَيُوحِي اللَّهُ إليه، عبدي: إن لي عليك بينة، فيلتفت العبد يميناً وشمالاً(2/255)
فَلَا يَرَى أَحَدًا: فَيَقُولُ: يَا رَبِّ: أَرِنِي بَيِّنَتَكَ، فَيَسْتَنْطِقُ اللَّهُ جِلْدَهُ بِالْمُحَقَّرَاتِ، فَإِذَا رَأَى ذلك العبد، يَقُولُ: يَا رَبِّ: عِنْدِي وَعِزَّتِكَ الْعَظَائِمُ، فَيُوحِي اللَّهُ إِلَيْهِ: عَبْدِي: أَنَا أَعْرَفُ بِهَا مِنْكَ، اعْتَرِفْ لِي بِهَا أَغْفِرْهَا لَكَ، وَأُدْخِلْكَ الْجَنَّةَ، فَيَعْتَرِفُ الْعَبْدُ بِذُنُوبِهِ، فَيُدْخِلُهُ الْجَنَّةَ"، ثُمَّ ضَحِكُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بدت نواجذه، فقال: "هَذَا أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً، فَكَيْفَ بِالَّذِي فَوْقَهُ?".
وَقَالَ الإِمام أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حَسَنُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا سَلَّامٌ: - يَعْنِي ابْنَ مِسْكِينٍ- عَنْ طلال، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
"إِنَّ عَبْدًا فِي جَهَنَّمَ لَيُنَادِي أَلْفَ سَنَةٍ: يَا حَنَّانُ، يَا مَنَّانُ. قَالَ: فَيَقُولُ اللَّهُ لِجِبْرِيلَ: اذْهَبْ فَائْتِنِي بِعَبْدِي هَذَا، فَيَنْطَلِقُ جِبْرِيلُ، فَيَجِدُ أَهْلَ النَّارِ مكبين يبكون فيرجع إلى ربه فيخبره، فيقول: ائتني بِهِ، فَإِنَّهُ فِي مَكَانِ كَذَا وَكَذَا، فَيَجِيءُ بِهِ، فَيُوقِفُهُ عَلَى رَبِّهِ، فَيَقُولُ لَهُ: يَا عَبْدِي، كَيْفَ وَجَدْتَ مَكَانَكَ وَمَقِيلَكَ? فَيَقُولُ: يَا رَبِّ، شَرَّ مَكَانٍ، وَشَرَّ مَقِيلٍ، فَيَقُولُ: رُدُّوا عبدي، فيقول: ما كنت أرجو إذا أخرجتني منها، أن تردني فيها، فيقول الله تعالى: دعوا عبدي". تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ.
وَقَالَ الإِمام أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عفان بْنُ سَلَمَةَ، أَخْبَرَنَا ثَابِتٌ، وَأَبُو عِمْرَانَ الْجَوْنِيُّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
"يَخْرُجُ أَرْبَعَةٌ مِنَ النَّارِ - قَالَ أَبُو عِمْرَانَ: أَرْبَعَةٌ، وَقَالَ ثابت: رجلان- فيعرضون على الله، ثم يؤمر بهم- أو بهما- إِلَى النَّارِ، فَيَلْتَفِتُ أَحَدُهُمْ،(2/256)
فيقول: أي رب قد كنت أرجو إذا أَخْرَجْتَنِي مِنْهَا أَنْ لَا تُعِيدَنِي فِيهَا، فَيُنَجِّيهِ الله منها" 1. هكذا رَوَاهُ مُسْلِمٌ: مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ: بِهِ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: حَدَّثَنِي رشيد بن سعيد، حَدَّثَنِي ابْنُ أَنْعُمٍ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، أَنَّهُ حَدَّثَهُ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
"إِنَّ رَجُلَيْنِ ممن دخل النار، يشتد صياحهم، فيقول الرب جل جلاله: أخرجوهما، فيخرجان، فيقول الله لهما: لأي شيء اشتد صياحكما? فيقولان: فعلنا ذلك لترحمنا، فيقول عز وجل: رحمتي لكما بأن تنطلقا إليها، فيلقي أحدهما نفسه فيها، فيجعلها عليه الله برداً وسلاماً، أما الْآخَرُ، فَلَا يُلْقِي نَفْسَهُ، فَيَقُولُ لَهُ الرَّبُّ: ما منعك أن تلقي نفسك كما فعل صاحبك? فيقول: رب: إني أرجو أن لا تعيدني فيها بعدما أَخْرَجْتَنِي مِنْهَا: فَيَقُولُ الرَّبُّ: لَكَ رَجَاؤُكَ، فَيَدْخُلَانِ جَمِيعًا الْجَنَّةَ، بِرَحْمَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ".
وَذَكَرَ بِلَالُ بْنُ سَعْدٍ فِي خُطْبَتِهِ: "أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا أَمَرَهُمَا بِالرُّجُوعِ إِلَى النَّارِ، يَنْطَلِقُ أَحَدُهُمَا فِي أَغْلَالِهِ، وَسَلَاسِلِهِ، حَتَّى يَقْتَحِمَهَا، وَيَتَلَكَّأُ الآخر، فيقول الله لِلْأَوَّلِ: مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ? فَيَقُولُ: إني خررت من وبال معصيتك في العذاب الأليم، فلم أكن أتعرض لسخطك ثانياً، وأما الآخر، فَيَقُولُ: حُسْنُ ظَنِّي بِكَ، إِذْ أَخْرَجْتَنِي مِنْهَا أن لا تعيدني إليها، فيرحمهما الله، ويدخلهما الجنة".
__________
1 الحديث رواه أحمد في مسنده 3- 284. رواه مسلم – كتاب الإيمان –باب إثبات الشفاعة وإخراج الموحدين.(2/257)
فصل
إذا خرج أهل المعاصي منها، فَلَمْ يَبْقَ فِيهَا غَيْرُ الْكَافِرِينَ، فَإِنَّهُمْ لَا يموتون فيها ولا يحيون، كما قال تعالى: {فَالْيَوْمَ لاَ يُخْرجُونَ مِنْهَا} . [45-الجاثية- 35] .
وَلَا مَحِيدَ لَهُمْ عَنْهَا، بَلْ هُمْ خَالِدُونَ فِيهَا أَبَدًا، وَهُمُ الَّذِينَ حَبَسَهُمُ الْقُرْآنُ، وَحُكِمَ عَلَيْهِمْ بِالْخُلُودِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمِنْ يَعْص اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهًنّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أبَداً "حَتَّى إِذَا رَأوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلمُونَ مَنْ أضْعَفُ نَاصِراً وَأَقَلًّ عَدَداً} . [72-الجن-23-24] .
وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الكَافِرِينَ وَأَعًدّ لَهُمْ سَعِيراً خَالِدِينَ فِيهَا أبَداً لاَ يَجِدُونَ وَليّاً وَلاَ نَصِيراً} . [33-الأحزاب-64-65] .
وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُن اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً} . [4-النِّسَاءِ-68] .
فَهَذِهِ ثَلَاثُ آيَاتٍ، فِيهِنَّ الْحُكْمُ عَلَيْهِمْ بالخلود أَبَدًا، لَيْسَ لَهُنَّ رَابِعَةٌ مِثْلُهُنَّ فِي ذَلِكَ، فأما قوله تعالى: {قَالَ النَّار مَثْوَاكمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيم} . [6-الأنعام-128] .(2/258)
وقوله تَعَالَى: {فَأمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفيرٌ وَشَهِيقٌ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّموَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فعَّال لِمَا يُرِيدُ} . [11-هود-106-107] .
فلقد تَكَلَّمَ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى هذه الآية بكلام طويل، بَسْطُهُ، وَجَاءَتْ آثَارٌ عَنِ الصَّحَابَةِ غَرِيبَةٌ، وَوَرَدَتْ أَخْبَارٌ عَجِيبَةٌ، وَلِلْكَلَامِ عَلَى ذَلِكَ مَوْضِعٌ آخَرُ، ليس هذا موطنه، والله أعلم وأحكم.
وَقَدْ قَالَ الإِمام أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ إسحاق، حدثنا ابن المبارك عمرو بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"إِذَا صَارَ أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي الْجَنَّةِ، وَأَهْلُ النَّارِ فِي النَّارِ، جِيءَ بِالْمَوْتِ حَتَّى يُوقَفَ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، ثُمَّ يذبح، ثم ينادي منادي: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ خُلُودٌ وَلَا مَوْتَ، وَيَا أَهْلَ النَّارِ خُلُودٌ وَلَا مَوْتَ فَازْدَادَ أَهْلُ الْجَنَّةِ فَرَحًا إِلَى فَرَحِهِمْ، وَازْدَادَ أَهْلُ النَّارِ حزناً على حُزْنِهِمْ" 1.
وَهَكَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ: عَنْ مُعَاذِ بْنِ أسد بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، بِهِ، مِثْلَهُ، وَقَالَ أحمد، حدثنا حسان بن الربيع الموصلي، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ بَهْدَلَةَ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال:
"يؤتى بالموت كبشاً أملح فيوقف بين الجنة والنار، فيقول: يا أهل
__________
1 الحديث رواه أحمد في مسنده 5993- معارف. وقال أحمد شاكر في تعليقه على هذا الحديث: إسناده صحيح ورواه البخاري في صحيحه 11-361-362-فيح. عن معاذ بن أسد عن ابن المبارك بهذا الإسناد نحوه ورواه مسلم 2- 354 من طريق ابن وهب عن عمر بن محمد بن زيد نحوه. اهـ.(2/259)
الجنة: فيشرئبون وينظرون، ويقول: يَا أَهْلَ النَّارِ، فَيَشْرَئِبُّونَ، وَيَنْظُرُونَ، وَيُرَوْنَ أَنْ قَدْ جَاءَ الْفَرَجُ، فَيُذْبَحُ وَيُقَالُ: خُلُودٌ لَا مَوْتَ" 1. وَهَذَا إِسْنَادٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَقَالَ أَحْمَدُ2: حَدَّثَنَا يَزِيدُ وَابْنُ نُمَيْرٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"يُؤْتَى بِالْمَوْتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُوقَفُ عَلَى الصِّرَاطِ، فَيُقَالُ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ: فيطلعون خائفون، وجلين أن يخرجوا من مكانهم الذي هم فيه، فيقال: هل تعرفون هذا. فيقولون: نَعَمْ رَبَّنَا، هَذَا الْمَوْتُ، ثُمَّ يُقَالُ: يَا أَهْلَ النَّارِ: فَيَطَّلِعُونَ فَرِحِينَ، مُسْتَبْشِرِينَ أَنْ يُخْرَجُوا مِنْ مَكَانِهِمُ الَّذِي هُمْ فِيهِ، فَيُقَالُ: هَلْ تعرفون هذا? فيقولون: نَعَمْ، هَذَا الْمَوْتُ، فَيُؤْمَرُ بِهِ فَيُذْبَحُ عَلَى الصِّرَاطِ، ثُمَّ يُقَالُ لِلْفَرِيقَيْنِ كِلَيْهِمَا: خُلُودٌ فِيمَا تجدون، لا موت أَبَدًا".
إِسْنَادُهُ جَيِّدٌ قَوِيٌّ، عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحِ، وَلَمْ يُخْرِجْهُ أَحَدٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ آدَمَ، حَدَّثَنَا نَافِعُ بْنُ خَالِدٍ الطَّاحِيُّ، حَدَّثَنَا نُوحُ بْنُ قَيْسٍ الطَّاحِيُّ، عَنْ أَخِيهِ خَالِدِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
"يُؤْتَى بِالْمَوْتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُوقَفُ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَيُذْبَحُ، فَيُقَالُ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ: خُلُودٌ وَلَا مَوْتَ، وَيَا أَهْلَ النار: خلود ولا مَوْتَ". ثُمَّ قَالَ الْبَزَّارُ: لَا نَعْلَمُهُ يُرْوَى عَنِ أنس، إلا من هذا الوجه.
__________
1 الحديث رواه أحمد في مسنده 2- 423.
2 الحديث رواه أحمد في مسنده 7537- معارف.(2/260)
كتاب صفة أَهل الجنة وما فيها من النعيم
ذكر ما ورد في عدد أبوابها واتساعها وعظمة جناتها
...
بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب صفة أَهل الجنة وما فيها من النعيم نسأَل الله عز وجل أَن يدخلنا برحمته
ذكر ما ورد في عدد أبوابها واتساعها وعظمة جناتها
وقال الله تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زَمَراً حَتَى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنْتهَا سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُم فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْده وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبوأ مِنَ الجنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} . [39- الزمر-73-74] .
وقال تعالى: {جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمْ الأبْوَابُ} . [38- ص-50] .
وقال: {وَالْمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كًلِّ بَابٍ وسَلاَمٌ عَلَيْكمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عًقْبَى الدَّارِ} . [13- الرعد-23-24] .
وقد سلف فيما تقدم من الأحاديث: أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا انْتَهَوْا إِلَى بَابِ الْجَنَّةِ، وجدوه مغلقاً، فيشفعون إلى الله عز وجل ليفتح لهم.
وقد ذكر في حديث الصور: "أنهم يأتون آدم، ثم نوحاً، ثم إبراهيم، ثم موسى، ثم عيسى، فكل يحيد عن ذلك- كما تقدم في الصحاح- ثم(2/261)
يَأْتُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيذهب، فيقعقع حلقة باب الجنة، فيقول الخازن: من? فَيَقُولُ: مُحَمَّدٌ، فَيَقُولُ: بِكَ أُمِرْتُ أَنْ لَا أفتح لأحد قبلك، فيدخل فيشفع عند الله في دخول المؤمنون دار الكرامة، فيشفعه، فيكون هو أول من يدخل الجنة من الأنبياء، وأمته أول من يدخلها من الأمم".
وثبت في الصحيح: "أنا أَوَّلُ شَافِعٍ فِي الْجَنَّةِ، وَأَوَّلُ مَنْ يُقَعْقِعُ". وسيأتي في الحديث أيضاً: "مِفْتَاحُ الْجَنَّةِ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ".
وَرَوَى الإِمام أَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ، وَأَهْلُ السُّنَنِ? مِنْ رِوَايَةِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، وَغَيْرِهِ: عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ، ثُمَّ رَفَعَ بَصَرَهُ إِلَى السَّمَاءِ، فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ: فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةُ، يَدْخُلُ مِنْ أَيِّهَا شَاءَ".
وَقَالَ الإِمام أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا بِشْرُ بن الفضل، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم:
"إن بالجنة باباً يدعى الريان، يدعى إليه الصائمون يوم القيامة، يقال: أَيْنَ الصَّائِمُونَ? فَإِذَا دَخَلُوهُ أُغْلِقَ، فَلَمْ يَدْخُلْ مِنْهُ غَيْرُهُمْ".
قَالَ بِشْرٌ: فَلَقِيتُ أَبَا حَازِمٍ، فَسَأَلْتُهُ، فَحَدَّثَنِي بِهِ، غَيْرَ أَنِّي لِحَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَحْفَظُ وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عُثْمَانَ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:(2/262)
"فِي الْجَنَّةِ ثَمَانِيَةُ أَبْوَابٍ، بَابٌ مِنْهَا يُسَمَّى الرَّيَّانَ، لَا يَدْخُلُهُ إِلَّا الصَّائِمُونَ" وَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ: عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ، بِهِ.
وَرَوَاهُ أَيْضًا مُسْلِمٌ: مِنْ حَدِيثِ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ سَلَمَةَ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ سَهْلٍ، بِهِ.
وَقَالَ الإِمام أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ مِنْ مَالِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، دُعِيَ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، وَلِلْجَنَّةِ ثَمَانِيَةُ أَبْوَابٍ، فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ دعي من باب الصلاة، ومن كان من أَهْلِ الصَّدَقَةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّدَقَةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ، دُعِيَ مِنْ بَابِ الريان"
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا عَلَى أَحَدٍ مِنْ ضَرُورَةٍ دُعِيَ، مِنْ أَيِّهَا دُعِيَ، فَهَلْ يُدْعَى مِنْهَا كُلِّهَا أَحَدٌ، يَا رَسُولَ اللَّهِ? قَالَ: "نَعَمْ، وَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ" 1. وَأَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ: مِنْ حَدِيثِ الزهري: به.
ولهما من حديث سفيان: عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلُهُ: وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ ابن الإِمام أحمد: حدثنا محمد بن عبد بْنِ نُمَيْرٍ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ سُلَيْمَانَ: حَدَّثَنَا جرير بْنُ عُثْمَانَ: عَنْ شُرَحْبِيلَ بْنِ شُفْعَةَ، قَالَ: لقيني عتبة بن عبد الله السلمي، فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول:
__________
1 الحديث رواه أحمد في مسنده 2- 268، 366، 5، 151، 153، 159، 164. ورواه مالك في الموطأ 21-48. ورواه الدارمي في سننه 16-13. ورواه النسائي في سننه 22-43. 25-20, 45. ورواه الترمذي في سننه 46-16. والبخاري في صحيحه 30-4, 56-3، 59-926، 62- 5.(2/263)
"مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُتَوَفَّى لَهُ ثَلَاثَةٌ مِنَ الْوَلَدِ لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ، إِلَّا تَلَقَّوْهُ مِنْ أبواب الجنة الثمانية، من أيها شاء". وروراه ابن ماجه: عن أبي نُمَيْرٍ أَيْضًا.
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ: مِنْ حَدِيثِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أبي المثنى المليكي، أنه سمع عتبة بن عبد الله السلمي يُرْوَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي حَدِيثٍ ذَكَرَهُ فِي قِتَالِ الْمُخْلِصِ وَالْمُذْنِبِ وَالْمُنَافِقِ قَالَ فِيهِ: "وَلِلْجَنَّةِ ثَمَانِيَةُ أَبْوَابٍ، وَإِنَّ السَّيْفَ محاء للذنوب، ويمحو النِّفَاقَ".
الْحَدِيثَ بِطُولِهِ. وَتَقَدَّمَ الْحَدِيثُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ، قَالَ فِيهِ:
"فَيَقُولُ اللَّهُ: يَا مُحَمَّدُ: أَدْخِلْ مَنْ لَا حِسَابَ عَلَيْهِ مِنْ أُمَّتِكَ مِنَ الْبَابِ الْأَيْمَنِ، وَهُمْ شُرَكَاءُ الناس في الأبواب الأخر، والذي نفس محمد بيده: إن بين المصراعين من مصاريع الجنة، - أو ما بَيْنَ عِضَادَتَيِ الْبَابِ- كَمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَهَجَرَ، أَوْ كَمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَبُصْرَى".
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: عَنْ خَالِدِ بْنِ عُمَيْرٍ الْعَدَوِيِّ، أَنَّ عُتْبَةَ بْنَ غَزْوَانَ خَطَبَهُمْ فَقَالَ: بَعْدَ حَمْدِ اللَّهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ:
"أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ الدُّنْيَا قد آذنت بصرم، وولت جرياً، وإنما بقي منها صبابة كصبابة الإِناء، يصبها صَاحِبُهَا، وَإِنَّكُمْ مُنْتَقِلُونَ مِنْهَا إِلَى دَارٍ لَا فناء لها، فانتقلوا بخير من عملكم، فلقد ذكر لنا: إِنَّ مَا بَيْنَ الْمِصْرَاعَيْنِ مِنْ مَصَارِيعِ الْجَنَّةِ، مَسِيرَةُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَلَيَأْتِيَنَّ عَلَيْهِ يَوْمٌ وَهُوَ كظيظ الزحام".
وَفِي الْمُسْنَدِ: مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عن الحريري، عن حكيم، عن مُعَاوِيَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:(2/264)
"أنتم توفون سبعين أمة، آخِرُهَا، وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللَّهِ، وَمَا بَيْنَ مِصْرَاعَيْنِ مِنْ مَصَارِيعِ الْجَنَّةِ مَسِيرَةَ أَرْبَعِينَ عَامًا، وَلَيَأْتِيَنَّ عليه يوم وإنه لكظيط".
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ: مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ عَاصِمٍ، عن سعيد الحريري بن معاوية، وَقَالَ: "مَسِيرَةُ سَبْعِ سِنِينَ".
وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ: حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ الصَّبَّاحِ أَبُو الْعَبَّاسِ، حَدَّثَنَا مَعْنُ بْنُ عِيسَى: حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ سَالِمٍ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم:
"باب أمتي الذي تَدْخُلُ مِنْهُ الْجَنَّةَ، عَرْضُهُ مَسِيرَةُ الرَّاكِبِ الْمُجَوِّدِ ثَلَاثًا، ثُمَّ إِنَّهُمْ لَيُضْغَطُونَ عَلَيْهِ، حَتَّى تَكَادَ مَنَاكِبُهُمْ تَزُولُ".
وَقَدْ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ: مِنْ حَدِيثِ خالد هذا. قَالَ: وَسَأَلْتُ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيَّ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ فلم يعرفه.
وقال خالد بن أبي بكر: حدثنا كشذ، عَنْ سَالِمٍ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَحَدِيثُ عُتْبَةَ بْنِ غزوان "أربعين سنة" أصح.
وَقَدْ رَوَى عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ فِي مُسْنَدِهِ: عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُوسَى الْأَشْيَبِ، عَنِ ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ دَرَّاجٍ عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
"إِنَّ لِلنَّارِ سَبْعَةَ أَبْوَابٍ، ما منها باب إِلا يسير الراكب بينهما سبعين عاماً".
فإِنه حَدِيثٌ مَشْهُورٌ، وَحَمَلَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ عَلَى بُعْدِ ما بين كل باب وباب، لا أنه بعد المصراعين، لئلا يتعارض هذا وما تقدم، والله أعلم.
وقد ادعى القرطبي: أَنَّ لِلْجَنَّةِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ بَابًا، وَلَكِنْ لَمْ يُقِمْ عَلَى ذَلِكَ دَلِيلًا قَوِيًّا أَكْثَرَ مِنْ أن قَالَ: وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا أَكْثَرُ مِنْ ثَمَانِيَةٍ، حَدِيثُ عُمَرَ.(2/265)
"مَنْ تَوَضَّأَ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ"، وَفِي آخِرِهِ قَالَ: "فُتِحَ لَهُ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ ثَمَانِيَةُ أَبْوَابٍ، يَدْخُلُ مِنْ أيها شاء". أخرجه الترمذي وغيره.
وَرَوَى الْآجُرِّيُّ فِي كِتَابِ النَّصِيحَةِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، مَرْفُوعًا:
"إِنَّ فِي الْجَنَّةِ بَابًا يُقَالُ لَهُ بَابُ الضُّحَى، يُنَادِي مُنَادٍ: أَيْنَ الَّذِينَ كَانُوا يُدَاوِمُونَ عَلَى صَلَاةِ الضُّحَى? هَذَا بَابُكُمْ فادخلوا".(2/266)
أسماء أبواب الجنة
قال: وقال الحليمي: أَبْوَابُ الْجَنَّةِ مِنْهَا بَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ بَابُ التَّوْبَةِ، وَبَابُ الصَّلَاةِ، وَبَابُ الصَّوْمِ، وَبَابُ الزَّكَاةِ، وَبَابُ الصَّدَقَةِ، وَبَابُ الْحَجِّ، وَبَابُ الْعُمْرَةِ، وَبَابُ الْجِهَادِ، وَبَابُ الصِّلَةِ.
وَزَادَ غَيْرُهُ: بَابَ الْكَاظِمِينَ، وَبَابَ الرَّاضِينَ، وَالْبَابَ الْأَيْمِنَ الذِي يَدْخُلُ مِنْهُ الَّذِينَ لَا حِسَابَ عَلَيْهِمْ.
وَجَعَلَ الْقُرْطُبِيُّ الْبَابَ الَّذِي عَرْضُهُ مَسِيرَةُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لِلرَّاكِبِ الْمُجَوِّدِ- كَمَا وَقَعَ عِنْدَ الترمذي- باباً ثالث عشرة، والله تعالى أعلم.
مفتاح الجنة شهادة ألا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ والأعمال الصالحة هي أسنان هذا المفتاح
وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عباس، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي جبير، عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جبل، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مِفْتَاحُ الْجَنَّةِ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ".
وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، قَالَ: قيل لِوَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ: أَلَيْسَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مِفْتَاحَ الْجَنَّةِ? قَالَ: بَلَى، وَلَكِنْ إِنْ جِئْتَ بِمِفْتَاحٍ لَهُ أَسْنَانٌ فُتِحَ لَكَ، وَإِلَّا لم يفتح لك. يعني لا بد وأن يَكُونَ مَعَ التَّوْحِيدِ أَعْمَالٌ صَالِحَةٌ، مِنْ فِعْلِ الطاعات، وترك المحرمات.(2/266)
ذِكْرُ تَعْدَادِ مَحَالِّ الْجَنَّةِ وَارْتِفَاعِهَا وَاتِّسَاعِهَا
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
{وَلمَنْ خَافَ مَقَامَ رَِّبهِ جَنَّتَانِ فَبِأيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ذَوَاتَا أفْنَانٍ فَبِأيِّ آلأَءِ رَبكُمَا تُكَذِّبَانِ فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ فَبِأي آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجَانِ فَبِأيِّ آلاَءِ رَبكُمَا تُكَذِّبَانِ مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُش بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَق وَجَنَى الْجَنَّتَيْن دَانٍ فَبِأيِّ آلاَءِ ربكُمَا تُكَذِّبَانِ فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَان فَبأيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ كَأنَّهُنَّ الْيَاقوتُ وَالْمَرْجَانُ فَبِأيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَان هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاًّ الإِحْسَانُ فَبأيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ وَمِنْ دونهَما جَنَّتَان فَبِأيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذًّبَانِ مُدْهَامَّتَانِ فَبأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذًّبَانِ فِيهِمَا عَيْنَانِ نضَّاخَتَانِ فَبِأَيَ آلاَءِ رَبِّكَمَا تُكَذِّبَانِ فِيهِمَا فاكِهَة وَنَخْلٌ وَرُمَّان فَبأيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ فَبِأيَ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ حُورٌ مَقْصُورَات في الْخِيَام فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَانّ فَبِأيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْر وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ تَبَارَكَ اسْمُ ربِّكَ ذي الْجَلالِ وَالإكْرَامَ} .. [55- الرحمن- 46- 78] .(2/267)
وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ: مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بن عبد الصمد، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
"جَنَّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ، آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَجَنَّتَانِ مِنْ فِضَّةٍ، آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَمَا بَيْنَ الْقَوْمِ وَبَيْنَ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى رَبِّهِمْ عَزَّ وَجَلَّ، إِلَّا رِدَاءُ الْكِبْرِيَاءِ، عَلَى وَجْهِهِ، فِي جَنَّةِ عَدْنٍ".
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ: مِنْ حَدِيثِ مُؤَمَّلِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ حَمَّادِ بن ثَابِتٍ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي مُوسَى، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
"جَنَّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ لِلسَّابِقِينَ، وَجَنَتَانِ مِنْ وَرِقٍ لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ". وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ أُمَّ حَارِثَةَ أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ هَلَكَ حَارِثَةُ يَوْمَ بَدْرٍ، أَصَابَهُ غرب معهم، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: قَدْ عَلِمْتَ مَوْقِعَ حَارِثَةَ مِنْ قَلْبِي، فَإِنْ كَانَ فِي الْجَنَّةِ لم أبك عليه، وإلا فسوف ترى ما أصنع فقال لها:
"أجنة واحدة هي، أم جنان كثيرة? وإنه في الفردوس الأعلى".(2/268)
قليل العمل في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها وأقل شيء في الجنة خير من الدنيا وما فيها
وقال صلى الله عليه وسلم: "غَدْوَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ رَوْحَةٌ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وقاب قوس أحدكم، وموضع قده خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَلَوْ أَنَّ امرأة من نساء الجنة اطلعت على أهل السموات والأرض لأضاءه مَا بَيْنَهُمَا، وَلَمَلَأَتْ مَا بَيْنَهُمَا رِيحًا، وَلَنَصِيفُهَا- يَعْنِي الْخِمَارَ- خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا".(2/268)
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ قَالَ: "الْفِرْدَوْسُ رَبْوَةُ الْجَنَّةِ، وَأَوْسَطُهَا، وَأَفْضَلُهَا".
وَقَدْ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ: من حديث سعيد بن بشر، عن قتادة، عن الحسن بن سمرة، مرفوعاً.
وقال الله تعالى: {فِي جَنَّةٍ عَالِيَة} . [69- الحاقة- 22] .
وَقَالَ تَعَالَى: {فَأولئِكَ لَهم الدَّرَجَاتُ الْعُلَى} . [20- طه- 75] .
وقال تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَ بِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها السَّمواتُ وَالأَرْضُ أعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} . [3- آل عمران- 133] .
وقال تعالى: {سَابقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْض السَّماء وَالأرْض أعِدّتْ لِلّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللًّهِ يُؤْتيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الفَضْل الْعَظِيم} . [57- الحديد- 21] .
وَقَالَ الإِمام أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ، حدثنا فليح، عن هلال بن علي بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَمْرَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
"مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَأَقَامَ الصَّلَاةَ، وَصَامَ رَمَضَانَ، فَإِنَّ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، هَاجَرَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ جَلَسَ فِي أَرْضِهِ الَّتِي وُلِدَ فِيهَا".(2/269)
قالوا: يا رسول الله: أفلا تخبر النَّاسَ? قَالَ: "إِنَّ فِي الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ، أعدها الله لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِهِ، بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فإذا سألتم الله فسلوه الفردوس، فإنه وسط الجنة، وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر- أو تنفجر- أَنْهَارُ الْجَنَّةِ"- شَكَّ أَبُو عَامِرٍ1.
وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمُنْذِرِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ فليح، عن أبيه، بمعناه.
__________
1 الحديث رواه أحمد في مسنده "2-235"(2/270)
الفردوس أعلى درجات الجنة والصلاة والصيام يقتضيان مغفرة الله عز وجل
وقال أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الرحمن، حَدَّثَنَا أَبُو هَمَّامٍ الدَّلَّالُ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يَقُولُ:
"مَنْ صَلَّى هَؤُلَاءِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ، وَصَامَ رمضان- لا أدري ذكر الزكاة أَمْ لَا?- كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يغفرَ لَهُ، هَاجَرَ، أَوْ قَعَدَ حَيْثُ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ"، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَلَا أَخْرُجُ فأؤذن النَّاسَ? فَقَالَ: "لَا. ذَرِ النَّاسَ يَعْمَلُونَ، فَإِنَّ في الْجَنَّةُ مِائَةُ دَرَجَةٍ، مَا بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ، مِثْلُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَأَعْلَى دَرَجَةٍ مِنْهَا الْفِرْدَوْسُ، وَعَلَيْهَا يَكُونُ الْعَرْشُ، وَهِيَ أَوْسَطُ شَيْءٍ فِي الْجَنَّةِ، وَمِنْهَا تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ، فإذا سألتم الله فسلوه الْفِرْدَوْسَ"1.
وَهَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ: عَنْ قُتَيْبَةَ، وَأَحْمَدَ بن عبده الدَّرَاوَرْدِيِّ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ بِهِ.
وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ، عَنْ سُوَيْدٍ، عَنْ حَفْصِ بْنَ ميسرة، عن زيد مختصراً.
__________
1 الحديث رواه الترمذي - كتاب صفة الجنة - باب ما جاء في درجات الجنة ورواه ابن ماجه نحوه "2-1448-4331".(2/270)
من الفردوس تتفجر أنهار الجنة
وَقَالَ الإِمام أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
"الْجَنَّةُ مِائَةُ دَرَجَةٍ، مَا بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ مَسِيرَةُ مِائَةِ عام".
وقال ابن عَفَّانُ:
"كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَالْفِرْدَوْسُ أَعْلَاهَا درجة، ومنها تخرج الأنهار الأر بعة، والعرش فوقها، فإذا سألتم الله فسلوه الْفِرْدَوْسَ" 1.
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ: عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مَنِيعٍ، عَنْ زيد بْنِ هَارُونَ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ يَحْيَى بِهِ.
قُلْتُ: وَلَا تَكُونُ هَذِهِ الصِّفَةُ إِلَّا فِي المقبب، فإن أعلى القبة هو وسطها، والله تعالى أعلم.
__________
1 الحديث رواه أحمد في مسنده 5- 316، 321. ورواه الترمذي في سننه 4- 26.(2/271)
درجات الجنة متفاوتة وليس يعلم مقدار تفاوتها إلا الله رب العالمين
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي دَاوُدَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سِنَانٍ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَخْبَرَنَا شَرِيكٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُحَادَةَ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"الْجَنَّةُ مِائَةُ دَرَجَةٍ، مَا بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ".
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ: عَنْ عَبَّاسٍ الْعَنْبَرِيِّ، عَنْ يزيد بن هارون، وَعِنْدَهُ: "مَا بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ مِائَةُ عَامٍ". وقال: هذا حديث حسن صحيح.
وقال الحافظ أبو يعلى: حدثنا زهير، عن حسن، عن أبي لَهِيعَةَ، عَنْ دَرَّاجٍ، عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
"الْجَنَّةُ مِائَةُ دَرَجَةٍ لَوْ أن العالمين اجتمعوا في إحداهن وسعتهم". وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ: عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ أَيْضًا.(2/271)
ذِكْرُ مَا يكُون لِأَدْنَى أَهْلِ الجنَّةِ مَنْزِلَةً وأَعْلاَهُم مِن اتساع الملك العظيم
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذَا رَأيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً} . [76- الإنسان- 20] .
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الحديث المتفق عليه من رواية منصور: عن إبراهيم، عن علقمة بْنِ مَسْعُودٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذكر آخر من يدخل الجنة من أمته يَقُولُ لَهُ:
"أَمَا تَرْضَى أَنْ يَكُونَ لَكَ مثل الدنيا وعشرة أمثالها"? وَقَالَ الإِمام أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ ثُوَيْرٍ هُوَ ابْنُ أَبِي فَاخِتَةَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، رَفْعَهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
"إِنَّ أَدْنَى أهل الجنة منزلة، الذي ينظر إلى جناته، ونعيمه، وخدمه، وسرده، من مَسِيرَةَ أَلْفِ سَنَةٍ، وَإِنَّ أَكْرَمَهُمْ عَلَى اللَّهِ من ينظر إلى وجهه غدوة وعشية" 1.
__________
1 الحديث رواه أمدد في مسنده 5317- معارف. وقال أحمد شاكر: ضعيف لضعف ثور بن أبي فاضة.(2/272)
ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {وُجُوة يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبهَا نَاظِرَةٌ} . [75- الْقِيَامَةِ- 22] .
وَقَالَ أَيْضًا: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَبْجَرَ، عَنْ ثُوَيْرِ بْنِ أَبِي فَاخِتَةَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم:
"إن أدنى أهل الجنة منزلة لينظر في ملك أَلْفَيْ سَنَةٍ يَرَى أَقْصَاهُ كَمَا يَرَى أَدْنَاهُ، يَنْظُرُ أَزْوَاجَهُ، وَخَدَمَهُ، وَإِنَّ أَفْضَلَهُمْ مَنْزِلَةً لَيَنْظُرُ فِي وَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى كُلَّ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ" 1.
ورواه الترمذي عن عبد، عَنْ شَبَابَةَ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ ثُوَيْرٍ، بِهِ قَالَ: وَقَدْ رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ، عَنْ إسرائيل، عن يزيد، عن عبد الله بن عُمَرَ مَرْفُوعًا قَالَ: وَرَوَاهُ الثَّوْرِيُّ عَنْ ثُوَيْرٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَوْلَهُ، قَالَ: ورواه عبد الله بْنُ أَبْجَرَ، عَنْ ثُوَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، موقوفاً كذا قال: وقد تقدمت رواية أحمد لهذا الطَّرِيقِ مَرْفُوعًا.
وَرَوَى مُسْلِمٌ، وَالطَّبَرَانِيُّ: وَهَذَا لَفْظُهُ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ: حَدَّثَنَا مُطَرِّفُ بْنُ طَرِيفٍ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ سَعِيدِ بْنِ أَبْجَرَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، - رَفَعَهُ ابْنُ أَبْجَرَ، وَلَمْ يَرْفَعْهُ مُطَرِّفٌ- قَالَ:
"قال موسى: يَا رَبِّ: أَخْبِرْنِي عَنْ أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ منزلة، قال: نعم، هو رجل يجيء بعدما نَزَلَ النَّاسُ مَنَازِلَهُمْ، وَأَخَذُوا أَخَذَاتِهِمْ، فَيُقَالُ لَهُ: ادْخُلِ الْجَنَّةَ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ، وَكَيْفَ أَدْخُلُهَا وَقَدْ نَزَلَ النَّاسُ مَنَازِلَهُمْ، وَأَخَذُوا أَخَذَاتِهِمْ? فَيَقُولُ لَهُ: أَمَا تَرْضَى أَنْ يَكُونَ لَكَ مِثْلُ مَا كَانَ لِمَلِكٍ مِنْ مُلُوكِ الدُّنْيَا? فَيَقُولُ: رضيت يا رب، فيقول، لَكَ مِثْلَهُ وَمِثْلَهُ: - وَعَقَدَ سُفْيَانُ أَصَابِعَهُ الْخَمْسَ- فيقول: رضيت يا رب. قال: فيقول موسى:
__________
1 الحديث رواه أحمد في مسنده 4623- معارف.(2/273)
يَا رَبِّ: فَأَخْبِرْنِي عَنْ أَعْلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً، قَالَ: نَعَمْ. أُولَئِكَ الَّذِينَ أَرَدْتُ، وَسَأُخْبِرُكَ عَنْهُمْ، غَرَسْتُ كَرَامَتَهُمْ بِيَدِي، وَخَتَمْتُ عَلَيْهَا، فَلَمْ تَرَ عَيْنٌ، وَلَمْ تَسْمَعْ أُذُنٌ، وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ".
مِصْدَاقُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قرَّةِ أعْيُن جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} . [32- السَّجْدَةِ-17] .
وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ: وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ: مِنْ حديث سُفْيَانُ. بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَعْدَدْتُ لِعِبَادِيَ الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ".
مِصْدَاقُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أخفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُن جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} . [32- السجدة- 17] .
وَقَالَ الإِمام أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، حَدَّثَنِي أَبُو صَخْرٍ، أَنَّ أَبَا حَازِمٍ حَدَّثَهُ، قَالَ: سَمِعْتُ سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ يَقُولُ: شَهِدْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَجْلِسًا، وَصَفَ فِيهِ الْجَنَّةَ، حَتَّى انْتَهَى، ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِ حَدِيثِهِ: "فِيهَا مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خطر على قلب بشر" 1.
__________
1 الحديث رواه أحمد في مسنده 5- 334.(2/274)
ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَن الْمَضَاجع يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قرَّةِ أَعْيُن جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلون} . [32- السَّجْدَةِ- 16-17] .
وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ: عَنْ هَارُونَ بْنِ مَعْرُوفٍ.(2/275)
ذكر غرف الْجنَّة وارتفاعها واتساعِها وَعِظَمها نسأل الله مِن فَضله أنْ يمنَحَنا إِيَّاهَا مِنْ فيض فَضْلِهِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لكِن الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غرَفٌ مِنْ فَوْقهَا غرَف مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وعْد اللَّهِ لاَ يُخْلِفُ اللَّهُ المِيعَاد} . [39- الزمر- 20] .
وقال الله تعالى: {فَأوتثِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرَفاتِ آمِنُونَ} . [34- سبأ-37] .
وثبت في الصحيحين: واللفظ مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ: عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يسار، عنأبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
"إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ لَيَتَرَاءَوْنَ داخل الغرف من فوقهم كما يتراءون- أو ترون- الكوكب الغائر في الْأُفُقِ، مِنَ الْمَشْرِقِ، أَوِ الْمَغْرِبِ، لِتَفَاضُلِ مَا بينهم"(2/275)
-قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ: تِلْكَ مَنَازِلُ الْأَنْبِيَاءِ لا يبلغها غيرهم?- قال: "لا، والذي نفسي بيده إنها منازل الأنبياء، ومنازل رجال آمنوا بالله، وصدقوا المرسلين" 1.
وفي الصحيح أَيْضًا: مِنْ حَدِيثِ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بن سَعِيدٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
"إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ لَيَتَرَاءَوْنَ فِي الجنة كما تتراءون- أو ترون- الكوكب الدري الغائر في أفق السماء".
قال أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا فَزَارَةُ، أَخْبَرَنِي فُلَيْحٌ، عَنْ هِلَالٍ- يعني ابن عَطَاءٍ-، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَالَ:
"إِنَّ أَهْلَ الجنة ليتراءون في الجنة كما تتراءون- أو ترون- الكوكب الدري الغائر في الأفق، من تَفَاضُلِ الدَّرَجَاتِ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ: أُولَئِكَ النَّبِيُّونَ. قَالَ: بَلَى وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، وَأَقْوَامٌ آمنوا بالله، وصدقوا المرسلين" 2، حدثنا الحافظ أيضاً هذا على شرط البخاري.
منازل المتحابين بجلال الله في الجنة
وقال أحمد: حدثنا علي بن عباس، حدثنا محمد بن مطرف، أخبرنا أَبُو حَازِمٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"إن المتحابين في الله لَتُرَى غُرَفُهُمْ فِي الْجَنَّةِ كَالْكَوْكَبِ الطَّالِعِ، الشَّرْقِيِّ، أَوِ الْغَرْبِيِّ، فَيُقَالُ: مَنْ هَؤُلَاءِ? فَيُقَالُ: هَؤُلَاءِ المتحابون في الله "3.
وَفِي حَدِيثِ عَطِيَّةَ: عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، مَرْفُوعًا:
"إِنَّ أَهْلَ عِلِّيِّينَ لَيَرَاهُمْ مَنْ سِوَاهُمْ كَمَا يرون الْكَوْكَبَ فِي أُفُقِ السَّمَاءِ، وَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ وعمر منهم".
__________
1 الحديث رواه مسلم في صحيحة –كتاب الجنة- باب ترائي أهل الجنة.
2 الحديث رواه أحمد في مسنده 2- 339.
3 الحديث رواه أحمد في مسنده 3- 87.(2/276)
ذِكْرُ أَعْلَى مَنْزِلَةٍ فِي الْجَنَّةِ وَهِيَ الْوَسِيلَةُ فيها مَقَامِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثَبَتَ فِي صَحِيحِ البخاري: عن علي بن عباس، عَنْ شُعَيْبِ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهُ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ:
"مَنْ قَالَ حِينَ يسمعِ النِّدَاءَ: اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ، وَالصَّلَاةِ الْقَائِمَةِ، آتِ مُحَمَّدًا الْوَسِيلَةَ، وَالْفَضِيلَةَ، وَابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا الذي وعدته: حلت له الشفاعة يَوْمَ الْقِيَامَةِ" 1.
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ حَيْوَةَ، وَسَعِيدِ بْنِ أَبِي أَيُّوبَ، عَنْ كَعْبِ بْنِ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بِن الْعَاصِ، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
"إِذَا سَمِعْتُمُ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ، ثم صلوا عليَّ فإن مَنْ صلَّى عليَّ صَلَاةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عشراً، ثم سلوا الله تعالى لي الوسيلة فإن من سأل الله لي الوسيلة حلت له الشفاعة" 2.
__________
1 الحديث رواه البخاري في صحيحة ج 6- 86- الشعب.
2 الحديث رواه مسلم في صحيحو –كتاب الصلاة- باب استحباب القول مثل قول المؤذن.(2/277)
الوسيلة أَعْلَى دَرَجَةٍ فِي الْجَنَّةِ، لَا يَنَالُهَا إِلَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَقَالَ الإِمام أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ كَعْبٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال:(2/277)
"إِذا صليتم عليَّ، فسلوا الله لي الوسيلة، قالوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ: وَمَا الْوَسِيلَةُ? قَالَ: أَعْلَى دَرَجَةٍ فِي الْجَنَّةِ، لَا يَنَالُهَا إِلَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ، وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا هُوَ" 1.
وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ دَاوُدَ، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ مُوسَى بْنِ وَرْدَانَ، سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"الْوَسِيلَةُ دَرَجَةٌ عِنْدَ اللَّهِ، ليس فوقها درجة، فسلوا اللَّهَ أَنْ يُؤْتِيَنِي الْوَسِيلَةَ".
وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ الْأَبَّارُ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْحَرَّانِيُّ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ أَعْيَنَ، عن ابن أبي ذؤيب، عن محمد بن عمر بن عطاء، عن بْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"سَلُوا اللَّهَ لِيَ الْوَسِيلَةَ، فإِنه لَمْ يَسْأَلْهَا لِي عَبْدٌ فِي الدُّنْيَا، إِلَّا كُنْتُ لَهُ شَفِيعًا- أَوْ شَهِيدًا- يَوْمَ الْقِيَامَةِ". قَالَ الطَّبَرَانِيُّ: لَمْ يَرْوِهِ عَنِ ابْنِ أبي ذؤيب إلا موسى بن أعين.
__________
1 الحديث رواه أحمد في مسنده 7588- معارف.(2/278)
ذكر بُنيان قُصورُ الْجنَّةِ مِمَّ هُوَ
قال أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ، وَأَبُو كَامِلٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، حَدَّثَنَا سَعْدٌ أَبُو مُجَاهِدٍ الطَّائِيُّ، حدثنا أبو مدله المدني مولى أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها، أنه سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللُّهِ: إِذا رَأَيْنَاكَ رَقَّتْ قُلُوبُنَا، وَكُنَّا مِنْ أهل الآخرة، وإِذا فارقناك، أعجبتنا الدنيا، وشمنا النساء والأولاد، فقال: "لو تكونوا أَوْ قَالَ: لَوْ أَنَّكُمْ(2/278)
تَكُونُونَ عَلَى كُلِّ حَالٍ عَلَى الْحَالِ الَّتِي أَنْتُمْ عَلَيْهَا عِنْدِي، لَصَافَحَتْكُمُ الْمَلَائِكَةُ بِأَكُفِّهِمْ، وَلَزَارَتْكُمْ فِي بُيُوتِكُمْ، وَلَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَجَاءَ اللَّهُ بقوم يذنبون لكي يغفر لكم، قَالَ قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، حَدِّثْنَا عَنِ الجنة: ما بناؤها? قَالَ: لَبِنَةٌ مِنْ فِضَّةٍ، وَلَبِنَةٌ مِنْ ذَهَبٍ، وَمِلَاطُهَا الْمِسْكُ، وَحَصْبَاؤُهَا اللُّؤْلُؤُ وَالْيَاقُوتُ، وَتُرَابُهَا الزَّعْفَرَانُ، من يدخلها ينعم، ولا يبأس، ويخلد، ولا يَمُوتُ، لَا تَبْلَى ثِيَابُهُ، وَلَا يَفْنَى شَبَابُهُ" 1.
ورواه التِّرْمِذِيُّ: مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، عن سعدان التيمي- وَكَانَ ثِقَةً- عَنْ سَعْدٍ أَبِي مُجَاهِدٍ الطَّائِيِّ، - وكان ثقة- وَقَالَ: حَسَنٌ، وَوَقَعَ تَوْثِيقُ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ فِي رواية ابن نمير.
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى الْبَزَّارُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زياد الكلبي، حدثنا نفيس بن حنين، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"خَلَقَ اللَّهُ جَنَّةَ عَدْنٍ بِيَدِهِ، لَبِنَةٌ مِنْ دُرَّةٍ بَيْضَاءَ، وَلَبِنَةٌ مِنْ يَاقُوتَةٍ حَمْرَاءَ، وَلَبِنَةٌ مِنْ زَبَرْجَدَةٍ خَضْرَاءَ، مِلَاطُهَا الْمِسْكُ، وَحَصْبَاؤُهَا اللُّؤْلُؤُ، وَحَشِيشُهَا الزَّعْفَرَانُ، ثُمَّ قَالَ لها: انطقي: فقالت: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤمِنُونَ} . [23- المؤمنون-1] .
فقال الله: "وَعِزَّتِي وَجَلَالِي، لَا يُجَاوِرُنِي فِيكِ بَخِيلٌ".
ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَمَنْ يُوقَ شحَّ نَفْسِهِ فَأولئِكَ هُم المُفْلِحُونَ} . [64- التغابن-16] .
__________
1 الحديث رواه أحمد في مسنده 7803- معارف.(2/279)
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدَوَيْهِ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بن المغيرة الجوهري، حدثنا عفان بن سعيد المقري، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ أَبِي رَبِيعَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الجنة فقال:
"من يدخل الجنة يحيى ولا يمت، وينعم ولا يَبْأَسُ، لَا تَبْلَى ثِيَابُهُ، وَلَا يَفْنَى شَبَابُهُ" قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: كَيْفَ بِنَاؤُهَا? قَالَ: "لبنة من ذهب، ولبنة من فضة، وملاطها مِسْكٌ أَذْفَرُ، وَحَصْبَاؤُهَا اللُّؤْلُؤُ وَالْيَاقُوتُ، وَتُرَابُهَا الزَّعْفَرَانُ".
وَقَالَ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ آدَمَ، حَدَّثَنَا يونس بن عبيد الله العمري، حدثنا عيسى بن الفضل، حدثنا الْحَرِيرِيِّ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "خلق اللَّهُ الْجَنَّةَ لَبِنَةً مِنْ ذَهَبٍ، وَلَبِنَةً مِنْ فضة، وملاطها المسك، ثم قال لها: تكلمي فقالت: {قَدْ أفْلَحَ الْمُومِنُونَ} .. فقالت الملائكة: "طوباك منزلة الملوك".
وقد رواه البيهقي: وغيره: فقال الله: "طوباك منزلة الملوك".
وقد رواه وهب، عَنِ الْحَرِيرِيِّ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سعيد، موقوفاً..
وَفِي حَدِيثِ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ أَنَسٍ، مَرْفُوعًا "إِنَّ اللَّهَ بَنَى الْفِرْدَوْسَ بِيَدِهِ، وحظرها على كل مشرك وكل مُدْمِنِ خَمْرٍ، سِكِّيرٍ".(2/280)
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا معاوية بن هشام، حدثنا علي بن عاصم، عَنْ عُمَرَ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنِ ابن عمر، قال: قيل: يارسول الله كيف بناء الجنة. فقال:
"لَبِنَةٌ مِنْ فِضَّةٍ، وَلَبِنَةٌ مِنْ ذَهَبٍ، مِلَاطُهَا المسك، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت، وترابها الزعفران".
الملاط: هو الطين الذي يجعل بين الأحجار في البناء، ليجتمع بعضها إلى بعض.
وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ خُلَيْدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ، حَدَّثَنَا صَفْوَانُ بن عمر، عن مهاجر بن ميمون، عن فاطمة رضي الله عنها، أَنَّهَا قَالَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيْنَ أُمُّنَا خَدِيجَةُ? قَالَ:
"فِي بَيْتٍ مِنْ قَصَبٍ، لَا لَغْوٌ فِيهِ وَلَا نَصَبٌ، بَيْنَ مريم، وَآسِيَةَ امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ". قَالَتْ: أَمِنْ هَذَا الْقَصَبِ? قَالَ: "لَا مِنَ الْقَصَبِ الْمَنْظُومِ بِالدُّرِّ وَاللُّؤْلُؤِ وَالْيَاقُوتِ".
قَالَ الطَّبَرَانِيُّ: لَا يُرْوَى عَنْ فَاطِمَةَ إِلَّا بِهَذَا الإِسناد. تَفَرَّدَ بِهِ صَفْوَانُ بْنُ عمرو.
وقلت: وهو حديث غريب. وله شَاهِدٌ فِي الصَّحِيحِ:
"إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أُبَشِّرَ خَدِيجَةَ بِبَيْتٍ فِي الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ، لَا صَخَبَ فِيهِ وَلَا نَصَبٌ".(2/281)
قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّمَا كَانَ بَيْتُهَا مِنْ قَصَبِ اللُّؤْلُؤِ، لِأَنَّهَا حَازَتْ قَصَبَ السَّبْقِ فِي تَصْدِيقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حِينَ بَعَثَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ حديث أول البعثة، فإِنها أول من آمن، حيث قالت- وقد أخبرها خبر ما رأى- وقال: "لقد خشيت على عقلي" قَالَتْ: "كَلَّا: وَاللَّهِ لَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ وَتُكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الدَّهْرِ".
وَأَمَّا ذِكْرُ مَرْيَمَ وَآسِيَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، فَفِيهِ إِشْعَارٌ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَزَوَّجُ بِهِمَا فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، وَقَدْ حَاوَلَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَأَخُذَ ذَلِكَ مِنَ الْقُرْآنِ في سورة: {يا أيُّهَا النبي لِمَ تُحَرِّمُ} . [66- التحريم-1] .
في قوله: {ثَيبَات وأبْكَاراً} . [66- التحريم-5] .
ثُمَّ ذُكِرَتْ آسِيَةُ وَمَرْيَمُ فِي آخِرِ السُّورَةِ. يُرْوَى مِثْلُ هَذَا عَنِ البراء بن عازب، أو عن غيره من السلف، والله أعلم.(2/282)
فضل قيام الليل وإطعام الطعام وكثرة الصيام
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي دَاوُدَ: حَدَّثَنَا ابن المنذر الطريفي، حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إسحاق، عن النعمان بن سعد، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:(2/282)
"إن في الجنة لغرفاً ترى ظهورها من بطونها، وبطونها من ظهورها، فقيل لرسول الله: لمن هي? قال: لِمَنْ طَيَّبَ الْكَلَامَ، وَأَطْعَمَ الطَّعَامَ، وَأَدَامَ الصِّيَامَ وَصَلَّى بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ".
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ: عَنْ عَلِيِّ بْنِ حُجْرٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُسْهِرٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إِسْحَاقَ، وَقَالَ: غَرِيبٌ، لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِهِ.
وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ: مِنْ حَدِيثِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بن سلام، عن يزيد بْنِ سَلَّامٍ، حَدَّثَنِي أَبُو سَلَّامٍ، حَدَّثَنِي أَبُو موسى الْأَشْعَرِيُّ، حَدَّثَنِي أَبُو مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
"إِنَّ فِي الْجَنَّةِ غُرَفًا يُرَى ظَاهِرُهَا مِنْ بَاطِنِهَا، وَبَاطِنُهَا مِنْ ظَاهِرِهَا، أَعَدَّهَا اللَّهُ لِمَنْ أَطْعَمَ الطَّعَامَ، وَأَدَامَ الصِّيَامَ، وَصَلَّى بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ".
وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ أَيْضًا: مِنْ حَدِيثِ ابْنِ وَهْبٍ، حدثني حيي، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
"إِنَّ فِي الْجَنَّةِ غُرَفًا يُرَى ظَاهِرُهَا مِنْ بَاطِنِهَا، وَبَاطِنُهَا مِنْ ظَاهِرِهَا".
قَالَ أَبُو مَالِكٍ الْأَشْعَرِيُّ: لِمَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ? قَالَ:
"لِمَنْ أَطَابَ الْكَلَامَ، وَأَطْعَمَ الطَّعَامَ، وَبَاتَ قائْماً وَالنَّاسُ نِيَامٌ".
قَالَ الْحَافِظُ الضِّيَاءُ: هَذَا عِنْدِي إسناد حسن، وذكر أبي مالك فيه مما يدل على صحته، لأنه قد رواه وإسناد حديثه أيضاً.
وَقَدْ وَرَدَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ أَنَّ الْقَصْرَ يَكُونُ مِنْ لُؤْلُؤَةٍ وَاحِدَةٍ، أَبْوَابُهُ وَمَصَارِيعُهُ وَسُقُفُهُ.
وفي حديث آخر:
"سقوف الجنة نور، تتلالأ كالبرق اللامع، لولا أن الله يثبت أبصارهم لأوشك أن يخطفها".(2/283)
وقال البيهقي: أخبرنا أبو الخبر بن بشران، أخبرنا أَبُو عَمْرٍو عُثْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ السَّمَّاكِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ، سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ وَاسِعٍ يَذْكُرُ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"أَلَا أُحَدِّثُكُمْ بِغُرَفِ الْجَنَّةِ?" قَالَ: قُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ: بِأَبِينَا أَنْتَ وَأُمِّنَا. قَالَ: "إِنَّ فِي الْجَنَّةِ غُرَفًا مِنْ أَصْنَافِ الْجَوْهَرِ كُلِّهِ، يُرَى ظَاهِرُهَا مِنْ بَاطِنِهَا، وَبَاطِنُهَا مِنْ ظاهرها، فيها من النعيم واللذات والشفوف مالا عين رأت ولا أذن سمعت". قال: قلنا يَا رَسُولَ اللَّهِ: وَلِمَنْ هَذِهِ الْغُرَفُ? قَالَ: "لِمَنْ أَفْشَى السَّلَامَ وَأَطْعَمَ الطَّعَامَ، وَأَدَامَ الصِّيَامَ، وَصَلَّى بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ".
قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ: وَمَنْ يُطِيقُ ذَلِكَ. قَالَ: "أُمَّتِي تُطِيقُ ذَلِكَ، وَسَأُخْبِرُكُمْ عَنْ ذَلِكَ، مَنْ لَقِيَ أخاه فسلم عليه، ورد عليه فقد أفشى السلام، ومن أطعم عياله، وأهله، حَتَّى يُشْبِعَهُمْ، فَقَدْ أَطْعَمَ الطَّعَامَ، وَمَنْ صَامَ رَمَضَانَ، وَمِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَقَدْ أدام الصيام، ومن صلى العشاء الأخيرة وَصَلَّى الْغَدَاةَ فِي جَمَاعَةٍ، فَقَدْ صَلَّى بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ، الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسُ".
ثُمَّ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَهَذَا الإِسناد غَيْرُ قَوِيٍّ، إِلَّا أَنَّهُ بالإِسنادين يقوي بعضه ببعض، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ: وَرُوِيَ بإِسناد آخَرَ عَنْ جَابِرٍ.
ثُمَّ أَوْرَدَهُ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ حرب، عن حفص بن عمرو، عَنْ عَمْرِو بْنِ قَيْسٍ الْمُلَائِيِّ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، مَرْفُوعًا بِنَحْوِهِ.
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ: من حديث حسن بْنِ فَرْقَدٍ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، عَنْ عِمْرَانَ بن حصين، وأبي، قَالَا: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ هَذِهِ الْآيَةِ: {وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ} . [9- التوبة- 72] .(2/284)
فقال: "قصر من لؤلؤ، فِي ذَلِكَ الْقَصْرِ سَبْعُونَ دَارًا مِنْ يَاقُوتَةٍ، فِي كُلِّ دَارٍ سَبْعُونَ بَيْتًا مِنْ زُمُرُّدَةٍ خضراء، في كل بيت سرير، على كل سريرسبعون فِرَاشًا، مِنْ كُلِّ لَوْنٍ، عَلَى كُلِّ فِرَاشٍ زَوْجَةٌ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ، فِي كُلِّ بَيْتٍ سَبْعُونَ مَائِدَةً، عَلَى كُلِّ مَائِدَةٍ سَبْعُونَ لَوْنًا من الطعام، في كل بيت سبعون وصيفة، ويعطي المؤمن مَا يَأْتِي عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ أَجْمَعَ".
قُلْتُ: وهذا الحديث غريب فإن هذا الجسر ضعيف جداً، وإذا كان الجسر ضعيفاً فلا يملك الاتصال..
وقال عبد الله بن وهب: أخبرنا عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم:
"إنه ليحاز الرجل الْوَاحِدِ بِالْقَصْرِ مِنَ اللُّؤْلُؤَةِ الْوَاحِدَةِ، فِي ذَلِكَ الْقَصْرِ سَبْعُونَ غُرْفَةً، فِي كُلِّ غُرْفَةٍ زَوْجَةٌ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ، فِي كُلِّ غُرْفَةٍ سَبْعُونَ باباً، تدخل عَلَيْهِ مِنْ كُلِّ بَابٍ رَائِحَةٌ مِنْ رَائِحَةِ الْجَنَّةِ سِوَى الرَّائِحَةِ الَّتِي تَدْخُلُ عَلَيْهِ مِنَ الباب الآخر".
ثُمَّ قرأَ: {فَلاَ تَعْلَم نَفْسٌ مَا أخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قرَّةِ أعْيُن جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْملون} . [32- السجدة- 17] .
قُلْتُ: وَقَدْ رَوَاهُ الإِمام أَحْمَدُ، عَنْ حَسَنٍ، عَنِ ابْنُ لَهِيعَةَ..
حَدَّثَنِي حُيَيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بن شريح الْمَعَافِرِيُّ، فَذَكَرَ بإِسناده مِثْلَهُ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: فَقَالَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ، لِمَنْ هِيَ يَا رسول الله. والله أعلم.(2/285)
وذكر القرطبي: من طريق أبي هدية بن إبراهيم بن هدية، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، مَرْفُوعًا: "إِنَّ فِي الْجَنَّةِ غُرَفًا لَيْسَ فِيهَا مَعَالِيقُ مِنْ فَوْقِهَا، ولا عمد مِنْ تَحْتِهَا"، قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: وَكَيْفَ يَدْخُلُهَا أَهْلُهَا? قَالَ: "يَدْخُلُونَهَا أَشْبَاهَ الطَّيْرِ". قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: لِمَنْ هِيَ? قَالَ: "لِأَهْلِ الْأَسْقَامِ، وَالْأَوْجَاعِ، وَالْبَلْوَى".(2/286)
ذكر الخيَام في الْجنَّة
قال الله تعالى: {حورٌ مَقْصُورَاتٌ في الْخِيَام فَبِأيِّ آلاَءِ رَبِّكُمِا تُكًذبَانِ} . [55- الرحمن- 72-73] .
وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ: وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ: مِنْ حَدِيثِ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنَيِّ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قال رسولى اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"إِنَّ لِلْمُؤْمِنِ فِي الْجَنَّةِ لَخَيْمَةً مِنْ لُؤْلُؤَةٍ وَاحِدَةٍ مُجَوَّفَةٍ، طُولُهَا سِتُّونَ مِيلًا، لِلْمُؤْمِنِ فِيهَا أَهْلُونَ يَطُوفُ عَلَيْهِمُ الْمُؤْمِنُ فَلَا يَرَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا" 1.
وَفِي رواية للبخاري: "ثلاثون ميلاً" وصح. "ستون ميلاً".
__________
1 الحديث راه البخاري 59- 8، 65-55-1، 2. ورواه مسلم 51-23، 25. ورواه الدارمي في سننه 20-109. ورواه أحمد في 4- 400.(2/286)
وَقَالَ أَبُو بكَر بْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنِي محمد بن حفص، حَدَّثَنَا مَنْصُورٌ، حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ الصَّبَّاحِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ:
"الْخَيْمَةُ مِنْ دُرَّةٍ مُجَوَّفَةٍ، طُولُهَا فَرْسَخٌ، وَعَرَضُهَا فَرْسَخٌ، وَلَهَا أَلْفُ بَابٍ مِنْ ذَهَبٍ، حولها سُرَادَقٌ دَوْرُهُ خَمْسُونَ فَرْسَخًا، يَدْخُلُ عَلَيْهِ مِنْ كل باب بهدية من الله عز وجل، وذلك قوله: {والمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ بَابٍ} . [13- الرعد- 23] .
وقال ابن المبارك: أخبرنا همام، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ:
الْخَيْمَةُ درة، من دُرَّةٌ مُجَوَّفَةٌ، فَرْسَخٌ فِي فَرْسَخٍ، لَهَا أَرْبَعَةُ آلَافِ مِصْرَاعٍ مِنْ ذَهَبٍ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: عَنْ خالد الْعَصَرِيِّ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: الْخَيْمَةُ لُؤْلُؤَةٌ وَاحِدَةٌ، لَهَا سَبْعُونَ بَابًا كُلُّهَا مِنْ دُرٍّ.(2/287)
ذِكْرُ تربَة الجَنَّة
ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ: مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أبي ذر، في حديث المعراج، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"أدخلت الجنة فإذا فيها جنادل اللُّؤْلُؤِ، وَإِذَا تُرَابُهَا الْمِسْكُ". وَقَالَ الإِمام أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا رَوْحٌ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ، حدثنا الْحَرِيرِيِّ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَ ابن صائد عن تربة الجنة فقال:
"هي در مكة بَيْضَاءُ، مِسْكٌ خَالِصٌ". فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "صَدَقَ".(2/287)
هَكَذَا رَوَاهُ الإِمام أَحْمَدُ: وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ: مِنْ حديث أبي سلمة، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ بِنَحْوِهِ، وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا: عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ أبي أمامة، عَنِ الْحَرِيرِيِّ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، أَنَّ ابْنَ صَيَّادٍ سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ تربة الجنة فقال: "هي در مكة بيضاء مسك خالص".
وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مُجَالِدٌ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم في اليهود:
"إِنِّي سَائِلُهُمْ عَنْ تُرْبَةِ الْجَنَّةِ، وَهِيَ دَرْمَكَةٌ بَيْضَاءُ"، فَسَأَلَهُمْ، فَقَالُوا: هِيَ خُبْزَةٌ يَا أَبَا الْقَاسِمِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الخبز من الدر".
وَتَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَابْنِ عُمَرَ، وغيرهما: في صفة بناء الْجَنَّةِ، أَنَّ:
"مِلَاطَهَا الْمِسْكُ، وَحَصْبَاءَهَا اللُّؤْلُؤُ، وَالْيَاقُوتُ، وَتُرَابَهَا الزَّعْفَرَانُ".
وَالْمِلَاطُ فِي اللُّغَةِ: عِبَارَةٌ عَنِ الطين الذي يجعل بين ساقي البناء، يملط به الحائط، فلعل بعض بقاعها ترابه المسك، وبعضها ترابه الزعفران، والله أعلم.
ومع هذه العظمة والاتساع، فقد تقدم في الصحيح عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
"وقاب قوس أحدكم أو موضع قده خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا".
وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ تمام، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"لَقَيْدُ سَوْطِ أَحَدِكُمْ من الجنة خير من السماء والأرض". على شرط الشيخين.(2/288)
وقال ابْنُ وَهْبٍ: أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ أَنَّ سليمان بن جنيد حَدَّثَهُ: أَنَّ عَامِرَ بْنَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ- قَالَ سُلَيْمَانُ: لَا أَعْلَمُ إِلَّا أَنَّهُ حَدَّثَنِي عَنْ أَبِيهِ- عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
"لو أن أقل نور من الجنة ظهر للدنيا، لزخرف لَهُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ".(2/289)
ذِكْرُ أَنْهَارِ الْجَنَّةِ وَأَشْجَارِهَا وَثِمَارِهَا
قَالَ اللَّهُ تعالى: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ} . [2- البقرة-25] .
وقال: {مِنْ تَحْتِهِمُ الأنْهَارُ} . [7- الأعراف- 43] .
وقال الله تَعَالَى: {مَثَلُ الْجنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْر ِآسِن وَأنْهَارٌ مِنْ لَبَن لَمْ يَتَغيَّرْ طَعْمُهُ وَأنْهَارٌ مِنْ خَمْر لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأنْهَارٌ مِنْ عَسَل مُصًفَّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ} . [47- محمد-15] .
وَقَالَ تَعَالَى: {مَثَلُ الجنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ أكُلُهَا دَائِم وَظِلهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ} . [13- الرعد- 35] .(2/289)
وَقَالَ الإِمام أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أخبرنا الحريري، عن حكيم بن معاوية بن أَبِي بَهْزٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
"فِي الْجَنَّةِ بَحْرُ اللَّبَنِ، وَبَحْرُ الْمَاءِ، وَبَحْرُ الْعَسَلِ، وَبَحْرُ الْخَمْرِ، ثُمَّ تَشَقَّقُ الْأَنْهَارُ مِنْهَا بَعْدُ".
رواه التِّرْمِذِيُّ، عَنْ بُنْدَارٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ بِهِ، وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ بْنُ مَرْدَوَيْهِ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَاصِمٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بن محمد بن السمان، حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا الْحَارِثُ بْنُ عُبَيْدٍ أَبُو قُدَامَةَ الإِيادي، حَدَّثَنَا أَبُو عِمْرَانَ الجوني، عن أبي بكر بْنِ قَيْسٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم:
"تظنون أن لأنهار الجنة حدوداً في الأرض. لا والله، إنها لسابحة على وجه الأرض، حافاتها اللؤلؤ، وقبابها اللؤلؤ، وطيبها المسك الأذفر".
وقد قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: وَمَا الْأَذْفَرُ? قَالَ: "لذي لَا خِلْطَ لَهُ".
وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا: عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ، بِهِ، مَوْقُوفًا، وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ: عَنِ الْحَاكِمِ، وَغَيْرِهِ، عَنِ الْأَصَمِّ، عَنْ الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَسَدِ بْنِ مُوسَى، عن أبي ثَوْبَانَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ قُرَّةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ضَمْرَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَسْقِيَهُ اللَّهُ الْخَمْرَ فِي الآخرة، فليتركه في الدنيا، ومن سره أن يكسيه اللَّهُ الْحَرِيرَ فِي الْآخِرَةِ، فَلْيَتْرُكْهُ فِي الدُّنْيَا، أَنْهَارُ الْجَنَّةِ تَفَجَّرُ مِنْ تَحْتِ تِلَالِ- أَوْ جِبَالِ- الْمِسْكِ، وَلَوْ كَانَ أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ حلية عدلت حليته بحلية أهل الدنيا جميعاً، لكانت حلية أدنى أهل الجنة، أَفْضَلَ مِنْ حِلْيَةِ أَهْلِ الدُّنْيَا جَمِيعًا".(2/290)
وَرَوَى مِنْ طَرِيقِ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ مرة، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ:
"أَنْهَارُ الْجَنَّةِ تَفَجَّرُ من جبل مسك".
قلت: وهذا بالموقوف أصح.(2/291)
صِفَة الكَوثر
وَهُوَ أَشْهَر أَنهار الْجَنَّة سَقَانا اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ بمنِّهِ وَكَرَمِهِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّا اعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِربِّكَ وانْحَرْ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَر} . [108- الْكَوْثَرِ-1-3] .
وَثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ فُضَيْلٍ، وَعَلِيِّ بْنِ مُسْهِرٍ، كِلَاهُمَا عَنِ الْمُخْتَارِ بْنِ فُلْفُلٍ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ السُّورَةُ قَالَ: "أَتَدْرُونَ مَا الْكَوْثَرُ?" قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: "هُوَ نهر وعدنيه الله عَزَّ وَجَلَّ، عَلَيْهِ خَيْرٌ كَثِيرٌ".
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: من حديث سنان، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، فِي حَدِيثِ الْمِعْرَاجِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:(2/291)
"أَتَيْتُ عَلَى نَهَرٍ، حَافَتَاهُ قِبَابُ اللُّؤْلُؤِ الْمُجَوَّفِ، فَقُلْتُ: مَا هَذَا يَا جِبْرِيلُ? قَالَ: هَذَا الْكَوْثَرُ الَّذِي أَعْطَاكَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ". 1
وَرَوَاهُ أحمد: عن ابن عَدِيٍّ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ، بِهِ.
وَفِي رِوَايَةٍ: "فَضَرَبْتُ بِيَدِي إِلَى مَا يَجْرِي فِيهِ الماء فإذا مسك أذفر".
ولهذا طُرُقٌ كَثِيرَةٌ: عَنْ أَنَسٍ، وَغَيْرِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ، وله ألفاظ متعددة.
قال أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، عَنِ الْمُخْتَارِ بْنِ فُلْفُلٍ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الْكَوْثَرُ نَهَرٌ فِي الْجَنَّةِ، وَعَدَنِيهِ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ" 2.
وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ: عن أبي كريب، عن ابن فضيل.
وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أُعْطِيتُ الْكَوْثَرَ، فإذا نَهَرٌ يَجْرِي عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، حَافَتَاهُ قِبَابُ اللؤلؤ، ليس مسقوفاً، فضربت بيدي إلى ترتبه، فإذا ترابه مسك أذفر، وحصباؤه اللؤلؤ" 3.
قال أحمد: حدثنا سليمان بن داود الهاشمي، حدثنا إبراهيم بن سعد، حدثني محمد بن عبيد الله ابن شهاب ابن أخي شِهَابٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الكوثر فقال:
__________
1 الحديث رواه أحمد في مسنده 3- 103.
2 الحديث رواه أحمد في مسنده 3- 102.
3 الحديث رواه أحمد 3- 152.(2/292)
"هُوَ نَهَرٌ أَعْطَانِيهِ اللَّهُ فِي الْجَنَّةِ، تُرَابُهُ مِسْكٌ، مَاؤُهُ أَبْيَضُ مِنَ اللَّبَنِ، وَأَحْلَى مِنَ العسل، ترده طيور أعناقها مثل أعناق الجزور".
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنَّهَا لَنَاعِمَةٌ: فَقَالَ: "آكِلُهَا أَنْعَمُ مِنْهَا".
وَقَالَ الْحَاكِمُ: أخبرنا الأصم، حدثنا إبراهيم بن سعد، حَدَّثَنَا إِدْرِيسُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنِي الْفَضْلُ بْنُ الْمُخْتَارِ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مَوْهَبٍ، عَنْ حصين بن محصن الْخَطْمِيِّ، عَنْ حُذَيْفَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ فِي الْجَنَّةِ طَيْرًا أَمْثَالَ الْبَخَاتِيِّ".
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّهَا لَنَاعِمَةٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ: فَقَالَ: "أَنْعَمُ مِنْهَا مَنْ يَأْكُلُهَا، وَأَنْتَ مِمَّنْ يَأْكُلُهَا يَا أَبَا بَكْرٍ".
ثُمَّ رَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ: عَنْ قتادة، مرسلاً.
وقال أحمد: حدثنا مسلمة الخراجي، حدثنا ثابت، عن يزيد بن المهاد، عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنِ الْكَوْثَرِ فَقَالَ:
"نَهَرٌ أَعْطَانِيهِ الله عَزَّ وَجَلَّ، أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ، وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ، وفيه طير أعناقها كأعناق الجزور" 1.
__________
1 الحديث رواه أحمد 3- 236.(2/293)
فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنَّ تِلْكَ الطيور الناعمة? فَقَالَ: "آكِلُهَا أَنْعَمُ مِنْهَا يَا عُمَرُ".
وَكَذَلِكَ رَوَاهُ الدَّرَاوَرْدِيُّ: عَنِ ابْنِ أَخِي ابْنِ شِهَابٍ، عن أبيه، عن أنس.
رواية ابن عمر
قال أحمد: حدثنا ابن حَفْصٍ، أَخْبَرَنَا وَرْقَاءُ، قَالَ: وَقَالَ عَطَاءٌ: عَنْ مُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم:
"الْكَوْثَرُ نَهَرٌ فِي الْجَنَّةِ حَافَتَاهُ مِنْ ذَهَبٍ والماء يجري على اللؤلؤ، إن ماءه أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ، وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ" 1.
وقد رواه إسماعيل بن عُلَيَّةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ: عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ مُحَارِبٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، مَرْفُوعًا:
"الكوثر نهر في الجنة، حافتاه الذهب، مجراه الدر والياقوت، تربته أطيب من المسك، ماؤه أشد بَيَاضًا مِنَ الثَّلْجِ".
وَفِي رِوَايَةٍ: "أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ، وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ، واللبن الزُّبْدِ".
وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ فُضَيْلٍ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
__________
1 الحمديث رواه أحمد في مسنده 6476- معارف. وقال أحمد شاكر: إسناده صحيح.(2/294)
رِوَايَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ
قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بن إبراهيم، حدثنا هشيم، أخبرنا يونس، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ فِي الْكَوْثَرِ: "هُوَ الْخَيْرُ الَّذِي أعطاه الله إياه".
قال ابن بِشْرٍ: قُلْتُ لِسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: إِنَّ أُنَاسًا يَزْعُمُونَ أَنَّهُ نَهَرٌ فِي الْجَنَّةِ. فَقَالَ سَعِيدٌ: النهر الذي في الجنة من الخير الذي أَعْطَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ".
وَقَدْ رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ: عَنْ أَبِي كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ عُبَيْدٍ? عن عطاء بن سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:
"الْكَوْثَرُ نَهَرٌ فِي الْجَنَّةِ، حَافَتَاهُ ذَهَبٌ وَفِضَّةٌ، يَجْرِي عَلَى الْيَاقُوتِ وَالدُّرِّ، مَاؤُهُ أَبْيَضُ مِنَ الثلج، وأحلى من العسل".
كذا رواه العوفي، عن ابن عباس.
رواية عائشة
قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ الْكَاهِلِيُّ، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ عائشة، قَالَ: سَأَلْتُهَا عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّا أعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} فقالت: "الكوثر نهر أعطيه نبيكم صلى الله عليه وسلم، شاطئاه در مجوف آنيته كعدد النجوم"1.
__________
1 الحديث رواه اليخاري ج- 6- 178- الشعب.(2/295)
ثم قال البخاري: وقد رواه زكريا، وَأَبُو الْأَحْوَصِ، وَمُطَرِّفٌ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، وَقَالَ أبو نعيم الفضل بن دكين: حدثنا ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: "هو الْجَنَّةِ".
وَقَالَتْ عَائِشَةُ:
"هُوَ نَهَرٌ فِي الْجَنَّةِ لَيْسَ أَحَدٌ يُدْخِلُ إِصْبَعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ إِلَّا سَمِعَ خَرِيرَ ذَلِكَ النَهَرِ".
وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ، عَنْ أَبِي كُرَيْبٍ، عَنْ وَكِيعٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الرَّازِيِّ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ:
"مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَسْمَعَ، خَرِيرَ الكوثر- أي صوت سير مياهه- فإنه لا يسمعه بعينه، بل إن دويه كدوي ما يسمع إذا وضع الإِنسان إصبعيه في أذنيه".(2/296)
ذكر نهر البيدخ فِي الْجَنَّةِ
قَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا بَهْزٌ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تُعْجِبُهُ الرُّؤْيَا الْحَسَنَةُ فَرُبَّمَا قَالَ:
"هَلْ رَأَى أَحَدٌ مِنْكُمْ رُؤْيَا?" قَالَ: فَإِذَا رَأَى الرجل رؤيا، يسأل عنه، فإذا كان ليس به بأس، أعجب برؤياه إِلَيْهِ، قَالَ: فَجَاءَتِ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: رَأَيْتُ كَأَنِّي دَخَلْتُ الْجَنَّةَ، فَسَمِعْتُ وَجْبَةً انتحب لها أهل الْجَنَّةُ، فَنَظَرْتُ، فَإِذَا قَدْ جِيءَ بِفُلَانِ ابْنِ فلان، وفلان ابن فلان، حتى عددت اثني عشر رجلاً، وقد بعثت رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرِيَّةً قبل ذلك، قال: فَجِيءَ بِهِمْ، عَلَيْهِمْ ثِيَابٌ طُلْسٌ تَشْخُبُ أَوْدَاجُهُمْ فقيل: اذهبوا بهم إلى البيدخ قال: نهر البيدخ- قال: فغمسوا فيه، فخرجوا وجوههم(2/296)
كَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، قَالَتْ: ثُمَّ أُتُوا بَكَرَاسِيَّ مِنْ ذَهَبٍ، فَقَعَدُوا عَلَيْهَا، فَأُتِيَ بِصَحْفَةٍ أَوْ مبكلة فيها بسر فَأَكَلُوا مِنْهَا، فَمَا يَقْلِبُونَهَا لِشِقٍّ إِلَّا أَكَلُوا مِنْ فَاكِهَةٍ مَا أَرَادُوا، وَأَكَلْتُ مَعَهُمْ. قَالَ: فَجَاءَ الْبَشِيرُ مِنْ تِلْكَ السَّرِيَّةِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: كَانَ مِنْ أَمْرِنَا كَذَا وَكَذَا، وَأُصِيبَ فُلَانٌ وَفُلَانٌ، حَتَّى عدَّ الِاثْنَيْ عَشَرَ الَّذِينَ عَدَّتْهُمُ الْمَرْأَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "عليَّ بِالْمَرْأَةِ"، فَجَاءَتْ، فَقَالَ: "قضي عَلَى هَذَا رُؤْيَاكِ" فَقَصَّتْ، فَقَالَ: هُوَ كَمَا قالت: يا رسول الله1.
__________
1 الحديث رواه أحمد في مسنده 3- 135.(2/297)
نَهْرُ بَارق عَلَى بَاب الْجَنَّة
قَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنِ ابْنِ سحاق، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ فُضَيْلٍ الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"الشُّهَدَاءُ عَلَى بَارِقٍ نَهَرٍ عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ فِي قُبَّةٍ خَضْرَاءَ، يَخْرُجُ إِلَيْهِمْ رِزْقُهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ بكرة وعشياً" 1.
في حديث الإِسراء: في ذكر سدرة المنهى قال:
"فإذا بها يَخْرُجُ مِنْ أَصْلِهَا نَهْرَانِ بَاطِنَانِ، وَنَهْرَانِ ظَاهِرَانِ، فالباطنان في الجنة والظاهران النيل والفرات".
وفي مسند أحمد، وصحيح مُسْلِمٍ، وَاللَّفْظُ لَهُ: مِنْ حَدِيثِ عُبَيْدِ اللَّهِ بن عمر، عن حبيب بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ، عن أبي بريزة، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: "سيحان وجيحان والفرات والنيل وكل من أنهار الجنة".
__________
1 الحديث رواه أحمد في مسنده 2390- معارف.(2/297)
وَرَوَى الْحَافِظُ الضِّيَاءُ: مِنْ طَرِيقِ عُثْمَانَ بْنِ سعيد بن سابق، عن سلمة بْنِ عُلَيٍّ الْخُشَنِيِّ، عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
"أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْجَنَّةِ خَمْسَةَ أَنْهَارٍ: سَيْحُونَ، وَهُوَ نَهَرُ الْهِنْدِ، وَجَيْحُونَ، وَهُوَ نَهَرُ بَلْخَ، وَدِجْلَةَ وَالْفُرَاتَ وَهُمَا نَهَرَا الْعِرَاقِ، وَالنِّيلَ، وَهُوَ نَهَرُ مِصْرَ، أنزلها الله تعالى مِنْ عَيْنٍ وَاحِدَةٍ، مِنْ عُيُونِ الْجَنَّةِ، مِنْ أَسْفَلِ دَرَجَةٍ مِنْ دَرَجَاتِهَا، عَلَى جَنَاحَيْ جِبْرِيلَ، فَاسْتَوْدَعَهَا الْجِبَالَ، وَأَجْرَاهَا فِي الْأَرْضِ، وَجَعَلَ فِيهَا مَنَافِعَ لِلنَّاسِ، مِنْ أَصْنَافِ مَعَايِشِهِمْ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقدَر فَأسْكَنَّاهُ في الأرْض} . [23- المؤمنون- 18] .
فإذا كان خُرُوجِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، أَرْسَلَ اللَّهُ جِبْرِيلَ، فَرَفَعَ من الأرض القرآن العظيم، وَالْعِلْمَ كُلَّهُ، وَالْحَجَرَ الْأَسْوَدَ، مِنْ رُكْنِ الْبَيْتِ بمقام إِبْرَاهِيمَ، وَتَابُوتَ مُوسَى، بِمَا فِيهِ، وَهَذِهِ الْأَنْهَارَ الْخَمْسَةَ، فَرَفَعَ كُلَّ ذَلِكَ إِلَى السَّمَاءِ، فَذَلِكَ قوله تعالى: {وَإنَّا عَلَى ذهابٍ بِهِ لَقَادرُونَ} . [23- المؤمنون- 18] .
"فَإِذَا رُفِعَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ مِنَ الْأَرْضِ، فَقَدْ حُرِمَ أَهْلُهَا خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ".
وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ جِدًّا، بَلْ مُنْكَرٌ، وَمَسْلَمَةُ بْنُ عُلَيٍّ ضَعِيفُ الْحَدِيثِ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ ...
وَقَدْ وَصَفَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وتعالى أنهار الجنة بكثرة الجريان، وأن أهل الجنة يجرونها حيث شاءوا أي يستنبطونها في أي المحال أحبوا، يبعث لهم العيون بفنون المسارب وَالْمِيَاهِ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: "مَا فِي الْجَنَّةِ عَيْنٌ إِلَّا تَنْبُعُ مِنْ تَحْتِ جَبَلٍ مسكة".(2/298)
وروى الأعمش: عن عمر بْنِ مُرَّةَ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّهُ قَالَ: "أَنْهَارُ الْجَنَّةِ تَفَجَّرُ مِنْ جَبَلِ مسك".
وقد جاء هذا الحديث مرفوعاً، رواه الحاكم في مستدركه فقال: أخبرنا الأصم، أخبرنا الربيع بن سليمان، أخبرنا أسد بن موسى، حدثنا ابن مُوسَى، حَدَّثَنَا ابْنُ ثَوْبَانَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ قُرَّةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ضَمْرَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَسْقِيَهُ الله من الخمرة فِي الْآخِرَةِ، فَلْيَتْرُكْهَا فِي الدُّنْيَا، وَمَنْ سرَّه أَنْ يَكْسُوَهُ اللَّهُ الْحَرِيرَ فِي الْآخِرَةِ فَلْيَتْرُكْهُ فِي الدُّنْيَا، أَنْهَارُ الْجَنَّةِ تَفَجَّرُ مِنْ تَحْتِ تِلَالِ- أَوْ جِبَالِ- الْمِسْكِ، وَلَوْ كَانَ أَدْنَى أهل الجنة حلية عدلت حليته بِحِلْيَةِ أَهْلِ الدُّنْيَا جَمِيعًا لَكَانَ مَا يُحَلِّيهِ الله بِهِ فِي الْآخِرَةِ أَفْضَلَ مِنْ حِلْيَةِ أَهْلِ الدنيا جميعاً".(2/299)
فصل أشجار الجنة
قال الله تعالى: {وَائَذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أبَداً لَهُمْ فِيهَا أزْوَاج مُطَهَّرَةٌ ونُدْخِلُهُمْ ظِلاً ظَلِيلا} . [4- النساء- 57] .(2/299)
وقال تعالى:
{ذَوَاتَا أفْنَان فَبِأيِّ آلاَء رَبكُمَا تُكَذبَانِ} . [55- الرحمن- 48- 49] . والأفنان: الأغصان.
وقال تعالى:
{مُدهامَّتَانِ} . [55-الرحمن- 54] . أي مائلتان إلى السواد، من شدة خضرتهما، واشتباك أشجارهما.
وقال تَعَالَى:
{مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُش بَطَائِنُهَا مِنْ إسْتَبْرَق وَجَنَى الْجَنَّتَيْن} . [55- الرحمن- 54] . أَيْ قَرِيبٌ مِنَ التَّنَاوُلِ وَهُمْ عَلَى الفراش.
كما قال تعالى:
{قُطُوفُهَا دَانِيَة} . [69- الحاقة- 23] .
وقال تعالى:
{وَذللَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلا} . [76- الإنسان- 14] .
وقال تعالى:
{وَأصحَابُ الْيَمِين مَا أصحَابُ اليَمِين فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ وَطَلْح مَنْضُودٍ وَظِل مَمدُودٍ وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ وَفاكهَةٍ كَثِيرَةٍ لاَ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ وَفُرُش مَرْفُوعَةٍ} . [56- الواقعة- 27- 34] .(2/300)
وقال تعالى:
{فِيهِمَا فاكِهَة وَنَخْل وَرُمَّانٌ} . [55- الرحمن- 68] .
وقال تعالى:
{فِيهِمَا مِنْ كُل فاكِهَةٍ زَوْجَانِ} . [55- الرحمن- 52] .
وَقَالَ أبو بكر بن أبي داود: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا زِيَادُ بن الحسن بن الفرات الفرار، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"مَا فِي الْجَنَّةِ شَجَرَةٌ إِلَّا سَاقُهَا مِنْ ذَهَبٍ" 1.
وَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ: عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدٍ الْكِنْدِيِّ الْأَشَجِّ- وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنِي حَمْزَةُ بْنُ الْعَبَّاسِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ حَمَّادٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ:
"نَخْلُ الْجَنَّةِ جُذُوعُهَا مِنْ زُمُرُّدٍ أَخْضَرَ، وفروعها ذهب أحمر، وسعفها كسوة لأهل الجنة، منها مُقَطَّعَاتُهُمْ، وَحُلَلُهُمْ، وَثَمَرُهَا أَمْثَالُ الْقِلَالِ وَالدِّلَاءِ. أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ، وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ، واللبن من الزبد، ليس فيه عجم".
__________
1 الحديث رواه الترمذي 39- 1 وقال: هذا حديث حسن غريب من حديث أبي سعيد وليس حسن صحيح كما ذكر ابن كثير في الأصل.(2/301)
وَقَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعِيدٍ الْجَوْهَرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ الْعَقَدِيُّ، حَدَّثَنَا ربعة بْنُ صَالِحٍ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ وَهْرَامٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:
"الظِّلُّ الْمَمْدُودُ شَجَرَةٌ فِي الْجَنَّةِ، عَلَى سَاقٍ، قَدْرُ مَا يَسِيرُ الرَّاكِبُ الْمُجِدُّ فِي ظِلِّهَا مِائَةَ عَامٍ، أي كُلِّ نَوَاحِيهَا قَالَ: فَيَخْرُجُ إِلَيْهَا أَهْلُ الْجَنَّةِ، أهل الغرف، وغيرهم فيتحدثون في ظلها".
قال: "فَيَشْتَهِي بَعْضُهُمْ، وَيَذْكُرُ لَهْوَ الدُّنْيَا، فَيُرْسِلُ اللَّهُ ريحاً من الجنة، فيحرك تِلْكَ الشَّجَرَةَ بِكُلِّ لَهْوٍ كَانَ فِي الدُّنْيَا".
في الجنة شجرة يسير راكب الجواد المضمر السريع في ظلها مائة عام لا يقطعها
ثبت في الصحيحن: من رواية وهب، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"إِنَّ فِي الْجَنَّةِ شَجَرَةً يَسِيرُ الرَّاكِبُ فِي ظِلِّهَا مِائَةَ عَامٍ لَا يَقْطَعُهَا" 1.
قَالَ: فحدثت به النعمان بن أبي العباس الزرقي: فقال: حدثني أبوسعيد الْخُدْرِيِّ: عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
"إِنَّ فِي الْجَنَّةِ شَجَرَةً يَسِيرُ الرَّاكِبُ الْجَوَادَ الْمُضَمَّرَ السَّرِيعَ مِائَةَ عَامٍ لَا يَقْطَعُهَا" 2.
وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ: مِنْ حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قول الله تعالى: {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} . [56- الواقعة- 30] .
__________
1 رواه مسلم في صحيحه 51-1، ورواه البخاري 65-56، 1.
2 الحديث رواه مسلم 5-1. ورواه البخاري 81-51.(2/302)
قال: "فِي الْجَنَّةِ شَجَرَةً يَسِيرُ الرَّاكِبُ فِي ظِلِّهَا مِائَةَ عَامٍ لَا يَقْطَعُهَا".
وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا شريح، حَدَّثَنَا فُلَيْحٌ، عَنْ هِلَالِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَمْرَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"فِي الْجَنَّةِ شَجَرَةً يَسِيرُ الرَّاكِبُ فِي ظِلِّهَا مائة سنة".
اقرأوا إن شئتم: {وَظِلّ مَمْدُودٍ} .
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"لَقَابُ قَوْسٍ أَوْ سَوْطٍ فِي الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِمَّا تَطْلُعُ عَلَيْهِ الشَّمْسُ وَتَغْرُبُ".
وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ: عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ، عَنْ فُلَيْحٍ.
وَلِمُسْلِمٍ: مِنْ طَرِيقِ الْأَعْرَجِ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
"إِنَّ فِي الْجَنَّةِ شَجَرَةً يَسِيرُ الرَّاكِبُ فِي ظلها مائة سنة، لا يقطعها".
طَرِيقٌ أُخْرَى
قَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، حَدَّثَنَا ليث بن سويد، حدثنا سعيد بن أبي سعيد المدني عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
"إِنَّ فِي الْجَنَّةِ شَجَرَةً يَسِيرُ الرَّاكِبُ فِي ظِلِّهَا مائة سنة" 1.
__________
1 الحديث رواه أحمد في مسنده 4- 452.(2/303)
طَرِيقٌ أُخْرَى
قَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، عَنْ حَمَّادٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ، سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
"إِنَّ فِي الْجَنَّةِ شَجَرَةً يَسِيرُ الرَّاكِبُ فِي ظلها مائة سنة".
قال أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، عَنْ حَمَّادٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ، سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
"إن الْجَنَّةِ شَجَرَةً يَسِيرُ الرَّاكِبُ فِي ظِلِّهَا مِائَةَ عام لا يقطعها".
طريق أخرى
قال أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، وحجاج، عن عقبة، سمعت أبا الضحاك تحدث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
"إِنَّ فِي الْجَنَّةِ شَجَرَةً يَسِيرُ الرَّاكِبُ فِي ظِلِّهَا سَبْعِينَ- أَوْ مِائَةَ- سَنَةٍ هِيَ شَجَرَةُ الْخُلْدِ".
شَجَرة طُوبَى
قَالَ الإِمام أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ بَحْرٍ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ عَامِرِ بْنِ زَيْدٍ البكالي، أنه سمع عتبة بن عبيد الله السُّلَمِيَّ يَقُولُ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ عَنِ الْحَوْضِ، وَذَكَرَ الْجَنَّةَ، فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ: فِيهَا فَاكِهَةٌ. قَالَ: نَعَمْ. وَفِيهَا شَجَرَةٌ تُدْعَى طُوبَى? فَذَكَرَ(2/304)
شَيْئًا لَا أَدْرِي مَا هُوَ، قَالَ: أَيَّ شَجَرِ أَرْضِنَا تُشْبِهُ? قَالَ: "لَيْسَتْ تُشْبِهُ شَيْئًا من شجر أرضك"، فقال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَتَيْتَ الشَّامَ?" قَالَ: لَا. قَالَ: "تُشْبِهُ شَجَرَةً بِالشَّامِ، تُدْعَى الْجَوْزَةَ، تَنْبُتُ عَلَى سَاقٍ وَاحِدٍ، وَيَنْفَرِشُ أَعْلَاهَا".
قَالَ: مَا عِظَمُ أَصْلِهَا? قَالَ: "لَوِ ارْتَحَلْتَ جَذَعَةً مِنْ إِبِلِ أَهْلِكَ، مَا أَحَطْتَ بِأَصْلِهَا حتى ينكسر عرقوبها هَرَمًا". قَالَ: فِيهَا عِنَبٌ? قَالَ: "نَعَمْ". قَالَ: فَمَا عِظَمُ الْعُنْقُودِ? قَالَ: "مَسِيرَةُ شَهْرٍ لِلْغُرَابِ الأبقع لا يفتر". قال: فما عظم الحبة أنتخذ منها دَلْوًا? قَالَ: "نَعَمْ". قَالَ الْأَعْرَابِيُّ: فَإِنَّ تِلْكَ الجنة لتسعني وأهل بيتي? قال: "وَعَامَّةَ عَشِيرَتِكَ".
وَقَالَ حَرْمَلَةُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرٌو، أَنَّ دَرَّاجًا حَدَّثَهُ، أَنَّ أَبَا الْهَيْثَمِ حَدَّثَهُ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ طُوبَى لِمْنَ رآك وآمن بك فقال:
"طُوبَى لِمَنْ رَآنِي، وَآمَنَ بِيَ، وَطُوبَى ثُمَّ طوبى لمن آمن بي، ولم يرني" فقال رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: وَمَا طُوبَى? قَالَ: "شَجَرَةٌ فِي الْجَنَّةِ، مَسِيرَةُ مِائَةِ سَنَةٍ، ثِيَابُ أَهْلِ الْجَنَّةِ تَخْرُجُ مِنْ أَكْمَامِهَا".
سِدرَة المُنْتَهى
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
{وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلةً أخْرَى عِنْدَ سدْرَةِ المُنْتَهَى عِنْدَها جَنَّة الْمَأوى إِذْ يَغْشَى السدْرَةَ مَا يغْشَى مَا زَاغَ الْبصَرُ وَمَا طَغَى لَقَدْ رَأى مِنْ آيَاتِ رَبهِ الكُبْرى} . [53- النجم- 13- 18] .(2/305)
وَذَكَرْنَا فِي التَّفْسِيرِ: أَنَّهُ غَشِيَهَا نُورُ الرَّبِّ جل جلاله، وأنه غشيتها الملائكة، عليها مثل الغربان، يعني كثرة- وأنه غشيتها فراش من ذهب، وغشيتها ألوان متعددة.
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"يغشاها الألوان، لا أدري ماهي، مَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَنْعَتَهَا".
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي حديث المعراج:
"ثم رفعت إلى سِدْرَةُ الْمُنْتَهَى، فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، فَإِذَا نَبِقُهَا مِثْلُ قِلَالِ هَجَرَ، وَوَرَقُهَا مِثْلُ آذَانِ الْفِيَلَةِ، وإذا هي يَخْرُجُ مِنْ سَاقِهَا نَهَرَانِ ظَاهِرَانِ، وَنَهَرَانِ بَاطِنَانِ، قلت: يا جبريل: ما هذا? قال: أما النهران الباطنان ففي الجنة، وأما النهران الظَّاهِرَانِ فَالنِّيلُ وَالْفُرَاتُ".
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ يَحْيَى بْنُ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَكَرَ سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى- فَقَالَ:
"يَسِيرُ في ظل العين مِنْهَا الرَّاكِبُ مِائَةَ سَنَةٍ- أَوْ قَالَ-: يَسْتَظِلُّ في ظل العين مِنْهَا مِائَةُ رَاكِبٍ، فِيهَا فَرَاشُ الذَّهَبِ، كَأَنَّ ثَمَرَهَا الْقِلَالُ".
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنِي حَمْزَةُ بْنُ الْعَبَّاسِ، حدثنا عبيد اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، أَخْبَرَنَا صَفْوَانُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ سُلَيْمِ بن عامر، قال: أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقولون: إن الله لَيَنْفَعُنَا بِالْأَعْرَابِ وَمَسَائِلِهِمْ: قَالَ: أَقْبَلَ أَعْرَابِيٌّ يَوْمًا فقال: يارسول الله: ذكر الله في الجنة شجرة تؤذي صاحبها بشوكها.(2/306)
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أليس الله يقول: {فِي سدْرٍ مخْضُودٍ} .
خضد الله شوكه، فجعل الله مَكَانَ كُلِّ شَوْكَةٍ ثَمَرَةً، فَإِنَّهَا لَتُنْبِتُ ثَمَرًا ينفتق الثمر منها عن اثنين وسبعين لوناً، ما فيها لَوْنٌ يُشْبِهُ الْآخَرَ".
وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ بِلَفْظٍ آخَرَ.
فَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي دَاوُدَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُصَفَّى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُبَارَكِ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَمْزَةَ، حَدَّثَنَا ثَوْرُ بْنُ يَزِيدَ، حَدَّثَنَا حبيب بن عتبة بن عبد السلام قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: يَا رسول الله: أسمعك تذكر في الجنة شجرة لا أعلم شجرة أكبر شَوْكًا مِنْهَا: - يَعْنِي الطَّلْحَ-: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"إِنَّ الله يجعل مَكَانَ كُلِّ شَوْكَةٍ مِنْهَا ثَمَرَةً مِثْلَ خُصْوَةِ التَّيْسِ الْمَلْبُودِ، فِيهَا سَبْعُونَ لَوْنًا مِنَ الطَّعَامِ، لا يشبه منها لون لوناً آخر". والملبود: الذي يتلبد صوفه بعضه على بعض.
وروى التِّرْمِذِيُّ: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم:
"لَقِيتُ إِبْرَاهِيمَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي، فَقَالَ: يَا محمد: اقرىء أُمَّتَكَ مِنِّي السَّلَامَ، وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ الْجَنَّةَ طَيِّبَةُ التُّرْبَةِ، عَذْبَةُ الْمَاءِ، وَأَنَّهَا قِيعَانٌ، وَأَنَّ غِرَاسَهَا سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ". ثُمَّ قَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ.(2/307)
وفي الباب عن أبي هريرة، وَقَدْ رَوَى ابْنُ مَاجَهْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم مَرَّ عَلَيْهِ وَهُوَ يَغْرِسُ غَرْسًا، فَقَالَ:
"أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى غِرَاسٍ خَيْرٍ مِنْ هَذَا? سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، يُغْرَسُ لَكَ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ شَجَرَةٌ فِي الْجَنَّةِ".
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم:
"مَنْ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ وَبِحَمْدِهِ، غُرِسَتْ له شجرة فِي الْجَنَّةِ" ثُمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صحيح غريب.(2/308)
فَصل ثِمَار الْجَنَّة
نَسأل الله تَعالى أن يُطْعِمَنا مِنْها بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ آمِين
قال الله تعالى:
{فِيهِمَا فاكِهَة وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} . [55- الرحمن- 68] .
وَقَالَ: {فِيهِمَا مِنْ كل فاكِهَةٍ زَوْجَانِ} . [55- الرحمن- 52] .
وقال: {مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُثس بَطَائِنُها مِنْ إسْتَبْرَق وَجَنى الجنَّتَيْن دَانٍ} . [55- الرحمن- 54] .
أَيْ قَرِيبٌ مِنَ المتناول كما قال تعالى: {وَذُلِّلَتْ قطوفهَا تَذْلِيلاً} . [76- الإنسان- 14] .(2/308)
وقال تعالى:
{وأَصحَابُ الْيَمِين مَا أَصْحَابُ الْيَمِين فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ وَطَلْح مَنْضُودٍ وَظِلٍّ مَمدُودٍ وَمَاءٍ مَسْكوبٍ وَفاكَهَةٍ كَثِيرَةٍ لَا مَقْطُوعَةٍ وَلاَ ممْنُوعَةٍ} . [56- الواقعة- 27- 33] .
أي لا تنقطع في بعض الْأَزْمَانِ، بَلْ هِيَ مَوْجُودَةٌ فِي كُلِّ أَوَانٍ، كما قال تعالى:
{أكُلًهَا دَائِمٌ وَظِلُّها تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا} . [13- الرعد- 35] .
أي ليس كالدنيا، التي تأتي ثمارها في بعض الفصول، وتفقد فِي وَقْتٍ آخَرَ، وَتَكْتَسِي أَشْجَارُهَا الْأَوْرَاقَ فِي وقت، وتخلعها في وقت آخر، ولا ممنوعة: أي من أرادها فإنها ليس دونها حجاب، ولا مانع، بل من أرادها فهي موجودة، سهلة، منالها قريب، حَتَّى وَلَوْ كَانَتِ الثَّمَرَةُ فِي أَعْلَى الشَّجَرَةِ، فأراد أخذها، اقتربت منه وتدلت إليه.
قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: عَنِ الْبَرَاءِ، {وَذُلِّلَتْ قُطُوفهَا تَذْلِيلاً} أدنيت حتى يتناولوها وهم نيام.
وَقَالَ تَعَالَى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ كُلّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قَالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهمْ فِيهَا خَالِدُونَ} . [2- البقرة- 25](2/309)
وقال تعالى:
{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلاَل وَعُيُونٍ وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا كُنْتمْ تَعْمَلُونَ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ} . [77- المرسلات- 41- 44] .
وقال تَعَالَى:
{وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ وَلَحْم طَيْر مِمَّا يَشْتَهُونَ وَحُورٌ عِينٌ كأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} . [56- الواقعة- 20-24] .
وَقَدْ سَبَقَ فِيمَا أَوْرَدْنَاهُ مِنَ الْأَحَادِيثِ: أَنَّ تربة الجنة من مسك وزعفران، وأنه ما في الجنة شجرة إلا ولها ساق من ذهب فإذا كانت تربة الجنة هذه، والأصول كما ذكرنا، فما ظنك بما يتولد منها، من الثمرة الرائقة، الناضجة، الأنيقة، التي ليس في الدنيا منها إلا الأسماء? قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "لَيْسَ في الجنة من الدنيا إِلَّا الْأَسْمَاءُ".
وَإِذَا كَانَ السِّدْرُ الَّذِي فِي الدُّنْيَا وَهُوَ لَا يُثْمِرُ إِلَّا ثَمَرَةً ضَعِيفَةً وهو النبق، وشوكه كثير، والطلح الذي لا يراد منه في الدنيا إلا الظل، يكونان في الجنة في غابة من كَثْرَةِ الثِّمَارِ وَحُسْنِهَا، حَتَّى إِنَّ الثَّمَرَةَ الْوَاحِدَةَ منها تنفتق عَنْ سَبْعِينَ نَوْعًا مِنَ الطُّعُومِ، وَالْأَلْوَانِ، الَّتِي يشبه بعضها بعضاً، فما ظنك بِثِمَارِ الْأَشْجَارِ، الَّتِي تَكُونُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةَ الثمار، كالتفاح، والنخل، والعنب، وغير ذلك? وما ظنك بأنواع الرياحين، والأزاهير? وبالجملة، فإن فِيهَا مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، نَسْأَلُ الله منها فَضْلِهِ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي حَدِيثِ صَلَاةِ الْكُسُوفِ.(2/310)
قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ: رَأَيْنَاكَ تَنَاوَلْتَ شَيْئًا من مكانك هذا ثم رأيناك تكفكفت، فَقَالَ: "إِنِّي رَأَيْتُ- أَوْ أُرِيتُ- الْجَنَّةَ، فَتَنَاوَلْتُ مِنْهَا عُنْقُودًا، وَلَوْ أَخَذْتُهُ لَأَكَلْتُمْ مِنْهُ، مَا بَقِيَتِ الدُّنْيَا".
وَفِي الْمُسْنَدِ: مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ، عَنْ جابر، فقال: "إني عُرِضَتْ عَلَيَّ الْجَنَّةُ وَمَا فِيهَا مِنَ الزَّهْرَةِ، وَالنُّضْرَةِ، فَتَنَاوَلْتُ مِنْهَا قِطْفًا مِنْ عِنَبٍ، لِآتِيَكُمْ بِهِ، فَحِيلَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ، وَلَوْ أَتَيْتُكُمْ بِهِ، لأكل منه من بين السماء والأرض يَنْقُصُونَهُ". وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: مِنْ رِوَايَةِ أَبِي الزبير، عن جابر، شاهد ذلك.
وَتَقَدَّمَ فِي الْمُسْنَدِ: عَنْ عُتْبَةَ بْنِ عَبْدٍ الله السُّلَمِيِّ، أَنَّ أَعْرَابِيًّا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْجَنَّةِ: فِيهَا عِنَبٌ? فقال: "نعم". فقال: فَمَا عِظَمُ الْعُنْقُودِ? قَالَ: "مَسِيرَةُ شَهْرٍ لِلْغُرَابِ الأبفقع لا يفتر" وقال القاسم الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ، حَدَّثَنَا رَيْحَانُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ مَنْصُورٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَبِي أَسْمَاءَ، عَنْ ثَوْبَانَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم:
"إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا نَزَعَ ثَمَرَةً مِنَ الْجَنَّةِ عادت مكانها أخرى" 1.
قال الحافظ أيضاً: عبادتكم فِيهِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ.
وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، حَدَّثَنَا عُقْبَةُ بْنُ مُكْرَمٍ الْعَمِّيُّ، حَدَّثَنَا رِبْعِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بن علية، حدثنا عون: عَنْ قَسَامَةَ بْنِ زُهَيْرٍ، عَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم:
__________
1 الحديث رواه الهيثمي في مجمع الزوائد 10- 414. وقال: رواه الطبراني والبزار.(2/311)
"لما أهبط آدم من الجنة، علمه الله صَنْعَةَ كُلِّ شَيْءٍ، وَزَوَّدَهُ مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ، فَثِمَارُكُمْ هَذِهِ مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ، غَيْرَ أَنَّهَا تتغير، وتلك لا تغير".
فصل
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ وَلَحْم طَيْر مِمَّا يَشْتَهُونَ} . [56- الْوَاقِعَةِ- 20- 21] .
قَالَ الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ: حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ خَلِيفَةَ، عَنْ حُمَيْدٍ الْأَعْرَجِ، عَنْ عَبْدِ الله بن الحارث، عن مَسْعُودٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّكَ لَتَنْظُرُ إِلَى الطَّيْرِ فَتَشْتَهِيهِ، فَيَخِرُّ بَيْنَ يَدَيْكَ مَشْوِيًّا"..
وَفِي التِّرْمِذِيِّ: - وَحَسَّنَهُ- عن أنس، سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الكوثر فقال:
"نهر أعطانية الله عَزَّ وَجَلَّ، مَاؤُهُ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ، وَأَحْلَى مِنَ العسل، فيه طير أعناقه كأعناق الجزور".
فقال عمر: إنها لناعمة: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"أكلها أنعم منها" وَفِي تَفْسِيرِ الثَّعْلَبِيِّ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، مَرْفُوعًا:
"إن في الجنة طيراً أعناقه كأعناق البخت، يصطف على يد وَلِيِّ اللَّهِ، فَيَقُولُ أَحَدُهَا: يَا وَلِيَّ اللَّهِ رَعَيْتُ فِي مُرُوجٍ تَحْتَ الْعَرْشِ، وَشَرِبْتُ مِنْ عيون النسيم، فَكُلْ مِنِّي: فَلَا يَزَالُ يَفْتَخِرُ بَيْنَ يَدَيْهِ حتى يخطر على قلبه أكل أحدها، فيخر بين يديه على ألوان مختلفة، فيأكل منه ما أراد، حتى إِذا شبع، تجمعت عظام الطائر، فصار يَرْعَى فِي الْجَنَّةِ حَيْثُ شَاءَ"، فَقَالَ عُمَرُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ: إِنَّهَا لَنَاعِمَةٌ? فَقَالَ: "آكِلُهَا أَنْعَمُ مِنْهَا". غَرِيبٌ: مِنْ رِوَايَةِ أَبِي الدَّرْدَاءِ.(2/312)
ذكر طعَام أَهْل الجَنَّة وأكلهم فيها وَشرابهم وَشربهم فِيها
نَسأَل الله مِنْ فضلِهِ أَنْ يمنَّ عَلَيْنَا بِها
وقال اللَّهُ تَعَالَى: {كُلُوا وَاشْربُوا هَنِيئاً بِمَا أسْلَفْتُمْ في الأيَّام الخَالِيَةِ} . [69- الحاقة- 24] .
وَقَالَ: {لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تَأثِيماً إِلاَّ قِيلاً سَلاَماً سَلاَماً} . [56- الواقعة- 25-26]
وقال تعالى: {وَلَهُمْ رزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} . [19- مريم – 62] .
وَقَالَ تَعَالَى: {وَفاكَهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُوُنَ وَلَحْم طَيْر مِمَّا يَشْتَهُونَ} . [56- الْوَاقِعَةِ- 20-21] .
وَقَالَ تَعَالَى: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهِبٍ وَأَكْوَابٍ وفيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأنْفُسُ وَتَلَذُّ الأعْيُنُ وَأنْتُمْ فِيهَا خَالِدونَ} . [43- الزخرف-71] .
وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْربُونَ مِنْ كَأس كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً} . [76- الإنسان- 5-6] .(2/313)
وقال تعالى:
{وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأكْوَابٍ كَانَتْ قَوَاريرا قَوَاريرا مِنْ فضَّةٍ قدَّروهَا تَقْدِيراً} .. [76- الْإِنْسَانِ- 15- 16] .
أَيْ فِي صفاءَ الزُّجَاجِ، وَهِيَ مِنْ فضة، وهذا مما لا نظير له في الدنيا، وهي مقدارة على قدر كفاية ولي الله في شربه، لا يزيد عليه، ولا ينقص من كفايته شيئاً، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى الِاعْتِنَاءِ وَالشَّرَفِ.
وَقَالَ تَعَالَى:
{وَيُسقَوْنَ فِيهَا كَأساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجبِيلاً عَيْناً فِيهَا تسَمَّى سَلْسَبِيلاً} . [76- الإنسان- 17- 18] .
وَقَالَ تَعَالَى:
{كُلّمَا رزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رزْقاً قَالُوا هذَا الَّذِي رزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً} . [2- البقرة- 25] .
أي كلما جاءتهم الخدم بشيء من ثمار وغيرها، حسبوه الذي أتوا به قبل هذا، لِمُشَابَهَتِهِ لَهُ فِي الظَّاهِرِ، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ خِلَافُهُ، فَتَشَابَهَتِ الْأَشْكَالُ وَاخْتَلَفَتِ الْحَقَائِقُ، وَالطُّعُومُ، وَالرَّوَائِحُ.
وقال الإمام أحمد: حدثنا مسكين بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، حَدَّثَنَا الْأَشْعَثُ الضَّرِيرُ، عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم:
"إن أدنى أهل الجنة منزلة، من له سبع درجات، وثلاثمائة خادم، يغدون عليه ويروحون كُلَّ يَوْمٍ بِثَلَاثِمِائَةِ صَحْفَةٍ، وَلَا أَعْلَمُهُ إِلَّا قال: من ذهب صَحْفَةٍ لَوْنٌ، لَيْسَ فِي الْأُخْرَى، وَإِنَّهُ، لَيَلَذُّ أَوَّلَهُ، كَمَا يَلَذُّ آخِرَهُ، وَمِنَ الْأَشْرِبَةِ ثَلَاثُمِائَةِ إناء، في كُلِّ إِنَاءٍ لَوْنٌ، لَيْسَ فِي الْآخَرِ، وَإِنَّهُ ليلذ أوله،(2/314)
كَمَا يَلَذُّ آخِرَهُ، وَإِنَّهُ لَيَقُولُ: يَا رَبِّ: لو أذنت، لأطعمت أهل الجنة، وسقيتهم، لم ينقص ذلك مما عندي شيئاً، وأنه له من الحور العين، اثنتين وَسَبْعِينَ زَوْجَةً، سِوَى أَزْوَاجِهِ مِنَ الدُّنْيَا، وَإِنَّ الواحدة لتأخذ مَقْعَدُهَا قَدْرَ مِيلٍ مِنَ الْأَرْضِ".
تَفَرَّدَ بِهِ أحمد، وهو غريب وفيه انقطاع.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشِ، عَنْ ثُمَامَةَ بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، قَالَ: أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ فَقَالَ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ: أَلَسْتَ تَزْعُمُ أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يأكلون فيها ويشربون? وكان قد قال لأصحابه: إن أقر لي بهذا خصمته- قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"بَلَى وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ: إِنَّ أَحَدَهُمْ لَيُعْطَى قُوَّةَ مِائَةِ رَجُلٍ فِي الْمَطْعَمِ وَالْمَشْرَبِ والشهوة والجماع"، قال: فقال اليهودي: إن الَّذِي يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ تَكُونُ لَهُ الْحَاجَةُ: قَالَ: فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"حَاجَةُ أَحَدِهِمْ عَرَقٌ يَفِيضُ مِنْ جُلُودِهِمْ مِثْلُ رِيحِ الْمِسْكِ، فَإِذَا الْبَطْنُ قَدْ ضَمُرَ".
ثُمَّ رَوَاهُ أَحْمَدُ: عَنْ وَكِيعٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ ثُمَامَةَ، سَمِعْتُ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ، فَذَكَرَهُ، وَقَدْ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ: عَنْ عَلِيِّ بْنِ حُجْرٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُسْهِرٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ بِهِ، وَرَوَاهُ أَبُو جعفر الرازي: عن الأعمش، فذكره.
قال اليهودي: فإِن يأكل ويشرب تكن لَهُ الْحَاجَةُ، وَلَيْسَ فِي الْجَنَّةِ أَذًى? فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"تَكُونُ حَاجَةُ أَحَدِهِمْ رَشْحًا يَفِيضُ مِنْ جُلُودِهِمْ كَرَشْحِ الْمِسْكِ، فَيَضْمُرُ بَطْنُهُ".
قَالَ الْحَافِظُ الضِّيَاءُ: وَهَذَا عِنْدِي عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، لِأَنَّ ثُمَامَةَ ثِقَةٌ، وَقَدْ صَرَّحَ بِسَمَاعِهِ مِنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ.(2/315)
حَدِيثٌ آخَرُ فِي ذَلِكَ
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حدثنا مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلمِ:
"أَهْلُ الْجَنَّةِ يَأْكُلُونَ فِيهَا، وَيَشْرَبُونَ، وَلَا يَتَغَوَّطُونَ، وَلَا يَبُولُونَ، وَلَا يَتَمَخَّطُونَ، وَلَا يَبْزُقُونَ، طَعَامُهُمْ جُشَاءٌ، وَرَشْحٌ كَرَشْحِ الْمِسْكِ".
وَقَدْ رواه مسلم: من حديث أبي طلحة. عن نَافِعٍ، عَنْ جَابِرٍ، فَذَكَرَهُ قَالُوا: فَمَا بَالُ الطَّعَامِ? قَالَ: "جُشَاءٌ، وَرَشْحٌ كَرَشْحِ الْمِسْكِ، يُلْهَمُونَ التسبيح والتحميد"1.
وكذا أخرجه من حديث أبي جُرَيْجٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، فَذَكَرَهُ وَقَالَ:
"طَعَامُهُمْ ذَلِكَ جُشَاءٌ كَرِيحِ الْمِسْكِ، وَيُلْهَمُونَ التَّسْبِيحَ وَالتَّكْبِيرَ، كَمَا يُلْهَمُونَ النَّفَسَ".
طَرِيقٌ ثَالِثَةٌ عَنْ جَابِرٍ
قَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ نافع، حدثنا إسماعيل بن عباس، عن صفوان بن عمرو، عن ماعز التيمي، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: سُئِلَ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيَأْكُلُ أَهْلُ الْجَنَّةِ? فقال:
"نَعَمْ: وَيَشْرَبُونَ، وَلَا يَبُولُونَ فِيهَا، وَلَا يَتَغَوَّطُونَ، ولا يتنخمون، إنما يكون ذلك سحماً ورشحاً كرشح المسك، يلهمون التسبيح، والتحميد، كما يلهمون النفس" 2.
__________
1 الحديث رواه أحمد في مسنده 2- 316.
2 الحديث رواه أحمد في مسنده 3- 354.(2/316)
طريق رابعة عَنْ جَابِرٍ
قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الْمَرْوَزِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ جَبَلَةَ- وَهُوَ يُعْرَفُ بِعَبْدَانَ-، حَدَّثَنَا أَبُو حَمْزَةَ السُّكَّرِيُّ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يأكلون، ويشربون، ولا يتغوطون، ولا يتمخطون، يلهمون التسبيح، والحمد، كما يلهمون النفس". عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، وَلَمْ يَصِحَّ سَمَاعُهُ مِنْهُ وَسَمَاعُهُ مِنْ أَبِي صَالِحٍ صَحِيحٌ.
أَحَادِيثُ أُخَرُ ى شَتَّى
قَالَ الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ: حَدَّثَنَا خَلَفُ بن خليفة، عن حمد الأعرج، عن عبد الله بن الحارث عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"إِنَّكَ لَتَنْظُرُ إِلَى الطَّيْرِ فَتَشْتَهِيهِ، فَيَخِرُّ بَيْنَ يَدَيْكَ مشوياً".
يشتهي بعض أهل الجنة أن يزرع فيجيبه الله عز وجل إلى ما يطلب، وكلمة مستملحة من أعرابي بدوي يضحك لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ فليح بن هلال، عن علي بن عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال يَوْمًا وَهُوَ يُحَدِّثُ وَعِنْدَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ:
"إِنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ اسْتَأْذَنَ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي الزَّرْعِ، فَقَالَ لَهُ ربه: ألست فيما شئت? قال: بلى، ولكن أُحِبُّ أَنْ أَزْرَعَ، قَالَ: فَبَذَرَ، فَبَادَرَ(2/317)
الطرف نباته، واستواؤه، واستحضاره، فَكَانَ أَمْثَالَ الْجِبَالِ، قَالَ: فَيَقُولُ لَهُ رَبُّهُ عز وجل: دونك يا ابن آدَمَ، فَإِنَّهُ لَا يُشْبِعُكَ شَيْءٌ، قَالَ: فَقَالَ الأعرابي: ما نجده إِلَّا قُرَشِيًّا، أَوْ أَنْصَارِيًّا، فَإِنَّهُمْ أَصْحَابُ زَرْعٍ، وأما نَحْنُ فَلَسْنَا بِأَصْحَابِهِ"، قَالَ: فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ1.
وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ: مِنْ حديث أبي عامر العقدي: عن عبد الملك بن عمرو، به.
__________
1 الحديث رواه احمد في مسنده 2- 511، 512. ورواه البخاري في صحيحه 9-151.(2/318)
ذكر أول طَعام يَأكُله أهل الجنَة
وروى أحمد: عن إسماعيل بن علقمة، عَنْ حُمَيْدٍ. وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ: مِنْ حَدِيثِهِ، عَنْ أنس بن عبد الله بن سلام، قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ، عَنْ أَشْيَاءَ مِنْهَا:
"وما أول شيء يَأْكُلُهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ? فَقَالَ: زِيَادَةُ كَبِدِ حُوتٍ".
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: مِنْ رِوَايَةِ أَبِي أَسْمَاءَ، عَنْ ثَوْبَانَ، أَنَّ يَهُودِيًّا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: فَمَا تُحْفَتُهُمْ حِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ؟ قَالَ: "زِيَادَةُ كبد حوت".
قال: فما غذاؤهم على أثرها? قال: "يخر لَهُمْ ثَوْرُ الْجَنَّةِ الَّذِي يَأْكُلُ مِنْ أَطْرَافِهَا".(2/318)
قَالَ فَمَا شَرَابُهُمْ عَلَيْهِ? قَالَ: "مِنْ عَيْنٍ تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا"، قَالَ: صَدَقْتَ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: مِنْ حَدِيثِ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"تَكُونُ الْأَرْضُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خُبْزَةً وَاحِدَةً، يتكفأها الْجَبَّارُ بِيَدِهِ، كَمَا يَتَكَفَّأُ أَحَدُكُمْ خُبْزَتَهُ فِي السَّفَرِ، نُزُلًا لِأَهْلِ الْجَنَّةِ"، فَأَتَى رَجُلٌ مِنَ اليهود، فقال: بارك الله فيك يا أبا القاسم: الأهل الجنة نزلاً يوم القيامة? قال: "بلى"، قال: "أَلَا أُخْبِرُكَ بِنُزُلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ?" قَالَ: بَلَى. قَالَ: "تَكُونُ الْأَرْضُ خُبْزَةً وَاحِدَةً يوم القيامة"، قَالَ: " أَلَا أُخْبِرُكَ بِإِدَامِهِمْ؟ " قَالَ: بَلَى، قَالَ: "إدامهم بالام، ونون"، قالوا: وَمَا هَذَا? قَالَ: "ثَوْرٌ وَنُونٌ يَأْكُلُ مِنْ زيادة كبد أحدهما سَبْعُونَ أَلْفًا".
وَقَالَ الْأَعْمَشُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وفي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يسقَوْن َمِنْ رَحِيق مَخْتُوم خِتَامُهُ مِسك} . [83- الْمُطَفِّفِينَ- 25] .
قَالَ: "الرَّحِيقُ: الْخَمْرُ، مَخْتُومٌ: يَجِدُونَ عَاقِبَتَهَا ريح المسك".
وقال سفيان بن عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ: عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، في قوله تعالى: {وَمِزَاجُه مِنْ تَسْنِيم} . [83- المكففين- 27] .
قال "هو أَشْرَفُ شَرَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، يَشْرَبُهُ الْمُقَرَّبُونَ صِرْفًا ويمزج لأهل اليمين".(2/319)
قلت: وقد وصف الله عز وجل خَمْرَ الْجَنَّةِ بِصِفَاتٍ جَمِيلَةٍ حَسَنَةٍ، لَيْسَتْ فِي خمور الدنيا، فَذَكَرَ أَنَّهَا أَنْهَارٌ جَارِيَةٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:
{فِيهَا عَيْن جَارِيَةٌ} . [88- الغاشية- 12] .
وكما قال الله تعالى:
{فِيهَا أنهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْر آسِن، وَأنْهِاز مِنْ لَبَن لَمْ يَتَغَيّرْ طَعْمُهُ، وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْر لَذَّة لِلشَّارِبِينَ وَأنْهَارٌ مِنْ عَسَل مُصَفى} . [47- محمد- 15] .
فهذه الخمرة أنهار جارية، مستمدة من بحار كبار هناك، ومن عيون تنبع من تحت كثبان المسك، ومما يشاء الله عز وجل، وليست بأرجل الرجال فِي أَسْوَأِ الْأَحْوَالِ، وَذَكَرَ أَنَّهَا لَذَّةٌ لِلشَّارِبِينَ، لا كما توصف به خمرة الدنيا من كراهة المطعم، وَسُوءِ الْفِعْلِ فِي الْعَقْلِ، وَمَغْصِ الْبَطْنِ، وَصُدَاعِ الرأس وقد نزهها تعالى عن ذلك في الجنة فقال تَعَالَى:
{يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأس مِن مَّعِين بَيْضَاء} . [37- الصافات- 45] .
أي حسنة المنظر. {لذّةٍ لِلشَّارِبِينَ طَيبة الطعم لاَ فِيهَا غَول} وَهُوَ وجع البطن: {وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنْزَفونَ} أَيْ لَا تُذْهِبُ عُقُولَهُمْ.
وَذَلِكَ أَنَّ الْمَقْصُودَ من الخمر: إنما هو الشدة المطربة، وهي الحالة البهجة التي يحصل بها السرور للنفس، وهذا حاصل في خمر الجنة، فأما إذهاب العقل، بحيث يبقى شاربها كالحيوان أو الجماد، فهذا نقص، إنما ينشأ من خَمْرِ الدُّنْيَا، فَأَمَّا خَمْرُ الْجَنَّةِ فَلَا تُحْدِثُ هذا، إنما يحصل عنها السرور والابتهاج ولهذا قال:(2/320)
{لاَ فِيَها غَوْلٌ وَلاَ همْ عَنْهَا يَنْزِفُونَ} .
أي ولا هم عنها أي بسببها تنزف عقولهم، فتذهب بالكلية.
وَقَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى:
{يَطُوف عَليْهِمْ وِلدَانٌ مُخَلدونَ بأكْوابٍ وَأبَارِيق وَكَأس مِنْ مَعِينٍ لاَ يُصَدّعُونَ عَنْهَا وَلاَ يُنْزِفُونَ} . [56- الواقعة- 17- 19] . أي لا يورث لهم صداعاً في رؤوسهم، وَلَا تُنْزِفُ عُقُولَهُمْ.
وَقَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {وَمِزاجُهُ مِنْ تسْنِيم عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرّبون} . [83- المطففين- 27-28] .
وقد ذكرنا التفسير: عن عبد الله بن عباسٌ:
"أن الجماعة من أصحاب الجنة، يجتمعون عَلَى شَرَابِهِمْ، كَمَا يَجْتَمِعُ أَهْلُ الدُّنْيَا، فَتَمُرُّ بهم السحابة، فلا يسألون شَيْئًا إِلَّا أَمْطَرَتْ عَلَيْهِمْ، حَتَّى إِنَّ مِنْهُمْ من يقول: أمطرينا كواعب أتراب، فتمطرهم كواهب أتراباً".
وتقدم أنهم يجتمعون عن شَجَرَةِ طُوبَى، فَيَذْكُرُونَ لَهْوَ الدُّنْيَا- وَهُوَ الطَّرَبُ- فَيَبْعَثُ اللَّهُ رِيحًا مِنَ الْجَنَّةِ، فَتُحَرِّكُ تِلْكَ الشَّجَرَةَ بِكُلِّ لَهْوٍ كَانَ فِي الدُّنْيَا.
وَفِي بَعْضِ الْآثَارِ:
إِنَّ الْجَمَاعَةَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ يجتازون وهم ركبان على نجائب الجنة وهم صف بالأشجار، فتتفرق الأشجار عن طريقهم ذات اليمين، وذات الشمال، لئلا يفرق بينهم.(2/321)
هذا كُلُّهُ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَرَحْمَتِهِ بِهِمْ، فعله الحمد والمنة.
وَالْأَكْوَابُ: هِيَ الْكِيزَانُ الَّتِي لَا عُرَى لَهَا ولا خراطيم، والأباريق بخلافها من الوجهين، وَالْكَأْسُ هُوَ الْقَدَحُ فِيهِ الشَّرَابُ وَقَالَ تَعَالَى: {وَكأساً دهَاقاً} . [87- النبأ- 34] .
أَيْ مَلْأَى مُتْرَعَةً لَيْسَ فيها نقص.
وقال تعالى: {لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ كذَّابا} . [78- النبأ-35] . أي لا يصدر عنهم على شرابهم لشيء مِنَ اللَّغْوِ، وَهُوَ الْكَلَامُ السَّاقِطُ، التَّافِهُ وَلَا تكذيب.
كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً إِلاَّ سَلاَماً} . [19- مريم- 62] .
وقال تعالى: {لاَ لَغوؤ فِيهَا وَلاَ تَأثِيمٌ} . [52- الطور- 23] .
وقال تعالى: {لاَ تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَة} . [88- الغاشية- 11] .
وَقَالَ: {لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تأثِيماً إلاَّ قِيلاً سَلاَماً سَلاماً} . [56- الواقعة- 25- 26] .
وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ: عَنْ حُذَيْفَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم:
"لا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا فِي صِحَافِهَا، فَإِنَّهَا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَلَكُمْ في الآخرة".(2/322)
ذكر لباس أهل الجنة وحليهم وثيابهم وجمالهم
نسأل الله تعالى منها
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
{عَالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُس خُضْرٌ وَإسْتَبْرَقٌ وَحُلوا أسَاوِرَ مِنْ فِضَّة وَسَقَاهُمْ ربهُمْ شَرَاباً طَهُوراً} . [76- الإنسان- 21] .
وَقَالَ تَعَالَى:
{جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحلّوْنَ فِيهَا مِنْ أسَاوِرَ مِنْ ذهَبٍ وَلُؤلُؤاً ولبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} . [35- فاطر- 33] .
وَقَالَ تَعَالَى:
{إنَّ الذِين آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إنا لاَ نُضِيعُ أجْرَ مَنْ أحْسَنَ عَمَلاً أولئِكَ لهم جَنَّات عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأنْهَارُ يُحًلوْنَ فِيهَا مِنْ أسَاوِرَ مِنْ ذهَب وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مِنْ سُندُس وإِسْتَبْرَق مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأرَائِكِ نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً} . [18- الكهف- 30-31] .
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ: عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "تبلغ الحلة مِنَ الْمُؤْمِنِ حَيْثُ يَبْلُغُ الْوُضُوءُ".
وَقَالَ الْحَسَنُ البصري: "الحلة في الجنة على الرجال أحسن منها عَلَى النِّسَاءِ".
وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ:(2/323)
حدثني ابن لهيعة: عن عبيد بْنِ خَالِدٍ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ أَبَا أُمَامَةَ حَدَّثَهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حدثهم- وذكر أهل الجنة- فقال:
"إنهم مسورون بالذهب، والفضة، مكللون بالدر، وعليهم أكاليل در، وياقوت وعليهم تاج كتاج الملوك، شباب، جرد، مكحولن".
وَقَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ منيع، حدثنا الحسن بن موسى، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ دَاوُدَ بن عامر بن سعد أَبِي وَقَّاصٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدُّهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
"لَوْ أن رجلاً من الجنة أطلع قيد سواره لطمس ضوءه الشَّمْسِ كَمَا تَطْمِسُ الشَّمْسُ ضَوْءَ النُّجُومِ".
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا حماد بن سلمة، عن ثابت أَبِي رَافِعٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم:
"من يدخل الجنة ينعم، ولا يَبْأَسُ، لَا تَبْلَى ثِيَابُهُ، وَلَا يَفْنَى شَبَابُهُ، فِي الْجَنَّةِ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خطر على قلب بشر" 1.
وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ: مِنْ حَدِيثِ زُهَيْرِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، إِلَى قَوْلِهِ: "لَا تَبْلَى ثِيَابُهُ وَلَا يَفْنَى شَبَابُهُ".
وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ? حَدَّثَنَا مُعَاذِ بْنِ هِشَامٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ قَتَادَةَ، عن الجلاس، عن أبي رافع، إِنْ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
"لِلْمُؤْمِنِ زَوْجَتَانِ يُرَى مُخُّ سُوقِهِمَا مِنْ وَرَاءِ ثِيَابِهِمَا".
وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ علي الحلواني، والحسن بن علي النسوي، قَالَا: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا فُضَيْلُ بن مرزوق، عن أبي إسحاق، عن عمر بْنِ مَيْمُونٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
__________
1 الحديث رواه أحمد في مسنده 2- 369.(2/324)
"أَوَّلُ زُمْرَةٍ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ كَأَنَّ وُجُوهَهُمْ ضَوْءُ القمر ليلة البدر، والزمرة الثانية كأحسن كَوْكَبٍ دُرِّيٍّ فِي السَّمَاءِ، لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ زَوْجَتَانِ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ، عَلَى كُلِّ زَوْجَةٍ سَبْعُونَ حُلَّةً، يُرَى مُخُّ سُوقِهِمَا مِنْ وَرَاءِ لُحُومِهِمَا وَحُلَلِهِمَا، كَمَا يُرَى الشَّرَابُ الْأَحْمَرُ فِي الزُّجَاجَةِ الْبَيْضَاءِ".
قَالَ الضِّيَاءُ: هَذَا عِنْدِي عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحِ.
وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا الْخَزْرَجُ بْنُ عُثْمَانَ السَّعْدِيُّ، حَدَّثَنَا أبو أيوب- مولى لعثمان ابن عَفَّانَ- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"قِيدُ سَوْطِ أحدكم في الجنة خير من الدنيا ومثلها معها، وَلَوِ اطَّلَعَتِ امْرَأَةٌ مِنْ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ إِلَى الْأَرْضِ، لَمَلَأَتْ مَا بَيْنَهُمَا رِيحًا، وَلَطَابَ مَا بَيْنَهُمَا، وَلَنَصِيفُهَا عَلَى رَأْسِهَا خَيْرٌ مِنَ الدنيا وما فيها".
قَالَ: قُلْتُ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ: وَمَا النَّصِيفُ في ذلك? قَالَ: الْخِمَارُ. قُلْتُ: الْخَزْرَجُ بْنُ عُثْمَانَ الْبَصْرِيُّ تَكَلَّمُوا فِيهِ، وَلَكِنْ لَهُ شَاهِدٌ فِي الصَّحِيحِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِيهِ:
"لنصيفها- يَعْنِي الْخِمَارَ- خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا".
وقال حرملة: عن ابن وهب، أخبرنا عمر، أَنَّ دَرَّاجًا أَبَا السَّمْحِ حَدَّثَهُ، عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"إِنَّ الرَّجُلَ فِي الْجَنَّةِ ليتكىء سبعين سنة قبل أن يتحرك، ثم تأتيه زوجته- أراه قال-: فتضربه عَلَى مَنْكِبَيْهِ، فَيَنْظُرُ وَجْهَهُ فِي خَدِّهَا أَصْفَى. مِنَ الْمِرْآةِ، وَإِنَّ أَدْنَى لُؤْلُؤَةٍ عَلَيْهَا لَتُضِيءُ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، فَتُسَلِّمُ عَلَيْهِ، فَيَرُدُّ السَّلَامَ، وَيَسْأَلُهَا: مَنْ أَنْتِ? فَتَقُولُ: أَنَا الْمَزِيدُ وَإِنَّهُ لَيَكُونُ عَلَيْهَا سَبْعُونَ ثَوْبًا أَدْنَاهَا مِثْلُ النعمان من طوبى فينفذها بصره حتى مخ ساقها من(2/325)
وراء ذلك، وإن عليها التيجان، وإن أدنى لؤلؤة عليها تضيء مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ".
وَرَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ حَسَنٍ، عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ، عَنْ دَرَّاجٍ بِهِ بِطُولِهِ.
وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ أَبِي السَّمْحِ، عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تلا قوله تَعَالَى: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحًلّوْنَ فِيهَا مِنْ أسَاوِرَ مِنْ ذهَبٍ} . [35- فاطر- 33] .
فَقَالَ: "إِنَّ عَلَيْهِمُ التيجان، وإن أَدْنَى لُؤْلُؤَةٍ مِنْهَا لَتُضِيءُ مَا بَيْنَ الْمُشْرِقِ والمغرب".
وقد روى الترمذي في ذِكْرَ التِّيجَانِ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ.
وَرَوَى الإِمام أَحْمَدُ: عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ، عن جبار بْنِ خَارِجَةَ السُّلَمِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عمر، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَخْبِرْنَا عَنْ ثِيَابِ الجنة: أخلق يخلق أم نسيج ينسج? فَضَحِكَ بَعْضُ الْقَوْمِ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"مِمَّ تَضْحَكُونَ? مِنْ جَاهِلٍ يَسْأَلُ عَالِمًا". ثُمَّ أَكَبَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: "أين السائل?" قال: هوذا أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: "لَا: بَلْ تنشق عنها ثمر الجنة". قالها ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.
وَرَوَاهُ أَحْمَدُ أَيْضًا عَنْ أَبِي كَامِلٍ، عَنْ زِيَادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ علاثة القاص أبو سَهْلٍ، عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ رَافِعٍ، عَنِ الْفَرَزْدَقِ بن حنان القاص، عن(2/326)
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، فَذَكَرَ نحوه في حَدِيثِ دَرَّاجٍ، عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ.
قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا طُوبَى? قَالَ:
"شَجَرَةٌ فِي الْجَنَّةِ مَسِيرَةُ مِائَةِ سَنَةٍ، ثِيَابُ أَهْلِ الْجَنَّةِ تَخْرُجُ مِنْ أَكْمَامِهَا".
وَقَالَ أبو بكر عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الدُّنْيَا: حدثنا محمد بن إدريس الحنظلي، حدثنا عتبة، حدثنا أبو إسماعيل بن عباس، عَنْ سَعِيدِ بْنِ يُوسُفَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أبي كثير، عن ابن سلام الأسود، سمعت أبا أمامة يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَالَ:
"مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا انْطُلِقَ بِهِ إِلَى طُوبَى، فَتَفَتَّحُ لَهُ أكمامها يأخذ من أي ذلك، إن شاء أبيض، وَإِنْ شَاءَ أَخْضَرَ، وَإِنْ شَاءَ أَصْفَرَ، وَأَنْ شَاءَ أَسْوَدَ، مِثْلَ شَقَائِقِ النُّعْمَانِ، وَأَرَقُّ وَأَحْسَنُ". غَرِيبٌ. حَسَنٌ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنَا سويد بن سعد، حَدَّثَنَا عَبْدُ رَبِّهِ بْنُ بَارِقٍ الْحَنَفِيُّ، عَنْ خاله الرميل بن سماك، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَاهُ قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: ما حلل أهل الجنة? قال: فيها شجر فِيهَا ثَمَرٌ كَأَنَّهُ الرُّمَّانُ، فَإِذَا أَرَادَ وَلِيُّ الله كسوة، انحدرت إليه من غصنها، فانقلعت عَنْ سَبْعِينَ حُلَّةً، أَلْوَانًا بَعْدَ أَلْوَانٍ، ثُمَّ ينطلق فَتَرْجِعُ كَمَا كَانَتْ".
وَتَقَدَّمَ عَنِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ حَمَّادٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أنه قَالَ: نَخْلُ الْجَنَّةِ جُذُوعُهَا مِنْ زُمُرُّدٍ أَخْضَرَ، وفروعها مِنْ ذَهَبٍ أَحْمَرَ، وَسَعَفُهَا كِسْوَةٌ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ، مِنْهَا مُقَطَّعَاتُهُمْ وَحُلَلُهُمْ".(2/327)
صِفَةُ فُرُشِ أَهْلِ الْجَنَّةِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
{مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُش بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَق وَجَنى الجَنَّتَيْن دَانٍ فَبِأيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} . [55- الرحمن- 54] .
قال ابن مسعود: إذا كانت البطائن من إِستبرق، فما بالك بالظهائر? وقوله تعالى:
{وَفرُش مَرْفُوعَةٍ} . [56- الواقعة- 34] .
روى أَحْمَدُ: وَالتِّرْمِذِيُّ: مِنْ حَدِيثِ دَرَّاجٍ، عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَلَا قَوْلَ اللَّهِ تعالى: {وَفُرُش مَرْفًوعَة} .
ثم قال: "والذي نفسي بيده، إن ارتفاعها لكما بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَإِنَّ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ والأرض لمسيرة خَمْسِمِائَةِ عَامٍ".
ثُمَّ قَالَ: غَرِيبٌ، لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حديث رشدين. - يعني عمرو بن الحارث- عن دراج.
قلت: ورواه حَرْمَلَةُ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ. ثُمَّ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي تَفْسِيرِ هَذَا الحديث: "إن معناه ارتفاع الفرش في الدرجات وما بين الدَّرَجَاتِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ".(2/328)
قُلْتُ: وَمِمَّا يُقَوِّي هَذَا مَا رَوَاهُ عَبْدُ الله بن وهب، عن عمر، وعن دَرَّاجٍ، عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم في قوله تعالى: {وَفرُش مَرْفُوعَةٍ} . قَالَ: "مَا بَيْنَ الْفِرَاشَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ والأرض". وهذا يشبه أَنْ يَكُونَ مَحْفُوظًا.
وَقَالَ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ: عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ بن مُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ، عَنْ كعب الأحبار، في قوله نعالى: {وَفرُش مَرْفُوعَةٍ} . قَالَ: مَسِيرَةُ أَرْبَعِينَ سَنَةً.
يَعْنِي أَنَّ الْفُرُشَ فِي كُلِّ مَحَلٍّ وَمَوْطِنٍ مَوْجُودَةٌ مُهَيَّأَةٌ، لِاحْتِمَالِ الِاحْتِيَاجِ إِلَيْهَا فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فِيهَا عَيْن جَارِيَة فِيهَا سُرر مَرْفُوعَةٌ وَأكْوَاب مَوْضُوعَةٌ وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ وَزَرَابِي مَبْثُوثَة} . [88- الغاشية- 12-16] .
أي النمارق، وهي المخاد، مصفوفة مسومة هاهنا، وهاهنا في كل مكان من الجنة كما قال تعالى: {مُتّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْر وَعَبْقَري حِسَانٍ} . [55- الرحمن- 76] .
والعبقري: هِيَ عِتَاقُ الْبُسُطِ أَيْ جِيَادُهَا، وَخِيَارُهَا، وَحِسَانُهَا، وقد خوطب العرب بما هو عندهم أحسن، وفيها أعظم مِمَّا فِي النُّفُوسِ وَأَجَلُّ، مِنْ كُلِّ صِنْفٍ ونوع، من أجناس الملاذ والمناظر، وبالله المستعان.
وَالنَّمَارِقُ: جَمْعُ نُمْرُقَةٍ بِضَمِّ النُّونِ وَحُكِيَ كَسْرُهَا، وهي الوسائد، وهي الْمَسَانِدُ، وَقَدْ يَعُمُّهَا اللَّفْظُ.
وَالزَّرَابِيُّ: الْبُسُطُ، وَالرَّفْرَفُ: قيل رياض الجنة، وَقِيلَ ضَرْبٌ مِنَ الثِّيَابِ، وَالْعَبْقَرِيُّ، جِيَادُ الْبُسُطِ، والله أعلم.(2/329)
حلية الحور العين وبنات آدم وشرفهن عليهن وكم لكل واحدة منهن
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مُتَّكِئِينَ عَلَى فرُش بَطَائِنُهَا مِنْ إسْتَبْرَق وَجَنَى الْجَنَّتَيْن دَان فَبأي آلاَءِ رَبكُمَا تُكَذِّبَانِ فِيهِن قَاصرِاتُ الطَرْفِ لَمْ يَطْمِثْهنَّ إنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَان فَبِأيِّ آلاَءِ ربنكُمَا تُكَذِّبَانِ كَأنّهُنَّ اليَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ فَبأي آلاَء رَبِّكُمَا تُكَذبَانِ هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانَ إِلاَّ الإحْسَانُ فَبِأيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} . [55- الرحمن- 54- 61] .
وقال تعالى: {فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ فَبِأي آلاَءِ ربِّكُمَا تُكَذِبَانِ حُورٌ مَقْصُورَاتٌ في الْخِيَام فَبِأي آلاَءِ ربكُمَا تكَذِّبَانِ لَمْ يَطْمِثْهُنّ إنْس قَبْلَهُمْ وَلاَ جَان فَبِأيِّ آلاَءِ رَبكُمَا تُكَذِّبَانِ مُتَكِئِينَ عَلَى رَفْرَف خُضْر وَعَبْقَري حِسَانٌ فَبِأي آلاَءِ ربِّكُمَا تُكَذِّبَانِ تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الجِلال والإكْرَام} . [55- الرحمن- 70-78] .
وقال تعالى: {لَهُمْ فِيهَا أزْوَاج مُطَهَّرَةٌ} . [2- البقرة- 25] .
أَيْ مِنَ الْحَيْضِ، وَالنِّفَاسِ، وَالْبَوْلِ، والغائط والبزاق، والمخاط، لا يصدر منهن شيء من ذلك، وكذلك طهرت أخلاقهن وأنفاسهن وألفاظهن ولباسهن وسجيتهن.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حدثنا قتادة، عن أبي نضرة، عن أبيط سَعِيدٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قوله تعالى:(2/330)
{وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ} . [2- البقرة-25] .
قال: "من الحيض والغائط والنخامة وَالْبُزَاقِ".
وَقَالَ أَبُو الْأَحْوَصِ: عِنْدَ قَوْلِهِ: {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ} "بلغنا فى الرواية أن سحابة أمطرت من تحت العرش فخلقن من قطراتها، ثم ضربت على كل واحدة خيمة على شاطىء الآنهار، سعتها أَرْبَعُونَ مِيلًا، وَلَيْسَ لَهَا بَابٌ، حَتَّى إِذَا حَلَّ وَلِيُّ اللَّهِ بِالْخَيْمَةِ انْصَدَعَتِ الْخَيْمَةُ عَنْ بَابٍ، لِيَعْلَمَ وَلِيُّ اللَّهِ أَنَّ أَبْصَارَ الْمَخْلُوقِينَ من الملائكة، والخدم، لم تأخذها، فهن مقصورات قد قصرت عَنْ إِبْصَارِ الْمَخْلُوقِينَ".
وَقَالَ تَعَالَى: {وَحُورٌ عِينٌ كَأمْثَالِ اللؤلُؤِ الْمَكْنُونِ} . [56- الواقعة- 22] .
وقال في الآية الآخرى: {كَأنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُون} . [37-الصَّافَّاتِ- 49] .
قِيلَ: إِنَّهُ بَيْضُ النَّعَامِ الْمَكْنُونُ فِي الرمل: وبياضه عند العرب أحسن ألوان البياض، وقيل: المراد به اللُّؤْلُؤُ قَبْلَ أَنْ يَبْرُزَ مِنْ صَدَفِهِ.
وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّا أنْشَأنَاهُنَّ إنْشاءً فَجَعَلْنَاهُنَّ أبْكَاراً عُرباً أتْرَاباً لأِصْحَابِ اليَمِين} . [56- الواقعة- 35- 38] .
أي أنشأهن الله بَعْدَ الْكِبَرِ وَالْعَجْزِ وَالضَّعْفِ فِي الدُّنْيَا، فَصِرْنَ في الجنة شباباً طرياً أبكاراً عرباً أي: متحببات إلى بعولهن، أتراباً لأصحاب اليمين أي: في مثل أعمارهم.(2/331)
أسئلة من أم سلمة رضي الله عنها وأجوبة مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حول نساء أهل الجنة
قال الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ سَهْلٍ الدِّمْيَاطِيُّ حَدَّثَنَا عمر بن هاشم البروي، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ أَبِي كَرِيمَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ: قَالَتْ: قُلْتُ يَا رَسُولَ الله: أخبرني عن قول الله: {وَحُورٌ عِينٌ} فقال: "حور عين: ضخام العيون أشفار الحور بمنزلة جناح النسر".
قلت: أخبرني عن قوله: {كَأَمْثَالِ الْلُؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ} .
قال: "صفاء من صَفَاءُ الدُّرِّ الَّذِي فِي الْأَصْدَافِ الَّذِي لَمَّ تَمَسَّهُ الْأَيْدِي".
قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَخْبِرْنِي عن قوله: {فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ} .
قَالَ: "خَيْرَاتُ الْأَخْلَاقِ حِسَانُ الْوُجُوهِ".
قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَخْبِرْنِي عَنْ قَوْلِهِ: {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ} .
قَالَ: "رِقَّتُهُنَّ كَرِقَّةِ الْجِلْدِ الَّذِي يَكُونُ فِي داخل البيضة مما يلي القصرة وهو آخر الغرقى".
قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَخْبِرْنِي عَنْ قَوْلِهِ: {عُرباً أتراباً} .
قال: "هن اللواتي قد صرن فى دار الدنيا عجائز رمصاً شمطاً يصرن في الجنة متعشقات متحببات، أَتْرَابًا عَلَى مِيلَادٍ وَاحِدٍ".
قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله: أخبرني نِسَاءُ الدُّنْيَا أَفْضَلُ أَمِ الْحُورُ الْعِينُ? قَالَ: "بَلْ نِسَاءُ الدُّنْيَا أَفْضَلُ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ كَفَضْلِ الظِّهَارَةِ عَلَى الْبِطَانَةِ".(2/332)
قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بِمَاذَا? قَالَ: "بِصَلَاتِهِنَّ وَصِيَامِهِنَّ، وَعِبَادَتِهِنَّ اللَّهَ، أَلْبَسَ اللَّهُ وُجُوهَهُنَّ النُّورَ، وَأَجْسَادَهُنَّ الْحَرِيرَ، بِيضُ الْأَلْوَانِ، خُضْرُ الثِّيَابِ، صُفْرُ الْحُلِيِّ، مَجَامِرُهُنَّ الدُّرُّ، وَأَمْشَاطُهُنَّ الذَّهَبُ، يَقُلْنَ: نَحْنُ الْخَالِدَاتُ فَلَا نَمُوتُ، وَنَحْنُ النَّاعِمَاتُ فَلَا نَبْأَسُ أبداً، وَنَحْنُ الْمُقِيمَاتُ فَلَا نَظْعَنُ أَبَدًا، أَلَا وَنَحْنُ الراضيات فلا نسخط أبداً، طوبى لمن كان لنا وكنا له".
قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: الْمَرْأَةُ مِنَّا تَتَزَوَّجُ الزوجين، والثلاثة، والأربعة، فتموت، فَتَدْخُلُ الْجَنَّةَ، وَيَدْخُلُونَ مَعَهَا، مَنْ يَكُونُ زَوْجَهَا? قَالَ: "يَا أُمَّ سَلَمَةَ، إِنَّهَا تُخَيَّرُ، فَتَخْتَارُ أَحْسَنَهُمْ خُلُقًا، فَتَقُولُ: يَا رَبِّ: إِنَّ هَذَا كَانَ أَحْسَنَهُمْ مَعِي خُلُقًا فِي دَارِ الدُّنْيَا فَزَوِّجْنِيهِ، يَا أُمَّ سَلَمَةَ: ذَهَبَ حُسْنُ الْخُلُقِ بخير الدنيا والآخرة".
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ طَارِقٍ، حَدَّثَنَا مَسْعَدَةُ بْنُ الْيَسَعِ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَتْهُ عَجُوزٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: ادْعُ اللَّهَ أَنْ يُدْخِلَنِي الْجَنَّةَ، فَقَالَ: "إِنَّ الْجَنَّةَ لَا يَدْخُلُهَا عَجُوزٌ"، فَذَهَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فصلَّى ثُمَّ رَجَعَ إلى عائشة، فقالت لَقِيَتْ مِنْ كَلِمَتِكَ مَشَقَّةً وَشِدَّةً، فَقَالَ: "إِنَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ، إِنَّ اللَّهَ إِذَا أَدْخَلَهُنَّ الْجَنَّةَ حَوَّلَهُنَّ أَبْكَارًا"..
وَتَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ الصُّورِ فِي صِفَةِ دُخُولِ الْمُؤْمِنِينَ الْجَنَّةَ قَالَ: "فَيَدْخُلُ الرَّجُلُ منهم على اثنتين وسبعين زوجة مما ينشىء الله، واثنتين مِنْ وَلَدِ آدَمَ، لَهُمَا فَضْلٌ عَلَى مَنْ يشاء الله تعالى، لعبادتهما الله تعالى فِي الدُّنْيَا، يَدْخُلُ عَلَى الْأُولَى مِنْهُمَا فِي غرفة من ياقوتة، على سرير من ذهب مكلل باللؤلؤ، فيه سبعون درجاً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ وَإِنَّهُ لَيَضَعُ يَدَهُ بَيْنَ كَتِفَيْهَا ثُمَّ يَنْظُرُ إِلَى يَدِهِ مِنْ صَدْرِهَا من وراء ثيابها ولحمها وجلدها، وإنه لينظر إلى مخ(2/333)
ساقها كما ينظرأحدكم إلى السلك من الفضة في الياقوت، فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ نُودِيَ: إِنَّا قَدْ عَرَفْنَا أَنَّكَ لَا تَمَلُّ وَلَا تُمَلُّ، إِلَّا أَنَّ لَكَ أَزْوَاجًا غَيْرَهَا، فَيَخْرُجُ، فَيَأْتِيهِنَّ وَاحِدَةً وَاحِدَةً، كُلَّمَا جَاءَ وَاحِدَةً قَالَتْ: وَاللَّهِ مَا فِي الْجَنَّةِ شَيْءٌ أَحْسَنُ مِنْكَ، وَمَا فِي الْجَنَّةِ شَيْءٌ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْكَ",
وَلِهَذَا الْحَدِيثِ شواهد من وجوه كثيرة تقدمت، وستأتي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَبِهِ الثِّقَةُ، وَتَقَدَّمَ الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الإِمام أَحْمَدُ: مِنْ حَدِيثِ شعيب الضرير، عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"وَإِنَّ لَهُ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ لَاثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ زَوْجَةً سِوَى أَزْوَاجِهِ مِنَ الدُّنْيَا، وَإِنَّ الْوَاحِدَةَ منهن لتأخذ مَقْعَدُهَا قَدْرَ مِيلٍ مِنَ الْأَرْضِ". وَقَالَ حَرْمَلَةُ: عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، حَدَّثَنَا عَمْرٌو أَنَّ دَرَّاجًا أَبَا السَّمْحِ حَدَّثَهُ: عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
"أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً، الَّذِي لَهُ ثَمَانُونَ أَلْفَ خَادِمٍ، وَاثْنَتَانِ وَسَبْعُونَ زوجة، تنصب لَهُ قُبَّةٌ مِنْ لُؤْلُؤٍ وَزَبَرْجَدِ، وَيَاقُوتٍ، كَمَا بَيْنَ الْجَابِيَةِ وَصَنْعَاءَ". وَأَسْنَدَهُ أَحْمَدُ: عَنْ حَسَنٍ، عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ، عَنْ دَرَّاجٍ بِهِ.
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ: عَنْ سُوَيْدِ بْنِ نَصْرٍ، عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ رِشْدِينَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، فَذَكَرَ بإِسناده نَحْوَهُ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ الفريابي: حدثنا أبو أيوب، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ أَبِي مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
"مَا مِنْ عَبْدٍ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا ويتزوج اثنتين وسبعين زوجة اثنتين من الحور العين وسبعين من أهل زمانه من أهل الدنيا".(2/334)
وهذا حديث غريب جداً، والمحفوظ مما تقدم خلافه، وهو أن الاثنتين من بنات آدم، والسبعين من الحور العين، والله أعلم.
وراويه خالد بْنُ يَزِيدَ بْنِ أَبِي مَالِكٍ هَذَا تَكَلَّمَ فِيهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَيَحْيَى بْنُ مَعِينٍ، وَغَيْرُهُمَا، ومثله قد يغلط ولا يتيقن.
وَرَوَى أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَاجَهْ: مِنْ حديث مجالد بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ، عَنْ الْمِقْدَامِ بْنِ معدي كرب، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: "إن للشهيد عند الله ست خصال، يغفر الله له عند أول قطرة مِنْ دَمِهِ، وَيُرَى مَقْعَدَهُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَيُحَلَّى حُلَّةَ الْإِيمَانِ، وَيُجَارُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَيَأْمَنُ مِنَ الْفَزَعِ الْأَكْبَرِ، وَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ تَاجُ الْوَقَارِ، الْيَاقُوتَةُ مِنْهُ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فيها، ويتزوج اثنتين وَسَبْعِينَ زَوْجَةً مِنَ الْحُورِ الْعِينِ، وَيَشْفَعُ فِي سَبْعِينَ إِنْسَانًا مِنْ أَقَارِبِهِ".
فَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنِي عَمْرٌو النَّاقِدُ، وَيَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيُّ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ عُلَيَّةَ، - وَاللَّفْظُ لِيَعْقُوبَ- قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، أخبرنا أيوب بن مُحَمَّدٍ، قَالَ: إِمَّا تَفَاخَرُوا وَإِمَّا تَذَاكَرُوا! الرِّجَالُ أَكْثَرُ فِي الْجَنَّةِ أَمِ النِّسَاءُ? فَقَالَ أَبُو هريرة: أو لم يَقُلْ أَبُو الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنْ أَوَّلَ زُمْرَةٍ تَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، وَالَّتِي تَلِيهَا عَلَى أَضْوَأِ كوكب دري في السماء، لكل امرىء مِنْهُمْ زَوْجَتَانِ اثْنَتَانِ، يُرَى مُخُّ سُوقِهِمَا مِنْ وراء اللحم، وما في الجنة أعزب" 1.
__________
1 الحديث رواه مسلم في صحيحه 2-350. ورواه أحمد في مسنده 7152- معارف. ورواه المنذري في الترغيب والترهيب 4- 224- 245.(2/335)
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: مِنْ رِوَايَةِ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، نَحْوُهُ.
فَالْمُرَادُ مِنْ هَذَا أَنَّ هَاتَيْنِ من بنات آدم، ومعهما مِنَ الْحُورِ الْعِينِ مَا شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، كَمَا تَقَدَّمَ تَفْصِيلُ ذَلِكَ آنِفًا، وَاللَّهُ أعلم.
وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، أخبرنا يونس، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
"للرجل من أهل الجنة زوجتان من الحور العين، على كل واحدة سَبْعُونَ حُلَّةً يُرَى مُخُّ سُوقِهِمَا مِنْ وَرَاءِ ثيابهما".
وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ لَا تُعَارِضُ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ: "وَاطَّلَعْتُ فِي النَّارِ فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ".
إِذ قَدْ يَكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَأَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ، أَوْ قَدْ يَكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ، ثُمَّ يَخْرُجُ مَنْ يَخْرُجُ مِنْهُنَّ بالشفاعات. فيصرن إلى الجنة، حتى يكثر أهلها، والله أعلم.
وفي حديث دراج: عن الْهَيْثَمِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، مَرْفُوعًا:
"إِنَّ الرَّجُلَ في الجنة ليتكىء سَبْعِينَ سَنَةً قَبْلَ أَنْ يَتَحَوَّلَ، ثُمَّ تَأْتِيهِ امْرَأَةٌ فَتَضْرِبُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ فَيَنْظُرُ وَجْهَهُ فِي خَدِّهَا أَصْفَى مِنَ الْمِرْآةِ، وَإِنَّ أَدْنَى لُؤْلُؤَةٍ عَلَيْهَا لَتُضِيءُ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، فَتُسَلِّمُ عَلَيْهِ فَيَرُدُّ السَّلَامَ، وَيَسْأَلُهَا مَنْ أَنْتِ? فَتَقُولُ: أنا من الْمَزِيدُ، وَإِنَّهُ لَيَكُونُ عَلَيْهَا سَبْعُونَ ثَوْبًا، أَدْنَاهَا مثل النعمان، فينفذها بصره حتى يرى مخ ساقها من وراء ذلك". رواه أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ.(2/336)
وَقَالَ الإِمام أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ طَلْحَةَ، عَنْ حُمَيْدٌ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
"لَغَدْوَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ رَوْحَةٌ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَلَقَابُ قَوْسِ أَحَدِكُمْ أَوْ مَوْضِعُ قِدِّهِ- يَعْنِي سَوْطَهُ- مِنَ الجنة خير من الدنيا وما فيها، ولو اطَّلَعَتِ امْرَأَةٌ مِنْ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ إِلَى الْأَرْضِ لَمَلَأَتْ مَا بَيْنَهُمَا رِيحًا، وَلَطَابَ مَا بَيْنَهُمَا، وَلَنَصِيفُهَا عَلَى رَأْسِهَا خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا".
وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ: مِنْ حَدِيثِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ، وَأَبِي إِسْحَاقَ، كِلَاهُمَا عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ، بِمِثْلِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بِتَمَامِهِ فِي أَوَّلِ صِفَةِ الْجَنَّةِ.
وَعِنْدَ الْبُخَارِيِّ: "وَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ اطَّلَعَتْ إِلَى الأرض لأضاءت ما بينهما، ولملأت ما بينهما رِيحًا، وَلَنَصِيفُهَا عَلَى رَأْسِهَا خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وما فيها".
قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنَا بشر بن الوليد، حدثنا سعيد بن أبزى، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ الْجَوْنِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ:
"لَوْ أَنَّ حَوْرَاءَ أَخْرَجَتْ كَفَّهَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَافْتَتَنَ الْخَلَائِقُ بِحُسْنِهَا، وَلَوْ أَخْرَجَتْ نَصِيفَهَا لَكَانَتِ الشَّمْسُ عِنْدَ حُسْنِهَا مِثْلَ الْفَتِيلَةِ فِي الشَّمْسِ، لَا ضَوْءَ لَهَا، وَلَوْ أَخْرَجَتْ وَجْهَهَا لَأَضَاءَ حُسْنُهَا مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ".
وَذَكَرَ ابْنُ وَهْبٍ: عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ أَنَّهُ قَالَ: وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَوْ أَنَّ امْرَأَةً مِنَ الْحُورِ الْعِينِ أَطْلَعَتْ سِوَارَهَا مِنَ الْعَرْشِ لَأَطْفَأَ نُورُ سِوَارِهَا نُورَ الشَّمْسِ والقمر، فكيف الصورة? وما خلق الله شيئاً يلبسه لابس هو أمثل مما عليها من الثياب والحلى.(2/337)
وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: إِنَّ فِي الْجَنَّةِ حَوْرَاءَ يُقَالُ لَهَا الْعَيْنَاءُ، إِذا مَشَتْ مَشَى حَوْلَهَا سَبْعُونَ أَلْفَ وَصِيفٍ، وَهِيَ تَقُولُ: أَيْنَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ?" أَوْرَدَهُمَا الْقُرْطُبِيُّ.
وَقَالَ القرطبي: حدثنا أحمد بن رشدين، حدثنا الحسن بن هارون الأنصاري، حدثنا اللَّيْثُ ابْنُ بِنْتِ اللَّيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ، عن مجاهد بن أبي أسامة عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
"خلق الحور العين من الزعفران". هذا حديث غريب. وروي هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ والتابعين.
وَفِي مَرَاسِيلِ عِكْرِمَةَ: "إِنَّ الْحُورَ الْعِينَ لَيَدْعُونَ لِأَزْوَاجِهِنَّ وَهُمْ فِي الدُّنْيَا، يَقُلْنَ اللَّهُمَّ أَعِنْهُ عَلَى دِينِكَ، وَأَقْبِلْ بِقَلْبِهِ عَلَى طَاعَتِكَ، وَبَلِّغْهُ إِلَيْنَا بِعِزَّتِكَ، يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ".
وَفِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ: مِنْ حَدِيثِ كَثِيرِ بْنِ مُرَّةَ، عَنْ مُعَاذٍ، مَرْفُوعًا:
"لَا تُؤْذِي امْرَأَةٌ زَوْجَهَا فِي الدُّنْيَا إِلَّا قَالَتْ زَوْجَتُهُ مِنَ الْحُورِ العين: قاتلك الله: إنما هو دخيل، يوشك أن يفارقك إلينا".(2/338)
وهذا مَا وَرَدَ مِنْ غِنَاءِ الْحُورِ الْعِينِ فِي الْجَنَّةِ
رَوَى التِّرْمِذِيُّ: وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرحمن بن إسحاق، عن النعمان بن سعد، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم:
"إن في الجنة مجتمعاً للحور العين، يرفعن أصواتاً لم تسمع الْخَلَائِقُ بِمِثْلِهَا، يَقُلْنَ: نَحْنُ الْخَالِدَاتُ فَلَا نَبِيدُ، ونحن الناعمات فلا نبأس، ونحن الراضيات فلا نَسْخَطُ، طُوبَى لِمَنْ كَانَ لَنَا وَكُنَّا لَهُ".
قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَفِي الْبَابِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وأبي سعيد، والحسن، وحديث علي غريب.
وروى ابن أبي ذؤيب، عن عون بن الخطاب، عن عبد الله بن رافع، عن ابن أنس بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم:
"إن أزواج أَهْلِ الْجَنَّةِ لَيُغَنِّينَ أَزْوَاجَهُنَّ بِأَحْسَنِ أَصْوَاتٍ سَمِعَهَا أحد قط، وإن مما يغنين: نحن الخالدات فلا نموت، نحن الآمنات فلا نخاف، نحن المقيمات فلا نظعن".
وَقَالَ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ: عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم لِجِبْرِيلَ:
"قِفْ بِي عَلَى الْحُورِ الْعِينِ، فَأَوْقَفَهُ عَلَيْهِنَّ، فَقَالَ: مَنْ أَنْتُنَّ? قُلْنَ: نَحْنُ جَوَارِي قَوْمٍ حَلُّوا فَلَمْ يَظْعَنُوا، وَشَبُّوا فَلَمْ يَهْرَمُوا، واتقوا فلم يذنبوا".
وقال القرطبي بعد ما أَوْرَدَ الْحَدِيثَ الْمُتَقَدِّمَ فِي غِنَاءِ الْحُورِ الْعِينِ، إِذا قُلْنَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ أَجَابَهُنَّ الْمُؤْمِنَاتُ مِنْ نِسَاءِ أَهْلِ الدُّنْيَا. "نَحْنُ الْمُصَلِّيَاتُ وَمَا صَلَّيْتُنَّ، وَنَحْنُ الصَّائِمَاتُ وَمَا صُمْتُنَّ، وَنَحْنُ الْمُتَوَضِّئَاتُ وَمَا تَوَضَّأْتُنَّ، وَنَحْنُ الْمُتَصَدِّقَاتُ وَمَا تَصَدَّقْتُنَّ". قَالَتْ عَائِشَةُ: "يغلبن". وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
هَكَذَا ذَكَرَهُ فِي التَّذْكِرَةِ، وَلَمْ ينسبه إلى كتاب، والله أعلم.(2/339)
ذكر جماع أهل الجنة نساءهم ولا أولاد إلا أن يشاء أحدهم
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
{إِنَّ أصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُل فَاكهُونَ هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلاَلٍ عَلَى الأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ لَهُمْ فِيهَا فاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ سَلام قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيم} . [36- يس-55-58] .
قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: وَابْنُ عَبَّاسٍ: وَغَيْرُ وَاحِدٍ من المفسرين: في قوله: "شغل" أي افتضاض الأبكار.
وقال تعالى:
{إِنَّ المُتَّقِينَ في مَقَام أمِين في جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُس وَإِسْتَبْرَق مُتقَابِلِينَ كَذلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِين يَدْعُونَ فِيهَا بِكُل فَاكِهَةٍ آمِنِينَ لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الأولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيم فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ الْعَظِيمُ} . [44- الدخان- 51- 57] .
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ: حَدَّثَنَا عِمْرَانُ هو ابن داود القطان، عن قتادة، عَنْ أَنَسٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
"يعطى المؤمن في الجنة قوة كذا وكذا من الرجال" قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: وَيُطِيقُ ذَلِكَ? قَالَ: "يُعْطَى قُوَّةَ مِائَةٍ". وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ: مِنْ حَدِيثِ أبي داود، قال: صحيح غريب.(2/340)
وروى الطبراني: من حديث الحسن بْنِ عَلِيٍّ الْجُعْفِيِّ، عَنْ زَائِدَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قيل: يا رسول الله, هل يفضي الرجل في الجنة?، وفي رواية: هل نفضي إِلَى نِسَائِنَا? فَقَالَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّ الرَّجُلَ لَيُفْضِي فِي الْغَدَاةِ الْوَاحِدَةِ إِلَى مِائَةِ عَذْرَاءَ". قَالَ الْحَافِظُ الضِّيَاءُ: هَذَا عِنْدِي عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحِ.
وَقَالَ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَعْمَرٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زِيَادٍ1، عن عمارة ابن رَاشِدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلْ يَمَسُّ أَهْلُ الْجَنَّةِ أَزْوَاجَهُمْ? فَقَالَ: "نَعَمْ، بِذَكَرٍ لَا يَمَلُّ، وَشَهْوَةٍ لَا تَنْقَطِعُ".
ثُمَّ قَالَ الْبَزَّارُ: لا يعلم أحد يروي عَنْ عُمَارَةَ بْنِ رَاشِدٍ سِوَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زِيَادٍ، وَقَدْ كَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ هَذَا حَسَنَ الْعَقْلِ، وَلَكِنْ وَقَعَ عَلَى شُيُوخٍ مَجَاهِيلَ، فحدث عنه بِأَحَادِيثَ مَنَاكِيرَ، فَضُعِّفَ حَدِيثُهُ، وَهَذَا مِمَّا أُنْكِرَ عليه..
__________
1 عبد الرحمن بن زياد بن أنعم: بفتح أوله وسكون النون وضم المهملة، الأفريقي قاضيها، ضعيف، في حفظه من السابعة، مات سنة ست وخمسين وقيل بعدها، وقيل جاوز المائة ولم يصح وكان رجلا صالحا – بح د ت ق: تقريب التهذيب 1- 480 -938. والحديث رواه الهيثمي في مجمع الزوائد 10- 417. وقال رواه البزار. ورواه القرطبي في تذكرته 2- 578. وقد رواه ابن ماجه بنحوه في الزهد- 39.(2/341)
وقال حرملة: عَنِ ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ دَرَّاجٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بن حميرة، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه سئل: أَنَطَأُ فِي الْجَنَّةِ? قَالَ:
"نَعَمْ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ دَحْمًا دَحْمًا، فإِذا قَامَ عَنْهَا رَجَعَتْ مُطَهَّرَةً بِكْرًا" 1.
وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ جَابِرٍ الْفَقِيهُ الْبَغْدَادِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الدَّقِيقِيُّ الْوَاسِطِيُّ، حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْوَاسِطِيُّ، حَدَّثَنَا شَرِيكٌ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ سُلَيْمَانَ الْأَحْوَلِ، عَنْ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ2، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ إِذَا جَامَعُوا نِسَاءَهُمْ عُدْنَ أَبْكَارًا" 3. ثُمَّ قَالَ: تَفَرَّدَ بِهِ مُعَلَّى.
وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى الحلواني، حدثنا سويد بن سعيد4،
__________
1 دراج: بتثقيل الراز وآخره جيم، ابن اليمان, أبو السمح قيل اسمه عبد الرحمن ودراج لقب، السهمي مولاهم المصري، القاضي، صدوق في حديثه عن ابن الهيثم ضعيف، من الرابعة، مات سنة ست وعشرين. غ م. تقريب التهذيب 1- 235.
2 أبي المتوكل هو: علي بن داود ويقال ابن داؤد، بضم الدال بعدها واو بهمزة أبو المتوكل، الناجي، بنون وجيم، البصري، مشهور بكنيته، ثقة من الثالثة، مات سنة ثمان ومائة وقيل قبل ذلك-ع. تقريب التهذيب 2- 36- 338.
3 الحديث رواه الهيثمي في مجمع الزوائد 10-417. وقال: رواه البزار والطبراني في الصغير وفيه معلى بن عبد الرحمن الواسطي وهو كذاب.
4 سويد بن سعيد بن سهل الهروي الأصل، ثم الحدثاني: بفتح المهملة والمثلثة، ويقال له الأنباري بنون ثم موحدة، أبو محمد، صدوق في نفسه إلا أنه عمى فصار يتلقن ما ليس من حديثه، وأفحش فيه ابن معين القول، من قدماء العاشرة، مات سنة أربعين وله مائة سنة – م ق. تقريب التهذيب 2- 340 رقم 596.(2/342)
حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ أَبِي مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سئل: أيجامع أهل الجنة? فقال:
"دَحْمًا دَحْمًا وَلَكِنْ لَا مَنِيَّ وَلَا مَنِيَّةَ".
لما كَانَ الْمَنِيُّ يَقْطَعُ لَذَّةَ الْجِمَاعِ، وَالْمَنِيَّةُ تَقْطَعُ لذة الحياة، كانا منفيين من الجنة.
قال الطبراني: أخبرنا عثمان بن أحمد، أخبرنا محمد بن عبد الرحيم البرقي، أخبرنا عمرو بن أبي سلمة، أخبرنا صدقة، عن هاشم بن البريد، عَنْ سُلَيْمٍ أَبِي يَحْيَى أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا أُمَامَةَ يُحَدِّثُ: أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ سئل- هل يَتَنَاكَحُ أَهْلُ الْجَنَّةِ? قَالَ: "نَعَمْ بِذَكَرٍ لَا يمل، وشهوة لا تنقطع".(2/343)
ما قيل من منح الأطفال ولادة لأهل الجنة
فَأَمَّا إِذَا أَرَادَ أَحَدُهُمْ أَنْ يُولَدَ لَهُ، كما كان في الدنيا حب الْأَوْلَادَ، فَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بن عبيد، حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ عَامِرٍ الْأَحْوَلِ1، عَنْ أَبِي الصِّدِّيقِ2، عَنْ أَبِي سعيد، إِنْ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
"إِذَا اشْتَهَى الْمُؤْمِنُ الْوَلَدَ فِي الْجَنَّةِ، كان حمله، ووضعه، وسنه، في ساعة كما يشتهي".
__________
1 عامر بن عبد الواحد الأحول، البصري، صدوق يخطئ من السادسة وهو عامر الأحول، الذي يروي عن عائذ بن عمرو المزني الصحابي ولم يدركه. - دم ع.
2 أبو الصديق: هو بكر نب عمرو الناجي بالنون والجيم – بصري ثقة، من الثالثة مات سنة ثمان ومائة. –ع. تقريب التهذيب 1- 106-122.(2/343)
وَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، جَمِيعًا، عَنْ محمد بن يسار، عن معاذ.
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ غَرِيبٌ.
وَقَالَ الْحَافِظُ الضِّيَاءُ المقدسي: وهذا عندي على شرط مسلم.
وَقَدْ رَوَاهُ الْحَاكِمُ: عَنِ الْأَصَمِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بن عيسى، عن سلام بن سليمان، عَنْ زَيْدٍ الْعَمِّيِّ، عَنْ أَبِي الصِّدِّيقِ النَّاجِيِّ، به، وضعفه البيهقي.
وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ أَبَانٍ، عَنْ أَبِي الصِّدِّيقِ النَّاجِيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قال: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُولَدُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ فَإِنَّ الْوَلَدَ مِنْ تَمَامِ السُّرُورِ? فَقَالَ:
"نَعَمْ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، مَا هُوَ إِلَّا كَقَدْرِ مَا يَتَمَنَّى أَحَدُكُمْ، فَيَكُونُ حَمْلُهُ وَرَضَاعُهُ وَشَبَابُهُ".
وَهَذَا السِّيَاقُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا أَمْرٌ يَقَعُ، خلافاً لما رواه البخاري، والترمذي: عن إسحاق بن راهويه، من أَنَّ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ لَوْ أَرَادَ ذلك، وَلَكِنَّهُ لَا يُرِيدُهُ، وَنُقِلَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ التابعين، كطاووس وَمُجَاهِدٍ، وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، وَغَيْرِهِمْ: "أَنَّ الْجَنَّةَ لَا يولد فِيهَا".
وَهَذَا صَحِيحٌ: وَذَلِكَ أَنَّ جِمَاعَهُمْ لَا يَقْتَضِي وَلَدًا كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ فِي الدُّنْيَا، فإن الدنيا دار يراد منها بقاء النسل لتعمر، وأما الجنة فالمراد بقاء الملك، وَلِهَذَا لَا يَكُونُ فِي جِمَاعِهِمْ مَنِيٌّ يَقْطَعُ لذة الجماع، ولكن إذا أحب أحدهم الولد يقع كما يريد، قال الله تعالى: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبهِمْ ذلِكَ جَزَاءُ المُحْسِنِينَ} . [39- الزمر-34] .(2/344)
ذِكْرُ أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ لَا يَمُوتُونَ فِيهَا لكمال حياتهم وكما فهم فِي ازْدِيَادٍ مِنْ قُوَّةِ الشَّبَابِ
وَنَضْرَةِ الْوُجُوهِ وَحُسْنِ الْهَيْئَةِ وَطِيبِ الْعَيْشِ وَلِهَذَا جَاءَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ أَنَّهُمْ لَا يَنَامُونَ لِئَلَّا يَشْتَغِلُوا بالنوم عن الملاذ والحياة الهنية، جعلنا الله منهم قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
{لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الأولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيم} . [44- الدخان-56] .
وَقَالَ تَعَالَى:
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَملوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِردَوْس نُزُلاً خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً} . [18- الْكَهْفِ- 56] .
أَيْ لَا يَخْتَارُونَ غَيْرَهَا، بَلْ هُمْ أرغب شيء فيها، وَلَيْسَ يَعْتَرِيهِمْ فِيهَا مَلَلٌ وَلَا ضَجَرٌ، كَمَا قد يسأم أهل الدنيا بعض أحوالهم، وإن كانت لذيذة.
وما أحسن ما قال فيها الشعراء، وفصحاء الأدباء:
فحلت سويدا الْقَلْبِ لَا أَنَا بَاغِيًا ... سِوَاهَا وَلَا عَنْ حالها أتحولُ
ولقد تَقَدَّمَ حَدِيثُ ذَبْحِ الْمَوْتِ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَأَنَّهُ يُنَادِي مُنَادٍ: "يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ خُلُودٌ فَلَا مَوْتَ، وَيَا أَهْلَ النَّارِ خُلُودٌ فَلَا مَوْتَ، كُلٌّ خَالِدٌ فِيمَا هُوَ فِيهِ": وَقَالَ الإِمام أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، حَدَّثَنَا حَمْزَةُ، حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ، عَنِ الْأَغَرِّ أَبِي مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَبِي سَعِيدٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "فَيُنَادَى مَعَ ذَلِكَ: إِنَّ لَكُمْ أَنْ تَحْيَوْا فَلَا تموتوا أبدا، وإن لكم أن تصحوا فلا تَسْقَمُوا أَبَدًا، وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَشِبُّوا فَلَا تَهْرَمُوا أَبَدًا، وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَنْعَمُوا فَلَا تبأسوا أبداً، قال: ينادى بهذه الأربع".(2/345)
وقال أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: قَالَ الثَّوْرِيُّ: حدثنا أَبُو إِسْحَاقَ: أَنَّ الْأَغَرَّ حَدَّثَهُ، عَنْ أَبِي سعيد، وأبي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ:
"ينادى مناد يوم القيامة: إِنَّ لَكُمْ أَنْ تَحْيَوْا فَلَا تَمُوتُوا أَبَدًا، وإن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدا، وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَشِبُّوا فَلَا تَهْرَمُوا أَبَدًا، وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَنْعَمُوا فَلَا تَبْأَسُوا أَبَدًا".
قَالَ: فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَنُودُوا أنْ تِلْكمُ الجَنَّةُ أورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} . [7- الأعراف- 43] .
وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ: عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ، وَعَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ، كِلَاهُمَا عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، بنحوه.(2/346)
أهل الجنة لا ينامون
وَقَدْ قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدُوَيْهِ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْقَاسِمِ بْنِ صَدَقَةَ الْمِصْرِيُّ، حَدَّثَنَا الْمِقْدَامُ بْنُ دَاوُدَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"النَّوْمُ أَخُو الموت وإن أهل الْجَنَّةِ لَا يَنَامُونَ"1.
وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ: مِنْ حَدِيثِ مُصْعَبِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الرَّبِيعِ الكوفي، عن يحيى بنسعيد الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: سئل رسول الله أَيَنَامُ أَهْلُ الْجَنَّةِ? فَقَالَ:
"النَّوْمُ أَخُو الْمَوْتِ، وإن أهل الجنة لا ينامون" 2.
__________
1 الحديث رواه الهيثمي في مجمع الزوائد 10- 415. وقال: رواه الطبراني في الأوسط والبزار ورجال البزار رجال الصحيح.
2 راجع ما قبله.(2/346)
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ: مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حيلة بن أبي داود، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرِ، فَذَكَرَهُ.
ثُمَّ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ: عَنِ الْحَاكِمِ، عَنِ الْأَصَمِّ، عَنْ عباس الدوري، عن يونس بن محمد، عن سعيد بن أبزى، عَنْ نُفَيْعِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى، قَالَ: سَأَلَ رِجْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: النَّوْمُ مِمَّا يُقِرُّ اللَّهُ بِهِ أَعْيُنَنَا فِي الدُّنْيَا: فهل ينام أهل الْجَنَّةِ? فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"إِنَّ الْمَوْتَ شَرِيكُ النَّوْمِ، وَلَيْسَ فِي الْجَنَّةِ مَوْتٌ".
قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ? فَمَا رَاحَتُهُمْ? قَالَ: "إِنَّهُ لَيْسَ فِيهَا لُغُوبٌ، كُلُّ أمرهم راحة" فأنزل الله: {يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} . ضعيف الإسناد:(2/347)
ذكر إحلال الرضوان عليهم وذلك فضل عمَّا لديهم
قال الله تَعَالَى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ المُتَقُونَ فِيهَا أنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْر آسِن وَأنْهَار مِنْ لَبَن لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وأنْهَار مِنْ خَمْر لَذَةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأنْهَار مِنْ عسَل مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُل الثَّمَرَاتِ وَمغْفِرَةٌ مِنْ ربهِمْ} . [47- محمد- 15] .(2/347)
وقال الله تَعَالَى:
{وَعَدَ اللَّهُ المُؤْمِنِينَ وَالمؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيها وَمَساكِن طَيِّبَةً فِي جَناتِ عَدْن وَرِضْوَانُ مِنَ اللَّهِ أكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} . [9- التوبة- 72] .
إحلال الله عز وجل رضوانه الدائم على أهل الجنة
وقال مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم:
"يقول الله لِأَهْلِ الْجَنَّةِ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ: فَيَقُولُونَ: لَبَّيْكَ ر بنا وسعديك. فيقول: هل رضيتم? فيقولون: ما لَنَا لَا نَرْضَى، وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تعط أحداً من خلقك? فيقول: إنما أعطيكم أفضل من ذلك: فيقولون: ياربنا: فأي شيء أفضل من ذلك? فيقول: أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي، فَلَا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا".
وَأَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ: مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ، به.
وقال أبو بكر الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ، وَالْفَضْلُ بْنُ يَعْقُوبَ، قَالَا: حَدَّثَنَا الْفِرْيَابِيُّ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"إِذَا دخل أهل الجنة الجنة، قال الله: ألا أعطيكم- أحسبه قال: - أفضل? قالوا: يا ربنا: أي شَيْءٌ أَفْضَلُ مِمَّا أَعْطَيْتَنَا? قَالَ: رِضْوَانِي أَكْبَرُ".
وَهَذَا الْحَدِيثُ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ، وَلَمْ يُخْرِجْهُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ الْكُتُبِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.(2/348)
ذكر نظر الرب وتقدس إليهِم ونظرهم إليه سُبْحانه
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وأعَدَّ لَهُمْ أجْراً كَرِيماً} . [36- الأحزاب-44] .
وَقَالَ تَعَالَى: {سَلاَمٌ قَوْلاً مِنْ رَبّ رَحيم} . [36- يس-58] .
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ مَاجَهْ فِي كِتَابِ السُّنَّةِ مِنْ سُنَنِهِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي الشَّوَارِبِ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ الْعَبَّادَانِيُّ، حَدَّثَنَا الْفَضْلُ الرَّقَاشِيُّ، عَنِ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"بَيْنَا أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي نَعِيمِهِمْ إذ سطع لهم نور، فرفعوا رؤوسهم فإذا الرب عز وجل قد أشرف عليهم من فضله مِنْ فَوْقِهِمْ، فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ. قَالَ: وَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {سَلاَمٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيم} .
قَالَ: "فَيَنْظُرُ إِلَيْهِمْ، وَيَنْظُرُونَ إِليه، وَلَا يَلْتَفِتُونَ إِلَى شَيْءٍ مِنَ النَّعِيمِ مَا دَامُوا يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، حَتَّى يَحْتَجِبَ عَنْهُمْ، وَيَبْقَى نُورُهُ وَبَرَكَتُهُ عَلَيْهِمْ فِي دِيَارِهِمْ". وَقَدْ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مُطَوَّلًا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَقَالَ: أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدَانَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدٍ، حدثنا الكريمي، حدثنا يعقوب بن إسماعيل بن يُوسُفَ السَّلَّالُ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ(2/349)
الْعَبَّادَانِيُّ: عَنِ الْفَضْلِ بْنِ عِيسَى الرَّقَاشِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"بَيْنَمَا أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي مَجْلِسٍ لَهُمْ، إِذْ سَطَعَ لهم نور على باب الجنة، فرفعوا رؤوسهم فإذا الرب قَدْ أَشْرَفَ. فَقَالَ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ سَلُونِي. فقالوا: نسألك الرضاء عنا. قال: رضائي أَحَلَّكُمْ دَارِي، وَأَنَالَكُمْ كَرَامَتِي، هَذَا أَوَانُهَا فَسَلُونِي. قالوا: نسألك الزيادة. فَيُؤْتَوْنَ بِنَجَائِبَ مِنْ يَاقُوتٍ أَحْمَرَ، أَزِمَّتُهَا زُمُرُّدٌ أخضر وياقوت أحمر، فيجلسون عَلَيْهَا، تَضَعُ حَوَافِرَهَا عِنْدَ مُنْتَهَى طَرَفِهَا، فَيَأْمُرُ الله فيجيء جوار مِنَ الْحُورِ الْعِينِ وَهُنَّ يَقُلْنَ: نَحْنُ النَّاعِمَاتُ فلا نيأس، وَنَحْنُ الْخَالِدَاتُ فَلَا نَمُوتُ، أَزْوَاجُ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ كِرَامٍ, وَيَأْمُرُ اللَّهُ بِكُثْبَانٍ مِنْ مِسْكٍ أَذْفَرَ أبيض، فينثر عليهم ريحاً يقال لها المنثرة، حتى ينتهي بِهِمْ إِلَى جَنَّةِ عَدْنٍ-، وَهِيَ قَصَبَةُ الْجَنَّةِ-، فَتَقُولُ الْمَلَائِكَةُ: يَا رَبَّنَا قَدْ جَاءَ الْقَوْمُ، فيقول: مرحباً بالصادقين، مرحباً بالطائعين، قَالَ: فَيُكْشَفُ لَهُمُ الْحِجَابُ، فَيَنْظُرُونَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَيَتَمَتَّعُونَ بِنُورِ الرَّحْمَنِ حَتَّى لَا يبصر بعضهم بعضاً فيقول: أَرْجِعُوهُمْ إِلَى قُصُورِهِمْ بِالتُّحَفِ، فَيَرْجِعُونَ وَقَدْ أَبْصَرَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا".
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {نُزُلاً مِنْ غفُورٍ رَحِيم} [41- فصلت- 32] .(2/350)
ثُمَّ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَقَدْ مَضَى فِي هَذَا الكتاب أي فِي كِتَابِ الرُّؤْيَةِ مَا يُؤَكِّدُ مَا رُوِيَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَذَكَرَ أَبُو الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيُّ فِي الرَّدِّ عَلَى السِّجْزِيِّ:
أَنَّ الرب تبارك وتعالى إذا كشف لأهل الجنة الْحِجَابَ، وَتَجَلَّى لِأَهْلِ الْجَنَّةِ، تَدَفَّقَتِ الْأَنْهَارُ، وَاصْطَفَقَتِ الأشجار، وتجاوبت السرر والغرفات بالصرير، والأعين المتدفقات بالخرير، واسترسلت الريح، وفاحت الدور والقصور بالمسك الأذفر والكافور، وغردت الطيور، وأشرفت الحور العين ".
والفضل بن عيسى ضعيف، ولكن روى للضياء: من حديث عبد الله بن عبد اللَّهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرٍ، مرفوعاً مثله.(2/351)
ذِكْرُ رُؤْيَةِ أَهْلِ الْجَنَّةِ رَبَّهُمْ عَزَّ وَجَلَّ فِي مِثْلِ أَيَّامِ الْجُمَعِ فِي مُجْتَمَعٍ لَهُمْ معه لذلك هُنَالِكَ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إلَى رَ بِّهَا نَاظِرَةٌ} [75-القيامة- 22] .
وقال تَعَالَى: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيم عَلَى الأرَائِكِ يَنْطرُونَ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيم} . [83- المطففين- 22-24](2/351)
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "جنتان من ذهب نبتهما وما فيهما، وجنتان من فضة نبتهما وَمَا فِيهِمَا، وَمَا بَيْنَ الْقَوْمِ وَبَيْنَ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى رَبِّهِمْ عَزَّ وَجَلَّ إِلَّا رِدَاءُ الكبرياء على وجهه في جنات عدن ".
أخرجاه في الحديث الآخر عَنْ ثُوَيْرِ بْنِ أَبِي فَاخِتَةَ، عَنِ ابْنِ عمر: "وأعلاهم من ينظر إلى الله فِي الْيَوْمِ مَرَّتَيْنِ".
وَلَهُ شَاهِدٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ: عن جرير، مَرْفُوعًا، عِنْدَ ذِكْرِ رُؤْيَةِ الْمُؤْمِنِينَ رَبَّهُمْ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ "كَمَا يَرَوْنَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ".
ثم بعد ذلك: "فإن استطعتم ألا تغفلوا عن الصلاة قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا فَافْعَلُوا".
ثُمَّ قرأ: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِرَبِّكَ قَبْلَ طُلُوع الشَّمْس وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} [50- ق: 39] .
وفي صحيح البخاري: "إنكم سترون ر بكم عياناً". فأرشد هذا السياق أإلى أن الرؤية تقع في مثل أوقات العبادة، فكأن المريدين من الْأَخْيَارِ يَرَوْنَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فِي مِثْلِ طرفي النهار غدوة وعشية،(2/352)
وهذا مقام عال، حتى إنهم يرون ربهم عز وجل وهم على أرائكهم وسررهم كما يرى القمرفي الدنيا في مثل هذه الأحوال، يرون الله تعالى أيضاً في المجمع الأعم الأشمل، وهو في مثل أيام الجمع، حَيْثُ يَجْتَمِعُ أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي وادٍ أَفْيَحَ- أي متسع- من مسك أبيض، ويجلسون فيه على قدر منازلهم، فمنهم من يجلسى عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَجْلِسُ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ ذَهَبٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أنواع الجواهر وغيرها، ثم تفاض عليهم الخلع، وتوضع بين أيديهم الموائد بأنواع الأطعمة والأشربة، مِمَّا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ ثُمَّ يُطَيَّبُونَ بأنواع الطيب كذلك، ويباشرون من أنواع الإكرام ما لم يخطر في بال أحد قبل ذلك، ثم يتجلى لهم الحق جل جلاله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَيُخَاطِبُهُمْ وَاحِدًا وَاحِدًا، كَمَا دَلَّتْ على ذلك الأحاديث، كما سيأتي إيرادها قريباً إن شاء الله تعالى.
وَقَدْ حَكَى بَعْضُ الْعُلَمَاءِ خِلَافًا فِي النِّسَاءِ: هل يرين الله عز وجل كما يراه الرجال فقيل: لا، لأنهن مقصورات في الخيام، وقيل: بلى، لأنه لا مانع من رؤيته تعالى في الخيام وغيرها: وقد قال تَعَالَى: {إنَّ الأبْرَارَ لَفِي نَعِيم عَلَى الأرَائِكِ يَنْظُرونَ} . [83- المطففين- 22-23] .
وقال تعالى: {هُمْ وَأزْوَاجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الأرَائِكِ مُتَّكِئُون} . [36-يس-56] .
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ عَزَّ وَجَلَّ، كَمَا تَرَوْنَ هذا القمر، لا تمارون في رؤيته، فإن استطعتم فداوموا على الصلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها".
وَهَذَا عَامٌّ فِي الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.(2/353)
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ قَوْلًا ثَالِثًا: وَهُوَ أَنَّهُنَّ يرين الله في مثل أيام الأعياد، فإنه تعالى يتجلى في مثل أيام الأعياد لأهل الجنة تَجَلِّيًا عَامًّا، فَيَرَيْنَهُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ دون غيرها، وهذا القول يحتاج إلى دليل خاص عليه، والله أعلم.
وقال الله تعالى: {للذِينَ أحْسَنُوا الْحُسنْى وَزِيَادَة} . [10-يونس-26] .
وقد روي عن جماعة من الصحابة تَفْسِيرُ هَذِهِ الزِّيَادَةِ بِالنَّظَرِ إِلَى وَجْهِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ الصَّدِّيقُ، وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَكَعْبُ بْنُ عُجْرَةَ، وَحُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ، وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عباس، وسعيد بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَمُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَابِطٍ، وَالْحَسَنُ، وقتادة، والضحاك، والسدي، ومحمد بن إسحاق، وغيرهم من السلف، والخلف، رحمهم الله، وأكرم مثواهم أجمعين.
وَقَدْ رُوِيَ حَدِيثُ رُؤْيَةِ الْمُؤْمِنِينَ لِرَبِّهِمْ عَزَّ وَجَلَّ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ: عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصحابة، منهم أبو بكرالصديق رضي الله عنه وقد تقدم حديثه مطولاً.
ومنهم عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ. وقد روى حديثه يعقوب بن سفيان.
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُصَفَّى، حَدَّثَنَا سُوَيْدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، قَالَ: قَالَ وسول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَرَى أَهْلُ الْجَنَّةِ الرَّبَّ تَعَالَى فِي كُلِّ جُمُعَةٍ"..(2/354)
وذكر تمام الحديث: وفيه: "إذا كشف الحجاب كأنه لم ير قبل ذلك".
وقوله تعالى: {وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} .
ومنهم ابي بن كعب، وأنى بْنُ مَالِكٍ، وَبُرَيْدَةُ بْنُ الْحُصَيْبِ، وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَحُذَيْفَةُ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَسَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ، وَأَبُو سَعِيدٍ سَعْدِ بْنِ مَالِكِ بْنِ سِنَانٍ الْخُدْرِيِّ، وأبو أمامة صدي بن عجلان الباهلي، وَصُهَيْبُ بْنُ سِنَانٍ الرُّومِيُّ، وَعُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ، وعبد الله بن عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَأَبُو مُوسَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ قَيْسٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وعدي بن حاتم، وعمار بن ياسر. وعمارة بن رويبة، وأبو رزين العقيلي، وأبو هريرة رجل مِنَ الصَّحَابَةِ، وَعَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ كَثِيرٌ مِنْهَا، وَسَيَأْتِي ذكر شيء منها مِمَّا يَلِيقُ بِهَذَا الْمَقَامِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَبِهِ الثِّقَةُ، وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ.
يوم الجمعة يوم المزيد
وقد قال الإمام أحمد: حدثنا عفان، أَخْبَرَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ، عن عبد الرحمن بن أبي سلمة، عَنْ صُهَيْبٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {لِلّذِينَ أحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيادةٌ} .
وقال: "إذا أدخل أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ، نَادَى مُنَادٍ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ: إِنَّ لَكُمْ عِنْدَ الله وعداً يُرِيدُ أَنْ يُنْجِزَكُمُوهُ، فَيَقُولُونَ: وَمَا هُوَ?(2/355)
ألم تثقل موازيننا، وتبيض وُجُوهَنَا، وَيُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ، وَيُزَحْزِحْنَا عَنِ النَّارِ? قَالَ: فيكشف لهم الحجاب، فينظرون إليه، فَوَاللَّهِ مَا أَعْطَاهُمُ اللَّهُ شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ إِلَيْهِ وَلَا أَقَرَّ لِأَعْيُنِهِمْ".
وَهَكَذَا رواه مسلم: من حديث حماد ابن سلمة.
وقال عبد الله بن المبارك: أخبرنا أبو بكر الألقاني، أَخْبَرَنِي أَبُو تَمِيمَةَ الْهُجَيْمِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا موسى الأشعري يخطب على منبر البصرة: يقول: إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَلَكًا إِلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَيَقُولُ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ: هَلْ أنجزكم الله ما وعدكم? فينظرون ويرون الحلى والحلل وَالْأَنْهَارَ وَالْأَزْوَاجَ الْمُطَهَّرَةَ، فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، قَدْ أَنْجَزَنَا ما وعدنا، يقولون ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَيَقُولُ: قَدْ بَقِيَ شَيْءٌ: إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {لِلّذِينَ أحْسَنُوا الحُسْنى وزِيَادةٌ} .
ألا إن الحسنى الجنة، والزيادة هي النظر إلى وجه الله عز وجل. وهذا موقوف.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: من حَدِيثَ أَبِي تَمِيمَةَ الْهُجَيْمِيِّ، عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
"إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ منادياً ينادي: يا أَهْلَ الْجَنَّةِ- بِصَوْتٍ يُسْمِعُ أَوَّلَهُمْ وَآخِرَهُمْ- إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمُ الْحُسْنَى وَزِيَادَةً، الْحُسْنَى الْجَنَّةُ، وَالزِّيَادَةُ النظر إلى وجه الرحمن".
وروى أيضاً: مِنْ حَدِيثِ زُهَيْرٍ: عَمَّنْ سَمِعَ أَبَا الْعَالِيَةِ يقول: حَدَّثَنَا أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنِ قَوْلِ الله عز وجل: {لِلّذِينَ أحْسَنُوا الْحُسْنَى وزِيَادة} .(2/356)
قال: "الحسنى الجنة، والزيادة هي النظر إلى وجه الله عز وجل".
وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ أَيْضًا: عَنِ ابْنِ حُمَيْدٍ، عن إبراهيم بن المختار، عن ابن جرير، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي قَوْلِهِ تعالى: {لِلّذِينَ أحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادة} .
قَالَ: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْعَمَلَ فِي الدُّنْيَا الْحُسْنَى، وَهِيَ الْجَنَّةُ، وَالزِّيَادَةُ، النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ اللَّهِ عز وجل. مسلم وشيخه نوح مُتَكَلَّمٌ فِيهِمَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الإِمام أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ الشَّافِعِيُّ فِي كتاب الحجة مِنْ مُسْنَدِهِ: أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ عُبَيْدَةَ، حَدَّثَنِي أَبُو الْأَزْهَرِ مُعَاوِيَةُ بن إسحاق بن طلحة، عن عبيد، عن عُمَيْرٍ، أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: "أتى جبريل بمرآة بيضاء فيها نكتة، إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا هَذِهِ? فَقَالَ: هَذِهِ الْجُمُعَةُ، فُضِّلْتَ بِهَا أَنْتَ وَأُمَّتُكَ، والناس لكم فيها تبع، اليهود والنصارى، ولكم فيها خير، وفيها ساعة لا يوافقها من يَدْعُو اللَّهَ بِخَيْرٍ إِلَّا اسْتُجِيبَ لَهُ، وَهُوَ عندنا يوم المزيد"، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَا جِبْرِيلُ: مَا يَوْمُ الْمَزِيدِ? قَالَ: إِنَّ رَبَّكَ اتَّخَذَ فِي الْفِرْدَوْسِ وَادِيًا أَفْيَحَ، فِيهِ كُثُبُ مسك، فإذا كان يوم الجمعة نزل سبحانه وتعالى، وأنزل اللَّهُ مَا شَاءَ مِنْ مَلَائِكَتِهِ، وَحَوْلَهُ مَنَابِرُ من نور، عليها مقاعد النبيين، وحفت تلك المنابر بكراسي من ذهب، مكللة بالياقوت والزبرجد، عليها الشهداء(2/357)
وَالصِّدِّيقُونَ، فَجَلَسُوا مِنْ وَرَائِهِمْ، عَلَى تِلْكَ الْكُثُبِ، فيقول الله عز وجل: أنا ربكم أنا ربكم، وقد صَدَقْتُكُمْ وَعْدِي، فَسَلُونِي أُعْطِكُمْ، فَيَقُولُونَ: رَبَّنَا نَسْأَلُكَ رِضْوَانَكَ، فَيَقُولُ: قَدْ رَضِيتُ عَنْكُمْ، وَلَكُمْ عليَّ مَا تَمَنَّيْتُمْ، وَلَدَيَّ مَزِيدٌ فَهُمْ يُحِبُّونَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِمَا يُعْطِيهِمْ فِيهِ رَبُّهُمْ مِنَ الْخَيْرِ، وهو اليوم الذي استوى فيه ربهم عَلَى الْعَرْشِ، وَفِيهِ خَلَقَ آدَمَ وَفِيهِ تَقُومُ السَّاعَةُ".
وَقَدْ رَوَاهُ الْبَزَّارُ: مِنْ حَدِيثِ جَهْضَمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي طَيْبَةَ، عَنْ عثمان بن عمير، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم:
"أتاني جبريل في يَدِهِ مِرْآةٌ بَيْضَاءُ، فِيهَا نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، فَقُلْتُ: مَا هَذِهِ يَا جِبْرِيلُ? قَالَ: هَذِهِ الْجُمُعَةُ، يعرضها عليك ربك، فتكون لَكَ عِيدًا وَلِقَوْمِكَ مِنْ بَعْدِكَ، تَكُونُ أَنْتَ الأول، ويكون الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى مِنْ بَعْدِكَ، قَالَ: مَا لَنَا فيها? قال لكم فيها ساعة ما دعا فيها مؤمن ربه بِخَيْرٍ هُوَ لَهُ قِسْمٌ إِلَّا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ، وما دعاه بخير لم يقسم إِلَّا ادَّخَرَ لَهُ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ، وما تعوذ مِنْ شَرٍّ هُوَ عَلَيْهِ مَكْتُوبٌ إِلَّا أَعَاذَهُ مِنْ أَعْظَمَ مِنْهُ قَالَ: قُلْتُ: مَا هَذِهِ النُّكْتَةُ السَّوْدَاءُ? قَالَ: هِيَ السَّاعَةُ، تَقُومُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَهُوَ سَيِّدُ الأيامِ عِنْدَنَا، وَنَحْنُ نَدْعُوهُ في الآخرة يوم المزيد: قال: وما يوم المزيد? قال: إن ربك اتخذ فِي الْجَنَّةِ وَادِيًا أَفْيَحَ، مِنْ مِسْكٍ أَبْيَضَ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ نَزَلَ تَعَالَى مِنْ عِلِّيِّينَ عَلَى كُرْسِيِّهِ، ثُمَّ حُفَّ الْكُرْسِيُّ بِمَنَابِرَ مِنْ نُورٍ، وَجَاءَ النَّبِيُّونَ حَتَّى يَجْلِسُوا عَلَيْهَا، ثُمَّ حُفَّ الْمَنَابِرُ بِكَرَاسِيَّ مِنْ ذَهَبٍ، ثُمَّ جَاءَ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ حَتَّى يَجْلِسُوا عَلَيْهَا، ثُمَّ يَجِيءُ أَهْلُ الْجَنَّةِ حَتَّى يَجْلِسُوا عَلَى الْكُثُبِ، فَيَتَجَلَّى لَهُمْ رَبُّهُمْ عَزَّ وَجَلَّ حَتَّى يَنْظُرُوا إِلَى وَجْهِهِ وَهُوَ يَقُولُ: أَنَا الَّذِي صَدَقْتُكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي، هَذَا مَحَلُّ كَرَامَتِي فَسَلُونِي، فيسألونه حتى تنتهي رغبتهم، فيبيح لَهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خطر على قلب بشر، ثم(2/358)
يبقى إلى مقدار منصرف الناس من يوم الْجُمُعَةِ، ثُمَّ يَصْعَدُ تَعَالَى عَلَى كُرْسِيِّهِ، وَيَصْعَدُ مَعَهُ الشُّهَدَاءُ وَالصِّدِّيقُونَ- أَحْسَبُهُ قَالَ: - وَيَرْجِعُ أَهْلُ الغرف إلى غرفهم المخلوقة من درة بيضاء، أَوْ يَاقُوتَةً حَمْرَاءَ، أَوْ زَبَرْجَدَةً خَضْرَاءَ، مِنْهَا غرفها وأبوابها مطرزة، فيها أشجار متدلية فيها ثمارها، فيها أزواجها وخدمها، وليسوا إِلَى شَيْءٍ أَحْوَجَ مِنْهُمْ إِلَى يَوْمِ الْجُمُعَةِ، فيها أزواجها وخدمها، وليسوا إِلَى شَيْءٍ أَحْوَجَ مِنْهُمْ إِلَى يَوْمِ الْجُمُعَةِ، لِيَزْدَادُوا فِيهِ كَرَامَةً، وَيَزْدَادُوا نَظَرًا إِلَى وَجْهِهِ تَعَالَى، وَلِذَلِكَ سُمِّيَ يَوْمَ الْمَزِيدِ".
ثُمَّ قَالَ الْبَزَّارُ: لَا نَعْلَمُ أَحَدًا رَوَاهُ عَنْ أَنَسٍ عن عثمان بن عمير- أبو الْيَقْظَانِ- وَعُثْمَانَ بْنِ صَالِحٍ، هَكَذَا قَالَ.
وَقَدْ رُوِّينَاهُ: مِنْ طَرِيقِ زِيَادِ بْنِ خَيْثَمَةَ، عَنْ عثمان بن سلم، عَنْ أَنَسٍ: فَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ مِثْلَ هَذَا السِّيَاقِ أَوْ نَحْوَهُ.
وَتَقَدَّمَ فِي رِوَايَةِ الشَّافِعِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْهُ فَقَدِ اخْتَلَفَ الرُّوَاةُ فِيهِ، وَكَانَ بَعْضُهُمْ يُدَلِّسُهُ لِئَلَّا يُعْلَمَ أَمْرُهُ، وَذَلِكَ لِمَا يَتَوَهَّمُ من ضعفه، والله أعلم.
وَقَدْ رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ فِي مُسْنَدِهِ: عَنْ شَيْبَانَ بْنِ فَرُّوخَ، عَنِ الصَّعِقِ بْنِ حَزْنٍ، عَنْ علي بن الحكم البناني، عن أنس، وذكر الحديث وهذه طرق جيدة عن أنس، شَاهِدَةٌ لِرِوَايَةِ عُثْمَانَ بْنِ عُمَيْرٍ.
وَقَدِ اعْتَنَى بهذا الحديث الحافظ أبو حسن، والدارقطني فأورداه مِنْ طُرُقٍ.
قَالَ الْحَافِظُ الضِّيَاءُ: وَقَدْ رُوِيَ من طريق جيد: عن أنس بن مالك، ورواه الطَّبَرَانِيُّ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ زُهَيْرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ كَرَامَةَ، عَنْ خَالِدِ بْنِ مَخْلَدٍ الْقَطَوَانِيِّ، عَنْ عَبْدِ السَّلَامِ بْنِ حَفْصٍ، عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ، عَنْ أَنَسٍ، فَذَكَرَهُ.(2/359)
وَقَدْ رَوَاهُ غَيْرُ أَنَسٍ مِنَ الصَّحَابَةِ.
قَالَ البزار: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُطَيَّبٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"أَتَانِي جِبْرِيلُ فَذَكَرَ يَوْمَ الْمَزِيدِ قال: فيوحي الله إلى حملة العرش أن هجوا الحجب فيما بينه وبينهم، فَيَكُونُ أَوَّلَ مَا يَسْمَعُونَ مِنْهُ: أَيْنَ عِبَادِي الذين أطاعوني بالغيب ولم يروني? واتبعوا رسلي وصدقوا أَمْرِي? سَلُونِي، فَهَذَا يَوْمُ الْمَزِيدِ، فَيَجْتَمِعُونَ عَلَى كلمة واحدة: أن قد رضينا فارض عنا، ويرجع فِي قَوْلِهِ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ: إِنِّي لَوْ لم أرض عنكم لم أسكنتكم جَنَّتِي، هَذَا يَوْمُ الْمَزِيدِ فَسَلُونِي، فَيَجْتَمِعُونَ عَلَى كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ، أَرِنَا وَجْهَكَ يَا رَبِّ نَنْظُرْ إليك. قال: فيكشف الله الحجب، فيتجلى لهم مِنْ نُورِهِ مَا لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ قَضَى أن لا يموتوا لأحرقوا، ثُمَّ يُقَالُ لَهُمُ: ارْجِعُوا إِلَى مَنَازِلِكُمْ، فَيَرْجِعُونَ إِلَى مَنَازِلِهِمْ، وَلَهُمْ فِي كُلِّ سَبْعَةِ أَيَّامٍ يوم، وَذَلِكَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ".(2/360)
ذِكْرُ سُوق الجَنَّة
قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي عَاصِمٍ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ حَبِيبِ بْنِ أَبِي الْعِشْرِينَ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ حَسَّانَ بْنِ عَطِيَّةَ، عَنِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، أَنَّهُ لَقِيَ أَبَا هُرَيْرَةَ فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: أَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ فِي سُوقِ الْجَنَّةِ، فَقَالَ سعيد: أو فيها سُوقٌ? قَالَ: نَعَمْ، أَخْبَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ إِذَا دخلوها بفضل أعمالهم، فإنه يؤذن لَهُمْ فِي مِقْدَارِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا، فَيَزُورُونَ اللَّهَ فِي رَوْضَةٍ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ، فَتُوضَعُ لَهُمْ مَنَابِرُ مِنْ نُورٍ، وَمَنَابِرُ مِنْ لُؤْلُؤٍ، وَمَنَابِرُ مِنْ زَبَرْجَدٍ، وَمَنَابِرُ مِنْ يَاقُوتٍ، وَمَنَابِرُ مِنْ ذَهَبٍ، وَمَنَابِرُ مِنْ فِضَّةٍ، ويجلس أدناهم- وما فيهم أدنى- عَلَى كُثْبَانِ الْمِسْكِ وَالْكَافُورِ،(2/360)
مَا يَرَوْنَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَرَاسِيِّ أَفْضَلُ مِنْهُمْ مجلساً، فقال أَبُو هُرَيْرَةَ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: هَلْ نَرَى رَبَّنَا? قَالَ: نَعَمْ هَلْ تَمَارَوْنَ فِي رُؤْيَةِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ? قُلْنَا: لَا. قَالَ: فَكَذَلِكَ لَا تَمَارَوْنَ فِي رُؤْيَةِ رَبِّكُمْ، ما يَبْقَى فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ أَحَدٌ إِلَّا حَاضَرَهُ محاضرة، فيقول: يَا فُلَانَ ابْنَ فُلَانٍ: أَتَذْكُرُ يَوْمَ فَعَلْتَ كذا وكذا? فيذكر بعض غدارته فِي الدُّنْيَا- فَيَقُولُ: بَلَى، أَفَلَمْ تَغْفِرْ لِي? فَيَقُولُ: بَلَى، فَبِمَغْفِرَتِي بَلَغْتَ مَنْزِلَتَكَ هَذِهِ، قَالَ: فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ غَشِيَتْهُمْ سَحَابَةٌ مِنْ فوقهم، فأمطرت عليهم طيباً لم يجدوا مثل ريحه شيئاً قَطُّ، قَالَ: ثُمَّ يَقُولُ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ: قُومُوا إِلَى مَا أَعْدَدْتُ لَكُمْ مِنَ الْكَرَامَةِ، فَخُذُوا مَا اشْتَهَيْتُمْ، قَالَ: فَيَجِدُونَ سُوقًا قَدْ حفت به الملائكة، ما فيه لَمْ تَنْظُرِ الْعُيُونُ إِلَى مِثْلِهِ، وَلَمْ تَسْمَعِ الْآذَانُ، وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى الْقُلُوبِ، قَالَ: فَيُحْمَلُ لنا ما اشتهينا، ليس يباع فيه ولا يشترى، في ذَلِكَ السُّوقِ يَلْقَى أَهْلُ الْجَنَّةِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَيُقْبِلُ ذُو الْبِزَّةِ الْمُرْتَفِعَةِ فَيَلْقَى مَنْ هُوَ دُونَهُ، - وَمَا فِيهِمْ دَنِيٌّ- فَيَرُوعُهُ مَا يَرَى عَلَيْهِ مِنَ اللِّبَاسِ وَالْهَيْئَةِ، فَمَا يَنْقَضِي آخِرُ حَدِيثِهِ حَتَّى يَتَمَثَّلَ عَلَيْهِ أَحْسَنُ مِنْهُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَحْزَنَ فِيهَا، قال: ثم ننصرف إلى منازلنا فيلقانا أزواجنا، فيقلن: مرحباً وأهلاً وسهلاً بِحِبِّنَا، لَقَدْ جِئْتَ وَإِنَّ بِكَ مِنَ الْجِمَالِ وَالطِّيبِ أَفْضَلَ مِمَّا فَارَقْتَنَا عَلَيْهِ، فَنَقُولُ: إِنَّا جالسنا ربنا الجبار عز وجل فحقنا أن ننقلب بمثل ما انقلبنا".
وهكذ ارواه ابْنُ مَاجَهْ: عَنْ هِشَامِ بْنِ عَمَّارٍ، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ: عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، عَنِ هِشَامِ بْنِ عَمَّارٍ، ثُمَّ قَالَ: غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَرَوَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا: عَنْ الْحَكَمِ ابن موسى، عن المعلى بن زياد، عن الأوزاعي.
قال سنان: سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ لَقِيَ أَبَا هُرَيْرَةَ، فَذَكَرَهُ..(2/361)
وَقَالَ مُسْلِمٌ: حَدَّثَنَا أَبُو عُثْمَانَ سَعِيدُ بْنُ عبد الجبار المصري: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
"إِنَّ فِي الْجَنَّةِ لسوقاً يأتونه كل جمعة، فتهب ريح الشمال فتحثو في وجوههم وثيابهم، فَيَزْدَادُونَ حُسْنًا وَجَمَالًا، فَيَرْجِعُونَ إِلَى أَهْلِهِمْ وَقَدِ ازْدَادُوا حُسْنًا وَجَمَالًا، فَيَقُولُ لَهُمْ أَهْلُوهُمْ، وَاللَّهِ لَقَدِ ازْدَدْتُمْ بَعْدَنَا حُسْنًا وَجَمَالًا، فَيَقُولُونَ: وَأَنْتُمْ وَاللَّهِ لَقَدِ ازْدَدْتُمْ بَعْدَنَا حُسْنًا وَجَمَالًا".
وَهَكَذَا رَوَاهُ أَحْمَدُ: عَنْ عَفَّانَ، عَنْ حَمَّادٍ، وَعِنْدَهُ: "إِنَّ فِي الْجَنَّةِ لَسُوقًا فِيهَا كُثْبَانُ الْمِسْكِ، فَإِذَا خَرَجُوا إِلَيْهَا هَبَّتِ الرِّيحُ" وَذَكَرَ تَمَامَهُ.(2/362)
ما ورد في وصف أرض الجنة وطيب عرفها وانتشاره
وَرَوَى أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: عَنْ عمرو، عن عطاء بن وراد، عن سالم، عن أبي العنس، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
"أَرْضُ الْجَنَّةِ بَيْضَاءُ، عَرْصَتُهَا صُخُورُ الْكَافُورِ، وَقَدْ أَحَاطَ بِهِ الْمِسْكُ، مِثْلُ كُثْبَانِ الرَّمْلِ، فِيهَا أَنْهَارٌ مُطَّرِدَةٌ، فَيَجْتَمِعُ فِيهَا أَهْلُ الْجَنَّةِ، فَيَتَعَارَفُونَ، فَيَبْعَثُ اللَّهُ رِيحَ الرَّحْمَةِ، فَتُهَيِّجُ عَلَيْهِمْ رِيحَ الْمِسْكِ، فَيَرْجِعُ الرَّجُلُ إِلَى زوجته وقد ازداد حسناً وطيباً، فتقول له: لَقَدْ خَرَجْتَ مِنْ عِنْدِي وَأَنَا بِكَ مُعْجَبَةٌ، وَأَنَا الْآنَ بِكَ أَشَدُّ إِعْجَابًا".
فَأَمَّا الْحَدِيثُ الذي رواه الحافظ أبو عيسى الترمذي: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ، وَهَنَّادٌ، قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم:
"إِنَّ فِي الْجَنَّةِ لَسُوقًا مَا فِيهَا شِرَاءٌ وَلَا بَيْعٌ إِلَّا الصُّوَرَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، فَإِذَا اشْتَهَى الرَّجُلُ صُورَةً دَخَلَ فِيهَا".(2/362)
فإنه حديث غريب كما ذكره الترمذي رحمه الله، وَيُحْمَلُ مَعْنَاهُ عَلَى أَنَّ الرِّجَالَ إِنَّمَا يَشْتَهُونَ الدُّخُولَ فِي مِثْلِ صُوَرِ الرِّجَالِ، وَكَذَلِكَ النِّسَاءُ إنما يشتهين الدخول في مثل صور النِّسَاءُ، وَيَكُونُ مُفَسَّرًا بِالْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ، وَهُوَ الشَّكْلُ والهيئة، والبزة وَاللِّبَاسُ كَمَا ذَكَرْنَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي سُوقِ الْجَنَّةِ:
"فَيُقْبِلُ ذُو الْبِزَّةِ الْمُرْتَفِعَةِ فيلقى من دونه، فَيَرُوعُهُ مَا يَرَى عَلَيْهِ مِنَ اللِّبَاسِ وَالْهَيْئَةِ فَمَا يَنْقَضِي آخِرُ حَدِيثِهِ حَتَّى يَتَمَثَّلَ عَلَيْهِ أَحْسَنُ مِنْهُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أن يحزن فيها".
هذا الحديث: إِنْ كَانَ قَدْ حَفِظَ لَفْظَ الْحَدِيثِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَمْ يَحْفَظْ فَإِنَّهُ قَدْ تَفَرَّدَ بِهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ الْحَارِثِ، وَهُوَ أَبُو شَيْبَةَ الْوَاسِطِيُّ، وَيُقَالُ الْكُوفِيُّ رَوَى عَنْ أَبِيهِ، وَخَالِهِ النُّعْمَانِ بْنِ سَعْدٍ، وَالشَّعْبِيِّ وَغَيْرِهِمْ، وعن جَمَاعَةٌ، مِنْهُمْ حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بن إدريس، وهشام.
قال الإِمام أحمد: ليس بشيء، وهو مُنْكَرُ الْحَدِيثِ، وَكَذَّبَهُ فِي رِوَايَتِهِ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ سَعْدٍ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، فِي أَحَادِيثَ رَفَعَهَا، وَكَذَلِكَ ضَعَّفَهُ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، وَيَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ، وَالْبُخَارِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَأَبُو حَاتِمٍ، وَأَبُو زُرْعَةَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ عَدِيٍّ، وَغَيْرُهُمْ.
وَقَدِ اسْتَقْصَيْتُ كلامهم فيه مفصلاً في التكميل، فلله الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَمِثْلُ هَذَا الرَّجُلِ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ مَا تَفَرَّدَ بِهِ، وَلَا سِيَّمَا هَذَا الْحَدِيثُ، فَإِنَّهُ مُنْكَرٌ جِدًّا، وَأَحْسَنُ أَحْوَالِهِ أَنْ يكون قد سمع شيئاً ولم يفهمه جيداً، وعبر عَنْهُ بِعِبَارَةٍ نَاقِصَةٍ، وَيَكُونُ أَصْلُ الْحَدِيثِ كَمَا ذكرنا من رواية ابن أبي الحرير الدِّمَشْقِيِّ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ حَسَّانَ بْنِ عَطِيَّةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي سُوقِ الْجَنَّةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.(2/363)
وَقَدْ رُوِيَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ غَرِيبٍ، فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَضْرَمِيُّ الْحَافِظُ الْمَعْرُوفُ بمطر: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ طَرِيفٍ الْبَجَلِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، حَدَّثَنِي جَابِرٌ الْجُعْفِيُّ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ مجتمعون فقال:
"يا معاشر الْمُسْلِمِينَ إِنَّ فِي الْجَنَّةِ لَسُوقًا مَا يُبَاعُ فِيهَا وَلَا يُشْتَرَى إِلَّا الصُّوَرُ، فَمَنْ أَحَبَّ صُورَةً مِنْ رَجُلٍ أَوِ امْرَأَةٍ دَخَلَ فِيهَا". جَابِرُ بْنُ يَزِيدَ الْجُعْفِيُّ ضَعِيفُ الْحَدِيثِ، وَاللَّهُ أعلم.(2/364)
ذِكْرُ رِيحِ الْجَنَّةِ وَطِيبِهِ وَانْتِشَارِهِ حَتَّى إِنَّهُ يشم من مسيرة سِنِينَ عَدِيدَةٍ وَمَسَافَةٍ بَعِيدَةٍ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيل اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أعْمَالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ وَيُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} . [47- محمد- 4] .
قال بعضهم: طَيَّبَهَا لَهُمْ، مِنَ الْعَرْفِ، وَهُوَ الرِّيحُ الطَّيِّبَةُ.
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"مِنْ ادَّعَى إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ لَمْ يَرَحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ خَمْسِينَ عَامًا". وَرَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ غُنْدَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ وَقَالَ: "سَبْعِينَ عَامًا".(2/364)
وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: أَرَادَ فُلَانٌ أَنْ يُدْعَى جُنَادَةَ بْنَ أَبِي أُمَيَّةَ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنِ ادَّعَى إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ لَمْ يَرَحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ وإن ريحها ليوجد من قدر سبعين- أو من مَسِيرَةِ سَبْعِينَ عَامًا" قَالَ: "وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ".
قال البخاري: حدثنا قيس بن جعفر، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَمْرٍو الْفُقَيْمِيِّ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ قَتَلَ مُعَاهِدًا لَمْ يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوحد مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا".
وَهَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ: عَنْ أَبَى كُرَيْبٍ، عَنْ أَبَى مُعَاوِيَةَ، عَنِ الحسن بن عمرو، بِهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ محمد أخبرنا إبراهيم المعقب، حدثنا مروان بن مُعَاوِيَةَ الْفَزَارِيُّ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَمْرٍو الْفُقَيْمِيِّ، عن مجاهد، عن جنادة عن أَبِي أُمَيَّةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ لَمْ يَرَحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ عَامٍ". هَذَا لَفْظُهُ.
وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بن علي الأبار، حدثنا معقل بْنُ نُفَيْلٍ، حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، عَنْ عَوْفٍ الْأَعْرَابِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:(2/365)
"مَنْ قَتَلَ نَفْسًا مُعَاهِدَةً بِغَيْرِ حَقِّهَا لَمْ يرح رائحة الجنة، وإن ريح الجنة يوجد من مسيرة عَامٍ ".
وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ: مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا وَقَالَ: "سَبْعِينَ خَرِيفًا".
وَقَالَ حسن: صحيح، قال: وَفِي الْبَابِ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ.
وَقَالَ الْحَافِظُ الضِّيَاءُ: هُوَ عِنْدِي عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحِ: يَعْنِي حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ- أَوْ غَيْرِهِ- عَنْ أَبِي بَكْرَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "رِيحُ الْجَنَّةِ يُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ مِائَةِ عَامٍ".
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ: عَنْ قَتَادَةَ: "خَمْسِمِائَةِ عَامٍ". وَكَذَلِكَ رَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ: عَنْ يُونُسَ ابن عُبَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ.
وَرَوَى الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ الْأَصْبَهَانِيُّ فِي كِتَابِ صِفَةِ الْجَنَّةِ: مِنْ طَرِيقِ الرَّبِيعِ بْنِ بَدْرٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ عن هارون بن رباب، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، مَرْفُوعًا: "رَائِحَةُ الجنة توجد من مسيرة خمسمائة عام".
وَقَالَ مَالِكٌ: عَنْ مُسْلِمِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّهُ قال:(2/366)
نِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ مَائِلَاتٌ مُمِيلَاتٌ لَا يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ وَلَا يَجِدْنَ رِيحَهَا، وَإِنَّ ريحها لتوجد من مسيرة خمسمائة سنة.
قال الحافظ أبو عمرو بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَقَدْ رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بن نافع الصائغ: عن مَالِكٍ، يَرْفَعُهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الحضرمي، حدثنا محمد بن أحمد بْنِ طَرِيفٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، حَدَّثَنِي جَابِرٌ الْجُعْفِيُّ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ، عن محمد، عن عَلِيٍّ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم:
"ريح الجنة توجد مِنْ مَسِيرَةِ أَلْفِ عَامٍ، وَاللَّهِ لَا يَجِدُهَا عَاقٌّ. وَلَا قَاطِعُ رَحِمٍ".
وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ: أَنَّ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ مَرَّ بِأَنَسِ بْنِ النضر يوم أحد حين قتل، ولم يعرفه من كثرة الجراح، وما عرفته أخته الربيع بنت النضر إلا ببنانه، ووجد به بضع وثمانون ما بين ضربة بسيف وطعنة ورمية رضي الله عنه: فقال معاذ: وجد أنس ريح الجنة. وهو في الأرض، وهي فوق السموات، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ تَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَتْ يَوْمَئِذٍ من المؤمنين، والله تعالى أعلم.(2/367)
ذِكْرِ نُور الْجَنَة وبَهائِهَا وَطيب فِنَائِها وحسْن مَنْظَرها في صَباحِها ومَسائِها
قال الله تعالى:
{إِذَا رَأيْتَ ثَمَّ رَأيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُس خُضْرٌ وإِسْتَبْرَق وَحُلُوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَ بُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً} . [76- الإنسان- 20-21] .
وَقَالَ تَعَالَى: {خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً} . [25- الفرقان- 76] .
وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ لَكَ ألاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تَعْرَى وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَؤا فِيهَا وَلاَ تَضْحَى} . [20- طه- 118- 119] .
وقال تعالى: {لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً} . [76- الإنسان- 13] .
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنَا سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ رَبِّهِ الْحَنَفِيُّ، عن خاله الرميل بْنِ سِمَاكٍ، سَمِعَ أَبَاهُ يُحَدِّثُ: "أَنَّهُ لَقِيَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ بِالْمَدِينَةِ بَعْدَمَا كُفَّ بصره، فقال: يا ابن عباس: ما أرض الجنة? فقال: هِيَ مَرْمَرَةٌ بَيْضَاءُ مِنْ فِضَّةٍ، كَأَنَّهَا مِرْآةٌ. قُلْتُ: مَا نُورُهَا? قَالَ: أَمَا رَأَيْتَ السَّاعَةَ الَّتِي تَكُونُ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ? فَذَلِكَ نُورُهَا، إِلَّا أَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا شَمْسٌ وَلَا زَمْهَرِيرٌ".(2/368)
وذكرنا في الحديت: كما سيأتي إن شاء الله، وَتَقَدَّمَ فِي سُؤَالِ ابْنِ صَيَّادٍ عَنْ تُرْبَةِ الجنة: "أنها در مكة بَيْضَاءُ مِسْكٌ أَذْفَرُ".
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ مَنْصُورٍ الرَّمَادِيُّ: حَدَّثَنَا كَثِيرُ بْنُ هِشَامٍ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بن زياد أبو المقدام، عن حبيب ابن الشَّهِيدِ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
"خَلَقَ اللَّهُ الْجَنَّةَ بَيْضَاءَ، وَأَحَبُّ الزِّيِّ إِلَى اللَّهِ الْبَيَاضُ، فَلْيَلْبَسْهُ أَحْيَاؤُكُمْ، وكفنوا فيه موتاكم".
ثُمَّ أَمَرَ بِرِعَاءِ الشَّاءِ فَجُمِعُوا، فَقَالَ: مَنْ كان ذا غنم فليخلطها بيضاء، فَجَاءَتْهُ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنِّي اتخذت غنماً سوداً فلا أراها تزكو قال: "عفري" أي بيضي، معناه: اخلطي معها بيضاء.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْفَرَجِ الْحِمْصِيُّ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ كَثِيرٍ الْحِمْصِيُّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُهَاجِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ الْمَعَافِرِيِّ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى، حَدَّثَنَا كُرَيْبٌ: أَنَّهُ سَمِعَ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"أَلَا مُشَمِّرٌ إِلَى الْجَنَّةِ? فَإِنَّ الْجَنَّةَ لَا مثل لها وهي وَرَبِّ الْكَعْبَةِ نُورٌ يَتَلَأْلَأُ، وَرَيْحَانَةٌ تَهْتَزُّ، وَقَصْرٌ مشيد، ونهر مطرد، وثمر نضيج، وَزَوْجَةٌ حَسْنَاءُ جَمِيلَةٌ، وَحُلَلٌ كَثِيرَةٌ فِي مُقَامٍ أبد، في دار سليمة، وفاكهة وخضر، وجيرة وَنِعْمَةٌ، فِي مَحَلَّةٍ عَالِيَةٍ بَهِيَّةٍ". قَالُوا يَا رسول الله: نحن المشمرون لها.
قال: "فقولوا: إِنْ شَاءَ اللَّهُ" فَقَالَ الْقَوْمُ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ. ثُمَّ قَالَ الْبَزَّارُ: لَا نَعْلَمُ لَهُ طَرِيقًا إِلَّا هَذَا.(2/369)
وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ: مِنْ حَدِيثِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنِ مُحَمَّدِ بْنِ مُهَاجِرِ، بِنَحْوِهِ، ورواه أبو بكر بن دَاوُدَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ أَبِيهِ، عن محمد بن مُهَاجِرٍ، وَتَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو بكر بن أبي شيبة، عن عمرو، عن عطاء، عن وراد، عَنْ سَالِمٍ أَبِي الْغَيْثِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، مَرْفُوعًا:
"أَرْضُ الْجَنَّةِ بَيْضَاءُ، عَرْصَتُهَا صُخُورُ الْكَافُورِ، وقد أحاط بها الْمِسْكُ مِثْلُ كُثْبَانِ الرَّمْلِ، فِيهَا أَنْهَارٌ مُطَّرِدَةٌ، فَيَجْتَمِعُ فِيهَا أَهْلُ الْجَنَّةِ، فَيَتَعَارَفُونَ، فَيَبْعَثُ اللَّهُ رِيحَ الرَّحْمَةِ، فَتُهَيِّجُ عَلَيْهِمْ رِيحَ الْمِسْكِ، فَيَرْجِعُ الرَّجُلُ إِلَى زَوْجَتِهِ وَقَدِ ازْدَادَ حُسْنًا وَطِيبًا" فتقول له: "لَقَدْ خَرَجْتَ مِنْ عِنْدِي وَأَنَا بِكَ مُعْجَبَةٌ، والآن أنا أشد بك إعجاباً".(2/370)
ذكر الأَمر بطلب الجَنَّة وترغيب الله تَعالى عِبَادَهُ فيهَا وأَمرهم بِالْمُبَادَرَةِ إِليها
قَالَ اللَّهُ تعالى: {والله يَدْعُوا إِلى دَارِ السَّلاَم} . [10-يُونُسَ- 25] .
وَقَالَ: {وَسَارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ ربكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمواتُ وَالأرْضُ أعِدّتْ لِلْمُتَّقِينَ} .
وَقَالَ: {سَابِقُوا إلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْض السَّمَاء وَالأرْض أعِدَّتْ لِلّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤتيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْل الْعَظِيم} . [57- الحديد- 21] .(2/370)
وقال تَعَالَى:
{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤمِنِينَ أنْفُسَهُمْ وَأمْوَالَهُمْ بِأنَّ لَهمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سبِيل اللَّه} . [9- التوبة- 111] .
وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ، وَغَيْرُهُ: مِنْ حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ مِينَاءَ: عَنْ جَابِرٍ: "أَنَّ مَلَائِكَةً جَاءُوا إِلى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ نَائِمٌ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ نَائِمٌ، وَقَالَ بعضهم: إن العين نائمة والقلب يقظان: مَثَلُهُ كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى دَارًا، وَاتَّخَذَ فِيهَا مَأْدُبَةً، وَبَعَثَ دَاعِيًا، فَمَنْ أَجَابَ الدَّاعِيَ دَخَلَ الدار، وأكل من المائدة، فأولوها له، وقال بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ نَائِمٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْعَيْنَ نَائِمَةٌ وَالْقَلْبَ يَقْظَانُ، فَقَالُوا: الدَّارُ الْجَنَّةُ، وَالدَّاعِي مُحَمَّدٌ، فَمَنْ أَطَاعَ مُحَمَّدًا فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ، وَمَنْ عَصَى مُحَمَّدًا فَقَدْ عَصَى اللَّهَ، وَمُحَمَّدٌ فَرْقٌ بَيْنَ النَّاسِ".
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ: وَلَفْظُهُ: "خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا فَقَالَ: "إِنِّي رَأَيْتُ فِي المنام كأن جبريل كان عِنْدَ رَأْسِي، وَمِيكَائِيلَ عِنْدَ رِجْلَيَّ، يَقُولُ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: اضْرِبْ لَهُ مَثَلًا، فَقَالَ: اسْمَعْ، سَمِعَتْ أُذُنُكَ، وَاعْقِلْ عَقَلَ قَلْبُكَ! إِنَّمَا مَثَلُكَ وَمَثَلُ أمتك كمثل ملك اتخذ داراً، ثم عمل فيها بيتاً، ثم اتخذ مائدة، ثُمَّ بَعَثَ رَسُولًا يَدْعُو النَّاسَ إِلَى طَعَامِهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَجَابَ الرَّسُولَ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَرَكَهُ، فَاللَّهُ هُوَ الْمَلِكُ، وَالدَّارُ الْإِسْلَامُ، وَالْبَيْتُ الْجَنَّةُ، وَأَنْتَ يَا مُحَمَّدُ رَسُولٌ، فَمَنْ أَجَابَكَ دَخَلَ الْإِسْلَامَ، وَمَنْ دَخَلَ الْإِسْلَامَ دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ دخل أكل مما فيها".
وللترمذي: عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، نَحْوَهُ، وَصَحَّحَهُ أَيْضًا.
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ: عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
"إن سيداً بنى داراً، واتخذ مائدة، وَبَعَثَ دَاعِيًا، فَمَنْ أَجَابَ الدَّاعِيَ دَخَلَ الدَّارَ، وأكل من المائدة، وَرَضِيَ عَنْهُ السَّيِّدُ، أَلَا وَإِنَّ السَّيِّدَ اللَّهُ، والدار الإسلام، والمأدبة الجنة، والداعي محمد".(2/371)
من استجار بالله من النار أجاره ومن طلب الجنة من الله أدخله الجنة إذا صدقت النية وصح العمل
وقال أبو يعلة: حَدَّثَنَا أَبُو خَيْثَمَةَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ يُونُسَ هُوَ ابْنُ خَبَّابٍ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"مَا اسْتَجَارَ عَبْدٌ مِنَ النار ثلاث مَرَّاتٍ، إِلَّا قَالَتِ النَّارُ: يَا رَبِّ: إِنَّ عَبْدَكَ فُلَانًا قَدِ اسْتَجَارَ مِنِّي فَأَجِرْهُ، وَلَا سَأَلَ عَبْدٌ الْجَنَّةَ سَبْعَ مَرَّاتٍ إِلَّا قَالَتِ الْجَنَّةُ: يَا رَبِّ إِنَّ عَبْدَكَ فُلَانًا سَأَلَنِي فأدخله الجنة". على شرط مسلم.
وروى الترمذي، والنسائي: عن ابن مَاجَهْ، عَنْ هَنَّادٍ، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنْ أَبِي إسحاق، عن يزيد بْنِ أَبِي مَرْيَمَ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم:
"من سَأَلَ اللَّهَ الْجَنَّةَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، قَالَتِ الْجَنَّةُ: اللهم أدخله الجنة. ومن استعاذ بالله من النار ثلاثاً. قالت النار: اللهم أجره من النار".(2/372)
الجنة والنار شافعتان مشفعتان
وقال الحسن بن سفيان: حدثنا المقدمي، حدثنا عمر، عَنْ يَحْيَى بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم:
"أكثروا مسألة الْجَنَّةَ، وَاسْتَعِيذُوا بِهِ مِنَ النَّارِ، فَإِنَّهُمَا شَافِعَتَانِ مشفعتان، وإن الْعَبْدَ إِذَا أَكْثَرَ مَسْأَلَةَ الْجَنَّةِ، قَالَتِ الْجَنَّةُ: يَا رَبِّ: عَبْدُكَ هَذَا الَّذِي سَأَلَنِيكَ فَأَسْكِنْهُ إِيَّايَ، وَتَقُولُ النَّارُ: يَا رَبِّ: عَبْدُكَ هَذَا الذي استعاذ بك مني فأعذه".(2/372)
اطْلُبُوا الْجَنَّةَ جُهْدَكُمْ وَاهْرُبُوا مِنَ النَّارِ جُهْدَكُمْ
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الشَّافِعِيُّ: عَنْ كُلَيْبِ بْنِ حرب، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "اطْلُبُوا الْجَنَّةَ جُهْدَكُمْ، وَاهْرُبُوا مِنَ النَّارِ جُهْدَكُمْ، فَإِنَّ الْجَنَّةَ لَا يَنَامُ طَالِبُهَا، وَإِنَّ النَّارَ لَا يَنَامُ هَارِبُهَا، وَإِنَّ الْآخِرَةَ الْيَوْمَ محفوفة بالمكاره، وإن الدنيا محفوفة بالشهوات، فلا تلهينكم عن الآخرة".(2/373)
ذكر أن الجنة حفت بالمكاره وأن النار حفت بالشهوات
...
ذكر أَنَّ الجَنّة حفَّت بالمكاره وهي الأَعمال الشَّاقة من فعل الخَيْرات وتَرك المحرَّمات وأَنَّ النَّار حفَّت بِالشَّهَوَاتِ
قَالَ الإِمام أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "حُفَّتِ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ، وَحُفَّتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ".
وَهَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَالتِّرْمِذِيُّ: مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، زَادَ مُسْلِمٌ وَحُمَيْدٌ كِلَاهُمَا: عَنْ أَنَسٍ، بِهِ.
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: صَحِيحٌ غَرِيبٌ.
وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ النَّضْرِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال:(2/373)
"حُفَّتِ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ، وَحُفَّتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ"
تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ: وَإِسْنَادُهُ جَيِّدٌ حَسَنٌ، لِمَا لَهُ مِنَ الشَّوَاهِدِ.
وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
"لَمَّا خَلَقَ الله الجنة، أرسل جبريل، فقال: انظر إليها، وإلى ما أعددت لِأَهْلِهَا، فَجَاءَ، فَنَظَرَ إِلَيْهَا، وَإِلَى مَا أَعَدَّ الله لأهلها، فرجع إليه تعالى فَقَالَ: وَعِزَّتِكَ لَا يَسْمَعُ بِهَا أَحَدٌ إِلَّا دخلها، فأمرها فحجبت بالمكاره، ثم قال: ارجع إليها، فانظر إليها، فجاء فنظر إِلَيْهَا، فَإِذَا هِيَ قَدْ حُجِبَتْ بِالْمَكَارِهِ، فَرَجَعَ إليه فقال: وعزتك لقد خشيت ألا ينجو منها أحد". تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ: وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ.
وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ، حَدَّثَنَا الْمَسْعُودِيُّ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم قال:
"أَكْثَرُ مَا يَلِجُ بِهِ الإِنسان النَّارَ الْأَجْوَفَانِ الْفَرْجُ وَالْفَمُ، وَأَكْثَرُ مَا يَلِجُ بِهِ الإِنسان الجنة تقوى الله وحسن الخلق".
ألا إن النار حفت بالشهوات، وداخلها كله مضرات وحشرات، والجنة محفوفة بالمكاره، وفيها ما لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خطر على قلب بشر من اللذات والمسرات، كما أوردناه في الآيات المحكمات، والأحاديث الثابثات. فَمِنْ نَعِيمِهِمُ الْمُقِيمِ، وَلَذَّتِهِمُ الْمُسْتَمِرَّةِ، الطَّرَبُ الَّذِي لم تسمع الآذان بمثله.(2/374)
قال الله تَعَالَى:
{فَأَمَّا الَذينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَة يُحْبَرُونَ} . [30- الروم- 15] .
قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ: "هُوَ السَّمَاعُ فِي الجنة".(2/375)
غناء الحور في جنة الله
وَقَدْ ذَكَرْنَا مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ: مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إسحاق، عن النعمان بن سَعْدٍ، عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"إِنَّ فِي الْجَنَّةِ لمجتمعاً للحور العين، يغنين بأصوات لَمْ يَسْمَعِ الْخَلَائِقُ بِمِثْلِهَا، يَقُلْنَ: نَحْنُ الْخَالِدَاتُ فلا نبيد أبداً، ونحن الناعمات فلا نبأس أبداً، وَنَحْنُ الرَّاضِيَاتُ فَلَا نَسْخَطُ أَبَدًا، طُوبَى لِمَنْ كان لنا وكنا له".
قال: وَفِي الْبَابِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَبِي سَعِيدٍ، وَأَنَسٍ.
قُلْتُ: وَكَذَا رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى، وَابْنِ عُمَرَ وَأَبِي أمامة: رضي الله عنهم أجمعين.
حديث أبي هريرة
قال جعفر الفريابي: حدثنا سعد بْنُ حَفْصٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحِيمِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَبِي أنيسة، عن المنهال، عن عَمْرٍو، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: "إِنَّ فِي الْجَنَّةِ نَهَرًا طُولَ الْجَنَّةِ، على حافتيه العذارى قياماً متقابلات، يغنين بأصوات يسمعها الخلائق، ما يرون في الجنة لذة مثلها. قلت: يا أبا(2/375)
هُرَيْرَةَ: وَمَا ذَاكَ الْغِنَاءُ? قَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ التَّسْبِيحُ، وَالتَّحْمِيدُ، وَالتَّقْدِيسُ وَثَنَاءٌ عَلَى الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ".
وَرَوَى أَبُو نُعَيْمٍ فِي صِفَةِ الجنة من طريق سليم بْنِ عُلَيٍّ، عَنْ زَيْدِ بْنِ وَاقِدٍ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، مَرْفُوعًا:
"إِنَّ فِي الْجَنَّةِ شَجَرَةً جُذُوعُهَا مِنْ ذَهَبٍ وَفُرُوعُهَا مِنْ زبرجد ولؤلؤ، تهب عليها ريح فتصطفق، فما يسمع السامعون بشيء قَطُّ أَلَذَّ مِنْهُ".
وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: "أَنَّهَا تُحَرِّكُهَا الرِّيَاحُ، فَتَتَحَرَّكُ بِصَوْتِ كُلِّ لهو كان في الدنيا".
حديث أنس
قال ابن أبي الدنيا: حدثنا خيثمة، حدثنا إسماعيل، عن عمرو بن أبي ذؤيب، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَافِعٍ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم:
"إن الحور العين تغنين في الجنة: نحن الحور الحسان، خلقن لأزواج كرام".
حديث عبد الله بن أبي أوفى، وهو حديث غريب جداً
قال الحافظ أبو نعيم محمد بن جعفر بن أصيلة، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ هَارُونَ، حَدَّثَنَا حَامِدُ بْنُ يَحْيَى الْبَلْخِيُّ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُؤَدِّبُ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ أَبِي ثَوْرٍ، حَدَّثَنِي سَعْدٌ الطَّائِيُّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَابِطٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي أَوْفَى، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم:
"يزوج كُلِّ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَرْبَعَةُ آلَافِ بِكْرٍ، وَثَمَانِيَةُ آلَافِ أَيِّمٍ، وَمِائَةُ حَوْرَاءَ، فَيَجْتَمِعْنَ فِي كُلِّ سَبْعَةِ أَيَّامٍ فَيَقُلْنَ بِأَصْوَاتٍ حِسَانٍ لم يسمع الخلائق بمثلهن: نَحْنُ الْخَالِدَاتُ فَلَا نَبِيدُ، وَنَحْنُ النَّاعِمَاتُ فَلَا نبأس،(2/376)
ونحن الراضيات فلا نسخط، ونحن المقيمات فلا نَظْعَنُ، طُوبَى لِمَنْ كَانَ لَنَا وَكُنَّا لَهُ".
حديث ابن عمر
قال الطبراني: حدثنا أبو رفاعة عمارة البصري، حَدَّثَنَا سَعِيدِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جعفر بن كَثِيرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"إِنَّ أَزْوَاجَ أَهْلِ الْجَنَّةِ لَيُغَنِّينَ أزواجهن بأحسن أصوات سمعها أحد قط وَإِنَّ مِمَّا يُغَنِّينَ بِهِ: نَحْنُ الْخَالِدَاتُ فَلَا نموت، نحن الآمنات فلا نخاف، نحن المقيمات فلا نظعن".
حديث أبي أمامة
قَالَ جَعْفَرٌ الْفِرْيَابِيُّ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الرحمن، حدثنا خالد بن زيد بْنِ أَبِي مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
"مَا مِنْ عَبْدٍ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا وَيَجْلِسُ عِنْدَ رَأْسِهِ وَرِجْلَيْهِ ثِنْتَانِ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ، يُغَنِّيَانِهِ بأحسن صوت يسمعه الْإِنْسُ وَالْجِنُّ، وَلَيْسَ بِمَزَامِيرِ الشَّيْطَانِ".
وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي أَيُّوبَ، قَالَ: قَالَ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ لِابْنِ شِهَابٍ: هَلْ فِي الْجَنَّةِ سَمَاعٌ? فَإِنَّهُ حُبِّبَ إليَّ السَّمَاعُ، فَقَالَ: إِي وَالَّذِي نَفْسُ ابْنِ شِهَابٍ بِيَدِهِ: إِنَّ فِي الْجَنَّةِ لَشَجَرًا حَمْلُهُ اللُّؤْلُؤُ وَالزَّبَرْجَدُ، تحته حور نَاهِدَاتٌ يَتَغَنَّيْنَ بِالْقُرْآنِ وَيَقُلْنَ: نَحْنُ النَّاعِمَاتُ فَلَا نَبْأَسُ، وَنَحْنُ الْخَالِدَاتُ فَلَا نَمُوتُ، فَإِذَا سَمِعَ ذلك الشجر صفق بعضه بعضاً فأعجبت(2/377)
بصوت صفقه الْجَوَارِيَ، فَلَا يُدْرَى، أَأَصْوَاتُ الْجَوَارِي أَحْسَنُ، أَمْ أصوات الشجر"? قال ابن وهب: حدثنا الليث عن خالد بن يزيد? أن الجواري يغنين أزواجهن فيقلن، نَحْنُ الْخَيْرَاتُ الْحِسَانُ، أَزْوَاجُ شَبَابٍ كِرَامٍ، وَنَحْنُ الْخَالِدَاتُ فَلَا نَمُوتُ، وَنَحْنُ النَّاعِمَاتُ فَلَا نَبْأَسُ، ونحن الراضيات فلا نسخط، ونحن المقيمات فلا نَظْعَنُ، فِي صَدْرِ إِحْدَاهُنَّ مَكْتُوبٌ: أَنْتَ حِبِّي، وأنا حبك، لَمْ تَرَ عَيْنَايَ مِثْلَكَ".
وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: حدثني الْأَوْزَاعِيُّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ: أَنَّ الحور العين يتلقين أزواجهن عند باب الْجَنَّةِ فَيَقُلْنَ: طَالَمَا انْتَظَرْنَاكُمْ، نَحْنُ الرَّاضِيَاتُ فَلَا نَسْخَطُ، وَالْمُقِيمَاتُ فَلَا نَظْعَنُ، وَالْخَالِدَاتُ فَلَا نَمُوتُ: بأحسن أصوات سمعت.
وتقول الحورية لزوجها: "أَنْتَ حِبِّي وَأَنَا حِبُّكَ، لَيْسَ دُونَكَ مَقْصِدٌ ولا وراءك معدل".
وَقَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ سعيد، حدثني علي بن عاصم، حدثني سعيد بن أبي سعيد، قال: حدثنا أَنَّ فِي الْجَنَّةِ آجَامًا مِنْ قَصَبٍ مِنْ ذَهَبٍ، حَمْلُهَا اللُّؤْلُؤُ، فَإِذَا اشْتَهَى أَهْلُ الْجَنَّةِ أن يسمعوا صوتاً، بَعَثَ اللَّهُ عَلَى تِلْكَ الْآجَامِ رِيحًا، فَتَأْتِيهِمْ بكل صوت يشتهونه.(2/378)
فَرع آخر أَعْلَى مِن الَّذِي قبْله
ذَكَرَ حَمَّادُ بْنُ سلمة، عن ثابت البناني، وحجاج بن الْأَسْوَدِ، عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، قَالَ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ لِمَلَائِكَتِهِ: إِنَّ عِبَادِي كانوا يحبون الصوث الْحَسَنَ فِي الدُّنْيَا، وَيَدَعُونَهُ مِنْ أَجْلِي، فَأَسْمِعُوا عِبَادِي: فَيَأْخُذُونَ بِأَصْوَاتٍ، مِنْ تَهْلِيلٍ، وَتَسْبِيحٍ، وَتَكْبِيرٍ، لَمْ يَسْمَعُوا بِمِثْلِهَا قَطُّ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنِي دَاوُدُ بْنُ عَمْرٍو الضَّبِّيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، قَالَ: إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، نَادَى مُنَادٍ: أَيْنَ الَّذِينَ كَانُوا يُنَزِّهُونَ أَسْمَاعَهُمْ وَأَنْفُسَهُمْ عَنْ مَجَالِسِ اللَّهْوِ وَمَزَامِيرِ الشَّيْطَانِ? أَسْكِنُوهُمْ رِيَاضَ الْمِسْكِ، ثُمَّ يَقُولُ للملائكة: أسمعوهم تحميدي وتمجيدي.
وقال ابن أبي الدنيا: حدثنا دهيم بن الفضل القرشي، حدثنا داود بْنُ الْجَرَّاحِ: عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، قَالَ:
"بَلَغَنِي أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ أَحْسَنُ صَوْتًا مِنْ إسرافيل، فيأمره الله فيأخذ في الاسماع، فلا يبقى ملك في السموات إلا قطع عليه صلاته، فيمكث على ذلك مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَمْكُثَ، فَيَقُولُ اللَّهُ عز وجل: وعزتي لو تعلم الْعِبَادُ قَدْرَ عَظَمَتِي مَا عَبَدُوا غَيْرِي".
وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
{وإِنَّ لَه عِنْدَنَا لَزُلْفَى وحسْنَ مآبٍ} . [38- ص-40] .(2/379)
قَالَ:
"إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أُمِرَ بِمِنْبَرٍ رَفِيعٍ فَوُضِعَ فِي الْجَنَّةِ، ثُمَّ نُودِيَ: يَا داود مجدني بذلك الصوت الَّذِي كُنْتَ تُمَجِّدُنِي بِهِ فِي دَارِ الدُّنْيَا، قال: فيرتفع صوت داود، يعم أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:
{وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مآبٍ} .
وهو سماعهم كلام الرب جل جلاله إذا خاطبهم في المجامع التي يجتمعون لها بين يديه- تعالى وتقدس- ليخاطب كل واحد، ويذكره بِأَعْمَالِهِ الَّتِي سلفتَ مِنْهُ فِي الدُّنْيَا، وَكَذَلِكَ إِذَا تَجَلَّى لَهُمْ جَهْرَةً فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} . [36- يس-58] .
وَقَدْ سَبَقَ حَدِيثُ جابر في ذلك فِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ وَغَيْرِهِ.
وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو الشَّيْخِ الْأَصْبِهَانِيُّ: مِنْ طَرِيقِ صَالِحِ بْنِ حبان، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ: قَالَ:
"إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَدْخُلُونَ كُلَّ يَوْمٍ عَلَى الْجَبَّارِ- جَلَّ جَلَالُهُ- فَيَقْرَأُ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ، وَقَدْ جَلَسَ كل امرىء منهم مَجْلِسَهُ الَّذِي هُوَ مَجْلِسُهُ، عَلَى مَنَابِرِ الدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ وَالزَّبَرْجَدِ وَالذَّهَبِ وَالزُّمُرُّدِ، فَلَمْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُمْ بِشَيْءٍ وَلَمْ يَسْمَعُوا شَيْئًا قَطُّ أَعْظَمَ وَلَا أَحْسَنَ مِنْهُ، ثُمَّ يَنْصَرِفُونَ إِلَى رِحَالِهِمْ بِأَعْيُنٍ قريرة، وأعينهم إلى مثلها من الغد".
وروى أبو نعيم: من حديث حسن بْنِ فَرْقَدٍ السَّبَخِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ، مَرْفُوعًا:(2/380)
"إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ لَيَغْدُونَ فِي حُلَّةٍ وَيَرُوحُونَ فى أُخْرَى، كَغُدُوِّ أَحَدِكُمْ وَرَوَاحِهِ إِلَى مَلِكٍ مِنْ ملوك الدنيا، كذلك يغدون ويروحون إلى زيارة رَبِّهِمْ عَزَّ وَجَلَّ، وَذَلِكَ لَهُمْ بِمَقَادِيرَ وَمَعَالِمَ، يَعْلَمُونَ تِلْكَ السَّاعَةَ الَّتِي يَأْتُونَ فِيهَا رَبَّهُمْ عز وجل".(2/381)
ذِكْرُ خيْل الجَنَّة
قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ علي، حدثنا المسعودي، عن عقبة بن علقمة بن خديج، عن سليمان بن أبي بريدة، عن أبيه أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: هَلْ فِي الْجَنَّةِ مِنْ خَيْلٍ? فَقَالَ:
"إِنِ اللَّهُ إذا أدخلك الجنة فإنك لا تشاء أن تحمل فيها على فرس، إلا حملت على فرس من ياقوتة حمراء تطير بِكَ فِي الْجَنَّةِ حَيْثُ شِئْتَ".
قَالَ: وَسَأَلَهُ رجل: فقال: يا رسول الله، إني رجل حببت إلى الخيل، فهل في الجنة خيل? فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّ فِي الْجَنَّةِ لَخَيْلًا وإبلاً هفافة مرهفة تسير خِلَالِ وَرَقِ الْجَنَّةِ، يَتَزَاوَرُونَ عَلَيْهَا حَيْثُ شَاءُوا".
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ سمرة الأحمسي، حدثنا أبو معاوية بن وَاصِلِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ أَبِي سَوْرَةَ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ قَالَ: أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: إني أحب الخيل، أفي الجنة خيل? فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"إِذَا دخلت الْجَنَّةَ أُتِيتَ بِفَرَسٍ مِنْ يَاقُوتَةٍ، لَهُ جَنَاحَانِ فَحُمِلْتَ عَلَيْهِ، ثُمَّ طَارَ بِكَ حَيْثُ شِئْتَ".(2/381)
ثُمَّ ضَعَّفَ التِّرْمِذِيُّ هَذَا الْإِسْنَادَ مِنْ جِهَةِ أَبِي سَوْرَةَ ابْنِ أَخِي أَبِي أَيُّوبَ، فَإِنَّهُ قَدْ ضَعَّفَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ، وَاسْتَنْكَرَ الْبُخَارِيُّ حَدِيثَهُ هذا، والله أعلم.
قال القرطبي: وذكر ابن وهب، حدثنا ابن يزيد، قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ يُذْكَرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"إن أدنى أهل الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً الَّذِي يَرْكَبُ فِي أَلْفِ أَلْفٍ مِنْ خَدَمِهِ مِنَ الْوِلْدَانِ الْمُخَلَّدِينَ عَلَى خَيْلٍ مِنْ يَاقُوتٍ أَحْمَرَ لَهَا أَجْنِحَةٌ مِنْ ذَهَبٍ". ثم تلا قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإذَا رَأيْتَ ثمَ رأيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً} . [76- الْإِنْسَانِ- 20] .
قُلْتُ: فِيهِ انْقِطَاعٌ بَيْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ- وَبَيْنَ الْحَسَنِ، ثُمَّ هو مرسل.
وروى أبو نعيم: من طريق جابر بن نوح، عَنْ وَاصِلِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ أَبِي سَوْرَةَ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ مَرْفُوعًا:
"إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ لَيَتَزَاوَرُونَ عَلَى نَجَائِبَ بِيضٍ كَأَنَّهَا الْيَاقُوتُ، وَلَيْسَ في الجنة بهائم إِلَّا الْخَيْلُ وَالْإِبِلُ".
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ المبارك: حدثنا همام، عن قتادة، عن عبد الله بن عمر، قَالَ:
"فِي الْجَنَّةِ عِتَاقُ الْخَيْلِ، وَكِرَامُ النَّجَائِبِ، يَرْكَبُهَا أَهْلُهَا".
وَهَذِهِ الصِّيغَةُ لَا تَدُلُّ عَلَى الحصر كما دلت عَلَيْهِ رِوَايَةُ أَبِي نُعَيْمٍ فِي حَدِيثِ أَبِي أَيُّوبَ ثُمَّ هُوَ مُعَارَضٌ بِمَا رَوَاهُ ابْنُ ماجه في سننه، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
"الشَّاةُ من دواب الجنة".
وهذا منكر.(2/382)
وَفِي مُسْنَدِ الْبَزَّارِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
"أَحْسِنُوا إِلَى الْمِعْزَى، وَأَمِيطُوا عَنْهَا الْأَذَى، فَإِنَّهَا مِنْ دَوَابِّ الْجَنَّةِ".
وَقَالَ أَبُو الشَّيْخِ الْأَصْبَهَانِيُّ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ زَكَرِيَّا، حَدَّثَنَا سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
"إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، جَاءَتْهُمْ خُيُولٌ مِنْ يَاقُوتٍ أَحْمَرَ لَهَا أَجْنِحَةٌ، لَا تَبُولُ، وَلَا تَرُوثُ، فَقَعَدُوا عَلَيْهَا، ثُمَّ طَارَتْ بِهِمْ في الجنة. فيتجلى لهم الجبار، فَإِذَا رَأَوْهُ، خَرُّوا لَهُ سُجَّدًا، فَيَقُولُ لَهُمُ الجبار: ارفعوا رؤوسكم فإن هذا اليوم لَيْسَ بِيَوْمِ عَمَلٍ، إِنَّمَا هُوَ يَوْمُ نَعِيمٍ، وكرامة، فيرفعون رؤوسهم، فيمطر الله عليهم طيباً، ثم تمر بهم على كثبان المسك، فيبعث الله عَلَى تِلْكَ الْكُثْبَانِ رِيحًا، فَتَهِيجُهَا عَلَيْهِمْ، حَتَّى إنهم ليرجعون إِلى أهلهم، وَإِنَّهُمْ لَشُعْثٌ غُبْرٌ".
وَقَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حدثنا الفضل بن جعفر، حدثنا جعفر بن بشر، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ عَلِيٍّ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
"إِنَّ فِي الْجَنَّةِ لَشَجَرَةً، يَخْرُجُ مِنْ أعلاها وَمِنْ أَسْفَلِهَا خَيْلٌ مِنْ ذَهَبٍ، مُسْرَجَةٌ، مُلْجَمَةٌ، مِنْ دُرٍّ، وَيَاقُوتٍ، لَا تَرُوثُ وَلَا تَبُولُ، لها أجنحة، خطوها مد بصرها، يركبها أهل الجنة فتطير بهم حيث شاءوا، ويقول الذين أسفل منهم درجة، بم بلغ عبادك هذه الكرامة كلها? فيقول لَهُمْ: كَانُوا يُصَلُّونَ اللَّيْلَ، وَكُنْتُمْ تَنَامُونَ، وَكَانُوا يَصُومُونَ، وَكُنْتُمْ تَأْكُلُونَ، وَكَانُوا يُنْفِقُونَ، وَكُنْتُمْ تَبْخَلُونَ، وكانوا يقاتلون، وكنتم تخشون".(2/383)
ذكر زيارة أهل الجنة بعضهم بعضاً واجتماعهم وتذاكرهم أموراً كانت منهم في الدنيا من طاعات وزلات
قال الله تَعَالَى: {وَأقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْض يَتَسَاءَلُونَ قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أهْلِنَا مُشْفِقِينَ فمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُوم إنَّا كُنا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبر الرَّحِيمُ} . [52- الطور- 25- 28] .
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنَا عبد الله، حدثنا سلمة بن شبيب، حدثنا سعد بن دينار، عن الربيع، عن صبيح، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ، واشتاق الإِخوان بعضهم إلى بعض، يسير سَرِيرُ هَذَا إِلَى سَرِيرِ هَذَا، حَتَّى يَجْتَمِعَا جميعاً، فيقول أحدهما لصاحبه: أتعلم مَتَى غَفَرَ اللَّهُ لَنَا? فَيَقُولُ صَاحِبُهُ: كُنَّا في موضع كذا وكذا، فدعونا الله فَغَفَرَ لَنَا".
وَقَالَ تَعَالَى:
{فَأقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْض يَتَسَاءَلُونَ قَالَ قَائِل مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لي قَرِينٌ "يَقُولُ أئِنك لَمِنَ الْمُصَدقِينَ أئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أئِنَّا لَمَدِينُونَ، قَالَ هَلْ أنْتُمْ مُطّلِعُونَ فَاطلَعَ فَرَآهُ فِي سَواء الجَحِيم قَالَ تَاللَّهِ إنْ كِدْتَّ لَتُرْدين وَلَوْلاَ نِعْمَةُ رَبي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ أفَمَا نَحْنُ بِمَيتينَ إلاَّ مَوْتَتَنَا الأولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذبِينَ إنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ لِمِثْل هَذَا فَلْيَعْمَل الْعامِلُونَ} . [37- الصافات- 50-61] . وهذا الفوز، يشمل الجني، والإنسي.(2/384)
يقول: كان يوسوس إلي بالكفر واستبعاد أمر المعاد، فبرحمة الله نجوت منه، ثم أمر أصحابه ليطلعوا على النار، فرآه في غمراتها يعذب، فحمد الله على ما نجاه منه.
قال الله تعالى:
{قَالَ تَاللَّهِ إِن كِدْتَ لَتُرْدِين، وَلَوْلاَ نِعْمَةُ ربي، لَكُنْتُ مِنَ المحْضَرِينَ} .
ثُمَّ ذَكَرَ الْغِبْطَةَ الَّتِي هُوَ فِيهَا، وَشَكَرَ الله عليها وقال:
{أفَمَا نَحْنُ بِميتينَ إِلاّ مَوْتَتَنَا الأولَى، وَمَا نَحْنُ بِمُعَذِّبِينَ} ? أي إنا قَدْ نَجَوْنَا مِنَ الْمَوْتِ وَالْعَذَابِ، بِدُخُولِنَا الْجَنَّةَ، إن هذا لهو الفوز العظيم وقوله:
{لِمِثْل هذا، فَلْيَعْمَل الْعَامِلُونَ} .
يحتمل أن يكون من تمام مقالته، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ عَزَّ وجل، لقوله:
{وفي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَس الْمُتَنَافِسُونَ} . [83- المطففين- 26] .
ولهذا نظائر كثيرة، قد ذكرنا بعضها في التفسير.
وذكر في أول البخاري: في كتاب الإِيمان، في حديث حارثة بن سراقة، حين قال له رسولالله صلى الله عليه وسلم: "كيف أصبحت?" فقال: أصبحت مؤمناً بالله حقاً، قال: "فما حقيقة إيمانك?" قال: صرفت نَفْسِي عَنِ الدُّنْيَا، فَأَسْهَرْتُ لَيْلِي، وَأَظْمَأْتُ نَهَارِي،(2/385)
وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى عَرْشِ رَبِّي بَارِزًا، وَإِلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ يَتَزَاوَرُونَ فِيهَا، وَإِلَى أَهْلِ النَّارِ يعذبون فيها، فقال:
"عَبْدٌ نَوَّرَ اللَّهُ قَلْبَهُ".
وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ: عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ: بَلَغَنَا أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَزُورُ الْأَعْلَى الْأَسْفَلَ منهم وَلَا يَزُورُ الْأَسْفَلُ الْأَعْلَى"، قُلْتُ: وَهَذَا يَحْتَمِلُ معنيين: أحدهما: أن صاحب الرتبة السافلة، لا يصلح له أن يتعداها، وليس فيه أهلية لذلك.
الثاني: لئلا يرى فوق ما هو فيه من النعيم فيحزن لذلك، وليس في الجنة حزن، وَقَدْ وَرَدَ مَا قَالَهُ حُمَيْدُ بْنُ هِلَالٍ فِي حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ، وَفِيهِ زِيَادَةٌ عَلَى مَا قال، فقال الطبراني: حدثنا الحسن بن إسحاق، حدثنا شريك بْنُ عُثْمَانَ. حَدَّثَنَا الْمُسَيَّبُ بْنُ شَرِيكٍ، عَنْ بِشْرِ بْنِ نُمَيْرٍ، عَنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ يتزاور أهل الجنة? فقال:
"يَزُورُ الْأَعْلَى الْأَسْفَلَ وَلَا يَزُورُ الْأَسْفَلُ، الْأَعْلَى، إلا الذين يتحابون في الله يَأْتُونَ مِنْهَا حَيْثُ شَاءُوا عَلَى النُّوقِ، مُحْتَقِبِينَ الحشايا".
وَقَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنَا حَمْزَةُ بْنُ العباس، حدثنا عبد الله بن عثمان، عن عبد الله بن المبارك، أن إسماعيل بن عياش قال: حَدَّثَنِي ثَعْلَبَةُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ أَيُّوبَ بْنِ بَشِيرٍ الْعِجْلِيِّ، عَنْ شُفَيِّ بْنِ مَاتِعٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
"إن من نعيم الجنة أنهم يتزاورون على المطايا والبخت، وَأَنَّهُمْ يُؤْتَوْنَ فِي الْجَنَّةِ بِخَيْلٍ مُسْرَجَةٍ مُلْجَمَةٍ، لَا تَرُوثُ وَلَا تَبُولُ فَيَرْكَبُونَهَا حَتَّى يَنْتَهُوا إلى(2/386)
حيث شاء الله عز وجل، فيأتيهم مِثْلَ السَّحَابَةِ، فِيهَا مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، ولا أذن سمعت، فيقولون: أمطري علينا، فلا تزال تمطر عليهم حتى ينتهي ذلك، ثم يبعث الله ريحاً غير مؤذية، فتتسف كُثْبَانًا مِنْ مِسْكٍ، عَنْ أَيْمَانِهِمْ، وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ، فيوجد ذلك المسك في نواصي خيلهم، وفي مفارقها، وفي رؤوسها، ولكل رجل منهم جهة على ما اشتهت نفسه، فيعلق المسك بهم، ويعلق بالخيل، ويعلق بما سِوَى ذَلِكَ مِنَ الثِّيَابِ، ثُمَّ يَنْقَلِبُونَ حَتَّى يَنْتَهُوا إِلَى مَا شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، فإن الْمَرْأَةُ تُنَادِي بَعْضَ أُولَئِكَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ? أما لك فينا حاجة? فيقول: من أَنْتِ? فَتَقُولُ: أَنَا زَوْجَتُكَ، وَحِبُّكَ، فَيَقُولُ: مَا علمت بمكانك، فتقول أو ما علمت أن الله قَالَ:
{فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أخْفِي لَهُمْ مِنْ قرَّةِ أعْيُن جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْملون} . [32- السجدة- 17] .
فيقول: بلى وربي، فلعله يشغل بعد ذلك الوقت، لَا يَلْتَفِتُ، وَلَا يَعُودُ، مَا يَشْغَلُهُ عَنْهَا إلى ما هو فيه من النعمة والكرامة".1 وهذا حديث مرسل غريب جداً.
__________
1 الحديث رواه ابن المبارك في الزهد في زيادة نعيم له صفحة 69رقم 239. ورواه الطبراني من حديث أبي أيوب أيضا في الزوائد 10- 413. وقد قمت بحذف كلمة: من النعيم في الآصل لأن هذا خطأ وصوابها ما وضعته في أصل هذه الطبعة وهو من النعمة كما ورد في الحديث في كتاب الزهد لابن المبارك صفحة 69 رقم 239. ورواه الطبراني من حديث أبي أيوب أيضا مرفوعا كما في الزوائد 10-413. والحديث فيه: إسماعيل بن عياش بن سليم العنسي، بالنون، أبو عتبة الحمصي صدوق في روايته عن أهل بلده، مخلط في غيرهم، من الثامنة، مات سنة إحدى أو اثنتين وثمانين، وله بضع وتسعون سنة. ي ع. تقريب التهذيب 1- 73 رقم 541.
شفى: بالفاء، مصغرا، ابن ماتع: بمثناة، الأصبحي، ثقة، من الثالثة، أرسل حديثا، فذكره بعضهم في الصحابة خطأ، مات في خلافة هشام قاله خليفة: -عخ د ت س فق. تقريب التهذيب 1- 353رقم 93.
أيوب بن بشير العجلي شامي عن التابعي مجهول الذهبي في المغني في الضعفاء 1- 95 رقم 802.(2/387)
وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: حَدَّثَنَا رِشْدِينُ بْنُ سَعْدٍ، حَدَّثَنِي ابْنُ أَنْعُمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ:
"إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ لَيَتَزَاوَرُونَ عَلَى الْعِيسِ الْخُورِ، عليها رحال المسك، على خياشمها غُبَارَ الْمِسْكِ، خِطَامُ- أَوْ زِمَامُ- أَحَدِهَا خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا".
وَرَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا: مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ، عَنْ عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سَأَلَ جِبْرِيلَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ:
{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّموَاتِ وَمَنْ فِي الأرْض إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ} . [39- الزمر- 68] .
فقال: "هُمُ الشُّهَدَاءُ، يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ مُتَقَلِّدِينَ أَسْيَافَهُمْ حَوْلَ عرشه، فتأتيهم ملائكة من المحشر بنجائب من الياقوت الأبيض، برجال الذهب، أعنتها السندس، والإِستبرق، ونمارق من الحرير، تمد أبصارها مَدَّ أَبْصَارِ الرِّجَالِ، يَسِيرُونَ فِي الْجَنَّةِ عَلَى خيولهم يقولون عند طول النزهة: انطلقي بِنَا نَنْظُرْ كَيْفَ يَقْضِي اللَّهُ بَيْنَ خَلْقِهِ? فيضحك إليهم الله عز وجل، وإذا ضحك الله إلى عبد فلا حساب عليه".
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْهَرَوِيُّ، حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ زيد الموصلي، حدثني أبو إياس، حدثني محمد بن علي بن الحسين.
وروى أبو نعيم: في حديث المعافى. بن عمران، حدثني: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"إِنَّ فِي الْجَنَّةِ شَجَرَةً يُقَالُ لَهَا طُوبَى، لَوْ سَخَّرَ الْجَوَادَ الرَّاكِبُ أَنْ يَسِيرَ فِي ظلها لسار مائة عام، ورقها زمرد أخضر، وزهرها رياط صفر، وأفناؤها(2/388)
سُنْدُسٌ، وَإِسْتَبْرَقٌ، وَثَمَرُهَا حُلَلٌ، وَصَمْغُهَا زَنْجَبِيلٌ، وَعَسَلٌ، وَبَطْحَاؤُهَا يَاقُوتٌ أَحْمَرُ، وَزُمُرُّدٌ أَخْضَرُ، وَتُرَابُهَا مِسْكٌ، وخشيشها زعفران، يَفُوحُ مِنْ غَيْرِ وَقُودٍ، وَيَتَفَجَّرُ مِنْ أَصْلِهَا أنهار السَّلْسَبِيلُ، وَالرَّحِيقُ، وَظِلُّهَا مَجْلِسٌ مِنْ مَجَالِسِ أَهْلِ الجنة، يألفونه، ويتحدث فيه جميعهم.
فبينما هم يوماً يتحدثون في ظلها، إذا جَاءَتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَقُودُونَ نَجَائِبَ مِنَ الْيَاقُوتِ، قَدْ نُفِخَ فِيهَا الرُّوحُ، مَزْمُومَةً بِسَلَاسِلَ مِنْ ذَهَبٍ، وجوهها المصابيح، عليها رحائل ألواحها من الدر والياقوت، مفصصة باللؤلؤ والمرجان صفاقها من الذهب الأحمر، الملبس بالعبقري والأرجوان، فأناخوا إليهم بتلك النجائب، وقالوا لهم: إن ربكم يُقْرِئُكُمُ السَّلَامَ، وَيَسْتَزِيرُكُمْ، لِيَنْظُرَ إِلَيْكُمْ، وَتَنْظُرُوا إِلَيْهِ، وتحيوه، ويحييكم، وتكلموه، ويزيدكم من سعة فَضْلِهِ، إِنَّهُ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ، وَفَضْلٍ عَظِيمٍ.
فيتحول كل رجل منهم إلى راحلته، ثم ينطلقون صفاً واحداً معتدلاً، لا يفوت منه أحد أحداً، ولا تفوت أذن الناقة أذن صاحبتها، ولا ركبة الناقة ركبة صَاحِبَتِهَا وَلَا يَمُرُّونَ بِشَجَرَةٍ مِنْ أَشْجَارِ الْجَنَّةِ إلا أتحفتهم بثمرتها، ورحلت لهم عن طريقهم، كراهة أن ينثلم صفهم، أو يفرق بين الرجل ورفيقه. فإذا رفعوا إلى الجبار أَسْفَرَ لَهُمْ عَنْ وَجْهِهِ الْكَرِيمُ وَتَجَلَّى لَهُمْ في عظمة العظيم وقالوا: رَبَّنَا أَنْتَ السَّلَامُ، وَمِنْكَ السَّلَامُ، وَلَكَ حَقُّ الجلال والإِكرام فيقول لهم ربهم عز وجل: إني السَّلَامُ وَمِنِّي السَّلَامُ، وَلِي حَقُّ الْجَلَالِ والإِكرام، مَرْحَبًا بِعِبَادِي الَّذِينَ حَفِظُوا وَصِيَّتِي، وَرَعَوْا حَقِّي، وخافوني بالغيب فكانوا مِنِّي عَلَى كُلِّ حَالٍ مُشْفِقِينَ.(2/389)
قالوا: وعزتك، وعلو مكانك، ما قدرناك حق قدرك، وما أدينا إليك كل حقك، فأذن لنا بالسجود لك,
فيقول لَهُمْ رَبُّهُمْ: إِنِّي قَدْ وَضَعْتُ عَنْكُمْ مُؤْنَةَ الْعِبَادَةِ، وَأَرَحْتُ لَكُمْ أَبْدَانَكُمْ، فَطَالَمَا أَنْصَبْتُمْ لِيَ الْأَبْدَانَ، وَأَعْنَيْتُمْ لِيَ الْوُجُوهَ، فَالْآنَ أَفْضَيْتُمْ إِلَيَّ رَوْحِي، وَرَحْمَتِي، وَكَرَامَتِي، فَسَلُونِي مَا شِئْتُمْ، وَتَمَنَّوْا عَلَيَّ أُعْطِكُمْ أَمَانِيَّكُمْ، فَإِنِّي لَنْ أَجْزِيَكُمُ الْيَوْمَ بقدر أعمالكم، ولكن بقدر رحمتي، وكرامتي، وطولي، وجلالي، وَعُلُوِّ مَكَانِي، وَعَظَمَةِ شَأْنِي.
فَمَا يَزَالُونَ فِي الأماني والعطايا، والمواهب، حتى إن المقتصر فِي أُمْنِيَّتِهِ لَيَتَمَنَّى مِثْلَ جَمِيعِ الدُّنْيَا مُنْذُ خلقها الله إلى يوم إفنائها.
فيقول لهم الله عز وجل: قد قَصَّرْتُمْ فِي أَمَانِيِّكُمْ، وَرَضِيتُمْ بِدُونِ مَا يَحِقُّ لكم، لقد أَوْجَبْتُ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَتَمَنَّيْتُمْ، وَأَلْحَقْتُ بِكُمْ ذريتكم، ودونكم مَا قَصَّرَتْ عَنْهُ أَمَانِيُّكُمْ".
وَهَذَا مُرْسَلٌ ضَعِيفٌ، غريب، وأحسن أحواله أن يكون من كلام بعض السلف، فوهم بعض رواته فجعله مرفوعاً، وليس كذلك، والله أعلم.
باب جَامع لأحكام تتعَلق بالجَنَّة ولأَحاديث شَتَّى
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالَّذينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُريَّتُهُمْ بإِيمَان ألحَقْنَا بِهِمْ ذريَّتَهُمْ وَمَا ألَتْنَاهُمْ منْ عَمَلهِمْ مِنْ شَيْءٍ} . [52-الطور-21] .(2/390)
ومعنى هذا:
أَنَّ اللَّهَ تَعَالِي يَرْفَعُ دَرَجَةَ الْأَوْلَادِ فِي الْجَنَّةِ، إِلَى دَرَجَةِ الْآبَاءِ، وَإِنْ لَمْ يَعْمَلُوا بِعَمَلِهِمْ، وَلَا يَنْقُصُ الْآبَاءُ مِنْ أَعْمَالِهِمْ، حَتَّى يجمع بينهم وبين بنيهم، في الجنة التي يستحقها الآباء، فيرفع الناقص حتى يساويه مع العالي، ليجمع بينهم في الدرجة العالية: لتقر أعينهم لاجتماعهم وارتفاعهم".
قال الثوري عن عمر بْنِ مُرَّةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ:
"إِنَّ اللَّهَ لَيَرْفَعُ ذُرِّيَّةَ المؤمن إلى درجته، وإن كانوا دونه في العمل، ليقربهم عَيْنَهُ ثُمَّ قَرَأَ:
{وَالذينَ آمَنُوا وَاتبعَتْهُمْ ذرِّيَّتُهُمْ بإيمَان ألْحَقْنَا بهمْ ذرِّيَّتَهُمْ وَمَا ألتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهمْ مِنْ شَيْءٍ} . [52- الطور-21] .
كذا رواه ابن جبير، وابن أبي حاتم في تفسيرهما عَنِ الثَّوْرِيِّ مَوْقُوفًا، وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، عن شعبة، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ سَعِيدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ موقوفاً، وروراه الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ، وَابْنُ مَرْدُوَيْهِ فِي تَفْسِيرِهِ، مِنْ حَدِيثِ قَيْسِ بْنِ الرَّبِيعِ، عَنْ عَمْرٍو عَنْ سَعِيدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم.
وروى الثَّوْرِيِّ: وَشُعْبَةَ أَثْبَتُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَرَوَى ابْنُ أبي الدنيا، من طريق اللَّيْثِ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ:
"هُمْ ذُرِّيَّةُ الْمُؤْمِنِ، يَمُوتُونَ عَلَى الْإِيمَانِ، فَإِنْ كَانَتْ مَنَازِلُ آبَائِهِمْ أَرْفَعَ من منازلهم، ألحقوا بآبائهم، ولم ينقص الأباء مِنْ أَعْمَالِهِمُ الَّتِي عَمِلُوا شَيْئًا".(2/391)
وقال الطبراني: حدثنا حسين بن إسحاق التستري، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَزْوَانَ، حدثنا: شريك، عن سالم الأقطش، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
"إِذَا دَخَلَ الرَّجُلُ الْجَنَّةَ، سَأَلَ عَنْ أَبَوَيْهِ، وزوحته، وَوَلَدِهِ، فَيُقَالُ: إِنَّهُمْ لَمْ يَبْلُغُوا دَرَجَتَكَ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ قَدْ عَمِلْتُ لِي وَلَهُمْ، فَيُؤْمَرُ بِإِلْحَاقِهِمْ بِهِ".
وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {وَالَّذينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذريَّتُهُمْ بإيمَان} . [52- الطور- 21] .
وَقَالَ الْعَوْفِيُّ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي هَذِهِ الآية: يقول الله تعالى: وَالَّذِينَ أَدْرَكَ ذُرِّيَّتُهُمُ الْإِيمَانَ، فَعَمِلُوا بِطَاعَتِي، أَلْحَقْتُهُمْ بآبائهم في الجنة، وأولادهم الصغار تلحق بهم.
هذا التَّفْسِيرُ هُوَ أَحَدُ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ فِي مَعْنَى الذرية، أَهُمُ الصِّغَارُ فَقَطْ? أَمْ يَشْمَلُ الصِّغَارَ وَالْكِبَارَ? كقوله: {وَمِنْ ذريَّتهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ} . [6- الأنعام- 84] .
وَقَالَ: {ذرِّيَّة مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوح إنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً} . [17-الإسراء-3] .
فأطلق الذرية على الصغار، كما أطلقها على الكبار.
وَتَفْسِيرُ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، يَشْمَلُهُمَا، وَهُوَ اختيار الواحدي وغيره، والله أعلم.
وهو محكي عن الشعبي، وأبي مخلد، وسعيد بن جبير، وإ براهيم النخعي وأبي صالح، وقتادة، والربيع بن أنس. هذا فضله ورحمته على الأبناء ببركة عمل الآباء.(2/392)
فضل الله عز وجل على الآباء ببركة عمل الأبناء
فَأَمَّا فَضْلُهُ عَلَى الْآبَاءِ بِبَرَكَةِ دُعَاءِ الْأَبْنَاءِ، فقد قال أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عن أبي عاصم بن النَّجُودِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"إن الله لَيَرْفَعُ الدَّرَجَةَ لِلْعَبْدِ الصَّالِحِ فِي الْجَنَّةِ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ: أنَّى لِي هَذِهِ? فَيَقُولُ: بِاسْتِغْفَارِ وَلَدِكَ لَكَ".
وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ: وَلَمْ يُخْرِجْهُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ الْكُتُبِ السِّتَّةِ، وَلَكِنْ لَهُ شَاهِدٌ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"إِذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يدعو له".(2/393)
فصل الجنة والنار موجودتان
والجنة والنار موجودتان الآن، معدتان لأصحابهما، كما نطق بذلك القرآن? وتواترت بذلك الأخبار عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهذا اعتقاد أهل السنة والجماعة، المستمسكين بالعروة الوثقى، وهي السنة المثلى إلى قيام الساعة، خلافاً لمن زعم أن الجنة والنار لَمْ يُخْلَقَا بَعْدُ، وَإِنَّمَا يُخْلَقَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وهذا القول صدر ممن لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى الْأَحَادِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهَا في الصحيحين(2/393)
وغيرهما من كتب الإِسلام المعتددة الْمَشْهُورَةِ بِالْأَسَانِيدِ الصَّحِيحَةِ وَالْحَسَنَةِ، مِمَّا لَا يُمْكِنُ دفعه، ولا رده، لتواتره، واشتهاره.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ: عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"أَنَّهُ رَأَى الْجَنَّةَ والنار ليلة الإسراء".
وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"اشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا فَقَالَتْ: يَا رَبِّ: أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا، فأذن لها في نفسين، نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ، وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ، فَأَشَدُّ ما تجدون من الزمهرير، من بردها، وأشد ما تجدون في الْحَرِّ، مِنْ فَيْحِهَا، فَإِذَا كَانَ الْحَرُّ فَأَبْرِدُوا بالصلاة".
وثبت في الصَّحِيحَيْنِ: مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"تَحَاجَّتِ الجنة والنار، فقالت النار: أؤثرت بِالْمُتَكَبِّرِينَ وَالْمُتَجَبِّرِينَ. وَقَالَتِ الْجَنَّةُ: مَا لِي لَا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم دون غيرهم? فقال الله لِلْجَنَّةِ: أَنْتِ رَحْمَتِي أَرْحَمُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِي، وَقَالَ لِلنَّارِ: أَنْتِ عَذَابِي، أُعَذِّبُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِي، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ منكما ملؤها، فأما النار فلا تمتلىء حَتَّى يَضَعَ قَدَمَهُ عَلَيْهَا، فَتَقُولُ: قَطْ قَطْ، فهنالك تمتلىء، وينزوي بعضها إلى بعض، ولا يظلم من خلقه أحداً، وأما الجنة فينشىء الله لها خلقاً" 1.
__________
1 الحديث رواه مسلم في صحيحه. 51- كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها. 13- باب النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء حديث رقم 2846. ورواه البخاري. 65- كتاب التفسير. 50- سورة ق. 1- باب قوله: {وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} . غريب اللغة: سقطهم: أي ضعفاؤهم والمتحقرون منهم.(2/394)
لفظ مسلم.
وثبت في الصحيحين: من طريق سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
"لَا تَزَالُ جَهَنَّمُ يُلْقَى فِيهَا، وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ، حتى يضع الجبار فِيهَا قَدَمَهُ، فَيَنْزَوِي بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ، وَتَقُولُ: قَطْ قَطْ. بِعِزَّتِكَ وَكَرَمِكَ، وَلَا يَزَالُ فِي الجنة فضل، حتى ينشىء الله لها خلقاً، فيسكنهم فضل الجنة" 1.
فَأَمَّا مَا وَقَعَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم من أنه سبحانه وتعالى ينشىء لِلنَّارِ مَنْ يَشَاءُ، فَيُلْقَى فِيهَا، فَتَقُولُ: هَلْ من مزيد? وإشكال هذه الرواية، فَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْحُفَّاظِ: هَذَا غَلَطٌ مِنْ بعض الرواة، وكأنه اشتبه عليه، فدخل عَلَيْهِ لَفْظٌ فِي لَفْظٍ فَنَقَلَ هَذَا الْحُكْمَ من الجنة إلى النار: والله أعلم.
قُلْتُ: فَإِنْ كَانَ مَحْفُوظًا فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ تَعَالَى امتحنهم فِي الْعَرَصَاتِ كَمَا يَمْتَحِنُ غَيْرَهُمْ مِمَّنْ لَمْ تَقُمْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ فِي الدُّنْيَا، فَمَنْ عَصَى مِنْهُمْ أَدْخَلَهُ النَّارَ، وَمَنِ اسْتَجَابَ أَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ، لقوله تعالى:
{وَمَاكُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} . [17-الإسراء- 15] .
ولقوله تَعَالَى:
{رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاِّ يَكُونَ لِلنَّاس عَلَى اللَّهِ حُجّةٌ بَعْدَ الرًّسُل وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} . [4- النساء-165] .
__________
1 الحديث رواه مسلم. 51- كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها. 13- باب النار يدخلها الجباون رقم 2848- ورواه البخاري 83- كتاب الإيمان والنذور. 12- باب الحلف بغير الله.(2/395)
فصل في بعض صفات أهل الجنة وبعض صفات أهل النار
وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا سَلَفَ صِفَةَ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَالَ دُخُولِهِمْ إِلَيْهَا، وَقُدُومِهِمْ عَلَيْهَا، وَأَنَّهُمْ يُحَوَّلُ خَلْقُهُمْ إِلَى طُولِ سِتِّينَ ذِرَاعًا فِي عَرْضِ سبعة أذرع، وأنهم يكونون جرداً مكحلين في سن أبناء ثلاث وثلاثين. قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ هَاشِمٍ، حَدَّثَنَا صَفْوَانُ1 بْنُ صَالِحٍ، حدثني داود بْنُ الْجَرَّاحِ الْعَسْقَلَانِيُّ، حَدَّثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ، عَنْ هَارُونَ2 بْنِ رِئَابٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم:
"يَدْخُلُ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ عَلَى طُولِ آدَمَ، ستين ذراعا بذراع الملك، على حسن يوسف، وَعَلَى مِيلَادِ عِيسَى، ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ، وَعَلَى لِسَانِ محمد".
وَرَوَى دَاوُدَ3 بْنِ الْحُصَيْنِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: "لِسَانُ أَهْلِ الْجَنَّةِ عَرَبِيٌّ".
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ: مِنْ طَرِيقَيْنِ فِيهِمَا ضَعْفٌ: عَنْ أبي كريمة المقدام بن معدي كرب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم:
__________
1 صفوان بن صالح بن صفوان الثقفي مولاهم أبو عبد الملك الدمشقي، ثقة، وكان يدلس تدليس التسوية، قاله أبو زرعة الدمشقي، من العاشرة، مات سنة ثمان أو سبع أو تسع وثلاثين، وله سبعون سنة د س ت فق.
تقريب التهذيب 1- 368رقم 104.
2 هارون بن رئاب بكسر الراء والتحتانين مهموز ثم موحدة، التميمي أبو بكر، أو أبو الحسن، ثقة عابد، من السادسة، اختلف في سماعه من أنس. - م د س. تقريب التهذيب 1- 368 رقم 7.
3 داود بن الحصين الأموي مولاهم أبو سليمان المدني، ثقة إلا في عكرمة، ورمي برأي الخوارج من السادسة، مات سنة خمس وثلاثين. – ع. تقريب التهذيب 1- 231 رقم 3.(2/396)
"ما من أحد من الناس يموت سقطاً ولا هرماً أو فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ، إِلَّا بُعِثَ ابْنَ ثَلَاثِينَ. وَفِي رِوَايَةٍ- ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ- سَنَةً فَإِنْ كَانَ من أهل الجنة كان على مسحة وصورة يوسف، وقلب أيوب، مرداً مكحلين، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ عُظِّمُوا وَفُخِّمُوا كالجبال".
وفي رواية: "حتى تصير جلدة يد أحدهم أربعين ذراعاً وَحَتَّى يَصِيرَ نَابٌ مِنْ أَنْيَابِهِ مِثْلَ أُحُدٍ".
وثبت: "أن أهل الجنة يأكلون، ويشربون، ولا يبولون، ولا يتغوطون، وإنما ينصرف طعامهم بأنهم يعرقون عرقاً، له رائحة كرائحة المسك الأذفر، وأنفاسهم تحميد وتكبير، وتسبيح" 1.
وثبت: "أن أول زمرة مِنْهُمْ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ في البهاء كأضواء كَوْكَبٍ دُرِّيٍّ فِي السَّمَاءِ، وَأَنَّهُمْ يُجَامِعُونَ، وَلَا يتناسلون، ولا يتوالدون، إلا ما يشاؤون، وَأَنَّهُمْ لَا يَمُوتُونَ، وَلَا يَنَامُونَ، لِكَمَالِ حَيَاتِهِمْ بكثرة لذاتهم، وتوالي طعامهم وشرابهم، وَكُلَّمَا ازْدَادُوا خُلُودًا ازْدَادُوا حُسْنًا، وَجَمَالًا، وَشَبَابًا، وقوة، وكمالاً، وَازْدَادَتْ لَهُمُ الْجَنَّةُ حُسْنًا، وَبَهَاءً، وَطِيبًا، وَضِيَاءً، وكانوا أرغب فيها، وأحرص عليها، فكانت لهم أعز وأغلى وألذ، وأحلى، قال الله تَعَالَى: {خَالِدينَ فِيهَا لاَ يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً} . [18- الكهف-108] .
__________
1 الحديث رواه مسلم في صحيحه 51- 7- 2835.(2/397)
فصل
وقد ذكرنا: أن أول من يدخل الجنة من بني آدم على الإِطلاق هُوَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ أعلاهم منزلة، وأن أول من يدخلها من الأمم أمته، وأول من يدخل مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، أَبُو بَكْرٍ الصَّدِّيقُ رَضِيَ الله عنه، وتقدم، أن أفراد هذه الأمة يكثرون في الجنة، وأنهم فيها يعدلون ثلثي أهل الجنة، كَمَا تَقَدَّمَ:
"أَهْلُ الْجَنَّةِ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ صَفًّا وهذه الأمة ثمانون صفاً".(2/398)
يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل أغنيائهم بخمسمائة سنة
وفي المسند، وجامع الترمذي، وسنن ابْنِ مَاجَهْ، مِنْ حَدِيثُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو: عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، مَرْفُوعًا:
"يَدْخُلُ فُقَرَاءُ الْمُسْلِمِينَ الْجَنَّةَ قَبْلَ أَغْنِيَائِهِمْ بِنِصْفِ يَوْمٍ، وَهُوَ خَمْسُمِائَةِ عَامٍ". وَإِسْنَادُهُ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ: مِنْ حَدِيثِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، مَرْفُوعًا، مِثْلَهُ.
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ: مِنْ طَرِيقِ الْأَعْمَشُ، عَنْ عَطِيَّةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، مَرْفُوعًا، مثله، ثم حسنه.
وَالَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ: مِنْ طَرِيقِ أَبِي عَبْدِ الرحمن الجعلي، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
"إِنَّ فقراء المهاجرين يسبقون الأغنياء يوم القيامة بأربعين خريفاً".
وروى الترمذي: عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، مَرْفُوعًا، مِثْلَهُ، وَصَحَّحَهُ. وَلَهُ: عَنْ أَنَسٍ أَيْضًا، نَحْوُهُ، وَاسْتَغْرَبَهُ.
قلت: وإن كان الأول محفوظاً، فيكون باعتبار أول الفقراء وآخر الأغنياء، والله أعلم.(2/398)
أول ثلاثة يدخلون الجنة وأول ثلاثة يدخلون النار
وروى الإمام أحمد: عن إسماعيل بن عُلَيَّةَ، وَأَبُو بَكْرِ بْنِ أَبَى شَيْبَةَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ هارون، كلاهما عن هشام الدستوري، عن يحيى بن أبي كثير، عن عامر العقلي، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"عَرَضَ عليَّ أول ثلاثة يدخلون الجنة، وأول ثلاثة يدخلون النار، قال: فأما أول ثلاثة يدخلون الجنة: فشهيد، وَعَبْدٌ مَمْلُوكٌ لَمْ يَشْغَلْهُ رِقُّ الدُّنْيَا عَنْ طَاعَةِ رَبِّهِ، وَفَقِيرٌ مُتَعَفِّفٌ، ذُو عِيَالٍ، وَأَمَّا أَوَّلُ ثَلَاثَةٍ يَدْخُلُونَ النَّارَ: فَأَمِيرٌ مُسَلَّطٌ، وَذُو ثروة من مال لَا يُؤَدِّي حَقَّ اللَّهِ مِنْ مَالِهِ، وَفَقِيرٌ فخور".
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ: مِنْ طَرِيقِ ابْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، وَقَالَ: حَسَنٌ، وَلَمْ يذكر الثلاثة مِنْ أَهْلِ النَّارِ.
وَثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: عن عياض بن حماد الْمُجَاشِعِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ:
"أَهْلُ الْجَنَّةِ ثَلَاثَةٌ: ذُو سُلْطَانٍ مُقْسِطٌ مُتَصَدِّقٌ مُوَفَّقٌ، وَرَجُلٌ رَحِيمُ الْقَلْبِ بِكُلِّ ذِي قربى، ومسلم عفيف مُتَعَفِّفٌ ذُو عِيَالٍ، وَأَهْلُ النَّارِ خَمْسَةٌ: الضَّعِيفُ الَّذِي لَا زَبْرَ لَهُ 1، الَّذِينَ هُمْ فِيكُمْ تبعاً لا يبتغون أَهْلًا وَلَا مَالًا، وَالْخَائِنُ الَّذِي لَا يَخْفَى لَهُ طَمَعٌ- وَإِنْ دَقَّ- إِلَّا خَانَهُ، وَرَجُلٌ لا يصبح ولا
__________
1 لا زبر له، لا عقل له يزجره عن فعل ما لا يليق، وعمل ما لا يجوز.(2/399)
يُمْسِي إِلَّا وَهُوَ يُخَادِعُكَ عَنْ أَهْلِكَ وَمَالِكَ، وذكر البخل- أو الكذب- والشنظير الفحاش".
وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ: مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَشُعْبَةَ، عَنْ مَعْبَدِ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ حَارِثَةَ بْنَ وَهْبٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ:
"أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ الْجَنَّةِ? كُلُّ ضَعِيفٍ مستضعف، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ، أَلَا أُخْبِرُكُمْ بأهل النار? كل عتل جواظ متكبر" 1.
وقال أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ إِسْحَاقَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا مُوسَى بْنُ عُلَيِّ بْنِ رَبَاحٍ، سَمِعْتُ أَبِي يُحَدِّثُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
"أَهْلُ النَّارِ كُلُّ جَعْظَرِيٍّ جَوَّاظٍ، مُسْتَكْبِرٍ، جَمَّاعٍ، مَنَّاعٍ، وَأَهْلُ الْجَنَّةِ الضُّعَفَاءُ، الْمَغْلُوبُونَ".
وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا أَبُو هِلَالٍ الراسي، حدثنا عقبة بن نبيت، عَنْ أَبِي الْجَوْزَاءِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم:
"أَهْلُ الْجَنَّةِ مَنْ مَلَأَ أُذُنَيْهِ مِنْ ثَنَاءِ النَّاسِ خَيْرًا وَهُوَ يَسْمَعُ، وَأَهْلُ النَّارِ مَنْ مَلَأَ أُذُنَيْهِ مِنْ ثَنَاءِ النَّاسِ شَرًّا وَهُوَ يَسْمَعُ".
وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ: مِنْ حَدِيثِ مُسْلِمِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ.
وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو عُبَيْدٍ علي بن الحسين، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ خَلِيفَةَ، عَنْ أَبِي هَاشِمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم:
__________
1 الحديث رواه مسلم في صحيحه 51- 13- 2853.(2/400)
"أُخْبِرُكُمْ بِرِجَالِكُمْ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ: النَّبِيُّ فِي الْجَنَّةِ، وَالصِّدِّيقُ فِي الْجَنَّةِ، وَالشَّهِيدُ فِي الْجَنَّةِ، وَالرَّجُلُ يَزُورُ أَخَاهُ فِي نَاحِيَةِ الْمِصْرِ لَا يزوره إلا الله في الجنة، ونساؤكم من أهل الجنة، العؤود الولود، التي إذا غضب زوجها جاءت حتى تضع يدها عليه: ثُمَّ تَقُولُ: لَا أَذُوقُ غُمْضًا حَتَّى تَرْضَى".
وَرَوَى النَّسَائِيُّ بَعْضَهُ مِنْ حَدِيثِ خَلَفِ بْنِ خَلِيفَةَ، عن أبي هاشم، عن يحيى بن دينار، به.
وتقدم في الأحاديث الصحيحة: عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ:
"اطَّلَعْتُ فِي الْجَنَّةِ فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا الْفُقَرَاءَ، وَاطَّلَعْتُ فِي النَّارِ فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا الأغنياء".(2/401)
الحمادون لله عز وجل في السراء والضراء هم أول من يدعى يوم القيامة لدخول الجنة
وَتَقَدَّمَ الْحَدِيثُ الْوَارِدُ مِنْ طَرِيقِ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَرْفُوعًا: "أَوَّلُ مَنْ يُدْعَى إِلَى الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْحَمَّادُونَ، الَّذِينَ يَحْمَدُونَ اللَّهَ فِي السَّرَّاءِ والضراء".(2/401)
فصل أمة محمد عليه السلام أكثر أهل الجنة عدداً، وأعلاهم مكاناً ومكانة
هذه الأمة أكثر أهل الجنة، وأغناهم فيها، وأعلاهم منازل، وهم صدورها كما قال الله تَعَالَى فِي صِفَةِ الْمُقَرَّبِينَ: {ثلَةٌ مِنَ الأوّلينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ} . [56- الواقعة-13-14] .(2/401)
وقال في صفة أهل اليمين: {ثلَّةٌ مِنَ الأَوَّلينَ وَثلَّةٌ مِنَ الآخِرِينَ} . [56- الْوَاقِعَةِ- 39-40] .
وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ: "خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يكون قوم تحت الشمس- أو السماء- يَنْذِرُونَ وَلَا يَفُونَ، وَيَشْهَدُونَ وَلَا يُسْتَشْهَدُونَ وَيَخُونُونَ ولا يؤتمنون".
الصدر الأول من صحابة رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُمْ خير هذه الأمة
وخيار الأمة، الصدر الأوائل من الصحابة، كما قال ابن مسعود:
"فمن كان منكم مقتدياً فليقتد بمن قد مات، أولئك أصحاب محمد، آمن هذه الأمة قلوباً، وأعظمها عِلْمًا، وَأَقَلُّهَا تَكَلُّفًا، قَوْمٌ اخْتَارَهُمُ اللَّهُ لِصُحْبَةِ نبيه، ونصرة دينه، فاعرفوا لهم قدرهم، وَاقْتَدُوا بِهِمْ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى الْهُدَى الْمُسْتَقِيمِ".(2/402)
بعض الآثار الواردة في دخول أعداد كبيرة من هذه الأمة إلى الجنة بغير حساب
وَتَقَدَّمَ أَنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ يَدْخُلُ مِنْهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ سَبْعُونَ أَلْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: "مَعَ كُلِّ أَلْفٍ سَبْعُونَ أَلْفًا".
وَفِي ر واية أحمد: "مع كل واحد سبعون ألفاً". وإليك ذكر الحديث: وإشارة إلى طرقه وألفاظه.(2/402)
سبقك بها عكاشة
ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ: مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
"يَدْخُلُ الْجَنَّةَ من أمتي زمرة هم سبعون ألفاً، تُضِيءُ وُجُوهُهُمْ إِضَاءَةَ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ".
فَقَامَ عكاشة بن محصن الأسدي يدفع نمرة فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يجعلني منهم، فَدَعَا لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ يجعله الله منهم.
فقام رَجُلٌ مِنَ. الْأَنْصَارِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: ادْعُ اللَّهَ أَنْ يجعلني منهم، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "سبقك بها عكاشة" 1.
ولهما من رواية أبي حازم: عن سهل بن سعد، مثله.
ولهما: مِنْ رِوَايَةِ حُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ:
"عُرِضَتْ عَلَيَّ الْأُمَمُ، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم وَمَعَهُ الرَّهْطُ، وَالنَّبِيَّ وَمَعَهُ الرَّجُلُ، وَالرَّجُلَانِ، وَالنَّبِيَّ ليس معه أحد، فرفع سواد، فَظَنَنْتُ أَنَّهُمْ أُمَّتِي، فَقِيلَ لِي: هَذَا مُوسَى وَقَوْمُهُ، وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْأُفُقِ، فَنَظَرْتُ فَإِذَا سواد عظيم،
__________
1 الحديث رواه مسلم في صحيحه. 1- كتاب الإيمان. 92- باب الدليل على دخول طوائف من المسلمين الجنة بغير حساب.
- ورواه البخاري 81- كتاب الرقاق- 50- باب يدخل الجنة سبعون ألفا بغير حساب وما بين القوسين زيادة كانت ساقطة في الأصل وأثبتها من الحديث في مسلم.
غريب اللغة:
نمرة: كساء فيه خطوط بيض وسود كأنها أخذت من جلد النمر.(2/403)
فَقِيلَ لِي: هَذِهِ أُمَتُّكَ، وَمَعَهُمْ سَبْعُونَ أَلْفًا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ، وَلَا عَذَابٍ".
وَفِيهِ: "هم الذين لا يَسْتَرْقُونَ وَلَا يَتَطَيَّرُونَ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ". فَقَامَ عكاشة، فذكره.
ولمسلم: من طريق محمد بن سيرين، وعمران بن الحصين، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ أَمْتَى سَبْعُونَ أَلْفًا بِغَيْرِ حساب، ولا عذاب، قيل من هم? قال: هم الذين لا يكتوون ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون" 1.
ولمسلم: مِنْ حَدِيثِ ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، نحوه..
وروى عاصم: عن رزين بن مسعود، نحوه. وإسناده على شرط مسلم بن الحجاج.
وَقَالَ هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ خَطِيبُ دِمَشْقَ: وَأَبُو بكر بن أبي شيبة، واللفظ له:
__________
1 الحديث رواه مسلم في صحصحيه 1- كتاب الإيمان 92- باب الدليل على دخول طوائف من المسلمين الجنة بغير حساب.
- ورواه البخاري. 76- باب الطب. 42- باب من لم يرق.
- غريب اللغة:
سوادا كثيرا: أشخاصا كثيرة من بعده.
لا يتطيرون: لا يتشاءمون بالطيور كالجاهلية.
لا يكتوون: معتقدي الشفاء في الكي كالجاهلية.
لا يسترقون: يطلبون الرقية.(2/404)
أخبرنا إسماعيل بن عباس: أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ زِيَادٍ الْأَلْهَانِيُّ، سَمِعْتُ أَبَا أُمَامَةَ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
"وَعَدَنِي رَبِّي أَنْ يُدْخِلَ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعِينَ أَلْفًا، مَعَ كُلِّ ألف سبعون أَلْفًا، لَا حِسَابَ عَلَيْهِمْ، وَلَا عَذَابَ، وَثَلَاثَ حَثَيَاتٍ مِنْ حَثَيَاتِ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ".
وَكَذَا رواه أبو بكر بن عَاصِمٍ: عَنْ دُحَيْمٍ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ صفوان بن عمرو، عن أبي سليم بن عامر، عن أبي اليمان عامر بن عبد الله بن يحيى الهوزي، عن أبي أمامة، فذكرمثله.
وروى الطبراني: من حديث عامر بن سعد البجلي، عَنْ عُتْبَةَ بْنِ عَبْدٍ السُّلَمِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَهُ..
وروى الطبراني: مِنْ طَرِيقِ أَبِي أَسْمَاءَ الرَّحَبِيِّ، عَنْ ثَوْبَانَ، مِثْلَهُ ... وَلَمْ يَذْكُرْ ثَلَاثَ حَثَيَاتٍ ...
وَلَهُ: مِنْ حديث قيس الكندي، عن أبي سعيد الأنصاري، مثله- بذكر الحثيات- وقد قدمنا بقية طرقه بألفاظها.(2/405)
فَصْلٌ فِي بَيان وُجود الجَنَّة وَالنَّار وأَنَّهُما مخلوقان خِلافاً لِمَنْ زَعَمَ خِلاف ذَلِك مِن أهل البطلان
قال تعالى:
{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ ربِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّموَاتُ وَالأرْضُ أعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} . [3- آل عمران -133] .
وقال تعالى:
{سَابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ ربكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْض السَّمَاءِ وَالأرْض أعِدَّتْ لِلّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْل الْعَظِيم} . [57-الحديد-21] .
وقال تعالى:
{واتَّقُوا النَّار الَّتي أعِدَّتْ لِلْكافِرِين} . [3- آل عمران- 131] .
وقال فِي حَقِّ آلِ فِرْعَوْنَ:
{النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا عدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابَ} . [40- غافر-46] .
وقال تَعَالَى:
{فَلاَ تَعْلَمُ نَفْس مَا أخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قرَّةِ أعْيُن جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلونَ} . [32- السجدة- 17] .(2/406)
وثبت في الصَّحِيحَيْنِ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ:
"يَقُولُ اللَّهُ تعالى: أعددت لعبادي الصالحين ما لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خطر على قلب بشر، ذخراً من بله ما أطلعتم عَلَيْهِ" ثُمَّ قَرَأَ: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أعْيُن} . الآية.
وفي الصحيحين: من حديث مَالِكٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
"إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا مَاتَ، عُرِضَ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ، إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَمِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَإِنْ كَانَ من أهل النار، فمن أهل النار، فقيل: هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة".
وفي صحيح مسلم: عن أبي مَسْعُودٍ: "أَرْوَاحُ الشُّهَدَاءِ فِي حَوَاصِلِ طَيْرٍ خُضْرٍ، تَسْرَحُ فِي الْجَنَّةِ حَيْثُ شَاءَتْ، ثُمَّ تَأْوِي إلى قناديل معلقة في العرش".
وروينا من حديث الإِمام أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ الشَّافِعِيِّ، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
"إنما نسمة المؤمن في طائر معلق في شجر الجنة حتى يرجعها اللَّهُ إِلَى جَسَدِهِ يَوْمَ يَبْعَثُهُ". وَتَقَدَّمَ الْحَدِيثُ المتفق عليه: مِنْ طَرِيقِ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ.: "حُفَّتِ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ، وَحُفَّتِ النار بالشهوات".
وذكر الْحَدِيثَ الْمَرْوِيَّ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا:
"لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الجنة قال يا جبريل: اذهب فانظر إليها" الحديث.(2/407)
وتقدم الْحَدِيثُ الْآخَرُ: "لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْجَنَّةَ، قَالَ لها: تكلمي، فقالت: قد أفلح المؤمنون".
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَعِنْدَ مُسْلِمٍ: عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "تَحَاجَّتِ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ" الْحَدِيثَ.
وَفِيهِمَا: عَنِ ابْنِ عُمَرَ، مَرْفُوعًا: "الْحُمَّى مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ".
وَفِيهِمَا: عَنْ أَبِي ذَرٍّ، مَرْفُوعًا: "إِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ فَأَبْرِدُوا بِالصَّلَاةِ، فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ".
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: "إِذَا دَخَلَ شَهْرُ رَمَضَانَ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النار".
وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي حَدِيثِ الإِسراء: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى الْجَنَّةَ والنار ليلتئذ.
وقال اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ المُنْتَهَى عِنْدَهَا جَنَّةُ المَأْوَى} . [53- النَّجْمِ- 13- 15] .
وَقَالَ فِي صِفَةِ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى: "إِنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ أَصْلِهَا نَهَرَانِ ظَاهِرَانِ وَنَهْرَانِ بَاطِنَانِ، وذكر الْبَاطِنَيْنِ فِي الْجَنَّةِ".(2/408)
وفي الصحيحين: "ثم أدخلت الجنة، فإذا جنادل اللؤلؤ، وإذا ترابها المسك".
وفي صحيح مسلم: من طريق قتادة، عَنْ أَنَسٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال:
"بينا أَنَا أَسِيرُ فِي الْجَنَّةِ، إِذَا أَنَا بِنَهَرٍ حَافَتَاهُ قِبَابُ اللُّؤْلُؤِ الْمُجَوَّفِ، فَقُلْتُ: مَا هَذَا? قَالَ: هَذَا الْكَوْثَرُ الَّذِي أَعْطَاكَ رَبُّكَ".
وَفِي مناقب عمر: أنه صلى الله عليه وسلم قال:
"أدخلت الجنة فرأيت جارية تتوضأ عند قصر، فقلت: لمن أنت? قالت لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَدْخُلَهُ، فَذَكَرْتُ غيرتك".
فبكى عمر وقال: أو عليك أَغَارُ يَا رَسُولَ اللَّهِ? وَالْحَدِيثُ فِي الصَّحِيحَيْنِ، عن جابر.
وقال لبلال: "دخلت الجنة فسمعت خشف نعليك بين يدي في الجنة، فَأَخْبِرْنِي بِأَرْجَى عَمَلٍ عَمِلْتَهُ فِي الْإِسْلَامِ"، فَقَالَ: ما عملت عملاً في الإِسلام أرجى عندي منفعة من أني لا أتطهر طهوراً تاماً في ساعة من ليل ولا نهار، إلا صليت بذلك الطهور ما كتب الله لي أن أصلي.
وأخبرني عَنْ الرُّمَيْصَاءِ: "أَنَّهُ رَآهَا فِي الْجَنَّةِ".
أَخْرَجَاهُ عن جابر بن عبد الله.
وَأَخْبَرَ فِي يَوْمِ صَلَاةِ الْكُسُوفِ: "أَنَّهُ عُرِضَتْ عليه الجنة والنار، وأنه دنت منه الجنة، وأنه همّ أن يأخذ منها قطفاً من عنب. ولو أخذ ثمة لَأَكَلْتُمْ مِنْهُ مَا بَقِيَتِ الدُّنْيَا".(2/409)
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: مِنْ طَرِيقِ الْزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"رَأَيْتُ عَمْرَو بْنَ عامر بن الخزاعي ابن قمعة بن خندف أخا بني كعب هؤلاء1 يَجُرُّ قُصْبَهُ فِي النَّارِ".
وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ الآخر: "ورأيت فيها صاحب المحجن".
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"دَخَلَتِ امْرَأَةٌ النَّارَ، فِي هِرَّةٍ حَبَسَتْهَا حَتَّى ماتت، فلا هي أطعمتها وسقتها، وَلَا هِيَ تَرَكَتْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ".
"ولقد رأيتها تحمشها".
وأخبر عن الرجل الذي ينحي غصن شوك عن طريق المارة. فقال: "فلقد رأيته يستظل به في الجنة".
وفي الحديث: فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظٍ آخَرَ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
"اطَّلَعْتُ فِي الْجَنَّةِ، فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا الْفُقَرَاءَ، وَاطَّلَعْتُ فِي النَّارِ، فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ".
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: مِنْ طَرِيقِ الْمُخْتَارِ بن فلفل المخزومي، عَنْ أَنَسٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
"وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ رَأَيْتُمْ مَا رَأَيْتُ، لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا، وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا"، قَالُوا: يَا رسول الله فما رأيت? قال: "رأيت الجنة والنار".
__________
1 ما بين القوسين موجود في مسلم وغير موجود بالأصل.(2/410)
وأخبر:
"أن المتوضىء إذا تشهد بعد وضوئه فإنه تفتح له أبواب الجنة يَدْخُلُ مِنْ أَيِّهَا شَاءَ".
وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ: مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ، عَنْ عدي بن حاتم، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، قَالَ: لَمَّا تُوُفِّيَ إِبْرَاهِيمُ ابْنُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
"إن له لمرضعاً في الجنة".
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَخْبَرَنَا الْحَاكِمُ، أَخْبَرَنَا الْأَصَمُّ، حَدَّثَنَا ابن عباس الرَّمْلِيُّ، حَدَّثَنَا مُؤَمَّلُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَصْبَهَانِيِّ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"أَوْلَادُ الْمُؤْمِنِينَ فِي جَبَلٍ فِي الْجَنَّةِ، يَكْفُلُهُمْ إِبْرَاهِيمُ وَسَارَةُ حَتَّى يَرُدَّهُمْ إِلَى آبَائِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ".
وَكَذَا رَوَاهُ وَكِيعٌ: عَنْ سُفْيَانَ- وَهُوَ الثَّوْرِيُّ- وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَقَدْ أَوْرَدْنَا كَثِيرًا مِنْهَا بأسانيدها ومتونها فيما تقدم.
وقال الله تَعَالَى:
{وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أنْتَ وَزَوْجُكَ الجَنَّةَ وكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَة} . [2- البقرة- 35] .
وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْجَنَّةَ جَنَّةُ الْمَأْوَى، وَذَهَبَ طَائِفَةٌ آخَرُونَ إِلَى أَنَّهَا جَنَّةٌ فِي الأرض، خلقها الله تعالى له، ثم أخرجه منها.
وقد ذكرنا ذلك مبسوطاً في قصة آدم، مِنْ كِتَابِنَا هَذَا، بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ، وبالله المستعان.(2/411)
فَصْلٌ
وَثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ فُقَرَاءَ الْمُهَاجِرِينَ يَسْبِقُونَ الْأَغْنِيَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى الْجَنَّةِ بِأَرْبَعِينَ خريفاً".
كذا روى الترمذي: من حديث جابر، وصححه أنس وَاسْتَغْرَبَهُ.
وَلِلتِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَصَحَّحَهُ، وأ بي سعيد، وحسنه: "بنصف يوم، خمسمائة عام".
قلت: فإن كان محفوظاً- كما صححه الترمذي- فتحصل أن ذلك باعتبار أول دخول الفقراء، وآخر الأغنياء، ويكون الْأَرْبَعُونَ خَرِيفًا، بِاعْتِبَارِ مَا بَيْنَ دُخُولِ آخِرِ الْفُقَرَاءِ، وَأَوَّلِ الْأَغْنِيَاءِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ الْقُرْطُبِيُّ فِي التَّذْكِرَةِ حَيْثُ قَالَ: "وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْفُقَرَاءِ وَالْأَغْنِيَاءِ" يشير الى ما ذكرناه.
قال الزهري: "كلام أهل الجنة عربي، وبلغنا أَنَّ النَّاسَ يَتَكَلَّمُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالسُّرْيَانِيَّةِ، فَإِذَا دخلوا الجنة تكلموا بالعربية".(2/412)
فَصْلٌ فِي الْمَرأَة تَتزوج فِي الدُّنْيَا بَأزواج وتَكون في الجنَّة لِمَنْ كان في الدُّنْيَا أَحْسَنَهُمْ خُلُقاً
ذكر القرطبي في التذكرة: من طريق وَهْبٍ، عَنْ مَالِكٍ، أَنَّ أَسْمَاءَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ شَكَتْ زَوْجَهَا الزُّبَيْرَ إِلَى أَبِيهَا فَقَالَ:
"يَا بُنَيَّةُ، اصْبِرِي فَإِنَّ الزُّبَيْرَ رَجُلٌ صَالِحٌ، ولعله يكون زوجك في الجنة".
وقد بَلَغَنِي أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا ابْتَكَرَ الْمَرْأَةَ، تَزَوَّجَهَا في الجنة1.
وقال أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، وَحُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ. أَنَّ الْمَرْأَةَ تَكُونُ لِآخِرِ أَزْوَاجِهَا فِي الدُّنْيَا، وَجَاءَ: أَنُّهَا تَكُونُ لِأَحْسَنِهِمْ خُلُقًا.
قَالَ أبو بكر النجاد: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ شَاكِرٍ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بن إسحاق العطار، حدثنا يسار بن هارون، عن حميد بن أَنَسٍ، أَنَّ أمٍ حَبِيبَةَ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: الْمَرْأَةُ يَكُونُ لَهَا الزَّوْجَانِ فِي الدُّنْيَا، فلأيهما تكون? فَقَالَ:
"لِأَحْسَنِهِمَا خُلُقًا كَانَ مَعَهَا فِي الدُّنْيَا".
__________
1 الحديث رواه القرطبي في تذكرته 2- 576.(2/413)
ثُمَّ قَالَ: "يَا أُمَّ حَبِيبَةَ: ذَهَبَ حُسْنُ الْخُلُقِ بِخَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ" 1.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أم سلمة، نحو هذا، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وإليه المرجع والمآب.
__________
1الحديث رواه القرطبي في تذكرته 2-577.(2/414)