ملخص البحث
للقرآن والإسلام أثر في اللغة العربية عظيم، بل هو أعظم مؤثر فيها، وإليه ترجع نشأة علوم اللغة العربية من نحو، وصرف، ولغة، ومعجم، وبلاغة، وأدب، وكان دافعا لأهل الإسلام من عرب وغيرهم ليتباروا ويتسابقوا في تعلم العربية، وإجادتها، والتفاصح في استعمالها، والتسامي إلى لغة القرآن، ومحاكاة بيانه، بل إنه نقل العربية لتكون لغة عالمية حية، لا تهم العربي وحده، بل تهم كل مسلم أيا كان عرقه.
وتفرغ للعناية بها وخدمتها فئات من مختلف الأعراق، وقد شارك علماء العربية في علوم القرآن المختلفة، وكان بين علوم القرآن، وعلوم العربية ارتباط قوي.
وصار في اعتقاد كل مسلم أن العربية - لأنها حملت كتاب الله - أفضل لغة، وهي الأقدر على التعبير عن معاني القرآن، في حين يجهد الزنادقة وأعداء الدين في صرفنا عن لغة القرآن، وكلماته، دراسة واستعمالا؛ ليتحقق لهم إبعادنا عن القرآن نفسه تلاوة وعملا .
وقد صار إتقان العربية مدعاة لتفضيل القارئ، كما صارت الرغبة في فهم القرآن دافعا لحفظ لغة العرب، وشعرها، وأمثالها، وكلامها، وسائر علومها.(1/1)
والعربية حجة شرعية فيما يرجع فيه إلى اللغة، ولهذا صارت واجبا على كل متعلق من العلم بالقرآن بسبب، وقد وضح البحث من خلال أقوال السلف ما يحتاجه متعلم القرآن من العربية .
ولهذا لا نستغرب الصلة الوثيقة بين علوم القرآن وعلوم العربية، وقد تجلت الصلة في تاريخ تلك العلوم، ونشأتها، ومن خلال تراجم أعلامها، ورسم القرآن، وألفاظه، ومعانيه ، وتفسيره، والاحتياج للقراءات وبها، ووقوف القرآن، وإعرابه، وغيرها من علوم القرآن، وقد أوضح البحث بقدر ما تدعو إليه الحاجة جهد علماء العربية في هذه العلوم القرآنية، وأنهم عنوا بها خدمة للقرآن، كما أوضح التلازم بين هذه العلوم، وتآخيها، بحيث يعز على مريد الفصل أن يفصل بينهما .
كما أشار إلى خطورة الدعوة إلى فصل العربية عن القرآن وعلومه، وخطورة التقليل من شأن القرآن في بقاء العربية وخلودها .
وقد لفت البحث النظر إلى الحرص على إعادة الترابط بين علوم القرآن والعربية، من خلال البرامج التربوية والتعليمية .. تم .(1/2)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله .
وبعد، فتلقيت دعوة كريمة، من مقام كريم، لغاية نبيلة، ومقصد جليل، للمشاركة في ندوة محضت للوحي الرباني، وما استنبته من علوم، وأحاط به من فنون، وتعرف الجاهل، وتذكر الناسي جهودا بذلت في خدمة القرآن، وإن كان ذلك غير خاف على من أنزل القرآن، ولا غائب عمن لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، بغرض إبراز عمل رائد ، وجهد ظاهر، الحديث عنه يشحذ الهمم ، ويحفز العاملين، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون .(1/3)
وقد نصت الدعوة على موضوع المشاركة، فلم يكن لي خيار فيه، وحدد زمن تقديمه، كان زمنا تزاحمت علي فيه الأعمال والأشغال، وكل يقول: أنا الأولى بالتقديم، وما وقفت عن تمييل النظر، وسبر غور الموضوع، حتى شرعت فيه، ولما تتضح لي فكرته، قد التبست معالمه، وخفيت منائره، وعسر مسلكه، والتوى دربه. وهو عمل - في نظري - لا ينهض به بحث في ندوة، ولا تأتي عليه مقالة في مجلة؛ لاتساع مجاله، وعمق موضوعه، ومكانته من نفس كل مسلم، غير أن كرم الدعوة ومقامها يحتم علي أن أفعل شيئا ما، أشارك به حملة القرآن وخدمته همهم، لعلي أحشر معهم ، وهم قوم لا يشقى بهم جليسهم، والمرء يحشر مع جليسه ومع من أحب، وأنال شرفا تسمو إليه همة المسلم .
فشرعت في العمل، وليس من سدمي أن أقدم فيه إحصاء مسرودا للدواوين المدونة، أو المؤلفات المؤلفة ، أو المصنفات المصنفة، أو المقالات المنشورة، أو التقارير المحفوظة، ولا يسمو العمل ليؤرخ لعلم من العلوم، ويستوعب الحديث عن نشأته، وتاريخه، ومصنفاته ، وأصوله وفروعه. كما أنه ليس من همه أن يستغرق الحديث في فكرة ما ، استغراقا لا يدع لغيره مقالا، أو يدعى فيه الإحاطة والشمول .(1/4)
بل هو محاولة لبيان تلازم علوم القرآن وعلوم العربية، وتآخيهما؛ حتى إنه ليعسر فصل أحدهما عن الآخر، في النشأة والتاريخ، والتكوين والتأليف، والدوافع والمقاصد، حتى صار بينهما تزاوج مكين، وتمازج وثيق متين، بحيث لا يستغني طالب علم عن العلم الآخر ، ولا يؤتي شق ثمرته - على الوجه المرضي - بدون الشق الآخر؛ لافتقار كل إلى شقه، وتعذر استغنائه عنه. كما توحي بذلك نشأتهما وتاريخهما، وتأكيد أهل العلم ذلك، من خلال كلماتهم، ومؤلفاتهم، وتجاربهم العملية ، في الحياة العلمية .(1/5)
لم يمر بالعربية حدث أعظم من الإسلام ، ونزول القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم، فقد صير هذا الحدث العربية لغة مرغوبا فيها ، لا لنفوذها السياسي، ولا لسبقها الحضاري، وإنما لمكانتها الدينية ؛ إذ تسامى أهل البلاد المفتوحة إلى درس العربية ، والعناية بها ، من أجل تحقيق العبادة ، ومن أجل تلاوة القرآن ، ومن أجل فهم النصوص الشرعية ، فكان من جراء ذلك نشأة علوم العربية من نحو وصرف ، ولغة ومعجم ، وأدب وبلاغة ، كل ذلك وجد ليقوم عليه درس للعربية قوي .
وصار هذا الأمر في حس المسلم عقيدة وواجبا شرعيا، لا يختلف في ذلك من لغته العربية، ومن لغته غير العربية، وصارت لغة القرآن وما داناها من لغة لغة وهدفا يتسامى إليه أهل الإسلام، وتشرئب إليه أعناقهم، وتتطاول إليه هاماتهم ، وعدوا القرآن نموذجا أعلى للبيان العربي ، فأقبلوا عليه يبحثون عن وجوه بيانه ، وأسرار إعجازه ، مما كان سببا في نشأة علوم العربية .(1/6)
إنه لولا القرآن، ولولا الإسلام لم يكن هناك عربية كما نرى، أو لبقيت العربية لغة فئة معزولة عن العالم ، تعيش في صحرائها، يزهد فيها العالم، ويرغب عنها إلى غيرها، غير أن الإسلام نقل العربية إلى بؤرة الاهتمام العالمي، وجعل لها الصدارة ، اهتماما، وتعلما ، يطلبها العربي وغيره، ويغار عليها كل مسلم، ويتمنى أن يتقنها كل مصل، ذلك أنها تحل في قلب كل مسلم في أعلى مكان منه، وهي أجل وأكبر لديه من كل لسان، وكل لغة .
دخل الناس في الإسلام، وانقادوا له راغبين أو خاضعين، فتعلموا لسانه، ورأوا أنه لا يتم لهم دين إلا بلغته، فبادروا إلى خدمتها، والعناية بها، كما بادروا إلى حفظ القرآن والسنة، ودرس التفسير والحديث، ومعرفة أصول الدين والفقه، بل جعلوا اللسان العربي بوابة إلى هذه العلوم، لا يولج إليها إلا به، بل نسي كثير أن له لغة غير العربية، وانصرف فكره إليها، حتى إن بعضهم ما كان يطيب له أن يذكر لغته الأولى وقد أكرمه الله باللسان العربي، فضلا عن أن يقارن تلك اللغة بلسانه الجديد.(1/7)
وفرغت فئات من المسلمين من غير العرب، من الموالي لخدمة اللسان العربي في مستوياته المختلفة: الصوتي، والصرفي، والتركيبي، والدلالي، لم يقتصر أمره على ما ورد به استعمال القرآن أو السنة ، بل جاوزه إلى جمع اللغة، وإحصاء شاردها ونادرها ، وحصر غريبها وشاذها، في جهد لم يتحقق للغة من اللغات، وعمل لم يحظ به لسان من الألسنة، حتى رأينا من مصنفات العربية الشيء العجاب، ألفه أو اكتتبه قوم ليسوا من أهلها نسبا، ولكنهم منهم ولاء وحبا .(1/8)
أقبلت الأمة على كتاب ربها، وأكبت عليه حفظا، ودرسا، وفهما لمعانيه، وتقيدا بأحكامه، وميزا لألفاظه ومبانيه، ومعرفة لطرائق رسمه، وإسناد قراءاته، وكان لعلماء العربية اليد الطولى في خدمة القرآن، في ميادين متنوعة، في رسمه وضبطه ، ومعانيه وقراءاته، وأبنيته وألفاظه ، وبلاغته وإعجازه، بل لا أبالغ إذا قلت: إن علوم العربية لولا القرآن ما كانت، ولا كان للعربية شأن، ولبقيت محصورة في صحرائها القاحلة، وجزيرتها العازبة عن حياة الحضارة والمدنية، ولبقي أهلها على شائهم ونعمهم ، يتتبعون من أجلها مواقع القطر، ومنازل الغيث ، ويعنون بما يرتبط بهذه الحياة البسيطة، من علم بالأنواء والمنازل، والأفلاك والأبراج، والريح وأوقات هبوبها، لا يجوزون هذا إلا إلى معرفة أنسابهم، والفخر بأحسابهم، والتمدح بفعالهم، وإلا قول الشعر، وارتجال الخطب، وحفظ ما استجادوا من ذلك، وإلا نتفا من حكم وأمثال، تهديهم إليها تجاربهم في الحياة، لا هم لهم وراء ذلك، ليل ينجلي، ونهار يتجلى:
ليل يكر عليهم ونهار ...(1/9)
في دورة فلكية مكرورة، فسبحان من غير هذه الأمة لتكون كما قال ابن فارس : (( كانت العرب في جاهليتها على إرث من إرث آبائهم في لغاتهم، وآدابهم، ونسائكهم ، وقرابينهم ، فلما جاء الله ( جل ثناؤه ) بالإسلام حالت أحوال، ونسخت ديانات، وأبطلت أمور ، ونقلت من اللغة ألفاظ عن مواضع إلى مواضع أخر، بزيادات زيدت، وشرائع شرعت، وشرائط شرطت، فعفى الآخر الأول، وشغل القوم - بعد المغاورات والتجارات، وتطلب الأرباح، والكدح للمعاش في رحلة الشتاء والصيف، وبعد الإغرام بالصيد والمعاقرة والمياسرة - بتلاوة الكتاب العزيز الذي { لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } ، وبالتفقه في دين الله عز وجل وحفظ سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم مع اجتهادهم في مجاهدة أعداء الإسلام.
فصار الذي نشأ عليه آباؤهم، ونشؤوا هم عليه كأن لم يكن، وحتى تكلموا في دقائق الفقه ، وغوامض أبواب المواريث وغيرها من علم الشريعة، وتأويل الوحي بما دون وحفظ ... فسبحان من نقل أولئك في الزمن القريب بتوفيقه عما ألفوه، ونشؤوا عليه، وغذوا به، إلى مثل هذا الذي ذكرناه)) (1) .
_________
(1) (1) أبو الحسن أحمد بن فارس ( ت 395 هـ ) الصاحبي / تحقيق السيد أحمد صقر / الناشر عيسى البابي الحلبي وشركاه / القاهرة / 1977 م . ص 78 - 83(1/10)
هذا فعل الإسلام بأمة العرب ، أما غيرهم فهم كما قال أبو حاتم : ((أقبلت الأمم كلها إلى العربية يتعلمونها رغبة فيها، وحرصا عليها، ومحبة لها وفضلا أبانه الله فيها للناس ، ليبين لهم فضل محمد صلى الله عليه وسلم على سائر الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين، وتثبت نبوته عندهم، وتتأكد الحجة عليهم، وليظهر دين الإسلام على كل دين؛ تصديقا لقوله ( عز وجل ) حيث يقول: { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ } [ التوبة: 33 ] .
ولو ذهبنا نصف اللغات كلها عجزنا عن تناول ما لم يعطه أحد قبلنا، ولكنا نذكر من ذلك على قدر المعرفة، ومقدار الطاقة ، ونتكلم بما علمنا منه محبة لإيراد فضل لغة العرب؛ إذ كان فيه إظهار فضيلة الإسلام على سائر الملل، وإبراز فضل محمد صلى الله عليه وسلم على جميع الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، وإن كان ذلك ظاهرا بنعمة الله، بارزا بحمد الله؛ لأن دين الإسلام عربي، والقرآن عربي، وبيان الشرائع، والأحكام، والفرائض، والسنن بالعربية)) (1) .
_________
(1) أبو حاتم أحمد بن حمدان الرازي ( ت 322 هـ ) كتاب الزينة في الكلمات الإسلامية العربية / تحقيق حسين بن فيض الله الهمداني / مركز الدراسات والبحوث اليمني / ط الأولى / سنة 1415 هـ - 1994 م / ص 75(1/11)
لولا الإسلام، والقرآن لم تحظ اللغة العربية بما حظيت به من خدمة، بتدوين علومها ، وتبويب مسائلها، وتتابع أجيال فأجيال على النظر فيها جمعا، وتأليفا، وتقعيدا، وبحثا عن أوجه جمالها، وإعجاز قرآنها، وتمجيدا لها وتعظيما، ليس من أبنائها ذوي الأعراق العربية، وإنما من أبنائها ذوي الأصول الأعجمية ، ممن كانت لغتهم الأم أو الأولى غير العربية ؛ إذ من المعروف أن عددا غير قليل من أبناء الشعوب الإسلامية انتحلوا العربية، فصارت لغتهم ولسانهم، وتناسوا بل هجروا لغتهم الأم، وكتبوا في تمجيد العربية، وبيان فضلها، والتعصب لها ما لم يكتبه قلم من صليبة عربية، ولنا أن نمثل في هذا السياق بجمهرة من علماء العربية وغيرهم من مثل أبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ (ت 255ه ) وأبي حاتم الرازي (ت 322 ه) وأبي علي الفارسي (ت 377ه) وأحمد بن فارس (ت 395) وأبي حيان التوحيدي (ت 414ه). وكانوا جميعا من أعراق غير عربية، ولم تمنعهم تلك الأعراق عن الإشادة بالعربية تمجيدا لها وتعظيما، وتفضيلا وتقديما، ليس لهم دافع إلا أنهم مسلمون، قرؤوا القرآن، ورأوا ما فيه من أوجه البيان، وسر النظم ، ودلائل الإعجاز، ورأوا أن لغة اختيرت لهذا الكتاب لم(1/12)
يكن اختيارها عبثا؛ لأن الاختيار من رب العالمين، ذي الخلق والأمر، اختص بالرحمة وقسمتها، كل شيء عنده بحكمة ومقدار، يخلق ما يشاء ويختار ما يشاء، له الحكمة البالغة في ذلك.
وقد حمل نزول القرآن باللغة العربية طائفة أن يجعلوه دليل فضلها على سائر اللغات، نجد ذلك في مثل قول أبي حاتم الرازي ( ت 322ه ): ((فأفضل ألسنة الأمم كلها أربعة: العربية، والعبرانية، والسريانية، والفارسية؛ لأن الله ( عز وجل ) أنزل كتبه على أنبياء ( عليهم السلام ) آدم، ونوح، وإبراهيم، ومن بعدهم من أنبياء بني إسرائيل بالسريانية والعبرانية، وأنزل القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم بالعربية، وذكر أن المجوس كان لهم نبي وكتاب، وأن كتابه بالفارسية، هذا ما اتفق عليه أصحاب الشرائع)) (1) .
_________
(1) أبو حاتم ، الزينة ص 73(1/13)
وقد جعل الرازي العربية أفضل اللغات الأربع، وأفصحها، وأكملها، وأتمها، وأعذبها، وأبينها، وجعل حرص الناس على تعلم العربية علامة فضلها، ونقل الكتب السماوية المنزلة بغير العربية إلى العربية، ونقل حكمة العجم إليها، وما في كتب الفلسفة، والطب، والنجوم، والهندسة، والحساب من اليونانية والهندية إلى العربية وجها آخر لفضلها ، في حين لم يرغب أهل القرآن والكتاب العربي في نقله إلى شيء من اللغات، ولا قدر أحد من الأمم أن يترجمه بشيء من الألسنة ... بل تعذر عليهم لكمال العربية ، ونقصان غيرها من سائر اللغات (1) .
وقد قال نحوا من هذا ابن فارس ، بل لعله اقتفاه في أن الترجمة الحرفية للقرآن متعذرة، وأنه لا يمكن إلا أن يحال القرآن إلى عبارة سهلة، تخلو من سمات لغة الأدب ، ثم يترجم معناها فيما بعد ، ومثل لهذا بمثل قوله [ الأنفال: 58 ] (2) .
_________
(1) السابق ص 73
(2) انظر ، أبو حاتم ، الزينة ص 74 ، وابن فارس ، الصاحبي ص 16 - 17(1/14)
ولابن فارس كلام نحو هذا ، ينحو إلى تفضيل العربية على غيرها لنزول القرآن بها، في كتابه ( الصاحبي في فقه اللغة العربية وسنن العرب في كلامها)، وهو كتاب ينضح بالتمجيد والتعظيم ، وبيان فضل العربية على غيرها من اللغات، مما يعده بعض تعصبا غير مقبول ، وهو من وجهة نظرنا عمل عظيم، خاصة إذا علمنا حقيقة البيئة المحيطة بابن فارس، وهي بيئة تدعو لإحياء المجد الفارسي، وإحياء اللغة الفارسية ، حتى إن الفارسية الحديثة كان تأسيسها في عصر ابن فارس، وقد سار على نقيض قومه .(1/15)
وابتدأ هذا التمجيد بتقرير أن العربية توقيف من عند رب العالمين، ولم يسم لغة أخرى بهذه السمة، وكأنه يرى أن هذه ميزة انفردت بها العربية عن لغات العالم، فكانت العربية وحيا حفظ حتى نزل بها القرآن، فانضم الوحي إلى الوحي، وهذا كأنه يقول فيه كما أن للعرب وأتباعهم دينا امتاز عن غيره بأنه وحي مصون، لم تمسه يد التغيير، فإن للعرب أيضا لغة مصونة مرعية برعاية الله، صانتها عن التغيير والابتذال، ورقت في مراقي المجد والسمو، يحفظها ربها ويهيؤها، وهي أعلى لغة، لنزول أعلى كتاب بها، وأعظم دين، وخاتم الأديان، الإسلام، هذا كلام لا يعسر عليك استنباطه من كلامه. وابن فارس يتوسع في التوقيف، فيرى أن العربية توقيف في ألفاظها، وأصواتها، وأبنيتها، وتراكيبها ، وأساليب بيانها، بل كتابتها وخطها، وعلومها من إعراب، وعروض (1) ، حتى إنه عد ما ذكره من أصول وقياس توقيفا (2) .
_________
(1) انظر ابن فارس ، الصاحبي ص 6 - 15
(2) السابق ص 112 - 113(1/16)
كما عقد بابا لبيان أن (( لغة العرب أفضل اللغات وأوسعها )) ، صدره بقوله تعالى { وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ }{ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ }{ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ }{ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ } [الشعراء: 192-195] فوصفه (جل ثناؤه) بأبلغ ما يوصف به الكلام ، وهو البيان (1) .
_________
(1) السابق ص 16(1/17)
وهو بيان متميز لا يقتصر على مجرد الإبانة، وإنما يتجاوز ذلك إلى قيم كلامية وتعبيرية، قل أن تتوافر في غير العربية، مما يعجز النقلة عن نقل القرآن إلى لغاتهم بدرجة بيانه العربي. وهذه سمة ليست مقصورة على القرآن، بل هي في الكلام العربي كله، جاهليه وإسلاميه، لكنها تجلت أكثر في كلام رب العالمين، القرآن المجيد، حتى قال ابن فارس : (( إن كلام الله (جل ثناؤه) أعلى وأرفع من أن يضاهى، أو يقابل، أو يعارض به كلام، وكيف لا يكون كذلك، وهو كلام العلي الأعلى، خالق كل لغة ولسان، لكن الشعراء قد يومئون إيماء ، ويأتون بالكلام الذي لو أراد مريد نقله لاعتاص، وما أمكن إلا بمبسوط من القول، وكثير من اللفظ )) (1) . ثم ذكر نماذج من الشعر وكلام العرب (2) . ثم ذكر شيئا مما جعله خصائص للعربية من القلب، وعدم الجمع بين الساكنين، والحذف، واختلاس الحركات، والإضمار، والترادف، ثم ختمه بقوله: (فأين لسائر الأمم ما للعرب ؟!) (3) .
_________
(1) السابق ص 16 - 19
(2) السابق ص 19 ، 22 - 25
(3) السابق ص 20 - 21(1/18)
ولم يقف به الأمر عند تمجيد العربية وتفضيلها، بل جاوز إلى بيان ما اختصت به العرب كالإعراب الفارق بين المعاني المتكافئة في اللفظ، وعنايتهم بالشعر والعروض. مع حفظ الأنساب، والطهارة، والنزاهة عن الأدناس التي استباحها غيرهم من مخالطة ذوات المحارم (1) .
وقد بلغت العربية - كما يرى ابن فارس - غاية كمالها بعد مجيء الإسلام، وتنزل القرآن، فجدت في العربية ألفاظ ومعان، وزالت ألفاظ لزوال معانيها، ونقلت ألفاظ عن معانيها إلى معان أخرى، كراهة لأصل معناها، أو تأدبا، أو اقتفاء لأمر الشرع، وقد هذب الإسلام ألفاظ العربية، ووجه العرب لاختيار أسماء أولادهم (2) .
وقد ارتبطت العربية بالقرآن بأوثق رباط، حتى إنه ليعسر على الدارس الفصل بينهما، قال الرافعي : ( إن هذه العربية، لغة دين قائم على أصل خالد، هو القرآن الكريم، وقد أجمع الأولون والآخرون على إعجازه بفصاحته، إلا من حفل به من زنديق يتجاهل، أو جاهل يتزندق) (3) .
والقرآن هو الذي أخرج فصحاء الأدب العربي وبلغاءه من أمثال ابن المقفع، ولولا القرآن والحديث، وكتب السلف وآدابهم لم يخرج أمثاله (4) .
_________
(1) السابق ص 76 - 77
(2) انظر السابق ص 101 - 111
(3) مصطفى صادق الرافعي، تحت راية القرآن ، دار الكتاب العربي ، بيروت ، ط الثامنة ، 1403 - 1983 م ص 18
(4) انظر الرافعي ، تحت راية القرآن ص 22 - 25(1/19)
ويحاول غير المسلمين بوعي، ومرضى القلوب بغير وعي أن يعزلوا المسلمين عن قرآنهم ولغته، حتى عاب بعضهم على الرافعي أسلوبه، واقترح عليه ترك الجملة القرآنية، ويعنون بها اللغة العالية، والأسلوب الراقي، الذي يسمو بصاحبه إلى لغة القرآن، وأسلوبه، ومنطق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وفصحاء العرب، وأدباء العربية، فهذا القرآن كما هو نور لعقولنا، وحياة لقلوبنا هو حلاوة على ألسنتنا، شارة كمال في منطقنا وبياننا:
يديرونني عن سالم وأديرهم ... وجلدة بين العين والأنف سالم(1/20)
يخاتلوننا ليصرفونا عن لغة القرآن وبيانه، كما خاتلونا ليصرفونا عن العمل به وتلاوته، حتى صار التجديد في اللغة والبيان عند كثير هو التخلي عن لغة القرآن وبيانه، والانسياق وراء الرطانة الأعجمية، واللكنة المعوجة ، والدعوة إلى أن نسود الصفحات بأحرف عربية، ولغة غير عربية، وإن تحلت بزيها ورسمت برسمها (1) . فالقرآن هو سر هذه اللغة، وحياتها، قال الرافعي : (إن هذه العربية بنيت على أصل سحري يجعل شبابها خالدا عليها، فلا تهرم ولا تموت؛ لأنها أعدت من الأزل فلكا دائرا للنيرين الأرضيين العظيمين: كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن ثم كانت فيها قوة عجيبة من الاستهواء ، كأنها أخذة السحر، لا يملك معها البليغ أن يأخذ أو يدع) (2) .
وكل حرب يديرها أعداؤنا وعملاؤهم للفصاحة والبلاغة، والبيان العالي لا يقصد بها حرب اللسان والبيان، وإنما هي حرب لأصلهما من قرآن وحديث، وكلام سلف (3) .
_________
(1) ينظر نحو من هذا في كتاب الرافعي ، تحت راية القرآن ص 26 - 33
(2) الرافعي ، تحت راية القرآن ص 31
(3) انظر كلمة الأمير شكيب أرسلان ، ضمن كتاب « تحت راية القرآن » ص 34 - 42(1/21)
وكان العلم باللغة شرطا للإمامة في علوم الدين ، وصفة على غاية من الأهمية للأئمة المجتهدين، وكان الشافعي خير مثال لذلك، فقد كان له محل من اللغة، شهد به أهلها (1) ، حتى عدوا قوله حجة فيها، وجعلوه كبطن من بطون العرب (2) . قال ثعلب : يأخذون على الشافعي، وهو من بيت اللغة، يجب أن يؤخذ عنه (3) . وقد قرأ عليه الأصمعي ، واستفاد منه مع كبر سنه، وتقدمه في العلم والأدب (4) .
وأثنى عليه أهل اللغة الأوائل كابن قتيبة (5) (ت 276 ه) وأبي القاسم الخوافي (6) ( ت 450 ه )، وأبي بكر بن دريد (7) (321 ه) وأبي منصور الأزهري (ت 370 ه) بقوله (( وألفيت أبا عبد الله محمد ابن إدريس الشافعي ( أنار الله برهانه، ولقاه رضوانه ) أثقبهم بصيرة، وأبرعهم بيانا، وأغزرهم علما، وأفصحهم لسانا، وأجزلهم ألفاظا، وأوسعهم خاطرا فسمعت مبسوط كتبه، وأمهات أصوله من بعض مشايخنا، وأقبلت على دراستها دهرا، وأسنفت بما استكثرته من علم اللغة على تفهمها؛ إذ كانت ألفاظه عربية محضة ، ومن عجمة المولدين مصونة)) (8) .
_________
(1) أبو بكر أحمد بن الحسن البيهقي (ت 458 هـ) كتاب الرد على الانتقاد على الشافعي في اللغة، تحقيق عبد الكريم بكار، دار البخاري، بريدة، ص 32
(2) البيهقي ، الرد على انتقاد الشافعي ص 29
(3) البيهقي ، الرد على انتقاد الشافعي ص 30
(4) السابق ص 30
(5) السابق ص 30
(6) السابق ص 31
(7) السابق ص 31
(8) الأزهري، أبو منصور محمد بن أحمد (ت 370) / الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي الذي أودعه المزني في مختصره / ط الأولى / سنة 1399 - 1979 م، وزارة الأوقاف / الكويت ص 33 - 34 . وقد نقله البيهقي في الرد على انتقادات الشافعي ص 32(1/22)
وقد جرت الأمة على تفضيل المقدمين في علم العربية في طلب القراءة، والسنة، وعلوم الشريعة. قال أبو حاتم : (من أراد السنة والأمر العتيق في الدين وقراءة القرآن، فليكن ميله إلى الحرمين وأهل البصرة، فإنهم أصحاب اقتصاد في القراءة، وعلم بها وبعللها، ومذاهبها، ومجاري كلام العرب ومخارجها، وكان منهم علماء الناس بالعربية وكلام العرب، وكان منهم أبو الأسود الدؤلي، وأبو الحارث ابنه، ويحيى بن يعمر العدواني، وعبد الله بن أبي إسحاق من بعد، وأبو عمرو بن العلاء، وعيسى بن عمر، ويونس بن حبيب، والخليل بن أحمد، وأبو زيد، وسيبويه، والأخفش، فهؤلاء الأئمة في هذا الشأن، ثم بنى على ذلك من جاء بعدهم من علماء اللغة ، وتفتقت لهم الفطن ، وصرف إليه كثير من الناس هممهم، حتى جعلوا له ديوانا يفزع إليه، ويعتمد عليه، وجعلوه للغة العرب معيارا، فإذا وجدوا اللحن في كلامهم وزنوه به فقوموه، لأن اللحن يزيل الحرف عن معناه، ويحيد به عن سننه، وليس هذا لسائر الأمم، وهو علم جسيم ، له خطر عظيم) (1) .
_________
(1) أبو حاتم ، الزينة ص 86 - 87(1/23)
والحاجة إلى علوم العربية في علوم الدين كانت هي الدافع لحفظ لغة العرب، وشعرها، وكلامها، وأمثالها، وأنسابها، وسائر علومها، قال أبو حاتم : (ولولا ما بالناس من الحاجة إلى معرفة لغة العرب، والاستعانة بالشعر على العلم بغريب القرآن وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، والصحابة، والتابعين، والأئمة الماضين، لبطل الشعر، وانقرض ذكر الشعراء، ولعفى الدهر على آثارهم ، ونسي الناس أيامهم ، ولكن الحاجة بالمسلمين ماسة إلى تعلم اللغة العربية، ومعاني الألفاظ الغريبة في القرآن والحديث، والأحكام والسنن، إذ كان الإسلام قد ظهر - بحمد الله - في جميع أقطار الأرض، وأكثر أهل الإسلام من الأمم هم عجم، وقد دعتهم الضرورة إلى تعلم لغة العرب، إذ كانت الأحكام والسنن مبينة بلسان العرب )) (1) .
_________
(1) السابق ص 123(1/24)
ولم تكن هذه الحاجة ظاهرة في عهد النبوة وصدر الإسلام ، لاستغنائهم بسلائقهم وما يسمعونه من كلام العرب؛ إذ كان الكلام مدركا مفهوما، وسنن العرب في كلامها ظاهرة معلومة: (( قال أبو عبيدة : إنما أنزل القرآن بلسان عربى مبين ، وتصديق ذلك في آية من القرآن { بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ } [الشعراء: 195] وفي آية أخرى { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ } [ إبراهيم: 4 ] قال: ولم يحتج السلف ولا الذين أدركوا وحيه إلى أن يسألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن معانيه ؛ لأنهم كانوا عرب الألسن، فاستغنوا بعلمهم عن معانيه، وعما فيه مما في كلام العرب مثله من الوجوه والتخليص، قال الزهري : إنما أخطأ الناس في كثير من تأويل القرآن لجهلهم بلغة العرب. قال أبو عبيد : سمعت الأصمعي يقول: سمعت الخليل بن أحمد يقول: سمعت أبا أيوب السختياني يقول: عامة من تزندق بالعراق لقلة علمهم بالعربية)) (1) .
_________
(1) السابق ص 123 - 124(1/25)
وقد قام علماء العربية بواجبهم نحو الدين والقرآن ، فجمعوا ما الحاجة داعية إلى جمعه، ودونوا ما علوم الشريعة مفتقرة إليه، ونظموه بطرق تيسر الوصول إليه، قال أبو حاتم : ( ورأينا العلماء باللغة العربية قد كفوا الناس مئونة هذا الشأن، وأحكموه إحكاما بينا، لما دونوه من أشعار الشعراء، وألفوه من المصنفات، ووصفوه من الصفات في كل ما قدروا عليه، مما يحتاج الناس إلى استدراكه، حتى لعله لم تفتهم كلمة غريبة، ولا حرف نادر إلا وقد ربطوه بأوثق رباط ، وعقلوه بأحكم عقال، ورسموا في ذلك رسوما، وعولوا في ذلك كله على الشعر، والاحتجاج به، وهذا للغة العرب خصوصا ليس هو لسائر لغات الأمم، وذلك كله لشدة حاجة الناس إلى معرفة لغة العرب، ليصلوا به إلى ما ذكرنا من معاني القرآن والألفاظ الغريبة فيه، وفي أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين، والأئمة الماضين، وما يجيء في الشريعة من الأسامي في أصول الفرائض والسنن ، مما الجهل به نقص ظاهر على المرء المسلم ، وشين فاضح على كل ذي دين ومروءة )) (1) .
_________
(1) السابق ص 134(1/26)
وأما عامة المسلمين، وطلاب القرآن وعلم الشريعة خاصة، فقد أقبلوا على العربية، يتلقنونها، ويتعلمون ما فيها من سنن الكلام وطرائقه، وألفاظه ومعانيه، ويتذوقون وجوه البلاغة فيه والبيان، امتثالا لأمر من تجب طاعته، ورغبة في التفقه في الدين الذي لا يتم إلا بمعرفة اللغة. قال أبو حاتم : (( وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه على تعلم اللغة والإعراب، روى أبو عبيد بإسناد له عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أعربوا القرآن [ والتمسوا غرائبه ] » (1) .
وعن ابن مسعود قال: (( أعربوا القرآن فإنه عربي )). وقال عمر بن الخطاب : (( تعلموا إعراب القرآن كما تتعلمون حفظه ))، وفي حديث آخر قال عمر : (( تعلموا اللحن والفرائض والسنة كما تتعلمون القرآن )).
وعن يحيى بن عتيق قال: سألت الحسن ، فقلت: الرجل يتعلم العربية يلتمس بها المنطق، ويقيم بها قراءته، فقال الحسن : فتعلمها، فإن الرجل يقرأ الآية ، فيعيا بوجهها ، فيهلك فيها .
فلما كان كذلك راض الناس أنفسهم بتعلم العربية، ولم يجدوا إلى ذلك سبيلا أوضح من الشعر، فحفظوا دواوين الشعراء، وأحكموها ...)) (2) .
_________
(1) السابق ص 124 وقد عزا المحقق الحديث إلى ابن أبي شيبة ، والحاكم ، والبيهقي
(2) السابق ص 124 - 125(1/27)
وقد سبق أبو حاتم إلى تقرير الاحتجاج، وأورد قصة ابن عباس مع نافع بن الأزرق، فقال: (( وقد احتج العلماء من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم من الفقهاء في غريب القرآن والحديث بالشعر، وقد روي ذلك عنهم، روى أبو عبيدة بإسناد له عن عكرمة، قال: رأيت ابن عباس وعنده نافع بن الأزرق، وهو يسأله ، ويطلب منه الاحتجاج باللغة، فسأله عن قول الله عز وجل { وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ } [ الانشقاق: 17 ]، فقال: وما جمع، ألم تسمع:
مستوسقات لو يجدن سائقا ...
قال: وسأله عن قوله : { قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا } [ مريم: 24 ] فقال: هو الجدول، فسأله عن الشاهد، فأنشده :
سلما ترى الدالج منه أزورا ... إذا يمج في السري هرهرا
وسأله عن قوله : { عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ } [ القلم: 13 ] قال : هو الدعي الملصق ، أما سمعت قول حسان :
زنيم تداعاه الرجال زيادة ... كما زيد في عرض الأديم الأكارع
وروي عن أبي عبيدة أنه سأله عن قول الله تعالى { وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ } [القيامة: 29] فقال: الشدة بالشدة، فسأله عن الشاهد، فأنشده:
أخو الحرب إن عضت به الحرب عضها ... وإن شمرت عن ساقها الحرب شمرا(1/28)
وروى أبو عبيدة أيضا عن ابن عباس أنه كان يسأل عن قول الله تعالى { فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ } [ النازعات: 14 ] قال: الأرض، وأنشد لأمية بن أبي الصلت :
وفيها لحم ساهرة وبحر ...
وقال أبو عبيدة : يجوز هذا عندي فيما كان من الغريب والإعراب، فأما ما كان من الحلال والحرام، والأمر والنهي ، والناسخ والمنسوخ، فليس لبشر أن يتكلم فيه برأيه إلا ما فسرته سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال فيه الصحابة والتابعون بإحسان بعدهم )) (1) .
وشيء آخر يدفع الناس إلى طلب العربية ، هو حجيتها ، وكونها دليلا شرعيا فيما يرجع فيه إلى اللغة عند الخلاف : (( إذا كان التنازع في اسم أو صفة ، أو شيء مما تستعمله العرب من سننها في حقيقة ومجاز ، وما أشبه ذلك )) (2) .
وقد رتب ابن فارس على هذا أن جعل : (( العلم بلغة العرب واجبا على كل متعلق من العلم بالقرآن والسنة والفتيا بسبب ، حتى لا غناء بأحد منهم عنه، وذلك أن القرآن نازل بلغة العرب ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم عربي، فمن أراد معرفة ما في كتاب الله جل وعز وما في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من كل كلم غريب، أو نظم عجيب، لم يجد من العلم باللغة بدا )) (3) .
_________
(1) السابق ص 50
(2) السابق ص 131 - 133
(3) ابن فارس ، الصاحبي ص 49(1/29)
وهذا يفسر عناية ابن فارس وغيره بعلوم العربية ؛ لأنهم ربطوها بأصل من الأصول، وهو أن اللغة لا يتم فهم القرآن، وتنزيل الأحكام منازلها إلا بها، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، غير أن ابن فارس رفع إبهام كلامه فحدد مراده بما يجب من علم اللغة، فقال: ((ولسنا نقول : إن الذي يلزمه من ذلك الإحاطة بكل ما قالته العرب؛ لأن ذلك غير مقدور عليه ، ولا يكون إلا لنبي، كما قلناه أولا ، بل الواجب علم أصول اللغة والسنن التي بأكثرها نزل القرآن، وجاءت السنة ، فأما أن يكلف القارئ أو الفقيه أو المحدث معرفة أوصاف الإبل، وأسماء السباع ، ونعوت الأسلحة، وما قالته العرب في الفلوات والفيافي، وما جاء عنهم من شواذ الأبنية، وغرائب التصريف فلا)) (1) .
وقد أكد ابن فارس قوله هذا، وربط إتقان العربية ومعرفة علومها وسنن العرب في كلامها بالفقه، والفتيا، والقرآن ، فقال: (( فلذلك قلنا: إن علم اللغة كالواجب على أهل العلم ؛ لئلا يحيدوا في تأليفهم أو فتياهم عن سنن الاستواء.
_________
(1) السابق ص 50(1/30)
وكذلك الحاجة إلى علم العربية، فإن الإعراب هو الفارق بين المعاني، ألا ترى أن القائل إذا قال: ما أحسن زيد، لم يفرق بين التعجب، والاستفهام، والذم، إلا بالإعراب، وكذلك إذا قال: (ضرب أخوك أخانا) و(وجهك وجه حر) و(وجهك وجه حر). وما أشبه ذلك من الكلام المشتبه ... وقد روي عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: « أعربوا القرآن » (1) .
وقد عاب ابن فارس المقصرين في علم العربية ، وهم يطلبون العلوم الشرعية، وقارن بين أهل عصره المتساهلين في اللحن ، وبين سابقيهم المجتهدين في إقامة ألسنتهم على طرائق العرب في الكلام فقال: (وقد كان الناس قديما يجتنبون اللحن فيما يكتبونه أو يقرؤونه اجتنابهم بعض الذنوب، فأما الآن فقد تجوزوا حتى إن المحدث يحدث فيلحن، والفقيه يؤلف فيلحن، فإذا نبها قالا: ما ندري ما الإعراب؟ وإنما نحن محدثون وفقهاء، فهما يسران بما يساء به اللبيب.
ولقد كلمت بعض من يذهب بنفسه ويراها من فقه الشافعي بالرتبة العليا في القياس، فقلت له: ما حقيقة القياس ومعناه؟ ومن أي شيء هو؟ فقال : ليس علي هذا ، وإنما علي إقامة الدليل على صحته .
_________
(1) السابق ص 55(1/31)
فقل الآن في رجل يروم إقامة الدليل على صحة شيء لا يعرف معناه، ولا يدري ما هو ! ونعوذ بالله من سوء الاختيار ! )) (1) .
وتعظيم علوم العربية من أجل اتصالها بالقرآن وعلوم الشرع مستفيض منتشر، ذائع مشتهر ، تجده في كتب متباينة المنزع ، مختلفة المشرب، وفي أقوال لعلماء في علوم مختلفة، من تفسير وحديث، وفقه وأصول، وأدب ولغة، ونحو وبلاغة، كلهم يجمعون على إعلاء شأن العربية، وأنها ضرورة لمن يتصل بالقرآن وعلومه بسبب، ومن ذلك مقولة ياقوت في مقدمة "معجم الأدباء": (هذه أخبار قوم عنهم أخذ علم القرآن المجيد، والحديث المفيد، وبصناعتهم تنال الإمارة ، وببضاعتهم يستقيم أمر السلطان والوزارة، وبعلمهم يتم الإسلام، وباستنباطهم يعرف الحلال من الحرام، ألا ترى أن القارئ إذا قرأ: { أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ } [ التوبة: 3 ] بالرفع فقد سلك طريقا من الصواب واضحا، وركب منهجا من الفضل لائحا ، فإن كسر اللام من "رسوله" كان كفرا بحتا، وجهلا قحا .
_________
(1) السابق ص 56(1/32)
وقد روي أن أبا عمرو بن العلاء كان يقول العلم العربية هو الدين بعينه، فبلغ ذلك عبد الله بن المبارك، فقال : صدق؛ لأني رأيت النصارى قد عبدوا المسيح لجهلهم بذلك، قال الله تعالى: ((أنا ولدتك من مريم وأنت نبيي)) فحسبوه يقول: ((أنا ولدتك وأنت بنيي)) فبتخفيف اللام وتقديم الباء، وتعويض الضمة بالفتحة كفروا)) (1) .
ولا يتحقق فهم صحيح للقرآن، والحديث، والفقه، وسائر علوم الشرع إلا بتحقق فهم صحيح للغة: أوضاعها واستعمالاتها، تراكيبها وأبنيتها، معانيها وأساليبها، ولهذا قيل: (سبيل التفسير أن يرجع في تفسير ألفاظه إلى أهل اللغة) (2) .
_________
(1) ياقوت الحموي (ت 626 ه) معجم الأدباء مكتبة عيسى الحلبي، مصر / 1 / 53 - 54 ، وانظر كلام ابن المبارك في 1 / 71 - 72
(2) القاسمي محمد جمال الدين ( ت 1332 هـ ) محاسن التأويل ، الناشر عيسى الحلبي ، ط الأولى ، 1376 هـ - 1957 م 1 / 10(1/33)
وقال أيضا : (( لا بد في فهم الشريعة من اتباع معهود الأميين، وهم العرب الذين نزل القرآن بلسانهم، فإن كان للعرب في لسانهم عرف مستمر، فلا يصح العدول عنه في فهم الشريعة ، وإن لم يكن ثم عرف ، فلا يصح أن يجري في فهمها ما لا تعرفه ، وهذا جار في المعاني ، والألفاظ، والأساليب ... ولا يستقيم للمتكلم في كتاب الله أو سنة رسول الله أن يتكلف فيهما فوق ما يسعه لسان العرب، وليكن شأنه الاعتناء بما شأنه أن تعتني العرب به، والوقوف عندما حدث)) (1) . وقد قرر بعض الأصولين قاعدة في أن كل معنى مستنبط من القرآن غير جار على اللسان العربي فليس من علوم القرآن في شيء )) (2) .
_________
(1) القاسمي ، محاسن التأويل 1 / 94 - 96 وانظر المقاصد للشاطبي
(2) السابق 1 / 63(1/34)
وقد أوجب العلماء الأخذ بمطلق اللغة، وأوجبوا علم اللغة لمن كلف نفسه تفسير القرآن ، قال القاسمي في الأخذ بمطلق اللغة: (( إن القرآن نزل بلسان عربي مبين، وهذا قد ذكره جماعة ، ونص عليه أحمد في مواضع، لكن نقل الفضل بن زياد عنه أنه سئل عن القرآن يمثل له الرجل ببيت من الشعر ؟ فقال: ما يعجبني ... وهو محمول على من صرف الآية عن ظاهرها إلى معان خارجة محتملة يدل عليها القليل من كلام العرب ، ولا يوجد غالبا إلا في الشعر ونحوه ، ويكون المتبادر خلافها ، وروى البيهقي في " الشعب " عن مالك قال: لا أوتى برجل غير عالم بلغة العرب يفسر كتاب الله إلا جعلته نكالا)) (1) .
_________
(1) السابق 1 / 8(1/35)
وقال ابن خلدون : ((اعلم أن القرآن نزل بلغة العرب، وعلى أساليب بلاغتهم، فكانوا كلهم يفهمونه ، ويعلمون معانيه في مفرداته وتراكيبه، وكان ينزل جملا جملا، وآيات آيات لبيان التوحيد والفروض الدينية بحسب الوقائع، ومنها ما هو في العقائد الإيمانية، ومنها ما هو في أحكام الجوارح، ومنها ما يتقدم، ومنها ما يتأخر ، ويكون ناسخا له ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يبين المجمل، ويميز الناسخ من المنسوخ ، ويعرفه أصحابه ، فعرفوه وعرفوا سبب نزول الآيات ، ومقتضى الحال منها منقولا عنه ، كما علم من قوله تعالى : { إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ } [ الفتح: 1 ] أنها نعي النبي صلى الله عليه وسلم وأمثال ذلك.(1/36)
ونقل ذلك عن الصحابة ( رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ) وتداول ذلك التابعون من بعدهم، ونقل ذلك عنهم ، ولم يزل متناقلا بين الصدر الأول والسلف حتى صارت المعارف علوما ودونت الكتب، فكتب الكثير من ذلك، ونقلت الآثار الواردة فيه عن الصحابة والتابعين، وانتهى ذلك إلى الطبري والواقدي والثعالبي، وأمثال ذلك من المفسرين، فكتبوا فيه ما شاء الله أن يكتبوه من الآثار، ثم صارت علوم اللسان صناعية، من الكلام في موضوعات اللغة، وأحكام الإعراب ، والبلاغة في التراكيب، فوضعت الدواوين في ذلك بعد أن كانت ملكات للعرب، لا يرجع فيها إلى نقل ولا كتاب، فتنوسي ذلك، وصارت تتلقى من كتب أهل اللسان، فاحتيج إلى ذلك في تفسير القرآن؛ لأنه بلسان العرب ، وعلى منهاج بلاغتهم .(1/37)
وصار التفسير على صنفين: تفسير نقلي مسند إلى الآثار المنقولة عن السلف ... والصنف الآخر من التفسير وهو ما يرجع إلى اللسان من معرفة اللغة، والإعراب، والبلاغة في تأدية المعنى، بحسب المقاصد والأساليب، وهذا الصنف من التفسير قل أن ينفرد عن الأول؛ إذ الأول هو المقصود بالذات، وإنما جاء هذا بعد أن صار اللسان وعلومه صناعة ... ثم ذكر من هذا النوع تفسير الزمخشري وتفسير شرف الدين الطيبي (1) .
_________
(1) ابن خلدون عبد الرحمن بن محمد ، المقدمة / دار الكتاب العربي / بيروت، ط الأولى ، سنة 1417 هـ - 1996 م ، ص 406 - 408(1/38)
وقد كانت الصلة بين علوم العربية وعلوم القرآن منذ نشأة علوم العربية، بل كان القرآن هو السبب لظهورها، وتدوينها ، واشتغال الناس بها، وجعلها أساس العلوم؛ إذ يحكى أن زيادا لما ولي العراق لمعاوية رضي الله عنه بعث إلى أبي الأسود ( ظالم بن عمرو ) الدؤلي وقال له: اعمل شيئا تكون فيه إماما ، تعرب به كتاب الله تعالى، وينتفع الناس به، فاستعفاه من ذلك، حتى سمع رجلا يقرأ (( { أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ } )) بكسر اللام، فقال : ما ظننت أمر الناس صار إلى هذا ، أو لا أظن يسعني إلا أن أضع شيئا أصلح به نحو هذا، أو كلام هذا معناه، فوضع النحو)) (1) . (فجاء أبو الأسود إلى زياد، فقال له: أبغني كاتبا يفهم عني ما أقول، فجيء برجل من عبد القيس، فلم يرض فهمه، فأتي بآخر من قريش، فقال له: إذا رأيتني قد فتحت فمي بالحرف، فانقط نقطة على أعلاه، وإذا ضممت فمي فانقط نقطة بين يدي الحرف، وإذا كسرت فمي فاجعل النقطة تحت الحرف، فإن أتبعت شيئا من ذلك غنة، فاجعل النقطة نقطتين، ففعل ، فهذا نقط أبي الأسود ) (2) .
_________
(1) أبو الطيب اللغوي (ت 351 ه) مراتب النحويين / تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم / القاهرة، ص 26، والمعري أبو المحاسن المفضل بن محمد (ت 442 ه)، تاريخ العلماء النحويين من البصريين والكوفيين وغيرهم / تحقيق د. عبد الفتاح الحلو / جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية / الرياض / 1401 هـ - 1981 م ، ص 166 - 167
(2) أبو الطيب مراتب النحويين ص 29 ، وانظر المعري تاريخ العلماء النحويين ص 167(1/39)
وكان علماء العربية الأوائل يجمعون إلى علم العربية علما أو أكثر من علوم القرآن، من قراءة، أو تفسير، أو غير ذلك، فقد (( أخذ عبد الله بن أبي إسحاق عن يحيى بن يعمر القراءة، وأخذها عن نصر بن عاصم )) (1) . وكان أبو عمرو بن العلاء إماما في العربية والقراءة، حتى ((قال شعبة لعلي بن نصر الجهضمي : خذ قراءة أبي عمرو، فيوشك أن تكون إسنادا. قال أبو حاتم : وكان أبو عمرو يكتب إلى عكرمة بن خالد في مكة، فيسأله عن الحروف)) (2) .
وممن فاق في الإقراء والقراءة عاصم بن أبي النجود وابن محيصن ، وكانا يلمان بشيء من النحو (3) .
وممن أجاد النحو من القراء يحيى بن يعمر ، كان أعلم الناس وأفصحهم، ومع ذلك لا يذكرونه ؛ لأنه استبد بالنحو غيره (4) .
_________
(1) انظر أبو الطيب مراتب النحويين ص 32
(2) أبو الطيب ، مراتب النحويين ص 35
(3) انظر أبو الطيب ، مراتب لنحويين ص 49
(4) السابق ص 50(1/40)
وكان الأوائل من أهل العلم يعدون العلم بالعربية منقبة للقارئ، ومدعاة لتفضيله على غيره، حتى (( قال أبو حاتم (عن حمزة الزيات ): وإنما أهل الكوفة يكابرون فيه، ويباهتون، فقد صيره الجهال من الناس شيئا عظيما بالمكابرة والبهت، وقول ذوي اللحى العظام منهم: (( كانت الجن تقرأ على حمزة )). قال: الجن لم تقرأ على ابن مسعود، والذين من بعده، فكيف خصت حمزة بالقراءة عليه؟ وكيف يكون رئيسا وهو لا يعرف الساكن من المتحرك، ولا مواضع الوقف والاستئناف، ولا مواضع القطع والوصل والهمز! وإنما يحسن مثل هذا أهل البصرة، لأنهم علماء بالعربية، قراء رؤساء)) (1) . وكان الأصمعي : (( لا يفسر شيئا من القرآن، ولا شيئا من اللغة له نظير، أو اشتقاق في القرآن، وكذلك الحديث تحرجا)) (2) .
و(( قال أبو حاتم : الكسائي أعلم الكوفيين بالعربية والقرآن، وهو قدوتهم)) (3) .
و(( قال المازني : قرأت على يعقوب الحضرمي القرآن، فلما ختمت رمى إلي بخاتمه، وقال: خذ ، ليس لك مثل )) .
وختم أبو حاتم على يعقوب سبع ختمات، ويقال: خمسا وعشرين ختمة، فأعطاه خاتمه، وقال: أقرئ الناس (4) .
_________
(1) أبو الطيب ، مراتب النحويين ص 52 - 53
(2) السابق ص 83
(3) السابق ص 121
(4) السابق ص 126(1/41)
((كان أبو حاتم في نهاية الثقة والإتقان، والنهوض باللغة والقرآن مع علم واسع بالإعراب أيضا )) (1) .
_________
(1) السابق ص 130 ، وانظر ص 131 - 132(1/42)
هذه شذرات من كتاب تراجم للغويين ، ولو نقلنا نظرنا إلى كتاب في تراجم القراء نموذجا لعلوم القرآن، وقرأنا في كتاب ((معرفة القراء الكبار للذهبي ( ت 748ه ) لوجدنا فيه كثيرا من مثل: ((قال اليزيدي : كان أبو عمرو قد عرف القراءات، فقرأ من كل قراءة بأحسنها، وبما يختار العرب، ومما بلغه عن لغة النبي صلى الله عليه وسلم وجاء تصديقه في كتاب الله عز وجل )) (1) . ونجد مثل ((أحكم العربية)) (2) ، ومثل (( النحوي )) (3) ، و((قرأ العربية)). ومثل ((كان عاصم نحويا فصيحا)) (4) و((كان حمزة الزيات بصيرا بالعربية)) (5) و((إليه ( الكسائي ) انتهت الإمامة في القراءة والعربية)) (6) ، ومثل ((كان أبو المنذر المزني فصيحا نحويا)) (7) . ومثل ((كان يحيى بن المبارك اليزيدي فصيحا مفوها، بارعا في اللغات والآداب)) (8) ومثل ((ثم اشتغل ورش بالقرآن والعربية فمهر فيهما)) (9) . ((وتبتل قالون لإقراء القرآن والعربية)) (10) . وقول أبي حاتم السجستاني في يعقوب بن إسحاق الحضرمي : ((هو أعلم من رأيت بالحروف والاختلاف في القرآن وعلله ومذاهبه، ومذاهب النحويين)) (11) . ((وكان لا يلحن في كلامه)) (12) و((برع العباس بن الفضل في معرفة الإدغام الكبير، وورد أنه ناظر الكسائي في الإمالة)) (13) . ((وكان
_________
(1) الذهبي شمس الدين ، أبو عبد الله محمد بن أحمد ( ت 748 هـ ) معرفة القراء الكبار / تحقيق محمد سيد جاد الحق ، ط أولى ، القاهرة ص 4
(2) الذهبي ، معرفة القراء الكبار ص 54
(3) السابق ص 55 ، 109
(4) السابق ص 75
(5) السابق ص 93
(6) السابق ص 101
(7) السابق ص 110
(8) السابق ص 125
(9) السابق ص 126
(10) السابق ص 129
(11) الذهبي ، معرفة القراء الكبار ص 130 وانظر ص 131
(12) السابق ص 131
(13) السابق ص 133(1/43)
القاسم بن سلام من أعلم أهل زمانه بلغات العرب)) (1) وقالوا في أحمد بن صالح ((كان رجلا جامعا يعرف الفقه والحديث والنحو)) (2) . و((صنف محمد بن سعدان في العربية والقرآن)) (3) . وقالوا عن أبي حاتم السجستاني : ((له اليد الطولى في اللغات، والشعر، والأخبار، والعروض، واستخراج المعمى، ولم يك في النحو بذاك الماهر، وقد قرأ كتاب سيبويه مرتين على الأخفش )) (4) . ونجد مثل (( المقرئ الأديب )) (5) ، و(( المقرئ المؤدب )) (6) ، وقال أبو علي القالي عن محمد بن القاسم الأنباري : ((كان يحفظ ثلثمائة ألف بيت شاهدا في القرآن)) (7) ، وفي ترجمة أحمد بن يعقوب التائب : ((له كتاب حسن في القراءات، وهو إمام في هذه الصنعة، ضابط، بصير بالعربية )) (8) . ومثل ((كان محمد بن النضر عارفا بعلل القراءات بصيرا بالتفسير والعربية)) (9) ، وفي ترجمة أبي بكر محمد بن مقسم : ((كان من أحفظ أهل زمانه لنحو الكوفيين، وأعرفهم بالقراءات مشهورها وغريبها وشاذها. قال أبو عمرو الداني : ((هو مشهور بالضبط والإتقان، عالم بالعربية، حافظ للغة، حسن التصنيف في علوم القرآن)) (10) . وفي ترجمة أحمد بن نصر ((عالم بالقراءة ، بصير بالعربية)) (11) ، وفي ترجمة محمد بن عبد الله بن أبي بكر الأصبهاني ((ثقة
_________
(1) السابق ص 141
(2) السابق ص 153
(3) السابق ص 178 وانظر ترجمة هارون بن موسى ص 199
(4) السابق ص 179
(5) السابق ص 197
(6) السابق ص 196
(7) السابق ص 225
(8) السابق ص 227
(9) السابق ص 235
(10) السابق ص 247
(11) السابق ص 258 ومثله في ترجمة علي بن محمد الأنطاكي ص 275(1/44)
عالم بالعربية)) (1) . وفي ترجمة عبد الله بن عطية ((كان يحفظ فيما يقال خمسين ألف بيت للاستشهاد على معاني القرآن)) (2) . وفي ترجمة عبد الباقي بن الحسين : (( كان عالما بالعربية بصيرا بالمعاني )) (3) . وفي ترجمة أبي عمر الطلمنكي : ((كان رأسا في علم القرآن : قراءاته وإعرابه)) (4) . وفي ترجمة مكي ((كان من أهل التبحر في علوم القراءات والعربية ... عالما بمعاني القراءات)) (5) وكان أحمد بن عمار (ت 430 ه) ((رأسا في القراءات والعربية)) (6) . وتصدر إسماعيل بن خلف (ت 455 ه) (( للإقراء زمانا ولتعليم العربية )) (7) . وكان عبد الرحمن بن أحمد الرازي العجلي (ت 504 ه) ((عالما بالأدب والنحو)) (8) . ((وكان الهذلي يدرس علم النحو ويفهم الكلام منه وكان مقدما في النحو والصرف، عارفا بالعلل، وكان القشيري يراجعه في مسائل النحو)) (9) . وكان أبو محمد التميمي (ت 488 ه) ((مفسرا لغويا)) (10) ، و((تصدر ابن شعيب لإقراء القرآن والعربية والآداب)) (11) . وفي ترجمة صاحب التجريد ((قرأ العربية على ابن بابشاذ )) (12) . وكان عبد الله بن سعدون (ت قبل 540 ه) (( محققا للعربية )) (13) . و((برع عبد الله بن عمرو بن هشام في العربية)) (14) . و((أخذ عنه أبو عمر بن عياد القراءات والتجويد)) (15) .
_________
(1) السابق ص 259
(2) السابق ص 281
(3) السابق ص 287
(4) السابق ص 309
(5) السابق ص 317
(6) السابق ص 320
(7) السابق ص 341
(8) السابق ص 337 وانظر ترجمة عبد الملك بن سلمة ص 427
(9) السابق ص 349
(10) السابق ص 356
(11) السابق ص 359
(12) السابق ص 383
(13) السابق ص 398
(14) السابق ص 419
(15) السابق ص 419(1/45)
((وكان أبو بكر اللخمي إماما في صناعة الإقراء، مشاركا في العربية)) (1) . وفي ترجمة يحيى بن سعدون (ت 567) (( المقرئ النحوي ... برع على الزمخشري وغيره في العربية)) (2) . وكان الحسن بن أحمد الهمذاني (ت 569 ه) إماما في النحو واللغة)) (3) . وكان لعبد المنعم بن أبي بكر (ت 586 ه) ((حظ من العربية)) (4) . ((وكان زيد بن الحسن ، أبو اليمن الكندي شيخ القراء والنحاة بدمشق)) (5) . ((وكان شعلة (ت 656 ه) ذا معرفة تامة بالعربية واللغة)) (6) . ((وانتهت إلى محمد بن علي الشاطبي معرفة اللغة وغريبها)) (7) . و((كان العماد الأصفهاني (ت 682 ه) فصيحا مفوها، جيد العربية )) (8) . وكان محمد بن أبي العلاء ( ت 569 ه) ((جيد المعرفة بالأدب)) (9) . وفي ترجمة أبي حيان ((له مصنفات في القراءات والنحو)) (10) . وفي ترجمة أبي بكر بن يوسف ((ولي مشيخة القراءة والعربية)) (11) . وطلحة بن عبد الله مهر في القراءات والعربية (12) . ووصف إسماعيل بن محمد (ت 715ه) بمعرفة القراءة، والبصر بالعربية (13) . و(( محمد بن خالد بن بختيار النحوي .. تخرج به جماعة في العربية)) (14) . والحسن بن علي بن عبيدة النحوي أخذ العربية عن أبي السعادات بن الشجري (15) . وفي ترجمة عبد الرحمن بن هرمز (( أول من وضع
_________
(1) الذهبي ، معرفة القراء الكبار ص 425
(2) السابق ص 429 وانظر ترجمة محمد بن خلف (ت 585 ه) ص 442
(3) السابق ص 435
(4) السابق ص 444
(5) السابق ص 467
(6) السابق ص 536
(7) السابق ص 542
(8) السابق ص 550
(9) السابق ص 568
(10) السابق ص 578
(11) السابق ص 596
(12) السابق ص 597
(13) السابق ص 599
(14) السابق ص 55
(15) السابق ص 55(1/46)
العربية بالمدينة)) (1) .
وقد قيل نحو من هذه العبارات في أمثال ابن مالك وغيره من الأئمة، وفيما أوردناه كفاية، وهو يصور مدى الترابط والتلازم بين العربية وعلومها والقرآن وعلومه من قراءات ، وتفسير، ورسم، وغير ذلك .
وأنت لو نظرت تراجم القراء، وتأملت أحوالهم لوجدت أن المقدم منهم في القراءة متقدم في علم العربية، والمتوسط متوسط، والضعيف ضعيف، فلا تكاد تجد متقدما في القراءة، وترى في ترجمته مثلا ((ونظر في العربية)) (2) ، أو نحوها من العبارات التي توحي بضعف علمه في العربية. ولو نظرت في ترجمة أبي بكر بن محمد المرسي لوجدت فيها ((تصدر لتعليم النحو)) (3) ، ((ولم يكن من ذلك الوقت يجاريه أحد لا في القراءات ولا في النحو)) (4) . و((تخرج به جماعة في القراءات والعربية والأصول)) (5) . ((ولم أشاهد أحدا في القراءات مثله)) (6) ، ومثل هذا في ترجمة محمد بن أحمد بن بضحان (7) ، وكان إحكام العربية مدعاة لحذق الفن وعلم القراءة، كما جاء في ترجمة محمد بن أيوب (ت 705 ه) الذي قيل عنه ((أقرأ الناس دهرا، وأحكم العربية، وشارك في اللغة ... وكان حاذقا بالفن عليما بالحل لحرز الأماني...)) (8) . وقد وصف يوسف بن إبراهيم بإحكام العربية (9) .
_________
(1) السابق ص 63
(2) السابق ص 581
(3) السابق ص 590
(4) السابق ص 590
(5) السابق ص 590
(6) السابق ص 590
(7) السابق ص 592
(8) السابق ص 575
(9) السابق ص 54(1/47)
وكان القراء سابقا يبذلون ما يملكونه في سبيل إتقان العربية، قال خلف بن هشام (150 - 229 ه): ((أشكل علي باب من النحو، فأنفقت ثمانية آلاف درهم، حتى حذقته)) (1) . وكانوا يعنون بمعرفة من أخذ عنهم القارئ علم العربية، النحو، واللغة، والأدب، والمعاني، وقد مر ما يشهد لهذا في النصوص المنقولة آنفا.
_________
(1) السابق ص 172(1/48)
والتميز في علوم العربية مدعاة الاستقلال والانفراد بقراءة ، ومدعاة للاجتهاد في الاختيار ((قيل: إن ورشا لما تعمق في النحو اتخذ لنفسه مقرأ ورش، فلما جئت [ القائل أبو يعقوب الأزرق ] لأقرأ عليه قلت له يا أبا سعيد : إني أحب أن تقرئني مقرأ نافع خالصا، وتدعني مما استحسنت لنفسك، فقلدته مقرأ نافع )) (1) . ويظهر مما أوردناه من نصوص أنهم ما كانوا يقنعون بإتقان علوم العربية صناعة، بل كانوا يطلبون الفصاحة، وكانت الفصاحة قبل أن تدون علوم العربية (2) ، وقالوا في عاصم : ((كان نحويا فصيحا)) (3) و((كان ذا نسك وأدب، وفصاحة، وصوت حسن)) (4) . ((وكان أحمد بن عبد العزيز من أطيب الناس صوتا، وأفصحهم أداء )) (5) . وقد وصف عبد الوارث التنوري بالفصاحة والبلاغة، قال أبو عمر الجرمي : ((ما رأيت فقيها أفصح منه)) (6) . وفي ترجمة أحمد بن إبراهيم بن سباع الفزاري (ت 705 ه) ((كان أحسن أهل زمانه قراءة للحديث؛ لأنه كان فصيحا مفوها، عديم اللحن، عذب العبارة، طيب الصوت، خبيرا باللغة، رأسا في العربية وعللها)) (7) .
_________
(1) السابق ص 150
(2) السابق ص 74
(3) السابق ص 75
(4) السابق ص 76
(5) الذهبي ، معرفة القراء الكبار ص 254
(6) السابق ص 135
(7) السابق ص 571(1/49)
وكان مما ينتقص به المقرئ أو القارئ قصوره في العربية، كما قال أبو حيان في حسن بن عبد الله التلمساني (ت 685 ه) كان بربريا، في لسانه شيء من رطانتهم ، وكان مشهورا بالقراءات، عنده نزر يسير جدا من العربية، كألفية ابن معط، ومقدمة ابن بابشاذ، يحل ذلك لمن يقرأ عليه)) (1) . وقد رد الذهبي على أبي حيان قوله فيه، وقال: ((إنه كان عارفا بالعربية، بل قوي المعرفة، ويكفيه أن يشرح ألفية ابن معط للناس ...)) (2) . وكان القصور في علم العربية مدعاة إلى القصور في علم القراءات، كما قيل في محمد بن منصور (ت 700 ه): إنه لم يبرع في العربية ... وكان متوسط المعرفة في القراءات )) (3) . وقال عاصم : ((من لم يحسن من العربية إلا وجها لم يحسن شيئا)) (4) .
واتفق القراء مع أهل العربية على ممارسة صنعة التأديب؛ إذ كثيرا ما نجد في تراجمهم ((المؤدب)) ، ((وقام على التأديب)). وهي أوصاف استأثر بها أهل العربية، رواة الأدب أول الأمر.
_________
(1) السابق ص 561
(2) السابق ص 560 - 561
(3) السابق ص 569
(4) السابق ص 75(1/50)
وبعد، فلعل هذه النظرة العجلى في كتاب ترجم للنحاة واللغويين، وآخر ترجم القراء ما يقفنا على صلة وثيقة بين علوم القرآن وعلوم العربية، وكأنهما توأمان، لا ينفك أحدهما عن الآخر. والنوعان من العلوم مختلفان. فأولهما غاية، والعلوم الأخرى خدم له، والثاني آلة يتوصل بها إلى فهم النوع الأول، وخدمته وإتقانه. ولا نغالي إذا قلنا: إن علوم العربية على اختلاف أنواعها، إنما وجدت لخدمة القرآن وعلومه، ولعل المسلمين لم يعنوا بالعربية وآدابها، ولم يخدموها إلا لأنها تمس أو تخدم القرآن وعلومه، من قراءة، ورسم، وإعراب، وبلاغة ، وإعجاز، ومعنى وتفسير.
* * *(1/51)
إنه لا يمكننا أن نفصل علما من علوم العربية عن القرآن، ولا أن نجعل نمطا من الدراسة القرآنية بمعزل عن العربية، وفنونها ، وعلومها، وأول هذه الدراسات ما يتعلق بالرسم ؛ إذ من المعروف المسلم أن للخط غير رسم، يهمنا هنا رسم المصحف، والرسم المعتاد، والأصل أن يتفق الرسمان؛ غير أن رسم المصحف اختص بأمور، وانفرد بأشياء خرج بها عن أصول الرسم المعتاد، وبعض قواعده، وصور كتابة بعض الكلمات.
إننا لو نظرنا في سير أعلام العربية الأوائل لوجدنا فيها قول أبي الأسود لكاتبه: ((إذا رأيتني قد فتحت فمي بالحرف، فانقط نقطة فوقه على أعلاه، فإن ضممت فمي فانقط نقطة بين يدي الحرف، وإن كسرت فاجعل النقطة تحت الحرف، فإن أتبعت شيئا من ذلك غنة فاجعل مكان النقطة نقطتين)) (1) . فهذا النقط يختلف عن نقط نصر بن عاصم ؛ إذ مرجع هذا إلى ضبط حرف الإعراب بالحركات الثلاث، مع بيان ما فيه من الغنة إن كانت في حال التنوين .
وهذا النقط يختلف عن نقط الإعجام المنسوب إلى نصر بن عاصم، ويحيى بن يعمر، فهذا النقط يميز بين المعجم من الحروف والمهمل، مثل نقط الجيم والخاء، وإهمال الحاء .
_________
(1) أبو سعيد السيرافي ( ت 368 هـ ) أخبار النحويين البصريين ، تحقيق د. محمد إبراهيم البنا / دار الاعتصام / القاهرة / ط الأولى سنة 1405 ه- 1985 م / ص 35 وقد تقدم الخبر ص 18 من هذا البحث(1/52)
وهذان - أيضا - يختلفان عن الشكل المنسوب إلى الخليل الذي أخذ نقط أبي الأسود، وحور فيه ، ثم جاء الخالفون فنقحوه، وهذا الشكل شامل لجميع أحرف الكلمة في جميع أحوالها، سواء كانت متحركة ، أم ساكنة ، مخففة أم مشددة، ولا داعي للحديث عنه هنا؛ لأن هذا المقام مقام إشارة (1) . وما أريد حصر ما كتب في الرسم مما لعلماء العربية فيه أثر واضح .
ولا يمكن لدارس الرسم (الإملاء) في العربية أن يفصل ما بين الرسمين: رسم المصحف، والرسم المعتاد .
_________
(1) انظر مقالة عن المصحف الكوفي ، كتبها الشيخ محمود سيبويه البدوي ، ص 328 - 333 من مجلة كلية القرآن والدراسات الإسلامية - المدينة - العدد الأول - عام 1402 - 1403 هـ . وانظر لأبي عمرو الداني ( ت 444 هـ ) كتاب النقط محمد أحمد دهمان / دار الفكر / دمشق / صورة ط الثانية 1403هـ - 1983 م ، ص 124 - 126(1/53)
لو نظرت فيما كتبه ابن قتيبة في كتاب ((أدب الكاتب)) لوجدت الربط بين الرسمين جليا واضحا من خلال القواعد والاختيار، والأمثلة، حتى إنك لتشعر أن الرسم القرآني هو الأصل من خلال أمثلته. قال: ((تكتب الصلوة والزكوة والحيوة بالواو اتباعا للمصحف، ولا تكتب شيئا من نظائرها إلا بالألف، مثل "قطاة" و"قناة" و"ملاة" (1) . وقال: ((وتكتب " لئلا " مهموزة وغير مهموزة بالياء؛ وكان القياس أن تكتب بالألف، ألا ترى أنك تكتب (( لأن )) إذا كانت اللام مكسورة بالألف ؛ وكذلك يجب أن تكتب إذا زيدت عليها (( لا ))، ولم يحدث في الكلام شيء غير معنى الإباء، إلا أن الناس اتبعوا المصحف ، وكذلك ((لئن فعلت كذا لأفعلن كذا)) كتبت بالياء اتباعا للمصحف، وكان القياس أن تكتب بالألف لأنها "إن" زيدت عليها اللام)) (2) وانظر حديثه عن رسم ((الليل والليلة)) (3) . ورسم ((أيها الرجل وأيها الأمير)) بألف وغير ألف (4) . وفي رسم (( يحيى )) قال ((إن الكتاب اجتمعوا على أن كتبوه بالياء، ولم يلزموا فيه القياس، وأحسبهم اتبعوا فيه المصحف)) (5) . وبين مخالفة الكتاب لرسم المصحف في نحو ((صغراهم، وكبراهم، وحصاك، ونواك، ورماهم، فدلاهما بغرور)) (6) . ومثل هذا لا يخل بمذهبه في أن
_________
(1) ابن قتيبة عبد الله بن مسلم ، أدب الكاتب ، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد ، ط الرابعة عام 1382 هـ / القاهرة ص 201
(2) ابن قتيبة ، أدب الكاتب ص 197 - 198
(3) السابق ص 200
(4) السابق ص 202
(5) السابق ص 205
(6) السابق ص 206(1/54)
الرسم هو الأصل، بل إن استحسانه لمخالفة المصحف في بعض الرسم لا يخل، كما في قوله: ((... على ذلك كتاب المصحف، وإن شئت كتبت ذلك بألفين على مذهب التحقيق، وهو أعجب إلي)) (1) . ولا يخل به مثل قوله: ((وليس بمستعمل إلا في كتاب المصحف)) (2) . ومثل ((هذا الذي عليه المصحف، ومتقدمو الكتاب، وقد كتبه بعض الكتاب بياء قبل الواو "مستهزئون" و"مقرئون" وذلك حسن)) (3) . ومثل ((كتبت [ الموءودة ] في المصحف بواو واحدة، ولا أستحب للكاتب أن يكتبها إلا بواوين ...)) (4) . ومثل ((وقد خالف الكتاب في هذا المصحف)) (5) . وقد اختار ابن قتيبة ما ذهب إليه الكتاب. ومثل (( وكتب بعضهم [ مثل بئيس ] بياء واحدة اتباعا للمصحف، وكتبهم بعضهم بياءين، وهو أحب إلي )) (6) .
والأصل عند ابن قتيبة توافق الرسمين، بل عد موافقة الرسم حجة أو دليلا للترجيح، مثل ((والحذف أجود، وبالحذف كتبت في المصحف إلا في حرف واحد (( { يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ } )) (7) .
_________
(1) السابق ص 188 - 189 ويقصد كتابة همزة الاستفهام إذا اجتمعت مع همزة القطع ، نحو « أإذا ... » « أإنك ... »
(2) السابق ص 208
(3) السابق ص 211
(4) السابق ص 212
(5) السابق ص 206
(6) السابق ص 212
(7) السابق ص 212(1/55)
وقد جعل ابن فارس رسم المصحف حجة، فقال : (( فصار ذلك كله حجة، وحتى كره من العلماء ترك اتباع المصحف من كره ... قال الفراء : اتباع المصحف - إذا وجدت له وجها من كلام العرب ، وقراءة القراء - أحب إلي من خلافه ... والذي قاله الفراء حسن ، وما بحسن قول ابن قتيبة في أحرف ذكرها، وقد خالف الكتاب المصحف في هذا)) (1) .
وكأني بابن فارس يرى التزام رسم المصحف أو تقديمه على مذاهب الكتاب، في حين يرى ابن قتيبة أن الأصل توافق الرسمين، ولا يلزم اطراده .
والفرق بين الرسمين أن رسم المصحف إنما يكون اتباعا لمرسوم المصحف الأول، في حين يختلف الرسم المعتاد حسب اجتهاد الكتاب وعلماء العربية واختياراتهم، غير أن أصل الرسم في العربية هو رسم المصاحف، والرسم الآخر فرعه، وهو - وإن خالفه في أشياء - عائد ، وراجع إليه ، غير خارج عليه .
إنه لا يهمنا أن نسرد مؤلفات رسم المصحف أو مرسوم المصاحف، فهذا له ميدان آخر، وما هو بعسير ، وإنما يهمنا إسهام علماء العربية، وعنايتهم بالرسم، وصلة هذا الإسهام بخدمة القرآن .
_________
(1) ابن فارس ، الصاحبي ص 14 - 15(1/56)
ويكفي علماء العربية شرفا أنهم رفعوا الإيهام عن الخط العربي بإعجامه، ونقطه ، وشكله، وهذه خدمة للقرآن في أعلى الدرجات من الخدمة .
* * *(1/57)
وقد سخر علماء العربية دراستهم الصوت العربي لخدمة القرآن وقراءاته، وابتعدوا عن الدرس العبثي الذي يعتمد الوصف سبيلا له، من دون تفريق بين الجيد والرديء، والحسن والقبيح ، والمستجاد والمرذول، وجعلوا الدرس الصوتي يتفيأ ظلال القرآن، يستحسنون ما يستحسنه القراء، ويستهجنون ما يستهجنونه، نجد في كتاب سيبويه مثلا أن أصوات العربية تسعة وعشرون حرفا، ((وتكون خمسة وثلاثين حرفا ، بحروف هن فروع، وأصلها من التسعة والعشرين، وهي كثيرة يؤخذ بها، وتستحسن في قراءة القرآن والأشعار ... وتكون اثنين وأربعين حرفا بحروف غير مستحسنة، ولا كثيرة في لغة من ترتضى عربيته، ولا تستحسن في قراءة القرآن ولا في الشعر )) (1) .
وقد ربط سيبويه درس الحروف بأحكام القراءة والتجويد، وأخذ بعض أمثلته من القرآن، ووافق ما عند القراء في أفهامهم وأحكامهم، وينص أحيانا ما يقع منه في القرآن (2) . ترى ذلك في حديثه عن الإمالة والإدغام، وهذا لا يطعن فيه أن يأخذ سيبويه معظم أمثلته من الحديث الدارج، وكلام الناس المتداول المعتاد.
_________
(1) سيبويه ، عمرو بن عثمان ( ت 183 هـ ) الكتاب ، تحقيق عبد السلام هارون ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، القاهرة 4 / 432
(2) سيبويه ، الكتاب ، انظر مثلا 4 / 469(1/58)
وقد تابع النحويون سيبويه في درس الصوت العربي، وجعلوا نموذجه العالي هو صوت القراء المسندين، الذين أخذوا قراءتهم مشافهة، عرضا أو سماعا عن المشايخ المجيدين، بأسانيدهم المتصلة .
ويكفي أن يشار إلى اللغويين بفخار بعمل لغوي حاز الشهرة، وشهد له بالجودة، إنه كتاب أبي الفتح عثمان بن جني (ت 392 ه) ((سر صناعة الإعراب)) وقد عرض فيه لدراسة الحروف العربية مفردة حرفا حرفا، حتى أتى عليها كلها، وقد شاع في الكتاب الاستشهاد بالآيات .
ولطريقة تلقى القرآن عن الأشياخ فضل عظيم على الفصحى حرمت منه لغات أخرى، مما جعل نظامها الصوتي عرضة للاضطراب، والتطور غير المنضبط، أما الصوت العربي فإن المتلقن للقرآن يتلقنه عن شيخه، والشيخ يصغي له، ويصحح ما يقع فيه من خطأ أو انحراف، وإن دق أو جل عن العامة، ويروض لسان تلميذه حتى يتقن محاكاة شيخه، وتصح في لسانه الحروف من مخارجها وعلى صفاتها .
ولم يقف الأمر باللغويين عند هذا الحد في درس الصوت العربي من خلال القرآن، بل شاركوا أصحاب القراءة ، والمبدعين في التجويد عملهم، فلا يكاد يخلو كتاب من ذكر آرائهم، والاستناد إلى ما قرروه، مما لا تدعو حاجة إلى بيانه وشرحه .(1/59)
((والقراءة والأداء - كما يقول الرافعي - أمران يتعلقان باللفظ، ويبنيان على وجوه اللغة التي قام بها )) (1) . وأحكمت الصلة بين القراءة واللغة، حتى عدت موافقة القراءة العربية بوجه من الوجوه شرطا في صحتها وقبولها، سواء أكان هذا الوجه أفصح أم فصيحا ، مجمعا عليه ، أم مختلفا فيه اختلافا لا يضر مثله (2) . ترى ذلك بينا في كلمات لأهل اللغة، مثل قول الفراء ((اتباع المصحف إذا وجدت له وجها من كلام العرب، وقراءة القراء أحب إلي من خلافه)) (3) . وكلام الفراء وإن كان صريحا في رسم المصحف، إلا أنه ينطبق على القراءة والأداء .
وقد جعل المتأخرون من القراء شروط القراءة الصحيحة ثلاثة جمعها بقوله:
فكل ما وافق وجه نحو ... وكان للرسم احتمالا يحوي
وصح إسنادا هو القرآن ... فهذه الثلاثة الأركان
)) (4)
وقال البنا : ((فإذا اجتمعت هذه الثلاثة في قراءة وجب قبولها، سواء كانت عن السبعة أم عن العشرة ، أم عن غيرهم من الأئمة المقبولين، نص على ذلك الداني وغيره ممن يطول ذكرهم )) (5) .
_________
(1) الرافعي ، مصطفى صادق ( ت 1356 هـ ) تاريخ آداب العرب / دار الكتاب العربي / بيروت / ط الثانية / 1394 هـ - 1974 م ، 2 / 46
(2) ينظر في هذا كتب القراءات ، ومعاني القرآن للفراء 2 / 293 ، والصاحبي ص 15 ، وتاريخ آداب العرب 2 / 55
(3) الفراء ، يحيى بن زياد ( ت 207 ) معاني القرآن ، تحقيق أحمد يوسف نجاتي وآخرين ، ط أولى / القاهرة 2 / 293
(4) ابن الجزري ، محمد بن محمد ( ت 833 ) طيبة النشر في القراءات العشر ضمن إتحاف البررة بالمتون العشرة في القراءات والرسم والآي والتجويد ، مطبعة مصطفى الحلبي / مصر / عام 1354 هـ - 1935 م ص 169
(5) البنا، أحمد بن محمد (ت 1117ه) إتحاف فضلاء البشر بالقراءات الأربعة عشر / تحقيق د. شعبان محمد إسماعيل / الناشر عالم الكتب / بيروت / مكتبة الكليات الأزهرية / القاهرة / ط أولى عام 1407هـ - 1987م ، 1 / 70(1/60)
وبإقامة أحكام العربية بنية وتركيبا، يتحقق الإيقاع الجيد في الأداء، وبه يرتل القرآن كما قال أبو حاتم الرازي : ((النحو معيار جميع كلام العرب، ما كان منه منثورا، وما كان منه شعرا، وما كان منه سجعا، وغير ذلك من وجوه كلام العرب، وبالنحو يرتل القرآن الذي هو كلام الله عز وجل فيعرب كل حرف منه به ، ويقوم عليه ، حتى لا يترك حرف واحد إلا ويعطى حقه من الإعراب، وهكذا كان الفصحاء من العرب يفعلون في كلامهم كله، يعطون كل حرف حظه من الإعراب)) (1) .
_________
(1) أبو حاتم ، الزينة ص 90 - 91(1/61)
صحيح أن مقومات الإيقاع ليست محصورة في إقامة الإعراب على وجهه، لكنه من أهمها، إلى جانب إتقان أحكام التجويد، خاصة ما يتعلق بالغنة، والمد ، وأنواع المدود وقدر حركاتها ، ومعرفة الأحكام الخاصة لبعض الحروف، مع تحقيق الحروف بأدائها من مخارجها وعلى صفاتها، وهي أمور إذا لاقحت موهبة فطرية، وطبيعة طيعة ، مع دربة وممارسة، وتثقيف، وحسن تأت، مع جمال فطري للصوت، وسلامة لأعضاء النطق، وتأثر القارئ بما يقرأ، كان منها تلاوة هي الغاية في الإيقاع والسلاسة، من دون نكير أو نشاز، وهذا من مقاصد القراءة « ليس منا من لم يتغن بالقرآن » (1) و « ما أذن الله لشيء كأذنه لنبي حسن الصوت أن يتغنى بالقرآن » (2) .
وهذا لا يقلل من أهمية اللغة أصواتا وبنية وتركيبا في تحقيق الإيقاع في القراءة، بل هي شرط لا يمكن أن يتحقق إيقاع بدون الأمور اللغوية المذكورة وقد أدرك القراء ذلك ووعوه ، فقاموا به على وجهه .
* * *
_________
(1) الحديث عند البخاري ، الصحيح الجامع ، كتاب التوحيد ، باب قول الله تعالى وأسروا قولكم أو اجهروا به 13 / 418 ، وأبو داود في السنن كتاب الصلاة ، باب استحباب الترتيل في القراءة ، 2 / 156 ، وأحمد في المسند رقم ( 1469 )
(2) الحديث عند البخاري ، الصحيح الجامع ، كتاب فضائل القرآن ، باب « من لم يتغن بالقرآن » 9 / 60 - 61 وكتاب التوحيد باب قول الله تعالى ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له وباب قوله وأسروا قولكم أو اجهروا به ومسلم كتاب صلاة المسافرين باب ( استحباب تحسين الصوت بالقرآن ) 1 / 545 رقم الحديث ( 792 ). ورواه من أصحاب السنن أبو داود والنسائي(1/62)
أما ألفاظ القرآن فهي ميدان برزت فيه صلة علوم اللغة بعلوم القرآن بأجلى معانيها؛ ((إذ في القرآن ألفاظ تسمى الغريب أو الغرائب، لا من جهة نكارة في لفظها، أو شذوذ في بنيتها ، أو استكراه لمعناها، لأن القرآن نزل بأحلى لغة العرب لفظا، وأجملها صوتا وأوفاها تركيبا، وبأوضحها دلالة في المعنى، وإنما يراد بوصف الغرابة أن تكون حسنة مستغربة في التأويل، بحيث لا يتساوى في العلم بها أهلها وسائر الناس)) (1) .
وقد أسهم أهل العربية في هذا الجانب، وأبدعوا فيه، ولا غرو في ذلك، فهذا الجانب أقرب الجوانب إلى إبداعهم، وهو أقرب الميادين إلى ميدانهم، بل هم فرسانه، وأصحاب الكلمة فيه، يتضح هذا من نظرة عجلى في بداية التصنيف في الغريب، أو في كلمات القرآن وألفاظه .
_________
(1) الرافعي ، تاريخ آداب العرب 2 / 71(1/63)
ومن تقرير الحقيقة أن نقرر أن ظهور التأليف في غريب القرآن، وألفاظه، وكلماته ، تعد البداية الحقيقية، أو بداية نشأة التأليف في معجم العربية، بل كان ((تفسير غريب القرآن ومشكله أولى الحركات العلمية التي رآها العرب، ورأى بعض من فسر الغريب أن كثيرا منه غريب عن الأفهام؛ لأنه ليس من لغة قريش، وإنما جاء في القرآن من لغات القبائل الأخرى، فأشار إلى ذلك، وسمع بعضهم الآخر ممن اختلط بهم من أهل الكتاب، ومن أهل البلاد القريبة من الحجاز، ومن أهل الأقطار المتاخمة لبلاد العرب، والتي دخلت تحت سيطرة الإسلام، أن بعض هذه الألفاظ موجود في لغات أخرى، فأشاروا إلى ذلك، فكأنما جمعت هذه المحاولات الأولى بين تفسير الغريب، والمشكل، والإشارة إلى أصله في اللغات القبلية والأجنبية، وكانت هذه المحاولات العين التي استقى منها اللغويون بعد، وسبحوا فيما خرج منها من جداول، أصبحت أنهارا)) (1) .
إننا لو رجعنا إلى تاريخ التأليف في ألفاظ القرآن لوجدنا مثل ما يعزى إلى ابن عباس (ت 68 ه) وكتاب أبان بن تغلب (ت 141 ه) وكتاب محمد بن السائب الكلبي الكوفي (ت 146 ه) وعبد الرحمن بن محمد الأزدي الكوفي (من أهل القرن الثاني) .
_________
(1) نصار ، حسين ، المعجم العربي نشأته وتطوره / دار مصر للطباعة / القاهرة / ط الثانية / عام 1968 م ص 32(1/64)
ثم جاء من بعد أبو فيد مؤرج بن عمرو السدوسي البصري (ت 174 ه) فألف كتابا لم يصل إلينا، ومثله أبو سعيد البكري (من أهل القرن الثاني) ثم تلاهما طائفة، منهم أبو محمد يحيى بن المبارك اليزيدي (ت 202 ه) والنضر بن شميل (ت 203) وأبو عبيدة معمر بن المثنى (ت 210 ه) وأبو الحسن الأخفش سعيد بن مسعدة (ت 215 ه) وأبو عبيد القاسم بن سلام (ت 224 ه) ومحمد بن سلام الجمحي (ت 231 ه) وأبو عبد الرحمن عبد الله بن محمد العدوي ( ابن اليزيدي ) تلميذ الفراء، وابن قتيبة (ت 276 ه) وأحمد بن يحيى ثعلب (ت 291 ه) ومحمد بن الحسن بن دينار الأحول، وأبو جعفر بن محمد بن يزداد الطبري (1) ، وهؤلاء عاشوا في عصر واحد، تقاربت وفياتهم ، وتأثر بعضهم ببعض، وأغلب كتبهم ضاعت إلا ما نقل منها في الكتب اللاحقة .
_________
(1) نصار ، المعجم العربي ص 40(1/65)
وقد وصل إلينا منها غريب القرآن لابن قتيبة، وقد طبع، وقد قال في مقدمته: ((وكتابنا هذا مستنبط من كتب المفسرين، وكتب أصحاب اللغة العالمين، لم نخرج فيه عن مذاهبهم ، ولا تكلفنا في شيء منه بآرائنا غير معانيهم، بعد اختيارنا في الحرف أولى الأقاويل في اللغة، وأشبهها بقصة الآية )) (1) . وهذا يؤكد التلازم أو التآخي بين علوم القرآن وعلوم العربية.
ثم توالى المؤلفون في غريب القرآن في القرون التالية، وكان من أشهرهم محمد بن عزيز السجستاني (ت 330 ه) وكتابه مطبوع، وأبو القاسم الحسين بن محمد الراغب الأصفهاني (من رجال القرن الخامس) وقد تجلى في معجمه منهج لغوي متميز، صنعة ومادة. ومحمد بن أبي بكر بن عبد القادر الرازي (من علماء القرن السابع) ألف كتابه "تفسير غريب ألفاظ القرآن العظيم" منتزعا من مصادر لغوية، وكتب تفسير، مثل كتب الزجاج، والفراء، والأزهري، والجوهري، والزمخشري، وابن عزيز، وأبي عبيد الهروي صاحب الغريبين (2) .
_________
(1) ابن قتيبة ، عبد الله بن مسلم ( ت 276 هـ ) تفسير غريب القرآن / تحقيق السيد أحمد صقر / الناشر / عيسى الحلبي / القاهرة / عام 1378هـ- 1958م ص 4
(2) الرازي ، محمد بن أبي بكر ( القرن السابع ) / تفسير غريب القرآن العظيم / تحقيق د. عبد الرحمن الحجيلي / ط. الأولى / عام 1417 هـ - 1996 م، 1 / 48(1/66)
ولم ينقطع التأليف في لغة القرآن، وغريبه ، وألفاظه حتى عصرنا الحاضر، ومادة هذه الكتب لم تكن حجرا عليها، وإنما دخلت في صميم المعجم العربي، لم يخرج عنها إلا ما لا يعد تفسيرا أو شرحا للفظ، وهي تمثل أساس المعجم العربي، أو هي كما قال الراغب : ((ألفاظ القرآن هي لب كلام العرب وزبدته، وواسطته، وكرائمه، وعليها اعتماد الفقهاء، والحكماء، في أحكامهم وحكمهم، وإليها مفزع حذاق الشعراء، والبلغاء، في نظمهم ونثرهم، وما عداها وعدا الألفاظ المتفرعات عنها والمشتقات منها بالإضافة إليها كالقشور والنوى بالإضافة إلى أطايب الثمرة، وكالحثالة والتبن بالإضافة إلى لبوب الحنطة)) (1) .
_________
(1) الراغب الأصفهاني ( القرن الخامس ) معجم مفردات ألفاظ القرآن ، تحقيق نديم مرعشلي / دار الكاتب العربي / عام 1392 هـ - 1972 م ، ص « ن » من المقدمة(1/67)
وخدمة القرآن بإيضاح آيه، وبيان أحكامه، كانت غاية مؤلفي اللغة والمعاجم حتى قال أبو إبراهيم الفارابي (ت 350 ه) في مقدمة معجمه "ديوان الأدب": ((وقد أنشأت بتوفيق الله ( تعالى) ... كتابا عملت فيه عمل من طب لمن حب، مشتملا على تأليف لم أسبق إليه، وسابقا بتصنيف لم أزاحم عليه، وأودعته ما استعمل من هذه اللغة، وذكره النحارير من علماء أهل الأدب في كتبهم، مما وافق الأمثلة التي مثلت، والأبنية التي أوردت، مما جرى في قرآن، أو أتى في سنة، أو حديث، أو شعر، أو رجز، أو حكمة، أو سجع، أو مثل، أو نادرة .
فأما القرآن فوحي أوحاه الله تعالى إلى الرسول عليه الصلاة والسلام مع روح القدس بلسان عربي مبين، وهو كلام الله، وقول الله، وتنزيل الله، مفصلا فيه مصالح العباد في معادهم ومعاشهم ، مما يأتون ويذرون ، ولا سبيل إلى علمه وإدراك معانيه إلا بالتبحر في علم هذه اللغة ... )) (1) .
_________
(1) الفارابي ، إسحاق بن إبراهيم ( ت 350 هـ ) ديوان الأدب ، تحقيق د. أحمد مختار عمر / القاهرة عام 1395 هـ ، 1 / 72 - 73(1/68)
وقد ((نزل القرآن الكريم، والمخاطبون به قوم عرب، أولو بيان فاضل، وفهم بارع، أنزله (جل ذكره) بلسانهم، وصيغة كلامهم الذي نشؤوا عليه، وجبلوا على النطق به، فتدربوا به ، يعرفون وجه خطابه، ويفهمون فنون نظامه، ولا يحتاجون إلى تعلم مشكله، وغريب ألفاظه، حاجة المولدين الناشئين فيمن لا يعلم لسان العرب حتى يعلمه، ولا يفهم ضروبه وأمثاله، وطرقه، وأساليبه حتى يفهمها .
وبين النبي للمخاطبين من أصحابه رضي الله عنهم ما عسى الحاجة إليه من معرفة بيان لمجمل الكتاب وغامضه، ومتشابهه، وجميع وجوهه التي لا غنى بهم وبالأمة عنه، فاستغنوا بذلك عما نحن إليه محتاجون، من معرفة لغات العرب، واختلافها، والتبحر فيها، والاجتهاد في تعلم العربية الصحيحة التي بها نزل الكتاب، وورد البيان.
فعلينا أن نجتهد في تعلم ما يتوصل بتعلمه إلى معرفة ضروب خطاب الكتاب، ثم السنن المبينة لجمل التنزيل، الموضحة للتأويل، لتنتفي عنا الشبهة الداخلة على كثير من رؤساء أهل الزيغ والإلحاد، ثم على رءوس ذوي الأهواء والبدع، الذين تأولوا بآرائهم المدخولة، فأخطئوا، وتكلموا في كتاب الله (جل وعز ) بلكنتهم العجمية، دون معرفة ثاقبة، فضلوا وأضلوا )) (1) .
_________
(1) الأزهري أبو منصور محمد بن أحمد ( ت 370 هـ ) تهذيب اللغة / تحقيق جماعة / المؤسسة المصرية العامة للكتاب / القاهرة 1 / 4 ( مقدمة الكتاب )(1/69)
ثم أردف كلاما للشافعي ببيان (( أن على الخاصة التي تقوم بكفاية العامة فيما يحتاجون إليه لدينهم الاجتهاد في تعلم لسان العرب ولغاتها ، التي بها تمام التوصل إلى معرفة ما في الكتاب والسنن والآثار، وأقاويل المفسرين من الصحابة والتابعين، من الألفاظ الغريبة، والمخاطبات العربية، فإن من جهل سعة لسان العرب وكثرة ألفاظها وافتنانها في مذاهبها جهل جمل علم الكتاب، ومن علمها، ووقف على مذاهبها، وفهم ما تأوله أهل التفسير فيها، زالت عنه الشبه الداخلة على من جهل لسانها من ذوي الأهواء والبدع)) (1) .
هذه النصوص، والكلمات، وكثير غيرها في التراث اللغوي تهديك إلى الدافع الحقيقي وراء هذا التراث اللغوي المعجمي، وهو خدمة القرآن وتيسير فهمه وتلاوته، ورفع ما يحيط بفهمه من شبه، ودحض صرفه إلى التأويلات الفاسدة، والآراء الزائغة .
وقد كان الدافع الديني لهذه الأعمال اللغوية بارزا واضحا من كلماتهم، وعملهم، حتى صار هذا الدافع شعارا يمتاز به التصنيف اللغوي العربي، الذي يخالف كل تصنيف لغوي آخر في لغة أخرى .
_________
(1) الأزهري ، التهذيب 1 / 5 ( المقدمة )(1/70)
وأنت لو أردت أن تأخذ التصنيف اللغوي بمعزل عن القرآن وعلومه والشرع وأحكامه، ما استطعت ؛ لأن هذه العلوم قد تمازجت، وانفتح بعضها على بعض، وأصبح بعضها يفضي إلى بعض ، ويخدم بعضها بعضا.
وقد بلغ الأمر أن يعتقد أهل الإسلام أن علوم الإسلام لا تكمل إلا بعلم لغة القرآن، وفهم أساليب العرب في خطابها وحديثها ، وهي عقيدة أيدتها الشواهد والأدلة، ومسالك علماء الأمصار في مختلف الأقطار، كلهم يجمعون على ذلك، ويردون ما سواه، وفي هذا رد على فئة تدعو إلى عزل اللغة وعلومها عن القرآن وعلومه، زاعمة أن اللغة يمكن أن تقدم لغير المسلمين، وحينئذ يصعب إلزامهم بالمعاني والقيم الإسلامية، وهي دعوى مآلها تجريد العربية وعلومها من روحها الحية النابضة ، وسلخها من أس مقوماتها وأمتنها.
* * *
ومن أنماط ألفاظ القرآن ما يسمى الوجوه والنظائر، وهو فرع من فروع التفسير، ويقصد بالوجوه اللفظ المشترك الذي يستعمل في عدة معان كلفظ الهدى، له سبعة عشر معنى في القرآن ... والنظائر الألفاظ المتواطئة التي تستعمل بمعنى واحد ، مثل جواد وكريم (1) . وكأن الأول من باب المشترك اللفظي، والثاني من باب الترادف .
_________
(1) الزركشي ، محمد بن عبد الله ( ت 794 هـ ) البرهان في علوم القرآن ، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم / الناشر عيسى الحلبي / القاهرة 1 / 102 وينظر أيضا مقدمة تحقيق الأشباه والنظائر لمقاتل بن سليمان ( ت 150هـ ) لمحققه د. عبد الله شحاته ص 84 وانظر الدراسة المفصلة التي كتبتها محققة كتاب« التصاريف تفسير القرآن مما اشتبهت أسماؤه وتصرفت معانيه » لهند شلبي ص 28 فما بعدها . وقد ذكرت المؤلفات في هذا الفن(1/71)
وقد ألف في هذا الفن أقوام، منهم مقاتل بن سليمان البلخي (ت 150 ه) ويحيى بن سلام (ت 200 ه) وأبو العباس محمد بن يزيد المبرد (ت 285 ه) ألف كتابا صغيرا باسم ((ما اتفق لفظه واختلف معناه من القرآن المجيد)). وأبو عبد الله الحسين الدامغاني ( ت 478 ه) وكتابه "إصلاح الوجوه والنظائر في القرآن الكريم". والمؤلفات في هذا الفن كثيرة، أوصلها بعضهم إلى ثلاثة وعشرين مؤلفا .
وقد ألف من أهل اللغة غير المبرد أبو الحسين أحمد بن فارس (ت 395 ه) واسم كتابه الأفراد، وأبو منصور عبد الملك الثعالبي (ت 429 ه) ألف كتاب "الأشباه والنظائر"، ومجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزآبادي (ت 817 ه) خصص أجزاء من كتابه "بصائر ذوي التمييز" لذكر الوجوه والنظائر .
وألف غيرهم ممن لهم مشاركات في علوم أخرى، كابن الجوزي، والسيوطي (1) ، وهذا النمط ذو علاقة قوية باللغة ، وهي تجمع بين الوضع اللغوي، والاستعمال القرآني، ولهذه الصلة نكاد نجزم أن مادة كتب الوجوه والنظائر قد دخلت المعجم العربي باعتبارها أحد روافده .
_________
(1) يحيى بن سلام ( ت 200 هـ ) ، التصاريف تفسير القرآن مما اشتبهت أسماؤه وتصرفت معانيه ، تحقيق هند شلبي / الشركة التونسية للتوزيع عام 1400 هـ - 1980 م ص 28 - 38 . من مقدمة المحققة(1/72)
وعلماء اللغة عنوا بهذا النمط عناية مستقلة بمؤلفات قائمة بذاتها، أو بإدخال مادتها في مادة المعجم، وهو فن يتصل - كما أسلفت - بالمشترك اللفظي، والمترادف، ولا نخرج عن القصد لو قلنا: إن هذا العلم يفتقر أساسا إلى اللغة لمعرفة أوضاع الكلمات ، واستعمالاتها، وتتبع ما ورد منها في القرآن، وما يستشهد لها به من كلام العرب .(1/73)
وقد أسهم اللغويون بدراسة حروف المعاني والأدوات في القرآن من خلال مؤلفاتهم النحوية، من مثل مغني اللبيب لابن هشام، وبصائر ذوي التمييز للفيروزآبادي، ثم جاء في عصرنا شيخنا محمد عبد الخالق عضيمة، وألف كتابه "دراسات لأسلوب القرآن الكريم" وخص مجلداته الثلاثة الأولى لحروف المعاني والأدوات في القرآن ، وقد استقرأ كل حرف وكل أداة في القرآن، وأورد استعمالاتها، ومعناها في كل موقع وردت فيه، واستدرك على النحاة أشياء فاتتهم، وحشد كثيرا من أقوال النحاة والمفسرين في عمل معجمي يسهل لك الوصول إلى المادة المرادة .
وهم في درسهم حروف المعاني والأدوات قد جعلوا من الشواهد القرآنية أساسا لتحديد معاني الحروف والأدوات، وتعدد تلك المعاني، بحسب السياقات والتراكيب. والقرآن في هذه الأعمال إما مفسر مشروح يستشهد لمعانيه وبما يؤيدها من أقوال العرب، وأمثالهم، وحكمهم، وأراجيزهم، وأشعارهم، وإما شواهد تبين بها المعاني سواء وافقت معاني الأداة أو الحرف في معناه، أو زادت عليه.(1/74)
وعلى كل فألفاظ القرآن هي أساس الصنعة المعجمية، وأساس التأليف في المعجم العربي، ولا يستطيع مؤرخ المعجم العربي أن يتجاوز كلمات القرآن، وأنها البداية الأولى للتأليف المعجمي، بل الدافع الأساس لنشأة المعجم العربي، والدرس اللغوي، وهو أمر ظاهر لا يسوغ لأحد تجاهله، أو التقليل من شأنه وأثره.
* * *
أما "معاني القرآن" فقد كان لعلماء العربية فيها إسهام واضح، صار فيما بعد من مصادر التفسير، ولو رجعنا إلى كتب المعاني لوجدنا لأهل العربية الأوائل جهدا بارزا واضحا، تلقته الأمة بالقبول، ويكفي أن نشير هنا إلى ثلاثة كتب، هي:(1/75)
1 - مجاز القرآن لأبي عبيدة معمر بن المثنى (ت 210 ه) من مقدمة كتابه اتفاق كلام العرب والقرآن في الألفاظ، والتراكيب، والمدلولات، والاستعمالات، وأن القرآن إنما نزل بلغة العرب، وجاء على طرائقهم في البيان والكلام، قال أبو عبيدة : ((قالوا: إنما أنزل القرآن بلسان عربي مبين، وتصداق ذلك في آية من القرآن، وفي آية أخرى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ } [ إبراهيم: 4 ] فلم يحتج السلف ولا الذين أدركوا وحيه إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن يسألوا عن معانيه، وعما فيه مما في كلام العرب مثله من الوجوه والتلخيص ، وفي القرآن مثل ما في الكلام العربي، من وجوه الإعراب، ومن الغريب، والمعاني )) (1) . ثم ذكر نماذج وأمثلة من القرآن قبل البدء بسوره (2) . ثم أجمل الحديث بقوله: ((ففي القرآن ما في الكلام العربي من الغريب والمعاني، ومن المحتمل من مجاز ما اختصر، ومجاز ما حذف، ومجاز ما كف عن خبره، ومجاز ما جاء لفظه لفظ الجمع ، ووقع على الجميع، ومجاز ما جاء لفظه لفظ الجميع، ووقع معناه على الاثنين، ومجاز ما جاء لفظه خبر الجميع على لفظ خبر الواحد ، ومجاز ما جاء الجميع في موضع الواحد إذا أشرك بينه
_________
(1) أبو عبيدة ، معمر بن المتنبي ( ت 210 هـ ) مجاز القرآن ، تحقيق فؤاد سزكين / ط الثانية عام 1390 هـ القاهرة ، 1 / 8
(2) أبو عبيدة ، مجاز القرآن 1 / 8 - 18(1/76)
وبين آخر مفرد، ومجاز ما خبر عن اثنين، أو عن أكثر من ذلك، فجعل الخبر للواحد، أو للجميع، وكف عن خبر الآخر، ومجاز ما خبر عن اثنين، أو أكثر من ذلك، فجعل الخبر للأول منهما، ومجاز ما خبر عن اثنين أو عن أكثر من ذلك، فجعل الخبر للآخر منهما، ومجاز ما جاء من لفظ خبر الحيوان والموات على لفظ خبر الناس ؛ والحيوان كل ما أكل من غير الناس، وهي الدواب كلها، ومجاز ما جاءت مخاطبته مخاطبة الغائب، ومعناه مخاطبة الشاهد، ومجاز ما جاءت مخاطبته مخاطبة الشاهد، ثم تركت وحولت مخاطبة هذه إلى مخاطبة الغائب، ومجاز ما يزاد من حروف الزائد، ويقع مجاز الكلام على إلقائهن، ومجاز المضمر استغناء عن إظهاره، ومجاز المكرر للتوكيد، ومجاز المجمل استغناء عن كثرة التكرير، ومجاز المقدم والمؤخر، ومجاز ما يحول من خبره إلى خبر غيره بعد أن يكون من سببه، فيجعل خبره للذي من سببه ، ويترك هو. وكل هذا جائز قد تكلموا به)) (1) .
_________
(1) السابق 1 / 18 - 19(1/77)
ويظهر من إيراد هذا النص أن المقصود بالمجاز ليس تفسير الكلمات تفسيرا لغويا معجميا فحسب ، وإنما يخرج إلى الاستعمالات، والتراكيب، وأساليب العرب في الخطاب، وخروج الكلام عن ظاهر ما يدل عليه، وكل هذه يجمعها أنها معان. ولا يبعد عن كتاب "مجاز القرآن" كتاب أبي الحسن سعيد بن مسعدة الأخفش (ت 215 ه)؛ إذ عني بما عني به أبو عبيدة من تفسير الألفاظ، وشرح المعاني، وبيان أوجه الأساليب، وأغراض الخطاب، وخروج الأساليب عن ظاهرها، وزاد على ذلك عنايته بالظاهرة النحوية ، والقراءات القرآنية، وقد أبان عن آراء له في الرسم والقراءة .
ويقال: إن الكسائي طلب من الأخفش تأليف هذا الكتاب، فجعله إماما، وعمل عليه كتابا في المعاني، ثم عمل الفراء كتابه في المعاني عليهما، كما يقوله الأخفش (1) . وقد خلا كتاب الأخفش المطبوع من مقدمة، كمقدمة أبي عبيدة .
_________
(1) الزبيدي ، أبو بكر محمد بن الحسن ( ت 379 هـ ) طبقات النحويين واللغويين ، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم ، القاهرة ص 70(1/78)
أما كتاب "معاني القرآن" للفراء يحيى بن زياد (ت 207) فهو أمال أملاها في مجالس في السنوات الثانية، والثالثة والرابعة بعد المائتين، وقد أفاد فيه من أعمال سبقته، كما تقدم ، وعني بما عنوا به، وزاد عليهم عناية خاصة بالظاهرة النحوية، والرسم، والقراءة، ونثر في كتابه كثيرا من مصطلحات الكوفيين وآرائهم .
ويتفق الثلاثة على أن الغرض من تأليفهم هو دفع الشبه عن القرآن ، وما يرمي به الملاحدة والزنادقة القرآن من خلل واضطراب، وتناقض، وقد جعلوا عدتهم وسلاحهم لرد تلك الشبه لغة العرب، وأساليبهم البيانية، وطرائقهم الكلامية، وتقرير أن القرآن لم يخرج عن طرائق العرب ورسومهم ، ولا عن معهودهم وسننهم في الحديث والخطاب .
وقد استوفى المفسرون فيما بعد خلاصة ما في هذه الكتب الثلاثة وغيرها، فلو نظرنا مثلا في تفسير الطبري لاستطعنا رد ما فيه مما يرجع إلى المعاني، وتفسير الألفاظ، والكلام عن سنن العرب في كلامها إلى كتب ثلاثة أو أكثر، وإن لم يصرح بها، وهي " المجاز "، و" معاني القرآن " للفراء، و" غريب القرآن " وصنوه " تأويل مشكل القرآن " لابن قتيبة .(1/79)
ثم إن المصنفين في "معاني القرآن" كأنهم شغلوا بأصل اللغات، وإن لم ينسوا فرعها؛ لأن الأصل يبحث في " رسوم العرب في مخاطباتها، ومالها من الافتنان تحقيقا ومجازا ... وهذه هي الرتبة العليا؛ لأن بها يعلم خطاب القرآن والسنة، وعليها يعول أهل النظر والفتيا ، وذلك أن طالب العلم العلوي يكتفي من أسماء الطويل باسم الطويل، ولا يضيره أن لا يعرف الأشق والأمق، وإن كان في ذلك زيادة فضل .(1/80)
وإنما لم يضره خفاء ذلك عليه ؛ لأنه لا يكاد يجد منه في كتاب الله (جل ثناؤه) شيئا فيحوج إلى علمه ... ولو أنه لم يعلم توسع العرب في مخاطباتها لعي بكثير من علم محكم الكتاب والسنة، ألا تسمع قول الله (جل ثناؤه): { وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } [ الأنعام: 53 ] إلى آخر الآية ، فسر هذه الآية في نظمها لا يكون بمعرفة غريب اللغة والوحشي من الكلام، وإنما معرفته بغير ذلك مما لعل كتابنا (أي الصاحبي ) هذا يأتي على أكثره بعون الله (تعالى) )) (1) . وقد صدق ابن فارس في هذا ، ووفى بما وعد ؛ فكل المباحث المتعلقة بالحروف، ومعاني الكلام إنما هي في معرفة رسوم العرب في مخاطباتها، وقد قرنها بخطاب القرآن والسنة، وقد كان جل اعتماده على كتاب معاني القرآن، وكتب العربية ، والتفسير .
_________
(1) ابن فارس ، الصاحبي ص 3 - 4(1/81)
وقد كان ميدان المعاني ميدانا فسيحا، ولج منه الطاعنون على كتاب الله، الزائغون عن نور اليقين، المحرومون من نور هدايته، وحلاوة بيانه وطلاوته، ونظرة عجلى فيما أورده ابن قتيبة في كتابه "تأويل مشكل القرآن" من طعونهم، وشبههم، وضربهم القرآن بعضه ببعض، واتباع متشابهه، وترك محكمه، وترك الرجوع إلى ما يناظر كتاب الله من كلام العرب، وبيانهم، وزعم التناقض في القرآن، وطلبهم أن يحوي كتاب الله كل فن عرفوه، ليكون جامعا، ويصدق فيه قوله (تعالى): { مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ } [الأنعام: 38] على حد زعمهم، في أمور سببها جهلهم، وجعلهم اختلاف القراءة اختلافا، وليس باختلاف، ورميهم القرآن باللحن، والطعن بحكمة إنزال المتشابه، وعيبهم مجازات القرآن، والمجاز - كما زعموا - نوع من الكذب، ودلالات ألفاظه، كالأضداد، والقلب، وأساليبه وما فيها من حذف واختصار، وزيادة وتكرار، وطرائق التعبير فيه من كناية وتعريض، ومخالفة ظاهر اللفظ ومعناه .(1/82)
وقد قال ابن قتيبة في صدر كتابه: ((وإنما يعرف فضل القرآن من كثر نظره، واتسع علمه، وفهم مذاهب العرب وافتنانها في الأساليب، وما خص الله به لغتها دون جميع اللغات؛ فإنه ليس في جميع الأمم أمة أوتيت من العارضة والبيان، واتساع المجال، ما أوتيته العرب خصيصى من الله، لما أرهصه في الرسول، وأراده من إقامة الدليل على نبوته بالكتاب، فجعله علمه، كما جعل علم كل نبي من المرسلين من أشبه الأمور بما في زمانه المبعوث فيه)) (1) .
وقد كان اعتماد ابن قتيبة على أقوال سابقيه، ولغات العرب، قال: ((فألفت هذا الكتاب، جامعا لتأويل مشكل القرآن ، مستنبطا ذلك من التفسير بزيادة في الشرح والإيضاح، وحاملا ما لم أعلم فيه مقالا لإمام مطلع على لغات العرب؛ لأري المعاند موضع المجاز، وطريق الإمكان ، من غير أن أحكم فيه برأي، أو أقضي عليه بتأويل )) (2) .
_________
(1) ابن قتيبة ، عبد الله بن مسلم ( ت 276 هـ ) تأويل مشكل القرآن ، تحقيق السيد أحمد صقر ، ط الثانية ، دار التراث / القاهرة / عام 1393 هـ - 1973م ، 12
(2) ابن قتيبة ، تأويل مشكل القرآن ص 23(1/83)
وقد وصف هؤلاء الذين عناهم بكتابه، فقال: (( وقد اعترض كتاب الله بالطعن ملحدون، ولغوا فيه وهجروا ، واتبعوا { مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ } [آل عمران: 7] ثم قضوا عليه بالتناقض، والاستحالة، واللحن، وفساد النظم، والاختلاف، وأدلوا في ذلك بعلل ربما أمالت الضعيف الغمر، والحدث الغر، واعترضت بالشبه في القلوب، وقدحت بالشكوك في الصدور )) (1) .
فكان هؤلاء الزنادقة يأخذون ما اشتبه من معاني القرآن، ويجعلون منه شبها يقذفون بها في قلوب المؤمنين، كي ينتزعوا إيمانهم من جذوره ، ويزرعوا الشك مكان اليقين، ظنا منهم أنهم قادرون على إضلال الخلق وإهلاكهم، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم .
وقد جرت حكمة الله أن ينتدب لهذا القرآن من يذب عنه، وأن يستنبت من كل جيل ذادة عن كتابه، وحراسا لدينه، يدفعون عنه حيف الظالمين، وشبه الملحدين، وأكاذيب المرجفين، وفرى الجاحدين، وطغيان الطاغين، ليهلك من هلك عن بينة ، ويحيا من حيا عن بينة .
_________
(1) السابق ص 22(1/84)
وما ذكره هؤلاء من شبه ترجع في غالبها إلى باب واحد، هو باب اللغة والبيان، وكل ما في القرآن جار على طرائق العرب في الخطاب، وسننها في القول، وإن كان ظاهره غير ذلك ، كما قال ابن قتيبة : ((وليست تخلو هذه الحروف من أن تكون على مذهب من مذاهب أهل الإعراب ...)) (1) . وأكد هذا المعنى بقوله الآخر: ((إن القرآن نزل بألفاظ العرب ومعانيها، ومذاهبها في الإيجاز والاختصار، والإطالة والتوكيد، والإشارة إلى الشيء، وإغماض بعض المعاني، حتى لا يظهر عليه إلا اللقن، وإظهار بعضها، وضرب الأمثال لما خفي ، ولو كان القرآن ظاهرا مكشوفا، حتى ليستوي في معرفته العالم والجاهل ، لبطل التفاضل بين الناس ، وسقطت المحنة، وماتت الخواطر ... )) (2) .
ثم قال: (( وعلى هذا المثال كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلام صحابته والتابعين، وأشعار الشعراء ، وكلام الخطباء ، ليس منه شيء إلا وقد يأتي فيه المعنى اللطيف الذي يتميز فيه العالم المتقدم ، ويقر بالقصور عنه النقاب المبرز )) (3) .
_________
(1) السابق ص 56 - 57
(2) السابق ص 86
(3) السابق ص 87(1/85)
وتكفينا هذه النصوص لمعرفة مكان "معاني القرآن" وما لها من أثر في التصنيف اللغوي، الذي قصد إلى الدفاع عن القرآن، وبيان شبه المشبهين، وزيغ الزائغين، وبيان وجه فريتهم، وأنهم جهلوا لغة العرب ، وخفيت عليهم أنماطها، فوقعوا فيما وقعوا فيه من شك ، ولا يرفع هذا الشك ، ولا يدفع هذا الزيغ إلا معرفة ما للعرب من أساليب وافتنان في الحقيقة والمجاز، وهو عين ما قام به المؤلفون في المعاني ، وتجلى أكثر عند ابن قتيبة في كتابه "تأويل مشكل القرآن". فكان هذا العمل لدفع الشبه عن القرآن، برد طعن الطاعنين، وتأييد ذلك بكلام العرب، وتعرف طرائقه، وأنماطه ، وتعدد طرقه وأساليبه، وكان في هذا العمل منة عظمى على العربية وأهلها، وخدمة جلى للقرآن وبيانه.
وهذه البابة من العلم بحاجة إلى أن تسترعي نظر طالبي علوم القرآن وعلوم العربية؛ لأنها مما دق حتى كاد يخفى، ومما أهمل حتى كاد ينسى، في ظل انصراف طلاب العربية إلى قواعد يتحفظونها، والاكتفاء بمصنفات متأخري النحاة، بمعزل عن أصل البيان، وفي ظل اشتغال طلبة علوم القرآن بمنظومات في التجويد والقراءة، يكررونها بمعزل عن أصول علمهم الشريف، ونشأته الأولى .
* * *(1/86)
غني عن التأكيد أن القرآن أعلى نص في العربية، وأقواه من حيث صحة سنده، وكيفية هذه الصحة، وينفرد عن غيره من نصوص العربية، بأنه روي سماعا شيخا عن شيخ يبلغون به رسول الله صلى الله عليه وسلم عن جبريل عليه السلام عن رب العالمين. وليس في الدنيا نص تحققت فيه هذه الميزة. ولا غرو أن يجعله علماء العربية، كما جعله علماء الشريعة الحجة الأولى لإثبات اللغة. وتقرير قواعده، وأن يجعلوه في مرتبة أسمى وأعلى من قياساتهم النحوية، فكان من ذلك ما يسمونه الاحتجاج بالقراءات ولها ، وهو نمط لم يكن وليد قرن متأخر كالرابع الهجري مثلا ، كما قد يتبادر إلى الذهن من ظهور مؤلفاته، وأن رجاله المؤسسين جميعا، أو أكثرهم على الأقل عاشوا فيه، بل نجد من هذا شيئا غير قليل في كتب النحاة الأوائل، ومقالاتهم ، ومجالسهم، وأماليهم، وما ذلك على العربية بغريب؛ لأنها في أصل وضعها، ونشأتها إنما قامت لتخدم القرآن، وتبين عن وجه ما يخفى وجهه ، بالتنظير له من كلام العرب شعرها ونثرها ، ولعل ما مر من حديث عن "معاني القرآن" كاف في شرح الفكرة وبيانها .(1/87)
كما لم تخل كتب "معاني القرآن" من توجيه للقراءات، وبيان نظائرها من كلام العرب، ومن آراء في القراءة احتجاجا وقبولا وردا ، وربطا بالرسم، والرأي النحوي .
وقد أسهم علماء العربية في هذا النمط من العلم ابتداء بجمع القراءات، الذي يقال: إن أول من عمد إلى التصنيف فيه رجل من أهل اللغة في صدر القرن الثالث هو أبو عبيد القاسم بن سلام الهروي (ت 223 ه) ألف كتابه "معاني القراءات" .
وقد ألف بعده ابن قتيبة كتابا في "وجوه القراءات". ويفهم من ذكره له في "تأويل مشكل القرآن" أنه كتاب في توجيه القراءات، وتخريجها على مذاهب العرب في كلامها .
وقد كان الاحتجاج للقراءات بابا واسعا لخدمة اللغة العربية، وتقوية بعض وجوهها، وقد عرف النحويون هذا الاحتجاج منذ بداية التأليف في علوم العربية، نجد ذلك في كتاب سيبويه، ومن تبعه من النحاة. ينظرون للقراءة بكلام العرب شعره ونثره، فلما كان القرن الرابع سبع في أوله أبو بكر بن مجاهد (ت 324) "السبعة"، وألف كتابه، وتلقت الأمة تسبيعه بالقبول، وظهر منذ ذلك الزمن توجيهات واحتجاجات للقراءات سواء كانت سبعية أو غيرها .(1/88)
ولو ألقينا نظرة على تآليف الاحتجاج للقراءات في القرن الرابع لوجدنا أبا بكر محمد بن مقسم (ت 356 ه) يؤلف كتابا بعنوان "احتجاج القراءات" وفي أول القرن وقبله ألف أبو بكر بن السراج (ت 316 ه) "احتجاج القراءة". ويقال: إنه شرع فيه ولم يتمه، ثم ألف أبو علي الفارسي كتاب "الحجة في علل القراءات السبع " وقرنه أبو عبد الله الحسين بن أحمد بن خالويه (ت 370 ه) كتاب "إعراب القراءات السبع وعللها" وألف من هذه الطبقة أيضا، أبو منصور الأزهري (ت 370 ه) كتابا في "معاني القراءات". ثم ألف بعدهم أبو الفتح عثمان بن جني (ت 392 ه) ألف كتاب "المحتسب في تبيين وجوه شواذ القراءات، والإيضاح عنها" وقد أراد به أن يستكمل عمل شيخه أبي علي . كما ألف في آخر هذا القرن أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد بن زنجلة كتابه "حجة القراءات" .
وفي القرن الخامس ظهر مكي بن أبي طالب (ت 437 ه) فألف كتابه "الكشف عن وجوه القراءات السبع وعللها وحججها" وغيره، ثم تواتر التأليف في جمع القراءات والاحتجاج فألف في القرن السادس ابن الباذش (ت 540 ه) كتابه " الإقناع " .(1/89)
والكتب في القراءات تخريجا وتوجيها واحتجاجا أكبر من أن نأتي عليها في هذه العجالة، ولسردها مقام آخر، لكن يكفينا أن نشير إلى بعضها إشارة خاطفة، وفيه غنية ، وكفاية ، لما قصدنا إليه .
وقد أسهم هذا النوع من التأليف في إثراء العربية ، وخدمة لغة القرآن، وكان إضافة لدرس العربية اتخذ القرآن محورا ، وجعله مدارا يدور حوله، وكم من مسألة عازبة ، يعز عليك أن تجدها في المطولات النحوية ، ثم تجدها منشورة مبسوطة في كتب توجيه القراءات .
ثم إن كتب توجيه القراءات تمزج مستويات الدرس اللغوي الأربعة ببعض: الصوتي ، والصرفي ، والنحوي ، والدلالي ، وتعد من أرقى الدراسات التطبيقية في اللغة العربية ، وهي تمثل اللحمة القوية بين علوم العربية وعلوم القرآن، وتصور التآخي بينهما في أعلى مراتبه ، وأسمى درجاته ؛ لأنها تتخذ النص المقدس مجالا للدرس ، وتروم خدمته ، ورفع ما يحيق بفهمه من حواجز، وتيسير ذلك الفهم من خلال تناول لغوي ميسر يعتمد التحليل، والإعراب، وذكر النظائر ، والاستئناس بالرأي أو الآراء الأخرى، وتخريج ما في القراءة على كلام العرب ، أو آراء العلماء ومذاهبهم .(1/90)
ومما يتصل بموضوع الاحتجاج للقراءات إعراب القرآن، وهو أمر جذب أنظار اللغويين منذ عصور الازدهار اللغوي، نجد أمثلة لذلك في التصنيف خلال القرن الرابع الهجري؛ ألف ابن خالويه كتابه "إعراب ثلاثين سورة" وينسب من قبل لمحمد بن يزيد المبرد (ت 286 ه) كتاب في إعراب القرآن، بل لقطرب محمد بن المستنير (ت 206 ه) ينسب كتاب أيضا. ولثعلب أحمد بن يحيى (ت 291 ه) ولابن فارس (ت 395 ه) .
وهناك كتب في إعراب القرآن ، شهرت ، مثل " البيان في إعراب غريب القرآن " للكمال بن الأنباري (ت 577 ه) ، ولأبي البقاء العكبري (ت 616 ه) كتاب أيضا طبع باسم "إملاء ما من به الرحمن" و" التبيان في إعراب القرآن". ولابن هشام (ت 761 ه) تأليف في إعراب القرآن باسم "المسائل السفريات" في إعراب مواضع من القرآن.(1/91)
وللمتأخرين كتب كثيرة ، يصعب حصرها ، لعل من أشهرها كتاب " البحر المحيط " لأبي حيان الأندلسي (ت 745 ه) و" دراسات لأسلوب القرآن الكريم " لشيخنا محمد عبد الخالق عضيمة (ت 1406 ه)، وكتب الإعراب لا تعرض لإعراب الواضحات من الكلمات ، وإنما تعنى بما يكون في إعرابه إشكال أو خلاف ، أو اختلاف في المعنى ، أما ما فعله بعض المتأخرين من إعراب كل كلمة في القرآن ، فهذا أقرب إلى العبث، وهو إخراج للقرآن عما أنزل من أجله .(1/92)
والملحوظ أن النحويين يتباينون حين تناول إعراب القرآن ، فمنهم من يحشد لجمع أكبر عدد من أوجه الإعراب الممكنة والمفترضة ، بل المحالة، ومنهم من يسلك طريقا أقرب إلى القصد ، فلا يتسع في إيراد الأقوال إلا بقدر، ومنهم من يربط هذا الاتساع بصحة المعنى ، واستقامة التركيب، وتحقق القصد ، وهذا أقرب إلى بيان القرآن ؛ إذ من الضروري مراعاة الجوانب البلاغية والأسلوبية عند التخريج النحوي، وذكر الأوجه الممكنة في الإعراب، فلا يكفي لصحة الإعراب استقامة التخريج النحوي، وهو أمر النحاة بحاجة إلى تطلبه والبحث عنه، وعدم الغفلة عنه، وليتهم يبحثون حين تخريج الآيات على أوجه الإعراب عن أعلى الوجوه بلاغة، وأرفعها فصاحة، وأقواها بيانا، فلا يكتفى بمجرد الجواز والإمكان ، الذي إن قبلناه في كلام الأعراب والشعراء، فلا ينبغي لنا أن نقبله في كلام الله .
ثم إن الاشتغال بالتكثر من أوجه التخريج والإعراب ، وترجيح بعضها على بعض قد يشغلنا عن "معاني القرآن"، ويجعل ما نقوم به أقرب إلى درس في الإعراب، لا يكاد يتصل بالقرآن ، وهو يعرب القرآن.
* * *(1/93)
وهناك فن من التأليف حول القرآن يعنى بوقوفه، وابتداءاته ، وهو شديد الارتباط بالدرس اللغوي؛ لأنه يتصل بالمعنى المراد، أو بالصنعة اللفظية، والأدب، والحكم النحوي ، وقد تتوقف عليه أحكام شرعية .
وألف في هذا الفن جماعة من أهل العربية، منهم أبو بكر بن الأنباري (ت 328 ه) ألف كتاب "إيضاح الوقف والابتداء في كتاب الله عز وجل". وأبو جعفر النحاس (ت 338 ه) كتابه "القطع والائتناف".
وهو فن عني به الصحابة، وتلقوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتناقلته الأجيال من بعد، وقد جعلوا من صفات من يتقن الوقوف ما حكي عن مجاهد أنه قال: (( لا يقوم بالتمام إلا نحوي عالم بالقراءة ، عالم بالتفسير، عالم بالقصص )) (1) . كما يحتاج إلى معرفة علوم وفنون أخرى كي يتقن الوقف، وقال أبو جعفر النحاس : (( قد صار في معرفة الوقف والائتناف التفريق بين المعاني، فينبغي لقارئ القرآن إذا قرأ القرآن أن يتفهم ما يقرؤه، ويشغل قلبه به ، ويتفقد القطع والائتناف ، ويحرص على أن يفهم المستمعين في الصلاة وغيرها ، وأن يكون وقفه عند كلام مستغن أو شبيه ، وأن يكون ابتداؤه حسنا )) (2) . وهذا يتطلب من القارئ أن يعرف علوما وفنونا .
_________
(1) النحاس أبو جعفر أحمد بن محمد ( ت 338 هـ ) كتاب القطع والائتناف / تحقيق د. أحمد خطاب العمر ، وزارة الأوقاف العراقية / ط الأولى ، بغداد / عام 1398 هـ - 1978 م ، 1 / 94
(2) أبو جعفر النحاس ، القطع والائتناف 1 / 97(1/94)
ثم إن من الوقف ما هو واضح مفهوم معناه ، ومنه مشكل لا يدرى إلا بسماع، وعلم بالتأويل ، ومنه ما يعلمه أهل العلم بالعربية واللغة ، فيدري أين يقطع ؟ وكيف يأتنف )) (1) .
وكل من ألف في وقوف القرآن كان يعول على العربية والمعاني اللغوية، وتمام المعنى، وكان من هذا عمل رائع خدم العربية ، ولفت الأنظار إلى ما وراء وقف المتكلم من سر معنوي أو لفظي .
ثم إن هذا العلم قد قصرت العناية به في العصور المتأخرة، خاصة لدى طلاب العربية، وهو علم على قدر من الأهمية كبير، خاصة في فهم المعنى بطريقة وقف القارئ، إن كان الوقف كاملا، أو كان ناقصا، بطريقة تشعر السامع بالمعنى المراد ، ويعمد إليها القارئ .
وكم من معنى لاح بسبب وقفة قارئ، وكم من معنى اختلط، أو لبس، أو عمي بسبب وقفة، وهذا هو معنى قولهم (( ينبغي لقارئ القرآن أن يتفهم ما يقرؤه)). وهذا أمر زائد على ما يدرسه أهل العربية في باب "الوقف" لأنه إنما يعنى بالصورة اللفظية للفظ الموقوف عليه، ولا يبحث فيما وراء ذلك .
_________
(1) السابق 1 / 98(1/95)
ولم تخل الدراسات العامة التي كتبت حول القرآن من تفسير نقلي، أو تفسير موضوعي، أو أحكام، أو أنماط أخرى من التفسير، أو ما حول التفسير، لم تخل من توظيف اللغة، كما لم تخل من خدمة للغة العربية بوجه ما، لا تخفى على أحد، وبيانها من توضيح الواضحات، وهو ثقيل على النفس.
* * *(1/96)
أما ما يتعلق بالإعجاز والبلاغة فهذا الأمر من الوضوح بما يكفينا ويغنينا عن أن نردد ما قاله الآخرون ، فلولا القرآن لم يكن ثم بحث في إعجاز، ولا عمل في البلاغة، فالبلاغة إنما ولدت لتبين عن إعجاز القرآن.
وهذا الموضوع لم يكف أهل العلم عنه منذ نشأة علوم العربية حتى عصرنا الحاضر، كلها تحاول بيان وجه من وجوه الإعجاز، وبلاغة القرآن والكثير منها متجه إلى الجانب البياني. وقد قدمت هذه الدراسات للعربية نمطا فريدا من الدراسات البيانية لم تنعم بها لغة من اللغات، وهذا كاف، ولاتساع الموضوع، ولأنه خص بمحور خاص يجمل بنا أن نتركه لغيرنا، لأنهم أحق به، وأولى ، وأقدر على الكتابة فيه، وفيما قدمناه عن عناية المسلمين باللغة العربية خدمة للقرآن كفاية.
وبعد، فقد آن لنا أن نثني عنان القلم بالقول :
إنه لا يمكن المسلمين أن يقيموا دينهم ، أو أن يفهموا قرآنهم من غير استعانة باللغة العربية، وإنه لولا القرآن لما تقدمت علوم العربية، وتميزت عن غيرها من علوم اللغات الأخرى، ولما كان فيها الأنماط التي مازتها عن غيرها، بل إن بعض أنماط علوم العربية لولا القرآن ما كانت ولا وجدت، ولا فكر فيها أحد.(1/97)
وإن هناك فئة تحاول فصل الأمة عن دينها بحيلة بت صلة اللغة العربية بالقرآن والحديث، وإبعاد علوم العربية عن الصبغة الدينية، ويتظاهرون مع ذلك بحب العربية، والحرص على تعليمها، لكن بشرط أن تفصل عن العلوم الشرعية، وأن لا يكون للدين وتعليماته هيمنة عليها، فظهرت دعوات إلى إقامة أقسام للعربية على هذه الأسس، تربي أبناءها على غير لغة القرآن، وإن كتبت بالحرف العربي، ويدرسون غير لغة القرآن ، وإن سموها بعلوم عربية.
إن هناك حربا يستهدف بها القرآن ؛ لكنها لا تستطيع أن تخلع قناعها وتهجم على ما تريد مباشرة ، لأنها سوف ترد وتصد ، فيصرفون حربهم إلى لغة القرآن ، فيحاربون كل لسان يحاكي بيان القرآن في جزالته، وفصاحته، ويستبدلون بذلك كل أسلوب فج ، وتركيب ركيك، وهم في ذلك لا يحاربون نمطا من أنماط التعبير ، ولا يحاربون اللغة العربية نفسها، ولكنهم يعلنون حربا ضروسا على القرآن (1) .
_________
(1) ينظر كلمة لشكيب أرسلان ، ضمن كتاب « تحت راية القرآن » للرافعي ص 35(1/98)
ومن مظاهر فصل اللغة عن قرآنها أن يدعي بعض الكتاب أن اللغة إنما حفظت لا بسبب ارتباطها بالقرآن ، ولكن بسبب انكفائها على نفسها وانغلاق أهلها، كما هو الحال في اللغة الصينية ، كما يقولون ، وقد غاب عن هذا وأضرابه ((أن العربية بنيت على أصل سحري ، يجعل شبابها خالدا عليها، فلا تهرم، ولا تموت ؛ لأنها أعدت من الأزل فلكا دائرا للنيرين الأرضيين العظيمين، كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن ثم كانت فيها قوة عجيبة من الاستهواء كأنها أخذة السحر، لا يملك معها البليغ أن يأخذ أو يدع)) (1) .
ويزعم هؤلاء أن البلاغة يمكن أن تكون بمعزل عن القرآن ، وأن الفصاحة يمكن اكتسابها من غير القرآن، وهذا ما لم يقل به أحد من قبل، وليأتنا هؤلاء بواحد استطاع بمعزل عن القرآن، وما كان على نمطه من الكلام جزالة وقوة، وحلاوة وطلاوة أن يجعل من نفسه أديبا ذا بيان ولسان .
_________
(1) الرافعي ، تحت راية القرآن ص 31(1/99)
والغض من قدر العربية ، والنيل من مكانتها، وأنها ضرورة لكل علم شرعي، ليس بدعا عصريا ، بل أشار الزمخشري إلى بعض منتحليه ، ورد عليهم فقال: (( ... وذلك أنهم لا يجدون علما من العلوم الإسلامية، فقه وكلامها، وعلمي تفسيرها وأخبارها إلا وافتقاره إلى العربية بين لا يدفع، ومكشوف لا يتقنع ، ويرون الكلام في معظم أبواب أصول الفقه ، ومسائلها مبنيا على علم الإعراب، والتفاسير مشحونة بالروايات عن سيبويه، والأخفش، والكسائي ، والفراء ، وغيرهم من النحويين البصريين والكوفيين ، والاستظهار في مآخذ النصوص بأقاويلهم، والتشبث بأهداب فسرهم، وتأويلهم، وبهذا اللسان مناقلتهم في العلم، ومحاورتهم، وتدريسهم، ومناظرتهم، وبه تقطر في القراطيس أقلامهم، وبه تسطر الصكوك والسجلات حكامهم، فهم ملتبسون بالعربية أية سلكوا غير منفكين عنها أينما وجهوا، كل عليها حيثما سيروا ... )) (1) . ثم قال: ((وإن الإعراب أجدى من تفاريق العصا، وآثاره الحسنة عديد الحصى، ومن لم يتق الله في تنزيله ، فاجترأ على تعاطي تأويله، وهو غير معرب، فقد ركب عمياء، وخبط خبط عشواء، وقال ما هو تقول وافتراء وهراء، وكلام الله منه براء، وهو المرقاة المنصوبة إلى علم
_________
(1) الزمخشري أبو القاسم محمود بن عمر ( ت 538 هـ ) المفصل في علم العربية / ط الثانية / دار الجيل / بيروت ص 3(1/100)
البيان، المطلع على نكت نظم القرآن، الكافل بإبراز محاسنه ، الموكل بإثارة معادنه، فالصاد عنه كالساد لطرق الخير كيلا تسلك، والمريد بموارده أن تعاف وتترك)) (1) .
وبعد، فقد وضح لنا مدى التلازم أو التآخي بين علوم العربية، وعلوم القرآن حتى غدا كل واحد لا يتم إلا بالآخر، وهذه لحمة أكدها افتقار كل إلى الآخر، كما اتضح من خلال ما قدمته، إذ لا يستطيع دارس علوم القرآن أن يفيد منها كما ينبغي إلا بدرس للعربية وعلومها المختلفة جاد، في حين لو تخلت علوم العربية عن القرآن، أو نأت لتحولت جثة هامدة، ولفقدت روحها الفاعلة، ولفقدت ما فيها من مقومات أسلوبية، وبيان ناصع .
كما وضح لنا مدى خطورة الدعوة إلى التخلي عن مزايا الجملة القرآنية، ولغة القرآن؛ التي تغذوها النصوص من القرآن والسنة ، والتراث العربي الأصيل شعرا ونثرا، وهذه الدعوة من الخطورة بحيث تخفى إلا على اللبيب، وقليلا ما هو ، والسمو يتطلب شيئا من المجاهدة، والعمل الشاق .
_________
(1) الزمخشري ، المفصل ص 4 - 5(1/101)
إن القرآن هو السر في بقاء العربية وخلودها، أدرك هذا أعداؤها، كما أدركه أهلها، نجد تأكيد ذلك في دراسات عربية، وأخرى غير عربية، بل إن هذا هو الذي خلد العربية، ورفعها إلى أن تكون مما يتسامى الناس في تحصيله؛ إذ صارت العربية فيما بعد لغة الدين، ولغة العلم ، ولغة علية القوم، فتسامى الناس في تعلمها، وتباروا في إتقانها لمجموع هذه الدوافع، حتى صار من غير أهلها من امتاز على أهلها، وهذه الدوافع تعود كلها إلى القرآن ، فالقرآن هو الدافع الحقيقي الذي جعل من العربية مقصدا يتبارى الجميع في تحقيقه .
إنه يجب الحذر أشد الحذر من دعوات تدعو إلى فصل القرآن عن العربية، بل فصل سلطة القرآن على العربية، وأنه يجب أن ندرس العربية باعتبارها لغة لا ترتبط بالقرآن، مثلها في ذلك مثل أي لغة، وقد جرت هذه الفكرة إلى أن يفكر أناس بإيجاد أقسام للعربية لا تهيمن عليها السلطة الدينية، ولا تهيمن عليها الاتجاهات القرآنية .(1/102)
كما يجب أن نكون في حذر شديد من تجريد تعليم العربية عن الدوافع الدينية، خاصة في مجال تعليمها لغير أهلها؛ إذ قد تغرينا بعض مكاسب عاجلة محدودة، أو طلبات وقتية من شركات عاملة في بلادنا، أو راغبين في تعلمها من غير المسلمين، هذه العلوم قد تغري بعضا ، وينادي بأن لا نثقل عليهم بربط العربية بالدين، ونصوصه ، وعلينا أن نجردها من كل ما يربطها بالدين أو القرآن، شأنها في ذلك شأن أي لغة أخرى ، وأذكر أنني مرة قابلت صينيا تعلم العربية، وهو يقول: إنكم في المملكة العربية السعودية في برامجكم عيب، وهو ربطها بالدين والقرآن ، وكان بعض الحاضرين قد أعجبه كلامه أو رأيه، ورأى فيما يقوله وجهة نظر مقبولة .
ثم إن هذا التجريد أو الفصل يرفع عنها هيبتها وقداستها التي اكتسبتها من ارتباطها بالقرآن ، ويجعلها لغة من اللغات ، ليس لها أي امتياز .
إنه لا يسعنا في هذا المقام إلا أن نشيد بتلك الجهود الضخمة التي بذلها المسلمون من غير العرب في خدمة اللغة العربية كتابة وتأليفا، ودرسا، ودفاعا عنها، ونشرا لها في مواقع من العالم ، وفئات من المجتمع .(1/103)
وقد كان للعربية ، وهي لغة القرآن أثر بارز في لغات العالم الإسلامي الأخرى، كالفارسية مثلا ؛ إذ امتزجت اللغتان في تكوين لغة جديدة، اعتمدت الحرف، العربي ورسمه، وحاكت اللغة العربية في معجمها، وأوزانها، وعروضها، وقد أخذت الفارسية الألفاظ الإسلامية ، كما هي من غير تغيير يذكر، ولا يغيب عن أذهاننا محافظة المسلمين من غير العرب على الخط العربي في كتابة لغاتهم ، وتمسكهم به ، مما يعد خطا من خطوط الدفاع عن العربية. ويعد دافعا لتمسك العرب بخطهم ورسمهم .
إنه يجب علينا أن نعيد الترابط بين علوم القرآن وعلوم العربية، وذلك بربط الثانية بالأولى حين تدرس الأصوات، وحين ندرس الأبنية والتراكيب، وحين ندرس المعجم ، فتجعل الدراسة الصوتية دراسة تطبيقية من خلال الصوت العربي المتمثل في قراءة القراء المجيدين ، وفيما سطره التجويد من أصوات في صفاتها ومخارجها، كما نعني بكلمات القرآن ، وأنها أصل اللغة ولبها، كما يقول أهل اللغة ، وأن نعنى بدراسة إعراب القرآن وأحكامه النحوية بما ينمي الذوق ويرقيه .(1/104)
كما يجب من طرف آخر تقوية عناية المشتغلين بعلوم القرآن بعلوم العربية؛ لأنها ضرورة لهم، ولأنها تعين في تكوين حس لغوي تدرك به أسرار التعبير، ويفرق بين الأساليب ، ولأنها تقوم مقام التكوين الفطري الذي يعتمد على تلقي اللغة عن البيئة، كما كان العرب يفعلون، وكما هي حال الجيل الأول الذي تلقى وبدأ درسه بمعارف بسيطة، استحالت فيما بعد إلى علوم .
إن عودة دارسي القرآن وعلومه إلى اللغة العربية، نصوصا وعلوما ليست بدعا، أبدعه عصرنا، بل دعوة مدوية أرسلها الخليفة الراشد الثاني عمر الفاروق حين قال، وهو على المنبر عن قوله تعالى { أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ } [ النحل: 47 ] فقال له رجل من هذيل: التخوف عندنا التنقص ، ثم أنشده :
تخوف الرحل منها تامكا قردا ... كما تخوف عود النبعة السفن
فقال عمر : (( أيها الناس ، تمسكوا بديوان شعركم في جاهليتكم ، فإن فيه تفسير كتابكم )) (1) .
_________
(1) القاسمي ، محاسن التأويل 1 / 101(1/105)
هناك من يلح أن تكون علوم العربية في تنظيم التعليم الجامعي تابعة لعلوم القرآن، ويعيب أن تكون مادة مثل القراءات من اهتمامات أقسام اللغة العربية، وما ذلك بعيب ، بل يعيب أن يكون للقراءات قسم في كلية اللغة العربية، والحق أن لا عيب في ذلك لشدة اللحمة ، والترابط بين النوعين: علوم القرآن وعلوم العربية . ولا يعني هذا تبعية علم لعلم، فالأصل هو القرآن وعلومه، والعربية وعلومها إنما هي خدم للقرآن وعلومه. وقد تغلغلت علوم العربية في صلب علوم القرآن، من قراءة وتفسير ، حتى إنه ليعسر على الدارس فصل تلك العلوم عن بعض .
وإن من الواجب أن لا تخلو أقسام اللغة العربية من مواد الدراسات القرآنية خاصة ما يتعلق بالتجويد والقراءة ، وإعراب القرآن، وتفسيره، وإن القرآن الأولى أن يكون مجالا للدروس التطبيقية في اللغة العربية، لأسباب لا تخفى على ذي بصيرة .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على محمد وآله وصحبه. تم .(1/106)