على ضوء الإجابة عن موانع الإستجابة
أبو يوسف محمد زايد
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله القريب المجيب ، الذي قال في محكم الكتاب : (أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ) (النمل : 62 )، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يحب من عباده الداعي الملحاح ، والصلاة والسلام على محمد النبي الأمين خير الداعين ، الهادي إلى سبيل الفلاح ، وعلى آله الطاهرين وصحابته الميامين ،أهل التقى والكفاح ، وعلى كل عبد قال : آمنت بالله ثم استقام ، إلى اليوم الذي يسعد فيه أهل التوحيد الخالص والصلاح ، ويشقى فيه كل منافق ومجاهر بكفر بواح...
أما بعد ، فهذا شرح يسير لكلمة الأمير الزاهد إبراهيم بن أدهم ( 261 هـ ) رحمه الله ... التي بين فيها جملة من موانع الإستجابة ؛ ومن خلال هذا الشرح المتواضع ، حاولت أن أقف على أحوال المسلمين في الوقت الراهن وما يتعرضون له في مشارق الأرض ومغاربها من فتن تجد تربتها الخصبة ومنبتَها الحسن وريَّها المتدفق في أرضهم حيث يزرعون بذرتها بأيديهم ، وما يهاجمهم في عقر ديارهم من موبقات مهلكات مرديات تذروها ريح عدو تزداد عداوته شدة ويوازره في طغيانه غرب ظلوم ، لا همَّ لهما إلا الكيد للإسلم ومعتنقيه ...
أقول وما توفيقي إلا بالله ، عليه توكلت وإليه أنيب :
- عن شقيق بن إبراهيم قال :دخل إبراهيم بن أدهم سوقا من أسواق البصرة ؛ فاجتمع إليه الناس ، فقالوا : يا أبا إسحاق ، إن الله تعالى يقول في كتابه : ( ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) (غافر : 60 ) ... ونحن ندعوه منذ دهر فلا يستجيب لنا ؟ قال : يا أهل البصرة ، ماتت قلوبكم في عشرة أشياء :
1- عرفتم الله ، ولم تؤدوا حقه .
2- قرأتم كتاب الله ، ولم تعملوا به .
3- ادعيتم حب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم ، وتركتكم سنته .(1/1)
4- علمتم عداوة الشيطان لكم ، ووافقتموه .
5- قلتم نحب الجنة ، ولم تعملوا لها .
6-قلتم نخاف النار ، ورهنتم أنفسكم بها .
7- تعرفون أن الموت حق ، ولا تستعدون له .
8- اشتغلتم بعيوب إخوانكم ، ونبذتم عيوبكم .
9- أكلتم نِعم ربكم ، ولم تشكروا له .
10-دفنتم موتاكم ، ولم تعتبروا ...
* وقد ذكر الإمامُ القرطبي رحمه الله هذه الكلمةَ في تفسيره ، بالفاظ مغايرة شيئا ما ، لكن تدور حول نفس المعاني...، وستأتي إن شاء الله ...
*** قلت ( مع تصرف قليل ) : قال ابن كثير رحمه الله عند شرحه لقول الباري جل ثناؤه : ( وَقَالَ رَبّكُمْ ادْعُونِيَ أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنّ الّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنّمَ دَاخِرِينَ ).. (غافر : 60 ) :
هذا من فضله تبارك وتعالى وكرمه أنه ندب عباده إلى دعائه وتكفل لهم بالإجابة كما كان سفيان الثوري يقول: يا مَن أحبُّ عبادِه إليه مَن سأله فأكثر سؤالَه, ويا مَن أبغضُ عبادِه إليه مَن لم يسأله ؛ وليس أحدٌ كذلك غيرك يا رب.... رواه ابن أبي حاتم وفي هذا المعنى يقول الشاعر:
اللهُ يغضَبُ إن تركتَ سؤالَهُ وبُنَيُّ آدمَ حين يُسألُ يغضَبُ(1/2)
وقال قتادة: قال كعب الأحبار أعطيت هذه الأمة ثلاثاً لم تعطهن أمة قبلها ولا نبي: كان إذا أرسل الله نبياً قال له أنت شاهد على أمتك وجعلتكم شهداء على الناس, وكان يقال له ليس عليك في الدين من حرج وقال لهذه الأمة: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} وكان يقال له ادعني أستجب لك وقال لهذه الأمة {ادعوني أستجب لكم} رواه ابن أبي حاتم. وقال الإمام الحافظ أبو يعلى أحمد بن علي بن المثنى الموصلي في مسنده: حدثنا أبو إبراهيم الترجماني حدثنا صالح المرّي قال: سمعت الحسن يحدث عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه عز وجل قال: "أربع خصال واحدة منهن لي وواحدة لك وواحدة بيني وبينك وواحدة فيما بينك وبين عبادي, فأما التي لي فتعبدني لا تشرك بي شيئاً وأما التي لك علي فما عملت من خير جزيتك به وأما التي بيني وبينك فمنك الدعاء وعلي الإجابة وأما التي بينك وبين عبادي فارض لهم ما ترضى لنفسك". وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن ذر عن يسيع الكندي عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الدعاء هو العبادة" ثم قرأ {ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين} وهكذا رواه أصحاب السنن الترمذي والنسائي وابن ماجه ... وقال الإمام أحمد: حدثنا وكيع أبو مليح المدني شيخ من أهل المدينة سمعه عن أبي صالح وقال مرة سمعت أبا صالح يحدث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لم يدع الله عز وجل غضب عليه" تفرد به أحمد ، وهذا إسناد لا بأس به ... وقال الإمام أحمد أيضاً: حدثنا مروان الفزاري حدثنا صبيح أبو المليح سمعت أبا صالح يحدث عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لا يسأله يغضب عليه" ... وفي مسنده البزار : أبو المليح الفارسي عن أبي صالح الخوزي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال(1/3)
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لم يسأل الله يغضب عليه"... وقال أبو محمد الحسن بن عبد الرحمن الرامهرمزي: حدثنا همام حدثنا إبراهيم عن الحسن حدثنا نائل بن نجيح حدثني عائذ بن حبيب عن محمد بن سعيد قال: لما مات محمد بن مسلمة الأنصاري وجدنا في ذؤابة سيفه كتاباً باسم الله الرحمن الرحيم سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن لربكم في بقية أيام دهركم نفحات فتعرضوا له لعل دعوة أن توافق رحمة فيسعد بها صاحبها سعادة لا يخسر بعدها أبداً"....
وقوله عز وجل: {إن الذين يستكبرون عن عبادتي} أي عن دعائي وتوحيدي سيدخلون جهنم داخرين أي صاغرين حقيرين كما قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن سعيد عن ابن عجلان حدثني عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الناس يعلوهم كل شيء من الصَّغار حتى يدخلوا سجناً في جهنم يقال له بولس تعلوهم نار الأنيار يسقون من طينة الخبال عصارة أهل النار". وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين حدثنا أبو بكر بن محمد بن يزيد بن خنيس قال: سمعت أبي يحدث عن وهيب بن الورد حدثني رجل قال: كنت أسير ذات يوم في أرض الروم فسمعت هاتفاً من فوق رأس الجبل وهو يقول: يا رب عجبت لمن عرفك كيف يرجو أحداً غيرك... يا رب عجبت لمن عرفك كيف يطلب حوائجه إلى أحد غيرك.... قال ثم ذهبت، ثم جاءت الطامة الكبرى ؛ قال ثم عاد الثانية، فقال: يا رب عجبت لمن عرفك كيف يتعرض لشيء من سخطك يرضي غيرك ...قال وهيب وهذه الطامة الكبرى, قال فناديته أجني أنت أم إنسي ؟ قال بل إنسي اشغلْ نفسَك بما يعنيك عما لا يعنيك .
*** وقال القرطبي رحمه الله عند تفسير قوله تعالى :(وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (البقرة : 186 )(1/4)
قوله تعالى: "وإذا سألك" المعنى وإذا سألوك عن المعبود فأخبرهم أنه قريب يثيب على الطاعة ويجيب الداعي، ويعلم ما يفعله العبد من صوم وصلاة وغير ذلك. واختلف في سبب نزولها، فقال مقاتل: إن عمر رضي اللّه عنه واقع امرأته بعد ما صلى العشاء فندم على ذلك وبكى، وجاء إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأخبره بذلك ورجع مغتما، وكان ذلك قبل نزول الرخصة، فنزلت هذه الآية: "إذا سألك عبادي عني فإني قريب". وقيل: لما وجب عليهم في الابتداء ترك الأكل بعد النوم فأكل بعضهم ثم ندم، فنزلت هذه الآية في قبول التوبة ونسخ ذلك الحكم، على ما يأتي بيانه. وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: قالت اليهود كيف يسمع ربنا دعاءنا، وأنت تزعم أن بيننا وبين السماء خمسمائة عام، وغلظ كل سماء مثل ذلك؟ فنزلت هذه الآية. وقال الحسن: سببها أن قوما قالوا للنبي صلى اللّه عليه وسلم: أقريب ربنا فنناجيه، أم بعيد فنناديه؟ فنزلت. وقال عطاء وقتادة: لما نزلت: "وقال ربكم ادعوني أستجب لكم" [غافر: 60] قال قوم: في أي ساعة ندعوه؟ فنزلت.
قوله تعالى: "فإني قريب" أي بالإجابة. وقيل بالعلم. وقيل: قريب من أوليائي بالإفضال والإنعام.(1/5)
قوله تعالى: "أجيب دعوة الداعي إذا دعان" أي أقبل عبادة من عبدني، فالدعاء بمعنى العبادة، والإجابة بمعنى القبول. دليله ما رواه أبو داود عن النعمان بن بشير عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: (الدعاء هو العبادة ، قال ربكم: (ادعوني أستجب لكم ) ... فسمي الدعاء عبادة، ومنه قوله تعالى: "إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين" [غافر: 60] أي دعائي. فأمر تعالى بالدعاء وحض عليه وسماه عبادة، ووعد بأن يستجيب لهم. روى ليث عن شهر بن حوشب عن عبادة بن الصامت قال، سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول : (أعطيت أمتي ثلاثا لم تعط إلا الأنبياء: كان اللّه إذا بعث نبيا قال ادعني أستجب لك ، وقال لهذه الأمة ادعوني أستجب لكم... وكان اللّه إذا بعث النبي قال له ما جعل عليك في الدين من حرج ، وقال لهذه الأمة ما جعل عليكم في الدين من حرج... وكان اللّه إذا بعث النبي جعله شهيدا على قومه ، وجعل هذه الأمة شهداء على الناس... ). وكان خالد الربعي يقول: عجبت لهذه الأمة في "ادعوني أستجب لكم" [غافر: 60] أمرهم بالدعاء ووعدهم بالإجابة، وليس بينهما شرط. قال له قائل: مثل ماذا؟ قال مثل قوله: "وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات" [البقرة: 25] فههنا شرط، وقوله: "وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق" [يونس: 2] فليس فيه شرط العمل، ومثل قوله: "فادعوا الله مخلصين له الدين" [غافر: 14] فههنا شرط، وقوله: "ادعوني أستجب لكم" ليس فيه شرط. وكانت الأمم تفزع إلى أنبيائها في حوائجهم حتى تسأل الأنبياء لهم ذلك.(1/6)
فإن قيل: فما للداعي قد يدعو فلا يجاب ؟ فالجواب أن يعلم أن قوله الحق في الآيتين "أجيب" "أستجب" لا يقتضي الاستجابة مطلقا لكل داع على التفصيل، ولا بكل مطلوب على التفصيل، فقد قال ربنا تبارك وتعالى في آية أخرى: "ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين" [الأعراف: 55] وكل مصر على كبيرة عالما بها أو جاهلا فهو معتد، وقد أخبر أنه لا يحب المعتدين فكيف يستجيب له. وأنواع الاعتداء كثيرة، ..... وقال بعض العلماء: أجيب إن شئت، كما قال: "فيكشف ما تدعون إليه إن شاء" [الأنعام: 41] فيكون هذا من باب المطلق والمقيد. وقد دعا النبي صلى اللّه عليه وسلم في ثلاث فأعطي اثنتين ومنع واحدة .قلت : يشير إلى الحديث الذي أخرجه أحمد ومسلم من رواية سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : سألت ربي ثلاثا فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة سألت ربي أن لا يهلك أمتي بالسنة فأعطانيها وسألته أن لا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها .... وقيل: إنما مقصود هذا الإخبار تعريف جميع المؤمنين أن هذا وصف ربهم سبحانه أن يجيب دعاء الداعين في الجملة، وأنه قريب من العبد يسمع دعاءه ويعلم اضطراره فيجيبه بما شاء وكيف شاء (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ) [الأحقاف: 5] وقد يجيب السيد عبده والوالد ولده ثم لا يعطيه سؤله. فالإجابة كانت حاصلة لا محالة عند وجود الدعوة ، لأن (أجيب) و ( أستجب ) خبر لا ينسخ فيصير المخبر كذابا. يدل على هذا التأويل ما روى ابن عمر عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: (من فتح له في الدعاء فتحت له أبواب الإجابة). وأوحى اللّه تعالى إلى داود: أن قل للظلمة من عبادي لا يدعوني فإني أوجبت على نفسي أن أجيب من دعاني وإني إذا أجبت الظلمة لعنتهم. وقال قوم: إن اللّه يجيب كل الدعاء، فإما أن تظهر الإجابة(1/7)
في الدنيا، وإما أن يكفر عنه، وإما أن يدخر له في الآخرة، لما رواه أبو سعيد الخدري قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه اللّه بها إحدى ثلاث إما أن يعجل له دعوته ، وإما أن يدخر له ، وإما أن يكف عنه من السوء بمثلها). قالوا: إذن نكثر؟ قال: (لله أكثر). أخرجه أبو عمر بن عبد البر، وصححه أبو محمد عبد الحق، وهو في الموطأ منقطع السند. قال أبو عمر: وهذا الحديث يخرج في التفسير المسند لقول اللّه تعالى "ادعوني أستجب لكم" [غافر: 60] فهذا كله من الإجابة. وقال ابن عباس: كل عبد دعا استجيب له، فإن كان الذي يدعو به رزقا له في الدنيا أعطيه، وإن لم يكن رزقا له في الدنيا ذخر له....قلت: وحديث أبي سعيد الخدري وإن كان إذنا بالإجابة في إحدى ثلاث فقد دلَّك على صحة ما تقدم من اجتناب الاعتداء المانع من الإجابة حيث قال فيه: (ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم ) وزاد مسلم: (ما لم يستعجل). رواه عن أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: (لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم ما لم يستعجل - قيل: يا رسول اللّه، ما الاستعجال؟ قال - يقول قد دعوت وقد دعوت فلم أر يستجيب لي فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء ). وروى البخاري ومسلم وأبو داود عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلى اللّه عيه وسلم قال: ( يستجاب لأحدكم ما لم يعجل يقول دعوت فلم يستجب لي). قال علماؤنا رحمة اللّه عليهم : يحتمل قوله (يستجاب لأحدكم ) الإخبار عن وجوب وقوع الإجابة، والإخبار عن جواز وقوعها، فإذا كان بمعنى الإخبار عن الوجوب والوقوع فإن الإجابة تكون بمعنى الثلاثة الأشياء المتقدمة. فإذا قال: قد دعوت فلم يستجب لي، بطل وقوع أحد هذه الثلاثة الأشياء وعري الدعاء من جميعها. وإن كان بمعنى جواز الإجابة فإن الإجابة حينئذ تكون بفعل ما دعا به خاصة، ويمنع من ذلك قول الداعي: قد دعوت فلم يستجب لي، لأن(1/8)
ذلك من باب القنوط وضعف اليقين والسخط ....
قلت: ويمنع من إجابة الدعاء أيضا أكل الحرام وما كان في معناه، قال صلى اللّه عليه وسلم: ( الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء : يا رب... يا رب... ومطعمه حرام ، ومشربه حرام ، وملبسه حرام ، وغذي بالحرام... فأنَّى يستجاب لذلك ؟ ).. وهذا استفهام على جهة الاستبعاد من قبول دعاء من هذه صفته، فإن إجابة الدعاء لا بد لها من شروط في الداعي وفي الدعاء وفي الشيء المدعو به. فمن شرط الداعي أن يكون عالما بأن لا قادر على حاجته إلا اللّه، وأن الوسائط في قبضته ومسخرة بتسخيره، وأن يدعو بنية صادقة وحضور قلب، فإن اللّه لا يستجيب دعاءً من قلبٍ غافل لاهٍ ، وأن يكون مجتنبا لأكل الحرام، وألا يمل من الدعاء. ومن شرط المدعو فيه أن يكون من الأمور الجائزة الطلب والفعل شرعا، كما قال: ( ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم ) فيدخل في الإثم كل ما يأثم به من الذنوب، ويدخل في الرحم جميع حقوق المسلمين ومظالمهم . وقال سهل بن عبدالله التستري: شروط الدعاء سبعة : التضرع والخوف والرجاء والمداومة والخشوع والعموم وأكل الحلال. وقال ابن عطاء: إن للدعاء أركانا وأجنحة وأسبابا وأوقاتا، فإن وافق أركانه قوي، وإن وافق أجنحته طار في السماء، وإن وافق مواقيته فاز، وإن وافق أسبابه أنجح. فأركانه حضور القلب والرأفة والاستكانة والخشوع، وأجنحته الصدق، ومواقيته الأسحار، وأسبابه الصلاة على محمد صلى اللّه عليه وسلم. وقيل: شرائطه أربع: حفظ القلب عند الوحدة، وحفظ اللسان مع الخلق، وحفظ العين عن النظر إلى ما لا يحل، وحفظ البطن من الحرام. وقد قيل: إن من شرط الدعاء أن يكون سليما من اللحن، كما أنشد بعضهم:
ينادي ربه باللحن ليث كذاك إذا دعاه لا يجيب .(1/9)
قال علي رضي اللّه عنه لنوف البكالي: يا نوف، إن اللّه أوحى إلى داود أن مر بني إسرائيل ألا يدخلوا بيتا من بيوتي إلا بقلوب طاهرة، وأبصار خاشعة، وأيد نقية، فإني لا أستجيب لأحد منهم ما دام لأحد من خلقي مظلمة .... يا نوف، لا تكونن شاعرا ولا عريفا ولا شرطيا ولا جابيا ولا عشارا، فإن داود قام في ساعة من الليل فقال: إنها ساعة لا يدعو عبد إلا استجيب له فيها، إلا أن يكون عريفا أو شرطيا أو جابيا أو عشارا، أو صاحب عرطبة، وهي الطنبور، أو صاحب كوبة، وهي الطبل. قال علماؤنا: ولا يقل الداعي: اللهم أعطني إن شئت، اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت، بل يعري سؤاله ودعاءه من لفظ المشيئة، ويسأل سؤال من يعلم أنه لا يفعل إلا أن يشاء. وأيضا فإن في قوله: "إن شئت" نوع من الاستغناء عن مغفرته وعطائه ورحمته، كقول القائل: إن شئت أن تعطيني كذا فافعل، لا يستعمل هذا إلا مع الغني عنه، وأما المضطر إليه فإنه يعزم في مسألته ويسأل سؤال فقير مضطر إلى ما سأله. روى الأئمة واللفظ للبخاري عن أنس بن مالك قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: ( إذا دعا أحدكم فليعزم المسألة ولا يقولن اللهم إن شئت فأعطني فإنه لا مستكره له ). وفي الموطأ: (اللهم اغفر لي أن شئت، اللهم ارحمني إن شئت ). قال علماؤنا: قوله (فليعزم المسألة) دليل على أنه ينبغي للمؤمن أن يجتهد في الدعاء ويكون على رجاء من الإجابة، ولا يقنط من رحمة اللّه، لأنه يدعو كريما. قال سفيان بن عيينة: لا يمنعن أحدا من الدعاء ما يعلمه من نفسه فإن اللّه قد أجاب دعاء شر الخلق إبليس، قال: رب فأنظرني إلى يوم يبعثون، قال فإنك من المنظرين. وللدعاء أوقات وأحوال يكون الغالب فيها الإجابة، وذلك كالسَّحَر ووقت الفِطر، وما بين الأذان والإقامة، وما بين الظهر والعصر في يوم الأربعاء، وأوقات الاضطرار وحالة السفر والمرض، وعند نزول المطر والصف في سبيل اللّه. كل هذا جاءت به الآثار، ....(1/10)
وروى شهر بن حوشب أن أم الدرداء قالت له: يا شهر، ألا تجد القشعريرة ؟ قلت نعم . قالت: فادع اللّه فإن الدعاء مستجاب عند ذلك . وقال جابر بن عبدالله: دعا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في مسجد الفتح ثلاثا يوم الاثنين ويوم الثلاثاء فاستجيب له يوم الأربعاء بين الصلاتين فعرفت السرور في وجهه. قال جابر: ما نزل بي أمر مهم غليظ إلا توخيت تلك الساعة فأدعو فيها فأعرف الإجابة.
قوله تعالى: "فليستجيبوا لي" قال أبو رجاء الخراساني: فليدعوا لي. وقال ابن عطية: المعنى فليطلبوا أن أجيبهم. وهذا هو باب استفعل أي طلب الشيء إلا ما شذ مثل استغنى اللّه. وقال مجاهد وغيره: المعنى فليجيبوا إليّ فيما دعوتهم إليه من الإيمان، أي الطاعة والعمل ويقال: أجاب واستجاب بمعنى، ومنه قول الشاعر:
فلم يستجبه عند ذاك مجيب
أي لم يجبه والسين زائدة واللام لام الأمر. وكذا في قوله : "وليؤمنوا" ، وجزمت لام الأمر لأنها تجعل الفعل مستقبلا لا غير فأشبهت إن التي للشرط. وقيل: لأنها لا تقع إلا على الفعل.
قوله تعالى: "وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون"... الرشاد خلاف الغي. وقد رشد يرشد رشدا. ورشد بالكسر يرشد رشدا، لغة فيه. وأرشده اللّه. والمراشد: مقاصد الطرق. والطريق الأرشد: نحو الأقصد ... وقال الهروي: الرُّشد والرَّشد والرشاد: الهدى والاستقامة، ومنه قوله: "لعلهم يرشدون".
**** ونعود إلى كلمة إبراهيم بن أدهم رحمه الله لنتناولها بشيء من الشرح والنظر على ضوء ذلك في الأحوال الراهنة لأميماتنا الممزقة ؛ نسأل الله أن يحمع شتاتها حتى تستعيد مكانتها كخير أمة أخرجت للناس ، والله ولي الهداية والسداد ، وما التوفيق إلا به سبحانه ،...
قول إبراهيم بن أدهم رحمه الله :
1- عرفتم الله ، ولم تؤدوا حقه .(1/11)
قلت : قال ابن كثير رحمه الله عند تفسير قوله تعالى : (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات : 56 )، قال :... وقال ابن جريج: إلا ليعرفون ..
وذكر القرطبي رحمه الله عن مجاهد قوله في معنى قوله تعالى : (إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) ، قال : إلا ليعرفوني . وقال الثعلبي: وهذا قول حسن؛ لأنه لو لم يخلقهم لما عُرف وجودُه وتوحيدُه. ودليل هذا التأويل قوله تعالى: "ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله" [الزخرف: 87] وقوله : "ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم" [الزخرف: 9] وما أشبه هذا من الآيات....اهـ. ولكي يعرفَه خلقُه من الجن والإنس فيعبدوه وحده لا شريك له ، بعث سبحانه الأنبياء وخصهم برفيع الكرامات وأرسل الرسل وأيدهم بباهر المعجزات وأنزل الكتب آيات مبيَّنات مفصَّلات ... وهذا القرآن العظيم بين أيدينا نتلوه آناء الليل وأطراف النهار فنجد أن الله عز وجل تكلم فيه عن أسمائه الحسنى ، وصفات جلاله ، و نعوت جماله ، وكمال أفعاله ، لا إله إلا هو ،الواحد الأحد، الفرد الصمد، الملك الحق المبين ، خالق كل شيء ، الرزاق ذو القوة المتين ، رب العالمين ...
عرفناه سبحانه كما شاء أن نعرفه ...فما هو حقه علينا ؟ وهل أدينا هذا الحق حتى نتسنى إجابة الدعاء ؟(1/12)
**روى البخاري رحمه الله ، قال : حدثنا هدبة بن خالد: حدثنا همَّام: حدثنا قتادة: حدثنا أنس بن مالك، عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: بينا أنا رديف النبي صلى الله عليه وسلم، ليس بيني وبينه إلا آخرة الرحل، فقال: (يا معاذ). قلت: لبيك رسول الله وسعديك، ثم سار ساعة ثم قال: (يا معاذ). قلت: لبيك رسول الله وسعديك، ثم سار ساعة ثم قال: (يا معاذ). قلت: لبيك رسول الله وسعديك، قال: (هل تدري ما حق الله على عباده). قلت: الله ورسوله أعلم، قال: (حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً). ثم سار ساعة، ثم قال: (يا معاذ بن جبل). قلت: لبيك رسول الله وسعديك، فقال: (هل تدري ما حق العباد على الله إذا فعلوه). قلت: الله ورسوله أعلم ، قال: (حق العباد على الله أن لا يعذبهم ).- متفق عليه -
** ومن ألفاظ مسلم ... عن معاذ بن جبل؛ قال: كنت ردف رسول الله صلى الله عليه وسلم. على حمار يقال له عفير. قال: فقال: "يا معاذ .. تدري ما حق الله على العباد وما حق الله على العباد ؟" قال قلت: الله ورسوله أعلم. قال: "فإن حق الله على العباد أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئا. وحق العباد على الله عز وجل أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا" قال قلت: يا رسول الله .. أفلا أبشر الناس؟ قال: " لا تبشرْهم. فيتَّكلوا ".
- قال ابن حجر العسقلاني رحمه الله :
قوله : " هل تدري ما حق الله على عباده " الحق كل موجود متحقق أو ما سيوجد لا محالة ، ويقال للكلام الصدق حق لأن وقوعه متحقق لا تردد عليه ، وكذا الحق المستحق على الغير إذا كان لا تردد فيه ، والمراد هنا ما يستحقه الله على عباده مما جعله محتماً عليهم ، قال ابن التيمي في التحرير ، وقال القرطبي : حق الله على العباد هو ما وعدهم به من الثواب وألزمهم إياه بخطابه .(1/13)
قوله : " أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا ً" المراد بالعبادة عمل الطاعات واجتناب المعاصي وعطف عليها عدم الشرك لأنه تمام التوحيد ، والحكمة في عطفه على العبادة أن بعض الكفرة كانوا يدَّعون أنهم يعبدون الله ولكنهم كانوا يعبدون آلهة أخرى فاشترط نفي ذلك ، وتقدم أن الجملة حالية والتقدير يعبدونه في حال عدم الاشتراك به وقال ابن حبان : عبادة الله إقرار باللسان، وتصديق بالقلب، وعمل بالجوارح ..، ولهذا قال في الجواب "فما حق العباد إذا فعلوا ذلك" فعبر بالفعل ولم يعبر بالقول .
قوله : "هل تدري ما حق العباد على الله إذا فعلوه" ؟ الضمير لما تقدم من قوله "يعبدوه ولا يشكروا به شيئاً" في رواية مسلم "إذا فعلوا ذلك" .(1/14)
قوله : "حق العباد على الله أن لا يعذبهم" في رواية ابن حبان من طريق عمرو بن ميمون "أن يغفر لهم ولا يعذبهم" وفي رواية أبي عثمان "يدخلهم الجنة" وفي رواية أبي العوام مثله وزاد "ويغفر لهم" وفي رواية عبد الرحمن بن غنم "أن يدخلهم الجنة" قال القرطبي : حق العباد على الله ما وعدهم به من الثواب والجزاء ، فحق ذلك ووجب بحكم وعده الصدق ، وقوله الحق الذي لا يجوز عليه الكذب في الخبر ولا الخلف في الوعد ، فالله سبحانه وتعالى لا يجب عليه شيء بحكم الأمر إذ لا آمر فوقه ولا حكم للعقل لأنه كاشف لا موجب انتهى . وتمسك بعض المعتزلة بظاهره . ولا متمسك لهم فيه مع قيام الاحتمال . وقد تقدم في العلم عدة أجوبة غير هذه ، ومنها أن المراد بالحق هنا المتحقق الثابت أو الجدير ، لأن إحسان الرب لمن لم يتخذ رباً سواه جدير في الحكمة أن لا يعذبه ، أو المراد أنه كالواجب في تحققه وتأكده ، أو ذكر على سبيل المقابلة . قال : وفي الحديث جواز ركوب اثنين على حمار ، وفيه تواضع النبي صل الله عليه وسلم ، وفضل معاذ وحسن أدبه في القول وفي العلم برده لما لم يحط بحقيقته إلى علم الله ورسوله ، وقرب منزلته من النبي صلى الله عليه وسلم . وفيه تكرار الكلام لتأكيد وتفهيمه . واستفسار الشيخ تلميذ عن الحكم ليختبر ما عنده ويبين له ما يشكل عليه منه وقال ابن رجب في شرحه لأوائل البخاري : قال العلماء يؤخذ من منع معاذ من تبشير الناس لئلا يتكلوا أن أحاديث الرخص لا تشاع في عموم الناس لئلا يقصر فهمهم عن المراد بها ، وقد سمعها معاذ فلم يزدد إلا اجتهاداً في العمل وخشية لله عز وجل ، فأما من لم يبلغ منزلته فلا يؤمَن أن يقصر اتكالاً على ظاهر هذا الخبر ، وقد عارضه ما تواتر من نصوص الكتاب والسنة أن بعض عصاة الموحدين يدخلوه النار ، فعلى هذا فيجب الجمع بين الأمرين ، وقد سلكوا في ذلك مسالك : أحدهما قول الزهري إن هذه الرخصة كانت قبل نزول الفرائض والحدود ،(1/15)
وسيأتي ذلك عنه في حديث عثمان في الوضوء ، واستبعده غيره من أن النسخ لا يدخل الخبر ، وبأن سماع معاذ لهذه كان متأخراً عن أكثر نزول الفرائض . وقيل لا نسخ بل هو على عمومه ، ولكنه مقيد بشرائط كما ترتب الأحكام على أسبابها المقتضية المتوقِّفة على انتفاء الموانع ، فإذا تكامل ذلك عمل المقتضى عملَه ، وإلى ذلك أشار وهب بن منبه بقوله المتقدم في كتاب الجنائز في شرح " لا إله إلا الله مفتاح الجنة " : ليس من مفتاح إلا وله أسنان .. ، وقيل المراد دخول نار الشرك ، وقيل ترك تعذيب جميع بدن الموحدين لأن النار لا تحرق مواضع السجود ، وقيل ليس ذلك لكل من وحد وعبد بل يختص بمن أخلص ، والإخلاص يقتضي تحقيق القلب بمعناها ، ولا يتصور حصول التحقيق مع الإصرار على المعصية لامتلاء القلب بمحبة الله تعالى وخشيته فتنبعث الجوارح إلى الطاعة وتنكف عن المعصية . انتهى ملخصاً . وفي آخر حديث أنس عن معاذ في نحو هذا الحديث "فقلت ألا أخبر الناس ؟ قال : لا لئلا يتكلوا" فأخبر بها معاذ عند موته تأثماً ...(1/16)
قلت: إذا نظرنا إلى" المسلمين " وما هُم عليه اليوم في معظم بلدانهم ؛ وطرحنا هذا السؤال : هل يعبدون الله وحده ولا يشركون به شيئاً ؟ كان الجواب فورا ودون أدنى تردد : لا ... مزارات وأضرحة وقباب غطت أرجاء البلاد، جعلوا للمقبورين تحتها مواسم وأعياد للوفاء لهم بالنذور والطواف برفاثهم ودعائهم والشكوى لهم وطلب كشف الغم وإزالة الهم ...، أحياء يستغيثون بالأموات ، أبعد هذا الحمق حمق ؟ ألم يبلغ هؤلاء القبوريين قول الحي الذي لا يموت سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) (الأعراف : 194 ) ؟ ألم يسمعوا قوله : (إِن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ) (فاطر : 14 ) ؟ ألم يقرأ عليهم أحد قول الحي القيوم: ( وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ * أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَاء وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ) ( النحل 20-21 ) ؟أم تُراهم من الصم البكم العمي الذين لا يعقلون ولا هم يرجعون ؟....
آبار وأشجار وأحجار اتخذوها ذوات أنواط ، يقربون إليها القرابين الثمينة التي يزداد بها ثراءًََ سدنتُها الأغنياء الذين استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة واستطابوا أكلَ أموال الأغبياء بالباطل...أنجبَت نائلة وفرَّخ هُبل فانتشرت ذريتُهما في الأرض ترعاها عينُ إبليس المريد الرجيم وتحفها بالعناية أيدي جنده اللعين اللئيم الذي غيَّب عقول هؤلاء المغبونين ، بل غسل أدمغتهم ثم برمجها وفق أغراضه ومراميه ، وإلا متى كانت العظام النخرة تُعين على نوائب الدهر مَن لا يزال يدب على وجه الأرض؟ ... أبعد هذه السفاهة سفاهة ؟...(1/17)
كهوف ومغارات مظلمة يُطلِق عليها المستفيدون منها ماديا أسماء سموْها وآباؤهم ما أنزل الله بها من سلطان ، تكنات وزوايا وقلاع يباح فيها اختلاط الرجال بالنساء يأتونها من كل فج عميق ليشربوا الدم المسفوح الذي يسفكونه لما يُعرف عندهم بالأسياد من الجن والشيوخ من الإنس تزلّفا إليهم ، يرضونهم ويأملون منهم قضاء حوائجهم من جلب نفعٍ ودفع ضر ...سهرات راقصة تتخلها مشاهد حمقاء من وقوف بأقدام حافية على جمر ملتهب يتطاير شرارُه وتجرع ماء يغلي حميمُه، وعلى نغمات المزامير ودقات الطبول لعب بالحيات والأفاعي ، والويل لثعبان يتمرد أو يدافع عن نفسه ، يكون مصيره الشي حيا وأكل لحمه في شراسة يدكيها الغضب... يقولون : " هذا ما ترك لنا جدنا، وكان وليا كثير الكرامات " ...
قلت لأحدهم مرة : بئس الوارث وبئس الموروت وبئس الإرث ... فنهرني قائلا : أما تخشى أن تصاب بالأذى ، أنت الذي تطعَن في طريقتنا وتريد أن تصدنا عن اتباع شيخنا وما وجدنا عليه آباءنا ؟ فقرأت ، جهراً حتى أُسمعه كلام الله : ( وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ) (الأنعام : 81 ) ... فابتعد وكأنه شيطان قرع سمعَه صوتُ المؤذن ، ثم التفت ، فقرأت قوله تعالى : ( أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ) (الزمر : 38 ) ... فغاب عن ناظري...(1/18)
أين التوحيد الذي جاءت به الرسل ؟ إنها رجعة مشؤومة إلى عبادة الأوثان بمسمَِيات شتى ...لقد أنجب الطاغوت طواغيت كثيرة تأبى العد وترفض الحصر ، تنتشر في الآرض انتشار نار تؤججها ريح سموم في هشيم كثيف يابس. تسمع أحدَ عبَّادهم يقول مع القائلين : لا إله إلا الله ، ولا تجده يحقق شيئا من شروطها ؛ لا يقين ولا قبول ولا انقياد ولا علم ولا إخلاص ولا صدق ولا محبة ... قلوب ران عليها الشك ، وأعماها الرفض ، وطمسها العصيان ، وأظلمها الجهل ، ولوثها الشرك ، وأصمها الكذب ، وأقفلها الكره ... أنى يستجاب لأهلها دعاءٌ؟
أيها الغافل أفق..واعبد ربك وحده، واذكره وحده، وادعه وحده ،وسله وحده ، وتدبر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الله ابن عمه العباس رضي الله عنهما :" يا غلام إني أعلمك كلمات : احفظ الله يحفظك.. احفظ الله تجده تجاهك.. إذا سألت فاسأل الله.. وإذا استعنت فاستعن بالله ..واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك .. ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك بشيء إلا قد كتبه الله عليك .. جفت الأقلام ورفعت الصحف ." - رواح أحمد والترمذي ...-
وقبل أن أنتقل إلى النقطة الثانية ، أذكر هؤلاء الغافلين بقول الواحد الأحد :(إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ) (المائدة : 72 ) ...
2- قرأتم كتاب الله ، ولم تعملوا به .
قال تعالى :(وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً) (الفرقان : 30 )(1/19)
قال ابن كثير رحمه الله : يقول تعالى مخبراً عن رسوله ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم أنه قال " يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً" وذلك أن المشركين كانوا لا يصغون للقرآن ولا يستمعونه, كما قال تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) (فصلت : 26 ), فكانوا إذا تلي عليهم القرآن أكثروا اللغط والكلام في غيره حتى لا يسمعوه. فهذا من هجرانه ،وترك الإيمان به وترك تصديقه من هجرانه, وترك تدبره وتفهمه من هجرانه, وترك العمل به وامتثال أوامره واجتناب زواجره من هجرانه, والعدول عنه إلى غيره من شعر أو قول أو غناء أو لهو أو كلام أو طريقة مأخوذة من غيره من هجرانه, فنسأل الله الكريم المنان القادر على ما يشاء, أن يخلصنا مما يسخطه, ويستعملنا فيما يرضيه من حفظ كتابه وفهمه, والقيام بمقتضاه آناء الليل وأطراف النهار على الوجه الذي يحبه ويرضاه, إنه كريم وهاب.(1/20)
قلت :يرحم اللهُ عبدَه ابنَ كثير، جمع في هذه السطور كل أصناف هجران القرآن ، وكلمةُ ابنِ أدهم -رحمه الله - قرأتم كتاب الله ، ولم تعملوا به - تلتقي مع ما قال ابنُ كثير : وترك العمل به وامتثال أوامره واجتناب زواجره من هجرانه ...نعم، يُقرأ القرآن اليوم بشتى وسائل العصر ، لكن عُطِّلت أحكامُه وقنَّن المقننون وشرَع المشرِّعون وفرضوا بناتِ أفكارهم العرجاء على شعوب عملوا على تجهيلها وإبعادها عن حكم أحكم الحاكمين بدعوى أنها أصبحت لا تتلاءم ومقتضيات العالم الجديد ، فالسارق لا تقطع يده ويكفي سجنه بضعة أيام يجوز له أن يدفع بدلها فديةً لصندوق الدولة أو لجيب القاضي الذي اشترى منصبَه فهو يستثمره ، والزاني لا يطرد ولا يرجم ، بل ولا يقبض عليه إن مارس فاحشته في بيوت الرايات الحمر المرخص لها ، وإلا فحبس يسير ينفك منه بقليل من رشوة ، والسكير لا يُجلد ، وإذا خرج من حان مأذون له ببيع الخمور المحلية والمستوردة توصله سيارةُ الأمن إلى بيته مقابل أجرة حتى لا يُحدث أي فوضى في المجتمع ، ...(1/21)
والعمل بالقرآن في جميع الجوانب الحياتية واجب ... لكن ، لا أرى جانبا واحدا منها سلم من التبديل والتغيير... فانظر - عفاني الله وإياك - إلى ما يسمونه " الأحوال الشخصية " ..ألا تراهم يحاولون تخريب نواة البيت المسلم السليم بتقنيناتهم المدمرة ؟ سماح بزواج المتعة هنا وهناك ، منع لتعدد الزوجات وإن دعت إليه الضرورة وكان وفق الكتاب والسنة ، رمي الأطفال في " دور الحضانة " ، قسمة التركات بالتساوي بين الذكران والإناث ، اتجار بالمرأة تحت شعار أعور يلوِّح به المرجفون في أعلام كتبوا عليها بمداد العار " تحرير المرأة " .. أنت يا من يزعم هذا ، هل ولدتك أمُّك وهي في الأصفاد ؟ هل زفت أختك إلى زوجها في الأغلال ؟ هل احتفلت بنتك بعيد ميلادها في السلاسل ؟ هل تدخل عمتك مطبخها في قيود من حديد؟ هل تأوي خالتك إلى فراشها مكبلة الرجلين واليدين؟ إن كان كذلك فلا بأس ، حرر ما استطعت هؤلاء النسوة وأرحهن من أثقالهن ....
وانظر أيها القاريء الكريم - غفر الله لي ولك - إلى الأسواق وما يجري فيها من طامات .. لا البائع سمح ، ولا الشاري سمح .. غش في السلع والبضائع والخدمات ، وكل يحاول الربح مستغلا غفلة صاحبه ، دُفنت النصيحة في واد سحيق وليس قرب لحدها سوى قبر أخيها الصدق ورمس أختها الأمانة ... لم تنج معاملة من الربَويات الممحقات ، كما لم يُعف حتى الخبز من " الضريبة على القيمة المضافة "...(1/22)
وانظر - رحمني الله وإياك - إلى العبادات ... ألا ترى أنها أصبحت خاضعة للتقطيعات الجغرافية للأميمات المتشرذمة حيث لا تقام الشعائر إلا وفق مذهب مفروض لا يحقُّ لأحدٍ الحيادُ عنه قيدَ بعوضة ، وانظر إلى المنابر وما آل إليه حال الخطباء ... تُعِدُّ لهم الوزارة المكلفة بالشؤون الإسلامية خطبةَ الجمعة وتُلزمهم بقراءتها في عجالة خاطفة تليها ركيعتان تسابقان عقربي الساعة ورنات الهاتف الجوال ، يقول المصلون : أسرع يا إمام ، إن مواعد العمل لا ترحم ،...رحماك يا رحيم ، رحماك يا رحمن ، رحماك يا أرحم الراحمين ...
فأين العمل بالقرآن الذي نقرأ فيه قول الباري : (فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ) (القيامة : 18 ) ؟وقوله عز وجل : (وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (الأنعام : 155 )... ألم يسمع المعرضون قوله جل ثناؤه :(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ) (السجدة :22) ؟ ألم يبلغهم قوله: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) (طه : 124 ) ؟ بلى.. بلى...
بلغهم وسمعوه ، لكن غرتهم الحياةُ الدنيا وزخرفها وأوقعهم الغرورُ لعنه الله في شِباكه .
اللهم خلصنا مما يسخطك ، واستعملنا فيما يرضيك من حفظ كتابك وفهمه، والقيام بمقتضاه آناء الليل وأطراف النهار على الوجه الذي تحبه وترضاه ، إنك كريم وهاب ....
3- ادَّعيتم حب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم ، وتركتُكم سنتَه .(1/23)
حبُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أوجبه اللهُ الذي بعثه بالهدى ودين الحق ، فلا إيمان لمن لا يحبه ... وأول علامات الصدق في محبته طاعته واتباع سنته.. قال تعالى : (قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ) (آل عمران : 32 ) ... وقال : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) (النساء : 59 )... وقال : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ) (الأنفال : 20 ) ... وقال : ( قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ) (النور : 54 )... وقال : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ) (محمد : 33 ) ...وقال : (مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) (النساء : 80 ) ... وقال : (وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (آل عمران : 132 ) ... وقال : (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (النور : 56 ) ... وقال : (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (آل عمران : 31 ) ...(1/24)
فكيف يدَّعي أقوامٌ اتباعَه وهُم عن سنَّته معرصون ولخلفائه منكرون ؟ كيف يزعمون محبته ولا يسارعون في نصرته والذب عن حرمته وصد المعتدين على كرامته ؟ كيف يدَّعون ولاءَه وهم يوالون أعداءه ؟ كيف يطمعون في شفاعته وهم في ظلمات البدع يعمهون ؟ ألم يبلغهم قول الله عز وجل : ( إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ) ؟- الفتح 8-9- ... وقوله تعالى : (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ) ؟ (المائدة : 55 ) ، وقوله : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) (محمد : 7 ) وقوله: (وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (الحج : 40 ).... ألم يسمعوا قوله صلى الله عليه وسلم : " إنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة " ؟ - رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة ...-
ألم يعوا قولَه صلى الله عليه وسلم : "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ ." -متفق عليه - وفي رواية أخرى: ( من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو ردّ )... وقوله : "...وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة كلهم في النار إلا ملة واحدة ما أنا عليه وأصحابي ." ؟(1/25)
لقد بلَّغ رسول الله صلى الله عليه وسلم الرسالة وأدى الأمانة ، ولقد وصل النور الذي أُرسل به إلى كل بقاع المعمور من هذا المستقر المؤقت إلى حين ، ولن ينعم بالحياة الطيبة في الدنيا وبالسعادة اللأبدية في الآخرة إلا الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا ... ولا تكون الإستقامة إلا باتباع الهادي بإذن ربه إلى صراط العزيز الحميد..ولن يذوق طعم الإيمان إلا من أحب النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم أكثر من كل شيء ... وعن أنس رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين ."- متفق عليه من حديث أنس -...وفي سنن النسائي :" لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ماله وأهله والناس أجمعين " ..
4- علمتم عداوة الشيطان لكم ، ووافقتموه .
نعم ... علمنا يقيناً عداوة الشيطان لنا ،وأول آية في القرآن الكريم أخبرنا بها الباري عز وجل بعداوة إبليس اللعين لأبينا آدم عليه السلام ،قوله تعالى : (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ) (البقرة : 36 ) ... (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ )... إنها عداوة مستمرة باستمرار الحياة الأولى في دار العبور ...عداوة لا تعرف الفتور ...عداوة تدخل حتى القبور...
ولقد أمرنا ربُّنا أن نعاديَ هذا العدُو الذي لا نراه ، قال : - (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ) (فاطر : 6 )...وكيف لا نتخذه أعدى الأعداء وقد بيَّن لنا العلي العظيم أن المارد الملعون أقسم بعزة الله ليعملنَّ على غوايتنا ولن يذخر من أجل إضلالنا كيداً إلا كاده ولا مكرا إلا مكره ولا فتنة إلا أوقَد نارها ، أشعَلها ، أجَّجها ..؟(1/26)
وقال الحي القيوم عنه :( قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ) ( الأعراف 16-17 ) ؛ وقال :( إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً*إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَاناً مَّرِيداً * لَّعَنَهُ اللّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً * وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِّن دُونِ اللّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُّبِيناً * يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً * أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلاَ يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصاً ) (النساء 116- 121 ) ... وقال : (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِين*فَسَجَدَ الْمَلآئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى أَن يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ * قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ * قَالَ لَمْ أَكُن لِّأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ * قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ * قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ(1/27)
*إِلَى يَومِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ *قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ * قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ * إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ ). ( الحجر28-42)... وقال : ( َقالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ( ص 82- 83 )..
فأين المخلصون ؟ قلَُّ عددُهم وضعفت هممُهم وتلاشَت عدَّتهم ، نسأل الله أن يكثرهم وأن يقَوي عزمَهم ويشُد أزرَهم حتى يردُّوا الأمة بعونه وتوفيقه إلى جادة الطريق...
ولقد نهانا الله عز وجل عن اتباع خطوات العدو المبين فيى آيات كثيرة ، منها قوله تعالى : - (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ) (البقرة : 208 ) ..فهل دخلنا في السلم كافة ؟ هل حاربنا هذا العدو الشرس الذي ما أن يلفِّق جندُه مُصطلحا حتى يسارع إلى تعريبه دون روية أولئك الذين يدعون إلى ثقافة العصر... يقولون : إسلام معتدل ، وإسلام متطرف ، وإسلام شرقي ، وإسلام غربي ، وإسلام شيعي ، وإسلام سُني ،...مسميات ومسميات ... لا أصل لها ... تخفي وراءها شرّاً عظيما .. أوله تشتيت شمل الأمة ..ولن تكون عاقبته إلا الخسرى إن لم يتداركنا الله بلطفه ونستيقظ من سبات طال كثيرا..(1/28)
وقال تعالى: - (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ ) (النور : 21 ) ..أصبحت الفحشاء علانية لأن الحدود عُطِّلت وساد المنكر مجتمعاتنا لأن الفئة القليلة المغيِّرة له غُيِّبت.. في غياهب السجون ... أو شرِّدت .. أُبعدت عن ساحة الدعوة إلى الله بالقمع والتعذيب...
وقال تعالى : - (يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ) (البقرة : 168 ).. أين حلاوة الحلال في بحر لجُي من حرام طغت أمواجه العاتية الكاسحة تهتز فوقها قوارب الأبناك الربوية التي تحمل علىظهرها معاملات تجارية لبست ثوب الإستغلال همُّها الربح السريع ...؟
وقال تعالى :(يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ) (الأعراف : 27 ) ...هذا تحذير من الله العليم الخبير للبشر جميعا ، فهل أعاره المسلمون الإهتمام الواجب ؟ لا...إلا قليلا ... لقد نزع الشيطان عن الكثير من بنات حواء وأبناء آدم لباسهما وجعل شوارع المدن تغص بالكاسيات العاريات المائلات المتمايلات والمتشبهين بالفتيات المرتدين زي القينات ؛ قُتل الحياءُ في أزقة الشهوات بسكين الموبقات؛طُعنت المروءة في دروب الملذات بخنجر المرديات...- نسأل الله العافية -(1/29)
وفال تعالى : (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ) (يس : 60 ) ...واأسفاه على بني جلدتي... واحزناه على بني بلدتي... جدَّد أكثرُهم الولاء للشيطان وتفننوا في عباده ... لم يدَعوا خطوةً خطاها إلا اتبعوه فيها... إلا قليلا ... ولم يتركوا تزيينا زيَّنه لهم إلا تلقوْه بالقبول والصدر الرحب ، إلا مَن رحِم الله..فأنى يستجاب لنا وفينا عبدة الأوثان الجديدة ممن يسمونهم أهل الفن ، ذلك الذي فقد عينه ، حتى أصبحنا نسمع بانتحار فتيان وفتيات لموت معبوهم من المغنيين والمغنيات.... وأمسينا نرى آلافا مؤلفة يقتتلون من أجل فريق كرة هزمه آخر... - عفوك يا عفو ... عفوك يا عفو... عفوك يا عفو...(1/30)
وقال تعالى :(وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً ) (الكهف : 50 )... فهل بعد هذا النهي نهيٌ أبلغ وهل بعد هذا الوعيد وعيد أشد ؟ لا .. والله ....لكن ما أكثر الذين اتخدوا الشيطان وذريته أولياء :سحرة ونفاثات وكهنة وعرافات ، طيور تذبح فوق رؤوس الفتيات في حلقات الزار ، مغارات يدَّعي سدنتُها العلاجَ من كل الأمراض البدنية والنفسية والمسِّية وغيرها مما يصاب به البشر ويتمُّ ذلك بترديد أقاويل مبهَمة تتضمن أسماء يزعمون أنها للجن ، صياح واستغاثة ومناداة بأسماء " الصالحين عُمَّار الأرض والبلاد " .... ( بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً) ...( بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً)... (بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً) ...أليس هؤلاء هم الذين قال فيهم علام الغيوب سبحانه : (وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاء فَزَيَّنُوا لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ) (فصلت : 25 ) ؟؟ ... وقال تعالى :( وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً فَسَاء قِرِيناً) (النساء : 38 ) ؟؟... أليسوا هم الذين قال فيهم عز وجل : (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ) (المجادلة : 19 ) ؟؟ بلى ..بلى .. بلى .. ولكنهم صم زادهم الإدبار صمَماً ...فهل ينتظرون إلا أن يحق فيهم قوله تعالى : (كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ(1/31)
الْعَالَمِينَ) (الحشر : 16 ) ؟؟
** اللهم إنا نعوذ بك من الشيطان وشركه وأن نقترف على أنفسنا سوءً أو نجره إلى مسلم ...
5- قلتم نحب الجنة ، ولم تعملوا لها .
قال تعالى : ( تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) ( القصص : 83 ) ... إنها لقلة قليلة تلك التي عرفت قيمة التواضع لله وخفض الجناح للمؤمنين ، لا تبحث عن المكانة الرفيعة في هذه الفانية ولا ترغَب في العلُو فيها... وحصرت إرادتها على الإصلاح في الأرض تزرعها ورود القسط ورياحين السلام ، تسقيها بماء المحبة ، لبست للعمل لباس التقوى وجمعت كلَّ همِّها في ابتغاء رضوان رب السماوات ورب الآرض رب العرش الكيم ...أما السواد الأعظم فترى وتسمع طالبي الجنة بالتمني القوْلي ،
الطامعين في خيراتها الحسان ونهْرُ الغفلة يجرفهم وحلُه إلى مصبِّه في بحر الموقَدة التي تطَّلع على الأفئدة...فمن يُسمع هؤلاء قوله تعالى : (وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً) (الإسراء : 19 ) ؟؟... أين السعي المحمود أيها الراقدون في مهاد الترجي العاري من غطاء العمل المقبول ؟؟
تارك الصلاة يحب الجنة ، آكل السُّحت يحب الجنة ، منكِر الصوم يحب الجنة ، الغارق في الشهوات المحرمة يحب الجنة ، الثرثار بالغيبة والنميمة والقذف والتنابز المستلِذ للحْم أخيه يحب الجنة ... عن أية جنة يتحدث هؤلاء ؟؟(1/32)
ومتى ذكَّرت أحدهم أو وعظْت إحداهن قيل لك في سرعة مذهلة : من قال : لا إله إلا الله ، دخل الجنة ... كلمة حق يجعلونها ذريعة للتمسك بأهوائهم الباطلة ...حقّاً لا إله إلا الله مفتاح الجنة ، لكن لا بد للمفتاح من أسنان لكي يفتح ؛ فأين أسنان مفتاحكم أيها الغافلون المنهمكون في ظلمات الأمَّارة بالسوء ؟؟ ألم تسمعوا قولَ الباري جل في علاه : ( وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ) ( النجم 39- 40 ) ؟ بلى .. سمعتم ، ولكن شغل قلوبهم حرث الدنيا فلم يدَع فيها مكانا شاغرا لحرث الآخرة؛ ولو أنكم تدبرتم قول رب العالمين : (مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ) (الشورى : 20 ) ، لو تدبرتم لوجدتم أن تعبكم وتدبيركم لا يغير الرزق المقسوم ولن تحصلوا إلا على ما كتب الله لكم من متاع قليل قبل أن يُخرجكم من بطون أمهاتكم ... لو تدبرتم لعرفتم أن طالب الآخرة يبارك الله في طلبه ، يوفقه لما يحبه ويرضاه ، ويزيده من فضله ، ويكون حصاده رزقا كريما ...(1/33)
وقال تعالى :(وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَاباً مُّؤَجَّلاً وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ) (آل عمران : 145 ).. الشكورُ من عباد الله قليل..وما أكثر الملهوفين على زخرف الحياة الدنيا ...وما أكثر القائلين : ( إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي )... ماذا فُعل بقارون وأين هو يا هؤلاء ؟؟ ألا تعتبرون بقول الله عز وجل عنه : ( أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) (القصص : 78 ) ؟ فأنى يستجاب لأتباع فرعون وهامان ؟ أنى يستجاب لقوم ينسبون نجاح مشاريعهم المشبوهة إلى حسن تدبيرهم وكبير جهدهم وفائق علمهم وثاقب عقلهم ؛ قوم لا يعرفون لاحول ولا قوة إلا بالله ... قوم يجهلون أن لا شيء يكون إلا أن يشاء الله ...قوم يرددون مقولة : " عِش حياتَك " يئسوا من الآخرة فتمسكوا بالأولى خوفا على خسرانها ...
اللهم حبِّب إلينا ما عندك وأعِنَّا في سعينا إليه ... واجعل همَّنا رضاك عنا يا رب الناس يا ملك الناس يا إله الناس ...
6-قلتم نخاف النار ، ورهنتم أنفسكم بها .(1/34)
إن الخوف من النار لقول سائد .. وسبحان الله ، الخوف من نار الدنيا جعل أهلها يبتدعون " تأمينا من الحريق " يدفعون لشركاته سنَويّاً مبالغ من المال ... سبحان الله ؛ يؤمِّنون أنفسهم من نار ضئيلة ويغفلون عن وقايتها من الحامية التي وقودها الناس والحجارة ...يخشون على سيارة أن تُحرق أو بيت أن يُسعر أو حقل أن يُسجر ولا يخافون عن جلودهم التي كلما نضِجت بُدِّلوا غيرَها ليذوقوا العذاب ... ولا يخاون على وجوههم من شيِّ حميم كالمهل ... سبحان الله .. لا يعرفون للماء سبيلا ولا للمسجد طريقا ويتمنون النجاة من لظىالنزاعة للشوى ؛ يجحدون الصيام والقام ويرجون أن يزحزحوا عن سقرالتي لا تبقي ولا تذر ؛ يسخرون من المومنين سرا وعلانية ويأملون أن يُبعَدوا عن حسيس التي تتميز من الغيظ ؛ أحلوا لأنفسهم كلَّ ما حرم الله ويريدون أن يُجنَّبوا جهنّم ... ما أكثر الذين رهنوا أنفسهم بها ... فهل ينظرون إلا أن يتساءل عنهم ، غداً ، أصحابُ اليمين فيجيبون بقول الله تعالى : (...لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ *حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ ) ( المدثر43 -47 ) ؟ فالله الله في أنفسكم ..حي على الصلاة ، حي على إطعام اليتيم والمسكين ، كفى خوضا ولعبا ، إن الساعة لا ريب فيها فآمنوا بالله وصدِّقوا واصْدقوا ...إن الأجل إذا جاء لا يؤخَّر وما العمر إلا لحظات معدودات لها بداية وكل ما له بداية له نهاية... واسمعوا قول الله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) (التحريم : 6 ) ؛ وعُوا قولَه سبحانه : (كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ(1/35)
أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ) (آل عمران : 185 ) ...
قال ابن كثير رحمه الله : يخبر تعالى إخباراً عاماً يعم جميع الخليقة بأن كل نفس ذائقة الموت, كقوله تعالى: ( كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإِكرام ) ... فهو تعالى وحده هو الحي الذي لا يموت, والجن والإِنس يموتون, وكذلك الملائكة وحملة العرش, وينفرد الواحد الأحد القهار بالديمومة والبقاء, فيكون آخراً كما كان أولاً, وهذه الاَية فيها تعزية لجميع الناس, فإِنه لا يبقى أحد على وجه الأرض حتى يموت, فإِذا انقضت المدة وفرغت النطفة التي قدر الله وجودها في صلب آدم وانتهت البرية, أقام الله القيامة وجازى الخلائق بأعمالها جليلها وحقيرها, كثيرها وقليلها, كبيرها وصغيرها, فلا يظلِم أحداً مثقالَ ذرة, ولهذا قال تعالى: ( وإِنما توفون أجوركم يوم القيامة ) .. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا عبد العزيز الأويسي, حدثنا علي بن أبي علي اللهبي عن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين, عن أبيه, عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه, قال: لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم وجاءت التعزية, جاءهم آت يسمعون حسه ولا يرون شخصه, فقال: السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته ..( كل نفس ذائقة الموت وإِنما توفون أجوركم يوم القيامة ).. إِن في الله عزاء من كل مصيبة, وخلفا من كل هالك, ودركاً من كل فائت, فبالله فثقوا, وإِياه فارجوا, فإِن المصاب من حرم الثواب, والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.قال جعفر بن محمد: فأخبرني أبي أن علي بن أبي طالب قال: أتدرون من هذا ؟ هذا الخضر عليه السلام.... وقوله تعالى : ( فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز ).. أي من جنب النار ونجا منها وأدخل الجنة فقد فاز كل الفوز. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا محمد بن عبد الله(1/36)
الأنصاري حدثنا محمد بن عمرو بن علقمة عن أبي سلمة, عن أبي هريرة, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها, اقرؤوا إن شئتم ( فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز )" هذا حديث ثابت في الصحيحين, من غير هذا الوجه بدون هذه الزيادة, وقد رواه بدون هذه الزيادة أبو حاتم, وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه, ومن حديث محمد بن عمرو هذا ورواه ابن مردويه من وجه آخر, فقال: حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم, حدثنا محمد بن يحيى, أنبأنا حميد بن مسعدة أنبأنا عمرو بن علي عن أبي حازم, عن سهل بن سعد, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها" قال: ثم تلا هذه الاَية ( فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز ) وتقدم عند قوله تعالى: ( ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ) ما رواه الإمام أحمد عن وكيع بن الجراح عن الأعمش, عن زيد بن وهب. عن عبد الرحمن بن عبد رب الكعبة, عن عبد الله بن عمرو بن العاص, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من أحب أن يزحزح عن النار وأن يدخل الجنة فلتدركه منيته وهو يؤمن بالله واليوم الاَخر, وليأت إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه". وقوله تعالى: ( وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور ) تصغير لشأن الدنيا, وتحقير لأمرها, وأنها دنيئة فانية, قليلة زائلة, كما قال تعالى: ( بل تؤثرون الحياة الدنيا والاَخرة خير وأبقى) وقال تعالى ( وما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وزينتها وما عند الله خير وأبقى).. وفي الحديث "والله ما الدنيا في الاَخرة إلا كما يغمس أحدكم أصبعه في اليم, فلينظر بم ترجع إليه" وقال قتادة في قوله تعالى: ( وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور ) قال: هي متاع.. هي متاع .. متروكة... أوشكت ـ والله الذي لا إله إلا هو ـ أن تضمحل عن أهلها, فخذوا من هذا المتاع طاعة الله إن استطعتم, ولا قوة إلا بالله ...(1/37)
"من أحب أن يزحزح عن النار وأن يدخل الجنة فلتدركه منيته وهو يؤمن بالله واليوم الاَخر, وليأت إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه". هذه وصيةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فليحفظْها من شاء وليضيعْها من شاء ... وغدا يفصل الله بين من حفِظ وحافظ ومن ضيَّع وأضاع ... فيعرف كلُُّ عاقبة أمره .
اللهم إنا نسألك حسن الخاتمة وحسن العاقبة ...( َربَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) (البقرة : 201 )...( رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) (آل عمران : 16 ) ...
7- تعرفون أن الموت حق ، ولا تستعدون له .
سبحان الذي تفرد بالبقاء وحكم على خلقه بالفناء ، سبحان القاهر فوق عباده الذي قال : (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) (الأنبياء : 35 ) وقال :(كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) (العنكبوت : 57 ) وقال (قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ) (السجدة : 11 ) وقال : (أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ ) (النساء : 78 ) ( وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ) (الأنعام : 61 ) (نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ) (الواقعة : 60 ) وقال : ( تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ) ( الملك 1-2 ) ...(1/38)
قال ابن كثير رحمه الله : يمجِّد تعالى نفسَه الكريمة ويخبر أنه بيده الملك أي هو المتصرف في جميع المخلوقات بما يشاء لا معقب لحكمه ولا يسأل عما يفعل لقهره وحكمته وعدله, ولهذا قال تعالى: ( وهو على كل شيء قدير) ثم قال تعالى: ( الذي خلق الموت والحياة ) واستدل بهذه الاَية من قال إن الموت أمر وجودي, لأنه مخلوق, ومعنى الاَية أنه أوجد الخلائق من العدم ليبلوهم أي يختبرهم أيهم أحسن عملاً, كما قال تعالى: (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم) فسمى الحال الأول وهو العدم موتاً وسمى هذه النشأة حياة, ولهذا قال تعالى: ( ثم يميتكم ثم يحييكم) وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة حدثنا صفوان حدثنا الوليد حدثنا خليد عن قتادة في قوله تعالى: (الذي خلق الموت والحياة) قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله أذل بني آدم بالموت وجعل الدنيا دار حياة ثم دار موت وجعل الاَخرة دار جزاء ثم دار بقاء" ورواه معمر عن قتادة, وقوله تعالى: ( ليبلوكم أيكم أحسن عملاً) أي خير عملاً كما قال محمد بن عجلان, ولم يقل أكثر عملاً ثم قال تعالى: ( وهو العزيز الغفور) أي هو العزيز العظيم المنيع الجناب, وهو مع ذلك غفور لمن تاب إليه وأناب بعد ما عصاه وخالف أمره, وإن كان تعالى عزيزاً فهو مع ذلك يغفر ويرحم ويصفح ويتجاوز ...(1/39)
فما بال أقوام بلغهم هذا ولا يتوبون ولا إلى ربهم ينيبون ؟ فماذا ينتظرون بتسويفاتهم اللامتناهية ؟ توبوا إلى الله جميعا أيها المسلمون قبل فوات الأوان لأن الله تعالى قال :( وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً) (النساء : 18 )..توبوا قبل أن تحضر آخر الغمرات فتثقل ألسنتكم السكرات ، (وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ) (قـ : 19 ) توبوا... توبوا واستعدوا للرحيل فإنه لا رجعة إلى يوم البعث ، قال تعالى : ( حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ*فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ *وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ * أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ * قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ * قَالَ اخْسَؤُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ * إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ *(1/40)
إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ * قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلْ الْعَادِّينَ * قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ *أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ * وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ * وَقُل رَّبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ *(المؤمنون : 99 -118 )(1/41)
وقال تعالى : (وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ) (المنافقون : 10 )...استعدوا للرحيل إلى أول منازل الآخرة ، القبر ...اعدوا أنفسكم لضمته التي لو نجا منها أحج لنجا منها سعد ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الطبراني من حديث ابن عمر رضي الله عنهما : لو نجا أحد من ضمة القبر لنجا سعد بن معاذ ولقد ضم ضمة ثم روخي عنه.. - أخرجه السيوطي في الجامع الصغير وصححه الألباني - وفي سنن النسائي: ...هذا الذي تحرك له العرش وفتحت له أبواب السماء وشهده سبعون ألفا من الملائكة لقد ضم ضمة ثم فرج عنه . وقال صلى الله عليه وسلم : نزل لموت سعد بن معاذ سبعون ألف ملك ما وطئوا الأرض قبلها وقال حين دفن سبحان الله لو انفلت أحد من ضغطة القبر لانفلت منها سعد ولقد ضم ضمة ثم فرج عنه ... - أخرجه اللألباني في السلسلة الصحيحة... وقال صلى الله عليه وسلم : لو أفلت أحد من ضمة القبر لأفلت هذا الصبي . ( السلسلة الصحيحة) . حتى الصبيان... لن يُفلت أحدٌ من ضغطة القبر... ثم والمدفون لا يزال يسمع قرع نعال من واروه التراب يأتيه الملكان فيجلسانه للسؤال ؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزل إليه من السماء ملائكة بيض الوجوه كأن وجوههم الشمس معهم كفن من أكفان الجنة وحنوط من حنوط الجنة حتى يجلسوا منه مد البصر ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول : أيتها النفس الطيبة اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان... فتخرج فتسيل كما تسيل القطرة من في السقاء فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن وفي ذلك الحنوط ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض فيصعدون بها فلا يمرون على ملأ من(1/42)
الملائكة إلا قالوا: ما هذا الروح الطيب ؟ فيقولون :فلان بن فلان .. بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا حتى ينتهوا به إلى سماء الدنيا فيستفتحون له فيفتح له فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها حتى ينتهي إلى السماء السابعة فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتاب عبدي في عليين وأعيدوا عبدي إلى الأرض فإني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى ; فتعاد روحه فيأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له : من ربك ؟فيقول : ربي الله... فيقولان له : ما دينك ؟ فيقول : ديني الإسلام .. فيقولان له :ما هذا الرجل الذي بعث فيكم ؟ فيقول: هو رسول الله.. فيقولان له :وما علمك ؟فيقول: قرأت كتاب الله فآمنت به وصدقت... فينادي مناد من السماء أن صدق عبدي فأفرشوه من الجنة وألبسوه من الجنة وافتحوا له بابا إلى الجنة... فيأتيه من روحها وطيبها ويفسح له في قبره مد بصره ويأتيه رجل حسن الوجه حسن الثياب طيب الريح فيقول: أبشر بالذي يسرك هذا يومك الذي كنت توعد... فيقول له: من أنت ؟ فوجهك الوجه يجيء بالخير ..فيقول: أنا عملك الصالح ..فيقول :رب أقم الساعة.. رب أقم الساعة ...حتى أرجع إلى أهلي ومالي ; وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزل إليه من السماء ملائكة سود الوجوه معهم المسوح فيجلسون منه مد البصر ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس الخبيثة اخرجي إلى سخط من الله وغضب.. فتفرق في جسده فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يجعلوها في تلك المسوح ويخرج منها كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض فيصعدون بها فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الروح الخبيث؟ فيقولون: فلان بن فلان .. بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا فيستفتح له فلا يفتح له ثم قرأ { لا تفتح لهم أبواب السماء } فيقول الله عز وجل(1/43)
: اكتبوا كتابه في سجين في الأرض السفلى... فتطرح روحه طرحا فتعاد روحه في جسده ; ويأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له : من ربك؟ فيقول :هاه.. هاه.. لا أدري.... فيقولان له :ما دينك؟ فيقول: هاه.. هاه.. لا أدري... فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم ؟ فيقول: هاه ..هاه.. لا أدري... فينادي مناد من السماء أن كذب عبدي فأفرشوه من النار وافتحوا له بابا إلى النار ... فيأتيه من حرها وسمومها ويضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه ويأتيه رجل قبيح الوجه قبيح الثياب منتن الريح فيقول: أبشر بالذي يسوؤك ، هذا يومك الذي كنت توعد ...فيقول: من أنت فوجهك الوجه يجيء بالشر ؟ فيقول: أنا عملك الخبيث... فيقول: رب لا تقم الساعة ....-أخرجه السيوطي في الجامع الصغير وعزاه لكل من أحمد وأبي داود وابن خزيمة والحاكم والبيهقي في الشعب والضياء عن البراء....وقال الألباني : (صحيح) -(1/44)
فالله الله في أنسكم أيها الغافلون عن اللحظات الأخيرة وشدائدها ... أعدوا الجواب علما وعملا ... فإنها لا تأتيكم إلا بغتة .. فحي على العمل الصالح فهو نعم الأنيس في وحشة القبر، والمنير في ظلمته ... القبر الذي ينادي كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فال : أما إنكم لو أكثرتم ذكر هاذم اللذات لشغلكم عما أرى ، الموت... فأكثروا ذكر هاذم اللذات، الموت... فإنه لم يأت على القبر يوم إلا تكلم فيه فيقول : أنا بيت الغربة، وأنا بيت الوحدة، وأنا بيت التراب ،وأنا بيت الدود... فإذا دفن العبد المؤمن قال له القبر: مرحبا وأهلا . أما إن كنت لأحب من يمشي على ظهري إلي فإذ وليتك اليوم وصرت إلي فسترى صنيعي بك فيتسع له مد بصره ويفتح له باب إلى الجنة ... وإذا دفن العبد الفاجر أو الكافر قال له القبر : لا مرحبا ولا أهلا أما إن كنت لأبغض من يمشي على ظهري إلي فإذ وليتك اليوم فسترى صنيعي بك... فيلتئم عليه حتى يلتقي عليه وتختلف أضلاعه ويقيض له سبعون تنينا لو أن واحدا منها نفخ في الأرض ما أنبتت شيئا ما بقيت الدنيا فينهشه ويخدشه حتى يفضي به إلى الحساب... إنما القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار ....- أخرجه السيوطي في الجامع الصغير وعزاه للترمذي ؛ قال الألباني : ضعيف.
**اللهم إنا نعوذ بك من عذاب جهنم ومن عذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات ومن شر فتنة المسيح الدجال **. لا تنس أخي هذا التعوذ الذي علمناه محمد الرؤوف الرحيم بالمومنين صلى عليه رب العالمين والملائكة وكل عبد رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبه رسولا إلى اليوم الذي يجمع فيه الله الأولين والآخرين... والحديث رواه أحمد ومسلم وأبو داود والبيهقي عن أبي هريرة ..
8- اشتغلتم بعيوب إخوانكم ، ونبذتم عيوبكم .(1/45)
وهذه من أكبر الطامات التي أصاب وبالها كثيرا من الناس...كل يرى عيوب أخيه وذويه وجاره ، قريبهم وبعيدهم ، فهو يجترها ليل نهار ، ولا يرى لنفسه عيباً ... ففي المقاهي والملاهي والأندية والأسواق لا تسمع إلا الغيبة والبهتان والسخرية والنميمة ولَيِّ اللسان وسوء الظن وأكل لحوم البشر أحياء وأمواتا ولعن وتكفير... ...وفلان فيه وفيه ، وفلانة فيها وفيها... وكأن الخلائق لم يبلغهم النهي عن هذه الجرائر ... قال الله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْراً مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ ) ( الحجرات 11-12 )
قال القرطبي رحمه الله :
الآية: 11 {يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون}(1/46)
قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم" قيل عند الله. وقيل "خيرا منهم" أي معتقدا وأسلم باطنا. والسخرية الاستهزاء. سخرت منه أسخر سخرا (بالتحريك) ومسخرا وسخرا (بالضم). وحكى أبو زيد سخرت به، وهو أردأ اللغتين. وقال الأخفش: سخرت منه وسخرت به، وضحكت منه وضحكت به، وهزئت منه وهزئت به، كل يقال. والاسم السخرية والسخري، وقرئ بهما قوله تعالى: "ليتخذ بعضهم بعضا سخريا" [الزخرف: 32] ... وفلان سخرة، يتسخر في العمل. يقال: خادم سخرة. ورجل سخرة أيضا يسخر منه. وسخرة (بفتح الخاء) يسخرمن الناس.(1/47)
واختلف في سبب نزولها، فقال ابن عباس: نزلت في ثابت بن قيس بن شماس كان في أذنه وقر، فإذا سبقوه الى مجلس النبي صلى الله عليه وسلم أوسعوا له إذا أتى حتى يجلس إلى جنبه ليسمع ما يقول، فأقبل ذات يوم وقد فاتته من صلاة الفجر ركعة مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما انصرف النبي صلى الله عليه وسلم أخذ أصحابه مجالسهم منه، فربض كل رجل منهم بمجلسه، وعضوا فيه فلا يكاد يوسع أحد لأحد حتى يظل الرجل لا يجد مجلسا فيظل قائما، فلما انصرف ثابت من الصلاة تخطى رقاب الناس ويقول: تفسحوا تفسحوا، ففسحوا له حتى انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وبينه وبينه رجل فقال له: تفسح. فقال له الرجل: قد وجدت مجلسا فأجلس فجلس ثابت من خلفه مغضبا، ثم قال: من هذا ؟ قالوا فلان، فقال ثابت: ابن فلانة يعيره بها، يعني أُما له في الجاهلية، فاستحيا الرجل، فنزلت. وقال الضحاك: نزلت في وفد بني تميم الذي تقدم ذكرهم في أول "السورة" استهزؤوا بفقراء الصحابة، مثل عمار وخباب وابن فهيرة وبلال وصهيب وسلمان وسالم مولى أبي حذيفة وغيرهم، لما رأوا من رثاثة حالهم، فنزلت في الذين آمنوا منهم. وقال مجاهد: هو سخرية الغني من الفقير. وقال ابن زيد: لا يسخر من ستر الله عليه ذنوبه ممن كشفه الله، فلعل إظهار ذنوبه في الدنيا خير له في الآخرة. وقيل: نزلت في عكرمة بن أبي جهل حين قدم المدينة مسلما، وكان المسلمون إذا رأوه قالوا ابن فرعون هذه الأمة. فشكا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت.(1/48)
وبالجملة فينبغي ألا يجتريء أحد على الاستهزاء بمن يقتحمه بعينه إذا رءاه رث الحال أو ذا عاهة في بدنه أو غير لبيق في محادثته، فلعله أخلص ضميرا وأنقى قلبا ممن هو على ضد صفته، فيظلم نفسه بتحقير من وقره الله، والاستهزاء بمن عظمه الله. ولقد بلغ بالسلف إفراط توقيهم وتصونهم من ذلك أن قال عمرو بن شرحبيل: لو رأيت رجلا يرضع عنزا فضحكت منه لخشيت أن أصنع مثل الذي صنع. وعن عبدالله بن مسعود: البلاء موكل بالقول، لو سخرت من كلب لخشيت أن أحول كلبا. و"قوم" في اللغة للمذكورين خاصة. قال زهير:
وما أدري وسوف إخال أدري أقوم آل حصن أم نساء
وسموا قوما لأنهم يقومون مع داعيهم في الشدائد. وقيل: إنه جمع قائم، ثم استعمل في كل جماعة وإن لم يكونوا قائمين. وقد يدخل في القوم النساء مجازا،...
قوله تعالى: "ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن" أفرد النساء بالذكر لأن السخرية منهن أكثر. وقد قال الله تعالى: "إنا أرسلنا نوحا إلى قومه" [نوج: 1] فشمل الجميع. قال المفسرون: نزلت في امرأتين من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم سخرتا من أم سلمة، وذلك أنها ربطت خصريها بسبيبة - وهو ثوب أبيض، ومثلها السب - وسدلت طرفيها خلفها فكانت تجرها، فقالت عائشة لحفصة رضي الله عنهما: انظري ما تجر خلفها كأنه لسان كلب، فهذه كانت سخريتهما. وقال أنس وابن زيد: نزلت في نساء النبي صلى الله عليه وسلم، عيرن أم سلمة بالقصر. وقيل: نزلت في عائشة، أشارت بيدها إلى أم سلمة، يا نبي الله إنها لقصيرة. وقال عكرمة عن ابن عباس: إن صفية بنت حيي بن أخطب أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن النساء يعيرنني، ويقلن لي يا يهودية بنت يهوديين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هلا قلت إن أبي هارون وإن عمي موسى وإن زوجي محمد). فأنزل الله هذه الآية.(1/49)
في صحيح الترمذي عن عائشة قالت: حكيت للنبي صلى الله عليه وسلم رجلا، فقال: [ما يسرني أني حكيت رجلا وأن لي كذا وكذا]. قالت فقلت: يا رسول الله، إن صفية امرأة - وقالت بيدها - هكذا، يعني أنها قصيرة. فقال: [لقد مزجت بكلمة لو مزج بها البحر لمزج]. وفي البخاري عن عبدالله بن زمعة قال: نهى النبى صلى الله عليه وسلم أن يضحك الرجل مما يخرج من الأنفس. وقال: [لم يضرب أحدكم امرأته ضرب الفحل ثم لعله يعانقها]. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم]. وهذا حديث عظيم يترتب عليه ألا يقطع بعيب أحد لما يرى عليه من صور أعمال الطاعة أو المخالفة، فلعل من يحافظ على الأعمال الظاهرة يعلم الله من قلبه وصفاً مذموما لا تصح معه تلك الأعمال. ولعل من رأينا عليه تفريطا أو معصية يعلم الله من قلبه وصفا محمودا يغفر له بسببه. فالأعمال أمارات ظنية لا أدلة قطعية. ويترتب عليها عدم الغلو في تعظيم من رأينا عليه أفعالا صالحة، وعدم الاحتقار لمسلم رأينا عليه أفعالا سيئة. بل تحتقر وتذم تلك الحالة السيئة، لا تلك الذات المسيئة. فتدبر هذا، فإنه نظر دقيق، وبالله التوفيق.(1/50)
قوله تعالى: "ولا تلمزوا أنفسكم" اللمز: العيب، وقد مضى في "التوبة" عند قوله تعالى: "ومنهم من يلمزك في الصدقات" [التوبة: 58]. وقال الطبري: اللمز باليد والعين واللسان والإشارة. والهمز لا يكون إلا باللسان. وهذه الآية مثل قوله تعالى: "ولا تقتلوا أنفسكم" [النساء: 29] أي لا يقتل بعضكم بعضا، لأن المؤمنين كنفس واحدة، فكأنه بقتل أخيه قاتل نفسه. وكقوله تعالى: "فسلموا على أنفسكم" [النور: 61] يعني يسلم بعضكم على بعض. والمعنى: لا يعب بعضكم بعضا. وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة وسعيد بن جبير: لا يطعن بعضكم على بعض. وقال الضحاك: لا يلعن بعضكم بعضا. وقرئ: "ولا تُلمزوا" بالضم. وفي قوله: "أنفسكم" تنبيه على أن العاقل لا يعيب نفسه، فلا ينبغي أن يعيب غيره لأنه كنفسه، قال صلى الله عليه وسلم: [المؤمنون كجسد واحد إن اشتكى عضو منه تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى]. وقال بكر بن عبدالله المزني: إذا أردت أن تنظر العيوب جمة فتأمل عيَّابا، فإنه إنما يعيب الناس بفضل ما فيه من العيب. وقال صلى الله عليه وسلم: [يبصر أحدكم القذاة في عين أخيه ويدع الجذع في عينه] وقيل: من سعادة المرء أن يشتغل بعيوب نفسه عن عيوب غيره. قال الشاعر:
المرء إن كان عاقلا ورعا أشغله عن عيوبه ورعه
كما السقيم المريض يشغله عن وجع الناس كلهم وجعه
وقال آخر:
لا تكشفن مساوي الناس ما ستروا فيهتك الله سترا عن مساويكا
واذكر محاسن ما فيهم إذا ذكروا ولا تعب أحدا منهم بما فيكا(1/51)
قوله تعالى: "ولا تنابزوا بالألقاب" النبز (بالتحريك) اللقب، والجمع الأنباز. والنبز (بالتسكين) المصدر، تقول: نبزه ينبزه نبزا، أي لقبه. وفلان ينبز بالصبيان أي يلقبهم، شدد للكثرة. ويقال النبز والنزب لقب السوء. وتنابزوا بالألقاب: أي لقب بعضهم بعضا. وفي الترمذي عن أبي جبيرة بن الضحاك قال: كان الرجل منا يكون له الاسمين والثلاثة فيدعي ببعضها فعسى أن يكره، فنزلت هذه الآية: "ولا تنابزوا بالألقاب". قال هذا حديث حسن. وأبو جبيرة هذا هو أخو ثابت بن الضحاك بن خليفة الأنصاري. وأبو زيد سعيد بن الربيع صاحب الهروي ثقة. وفي مصنف أبي داود عنه قال: فينا نزلت هذه الآية، في بني سلمة "ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان" قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس منا رجل إلا وله اسمان أو ثلاثة، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يا فلان فيقولون مه يا رسول الله، إنه يغضب من هذا الاسم، فنزلت هذه الآية: "ولا تنابزوا بالألقاب". فهذا قول. وقول ثان - قال الحسن ومجاهد: كان الرجل يعير بعد إسلامه بكفره يا يهودي يا نصراني، فنزلت. وروي عن قتادة وأبي العالية وعكرمة. وقال قتادة: هو قول الرجل للرجل يا فاسق يا منافق، وقاله مجاهد والحسن أيضا. "بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان" أي بئس أن يسمى الرجل كافرا أو زانيا بعد إسلامه وتوبته، قال ابن زيد. وقيل: المعنى أن من لقب أخاه أو سخر منه فهو فاسق. وفي الصحيح [من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما إن كان كما قال وإلا رجعت عليه]. فمن فعل ما نهى الله عنه من السخرية والهمز والنبز فذلك فسوق وذلك لا يجوز. وقد روي أن أبا ذر رضي الله عنه كان عند النبي صلى الله عليه وسلم فنازعه رجل فقال له أبو ذر: يا ابن اليهودية فقال النبي صلى الله عليه وسلم: [ما ترى ها هنا أحمر وأسود ما أنت بأفضل منه] يعني بالتقوى، ونزلت: "ولا تنابزوا بالألقاب". وقال ابن عباس: التنابز بالألقاب(1/52)
أن يكون الرجل قد عمل السيئات ثم تاب، فنهى الله أن يعير بما سلف. يدل عليه ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [من عير مؤمنا بذنب تاب منه كان حقا على الله أن يبتليه به ويفضحه فيه في الدنيا والآخرة].
وقع من ذلك مستثني من غلب عليه الاستعمال كالأعرج والأحدب ولم يكن له فيه كسب يجد في نفسه منه عليه، فجوزته الأمة وأتفق على قول أهل الملة. قال ابن العربي: وقد ورد لعمر الله من ذلك في كتبهم ما لا أرضاه في صالح جزرة، لأنه صحف "خرزة" فلقب بها. وكذلك قولهم في محمد بن سليمان الحضرمي: مطين، لأنه وقع في طين ونحو ذلك مما غلب على المتأخرين، ولا أراه سائغا في الدين. وقد كان موسى بن علي بن رباح المصري يقول: لا أجعل أحدا صغر اسم أبي في حل، وكان الغالب على اسمه التصغير بضم العين. والذي يضبط هذا كله: أن كل ما يكره الإنسان إذا نودي به فلا يجوز لأجل الأذية. والله أعلم.(1/53)
قلت: وعلى هذا المعنى ترجم البخاري رحمه الله في (كتاب الأدب) من الجامع الصحيح. في (باب ما يجوز من ذكر الناس نحو قولهم الطويل والقصير لا يراد به شين الرجل) قال: وقال النبي صلى الله عليه وسلم: [ما يقول ذو اليدين] قال أبو عبدالله بن خويز منداد: تضمنت الآية المنع من تلقيب الإنسان بما يكره، ويجوز تلقيبه بما يحب، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم لقب عمر بالفاروق، وأبا بكر بالصديق، وعثمان بذي النورين، وخزيمة بذي الشهادتين، وأبا هريرة بذي الشمالين وبذي اليدين، في أشباه ذلك. الزمخشري: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم [من حق المؤمن على المؤمن أن يسميه بأحب أسمائه إليه]. ولهذا كانت التكنية من السنة والأدب الحسن، قال عمر رضي الله عنه: أشيعوا الكني فإنها منبهة. ولقد لقب أبو بكر بالعتيق والصديق، وعمر بالفاروق، وحمزة بأسد الله، وخالد بسيف الله. وقل من المشاهير في الجاهلية والإسلام من ليس له لقب. ولم تزل هذه الألقاب الحسنة في الأمم كلها - من العرب والعجم - تجري في مخاطباتهم ومكاتباتهم من غير نكير. قال الماوردي: فأما مستحب الألقاب ومستحسنها فلا يكره. وقد وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم عددا من أصحابه بأوصاف صارت لهم من أجَلّ الألقاب.
قلت: فأما ما يكون ظاهرها الكراهة إذا أريد بها الصفة لا العيب فذلك كثير. وقد سئل عبدالله بن المبارك عن الرجل يقول: حُميد الطويل، وسليمان الأعمش، وحُميد الأعرج، ومروان الأصغر، فقال: إذا أردت صفته ولم ترد عيبه فلا بأس به. وفي صحيح مسلم عن عبدالله بن سرجس قال: رأيت الأصلع - يعني عمر - يقبل الحجر. وفي رواية الأصيلع.
قوله تعالى: "ومن لم يتب" أي عن هذه الألقاب التي يتأذى بها السامعون. "فأولئك هم الظالمون" لأنفسهم بارتكاب هذه المناهي.(1/54)
الآية: 12 {يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم }
قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن" قيل: إنها نزلت في رجلين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم اغتابا رفيقهما. وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سافر ضم الرجل المحتاج إلى الرجلين الموسرين فيخدمهما. فضم سلمان إلى رجلين، فتقدم سلمان إلى المنزل فغلبته عيناه فنام ولم يهيئ لهما شيئا، فجاءا فلم يجدا طعاما وإداما، فقالا له: انطلق فاطلب لنا من النبي صلى الله عليه وسلم طعاما وإداما، فذهب فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (اذهب إلى أسامة بن زيد فقل له إن كان عندك فضل من طعام فليعطك) وكان أسامة خازن النبي صلى الله عليه وسلم، فذهب إليه، فقال أسامة: ما عندي شيء، فرجع إليهما فأخبرهما، فقالا: قد كان عنده ولكنه بخل. ثم بعثا سلمان إلى طائفة من الصحابة فلم يجد عندهم شيئا، فقالا: لو بعثنا سلمان إلى بئر سُمَيحة لغار ماؤها. ثم انطلقا يتجسسان هل عند أسامة شيء، فرآهما النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (مالي أرى خضرة اللحم في أفواهكما) فقالا: يا نبي الله، والله ما أكلنا في يومنا هذا لحما ولا غيره. فقال: (ولكنكما ظلتما تأكلان لحم سلمان وأسامة) فنزلت: "يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم" ذكره الثعلبي. أي لا تظنوا بأهل الخير سوءا إن كنتم تعلمون من ظاهر أمرهم الخير.(1/55)
ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ولا تحسسوا ولا تجسسوا ولا تناجشوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا) لفظ البخاري. قال علماؤنا: فالظن هنا وفي الآية هو التهمة. ومحل التحذير والنهي إنما هو تهمة لا سبب لها يوجبها، كمن يتهم بالفاحشة أو بشرب الخمر مثلا ولم يظهر عليه ما يقتضي ذلك. ودليل كون الظن هنا بمعنى التهمة قوله تعالى: "ولا تجسسوا" وذلك أنه قد يقع له خاطر التهمة ابتداء ويريد أن يتجسس خبر ذلك ويبحث عنه، ويتبصر ويستمع لتحقيق ما وقع له من تلك التهمة. فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك. وإن شئت قلت: والذي يميز الظنون التي يجب اجتنابها عما سواها، أن كل ما لم تعرف له أمارة صحيحة وسبب ظاهر كان حراما واجب الاجتناب. وذلك إذا كان المظنون به ممن شوهد منه الستر والعلاج، وأونست منه الأمانة في الظاهر، فظن الفساد به والخيانة محرم، بخلاف من أشتهره الناس بتعاطي الريب والمجاهرة بالخبائث. وعن النبي صلى الله عليه وسلم : (إن الله حرم من المسلم دمه وعرضه وأن يظن به ظن السوء). وعن الحسن: كنا في زمن الظن بالناس فيه حرام، وأنت اليوم في زمن اعمل واسكت وظن في الناس ما شئت.(1/56)
وللظن حالتان: حالة تعرف وتقوى بوجه من وجوه الأدلة فيجوز الحكم بها، وأكثر أحكام الشريعة مبنية على غلبة الظن، كالقياس وخبر الواحد وغير ذلك من قيم المتلفات وأروش الجنايات. والحالة الثانيه: أن يقع في النفس شيء من غير دلالة فلا يكون ذلك أولى من ضده، فهذا هو الشك، فلا يجوز الحكم به، وهو المنهي عنه على ما قررناه آنفا. وقد أنكرت جماعة من المبتدعة تعبد الله بالظن وجواز العمل به، تحكما في الدين ودعوى في المعقول. وليس في ذلك أصل يعول عليه، فإن البارئ تعالى لم يذم جميعه، وإنما أورد الذم في بعضه. وربما تعلقوا بحديث أبي هريرة : (إياكم والظن) فإن هذا لا حجة فيه، لأن الظن في الشريعة قسمان: محمود ومذموم، فالمحمود منه ما سلم معه دين الظان والمظنون به عند بلوغه. والمذموم ضده، بدلالة قوله تعالى: "إن بعض الظن إثم"، وقوله: "لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا" [النور: 12]، وقوله: "وظننتم ظن السوء وكنتم قوما بورا" [الفتح: 12] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا كان أحدكم مادحا أخاه فليقل أحسب كذا ولا أزكي على الله أحدا). وقال: (إذا ظننت فلا تحقق وإذا حسدت فلا تبغ وإذا تطيرت فامض) خرجه أبو داود. وأكثر العلماء على أن الظن القبيح بمن ظاهره الخير لا يجوز، وأنه لا حرج في الظن القبيح بمن ظاهره القبيح، قاله المهدوي.(1/57)
قوله تعالى: "ولا تجسسوا" قرأ أبو رجاء والحسن باختلاف وغيرهما "ولا تحسسوا" بالحاء. واختلف هل هما بمعنى واحد أو بمعنيين، فقال الأخفش: ليس تبعد إحداهما من الأخرى، لأن التجسس البحث عما يكتم عنك. والتحسس (بالحاء) طلب الأخبار والبحث عنها. وقيل: إن التجسس (بالجيم) هو البحث، ومنه قيل: رجل جاسوس إذا كان يبحث عن الأمور. وبالحاء: هو ما أدركه الإنسان ببعض حواسه. وقول ثان في الفرق: أنه بالحاء تطلبه لنفسه، وبالجيم أن يكون رسولا لغيره، قال ثعلب. والأول أعرف. جسست الأخبار وتجسستها أي تفحصت عنها، ومنه الجاسوس. ومعنى الآية: خذوا ما ظهر ولا تتبعوا عورات المسلمين، أي لا يبحث أحدكم عن عيب أخيه حتى يطلع عليه بعد أن ستره الله. وفي كتاب أبى داود عن معاوية قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت تفسدهم) فقال أبو الدرداء: كلمة سمعها معاوية من رسول الله صلى الله عليه وسلم نفعه الله تعالى بها. وعن المقدام بن معد يكرب عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس أفسدهم). وعن زيد بن وهب قال: أتي ابن مسعود فقيل: هذا فلان تقطر لحيته خمرا. فقال عبدالله: إنا قد نهينا عن التجسس، ولكن إن يظهر لنا شيء نأخذ به. وعن أبي برزة الأسلمي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم، فإن من اتبع عوراتهم يتبع الله عورته ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته). وقال عبدالرحمن بن عوف: حرست ليلة مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالمدينة إذ تبين لنا سراج في بيت بابه مجاف على قوم لهم أصوات مرتفعة ولغط، فقال عمر: هذا بيت ربيعة بن أمية بن خلف، وهم الآن شرب فما ترى !؟ قلت: أرى أنا قد أتينا ما نهى الله عنه، قال الله تعالى: "ولا تجسسوا" وقد تجسسنا، فانصرف عمر وتركهم. وقال أبو(1/58)
قلابة: حدث عمر بن الخطاب أن أبا محجن الثقفي يشرب الخمر مع أصحاب له في بيته، فانطلق عمر حتى دخل عليه، فإذا ليس عنده إلا رجل، فقال أبو محجن: إن هذا لا يحل لك قد نهاك الله عن التجسس، فخرج عمر وتركه. وقال زيد بن أسلم: خرج عمر وعبدالرحمن يعسان، إذ تبينت لهما نار فاستأذنا ففتح الباب، فإذا رجل وامرأة تغني وعلى يد الرجل قدح، فقال عمر: وأنت بهذا يا فلان؟ فقال: وأنت بهذا يا أمير المؤمنين! قال عمر: فمن هذه منك؟ قال امرأتي، قال فما في هذا القدح؟ قال ماء زلال، فقال للمرأة: وما الذي تغنين؟ فقالت:
تطاول هذا الليل واسود جانبه وأرقني أن لا خليل ألاعبه
فوالله لولا الله أني أراقبه لزعزع من هذا السرير جوانبه
ولكن عقلي والحياء يكفني وأ كرم بعلي أن تنال مراكبه
ثم قال الرجل: ما بهذا أمرنا يا أمير المؤمنين قال الله تعالى: "ولا تجسسوا". قال صدقت.
قلت: لا يفهم من هذا الخبر أن المرأة كانت غير زوجة الرجل، لأن عمر لا يقر على الزنى، وإنما غنت بتلك الأبيات تذكارا لزوجها، وأنها قالتها في مغيبه عنها. والله أعلم. وقال عمرو بن دينار: كان رجل من أهل المدينة له أخت فاشتكت، فكان يعودها فماتت فدفنها. فكان هو الذي نزل في قبرها، فسقط من كمه كيس فيه دنانير، فاستعان ببعض أهله فنبشوا قبرها فأخذ الكيس ثم قال: لأكشفن حتى أنظر ما آل حال أختي إليه، فكشف عنها فإذا القبر مشتعل نارا، فجاء إلى أمه فقال: أخبريني ما كان عمل أختي؟ فقالت: قد ماتت أختك فما سؤالك عن عملها فلم يزل بها حتى قالت له: كان من عملها أنها كانت تؤخر الصلاة عن مواقيتها، وكانت إذا نام الجيران قامت إلى بيوتهم فألقمت أذنها أبوابهم، فتجسس عليهم وتخرج أسرارهم، فقال: بهذا هلكت(1/59)
قوله تعالى: " ولا يغتب بعضكم بعضا " نهى عز وجل عن الغيبة، وهي أن تذكر الرجل بما فيه، فإن ذكرته بما ليس فيه فهو البهتان. ثبت معناه في صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أتدرون ما الغيبة)؟ قالوا: الله ورسول أعلم. قال: (ذكرك أخاك بما يكره) قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: (إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه فقد بهته). يقال: اغتابه اغتيابا إذا وقع فيه، والاسم الغيبة، وهي ذكر العيب بظهر الغيب. قال الحسن: الغيبة ثلاثة أوجه كلها في كتاب الله تعالى: الغيبة والإفك والبهتان. فأما الغيبة فهو أن تقول في أخيك ما هو فيه. وأما الإفك فأن تقول فيه ما بلغك عنه. وأما البهتان فأن تقول فيه ما ليس فيه. وعن شعبة قال: قال لي معاومة - يعني ابن قرة - : لو مر بك رجل أقطع، فقلت هذا أقطع كان غيبة. قال شعبة: فذكرته لأبي إسحاق فقال صدق. وروى أبو هريرة أن الأسلمي ماعزا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فشهد على نفسه بالزنى فرجمه رسول الله صلى الله عليه وسلم. فسمع نبي الله صلى الله عليه وسلم رجلين من أصحابه يقول أحدهما للآخر: انظر إلى هذا الذي ستر الله عليه فلم تدعه نفسه حتى رجم رجم الكلب، فسكت عنهما. ثم سار ساعة حتى مر بجيفة حمار شائل برجله فقال: (أين فلان وفلان)؟ فقالا: نحن ذا يا رسول الله، قال: (انزلا فكلا من جيفة هذا الحمار) فقالا: يا نبي الله ومن يأكل من هذا ! قال: (فما نلتما من عرض أخيكما أشد من الأكل منه والذي نفسي بيده إنه الآن لفي أنهار الجنة ينغمس فيها).(1/60)
قوله تعالى: "أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا" مثل الله الغيبة بأكل الميتة، لأن الميت لا يعلم بأكل لحمه كما أن الحي لا يعلم بغيبة من اغتابه. وقال ابن عباس: إنما ضرب الله هذا المثل للغيبة لأن أكل لحم الميت حرام مستقذر، وكذا الغيبة حرام في الدين وقبيح في النفوس. وقال قتادة: كما يمتنع أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا كذلك يجب أن يمتنع من غيبته حيا. واستعمل أكل اللحم مكان الغيبة لأن عادة العرب بذلك جارية. قال الشاعر:
فإن أكلوا لحمي وفرت لحومهم وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا(1/61)
وقال صلى الله عليه وسلم: (ما صام من ظل يأكل لحوم الناس). فشبه الوقيعة في الناس بأكل لحومهم. فمن تنقص مسلما أو ثلم عرضه فهو كالآكل لحمه حيا، ومن اغتابه فهو كالآكل لحمه ميتا. وفي كتاب أبي داود عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم فقلت من هؤلاء يا جبريل؟ قال هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم). وعن المستورد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من أكل برجل مسلم أكلة فإن الله يطعمه مثلها من جهنم ومن كسي ثوبا برجل مسلم فإن الله يكسوه مثله من جهنم ومن أقام برجل مقام سمعة ورياء فإن الله يقوم به مقام سمعة ورياء يوم القيامة). وقد تقدم قوله صلى الله عليه وسلم: (يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه لا تغتابوا المسلمين). وقوله للرجلين: (ما لي أرى خضرة اللحم في أفواهكما). وقال أبو قلابة الرقاشي: سمعت أبا عاصم يقول: ما اغتبت أحدا مذ عرفت ما في الغيبة. وكان ميمون بن سياه لا يغتاب أحدا، ولا يدع أحدا يغتاب أحدا عنده، ينهاه فإن انتهى وإلا قام. وذكر الثعلبي من حديث أبي هريرة قال: قام رجل من عند النبي صلى الله عليه وسلم فرأوا في قيامه عجزا فقالوا: يا رسول الله ما أعجز فلانا.. فقال: (أكلتم لحم أخيكم وأغتبتموه). وعن سفيان الثوري قال: أدنى الغيبة أن تقول إن فلانا جعد قطط، إلا أنه يكره ذلك. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إياكم وذكر الناس فإنه داء، وعليكم بذكر الله فإنه شفاء. وسمع علي بن الحسين رضي الله عنهما رجلا يغتاب آخر، فقال: إياك والغيبة فإنها إدام كلاب الناس. وقيل لعمرو بن عبيد: لقد وقع فيك فلان حتى رحمناك، قال: إياه فارحموا. وقال رجل للحسن: بلغني أنك تغتابني فقال: لم يبلغ قدرك عندي أن أحكمك في حسناتي.(1/62)
ذهب قوم إلى أن الغيبة لا تكون إلا في الدين ولا تكون في الخلقة والحسب. وقالوا: ذلك فعل الله به. وذهب آخرون إلى عكس هذا فقالوا: لا تكون الغيبة إلا في الخَلْق والخُلُق والحسب. والغيبة في الخلق أشد، لأن من عيب صنعة فإنما عيب صانعها. وهذا كله مردود. أما الأول فيرده حديث عائشة حين قالت في صفية: إنها امرأة قصيرة، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (لقد قلت كلمة لو مزج بها البحر لمزجته). خرجه أبو داود. وقال فيه الترمذي: حديث حسن صحيح، وما كان في معناه حسب ما تقدم. وإجماع العلماء قديما على أن ذلك غيبة إذا أريد به العيب. وأما الثاني فمردود أيضا عند جميع العلماء، لأن العلماء من أول الدهر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين بعدهم لم تكن الغيبة عندهم في شيء أعظم من الغيبة في الدين، لأن عيب الدين أعظم العيب، فكل مؤمن يكره أن يذكر في دينه أشد مما يكره في بدنه. وكفى ردا لمن قال هذا القول قول عليه السلام: (إذا قلت في أخيك ما يكره فقد أغتبته...) الحديث. فمن زعم أن ذلك ليس بغيبة فقد رد ما قال النبي صلى الله عليه وسلم نصا. وكفى بعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (دماؤكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام) وذلك عام للدين والدنيا. وقول النبي: (من كانت عنده لأخيه مظلمة في عرضه أو ماله فليتحلله منه). فعم كل عرض، فمن خص من ذلك شيئا دون شيء فقد عارض ما قال النبي صلى الله عليه وسلم.(1/63)
لا خلاف أن الغيبة من الكبائر، وأن من اغتاب أحدا عليه أن يتوب إلى الله عز وجل. وهل يستحل المغتاب؟ اختلف فيه، فقالت فرقة: ليس عليه استحلاله، وإنما هي خطيئة بينه وبين ربه. واحتجت بأنه لم يأخذ من ماله ولا أصاب من بدنه ما ينقصه، فليس ذلك بمظلمة يستحلها منه، وإنما المظلمة ما يكون منه البدل والعوض في المال والبدن. وقال فرقة: هي مظلمة، وكفارتها الاستغفار لصاحبها الذي اغتابه. واحتجت بحديث يروي عن الحسن قال: كفارة الغيبة أن تستغفر لمن اغتبته. وقالت فرقة: هي مظلمة وعليه الاستحلال منها. واحتجت بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من كانت لأخيه عنده مظلمة في عرض أو مال فليتحلله منه من قبل أن يأتي يوم ليس هناك دينار ولا درهم يؤخذ من حسناته فإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فزيد على سيئاته). خرجه البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال وسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كانت له مظلمة لأخيه من عرضه أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل ألا يكون له دينار ولا درهم إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه... وقد روي من حديث عائشة أن امرأة دخلت عليها فلما قامت قالت امرأة: ما أطول ذيلها فقالت لها عائشة: لقد اغتبتِها فاستحلِّها. فدلت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم أنها مظلمة يجب على المغتاب استحلالها. وأما قول من قال: إنما الغيبة في المال والبدن، فقد أجمعت العلماء على أن على القاذف للمقذوف مظلمة يأخذه بالحد حتى يقيمه عليه، وذلك ليس في البدن ولا في المال، ففي ذلك دليل على أن الظلم في العرض والبدن والمال، وقد قال الله تعالى في القاذف: "فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون" [النور: الآية: 12 ].. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [من بهت مؤمنا بما ليس فيه حبسه الله في طينة الخبال]. وذلك كله في غير المال والبدن. وأما من قال: إنها(1/64)
مظلمة، وكفارة المظلمة أن يستغفر لصاحبها، فقد ناقض إذ سماها مظلمة ثم قال: كفارتها أن يستغفر لصاحبها، لأن قول مظلمة تثبت ظلامة المظلوم، فإذا ثبتت الظلامة لم يزلها عن الظالم إلا إحلال المظلوم له. وأما قول الحسن فليس بحجة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: [من كانت له عند أخيه مظلمة في عرض أو مال فليتحللها منه]. وقد ذهب بعضهم إلى ترك التحليل لمن سأله، ورأى أنه لا يحل ما حرم الله عليه، منهم سعيد بن المسيب قال: لا أحلل من ظلمني. وقيل لابن سيرين: يا أبا بكر، هذا رجل سألك أن تحلله من مظلمة هي لك عنده، فقال: إني لم أحرمها عليه فأحلها، إن الله حرم الغيبة عليه، وماكنت لأحل ما حرم الله عليه أبدا. وخبر النبي صلى الله عليه وسلم يدل على التحليل، وهو الحجة والمبين. والتحليل يدل على الرحمة وهو من وجه العفو، وقد قال تعالى: "فمن عفا وأصلح فأجره على الله" [الشوري: 40].(1/65)
ليس من هذا الباب غيبة الفاسق المعلن به المجاهر، فإن في الخبر [من ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له]. وقال صلى الله عليه وسلم: [اذكروا الفاجر بما فيه كي يحذره الناس]. فالغيبة إذا في المرء الذي يستر نفسه. وروي عن الحسن أنه قال: ثلاثة ليس لهم حرمة: صاحب الهوي، والفاسق المعان، والإمام الجائر. وقال الحسن لما مات الحجاج: اللهم أنت أمته فاقطع عنا سنته - وفي رواية شينه - فإنه أتانا أخيفش أعيمش، يمد بيد قصيرة البنان، والله ما عرق فيها غبار في سبيل الله، يرجل جمته ويخطر في مشيته، ويصعد المنبر فيهدر حتى تفوته الصلاة. لا من الله يتقي، ولا من الناس يستحي، فوقه الله وتحته مائة ألف أو يزيدون، لا يقول له قائل: الصلاة أيها الرجل. ثم يقول الحسن: هيهات ! حال دون ذلك السيف والسوط. وروى الربيع بن صبيح عن الحسن قال: ليس لأهل البدع غيبة. وكذلك قولك للقاضي تستعين به على أخذ حقك ممن ظلمك فتقول فلان ظلمني أو غضبني أو خانني أو ضربني أو قذفني أو أساء إلي، ليس بغيبة. وعلماء الأمة على ذلك مجمعة. وقال النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك: [لصاحب الحق مقال]. وقال: [مطل الغني ظلم] وقال] [لي الواجد يحل عرضه وعقوبته]. ومن ذلك الاستفتاء، كقول هند للنبي صلى الله عليه وسلم: إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني ما يكفيني أنا وولدي، فآخذ من غير علمه؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: [نعم فخذي]. فذكرته بالشح والظلم لها ولولدها، ولم يرها مغتابة، لأنه لم يغير عليها، بل أجابها عليه الصلاة والسلام بالفتيا لها. وكذلك إذا كان في ذكره بالسوء فائدة، كقوله صلى الله عليه وسلم: [أما معاوية فصعلوك لا مال له وأما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه]. فهذا جائز، وكان مقصوده ألا تغتر فاطمة بنت قيس بهما. قال جميعه المحاسبي رحمه الله.(1/66)
قوله تعالى: "ميتا" وقريء "ميتا" وهو نصب على الحال من اللحم. ويجوز أن ينصب على الأخ، ولما قررهم عز وجل بأن أحدا منهم لا يجب أكل جيفة أخيه عقب ذلك بقوله تعالى: "فكرهتموه" وفيه وجهان: أحدهما: فكرهتم أكل الميتة فكذلك فاكرهوا الغيبة، روي معناه عن مجاهد. الثاني: فكرهتم أن يغتابكم الناس فاكرهوا غيبة الناس. وقال الفراء: أي فقد كرهتموه فلا تفعلوه. وقيل: لفظه خبر ومعناه أمر، أي اكرهوه. "واتقوا الله" عطف عليه. وقيل: عطف على قوله: "اجتنبوا. ولا تجسسوا". "إن الله تواب رحيم ....
عباد الله ...هل بعد هذا البيان بيان ؟ آيات مبيَّنات وأحاديث مبيِّنات وكلمات واضحات من علماء أثبات...
فكيف حال سواد الأمة الأعظم ؟ تنقيب عن عيوب الغير وإشاعتها في الملأ ... أما يخشى هؤلاء المنهمكون فيهذا قول العزيز ذي انتقام : (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) (النور : 19 ) ...فهلا فتَّشوا عن عيوب أنفسهم وعملوا على علاجها ... هلا نقبوا في بواطنهم ليستخرجوا منها ما ران على قلوبهم حتى التخلية ثم عملوا على تحليتها بالمودة والرحمة وحب الخير للغير من إخوانهم الذين ءامنوا ...
اللهم طهر قلوبنا وأصلحها يا رب ..............
9- أكلتم نِعَم ربكم ، ولم تشكروا له .
قال تعالى :(وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) (إبراهيم : 34 )(1/67)
* قال ابن كثير رحمه الله :وقوله {وآتاكم من كل ما سألتموه} يقول هيأ لكم ما تحتاجون إليه في جميع أحوالكم مما تسألونه بحالكم. وقال بعض السلف: من كل ما سألتموه وما لم تسألوه, وقرأ بعضهم {وآتاكم من كلٍّ ما سألتموه} وقوله {وإن تعدوانعمة الله لا تحصوها} يخبر تعالى عن عجز العباد عن تعداد النعم فضلاً عن القيام بشكرها, كما قال طلق بن حبيب رحمه الله: إن حق الله أثقل من أن يقوم به العباد, وإن نعم الله أكثر من أن يحصيها العباد, ولكن أصبحوا تائبين. وأمسوا تائبين, وفي صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "اللهم لك الحمد غير مكفي ولا مودع ولا مستغنى عنه ربنا".
وقال الحافظ أبو بكر البزار في مسنده: حدثنا إسماعيل بن أبي الحارث, حدثنا داود بن المحبر حدثنا صالح المري عن جعفر بن زيد العبدي, عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يخرج لابن آدم يوم القيامة ثلاثة دواوين: ديوان فيه العمل الصالح, وديوان فيه ذنوبه, وديوان فيه النعم من الله تعالى عليه, فيقول الله تعالى لأصغر نعمه ـ أحسبه قال في ديوان النعم ـ خذي ثمنك من عمله الصالح فتستوعب عمله الصالح كله, ثم تنحى وتقول: وعزتك ما استوفيت وتبقى الذنوب والنعم, فإذا أراد الله أن يرحمه قال: يا عبدي قد ضاعفت لك حسناتك وتجاوزت لك عن سيئاتك ـ أحسبه قال: ووهبت لك نعمي ـ" غريب وسنده ضعيف. وقد روي في الأثر أن داود عليه السلام قال: يا رب كيف أشكرك وشكري لك نعمة منك عليّ ؟ فقال الله تعالى: الاَن شكرتني يا داود, أي حين اعترفت بالتقصير عن أداء شكر المنعم, وقال الإمام الشافعي رحمه الله: الحمد لله الذي لا يؤدى شكر نعمة من نعمه إلا بنعمة حادثة توجب على مؤديها شكره بها, وقال القائل في ذلك:
لو كل جارحة مني لها لغة تثني عليك بما أوليت من حسن
لكان ما زاد شكري إذ شكرت به إليك أبلغ في الإحسان والمنن .(1/68)
* وقال القرطبي رحمه الله : "وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها" أي نعم الله. "لا تحصوها" ولا تطيقوا عدها، ولا تقوموا بحصرها لكثرتها، كالسمع والبصر وتقويم الصور إلى غير ذلك من العافية والرزق؛ نعم لا تحصى وهذه النعم من الله، فلم تبدلون نعمة الله بالكفر؟! وهلا استعنتم بها على الطاعة ؟! "إن الإنسان لظلوم كفار" الإنسان لفظ جنس وأراد به الخصوص؛ قال ابن عباس: أراد أبا جهل. وقيل: جميع الكفار.
قال تعالى :(وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ) (النحل : 18 )
* قال ابن كثير رحمه الله : أي يتجاوز عنكم, ولو طالبكم بشكر جميع نعمه لعجزتم عن القيام بذلك, ولو أمركم به لضعفتم وتركتم, ولو عذبكم لعذبكم وهو غير ظالم لكم, ولكنه غفور رحيم, يغفر الكثير ويجازي على اليسير, وقال ابن جرير: يقول إن الله لغفور لما كان منكم من تقصير في شكر بعض ذلك إذا تبتم وأنبتم إلى طاعته واتباع مرضاته, رحيم بكم لا يعذبكم بعد الإنابة والتوبة.
وقال تعالى :(وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) (إبراهيم : 7 )
* قال ابن كثير رحمه الله : قوله: {وإذ تأذن ربكم} أي آذنكم وأعلمكم بوعده لكم, ويحتمل أن يكون المعنى: وإذ أقسم ربكم وآلى بعزته وجلاله وكبريائه .. {لئن شكرتم لأزيدنكم} أي لئن شكرتم نعمتي عليكم لأزيدنكم منها, {ولئن كفرتم} أي كفرتم النعم وسترتموها وجحدتموها {إن عذابي لشديد}, وذلك بسلبها عنهم وعقابه إياهم على كفرها, وقد جاء في الحديث " إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه "
* وقال القرطبي رحمه الله : الآية: 7 {وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد}(1/69)
قوله تعالى: "وإذ تأذن ربكم " ..تأذن " وأذن بمعنى أعلم؛ مثل أوعد وتوعد... "لئن شكرتم لأزيدنكم" أي لئن شكرتم إنعامي لأزيدنكم من فضلي. الحسن: لئن شكرتم نعمتي لأزيدنكم من طاعتي. ابن عباس: لئن وحدتم وأطعتم لأزيدنكم من الثواب، والمعنى متقارب في هذه الأقوال؛ والآية نص في أن الشكر سبب المزيد ؛ ... وسئل بعض الصلحاء عن الشكر لله فقال: ألَّا تتقوَّى بنعمه على معاصيه. وحكي عن داود عليه السلام أنه قال: أي رب كيف أشكرك، وشكري لك نعمة مجددة منك علي. قال: يا داود الآن شكرتني.... قلت: فحقيقة الشكر على هذا الاعتراف بالنعمة للمنعم. وألا يصرفها في غير طاعته؛ وأنشد الهادي وهو يأكل:
أنالك رزقه لتقوم فيه بطاعته وتشكر بعض حقه
فلم تشكر لنعمته ولكن قويت على معاصيه برزقه
فغص باللقمة، وخنقته العبرة. وقال جعفر الصادق: إذا سمعت النعمة الشكر فتأهب للمزيد. "ولئن كفرتم إن عذابي لشديد" أي جحدتم حقي. وقيل: نعمي؛ وعد بالعذاب على الكفر، كما وعد بالزيادة على الشكر، وحذفت الفاء التي في جواب الشرط من "إن" للشهرة...(1/70)
قلت : الآيتان تجتمعان في قوله تعالى : ( وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا ) ونفي الإحصال يفيد استحالته ، وتفترقان في الخبر بعد ذلك ، حيث انتهت التي في سورة إبراهيم ( 34) بقوله تعالى: ( إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ) ؛ وهذه - كما قال السعدي رحمه الله - طبيعة الإنسان من حيث هو ظالم متجرىء على المعاصي ، مقصر في حقوق ربه ، كفار لنعم الله ، لا يشكرها ولا يعترف بها ، إلا من هداه الله ، فشكر نعمه ، وعرف حق ربه ، وقام به . ففي هذه الآيات ، من أصناف نعم الله على العباد ، شيء عظيم ، مجمل ، ومفصل ، يدعو الله به العباد إلى القيام بشكره وذكره ، ويحثهم على ذلك ،ويرغبهم في سؤاله ودعائه ، آناء الليل والنهار ، كما أن نعمته تتكرر عليهم في جميع الأوقات...اهـ... وأما التي في سورة النحل(18) فختمت باسمين من أسماء ربنا الحسنى ؛ ( إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ) ... قال السعدي رحمه الله : وإن تعدوا نعمة الله " عددا مجردا عن الشكر " لا تحصوها " فضلا عن كونكم تشكرونها ، فإن نعمه الظاهرة والباطنة على العباد ، بعدد الأنفاس واللحظات ، من جميع أصناف النعم ، مما يعرف العباد ، ومما لا يعرفون ، وما يدفع عنهم من النقم ، فأكثر من أن تحصى ، " إن الله لغفور رحيم " يرضى منكم باليسير من الشكر ، مع إنعامه الكثير . وكما أن رحمته واسعة ، وجوده عميم ، ومغفرته شاملة للعباد ، فعلمه محيط بهم ، " يعلم ما تسرون وما تعلنون " بخلاف من عبد من دونه ، فإنهم " لا يخلقون شيئا " قليلا ولا كثيرا " وهم يخلقون " ، فكيف يخلقون شيئا مع افتقارهم في إيجادهم إلى الله تعالى ؟ ومع هذا ، ليس فيهم من أوصاف الكمال شيء ، لا علم ، ولا غيره ، " أموات غير أحياء " فلا تسمع ، ولا تبصر ، ولا تعقل شيئا ، أفنتخذ هذه آلهة من دون رب العالمين ؟ فتبا لعقول المشركين ، ما أضلها ، وأفسدها ، حيث ضلت في أظهر الأشياء فسادا ، وسووا بين(1/71)
الناقص من جميع الوجوه فلا أوصاف كمال ، ولا شيء من الأفعال ، وبين الكامل من جميع الوجوه الذي له كل صفة كمال ، وله من تلك الصفة أكملها وأعظمها ، فله العلم المحيط بكل الأشياء ، والقدرة العامة ، والرحمة الواسعة ، التي ملأت جميع العوالم ، والحمد والمجد والكبرياء والعظمة ، التي لا يقدر أحد من الخلق ، أن يحيط ببعض أوصافه ولهذا قال : " إلهكم إله واحد " وهو : الله الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد . فأهل الإيمان والعقول ، أحلته قلوبهم وعظمته ، وأحبته حبا عظيما ، وصرفوا له كل ما استطاعوا من القربات البدنية والمالية ، وأعمال القلوب وأعمال الجوارح ، وأثنوا عليه بأسمائه الحسنى ، وصفاته ، وأفعاله المقدسة ، " فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة " لهذا الأمر العظيم الذي لا ينكره إلا أعظم الخلق جهلا وعنادا ، وهو : توحيد الله " وهم مستكبرون " عن عبادته . " لا جرم " أي : حقا لا بد " أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون " من الأعمال القبيحة " إنه لا يحب المستكبرين " بل يبغضهم أشد البغض، وسيجازيهم من جنس عملهم " إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين " ...اهـ..(1/72)
قلت : الشكر عبادة أمر الله بها في قوله تعالى: (بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنْ الشَّاكِرِينَ) (الزمر : 66 ) وفي قوله : ( أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ) (لقمان : 14) وللشكر جزاء من الله التواب الكريم ، قال سبحانه : (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَاباً مُّؤَجَّلاً وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ) (آل عمران : 145 )...لكن أهل رالشكر قلة قليلة ؛ قال تعالى : ( وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ ) ( الأعراف 10 ) وقال : (...وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) (سبأ : 13 ) .. وللشكر أهمية بالغة في حياة ابن آدم على ظهر الأرض؛ لذا نجد الشيطان يكد ويجهد وينصب ويتعب من أجل تقليلهم ؛ قال تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ *قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ * قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ*قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ * قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ( الأعراف 11 - 17) ولقد صدق إبليسُ وعدَه على كثير من الناس فبدلوا نعمة الله كفراً كأولائك الذين يذبحون الأنعام تقربا لمعبوداتهم(1/73)
من الإنس والجن والأوثان ؛وأولائك الذين الذين يتقوون بنعمه على معصيته في سرهم والعلن ..
وإذا كان العبد يحرم الرزق الذي به قوامه بالذنب يرتكبه كما ورد في الديث ( إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه ) ؛ فأنى يستجاب له دعاء ؟ تالله إن حال معظم " الأمة " ليُرثى له ... يبذر الأثرياء الأموال يمنة ويسرة ينفقونها في اللهو واللعب وما فيهما من فاحشة ومجون وشرب وقمار في فنادق مرخص لها تفتح لهم أبوابها من غروب الشمس إلى شروقها فلا يعرفون لمغربٍ وقتا ولا يسمعون لعشاءٍ أذانا ولا يعلمون لليلٍ تهجدا ولا لأسحار استغفارا ولا لفجر شهودا ... ثم يموتون نهارهم لينبعثوا من قبور فرشهم الناعمة عند الإصفرار لسهرة أخرى... أما الفقراء - فلا حول ولا قوة إلا بالله - تسول في الشوارع ومحطات السفر ، منهم المحترف الذي يسأل الناس إلحافا ، ومنهم المتعفف الجائع الذي يتخلل الدور والبيوت من أجل قطعة خبز حاف جاف ...أيتام يضطرهم العيش إلى العمل المبكر بأجور لا تغني من جوع ... مرضى يصارعون الألم في " مستشفيات " انعدم فيها كل شيء إلا الموت البطيء .. أين أنتم من الدين أيها السابحون في بحار الشهوات على مراكب الملذات وإخوانكم في البشرية يحترقون في سعير الآهات الذي تُسجره بين أضلعهم نظراتكم الساخرة وكلماتكم النابية وتكبركم البغيض ؟ صدق عليكم الرجيمُ ظنَّه ... فكلوا وتمتعوا ... واسمعوا قول المحي المميت: (ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) (الحجر : 3 ) .. وقوله سبحانه :( إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ) (محمد : 12 ..
10-دفنتم موتاكم ، ولم تعتبروا ...(1/74)
نعم ...رأينا رأي العين حال من حضره الموت:جبين يتصبب عرقاً ، عينان تدوران تبحثان عن شيء بدأ يتلاشى ، لسان يثقل حتى العجز ، سبابة ترفع في مشقة ... زفرات مؤلمة متقطعة ، أنفاس ضيقة بطيئة ، صراع مرير يعقبه هدوء تام في صفت رهيب يكسره بين حين وحين عويل امرأة أو صياح طفل ...ثم نقول: ( إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ) ... قضى فلان نحبه رحمه الله... ماتت فلانة تغمدها الله برحمته ... بكاء ... دموعه من جمر تلهب العين وتحرق الخذ .. حزن يغشى القلوب كليْل اشتد ظلامه ...
ويُبدأ تجهيز الجنازة ..غسل وكفن وحنوط ... ثم نعش تحمله الأكتاف ... تكبيرات أربع ... ويُشرع في الدفن .
= بسم الله وفي سبيل الله وعلى ملة رسول الله = ويُسوَّى اللبن على اللحد ؛ دعاء : اللهم أجرها من الشيطان ومن عذاب القبر، اللهم جاف الأرض عن جنبيها وصعِّد روحها ولقِّها منك رضوانا...ويدعو كل بما فتح عليه به بلسان خاشع يحركه قلب وجل :فهذا يقول : اللهم إنه أصبح في دمتك وحبل جوارك فوسع مدخله وأكرم نزله ؛ وهذا يقول : اللهم أبدله أهلا خيرا من أهله ودارا خيرا من داره...اللهم لا تفتنا بعده ولا تحرمنا أجره...والجميع يأملون الرجوع بقيراطين من الأجر...
ويقف عبدُُ ممن حضر يذكِّر الناس لعلهم يذَّكرون ... يقول بعد حمد الله الذي خلق الموت والحياة والثناء عليه بما هو أهله ، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه ، يقول :
* قال النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم : إن القبر أول منازل الآخرة فإن نجا منه فما بعده أيسر منه وإن لم ينج منه فما بعده أشد منه ... - رواه الترمذي والبيهقي والحاكم عن عثمان بن عفان. وحسنه الألباني -(1/75)
نعم إن القبر عتبة الدار الآخرة ...وتقطع كلامَ الواعظ عبرةٌ خانقة ... ثم يربط جأشه ويستأنف قائلا : وكان عثمان بن عفان رضي الله عنه إذا وقف على قبر يبكي حتى يبل لحيته ؛ فقيل له تذكُر الجنةَ والنار ولا تبكي وتبكي من هذا ؟ قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن القبر أول منازل الآخرة فإن نجا منه فما بعده أيسر منه وإن لم ينج منه فما بعده أشد منه... قال ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما رأيت منظرا قط إلا والقبر أفظع منه .. - رواه الترمذي وقال حديث حسن غريب - ويردد قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما رأيت منظرا قط إلا والقبر أفظع منه .. فتضيق الصدور وتنكمش القلوب وتذرف العيون دمعا غزيرا يبتل منه الثرى ...ويستمر الواعظ ، يقولبقول رسول الرحمةصلى الله عليه وسلم : أي إخواني لمثل هذا اليوم فأعدوا - رواه أحمد وابن ماجه والبيهقي- ويكرر: يا إخواني لمثل هذا فأعدوا ... لمثل هذا فأعدوا ... لمثل هذا فأعدوا ... ويَبكي ويُبكي...
حتى إذا فُرغ من دفن الميت ، وقف الواعظ عليه عملاً بسنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال: استغفروا لأخيكم وسلوا له التثبيت فإنه الآن يُسأل... رواه أبو داود .
وينتهى الدفن فيغادر المشيِّعون المقابر ، تناديهم دنياهم أن أسرعوا ..أسرعوا ... فالحياة مستمرة .. فيسرع كل لحال سبيله ... فمن تبعك أيها الذي بقيت وحدك ؟ غادرت الأحباب فغادروك ولوحشة اللحد وغربته وظلمته تركوك ...
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم *يتبع الميت ثلاثة أهله وعمله وماله فيرجع اثنان ويبقى واحد يرجع أهله وماله ويبقى عمله . - رواه الشيخان وأحمد والترمذي والنسائي ... عن أنس .(1/76)
أما المال فيسمى باسم جديد : تركة تقسم ، للذكر مثل حظ الأنثيين ...وأما الأهل فينهمك كل في شغله بعد أمسية عزاء يجتمعون لها ، يأكلون ويشربون ، ويتحدثون ليلا طويلا .. يقطع حديثهم بين الفينة والآخري ما يتلوه مرتزقة قراء الموتى من آيات يردفونها بأدعية مدارها على طلب الرحمة والمغفرة للميت ، والصبر والسلوان لذويه.. ثم تجف العيون وتهدأ الحناجر وتسكن النفوس وتطمئن القلوب... و ينسى كل شيء...وأول ما تنسى كلمات الواعظ ...لا أحد يتساءل :هل نجا الميت من القبر ؟وكيف النجاة منه يا ترى ؟ لا أحد يسأل نفسه :ماذا أعد ليومه هو ؛ الآتي القريب ؟ هل تزود خير الزاد لسفره الطويل ؟ هل سيتوفاه اللهُ مع الأبرار يسألون الله له المغفرة والثبات ؟ هل أحسن وأصلح ذاك الذي سيبقى معه أم فرط وضيع ويُفني العمرَ القصيرَ في الكد الكديد للآخريْن الذيْن يرجعان ؟ قليل مَن يُرهق باله بهذه الأسئلة ... فأين الإعتبار من دفن الأموات ؟ ...
أي إخواني لمثل هذا اليوم فأعدوا... أعدوا العدة النافعة .. كفى تسويفا فالمنايا لا تأتي إلا بغتة .. وليتدبَّر الغافلون قولَ الباعث الوارث سبحانه :( أَلْهَاكُمُ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ *كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ *لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ*ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ * ) سورة التَّكَاثُرُ ...
خاتمة : لما سأل الناس إبراهيم بن أدهم رحمه الله عن سبب عدم استجابة الدعاء ، قال : ماتت قلوبكم عن عشرة أشياء :
1- عرفتم الله ، ولم تؤدوا حقه .
2- قرأتم كتاب الله ، ولم تعملوا به .
3- ادعيتم حب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم ، وتركتكم سنته .
4- علمتم عداوة الشيطان لكم ، ووافقتموه .
5- قلتم نحب الجنة ، ولم تعملوا لها .(1/77)
6-قلتم نخاف النار ، ورهنتم أنفسكم بها .
7- تعرفون أن الموت حق ، ولا تستعدون له .
8- اشتغلتم بعيوب إخوانكم ، ونبذتم عيوبكم .
9- أكلتم نِعم ربكم ، ولم تشكروا له .
10-دفنتم موتاكم ، ولم تعتبروا ...
وكان هذا شرح بسيط لهذه الكلمة نسأل الله المغفرة لقائلها ، وندعوه هو ربنا العلي العظيم بأنه البر الرحيم ونسأله أن يحيي قلوبنا بذكره وأن يعيننا على أداء حقه كما يحب ويرضى، وأن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه نقرأ القرآن ونعمل به ، وأن يملأ قلوبنا بحبه وحب رسوله متمسكين بهديه مطيعين لأمره ونهيه سالكين المحجة البيضاء التي ترك عليها أمته ، كما نسأل الله أن يجعلنا من عباده الذين اتخذوا الشيطان عدوا فأخلصهم ولم يجعل للمريد عليهم سلطانا ، وأن ييسر لنا سعي الآخرة وكل ما يقرب من الجنة من قول وعمل ، وأن يجنبنا سبل الضلال وطرق الغواية حتى يزحزحنا غدا عن النار ، وأن يجعلنا من ذاكري هادم اللذات الذين يستعدون لحضوره بالإيمان الثابت والعمل الصالح ، وأن يشغلنا بتغيير ما بأنفسنا إلى الخير بتخليتها من العيوب وتحليتها بالمحبوب عنده سبحانه هو علام الغيوب ، وأن يلهمنا شكر نعمه فيجعلنا من الشاكرين ، وأن يفتح صدورنا للإعتبار من دفن موتانا وزيارة القبور ...
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ
كان الفراغ منه والحمد لله رب العالمين
يوم 2 ربيع الثاني 1427
أبو يوسف محمد زايد(1/78)