الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد:
فإن حق الوالدين عظيم، ومنزلتهما عالية في الدين؛ فبرّهما قرين التوحيد، وشكرهما مقرون بشكر الله _عز وجل_ والإحسان إليهما من أجل الأعمال، وأحبها إلى الكبير المتعال.
قال الله_عز وجل_:[وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً] (النساء:36).
وقال الله_عز وجل_:[قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً] (الأنعام:151).
وقال_تبارك وتعالى_:[وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً] (الإسراء:23 ،24).
وقال_عز وجل_:[وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنْ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ] (لقمان:14).
ثم إن الأحاديث في هذا السياق كثيرة جداً، منها ما رواه ابن مسعود_رضي الله عنه_قال:سألت رسول الله ": =أي العمل أحبُّ إلى الله ؟ قال: =الصلاة في وقتها+ قلت:ثم أيُّ ؟ قال: =بر الوالدين+ قلت:ثم أيّ ؟ قال: =الجهاد في سبيل الله+ (1).
ثم إن بر الوالدين مما أقرته الفطر السوية، واتفقت عليه الشرائع السماوية، وهو خلق الأنبياء، ودأب الصالحين.
كما أنه دليل على صدق الإيمان، وكرم النفس، وحسن الوفاء.
وبرّ الوالدين من محاسن الشريعة الإسلامية؛ ذلك أنه اعتراف بالجميل، وحفظ للفضل، وعنوان على كمال الشريعة، وإحاطتها بكافة الحقوق.(1/1)
بخلاف الشرائع الأرضية التي لا تعرف للوالدين فضلاً، ولا ترعى لهما حقَّاً، بل إنها تتنكر لهما، وتزري بهما.
وها هو العالم الغربي بتقدمه التكنولوجي شاهد على ذلك؛ فكأن الأم في تلك الأنظمة آلةً إذا انتهت مدة صلاحيتها ضرب بها وجهُ الثرى.
وقصارى ما تَفَتَّقَتْ عنه أذهانهم من صور البر أن ابتدعوا عيداً سنوياً سموه:(عيد الأم).
حيث يُقدِّم الأبناء والبنات في ذلك اليوم إلى أمهاتهم طاقات الورد معبرين لهن عن الحب والبرِّ.
هذا منتهى ما توصولوا إليه من البر، يوم في السنة لا غير!
أين الرعاية ؟ أو أين الترحم ؟ أو أين الوفاء ؟ !
لا علم لهم بتلك المعاني الشريفة الفاضلة، ولا حظّ لها عندهم.
أما حق الوالدين في الإسلام فقد مرّ بك شيء منه، وليس ذلك فحسب، بل إن الإسلام نهى عن العقوق، وحذر منه أشد التحذير، فهو كبيرة من الكبائر، وهو قرين للشرك.
ويكفي في ذلك قوله_تعالى:[فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا] (الإسراء:23).
فما بالك بما فوق كلمة =أف+ .
والأحاديث في هذا السياق كثيرة جداً، ومنها ما جاء في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص_رضي الله عنهما_عن النبي " قال: =الكبائر:الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، واليمين الغموس(2)+ .
ومع تلك المكانة للوالدين، وبرغم ما جاء من الأمر الأكيد في برهما، والزجر الشديد في النهي عن عقوقهما إلا أن فئاماً من الناس قد نسيت حظَّاً مما ذُكِّرت به، فلم تَرْعَ حق الوالدين، ولم تبالِ بالعقوق.
والحديث في الصفحات التالية سيدور حول الأمور الآتية:
_ تعريف العقوق.
_ من مظاهر عقوق الوالدين.
_ نماذج من قصص العقوق.
_ أسباب العقوق.
_ سبل العلاج.
_ تعريف البر بالوالدين.
_ الآداب التي تراعى مع الوالدين.
_ الأمور المعينة على البر.
_ بين الزوجة والوالدين.
_ نماذج من قصص البر.(1/2)
وأخيراً أسأل الله بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى_أن يجعلنا من الأتقياء الأبرار، والأصفياء الأخيار، إنه وليُّ ذلك والقادر عليه.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
محمد بن إبراهيم الحمد
الزلفي ص.ب: 460
www.toislam.net
العقوق ضدُّ البر، قال ابن منظور×: =وعقَّ والدَه يَعَقُّه عقّاً وعقوقاً ومعقَّةً:شق عصا طاعته، وعق والديه:قطعهما ولم يصل رحمه منهما+ (3).
وقال: =وفي الحديث أنه " نهى عن عقوق الأمهات وهو ضد البر، وأصله من العق:الشق والقطع+ (2).
عقوق الوالدين يأخذ مظاهر عديدة، وصوراً شتى، منها ما يلي (4):
1_إبكاء الوالدين وتحزينهما:سواء بالقول أو الفعل، أو بالتسبب في ذلك.
2_ نهرهما وزجرهما: ذلك برفع الصوت؛ والإغلاظ عليهما بالقول. قال_تعالى:[وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً] (الإسراء:23).
3_التأفف، والتضجر من أوامرهما:وهذا مما أدبنا الله_عز وجل_بتركه؛ فكم من الناس مَنْ إذا أمر عليه والداه_صدَّر كلامه بكلمة =أف+ ولو كان سيطيعهما، قال_تعالى_[فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ] (الإسراء:23).
4_العبوس، وتقطيب الجبين أمامهما:فبعض الناس تجده في المجالس بشوشاً، مبتسما ً، حسن الخلق، ينتقي من الكلام أطايبه، ومن الحديث أعذبه؛ فإذا ما دخل المنزل، وجلس بحضرة الوالدين انقلب ليثاً هصوراً لا يلوي على شيء، فتبدَّلتْ حاله، وذهبت وداعته، وتولت سماحته، وحلت غلظته وفظاظته وبذاءته، يصدق على هذا قول القائل:
من الناس من يصل الأبعدين
ويشقى به الأقربُ الأقربُ
5_النظر إلى الوالدين شزرًا: وذلك برمقهما بحنق، والنظر إليهما بازدراء واحتقار.
قال معاوية بن إسحاق عن عروة بن الزبير قال: =ما برَّ والدَه من شدَّ الطرفَ إليه+ (5).
6_الأمر عليهما:كمن يأمر والدته بكنس المنزل، أو غسل الثياب، أو إعداد الطعام؛ فهذا العمل لا يليق خصوصاً إذا كانت الأم عاجزةً، أو كبيرةً، أو مريضة.(1/3)
أما إذا قامت الأم بذلك بطوعها، وبرغبة منها وهي نشطة غير عاجزة_فلا بأس في ذلك، مع مراعاة شكرها، والدعاء لها.
7_انتقاد الطعام الذي تعده الوالدة:وهذا العمل فيه محذوران، أحدهما:عيب الطعام، وهذا لا يجوز؛ فرسول الله " ما عاب طعاماً قط، إن أعجبه أكل، وإلا تركه.
والثاني:أن فيه قلة أدب مع الأم، وتكديراً عليها.
8_ترك مساعدتهما في عمل المنزل:سواء في الترتيب والتنظيم، أو في إعداد الطعام، أو غير ذلك.
بل إن بعض الأبناء_هداهم الله_يعد ذلك نقصاً في حقه وهضماً لرجولته.
وبعض البنات_هداهن الله_ترى أمَّها تعاني وتكابد العمل داخل المنزل_فلا تعينها.
بل إن بعضهن تقضي الأوقات الطويلة في محادثة زميلاتها عبر الهاتف، تاركة أمَّها تعاني الأمَرَّيْن.
9_الإشاحة بالوجه عنهما إذا تحدثا:وذلك بترك الإصغاء إليهما، أو المبادرة إلى مقاطعتهما أو تكذيبهما، أو مجادلتهما، والاشتداد في الخصومة والملاحاة معهما.
فكم في هذا العمل من تحقير لشأن الوالدين، وكم فيه من إشعار لهما بقلة قدرهما.
10_قلة الاعتداد برأيهما:فبعض الناس لا يستشير والديه، ولا يستأذنهما في أي أمرٍ من أموره، سواء في زواجه، أو طلاقه، أو خروجه من المنزل والسكنى خارجه، أو ذهابه مع زملائه لمكان معين، أو نحو ذلك.
11_ترك الاستئذان حال الدخول عليهما:وهذا مما ينافي الأدب معهما، فربما كانا أو أحدهما في حالة لا يرضى أن يراه أحد عليها.
12_إثارة المشكلات أمامهما:سواء مع الإخوان أو الزوجة، أو الأولاد أو غيرهم.
فبعض الناس لا يطيب له معاتبة أحدٍ من أهل البيت على خطأ ما_إلا أمام والديه، ولا شك أن هذا الصنيع مما يقلقهما، ويُقِضُّ مضجعهما.(1/4)
13_ذم الوالدين عند الناس والقدح فيهما، وذكر معايبهما:فبعض الناس إذا أخفق في عمل ما_كأن يخفق في دراسته مثلاً_ألقى باللائمة والتبعة على والديه، ويبدأ يسوغ إخفاقه ويلتمس المعاذير لنفسه بأن والديه أهملاه،ولم يربياه كما ينبغي، فأفسدا عليه حياته، وحطما مستقبله، إلى غير ذلك من ألوان القدح والعيب.
14_شتمهما، ولعنهما:إما مباشرة، أو بالتسبب في ذلك؛ كأن يشتم الابن أبا أحدٍ من الناس أو أمه، فيرد عليه بشتم أبيه وأمِّه.
فعن عبد الله بن عمرو_رضي الله عنهما_أن رسول الله " قال: =من الكبائر شتم الرجل والديه+ قيل:وهل يَشْتِم الرجل والديه ؟ ! قال:+ نعم ! يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمَّه فيسب أمه+ (6).
15_إدخال المنكرات للمنزل:كإدخال آلات اللهو والفساد للبيت، مما يتسبب في فساد الشخص نفسه، وربما تعدى ذلك إلى فساد إخوته وأهل بيته عموماً، فيشقى الوالدان بفساد الأولاد، وانحراف الأسرة.
16_مزاولة المنكرات أمام الوالدين:كشرب الدخان أمامهما، أو استماع آلات اللهو بحضرتهما، أو النوم عن الصلاة المكتوبة، ورفض الاستيقاظ لها إذا أوقظاه، وكذلك إدخال رفقة السوء للمنزل؛ فهذا كله دليل على التمادي في قلة الحياء مع الوالدين.
17_تشويه سمعة الوالدين:وذلك باقتراف الأعمال السيئة، والأفعال الدنيئة، التي تخل بالشرف، وتخرم المروءة، وربما قادت إلى السجن والفضيحة، فلا شك أن هذا من عقوق الوالدين؛ لأنه يجلب لهما الهم، والغم، والخزي، والعار.
18_إيقاعهما في الحرج:كحال من يستدين أموالاً، ثم لا يسددها، أو يقوم بالتفحيط، أو يسيء الأدب في المدرسة؛ فتضطر الجهات المسؤولة إلى إحضار الوالد في حالة فقدان الولد، أو إساءته للأدب.
وربما أُوقِفَ الوالد ريثما يسدد الولد دينه، أو يحضر ويسلم نفسه.(1/5)
19_المكث طويلاً خارج المنزل:وهذا مما يقلق الوالدين ويزعجهما على الولد، ثم إنهما قد يحتاجان للخدمة، فإذا كان الولد خارج المنزل لم يجدا من يقوم على خدمتهما.
20_الإثقال عليهما بكثرة الطلبات:فمن الناس من يثقل على والديه بكثرة طلباته، مع أن الوالدين قد يكونان قليلي ذات اليد، ومع ذلك ترى الولد يُلِحُّ عليهما بشراء سيارة له، وبأن يزوجاه، ويوفرا له مسكناً جديداً، أو بأن يطلب منهما مالاً كثيراً ؛ كي يساير زملاءه وأترابه.
21_إيثار الزوجة على الوالدين:فبعض الناس يقدم طاعة زوجته على طاعة والديه، ويُؤثرها عليهما، فلو طلبت منه أن يطرد والديه لطرَدَهما ولو كانا بلا مأوى.
وترى بعض الأبناء يبالغ في إظهار المودة للزوجة أمام والديه، وتراه في الوقت نفسه يغلظ على والديه، ولا يرعى حقهما.
وسيأتي مزيد بيان لهذه المسألة في الصفحات التالية.
22_التخلي عنهما وقت الحاجة أو الكبر:فبعض الأولاد إذا كبر وصار له عمل يتقاضى مقابله مالاً تخلى عن والديه، واشتغل بخاصة نفسه.
23_التبرؤ منهما، والحياء من ذكرهما، ونسبته إليهما:وهذا من أقبح مظاهر العقوق، فبعض الأولاد ما إن يرتفع مستواه الاجتماعي، أو يترقى في الوظائف الكبيرة إلا ويتنكر لوالديه، ويتبرأ منهما، ويخجل من وجودهما في بيته بأزيائهما القديمة.
وربما لو سئل عنهما لقال:هؤلاء خدم عندنا !.
وبعضهم يرفض أن يذكر اسم والده في الولائم والمناسبات العامة؛ خجلاً من ذلك ! وهذا العمل_بلا ريب_دليل على ضعة النفس، وصغر العقل، وحقارة الشأن، وضيق العطن.
وإلا فالنفس الكريمة الأبية تعتز بمنبتها، وأرومتها، وأصلها، والكرام لا ينسون الجميل.
إن الكرام إذا ما أيسروا ذكروا
من كان يألفهم في المنزل الخشن
24_التعدي عليهما بالضرب:وهذا العمل لا يصدر إلا من غلاظ الأكباد، وقساة القلوب، الذين خلت قلوبهم من الرحمة والحياء، وخوت نفوسهم من أدنى مراتب المروءة والنخوة والشهامة.(1/6)
25_إيداعهم دور العجزة والملاحظة:وهذا الفعل غاية في البشاعة، ونهاية في القبح والشناعة، يقشعر لهوله البدن، ويَقِفُّ لخطبه شعر الرأس، والذي يفعله لا خير فيه البتة.
26_هجرهما، وترك برهما ونصحهما إذا كانا متلبسين ببعض المعاصي:وهذا خلل وخطل؛ فبر الوالدين واجب ولو كانا كافرين، فكيف إذا كانا مسلمين، وعندهما بعض التقصير ؟ !
27_البخل والتقتير عليهما:فمن الناس من يبخل على والديه، ويقتر عليهما في النفقة.
وربما اشتدت حاجتهما إلى المال، ومع ذلك لا يعبأ ولا يبالي بهما.
28_المنة وتعداد الأيادي على الوالدين:فمن الناس من قد يبر والديه، ولكنه يفسد ذلك بالمنّ والأذى، وتعداد الأيادي، وذكر ذلك البر بمناسبة وبدون مناسبة.
29_السرقة من الوالدين:وهذا الأمر جمع بين محذروين، السرقة والعقوق؛ فتجد من الناس من يحتاج للمال، فيقوده ذلك إلى السرقة من والديه إما لكبرهما، أو لغفلتهما.
ومن صور السرقة أن يخدع أحد والديه، فيطلب منه أن يوقع على إعطائه كذا وكذا من المال أو الأرض أو نحو ذلك.
وقد يستدين منهما، وهو مُبَيِّتٌ النيةَ على ألا يسدد.
30_الأنين وإظهار التوجع أمامهما:وهذا الأمر من أدس صور العقوق؛ ذلك أن الوالدين_وخصوصًا الأم_يقلقان لمصاب الولد، ويتألمان لألمه؛ بل ربما يتألمان أكثر منه.
31_التغرب عن الوالدين دون إذنهما، ودون الحاجة إلى ذلك:فبعض الأبناء لا يدرك أثر بعده عن والديه؛ فتراه يسعى للغربة والبعد عن الوالدين دون أن يستأذنهما، ودون أن يحتاج إلى الغربة؛ فربما ترك البلد الذي يقطن فيه والداه دون سبب، وربما تغرّب للدراسة في بلد آخر مع أن تلك الدراسة ممكنة في البلد الذي يسكن فيه والداه إلى غير ذلك من الأسباب التي لا تُسوغ غربته.
وما علم أن اغترابه عن والديه يسبب حسرتهما، وقلقهما عليه، وما علم أنه ربما مات والداه أو أحدهما وهو بعيد عنهما باختياره؛ فيخسر بذلك برّهما، والقيام عليهما.(1/7)
أما إذا احتاج الابن إلى الغربة، واستأذن والديه فيها_فلا حرج عليه.
32_تمني زوالهما:فبعض الأولاد يتمنى زوال والديه؛ ليرثهما إن كانا غنيَّين، أو يتخلص منهما إن كانا مريضين أو فقيرين، أو لينجو من مراقبتهما ووقوفهما في وجهه كي يتمادى في غيِّه وجهله.
33_قتلهما والتخلص منهما:فقد يحصل أن يشقى الولد، فيقدم على قتل أحد والديه؛ إما لِسَوْرَةِ جهل، أو ثورة غضب، أو أن يكون في حال سكر، أو طمعًا في الميراث، أو غير ذلك.
فيا لشؤم هذا، ويا لسواد وجهه، ويا لسوء مصيره وعاقبته، إن لم يتداركه الله برحمته.
هذه بعض المظاهر والصور لعقوق الوالدين، ذلك العمل القبيح، والمسلك الشائن، الذي لا يليق بأولي الألباب، ولا يصدر من أهل التقى والصلاح والرشاد.
فما أبعد الخير عن عاق والديه، وما أقرب العقوبة منه، وما أسرع الشر إليه.
وهذا أمر مشاهد محسوس، يعرفه كثير من الناس، ويرون بأم أعينهم، ويسمعون قصصاً متواترة لأناس خذلوا وعوقبوا؛ بسبب عقوقهم لوالديهم.
1_قال الأصمعي: =أخبرني بعض العرب أن رجلاً كان في زمن عبد الملك بن مروان، وكان له أب كبير، وكان الشاب عاقَّاً بأبيه، وكان يقال للشاب =منازل+ فقال الشيخ:
جزت رحمُ بيني وبين منازل
جزاءاً كما يستنجز الدينَ طالبهُ
تربَّت(7) حتى صار جعداً(2) شَمَرْدلاً(3)
إذا قام ساوى غارب الفحل غاربُه
تظلََّّمني مالي كذا ولوى يدي
لوى يده الله الذي لا يغالبُه
وإني لداعٍ دعوةً لو دعوتها
على جبل الريان لانهدَّ جانبُه
فبلغ ذلك أميراً كان عليهم، فأرسل إلى الفتى؛ ليأخذه، فقال له الشيخ:أخرج من خلف البيت، فسبق رسلَ الأمير، ثم ابتلي الفتى بابن عقَّه في آخر حياته، فقال:
تظلَّمني مالي خليجٌ(4) وعقَّني
على عين كانت كالحنِّي عظام
تخيَّرته وازددته ليزيدني
وما بعض ما يزداد غيرُ عَرام5
لعمري لقد ربَّيته فرحاً به
فلا يفرحن بعدي امرؤ بغلام(1/8)
فأراد الوالي ضربه، فقال الابن للوالي:لا تعجل عليَّ، هذا منازل ابن فرعان الذي يقول فيه أبوه:
جزت رحم بيني وبين منازل
جزاءًا كما يستنجز الدينَ طالبه
فقال الوالي: =يا هذا عقَقْتَ وعُقِقْتَ+ .
2_وقال آخر يشكوه بثَّه وحزنه، ويعاتب ولده الذي عقّه:
غذوتك مولوداً ومنتُك يافعاً
تُعَلُّ بما أجني عليك وتنهلُ
إذا ليلةٌ نالتك بالشَّكْوِ لم أبِتْ
لشكواك إلا ساهراً أتململُ
كأني أنا المطروق دونك بالذي
طُرقتَ به دوني وعيني تهملُ
تخاف الردى نفسي عليك وإنها
لتعلم أن الموت وقتٌ مؤجلُ
فلما بلغت السنَّ والغاية التي
إليها مدى ما كنت فيك أؤملُ
جعلتَ جزائي غلظةً وفظاظةً
كأنك أنت المنعمُ المتفضلُ
فليتك إن لم ترع حقَّ أبُوتَّي
فعلتَ كما الجار المجاور يفعلُ
فأوليتني حقَّ الجوارِ ولم تكن
عليَّ بمالي دون مالك تبخلُ
تراه مُعِداً للخلاف كأنَّه
بردٍّ علي أهل الصواب موكَّلُ
3_ويقول الدكتور محمد الصباغ: =سمعت أن واحدًا من الساقطين من الأبناء حمل أباه إلى مأوى العجزة، لكيلا يضايقَه أو يزعجَ زوجته+ (12).
4_ويقول الأستاذ عبدالرؤوف الحناوي×: =كان لي قريب، ترك له والده أموالاً نقديةً ذهبيةً طائلةً، وعقارات متعددة، وكان من عيون التجار، غضبت عليه أمُّه يومًا، ودعت عليه دعوةً مرةً قاسيةً، وإذا بالسوء يحيق به من جرّائها؛ لقد مات فقيرًا؛ مع أنه لم يسلك سبل الفواحش والمحرمات أبدًا.
وكان أبي× يتصدق عليه، ويرسلني بالطعام من دارنا إليه وإلى زوجته وأولاده+ (13).
لعقوق الوالدين أسبابٌ كثيرة منها:
1_الجهل:فالجهل داء قاتل، والجاهل عدو لنفسه، فإذا جهل المرء عواقب العقوق العاجلة والآجلة، وجهل ثمرات البر العاجلة والآجلة_قاده ذلك إلى العقوق، وصرفه عن البر.
2_سوء التربية:فالوالدان إذا لم يربيا أولادهما على التقوى، والبر والصلة، وتطلاب المعالي_فإن ذلك سيقودهم إلى التمرد والعقوق.(1/9)
3_التناقض:وذلك إذا كان الوالدان يعلِّمان الأولاد، وهما لا يعملان بما يُعَلِّمان، بل ربما يعملان نقيض ذلك، فهذا الأمر مدعاة للتمرد والعقوق.
4_الصحبة السيئة للأولاد:فهي مما يفسد الأولاد، ومما يجرؤهم على العقوق.
كما أنها ترهق الوالدين، وتضعف أثرهم في تربية الأولاد.
5_عقوق الوالدين لوالديهم:فهذا من جملة الأسباب الموجبة للعقوق؛ فإذا كان الوالدان عاقين لوالديهم عوقبا بعقوق أولادهما_في الغالب_وذلك من جهتين:
أولاهما:أن الأولاد يقتدون بآبائهم في العقوق.
وآخرهما:أن الجزاء من جنس العمل.
6_قلة تقوى الله في حالة الطلاق:فبعض الوالدين إذا حصل بينهما طلاق لا يتقيان الله في ذلك، ولا يحصل الطلاق بينهما بإحسان.
بل تجد كلَّ واحد منهما يغري الأولاد بالآخر، فإذا ذهبوا للأم قامت بذكر مثالب والدهم، وبدأت توصيهم بصرمه وهجره، وهكذا إذا ذهبوا إلى الوالد فعل كفعل الوالدة.
والنتيجة أن الأولاد سيعقون الوالدين جميعًا، والوالدان هما السبب كما قال أبو ذؤيب الهذلي:
فلا تغضبَنْ في سيرةٍ أنت سرتَها
وأول راضٍ سُنَّةً من يسيرها
7_التفرقة بين الأولاد:فهذا العمل يورث لدى الأولاد الشحناء والبغضاء، فتسود بينهم روح الكراهية، ويقودهم ذلك إلى بغض الوالدين وقطيعتهما.
8_إيثار الراحة والدعة:فبعض الناس إذا كان لديه والدان كبيران أو مريضان_رغب في التخلص منهما، إما بإيداعهما دور العجزة، أو بترك المنزل والسكنى خارجه، أو غير ذلك؛ إيثارًا للراحة_كما يزعم_وما علم أن راحته إنما هي بلزوم والديه، وبرهما.
9_ضيق العطن:فبعض الأبناء ضيِّقُ العطن، فلا يريد لأحد في المنزل أن يخطئ أبدًا، فإذا كسرت زجاجة، أو أفسد أثاث المنزل_غضب لذلك أشد الغضب، وقلب المنزل رأسًا على عقب.
فهذا مما يزعج الوالدين، ويكدر صفوهما.(1/10)
كذلك قد تجد بعض الأبناء يأنف من أوامر والديه، خصوصاً إذا كان الوالدان أو أحدهما فظّاً غليظًا، فتجد الولد يضيق بهما ذرعاً، ولا يتسع صدره لهما.
10_قلة إعانة الوالدين لأولادهما على البر:فبعض الوالدين لا يعين أولاده على البر، ولا يشجعهم على الإحسان إذا أحسنوا.
فحق الوالدين عظيم، وهو واجب بكل حال.
لكنَّ الأولاد إذا لم يجدوا التشجيع، والدعاء، والإعانة من الوالدين_ربما ملَّوا، وتركوا بر الوالدين، أو قصَّروا في ذلك.
11_سوء خلق الزوجة:فقد يبتلى الإنسان بزوجة سيئة الخلق، لا تخاف الله، ولا ترعى الحقوق، فتكون شجىً في حلقه، فتجدها تغري الزوج، بأن يتمرد على والديه، أو يخرجهما من المنزل، أو يقطع إحسانه عنهما؛ ليخلو لها الجو بزوجها، وتستأثر به دون غيره.
12_قلة الإحساس بمصاب الوالدين:فبعض الأبناء لم يجرب الأُبوَّة، وبعض البنات لم تجرب الأمومة، فتجد من هذه حاله لا يأبه بوالديه؛ سواء إذا تأخر بالليل، أو إذا ابتعد عنهما، أو أساء إليهما.
هذه بعض الأسباب التي تؤدي إلى عقوق الوالدين.
قد مرّ بنا عظم حق الوالدين، والترغيب في برهما، والترهيب من عقوقهما، ومرّ شيء من مظاهر العقوق، وصوره، وقصصه، وأسبابه.
وإذا كان الأمر كذلك_فما أحرى بذي اللب أن يحرص كل الحرص على بر والديه، وأن يتجنب عقوقهما؛ رغبة بما عند الله من جزيل الثواب، ورهبة مما لديه من شديد العقاب، العاجل والآجل.
فما بر الوالدين ؟ وما الآداب التي ينبغي مراعاتها معهما ؟ وما الأمور المعينةُ على البر ؟
بر الوالدين ضد العقوق، قال ابن منظور×: =والبر ضد العقوق، والمبَرَّةُ مثله، وبَرِرْت والديْ:بالكسر أبَرُّه برَّاً، وقد بر َّ والدَه يَبَرُّه ويَبِره بِرَّاً، فَيَبَرُّ على بَرِرْتُ، ويَبِر على بَرَرْتُ+ .
وقال: =ورجل برٌّ من قوم أبرار، وبارٌّ من قوم بررة، وروي عن ابن عمر أنه قال:إنما سماهم الله أبرارًا لأنهم بروا الآباء والأبناء.(1/11)
وقال:كما أن لك على ولدك حقاً كذلك لولدك عليك حق+ (14).
هناك آداب ينبغي لنا مراعاتها، ويجدر بنا سلوكها مع الوالدين، لعلنا نرد لهما بعض الدَّيْن، ونقوم ببعض ما أوجب الله علينا نحوهما، كي نرضي ربنا، وتنشرح صدورنا، وتطيب حياتُنا، وتُيَسَّر أمورُنا، ويبارك الله في أعمارنا، وينسأ لنا في آثارنا(15).
فمن تلك الآداب ما يلي(16).
1_طاعتهما واجتناب معصيتهما:فيجب على المسلم طاعة والديه واجتناب معصيتهما، وأن يقدم طاعتهما على طاعة كل أحد من البشر ما لم يأمرا بمعصية الله ورسوله "، إلا الزوجة؛ فإنها تقدم طاعة زوجها على طاعة والديها.
2_الإحسان إليهما:بالقول، والفعل، وفي وجوه الإحسان كافة.
3_خفض الجناح:وذلك بالتذلل لهما، والتواضع، والتطامن.
4_البعد عن زجرهما:وذلك بلين الخطاب، والتلطف بالكلام، والحذر كل الحذر من نهرهما، ورفع الصوت عليهما.
5_الإصغاء إليهما:وذلك بالإقبال عليهما بالوجه إذا تحدثا، وترك مقاطعتهما أو منازعتهما الحديث، والحذر كل الحذر من تكذيبهما، أو رد حديثهما.
6_الفرح بأوامرهما، وترك التضجر والتأفف منهما:كما قال_عز وجل_:[فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما].
7_التطُّلق لهما:وذلك بمقابلتهما بالبشر والترحاب، بعيدًا عن العبوس، وتقطيب الجبين.
8_التودد لهما، والتحبب إليهما:ومن ذلك مبادأتهما بالسلام، وتقبيل أيديهما، ورؤوسهما، والتوسيع لهما في المجلس، وألا يمدّ يده إلى الطعام قبلهما، وأن يمشي خلفهما في النهار، وأمامها في الليل خصوصًا إذا كان الطريق مظلماً أو وَعِراً، أما إذا كان الطريق واضحاً سالكاً فلا بأس أن يمشي خلفهما.
9_الجلوس أمامهما بأدب واحترام:وذلك بتعديل الجِلْسة، والبعد عمّا يشعرهما بإهانتهما من قريب أو بعيد، كمدِّ الرِّجْل، أو القهقهة بحضرتهما، أو الاضطجاع، أو التعرِّي، أو مزاولة المنكرات أمامهما، أو غير ذلك مما ينافي كمال الأدب معهما.(1/12)
10_تجنب المنة في الخدمة أو العطية:فالمنة تهدم الصنيعة، وهي من مساوئ الأخلاق، ويزداد قبحها إذا كانت في حق الوالدين.
فعلى الولد أن يقدم لوالديه ما يستطيع، وأن يعترف بالتقصير، ويعتذر عن عدم استطاعته أن يوفي والديه حقهما.
11_تقديم حقّ الأم:فمما ينبغي مراعاته_أيضًا_تقديم بر الأم، والعطف عليها، والإحسان لها على بر الأب، والعطف عليه، والإحسان إليه، وذلك لما جاء في حديث أبي هريرة_رضي الله عنه_قال: =جاء رجل إلى النبي " فقال:يا رسول الله مَن أولى الناس بحسن صحابتي ؟ قال:أمك، قال:ثم من ؟ قال:أمك، قال:ثم من ؟ قال:أمك، قال:ثم من ؟ قال:أبوك+ (17).
قال ابن بطال× عند شرحه لهذا الحديث: =مقتضاه أن يكون للأم ثلاثة أمثال ما للأب من البر، قال:وذلك لصعوبة الحمل، ثم الوضع، ثم الرضاع، فهذا تنفرد به الأم وتشقى به، ثم تشارك الأب في التربية+ (18).
قد يقال:الأم تقدم وتفضل بالبر والإحسان والعطف؛ والأب يقدم في الطاعة؛ لأن الأب رب المنزل، وقائد السفينة.
12_مساعدتهما في الأعمال:فلا يليق بالولد أن يرى والديه يعملان وهو ينظر إليهما دون مساعدة لهما.
13_البعد عن إزعاجهما:سواء إذا كانا نائمين، أو إزعاجهما بالجلبة ورفع الصوت، أو بالأخبار المحزنة أو غير ذلك من ألوان الإزعاج.
14_تجنب الشجار وإثارة الجدل أمامهما:وذلك بالحرص على حل المشكلات مع الأخوة وأهل البيت عمومًا بعيدًا عن أعينهما.
15_تلبية ندائهما بسرعة:سواء كان الإنسان مشغولاً أم غير مشغول؛ فبعض الناس إذا ناداه أحد والديه وكان مشغولاً_تظاهر بأنه لم يسمع الصوت، وإن كان فارغاً أجابهما.
أصمٌّ عن الأمر الذي لا أريده
وأسْمع خلقِِِ الله حين أريدُ
فاللائق بالولد أن يجيب والديه حال سماعه النداءَ.
16_تعويد الأولاد على البر:وذلك بأن يكون المرء قدوة لهما، وأن يسعى قدر المستطاع لتوطيد العلاقة بين أولاده وبين والديه.(1/13)
17_إصلاح ذات البين إذا فسدت بين الوالدين:فمما يجدر بالأولاد أن يقوموا به أن يصلحوا ذات البين إذا فسدت بين الوالدين، وأن يحرصوا على تقريب وجهات النظر بينهما إذا اختلفا.
18_الاستئذان حال الدخول عليهما:فربما كانا أو أحدهما على حالة لا يرضى أن يراه أحد وهو عليها.
19_تذكيرهما بالله دائمًا:وذلك بتعليمهما ما يجهلانه من أمور الدين، وأمرهما بالمعروف، ونهيهما عن المنكر إذا كان عليهما بعض مظاهر الفسق والمعصية، مع مراعاة أن يكون ذلك بمنتهى اللطف والإشفاق والشفافية، والصبر عليهما إذا لم يقبلا.
20_الاستئذان منهما، والاستنارة برأيهما:سواء في الذهاب مع الأصحاب للبرية، أو في السفر خارج البلد للدراسة ونحوها، أو الذهاب للجهاد، أو الخروج من المنزل والسكنى خارجه، فإن أذنا وإلا أقصر وترك ما يريد، خصوصًا إذا كان رأيهما له وجه، أو كان صادرًا عن علم وإدراك.
21_المحافظة على سمعتهما:وذلك بمخالطة الأخيار، والبعد عن الأشرار، وبمجانبة أماكن الشبه، ومواطن الريب.
22_البعد عن لومهما وتقريعهما:وذلك إذا صدر منهما عمل لا يرضي الولد، كتقصيرهما في التربية، وكتذكيرهما بأمور لا يحبان سماعها، مما قد بدر منهما فيما مضى.
23_العمل على ما يسرهما وإن لم يأمرا به:من رعاية للإخوة، أو صلة للأرحام، أو إصلاحات في المنزل، أو المزرعة، أو مبادرة بالهدية، أو نحو ذلك مما يسُرُّهما، ويدخل الفرح على قلبيهما.
24_فهم طبيعتهما ومعاملتهما بمقتضى ذلك:فإذا كانا، أو أحدهما غضوباً، أو فظّاً غليظاً، أو كان متصفاً بأي صفة لا ترتضى_كان جديراً بالولد أن يتفهم تلك الطبيعة في والديه، وأن يعاملهما كما ينبغي.
25_كثرة الدعاء والاستغفار لهما في حياتهما:قال الله_تعالى:[وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً] (الإسراء:24)(1/14)
وقال_تعالى:[رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِي مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ] (نوح:28).
26_برّهما بعد موتهما:فمما يدل على عظم حق الوالدين، وسعة رحمة رب العالمين_أنْ كان بر الوالدين لا ينقطع حتى بعد الممات؛ فقد يُقصِّر أحدٌ من الناس في حق والديه وهما أحياء، فإذا ماتا عضَّ يده، وقرع سنَّه؛ ندماً على تفريطه وتضييعه لحقِّ الوالدين، وتمنى أن يرجعا للدنيا؛ ليعمل معهما صالحاً غير الذي عمل.
ومن هنا يستطيع المسلم أن يستدرك ما قد فات، فيبر والديه وهما أموات، وذلك بأمور منها:
أ_أن يكون الولد صالحًا في نفسه.
ب_كثرة الدعاء والاستغفار لهما.
ج_صلة الرحم التي لا توصل إلا بهما.
د_إنفاذ عهدهما.
ه_التصدق عنهما.
هذه بعض الأمور التي يجدر بنا سلوكها في معاملة الوالدين.
برّ الوالدين نعمة من الله_عز وجل_يمنّ بها على من يشاء من عباده، وهناك أمور تعين الإنسان على بر والديه، إذا أخذ بها، وسعى إليها، فمن ذلك ما يلي(19):
1_الاستعانة بالله_عز وجل_:وذلك بإحسان الصلة به؛ عبادة، ودعاءً، والتزاماً بما شرع، عسى أن يوفقك ويعينك على برهما.
2_استحضار فضائل البر، وعواقب العقوق:فإن معرفة ثمرات البرِّ، واستحضار حسن عواقبه_من أكبر الدواعي إلى فعله، وتمثله، والسعي إليه.
كذلك النظر في عواقب العقوق، وما يجلبه من هم، وغم، وحسرة، وندامة، كل ذلك مما يعين على البر، ويُقصِر عن العقوق.
3_استحضار فضل الوالدين على الإنسان:فهما سبب وجوده في هذه الدنيا، وهما اللذان تعبا من أجله، وأولياه خالصَ الحنان والمودة، وربياه حتى كَبِر؛ فمهما فعل الولد معهما فلن يستطيع أن يوفيهما حقهما، فاستحضار هذا الأمر مدعاة للبر.
4_توطين النفس على البر:فينبغي للمرء أن يوطِّن نفسه على بر والديه، وأن يتكلف ذلك، ويجاهد نفسه عليه؛ حتى يصبح سجية له وطبعاً.(1/15)
5_تقوى الله في حال الطلاق:فعلى الوالدين إن لم يقدر بينهما وفاق، وحصل بينهما الطلاق_أن يوصي كلُّ واحدٍ منهما الأولاد ببر الآخر، وألا يقوم كل واحد منهما بتأليب الأولاد على الآخر؛ لأن الأولاد إذا ألفوا العقوق صار الوالدان ضحيةً لذلك، فَشَقُوا وأشْقَوا الأولاد.
6_صلاح الآباء:فصلاحهم سبب لصلاح أبنائهم وبرِّهم بهم.
7_التواصي بالبر:وذلك بتشجيع البررة، وتذكيرهم بفضائل البر، ونصح العاقين وتذكيرهم بعواقب العقوق.
8_إعانة الأولاد على البر:وذلك بأن ينبعث الآباء إلى إعانة أولادهم على البر، وذلك بتشجيعهم، وشكرهم، والدعاء لهم.
أعرف بعض الآباء لا يطيق أولاده، وأحفاده أن يفارقوه طرفة عين؛ حتى بعد أن تعدى المائة؛ فهم يبرونه أعظم البر، ويتنافسون في خدمته، بل ويتلذذون بذلك.
ومن أعظم الأسباب الحاملة لهم على برّ والدهم_بعد توفيق الله_أن ذلك الوالد كان نعم المعين لهم على بره، حيث كان مُحبّاً لأولاده، كثير الدعاء لهم، حريصاً على شكرهم، والثناء عليهم، وإدخال السرور على نفوسهم، ومناداتهم بأحبِّ الأسماء إليهم.
9_أن يضع الولد نفسه موضع الوالدين:فهل يسُرُّك أيها الولد غداً إذا أصابك الكبر، ووهن العظم منك، واشتعل الرأس شيباً، وعجزت عن الحراك_أن تلقى من أولادك المعاملة السيئة، والإهمال القاسي، والتنكر المحض ؟ !
10_قراءة سير البارّين والعاقّين:فسير البارّين مما يشحذ الهمة، ويذكي العزيمة، ويبعث على البر.
وقراءة سير العاقِّين، وما نالهم من سوء المصير، تُنَفِّرُ عن العقوق، وتُبَغِّض فيه، وتدعو إلى البرِّ وتُرَغِّب فيه.
12_استشعار فرح الوالدين بالبر، وحزنهما من العقوق:فلو استشعر الإنسان ذلك الأمر لانبعث إلى البر، ولا انزجر عن العقوق، وصدق من قال:
لو كان يدري الابنُ أيَّة غُصَّةٍ
قد جرَّعتْ أبويه بعد فراقه
أمٌ تهيمُ بِوجدِهِ حيرانة
وأبٌ يَسِحُّ الدمع من آماقه
يتجرعان لبينه غصص الردى
ويبوحُ ما كتماه من أشواقه(1/16)
لرثا لأمٍّ سُلَّ من أحشائها
وبكي لشيخٍ هام في آفاقه
ولبدَّل الخلقَ الأبيَّ بعطفِه
وجزاهما بالعَذْب من أخلاقه(20)
هذه الفقرة داخلة ضمن الآداب التي ينبغي ويجب مراعاتها مع الوالدين، وضمن الأمور المعينة على بر الوالدين، وقد مضى شيء من ذلك.
وإنما أفردت هذه الفقرة وحدها؛ لأهميتها، ولمسيس الحاجة إليها، ذلك أن الزوج قد يحار في التوفيق بين زوجته ووالديه؛ إذ قد يبتلى بوجود نفرة بين والديه وزوجته؛ فقد تكون زوجته قليلة الخوف من الله، محبةً للاستئثار بزوجها_كما مرّ.
وقد يكون والداه أو أحدهما ذا طبيعة حادة؛ فلا يرضيهما أحد من الناس، وربما ألحا على الابن في طلاق زوجته مع أنها لم تقترف ما يوجب ذلك.
وربما أوغرا صدره، وأشعراه بأن زوجته تتصرف فيه كما تشاء، فصدق ذلك مع أنه لم يعطها أكثر من حقها، أو أنه قد قصَّر معها.
فما الحل_إذاً_في مثل هذه الحال ؟ هل يقف الإنسان مكتوف الأيدي فلا يحرك ساكناً ؟ هل يعق والديه، ويسيء إليهما، ويسفِّه رأيهما، ويردهما بعنف وقسوة في سبيل إرضاء زوجته ؟
أو يساير والديه في كل ما يقولانه في حق زوجته، ويصدقهما في جميع ما يصدر منهما من إساءة للزوجة مع أنها قد تكون بريئة ووالداه على خطأ ؟.
لا، ليس الأمر كذلك، وإنما عليه أن يبذل جهده، ويسعى سعيه في سبيل إصلاح ذات البين، ورأب الصدع، وجمع الكلمة.
إن قوة الشخصية في الإنسان تبدو في القدرة على الموازنة بين الحقوق والواجبات التي قد تتعارض أمام بعض الناس، فتلبس عليه الأمر، وتوقعه في التردد والحيرة.
ومن هنا تظهر حكمة الإنسان العاقل في القدرة على أداء حق كلٍّ من أصحاب الحقوق دون أن يلحق جوراً بأحدٍ من الآخرين.
ومن عَظَمة الشريعة أنها جاءت بأحكام توازن بين عوامل متعددة، ودوافع مختلفة، والعاقل الحازم يستطيع_بعد توفيق الله_أن يعطي كل ذي حقٍّ حقه.
وكثير من المآسي الاجتماعية، والمشكلات الأسرية تقع بسبب الإخلال بهذا التوازن.(1/17)
ومما يعين على تلافي وقوع هذه المشكلات أن يسعى كل طرف من الأطراف في أداء ما له وما عليه.
وفيما يلي إشارات، وإرشادات عابرة تعين على ذلك:
وهذه الإشارات، والإرشادات تخاطب الابن الزوج، وتخاطب زوجته، وتخاطب والديه وخصوصاً أمه.
أولاً:دور الابن الزوج:مما يعين الابن الزوج على التوفيق بين والديه وزوجته ما يلي:
أ_مراعاة الوالدين وفهم طبيعتهما:وذلك بألا يقطع البر بعد الزواج، وألا يبدي لزوجته المحبة أمام والديه_خصوصاً إذا كان والداه أو أحدهما ذا طبيعة حادة.
لأنه إذا أظهر ذلك أمامهما أوغر صدورهما، وولَّد لديهما الغيرة خصوصاً الأم.
كما عليه أن يداري والديه، وأن يحرص على إرضائهما، وكسب قلبيهما.
ب_إنصاف الزوجة:وذلك بمعرفة حقها، وبألا يأخذ كل ما يسمع عنها من والديه بالقبول، بل عليه أن يحسن بها الظن، وأن يتثبت مما قال.
ج_اصطناع التوادد:فيوصي زوجته_على سبيل المثال_بأن تهدي لوالديه، أو يشتري بعض الهدايا ويعطيها زوجته؛ كي تقدمها للوالدين_خصوصاً الأم_فذلك مما يرقق القلب، ويستل السخائم، ويجلب المودة، ويكذِّب سوء الظن.
و_التفاهم مع الزوجة:فيقول لها_مثلاً_إن والديَّ جزءٌ لا يتجزأ مني، وإنني مهما تبلد الحس عندي فلن أَعُقَّهما، ولن أقبل أيَّ إهانة لهما، وإن حبي لك سيزيد وينمو بصبرك على والدي، ورعايتك لهما.
كذلك يذكرها بأنها ستكون أمَّاً في يوم من الأيام، وربما مرّ بها حالة مشابهة لحالتها مع والديه؛ فماذا يرضيها أن تُعَامَل به ؟
كما يذكرها بأن المشاكسة لن تزيد الأمر إلا شدة وضراوة، وأن الرفق ما كان في شيء إلا زانه، ولا نزع من شيء إلا شانه، وهكذا(21).
ثانياً:دور زوجة الابن:أما زوجة الابن فإنها تستطيع أن تقوم بدور كبير في هذا الصدد، ومما يمكنها أن تقوم به أن تُؤْثِر زوجها على نفسها، وأن تكرم قرابته، وأن تزيد في إكرام والديه، وخصوصاً أمه؛ فذلك كله إكرام للزوج، وإحسان إليه.(1/18)
كما أن فيه إيناساً له، وتقوية لرابطة الزوجية، وإطفاءاً لنيران الفتنة.
وإذا كان الزوج أعظم حقَّاً على المرأة من والديها، وإذا كان مأموراً_شرعاً_بحفظ قرابته، وأهل ودِّ أبيه؛ تقوية للرابطة الاجتماعية في الأمة_فإن الزوجة مأمورة شرعاً بأن تحفظ أهل ودِّ زوجها من بابٍ أولى؛ لتقوية الرابطة الزوجية.
ثم إن إكرام الزوجة لوالدي زوجها _وهما في سن والديها_ خُلُقٌ إسلاميٌ أصيل، يدل على نبل النفس، وكرم المَحْتدِ.
ولو لم يأتها من ذلك إلا رضا زوجها، أو كسب محبة الأقارب، والسلامة من الشقاق والمنازعات، زيادة على ما سينالها من دعوات مباركات.
كما أن على الزوجة الفاضلة ألا تنسى _منذ البداية_ أن هذه المرأة التي تشعر أنها منافسة لها في زوجها_هي أم ذلك الزوج، وأنه لا يستطيع مهما تبلّد فيه الإحساس أن يتنكر لها؛ فإنها أمه التي حملته في بطنها تسعة أشهر، وأمَدَّتْهُ بالغذاء من لبنها، وأشرقت عليه بعطفها وحنانها، ووقفت نفسها على الاهتمام به حتى صار رجلاً سويَّاً.
كما أن هذه المرأة أم لأولادك _أيتها الزوجة_ فهي جدَّتهم، وارتباطهم بها وثيق؛ فلا يحسن بك أن تعامليها كضرَّة؛ لأنها قد تعاملك كضرّة، ولكن عامليها كأم تعامِلْك كابنة، وقد يصدر من الأم بعض الجفاء، وما على الابنة إلا التحمل، والصبر؛ ابتغاء المثوبة والأجر.
فإذا شاع في المنزل والأسرة أدبُ الإسلام، وعرف كل فرد ماله وما عليه سارت الأسرة سيرة رضيَّة، وعاشت_في أغلب الأحيان_عيشة هنية.
واعلمي_أيتها الزوجة_أن زوجك يحب أهله أكثر من أهلك، ولا تلوميه في ذلك؛ فأنت تحبين أهلك أكثر من أهله؛ فاحذري أن تطعنيه بازدراء أهله، أو أذيتهم، أو التقصير في حقوقهم؛ فإن ذلك يدعوه إلى النفرة منك، والميل عنك.
إن تفريط الزوجة في احترام أهل زوجها تفريط في احترام الزوج نفسه، وإذا لم يقابل ذلك_بادي الرأي_بشيء فلن يسلم حبُّه للزوجة من الخدش، والتكدير.(1/19)
ثم إن الرجل الذي يحب أهله، ويبر والديه إنسان فاضل كريم صالح جدير بأن تحترمه زوجته، وتجلّه، وتؤمل فيه الخير؛ لأن الرجل الذي لا خير فيه لوالديه لا يكون فيه_غالباً_خير لزوجة، أو ولد، أو أحد من الناس.
وإذا كنت_أيتها الزوجة_راضية عن عقوق الزوج لوالديه، وعن معاملتك السيئة لهما_فهل ترضين أن تعامل أمُّك بمثل هذه المعاملة من قبل زوجات إخوانك ؟
بل هل ترضين أن تعاملي أنت بذلك من زوجات أولادك إذا وهن منك العظم، واشتعل الرأس شيباً ؟
وأخيراً فإن موقف الزوجة الصالحة في إعانة زوجها على البر كفيل في كثير من الأحيان_بعد توفيق الله في حل المشكلات، وتسوية الأزمات، وجمع الشمل، ورأب الصدع؛ لأن الوالدين عندما يشهدان الحبَّ الصادق، والحنان الفياض من زوجة إبنهما_فإنهما سيحفظان ذلك الجميل.
هذا وقد أرانا العيان أن كثيراً من الوالدين يحبون زوجات بنيهم كحبهم لبناتهم، أو أشدّ حُبَّاً.
وما ذلك إلا بتوفيق الله، ثم بحكمة أولئك الزوجات، وحرصهن على حسن المعاملة لوالدي الأزواج.
ومما يعين الزوجة على التسلل إلى قلوب والدي الزوج_زيادة على ما مضى_أن تصبر على الجفاء، وأن تستحضر الأجر، وأن تنظر في العواقب.ومن ذلك أن تبادرهما بالهدية، وأن تحرص على حسن المحادثة والاستماع لحديث الوالدين، وأن تتلطف بالكلام، وإلقاء السلام، وحسن التعاهد.
ومن ذلك أن توصي زوجها بمراعاة والديه، و بألا يشعرها بأن قلبه قد مال عنهما كل الميل إليها.
ومن ذلك أن ترفع أكف الضراعة إلى الله؛ كي يعطف قلوب الوالدين إليها، وأن يعينها على حسن التعامل معهما.
فيا أيتها الزوجة الكريمة استحضري هذه المعاني، ولك ثناء جميل، وذكر حسن في العاجل، وأجر جزيل، وعطاءٌ غير مجذوذ في الآجل(22).
ثالثاً:دور أم الزوج:فمن الأمهات_هداها الله_مَنْ تُوقِعَ ابنَها في الحرج دون أن تشعر؛ فهي تحبه، وتحرص على إسعاده، وربما سعت جاهدة في الخطبة له، وتزويجه.(1/20)
ولكنَّ سوء تصرفها قد يجلب لها ولابنها الضرر؛ لأن الابن إذا تزوج شعرت أمه بأنه قد خُطِف منها، وأن قلبه قد مال عنها؛ فتحرص أن يعود لها_ومن الحب ما قتل_فما تزال به توغر صدره على زوجته، وتحرك فيه نوازع العزوف عنها، وربما زَيَّنت له طلاقها، وَوَعَدَتْه بأن تبحث له عن خير منها، مع أن الزوجة قد تكون على درجة من الخلق، والجمال، ونحو ذلك.
ومن الأمهات من إذا رأت ابنها مسروراً مع زوجته، أو رأت منه إكراماً لها_ثارت نيران الغيرة في قلبها، وربما سعت إلى ما لا تحمد عقباه.
ومن الأمهات مَنْ هي قاسية في التعامل مع زوجة ابنها؛ فتراها تضخم المعايب، وتخفي المحاسن، وقد تفتري على الزوجة، وقد تذهب كل مذهب في تفسير التصرفات البريئة، وتأويل الكلمات العابرة.
فيا أيتها الأم الكريمة، يا من تحبين ابنك، وترومين له السعادة_لا تكوني معول هدم وتخريب، ولا تجعلي غيرتك ناراً موقدة تحرق جو الأسرة، ولا تستسلمي للأوهام التي ينسجها خيالك؛ فتعكِّري الصفو، وتثيري البلابل؛ فلا تجعلي علاقتك بزوجة ابنك علاقة الندّ بالندّ، والضرة بالضرة، بل كوني لها أمَّاً تكن لك ابنة؛ فيحسن بك أن تحبيها، وأن تتغاضي عن بعض ما يصدر منها، وإذا رأيتِ خللاً بادرتِ إلى نصحها بلين ورفق، حينئذٍ تسعدين، وتُسعدين.
بل يحسن بك أن تتوددي إليها بالهدية ونحوها، وأن تسعيها بقلبك الكبير وحنانك الفياض، ودعائك الخالص، وثنائك الصادق، والله يتولاك برعايته، ويمدك بلطفه.
مرّ بنا بِرُّ الوالدين، والآداب التي يجدر بنا مراعاتها معهما، والأسباب التي تعين على البرِّ؛ فما أحرانا بمراعاة هذه الآداب، وما أجدرنا أن نأخذ بتلك الأسباب، عسى أن نكون من الأبرار الأخيار، الذين إذا دعوا ربهم أجابهم، وإذا استغفروه غفر لهم؛ فيا لشرف هؤلاء، ويا لسؤددهم، ويا لعظم حظّهم.(1/21)
ثم ليكن لنا في الأنبياء والمرسلين، ومن تبعهم بإحسان إلى يومنا هذا_قدوة حسنة في هذا الشأن؛ فلقد ضربوا أروع الأمثلة في بر الوالدين؛ فرفع الله منزلتهم في الدارين، وأعلى ذكرهم في الخالدين.
وإليك_فيما يلي_بعض النماذج العطرة، والقصص الرائعة، التي يتضوع عبيرها، ويفوح شذاها مع مرّ الأزمان عليها، لأناسٍ بررة أخيار، وُفِّقوا لبر والديهم؛ لعلها تحرك في نفوسنا جوانب الخير، وتدفعها إلى الإحسان والبرِّ.
نماذج من برّ الأنبياء:
1_هذا نبي الله نوح_عليه السلام_يذكر لنا الله_عز وجل_نموذجاً من بره بوالديه حيث كان يدعو ويستغفر لهما كما في قوله_تعالى_عنه:[رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِي مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ] (نوح:28).
2_وهذا إمام الموحدين إبراهيم الخليل_عليه السلام_يخاطب أباه بلطف شفَّافٍ، وإشفاقٍ بالغ، وحرص أكيد؛ رغبة في هدايته ونجاته، وخوفاً من غوايته وهلاكه فيقول_كما أخبر الله عنه_[وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً (41) إِذْ قَالَ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنْ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً (43) يَا أَبَتِ لا تَعْبُدْ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنْ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً] (مريم:41_45).
لقد خاطب والده بتلك الكلمات المؤثرة، والعبارات المشفقة، التي تصل إلى الأعماق.
ولولا أنها وجدت قلباً قاسياً عاسياً أغلف أسود_لأثرَّت به، وكانت سبباً في هدايته، ونجاته.(1/22)
3_وهذا إسماعيل بن إبراهيم_عليهما السلام_يضرب أروع أمثلة البر في تاريخ البشرية؛ وذلك عندما قال له أبوه:[يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ] (الصافات:102).
فماذا كان رد ذلك الولد الصالح ؟ هل تباطأ أو تكاسل، أو تردد وتثاقل ؟ لا، بل قال_كما_أخبر الله تعالى عنه:[يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ] (الصافات:102).
وقد ورد أن إبراهيم_عليه السلام_لما تيقن مما رأى في منامه قال لابنه:يا بني خذ الحبل والمدية، وانطلق إلى هذا الشعب نحتطب، فلما خلا به في شعب =ثبير =أخبره بما أُمِر به، فلما أراد ذبحه قال له:يا أبت اشدد رباطي؛ حتى لا أضطربَ، واكفف عني ثيابك؛ حتى لا يصيبها الدم فتراه أمي، واشحذ شفرتك، وأسرع في السكين على حلقي؛ ليكون أهون عليّ، وإذا أتيت أمي فاقرأ عليها السلام مني.
قال إبراهيم:نعم العون أنت يا بني، ثم أقبل عليه وهما يبكيان، ثم وضع السكين على حلقه، فلم تَحُزَّ، فشحذها مرتين أو ثلاثاً بالحجر فلم تقطع، فقال الابن عند ذلك:يا أبتِ كُبَّني على وجهي؛ فإنك إن نظرت إلى وجهي رحمتني، وأدركتك رقةٌ تحول بينك وبين أمر الله_تعالى_وأنا لا أنظر إلى الشفرة فأجزع، ففعل ذلك إبراهيم_عليه السلام_ووضع السكين على قفاه فانقلب السكين ونودي:[يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا] (الصافات:104، 105)(23).
4_وهذا عيسى بن مريم_عليه وعلى أمّه السلام_يأتيه الثناء العطر، والتبجيل العظيم من ربه وهو ما يزال في المهد_بأنه بار بأمه، ويقرن هذا بعبوديته لربه_عز وجل_قال_سبحانه_عنه:[وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً] (مريم:32).
وإذا أنعمنا النظر في سيرة السلف الصالح_وجدنا صفحات مشرقة تدل على شدة اهتمامهم ببر الوالدين فمن ذلك ما يلي:(1/23)
1_عن أبي مُرَّة مولى أم هانئ بنت أبي طالب: =أنه ركب مع أبي هريرة إلى أرضه ب =العقيق+ فإذا دخل أرضه صاح بأعلى صوته:
عليك السلام ورحمة الله وبركاته يا أماه.
تقول:وعليك السلام ورحمة الله وبركاته.
يقول:رحمك الله كما ربيتني صغيرًا.
فتقول: =يا بني ! وأنت فجزاك الله خيرًا ورضي عنك كما بررتني كبيرًا(24)+ .
2_وهذا ابن عمر_رضي الله عنهما_لقيه رجل من الأعراب بطريق مكة، فسلم عليه عبد الله بن عمر، وحمله على حمار كان يركبه، وأعطاه عمامة كانت على رأسه.
قال ابن دينار:فقلنا له:أصلحك الله إنهم الأعراب، وهم يرضون باليسير.
فقال عبد الله بن عمر:إن أبا هذا كان وُداً لعمر ابن الخطاب_رضي الله عنه_وإني سمعت رسول الله " يقول: =إن أبرَّ البر صلةُ الولدِ أهلَ ودِّ أبيه+ (25).
3_وعن أم المؤمنين عائشة_رضي الله عنها_قالت:قال رسول الله ": =دخلت الجنة فسمعت فيها قراءة، فقلت:من هذا ؟ قالوا:حارثة ابن النعمان، كذلكم البر، كذلكم البر، وكان أبر الناس بأمه+ (26).
4_وعن أبي عبد الرحمن الحنفي قال:رأى كهمس بنُ الحسن عقرباً في البيت فأراد أن يقتلها، أو يأخذها، فسبقته، فدخلت في جحر، فأدخل يده في الجحر ليأخذها، فجعلت تضر به، فقيل له ما أردت إلى هذا ؟
قال:خفت أن تخرج من الجحر، فتجيء إلى أمي، فتلدغَها(27).
5_وهذا أبو الحسن بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب_رضي الله عنه_وهو المسمى بزين العابدين، وكان من سادات التابعين_كان كثير البر بأمه، حتى قيل له: =إنك من أبر الناس بأمك، ولا نراك تؤاكل أمك، فقال:أخاف أن تسير يدي إلى ما قد سبقت عينها إليه، فأكون قد عققتها(28)+ .
6_قال هشام بن حسان: =حدثتني حفصة بنت سيرين، قالت:كانت والدة محمد بن سيرين حجازية، وكان يعجبها الصِّبغ، وكان محمد إذا اشترى لها ثوباً اشترى ألين ما يجد، فإذا كان عيد صبغ لها ثياباً، وما رأيته رافعاً صوته عليها، كان إذا كلمها كالمصغي+ (29).(1/24)
وعن بعض آل سيرين قال: =ما رأيت محمد بن سيرين يكلِّم أمَّه قط إلا وهو يتضرع+ .
=وعن ابن عون أن محمداً كان إذا كان عند أمه لو رآه رجل ظن أن به مرضاً من خفض كلامه عندها+ (30).
وعن ابن عون قال: =دخل رجل على محمد بن سيرين وهو عند أمه فقال:ما شأن محمد ؟ أيشتكي شيئاً ؟ قالوا:لا؛ ولكن هكذا يكون عند أمه+ (31).
7_ =روى جعفر بن سليمان عن محمد بن المنكدر: =أنه كان يضع خدَّه على الأرض، ثم يقول لأمَّه:قومي ضعي قدمك على خدي+ (32).
8_وعن ابن عون المزني: =أن أمه نادته، فأجابها، فعلا صوتُه صوتَها فأعتق رقبتين+ (33).
9_وقيل لعمر بن ذر: =كيف كان برُّ ابنك بك ؟ قال:ما مشيت نهاراً قط إلا مشى خلفي، ولا ليلاً إلا مشى أمامي، ولا رقى سطحاً وأنا تحته+ (34).
10_وحضر صالح العباسي مجلس المنصور، وكان يحدثه، ويكثر من قوله: =أبي ×+ فقال له الربيع:لا تكثر الترحم على أبيك بحضرة أمير المؤمنين.فقال له:لا ألومك؛ فإنك لم تذق حلاوة الآباء.
فتبسم المنصور، وقال:هذا جزاء من تعرض لبني هاشم(35).
11_ومن البارين بوالديهم بُندار المحدث، قال عنه الذهبي: =جمع حديث البصرة، ولم يرحل، براً بأمه+ (36).
قال عبد الله بن جعفر بن خاقان المروزي: =سمعت بنداراً يقول:أردت الخروج_يعني الرحلة لطلب العلم_فمنعتني أمي، فأطعتها، فبورك لي فيه (37)+ .
12_وقال الأصمعي:حدثني رجل من الأعراب قال:خرجت أطلب أعق الناس وأبر الناس، فكنت أطوف بالأحياء، حتى انتهيت إلى شيخ في عنقه حبلٌ يستقي بدلو لا تطيقه الإبل، في الهاجرة والحر الشديد، وخلفه شابٌ في يده رشاءٌ_حبل_من قدٍّ(38) ملويٍّ يَضْرِبُه بِهِ، وقد شقَّ ظهره بذلك الحبل.فقلت:أما تتقي الله في هذا الشيخ الضعيف ؟ أما يكفيه ما هو فيه من مد هذا الحبل حتى تضربه ؟
قال:إنه مع هذا أبي، قلت:فلا جزاك الله خيراً.
قال:اسكت فهكذا كان هو يصنع بأبيه، وكذا كان أبوه يصنع بجده، فقلت:هذا أعق الناس.(1/25)
ثم جُلْتُ حتى انتهيت إلى شاب وفي عنقه زبيل فيه شيخ كأنه فرخ، فكان يضعه بين يديه في كل ساعة فيزقه كما يُزَقُّ الفرخ، فقلت:ما هذا ؟ قال:أبي وقد خرف، وأنا أكفله، قلت:هذا أبر العرب(39).
13_وكان طلق بن حبيب من العباد والعلماء، وكان يقبل رأس أمه، وكان لا يمشي فوق ظهر بيت وهي تحته؛ إجلالاً لها(40).
14_وقال عامر بن عبد الله بن الزبير: =مات أبي+ فما سألت الله حولاً كاملاً إلا العفو عنه+ (41).
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الطبعة الأولى 16 / 10 / 1414 هـ
الطبعة الثانية 26 / 1 / 1422 هـ
الفهرس
مقدمة. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
3
ـ تعريف العقوق. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
7
ـ من مظاهر العقوق. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
8
ـ33 مظهراً من مظاهر العقوق. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
8
ـ نماذج من قصص العقوق. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
15
ـ12 سبباً من أسباب العقوق. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
18
ـ سبل العلاج. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
21
_تعريف البر. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
22
ـ 26 أدباً من الآداب التي تراعى مع الوالدين. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
23(1/26)
ـ 12 أمراً من الأمور المعينة على البر. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
28
ـ بين الزوجة والوالدين. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
31
أولاً: دور الابن الزوج في التوفيق بين زوجته ووالديه. . . . . . . . . . . . . . . .
32
ثانياً: دور زوجة الابن. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
33
ثالثاً: دور أم الزوج. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
35
ـ نماذج من قصص البر. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .. . . . . . . . . . . . . . . . .
37
ـ نماذج من بر الأنبياء. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
37
ـ نماذج من بر السلف. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
40
(1) رواه البخاري (527)، ومسلم (85).
(2) رواه البخاري (6675).
(3) لسان العرب 10/256.
(2) لسان العرب 10/257.
(1) انظر:أخلاقنا الاجتماعية ، د.مصطفى السباعي، ص 166، وبر الوالدين لعبدالرؤوف الحناوي ص 143، والسلوك الاجتماعي لحسن أيوب ص 257_259، وقرة العينين في فضائل بر الوالدين، لأم عبد الكريم، وبالوالدين إحساناً لسعاد بنت محمد فرج ص 44_48، وبر الوالدين في القرآن الكريم والسنة الصحيحة لنظام سكجها، ص 35_41 و 6_65، وفيض الرحمن الرحيم د.عبدالله الطيار ص 96، وبر الوالدين وحقوق الآباء والأبناء والأرحام لأحمد عيسى عاشور ص33_45، والأعلام ببر الوالدين وصلة الأرحام، لإبراهيم الحازمي ص 35_41، والتكافل الاجتماعي في الشريعة الإسلامية د.محمد بن احمد الصالح ص 98_105.
(2) سير أعلام النبلاء للذهبي 4/433.(1/27)
(6) رواه البخاري (5973)، ومسلم (90).
(7) تربت:تربى.
(8) الجعد:الطويل.
(9) الشمردل:الفتى القوي.
(10) خليج:اسم ولد.
(11) عرام:العرام الشدة والشراسة والأذى.
(12) نظرات في الأسرة المسلمة.د/ محمد بن لطفي الصباغ ص 49.
(13) بر الوالدين.للحناوي ص 135.
(14) لسان العرب 4/53.
(1) انظر قضاء الدين، ص 13_21، وبالوالدين إحسانا، ص 63_66.
(2) انظر أدب المسلم في العادات والعبادات والمعاملات، لمحمد سعيد مبيض، ص 158_160، وقرة العينين في فضائل بر الوالدين، لنظام يعقوبي، ص46_52، وتربية الأولاد في الإسلام، لعبد الله علوان، 1/285_286، والإعلام في ما ورد في بر الوالدين وصلة الأرحام، للحازمي، ص 26، وبر الوالدين، لعاشور، ص 16_20 والتكافل الاجتماعي، د.محمد الصالح، ص 98_105، ووصية لقمان لابنه، علي محمد جماز، ص 23_33.
(17) أخرجه البخاري:(5971)، ومسلم:(2548).
(18) فتح الباري 10/416.
(19) انظر:وصايا للزوجين ، لمحمد بن لطفي الصباغ ، ص 56_64.
(20) بر الوالدين للحفاظ الطرطوشي, ص 188.
(21) انظر: =من أخطاء الأزواج+ للكاتب، ص 5_9.
(22) انظر إلى كتاب:من أخطاء الزوجات للكاتب ص 16_11.
(23) انظر بر الوالدين، للحناوي، ص 89_94.
(24) رواه البخاري في الأدب المفرد (14)، وقال الألباني في صحيح الأدب المفرد: =حسن الإسناد+ .
(25) رواه مسلم (2552)، وأبو داوود (5143).
(26) رواه الإمام احمد 6/151، وعبد الرزاق في المصنف (20119)، والبغوي في شرح السنة 13/7، وصححه الحاكم 3/208، ووافقه الذهبي.
(27) حلية الأولياء 6/211 و انظر:سير أعلام النبلاء 6/317.
(28) عيون الأخبار، 3/97.
(29) سير أعلام النبلاء 4/619.
(30) المحاسن والمساوئ، لإبراهيم البيهقي ص 614.حلية الأولياء 2/273.
(31) سير أعلام النبلاء 6/128.
(32) سير أعلام النبلاء 4/620.
(33) سير أعلام النبلاء 6/366.
(34) عيون الأخبار 3/97.(1/28)
(35) بر الوالدين، للحناوي، ص 98، نقلاً عن:محاظرات الأدباء ومحاورات الشعراء 1/203.
(36) سير أعلام النبلاء 12/144.وانظر ترجمة بندار في السير 12/144_149.
(37) سير أعلام النبلاء 12/145.
(38) القد:السوط، وهو في الأصل سير يُقَدُّ من جلد مدبوغ.
(39) المحاسن والمساوئ، لإبراهيم البيهقي ص 614.
(2) (3) بر الوالدين للحافظ الطرطوشي 78.
??
??
??
??(1/29)