الحمد لله أحاط بكل شيء علماً ، أحمده على نعمه العظيمة ، وآلائه الجسيمة ، فنعمه لا تعد ، ومننه لا تحد ، فله الحمد ، وله الشكر بلا عد ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، خضعت له رقبة كل عبد ، وأناب إليه كل فرد ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله ربه بالوعيد والوعد ، صاحب لواء الحمد ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين . . وبعد :
لقد تجلت عظمة الله تعالى في جميع من في الكون الفسيح ، فهو سبحانه القادر على كل شيء ، رأينا عظمة الخالق جل جلاله في البحر ، وأن البحر جندي من جنود الله ، لا يعصي خالقه طرفة عين .
قال تعالى : { ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ } [ التوبة26 ] .
وقال تعالى : { وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً } [ الفتح7 ] .
ولعظيم قدر البحر ومنافعه ومخاطره ، ذكره الله تعالى في كتابه ، مفرداً ومثنىً وجمعاً كما في الترتيب التالي :
كلمة [ البحر ] ذكرت 33 مرة .
كلمة [ البحران ] ذكرت 1 مرة .
كلمة [ البحرين ] ذكرت 4 مرات .
كلمة [ البحار ] ذكرت 2 مرتان .
كلمة [ أبحر ] ذكرت 1 مرة .(1/1)
عندما تكبر فرعون على ربه ، وادعى الألوهية من دون الله ، وقتل الأطفال ، واستحيى النساء ، وعاث في الأرض فساداً ، سلط الله عليه البحر ليبتلعه ، وليكون لمن خلفه آية وعبرة وعظة ، فهرب موسى ومن معه خوفاً من فرعون أن يفتنهم ، وعندما وصلوا إلى البحر ، كان العدو من خلفهم والبحر من أمامهم ، فما كان من موسى إلا أن دعا ربه ، فاستجاب لعباده المؤمنين ، ففلق لهم البحر نصفين ، فساروا وسط البحر لا ماء ولا غرق ، ثم تبعهم فرعون ، داخل البحر ، والأمواج تتلاطم حولهم ، وعلى جنبهم ، فلما نجى موسى ومن معه ، أمر الله البحر أن يطبق على فرعون وشرذمته ، فاستجاب البحر لأمر خالقه وموجده ، فغرق فرعون وجنده ، فكانت آية باهرة عظيمة ، ومعجزة لا ينساها التأريخ أبداً ، قال تعالى : { وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لَّا تَخَافُ دَرَكاً وَلَا تَخْشَى 77 فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُم مِّنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ 78 وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى 79} [ طه ] .
وقال تعالى في قصة موت فرعون : { وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ 90 آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ 91 فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ } [ يونس ] .
فانظر إلى صورة فرعون وهو جثة هامدة ، أبقاها الله تعالى عبرة للعصاة من بعده ليتعظوا ويتوبوا :(1/2)
البحر ذلكم الجندي الذي يعذب به الله من شاء من عبادة العصاة ، فهذه سفينة ( التايتنك ) الأمريكية ، التي بناها صاحبها وتحدى بها ربه وخالقه أن يغرقها ، فانطلقت في أول رحلة لها عبر البحر ، حاملة على متنها أكثر من 2200 راكب ، وعندما توغلت في البحر أذن الله للبحر أن يلتهمها بمن على متنها ، فاصطدمت بجبل جليدي ، وما هي إلا لحظات حتى وصلت قاع البحر بمن فيها ، فسبحان الله العظيم القوي المتين ، الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء ، وظهرت عظمته في البحار .
وله يسجد من في البحار ، ويسبحه فيه كل شيء ، حتى الصخرة تسجد لربها ، وانظر إلى هذه الصورة المعجزة الباهرة التي يقول الله تعالى فيها : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ } [ الحج18 ] .
أيها العبد : ألم تعلم أن الله سبحانه يسجد له خاضعًا منقادًا مَن في السموات من الملائكة ، ومَن في الأرض من المخلوقات ، والشمس والقمر ، والنجوم والجبال ، والشجر والدواب ؟ والصخور والأحجار ، فلله يسجد طاعة واختيارًا كثير من الناس ، وهم المؤمنون ، وكثير من الناس حق عليه العذاب فهو مهين ، من لا يسجد لله مسكين ضعيف حق عليه العذاب ، وحقت عليه الإهانة والذلة ، وأيُّ إنسان يهنه الله ، فليس له أحد يكرمه ، إن الله يفعل في خلقه ما يشاء وَفْقَ حكمته ، وانظر إلى هذه الصخرة وهي ساجدة لموجدها وخالقها .
قال ذو العظمة والجبروت : { وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِن دَآبَّةٍ وَالْمَلآئِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ } [ النحل49 ] .(1/3)
وقال المتعالي بعظمته ومجده : { وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ } [ الرعد15 ] .
وعندما تبطر الناس على ربهم ، وعصوا أمره ، وتمردوا على أوامره ، فقضوا أوقاتاً عبر شواطئ البحار والأنهار ، في مناظر سخف وفجور ، ومظاهر عُري وفحش ، متحدين ربهم وخالقهم ، أرسل الله جنديه عبر ما يسمى ( مد تسونامي ) فقضى على الملايين من العصاة غرقاً وفقداناً ، وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون .
وبعد هذه الكارثة العالمية ، التي لم يشهد لها التأريخ مثيل ، كتب الله اسمه العظيم على البحر ، ليكون عالقاً في الأذهان ، إنه الله العظيم العلي الكبير ، القوي المتين :
تأمل أيها المسلم ، عظمة الله وقهره وسطوته وقوته في البحار ، وكيف أبدى ذلك وطرزه وأبدعه عندما كتب اسمه الجليل سبحانه على البحر تبايناً لقوته وعظمته وعزته ، وبياناً لضعف البشر عن صد ذلك أو الدفاع عن أنفسهم ، إزاء عظمة ربهم ومليكهم وخالقهم ، ولكنها الغفلة والإعراض ، والاستكبار والإباء ، واتباع سبل الشيطان وغوايته وتلبيسه ، قال الواحد الأحد : { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } [ الزمر67 ] .
بل تفكر في هذه الصورة ، وكيف أن الله قد أحاط بعباده فلا مفر لهم من دونه إلا إليه ، وكيف أن البحر ربما أغرق البشرية جمعاء إذا هم عصوا أمر الله ، وتجردوا عن طاعته :
قال تعالى : { فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } [ الذاريات50 ] .(1/4)
تذكر أيها العبد عندما ترى هذه الصورة المذهلة المخيفة ، تذكر يوم القيامة وما فيه من أهوال عظام ، وأخطار جسام ، وتأمل قول الله تعالى : فَإِذَا جَاءتِ الصَّاخَّةُ{33} يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ 34 وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ 35 وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ 36 لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ 37 وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ 38 ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ 39 وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ 40 تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ 41 أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ 42} [ عبس ] .
تخيل نفسك أيها العاصي المذنب ، أيها المفرط المسوف ، وأنت محاط بالماء من كل ناحية ، ولا ملجأ لك من الله إلا إليه ، عند ذلك تذكر عظمة الله القاهر جل جلاله ، واستسلم له وانقاد ، قال تعالى : { هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنِّ مِنَ الشَّاكِرِينَ } [ يونس22 ] .(1/5)
دولة أمريكا عندما طغت وبغت ، وقتلت وشردت ، واعتدت على بلاد المسلمين الآمنين في أوطانهم ، المطمئنين في بلادهم ، فغارت عليهم ، فنهبت خيراتها ، ورملت نساءها ، ويتمت أطفالها ، عند ذلك أذاقها _ أمريكا _ الله لباس الخوف بما كانوا يصنعون ، نتيجة الغطرسة والعناد ، فعذبهم في عقر دارهم ، فهاج عليهم البحر غيظاً ، وتلاطمت أمواجه غضباً ، فأغرق بعض ولايات تلكم الدولة الكافرة السافرة ، ولا ننسى ما حصل في ( نيوأورليانز ) عندما سلط الله عليهم البحر ، فأغرق من أغرق ، وأفقد من أفقد ، جزاء بما صنعوا ، أغرقتهم الفيضانات ، وشردتهم الأمواج العاتية ، والمياه الهائجة ، فخسرت دولة الكفر مليارات الدولارات ، والجزاء من جنس العمل .
أمواج وظلمات بعضها فوق ، وتأمل هذه الصور لتدرك قوة الخالق وعظمته سبحانه :
قال تعالى : { وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُم مِّنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } [ الأحقاف27 ] .
الله جلت عظمته ، وظهرت قوته ، وبانت سطوته يقول للناس ، لقد أهلكنا ما حولكم من القرى كعاد وثمود وغيرها قديماً وحديثاً , فجعلناها خاوية على عروشها , وبيَّنَّا لهم أنواع الحجج والدلالات ؛ لعلهم يرجعون عما كانوا عليه من الكفر بالله وآياته .
في الصورة التالية والتي أُلتقطت عبر الأقمار الصناعية من الفضاء للفيضان والطوفان الذي أغرق سواحل جنوب شرق آسيا ، يتبين القارئ الكريم مدى غضب أمواج البحر على قوم عصوا الله تعالى ، ومردوا على تعدي حدوده ، منظر مؤلم مخيف ، تخاف منه القلوب المؤمنة ، وترتعد منه فرائص المتقين ، فأين العصاة عن ذلك ، وأين المذنبون عن عظمة من له جنود السموات والأرض ؟ أم عساهم لم يتدبروا قول ملك الملوك ، وجبار الأرض والسماء في قوله تعالى : { وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ } [ المدثر31 ] .(1/6)
ظلمات بعضها فوق بعض ، أمواج تتلاطم ، وسحب تتلاحم ، وثورة تتفاقم ، قال تعالى : { وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُّكْراً } [ الطلاق8 ] .
انظر كيف كان الدمار والخراب ، وتأمل جيداً ماذا أبقى الله تعالى :
قال تعالى : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } [ العنكبوت40 ] .
الماء نعمة عظيمة من نعم المولى جل وعلا ، وهو أساس الحياة ، إذ لا حياة بدونه أبداً ، قال تعالى : { أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ } [ الأنبياء30 ] .
من الماء _ مني الرجل _ خلق الله البشر ، وجعل منهم الأصهار والأقارب ، قال تعالى : { وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاء بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً } [ الفرقان54 ] .
فالله جل في علاه ، خلق مِن منيِّ الرجل والمرأة ذرية ذكورًا وإناثًا ، فنشأ من هذا قرابة النسب وقرابة المصاهرة ، وكان ربك قديرًا على خلق ما يشاء .
إنه الله جلت عظمته في البحار ، وظهرت قوته في الأنهار ، وبانت سطوته في مياه الأمطار ، يعذب بالماء من شاء من عباده ، مع أنه أساس الحياة ، قال تعالى حكاية عن ابن نوح لما كذب أباه واتبع قومه المكذبين ، وأبوه يدعوه للحاق به ، وهو يصر على الكفر والتكذيب ، فأجاب أباه : { قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ } [ هود43 ] .(1/7)
ابن نوح يقول لأبيه : سألجأ إلى جبل أتحصَّن به من الماء , فيمنعني من الغرق , فأجابه نوح عليه السلام : لا مانع اليوم من أمر الله وقضائه الذي قد نزل بالخلق من الغرق والهلاك إلا مَن رحمه الله تعالى , فآمِنْ واركب في السفينة معنا , ولكن قد سبق أمر الله فحال الموج المرتفع الشاهق بين نوح وابنه , فكان من المغرقين الهالكين ، وهذه نهاية العصاة والمذنبين .
أهوال عظيمة ، وأخطار جسيمة تحيط ببني الإنسان إذ عصوا الواحد الديان ، بحار تنفجر ، وأمطار تنهمر ، والله هو الواحد القاهر ، ولا منجى منه إلا بالتوبة والرجوع إليه ، وتأمل أيها المسلم كيف أن الله تعالى ، أهلك قوم نوح بالماء ، بحار من تحتهم ، وأمطار من فوقهم ، فأصبحوا بين العذابين ، قال تعالى مصوراً ما حدث لقوم نوح عليه السلام جراء تكذيبهم وعنادهم : { كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ 9 فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ 10 فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاء بِمَاء مُّنْهَمِرٍ 11 وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْمَاء عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ 12 وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ 13 تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاء لِّمَن كَانَ كُفِرَ 14 وَلَقَد تَّرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ 15 فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ 16} [ القمر ] .
فنسأل الله اللطف والرحمة والمغفرة ، وأن يتجاوز عن الخطايا ، ويعفو عن الزلات والرزايا ، نسأله النصر على الأعداء ، إنه سميع الدعاء .
والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ونبيه محمد المصطفى ومن تبعه على طريق الهدى .
كتبه
يحيى بن موسى الزهراني
إمام جامع البازعي بتبوك(1/8)
الحمد لله أحاط بكل شيء علماً ، أحمده على نعمه العظيمة ، وآلائه الجسيمة ، فنعمه لا تعد ، ومننه لا تحد ، فله الحمد ، وله الشكر بلا عد ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، خضعت له رقبة كل عبد ، وأناب إليه كل فرد ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله ربه بالوعيد والوعد ، صاحب لواء الحمد ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين . . وبعد :
ولعل أول مدخل لنا آيات في كتاب الله تعالى تبين مدى صبر الله تعالى على العصاة ، ثم مدى التمادي في الطغيان والظلم والجبروت من قبل العصاة لأنفسهم أو لغيره ، متحدين ربهم تعالى الذي خلقهم ورزقهم وأنعم عليهم بشتى صنوف النعم والخيرات ، ومع ذلك فهم يقابلون الإحسان بالإساءة ، والجميل بالنكران ، فحاق بهم غضب الجبار القوي المتين سبحانه ، فسلط عليهم جنداً من جنده ، وهذا الجندي هو الريح والعواصف ، كالتي أصابت قوم عاد ، وفي هذا الزمان أصبحت العواصف من أشد جنود الله تعالى فتكاً بالعصاة والعتاة من بني البشر .
قال تعالى : { مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هِذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللّهُ وَلَكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } [ آل عمران117 ] .
مَثَلُ ما ينفق الكافرون في وجوه الخير في هذه الحياة الدنيا وما يؤملونه من ثواب, كمثل ريح فيها برد شديد هَبَّتْ على زرع قوم كانوا يرجون خيره, وبسبب ذنوبهم لم تُبْقِ الريح منه شيئًا. وهؤلاء الكافرون لا يجدون في الآخرة ثوابًا, وما ظلمهم الله بذلك, ولكنهم ظلموا أنفسهم بكفرهم وعصيانهم .(2/1)
وقال سبحانه وتعالى : { هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنِّ مِنَ الشَّاكِرِينَ } [ يونس22 ] .
هو الذي يسيِّركم أيها الناس في البر على الدواب وغيرها, وفي البحر في السُّفُن, حتى إذا كنتم فيها وجرت بريح طيبة, وفرح ركاب السفن بالريح الطيبة, جاءت هذه السفنَ ريحٌ شديدة, وجاء الركابَ الموجُ _ وهو ما ارتفع من الماء _ من كل مكان, وأيقنوا أن الهلاك قد أحاط بهم, أخلصوا الدعاء لله وحده, وتركوا ما كانوا يعبدون, وقالوا : لئن أنجيتنا من هذه الشدة التي نحن فيها لنكونن من الشاكرين لك على نِعَمك ، فهل يا ترى آمنوا بعد ذلك أم أشركوا ، نكمل قول الله تعالى في هذه الآية : { فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم مَّتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [ يونس23 ] .
فلما أنجاهم الله من الشدائد والأهوال إذا هم يعملون في الأرض بالفساد وبالمعاصي. يا أيها الناس إنما وَبالُ بغيكم راجع على أنفسكم, لكم متاع في الحياة الدنيا الزائلة, ثم إلينا مصيركم ومرجعكم, فنخبركم بجميع أعمالكم, ونحاسبكم عليها .
هذا هو واقع الناس اليوم ، بل أشد فمن الناس من لا يعرف ربه لا في الرخاء ولا في الشدة ، لا يعرف ربه لا في الضراء ولا في السراء ولا حول ولا قوة إلا بالله .(2/2)
وأكثر واقع الناس اليوم أنهم يعرفون الله تعالى حل الشدة ، فيدعونه متضرعين منكسرين ، فإذا ما ذهبت عنهم الشدة والبأساء إذا يعودون لما كانوا عليه من الذنوب والمعاصي والطغيان والكفر والشر بالله عز وجل ، فما أصبره الله عليهم ، قال صلى الله عليه وسلم : " ليس أحد أصبر على أذى سمعه من الله ، إنهم ليدعون له ولداً ( ويجعلون له نداً ) وإنه ليعافيهم ( ويدفع عنهم ) ويرزقهم ( ويعطيهم ) " [ أخرجه البخاري ومسلم ] .
فانظر إلى بني آدم ما أكفره وما أفجره .
قال تعالى : { أَمْ أَمِنتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفا مِّنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعاً } [ الإسراء69 ] .
أم أمنتم -أيها الناس- ربكم، وقد كفرتم به أن يعيدكم في البحر مرة أخرى، فيرسل عليكم ريحًا شديدة، تكسِّر كل ما أتت عليه، فيغرقكم بسبب كفركم، ثم لا تجدوا لكم علينا أي تبعة ومطالبة؛ فإن الله لم يظلمكم مثقال ذرة ؟
وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً } [ الأحزاب9 ] .
يا معشر المؤمنين اذكروا نعمة الله تعالى التي أنعمها عليكم في "المدينة" أيام غزوة الأحزاب -وهي غزوة الخندق- حين اجتمع عليكم المشركون من خارج "المدينة", واليهود والمنافقون من "المدينة" وما حولها, فأحاطوا بكم, فأرسلنا على الأحزاب ريحًا شديدة اقتلعت خيامهم ورمت قدورهم, وأرسلنا ملائكة من السماء لم تروها, فوقع الرعب في قلوبهم ، وكان الله بما تعملون بصيرًا, لا يخفى عليه من ذلك شيء .
============================================(2/3)
وفي قصة قوم عاد لما كذبوا نبيهم هود عليه السلام ، وقد كان يدعوهم إلى عبادة الله وحده دون سواه ، فعاندوا واستكبروا وطغوا وأكثروا في الأرض الفساد ، فجاءهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون ، فأرسل الله عليهم ريحاً شديدة البرودة ، تحمل معها العذاب الأليم ، والنكال الرهيب ، فقال سبحانه : { فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ * فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنصَرُونَ } [ فصلت15-16] .
نعم إنها ريحٌ شديدة البرودة ، عالية الصوت ، في أيام مشؤومات عليهم ؛ ليذيقهم الله عذاب الذل والهوان في الحياة الدنيا, ولَعذاب الآخرة أشد ذلاً وهوانًاً, وهم لا يُنْصَرون بمنع العذاب عنهم .
قال تعالى : { فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ الأحقاف24 ] .
فلما رأوا العذاب الذي استعجلوه عارضًا في السماء متجهًا إلى أوديتهم قالوا : هذا سحاب ممطر لنا, فقال لهم هود عليه السلام : ليس هو بعارض غيث ورحمة كما ظننتم, بل هو عارض العذاب الذي استعجلتموه, فهو ريح فيها عذاب مؤلم موجع .
قال تعالى : { وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ } [ الحاقة6 ] .
وقال تعالى : { إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ } [ القمر19 ] .
وقال تعالى : { وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ } [ الذاريات41 ] .(2/4)
في شأن عاد وإهلاكهم آيات وعبر لمن تأمل, إذ أرسل الله عليهم الريح التي لا بركة فيها ولا تأتي بخير.
فمن تأمل آيات القرآن الكريم ، وجد أن هناك تنوع وتعدد للعذاب الذي أهلك به الأمم ، كل أمة بما استحقته من جرم ، يكال لها من العذاب بقد جرمها وطغيانها .
قال تعالى : { فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } [ العنكبوت40 ] .
فأخذنا كلا من هؤلاء المذكورين بعذابنا بسبب ذنبه: فمنهم الذين أرسلنا عليهم حجارة من طين منضود, وهم قوم لوط, ومنهم مَن أخذته الصيحة, وهم قوم صالح وقوم شعيب, ومنهم مَن خسفنا به الأرض كقارون, ومنهم مَن أغرقنا, وهم قومُ نوح وفرعونُ وقومُه, ولم يكن الله ليهلك هؤلاء بذنوب غيرهم, فيظلمهم بإهلاكه إياهم بغير استحقاق, ولكنهم كانوا أنفسهم يظلمون بتنعمهم في نِعَم ربهم وعبادتهم غيره .
============================================
وفي زماننا هذا كم تطالعنا وسائل الإعلام المختلفة بآثار الأعاصير التي هي جند من جنود الله تبارك وتعالى ، يرسلها على من يشاء من عباده ، الذين تركوا سبيل الرشاد ، واتبعوا سبيل الغي والفساد ، فأذاقهم الله تعالى العذاب وإهلاك الطغاة ، وتحطيم المقدرات ، وفقدان عشرات الآلاف من العباد ، نتيجة كفرهم وطغيانهم .(2/5)
فهذه دولة الشر الأولى في العالم _ أمريكا _ أصابها من ذلك ما لم يصب أي دولة سواها ، نتيجة العجرفة والعنجهية والتمرد الذي تتخذه ضد دول العالم ولاسيما الإسلامية منها ، فساد ودمار وقتل واغتصاب وإهلاك للحرث والنسل وتدمير وهدم وعاهات وأشلاء ودماء ، فكان المنتقم في ذلك كله رب العباد جل جلاله ، فظهرت عظمته في الريح التي هي خلق من خلقه ، وجند من جنده ، لا تعصي خالقها طرفة عين ولا أقل من ذلك ، بل تذعن للأمر وتستجيب له ، فكان إعصار كاترينا الذي ضرب الولايات المتحدة الأمريكية _ نسأل الله أن يمسح خارطتها من الوجود ويدمرها تدميراً _ إعصار رهيب ، وهول عصيب ، أصاب أمة الكفر والطغيان والغطرسة ، فحدث الهلاك والدمار ، وخراب الاقتصاد ، وتدمير البنى التحتية ، في وجود تظليل للرأي العام ، وتعتيم على الحقائق ، وتزييف لها .
وانظر إلى هذه الصورة كيف تحولت السماء تحولاً عجيباً غريباً ، وغضبت لغضب ربها وخالقها ، حتى أذاقت الكفار ما يستحقون .
وانظر بعينك هذا الهول الفظيع ، والمنظر المريع لذلك الإعصار المخيف .
وتقدر قيمة الخسائر المبدئية للإعصار في الولايات المتحدة بأكثر من 25 مليار دولار ، ويتزايد القلق بشأن الآثار الاقتصادية على قطاع التأمين، الذي يتوقع أن يتكبد خسائر فادحة هي الأكبر في تاريخ هذه الصناعة في الولايات المتحدة والتي تنجم عن كارثة طبيعية ، وقد أدت قوة الإعصار كاترينا إلى إغلاق بعض منصات النفط والمصافي في خليج المكسيك، الأمر الذي أدى إلى قفز أسعار النفط إلى ما فوق حاجز السبعين دولاراً للبرميل الواحد ، ويقول لورانس إيغلز، من الوكالة الدولية للطاقة، إنه لم يفاجأ برد الفعل الصادر عن أسواق النفط .
مدينة نيوأورليانز وقد غمرتها مياه الإعصار كاترينا .(2/6)
ثم اتبع النظرة النظرة في الصورة التالية ، سماء حمراء تنذر بوقوع عذاب أليم ، وعقاب جسيم ، جراء التعسف والجبروت الأعمى ، وفي ظل وجود قيادة أمريكية لا تعرف لله طريقاً ، فاتخذت من المسلمين مقصداً ومغنماً ، فعاثت في ديارهم الفساد ، فكان العقاب خراب في ديارهم ، وعذاب من ربهم ، فهل يتعظون ؟
هذا هو عقاب من مالت نفسه عن ربه ، واتخذت الشيطان لها ولياً ، وكم أصاب الدول الملحدة والكافرة من قبيل هذه الأعاصير العاتية ، التي تدمر كل شيء بأمر ربها ، فيظنونها ريح فيها خير وتسوق الخير ، وإذا بها تغير عليهم فجأة وتحطم مقدراتهم كما يفعلون بالمسلمين .
قال الله تعالى : { قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ } [ الأنعام ] .
وقال تعالى : { أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتاً وهم نائمون } [ الأعراف ] .
وقال تعالى : { أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ } [ النحل ] .(2/7)
إن ما نشاهده من هذه الآيات الكونية ، لهي آية من آيات الله ، تجعل المؤمن متصلاً بالله ، ذاكراً له ، شاكراً لأنعمه ، مستجيراً بالله ، خوفاً من نقمته وسخطه ، وهذه النذر والآيات ، لم تستطع أمريكا بقوتها وتقدمها العلمي والتكنولوجي أن تقف أمامها ، ولم تصمد أمام قوة الجبار سبحانه وتعالى ، الذي يسير الكون سبحانه كيف شاء ، والتي قدرته سبحانه أعظم من كل شيء ، وما هي إلا كلمة " كن فيكون " فهل من معتبر ومتعظ ، قال تعالى : { مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } [ الحج74 ] ، وقال سبحانه وتعالى : { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } [ الزمر67 ] .
وما عظَّم هؤلاء المشركون اللهَ حق تعظيمه; إذ عبدوا معه غيره مما لا ينفع ولا يضر, فسوَّوا المخلوق مع عجزه بالخالق العظيم, الذي من عظيم قدرته أن جميع الأرض في قبضته يوم القيامة, والسموات مطويات بيمينه, تنزه وتعاظم سبحانه وتعالى عما يشرك به هؤلاء المشركون، وفي الآية دليل على إثبات القبضة, واليمين, والطيِّ, لله كما يليق بجلاله وعظمته, من غير تكييف ولا تشبيه .(2/8)
وما زالت القوات الأمريكية ، والصليب الأحمر ، ومروحيات الجيش الأمريكي ، وخفر السواحل ، تحلق فوق السواحل الجنوبية الشرقية للولايات المتحدة ، في مهمات إنقاذ عاجلة ، وتقييم للأضرار الفادحة ، الناجمة عن أحد أقوى الأعاصير والكوارث ، التي تضرب أمريكا من سنوات عديدة ، حيث ما زال مئات القتلى مفقودين ، ولم تفصح السلطات الأمريكية حتى الآن في الكشف عن الأعداد الحقيقية في قتلى إعصار كاترينا المدمر والهائل ، والذي شبهه كثيرون بإعصار تسونامي الذي ضرب جنوب شرق آسيا ، حيث ما زال الكثير من العالقين في المنازل ، وفوق أسطح المباني ، ولم يتمكن أحد من الوصول إليهم بسبب المياه والرياح الشديدة ، والطرق التي سدتها الأشجار المتساقطة ، التي عرقلت فرق الإنقاذ في الوقت الذي تعطلت فيه خطوط الكهرباء وتوقفت فيه خدمة الهاتف .(2/9)
هذا الإعصار المدمر ، الذي حاصر ساحل الخليج الأمريكي ، وعصف بمدينة نيوأورليانز برياح سرعتها 257 كيلوا متراً في الساعة ، ودمر المنتجعات والأراضي في ولاية مسيسيبي ، بسيول جارفة وهائلة ، ورياح هادرة مهلكة ، تسحق كل من في طريقها ، وتدمر النوافذ في الفنادق العالية ، وتمزق صالة لويزيانا العملاقة ، وتحاصر الآلاف في أسطح المباني في نيو أورليانز ، بعدما تقطعت بهم السبل بسبب المياه الجارفة والرياح العاتية ، وتتوقف جميع خطوط الكهرباء ، وتتوقف خدمة الهاتف ، وتدمر عشرات المباني ، والمئات من المباني معرضة لخطر الانهيار ، ويعتبر هذا الإعصار من أشد العواصف ضرراً في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية _ زادها الله من العذاب والنكال _ والتي كلفت شركات التأمين أكثر من 26 مليار دولار حسبما قال محللو المخاطر ، وتفيد آخر الإحصائيات الأولية إلى مقتل المئات ، وهؤلاء من الذين تم العثور عليهم ، وما زال الكثير مفقود في أطراف المدينة ، وبعض المناطق التي لا يمكن الوصول إليها ، ولا يُعلم عن سكانها شيئاً ، وما زالت فرق الإنقاذ والكلاب المدربة تبحث في العثور على الجثث المفقودة ، وقد فشلت كثير من طائرات الجيش الأمريكي والتي أسقطت آلاف من أكياس الرمل ، في محاولة بائسة وفاشلة في سد ثغرات الإعصار ، من أجل حماية المدينة ، حيث ارتفعت الأمواج إلى أكثر من تسعة أمتار ليغرق أكثر من 80% كما تقول الأنباء ، وتفيد الأنباء من مصادر طبية على مخاطر في انتشار كثير من الأمراض في الولاية جراء تحلل كثير من الجثث التي غرقت وقذفها الإعصار إلى الشاطئ .
صورة تشيب لها الرؤوس ، وتتقطع لأجلها الأفئدة ، وتموت القلوب الحية من هولها ، خوفاً وفرقاً من الخالق سبحانه .(2/10)
قال تعالى : { وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً } [ الإسراء59 ] .
نعوذ بالله من غضبه ، نعوذ بالله من سخطه ، نعوذ بالله من عذابه ، نعوذ بالله من عقابه ، ونسأل الله رحمته ومغفرته وعفوه وكرمه ، فهم أهل التقوى وأهل المغفرة .
لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين .
وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون .
أستغفر الله ، أستغفر الله ، أستغفر الله ، وأتوب إليه .
وصدق الله القائل سبحانه : { أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُواْ السَّيِّئَاتِ أَن يَخْسِفَ اللّهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ } [ النحل45 ] .
أفأمن الكفار المدبِّرون للمكايد أن يخسف الله بهم الأرض كما فعل بقارون, أو يأتيهم العذاب من مكان لا يُحِسُّونه ولا يتوقعونه .
ومن أصدق من الله القائل سبحانه : { أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ وَكِيلاً } [ الإسراء68 ] .
فلا تغفل أيها المسلم عما يحيط بالكون من انتقام الجبار سبحانه إذا هم عصوا أمره ، وتمردوا عليه ، وانخلعوا من العهد الذي أخذه الله عليهم في قوله سبحانه : { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ } [ الأعراف172 ] .(2/11)
لا تغفل أيها المسلم إذا رأيت الآيات المعجزة ، والبراهين المذهلة ، والكوارث المدمرة ، والزلازل والبراكين المهلكة ، التي تصيب الدول من حولنا ، لا تغفل حين تعصي الله تعالى ، وتتعدى حدوده ، لا تغفل عن قوله سبحانه : { مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ } [ هود83 ] .
أي معلَّمة عند الله بعلامة معروفة ، لا تشابه حجارة الأرض, وما هذه الحجارة التي أمطرها الله على قوم لوط من كفار قريش ببعيد أن يُمْطَروا بمثلها ، وكذلك غيرهم من الأمم التي تعصي الله وتجاهر بمعصيته ، وتحارب أولياءه ، وتترك سنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، وتتجه للقوانين الوضعية ، التي وضعها بشر فيه الخطأ والصواب ، وما أكثر خطأه بجانب صوابه ، لتستعيض بها عن القرآن والسنة ، يستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير ، وفي هذا تهديد لكل عاص متمرِّد على الله .
كتبه
يحيى بن موسى الزهراني
إمام جامع البازعي بتبوك(2/12)