عطر الأحبة
الجزء الأول
تأليف: د.بدوي مطر
matar97@hotmail.com
فهرس
على سبيل التقديم ... 3
مصعب بن عمير ... 11
حمزة بن عبد المطلب ... 24
جعفر بن أبي طالب . ... 46
بلال بن رباح ... 65
عبد الله بن مسعود ... 90
على سبيل التقديم
الأمم كالبنيان ، منها ما هو ثابت فوق الأرض، وجذوره ممتدة إلى الأعماق، لا يهتز، ولا يتغير..ومنها ماهو قائم فوق الأرض وكأنه قشرة واهية سرعان ما تزول بفعل هبوب الرياح...
والأمم أيضا كالأشجار منها الطيب الذي وصفه الله تعالى فقال:
(كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء) الآية (24ـ إبراهيم)
ومن الأمم ماهو كالشجرة الخبيثة التي وصفها جل وعلا فقال:
(كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار) (إبراهيم ـ 26)
وتحديد نوع الأمة الطيبة والأمة الخبيثة يتم بمعرفة كم من الأفكار والمعطيات والعلم والأخلاق التي تحمله هذه الأمة ، ومقدرتها على بث قيم الخير والجمال والفضيلة بين غيرها من الأمم.
وأمة الإسلام شاء أعداؤها أم أبوا هي من ذلك النوع الطيب والثابت فوق الأرض، وعلى هذا التأسيس فهي باقية بإذن الله إلى يوم الدين مهما بان عليها بفعل الزمن من علامات الضعف.
فالأساس كما هو ضارب في الأرض فهو ممدود أيضا إلى السماء مسنود بقوة الله الواحد الأحد، وكيف لا والإسلام هو رابط المسلمين الأعظم ، والمعصوم محمد صلوات الله عليه وسلم هو هاديها ومرشدها ، والله في علاه هو راعيها، وناصرها...
ولكن ما قاناه بشروط حددها الإله...
الاتكال على الماضي وهم، والعيش على الذكريات زيف ، وانتظار النصر من الله دون بذل الجهد ضربا من الجنون، ولو ركن سلفنا الصالح إلى ما نركن إليه نحن الآن لما عاشت أمة الإسلام حتى الآن ، وما نشرت آفاق علمها وحضارتها في كل بقاع الأرض...
إن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكونوا أبدا معصومين من الخطأ ، بل كانوا بشرا يصيبون ويخطئون، ومن يقل غير ذلك فهو مجاف للحقيقة حائد عن الحق...(1/1)
لكن امتاز سلفنا الصالح رضوان الله عليهم عنا بأنهم قد تشربوا من نبع النبوة الصافي ، وتابعوا الوحي طازجا يأتي من السماء، وعاينوا السنة المشرفة رأي العين...
ولذا فإنهم حين أخطأوا ، صحح لهم الرسول، وحين أصابوا شد على أيديهم ، وبالطبع كان لذلك أثره، فقد تخرجت من مدرسة النبوة نماذج مشرفة، شامخة القامة تعد أمثلة يحتذى بها...
ولكن إن قال قائل إن بلوغهم هذه الدرجة من الإيمان والتميز كان فقط بسبب وجود الحبيب المصطفى بين ظهرانيهم فهو بعيد عن الحقيقة بعد السماء عن الأرض...
لقد قال الله في محكم التنزيل:
(وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإين مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين)
(آل عمران ـ144)
وقد نعاه الله تعالى في آية أخرى فقال:
(إنك ميت وإنهم ميتون ) (الزمرـ 30)
والدليل على ذلك أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه استطاع أن يقضي على الردة التي كادت تودي بدولة الإسلام بعد وفاة المصطفى مباشرة ، واستطاع النهوض بشئون الدولة خير قيام، وبعد وفاة الصديق كيف يفسر المفسرون الواهمون أسطورة العدل التي سار بها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب صاحب الشخصية الرائعة والتي بلغ من تميزها وتفردها أن أعداء الإسلام أشاعوا أنها شخصية وهمية لا وجود لها صنعها خيال المسلمين الذين يعانون ـ من وجهة نظرهم ـ من جنون العظمة...
وفي عصر الدولة الأموية التي نشأت بعد وفاة الحبيب المصطفي بنحو ثلاثين عاما، كيف يفسر لنا هؤلاء الحاقدون كيف سادت هذه الدولة العالم شرقا وغربا..؟(1/2)
ولو تركنا حقبة سلفنا الصالح للحظات ونظرنا إلى ما نحن عليه الآن من حال، لوجدنا أن الشيطان، وأعداء الإسلام ، والمتأسلمين منا قد نصبوا الشباك ووضعوا الخطط للكيد للإسلام في حرب ضروس، تارة بالإعلام، وتارة بالتحكم في لقمة العيش، وتارة ثالثة بالغزو العسكري، في محاولة فاشلة لوأد الإسلام والقضاء على كلمة التوحيد الحقة...
ولكن الأمم الثابتة لا يمكن أن تذيبها الكلمات مهما كانت معسولة، أو معجونة بالخداع ، أو مصبوغة بالدماء...
قد يعتريها بعض الوهن لفترة تطول أو تقصر، وقد يصاب أصحابها بالدوار حينا من الدهر، وقد يلطخ ثوبها ببعض الأوساخ والأتربة بفعل البشر، وهذا ما يحدث لأمتنا الإسلامية الآن ولكن...
سرعان ما ستدب الحياة في جسدها الواهن، وسرعان ما سيتخلص أصحابها من الدوار الذي ألم بهم ، وفي القريب العاجل ـ إن شاء الله ـ سيزول ما علق بثوبها من أتربة وأوساخ...
وليس ذلك وهما ، بل يبدو لمن يرى بعين العقل ونور البصيرة أنه الحقيقة بعينها ، فحروب أعداء الإسلام للمسلمين لا لشئ إلا لعلمهم بنبع قوتهم وهو القرآن وسنة الحبيب المصطفى الذي هو خير قدوة للعالمين، وإلا لعلمهم بتاريخ دولة الإسلام التي نشرت العلم بينهم وأخرجتهم من ظلمات الجهل...
ولكن ما يجهله أعداء الإسلام حقا أو يتجاهلونه هو أن الإسلام يزداد صلابة كلما حاربه أعداؤه، وينتشر كلما أوغلوا في الكيد له...
تلك الكلمات المتواضعة السابقة كانت مقدمة ضرورية لكتابنا ( عطر الأحبة) المتواضع أيضا في جهده، الثمين بما حواه من شذا هؤلاء الأحبة، والذي يعد بدوره الجزء الأول من الكتاب الكبير( في روضة الصحابة)
والأحبة هنا هم بعض سلفنا الصالح وبعض صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولقد جمع بينهم حديث نبوي شريف صحيح رواه الترمذي يقول:
عن علي رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
ـ " إن لكل نبي سبعة نجباء رقباء وأعطيت أنا أربعة عشرة "
قلنا :(1/3)
ـ من هم ؟
قال :
ـ " أنا وابناي وجعفر وحمزة وأبو بكر وعمر ومصعب بن عمير وبلال وسلمان وعمار وعبد الله بن مسعود وأبو ذر والمقداد . "
وفي رواية مسند الإمام أحمد
عن عبد الله بن مليل قال سمعت عليا رضي اللهم عنهم يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
ـ " إنه لم يكن قبلي نبي إلا قد أعطي سبعة رفقاء نجباء وزراء وإني أعطيت أربعة عشر حمزة وجعفر وعلي وحسن وحسين وأبو بكر وعمر والمقداد وعبد الله بن مسعود وأبو ذر وحذيفة وسلمان وعمار وبلال . "
إن العودة إلى الوراء ومدارسة تاريخ هؤلاء الصحابة العظام أشبه بالدخول إلى روضة فيها العديد من الزهور والرياحين ، ولكن، هل كل ما علينا أن نشم عطرهم ونترحم عليهم فقط؟.. بالطبع لا، ولكن علينا أن نزرع مثل ما زرعوا لنحصد مثل ما حصدوا...
علينا أن نتدارس حياتهم لنصلح حياتنا...علينا أن ندافع عن ديننا بكل قوة ونستشهد في سبيله كما فعل جعفر ابن أبي طالب الذي زكاه الحبيب المصطفى فقال:
ـ " أشبهت خلقي وخلقي "
وكما فعل أسد الله وأسد رسوله حمزة بن عبد المطلب الذي مدحه المعصوم فقال:
ـ «سيد الشهداء عند الله تعالى يوم القيامة حمزة».
علينا أن تمسك بديننا كما تمسك به عمار بن ياسر الذي قال المعصوم في حقه:
ـ "عمار مليء إيماناً إلى مشاشه".
وكما فعل بلال بن رباح ، الذي سأله المعصوم بقوله:
ـ "إني دخلت الجنة فسمعت خشف( صوت) نعليك أمامي فأخبرني بأرجىعمل عملته "
وكما تمسك المقداد بإسلامه الدفاع عنه ، والذي تقدم به العمر وثقل وزنه ووهن عظمه ومع ذلك لم يتقاعس عن نداء الجهاد ، وحينما ذكره بعض إخوانه بعذره ورخص له بعدم الخروج للقتال قال في حسم:
ـ أبت علينا سورة البعوث : " انفروا خفافا وثقالا " (التوبة: 41)
علينا أن ننقل كلمة التوحيد وننشرها كما فعل أول سفراء الإسلام مصعب بن عمير الذي نال وسام الشهادة في أحد وهو يدافع عن الحبيب المصطفى.(1/4)
وعلينا أن نتحلى بالعلم والحلم والحكمة كما كان دأب الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود الذي مدح المعصوم ساقيه حين ضحك اصحابه لدقتهما فقال:
ـ "والذي نفسي بيده لهما أثقل من الميزان من أحد."
وعلينا أن نضع الحقيقة دوما أمام أعيننا كما فعل سيدنا سلمان الفارسي الذي صار بفضل الله وبفضل إخلاصه وبحثه عن الحقيقة واحدا من آل البيت طبقا للحديث الشريف القائل:
ـ " سلمان منا أهل البيت"
وعلينا أن نتحلى بالزهد في هذه الحياة الفانية لنصل إلى تلك الدرجة من الخلاص والنقاء والشفافية كما فعل الصحابي الجليل أبو ذر، الذي مدحه النبي العظيم فقال:
ـ ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر من سره أن ينظر الى زهد عيسى بن مريم فلينظر إلى أبي ذر."
وعلينا أن نحذو حذو سيدنا حذيفة بن اليمان الذي طهر قلبه من النفاق لدرجة فاقت كل الحدود ، ووعى قلبه تعاليم ونبوءات الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم عما سيحدث لأمة الإسلام حتى تقوم الساعة ، وعلم وحده أسماء المنافقين على عهد النبي الكريم، ولذا فقد عرف بصاحب سر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إن فعلنا هذا بجد وإخلاص سيكون لنا ـ بإذن الله ـ عطرنا الخاص الذي يمكننا أن نورثه لأبنائنا من بعدنا،وبذلك تظل راية الإسلام خفاقة على الدوام، وتظل روضته مثمرة أبد الآبدين.
تعريف
استمع إلى المعصوم فمس الإيمان شغاف قلبه ، ووقف على صخرة اليقين مودعا عالما ماضيا تعشش الأصنام في جنباته، ومستقبلا سبيلا يفضي إلى جنة عرضها السموات والأرض.
لقد خلع عباءة الكفر في نفس اللحظة التي خلع فيها ثياب العز والرفاهية ، واستغنى عن رضا أمه الكافرة برضا الإله.
وحين وعى جيدا قول الله تعالى : (إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله والله غفور رحيم ) ( 218ـ البقرة) وقوله تعالى :
((1/5)
إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم ) (111ـ التوبة) كان نهج حياته إيمان بالله وهجرة وجهاد في سبيله .
واستمع إلى المصطفى صلوات الله وسلامه عليه وهو يقول:
ـ " من خاف أدلج ( أدلج: السير أول الليل) ومن أدلج بلغ المنزل ألا إن سلعة الله غالية ألا إن سلعة الله الجنة "
فقرر أن يشتري الجنة بالثمن الذي ارتضاه الله.
وفي هجرتيه إلى الحبشة والمدينة كان لا يرى سوى الله ورسوله، وكيف لا وقد وعي قول المصطفى:
ـ " الأعمال بالنية ولامرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه" بخاري.
وحين حاولت أمه عبثا إعادته إلى حظيرة الكفر معتمدة على حبه لها وبره بها فقررت الامتناع عن الأكل والشرب حتى أوشكت على الهلاك ، كان حديث المصطفى :
ـ " لا طاعة لمخلوق في معصية الله عز وجل . " الإمام أحمد
هو ملاذه ، فمضى في طريق الإيمان ضاربا عرض الحائط بطيش أمه ولم يعبأ بها ولا بتهديداتها.وحين قررت حبسه تلذذ بالسجن في طاعة الله ، ولم يثنه عن إيمانه جوع ولا عطش ، وبلغ في صبره واحتماله ما لا يطيقه غيره، كيف لا وقد تقطع لحمه وسقط كما يساقط جلد الحية ، وثبت على دينه. خارت قواه وحملوه أصحابه على العصي ولم يتراجع عن إيمانه قيد أنمله. فقد هانت الدنيا أمام ناظريه حين علم هوانها من حديث المعصوم:
ـ " ما لي وما للدنيا ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها ." ابن ماجة
وحين سمع الحبيب المصطفى يقول:
ـ " إن أرواح الشهداء في طير خضر تعلق من ثمر الجنة أو شجر الجنة" الترمذي(1/6)
ـ " ما من عبد يموت له عند الله خير يسره أن يرجع إلى الدنيا وأن له الدنيا وما فيها إلا الشهيد لما يرى من فضل الشهادة فإنه يسره أن يرجع إلى الدنيا فيقتل مرة أخرى. " البخاري
حفرت هذه الكلمات في عقله وقلبه وصارت الشهادة في سبيل الله هدفه الذي يصبو إليه.
نحن الآن عزيزي القارئ في رحاب صحابي جليل فر إلى الحبشة بدينه ، وأرسله النبي إلى المدينة فكان أول سفير في الإسلام ، وبفضل علمه وإيمانه طرق الإسلام كل بيوت المدينة.
وكان أول من صلى الجمعة بالناس في الإسلام.
ومن حمل لواء المهاجرين في بدر.
وفي أحد نال نفس الشرف، ودافع عن النبي حتى قتل ، وتشبهت به الملائكة يومئذ.نحن الآن في رحاب من أجرى الله على لسانه يوم أحد ولحظة استشهاده قرآناً قبل أن ينزل آيات محكمات، نحن الآن في رحاب مصعب بن عمير.
مصعب بن عمير
نسبه:
الاسم: مصعب بن عمير، أو مصعب الخير بن عمير.
ويكنى: أبا محمد، أو أبا عبد الله.
أبوه: عمير ابن هاشم بن عبدمناف.
أمه: خناس بنت مالك
جاء في الروض الآنف ما يلي:
( وكانت أمه شديدة الكلف به وكان يبيت وقعب الحيس ( القعب : القدح الضخم ، الحيس : طعام خليط من اللبن والسمن والعسل) عند رأسه يستيقظ فيأكل فلما أسلم أصابه من الشدة ما غير لونه وأذهب لحمه ونهكت جسمه حتى كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينظر إليه وعليه فروة قد رفعها ، فيبكي لما كان يعرف من نعمته وحلفت أمه حين أسلم وهاجر ألا تأكل ولا تشرب ولا تستظل بظل حتى يرجع إليها ، فكانت تقف للشمس حتى تسقط مغشيا عليها ، وكان بنوها يحشون فاها بشجار(والشِّجارُ: عود يُجعل في فم الجَدْي لئلا يَرْضَع أُمَّه ) فيصبون فيه الحساء لئلا تموت.(1/7)
ثم خرج مصعب بن عمير من المدينة مع السبعين الذين وافوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في العقبة الثانية فقدم مكة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقرب منزله فجعل يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسراع الأنصار إلى الإسلام فسر بذلك .
وبعثت إليه أمه :
ـ يا عاق أتقدم بلدًا أنا به ولا تبدأ بي..!
فقال :
ـ ما كنت لأبدأ بأحد قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ولما لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهب إلى أمه فأرادت حبسه فقال :
ـ إن حبستني لأحرضن على قتل من يتعرض لي ، فبكت وقالت :
ـ اذهب لشأنك.
فقال :
ـ يا أماه إني لك ناصح وعليك شفيق فأسلمي.
قالت :
ـ والثواقب لا أدخل في دينك.
وهاجر الهجرتين إلى الحبشة.
وعن البراء قال أول من قدم علينا من المهاجرين مصعب بن عمير.
وكان لمصعب من الولد ابنة يقال لها زينب ، وأمها حمنة بنت جحش
وصفه صاحب الحلية فقال:
ـ المحب القاري، المستشهد بأحد. كان أول الدعاة، وسيد التقاة، سبق الركب، وقضى النحب، ورغب عن التزييف والتسويف، وغلب عليه الحنين والتخويف.
إسلامه:
أسلم قديما والنبي صلى الله عليه وسلم في دار الأرقم وكتم إسلامه خوفا من أمه وقومه ، فعلمه عثمان بن طلحة فأعلم أهله فأوثقوه فلم يزل محبوسا إلى أن هرب مع من هاجر إلى الحبشة ، ثم رجع إلى مكة فهاجر إلى المدينة وشهد بدرا ثم شهد أحدا ومعه اللواء فاستشهد.
عن سعد بن مالك قال :
ـ كنا قبل الهجرة يصيبنا ظلف العيش وشدته فلا نصبر عليه فما هو الا أن هاجرنا فأصابنا الجوع والشدة فاستضلعنا بهما وقوينا عليهما فأما مصعب بن عمير فإنه كان أترف غلام بمكة بين أبويه ، فلما أصابه ما أصابنا لم يقو على ذلك فلقد رأيته وإن جلده ليتطاير عنه تطاير جلد الحية ، ولقد رأيته ينقطع به فما يستطيع أن يمشي فنعرض له القسي ثم نحمله على عواتقنا.
صفاته الجسدية:
كان رقيق البشرة ليس بالطويل ولا بالقصير .(1/8)
وذكر محمد بن إسحاق أن مصعب بن عمير كان أنعم غلام بمكة وأجوده حلة مع أبويه . وكان أعطر أهل مكة يلبس الحضرمي من النعال.
جاء في المنتظم:
(وكان شابًا جميلًا عطرأحسن الكسوة وكانا أبواه ينعمانه فبلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الناس في دار الأرقم فدخل فاسلم وكتم إسلامه من قومه وأمه وكان يختلف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سرًا فبصر به عثمان بن طلحة يصلي فأخبرأمه وقومه فأخفوه فحبسوه فلم يزل محبوسًا حتى خرج إلى أرض الحبشة في الهجرة الأولى ثم رجع مع المسلمين وأقبل يومًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه قطعة من نَمِرَةٍ قد وصلها بإهاب فنكس أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤوسهم رحمة له وليس عندهم ما يغيًرون عليه فسلم فرد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم السلام وقال :
ـ " لقد رأيت هذا وما بمكة فتى من قريش أنعم عند أبويه منه ثم أخرجه من ذلك الرغبة في الخير في حب الله ورسوله. "
وفي رواية أخرى في كتاب صفة الصفوة:
ـ " انظروا إلى هذا الرجل الذي قد نور الله قلبه لقد رأيته بين أبوين يغدوان بأطيب الطعام والشراب فدعاه حب الله ورسوله إلى ما ترون "
أخرج الترمذي عن علي رضي الله عنه قال:
( خرجت في غداة شاتية من بيتي جائعاً حرصاً قد أذلقني( الذلق : حدة الشئ) البرد، فأخذت إهاباً( الإهاب : جلد الغنم والبقر والوحش ما لم يدبغ) معطوناً (منتن متمزق الشعر)كان عندنا، فجببته ثم أدخلته في عنقي ثم حزمته على صدري أستدفىء به، فوالله ما في بيتي شيء آكل منه، ولو كان في بيت النبي صلى الله عليه وسلم بلغني. فخرجت في بعض نواحي المدينة فاطَّلعت إلى يهودي في حائط من ثغرة جداره فقال:
ـ ما لك يا أعرابي، هل لك في كل دلو بتمرة؟
فقلت:
ـ نعم، فافتح الحائط، ففتح لي فدخلت، فجعلت أنزع دلواً ويعطيني تمرة حتى امتلأت كفي قلت:(1/9)
ـ حسبي منك الآن، فأكلتهن ثم كرعت الماء، ثم جئت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجلست إليه في المسجد وهو في عصابه من أصحابه، فاطَّلع علينا مُصْعَب بن عمير رضي الله عنه في بردة له مرقوعة؛ فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر ما كان فيه من النعيم ورأى حاله الذي هو عليها إنذرفت عيناه فبكى، ثم قال:
ـ «كيف أنتم إذا غدا أحدكم في حلّة وراح في أخرى، وسُترت بيوتكم كما تُستر الكعبة؟»
قلنا:
نحن يومئذٍ خير نُكفى المؤنة ونتفرغ للعبادة.
قال:
ـ «بل أنتم اليوم خير منكم يومئذٍ».
أول سفير في الإسلام:
كتبت الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم :
ـ ابعث لنا رجلًا يفقهنا في الدين ويقرئنا القرآن فبعث إليهم مصعب بن عمير فنزل على أسعد بن زرارة وكان يأتي الأنصار في دورهم وقبائلهم فيدعوهم إلى الإسلام وأظهر الإسلام في دور الأنصار وكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستأذن أن يجمع بهم في دار ابن خيثمة وكانوا يومئذ اثني عشر رجلًا وهو أول من جمع في الإسلام يوم الجمعة .
وقد قيل : إن أول من جمع بهم أبو أمامة أسعد بن زرارة .
كان مُصعب بن عُمير يفقه أهل المدينة ويقرئهم القرآن ولذا فقد كان يُسمى بالمدينة : المقرئَ
وكان إسلام سعد بن معاذ وأسيد بن حضيرا فتحا للإسلام في المدينة.
قال ابن إسحاق :
(ن أسعد بن زُرارة خرج بمصعب بن عمير يريد به دار بني ظَفَر وكان سعد بن معاذ ابنَ خالة أسعد بن زرارة فدخل به حائطاً من حوائط بني ظَفَر على بئر يقال له بئر مَرَق. فجلسا في الحائط واجتمع إليهما رجال ممَّن أسلم وسعد بن معاذ وأُسَيد بن حُضَير يومئذٍ سيِّدا قومهما من بني عبد الأشهل وكلاهما مشرك على دين قومه فلمَّا سمعا به قال سعد لأُسَيد:(1/10)
ـ لا أبا لك، انطلق إلى هذين الرجلين اللَّذين قد أتيا دارَيْنا ليسفِّها ضعفاءنا فازجرهما وانهَهُما أن يأتيا دارَيْنا، فإنَّه لولا أسعد بنت زرارة مني حيث قد علمت كفيتُك ذلك، هو ابن خالتي ولا أجد عليه مقدَّماً.
فأخذ أسيد بن حُضَير حربته ثم أقبل إليهما. فلمَّا رآه أسعد بن زرارة قال لمصعب:
ـ هذا سيِّد قومه وقد جاءك فأصدق الله فيه.
قال مصعب:
ـ إن يجلس أكلمه.
قال فوقف عليهما مُتَشَتِّماً فقال:
ـ ما جاء بكما إلينا تسفِّهان ضعفاءنا؟ اعتزلانا إن كانت لكما بأنفسكما حاجة. فقال له مصعب:
ـ أوَ تجلس فتسمع، فإن رضيت أمراً قبلته، وإن كرهتَه كُفّ عنك ما تكره.
قال: أنصفتَ.
ثم ركز حربته وجلس إليهما، فكلَّمه مصعب بالإِسلام، وقرأ عليه القرآن.
فقالا فيما يُذكر عنهما:
ـ والله لَعَرفنا في وجهه الإِسلام قبل أن يتكلَّم في إشراقه وتسهُّل.
ثم قال:
ـ ما أحسن هذا وأجمله كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين؟
قالا له:
ـ تغتسل فتطَّهَّر وتُطهِّر ثوبَيْك، ثم تشهد شهادة الحق ثم تصلِّي.
فقام فاغتسل وطهَّر ثوبيه وتشهَّد شهادة الحق ثم قام فركع ركعتين ثم قال لهما:
ـ إنَّ ورائي رجلاً إن اتَّبَعكما لم يتخلَّف عنه أحد من قومه، وسأرسله إليكما الآن: سعدَ بن معاذ.
ثم أخذ حربته وانصرف إلى سعد وقومه وهم جلوس في ناديهم، فلما نظر إليه سعد بن معاذ مقبلاً قال:
ـ أحلف بالله لقد جاءكم أُسَيْد بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم.
فلما وقف على النادي قال له سعد:
ـ ما فعلت؟
قال:
ـ كلَّمت الرجلين، فوالله مارأيت بهما بأساً، وقد نهيتهما فقالا:
ـ نفعل ما أحببت، وقد حُدِّثت أنَّ بني حارثة خرجوا إلى أسعد بن زرارة ليقتلوه، وذلك أنهم عرفوا أنَّه ابن خالتك ليَحْقِروك.
فقام سعد بن معاذُ مُغْضَباً مبادراً تَخوُّفاً للذي ذُكر له من بني حارثة، وأخذ الحربة في يده ثم قال:(1/11)
ـ والله ما أراك أغنيت شيئاً. ثم خرج إليهما سعد فلما رآها مطمئنين عرف أن أسَيْداً إنما أراد أن يسمع منهما، فوقف مُتَشَمِّتاً، ثم قال لأسعد بن زرارة:
ـ يا أبا أُمامة أمَا والله لولا ما بيني وبينك من القرابة ما رُمْتَ هذا منِّي، أتَغْشانا في دارنا بما نكره؟
قال أسعد لمصعب:
ـ أيْ مصعب جاءك والله سيِّدُ مَنْ وراءَه من قومه، إِن يتبعك لا يتخلَّف عنك منهم إثنان .
فقال له مصعب:
ـ أوَ تقعد فتسمع، فإن رضيت أمراً ورغبت فيه قَبلْتَه، وإن كرهته عزلنا عنك ما تكره؟
قال سعد: أنصفت.
ثم ركز الحربة وجلس، فعرض عليه الإِسلام، وقرأ عليه القرآن وذكر موسى بن عقبة أنَّه قرأ عليه أول الزخرف .
قالا:
ـ فعرفنا والله في وجهه الإِسلام قبل أن يتكلَّم في إشراقه وتسهُّله.
ثم قال لهما:
ـ كيف تصنعون إذا أنتم أسلمتم ودخلتم في هذا الدين؟
قالا:
ـ تغتسل فتطَّهَّر، وتُطَهِّر ثوبيك، ثم تشهد شهادة الحق، ثم تصلِّي ركعتين.
فقام فاغتسل وطهَّر ثوبيه وشهد شهادة الحق، ثم ركع ركعتين، ثم أخذ حربته فأقبل عائداً إلى نادي قومه ومعهم أُسَيْد بن حضير.
فلمَّا رآه قومه مقبلاً قالوا:
ـ نحلف بالله لقد رجع إليكم سعد بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم.
فلمَّا وقف عليهم قال:
ـ يا بني عبد الأشهل، كيف تعلمون أمري فيكم؟
قالوا:
ـ سيدنا وأفضلنا رأياً وأيمننا نقيبة.
قال:
ـ فإنَّ كلام رجالكم ونسائكم عليَّ حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله.
قال:
ـ فوالله ما أمسى في دار بني عبد الأشهل رجل ولا إمرأة إلا مسلماً أو مسلمة. ورجع أسعد ومصعب إلى منزل أسعد بن زُرارة فأقام عنده يدعو الناس إلى الإِسلام، حتى لم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رجال ونساء مسلمون)
وعقد رسول الله صلى الله عليه وسلم الألوية في بدر فكان لواء رسول الله صلى الله عليه وسلم الأعظم لواء المهاجرين مع مصعب بن عمير ولواء الخزرج مع الحباب بن المنذر ولواء الأوس مع سعد بن معاذ .(1/12)
وبعد تمام نصر الله ارتحل رسول الله صلى الله عليه وسلم فلقيه المسلمون بالروحاء يهنئونه بما فتح الله عليه فقال رجل :
ـ وما الذي تهنئون به فوالله إن لقينا إلا عجائز ضلعًا كالبدن المعقلة فنحرناها فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال :
ـ " لا يا ابن أخي أولئك الملأ " .
وأخرج ابن إسحاق عن نبيه بن وَهْب أخي بني عبد الدار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أقبل بالأسارى فرَّقهم بين أصحابه وقال:
ـ «استوصوا بهم خيراً»
وكان أبو عزيز بن عمير بن هاشم ـ أخو مصعب بن عمير رضي الله عنه لأبيه وأمه ـ في الأسارى. قال أبو عزيز:
ـ مرَّ بي أخي مصعب بن عمير ورجل من الأنصار يأسرني فقال:
ـ شدَّ يديك به؛ فإنّ أمه ذات متاع لعلها تفديه منك .
قال أبو عزيز:
ـ فكنت في رَهْط من الأنصار حين أقبلوا بي من بدر، فكانوا إذا قدَّموا غداءهم وعشاءهم خصُّوني بالخبز وأكلوا التمر لوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم بنا، ما تقع في يد رجل منهم كسرة خبز إلا نفحني بها، فأستحي فأردها فيردها عليَّ ما يمسها. ولما قال أخوه مصعب لأبي اليَسَر ـ وهو الذي أسره ـ ما قال، قال له أبو عزيز:
ـ يا أخي، هذه وصاتك بي؟
فقال له مصعب:
ـ إنه أخي دونك.
فسألت أمه عن أغلى ما فُديَ به قرشي فقيل لها: أربعة آلاف درهم.
فبعثت بأربعة آلاف.
الوفاة:
استشهد رضي الله عنه في أحد وهو ابن أربعين سنةأو يزيد.
عن محمد بن شرحبيل قال :
ـ حمل مصعب اللواء يوم أحد فلما جال المسلمون ثبت به مصعب فاقبل ابن قمئة فضرب يده اليمنى فقطعها ومصعب يقول (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل ) سورة آل عمران آية: 144. وأخذ اللواء بيده اليسرى وحنا عليه فضربها فقطعها فحنا على اللواء وضمه بعضديه إلى صدره وهو يقول: (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل) ثم حمل عليه الثالثة بالرمح فانفذه.
قال إبراهيم بن محمد عن أبيه :(1/13)
ـ ما نزلت هذه الآية : (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل ) يومئذ ثم نزلت بعد ذلك .
وقاتل مصعب بن عمير دون رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحد حتى قتل وكان الذي قتله ابن قمئة الليثي وهو يظن أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجع الى قريش فقال قتلت محمدا.
وقال ابن سعد :
( قتل مصعب وأخذ اللواء ملك في صورته فجعل النبي. صلى الله عليه وسلم يقول له في آخر النهار تقدم يا مصعب فالتفت إليه الملك وقال لست بمصعب فعرف النبي صلى الله عليه وسلم أنه ملك أيد به)
وعن عبيد بن عميرقال:
ـ لما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحد مر على مصعب بن عمير مقتولا على طريقه فقرا ( من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا عليه) سورة الأحزاب آية 23.
ذكر عبد الله بن المبارك أن عبد الرحمن ابن عوف أتى بطعام وكان صائما فقال:
( قتل مصعب بن عمير وهو خير مني كفن في بردة إن غطي رأسه بدت رجلاه وإن غطى رجلاه بدا رأسه ، وقتل حمزة هو خير مني ، ثم بسط لنا من الدنيا ما بسط أو قال أعطينا من الدنيا ما أعطينا وقد خشينا أن تكون حسناتنا عجلت لنا ثم جعل يبكي حتى برد الطعام )
وجاء في الصحيحين ما يلي:
(وعن خباب قال هاجرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نبتغي وجه الله فوجب أجرنا على الله عز وجل فمنا من مضى ولم يأكل من أجره شيئا منهم مصعب بن عمير قتل يوم أحد فلم نجد له شيئا نكفنه فيه إلا نمرة كنا إذا غطينا بها رأسه خرجت رجلاه وإذا غطينا رجليه خرج رأسه فأمرنا رسول الله أن نغطي بها رأسه ونجعل على رأسه أذخرا( نوع من النبات) ومنا من أينعت له ثمرته فهو يهدبها)
قال ابن اسحاق:
((1/14)
ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم الى المدينة فلقيته حمنة بنت جحش كما ذكر لي فلما لقيت الناس نعى اليها أخوها عبد الله بن جحش فاسترجعت واستغفرت له ثم نعى لها خالها حمزة بن عبد المطلب فاسترجعت واستغفرت له ثم نعى لها زوجها مصعب بن عمير فصاحت وولولت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى من تثبتها عند أخيها وخالها وصياحها على زوجها:
ـ " إن زوج المرأة منها لبمكان"
تعريف
كان اقترابه من الإسلام أول الأمر حمية...
وحين فتح الله عليه بالإيمان زاد عزة...
صال وجال في الحرب مع النبي فسماه أسد الله ...
كان حامل أول لواء حرب بالمدينة مع الرسول ...
في بدر كانت ريشته تشير إليه، وقال أعداؤه المأسورون وهم يشيرون نحوه: ـ هذا من فعل بنا الأفاعيل..!
فتك بأول فرسان العدو وأطن قدمه حين أقسم بالوصول إلى بئر بدر رغم أنف المسلمين...
قتل صنديد من صناديد الكفر، وشارك في قتل آخر ، وجندل سيد من ساداتهم وقضى عليه ، عدا الكثير من عامتهم ، وشارك في صنع نصر زلزل الأرض من تحت أقدام أعداء الدين...
في أحد كانت الأعين ترصده ، ونار الثأر تغلي في القلوب ...
مكلومي بدر صنعوا من حزنهم حلم الحرية في قلب عبد من عبيدهم فوضع حلمه على سن رمحه...
منوه... أغروه... فكان طوق نجاته من أسره منوط بقتل هذا الأسد...
"كل نفس ذائقة الموت " ، أية تقرأ ليوم الدين ، وما أصاب المرء لم يكن أبدا ليخطئه ، وبطلنا يهفو ككل المؤمنين إما للنصر وإما للشهادة...
الأسد كعادته يصول، ويقتل ... والعبد بحربته كامن في انتظار محموم، حتى حانت اللحظة...
طار الحربة من يد الحبشي لترفع البطل من أرض المعركة إلى جنان الخلد ...
طاعة الرسول من طاعة الله وفيها النجاة ، أمر سماوي وإلزام رباني ، تلاشى للحظة مع بشريات النصر في بدايات أحد...(1/15)
الرماة طمعوا في الغنيمة رغم تحذير الرسول ، فتركوا المواقع ، وانقلب ميزان المعركة ، فانهزم من دان النصر له في البداية ، وانتصر من أراد الله له الإنتصار لحكمة...
كان من أشد أحزان الرسول بعد الهزيمة مقتل البطل، الذي مثل بجسده شر تمثيل...
نال العبد بغيته ، وراحت من قتل أبوها وعمها وأخوها يوم بدر تصنع من جسد الأسد أساور وخلاخيل، ولم تكتف بذلك بل لاكت كبده الشريف حقدا وتشفيا...
وقف الحبيب المصطفى عل جسد الشهيد حزينا متوعدا فقال:
ـ " رحمة الله عليك فإنك كنت ما علمت فعولا للخيرات وصولا للرحم ، ولولا حزن من بعد عليك لسرني أن أدعك حتى تحشر من أفواه شتى ، أما والله مع ذلك لأمثلن بسبعين منهم مكانك ."
عظمة الأبطال تكون في حياتهم وبعد مماتهم ، وبسبب حزن النبي البادي على قتل الشهيد وقسمه على الانتقام نزل في التو واللحظة قرآن يتلى ليوم الدين...
نزل جبريل علىالنبي صلى الله عليه وسلم (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به) سورة النحل آية 126 إلى آخر السورة ، فصبر النبي صلى الله عليه وسلم وأمسك عما أراد.
الشهيد كالآخرين من الشهداء كان عملاقا في دينه، فطلق الدنيا طلاقا بائنا ،وحين هموا بدفنه لم يجدوا في أصح الروايات كفنا يواري جسده كاملا ، فكان إن غطوا قدميه بدا وجهه، وإن غطوا وجهه بدت قدماه...
فكانت نهايته نهاية بطل عاش أسدا ، وحين مات كان سيدا للشهداء ، كما سماه الرسول وكناه...
والآن ...
نحن على أعتاب أسطر متواضعة تهمس في إجلال عن سيدنا حمزة بن عبد المطلب، عم الرسول ، وأخوه في الرضاعة.عفا الله عنا وجمعنا به في الجنة.
حمزة بن عبد المطلب
نسبه:(1/16)
اسمه: حمزة بن عبد المطلب ،أسد الله وأسد رسوله ، وعمه رضى الله تعالى عنه. وأخوه من الرضاعة أرضعتهما ثويبة مولاة أبي لهب كما ثبت في الصحيحين ، ، وأرضعت أيضا أبا سلمة بن عبد الأسد، وهو قريبه من أمه أيضا لأن أم حمزة هالة بنت أهيب بن عبد مناف بن زهرة بنت عم آمنة بنت وهب بن عبد مناف أم النبي صلى الله عليه وسلم.
كان له من الولد عمارة ، عامر ، ويعلى وكان يكنى أبا عمارة ، و أبا يعلي ، وكان له بنت اسمها أمامة ، وهي التي اختصم بها زيد وجعفر وعلي وأراد كل واحد منهم أن تكون عنده فقضى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم لجعفر من أجل أن خالتها أسماء بنت عميس كانت عنده ، وزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم سلمة بن أبي سلمة بن عبدالأسد المخزومي لكنه هلك قبل أن يجمعها إليه.
وقد كان ليعلى بن حمزة أولاد عمارة والفضل والزبير وعقيل ومحمد درجوا (درج: مات ولم ينجب) فلم يبق لحمزة بن عبد المطلب ولد ولا عقب.
ولد قبل النبي صلى الله عليه وسلم بسنتين وقيل بأربع ، وأسلم في السنة الثانية من البعثة، وقيل غير ذلك.
أبوه: سيد قريش عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف
أمه :هالة بنت أهيب بن عبد مناف .
قال محمد بن عمر:
ـ لما هاجر حمزة بن عبد المطلب إلى المدينة آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين زيد بن حارثة ، وإليه أوصى حمزة بن عبد المطلب يوم أحد حين حضر القتال.
صفاته الجسدية:
كان رجلا، ليس بالطويل، ولا بالقصير.
مناقبه:
*ـ كان شجاعا يوم إسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، جاء في ( كتاب الروض الآنف ) :
((1/17)
وكان خباب بن الأرت يختلف إلى فاطمة بنت الخطاب يقرئها القرآن فخرج عمر يوما متوشحا سيفه يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم ورهطا من أصحابه قد ذكروا له أنهم قد اجتمعوا في بيت عند الصفا ، وهم قريب من أربعين ما بين رجال ونساء ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم عمه حمزة بن عبد المطلب ، وأبو بكر الصديق وعلي بن أبي طالب ، في رجال من المسلمين رضي الله عنهم ممن كان أقام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ولم يخرج فيمن خرج إلى أرض الحبشة ،
فلقيه نعيم بن عبد الله فقال له:
ـ أين تريد يا عمر ؟
فقال :
ـ أريد محمدا هذا الصابئ الذي فرق أمر قريش ، وسفه أحلامها ، وعاب دينها ، وسب آلهتها ، فأقتله .
فقال له نعيم :
ـ والله لقد غرتك نفسك من نفسك يا عمر أترى بني عبد مناف تاركيك تمشي على الأرض وقد قتلت محمدا ؟!..أفلا ترجع إلى أهل بيتك فتقيم أمرهم ؟
قال:
ـ وأي أهل بيتي ؟
قال :
ـ ختنك (الخَتَنُ أَبو امرأَة الرجل وأَخو امرأَته وكل من كان من قِبَلِ امرأَته )وابن عمك سعيد بن زيد بن عمرو ، وأختك : فاطمة بنت الخطاب ، فقد والله أسلما ، وتابعا محمدا على دينه فعليك بهما .
فرجع عمر عامدا إلى أخته وختنه وعندهما خباب بن الأرت معه صحيفة فيها : " طه " يقرئهما إياها ، فلما سمعوا حس عمر تغيب خباب في مخدع لهم - أو في بعض البيت وأخذت فاطمة بنت الخطاب الصحيفة فجعلتها تحت فخذها ، وقد سمع عمر حين دنا إلى البيت قراءة خباب عليهما ، فلما دخل قال :
ـ ما هذه الهينمة التي سمعت .
قالا له :
ـ ما سمعت شيئا .
قال:
ـ بلى، والله لقد أخبرت أنكما تابعتما محمدا على دينه.
وبطش بختنه سعيد بن زيد ، فقامت إليه أخته فاطمة بنت الخطاب لتكفه عن زوجها ، فضربها فشجها ، فلما فعل ذلك قالت له أخته وختنه:
ـ نعم قد أسلمنا ، وآمنا بالله ورسوله فاصنع ما بدا لك .
فلما رأى عمر ما بأخته من الدم ندم على ما صنع ، وقال لأخته:(1/18)
ـ أعطيني هذه الصحيفة التي سمعتكم تقرءون آنفا أنظر ما هذا الذي جاء به محمد .
وكان عمر كاتبا ، فلما قال ذلك قالت له أخته:
ـ إنا نخشاك عليها .
قال:
ـ لا تخافي .
وحلف لها بآلهته ليردنها إذا قرأها إليها .
فلما قال ذلك طمعت في إسلامه فقالت له:
ـ يا أخي ، إنك نجس على شركك ، وإنه لا يمسها إلا الطاهر.
فقام عمر فاغتسل فأعطته الصحيفة وفيها : " طه " فقرأها ، فلما قرأ منها صدرا ، قال:
ـ ما أحسن هذا الكلام وأكرمه.
فلما سمع ذلك خباب خرج إليه فقال له :
ـ يا عمر والله إني لأرجو أن يكون الله قد خصك بدعوة نبيه فإني سمعته أمس وهو يقول :
ـ " اللهم أيد الإسلام بأبي الحكم بن هشام أو بعمر بن الخطاب"
فالله الله يا عمر..!
فقال له عند ذلك عمر:
ـ فدلني يا خباب على محمد حتى آتيه فأسلم.
فقال له خباب :
ـ هو في بيت عند الصفا ، معه فيه نفر من أصحابه.
فأخذ عمر سيفه فتوشحه ثم عمد إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه فضرب عليهم الباب فلما سمعوا صوته قام رجل من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنظر من خلل الباب فرآه متوشحا السيف فرجع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم وهو فزع فقال:
ـ يا رسول الله هذا عمر بن الخطاب متوشحا السيف .
فقال حمزة بن عبد المطلب :
ـ فأذن له فإن كان جاء يريد خيرا بذلناه له وإن كان جاء يريد شرا قتلناه بسيفه.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
ـ " ائذن له "
فأذن له الرجل ونهض إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لقيه في الحجرة فأخذ حجزته أو بمجمع ردائه ثم جبذه به جبذة شديدة وقال:
ـ " ما جاء بك يا بن الخطاب ؟ فوالله ما أرى أن تنتهي حتى ينزل الله بك قارعة " .
فقال عمر :
ـ يا رسول الله جئتك لأومن بالله وبرسوله وبما جاء من عند الله.
فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبيرة عرف أهل البيت من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عمر قد أسلم .(1/19)
فتفرق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكانهم وقد عزوا في أنفسهم حين أسلم عمر مع إسلام حمزة وعرفوا أنهما سيمنعان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وينتصفون بهما من عدوهم.)
*ـ أول لواء عقده رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة كان لحمزة. وذلك في سرية في ثلاثين راكبا حتى بلغوا قريبا من سيف البحر، يعترض لعير قريش وهي منحدرة إلى مكة قد جاءت من الشآم ، وفيها أبو جهل بن هشام في ثلاثمائة راكب ، فانصرف ولم يكن بينهم قتال.
*ـ لقبه النبي صلى الله عليه وسلم أسد الله وسماه سيد الشهداء.
*ـ شهد بدرا وأبلى في ذلك :
1ـ قتل شيبة بن ربيعة ، وشارك في قتل عتبة بن ربيعة أو بالعكس ، وقتل طعيمة بن عدي. وكان حمزة معلما يوم بدر بريشة نعامة.
2ـ قتل حمزة الأسود بن عبد الأسد المخزومي يوم بدر فكان أول من قتل من المشركين وكان رجلا شرسا سيء الخلق فقال:
ـ أعاهد الله لأشربن من حوضهم أو لأهدمنه أو لأموتن دونه ( يعني بئر يدر) فلما خرج خرج إليه حمزة بن عبد المطلب، فلما التقيا ضربه حمزة فأطن( أسرع في قطع) قدمه بنصف ساقه وهو دون الحوض فوقع على ظهره تشخب رجله دما نحو أصحابه ، ثم حبا إلى الحوض حتى اقتحم فيه يريد زعم أن تبر يمينه، واتبعه حمزة فضربه حتى قتله في الحوض.
3ـ عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال: قال لي أمية بن خلف:
ـ يا عبد الإِله، مَنِ الرجل المعلم بريشة نعامة في صدره يوم بدر؟
قلت:
ـ ذاك عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذاك حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه.
قال: ذاك الذي فعل بنا الأفاعيل.
*ـ عن قيس بن عباد قال:سمعت أبا ذر يقسم :
أنزلت هذه الآيات (هذان خصمان اختصموا في ربهم فالذين كفروا ) إلى قوله
( إن الله يفعل ما يريد ) في هؤلاء الرهط الستة يوم بدر حمزة بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب وعبيدة بن الحارث وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة.(1/20)
*ـ حمل حمزة لواء رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بني قينقاع.
*ـ في السنة الثانية من الهجرة غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم في قول بعض أهل السير غزوة الأبواء، وقيل( ودّان ) وبينهما ستة أميال ، وكان لواؤه أبيض مع حمزة بن عبد المطلب.
*ـ جاء في طبقات ابن سعد عن عمار بن أبي عمار:
( أن حمزة بن عبد المطلب سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يريه جبريل في صورته قال إنك لا تستطيع أن تراه قال بلى قال فاقعد مكانك قال فنزل جبريل على خشبة في الكعبة كان المشركون يضعون ثيابهم عليها إذا طافوا بالبيت فقال:
ـ " ارفع طرفك فانظر."
فنظر فإذا قدماه مثل الزبرجد الأخضر فخر مغشيا.
*ـ قتل أكثر من ثلاثين نفسا بأحد قبل أن يقتل، وكان يقاتل بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ بسيفين، وكان يقول :
ـ أنا أسد الله .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حقه :
ـ «سيد الشهداء عند الله تعالى يوم القيامة حمزة».
قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإِسناد.
وروى :
ـ " خير الشهداء ولولا أن تجد صفية لتركت دفنه حتى يحشر في بطون الطير والسباع " .
إسلامه:
قال محمد بن كعب القرظي:
ـ قال أبو جهل في رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فبلغ ذلك حمزة فدخل المسجد مغضبا ، فضرب رأس أبي جهل بالقوس ضربة أوضحته (تَقْشِرالجلدةَ التي بين اللحم والعظم أَو تشقها حتى يبدو وَضَحُ العظم) وأسلم حمزة فعز به رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون ، وذلك في السنة السادسة من النبوة بعد دخول رسول الله دار الأرقم.
جاء في كتاب البداية والنهاية لابن كثير:
(أن أبا جهل اعترض رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الصفا فآذاه وشتمه ونال منه ما يكره من العيب لدينه ، فذكر ذلك لحمزة بن عبد المطلب ، فاقبل نحوه حتى إذا قام على رأسه رفع القوس فضربه بها ضربة شجه منها شجة منكرة ، وقامت رجال من قريش من بني مخزوم إلى حمزة لينصروا أبا جهل منه ، وقالوا :(1/21)
ـ ما نراك يا حمزة إلا قد صبوت..!
قال حمزة :
ـ ومن منعني وقد استبان لي منه ما أشهد أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن الذي يقول حق ، فوالله لا أنزع فامنعوني إن كنتم صادقين .
فقال أبو جهل :
ـ دعوا أبا عمارة فاني والله لقد سببت ابن أخيه سبا قبيحا .
فلما أسلم حمزة عرفت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عز وامتنع فكفوا عما كانوا يتناولون منه.
قال ابن اسحاق ثم رجع حمزة إلى بيته فاتاه الشيطان فقال:
ـ أنت سيد قريش اتبعت هذا الصابئ وتركت دين آبائك للموت خير لك مما صنعت..!
فاقبل حمزة على نفسه وقال:
ـ ما صنعت اللهم إن كان رشدا فاجعل تصديقه في قلبي وإلا فاجعل لي مما وقعت فيه مخرجا .
فبات بليلة لم يبت بمثلها من وسوسة الشيطان حتى أصبح فغدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
ـ يا ابن أخي إني قد وقعت في أمر ولا أعرف المخرج منه ، واقامة مثلي على مالا أدري ما هو أرشد أم هو غي شديد ، فحدثني حديثا فقد اشتهيت يا ابن أخي أن تحدثني.
فاقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره ووعظه وخوفه وبشره فألقى الله في قلبه الإيمان بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
ـ أشهد أنك الصادق شهادة الصدق ، فاظهر يا ابن أخي دينك فوالله ما أحب أن لي ما أظلته السماء وأني على ديني الأول ،فكان حمزة ممن أعز الله به الدين )
وجاء في ( كتاب حياة الصحابة) للكندهلوي أن إسلام حمزة كان يوم أن ضرب أبي بكر ، وكانت تفاصيل القصة كما يلي:
( أخرج الحافظ أبو الحسن الأطرابلسي عن عائشة رضي الله عنها قالت:
لما اجتمع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ـ وكانوا ثمانية وثلاثين رجلاً ـ ألحّ أبو بكر على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظهور، فقال:
ـ «يا أبا بكر إنَّا قليل».(1/22)
فلم يزل أبو بكر يلحّ حتى ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرق المسلمون في نواحي المسجد كل رجل في عشيرته. وقام أبو بكر في الناس خطيباً ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس، فكان أول خطيب دعا إلى الله وإلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وثار المشركون على أبي بكر وعلى المسلمين، فضُربوا في نواحي المسجد ضرباً شديداً، ووطىء أبو بكر وضُرب ضرباً شديداً، ودنا منه الفاسق عتبة بن ربيعة فجعل يضربه بنعلين مخصوفتين ويحرِّفهما لوجهه، ونزا على بطن أبي بكر حتى ما يعرف وجهه من أنفه. وجاء بنو تَيْم يتعادَون فأجلَت المشركين عن أبي بكر، وحملت بنو تَيْم أبا بكر في ثوب حتى أدخلوه، منزله ولا يشكُّون في موته. ثم رجعت بنو تَيْم فدخلوا المسجد وقالوا: والله لئن مات أبو بكر لنقتلنَّ عتبة بن ربيعة، فرجعوا إلى أبي بكر فجعل أبو قحافة وبنو تَيم يكلِّمون أبا بكر حتى أجاب، فتكلَّم آخر النهار فقال:
ـ ما فعل رسول الله؟
فمسُّوا منه بألسنتهم وعَذَلوه، ثم قاموا لأمه أم الخير:
ـ أنظري أن تطعميه شيئاً أو تسقيه إياه
فلما خلت به ألحَّت عليه، وجعل يقول:
ـ ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم..؟
فقالت:
ـ والله مالي علمٌ بصاحبك.
فقال:
ـ إذهبي إلى أمِّ جميل بنت الخطّاب فاسأليها عنه.
فخرجت حتى جاءت أم جميل فقالت:
ـ إن أبا بكر يسألك عن محمد بن عبد الله.
فقالت:
ـ ما أعرف أبا بكر ولا محمد بن عبد الله، وإِن كنت تحبين أن أذهب معك إلى إبنك.
قالت:
ـ نعم.
فمضيت معها حتى وجدت أبا بكر صريعاً دَنِفاً (ورجل دَنِفٌ: براه المرضُ حتى أَشْفىعلى الموت)
، فدنت أم جميل وأعلنت بالصياح وقالت:
ـ والله إِنَّ قوماً نالوا هذا منك لأهل فسق وكفر، وإني لأرجو أن ينتقم الله لك منهم.
قال:
ـ فما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم..؟
قالت:
ـ هذه أمك تسمع.
قال:
ـ فلا شيء عليك منها.
قالت:
ـ سالم صالح.
قال:
ـ أين هو؟
قالت:
ـ في دار ابن الأرقم.
قال:(1/23)
ـ فإن لله عليَّ أن لا أذوق طعاماً ولا أشرب شراباً أو آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فأمهلتا حتى إذا هدأت الرجل وسكن الناس، خرجتا به يتكىء عليهما حتى أدخلتاه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأكبَّ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبله، وأكب عليه المسلمون، ورقَّ له رسول الله صلى الله عليه وسلم رقَّة شديدة. فقال أبو بكر:
ـ بأبي وأمي يا رسول الله، ليس بي بأس إِلا ما نال الفاسق من وجهي، وهذه أمي بَرَّة بولدها، وأنت مبارك فادعُها إلى الله وادعُ لها عسى الله أن يستنقذها بك من النار.
فدعا لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ودعاها إلى الله فأسلمت. وأقاموا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدار شهراً)
وفاته:
قتل في أحد، وذلك في النصف من شوال سنة ثلاث من الهجرة ، وهو يومئذ بن تسع وخمسين سنة تقريبا.
عن جعفر بن عمرو الضمري:
( قال خرجت مع عبيد الله بن عدي بن الخيار إلى الشام فلما قدمنا حمص قال لي عبيد الله :
ـ هل لك في وحشي نسأله عن قتل حمزة ..؟
قلت :
ـ نعم .
وكان وحشي يسكن حمص فجئنا حتى وقفنا عليه فسلمنا فرد السلام وعبيد الله معتجر بعمامته ما يرى وحشي إلا عينيه ورجليه فقال عبيد الله:
ـ يا وحشي اتعرفني..؟
فنظر إليه ثم قال :
ـ لا والله إلا أني أعلم أن عدي بن الخيار تزوج امرأة فولدت له غلاما فاسترضعه فحملت ذلك الغلام مع أمه فناولتها إياه فكأني نظرت إلى قدميه.
فكشف عبيد الله وجهه ثم قال :
ـ ألا تخبرنا بقتل حمزة ..؟
فقال :
ـ نعم ، إن حمزة قتل طعيمة بن عدي ببدر ، فقال لي موالي جبير بن مطعم إن قتلت حمزة بعمي فأنت حر .
فلما خرج الناس عام عينين ـ وعينين جبل أحد بينه وبينه واد ـ خرجت مع الناس إلى القتال فلما أن اصطفوا للقتال خرج سباع فقال :
ـ هل من مبارز ..؟
فخرج إليه حمزة فقال:(1/24)
ـ يا سباع يا ابن أم إنمار، يا ابن مقطعة البظور، أتحارب الله ورسوله!.. ثم شد عليه فكان كأمس الذاهب وكنت لحمزة تحت صخرة حتى مر علي ، فلما أن دنا مني رميته بحربتني فوضعتها في ثنته (الثُّنَّة من الإنسان ما دون السرّة فوق العانة أَسفل البطن) حتى دخلت بين وركيه ،وكان ذلك آخر العهد به .
فلما رجع الناس رجعت معهم فأقمت بمكة حتى فشا فيها السلام ثم خرجت إلى الطائف فارسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا فقالوا :
ـ إنه لا يهيج الرسل .
فخرجت معهم حتى قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما راني قال :
ـ " أنت وحشي"
قلت :
ـ نعم .
قال:
ـ " أنت قتلت حمزة "
قلت:
ـ قد كان الأمر ما بلغك يا رسول الله .
قال :
ـ أما تستطيع أن تغيب وجهك عني..؟
فرجعت ، فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج مسيلمة الكذاب ، قلت لأخرجن إلى مسيلمة لعلي اقتله فاكافيء به حمزة فخرجت مع الناس فكان من أمرهم ما كان)
قال وحشي في رواية ابن كثير في البداية والنهاية:
(فلما خرج المسلمون الى مسيلمة الكذاب صاحب اليمامة خرجت معهم وأخذت حربتي التي قتلت بها حمزة فلما التقى الناس ورأيت مسيلمة قائما وبيده السيف وما أعرفه فتهيأت له وتهيأ له رجل من الانصار من الناحية الاخرى كلانا يريده فهززت حربتي حتى اذا رضيت منها دفعتها عليه فوقعت فيه وشد عليه الانصاري بالسيف فربك أعلم أينا قتله فإن كنت قتلته فقد قتلت خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتلت شر الناس )
الانصاري هو أبو دجانة سماك بن حرشة .
والمشهور أن وحشيا هو الذي بدره بالضربة ، وذفف عليه أبو دجانة لما روى عن ابن عمر قال :
ـ سمعت صارخا يوم اليمامة يقول قتله العبد الأسود.
هذا وقد قال ابن هشام :
ـ فبلغني أن وحشيا لم يزل يحد في الخمر حتى خلع من الديوان، فكان عمر بن الخطاب يقول:
ـ قد قلت بأن الله لم يكن ليدع قاتل حمزة .(1/25)
وتوفي وحشي بن حرب أبو دسمة ويقال أبو حرب بحمص ، وكان أول من لبس الثياب المدلوكة.( وتَدَلَّك بالشيء: تَخَلَّق به. والدَّلُوك: ما تُدُلِّك به من طيب وغيره)
وجاء في ( كتاب صفة الصفوة) عن الزبير أنه قال:
ـ لما كان يوم أحد أقبلت امرأة تسعى حتى إذا كادت تشرف على القتلى قال فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تراهم ، فقال:
ـ " المرأة المرأة "
فتوسمت أنها أمي صفية ، فخرجت أسعى إليها فأدركت قبل أن تنتهي إلى القتلى. فلدمت ( لدم: ضرب) في صدري وكانت امرأة جلدة قالت :
ـ إليك لا أرض لك..!
فقلت:
ـ إن رسول الله قد عزم عليك .
فوقفت وأخرجت ثوبين معها فقالت :
ـ هذان ثوبان جئت بهما لأخي حمزة فقد بلغني مقتله فكفنوه بهما.
فجئنا بالثوبين لنكفن فيهما حمزة فإذا إلى جنبه رجل من الأنصار قتيل قد فعل به كما فعل بحمزة ، فوجدنا غضاضة وحياء أن نكفن حمزة في ثوبين والأنصاري لا كفن له ، فقلنا لحمزة ثوب وللأنصاري ثوب ، فقدرناهما فكان أحدهما أكبر من الآخر فأقرعنا بينهما فكفنا كل واحد منهما في الثوب الذي طار له.
رواه الإمام أحمد.
ورثاه كعب بن مالك بأبيات(وقيل هي لعبد الله بن رواحة ) منها :
بكت عيني وحق لها بكاها .. وما يغني البكاء ولا العويل
على أسد الإله غداة قالوا .. لحمزة ذاكم الرجل القتيل
أصيب المسلمون به جميعاً .. هناك وقد أصيب به الرسول
أبا يعلى، لك الأركان هدت .. وأنت الماجد البر الوصول
عليك سلام ربك في جنان .. يخالطها نعيم لا يزول
ألا يا هاشم الأخيار صبراً .. فكل فعالكم حسن جميل
رسول الله مصطبر كريم .. بأمر الله ينطق إذ يقول
ألا من مبلغ عني لؤياً .. فبعد اليوم دائلة تدول
وقبل اليوم ما عرفوا وذاقوا .. وقائعنا بها يشفى الغليل
نسيتم ضربنا بقليب بدر .. غداة أتاكم الموت العجيل
غداة ثوى أبو جهل صريعاً .. عليه الطير حائمةً تجول
وعتبة وابنه خرا جميعاً .. وشيبة عضه السيف الصقيل(1/26)
ألا يا هند لا تبدي شماتاً .. بحمزة إن عزكم ذليل
ألا يا هند فابكي لا تملي .. فأنت الواله العبرى الثكول
وجاء في كتاب ( الطبقات الكبرى لابن سعد ) أن هند بنت عتبة بن بن ربيعة جاءت في الأحزاب يوم أحد وكانت قد نذرت لئن قدرت على حمزة بن عبد المطلب لتأكلن من كبده ، فلما كان حيث أصيب حمزة ومثلوا بالقتلى وجاؤوا بحزة من كبد حمزة فأخذتها تمضغها لتأكلها فلم تستطع أن تبتلعها فلفظتها.
فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
ـ " إن الله قد حرم على النار أن تذوق من لحم حمزة شيئا أبدا."
وقيل حين بقرت هند بطن حمزة وأخرجت كبده وجعلت تلوك كبده ثم لفظته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
ـ " لو دخل بطنها لم تدخل النار " .
ووقف صلى الله عليه وسلم بين ظهراني القتلى فقال :
ـ " أنا شهيد على هؤلاء لفوهم في دمائهم فإنه ليس من جريح يجرح في الله إلا جاء جرحه يوم القيامة يدمى لونه لون الدم وريحه ريح المسك قدموا أكثرهم قرآنا فاجعلوه في اللحد"
وقيل في يوم أحد أن قلت الثياب وكثرت القتلى ، فكفن الرجل والرجلان والثلاثة في ثوب واحد ، وكان يجمع الثلاثة والإثنين في قبر ، ثم يسأل أيهم أكثر قرآنا فيقدمه في اللحد .
ووقف الرسول صلى الله عليه وسلم على شهداء أحد وقال:
ـ "أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة".
جاء في( كتاب سير أعلام النبلاء( عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال، قال النبي صلى الله عليه وسلم:
ـ " لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم ومقيلهم قالوا من يبلغ إخواننا عنا أننا أحياء في الجنة نرزق لئلا ينكلوا عند الحرب ولا يزهدوا في الجهاد قال الله أنا أبلغهم عنكم فأنزلت ) ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا (آل عمران.
عن ابن إسحاق قال:(1/27)
كان ناس من المسلمين قد احتملوا قتلاهم إلى المدينة ليدفنوهم بها، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وقال:
ـ "ادفنوهم حيث صرعوا".
ذكر ابن كثير في البداية والنهاية :
( وكان وحشي كلما مر بهند بنت عتبة أو مرت به تقول ويها أبا دسمة اشف واشتف ، يعني تحرضه على قتل حمزة بن عبد المطلب .)
وذكر فيما ذكر أيضا:
( وقاتل حمزة بن عبد المطلب حتى قتل أرطاة بن عبد شرحبيل بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار وكان أحد النفر الذين يحملون اللواء وكذلك قتل عثمان بن أبي طلحة وهو حامل اللواء ، فحمل عليه حمزة فقتله ، ثم مر به سباع بن عبد العزى الغبشاني وكان يكنى بأبي نيار ، فقال حمزة :
ـ هلم ألي يا ابن مقطعة البظور وكانت أمه أم أنمار ختانة بمكة .
فلما التقيا ضربه حمزة فقتله ، فقال وحشي غلام جبير بن مطعم :
ـ والله إني لانظر لحمزة يهد الناس بسيفه، فهززت حربتي حتى إذا رضيت منها دفعتها عليه ، فوقعت في ثنته حتى خرجت من بين رجليه ، فأقبل نحوي فغلب فوقع وأمهلته حتى إذا مات جئت فأخذت حربتي، ثم تنحيت إلى العسكر ولم يكن لي بشيء حاجة غيره.
عن هاشم بن عروة عن أبيه :
ـ أن حمزة بن عبد المطلب كفن في ثوب واحد .
قال خباب:
ـ كفن حمزة في بردة إذا غطي رأسه خرجت رجلاه وإذا غطيت رجلاه خرج رأسه فغطي رأسه وجعل على رجليه إذخر.
عن أبي أسيد الساعدي قال أنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على قبر حمزة فجعلوا يجرون النمرة فتنكشف قدماه ويجرونها على قدميه فينكشف وجهه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اجعلوها على وجهه واجعلوا على قدميه من هذا الشجر.
فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه فإذا أصحابه يبكون فقال:
ـ " ما يبكيكم ..؟! "
قيل:
ـ يا رسول الله لا نجد لعمك اليوم ثوبا واحدا يسعه ..!
فقال :(1/28)
ـ " إنه يأتي على الناس زمان يخرجون إلى الأرياف فيصيبون فيها مطعما وملبسا ومركبا أو قال مراكب فيكتبون إلى أهلهم هلموا إلينا فإنكم بأرض جردة والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون لا يصبر على لأوائها ( الشدة والضر) وشدتها أحد إلا كانت له شفيعا أو شهيدا يوم القيامة "
ذكر ابن سعد في طبقاته:
( قتله وحشي بن حرب وشق بطنه وأخذ كبده فجاء بها إلى هند بنت عتبة بن ربيعة فمضغتها ثم لفضتها ثم جاءت فمثلت بحمزة وجعلت من ذلك مسكتين (المسكة : ، أَسْوِرة ، والمعني المعروف أنها من قرون الوعل أو العاج ) ومعضدين( معضد: والمِعْضَدَةُ: التي يشدّها المسافرُ على عضده ويجعل فيها نفقته ) وخدمتين ( الخدمة : الخلخال) حتى قدمت بذلك وبكبده مكة، وكفن حمزة في بردة فجعلوا إذا خمروا بها رأسه بدت قدماه وإذا خمروا بها رجليه تنكشف عن وجهه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
ـ "غطوا وجهه ".
وجعل على رجليه الحرمل( نبات له حب كالسمسم)
وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف على حمزة حيث استشهد فنظر إلى شيء لم ينظر إليه شيء قط كان أوجع لقلبه منه ونظر إليه قد مثل به فقال:
ـ " رحمة الله عليك فانك كنت ما علمت فعولا للخيرات وصولا للرحم ، ولولا حزن من بعد عليك لسرني أن أدعك حتى تحشر من أفواه شتى ، أما والله مع ذلك لأمثلن بسبعين منهم مكانك ."
فنزل جبريل والنبي صلى الله عليه وسلم واقف بعد بخواتم النحل (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به) سورة النحل آية 126 إلى آخر السورة فصبر النبي صلى الله عليه وسلم وأمسك عما أراد.
دفن حمزةبن عبد المطلب وعبد الله بن جحش في قبر واحد وحمزة خال عبد الله بن جحش .
ونزل في قبر حمزة أبو بكر وعمر وعلي والزبير ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس على حفرته .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
ـ " رأيت الملائكة تغسل حمزة لأنه كان جنبا ذلك اليوم ."(1/29)
وكان حمزة أول من صلى رسول الله عليه ذلك اليوم من الشهداء وكبر عليه أربعا ، ثم جمع إليه الشهداء فكلما أتي بشهيد وضع إلى جنب حمزة فصلى عليه وعلى الشهيد حتى صلى عليه سبعين مرة .
وسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم البكاء في بني عبد الأشهل على قتلاهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
ـ " لكن حمزة لا بواكي له ."
فسمع ذلك سعد بن معاذ فرجع إلى نساء بني عبد الأشهم فساقهن إلى باب رسول الله صلى الله عليه وسلم فبكين على حمزة، فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا لهن وردهن.
فلم تبك امرأة من الأنصار بعد ذلك إلى اليوم على ميت إلا بدأت بالبكاء على حمزة ثم بكت على ميتها.
وجاءت امرأة واضعة يدها على رأسها ترن (الرنة : الصيحة الشديدة والصوت الحزين عند الغناء أَو البكاء ) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
ـ " فعلت فعل الشيطان حين أهبط إلى الأرض وضع يده على رأسه يرن ، وإنه ليس منا من حلق ولا من خرق ولا من سلق " ( حلق الشعر وتمزيق الثوب والتفوه بما لايصح من القول للدلالة على الحزن).
عن أبي جعفر قال:
ـ كانت فاطمة تأتي قبر حمزة ترمه وتصلحه.
عن سعيد بن المسيب قال قال علي لرسول الله صلى الله عليه وسلم :
ـ ألا تتزوج ابنة عمك ابنة حمزة ، فإنها أجمل أو أحسن فتاة في قريش..!
فقال:
ـ " يا علي أما علمت أن حمزة أخي من الرضاعة وأن الله حرم من الرضاع ما حرم من النسب."
وجاء في ( كتاب صفة الصفوة ) عن جابر بن عبد الله أنه قال:
ـ لما أرد معاوية أن يجري عينه التي بأحد كتبوا إليه أنا لا نستطيع أن نجريها إلا على قبور الشهداء فكتب انبشوهم ، قال فرأيتهم يحملون على أعناق الرجال كأنهم قوم نيام ، وأصابت المسحاة (المِسْحاةٍ وهي المِجْرَفَة من الحديد ) طرف رجل حمزة فانبعث دما.
وكان ذلك على رأس أربعين سنة.
تعريف
عرف هذا الصحابي بالطيار...(1/30)
فهل كان ذلك لأنه طار من عالم الكفر إلى عالم الإيمان في بواكير الدعوة...؟!
أم لأنه طار من أرض الشرك هربا بدينه إلى الحبشة حيث يمكنه العبادة بلا خوف...؟!
ما من شك في أنه كان هناك الخطيب المفوه باسم الإسلام والمسلمين...
وبفضل فصاحته وعمق إيمانه دخل النجاشي في الإسلام ، وصارت الحبشة مرتعا للمسلمين الآمنين الفارين بدينهم...
يذكر التاريخ بأحرف من نور الحوار الذي دار بين النجاشي وبين هذا الصحابي الجليل حين أرسلت قريش عمر بن العاص وعمارة بن الوليد إلى الحبشة بالهدايا كي يوغروا صدر النجاشي على المسلمين ليعيدهم إلى مكة ليلاقوا كل صنوف العذاب جزاء إيمانهم بالواحد الأحد...
ولقد أحست قريش أنها بإرسالها عمربن العاص بما هو معروف عنه من دهاء وحيلة أنها قادرة على ذلك...
عن دهاء عمرو قال العقاد :
ـ أحصى العرب دهاتهم في الإسلام ، فعدوا أربعة هو منهم ، وجعلوا لكل منهم مزية يمتاز بها في دهائه فقالوا :إن معاوية للروية ، وعمرو بن العاص للبديهة ، والمغيرة للمعضلات ، وزياد لكل صغيرة وكبيرة "
وكان عمرو رضي الله عنه حادّ الذكاء، قوي البديهة عميق الرؤية..
حتى لقد كان أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه، كلما رأى انسانا عاجز الحيلة، صكّ كفيّه عجبا وقال:
" سبحان الله..!! ان خالق هذا، وخالق عمرو بن العاص اله واحد!!
وقال أيضا عنه حين بعثه لقتال الروم مادحا ذكاءه وحسن بديهته:
" لقد رمينا أرطبون الروم، بأرطبون العرب، فلننظر عمّ تنفرج الأمور"..!!
ولكن نور الله يأبى إلا أن يشق دياجير الظلام في البقاع وفي العقول...
فنور الإيمان بث في العقول نور اليقين ، وأجرى على الألسن نور الحجة وبريق الحق ...
فخرجت كلمات الحق ساطعة من فم صاحبنا الطاهر لتدحض حجة عمرو وتعيده إلى قريش يجر أذيال الخزي والهزيمة...
في غزوة مؤتة كان قائد المسلمين الأول الذي عينه الحبيب المصطفى...(1/31)
وفي هذه الغزوة قطعيت يمينه فأمسك الراية بيساره ، وحين قطعت يساره أمسك الراية بعضديه ، وحين استشهد قال الرسول العظيم في حقه:
ـ " اللهم اخلف جعفرا في أهله وبارك لعبد الله في صفقة يمينه"
وخاطب زوجه في حنان أبوي مطمئنا لهم في الدنيا ومبشرا لهم في ذات الوقت بحسن المآل في الآخرة:
ـ " آلعيلة تخافين عليهم وأنا وليهم في الدنيا والآخرة..؟! "
عزيزي القارئ أنت الآن على موعد مع من منحه الرسول العظيم الوسام العظيم في الدنيا حين قال له:
ـ " أشبهت خلقي وخلقي "
أنت الآن على موعد مع من كان رسول رسول الله لخطبة ميمونة بنت الحارث في عمرة القضاء...
ومع من التزمه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقبل ما بين عينيه وقال:
ـ " ما أدري بأيهما أنا أشد فرحاً أبقدوم جعفر أم بفتح خيبر " .
أنت الآن عزيزي القارئ مع جعفر بن أبي طالب الذي لقب بالطيار لأن الرسول الحبيب قال في حقه بعد استشهاده:
ـ " إن الله عز وجل أبدله بيديه جناحين يطير بهما في الجنة حيث يشاء " .
جعفر بن أبي طالب .
نسبه:
الاسم: جعفر بن أبي طالب .
أبوه: أبو طالب ،واسم أبي طالب هوعبد مناف بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف.
كنيته: أبو عبد الله
كنّاه الرسول بـ أبي المساكين.
ولقبه الرسول بـ ذي الجناحين.
وذلك لأنه قاتل في مؤتة حتى قطعت يداه جميعاً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
ـ " إن الله عز وجل أبدله بيديه جناحين يطير بهما في الجنة حيث يشاء " .
أمه: فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف.
وكان أخو علي بن أبي طالب لأبويه وأكبر منه بعشر سنين.
إسلامه:
أسلم جعفر بن أبي طالب قبل أن يدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم دار الأرقم ،
قيل: أسلم بعد واحد وثلاثين إنساناً. وقد سرد ابن اسحاق أسماء من أسلم قديما من الصحابة رضي الله عنهم ومنهم جعفر بن أبي طالب وامرأته اسماء بنت عميس.(1/32)
وهاجر جعفر إلى أرض الحبشة في الهجرة الثانية ومعه امرأته أسماء بنت عميس ، وولدت له هناك عبد الله وعونا ومحمد فلم يزل بأرض الحبشة حتى هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، ثم قدم عليه جعفر من أرض الحبشة وهو بخيبر سنة سبع .
روى عنه ابنه عبد الله، وأبو موسى الأشعري؛ وعمرو بن العاص.
عن الشعبي قال :
ـ لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر في السنة السابعة من الهجرة، تلقاه جعفر بن أبي طالب فالتزمه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقبل ما بين عينيه وقال:
ـ " ما أدري بأيهما أنا أشد فرحاً أبقدوم جعفر أم بفتح خيبر " .
وآخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين معاذ بن جبل.
مناقبه:
* عن بن إسحاق عن أسامة بن زيدأنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول لجعفر بن أبي طالب :
ـ " أشبه خلقك خلقي وأشبه خلقك خلقي فأنت مني ومن شجرتي"
و عن علي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لجعفر بن أبي طالب في حديث بنت حمزة:
ـ " أشبهت خلقي وخلقي "(البخاري)
وكانت ابنة حمزة لتطوف بين الرجال إذ أخذ علي بيدها فألقاها إلى فاطمة في هودجها ، فاختصم فيها علي وجعفر وزيد بن حارثة حتى ارتفعت أصواتهم فأيقظوا النبي صلى الله عليه وسلم من نومه ، قال :
ـ " هلموا أقض بينكم فيها وفي غيرها "
فقال علي:
ـ ابنة عمي وأنا أخرجتها وأنا أحق بها .
وقال جعفر :
ـ ابنة عمي وخالتها عندي.
وقال زيد :
ـ ابنة أخي.
فقال في كل واحد قولا رضيه فقضى بها لجعفر وقال:
ـ " الخالة والدة "
فقام جعفر فحجل حول النبي صلى الله عليه وسلم دار عليه فقال النبي عليه السلام:
ـ " ما هذا ..؟ "
قال :
ـ شيء رأيت الحبشة يصنعونه.
هجرته إلى الحبشة:(1/33)
* كان جعفر رضي الله عنه المتحدث الرسمي باسم المهاجرين إلى الحبشة، ولقد سجل التاريخ بأحرف من نور المناظرة والمحاورة التي جرت بينه وبين النجاشي والتي أبطلت حجج وفد قريش ، وكان لهذا الموقف أثر كبير في تعزيز موقف المسلمين بالحبشة لاسيما بعد أن أسلم النجاشي رضي الله عنه.
عن بن إسحاق قال:
ـ بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضَّمْري رضي الله عنه إلى النجاشي في شأن جعفر بن أبي طالب وأصحابه رضي الله عنهم، وكتب معه كتاباً.
«بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله إِلى النجاشي الأصحم ملك الحبشة: سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الملك القدّوس المؤمن المهيمن، وأشهد أن عيسى روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم البتول الطاهرة الطيِّبة الحصينة، فحملت بعيسى فخلقه من روحه ونفخته كما خلق آدم بيده ونفخه، وإِني أدعوك إلى الله وحده لا شريك له، والوالاة على طاعته، وأن تتبعني فتؤمن بي وبالذي جاءني، فإنِّي رسول الله. وقد بعثت إِليك ابن عمي جعفراً ومعه نفر من المسلمين، فإذا جاؤوك فأقرَّهم ودَعِ التجبُّر، فإني أدعوك وجنودك إلى الله عزّ وجلّ؛ وقد بلَّغتُ ونَصحتُ فاقبلوا نصيحتي. والسلام على من اتبع الهدى».
فرد النجاشي على كتاب النبي فقال:
(بسم الله الرحمن الرحيم إلى محمد رسول الله من النجاشي سلام عليك يا نبي الله ورحمة الله وبركاته الذي لا إله إلا هو الذي هداني إلى الإسلام .(1/34)
أما بعد فقد بلغني كتابك يا رسول الله فيما ذكرت من أمر عيسى عليه السلام فورب السماء والأرض إن عيسى ما يزيد على ما ذكرت ثفروقًا (الثُّفْرُوق غِلاف ما بين نَّواة التمرة والقِمَع) إنه كما قلت وقد عرفنا ما بعثت به إلينا ، وقد قرينا ابن عمك وأصحابه وأشهد أنك رسول الله وقد بايعتك وبايعت ابن عمك وأسلمت على يديه لله رب العالمين ، وقد بعثت إليك يا نبي الله فإن شئت أن آتيك يا رسول الله فعلت ، وإني أشهد أن ما تقول حق والسلام عليك ورحمة الله وبركاته )
وهناك روايةأخرى عن أبي بردة عن أبي موسى قال فيها:
ـ أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننطلق مع جعفر بن أبي طالب إلى أرض النجاشي فبلغ ذلك قريشا فبعثوا عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد وجمعوا للنجاشي هدية وقدما علىالنجاشي ، فاتياه بالهدية فقبلها وسجدا له ،ثم قال عمرو بن العاص:
ـ إن ناسا من أرضنا رغبوا عن ديننا وهم في أرضك.
قال لهم النجاشي:
ـ في أرضي ..؟
قالا:
ـ نعم .
فبعث الينا فقال لنا جعفر:
ـ لا يتكلم منكم أحد أنا خطيبكم اليوم .
فانتهينا إلى النجاشي وهو جالس في مجلسه وعمرو بن العاص عن يمينه وعمارة عن يساره والقسيسون جلوس سماطين( في صفوف).
وقد قال له عمرو وعمارة :إنهم لا يسجدون لك .
فلما انتهينا بدرنا من عنده من القسيسين والرهبان :
ـ اسجدوا للملك .
فقال جعفر :
ـ لا نسجد إلا لله عز وجل .
فلما انتهينا الى النجاشي قال :
ـ ما منعك أن تسجد ..؟
قال :
ـ لا نسجد إلا لله .
فقال له النجاشي :
ـ وما ذاك ..؟
قال:
ـ إن الله بعث فينا رسولا وهو الرسول الذي بشر به عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام من بعده اسمه أحمد ، فأمرنا أن نعبد الله ولا نشرك به شيئا ونقيم الصلاة ونؤتي الزكاة وأمرنا بالمعروف ونهانا عن المنكر.
فاعجب النجاشي قوله، فلما رأى ذلك عمرو بن العاص قال:
ـ أصلح الله الملك إنهم يخالفونك في عيسى بن مريم ..؟
فقال النجاشي لجعفر:(1/35)
ـ ما يقول صاحبكم في ابن مريم ..؟
قال:
ـ يقول فيه قول الله هو روح الله وكلمته أخرجه من العذراء البتول التي لم يقربها بشر.
فتناول النجاشي عودا من الأرض فرفعه فقال:
ـ يا معشر القسيسين والرهبان ما يزيدون هؤلاء على ما نقول في ابن مريم ولا وزن هذه ، مرحبا بكم وبمن جئتم من عنده فانا أشهد أنه رسول الله وأنه الذي بشر به عيسى ولولا ما أنا فيه من الملك لأتيته حتى أقبل نعليه ، امكثوا في أرضي ما شئتم وأمر لنا بطعام وكسوة وقال ردوا على هذين هديتهما.
وقال أيضا:
ـ أيؤذيكم احدا ..؟
قالوا:
ـ نعم .
فنادى مناد من آذى أحدا منهم فاغرموه أربعة دراهم .
وقال:
أيكفيكم ..؟
قلنا :
ـ لا
فأضعفها .
فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وظهر بها قلنا له :
ـ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ظهر وهاجر إلى المدينة وقتل الذين كنا حدثناك عنهم ، وقد أردنا الرحيل إليه فردنا.
قال:
ـ نعم .
فحملنا وزودنا ثم قال:
ـ أخبر صاحبك بما صنعت إليكم ، وهذا صاحبي معكم أشهد أن لا إله إلا الله وأنه رسول الله ، وقل له يستغفر لي .
قال جعفر فخرجنا حتى أتينا المدينة فتلقاني رسول الله صلى الله عليه وسلم واعتنقني ثم قال:
ـ " ما أدري أنا بفتح خيبر أفرح أم بقدوم جعفر"
ووافق ذلك فتح خيبر ثم جلس فقال رسول النجاشي:
ـ هذا جعفر فسله ما صنع به صاحبنا.
فقال :
ـ نعم فعل بنا كذا وكذا وحملنا وزودنا وشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله وقال لي قل له يستغفر لي.
فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فتوضأ ثم دعا ثلاث مرات:
ـ " اللهم اغفر للنجاشي."
وحين قدم وفد النجاشي على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام يخدمهم فقال أصحابه:
ـ نحن نكفيك يا رسول الله .
فقال:
ـ " إنهم كانوا لأصحابي مكرمين وإني أحب أن أكافيهم."
ولقد ذكر عبد الله ابن المبارك فرح النجاشي بنصر الله للمسلمين في غزوة بدر فقال:
((1/36)
أخبرنا عبد الرحمن بن يزيد عن جابر عن عبد الرحمن رجل من أهل صنعاء قال أرسل النجاشي ذات يوم إلى جعفر بن أبي طالب وأصحابه فدخلوا عليه وهو في بيت عليه خلقان ثياب جالس على التراب قال جعفر:
ـ فاشفقنا منه حين رأيناه على تلك الحال .
فلما أن رأى ما في وجوهنا قال:
ـ إني أبشركم بما يسركم إنه جاءني من نحو أرضكم عين لي فاخبرني أن الله قد نصر نبيه ، وأهلك عدوه ، وأسر فلان وفلان وقتل فلان وفلان ،التقوا بواد يقال له بدر كثير الأراك كأني أنظر إليه كنت أرعى لسيدي رجل من بني ضمرة إبله .
فقال له جعفر :
ـ ما بالك جالس على التراب ليس تحتك بساط وعليك هذه الأخلاط..؟
قال:
ـ إنا نجد فيما أنزل الله على عيسى :
" إن حقا على عباد الله أن يحدثوا لله تواضعا عند ما يحدث لهم من نعمة "
فلما أحدث الله لي نصر نبيه صلى الله عليه وسلم أحدثت له هذا التواضع)
وتقول أم حبيبة بنت أبي سفيان معلقة على زواجها الرسول صلى الله عليه وسلم وهي في الحبشة:
(ما شعرت وأنا بأرض الحبشة إلا برسول النجاشي جارية يقال لها أبرهة كانت تقوم على ثيابه ودهنه ، فاستأذنت علي فأذنت لها ،فقالت :
ـ إن الملك يقول لك إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلي أن أزوجكه. فقلت :
ـ بشرك الله بالخير.
وقالت:
ـ يقول لك الملك وكلي من يزوجك .
فأرسلت الى خالد بن سعيد بن العاص فوكلته.
وأعطيت أبرهة سوارين من فضة وخذمتين( قطعتين) من فضة كانتا علي وخواتيم من فضة في كل أصابع رجلي سرورا بما بشرتني به .
فلما أن كان من العشي أمر النجاشي جعفر بن أبي طالب ومن كان هناك من المسلمين أن يحضروا وخطب النجاشي وقال:(1/37)
ـ الحمد لله الملك القدوس المؤمن العزيز الجبار وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله ، وأنه الذي بشر به عيسى بن مريم أما بعد ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلب أن أزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان فأجبت إلى ما دعا اليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد أصدقها أربعمائة دينار، ثم سكب الدنانير بين يدي القوم .
فتكلم خالد بن سعيد فقال:
ـ الحمد لله أحمده واستغفره وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون أما بعد فقد أجبت إلى ما دعا اليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوجته أم حبيبة بنت أبي سفيان فبارك الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
ودفع النجاشي الدنانير إلى خالد بن سعيد فقبضها .
ثم أرادوا أن يقوموا فقال:
ـ اجلسوا فان من سنة الأنبياء إذا تزوجوا أن يؤكل طعام على التزويج.
فدعا بطعام فأكلوا ثم تفرقوا)
* كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمرةالقضاء، وكان رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أرسله ليخطب ميمونة بنت الحارس.
يقول الزهري :
(ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من العام المقبل من عام الحديبية معتمرا في ذي القعدة سنة سبع وهو الشهر الذي صده المشركون عن المسجد الحرام حتى إذا بلغ يأجج وضع الأداة كلها الحجف ( الحجفة هي التُّرْس إذا كان من جلود ليس فيه خشَب ولا عَقَبٌ )والمجان( التروس) والرماح والنبل ودخلوا بسلاح الراكب السيوف وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بين يديه جعفر بن أبي طالب الى ميمونة بنت الحارث العامرية فخطبها عليه فجعلت أمرها الى العباس، وكان تحته أختها أم الفضل بنت الحارث ،فزوجها العباس رسول الله صلى الله عليه وسلم.(1/38)
وتغيب رجال من اشراف المشركين أن ينظروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم غيظا وحنقا ونفاسة وحسدا وخرجوا الى الخندمة ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة وأقام ثلاث ليال ، وكان ذلك آخر القضية يوم الحديبية فلما أتى الصبح من اليوم الرابع أتاه سهيل بن عمرو وحويطب بن عبد العزى ورسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس الأنصار يتحدث مع سعد بن عبادة فصاح حويطب بن عبد العزى نناشدك الله والعقد لما خرجت من أرضنا فقد مضت الثلاث.
فقال :
ـ "إني قد نكحت فيكم امرأة أيضركم أن أمكث حتى أدخل بها ونصنع الطعام فنأكل وتأكلون معنا ..؟"
فقالوا :
ـ نناشدك الله والعقد إلا خرجت عنا ..؟
فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا رافع فأذن بالرحيل ، وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل ببطن سرف ، وخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا رافع ليحمل ميمونة ، فقدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بسرف فبنى بها.
* كان عمر بن الخطاب إذا رأى عبد الله بن جعفر، قال:
ـ السلام عليك يا ابن ذي الجناحين.
*عن أبي هريرة قال :
ـ ما احتذى النعال ولا ركب المطايا ولا وطئ التراب بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل من جعفر بن أبي طالب.
رواه الترمذي والنسائي وإسناده صحيح
*عن أبي هريرة قال :
ـ كان خير الناس للمساكين جعفر بن أبي طالب كان يتقلب بنا فيطعمنا ما كان في بيته حتى إن كان ليخرج إلينا العكة(وعاء من جلود مستديرلحفظ السمن والعسل) ليس فيها شيء فيشقها فنلعق ما فيها.
*وروى البغوي عن أبي هريرة قال :
ـ كان جعفر يحب المساكين ويجلس إليهم ويخدمهم ويخدمونه فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكنيه أبا المساكين .
*عن عبد الله بن جعفر قال :
ـ ما سألت عليا فامتنع فقلت له بحق جعفر إلا أعطاني.
*وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعث جيشا في مؤتة واستعمل عليهم زيد بن حارثة وقال :(1/39)
ـ " إن قتل زيد أو استشهد فأميركم جعفر بن أبي طالب ، فإن قتل جعفر أو استشهد فأميركم عبد الله بن رواحة ."
فلقوا العدو فأخذ الراية زيد فقاتل حتى قتل ، ثم أخذ الراية جعفر فقاتل حتى قتل ، ثم أخذ الراية عبد الله بن رواحة فقاتل حتى قتل ، ثم أخذ الراية بعدهم خالد بن الوليد ففتح الله عليه.
فأتى خبرهم النبي صلى الله عليه وسلم فخرج إلى الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال :
ـ " إن إخوانكم لقوا العدو فأخذ الراية زيد بن حارثة فقاتل حتى قتل أو استشهد ثم أخذ الراية جعفر بن أبي طالب فقاتل حتى قتل أو استشهد ثم أخذها عبد الله بن رواحة وقاتل حتى قتل أو أستشهد ثم أخذها سيف من سيوف الله خالد بن الوليد ففتح الله عليه"
ثم أمهل آل جعفر ثلاثا أن يأتيهم ثم أتاهم فقال:
ـ " لا تبكوا على أخي بعد اليوم"
ثم قال :
ـ " ائتوني ببني أخي"
فجيء بهم.
وقال:
ـ " اللهم اخلف جعفرا في أهله وبارك لعبد الله في صفقة يمينه" (ثلاث مرات) ثم جاءت أمهم فذكرت يتمهم فقال:
ـ " آلعيلة تخافين عليهم وأنا وليهم في الدنيا والآخرة..؟! "
وفي رواية أخرى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
ـ " اللهم اخلف جعفرا في أهله بخير ما خلفت عبدا من عبادك الصالحين"
عن عامر قال لما أصيب جعفر أرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى امرأته أن ابعثي إلي بني جعفر فأتي بهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم :
ـ " اللهم إن جعفرا قد قدم إليك إلى أحسن الثواب فأخلفه في ذريته بخير ما خلفت عبدا من عبادك الصالحين. "
قال الذهبي في كتابه تاريخ الإسلام رواية مشابهة مع بعض الاختلافات:
عن عبد الله بن جعفر، أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاهم بعدما أخبرهم بقتل جعفر بن أبي طالب بعد ثلاثة، فقال:
ـ " لا تبكوا أخي بعد اليوم ".
ثم قال:
ـ " ائتوني ببني أخي ".
فجيء بنا كأننا أفرخ، فقال:
ـ " ادعوا لي الحلاق "
فأمره، فحلق رؤوسنا، ثم قال:(1/40)
ـ " أما محمد فشبه عمنا أبي طالب، وأما عبد الله فشبه خلقي وخلقي"
ثم أخذ بيدي فأشالها وقال:
ـ " اللهم اخلف جعفراً في أهله وبارك لعبد الله في صفقته "
قال: فجاءت أمنا فذكرت يتمنا، فقال:
ـ " العيلة تخافين عليهم وأنا وليهم في الدنيا والآخرة "! حديث صحيح.
عن عكرمة عن بن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
ـ " دخلت البارحة الجنة فإذا فيها جعفر يطير مع الملائكة وإذ حمزة مع أصحابه " .
وتوجد رواية تقول :
ـ لما أخذ جعفر بن أبي طالب الراية جاءه الشيطان فمناه الحياة الدنيا وكره له الموت فقال :
ـ الآن حين استحكم الإيمان في قلوب المؤمنين تمنيني الدنيا ..؟!
ثم مضى قدما حتى استشهد فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا له ثم قال :
ـ" استغفروا لأخيكم جعفر فإنه شهيد وقد دخل الجنة وهو يطير فيها بجناحين من ياقوت حيث شاء من الجنة "
عن إسماعيل بن أبي خالد عن رجل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
ـ " لقد رأيته في الجنة يعني جعفرا له جناحان مضرجان بالدماء مصبوغ القوادم "
لطيفة 1:
تزوج علي أسماء بنت عميس فتفاخر ابناها محمد بن جعفر ومحمد بن أبي بكر، قال كل واحد منهما أنا أكرم منك وأبي خير من أبيك، فقال لها علي :
ـ اقضي بينهما .
ـ فقالت ما رأيت شابا من العرب كان خيرا من جعفر ولا رأيت كهلا خيرا من أبي بكر .
فقال علي:
ـ ما تركت لنا شيئا .
فقلت:
ـ والله إن ثلاثة أنت أخسهم لخيار.
فقال لها:
ـ لو قلت غير هذا لمقتك.
لطيفة2:
قال البخاري ، عن أبي موسى قال :
(بلغنا مخرج النبي صلى الله عليه وسلم ونحن باليمن فخرجنا مهاجرين اليه أنا وأخوان لي أنا أصغرهم أحدهم أبو بردة والآخر أبو رهم .(1/41)
إما قال في بضع وإما قال في ثلاثة وخمسين أو اثنين وخمسين رجلا من قومي فركبنا سفينة فألقتنا سفينتنا الى النجاشي بالحبشة فوافقنا جعفر بن أبي طالب فأقمنا معه حتى قدمنا جميعا ، فوافقنا النبي صلى الله عليه وسلم حين افتتح خيبر، فكان أناس من الناس يقولون لنا يعني لأهل السفينة سبقناكم بالهجرة .
ودخلت أسماء بنت عميس وهي ممن قدم معنا على حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم زائرة ، وقد كانت هاجرت إلى النجاشي فيمن هاجر، فدخل عمر على حفصة وأسماء عندها فقال حين رأى أسماء: من هذه..؟
قالت :
ـ أسماء ابنة عميس .
قال عمر :
ـ الحبشية هذه البحرية هذه .
قالت اسماء:
ـ نعم.
قال :
ـ سبقناكم بالهجرة، فنحن أحق برسول الله صلى الله عليه وسلم منكم .
فغضبت وقالت:
ـ كلا والله كنتم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يطعم جائعكم ويعظ جاهلكم ، وكنا في دار أو في أرض البعداء والبغضاء بالحبشة ، وذلك في الله وفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأيم الله لا أطعم طعاما ولا أشرب شرابا حتى أذكر ما قلت للنبي صلى الله عليه وسلم وأسأله ووالله لا أكذب ولا أزيغ ولا أزيد عليه.
فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم قالت:
ـ يا نبي الله إن عمر قال كذا وكذا .
قال:
ـ " فما قلت له..؟"
قالت:
ـ قلت كذا وكذا.
قال:
ـ " ليس بأحق بي منكم وله ولأصحابه هجرة واحدة ولكم أنتم أهل السفينة هجرتان."
وفاته:
استشهد في غزوة مؤتة.
وكان عمر جعفر لما قتل إحدى وأربعين سنة ،وقيل غير ذلك.
عن بن عمر أنه قال:
ـ وجدنا فيما أقبل من بدن جعفر بن أبي طالب ما بين منكبيه تسعين ضربة بين طعنة برمح وضربة بسيف.
قال بن إسحاق حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه حدثني أبي الذي أرضعني وكان أحد بني مرة بن عوف قال:
ـ والله لكأني أنظر إلى جعفر بن أبي طالب يوم مؤتة اقتحم عن فرس له شقراء فعقرها ثم تقدم فقاتل حتى قتل (أخرجه أبو داود)(1/42)
وقال بن إسحاق : هو أول من عقر ( قتل الحيوان) في الإسلام.
تعريف
لكل شخصية مفتاحها الخاص، ومفتاح شخصية بطلنا هو التوحيد...
وخير ختام هو المسك، وكان ختام حياة بطلنا هو رباط في سبيل الله...
وبما أنه لكل شخصية فريدة خصوصية تميزها، فإن الله قد حبا بطلنا بمنحة لم ولن يسبقه أحد غيره وحتى يرث الله الأرض ومن عليها...
فإذا أمعن أحدنا النظر، و أصاخ السمع ، وهو يمضي بين جبال مكة واضعا الدنيا ببهرجها خلف ظهره ومستحضرا الآخرة بنعيمها ، وإذا سمت روحه وهفت إلى بواكير الإسلام وثقب ببصيرته النقية مستعينا بالله الحواجز الفاصلة بين الأزمنة، فربما ـ أقول فربما ـ سمع صوته ، أو لمح صورته، وإن أسعده حظه فربما وطأت خطاه نفس الثرى الذي حطت فيه قدماه...
ربما كان ذلك دربا من الجنون في نظر البعض ، وربما كان لهفة واشتياق ، وربما كان هروبا من حاضر مؤلم ووجوه بغيضة تطل علينا من كل صوب وحدب إلى شخوص بني الإسلام بجهدهم وبأرواحهم...
أقول ربما وربما ولكن...ألا يحق لنا أن نهفو بأرواحنا إلى عصر النبوة؟... عصر العزة والكرامة؟...ألا يحق لنا أن نتطلع إلى رؤية من صاحبوا الرسول العظيم وشكلوا باقة ورد الصحابة الأولى ، لننتشي بعطرهم ونقتدي بسلوكهم..؟
جوانب أي صورة لايمكن أن تكون مشرقة على الدوام،ولذا فأنينه الممزوج بالأسى، وملامحه التي أضناها العذاب ستمزق نياط قلبك لا محالة، لكنها في ذات الوقت ستوحي لك على الفور بأنك أمام بطل أسطوري فاق كل أقرانه في هذا المقام...
بطل يندر وجوده ،أذل من أرادوا إذلاله، حرقوه بالنار وبالسياط وبلهيب الشمس ولم يزدد إلا صلابة ...
وضعوا الأحجار فوق صدره ليكتموا أنفاسه لكن كلمة التوحيد خرجت كطلقات الرصاص أصابت جلاديه في مقتل...
ترى من كان أمير المؤمنين عمر الفاروق يعده سيدا له، فأين نحن من تلك المكانة..؟(1/43)
بطلنا وسيدنا برغم نحول عوده، خرج ببشرته السوداء من آتون العذاب شامخا كأحد جبال مكة، خرج وقد حول الإيمان قلبه وجعله من أعماقه أنقى من الندى وأبيض من الثلج ...
رآه ابو بكر الصديق بين أكوام الحجارة الملتهبة مرات ، ومرات أخرى كان يطوف به الغلمان والسفهاء إمعانا في إذلاله ، فرق قلبه فاشتراه...
ولهذا كان الفاروق عمر يقول عنهما : " أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا"
ثوب الكبرياء يلف عقول البعض، وجبال العناد الراسخة في قلوبهم تأبى أن تلين لكلمة التوحيد ، وإن فكروا في الحديث مع الحبيب محمد فكيف يجلسون مع بطلنا وأقرانه ممن كانوا بالأمس عبيدا مستضعفين..؟
الحبيب المصطفي يفكر في استمالتهم ويهم بالموافقة على اقتراح ينص على انفرادهم به بعيدا عن بطلنا ورفاقه، ولكن...
عطور العالم أجمع، وكل ثراء الكون، وثياب البشر الفضفاضة لا تعني شيئا في قانون السماء، ولذا فكلمة الله تحسم الأمر، وتقول سحقا لمن يزدري هذا النقي التقي وأمثاله ،ويلقاه الحبيب ورفاقه بالترحاب ويقول لهم:
ـ " الحمد لله الذي جعل من أمتي من أمرني أن أصبر معهم"
وأخيرا وليس آخرا، ألقت به الأيام ويد الصديق على بر الأمان...ودع الآلام وصوب المدينة رنا ببصره ليحيا مع الحبيب المصطفي أحلى سنين عمره بعد أن صار خازنا لماله، وشارك معه في كل الحروب ...
هو من كان لصيق الحبيب محمد لحظة دخوله مكة فاتحا، وفي حجة الوداع كان مع أسامة بن زيد بجواره، أحدهم ممسكا بخطام الناقة ، والآخر يظله، وهو أيضا كان معه لحظةالفراق الأليم ، وحين أودع الرسول العظيم قبره، كان آخر عهده به أن رش الماء على القبر الشريف من كل جانب...
في الغرب يرفعون القبعة تحية لمن يبجلونهم ،وفي بعض بلاد الشرق يحنون هاماتهم قليلا، لكننا كمسلمين لانفعل هذا ولا ذاك، ولكن ننظر إليه وإلى أمثاله بإعزاز وتقدير، ونطلب من الله أن يتغمدنا برحمته كما شمله بعنايته...(1/44)
والآن، ها نحن ندق باب بطلنا نلتمس من سيرته العطرة قبسا ، ومن شخصيته الباهرة نورا ، لعل ذلك يفيدنا في تجاوز محنتنا التي ألمت بأمة الإسلام وجعلت أعدائنا يتربصون بنا ويترصدوننا على وهم القضاء علينا وعلى ديننا الحنيف...
بطلنا وسيدنا كان شعاره : أحد أحد...
كل رفاقه الذين عذبوا معه أعطوا أعدئهم ما أرادوا تحت وطأة العذاب،فربما سبوا النبي، وربما مجدوا الأصنام،ولم يعاتبهم ربهم ولم يلومهم نبيهم طبقا لقاعدة الاضطرار،لكن بطلنا لم تفارق كلمة التوحيد عقله ولاقلبه ولالسانه،وحين كانوا يغرونه بالكف عن تعذيبه مقابل أن يذكر آلهتهم بخير، كان يقول في تحد وثقة: لساني لا يحسن ذلك...
هوأول من رفع الآذان فوق البسيطة ...
وحين منّ الله على الحبيب محمد وأراه الجنة ـ في حياته ـ وتجول فيها سمع صوت أقدام،وحين سأل عن صاحبها، كان جواب أمين الوحي جبريل : إنه بلال...
أنت الآن عزيزي القارئ مع وردة من ورود الإسلام يفوح شذاها كل يوم خمس مرات ، مع كل أذان ، في كل بقاع الأرض...
أنت الآن على موعد مع سيدنا بلال بن رباح، رضي الله عنه ونفعنا بهديه...
بلال بن رباح
نسبه:
الاسم: بلال بن رباح.
اسم أبوه : رباح.
وأمه: تدعى حمامة ، وكانت أمة لبعض بني جمح .
كنيته: أبو عبد الله، وقيل غيرذلك.
لم يعقب ( لم يترك ذرية)
روى عنه أبو بكر، وعمر، وعلي، وابن مسعود، وعبد الله بن عمر، وكعب بن عجرة، وأسامة بن زيد، وجابر، وأبو سعيد الخدري، والبراء بن عازب، وروى عنه جماعة من كبار التابعين بالمدينة والشام.
وصفه صاحب الحلية فقال:
ـ السيد المتعبد المتجرد، بلال بن رباح، عتيق الصديق ذي الفضل والسماح، علم الممتحنين في الدين والمعذبين، خازن الرسول الأمين، محمد سيد المرسلين، السابق الوامق، والمتوكل الواثق.
صفاته الجسدية:(1/45)
كان بلال آدم شديد الأدمة (شديد سواد البشرة)، نحيفا ، طوالا ، كثيف الشعر ، خفيف العارضين ، به شمط (والشَّمَطُ في الشعرَ: اختلافُه بلونين من سواد وبياض ) كثير لا يغير( لايصبغ).
إسلامه:
عن عروة بن الزبير قال:
ـ كان بلال بن رباح من المستضعفين من المؤمنين وكان يعذب حين أسلم ليرجع عن دينه ، فما أعطاهم قط كلمة مما يريدون، وكان الذي يعذبه أمية بن خلف .وكان أبوجهل يتناوله أيضا بالعذاب.
عن عمير بن إسحاق قال :
ـ كان بلال إذا اشتدوا عليه في العذاب قال أحد أحد ، فيقولون له قل كما نقول..!
فيقول :
ـ إن لساني لا يحسنه .
عن مجاهد قال:
ـ أول من أظهر الإسلام سبعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وبلال وخباب وصهيب وعمار وسمية أم عمار .
فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنعه عمه ، وأما أبو بكر فمنعه قومه، وأخذ الآخرون فألبسوهم أدراع الحديد ثم صهروهم في الشمس حتى بلغ الجهد منهم كل مبلغ فأعطوهم ما سألوا ، فجاء كل رجل منهم قومه بأنطاع الأدم ( ما يتخذ من الجلد) فيها الماء فألقوهم فيه ،وحملوا بجوانبه إلا بلالا .
فلما كان العشي جاء أبو جهل فجعل يشتم سمية ويرفث ثم طعنها فقتلها فهي أول شهيد استشهد في الإسلام ، إلا بلالا فإنه هانت عليه نفسه في الله حتى ملوه، فجعلوا في عنقه حبلا ثم أمروا صبيانهم أن يشتدوا به بين أخشبي( جبلي) مكة فجعل بلال يقول أحد أحد.
وكان أبو جهل يبطحه على وجهه في الشمس، ويضع الرحا عليه حتى تصهره الشمس، ويقال:
ـ أكفر برب محمد.
فيقول:
ـ أحد، أحد.
وقيل: إن أبا بكر اشتراه وهو مدفون بالحجارة يعذب تحتها.
وهناك رواية تقول:
مرَّ به أبو بكر الصدِّيق يوماً وهم يصنعون ذلك، فقال لأمية:
ـ ألا تتقي الله في هذا المسكين حتى متى؟
قال:
ـ أنت أفسدته فأنقذه ممَّا ترى.
فقال أبو بكر:
ـ أفعل، عندي غلام أسود أجلَدُ منه وأقوى على دينك، أعطيكه به.
قال:
ـ قد قبلت.
قال: هو لك.(1/46)
فأعطاه أبو بكر غلامه ذلك، وأخذ بلالاً فأعتقه، ثم أعتق معه على الإِسلام ـ قبل أن يهاجر من مكة ـ ست رقاب بلال سابعهم.
وقيل إن أبا بكر اشتراه بسبع أواق، وقيل بخمس أواقٍ ( الأوقية ما يعادل أربعين درهماً )
وعن ابن عباس أن أبا بكر لما اشترى بلالاً وأعتقه قال المشركون :
ـ ما فعل ذلك أبو بكر إلا ليد كانت لبلال عنده .
فنزل قول الله تعالى (وما لأحد عنده من نعمة تجزى)إلى آخر السورة.
وكان من قدر الله تعالى أن قتل بلال يوم بدر أمية بن خلف ، فقيل إن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال في ذلك أبياتاً :
هنيئاً زادك الرحمن خيراً فقد أدركت ثأرك يا بلال
مناقبه:
مناقبه لا تعد، منها:
ـ شهد بلال بدرا وأحدا والخندق والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
عن جابر بن عبد الله أن عمر كان يقول :
ـ أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا يعني بلالا.
ـ كان ترب أبي بكر وكان خازن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
عن أنس قال ،قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
ـ" لقد أخفت في الله وما يخاف أحد ولقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد ولقد أتت علي ثلاثون من بين يوم وليلة وما لي ولبلال طعام يأكله ذو كبد إلا شيء يواريه إبط بلال"
أخرجه الترمذي وابن ماجه.
نزلت فيه بعض الآيات منها ما يرويه مجاهد في قوله تعالى: (ما لنا لا نرى رجالا كنا نعدهم من الأشرار أتخذناهم سخريا أم زاغت عنهم الأبصار )
نزلت في بلال وأبي جهل الذي يقول:
ـ أين بلال أين فلان كنا نعدهم في الدنيا من الأشرار فلا نراهم في النار أم هم في مكان لا نراهم فيه أم هم في النار لا نرى مكانهم.
قال مجاهد :
ـ أول من أظهر الإسلام سبعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وبلال وخباب وصهيب وعمار وسمية أم عمار.
عن القاسم بن عبد الرحمن قال:
ـ أول من أذن في الإسلام بلال. وكان يؤذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته سفراً وحضراً.(1/47)
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدمها إنما يجتمع الناس إليه للصلاة لحين مواقيتها بغير دعوة، فهمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعل بوقا كبوق يهود الذي يدعون به لصلاتهم ثم كرهه ،ثم أمر بالناقوس فنحت ليضرب به المسلمين للصلاة.
فبينا هم على ذلك رأى عبد الله بن زيد النداء ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
ـ يا رسول الله إنه طاف بي هذه الليلة طائف مر بي رجل عليه ثوبان أخضران يحمل ناقوسا في يده فقلت يا عبد الله أتبيع هذا الناقوس؟.. فقال وما تصنع به قال قلت ندعو به إلى الصلاة، قال ألا أدلك على خير من ذلك قلت وما هو قال:
ـ تقول الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمدا رسول الله أشهد أن محمدا رسول الله حي على الصلاة حي على الصلاة حي على الفلاح حي على الفلاح الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله .
فلما أخبر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
ـ " إنها لرؤيا حق إن شاء الله فقم مع بلال فالقها عليه فليؤذن بها فإنه أندى صوتا منك "
فلما أذن بها بلال سمعه عمر بن الخطاب وهو في بيته فخرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يجر رداءه وهو يقول:
ـ يا نبي الله والذي بعثك بالحق لقد رأيت مثل الذي رأى .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
ـ " فلله الحمد "
روى هذا الحديث أبو داود والترمذي وابن ماجه وابن خزيمة.
وكان بلال إذا فرغ من الأذان فأراد أن يعلم النبي صلى الله عليه وسلم أنه قد أذن وقف على الباب :
ـ وقال حي على الصلاة حي على الفلاح الصلاة يا رسول الله.
فإذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فرآه بلال ابتدأ في الإقامة.
جاء بلال ذات غداة إلى الفجر فقيل له :
ـ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نائم .
فصرخ بلال بأعى صوته :
ـ الصلاة خيرٌ من النوم .
قال سعيد بن المسيب :(1/48)
ـ فأدخلت هذه الكلمة في التأذين إلى صلاة الفجر فكان بلال يؤذن بذلك .
عن عروة بن الزبير عن امرأة من بني النجار قالت :
ـ كان بيتي من أطول بيت حول المسجد فكان بلال يؤذن عليه للفجر كل غداة فيأتي بسحر فيجلس على البيت ينتظر الفجر فإذا رآه تمطى ثم قال:
ـ (اللهم أحمدك واستعينك على قريش أن يقيموا دينك)
قالت ثم يؤذن ، وقالت والله ما علمته كان تركها ليلة واحدة.
رواه أبو داود.
عن بن أبي مليكة أو غيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بلالا أن يؤذن يوم الفتح على ظهر الكعبة فأذن على ظهرها والحارث بن هشام وصفوان بن أمية قاعدان فقال أحدهما للآخر :
ـ أنظر إلى هذا الحبشي.
فقال الآخر:
ـ إن يكرهه الله يغيره.
وفي رواية أخرى:
لما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم نسكه في القضاء دخل البيت فلم يزل فيه حتى أذن بلال الظهر فوق ظهر الكعبة ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره بذلك، فقال عكرمة بن أبي جهل:
ـ لقد أكرم الله أبا الحكم حين لم يسمع هذا العبد يقول ما يقول.
وقال صفوان بن أمية:
ـ الحمد لله الذي أذهب أبي قبل أن يرى هذا .
وقال خالد بن أسيد:
ـ الحمد لله الذي أمات أبي ولم يشهد هذا اليوم حتى يقوم بلال ينهق فوق البيت.
وأما سهيل بن عمرو ورجال معه لما سمعوا بذلك غطوا وجوههم .
قال الحافظ البيهقي قد أكرم الله أكثرهم بالإسلام .
عن نافع عن ابن عمر قال:
ـ دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه الفضل بن عباس واسامة بن زيد وعثمان بن طلحة وبلال ،فأمر بلالا فأجاف ( أغلق)عليهم الباب فمكث فيه ما شاء الله ، ثم خرج .
قال ابن عمر:
ـ فكان أول من لقيت منهم بلالا فقلت:
ـ أين صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم..؟
قال:
ـ ها هنا بين الاسطوانتين.
وروى مسلم عن يحيى بن الحصين عن جدته أم الحصين سمعتها تقول:(1/49)
ـ حججت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع فرأيته حين رمى جمرة العقبة وانصرف وهو على راحلته يوم النحر وهو يقول:
ـ " لتأخذوا مناسككم فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه "
وفي رواية قالت :
ـ حججت مع رسول الله حجة الوداع فرأيت أسامة وبلالا أحدهما آخذ بخطام ناقة النبي صلى الله عليه وسلم ، والآخر رافع ثوبه يستره من الحر حتى رمى جمرة العقبة.
عن أم سلمة رضي الله عنها أنها قالت وهي تصف لحظة الوداع الأخيرة للحبيب محمد صلى الله عليه وسلم بعد وفاته:
ـ بينا نحن مجتمعون نبكي لم ننم ورسول الله صلى الله عليه وسلم في بيوتنا ونحن نتسلى برؤيته على السرير، إذ سمعنا صوت الكرارين ( المتتابعين للصلاة ) في السحر، فصحنا وصاح أهل المسجد ، فارتجت المدينة صيحة واحدة ، وأذن بلال بالفجر ، فلما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم بكى وانتحب ، فزادنا حزنا ،وعالج الناس الدخول إلى قبره فأغلق دونهم.
عن جابر بن عبد الله قال :
ـ رش على قبر النبي صلى الله عليه وسلم الماء رشا ، وكان الذي رشه بلال بن رباح بقربة ، بدأ من قبل رأسه من شقه الأيمن حتى انتهى إلى رجليه ثم ضرب بالماء إلى الجدار.
لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن بلال ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقبر ، فكان إذا قال أشهد أن محمدا رسول الله انتحب الناس في المسجد، فلما دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له أبو بكر :
ـ أذن .
فقال :
ـ إن كنت إنما أعتقتني لأن أكون معك فسبيل ذلك ، وإن كنت أعتقتني لله فخلني ومن أعتقتني له .
فقال:
ـ ما أعتقتك إلا لله.
قال:
ـ فإني لا أؤذن لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال:
ـ فذاك إليك .
فأقام حتى خرجت بعوث الشام فسار معهم حتى انتهى إليها.
وثبت في الصحيح أن رسول الله صلىالله عليه وسلم قال لبلال:
ـ "إني دخلت الجنة فسمعت خشف( صوت) نعليك أمامي فأخبرني بأرجىعمل عملته " ( أعظم عمل كنت ترجو به رضا الله).(1/50)
فقال :
ـ ما توضأت إلا وصليت ركعتين .
فقال:
ـ " بذاك ".
وفي رواية :
ـ ما أحدثت إلا توضأت وما توضأت إلا رأيت أن على أني أصلي ركعتين.
فكان بلال إذا ذكر ذلك بكى .
وفي الحديث الصحيح عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
ـ " أريت الجنة فرأيت امرأة أبي طلحة وسمعت خشخشة أمامي فإذا بلال "
رواه مسلم.
عن نافع عن بن عمر قال كان بلال يحمل العنزة (عصاً في قَدْر نصف الرُّمْح أَو أَكثر شيئاً فيها سِنانٌ مثل سنان الرمح، وقيل: في طرفها الأَسفل زُجٌّ كزج الرمح يتوكأُ عليها) بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يركزها بين يديه والمصلى يومئذ فضاء.
وكان النجاشي الحبشي بعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث عنزات، فأمسك النبي صلى الله عليه وسلم واحدة لنفسه ، وأعطى علي بن أبي طالب واحدة ، وأعطى عمر بن الخطاب واحدة.
فكان بلال يمشي بتلك العنزة التي أمسكها رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في العيدين يوم الفطر ويوم الأضحى حتى يأتي المصلى فيركزها بين يديه فيصلي إليها ، ثم كان يمشي بها بين يدي أبي بكر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ـ زكاه الرسول وزوجه .
عن زيد بن أسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم زوج ابنة أبي البكير بلالا.
فقد جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا:
ـ زوج أختنا فلانا .
فقال لهم :
ـ "أين أنتم عن بلال ..؟"
ثم جاؤوا مرة أخرى فقالوا:
ـ يا رسول الله أنكح أختنا فلانا .
فقال :
ـ "أين أنتم عن بلال ..؟"
ثم جاؤوا الثالثة فقالوا:
ـ أنكح أختنا فلانا .
فقال :
ـ "أين أنتم عن بلال أين ؟أين أنتم عن رجل من أهل الجنة ..؟"
فأنكحوه.
عن بن مراهن قال:
كان أناس يأتون بلالا فيذكرون فضله وما قسم الله له من الخير فكان يقول :
ـ إنما أنا حبشي كنت بالأمس عبدا.(1/51)
ـ عن خباب في قوله تعالى (ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ) إلى قوله (فتكون من الظالمين) قال جاء الأقرع بن حابس التميمي وعيينة بن حصن الفزاري فوجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مع صهيب وبلال وعمار وخباب قاعدا في ناس من الضعفاء من المؤمنين فلما رأوهم حول رسول الله حقروهم ، فأتوا فخلوا به فقالوا :
ـ نريد أن يجعل لنا منك مجلسا تعرف لنا به العرب فضلنا فإن وفود العرب تأتيك فنستحي أن ترانا العرب مع هذه الأعبد، فاذا نحن جئناك فأقمهم عنك فإذا نحن فرغنا فاقعد معهم إن شئت.
قال:
ـ "نعم ."
قالوا:
ـ فاكتب لنا عليك كتابا.
قال فدعا بصحيفة ودعا عليا ليكتب ونحن قعود في ناحية فنزل جبريل عليه السلام فقال : (ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين) ثم ذكر الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن فقال (وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين) ثم قال : (وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة) قال فدنونا منه حتى وضعنا ركبنا على ركبته .
ـ عن أبي سعيد الخدري قال:
جلست في عصابة من ضعفاء المهاجرين وإن بعضهم ليستتر ببعض من العري وقارئ يقرأ علينا إذ جاء رسول الله صلى اللهم عليه وسلم فقام علينا فلما قام رسول الله صلى اللهم عليه وسلم سكت القارئ فسلم ثم قال:
ـ " ما كنتم تصنعون..؟"
قلنا :
ـ يا رسول الله إنه كان قارئ لنا يقرأ علينا فكنا نستمع إلى كتاب الله.
فقال رسول الله صلى اللهم عليه وسلم :
ـ الحمد لله الذي جعل من أمتي من أمرت أن أصبر نفسي معهم "(1/52)
فجلس رسول الله صلى اللهم عليه وسلم وسطنا ليعدل بنفسه فينا ثم قال بيده هكذا فتحلقوا وبرزت وجوههم له ، قال فما رأيت رسول الله صلى اللهم عليه وسلم عرف منهم أحدا غيري فقال رسول الله صلى اللهم عليه وسلم :
ـ أبشروا يا معشر صعاليك المهاجرين بالنور التام يوم القيامة تدخلون الجنة قبل أغنياء الناس بنصف يوم وذاك خمس مائة سنة *
وقد روى الامام أحمد وأبو داود والترمذي من حديث حماد بن سلمة عن حميد عن أنس قال :
ـ لم يكن شخص أحب إليهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال:
ـ وكانوا إذا رأوه لم يقوموا لما يعلمون من كراهيته لذلك.
ذكر البخاري عن البراء أنه قال:
ـ أول من قدم علينا ( إلى المدينة) مصعب بن عمير وابن أم مكتوم ثم قدم علينا عمار وبلال.
عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال:
( جاء قيس بن مطاطية إلى حلقة فيها سلمان الفارسي وصهيب الرومي وبلال الحبشي رضي الله عنهم فقال:
ـ هؤلاء الأوس والخزرج قاموا بنصرة هذا الرجل، فما بال هؤلاء؟
فقام معاذ رضي الله عنه فأخذ بتلبيبه حتى أتى به النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بمقالته ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم مغضباً يجر رداءه حتى دخل المسجد، ثم نُودي الصلاة جامعة، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:
ـ «يا أيها الناس إنَّ الربَّ رب واحد، وإن الأب أب واحد، وإن الدين دين واحد، ألا وإن العربية ليست لكم بأب ولا أم، إنما هي لسان فمن تكلم بالعربية فهو عربي».
فقال معاذ وهو آخذ بتلبيبه:
ـ يا رسول الله ما تقول في هذا المنافق؟
فقال:
ـ «دعه إلى النار»
قال: فكان فيمن ارتد فقُتل في الردة. )
عن الحسن أنه قال :
حضر باب عمر بن الخطاب سهيل بن عمرو والحارث بن هشام وأبو سفيان بن حرب ونفر من تلك الرؤوس وصهيب وبلال وتلك الموالي الذين شهدوا بدرًا فخرج آذن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه فأذن لهم وترك هؤلاء .
فقال أبو سفيان :(1/53)
ـ لم أر كاليوم قط يأذن لهؤلاء العبيد ويتركنا على بابه لا يلتفت إلينا ..؟!
فقال سهيل بن عمرو وكان رجلًا عاقَلا:
ـ أيها القوم إني واللّه قد أرى الذي في وجوهكم إن كنتم غضابًا فاغضبوا على أنفسكم ،دُعي القوم ودعيتم، فأسرعوا وأبطأتم ،فكيف بكم إذا دعوا يوم القيامة وتركتم، أما واللّه لما سبقوكم إليه من الفضل مما لا ترون أشد عليكم من بابكم هذا الذي تنافسونهم عليه .
قال : ونفض ثوبه وانطلق .
قال الحسن : وصدق واللّه سهيل لا يجعل اللّه عبدًا أسرع إليه كعبد أبطأ عنه .
وأخرج البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت:
لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وُعِك أبو بكر وبلال رضي الله عنهما، فدخلت عليهما فقلت:
ـ يا أبت كيف تجدك؟ ويا بلال كيف تجدك؟
وقالت عائشة: فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال:
ـ «اللهمَّ حبِّب إلينا المدينة كحبِّنا مكة أو أشد، اللهمَّ وصحِّحها، وبارك لنا في مدَّها وصاعها، وانقل حُمَّاها فاجعلها بالجُحْفة».
جاء في كتاب الرياض النضرة عن أبي أمامة الباهلي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
ـ ""أدخلت الجنة فسمعت فيها خسفة بين يدي فقلت ما هذا ؟..قال بلال ، فمضيت فإذا أكثر أهل الجنة فقراء المهاجرين وذراري المسلمين ولم أر أحداً أقل من الأغنياء والنساء ، قيل لي أما الأغنياء فهم ههنا بالباب يحاسبون ، وأما النساء فألهاهن الأحمران الذهب والحرير، ثم خرجنا من أحد أبواب الثمانية فلما كنت عند الباب أتيت بكفة فوضعت فيها ووضعت أمتي في كفة فرجحت بها ، ثم أتي بأبي بكر فوضع في كفة وجيء بجميع أمتي فوضعت في كفة فرجح أبو بكر ، ثم أتي بعمر فوضع في كفة وجيء بجميع أمتي فوضعت في كفة فرجح عمر ، ثم عرضت على أمتي رجلاً رجلاً فجعلوا يمرون فاستبطأت عبد الرحمن بن عوف ثم جاء بعد اليأس فقال:(1/54)
ـ بأبي وأمي يا رسول الله والذي بعثك بالحق ما خلصت إليك حتى ظننت أني لا أنظر إليك إلا بعد المشيبات.
قال: وما ذاك ..؟
قال :
ـ من كثرة مالي أحاسب ."
أخرجه أحمد
(الخسفة : الحس والحركة)
من أقواله :
ـ عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على بلال فوجد عنده صبرا (الطعام المجتمِع كالكُومَة ) من تمر ،قال :
ـ "ما هذا يا بلال..؟"
قال:
ـ تمر أدخره .
قال:
ـ "ويحك يا بلال أو ما تخاف أن تكون له بحار في النار، أنفق بلال ولا تخش من ذي العرش إقلالا "
قاله البيهقي.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
ـ "من أحيا سنة من سنتي قد أميتت بعدي فإن له من الأجر مثل أجر من عمل بها من الناس لا ينقص من أجور الناس شيئا ومن ابتدع بدعة لا يرضاها الله ورسوله فإن عليه مثل إثم من عمل بها من الناس لا ينقص من آثام الناس شيئا"
عن عبد الله الهوريني أنه قال:
لقيت بلالا مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بحلب فقلت:
ـ يا بلال حدثني كيف كانت نفقة رسول الله صلى الله عليه وسلم ..؟
فقال :
ـ ما كان له شيء إلا أنا الذي كنت إلى ذلك منه منذ بعثه الله إلى أن توفي، فكان إذا أتاه الانسان المسلم فرآه عائلا يأمرني فأنطلق فأستقرض فاشتري البردة والشيء فأكسوه وأطعمه ، حتى اعترضني رجل من المشركين فقال يا بلال:
ـ إن عندي سعة فلا تستقرض من أحد إلا مني ففعلت .
فلما كان ذات يوم توضأت ، ثم قمت لأؤذن بالصلاة فاذا المشرك في عصابة من التجار ، فلما رآني تجهمني وقال قولا عظيما أو غليظا وقال:
ـ أتدري كم بينك وبين الشهر ..؟
قلت:
ـ قريب .
قال:
ـ إنما بينك وبينه أربع ليال فآخذك بالذي لي عليك فإني لم أعطك الذي أعطيتك من كرامتك ولا من كرامة صاحبك وإنما أعطيتك لتصير لي عبدا فأذرك ترعى في الغنم كما كنت قبل ذلك .(1/55)
فأخذني في نفسي ما يأخذ في أنفس الناس ، فانطلقت فناديت بالصلاة حتى إذا صليت العتمة ، ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله فاستأذنت عليه فأذن لي فقلت :
ـ يا رسول الله بأبي أنت وأمي إن المشرك الذي ذكرت لك أني كنت أتدين منه قد قال كذا وكذا وليس عندك ما يقضي عني ولا عندي وهو فاضحي فأذن لي أن آتي إلى بعض هؤلاء الأحياء الذين قد أسلموا حتى يرزق الله رسوله صلى الله عليه وسلم ما يقضي عني.
فخرجت حتى أتيت منزلي فجعلت سيفي وحرابي ورمحي ونعلي عند رأسي فاستقبلت بوجهي الأفق فكلما نمت انتبهت ، فإذا رأيت على ليلا نمت حتى انشق عمود الصبح الأول ، فأردت أن أنطلق فاذا إنسان يدعو يا بلال أجب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فانطلقت حتى آتيه فاذا أربع ركائب عليهم أحمالهن.
فأتيت رسول الله فاستأذنت فقال لي رسول الله:
ـ "أبشر فقد جاءك الله بقضاء دينك."
فحمدت الله وقال:
ـ "ألم تمر على الركائب المناخات الأربع ..؟"
قلت :
ـ بلى .
قال:
ـ "فإن لك رقابهن وما عليهن فاذا عليهن كسوة وطعام أهداهن له عظيم فدك فاقبضهن إليك ثم اقض دينك "
ففعلت فحططت عنهن أحمالهن، ثم علفتهن ثم عمدت إلى تأذين صلاة الصبح حتى إذا صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خرجت إلى البقيع ،فجعلت أصبعي في أذني فقلت :
ـ من كان يطلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم دينا فليحضر.
فما زلت أبيع وأقضي وأعرض حتى لم يبق على رسول الله صلى الله عليه وسلم دين في الأرض حتى فضل عندي أوقيتان أو أوقية ونصف ، ثم انطلقت إلى المسجد وقد ذهب عامة النهار فاذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد في المسجد وحده فسلمت عليه ، فقال لي:
ـ "ما فعل ما قبلك ..؟"
قلت :
ـ قد قضى الله كل شيء كان على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يبق شيء .
قال :
ـ "فضل شيء..؟"
قلت :
ـ "نعم ديناران "
قال:
ـ " أنظر أن تريحني منهما فلست بداخل على أحد من أهلي حتى تريحني منهما."(1/56)
فلم يأتينا أحد فبات في المسجد حتى أصبح ،وظل في المسجد اليوم الثاني حتى إذا كان آخر النهار جاء راكبان فانطلقت بهما فكسوتهما وأطعمتهما ، حتى إذا صلى العتمة دعاني فقال :
ـ "ما فعل الذي قبلك ..؟"
ـ قلت قد أراحك الله منه.
فكبر وحمد الله شفقا من أن يدركه الموت وعنده ذلك ،ثم اتبعته حتى جاء أزواجه فسلم على امرأة امرأة حتى أتى مبيته فهذا الذي سألتني عنه.
عن بلال قال:
ـ اذنت في غداة باردة فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فلم ير في المسجد واحدا ، فقال :
ـ "أين الناس..؟"
فقلت :
ـ منعهم البرد.
فقال:
ـ "اللهم أذهب عنهم البرد."
فرأيتهم يتروحون( يأتون تباعا)
وعند أسلم قال قال بلال رضي الله عنه:
يا أسلم كيف تجدون عمر؟
قلت: خير، إذا غضب فهو أمر عظيم.
فقال بلال:
ـ لو كنت عنده إذا غضب قرأت عليه القرآن حتى يذهب غضبه.
أخرج ابن سعد عن الشَّعبي قال:
خطب بلال رضي الله عنه وأخوه إلى أهل بيت من اليمن، فقال:
ـ أنا بلال وهذا أخي، عبدان من الحبشة، كنّا ضالَّين فهدانا الله، وكنَّا عبدين فأعقتنا الله، إن تنكحونا فالحمد لله وإن تمنعونا فالله أكبر.
وعن عمرو بن ميمون عن أبيه أن أخاً لبلال كان ينتمي إلى العرب، ويزعم أنه منهم، فخطب امرأة من العرب فقالوا:
ـ إن حضر بلال زوَّجناك.
فحضر بلال فتشهَّد وقال:
ـ أنا بلال ابن رباح وهذا أخي، وهو امرؤ سوء في الخلق والدين، فإن شئتم أن تزوِّجوه، وإن شئتم أن تدعوا فدعوا.
فقالوا:
ـ من تكون أخاه نزوّجه، فزوَّجوه.
وجاء في كتاب أسد الغابة على لسان أبي الدرداء:
ـ أن عمر بن الخطاب لما دخل من فتح بيت المقدس إلى الجابية سأله بلال أن يقره بالشام، ففعل ذلك.
قال:
ـ وأخي أبو رويحة الذي آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بيني وبينه?
قال:
ـ وأخوك.
فنزلا داريا في خولان.
فقال لهم( لأهل داريا):(1/57)
ـ قد أتيناكم خاطبين، وقد كنا كافرين، فهدانا الله، وكنا مملوكين فأعتقنا الله، وكنا فقيرين فأغنانا الله، فإن تزوجونا فالحمد لله، وإن تردونا فلا حول ولا قوة إلا بالله. فزوجوهما.
ثم إن بلالاً رأى النبي صلى الله عليه وسلم في منامه وهو يقول:
ـ "ما هذه الجفوة يا بلال? ما آن لك أن تزورنا ..؟!"
فانتبه حزيناً، فركب إلى المدينة فأتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم وجعل يبكي عنده ويتمرغ عليه، فأقبل الحسن والحسين، فجعل يقبلهما ويضمهما، فقالا له: ـ نشتهي أن تؤذن في السحر، فعلا سطح المسجد، فلما قال:
ـ "الله أكبر، الله أكبر"
ارتجت المدينة.
فلما قال:
ـ "أشهد أن لا إله إلا الله"
زادت رجتها.
فلما قال:
ـ "أشهد أن محمداً رسول الله" خرج النساء من خدورهن ، فما رئي يوم أكثر باكياً وباكية من ذلك اليوم.
أخرج مسلم عن عائذ بن عمرو أن أبا سفيان أتى على سلمان وصهيب وبلال رضي الله عنهم في نفر، فقالوا:
ـ ما أخذتْ سيوف الله من عنق عدو الله مأخذها.
فقال أبو بكر رضي الله عنه:
ـ أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدهم؟
فأتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال:
ـ" يا أبا بكر لعلك أغضبتهم؟ لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربك"
فأتاهم أبو بكر فقال: يا إخوتاه أغضبتكم؟
قالوا: لا. يغفر الله لك يا أخي.
وفاته :
توفي بلال بدمشق سنة عشرين ودفن عند الباب الصغير في مقبرة دمشق وهو بن بضع وستين سنة.
تعريف
قبل أن ينجب كان الرسول العظيم قد كناه...
وبعد أن أسلم اجتباه...
لحظات المصير لا تنسى، وفترات التحول في حياة المرء لها رنين الذهب ولمعان اللالئ...
وصاحبنا كان موعده مع الإسلام عظيما...
في الفلاة كان يرعى الغنم، وشاء حظه السعيد أن يمر به النبي العظيم وصاحبه الصديق،عطش الرسول كان سببا في ارتوائه بنور الإيمان والعلم، وكانت الأمانة مفتاح سره في عهده الجديد...
طلب الرسول العظيم منه لبنا ليشرب وصاحبه ، رفض وقال: إني مؤتمن...(1/58)
أعجب رده الحبيب المصطفى ، وطلب منه شاه صغيرة لم تنكح ولم تنجب من قبل، ومسح ضرعها ففاض اللبن وشرب مع الصديق حتى ارتوى...
القلب العقول واللسان السؤل وسيلة الفقهاء والعظماء والحكماء ، أدهشته المعجزة التي رآها بعينيه، وهفا إلى الكلمات المباركة التي أجرت اللبن في ضرع ضامر لم ينشط...
طلب العلم من الحبيب المصطفى ورجاه أن يعلمه تلك الكلمات، نظرإليه النبي وقال له:
ـ إنك غلام معلم.
أحرف قليلة لكلمات بسيطة حملت كل علوم الدين ونور الحكمة وصبته في عقل وقلب بطلنا، فسار أحد مصابيح الهدى ومرجعا للفقه وخازنا للقرآن...
قال بعد أن أسلم مبينا أثر دعوة الحبيب المصطفى عليه:
ـ أخذت من فيه صلى الله عليه وسلم سبعين سورة لا ينازعني فيها أحد .
وقال أيضا:
ـ والذي لا إله غيره ما نزلت آية من كتاب الله إلا أنا أعلم أين نزلت ،وفيما نزلت ، ولو أعلم أن أحدًا أعلم مني بكتاب الله تناله المطي لأتيته .
قال عنه الإمام علي رضي الله عنه:
ـ علم القرآن وعلم السنة ثم انتهى وكفى به علما.
وقال عنه حذيفة :
ـ إنه أشبه الناس هديا ودلا برسول الله من حين يخرج من بيته إلى أن يرجع ،
وقال عبد الله بن عمر : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
ـ " خذوا القرآن من أربعةٍ : من ابن أم عبد ومعاذ بن جبلٍ وأبي بن كعبٍ وسالمًٍ مولى أبي حذيفة " .
وقال معاذ بن جبل وهو يوصي أحد أصحابه:
ـ اطلب العلم عند أربعة: عبد الله بن مسعود، وعبد الله بن سلام، وسلمان، وأبي الدرداء رضي الله عنهم.
وقال أبو موسى مبينا قربه الشديد من النبي:
ـ قدمت أنا وأخي من اليمن وما كنا نظن إلا أن ابن مسعود وأمه من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم لكثرة دخولهم بيت النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال عنه أحد أصحابه:(1/59)
ـ جالست أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فوجدتهم كالأخاذ( شئ كالغدير) يروي الرجل ، والأخاذ يروي الرجلين ، والأخاذ يروي المائة ، والأخاذ لو نزل به أهل الأرض لأصدرهم ، فوجدت عبد الله من ذلك الأخاذ.
دقات قدميه الواهنتين على الأرض تزلزل عقول الكفار، وصوته الذي أشبع علما تفرد بكونه أول من أسمع المشركين آيات القرآن من سورة الرحمن ، وقال حين عاد إلى أصحابه بعد أن أوسعه الكفار ضربا:
ـ ما كان أعداء الله قط أهون علي منهم الآن، ولئن شئتم غاديتهم بمثلها غداً?
ضحك أصحابه يوما منه وهو يجتبي عودا من الآراك للسواك، سألهم المعصوم عن سر ضحكهم فقالوا: من دقة ساقيه.
فمنحه الحبيب محمد وساما وباسبورا للجنة حين قال معلقاعلى ردهم:
ـ "والذي نفسي بيده لهما أثقل من الميزان من أحد."
قال عن نفسه:
ـ ما نمت الضحى منذ أسلمت.
وقال أيضا:
ـ لو تعلمون ما أعلم من نفسي حثيتم على رأسي التراب.
وحين ذكر الموت أمامه قال :
ـ ما أنا له اليوم بمتيسر.
أي عبادة تلك؟.. وأي تواضع؟.. أراد هذا الصحابي الجليل أن يعلمنا..؟
أنظروا إلى تقديره للعلم حين يقول:
ـ إن الرجل لا يُولد عالماً وإنما العِلم بالتعلّم .
ـ ليس العلم بكثرة الرواية، ولكن العلم الخشية.
ـ تَعلَّمُوا العِلم قبل أن يُرفِع .
ـ عليكم بالشفاءين : القرآن والعسل .
وكان يقدر العمل ، فقال في ذلك:
ـ إني لأبغض الرجل أن أراه فارغا ليس في شيء من عمل الدنيا ولا في عمل الآخرة .
لكنه كان يكره الانكباب على الدنيا ونسيان الآخرة ، فوضح ذلك بقوله:
ـ لا ألفين أحدكم جيفة ليل قطرب نهار.
( القطرب : دويبة كانتْ في الجاهلية لا تستريح نهارها سَعْياً )
وكان الإيمان بقضاء الله بخيره وشره نهجه القويم في حياته، فقال موضحا ذلك:(1/60)
ـ ما أحد من الناس يوم القيامة إلا يتمنى أنه كان يأكل في الدنيا قوتاً، وما يضرُّ أحدكم على ما أصبح وأمسى من الدنيا إلا أن تكون في النفس حزازة، ولأن يعض أحدكم على جمرة حتى تُطفأ خير من أن يقول لأمر قضاه الله: ليت هذا لم يكن.
وقال أيضا:
ـ ما أبالي إذا رجعت إلى أهلي على أي حال أراهم بخير أو بشر أم بضر، وما أصبحت على حالة فتمنيت أني على سواها.
وحين أحس بدنو أجله أثر عنه أنه أوصى بأن يدفن بالبقيع بجوار الصحابي الجليل عثمان بن مظعون أول من مات من المسلمين بعد الهجرة، وأوصى أيضا أن يكفن في حلة بمائتي درهم...
معادلة محسوبة بدقة ، وأيمان عميق ، وثقة فيما سيئول إليه حاله...
كفن بسيط بعيدا عن التبذير والتقصير يوحي بفلسفة حكيم يأبى أن يموت قبل أن يعطي درسه الأخير لكل المسلمين في كيفية الاستعداد للموت ولقاء الله...
رحمة الله عليك يا صاحب السواد والسواك والنعلين...
رحمة الله عليك يا من كان إذنك في الدخول على النبي دون باقي الصحابة فقط أن ترفع الحجاب...
رحمة الله عليك يابن مسعود وجمعنا الله بك في الجنة بعفوه، إن شاء الله...
عبد الله بن مسعود
اسمه : عبد الله بن مسعود.
كنيته: أبو عبد الرحمن.
أبوه : مسعود بن غافل بن حبيب.
أمه : أم عبد بنت عبد ود.
إسلامه:
أسلم قبل دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم دار الأرقم ،ويقال إنه كان سادسا في الإسلام .
هاجر الهجرتين إلى الحبشة وإلى المدينة، وصلى القبلتين، وشهد بدراً، وأحداً، والخندق، وبيعة الرضوان، وسائر المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشهد اليرموك بعد النبي صلى الله عليه وسلم.
وهو الذي أجهز على أبي جهل.
جاء في المنتظم للتاريخ:
(ثم مر بأبي جهل - وهو عقير - معوذ بن عفراء فضربه حتى أثبته وتركه وبه رمق وقاتل معوذ حتى قتل فمر به عبد الله بن مسعود فوضع رجله على عينيه فقال :
ـ لقد ارتقيت يا رويعي الغنم مرتقى صعبًا فقال :
ـ لمن الدائرة..؟
فقال : :(1/61)
ـ لله ولرسوله .
ثم اجتز رأسه فأتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم .
عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه قال :
ـ أتيت النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر فقلت :
ـ يا رسول الله إني قتلت أبا جهل .
قال :
ـ " بالله الذي لا إله غيره لأنت قتلته " ..؟
قلت :
ـ نعم فاستخفه الفرح ثم قال :
ـ " انطلق فأرنيه " .
قال :
ـ فانطلقت معه حتى قمت به على رأسه .
فقال :
ـ " الحمد لله الذي أخزاك هذا فرعون هذه الأمة جروه إلى القليب " .
قال : وقد كنت ضربته بسيفي فلم يعمل فيه فأخذت سيفه فضربته به حتى قتلته فنفلني رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفه .
وشهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة.
روى عن النبي صلى الله عليه وسلم. وروى عنه من الصحابة: ابن عباس، وابن عمر، وأبي موسى، وعمران بن حصين، وابن الزبير، وجابر، وأنس، وأبو سعيد، وأبو هريرة، وأبو رافع، وغيرهم. وروى عنه الكثيرون من التابعين.
ولي قضاء الكوفة وبيت المال لعمر ، وصدرا من خلافة عثمان
صفاته الجسدية:
كان خفيف اللحم، قصيرا ، دقيق الساقين ، شديد الأدمة ( شديد السواد ) وكان لايغير شيبه( لا يصبغ شعره)
عن هبيرة بن يريم قال:
ـ كان شعر عبد الله بن مسعود يبلغ ترقوته فرأيته إذا صلى يجعله وراء أذنيه.
وعن المسيب قال: رأيت ابن مسعود عظيم البطن أحمش ( دقيق) الساقين.
وقال زيد بن وهب: رأيت بعيني عبد الله أثرين أسودين من البكاء.
وكان من أجود الناس ثوبا ، ومن أطيب الناس ريحا.
عن طلحة قال :
ـ كان عبد الله يعرف بالليل بريح الطيب.
وكان له خاتم من حديد.
مناقبه:
ـ كان صاحب سر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ووساده ،وسواكه ،ونعليه وطهوره في السفر. وكان يشبه بالنبي. صلى الله عليه وسلم في هديه وسمته، ودله (الدل: حسن الحديث وقيل حسن الهيئة)
عن عبد الله قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:
ـ إذنك علي أن ترفع الحجاب وأن تسمع سوادي( سري) حتى أنهاك.(1/62)
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
ـ " رضيت لأمتي ما رضي لها ابن أم عبدٍ وسخطت لأمتي ما سخط لها ابن أم عبدٍ " .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
ـ " رجل عبد الله أو رجلا عبد الله في الميزان أثقل من أحدٍ " .
قال عبد الله بن عمر : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
ـ " خذوا القرآن من أربعةٍ : من ابن أم عبد " فبدأ به " ومعاذ بن جبلٍ وأبي بن كعبٍ وسالمًٍ مولى أبي حذيفة " .
ـ عن عبد الله بن مسعود قال :
كنت غلاما يافعا أرعى غنما لعقبة بن أبي معيط فجاء النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وقد نفرا من المشركين فقالا :
(يا غلام هل عندك من لبن تسقينا..؟
فقلت :
ـ أني مؤتمن ولست ساقيكما .
فقال النبي صلى الله عليه وسلم :
ـ هل عندك من جذعة( الصغير من الحيوان كالأبل والأغنام)لم ينز عليها الفحل..؟
قلت :
ـ نعم ، فأتيتهما بها فاعتقلها النبي صلى الله عليه وسلم ومسح الضرع ودعا فحفل الضرع ، ثم أتاه أبو بكر بصخرة منقعرة فاحتلب فيها ،فشرب أبو بكر ثم شربت، ثم قال للضرع :
ـ اقلص
فقلص.
فأتيته بعد ذلك فقلت :
ـ علمني من هذا القول .
قال :
ـ إنك غلام معلم .
فأخذت من فيه سبعين سورة لا ينازعني فيها أحد )
وقيل إن هذا الموقف كان سبب إسلامه.
قال عبد الله بن مسعود :
ـ لقد رأيتني سادس ست وما على وجه الأرض مسلم غيرنا .
كان شديد القرب من الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم :
قال أبو موسى:
ـ قدمت أنا وأخي من اليمن وما كنا نظن إلا أن ابن مسعود وأمه من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم لكثرة دخولهم بيت النبي صلى الله عليه وسلم.
كان أول من جهر بالقرآن بمكة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن مسعود، اجتمع يوماً أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا:
ـ والله ما سمعت قريش هذا القرآن يجهر لها به قط، فمن رجلٌ يسمعهم?
فقال عبد الله بن مسعود:
ـ أنا.
فقالوا:(1/63)
ـ إنا نخشاهم عليك، إنما نريد رجلاً له عشيرة تمنعه من القوم إن أرادوه!
فقال:
ـ دعوني، فإن الله سيمنعني.
فغدا عبد الله حتى أتى المقام في الضحى وقريش في أنديتها، حتى قام عند المقام، فقال رافعاً صوته:
"بسم الله الرحمن الرحيم ( الرحمن علم القرآن ) فاستقبلها فقرأ بها ، فقاموا إليه وجعلوا يضربون وجهه، وهو ماض في قراءته حتى بلغ منها ما شاء الله أن يبلغ..
ثم عاد الى أصحابه مصابا في وجهه وجسده، فقالوا له:
ـ هذا الذي خشينا عليك!
فقال:
ـ ما كان أعداء الله قط أهون علي منهم الآن، ولئن شئتم غاديتهم بمثلها غداً? قالوا:
ـ حسبك، قد أسمعتهم ما يكرهون.
عن ثوير عن أبيه قال سمعت بن مسعود يقول :
ـ ما نمت الضحى منذ أسلمت.
عن يزيد بن عبيد الله عن بعض أصحابه قال:
رأى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه رجلاً يضحك في جنازة فقال:
ـ أتضحك وأنت مع جنازة؟ والله لا أكلمك أبداً.
وعن القاسم بن عبد الرحمن قال :
ـ كان عبد الله يلبس رسول الله صلى الله عليه وسلم نعليه، ثم يمشي أمامه بالعصا حتى إذا أتي مجلسه نزع نعليه فادخلهما في ذراعيه وأعطاه العصا، فإذا أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقوم ألبسه نعليه ،ثم مشى بالعصا أمامه حتى يدخل الحجرة قبل رسول الله.
قال أبو المليح عن عبد الله أنه:
ـ كان يوقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نام ،ويستره إذا اغتسل ،ويمشي معه في الأرض وحشا( الأرض الوحش : القفر الخالية من الناس).
وقال عبد الله بن شداد:
ـ إن عبد الله كان صاحب الوساد والسواك والنعلين.
قال عنه حذيفة :
ـ إنه أشبه الناس هديا ودلا برسول الله من حين يخرج من بيته إلى أن يرجع ، ولا أدري ما يصنع في أهله لعبد الله بن مسعود، والله لقد علم المحفوظون من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أنه من أقربهم عند الله وسيلة يوم القيامة.
عن علقمة قال جاء رجل إلى عمر وهو بعرفة فقال:(1/64)
ـ جئت يا أمير المؤمنين من الكوفة وتركت بها رجلا يملي المصاحف عن ظهر قلب .
فغضب وانتفخ حتى كاد يملا ما بين شعبتي الرجل فقال:
ـ من هو ويحك ..؟
قال :
ـ عبد الله بن مسعود .
فقال:
ـ ويحك والله ما أعلم بقي من الناس أحد هو أحق بذلك منه وسأحدثك عن ذلك.
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يزال يسمر عند أبي بكر ،وأنه سمر عنده ذات ليلة وأنا معه فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يستمع قراءته فلما كدنا نعرفه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
ـ "من سره أن يقرأ القرآن رطبا كما أنزل فليقراه على قراءة ابن أم عبد "
ثم جلس الرجل يدعو فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له:
ـ " سل تعطه سل تعطه."
وقيل إنه سأل فيما سأل :
ـ اللهم إني أسألك إيماناً لا يرتد ونعيماً لا ينفذ ومرافقة نبيك يعني محمداً في أعلى جنة الخلد .
قال عمر :
ـ قلت والله لأغدون عليه فلأ بشرنه ، فغدوت عليه فبشرته فوجدت أبا بكر قد سبقني إليه فبشره ، ولا والله ما سابقته إلى خير قط إلا سبقني إليه.
رواه الإمام أحمد.
ولما مات ابن مسعود نعى إلى أبي الدرداء فقال :
ـ ما ترك بعد مثله .
وروي عن زر بن حبيش عن ابن مسعود أنه:
ـ كان يجتني سواكا من الأراك ، وكان دقيق الساقين ، فجعلت الريح تكفؤه فضحك القوم منه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
ـ " مم تضحكون ..؟"
قالوا :
ـ يا نبي الله من دقة ساقيه .
فقال :
ـ "والذي نفسي بيده لهما أثقل من الميزان من أحد."
عن زيد بن وهب قال كنت جالسا في القوم عند عمر إذ جاء رجل نحيف قليل فجعل عمر ينظر إليه ويتهلل وجهه ثم قال:
ـ كنيف( بئر) مليء علما كنيف مليء علما كنيف مليء علما.
فإذا هو بن مسعود
عن حبة بن جوين قال كنا عند علي فذكرنا بعض قول عبد الله وأثنى القوم عليه فقالوا:
ـ يا أمير المؤمنين ما رأينا رجلا كان أحسن خلقا ولا أرفق تعليما ولا أحسن مجالسة ولا أشد ورعا من عبد الله بن مسعود.
فقال علي:(1/65)
ـ نشدتكم الله إنه لصدق من قلوبكم ..؟
قالوا:
ـ نعم .
فقال:
ـ اللهم إني أشهدك اللهم إني أقول فيه مثل ما قالوا أو أفضل.
وقال الشعبي :
ـ ذكروا أن عمر بن الخطاب لقي ركبا في سفر له فيهم عبد الله بن مسعود فأمر عمر رجلا يناديهم :
ـ من أين القوم ..؟
فأجابه عبد الله :
ـ أقبلنا من الفج العميق .
فقال عمر:
ـ أين تريدون ..؟
فقال عبد الله :
ـ البيت العتيق .
فقال عمر
ـ البيت العتيق إن فيهم علاما، وأمر رجلا فناداهم :
ـ أي القرآن أعظم ..؟
فأجابه عبد الله :
ـ " الله لا اله إلا هو الحي القيوم " سورة البقرة آية 255. حتى ختم الآية.
قال:
ـ أي القرآن أحكم..؟
فقال ابن مسعود:
ـ " إن الله يأمر بالعدل والاحسان" سورة النحل آية 90 الاية .
فقال عمر نادهم :
ـ أي القرآن أجمع ..؟
فقال ابن مسعود :
ـ " فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره " سورة الزلزلة الآية 7-8 .
فقال عمر نادهم :
ـ أي القرآن أخوف ..؟
فقال ابن مسعود:
ـ " ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سواء يجر به " سورة النساء الآية 133 الآية .
فقال عمر نادهم :
ـ أي القرآن أترجى ..؟
فقال ابن مسعود :
ـ " يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله " سورة الزمر آية 53.
فقال عمر نادهم:
ـ أفيكم ابن مسعود..؟
قالوا:
ـ اللهم نعم.
وعن أبي البختري ، سئل الإمام علي عن عبد الله بن مسعود فقال :
ـ علم القرآن وعلم السنة ثم انتهى وكفى به علما.
قال أبو موسى الأشعري حين وفاة ابن مسعود:
ـ كان ليؤذن له إذا حجبنا ويشهد إذا غبنا.
رواه أحمد.
قال عبد الله إن رسول الله صلىالله عليه وسلم قال له يوما :
ـ " اقرأ علي ."
فقلت:
ـ اقرأ عليك وعليك أنزل..؟!
فقال :
ـ " إني أحب أن أسمعه من غيري"
فقرأ عليه من أول سورة النساء إلى قوله( فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا )
فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال:
ـ "حسبك ."(1/66)
وقال أبو موسى أيضا:
ـ لا تسألوني عن شيء ما دام هذا الحبر فيكم ( يعني ابن مسعود)
عن مسروق قال : قال عبد الله :
ـ والذي لا إله غيره ما نزلت آية من كتاب الله إلا أنا أعلم أين نزلت ،وألم فيما نزلت ، ولو أعلم أن أحدًا أعلم مني بكتاب الله تناله المطي لأتيته .
المطي ( جمع مطية وهي مايركب من الدواب)
عن أبي وائل أن بن مسعود رأى رجلا قد أسبل إزاره فقال :
ـ أرفع إزارك .
فقال له الرجل:
ـ وأنت يا بن مسعود فارفع إزارك.
فقال :
ـ إني لست مثلك إن بساقي حموشة.
فبلغ ذلك عمر فضرب الرجل وهو يقول له:
ـ أترد علي بن مسعود..!
وأخرج الترمذي عن علي :
ـ لو كنت مؤمرا أحدا بغير مشورة لأمرت بن أم عبد .
طُعن معاذٌ في ظهر كفه، فجعل يقول:
ـ هي أحبُّ إليّ من حمر النَّعم، ورأى رجلاً يبكي عنده فقال:
ـ ما يبكيك؟
قال:
ـ على العلم الذي كنت أصيبه منك.
قال:
ـ فلا تبكِ فإن إبراهيم كان في الأرض وليس بها عالم، فآتاه الله علماً، فإذا مت فاطلب العلم عند أربعة: عبد الله بن مسعود، وعبد الله بن سلام، وسلمان، وأبي الدرداء رضي الله عنهم.
وعن تميم بن حذلم قال:
ـ جالست أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر وعمر ، وما رأيت أحدا أزهد في الدنيا ولا أرغب في الآخرة ولا أحب إلي أن أكون في مسلاخه
(المسلاخ : الهدي والطريقة) منك يا عبد الله بن مسعود.
وعن مسروق قال:
ـ شاممت (تَعَرَّفْتَ ما عندهم بالاخْتبار والكشف )أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فوجدت علمهم انتهى إلى ستة نفر منهم عمر وعلي وعبد الله وأبي بن كعب وأبو الدرداء وزيد بن ثابت ثم شاممت هؤلاء الستة فوجدت علمهم انتهى إلى رجلين علي وعبد الله.
وعنه قال :
ـ جالست أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فوجدتهم كالأخاذ( شئ كالغدير) يروي الرجل والأخاذ يروي الرجلين والأخاذ يروي المائة والأخاذ لو نزل به أهل الأرض لأصدرهم ، فوجدت عبد الله من ذلك الأخاذ.
قال عثمان بن أبي العاص رضي الله:(1/67)
ـ رجلان مات النبي صلى الله عليه وسلم وهو يحبهما: عبد الله بن مسعود، وعمار بن ياسر رضي الله عنهم.
وعن الحسن رضي الله عنه قال:
ـ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث عمرو بن العاص رضي الله عنه على الجيش عاملاً وفيهم عامة أصحابه، فقيل لعمرو:
ـ إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كان يستعملك ويُدْنيك ويحبك.
فقال:
ـ قد كان يستعملني فلا أدري يتألَّفني أو يحبني. ولكن أدلكم على رجلين مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبحهما: عبد الله بن مسعود، وعمار ابن ياسر رضي الله عنهم.
وقال عبيد الله بن عبد الله :
ـ كان عبد الله إذا هدأت العيون قام فسمعت له دوياً كدوي النحل حتى يصبح.
عبادته وتقواه:
كان يصوم الاثنين والخميس.
عن عبد الرحمن بن يزيد قال :
ـ ما رأيت فقيها قط أقل صوما من عبد الله ، فقيل له :
ـ لم لا تصوم ..؟
قال :
ـ إني أختار الصلاة على الصوم فإذا صمت ضعفت عن الصلاة.
وعن محارب بن دثار عن عمه محمد قال:
مررت بابن مسعود بسحر وهو يقول:
ـ اللهم دعوتني فأجبتك، وأمرتني فأطعتك وهذا سحر فاغفر لي .
فلما أصبحت غدوت عليه فقلت له، فقال :
ـ إن يعقوب لما قال لبنيه (سوف استغفر لكم) سورة يوسف آية 98 ، آخرهم إلى السحر.
عن علقمة قال :
ـ مرض ابن مسعود مرضا فجزع فيه.
فقلنا له :
ـ ما رأيناك جزعت في مرض ما جزعت في مرضك هذا ..!
فقال:
ـ إنه أخذني وأقرب بي من الغفلة.
كان شديد الدقة والتحري فيما يقال عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
عن عمرو بن ميمون قال :
ـ اختلفت إلى عبد الله بن مسعود سنة ما سمعته يحدث فيها عن رسول الله. صلى الله عليه وسلم ولا يقول فيها قال رسول الله ، إلا أنه حدث ذات يوم بحديث فجرى على لسانه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلاه الكرب، حتى رأيت العرق يتحدر عن جبهته ، ثم قال إن شاء الله تعالى إما فوق ذلك وإما قريب من ذلك وإما دون ذلك.
كان شديد الخوف من الله:
عن مسروق قال:(1/68)
ـ قال رجل عند عبد الله ما أحب أن أكون من أصحاب اليمين ،أكون من المقربين أحب إلي.
فقال عبد الله :
ـ لكن هاهنا رجل ود أنه إذا مات لا يبعث .( يعني نفسه)
وأخرج أبو نُعَيم في الحلية عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال:
ـ ما أحد من الناس يوم القيامة إلا يتمنى أنه كان يأكل في الدنيا قوتاً، وما يضرُّ أحدكم على ما أصبح وأمسى من الدنيا إلا أن تكون في النفس حزازة، ولأن يعض أحدكم على جمرة حتى تُطفأ خير من أن يقول لأمر قضاه الله: ليت هذا لم يكن.
قال سفيان الثوري :
ذكر الموت عند عبد الله بن مسعود فقال:
ـ ما أنا له اليوم بمتيسر.
وذكر جرير أن عبد الله قال:
ـ وددت أني إذا مت لم أبعث.
وعن الحسن قال قال عبد الله بن مسعود:
ـ لو وقفت بين الجنة والنار فقيل لي اختر نخيرك لأحببت أن أكون رمادا.
وعن أبي وائل قال قال عبد الله :
ـ وددت أن الله غفر لي ذنبا من ذنوبي وأنه لا يعرف نسبي.
من أقواله:
عن حبيب بن أبي ثابت قال :
ـ خرج ابن مسعود ذات يوم فاتبعه ناس، فقال لهم:
ـ ألكم حاجة ..؟
قالوا:
ـ لا ولكن أردنا أن نمشي معك .
قال :
ـ أرجعوا فإنه ذلة للتابع وفتنة للمتبوع.
وقال عبد اللهّ بن مسعود :
ـ إن الرجل لا يُولد عالماً وإنما العِلم بالتعلّم .
وقال عبد الله بن مَسْعود :
ـ الحَوامِيم ديباج القُرآن .
وقال عبدُ الله بن مَسعود :
ـ مِن بِرّ الحيِّ بالميِّت أن يَصِل مَن كان يصلُ أباه . ...
وقال عبد الله بن مَسعود :
ـ لا تُعادُوا نِعَم الله.
قيل له :
ـ ومن يُعادي نِعَم اللّه ..؟
قال :
ـ الذين يحْسُدون الناسَ على ما آتاهم الله من فِضله .
وقال عبد الله بنُ مسعود :
ـ اللهم وَسِّع علي في الدنيا وزَهِّدني فيها ولا تُزْوِها عَني وتُرَغبني فيها .
عن عبد الله بن مَسْعود أنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :(1/69)
ـ " ما مِن عَبدِ أصابه هَم فقال : اللهم إنَي عبدك وابن عَبْدك وابن أمتك ناصيتي بيدك ماضٍ فيّ حُكْمك عَدْل فيّ قضاؤك أسألك بكلِّ اسمٍ سَمَيت به نَفْسَك أو ذَكرْتَه في كتابك أو عَلًمته أحداً من خَلْقك أو استأثرت به في عِلْم الغَيْب عندك أن تجعل القرآن ضِياءَ صَدْري ورَبيعَ قَلْبي وجَلاء حُزْني وذهاب هَمِّي إلا اذهَب الله هَمَه وبدَّله مَكانَ حُزْنه فرحاً"
قال عبد الله بن مَسعود :
ـ إنَّ في كتاب الله آيتَين ما أصاب عبدٌ ذَنباً فقرأهما ثم استغفر الله إلا غُفر له : )والَّذين إذا فَعلُوا فاحشةً أو ظَلَموا أنْفُسهم )إلى آخر الآية ) ومَنْ يَعْمَل سُوءًا أو يَظْلم نَفْسَه ثم يَسْتغْفر الله يجِد الله غَفُوراً رَحيماً (
وعن مسروق قال سألنا عبد الله بن مسعود عن هذه الآية ( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون (
فقال :
ـ إنا قد سألنا عن ذلك فقال أرواحهم في أجواف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش تسرح من الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى تلك القناديل فاطلع إليهم ربهم اطلاعة فقال هل تشتهون شيئا ؟ قالوا أي شيء نشتهي ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا ففعل ذلك بهم ثلاث مرات فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا قالوا يا رب نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا.
ولما دُفن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أقْبل عبدُ الله بن مَسعود وقد فاتَتْه الصلاةُ عليه فوَقَفَ على قَبره يبكي ويَطْرح رِداءه ثم قال :
ـ واللّه لئن فاتَتْني الصلاةُ عليك لا فاتَني حُسْنُ الثّناء أما واللهّ لقد كنتَ سَخيا بالحقّ بخيلاً بالباطل تَرضى حين الرِّضا وتَسْخَط حين السُّخْط ما كنتَ عَياباً ولا مَدِّاحاً فجزاك الله عن الإسلام خَيْراً .
عن عبد الله بن مَسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(1/70)
ـ " إذا سألتم الحوائج فاسألوا العرَب فإنها تُعْطى لِثَلاَث خِصال : كَرَم أحسَابها واستحياء بَعْضها من بعض والمُواساة للّه "
عن عبد الله بن مسعود أنه قرأ في أذن مبتلى، فأفاق، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:
ـ" ما قرأت في أذنه?"
قال:
ـ (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً )المؤمنون 115،. حتى ختم السورة.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
ـ" لو أن رجلاً موقناً قرأها على جبل لزال"
عن عبد الله بن مسعود، قال:
ـ إذا أحب الله عبداً اقتناه لنفسه و لم يشغله بزوجة ولا ولد.
وعن أبي وائل قال: قدم علينا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فنَعى إلينا عمر، فلم أرَ يوماً كان أكثر باكياً ولا حزيناً منه، ثم قال:ـ والله لو أعلم أن عمر كان يحب كلباً لأحببته، والله إني أحسب العِضاه(والعضاهُ من الشجر: ما كان له شوك صغيراً كان أَو كبيراً) قد وَجَدَ فَقْد عمر.
وعن عبد الله بن مسعود قال :
ـ لعن الله الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله .
فجاءته امرأة فقالت :
ـ إنه بلغني أنك لعنت كيت وكيت .
فقال :
ـ ما لي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن هو في كتاب الله
فقالت :
ـ لقد قرأت ما بين اللوحين فما وجدت فيه ما تقول.
قال:
ـ لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه أما قرأت ( ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ) ؟
قالت :
ـ بلى .
قال:
ـ فإنه قد نهى عنه .
وقال بن مسعود، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
ـ "يأتي على الناس زمان لا يسلم لذي دين دينه إلا رجل يفر بدينه من قرية إلى قرية، ومن شاهق إلى شاهق، ومن جحر إلى جحر"
عن عبد الله بن مسعود، قال:
ـ إن القرأن أنزل على سبعة أحرف ما منها حرف إلا له ظهر وبطن، وأن علي بن أبي طالب عنده علم الظاهر والباطن.
قال بن مسعود:(1/71)
ـ إن هذا القرآن مأدبة الله، فمن استطاع أن يتعلم منه شيئاً فليفعل، فإن أصفر البيوت من الخير الذي ليس فيه من كتاب الله شيء، وأن البيت الذي ليس فيه من كتاب الله شيء كخراب البيت الذي لا عامر له، وأن الشيطان يخرج من البيت الذي تسمع فيه سورة البقرة.
قال عبد الله:
ـ إنما هذه القلوب أوعية فاشغلوها بالقرآن، ولا تشغلوها بغيره.
عن عون بن عبد الله، قال: قال لي عبد الله:
ـ ليس العلم بكثرة الرواية، ولكن العلم الخشية.
عن عبد الله بن عكيم، قال: سمعت بن مسعود، في هذا المسجد، يبدأ باليمين قبل الكلام، فقال:
ـ ما منكم من أحد إلا أن ربه تعالى سيخلو به كما يخلوا أحدكم بالقمر ليلة البدر، فيقول: يا بن آدم ما غرك بي? ابن آدم ماذا أجبت المرسلين، ابن آدم ماذا عملت فيما علم؟
قال عبد الله:
ـ ذهب صفو الدنيا وبقي كدرها، فالموت اليوم تحفة لكل مسلم.
قال عبد الله:
ـ والذي لا إله غيره ما أصبح عند آل عبد الله ما يرجون أن يعطيهم الله به خيراً، أو يدفع عنهم به سوءاً، إلا أن الله قد علم أن عبد الله لا يشرك به شيئاً.
قال بن مسعود:
ـ ويل لمن لا يعلم، ولو شاء الله لعلمه، وويل لمن يعلم، ثم لا يعمل .
قال عبد الله بن مَسْعود :
ـ تعَلَّموا فإذا عَلِمْتم فاعمَلوا .
قال عبد الله بن مسعود :
ـ تَعلَّمُوا العِلم قبل أن يُرفِع .
قال عبد الله بن مسعود :
ـ عليكم بالشفاءين : القرآن والعسل .
وعن الحارث بن سويد قال قال عبد الله :
ـ لو تعلمون ما أعلم من نفسي حثيتم على رأسي التراب.
عن الأحوص الجشمي قال :
ـ دخلنا على ابن مسعود وعنده بنون له ثلاثة غلمان كأنهم الدنانير حسنا فجعلنا نتعجب من حسنهم ، فقال لنا :
ـ كأنكم تغبطوني بهم ..!
قلنا:
ـ والله أي والله بمثل هؤلاء يغبط المرء المسلم .
فرفع رأسه إلى سقف بيت له صغير قد عشش فيه خطاف( طائر يجول بالليل مثل الخفاش لكنه أحسن منه )(1/72)
ـ والذي نفسي بيده لأن أكون قد نفضت يدي عن تراب قبورهم أحب إلي أن يسقط عش هذا الخطاف وينكسر بيضه.
وعن قيس بن جبير قال قال عبد الله:
ـ حبذا المكروهات الموت والفقر ، وأيم الله إن هو إلا الغنى والفقر وما أبالي بأيهما بليت ، إن حق الله في كل واحد منهما واجب ، وإن كان الغنى فيه للعطف وإن كان للفقر إن فيه للصبر.
عن عبد الله بن أبي الهذيل قال:
دخل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه على مريض يعوده ومعه قوم وفي البيت امرأة، فجعل رجل من القوم ينظر إلى المرأة، فقال له عبد الله:
ـ لو انفقأتْ عينك كل خيراً لك.
وعن الحسن قال قال عبد الله بن مسعود :
ـ ما أبالي إذا رجعت إلى أهلي على أي حال أراهم بخير أو بشر أم بضر، وما أصبحت على حالة فتمنيت أني على سواها.
عن عبد الله بن مرادس قال:
ـ كان عبد الله يخطبنا كل خميس فيتكلم بكلمات فيسكت حين يسكت ونحن نشتهي أن يزيدنا.
عن عبد الرحمن بن حجيرة يحدث عن أبيه عن ابن مسعود أنه كان يقول:
ـ إنكم في ممر من الليل والنهار في آجال منقوصة وأعمال محفوظة ، والموت يأتي بغتة ، فمن زرع خيرا فيوشك أن يحصد رغبة ،ومن زرع شرا فيوشك أن يحصد ندامة ، ولكل زارع مثل ما زرع ، لا يسبق بطيء بحظه ،ولا يدرك حريص ما لم يقدر له، فإن أعطى خيرا فالله أعطاه ، ومن وقي شرا فالله وقاه ، المتقون سادة ، والفقهاء قادة ، ومجالسهم زيادة .
رواه الإمام أحمد.
وعن الأحوص عن عبد الله أنه كان يوم الخميس قائما فيقول:(1/73)
ـ إنما هما اثنتان الهدي والكلام، وأفضل الكلام كلام الله ، وأفضل الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها ، وإن كل محدثة بدعة فلا يطولن عليكم الأمد ولا يلهينكم الأمل ، فان كل ما هو آت قريب ، ألا وإن بعيدا ما ليس أتيا، ألا وإن الشقي من شقي في بطن أمه ، وإن السعيد من وعظ بغيره، إلا وإن قتال المسلم كفر وسبابه فسوق ، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام حتى يسلم عليه إذا لقيه ويجيبه إذا دعاه ويعوده إذا مرض، ألا وإن شر الروايا روايا الكذب ، ألا وإن الكذب لا يصلح منه هزل ولا جد، ولا أن يعد الرجل صبيه شيئا ثم لا ينجزه له ، ألا وإن الكذب يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة ، ألا وإنه يقال للصادق صدق حتى يكتب عند الله عز وجل صديقا ، ويكذب حتى يكتب عند الله عز وجل كذابا ، ألا هل أنبئكم ما العضة ..! قيل وما هي ؟؟ .. قال:
ـ هي النميمة التي تفسد بين الناس .
عن عبد الرحمن بن عابس قال قال عبد الله بن مسعود:(1/74)
ـ إن أصدق الحديث كتاب الله عز وجل ، وأوثق العرى كلمة التقوى، وخير الملل ملة إبراهيم ، وأحسن السنن سنة محمد صلى الله عليه وسلم ، وخير الهدى هدي الأنبياء ، وأشرف الحديث ذكر الله ، وخير القصص القرآن، وخير الامور عواقبها ، وشر الأمور محدثاتها ، وما قل وكفى خير مما كثر وألهى، ونفس تنجيها خير من إمارة لا تحصيها ، وشر المعذرة حين يحضر الموت ، وشر الندامة يوم القيامة ، وشر الضلالة الضلالة بعد الهدى ، وخير الغنى غنى النفس ، وخير الزاد التقوى ، وخير ما ألقي في القلب اليقين ، والريب من الكفر، وشر العمى عمى القلب ، والخمر جماع الإثم ، والنساء حبالة الشيطان، والشباب شعبة من الجنون ، والنوح من علم الجاهلية ، ومن الناس من لا يأتي الجمعة إلا دبرا ولا يذكر الله إلاهجرا ، وأعظم الخطايا الكذب ، وسباب المسلم فسوق وقتله كفر وحرمة ماله كحرمة دمه ، ومن يعف يعف الله عنه ، ومن يكظم الغيظ يأجره الله ،ومن يصبر على الرزية يعقبه الله ، وشر المكاسب كسب الربا ، وشر المآكل أكل مال اليتيم ، والسعيد من وعظ بغيره والشقي من شقي في بطن أمه ، وإنما يكفي أحدهم ما قنعت به نفسه ، وإنما يصير إلى أربعة أذرع والأمر إلى آخرهم ، وملاك العمل خواتمه ، وشر الروايا روايا الكذب، وأشرف الموت قتل الشهداء ، ومن يعرف البلاء يصبر عليه ومن لا يعرفه ينكره ، ومن يستكبر يضعه الله ، ومن يتول الدنيا تعجز عنه ،ومن يطع الشيطان يعص الله ،ومن يعص الله بعذبه.
وعن المسيب بن رافع عن عبد الله بن مسعود قال:(1/75)
ـ ينبغي لحامل القرآن أن يعرف بليله إذا الناس نائمون ، وبنهاره إذا الناس مفطرون ، وبحزنه إذا الناس فرحون ، وببكائه إذا الناس يضحكون، وبصمته إذا الناس بخلطون، وبخشوعه إذا الناس بختالون ، وينبغي لحامل القرآن أن يكون باكيا محزونا حليما حكيما سكيتا ، ولا ينبغي لحامل القرآن أن يكون جافيا ولا غافلا ولا سخابا(الشح والحرص على الدنيا ) ولا صياحا ولا حديدا( معوجا)
رواه الإمام أحمد.
وعن الأعمش قال كان عبد الله يقول لإخوانه:
ـ أنتم جلاء قلبي.
وعن أبي اياس البجلي قال سمعت عبد الله بن مسعود يقول :
ـ من تطاول تعظما خفضه الله ، ومن تواضع تخشعا رفعه الله ، وإن للملك لمة وللشيطان لمة، فلمة الملك إيعاذ بالخير وتصديق بالحق ،فإذا رأيتم ذلك فأحمدوا الله عز وجل ، ولمة الشطان إيعاذ بالشر وتكذيب بالحق، فإذا رأيتم ذلك فتعوذوا بالله .
وعن عمران بن أبي الجعد عن عبد الله قال :
ـ إن الناس قد أحسنوا القول فمن وافق قوله فعله فذاك الذي أصاب حظه، ومن لا يوافق قوله فعله فذاك الذي يوبخ نفسه .
وعن خيثمة قال قال عبد الله :
ـ لا الفين أحدكم جيفة ليل قطرب نهار
( القطرب : دويبة كانتْ في الجاهلية لا تستريح نهارها سَعْياً ) .
وأخرج الطبراني عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال:
ـ الناس ثلاثة فما سواهم فلا خير فيه: رجل رأى فئة تقاتل في سبيل الله فجاهد بنفسه وماله، ورجل جاهد بلسانه وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر، ورجل عرف الحق بقلبه.
وأخرج ابن أبي شيبة ونعيم عن ابن مسعود قال:
ـ إذا رأيت المنكر فلم تستطع له تغييراً فحسبك أن يعلم الله أنك تكرهه بقلبك.
وقال أيضا:
ـ إنَّ الرجل يشهد المعصية يُعمل بها فيكرهها فيكون كمن غاب عنها، ويغيب عنها فيرضاها فيكون كمن شهدها.
وأخرج أبو نعيم في الحلية عن ابن مسعود قال:
ـ يذهب الصالحون أسلافاً (السَّلَفُ القوم المتقدّمون في السير ) ويبقى أهل الرَّيْب من لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً.(1/76)
وعن المسيب بن رافع قال قال عبد الله بن مسعود:
ـ إني لأبغض الرجل أن أراه فارغا ليس في شيء من عمل الدنيا ولا في عمل الآخرة .
رواه الإمام أحمد
عن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
ـ" كيف أنتم إذا التبستكم فتنة، فتتخذ سنة يربو منها الصغير ويهرم فيهما الكبير وإذا ترك منها شيء قيل تركت سنة "
قالوا:
ـ متى ذلك يا رسول الله?
قال:
ـ" إذا كثر قراؤكم، وقلت علماؤكم، وكثرت أمراؤكم، وقلت أمناؤكم، والتمست الدنيا بعمل اللآخرة، وتفقه لغير الله"
قال عبد الله: فأصبحتم فيها.
عن بن مسعود، قال:
ـ ثلاث أحلف عليهن، والرابعة لو حلفت عليها لبررت. لا يجعل الله عز وجل من له سهم في الإسلام كمن لا سهم له، ولا يتولى الله عبد في الدنيا إلا فولاه غيره يوم القيامة، ولا يحب رجل قوماً إلا جاء معهم، والرابعة التي لو حلفت عليها لبررت، لا يستر الله على عبد في الدنيا إلا ستر عليه في الآخرة.
وروي عبد الرحمن بن يزيد عن عبد الله قال:
ـ من لم تأمره الصلاة بالمعروف وتنهه عن المنكر لم يزدد بها من الله إلا بعدا.
عن هذيل بن شرحبيل، قال، قال عبد الله:
ـ من أراد الدنيا أضر بالآخرة، ومن أراد الآخرة أضر بالدنيا، يا قوم فأضروا بالفاني للباقي.
قال إياس البجلي، سمعت بن مسعود، يقول:
ـ من راءى في الدنيا راء الله به يوم القيامة، ومن يسمع في الدنيا يسمع الله به يوم القيامة، ومن يتطاول تعظماً يضعه الله، ومن يتواضع تخشعاً يرفعه الله.
وعن موسى بن أبي عيسى المزني قال قال عبد الله بن مسعود:
ـ من اليقين أن لا يرضى الناس بسخط الله ولا تحمدن أحدا على رزق الله، ولا تلومن أحدا على ما لم يؤتك الله ، فإن رزق الله لا يسوقه حرص الحريص ولا يرده كره الكاره ، وإن الله بقسطه وحكمه وعدله وعلمه جعل الروح والفرح في اليقين والرضا ، وجعل الهم والحزن في الشك والسخط .
وعن مرة عن عبد الله قال :(1/77)
ـ ما دمت في صلاة فأنت تقرع باب الملك ،ومن يقرع باب الملك يفتح له .
لما بعث عثمان إلى عبد الله بن مسعود يأمره بالقدوم عليه بالمدينة، وكان بالكوفة، اجتمع الناس عليه فقالوا:
ـ أقم، ونحن نمنعك أن يصل إليك شيءٌ تكرهه.
فقال عبد الله:
ـ إن له علي حق الطاعة، وإنها ستكون أمورٌ وفتنٌ، فلا أحب أن أكون أول من فتحها.
أخرج أحمد عن زينب امرأة عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما قالت:
ـ كان عبد الله إذا جاء من حاجة فانتهى إلى الباب تنحنح كراهتة أن يهجم منا على أمر يكرهه، وإنه جاء ذات يوم فتنحنح وعندي عجوز ترقيني من الحمرة، فأدخلتها تحت السرير، فدخل فجلس إلى جانبي فرأى في عِنقي خيطاً، فقال:
ـ ما هذا الخيط؟
قلت:
ـ خيط رُقي لي فيه.
فأخذه فقطعه ثم قال:
ـ إن أهل عبد الله لأغنياء عن الشرك، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
ـ" إن الرقى والتمائم والتَّوَلة شرك"
( التولة : ضَرْب من الخَرَز يوضع للسِّحْر فتُحَبَّب بها المرأَةُ إِلى زوجها )
قلت له: قد كانت عيني تقذف فكنت اختلف إلى فلان اليهودي يرقيها فكان إذا رقاها سكنت؟
فقال:
ـ إنما ذاك من الشيطان كان ينخسها بيدهه فإذا رقاها كفَّ عنها، إنما كان يكفيك أن تقولي كما قال النبي صلى الله عليه وسلم
ـ "اذهب البأس ربَّ الناس، اشفِ الشافي لا شفاء إلاَّ شفؤك، شفاء لا يغادر سقماً "
وعن القاسم بن عبد الرحمن والحسن بن سعد قالا قال عبد الله :
ـ إني لأحسب الرجل ينسى العلم كان يعلمه بالخطيئة يعملها.
رواه الإمام أحمد.
وعن إبراهيم بن عيسى عن عبد الله بن مسعود قال:
ـ كونوا ينابيع العلم ، مصابيح الهدى ، أحلاس البيوت (جلوس بالبيت لا يبرحونه) سرج الليل، جدد القلوب، خلقان الثياب ( الثياب البالية)، تعرفون في أهل السماء وتخفون في أهل الأرض .
عن معن قال قال عبد الله بن مسعود :(1/78)
ـ إن للقلوب شهوة وإقبالا ، وإن للقلوب فترة وادبارا، فاغتنموها عند شهوتها وإقبالها ، ودعوها عند فترتها وادبارها .
وعن عون بن عبد الله قال قال عبد الله:
ـ ليس العلم بكثرة الرواية ولكن العمل الخشية .
وعن منذر قال جاء ناس من الدهاقين( تجار بالفارسية) إلى عبد الله بن مسعود فتعجب الناس من غلظ رقابهم وصحتهم فقال عبد الله:
ـ إنكم ترون الكافر من أصح الناس جسما وأمرضه قلبا ، وتلقون المؤمن من أصح الناس قلبا وأمرضه جسما ، وايم الله لو مرضت قلوبكم وصحت أجسامكم لكنتم أهون على الله من الجعلان ( الجعلان حيوان معروف كالخنفساء) .
وعن عوف بن عبد الله قال قال عبد الله بن مسعود:
ـ لا يبلغ عبد حقيقة الإيمان حتى يحل بذروته ، حتى يكون الفقر أحب إليه من الغنى والتواضع أحب إليه من الشرف، وحتى يكون حامده وذامه عنده سواء.
ففسرها أصحاب عبد الله قالوا حتى يكون الفقر في الحلال أحب إليه من الغنى في الحرام والتواضع في طاعة الله أحب إليه من الشرف في معصية الله وحتى يكون حامده وذامه عنده في الحق سواء .
رواه الإمام أحمد.
وعن طارق بن شهاب عن عبد الله قال:
ـ إن الرجل يخرج من بيته ومعه دينه فيرجع وما معه شيء، يأتي الرجل لا يملك له ولا لنفسه ضرا ولا نفعا فيقسم له بالله إنك لكيت وكيت فيرجع وما حبي من حاجته بشيء ، ويسخط الله عليه .
وقال أيضا:
ـ مع كل فرحة ترحة ، وما مليء بيت حبرة ، إلا مليء عبرة.
رواه أحمد.
وعن الضحاك بن مزاحم قال قال عبد الله :
ـ ما منكم إلا ضيف وماله عارية ، فالضيف مرتحل والعارية مؤداة إلى أهلها .
وعن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه قال أتاه رجل فقال:
ـ يا أبا عبد الرحمن علمني كلمات جوامع نوافع .
فقال له عبد الله :
ـ لا تشرك به شيئا ، وزل مع القرآن حيث زال ، ومن جاءك بالحق فاقبل منه وإن كان بعيدا بغيضا، ومن جاءك بالباطل فاردده عليه وإن كان حبيبا قريبا .(1/79)
عن مالك بن مغول قال قال عبد الله بن مسعود:
ـ يكون في آخر الزمان أقوام أفضل أعمالها التلاؤم بينهم ، يسمون الأنتان.
وعن خيثمة قال قال عبد الله :
ـ إذا حب الرجل أن ينصف من نفسه، فليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه.
وروي أيضا عن خيثمة قال قال عبد الله :
ـ الحق ثقيل مريء ، والباطل خفيف وبي ، ورب شهوة تورث حزنا طويلا .
وعن عنبس بن عقبة قال قال عبد الله بن مسعود:
ـ والله الذي لا اله إلا هو ما على وجه الأرض شيء أحوج إلى طول سجن من لسان.
وعن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه قال:
ـ إذا ظهر الزنا والربا في قرية أذن بهلاكها .
وعن أبي عبيدة قال قال عبد الله :
ـ من استطاع منكم أن يجعل كنزه في السماء حيث لا تأكله السوس ولا يناله السراق فليفعل ، فان قلب الرجل مع كنزه .
وعن القاسم قال قال رجل لعبد الله أوصني يا أبا عبد الرحمن قال:
ـ ليسعك بيتك ، وأكفف لسانك ، وأبك على ذكر خطيئتك .
وعن عبد الرحمن بن زيد عن عبد الله قال :
ـ أنتم أطول صلاة وأكثر اجتهادا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم كانوا أفضل منكم .
قيل له :
ـ بأي شيء..؟
قال :
ـ إنهم كانوا أزهد في الدنيا أو أرغب في الآخرة منكم.
وعن زاذان عن عبد الله بن مسعود قال:
ـ يؤتى بالعبد يوم القيامة فيقال له أد أمانتك .
فيقول:
ـ من أين يا رب قد ذهبت الدنيا..؟
فتمثل على هيئتها يوم أخذها في قعر جهنم فينزل فيأخذها فيضعها على عاتقه فيصعد بها حتى إذا ظن أنه خارج بها هوى في أثرها أبد الآبدين.
وعن أبي الأحوص عن عبد الله قال :
ـ لا يقلدن أحدكم دينه رجلا ، فان آمن آمن ، وإن كفر كفر، وإن كنتم لا بد مقتدين ، فاقتدوا بالميت ، فان الحي لا تؤمن عليه الفتنة.
وعن عبد الرحمن بن يزيد قال قال عبد الله :
ـ لا تكونن إمعة .
قالوا :
ـ وما الإمعة?
قال :(1/80)
ـ يقول أنا مع الناس إن اهتدوا اهتديت ، وان ضلوا ضللت ، إلا ليوطنن أحدكم نفسه على أنه إن كفر الناس أن لا يكفر.
وعن سليمان بن مهران قال بينما ابن مسعود يوما معه نفر من أصحابه إذ مر أعرابي فقال :
ـ على ما اجتمع هؤلاء ..؟
فقال ابن مسعود :
ـ على ميراث محمد صلى الله عليه وسلم يقتسمونه.
عن أبي وائل عن عبد الله بن مسعود أنه قال:
ـ لكأني أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، وهو في قبر عبد الله ذي البجادين، وأبو بكر وعمر يدليانه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
ـ" أدنيا مني أخاكما."
فأخذه من قبل القبلة حتى اسنده في لحده، ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووليا هما العمل، فلما فرغا من دفنه استقبل القبلة رافعاً يديه يقول: ـ"اللهم إني أمسيت عنه راضياً فارض عنه".
قال ابن مسعود:
ـ فوالله لوددت أني مكانه، ولقد أسلمت قبله بخمس عشرة سنة.
موقف عبد الله بن مسعود من مصحف عثمان
لم يثبت أن ابن مسعود خالف عثمان في ذلك، وكل ما روي في ذلك ضعيف الإسناد، كما أن هذه الروايات الضعيفة التي تتضمن ذلك تثبت أن ابن مسعود رجع إلى ما اتفق عليه الصحابة في جمع القرآن، وأنه قام في الناس وأعلن ذلك، وأمرهم بالرجوع إلى جماعة المسلمين في ذلك. وقال:
ـ إن الله لا ينتزع العلم انتزاعا، ولكن ينتزعه بذهاب العلماء، وإن الله لا يجمع أمة محمد صلى الله عليه وسلم على ضلالة، فجامعوهم على ما اجتمعوا عليه، فإن الحق فيما اجتمعوا عليه.
وكتب بذلك إلى عثمان.
وقد ورد عن ابن كثير رجوع ابن مسعود إلى الوفاق.
وأكد الذهبي ذلك فقال:
وقد ورد أن ابن مسعود رضي وتابع عثمان ولله الحمد.
ولا يلتفت إلى ما كتبه طه حسين في قضية المصحف وعلاقة عثمان مع ابن مسعود وما ساقه بأسلوب مسموم، فيه أفكار أخذها من أساتذته المستشرقين. الذين اعتمدوا على روايات ضعيفة ورافضية في تشويه علاقة الصحابة ببعضهم رضي الله عنهم جميعا.(1/81)
إن ابن مسعود الذي ترك صلاة القصر في منى خشية من الخلاف والفتنة ومتابعة للخليفة، هل يتوقع منه أن يصعد المنبر ويحرض الناس على الخلاف، وهو القائل:
ـ إن الخلاف شر.
إن مؤرخي الروافض زوَّروا روايات ونسبوها لابن مسعود وموقفه من عثمان رضي الله عنهم، وأظهروا في تلك الأكاذيب الصحابة قوما متنازعين متباغضين، متعنتين متفاحشين في القول، وهي روايات ساقطة لا تثبت أمام النقد الهادئ الموضوعي، ويرفضها الذوق المؤمن والعقل الفطن، وقد زعمت الرافضة كذبا وزورا بأن ابن مسعود كان يطعن على عثمان ويكفره، ولما حكم عثمان ضربه حتى مات، وهذا كذب بيِّن على ابن مسعود، فإن علماء النقل يعلمون أن ابن مسعود ما كان يكفر عثمان بل لما بويع عثمان بالخلافة سار عبد الله بن مسعود من المدينة إلى الكوفة، ولما وصل إليها حمد الله وأثنى عليه ثم قال:
ـ أما بعد، فإن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب مات فلم نر يوما أكثر نشيجا من يومئذ، وإنا اجتمعنا أصحاب محمد فلم نأل عن خيرنا ذي فُوق، فبايعنا أمير المؤمنين عثمان فبايعوا.(1/82)
وهذه الكلمات الواضحة أكبر دليل على تلك المكانة الرفيعة لعثمان بن عفان في قلب ابن مسعود وعند جميع الصحابة، أولئك الذين مدحهم الله تعالى ورضي عنهم، وهم خير من فقه قوله سبحانه:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا) [الأحزاب: 70]. فقول عبد الله بن مسعود صدق لا يعدو الحقيقة، كما أنه نابع عن قناعته وصادر عن محض إرادته، ما قاله خوفا ولا خشية، ولم يقذف به هكذا رخيصا للاستهلاك والتغرير، أو ليحوز مكانة ومنصبا في الخلافة الجديدة. إذن فمن بدهيات الأمور وأولياتها أن ليس ثمة حقد أو بغضاء في قلب أحدهما على الآخر، وإن حدث شيء فإنما هو من أجل الحق وصالح المسلمين، ويندرج تحت فقه النصيحة وآدابها وتأديب الخليفة لرعيته، وأما ما زعم الروافض ومن سار على نهجهم من أن عثمان ضرب ابن مسعود حتى مات فهذا كذب باتفاق أهل العلم.
بعض ما رواه عن النبي:
عن عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
ـ" يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء "
ـ" لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث النفس بالنفس والثيب الزاني والمارق لدينه التارك للجماعة ."
ـ " أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء "
ـ" إنكم سترون بعدي أثرة وأمورا تنكرونها قالوا فما تأمرنا يا رسول الله ؟ قال أدوا إليهم حقهم وسلوا الله حقكم "
ـ" ما من حاكم يحكم بين الناس إلا جاء يوم القيامة وملك آخذ بقفاه ثم يرفع رأسه إلى السماء فإن قال ألقه ألقاه في مهواة أربعين خريفا "
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال كنا يوم بدر كل ثلاثة على بعير فكان أبو لبابة وعلي بن أبي طالب زميلي رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فكانت إذا جاءت عقبة رسول الله صلى الله عليه وسلم قالا نحن نمشي عنك، قال:(1/83)
ـ " ما أنتما بأقوى مني وما أنا بأغنى عن الأجر منكما"
وعن عبد الله بن مسعود قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
ـ " أشد الناس عذابا عند الله المصورون"
ـ " سباب المسلم فسوق وقتاله كفر ."
ـ " عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا . وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا . "
ـ " إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الآخر حتى تختلطوا بالناس من أجل أن يحزنه . "
ـ " أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله ؟ قالوا يا رسول الله ما منا أحد إلا ماله أحب إليه من مال وارثه . قال فإن ماله ما قدم ومال وارثه ما أخر"
ـ " لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق "
ـ " إني لأعلم آخر أهل النار خروجا منها وآخر أهل الجنة دخولا رجل يخرج من النار حبوا . فيقول الله اذهب فادخل الجنة فإن لك مثل الدنيا وعشرة أمثالها . فيقول أتسخر مني أو تضحك مني وأنت الملك ؟ "
ولقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه وكان يقال ذلك أدنى أهل الجنة منزلة )
ـ " لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ولكنه أخي وصاحبي وقد اتخذ الله صاحبكم خليلا "
عن علي رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
ـ " إن لكل نبي سبعة نجباء رقباء وأعطيت أنا أربعة عشرة قلنا من هم ؟ قال أنا وابناي وجعفر وحمزة وأبو بكر وعمر ومصعب بن عمير وبلال وسلمان وعمار وعبد الله بن مسعود وأبو ذر والمقداد ." رواه الترمذي . ( صحيح )
ـ «إنَّ لله ملائكة سيّاحين يبلِّغوني عن أمتي السلام» وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «حياتي خير لكم تحدِّثون ويحدِّث لكم، ووفاتي خير لكم تعرض عليَّ أعمالكم، فما رأيت من خير حمدت الله عليه، وما رأت من شر استغفرت الله لكم»(1/84)
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلِّي فإذا سجد وثب الحسن والحسين رضي الله عنهما على ظههر، فإذا أرادوا أن يمنعوهما أشار إليهم أن دعوهما، فإذا قضى الصلاة وضعهما في حِجْره وقال:
ـ «من أحبَّني فليحبَّ هذين».
وفاته:
قال سلمة بن تمام:
لقي رجلٌ ابن مسعود فقال:
ـ لا تعدم حالماً مذّكراً، رأيتك البارحة ورأيت النبي صلى الله عليه وسلم على منبر مرتفع، وأنت دونه وهو يقول:
ـ " يا ابن مسعود، هلم إلي، فلقد جفيت بعدي."
فقال:
ـ الله لأنت رأيت هذا?
قال: نعم .
فما لبث أياماً حتى مات.
مات بالمدينة سنة اثنتين وثلاثين ، ودفن بالبقيع وهو ابن بضع وستين سنة.
صلى عمار بن ياسر على عبد الله بن مسعود ، وقيل إن من صلى عليه كان عثمان بن عفان ، واستغفر كل واحد منهما لصاحبه قبل موت عبد الله.
وكان قد أوصى أن يكفن في حلة بمائتي درهم، وبأن يدفن عند قبر عثمان بن مظعون.
و كان قد أوصى أيضا إن حدث به حدث في مرضه إن مرجع وصيته إلى الزبير بن العوام وإلى ابنه عبد الله بن الزبير وأوصى بألا تزوج امرأة من بناته إلا بعلمهما ، ولا يحجر ذلك عن امرأته زينب بنت عبد الله الثقفية ، وكان فيما أوصى به في رقيقه إذا أدى فلان خمسمائة فهو حر.
وبعد وفاة عبد الله بن مسعود دخل الزبير بن العوام على عثمان فقال:
ـ أعطني عطاء عبد الله فأهل عبد الله أحق به من بيت المال.
فأعطاه خمسة عشر ألف درهم، وقيل أكثر.
وقد جاء في البداية والنهاية مايلي:
( وقد شهد ابن مسعود بعد النبي صلى الله عليه وسلم مواقف كثيرة منها اليرموك وغيرها وكان قدم من العراق حاجا فمر بالربذة فشهد وفاة أبي ذر ودفنه ،ثم قدم إلى المدينة فمرض بها فجاءه عثمان بن عفان عائدا ، فيروى أنه قال له :
ـ ما تشتكي ..؟
قال:
ـ ذنوبي.
قال:
ـ فما تشتهي ..؟
قال :
ـ رحمة ربي.
قال:
ـ ألا آمر لك بطبيب ..؟
فقال:
ـ الطبيب أمرضني.
قال :
ـ ألا آمر لك بعطائك..؟
وكان قد تركه سنتين .
فقال:(1/85)
ـ لاحاجة لي فيه.
فقال:
ـ يكون لبناتك من بعدك .
فقال :
ـ أتخشى على بناتي الفقر إني أمرت بناتي أن يقرآن كل ليلة سورة الواقعة وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
ـ " من قرأ الواقعة كل ليلة لم تصبه فاقة" )(1/86)
عطر الأحبة
الجزء الثاني
تأليف: د.بدوي مطر
matar97@hotmail.com
فهرس
عمار بن ياسر ... 5
المقداد بن عمرو ... 32
أبوذر الغفاري ... 45
سلمان الفارسي ... 81
حذيفة بن اليمان ... 112
المراجع ... 129
تعريف:
الحرب تلتهم البشر كما تلتهم النار الحطب ، وأصحاب الحق يدافعون بكل ما أوتوا من قوة عن حقهم ، من بينهم يقف ذلك الفهد الأسود أشهل العينين شامخا كالجبل ، وممسكا بحربته في ثبات ، عيناه تمسحان مسرح القتال، يبحث عن ثغرة ينفذ فيها إلى هدفه ليحقق النصر أو يفوز بالشهادة ، تنافس على حمل اللواء مع صاحبه، وطلب من أحد رفاقه أن يسقيه فأعطاه شربة لبن، تأملها وضحك وأدرك أنها اللحظة الحاسمة التي طال انتظاره لها.
بالقطع ،عاد بذاكرته سنينا إلى الوراء وتذكر بدايات الإسلام بين جبال مكة، أحس بلهيب رمالها التي طالما أصلوه بها، وشعر بذات كتم الأنفاس وهم يضعون رأسه تحت الماء ليخنقوه كي يجبروه على العودة للكفر بعد أن هداه الله هو وأسرته إلى الإسلام.
أحس بنسمة رطبة تنعش فؤاده ، وبدقات قلبه تتسارع في لهفة ، وهو يتذكر كف الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم وهي تمسح رأسه والرسول يدعو له ولعائلته، وربما مسح دمعات ترقرقت في مقلتيه وهو يذكر أباه الذي مات من العذاب أما عينيه ، وأمه التي كانت أول شهيدة في الإسلام حين طعنها رأس الكفر أبي جهل حين يئس من عودتها إلى عبادة الأصنام.
أحس بلحظة سعادة ، وانتشت كل جوانحه بلذة الرضا ، حين أدرك فضل الله عليه طوال مسيرته الإيمانية التي لم تلن فيها عزيمته، ولم يغير ولم يبدل من دينه شيئا، فقد عاش مخلصا لربه، وفيا لدينه ، حافظا لعهد نبيه.(1/1)
قطرات اللبن تنساب باردة في جوفه المحترق تماما كقلبه شوقا إلى الحبيب محمد . يذكر جيدا أن النبي صلى الله عليه وسلم بشره بأن آخر شربة يشربها في دنياه هي شربة لبن!..فأحس بدنو الأجل ، وبقرب اللقاء بمن يحب ، فامتطى جواده وقبّل حربته ، وتحسس ما بقي من أذنه المقطوعة في معركة اليمامة وقال قولته الشهيرة:
ـ إن هذه الراية قد قاتلت بها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين وإن هذه للثالثة. اليوم ألقى الأحبة محمدا وحزبه.
واندس وسط المعركة حتى سقط شهيدا.
كانت كلمات الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم تدوي في أعماقه حين بشره منذ سنوات طويلة بأن الفئة الباغية ستقتله.
ولذا فقد كانت آخر وصايا:
ـ أدفنوني في ثيابي فإني مخاصم.
عزيزي القارئ
أنت الآن على موعد مع رجل من أهل الجنة....
مع أول من بنى مسجدا يصلى فيه....
مع من كان الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم حين يسمع صوته يقول في حب:
ـ "ائذنوا له مرحبا بالطيب المطيب "
نحن الآن جميعا على موعد مع الصحابي الجليل عمار بن ياسرأحد زهور الإسلام اليانعة .
عمار بن ياسر
نسبه :
الاسم : عمار بن ياسر.
كنيته : أبو اليقظان.
أبوه : ياسر بن عامر بن مالك بن كنانة.
أمه: سمية أول شهيدة في الإسلام، طعنها أبو جهل في قبلها بحربة فقتلها. ومات ياسر في العذاب.
كان عمار أبوياسر وأخواه قد قدموا من اليمن إلى مكة يطلبون أخاً لهم، فرجع أخواه وحالف ياسر أبا حذيفة بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، فزوجه أمة اسمها سمية، فولدت له عماراً، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أسلم عمار وأبواه وأخواه.
عن مجاهد، قال:
ـ أول من أظهر الإسلام سبعة، رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، وخباب، وصهيب، وبلال، وعمار، وسمية أم عمار.(1/2)
فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنعه أبو طالب، وأما أبو بكر فمنعه قومه، وأما الآخرون فألبسوهم أدرع الحديد ثم صهروهم في الشمس، فبلغ منهم الجهد ما شاء الله أن يبلغ من حر الحديد والشمس، فلما كان من العشى اتاهم أبو جهل، لعنه الله، ومعه حربة فجعل يشتمهم ويوبخهم.
وذات يوم وهو يعودهم ناداه عمّار:
ـ يا رسول الله.. لقد بلغ منا العذاب كل مبلغ..!
فنا داه الرسول:
ـ " صبرا أبا اليقظان..صبرا آل ياسر.. فان موعدكم الجنة"
يقول عمرو بن الحكم:
ـ كان عمّار يعذب حتى لا يدري ما يقول.
ويقول عمرو بن ميمون:
ـ أحرق المشركون عمّار بن ياسر بالنار، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمر به، ويمر يده على رأسه ويقول:
ـ " يا نار كوني بردا وسلاما على عمّار، كما كنت بردا وسلاما على ابراهيم"
يقول الأستاذ/ خالد محمد خالد في كتابه ( رجال حول الرسول)معلقا علي صنوف العذاب الذي واجهه عمار:
(.. فمن الكي بالنار، الى صلبه على الرمضاء المستعرة تحت الحجارة الملتهبة.. الى غطّه في الماء حتى تختنق أنفسه، وتتسلخ قروحه وجروحه..
في ذلك اليوم اذ فقد وعيه تحت وطأة هذا العول فقالوا له: أذكر آلهتنا بخير، وأخذوا يقولون له، وهو يردد وراءهم القول في غير شعور.
ولقي رسول الله صلى الله عليه وسلم صاحبه فألفاه يبكي، فجعل يمسح دموعه بيده، ويقول له:
ـ " أخذك الكفار، فغطوك في الماء، فقلت كذا.. وكذا..؟؟"
أجاب عمّار وهو ينتحب: نعم يا رسول الله...
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبتسم:
ـ " ان عادوا، فقل لهم مثل قولك هذا"..!!
ثم تلا عليه الآية الكريمة:
( الا من أكره وقلبه مطمئن بالايمان)
قيل لم يسلم أبوا أحد من السابقين المهاجرين سوى عمار وأبي بكر.
اختلف في هجرة عمار إلى الحبشة.
وصفه صاحب الحلية فقال:
((1/3)
الممتلئ من الإيمان، والمطمئن بالإيقان والمثبت حين المحنة والافتتان، والصابر على المذلة والهوان، من السابقين الأولين، سبق إلى قتال الطغاة زمن النبي صلى الله عليه وسلم وبقي إلى طعان البغاة مع الوصي، كان له من النبي صلى الله عليه وسلم إذا استأذن البشاشة والترحيب، والبشارة بالتطييب. كان لزينة الدنيا واضعاً، ولنخوة النفس قامعاً، ولأنصار الدين رافعاً، ولإمام الهدى تابعاً. كان من أهل بدر وبعثه عمر على الكوفة أميراً، وكتب إليهم أنه من النجباء من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كان أحد الأربعة الذين تشتاق إليهم الجنة، لم يزل يدأب لها ويحن إليها إلى أن لقى الأحبه، محمد وصحبه. )
إسلامه:
قال عمار بن ياسر رضي الله عنه:
ـ لقيت صهيب بن سنان رضي الله عنه على باب دار الأرقم ورسول الله فيها فقلت له:
ـ ما تريد.؟
قال لي:
ـ ما تريد أنت..؟
فقلت:
ـ أردت أن أدخل على محمد فأسمعَ كلامه.
قال:
ـ وأنا أريد ذلك، فدخلنا عليه فعرض علينا الإِسلام فأسلمنا، ثم مكثنا يومنا على ذلك حتى أمسينا، ثم خرجنا ونحن مُسْتَخْفُون.
فكان إِسلام عمار وصهيب بعد بضعة وثلاثين رجلاً. رضي الله عنهم.
هاجر إلى المدينة ، وشهد بدراً والمشاهد كلها، وبيعة الرضوان، وصلى القبلتين وعاش ثلاثاً وتسعين سنة، وكان من السابقين إلى الإسلام، وممن عذب في الله في أول الإسلام.
وعن عمر بن الحكم قال:
ـ كان عمار يعذب حتى لا يدري ما يقول، وكذا صهيب، وعامر بن فهيرة. وفيهم نزلت (والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا)
عن أبي الزبير أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بآل عمار وهم يعذبون، فقال: ـ " أبشروا آل عمار، فإن موعدكم الجنة".
وقال ابن سيرين: لقي النبي صلى الله عليه وسلم عماراً وهو يبكي، فجعل يمسح عن عينيه ويقول:
ـ "أخذك الكفار فغطوك في النار، فقلت كذا وكذا، فإن عادوا فقل ذاك لهم".
وذلك حين تكلم يعني بالكفر، فرخص له في ذلك لأنه مكره.(1/4)
له نحو ثلاثين حديثاً، وقيل أكثر.
روى عنه ابن عباس، وجابر، ومحمد بن الحنفية، وزر بن حبيش، وهمام بن الحارث، وآخرون.
صفاته الجسدية:
وكان آدم اللون( أسود) ، طويلا ، بعيدا ما بين المنكبي ، أشهل العينين (الشُّكْلة كهيئة الحُمْرة تكون في بياض العين، فإِذا كانت في سواد العين فهي شُهْلة) رجلا لا يغير شيبه رضي الله عنه .
مناقبه :
لعماربن ياسر مناقب كثيرة نذكر منها على سبيل المثال:
1 ـ أول من بنى مسجداً يصلي فيه عمار. وفي ذلك قولان:
*عن عبد الرحمن بن عبد الله عن الحكم بن عتيبة قال:
ـ قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أول ما قدمها ضحّى، فقال عمار: ـ ما لرسول الله صلى الله عليه وسلم بد أن نجعل له مكاناً إذا استظل من قائلته ليستظل فيه، ويصلي فيه.
فجمع حجارة، فبنى مسجد قباء، فهو أول مسجد بني وعمار بناه.
* ويقال إنه أول من اتخذ مسجدا في بيته يتعبد فيه.
2 ـ نزلت فيه الأية الشريفة التي تقول ( إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ) فقد أخذه المشركون فعذبوه فلم يتركوه، حتى سب النبي صلى الله عليه وسلم وذكر آلهتهم بخير، ثم تركوه. فلما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
ـ " ما وراءك?"
قال:
ـ شر يا رسول الله! ..ما تركت حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير!
قال:
ـ" كيف تجد قلبك? "
قال:
ـ مطمئناً بالإيمان.
قال:
ـ "فإن عادوا لك فعد لهم."
3 ـ عن الإمام علي رضي الله عنه، : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
ـ "إنه لم يكن نبي قط إلا وقد أعطي سبعة رفقاء نجباء وزراء، وإني أعطيت أربعة عشر: حمزة، وأبو بكر، وعمر، وعلي، وجعفر، وحسن، وحسين، وابن مسعود، وأبو ذر، والمقداد، وعمار، وبلال، وسلمان".
4 ـ عن علي قال جاء عمار يستأذن على النبي صلى اللهم عليه وسلم فقال: " ـ "ائذنوا له مرحبا بالطيب المطيب "
5 ـ عن عمرو بن شرحبيل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
ـ "عمار مليء إيماناً إلى مشاشه".
((1/5)
المشاش : رؤوس العظام كالمرفقين والكتفين، والركبتين)
6 ـ عن ابن مسعود قال ، قال رسول الله صلى اللهم عليه وسلم :
ـ " اقتدوا باللذين من بعدي من أصحابي أبي بكر وعمر واهتدوا بهدي عمار وتمسكوا بعهد ابن مسعود "
7ـ قال عمرو بن العاص: كنا نرى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب رجلاً، قالوا:
ـ من هو؟
قال:
ـ عمار بن ياسر.
قالوا:
ـ فذاك قتيلكم يوم صفين.
قال:
ـ قد والله قتلناه.
وفي رواية اخرى:
قال رجل لعمرو بن العاص :
ـ أرأيت رجلًا مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحبه أليس رجلًا صالحًا .
قال : بلى.
قال :
ـ قد مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحبك وقد استعملك .
قال :
ـ بلى فوا لله ما أدري أحبًا كان لي منه أو استعانةً بي ولكن سأحدثك برجلين مات وهو يحبهما ، عبد الله بن مسعود وعمار بن ياسر.
فقال الرجل : ذاك قتيلكم يوم صفين..؟
قال : قد والله فعلنا .
8 ـ أخرج ابن جرير، وابن عساكر عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:
ـ بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد بن المغيرة المخزومي على سرية ومعه في السرية عمار بن ياسر ـرضي الله عنهما ـ قال: فخرجوا حتى أتَوا قريباً من القوم الذين يريدون أن يصبِّحوهم نزلوا في بعض الليل.
وجاء القوم النذيرُ فهربوا حيث بلغوا، فأقام رجل منهم كان قد أسلم هو وأهل بيته، فأمر أهله فتحمَّلوا، وقال:
ـ قفوا حتى آتيكم، ثم جاء حتى دخل على عمار رضي الله عنه، فقال:
ـ يا أبا اليقظان، إني قد أسلمت وأهل بيتي، فهل ذلك نافعي إن أنا أقمت، فإن قومي قد هربوا حيث سمعوا بكم؟
فقال له عمار:
ـ فأقم فأنت آمن.
فانصرف الرجل هو وأهله.
فصيَّح خالد القوم فوجدهم قد ذهبوا ، فأخذ الرجل هو وأهله. فقال له عمار:
ـ إنه لا سبيل لك على الرجل قد أسلم.
قال:
ـ وما أنت وذاك؟ أتجير عليّ وأنا الأمير؟
قال:
ـ نعم أجير عليك وأنت الأمير، إن الرجل قد آمن لو شاء لذهب كما ذهب أصحابه؛ فأمرته بالمقام لإِسلامه.(1/6)
فتنازعا في ذلك حتى تشاتما. فلما قدما المدينة إجتمعا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر عمار الرجل وما صنع، فأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم أمان عمار ونهى يومئذٍ أن يجير أحد على الأمير. فتشاتما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال خالد:
ـ يا رسول الله، أيشتمني هذا العبد عندك؟ أما ـ والله ـ لولاك ما شتمني. فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم :
ـ «إنه من يعادي عمارا يعاده الله عز وجل، ومن يبغضه يبغضه الله عز وجل ، ومن يسبه يسبه الله عز وجل"
ثم قام عمّار فولى واتبعه خالد بن الوليد حتى أخذ بثوبه فلم يزل يترضّاه حتى رضي عنه .
9ـ عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
ـ "عمار ما عرض عليه أمران إلا اختار أرشدهما".
أخرجه النسائي والترمذي، وإسناده صحيح.
10ـ قال علقمة: سمعت أبا الدرداء يقول:
ـ أليس فيكم صاحب السواك والوساد -يعني ابن مسعود- ، أليس فيكم الذي أعاذه الله على لسان نبيه من الشيطان -يعني عماراً-، أليس فيكم صاحب السر حذيفة.
أخرجه البخاري.
11ـ عن أبي سعيد: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ببناء المسجد، فجعل ينقل عمار لبنتين لبنتين، فترب رأسه، فحدثني أصحابي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل ينفض رأسه ويقول:
ـ "ويحك يا بن سمية! تقتلك الفئة الباغية".وفي رواية أخرى
عن عكرمة، عن ابن عباس أنه قال لي ولابنه علي:
انطلقا إلى أبي سعيد الخدري واسمعها من حديثه، فانطلقنا، فإذا هو في حائط له، فحدثنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
ـ "ويح عمار تقتله الفئة الباغية، ويدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار"
، فجعل عمار يقول: أعوذ بالله من الفتن.
أخرجه البخاري
دخل عمرو بن حزم على عمرو بن العاص فقال: قتل عمار، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:
ـ"تقتله الفئة الباغية"،
فدخل عمرو بن العاص على معاوية فقال:
ـ قتل عمار.
قال معاوية:
ـ فماذا؟!
قال:(1/7)
ـ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
ـ "تقتله الفئة الباغية".
قال: دحضت في بولك أو نحن قتلناه، إنما قتله علي وأصحابه.
12ـ عن أبي ليلى الكندي قال: جاء خباب، فقال عمر:
ـ أدن، فما أحد أحق بهذا المجلس منك، إلا عمار.
13ـ قال حارثة بن مضرب: قرئ علينا كتاب عمر:
ـ إني بعثت إليكم -يعني إلى الكوفة- عمار بن ياسر أميراً، وابن مسعود معلماً ووزيراً، وإنهما لمن النجباء من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، من أهل بدر، فاسمعوا لهما، واقتدوا بهما، وقد آثرتكم بهما على نفسي.
14ـ عن ابن عمر قال:
ـ رأيت عماراً يوم اليمامة على صخرة، وقد أشرف يصيح: يا معشر المسلمين، أمن الجنة تفرون، أنا عمار بن ياسر، هلموا إلي، وأنا أنظر إلى أذنه وقد قطعت، فهي تذبذب، وهو يقاتل أشد القتال.
15ـ يقول ابن أبي الهذيل، وهو من معاصريه في الكوفة:
ـ رأيت عمّار بن ياسر وهو أمير الكوفة يشتري من قثائها، ثم يربطها بحبل ويحملها فوق ظهره، ويمضي بها الى داره..!!
ويقول له واحد من العامّة وهو امير الكوفة:
ـ يا أجدع الأذن .
يعيّره بأذنه التي قطعت بسيوف المرتدين في حرب اليمامة.. فلا يزيد الأمير الذي بيده السلطة على أن يقول لشاتمه:
"ـ خير أذنيّ سببت.. لقد أصيبت في سبيل الله"..!!
16ـ حين قالوا لعمر: إن عمار غير عالم بالسياسة، عزله.
فقال عمر لعمار:
ـ أساءك عزلنا إياك؟
قال:
ـ لئن قلت ذاك، لقد ساءني حين استعملتني، وساءني حين عزلتني.
17ـ قال نوفل بن أبي عقرب:
ـ كان عمار قليل الكلام، طويل السكوت، وكان عامة أن يقول: عائذ بالرحمن من فتنة، عائذ بالرحمن من فتنة، قال: فعرضت له فتنة عظيمة.
(يعني ماحدث في عهدأمير المؤمنين عثمان بن عفان وبعده)
18ـ وعن ابن عمر قال:
ـ ما أعرف أحداً خرج يبتغي وجه الله والدار الآخرة إلا عماراً.
19ـ وروى عمارة بن خزيمة بن ثابت قال:
ـ شهد خزيمة بن ثابت الجمل وهو لا يسل سيفاً. وشهد صفين ولم يقاتل، وقال:(1/8)
ـ لا اقاتل حتى يقتل عمار فأنظر من يقتله، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "تقتله الفئة الباغية". فلما قتل عمار قال خزيمة :
ـ ظهرت لي الضلالة .
ثم تقدم فقاتل حتى قتل.
20ـ قال عبد الرحمن بن أبزى :
ـ شهدنا مع علي رضي الله عنه صفين في ثمانمائة من بايع بيعة الرضوان قتل منهم ثلاثة وستون منهم عمار بن ياسر .
21ـ وقال أبو مسعود وطائفة لحذيفة حين احتضر وأعيد ذكر الفتنة :
ـ إذا اختلف الناس بمن تأمرنا..؟
قال :
ـ عليكم بابن سمية فإنه لن يفارق الحق حتى يموت.
أو قال :
ـ فإنه يدور مع الحق حيث دار .
22ـ وأخرج ابن عساكر عن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه قال:
ـ رجلان مات النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبحهما: عبد الله بن مسعود، وعمار بن ياسر رضي الله عنهم.
23ـ عن عبد الله بن سلمة، قال:
ـ لقى علي رجلين قد خرجا من الحمام متدهنين، فقال علي: من أنتما?
قالا:
ـ من المهاجرين.
قال:
ـ كذبتما، إنما المهاجر عمار بن ياسر.
24ـ عن خيثمة بن عبد الرحمن قلت لأبي هريرة حدثني.
فقال:
ـ تسألني وفيكم علماء أصحاب محمد والمجار من الشيطان عمار بن ياسر..؟
من أقواله:
1ـ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وما معه إلا خمسة أعبد وامرأتان وأبو بكر.
أخرجه البخاري
2ـ قال عمار بن ياسر :
ـ قدمت على أهلي من سفر وقد تشققت يداي فخلقوني بزعفران فغدوت على النبي صلى الله عليه وسلم فسلمت عليه فلم يرد علي وقال:
ـ " اذهب فاغسل هذا عنك ."
رواه أبو داود . ( صحيح )
3ـ عن عمار بن ياسر: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بالتيمم، للوجه والكفين.
4ـ قال أبو عبد الرحمن السلمي:
ـ شهدنا صفين مع علي، فرأيت عمار بن ياسر لا يأخذ في ناحية ولا واد من أودية صفين إلا رأيت أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يتبعونه، كأنه علم لهم، وسمعته يومئذ يقول لهاشم بن عتبة بن أبي وقاص:(1/9)
ـ يا هاشم، تفر من الجنة?! الجنة تحت البارقة، اليوم ألقى الأحبة، محمداً وحزبه، والله لو ضربونا حتى يبلغوا بنا سعفات هجر لعلمت أنا على حق، وأنهم على الباطل.
ثم قال :
ـ نحن ضربناكم على تنزيله فاليوم نضربكم على تأويله ضرباً يزيل الهام عن مقيله ويذهل الخليل عن خليله أو يرجع الحق إلى سبيله.
5ـ قال إبراهيم بن سعد : بلغنا أن عمار بن ياسر قال :
ـ كنت تربا لرسول الله صلى الله عليه وسلم في سنه لم يكن أحد أقرب به سناً مني .
6ـ قال وهو يسير إلى صفين على شط الفرات :
ـ اللهم لو أعلم أنه أرضى لك عني أن أرمي بنفسي من هذا الجبل فأتردى فأسقط فعلت ، ولو أعلم أنه أرضى لك عني أن أوقد نارًا عظيمة فأقع فيها فعلت، اللهم لو أعلم أنه أرضى لك عني أن ألقي نفسي في الماء فأغرق نفسي فعلت فإني لا أقاتل إِلا أريد وجهك .
7ـ قال عبد الله بن سلمة :
ـ رأيت عمار بن ياسر يوم صفين شيخًا في يده الحربة وإنها لترعد فنظر إلى عمرو بن العاص ومعه الراية فقال :
ـ إن هذه الراية قد قاتلت بها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات وهذه الرابعة والله لو ضربونا حتى يبلغونا سعفات هجر لعرفت أن مصلحتنا على الحق وأنه على الضلالة .
8ـ سمع عمار بن ياسر رضي الله عنه رجلاً ينال من أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فقال له:
ـ اسكت مقبوحاً منبوحاً، فأشهدُ أنها زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنة.
9ـ عن عمار بن ياسر، قال:
ـ ثلاث خلال من جمعهن فقد جمع خلال الإيمان.
فقال له بعض أصحابه:
ـ يا أبا اليقظان وماهذه الخلال?
قال عمار:
ـ الإنفاق من الاقتار، والانصاف من نفسك، وبذل السلام للعالم.
10ـ قال عمار:
ـ كنت أنا وعلي رفيقين في غزاة ذي العشيرة، فلما نزلها رسول الله صلى الله عليه وسلم قأقام بها رأينا ناسا من بني مدلج يعملون في عين لهم في نخل، فقال علي:
ـ يا أبا اليقظان هل لك أن تأتي هؤلاء فتنظر كيف يعملون?(1/10)
فجئناهم، فنظرنا إلى عملهم ساعة ثم غشينا النوم، فانطلقت أنا وعلي فاضجعنا في صور من النخل في دقع( الدقع: الترابُ الدَّقيق على وجه الأَرض ) من التراب فنمنا، فوالله ما أنبهنا إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم يحركنا برجله وقد تتربنا من تلك الدقعاء، فيومئذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي يا أبا تراب، لما رأى عليه من التراب؛ قال:
ـ" ألا أحدثكما بأشقى الناس? "
فقلنا :
ـ بلى يا رسول الله.
قال :
ـ " أحيمر ثمود الذي عقر الناقة والذي يضربك في هذه- يعني قرنه- حتى تبتل منه هذه، يعني لحيته"
خرجه أحمد.
11ـ عن عبد الله بن أبي الهذيل، قال:
ـ لما بنى عبد الله بن مسعود داره، قال لعمار: هلم انظر إلى ما بنيت.
فانطلق عمار فنظر إليه، فقال:
ـ بنيت شديداً، وأملت بعيداً، أو تأمل بعيداً، وتموت قريياً.
12ـ حدث عمار بن ياسر فقال سمعت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
*ـ " اللهم متعني بسمعي وبصري حتى تجعلهما الوارث مني وعافني في ديني وفي جسدي، وانصرني ممن ظلمني حتى تريني فيه ثأري اللهم إني أسلمت نفسي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك ."
* " لا يحل دم امرىء مسلم إلا بإحدى ثلاث : النفس بالنفس والثيب الزاني والتارك لدينه المفارق للجماعة "
متفق عليه .
* " ثلاث لا تقربهم الملائكة جيفة الكافر والمتضمخ بالخلوق والجنب إلا أن يتوضأ "
رواه أبو داود .
*وعن عمار بن ياسر أنه أم الناس بالمدائن وقام على دكان يصلي والناس أسفل منه فتقدم حذيفة فأخذ على يديه فاتبعه عمار حتى أنزله حذيفة ، فلما فرغ عمار من صلاته قال له حذيفة :
ـ ألم تسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
ـ " إذا أم الرجل القوم فلا يقم في مقام أرفع من مقامهم"
أو نحو ذلك ؟"
فقال عمار:
ـ لذلك اتبعتك حين أخذت على يدي .
رواه أبو داود .
*عن حميد بن مالك قال: سمعت عمار بن ياسر سأل عليا عن سبي الذرية فقال: ـ ليس عليهم سبي، إنما قاتلنا من قاتلنا.
قال:(1/11)
ـ لو قلت غير ذلك لخالفتك.
*عن عمار قال :
ـ قاتلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الجن والانس قيل وكيف قال كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فنزلنا منزلا فأخذت قربتي ودلوي لاستقي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
ـ " أما إنه سيأتيك على الماء آت يمنعك منه "
فلما كنت على رأس البئر إذا برجل أسود كأنه مرس(شديد) فقال والله لا تستقي اليوم منها فأخذني وأخذته فصرعته ، ثم أخذت حجرا فكسرت وجهه وأنفه ثم ملأت قربتي وأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
ـ هل أتاك على الماء أحد ؟
قلت :
ـ نعم فقصصت عليه القصة ، فقال :
" أتدري من هو ..؟"
قلت: لا .
قال :
ـ " ذاك الشيطان"
*قال الشعبي:
ـ سئل عمار عن مسألة فقال هل كان هذا بعد ؟
(يقصد هل حدث هذا الأمر بالفعل؟)
قالوا :لا .
قال :
ـ فدعونا حتى يكون فإذا كان تجشمناه لكم .
وفاته:
قتل مع علي بصفين في ربيع الآخر سنة سبع وثلاثين ،وكان عمره ثلاث وتسعون سنة.ودفنه علي رضي الله عنه في ثيابه ولم يغسله .
جاء في كتاب (الدولة الأموية) للدكتور علي الصلابي ما يلي ـ بتصرف ـ :
( يعد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمّار رضي الله عنه:(1/12)
" تقتلك الفئة الباغية "من الأحاديث الصحيحة والثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقد كان لمقتل عمّار رضي الله عنه أثر في معركة صفين، فقد كان علماً لأصحاب رسول الله يتبعونه حيث سار وكان خزيمة بن ثابت حضر صفين وكان كافاً سلاحه، فلما رأى مقتل عمّار سل سيفه وقاتل أهل الشام، وذلك لأنه سمع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمّار: تقتله الفئة الباغية واستمر في القتال حتى قتل، وكان لمقتل عمّار أثر في معسكر معاوية، فهذا أبو عبد الرحمن السلمي دخل في معسكر أهل الشام، فرأى معاوية وعمرو بن العاص وابنه عبد الله بن عمرو، وأبو الأعور السلمي، عند شرعة الماء يسقون وكانت هي شربة الماء الوحيدة التي يستقي منها الفريقان، وكان حديثهم عن مقتل عمّار بن ياسر، إذ قال عبد الله بن عمرو لوالده: لقد قتلنا هذا الرجل وقد قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال، قال: وأي رجل؟ قال: عمّار بن ياسر.. قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم تقتله الفئة الباغية. فقال عمرو لمعاوية لقد قتلنا الرجل وقد قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال! فقال معاوية: اسكت فوالله ما تزال تدحض في بولك أنحن قتلناه؟ إنما قتله من جاء به فانتشر تأويل معاوية بين أهل الشام إنتشار النار في الهشيم، وجاء في رواية صحيحة أن عمرو بن حزم دخل على عمرو بن العاص فقال: قتل عمار وقد قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: تقتله الفئة الباغية.(1/13)
فقام عمرو بن العاص فزعاً يرجع حتى دخل على معاوية، فقال له معاوية: ما شأنك؟ فقال: قتل عمار، فقال معاوية: قتل عمار فماذا؟ قال عمرو: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له: تقتلك الفئة الباغية فقال له معاوية دحضت في بولك، أونحن قتلناه، إنما قتله علي وأصحابه، جاؤا به حتى ألقوه بين رماحنا، أو قال بين سيوفناوفي رواية صحيحة أيضاً: جاء رجلان عند معاوية يختصمان في رأس عمار يقول كل واحد منهما: أنه قتلته، فقال عبد الله بن عمرو بن العاص: ليطلب به أحدكما نفساً لصاحبه، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول" تقتله الفئة الباغية. قال معاوية: فما بالك معنا؟ قال: إن أبي شكاني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أطع أباك ما دام حياً ولا تعصه. فأنا معكم ولست أقاتل. من الروايات السابقة نلاحظ أن الصحابي الفقيه عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما حريص على قول الحق، والنصح، فقد رأى أن معاوية وجنده، هم الفرقة الباغية لقتلهم عماراً، فقد تكرر منه هذا الاستنكار في مناسبات مختلفة، ولا شك أن مقتل عمار رضي الله عنه قد أثر في أهل الشام بسبب هذا الحديث، إلا أن معاوية رضي الله عنه أول الحديث تأويلاً غير مستساغ ولا يصح في أن الذين قتلوا عمار هم الذين جاءوا به إلى القتال وقد أثر مقتل عمار كذلك على عمرو بن العاص، بل كان استشهاد عمار دافعاً لعمرو بن العاص للسعي لإنهاء الحرب وقد قال رضي الله عنه: وددت أني مت قبل هذا اليوم بعشرين سنة وقد جاء في البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: كنا نحمل لبنة لبنة وعمّار لبنتين لبنتين، فرآه النبي صلى الله عليه وسلم، فينفض التراب عنه ويقول: ويح عمّار تقتله الفئة الباغية يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار.(1/14)
قال عمّار: أعوذ بالله من الفتن، وقال ابن عبد البر: تواترت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: تقتل عمار الفئة الباغية، وهذا من إخباره بالغيب وأعلام نبوته صلى الله عليه وسلم، وهو من أصح الأحاديث
وقال سعد بن إبراهيم، عن رجل، سمع عماراً بصفين ينادي:
ـ أزفت الجنان، وزوجت الحور العين، اليوم نلقى حبيبنا صلى الله عليه وسلم.
وعنه أنه قال :
ـ ادفنوني في ثيابي، فإني رجل مخاصم.
عن أبي البختري قال، قال عمار يوم صفين:
ـ ائتوني بشربة لبن، قال: فشرب، ثم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ـ "إن آخر شربة تشربها من الدنيا شربة لبن."
، ثم تقدم فقاتل حتى قتل.
عن أبي غادية الجهني. قال:
ـ سمعت عمار بن ياسر يقع في عثمان يشتمه بالمدينة، فتوعدته بالقتل، فلما كان يوم صفين جعل يحمل على الناس، فحملت عليه وطعنته في ركبته فوقع، فقتلته. فقيل: قتل عمار. وأخبر عمرو بن العاص فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
ـ "قاتل عمار وسالبه في النار".
وفي رواية أخرى جاءت في البداية والنهاية لابن كثير:
( طعنه أبو الغادية فسقط ثم أكب عليه رجل فاحتز رأسه ثم اختصما إلى معاوية أيهما قتله ،فقال لهما عمرو بن العاص :
ـ فوالله إنكما لتختصمان في النار .
فسمعها منه معاوية فلامه على تسميعه إياهما ذلك، فقال له عمرو:
ـ والله إنك لتعلم ذلك ولوددت أني مت قبل هذا اليوم بعشرين سنة)
وروى الشعبي عن الأحنف بن قيس في خبر صفين قال :
ـ ثم حمل عمار فحمل عليه ابن جزء السكسكي وأبو الغادية الفزاري فأما أبو الغادية فطعنه وأما ابن جزء فاحتز رأسه .
تعريف
إذا ذكرت غزوة بدر، ذكر هذا الصحابي الجليل فقد كان موقفه الشجاع نورا على طريق النصر ، وبقدر ما أثلج حديثه النبي صلى الله عليه وسلم ، بقدر ما غبطه العديد من الصحابة ، وفي هذا المقام كان للصحابي العظيم عبد الله بن مسعود قولا مشهورا...(1/15)
بدر!.. يا رياح النصر في زمن الانكسار!..ما أحوجنا الآن لنسمة من نسماتك المباركة تنعش أبداننا وتعيد الصحوة إلى عقولنا...
بدر!..يا بئر الأماني وسبيل العطشى إلى فجر جديد يعيد للإسلام ثوب عزته الذي تمزق بفعل أهله وأعدائه...
بدر!.. يا زمن الفروسية ونصر السماء الآتي مع الغمام ، وقطرات المطر، وأفواج الملائكة...
بدر!..يا يوم العزة واندحار عتاة الكفر، يا يوم ميلاد جديد للدين الذي ملأ الأرض عدلا وعلم الكون كيف يوحد الإله وكيف يعبده..
بدر!.. يا يوم الزبير والمقداد !.. يا يوم حمزة والإمام علي..!
طبت يا يوم بدر على مر العصور، وحبانا الله مثلك كلما اهتزت من تحت أقدامنا أرضنا،وكلما علا صوت عدونا..!
قالت الروايات:
لما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بابي سفيان مقبلا من الشام ندب المسلمين اليهم قال :
ـ "هذه عير قريش فيها أموالهم فاخرجوا اليها لعل الله ينفلكموها "
فانتدب الناس فخفف بعضهم وثقل بعض وذلك أنهم لم يظنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقى حربا.
وأرسل أبو سفيان ضمضم بن عمرو الغفاري الذي راح يصرخ ببطن الوادي واقفا على بعيره بعد أن جدعه، وشق قميصه وهو يقول:
ـ يا معشر قريش اللطيمة اللطيمة أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد في أصحابه لا أرى أن تدركوها الغوث الغوث..!
وبعد أن سار المسلمون يومين قال لهم المعصوم:
ـ " ما ترون في القوم فإنهم قد أخبروا بمخرجكم "
فقالوا :
ـ لا والله ما لنا طاقة بقتال القوم ولكنا أردنا العير.
وكرر الحبيب المصطفى سؤاله:
ـ " ما ترون في قتال القوم "
فسمع نفس الرد.
ثم انطلق صاحبنا رافعا صوت المهاجرين بأحرف شجاعة وكلمات ملؤها الإيمان قائلا:(1/16)
ـ يا رسول الله امض لما أراك الله فنحن معك والله لا نقول لك كما قال ينو إسرائيل لموسى أذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لجا لدنا معك من دونه حتى تبلغه.
فتمني الأنصار لو أنهم قالوا مثل قوله : فأنزل الله عز وجل على رسوله:
( كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون)
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
ـ " أشيروا علي أيها الناس "
كان يريد الأنصار لأنهم حين بايعوه بالعقبة قالوا:
ـ يا رسول الله إنا برآء من ذمامك حتى تصل إلى ديارنا فإذا وصلت إلينا فأنت في ذمتنا نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا.
فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخوف أن لا تكون الأنصار ترى عليها نصره إلا ممن دهمه بالمدينة من عدوه وإن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدو من بلادهم حينئذ قال سعد بن معاذ :
ـ والله لكأنك تريدنا يا رسول الله ..!
قال:
ـ " أجل "
قال:
ـ فقد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة لك فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا إنا لصبر في الحرب صدق عند اللقاء لعل الله يريك منا ما تقر به عينك فسر على بركة الله .
كلمات أخرى شجاعة قالها سيد الأنصار ومن اهتز عرش الرحمن لموته..!
فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد ثم قال:
ـ سيروا وابشروا فان الله قد وعدني إحدى الطائفتين والله لكأنني الآن أنظر إلى مصارع القوم.
خرجت قريش في تسعمائة وخمسين مقاتلا ، معهم مائتا فرس يقودونها ، ومعهم القيان يضربن بالدفوف ويغنين بهجاء المسلمين.(1/17)
وكان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فرسان فرس للزبير وفرس للمقداد بن الأسود، وستون درعا، وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا.
وكان معهم سبعون بعيرا يعتقبونها .
عن عبد الله بن مسعود قال :
ـ كنا يوم بدر كل ثلاثة على بعير كان أبو لبابة وعلي زميلي رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فكانت عقبة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا نحن نمشي عنك فقال:
ـ " ما أنتما بأقوى مني ولا أنا بأغنى عن الأجر منكما "
لكل لحظة أبطالها ، وعباقرتها، وفي اختيار مكان الحرب كان للحباب ابن المنذر دورا جوهريا.
قال ابن إسحاق إن الحباب بن منذر بن الجموح قال :
ـ يا رسول الله أرأيت هذا المنزل أمنزلا أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه أم هو الرأي والحرب والمكيدة ..؟
قال :
ـ بل هو الرأي والحرب والمكيدة .
قال :
ـ يا رسول الله فان هذا ليس بمنزل فأمض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم فننزله ثم نغور ما وراءه من القلب ثم نبني عليه حوضا فنملؤه ماء ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
ـ "لقد أشرت بالرأي "
البطل وحبيب السماء سعد بن معاذ يبدي اقتراحا:
ـ يا نبي الله ألا نبني لك عريشا تكون فيه ونعد عندك ركائبك ثم نلقى عدونا فان أعزنا الله وأظهرنا على عدونا كان ذلك ما أحببنا ، وإن كانت الأخرى جلست على ركائبك فلحقت بمن وراءنا من قومنا ، فقد تخلف عنك أقوام ما نحن بأشد حبا لك منهم، ولو ظنوا أنك تلقى حربا ما تخلفوا عنك ، يمنعك الله بهم ويناصحونك ويجاهدون معك .
فاثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا ودعا له بخير ثم بنى لرسول الله صلى الله عليه وسلم عريش كان فيه.
على الجانب الآخر كان لإبليس البشر ـ أبو جهل عليه لعنة الله ـ وإبليس الجن رأي واحد تذكره الروايات :
قال ابن إسحاق ولما رأى أبو سفيان أنه قد أحرز عيره أرسل إلى قريش:(1/18)
ـ إنكم إنما خرجتم لتمنعوا عيركم ورجالكم وأموالكم فقد نجاها الله فارجعوا.
فقال أبو جهل بن هشام :
ـ والله لا نرجع حتى نرد بدرا ـ وكان بدر موسما من مواسم العرب يجتمع لهم به سوق كل عام ـ فنقيم عليه ثلاثا فننحر الجزور ونطعم الطعام ونسقى الخمر وتعزف علينا القيان وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا فلا يزالون يهابوننا أبدا فامضوا.
لما أجمعت قريش المسير ذكرت الذي بينها وبين بني بكر فكاد ذلك أن يثنيهم فتبدى لهم إبليس في صورة سراقة ابن مالك وكان من أشراف بني كنانة فقال:
ـ أنا لكم جار من أن تأتيكم كنانة من خلفكم بشيء تكرهونه ...
غرهم لعنه الله حتى ساروا وسار معهم ،فأسلمهم لمصارعهم فلما رأى الجد والملائكة تنزل للنصر وعاين جبريل نكص على عقبيه وفر، هذا معنى قوله تعالى :
(ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله والله بما يعملون محيط وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله والله شديد العقاب )
كان أبو بكر الصديق مع الرسول في العريش كما كان معه في الغار رضي الله عنه وأرضاه ورسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر الابتهال والتضرع والدعاء ويقول فيما يدعو به :
ـ " اللهم إنك إن تهلك هذه العصابة لا تعبد بعدها في الأرض "
وجعل يهتف بربه عز وجل ويقول :
ـ " اللهم أنجز لي ما وعدتني اللهم نصرك "
ويرفع يديه إلى السماء حتى سقط الرداء عن منكبيه وجعل أبو بكر رضي الله عنه يلتزمه من ورائه ويسوى عليه رداءه ويقول مشفقا عليه من كثرة الابتهال:
ـ يا رسول الله بعض مناشدتك ربك فانه سينجز له ما وعدك.
ـ " اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تحادك وتكذب رسولك اللهم فنصرك الذي وعدتني اللهم أحنهم الغداة."(1/19)
وبعث الله غيث السماء ، وكان الوادي دهسا فأصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه منها ماء لبد لهم الأرض ولم يمنعهم من السير، وأصاب قريشا منها ماء لم يقدروا على أن يرتحلوا معه...
وهذا معنى قوله تعالى:
( وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام)
فذكر أنه طهرهم ظاهرا وباطنا وأنه ثبت أقدامهم وشجع قلوبهم وأذهب عنهم تخذيل الشيطان وتخويفه للنفوس ووسوسته الخواطر وهذا تثبيت الباطن والظاهر وأنزل النصر عليهم من فوقهم في قوله :
(إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاقق الله ورسوله فان الله شديد العقاب ذلكم فذوقوه وأن للكافرين عذاب النار )
قال الله تعالى أيضا:
(ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون)
وقال :
(كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون يجادلونك في الحق بعد ما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون وإذ يعدكم الله احدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم يريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون)
وقال تعالى :
(وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم ليقضي الله أمرا كان مفعولا)
فعند ما تقابل الفريقان قلل الله كلا منهما في أعين الآخرين ليجترئ هؤلاء على هؤلاء وهؤلاء على هؤلاء لما له في ذلك من الحكمة البالغة...
تلك بعض تفاصيل غزوة بدر التي كانت علامة فارقة في حياة المسلمين الذين ازدادوا بها عزة، وأيضا في حياة الكفرة والمشركين الذين علموا كم قويت شوكة الإسلام والمسلمين وذهبت بالعديد من عتاة المشركين الذين رحلوا جيفا في القليب بعد حياة حافلة بالعناد والكيد لله ولرسوله...(1/20)
كان لزاما ذكر تلك التفاصيل للوقوف على موقف هذا الصحابي الجليل وآخرين شكلوا بعقولهم وسيوفهم خريطة النصر في أولى معارك الإسلام...
في بدر كان هذا الصحابي الجليل أحد فارسيها وهناك روايات تقول بأنه كان فارسها الوحيد...
التتلمذ على يد النبي العظيم تخرج أبطالا على مر العصور، وفارسنا حين تقدم به العمر وثقل وزنه ووهن عظمه لم يتقاعس عن نداء الجهاد ، وحينما ذكره بعض إخوانه بعذره ورخص له بعدم الخروج للقتال قال في حسم:
ـ أبت علينا سورة البعوث : " انفروا خفافا وثقالا " (التوبة: 41)
أنت الآن عزيزي القارئ على موعد مع ...
بطلنا الذي كان في العشرة الذين كانوا مع رسول الله صلى الله عليه حين نزل المدينة، وقسم المسلمين إلى مجموعات وكل مجموعة تضم عشرة أفراد...
وكان أحد الأربعة الذين أحبهم الله وأمر الحبيب المصطفى أن يحبهم...
وكان أحد نقباء النبي ووزراءه الأربعة عشرة ...
ولقد عاش محبا لله ورسوله ، ووفيا لأل بيته حتى يوم وفاته ...
أنت على موعد مع أحد السبعة الذين أظهروا الإسلام في باكورة أيامه...
أنت الآن على موعد مع الفارس والصحابي الجليل المقداد بن عمرو...
المقداد بن عمرو
نسبه:
الاسم:المقداد بن عمرو بن ثعلبة بن مالك.
يكنى: أبا معبد
وكان حالف الأسود بن عبد يغوث الزهري في الجاهلية فتبناه ، فكان يقال له المقداد بن الأسود، فلما نزل القرآن(ادعوهم لآبائهم) قيل المقداد بن عمرو.
صفاته الجسمية:
كان طويلا آدم، ذا بطن، كثير شعر الرأس، أعين، مقرون الحاجبين، أقنى(القنا: ارتفاع في أَعلىالأَنف واحْديدابٌ في وسطه وسُبُوغٌ في طرَفه) يصفر لحيته.
بعض مناقبه:(1/21)
1ـ كان قديم الإسلام ولم يقدر على الهجرة ظاهراً فأتى مع المشركين من قريش هو وعتبة بن غزوان ليتوصلا بالمسلمين فانحازا إليهم وذلك في السرية التي بعث فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم عبيدة بن الحارث إلى ثنية المرة فلقوا جمعاً من قريش عليهم عكرمة بن أبي جهل فلم يكن بينهم قتال غير أن سعد بن أبي وقاص رمى يومئذ بسهم فكان أول سهم رمي به في سبيل الله وهرب عتبة بن غزوان والمقداد بن الأسود يومئذ إلى المسلمين وشهد المقداد في ذلك العام بدراً ثم شهد المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان من الرماة المذكورين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
2ـ والمقداد من المبكّرين بالاسلام، وهوسابع سبعة جاهروا بإسلامهم وأعلنوه، حاملا نصيبه من أذى قريش.
أخرج الإِمام أحمد،ابن ماجه عن ابن مسعود رضي الله عنه قال:
ـ أول من أظهر الإِسلام سبعة: رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، وعمَّار وأمه سُميَّة، وصهيب، وبلال؛ والمقداد، رضي الله عنهم. فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنعه الله بعمِّه. وأما أبو بكر فمنعه الله بقومه. وأما سائرهم فأخذهم المشركون فألبسوهم أدْرُع الحديد وصهروهم في الشمس، فما منهم من أحد إلا وقد آتاهم على ما أرادوا إلا بلالاً، فإنه هانت عليه نفسه في الله. وهان على قومه، فأخذوه فأعطَوه الولدان، فجعلوا يطوفون به في شِعاب مكة، وهو يقول: أحد، أحد.
3ـ أول من عدا به فرسه في سبيل الله، المقداد بن الأسود:
*وقال أبو إسحاق عن البراء قال:
ـ لم يكن يوم بدر فارس غير المقداد.
* قال علي رضي الله عنه :
ـ لقد رأيتنا ليلة بدر وما منا أحد إلا وهو نائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه يصلي إلى شجرة ويدعو حتى أصبح، ولقد رأيتنا وما منا أحد فارس يومئذ إلا المقداد.
*عن كريمة بنت المقداد بن عمرو عن أمها ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب عن المقداد بن عمرو قال كان معي فرس يوم بدر يقال له سبحة.(1/22)
...
4ـ يقول عبدالله بن مسعود صاحب رسول الله:
" لقد شهدت من المقداد مشهدا، لأن أكون صاحبه، أحبّ اليّ مما في الأرض جميعا".
في الاستعداد لغزوة بدر استشار ارسول صلى الله عليه وسلم أصحابه في أمر القتال ، فقال المقداد في هذا المقام:
" يا رسول الله..
امض لما أراك الله، فنحن معك..
والله لا نقول لك كما قالت بنو اسرائيل لموسى
اذهب أنت وربك فقاتلا انا هاهنا قاعدون..
بل نقول لك: اذهب أنت وربك فقاتلا انا معكما مقاتلون..!!
والذي بعثك بالحق، لو سرت بنا الى برك العماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه. ولنقاتلن عن يمينك وعن يسارك وبين يديك ومن خلفك حتى يفتح الله لك"..
5ـ في موقعة اليرموك كان قارئهم الذي يدور على الناس فيقرأ سورة الأنفال وآيات الجهاد المقداد بن الاسود
6ـ وكان يوم فتح مكة على ميمنة النبي صلى الله عليه وسلم.
7ـ فيمن كان يضرب الأعناق بين يديه صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب، والزبير بن العوام، والمقداد بن عمرو، ومحمد بن مسلمة، وعاصم بن ثابت بن أبي الأقلح، والضحاك بن سفيان الكِلابي
8ـ وذكر أحمد بن حنبل حدثنا الأسود بن عامر حدثنا أبو بكر بن عياش عن الأعمش عن سليمان ابن ميسرة عن طارق عن المقداد قال :
ـ لما نزلنا المدينة عشرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة عشرة في كل بيت .
فكنت في العشرة الذين كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن لنا إلا شاة نتجزى لبنها .
9ـ عن ابن بريدة، عن أبيه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
ـ "أمرت بحب أربعة لأن الله يحبهم: علي، وأبي ذر وسلمان، والمقداد".
10 ـ عن عبد الله بن مليك قال، سمعت علياً يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ـ "إنه لم يكن نبي قط إلا وقد أعطي سبعة رفقاء نجباء وزراء، وإني أعطيت أربعة عشر: حمزة، وأبو بكر، وعمر، وعلي، وجعفر، وحسن، وحسين، وابن مسعود، وأبو ذر، والمقداد، وعمار، وبلال، وسلمان".(1/23)
11ـ وروى حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقرأ ويرفع صوته بالقرآن فقال :
ـ " أواب " .
وسمع آخر يرفع صوته فقال :
ـ " مراء " .
فنظر فإذا الأول المقداد بن عمرو .
بعض مواقفه:
1ـ ولاه الرسول على احدى الولايات يوما، فلما رجع سأله النبي:
ـ " كيف وجدت الامارة"..؟
فأجاب في صدق عظيم:
ـ " لقد جعلتني أنظر الى نفسي كما لو كنت فوق الناس، وهم جميعا دوني..
والذي بعثك بالحق، لا أتآمرّن على اثنين بعد اليوم، أبدا".
وفي رواية عن أنس قال:
" بعث النبي صلى الله عليه وسلم المقداد على سرية. فلما قدم قال له:
ـ "أبا معبد كيف وجدت الإمارة?"
قال:
ـ كنت أحمل وأوضع حتى رأيت أن لي على القوم فضلا.
قال:
ـ " هو ذاك، فخذ أودع."
قال:
ـ والذي بعثك بالحق لا أتأمر على اثنين أبدا. "
2ـ كان أحد أصحابه وجلسائه، يقول:
" جلسنا الى المقداد يوما فمرّ به رجل..
فقال مخاطبا المقداد:
ـ طوبى لهاتين العينين اللتين رأتا رسول الله صلى اله عليه وسلم..
والله لوددنا لو أن رأينا ما رأيت، وشهدنا ما شهدت.
فأقبل عليه المقداد وقال:
ـ ما يحمل أحدكم على أن يتمنى مشهدا غيّبه الله عنه، لا يدري لو شهده كيف كان يصير فيه؟؟ والله، لقد عاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم أقوام كبّهم الله عز وجل على مناخرهم في جهنم. أولا تحمدون الله الذي جنّبكم مثلا بلائهم، وأخرجكم مؤمنين بربكم ونبيكم.
وفي رواية أخرى:
وعن عبد الرحمن بن جبير بن نفير، عن أبيه قال:
ـ جلسنا إلى المقداد يوما فمر به رجل فقال:
ـ طوبى لهاتين العينين اللتين رأتا رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله لوددنا أنا رأينا ما رأيت وشهدنا ما شهدت.
فاستغضب فجعلت أعجب، ما قال إلا خيرا، ثم أقبل إليه فقال:(1/24)
ـ ما يحمل الرجل على أن يتمنى محضرا غيبه الله عنه، ما يدري لو شهده كيف كان يكون فيه? والله لقد حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم أقوام كبهم الله على مناخرهم في جهنهم لم يجيبوه ولم يصدقوه، أولا تحمدون الله إذ أخرجكم لا تعرفون إلا ربكم مصدقين بما جاء به نبيكم. ولقد كفيتم البلاء بغيركم? والله لقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم على أشد حال بعث عليها نبي من الأنبياء في فترة وجاهلية، ما يرون أن دينا أفضل من عبادة الأوثان، فجاء بفرقان فرق به بين الحق والباطل، وفرق بين الوالد وولده، إن كان الرجل ليرى والده وولده وأخاه كافرا وقد فتح الله قفل قلبه للإيمان يعلم أنه إن هلك دخل النار فلا تقر عينه وهو يعلم أن حبيبه في النار وأنها للتي قال الله عز وجل ( والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين )
3 ـ خرج يوما في سريّة، تمكن العدو فيها من حصارهم، فأصدر أمير السرية أمره بألا يرعى أحد دابته.. ولكن أحد المسلمين لم يحط بالأمر خبرا، فخالفه، فتلقى من الأمير عقوبة أكثر مما يستحق، فمر المقداد بالرجل يبكي ويصيح، فسأله، فأنبأه ما حدث،فأخذ المقداد بيمينه، ومضيا صوب الأمير، وراح المقداد يناقشه حتى كشف له خطأه وقال له:
ـ والآن أقده من نفسك..ومكّنه من القصاص..!!
وأذعن الأمير.. بيد أن الجندي عفا وصفح، وانتشى المقداد بعظمة الموقف، وبعظمة الدين الذي أفاء عليهم هذه العزة، فراح يقول وكأنه يغني:
ـ لأموتنّ، والإسلام عزيز.
4ـ عن أبي راشد الحبراني قال خرجت من المسجد فإذا أنا بالمقداد بن الأسود على تابوت من توابيت الصيارفة قد فضل عنها عظيما فقلت له:
ـ قد أعذر الله إليك.
فقال:
ـ أبت علينا سورة البعوث " انفروا خفافا "
وأخرج أبو نُعيم في الحلية عن أبي يزيد المكي قال: كان أبو أيوب والمقداد رضي الله عنهما يقولان:(1/25)
ـ أُمرنا أن ننفِر على كل حال، ويتأوَّلان هذه الآية: {انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً} (التوبة: 41).
5 ـ عن البهي أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما شتم المقدار رضي الله عنه، فقال عمر:
ـ عليَّ نذر إن لم أقطع لسانك فكلَّموه وطلبوا إليه.
فقال عمر:
ـ دعوني حتى أقطع لسانه حتى لا يشتم بعدُ أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
6ـ وأخرج مسلم ،أن رجلاً جعل يمدح عثمان رضي الله عنه، فعمد المقداد رضي الله عنه فجثى على ركبتيه وكان رجلاً ضخماً فجعل يحثو في وجهه الحصى، فقال له عثمان: ما شأنك؟ فقال ،إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
ـ «إذا رأيتم المدَّاحين فاحثُوا في وجوههم التراب»
7ـ أخرج أبو نعيم في الحلية عن المقداد بن الأسود رضي الله عنه قال:
ـ جئت أنا وصاحبان لي قد كادت تذهب أسماعنا وأبصارنا من الجَهْد، فجعلنا نعرض أنفسنا على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فما يقبلنا أحد، حتى انطلق بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رَحْله ولآل محمد ثلاث أعنُز يحتلبونها. فكان النبي صلى الله عليه وسلم يوزع اللبن بيننا، وكنا نرفع لرسول الله صلى الله عليه وسلم نصيبه. فيجيء فيسلِّم تسليماً يُسمع اليقظان ولا يوقظ النائم. فقال لي الشيطان:
ـ لو شربت هذه الجُرعة، فإنَّ النبي صلى الله عليه وسلم يأتي الأنصار فيتحفونه، فما زال بي حتى شربتها. فلما شربتها ندّمني وقال:
ـ ما صنعت يجيء محمد صلى الله عليه وسلم فلا يجد شرابه فيدعو عليك فتهلِك. وأما صاحباي فشربا شرابهما وناما، وأما أنا فلم يأخذني النوم وعليّ شَمْلة لي إذا وضعتها على رأسي بدت منها قدماي، وإِذا وضعتها على قدمي بدا رأسي. وجاء النبي صلى الله عليه وسلم كما كان يجيء فصلَّى ما شاء الله أن يصلِّي، ثم نظر إلى شرابه فلم يرَ شيئاً فرفع يده، فقلت:
ـ يدعو عليَّ الآن فأهلِك.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(1/26)
ـ «اللَّهمّ أطعم من أطعمني، واسقِ من سقاني».
فأخذت الشفرة وأخذت الشَّمْلة وانطلقت إلى الأعنْز أجسّهن أيتهن أسمن كي أذبحه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا حُفَّل كلُّهن أخذت إناء لآل محمد صلى الله عليه وسلم كانوا يطمعون أن يجتلبوا فيه، فحلبته حتى عَلَتْه الرَّغْوة. ثم أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فشرب، ثم ناولني فشربت، ثم ناولته فشرب، ثم ناولني فشربت، ثم ضحكت حتى أُلقيت إلى الأرض. فقال لي:
ـ «إِحدى سوءاتِك يا مقداد»
فأنشأت أحدِّثه بما صنعت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
ـ «ما كانت إلا رحمة من الله عزّ وجلّ، لو كنتَ أيقظت صاحبيك فأصابا منها».
قلت: والذي بعثك بالحق، ما أبالي إذا أصبتَها أنت وأصبتُ فضلتك من أخطأتُ من الناس.
8 ـ وأخرج البزّار عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية فيها المقداد بن الأسود رضي الله عنه، فلما وجدوا القوم وجدوهم قد تفرقوا وبقي رجل له مال كثير لم يبرح. فقال:
ـ أشهد أن لا إله إلا الله.
فأهوى إليه المقداد فقتله.
فقال له رجل من أصحابه. أقتلت رجلاً يشهد أن لا إله إلا الله؟ لأذكرنَّ ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم .
فلما قدموا علي النبي صلى الله عليه وسلم قالوا:
ـ يا رسول الله إنَّ رجلاً شهد أن لا إله إلا الله فقتله المقداد.
فقال:
ـ «ادعُ لي المقداد. يا مقدادُ أَقتلت رجلاً يقول لا إله إلا الله؟ فكيف لك بلا إله إلا الله غداً؟»
فأنزل الله تبارك وتعالى:
{يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُواْ}{وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِناً}{تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحياةِ الدُّنْيَا}{فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذالِكَ كُنتُمْ مّن قَبْلُ} (سورة النساء، الآية: 94)
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمقداد:(1/27)
ـ «كان رجل مؤمن يُخفي إيمانه مع قوم كفار فأظهر إيمانه فقتلته؟ وكذلك كنت تُخفي إيمانك بمكة من قبل».
9 ـ جمع المقداد الستة الذي أختارهم عمر للشورى، وحين رفع عبد الرحمن بن عوف رأسه إِلى سقف المسجد ويده في يد عثمان فقال : ـ اللهم أسمع وأشهد إني قد جعلتُ ما في رقبتي من ذلك في رقبة عثمان . فبايعه .
قال المقداد :
ـ يا عبد الرحمن أما والله لقد تركته لانه من الذين يقضون بالحق وبه يعدلون.
فقال :
ـ يا مقداد واللّهِ لقد اجتهدتُ للمسلمين .
قال :
ـ إنْ كنتَ أردتَ الله فأثابك اللّهُ ثواب المحسنين .
وأضاف المقداد :
ـ ما رأيتُ مثل ما أتجن إلى أهل هذا البيت بعد نبيهم إنّي لأعجب من قريش أنهم تركوا رجلاً ما أقول ولا أعلم أنّ رجلًا أقضى بالعدل ولا أعلم منه ، أما والته لو أجدُ أعواناً عليه .
فقال عبد الرحمن :
ـ يا مقداد اتقِ الله فإنّي خائفٌ عليك الفتنة .
فقال رجل للمقداد:
ـ رحمك الله من أهل هذا البيت ومن هذا الرجل ؟
قال :
ـ أهل البيت بنو عبد المطلب والرجل علي بن أبي طالب .
10ـ قال ثابت البناني:
ـ كان عبد الرحمن والمقداد يتحدثان، فقال له ان عوف:
ـ مالك لا تزوج؟
قال:
ـ زوجني بنتك.
فأغلظ له وجبهه، فشكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرف الغم في وجهه فقال:
ـ"لكني أزوجك ولا فخر"
فزوجه بابنة عمه ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب.
وكان بها من الجمال والعقل التام مع قرابتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم
11ـ عن ضباعة قالت:
ـ بعنا طعمة المقداد التي أطعمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر خمسة عشر وسقا وشعيرا من معاوية بن أبي سفيان بمائة ألف درهم.
12ـ عن كريمة بنت المقداد:
ـ أن المقداد وصى للحسن والحسين لكل واحد منهما بثمانية عشر ألف درهم، وأوصى لأمهات المؤمنين لكل واحدة بسبعة آلاف درهم.
بعض ما رواه عن النبي:
1ـ روى ثابت البناني عن أنس بن مالك عن المقداد بن الأسود أنه قال:(1/28)
ـ والله لا أشهد لأحد أنه من أهل الجنة حتى أعلم ما يموت عليه فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
ـ " لقلب ابن آدم أسرع انقلاباً من القدر إذا استجمعت غليا " .
2ـ عن المقداد بن الأسود قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
ـ " لا يبقى على ظهر الأرض بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله كلمة الإسلام بعز عزيز أو ذل ذليل إما يعزهم الله عز وجل فيجعلهم من أهلها أو يذلهم فيدينون لها "
3ـ عن المقداد بن الأسود قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
ـ " إن السعيد لمن جنب الفتن أن السعيد لمن جنب الفتن إن السعيد لمن جنب الفتن ولمن ابتلى فصبر فواها ."
صحيح . رواه أبو داود .
4ـ وعن المقداد قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
ـ " تدنى الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميل فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق فمنهم من يكون إلى كعبيه ، ومنهم من يكون إلى ركبتيه ، ومنهم من يكون إلى حقويه ، ومنهم من يلجمهم العرق إلجاما "
وأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده إلى فيه .
رواه مسلم . متفق عليه
وفاته :
مات في أرضه بالجرف على ثلاثة أميال من المدينة ،وحمل على رقاب الرجال حتى دفن بالبقيع سنة ثلاث وثلاثين . وصلى عليه عثمان بن عفان رضي الله عنه وكان ابن سبعين سنة أو نحوها .
تعريف
إذا صافحت يوما كتب السيرة النبوية وكتب التراث وتنسمت عبير المدينة المنورة من خلال السطور، وإذا لفحت أنسام الصبا وجهك وأنت تيمم نحو الشام خطاك...
وإذا لمحت من بين السطور رجلا مهيبا جسيما طويلا كثيف شعرالرأس واللحية، يشع من عينيه نور الإيمان واليقين، محاطا بأصحابه وهم ينددون معه بصوته الجهوري بالذين يكنزون الذهب والفضة...
وإذا همست لك بعض السطور بأن هذا الرجل كان أول من ألقى تحية الإسلام على الحبيب محمد صلى الله علي وسلم ، وبأنه صلى لله قبل أن إسلامه...(1/29)
وإذا بدت على البعد خيمة صغيرة في فلاة ، وإذا فشلت عيناك في العثور بداخلها على شئ من متاع الدنيا ، سوى امرأة سوداء ضامرة تضم ابنتها التي تشاركها لونها إلى صدرها ، وبعض عنزات تحومن حول المكان ...
ثم إذا أمعنت النظر في الجسد المسجى، وكفنه الذي يكشف عن ساقيه إن غطى وجهه، ويكشف عن وجهه إن غطى ساقيه ، لأدركت على الفور أن صاحبه هو ذلك الرجل ذو الصوت الجهوري المندد بالذين يكنزون الذهب والفضة ، وستدرك أيضا أنه خرج من الدنيا كما دخلها، لم يأخذ منها ولم تنل منه...
إذا استجمعت تفاصيل كل هذه الصورة ، فشممت عطرا وخفت روحك، وهامت في عالم بعيد عن الأرض التي تقف عليا بقدميك...
فاعلم أنك في حضرة الصحابي الجليل أبي ذر الغفاري.
أبوذر الغفاري
نسبه:
اختلف في اسمه اختلافاً كثيراً ، وأصح ما قيل:
الاسم :جندب بن جناده
أبوه: جنادة بن قيس بن عمرو
وأمه: رملة بنت الوقيعة
الكنية: أبوذر ،صادق اللسان والإسلام.
روي أبو ذر مائتان وأحد وثمانون حديثا شريفا عن رسول الله صلىالله عليه وسلم.
وحدث عنه عمر بن الخطاب، وابنه عبد الله بن عمر، وابن عباس، وغيرهم من الصحابة
وصفه صاحب الحلية فقال:
ـ العابد الزهيد، القانت الوحيد، رابع الإسلام، ورافض الأزلام قبل نزول الشرع والأحكام، تعبد قبل الدعوة بالشهور والأعوام، وأول من حيا الرسول بتحية الإسلام، لم يكن تأخذه في الحق لائمة اللوام، ولا تفزعه سطوة الولاة والحكام، أول من تكلم في علم البقاء، وثبت على المشقة والعناء، وحفظ العهود والوصايا، وصبر على المحن والرزايا، واعتزل مخالطة البرايا، إلى أن نزل بساحة المنايا. أبو ذر الغفاري رضي الله عنه، خدم الرسول، وتعلم الأصول، ونبذ الفضول.
صفاته الجسدية:
آدم جسيم ،طوال، كث الشعر واللحية.
قصة إسلامه:
قال بن عباس عن أبي ذر :
ـ لما بلغه أن رجلا خرج بمكة يزعم أنه نبي أرسل أخاه وقال له :
ـ اذهب فأتني بخبر هذا الرجل وبما تسمع منه .(1/30)
فانطلق الرجل حتى أتى مكة فسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجع الى أبي ذر فأخبره أنه يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويأمر بمكارم الأخلاق.
فقال أبو ذر:
ـ ما شفيتني فخرج أبو ذر ومعه شنة( الشنة وعاء صنع من الجلد) فيها ماؤه وزاده حتى أتى مكة ففرق أن يسأل أحدا عن شيء ولما يلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فأدركه الليل فبات في ناحية المسجد ، فلما أعتم مر به علي فقال:
ـ ممن الرجل ؟
قال :
ـ رجل من غفار.
قال:
ـ قم الى منزلك ، قال فانطلق به الى منزله ولم يسأل واحد منهما صاحبه عن شيء ، وغدا أبو ذر يطلب فلم يلقه وكره أن يسأل أحدا عنه فعاد فنام حتى أمسى فمر بي علي فقال:
ـ أما آن للرجل أن يعرف منزله..!
فانطلق به فبات حتى أصبح لا يسأل واحد منهما صاحبه عن شيء فأصبح اليوم الثالث فأخذ على علي لئن أفشي إليه الذي يريد ليكتمن عليه وليسترنه ففعل فأخبره أنه بلغه خروج هذا الرجل يزعم أنه نبي فأرسلت أخي ليأتيني بخبره وبما سمع منه فلم يأتني بما يشفيني من حديثه فجئت بنفسي لألقاه.
قال علي :
ـ إني غاد فاتبع أثري فإني إن رأيت ما أخاف عليك اعتللت بالقيام كأني أهريق الماء فآتيك، وإن لم أر أحدا فاتبع أثري حتى تدخل حيث أدخل ، ففعل حتى دخل على أثر علي على النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر وسمع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم من ساعته، ورجع إلى بلاد قومه، فأقام بها حتى هاجر النبي صلى الله عليه وسلم فأتاه بالمدينة، بعدما ذهبت بدر وأحد والخندق، وصحبه إلى أن مات.)
مناقبه:
1ـ كان قبل الإسلام ينفرد وحده قيقطع الطريق ويغير على الصرم (والصِّرْمَة: المجموعة من الإبل، ما بين العشرين إلى الخمسين) كأنه السبع ، وبعد إسلامه قال له النبي. صلى الله عليه وسلم:
ـ "ارجع إلى قومك حتى يأتيك أمري .
فقال:
ـ والذي نفسي بيده لاصرخن بها بين ظهرانيهم.(1/31)
فخرج حتى أتى المسجد فنادى بأعلى صوته: أشهد ان لا اله إلا الله وان محمدا رسول الله . وثار القوم فضربون حتى أضجعوه ، وأتى العباس فأكب عليه ، وأنقذه منهم حين قال:
ـ ويلكم ألستم تعلمون أنه من غفار وإن طريق تجارتكم إلى الشام تمر عليهم . فكفوا عنه"
2ـ عرف الله والصلاة قبل لقائه بالرسول الكريم بثلاث سنوات ، فقد جاء في كتاب صفوة الصفوة:
" عن عبد الله بن صامت قال: قال أبو ذر:
ـ لقد صليت يابن أخي قبل ألقى رسول الله. صلى الله عليه وسلم بثلاث سنين.
فقلت: لمن?
قال:
ـ لله.
قلت :فأين تتوجه..؟
قال : حيث وجهني الله عز وجل ، وأصلي عشاء حتى إذا كان من آخر الليل ألقيت كأني خفاء(الثوبُ الذي يُتَغَطَّى به) حتى تعلوني الشمس."
وجاء في حلية الأولياء:
عن عبد الله بن الصامت، قال:
ـ قال لي أبو ذر رضي الله تعالى عنه: يا بن أخي صليت قبل الإسلام بأربع سنين.
قال له:
ـ من كنت تعبد?
قال: إله السماء.
قلت:
فأين كانت قبلتك?
قال:
ـ حيث وجهني الله عز وجل.
وذكر صاحب الحلية حديثا لأبي ذر يقول فيه:
ـ كنت رابع الإسلام، أسلم قبلي ثلاثة وأنا الرابع.
جاء في المنتظم للتاريخ:
كان يشهد أن لا إله إلا اللّه وكان يتعبد قبل الإسلام .
3ـ وكان ترتيبه في المسلمين الخامس أو السادس، وقيل كان رابع أربعة.
4ـ قاد موكبا إلى المدينة يضم قبيلتي غفار وأسلم، جاء بهما أبو ذر مسلمين جميعا رجالا ونساءا، شيوخا وشبابا، وأطفالا.
ورأى الرسول عليه الصلاة والسلام على وجوههم الطيبة فنظر الى قبيلة غفار وقال:
ـ "غفار غفر الله لها".
ثم الى قبيلة أسلم فقال:
ـ "وأسلم سالمها الله"
5ـ أول من حيى الرسول صلى الله عليه وسلم بتحية الإسلام يقول أبوذر في هذا الشأن:
ـ ولقينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه وقد دخلا المسجد، فوالله إِنِّي لأول الناس حيَّاه بتحية الإِسلام، فقلت:
ـ السلام عليك يا رسول الله.
فقال:(1/32)
ـ «وعليك السلام ورحمة الله، من أنت؟»
فقلت: رجل من بني غِفار.
فقال صاحبه: إئذن لي يا رسول الله في ضيافته الليلة، فانطلق بي إلى دار في أسفل مكة فقبض لي قَبَضات من زبيب.
6ـ كان دائم الفكر والتدبر إعمالا لأوامر الله في آياته، وقد سأل رجل من أهل البصرة أم ذر بعد موته عن عبادة أبي ذر قالت :
ـ كان نهاره أجمع في ناحية يتفكر.
قالوا عنه:
عن عبد الله بن عمر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
ـ " ما أقلت الغبراء ولا اظلت الخضراء من رجل اصدق من أبي ذر"
رواه الإمام أحمد.
وفي روايةأخرىعن مالك بن دينار أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
ـ " أيكم يلقاني على الحال التي أفارقه عليها "
فقال أبو ذر:
ـ أنا .
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم :
ـ صدقت.
ثم قال
ـ ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر من سره أن ينظر الى زهد عيسى بن مريم فلينظر الى أبي ذر."
وألقى الرسول يوما عليه هذا السؤال:
ـ " يا أبا ذر كيف أنت اذا أدركك أمراء يستأثرون بالفيء..؟
فأجاب قائلا:
ـ إذن والذي بعثك بالحق، لأضربن بسيفي.!!
فقال له الرسول عليه الصلاة والسلام:
ـ "أفلا أدلك على خير من ذلك..؟أصبر حتى تلقاني".
حين سئل علي رضي الله عنه عن أبي ذر قال:
ـ وعى علماً عجز الناس عنه، ثم أوكى (الوِكاءُ: الذي يشدُّ به رأس القِربة) عليه، فلم يخرج منه شيئاً.
وقال الإمام علي رضي الله عنه أيضا:
ـ لم يبق اليوم أحد لا يبالي في الله لومة لائم غير أبي ذر.
عن عبد الله بن خراش قال:
ـ رأيت أبا ذر في مظلة ( وفي رواية مظلة من شعر) وتحته امرأة سحماء
( سوداء)
عن مهران بن ميمون أنه قال:
ـ ما أراه ( يعني أباذر) كان ما في بيته يسوى درهمين..!
قال أبو الدرداء:
ـ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبتدىء أبا ذر إذا حضر ويتفقده إذا غاب.
من أقواله:(1/33)
ـ في المال ثلاثة شركاء ، القدر لا يستأمرك أن يذهب بخيرها أو شرها من هلاك أو موت ، والوارث ينتظر أن تضع رأسك ثم يستاقها وأنت ذميم ، وأنت الثالث فإن استطعت أن لا تكون أعجز الثلاثة فلا تكونن إن الله عز وجل يقول: "لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون" سورة ال عمران آية 92.
وعلى الرغم من رفعه لواء التقشف والجهر بالثورة على من يكنزون الذهب والفضة ويسكنون القصور، إلا أنه كان أبعد ما يكون عن إثارة الفتنة، وحين حاول البعض استخدامه في ذلك للخروج على الخليفة عثمان رضي الله عنه صرخ فيهم قائلا:
ـ والله لو أن عثمان صلبني على أطول خشبة، أو جبل، لسمعت، وأطعت، وصبرت واحتسبت، ورأيت ذلك خيرا لي ولوسيّرني ما بين الأفق إلى الأفق، لسمعت وأطعت، وصبرت واحتسبت، ورأيت ذلك خيرا لي، ولو ردّني الى منزلي، لسمعت وأطعت، وصبرت واحتسبت، ورأيت ذلك خيرا لي .
وعن سفيان الثوري قال قال أبو ذر الغفاري عند الكعبة:
ـ يا أيها الناس أنا جندب الغفاري هلموا إلى الاخ الناصح الشفيق.
فاكتنفه الناس.
فقال :
ـ أرأيتم لو أن أحدكم أراد سفرا أليس يتخذ من الزاد ما يصلحه ويبلغه ..؟
قالوا:
ـ بلى .
قال :
ـ فإن سفر طريق القيامة أبعد ما ترويدون فخذوا ما يصلحكم.
قالوا:
ـ ومايصلحنا..؟
قال :
ـ حجوا حجة لعظائم الأمور، و صوموا يوما شديدا حره لطول النشور ، وصلوا ركعتين في سواد الليل لوحشة القبور، كلمة خير تقولها أو كلمة شر تسكت عنها لوقوف يوم عظيم، تصدق بمالك لعلك تنجو من عسيرهها ،أجعل الدنيا مجلسين مجلسا في طلب الحلال ومجلسا في طلب الآخرة ،الثالث يضرك ولا ينفعك لا ترده ، أجعل المال درهمين درهما تنفقه على عيالك من حله ودرهما تقدمه لآخرتك الثالث يضرك ولا ينفعك لا ترده.
ثم نادى بأعلى صوت :
ـ هيا أيها الناس قد قتلكم حرص لا تدركونه أبدا.
كان رضي الله عنه يردد:
ـ قتلني حب يوم لا أدركه ..!
قيل :
ـ وما يوم لا تدركه .
قال .
ـ طول الأمل.(1/34)
ـ يكفي من الدعاء مع البر ما يكفي الطعام من الملح.
قال أبو ذر:
ـ إني لأقربكم مجلسا من رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم القيامة وذلك لأني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
ـ " إن اقربكم مني مجلسا يوم القيامة من خرج من الدنيا كهيئة ما تركته فيها "
وإنه والله ما منكم من أحد إلا وقد تشبث بشيء منها غيري.
جاءت ابنة أبي ذر وعليها صوف سفعاء ( سوداء) الخدين ومعها قفة لها ، فمكثت بين يديه وعنده أصحابه فقالت :
ـ يا أبتاه زعم الخازنون والزارعون أن افلسك هذه بهرجة (أي لاقيمةلها)..!
فقال :
ـ يا بنية ضعيها فإن أباك أصبح بحمد الله لا يملك من صفراء ولا بيضاء إلا أفلسه هذه.
ـ عن نافع الطاحي قال:
مررت بأبي ذر فقال لي ممن أنت..؟
قلت:
ـ من أهل العراق .
قال:
ـ أتعرف عبد الله بن عامر ..؟
قلت:
ـ نعم .
قال:
ـ فإنه كان يتقرأ معي ويلزمني ، ثم طلب الإمارة فإذا قدمت البصرة فتراءا له فإنه سيقول ألك حاجة ؟..فقل له أخلني، فقل له إني رسول أبي ذر إليك وهو يقرئك السلام ويقول لك: أنا ناكل من التمر ونشرب من الماء ونعيش كما تعيش.
فلما قدمت تراءيت له ، فقال :
ـ ألك حاجة ..؟
فقلت :
ـ أخلني أصلحك الله .
وقلت له:
ـ أنا رسول أبي ذر إليك ، فلما قلتها خشع لها قلبه ، وهو يقرأ عليك السلام ويقول لك إنا نأكل من التمر ونشرب من الماء ونعيش كما تعيش .
قال:
ـ فحلل إزاره ، ثم أدخل رأسه في جيبه و بكى حتى ملأ جيبه بالبكاء.
بعث حبيب بن مسلمة وهو أمير بالشام إلى أبي ذر بثلاث مائة دينار وقال :
ـ استعن بها على حاجتك.
فقال أبو ذر :
ـ أرجع بها إليه أوما وجد أحدا أغر بالله عز وجل منا ، مالنا إلا ظل نتوارى به ، وثلة (جماعة) من عنز تروح علينا ، ومولاة لنا تصدقت علينا بخدمتها ثم إني لأتخوف الفضل.
دخل رجل على أبي ذر فجعل يقلب بصره في بيته فقال :
ـ يا أبا ذر أين متاعكم ..؟
قال:
ـ لنا بيت نوجه إليه صالح متاعنا ..!
قال :(1/35)
ـ إنه لا بد لك من متاع ما دمت هاهنا ..!
قال:
ـ إن صاحب المنزل لا يدعنا فيه.
قال أبو ذر:
ـ والله لو تعلمون ما أعلم ما انبسطتم إلى نسائكم ، ولا تقاررتم( نمتم قريري الأعين) على فرشكم ، والله لوددت أن الله عز وجل خلقني يوم خلقني شجرة تعضد ويؤكل ثمرها.
ولطالما حذر أصحابه من اغراء الامارة ويقول عنها:
ـ إنها أمانة، وانها يوم القيامة خزي وندامة.. إلا من أخذها بحقها، وأدّى الذي عليه فيها.
لقيه أبو موسى الأشعري يوما، فلم يكد يراه حتى فتح له ذراعيه وهو يصيح من الفرح بلقائه:
ـ مرحبا أبا ذر.. مرحبا بأخي.
ولكن أبا ذر دفعه عنه وهو يقول:
ـ لست بأخيك، إنما كنت أخاك قبل أن تكون واليا وأميرا..!
كذلك لقيه أبو هريرة يوما واحتضنه مرحّبا، ولكن أبا ذر نحّاه عنه بيده وقال له:
ـ إليك عني.. ألست الذي وليت الإمارة، فتطاولت في البنيان، واتخذت لك ماشية وزرعا..؟!
عرضت عليه الإمارة بالعراق فقال:
ـ لا والله.. لن تميلوا عليّ بدنياكم أبدا.
ورآه صاحبه يوما يلبس جلبابا قديما فسأله:
ـ أليس لك ثوب غير هذا؟! ..لقد رأيت معك منذ أيام ثوبين جديدين..؟
فأجابه أبو ذر:
ـ يا بن أخي.. لقد أعطيتهما من هو أحوج إليهما مني.
قال له:
ـ والله إنك لمحتاج إليهما.
فأجاب أب ذر:
ـ اللهم اغفر.. إنك لمعظّم للدنيا، ألست ترى عليّ هذه البردة؟!.. ولي أخرى لصلاة الجمعة، ولي عنزة أحلبها، وأتان أركبها، فأي نعمة أفضل ما نحن فيه..؟؟
وجلس يوما يحدّث ويقول:
أوصاني خليلي بسبع..
أمرني بحب المساكين والدنو منهم..
وأمرني أن أنظر الى من هو دوني، ولاأنظر الى من هو فوقي..
وأمرني ألا أسأل أحد شيئا..
وأمرني أن أصل الرحم..
وأمرني أن أقول الحق وان كان مرّا..
وأمرني أن لا أخاف في الله لومة لائم..
وأمرني أن أكثر من: لا حول ولا قوة الا بالله
حين همس إليه البعض ليكف عن الفتوىعلا صوته قائلا:(1/36)
ـ والذي نفسي بيده، لو وضعتم السيف فوق عنقي، ثم ظننت أني منفذ كلمة سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن تحتزوا لأنفذتها..!!
جاء رجل أبا ذر يعرض عليه ، فأبى أبو ذر أن يأخذ وقال :
ـ لنا أحمرة نحتمل عليها وأعنز نحلبها ومحررة تخدمنا وفضل عباءة عن كسوتنا وإني لأخاف أن أحاسب بالفضل.
أخبر بعض معاصروه أنه رأى أبا ذر يحلب غنيمة له فيبدأ بجيرانه وأضيافه قبل نفسه ولقد رأيته ليلة حلب حتى ما بقي في ضروع غنمه شيء إلا مصره وقرب إليهم تمرا وهو يسير ثم تعذر إليهم وقال :
ـ لو كان عندنا ما هو أفضل من هذا لجئنا به.
قال : وما رأيته ذاق تلك الليلة شيئا .
عن عبد الله بن خراش الكعبي قال :
ـ وجدت أبا ذر في مظلة شعر بالربذة تحته امرأة سحماء فقلت:
ـ يا أبا ذر تزوج سحماء ( امرأة سوداء)..؟
قال:
ـ أتزوج من تضعني أحب إلي ممن ترفعني ما زال لي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، حتى ما ترك لي الحق صديقا.
عن أبي ذر أنه قال:
قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:
ـ " يا أبا ذر إني أراك ضعيفا وإني أحب لك ما أحب لنفسي لا تأمرن على اثنين ولا تولين مال يتيم"
وفي روايةأخرى:
عن الحارث بن يزيد الحضرمي أن أبا ذر سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم الإمارة فقال: "إنك ضعيف وإنها أمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها"
قال عبد الله بن عتبة بن مسعود :
ـ كسي أبوذر بردين فأتزر بأحدهما وارتدي بشملة وكسا أحدهما غلامه ثم خرج على القوم فقالوا:
ـ له لو كنت لبستها جميعا كان أجمل..!
قال:
ـ أجل ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
"أطعموهم مما تأكلون وألبسوهم مما تكسون"
قال أبو ذر :
ـ دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
«هل لك إلى البَيْعة ولك الجنة؟»
قلت:
ـ نعم، وبسطت يدي.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ وهو يشترط عليَّ ـ أن لا أسأل الناس شيئاً قلت: نعم. قال:
«(1/37)
ولا سوطك إِن سقط منك حتى تنزل فتأخذه».
وفي رواية: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
«ستة أيام ثم أعقل يا أبا ذر ما يقال لك بعد».
فلما كان اليوم السابع قال:
«أوصيك بتقوى الله في سرِّ أمرك وعلانيته، وإذا أسأت فأحسن، ولا تسألنَّ أحداً شيئاً وإن سقط سوطك، ولا تقبضنَّ أمانة».
أخرج الطبراني أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه استعمل بِشْر بن عاصم رضي الله عنه على صدقات هوازن، فتخلَّف بِشْر فلقيه عمر، فقال:
ـ ما خلفك؟ أما لنا سمع وطاعة؟
قال:
ـ بلى، ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
«من وُلِّي شيئاً من أمر المسلمين أُتيَ به يوم القيامة حتى يوقف على جسر جهنم، فإن كان محسناً نجا، وإن كان مسيئاً أنخرق به الجسر فهوى فيه سبعين خريفاً».
فخرج عمر رضي الله عنه كئيباً حزيناً؟ فقال: ما لي لا أكون كئيباً وحزيناً وقد سمعت بشْر بن عاصم يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
«من وُلّيَ شيئاً من أمر المسلمين أُتيَ به يوم القيامة حتى يوقف على جسر جهنم، فإن كان محسناً نجا، وإن كان مسيئاً إنخرق به الجسر فهوى فيه سبعين خريفاً؟»
فقال أبو ذر رضي الله عنه:
ـ أو ما سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم..؟
قال:لا.
قال:
ـ أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
" من وَلَّى أحداً من المسلمين أُتي به يوم القيامة حتى يوقف على جسر جهنم، فإن كان محسناً نجا، وإن كان مسيئاً إنخرق به الجسر فهوى فيه سبعين خريفاً، وهي سوداء مظلمة»
فأيُّ الحديثين أوجع لقلبك..؟
قال:
ـ كلاهما قد أوجع قلبي فمن يأخذها بما فيها؟
فقال أبو ذر رضي الله عنه:
ـ من سَلَتَ ( أفطس) الله أنفه، وألصق خدّه بالأرض؛ أما إنا لا نعلم إِلا خيراً، وعسى إن ولَّيتها من لا يعدل فيها أن لا تنجو من إِثمها.
أخرج ابن جرير عن أسماء بنت يزيد أنها قالت:(1/38)
ـ إنَّ أبا ذر الغفاري رضي الله عنه كان يخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا فرغ من خدمته أوى إلى المسجد، فكان هو بيته يضطجع فيه؛ فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة إِلى المسجد فوجد أبا ذر نائماً منجدلاً في المسجد، فركله رسول الله صلى الله عليه وسلم برجله حتى استوى قاعداً.
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«ألا أراك نائماً فيه؟»
فقال أبو ذر:
ـ أين أنام يا رسول الله؟ ..ما لي من بيت غيره.
فجلس إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
«فكيف أنت إذا أخرجوك منه؟»
فقال:
ـ إذاً ألحق بالشام فإن الشام أرض الهجرة، والمحشر، والأنبياء، فأكون رجلاً من أهلها. قال:
«فكيف أنت إذا أخرجوك من الشام؟»
قال:
ـ إذاً أرجع إليه، فيكون بيتي ومنزلي.
قال:
«فكيف أنت إذا أخرجوك منه ثانياً؟»
قال:
ـ آخذ سيفي فأقاتل حتى أموت.
فشكر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأثبته بيده فقال:
«أدلّك على ما هو خير من ذلك؟»
قال:
ـ بلى ، بأبي وأُمي يا رسول الله .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«تنقاد لهم حيث قادوك، وتنساق لهم حيث ساقوك؛ حتى تلقاني وأنت على ذلك».
وفي روايةاخرى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
ـ «فكيف تصنع إذا أخرجت منها؟»
قلت:
ـ آخذ سيفي فأضرب به من يخرجني.
فضرب بيده على منكبي ثم قال:
ـ «غَفْراً يا أبا ذر، تنقاد معهم حيث قادوك، وتنساق معهم حيث ساقوك ولو لعبد أسود». قال:
فلما أُنزلت الرَّبَذَة أُقيمت الصلاة فتقدم رجل أسود على بعض صدقاتها. فلما رآني أخذ ليرجع ويقدِّمني فقلت:
ـ كما أنت، بل أنقاد لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم .
عن أبي ذر رضي الله عنه قال:
ـ دخلت المسجد وإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس وحده، فجلست إليه، فقال:
" أبا ذر إن للمسجد تحية، وإن تحيته ركعتان فقم فاركعها ".
فقمت فركعتها ثم عدت فجلست إليه، فقلت: يارسول الله إنك أمرتني بالصلاة فما الصلاة? قال:(1/39)
ـ "خير موضوع استكثر أو استقل "
قلت:
ـ يارسول الله فأي الأعمال أفضل?
قال:
" إيمان بالله عز وجل، وجهاد في سبيله "
قلت:
ـ يا رسول الله فأي المؤمنين أكملهم إيماناً?
قال:
ـ " أحسنهم خلقاً "
قلت:
ـ يا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأي المؤمنين أسلم?
قال:
ـ " من سلم الناس من لسانه ويده ."
قلت:
ـ يا رسول الله فأي الهجرة أفضل?
قال:
ـ "من هجر السيئات " .
قلت:
ـ يارسول الله صلى الله عليه وسلم فأي الصلاة أفضل?
قال:
ـ " طول القنوت "
قلت:
ـ يارسول الله فما الصيام?
قال:
" فرض مجزي، وعند الله أضعاف كثيرة "
قلت:
ـ يا رسول الله فأي الجهاد أفضل?
قال:
ـ " من عقر جواده وأهريق دمه "
قلت:
ـ يارسول الله فأي الرقاب أفضل?
قال:
ـ " أغلاها ثمناً وأنفسها عند ربها "
قلت:
ـ يارسول الله فأي الصدقة أفضل?
قال:
ـ " جهد من مقل يسر إلى فقير "
قلت:
ـ يارسول الله فأي آية مما أنزل الله عز وجل عليك أعظم..؟
قال:
ـ "آية الكرسي "
ثم قال:
ـ " يا أبا ذر ما السموات السبع مع الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة، وفضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على الحلقة "
قلت:
ـ يارسول الله كم الأنبياء?
قال:
ـ " مائة ألف، وأربعة وعشرون ألفاً ."
قلت:
ـ يارسول الله كم الرسل?
قال :
ـ " ثلثمائة وثلاثة عشر جماً غفيراً "
قلت:
ـ كثير طيب. من كان أولهم?
قال:
ـ " آدم"
قلت:
ـ يارسول الله أنبي مرسل?
قال:
ـ " نعم، خلقه الله بيده، ونفخ فيه من روحه، ثم سواه قبلاً "
ثم قال:
ـ " يا أبا ذر أربعة سريانيون، آدم، وشيث، وخنوخ، وهو إدريس، وهم أول من خط بالقلم، ونوح. وأربعة من العرب، هود، وصالح، وشعيب، ونبيك يا أبا ذر "
قلت:
ـ يارسول الله كم كتاب أنزله الله تعالى?
قال:
ـ " مائة كتاب وأربعة كتب، أنزل على شيث خمسون صحيفة، وأنزل على خنوخ ثلاثون صحيفة وأنزل على إبراهيم عشر صحائف، وأنزل على موسى قبل التوراة عشر صحائف، وأنزل التوراة والإنجيل والزبور والفرقان "(1/40)
قلت: يارسول الله فما كانت صحف إبراهيم?
قال:
ـ " كانت أمثالاً كلها، أيها الملك المسلط المبتلى المغرور، فإني لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها إلى بعض، ولكن بعثتك لترد عني دعوة المظلوم فإني لا أردها ولو كانت من كافر، وكان فيها أمثال: على العاقل ما لم يكن مغلوباً على عقله أن تكون له ساعات ساعة يناجي فيها ربه عز وجل، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يفكر فيها في صنع الله عز وجل، وساعة يخلو فيها بحاجته من المطعم والمشرب، وعلى العاقل أن لا يكون ظاعناً إلا لثلاث، تزود لمعاد، أو مرمة لمعاش، أو لذة في غير محرم، وعلى العاقل أن يكون بصيراً بزمانه، مقبلاً على شأنه، حافظاً للسانه، ومن حسب كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه ".
قلت:
يارسول الله فما كان صحف موسى عليه السلام?
قال:
ـ " كانت عبراً كلها، عجبت لمن أيقن بالموت ثم هو يفرح، عجبت لمن أيقن بالنار وهو يضحك، عجبت لمن أيقن للقدر ثم هو ينصب، عجبت لمن رأى الدنيا، وتقلبها ثم اطمأن إليها، عجبت لمن أيقن بالحساب غداً، ثم لا يعمل ."
قلت، يارسول الله أوصني.
قال:
ـ " أوصيك بتقوى الله فإنه رأس الأمر كله "
قلت:
ـ يارسول الله زدني.
قال:
ـ " عليك بتلاوة القرآن فإنه نور لك في الأرض، وذكر لك في السماء ."
قلت:
ـ يارسول الله زدني.
قال:
ـ"إياك وكثرة الضحك فإنه يميت القلب، ويذهب بنور الوجه ."
قلت: يارسول الله زدني.
قال:
ـ" عليك بالصمت إلا من خير، فإنه مطردة للشيطان عنك، وعون لك على أمر دينك "
قلت:
يارسول الله زدني.
قال:
ـ" عليك بالجهاد فإنه رهبانية أمتي ."
قلت: يارسول الله زدني.
قال:
ـ "حب المساكين وجالسهم "
قلت:
ـ يارسول الله زدني.
قال:
ـ" انظر إلى من تحتك ولا تنظر إلى من فوقك فإنه أجدر أن لا تزدري نعمة الله عندك "
قلت:
ـ زدني يارسول الله .
قال:
ـ " صل قرابتك وإن قطعوك"
قلت:
يارسول الله زدني.
قال:
ـ" لا تخف في الله تعالى لومة لائم "
قلت:
يارسول الله زدني.(1/41)
قال:
ـ " قل الحق وإن كان مراً ."
قلت:
ـ يارسول الله زدني.
قال:
ـ" يردك عن الناس ما تعرف من نفسك، ولا تجد عليهم فيما تأتي، وكفى به غيباً أن تعرف من الناس ما تجهل من نفسك، أو تجد عليهم فيما تأتي "
ثم ضرب بيده على صدري، فقال:
ـ "يا أبا ذر لا عقل كالتدبير، ولا ورع كالكف، ولا حسب كحسن الخلق. "
قال أبو ذر رضي الله تعالى:
ـ من أراد الجنة فليصمد صمدها. (صَمْدَ الأَمْر: قَصَدَ قَصْدَه والمراد أن يعمل لها)
رأى رجل أبا ذر رضي الله تعالى عنه وهو يتبوأ مكاناً.
فقال له:
ـ ما تريد يا أبا ذر?
فقال:
ـ أطلب موضعاً أنام فيه نفسي هذه مطيتي إن لم أرفق بها لم تبلغني.
قال أبو ذر:
ـ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" يا أبا ذر إني لأعلم آية لو أخذ بها الناس لكفتهم: ( ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب" )
عن عبد الله بن خراش قال:
ـ رأيت أبا ذر رضي الله تعالى عنه بالربذة في ظلة له سوداء، وتحته امرأة له سحماء وهو جالس على قطعة جوالق( الخرج مايترك فيه العيش) فقيل له:
ـ إنك امرؤ ما يبقي لك ولد.
فقال:
ـ الحمد لله الذي يأخذهم من دار الفناء ويدخرهم في دار البقاء.
قالوا:
ـ يا أبا ذر لو اتخذت امرأة غير هذه.
قال: لأن أتزوج امرأة تضعني أحب إلي من امرأة ترفعني.
فقالوا له:
ـ لو اتخذت بساطاً ألين من هذا?
فقال:
ـ اللهم اغفر، خذ مما خولت ما بدالك.
قيل لأبي ذر:
ـ ألا تتخذ ضيعة كما اتخذ فلان وفلان?
قال:
ـ وما أصنع بأن أكون أميراً، وإنما يكفيني كل يوم شربة ماء، أو لبن، وفي الجمعة قفيز(مكيال) من قمح.
عن عبد الله بن الصامت بن أخي أبي ذر رضي الله عنهما قال:
ـ دخلت مع عمي على عثمان رضي الله عنه، فقال لعثمان:
ـ إئذن لي في الرَّبَذَة.
فقال:
ـ نعم ونأمر لك بنَعم من نَعَم الصدقة تغدو عليك وتروح.
قال:
ـ لا حاجة لي في ذلك. تكفي أبا ذر صِرْمتُه.
ثم قام فقال:
ـ أعزموا دنياكم، ودعونا وربَّنا وديننا.(1/42)
وكانوا يقتسمون مال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه.
وأخرج أبو نعيم في الحلية: بعث حبيب بن مسلمة وهو أمير الشام إلى أبي ذر بثلاث مائة دينار وقال:
ـ إستعن بها على حاجتك.
فقال أبو ذر رضي الله عنه:
ـ ارجع بها إليها، أما وجد أحداً أغرَّ بالله منا؟ ما لنا إلا ظل نتوارى به، وثَلّة من غنم تروح علينا، ومولاة لنا تصدّقت .
عن أبي ذر، قال:
ـ كان قوتي على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعاً، فلا أزيد عليه حتى ألقى الله عز وجل.
قال أبو ذر: بينا أنا واقف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي:
ـ "يا أبا ذر أنت رجل صالح وسيصيبك بلاء بعدي "
قلت: في الله?
قال:
ـ "في الله "
قلت:
ـ مرحباً بأمر الله.
قال أبو ذر رضي الله عنه:
ـ إن بني أمية تهددني بالفقر والقتل، ولبطن الأرض أحب إلي من ظهرها، وللفقر أحب إلي من الغني. فقال له رجل:
ـ يا أبا ذر، مالك إذا جلست إلى قوم قاموا وتركوك?
قال: إني أنهاهم عن الكنوز.
عن عبيد الله بن زحر أن أبا ذر رضي الله تعالى عنه، قال:
ـ يولدون للموت، ويعمرون للخراب، ويحرصون على ما يفني، ويتركون ما يبقي، ألا حبذا المكروهان الموت والفقر.
عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه، قال:
قال أبو ذر: ذو الدرهمين أشد حساباً من ذي الدرهم.
وأخرج الطبراني عن محمد بن سيرين قال:
ـ بلغ الحارث ـ رجل كان بالشام من قريش ـ أن أبا ذر رضي الله عنه كان به عَوَز، فبعث إليه بثلاث مائة دينار.
قال أبو ذر: ما وجد عبداً لله هو أهون عليه مني؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من سأل وله أربعون فقد ألحف"، ولأبي ذر أربعون درهماً، وأربعون شاة، وماهِنان يعني خادمين.
وأخرج أبو نُعيم في الحلية عن ثابت أنَّ أبا ذر مرَّ بأبي الدرداء ـ رضي الله عنهما ـوهو يبني بيتاً له، فقال:
ـ لقد حملت الصخر على عواتق الرجال.
فقال:
ـ إنما هو بيت أبنيه.
فقال له أبو ذر: مثلَ ذلك.(1/43)
فقال: يا أخي لعلك وَجَدت عليَّ في نفسك من ذلك؟
قال: لو مررت بك وأنت في غَذِرَة (الغَذِيرة: دقيق يُحْلب عليه لبن ثم يُحْمى بالرَّضْف، والرضف الحجارةالمشتعلة بالشمس أو النار )أهلك كان أحب إليَّ مما رأيتك فيه.
بنى أبو الدرداء مسكناً فمر عليه أبو ذر فقال:
ـ ما هذا ؟..تعمر داراً أمر الله بخرابها!؟.
وعند أبي داود عن أبي ذر رضي الله عنه قال:
ـ يا رسول الله، الرجل يحب القوم ولا يستطيع أن يعمل بعملهم؟
قال:
ـ«أنت يا أبا ذرَ مع من أحببت"
قال: فإني أحب الله ورسوله.
قال: «فإنك مع من أحببت»
وعن أبي ذر رضي الله عنه قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وعليه ثوب أبيض وهو نائم ثم أتيته وقد استيقظ فقال:
ـ " ما من عبد قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة ."
قلت وإن زنى وإن سرق..؟
قال:
ـ وإن زنى وإن سرق .
قلت :وإن زنى وإن سرق ..؟
قال :وإن زنى وإن سرق
قلت :
ـ وإن زنى وإن سرق..؟
قال: وإن زنى وإن سرق، رغم أنف أبي ذر.
عن أبي ذر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن جبريل عليه السلام، عن الله تبارك وتعالى أنه قال:(1/44)
ـ "يا عبادي، إني قد حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً، فلا تظالموا، يا عبادي، إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا الذي أغفر الذنوب ولا أبالي؛ فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي، كلكم جائع إلا من أطعمته؛ فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي، كلكم عار إلا من كسوته؛ فاستكسوني أكسكم، يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل منكم لم ينقص ذلك من ملكي شيئاً، يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وحنكم كانوا على أتقى قلب رجل منكم لم يزد في ملكي شيئاً، يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا في صعيد واحد، فسألوني، فأعطيت كل إنسان ما سأل، لم ينقص ذلك من ملكي شيئاً؛ إلا كما ينقص البحر أن يغمس فيه المخيط غمسة واحدة، يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحفظها عليكم، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه".
عن أبي ذر قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
ـ" إني أرى ما لا ترون وأسمع ما لا تسمعون أطت السماء ( صدر منها صوت) وحق لها أن تئط والذي نفسي بيده ما فيها موضع أربعة أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجد لله والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا وما تلذذتم بالنساء على الفرشات ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله "
ـ قال أبو ذر يا ليتني كنت شجرة تعضد .
قال أبوذر أوصاني النبي صلى الله عليه وسلم بخمس:
ـ "أرحم المساكين وأجالسهم وأنظر إلى من تحتي ولا أنظر إلى من فوقي وأن أصل الرحم وإن أدبرت وأن أقول الحق وإن كان مرا وأن أقول لا حول ولا قوة إلا بالله."
كان مالك ببن عبد الله الزيادي يحدث عن أبي ذر أنه دخل على عثمان، فقال عثمان:
ـ يا كعب إن عبد الرحمن توفي وترك مالاً فما ترى؟
قال:
ـ إن كان -يعني زكى- فلا بأس.
فرفع أبو ذر عصاه فضرب كعباً وقال
ـ سمعت رسول صلى الله عليه وسلم يقول:
ـ "ما أحب أن لي هذا الجبل ذهباً أنفقه ويتقبل مني أذر خلفي منه ست أواق"(1/45)
أنشدك الله يا عثمان أسمعته مراراً؟
قال: نعم.
وعن عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
ـ "من قدم ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث كانوا له حصنا حصينا من النار "
فقال أبو ذر:
ـ قدمت اثنين .
قال:
ـ واثنين .
قال أبي بن كعب :
ـ قدمت واحد .
قال :
ـ وواحد .
خروج أبي ذر إلى الربذة
قالت أم ذر:
ـ والله ما سير عثمان أبا ذر -تعني إلى الربذة- ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له:
ـ "إذا بلغ البناء سلعاً فاخرج منها".
كان أبو ذر يرى أنّ المسلم لا ينبغي له أنْ يكون في ملكه أكثر من قوت يومه وليلته أو شيءٌ ينفقه في سبيل الله أو يعده لكريم ويأخذ بظاهر القرآن ( الذِيْنَ يَكْنِزُونَ الذَهَبَ والفِضّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيْلِ الله فَبَشَرهم بِعَذَابٍ ألِيم ) [التوبة : 34 ] فكان يقوم بالشام ويقول :
ـ يا معشر الأغنياء واسوا الفقراء ، بشًر الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله بمكاوٍ من نار تكوي بها جباهُهُم وجُنُوبهم وظهورهم .
فما زال حتى وَلعَ الفقراء بمثل ذلك وأوجبوه على الأغنياء، وشكا الأغنياء ما يلقون منهم ، فأرسل معاوية إليه بألف دينار في جَنََح الليل فأنفقها ، فلما صلى معاوية الصبح دعا رسوله الذي أرسله إليه فقال :
ـ اذهب إلى أبي ذر فقل له : " انقِذْ جسدي من عذاب معاوية فإنه أرسلني إلى غيرك ، وإنّي أخطأتُ بك "
ففعل ذلك فقال له أبو ذر :
ـ يا بني قُلْ له : والله ما أصبح عندنا من دنانيرك دينار، ولكن أخرنَا ثلاثة أيام حتي نجمَعَهَا .
روى البخاري من حديث زيد بن وهب قال:
مررت بالربذة فقلت لأبي ذر:
ـ ما أنزلك هنا ..؟
قال :(1/46)
ـ كنت بالشام فاختلفت أنا ومعأوية في هذه الآية (الذين يكنزون الذهب والفضة) سورة التوبة آية 34 فقال :نزلت في أهل الكتاب ، فقلت فينا وفيهم ، فكتب يشكوني إلى عثمان فكتب عثمان اقدم المدينة فقدمت ، فكثر الناس علي كأنهم لم يروني قبل ذلك، فذكر ذلك لعثمان فقال :
ـ إن شئت تنحيت فكنت قريبا ، فذلك الذي نزلني هذا المنزل.
وروى ابن سيرين قال قدم أبو ذر المدينة فقال له عثمان:
ـ كن عندي تغدو عليك وتروح اللقاح ( اللقاح: ذوات اللبن من النوق،والمعنىيعمك كثير من الخير)
قال:
ـ لا حاجة لي في دنياكم، ثم قال ائذن لي حتى أخرج إلى الربذة.
فاذن له فخرج.
جاء في تاريخ ابن خلدون:
" ونزل الربذة وبنى بها مسجدا، واقطعه عثمان صرمة من الإبل وأعطاه مملوكين وأجرى عليه رزقا، وكان يتعاهد المدينة."
وفاته:
ذكر محمد بن اسحق في المغازي أن أبا ذر مات بالربذة سنة اثنتين وثلاثين وصلى عليه ابن مسعود بعد إنصرافه من الكوفة.
ذكر الأستاذ خالد محمد خالد في كتابه رجال حول الرسول:
كان مشهد وفاته مهيبا وأحد دلائل نبوة المصطفى صلوات الله وسلامه عليه فأبو ذر في النزع الأخير، وزوجته جلست بجواره تبكي.
سألها: فيم البكاء والموت حق..؟
فأجابته: " لأنك تموت، وليس عندي ثوب يسعك كفنا"..!!
طمأنها واثقا:
" لا تبكي، فاني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم وأنا عنده في نفر من أصحابه يقول:
ـ " ليموتنّ رجل منكم بفلاة من الأرض، تشهده عصابة من المؤمنين" ،وكل من كان معي في ذلك المجلس مات في جماعة وقرية، ولم يبق منهم غيري .. وهأنذا بالفلاة أموت، فراقبي الطريق،، فستطلع علينا عصابة من المؤمنين، فاني والله ما كذبت ولا كذبت".
وجاءت قافلة على البعد ، تضم جماعة من المؤمنين، وعلى رأسهم عبدالله بن مسعود صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما أن وقعت عيناه على وجه صاحبه أبي ذر حتى فاضت عيناه بالدمع، ووقف على جثمانه الطاهر يقول:(1/47)
" صدق رسول الله.. نمشي وحدك، وتموت وحدك، وتبعث وحدك".!
ويفسر ابن مسعود رضي الله عنه لصحبه تلك العبارة التي نعاه بها:" تمشي وحدك.. وتموت حدك.. وتبعث وحدك"...فيقول:
( كان ذلك في غزوة تبوك.. سنة تسع من الهجرة، وقد أمر الرسول عليه السلام بالتهيؤ لملاقاة الروم، الذين شرعوا يكيدون للاسلام ويأتمرون به.
وكانت الأيام التي دعى فيها الناس للجهاد أيام عسر وقيظ..
وكانت الشقة بعيدة.. والعدو مخيفا..
ولقد تقاعس عن الخروج نفر من المسلمين، تعللوا بشتى المعاذير..
وخرج الرسول وصحبه.. وكلما أمعنوا في السير ازدادوا جهدا ومشقة، فجعل الرجل يتخلف، ويقولون يا رسول الله تخلف فلان، فيقول:
ـ" دعوه ،فإن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم..وإن يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه"
وتلفت القوم ذات مرة، فلم يجدوا أبا ذر.. وقالوا للرسول عليه الصلاة والسلام:
لقد تخلف أبو ذر، وأبطأ به بعيره..
وأعاد الرسول مقالته الأولى..
كان بعير أبي ذر قد ضعف تحت وطأة الجوع والظمأ والحر وتعثرت من الإعياء خطاه..
وحاول أبو ذر أن يدفعه للسير الحثيث بكل حيلة وجهد.
ورأى أبو ذر أنه بهذا سيتخلف عن المسلمين وينقطع دونهم الأثر، فنزل من فوق ظهر البعير، وأخذ متاعه وحمله على ظهره ومضى ماشيا على قدميه، مهرولا، وسط صحراء ملتهبة، كما يدرك رسوله عليه السلام وصحبه..
وفي الغداة، وقد وضع المسلمون رحالهم ليستريحوا، بصر أحدهم فرأى سحابة من النقع والغبار تخفي وراءها شبح رجل يغذ السير..
وقال الذي رأى: يا رسول الله، هذا رجل يمشي على الطريق وحده..
وقال الرسول عليه الصلاة والسلام:
ـ كن أبا ذر.
وأخذ المسافر الجليل يقترب منهم رويدا.. وحمله فوق ظهره بتؤدة.. ولكنه مغتبط فرحان لأنه أدرك القافلة المباركة، ولم يتخلف عن رسول الله وإخوانه المجاهدين..
وحين بلغ أول القافلة، صاح أحدهم: يار سول الله: إنه والله أبا ذر.
وسار أبو ذر صوب الرسول.(1/48)
ولم يكد صلى الله عليه وسلم يراه حتى تألقت على وجهه ابتسامة حانية وآسية، وقال:
ـ "يرحم الله أبا ذر..يمشي وحده..ويموت وحده..ويبعث وحده.."
تعريف
حمل حضارة فارس ورحل، وألقى بنيران المجوس على أعتاب الكنيسة، وفي المدينة بدأ رحلته مع النبي الذي اصطفاه...
رحلة بحث عن الحقيقة خاضها تصلح كي تكون سبيلا لهداية الملايين من خارج ملة الإسلام...
كان خادما للنار ووفيا لها، بيد أن عقله النقي كان يفكر ويحاول أن يفسر، وحين استمع إلى بعض النصارى أيقن أن المسيحية أصدق من دينه فأحبها ...
كان الأرض مازالت تضم من آمنوا بالمسيحية الحقة، ووعوا ماجاء بالكتاب المقدس عن نبي آخر الزمان...
حمل وصية الكهنة وتنقل بينهم...
مدينة النخل، ونبي يأكل الهدية، ولا يأكل الصدقة، وخاتم النبوة بين كتفيه...
صفات حفرت في عقله وقلبه، دفع حريته ثمنا لرؤيتها على أرض الواقع، بعد أن خدعه اليهود وأخذوا دوابه واقتادوه عبدا بعد أن نكثوا عهودهم معه...
اهتزت النخلة من تحته حين سمع أول الأخبار عن النبي العظيم ، وفي المساء كان بحضرته، وكانت فرحته عارمة حين وقف على أعتاب الإسلام...
أعانه الحبيب المصطفى حتى خلع طوق الرق عن عنقه وحرره، وفي غزوة الخندق كان له الباع الطويل ، والدور الذي لا ينسى حين أشار بحفر الخندق لصد أعداء الإسلام المتحزبين...
عون السماء جاء ليزيد من عز الإسلام ، ويرفع رايته، وينكس راية الكفر والمشركين ...
وفي رحاب الإيمان عاش زاهدا في الدنيا ، وكيف لا وقد وعى مقولة الحبيب المصطفى له وكان دائما يردد:
ـ أوصاني خليلي أن لا يكون متاعي من الدنيا إلا كزادِ الراكب.
ولذا يوم زواجه رفض خدما قدمت له ولزوجه، ورفض أن يزين بيته فنزع أستاره إلا سترا واحدا يواريه ، وحين أشار عليه صحابته ذات يوم أن يبني بيتا بدلا من الجري وراء الظل كي يستظل به و يتوارى خلفه ، لم يوافق على هذه الفكرة إلا بعد أن حدد له بانيه مقاييس بيته:(1/49)
ـ أبنيه إن قمت فيه أصاب رأسك وإن اضطجعت فيه أصاب رجلك...
كان مدرسة في الزهد يقتدى بها ، وإلا فمن يصدق أنه وأثناء توليه الإمارة كانت عيشته كفافا، بعد أن اعتاد على التصدق براتبه للفقراء والمحتاجين، ولذا فقد كان يقول:
ـ " أشتري خوصا بدرهم فأعمله فأبيعه بثلاثة دراهم فأعيد درهما فيه ، وأنفق درهما على عيالي ، وأتصدق بدرهم ولو أن عمر بن الخطاب نهاني عنه ما انتهيت"
وبقدر زهده كان علمه:
قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم:
ـ " لو كان الدين عند الثريا لناله سلمان " .
وقال عنه الإمام علي:
ـ أوتي العلم الأول والعلم الأخر لا يدرك ما عنده.
ـ ذاك امرؤ منا والينا أهل البيت من لكم بمثل لقمان الحكيم علم العلم الأول والعلم الأخر وقرأ الكتاب الأول وقرأ الكتاب الأخر وكان بحرا لا ينزف.
وقال عنه كعب الأحبار: سلمان حشي علماً وحكمة .
وكانت وصيته لصاحبه بليغة :
ـ يا سعد اذكر الله عند همك إذا هممت ، وعند حكمك إذا حكمت ، وعند يدك إذا قسمت.
وكانت حكمته بحرا عميقا ، ومن أقواله:
ـ العلم كثير والعمر قصير فخذ من العلم ما تحتاج إليه في أمر دينك ودع ما سواه فلا تعانه.
ـ ثلاث أعجبتني حتى أضحكتني ، مؤمل دنيا والموت يطلبه، وغافل وليس بمغفول عنه، وضاحك ملء فيه لا يدري أساخط رب العالمين عليه أم راض عنه ، وثلاث أحزنني حتى أبكينني، فراق محمد وحزبه ،وهول المطلع ،والوقوف بين يدي ربي عز وجل ولا أدري جنة أو إلى نار.
أخي القارئ ، أنت على موعد الآن مع من قال النبي العظيم محمد في حقه:
ـ "سلمان سابق فارس."
ـ " سلمان منا أهل البيت"
ـ " لقد أشبع سلمان علما."
ومع من دعا له حين عاده فقال:
«يا سلمان، كشف الله ضرَّك، وغفر ذنبك، وعافاك في دينك وجسدك إلى أجلك»
أنت الآن على موعد مع رجل أيقن من زيارة ملائكة الرحمة له حين كان يحتضر، فكان مشهد موته مصداقا لرحلة الحق واليقين التي عاشها...
عن الشعبي قال:(1/50)
ـ لما حضرت سلمان الوفاة قال لامرأته:
"هلمي خبيك الذي استخبأتك"
قالت فجئته بصرة مسك كان قد أصابها يوم فتح "جلولاء" فاحتفظ بها لتكون عطره يوم مماته.
فقال :
ـ ائتيني بقدح فيه ماء فنثر المسك فيه ثم مائه بيده، ثم قال:
" انضحيه حولي فإنه يحضرني خلق من خلق الله يجدون الريح ولا يأكلون الطعام ثم اجفئي(أغلقي) علي الباب وانزلي "
قالت:
ـ ففعلت وجلست هنيهة فسمعت هسهسة، ثم صعدت فإذا هو قد مات.
نحن الآن عزيزي القارئ في حضرة الصحابي الجليل سلمان الفارسي ، نفعنا الله بسيرته، ومنحنا قبسا من حكمته ، وجمعنا به في الجنة إن كنا أهلا لصحبته...
سلمان الفارسي
نسبه:
الاسم :سلمان الفارسي
وحين سئل عن نسبه قال:
ـ أنا سلمان بن الإسلام من بني آدم .
الكنية: أبو عبد الله ، ويعرف بسلمان الخير،
البلد: من رام هرمز ، وقيل من قرية جي في أصبهان.
إسلامه:
وفي بحثه عن الحقيقة مر بعدة محطات وعرف نفسه فقال:
1ـ المحطة الأولى:المجوسية
كان أبي دهقان ( تاجر)أرضه وكنت من أحب عباد الله اليه فما زال في حبه أياي حتى حبسني في البيت كما تحبس الجارية ، فاجتهدت في المجوسية حتى كنت قاطن النار التي نوقدها لا نتركها تخبو، وكانت لأبي ضيعة في بعض عمله وكان يعالج بنيانا له في داره فدعاني فقال أي بني إنه قد شغلني بنياني كما ترى فانطلق إلى ضيعتي .
مررت بكنيسة للنصارى فسمعت صلاتهم فيها فدخلت عليهم أنظر ما يصنعون فلم أزل عندهم وأعجبني ما رأيت من صلاتهم ، وقلت في نفسي هذا خير من ديننا الذي نحن عليه، وغابت الشمس وما ذهبت الى ضيعة أبي ولا رجعت اليه حتى بعث الطلب في أثري وقد قلت للنصارى حين أعجبني ما رأيت من أمرهم وصلاتهم أين أصل هذا الدين قالوا بالشام .
ثم فرجعت الى أبي وقلت له إني مررت على ناس يصلون في كنيسة ،ورأيت أن دينهم خير من ديننا .
فقال: لي أي بني دينك ودين آبائك خير من دينهم، وخافني فجعل في رجلي حديدا وحبسني.(1/51)
2ـ المحطة الثانية:النصرانية
وأرسلت الى النصارى أخبرهم أني قد رضيت أمرهم ،وقلت لهم إذا قدم عليكم ركب من الشام فآذنوني ، وبالفعل أرسلوا الى فرميت بالحديد من رجلي وانطلقت معهم ، وسألت عن عالمهم ، فأخبرته خبري وقلت أني أحب أن أكون معك أخدمك وأصلي معك وأتعلم منك فإني قد رغبت في دينك ، فكنت معه وكان رجل سوء في دينه وكان يأمرهم بالصدقة ويرغبهم فيها فإذا جمعوا اليه الأموال اكتنزها لنفسه، فلما مات واجتمعوا ليدفنوه، قلت لهم إن صاحبكم هذا كان رجل سوء وأخبرتهم ما كان يصنع في صدقتهم وأخرجت لهم القلال ،فلما رأوها صلبوه على خشبة ورجموه بالحجارة وجاؤوا بآخر فجعلوه مكانه.
فما رأيت رجلا لا يصلي الخمس كان خيرا منه أعظم رغبة في الآخرة ولا أزهد في الدنيا ولا أدأب ليلا ولا نهارا منه، وأحببته فلما حضره قدره قلت له :إنه قد حضرك من أمر الله ما ترى فماذا تأمرني والى من توصي بي.؟
قال:
ـ أي بني ما أرى أحدا من الناس على مثل ما أنا عليه الا رجلا بالموصل . فلما توفي أتيت صاحب الموصل ، ثم حضرته الوفاة فقلت :
ـ إنه قد حضرك من أمر الله ما ترى فإلى من توصي بي؟
قال :
ـ أي بني والله ما أعلم أحدا على أمرنا الا رجلا بنصيبين وهو فلان فالحق به .
وكان على مثل ما كان عليه صاحباه ، فأخبرته خبري فأقمت معه ما شاء الله أن أقيم فلما حضرته الوفاة قلت له :
ـ فإلى من توصي بي .
قال:
ـ أي بني والله ما أعلم أحدا من الناس على ما نحن عليه الا رجلا بعمورية من أرض الروم فإن استطعت أن تلحق به فالحق .
فلما توفي لحقت بصاحب عمورية فأخبرته خبري وخبر من أوصى بي حتى انتهيت إليه فقال :
ـ أقم فأقمت عنده فوجدته على مثل ما كان عليه أصحابه فمكثت عنده ما شاء الله أن أمكث و اتخذت بقرات وغنيمة ثم حضرته الوفاة فقلت له:
ـ إلى من توصي بي ؟
فقال لي :(1/52)
ـ أي بني والله ما أعلم أنه أصبح في الأرض أحد على مثل ما كنا عليه آمرك أن تأتيه ولكنه قد أظلك زمان نبي يبعث بدين إبراهيم الحنفية يخرج من أرض مهاجره ،وقراره ذات نخل بين حرتين ،فإن استطعت أن تخلص اليه فاخلص وإن به آيات لا تخفى إنه لا يأكل الصدقة وهو يأكل الهدية وإن بين كتفيه خاتم النبوة إذا رأيته عرفته .
ومات فمر بي ركب من كلب فسألتهم عن بلادهم فأخبروني عنها فقلت:
ـ أعطيكم بقراتي هذه وغنمي على أن تحملوني حتى تقدموا بي أرضكم .
قالوا :
ـ نعم .
فاحتملوني حتى قدموا بي وادي القرى فظلموني فباعوني عبدا من رجل من يهود فرأيت بها النخل وطمعت أن تكون البلدة التي وصفت لي وما حقت لي ولكني قد طمعت حين رأيت النخل، فأقمت عنده حتى قدم رجل من يهود بني قريظة فابتاعني منه، ثم خرج بي حتى قدمت المدينة فوالله ما هو الا أن رأيتها فعرفتها بصفة صاحبي، وأيقنت أنها هى البلدة التي وصفت لي فأقمت عنده أعمل له في نخله في بني قريظة .
3ـ المحطة الثالثة:الإسلام
كنت لفي رأس نخلة، وصاحبي جالس تحتي، وأقبل رجل من يهود من بني عمه فحدثه عن رجل بقباء قدم من مكة يزعمون أنه نبي ، فرجفت النخلة ( اضطربت وارتعشت) ثم نزلت سريعا أقول:
ـ ماذا تقول ما هذا الخبر ؟
فرفع سيدي يده فلكمني لكمة شديدة ثم قال :
ـ ما لك ولهذا أقبل على عملك .
فلما أمسيت جمعت ما كان عندي ثم خرجت حتى جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بقباء فدخلت عليه ومعه نفر من أصحابه فقلت :
ـ إنه بلغني أنك ليس بيدك شيء وأن معك أصحابا لك وأنكم أهل حاجة وغربة وقد كان عندي شيء وضعته للصدقة فلما ذكر لي مكانكم رأيتكم أحق الناس به فجئتكم به ثم وضعته له.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
ـ " كلوا ."
وأمسك هو فقلت في نفسي هذه والله واحدة.
ثم رجعت وتحول رسول الله صلى الله عليه وسلم الى المدينة وجمعت شيئا فسلمت عليه وقلت له:(1/53)
ـ إني قد رأيتك لا تأكل الصدقة وقد كان عندي شيء أحب أن أكرمك به من هدية أهديتها كرامة لك ليست بصدقة فأكل وأكل أصحابه ، قلت في نفسي هذه أخرى.
ثم مكثت ما شاء الله ثم أتيته فوجدته في بقيع الغرقد قد تبع جنازة وحوله أصحابه وعليه شملتان مؤتزرا بواحدة مرتديا بالأخرى ، فسلمت عليه ثم عدلت لأنظر في ظهره، فعرف أني أريد ذلك وأستثبته فأخذ بردائه فألقاه عن ظهره ،فنظرت الى خاتم النبوة كما وصف لي صاحبي ، فأكببت عليه أقبل الخاتم من ظهره وأبكي وجلست بين يديه وحدثته حديثي فأعجبه ذلك فأحب أن يسمعه أصحابه ثم أسلمت.
4ـ المحطة الرابعة: التحرر من الرق
شغلني الرق حتى فاتني بدر وأحد ، ثم قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:
ـ كاتب
فلم أزل بصاحبي حتى كاتبني على أن أحيي له بثلاثمائة نخلة وأربعين أوقية من ورق.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
ـ "أعينوا أخاكم بالنخل ."
فأعانني كل رجل بقدره ، ثم قال:
ـ "يا سلمان اذهب ففقر لها فإذا أنت أردت أن تضعها فلا تضعها حتى تأتيني فتؤذنني فأكون أنا الذي أضعها بيدي."
فأعانني أصحابي حتى فقرنا ثلاثمائة شربة ثم جاء رسول الله فجعل يضعها بيده حتى فرغ منها جميعا .
وبقيت الدراهم ، فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم في أصحابه إذ أتاه رجل من أصحابه بمثل البيضة من ذهب أصابها من بعض المعادن فتصدق بها إليه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
ـ "ما فعل الفارسي المسكين المكاتب ادعوه لي."
فجئت فقال :
ـ "اذهب بهذا فأدها عنك ."
ووفيت صاحبي الذي له ، وعتقت و وشهدت الخندق وبقية مشاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حرا مسلما.
شهد فتوح العراق وولي المدائن.
قال عنه صاحب الحلية:(1/54)
ومنهم سابق الفرس، ورائق العرس، الكادح الذي لايبرح، والزاخر الذي لا ينزح، الحكيم، والعابد العليم، أبو عبد الله سلمان بن الإسلام، رافع الألوية والأعلام، أحد الرفقاء والنجباء، ومن إليه تشتاق الجنة من الغرباء، ثبت على القلة والشدائد، لما نال من الصلة والزوائد.
في غزوة الأحزاب كان لسلمان دورا رائعا ، فقد وضعت خطة الحرب الغادرة على المسلمين على أن يهجم جيش قريش وغطفان على المدينةمن خارجها، بينما يهاجم بنو قريظة من الداخل، ومن وراء صفوف المسلمين، الذين سيقعون آنئذ بين شقّى رحى.
تقدّم سلمان الفارسي وألقى من فوق هضبة عالية، نظرة فاحصة على المدينة، فألفاها محصنة بالجبال والصخور المحيطة بها.. بيد أن هناك فجوة واسعة، ومهيأة، يستطيع الجيش أن يقتحم منها الحمى في يسر.
وكان سلمان قد خبر في بلاد فارس الكثير من وسائل الحرب وخدع القتال، فتقدم للرسول صلى الله عليه وسلم بمقترحه الذي لم تعهده العرب من قبل في حروبها.. وكان عبارة عن حفر خندق يغطي جميع المنطقة المكشوفة حول المدينة.
وأثناء الحفر خرجت صخرة بيضاء من بطن الخندق فكسرت الحديد ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
ـ "أرني معولك يا سلمان ."
فضرب ضربة صدعها وبرق منها برقة أضاء ما بين لابتيها فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبير فتح فكبرنا ، ثم ضرب الثانية فبرق منها برقة أضاء ما بين لابتيها حتى كأن مصباحا في جوف بيت مظلم فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبير فتح فكبرنا ، ثم ضرب الثالثة فكسرها وبرق منها برقة أضاء ما بين لابتيها فكبر تكبير فتح فكبرنا ،وحين تسائل الصحابة عما حدث ورأوا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(1/55)
ـ " ضربت ضربتي الأولى فبرق الذي رأيتم فأضاء لي منها قصور الحيرة ومدائن كسرى كأنها أنياب الكلاب وأخبرني جبرائيل أن أمتي ظاهرة عليها ، ثم ضربت ضربتي الثانية فبرق الذي رأيتم أضاء لي معها قصور الحمر من أرض الروم كأنها أنياب الكلاب وأخبرني جبرائيل أن أمتي ظاهرة عليها ، ثم ضربت الثالثة فبرق الذي رأيتم أضاء لي معها قصور صنعاء كأنها أنياب الكلاب وأخبرني جبرائيل أن أمتي ظاهرة عليها يبلغهم النصر فأبشروا" يرددها ثلاثا فابتشر المسلمون.
بعض مناقبه
قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم:
ـ "سلمان سابق فارس."
وقال أيضا:
ـ " سلمان منا أهل البيت"
وذلك حين احتج المهاجرون والأنصار في سلمان الفارسي أثناء حفر الخندق ،وكان رجلا قويا فقال المهاجرون :
ـ سلمان منا .
وقالت الأنصار :
ـ لا بل منا.
فقال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم قولته.
وحين نزل سلمان على أبي الدرداء ، وكان أبو الدرداء إذا أراد أن يصلي منعه سلمان وإذا أراد أن يصوم منعه.
فقال :أتمنعني أن أصوم لربي وأصلي لربي ..؟
فقال: إن لعينك عليك حقا وإن لأهلك عليك حقا فصم وأفطر وصل ونم.
فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :
ـ " لقد أشبع سلمان علما."
وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه أنه قال :
ـ " لو كان الدين عند الثريا لناله سلمان " .
عن ابن بريدة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :
ـ " أمرني ربي بحب أربعة وأخبرني أنه سبحانه يحبهم علي وأبو ذر والمقداد وسلمان "
وقال الإمام علي حين سئل عن سلمان:
ـ أوتي العلم الأول والعلم الأخر لا يدرك ما عنده.
وقال عنه في رواية أخرى:
ـ ذاك امرؤ منا والينا أهل البيت من لكم بمثل لقمان الحكيم علم العلم الأول والعلم الأخر وقرأ الكتاب الأول وقرأ الكتاب الأخر وكان بحرا لا ينزف.
قالت عائشة رضي الله عنها:
ـ كان لسلمان مجلس من رسول الله صلى الله عليه وسلم بالليل، حتى كان يغلبنا على رسول الله.(1/56)
وقال كعب الأحبار :
ـ سلمان حشي علماً وحكمة .
عن عائذ بن عمرو أن أبا سفيان أتى على سلمان وصهيب وبلال في نفر فقالوا ما أخذت سيوف الله من عنق عدو الله مأخذها فقال أبو بكر :
ـ أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدهم .
وأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال :
ـ يا أبا بكر لعلك أغضبتهم لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربك جل وعلا "
فأتاهم أبو بكر فقال :
ـ يا إخوتاه أغضبتكم ..؟
قالوا :
ـ لا يا أبا بكر يغفر الله لك .
أخرج أبو نعيم في الحلية عن أبي عبد الرحمن السُّلمي عن سلمان رضي الله عنه أنه تزوج امرأة من كِنْدة، فبنى بها في بيتها، فلما كان ليلة البناء مشى معه أصحابه حتى أتى بيت امرأته، فلما بلغ البيت قال:
ـ ارجعوا آجركم الله.
ولم يدخلهم عليها كما فعل السفهاء، فلما نظر إلى البيت والبيت منجَّد قال:
ـ أمحموم بيتكم، أم تحولت الكعبة في كندة؟
قالوا:
ـ ما بيتنا بمحموم، ولا تحولت الكعبة في كندة، فلم يدخل البيت حتى نُزع كل ستر البيت غير ستر الباب.
فلما دخل رأى متاعاً كثيراً فقال:
ـ لمن هذا المتاع؟ قالوا:
ـ متاعك ومتاع امرأتك،
قال:
ما بهذا أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم أوصاني خليلي أن لا يكون متاعي من الدنيا إلا كزادِ الراكب. ورأى خدماً فقال:
ـ لمن هذا الخدم؟
فقالوا:
ـ خدمك وخدم امرأتك.
فقال:
ـ ما بهذا أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم أن لا أمسك إلا ما أنكح أو أُنكْح، فإن فعلت فبغين كان عليَّ أوزارهن من غير أن ينتقص من أوزارهنَّ شيء، ثم قال للنسوة اللاتي عند امرأته: هل أنتن مخرجات عني مخلِّيات بيني وبين امرأتي؟
قلن: نعم.
فخرجن فذهب إلى الباب حتى أجافه، وأرخى الستر، ثم جاء حتى جلس عند امرأته فمسح بناصيتها ودعا بالبركة، فقال لها:
ـ هل أنت مطيعتي في شيء آمرك به؟
قالت:
ـ جلست مجلس من يُطاع.
قال:
ـ فإن خليلي صلى الله عليه وسلم أوصاني إذا اجتمعت إلى أهلي أن أجتمع على طاعة الله عز وجل.(1/57)
فقام وقامت إلى المسجد، فصلَّيا ما بدا لهما، ثم خرجا فقضى منها ما يقضي الرجل من امرأته، فلما أصبح غدا عليه أصحابه فقالوا:
ـ كيف وجدت أهلك؟
فأعرض عنهم، ثم أعادوا فأعرض عنهم، ثم أعادوا فأعرض عنهم، ثم قال:
ـ إنما جعل الله تعالى الستور والخدور والأبواب لتواري ما فيها. حسب امرىء منكم أن يسأل عما ظهر له، فأمَّا ما غاب عنه فلا يسألن عن ذلك. سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
ـ "المتحدِّث عن ذلك كالحمارين يتسافدان(امتطاء الذكر للأنثى) في الطريق."
عن يزيد بن عميرة السكسكي وكان تلميذا لمعاذ أن معاذا أمره أن يطلب العلم من أربعة أحدهم سلمان الفارسي.
لما قدم سلمان على عمر، قال عمر للناس :
ـ اخرجوا بنا نتلق سلمان.
عن الحسن قال :
ـ كان عطاء سلمان خمسة آلاف وكان على ثلاثين ألفا من الناس يخطب في عباءة يفترش نصفها ويلبس نصفها وكان إذا خرج عطاؤه أمضاه ويأكل من سفيف( ما ينسج من الخوص) يديه.
عن أنس بن مالك، قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
ـ"إن الجنة تشتاق إلى ثلاثة: علي وعمار وسلمان"
عن عبد الله بن بريدة قال:
ـ كان سلمان إذا أصاب الشيء اشترى به لحما ثم دعا المجذومين فأكلوا معه.
عن ثابت أن سلمان كان أميرا على المدائن وكان يخرج الى الناس في لباس متواضع فإذا رأوه قالوا:
ـ كرك آمذ كرك آمذ .
فيقول سلمان :
ـ ما يقولون..؟
قالوا
ـ يشبهونك بلعبة لهم.
فيقول سلمان:
ـ لا عليهم فإنما الخير فيما بعد اليوم.
عن هريم قال:
ـ رأيت سلمان الفارسي على حمار عري وعليه قميص سنبلاني قصير ضيق الأسفل، وكان رجلا طويل الساقين كثير الشعر ،وقد ارتفع القميص حتى بلغ قريبا من ركبتيه، ورأيت الصبيان يحضرون خلفه فقلت :
ـ ألا تنحون عن الأمير..؟!
فقال:
ـ دعهم فإنما الخير والشر بعد هذا اليوم.
عن ميمون بن مهران عن رجل من عبد القيس قال:
ـ كنت مع سلمان الفارسي وهو أمير على سرية فمر بفتيان من فتيان الجند فضحكوا وقالوا:(1/58)
ـ هذا أميركم..؟
فقلت:
ـ يا أبا عبد الله ألا ترى هؤلاء ما يقولون ..؟
قال :
ـ دعهم فإنما الخير والشر فيما بعد هذا اليوم إن استطعت أن تأكل من تراب فكل منه ولا تكونن أميرا على اثنين واتق دعوة المظلوم المضطر فإنها لا تحجب.
عن ثابت أنه قال :
ـ كان سلمان أميرا على المدائن فجاء رجل من أهل الشام معه حمل تين، وعلى سلمان أندرورد وعباءة ، فقال لسلمان:
ـ تعال احمل .
وهو لا يعرف سلمان، فحمل سلمان فرآه الناس فعرفوه فقالوا :
ـ هذا الأمير..!
قال الشامي معتذرا :
ـ لم أعرفك .
فقال سلمان مهونا عليه ورافضا أن يضع الحمل من فوق كاهله:
ـ لا ، حتى أبلغ منزلك.
عن ميسرة أن سلمان كان إذا سجدت له العجم طأطأ رأسه وقال:
ـ خشعت لله.
عن مالك بن أنس :
ـ أن سلمان الفارسي كان يستظل بالفئ حيث ما دار (يستظل بالجذور والشجر) ولم يكن له بيت فقال له رجل:
ـ ألا أبني لك بيتا تستظل به من الحر وتسكن فيه من البرد..؟
فقال له سلمان :
ـ نعم .
فلما أدبر صاح به فسأله سلمان:
ـ كيف تبنيه ..؟
فقال :
ـ أبنيه إن قمت فيه أصاب رأسك وإن اضطجعت فيه أصاب رجلك.
فقال سلمان:
ـ نعم.
وفي رواية أخرى ،قال حذيفة لسلمان:
ـ ألا نبني لك بيتاً?
قال:
ـ لم? لتجعلني مالكاً، وتجعل لي داراً مثل بيتك الذي بالمدائن..!
قال:
ـ لا، ولكن نبني لك بيتاً من قصب ونسقفه بالبردى، إذا قمت كاد أن يصيب رأسك، وإذا نمت كاد أن يصيب طرفيك.
قال:
ـ فكأنك كنت في نفسي.
كان عطاؤه وفيرا.. كان بين أربعة وستة آلاف في العام، بيد أنه كان يوزعه جميعا على الفقراءوالمساكين.
قال عبادة بن سيلم:
ـ كان لسلمان خباء من عباء ( بناء من الكساء مثل الخيمة)وهو أمير الناس.
عن النعمان بن حميد أنه قال:
ـ دخلت على سلمان بالمدائن وهو يعمل الخوص فسمعته يقول:(1/59)
ـ أشتري خوصا بدرهم فأعمله فأبيعه بثلاثة دراهم فأعيد درهما فيه ، وأنفق درهما على عيالي ، وأتصدق بدرهم ولو أن عمر بن الخطاب نهاني عنه ما انتهيت.
وكان سلمان إذا أكل قال :
ـ "الحمد لله الذي كفانا المؤونة وأوسع علينا في الرزق"
وحين سرق علف دابته قال لجاريته أو لغلامه :
ـ لولا أني أخاف القصاص لضربتك.
دخل قوم على سلمان وهو أمير على المدائن وهو يعمل هذا الخوص فقيل له :
ـ لم تعمل هذا وأنت أمير يجري عليك رزق؟
فقال :
ـ إني أحب أن آكل من عمل يدي .
عن أبي قلابة أن رجلا دخل على سلمان وهو يعجن فقال:
ـ أين الخادم ؟
قال سلمان:
ـ بعثناها لحاجة فكرهنا ان نجمع عليها عملين.
فقال:
ـ إن فلانا يقرئك السلام .
فقال له سلمان:
ـ منذ كم قدمت ؟
قال :
ـ منذ ثلاثة أيام .
قال :
ـ أما إنك لو لم تؤدها لكانت أمانة لم تؤديها.
دخل سعد بن أبي وقاص على سلمان يعوده فبكى سلمان ، فقال له سعد :
ـ ما يبكيك يا أبا عبد الله توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنك راض وتلقى أصحابك وترد عليه الحوض..!
قال سلمان:
ـ والله ما أبكي جزعا من الموت ولا حرصا على الدنيا ، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلينا عهدا فقال:
ـ لتكن بلغة أحدكم من الدنيا مثل زاد الراكب، وحولي هذه الأساود ( الأشياء الكثيرة)..!
فقال سعد:
ـ وإنما حوله جفنة( قصعة) أو مطهرة ( الإناء الذي يتوضأ منه)أو إجانة( إناء يغسل فيه الثياب).
فقال له سعد:
ـ يا أبا عبد الله اعهد إلينا بعدك.
فقال :
ـ يا سعد اذكر الله عند همك إذا هممت ، وعند حكمك إذا حكمت ، وعند يدك إذا قسمت.
عن رجاء بن حيوة قال :
ـ قال أصحاب سلمان لسلمان أوصينا .
فقال:
ـ من استطاع منكم أن يموت حاجا أو معتمرا أو غازيا أو في نقل القراءة فليمت ولا يموتن أحدكم فاجرا ولا خائنا.
عن سلمان الفارسي أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:(1/60)
ـ "من اغتسل يوم الجمعة فتطهر مما استطاع من الطهر، ثم ادهن من دهنه أو من طيب بيته، ولم يفرق بين اثنين، فإذا خرج الإمام أنصت، غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى".
عن أبي الأحوص قال:
افتخرت قريش عند سلمان، فقال سلمان:
ـ لكني خلقت من نطفة قذرة ثم أعود جيفة منتنة، ثم يؤدى بي إلى الميزان فإن ثقلت فانا كريم وإن خفت فانا لئيم.
كان رسول الله قد آخى بين سلمان وأبي الدرداء، وسكن أبو الدرداء الشام، وسكن سلمان العراق، فكتب أبو الدرداء إلى سلمان:
ـ سلام عليك، أما بعد، فإن الله رزقني بعدك مالاً وولداً، ونزلت الأرض المقدسة.
فكتب إليه سلمان:
ـ سلام عليكم، أما بعد، فإنك كتبت إلي أن الله رزقك مالاً وولداً، فاعلم أن الخير ليس بكثرة المال والولد، ولكن الخير أن يكثر حلمك، وأن ينفعك علمك، وكتبت إلي أنك نزلت الأرض المقدسة، وإن الأرض لا تعمل لأحد، أعمل كأنك ترى، وأعدد نفسك من الموتى.
وأخرج أبو نعيم في الحلية عن أبي البَختري: أنَّ جيشاً من جيوش المسلمين كان أميرهم سلمان الفارسي رضي الله عنه، فحاصروا قصراً من قصور فارس، فقالوا:
ـ يا أبا عبد الله، ألا نَنْهد إليهم؟
قال:
ـ دعوني أدعوهم كما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوهم، فقال لهم:
ـ أنا رجل منكم فارسي أَتَرَون العرب تطيعني، فإن أسلمتم فلكم مثل الذي لنا وعليكم مثل الذي علينا، وإن أبيتم إلا دينَكم تركناكم عليه وأعطيتمونا الجزية عن يَدٍ وأنتم صاغرون ، ورطَنَ إليهم بالفارسية ـ وأنتم غير محمودين ـ وإن أبيتم نابذناكم على سواء.
فقالوا:
ـ ما نحن بالذي نؤمن، وما نحن بالذي نعطي الجزية، ولكنا نقاتلكم.
قالوا:
ـ يا أبا عبد الله، ألا ننهد إليهم؟
قال:
ـ لا، فدعاهم ثلاثة أيام إلى مثل هذا. ثم قال:
ـ انهدوا إليهم فنهدوا إليهم، ففتحوا ذلك الحصن.
سأل عمر سلمان:
ـ أملك أنا أم خليفة؟
فقال له سلمان:(1/61)
ـ إن أنت جبيت من أرض المسلمين درهماً أو أقل أو أكثر ثم وضعته في غير حقه فأنت ملك غير خليفة.
فاستعبر عمر
وفي رواية أخرى
سأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه سأل أصحابه وفيهم طلحة، وسلمان، والزبير، وكعب رضي الله عنهم فقال:
ـ إني سائلكم عن شيء فإياكم أن تكذبوني فتهلكوني وتهلكوا أنفسكم، أنشدكم بالله، أخليفة أنا أم ملك؟
فقال طلحة، والزبير: إنك لتسألنا عن أمر ما نعرفه ما ندري ما الخليفة من الملك.
فقال سلمان: يشهد سلمان بلحمه ودمه إنك خليفة ولست بملك.
فقال عمر:
ـ إن تقل فقد كنت تدخل فتجلس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم قال سلمان:
ـ وذلك أنك تعدل في الرعية، وتقسم بينهم بالسويّة، وتشفق عليهم شفقة الرجل على أهله، وتقضي بكتاب الله تعالى.
فقال كعب:
ـ ما كنت أحسب أنّ في المجلس أحداً يعرف الخليفة من الملك غيري، ولكن الله ملأ سلمان حكماً وعلماً.
قال سلمان:
ـ حافظوا على هذه الصلوات الخمس، فإنهن كفارات لهذه الجراحات ما لم تصب المقتلة، يعني الكبائر، فإذا صلى الناس العشاء صدروا على ثلاث منازل: منهم من عليه ولا له، ومنهم له ولا عليه، ومنهم من لا له ولا عليه، فرجل اغتنم ظلمة الليل وغفلة الناس فركب رأسه في المعاصي فذلك عليه لا له، ومنهم من اغتنم ظلمة الليل وغفلة الناس فقام يصلي فذلك له ولا عليه، ومنهم من لا له ولا عليه فرجل صلى ثم نام فذلك لا له ولا عليه. إياك والحقحقة( الحقحقة : سير الليل في أَوّله ،وهي السير المجهد ويعنى بها هنا الاقتصاد في العبادة مخافة السأم والملل ثم الانقطاع) ، وعليك بالقصد والدوام.
وأخرج الطبراني عن شقيق بن سَلَمة رضي الله عنه قال:
دخلت أنا وصاحب لي إلى سلمان الفارسي رضي الله عنه. فقال سلمان:
ـ لولا أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن التكلُّف لتكلَّفت لكم، ثم جاء بخبز وملح. فقال صاحبي:
ـ لو كان في ملحنا عنقز( زعفران)..!(1/62)
فبعث سلمان بمطهرته فرهنها ثم جاء بعنقز، فلما أكلنا قال صاحبي:
ـ الحمد لله الذي قنَّعنا بما رزقنا.
فقال سلمان:
ـ لو قنعتَ برزقك لم تكن مطهرتي مرهونة..!
عن عطية بن عمر قال:
رأيت سلمان الفارسي رضي الله عنه أُكره على طعام يأكله؛ فقال:
ـ حسبي، حسبي فإنِّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
ـ «إنَّ أكثر الناس شبعاً في الدنيا أطولهم جوعاً في الآخرة، يا سلمان إنما الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر».
وأخرج أحمد في الزهد وابن سعد وغيرهما عن سلمان رضي الله عنه قال:
ـ أتيت أبا بكر رضي الله عنه فقلت:
ـ أعهد لي.
فقال:
ـ يا سلمان إتَّق الله واعلم أنْ سيكون فُتوح، فلا أعرفنَّ ما كان حظك منها ما جعلته في بطنك وألقيته على ظهرك، واعلم أنَّه من صلّى الصلوات الخمس فإنه يصبح في ذمَّة الله ويمسي في ذمَّة الله، فلا تقتلنَّ أحداً من أهل الله فتخفرَالله في ذمته(تنقض عهد الله) فيكبَّك الله في النار على وجهك.
دخل سلمان الفارسي على عمر بن الخطاب رضي الله عنهما وهو متكىء على وسادة فألقاها له، فقال سلمان:
ـ صدق الله ورسوله.
فقال عمر:
ـ حدثنا يا أبا عبد الله.
قال:
ـ دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متكىء على وسادة فألقاها إليَّ، ثم قال لي:
«يا سلمان ما من مسلم يدخل على أخيه المسلم فيُلقي له وسادة إكراماً له إلا غفر الله له».
وعند أبي نُعيم أيضاً عن سلمان رضي الله عنه قال:
ـ جاءت المؤلَّفة قلوبهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عيينة بن حصن، والأقرع بن حابس، وذوُوهم، فقالوا:(1/63)
ـ يا رسول الله إنك لو جلست في صدر المسجد ونحَّيت عنا هؤلاء وأرواح جبابهم ـ يعنون أبا ذر، وسلم ان رضي الله عنهما، وفقراء المسلمين، وكان عليهم جباب الصوف لم يكن عندهم غيرها ـ جلسنا إليك، وخالصْناك، وأخذنا عنك، فأنزل الله عز وجل: {وَاتْلُ مَآ أُوْحِىَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبّكَ لاَ مُبَدّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا }{وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِىّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} حتى بلغ {نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} (سورة الكهف، الآية: 29) يتهددهم بالنار، فقام نبي الله يلتمسهم حتى أصابهم في مؤخر المسجد يذكرون الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
ـ "الحمد لله الذي لم يمتني حتى أمرني أن أصبر نفسي مع قوم من أمتي، معكم المحيا ومعكم الممات"
أخرج الطبراني عن أبي البختري قال:
جاء الأشعث بن قيس وجرير بن عبد الله البجلي إلى سلمان الفارسي رضي الله عنه فدخلا عليه في حصن في ناحية المدائن، فأتياه فسلَّما عليه وحيَّياه، ثم قالا:
ـ أنت سلمان الفارسي؟
قال: نعم.
قالا:
ـ أنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ..؟
قال:
ـ لا أدري.
فارتابا وقالا:
ـ لعله ليس الذي نريد.
قال لهما:
ـ أنا صاحبكُما الذي تريدان، إني قد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وجالسته، فإنما صاحبه من دخل معه الجنة فما حاجتكما؟
قالا:
ـ جئناك من عند إخٍ لك بالشام.
فقال:
ـ من هو؟
قالا:
ـ أبو الدرداء .
قال:
ـ فأين هديته التي أرسل بها معكما؟
قالا:
ـ ما أرسل معنا هدية.
قال:
ـ اتقيا الله وأدِّيا الأمانة، ما جاءني أحد من عنده إلا جاء معه بهدية.
قالا:
ـ لا يُرع علينا هذا، إنَّ لنا أموالاً فاحتكم فيها.
قال:
ـ ما أريد أموالكما ولكني أريد الهدية التي بعث بها معكما.
قالا:(1/64)
ـ والله ما بعث معنا بشيء إلا أنه قال لنا: إنَّ فيكم رجلاً كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خلا به لم يبغِ أحداً غيره، فإذا أتيتماه فاقرِئاه مني السلام.
قال:
ـ فأيُّ هدية كنت أريد منكما غير هذه، وأيُّ هدية أفضل من السلام تحية من عند الله مباركة طيبة.
علمه وحكمته:
وعن أبي البختري قال:صحب سلمان رجل من بني عبس ليتعلم منه. فخرج معه فجعل لا يستطيع أن يفضله في عمل، إن عجن جاء سلمان فخبز ، وإن هيأ الرجل علفا للدواب ذهب سلمان فسقاها. حتى انتهوا إلى شط دجلة وهي تطفح فقال سلمان للعبسي:
ـ أنزل فاشرب. فنزل فشرب.
فقال له سلمان:
ـ ازدد
فازداد.
فقال له سلمان:
ـ كم تراك نقصت منها?
فقال العبسي له:
ـ وما عسى أن أنقص منها ..!
فقال سلمان:
ـ كذلك العلم تأخذ منه ولا ينقص فعليك بالعلم بما ينفعك.
ثم عبر إلى نهر فإذا الاكداس عليه من الحنطة والشعير فقال سلمان:
ـ يا أخا بني عبس أما ترى إلى الذي فتح خزائن هذه علينا كأن نراها ومحمد حي?
فقلت:
ـ بلى.
قال:
ـ فو الذي لا إله غيره لقد كانوا يمسون ويصبحون وما فيهم قفيز من قمح.
ثم سرنا حتى انتهينا إلى جلولاء ،قال فذكر ما فتح الله عليهم وما أصابوا فيها من الذهب والفضة فقال:
ـ يا أخا بني عبس أما ترى إلى الذي فتح خزائن هذه علينا كأن نراها ومحمد حي?
قلت :
ـ بلى.
قال:
ـ والذي لا إله غيره لقد كانوا يمسون ويصبحون وما فيهم دينار ولا درهم.
قال سلمان لحذيفة :
ـ العلم كثير والعمر قصير فخذ من العلم ما تحتاج إليه في أمر دينك ودع ما سواه فلا تعانه.
قال سلمان :
ـ إنما مثل المؤمن في الدنيا كمثل المريض معه طبيبه الذي يعلم داءه ودواءه فإذا اشتهى ما يضره منعه، وقال لا تقربه فإنك إن اتيته أهلكك ،فلا يزال يمنعه حتى يبرأ من وجعه ،وكذلك المؤمن يشتهي أشياء كثيرة مما قد فضل به غيره من العيش ،فيمنعه الله عز وجل إياه ويحجره حتى يتوفاه فيدخله الجنة.
و قال سلمان مخاطبا صاحبه:(1/65)
ـ يا جرير تواضع لله عز و جل فانه من تواضع لله عز وجل في الدنيا رفعه الله يوم القيامة، يا جرير هل تدري ما الظلمات يوم القيامة?
قلت :لا
قال:
ـ ظلم الناس بينهم في الدنيا .
ثم أخذ عويدا لا أكاد اراه بين أصبعيه ،قال يا جرير:
ـ لو طلبت في الجنة مثل هذا العود لم تجده .
فقلت له:
ـ يا أبا عبد الله فاين النخل والشجر؟
قال :
ـ أصولها اللؤلؤ والذهب وأعلاها الثمر.
قال سلمان :
ـ إذا أسات سيئة في سريرة فاحسن حسنة في سريرة ، وإذا أسات سيئة في علانية فاحسن حسنة في علانية لكي تكون هذه بهذه.
عن سلمان الفارسي قال :
ـ ثلاث أعجبتني حتى أضحكتني ، مؤمل دنيا والموت يطلبه، وغافل وليس بمغفول عنه، وضاحك ملء فيه لا يدري أساخط رب العالمين عليه أم راض عنه ، وثلاث أحزنني حتى أبكينني، فراق محمد وحزبه ،وهول المطلع ،والوقوف بين يدي ربي عز وجل ولا أدري جنة أو إلى نار.
وقال سلمان :
ـ ما من مسلم يكون بفيء من الأرض فيتوضأ أو يتيمم ثم يؤذن ويقيم إلا أم جنودا من الملائكة لا يرى طرفهم أو قال طرفاهم.
وعن ميمون بن مهران قال جاء رجل إلى سلمان فقال:
ـ أوصني .
قال:
ـ لا تكلم .
قال :
ـ لا يستطيع من عاش في الناس أن لا يتكلم .
قال:
ـ فإن تكلمت فتكلم بحق أواسكت .
قال :
ـ زدني.
قال:
ـ لا تغضب .
قال :
ـ أنه ليغشاني ما لا أملكه.
قال :
ـ فإن غضبت فامسك لسانك ويدك .
قال :
ـ زدني .
قال:
ـ لا تلابس(تخالط )الناس.
قال:
ـ لا يستطيع من عاش في الناس أن لا يلابسهم.
قال:
ـ فان لابستهم فاصدق الحديث وأد الامانة.
عن سلمان قال :
ـ إن العبد إذا كان يدعو الله في السراء فنزلت به الضراء فدعا قالت الملائكة:
ـ صوت معروف من آدمي ضعيف .
فيشفعون له .
عن زيد بن صوحان :
مر علينا سلمان الفارس وقد اشترى وسقا من طعام فقال له زيد :
ـ أبا عبد الله تفعل هذا وأنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم..؟
قال :(1/66)
ـ ان النفس إذا احرزت قوتها اطمانت وتفرغت للعبادة ويئس منها الوسواس.
لما افتتح المسلمون جوخى دخلوا يمشون فيها وأكداس الطعام فيها أمثال الجبال، قال ورجل يمشي إلى جنب سلمان :
ـ يا أبا عبد الله إلا ترى ما أعطانا الله ..؟
فقال سلمان :
ـ وما يعجبك فما ترى إلى جنب كل حبة مما ترى حساب ..!
وعن سعيد بن وهب قال:
ـ دخلت مع سلمان على صديق له من كندة نعوده ،فقال له سلمان :
ـ إن الله عز وجل يبتلي عبده المؤمن بالبلاء ثم يعافيه فيكون كفارة لما مضى فيستعتب فيما بقي ، وإن الله عز وجل يبتلي عبده الفاجر بالبلاء ثم يعافيه فيكون كالبعير عقله أهله ثم أطلقوه فلا يدري فيم عقلوه ولا فيم أطلقوه حين أطلقوه?
دخل سلمان على رجل يعوده وهو في النزاع فقال :
ـ أيها الملك أرفق به.
قال :
ـ يقول الرجل إنه يقول إني بكل مؤمن رفيق.
قيل لسلمان الفارسي ما يكرهك الإمارة قال:
ـ حلاوة رضاعتها ومرارة فطامها.
أخرج عبد الرزاق عن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال:
ـ إذا كان لك صديق أو جار عامل أو ذو قرابة عامل فأهدَى لك هدية أو دعاك إلى طعام فأقبله، فإنّ مهنأه لك وإثمه عليه.
أخرج الطبراني في الكبير عن سلمان رضي الله عنه قال:
ـ دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني، فلما أراد أن يخرج قال:
«يا سلمان، كشف الله ضرَّك، وغفر ذنبك، وعافاك في دينك وجسدك إلى أجلك»
أخرج ابن عساكر عن الحارث بن عميرة قال:
ـ قدمت إلى سلمان رضي الله عنه المدائن فوجدته في مدبغة له يعرك إهاباً
( جلدا) بكفيه، فلما سلَّمت عليه قال:
ـ مكانك حتى أخرج إليك.
قلت:
ـ والله ما أراك تعرفني.
قال:
ـ بلى، قد عرفت روحي روحك قبل أن أعرفك، فإن الأرواح جنود مجنَّدة فما تعارف منها في الله ائتلف وما كان في غير الله اختلف.
أخرج أبو نعيم في الحلية عن ثابت البُناني أن أبا الدرداء رضي الله عنه ذهب مع سلمان وسابقته وإسلامه، وذكر أنه يخطب إليهم فتاتهم فلانة، فقالوا:(1/67)
ـ أما سلمان فلا نزوِّجه ولكنا نزوّجك، فتزوجها ثم خرج، فقال:
ـ إنه قد كان شيء وإني أستحيي أن أذكره لك.
قال:
ـ وما ذاك؟
فأخبره أبو الدرداء بالخبر، فقال سلمان:
ـ أنا أحق أن أستحيي منك أن أخطبها، وكان الله تعالى قد قضاها لك.
وأخرج الطبراني عن سلمان رضي الله عنه قال:
كنّا حول رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءت أم أيمن رضي الله عنها فقالت:
ـ يا رسول الله لقد ضلَّ الحسن والحسين.
قال:
ـ "وذاك رأدَ النهار ـ يقول ارتفاع النهار ـ فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
ـ «قوموا فاطلبوا ابنيَّ»
وأخذ كل رجل تجاه وجهه.
وأخذت نحو النبي صلى الله عليه وسلم فلم يزل حتى أتى سفح جبل وإذا الحسن والحسين ملتزق كل واحد منهما صاحبه، وإذا شجاع قائم على ذنبه يخرج من فيه شرر النار، فأسرع إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فالتفت مخاطباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثم انساب فدخل بعض الأحجار، ثم أتاهما فأفق بينهما، ثم مسح وجوههما وقال:
ـ «بأبي وأمي أنتما ما أكرمكما على الله»
ثم حمل أحدهما على عاتقه الأيمن والآخر على عاتقه الأيسر فقلت:
ـ طوباكما نعم المطية مطيتكما.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
«ونعم الراكبان هما، وأبوهما خير منهما»
أخرج أحمد والنِّسائي والطبراني عن أبي عثمان قال:
ـ كنت مع سلمان رضي الله عنه تحت شجرة، فأخذ غصناً منها يابساً فهزه حتى تحاتَّ ورقه، ثم قال:
ـ يا أبا عثمان ألاَّ تسألني لِمَ أفعل هذا؟
قلت: ولمَ تفعله؟
قال:
ـ هكذا فعل بي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا معه تحت شجرة، فأخذ منها غصناً يابساً فهزَّه حتى تحاتَّ ورقه، فقال:
ـ«يا سلمان ألا تسألني لِمَ أفعل هذا»؟
قلت:
ـ ولم تفعله؟
قال:
ـ «إنَّ المسلم إذا توضأ فأحسن الوضوء، ثم صلَّى الصلوات الخمس، تحاتَّت خطاياه كما يتحاتُّ هذا الورق، وقال:
((1/68)
وَأَقِمِ الصلاةَ طَرَفَىِ النَّهَارِ وَزُلَفاً من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين) (سورة هود، الآية: 114)
قال ابن زنجويه عن سلمان:
ـ إذا صلَّى العبد اجتمعت خطاياه فوق رأسه، فإذاسجد تحاتَّت كما يتحاتُّ ورق الشجر.
وروى عنه أنس وكعب بن عجرة وابن عباس وأبو سعيد وغيرهم من الصحابة ومن التابعين أبو عثمان النهدي وطارق بن شهاب وسعيد بن وهب وآخرون بعدهم
وفاته:
توفي سلمان الفارسي في خلافة عثمان بن عفان بالمدائن .
عن الشعبي قال:
ـ لما حضرت سلمان الوفاة قال لامرأته:
ـ هلمي خبيك الذي استخبأتك.
قالت فجئته بصرة مسك كان قد أصابها يوم فتح "جلولاء" فاحتفظ بها لتكون عطره يوم مماته.
فقال :
ـ ائتيني بقدح فيه ماء فنثر المسك فيه ثم مائه بيده.
ثم قال:
ـ انضحيه حولي فإنه يحضرني خلق من خلق الله يجدون الريح ولا يأكلون الطعام ثم اجفئي(أغلقي) علي الباب وانزلي .
قالت:
ـ ففعلت وجلست هنيهة فسمعت هسهسة، ثم صعدت فإذا هو قد مات.
عن عبد الله بن سلام أن سلمان قال له:
ـ أي أخي أينا مات قبل صاحبه فليتراء له .
قال عبد الله بن سلام :
ـ أو يكون ذلك ..؟
قال:
ـ نعم إن نسمة المؤمن مخلاة تذهب في الأرض حيث شاءت ونسمة الكافر في سجين.
فمات سلمان فقال عبد الله:
فينما أنا ذات يوم قائل بنصف النهار على سرير لي فأغفيت إغفاءة إذ جاء سلمان فقال:
ـ السلام عليكم ورحمة الله.
فقلت:
ـ السلام عليك ورحمة الله أبا عبد الله كيف وجدت منزلك..؟
قال :
ـ خيرا وعليك بالتوكل فنعم الشيء التوكل وعليك بالتوكل فنعم الشيء التوكل وعليك بالتوكل فنعم الشيء التوكل.
تعريف
صاحب هذه السطور طهر قلبه من النفاق لدرجة فاقت كل الحدود ، ووعى قلبه تعاليم ونبوءات الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم عما سيحدث لأمة الإسلام حتى تقوم الساعة ، وعلم وحده أسماء المنافقين على عهد النبي الكريم، ولذا فقد عرف بصاحب سر رسول الله صلى الله عليه وسلم...(1/69)
كان الوحيد الذي وعى أحاديث الفتنة التي ستعصف بأمة الإسلام في زمن لن يعيش فيه ، فحمل لواء النذير وتردد صوته محذرا ، ولكن حدث ما حدث فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن...
شاهد أباه يقتل خطأ بيد إخوانه من المسلمين ، فانتصر الإسلام بداخله على حمية الجاهلية وعفا عنهم...
ذهب ليتسلم الإمارة على حمار وبيده كسرة خبز وبعض الملح ، ومر على أهل إمارته ولم يلتفتوا إليه لتواضع حاله...
أحب الفقر على الغنى، وأحب الذل على العز، وأحب الموت على الحياة ، لا لشئ إلا لهوان الدنيا على قلبه ، ورغبة في رفقة الحبيب المصطفى في الجنة...
جاهد في سبيل الله بكل طاقته، وتناثرت الحكمة من بين شفتيه أينما سار...
لحظة موته، اختار كفنه بنفسه ، وتعوذ بالله من صباح إلى النار، وسمعه من حوله وهو يردد :
ـ مرحبا بالموت.. حبيب جاء على شوق..لا أفلح من ندم...!
عزيزي القارئ ..
نحن الآن على أعتاب واحد من خاصة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم ، نحن الآن في ضيافة الصحابي الجليل حذيفة بن اليمان.
حذيفة بن اليمان
نسبه :
اسمه : حذيفة بن اليمان
كنيته : أبوعبد الله
اسم أبوه : حسيل بن جابر بن ربيعة وسمي باليمان لأنه كان قد أصاب دما فهرب إلى المدينة فحالف بني عبد الأشهل فسماه قومه اليمان لكونه حالف اليمانية (الأنصار وهم من اليمن)
أمه : الرباب بنت كعب بن عدي، وهي من الأنصار.
وصفه صاحب الحلية فقال:
ومنهم العارف بالمحن وأحوال القلوب، والمشرف على الفتن والآفات والعيوب، سأل عن الشر فاتقاه، وتحرى الخير فاقتناه، سكن عند الفاقة والعدم، وركن إلى الإنابة والندم، وسبق رتق الأيام والأزمان.
بعض مناقبه:
* كان حذيفة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم لقربه منه وثقته به وأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بأسماء المنافقين الذين بخسوا بعيره ليلة العقبة بتبوك وكانوا اثني عشر كلهم من الأنصار ومن حلفائهم .(1/70)
* وعلم منه بأمر الفتن الكائنة في الأمة ، وقد ناشده عمر أأنا من المنافقين..؟
فقال :
ـ لا ولا أزكي أحدا بعدك .
وكان رضي الله عنه معروف لذلك في الصحابة بصاحب سر رسول الله صلى الله عليه وسلم .
* سئل عليا عن حذيفة
ـ فقال علم المنافقين وسأل عن المعضلات فإن تسألوه تجدوه بها عالما.
* وكان حذيفة يقول :
ـ كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وأنا أسأله عن الشر مخافة أن يدركني .
* وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه ينظر إليه عند موت من مات فإن لم يشهد جنازته حذيفة لم يشهدها عمر ، وكان حذيفة يقول خيرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الهجرة والنصرة فاخترت النصرة.
وذات يوم سأله عمر:
ـ أفي عمالي أحد من المنافقين?
قال:
ـ نعم، واحد.
قال: من هو?
قال: لا أذكره.
قال حذيفة:
ـ فعزله، كأنما دل عليه.
* واستعمله عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه على المدائن. قدم حذيفة المدائن على حمار بإكافه ساد لا رجليه ومعه عرق ورغيف وهو يأكل ، وحين عرف أهل المدائن أنه أميرهم اندهشوا وتطلعوا إليه فقال في حكمة :
ـ إياكم ومواقف الفتن..!
قالوا:
ـ وما مواقف الفتن يا أبا عبدا لله..؟!
قال:
ـ أبواب الأمراء. يدخل أحدكم على الوالي أو الأمير، فيصدّقه بالكذب، ويمتدحه بما ليس فيه..!
عن ابن سيرين قال:
ـ كان عمر بن الخطاب إذا بعث أميرا كتب إليهم:
ـ إني قد بعثت أليكم فلانا وأمرته بكذا وكذا فاسمعوا له وأطيعوا. فلما بعث حذيفة إلى المدائن كتب إليهم إني قد بعثت إليكم فلانا فأطيعوه. فقالوا هذا رجل له شأن. فركبوا ليتلقوه فلقوه على بغل تحته أكاف (وهنَّ الخشبات الأربع اللواتي يكُنَّ على جنبي البعير يصيب أطرافُها السفلى بالأرض إذا وُضِعت عليها) وهو معترض عليه، رجلاه من جانب واحد. فلم يعرفوه فأجازوه.(1/71)
فلقيهم الناس فقالوا: أين الأمير? قالوا: هو الذي لقيتم. قال: فركضوا في إثره فأدركوه وفي يده رغيف وفي الأخرى عرق وهو يأكل. فسلموا عليه وقالوا:
ـ سلنا ما شئت .
فقال:
ـ أسألكم طعاما آكله وعلقا لحماري هذا ما دمت فيكم.
فأقام ما شاء الله ثم كتب إليه عمر أن أقدم. فقدم فلما بلغ عمر قدومه كمن له على الطريق في مكان لا يراه. فلما رآه على الحال التي خرج من عنده عليها أتاه فالتزمه وقال: أنت أخي وأنا أخوك.
وروى حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم الكثير.
وروى عنه ابنه أبو عبيدة، وعمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وقيس بن أبي حازم، وأبو وائل، وزيد بن وهب، وغيرهم.
من أقواله:
ـ والله لوددت أن لي أنسانا يكون في مالي ثم أغلق علي بابا فلا يدخل علي أحد حتى ألحق بالله عز وجل.
بكى حذيفة في صلاته، فلما فرغ التفت فإذا رجل خلفه فقال:
ـ لا تعلمن بهذا أحدا.
ـ حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان وما يكون حتى تقوم الساعة.
ـ كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني..
قلت: يا رسول الله فهل بعد هذا الخير من شر؟
قال: نعم..
قلت: فهل بعد هذا الشر من خير؟
قال: نعم، وفيه دخن..
قلت: وما دخنه..؟
قال: قوم يستنون بغير سنتي.. ويهتدون يغير هديي، وتعرف منهم وتنكر..
قلت: وهل بعد ذلك الخير من شر..؟
قال: نعم! دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها..
قلت: يا رسول الله، فما تأمرني ان أدركني ذلك..؟
قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم..
قلت: فان لم يكن لهم جماعة ولا إمام..؟؟
قال: تعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض على أصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك"..!!
ويقول رضي الله عنه:
ـ إن الله تعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم، فدعا الإنس من الضلالة إلى الهدى، ومن الكفر إلى الإيمان، فاستجاب له من استجاب، فحيي بالحق من كان ميتا.
ومات بالباطل من كان حيا..(1/72)
ثم ذهبت النبوة وجاءت الخلافة على مناهجها..
ثم يكون ملكا عضوضا..!!
فمن الإنس من ينكر بقلبه، ويده ولسانه.. أولئك استجابوا لحق..
ومنهم من ينكر بقلبه ولسانه، كافا يده، فهذا ترك شعبة من الحق..
ومنهم من ينكر بقلبه، كافا يده ولسانه، فهذا ترك شعبتين من الحق..
ومنهم من لا ينكر بقلبه ولا بيده ولا بلسانه، فذلك ميّت الأحياء..!
ويتحدّث عن القلوب وعن حياة الهدى والضلال فيها فيقول:
ـ القلوب أربعة:
قلب أغلف، فذلك قلب الكافر..
وقلب مصفح، فذلك قلب المنافق..
وقلب أجرد، فيه سراج يزهر، فذلك قلب المؤمن..
وقلب فيه نفاق وإيمان، فمثل الأيمان كمثل شجرة يمدها ماء طيب.. ومثل النفاق كقرحة يمدّها قيح ودم: فأيهما غلب، غلب...!!
ـ جئت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، إن لي لسانا ذربا على أهلي، وأخشى أن يدخلني النار.
فقال لي النبي عليه الصلاة والسلام:
ـ " فأين أنت من الاستغفار..؟؟ إني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة".
يقول حذيفة معلقا على ما فعله يوم الخندق حين اندس وسط الأحزاب واستمع إلى مقولة أبي سفيان:
ـ لولا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلي ألا تحدث شيئا حتى تأتيني، لقتلته بسهم.
ـ ليس خياركم الذين يتركون الدنيا للآخرة.. ولا الذين يتركون الآخرة للدنيا.. ولكن الذين يأخذون من هذه ومن هذه...
ـ إن الفتنة تعرض على القلوب فأي أنس بها نكتت في نكتة سوداء فإن أنكزها نكتت فيه نكتة بيضاء، فمن أحب منكم إن يعلم إن إصابته الفتنة أم لا فلينظر فإن كان حراما كان يراه حلالا أو يرى حلالا كان حراما فقد أصابته الفتنة.
ـ ليأتين على الناس زمان لا ينجو فيه إلا من دعا بدعاء كدعاء الغريق.(1/73)
ـ ما من يوم أقر لعيني ولا أحب لنفسي من يوم أتي أهلي فلا أجد عندهم طعاما ويقولون ما نقدر على قليل ولا كثير، وذلك أني سمعت رسول الله. صلى الله عليه وسلم يقول: أن الله تعالى أشد حمية للعبد من الدنيا، من المريض أهله الطعام، والله تعالى أشد تعاهدا للمؤمن بالبلاء من الوالد لولده بالخير .
سأل رجل حذيفة: أي الفتن أشد?
قال: أن يعرض عليك الخير والشر، لا تدري أيهما تركب.
ـ حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين، قد رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر، حدثنا أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال، ثم نزل القرآن فعلموا من القرآن وعلموا من السنة، ثم حدثنا عن رفع الأمانة فقال: ينام الرجل النومة، فتقبض الأمانة من قلبه، فيظل أثرها مثل الوكت ( الأثر اليسير)، ثم ينام نومة، فتقبض الأمانة فيظل أثرها مثل أثر المجل ( الجلد إذا ثخن وتعجر)، كجمر دحرجته على رجلك فنفطت( ارتفعت) فتراه منتبراً( مرتفع) وليس فيه شيء، ثم أخذ حصاة فدحرجها على رجله، قال: فيصبح الناس فيتبايعون لا يكاد أحد يؤدي الأمانة، حتى يقال: إن في بني فلان رجلاً أميناً، وحتى يقال للرجل: ما أجلده وأظرفه وأعقله، وما في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان. قال: ولقد أتى علي زمان ما أبالي أيكم بايعت، لئن كان مسلماً ليردنه علي دينه، ولئن كان يهودياً ونصرانياً ليردنه علي ساعيه، وأما اليوم فما كنت لأبايع إلا فلاناً وفلاناً.
عن حذيفة رضي الله تعالى عنه، أنه قدم من عند عمر رضي الله تعالى عنه فقال:
ـ لما جلسنا إليه، سأل أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أيكم سمع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفتن التي تموج موج البحر. فأسكت القوم وظننت أنه إياي يريد، قال: فقلت: أنا، قال: أنت لله أبوك.(1/74)
قلت: تعرض الفتن على القلوب عرض الحصيد فأي قلب أنكرهها نكت فيه نكتة بيضاء، وأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء، حتى تصير القلوب على قلبين، قلب أبيض مثل الصفا لا يضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مربداً كالكوز مجخياً (كالكوز مَجْخِيَّاً أي مائلاً ) و أمال كفه، لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه، وحدثته:
ـ أن بينك وبينها باباً مغلقاً يوشك أن يكسر كسراً.
فقال عمر: كسراً لا أباً لك.
قلت: نعم.
قال: فلو أنه فتح لكان لعله أن يعاد فيغلق.
فقلت: بل كسراً.
قال: وحدثته أن ذلك الباب رجل يقتل أو يموت حديثاً ليس بالأغاليط .
عن محمد بن سيرين أن حذيفة بن اليمان قال:
ـ اللهم إن كان قتل عثمان خيرا فليس لي منه نصيب وإن كان قتله شرا فإني منه بريء .
قال حذيفة رضي الله تعالى عنه:
قال رضي الله تعالى عنه:
ـ إذا أذنب العبد نكت في قلبه نكتة سوداء، فإن أذنب نكت في قلبه نكتة سوداء، حتى يصير قلبه كالشاة الربداء( الربداء : السوداء)
وقال:
ـ والذي لا إله غيره إن الرجل ليصبح يبصر ببصره ويمسي ما ينظر بشفر (مغرز الشعر أو الجفن)
أ
ـ أتتكم الفتن ترمى بالنشف ( الماء اليابس) ، ثم أتتكم ترمي بالرضف (الحجارة التي حميت بالشمس)ثم أتتكم سوداء مظلمة.
ـ إياكم والفتن، لا يشخص إليها أحد، فو الله ما شخص فيها أحد إلا نسفته كما ينسف السيل الدمن، إنها مشبهة مقبلة حتى يقول الجاهل هذه تشبه، وتبين مدبرة. فإذا رأيتموها فاجثموا في بيوتكم، وكسروا سيوفكم، وقطعوا أوتاركم.
ـ إن للفتنة وقفات وبغتات ( مفاجئات)، فمن استطاع أن يموت في وقفاتها، فيفعل، يعني بالوقفات غمد السيف.
ـ ما الخمر صرفا بأذهب بعقول الرجال من الفتنة(1/75)
ـ إن الفتنة وكلت بثلاث، بالحاد النحر ير ( الحاذق الماهر)الذي لا يرتفع له شيء إلا قمعه بالسيف، وبالخطب الذي يدعو إليها، وبالسيد: فأما هذان فتبطحهما لوجوههما، وأما السيد فتبحثه حتى تبلو ما عنده.
ـ والله لو شئت لحدثتكم ألف كلمة تحبوني عليها، وتتابعوني وتصدقوني من أمر الله تعالى ورسوله، ولو شئت لحدثتكم ألف كلمة تبغضوني عليها وتجانبوني وتكذبوني.
ـ إن أخوف ما أخاف على هذه الأمة أن يؤثروا ما يرون على ما يعلمون، وأن يضلوا وهم لا يشعرون.
ـ يجمع الناس في صعيد واحد فلا تكلم نفس، فيكون أول مدعو محمد صلى الله عليه وسلم، فيقول: لبيك وسعديك والخير في يديك والشر ليس إليك، والهدى من هديت وعبدك بين يديك أنا بك وإليك لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك تباركت وتعاليت سبحانك رب البيت. فذلك قوله عز وجل: ( عسى أن يبعثك وبك مقاماً محموداً )
سئل حذيفة: في يوم واحد تركت بنو إسرائيل دينهم?
قالا:
ـ لا، ولكنهم كانوا إذا أمروا بشيء تركوه، وإذا نهوا، عن شيء ركبوه، حتى انسلخوا من دينهم كما ينسلخ الرجل من قميصه.
ـ لعن الله من ليس منا، والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو لتقتلن بينكم فليظهرن شراركم على خياركم فليقتلنهم حتى لا يبقى أحد يأمر بالمعروف ولا ينهى عن منكر، ثم تدعون الله عز وجل فلا يجيبكم بمقتكم.
وفي رواية:
ـ إن كان الرجل ليتكلم بالكلمة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيصير بها منافقاً، وإني لأسمعها من أحدكم في المقعد الواحد أربع مرات، لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر ولتحضن على الخير، أو ليسحتكم الله جميعاً بعذاب، أو ليأمرن عليكم شراركم، ثم يدعو خياركم فلا يستجاب لكم.
ـ ليأتين عليكم زمان خيركم فيه من لم يأمر بمعروف وينه عن منكر.
ـ خالط المؤمن وخالط الكافر ودينك لا تكلمنه.
وقال رضي الله عنه:(1/76)
ـ المنافقون اليوم شر منهم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يومئذ يكتمونه، وهم اليوم يظهرونه.
ـ والله ما فارق رجل الجماعة شبراً إلا فارق الإسلام.
ـ يا معشر القراء اسلكوا الطريق لئن سلكتموه لقد سبقتم سبقاً بعيداً، ولئن أخذتم يميناً وشمالاً لقد ضللتم ضلالاً بعيداً.
ـ ليكونن عليكم أمراء أو أمير لا يزن أحدهم عند الله يوم القيامة قشرة شعيرة.
عن أبي عبد الرحمن السلمي، قال:
ـ انطلقت إلى الجمعة مع أبي بالمدائن وبيننا وبينها فرسخ وحذيفة بن اليمان على المدائن، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:
ـ اقتربت الساعة وانشق القمر، ألا وإن القمر قد انشق ألا وإن الدنيا قد أذنت بفراق، ألا وإن اليوم المضمار وغداً السباق.
فقلت لأبي: ما يعني بالسباق. فقال: من سبق إلى الجنة.
خطب حذيفة بالمدائن فقال :
ـ أيها الناس تعاهدوا ضرائب غلمانكم فإن كانت من حلال فكلوها، وإن كانت من غير ذلك فارفضوها، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
ـ " إنه ليس لحم ينبت من سحت فيدخل الجنة " .
ـ بحسب المرء من العلم أن يخشى الله عز وجل، وبحسبه من الكذب أن يقول أستغفر الله، ثم يعود.
ـ إن بائع الخمر كشاربها، ألا إن مقتنى الخنازير كآكلها، تعاهدوا أرقاء كم فانظروا من أين يجيئون بضرائبهم? فإنه لا يدخل الجنة لحم نبت من سحت.
ـ أول ما تفقدون من دينكم الخشوع، وأخر ما تفقدون من دينكم الصلاة.
ـ قيل لحذيفة:
ـ من المنافق?
قال:
ـ الذي يصف الإسلام ولا يعمل به.
ـ تعودوا الصبر فأوشك أن ينزل بكم البلاء أما أنه لا يصيبنكم أشد مما أصابنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ـ إن في القبر حساباً، ويوم القيامة حساباً، فمن حوسب يوم القيامة عذب.
قالوا عنه :
قال أبو الدر داء قال لعلقمة: أليس فيكم صاحب السر الذي لا يعلمه غيره.(1/77)
قال خيثمة بن عبد الرحمن: أتيت المدينة فسألت الله أن ييسر لي جليساً صالحاً، فيسر لي أبا هريرة، فجلست إليه، فقلت: جئت من الكوفة ألتمس الخير، فقال: أليس فيكم سعد بن مالك مجاب الدعوة وابن مسعود صاحب طهور رسول الله صلى الله عليه وسلم ونعليه، وحذيفة صاحب سر رسول الله، وعمار الذي أجاره الله على لسان نبيه من الشيطان، وسلمان صاحب الكتابين، يعني الإنجيل والقرآن.
عن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لأصحابه: تمنَّوا.
فقال أحدهم:
ـ أتمنى أن يكون ملء هذا البيت دراهم فأنفقها في سبيل الله.
فقال: تمنَّوا.
فقال آخر: أتمنى أن يكون ملء هذا البيت ذهباً فأنفقها في سبيل الله.
قال: تمنَّوا.
قال آخر: أتمنى أن يكون ملء هذا البيت جوهراً ــ أو نحوه ــ فأنفقه في سبيل الله. فقال عمر: تمنَّوا.
فقالوا: ما تمنينا بعد هذا.
قال عمر: لكني أتمنى أن يكون ملء هذا البيت رجالاً مثل أبي عبيدة بن الجراح، ومعاذ بن جبل، حذيفة بن اليمان رضي الله عنهم فأستعملهم في طاعة الله.
بعض مواقفه
** لم يشهد حذيفة بدرا لأن المشركين أخذوا عليه الميثاق لا يقاتلهم، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم: هل يقاتل أم لا? فقال:
ـ " بل نفي لهم، ونستعين الله عليهم".
وشهد أحدا هو وأبوه وأخوه صفوان بن اليمان وقتل أبوه يومئذ بيد المسلمين عن طريق الخطأ .
فقال حذيفة :
ـ يغفر الله لكم .
قال عروة :
ـ فوالله ما زال في حذيفة بقية خير حتى لقي الله عز وجل.
وشهد حذيفة الخندق وما بعد ذلك من المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
وشهد حذيفة الحرب بنها وند، فلما قتل النعمان بن مقرن أمير ذلك الجيش أخذ الراية، وكان فتح همذان والري والد ينور على يد حذيفة وكانت فتوحه كلها سنة اثنتين وعشرين .
وشهد فتح الجزيرة، ونزل نصيبين، وتزوج فيها.
وقتل صفوان وسعيد ابنا حذيفة بصفين وكانا قد بايعا علياً بوصية أبيهما إياهما بذلك.(1/78)
** قال فتى من أهل الكوفة لحذيفة بن اليمان : يا أبا عبد الله رأيتم رسول الله صلى الله عليه وسلم صحبتموه.
قال : نعم يا ابن أخي.
قال : كيف كنتم تصنعون ..؟
قال : والله لقد كنا نجهد.
فقال الفتى : والله لو أدركناه ما تركناه يمشي على وجه الأرض لحملناه على أعناقنا .
فقال حذيفة :
ـ يا ابن أخي والله لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخندق يصلي هويًا من الليل ثم التفت إلينا فقال :
ـ " من رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم ثم يرجع "
وشرط له انه إذا رجع أدخله الله الجنة.
فما قام رجل ثم صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هويًا من الليل ثم التفت إلينا فقال مثل ذلك ثم قال :
ـ " أسأل الله أن يكون رفيقي في الجنة " .
فما قام أحد من شدة الخوف والجوع والبرد فلما لم يقم أحد دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يكن لي بد من القيام فقال :
ـ " يا حذيفة اذهب فادخل في القوم فانظر ما يفعلون " .
فذهبت فدخلت في القوم والريح وجنود الله تفعل بهم ما تفعل فلا تترك قدرًا ولا نارًا ولا بناء .
فقام أبو سفيان فقال :
ـ يا معشر قريش لينظر امرؤ جليسه فأخذت بيد الرجل الذي كان إلى جنبي فقلت : من أنت فقال : أنا فلان بن فلان ثم قال أبو سفيان :
ـ يا معشر قريش إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام لقد هلك الكراع(ضَرْبٌ من النبات مُمْتَدٌّ، أَهْدَبُ ) والخف ولقينا من هذه الريح ما ترون فارتحلوا فإني مرتحل .
** في وقعة نَهَاوَنْد،
عن الحسن قال :
ـ كانت عظماء الأعاجم من أهل قومس وأهل الري وأهل همذان وأهل نهاوند قد تكاتبوا وتعاهدوا على أن يخرجوا العرب من بلادهم ويغزوهم فبلغ ذلك أهل الكوفة ففزعوا فيه إلى عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه فلما قدموا عليه نادى في الناس : الصلاة جامعة فاجتمع الناس ثم صعد المنبر فقال :(1/79)
ـ أيها الناس إن الشيطان قد جمع جموعًا فأقبل بها ليطفئوا نور اللّه ألا إن أهل قومس وأهل الري وأهل همذان وأهل نهاوند قد تعاهدوا على أن يخرجوا العرب من بلادهم ويغزوكم في بلادكم فأشيروا عليّ .
فقام طلحة فقال :
ـ أنت ولي هذا الأمر وقد أحكمت التجارب فادعنا نجب ومرنا نطع فأنت مبارك الأمر ميمون النقيبة ثم جلس .
فقال عمر :
ـ تكلموا.
فقام عثمان فقال :
ـ أرى أن تكتب إلى أهل الشام فيسيرون من شأمهم ولَكتب إلى أهل اليمن فيسيرون من يمنهم وتسير أنت بنفسك من هذين الحرمين إلى هذين المصرين من أهل الكوفة والبصرة فتلقى جموع المشركين في جموع المسلمين .
ثم قام علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه فقال :
ـ إنك إن أشخصت أهل الشام سارت الروم إلى ذرا ريهم ، وإنك إن أشخصت أهل اليمن سارت الحبشة إلى ذرا ريهم، وإنك متى شخصت من هذين الحرمين انتقضت عليك الأرض من أقطارها حتى تكون ما تخلف خلفك من العورات أهم إليك مما بين يديك ، ولكن أرى أن تكتب إلى أهل البصرة فيفترقون ففرقة تقيم في أهاليها وفرقة يسيرون إلى إخوانهم بالكوفة وإما ما ذكرت من كثرة القوم فإنا لم نكن نقاتلهم فيما خلا بالكثرة ولكنا نقاتلهم بالنصر .
فقال عمر رضي اللّه عنه :
ـ صدقت يا أبا الحسن هذا رأي ولئن شخصت من البلدة لتنقضن عليّ الأرض من أقطارها وليمدنهم من لم يكن يمدهم فأشيروا عليّ برجل أوليه ذلك الثغر.
قالوا : أنت أفضلنا رأيا.
قال : أشيروا عليّ به واجعلوه عراقيًا.
قالوا : أنت أعلم بأهل العراق.
قال : لأولّينّ ذلك الثغر رجلًا يكون قتيلًا في أول سنة.
قالوا : ومن هو..؟
قال : النعمان بن مقرن.
ثم كتب إلى أهل البصرة بما أشار به علي رضي اللّه عنه، ثم كتب إلى أهل الكوفة إني استعملت عليكم النعمان بن مقرن المزني فإن قتل فعليكم حذيفة بن اليمان ، فإن قتل عليكم جرير بن عبد الله البجلي ، فإن قتل فعليكم المغيرة بن شعبة ، فإن قتل فعليكم الأشعث بن قيس .(1/80)
وانتظر لنعمان بن مقرن بالقتال أحب الساعات كانت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يلقى العدو فيها وذلك عند الزوال ، فلما كان قريباً من تلك الساعة ركب فرسه ، وسار في الناس ووقف على كل راية يذكَرهم ويحرّضهم ويمنّيهم الظفر وقال لهم : إني مكبّر ثلاثاً فإذا كبرتُ الثالثة فإني حاملٌ إنْ شاءالله فاحملوا وإن قتلت فلأمير بعدي حذيفة، فإن قتل ففلان،وعد سبعة آخرهم المغيرة، ثم قال: اللهمأعزز دينك، وانصر عبادك،واجعل النعمان أول شهيد اليوم،فاستجاب الله له فقتل شهيدا، وتسلم حذيفة الراية ، وأكمل الله به النصر ، وقسم حذيفة الغنائم بين المسلمين.
وفاته :
وفي يوم من أيام العام الهجري السادس والثلاثين.. دخل عليه بعض أصحابه، فسألهم:
ـ أجئتم معكم بأكفان..؟
قالوا: نعم..
قال: أرونيها..
فلما رآها، وجدها جديدة فارهة.
فارتسمت على شفتيه آخر بسماته الساخرة، وقال لهم:
ـ ما هذا لي بكفن.. إنما يكفيني لفافتان بيضاوان ليس مهما قميص..
فاني لن أترك في القبر إلا قليلا، حتى أبدّل خيرا منهما أو شرّ منهما"..!
وتمتم بكلمات، ألقى الجالسون أسماعهم فسمعوها:
ـ مرحبا بالموت..حبيب جاء على شوق..لا أفلح من ندم.
وفي رواية ثانية قال:
ـ حبيب جاء على فاقة ، لا أفلح من ندم ، الحمد لله الذي سبق بي الفتنة قادتها وعلوجها (العلج : الرجل من كفَّار العَجَم ).
وفي رواية أخرى أنه قال وهو يحتضر:
ـ لولا أني أرى إن هذا اليوم آخر يوم من الدنيا وأول من الآخرة لم أتكلم به اللهم انك اعلم أني كنت أحب الفقر على الغنى وأحب الذلة على العز وأحب الموت على الحياة حبيب جاء على فاقة لا افلح من ندم.
وفي رواية رابعة:
أتاه أناس من نبي عبس وهو بالمدائن ودخلوا عليه في جوف الليل فقال لهم:
ـ أي ساعة هذه .؟
قالوا : جوف الليل أو آخر الليل .
فقال : أعوذ بالله من صباح إلى النار ثم قال أجئتم معكم بأكفان..؟
قلنا : نعم .
قال:(1/81)
ـ فلا تغالوا بأكفاني فإنه إن يكن لصاحبكم عند الله خير فانه يبدل بكسوته كسوة خيرا منها وإلا يسلب سلبا.
وقال ليث بن أبي سليم:
ـ لما نزل بحذيفة الموت جزع جزعاً شديداً وبكى بكاء كثيراً، فقيل: ما يبكيك?
فقال:
ـ ما أبكي أسفاً على الدنيا، بل الموت أحب إلي، ولكني لا أدري علام أقدم، على رضي أم على سخط..!
و مات حذيفة بالمدائن بعد قتل عثمان بن عفان بأشهر سنة ست وثلاثين وله عقب بالمدائن .
وفي رواية ، إنه عاش بعد قتل عثمان أربعين ليلة فقط.
المراجع
1. القرآن الكريم
2. سيرة ابن هشام
3. حلية الأولياء للإمام الحافظ أبي نعيم
4. مشكاة المصابيح للخطيب التبريزي
5. كنز العمال للمتقي الهندي
6. الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر العسقلاني
7. أسدالغابة لابن الأثير
8. الكامل في التاريخ
9. العواصم من القواصم القاضي أبي بكر العربي
10. البداية والنهاية لابن كثير
11. الرياض النضرة في مناقب العشرة للمحب الطبري
12. تاريخ الإسلام للذهبي
13. تاريخ الخلفاء للسيوطي
14. المنتظم في التاريخ لابن الجوزي
15. الاستيعاب في تمييز الأصحاب للحافظ بن عبد البر
16. النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة / جمال الدين أبو المحاسن يوسف بن تغري بردي
17. شذرات الذهب في أخبار من ذهب / لعبد الحي بن أحمد العكري الدمشقي
18. زاد الميعاد لابن قيم الجوزية
19. تاريخ الطبري
20. حياة الصحابة للكاندهلوي
21. سير أعلام النبلاء للحافظ محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز الذهبي أبو عبد الله(1/82)